Professional Documents
Culture Documents
لقد كانت الظاهرة الغالبة في عصر الجاحظ ،فقد تصيد أبو تمام المعاني الغريبة دون اختيار للفظ
تأثرا بالتيار الفلسفي اليوناني والعقل الهندي والفارسي في الحكمة وضرب األمثال التي شاعت بين
المذاهب الكالمية والفلسفية ،وتصدى الجاحظ لهذا التيار وانتصر للفظ انتصارا قصد به الحد من غلواء
طالب المعاني ،وهضم اللفظ حقه من القسمة ،يقول عبد القاهر الجرجاني '' :وال تحسبّن أن الجاحظ
يهون من شأن المعنى أو يغمض من قدره ..وكيف وهو رجل كله عقل ..وكل عقله علم وحكمة وأدب '' (
. )8
لقد '' حاول أصحاب المعنى أن يقيموا حكومتهم على ساق واحدة فتمشي عرجاء ،ولو نظروا إلى
اللفظ كما نظروا إلى المعنى الستقامت حكومتهم '' (.)9
ولقد اشتهر عند الجاحظ أنه يسوي في العلم بالمعاني بين الخاصة والعامة ،وأنها مشتركة يعرفها
العربي والعجمي.
ويبدو أن موقف الجرجاني كان أكثر إنصافا للجاحظ في عدم طبعه لرأي الجاحظ بلون واحد ،وال
يعرف قدر الكبار إال الكبار .ذلك أن الجاحظ كان يتوجه بخصومته للقائلين بأفضلية المعاني .وعلى هذا
يتوجب النظر للفظ على أنه المظهر العملي للمعنى وللغة ككل ،وهما متكامالن وال يتصور أن يدور
البحث على المعنى لجهة كونه خاطرا في الضمير .
الصفحة 1
وإذا كان الجاحظ حينما يقول ( :المعاني مطروحة في الطريق )؛ وأنها في حكم الشراكة بين
الجميع ،وفي متناولهم ،فال يجب أن يفهم من طرحها في الطريق أنها مستبعدة وانه ينتصر للفظ وإنما
الجاحَظ ينظر لإلشكالية بعينين اثنين اللفظ ،والمعنى بتطابقية شاملة يتكامل فيها جزء مع اآلخر ،ومن
أراد معنا كريما فليلتمس له لفظا كريما فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ،ومن حقهما ان تصونهما
عما يفسدهما ويهجنهما '' ()12
أما ابن قتيبة فقد خلص إلى أن الوحدة بين اللفظ والمعنى ،هي وحدة صلبة ال تقبل القسمة على اثنين
مميزا بين أربعِة أقسام من الشعر .ضمن ثنائية اللفظ ،والمعنى فيقول '' :ضرٌب منه حُسن لفظه وجاد
معناه .كقول الشاعر :
ُيغضي حياًء وُيغضى من مهابتِه ** فال ُيكّلُم إال حين يبتسُم
وضرٌب منه حسن لفظه وحال ،فإذا أنت فَّتشته لم تجد فائدًة في المعنى.
إّن العيوَن التي في طرفها َح َو ٌر **َقَتْلَنَنا ثم لم ُيحييَن قتالنا
يصَر ْع َن ذا اللِب حتى ال َح راَك به ** وهن أضعُف خلِق هللا أركانا
وضرٌب منه جاد معناه وَقُصرْت ألفاُظُه عنه كقول لبيد:
ما عاتَب المرَء الكريَم كنفسِه ** والمرُء ُيصلحُه الجليُس الصالُح
وضرٌب منه تأَّخ ر معناه وتأخر لفظه كقول األعشى
وفوها كأقاحـــــــٍّي ** غـــذاُه دائــُم الهْطـِل
كما شيب براٍح با ** رٍد من عسِل النحِل (.)13
أما قدامَة بِن جعفر :ينطلق من وجهة نظرية بالغية تشترط أن تكون ألفاظ العمل اإلبداعي مفصلة
على قدر المعاني أي أن يمأل اللفظ معناه ،أو يمأل المعنى لفظه ،ال يزيد عليه ،وال ينقص عنه ،وهذه
هي البالغة التي '' وصف بها بعض الكتاب رجاًل ،فقال :كانت ألفاُظه قوالَب لمعاِنيِه ؛ أي هي مساويٌة
لها ال يفُضُل أحُدُهما على اآلخر ...وهذا كله ضمن ثنائية الشكل والمضمون ،فالمعاني :بمنزلـة المـادة
الموضـوعة ،في مقابـل الشكل والمبنى (. )14
أما المرزوقي :فيعتبر اللفُظ ،والمعنى بمنزلة الواحد ،بشروط يشترك فيها مع ابن قتيبة ،وهي :
'' • شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته ،وإصابة في الوصِف والمقاربة في التشِبيه والتحام
أجزاِء النظم والتئامها على تخيٍر من لذيِذ الوزِن ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكلة اللفظ
للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى ال تكون منافرة بينهما ...وعياُر المعنى أن ُيعَر َض على العقل
الصحيح ،والفهم الثاقب ،فإذا انعطف عليه َج نبتا القبوِل واالصطفاءُ ،م ستأِنًسا ِبَقَر ائنه ،خرج وافًيا ،وإال
انتقض بمقدار َش ْو ِبِه ووْح َش ِته ...وعيار اللفظ الطبُع والِّروايُة واالستعماُل ،فما سِلم مَّم ا ُيهجنُه عند
العرِض عليها ،فهو المختاُر المستقيم ''()15
الصفحة 2
( . )8اإلعجاز في دراسات السابقين .عبد الكريم الخطيب .ص168
( . )9نفسه 196 .
( . )12البيان والتبيين .الجاحظ .ج.1/86
( . )13الشعر والشعراء .ابن قتيبة الدينوري .ج 1/69وما بعـــــدهــا.
( . )14نقد الشعر .قدامة بن جعفر .ص.55
( . )15شرح المقدمة األدبية على ديوان الحماسة ألبي تمام .المرزوقي .ص35
ماهية البالغة
المحاضرة األولى
مقدمـــة
البالغة هي ُم رتَقى علوم اللغة وأشرفها ،ومن أرِّق فنون الَك ِلم وأدَّقها ،وبها ُيعلم غُّث الكالم من
سمينه ،وقد أجاد علماؤنا العرب في تصنيف وترتيب علومها ،فوضعوها على ثالثة علوم مرتبة ترتيًبا
تصاعدًّيا بحسب صياغة الجملة ،وسبك المعنى وجودة األداء ،وهذه العلوم -على الترتيب -هي :علم
المعاني ،وعلم البيان ،وعلم البديع.
ومن شروط البالغة «توّخ ي الّد قة في انتقاء الكلمات واألساليب على حسب مواطن الكالم
ومواقعه وموضوعات من يكتب لهم أو يلقى إليهم»
ويمثل النص القرآني المدونة الكالمية التي انطلقت منها كل الدراسات اللغوية واألدبية وذلك من
أجل فهمه وتفسيره ومعرفة نظمه وأسلوبه وحتى بالغته .وعن هذه األخيرة يقول أبو هالل العسكري :
«إن أحق العلوم بالتعلم ،وأوالها بالتحفظ -بعد المعرفة باهلل جل ثناؤه-علم البالغة ،ومعرفة الفصاحة،
الذي به يعرف إعجاز كتاب هللا» .فماهي البالغة؟
1ـ ماهية البالغة:
البالغة لغًة: أ-
جاء في اللسان (بلغ)« :بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبالغا :وصل وانتهى ... ،وبلغت المكان بلوغا :وصلت
إليه ،وكذلك إذا شارفت عليه ،ومنه قوله تعالى (َفِإذا َبَلْغ َن أَج َلُهَن ) البقرة 234 :أي :قاربنه.وبلغ الّنبت:
انتهى».
ويقول أبو هالل العسكري « :بلغت الغاية اذا انتهيت إليها وبلغتها غيري ومبلغ الشيء منتهاه والمبالغة
في الشيء االنتهاء إلى غايته».
فالداللة اللغوية تتمحور حول شيء واحد هو الوصول واالنتهاء إلى الشيء.
البالغة اصطالًحا: ب-
جاء في معجم المصطلحات العربية (« )1هي مطابقة الكالم الفصيح لمقتضى الحال… مع توّخ ي الدّقة
في انتقاء الكلمات واألساليب على حسب مواطن الكالم ومواقعه وموضوعاته وحال من يكتب لهم أو
يلقى إليهم… والّذ وق وحده هو العمدة في الحكم على بالغة الكالم» وهذا يعني أن تباين األذواق يجعل
الحكم على بالغة الكالم أمرا نسبيا.
¶ البالغة والتراث:
روى الجاحظ تعريفات القدامى من شعراء وكّتاب عندما سئلوا عن مفهوم البالغة .ومن هذه التعريفات
نذكر ما يأتي:
الصفحة 3
1ـ ابن المقّفع (ت 143ه):
وجاء فيه «البالغة :اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت ،ومنها ما يكون
في االستماع ،ومنها ما يكون في اإلشارة ،ومنها ما يكون في االحتجاج ،ومنها ما يكون جوابا ،ومنها ما
يكون ابتداء ،ومنها ما يكون شعرا ،ومنها ما يكون سجعا وخطبا ،ومنها ما يكون رسائل .فعاّم ة ما يكون
من هذه األبواب الوحي فيها ،واإلشارة إلى المعنى ،واإليجاز ،هو البالغة»(.)2
ونستنتج من هاهنا أن ابن المقفع قد اكتفى بتقديم صفات البالغة المتمّثلة في اإليجاز ومراعاة المقام
جاعال البالغة تكمن في السكوت واالستماع بالبالغة .فبأي معيار نقيس بالغة الّصمت؟ وإذا كان
الصمت أبلغ من الكالم في بعض المواقف ،فهل يصّح أن يسّم ى العجز عن اإلبالغ عّم ا يعتمل في النفس
بالغة؟ أال يحّق لنا أن نسّم ي الصمت إذا حسن تخلص ارتباطه بالبالغة ،وألن في الصمت مساواة بين
البليغ وغيره .فهل يجوز أن يستوي في عين البالغة األبكم والفصيح؟
( .2العّتابي ت 220ه):
روى الجاحظ عن صديق له سأل العّتابي قائال (« :)3ما البالغة؟ قال :كّل من أفهمك حاجته من غير
إعادة ،وال حبسة ،وال استعانة فهو بليغ».
وهنا نرى أن العّتابي لم يعّر ف البالغة بقدر ما أعطى صفات البليغ .فقد علق الجاحظ على كالم
العّتابي قائال (« :)4والعّتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ لم يعن أن كل من أفهمنا من
معاشر الموّلدين والبلديين قصده ومعناه ،بالكالم الملحون ،والمعدول عن جهته ،والمصروف عن حقه،
أنه محكوم له بالبالغة كيف كان بعد أن نكون قد فهمنا عنه» وكأن الجاحظ يقّيد اإلفهام بالكالم الجاري
على أنماط كالم الفصحاء من العرب.
3ـ الّرماني (ت 386ه):
قال الّرماني («)5البالغة :إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ» فالبالغة تعني توصيل
المعنى وتمكينه في قلوب المتلقين من طريق إلباسه الصورة الجميلة من اللفظ الذي يفتن األلباب.
وهكذا نرى أن المصطلح تطّو ر في هذ التعريف ليكتسب خصوصية لم يكتسبها سابقا .فلم تعد البالغة
بأوصافها ،بل أخذت تحديدا واضحا ودقيقا بقي متداوال في كتب الالحقين ،يضيفون عليه ولكّنهم حافظوا
على كنهه وفحواه.
4ـ أبو هالل العسكري (ت 395ه):
ارتكز العسكري على الداللة اللغوية لفهم مصطلح البالغة قائال« :سمّيت البالغة بالغة ألنها تنهي
المعنى إلى قلب السامع فيفهمه» ورأى أنها «من صفة الكالم ال من صفة المتكّلم ...وتسميتنا المتكّلم بأنه
بليغ توّسع .وحقيقته أن كالمه بليغ».
وذهب العسكري إلى أن «الفصاحة والبالغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصالهما؛ ألن
كل واحد منهما إنما هو اإلبانة عن المعنى واإلظهار له»
وأتى بتعريف واف للبالغة في كتابه الصناعتين جاء فيه «البالغة كل ما تبّلغ به المعنى قلب
السامع ،فتمّك نه في نفسه كتمّك نه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن»(.)6
وقد رد على تعريف ابن المقّفع .قائال« :ومن قال :إن البالغة إنما هي إفهام المعنى فقط ،فقد جعل
الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب واإلغالق واإلبانة سواء».
الصفحة 4
كما وقد وضع شروطا الجتماع آلة البالغة ،وهي في ظّنه «جودة القريحة وطالقة اللسان» ومن تمام
آالت البالغة ما يأتي(:)7
«التوّسع في معرفة العربية ،ووجوه االستعمال لها؛ والعلم بفاخر األلفاظ وساقطها ،ومتخّيرها ،ورديئها،
ومعرفة المقامات ،وما يصلح في كل واحد منها من الكالم» وقد شرح هذا القول بإسهاب فيما بعده من
كالم .
5ـ عبد القاهر الجرجاني (ت 471ه):
عقد الجرجاني في دالئل اإلعجاز فصال بعنوان(« :)8في تحقيق القول على البالغة والفصاحة،
والبيان والبراعة ،وكل ما شاكل ذلك» مبّينا فيه أن «ال معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مّم ا
يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة ،وينسب فيه الفضل والمزّية إليه دون المعنى غير وصف الكالم بحسن
الّد اللة ،وتمامها فيما له كانت داللة ،ثم تبّر جها في صورة هي أبهى وأزين ،وآنق وأعجب ،وأحّق بأن
تستولي على هوى النفس ،وتنال الحظ األوفر من ميل القلوب ،وأولى بأن تطلق لسان الحام ،وتطيل
رغم الحاسد ،وال جهة الستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصّح لتأديته،
ويختار له اللفظ الذي هو أخص به ،وأكشف عنه ،وأتّم له ،وأحرى بأن يكسبه نبال ،ويظهر فيه مزية».
لقد قلنا مفهوم الجرجاني ولم نقل حّد ه ألنه أعطى صفات مشتركة لكل من البالغة والفصاحة
والبراعة والبيان أّو ال ،وألنه لم يحّد د البالغة تحديدا وافيا ثانيا .فالكالم يجب أن يكون شديد الداللة على
المعنى ،ثم إنه من المستحسن أن يرصف في جملة أنيقة متبّر جة لتأتي فائقة األناقة تبلغ األسماع فتطربها
بجرسها ،وتأسرها بجمال وسحر ألفاظها .ولتأتي العبارة بهذه الصفات على صاحبها أن يتخّير اللفظ الذي
يؤدي المعنى وال يقّصر عنه ألن الكالم الذي تقّص ر فيه األلفاظ عن تأدية المعاني كاملة وبدقة متناهية
ليس كالما بليغا.
6ـ ابن سنان الخّفاجي ( 422ـ 466ه):
ذهب ابن سنان في كتابه (سّر الفصاحة) إلى أن القدامى لم يحّد وا البالغة ،ألنهم اكتفوا برصد
صفاتها ،ولكن ما يعاب عليه عدم تفريقه بين الفصاحة والبالغة ،فهو يرى أن («:)9الفصاحة :عبارة عن
حسن التأليف في الموضوع المختار» وهذا تعريف يليق بالبالغة أيضا.
7ـ الخطيب القزويني (ت 734ه):
أما القزويني في مقّد مة (اإليضاح) لم يجد في أقوال المتقّد مين(« )10ما يصلح لتعريفهما (الفصاحة
والبالغة) به» غير أّنه انتهى بعد أن شرح الفصاحة إلى تعريف بالغة الكالم بأنها ( « )11مطابقته
لمقتضى الحال مع فصاحته» وبعد شرح مسهب لكالم الجرجاني نفهم منه أّنه يتبّنى موقفه من إطالق
الفصاحة والبالغة على أوصاف راجعة إلى المعاني ،يتحدث عن بالغة المتكلم التي يحّد ها بقوله ( :)12
«هي ملكة يقتدر بها على تأليف كالم بليغ».
المراجع والمصادر
-1معجم المصطلحات العربية في اللغة واألدب ،مجدي وهبه ـ
-2الجاحظ ،البيان والتبيين ،تحق عبد السالم هارون ،ط.1 /
-3-4الجاحظ ،البيان والتبيين ،ط.1 /
-5الّر ماني ،النكت في اعجاز القرآن ،تحق :محمد خلف هللا ومحمد زغلول ط.3 /
-6-7العسكري ،كتاب الصناعتين ،تح البّج اوي ـ ابراهيم.
-8الجرجاني ،دالئل اإلعجاز ،دار المعرفة.
الصفحة 5
-9ابن سنان الخّفاجي ،سر الفصاحة ،تحق عبد المتعال الصعيدي ،طبعة صبيح.
الخطيب القزويني ،اإليضاح في علوم البالغة. -10
م .ن. -11-12
الصفحة 6
وفي معجم ألفاظ األسلوبية لجون مازاليغا( )Jean Mazalegatوجورج مولينيي (George
)Moulinierثالث معان:
-البالغة مبحث قديم يهتم بفن اإلقناع في مكوناته وتقنياته.
-البالغة مجموعة من صور التعبير منفصلة عن نوع من الخطاب الذي استعملت فيه.
-وقد تعني الكلمة أحيانا المقاييس المعيارية لفن الكتابة وهذا المعنى عرضي مرتبط بانكماش البالغة(.
)6
¨ الفرق بين البالغة والفصاحة:
الحظ علماء البالغة الصلة بين المعنى اللغوي والمعنى االصطالحي للبالغة ،كما الحظوا وجود
مصطلح آخر استعملوه مرادفا لها أال وهو الفصاحة.
الفرق بين البالغة والفصاحة في القرآن: أ-
وردت كلمة الفصاحة في كل من قوله تعالىَ﴿:و َأِخ ي َهاُروُن ُهَو َأْفَص ُح ِم ِّني ِلَس اًنا﴾سورة القصص .34
ووردت كلمة بالغة في قوله عز وجل﴿َفَأْع ِر ْض َع ْنُهْم َو ِع ْظُهْم َو ُقْل َلُهْم ِفي َأْنُفِس ِهْم َقْو اًل َبِليًغ ا﴾سورة
النساء .63ففي اآلية األولى أسندت فيها الفصاحة إلى اللسان فجاءت متعلقة باأللفاظ فقط «ذلك أن موسى
كان في لسانه لثغة بسبب تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين الثمرة فحصل فيه شدة في التعبير(».
)7أما اآلية الثانية فأسندت البالغة إلى النفوس ووصف بها األلفاظ والمعاني من أجل التأثير في
النفوس«وقل لهم في أنفسهم قوال بليغا وانصحهم فيما بينك وبينهم بكالم بليغ رادع لهم»)8(.
فالكالم يوصف بالفصاحة من حيث األلفاظ ووضوحها وسالمتها من التعقيد والغرابة ولكنه ال يكون
بالضرورة بليغا.أما الكالم الذي يوصف بالبالغة فالبد أن يكون فصيحا مؤثرا في النفوس.
الفرق بينهما عند البالغيين: ب-
لم يفرق كثير من العلماء بين البالغة والفصاحة،لداللتهما على معنى واحد فاإلبالغ عما في النفس هو
اإلفصاح وأشار إلى ذلك أبو هالل العسكري قائال« :فالفصاحة والبالغة ترجعان إلى معنى واحد ،وإن
اختلف أصالهما؛ ألن كل واحد منهما إنما هو اإلبانة عن المعنى واإلظهار له»)9(.
ولكن عندما استقرت علوم البالغة في العصور التي تلته أصبح التفريق بينهما واضحا وشاع بين الناس
تعريف البالغة المنسوب إلى القزويني(ت739هـ)حيث قال«:بالغة الكالم هي مطابقته لمقتضى الحال
مع فصاحته فالبالغة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى بالتركيب)10(».
ولعل أول من فرق بين كلمة بالغة وكلمة فصاحة ابن سنان الخفاجي(ت466هـ) قال« :الفصاحة الظهور
البيان .....والفرق بينهما وبين البالغة أن الفصاحة مقصورة على وصف األلفاظ ،والبالغة ال تكون إال
وصفا لأللفاظ مع المعاني ،ال يقال في كلمة واحدة ال تدل على معنى تفضل عن مثلها :بليغة ،وإن قيل
فيها فصيحة ،وكل كالم بليغ فصيح وليست كل فصيح بليغا)11(».
ومما سبق يتضح لنا أن لكل من البالغة والفصاحة دعائم تقوم عليها()12
‣ دعائم الفصاحة:
* مجالها األلفاظ وتختص بالكلمة المفردة والكالم المركب بشرط الوضوح والبيان واالنسجام والتوافق
مع قواعد النحو.
‣ دعائم البالغة:
*تختص باأللفاظ والمعاني مع مراعاة األسلوب المالئم للمخاطبين ،وهي تهدف إلى التأثير في النفوس
كما أنه من شروطها األساسية الفصاحة.
الصفحة 7
المصادر والمراجع
-1أمين أبو ليل ،علوم البالغة المعاني والبيان والبديع ،ط1
-2زين كامل الخويسكي ،أحمد محمود المصري،فنون بالغية ،ط.1
-3وجيه المرسي أبو لبن ،مفهوم البالغة وأهداف تدريسها ،مقالة
-4هنريش بليث ،البالغة واألسلوبية ،تر محمد العمري
5-6محمد العمري ،البالغة العامة والبالغة المعممة،مقال
-7إسماعيل بن عمر بن كثير البصري ،تفسير القرآن العظيم ،مجلد ،4محمود عبدالقادر األرناؤوط
-8المرجع نفسه ،المجلد الثاني.
-9أبو هالل العسكري،الصناعتين.
الخطيب القزويني ،التلخيص المفتاح ،تح :ياسين األيوبي. -10
ابن سنان الخفاجي ،سر الفصاحة ،تح :النبوي شعالن ،ط1 -11
ط بن عيسى بالطاهر،البالغة العربية مقدمات وتطبيقات ،ط1 -12
تاريخ البالغة
المحاضرة الثالثة:
إن البالغة العربية في نشأتها كغيرها من علوم العربية لم تظهر فجأة حيث لم يكن لها حدود
تعرف بها ،وال قضايا تختص بها ،وال حتى مصطلحات تقتصر عليها ،وإنما مرت بمراحل عديدة حتى
اكتمل نضجها وأصبحت علما مستقال قائما بذاته له قوانينه الخاصة وقواعده.
الصفحة 8
لها اسم يتواضعون عليه ،ومن الناحية النظرية فهناك ظواهر بالغية منثورة في ما أطلقوه من أحكام
نقدية في مناسبات المفاضلة والمفاخرة».
فالبالغة في ذلك الوقت كانت أمرا ُفطروا عليه ،يعرفونه وال يكادون يختلفون فيه رغم عدم اصطالحهم
لتلك المفاهيم البالغية بمصطلحات دقيقة وواضحة.
الصفحة 9
كما ظهرت اتجاهات ومذاهب كثيرة لظروف سياسية وعقائدية منها :المعتزلة التي شاركت هي األخرى
في نشأة البالغة العربية ،فقد اهتم رجالها بمسائل البالغة والبيان التصالها بما كانوا ينهضون به من
الخطابة والمناظرة ....واهتموا أيضا بما عند األمم األخرى فيما يخض البالغة ومسائلها المتنوعة ،وقد
نقل الجاحظ في كتبه المتعددة ما أثاره أصحاب هذا المذهب)5(.
البالغة في العصر العباسي:
ازدهرت المالحظات البالغية في هذا العصر بشكل كبير واصطبغت بصبغة علمية ويعود ذلك إلى
تطور الشعر والنثر وتحضر العرب ،فبعد اتساع الفتوحات اإلسالمية ،وفساد األذواق وانحراف الملكات
وامتزاج العرب بغيرهم ظهر أثر ذلك في ألسنتهم وطباعهم .كان ذلك من البواعث على تدوين أصول
البالغة العربية لتكون ميزانا سليما توزن به بالغة الكالم وعصمة اللسان من الخطأ في األسلوب
والبيان)6(.
وقد أشار إلى هذا التأثير أحمد هاشمي حيث قال« :إن التأليف البالغي من لدن الجاحظ حتى السكاكي
وانتهاء بالعصور التالية عني بالتفرقة بين قسم وآخر ونوع وعدد وفرع حتى وصل بفن كالبديع إلى هذا
الحد من األلوان وكان التأليف البالغي متأثرا في ذلك بالتيارات العربية األصلية مضافا إليها التيارات
الوافدة من يونانية وهندية ،وفارسية وغيرها)7(».
ويعد اطالع العرب على البالغة عند األمم األخرى رأوا أن طريقتهم تختلف عن طريقة العرب ذلك أن
«الطريقة األولى وهي طريقة العجم – على حد قولهم -كانت تفهم البالغة فهما أدنى إلى العلم ،وكانت
تعنى بالمصطلحات البالغية ،وتشرح الغرض منها وتفلسف هذا الشرح .وأما الطريقة الثانية وهي
طريقة العرب فكانت تفهم البالغة فهما أدنى إلى األدب المحض وكانت تعنى بالشواهد والنماذج بقصد
تربية الذوق ،ومن ثم كانت تجنح هذه الطريقة إلى اإلقالل من األصول ومن القواعد ،ومن ذكر
المصطلحات البالغية بدال من ذكر الشواهد واألمثلة»(.)8
وكل هذا حين اتسعت الترجمة في أواخر العصر األموي أوائل العصر العباسي وأسست لها دار الحكمة،
ومن أشهر المترجمين ابن المقفع ،فقد ترجم كتب كثيرة عن الفارسية تاريخية وأخرى أدبية وسياسية،
كما ترجم "كليلة ودمنة" وأجزاء من منطق أرسطو حيث إنكب المترجمون ينقلون التراث اليوناني
والفارسي والهندي(.)9
كما أن لعلماء النحو واللغة أثر واضح في البالغة ،منهم الخليل بن أحمد الذي تحدث عن التجنيس،
وسيبويه الذي يعرض في كتابه بعض الخصائص األسلوبية كالتقديم والتأخير واإلضمار وهي من صميم
الدراسات البالغية فأكثر أصول البالغة نبتت من أفكار هؤالء اللغويين والنحاة وأن أكثر علماء البالغة
وعيا بأهدافها ودقائقها هم الذين تعمقوا في أسرار اللغة ونحوها كاإلمام عبد القاهر الجرجاني ( 271هـ)،
والزمخشري ( 538هـ))10(.
وهنا بدأ البالغيون يضعون األصول والقواعد لتلك األحكام والمالحظات ويحددونها تحديدا دقيقا
ويحللونها تحليال علميا.
المصادر والمراجع
-1مازن المبارك ،الموجز في تاريخ البالغة ،دار الفكر ،بيروت1968 ،م.
-2مازن المبارك ،الموجز في تاريخ البالغة.
-3أحمد مطلوب ،بحوث بالغية ،مطبوعات المجمع العلمي ،بغداد1996 ،م.
الصفحة 10
-4أبو هالل العسكري ،الصانعتين.
-5-6يوسف أبو العدوس ،مدخل إلى علم البالغة العربية… ،.ط.1
-7أحمد الهاشمي ،جواهر البالغة في المعاني والبيان والبديع.
-8عبد اللطيف حمزة ،القلقشندي في كتابه صبح األعشى.
-9شوقي ضيف ،البالغة تطور وتاريخ ،دار المعارف ،القاهرة ،ط 5199 ،9م.
-10عبد العاطي ،البالغة العربية بين الناقدين الخالدين عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي،
دار الجيل ،بيروت ،ط1993 ،1م.
الصفحة 11
وهنا بدأت كتب البالغة تظهر بشكل خاص بعدما كانت مبعثرة في كتب اللغة والنقد واألدب.
ج -تقعيد القواعد:
تبدأ هذه المرحلة بظهور أبي يعقوب السكاكي (ت626هـ) ،الذي تأثر بالمنطق اليوناني ،فقام بتقنين
قواعد البالغة مستعينا في ذلك بقدراته ،المنطقية على التعليل والتعريف والتفريع في كتابه"مفتاح العلوم"
حيث تحدث في القسم الثالث منه عن علم البديع والبيان.
وقد نال هذا الكتاب شهرة في ميدان البالغة وعكف العلماءعلى دراسته وشرحه وتخليصه وممن شرحوه
قطب الدين الشيرازي(710هـ)()5وممن لخصوه بدرالدين مالك (686هـ) في كتاب سماه "المصباح في
علم المعاني والبيان والبديع" ،والقرزويني (739هـ) سماه"تلخيص المفتاح" الذي اشتهر بدوره وأصبح
قطبا تدور حوله الشروح.
فكل من جاء بعد السكاكي سار على نهجه ألنه لم يخرج عن كونه تكرارا لمادته فهي محاوالت للتبسيط
والتوضيح لكنها أفقدت البالغة رونقها وجمالها وأصابتها بالتعقيد والجمود«استمرت الشروح والحواشي
على كتاب (المفتاح)و(تلخيص المفتاح) قرونا طويلة قدم فيها البالغيون دروس البالغة في قوالب جافة،
وأدخلوا فيها كثيرا من المباحث التي تتصل بعلوم أخرى مثل :علم الكالم ،وأصول الفقه ،والنحو
والمنطق،األمر الذي أسهم في ذهاب رونقها وجمالها ،وإصابتها بالجمود والتعقيد في كثير من
مصطلحاتها ومباحث)6(».
وقد أضاف بعض العلماء مرحلة أخرى هي مرحلة البالغة في العصر الحديث( )7فقد ظهرت كتب
حاولت تفسير البالغة منها"جواهر البالغة" لسيد أحمد الهاشمي ،وكتاب"علوم البالغة" ألحمد مصطفى
المراغي ،وكتاب"البالغة الواضحة" لعلي الجارم ومصطفى أمين ،كما ظهرت محاوالت لتجديد البالغة
وتطويرها بدأت بكتاب أمين خولي"مناهج تجديد في التفسير والبالغة" وجهود شوقي ضيف في "البالغة
تطور التاريخ" .كما اتجهت دراسات كثيرة إلى تجديد البالغة وربطها بالدراسات األسلوبية الحديثة
أبرزها كتاب"دفاع عن البالغة" ألحمد حسن الزيات ،الذي قارن فيه بين البالغة القديمة ومفهوم
األسلوب مدافعا عن البالغة العربية ،ونجد أيضا كتابا "األسلوب" ألحمد الشايب ،حاول فيه عرض
البالغة في أثواب عصرية.
واستمرت الدراسات األسلوبية في هذا االتجاه تسعى لتأسيس علم األسلوب العربي الذي يؤمل ألن يكون
وريث البالغة العربية القديمة بال منازع.
واألسلوبية لها عالقة وثيقة بالبالغة مما جعل بعضهم يعدها الوريث الشرعي للبالغة أو أنها هي البالغة
الجديدة وهي عالقة لم تتنكر لها الدراسة األسلوبية وهي «هذه األخيرة أحيانا ال تعدوا أن تكون جزءا من
نموذج التواصل البالغي ،وتنفصل أحيانا عن هذا النموذج وتتسع حتى ال تكاد تمثل البالغة كلها
باعتبارها البالغة المختزلة»)8(.
وفي هذا يقول أيضا صالح فضل بأن علم األسلوب هو البالغة الجديدة وهو في هذا يتفق مع غيره حيث
يقول« :عندما شب علم األسلوب أصبح هو البالغة الجديدة في دورها المزدوج؛ كعلم للتعبير ونقد
لألساليب الفردية»)9(.
الصفحة 12
اختلفت اآلراء حول مؤسس وواضع علم البالغة فقد ذهب بعضهم إلى القول أنه الجاحظ ،ومنهم من
رّش ح إمام النحو العربي سيبويه(180هـ) وقال آخرون أنه اإلمام عبد القاهر الجرجاني ،وهناك من قال
بأنه السكاكي ،أما بعض المحدثين فيرون أنه ابن معتز.
وقد أّيد هؤالء فكرتهم بالحجج والبراهين فعلم البالغة لم يصل إلى ما وصل إليه إاّل بتضافر سلسلة من
الجهود شارك فيها العديد من العلماء.
وقد أجمع كثيرون على أّن المؤسس الفعلي للبالغة هو الجرجاني منهم عبد العاطي غريب علي عالم
فيرى أن اإلمام عبد القاهر الجرجاني مؤسس البالغة العربية ،وأّن معظم البالغيين والنقاد الذين جاؤوا
بعده أخذوا من بالغته وآرائه النقدية ،وتأثروا به تأثيرا كبيرا»( )10فكثير من علماء البالغة المتقدمين
والمتأخرين يعدونه مؤسس علم البالغة.
*المدارس البالغية:
من الواضح أن هناك بيئات مختلفة عملت على سير البالغة في اتجاهات مختلفة ومدارس لها خصائصها
وطرقها ،وهي:المدرسة الكالمية والمدرسة األدبية«تسيطر على الدراسات البالغية مدرستان ،مدرسة
كانت تعني بالذوق ،وتعجب بالصورة الفنية ،مدى مالءمتها لما يحيط بها ،وأخرى سيطر عليها المنطق
والجفافة ،وتقسيماته ،وتفريعاته فاألولى هي مدرسة األدباء ،والثانية مدرسة المتكلمين والمناطقة)11(».
المدرسة األدبية: أ-
حيث تهدف هذه المدرسة لدراسة بالغة القرآن الكريم ومعرفة مظاهر فصاحته وبالغته ولتنمية القدرة
على تذوق الكالم الجميل وإنشائه ومن أبرز خصائصها في درس البالغة()12
‣ االبتعاد عن اقتباسات المنطقيات الخاصة أو الفلسفية التي زخرت بها كتب المتكلمين من أهل
البالغة ،التي حاربتها ونبذتها بشدة.
‣ اإلكثار من الشواهد األدبية نثرها وشعرها باإلضافة إلى القرآنية.
‣ اإلقالل وحتى االبتعاد عن التفريعات والتقسيمات.
‣ اعتمدت المقاييس الفنية في الحكم على النصوص وأرجعته إلى الذوق واإلحساس الفني أي على
النقد األدبي.
ومن أهم كتب هذه المدرسة كتاب"البديع" البن معتز" ،والصناعتين" ألبي هالل العسكري" ،والمثل
السائر" البن األثير ،و"سر الفصاحة" للخفاجي ،و"أسرار البالغة" للجرجاني ،و"بدائع القرآن" البن أبي
اإلصبع.
المدرسة الكالمية: ب-
كانت للفلسفة وعلم الكالم أثر كبير في البالغة ،وتوتقت الصلة بينهما شيئا فشيئا حتى بلغت ذروتها في
القرن السادس مع السكاكي وتالميذه ،ومن خصائصها)13(:
الصفحة 13
ومن أعالمها الزمخشري في كتابه"الكشاف" ،وفخر الدين الرازي"نهاية اإليجاز في دراية اإلعجاز"،
والسكاكي صاحب كتاب"مفتاح العلوم" ،وقد سيطرت هذه المدرسة على الدراسات البالغية بشكل
يصعب الفكاك منه.
المصادر والمراجع
-1محمد مصطفى هّد ارة ،في البالغة العربية علم البيان،ط1989 ،1م.
-2أبو هالل العسكري ،الصناعتين.
-3بن عيسى بالطاهر ،البالغة العربية.
-4المرجع نفسه.
-5سميح أبو المغلي :علم األسلوبية والبالغة العربية ص.161
-6بن عيسى بالطاهر ،البالغة العربية.
-7المرجع نفسه.
-8هنريش بليت ،البالغة واألسلوبية.
-9صالح فضل ،علم األسلوب مباحثه وإجراءاته ،دار الشروق ،بيروت ،ط1998 ،1م.
-10عبد العاطي غريب علي عالم،البالغة العربية بين الناقدين الخالدين عبد القاهر الجرجاني وابن
سنان الخفاجي.
عبد الواحد حسن الشيخ ،دراسات في البالغة عند ضياء الدين بن أثير. -11
-12عاطف فضل محمد ،البالغة العربية ،دار المسيرة ،عمان ،األردن ،ط2011 ،1م.
المرجع نفسه. -13
أهمية البالغة
المحاضرة الخامسة:
*أهمية البالغة:
هي من علوم اللغة العربية وأشرفها مكانة ،عني بتجويد الكالم من أجل توصيله إلى األذهان في أحسن
صورة ليؤثر في العقول وقد قال صلى هللا عليه وسلم"إن من البيان لسحرا"()1ولها أهمية كبيرة نذكر
منها)2(:
‣ الوقوف على أسرار اإلعجاز القرآني،فهي إحدى األدوات المهمة في فهم كتاب هللا.
‣ تلمس دقائق اللغة العربية ،ومعرفة أسرارها ،وإدراك أساليب القول ،ومراتب فنون الكالم.
‣ البالغة فرع من النقد األدبي ،ومعرفتها ضرورية للنقد ألنها أحد المعايير األساسية التي تعنيه على
تحليل النصوص األدبية.
‣ اكتساب مهارات الكتابة اإلبداعية فيستطيع الدارس للبالغة معرفة ما يناسب المعاني من ألفاظ
ومعرفة ما يناسب كل نوع من أنواع الكتابات.
ومن أهدافها أيضا التأثير واإلقناع«إن البالغة هي بمعناها الشامل الكامل :ملكة يؤتي بها صاحبها في
عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكالم ،فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة،
والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة ،ومن هاتين الموهبتين تنشأ موهبة اإلقناع على أكمل
صورة وتحليل» )3(.وعن أهمية البالغة يقول ابن خلدون «واعلم أن ثمرة هذا الفن ،إنما هو فهم
الصفحة 14
اإلعجاز من القرآن»( )4ألن القرآن إعجاز بالغي وبياني أعجز البشر بأن يأتوا بمثله وخير دليل على
هذا قوله سبحانه وتعالىُ﴿ :قْل َلِئِن اْج َتَم َعِت اِإْل ْنُس َو اْلِج ُّن َع َلى َأْن َيْأُتوا ِبِم ْثِل َهَذ ا اْلُقْر َآِن اَل َيْأُتوَن ِبِم ْثِلِه َو َلْو
َك اَن َبْعُضُهْم ِلَبْع ٍض َظِهيًرا﴾سورة اإلسراء.88:
*أقسامها:
إن البالغة العربية تتألف من ثالث علوم وهذه العلوم لم تظهر دفعة واحدة وكان البديع والبيان مترادفان
يعنيان أمرا واحدا قبل اصطالح البالغة في عهد السكاكي ،ومع تطور البالغة انفصلت علومها بعضها
عن بعض وأصبحت على ما هي عليه اآلن هذه العلوم الثالثة التي تتكون منها البالغة هي علم المعاني،
البيان والبديع«فاألول يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ،والثاني لم يحترز به عن التعقيد
المعنوي ،والثالث يعرف به وجوه التحسين»)5(.
*علم المعاني:
يعرف علم المعاني عند السكاكي بأنه«تتبع خواص تراكيب الكالم في اإلفادة وما يصل بها من
االستحسان وغيره ليتحرز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكالم على ما يقتضي الحال ذكره)6(».
هذا ويعرفه القزويني بأنه «علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال)7(».فعلم
المعاني يهتم بدراسة التراكيب والجمل ،ومدى مطابقة معانيها لمقتضى حاالت المخاطبين .وهو أيضا
«علم يحترز به من الخطأ في التعبير بالصور اللفظية عن الصور المعنوية ،التي يتصورها الذهن)8(».
ويعود الفضل في وضع أساس علم المعاني وتفصيل مباحثه إلى عبد القاهر الجرجاني من خالل
كتابيه"أسرار البالغة"و"دالئل اإلعجاز)9(.
وهذا العلم يتناول أحوال الجملة وتحليل عناصرها«والبحث في أحوال كل عنصر منها في اللسان
العربي ،ومواقع ذكره وحذفه ،وتقديمه وتأخيره ،ومواقع التعريف والتنكير واإلطالق والتقييد ،والتأكيد
وعدمه ،ومواقع القصر كل منهما ومقتضياته وحول كون الجملة مساوية في ألفاظها لمعناها)10(»....
كما أنه يتناول أيضا«األساليب الخبرية واإلنشائية ،الوصل والفصل والعدول»)11(.وغيرها من
الموضوعات والمباحث فإذا كان النحوي يدرس هذه األحوال من حيث الجواز والوجوب واالمتناع فإن
البالغي يدرس األسرار الكامنة وراء هذه األحوال.
*علم البيان:
هو ثاني علوم البالغة عرف القزويني بأنه«علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح
الداللة عليه»)12(.
ويعرف أيضا بأنه«علم يبحث في كيفيات تأدية المعنى الواحد بطرق تختلف في وضوح داللتها ،وتختلف
في صورها وأشكالها وما تتصف به من إيداع وجمال أو قبح وابتذال)13(».
فعلم البيان اهتم به العديد من العلماء وذكر أن«أول من دون مسائل علم البيان أبو عبيدة معمر بن المثنى
في كتابه مجاز القرآن وتبعه الجاحظ ،ثم ابن معتز ثم قدامة بن جعفر ثم أبو هالل العسكري ثم جاء شيخ
عبد القاهر الجرجاني فأحكم أسسه وأكمل في بنيانه»()14
وهو علم يهتم بالصورة الفنية كاالستعارة والكناية والتشبيه والمجاز كل بأنواعه وغيرها من موضوعات
البيان الذي يهدف إلى كشف أسرار الجمال في الكالم ،شعره ونثره ،ومعرفة ما فيه من فنون.
*علم البديع:
إّن النوع الثالث أو القسم الثالث من علوم البالغة هو علم البديع«وهو علم يعرف به وجه تحسين الكالم
بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الداللة»)15(.
الصفحة 15
وكان علم البديع يتطور وينضج حتى صار علما قائما بذاته ،واستقل عن العلوم األخرى ،فقد كان«يشمل
البالغة بعلومها معاني وبيان وبديع ،وأول من حاول وضع مصطلحات بديعة هو الشاعر العباسي مسلم
بن الوليد الذي وضع مصطلحات لبعض الصور البيانية والمحسنات اللفظية والمعنوية من مثل الطباق
والجناس»)16(.
فعلم البديع هو علم يهتم بالوجوه التي تزين الكالم من جهة األلفاظ والمعاني ،الذي أسسه ابن معتز
فعندما«بدأت علوم البالغة باالستقالل بعضها عن البعض اآلخر ،أيام الخليفة ابن المعتز الذي ألف
كتاب"البديع" فكان مؤسسا كما يعرف اليوم بهذا االسم»)17(.وينقسم البديع إلى نوعين:
oمعنوي "وهو ما تعرف به وجوه تحسين المعنى"()18ويندرج تحت هذا النوع :الطباق ،المقابلة،
التورية ،التدبيج ،اإلرصاد ،التقسيم ،التجربة وغيرها من الموضوعات.
oلفظي وهو "ما تعرف به وجوه تحسين اللفظ "( )19ويندرج تحته وجوه كثيرة أهمها :الجناس،
السجع.
هذه هي علوم البالغة العربية باختصار«وميدان البالغة التي تعمل فيه علومها الثالث متضافرة هو نظم
الكالم وتأليفه على نحو يخلع عليه نعوت الجمال»)20(.
ولكي تتحقق اإلفادة من هذه الفنون البالغية في تربية القدرة على اإلحساس بعناصر الجمال األدبي في
النصوص الرفيعة وتذوقها ينبغي أن تدرس بطريقة تكشف عن جوانب الجمال واإلبداع في هذه
النصوص واالهتمام بالصور البالغية التي تضفي على اللفظ والمعنى رونقا وجماال وليلم الطالب
بالمصطلحات البالغية.
المصادر والمراجع
-1رواه البخاري ،تح :مصطفى البغا ،ط ،1987 ،3في كتاب الطب برقم(.)5434
-2بن عيسى بالطاهر ،البالغة العربية.
-3أحمد حسن الزيات ،دفاع عن البالغة ،عالم الكتب ،القاهرة ،ط1967، 2م.
-4ابن خلدون ،مقدمة ج ،3ط،4باب البيان.
-5بهاء الدين السبكي ،عروس األفراح في شرح تلخيص المفتاح ،تح :خليل ابراهيم خليل ،ط.1
-6السكاكي ،مفتاح العلوم ،تح :أكرم عثمان يوسف ،ط1
-7الخطيب القزويني ،اإليضاح في علوم البالغة المعاني والبيان والبديع
-8كرم البستاني ،البيان
-9يوسف أبو العدوس ،مدخل إلى علم البالغة العربية علم المعاني ،علم البيان ،علم البديع.
-10عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني ،البالغة العربية أسسها وعلومها وفنونها ،ج.1
-11كرم البستاني
-12الخطيب القزويني ،اإليضاح في علوم البالغة المعاني والبيان والبديع.
-13عبد الرحمن حسن جبنكة الميداني ،البالغة العربية أسسها وعلومها وفنونها ،ج.2
-14عبدالرحمن حسن جبنكةالميداني،البالغةالعربيةأسسهاوعلومهاوفنونها.
-15الخطيب القزويني ،اإليضاح في علوم البالغة المعاني وابيان والبديع
-16عائشة حسين فريد ،وشى الربيع بألوان البديع في ضوء األساليب العربية
المرجع نفسه. -17
الصفحة 16
كرم البستاني ،البيان ،مكتبة صادر ،بيروت( ،د.ط)( ،د ت). -18
المرجع نفسه. -19
عبد العزيز عتيق ،علوم البالغة المعاني البيان البديع -20
أطلق مصطلح (البديع) في هذه الحقبة على الشعر المحدث الذي أتى به شعراء العصر العباسي
المجددون .ويبدو أن الشعراء أنفسهم أول من أطلق هذا المصطلح على الشعر الجديد المتمّيز عن سابقه
بجمالية التعبير وحداثته .دليلنا على ذلك ما جاء في ترجمة صريع الغواني (مسلم بن الوليد ت 208ه)
من أنه (« )1أول من قال الشعر المعروف بالبديع ،هو لقب هذا الجنس البديع واللطيف .وتبعه فيه
جماعة ،وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي فإنه جعل شعره كله مذهبا واحدا فيه .ومسلم كان متفّننا متصرفا
في شعره» ويبدو أن المعنى القاموسي قد رجحت كفته في هذا المصطلح ألن االفتنان والتصرف الذي
يعني اإلتيان بالجديد المتميز هما الطاغيان على داللته.
ولكن هذا الجديد الذي أتى به مسلم لم يكن محمودا في عصره لذلك روى األصفهاني قول أحدهم الذي
جاء فيه (« )2أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ،جاء بهذا الذي سّم اه الناس البديع ،ثم جاء الطائي بعده
فتفّنن فيه».
ويبدو أن الجاحظ (ت 255ه) قد سبق إلى هذا المصطلح في الدراسات البالغية حيث قال (« :)3ومن
الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن :كلثوم بن
عمرو العّتابي ،وكنتيته أبو عمرو ،وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك
من شعراء الموّلدين ،كنحو منصور الّنمري ،ومسلم بن الوليد األنصاري وأشباههما».
وإذا كان الجاحظ قد ذكر التكلف فإّنه ال يعني الّتصّنع أو الّتصنيع بل هو يريد تصوير إرادة هؤالء على
اإلتيان بالجديد الذي لم يسبق له مثال .ثم إن هذا الجديد صار تيارا شعريا عندما كثر أنصاره ،وها هو
الجاحظ يضيف إلى أسماء أتباع البديع أسماء أخرى حيث يقول (« :)4كان العّتابي يحتذي حذو بّش ار في
البديع .ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة».
ويبدو أن الجاحظ قد نقل هذا المصطلح من الرواة ،فهو يعترف بذلك عند ما يقول معّلقا على شعر
األشهب بن رميلة (شاعر مخضرم)(« )5وهذا الذي تسميه الرواة البديع» وهو يرى أن البديع مرتبط
باإلبداع وعدم المماثلة والمشاكلة .ثم إنه يرى أن(« )6البديع مقصور على العرب ،ومن أجله فاقت لغتهم
كل لغة ،وأربت على كل لسان .والراعي كثير البديع في شعره ،وبشار حسن البديع ،والعّتابي يذهب في
شعره في البديع مذهب بشار» وهكذا يرى أن البديع مقصور على العرب ألن لغتهم فاقت كل لغة في
قدرتها على التوليد واالشتقاق اللذين يعطيانها قدرة على التولد الذاتي المساعد على تفجير طاقاتها الكامنة
فيأتي المبدعون بكل جديد .وكان يضيف في كل مرة إلى شعراء هذا التيار البديعي أسماء جديدة.
وبعد أن شاع البديع في شعر األقدمين وفي خطبهم نهض ابن المعتّز (ت 296ه) بجمع ضروبه في
كتاب حمل اسم البديع .فكان بذلك أول من أفرده بدراسة مستقلة ،لكنها ال تخلو من شوائب .وقد حدد ابن
المعتز هدفه من تأليفه بقوله (« :)7قد قّد منا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة
وأحاديث رسول هللا (صلى هللا عليه وسلم) وكالم الصحابة واألعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من
الصفحة 17
الكالم الذي سماه المحدثون البديع ،ليعلم أن بّش اًرا (ت 167ه) ومسلما (ت 208ه) وأبا نواس (ت 198
ه) ومن تقّيلهم ،وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ،ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى
سمي بهذا االسم» فابن المعتّز ينفي سبق المحدثين إلى هذا الفن ولكنه يعترف بكثرته في أشعارهم .وهذا
ما صرح به في نهاية مقدمته قائال (« :)1وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم
يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع».
قسم ابن المعتز كتابه إلى خمسة أبواب هي :االستعارة ،والتجنيس ،والمطابقة ،ورّد أعجاز الكالم على ما
تقّد مها ،والمذهب الكالمي.
وانتهى ابن المعتز إلى أن ضروب البديع محصورة في هذه األبواب الخمسة لكنه رأى أن إضافة أي باب
إليها ضرب من التعسف والمعاندة(« )8قد قدمنا أبواب البديع الخمسة وكمل عندنا ،وكأني بالمعاند
المغرم باالعتراض على الفضائل قد قال :البديع أكثر من هذا» ثم أضاف إلى هذه األبواب مجموعة
أخرى سماها (محاسن الكالم والشعر) وهي عنده عصّية على الحصر وبابها مفتوح في نظره لإلضافة
والمخالفة (« )9ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئا إلى البديع ،وحسن الخروج من معنى إلى
معنى ،وتأكيد المدح بما يشبه الذم ،وتجاهل العارف ،والهزل الذي يراد به الجّد ،والتعريض والكناية،
واإلفراط في الصفة ،وحسن التشبيه ،وإعنات الشاعر نفسه في القوافي وتكلفه ،وحسن االبتداءات.
والمالحظ أن المحدثين قد جعلوا الكثير من هذه المحاسن أبوابا من البديع.
والمالحظ أن ابن المعتز قد جمع فيه أبواب البالغة بعلومها الثالثة ،وربما كان سبب ذلك تعريفه
الضبابي للبديع الذي رأى أن(« )10البديع اسم موضوع لفنون من الشعر ،يذكرها الشعراء ونقاد
المتأدبين منهم ،فأما العلماء باللغة والشعر القديم فال يعرفون هذا االسم ،وال يدرون ما هو» .ولهذا قال
أحد النقاد المعاصرين (« )11وليس لكلمة البديع التي جاءت في عنوان الكتاب صلة بما سماه البالغيون
في العصور المتأخرة (علم البديع) ...وإنما المقصود بها ألوان طريفة من التعبير لم تكن شائعة مألوفة
في استعماالت الشعراء والكتاب» .وعلى الرغم من ذلك يبقى الكتاب من أولى المحاوالت الجادة في
تدوين علم البديع .والعلوم ال تبدأ مكتملة بل هي تتكامل وتتماهى باّطراد وتستقل بعد نضجها وصالبة
عودها.
ثم جاء بعده قدامة بن جعفر (ت 337ه) فألف كتابا عنوانه (نقد الشعر) يقع في ثالثة فصول أورد فيها
سبعة وعشرين نوعا من أنواع البديع اتفق فيها مع ابن المعتز في سبعة أنواع فقط ،وانفرد بعشرين نوعا.
وقد اختلفا أحيانا في التسمية ،فما سّم اه قدامة (المبالغة) ورد عند ابن المعتز تحت مصطلح (اإلفراط في
الصفة) وما سماه (التكافؤ) سّم اه ابن المعتز (المطابقة) ،وما سماه (المطابق) و(المجانس) سماه ابن
المعتز (التجنيس) .واختلفا في داللة االلتفات.
ثم تالهما أبو هالل العسكري (ت 396ه) في كتاب الصناعتين الذي ابتكر فيه ستة أنواع ،وأخرج منه
أنواعا رأى أنها تنضوي تحت بابي :المعاني والبيان ،فنحا البديع معه منحى متخصصا .وقد اعترف
العسكري أن القدامى سبقوه إلى تسعة وعشرين نوعا بالغيا ،وأنه ابتكر ستة أنواع هي :التشطير،
والمجاورة ،والتطريز ،والمضاعف ،واالستشهاد ،والتلّطف .وجاء علم البديع في الباب التاسع من أبواب
الكتاب وقسمه إلى خمسة وثالثين فصال هي :االستعارة والمجاز ،والتطبيق ،والتجنيس ،المقابلة ،صّحة
التقسيم ،صّح ة التفسير ،اإلشارة ،األرداف والتوابع ،المماثلة ،الغلّو ،المبالغة ،الكناية والتعريض ،العكس
والتبديل ،التذييل ،الترصيع ،اإليغال ،الترشيح ،رّد األعجاز على الصدور ،التكميل والتتميم ،االلتفات،
االعتراض ،الرجوع ،تجاهل العارف ،االستطراد ،جمع المؤتلف والمختلف ،السلب واإليجاب،
الصفحة 18
االستثناء ،المذهب الكالمي ،التشطير ،المحاورة ،االستشهاد واالحتجاج ،التعطف ،المضاعف ،التطريز،
التلّطف.
واّد عى العسكري أنه بذلك حصر أنواع البديع ،منتهيا إلى رأي شبيه برأي ابن المعتز القائل إن األقدمين
عرفوا هذه األنواع ،وأن المحدثين أسرفوا فيها حتى اشتهروا بها .وقد صّر ح برأيه هذا قائال (:)12
«فهذه أنواع البديع التي ادعى من ال رواية له وال دراية عنده أن المحدثين ابتكروها ،وأن القدماء لم
يعرفوها ،وذلك لما أراد أن يفّخ م أمر المحدثين؛ ألن هذا النوع من الكالم إذا سلم من التكلف ،وبرئ من
العيوب ،كان في غاية الحسن ونهاية الجودة».
لقد توّسع مفهوم البديع عند العسكري حتى بدا وكأنه مترادف مع البالغة في مفهومها العام.
أما الباقاّل ني (ت 403ه) فقد ذكر في (إعجاز القرآن) نحوا من خمسة وعشرين نوعا منّبها إلى أن وجوه
البديع أكثر من ذلك ،ولكنه لم يهدف في كتابه إلى إحصائها وذكرها جميعا.
وابن رشيق (ت 456ه) يذكر في كتابه (العمدة) باب المخترع والبديع ،مشيرا إلى وفرة ضروب البديع
وقد وسعته قدرته على ذكر ثالثة وثالثين بابا منه هي :المجاز ،االستعارة ،التمثيل ،المثل السائر،
التشبيه ،اإلشارة ،التتبيع ،التجنيس ،الترديد ،التصوير ،المطابقة ،المقابلة ،التقسيم ،التفسير ،االستطراد،
التفريع ،االلتفات ،االستثناء ،التتميم ،المبالغة ،اإليغال ،الغلو ،التشكيك ،الحشو وفضول الكالم،
االستدعاء ،التكرار ،نفي الشيء بإيجابه ،االّطراد ،التضمين واإلجارة ،االتساع ،االشتراك ،التغاير.
لكن مفهوم البديع يتوّسع كثيرا مع أسامة بن منقذ (ت 584ه) في كتاب عنوانه (البديع في نقد الشعر)
حيث يندرج تحته خمسة وتسعون نوعا على غير تمييز بين البيان والبديع والمعاني حّتى ليصّح فيه ما
قاله ابن أبي اإلصبع (« )13وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد العظيم ،والجمع
من أشتات الخطأ وأنواعه من التوارد والتداخل ،وضم غير البديع والمحاسن ،كأنواع من العيوب،
وأصناف من السرقات» ومن يراجع فهرس الموضوعات يجد عناوين جديدة ال يجدها في غيره من كتب
البديع ،نحو :باب النادر والبارد ،وباب الرشاقة والجهامة ،باب الطاعة والعصيان ،باب األواخر
كثير. وغيرها والترسيم التعليم باب والمقاطع،
المصادر والمراجع
-1األغاني ،أبو الفرج األصفهاني ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ج .19
-2البيان والتبيين ،الجاحظ ،تحق عبد السالم هارون ،ط .3 /
-3البيان والتبيين ،الجاحظ ،المج .1
-5 -4البيان والتبيين ،الجاحظ ،المج .4
-6البديع ،ابن المعتّز ،تحق محمد عبد المنعم خفاجي
-10 -9 -8 -7البديع ،ابن المعتز ،المرجع نفسه.
-11البحث البالغي عند العرب ،د .شفيع السّيد
-12كتاب الصناعتين ،أبو هالل العسكري ،تح :علي البّج اوي ،محمد أبو الفضل ابراهيم
تحرير التعبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن ،البن أبي اإلصبع المصري، -13
تحق حفني محمد شرف.
الصفحة 20
وقد سماه قدامة بن جعفر (التكافؤ) وأعطى مثال عليه قول الشاعر (الطويل).
ونائمه التراب يقظان تحّرك إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب
فالمطابقة بين «اليقظان والنائم» ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز ال الحقيقة .ولو نظرنا إليه على
سبيل الحقيقة ما امتنع الطباق بين (يقظان) و(نائم) و(شرق) و(مغرب).
3ـ الطباق المعنوي:
هو ما كانت المقابلة فيه بين الشيء وضده في المعنى ال في اللفظ .وخير مثال عليه قوله تعالى( :قاُلوا ما
َأْنُتْم ِإاَّل َبَش ٌر ِم ْثُلنا َو ما َأْنَز َل الَّرْح مُن ِم ْن َش ْي ٍء ِإْن َأْنُتْم ِإاَّل َتْك ِذ ُبوَن * قاُلوا َر ُّبنا َيْع َلُم ِإَّنا ِإَلْيُك ْم َلُم ْر َس ُلوَن )
سورة يس :اآلية 15ـ .16فمعنى اآلية الثانية :إن هللا يعلم إنا لصادقون .وبذلك يتم الّتضاد المعنوي بين
اآليتين ،ولو كان التضاد في اللفظين مفقودا.
4ـ أقسامه:
أ ـ طباق اإليجاب:
وهو ما لم يختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا نحو :خير المال عين ساهرة لعين نائمة .فالقول مشتمل على
الشيء وضده (ساهرة ونائمة).
ب ـ طباق الّسلب:
وهو الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي ،نحو قوله تعالىُ( :قْل َهْل َيْسَتِو ي اَّلِذ يَن َيْع َلُم وَن َو اَّلِذ يَن ال
َيْع َلُم وَن ) سورة الّز مر :اآلية .9
فالفعل (يعلمون) أثبت في الطرف األول من الطباق ونفي ب ال() في الطرف الثاني .ويكون طرفاه أمرا
ونهيا كما في قوله تعالىَ( :فال َتْخ َش ُو ا الَّناَس َو اْخ َش ْو ِن ) سورة المائدة :اآلية .44فالطرف األول نهي (
ال
تخشوا) ،والطرف الثاني أمر (إخشون) ومن أمثلته قوله تعالىَ( :تْع َلُم ما ِفي َنْفِس ي َو ال َأْع َلُم ما ِفي َنْفِس َك )
سورة المائدة :اآلية .116فالفعل (علم) جاء مثبتا مرة ومنفيا مرة أخرى.
5ـ ما يلحق بالّطباق:
أ ـ الطباق الخفّي :
وهو ما تكون فيه المطابقة خفية لتعلق أحد الركنين بما يقابل اآلخر تعّلق السببية ،نحو قوله تعالىُ( :مَح َّم ٌد
َر ُسوُل ِهللا َو اَّلِذ يَن َم َع ُه َأِش َّد اُء َع َلى اْلُك َّفاِر ُر َح ماُء َبْيَنُهْم ) سورة الفتح :اآلية .29فالرحمة ليست مقابلة
للشدة؛ لكنها مسّببة عن اللين الذي هو ضد الشّد ة.
ب ـ إيهام التضاد:
وهو ما جمع فيه بين معنيين غير متقابلين عّبر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقيان .ومنه قول دعبل
الخزاعي( .الكامل):
فبكى برأسه المشيب ضحك رجل من سلم يا تعجبي ال
وأراد دعبل (ضحك المشيب برأسه ظهور الشيب ظهورا تاما وال تقابل بين البكاء وظهور الشيب
(المجازي) .لكن الضحك بمعناه الحقيقي مضاد للبكاء.
* أهمية الطباق ودوره:
الصفحة 21
ليس الطباق بالضرورة ترفا لفظيا فحسب ،بل هو تعبير في أكثر األحيان عن حركة نفسية متوهجة،
وصراع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون ،بين الراهن والمتوقع .والمبدع يلجأ إليه لتصوير الهوة
القائمة بين واقع مرفوض ومستقبل مأمول .والقصد منه العمل على بناء عالم مخالف لما هو قائم حالم
باألفضل .فكثرة المتعارضات تشف عن غليان داخلي ورفض لألمر الواقع.
المصادر والمراجع
-1كتاب العين ،الخليل بن أحمد ،تحق المخزومي ،السامرائي
-2معجم المصطلحات العربية في اللغة واألدب ،وهبة ،المهندس
-3اإليضاح في علوم البالغة ،الخطيب القزويني.
-4علم البديع ،عبد العزيز عتيق
*المقابـــــــــــــــلة
المحاضرة التاسعة
1ـ تعريفها:
هي إيراد الكالم ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على جهة الموافقة أو المخالفة .وجاء في اإليضاح (
« )1هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ،ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب».
2ـ بين المقابلة والطباق:
ـ ال يكون الطباق إال بين األضداد ،والمقابلة تكون بين األضداد وغير األضداد.
ـ ال يكون الطباق إال بين ضّد ين فقط ،والمقابلة تكون بين أكثر من اثنين.
*التورية
1ـ أسماؤها:
ذكر لها البالغّيون أسماء عديدة منها:
أ .اإليهام ،ذكره الخطيب التبريزي (.)2
ب .التوجيه ،ذكره ابن أبي األصبع (.)3
ج .التخيير ،ذكره غير واحد من البالغيين.
2ـ تعريفها:
أ ـ لغة:
جاء في اللسان (ورى)« :ورّيت الشيء وواريته :أخفيته .وتوارى :استتر .ووريت الخبر :جعلته ورائي
وسترته .ووريت الخبر أوّر يه تورية :إذا سترته وأظهرت غيره ...والّتورية :الّستر».
ب ـ إصطالحا:
عرفها الخطيب التبريزي بقوله (« :)4وهي أن يطلق لفظ له معنيان :قريب ،وبعيد ،ويراد به البعيد
منهما» .فالتورية عبارة عن داّل واحد له مدلوالن :األول مدلول قريب ال يالئم المقام لذلك فهو ملغى
ومستبعد .والثاني بعيد يالئم المقام مقبول ومعتمد.
.3أنواعها:
اكتفى القزويني بقسمتها قسمين هما :تورية مجّر دة وتورية مرّش حة.
الصفحة 22
1ـ التورية المجّردة:
وهي التي لم يذكر فيها شيء مما يالئم الموّر ى به (المعنى القريب) وال مما يالئم المورى عنه (المعنى
البعيد) ،نحو قوله تعالى( :الَّرْح مُن َع َلى اْلَع ْر ِش اْسَتوى) سورة طه :اآلية .5
فكلمة التورية (استوى) لها معنيان:
1ـ االستقرار في المكان ـ المعنى القريب غير المقصود ألن هللا تعالى منّز ه عنه.
2ـ االستيالء والملك ـ المعنى البعيد المقصود.
ولم يذكر في اآلية من لوازم المعنى البعيد أو المعنى القريب شيء؛ فلهذا كانت مجّردة .ومنه قول الشاعر
القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدال أزهرت فيه األشجار (البسيط):
الحلل من أنواعا تمّو ز لشهر مالبسه من أهدى كانون كأّن
والحمل الجدي بين تفّر ق فما خرفت المدى طول من الغزالة أو
فالتورية في (الغزالة) فلم يذكر الشاعر قبل الغزالة أو بعدها ما يشير إلى أنه قصد بها ذلك الحيوان
البرّي المشهور بطول العنق وسواد العين وما إلى ذلك ،وال من أوصاف المعنى الموّرى عنه (الشمس)
كاإلشراق والغروب وما إليهما .ولهذا كانت التورية مجّردة.
2ـ التورية المرّش حة:
وهي التي ذكر فيها ما يالئم الموّر ى به ،وهو أقوى درجات اإليهام في التورية ألنه يقّو ي المعنى القريب
فيخفي المعنى البعيد المقصود ويكون هذا الذكر:
أ ـ قبل لفظ التورية:
ومثالها قوله تعالى (َو الَّسماَء َبَنْيناها ِبَأْيٍد َو ِإَّنا َلُم وِس ُعوَن ) سورة الذاريات :اآلية .47والتورية في (بأيد)
ألنها تحتمل معنيين:
ـ المعنى القريب :وهو الجارحة ،اليد الحقيقية .وهذا المعنى موّرى به ،وقد سبقت بلفظ (بنيناها) على جهة
الترشيح وهو من لوازم اليد.
ـ المعنى البعيد :قّو ة الخالق وعظمته وهذا المعنى موّر ى عنه ،وهو المراد؛ ألن الخالق جل وعال منّز ه
عن المعنى األول.
ومنها أيضا قول يحيى بن منصور (الطويل):
الّد هر على السيوف فحالفنا أنخنا كّلها العشيرة عّنا نأت فلما
وتر على الجفون أغضينا نحن وال كريهة يوم عند أسلمتنا فما
الصفحة 23
ـ المعنى البعيد :جفون السيوف (أغمادها) ،وهو المعنى الموّر ى عنه .وهذا هو المعنى المراد ألن الّسيف
إذا أغمد انطبق الجفن عليه ،وإذا جّرد انفتح.
ب ـ بعد لفظ التورية:
نحو قوله (السريع):
الّلثم إلى منه أصل ولم مذ همت من وجدي في خالها
عّم ي به هام قد خالي جرى ما واستمعوا قفوا قالت:
الصفحة 24
ب ـ بعيد ،وهو الشمس ،وهو المعنى الموّرى عنه وقد بّينه الشاعر بذكر الزمه بعده (تطلع) وهذا هو
المعنى المقصود.
4ـ التورية المهيأة:
،وهي على ثالثة أنواع:
1ـ المهيأة بلفظ قبلها
،نحو قول ابن سناء الملك في الملك المظّفر (الطويل):
فرّو حت عن قلب وأفرجت عن كرب عمرّية سيرة فينا وسيرك
فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الّندب سّنة سمّيك من فينا وأظهرت
الصفحة 25
سهيل :النجم المعروف ،وهو المعنى الموّر ى به ،غير المقصود أيضا.
ـ بعيد،
الثريا :بنت علي بن عبد هللا بن الحارث ،وهو المعنى المراد الموّرى عنه.
سهيل :بن عبد الرحمن ،وهو المعنى الموّرى عنه ،وهو المراد.
ولو ال ذكر (الثريا) لم يتنّبه لسهيل ،وكل منهما صالح للتورية.
لقد تبّين مّم ا سبق من شرح وتفصيل أّن التورية ضرب من التخييل ،وفيها شيء من اإللغاز ،وهي من
الغموض الفّني المستحّب ألن المتلّقي المتمّتع بثقافة شعرية أو فنية يدرك أنها تخاطب عقله وذكاءه
وفطنته ،وأنها تبعده عن المعاني المباشرة؛ ألن األداء المباشر يبعد عن الشعر إشعاع اإليحاءات
المختلفة .فالفّن تأّم ل ،والمتذّو ق يجب أن يتحّلى بذائقة قادرة على كشف ما يضيفه الشاعر والمبدع إلى
الطبيعة الجمالية التي يرسمها الشاعر .إنها من الصور الخادعة التي تترك للمتلقي أن يذهب إلى
تفسيرات مختلفة باختالف قدرته على الكشف والتذوق وتفكيك عناصر الصورة المتخّيلة.
المصادر والمراجع
-1اإليضاح في علوم البالغة ،الخطيب القزويني ،دار الكتاب اللبناني ،بيروت .1971
-2اإليضاح في علوم البالغة ،الخطيب القزويني ،المرجع نفسه.
-3تحرير التعبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن ،البن أبي اإلصبع المصري ،تحق
حفني محمد شرف ،لجنة إحياء التراث .د .ت.
-4اإليضاح في علوم البالغة ،الخطيب القزويني ،المرجع نفسه.
الصفحة 26