You are on page 1of 15

‫﴿علم البديع﴾‪:‬‬

‫البديع لغًة ‪:‬‬


‫‪ )1‬الغريب‪.‬‬
‫‪ )2‬وُيطَلق على الُمْب َت َد ع‪ ،‬أي الُم ْخ َت َر ع‪.‬‬
‫‪ )3‬والبديع في أسماء هللا‪ :‬الخاِلق‪ ،‬قال تعالى‪َ﴿ :‬بِد يُع الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض﴾‪ ،‬أي‪ُ :‬مبِدعهما وُمنِش ئهما‪.‬‬
‫‪ )4‬وقد يأتي بمعنى‪ :‬الجديد‪.‬‬
‫‪ )5‬وجاء في اللسان‪ :‬بدع الشيء – ُيبدعه بدعا – وابتدعه‪ :‬أنشأه وبدأه‪.‬‬
‫والبديع والبدع‪ :‬الشيء الذي كون أواًل ‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫وفي التنزيل‪ُ﴿ :‬قْل َم ا ُك ْنُت ِبْدًعا ِم َن الُّر ُس ِل ﴾‪ ،‬أي‪ :‬ما كنُت أَّو َل َم ن ُأرِس ل‪ ،‬فقد ُأرِس ل قبلي رسل كثير‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫البديع اصطالًح ا‪:‬‬
‫فقد عَّر فُه الخطيب القزويني بقوله‪ :‬هو علم ُيعرف به وجوه تحسين الكالم بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال‬
‫ووضوح الداللة‪.‬‬
‫سبب تسميته بعلم البديع‪:‬‬
‫برؤية المناسبة بين المعنى اللغوي واالصطالحي الواضحة‪ ،‬أن الجديد أو المحدث العجيب‪ ،‬أو المخترع‪ ،‬من شأنه أن‬
‫يكون فيه حسن وطرافة وبهجة ولذة‪ ،‬ولَّما كان اشتمال الكالم على ألوان البديع يكسبها حسنا وطرافه‪ُ ،‬س ميت بديًع ا نظًر ا‬
‫لما تضفيه على الكالم من ُحسٍن وجمال‪.‬‬
‫شرح التعريف‪:‬‬
‫الُم راد بـ (علم)‪ :‬الَم َلَك ة؛ ألنها هي التي تكون آلة في معرفة الوجوه الُم َح ِّسنة‪ ،‬وفي التصديق بضبط أعدادها وتفاصيلها‪.‬‬
‫الُم راد بـ (ُيعرف به)‪ُ :‬يعَر ف به األمور التي يصير بها الكالم حسًن ا‪.‬‬
‫الُم راد بـ (بعد رعاية المطابقة ووضوح الداللة)‪ :‬تأكيًد ا وبياًن ا لما تقدم‪.‬‬

‫حكم بعض الباحثين على علم البديع بالتبعية والذيلية‪:‬‬


‫َذ َك َر الدكتور‪ :‬شوقي ضيف في كتابه (البالغة تطُّو ر وتاريخ)‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫أن الزمخشري جعل (البديع) ذياًل لعلمي المعاني والبيان‪.‬‬
‫فقال‪" :‬وبذلك كان الزمخشري أول من َمَّي ز بين العلمين المعاني والبيان‪ ،‬فجعل لكل منهما مباحثه الخاصة واستقالله‬
‫الذي ُيَشِّخ صه‪ ،‬وَن َق َل عنه السيد الجرجاني‪ ،‬أنه لم يكن ُيعد علم البديع علما مستقاًل ‪ ،‬بل كان يراه ذياًل لعلمي المعاني‬
‫والبيان‪ ،‬وسنرى السكاكي يتأثر به في ذلك"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫وقد َبَّي ن الدكتور عبدالفتاح الشين‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫أن الزمخشري لم يميز بين علمي المعاني والبيان ولم يجعل لكل منها مباحثه الخاصة واستقالله الذي يشخصه كما ذكر‬
‫الباحث لدرجة أنه لم يذكر اسم علم المعاني على مسألة بالغية من المسائل التي تنطوي تحته على كثرة ما عرض منها‪،‬‬
‫كذلك أطلق الصنعة البديعية على بعض مسائل علم البيان‪.‬‬

‫أما الدكتور أحمد الحوفي‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫فقد سار على نهج الدكتور أحمد شوقي فقال‪:‬‬
‫"وأما البديع فهو في رأي الزمخشري تابع للمعاني والبيان‪ ،‬وليس علًم ا قائًم ا بذاته"‪.‬‬

‫وقال باحث ثالث‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫"ونقل السيد الجرجاني عن الزمخشري أنه لم يكن يعد البديع علما مستقاًل ‪ ،‬بل كان يراه ذياًل لعلمي المعاني والبيان"‪.‬‬

‫وإحقاًقا للحق‪ ،‬ووضع األمر في نصابه‪ ،‬نستعرض نص الجرجاني في أول كالمه بشرح كتاب المفتاح للسكاكي‪:‬‬
‫قال المصنف‪:‬‬
‫"اعلم أن علم العربية المسمى بعلم األدب‪ :‬علم يحترز عن الخلل في كالم العرب لفًظ ا أو كتابة وينقسم على ما صرحوا‬
‫به إلى اثني عشر قسًم ا منها أصول وفروع‪.‬‬
‫أما األصول فالبحث فيها إما عن المفردات‪ ،‬فعلم اللغة‪ ،‬أو من حيث صورها ومبنياتها فعلم الصرف‪ ،‬أو من حيث‬
‫انتساب بعضها من بعض باألصالة والفرعية فعلم االشتقاق‪ ،‬وإما عن المركبات على اإلطالق‪ ،‬فأما باعتبار بنياتها‬
‫التركيبية وتأديتها لمعانيها األصلية فعلم النحو‪ ،‬أو باعتبار إفادتها لمعنا مغايرة ألصل المعنى فعلم المعاني‪ ،‬أو باعتبار‬
‫بنية تلك اإلفادة في مراتب الوضوح فعلم البيان‪ ،‬وإما عن المركبات الموزونة فأما من حيث وزنها فعلم العروض‪ ،‬أو‬
‫من حيث أواخر أبياتها فعلم القوافي‪.‬‬
‫وأما الفروع‪ ،‬فالبحث فيها إما أن يتعلق بنقوش الكتابة فعلم الخط‪ ،‬أو يختص بالمنظوم فالعلم المسمى بقرض الشعر‪،‬‬
‫أو بالمنثور فعلم انشاء النثر من الخطب والرسائل‪ ،‬وما ال يختص بشيء منها فعلم المحاضرات‪ ،‬ومنه الخطب‬
‫والرسائل‪ ،‬وما ال يختص بشيء منها فعلم المحاضرات‪ ،‬ومنه التواريخ‪ ،‬وأما البديع فقد جعلوه ذياًل لعلمي المعاني‬
‫والبيان ال قسما برأسه"‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫وقد ناقش الدكتور عبدالفتاح الشين ما ذكره الدكتور شوقي من أن الزمخشري جعل البديع ذيال لعلمي البالغة‪ ،‬وأن‬
‫السكاكي متأثر به في ذلك‪.‬‬
‫فقد أخذ هذا االدعاء من الجرجاني في قوله‪:‬‬
‫"وأما البديع فقد جعلوه ذيال لعلمي المعاني والبيان ال قسما برأسه"‪.‬‬
‫فكيف يصح أن ينسب ذلك الزمخشري وليس في النص ذكر له إطالًقا؟‬
‫وكيف يجعل الباحيث الضمير في "جعلوه" عائدا على الزمخشري‪ ،‬وهو لم يتقدم في الذكر وال في العهد؟‬
‫ثم من أين للباحث هذا الحكم الذي حمله على الزمخشري حمال وهو منه براء؟‬
‫وبخصوص أن السكاكي تأثر به‪ ،‬كيف يصح هذا الحكم مع أن السكاكين يثبت عنه أنه جعل البديع ذياًل لعلمي البالغة‪،‬‬
‫وإنما الثابت عنه كما تنطق به آثاره‪ ،‬أنه أول من أطلق علم المعاني على المباحث التي بحثها فيه‪ ،‬وأول من أطلق على‬
‫مباحث التشبيه والمجاز والكناية علم البيان وتركهما على هذا الوجه من التحديد والضبط‪.‬‬

‫وبعد أن خلص من بيان هذين العلمين في كتابه قال في شأن البديع‪:‬‬


‫"وإذا تقرر أن البالغة بمرجعيها‪ ،‬وأن الفصاحة بنوعيها‪ ،‬مما يكسو الكالم ُح َّلة التزيين‪ ،‬ويرقيه أعلى درجات‬
‫التحسين‪ ،‬فها هنا وجوه مخصوصة كثيًر ا ما يصار إليها لقصد تحسين الكالم‪ ،‬فال علينا أن نشير إلى األعرف منها‪،‬‬
‫وهي قسمان‪:‬‬
‫قس م ير ج ع إلى ) ‪2‬‬ ‫قس م ير ج ع إلى ‪)1‬‬
‫‪.‬اللف ظ‬ ‫‪.‬الم ع نى‬
‫وبهذا النص يتضح أن السكاكي لم يجعل علم البديع ذياًل لعلمي المعاني والبيان‪.‬‬
‫وقد دافع شيخنا الدكتور محمد أبو موسى عن الزمخشري وقد دفع عنه هذه التهمة ودلل بالحجة تلو األخرى ليرد عنه‬
‫هذا االتهام‪.‬‬
‫وقد ذكر األستاذ الدكتور عبدالفتاح الشين أن الضمير في (جعلوه) في النص الذي نقله الدكتور شوقي ضيف وجعله‬
‫عائًد ا على الزمخشري فهو عائد على الخطيب القزويني ومن تبعه في ذلك مثل‪ :‬سعد الدين التفتازاني‪.‬‬
‫واستند إلى أن الشريف الجرجاني كان في الفترة الزمنية التي تلت حياة الخطيب كما كان معاصًر ا للتفتازاني‪.‬‬

‫والواضح أن الخطيب القزويني بريء من ذلك أيًض ا‪ ،‬ألدلة كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬


‫أواًل ‪ :‬أنه لم يصرح أحد حتى الشريف الجرجاني الذي استند أستاذنا دكتور الشين إلى نصه باسم الخطيب القزويني وإنما‬
‫ذكر كلمة (جعلوه) فمن هم؟‬
‫ثانًي ا‪ :‬وطبيعة العصر أو أنه كان معاصًر ا للتفتازاني‪ ،‬وأنه كان في الفترة الزمنية التي تلت حياة الخطيب ‪ ،‬ليس هذا دلياًل‬
‫على صحة هذا االتهام‪.‬‬
‫ثالًث ا‪ :‬وكون الخطيب القزويني عَّر ف علم البديع بهذا التعريف‪ ،‬فهو تعريف له خصوصيته‪ ،‬وهو يوفي بالغرض‪ ،‬فكونه‬
‫قال بعد رعاية تطبيقه‪ ،‬أي البد من الفصاحة والبالغة في األسلوب قبل التحسين‪ ،‬ألنه إذا كان تحسينا خاليا من الفصاحة‬
‫والبالغة‪ ،‬فال قيمة له وال معنى‪ ،‬فال بد من النظر في األلفاظ والتراكيب التي بها يطابق مقتضى الحال الذي فسره اإلمام‬
‫عبد القاهر بالنظم‪ ،‬الذي هو توخى معاني النحو‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫رابًع ا‪ :‬وكذلك الكالم نفسه في وضوح الداللة‪ ،‬البد أن تكون الصورة هي التي طلبت المحسن البديعي‪ ،‬كما أن المعنى هو‬
‫الذي يطلبه‪ ،‬حتى ال يزول‪ ،‬وإنما إذا راعينا هذا يكون المحسن البديعي طبيعيا عفويا وليس مصطنًع ا ومتكلًفا‪ ،‬وأصح‬
‫دليل على دفع هذا االتهام عن الخطيب القزويني أنه رتب علوم البالغة الثالثة هذا الترتيب ألنه ال غنى لعلم البيان عن‬
‫علم المعاني‪ ،‬وال غنى لعلم البديع عن علم المعاني والبيان‪ ،‬وهل معنى ترتيب البيان في القسم الثاني أنه تابع وذيل للقسم‬
‫األول؟‬
‫أظن أن هذا االتهام الذي ُألِص َق بالخطيب القزويني هو بريء منه‪.‬‬
‫خامًس ا‪ :‬ودليل آخر على براءة الخطيب من إلصاق هذا االتهام به‪ ،‬أنه استشهد بكثير من اآليات القرآنية للمحسنات‬
‫المعنوية واللفظية‪ ،‬فهل معنى هذا أنه قطع أن هذه المحسنات البديعية القرآنية زينة وعرضية؟‬
‫والجواب أنه استشهد بها وبَّين بالغتها وقيمتها الفنية‪ ،‬فال يستطيع المعنى واالستغناء عنها‪.‬‬

‫فعلوم البالغة الثالثة ال غنى لبعضها عن بعض‪ ،‬فهي مكملة لبعضها فال نستطيع االستغناء عن بعضها وأخذ بعضها‪،‬‬
‫فعلم المعاني بمثابة الرأس من الجسم‪ ،‬وعلم البيان بمثابة الجسم وعلم البديع بمثابة األطراف فكلها كالجسد الواحد‪ ،‬حتى‬
‫تستطيع أن تحكم على نص من النصوص فال بد أن يكون في تصورك هذا الجسم المتكامل الذي هو أساس البالغة‬
‫ومحوة النظم‪.‬‬
‫فالبديع ليس ذياًل لعلمي البيان والمعاني‪ ،‬وال أدري لمن مرجع الضمير في (جعلوه) وال أستطيع أن ألحق هذه التهمة‬
‫بأناس لم يصرح بأسمائهم‪.‬‬
‫وألن العقل هو الذي يحكم ويقول كلمته الصائبة‪ ،‬ولهذا نتعرض للبديع بين الذاتية والعرضية حتى نتعرف على آراء‬
‫العلماء ونتعايش في هذا القضية المهمة التي أخذت اهتماًما كبيًر ا عند البالغيين‪.‬‬
‫================================================================‬

‫‪4‬‬
‫﴿تطور البديع وأصالته﴾‪:‬‬
‫يقال إن الشاعر مسلم بن الوليد أول من أطلق اسم البديع على هذا الفن‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ثم تطورت هذه الكلمة في العصر العباسي‪ ،‬وكانت تعني كل صورة غريبة أو طريفة لدى الشعراء العباسيين‪،‬‬
‫(كأبي تمام)‪ ،‬ولكنه أفرط في استخدام البديع‪ ،‬ومنهم من اعتدل في استخدام البديع (كالُبحتري وابن المعتز)‪.‬‬
‫وذكر الجاحظ في كتابة البيان والتبيين‪:‬‬
‫أن الرواة كانوا أول من أطلق وصف البديع على الشعر الذي تميز بجماله وجودة صياغته‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫واستدل بقول األشهب بن ُرميلة أحد الشعراء المخضرمين‪:‬‬
‫َو َما َخ ْيُر َك ٍّف اَل َتُنوُء ِبَساِع ْد‬ ‫***‬ ‫ُهْم َساِع ُد الَّدْه ِر اَّلِذ ي ُيَّتَقى ِبْه‬
‫قال الجاحظ‪ :‬قوله (ُهْم َساِع ُد الَّدْه ِر ) إنما هو مثل وهو الذي يسميه الرواة (البديع) وهو يقصره على العرب‪.‬‬
‫يقول‪" :‬والبديع مقصور على العرب‪ ،‬ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان‪ ،‬والراعي كثير البديع في‬
‫شعره‪ ،‬وبشار حسن البديع‪ ،‬والعَّت ابي يذهب في شعره مذهب بشار"‪.‬‬
‫ثم ترى عبد هللا بن المعتز يخطو الخطوة األولى بتأليفه كتاب البديع عام (‪ 296‬هـ) وُيعد هذا المصدر أول محاولة‬
‫علمية منهجية منظمة في هذا الميدان‪.‬‬
‫فهو أول كتاب في العربية يحمل هذا االسم‪ ،‬وكان الباعث على تأليفه‪ ،‬ما شاع في عصره من العناية بالقيم الصوتية‪:‬‬
‫جرًس ا وإيقاًعا‪ ،‬والرد على من زعم أنه صاحب هذا المذهب البديعي ومنهم بشار ومن تبعه‪.‬‬
‫فجاء في كتابه البديع للرد على تلك الدعوى‪ ،‬ليثبت أن ما ادعاه المحدثون‪ ،‬وسمعوه بديًع ا‪ ،‬موجود من قديم في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬واللغة والحديث الشريف وكالم العرب في العصرين الجاهلي واإلسالمي وليس وليد عصر بشار ومن تبعه من‬
‫الشعراء‪ ،‬وال فضل لهم في ابتكاره وإن كانوا لهم صفة إكثاره وتصنعه‪.‬‬
‫يقول في مقدمة كتابه (البديع)‪:‬‬
‫"قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن الكريم واللغة وأحاديث الرسول وكالم الصحابة واألعراب‬
‫وغيرهم‪ ،‬وأشعار المتقدمين من الكالم الذي سماه المحدثون (البديع) ليعلم أن بشاًر ا ومسلًم ا وأبو نواس ومن سلك‬
‫سبيلهم‪ ،‬لم يسبقوا إلى هذا الفن‪ ،‬ولكنه كثر في أشعارهم‪ ،‬فعرف في زمانهم حتى سمى بهذا االسم‪ ،‬فأعرب عنه ودل‬
‫عليه‪ ،‬ثم إن حبيب بن أوس الطائي شغف به حتى غلب عليه‪ ،‬وتفرع فيه وأكثر منه‪ ،‬فأحسن في بعض ذلك‪ ،‬وأساء‬
‫في بعض‪ ،‬وتلك عقبى اإلفراط‪ ،‬وثمرة اإلسراف"‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وابن المعتز يذكر في كتابه أنه أول من نظم وجمع فنون البديع فيقول‪:‬‬
‫"وما جمع فنون البديع وال سبقني إليه أحد"‪.‬‬
‫وقد قسم كتابه قسمين‪:‬‬
‫محاسن )‪2‬‬
‫‪:‬البديع‪)1‬‬
‫‪:‬الكالم‬
‫‪:‬ويحتوي على ثالثة عشر نوًع ا‬

‫‪:‬ويحتوي على خمسة أنواع‬

‫‪ )2‬االعتراض ‪)1‬‬ ‫‪.‬االلتفات‪.‬‬


‫‪ )4‬حسن ‪)3‬‬ ‫الرجوع‪.‬‬
‫‪.‬الخروج‬
‫‪.‬تأكيد المدح بما يشبه الذم‪)5‬‬ ‫‪)1 )2‬‬ ‫االستعارة‪.‬‬
‫‪.‬التجنيس‬
‫‪.‬الهزل يراد به الجد‪)6‬‬
‫‪.‬المطابقة‪)3‬‬
‫‪ )8‬الكناية ‪)7‬‬ ‫‪.‬حسن التضمين‪.‬‬
‫‪.‬رد أعجاز الكالم على ما تقدمه‪)4‬‬
‫‪.‬اإلفراط في الصفة (المبالغة)‪)9‬‬
‫‪.‬المذهب الكالمي‪)5‬‬
‫‪.‬حسن التشبيه‪)10‬‬
‫‪.‬إعنات الشاعر نفسه (لزوم ما يلزم)‪)11‬‬
‫‪.‬حسن االبتداء‪)12‬‬

‫س‪ /‬لماذا قسم ابن المعتز كتابه إلى قسمين اختص أحدهما باسم البديع واختص الثاني باسم محاسن الشعر أو الكالم؟‬

‫والجواب هنا كما ذكر أحد الباحثين المعاصرين فيقول‪:‬‬


‫"ذلك ان األصناف الخمسة األولى عرفها الشعراء‪ ،‬وعرفها الجاحظ قبل ابن المعتز‪ ،‬فاالستعارة‪ ،‬والتطبيق‪ ،‬والتجنيس‪،‬‬
‫ورد األعجاز على ما تقدمها‪ ،‬والمذهب الكالمي‪ ،‬هي أوائل أصناف البديع التي ظهرت في شعر الشعراء من أمثال‪،‬‬
‫مسلم‪ ،‬والعتابي‪ ،‬وبشار‪ ،‬وأبي نواس‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬فليس البن المعتز في العثور عليها من فضل إال ردها إلى الشعر‬
‫القديم‪ ،‬ليرد على الشعراء المجددين دعوتهم في التجديد‪ ،‬أما صنوف القسم الثاني فمن اختراعه وحده‪ ،‬وقف عليها لما‬
‫تتبع أشعار القدامى والمحدثين‪ ،‬ودونها قبل أن يدونها غيره‪ ،‬وأطلق عليها أسماء لم تكن كلها معروفة قبله في‬
‫مصطلحات البالغة‪ ،‬وفي مصطلحات البالغيين‪ ،‬لذلك فصل بين القسمين ليقول‪ :‬هذا لكم وهذا لي‪ ،‬وهذا منكم‪ ،‬وهذا‬
‫مني‪ ،‬وهو بهذا يدل بأفضليته في السبق‪ ،‬فيقول‪ :‬وما جمع فنون البديع وال سبقني إليه أحد"‪.‬‬

‫ويرد على اعتراض توقعه من خصوم هذا التأليف الجديد فيقول‪:‬‬


‫"وكأني بالمعاند المغرم باالعتراض على الفضائل قد قال‪ :‬البديع أكثر من هذا؛ ألن البديع اسم موضوع لفنون من‬
‫الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين‪ ،‬وأحببنا لذلك تكثر فوائد كتابنا للمتأدبين‪ ،‬ويعلم الناظر أَّن ا اقتصرنا بالبديع على‬
‫الفنون الخمسة اختياًر ا من غير جهل بمحاسن الكالم‪ ،‬وال ضيق في المعرفة‪ ،‬فمن أحب أن يقتدي بنا‪ ،‬ويقتصر بالبديع‬
‫على تلك الخمسة فليفعل‪ ،‬ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيًئ ا إلى البديع‪ ،‬ولم يأِت غير رأينا فله اختياره"‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫فتجد ابن المعتز ترك حرية االختيار للناظر في هذه الفنون فمن أحب أن يلتزم ويقتصر على القسم األول فله حرية‬
‫االختيار‪ ،‬ومن أخذ عني القسم الثاني وزاد عليه فله ذلك‪ ،‬ولهذا كثر الولوع بالبديع في هذا العصر وكثرت األلوان‬
‫البديعية‪.‬‬
‫وكان ممن أضاف‪ :‬معاصره (ُقدامه بن جعفر)‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫فقد اهتدى إلى أنواع جديدة في كتابه (نقد الشعر) منها‪:‬‬
‫(الترجيح‪ ،‬الغلو‪ ،‬صحة التقسيم‪ ،‬صحة المقابالت‪ ،‬صحة التفسير‪ ،‬اإلشارة‪ ،‬اإلرداف‪ ،‬التمثيل‪ ،‬اإليغال‪ ،‬وغيرها‪.)..‬‬
‫فقد اتفق مع ابن المعتز في سبعة أنواع وانفرد بعشرين‪.‬‬
‫وابتكر (أبو هالل العسكري) زيادة على ما سبق ستة أنواع‪ ،‬وأطلق كلمة "البديع" على أنواع أخرج منها‪:‬‬ ‫‪o‬‬
‫(التشبيه‪ ،‬اإليجاز‪ ،‬اإلطناب‪ ،‬السجع‪ ،‬االزدواج‪ ،‬بينما عد االستعارة والمجاز من البديع)‪.‬‬
‫ثم ترى (ابن رشيق) في القرن الخامس الهجري وله كتاب (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده) واعتنى بالبديع‬ ‫‪o‬‬
‫وأخذ منه نصيًبا كبيًر ا من البحث والدراسة‪ ،‬ولهذا أورد في كتابه تسعة وعشرين نوًعا‪.‬‬

‫وظلت كلمة "البديع" تتسع لكل أنواع علوم البالغة‪ ،‬عند علماء البالغة‪ ،‬أمثال‪( :‬ابن سنان‪ ،‬عبد القاهر) فقد أطلق‬
‫"البديع" على‪ :‬التشبيه والتمثيل واالستعارة والتطبيق‪.‬‬

‫ويعتبر (السكاكي) أول من أطلق علم المعاني على المباحث التي ذكرت فيه‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وأول من أطلق على مباحث التشبيه والمجاز والكناية اسم "علم البيان"‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وأول من حكم على "علم البيان" بأنه متنزل من "علم المعاني" منزلة المركب من المفرد‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ثم قال في شأن البديع‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫"وإذا تقرر أن البالغة بمرجعيها‪ ،‬وأن الفصاحة بنوعيها‪ ،‬مما يكسو الكالم حلة التزيين‪ ،‬ويرقيه أعلىى درجات‬
‫التحسين فهذه وجوه مخصوصة كثيًر ا ما يصار إليها لقصد تحسين الكالم‪ ،‬فال علينا أن نشير إلى األعراف‪ ،‬منها‪ ،‬وهي‬
‫قسمان‪ ،‬قسم يرجع إلى المعنى‪ ،‬وقسم يرجع إلى اللفظ"‪.‬‬
‫فالسكاكي لم يعرض أللوان البديع على أنها علم مستقل عن العلمين‪ ،‬بل إنها تشارك مسائلهما في تزيين الكالم بأبهى‬
‫الحلل‪ ،‬والوصول به إلى أعلى درجات التحسين‪.‬‬

‫وأول من أطلق اسم "علم البديع" على المحسنات هو‪( :‬بدر الدين بن مالك)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وبذلك مهد الطريق للخطيب القزويني ألن تصبح البالغة بهذا التقسيم المعروف إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫فقام الخطيب القزويني بالخطوة األخيرة في كتابه اإليضاح واكتمل القسم الثالث على يديه فعرفه بقوله‪:‬‬
‫"هو علم ُيعرف به وجوه تحسين الكالم بعد رعاية تطبيقه ووضوح الداللة"‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ويقول أحد البالغيين المحدثين‪ :‬أن الخطيب القزويني لم يقف بالبديع عند هذا الحد‪ ،‬بل قصره على ألوان خاصة‪ ،‬وفصله‬
‫فصاًل كاماًل عن أخويه المعاني والبيان‪ ،‬وأصبحت البالغة في عرف الخطيب ومن نحا نحوه محصورة في علم المعاني‬
‫والبيان‪.‬‬
‫واستدل بنص الخطيب في تلخيص المفتاح‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫"إن البالغة في الكالم مرجعها إلى االحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد‪ ،‬وإلى تمييز الكالم الفصيح من غيره‪،‬‬
‫وتمييز الكالم منه ما يكون في علم متن اللغة‪ ،‬أو التصريف‪ ،‬أو النحو‪ ،‬أو يدرك بالحِّس ‪ ،‬وهو ماعدا التعقيد المعنوي‪،‬‬
‫وما يحترز به عن الخطأ هو علم المعاني‪ ،‬وما يحترز به عن التعقيد المعنوي هو علم البيان‪ ،‬وما ُيعرف به وجوه‬
‫التحسين هو علم البديع"‪.‬‬

‫وقد اتهم بعض العلماء الخطيب القزويني أنه جعل البديع من المعاني والبيان بمنزلة التابع من المتبوع‪.‬‬
‫واختلف العلماء‪ ،‬فمنهم من فسر تعريف الخطير – (بعد رعاية تطبيقه ووضوح الداللة) – أنه عد البديع من توابع‬
‫البالغة المقصورة على علمي (المعاني والبيان)‪.‬‬
‫وممن عارض الخطيب معلنا أن تحسين (البديع) ذاتي وليس عرضيا‪( ،‬البهاء السبكي)‪.‬‬
‫فقد قال معلقا على تعريف الخطيب‪:‬‬
‫"يحتمل أن يراد بعد معرفة رعاية تطبيقه ووضوح الداللة‪ ،‬ويكون المراد‪ :‬هو قواعد ُيعرف بها وجوه التحسين‬
‫ووجوه التطبيق والوضوح ومعرفة التطبيق والوضوح فيكون المعاني والبيان جزأين للبديع‪ ،‬ويحتمل أنه قواعد يعرف‬
‫بها بعد معرفة التطبيق والوضوح ووجوه التحسين‪ ،‬فال يكون المعاني والبيان جزأين للبديع‪ ،‬بل مقدمتين له‪ ،‬وقد‬
‫صرحوا بأن المراد هو األول‪ ،‬وفي استخراجه من منطوق عبارة المصنف عسر‪ ،‬ألنك إذا قلت‪ :‬عرفت زيدا بعد‬
‫معرفتي لعمرو‪ ،‬فالمخبر به معرفة زيد مقيدة بسبق معرفة عمرو‪ ،‬ال معرفة زيد وعمرو"‪.‬‬
‫ووافق أبو جعفر الغرناطي (البهاء السبكي) قال في مقدمة شرح بديعية ابن جابر األندلسي بعد شرح التعريف‪:‬‬
‫فتحصل من هذا أن العلم بوجو الكالم ال يسمى بديًع ا إال بشرطين‪:‬‬
‫‪ )1‬أن يكون ذلك الكالم مطابًق ا لمقتضى الحال‪.‬‬
‫‪ )2‬أن تكون كيفية طرق داللته معلومة الوضوح والخفاء‪.‬‬
‫فالشرط األول هو علم المعاني‪ ،‬والشرط الثاني هو علم البيان‪ ،‬فلو عدم الشرطان أو أحدهما من الكالم لم يكن العلم‬
‫بوجوه تحسين ذلك الكالم بديًع ا"‪.‬‬

‫والرأي أن تعريف الخطيب "جامع وشامل"‬


‫ألنه لو لم يذكر هذين الشرطين بعد رعاية تطبيقه ووضوح الداللة لكان التحسين عرضًيا وليس ذاتًيا‪ ،‬ألنه ال بد من‬
‫مراعاة الصحة في النظم ومطابقة الكالم لمقتضى الحال والبعد عن التعقيد المعنوي المحقق في وضوح الداللة وإال كان‬
‫التحسين عرضًيا‪ ،‬فالخطيب لم يجعل البديع تابًع ا‪ ،‬بل جعله قسًما قائًما بذاته كالمعاني والبيان‪ ،‬له مكانته البالغية وقيمته‬
‫الفنية المؤثرة في نفس السامع‪ ،‬هذه واحدة واألمر الثاني أن كلمة (بعد رعاية تطبيقه) لم يعن ذلك أنه تابع للمعاني والبيان‬
‫وإال كان البيان تابًعا للمعاني ألن في البيان البد من مراعاة مطابقة الكالم لمقتضى الحال "وهو علم المعاني"؛ فهل معنى‬
‫ذلك أن البيان تابع للمعاني؟‬

‫‪8‬‬
‫وتصور لو أن الخطيب عَّر ف علم البديع وقال هو علم يعرف به وجوه تحسسين الكالم‪ ،‬وسكت لكان هذا إدانة له أن‬
‫تحسين البديع عرضي وليس ذاتًيا‪ ،‬ألن أي تأليف كالم سواء كان شعرا أم نثًر ا ال بد من مراعاة الفصاحة في مفرداته‬
‫والبالغة في تراكيبه سواء أكان معانًيا أم بياًن ا أم بديًع ا‪.‬‬

‫وأتم ما قيل في ذلك هو ما ذكره اإلمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دالئل اإلعجاز)‪ ،‬إذ جعل من التحسين الذاتي‪،‬‬
‫التقسيم‪ ،‬والمزاوجة وجعلهما مع التشبيه المتعدد من باب النظم الذي يتحد في الوضع ويدق في الصنع‪.‬‬

‫وتأثر الفخر الرازي باإلمام عبد القاهر الجرجاني ونحوه وأكمل هذه النظرة‪ ،‬وأدخل في هذا الباب كثيًر ا من أنواع البديع‬
‫من‪( :‬مطابقة‪ ،‬ومقابلة‪ ،‬واعتراض‪ ،‬والتفات واقتباس‪ ،‬وتلميح‪ ،‬ولف‪ ،‬ونشر‪ ،‬وإيهام‪ ،‬وتورية إلى غير ذلك مما ذكره) هذا‬
‫وألحف أن حسن وجمال األلفاظ في تعلقها بالمعاني واتصالها بالتراكيب‪.‬‬
‫ويؤكد اإلمام عبد القاهر أن الحسن ال يكون للفظ ذاته من غير نظر إلى المعنى بقوله‪:‬‬
‫إنك ال تستحسن تجانس اللفظتين إال إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعا حميًد ا‪ ،‬ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى‬
‫بعيًد ا‪ ،‬أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام في قوله‪:‬‬
‫*** ِفيِه الُّظُنوُن ‪َ :‬أَم ْذ َهٌب َأْم ُم ْذ َهٌب‬ ‫َذَهَبْت ِبَم ْذ َهِبِه الَّسَماَح ُة َفاْل َتَو ْت‬
‫واستحسنت تجنيس القائل‪:‬‬
‫َح َّتى َنَج ا ِم ْن َخ ْو ِفِه َو َما َنَج ا‬
‫وقول المحدث‪:‬‬
‫َأْو َدَع اِني َأُم ْت ِبَما َأْو َدَع اِني‬ ‫***‬ ‫َناِظ َر اُه ِفيَما َج َنى َناِظ َر اُه‬
‫ألمر يرجع إلى اللفظ‪ ،‬أم ألنك رأيت الفائدة ضُع َفت عند األول وقويت في الثاني؟‬
‫ورأيتك لم يزدك بمذهب وُمذهب على أن أسمعك حروًفا مكررة‪ ،‬تروم لها فائدة فال تجُد ها إاَّل مجهولة منكرة‪ ،‬ورأيت‬
‫اآلخر قد أعاد عليك اللفظة‪ ،‬كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها‪ ،‬ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها‪ ،‬فبهذه‬
‫السريرة صار التجنيس‪ ،‬وخصوًص ا المستوفى منه‪ ،‬المتفق في الصورة من ُح َلى الشعر‪ ،‬ومذكوًر ا في أقسام البديع‪ ،‬فقد‬
‫تبين لك أن ما ُيعَط ى من التجنيس من الفضلية أمر لم يتم إال بنصرة المعنى إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه ُمستحَس ن‪،‬‬
‫ولما ُو ِج َد فيه إال معيب مستهَج ن‪.‬‬

‫وهكذا يتبين من نص اإلمام عبد القاهر‪ ،‬واستشهاده بلون من ألوان البديع كنموذج يحتذى به‪ ،‬أن الجناس يعيد اللفظة كأنه‬
‫يخدع عن الفائدة وقد وفاها وأعطاها وكما ذكر البهاء السبكي أنه يجذب إمالة السامع وإصغاءه وكان هذا هو قصد‬
‫البالغيين وهدفهم‪ ،‬وهذا أكبر دليل على أنه من صميم البالغة‪ ،‬ومن دواعي مقتضى الحال يقول اإلمام عبد القاهر‪:‬‬
‫"وعلى الجملة فإنك ال تجد تجنيًس ا مقبواًل وال َسَج ًع ا حسًن ا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وَس اق نحَو ه‪،‬‬
‫وحتى تجده ال تبتغي به بَد اًل ‪ ،‬وال تِج د عنه ِح َو اًل ‪ ،‬ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعاله‪ ،‬وأحقه بالحسن وأواله‪،‬‬
‫وما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتالبه‪ ،‬وتأُّهب لطلبه"‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫وعلى هذا فالبديع يحتل مكانة رفيعة من البالغة‪ ،‬وهو أصل من أصولها‪ ،‬له مكانته البالغية كالمعاني والبيان‪ ،‬وإليك‬
‫بعض الشواهد القرآنية المشتملة على ألوان البديع ليستقر في ذهنك تأكيد ذاتية البديع‪:‬‬
‫قوله تعالى‪َ﴿ :‬و َيْو َم َتُقوُم الَّساَع ُة ُيْقِس ُم اْلُم ْج ِرُم وَن َم ا َلِبُثوا َغ ْيَر َس اَع ٍة﴾‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫فالجناس هنا بين (ساعة) األولى بمعنى يوم القيامة‪ ،‬و (ساعة) الثانية بمعنى المدة الزمنية‪.‬‬
‫فأنت تجد أن المعنى هنا هو الذي طلب التجنيس ورام حوله واستدعاه‪ ،‬ولهذا كان مقبواًل بليًغ ا أثر في السامع كأنه‬
‫يخدعك عن الفائدة‪ ،‬وبهذا أحسن الزيادة ووفاها‪ ،‬كما أن هذا التجنيس يحدث ميال إلى اإلصغاء واالستشراف إلى المعنى‬
‫المقصود وتلك هي البالغة‪.‬‬

‫ومثل الجناس السجع‪ ،‬قوله تعالى‪َ﴿ :‬و الُّض حى (‪َ )1‬و الَّلْيِل ِإَذ ا َسَج ى (‪َ )2‬م ا َو َّدَعَك َرُّبَك َو َم ا َقَلى (‪َ )3‬و َلآْل ِخ َر ُة َخ ْيٌر َلَك‬ ‫‪‬‬
‫ِم َن اُأْلوَلى﴾‪.‬‬
‫فمفعول (َق َلى) محذوف لرعاية الفاصلة في (َس َج ى) األولى‪.‬‬
‫فجاء السجع ألجل المعنى‪ ،‬والمعنى هو الذي طلبه واستدعاه‪ ،‬ألن المعنى هو الذي استدعى حذف مفعول (َق َلى) ال مجرد‬
‫تحقيق السجع؛ ألن المفعول المحذوف تقديره‪ :‬وما قالك‪ ،‬أي‪ :‬وما تركك يا محمد ﷺ‪ ،‬ف ُح ِذ َف المف عول وهو كاف‬
‫عل‬ ‫نس‬ ‫ه‬
‫الُم َخ اَط ب ﷺ؛ حت ى لا ي ق ع الترك وال جر على الض مي ر العائ د علي ه ﷺ‪ ،‬وهذ ا معن ى أ رق من ال ي م ال ي ل‪.‬‬

‫ومثال الطباق‪ ،‬قوله تعالى‪ُ﴿ :‬هَو اَأْلَّو ُل َو اآْل ِخ ُر َو الَظاِهُر َو اْلَباِط ُن ﴾‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أي األول قبل كل شيء بال بداية‪ ،‬واآلخر بعد كل شيء بال نهاية‪ ،‬والظاهر باألدلة عليه‪ ،‬والباطن عن إدارك الحواس‪.‬‬
‫فجمع بين األول واآلخر طباق بين الظاهر والباطن‪.‬‬

‫ومثال المقابلة‪ ،‬قوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَّن اَأْلْبَر اَر َلِفي َنِع يٍم (‪َ )13‬وِإَّن اْلُفَّج اَر َلِفي َج ِح يٍم ﴾‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ومثال المبالغة المقبولة‪ ،‬قوله تعالى‪َ﴿ :‬يَك اُد َز ْيُتَها ُيِض يُء َو َلْو َلْم َتْم َسْسُه َناٌر ﴾‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫فإضاءة الزيت من غير نار كإضاءة المصباح محال عقال وعادة‪ ،‬ولكن قرب هذا بقوله (يكاد) أفادت أن المحال لم يقع‪.‬‬
‫يقول الشيخ الدسوقي‪:‬‬
‫"المبالغ فيه إضاءة الزيت كإضاءة المصباح من غير نار‪ ،‬وال شك أن إضاءة الزيت إضاءة كإضاءة المصباح من غير‬
‫نار‪ ،‬وال شك أن إضاء الزيت إضاءة كإضاءة المصباح محال عقال وعادة‪ ،‬وحيث قيل (يكاد يضيء)‪ ،‬أفاد أن المحال لم‬
‫يقع‪ ،‬ولكن قرب من الوقوع مبالغة"‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ومثال ألسلوب اللف والنشر‪ ،‬قوله تعالى‪َ﴿ :‬و ِم ْن َرْح َم ِتِه َج َعَل َلُك ُم الَّلْيل َو الَّنَهاَر ِلَتْس ُكُنوا ِفيِه َو ِلَتْبَتُغوا ِم ْن َفْض ِله َو َلَعَّلُك ْم‬ ‫‪‬‬
‫َتْش ُك ُروَن ﴾‪.‬‬
‫فاآلية الكريمة ُتبِّين وُتوِّضح رحمة من رحمات هللا الكثيرة‪ ،‬التي قد ال يدركها اإلنسان بحسه من كثرة رؤيتها والتعود‬
‫عليها‪ ،‬فاهلل تعالى يذكرنا بهذه الرحمة وهي فائدة من فوائد خلق الليل والنهار وهي السكون والهدوء والحركة واالبتغاء‪.‬‬
‫فقد جمع بين الليل والنهار على التفصيل‪ ،‬ثم ذكر ما لليل وهو السكون فيه‪ ،‬وما للنهار وهو االبتغاء من فضله على‬
‫الترتيب‪.‬‬
‫يقول هالل العسكري مؤكدا جمال النظم القرآني‪:‬‬
‫"فجعل السكون لليل وابتغاء الفضل للنهار‪ ،‬فهو في غاية الحسن"‪.‬‬

‫ومثال صحة التقسيم‪ ،‬قوله تعالى‪ُ﴿ :‬هَو اَّلِذ ي ُيِريُك ُم اْلَبْر َق َخ ْو ًفا َو َطَم ًعا﴾‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫فرؤية البرق ليس فيها إال الخوف من الصواعق‪ ،‬والطمع في األمطار‪ ،‬فقدم الخوف على الطمع ألسباب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أن الخوف يقع من أول برقة أما الطمع ال يأتي إال بعد تتابع البرقات‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وكذلك يأتي الفرج والفرح بعد الشدة‪ ،‬فيكون تأثيره ووقعه أحلى وأجمل‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫قال أبو هالل العسكري‪:‬‬
‫"وهذا أحسن تقسيم؛ ألن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع ليس فيهم ثالث"‪.‬‬

‫ومما سبق يتضح لك أن البديع له عالقة وثيقة بالمعنى‪.‬‬


‫والمعنى هو الذي يطلبه ويستدعيه ‪ ،‬وليس مجرد من زينة أو حلية يمكن االستغناء عنه‪ ،‬ما دام يأتي عفو الخاطر‪ ،‬فال‬
‫يعيب الكالم‪ ،‬وال يفسد المعنى‪ ،‬أما إذا كان متكلفا فهذا هو المذموم والمرفوض الذي ال يقبله المعنى‪.‬‬
‫ولهذا كان البديع كغيره من علوم البالغة ُيقَص د لذاته‪ ،‬مثله مثل المعاني والبيان‪.‬‬
‫================================================================‬

‫‪11‬‬
‫﴿منزلة المعنى في علم البديع﴾‪:‬‬
‫حين ُيذكر لفظ البديع ينصرف الذهن إلى الزخرف اللفظي‪ ،‬أو األلوان واألشكال المرئية والمسموعة‪ ،‬وهذا األمر تراه في‬
‫كتابات القدماء والمحدثين على السواء‪.‬‬
‫لكن الحقيقة أن أئمة البالغيين ما قصدوا إلى إهدار جانب المعنى في المحسنات اللفظية‪ ،‬كما أنهم لم يهدروا جانب اللفظ‬
‫في المحسنات المعنوية؛ ألن العرب تهتم باأللفاظ فتصلحها‪ ،‬وتهذبها‪ ،‬وتراعيها‪ ،‬وتالحظ أحكامها بالشعر تارة‪ ،‬وبالُحكم‬
‫تارة أخرى‪ ،‬واألسجاع التي تلتزمها‪ ،‬وتتكلف استمرارها‪ ،‬ومع ذلك فإن المعنى أقوى عندها‪ ،‬وأكرم عليها‪ ،‬وأفخم قدًر ا‬
‫في نفوسها‪.‬‬
‫يقول ابن جني تحت عنوان (باب في الَّر د على من اَّد عى على العرب عنايتها باأللفاظ وإغفالها المعاني)‪:‬‬
‫"اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعالها وأنزهها وإذ تأملته عرفت منه وبه ما يؤنقك ويذهب‬
‫في االستحسان له كل مذهب بك‪ ،‬وذلك أن العرب كما ُتْع َن ى بألفاظها فُتصلحها وتهذبها وتراعيها وتالحظ أحكامها‬
‫بالشعر تارة وبالُخ َط ِب ُأْخ َر ى وباألسماع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم‬
‫َقْد ًر ا في نفوسها‪ ،‬فأول ذلك عنايتها بألفاظها فإنها لَّم ا كانت ُع نوان معانيها وطريقها إلى إظهار أغراضها ومراميها‬
‫أصلحوها ورتبوها وبالغوا في تحبيرها وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الداللة على القصد أال‬
‫ترى أن المَث ل إذا كان مسجوًع ا لم تأنس النفس وبه وال أِنقت لمستمعه‪ ،‬وإذا كان كذلك لم تحفظه‪ ،‬وإذا لم تحفظه لم‬
‫تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له‪ ،‬وجيء به من أجله"‪.‬‬

‫وقال لنا أبو علي يوما‪ :‬قال لنا أبو بكر‪:‬‬


‫"إذا لم تفهموا كالمي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه"‪.‬‬
‫وكذلك الشعر النفس له أحفظ وإليه أسرع‪ ،‬أال ترى أن الشاعر قد يكون راعًيا ِج ْل ًفا أو عبًد ا َعِس يفا تنبو صورته وُتَم ّج‬
‫ُجْم َلُتُه فيقول ما يقوله من الشعر فألجل قبوله وما يورده عليه من طالوِتِه وعذوبة مستَم ِعه ما يصير قوله ُح ْك ًما يرجع‬
‫إليه وُيقاس به‪ ،‬أال ترى إلى قول العبد األسود‪.‬‬
‫*** َأو َأْسَو َد الَّلْو ِن ِإِّني َأْبَيض اْل ُخ ُلق‬ ‫ِإْن ُك ْنَت َع ْبًدا َفَنْف ِس ي ُح َّر ٌة َك َر ًما‬
‫وعليه‪ ،‬فليس هناك حسن يرجع إلى اللفظ فقط‪ ،‬بل هي خدمة للمعنى‪ ،‬وما قيل إنها لفظية إال ألن الحسن يظهر أواًل في‬
‫اللفظ من خالل الصوت والحرف والنغم‪.‬‬

‫وكذلك الحال ليس هناك حسن يرجع فقط إلى المعنى دون وجود دور لأللفاظ‪ ،‬وإنما قيل محسن معنوي‪ ،‬ألن الحسن‬
‫يظهر للوهلة األولى في تناسب المعنى‪ ،‬أو تقابله‪ ،‬أو جمعه‪ ،‬أو تقسيمه‪.‬‬
‫فالحسن حين يضيء أوال في األلفاظ فهي محسنات لفظية‪ ،‬وحيث يبرق أوال في المعاني فهي محسنات معنوية‪ ،‬فالتقسيم‬
‫إلى لفظية ومعنوية كما يقول أستاذنا محمود توفيق – منظور فيه إلى االستهالل‪ ،‬ال جانب االشتمال‪.‬‬
‫كما أن الحسن في األلفاظ تابع للحسن في المعاني‪ ،‬وهذا ما أكده السكاكي في المفتاح بل إنه زاد على ذلك فضم بعض‬
‫المحسنات البديعية إلى علم المعاني‪ ،‬وهذا يجعلك تعجب ممن اتهموه بإخراج البديع من البالغة‪.‬‬
‫================================================================‬

‫‪12‬‬
‫﴿مكانة النغم في البالغة العربية﴾‪:‬‬
‫في الوقت الذي تجد فيه البعض يحرم الموسيقى‪ ،‬ويعتبرها المقصود من قوله تعالى‪:‬‬
‫﴿َو ِم َن الَّناِس َم ْن َيْشَتَر ى َلْه َو اْلَح ِد يِث ِلُيِض َّل َعْن َس ِبيِل ِهللا ِبَغْيِر ِع ْلٍم َو َيَّتِخ َذ َها ُهُز ًو ا ُأوَلِئَك َلُهْم َع َذ اٌب ُمِهيٌن ﴾‪.‬‬
‫فهي عندهم وسيلة إضالل‪ ،‬وحبل من حبائل الشيطان‪ ،‬وعالمة َت ِس م َص احبها بالفسق والفجور‪ ،‬تجد البعض اآلخر يعتبرها‬
‫علما نافًع ا وشفاء من األمراض‪ ،‬ووسيلة لزيادة اإلنتاج‪.‬‬
‫ويظل المسلم في حيرة من هذا التناقض حيث ال وساطة بين الفريقين‪ ،‬بل ال توجد منطقة منزوعة السالح يمكن االلتقاء‬
‫فيها بينهما‪ ،‬ولما كان علم البالغة علما معنًيا بالنص وفهم المقصود منه كان ال بد من عرض األمر عليه ليتبين للجميع‬
‫أوال المقصود بالموسيقى حتى نفهم النص الشرعي في ضوء هذا المفهوم‪ ،‬لقد قسم العالمة الكندي األلحان إلى عدة أقسام‬
‫في كتابه‪ :‬المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشر األوتار‪.‬‬
‫وقال‪" :‬إن منها ما يكون للطرب‪ ،‬أو إثارة الحماسة‪ ،‬ومنها ما يكون للبكاء والحزن والنوح والشجوى"‪.‬‬
‫ويقول طاشُك ْبرى زاده في كتابه (علم الموسيقى)‪:‬‬
‫"ولذلك يستعملون النغم تارة في األفراح والحروب وعالج المرض وتارة في المآتم وبيوت العبادة"‪.‬‬
‫وال تعجب حين ترى لكل أمة موسيقاها ولحونها وإيقاعاتها‪ ،‬وحين ترجع إلى الفنون األدبية ال تجدها تبعد عن الموسيقى‬
‫بل تلتقي بها في خطوط كثيرة‪ ،‬فهناك تعانق بين أنواع الفن المختلفة (الرسم – الشعر – الموسيقى – القصة – المسرحية‬
‫– وغيرها‪.)..‬‬
‫فأكاد أرى خيًط ا واحًد ا يربط كل ذلك‪ ،‬وهو أثره الذي يتركه في المتلقى‪ ،‬وإذا حاولت البحث عن سبب هذا األثر المانع‬
‫لوجدت أنه التآلف‪ ،‬والتمازج‪ ،‬والتناغم‪ ،‬والتوافق‪ ،‬واأللفة التي يتركها الفن في النفس ‪ ،‬والنفس البشرية تميل إلى ذلك‬
‫جدا وتستعذبه‪ ،‬وتهفو إليه‪ ،‬وترتاح له‪ ،‬وكلما زادت درجة التآلف زاد انجذاب النفس إليه‪ ،‬تماما مثل األرواح التي تتآلف‬
‫حين تتعارف‪ ،‬وعندها يحدث اإلمتاع‪ ،‬وتتكامل اللذة‪.‬‬
‫إنها المطابقة التي تحدث عنها البالغيون‪ ،‬إن البالغة مطابقة‪ ،‬والمطابقة تعارف وتآلف وتناغم‪ ،‬بين الكالم ومقتضى‬
‫الحال‪.‬‬
‫فالركن الذي تستند إليه البالغة العربية هو التناغم بين الكالم واألحوال‪ ،‬أو بين اللفظ والمستمع‪ ،‬أو بين المرسل‬
‫والمستقبل‪.‬‬
‫والموسيقى ال تعدو كل ذلك بل هي‪ :‬تقطيع األصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع على كل صوت منها توقيعا عند‬
‫قطعة فيكون نغمة‪ ،‬ثم تؤلف بين تلك النغمات على نسب متفاوتة فيلذ سماعها‪ ،‬فالموسيقى أصوات‪ ،‬ولها نسب معينة‬
‫منتظمة‪ ،‬ثم يضم بعضها إلى بعض حتى يؤلف من بينها قطعا موسيقية فتحدث الجمال والمتعة‪.‬‬
‫وتلك هي أركان البالغة العربية‪ ،‬كلمات تركب بنسب معينة فيحدث بينها عالقات بين اللفظ واللفظ‪ ،‬وبين اللفظ والسياق‪،‬‬
‫وبين اللفظ والمقام‪ ،‬وهذا النسيج يحدث ضربا في اللذة واإلمتاع‪ ،‬ولو أردت أن تضع عبارة جامعة بين البالغة‬
‫والموسيقى لقلت‪( :‬حسن التناسب)‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫لقد قرأ الفراء قول هللا تعالى‪َ﴿ :‬أِئَذ ا ُك َّنا ِع َظاًم ا َنِخ َر ًة﴾‪.‬‬
‫متفرًد ا في قراءة أهل المدينة والحجاز والبصرة بزنة (َف ِعلة)‪ ،‬وجاءت قراءة عامة قراء الكوفة على زنة‪َ( :‬ف اِع لة =‬
‫ناِخرة)‪ ،‬مشاكلة للفواصل قبلها‪ ،‬ويبين الفراء أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه قرأ (ناخرة)‪.‬‬
‫وأن ابن عباس رضي هللا عنهما قرأ (َن ِخرة) و (َن اِخَر ة) ثم يقول عن (ناخرة) إنها أجود الوجهين في القراءة؛ ألن اآليات‬
‫باأللف‪ ،‬أال ترى أن (ناخرة) مع (الحافرة) و (الساهرة) أشبه بمجيء التنزيل‪ ،‬و (الناخرة) و (النخرة) سواء في المعنى‬
‫بمنزلة (الطامع) و (الطمع) و (الباخل) و (البخل)‪ ،‬وقد فَّر ق بعض المفسرين بينهما‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(النخرة = البالية)‪ ،‬و (الناخرة = العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فينخر)‪.‬‬
‫يقول األستاذ محمود توفيق‪:‬‬
‫(لتنظر في قوله‪" :‬أجود الوجهين في القراءة؛ ألن اآليات باأللف‪ ...‬فهذا منه إعالء لعطاء التوافق في إيقاع النغم في‬
‫الصورة الصوتية لأليات‪ ،‬وقد يحسب ناظر أن هذا من رد القراءات أو المفاضلة بينهما والقول بالتفاوت في بالغة‬
‫القرآن الكريم"‪.‬‬
‫لو نظرت في مقال (الفراء) لرأيت أنه يقول‪" :‬أجود الوجهين" فهو لم يحكم بصحة أحدهما هنا دون اآلخر‪ ،‬بل قرر أن‬
‫قراءة (ناخرة) أجود بقيوض المعنى على القلب من قراءة (نخرة) أي أن الصورة الصوتية لقراءة (ناخرة) يتوافد منها‬
‫على القلب من المعاني أجودها بما حملته من االنسجام في الجرس واإليقاع‪ ،‬وهذا ما ال يمكن أن تدفعه‪ ،‬وال سيما أنه‬
‫يذهب إلى أن المعنى المتعقل من (ناخرة‪ ،‬ونخرة) سواء‪ ،‬فلم يبق إال ما يتوافد عليك من األثر االنطباعي من الصورة‬
‫الصوتية المتناغمة مع ما سبقها وما تالها)‪.‬‬
‫فالنغم واإليقاع رافد من روافد البيان العربي‪ ،‬رغم الزعم بأن النغم والموسيقى ال مجال لها في البالغة العربية‪ ،‬مع أنك‬
‫لو حللت مصطلح اإليقاع‪ ،‬أو مفهوم النغم لوجدت أنه في أصله يدور حول التناسب واالنسجام بين األشياء‪ ،‬وإذا كان‬
‫النغم هو االنسجام والتناسب فأين نضع مثال‪ :‬السجع‪ ،‬أو الجناس‪ ،‬أو مراعاة النظير‪ ،‬أو المشاكلة إن لم يكن ذلك كله من‬
‫باب التناسب واالنسجام؟ فارتباط البالغة عامة‪ ،‬والبديع خاصة بالنغم واإليقاع‪ ،‬سواء منه اإليقاع المعنوي القائم على‬
‫التشابه بين األغراض والمقاصد‪ ،‬أمر ال ينبغي الجدال فيه‪.‬‬
‫والذي يواظب على مصاحبة البيان العربي شعًر ا ونثًر ا يوقن بأن النغم واإليقاع هو السمة البارزة في اللسان العربي‪،‬‬
‫وأن اهتمام العربي بالمعنى يسبقه اهتمامه بالجملة اإليقاعية التي تنقل له هذا المعنى‪ ،‬وأن العربي يسمع قبل أن يتدبر‪ ،‬بل‬
‫إن السمع عنده هو الباب الواسع الذي يفتح له معلقات المعاني‪ ،‬فتراه يفهم المعنى من خالل الصوت‪ ،‬والعرب تسمي‬
‫األشياء بأسماء ما يكون فيها من أصوات مثل (الوغى) وهي في األصل صوت قعقعة السالح ونحوه‪ ،‬بل إن الصوت‬
‫ليحكي لك في الكلمة الواحدة مراحل الفعل الواحد المتعدد‪ ،‬وراجع معي صوت الفعل (اجتثت) وهو يرسم لك المراحل‬
‫الزمنية المتتابعة الجتثاث الشجرة من األرض‪ ،‬حيث يصور لك المقطع الصوتي األول من الكلمة (اْج ) صوت تقطع‬
‫الجذور من باطن األرض‪ ،‬ثم يرسم المقطع الصوتي الثاني (تث) حركة السقوط المدوي من األعلى إلى األسفل‪ ،‬وما‬
‫يصاحب ذلك من تداخل األصوات الكامن في حرف الثاء‪ ،‬ثم يرسم لك المقطع الصوتي الثالث (ثْت ) مشهد االرتطام‬
‫العنيف باألرض والذي يعقبه سكوت‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫وهكذا أردت أن أبين لك قيمة الصوت واإليقاع في البيان العربي‪ ،‬يقول أستاذنا وهو يستعرض القيمة الصوتية في التفكير‬
‫البالغي عند السابقين‪.‬‬
‫مجمل القول‪( :‬إن التفكير البالغي قديًما وحديًث ا قد كانت له عناية كريمة بالقيم الصوتية المكونة من الجرس واإليقاع على‬
‫اختالف مساحتهما ومنهاجهما‪ ،‬وكانت عنايتهم به منُسولًة من عنايتهم بالمعاني وصورها ومناهج الداللة عليها ومسالكها‬
‫إلى النفوس حاملة إليها تلك المعاني‪ ،‬ولعل تبيان "الرماني" جوهر البالغة بقوله‪:‬‬
‫"إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ"‪.‬‬
‫يسلك تلك الحقيقة في قلبك ويقررها فيه‪.‬‬
‫فالجرس واإليقاع هو أول ما يسترعي انتباه المستمع‪ ،‬وإن لم يستطع لظلمة جهالة أو عجمة أن يدرك شيئا من المعنى‬
‫المتعقل‪ ،‬ولهذا تجد العامة ممن ال يعرفون من علم العربية شيئا يرغبون في اإلصغاء إلى الترتيل الحسن‪ ،‬وقد ينفعلون‬
‫لتوقيعه‪ ،‬انفعااًل قد ال يتجاوب مع ما يحمل هذا اإليقاع من المعنى المتعقل‪ ،‬فتراه يهتف يكلمة اإلعجاب في مقام ترهيب‬
‫وإنذار تنخلع له قلوب العارفين‪ ،‬وما هو بالذي هتف إعجاًبا لما تضمنه من ترهيب وإنذار‪ ،‬فهو به جهول‪ ،‬وإنما هتف‬
‫لجرس وإيقاعه‪ ،‬وذلك ما يدركه حسه الفظري‪.‬‬
‫================================================================‬

‫‪15‬‬

You might also like