You are on page 1of 26

‫المحاضرة ‪ :‬إشكالية اللفــــــظ والمعنـــــــى في التراث العربي‬

‫بين يدي اللفظ والمعنى‬


‫العالقة بين اللفظ والمعنى موضوع عريق تناولها العلماُء منذ زمن بعيد‪ِ ،‬اذ النجُد من العلماِء‬
‫القدامي احدًا َضَرَب َس ْهمًا في مجال اللغة اوالبالغة اوالنقد ِااّل والعالقة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬كانت احدی‬
‫اغراضه ومراميه‪ .‬وقد توجهوا فيه ثالث وجهات نحصرها ثالث مدارس كبرى ‪ :‬مدرسة اللفظ ومدرسة‬
‫المعنى والثالثة مدرسة اللفظ والمعنى ال تفصل بينهما‪.‬‬
‫وإذا أرخنا لهذه المسألة فسيحضر معنا الفكر النقدي اإلغريقي ‪ ،‬فأفالطون ‪ -‬مثال ‪ -‬من القدامى‬
‫يرى أن الوعي بالوجود أسبق من الوجود ‪ ،‬فوجوده في األذهان أوعى وأكمل مما هو عليه في األعيان ‪،‬‬
‫وبالتالي فاأللفاظ عنده نواقل لغاية محددة هي تثبيت المعاني ‪ ،‬والعبور بها من صورتها الثابتة الجامدة‬
‫إلى صورتها اللغوية ‪ ،‬وعليه فإن " عمل األديب ُيشِبه عمل المرآة" (‪)1‬‬
‫اللفظ والمعنى اللغة واالصطالح‪:‬‬
‫جاء في لسان العرب ‪ '' :‬لفظ ‪ :‬الَّلْفُظ ‪َ :‬أن َتْر ِم ي ِبَش ْي ٍء َك اَن ِفي ِفيَك ‪ ،‬والِفعُل َلَفظ الشيَء ‪ُ ،‬يَقاُل ‪ :‬لَفْظُت‬
‫الَّش ْي َء ِم ْن َفِم ي َألِفُظه َلْفًظا‪َ :‬ر َم ْيُتُه‪ . )2( ''.‬وقال الجرجاني صاحب التعريفات " اللفظ‪ :‬ما يتلفظ به‬
‫اإلنسان ‪-‬أو َم ن في حكمه‪ -‬مهماًل كان أو مستعماًل ''(‪)3‬‬
‫والمعنى من فعل عنى يراد به القصد بالشيء '' والمعنى هو المفهوم من ظاهر اللفظ الذي نصل إلیه‬
‫بغیر واسطة‪ ...‬والمعاني فهي الصورة الذهنیة إذ وقع بإزائها اللفظ من حیث إنها تقصد منه ‪ ،‬وذلك ما‬
‫یكون بالوضع ‪ ،‬فإن عبر عنها بلفظ مفرد سمي معنى مفردا ‪ ،‬وٕان عبر عنها بلفظ مركب سمي معنى '' (‬
‫‪)6‬‬
‫والظاهر أن مسألة اللفظ والمعنى أثيرت في حقول األدبية مرتبطة أساسا بقضايا الفرق الكالمية‬
‫المتعلقة بدراسة القرآن الكريم‪ ،‬ويكفي العودة إلى رسائل الرماني والخطابي والجرجاني للوقوف على‬
‫هذه الحقيقة وما تضمنته مباحثها ‪.‬‬

‫لقد كانت الظاهرة الغالبة في عصر الجاحظ‪ ،‬فقد تصيد أبو تمام المعاني الغريبة دون اختيار للفظ‬
‫تأثرا بالتيار الفلسفي اليوناني والعقل الهندي والفارسي في الحكمة وضرب األمثال التي شاعت بين‬
‫المذاهب الكالمية والفلسفية‪ ،‬وتصدى الجاحظ لهذا التيار وانتصر للفظ انتصارا قصد به الحد من غلواء‬
‫طالب المعاني ‪ ،‬وهضم اللفظ حقه من القسمة‪ ،‬يقول عبد القاهر الجرجاني ‪ '' :‬وال تحسبّن أن الجاحظ‬
‫يهون من شأن المعنى أو يغمض من قدره‪ ..‬وكيف وهو رجل كله عقل‪ ..‬وكل عقله علم وحكمة وأدب '' (‬
‫‪. )8‬‬
‫لقد '' حاول أصحاب المعنى أن يقيموا حكومتهم على ساق واحدة فتمشي عرجاء ‪ ،‬ولو نظروا إلى‬
‫اللفظ كما نظروا إلى المعنى الستقامت حكومتهم '' (‪.)9‬‬
‫ولقد اشتهر عند الجاحظ أنه يسوي في العلم بالمعاني بين الخاصة والعامة‪ ،‬وأنها مشتركة يعرفها‬
‫العربي والعجمي‪.‬‬
‫ويبدو أن موقف الجرجاني كان أكثر إنصافا للجاحظ في عدم طبعه لرأي الجاحظ بلون واحد‪ ،‬وال‬
‫يعرف قدر الكبار إال الكبار ‪ .‬ذلك أن الجاحظ كان يتوجه بخصومته للقائلين بأفضلية المعاني‪ .‬وعلى هذا‬
‫يتوجب النظر للفظ على أنه المظهر العملي للمعنى وللغة ككل ‪ ،‬وهما متكامالن وال يتصور أن يدور‬
‫البحث على المعنى لجهة كونه خاطرا في الضمير ‪.‬‬

‫الصفحة ‪1‬‬
‫وإذا كان الجاحظ حينما يقول ‪ ( :‬المعاني مطروحة في الطريق )؛ وأنها في حكم الشراكة بين‬
‫الجميع ‪ ،‬وفي متناولهم ‪ ،‬فال يجب أن يفهم من طرحها في الطريق أنها مستبعدة وانه ينتصر للفظ وإنما‬
‫الجاحَظ ينظر لإلشكالية بعينين اثنين اللفظ ‪ ،‬والمعنى بتطابقية شاملة يتكامل فيها جزء مع اآلخر‪ ،‬ومن‬
‫أراد معنا كريما فليلتمس له لفظا كريما فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف‪ ،‬ومن حقهما ان تصونهما‬
‫عما يفسدهما ويهجنهما '' (‪)12‬‬
‫أما ابن قتيبة فقد خلص إلى أن الوحدة بين اللفظ والمعنى ‪ ،‬هي وحدة صلبة ال تقبل القسمة على اثنين‬
‫مميزا بين أربعِة أقسام من الشعر ‪ .‬ضمن ثنائية اللفظ ‪ ،‬والمعنى فيقول‪ '' :‬ضرٌب منه حُسن لفظه وجاد‬
‫معناه‪ .‬كقول الشاعر ‪:‬‬
‫ُيغضي حياًء وُيغضى من مهابتِه ** فال ُيكّلُم إال حين يبتسُم‬
‫وضرٌب منه حسن لفظه وحال ‪ ،‬فإذا أنت فَّتشته لم تجد فائدًة في المعنى‪.‬‬
‫إّن العيوَن التي في طرفها َح َو ٌر **َقَتْلَنَنا ثم لم ُيحييَن قتالنا‬
‫يصَر ْع َن ذا اللِب حتى ال َح راَك به ** وهن أضعُف خلِق هللا أركانا‬
‫وضرٌب منه جاد معناه وَقُصرْت ألفاُظُه عنه كقول لبيد‪:‬‬
‫ما عاتَب المرَء الكريَم كنفسِه ** والمرُء ُيصلحُه الجليُس الصالُح‬
‫وضرٌب منه تأَّخ ر معناه وتأخر لفظه كقول األعشى‬
‫وفوها كأقاحـــــــٍّي ** غـــذاُه دائــُم الهْطـِل‬
‫كما شيب براٍح با ** رٍد من عسِل النحِل (‪.)13‬‬
‫أما قدامَة بِن جعفر‪ :‬ينطلق من وجهة نظرية بالغية تشترط أن تكون ألفاظ العمل اإلبداعي مفصلة‬
‫على قدر المعاني أي أن يمأل اللفظ معناه‪ ،‬أو يمأل المعنى لفظه ‪ ،‬ال يزيد عليه ‪ ،‬وال ينقص عنه‪ ،‬وهذه‬
‫هي البالغة التي '' وصف بها بعض الكتاب رجاًل ‪ ،‬فقال ‪ :‬كانت ألفاُظه قوالَب لمعاِنيِه ؛ أي هي مساويٌة‬
‫لها ال يفُضُل أحُدُهما على اآلخر ‪ ...‬وهذا كله ضمن ثنائية الشكل والمضمون ‪ ،‬فالمعاني ‪ :‬بمنزلـة المـادة‬
‫الموضـوعة ‪ ،‬في مقابـل الشكل والمبنى (‪. )14‬‬
‫أما المرزوقي‪ :‬فيعتبر اللفُظ ‪ ،‬والمعنى بمنزلة الواحد ‪ ،‬بشروط يشترك فيها مع ابن قتيبة ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫'' • شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته‪ ،‬وإصابة في الوصِف والمقاربة في التشِبيه والتحام‬
‫أجزاِء النظم والتئامها على تخيٍر من لذيِذ الوزِن ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكلة اللفظ‬
‫للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى ال تكون منافرة بينهما‪ ...‬وعياُر المعنى أن ُيعَر َض على العقل‬
‫الصحيح‪ ،‬والفهم الثاقب‪ ،‬فإذا انعطف عليه َج نبتا القبوِل واالصطفاء‪ُ ،‬م ستأِنًسا ِبَقَر ائنه‪ ،‬خرج وافًيا‪ ،‬وإال‬
‫انتقض بمقدار َش ْو ِبِه ووْح َش ِته‪ ...‬وعيار اللفظ الطبُع والِّروايُة واالستعماُل‪ ،‬فما سِلم مَّم ا ُيهجنُه عند‬
‫العرِض عليها‪ ،‬فهو المختاُر المستقيم ''(‪)15‬‬

‫الئحة المصادر والمراجع‪:‬‬


‫(‪ )1‬في نظرية األدب‪ .‬شكري عزيز الماضي‪ .‬ص‪18‬‬
‫(‪ )2‬لسان العرب ابن منظور‪ .‬مادة ( لفظ ) ‪.‬‬
‫(‪ )3‬كتاب التعريفات ‪ .‬الشريف الجرجاني ‪.‬‬
‫(‪ . )6‬ينظر كتاب التعريفات ‪ .‬ص ‪ 220‬و كشاف اصطالحات الفنون ‪ .‬التهانوي محمد علي ج‪. 3/1084‬‬
‫(‪ . )7‬تاريخ النقد األدبي عند العرب ‪ .‬إحسان عباس ‪ .‬ص‪25‬‬

‫الصفحة ‪2‬‬
‫(‪ . )8‬اإلعجاز في دراسات السابقين ‪ .‬عبد الكريم الخطيب‪ .‬ص‪168‬‬
‫(‪ . )9‬نفسه ‪196 .‬‬
‫(‪ . )12‬البيان والتبيين ‪ .‬الجاحظ ‪ .‬ج‪.1/86‬‬
‫(‪ . )13‬الشعر والشعراء ‪ .‬ابن قتيبة الدينوري ‪ .‬ج‪ 1/69‬وما بعـــــدهــا‪.‬‬
‫(‪ . )14‬نقد الشعر ‪ .‬قدامة بن جعفر‪ .‬ص‪.55‬‬
‫(‪ . )15‬شرح المقدمة األدبية على ديوان الحماسة ألبي تمام ‪ .‬المرزوقي ‪ .‬ص‪35‬‬

‫ماهية البالغة‬
‫المحاضرة األولى‬
‫مقدمـــة‬
‫البالغة هي ُم رتَقى علوم اللغة وأشرفها‪ ،‬ومن أرِّق فنون الَك ِلم وأدَّقها‪ ،‬وبها ُيعلم غُّث الكالم من‬
‫سمينه‪ ،‬وقد أجاد علماؤنا العرب في تصنيف وترتيب علومها‪ ،‬فوضعوها على ثالثة علوم مرتبة ترتيًبا‬
‫تصاعدًّيا بحسب صياغة الجملة‪ ،‬وسبك المعنى وجودة األداء‪ ،‬وهذه العلوم ‪ -‬على الترتيب ‪ -‬هي‪ :‬علم‬
‫المعاني‪ ،‬وعلم البيان‪ ،‬وعلم البديع‪.‬‬
‫ومن شروط البالغة «توّخ ي الّد قة في انتقاء الكلمات واألساليب على حسب مواطن الكالم‬
‫ومواقعه وموضوعات من يكتب لهم أو يلقى إليهم»‬
‫ويمثل النص القرآني المدونة الكالمية التي انطلقت منها كل الدراسات اللغوية واألدبية وذلك من‬
‫أجل فهمه وتفسيره ومعرفة نظمه وأسلوبه وحتى بالغته‪ .‬وعن هذه األخيرة يقول أبو هالل العسكري ‪:‬‬
‫«إن أحق العلوم بالتعلم‪ ،‬وأوالها بالتحفظ ‪-‬بعد المعرفة باهلل جل ثناؤه‪-‬علم البالغة‪ ،‬ومعرفة الفصاحة‪،‬‬
‫الذي به يعرف إعجاز كتاب هللا»‪ .‬فماهي البالغة؟‬
‫‪ 1‬ـ ماهية البالغة‪:‬‬
‫البالغة لغًة‪:‬‬ ‫أ‌‪-‬‬
‫جاء في اللسان (بلغ)‪« :‬بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبالغا‪ :‬وصل وانتهى‪ ... ،‬وبلغت المكان بلوغا‪ :‬وصلت‬
‫إليه‪ ،‬وكذلك إذا شارفت عليه‪ ،‬ومنه قوله تعالى (َفِإذا َبَلْغ َن أَج َلُهَن ) البقرة‪ 234 :‬أي‪ :‬قاربنه‪.‬وبلغ الّنبت‪:‬‬
‫انتهى‪».‬‬
‫ويقول أبو هالل العسكري ‪« :‬بلغت الغاية اذا انتهيت إليها وبلغتها غيري ومبلغ الشيء منتهاه والمبالغة‬
‫في الشيء االنتهاء إلى غايته‪».‬‬
‫فالداللة اللغوية تتمحور حول شيء واحد هو الوصول واالنتهاء إلى الشيء‪.‬‬
‫البالغة اصطالًحا‪:‬‬ ‫ب‌‪-‬‬
‫جاء في معجم المصطلحات العربية (‪« )1‬هي مطابقة الكالم الفصيح لمقتضى الحال… مع توّخ ي الدّقة‬
‫في انتقاء الكلمات واألساليب على حسب مواطن الكالم ومواقعه وموضوعاته وحال من يكتب لهم أو‬
‫يلقى إليهم… والّذ وق وحده هو العمدة في الحكم على بالغة الكالم» وهذا يعني أن تباين األذواق يجعل‬
‫الحكم على بالغة الكالم أمرا نسبيا‪.‬‬
‫¶ البالغة والتراث‪:‬‬
‫روى الجاحظ تعريفات القدامى من شعراء وكّتاب عندما سئلوا عن مفهوم البالغة‪ .‬ومن هذه التعريفات‬
‫نذكر ما يأتي‪:‬‬

‫الصفحة ‪3‬‬
‫‪ 1‬ـ ابن المقّفع (ت ‪‍ 143‬ه)‪:‬‬
‫وجاء فيه «البالغة‪ :‬اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت‪ ،‬ومنها ما يكون‬
‫في االستماع‪ ،‬ومنها ما يكون في اإلشارة‪ ،‬ومنها ما يكون في االحتجاج‪ ،‬ومنها ما يكون جوابا‪ ،‬ومنها ما‬
‫يكون ابتداء‪ ،‬ومنها ما يكون شعرا‪ ،‬ومنها ما يكون سجعا وخطبا‪ ،‬ومنها ما يكون رسائل‪ .‬فعاّم ة ما يكون‬
‫من هذه األبواب الوحي فيها‪ ،‬واإلشارة إلى المعنى‪ ،‬واإليجاز‪ ،‬هو البالغة»(‪.)2‬‬
‫ونستنتج من هاهنا أن ابن المقفع قد اكتفى بتقديم صفات البالغة المتمّثلة في اإليجاز ومراعاة المقام‬
‫جاعال البالغة تكمن في السكوت واالستماع بالبالغة‪ .‬فبأي معيار نقيس بالغة الّصمت؟ وإذا كان‬
‫الصمت أبلغ من الكالم في بعض المواقف‪ ،‬فهل يصّح أن يسّم ى العجز عن اإلبالغ عّم ا يعتمل في النفس‬
‫بالغة؟ أال يحّق لنا أن نسّم ي الصمت إذا حسن تخلص ارتباطه بالبالغة‪ ،‬وألن في الصمت مساواة بين‬
‫البليغ وغيره‪ .‬فهل يجوز أن يستوي في عين البالغة األبكم والفصيح؟‬
‫‪( .2‬العّتابي ت ‪‍ 220‬ه)‪:‬‬
‫روى الجاحظ عن صديق له سأل العّتابي قائال (‪« :)3‬ما البالغة؟ قال‪ :‬كّل من أفهمك حاجته من غير‬
‫إعادة‪ ،‬وال حبسة‪ ،‬وال استعانة فهو بليغ»‪.‬‬
‫وهنا نرى أن العّتابي لم يعّر ف البالغة بقدر ما أعطى صفات البليغ‪ .‬فقد علق الجاحظ على كالم‬
‫العّتابي قائال (‪« :)4‬والعّتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ لم يعن أن كل من أفهمنا من‬
‫معاشر الموّلدين والبلديين قصده ومعناه‪ ،‬بالكالم الملحون‪ ،‬والمعدول عن جهته‪ ،‬والمصروف عن حقه‪،‬‬
‫أنه محكوم له بالبالغة كيف كان بعد أن نكون قد فهمنا عنه» وكأن الجاحظ يقّيد اإلفهام بالكالم الجاري‬
‫على أنماط كالم الفصحاء من العرب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الّرماني (ت ‪‍ 386‬ه)‪:‬‬
‫قال الّرماني (‪«)5‬البالغة‪ :‬إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ» فالبالغة تعني توصيل‬
‫المعنى وتمكينه في قلوب المتلقين من طريق إلباسه الصورة الجميلة من اللفظ الذي يفتن األلباب‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن المصطلح تطّو ر في هذ التعريف ليكتسب خصوصية لم يكتسبها سابقا‪ .‬فلم تعد البالغة‬
‫بأوصافها‪ ،‬بل أخذت تحديدا واضحا ودقيقا بقي متداوال في كتب الالحقين‪ ،‬يضيفون عليه ولكّنهم حافظوا‬
‫على كنهه وفحواه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أبو هالل العسكري (ت ‪‍ 395‬ه)‪:‬‬
‫ارتكز العسكري على الداللة اللغوية لفهم مصطلح البالغة قائال‪« :‬سمّيت البالغة بالغة ألنها تنهي‬
‫المعنى إلى قلب السامع فيفهمه» ورأى أنها «من صفة الكالم ال من صفة المتكّلم ‪ ...‬وتسميتنا المتكّلم بأنه‬
‫بليغ توّسع‪ .‬وحقيقته أن كالمه بليغ»‪.‬‬
‫وذهب العسكري إلى أن «الفصاحة والبالغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصالهما؛ ألن‬
‫كل واحد منهما إنما هو اإلبانة عن المعنى واإلظهار له»‬
‫وأتى بتعريف واف للبالغة في كتابه الصناعتين جاء فيه «البالغة كل ما تبّلغ به المعنى قلب‬
‫السامع‪ ،‬فتمّك نه في نفسه كتمّك نه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن»(‪.)6‬‬
‫وقد رد على تعريف ابن المقّفع‪ .‬قائال‪« :‬ومن قال‪ :‬إن البالغة إنما هي إفهام المعنى فقط‪ ،‬فقد جعل‬
‫الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب واإلغالق واإلبانة سواء»‪.‬‬

‫الصفحة ‪4‬‬
‫كما وقد وضع شروطا الجتماع آلة البالغة‪ ،‬وهي في ظّنه «جودة القريحة وطالقة اللسان» ومن تمام‬
‫آالت البالغة ما يأتي(‪:)7‬‬
‫«التوّسع في معرفة العربية‪ ،‬ووجوه االستعمال لها؛ والعلم بفاخر األلفاظ وساقطها‪ ،‬ومتخّيرها‪ ،‬ورديئها‪،‬‬
‫ومعرفة المقامات‪ ،‬وما يصلح في كل واحد منها من الكالم» وقد شرح هذا القول بإسهاب فيما بعده من‬
‫كالم ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ عبد القاهر الجرجاني (ت ‪‍ 471‬ه)‪:‬‬
‫عقد الجرجاني في دالئل اإلعجاز فصال بعنوان(‪« :)8‬في تحقيق القول على البالغة والفصاحة‪،‬‬
‫والبيان والبراعة‪ ،‬وكل ما شاكل ذلك» مبّينا فيه أن «ال معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مّم ا‬
‫يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة‪ ،‬وينسب فيه الفضل والمزّية إليه دون المعنى غير وصف الكالم بحسن‬
‫الّد اللة‪ ،‬وتمامها فيما له كانت داللة‪ ،‬ثم تبّر جها في صورة هي أبهى وأزين‪ ،‬وآنق وأعجب‪ ،‬وأحّق بأن‬
‫تستولي على هوى النفس‪ ،‬وتنال الحظ األوفر من ميل القلوب‪ ،‬وأولى بأن تطلق لسان الحام ‪ ،‬وتطيل‬
‫رغم الحاسد‪ ،‬وال جهة الستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصّح لتأديته‪،‬‬
‫ويختار له اللفظ الذي هو أخص به‪ ،‬وأكشف عنه‪ ،‬وأتّم له‪ ،‬وأحرى بأن يكسبه نبال‪ ،‬ويظهر فيه مزية»‪.‬‬
‫لقد قلنا مفهوم الجرجاني ولم نقل حّد ه ألنه أعطى صفات مشتركة لكل من البالغة والفصاحة‬
‫والبراعة والبيان أّو ال‪ ،‬وألنه لم يحّد د البالغة تحديدا وافيا ثانيا‪ .‬فالكالم يجب أن يكون شديد الداللة على‬
‫المعنى‪ ،‬ثم إنه من المستحسن أن يرصف في جملة أنيقة متبّر جة لتأتي فائقة األناقة تبلغ األسماع فتطربها‬
‫بجرسها‪ ،‬وتأسرها بجمال وسحر ألفاظها‪ .‬ولتأتي العبارة بهذه الصفات على صاحبها أن يتخّير اللفظ الذي‬
‫يؤدي المعنى وال يقّصر عنه ألن الكالم الذي تقّص ر فيه األلفاظ عن تأدية المعاني كاملة وبدقة متناهية‬
‫ليس كالما بليغا‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ابن سنان الخّفاجي (‪ 422‬ـ ‪‍ 466‬ه)‪:‬‬
‫ذهب ابن سنان في كتابه (سّر الفصاحة) إلى أن القدامى لم يحّد وا البالغة‪ ،‬ألنهم اكتفوا برصد‬
‫صفاتها‪ ،‬ولكن ما يعاب عليه عدم تفريقه بين الفصاحة والبالغة‪ ،‬فهو يرى أن (‪«:)9‬الفصاحة‪ :‬عبارة عن‬
‫حسن التأليف في الموضوع المختار» وهذا تعريف يليق بالبالغة أيضا‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ الخطيب القزويني (ت ‪‍ 734‬ه)‪:‬‬
‫أما القزويني في مقّد مة (اإليضاح) لم يجد في أقوال المتقّد مين(‪« )10‬ما يصلح لتعريفهما (الفصاحة‬
‫والبالغة) به» غير أّنه انتهى بعد أن شرح الفصاحة إلى تعريف بالغة الكالم بأنها ( ‪« )11‬مطابقته‬
‫لمقتضى الحال مع فصاحته» وبعد شرح مسهب لكالم الجرجاني نفهم منه أّنه يتبّنى موقفه من إطالق‬
‫الفصاحة والبالغة على أوصاف راجعة إلى المعاني‪ ،‬يتحدث عن بالغة المتكلم التي يحّد ها بقوله ( ‪:)12‬‬
‫«هي ملكة يقتدر بها على تأليف كالم بليغ»‪.‬‬
‫المراجع والمصادر‬
‫‪ -1‬معجم المصطلحات العربية في اللغة واألدب‪ ،‬مجدي وهبه ـ‬
‫‪ -2‬الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين‪ ،‬تحق عبد السالم هارون‪ ،‬ط‪.1 /‬‬
‫‪ -3-4‬الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين‪ ،‬ط‪.1 /‬‬
‫‪ -5‬الّر ماني‪ ،‬النكت في اعجاز القرآن‪ ،‬تحق‪ :‬محمد خلف هللا ومحمد زغلول ط‪.3 /‬‬
‫‪ -6-7‬العسكري‪ ،‬كتاب الصناعتين‪ ،‬تح البّج اوي ـ ابراهيم‪.‬‬
‫‪ -8‬الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬دار المعرفة‪.‬‬

‫الصفحة ‪5‬‬
‫‪ -9‬ابن سنان الخّفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪ ،‬تحق عبد المتعال الصعيدي‪ ،‬طبعة صبيح‪.‬‬
‫الخطيب القزويني‪ ،‬اإليضاح في علوم البالغة‪.‬‬ ‫‪-10‬‬
‫م‪ .‬ن‪.‬‬ ‫‪-11-12‬‬

‫البالغة عند المحدثين‬


‫المحاضرة الثانية‬

‫البالغة عند المحدثين العرب والغرب‬


‫‪ v‬البالغة عند المحدثين‪:‬‬
‫عند العرب‪:‬‬ ‫أ‌‪-‬‬
‫تكاد تتفق تعريفاتهم للبالغة في كونها الكالم الذي يصيب معناه بوضوح وسالمة ومراعاته‬
‫لمقتضى الحال وخلوه من التكلف‪ ،‬مرتبطة باللغة الشتمالها على عنصري (اللفظ والمعنى)‪ ،‬كما أنها‬
‫تساعد اللغة على أداء وظيفتها في التعبير واإلبالغ‪.‬‬
‫فالبالغة «يختلف معناها باختالف موصوفها وهو أحد االثنين‪ :‬الكالم والمتكلم‪ ،‬يقال‪ :‬هذا الكالم‬
‫بليغ‪ ،‬وهذا متكلم بليغ‪ ،‬وال توصف بها الكلمة فال يقال‪ :‬كلمة بليغة‪ ،‬لعدم ورود السماع بذلك‪ ،‬وبالغة‬
‫الكالم‪ :‬هي مطابقته لمقتضى حال المخاطب مع سالمته من العيوب المخلة بفصاحته وفصاحة أجزائه‪(».‬‬
‫‪)1‬‬
‫فالحال هو المقام وهو األمر الذي يحمل المتكلم على أن يورد كالمه في صورة خاصة‪ .‬ومقتضى‬
‫الحال هو االعتبار المناسب أي تلك الصورة الخاصة التي ورد عليها كالم المتكلم‪ .‬أما مطابقة الكالم‬
‫لمقتضى الحال هي اشتماله على هذه الصورة الخاصة‪ .‬فإنكار المخاطب مثال حال ألنه أمر يحمل المتكلم‬
‫أن يأتي كالمه على صورة تأكيد ليزيل هذا اإلنكار‪ ،‬وصورة التوكيد التي ورد عليها الكالم هي مقتضى‬
‫الحال‪ ،‬واشتمال الكالم على صورة التوكيد هو مطابقته لمقتضى الحال وهكذا فلكل مقام مقال‪)2(.‬‬
‫والبالغة كما يقول أمين خولي«هي البحث عن فنية القول‪ ،‬وإذا ما كان الفن هو التعبير عن‬
‫اإلحساس بالجمال‪ ...‬فالبالغة هي البحث في كيف يعبر القول عن هذا اإلحساس‪)3(».‬‬
‫ومن خالل ما تقدم من تعريفات القدامى والمحدثين‪ ،‬يالحظ أنها تتفق في مضمونها على أن‬
‫البالغة فن وما دام أنها فن فهي صنعة تقوم على استخدام الكالم الجميل‪ ،‬المؤثر في النفس‪ ،‬المالئم‬
‫للمعنى وللموطن الذي يقال فيه‪ ،‬واألشخاص الذين يخاطبون ويضاف بأنها علم يقدم مجموعة من‬
‫القوانين الفنية التي ينبغي أن تراع في إنتاج النصوص‪ .‬والبالغة منهج يمس خاصية مالزمة لإلنسان هي‬
‫الكالم‪ .‬أما المفهوم العلمي الحديث للبالغة فإنه مخالف للمفهوم السابق من حيث الهدف‪« ،‬إذ لم يعد‬
‫الهدف األول للبالغة العلمية هو إنتاج النصوص بل تحليلها‪)4(».‬‬
‫عند الغرب‪:‬‬ ‫ب‌‪-‬‬
‫إن كلمة البالغة تلتقي اليوم مع كلمة ريطوريك في التراث البالغي الغربي المنحدر من الثقافة الالتينية‬
‫واليونانية عامة ‪ rhetoric‬في اللغة اإلنجليزية‪ ،‬أما في اللغة الفرنسية ‪ rhétorique‬وهي كلمة تدل‬
‫على معنيين كبيرين‪ :‬المعنى الحجاجي اإلقناعي الذي يصب في التداولية الحديثة‪ ،‬والمعنى التعبيري‬
‫الشعري يصب في األسلوبية‪)5(.‬‬

‫الصفحة ‪6‬‬
‫وفي معجم ألفاظ األسلوبية لجون مازاليغا(‪ )Jean Mazalegat‬وجورج مولينيي (‪George‬‬
‫‪ )Moulinier‬ثالث معان‪:‬‬
‫‪ -‬البالغة مبحث قديم يهتم بفن اإلقناع في مكوناته وتقنياته‪.‬‬
‫‪ -‬البالغة مجموعة من صور التعبير منفصلة عن نوع من الخطاب الذي استعملت فيه‪.‬‬
‫‪ -‬وقد تعني الكلمة أحيانا المقاييس المعيارية لفن الكتابة وهذا المعنى عرضي مرتبط بانكماش البالغة‪(.‬‬
‫‪)6‬‬
‫¨ الفرق بين البالغة والفصاحة‪:‬‬
‫الحظ علماء البالغة الصلة بين المعنى اللغوي والمعنى االصطالحي للبالغة‪ ،‬كما الحظوا وجود‬
‫مصطلح آخر استعملوه مرادفا لها أال وهو الفصاحة‪.‬‬
‫الفرق بين البالغة والفصاحة في القرآن‪:‬‬ ‫أ‌‪-‬‬
‫وردت كلمة الفصاحة في كل من قوله تعالى‪َ﴿:‬و َأِخ ي َهاُروُن ُهَو َأْفَص ُح ِم ِّني ِلَس اًنا﴾سورة القصص ‪.34‬‬
‫ووردت كلمة بالغة في قوله عز وجل﴿َفَأْع ِر ْض َع ْنُهْم َو ِع ْظُهْم َو ُقْل َلُهْم ِفي َأْنُفِس ِهْم َقْو اًل َبِليًغ ا﴾سورة‬
‫النساء ‪ .63‬ففي اآلية األولى أسندت فيها الفصاحة إلى اللسان فجاءت متعلقة باأللفاظ فقط «ذلك أن موسى‬
‫كان في لسانه لثغة بسبب تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين الثمرة فحصل فيه شدة في التعبير‪(».‬‬
‫‪ )7‬أما اآلية الثانية فأسندت البالغة إلى النفوس ووصف بها األلفاظ والمعاني من أجل التأثير في‬
‫النفوس«وقل لهم في أنفسهم قوال بليغا وانصحهم فيما بينك وبينهم بكالم بليغ رادع لهم»‪)8(.‬‬
‫فالكالم يوصف بالفصاحة من حيث األلفاظ ووضوحها وسالمتها من التعقيد والغرابة ولكنه ال يكون‬
‫بالضرورة بليغا‪.‬أما الكالم الذي يوصف بالبالغة فالبد أن يكون فصيحا مؤثرا في النفوس‪.‬‬
‫الفرق بينهما عند البالغيين‪:‬‬ ‫ب‌‪-‬‬
‫لم يفرق كثير من العلماء بين البالغة والفصاحة‪،‬لداللتهما على معنى واحد فاإلبالغ عما في النفس هو‬
‫اإلفصاح وأشار إلى ذلك أبو هالل العسكري قائال‪« :‬فالفصاحة والبالغة ترجعان إلى معنى واحد‪ ،‬وإن‬
‫اختلف أصالهما؛ ألن كل واحد منهما إنما هو اإلبانة عن المعنى واإلظهار له»‪)9(.‬‬
‫ولكن عندما استقرت علوم البالغة في العصور التي تلته أصبح التفريق بينهما واضحا وشاع بين الناس‬
‫تعريف البالغة المنسوب إلى القزويني(ت‪739‬هـ)حيث قال‪«:‬بالغة الكالم هي مطابقته لمقتضى الحال‬
‫مع فصاحته فالبالغة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى بالتركيب‪)10(».‬‬
‫ولعل أول من فرق بين كلمة بالغة وكلمة فصاحة ابن سنان الخفاجي(ت‪466‬هـ) قال‪« :‬الفصاحة الظهور‬
‫البيان ‪ .....‬والفرق بينهما وبين البالغة أن الفصاحة مقصورة على وصف األلفاظ‪ ،‬والبالغة ال تكون إال‬
‫وصفا لأللفاظ مع المعاني‪ ،‬ال يقال في كلمة واحدة ال تدل على معنى تفضل عن مثلها‪ :‬بليغة‪ ،‬وإن قيل‬
‫فيها فصيحة‪ ،‬وكل كالم بليغ فصيح وليست كل فصيح بليغا‪)11(».‬‬
‫ومما سبق يتضح لنا أن لكل من البالغة والفصاحة دعائم تقوم عليها(‪)12‬‬
‫‣ دعائم الفصاحة‪:‬‬
‫* مجالها األلفاظ وتختص بالكلمة المفردة والكالم المركب بشرط الوضوح والبيان واالنسجام والتوافق‬
‫مع قواعد النحو‪.‬‬
‫‣ دعائم البالغة‪:‬‬
‫*تختص باأللفاظ والمعاني مع مراعاة األسلوب المالئم للمخاطبين‪ ،‬وهي تهدف إلى التأثير في النفوس‬
‫كما أنه من شروطها األساسية الفصاحة‪.‬‬

‫الصفحة ‪7‬‬
‫المصادر والمراجع‬
‫‪ -1‬أمين أبو ليل‪ ،‬علوم البالغة المعاني والبيان والبديع‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ -2‬زين كامل الخويسكي‪ ،‬أحمد محمود المصري‪،‬فنون بالغية‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ -3‬وجيه المرسي أبو لبن‪ ،‬مفهوم البالغة وأهداف تدريسها‪ ،‬مقالة‬
‫‪ -4‬هنريش بليث‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬تر محمد العمري‬
‫‪ 5-6‬محمد العمري‪ ،‬البالغة العامة والبالغة المعممة‪،‬مقال‬
‫‪ -7‬إسماعيل بن عمر بن كثير البصري‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬مجلد‪ ،4‬محمود عبدالقادر األرناؤوط‬
‫‪ -8‬المرجع نفسه‪ ،‬المجلد الثاني‪.‬‬
‫‪ -9‬أبو هالل العسكري‪،‬الصناعتين‪.‬‬
‫الخطيب القزويني‪ ،‬التلخيص المفتاح‪ ،‬تح‪ :‬ياسين األيوبي‪.‬‬ ‫‪-10‬‬
‫ابن سنان الخفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪ ،‬تح‪ :‬النبوي شعالن‪ ،‬ط‪1‬‬ ‫‪-11‬‬
‫ط بن عيسى بالطاهر‪،‬البالغة العربية مقدمات وتطبيقات‪ ،‬ط‪1‬‬ ‫‪-12‬‬

‫تاريخ البالغة‬
‫المحاضرة الثالثة‪:‬‬
‫إن البالغة العربية في نشأتها كغيرها من علوم العربية لم تظهر فجأة حيث لم يكن لها حدود‬
‫تعرف بها‪ ،‬وال قضايا تختص بها‪ ،‬وال حتى مصطلحات تقتصر عليها‪ ،‬وإنما مرت بمراحل عديدة حتى‬
‫اكتمل نضجها وأصبحت علما مستقال قائما بذاته له قوانينه الخاصة وقواعده‪.‬‬

‫البالغة في العصر الجاهلي‪:‬‬


‫كان عرب الجاهلية يعرفون ببراعة البيان وشدة العارضة والتقدم في اللسن وكان الكالم أملك‬
‫لنفوسهم وأوقع في قلوبهم وهم إليه أشوق وفيه أرغب‪..‬‬
‫فكانت البالغة في الجاهلية باب من أبواب فّن القول العربي حيث ارتبطت بالنقد في بدايات نشأتها‬
‫وبجهود أصحابها من ملحوظات جزئية خير معللة‪ ،‬فقد عرفوا كثيرا من األحكام النقدية التي أعانتهم‬
‫على تفهم الشعر وتذوقه ونقده‪ ،‬إذ بلغ العرب في هذا العصر درجة رفيعة في البالغة والبيان‪ .‬ويمكن‬
‫مالحظة ذلك من خالل عقدهم للموازنات بين الشعراء وتفضيل بعضهم على بعض‪ ،‬وعقدهم أيضا‬
‫لألسواق األدبية مثل سوق عكاظ لتضم ندوات أدبية يتناشدون األشعار‪ ،‬وتلقى األحكام المطلقة التي‬
‫تخلوا من التحليل والتعليل ومن أشهر النقاد النابغة الذبياني الذي كانت تضرب له قبة حمراء في سوق‬
‫عكاظ ليحتكموا إليه‪.‬‬
‫ومن صور اهتمام عرب الجاهلية بالبيان والبالغة أنهم كانوا يمدحون اللسان ويعرفون عيوبه لذلك كانت‬
‫قصائدهم على قدر كبير من العناية حتى أصبح للشعراء مكانتهم الخاصة فيقول مازن المبارك‪( :‬‬
‫‪ «)1‬ومعرفة العرب للعيوب اللسانية وعّد هم لها منذ عصر مبكر يدل على أنهم عرفوا جّيد الكالم‪،‬‬
‫وعرفوا خصائصه‪ ،‬كما عرفوا قبيحه وعيوبه وهذا ما يعني أن البالغة في نظرهم أمر مقصود وإنها‬
‫وجدت في كالمهم بشكل عملي قبل أن تعرف بأسمائها وتعريفاتها وعرفها القوم بطبائعهم قبل أن يكون‬

‫الصفحة ‪8‬‬
‫لها اسم يتواضعون عليه‪ ،‬ومن الناحية النظرية فهناك ظواهر بالغية منثورة في ما أطلقوه من أحكام‬
‫نقدية في مناسبات المفاضلة والمفاخرة»‪.‬‬
‫فالبالغة في ذلك الوقت كانت أمرا ُفطروا عليه‪ ،‬يعرفونه وال يكادون يختلفون فيه رغم عدم اصطالحهم‬
‫لتلك المفاهيم البالغية بمصطلحات دقيقة وواضحة‪.‬‬

‫البالغة في صدر اإلسالم‪:‬‬


‫كان لنزول القرآن الكريم الفضل الكبير في نشأة العلوم وتطور الفكر عند العرب‪ ،‬فقد دعا القرآن الكريم‬
‫إلى العلم والبحث فظهرت علوم مختلفة وفنون عديدة من بينها علم البالغة‪ .‬ومما ال شك فيه أن للقرآن‬
‫الكريم أثر عظيم في نشأة البالغة وتطورها فالعرب أمة مفطورة على البالغة‪ ،‬لذلك وقفوا أمام القرآن‬
‫الكريم منبهرين من بالغته التي فاقت بالغتهم المشهورة‪ ،‬مما زاد في رفع منزلتها أكثر من ذي قبل‪،‬‬
‫فأخذوا يتدارسونه ويوضحون معانيه وراحوا يتدبرون أمرهم بينهم فيما يعللون به‪ ،‬هذا الكالم الساحر‬
‫واألسلوب اآلسر فما أكثر الذين سمعوا آية أو آيتين يتلوهما الرسول عليه الصالة والسالم فإذا هم بعد‬
‫ذلك مسلمون‪ ،‬بل إن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه وهو صاحب معرفة بكالم العرب‪ ،‬وهو الذي حكم‬
‫للنابغة ولزهير فحين سمع آيات من سورة طه أسلم عندها‪)2(.‬‬
‫وكانت آيات القرآن الكريم هي الشاهد البالغي الرفيع وتضم قضية شغلت العلماء والدارسين منذ نزول‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬أال وهي قضية اإلعجاز التي ساهمت في ظهور البالغة حيث اختلفت وجهات النظر في‬
‫ذلك فكانت دراستهم النواة األولى في نشأة البالغة وتعد أحسن مصدر لها‪.‬‬
‫وقد جعلوا البالغة أحق العلوم بالتعلم وأوالها بالتحفظ بعد العلم باهلل ألن اإلنسان إذا غفل عن علم البالغة‬
‫لم يقع علمه بإعجاز القرآن الكريم لما فيه من حسن التأليف وبراعة التركيب يقول أحمد مطلوب‪« :‬نشأ‬
‫البحث البالغي عند العرب بعد نزول القرآن الكريم وامتداد الدعوة إلى اإلسالم وذلك بسبب اهتمام‬
‫المسلمين بكتابهم العظيم ‪ ....‬حيث وجدوا فيه غير ما ألفوه في كالمهم‪ ،‬فقد جاء معجزة كبرى تحدى هللا‬
‫بها عباده واتجهوا إلى البالغة باحثين فنونها وموضحين أقسامها لكي يبرهنوا على إعجاز هذا الكتاب‬
‫وأيضا لفهم آياته»‪)3(.‬‬
‫وقد أعلن أبو هالل العسكري أن البالغة هي الطريق إلدراك هذا اإلعجاز قائال‪« :‬إن اإلنسان إذا أغفل‬
‫علم العربية وأخل بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه هللا به من حسن‬
‫التأليف وبراعة التركيب وما شحنه من اإليجاز البديع واالختصار اللطيف‪ ،‬وضمنه من الحالوة وحلله‬
‫من رونق الطالوة مع سهولة كلمة وجزالتها وعذوبتها وسالستها‪ ،‬إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز‬
‫الخلق عنها وتحيرت عقولهم فيها»‪)4(.‬‬
‫وفي هذا الوقت أيضا ال تزال الموازنات والمفاضالت بين الشعراء قائمة‪ ،‬وكما هو معروف عن النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم أنه أفصح العرب قد كان شديد االهتمام والعناية بالشعر والشعراء‪ ،‬وقد كان الخلفاء‬
‫يشاركون في إصدار األحكام لما اشتهروا به من الفصاحة والبيان‪ ،‬لكنها تبقى مالحظات تعتمد على‬
‫الذوق من دون تعليل لها‪.‬‬

‫البالغة في العصر األموي‪:‬‬


‫وفيه ازدهرت الخطابة بجميع أنواعها السياسية والدينية وغيرها‪ ،‬وأيضا كثرت المالحظات النقدية نتيجة‬
‫لتحضر العرب واستقرارهم في المدن وازدهار العلوم ورقيها مما أدى إلى تطور ورقي الحياة العربية‪.‬‬

‫الصفحة ‪9‬‬
‫كما ظهرت اتجاهات ومذاهب كثيرة لظروف سياسية وعقائدية منها‪ :‬المعتزلة التي شاركت هي األخرى‬
‫في نشأة البالغة العربية‪ ،‬فقد اهتم رجالها بمسائل البالغة والبيان التصالها بما كانوا ينهضون به من‬
‫الخطابة والمناظرة ‪ ....‬واهتموا أيضا بما عند األمم األخرى فيما يخض البالغة ومسائلها المتنوعة‪ ،‬وقد‬
‫نقل الجاحظ في كتبه المتعددة ما أثاره أصحاب هذا المذهب‪)5(.‬‬
‫البالغة في العصر العباسي‪:‬‬
‫ازدهرت المالحظات البالغية في هذا العصر بشكل كبير واصطبغت بصبغة علمية ويعود ذلك إلى‬
‫تطور الشعر والنثر وتحضر العرب‪ ،‬فبعد اتساع الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬وفساد األذواق وانحراف الملكات‬
‫وامتزاج العرب بغيرهم ظهر أثر ذلك في ألسنتهم وطباعهم‪ .‬كان ذلك من البواعث على تدوين أصول‬
‫البالغة العربية لتكون ميزانا سليما توزن به بالغة الكالم وعصمة اللسان من الخطأ في األسلوب‬
‫والبيان‪)6(.‬‬
‫وقد أشار إلى هذا التأثير أحمد هاشمي حيث قال‪« :‬إن التأليف البالغي من لدن الجاحظ حتى السكاكي‬
‫وانتهاء بالعصور التالية عني بالتفرقة بين قسم وآخر ونوع وعدد وفرع حتى وصل بفن كالبديع إلى هذا‬
‫الحد من األلوان وكان التأليف البالغي متأثرا في ذلك بالتيارات العربية األصلية مضافا إليها التيارات‬
‫الوافدة من يونانية وهندية‪ ،‬وفارسية وغيرها‪)7(».‬‬
‫ويعد اطالع العرب على البالغة عند األمم األخرى رأوا أن طريقتهم تختلف عن طريقة العرب ذلك أن‬
‫«الطريقة األولى وهي طريقة العجم – على حد قولهم‪ -‬كانت تفهم البالغة فهما أدنى إلى العلم‪ ،‬وكانت‬
‫تعنى بالمصطلحات البالغية‪ ،‬وتشرح الغرض منها وتفلسف هذا الشرح‪ .‬وأما الطريقة الثانية وهي‬
‫طريقة العرب فكانت تفهم البالغة فهما أدنى إلى األدب المحض وكانت تعنى بالشواهد والنماذج بقصد‬
‫تربية الذوق‪ ،‬ومن ثم كانت تجنح هذه الطريقة إلى اإلقالل من األصول ومن القواعد‪ ،‬ومن ذكر‬
‫المصطلحات البالغية بدال من ذكر الشواهد واألمثلة»(‪.)8‬‬
‫وكل هذا حين اتسعت الترجمة في أواخر العصر األموي أوائل العصر العباسي وأسست لها دار الحكمة‪،‬‬
‫ومن أشهر المترجمين ابن المقفع‪ ،‬فقد ترجم كتب كثيرة عن الفارسية تاريخية وأخرى أدبية وسياسية‪،‬‬
‫كما ترجم "كليلة ودمنة" وأجزاء من منطق أرسطو حيث إنكب المترجمون ينقلون التراث اليوناني‬
‫والفارسي والهندي(‪.)9‬‬
‫كما أن لعلماء النحو واللغة أثر واضح في البالغة‪ ،‬منهم الخليل بن أحمد الذي تحدث عن التجنيس‪،‬‬
‫وسيبويه الذي يعرض في كتابه بعض الخصائص األسلوبية كالتقديم والتأخير واإلضمار وهي من صميم‬
‫الدراسات البالغية فأكثر أصول البالغة نبتت من أفكار هؤالء اللغويين والنحاة وأن أكثر علماء البالغة‬
‫وعيا بأهدافها ودقائقها هم الذين تعمقوا في أسرار اللغة ونحوها كاإلمام عبد القاهر الجرجاني (‪ 271‬هـ)‪،‬‬
‫والزمخشري (‪ 538‬هـ)‪)10(.‬‬
‫وهنا بدأ البالغيون يضعون األصول والقواعد لتلك األحكام والمالحظات ويحددونها تحديدا دقيقا‬
‫ويحللونها تحليال علميا‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬
‫‪ -1‬مازن المبارك‪ ،‬الموجز في تاريخ البالغة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬مازن المبارك‪ ،‬الموجز في تاريخ البالغة‪.‬‬
‫‪ -3‬أحمد مطلوب‪ ،‬بحوث بالغية‪ ،‬مطبوعات المجمع العلمي‪ ،‬بغداد‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫الصفحة ‪10‬‬
‫‪ -4‬أبو هالل العسكري‪ ،‬الصانعتين‪.‬‬
‫‪ -5-6‬يوسف أبو العدوس‪ ،‬مدخل إلى علم البالغة العربية…‪ ،.‬ط‪.1‬‬
‫‪ -7‬أحمد الهاشمي‪ ،‬جواهر البالغة في المعاني والبيان والبديع‪.‬‬
‫‪ -8‬عبد اللطيف حمزة‪ ،‬القلقشندي في كتابه صبح األعشى‪.‬‬
‫‪ -9‬شوقي ضيف‪ ،‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ 5199 ،9‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬عبد العاطي‪ ،‬البالغة العربية بين الناقدين الخالدين عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي‪،‬‬
‫دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1993 ،1‬م‪.‬‬

‫مراحل نشأة البالغة وأهم أعالمها‬


‫المحاضرة الرابعة‬
‫مراحل نشأة البالغة وأهم أعالمها‪:‬‬
‫مرت البالغة بمراحل ثالث حتى اكتملت‪ ،‬يمكن تلخيصها كما يلي‪:‬‬
‫النشأة والنمو‬ ‫أ‌‪-‬‬
‫تبدأ هذه المرحلة بدراسات حول إعجاز القرآن الكريم حيث كانت الكتب الخاصة به هي النواة األولى‬
‫لنشأة علم البالغة وتطوره‪ ،‬وإذا تتبعنا البدايات األولى لهذه الكتب سنجد كتاب "مجاز القرآن" ألبي عبيدة‬
‫معمر بن المثنى (ت ‪ 210‬هـ) وهو أحد الكتب التي وصلت إلينا‪ ،‬يهتم بجمع األلفاظ من أجل شرح ما فيها‬
‫من غريب‪ ،‬ويشير أيضا إلى بعض المسائل البالغية التي يتصل بعضها بنظم القرآن الكريم‪ .‬وفي هذا‬
‫الكتاب يقول محمد مصطفى هّد ارة‪«:‬كان القرآن يجري على قواعد العرب في لغتها‪ ،‬وأّنه يتميز بنهج‬
‫خاص في استعمال هذه اللغة وفي التعبير عن المعاني التي يتضمنها فكان الموالي والمولدون بحاجة إلى‬
‫من يبين لهم ذلك‪ .‬وقد ظهرت كتب في هذه المرحلة تحاول معالجة هذه الظاهرة ومن أوائل الكتب "مجاز‬
‫القرآن" ألبي عبيدة معمر بن المثنى ألن كلمة مجاز هنا ‪ ...‬تدل على ما تدل عليه اليوم كلمة أسلوب‪)1(».‬‬
‫ثم يأتي كتاب آخر ذو قيمة علمية كبيرة هو كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ هذا الكتاب الذي قال فيه أبو‬
‫هالل العسكري عند الحديث عن كتب البالغة «وكان أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين ألبي عثمان‬
‫عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬وهو لعمري كثير الفوائد‪...‬إال أن اإلبانة عن حدود البالغة‪ ،‬وأقسام البيان‬
‫والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه ومنتشرة في أثنائه؛ فهي ضالة بين األمثلة‪ ،‬ال توجد إال بالتأمل الطويل‪،‬‬
‫والتصفح الكثير‪)2(».‬‬
‫وصوال إلى رسائل اإلعجاز المشهورة مثل"النكت في إعجاز القرآن" للّر ماني‪ ،‬ونجد أيضا الخطابي(ت‬
‫‪388‬هـ) في كتابه"بيان إعجاز القرآن"‪ ،‬والباقالني(ت‪403‬هـ) في كتابه"إعجاز القرآن"وكتب النقد من‬
‫أشهرها"نقد الشعر" لقدامة بن جعفر‪ ،‬وكتاب الصناعتين للعسكري دون أن ننس كتاب "البديع" البن‬
‫معتز الذي كان ثمرة الخالف على السبق إلى استعمال ألوان البديع وهو يعد المؤسس لعلم البديع‪.‬‬
‫النضج واالكتمال‬ ‫ب‌‪-‬‬
‫وكان وذلك على يدي اإلمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظريتي علم المعاني وعلم البيان في‬
‫كتابيه"دالئل اإلعجاز" و"أسرار البالغة"‪ ،‬وبذلك وضع «األسس العامة والقواعد األساسية لعلوم‬
‫البالغة‪ ،‬كما أنه توسع في الحديث عن نظرية النظم ورأى أنها سر اإلعجاز في القرآن»( ‪ ،)3‬ثم جاء‬
‫محمود بن عمر الزمخشري فألف تفسيره المشهور"الكشاف"«طبق فيه نظرية النظم وفّر ق في هذا‬
‫الكتاب بين علم المعاني وعلم البيان‪)4(».‬‬

‫الصفحة ‪11‬‬
‫وهنا بدأت كتب البالغة تظهر بشكل خاص بعدما كانت مبعثرة في كتب اللغة والنقد واألدب‪.‬‬
‫ج‪ -‬تقعيد القواعد‪:‬‬
‫تبدأ هذه المرحلة بظهور أبي يعقوب السكاكي (ت‪626‬هـ)‪ ،‬الذي تأثر بالمنطق اليوناني‪ ،‬فقام بتقنين‬
‫قواعد البالغة مستعينا في ذلك بقدراته‪ ،‬المنطقية على التعليل والتعريف والتفريع في كتابه"مفتاح العلوم"‬
‫حيث تحدث في القسم الثالث منه عن علم البديع والبيان‪.‬‬
‫وقد نال هذا الكتاب شهرة في ميدان البالغة وعكف العلماءعلى دراسته وشرحه وتخليصه وممن شرحوه‬
‫قطب الدين الشيرازي(‪710‬هـ)(‪)5‬وممن لخصوه بدرالدين مالك (‪686‬هـ) في كتاب سماه "المصباح في‬
‫علم المعاني والبيان والبديع"‪ ،‬والقرزويني (‪739‬هـ) سماه"تلخيص المفتاح" الذي اشتهر بدوره وأصبح‬
‫قطبا تدور حوله الشروح‪.‬‬
‫فكل من جاء بعد السكاكي سار على نهجه ألنه لم يخرج عن كونه تكرارا لمادته فهي محاوالت للتبسيط‬
‫والتوضيح لكنها أفقدت البالغة رونقها وجمالها وأصابتها بالتعقيد والجمود«استمرت الشروح والحواشي‬
‫على كتاب (المفتاح)و(تلخيص المفتاح) قرونا طويلة قدم فيها البالغيون دروس البالغة في قوالب جافة‪،‬‬
‫وأدخلوا فيها كثيرا من المباحث التي تتصل بعلوم أخرى مثل‪ :‬علم الكالم‪ ،‬وأصول الفقه‪ ،‬والنحو‬
‫والمنطق‪،‬األمر الذي أسهم في ذهاب رونقها وجمالها‪ ،‬وإصابتها بالجمود والتعقيد في كثير من‬
‫مصطلحاتها ومباحث‪)6(».‬‬
‫وقد أضاف بعض العلماء مرحلة أخرى هي مرحلة البالغة في العصر الحديث(‪ )7‬فقد ظهرت كتب‬
‫حاولت تفسير البالغة منها"جواهر البالغة" لسيد أحمد الهاشمي‪ ،‬وكتاب"علوم البالغة" ألحمد مصطفى‬
‫المراغي‪ ،‬وكتاب"البالغة الواضحة" لعلي الجارم ومصطفى أمين‪ ،‬كما ظهرت محاوالت لتجديد البالغة‬
‫وتطويرها بدأت بكتاب أمين خولي"مناهج تجديد في التفسير والبالغة" وجهود شوقي ضيف في "البالغة‬
‫تطور التاريخ"‪ .‬كما اتجهت دراسات كثيرة إلى تجديد البالغة وربطها بالدراسات األسلوبية الحديثة‬
‫أبرزها كتاب"دفاع عن البالغة" ألحمد حسن الزيات‪ ،‬الذي قارن فيه بين البالغة القديمة ومفهوم‬
‫األسلوب مدافعا عن البالغة العربية‪ ،‬ونجد أيضا كتابا "األسلوب" ألحمد الشايب‪ ،‬حاول فيه عرض‬
‫البالغة في أثواب عصرية‪.‬‬
‫واستمرت الدراسات األسلوبية في هذا االتجاه تسعى لتأسيس علم األسلوب العربي الذي يؤمل ألن يكون‬
‫وريث البالغة العربية القديمة بال منازع‪.‬‬
‫واألسلوبية لها عالقة وثيقة بالبالغة مما جعل بعضهم يعدها الوريث الشرعي للبالغة أو أنها هي البالغة‬
‫الجديدة وهي عالقة لم تتنكر لها الدراسة األسلوبية وهي «هذه األخيرة أحيانا ال تعدوا أن تكون جزءا من‬
‫نموذج التواصل البالغي‪ ،‬وتنفصل أحيانا عن هذا النموذج وتتسع حتى ال تكاد تمثل البالغة كلها‬
‫باعتبارها البالغة المختزلة»‪)8(.‬‬
‫وفي هذا يقول أيضا صالح فضل بأن علم األسلوب هو البالغة الجديدة وهو في هذا يتفق مع غيره حيث‬
‫يقول‪« :‬عندما شب علم األسلوب أصبح هو البالغة الجديدة في دورها المزدوج؛ كعلم للتعبير ونقد‬
‫لألساليب الفردية»‪)9(.‬‬

‫*واضع علم البالغة‪:‬‬

‫الصفحة ‪12‬‬
‫اختلفت اآلراء حول مؤسس وواضع علم البالغة فقد ذهب بعضهم إلى القول أنه الجاحظ‪ ،‬ومنهم من‬
‫رّش ح إمام النحو العربي سيبويه(‪180‬هـ) وقال آخرون أنه اإلمام عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬وهناك من قال‬
‫بأنه السكاكي‪ ،‬أما بعض المحدثين فيرون أنه ابن معتز‪.‬‬
‫وقد أّيد هؤالء فكرتهم بالحجج والبراهين فعلم البالغة لم يصل إلى ما وصل إليه إاّل بتضافر سلسلة من‬
‫الجهود شارك فيها العديد من العلماء‪.‬‬
‫وقد أجمع كثيرون على أّن المؤسس الفعلي للبالغة هو الجرجاني منهم عبد العاطي غريب علي عالم‬
‫فيرى أن اإلمام عبد القاهر الجرجاني مؤسس البالغة العربية‪ ،‬وأّن معظم البالغيين والنقاد الذين جاؤوا‬
‫بعده أخذوا من بالغته وآرائه النقدية‪ ،‬وتأثروا به تأثيرا كبيرا»(‪ )10‬فكثير من علماء البالغة المتقدمين‬
‫والمتأخرين يعدونه مؤسس علم البالغة‪.‬‬

‫*المدارس البالغية‪:‬‬
‫من الواضح أن هناك بيئات مختلفة عملت على سير البالغة في اتجاهات مختلفة ومدارس لها خصائصها‬
‫وطرقها‪ ،‬وهي‪:‬المدرسة الكالمية والمدرسة األدبية«تسيطر على الدراسات البالغية مدرستان‪ ،‬مدرسة‬
‫كانت تعني بالذوق‪ ،‬وتعجب بالصورة الفنية‪ ،‬مدى مالءمتها لما يحيط بها‪ ،‬وأخرى سيطر عليها المنطق‬
‫والجفافة‪ ،‬وتقسيماته‪ ،‬وتفريعاته فاألولى هي مدرسة األدباء‪ ،‬والثانية مدرسة المتكلمين والمناطقة‪)11(».‬‬
‫المدرسة األدبية‪:‬‬ ‫أ‌‪-‬‬
‫حيث تهدف هذه المدرسة لدراسة بالغة القرآن الكريم ومعرفة مظاهر فصاحته وبالغته ولتنمية القدرة‬
‫على تذوق الكالم الجميل وإنشائه ومن أبرز خصائصها في درس البالغة(‪)12‬‬
‫‣ االبتعاد عن اقتباسات المنطقيات الخاصة أو الفلسفية التي زخرت بها كتب المتكلمين من أهل‬
‫البالغة‪ ،‬التي حاربتها ونبذتها بشدة‪.‬‬
‫‣ اإلكثار من الشواهد األدبية نثرها وشعرها باإلضافة إلى القرآنية‪.‬‬
‫‣ اإلقالل وحتى االبتعاد عن التفريعات والتقسيمات‪.‬‬
‫‣ اعتمدت المقاييس الفنية في الحكم على النصوص وأرجعته إلى الذوق واإلحساس الفني أي على‬
‫النقد األدبي‪.‬‬
‫ومن أهم كتب هذه المدرسة كتاب"البديع" البن معتز‪" ،‬والصناعتين" ألبي هالل العسكري‪" ،‬والمثل‬
‫السائر" البن األثير‪ ،‬و"سر الفصاحة" للخفاجي‪ ،‬و"أسرار البالغة" للجرجاني‪ ،‬و"بدائع القرآن" البن أبي‬
‫اإلصبع‪.‬‬
‫المدرسة الكالمية‪:‬‬ ‫ب‌‪-‬‬
‫كانت للفلسفة وعلم الكالم أثر كبير في البالغة‪ ،‬وتوتقت الصلة بينهما شيئا فشيئا حتى بلغت ذروتها في‬
‫القرن السادس مع السكاكي وتالميذه‪ ،‬ومن خصائصها‪)13(:‬‬

‫االهتمام بالتعريفات والتقسيمات والعناية بها‪.‬‬ ‫‣‬


‫االستعانة باأللفاظ والمصطلحات الفلسفية في تناول موضوعات البالغة‪.‬‬ ‫‣‬
‫االبتعاد عن الحس الفني والذوق الجميل فأصبحت قواعد البالغة جافة‪.‬‬ ‫‣‬
‫اإلقالل من الشواهد واألمثلة األدبية واآليات القرآنية‪.‬‬ ‫‣‬

‫الصفحة ‪13‬‬
‫ومن أعالمها الزمخشري في كتابه"الكشاف"‪ ،‬وفخر الدين الرازي"نهاية اإليجاز في دراية اإلعجاز"‪،‬‬
‫والسكاكي صاحب كتاب"مفتاح العلوم"‪ ،‬وقد سيطرت هذه المدرسة على الدراسات البالغية بشكل‬
‫يصعب الفكاك منه‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬
‫‪ -1‬محمد مصطفى هّد ارة‪ ،‬في البالغة العربية علم البيان‪،‬ط‪1989 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬أبو هالل العسكري‪ ،‬الصناعتين‪.‬‬
‫‪ -3‬بن عيسى بالطاهر‪ ،‬البالغة العربية‪.‬‬
‫‪ -4‬المرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -5‬سميح أبو المغلي‪ :‬علم األسلوبية والبالغة العربية ص‪.161‬‬
‫‪ -6‬بن عيسى بالطاهر‪ ،‬البالغة العربية‪.‬‬
‫‪ -7‬المرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -8‬هنريش بليت‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪.‬‬
‫‪ -9‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب مباحثه وإجراءاته‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬عبد العاطي غريب علي عالم‪،‬البالغة العربية بين الناقدين الخالدين عبد القاهر الجرجاني وابن‬
‫سنان الخفاجي‪.‬‬
‫عبد الواحد حسن الشيخ‪ ،‬دراسات في البالغة عند ضياء الدين بن أثير‪.‬‬ ‫‪-11‬‬
‫‪ -12‬عاطف فضل محمد‪ ،‬البالغة العربية‪ ،‬دار المسيرة‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪2011 ،1‬م‪.‬‬
‫المرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪-13‬‬
‫أهمية البالغة‬
‫المحاضرة الخامسة‪:‬‬

‫*أهمية البالغة‪:‬‬
‫هي من علوم اللغة العربية وأشرفها مكانة‪ ،‬عني بتجويد الكالم من أجل توصيله إلى األذهان في أحسن‬
‫صورة ليؤثر في العقول وقد قال صلى هللا عليه وسلم"إن من البيان لسحرا"(‪)1‬ولها أهمية كبيرة نذكر‬
‫منها‪)2(:‬‬
‫‣ الوقوف على أسرار اإلعجاز القرآني‪،‬فهي إحدى األدوات المهمة في فهم كتاب هللا‪.‬‬
‫‣ تلمس دقائق اللغة العربية‪ ،‬ومعرفة أسرارها‪ ،‬وإدراك أساليب القول‪ ،‬ومراتب فنون الكالم‪.‬‬
‫‣ البالغة فرع من النقد األدبي‪ ،‬ومعرفتها ضرورية للنقد ألنها أحد المعايير األساسية التي تعنيه على‬
‫تحليل النصوص األدبية‪.‬‬
‫‣ اكتساب مهارات الكتابة اإلبداعية فيستطيع الدارس للبالغة معرفة ما يناسب المعاني من ألفاظ‬
‫ومعرفة ما يناسب كل نوع من أنواع الكتابات‪.‬‬
‫ومن أهدافها أيضا التأثير واإلقناع«إن البالغة هي بمعناها الشامل الكامل‪ :‬ملكة يؤتي بها صاحبها في‬
‫عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكالم‪ ،‬فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة‪،‬‬
‫والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة‪ ،‬ومن هاتين الموهبتين تنشأ موهبة اإلقناع على أكمل‬
‫صورة وتحليل»‪ )3(.‬وعن أهمية البالغة يقول ابن خلدون «واعلم أن ثمرة هذا الفن‪ ،‬إنما هو فهم‬

‫الصفحة ‪14‬‬
‫اإلعجاز من القرآن»(‪ )4‬ألن القرآن إعجاز بالغي وبياني أعجز البشر بأن يأتوا بمثله وخير دليل على‬
‫هذا قوله سبحانه وتعالى‪ُ﴿ :‬قْل َلِئِن اْج َتَم َعِت اِإْل ْنُس َو اْلِج ُّن َع َلى َأْن َيْأُتوا ِبِم ْثِل َهَذ ا اْلُقْر َآِن اَل َيْأُتوَن ِبِم ْثِلِه َو َلْو‬
‫َك اَن َبْعُضُهْم ِلَبْع ٍض َظِهيًرا﴾سورة اإلسراء‪.88:‬‬
‫*أقسامها‪:‬‬
‫إن البالغة العربية تتألف من ثالث علوم وهذه العلوم لم تظهر دفعة واحدة وكان البديع والبيان مترادفان‬
‫يعنيان أمرا واحدا قبل اصطالح البالغة في عهد السكاكي‪ ،‬ومع تطور البالغة انفصلت علومها بعضها‬
‫عن بعض وأصبحت على ما هي عليه اآلن هذه العلوم الثالثة التي تتكون منها البالغة هي علم المعاني‪،‬‬
‫البيان والبديع«فاألول يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد‪ ،‬والثاني لم يحترز به عن التعقيد‬
‫المعنوي‪ ،‬والثالث يعرف به وجوه التحسين»‪)5(.‬‬
‫*علم المعاني‪:‬‬
‫يعرف علم المعاني عند السكاكي بأنه«تتبع خواص تراكيب الكالم في اإلفادة وما يصل بها من‬
‫االستحسان وغيره ليتحرز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكالم على ما يقتضي الحال ذكره‪)6(».‬‬
‫هذا ويعرفه القزويني بأنه «علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال‪)7(».‬فعلم‬
‫المعاني يهتم بدراسة التراكيب والجمل‪ ،‬ومدى مطابقة معانيها لمقتضى حاالت المخاطبين‪ .‬وهو أيضا‬
‫«علم يحترز به من الخطأ في التعبير بالصور اللفظية عن الصور المعنوية‪ ،‬التي يتصورها الذهن‪)8(».‬‬
‫ويعود الفضل في وضع أساس علم المعاني وتفصيل مباحثه إلى عبد القاهر الجرجاني من خالل‬
‫كتابيه"أسرار البالغة"و"دالئل اإلعجاز‪)9(.‬‬
‫وهذا العلم يتناول أحوال الجملة وتحليل عناصرها«والبحث في أحوال كل عنصر منها في اللسان‬
‫العربي‪ ،‬ومواقع ذكره وحذفه‪ ،‬وتقديمه وتأخيره‪ ،‬ومواقع التعريف والتنكير واإلطالق والتقييد‪ ،‬والتأكيد‬
‫وعدمه‪ ،‬ومواقع القصر كل منهما ومقتضياته وحول كون الجملة مساوية في ألفاظها لمعناها‪)10(»....‬‬
‫كما أنه يتناول أيضا«األساليب الخبرية واإلنشائية‪ ،‬الوصل والفصل والعدول»‪)11(.‬وغيرها من‬
‫الموضوعات والمباحث فإذا كان النحوي يدرس هذه األحوال من حيث الجواز والوجوب واالمتناع فإن‬
‫البالغي يدرس األسرار الكامنة وراء هذه األحوال‪.‬‬
‫*علم البيان‪:‬‬
‫هو ثاني علوم البالغة عرف القزويني بأنه«علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح‬
‫الداللة عليه»‪)12(.‬‬
‫ويعرف أيضا بأنه«علم يبحث في كيفيات تأدية المعنى الواحد بطرق تختلف في وضوح داللتها‪ ،‬وتختلف‬
‫في صورها وأشكالها وما تتصف به من إيداع وجمال أو قبح وابتذال‪)13(».‬‬
‫فعلم البيان اهتم به العديد من العلماء وذكر أن«أول من دون مسائل علم البيان أبو عبيدة معمر بن المثنى‬
‫في كتابه مجاز القرآن وتبعه الجاحظ‪ ،‬ثم ابن معتز ثم قدامة بن جعفر ثم أبو هالل العسكري ثم جاء شيخ‬
‫عبد القاهر الجرجاني فأحكم أسسه وأكمل في بنيانه»(‪)14‬‬
‫وهو علم يهتم بالصورة الفنية كاالستعارة والكناية والتشبيه والمجاز كل بأنواعه وغيرها من موضوعات‬
‫البيان الذي يهدف إلى كشف أسرار الجمال في الكالم‪ ،‬شعره ونثره‪ ،‬ومعرفة ما فيه من فنون‪.‬‬
‫*علم البديع‪:‬‬
‫إّن النوع الثالث أو القسم الثالث من علوم البالغة هو علم البديع«وهو علم يعرف به وجه تحسين الكالم‬
‫بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الداللة»‪)15(.‬‬

‫الصفحة ‪15‬‬
‫وكان علم البديع يتطور وينضج حتى صار علما قائما بذاته‪ ،‬واستقل عن العلوم األخرى‪ ،‬فقد كان«يشمل‬
‫البالغة بعلومها معاني وبيان وبديع‪ ،‬وأول من حاول وضع مصطلحات بديعة هو الشاعر العباسي مسلم‬
‫بن الوليد الذي وضع مصطلحات لبعض الصور البيانية والمحسنات اللفظية والمعنوية من مثل الطباق‬
‫والجناس»‪)16(.‬‬
‫فعلم البديع هو علم يهتم بالوجوه التي تزين الكالم من جهة األلفاظ والمعاني‪ ،‬الذي أسسه ابن معتز‬
‫فعندما«بدأت علوم البالغة باالستقالل بعضها عن البعض اآلخر‪ ،‬أيام الخليفة ابن المعتز الذي ألف‬
‫كتاب"البديع" فكان مؤسسا كما يعرف اليوم بهذا االسم»‪)17(.‬وينقسم البديع إلى نوعين‪:‬‬
‫‪ o‬معنوي "وهو ما تعرف به وجوه تحسين المعنى"(‪)18‬ويندرج تحت هذا النوع‪ :‬الطباق‪ ،‬المقابلة‪،‬‬
‫التورية‪ ،‬التدبيج‪ ،‬اإلرصاد‪ ،‬التقسيم‪ ،‬التجربة وغيرها من الموضوعات‪.‬‬
‫‪ o‬لفظي وهو "ما تعرف به وجوه تحسين اللفظ "(‪ )19‬ويندرج تحته وجوه كثيرة أهمها‪ :‬الجناس‪،‬‬
‫السجع‪.‬‬
‫هذه هي علوم البالغة العربية باختصار«وميدان البالغة التي تعمل فيه علومها الثالث متضافرة هو نظم‬
‫الكالم وتأليفه على نحو يخلع عليه نعوت الجمال»‪)20(.‬‬
‫ولكي تتحقق اإلفادة من هذه الفنون البالغية في تربية القدرة على اإلحساس بعناصر الجمال األدبي في‬
‫النصوص الرفيعة وتذوقها ينبغي أن تدرس بطريقة تكشف عن جوانب الجمال واإلبداع في هذه‬
‫النصوص واالهتمام بالصور البالغية التي تضفي على اللفظ والمعنى رونقا وجماال وليلم الطالب‬
‫بالمصطلحات البالغية‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬
‫‪ -1‬رواه البخاري‪ ،‬تح‪ :‬مصطفى البغا‪ ،‬ط‪ ،1987 ،3‬في كتاب الطب برقم(‪.)5434‬‬
‫‪ -2‬بن عيسى بالطاهر‪ ،‬البالغة العربية‪.‬‬
‫‪ -3‬أحمد حسن الزيات‪ ،‬دفاع عن البالغة‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1967، 2‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ج‪ ،3‬ط‪،4‬باب البيان‪.‬‬
‫‪ -5‬بهاء الدين السبكي‪ ،‬عروس األفراح في شرح تلخيص المفتاح‪ ،‬تح‪ :‬خليل ابراهيم خليل‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ -6‬السكاكي‪ ،‬مفتاح العلوم‪ ،‬تح‪ :‬أكرم عثمان يوسف‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ -7‬الخطيب القزويني‪ ،‬اإليضاح في علوم البالغة المعاني والبيان والبديع‬
‫‪ -8‬كرم البستاني‪ ،‬البيان‬
‫‪ -9‬يوسف أبو العدوس‪ ،‬مدخل إلى علم البالغة العربية علم المعاني‪ ،‬علم البيان‪ ،‬علم البديع‪.‬‬
‫‪ -10‬عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني‪ ،‬البالغة العربية أسسها وعلومها وفنونها‪ ،‬ج‪.1‬‬
‫‪ -11‬كرم البستاني‬
‫‪ -12‬الخطيب القزويني‪ ،‬اإليضاح في علوم البالغة المعاني والبيان والبديع‪.‬‬
‫‪ -13‬عبد الرحمن حسن جبنكة الميداني‪ ،‬البالغة العربية أسسها وعلومها وفنونها‪ ،‬ج‪.2‬‬
‫‪ -14‬عبدالرحمن حسن جبنكةالميداني‪،‬البالغةالعربيةأسسهاوعلومهاوفنونها‪.‬‬
‫‪ -15‬الخطيب القزويني‪ ،‬اإليضاح في علوم البالغة المعاني وابيان والبديع‬
‫‪ -16‬عائشة حسين فريد‪ ،‬وشى الربيع بألوان البديع في ضوء األساليب العربية‬
‫المرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪-17‬‬

‫الصفحة ‪16‬‬
‫كرم البستاني‪ ،‬البيان‪ ،‬مكتبة صادر‪ ،‬بيروت‪( ،‬د‪.‬ط)‪( ،‬د ت)‪.‬‬ ‫‪-18‬‬
‫المرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪-19‬‬
‫عبد العزيز عتيق‪ ،‬علوم البالغة المعاني البيان البديع‬ ‫‪-20‬‬

‫داللة البديع في الحقبة األولى‬


‫المحاضرة السادسة‬

‫أطلق مصطلح (البديع) في هذه الحقبة على الشعر المحدث الذي أتى به شعراء العصر العباسي‬
‫المجددون‪ .‬ويبدو أن الشعراء أنفسهم أول من أطلق هذا المصطلح على الشعر الجديد المتمّيز عن سابقه‬
‫بجمالية التعبير وحداثته‪ .‬دليلنا على ذلك ما جاء في ترجمة صريع الغواني (مسلم بن الوليد ت ‪‍ 208‬ه)‬
‫من أنه (‪« )1‬أول من قال الشعر المعروف بالبديع‪ ،‬هو لقب هذا الجنس البديع واللطيف‪ .‬وتبعه فيه‬
‫جماعة‪ ،‬وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي فإنه جعل شعره كله مذهبا واحدا فيه‪ .‬ومسلم كان متفّننا متصرفا‬
‫في شعره» ويبدو أن المعنى القاموسي قد رجحت كفته في هذا المصطلح ألن االفتنان والتصرف الذي‬
‫يعني اإلتيان بالجديد المتميز هما الطاغيان على داللته‪.‬‬
‫ولكن هذا الجديد الذي أتى به مسلم لم يكن محمودا في عصره لذلك روى األصفهاني قول أحدهم الذي‬
‫جاء فيه (‪« )2‬أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد‪ ،‬جاء بهذا الذي سّم اه الناس البديع‪ ،‬ثم جاء الطائي بعده‬
‫فتفّنن فيه»‪.‬‬
‫ويبدو أن الجاحظ (ت ‪‍ 255‬ه) قد سبق إلى هذا المصطلح في الدراسات البالغية حيث قال (‪« :)3‬ومن‬
‫الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن‪ :‬كلثوم بن‬
‫عمرو العّتابي‪ ،‬وكنتيته أبو عمرو‪ ،‬وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك‬
‫من شعراء الموّلدين‪ ،‬كنحو منصور الّنمري‪ ،‬ومسلم بن الوليد األنصاري وأشباههما»‪.‬‬
‫وإذا كان الجاحظ قد ذكر التكلف فإّنه ال يعني الّتصّنع أو الّتصنيع بل هو يريد تصوير إرادة هؤالء على‬
‫اإلتيان بالجديد الذي لم يسبق له مثال‪ .‬ثم إن هذا الجديد صار تيارا شعريا عندما كثر أنصاره‪ ،‬وها هو‬
‫الجاحظ يضيف إلى أسماء أتباع البديع أسماء أخرى حيث يقول (‪« :)4‬كان العّتابي يحتذي حذو بّش ار في‬
‫البديع‪ .‬ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة»‪.‬‬
‫ويبدو أن الجاحظ قد نقل هذا المصطلح من الرواة‪ ،‬فهو يعترف بذلك عند ما يقول معّلقا على شعر‬
‫األشهب بن رميلة (شاعر مخضرم)(‪« )5‬وهذا الذي تسميه الرواة البديع» وهو يرى أن البديع مرتبط‬
‫باإلبداع وعدم المماثلة والمشاكلة‪ .‬ثم إنه يرى أن(‪« )6‬البديع مقصور على العرب‪ ،‬ومن أجله فاقت لغتهم‬
‫كل لغة‪ ،‬وأربت على كل لسان‪ .‬والراعي كثير البديع في شعره‪ ،‬وبشار حسن البديع‪ ،‬والعّتابي يذهب في‬
‫شعره في البديع مذهب بشار» وهكذا يرى أن البديع مقصور على العرب ألن لغتهم فاقت كل لغة في‬
‫قدرتها على التوليد واالشتقاق اللذين يعطيانها قدرة على التولد الذاتي المساعد على تفجير طاقاتها الكامنة‬
‫فيأتي المبدعون بكل جديد‪ .‬وكان يضيف في كل مرة إلى شعراء هذا التيار البديعي أسماء جديدة‪.‬‬
‫وبعد أن شاع البديع في شعر األقدمين وفي خطبهم نهض ابن المعتّز (ت ‪‍ 296‬ه) بجمع ضروبه في‬
‫كتاب حمل اسم البديع‪ .‬فكان بذلك أول من أفرده بدراسة مستقلة‪ ،‬لكنها ال تخلو من شوائب‪ .‬وقد حدد ابن‬
‫المعتز هدفه من تأليفه بقوله (‪« :)7‬قد قّد منا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة‬
‫وأحاديث رسول هللا (صلى هللا عليه وسلم) وكالم الصحابة واألعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من‬

‫الصفحة ‪17‬‬
‫الكالم الذي سماه المحدثون البديع‪ ،‬ليعلم أن بّش اًرا (ت ‪‍ 167‬ه) ومسلما (ت ‪‍ 208‬ه) وأبا نواس (ت ‪198‬‬
‫‍ه) ومن تقّيلهم‪ ،‬وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن‪ ،‬ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى‬
‫سمي بهذا االسم» فابن المعتّز ينفي سبق المحدثين إلى هذا الفن ولكنه يعترف بكثرته في أشعارهم‪ .‬وهذا‬
‫ما صرح به في نهاية مقدمته قائال (‪« :)1‬وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم‬
‫يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع»‪.‬‬
‫قسم ابن المعتز كتابه إلى خمسة أبواب هي‪ :‬االستعارة‪ ،‬والتجنيس‪ ،‬والمطابقة‪ ،‬ورّد أعجاز الكالم على ما‬
‫تقّد مها‪ ،‬والمذهب الكالمي‪.‬‬
‫وانتهى ابن المعتز إلى أن ضروب البديع محصورة في هذه األبواب الخمسة لكنه رأى أن إضافة أي باب‬
‫إليها ضرب من التعسف والمعاندة(‪« )8‬قد قدمنا أبواب البديع الخمسة وكمل عندنا‪ ،‬وكأني بالمعاند‬
‫المغرم باالعتراض على الفضائل قد قال‪ :‬البديع أكثر من هذا» ثم أضاف إلى هذه األبواب مجموعة‬
‫أخرى سماها (محاسن الكالم والشعر) وهي عنده عصّية على الحصر وبابها مفتوح في نظره لإلضافة‬
‫والمخالفة (‪« )9‬ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئا إلى البديع‪ ،‬وحسن الخروج من معنى إلى‬
‫معنى‪ ،‬وتأكيد المدح بما يشبه الذم‪ ،‬وتجاهل العارف‪ ،‬والهزل الذي يراد به الجّد ‪ ،‬والتعريض والكناية‪،‬‬
‫واإلفراط في الصفة‪ ،‬وحسن التشبيه‪ ،‬وإعنات الشاعر نفسه في القوافي وتكلفه‪ ،‬وحسن االبتداءات‪.‬‬
‫والمالحظ أن المحدثين قد جعلوا الكثير من هذه المحاسن أبوابا من البديع‪.‬‬
‫والمالحظ أن ابن المعتز قد جمع فيه أبواب البالغة بعلومها الثالثة‪ ،‬وربما كان سبب ذلك تعريفه‬
‫الضبابي للبديع الذي رأى أن(‪« )10‬البديع اسم موضوع لفنون من الشعر‪ ،‬يذكرها الشعراء ونقاد‬
‫المتأدبين منهم‪ ،‬فأما العلماء باللغة والشعر القديم فال يعرفون هذا االسم‪ ،‬وال يدرون ما هو»‪ .‬ولهذا قال‬
‫أحد النقاد المعاصرين (‪« )11‬وليس لكلمة البديع التي جاءت في عنوان الكتاب صلة بما سماه البالغيون‬
‫في العصور المتأخرة (علم البديع) ‪ ...‬وإنما المقصود بها ألوان طريفة من التعبير لم تكن شائعة مألوفة‬
‫في استعماالت الشعراء والكتاب»‪ .‬وعلى الرغم من ذلك يبقى الكتاب من أولى المحاوالت الجادة في‬
‫تدوين علم البديع‪ .‬والعلوم ال تبدأ مكتملة بل هي تتكامل وتتماهى باّطراد وتستقل بعد نضجها وصالبة‬
‫عودها‪.‬‬
‫ثم جاء بعده قدامة بن جعفر (ت ‪‍ 337‬ه) فألف كتابا عنوانه (نقد الشعر) يقع في ثالثة فصول أورد فيها‬
‫سبعة وعشرين نوعا من أنواع البديع اتفق فيها مع ابن المعتز في سبعة أنواع فقط‪ ،‬وانفرد بعشرين نوعا‪.‬‬
‫وقد اختلفا أحيانا في التسمية‪ ،‬فما سّم اه قدامة (المبالغة) ورد عند ابن المعتز تحت مصطلح (اإلفراط في‬
‫الصفة) وما سماه (التكافؤ) سّم اه ابن المعتز (المطابقة)‪ ،‬وما سماه (المطابق) و(المجانس) سماه ابن‬
‫المعتز (التجنيس)‪ .‬واختلفا في داللة االلتفات‪.‬‬
‫ثم تالهما أبو هالل العسكري (ت ‪‍ 396‬ه) في كتاب الصناعتين الذي ابتكر فيه ستة أنواع‪ ،‬وأخرج منه‬
‫أنواعا رأى أنها تنضوي تحت بابي‪ :‬المعاني والبيان‪ ،‬فنحا البديع معه منحى متخصصا‪ .‬وقد اعترف‬
‫العسكري أن القدامى سبقوه إلى تسعة وعشرين نوعا بالغيا‪ ،‬وأنه ابتكر ستة أنواع هي‪ :‬التشطير‪،‬‬
‫والمجاورة‪ ،‬والتطريز‪ ،‬والمضاعف‪ ،‬واالستشهاد‪ ،‬والتلّطف‪ .‬وجاء علم البديع في الباب التاسع من أبواب‬
‫الكتاب وقسمه إلى خمسة وثالثين فصال هي‪ :‬االستعارة والمجاز‪ ،‬والتطبيق‪ ،‬والتجنيس‪ ،‬المقابلة‪ ،‬صّحة‬
‫التقسيم‪ ،‬صّح ة التفسير‪ ،‬اإلشارة‪ ،‬األرداف والتوابع‪ ،‬المماثلة‪ ،‬الغلّو ‪ ،‬المبالغة‪ ،‬الكناية والتعريض‪ ،‬العكس‬
‫والتبديل‪ ،‬التذييل‪ ،‬الترصيع‪ ،‬اإليغال‪ ،‬الترشيح‪ ،‬رّد األعجاز على الصدور‪ ،‬التكميل والتتميم‪ ،‬االلتفات‪،‬‬
‫االعتراض‪ ،‬الرجوع‪ ،‬تجاهل العارف‪ ،‬االستطراد‪ ،‬جمع المؤتلف والمختلف‪ ،‬السلب واإليجاب‪،‬‬

‫الصفحة ‪18‬‬
‫االستثناء‪ ،‬المذهب الكالمي‪ ،‬التشطير‪ ،‬المحاورة‪ ،‬االستشهاد واالحتجاج‪ ،‬التعطف‪ ،‬المضاعف‪ ،‬التطريز‪،‬‬
‫التلّطف‪.‬‬
‫واّد عى العسكري أنه بذلك حصر أنواع البديع‪ ،‬منتهيا إلى رأي شبيه برأي ابن المعتز القائل إن األقدمين‬
‫عرفوا هذه األنواع‪ ،‬وأن المحدثين أسرفوا فيها حتى اشتهروا بها‪ .‬وقد صّر ح برأيه هذا قائال (‪:)12‬‬
‫«فهذه أنواع البديع التي ادعى من ال رواية له وال دراية عنده أن المحدثين ابتكروها‪ ،‬وأن القدماء لم‬
‫يعرفوها‪ ،‬وذلك لما أراد أن يفّخ م أمر المحدثين؛ ألن هذا النوع من الكالم إذا سلم من التكلف‪ ،‬وبرئ من‬
‫العيوب‪ ،‬كان في غاية الحسن ونهاية الجودة»‪.‬‬
‫لقد توّسع مفهوم البديع عند العسكري حتى بدا وكأنه مترادف مع البالغة في مفهومها العام‪.‬‬
‫أما الباقاّل ني (ت ‪‍ 403‬ه) فقد ذكر في (إعجاز القرآن) نحوا من خمسة وعشرين نوعا منّبها إلى أن وجوه‬
‫البديع أكثر من ذلك‪ ،‬ولكنه لم يهدف في كتابه إلى إحصائها وذكرها جميعا‪.‬‬
‫وابن رشيق (ت ‪‍ 456‬ه) يذكر في كتابه (العمدة) باب المخترع والبديع‪ ،‬مشيرا إلى وفرة ضروب البديع‬
‫وقد وسعته قدرته على ذكر ثالثة وثالثين بابا منه هي‪ :‬المجاز‪ ،‬االستعارة‪ ،‬التمثيل‪ ،‬المثل السائر‪،‬‬
‫التشبيه‪ ،‬اإلشارة‪ ،‬التتبيع‪ ،‬التجنيس‪ ،‬الترديد‪ ،‬التصوير‪ ،‬المطابقة‪ ،‬المقابلة‪ ،‬التقسيم‪ ،‬التفسير‪ ،‬االستطراد‪،‬‬
‫التفريع‪ ،‬االلتفات‪ ،‬االستثناء‪ ،‬التتميم‪ ،‬المبالغة‪ ،‬اإليغال‪ ،‬الغلو‪ ،‬التشكيك‪ ،‬الحشو وفضول الكالم‪،‬‬
‫االستدعاء‪ ،‬التكرار‪ ،‬نفي الشيء بإيجابه‪ ،‬االّطراد‪ ،‬التضمين واإلجارة‪ ،‬االتساع‪ ،‬االشتراك‪ ،‬التغاير‪.‬‬
‫لكن مفهوم البديع يتوّسع كثيرا مع أسامة بن منقذ (ت ‪‍ 584‬ه) في كتاب عنوانه (البديع في نقد الشعر)‬
‫حيث يندرج تحته خمسة وتسعون نوعا على غير تمييز بين البيان والبديع والمعاني حّتى ليصّح فيه ما‬
‫قاله ابن أبي اإلصبع (‪« )13‬وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد العظيم‪ ،‬والجمع‬
‫من أشتات الخطأ وأنواعه من التوارد والتداخل‪ ،‬وضم غير البديع والمحاسن‪ ،‬كأنواع من العيوب‪،‬‬
‫وأصناف من السرقات» ومن يراجع فهرس الموضوعات يجد عناوين جديدة ال يجدها في غيره من كتب‬
‫البديع‪ ،‬نحو‪ :‬باب النادر والبارد‪ ،‬وباب الرشاقة والجهامة‪ ،‬باب الطاعة والعصيان‪ ،‬باب األواخر‬
‫كثير‪.‬‬ ‫وغيرها‬ ‫والترسيم‬ ‫التعليم‬ ‫باب‬ ‫والمقاطع‪،‬‬
‫المصادر والمراجع‬
‫‪ -1‬األغاني‪ ،‬أبو الفرج األصفهاني‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ج ‪.19‬‬
‫‪ -2‬البيان والتبيين‪ ،‬الجاحظ‪ ،‬تحق عبد السالم هارون‪ ،‬ط ‪.3 /‬‬
‫‪ -3‬البيان والتبيين‪ ،‬الجاحظ‪ ،‬المج ‪.1‬‬
‫‪-5 -4‬البيان والتبيين‪ ،‬الجاحظ‪ ،‬المج ‪.4‬‬
‫‪ -6‬البديع‪ ،‬ابن المعتّز ‪ ،‬تحق محمد عبد المنعم خفاجي‬
‫‪ -10 -9 -8 -7‬البديع‪ ،‬ابن المعتز‪ ،‬المرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -11‬البحث البالغي عند العرب‪ ،‬د‪ .‬شفيع السّيد‬
‫‪ -12‬كتاب الصناعتين‪ ،‬أبو هالل العسكري‪ ،‬تح‪ :‬علي البّج اوي‪ ،‬محمد أبو الفضل ابراهيم‬
‫تحرير التعبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن‪ ،‬البن أبي اإلصبع المصري‪،‬‬ ‫‪-13‬‬
‫تحق حفني محمد شرف‪.‬‬

‫الّطبــــــــــــاق أنواعه وأقسامه‬


‫المحاضرة الثامنة‬
‫الصفحة ‪19‬‬
‫‪ 1‬ـ أسماؤه‪:‬‬
‫أطلقت عليه أسماء عديدة منها‪:‬‬
‫التطبيق‪ ،‬والطباق‪ ،‬والتضاد‪ ،‬والمطابقة‪ ،‬والتكافؤ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تعريفه‪:‬‬
‫أ ـ قاموسيا‪:‬‬
‫قال الخليل (‪« :)1‬طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذو واحد وألزقتهما»‪ .‬وجاء في اللسان‬
‫(طبق)‪« :‬تطابق الشيئان‪ :‬تساويا‪ .‬والمطابقة‪ :‬الموافقة‪ .‬والتطابق‪ :‬االتفاق‪ .‬وطابقت بين الشيئين‪ :‬إذا‬
‫جعلتهما على حذو واحد وألزقتهما ‪...‬‬
‫والمطابقة‪ :‬المشي في القيد‪ .‬والمطابقة‪ :‬أن يضع الفرس رجله في موضع يده‪ .‬ومطابقة الفرس في جريه‪:‬‬
‫وضع رجليه مواضع قدميه»‪.‬‬
‫ب ـ اصطالحا‪:‬‬
‫جاء في معجم المصطلحات (‪« :)2‬هو الجمع بين الّض دين أو المعنيين المتقابلين في الجملة»‪ .‬وجاء في‬
‫اإليضاح (‪« :)3‬هو الجمع بين المتضاّد ين‪ ،‬أي معنيين متقابلين في الجملة»‪ .‬وكتب البالغة لم تدخل على‬
‫هذا التعريف أي تعديل أو شرح‪.‬‬
‫ورأى د‪ .‬عبد العزيز عتيق (‪ )4‬أنه «ليس بين التسمية اللغوية والتسمية االصطالحية أدنى مناسبة»‪.‬‬
‫غير أن استنتاجه ال يخلو من ضعف التفسير والتأويل‪ .‬ولو رّد المعنى االصطالحي إلى المعنى القاموسي‬
‫بلطف الصنعة لوجد مناسبة كبرى بين المعنيين‪ .‬أال يرى د‪ .‬عتيق في وضع الرجل موضع القدم شيئا من‬
‫الجمع بين المتضادين أو المعنيين المتقابلين في الجملة؟ ثم أال يرى شبها بين مشي المقّيد راسفا في‬
‫قيوده‪ ،‬وبين الكاتب والشاعر يطابقان في كالمهما؟‬
‫‪ 3‬ـ صوره‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الطباق الحقيقي‪:‬‬
‫وهو ما كان طرفاه لفظين متضادين في الحقيقة ويكونان‪:‬‬
‫أ ـ اسمين‪:‬‬
‫كما في قوله تعالى‪َ( :‬و َتْح َس ُبُهْم َأْيقاظًا َو ُهْم ُر ُقوٌد ) سورة الكهف‪ :‬اآلية ‪.18‬‬
‫ب ـ فعلين‪:‬‬
‫كقوله تعالى‪َ( :‬و َأَّنُه ُهَو َأْض َح َك َو َأْبكى َو َأَّنُه ُهَو َأماَت َو َأْح يا) سورة النجم‪ :‬اآلية ‪ 43‬ـ ‪.44‬‬
‫ج ـ حرفين‪:‬‬
‫كقوله تعالى‪َ ..( :‬و َلُهَّن ِم ْثُل اَّلِذ ي َع َلْيِهَن ) سورة البقرة‪ :‬اآلية ‪.228‬‬
‫د ـ مختلفين‪:‬‬
‫كقوله تعالى‪َ( :‬و ُأْح ِي اْلَم ْو تى ِبِإْذ ِن ِهللا) سورة آل عمران‪ :‬اآلية ‪ 49‬فاللفظ األول فعل (أحيي)‪ ،‬والثاني اسم‬
‫(الموتى)‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الطباق المجازي‪:‬‬
‫ويكون طرفاه غير حقيقتين أي مجازّيين‪.‬‬
‫ومثاله قوله تعالى‪َ( :‬أَو َم ْن كاَن َم ْيتًا َفَأْح َيْيناُه) سورة األنعام‪ :‬اآلية ‪ .122‬فقد فّسر المفّسرون هذه اآلية‬
‫بقولهم‪ :‬كان ضاال فهديناه‪ .‬وعلى المعنى المقصود يكون الطباق مجازيا‪ .‬ولو أخذ اللفظان على الحقيقة‬
‫لبقي الطباق قائما بين ميتا (اسم) وأحييناه (فعل)‪.‬‬

‫الصفحة ‪20‬‬
‫وقد سماه قدامة بن جعفر (التكافؤ) وأعطى مثال عليه قول الشاعر (الطويل)‪.‬‬
‫ونائمه‬ ‫التراب‬ ‫يقظان‬ ‫تحّرك‬ ‫إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب‬

‫فالمطابقة بين «اليقظان والنائم» ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز ال الحقيقة‪ .‬ولو نظرنا إليه على‬
‫سبيل الحقيقة ما امتنع الطباق بين (يقظان) و(نائم) و(شرق) و(مغرب)‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الطباق المعنوي‪:‬‬
‫هو ما كانت المقابلة فيه بين الشيء وضده في المعنى ال في اللفظ‪ .‬وخير مثال عليه قوله تعالى‪( :‬قاُلوا ما‬
‫َأْنُتْم ِإاَّل َبَش ٌر ِم ْثُلنا َو ما َأْنَز َل الَّرْح مُن ِم ْن َش ْي ٍء ِإْن َأْنُتْم ِإاَّل َتْك ِذ ُبوَن * قاُلوا َر ُّبنا َيْع َلُم ِإَّنا ِإَلْيُك ْم َلُم ْر َس ُلوَن )‬
‫سورة يس‪ :‬اآلية ‪ 15‬ـ ‪ .16‬فمعنى اآلية الثانية‪ :‬إن هللا يعلم إنا لصادقون‪ .‬وبذلك يتم الّتضاد المعنوي بين‬
‫اآليتين‪ ،‬ولو كان التضاد في اللفظين مفقودا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أقسامه‪:‬‬
‫أ ـ طباق اإليجاب‪:‬‬
‫وهو ما لم يختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا نحو‪ :‬خير المال عين ساهرة لعين نائمة‪ .‬فالقول مشتمل على‬
‫الشيء وضده (ساهرة ونائمة)‪.‬‬
‫ب ـ طباق الّسلب‪:‬‬
‫وهو الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي‪ ،‬نحو قوله تعالى‪ُ( :‬قْل َهْل َيْسَتِو ي اَّلِذ يَن َيْع َلُم وَن َو اَّلِذ يَن ال‬
‫َيْع َلُم وَن ) سورة الّز مر‪ :‬اآلية ‪.9‬‬
‫فالفعل (يعلمون) أثبت في الطرف األول من الطباق ونفي ب ال() في الطرف الثاني‪ .‬ويكون طرفاه أمرا‬
‫ونهيا كما في قوله تعالى‪َ( :‬فال َتْخ َش ُو ا الَّناَس َو اْخ َش ْو ِن ) سورة المائدة‪ :‬اآلية ‪ .44‬فالطرف األول نهي (‬
‫ال‬
‫تخشوا)‪ ،‬والطرف الثاني أمر (إخشون) ومن أمثلته قوله تعالى‪َ( :‬تْع َلُم ما ِفي َنْفِس ي َو ال َأْع َلُم ما ِفي َنْفِس َك )‬
‫سورة المائدة‪ :‬اآلية ‪ .116‬فالفعل (علم) جاء مثبتا مرة ومنفيا مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ما يلحق بالّطباق‪:‬‬
‫أ ـ الطباق الخفّي ‪:‬‬
‫وهو ما تكون فيه المطابقة خفية لتعلق أحد الركنين بما يقابل اآلخر تعّلق السببية‪ ،‬نحو قوله تعالى‪ُ( :‬مَح َّم ٌد‬
‫َر ُسوُل ِهللا َو اَّلِذ يَن َم َع ُه َأِش َّد اُء َع َلى اْلُك َّفاِر ُر َح ماُء َبْيَنُهْم ) سورة الفتح‪ :‬اآلية ‪ .29‬فالرحمة ليست مقابلة‬
‫للشدة؛ لكنها مسّببة عن اللين الذي هو ضد الشّد ة‪.‬‬
‫ب ـ إيهام التضاد‪:‬‬
‫وهو ما جمع فيه بين معنيين غير متقابلين عّبر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقيان‪ .‬ومنه قول دعبل‬
‫الخزاعي‪( .‬الكامل)‪:‬‬
‫فبكى‬ ‫برأسه‬ ‫المشيب‬ ‫ضحك‬ ‫رجل‬ ‫من‬ ‫سلم‬ ‫يا‬ ‫تعجبي‬ ‫ال‬

‫وأراد دعبل (ضحك المشيب برأسه ظهور الشيب ظهورا تاما وال تقابل بين البكاء وظهور الشيب‬
‫(المجازي)‪ .‬لكن الضحك بمعناه الحقيقي مضاد للبكاء‪.‬‬
‫* أهمية الطباق ودوره‪:‬‬

‫الصفحة ‪21‬‬
‫ليس الطباق بالضرورة ترفا لفظيا فحسب‪ ،‬بل هو تعبير في أكثر األحيان عن حركة نفسية متوهجة‪،‬‬
‫وصراع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون‪ ،‬بين الراهن والمتوقع‪ .‬والمبدع يلجأ إليه لتصوير الهوة‬
‫القائمة بين واقع مرفوض ومستقبل مأمول‪ .‬والقصد منه العمل على بناء عالم مخالف لما هو قائم حالم‬
‫باألفضل‪ .‬فكثرة المتعارضات تشف عن غليان داخلي ورفض لألمر الواقع‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬
‫‪ -1‬كتاب العين‪ ،‬الخليل بن أحمد‪ ،‬تحق المخزومي‪ ،‬السامرائي‬
‫‪ -2‬معجم المصطلحات العربية في اللغة واألدب‪ ،‬وهبة‪ ،‬المهندس‬
‫‪ -3‬اإليضاح في علوم البالغة‪ ،‬الخطيب القزويني‪.‬‬
‫‪ -4‬علم البديع‪ ،‬عبد العزيز عتيق‬

‫*المقابـــــــــــــــلة‬
‫المحاضرة التاسعة‬
‫‪ 1‬ـ تعريفها‪:‬‬
‫هي إيراد الكالم ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على جهة الموافقة أو المخالفة‪ .‬وجاء في اإليضاح (‬
‫‪« )1‬هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة‪ ،‬ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ بين المقابلة والطباق‪:‬‬
‫ـ ال يكون الطباق إال بين األضداد‪ ،‬والمقابلة تكون بين األضداد وغير األضداد‪.‬‬
‫ـ ال يكون الطباق إال بين ضّد ين فقط‪ ،‬والمقابلة تكون بين أكثر من اثنين‪.‬‬
‫*التورية‬
‫‪ 1‬ـ أسماؤها‪:‬‬
‫ذكر لها البالغّيون أسماء عديدة منها‪:‬‬
‫أ‪ .‬اإليهام‪ ،‬ذكره الخطيب التبريزي (‪.)2‬‬
‫ب‪ .‬التوجيه‪ ،‬ذكره ابن أبي األصبع (‪.)3‬‬
‫ج‪ .‬التخيير‪ ،‬ذكره غير واحد من البالغيين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تعريفها‪:‬‬
‫أ ـ لغة‪:‬‬
‫جاء في اللسان (ورى)‪« :‬ورّيت الشيء وواريته‪ :‬أخفيته‪ .‬وتوارى‪ :‬استتر‪ .‬ووريت الخبر‪ :‬جعلته ورائي‬
‫وسترته‪ .‬ووريت الخبر أوّر يه تورية‪ :‬إذا سترته وأظهرت غيره ‪ ...‬والّتورية‪ :‬الّستر»‪.‬‬

‫ب ـ إصطالحا‪:‬‬
‫عرفها الخطيب التبريزي بقوله (‪« :)4‬وهي أن يطلق لفظ له معنيان‪ :‬قريب‪ ،‬وبعيد‪ ،‬ويراد به البعيد‬
‫منهما»‪ .‬فالتورية عبارة عن داّل واحد له مدلوالن‪ :‬األول مدلول قريب ال يالئم المقام لذلك فهو ملغى‬
‫ومستبعد‪ .‬والثاني بعيد يالئم المقام مقبول ومعتمد‪.‬‬
‫‪.3‬أنواعها‪:‬‬
‫اكتفى القزويني بقسمتها قسمين هما‪ :‬تورية مجّر دة وتورية مرّش حة‪.‬‬

‫الصفحة ‪22‬‬
‫‪ 1‬ـ التورية المجّردة‪:‬‬
‫وهي التي لم يذكر فيها شيء مما يالئم الموّر ى به (المعنى القريب) وال مما يالئم المورى عنه (المعنى‬
‫البعيد)‪ ،‬نحو قوله تعالى‪( :‬الَّرْح مُن َع َلى اْلَع ْر ِش اْسَتوى) سورة طه‪ :‬اآلية ‪.5‬‬
‫فكلمة التورية (استوى) لها معنيان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االستقرار في المكان ـ المعنى القريب غير المقصود ألن هللا تعالى منّز ه عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االستيالء والملك ـ المعنى البعيد المقصود‪.‬‬
‫ولم يذكر في اآلية من لوازم المعنى البعيد أو المعنى القريب شيء؛ فلهذا كانت مجّردة‪ .‬ومنه قول الشاعر‬
‫القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدال أزهرت فيه األشجار (البسيط)‪:‬‬
‫الحلل‬ ‫من‬ ‫أنواعا‬ ‫تمّو ز‬ ‫لشهر‬ ‫مالبسه‬ ‫من‬ ‫أهدى‬ ‫كانون‬ ‫كأّن‬

‫والحمل‬ ‫الجدي‬ ‫بين‬ ‫تفّر ق‬ ‫فما‬ ‫خرفت‬ ‫المدى‬ ‫طول‬ ‫من‬ ‫الغزالة‬ ‫أو‬

‫فالتورية في (الغزالة) فلم يذكر الشاعر قبل الغزالة أو بعدها ما يشير إلى أنه قصد بها ذلك الحيوان‬
‫البرّي المشهور بطول العنق وسواد العين وما إلى ذلك‪ ،‬وال من أوصاف المعنى الموّرى عنه (الشمس)‬
‫كاإلشراق والغروب وما إليهما‪ .‬ولهذا كانت التورية مجّردة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التورية المرّش حة‪:‬‬
‫وهي التي ذكر فيها ما يالئم الموّر ى به‪ ،‬وهو أقوى درجات اإليهام في التورية ألنه يقّو ي المعنى القريب‬
‫فيخفي المعنى البعيد المقصود ويكون هذا الذكر‪:‬‬
‫أ ـ قبل لفظ التورية‪:‬‬
‫ومثالها قوله تعالى (َو الَّسماَء َبَنْيناها ِبَأْيٍد َو ِإَّنا َلُم وِس ُعوَن ) سورة الذاريات‪ :‬اآلية ‪ .47‬والتورية في (بأيد)‬
‫ألنها تحتمل معنيين‪:‬‬
‫ـ المعنى القريب‪ :‬وهو الجارحة‪ ،‬اليد الحقيقية‪ .‬وهذا المعنى موّرى به‪ ،‬وقد سبقت بلفظ (بنيناها) على جهة‬
‫الترشيح وهو من لوازم اليد‪.‬‬
‫ـ المعنى البعيد‪ :‬قّو ة الخالق وعظمته وهذا المعنى موّر ى عنه‪ ،‬وهو المراد؛ ألن الخالق جل وعال منّز ه‬
‫عن المعنى األول‪.‬‬
‫ومنها أيضا قول يحيى بن منصور (الطويل)‪:‬‬

‫الّد هر‬ ‫على‬ ‫السيوف‬ ‫فحالفنا‬ ‫أنخنا‬ ‫كّلها‬ ‫العشيرة‬ ‫عّنا‬ ‫نأت‬ ‫فلما‬

‫وتر‬ ‫على‬ ‫الجفون‬ ‫أغضينا‬ ‫نحن‬ ‫وال‬ ‫كريهة‬ ‫يوم‬ ‫عند‬ ‫أسلمتنا‬ ‫فما‬

‫فالتورية في (الجفون) الحتمال اللفظ معنيين هما‪:‬‬


‫ـ المعنى القريب‪ :‬وهو جفون العين الحقيقية‪ ،‬وهذا هو المعنى الموّرى به‪ ،‬وقد سبقه الزم من لوازمه على‬
‫جهة الترشيح‪( .‬أغضينا) ألن اإلغضاء من لوازم العين‪.‬‬

‫الصفحة ‪23‬‬
‫ـ المعنى البعيد‪ :‬جفون السيوف (أغمادها)‪ ،‬وهو المعنى الموّر ى عنه‪ .‬وهذا هو المعنى المراد ألن الّسيف‬
‫إذا أغمد انطبق الجفن عليه‪ ،‬وإذا جّرد انفتح‪.‬‬
‫ب ـ بعد لفظ التورية‪:‬‬
‫نحو قوله (السريع)‪:‬‬
‫الّلثم‬ ‫إلى‬ ‫منه‬ ‫أصل‬ ‫ولم‬ ‫مذ همت من وجدي في خالها‬

‫عّم ي‬ ‫به‬ ‫هام‬ ‫قد‬ ‫خالي‬ ‫جرى‬ ‫ما‬ ‫واستمعوا‬ ‫قفوا‬ ‫قالت‪:‬‬

‫فالتورية‪ :‬في (خالها) الحتماله معنيين‪:‬‬


‫أ ـ المعنى القريب‪ ،‬خال النسب‪ ،‬أخو األم‪ ،‬وهو المعنى الموّرى به‪ ،‬وقد ذكر الزمه (العّم ) بعده على جهة‬
‫الترشيح‪.‬‬
‫ب ـ المعنى البعيد‪ ،‬الّش امة التي تظهر في الوجه غالبا‪ ،‬وعّد ها الناس أمارة حسن‪ ،‬وهو المعنى الموّرى‬
‫عنه‪ ،‬وهذا المعنى األخير هو المقصود‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التورية المبّينة‪:‬‬
‫وهي ما ذكر فيها الزم الموّر ى عنه فيعين على االهتداء إليه‪ ،‬ويكون هذا الذكر‪:‬‬

‫أ ـ قبل لفظ التورية‪:‬‬


‫‪ ،‬كقول البحتري (الكامل)‪:‬‬

‫وتعذب‬ ‫القلوب‬ ‫في‬ ‫تملح‬ ‫بالحسن‬ ‫ملّية‬ ‫الوشاح‬ ‫تسديد‬ ‫ووراء‬

‫فالتورية في (تملح) الحتمال اللفظ معنيين‪:‬‬


‫أ ـ المعنى القريب‪ ،‬الملوحة ضد العذوبة‪ ،‬وهو المعنى الموّرى به وغير المراد‪.‬‬
‫ب ـ المعنى البعيد‪ ،‬المالحة أي الحسن‪ ،‬وهو المعنى الموّر ى عنه وهو المراد‪ ،‬وقد تقّد م عليه من لوازمه‬
‫(ملّية بالحسن)‪.‬‬
‫ب ـ بعد لفظ التورية‪:‬‬
‫‪ ،‬ومنه قول الشاعر (الطويل)‪:‬‬
‫تطلع؟‬ ‫الغزالة‬ ‫أن‬ ‫ممكن‬ ‫فهل‬ ‫أرى ذنب الّسرحان في األفق طالعا‬

‫في البيت توريتان‪ ،‬أوالهما (ذنب الّسرحان)‪ .‬وفيها معنيان‪:‬‬


‫أ ـ قريب‪ ،‬وهو ذنب الحيوان (الذئب)‪ ،‬وهو المعنى الموّرى به‪.‬‬
‫ب ـ بعيد‪ ،‬أول ضوء الّنهار‪ ،‬وهو المعنى الموّر ى عنه‪ ،‬وهذا المعنى هو المعنى المراد‪ .‬وقد بّينه بذكر‬
‫الزم بعده بقوله (طالعا)‪.‬‬
‫ثانيتهما (الغزالة) وفيها معنيان‪:‬‬
‫أ ـ قريب‪ ،‬وهو الغزالة الوحشية المعروفة‪ ،‬وهو المعنى الموّرى به الذي لم يقصده الشاعر‪.‬‬

‫الصفحة ‪24‬‬
‫ب ـ بعيد‪ ،‬وهو الشمس‪ ،‬وهو المعنى الموّرى عنه وقد بّينه الشاعر بذكر الزمه بعده (تطلع) وهذا هو‬
‫المعنى المقصود‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التورية المهيأة‪:‬‬
‫‪ ،‬وهي على ثالثة أنواع‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ المهيأة بلفظ قبلها‬
‫‪ ،‬نحو قول ابن سناء الملك في الملك المظّفر (الطويل)‪:‬‬
‫فرّو حت عن قلب وأفرجت عن كرب‬ ‫عمرّية‬ ‫سيرة‬ ‫فينا‬ ‫وسيرك‬

‫فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الّندب‬ ‫سّنة‬ ‫سمّيك‬ ‫من‬ ‫فينا‬ ‫وأظهرت‬

‫فالتورية في (الفرض والّندب) وفيهما معنيان‪:‬‬


‫ـ قريب‪ ،‬وهو أن يعني الشاعر بهما األحكام الشرعية‪ ،‬وهو المعنى الموّر ى به‪ ،‬غير المقصود‪.‬‬
‫ـ بعيد‪ ،‬وهو أن يكون الفرض بمعنى العطاء‪ ،‬والّندب صفة المرء السريع في قضاء الحاجات‪ ،‬وهو‬
‫المعنى الموّرى عنه (المقصود)‪.‬‬
‫وقد سبقت التورية بلفظ (سّنة)‪ ،‬ولواله ما تهيأت التورية فيهما‪ ،‬وال فهم الفرض والّندب الحكمان‬
‫الشرعّيان اللذان صّح ت بهما التورية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ المهيأة بلفظ بعدها‬
‫‪ ،‬نحو قول الشاعر (الكامل)‪:‬‬
‫مريضا‬ ‫يعود‬ ‫ال‬ ‫مريض‬ ‫قالوا‪:‬‬ ‫وأّنهم‬ ‫بالخالف‬ ‫التطّير‬ ‫ال‬ ‫لو‬

‫مفروضا‬ ‫قضى‬ ‫مندوبا‬ ‫ألكون‬ ‫خدمة‬ ‫جنابك‬ ‫في‬ ‫نحبي‬ ‫لقضيت‬

‫فالتورية في (مندوبا) الحتمالها معنيين‪:‬‬


‫ـ قريب‪ ،‬وهو المنتدب لقضاء حكم شرعي‪ ،‬غير المقصود‪.‬‬
‫ـ بعيد‪ ،‬وهو الميت الذي يندب‪ ،‬وهو المعنى الموّر ى عنه‪ ،‬وهذا هو المعنى المراد‪.‬‬
‫ولو ال ذكر (مفروضا) المتأّخ ر عن (مندوبا) لم يتنّبه السامع لمعنى (المندوب) ‪ ،‬فلّم ا ذكر تهّيأت التورية‬
‫بذكره‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ المهيأة بلفظين‬
‫‪ ،‬لو ال كل منهما ما تهّيأت التورية في اآلخر ‪ ،‬نحو (الخفيف)‪:‬‬
‫يلتقيان؟‬ ‫كيف‬ ‫هللا‬ ‫عمرك‬ ‫سهيال‬ ‫الّثرّيا‬ ‫المنكح‬ ‫أّيها‬

‫يماني‬ ‫استقّل‬ ‫إذا‬ ‫وسهيل‬ ‫استقّلت‬ ‫ما‬ ‫إذا‬ ‫شامّية‬ ‫هي‬

‫فالتورية تهّيأت من اللفظين (الثريا وسهيل)‪ .‬وفي كل منهما معنيان‪:‬‬


‫ـ قريب‪،‬‬
‫الثريا‪ :‬النجم المعروف‪ ،‬وهو المعنى الموّرى به‪ ،‬غير المقصود‪.‬‬

‫الصفحة ‪25‬‬
‫سهيل‪ :‬النجم المعروف‪ ،‬وهو المعنى الموّر ى به‪ ،‬غير المقصود أيضا‪.‬‬
‫ـ بعيد‪،‬‬
‫الثريا‪ :‬بنت علي بن عبد هللا بن الحارث‪ ،‬وهو المعنى المراد الموّرى عنه‪.‬‬
‫سهيل‪ :‬بن عبد الرحمن‪ ،‬وهو المعنى الموّرى عنه‪ ،‬وهو المراد‪.‬‬
‫ولو ال ذكر (الثريا) لم يتنّبه لسهيل‪ ،‬وكل منهما صالح للتورية‪.‬‬
‫لقد تبّين مّم ا سبق من شرح وتفصيل أّن التورية ضرب من التخييل‪ ،‬وفيها شيء من اإللغاز‪ ،‬وهي من‬
‫الغموض الفّني المستحّب ألن المتلّقي المتمّتع بثقافة شعرية أو فنية يدرك أنها تخاطب عقله وذكاءه‬
‫وفطنته‪ ،‬وأنها تبعده عن المعاني المباشرة؛ ألن األداء المباشر يبعد عن الشعر إشعاع اإليحاءات‬
‫المختلفة‪ .‬فالفّن تأّم ل‪ ،‬والمتذّو ق يجب أن يتحّلى بذائقة قادرة على كشف ما يضيفه الشاعر والمبدع إلى‬
‫الطبيعة الجمالية التي يرسمها الشاعر‪ .‬إنها من الصور الخادعة التي تترك للمتلقي أن يذهب إلى‬
‫تفسيرات مختلفة باختالف قدرته على الكشف والتذوق وتفكيك عناصر الصورة المتخّيلة‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬
‫‪ -1‬اإليضاح في علوم البالغة‪ ،‬الخطيب القزويني‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروت ‪.1971‬‬
‫‪ -2‬اإليضاح في علوم البالغة‪ ،‬الخطيب القزويني‪ ،‬المرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -3‬تحرير التعبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن‪ ،‬البن أبي اإلصبع المصري‪ ،‬تحق‬
‫حفني محمد شرف‪ ،‬لجنة إحياء التراث‪ .‬د‪ .‬ت‪.‬‬
‫‪ -4‬اإليضاح في علوم البالغة‪ ،‬الخطيب القزويني‪ ،‬المرجع نفسه‪.‬‬

‫الصفحة ‪26‬‬

You might also like