Professional Documents
Culture Documents
-1البالغة اصطالحا
البالغة علم من علوم العربية -بعد أن كان فنا له أصوله و أدواته- 1قطع مراحل تاريخية طويلة قبل أن
يستقر علما متميزا ،مستقال بمؤلفاته و مؤلفيه منذ وضع فيه السكاكي 2كتابه الشهير المفتاح ،ومع ذلك
ظل هذا العلم – وحتى يوم الناس هذا -يحمل بين طياته سمات علوم أخرى نشأ على هامشها ،ونما
وتطور في كنفها .3وهو علم حادث بعد علم العربية واللغة ،وهو أيضا من العلوم اللسانية ألنه متعلق
باأللفاظ وما تفيده ،و يُقصد بها الداللة عليه من المعاني ،وذلك أن األمور التي يقصد المتكلم بها إفادة
السامع من كالمه ،هي إما تصور مفردات تُسند و يُسند إليها ،و يفضي بعضها إلى بعض و الدالة على
هذه هي المفردات من األسماء و األفعال والحروف ،وإما تمييز المسندات من المسند إليه و األزمنة ،و
يُدل عليها بتغير الحر كات من اإلعراب وأبنية الكلمات ،وهذه كلها هي صناعة النحو و يبقى من األمور
المكتنفات بالواقعات المحتاجات للداللة أحوا ُل المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج
إلى الداللة عليه ألنه من تمام اإلفادة .وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية اإلفادة في كالمه وإذا لم يشتمل
على شيء منها فليس من جنس كالم العرب فإن كالمهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يُختص به بعد
كمال اإلعراب و اإلبانة . 4
يظهر من كالم ابن خلدون أن كثيرا من مسائل النحو هي من خاصة علم المعاني ،والكثير من مسائل
المعاني هي من خاصة الدرس النحوي ،مثل الخبر و اإلنشاء ،وأحوال اإلسناد الخبري ،وأحوال
متعلقات الفعل ،والفصل والوصل ،والقصر ،وغيره من المسائل ..
لقد جعل ابن خلدون 5علم البالغة قسيم علم البيان الذي مداره البحث عن الداللة التي للهيئات و األحوال
والمقامات ،وهو على ثالثة أصناف :الصنف األول يُبحث فيه عن هذه الهيئات و األحوال التي تُطابق
باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البالغة ،والصنف الثاني يُبحث فيه عن الداللة على الالزم
- 1انظر مثال كتاب الدكتور شوقي ضيف" البالغة تطور وتاريخ" .طبعة دار المعارف ط 3السنة1965:
- 2هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي الخوارزمي الحنفي .ولد عام 555ه في خوارزم و توفي بقرية الكندي
من قرى الماليع عام 626ه .من أهم أعماله كتاب مفتاح العلوم وهو مطبوع ،وتم شرحه مرات عديدة ،أشهر تالخيصه هو " تلخيص المفتاح "
لإلمام العالمة جالل الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب بجامع دمشق (1267هأو 1268ه – 1383ه).
3انظر مؤلف الدكتور محمد عابد الجابري " بنية العقل العربي " دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية .مركز دراسات الوحدة
العربية .ط 1بتاريخ 1986
- 4مقدمة عبد الرحمن بن خلدون من باب علم البيان ص 550طبعة دار القلم .الطبعة الحادية عشرة بتاريخ 1992بيروت لبنان
- 5ابن خلدون هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون أبو زيد ولي الدين الحضرمي االشبيلي 1332ه1406-ه ،من أشهر علماء الغرب اإلسالمي ،
ومؤلفاته من أهم مصادر الفكر اإلنساني العالمي ،أشهرها على اإلطالق كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر
ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر ،والمعروف اختصارا بتاريخ ابن خلدون الذي يبدأ بالمقدمة التي تحوي جميع العلوم التي برز فيها
المسلمون إلى حدود القرن الثامن الهجري والموافق للقرن الرابع عشر الميالدي .ترجمت المقدمة إلى لغات عالمية كثيرة جدا .
1
اللفظي و ملزومه وهي االستعارة والكناية ويسمى علم البيان و ألحقوا بهما صنفا آخر وهو النظر في
تزيين الكالم و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يَقطع
أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه الشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك ويسمى عندهم
علم البديع .وأطلق على األصناف الثالثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصنف الثاني ألن األقدمين
أول من تكلموا فيه ثم تالحقت مسائل الفن واحدة بعد األخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و
قدامة و أمثالهم إمالءات غير وافية فيها ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي
زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه ( )...و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان
فجعل هذا الفن من بعض أجزائه وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا
العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان وابن مالك في كتاب المصباح وجالل الدين القزويني في كتاب
اإليضاح ثم التلخيص وهو أصغر حجما من اإليضاح .6
ليس بعيدا عن هذا الفهم ،يقدم لنا الخطيب القزويني تعريفا دقيقا للبالغة ،بعد التمييز بينها وبين
الفصاحة ،ليخلص في النهاية إلى أن البالغة محصورة في المعاني والبيان.
يقول القزويني ":وللناس في تفسير الفصاحة والبالغة أقوال مختلفة ،لم أجد –فيما بلغني منها – ما
يصلح لتعريفهما به ،وال ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكالم وكون الموصوف بهما
المتكلم ؛ فاألولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما باالعتبارين ،فنقول :
أحدهما الكالم ،كما في قولك " قصيدة فصيحة ،أو بليغة " و " رسالة فصيحة أو بليغة " .
والثاني :المتكلم ،كما في قولك " شاعر فصيح ،أو بليغ " و " كاتب فصيح ،أو بليغ " .
والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد ،فيقال " :كلمة فصيحة " و ال يقال " :كلمة بليغة " .
أما فصاحة المفرد ،فهي خلوصه من تنافر الحروف ،والغرابة ،ومخالفة القياس اللغوي .
أما بالغة الكالم فهي ":مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته " .7
وإذا كانت داللة مقتضى الحال مختلفة ،فكذلك هي مقامات الكالم إذ هي متفاوتة ،ألن مقام التنكير
يباين مقام التعريف ،ومقام اإلطالق يباين مقام التقييد ،ومقام التقديم يباين مقام التأخير ،ومقام الذكر
يباين مقام الحذف ،ومقام القصر يباين مقام خالفه ،ومقام الفصل يباين مقام الوصل ،ومقام اإليجاز
يباين مقام اإلطناب و المساواة ،وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي .
- 7اإليضاح للقزويني ص 13وضع حواشيه إبراهيم شمس الدين .منشورات دار الكتب العلمية .بيروت لبنان ط 2003. 1
2
وارتفاع شأن الكالم في الحسن والقبح بمطابقته لالعتبار المناسب ،وانحطاطه بعدم مطابقته له .
ويذهب القزويني إلى أن ما يعنيه بتطبيق الكالم على مقتضى الحال ،هو ما يدعوه عبد القاهر
الجرجاني ب "النظم " حين يقول ":النظم تأخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب األغراض التي
يصاغ لها الكالم .
فالبالغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب .وكثيرا ما يسمى ذلك فصاحة أيضا،
وهو مراد الشيخ عبد القاهر بما يكرره في" دالئل اإلعجاز" من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى
دون اللفظ ؛ كقوله في أثناء فصل منه :علمتَ أن الفصاحة والبالغة وسائر ما يجري في طريقهما
أوصاف راجعة إلى المعاني ،وإلى ما يدل عليه باأللفاظ ،دون األلفاظ أنفسها .
وإنما قلنا مراده ألنه صرح في مواضع من " دالئل اإلعجاز" بأن فضيلة الكالم للفظ ،ال لمعناه ،منها
أنه َح ِكي قول َمن ذهب إلى عكس ذلك فقال :فأنت تراه ال يقدم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة أو أدبا
أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر .
ثم قال :و األمر بالضد إذا جئنا الى الحقائق وما عليه المحصلون ألنا ال نرى متقدما في علم البالغة
ُمبَرزا في شأوها إال وهو يُنكر هذا الرأي .9
هذا عن بالغة الكالم ،أما بالغة المتكلم عند القزويني فهي ملكة يُقتدر بها على تأليف كالم بليغ .
يقول ":لقد علم بما ذكرنا أمران :أحدهما :أن كل بليغ – كالما كان أو متكلما – فصيح ،وليس كل
فصيح بليغا .
والثاني :أن البالغة في الكالم مرجعها إلى االحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ،والى تمييز
الكالم الفصيح عن غيره ،والثاني – يعني التمييز -منه ما يتبين في علم متن اللغة ،أو في التصريف،
أو النحو ،أو يُدرك بالحس ،وهو ما عدا التعقيد المعنوي .
وما يُعرف به وجوه تحسين الكالم – بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته – هو علم
المعاني.
وكثير من الناس يسمي الجميع " علم البيان " ، 10وبعضهم يسمي األول "علم المعاني " ،والثاني
11
والثالث "علم البيان " والثالثة " علم البديع ".
- 8نفسه ص 20
3
-2البالغة لغة
البالغة مشتقة من الجذر اللغوي الثالثي لفعل "بلغ " ،إذ نقول في قاموس اللغة العربية :
مهال ! فقد أ َ ْبلَ ْغتَ أسماعي قالت ،ولم ت َقصد ِلقي ِل الخنى
إنما هو من ذلك أي قد انت َ َهيْتَ فيه و أن َعمْتَ .وتَبل َغ بالشيء :وصل الى مراده ،وبلغ مبلغ فالن و
َم ْبلَغَت َه .وفي حديث االستسقاء :واجعل ما أ َ ْنزَ ْلتَ لنا قوة وبالغا إلى حين ؛البالغ :ما يُتبلغ به ويُتوصل
إلى الشيء المطلوب .والبالغ ما بلغك .والبالغ :الكفاية ؛ ومنه قول الراجز :
وتقول :له في هذا بالغ و بُلغة و تبلغ أي كفاية ،وبلغتُ الرسالة .والبالغ :اإلبالغ وفي التنزيل :إال
بالغا من هللا ورساالته ،أي ال أجد منجى إال أن أُب ِلغ عن هللا ما أرسلت به .واإلبالغ :اإليصال ،
وكذلك التبليغ ،واإلسم منه البالغ ،وبلغت الرسالة .في التهذيب :يقال بلغت القوم بالغا اسم يقوم مقام
التبليغ .وفي الحديث :كل رافعة َرفَعَت عنا من البالغ ْفليُبَ ِل ْغ عنا ،يروى بفتح الباء وكسرها ،وقيل :
المبلغين ،و أبلغته و بلغته بمعنى واحد ،و إن كانت الرواية من البالغ بفتح الباء فله وجهان : ِ أراد من
أحدهما أن البالغ ما بلغ من القرآن و ال سنن ،والوجه اآلخر من ذوي البالغ أي الذين بلغونا يعني ذوي
ط ْيتُه عطاء ،أما الكسر فقال الهروي :أراه من التبليغ ،فأقام االسم مقام المصدر الحقيقي كما تقول أ َ ْع َ
المبالغين في التبليغ ،بالغ يبالغ مبالغة و ِبالغا إذا اجتهد في األمر ،والمعنى في الحديث :كل جماعة أو
فلتبلغ ْ
ولتَحْ ِك . نفس تُبَ ِلغ عنا و تذيع ما نقوله ِ
وأما قوله عز وجل :هذا بالغ للناس و ليُنذَروا به ،أي أنزلناه ليُنذَر الناس به .وبلغ الفارس إذا مد يده
بعنان فرسه ليزيد في جريه .وبلغ الغالم :احتلم كأنه بلغ وقت الكتاب عليه و التكليف ،وكذلك بلغت
الجارية .التهذيب :بلغ الصبي و الجارية إذا أدركا ،وهما بالغان .وقال الشافعي في كتاب النكاح :
جارية بالغ ،بغير هاء ،هكذا روى األزهري عن عبد الملك بن الربيع عنه ،قال األزهري :والشافعي
فصيح حجة في اللغة ،قال :وسمعت فصحاء العرب يقولون جارية بالغ ،وهكذا قولهم امرأة عاشق و
لحية ناصل ،قال :ولو قال قائل جارية بالغة لم يكن خطأ ألنه األصل.
وبلَغتُ المكان بلوغا :وصلتُ إليه و كذلك إذا شارفت عليه ؛ ومنه قوله تعالى :فإذا بلغن أ َ َجلَهن ،أي
قاربنه .وبلغ النبت :انتهى .
4
( )...الى أن يقول ،والبالغة :الفصاحة .وال َب ْلغ وال ِب ْلغ :البليغ من الرجال .ورجل بليغ و ب ْلغ و ِب ْلغ :
حسن الكالم فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كُ ْنه ما في قلبه ،والجمع بُلَغَاء ،وقد بَلُغ ،بالضم ،بالغة أي
صار بليغا .وقول بليغ :بالغ وقد بلُغ .والبالغات :كالوشايات .
والبِ ْلغَن :البالغة ؛ عن السيرافي ،ومثل به سيبويه .وال ِب ْلغن أيضا :النمام ؛ عن كراع .والبلغن :الذي
بعضهم حديث بعض .وتبلغ به مرضه :اشتد . يُ َب ِلغ للناس ِ
وبلغ به البلغين ،بكسر الباء وفتح الالم وتخفيفها ؛ عن األعرابي ،إذا استقصى في في شتمه وأذاه .
والبُلَغين وال ِبلَغين .الداهية :وفي الحديث :أن عائشة قالت ألمير المؤمنين علي بن أبي طالب ،حين
أخذت يوم الجمل :قد بَلَ ْغتَ منا البُلَ ِغينَ ؛ معناه أن الحرب قد جهدتنا وبلغت منا كل مبلغ ،يروى بكسر
الباء وضمها مع فتح الالم ،وهو مثل ،معناه بلغت منا كل مبلغ ،يروى بكسر الباء وضمها مع فتح
الالم ،وهو مثل ،معناه بلغت منا كل مبلغ .وقال أبو عبيد في قولها قد بلغت منا البلغين :إنه مثل قولهم
لقيت منا الب َُر ِحين و األ ْق َو ِرين ،وكل هذا من الدواهي ،قال ابن األثير :واألصل فيه كأنه قيل :خطب
مبرح ،ثم جمعا على السالمة إيذانا بأن الخطوب في شدة بُلَغ و ِب َلغ أي بليغ ،وأمر ب َُرح و ِب َرح أي ِ
نكايتها بمنزلة العقالء الذين لهم قصد و تعمد .
وبالغ فالن في أمري إذا لم يقصر فيه .والب ُْلغة :ما يتبلغ به من العيش ،زاد األزهري :وال فضل فيه .
وتبلغ بكذا أي اكتفى به .و بلغ الشيب في رأسه :ظهر أول ما يظهر ،وقد ذكرت في العين المهملة ،
قال :وزعم البصريون أن ابن األعرابي صحف في نوادره فقال مكان بلع بلغ الشيب ،فلما قيل له أنه
تصحيف قال :بلع و بلغ .قال أبو بكر الصولي :وقرىء يوما عن أبي العباس ثعلب و أنا حاضر هذا ،
فقال :الذي أكتب بلغ ،كذا قال بالغين معجمة .
سيْر يُدرج على السية حيثوال َبا ِلغَاء :األ َك ِارعُ في لغة أهل المدينة ،وهي بالفارسية بايْها .والتبلغة َ :
الوت َر ؛ حكاه أبو حنيفة جعل التبلغة اسما كالتودية
الوتَر ثالث مرار أو أربعا لكي يثبُت َ انتهى طرف َ
والتنهية ليس بمصدر ،فتفهمه.
من الصعوبة بمكان محاولة التصدي لرصد المسار العام لتطور التأليف البالغي ،وهذه المشقة ال ترتد
إلى مجرد طول الحقبة الزمنية التي قطعها البحث البالغي والذي ينيف على االثني عشر قرنا فحسب ،
وإنما ترتد قبل ذل ك إلى أن تطور البحث البالغي لم يأخذ دائما مسارا تاريخيا مستقيما مطردا و منتظما.
ولكنه أيضا كان يسير في اتجاه خطوط متعرجة و متشابكة لم تكن لتتوازى إال لتنقطع ،و تلتقي لكي
تتفرق .هذا و مما ال شك فيه أن البالغة العربية قبل أن تتحدد بالشكل الذي ثبتتها عليه مدرسة
السكاكي،و بعد أن استقرت علما مستقال ،كانت في بدايتها األولى عبارة عن مالحظات بيانية ساقها
شعراء و أدباء ما عرف تاريخيا "بالعصر الجاهلي " ،حين كانوا يقفون عند اختيار األلفاظ والمعاني
والصور في دواوينهم الشعرية ،ويبدون تقييما فنيا بين الفينة واألخرى على بعض الصور الواردة في
قصائد فطاحلة الشعر الجاهلي ،الذين أوتوا من اللسن والفصاحة والقدرة على صوغ الكالم في
تصاوير بيانية أعربوا فيها عن مقدرة عجيبة على امتالك البالغة وحسن البيان .والدليل على ذلك أن
النبي محمد كما روي عنه ،أنه حين استمع إلى إحدى خطبهم قال ":إن من البيان لسحرا " .ومن
5
أسطع األدلة على حذقهم صنعة الكالم وقوة العارضة في الحجاج والجدل وبراعة القريض أن كانت
معجزة النبي و حجته القاطعة لهم أن دعاهم إلى معارضة القرآن في بالغته الباهرة و المذهلة.
ولقد ترك شعراء "الجاهلية" تراثا رائعا يصور بمنتهى الرونق فصاحة منطقهم وقوة عارضتهم ،وكيف
كانوا يتأتون للكالم ،حتى يبلغوا منه ما كانوا يريدون من استمالة القلوب و األسماع .ولقد أحس بذلك
الجاحظ فقال عنهم في البيان والتبيين ":لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم في طوال القصائد وفي صنعة
طوال الخطب ..وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير و مهمات األمور ميثوا (ذللوا) الكالم
اف و أ ُ ْد ِخل ال ِك َ
ير وقام على ال َخالص أبرزوه ُم َحككا في صدورهم و قيدوه على أنفسهم ،فإذا قومه الثِقَ ُ
منقحا و مصفى من األدناس مهذبا". 12
كما كانوا ينقحون قصائدهم بالتماس المعنى المصيب و اختيار اللفظ المناسب وصون الكالم عما يفسده
ويهجنه ،بالصبر على القصيدة حوال كامال غرض إحكامها و تخليصها مما قد يشوب لفظها أو معناها .
ولقد وصف الجاحظ ذلك في بيانه بالقول ":من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حوال
يقلب فيها رأيه ،اتهاما لعقله ،وتتبعا كريتا (كامال) و زمنا طويال يُردِد فيها نظره ،ويجيل فيها عقله و ِ
على نفسه ،فيجعل عقله زماما على رأيه ،ورأيه ِعيارا على شعره ...وكانوا يسمون تلك القصائد
الحوليات و ال ُمقَل َدات و المنقحات وال ُمح َك َمات ،ليصير قائلها فحال خنذيذا و شاعرا ُم ْف ِلقا ". 13
ومن أجل ذلك صرح الحطيئة ":خير الشعر ال َحولي ال ُمحكك " .وقال األصمعي ":زهير ابن أبي
سلمى ،والحطيئة و أشباههما عبيد الشعر " .وكذلك كلُّ من جود في جميع شعره ووقف عند كل بيت
قاله ،وأعاد فيه النظر حتى يُخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة .وكان يقال :لوال أن الشعر
قد كان استعبدهم و استفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف و أصحاب الصنعة ،ومن يلتمس قهر
الكالم ،واغتصاب األلفاظ ،لذهبوا مذهب المطبوعين ،الذين تأتيهم المعاني سهوا و َر ْهوا ،وتنثال
عليهم األلفاظ انثياال " .14
يبدو و اضحا للعيان أن العرب عرفوا بما ال يدع مجاال للشك ،كثيرا من األحكام النقدية ،وطرائق
الصنعة ،وأطراف البالغة ،كما خبروا األساليب المختلفة و الصور البيانية التي كانت تضفي على ما
يقولون حسن رونق و بديع رصف و جودة سبك ،و ساقوا أقواال عن البالغة ليس بالمعنى التعبيري فقط
بل بالمعنى الفني أيضا .وأصدق تعبير عن ذلك هو وصف القرآن العرب بأنهم أصحاب بيان ،جاء في
محكم الذكر ":الرحمان ،علم القرآن ،خلق اإلنسان ،علمه البيان " .15و أيضا ":ومن الناس من
يعجبك قوله في الحياة الدنيا " .16
6
نبت عناية العرب بهذا الفن بعد ظهور اإل سالم وازدادت ،وكان نزول القرآن في حد ذاته حدثا بالغيا
عظيما ، 17ألن إيمان العربي حكم نقدي أدركه بذوقه السليم وفطرته الصافية وخبرته الطويلة ،وأيضا
بفضل ما نهج القرآن و رسوله من طرق الفصاحة والبالغة .
وال شك أن أقوال النبي محمد صلعم و أحاديثه وكالمه ،كانت مما لم يسبقه إليها عربي ،و ال شاركه
فيها أعجمي ،ولم تُدع ألحد وال ادعاها أحد ،ولقد وصف الجاحظ كالمه صلعم قائال ":قَل عدد حروفه
و كثر عدد معانيه ،وجل عن الصنعة ،ونُ ِزه عن التكلف ،وكان كما قال هللا تبارك ةتعالى ":قل يا
محمد " :وما أنا منَ المتكلفين " .فكيف وقد عاب التشديق ،وجانَب أصحاب التقعيب ،واستعمل
المبسوط في موضع البسط ،والمقصور في موضع القصر ،و هجر الغريب الوحشي ،ور ِغب عن
الهجين السوقي ،فلم ينطق إال عن ميراث حكمة ،ولم يتكلم إال بكالم قد ُحف بالعصمة ،وشُيِد بالتأييد ،
و يُسر بالتوفيق.
وهو الكالم الذي ألقى عليه هللا المحبة ،وغشاه بالقَبُول ،وجمع له بين المهابة والحالوة ،وبين حسن
اإلفهام ،وقلة عدد الكالم مع استغنائع عن إعادته وقل ِة حاجة السامع إلى معاودته .لم تسقط له كلمة ،
وال زلت له به قدم ،وال بارت له حجة ،ولم يقم له خصم ،وال أفحمه خطيب ،بل يبذ الخطب الطوال
بالكلم القصار وال يلتمس إسكات الخصم إال بما يعرفه الخصم ،وال يحتج إال بالصدق و ال يطلب الفَ ْل َح
عجل ، يلمز ،وال يبطئ وال َي َ
يهمز وال ِ بالخالبة ،وال يستعمل المواربة ،وال ِ
إال بالحق ،وال يستعين ِ
صر ،ثم لم يسمع الناس بكالم قط أعم نفعا ،وال أ ْق َ
ص َد لفظا ،وال أعدل وزنا ،وال وال يُسهب وال يَحْ َ
أجمل مذهبا ،وال أكرم مطلبا ،وال أحسن موقعا ،وال أسهل مخرجا ،و ال أفصح معنى ،وال أبين في
فحوى ،من كالمه صلعم كثيرا ". 18
ولمن أراد التعرف على بالغة الرسول ،فليعرج على كتب الصحاح وأعمال المحدثين و أخبار العلماء و
كتاب سيرته ،وإلى مظان أصحاب المذاهب الكبرى في اإلسالم .
لقد أضفت أحاديث الرسول على العرب بالغة جديدة ،بحيث استضاءوا في خطاباتهم بخطابة النبي و
بآي القرآن الكريم .و كان صحابة الرسول ومنهم عمر بن الخطاب الذي روي عنه أنه سمع رجال ينشد:
و لقد ذكر الجاحظ في باب العيوب الداخلة على البيان مثاال على بالغة عمر بن الخطاب ،وفيها أنه
ضبَطُ ذلك إال
كان يستطيع أن يُخرج الضاد من أي ِشدقيه شاء ،حيث ال يستطيع األيمنُ و األعسر و األ َ ْ
باالستكراه الشديد ، 20و كان عمر ال يُبارى فصاحة وبالغة .وذكر قدامة بن جعفر أنه كان يستمع إلى
- 17قولة الدكتور أحمد مطلوب في كتابه ":البحث البالغي عند العرب " ص .17منشورات دار الجاحظ للنشر .بغداد الجمهورية العراقية 1982
7
الشعر و يبدي رأيه فيه ،فقد قال مثال في شعر زهير بن أبي سلمى "أنه ال يتبع حوشي الكالم " و " أنه
21
كان ال يُعاظل بين الكالم "
عرض لرجل معه ثوب ،فقال له :أتبيع الثوب ؟ كذلك كان أبو بكر الصديق ،فمما يروى عنه أيضا أنه َ
فأجابه :ال ،عافاك هللا .و تأذى أبو بكر مما يوهمه ظاهر اللفظ ،إذ قد يُظن أن النفي ُمسلط على
22 الدعاء ، ،فقال له ":لقد علمتم لو كنتم تعلمون ْ ،
قل :ال و عافاك هللا "
بعد انتهاء الخالفة الراشدة بمقتل كل من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ،ظهر الخالف الشديد بين
المسلمين حول والية األمر – وإن كان الخالف بدأ بعد موت الرسول مباشرة ، -طفت على السطح
الصراعات المذهبية ،و ظهرت األحزاب السياسية ،فكان الشيعة والخوارج و القدرية والمرجئة و
الجهمية ،وفي مثل هذه األجواء س تزدهر الخطابة و تروج رواجا كاسحا ،فيعمد كل حزب أو فريق إلى
االستعانة بها كسالح أيديولوجي و إعالمي خطير الستمالة اآلخرين لصفهم و تعبئتهم ،واالنتقاص من
خصومهم المذهبيين .ولقد ساعدت عوامل كثيرة أخرى على نضج الخطابة ،منها احتدام الجدل بين
الفرق الدينية ،وتعدد الوفود على الخلفاء والوالة ،وقيام بعض الوعاظ بالخطابة في المساجد ،منذ
نصبهم معاوية لهذا الغرض ،فأقبل البلغاء على القرآن يحفظونه ويدرسونه ،فنمت الثقافة اللغوية و
23
األدبية في تلك الحقبة ،وعني بحفظ ما خلفه السلف .
وعلى الرغم من أن هذه الخالفات السياسية كانت في األصل تحركها دوافع اجتماعية ،اقتصادية أو
طائفية ،إال أنها وجدت في النص الديني ،بفضل مطاوعة اللغة العربية وانفتاحها ،ما تتخذ منه سندا أو
غطاء .24فصار القرآن ركيزة أساسية لتبرير الخطاب السياسي و مرجعا يستقى منه لضمان المشروعية
السياسية لهذه األ حزاب التي اتخذت من الخطابة – كما قلنا – سالحها االيديولوجي.
نما العقل العربي نموا واسعا منذ بداية العصر األموي ،فكان طبيعيا أن ينمو النظر في بالغة الكالم و
أن تكثر المالحظات المتصلة بحسن البيان خاصة في مجال الخطابة.
ومما ساعد على ازدهار هذا الفن ،أنه كانت تعقد مجالس من أجل التباري في الخطابة وحيازة قصب
السبق فيها ،وغالبا ما كان يدعى الخطيب إلى االرتجال ليختبر مقدار بيانه ،وقوة جنانه ،وحضور
بديهته ،ونهوض حجته .و كمثال على سرعة البديهة قول صحار العبدي الذي راع معاوية بخطابته بعد
أن سأله هذا األخير :ما ت َعُ ُّدونَ البالغةَ فيكم ؟ قال :اإليجاز ،فقال له معاوية :وما اإليجاز؟ ،قال
25
تجيب فال تُبطئ وتقو َل فال ت ُخطئ. َ ص َحا ُر :أن
ُ
8
لقد أحس العربي بسلطة اللغة العربية و اعتبر السلطة التي لها عليه تعبيرا ليس فقط عن قوتها ،بل عن
قوته هو أيضا ألنه الوحيد الذي يستطيع االستجابة لهذه اللغة واالرتفاع إلى مستوى التعبير البياني الرفيع
الذي تتميز به ، 26بامتالك آلليات الحجاج و قلب الحقائق .ولقد ذكر الجاحظ قوال لمالك بن دينار في
حق الحجاج بن يوسف الثقفي ،بعدما ذكر خطبته الرهيبة التي يتوعد فيها أهل العراق ":ربما سمعت
الحجاج يخطب ،يذكر ما صنعه به أهل العراق و ما صنع بهم ،فيقع في نفسي أنهم يظلمونه و أنه
صادق ،لبيانه و حسن تخلصه بالحجج .27ويقول عنه أيضا ":ما رأيت أحدا أَ ْبيَنَ من الحجاج ،إن كان
لَ َي ْرقى المنبر فيذكر إحسانه إلى أهل العراق ،و صفحه عنهم و إساءتهم إليه ،حتى أقول في نفسي :إني
28
ألحسبه صادقا ،وإني ألظنهم ظالمين له "
ذكر الجاحظ قائمة طويلة لخطباء هذه المرحلة التاريخية ،منهم زياد بن أبيه 29وهو أحد أشهر والة بني
أمية ،و سحبان وائل ، 30كما ذكر جملة من خطباء الوعظ و يأتي على رأس القائمة غيالن الدمشقي
والحسن البصري وواصل بن عطاء .ولشدة إعجاب أدباء العصر العباسي بهؤالء الخطباء ،أن واحدا
منهم وهو عبيد هللا بن الحسن -حسب رواية أبي الحسن المدائني -حين وفد على الخليفة المهدي معزيا
ومهنئا ،أعد له كالما ،فبلغه أن الناس قد أعجبهم كالمه ،فقال لشيبة بن شيبة :إني وهللا ما ألتفت إلى
هؤالء ،ولكن سل لي أبا عبيد هللا الكاتب عنه ،فسأله فقال :ما أحسن ما تكلم به ! على أنه أخذ مواعظ
الحسن ،ورسائل غيالن ،فلقح بينهما كالما .31
ولم يفت الجاحظ إبداء انبهاره ببالغة واصل بن عطاء و إعجابه بذكائه في التعامل مع اللغة ،وكيف أنه
ف به ِم ْن فاحش اللثَغ ،لتحققه من أن البيان ال يتم إال بسهولة
أسقط استعمال الراء في كالمه لما عُ ِر َ
32
المخرج وجهارة المنطق ،وتكميل الحروف و إقامة الوزن .
ساق الجاحظ في بيانه أيضا جردا لما يستحسنه الناس في خطب الخطباء يوم الحفل ،والكالم يوم
الكالم البها َء والوقار ،والرقة وسلس
َ ال َجمع وهو أن تكون موشاة بآي القرآن ،ألن ذلك ما يورث
الموقع .ومن طريف ما ساقه من مالحظات الناس ما رواه الهيثم بن عدي عن عمران بن حطان إذ
ط ْبت ُ َها عند زياد – أو عند زياد -فأُعجب ِب َها الناس ،و َ
ش ِه َدهَا عمي و أبي ،ثم قال ":إن أول خطبة َخ َ
إني مررت ببعض المجالس ،فسمعت رجال يقول لبعضهم :هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته
شيء من القرآن " 33؛ كما أبدى خلفاء بني أمية أيضا مالحظاتهم البالغية على شعر الشعراء،
9
بحيث عقدوا المجالس و استمعوا إلى الشعراء و علقوا على بعض ما سمعوه ،ومن ذلك أن عبيد هللا بن
قيس الرقيات أنشد عبد الملك بن مروان قصيدته التي يقول فيها :
فلما سمع عبد الملك ذلك غضب وقال له :قد قلت في مصعب بن الزبير :
فأعطيته المدح بكشف الغم و جالء الظلم ،وأعطيتني من المدح ما ال فخر فيه ،وهو اعتدال التاج فوق
جبيني الذي هو كالذهب في النضارة .وهذه المالحظة الدقيقة ألهمت قدامة بن جعفر فكرة أن المديح
34
ينبغي أن يكون بالفضائل النفسية ال بأوصاف الجسم وما يتصل بها من الحسن والزينة والبهاء .
وشهد القرن الثاني للهجرة حركة أدبية واسعة ،وكانت الحواضر تتمخض عن نهضة علمية كبيرة ،
ورأى هذا القرن كثيرا من تعريفات البالغة من ذلك قول الخليل بن أحمد الفراهيدي " :كل ما أدى إلى
قضاء الحاجة فهو بالغة ،فإن استطعت أن يكون لفظك لمعناك طبقا و لتلك الحال وفقا ،و آخر كالمك
ألوله مشابها و موارده لمصادره موازنا فافعل " 35وقوله " :البالغة كلمة تكشف عن البقية " 36وقوله ":
البالغة ما قَ ُرب طرفاه و بَعُ َد منتهاه " . 37وبدأت الكتب تظهر ومن ذلك كتاب " المعاني " ل ُمؤ ِرج
السدوسي 38و كتاب الفصاحة ألبي حاتم السجستاني 39و غيرها .
تطور البالغة في هذا القرن يرجع إلى تطور النثر والشعر مع تطور الحياة العقلية والحضارية ، ،ومنها
ما يعود إلى نشوء طائفتين من المعلمين ،عنيت إحداهما باللغة والشعر ،وعنيت األخرى بالخطابة
والمناظرة و إحكام األدلة ودقة التعبير و روعته .40إن تطور الشعر والنثر في العصر العباسي األول
يعود باألساس إلى الفرس والموالي الذين برعوا في اللغة العربية و تفننوا في أساليبها واتخذوها وسيلتهم
للتعبير بها عن عقولهم و مشاعرهم .فظهر النثر العلمي الخالص ،فمنه األدبي ،ومنه السياسي ومنه
الفلسفي .وعرفت حركة الترجمة أوجها في هذه المرحلة ،فتُرجمت كتب األدب الفارسي مثل كليلة
ودمنة و ترجمت أجزاء من أعمال أرسطو و على رأسها كتبه في المنطق المعروفة باألرغانون ،
وأسست دار الحكمة ،و عكف المترجمون من السريان و اليونان و األرمن والفرس و الهنود على
ترجمة تراثهم الح ضاري و نقله إلى اللغة العربية ،ومن بين النصوص الهامة التي نقلت الى العربية
- 34يُنظر فيه كتاب نقد الشعر لقدامة ص 214و كتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري ص 98
- 35طبقات فحول الشعراء ابن سالم الجمحي تحقيق محمود شاكر .القاهرة 1974
- 37عبد القاهر الجرجاني – بالغته و نقده -الدكتور أحمد مطلوب .بيروت 1973
- 38انظر وفيات األعيان البن خلكان تحقيق إحسان عباس دار صادر بيروت 1977ج 5ص 304
- 39أبو حاتم السجستاني عالم اللغة والقراءات من مشاهير علماء البصرة ،أخذ عن األصمعي .من تالمذته المبرد وابن دريد ،من أهم مؤلفاته
إعراب القرآن ،كتاب اإلدغام ،الفصاحة ،المذكر والمؤنث ،المقصور والممدود ،اختالف المصاحف ،غريب القرآن وغيرها كثير.
- 40البالغة تطور وتاريخ د .شوقي ضيف ص 19طبعة دار المعارف الطبعة الثالثة 1965
10
أجزاء من البالغة عند الهنود والفرس واليونان .ورغم إصرار الجاحظ على أن البالغة هي شأن
عربي خالص لم يُسبق إليه ،حين قال في موضع من البيان والتبيين أن " البديع " وهو لفظ كان يطلق
لذلك العهد على وجوه البالغة كلها ،هو شأن خاص بالعرب مقصور عليهم ،وأن سواهم من شعوب
األرض كان يجهله جهال مطلقا ،41وأن اليونان لم يظهر فيهم من يستحق أن يسمى خطيبا ،رغم
زعامتهم في علم الفلسفة ؛ وأن "أرسطو بكئ اللسان غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكالم و
تفصيله ومعانيه و خصائصه" ثم يقول ":وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس ،ولم يذكروه
بالخطابة وال بهذا الجنس من البالغة "42؛ إال أنه ما لبث أن ذكر في الجزء األول من كتابه السابق
الذكر تصورات "األعاجم" عن البالغة حين قال ":قيل للفارسي :ما البالغة؟ قال :معرفة الفصل من
الوصل .وقيل لليوناني :ما البالغة ؟ قال :تصحيح األقسام و اختيار الكالم .وقيل للرومي :ما البالغة؟
قال :حسن االقتضاب عند البداهة ،والغزارة يوم اإلطالة .وقيل للهندي :ما البالغة؟ قال :وضوح
البصر بالحجة ،
ُ الداللة و انتهاز الفرصة و حسن اإلشارة .وقال بعض أهل الهند ُ :جماع البالغة
والمعرفة بمواضع الفرصة .ثم قال :ومن البصر بالحجة ،والمعرفة بمواضع الفرصة ،أن تدع
أوعر طريقة .وربما كان اإلضراب عنها صفحا أبل َغ َ اإلفصاح بها إلى الكناية عنها ،إذا كان اإلفصاح
في الد َرك ،وأحق بالظفر .قال :وقال مرة :جماع البالغة التماس حسن الموقع ،والمعرفة بساعات
غ ُمض ،وبما ش ََرد عليك من اللفظ أو تعذ َر .43
الخَرق بما التبس من المعاني أو َ
َ القول ،وقلة
ويسوق الجاحظ رواية عن بالغة الهند قوال عن معمر ،أبو األشعث حين ت َ َوج َه هذا األخير بالسؤال ل َب ْهلَة
ب يحيى بن خالد أطباء الهند ،مثل َم ْن َكة و با َْ .ي َك ْر و قِ ْلبِ َر ْقلو و ِس ْن ِدبَا ْذ وفالن وفالن :ما
أيام اجْ ت َ َل َ
الهندي َ
البالغة عند الهند ؟ قال بَ ْهلَة :عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة ،ولكن ال أُحسن ترجمتها لك ،ولم أعالج
هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها ،وتلخيص لطائف معانيها .
قال أبو األشعث :فلقيتُ بتلك الصحيفة التراجمة فإذا فيها :أول البالغة اجتماع آلة البالغة .وذلك أن
ط الجأش ،ساكن الجوارح ،قليل اللحظ ،متخير اللفظ ،ال يكلم سيد األ َمة بكالم األ َ َمة الخطيب راب َ
ُ يكون
سوقة .ويكونَ في قُواه فضل التصرف في كل طبقة ،وال يدقق المعاني كل التدقيق وال الملوك بكالم ال ُّ
صفيها كل التصفية ،وال يهذبها غاية التهذيب ،وال يفع َل ذلك حتى ،وال ينقح األلفاظ كل التنقيح ،وال يُ َ
صادف حكيما ،أو فيلسوفا عليما ،ومن قد تعود حذف فضول الكالم ،وإسقاط مشتركات األلفاظ ،وقد َ يُ
نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة ،ال على جهة االعتراض والتصفح ،وعلى وجه
حق المعنى أن يكون االسم له ِطبقا ،وتلك الحال له َو ْفقا ، التظرف .قال :ومن ِع ْل ِم ِ ُّ االستطراف و
مضمنا ،ويكونَ مع ذلك ذاكرا ِ مقصرا ،وال مشتركا ،وال ويكون االسم له ال فاضال وال مفضوال ،وال ِ
عقَ َد عليه أول كالمه ،ويكون تصفحه لمصادره ،في وزن تصفحه لموارده ،ويكونَ لفظه مو ِنقا ، لما َ
و ِل َهول تلك المقامات معاودا .ومدار األمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم ،والحمل عليهم على أقدار
ف معه أداته ،ويكون في التهمة لنفسه معتدال ،وفي حسن الظن بها منازلهم ،وأن تُواتيه آالت ُه ،وتتصر َ
ع َها ذِلة المظلومين ،وإن تجاوز الحق مقتصدا ؛ فإنه إن تجاوز مقدار الحق في التُّهمة لنفسه ظلمها ،فأ َ ْو َد َ
11
في مقدار ُحسن الظن بها ،آ َمنَ َها فأودعها تهاونَ اآلمنين .ولكل ذلك مقدار من الشغل ،ولكل شغل مقدار
من الوهن ،ولكل وهن مقدار من الجهل . 44
هذه المعرفة العامة ب بالغة الهند التي ال تكاد تتجاوز مجموعة إرشادات ال قواعد أساسية في البالغة ،ال
يمكن سحبها على معرفة العرب ببالغة اليونان وخاصة كتب المعلم األول أرسطو ،وكتابه "الخطابة
"45أو ريطوريقا ضمن مجموعة األورغانون .وكما هو معلوم ،هذا الكتاب دخل إلى التراث العربي
قرابة القرن الثالث الهجري ،و قد تحدث عنه ابن النديم في " الفهرست" ،حين ذكر ناقلَه الى العربية
وهو إسحاق بن حنين ،ثم نقله ابراهيم بن عبد هللا الكاتب النصراني ،وفسره الفارابي ،وقد اطلع عليه
ابن النديم الذي وصفه بأنه نحو مائة ورقة حسب خط أحمد بن الطيب . 46وإذا شكك الدكتور طه حسين
47في معرفة الجاحظ بأرسطو و بكتابه الخطابة ،وأنه ال يكاد يعرف سوى تعريفه المشهور" اإلنسان
حي ناطق" ،فهذا ال يقف حجة على عدم تأثير أرسطو في تصور البالغة على أول مؤسس للبالغة
العربية ،إذا علمنا أن شخصية الجاحظ البيانية تكاد تكون منعدمة في كتابه البيان والتبيين ،لكنها
حاضرة في مؤلفاته األخرى التي ال عالقة مباشرة لها مع البالغة مثل كتاب الحيوان .48و الجاحظ من
أكثر العلماء تأثرا بأرسطو ،وأقرب المؤلفين صلة باليونان و بالغتهم و كتبهم ،وعلى رأسها كتب المعلم
األول ،ر غم إصرار مجموعة من الباحثين على أطروحة خلو بيان الجاحظ من بالغة اليونان .
لقد عني العرب منذ القرن الثاني بصناعة الكالم عناية شديدة ،ومرد ذلك صراع األحزاب السياسية التي
تكونت في اثنين من كبريات الحواضر اإلسالمية لذلك العهد ،وهما البصرة والكوفة،نتج عنه تحول إلى
عقيدة نظرية ،ثم ظهور حركة فكرية بالمساجد التي تحولت إلى مدارس يؤمها علماء قرعت إليهم النعال
لمعرفة علوم اللغة والنحو والحديث و الفقه وعلم الكالم و أخبار السير و التاريخ و المغازي و علم
التاريخ و علم األديان .و جلس إلى هؤالء العلماء األفذاذ جماعات من الناس ،فيهم اليهودي و النصراني
ومن هو على عقيدة الصابئة المندائية،أو من اليعاقبة أو النساطرة ،أو من الفرس أتباع زرادشت ،
و الزنادقة و المزادكة و طوائف المسلمين ،من شيعة ومعتزلة و قدرية و مرجئة و معطلة وغيرهم ،
بل و فسح المجال أيضا للمالحدة ليدلوا بدلوهم في هذه الحركة الجديدة .وأ ُ ِس َ
س للجدل والمناظرة ،و ال
شك أن من يتصدى لهما عليه أن يكون موفور الحظ من وضوح العبارة ،وظهور الحجة ،وخفة الروح
،والقدرة على اإلفهام ،والخلو من العيوب التي تعيق الخطابة سواء من حيث الكالم ،أو من حيث الهيئة
واإلشارة.
- 45انظر تلخيص الخطابة البن رشد .حققه وقدم له د .عبد الرحمن بدوي .الناشر وكالة المطبوعات للكويت ودار القلم بيروت 1959 .م
- 46الفهرست .ابن النديم المجلد الثاني ص . 165-164قابله على أصله ،أيمن فؤاد سيد .لندن ،مؤسسة الفرقان للتراث اإلسالمي .نسخة
مؤرشفة عن األصل .Archived from the original
- 47انظر مقدمة كتاب البرهان في وجوه البيان إلسحاق بن ابراهيم بن سليمان بن وهب .تحت عنوان :تمهيد في البيان العربي للدكتور طه
حسين ص . 3والكتاب نسب خطأ إلى قدامة بن جعفر و أعطي عنوانا خاطئا بدو ره ورد على الشكل التالي :نقد النثر .
- 48انظر كتاب الحيوان للجاحظ ،ويقع في عشرة أجزاء .قام بشرحه و تحقيقه الدكتور عبد السالم محمد هارون .الطبعة الثانية .
1384ه1965/م.
12
ونحن نذكر الجدل و الخطاب السجالي السائد في هذه المرحلة ،ال تفوتنا اإلشارة إلى أول مؤسسي
البالغة العربية ومؤثلي أصولها ،وهم فرقة المعتزلة الذين أسسوا للدرس البالغي ،وسخروا البالغة
لصالح مذهبهم ومبادئهم ؛ كما عُرف ذلك مع الجاحظ وعمرو بن عبيد 49و بشر بن المعتمر صاحب
الصحيفة المشهورة باسمه ،50وهؤالء من أوائل الفرقة الكالمية ،ثم مع الرماني 51والقاضي عبد
الجبار 52وهما من يمثل مرحلة االرتقاء داخل الفرقة،إلى أن ازدهرت وبلغت شأوا بعيدا من النضج
والنمو مع أعمال الزمخشري 53وجهوده في الدرس البالغي ،وخاصة في عمليه " أساس البالغة" و
تفسيره القائم على الرأي والمعروف ب"الكشاف" .
والمعروف على المعتزلة أنهم كانوا جهابذة الفصاحة العربية غير مدافعين ،و أكثر العلماء المسلمين
تأثرا بالفكر اليوناني ،و أكبرهم معرفة ببيانه ،كما كانوا من أشد المدافعين عن القرآن و أعتى
العلماء على طبقات الملحدين و المشككين في صدقية الدعوة اإلسالمية .وألجل ذلك برعوا في طرائق
القول و أسسوا لمسائل البالغة و قضايا البيان محاولة منهم للرد عليهم و مقارعة الحجة بالحجة و تفنيد
القول بالدليل القاطع و االستدالل الصحيح ،ولهذا احتاجوا إلى الفلسفة اليونانية وإلى منطق أرسطو .
- 49انظر فيه تاريخ بغداد ج 14ص 83ترجمة 6652و أنساب األشراف للبالذري ج 4ص ، 234و مروج الذهب للمسعودي ج 2ص 288
ووفيات األعيان البن خلكان ،وعيون األخبار ج 1ص ، 308والكامل البن األثير ص 546ج 1وذكره الجاحظ بالبيان والتبيين ج 1ص 114و
ج 1ص . 23توفي بمران عام 144ه ورثاه الخليفة المنصور العباسي .
- 50انظر فيه الصحيفة التي نقلها عنه الجاحظ في البيان والتبيين ج 1ص . 135وبشر بن المعتمر ،صاحب البشرية ،انتهت إليه رياسة
المعتزلة ببغداد ،توفي عام 210ه :لسان الميزان ج 2ص 33والملل والنحل ج 1ص ، 81المواقف 622و مفاتيح العلوم ، 19والفرق بين
الفرق 141و اعتقادات الرازي 42والحيوان لجاحظ ج 297 -6 248
- 51أبو الحسن الرماني علي بن عيسى بن عبد هللا الرماني 296ه 384 -ه ،هو مفسر و متكلم معتزلي و نحوي متبحر في علوم اللغة والفقه
والكالم و الفلك ،ألف قرابة مائة كتاب ،عاصر أبي علي السيرافي وأبي علي الفارسي ،له الجامع في القرآن ،وشرح سيبويه وشرح األصول
ألبي بكر السراج و شرح الموجز للسراج أيضا و شرح الجمل له ،واالشتقاق الكبير واالشتقاق المستخرج و الحروف و االيجاز و المبتدأ في
النحو و الخالف بين النحويين و شرح مسائل األخفش الكبير والصغير ،والخالف بين سيبويه والمبرد ونكت سيبويه و" جوامع العلم في
التوحيد"أدب الجدل و أصول الجدل و الرد على الدهرية و أدلة التوحيد و المعرفة و الصفات والعلوم وغيرها كثير .وكان يمزج النحو
بالمنطق ،من أشهر تالميذه أبو حيان التوحيدي .انظر فيه نزهة األلباب في طبقات األدباء ألبي البركات األنباري تحقيق إبراهيم السامرائي
منشورات مكتبة المنار ط 1985 3مجلد 1ص 235-233و األعالم للزركلي المجلد 6ط الخامسة 2002ص 317و تاريخ العلماء النحويين
تحقيق عبد الفتاح الحلو .هجر للطباعة والنشر القاهرة ط 1992ص 31-30و معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة دار إحياء التراث العربي
بيروت المجلد السابع ص .162
- 52عبد الجبار ابن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل ،من شيوخ المعتزلة ويلقب بقاضي القضاة ،له تصانيف كثيرة أشهرها المغني في
أبواب التوحيد والعدل ويقع في عشرين جزءا ،وهو مما أماله على تالميذه و لم يكتبه ببنانه ،ضاعت منه أجزاء كثيرة ،وعثر منه حتى اآلن
على 14جزءا ،واألجزاء المطبوعة هي . 20 -17-16-15 -14-13-12-11-8-7-6-5-4عثرت البعثة المصرية على أجزائه باليمن عام ---
، 1952والجزء األخير من الكتاب يختص باإلمامة وهو الذي نقضه الشيخ المرتضى و أسماه الشافي و طبع في مجلد كبير ،ولخصه الشيخ
الط وسي و أسماه تلخيص الشافي طبع في جزئين .انظر فيه سير أعالم النبالء الطبقة 22ج 17ص 245تثبيت دالئل النبوة وهو ترجمة للقاضي
عبد الجبار من تأليفه دار المصطفى شبرا ، 2010بحوث في الملل والنحل آلية هللا الشيخ جعفر السبحاني ج 3ص 270 -263والملل والنحل
للشهرستاني .
- 53جار هللا أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة واآلداب ومن كبار علماء
المعتزلة ولد في زمخشر سنة 467ه وتوفي عام 538ه .من مؤلفاته في اللغة والبالغة كتاب :أساس البالغة و المستقصى في المثال ،و الفائق
في غريب الحديث ،ومقدمة األدب و هو قاموس من العربية للفارسية ،و القسطاس في علم العروض ،و المفصل في صناعة اإلعراب ،أما أشهر
تفاسيره وهو التفسير المعروف بالكشاف .ويظل عماله "أساس البالغة" و "الكشاف" من أنفس ما كتب جار هللا الزمخشري .
13
يقول الدكتور طه حسين ":لقد أنشأ متكلمو المعتزلة هذا البيان ،إن صح هذا التعبير ،وتعهدوه ،وقلما
كان يفلت من بين أيديهم .وقد بقي أقرب إلى األدب منه إلى الفلسفة ما بقي أولئك المتكلمون يدرسون
األدب العربي و ينهلون من موارده العذبة .فلما أصبحوا أكثر اشتغاال بالفلسفة منهم باألدب ،أصبح
بيانهم أقرب إلى الفلسفة منه إلى األدب ؛ ولذلك لم يكن عبد القاهر الجرجاني عندما وضع في القرن
الخامس كتاب( أسرار البالغة ) المعتبرة غرة كتب البيان العربي إال فيلسوفا يجيد شرح أرسطو
والتعليق عليه " . 54وفعال ساهم اشتغال المعتزلة بالفلسفة وبعلم الكالم في تجاوزهم لمالحظات اللغويين
الظاهرية التي ال تتعمق في المعاني ،وال تكشف عما وراء اللفظ من داللة ،فاتجهوا إلى دراسة
األسلوب ؛ فكانوا بذلك أقدر الناس على تفهم دقائق "النظم" ،وأعلمهم بمستويات الفصاحة والبيان ،
لتنوع ثقافتهم ،فكانوا بحق أول من وضع قواعد البالغة و أول من بسط مباحثها المنهجية .
ولعل خير ما أثر عن المعتزلة في البالغة حتى أوائل القرن الثالث صحيفة بشر بن المعتمر المتوفى عام
210ه ،وكما أشرنا إلى ذلك سابقا ،فقد رواها الجاحظ في البيان والتبيين تامة غير منقوصة.55
لقد أولى المعتزلة البالغة عناية خاصة ،ورأوا فيها وجها قويا من وجوه فهم اإلعجاز القرآني ،ألنهم
كانوا يرون بأن القرآن نزل على أهل البالغة و الفصاحة ،فإذا ببالغة هذا الكتاب تقطع قول كل بليغ ،
وفصاحته تربو على فصاحة كل فصيح .وعليه يتركز الجهد البالغي للمعتزلة في البحث عن إعجاز
القرآن ،علما أنهم اعتبروا بالغة القرآن من جنس البالغة البشرية ،وإن كانت في الطبقة العليا ،انطالقا
من دراستهم لطبقات البالغة 56 .لهذا اعتبر المعتزلة البالغة المعجزة هي تلك التي يكون أساسها اإلبانة
ثم اإلمتاع ،وهذه الخاصية هي أساس اإلعجاز البالغي للكتاب المقدس ( القرآن).
ففي تفسير قوله تعالى " :طسم.تلك آيات الكتاب المبين" يقول الزمخشري :الكتاب المبين :الظاهر
إعجازه و صحة أنه من عند هللا ،والمراد به السورة أو القرآن ،والمعنى آيات هذا المؤلف من الحروف
المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين" . 57لقد ربط الزمخشري بين معنى اإلبانة وما يتطلبه من اإلظهار
والتبيين و التوضيح و بين اإلعجاز .
وعلى هذا األساس اعتبر الرماني "البيان" أحد الوجوه التي يظهر من خاللها إعجاز القرآن ،وعليه
يعرف البيان على الشكل التالي ":اإلحضار لما يظهر به تميز الشيء من غيره في اإلدراك " ، 58
ويرى الرماني أيضا " بأن القرآن كله في نهاية حسن البيان" . 59أي أن القرآن حاز التفوق لفظا ومعنى
وصورة ،وهو ألجل كل هذا معجز .وبرها ن إعجازه هو خاصية لغته العربية ،والقرآن في حد ذاته
- 54من مقدمة كتاب نقد النثر المنسوب خطأ إلى قدامة بن جعفر ،تحت عنوان ":تمهيد في البيان العربي " ص 14
- 56انظر الكشاف للزمخشري ج 2ص 440و المغني للقاضي عبد الجبار ج 15ص 187و ،204والبيان والتبيين ج 1ص 75و ،113و
.161
- 59نفسه ص99
14
نزل على قوم صناعتهم البالغة ،لهذا تحداهم أن يأتوا بمثل بيانه وبالغته ،وعليه تكون عربية للقرآن
هي مقياس اإلبانة التي وقع فيها التحدي .وإذا كانت اإلبانة هي األساس البالغي األول عند المعتزلة في
دراسة اإلعجاز القرآني ،إال أن هناك أساس ثاني يتداخل معها ،بحيث ال يمكن فصلها عنه ،وهو ما
كان يعرف عندهم ب"حسن األداء" الذي جعله الرماني قسيم اإلبانة لتحقيق البالغة ،عندما يعرفها
بأنها" إيصال المعنى إلى القلب في حسن صورة من اللفظ". 60
والرماني بهذا التعريف للبالغة يقرر أن للبالغة أساسين :أولهما (إيصال المعنى) وهو اإلبانة ،والثاني
(حسن صورة اللفظ ) ويعني به حسن األداء أو جودة الصياغة .ويعادل الرماني بين اللفظ الجميل
والمعنى الجميل في تحقق البالغة ،وال يقدم اللفظ على المعنى " ليست البالغة بتحقيق اللفظ على
المعنى ،ألنه قد يحقق اللفظ على المعنى ،وهو غث مستكره ،ونافر متكلف ". 61
يظهر من هذه التعريفات لبالغة القرآن عند المعتزلة أنها هي نفسها األسس البالغية لكالم البشر ،وأن
معايير الجمال في النص القرآني لفظا ومعنى وصورة هي ذاتها معايير الجمال في أي نص أدبي ،ويمتح
هذا التصور من األصول النظرية لإلعتزال والتي تقوم على القول بنظرية " خلق القرآن" و التي تعد
أحد الركائز الخمسة لعقيدتهم .لهذا اعتبر القاضي عبد الجبار أن كالم هللا " من جنس الكالم المعقول في
الشاهد" .62
ويستعمل المعتزلة المبدأ الثاني في عقيدتهم الكالمية وهي نظرية العدل اإللهي ،في مناقشة قضية
اإلعجاز القرآني وتحدي القرآن البشر على أن يأتوا بمثل آياته .يرى الزمخشري على أنه إذا كان هللا
سبحانه وتعالى قد تحدى الناس أن يأتوا بمثل القرآن فإنه من العدل أن يكون الناس قدروا على مثله ،
وإال فهو كلفهم أن يأتوا بمثله مع عدم دخول ذلك في نطاق قدرتهم ،لكان ذلك تكليفا بما ال يُق َدرعليه ،
وهو يخالف أصل العدل ،63وعليه تكون بالغة القرآن من جنس ما يُق َدر عليه ،إال أنها من طبقة عليا
من طبقات البالغة كماعرفها الرماني .
لقد أعطى المعتزلة قيمة كبيرة للفظ (األداء) على حساب المعنى ،وذلك لدعم اإلعجاز القرآني ،وهذا
يتفق مع مذهبيتهم الكالمية ،ألنهم كانوا مضطرين للقول بذلك خدمة للقرآن وضدا على من كان يطعن
فيه وال يعترف بفضل المعاني فيه ،ألن هذه المعاني يستوي فيها الشاعر والكاتب و العالم و كاتب
الحكمة ،لهذا قال الجاحظ أن القرآن معجز في نظمه و تأليفه ،وأن الفضل للشكل دون أن يقصد الحط
من قدر المعاني أو التنكر لها . 64وتعبر عن هذا الرأي جملة الجاحظ الشهيرة " :المعاني مطروحة في
الطريق ،يعرفها العجمي و العربي والبدوي والقروي ،و إنما الشأن في إقامة الوزن ،وتخير اللفظ ،
- 60نفسه ص 69
15
وسهولة المخرج ،وكثرة الماء ،وفي صحة الطبع ،وجودة السبك ،فإنما الشعر صناعة وضرب من
65
النسج و جنس من التصوير"
يمثل ارتباط علم الكالم االعتزالي بالفلسفة اليونانية أحد أنضج الصور في تقدم التنظير البالغي عند
العرب .والشك أن تأثير الفلسفة على منظري البالغة في هذا العصر -و جلهم من المعتزلة -كان
ِل َي ْلقَى معارضة شديدة من قبل دعاة البالغة العربية الخالصة ،رغم محاولة الجاحظ المزاوجة بين
األصيل و الدخيل .ولقد تجلى هذا الصراع بوضوح عند طائفة الشعراء في ذلكم الصراع التاريخي
بين أنصار القديم و يمثله البحتري ،وأنصار الجديد الذي يمثله أبو تمام المسرف في استعمال البديع و
االستعارة البعيدة و فلسفي الكالم ،وأصدق بيت شعري يمثل هذه الحالة قول البحتري :
سبب ْه منطق ما نوعه وما ولم يكن ذو القروح يلهج بال
كذلك تفرق ال ُكت اب على نفس الطريقة التي توزع عليها الشعراء ،فكان هناك كتاب حافظوا على الطريقة
القديمة في الكتابة ،وكان هناك آخرون بالغوا في التفلسف و تعمقوا في معانيهم و أخيلتهم ،و أهملوا
التثقف بأساليب العربية ووجوه استخدامها ،مما جعل ابن قتيبة ينعى عليهم في كتابه "أدب الكاتب"
إهمالهم النظر في اللغة و تعلقهم بالفلسفة و المنطق و علم النجوم والحديث عن الكون و الفساد و سمع
الكيان و الكيفية و الكمية و الجوهر و العرض و رأس الخط النقطة و النقطة ال تنقسم .66
لهذا نتفهم دعوة الجاحظ إلى الوقوف موقف الوسط بين هذين المذهبين المتعارضين ،فال هو يسرف
في التجديد وال هو يسرف في المحافظة ،وذلك بتكييف البالغة اليونانية مع روح البالغة العربية و
خصائصها الذاتية .
ورغم الخصومة بين الطرفين :دعاة المحافظة من جهة و دعاة استعمال الفلسفة و اآلراء البالغية
األرسطية ،إال أن هذا أسفر عن نشاط بالغي ثر ،فلقد عكف دعاة الفلسفة على نقل بعض مختصرات
أرسطو في الخطابة والشعر ،رغم أنهم لم يفهموا من أرسطو إال ما قاله في" العبارة " ،ولم يلحظوا أي
فارق بين ما هو( شعر) وما هو خطابة ،وكل ما يفرق عندهم بين الشعر والنثر إنما هو الوزن والقافية.
ولما كان لهذين علم خاص هو العروض فقد أصبح النثر والشعر عندهم متساوي الخط من (العبارة) فما
يقولونه عن أحدهما يقولونه عن اآلخر ؛ وقواعد البالغة التي يطبقونها على النثر ،تنطبق عندهم على
67
الشعر ،وإن يكن ثم فارق ،فهو في الواقع أمر تقديري.
يعضد طه حسين هذا الطرح بتقديم مثال على جهل المسلمين لكالم أرسطو ،خاصة كتابه "كتاب
الشعر" ،نص قدامة بن جعفر المعروف ب " نقد الشعر" ،فبعد ما عرض مقولة "قدامة " الشهيرة في
تعريف الشعر بأنه( قول موزون مقفى يدل على معنى ) يعقب عليها قائال :إذا كانت هذه العبارة تدل
- 66نقال عن كتاب الدكتور شوقي ضيف " البالغة تطور وتاريخ" ص ،65وينظر فيه أيضا كتاب أدب الكاتب البن قتيبة ص . 3
16
على منتهى التفكير الفلسفي ،فهي من غير شك ال تفيد أن المؤلف فهم (كتاب الشعر) ،أو أنه على أقل
تقدير ينقل عنه ،ذلك بأن أرسطو ينحو بالالئمة في كتابه هذا على من يسمون الكالم المنظوم شعرا ،
وعنده أن الوزن و المعنى وحدهما ال يكفيان في تكوين الشعر . 68
حتى ولو كان تعريف قدامة للشعر في منتهى التفكير الفلسفي ،فالدكتور طه حسين ال يرى فيه أن قدامة
فَ ِه َم جيدا "كتاب الشعر" ألريسطو ،أو أنه كان حقيقة ينقل عنه ،بحيث ال يجد أثرا لنظرية المحاكاة التي
تعد جوهر كتاب الشعر ألرسطو ،ويحاول تعليل ذلك بأمرين :إما أن قدامة لم يطلع على كتاب أرسطو
هذا ألنه لم يكن تُرجم بعد إلى العربية ،أو أنه قد طلع على األصل اليوناني أو على ترجمة سريانية له ،
فلم يتيسر له فهمه .في حين كان قدامة أكثر اضطالعا على "كتاب الخطابة " ألرسطو ،وفهم كل ما
ورد في القسم الخاص ب (العبارة) عن التشبيه ،والمجاز ،والمقابلة ،والفصول ،مع معرفة تامة
عرف بما ف ِهم في كتابه (نقد الشعر) وذلك عندما يبين كيفبالفصل المتعلق باألخالق و االنفعاالت ،ثم َ
يكون المديح و كيف يكون الهجاء .وقد أنفق قدامة مجهودا طريفا في رد سائر الفنون الشعرية إلى
المديح والهجاء ليُخضعَها كلها لنظرية أرسطو المتعلقة ب(المنافرات) ،فليس الرثاء عنده إال مديحا ،و
إذا ينبغ ي أن تستعمل فيه قواعد المديح ،مع مالحظة أن يكون الفعل ماضيا ال مضارعا ،فال يقال (إنه
شجاع) أو (إنه جواد) ،ولكن (كان شجاعا) و (كان جوادا) .وكذلك الشأن في معاتبة األصدقاء
والشكوى منهم فهي نوع من الهجاء ،وكل ما في األمر أنه ينبغي أن يختار الشاعر من المعاني واأللفاظ
ما يستعطف به المحبوب و يستميله .وهنا نلحظ أثر النظرية األرسطية التي تقول بوجوب المالءمة بين
69
الخطبة وبين حال المخاطب.
كما استغل قدامة نظرية الغلو التي أجازها أرسطو للشعراء رغم قوله ب(الحد األوسط) ،ويراها قدامة
شرطا لفحولة الشعر ،و ينحى بال الئمة على من يطالب الشعراء بتوخي الصدق ،و التقيد
باألخالق.ولقد أحصى قدامة في كتابه "نقد الشعر" عشرين نوعا من البديع .
ومهما يكن من سوء تصريف لكالم أرسطو أو انضباط لمنطقه في تحديد المعايير البالغية ،إال أن هذا
المعسكر كان له أعداء حملوا على عاتقهم عب ء الدفاع عن حصونهم إزاء هجمات المتفلسفين المتكررة ،
و لعل كتاب ابن ال معتز المعروف بكتاب البديع إال مثال ساطع على الحملة المضادة التي شنها
المحافظون ضد أفكار المتفلسفة ،حين اعتبر ابن المعتز بأن ما يُك ِثر منه المحدثون مما يسمى بديعا
موجود من قديم في القرآن والحديث وكالم الجاهليين واإلسالميين . 70وإذا أردنا توضيح المقال ،
فقدامة 71يمثل دعاة الفلسفة وابن المعتز يمثل التيار المحافظ ،ولقد ساهم عمل هذين الرجلين في ظهور
- 68نفسه ص17
- 71هو أبو الفرج قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي المتوفى عام 337ه ببغداد .وهو من أصل مسيحي ،أسلم على يد الخليفة العباسي
المكتفي باهلل ،وقدامة مضرب المثل في البيان والفصاحة والبالغة ،وكان من كبار الفالسفة و من أبرز المهتمين بالمنطق ،و براعته في هذا
الميدان هي التي جعلت منه ألمع من استعمل األورغانون على الشعر ،ويبدو ذلك جليا في كتابه الشهير "نقد الشعر" .ومما يعرف أيضا على ابن
المعتز أنه كان من السباقين إلى الكتابة في علم البديع بعد ابن المعتز الخليفة عاتر الحظ .وكان قدامة ضمن المجلس الذي أعده الوزير الفضل بن
جعفر بن الفرات في تينك المناظرة الشهيرة التي جمعت كال من النحوي أبي علي السيرافي و المنطقي الشهير متى بن يونس سنة 320ه ،
17
أعمال الحقة استثمرت جيدا اصطالحاتهما ،وعلى سبيل المثال نذكر منها كتاب "الصناعتين" ألبي
هالل العسكري ،وأهمية هذا الكتاب تتجلى في أن صاحبه استعان في تأليفه بجل ما كتب سابقوه ممن
عالجوا مثل موضوعه ،كابن سالم الجمحي وكتابه طبقات فحول الشعراء ،و الجاحظ في البيان والتبيين
،وابن قتيبة في أدب الكاتب ،وابن المعتز في البديع ،وقدامة وكتابه نقد الشعر ،واآلمدي و كتابه
الموازنة .يقول محققا هذا الكتاب في مقدمته " :وقد استطاع أبو هالل أن يعرض لنا زبدة هذه الكتب
في كتابه حتى إنه ليجعلنا نكاد نستغني عنها جميعا ".72
ولقد رفع العسكري درجة علم البالغة إلى المرتبة الثانية بعد معرفة هللا قائال ":إن أحق العلوم بالتعلم ،
وأوالها بالتحفظ – بعد المعرفة باهلل جل ثناؤه -علم البالغة ،ومعرفةُ الفصاحة ،الذي به يعرف إعجاز
ق بالحق ،الهادي إلى سبيل الرشد ،المدلو ِل به على صدق الرسالة وصحة كتاب هللا تعالى ،الناط ِ
النبوة ،التي رفعت أعالم الحق ،وأقامت منار الدين ،و أزالت شُبَهَ الكُفر ببراهينها ،وهتكت حجب
الشك بيقينها ، ،وقد علمنا أن اإلنسان إذا أغفل علم البالغة ،وأخل بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه
بإعجاز القرآن من جهة ما خصه هللا به من حسن التأليف ،وبراعة التركيب ،وما شحنه به من اإليجاز
البديع ،واالختصار اللطيف ؛ وضمنه من الحالوة ،وجلله من رونق الطالوة ،مع سهولة َك ِل ِمه
وجزالتها ،وعذوبتها وسالستها ،إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها ،وتحيرت عقولهم
فيها". 73
تصرف لفظها ،والقول في الفصاحة وما ُّ ثم أبان عن موضوع البالغة لغة ،مع ذكر ما يجري معه من
يتشعب من ه ،قائال :البالغة من قولهم :بلغتُ الغاية إذا انتهيت إليها و بلغتُها غيري .ومبلغ الشيء :
منتهاه .والمبالغة في الشيء :االنتهاء إلى غايته .فسميت البالغة بالغة ألنها تُنهي المعنى إلى قلب
السامع فيَفه ُمه .وسميت الب ُْلغَة ب ُْلغة ألنك تتبلغ بها ،فتنتهي بك إلى ما فوقها ،وهي البالغ أيضا .ويقال:
الدنيا بالغ ؛ ألنها تؤديك إلى اآلخرة .والبالغ أيضا :التبليغ ،في قول هللا عز وجل " :هذا بالغ للناس"
أي تبليغ .و يقال ،بَلُ َغ الرجل بالغة ؛ إذا صار بليغا .كما يقال َنبُ َل نبالة ؛ إذا صار نبيال .وكالم بليغ
ووجْز .ورجل بِلغ (بالكسر) :يبلغ ما يريد .وفي َمثَل لهم "أحمق بِلغ" . و بَلغ (بالفتح ) ،كما يقال وجيز َ
ويقال :أبلغتُ في الكالم إذا أتيت بالبالغة فيه .كما تقول :أبرحتُ إذا أتيتُ بالب َُر َحاء ،وهو األمر
الجسيم .والبالغة من صفة الكالم ال من صفة المتكلم .فلهذا ال يجوز أن يسمى هللا عز وجل بأنه بليغ ؛
إذ ال يجوز أن يوصف كان موضوعها الكالم .وتسميتنا المتكلم بأنه بليغ توسع .وحقيقتُه أن كال َمه بليغ
،كما تقول :فالن رجل محكم ،وتعني أن أفعاله محكمة.74
والمناظرة سجلها كتاب أبي حيان التوحيدي الشهير "اإلمتاع والمؤانسة" .من أهم أعمال قدامة كتاب "نقد الشعر" ،وكتاب صناعة الكتابة وكتاب
السياسة المنسوب ألريسطو ،وهو من كتبه الضائعة اليوم .وكتاب " جواهر األلفاظ" .انظر عنه وفيات األعيان البن خلكان .
- 72من مقدمة كتاب " كتاب الصناعتين الكتابة والشعر " تصنيف :أبو هالل الحسن بن عبد هللا بن سهل العسكري .تحقيق :علي محمد البجاوي
و محمد أبو الفضل إبراهيم .الطبعة األولى ،دار إحياء الكتب العربية بتاريخ 1371ه1952 /م .
18
ثم عرف البالغة بأنها " ك ُّل ما ت ُ َب ِل ُغ به قلب السامع فت ُ َم ِك ُنه في نفسه َكت َ َم ُّك ِنه في نفسك ،مع صورة
ط البالغة " :أن يكون المعنى مفهوما واللفظ مقبوال". 76 مقبولة ومعرض حسن" . 75و جعل شر َ
وإذا أردنا أن نلخص ما قاله العسكري عن البالغة والفصاحة ،نجد أن فيه رأيين:
األول :أن الفصاحة والبالغة ترجعان إلى معنى واحد و إن اختلف أصالهما ،ألن كل واحد منهما إنما
هو اإلبانة عن المعنى و اإلظهار له .
والثاني :أن الفصاحة والبالغة مختلفان ،ذلك أن الفصاحة تما ُم آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ ،
ألن اآللة تتعلق باللفظ دون المعنى ،والبالغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على
المعنى .77
وكيف ما كان الحال ،ورغم الخصومة التاريخية بين أنصار البيان والبالغة العربية الخالصة ،وبين
دعاة استعمال البالغة اليونانية الذين عاشا ردحا طويال من الزمن متجاورين دون أن يسعيا إلى التالقي
و االتفاق ،شهد تاريخ البالغة ميالد لحظة جديدة تحقق فيها التوفيق بين التيارين ،عكستها بجالء تجربة
العالمة الكبير عبد القاهر الجرجاني . 78وإذا كان الجاحظ مؤسس البيان العربي دون منازع ،فإن عبد
القاهر الجرجاني هو مؤسس قواعد النظر في علم بالغة األ َ ْل ِسنَ ِة عامة ،وبالغة اللسان العربي خاصة
.79و ألجل هذا الغرض ألف كتابيه اللذين يعتبران بحق أذخر ما كتب في البيان العربي وهما "أسرار
البالغة" و" دالئل اإلعجاز" .
َظريت َْي علمي المعاني و البيان بطريقة علمية دقيقة .ولقد عقد الجرجاني
وضع عبد القاهرالجرجاني ن ِ
لنظرية علم المعاني كتابه األول "دالئل اإلعجاز" ، 80أما نظرية البيان فخص بها كتابه " أسرار
البالغة". 81وهذان الكتابان أصالن جليالن في البالغة ،لم يسبقهما سابق ممن كتب في البالغة ،وجدير
- 75نفسه ص 10
- 78هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمان بن محمد الجرجاني (400ه؟ /أو471ه؟ 474-ه ) والمكنى بالنحوي ،من أصل فارسي ،ولد ببلدة
جرجان من بالد فارس ،وهي إحدى المدن المشهورة بين طبرستان و خراسان ،كان الجرجاني فقيها شافعيا و متكلما أشعريا ،لزم أبا الحسين
محمد بن الحسن الفارسي ابن أخت أبي علي الفارسي ،وأخذ عنه علم النحو ،والفارسي كما هو معلوم من أئمة النحاة .ولعل صدور كتاب
"العوامل المائة" كان من أهم نتائج هذه العالقة التي ربطت بين الجرجاني والفارسي (أبو الحسين) .عرف عبد القاهر بعلم البالغة وبزغ نجمه
فيها ودوت شهرته في اآلفاق بها .
- 79من كالم محقق كتابي :دالئل اإلعجاز و أسرار البالغة العالمة محمود محمد شاكر (أبو فهد) .انظر مقدمة كتاب أسرار البالغة لعبد
القاهر الجرجاني ص . 3
- 80كتاب دالئل اإلعجاز :تأليف الشيخ اإلمام أبي بكر ،عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي المتوفى سنة 471ه أو 474ه.
قرأه و علق عليه أبو فهد محمود محمد شاكر .الناشر مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع ومطبعة المدني (المؤسسة السعودية بمصر) بتاريخ
)1404ه1984 /م ).
- 81كتاب أسرار البالغة تأليف الشيخ أبي بكر ،عبد القاهر الجرجاني النحوي .قرأه وعلق عليه (أبو فهد) محمود محمد شاكر .الناشر :دار
المدني بجدة (1412ه1991 /م) مصر الجديدة .
19
بالذكر القول أنه لم تكن إلى زمن عبد القاهر قد استقرت بعد قسمة البالغة إلى علومها الثالثة :المعاني
و البيان والبديع .ففي فاتحة مصنفه " دالئل اإلعجاز" ،وضمن باب "بيان فضل العلم"؛ نجد الجرجاني
س َخ أصال ،ويطلق على مباحثه فيه صفة المباحث البيانية ،حيث يقول فيها :ثم إنك ال ترى علما هو أْر َ
وأعذب وردا ،وأكرم نتاجا ،و أنور سراجا ،من علم البيان ،الذي لواله َ سقَ فرعا ،و أحلى جنى ، أ َ ْب َ
ويلفُظ الدُّر ،وينفث السحر ،ويقري الشهد ،ويُريك بدائع الوشي ،ويصوغ الحلي ْ ، َ ل ْم ت ََر لسانا يَ ُحوكُ
من الزهَر ،و يَجْ نيك ال ُح ْل َو اليانع َمن الث َمر ،والذي لوال ت َ َح ِفيه بالعلوم ،وعنايتُه بها ،وتصويره إياها ،
لَ َب ِق َيت ْ كامنة مستورة ،ولَ َما است َ َب ْنتَ لها ي َد الدهر صورة ،والستمر ِ
السرار بأهلتها ،واستولى الخفاء
صرها االستقصاء.82على جملتها ،إلى فوائد ال يُدركها اإلحصاء ،ومحاسن ال يح ُ
أكيد أن عبد القاهر ضمنَ كتابه هذا مسائل المجاز واالستعارة والكناية والتشبيه ،ولكنه إنما فعل ذلك بين
تضاعيف تفسيره لنظرية النظم التي هي مدار الك ِل ِم في كتابه هذا ،والتي منها استخرج أبواب علم
المعاني ؛ وهكذا تأتي المصطلحات التالية :الفصاحة والبالغة والبيان والبراعة مترادفة فيما بينها ،وال
تكاد تبدو الحدود واضحة فيها ،كما أن استعماالتها لم تأخذ بعد معانيها الدقيقة التي ستعرف بها فيما بعد
مع السكاكي .يقول الجرجاني ":ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلما ُء في معنى "الفصاحة"،
و "البالغة" ،و"البيان" و"البراعة" ،وفي بيان المغزى من هذه العبارات ،وتفسير المراد بها ،فأجد
ب ،وموضع ىء ِليُطلَ َ
بعض ذلك كالر مز واإليماء ،واإلشارة في خفاء ،و بعضه كالتنبيه على مكان ال َخبِ ِ َ
ي
ُخر َج ،وكما يُفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه ،وتوضع لك القاعدة لتب ِن َ الدفين ليُبحث عنه في َ
عليها .ووجدتُ المعول على أن ههنا نظما وترتيبا ،وتأليفا وتركيبا ،وصياغة وتصويرا ،ونسجا
وتحبيرا ،وأن سبيل هذه المعاني في الكالم الذي هي مجاز فيه ،سبيلها في األشياء التي هي حقيقة فيها،
التأليف ،والنس ُج النس َج ،والصياغةُ الصياغةَ ،ثم يعظم َ والتأليف
ُ النظم ،
َ ضل هناك النظ ُموأنه كما يف ُ
والمجانس له درجات كثيرة ،وحتى تتفاوتَ القي ُم َ نظيره
َ الفضل ،وتكثر المزية ،حتى يفوقَ الشي ُء
التفاوتَ الشديد ،كذلك يفضل بعض الكالم بعضا ،ويتقدم منه الشي ُء الشي َء ،ثم يزداد فضلُه ذلك
ويترقى منزلة فوق منزلة ،ويعلو مرقبا بعد مرقب ،ويُستأنف له غاية بعد غاية ،حتى ينتهي إلى حيث
تنقطع األطماع ،وتحْ َس ُر الظنون ،وتسقط القوى ،وتستوي األقدام في العجز 83 .ومعناه اقتران كلمة
البيان بكلمة الفصاحة ونظيرتها البالغة و األخرى البراعة دون تمييز وكأنها جميعا تحمل داللة واحدة ،
ثم أنها ال تعود إلى اللفظ وإنما ترجع إلى النظم و كيفية الصياغة وصورها وخصائصها ،واللفظة
المفردة من حيث هي لفظة ال وزن لها في فصاحة أو في بيان أو بالغة إال بحسب مكانها من النظم و
حسن مالءمة معناها لمعاني جاراتها و فضل مؤانستها ألخواتها .
والتداخل ذاته لحق كتاب "أسرار البالغة" المقتصر كله على البيان ،و مسألتين من علم البديع وهما :
الجناس و السجع ،حيث نجده يتكلم عن االستعارة باعتبارها قسما من أقسام علم البديع ،تماما كما فعل
سلفه ابن المعتز ،يقول الجرجاني ":وأما التطبيق واالستعارة وسائر أقسام البديع ،فال شبهة أن ال ُحسن
يعرف االستعارة على هذه الشاكلة: الكالم بهما إال من جهة المعاني خاصة "...ثم ِ
َ والقبح ال يعترض
20
أما االستعارة ،فهي ضرب من التشبيه ،ونمط من التمثيل ،والتشبيه قياس ،والقياس يجري فيما تعيه
القلوب ،وتدركه العقول .وتُستفتى فيه األفهام و األذهان ،ال األسماع و اآلذان ،84ثم يتبعها مباشرة
بتعريف دقيق للتطبيق (الطباق) ويقول فيه :أما التطبيق ،فأمره أ َ ْبيَنُ ،وكونه معنويا أجلى و أظهر ،
فهو مقابلة الشيء بضده ،والتضاد بين األلفاظ المركبة محال .85...
وعليه يرى الجرجاني بأن علوم البالغة هي علم واحد تتشعب مباحثه ،وسمى في الدالئل علم المعاني
86
باسم "النظم" وهو اصطالح كان يشيع في بيئة األشاعرة ،إذ كانوا يعللون إعجاز القرآن بنظمه
"الص ْرفة" التي قال بها المعتزلة ،أي أن هللا صرف العرب عن
ِ ،ونظرية النظم تأتي مقابل مفهوم
مضاهاة القرآن ،وهذا ما دفع الجرجاني إلى القول بأن إعجاز القرآن في فصاحته وبالغته ،بمعنى
آخر :إعجاز القرآن في نظمه .والنظم عند الجرجاني يقوم على حسن الصياغة و توخي معاني "النحو"،
والنظر إلى عالقة اللفظ بالمعنى من وجهة لغوية في إطار التحامهما و اندماجهما ،وعرف قيمة اللفظ
في النظم ،وطريقة تصوير المعاني على حقيقتها ،في إطار الجمع بين اللفظ و المعنى و التسوية بين
بين خصائصهما ،و رأى أن اللفظ جسد ،والمعنى روح يرتكز على حسن الصياغة و على دقة
التصوير ،وال فصل بين اللفظ والمعنى ،وذهب تبعا لذلك أن الفصاحة ليست صفة للفظ من حيث هو
لفظ مجرد ،وإنما من خالل نظمه مع ما صاحبه وماجاوره من ألفاظ من خالل عملية النظم ،كما أن
قيمة المعاني تبرز من خالل مبدأ التصوير الذي شرحه في كتابيه سابقي الذكر ،مع احترام لمعاني النحو
،ولهذا ربط بين علمي البيان و المعاني ربطا وثيقا حين ذهب إلى أن جمال االستعارة إنما يأتي بعد أن
ت وجوه المعاني من تقديم وتأخير و تعريف وتنكير و إسناد و عموم وخصوص وإطالق و تقييد كملَ ْ
است ُ ِ
و فصل مما تضمه أبواب علم المعاني .
يتبين من هذا العرض حول نظرية النظم أن عبد القاهر الجرجاني استفاد من سابقيه العرب كالجاحظ
وقدامة و غيره ،لكنه استفاد أكثر مما نقله ابن سينا عن (كتاب العبارة) ألرسطو ،وقرأه جيدا ودرسه
دراسة نقد وتمحيص .وأهم مراجعة قام بها الجرجاني تلك التي طالت مفهومي " الحقيقة" و "المجاز".
تبين للجرجاني بأن تحديد القدماء لمفهوم المجاز مضطرب وغير مستقيم ،فانبرى يوضح مبهمه ويجلو
غامضه .وذهب إلى أن المجاز على ضربين :مجاز من طريق اللغة ،ومجاز من طريق المعنى
والمعقول ( :مجاز لغوي و مجاز عقلي) يقول عبد القاهر ":فإذا وصفنا بالمجاز الكلمة المفردة كقولنا "
اليد مجاز في النعمة " و " األسد مجاز في اإلنسان وكل ما ليس بالسبع المعروف " ،كان حكما أجريناه
على ما جرى عليه من طريق اللغة ،ألنا أردنا أن المتكلم قد جاز باللفظة أصلها الذي وقعت له ابتداء
في اللغة ،وأوقعها على غير ذلك ،إما تشبيها ،وإما لصلة ومالبسة بين ما ما نقلها إليه وما نقلها عنه.
ومتى وصفنا بالمجاز الجملة من الكالم ،كان مجازا من طريق المعقول دون اللغة ،وذلك أن األوصاف
الالحقة للجمل من حيث هي جمل ال يصح ردها إلى اللغة ،وال وجهَ لنسبتها إلى واضعها ،ألن التأليف
هو إسناد فعل إلى اسم ،أو اسم إلى اسم ،وذلك شيء يحصل بقصد المتكلم ،فال يصير "ضرب" خبرا
21
عن" زيد " بواضع اللغة ،بل بمن قصد إثبات الضرب فعال له ،وهكذا " :ليضربْ زيد" ،ال يكون
أمرا لزيد باللغة ،وال " اضرب" أمرا للرجل الذي تخاطبه و تقبل عليه من بين كل من يصح خطابه
باللغة ،بل بك أيها المتكلم .فالذي يعود الى واضع اللغة ،أن " ضرب" إلثبات الضرب ،وليس إلثبات
الخروج ،وأنه إلثباته في زمان ماضي ،وليس إلثباته في زمان مستقبل .فأما تعيين من يُثبت له ،
فيتعلق بمن أراد ذلك من ال ُمخ ِب ِرين باألمور ،والمعبرين عن ودائع الصدور ،و الكاشفين عن المقاصد
والدعاوى ،صادقة كانت تلك الدعاوى أو كاذبة و ُمجراة على صحتها ،أو مزالة عن مكانها من
الحقيقة وجهتها ومطلقة بحسب ما تأ ذن فيه العقول و ترسمه أو معدوال بها عن مراسمها نظما لها في
سبيل التخييل ،وسلوكا بها في مذهب التأويل . 87 .
ثم قسم المجاز اللغوي إلى نوعين :أحدهما يقوم على التشبيه ،أما اآلخر فعبارة عن كل لفظ استعمل
مكان لفظ آخر لصلة بينهما .والمجاز الذي تكلم عنه أرسطو هو ذلك الذي يجيز إطالق اسم الجنس على
النوع ،واسم النوع على الجنس ،واسم النوع على نوع آخر . 88ومجاز أرسطو هذا هو ما يسميه عبد
القاهر (مجازا مرسال) ،و أما المجاز الذي يقوم على التشبيه ،والذي يقابله عند أرسطو ب (الصورة)
فيسميه عبد القاهر (استعارة) وهو لفظ كان القدماء يطلقونه على المجاز بكافة أنواعه .يقول الدكتور طه
حسين ":تعمق عبد القاهر الجرجاني في دراسة التشبيه والمجاز تعمقا لم يسبق إليه ،ولكن من غير أن
89
يخرج بحال من الحدود التي رسمها أرسطو "
أما المجاز العقلي (الاللغوي) فهواكتشاف عبد القاهر ":فإذا قلنا مثال ؛ " خط أحسن مما وشاه الربيع" أو
" صنعه الربيع" كنا قد ادعينا في ظاهر اللفظ أن للربيع فعال أو صنعا ،أو أنه شارك الحي القادر في
صحة الفعل منه ،وذلك تجوز من حيث المعقول ال من حيث اللغة ،ألنه إن قلنا " :إنه مجاز من حيث
اللغة" صرنا كأنا نقول :إن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد ،وإنها لو
والصبغ والتحسين ،لكان ما هو مجاز
ِ َح َك َمت بأن الجماد يصح منه الفعل و الصنع والوشي والتزيين ،
صل ،وذلك محال .90وال يعدم الجرجاني اآلن حقيقة،و لعاد ما هو اآلن متأول ،معدودا فيما هو حق مح ًّ
جهدا في سبر أغوار هذا المجاز الذي ابتكره ،بالتوسع في تحديده و تمييزه عن المجاز المعروف .
أما كتاب دالئل اإلعجاز وكما رأينا قبال حاول فيه الجرجاني إثبات إعجاز القرآن جامعا فيه بين
الزوجين البيانيين (اللفظ والمعنى) إذ رأى أن إعجاز القرآن ليس في جمال لفظه فقط ،أو في روعة
معانيه وفرادتها ،بل هي في نظم كالمه ،أي في أسلوبه ،وألجل ذلك سيضطر عبد القاهر إلى دراسة
(الجملة) منفردة ومتصلة ،ويسوقه المقام إلى دراسة أهمية حروف العطف ،وقيمة اإليجاز واإلطناب ،
وضرورة مطابقة الكالم لمقتضى الحال .وبهذا يكون قد وضع أساس علم المعاني الشهير.
يقول طه حسين ":وال يسع من يقرأ دالئل اإلعجاز إال أن يعترف بما أنفق عبد القاهر من جهد صادق
،خصب ،في التأليف بين قواعد النحو العربي وبين آراء أرسطو العامة في الجملة ،واألسلوب ،
- 87أسرار البالغة ص 409-408
22
والفصول .وقد وفق عبد القاهر فيما حاول توفيقا يدعو إلى اإلعجاب .وإذا كان الجاحظ هو واضع
أساس البيان العربي حقا فعبد القاهر هو الذي رفع قواعده و أحكم بنيانه" . 91
تمثل مرحلة عبد القاهر فترة ازدهار الدراسات البالغية ،لكن الذين أتوا بعده أغرقوا أنفسهم في علم
الفلسفة وعلم الكالم وعلم المنطق ،و تسربت مناهج وحدود وتفريعات هذه العلوم إلى علم البالغة ،
وسيطرت النزعة العقلية ،خاصة بعد جنوح األدب إلى الجمود و التقليد ،وسيطرت األقيسة المنطقية
والتفريعات الهندسية و أضحت البالغة مجرد قواعد جافة وجامدة ،ولعل أصدق مثال على هذا القول
كتاب السكاكي المعروف " مفتاح العلوم" .
يعد هذا المصدر إيذانا بتوقف البحث البالغي ،ألن الذين أتوا بعده اقتصرت أعمالهم على الشرح
والتوضيح و التلخيص والتفسير لما كتبه هؤالء أمثال القزويني والتفتازاني. 92فمن هو السكاكي وماذا
عرض في كتابه المفتاح من مسائل البالغة ؟
السكاكي 93هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد بن علي السكاكي( 555ه-مابين 623أو 627ه)
من أهل خوارزم ،وهو إمام في العربية والمعاني والبيان واألدب والعروض والشعر وعلم الكالم والفقه
والفلسفة وعلم المنطق .ولقد اشتهر السكاكي في عصره شهرة واسعة ،حتى قال عنه ياقوت الحموي ":
هو فقي ه متكلم متفنن في علوم شتى ،وهو أحد أفاضل العصر الذين سارت بذكرهم الركبان ". 94
لقد كان لتأثير المنطق دور كبير في سريان العقلية المنطقية المنظمة على أعماله ،وخاصة على غرة
عها للتقعيد ،كما هو
مصنفاته " المفتاح" ،ولقد حاول بإيعاز منه تقنينَ البالغة العربية و تبوي َبها وإخضا َ
النحو والصرف والعروض .
القسم األول منه يضم قضايا علم الصرف وما يتصل به مثل االشتقاق الصغير والكبير واألكبر .
القسم الثالث يضم مباحث علم البيان و علم المعاني ،ولقد أضاف السكاكي في هذا القسم بعض نظراته
في الفصاحة والبالغة و مسائل البديع ،من محسنات بديعية لفظية ومعنوية .ووجد أن علم المعاني
يحتاج من ينظر فيه إلى الوقوف على الحد و االستدالل ولهذا كان البد من الوقوف على علم المنطق ،
وفعال أفرد في هذا القسم مبحثا خصصه لمسائل المنطق و قضاياه .كذلك فعل مع المعاني والبيان ،
- 92انظر شرح مفتاح العلوم ،شرح القسم الثالث من مفتاح العلوم للعالمة مسعود بن عمر التفتازاني .مخطوطة رقم the digital 1426
public library of America / Harvard university
- 93انظر في ترجمته كتاب معجم األدباء لياقوت الحموي ج 20ص ، 59والسبكي في طبقات الشافعية بترجمة ابن القفال ج 3ص ، 199
وشذرات الذهب ج 5ص 122وكتاب الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي ص ، 301ولب األلباب في تحرير األنساب للسيوطي ج 1ص
137طبعة ليدن .
23
حين الحظ أن هذين العلمين يحتاجان إلى علمي العروض و القافية ،فأفرد لهما المبحث األخير من
الكتاب .وبذلك يكون كتاب "المفتاح" كتابا جامعا مانعا لعلوم الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق
والعروض و القوافي .ولقد أشر على هذا التجميع حين قال ":وما ضمنت جميع ذلك في كتابي هذا إال
بعد ما ميزت البعض عن البعض التمييزَ المناسب ولخصت الكالم على حسب مقتضى المقام هنالك ،
ومهدت لكل من ذلك أصوال الئقة و أوردت حججا مناسبة ،وقررت ما صادفت من آراء السلف –قدس
احتملت من التقرير ،مع اإلرشاد إلى ضروب مباحث قل ْ
ت عناية السلف بها وإيراد ْ هللا أرواحهم -بقدر ما
لطائف مقننة ما فتق أحد بها َرتْق أذن " .
95
وعليه ،قسم السكاكي البالغة إلى علمين متميزين هما :علم المعاني وعلم البيان –كما رأينا ، -ومن ثم
حصر مو ضوعات كل علم حصرا منطقيا ،وألحق بهما البديع الذي عده وجوها يؤتى بها لتزيين الكالم ،
وأدخل األساليب الكالمية والفلسفية في معالجة القضايا وأسرف في اإليجاز .وقسم الثاني البالغة أو
البيان إلى الصناعة اللفظية وهي األلفاظ وبعض فنون البديع كالسجع ،والتجنيس ،والترصيع ،ولزوم
ما ال يلزم ،والموازنة ،واختالف صيغ األلفاظ واتفاقها ،والمعاظلة اللفظية ،والمنافرة بين األلفاظ في
السبك .والصناعة المعنوية وهي االستعارة ،والتشبيه ،والتجريد ،وااللتفات ،واإليجاز ،واإلطناب ،
96
والتكرير ،والكناية ،والتضمين ،والسرقات وغيرها .
وفي هذا القسم الخاص بالبالغة من كتاب المفتاح ،سوف يفصل السكاكي بين علوم البالغة الثالثة على
نحو حاسم ألول مرة في تاريخ البالغة ،على الرغم من أنه لم يجعل علم البديع علما مستقال بذاته
وقسيما لعلمي المعاني والبيان ،بل تحدث عن المحسنات البديعية في أعقاب دراسته المنطقية للمعاني
والبيان ،إذ هو عنده –أي البديع -ليس سوى " وجوه مخصوصة كثيرا ما يصار إليها لقصد تحسين
الكالم ،وهو عنده قسمان :قسم يرجع إلى المعنى ،وقسم يرجع إلى اللفظ . "97وبهذا يكون السكاكي
قد قدم للعلماء الذين أتوا بعده الصيغة النهائية للكتابة حول علم البالغة ،جامعا لما كان متناثرا عند
سابقيه من مسائل البالغة ،منظما إياها تنظيما محكما ،وضابطا لقواعدها ضبطا منطقيا ،لتبحره في
هذا العلم و ما يتطلبه من قدرة هائلة على التعليل والتسبيب و التجريد والتحديد والتعريف والتقسيم
والتفريع و التشعيب والسبر والتقويم واالستدالل ،وترتيب المقدمات وإحكام المقاييس و تصحيح
البراهين .وبهذا تتحول البالغة عند السكاكي إلى علم دقيق بكل ما تحمل الجملة من معنى ،علم له
قوانين وقواعد مضبوطة ،خاض ع لسلطة المنطق و أصوله ومنهجه الصارم ،وهذا ما عابه ويعيبه اليوم
المشتغلون بالبالغة في عمل السكاكي ،إذ يرونه جعل من البالغة مجموعة من القواعد والقوانين
الصارمة ،خالية من كل جمالية ،وبعيدة عن الفنية ،وخارجة عن الوظيفة األصلية للبالغة ،والتي
هي تربية الذوق على الجمال و إحكام الملكة األدبية ،وكأنها لم تعد فنا من فنون الجمال ،وإنما أصبحت
علما من علوم اللغة مع يداخلها من الفلسفة والمنطق و تقديمه للمقدمات واستنتاجه للنتائج.
- 95مفتاح العلوم ص ، 6ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه نعيم زرزور .دار الكتب العلمية بيروت لبنان .الطبعة األولى 1403ه1984-م
الطبعة الثانية 1407ه1987 -م .م
- 97انظر الصفحة 423من المفتاح .طبعة دار الكتب العلمية ،ضبط وتعليق نعيم زرزور.
24
من مرجعيات المفتاح ،كتاب " دالئل اإلعجاز" و "أسرار البالغة" لعبد القاهر الجرجاني ،وكذا "
الكشاف" للزمخشري و تلخيص الفخر الرازي .لكنه حاد عن تصور الجرجاني للبالغة في قوله
بالنظم،والوقوف على حسن األلفاظ وجمالها الحسي ،والنظر إلى الصور البيانية من المجاز والكناية
واالستعارة ليؤكد أن جمالها ال يرجع إلى مدلوالتها ومضامينها ،وإنما يرجع إلى المعاني اإلضافية التي
يالحظها الحاذق البصير في تراكيب العب ارات وخصائص نظمها وصور نسقها وسياقها ،ناظرا إليها
كعلم يجب أن يخضع للصرامة العلمية ،باالنضباط للقواعد و االمتثال لشرط المعرفة المضبوطة .
رتب السكاكي علوم البالغة الثالثة على الشكل التالي :بدأ أوال بعلم المعاني ،ثم أتبعه بعلم البيان و
أنهاه بالمحسنات البديعية .وإذا درج علماء البالغة بعده على التمهيد لدراسة العلوم الثالثة بمقدمة تتناول
الحديث عن "الفصاحة" و "البالغة" فإن السكاكي عرض له بعدما أنهى كالمه عن البيان ،وقبل أن
يشرع في الحديث عن الوجوه المخصوصة التي يصار إليها قصد تحسين الكالم ،و نقصد بذلك كالمه
عن البديع .
عرف السكاكي علم المعاني وعلم البيان ،وأبان حدهما وكشف عن ماهيتهما والغرض منهما بصيغة
الزالت إلى اليوم يعتمدها علماء البالغة ،ال تكاد تخرج عن التعريف الدقيق الذي وضعه لهما في
المفتاح .فهو مثال حين يعرف علم المعاني يقول عنه ":اعلم أن علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب
الكالم في اإلفادة ،وما يتصل بها من اإلستحسان وغيره ،ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق
الكالم على ما يقتضي الحال ذكره ؛ وأعني بتراكيب الكالم التراكيب الصادرة عمن له فضل تمييز
ومعرفة ،وهي تراكيب البلغاء ،ال الصادرة عمن سواهم ،لنزولها في صناعة البالغة منزلة أصوات
حيوانات تصدر عن محالها بحسب ما يتفق ،وأعني بخاصية التراكيب :ما يسبق منه إلى الفهم عند
سماع ذلك التركيب ،جاريا مجرى الالزم له ،لكونه صادرا عن البليغ ،ال لنفس ذلك التركيب من
حيث هو هو ،أو الزما له هوهو حينا ،وأعني بالفهم ؛ فهم ذي الفطرة السليمة ،مثل ما يسبق إلى فهمك
من تركيب :إن زيد منطلق ؛ إذا سمعته عن العارف بصياغة الكالم ،من أن يكون مقصودا به نفي
الشك ،أو رد االنكار ،أو من تركيب :زيد منطلق من أنه يلزم مجرد القصد إلى اإلخبار ،أو من نحو :
منطلق ،بترك المسند إليه ،من أنه يلزم أن يكون المطلوب به وجه االختصار مع إفادة لطيفة مما يلوح
بها مقامها .وكذا إذا لفظ بالمسند إليه ،وهكذا إذا عُ ِرف أو نُ ِكر ،أو قُيد أو أطلق ،أو قُ ِد َم أو أ ُ ِخر ،على
ما يطلعك على جميع ذلك شيئا فشيئا مساق الكالم في العلمين بإذن هللا تعالى ". 98
كذلك فعل في تحديده لعلم البيان حين عرفه على الشكل التالي " :هو معرفة إيراد المعنى الواحد في
طرق مختلفة ،بالزيادة في وضوح الداللة عليه ،وبالنقصان ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في
مطابقة الكالم لتمام المراد منه ،وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى
س من كالمه ُ ،مفت ِقر إلى هذين العلمين كل االفتقار ،فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو وت َقَد َ
فيهما راجل ،ولما كان علم البيان شعبة من علم المعاني ال تنفصل عنه إال بزيادة اعتبار ،جرى منه
مجرى المركب من المفرد ،ال جرم آثرنا تأخيره ". 99
- 99نفسه ص 162
25
بعد هذا التمهيد الدال على ماهية علم المعاني والبيان ،قسم السكاكي الجزء الثالث من "المفتاح"،
والخاص بالبالغة إلى فصلين :وعقد الفصل األول لضبط معاقد علم المعاني والكالم عليه ،مستهال
بتمهيد متبوع بآراء العلماء في الخبر والطلب ،وهذا الفصل ينقسم إلى قانونين :القانون األول ويخص
الخبر ومتعلقاته من "لكل مقام مقال" ،وفنون الخبر .وفي مبحث فنون الخبر تطرق السكاكي لفنون
ثالثة مرتبطة بالخبر .
-1الفن األول في تفصيل اعتبارات اإلسناد الخبري ،ويضم مسألتين :الخبر الطلبي والخبر اإلنكاري.
-2الفن الثاني في تفصيل اعتبارات المسند إليه ،وبه المسائل التالية :
26
_قصر المسند إليه على المسند
-3أما الفن الثالث ففيه تفصيل العتبارات المسند ويضم المسائل التالية:
_ ترك المسند
_ ذكر المسند
_إفراد المسند
تقييد المسند
_تخصيص المسند
_تأخير المسند
_ تقديم المسند
وفي الفصل الثاني المتعلق باعتبارات الفعل ومتعلقاته ،فلقد ضمنه السكاكي المسائل التالية :
_ ترك الفعل
_ إثبات الفعل
_ترك مفعوله
أما الفن الرابع ففيه الفصل ،والوصل ،واإليجاز ،و اإلطناب .بعد تحديد السكاكي للفصل يتبعه
بالعطف ،والقطع ،واإلبدال ،واإليضاح والتبيين ،وكمال االنقطاع ،والبدل ،والتقرير و التأكيد ،
27
واالنقطاع ،والحال و أصله ،والظرف ،واإليجاز ،و اإلطناب ،واالختصار ،والتمييز ،ومراتب
الكالم البليغ ،واالستعارة .
داخل هذا الباب يعقد السكاكي فصال في بيان القصر ومعناه ،وطرقه ،وحكم "ال" العاطفة ،والقصر
بين الفاعل والمفعول ،والقصر بين المفعولين ،والقصر بين ذي الحال والحال ،ثم مستلزمات "إال"،
وحكم "إنما " وحكم "غير".
أما القانون الثاني من علم المعاني وهو قانون الطلب ،استهله السكاكي بمقدمة ،وفيه نوعان ،ويضم
خمسة أبواب وهي على التوالي :
أما الفصل الثاني المخصص لعلم البيان ،فلقد قسمه السكاكي إلى أصول ثالثة :
األصل األول للتشبيه ،واألصل الثاني للمجاز ،واألصل الثالث للكناية .
ثم عكف على تقسيم كل أصل من هذه األصول بطريقة نموذجية ،فقسم األصل األول وهو التشبيه إلى
أنواع خمسة:
_ النوع األول " طرفا التشبيه" ،والنوع الثاني "وجه التشبيه" ،والنوع الثالث " وجه التشبيه واحدا "
والرابع "وجه التشبيه غير واحد" ،والخامس " وجه التشبيه ليس واحدا وليس في حكم الواحد".
وفصل القول فيه بالحديث عن أحوال التشبيه ،وفيه ذكر أسباب قرب التشبيه ،وأسباب بعد التشبيه
وغرائبه ،وقبول التشبيه ،ورد التشبيه .
أما األصل الثاني من علم البيان فهو مخصص للمجاز ،ويضم فصوال خمسة :
28
-الفصل األول خصصه للمجاز اللغوي غير المفيد ،والفصل الثاني للمجاز اللغوي المفيد والخالي
من المبالغة في التشبيه ،والفصل الثالث لالستعارة ،والفصل الرابع للمجاز اللغوي الراجع إلى
حكم الكلمة ،والفصل الخامس للمجاز العقلي .
وال يقف السكاكي عند حدود تفريع هذا األصل إلى مجموعة فروع ،و إنما يسترسل في تشعيب هذه
الفروع إلى مجموعة من الشعب .فيقسم االستعارة ،التي تمثل الفصل الثالث من فصول المجاز إلى
مجموعة من األقسام :
_ القسم األول يخص االستعارة التصريحية ،والتي يسميها السكاكي باالستعارة المصرح بها
التحقيقة مع القطع .
_ القسم السادس في االستعارة التبعية وتضم االستعارة ب"لعل" ،واالستعارة ب"الالم" ،واالستعارة
ب"ربما" ،وقرينة االستعارة التبعية .
أما الفصل عبار لا فمخصص للمجاز اللغوي الراجع إلى حكم الكلمة في الكالم ،والفصل الخامس في
المجاز العقلي ،وفيه وجوه استعمال المجاز العقلي ،وصور المجاز العقلي ،والحقيقة العقلية،
وأقسام المجاز.
أما األصل الثالث من علم البيان وهو "الكناية " ،فلقد قسمه السكاكي إلى أقسام ثالثة :
ثم تعرض ألنواع الكناية ،وخلص الى تعريف البالغة والفصاحة في نهاية حديثه عن علم البيان ،
ولم يتبع طريقة أسالفه في اتخاذ هذه التعاريف توطئة للكتابة في علم البالغة .و أنهى الفصل بتحديد
100
البديع ،مميزا فيه بين نوعين من البديع :البديع المعنوي والبديع اللفظي .
- 100انظر فيه الفهرسة التي وضعها السكاكي لهذه األبواب في كتابه "المفتاح" .تحقيق علي زرزور.
29
وجاء حديثه عن البديع في أعقاب كالمه عن الفصاحة ،وهو عنده –أي البديع -ال يندرج في البالغة
،وما يتصل بها من اإلعجاز القرآني .وهو بذلك يتابع الزمخشري في مقدمة الكشاف حين قال ":
إن بالغة القرآن ال يدرك حقيقتها إال من بلغ الغاية في معرفة علمي المعاني والبيان ، 101مخرجا
بذلك علم البديع ومعتبرا إياه ذيال لل ِع ْل َم ْي ِن .
وعلى خطى الفخر الرازي والزمخشري ،لم يدخل السكاكي المحسنات في البالغة ،بل فصلها
فصال تاما 102 .ولكي يؤكد هذا الفصل جعلها من باب الفصاحة كما ألمعنا إلى ذلك ونحن نعدد
أبواب الفصل الثالث من كتاب مفتاح العلوم ،في القسم المخصص للمعاني والبيان ،ثم قسمها كما
رأينا إلى نوعين ،قسم يعود إلى اللفظ وقسم يعود إلى المعنى .
أما المحسنات المعنوية التي تطرق إليها السكاكي فهي :المطابقة ،والمقابلة ،والمشاكلة ،ومراعاة
النظير ،والمزاوجة ،واللف والنشر ،والجمع ،والتفريق ،والتقسيم ،والجمع مع التفريق ،والجمع
مع التقسيم ،والجمع مع التفريق والتقسيم ،واإلبهام ،وتأكيد المدح بما يشبه الذم ،والتوجيه ،
وسوق المعلوم مساق غيره ،واالستتباع ،واالعتراض ،وااللتفات ،وتقليل اللفظ وال تقليله مما
يدخل في بعض صور اإليجاز واإلطناب .
أما المحسنات اللفظية التي تكلم عنها فهي :التجنيس ،واالشتقاق ،ورد العجز على الصدر ،والقلب
،والسجع ،والترصيع .
وبه ينهي السكاكي الفصل الثالث الخاص بالبالغة ،بعدما عرف المعاني والبيان وألحقهما
بالفصاحة ،وأنهى الفصل بالمحسنات البديعية .
لقد عاب كثير من دارسي البالغة على السكاكي صرامة منهجه وكثرة تقسيماته ، ،وكيف بالغ في
هذه التقسيمات التي أردفها بتفريعات و تشعبات شتى ،وتعريفات ال تعد وتحصى ،وهيمنة المنطق
والفلسفة على كل ما َحب َر و َحر َر ،وخلوه من القيم الجمالية ،و غياب وظيفة هذه القيم في إيصال
الداللة إلى المتلقي ،لكن واقع الحال يبين بجالء كيف أن السكاكي ضبط مادته النظرية في قالب
صلب ومتماسك ال يأتيه الخلل من بين يديه وال من خلفه ،تماما كما كان يفعل المناطقة وأهل
البرهان ،وهذا -في نظرنا -ال يعيب السكاكي في شيء .ورغم إصرار الكثيرين على االعتراض
على خلو مادته العلمية من الذوق الجمالي إال أنهم عكفوا عليه يدرسونه آناء الليل وأطراف النهار ،
ووضعوا على سفره شروحات عديدة و تالخيص و تفاسير ال تعد وال تحصى ، 103وال زال إلى
اليوم معتمد البالغيين ال يحيدون عن تقسيماته وال يبرحون تفريعاته .
- 102انظر في ذلك كتاب شوقي ضيف البالغة تطور وتاريخ ص ، 312و باب البديع في مفتاح العلوم للسكاكي.
- 103انظر فيه شرح قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي ،وشمس الدين محمد بن مظفر الخطيبي ،وناصر الدين الترمذي المعاصر
للشيرازي ،وعماد الدين يحيى بن أحمد الكاشي المتوفى عام 745ه ،وسعد الدين بن مسعود التفتازاني ،والسيد الشريف علي بن محمد
الجرجاني المتوفى 816ه1413 /م ،الموسوم بالمصباح ،والخطيب القزويني في إيضاحه ،والصعيدي في بغية االيضاح ،ونظام الدين حسن بن
محمد العرج النيسابوري من علماء رأس المائة التاسعة ،له حاشية على المفتاح .ثم حسام الدين الكاتي القاضي المعروف بقاضي الروم ،ثم
سيف الدين األبهري المتوفى في حدود سنة 700ه1300/م ،و شرح موالنا سلطان شاه وهو كشرح السيد الشريف .ثم شمس الدين محمد بن
مظفر الخلخالي المتوفى عام 745ه1344/م ،ثم الخطيب اليمني .وشرحه أيضا أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبري زادة وكتب حاشية
30
فهرس المصادر والمراجع
-أدب الكاتب من تأليف أبي محمد عبد هللا بن مسلم بن قتيبة الدينوري .شرحه وقدم له األستاذ
علي ناعور .دار الكتب العلمية بيروت لبنان .الناشر :دار المعرفة .
-أسرار البالغة تأليف الشيخ أبي بكر عبد القاهر الجرجاني .قرأه وعلق عليه أبو فهد محمود
محمد شاكر .الناشر دار المدني بجدة (1412ه1991 /م) .مصر الجديدة
-اإلمتاع والمؤانسة ألبي حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي .تحقيق هيثم خليفة
الطعيمي .سنة النشر 1424ه2004/م .المكتبة العصرية بيروت لبنان
-أنساب األشراف ألحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَالَذُري من تحقيق سهيل زكار ورياض
زركلي .سنة النشر .1977عدد المجلدات .13توزيع مكتبة بحوث ودراسات دار الفكر .
توجد منه مخطوطتان فقط بالعالم ،واحدة بأستنبول والثانية بالرباط.
-إيساغوجي هو كتاب لفورفوريوس الصوري الذي وضعه في القرن الثالث الميالدي و أضافه
إلى الكتب الثمانية للمنطق التي وضعها أرسطو تحت اسم األوغانون .وهو يعتبر مدخال للمنطق
األرسطي .أشهر المتون العربية عليه تلك التي وضعها أثير الدين األبهري تحت عنوان :متن
إيساغوجي في المنطق .نسخ الكتاب أحمد بن الحاج صالح في ربيع األول من عام 1265ه
1849/م .وهو من مقتنيات مال قاسم أفندي المفتي .رتبه حديثا وبشكل مبسط جدا محمد بن
عبد الرحمن بن علي الشهري ،موجود على الشبكة العنكبوتية .
على أوائل شرح السيد ،توفي عام 962ه1555 /م .والمولى محيي الدين محمد بن مصطفى ال ُم َحشِي المعروف بشيخ زادة المتوفى عام 951ه/
1544م ،وجمال الدين محمد بن احمد الشريشي المتوفى عام 769ه1368/م .وابن شيخ العوينة زين الدين علي بن الحسين الموصلي الشافعي
المتوفى سنة 755ه1354 /م .واختصره بدر الدين محمد بن محمد بن مالك الدمشقي المتوفى سنة 686ه1287 /م وسماه المصباح في اختصار
المفتاح .ونظمه أبو عبد هللا محمد بن عبد الرحمن الضرير المراكشي و شرحه في ضوء الصباح على ترجيز المصباح ،ثم اختصر هذا
المختصر بدر الدين محمد بن يعقوب الحموي المعروف بابن النحوية وسماه :ضوء المصباح وشرحه في مجلدين ،توفي عام 718ه1414/م .كما
لخص القسم الثالث من المفتاح شمس الدين ،جالل الدين محمد بن عبد ا لرحمن بن عمر القزويني الشافعي المعروف بخطيب دمشق المولود سنة
666ه 1286 /م وسماه تلخيص المفتاح ،وهذا الكتاب مطبوع عدة مرات ثم اختصر تلخيص المفتاح في كتاب اإليضاح فالقى قبوال وانتشارا
واسعا ،وطبع أكثر من مرة .
31
-اإليضاح للقزويني .وضع حواشيه ابراهيم شمس الدين .منشورات دار الكتب العلمية .بيروت
لبنان ط 1بتاريخ 2003
-البرهان في وجوه البيان ألبي إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب والموضوع تحت عنوان
خاطئ :كتاب نقد النثر ألبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي .المكتبة العلمية بيروت
لبنان 1440ه1980 /م ،يطلب من دار الباز المروة مكة المكرمة .
-البحث البالغي عند العرب للدكتور أحمد مطلوب .منشورات دار الجاحظ .بغداد .الجمهورية
العراقية 1980 .م.
-بحوث في الملل والنحل للفقيه المحقق آية هللا الشيخ جعفر السبحاني ،مؤسسة اإلمام الصادق قم
إيران .الطبعة األولى 1427ه .يقع الكتاب في ثمانية أجزاء .
-البالغة تطور وتاريخ للدكتور شوقي ضيف .طبعة دار المعارف .الطبعة الثالثة .سنة الطبع
1965
-بنية العقل العربي (دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية) للدكتور محمد بن عابد
الجابري .مركز دراسات الوحدة العربية .الطبعة األولى بتاريخ .1986
-البيان والتبيين ألبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الليثي ،الشهير بالجاحظ .تحقيق :
الدكتور عبد السالم هارون ،الناشر :مكتبة الخانجي بالقاهرة ،عدد المجلدات أربعة .الطبعة
السابعة
-تاريخ بغداد أو تاريخ مدينة السالم ألحمد بن علي بن ثابت البغدادي (أبو بكر) المعروف
بالخطيب .المحقق بشار عواد معروف .دار الغرب اإلسالمي .
-تاريخ العلماء النحويين من البصريين و الكوفيين وغيرهم .ألبي المحاسن المفضل بن محمد بن
مسعر التنوخي المعري المتوفى عام 424ه :تحقيق الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو .الناشر :
هجر للطباعة والنشر والتوزيع ،الطبعة الثانية 1992م .عدد أجزائه :واحد
-تثبيت دالئل النبوة للقاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني األسد أبادي ،أبو
الحسين المعتزلي المتوفى عام 415ه .الناشر دار المصطفى شبرا القاهرة .عدد األجزاء 2
-التراث النقدي والبالغي للمعتزلة حتى نهاية القرن السادس الهجري ،للدكتوروليد قصاب .نشر
وتوزيع :دار الثقافة الدوحة .قطر
-تكوين العقل ا لعربي للدكتور محمد عابد الجابري ،وهو العمل األول للجابري في سلسلة نقد
العقل العربي ،الطبعة الرابعة عشرة .الناشر :مركز دراسات الوحدة العربية .تاريخ النشر
. 2014مجلد واحد .
32
-تلخيص الخطابة البن رشد .حققه وقدم له د .عبد الرحمن بدوي .الناشر :وكالة المطبوعات
للكويت ودار القلم .بيروت 1959م .
-تلخيص السياسة البن رشد ،تحقيق حسن مجيد العبيدي و فاطمة كاظم الذهبي .الناشر :دار
الطليعة للطباعة والنشر .الطبعة الثانية .
-الحيوان للجاحظ .شرح و تحقيق عبد السالم هارون .الطبعة الثانية 1384ه1965 /م.
-دالئل اإلعجاز ألبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي .قرأه وعلق
عليه أبو فهد محمود محمد شاكر .مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع ومطبعة المدني
(المؤسسة السعودية بمصر) بتاريخ 1404ه1984 /م.
-شرح مفتاح العلوم (شرح القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي) من إنجاز مسعود بن عمر
التفتازاني .مخطوطة رقم . 1426المصدرthe digital library of America l Harvard :
university : online
-شذرات الذهب في أخبار من ذهب لعبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد العكري الحنبلي (أبو
الفالح) المحقق :عبد القادر األرناؤوط و محمود األرناؤوط ،الناشر :دار ابن كثير .سنة
النشر 1406ه1986 /م الطبعة األولى .عدد المجلدات 10
-طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي ،تحقيق محمود محمد الطناحي ،وعبد الفتاح الحلو .
الناشر فيصل عيسى البابي الحلبي .سنة النشر .1964عدد المجلدات 10
-طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي .تحقيق محمود محمد شاكر القاهرة . 1974الناشر
دار المدني .عدد المجلدات 2
-الطراز المتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز لإلمام يحيى بن حمزة بن علي بن
إبراهيم العلوي (أمير المؤمنين) .طبعة مطبعة المقتطف بمصر . 1914الجزء الثالث من
الكتاب .ملكية جامعة تورنتو بكندا .نسخة مصورة وموجودة على الشبكة العنكبوتية .
-اعتقادات فرق المسلمين والمشركين لإلمام فخر الدين الرازي .مراجعة وتحليل علي سامي
النشار .دار الكتب العلمية .بدون تاريخ
-عبد القاهر الجرجاني –بالغته ونقده -للدكتور أحمد مطلوب .بيروت .1973
-عيون األخبار ألبي محمد عبد هللا بن مسلم بن قتيبة الدينوري .الناشر دار الكتب المصرية .
دار الكتاب العربي .سنة النشر .1925عدد المجلدات أربعة .
-الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي ،تحقيق محمد الخشت .الناشر :مكتبة ابن سينا للنشر
والتوزيع والتصوير .غير مفهرس .عدد مجلداته واحد .
-فن الخطابة للدكتور أحمد محمد الحوفي .دار النهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع 1985 .
33
-الفهرست في أخبار العلماء المصنفين من القدماء والمحدثين و أسماء كتبهم .البن النديم (أبو
الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف بالوراق ) .المحقق :رضا تجدد المازنداري .عدد
مجلداته واحد .واعتمدنا على التي قابلها على األصل :أيمن فؤاد سيد .لندن .مؤسسة الفرقان
للتراث اإلسالمي .نسخة مؤرشفة عن األصل .
-الفوائد البهية في تراجم الحنفية لمحمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي (أبو الحسنات ) .المحقق :
محمد بدر الدين أبو فراس النعساني .الناشر :مطبعة السعادة .سنة النشر 1324ه .الطبعة
األولى .عدد مجلداته :واحد
-الكامل في التاريخ لعلي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري ،أبو الحسن
عز الدين ابن األثير .المحقق :أبو الفداء عبد هللا القاضي .الناشر :دار الكتب العلمية 1407ه
1987 /م .عدد المجلدات . 11الطبعة األولى.
-الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ألبي القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري جار هللا.
الناشر :دار الكتاب العربي بيروت .الطبعة الثالثة .عدد أجزائه أربعة .
-كتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري (أبو هالل الحسن بن عبد هللا بن سهل العسكري .تحقيق:
علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم .الطبعة األولى .دار إحياء الكتب العربية ،
بتاريخ 1371ه1952 /م
-لب األلباب في تحرير األنساب لجالل الدين السيوطي .تحقيق محمد أحمد عبد العزيز و أشرف
أحمد عبد العزيز . .عام .1840عن طبعة ليدن (.نسخة مصورة على النت)
-لسان الميزان ألبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقالني .المحقق :دائرة
المعارف النظامية ،الهند الناشر :مؤسسة األعلمي لمطبوعات بيروت –لبنان الطبعة الثانية
1390ه1971 /م .عدد أجزائه 7
-مروج الذهب ومعادن الجوهر ألبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي المتوفى عام
346ه .تحقيق :أسعد داغر .عدد األجزاء .4الناشر :دار الهجرة –قم .تاريخ النشر
1409ه.
-معجم البلدان لألديب الشاعر الشيخ اإلمام ،أبو عبد هللا ياقوت بن عبد هللا الحموي الرومي
البغدادي المشهور بياقوت الحموي .الناشر :دار صادر .سنة النشر 1993 :م .عدد المجلدات
5:
-معجم المؤلفين (وتراجم مصنفي الكتب العربية) لعمر رضا كحالة .دار إحياء التراث العربي
بيروت .الناشر :مكتبة المثنى.
34
-المغني في أبواب التوحيد والعدل .إمالء القاضي أبي الحسن عبد الجبار األسدآبادي .تحقيق
توفيق الطويل .راجعه الدكتور إبراهيم مدكور بإشراف الدكتور طه حسين .يقع في 16جزءا
لم تصلنا كاملة .وأعادت نشره دار بيضون .طبعة دار الكتب العلمية .طبعة . 2012
-مفتاح العلوم ألبي يعقوب يوسف بن محمد بن علي السكاكي .ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه
نعيم زرزور .دار الكتب العلمية .الطبعة الثانية 1407ه1987 /م .عدد صفحاته 628صفحة.
-المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون .الطبعة 1413 ،11ه . 1992 /دار القلم بيروت لبنان .
-الملل والنحل لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني أبو الفتح .تحقيق أحمد فهمي محمد .الناشر :
دار الكتب العلمية .سنة النشر 1413 :ه1992 /م .الطبعة الثانية وعدد مجلداتها 1
-نزهة األلباب في طبقات األدباء ألبي البركات األنباري .تحقيق :ابراهيم السامرائي .منشورات
مكتبة المنار .الطبعة الثالثة .1985 .
-نقد الشعر لقدامة بن جعفر .مطبعة الجوانب قسطنطينية .سنة النشر 1302ه .عدد المجلدات1:
-نقد النثر أو كتاب البيان لقدامة ابن جعفر تمهيد :طه حسين .تحقيق العبادي .تصوير دار
الكتب العلمية ،اتضح فيما بعد أنه كتاب البرهان في وجوه البيان ألبي الحسين اسحاق بن
ابراهيم بن سليمان بن وهب .
-النكت في إعجاز القرآن لعلي بن عيسى بن علي بن عبد هللا (أبو الحسن الرماني المعتزلي).
منشور ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن (سلسلة ذخائر العرب) . 16محمد خلف هللا ،د .محمد
زغلول سالم .طبعة دار المعارف ،الطبعة الثالثة 1976م.
-وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان ألحمد بن محمد بن ابراهيم بن أبي بكر ابن خلكان القضاة
البرمكي اإلربلي (أبو العباس) .تحقيق :الدكتور :إحسان عباس .الناشر :دار صادر بيروت .
سنة النشر .1972 :عدد المجلدات 8:
35
36
37
38
39