You are on page 1of 67

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫شعب ـ ـ ـ ــة‪ :‬الدراس ـ ـ ـ ــات اإلسالمي ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬


‫املستوى‪ :‬الف ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ــل الثالث‬
‫الوحدة‪ :‬اجلرح والتعديل‬

‫األستاذ‪ :‬عبد الرحيم موفق‬

‫العام الدراس ي‪2023/2022 – 1445/1444 :‬م‬

‫‪1‬‬
‫‪ ‬توصيف املادة‪:‬‬
‫يستهدف مقرر مادة الجرح والتعديل املوجه لطلبة الفصل الثالث شعبة الدراسات اإلسالمية منح الطلبة‬
‫فكرة واضحة عن علم الجرح والتعديل باعتباره العلم الذي يتناول أحوال الرواة من حيث توثيقهم أو تضعيفهم‬
‫بألفاظ مخصوصة لها مدلوالت ومراتب عند العلماء‪ ،‬والتمييز بين من تقبل روايته ومن ترد وفق مجموعة من‬
‫الشروط والضوابط‪ ،‬والتعرف على املنهج الذي سلكه أهل الصنعة الحديثية في الحكم على سند الحديث من‬
‫حيث القوة أو الضعف‪.‬‬
‫‪ ‬محاوراملادة‪:‬‬
‫‪ ‬املحوراألول‪ :‬علم الجرح والتعديل جدل النشأة والتاريخ‬
‫‪ ‬املحورالثاني‪ :‬طرق الجرح والتعديل وشروطه‬
‫‪ ‬املحورالثالث‪ :‬ألفاظ الجرح والتعديل ومراتبه‬
‫‪ ‬املحورالرابع‪ :‬التجريح بالبدعة وضوابطه‬
‫‪ ‬املحورالخامس‪ :‬منهاج املحدثين في دراسة سند الحديث النبوي‬
‫‪ ‬املحورالسادس‪ :‬عدالة الصحابة ~ ومنهجهم في التثبت من الحديث ورو ايته‬
‫‪ ‬املحورالسابع‪ :‬التصنيف في الجرح والتعديل‪.‬‬
‫‪ ‬مالحظة‪:‬‬
‫املطلوب من الطلبة التوسع في دراسة املادة من خالل تعميق البحث والتحليل فيما يتعلق بماهية علم‬
‫الجرح والتعديل ونشأته‪ ،‬ومشروعيته وطرقه وألفاظه‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ ‬بعض مصادرومراجع علم الجرح والتعديل‬
‫‪ -‬معرفة الرجال ليحيى بن معين‪233( .‬ه)‬
‫‪ -‬الجرح والتعديل البن أبي حاتم الرازي ‪ 327(.‬ه)‬
‫‪ -‬الثقات البن حبان (‪ 354‬ه)‬
‫‪ -‬املجروحين البن حبان (‪ 354‬ه)‬
‫‪ -‬الكامل في ضعفاء الرجال البن عدي‪365( .‬ه)‬
‫‪ -‬الكفاية لإلمام الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي (ت‪463 :‬ه)‬
‫‪ -‬لسان امليزان البن حجر العسقالني‪ 852( .‬ه)‬
‫‪ -‬الجرح والتعديل ملحمد جمال الدين بن محمد القاسمي الدمشقي (املتوفى‪1332 :‬هـ)‬
‫‪ -‬الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لإلمام أبي الحسنات محمد عبدالحي اللكنوي الهندي‪ .‬تحقيق عبد‬
‫الفتاح أبو غدة طبعة دار السالم‪1304(.‬ه)‬
‫‪ -‬املنهج اإلسالمي في الجرح والتعديل للدكتور فاروق حمادة‬
‫‪ -‬امليسر في علم الجرح والتعديل سيد عبد املاجد الغوري‬

‫‪3‬‬
‫املبحث األول‪ :‬علم الجرح والتعديل جدل النشأة واملشروعية‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم الجرح والتعديل‬
‫أ‪ :‬الجرح‬
‫الجرح في اللغة‪ :‬مصدر من جرحه يجرحه‪ ،‬إذا أحدث فيه جرحا وهو التأثير في الجسم بالسالح ونحوه‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫ٌ‬
‫صاص﴾ (املائدة‪ ،‬آ‪ )45 :‬ويأتي أيضا‬ ‫﴿و ْال ُج ُر َ‬
‫وح ِق‬ ‫جرحه جرحا إذا أثر فيه وهو جرح حس ي‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪َ :‬‬

‫الن َه ِار ﴾ (األنعام‪ ،‬آ‪ )60 :‬ويكون الجرح معنويا فيقال‪ :‬جرحه‬ ‫بمعنى اكتسب‪ ،‬كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َي ْع َل ُم َما َج َر ْح ُت ْم ب َّ‬
‫ِ‬
‫‪1‬‬
‫بلسانه أي‪ :‬شتمه‪ ،‬وسبه‪ ،‬و جرح الحاكم الشاهد إذا عثر منه على ما تسقط به عدالته‪ ،‬من كذب وغيره‪.‬‬
‫وفي اصطالح املحدثين‪ :‬الطعن في الراوي بما يخل بعدالته أو ضبطه‪ ، 2‬وقيل‪ :‬هو وصف متى التحق بالراوي‪،‬‬
‫والشاهد سقط االعتبار بقوله‪ ،‬وبطل العمل به‪.‬‬
‫ب‪ :‬التعديل‬
‫َ‬
‫لشاهد زكاه ووصفه بالعدالة‬ ‫العدل لغة خالف الجور والظلم‪ ،‬ويفيد القصد والتوسط في األمور‪َّ ،‬‬
‫وعدل ا‬
‫املرض ُّي‪ ،‬قوله وحكمه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ (الطالق‪ ،‬آ‪)2 :‬‬
‫واإلنسان العدل‪ِ :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫واصطالحا‪ :‬هو عدم ظهور ما يخل ب ِدين الراوي ومروءته‪ ،‬فيقبل لذلك ُ‬
‫خبره وشهادته إذا توفرت فيه بقية‬ ‫ِ‬
‫الشروط الالزمة في أهلية األداء‪ ،‬والعدالة في اصطالح املحدثين‪ :‬وصف متى التحق بالراوي والشاهد اعتبر قولهما‬
‫‪3‬‬
‫وأخذ به‪ ،‬وعرفت أيضا بأنها تزكية الراوي بأنه عدل أو ضابط‪.‬‬
‫وعلى هذا فعلم الجرح والتعديل‪ :‬هو العلم الذي يبحث عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة‪ ،‬وعن‬
‫مراتب تلك األلفاظ لقبول روايتهم أو ردها‪ ،‬أو نقول‪ :‬هو العلم الذي يبحث في أحوال الرواة من حيث قبو ُل‬
‫روايتهم أو ر ُّدها‪ .‬قال ابن األثير‪ ":‬الجرح‪ :‬وصف متى التحق بالراوي والشاهد سقط االعتبار بقوله‪ ،‬وبطل العمل‬
‫ُ َ‬ ‫به‪ ،‬والتعديل‪ :‬وصف متى التحق بهما ُ‬
‫‪4‬‬
‫اعت ِب َر قولهما وأ ِخذ به‪".‬‬
‫ب‪ :‬أقسام علم الجرح والتعديل‬
‫ينقسم علم الجرح والتعديل إلى قسمين‪:‬‬
‫‪ -‬نظري‪ :‬وهو عبارة عن مجموعة من القواعد التي تنبني عليها معرفة الرواة الذين تقبل رواياتهم أو ترد‪ ،‬ومراتبهم في‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬تطبيقي‪ :‬غايته إنزال كل ر ٍاو منزلته التي يستحقها من القبول وعدمه‪.‬‬

‫‪ 1‬مادة ( ج ر ح) من القاموس املحيط ‪ ،‬ولسان العرب‪ ،‬وتاج العروس‬


‫‪ 2‬جامع األصول البن األثير الجزري ‪126 /1‬‬
‫‪ 3‬املوضع نفسه‬
‫‪ 4‬املوضع نفسه‬
‫‪4‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬مشروعية الجرح والتعديل‬
‫تعرض العلماء للحديث عن مشروعية علم الجرح والتعديل في سياق ردهم على من ادعى أن الجرح هو نوع‬
‫من الغيبة‪ ،‬والغيبة محرمة شرعا‪ ،‬حتى قال الترمذي في كتابه العلل ‪ ":‬وقد عاب بعض من ال يفهم على أصحاب‬
‫الحديث الكالم في الرجال‪ 1 "...‬ولذلك ارتأيت تخصيص هذا املطلب للتفصيل في األدلة التي اعتمدها املحدثون‬
‫في التأصيل لهذا العلم وفي مقدمتها القرآن والسنة واإلجماع‪.‬‬
‫أوال‪ :‬األدلة من القرآن الكريم‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ين َآم ُنوا إ ْن َج َاء ُك ْم َفاس ٌق ب َن َبإ َف َت َب َّي ُنوا أ ْن ُتص ُيبوا َق ْو ًما ب َج َه َال ٍة َف ُت ْ‬‫‪ :1‬قوله تعالى ‪َ ﴿:‬يا َأ ُّي َها َّالذ َ‬
‫ص ِب ُحوا َعلى َما ف َعل ُت ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫دليل في وجوب ُّ‬
‫التبين‬ ‫أص ٌل في اعتبار العدالة والضبط في الرواة‪ ،‬كما َّأنها ٌ‬ ‫َنادم َين ﴾ الحجرات‪ ،6 :‬وهذه اآلية ْ‬
‫ِِ‬
‫والتثبت من حقيقة خبر الفاسق‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫‪ :2‬قال تعالى ‪َ ﴿:‬و َأ ْشه ُدوا َذ َوي َع ْدل م ْن ُك ْم َ‬
‫ّلِل ﴾ الطالق‪ .2 :‬وقال سبحانه ﴿ َي ْحك ُم ِب ِه ذ َوا َع ْد ٍل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ة‬ ‫اد‬ ‫ه‬ ‫لش‬ ‫ا‬ ‫وا‬ ‫ُ‬
‫يم‬‫ق‬‫ِ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫لألمة‪ ،‬وتشريع لها‪ ،‬وهو املصدر‬ ‫ين َّ‬ ‫م ْن ُك ْم ﴾ املائدة‪ .95 :‬وطلب الرضا والعدل في حديث النبي ‪ -‬ﷺ‪ -‬الذي هو د ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫الثاني في التشريع ‪ْ -‬أولى من أن ُيطلب في الشهادة‪ ،‬وال يمكن أن نعرف العدل من غيره إال بالبحث عن أحوال‬
‫‪2‬‬
‫الرواة‪ ،‬وما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪ ،‬فيكون البحث عن أحوال الرواة واجبا‪.‬‬
‫َ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُْ‬
‫يل امل ْج ِر ِم َين ﴾ (سورة األنعام اآلية‪ ،)55 ::‬والواجب على أهل‬‫ات وِلتست ِبين س ِب‬
‫‪ :3‬قوله تعالى ‪ ﴿:‬وكذ ِلك نف ِصل اآلي ِ‬
‫الح َّجة على املعاندين؛ َّ‬
‫ألن هللا َّ‬
‫فصل‬ ‫ليهتدي بذلك املهتدون‪ ،‬ويرجع الضالون‪ ،‬وتقوم ُ‬ ‫َ‬ ‫العلم‪ُ :‬‬
‫تمييز الحق‪ ،‬وإظهاره‬
‫فمن عمل بهذا ِمن أهل العلم‪ ،‬فهو‬ ‫ولتستبين سبيل املهتدين من سبيل املجرمين‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫آياته‪َ ،‬‬
‫ليميز الحق من الباطل‪،‬‬
‫من خلفاء الرسل‪ ،‬وهداة األمم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬األدلة من السنة‬
‫‪ -‬ما َّاتفق عليه الشيخان من حديث عائشة ‪ -‬رض ي هللا عنها ‪ :-‬أن رجال استأذن على النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فلما رآه قال‪« :‬بئس أخو العشيرة‪ ،‬أو بئس ابن العشيرة» فلما جلس تطلق النبي ﷺفي وجهه‬
‫وانبسط إليه‪ ،‬فلما انطلق الرجل قالت له عائشة‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا‪ ،‬ثم‬
‫تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬يا عائشة‪ ،‬متى عهدتني فحاشا‪،‬‬
‫إن شر الناس عند هللا منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره»‪3‬‬
‫ٌ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الذم ملا كان في ذلك مصلحة شرعية‪ ،‬وهي‬
‫يستدل من الحديث أن النبي ﷺ تكلم في ذلك الرجل على وجه ِ‬
‫ُ‬
‫التنبيه إلى سوء خلقه؛ ليحذ َره السامع‪4.‬‬

‫‪ 1‬العلل الصغير للترمذي (ص‪)738 :‬‬


‫‪ 2‬شرح األلفية للعراقي ‪159 /4‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري في كتاب األدب باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب‪ .‬ومسلم في كتاب البر والصلة واآلداب باب مداراة من يتقى فحشه‪.‬‬
‫‪ 4‬ضوابط الجرح والتعديل (ص‪)30 :‬‬
‫‪5‬‬
‫‪ -‬ما أخرجه مسلم من حديث َفاط َم َة ب ْنت َق ْيس َأ َّن أبا َع ْمرو بن َح ْفص َط َّل َقها ْال َّبت َة‪ ...‬فقال لها َّ‬
‫الن ُّبي ‪ -‬ﷺ‪: -‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ ُ َ َ ْ ُ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ََ‬ ‫َ َ َْ َ‬
‫((ف ِإذا َحلل ِت ف ِآذ ِن ِيني))‪ ،‬قالت‪ :‬فلما حللت ذكرت له أن مع ِاوية بن أ ِبى سفيان‪ ،‬وأبا جه ٍم خطبا ِني‪ ،‬فقال‬
‫ْ‬ ‫ص ْع ُل ٌ‬
‫وك ال َ‬ ‫عاتقه‪َ ،‬و َأ َّما ُم َ‬
‫عاوي ُة َف ُ‬ ‫َ‬ ‫ض ُع َع ُ‬ ‫َ‬
‫((أ َّما أبو َج ْهم فال َي َ‬ ‫ُ َّ‬
‫مال له‪ ،‬أن ِك ِحي‬ ‫ِ‬ ‫عن‬ ‫صاه‬ ‫ٍ‬ ‫َرسول ِ‬
‫َّللا ‪ -‬ﷺ‪: -‬‬
‫ُأ َس َام َة َ‬
‫بن َزْيد‪ ))..‬الحديث ‪.‬‬
‫لتحقق املصلحة‪ ،‬وهي املشورة على املستشير‬ ‫فالنبي ‪ -‬ﷺ‪ -‬ذكر معاوية وأبا َج ْهم ‪ -‬ض ي هللا عنهما ‪ -‬بما فيهما؛ ُّ‬
‫ر‬
‫باألصلح له‪ ،‬ولذلك قال لها النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪( : -‬أنكحي أسامة)‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬اإلجماع‬
‫ٌ‬ ‫والفساق ال ُي ُّ‬
‫عد من ال ِغيبة َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫واجب‬ ‫املحرمة‪ ،‬بل هو‬ ‫البدع‬
‫وأهل ِ‬
‫أجمع أئمة الحديث قاطبة على أن جرح الرواة ِ‬
‫عند الحاجة ومستحب‪ ،‬ومن هؤالء األئمة الذين َّ‬
‫صرحوا بذلك‪ ،‬وقاموا بهذا الواجب ما يلي‪:‬‬
‫الحجاج (ت ‪ 160‬هـ (‪ -‬سفيان الثوري (ت‪161‬هـ(‪ -‬مالك بن أنس (ت‪179‬هـ) ‪ -‬عبدهللا بن املبارك‬ ‫‪ُ -‬ش ْعبة بن َّ‬
‫َ َّ‬
‫(ت‪181‬هـ) ‪ -‬يحيى بن سعيد القطان (ت‪198‬هـ (‪ -‬عبدالرحمن بن مهدي (ت‪189‬هـ(‪ -‬يحيى بن معين (ت‪233‬هـ(‪-‬‬
‫َ‬
‫علي بن املديني (ت‪234‬هـ)‬
‫املطلب الثالث‪ :‬أهمية علم الجرح والتعديل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫اختار هللا عز وجل أمة اإلسالم لتكون أمة شاهدة على األمم‪ ،‬قال تعالى ‪َ ﴿:‬وكذ ِل َك َج َعل َناك ْم أ َّمة َو َسطا‬
‫يدا﴾(البقرة‪،‬آ‪ )143 :‬وتبعا لذلك كان دينها هو الدين الخاتم‬ ‫الر ُسو ُل َع َل ْي ُك ْم َشه ً‬ ‫الناس َو َي ُكو َن َّ‬ ‫ل َت ُك ُونوا ُش َه َد َاء َع َلى َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ً َ َْ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اب‬‫وشريعتها هي الشريعة املصدقة املهيمنة‪ ،‬قال تعالى‪﴿:‬وأنزلنا ِإليك ال ِكتاب ِبالح ِق مص ِدقا ِملا بين يدي ِه ِمن ال ِكت ِ‬
‫َ‬
‫َو ُم َه ْي ِم ًنا َعل ْي ِه﴾ (املائدة‪ ،‬آ‪ )47:‬وقد تعهد املولى عز وجل بحفظ وحيها من التحريف والتبديل‪ ،‬قال تعالى ‪ِ ﴿:‬إ َّنا‬
‫َ‬
‫أيضا وحي ُمن َّزل‬ ‫َن ْح ُن َن َّ ْزل َنا الذ ْك َر َوإ َّنا َل ُه َل َحاف ُظو َن ﴾(الحجر ‪ ،‬آ‪ ،).9 :‬والذكر بشمل القرآن والسنة؛ َّ‬
‫ألن السنة ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وحى ﴾ (النجم‪ ،‬آ‪ )4 – 3:‬وهي املبينة‬ ‫من هللا ‪ -‬تعالى ‪ -‬قال سبحانه ‪َ ﴿:‬و َما َي ْنط ُق َعن ْال َه َوى إ ْن ُه َو إ َّال َو ْح ٌي ُي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سماها املولى عز وجل ذكرا فقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وأن َزل َنا ِإل ْي َك‬ ‫والشارحة واملوضحة واملفصلة للقرآن الكريم‪ ،‬وقد َّ‬
‫ون﴾ ) النحل‪ ،(.44 :‬والقرآن الكريم ال يمكن العمل به دون السنة‬ ‫الذ ْك َر ل ُت َبي َن ل َّلناس َما ُنز َل إ َل ْيه ْم َو َل َع َّل ُه ْم َي َت َف َّك ُر َ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫‪1‬‬
‫املطهرة‪ ،‬وقد أثر عن النبي ﷺ أنه قال‪« :‬أال إني أوتيت الكتاب ومثله معه‪ ،‬أال إني أوتيت القرآن ومثله معه»‬
‫واملحافظة على أحاديث رسول هللا إنما هو محافظة على هذا املثل‪ِ ،‬‬
‫ومن أهم العلوم املعينة على حفظها علم‬
‫الجرح والتعديل‪ ،‬فإذا كانت معرفة أحوال الرواة من أوجب الواجبات لحفظ سنة النبي ﷺ‪ ،‬فإن بيان حال من‬
‫َ‬
‫عرف بالضعف والكذب‪ ،‬وكذا من عرف بالضبط والعدالة من ذلك الواجب أيضا‪َ ،‬لي ْع ِرف الناس حقيقة أمر‬
‫نقل حديث النبي ﷺ إلى األمة ‪k‬ومما يدل على أهميته نذكر‪:‬‬

‫‪ 1‬أخرجه اإلمام أحمد في مسند الشاميين‪ ،‬حديث املقدام بن معدي كرب‪ ،‬رقم ‪)410 /28( 17174‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -1‬صيانة للدين‪:‬‬
‫بذب الكذب والغلط عن سيد املرسلين كما قال يحيى بن سعيد القطان في الذين ترك حديثهم ‪ ":‬ألن يكون‬
‫هؤالء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول هللا ﷺ‪ ,‬يقول‪ :‬لم حدثت عني حديثا ترى أنه كذب "‪ 1‬ولوال‬
‫جهود هؤالء األعالم ورحالتهم في طلب األسانيد ومعرفة رجالها لظهرت البدع واستولى الدجالون على أمور الدين‬
‫‪2‬‬
‫وأدخلوا فيه ما هو منه براء‪ ،‬وقد قيل لعبد هللا بن املبارك هذه األحاديث املوضوعة‪ .‬قال‪ :‬تعيش لها الجهابدة‪.‬‬
‫‪ -2‬أساس تكوين عالم الشرع‪:‬‬
‫فال يسمى عاملا من ال دراية له بطرق الجرح والتعديل‪ ،‬قال الزركش ي ‪ ":‬أما الفقهاء فاسم املحدث عندهم ال‬
‫يطلق إال على من حفظ سند الحديث وعلم رجاله وجرحهم دون املقتصر على السماع"‪ ،3‬وقد أعانهم قرب العهد‬
‫بالرواة ومن يعرفهم على دقة املعرفة والتمييز بين حالي الراوي أو أحواله التي عرضت نتيجة أسفار أو تغيرات في‬
‫نظام حياته مثل والية قضاء أو منصب أو اعتراض مرض أو نازلة أثرت في حفظه‪...‬أو غير ذلك‪ ،‬فقدموا للعالم‬
‫دراسة وافية عن رجال الحديث ال يعرف التاريخ مثلها ألمة من األمم‪ ،‬و هذا االهتمام بالرواة‪ ،‬وهو ما يعرف‬
‫باالهتمام باإلسناد‪ ،‬هو ما يتردد على ألسنة كثير من املحدثين بقولهم‪ :‬اإلسناد‪ ،‬وفضائل اإلسناد‪ ،‬واإلسناد من‬
‫خصائص األمة املحمدية‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫‪ :3‬اإلسهام في تحقيق وحدة األمة اإلسالمية‪ :‬فلوال هذا العلم لتمزقت األمة اإلسالمية آر ٌاء ضالة وراء أهواء‬
‫الوضاعين املضلين‪ ،‬فكان في روايات الثقات واملقبولين ما يجمع كلمة املسلمين‪.‬‬
‫‪ :4‬من أعظم أبواب النصيحة‪ :‬فعلم الجرح والتعديل يجمع جوانب النصح كلها الواردة في حديث رسول هللا‬
‫‪4‬‬
‫ﷺ‪« :‬هلل‪ ،‬ولرسوله‪ ،‬ولكتابه‪ ،‬وألئمة املسلمين‪ ،‬وعامتهم»‬
‫املطلب الرابع‪ :‬فوائد علم الجرح والتعديل‬
‫إضافة ملا ذكرناه في أهمية علم الجرح والتعديل فإن لهذا العلم ثمرات عدة‪ ،‬من بينها‪:‬‬
‫ُّ‬
‫وممن يجب التوقف فيه‪.‬‬ ‫ممن يجب َقبول خبره‪ ،‬وممن يجب ر ُّده‪َّ ،‬‬
‫الرواة َّ‬
‫رواية ُّ‬
‫‪ -‬معرفة ما وقع من ِ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫التساهل في نقلها‪.‬‬ ‫‪ -‬تمييز الوقائع التاريخية الصحيحة من غيرها‪ ،‬بسبب غلبة‬
‫‪ -‬التشجيع على التزام منهج التقص ي والتحري بالبينة والبرهان وفقا لقاعدة ‪ ":‬إن كنت ناقال فالصحة‪ ،‬أو مدعيا‬
‫ص ِاد ِق َين ﴾ (البقرة‪ ،‬آ‪)111 :‬‬ ‫فالدليل" مصداقا لقوله تعالى ‪ُ ﴿ :‬ق ْل َه ُاتوا ُب ْر َه َان ُك ْم إ ْن ُك ْن ُت ْم َ‬
‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫والتأمل‪ ،‬والنظر والبحث‪.‬‬ ‫‪ -‬التحرر من سلطان التقليد املذموم وإحياء فريضة التفكر‬

‫‪ 1‬الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص‪)44 :‬‬


‫‪ 2‬الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص‪)37 :‬‬
‫‪ 3‬تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للسيوطي (‪)31 /1‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري في كتاب اإليمان‪ ،‬باب قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬الدين النصيحة‪ :‬هلل ولرسوله وألئمة املسلمين وعامتهم " (‪)21 /1‬‬

‫‪7‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬ر ُّد خبر الفاسق‪ ،‬والكذاب‪ ،‬والكافر من باب ْأولى‪.‬‬
‫املتعلقة ببعض الصحابة‪ ،‬ورد بعض الشبه التي أثيرت عنهم مما وضعه ُ‬
‫أهل البدع‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬ـ معرفة بعض الوقائع‬
‫واألهواء‪.‬‬
‫املطلب الخامس ‪ :‬نشأة علم الجرح والتعديل‬
‫إن علم الجرح والتعديل من العلوم التي تفردت بها األمة اإلسالمية عن سائر األمم‪ ،‬وتميزت بتأسيسه وإنشائه‬
‫ووضع شروطه وضوابطه‪ ،‬وقد نشأ علم الجرح والتعديل من عهد الصحابة الكرام‪ ،‬ثم قوي واشتد في القرن‬
‫األول والثاني‪ ،‬وامتد واتسع وبدأ يتكامل في القرن الثالث والرابع‪ .‬فقد هيأ هللا رجاال صالحين مصلحين سألوا عن‬
‫الرواة‪ ،‬وتتبعوهم في مختلف أحوال حياتهم العلمية وعرفوا جميع أحوالهم‪ ،‬وبحثوا أشد البحث حتى عرفوا‬
‫األحفظ فاألحفظ‪ ،‬واألضبط فاألضبط‪ ،‬مجالسة ملا فوقه ممن كان أقل مجالسة‪ .‬إلى جانب ما ورد عن الرسول‬
‫ﷺ‪ ،‬فقد وصلنا كثير من أقوال الصحابة في هذا الباب‪ ،‬وتكلم بعد الصحابة في الرجال التابعون وأتباعهم وأهل‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫العلم من بعدهم‪ ،‬وكانوا يبينون أحوال الرواة َوي ْن ُق ُد َونهم ُوي َع ِدل َونهم حسبة هلل‪ ،‬وخدمة للشريعة‪.‬‬
‫أ‪ :‬الجرح والتعديل في القرآن الكريم‬
‫الجرح‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم في ذم الكافرين واملنافقين كقوله تعالى ‪﴿ :‬والكافرون هم الظاملون﴾(البقرة‪ ،‬آ‪:‬‬
‫‪ ،)171‬وآيات في ذم أفراد بعينهم من الكافرين كقوله تعالى في الوليد بن املغيرة ‪﴿:‬ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت‬
‫له ماال ممدودا﴾ (املدثر‪ ،‬آ‪ ،)26 – 11 :‬وقال سبحانه في شأن املنافقين ‪﴿:‬إن املنافقين يخادعون هللا وهو‬
‫خادعهم﴾ ( النساء‪ ،‬آ‪ )142 :‬كما ذم أفرادا بعينهم كقوله تعالى ‪﴿ :‬والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم﴾ ( النور‬
‫‪)11،‬‬
‫التعديل‬ ‫‪‬‬

‫ين‬‫ٱألو ُلو َن م َن ْٱملُ َهٰـجر َ‬ ‫ٱلسٰـب ُقو َن َّ‬‫َ َّ‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآليات في فضل الصحابة رضوان هللا تعالى عليهم كثيرة كقوله سبحانه﴿و ِ‬
‫ين ِف َيها‬ ‫ض ْوا َع ْن ُه َو َأ َع َّد َل ُه ْم َج َّنٰـت َت ْجري َت ْح َت َها ْ‬
‫ٱألن َهٰـ ُر َخٰـلد َ‬ ‫وهم بإ ْح َسان َّرض َى َّ ُ‬
‫ٱّلِل َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬ ‫صٰـر َو َّٱلذ َ‬
‫ين َّٱت َب ُع ُ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫وٱألن ِ ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ٱّلِل َو َّٱلذ َ‬
‫َ ٌ ُ ُ َّ‬ ‫دا ٰذل َك ْٱل َف ْو ُز ْٱل َعظ ُ‬‫ََ ً‬
‫ين َم َع ُه أ ِش َّداء َعلى ٱلك َّف ِار‬ ‫يم﴾ [التوبة‪ ،]100:‬وقوله عز وجل‪ُّ ﴿:‬مح َّمد َّرسول ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أب ِ‬
‫َُ‬ ‫ُّ ُ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫ض ًال م َن َّ َ ْ َ ً َ ٰ ْ ُ ُ‬ ‫ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ َّ ً ُ َّ ً‬
‫دا َي ْب َت ُغو َن َف ْ‬
‫ود ذ ِل َك َمثل ُه ْم ِفى‬ ‫وه ِه ْم من أث ِر ٱلسج ِ‬ ‫ٱّلِل و ِرضوانا ِسيمـ ُهم ِفى وج ِ‬ ‫ِ‬ ‫رحماء بينهم تراهم ركعا سج‬
‫َ‬ ‫ٱس َت َو ٰى َع َل ٰى ُسوقه ُي ْعج ُب ُّ‬
‫ٱلز َّر َ‬ ‫ظ َف ْ‬ ‫َ َْ ْ َ َ َ ْ ُ َ ََُ َ ْ َ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ َ َ َ َ ُ ُ ْ‬
‫اع ِل َي ِغيظ ِب ِه ُم‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ٱإلنج ِيل كزر ٍع أخرج شطأه فآزره فٱستغل‬ ‫ٱلتور ِاة ومثلهم ِفى ِ‬
‫ً‬ ‫ْ ً َ ً‬ ‫ْ ُ َّ َ َ َ َ َّ ُ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َّ ٰ ٰ‬
‫ٱلصـ ِل َحـ ِت ِم ْن ُهم َّمغ ِف َرة َوأ ْجرا َع ِظيما﴾ [الفتح‪ .]29:‬وأخرى في أفراد بعينهم‬ ‫ٱلكفار وعد ٱّلِل ٱل ِذين ءامنوا وع ِملوا‬
‫كقوله تعالى في شأن أبي بكر ﴿واتبع سبيل من أناب إلي﴾ ( لقمان ‪ )15 ،‬وأيضا قوله تعالى ﴿وسيجنبها األتقى الذي‬
‫يؤتي ماله يتزكى﴾ ( الليل‪ ،‬آ‪)18 – 17 :‬‬

‫‪8‬‬
‫ب‪ :‬الجرح والتعديل في الحديث النبوي الشريف‬
‫الجرح‬ ‫‪‬‬

‫األحاديث في ذم الكفار واملنافقين كثيرة منها قوله ﷺ في بعض فرق الخوارج ‪« :‬يقرؤون القرآن ليس‬
‫قراءتكم إلى قراءتهم بش يء وال صالتكم بش يء وال صيامكم إلى صيامهم بش يء يقرؤون القرآن يحسبونه لهم‬
‫وهو عليهم ال تجاوز صالتهم تراقيهم‪ ، 1».‬ومنها أحاديث في ذم بعض الجفاة كقوله ﷺ‪« :‬ائذنوا له فلبئس أخو‬
‫‪2‬‬
‫العشيرة‪».‬‬
‫التعديل‬ ‫‪‬‬

‫ثبتت أحاديث كثيرة في تعديل الصحابة جملة واحدة كقوله ﷺ"خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم‬
‫معنى‬
‫َ َ‬
‫مي ُن ُه ش َه َادت ُه"‪ 3‬ويؤكد ابن مسعود‬ ‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم يجئ قوم َت ْسب ُق َش َه َاد ُة َأ َحدهم َيم َي ُ‬
‫نه َ‬
‫وي‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫الحديث قائال‪" :‬إن هللا نظر فى قلوب العباد‪ ،‬فوجد قلب محمد خير قلوب العباد‪ ،‬فاصطفاه لنفسه‬
‫وابتعثه برسالته‪ ،‬ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد‪ ،‬فجعلهم‬
‫‪5‬‬
‫يقاتلون عن دينه "‪ 4‬يقول اإلمام اآلمدى رحمه هللا‪ " :‬واختيار هللا ال يكون ملن ليس بعدل ‪".‬‬ ‫وزراء نبيه‬
‫أضف إلى ذلك أحاديث في فضل أفراد من الصحابة‪ ،‬مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحديث في‬
‫البشارة بالجنة للعشرة واحدا واحدا‪...‬وغير ذلك كثير مما هو مذكور في أبواب الفضائل من كتب‬
‫الحديث‪ .‬كقوله ﷺ في عبد هللا بن عمر ‪ ":‬نعم الرجل عبد هللا لو كان يقيم من الليل فيكثر"‬
‫ج‪ :‬الجرح والتعديل عند الصحابة‬
‫َّ‬
‫عموما‪ ،‬وعلم الجرح والتعديل َّ‬
‫خاصة‪ ،‬فكانوا ‪ -‬رض ي هللا‬ ‫ً‬ ‫تكلم في علوم ُّ‬
‫السنة‬ ‫ُيعتبر أصحاب النبي ﷺ َّأول َمن‬
‫َّ‬
‫عنهم ‪َّ -‬يتخذون الضوابط الالزمة لصيانة حديث رسول هللا ﷺ‪ ،‬ولذلك تثبتوا فيما ُينقل إليهم‪ ،‬فال يقبلونه إال‬
‫شهرا لسماع حديث رسول هللا ﷺ‪ ،‬ومنهم من صحب النبي ‪ -‬ﷺ‪ -‬على ِم ْل ِء بطنه‪،‬‬ ‫أحدهم يسافر ً‬ ‫بشاهد‪ ،‬وكان ُ‬
‫حتى َ‬
‫يجمع ما استطاع من حديث رسول هللا ‪ -‬ﷺ‬

‫‪ 1‬أخرجه مسلم في كتاب الزكاة‪ ،‬باب‪ :‬التحريض على قتال الخوارج‪ ،‬رقم‪114 /3 ،1066 :‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري في األدب ‪ ،‬باب‪ :‬لم يكن النبي فاحشا وال متفحشا‪13 -12 /8 ،‬‬
‫‪3‬أخرجه اإلمام البخارى في كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬باب فضائل أصحاب النبى ‪ ،‬ومن صحب النبى أو رآه من املسلمين فهو من أصحابه رقم‪:‬‬
‫‪ 5/7 ،3651‬و اإلمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة رض ي هللا عنهم‪ ،‬باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم رقم ‪ ،2533‬من حديث‬
‫ابن مسعود رض ي هللا عنه‪ 324/8 ،‬ت محمد فؤاد عبد الباقي د إحياء التراث العربي بيروت‪.‬‬
‫‪4‬أخرجه اإلمام أحمد فى مسند عبد هللا بن مسعود رض ي هللا عنه‪ ،‬رقم‪ )84 /6( 3600 :‬تعليق شعيب األرنؤوط (ط‪1421/1:‬هـ ‪2001 -‬م) مؤسسة‬
‫الرسالة‪ ،‬بيروت‪.‬وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد رواه أحمد ورجاله موثقون‪ 178/1 .‬مكتبة القدس ي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ 5‬اآلمدى‪ ،‬اإلحكام فى أصول األحكام‪.82/2 .‬‬
‫‪9‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الج َّدة في‬
‫فقصته مع َ‬ ‫الص ِديق ‪ -‬رض ي هللا عنه ‪َّ -‬أول َمن فتش عن الرجال من الصحابة‪،1‬‬
‫وقد كان أبو بكر ِ‬
‫طلب ميراثها مشهورة‪ .2‬فقد جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رض ي هللا عنه تسأله امليراث‪ ،‬فسأل الصحابة‪،‬‬
‫فأجابه املغيرة بن شعبة بأنها ترث السدس عن رسول هللا ﷺ‪ ،‬فطلب منه أن يأتيه بشاهد‪ ،‬فشهد معه محمد بن‬
‫مسلمة‪.‬‬
‫ثم كان بعده عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري قال‪" :‬كنا في مجلس عند أبي بن كعب‬
‫ً‬
‫فزعا أو مذعو ًرا) حتى وقف فقال‪ :‬أنشدكم هللا!! هل سمع ٌ‬ ‫ً‬
‫أحد منكم‬ ‫فأتى أبو موس ى األشعري مغضبا (وفي رواية‬
‫ُ‬
‫رسول هللا ﷺيقول‪" :‬اإلستئذان ثالث‪ ،‬فإن أذن لك وإال فارجع؟ قال‪ :‬أبي وما ذاك؟! قال‪ :‬استأذنت على عمر بن‬
‫الخطاب أمس ثالث مرات فلم يؤذن لي فرجعت‪ ،‬ثم جئته اليوم‪ ،‬فدخلت عليه‪ ،‬فأخبرته أني جئت باألمس‬
‫ً‬
‫حينئذ في شغل‪ .‬فلو استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال‪ :‬استأذنت‬
‫ٍ‬ ‫فسلمت ثالثا‪ ،‬ثم انصرفت‪ .‬قال قد سمعناك ونحن‬
‫كما سمعت رسول هللا ﷺ‪ ،‬قال‪ :‬فوهللا ألوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا؟ فقال أبي بن‬
‫ً ُ‬
‫كعب‪ :‬فوهللا ال يقوم معك إال أحدثنا سنا‪ .‬قم يا أبا سعيد‪ .‬فقمت حتى أتيت عمر‪ ،‬فقلت‪ :‬قد سمعت رسول هللا‬
‫ﷺيقول هذا"‪.3‬‬
‫بل لقد كان عمر ـ كما يقول اإلمام الذهبي‪" :‬هو الذي َس َّن للمحدثين التثبت في النقل"‪ 4‬ـ يعني أنه حرص على‬
‫إشاعة هذه السنة وتعليمها‪ .‬وقال الذهبي‪ :‬وهو ـ يعني أن عمر أحب أن يتأكد عنده خبر أبي موس ى بقول صاحب‬
‫آخر‪ .‬ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد‪ ،‬وفي ذلك حض على تكثير‬
‫طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم‪ ،‬إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم‪.5‬‬
‫يدل داللة واضحة على َّأن التحري في رواية‬
‫جرا‪ ،‬وهذا ُّ‬ ‫ثم بعده علي بن أبي طالب‪ - 6‬رض ي هللا عنهما ‪َّ -‬‬
‫فهلم ًّ‬
‫مبكرة‪.‬‬
‫الرجال قد بدأ في فترة ِ‬
‫الحديث والسؤال والتفتيش عن ِ‬
‫َ َّ‬ ‫وهناك من صغار الصحابة ً‬
‫أيضا َمن َج َرح ً‬
‫انتشرت الفتن‪ ،‬وظهر أصحاب األهواء‪ ،‬منهم‬
‫ِ‬ ‫عددا من الرواة ملا‬ ‫ِ‬
‫عبدهللا بن عباس ‪ -‬رض ي هللا عنهما‪.‬‬
‫كعب العدوي إلى ابن عباس‪،‬‬‫روى اإلمام مسلم في مقدمة صحيحه بإسناده إلى مجاهد َّأنه قال‪" :‬جاء بشير بن ْ‬
‫عباس ال يأذن لحديثه‪ ،‬وال ينظر‬‫حدث‪ ،‬ويقول‪ :‬قال رسول هللا ‪ -‬ﷺ‪ -‬قال رسو ُل هللا ‪ -‬ﷺ‪ -‬فجعل ابن َّ‬ ‫ُ‬
‫فجعل ي ِ‬
‫أحدثك عن رسول هللا ‪ -‬ﷺ‪ -‬وال تسمع! فقال ابن‬
‫عباس‪ ،‬ما لي ال أراك تسمع لحديثي؟ ِ‬ ‫إليه‪ ،‬فقال )بشير)‪ :‬يا ابن َّ‬

‫‪ 1‬تذكرة الحفاظ؛ للذهبي (‪ ،)2/1‬واملدخل؛ للحاكم (ص‪(64 :‬‬


‫‪ 2‬تذكرة الحفاظ ‪.3/1‬‬
‫‪3‬البخاري رقم (‪ )6245‬وانظر الفتح ‪ ،32/11‬ومسلم رقم (‪ )2153‬واللفظ ملسلم ‪.‬‬
‫‪ 4‬تذكرة الحفاظ (‪.)6/1‬‬
‫‪ 5‬تذكرة الحفاظ (‪.)6/1‬‬
‫‪ 6‬تذكرة الحفاظ؛ للذهبي (‪ ،)6/1‬والحاكم في "املدخل" (ص‪(64 :‬‬
‫‪10‬‬
‫َ‬
‫وأصغ ْينا إليه بآذاننا‪َّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫كنا مرة إذا ْ‬ ‫عباس‪َّ :‬‬
‫"إنا َّ‬
‫فلما ركب‬ ‫سمعنا رجال يقول‪ :‬قال رسول هللا ‪ -‬ﷺ‪ -‬ابتدرته أبصا ُرنا‪،‬‬
‫‪1‬‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذ من الناس إال ما ِ‬
‫نعرف‪".‬‬
‫وقعت الفتنة؛ قالوا‪َ :‬س ُّموا لنا‬ ‫أيضا عن محمد بن سيرين‪" :‬لم يكونوا يسألون عن اإلسناد‪َّ ،‬‬
‫فلما‬ ‫وروى بسنده ً‬
‫ِ‬
‫حديثهم‪ ،‬وينظر إلى أهل البدع‪ ،‬فال ُيؤخذ حديثهم‪".‬‬ ‫السنة‪ ،‬فيؤخذ ُ‬ ‫رجالكم‪ُ ،‬‬
‫فينظر إلى أهل ُّ‬
‫د‪ :‬الجرح والتعديل عند التابعين‬
‫أما التابعون فكالمهم في الرجال أكثر من الصحابة‪ ،‬وكان الجرح آنذاك قليال بالنسبة ملا بعدهم لقلة‬
‫املجروحين‪ ،‬وذلك بسبب القرب من عهد النبي ﷺ‪ ،‬فلم يكن يجرؤ على الكذب على رسول هللا ﷺ إال النادر‪،‬‬
‫وعامة املضعفين من التابعين ضعفوا للبدعة‪ ،‬كالخوارج والقدرية‪ ،‬أو لسوء الحفظ وكثرة الغلط‪ ،‬وللجهالة‪ ،‬قال‬
‫ٌ‬ ‫بسنتهم‪ ،‬واهتدى بهديهم فيما ُّ‬ ‫َ‬
‫مسلكهم‪ ،‬واست َّن ُ‬ ‫ُ‬
‫استنوا من التيقظ من الروايات جماعة من‬ ‫ابن ِح َّبان‪" :‬ثم أخذ‬
‫أهل املدينة من سادات التابعين‪ ،‬منهم‪ :‬سعيد بن املسيب‪ ،‬والقاسم بن محمد بن أبى بكر‪ ،‬وسالم بن عبد هللا بن‬
‫الحسين بن على‪ ،‬وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف‪ ،‬وعبيد هللا بن عبدهللا بن عتبة‪ ،‬وخارجة‬ ‫عمر‪ ،‬وعلى بن ُ‬

‫العوام‪ ،‬وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام‪ ،‬وسليمان بن يسار‪.‬‬ ‫بن زيد بن ثابت‪ ،‬وعروة بن الزبير بن َّ‬
‫‪2‬‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫فجدوا في ِح ْفظ ُّ‬
‫ُّ‬
‫الدين‪ ،‬ودعوة املسلمين‪".‬‬
‫السنن‪ ،‬والرحلة فيها‪ ،‬والتفتيش عنها‪ ،‬والتفقه فيها‪ ،‬ول ِزموا ِ‬
‫ه‪ :‬الجرح والتعديل بعد التابعين‬
‫منذ أواخر عصر التابعين فما بعد طالت األسانيد وتشعبت وابتعد الناس عن فطرة الحفظ والضبط التي‬
‫عرف بها جيل الصحابة واألكثر الغالب من التابعين فكثر الضعفاء واملخلطون واملغفلون وظهرت رؤوس فرق‬
‫عديدة منحرفة وفرق تشعبت فكثرة الجرأة على أحاديث رسول هللا ﷺ‪ ،‬فزادت الحاجة إلى العناية بتبيين أحوال‬
‫الرواة‪ ،‬وبالغ العلماء في البحث والتحري حتى لوكان الرجل ال يروي إال حديثا واحدا سجلوا اسمه وبينوا حكمه‪،‬‬
‫قال الذهبي ‪ ":‬فلما كان عند انقراض عامة التابعين في حدود الخمسين تكلم طائفة من الجهابذة في التوثيق‬
‫‪3‬‬
‫والتضعيف"‬
‫و‪ :‬من مشاهيرأئمة الجرح والتعديل‬
‫اشتهر من علماء الجرح والتعديل أئمة هم مصادر ملن جمع الكتب في أحوال الرواة نذكر من بينهم‪:‬‬
‫‪ :1‬شعبة بن الحجاج أمير املؤمنين في الحديث (ت‪ 160 :‬ه)‪ :‬وهو أول من تجرد وتفرغ للكالم في الرواة‪ ،‬وكان‬
‫شديد التحري والتقص ي‪ ،‬وهو من املتشددين في الجرح‪ ،‬وكان له أثر في مسيرة طالب العلم لشدة حمالته على‬

‫‪ 1‬مقدمة صحيح مسلم باب النهي عن الرواية عن الضعفاء واالحتياط في تحملها‪.‬‬


‫‪ 2‬املجروحين البن حبان (‪)38 /1‬‬
‫‪ 3‬ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص‪)175 :‬‬
‫‪11‬‬
‫الضعفاء واستنكاره الشديد على املدلسين حتى قال ‪ ":‬ألن أخر من السماء إلى األرض أحب إلي ان أدلس بعبارة‬
‫‪1‬‬
‫زعم فالن ‪ ،‬ولم أسمع ذلك الحديث عنه‪".‬‬
‫قال فيمن يترك حديثه ‪ ":‬من يكذب في الحديث ومن يكثر الغلط ومن يخطئ في حديث يجمع عليه‪ ،‬ومن روى‬
‫عن املعروفين ما ال يعرفه املعروفون‪ ،".‬وكان شعبة يخصص مجلسا لنقد الرواة حكى أبو زيد األنصاري قال ‪":‬‬
‫‪2‬‬
‫أتينا شعبة يوم مطر‪ ،‬فقال‪ :‬ليس هذا يوم حديث‪ ،‬اليوم يوم غيبة تعالوا نغتاب الكذابين‪".‬‬
‫ويرى شعبة بن الحجاج أن القيمة الحقيقية لألحاديث والتي تستحق أن تؤخذ من شيخه إنما هي تلك التي‬
‫ً‬
‫سماعا‪ ،‬قال رحمه هللا‪ ":‬كنت أنظر إلى فم قتادة فإذا للحديث (حدثنا) عنيت به فوقفته عليه‪،‬‬ ‫أخذها األخير‬
‫‪3‬‬
‫وإذا لم يقل (حدثنا) لم أعن به‪".‬‬
‫وكان شعبة يتبع منهجا خاصا بالرجوع إلى مصدر الخبر ‪ ،‬ومن ذلك أنه سمع أبا إسحاق يحدث بحديث‪ ":‬من‬
‫توضأ‪ ،‬فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين فاستغفر هللا؛ إال غفر له"‪ .‬فقال ألبي إسحاق‪ :‬من حدثك؟ قال عبد‬
‫ُ‬
‫هللا بن عطاء‪ ،‬قال شعبة‪ :‬فرحلت إلى مكة‪ ،‬لم أرد الحج‪ ،‬أردت الحديث‪ ،‬فلقيت عبد هللا بن عطاء‪ ،‬فسألته‪،‬‬
‫فقال سعد بن إبراهيم حدثني فقال لي مالك بن أنس‪ :‬سعد باملدينة‪ ،‬لم يحج العام‪ .‬قال شعبة‪ :‬فرحلت إلى‬
‫املدينة‪ ،‬فلقيت سعد بن إبراهيم‪ ،‬فسألته‪ ،‬فقال الحديث من عندكم؛ زياد بن ِمخراق حدثني‪ .‬قال شعبة‪ :‬فلما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يادا‪ ،‬قلت ُّ‬
‫أي ش ٍيء هذا الحديث؟ ! بينما هو كوفي‪ ،‬إذ صار مدنيا‪ ،‬إذ صار بصريا! ! قال‪ :‬فرحلت إلى‬ ‫ذكر ز‬
‫البصرة‪ ،‬فلقيت زياد بن محراق‪ ،‬فسألته‪ ،‬فقال‪ :‬ليس هو من َ‬
‫باب ِتك! قلت‪ :‬حدثني به‪ .‬قال ال ترده! قلت‪ :‬حدثني‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫به‪ .‬قال حدثني ش ْهر بن َحوشب‪ ،‬عن أبي ريحانة‪ ،‬عن عقبة بن عامر‪ ،‬عن النبي ‪ -‬ﷺ‪ .-‬قال شعبة‪ :‬فلما ذكر شهر‬
‫بن حوشب‪ ،‬قلت‪َّ :‬‬
‫دمر هذا الحديث؛ لو صح لي مثل هذا عن رسول هللا ‪ -‬ﷺ‪ -‬كان أحب إلى من أهلي ومالي‬
‫‪4‬‬
‫والناس أجمعين‪.‬‬
‫‪ :2‬مالك بن أنس ( ‪ 179 – 93‬هـ)‬
‫وكان معروفا بشدة تحريه في الرجال‪ ،‬ومن كالمه في تأصيل ذلك‪ ":‬ال يؤخذ العلم من أربعة‪ ،‬وخذوا ممن سوى‬
‫ذلك‪ :‬ال يؤخذ من سفيه معلن بالسفه‪ ،‬وإن كان أروى الناس‪ ،‬وال من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه‪ ،‬وال من‬
‫كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كنت ال تتهمه أن يكذب على رسول هللا ﷺ‪ ،‬وال من شيخ له عبادة وفضل إذا‬
‫‪5‬‬
‫كان ال يعرف ما يحدث به‪".‬‬

‫‪ 1‬املجروحين البن حبان (‪)92/1‬‬


‫‪ 2‬موضح أوهام الجمع والتفريق (‪)494 /2‬‬
‫‪ 3‬الجرح والتعديل البن أبي حاتم (‪)170 /1‬‬
‫‪ 4‬تاريخ دمشق البن عساكر (‪)217 /19‬‬
‫‪ 5‬الجرح والتعديل للرازي ‪33/1‬‬
‫‪12‬‬
‫وكان من منهجه رحمه هللا أنه إذا شك في بعض الحديث طرحه كله‪ ،‬حتى قال اإلمام الشافعي رحمه هللا ‪ ":‬إذا‬
‫جاء الحديث عن مالك فشد به يدك‪ ".‬وقال ابن عبد البر في التمهيد‪ ":‬ومن اقتصر على حديث مالك رحمه هللا‬
‫فقد كفي تعب التفتيش و البحث ووضع يده من ذلك على عروة وثقى ال تنفصم ألن مالكا قد انتقد وانتقى‬
‫‪1‬‬
‫وخلص ولم يرو إال عن ثقة حجة"‪.‬‬
‫‪ :3‬عبد هللا بن املبارك (‪ 181 – 117‬ه)‬
‫وهو حافظ وفقيه وإمام في الحديث والجرح والتعديل‪ ،‬قيل له ‪ ":‬هذه األحاديث املصنوعة؟ قال ‪ :‬يعيش لها‬
‫الجهابذة‪ 2".‬سئل عمن يكتب الحديث فقال‪ ":‬سمعت إسحاق بن عيس ى يقول‪ :‬سمعت ابن املبارك يقول‪ :‬يكتب‬
‫الحديث إال عن أربعة‪ :‬غالط ال يرجع‪ ،‬وكذاب‪ ،‬وصاحب هوى يدعو إلى بدعته‪ ،‬ورجل ال يحفظ فيحدث من‬
‫‪3‬‬
‫حفظه‪".‬‬
‫‪ :4‬يحيى بن معين ( ‪ 233 -158‬ه)‬
‫إمام الجرح والتعديل حتى قيل عنه أنه خلق لهذا الشأن‪.‬‬
‫ومن منهجه العام‪:‬‬
‫‪ -‬الرحلة في طلب علم الحديث‪ ،‬كان يرحل مع اإلمام أحمد بن حنبل وعلي بن املديني حتى قال في‬
‫‪4‬‬ ‫ً‬
‫الرحلة‪":‬أربعة ال تؤنس منهم رشدا‪ ،‬منهم رجل يكتب في بلده وال يرحل في طلب الحديث"‬
‫‪5‬‬
‫‪ -‬اإلكثار من كتابة الحديث‪ :‬كان يكتب كل ش يء حد املبالغة‪ ،‬قال ‪ ":‬قد كتبت بيدي ألف ألف حديث‪".‬‬
‫وقال عنه علي بن املديني‪" :‬ما نعلم أحدا من لدن آدم كتب من الحديث ما كتبه يحيى بن معين‪ 6".‬وكان‬
‫يكتب حتى األحاديث املوضوعة ليحصرها ويحذر الناس منها‪.‬‬
‫‪ -‬اختبار الرواة‪ :‬كان يمتحن الراوي ليتأكد من صدقه‪.‬‬
‫‪ -‬الصرامة في النقد‪ :‬حتى أنه جرح صديقه عبيد بن إسحاق العطار‪ ،‬قال فيه‪ ":‬هو كذاب‪ 7 ".‬وحين سئل‬
‫عن علي بن قرين قال له‪ :‬كذاب‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا زكريا إنه ليذكر أنه كثير التعاهد لكم‪ ،‬فرد قائال‪ :‬صدق‬
‫‪8‬‬
‫إنه ليكثر التعاهد لنا‪ ،‬ولكني أستحي من هللا أن أقول إال الحق‪".‬‬

‫‪ 1‬التمهيد ملا في املوطأ من املعاني واألسانيد (‪)60 /1‬‬


‫‪ 2‬مقدمة ابن الصالح = معرفة أنواع علوم الحديث ‪ -‬ت فحل (ص‪)6 :‬‬
‫‪ 3‬الكامل في ضعفاء الرجال (‪)257 /1‬‬
‫‪ 4‬الرحلة في طلب الحديث للخطيب ص ‪47‬‬
‫‪ 5‬العلل ومعرفة الرجال ألحمد رواية ابنه عبد هللا (‪)55 /1‬‬
‫‪ 6‬املوضع نفسه‬
‫‪ 7‬سؤاالت ابن الجنيد (ص‪)471 :‬‬
‫‪ 8‬تاريخ بغداد ‪510 /13‬‬
‫‪13‬‬
‫وقد استعمل يحيى بن معين مصطلحات دقيقة ‪ ":‬ليس فيه بأس – ضعيف‪ ".‬سأله خيثمة‪ ،‬قال‪ :‬قلت ليحيى بن‬
‫معين‪ :‬إنك تقول‪ :‬فالن " ليس به بأس "‪ ،‬وفالن " ضعيف "؟ قال‪ :‬إذا قلت لك‪ " :‬ليس به بأس " فهو ثقة‪ ،‬وإذا قلت‬
‫‪1‬‬
‫لك‪ " :‬هو ضعيف " فليس هو بثقة‪ ،‬ال تكتب حديثه‪".‬‬
‫وقد ألف يحيى بن معين كتابا مشهورا من أوائل ما صنف في الجرح والتعديل ‪ ":‬التاريخ‪ ".‬يعنى بأحوال الرواة‬
‫تعديال وتجريحا وقد وصل إلينا بأسماء مختلفة أخرى كمعرفة الرجال‪ ،‬وسؤاالت يحيى بن معين ألن تالمذته هم‬
‫الذين دونوا هذه األجوبة ووضعوا لها عنوانا‪.‬‬
‫وقد قرر الذهبي ووافقه غيره من الحفاظ واملحدثين أن الجرح انتهى على رأس ثالثمائة هجرية‪ ،‬وذلك ألن‬
‫‪2‬‬
‫األخبار قد دونت وهذا هو الحد الفاصل‪ ،‬وبقي الجرح من ناحية الضبط للكتاب‪.‬‬
‫وقد قسم الذهبي وهو من أهل االستقراء التام في الرجال املتكلمين في الرجال ثالثة أقسام‪:‬‬
‫قسم تكلموا في الرجال جميعهم كابن معين وأبي حاتم‪.‬‬
‫وقسم تكلموا في كثير من الرواة كمالك والشافعي‪.‬‬
‫وقسم تكلموا في الرجل بعد الرجل كابن عيينة والشافعي‪.‬‬
‫والكل كذلك على ثالثة أقسام‪ :‬قسم متشدد في التوثيق متثبت في التعديل‪ ،‬يغمز الراوي بالغلطتين والثالث‪،‬‬
‫فهذا إذا وثق شخصا فعض على قوله بنواجذك وتمسك بتوثيقه‪ ،‬وإذا ضعف رجال فانظر‪ :‬هل وافقه غيره على‬
‫الرجل ٌ‬
‫أحد من الحذاق فهو ضعيف‪ ،‬وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا ال‬ ‫َ‬ ‫تضعيفه‪ ،‬فإن وافقه ولم ُي َوث ْق َ‬
‫ذلك‬ ‫ِ‬
‫َ ً‬
‫يقبل فيه الجرح إال ُمف َّسرا‪ ،‬فمن املتشددين في الطبقة األولى شعبة وسفيان الثوري‪ ،‬وشعبة أشد‪ ،‬ومن الطبقة‬
‫الثانية يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬ويحيى أشد من عبد الرحمن‪ ،‬ومن الثالثة يحيى بن معين وأحمد‬
‫بن حنبل‪ ،‬ويحيى أشد‪ .‬ومن الرابعة‪ :‬أبو حاتم والبخاري وأبو حاتم أشد من اإلمام البخاري‪ ،‬قال الذهبي‪ ":‬إذا وثق‬
‫أبو حاتم رجال فتمسك بقوله‪ ،‬فإنه ال يوثق إال رجال صحيح الحديث‪ ،‬وإذا لين رجال‪ ،‬أو قال فيه‪ :‬ال يحتج به‪،‬‬
‫فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه‪ ،‬فإن وثقه أحد‪ ،‬فال تبن على تجريح أبي حاتم‪ ،‬فإنه متعنت في الرجال ‪ ،‬قد قال‬
‫‪3‬‬
‫في طائفة من رجال (الصحاح) ‪ :‬ليس بحجة‪ ،‬ليس بقوي‪ ،‬أو نحو ذلك‪".‬‬
‫قسم متساهل وقد تجلى تساهلهم في الحكم على بعض األحاديث ونجد من بين من يمثل هذا القسم‬
‫مجموعة من العلماء من بينهم الترمذي وأبو عبد هللا الحاكم‪.‬‬
‫وقسم من املعتدلين في هذا العلم ويقصد باالعتدال أن يكون الناقد منصفا في أحكامه‪ ،‬وقد يتشدد‬
‫‪4‬‬
‫املعتدلون في بعض األحكام‪ ،‬ونجد من بينهم‪ :‬اإلمام الدارقطني وابن عدي‬

‫‪ 1‬مقدمة ابن الصالح (ص‪)124 :‬‬


‫‪ 2‬املنهج اإلسالمي في الجرح والتعديل للدكتور فاروق حمادة ص‪.39 :‬‬
‫‪ 3‬سير أعالم النبالء ط الرسالة (‪)260 /13‬‬
‫‪ 4‬فتح املغيث ‪ .325/3‬والرفع والتكميل في الجرح والتعديل ص ‪.126‬‬
‫‪14‬‬
‫**** إضافة‪ :‬تفصيل في تعريف علم الجرح والتعديل‪:‬‬
‫أوال‪ :‬الجرح «الطعن في الراوي بما يخل بعدالته أو ضبطه‪ ،‬أو هما معا‪ ،‬بما يقتض ي تليين الرواية أو ضعفها أو‬
‫ردها‪».‬‬
‫‪ : 1‬اللين‬
‫يقبل حديثه بوجود قرائن‪ :‬أن يكون أثبت الناس في شيخه – أن تكون للحديث قصة – أن يحدث من كتابه‬
‫أ‪ :‬أن يكون أثبت الناس في شيخه‬
‫* هشام بن سعد املدني أبو عباد أو أبو سعد صدوق له أوهام ولكنه أثبت الناس في شيخه زيد بن أسلم‪.‬‬
‫* عبد الوهاب املدائني وهو حسن الحديث‪ ،‬صدوق يخطئ‪ ،‬لكن إذا كانت روايته عن شيخه سعيد بن أبي عروبة‬
‫ارتقت إلى درجة الصحيح‪ ،‬لكونه من أثبت الناس في شيخه سعيد بن أبي عروبة حتى وإن كان ال يصل إلى درجة‬
‫الثقة‬
‫ب‪ :‬أن يكون في الحديث قصة‬
‫كأن يحيط بمالبساته وزمانه ومكانه‪ ،‬فهذا من أسباب قبول الحديث يدل على شدة العناية أي على الضبط قال‬
‫اإلمام أحمد‪« :‬إذا كان في الحديث قصة دل على أن صاحبه حفظه ومثاله ‪:‬‬
‫َ َّ َّ ُ َ‬ ‫* عن أبي بردة عن أبي موس ى َعن َّ‬
‫َّللا َعل ْي ِه وسلم) قال‪" :‬إذا مرض العبد أو سافر كتب هللا له مثل ما‬ ‫الن ِب ِي (صلى‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان يعمل صحيحا مقيما"‪ .‬قال الدارقطني لم يسنده غير العوام وخالفه مسعر بن كدام‪ ،‬رواه عن إبراهيم‬
‫السكسكي عن أبي بردة قوله ولم يذكر أبا موس ى وال النبي (صلى هللا عليه وسلم) ‪ .‬وهذا مما انتقده الدارقطني‬
‫على البخاري في كتابه‪ :‬اإللزامات والتتبع (ص‪ )166 :‬لكن الحفاظ حكموا بصحة رواية العوام كما ذكر ذلك الن‬
‫حجر في كتابه هدي الساري (‪ )363 /1‬يقول ابن حجر‬
‫«قال الدارقطني وأخرج البخاري حديث العوام بن حوشب عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة عن أبي موس ى‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال إذا مرض العبد أو سافر كتب هللا له مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما وهذا‬
‫لم يسنده غير العوام وخالفه مسعر فقال عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة قوله لم يذكر أبا موس ى وال النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قلت‪ :‬مسعر أحفظ من العوام بال شك إال أن مثل هذا ال يقال من قبل الرأي فهو في حكم‬
‫املرفوع وفي السياق قصة تدل على أن العوام حفظه فإن فيه اصطحب يزيد بن أبي كبشة وأبا بردة في سفر فكان‬
‫يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة أفطر فإني سمعت أبا موس ى مرارا يقول فذكره وقد قال أحمد بن حنبل‬
‫إذا كان في الحديث قصة دل على أن راويه حفظه وهللا أعلم‪».‬‬
‫ج‪ :‬أن يحدث من كتابه‬
‫ألن األداء من الكتاب أضبط فقد يخونه حفظه‪ ،‬الحفظ خوان كما قال ابن مهدي‪ .‬فإذا كان الراوي س يء‬
‫الحفظ لكنه ينقل من كتابه قبل حديثه ألننا أمنا العلة التي ضعفناه ألجلها‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫مثاله عبد العزيز الداراوردي ماكان األئمة يلتفتون لحديثه إال ما حدث به من كتابه فإذا وجد في اإلسناد قرينة‬
‫تدل على أنه من كتابه كقولنا حدثنا الداراوردي من كتابه أو قال في كتابه قبل حديثه‬
‫‪ :2‬ضعيف الرواية‪ ،‬إما أن يكون‪ :‬تضعيفه مطلقا كقولهم في عبيد هللا بن عمر العمري ضعيف في كل أمره‪.‬‬
‫ضعف قريب يصلح لالعتبار بالشواهد واملتابعات‪.‬‬
‫تضعيف مقيد‪ :‬ببعض الشيوخ‪ :‬فالن ثقة لكن حديثه عن فالن فيه ضعف‪،.‬مثاله " هشيم بن بشير الواسطي‬
‫من أتباع التابعين ثقة حجة خرج له البخاري ومسلم وخرج له الجماعة‪ ،‬لكن حديثه خاصة عن الزهري ضعيف‪،‬‬
‫اق‬‫وف َة َ آني َو َأ َنا َقاع ٌد َم َع َأبي إ ْس َح َ‬ ‫ُ ْ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ ْ ٌ َ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫والزهري إمام حافظـ ‪ ،‬قال شعبة‪ " ،‬خرجت أنا وهشيم‪ِ ،‬إلى مكة فلما ق ِدمنا الك‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫َ َ‬ ‫اق َف َق َ‬‫السبيع َف َل َّما َخ َر ْج َنا َج َع ْل ُت َأ ُقو ُل َل ُه َنا َأ ُبو إ ْس َح َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ُْ ُ َ‬ ‫َف َق َ‬
‫ال ِلي‪َ :‬وأ ْي َن َرأ ْي َت ُه؟‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اع ُر َّ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫‪:‬‬ ‫ت‬‫ل‬ ‫ق‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬‫ق‬ ‫ا؟‬ ‫ذ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ي‪:‬‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ال‬
‫الز ْهري َف ُق ْلت‪ُ:‬‬ ‫ال‪َ :‬ف َل َّما َقد ْم َنا َم َّك َة َم َر ْر ُت به َو ُه َو َقاع ٌد َم َع ُّ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َُ ْ َ َ َ‬ ‫اع ُر َّ‬ ‫َ ُ ْ ُ َّ ُ ْ ُ َ َ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫اق‬ ‫ح‬ ‫س‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫يع‬
‫ِ ِ‬‫ب‬ ‫الس‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫فقلت‪ :‬ال ِذي قلت لك‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ ُ َ َ َ ُ َ ٌّ َ ُ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُّ ْ ُّ َ َ ُ ْ‬
‫ال‪ :‬قل ُت أ ُّي َمك ٍان َرأ ْي َت‬ ‫يا أبا مع ِاوية‪ :‬من هذا الرجل‪ :‬فقال شر ِطي ِلب ِني أمية فلما قفلنا جعل يقول نا الزه ِري ق‬
‫ْ َ َ ََ ْ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُْ‬ ‫ُْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ْ َّ َ َ َّ‬
‫اب فأخ َر َج ِإل َّي ف َح َرق ُت ُه» الجامع ألخالق‬ ‫ال‪ :‬ال ِذي َرأ ْي َت ُه َم ِعي قل ُت ل َك‪ :‬ش َر ِط ٌّي ِل َب ِني أ َم َّية قل ُت‪« :‬أ ِرِني ال ِكت‬ ‫الزه ِري ق‬
‫الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (‪)142 /2‬‬
‫سماك بن حرب إذا روى عن عكرمة أبي عبد هللا البربري روايته مضطربة‪ ،‬سماك صدوق لكن روايته عن عكرمة‬
‫فيها اضطراب‪.‬‬
‫سفيان بن حسين الواسطي ثقة جبل لكنه إذا روى عن سفيان الزهري ال يعبأ بحديثه ألنه إنما لقيه في املوسم‪.‬‬
‫تضعيف مقيد ببعض األوقات وهو االختالط فساد الحفظ وهو من سوء الحفظ الطارئ يقولون في ترجمته‪:‬‬
‫تغير بآخره‬
‫الراوي املختلط لتقدم سنه كعطاء بن السائب‬
‫أو لحرق كتبه كعبد هللا بن لهيعة املصري‬
‫أو يختلط لتولي منصب كشريك بن عبد هللا النخعي تولى القضاء فساء حفظه‪.‬‬
‫أو لعماه كعبد الرزاق بن همام الصنعاني االمام صاحب املصنف‪ .‬أو تضعيفه مقيد ببعض البلدان ألنه يعسر‬
‫عليه حمل كتبه إلى بالد أخرى كإسماعيل بن عياش حديثه عن أهل بلده مستقيم‪ ،‬وهو شامي فإذا حدث عن‬
‫غير أهل الشام فحديثه فيه اضطراب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬التعديل‬
‫«وصف الراوي في عدالته وضبطه معا بما يقتض ي قبول روايته غالبا»‬
‫أهل الحفظ والضبط درجات‪ :‬فالحفظ يتجزأ‪ ،‬والعدالة والديانة تتفاوت وتتفاضل‪ ،‬وليس من شرط العدل أن‬
‫ال تقع منه املعصية‪ ،‬قبول الرواية يطلق فيراد منه أعلى الدرجات كقولهم فالن من أوثق الناس أو من يؤكد‬
‫القول فيه فيقال فالن ثقة ثقة‪ ،‬وقد يكون أنزل كمن يوصف بأنه ثقة فقط‪ ،‬وقد يكون أنزل من ذلك وهي‬
‫‪16‬‬
‫الدرجة الوسطى كمن يوصف بأنه صدوق‪ .‬أو ال بأس به ولذلك فالتعريف شامل ألهل الدرجة العليا وهو الذي‬
‫يحكم على حديثه بأنه صحيح لذاته (الثقة) وقد يطلق على أهل الدرجة الوسطى وهو الذي يحكم على حديثه‬
‫بأنه حسن لذاته‪ (.‬الصدوق‬
‫ثالثا ‪ :‬التعريف املركب‬
‫عرفه حاجي خليفة بقوله‪« :‬هو‪ :‬علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم‪ ،‬بألفاظ مخصوصة‪ ،‬وعن مراتب تلك‬
‫األلفاظ‪».‬‬
‫مثال ‪ :‬أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس املكي أحد رواة الحديث النبوي‪ ،‬قال عبد هللا بن اإلمام أحمد في كتابه‬
‫ضعفه َق َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُّ َ ُ َ َ َ‬
‫ال نعم‪».‬‬ ‫ُ‬ ‫دثنا أ ُبو الزبير َوأ ُبو الزبير أ ُبو الزبير قلت ألبي كأ َّن ُه ُي‬ ‫العلل‪ « :‬وكان أيوب يقول ح‬
‫أثنى الكثيرون على مكانة أبي الزبير املكي في رواية الحديث‪ ،‬فقال عنه يعلى بن عطاء‪« :‬كان أكمل الناس عقال‬
‫وأحفظهم» ‪ ،‬إال أن هناك من علماء الجرح والتعديل من اتهمه بالتدليس‪ ،‬فقال ابن عدي‪« :‬هو في نفسه ثقة‪ ،‬إال‬
‫أن يروي عنه بعض الضعفاء‪ ،‬فيكون ذلك من جهة الضعيف» ورأى أبو زرعة وأبو حاتم والبخاري أنه ال ُيحتج‬
‫ً‬
‫به‪ ،‬وقال الشافعي عنه‪« :‬يحتاج إلى دعامة»‪ .‬وكان ابن حزم ال يقبل منه حديثا إال ما سمعه عن جابر بن عبد‬
‫هللا‪ ،‬كما روى عنه شعبة بن الحجاج فترة‪ ،‬ثم ترك حديثه‪ .‬وقد رأى الذهبي أنه هناك ما عاب حديث أبي الزبير‬
‫كالتدليس‪ ،‬ولكنه رأى أنها أمور ال توجب تضعيفه املطلق‪.‬‬
‫‪ -‬ولهم ألفاظ مخصوصة كقولهم‪ :‬فالن ليس من جماالت املحامد‪ -‬أو هو علي يدي عدل ( عدل بن جزء وكان‬
‫رئيس شرطة أحمد امللوك)‬
‫ٰ‬
‫بمعنى هيئة راسخة تدعو صاحبها‬ ‫تنبيه‪ :‬املتأمل ألقوال الفقهاء في تعريف العدالة يجد أنهم يجعلون العدالة‬
‫على الدين باجتناب الكبائر وترك اإلصرار ٰ‬
‫على الصغائر‪ ،‬واستعمال املروءة بفعل ما يجمله‪ ،‬وترك ما‬ ‫لالستقامة ٰ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يشينه عرفا وعادة‪ ،‬فالعدل هو من"لم يطعن عليه في بطن وال فرج‪ ".‬يقول أبو يوسف رحمه هللا‪ ":‬العدل من‬
‫ً‬
‫مجتنبا عن الكبائر‪ ،‬وال يكون مص ًرا ٰ‬
‫على الصغائر‪ ،‬ويكون صالحه أكثر من فساده‪ ،‬وصوابه أكثر من‬ ‫يكون‬
‫ٰ‬
‫املعنى دل عليه القرآن الكريم‪ ،‬حيث قال‬ ‫خطئه‪. ".‬وبهذا ينبين أن العدل هو املرض ي عنه ديانة ومروءة‪ ،‬وهذا‬
‫سبحانه‪﴿ :‬ممن ترضون من الشهداء﴾ (البقرة‪ )282 :‬يقول مالك النجم رحمه هللا ‪ :‬العدالة من غلبت طاعته‬
‫معصيته ولم يشترط اجتناب خوارم املروءة من املحدثين إال الشافعي‪.‬‬
‫وخوارم املروءة وصف غير منضبط كاألكل في السوق وقد أنكر بعضهم على علي بن املديني األكل في السوق‪،‬‬
‫حتى قيل له‪« :‬أكنت تموت إذا تركت األكل في السوق‪ ».‬ومنه ما أشار إليه الشاطبي رحمه هللا في املوافقات في‬
‫الفرق بين أهل املشرق واملغرب في تغطية الرأس‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫يقول ابن الصالح في مقدمته‪ « :‬أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون‬
‫عدال ضابطا ملا يرويه‪ .‬وتفصيله‪ :‬أن يكون مسلما‪.‬‬
‫بالغا‪.‬‬
‫‪ -‬عاقال‪.‬‬
‫‪ -‬ساملا من أسباب الفسق وخوارم املروءة‬
‫‪ -‬متيقظا غير مغفل‪.‬‬
‫‪ -‬حافظا إن حدث من حفظه‪.‬‬
‫‪ -‬ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه‪.‬‬
‫‪ -‬وإن كان يحدث باملعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عاملا بما يحيل املعاني وهللا أعلم‪( .‬ص‪ )212:‬هل هذه‬
‫الشروط تشترط في تحمل الحديث (السماع القراءة اإلجازة املناولة الكتابة أو املكاتبة اإلعالم الوجادة الوصية)أم‬
‫تشترط في األداء‬
‫‪ -‬اإلسالم والبلوغ يشترطان في أداء الحديث وليسا بشرطين عند التحمل بمعنى أن الكافر قد يتحمل الحديث‪،‬‬
‫ولكن ال يقبل منه إال بعد إسالمه والشاهد هنا حديث جبير بن مطعم‪َ « :‬وم َّما علم َأن َّ‬
‫الص َح ِابي تحمله ِفي َحال‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ثم َر َو ُاه بعد إ ْس َالمه َحديث ُج َبير بن مطعم َأنه سمع َّ‬
‫الن ِبي صلى هللا َعل ْي ِه َوسلم ْيق َرأ ِفي املغرب بالطور َو ُه َو‬ ‫كفر َّ‬‫ْال ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫الش ْي َخان َو َك َ‬
‫َّ‬
‫فداء أ َس َارى بدر قبل أن يسلم َو ِفي ِر َو َاية لل ُبخ ِاري َوذ ِل َك أول َما وقر‬ ‫ان قد َج َاء ِفي‬ ‫ِ‬ ‫َح ِديث أخرجه‬
‫قلبي» املقنع في علوم الحديث (‪)288 /1‬‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ان‬ ‫ْاإل َ‬
‫يم‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫دل هذا أن الكافر قد يتحمل في كفره ثم يؤديه بعد إسالمه‬
‫التنوخي‬
‫عن سعيد بن أبي راشد قال‪ :‬لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بحمص‪ ،‬وكان جارا لي‬
‫شيخا كبيرا قد بلغ الفند أو قرب‪ ،‬فقلت أال تخبرني عن رسالة هرقل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ورسالة رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم إلى هرقل؟ فقال‪ :‬بلى‪ ،‬قدم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم تبوك فبعث دحية الكلبي إلى‬
‫هرقل‪ ،‬فلما أن جاءه كتاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم دعا قسيس ي الروم‪ ،‬وبطارقتها‪ ،‬ثم أغلق عليه‪ ،‬وعليهم‬
‫بابا‪ ،‬فقال‪ :‬قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم‪ ،‬وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثالث خصال يدعوني إلى أن أتبعه على دينه‪،‬‬
‫أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا‪ ،‬واألرض أرضنا‪ ،‬أو نلقي إليه الحرب‪ ،‬وهللا لقد عرفتم فيما تقرؤون من‬
‫الكتب‪ ،‬ليأخذن ما تحت قدمي‪ ،‬فهلم نتبعه على دينه‪ ،‬أو نعطيه مالنا على أرضنا‪ ،‬فنخروا نخرة رجل واحد‪ ،‬حتى‬
‫خرجوا من برانسهم وقالوا‪ :‬تدعونا إلى أن ندع النصرانية‪ ،‬أو نكون عبيدا ألعرابي جاء من الحجاز‪)416 /24( ،‬‬

‫رواية الصبي‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫تحمل صغار الصحابة في صباهم وأدوا بعد بلوغهم‪ :‬القاض ي عياض صاحب اإلملاع إلى معرفة أصول الرواية‬
‫وتقييد السماع جعل تحمل الصبي في خمس سنين ودليله حديث محمود بن الربيع أخرجه البخاري في صحيحه‬
‫عقلت مجة مجها النبي صلى هللا عليه وسلم في وجهي من دلو وأنا ابن خمس سنين‪.‬‬
‫أخبار الحسن والحسين ‪ ،‬النعمان بن بشير توفي الرسول صلى هللا عليه وسلم وهو لم يتجاوز الثامنة ‪ ،‬ومن أهم‬
‫أحاديثه إن الحالل بين وإن الحرام بين‪ ...‬وأخبار كثير من الصحابة كذلك‪.‬‬
‫َ َ َ ََ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ‬
‫اح ف ِإ ْن آن ْس ُت ْم ِم ْن ُه ْم‬‫النك‬
‫البلوغ والعقل هما مناط التكليف الشرعي‪ ،‬قال تعالى‪« :‬وابتلوا اليتامى حتى ِإذا بلغوا ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ُرش ًدا ف ْادف ُعوا ِإل ْي ِه ْم أ ْم َوال ُه ْم » (النساء‪ ،‬آ‪)5:‬‬
‫السالمة من خوارم املروءة‪:‬‬
‫املروءة‪ :‬االنسانية وتمام الرجولية‪ ،‬قيل لألحنف بن قيس دلني على املروءة‪« :‬عليك بالخلق الفسيح والكف عن‬
‫القبيح» وجماعها العقل ‪ ،‬فال دين ملن ال عقل له‪،‬‬
‫خوارم املروءة األكل في الطريق‪ ،‬كثرة الكالم‪ ،‬كثرة املزاح‪...،‬‬
‫الضبط‪:‬‬
‫ضبط الش يء إذا حفظه بالحزم‪ ،‬والرجل ضابط أي حازم‪ ،‬متيقض والضبط إتقان ما يحفظه الراوي‪،‬‬
‫وهو قسمان ‪ :‬ضبط الكتاب وضبط الصدر‪ ،‬فضبط الصدر أن يكون الراوي يقضا غير مغفل‪ ،‬يحفظ ما علمه‬
‫ويثبته‪ ،‬وكيع بن الجراح الرؤاس ي كان يلقب بالتنين حتى سأله بعضهم عن ذوات الحفظ فقال ترك املعاص ي ما‬
‫جربت معه أنفع للحفظ‪ ،‬وضبط الكتاب‪ :‬صيانته من أيدي السوء‪ .‬واختلف العلماء في سن التمييز ‪ ،7 ، 5‬ومنهم‬
‫من قال إذا فرق بين الدرهم والدينار‪ ،‬وخالصة القول في ذلك أن يفهم الخطاب ورد الجواب فهو مميز‬
‫السالمة من الفسق‪:‬‬
‫وهو كل أمر مخالف للشرع وللطاعة ومنه الفويسقة وهي الفأرة إذا خرجت من جحرها ومن الفسق‪ (:‬البدعة‬
‫والكذب والسفه ) وقد ضعف كثير من املحدثين بسبب فسقهم وفي القولة املأثورة ملالك ال تأخذ العلم من أربعة‬
‫وذكر من بينهم «ال تأخذ من سفيه معلن للسفه»‪ ،‬وقال مسلم‪« :‬خبر الفاسق غير مقبول ألن الفاسق ليس‬
‫عدال» ومثاله‪ :‬محمد بن مناذر‪ :‬قال عنه يحيى بن معين ‪ « :‬رجل سوء كان يشبب بالنساء‪ ».‬سؤاالت الجنيد عن‬
‫يحيى بن معين حدثنا محمد بن جعفر‪ ،‬حدثنا شعبة‪ ،‬وعبد الرزاق‪ ،‬أخبرنا إسرائيل‪ ،‬عن سماك بن حرب‪ ،‬عن‬
‫عبد الرحمن بن عبد هللا بن مسعود‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أنه قال ‪ -‬قال عبد الرزاق‪ :‬سمعت‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬يقول ‪ « :‬نضر هللا امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه‪ ،‬فرب مبلغ أحفظ له‬
‫من سامع» أخرجه اإلمام أحمد في مسند عبد هللا بن مسعود‪ ،‬رقم‪ )221 /7( 4157 :‬حديث صحيح‪ ،‬وهذا إسناد‬
‫حسن إن صح سماع عبد الرحمن بن عبد هللا بن مسعود لهذا الحديث من أبيه‪ ،‬وبقية رجاله ثقات رجال‬

‫‪19‬‬
‫الشيخين غير سماك بن حرب‪ ،‬فحديثه ال يرقى إلى الصحة‪ ،‬وأخرج له البخاري تعليقا‪ .‬إسرائيل‪ :‬هو ابن يونس‬
‫بن أبي إسحاق السبيعي‪.‬‬
‫ما يخرج باشتراط العدالة‪:‬‬
‫الكافر‪ ،‬الفاسق‪ ،‬الصبي‪ ،‬الكذاب‪ ،‬املتهم بالكذب‪ ،‬واملبتدع على تفصيل‪ ،‬السفيه‪ ،‬املجنون‪.‬‬
‫ما يخرج باشتراط الضبط‪:‬‬
‫كثرة الوهم‪ ،‬سوء الحفظ‪ ،‬كثرة املخالفة‪ ،‬فحش الغلط‪ ،‬شدة الغفلة‪ ،‬تساهل الراوي في مقابلة مرويه‪ ،‬جهل‬
‫الراوي بمدلوالت األلفاظ‬
‫ما الذي يخرج باشتراط العدالة والضبط معا؟‬
‫مجهول العين‪ ،‬املبهم‪ ،‬مجهول الحال‪ ،‬املستور‬
‫الوهم‪:‬‬
‫الغلط في رواية الحديث‪ ،‬كرفع املوقوف‪ ،‬ووصل املرسل (الذي سقط منه الصحابي)‪ ،‬ونحو ذلك ‪ .‬وشاهده قول‬
‫َْ‬
‫الحافظ ابن حجر ‪" :‬وأما من َح َدث منه القلب على سبيل الوهم‪ ،‬فجماعة يوجد بيان ما وقع لهم من ذلك في‬
‫الكتب املصنفة في العلل‪ ».‬نزهة النظر البن حجر‬
‫كثرة املخالفة‪:‬‬
‫رواية الراوي للحديث على وجه مغاير ملا رواه غيره من الرواة‪ ،‬في سند الحديث أو متنه ‪ .‬فإن كان الراوي ثقة كان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الحديث شاذا‪ ،‬وإن كان الراوي ضعيفا كان الحديث منكرا ‪ .‬وشاهده قول الحافظ ابن حجر ‪" :‬وإن وقعت‬
‫املخالفة له مع الضعف‪ ،‬فالراجح ُيقال له املعروف‪ ،‬ومقابله يقال له املنكر "نزهة النظر البن حجر ص‪- 78 :‬فتح‬
‫املغيث للسخاوي‪128/1 ،‬‬
‫كثرة الغفلة‪:‬‬
‫والت ُّيقظ ‪ .‬وشاهده قول اإلمام البقاعي ‪" :‬وأما مطلق القبول‬
‫حفظ‪َّ ،‬‬ ‫وسهو يعتري اإلنسان من َّقلة َّ‬
‫الت ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ذهو ٌل‪،‬‬
‫ِ‬
‫املبيح لالحتجاج‪ ،‬فيكفي في ناقله مطلق اليقظة‪ ،‬من غير أن يشترط في يقظته نفي الغفلة عنه‪ ،‬فلو كان فيه‬
‫غفلة يسيرة لم يخرجه عن مطلق القبول "‪.‬املقدمة البن الصالح‪ ،‬ص ‪93‬‬
‫فحش الغلط‪:‬‬
‫وصف للراوي يدل على ضعف حفظه الشديد ‪ .‬وهو قريب من ألفاظ املرتبة الرابعة من مراتب الجرح‪ ،‬التي ال‬
‫ُيحتج وال ُيعتبر بأحاديث أصحابها ‪ .‬وشاهده قول الحافظ ابن حجر ‪" :‬وبين أسوأ الجرح وأسهله مراتب ال تخفى ‪.‬‬
‫فقولهم ‪ :‬متروك‪ ،‬أو ‪ :‬ساقط‪ ،‬أو ‪ :‬فاحش الغلط‪ ،‬أو ‪ :‬منكر الحديث‪ ،‬أشد من قولهم ‪ :‬ضعيف‪ ،‬أو ‪ :‬ليس‬
‫بالقوي‪ ،‬أو ‪ :‬فيه مقال‪ ».‬نزهة النظر البن حجر‪ ،‬ص ‪136‬‬

‫‪20‬‬
‫التساهل في املقابلة‪:‬‬
‫التهاون في عرض النسخة التي كتبها الراوي على الشيخ الذي سمع منه الحديث‪ ،‬أو على أصل الشيخ‪ ،‬أو على‬
‫الع ْرض‪ ،‬أو ْاملُ َعا َ َ‬
‫ضة ‪ .‬وشاهده قول اإلمام‬ ‫نسخة أخرى مصححة‪ ،‬للتأكد من سالمتها من األخطاء ‪ُ .‬وت َّ‬
‫سمى َ‬
‫ر‬
‫الرامهرمزي ‪" :‬والحديث ال يضبط إال بالكتاب‪ ،‬ثم باملقابلة‪ ،‬واملدارسة‪ ،‬والتعهد‪ ،‬والتحفظ‪ ،‬واملذاكرة‪ ،‬والسؤال‪،‬‬
‫والفحص عن الناقلين‪ ،‬والتفقه بما نقلوه ‪ «.‬املحدث الفاصل للرامهرمزي‪ ،‬ص ‪ ،385:‬املقدمة البن الصالح‪ ،‬ص‬
‫‪ ،192:‬فتح املغيث للسخاوي‪76/3 ،‬‬

‫‪21‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬طرق الجرح والتعديل وشروطه‬
‫املطلب األول‪ :‬طرق الجرح والتعديل‬
‫أرس ى علماؤنا مجموعة من الطرق إلثبات الجرح والتعديل نذكرأهمها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬االستفاضة‪.‬‬
‫فمن اشتهر بين أهل الصنعة الحديثية بالعدالة استغنى عن بينة تثبت عدالته‪ ،‬مثل‪ :‬اإلمام مالك‪ ،‬وشعبة‪،‬‬
‫وسفيان الثوري‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬وعبد هللا بن املبارك‪ ،‬ووكيع‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪.‬‬
‫وقد ُس ِئل اإلمام أحمد بن حنبل عن إسحاق بن راهويه‪ ،‬فقال‪ " :‬مثل إسحاق ُيسأل عنه؟! إسحاق عندنا إمام‬
‫من أئمة املسلمين‪ 1".‬وحكم الجرح فيما سبق كالتعديل‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬شهادة معدلين أو جارحين‬
‫ً‬
‫قياسا على الشهادة‪ ،‬حيث يشترط في تزكية الشاهد اثنان‪ .‬مصداقا لقوله تعالى ‪ ﴿ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾‬
‫ثالثا‪ :‬شهادة معدل أو جارح واحد‬
‫وهو الرأي املختار الذي رجحه الخطيب البغدادي وابن الصالح وغيرهما‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأن العدد لم‬
‫ً‬ ‫طريق واحد) قد يكون‬ ‫َّ‬
‫صحيحا‪ ،‬فإذا كان كذلك‪،‬‬ ‫يشترط في قبول الخبر‪ ،‬فإن الحديث الغريب (أي الذي جاء من ٍ‬
‫فال يشترط في جرح الراوي أو تعديله أكثر من معدل أو جارح واحد ‪ .2‬قال ابن حجر ‪ ":‬تقبل التزكية‪ ...‬ولومن واحد‬
‫على األصح‪ ".‬ومثال ذلك‪:‬‬
‫أحمد بن نفيل السكوني‪ ،‬روى عنه النسائي وقال فيه‪ :‬ال بأس به‪ ،‬قال الذهبي‪ :‬مجهول‪ ،‬تعقبه ابن حجر في‬
‫التهذيب بقوله‪ ":‬بل هو معروف يكفيه رواية النسائي عنه‪ ،‬قال في التقريب‪ ":‬صدوق‪ ،‬واملالحظ أن ابن حجر‬
‫اعتمد قول النسائي مع أنه يتابع عليه‪.‬‬
‫ً‬
‫قياسا على الجرح والتعديل في‬ ‫وقد خالف بعض العلماء فقالوا‪ :‬ال يثبت التعديل والجرح إال باثنين‪،‬‬
‫منصفا ً‬
‫كاشفا‬ ‫ً‬ ‫واملعدل‪ ،‬والتي من شأنها أن تجعل حكمه‬ ‫الشهادات‪ 3،‬لذا البد من توافر شروط معينة في الجارح‬
‫ِ‬
‫عن حال الراوي‪.‬‬

‫‪ -1‬أبو الحجاج املزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.382/2‬‬


‫‪ -2‬السيوطي‪ :‬تدريب الراوي ‪.308/1‬‬
‫‪ -3‬الشهرزوري‪ :‬مقدمة ابن الصالح ‪.61/1‬‬
‫‪22‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬شروط الجارح واملعدل‬
‫يشترط في املعدل والجارح عدة شروط أهمها ما يأتي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬العدالة والورع‬
‫قال اإلمام الذهبي‪ " :‬والكالم في الرجال ال يجوز إال لتام املعرفة تام الورع‪ 1 ".‬وهو ما أكده في تذكرة الحفاظ‬
‫بقوله‪ ":‬فحق على املحدث أن يتورع في ما يؤديه وأن يسأل أهل املعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته‪ ،‬وال‬
‫سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقله األخبار ويجرحهم جهبذا إال بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن‬
‫وكثرة املذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين املتين واإلنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري‬
‫واإلتقان‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ف َد ْع َع ْن َك ال ِك َت َابة ل ْس َت ِم ْن َها ♦♦♦ َول ْو َس َّو ْد َت َو ْج َه َك ِب ِامل َد ِاد‪".‬‬
‫‪2‬‬

‫ََ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َُ َ ْ َ ْ‬
‫الذك ِر ِإ ْن ك ْن ُت ْم ال ت ْعل ُمون ﴾)النحل‪ ،(43 :‬قال ابن حجر في"نزهة النظر "وينبغي‬ ‫قال هللا ‪ -‬تعالى‪ ﴿ -:‬فاسألوا أهل ِ‬
‫جرح َمن أفرط فيه؛ فجرح بما ال يقتض ي ر َّد حديث‬ ‫متيقظ‪ ،‬فال ُيقبل ْ‬ ‫َّ ُ‬
‫أال يقبل الجرح والتعديل إال ِمن عدل ِ‬
‫‪3‬‬ ‫تزكية َمن أخذ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بمجرد الظاهر؛ فأطلق التزكية"‪.‬‬ ‫املحدث‪ ،‬كما ال تقبل‬
‫ِ‬
‫أحدا بغير ثبت‪ ،‬كان كاملُثبت ً‬
‫حكما‬ ‫عدل ً‬ ‫الجرح والتعديل‪ ،‬فإ َّنه إن َّ‬ ‫التساهل في ْ‬ ‫ُ‬ ‫املتكلم في هذا الفن من‬‫وليحذر ِ‬
‫ً‬
‫يظن أنه كذب‪ ،‬وإن جرح بغير ُّ‬
‫تحرز‪ ،‬أقدم على‬ ‫حديثا‪ ،‬وهو ُّ‬ ‫فيخش ى عليه أن يدخل في ُزمرة َمن روى‬ ‫ليس بثابت‪ُ ،‬‬
‫ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عا ُ ه ً‬
‫أبدا‪.‬‬ ‫الطعن في مسلم بريء من ذلك‪َ ،‬‬ ‫ْ‬
‫ر‬
‫ثانيا ‪ :‬اإلملام بأسباب ْ‬
‫الجرح والتعديل‪ ،‬واإلنصاف‬
‫اتفق العلماء على عدم قبول الكالم في الرواة الصادر عمن يجهل أسباب الجرح والتزكية‪ ،‬قال تاج الدين السبكي‪:‬‬
‫"من ال يكون عاملا بأسبابهما ‪-‬أي الجرح والتعديل‪ -‬ال يقبالن منه ال بإطالق وال بتقييد"‪ 4‬وقال بدر الدين بن‬
‫جماعة" ‪:‬من ال يكون عاملًا باألسباب‪ ،‬ال ُيقبل منه ْ‬
‫جر ٌح وال تعديل‪ ،‬ال باإلطالق وال بالتقييد"‪.5‬‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫التعصب والهوى‪ ،‬وامليل إلى الدنيا‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬نبذ‬
‫ً‬ ‫املتقدمين سالم من هذا ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫غالبا‪ ،‬وتارة من املخالفة في‬ ‫ِ‬ ‫واآلفة تدخل في هذا تارة من الهوى والغ َرض الفاسد‪ ،‬وكالم‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫كثيرا ً‬ ‫ٌ‬
‫موجود ً‬
‫إطالق الجرح بذلك‪.6‬‬ ‫قديما وحديثا‪ ،‬وال ينبغي‬ ‫العقائد‪ ،‬وهو‬

‫‪ 1‬ميزان االعتدال (‪(46 /3‬‬


‫‪ 2‬تذكرة الحفاظ = طبقات الحفاظ للذهبي (‪)10 /1‬‬
‫‪ 3‬شرح نخبة الفكر ص ‪.41‬‬
‫‪ 4‬انظر جمع الجوامع ‪.112/2‬‬
‫‪ 5‬الرفع والتكميل ص‪.68 :‬‬
‫‪ 6‬نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ت عتر (ص‪)139 :‬‬

‫‪23‬‬
‫رابعا‪ :‬العلم بلغة العرب‬
‫فالعلم بكالم العرب يجعل املجرح مدركا أن هذا اللفظ يجرح أو ال يجرح‪ ،‬فال يضع اللفظ لغير معناه‪ ،‬وال يجرح‬
‫بنقله لفظا هو غير جارح‪ ،‬وإال وقع في الخلط والغلط‪.‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬قواعد الجرح والتعديل‬
‫القاعدة األولى‪ :‬ال يقبل الجرح والتعديل إال ممن توفرت فيه الشروط‬
‫َّ‬
‫اختل بعض شروط الجارح واملعدل‬ ‫ال يقبل الجرح والتعديل إال ممن توفرت فيه الشروط التي سبق ذكرها فإن‬
‫لم يقبل جرحه وال تعديله‪ ،‬ولذلك صور منها‪:‬‬
‫ً‬
‫مجروحا‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن يكون الجارح نفسه‬
‫فال يقبل الجرح والتعديل ممن هو مجروح ساقط العدالة‪ ،‬ففي الحديث‪« :‬أال ال تجوز شهادة الخائن وال الخائنة‬
‫وال ذي غمر على أخيه وال املوقوف على حد»‪ 1‬ومثال ذلك ما ذكره ابن حجر في التهذيب في أحمد بن شبيب‬
‫الحبطي البصري‪ ،‬بعد أن نقل توثيقه عن أبي حاتم‪ ،‬وأهل العراق‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬قال‪ :‬وقال أبو الفتح األزدي‪:‬‬
‫‪2‬‬ ‫منكر الحديث غير مرض ي‪ ،‬قلت (ابن حجر)‪ :‬لم يلتفت ٌ‬
‫أحد إلى هذا القول‪ ،‬بل األزدي غير مرض ي‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ال يكون الجارح من املتشددين الذين يجرحون الراوي بأدنى جرح‪:‬‬
‫إن مجرد الكالم في الرجل ال يعني أنه مجروح ساقط العدالة‪ ،‬مردود الرواية أو الشهادة‪ ،‬ولو اعتبرنا ذلك لذهب‬
‫ُ‬
‫معظم السنة‪ ،‬إذ لم يسلم من كالم الناس إال من عصمه هللا‪ ،‬وما سلم فاضل من طاعن‪ ،‬ولذلك خ ِرج في‬
‫ُُ‬
‫الصحيحين لخلق ممن تك ِلم فيهم منهم جعفر بن سليمان الضبعي‪ ،‬والحارث ابن عبد هللا اإليادي‪ ،‬وخالد بن‬
‫مخلد القطواني وغيرهم‪.‬‬
‫ومثال ذلك ما ذكره اإلمام الذهبي في امليزان في محمد بن الفضل السدوس ي شيخ اإلمام البخاري امللقب بعارم‪،‬‬
‫بعد أن ذكر توثيق الدارقطني له‪ ،‬قال‪ :‬قلت (الذهبي)‪ :‬فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله‪،‬‬
‫فأين هذا القول من قول ابن حبان‪...‬في عارم‪" :‬اختلط في آخر عمره‪ ،‬وتغير حديثه حتى كان ال يدري ما يحدث به‪،‬‬
‫ُ‬
‫فوقع في حديثه املناكير الكثيرة‪ ،‬فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه املتأخرون فإذا لم يعرف هذا من هذا ت ِرك‬
‫ً‬
‫حديثا ً‬
‫منكرا‪ ،‬فأين ما زعم ‪3‬؟‬ ‫الكل وال يحتج بش يء منها"‪ ،‬قلت (الذهبي)‪ :‬ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له‬
‫القاعدة الثانية‪ :‬أن يكون الجرح م َّ‬
‫فس ًرا‬
‫فال يقبل الجرح إال َّ‬
‫مفسرا الختالف الناس فيما يجرح وما ال يجرح‪ ،.‬فقد يتكلم بعضهم في الرواة بما ال يوجب‬
‫ً‬
‫الرد تأويال أو جهال‪ ،‬فيطلق جرحا مردودا ال يثبت اعتقادا منه أنه مجرح‪ ،‬أو تشددا منه بحيث َي ْغ ِمز الراوي‬

‫‪ 1‬ابن ماجه كتاب األحكام باب من ال تجوز شهادته‪.‬‬


‫‪ -2‬ابن حجر‪ :‬تهذيب التهذيب ‪.31/1‬‬
‫‪ - 3‬اإلمام الذهبي‪ :‬ميزان االعتدال ‪.8/4‬‬
‫‪24‬‬
‫ً‬
‫بالغلطتين والثالث‪ .‬فال بد إذا من بيان سبب الجرح ُلينظر فيه أهو جائز مقبول أم ال؟ ومن ذلك ما ذكره ابن‬
‫الصالح في مقدمته‪ ،‬فقد روى عن شعبة أنه ‪ ":‬قيل له لم تركت حديث فالن؟ فقال‪ :‬رأيته يركض على برذون‬
‫فتركت حديثه‪ ".‬وهذا ليس طعن في الراوي سواء في دينه أوفي روايته‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‪ :‬الجرح واجب عند الحاجة‪.‬‬
‫سبق أن بينا أن الجرح من الدين‪ ،‬ولذلك وجب التجريح عندما تدعو إليه الضرورة والحاجة لبيان حال الرواة‬
‫وتمييز الضعفاء واملتروكين منهم‪ ،‬قال اإلمام مسلم‪ ":‬وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث‬
‫وناقلي األخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا ملا فيه من عظيم الخطر‪ ،‬إذ األخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل‪ ،‬أو‬
‫تحريم‪ ،‬أو أمر‪ ،‬أو نهي‪ ،‬أو ترغيب‪ ،‬أو ترهيب‪ ،‬فإذا كان الراوي ليس لها بمعدن للصدق واألمانة‪ ،‬ثم أقدم على‬
‫‪1‬‬
‫الرواية عنه َم ْن قد عرفه‪ ،‬ولم يبين لغيره ِم َّم ْن َج ِه َل معرفته‪ ،‬كان آثما بفعله ذلك‪ ،‬غاشا لعوام املسلمين‪".‬‬
‫القاعدة الرابعة‪ :‬يجب نقل الجرح والتعديل معا فيمن اجتمعا فيه‪.‬‬
‫ال يجوز للعالم أن ينقل الجرح فقط فيمن اجتمعا فيه التعديل والتجريح‪ ،‬فإن ذلك ظلم له‪ :‬قال اإلمام ابن‬
‫سيرين (ت‪ 110 :‬هـ) ‪" :‬ظلمت أخاك إذا ذكرت مساوئه ولم تذكر محاسنه" ‪ . 2‬وقال اإلمام الذهبي في ترجمة أبان‬
‫َّ‬
‫بن يزيد العطار‪" :‬قد أورده العالمة ابن الجوزي في "الضعفاء"‪ .‬ولم يذكر فيه أقوال َم ْن وثقه‪ ،‬وهذا من عيوب‬
‫‪3‬‬
‫كتابه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق"‬
‫القاعدة الخامسة‪ :‬قبول التعديل من غيرذكرسببه‬
‫وأما التعديل فال يشترط تفسيره‪ ،‬وسبب التفريق بينهما أن أسباب التعديل كثيرة يصعب حصرها؛ فإن ذلك‬
‫يحوج املعدل إلى أن يقول‪ :‬فعل كذا وكذا‪ ،‬فيذكر كل ما يجب عليه أن يفعله‪ ،‬ويقول‪ :‬لم يكن يفعل كذا وكذا‪،‬‬
‫فيعد كل ما يجب عليه أن يجتنبه وهذا أمر شاق ًّ‬
‫جدا‪ ،‬وأما الجرح فإنه يثبت في الراوي ولو بخصلة واحدة مما‬
‫‪4‬‬
‫يقتض ي الجرح‪.‬‬
‫وهناك سبب آخر للتفريق بينهما‪ ،‬وهو أن الناس اختلفوا في أسباب الجرح‪ ،‬فربما جرح بعضهم الراوي بما ليس‬
‫بجارح عند التحقيق‪ ،‬فكان البد من االستفسار عن سبب الجرح لينظر‪ ،‬هل هو جرح أم ال‪ ،‬وليس األمر كذلك‬
‫‪5‬‬
‫في التعديل‪.‬‬

‫‪ 1‬مقدمة صحيح مسلم ‪28/1‬‬


‫‪ 2‬الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ‪.275/9‬‬
‫‪ 3‬ميزان االعتدال ‪.9/1‬‬
‫‪ 4‬أبو الحسنات اللكنوي‪ :‬الرفع والتكميل ص‪.117‬‬
‫‪ 5‬سراج الدين األنصاري‪ :‬املقنع ‪.249/1‬‬
‫‪25‬‬
‫هذا هو مذهب الجمهور‪ ،‬واختار الخطيب البغدادي قبول الجرح املجمل‪ ،‬أي الذي لم يفسر‪ ،‬إذا صدر من‬
‫العالم بما يصير به الراوي مجروحا؛ ألنا متى استفسرناه عن سبب الجرح فقد شككنا في علمه‪ ،‬فنقضنا ما بنينا‬
‫‪1‬‬
‫عليه أمره من الرض ى به والرجوع إليه‪.‬‬
‫القاعدة السادسة‪ :‬ال يقبل التعديل على اإلبهام‪.‬‬
‫التعديل على اإلبهام هو أن يقول القائل‪ :‬حدثني "الثقة"‪ ،‬أو‪" :‬من ال أتهم"‪ ،‬من غير أن ُي َس ِميه‪ ،‬وقد وقع ذلك‬
‫‪2‬‬
‫عند العديد من األئمة كمالك في املوطأ‪ ،‬والشافعي‪.‬‬
‫ُ‬
‫هذا التعديل مردود إذا لم يصدر عن إمام من النقاد املجتهدين كمالك والشافعي وأحمد‪ ،‬ألن من أ ْبهم ُ‬
‫وع ِدل‬
‫غيره بجرح قادح‪ ،‬لذلك فإن عدم تسميته سبب في إثارة الشك‬ ‫فربما لو ذكر بما ُيعرف به كان ِم َّمن َج َّرحه ُ‬
‫والريبة حوله‪ ،‬وقد توجب التوقف في قبول حديثه‪.‬‬
‫القاعدة السابعة‪ :‬إذا تعارض جرح وتعديل‬
‫ويعدله آخرون‪ ،‬وحينئذ ال بد من البحث‬ ‫ُ‬
‫قد تتعارض أقوال العلماء في تعديل ر ٍاو وتجريحه‪ ،‬فيجرحه بعضهم‪ِ ،‬‬
‫ملعرفة حقيقة ذلك‪:‬‬
‫فجرحه‪ ،‬ثم تاب فعلمت توبته ملن َّ‬
‫عدله‪ ،‬فال يكون هناك‬ ‫‪ -‬فقد يكون بعضهم عرفه بفسق قديم وقع منه َّ‬
‫تعارض بين القولين‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يعرف بسوء ِ‬
‫حفظ عن شيخ لم يكتب عنه‪ ،‬العتماده على ذاكرته‪ ،‬في حين أنه موثوق به‪ ،‬حافظ عن‬
‫غير هذا الشيخ‪ ،‬العتماده على كتب مثال‪ ،‬فال يكون هناك تعارض الجرح وهذا التوثيق‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فإذا ُعرف كل ذلك أمكن للعالم أن يخلص َمخلصا حسنا‪ ،‬فيرجح بعض األقوال على بعض‪ ،‬وإذا لم يعلم‬
‫ُ‬
‫تفصيل ما ذكر‪ ،‬كان هناك تعارض بين الجرح والتعديل‪ ،‬وللعلماء في هذه الحال ثالثة أقوال ‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬تقديم الجرح على التعديل‪.‬‬
‫املعدل‪ ،‬وهذا قول جمهور أهل‬
‫املعدلون أكثر من الجارحين‪ ،‬ألن الجارح اطلع على ما لم يطلع عليه ِ‬
‫ولو كان ِ‬
‫العلم‪ ،‬ومن القواعد في الباب‪“ :‬درء املفسدة مقدم على جلب املصلحة”‪.‬‬
‫وألن املعدل يخبر عما ظهر له من حال ذلك الراوي‪ ،‬والجارح يخبر عن باطن خفي عن ِ‬
‫املعدل‪ ،‬فمعه زيادة علم‪،‬‬
‫بشروط ثالثة‪:‬‬ ‫قدم قوله‪َّ ،‬‬
‫ولكن ذلك‬ ‫في َّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫‪ -1‬أن يكون الجرح َّ‬
‫مفس ًرا‪.‬‬
‫ً‬
‫متعنتا في جرحه‪.‬‬ ‫ً‬
‫متعصبا على املجروح أو‬ ‫‪ -2‬أن ال يكون الجارح‬

‫‪ 1‬الخطيب البغدادي‪ :‬الكفاية في علم الرواية ص‪.108‬‬


‫‪ 2‬انظر مثال الرسالة ص ‪.450-448‬‬
‫‪26‬‬
‫‪ -3‬أن ال يبين املعدل أن الجرح قد انتفى عن ذلك الراوي بدليل صحيح‪ ،‬وذلك مثل أن يجرحه الجارح بأمر‬
‫مفسق فيبين املعدل أنه قد تاب من ذلك العمل‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يقدم التعديل على الجرح‪.‬‬
‫ُ‬
‫قوي قولهم‪ .‬وهذا القول مردود‪ ،‬ألن املعدلين وإن كثروا‬
‫إذا كان املعدلون أكثر من الجارحين‪ ،‬ألن كثرة املعدلين ت ِ‬
‫يخبرون بما َي ُرد على الجارحين‪.‬‬
‫ال ِ‬
‫القول الثالث‪ :‬أن الجرح والتعديل إذا تعارضا‪ ،‬ولم يمكن الترجيح ُيتوقف عن العمل بالقولين معا‪.‬‬
‫املحدثون املتقدمون واملتأخرون‪.‬‬
‫والقول األول هو الذي ذهب إليه ِ‬
‫القاعدة الثامنة‪ :‬عدم قبول كالم األقران بعضهم في بعض إال ببينة وحجة‬
‫أما جــرح األق ـران فإن العلماء ـ لورعهم وتقواهم ـ احتاطوا في تقديم الجرح على التعديل‪ ،‬فيما دار بين األقران‪،‬‬
‫من قدح‪ ،‬أو خالف مذهبي‪ .‬وأجمع العلماء على عدم قبول قول األقران بعضهم في بعض‪ ،‬وذلك من باب‪:‬‬
‫“املعاصرة حجاب” ‪ ،‬وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" بابا لكالم العلماء‬
‫املتعاصرين بعضهم في بعض‪ ،‬ورأى أن أهل العلم ال يقبل الجرح فيهم إال ببيان واضح فإذا انضم إلى ذلك عداوة‬
‫‪1‬‬
‫فهو أولى بعدم القبول‪.‬‬

‫‪ 1‬جامع بيان العلم وفضله ‪ 150/2‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪27‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬ألفاظ الجرح والتعديل ومر اتبه‬
‫يتفاوت علماء الجرح والتعديل في الحكم على الرواة‪ ،‬تبعا الختالفهم في تحقق كل من شرط الضبط وشرط‬
‫العدالة‪ ،‬وقد نشأ عن ذلك تعدد في درجات الجرح والتعديل ومراتبها‪ ،‬إذ خصت ألفاظ بعينها للداللة على كل‬
‫درجة من درجات الجرح والتعديل وتبعا لذلك‪ ،‬جعل علماء الحديث لكل من الجرح والتعديل مراتب تنبئ عن‬
‫تفاوت الرواة في اتصافهم بالجرح أو العدالة‪ ،‬فتنوعت هذه املراتب إلى ما يلي‪.‬‬
‫املطلب األول‪ :‬مراتب التعديل وألفاظه‬
‫املرتبة األولى‪ :‬وهي أعالها شرفا‪ ،‬مرتبة الصحابة رض ي هللا عنهم وأرضاهم‪ ،‬وسنخصص مبحثا خاصا للحديث‬
‫عن عدالة الصحابة رض ي هللا عنهم‪.‬‬
‫املرتبة الثانية‪ :‬وهي أعلى املراتب في داللة العلماء على التزكية وتقوم على املعايير التالية‪:‬‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬الدرجة الرفيعة في العدالة والضبط‪.‬‬
‫‪ -‬درجات املرويات‪ :‬أعلى درجات الصحة‪.‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬الصحيحان السيما املتفق عليه‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على التعديل‪ :‬ما يدل على املبالغة‪ ،‬أو عبر بأفعل التفضيل‪ ،‬كقولهم‪ :‬أوثق الناس‪ ،‬وأثبت‬
‫الناس‪ ،‬وأضبط الناس ‪ ،‬وإليه املنتهى في التثبت‪ ،‬ويلحق به‪ :‬ال أعرف له نظيرا في الدنيا‪ ،‬وقولهم‪ :‬ال أحد‬
‫أثبت منه‪ ،‬أو من مثل فالن‪ ،‬أو فالن ال يسأل عنه‪.‬‬
‫املرتبة الثالثة‪ :‬اشترط فيها صفات ومعان وصيغ خاصة‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬التبريز إلى الدرجة الثانية في العدالة والضبط‬
‫‪ -‬درجات املرويات‪ :‬أعلى درجات الصحة‪ ،‬ويقدم عليها مرويات الدرجة األولى‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬الصحيحان‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على التعديل‪ :‬إذا كرر لفظ التوثيق‪ ،‬إما مع تباين اللفظين كقولهم‪ :‬ثبت حجة‪ ،‬أو ثبت‬
‫حافظ‪ ،‬أو ثقة ثبت‪ ،‬أو ثقة متقن‪ ،‬أو مع إعادة اللفظ األول كقولهم‪ :‬ثقة ثقة‪ ،‬ونحوها‪ .‬وأكثر ما وجدوا‬
‫قول ابن عيينة‪ :‬حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقة ثقة ثقة‪ ...‬إلى أن قال‪ :‬تسع مرات‪ ،‬ومن هذه املرتبة قول‬
‫ابن سعد في شعبة‪( :‬ثقة مأمون حجة‪ ،‬صاحب حديث‪).‬‬
‫املرتبة الرابعة‪ :‬ومن معاملها‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬أولى مراحل الكمال في العدالة والضبط‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬صحة املرويات دون االحتياج إلى متابع أو شاهد‪.‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬املستدرك على الصحيحين واملقصود بهما صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان‬
‫‪28‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على التعديل‪ :‬ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق‪ ،‬كثقة‪ ،‬أو ثبت‪ ،‬أو متقن‪ ،‬أو كأنه‬
‫مصحف‪ ،‬أو حجة‪ ،‬أو إمام‪ ،‬أو عدل ضابط‪ .‬والحجة أقوى من الثقة‪.‬‬
‫املرتبة الخامسة‪ :‬من أهم ضوابطها‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬كمال العدالة‪ ،‬اشتهار الصدق مع خفة الضبط‪ ،‬عدم العلم بالضبط‪ ،‬ومن وصفوا بذلك‬
‫فهم تحت األخيار‪.‬‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬حسن لذاته‪ ،‬والحسن لغيره‪ ،‬بعد تعضيده بمتابع أو شاهد‪.‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬كتب السنن‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على التعديل‪ :‬ما أفاد العدالة ولم يصرح بالضبط‪ :‬مثل ليس به بأس‪ ،‬أو ال بأس به‪ ،‬أو‬
‫صدوق‪ ،‬أو مأمون‪ ،‬أو خيار الخلق‪ ،‬أو ما أعلم به بأسا‪ ،‬أو محله الصدق‪.‬‬
‫املرتبة السادسة‪ :‬ومن معاييرها‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬العدالة مع سوء الحفظ – العدالة مع الضبط‬
‫‪ -‬درجات املرويات‪ :‬حسن لذاته – حسن لغيره‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬كتب السنن واملسانيد‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على التعديل‪ :‬ما أشعر بالقرب من التجريح‪ ،‬وهي أدنى املراتب؛ كقولهم‪ :‬ليس ببعيد من‬
‫الصواب‪ ،‬أو شيخ وسط‪ ،‬أو يروى حديثه‪ ،‬أو يعتبر به‪ ،‬أو شيخ وسط‪ ،‬أو روي عنه‪ ،‬أو صالح الحديث‪،‬‬
‫أو يكتب حديثه‪ ،‬أو مقارب الحديث‪ ،‬أو ما أقرب حديثه‪ ،‬أو صويلح‪ ،‬أو صدوق إن شاء هللا‪ ،‬أو أرجوا أن‬
‫ال بأس به‪ ،‬أو جيد الحديث‪ ،‬أو حسن الحديث‪ ،‬أو وسط‪ ،‬أو مقبول أو صدوق س يء الحفظ‪ ،‬أو صدوق‬
‫له أوهام‪ ،‬أو صدوق مبتدع‪ ،‬أو صدوق يهم‪.‬‬
‫املرتبة السابعة‪ :‬ومن معاييرها‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬التدلي في العدالة إلى ما قبل الستر‪ ،‬التدلي في الضبط إلى ما قبل سوء الحفظ‪ ،‬مالحظة‪:‬‬
‫هم صالحون لالعتبار‪ ،‬ال يقبلون إال بمتابع أو شاهد‪.‬‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬حسن لغيره‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬كتب السنن – املسانيد – كتب الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على التعديل‪ :‬فالن مقبول‪ ،‬صويلح‪ ،‬صدوق إن شاء هللا‪ ،‬أرجو أن ال بأس به‪ ،‬يكتب‬
‫حديثه‪ ،‬يعتبر به‪.‬‬
‫ثم إن الحكم في أهل هذه املراتب‪ :‬االحتجاج باألربعة األولى منها‪ .‬وأما التي بعدها فإنه ال يحتج بأحد من أهلها؛‬
‫لكون ألفاظها ال تشعر بشريطة الضبط‪ ،‬بل يكتب حديثهم ويختبر‪ ،‬وأما السادسة فالحكم في أهلها دون أهل التي‬
‫‪29‬‬
‫قبلها‪ ،‬وفي بعضهم من يكتب حديثه لالعتبار دون اختبار ضبطهم‪ ،‬لوضوح أمرهم‪ ،‬كذا قال الحافظ السخاوي‪،1‬‬
‫وهو موافق ملا قاله ابن أبي حاتم‪ ،‬وأقره ابن الصالح في أحكام التقسيم ملراتب التعديل‪.‬‬
‫وهذا اتفاق منهم على أن كلمة صدوق ال يحتج بمن قيلت فيه‪ ،‬إال بعد االختبار والنظر‪ ،‬ليعلم هل يضبط‬
‫الحديث أو ال‪ ،.‬وذلك يرد ما زعمه بعض الناس أن من قيلت فيه يكون حديثه حجة من الحسن لذاته‪ ،‬دون أن‬
‫يقيده بأن ينظر فيه‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬مراتب الجرح وألفاظه‬
‫مراتب التجريح هي الدرجات التي تنبئ عن منازل الرواة الذين جهلت عدالتهم أو اختلت‪ ،‬بارتكابهم مفسق أو‬
‫خارم للمروءة‪ ،‬والرواة الذين لم يعلم ضبطهم‪ ،‬وساء حفظهم‪ ،‬وفحش غلطهم‪ ،‬وتغيروا بآخرة‪.‬‬
‫املرتبة األولى‪ :‬التجريح الخفيف‪.‬‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬فلول الدرجات الثالث األخيرة من مراتب التعديل‪ :‬املستورون‪ ،‬من ساء حفظهم‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬وهي درجة تقوم على عدم صالحيته لالحتجاج بل لالعتبار‪ ،‬ولكن بعد النظر واالنتقاء‪،‬‬
‫والبد من االعتضاد بأقوى أو مماثل أو أقل‪ ،‬واملروي حسن لغيره أو ضعيف‪.‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬سنن الترمذي‪ ،‬مسند أحمد‪ ،‬واملسانيد األخرى‪ ،‬كتب الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على الجرح‪ :‬وهي أسهل مراتب الجرح‪ :‬قولهم‪ :‬فيه مقال‪ ،‬أو أدنى مقال‪ ،‬أو ينكر مرة ويعرف‬
‫أخرى‪ ،‬أو ليس بذاك‪ ،‬أو ليس بالقوي‪ ،‬أو ليس باملتين‪ ،‬أو ليس بحجة‪ ،‬أو ليس بعمدة‪ ،‬أو ليس بمأمون‪،‬‬
‫أو ليس باملرض ي‪ ،‬أو ليس يحمدونه‪ ،‬أو ليس بالحافظ‪ ،‬أو غيره أوثق منه‪ ،‬أو فيه ش يء‪ ،‬أو فيه جهالة‪ ،‬أو‬
‫ال أدري ما هو‪ ،‬أو فيه ضعف‪ ،‬أو لين الحديث‪ ،‬أو س يء الحفظ‪ ،‬أو فيه لين (عند غير الدارقطني‪ ،‬فإنه‬
‫قال‪ :‬إذا قلت‪ :‬لين ال يكون ساقطا متروك االعتبار ولكن مجروحا بش يء ال يسقط به عن العدالة)‪.‬ومنه‬
‫‪2‬‬
‫قولهم‪ :‬تكلموا فيه‪ ،‬أو سكتوا عنه‪ ،‬أو مطعون فيه‪ ،‬أو فيه نظر‪.‬‬
‫املرتبة الثانية‪ :‬تجريح قوي‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬رواة لم يعدلوا‪ -‬عدلوا من غير معتبر‪ ،‬مع ثبوت جرحهم مفسرا أو مجمال‪ ،‬رواة اضطربت‬
‫روايتهم وأكثروا من املناكير‪.‬‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬ال يصلحون إال لالعتبار ولكن بعد دقة النظر واالختبار‪ ،‬ال بد من االعتضاد بأقوى أو‬
‫مماثل دون األقل – املروي حسن لغيره أو ضعيف‪.‬‬

‫‪ 1‬فتح املغيث ج‪ 1‬ص‪.340 :‬‬


‫‪ 2‬قيل هذا عند غير البخاري أما البخاري فيقول فيه نظر فيمن تركوا حديثه‬
‫‪30‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬سنن الترمذي – مسند أحمد – واملسانيد األخرى – كتب الترغيب والترهيب – كتب‬
‫الضعفاء‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على الجرح‪ :‬وهي أسوأ من سابقتها‪ ،‬وهي‪ :‬فالن ال يحتج به‪ ،‬أو ضعفوه‪ ،‬أو مضطرب‬
‫الحديث‪ ،‬أو له ما ينكر‪ ،‬أو حديثه منكر‪ ،‬أو له مناكير‪ ،‬أو ضعيف‪ ،‬أو منكر‪( ،‬عند غير البخاري‪ ،‬أما‬
‫البخاري فقد قال‪ :‬كل من قلت فيه منكر الحديث فال تحل الرواية عنه)‪.‬‬
‫وحكم من ذكر في هاتين املرتبتين –كما بين السخاوي‪ : -1‬يعتبر بحديثه أي يخرج حديثه لالعتبار‪ -‬وهو البحث‬
‫عن روايات تقويه ليصير بها حجة‪ -‬إلشعار هذه الصيغ بصالحية املتصف بها لذلك‪ ،‬وعدم منافاتها لها‪.‬‬
‫املرتبة الثالثة‪ :‬أسوأ من سابقتيها وهي جرح شديد في الضبط‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬رواة جهل حالهم أو جهلت عينهم‪ ،‬أو أبهمت أسماؤهم أو أهملت أسماؤهم‪ ،‬رواة دلسوا أو‬
‫وثقوا من غير معتبر‪ ،‬مع سوء الحفظ‪ ،‬أو حدثوا على الوهم بدون تحفظ‪.‬‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬ال يصلحون لالحتجاج وال لالعتبار بحال‪ ،‬إال إذا تكاثرت الطرق وأمعن فيها النظر‬
‫واالنتقاء‪ ،‬فقد يلحقون باملرتبة الثانية‪.‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬كتب الضعفاء واملتروكين‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على الجرح‪ : :‬كقولهم‪ :‬فالن رد حديثه‪ ،‬أو مردود الحديث‪ ،‬أو ضعيف جدا‪ ،‬أو واه بمرة‪ ،‬أو‬
‫طرحوه‪ ،‬أو مطروح الحديث‪ ،‬أو مطروح‪ ،‬أو ارم به‪ ،‬أو ال يكتب حديثه‪ ،‬أو ال تحل كتابة حديثه‪ ،‬أو ال‬
‫تحل الرواية عنه‪ ،‬أو ليس بش يء‪ ،‬أو ال يساوي شيئا‪ ،‬أو ال يستشهد بحديثه‪ ،‬أو ال ش يء‪.‬‬
‫املرتبة الرابعة‪ :‬وهي جرح في العدالة‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬رواة اختلت عدالتهم بارتكاب ما ينافيها‪ ،‬واختل ضبطهم بفحش الغلط أو بكثرة الغفلة‪،‬‬
‫وحال هؤالء الرواة ما بين متهم بالكذب‪ ،‬ومفسق بقادح‪ ،‬وفاحش الغلط‪ ،‬وشديد الغفلة‪.‬‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬ال يصلحون ال لالحتجاج وال لالعتبار‪ ،‬إال إذا تكاثرت الطرق وأمعن فيها النظر واالنتقاء‪،‬‬
‫فقد يلحقون على بعد باملرتبة الثانية‪.‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬كتب الضعفاء واملتروكين‪ ،‬كتب املوضوعات‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على الجرح‪ :‬أقل من الجزم بكذب الراوي كقولهم‪ :‬فالن يسرق الحديث‪ ،‬وفالن متهم‬
‫بالكذب‪ ،‬أو الوضع‪ ،‬أو ساقط‪ ،‬أو متروك ‪ ،‬أو ذاهب الحديث‪ ،‬أو تركوه‪ ،‬أو ال يعتبر به أو بحديثه‪ ،‬أو‬
‫ليس بالثقة‪ ،‬أو غير ثقة‪ ،‬وكذا قولهم‪ :‬مجمع على تركه‪.‬‬

‫‪ 1‬فتح املغيث ج ‪ 1‬ص‪.346 :‬‬


‫‪31‬‬
‫املرتبة الخامسة‪:‬‬
‫‪ -‬صفات الرواة‪ :‬يوصفون بالكذب والدجل‪ ،‬ويضعون الحديث ويفترون على هللا الكذب‬
‫‪ -‬درجة املرويات‪ :‬ليست مروياتهم في ش يء من الحديث إال في زعمهم وحصرها العلماء لبيان كذبهم‬
‫واختراعاتهم وإبعادها عن ساحة الحديث‪.‬‬
‫‪ -‬مظان املرويات‪ :‬كتب املوضوعات مثل ‪ ":‬الآللئ املصنوعة في األحاديث املوضوعة‪ ".‬للسيوطي – " تذكرة‬
‫املوضوعات" للفتني‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغ الدالة على الجرح‪ :‬التصريح الجازم بكذب الراوي‪ :‬كالدجال‪ ،‬والكذاب‪ ،‬والوضاع‪ ،‬وكذا‪ :‬يضع‪،‬‬
‫ويكذب‪ ،‬ووضع الحديث‪.‬‬
‫املرتبة السادسة‪:‬‬
‫ما يدل على املبالغة كأكذب الناس‪ ،‬أو إليه املنتهى في الكذب‪ ،‬أو هو ركن الكذب‪ ،‬أو منبعه‪ ،‬أو معدنه‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وحكم هذه املراتب األربع األخيرة قال فيه السخاوي‪ :‬إنه ال يحتج بواحد من أهلها وال يستشهد به‪ ،‬وال يعتبر‬
‫به‪ ،‬أي ال يتقوى من طريق آخر‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬التجريح بالبدعة وضوابطه‬
‫املطلب األول ‪ :‬تعريف البدعة و أقسامها و أنواعها‬
‫‪ :1‬تعريف البدعة‬
‫البدعة في اللغة مصدر (بدع) ويتجاذبها أصالن‪:‬‬
‫‪ -‬ابتداء الش يء وصنعه ال عن مثال‪ ،‬قال هللا تعالي‪﴿ :‬بديع السموات واالرض﴾ (البقرة‪ ،‬آ‪ )117 :‬أي مبدعها‬
‫ُ ْ َ ُ ُ ْ ً‬
‫عا ِم ْن ُّ‬
‫الر ُس ِل ﴾ (األحقاف‪ ،‬آ‪)9 :‬‬ ‫وموجدها على غير مثال سابق‪ ،‬وقول هللا تعالى‪﴿ :‬قل ما كنت ِبد‬
‫‪ -‬اإلكالل‪ ،‬واالنقطاع‪ ،‬يقال أبدعت الناقة إذا انقطعت عن السير بإكالل أوظلع كأنه جعل انقطاعها عما‬
‫كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعا‪ ،‬أي أنشاء أمرا خارج عما اعتيد منها‪.1‬‬
‫وهذا املعنى ينطبق على االبتداع في دين هللا‪ ،‬إذ البدعة ظلع واعوجاج في نفس صاحبها وفي عمله‪ .‬وذلك بإتباع‬
‫الهوى؛ ولذلك سمي أهل البدع أهل األهواء‪ ،‬ألنهم اتبعوا أهواءهم‪ ،‬وما تشتهيه أنفسهم‪ ،‬وما تمليه عقولهم‪،‬‬
‫البدعة في االصطالح‪:‬‬
‫سلفا ً‬
‫وخلفا في تعريف البدعة‪ً ،‬‬
‫تبعا الختالف تصورهم ملاهية البدعة‪ ،‬وتنوع مشاربهم‪،‬‬ ‫اختلفت عبا ات الناس ً‬
‫ر‬
‫ً‬
‫تعريفا للبدعة يتالءم مع مسلكه‪ ،‬وهناك من التبس‬ ‫فالذي تلبس ببدعة عملية أو اعتقاديه‪ ،‬يحاول أن يضع‬
‫ً‬
‫ملتبسا‪،‬‬ ‫عليه فهم بعض النصوص الوا دة في السنة والبدعة فوضع ً‬
‫تعريفا‬ ‫ر‬
‫قال اإلمام ألشاطبي ‪ :‬ـ رحمه هللا ـ "فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية"‪ .2‬يقصد‬
‫بالسلوك عليها املبالغة في التعبد هلل سبحانه‪.‬‬
‫و عرفها السخاوي بقوله ‪ « :‬هي ما أحدث على غير مثال متقدم‪ ،‬فيشمل املحمود و املذموم‪ ،‬و لكنها خصت شرعا‬
‫‪3‬‬
‫باملذموم مما هو خالف املعروف»‬
‫محمود الطحان‪« :‬قيل الحدث في الدين بعد اإلكمال ‪ ،‬أو ما استحدث بعد النبي صلي هللا عليه وسلم من‬
‫‪4‬‬
‫األهواء واألعمال ‪».‬‬
‫‪ :2‬أقسام البدعة و أنواعها‬
‫تنقسم البدعة إلى بدعة قوليه كأذكار املبتدعة التي تخالف الشريعة‪ ،‬وبدعة عملية وهي ما كانت خالف العمل‬
‫الشرعي كالزيادة في عدد الصلوات واملخالفة في هيئة الحج‪ ،‬وبناء على ذلك فإن أصحاب البدع يقسمون باعتبار‬
‫بدعهم‪.‬‬

‫‪/1‬النهاية في غريب الحديث واألثر‪107/‬‬


‫‪ /2‬االعتصام ‪37 /1‬‬
‫‪ 3‬شمس الدين السخاوي‪ :‬فتح املغيث ‪ -‬ت محمد عويضة ‪ -‬ج‪ 1‬ص‪.356‬‬
‫‪ /4‬تيسير مصطلح الحديث ص‪123‬للدكتور محمود الطحان‬
‫‪33‬‬
‫أوال‪ :‬قسم يكفر ببدعته‪ :‬وهم كل من أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة‪ ،‬أو أثبت أمرا علم نفيه من الدين‬
‫بالضرورة‪ ،‬هذا القسم فيه إجماع من الفقهاء واملحدثين في رد روايتهم ألن من شروط قبول الرواية‪ ،‬اإلسالم وهللا‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ‬
‫اس ٌق ِبن َب ٍإ ف َت َب َّي ُنوا أ ْن‬
‫أمر بالتثبيت في كالم الفاسق حيث قال في سورة الحجرات ﴿ يا أيها ال ِذين آمنوا ِإن جاءكم ِ‬
‫ف‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ص ِب ُحوا َعلى َما ف َعل ُت ْم َن ِاد ِم َين ﴾ الحجرات‪ ،6 :‬والفاسق أقل درجة من الكافر والتي يكون‬ ‫ُتص ُيبوا َق ْو ًما ب َج َه َال ٍة َف ُت ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التكفير فيها متفقا عليه من قواعد األئمة كغالة الرافضة وحلول اإللهية في علي ـ رض ي هللا عنه ـ أوفي غيره أو‬
‫‪1‬‬
‫اإليمان برجوعه إلي الدنيا قبل يوم القيامة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬قسم ال يكفر ببدعته كالخوارج والروافض غير الغالة وسواهم من الطوائف املخالفين ألصول السنة خالفا‬
‫‪2‬‬
‫ظاهرا‪ ،‬لكنه يستند إلى تأويل ظاهره صائغ‪.‬‬
‫بمعني أنهم لم ينكروا أمرا متواترا من الدين بالضرورة ولم يثبتوا أمرا علم نفيه من الدين بالضرورة وهذا القسم‬
‫هو املقصود هنا‬
‫املطلب الثاني‪ :‬من تقبل روايته من املبتدعة ومن ترد‬
‫قال الحافظ بن الصالح ‪":‬أجمع جماهير أهل الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدال‪،‬‬
‫ضابطا ملا يرويه‪ ،‬وتفصيله أن يكون مسلما بالغا عاقال‪ ،‬ساملا من أسباب الفسق‪ ،‬وخوارم املروءة‪ ،‬متيقظا غير‬
‫مغفل‪ ،‬حافظا إن حدث من حفظه‪ ،‬ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه‪ ،‬وإن كان يحدث باملعني‪ ،‬اشترط فيه مع‬
‫‪3‬‬
‫ذلك بما يحيل املعاني"‬
‫وقد اختلف املحدثون في قبول الرواية عن املبتدعة عموما فمنهم من قال بالجواز مطلقا ومنهم من قال باملنع‬
‫مطلقا ومنهم قال بالتفصيل وهذه جملة من أقوالهم ‪:‬‬
‫‪ :1‬القائلون بقبول رواية املبتدعة‬
‫وهؤالء أكدوا على وجوب النظر في نوعية البدعة وزمانها فمن كان من أهل الزمان املتقدم فبدعتهم كانت‬
‫من تأله وديانة مع عدم فشوا الكذب ومقت الكذابين والتشدد عليهم واعتباره عيبا شنيعا حتى الكافر يجافى‬
‫الوقوع فيه‪ ،‬وكذلك نوع البدع من خفيفة وعظيمة واختالف بدعة الخوارج واإلرجاء والتشيع األول‪.‬‬
‫قال الحافظ الذهبي‪ :‬في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي "شيعي جلد لكنه صدوق لنا صدقه‪ ،‬وعليه بدعته‪ ،‬وقد‬
‫وثقه أحمد بن حنبل ويحي بن معين وأبو حاتم وأورده ابن عدي وقال‪ :‬كان غاليا في التشيع‪ .‬وقال السعدي‪ :‬زائغ‬
‫مجاهر‪ ،‬فلقائل أن يقول‪ :‬كيف صاغ توثيق مبتدع وحد العدالة الثقة والعدالة واإلتقان ‪ ،‬كيف يكون عدال من‬
‫هو صاحب بدعة؟ ثم قال‪ :‬البدعة على ضربين‪ :‬صغرى‪ ،‬كالتشيع بال غلو‪ ،‬كمن تكلم في حق من حارب ًّ‬
‫عليا‪،‬‬

‫‪ /1‬هدي الساري مقدمة فتح الباري ص ‪ 385‬للحافظ ابن حجر العسقالني‬


‫‪ /2‬هدي الساري مقدمة فتح الباري ص‪ 385‬للحافظ بن حجر‬
‫‪ /3‬هذا القول للشيخ احمد شاكر في هامش كالمه ‪317‬‬
‫‪34‬‬
‫فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق‪ ،‬فلو رد هؤالء لذهب جملة من األثر‪ ،‬إن النسبة إلى أهل‬
‫البدعة نسبة سطحية في هذه البدعة الصغرى‪ ،‬ولم تتمكن البدعة من القلوب بحيث تؤثر في مجال الرواية"‪.‬‬
‫وتقبل رواية أهل األهواء الذين ال يعرف عنهم استحالل الكذب والشهادة ملن وافقهم بما ليس عندهم فيه‬
‫شهادة‪ ،‬وممن قال بذلك اإلمام الشافعي ـ رحمه هللا ـ قال‪ ":‬تقبل شهادة أهل األهواء إال الخطابية من الرافضة‪،‬‬
‫ألنهم يرون الشهادة بالزور ملوافقتهم‪ ،‬وحكي أن هذا مذهب ابن أبي ليلي وسفيان الثوري وروي مثله عن أبو‬
‫‪1‬‬
‫يوسف القاض ي‪".‬‬
‫وقال ابن حبان‪" :‬وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خالف أن الصدوق املتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن‬
‫‪2‬‬
‫يدعوا إليها‪ ،‬أن االحتجاج بأخباره جائز‪".‬‬
‫‪3‬‬
‫وقال الخطيب‪ ":‬كثير من العلماء يقبل أخبار غير الدعاة من أهل األهواء‪".‬‬
‫فجعل املدار على قبول رواية املبتدع على عدم استحالل الكذب؛ ألن اعتقاد حرمة الكذب تمنع من اإلقدام‬
‫عليه؛ فيحصل الصدق‪.‬‬
‫ً‬
‫وزاد بعضهم شرطا آخر‪ ،‬وهو أال يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشدها ويزينها؛ حيث ال يؤمن‬
‫أن يغلبه الهوى في روايته‪.‬‬
‫ً‬
‫عموما إذا كان املروي يشتمل على ما ترد به بدعته؛ لبعده حينئذ عن التهمة‪.‬‬ ‫ورأى البعض قبول رواية املبتدع‬
‫وخص بعضهم قبول روايته بما إذا لم يروها غيره‪.‬‬
‫صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزقاني شيخ أبي داود والنسائي في كتابه (معرفة الرجال )‬
‫‪"...:‬ومنهم زائغ عن الحق " أي عن السنة " صادق اللهجة‪ ،‬فليس فيه حيلة إال أن يؤخذ من حديثه ما ال يكون‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫منكرا إذا لم ُيق ِو بدعته ‪ ،‬وبه جزم شيخ اإلسالم في النخبة"‪.4‬‬
‫وخالصة القول أن من قال بقبول رواية املبتدعة غير الغالة والدعاة إليها برر موقفه باآلتي‪:‬‬
‫‪ -‬اعتقاد حرمة الكذب تمنعهم من اإلقدام عليه فيحصل الصدق‪.‬‬
‫‪ -‬الضرورة ملجئة إلى قبول روايته‪.‬‬
‫وقال السخاوي‪ " :‬فاملعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة أي‬
‫إثباتا ونفيا ‪ ،‬فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه ملا يرويه مع ورع وتقوي ‪ ،‬فال مانع من قبوله‬
‫أصال‪".‬‬

‫‪ 1‬الكفاية في علم الرواية ص‪120‬‬


‫‪ 2‬كتاب الثقات ‪ 140/1‬البن حبان‬
‫‪ 3‬الكفاية ص ‪ 120‬للخطيب‬
‫‪ 4‬تدريب الراوي في شرح تقريب النووي ‪ 326/1‬للسيوطي‬
‫‪35‬‬
‫‪ :2‬القائلون برد رواية املبتدعة‬
‫من املعلوم أن علم الرواية قائم على علم الدراية‪ ،‬لذا البد من معرفة أحوال الرجال وصفة من تقبل روايتهم‬
‫ً‬
‫حاسما من البدعة وأهلها‪ ،‬فمنهم من طرد عن مجلسه كل‬ ‫ومن ترد‪ ،‬وقد وقف املحدثون في مجال الرواية ً‬
‫موقفا‬
‫ً‬
‫مبتدع‪ ،‬ورد روايته‪ ،‬قالوا إن رواية أهل البدع كاملرجئ والقدري والخارجي والرافعي وغيرهم ال تقبل مطلقا؛ وذلك‬
‫ألنهم إما كفار أو فساق بما ذهبوا إليه‪ ،‬وكل من الكافر والفاسق مردود الرواية‪ .‬وهذا القول مروي عن اإلمام‬
‫مالك والقاض ي أبي بكر الباقالني واختاره اآلمدي وجزم به ابن الحاجب‪.‬‬
‫وقد سئل مالك عن الرافضة فقال للسائل‪ :‬ال تكلمهم‪ ،‬وال ترد عليهم‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬لم أر أشهد بالزور من الرافضة‪ .‬وقال شريك‪ :‬احمل العلم عن كل من لقيت إال الرافضة"‪.1‬‬
‫قال ابن الصالح‪":‬اختلفوا في قبول رواية املبتدع الذي ال يكفر ببدع فمنهم‪ :‬من رد روايتهم مطلقا ‪ ،‬ألنه فاسق‬
‫ببدعته ‪ ،‬وكما استوى في الكفر املتأول وغير املتأول يستوي في الفسق املتأول وغير املتأول"‪.‬‬
‫قال الذهبي في رواية الرافضة‪« :‬اختلف الناس في االحتجاج برواية الرافضة على ثالثة أقوال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬املنع مطلقا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬الترخيص مطلقا إال فيمن كذب‪.‬‬
‫‪ -‬التفصيل‪ :‬فتقبل رواية الرافض ي الصدوق العارف بما يحدث‪ ،‬وترد رواية الرافض ي الداعية ولو‬
‫‪2‬‬
‫كان صدوقا‪.‬‬
‫‪ :3‬القائلون بالتفصيل‬
‫ذهب جماعة إلى التفصيل في قبول رواية املبتدع ورده‪ ،‬فقالوا إذا كان الراوي داعية إلى بدعته ال يقبل حديثه‬
‫وإذا لم يكن داعية قبلت روايته"‪.‬‬
‫وهذا القول قال به أكثر أهل العلم‪ ،‬ونسب الخطيب هذا القول لإلمام أحمد ورواه بسنده عن ابن مهدي وابن‬
‫املبارك‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫قال الخطيب‪" :‬كثير من العلماء يقبل أخبار غير الدعاة من أهل األهواء"‬
‫‪4‬‬
‫قال النووي‪ :‬هو األظهر واألعدل وقول الكثير أو األكثر‪.‬‬
‫قال ابن حبان فيترجمة جعفر بن سليمان الضبعي ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خالف أن الصدوق املتقن‬
‫إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعوا إليها أن االحتجاج بأخباره جائز‪ ،‬فإذا دعا إلي بدعته سقط االحتجاج بأخباره‪".‬‬

‫‪ 1‬املنتقى للذهبي‪ ،‬ص‪23‬‬


‫‪ /2‬لسان امليزان للحافظ بن حجر ‪. 27 /1‬‬
‫‪/3‬الكفاية للخطيب ص ‪.149‬‬
‫‪ /4‬التقريب للنووي ص‪. 46‬‬
‫‪36‬‬
‫‪1‬‬
‫وقال ابن الصالح‪" :‬وهذا أعدل األقوال وأوالها‪".‬‬
‫وقد جمع خالصة هذه املذاهب كلها الحافظ الذهبي رحمه هللا فقال‪ :‬فإن كان كالمهم من جهة معتقده فهو‬
‫على مراتب‪:‬‬
‫‪ -‬فمنهم من بدعته غليظة‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من بدعته دون ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من هو داعية إلى بدعته‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم الكاف‪ ،‬وما بين ذلك‪.‬‬
‫فمتى جمع الغلظ‪ ،‬والدعوة تجنب األخذ عنه‪ ،‬ومتى جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه‪ ،‬والغلظ كغالة‬
‫الخوارج والجهمية والرافضة والخفة كالتشيع واإلرجاء وأما من استحل الكذب نصرا لرأيه كالخطابية فباألولى رد‬
‫‪2‬‬
‫حديثهم‬
‫استنتاج‬
‫خالصة القول في هذا املوضوع أن املذهب الذي يقول بالتفصيل هو أعدلها وأوالها‪ ،‬واملذهب الذي يقول برد‬
‫رواية املبتدعة من غير تفصيل بعيد ومباعد للشائع عن أئمة الحديث‪ ،‬فإن كتبهم طافحة بالرواية عن املبتدعة‬
‫غير الدعاة‪ ،‬وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد واألصول‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫‪ :4‬ضوابط عامة لقبول رواية املبتدع‬
‫لقد وضع علماء الحديث لقبول رواية املبتدع عدة ضوابط أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬أال تكون بدعة الراوي بدعة مكفرة وكبيرة‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون الراوي أمينا صادق اللهجة ثقة في الحديث عدم مستحل الكذب؛ ألن اعتقاد حرمة الكذب‬
‫تمنعه من اإلقدام عليه فيحصل الصدق‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون الحديث الذي يرويه مما ال يعضد بدعته ويسندها ويزينها حيث ال يؤمن أن يغلبه عليه الهوى في‬
‫روايته فإن عضد بدعته فال يقبل منه‪.‬‬

‫‪ /1‬التقيد وإليضاح ملقدمة بن الصالح ومعه ذيل املصباح ‪ 127‬ملحمد راغب الطباخ‬
‫‪ /2‬املوقظة ص‪ 41‬للحافظ الذهبي طبعة املكتبة اإلسالمية القاهرة‬
‫‪37‬‬
‫املبحث الخامس‪ :‬منهاج املحدثين في دراسة سند الحديث النبوي‬
‫منهاج املحدثين في دراسة السند هو تلك الخطوات املنهجية التي يسلكها املحدث للحكم على األخبار‪،‬‬
‫وفائدتها بالنسبة لطلبتنا هو االطالع على أهم منهج في العلوم اإلنسانية في التدقيق والتمحيص‪ ،‬ثم التدريب‬
‫على التعامل مع األخبار بطريقة حديثية‪ ،‬والتمكن من الصناعة الحديثية‪ ،‬وغايتنا في ذلك اإلسهام في‬
‫صياغة عقلية علمية منهجية تحليلية‪.‬‬
‫‪ -‬كتابة الحديث‪ -‬تخريج الحديث من مظانه ‪ -‬الترجمة للرواة ‪ -‬دراسة أقوال املحدثين في الرواة ‪ -‬دراسة‬
‫صيغ التحمل واألداء ‪ -‬الحكم على سند الحديث ‪ -‬فقه الحديث‬
‫‪ -‬املطلب األول‪ :‬كتابة الحديث‬
‫تعد مرحلة كتابة النص من أصعب املراحل‪ ،‬ألنها نقطة االنطالق‪ ،‬والنص هو املوجه‪ ،‬فال علم بدون‬
‫نص‪ .‬النص هو الكلمة التي تصوغ أفكارنا وتبني سلوكنا‪ ،‬لذلك تحتاج إلى التدقيق والتوثيق والتصحيح‪ .‬فال‬
‫كتابة دون تمكن من اللسان‪ ،‬ودون الوثوق بامللكة اللغوية املكتسبة عن طريق القراءة‪ ،‬والكتابة التنفك عن‬
‫أمانة النقل السليم للكلمات والحروف‪ ،‬وتصحيح النطق والكالم‪ ،‬وعزو النص إلى مصادره دون تحريف‬
‫للكالم عن مواضعه‪.‬‬
‫وتهدف الكتابة في هذه الخطوة إلى التمكن من النص أوال‪ ،‬فالكتابة خطوة في الفهم‪ ،‬ودرجة في الحفظ‪،‬‬
‫وإسهام في كسب العلم ونشره‪ ،‬والنص في هذه الحال سنة متبعة‪ ،‬يبني املرجعية‪ ،‬ويقوم السير‪ ،‬ويهدي إلى‬
‫سواء السبيل‪.‬‬
‫‪ -‬املطلب الثاني‪ :‬تخريج الحديث من مظانه‬
‫تكمن أهمية تخريج الحديث من مظانه في كونها تعطي فرصة للباحث على االطالع على املصنفات الحديثية‬
‫املختلفة‪ ،‬فيوثق الخبر أوال‪ ،‬ويطلع على حجم وروده في السنة ثانيا‪ ،‬ويوسع مداركه العلمية ثالثا‪.‬‬
‫ويجد الباحث بغيته في هذه املرحلة في املصنفات الحديثية املختلفة‪ ،‬سواء املصنفة على األبواب الفقهية‬
‫كاملوطإ‪ ،‬أو املصنفة على طريق املسانيد كمسند الحميدي‪ ،‬أو املعاجم والعلل واألطراف والزوائد وغيرها‪.‬‬
‫يقول الشيخ الطحان رحمة هللا عليه في مصنفه أصول التخريج‪( :‬التخريج لغة‪ :‬اجتماع أمرين متضادين في ش يء‬
‫واحد‪ ،‬ويطلق على معان‪)1(:‬االستنباط (‪ )2‬التدريب (‪ )3‬التوجيه ‪.‬‬
‫ومنه قول املحدثين (هذا حديث عرف مخرجه أي‪ :‬موضع خروجه) ويطلق التخريج عند املحدثين بمعنى إبراز‬
‫الحديث للناس بذكر مخرجه‪ ،‬أي‪ :‬رجال إسناده‪ ،‬ويطلق بمعنى إخراج الحديث من بطون الكتب‪ ،‬ويطلق بمعنى‬
‫الداللة على مصادر الحديث األصلية وهو املشتهر‪.‬‬
‫ً‬
‫اصطالحا‪ :‬الداللة على موضع الحديث في مصادره األصلية التي أخرجته بسنده‪ ،‬ثم بيان مرتبته عند الحاجة‪.‬‬
‫كصحيح البخاري ومسلم‪ ،‬وغيرها من كتب التفسير كالطبري واألم للشافعي‪ ،‬وأما الجامع الصغير‪ ،‬ورياض‬
‫‪38‬‬
‫الصالحين وبلوغ املرام‪ ،‬فال ْ‬
‫يعتبرن من املصادر األصلية‪ ،‬إنما هي لبيان األحكام الفقهية‪ ،‬ولبيان صحة الحديث‬
‫من ضعفه)‪.‬‬
‫وأشهركتب التخريج‪:‬‬
‫‪(-‬تخريج أحاديث املهذب ) ألبي إسحاق الشيرازي ‪ ،‬تصنيف‪ :‬محمد بن موس ى الحازمي ( ‪ 584‬ه)ـ‬
‫‪(-‬تخريج أحاديث املختصر الكبير) البن الحاجب‪ ،‬تصنيف‪ :‬محمد بن أحمد بن عبد الهادي املقدس ي (‪)844‬ه ـ‬
‫‪( -‬نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية ) للمرغيناي ‪ ،‬تصنيف ‪ :‬عبد هللا بن يوسف الزيلعي (‪762‬هـ )‬
‫‪(-‬تخريج أحاديث الكشاف ) للزمخشري ‪ ،‬للحافظ الزيلعي ‪.‬‬
‫‪(-‬البدر املنير لتخريج األحاديث واآلثار الواقعة في الشرح الكبير) للرافعي‪ ،‬تصنيف‪:‬عمر بن امللقن (‪ )804‬ه ـ‬
‫‪(-‬املغنى عن حمل األسفار في األسفار في تخريج مما في األحياء من األخبار) لعبد الرحيم العراقي(‪) 806‬‬
‫كل باب ) للحافظ العراقي ‪.‬‬
‫‪(-‬تخريج األحاديث التي يشير إليها الترمذي في ِ‬
‫‪(-‬التلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح الوجيز الكبير ) للرافعي ‪،‬تصنيف‪ :‬ابن حجر العسقالني(‪)852‬ه ـ‬
‫‪(-‬الدراية في تخريج أحاديث الهداية ) البن حجر العسقالني‪.‬‬
‫‪(-‬تحفة الراوي في تخريج أحاديث البيضاوي) تصنيف‪ :‬عبد الرؤوف بن علي ُ‬
‫املناوي ( ‪ ) 1031‬هــ‪.‬‬
‫ـ أنواع املصنفات في الحديث النبوي‪:‬‬
‫‪ -‬الجوامع‪ :‬الجامع كل كتاب يجمع فيه مؤلفه جميع األبواب من العقائد والعبادات واملعامالت والسير‬
‫واملناقب والرقاق والفتن وأخبار يوم القيامة مثل " الجامع الصحيح للبخاري "‪.‬‬
‫‪ -‬املسانيد‪ :‬املسند كل كتاب جمع فيه مرويات كل صحابي على حدة من غير النظر إلى املوضوع الذي يتعلق‬
‫فيه الحديث‪ :‬مثل " مسند اإلمام أحمد بن حنبل "‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬السنن‪ :‬وهي الكتب املصنفة على أبواب الفقه‪ ،‬لتكون مصدرا للفقهاء في استنباط األحكام‪ ،‬وتختلف عن‬
‫الجوامع بأنها ال يوجد فيها ما يتعلق بالعقائد والسير واملناقب وما إلى ذلك‪ ،‬بل هي مقصورة على أبواب الفقه‬
‫وأحاديث األحكام‪ ،‬مثل "سنن أبي داود"‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬املعاجم‪ :‬املعجم كل كتاب جمع فيه مؤلفه الحديث مرتبا على أسماء شيوخه على ترتيب حروف الهجاء‬
‫ً‬
‫غالبا‪ ،‬مثل " املعاجم الثالثة " الطبراني‪ ،‬وهي املعجم الكبير واألوسط والصغير‪.‬‬
‫‪ -‬العلل‪ :‬كتب العلل هي الكتب املشتملة على األحاديث املعلولة مع بيان عللها‪ ،‬وذلك مثل " العلل البن أبي‬
‫حاتم " و " العلل للدارقطني"‪.‬‬
‫جمع فيه ما يتعلق‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬األجزاء‪ :‬الجزء كل كتاب صغير ج ِمع فيه مرويات راو واحد من رواة الحديث‪ ،‬أو ِ‬
‫بموضوع واحد على سبيل االستقصاء‪ ،‬مثل "جزء رفع اليدين في الصالة " للبخاري‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ -‬األطراف‪ :‬كل كتاب ذكر فيه مصنفه طرف كل حديث الذي يدل على بقيته‪ ،‬ثم يذكر أسانيد كل متن من‬
‫ً‬
‫املتون إما مستوعبا أو مقيدا لها ببعض الكتب‪ ،‬مثل " تحفة األشراف بمعرفة األطراف " للمزي‪.‬‬
‫‪ -‬املستدركات‪ :‬املستدرك كل كتاب جمع فيه مؤلفه األحاديث التي استدركها على كتاب آخر مما فاتته على‬
‫شرطه‪ ،‬مثل " املستدرك على الصحيحين " ألبي عبدهللا الحاكم‪.‬‬
‫‪ -‬املستخرجات‪ :‬املستخرج كل كتاب خرج فيه مؤلفه أحاديث كتاب لغيره من املؤلفين بأسانيد لنفسه من‬
‫غير طريق املؤلف األول‪ ،‬وربما اجتمع معه في شيخه أو من فوقه مثل " املستخرج على الصحيحين " ألبي‬
‫ُ‬
‫ن َع ْيم األصبهاني‪.‬‬
‫‪ -‬املطلب الثالث‪ :‬ترجمة الرواة‬
‫علم التراجم أو علم تراجم الرجال‪ ،‬هو العلم الذي يتناول سير حياة األعالم من الناس عبر العصور‬
‫املختلفة‪ ،‬وهو علم دقيق يبحث في أحوال الشخصيات واألفراد من الناس الذين تركوا آثارا في املجتمع‬
‫ويتناول هذا العلم كافة طبقات الناس من األنبياء والخلفاء وامللوك واألمراء والقادة والعلماء في شتى‬
‫املجاالت والفقهاء واألدباء والشعراء والفالسفة وغيرهم‪ .‬ويهتم بذكر حياتهم الشخصية‪ ،‬ومواقفهم وأثرهم‬
‫في الحياة وتأثيرهم ويعتبر علم التراجم عموما فرعا من فروع علم التاريخ‪.‬‬
‫اهتم املسلمون بعلم التراجم اهتماما كبيرا‪ ،‬وقد بدأت العناية بهذا العلم عندهم بعد عهد الرسول محمد‬
‫بن عبد هللا بزمن يسير‪ ،‬حيث حرص العلماء على حماية وصيانة املصدر الثاني من مصادر التشريع في اإلسالم‪،‬‬
‫وهو الحديث النبوي ‪ ،‬حرصوا على صيانته من الكذب والتزوير والغش والتلفيق والدس‪ .‬فنشأ هذا العلم‬
‫كقاعدة في تلقي األخبار عن الناس وباألخص فيما يتعلق بالحديث النبوي أوال ومن ثم اآلثار املروية‬
‫عن الصحابة والتابعين وباقي طبقات العلماء خصوصا والناس عموما‪.‬‬
‫وجاءت عبارات األئمة في بيان أهمية معرفة الرواة صريحة وواضحة‪ ،‬وكان من األهمية بمكان البحث في نواح‬
‫ُ‬
‫تفصيلية من حياة الراوي‪ ،‬ونواح استنتاجية (تستنتج من حديثه وطريقته في التحديث)‪ .‬ومن مباحث هذا العلم‪:‬‬
‫معرفة تاريخ ميالد الراوي‪ ،‬وتاريخ طلبه للعلم‪ ،‬وممن سمع في ِس ِن ِي طلبه العلم‪ ،‬ومن هم الشيوخ الذين يحدث‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عنهم (من منهم حدث عنه سماعا‪ ،‬ومن دلس عنه شيئا من الحديث‪ ،‬أو أرسل عنه)‪ ،‬وما مدة مالزمته لكل شيخ‬
‫من شيوخه‪ ،‬وكيف كان ذاك‪ ،‬وكم سمع منه من األحاديث واآلثار‪ ،‬وكم روى عنه بعد ذلك؛ وهل في شيوخه كثير‬
‫من الضعفاء واملجاهيل؟ ورحالته العلمية وما سمع بها من الحديث‪ ،‬أو ما حدث به؛ ومتى حدث‪ ،‬وكيف كان‬
‫ٌ‬
‫سماع أم عرض؛ ومن املستملون والوراقون الذين استخدمهم؟)‪ ،‬وكيف كان‬ ‫يحدث؟ (من حفظه‪ ،‬أم من كتابه؛‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫إقبال الناس عليه‪ ،‬وكم كان عدد الحاضرين عنده؟ وما هي األوهام التي وقع فيها‪َّ ،‬‬
‫والسقطات التي أخذت عليه؟‬

‫‪40‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ثم أخالق الراوي وعبادته ومهنته؛ وهل كان يأخذ أجرا على التحديث؟ وهل كان ِ‬
‫عسرا في التحديث‪ ،‬أم سمحا‬
‫ً‬
‫بعلمه‪ ،‬أم متساهال‪ ...‬؟‪.1‬‬
‫وقد اهتم علماؤنا رحمة هللا تعالى عليهم بخدمة هذا العلم والتمييز بين الثقات والضعفاء‪ ،‬ففي‬
‫الضعفاء ليحيى بن معين وأبي زرعة الرازي وللبخاري في كبير وصغير ‪ ،‬والنسائي وأبي حفص الفالس ‪ ،‬وألبي أحمد‬
‫بن عدي في كامله ‪ ،‬وهو أكمل الكتب املصنفة قبله وأجلها ‪ ،‬ولكنه توسع لذكر كل من تكلم فيه وإن كان ثقة‬
‫;ولذا ال يحسن أن يقال ‪ :‬الكامل ‪ .‬للناقصين ‪ ،‬وذيل عليه أبو الفضل ابن طاهر في تكملة الكامل ‪ ،‬وألبي جعفر‬
‫العقيلي وهو مفيد ‪ ،‬وأبي حاتم بن حبان وأبي الحسن الدارقطني وأبي زكريا الساجي ‪،‬وأبي عبد هللا الحاكم وأبي‬
‫الفتح األزدي وأبي علي بن السكن وأبي الفرج بن الجوزي ‪ ،‬واختصره الذهبي ‪ ،‬بل وذيل عليه في تصنيفين وجمع‬
‫معظمهما في ميزانه فجاء كتابا نفيسا عليه معول من جاء بعده ‪ ،‬مع أنه تبع ابن عدي في إيراد كل من تكلم فيه‬
‫ولو كان ثقة ‪ ،‬ولكنه التزم أن ال يذكر أحدا من الصحابة وال األئمة املتبوعين ‪ ،‬وقد ذيل عليه املصنف في مجلد ‪،‬‬
‫والتقط شيخنا منه من ليس في تهذيب الكمال وضم إليه ما فاته من الرواة والتتمات ‪ ،‬مع انتقاد وتحقيق في‬
‫كتاب سماه ( لسان امليزان ) مما كتبته وأخذته عنه وعم النفع به‪ ،‬بل له كتابان آخران هما ( تقويم اللسان) و (‬
‫تحرير امليزان )‪.‬‬
‫كما أن للذهبي في الضعفاء مختصرا سماه (املغني)‪ ،‬وآخر سماه (الضعفاء واملتروكين)‪ ،‬وذيل عليه والتقط‬
‫بعضهم من الضعفاء الوضاعين فقط‪ ،‬وبعضهم املدلسين كما مض ى في بابيهما‪ ،‬وبعضهم املختلطين كما سيأتي‬
‫بعد ‪.‬‬
‫وفي الثقات ألبي حاتم بن حبان وهو أحفلها‪ ،‬لكنه يدرج فيهم من زالت جهالة عينه‪ ،‬بل ومن لم يرو عنه إال‬
‫واحد‪ ،‬ولم يظهر فيه جرح كما سلف في الصحيح الزائد على الصحيحين‪ ،‬وفي مجهول العين أيضا‪ ،‬وذلك غير‬
‫كاف في التوثيق عند الجمهور‪ ،‬وربما يذكر فيهم من أدخله في الضعفاء ; إما سهوا أو غير ذلك‬
‫ونحوه تخريج الحاكم في مستدركه لجماعة ‪ ،‬وحكمه على األسانيد الذين هم فيها بالصحة ‪ ،‬مع ذكر إياهم في‬
‫كتابه في ( الضعفاء ) ‪ ،‬وقطع بترك الرواية عنهم واملنع من االحتجاج بهم ; ألنه ثبت عنده جرحهم ‪ ،‬وللعجلي وابن‬
‫شاهين ‪ ،‬وأبي العرب التميمي ‪ ،‬ومن املتأخرين الشمس محمد بن أيبك السروجي لكنه لم يكمل ‪ ،‬وجد‬
‫منه األحمدون فقط في مجلد‪ ،‬وأفرد شيخنا الثقات ممن ليس في التهذيب وما كمل أيضا‪ ،‬وللذهبي معرفة الرواة‬
‫املتكلم فيهم بما ال يوجب الرد إلى غيرها من الكتب املشتملة على الثقات والضعفاء جميعا ; كتاريخ أبي بكر بن‬
‫أبي خيثمة ‪ ،‬وهو كثير الفوائد‪ ،‬و(الطبقات) البن سعد‪ ،‬و(التمييز) للنسائي وغيرها مما ذكر بعضه في آداب‬
‫الطالب‪ ،‬وللعماد ابن كثير التكميل في معرفة الثقات والضعفاء واملجاهيل)‪ ،‬جمع فيه بين‬

‫‪ -1‬علم طبقات املحثين ألسعد تيم ‪،‬ص ‪35‬‬


‫‪41‬‬
‫تهذيب املزي وميزان الذهبي مع زيادات وقال‪ :‬إنه من أنفع ش يء للفقيه البارع ‪ ،‬وكذا املحدث‪ ،‬فهذه مظان الثقات‬
‫والضعفاء غالبا ‪ ،‬ومن مظان الثقات التصانيف في الصحيح بعد الشيخين‪ ،‬وكذا من خرج على كتابيهما ; فإنه‬
‫يستفاد منها الكثير مما لم يذكر في الكتب املشار إليها ‪ ،‬وربما يستفاد مما يوجد في بعض األسانيد توثيق بعض‬
‫الرواة ; كأن يقول الراوي املعتمد ‪ :‬حدثني فالن وكان ثقة ‪ .‬يعني وما أشبهه‪ ،‬أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد ‪.1‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬دراسة أقوال املحدثين في الرواة‬
‫من األمور التي توجب اإلمعان والتحري في أحوال الرواة‪ ،‬وعدم املسارعة إلى تصحيح حديثهم أو تحسينه أو‬
‫تضعيفه‪ ،‬ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬قد يوصف الثقة بأنه يغرب أو يهم‪ ،‬أو يخطىء في أحاديث أو ال يتابع على بعض حديثه‪2.‬‬
‫‪ -‬قد يحتج بالراوي في جانب من جوانب العلم دون اآلخر كاالحتجاج به في املغازي أو القراءات ونحوها دون‬
‫الحديث‪.‬‬
‫قال ابن معين في زياد بن عبدهللا البكائي‪" :‬ال بأس به في املغازي‪ ،‬وأما في غيره فال‪".‬‬
‫وقال صالح جزرة‪" :‬هو على ضعفه أثبتهم في املغازي‪"3.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ربما وصفوا الراوي بأنه ثقة لكنه يرسل أو أرسل عن فالن وفالن‪ ،‬فحديثه عنهما ليس متصال‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬قد يطلقون املنكر على الحديث الفرد‪ ،‬ولو كان راويه مقبوال‪ ،‬وهذا اصطالح لبعض املتقدمين من املحدثين‬
‫كأحمد والنسائي‪ ،‬وعليه بعض املتأخرين عنهم كالبرديجي (م‪301‬هـ)‪،4‬فليس كل حديث يقال فيه‪ :‬منكر‪ ،‬يعد‬
‫ً‬
‫مردودا حتى يعلم اصطالح من وصفه بذلك‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬إذا وجدت في ترجمة الراوي ((وثقه فالن)) أو ((ضعفه فالن)) أو ((كذبه فالن)) فلتبحث عن عبارته فقد‬
‫ً‬
‫تكون نقلت عنه باملعنى‪ ،‬ولم يذكر ذلك في الراوي نصا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬تراجع لذلك عدة كتب فإن وجدت اختالفا بينها بحثت عن العبارة األصلية‪.‬‬
‫‪ -‬ينبغي تأمل عبارة املزكي ومخارجها‪ ،‬ومناسبة ذكرها‪ ،‬فربما سئل املحدث عن رجل فيحكم عليه بحسب ما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عرف من مجموع حاله‪ ،‬ثم يسمع له حديثا فيحكم عليه حكما مناسبا لحاله في ذلك الحديث‪ ،‬ثم يسمع له‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حديثا فيعطيه حكما آخر‪.‬‬
‫‪ -‬ربما يجرح أحدهم الراوي لحديث واحد يستنكر له‪.‬‬

‫‪1‬فتح املغيث لإلمام السخاوي ص ‪350 ،349‬‬


‫‪ -2‬الكاشف للذهبي ‪327-1‬‬
‫‪ -3‬الضعفاء للعقيلي ‪270-1‬‬
‫‪ -4‬فتح الباري ‪134 -12‬‬
‫‪42‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال بد من التوثق والبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطالحه مستعينا على ذلك بتتبع‬
‫كالمه في الرواة‪ ،‬واختالف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كالمه بكالم غيره‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد اختلف كالم ابن معين مثال في جماعة يوثق أحدهم تارة‪ ،‬ويضعفه أخرى‪ ،‬وهذا يشعر بأنه ربما كان يطلق‬
‫كلمة ((ثقة)) ال يريد بها أكثر من أن الراوي ال يتعمد الكذب‪ ،‬وقد يطلق كلمة ((ليس بثقة)) على معنى أن الراوي‬
‫ً‬
‫ليس بحيث يقال فيه ثقة على املعنى املشهور لكلمة ثقة‪ .1‬وقد ُيجرح الراوي بما ال يعد جارحا على التحقيق‪.‬‬
‫يقول اإلمام السخاوي رحمة هللا تعالى عليه‪ ( :‬واحذر ) أيها املتصدي لذلك ‪ ،‬املقتفي فيه أثر من تقدم ( من‬
‫غرض ) أو هوى يحملك كل منهما على التحامل واالنحراف وترك اإلنصاف أو اإلطراء واالفتراء ‪ ،‬فذلك شر األمور‬
‫التي تدخل على القائم بذلك اآلفة منها ‪ ،‬واملتقدمون ساملون منه غالبا منزهون عنه ; لوفور ديانتهم ‪ ،‬بخالف‬
‫املتأخرين فإنه ربما يقع ذلك في تواريخهم ‪ ،‬وهو مجانب ألهل الدين وطرائقهم ‪.‬‬
‫(فالجرح) والتعديل خطر‪ ،‬ألنك إن عدلت بغير تثبت كنت كاملثبت حكما ليس بثابت‪ ،‬فيخش ى عليك أن تدخل في‬
‫زمرة من روى حديثا وهو يظن أنه كذب‪ ،‬وإن جرحت بغير تحرز أقدمت على الطعن في مسلم بريء من ذلك‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫ووسمته بميسم سوء يبقى عليه عاره أبدا‪.‬‬
‫املطلب الخامس‪ :‬دراسة صيغ التحمل واألداء‬
‫طرق تحمل الحديث ثمانية‪ :‬السماع من لفظ الشيخ‪ ،‬القراءة على الشيخ‪ ،‬اإلجازة‪ ،‬املناولة‪ ،‬الكتابة‪،‬‬
‫اإلعالم‪ ،‬الوصية‪ ،‬الوجادة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ السماع من لفظ الشيخ ‪:‬‬
‫هو أعلى أقسام التحمل‪ ،‬وصورته أن يقرأ الشيخ‪ ،‬ويسمع الطالب‪ ،‬سواء قرأ الشيخ من حفظه أو كتابه‪،‬‬
‫وسواء سمع الطالب وكتب ما سمعه‪ ،‬أو سمع فقط ولم يكتب ‪.‬‬
‫والراوي يؤدي ما سمعه بلفظ "سمعت أو حدثني أو أخبرني أو أنبأني أو قال لي أو ذكر لي"‪ ،‬واستقر عند‬
‫املتأخرين‪ :‬للسماع‪ :‬سمعت ـ أو حدثني‪ ،‬وللقراءة‪ :‬أخبرني‪ ،‬ولإلجازة‪ :‬أنبأني‪ ،‬ولسماع املذاكرة‪ :‬قال لي ـ أو ذكر‬
‫لي‪.‬‬
‫‪ -2‬القراءة على الشيخ ‪:‬‬
‫ً‬
‫ويسميها أكثر املحدثين " َع ْرضا "‪ ،‬وصورتها‪ :‬أن يقرأ الطالب والشيخ يسمع‪ ،‬سواء قرأ الطالب‪ ،‬أو قرأ غيره‬
‫َ‬
‫وهو يسمع‪ ،‬وسواء كانت القراءة من حفظ أو من كتاب‪ ،‬وسواء كان الشيخ ُيت ِب ُع للقارئ من حفظه أو‬
‫أمسك كتابه هو ‪ ،‬أو ثقة غيره ‪.‬‬

‫‪ -1‬التنكيل ص ‪75-67‬‬
‫‪ -2‬فتح املغيث ص ‪351‬‬
‫‪43‬‬
‫والراوية بطريق القراءة على الشيخ رواية صحيحة بال خالف في جميع الصور املذكورة إال ما حكي عن بعض‬
‫من ال يعتد به من املتشددين‪ ،‬واختلفوا في رتبتها على ثالثة أقوال‪.‬‬
‫‪ -‬مساوية للسماع‪ :‬روي عن مالك والبخاري‪ ،‬ومعظم علماء الحجاز والكوفة‪.‬‬
‫أدني من السماع‪ :‬روي عن جمهور أهل املشرق " وهو الصحيح "‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬أعلى من السماع‪ :‬روي عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب‪ ،‬ورواية عن مالك‪.‬‬
‫واألحوط في األداء أن يقول‪ " :‬قرأت على فالن " أو " قرئ عليه وأنا أسمع َّ‬
‫فأقر به"‪ ،‬ويجوز‪ :‬بعبارات السماع‬
‫مقيدة بلفظ القراءة كـ " حدثنا قراءة عليه "‪ ،‬والشائع الذي عليه كثير من املحدثين‪ :‬إطالق لفظ " أخبرنا "‬
‫فقط دون غيرها‪.‬‬
‫‪ -3‬اإلجازة‪:‬‬
‫اإلذن بالرواية لفظا أو كتابة‪ ،‬وصورتها أن يقول الشيخ ألحد طالبه‪ ":‬أجزت لك أن تروي عني صحيح‬
‫البخاري’’‪ ،‬وهي أنواع‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يجيز الشيخ معينا ملعين‪ :‬كأجزتك صحيح البخاري ‪ ،‬وهذا النوع أعلى أنواع اإلجازة املجردة عن املناولة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يجيز معينا بغير معين ‪ :‬كأجزتك رواية مسموعاتي ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يجيز غير معين بغير معين ‪ :‬كأجزتك أهل زماني رواية مسموعاتي ‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يجيز بمجهول أو ملجهول‪ :‬كأجزتك كتاب السنن ‪ ،‬وهو يروي عددا من السنن ‪ ،‬أو أجزت ملحمد بن‬
‫خالد الدمشقي ‪ ،‬وهناك جماعة مشتركون في هذا االسم‪.‬‬
‫َ ً‬
‫للم ْعدوم ‪ :‬فإما أن تكون ت َبعا ملوجود ‪ ،‬كأجزت لفالن ولم يولد له ‪ ،‬وإما أن تكون ملعدوم استقالال‬
‫‪ -5‬اإلجازة َ‬
‫‪ ،‬كأجزت ملن يولد لفالن ‪.‬‬
‫والصحيح الذي عليه الجمهور واستقر عليه العمل جواز الراوية والعمل بالنوع األول‪ ،‬وأبطلها جماعات‬
‫من العلماء‪ ،‬وهو أحدي الروايتين عن الشافعي‪.‬‬
‫وأما بقية األنواع فالخالف في جوازها أشد وأكثر‪ ،‬وعلى كل حال فالتحمل والرواية بهذا الطريق ( أي اإلجازة )‬
‫تحمل هزيل ما ينبغي التساهل فيه‪.‬‬
‫ويقال في األداء‪ " :‬أجاز لي فالن "‪ ،‬ويجوز‪ :‬بعبارات السماع والقراءة مقيدة مثل " حدثنا إجازة " أو " أخبرنا‬
‫إجازة "‪ ،‬واشتهر عن املتأخرين‪ " :‬أنبأنا " واختاره صاحب كتاب " الوجازة "‪.‬‬
‫‪ -4‬املناولة‪:‬‬
‫ً‬
‫املناولة نوعان‪ :‬مقرونة باإلجازة‪ ،‬وهي أعلي أنواع اإلجازة مطلقا‪ .‬ومن صورها أن يدفع الشيخ إلى الطالب‬
‫ً‬
‫كتابه ويقول له‪ :‬هذا روايتي عن فالن فاروه عني‪ ،‬ثم يبقيه معه تمليكا أو إعارة لينسخه‪ .‬ومجردة عن اإلجازة‪:‬‬
‫وصورتها أن يدفع الشيخ إلى الطالب كتابه مقتصرا على قوله هذا سماعي‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫واملحدثون على جواز الرواية باملناولة املقرونة باإلجازة‪ ،‬وهي أدني مرتبة من السماع والقراءة على الشيخ‪.‬‬
‫وأما املجردة عن اإلجازة‪ :‬فال تجوز الرواية بها على الصحيح‪.‬‬
‫واألفضل أن يقال في األداء "ناولني" أو " ناولني " وأجاز لي " إن كانت املناولة مقرونة باإلجازة‪ ،‬ويجوز بعبارات‬
‫السماع والقراءة مقيدة مثل " حدثنا مناولة " أو " أخبرنا مناولة وإجازة"‪.‬‬
‫‪ -5‬الكتابة‪:‬‬
‫وصورتها أن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر أو غائب بخطه أو أمره‪ ،‬وهي نوعان‪ :‬مقرونة باإلجازة كأجزتك ما‬
‫كتبت لك أو إليك ونحو ذلك‪ ،‬والرواية بها صحيحة ‪ ،‬وهي في الصحة والقوة كاملناولة املقرونة‪.‬ومجردة عن‬
‫اإلجازة كأن يكتب له بعض األحاديث ويرسلها له ‪ ،‬وال يجيزه بروايتها‪ .‬ومنع الرواية بها قوم ‪ ،‬وأجازها آخرون ‪،‬‬
‫والصحيح الجواز عند أهل الحديث إلشهارها بمعني اإلجازة‪ ،‬ويصرح في األداء بلفظ الكتابة‪ :‬كقولك" كتب‬
‫إلي فالن ” أو حدثني فالن أو اخبرني كتابة‬
‫‪ -6‬اإلعـ ـ ـ ـ ــالم‪:‬‬
‫وصورته أن يخبر الشيخ الطالب أن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه‪ ،‬وكثير من أصحاب الحديث‬
‫والفقه واألصول على الجواز‪ ،‬وقال قوم بعدم الجواز ألنه قد يعلم الشيخ أن هذا الحديث روايته لكن ال‬
‫تجوز روايته لخلل فيه‪ ،‬ولو أجازه بروايته جازت روايته‪ .‬ويؤدى فيها بلفظ" أعلمني شيخي بكذا "‬
‫‪ -7‬الوص ـ ــية‪:‬‬
‫وصورتها أن يوص ي الشيخ عند موته أو سفره لشخص بكتاب من كتبه التي يرويها‪ .‬أجاز الرواية بها بعض‬
‫السلف‪ ،‬والصواب عدم الجواز‪ .‬ويقال في األداء "أوص ى إلي فالن بكذا " أو " حدثني فالن وصية "‪.‬‬
‫‪ -8‬الوج ـ ـ ـ ــادة‪:‬‬
‫وصورتها أن يجد الطالب أحاديث بخط شيخ يرويها‪ ،‬يعرفه الطالب‪ ،‬وليس له سماع منه وال إجازة‪ .‬والرواية‬
‫بالوجادة من باب باملنقطع‪ ،‬لكن فيها نوع اتصال‪ ،‬ويقال فيها " وجدت بخط فالن أو قرأت بخط فالن كذا "‬
‫ثم يسوق اإلسناد واملتن‪.‬‬
‫املطلب السادس‪ :‬الحكم على سند الحديث‬
‫التصحيح والتضعيف نوع من االجتهاد قائم على البحث والنظر‪ ،‬واستقصاء أقوال األئمة‪ ،‬والتوفيق بين‬
‫املتعارض منها وترجيح الراجح‪ ،‬ومعرفة املتابعات والشواهد‪ ،‬والنظر في العلل وغير ذلك‪.‬‬
‫ومثل هذا يجب أن يكون من يتصدى له على جانب من العلم واملعرفة واالطالع على أنواع من العلوم‪ ،‬كقواعد‬
‫الجرح والتعديل وما يتعلق بذلك‪ ،‬ومعرفة أحوال الرواة‪ ،‬واصطالحات املحدثين‪ ،‬وألفاظهم‪ ،‬ومسالكهم في الحكم‬
‫على الرواة واألحاديث‪ ،‬والعلم بطرق التخريج‪ ،‬ودراسة األسانيد‪ ،‬وكيفية النظر في العلل مع اإلملام بأصول الفقه‬
‫وخاصة ما يتعلق بالتعارض والترجيح ونحوه‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫وخالل هذه املرحلة يجب حسن استثمار ثالث معطيات‪:‬‬
‫‪ -‬أوال‪ :‬معطيات التخريج‪ ،‬فهي تمكننا من معرفة حجم ورود الحديث‪ ،‬ومدى قوته وانتشاره في مصنفات‬
‫املحدثين‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ :‬معطيات تراجم الرواة‪ ،‬وهي تعيننا على التوصل إلى اكتشاف عدالة وضبط الرواة‪ ،‬ولذلك اليجب‬
‫إغفال أي معطى في التعديل أو التجريح‪ ،‬وال تقديمه بصيغة إنشائية‪ ،‬بل تحليله ومناقشته في ضوء ما‬
‫درسته من قواعد الجرح والتعديل‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا‪ :‬معطيات الكتابة‪ ،‬أي من حيث النظر إلى صيغ التحديث واألداء‪ ،‬فهي مؤثرة في الحكم‪ ،‬أي من‬
‫حيث االتصال واالنقطاع‪ ،‬مع شرح النتائج في ضوء ما درسته من نصوص ابن الصالح‪ ،‬ونسبة كل‬
‫صيغة في األداء إلى أمها في التحمل‪ ،‬وبيان الشروط في العنعنة واألنأنة وغيرهما‪.‬‬
‫املطلب السابع‪ :‬فقه الحديث‬
‫إذا كانت معرفة الرجال نصف العلم فإن التفقه في معانيه نصفه اآلخر كما يقول علي بن املديني‪،‬‬
‫وتفتتح هذه الخطوة بشرح مبسط للحديث استفادة من بعض الشروح املعتبرة‪ ،‬ثم بعد ذلك استنباط‬
‫األحكام وتخريج القواعد املتضمنة وشحها شرحا مختصرا‪ ،‬يظهر قدرة الشارح على الفهم‪ ،‬وتمكنه من‬
‫معطيات النص‪.‬‬
‫قال أمير املحدثين وسيد الفقهاء اإلمام البخاري رحمه هللا‪" :‬فعليك بالفقه الذي ُيمكنك تعلمه وأنت في‬
‫قار ساكن‪ ،‬ال تحتاج إلى بعد األسفار ووطء الديار‪ ،‬وركوب البحار‪ ،‬وهو مع ذا ثمرة الحديث‪ .‬وليس‬ ‫بيتك ٌّ‬
‫‪1‬‬
‫ثواب الفقيه بدون ثواب املحدث في اآلخرة‪ ،‬وال عزه بأقل من ِعز املحدث"‪.‬‬

‫‪ -1‬اإلملاع للقاض ي عياض‪ ،‬ص ‪34‬‬


‫‪46‬‬
‫ّ‬
‫املبحث السادس‪ :‬عدالة الصحابة رض ي هللا عنهم ومنهجهم في التوثق من الحديث ورو ايته‬
‫من املعلوم مكانة الصحابة رض ي هللا عنهم وقدرهم في العلم والعمل‪ ،‬فقد عاصروا النبي ‪ ،‬وأخذوا عنه بال‬
‫ً‬
‫واسطة‪ ،‬وفهموا كثيرا من القضايا الهامة في التشريع اإلسالمي‪ ،‬ويرجع لهم الفضل بعد هللا تعالى في حفظ السنة‪،‬‬
‫ولوالهم لضاعت كثير من القضايا الشرعية التي ورد بها نصوص كثيرة ال تعلم إال من نقل الصحابة‪ ،‬كما أنهم‬
‫من اآلخرين‪ ،‬وكذا التأكد من‬ ‫رضوان هللا عليهم فهموا أنه البد من التثبت الشديد في قبول ما يضاف إليه‬
‫صحته قبل أن يحدثوا به عن النبي ‪ ،‬ولذلك تجلت لنا صورة من التثبت القائم على أسس متينة كانت النواة‬
‫األولى ملا يسمى باملنهج العلمي في قبول رواية األخبار‪ ،‬فقد اجتمع فيهم من دوافع نشر السنة وتعليمها ومن أسباب‬
‫التوثق والتورع ما جعلهم يقومون بأداء األمانة خير أداء من غير زيادة وال نقصان‪ ،‬ويكفيهم فخرا رضوان هللا تعالى‬
‫وه ْم بإ ْح َسان َرض َي َّ ُ‬
‫َّللا َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬ ‫ين َّات َب ُع ُ‬‫صار َو َّالذ َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫األ ْن َ‬ ‫َ َّ ُ َن ْ َ َّ ُ َن َ ْ ُ‬
‫امل َ‬
‫ضوا‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ين‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫اج‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫عنهم‪ ،‬قال عز وجل‪( :‬والس ِابقو األولو ِمن‬
‫َ‬
‫ين ف َيها أ َب ًدا َذل َك ْال َف ْو ُز ْال َعظ ُ‬ ‫َ ْ ُ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ‬
‫األ ْن َه ُار َخالد َ‬
‫يم)(التوبة‪،‬آ‪.)100:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ات تج ِري تحتها‬
‫عنه وأعد لهم جن ٍ‬
‫الصحابي لغة واصطالحا‪.‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬تعريف ّ‬

‫أ‪ّ :‬‬
‫الصحابي لغة‪.‬‬
‫مصدر صحب فهو صاحب‪ ،‬والصحبة‪ :‬املعاشرة واملالزمة‪ ،‬ويطلق على من حصل له مجالسة ورؤية‪.‬‬
‫ُ ً‬ ‫ً‬
‫وص ْح َبة‪ :‬عاشره‪ .‬وهم‪ :‬أصحاب وأصاحيب‬ ‫‪ -‬جاء في القاموس املحيط‪":‬صحبه كسمعه صحابة ويكسر‬
‫‪1‬‬
‫الصحبة والزمه‪".‬‬ ‫واس َت ْ‬
‫ص َح َب ُه‪ :‬دعاه إلى ُّ‬ ‫وص ْحب‪ْ ،‬‬ ‫حابة َ‬ ‫حابة وص َ‬ ‫وص ْحبان وصحاب َ‬
‫وص َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫والص ْحب جمع‬‫َّ‬ ‫ص ْحبة بالضم‪َ ،‬‬ ‫ص َح ُبه ُ‬
‫"صح َبه َي ْ‬ ‫َ‬
‫وصحابة بالفتح‪ ،‬وصاحبه عاشره‪،‬‬ ‫‪ -‬وقال ابن منظور‪ِ :‬‬
‫واس َت ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ص َح َب الرجل دعاه ِإلى‬ ‫وص ْحبان‪.‬قال‪ْ :‬‬ ‫صاحيب ُ‬
‫ُ‬ ‫الصاحب ‪...‬قال‪:‬والصاحب املعاشر‪...‬والجمع أصحاب وأ‬
‫ً‬
‫‪2‬‬
‫الص ْحبة‪ ،‬وكل ما الزم شيئا فقد استصحبه‪".‬‬ ‫ُّ‬
‫‪ -‬وفي املصباح املنير"واألصل في هذا اإلطالق ملن حصل له رؤية ومجالسة‪ ،‬ووراء ذلك شروط لألصوليين‪،‬‬
‫اب الشافعي‪َ ،‬وأ ْ‬
‫ص َح ُ‬
‫اب أبي حنيفة‪ ،‬وكل‬ ‫ويطلق مجازا على من تمذهب بمذهب من مذاهب األئمة‪ ،‬فيقال‪َ :‬أ ْ‬
‫ص َح ُ‬
‫ٍ‬
‫ْ َ ْ َ َ ُ ‪3‬‬
‫ش يء الزم شيئا فقد استصحبه‪".‬‬
‫ً‬ ‫ب‪ّ :‬‬
‫الصحابي اصطالحا‪.‬‬
‫اختلفت عبارات املحدثين واألصوليين في تعريف الصحابي على مذاهب ثالثة‪:‬‬

‫‪ 1‬القاموس املحيط ملجد الدين الفيروز آبادي ‪ ،‬مادة (ص ح ب) (‪ ،)104/1‬ت‪ :‬مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف‪ :‬محمد نعيم‬
‫ُ‬
‫العرقسوس ي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت (ط‪1426/8 :‬هـ ‪ 2005‬م)‪.‬‬
‫‪ 2‬لسان العرب ملحمد بن مكرم ابن منظور‪ ،‬مادة (ص ح ب) (‪ ،)519/1‬د‪ :‬صادر بيروت‪( ،‬ط‪ 1414 /3:‬هـ)‬
‫‪ 3‬املصباح املنير في غريب الشرح الكبير للفيومي‪ ،‬مادة‪( :‬ص ح ب) (‪ )333/1‬املكتبة العلمية‪ ،‬بيروت (ط‪)1987 :‬‬
‫‪47‬‬
‫وصحبه ولو ساعة‪ ،‬سواء روى عنه أو لم يرو عنه‪،‬‬ ‫‪ -‬املذهب األول‪ :‬يرى أن الصحابي هو من رأى النبي‬
‫وسواء اختص به اختصاص املصحوب أو لم يختص‪ ،‬وهذه بعض أقوال أهل العلم في ذلك‪:‬‬
‫‪ ،‬أو رآه من املسلمين فهو من أصحابه‪ 1".‬قال ابن حجر‬ ‫عرفه البخاري فقال‪":‬ومن صحب النبي‬
‫معلقا‪":‬وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح‪...‬والذي جزم به البخاري هو قول أحمد وجمهور املحدثين‪ 2".‬وأكد‬
‫مؤمنا به‪ ،‬ومات على‬ ‫ذلك في اإلصابة بقوله‪":‬وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي‪ :‬من لقي النبي‬
‫اإلسالم‪ ،‬فيدخل فيمن لقيه‪:‬من طالت مجالسته أو قصرت‪ ،‬ومن روى عنه أو لم يرو‪ ،‬ومن غزا معه أو لم يغز‪،‬‬
‫ومن رآه رؤية ولم يجالسه‪ ،‬ومن لم يره لعارض كالعمى‪ 3".‬ووافقه على ذلك بعض األصوليين كاإلمام ابن‬
‫‪6‬‬
‫حزم‪4،‬واآلمدي‪ 5،‬وابن قدامة‪.‬‬
‫‪ -‬املذهب الثاني‪ :‬يعتبر أن الصحابي هو من رأى النبي ‪ ،‬واختص به اختصاص املصحوب متبعا إياه مدة‬
‫‪7‬‬
‫يثبت بها إطالق صاحب فالن عليه عرفا بال تحديد ملقدار تلك الصحبة‪ ،‬وهو اختيار جمهور األصوليين‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬املذهب الثالث‪ :‬يعتبر أن الصحابي هو من صحب النبي سنة أو سنتين‪ ،‬أو غزا معه غزوة أو غزوتين‪ ،‬وهو‬
‫‪11‬‬
‫قول سعيد بن املسيب نسبه إليه العراقي‪ 8،‬وابن حجر‪ 9،‬والطوفي‪10،‬والشوكاني‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول العراقي في ألفيته‪:‬‬
‫ً‬
‫رائي النبي مسلما ذو صحبة *** وقيل‪ :‬إن طالت ولم يـثبت‬
‫‪12‬‬ ‫ً‬
‫وقيل‪ :‬من أقام عاما أو غ ـ ـزا *** معه وذا البن املسيب عزا‬
‫واإلمام مالك رحمه هللا يأخذ بتعريف املحدثين حسب ما نقله عنه ابن تيمية في الفتاوى‪":‬وقال مالك‪ :‬من‬
‫صحب رسول هللا سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه‪ ،‬له من الصحبة بقدر ذلك‪ ،‬وذلك أن‬

‫(‪ )2/5‬ت د مصطفى ديب البغا‪ ،‬د‪ :‬ابن كثير اليمامة‪،‬‬ ‫‪ ،‬باب فضائل أصحاب النبي‬ ‫‪ 1‬الجامع الصحيح لإلمام البخاري‪،‬كتاب أصحاب النبي‬
‫ط‪.1987/3:‬‬
‫‪ 2‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬البن حجر العسقالني (‪ )5/7‬ت‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬د املعرفة بيروت‪ ،‬ط س‪1379 :‬هـ‬
‫‪ 3‬اإلصابة في تمييز الصحابة البن حجر العسقالني (‪ )158/1‬د‪ :‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.1995/1:‬‬
‫‪ 4‬اإلحكام في أصول األحكام البن حزم القرطبي (‪ )89/2‬ت‪:‬الشيخ أحمد محمد شاكر‪ ،‬د‪ :‬اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ 5‬اإلحكام في أصول األحكام لآلمدي (‪ )113-112/1‬ت‪ :‬سيد الجميلي‪ ،‬د‪ :‬الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪( ،‬ط‪.)1404/1:‬‬
‫‪ 6‬روضة الناظر وجنة املناظر البن قدامة املقدس ي (‪ )119/1‬ت‪:‬د عبد العزيز عبد الرحمن السعيد‪ ،‬جامعة اإلمام محمد بن سعود الرياض‪،‬‬
‫ط‪1399/2:‬هـ‪.‬‬
‫‪ 7‬املستصفى من علم األصول ألبي حامد الغزالي (‪ )309/1‬ت‪:‬محمد األشقر‪ ،‬مؤسسة الرسالة بيروت‪ ،‬ط‪1417/2:‬هـ ‪1997‬م ‪ -‬فواتح الرحموت بشرح‬
‫مسلم الثبوت للكنوي (‪ )196/2‬د‪:‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ 8‬التبصرة والتذكرة املشهورة باأللفية للعراقي (ص‪ )164:‬ت‪:‬العربي الفرياطي‪ ،‬د‪:‬املنهاج‪ ،‬الرياض‪( ،‬ط‪1428/2:‬هـ)‬
‫‪ 9‬فتح الباري البن حجر (‪)4 /7‬‬
‫‪ 10‬شرح مختصر الروضة لنجم الدين الطوفي (‪ )185/2‬ت‪ :‬عبد هللا بن عبد املحسن التركي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪( ،‬ط‪1407/1:‬هـ‪1987‬م)‬
‫‪ 11‬إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول للشوكاني (‪ )189/1‬ت‪:‬أبو مصعب محمد سعيد البدري‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫(ط‪1995/6:‬م)‬
‫‪ 12‬البيتان رقم‪ 786 :‬و ‪ 787‬من ألفية العراقي (ص‪)164:‬‬
‫‪48‬‬
‫لفظ الصحبة جنس تحته أنواع‪ ،‬يقال‪ :‬صحبه شهرا وساعة وقد بين في هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق‬
‫‪1‬‬
‫بمن رآه مؤمنا به فإنه البد من هذا‪".‬‬
‫بعد ذكر املذاهب في تعريف الصحابي‪ ،‬ومواقف أهل العلم منها‪ ،‬يبقى السؤال موضوع النقاش‪ :‬من هو‬
‫الصحابي الذي تحقق فيه شرط العدالة؟ هل هو الصحابي الذي لقي النبي ولو ساعة ً‬
‫بناء على تعريف‬
‫دون غيرهم‪.‬‬ ‫جمهور املحدثين‪ ،‬أم أن العدالة مقتصرة على املجتهدين من أصحاب رسول هللا‬
‫املطلب الثاني‪ :‬عدالة الصحابة‬
‫ال تتحقق العدالة في الراوي عند املحدثين إال إذا اتصف بصفات خمس‪ :‬اإلسالم‪ ،‬والبلوغ‪ ،‬والعقل‪ ،‬والسالمة‬
‫من أسباب الفسق‪ ،‬وخوارم املروءة‪ 2.‬وهي صفات اجتمعت كلها في صحابة رسول هللا ‪ ،‬فهم رض ي هللا عنهم‬
‫جمعوا بين قوة اإليمان‪ ،‬والتزام التقوى‪ ،‬واملروءة‪ ،‬وسمو األخالق والترفع عن سفاسف األمور‪ ،‬كما لم يؤثر عنهم‬
‫أبدا أنهم تعمدوا الكذب على رسول هللا ‪.‬‬

‫ومما ينبغي التنبيه إليه أن العدالة ال تفيد العصمة‪ ،‬فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم‪ ،‬فهم رض ي هللا‬
‫عنهم يعرض لهم ما يعرض لسائر البشر من املعاص ي أو السهو أو الغلط‪ ،‬قال اإلمام األبيارى رحمه هللا‪ ":‬واعلم‬
‫أنا لسنا نعني بعدالة كل واحد من الصحابة أن العصمة له ثابتة‪ ،‬واملعصية مستحيلة‪ ،‬وإنما نريد أن الرواية منه‬
‫مقبولة من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة‪ ،‬وطلب التزكية‪ ،‬إال أن يثبت ارتكاب ما يقدح في العدالة‪ ،‬ولم‬
‫حتى يثبت بطريق صحيح ما‬ ‫يثبت ذلك‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول هللا‬
‫يقدح فيه‪ .‬وال التفات إلى ما يذكره أصحاب السير من األخبار‪ ،‬فإن أكثرها ضعيفة‪ .‬بل يتثبت الناظر حتى يصح‬
‫‪3‬‬
‫عنده النقل بالطرق الصحاح من أهل هذا الفن‪" .‬‬

‫وقد نص الكتاب العزيز‪ ،‬والسنة الشريفة وإجماع العلماء على تعديلهم‪.‬‬


‫وهم بإ ْح َسان َّرض َى َّ ُ‬ ‫ين َّٱت َب ُع ُ‬‫صٰـر َو َّٱلذ َ‬ ‫تعالى‪﴿:‬و َّ ٰ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ٰ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ٱّلِل‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ٱلسـ ِبقون ٱألولون ِمن ٱمل َهـ ِج ِرين وٱألن ِ ِ‬ ‫‪ -‬فمن الكتاب قوله‬
‫دا ٰذل َك ْٱل َف ْو ُز ْٱل َعظ ُ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ ٰ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ٰ ُ َ ٰ َ َ َ َ ً‬
‫يم﴾(التوبة‪ ،‬آ‪ )100:‬وقوله‬ ‫ِ‬ ‫عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنـ ٍت تج ِري تحتها ٱألنهـر خـ ِل ِدين ِفيها أب ِ‬
‫ُّ َ َّ ٌ َّ ُ ُل َّ َ َّ َ َ َ ُ َ َّ َ َ ْ ُ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ َّ ً ُ َّ ً َ ْ َ ُ َن َ ْ ً‬
‫ضال م َن‬ ‫ٱّلِل وٱل ِذين معه أ ِشداء على ٱلكف ِار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغو ف‬ ‫عز وجل‪﴿ :‬محمد رسو ِ‬
‫َ َ ْ َ َْ‬ ‫ٱلت ْو َراة َو َم َث ُل ُه ْ‬ ‫انا س َيمٰـ ُه ْم في ُو ُجوهه ْم م ْن َأ َثر ُّ‬
‫ٱلس ُجود َذل َك َم َث ُل ُه ْم في َّ‬ ‫َّ َ ْ َ ً‬
‫ٱإلنج ِيل ك َز ْر ٍع أخ َر َج شطأ ُه‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱّلِل و ِرضو‬
‫ِ‬

‫‪1‬مجموع الفتاوى البن تيمية (‪ )298/20‬ت‪:‬عبد الرحمن بن محمد بن قاسم‪ ،‬مجمع امللك فهد‪ ،‬املدينة النبوية‪ ،‬ط س‪1416:‬هـ‪.‬‬
‫‪ 2‬فتح املغيث بشرح ألفية الحديث لشمس الدين السخاوي (‪ )317 – 315/3‬ت‪:‬علي حسين علي‪ ،‬مكتبة السنة مصر‪ ،‬ط‪1424 /1:‬هـ ‪2003 -‬م‪-.‬‬
‫توضيح األفكار ملعاني تنقيح األنظار ملحمد بن إسماعيل الصنعاني (‪ )118 – 114/2‬ت‪ :‬أبو عبد الرحمن صالح بن محمد بن عويضة‪ ،‬د‪ :‬الكتب‬
‫العلمية‪ ,‬بيروت‪ ،‬ط‪1417 /1:‬هـ‪1997-‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه لعلي بن إسماعيل األبياري (‪ )709/2‬ت‪ :‬علي بن عبد الرحمن بسام الجزائري‪ ،‬د‪ :‬الضياء‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫ط‪ 1434 /1:‬هـ ‪2013 -‬م‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫ُ ْ ُ ُّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ َ َّ ُ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َّ ٰ ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ ََُ َ ْ َ َْ َ‬
‫ظ َف ْ‬
‫ٱلصـ ِل َحـ ِت‬ ‫ٱس َت َو ٰى َعل ٰى ُسو ِق ِه يع ِجب ٱلزراع ِلي ِغيظ ِب ِهم ٱلكفار وعد ٱّلِل ٱل ِذين ءامنوا وع ِملوا‬ ‫فآزره فٱستغل‬
‫ً‬ ‫ْ ً َ ً‬
‫ِم ْن ُهم َّمغ ِف َرة َوأ ْجرا َع ِظيما﴾(الفتح‪،‬آ‪)29:‬‬
‫ومن السنة قوله عليه الصالة والسالم‪ « :‬خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم يجئ قوم‬ ‫‪-‬‬
‫مرفوعا‪" :‬إن هللا‬ ‫تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته‪ 1 ».‬ويؤكد هذا املعنى ما روي عن ابن مسعود‬
‫خير قلوب العباد‪ ،‬فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته‪ ،‬ثم نظر في‬ ‫نظر في قلوب العباد‪ ،‬فوجد قلب محمد‬
‫‪2‬‬
‫يقاتلون عن دينه‪".‬‬ ‫قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد‪ ،‬فجعلهم وزراء نبيه‬
‫‪3‬‬
‫يقول اإلمام اآلمدى رحمه هللا‪" :‬واختيار هللا ال يكون ملن ليس بعدل‪".‬‬
‫أضف إلى ذلك أن األمة قد أجمعت على تعديل الصحابة رض ي هللا عنهم أجمعين‪ ،‬يقول الخطيب‬ ‫‪-‬‬
‫البغدادي رحمه هللا‪" :‬إنه لو لم يرد من هللا عز وجل ورسوله فيهم ش يء مما ذكرناه‪ ،‬ألوجبت الحال التي كانوا عليها‬
‫من الهجرة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والنصرة‪ ،‬وبذل املهج‪ ،‬واألموال‪ ،‬وقتل اآلباء واألوالد‪ ،‬واملناصحة في الدين‪ ،‬وقوة اإليمان‬
‫واليقين‪ :‬القطع على عدالتهم‪ ،‬واالعتقاد لنزاهتهم‪ ،‬وأنهم أفضل من جميع املعدلين واملزكين‪ ،‬الذين يجيئون من‬
‫بعدهم أبد اآلبدين‪ .‬هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء‪ 4".‬وقال ابن الصالح‪ " :‬للصحابة‬
‫بأسرهم خصيصة‪ ،‬وهي أنه ال يسأل عن عدالة أحد منهم‪ ،‬بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على اإلطالق معدلين‬
‫بنصوص الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬وإجماع من يعتد به في اإلجماع من األمة‪ 5".‬واألمر نفسه ذكره القرطبي‪":‬فالصحابة‬
‫كلهم عدول أولياء هللا تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله‪ ،‬هذا مذهب أهل السنة والذي عليه‬
‫‪6‬‬
‫الجماعة من أئمة هذه األمة‪".‬‬
‫هذه النصوص شاهدة على ثبوت العدالة لجميعهم دون التفرقة بين من طالت صحبته وغيره‪ ،‬أو من بلغ رتبة‬
‫االجتهاد منهم ومن قصر عنها‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه اإلمام البخارى في كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬باب فضائل أصحاب النبى ‪ ،‬ومن صحب النبى أو رآه من املسلمين فهو من أصحابه‪ ،‬رقم‪:‬‬
‫‪ ،)5/7( 3651‬واإلمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة رض ي هللا عنهم‪ ،‬باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‪ ،‬رقم‪ ،2533:‬من حديث‬
‫ابن مسعود رض ي هللا عنه‪ )324/8( ،‬ت‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬د إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫رقم‪ )84 /6( 3600 :‬تعليق شعيب األرنؤوط‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪ 2‬إسناده حسن‪ ،‬أخرجه اإلمام أحمد في مسند عبد هللا بن مسعود‬
‫(ط‪1421/1:‬هـ ‪2001‬م) ‪،‬وقال الهيثمى في مجمع الزوائد رواه أحمد ورجاله موثقون‪ )178/1( .‬مكتبة القدس ي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ 3‬اإلحكام في أصول األحكام لآلمدي (‪)82/2‬‬
‫‪ 4‬الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص‪ )96 :‬ت‪ :‬أبو عبد هللا السورقي وإبراهيم حمدي املدني‪ ،‬املكتبة العلمية‪ ،‬املدينة املنورة‪.‬‬
‫‪ 5‬مقدمة ابن الصالح (ص ‪ )176:‬ت‪ :‬نور الدين عتر‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪1406/1:‬هـ ‪1986 -‬م‬
‫‪ 6‬الجامع ألحكام القرآن ألبي عبد هللا القرطبي (‪ )299 /16‬ت ‪ :‬هشام سمير البخاري‪ ،‬د‪ :‬عالم الكتب‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط‪1423 /1:‬هـ‬
‫‪50‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬دفع الشبهات عن عدالة الصحابة‪.‬‬

‫لقد اتخذ بعض أدعياء العلم الطعن في حملة األحاديث ورواة السنن من صحابة رسول هللا وسيلة للطعن في‬
‫السنة وإسقاط الثقة بها‪ ،‬فشككوا في عدالتهم‪ ،‬واتهموا منهجهم في نقل الحديث وروايته بالوهن والضعف‪،‬‬
‫والهدف من ذلك كله زعزعة ثقة املسلمين بسنة نبيهم‪ ،‬وتقويض أصول دينهم‪ ،‬وفي هذا املطلب سأعرض ألهم‬
‫هذه الشبه مجليا لوهنها وتهافتها‪.‬‬
‫أوال‪ :‬اتهام الصحابة رضوان هللا عليهم بالنفاق‪.‬‬
‫يتهم بعض الطاعنين في السنة ومن بينهم محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة النبوية‪ 1‬صحابة رسول‬
‫َُ‬
‫هللا بالنفاق مستدلين بما ورد في القرآن الكريم من آيات تتحدث عن النفاق كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ِم َّم ْن َح ْولك ْم ِم َن‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ْ َ ْ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َْ َ َ ُ ََ‬
‫النف ِاق ال ت ْعل ُم ُه ْم ن ْح ُن ن ْعل ُم ُه ْم َس ُن َع ِذ ُب ُه ْم َم َّرت ْي ِن ث َّم ُي َر ُّدون ِإلى َعذاب‬
‫اب منا ِفقون و ِمن أه ِل امل ِدين ِة م َردوا على ِ‬
‫األعر ِ‬
‫قال‪:‬‬ ‫َع ِظ ٍيم﴾(التوبة‪،‬آ‪ )101:‬وحملوها على صحابة رسول هللا ‪ ،‬وأيدوا ذلك بحديث جابر بن عبد هللا‬
‫َ‬
‫فضة‬ ‫الج ْع َرانة‪ 2‬منصرفه من حنين‪ .‬وفى ثوب بالل‬ ‫«أتى عبد هللا بن ذى الخويصرة التميمى رسول هللا ِب ِ‬
‫ورسول هللا يقبض منها‪ ،‬يعط ي الناس‪ .‬فقال‪ :‬يا محمد اعدل‪ .‬قال‪" :‬ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد‬
‫دعني يا رسول هللا فأقتل هذا املنافق‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫خبت وخسرت إن لم أكن أعدل‪ ".‬فقال عمر بن الخطاب‬
‫َ‬
‫"معاذ هللا! أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابي‪ .‬إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن ال يجاوز حناجرهم‪ .‬يمرقون‬
‫أطلق لفظ منافق على‬ ‫منه كما يمرق السهم من الرمية‪4»3.‬ووجه الشبهة في الحديث حسب زعمهم أن عمر‬
‫صحابي من صحابة رسول هللا ‪ ،‬مما يقدح في عدالتهم‪ ،‬وهي شبهة مردودة من وجوه عدة نذكر من بينها‪:‬‬
‫َ َ َ‬
‫ال ل ُه‬‫‪ -‬لفظ الصحبة في الحديث ورد بمعناه اللغوي وليس االصطالحي‪ ،‬يشهد لذلك قوله تعالى‪﴿:‬ق‬
‫صاح ُب ُه َو ُه َو ُي َحاو ُر ُه َأ َك َف ْر َت ب َّالذي َخ َل َق َك م ْن ُت َراب ُث َّم م ْن ُن ْط َفة ُث َّم َس َّو َ‬
‫اك َر ُجال﴾(الكهف‪،‬آ‪ )37:‬فالصحبة في‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلية هي صحبة الزمان واملكان ال صحبة اإليمان‪ ،‬وكذلك الصحبة في الحديث الشريف النتفاء شرط اإليمان‬
‫والتصديق عن املنافقين‪ ،‬قال ابن حجر رحمه هللا‪ ":‬وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي‪ :‬من لقي النبي‬
‫مؤمنا به‪ ،‬ومات على اإلسالم‪...‬ويخرج بقيد «اإليمان» من لقيه كافرا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة‬
‫‪5‬‬
‫أخرى‪".‬‬

‫‪ 1‬أضواء على السنة ملحمود أبو رية (ص‪ )356 ،354 :‬د املعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ 2‬الجعرانة‪ :‬موضع معروف بين مكة والطائف‪ ،‬فتح الباري البن حجر (‪)98 /1‬‬
‫ً‬
‫سريعا في الرمية وخرج‪ ،‬ولم يعلق به من‬ ‫‪ -3‬الرمية‪ :‬هي الطريدة التي يرميها الصائد‪ ،‬وهي كل دابة مرمية‪ ،‬ونقول‪ :‬يمرق السهم من الرمية‪ :‬يعنى أنه مر مرا‬
‫الفرث والدم ش يء‪ ،‬فشبه خروجهم من الدين ولم يتعلق منه ش يء بخروج ذلك السهم‪ .‬شرح صحيح البخارى البن بطال (‪ )592 /8‬ت‪ :‬أبو تميم ياسر‬
‫بن إبراهيم‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط‪1423/2:‬هـ ‪2003 -‬م‪،‬‬
‫‪ 4‬أخرجه مسلم في كتاب الزكاة‪ ،‬باب ذكر الخوارج وصفاتهم‪ ،‬رقم‪)171 -170/4( 1063 :‬‬
‫‪ 5‬اإلصابة في تمييز الصحابة البن حجر (‪)158 /1‬‬
‫‪51‬‬
‫صفة النفاق على من صدر منه فعل نفاق وإن كان مؤمنا في الحقيقة من شدة غيرته‬ ‫إطالق عمر‬ ‫‪-‬‬
‫يقره أو يرده بحسب الحالة واملوقف‪ ،‬يؤكد هذا أن عمر أطلق هذا الوصف على‬ ‫على الدين‪ ،‬وقد كان النبي‬
‫أناس كانوا منافقين فعال كما في حالة ذي الخويصرة‪ ،‬دل على ذلك قول النبي ‪ «:‬إن هذا وأصحابه يقرؤون‬
‫القرآن ال يجاوز حناجرهم‪ .‬يمرقون منه كما يمرق السهم من َّ‬
‫الرمية‪ 1».‬كما أطلقها على أناس بريئين منها‪ ،‬فصحح‬
‫لعمر‪« :‬إنه شهد بدرا‪ ،‬وما يدريك لعل‬ ‫كما حدث في قصة حاطب بن أبي بلتعة‪ ،‬حيث قال النبي‬ ‫له النبي‬
‫هللا اطلع على من شهد بدرا‪ ،‬قال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‪ 2».‬يقول ابن تيمية رحمه هللا‪ ":‬قد تحصل‬
‫للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبا ينقص به إيمانه‪ ،‬وال يكون به كافرا كما حصل من حاطب بن أبي‬
‫بلتعة ملا كاتب املشركين ببعض أخبار النبي ‪ ... ،‬فكان عمر متأوال في تسميته منافقا للشبهة التي فعلها‪ 3".‬أما‬
‫أنه كان يعلم املنافقين بأعيانهم فال‪ ،‬بل كان يسأل حذيفة عن نفسه‪ ،‬ألن حذيفة هو الوحيد الذي أعلمه النبي‬
‫بأسماء املنافقين‪.‬‬
‫املنافقون لم يكونوا مجهولي ن في مجتمع الصحابة الكرام‪ ،‬وإنما كانوا معلومين إما بأعيانهم أو بأوصافهم‬ ‫‪-‬‬
‫التي ذكرها هللا عز جل في سورة التوبة‪ ،‬فأين هذه الفئة املنافقة ممن أثبت هللا لهم في كتابه نقيض صفات‬
‫املنافقين‪ ،‬حيث أخبر عن رضاه عنهم من فوق سبع سماوات وجعلهم خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬شبهة استحالل الصحابة دم بعضهم البعض‬

‫اتخذ أدعياء العلم‪ 4‬من األحداث التاريخية العصيبة التي مرت بالصحابة في موقعتي الجمل وصفين مادة‬
‫ً‬
‫دسمة للطعن في دين الصحابة وعدالتهم مستدلين بقوله ‪«:‬ال ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب‬
‫‪«:‬سباب املسلم فسوق وقتاله كفر‪ 6».‬وزعموا أن الصحابة استحل بعضهم دماء بعض في‬ ‫بعض‪ 5».‬وقوله‬
‫صفين والجمل‪.‬‬

‫والحقيقة أن ال حجة لهم في الحديث‪ ،‬وال في الفتن التي وقعت بين سلفنا الصالح رضوان هللا عليهم أجمعين‪:‬‬

‫‪ 1‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب الجاسوس‪ ،‬رقم‪)59 /4( 3007 :‬‬
‫‪ 3‬مجموع الفتاوى البن تيمية (‪)523 /7‬‬
‫‪ 4‬ومن بينهم‪ :‬طه حسين في كتابه‪":‬الفتنة الكبرى (عثمان) (ص‪ )170:‬د املعارف القاهرة‪ ،‬وأحمد حسين يعقوب في نظرية عدالة الصحابة (ص‪)53:‬‬
‫مركز األبحاث العقائدية إيران‪ ،‬و محمود أبو رية في أضواء على السنة النبوية (ص‪)354 :‬‬
‫ً‬
‫‪ 5‬أخرجه البخارى في كتاب الفتن‪ ،‬باب قول النبى ال ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض‪ ،‬رقم‪ ،)29/13( 7080:‬ومسلم في كتاب‬
‫ً‬
‫اإليمان‪ ،‬باب بيان معنى قول النبى ال ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض‪ ،‬رقم‪ )332/1( 65:‬من حديث جرير بن عبد هللا رض ي هللا‬
‫عنه‪.‬‬
‫‪ 6‬أخرجه البخارى في كتاب اإليمان‪ ،‬باب خوف املؤمن من أن يحبط عمله وهو ال يشعر‪ ،‬رقم‪ )135/1( ،48 :‬ومسلم في كتاب اإليمان‪،‬باب‪:‬بيان قول‬
‫النبى سباب املسلم فسوق وقتاله كفر‪ ،‬رقم‪ )330/1( 64 :‬من حديث ابن مسعود رض ي هللا عنه‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫فقوله ‪" :‬ال ترجعوا بعدي"‪ .‬بصيغة التحذير من قتال املؤمن‪ ،‬وإطالق الكفر على قتال املؤمن محمول‬ ‫‪-‬‬
‫على معاني متعددة‪ ،‬من بينها املبالغة في النهي من ذلك لينزجر السامع عن اإلقدام عليه وليس ظاهر اللفظ‬
‫ً‬
‫مرادا‪ ،‬أو أنه على سبيل التشبيه ألن ذلك فعل الكافر‪ .‬واملعنى ال تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم في حالة قتل‬
‫ً ‪1‬‬
‫بعضهم بعضا‪.‬‬
‫كما أن ما جرى بين الصحابة رض ي هللا عنهم من قتال لم يكن عن استحالل له حتى يحمل الحديث على‬ ‫‪-‬‬
‫ظاهره وأن قتالهم كفر‪ ،‬فقد سمى هللا املؤمنين إخوة ووصفهم باإليمان مع وجود االقتتال بينهم‪ ،‬والبغي من‬
‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫بعضهم على بعض‪ .‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإ ْن َطائ َف َتان م َن ْاملُ ْؤمن َين ْاق َت َت ُلوا َف َأ ْ‬
‫ص ِل ُحوا َب ْي َن ُه َما ف ِإ ْن َب َغ ْت ِإ ْح َد ُاه َما َعلى األ ْخ َرى‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫يء إ َلى َأ ْمر َّللا فإن ف َاءت فأ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ْ َ َّ َ َ‬
‫ص ِل ُحوا َب ْي َن ُه َما ِبال َعد ِل َوأق ِسطوا ِإن َّللا ُي ِح ُّب املق ِس ِطين ِإن َما‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫فقا ِتلوا ال ِتي تب ِغي حتى ت ِف ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ُ ْ ُ َن ْ َ ٌ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َّ ُ َّ َ َ َّ ُ ُ‬
‫َّللا ل َعلك ْم ت ْر َح ُمون﴾(الحجرات‪،‬آ ‪ )10-9‬يقول اإلمام ابن تيمية‬ ‫املؤ ِمنو ِإخوة فأص ِلحوا بين أخويكم واتقوا‬
‫ال يخلوا‪ :‬إما أن يكونوا عصاة‪ ،‬أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين‪ ،‬وعلى‬ ‫رحمه هللا‪" :‬والذين قاتلوا اإلمام علي‬
‫كل تقدير‪ ،‬فهذا ال يقدح في إيمانهم‪ ،‬وال في عدالتهم‪ ،‬وال يمنعهم الجنة‪ ،‬بما سبق من تصريح القرآن الكريم‪ ،‬من‬
‫تسميتهم إخوة‪ ،‬ووصفهم بأنهم مؤمنون‪ 2".‬ولهذا اتفق أهل السنة على أنه ال تفسق واحدة من الطائفتين‪ ،‬وإن‬
‫قالوا في إحداهما أنهم كانوا بغاة‪ ،‬يقول اإلمام اآلمدي رحمه هللا‪ ":‬فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن‬
‫على أحسن حال‪ ،‬وإن كان ذلك إنما ملا أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه‪ ،‬وأنه أوفق‬
‫‪3‬‬
‫للدين وأصلح للمسلمين‪".‬‬
‫أضف إلى ذلك أن جمهور الصحابة وسادتهم تأخروا عن تلك الفتن والخوض فيها كما قال محمد بن‬ ‫‪-‬‬
‫‪4‬‬
‫عشرة آالف فما حضر منهم مائة بل لم يبلغوا ثالثين‪".‬‬ ‫سيرين‪" :‬هاجت الفتنة وأصحاب رسول هللا‬
‫يتبين مما سبق أن كل فريق من الصحابة اجتهد‪ ،‬وعلى تقدير اإلصابة أو الخطأ في االجتهاد فإن الشهادة‬
‫‪5‬‬
‫والرواية من الفريقين ال تكون مردودة‪ ،‬إما بتقدير اإلصابة فظاهر‪ ،‬وإما بتقدير الخطأ مع االجتهاد فباإلجماع‪.‬‬
‫يقول اإلمام الجوينى رحمه هللا‪":‬أما التوقف في تعديل كل نفر من الذين البسوا الفتن‪ ،‬وخاضوا املحن‪ ،‬ومتضمن‬
‫هذا االنكفاف عن الرواية عنهم‪ ،‬فهذا باطل من دين األمة‪ ،‬وإجماع العلماء على تحسين الظن بهم‪ ،‬وردهم إلى ما‬

‫‪ 1‬فتح البارى البن حجر (‪)30/13‬‬


‫‪ 2‬منهاج السنة النبوية البن تيمية (‪ )394 /4‬ت‪ :‬محمد رشاد سالم‪ ،‬جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية‪،‬ط‪1406 /1:‬ه‪1986‬م‪.‬‬

‫‪ 3‬اإلحكام في أصول األحكام لآلمدي (‪)91 /2‬‬


‫‪ 4‬منهاج السنة النبوية البن تيمية (‪)186/3‬‬
‫‪ 5‬اإلحكام لآلمدي (‪ )82/2‬بتصرف‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫تمهد لهم من املآثر بالسبيل السابقة‪ ،‬وهذا من نفائس الكالم‪ 1".‬وما أجمل ما صدر عن عمر بن عبد العزيز‬
‫‪2‬‬
‫رحمه هللا تعالى إذ قال‪" :‬تلك دماء طهر هللا منها سيوفنا فال تخضب بها ألسنتنا‪" .‬‬
‫ثالثا‪ :‬اتهام الصحابة بوضع الحديث‬
‫اختلف العلماء في تاريخ بداية الوضع في الحديث النبوي الشريف إلى فريقين‪:‬‬
‫قال‪":‬جاء رجل إلى قوم في‬ ‫‪ -‬فريق يرى أن بدايته كانت في عهد النبوة املباركة‪ ،‬واستدلوا بحديث بريدة‬
‫جانب املدينة فقال‪ :‬إن رسول هللا أمرنى أن أحكم برأيي فيكم‪ ،‬في كذا وكذا‪ .‬وقد كان خطب امرأة منهم في‬
‫ً‬
‫الجاهلية‪ ،‬فأبوا أن يزوجوه‪ ،‬فبعث القوم إلى النبى يسألونه‪ ،‬فقال‪":‬كذب عدو هللا" ثم أرسل رجال فقال‪":‬إن‬
‫ً‬
‫أنت وجدته ميتا فأحرقه" فوجده قد لدغ فمات‪ ،‬فحرقه‪ 3".‬وممن ذهب إلى هذا الرأي الدكتور صالح الدين األدلي‬
‫في كتابه منهج نقد املتن عند علماء الحديث‪ ،‬حيث قال‪ ":‬إن كلمة الوضع في الحديث النبوي‪ ،‬قد تطلق ويراد بها‬
‫مجرد الكذب على الرسول‪،‬كما تطلق ويراد بها عملية متعمدة وواسعة إلدخال األكاذيب في األحاديث‬
‫النبوية‪...‬فإذا فهمنا كلمة الوضع باملعنى األول فقد يكون بدأ في عهد النبي‪ ،‬وقد جاءت بعض الروايات تؤكد‬
‫‪4‬‬
‫ذلك‪".‬‬
‫‪ -‬وفريق آخر ربط بين أحداث الفتنة العصيبة املؤملة التي كانت بين سيدنا علي ومعاوية رض ي هللا عنهما وبين‬
‫بداية الوضع في الحديث‪ ،‬ومن بينهم الدكتور مصطفى السباعى رحمه هللا‪ ،‬إذ يقول‪ ":‬كانت َس َنة أربعين من‬
‫ُ‬
‫الهجرة هي الحد الفاصل بين صفاء السنة وخلوصها من الكذب والوضع‪ ،‬وبين التزيد فيها واتخاذها وسيلة‬
‫لخدمة األغراض السياسية واالنقسامات الداخلية‪ ،‬بعد أن اتخذ الخالف بين علي ومعاوية شكال حربيا سالت به‬
‫دماء وأزهقت منه أرواح‪ ،‬بعد أن انقسم املسلمون إلى طوائف متعددة‪...‬فعمل بعض األحزاب على أن يتأولوا‬
‫القرآن على غير حقيقته‪ ،‬وأن يحملوا نصوص السنة ما ال تتحمله‪ ،‬وأن يضع بعضهم على لسان الرسول أحاديث‬
‫تؤيد دعواهم‪ ،‬بعد أن َع َّز عليهم مثل ذلك في القرآن لحفظه وتوفر املسلمين على روايته وتالوته‪ ،‬ومن هنا كان‬
‫‪5‬‬
‫وضع الحديث واختالط الصحيح منه باملوضوع‪".‬‬

‫‪ 1‬البرهان في أصول الفقه لعبد امللك الجويني (‪ )242 -241/1‬ت‪ :‬صالح بن محمد بن عويضة‪ ،‬د‪ :‬الكتب العلمية بيروت‪( ،‬ط‪ 1418/1:‬هـ ‪1997-‬م)‬
‫‪ ، 2‬فتح املغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي للسخاوى (‪)96/3‬‬
‫‪ 3‬حديث منكر‪ ،‬أخرجه ابن عدى في الكامل (‪ ،)1371/4‬وفى إسناده‪(:‬صالح بن حيان القرش ى) وقد ضعفه املحدثون‪ ،‬كما تراه في ترجمته فى‪ :‬الجرح‬
‫والتعديل (‪ )398/4‬رقم‪ ،1739 :‬واملجروحين البن حبان (‪ ،)365/1‬وقد تتبع األستاذ عبد الفتاح أبو غدة هذا الحديث برواياته املتعددة في كتابه‬
‫"ملحات من تاريخ السنة" تحت عنوان "بطالن األحاديث الدالة على وجود الكذب على النبى في حياته (ص‪ )65 – 56 :‬مكتبة املطبوعات اإلسالمية‪،‬‬
‫حلب‪ ،‬ط‪1404 /1:‬هـ ‪1984‬م‪،‬‬
‫‪ 4‬منهج نقد املتن عند علماء الحديث لصالح الدين األدلبي (ص‪ )40 :‬د اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ 5‬السنة ومكانتها في التشريع اإلسالمي ملصطفى السباعي (‪ )75 /1‬املكتب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪(،‬ط‪ 1402 /3:‬هـ ‪ 1982 -‬م)‬
‫‪54‬‬
‫وقد اتهم املستشرقون الرعيل األول من الصحابة بوضع األحاديث‪ ،‬يقول جولد تسيهر‪":‬وال نستطيع أن نعزو‬
‫األحاديث املوضوعة لألجيال املتأخرة وحدها بل هناك أحاديث عليها طابع القدم‪ ،‬وهذه إما قالها الرسول‪ ،‬أو هي‬
‫‪1‬‬
‫من عمل رجال اإلسالم القدامى‪".‬‬

‫وقد تابعهم في ذلك مجموعة من تالمذتهم ومنهم أبو رية الذي طالب بوضع الصحابة في ميزان الجرح والتعديل‬
‫كما يوضع غيرهم‪ ،‬فقال‪":‬أوجب العلماء البحث عن رواة الحديث فجرحوا من جرحوا‪ ،‬وعدلوا من عدلوا‪ ،‬وهم‬
‫على حق في ذلك إذ ال يصح أن يؤخذ قول أي إنسان مهما كان بغير تمحيص وتحقيق ونقد‪ ،‬وعلى أنهم قد جعلوا‬
‫جرح الرواة وتعديلهم واجبا تطبيقه على كل راو مهما كان قدره‪ ،‬فإنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة فلم‬
‫يتجاوزوها‪ ،‬إذ اعتبروهم جميعا عدوال ال يجوز عليهم نقد‪ ،‬وال يتجه إليهم تجريح‪ ،‬ومن قولهم في ذلك‪ :‬إن‬
‫بساطهم قد طوي‪ ،‬ومن العجيب أنهم يقفون هذا املوقف‪ ،‬على حين أن الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضهم‬
‫بعضا‪ 2".‬واستدلوا بحديث بريدة السابق‪ ،‬ودعموا موقفهم بروايات أخرى فيها تخطئة بعض الصحابة لبعضهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واستشهادهم بذلك على أنهم كانوا يشكون في صدق بعضهم بعضا‪ ،‬وأنهم كانوا ِ‬
‫يكذب بعضهم بعضا‪.‬‬
‫وعلى فرض صحة هذه الروايات فليس فيها ما يطعن في عدالة الصحابة رض ي هللا عنهم‪ ،‬إذ كان معهم‬
‫منافقون‪ ،‬فال يبعد أن يكون الرجل الوارد في تلك الروايات واحد من املنافقين‪ ،‬وبذلك قال اإلمام ابن حزم رحمه‬
‫يكذب عليه‬ ‫هللا‪ ،‬فبعد أن روى الحديث السابق من رواية بريدة رض ي هللا عنه‪ ،‬قال‪" :‬فهذا من كان في عصره‬
‫كما ترى‪ ،‬فال يقبل إال من سمى وعرف فضله‪ 3".‬وقبل ذكره للحديث قال‪" :‬وقد كان في املدينة في عصره عليه‬
‫ً‬
‫السالم منافقون بنص القرآن‪ ،‬وكان بها أيضا من ال ترض ى حاله "كهيت" املخنث الذي أمر عليه السالم بنفيه‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫والحكم ابن أبى العاص الطريد وغيرهما‪ ،‬فليس هؤالء ممن يقع عليهم اسم الصحابة‪".‬‬
‫وكيف يمكننا أن نجوز اتهام الصحابة العدول الثقات بالكذب وعشرات من اآليات القرآنية‪ ،‬وعشرات أخرى‬
‫من األحاديث النبوية تزكيهم وتصفهم بالصدق‪ ،‬واإلخالص‪ ،‬والتقوى؟‬
‫بل إنه كما يقول الدكتور السباعى رحمه هللا تعالى‪" :‬ليس من السهل علينا أن نتصور صحابة رسول هللا‬
‫الذين فدوا الرسول بأرواحهم وأموالهم وهجروا في سبيل اإلسالم أوطانهم وأقرباءهم‪ ،‬وامتزج حب هللا وخوفه‬
‫مهما كانت‬ ‫بدمائهم ولحومهم‪ :‬ليس من السهل أن نتصور هؤالء األصحاب يقدمون على الكذب على رسول هللا‬
‫‪5‬‬
‫الدواعي إلى ذلك‪".‬‬

‫‪ 1‬العقيدة والشريعة في اإلسالم إلجناتس جولدتسيهر‪ ،‬ترجمة محمد يوسف موس ى وعبد العزيز عبد الحق‪ ،‬وعلي حسين عبد القادر‪( ،‬ص‪ )50-49 :‬د‪:‬‬
‫الكتب الحديثة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1959 /1:‬م‪،‬‬
‫‪ 2‬أضواء على السنة النبوية ملحمود أبو رية (ص‪)315:‬‬
‫‪ 3‬السنة ومكانتها في التشريع اإلسالمي ملصطفى السباعى (ص‪)76 :‬‬
‫‪ 4‬اإلحكام في أصول األحكام البن حزم (‪)83 /2‬‬
‫‪ 5‬السنة ومكانتها في التشريع اإلسالمي ملصطفى السباعى (ص‪)93 :‬‬
‫‪55‬‬
‫بالكذب في الرواية‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬اتهام أبي هريرة‬
‫أخذ عدد من دعاة حرية الفكر التشكيك في مرويات أبي هريرة مطية للطعن في السنة النبوية جملة‬
‫وتفصيال‪ ،‬باعتبار أن أبا هريرة من املكثرين في الرواية عن رسول هللا ‪ ،‬وحجتهم في ذلك أن الصحابة أنفسهم‬
‫هدده بالنفي لكثرة روايته للحديث‪ ،‬وكذلك عثمان وعلي وعائشة وابن‬ ‫قد جرموه وشكوا في مروياته‪ ،‬فعمر‬
‫مسعود رض ي هللا عنهم أجمعين‪ ،‬وهذه الشبه يرد عليها من وجوه‪.‬‬
‫ما يرد من ألفاظ التك ذيب على ألسنة بعضهم‪ ،‬فإنما هو تخطئة بعضهم لبعض‪ ،‬وبيان ما وقع فيه‬ ‫‪-‬‬
‫بعضهم من وهم الكالم‪ ،‬وهو بهذا املعنى ال يعصم منه أحد‪ ،‬ال من الصحابة‪ ،‬وال ممن دونهم‪ ،‬ومنه أن الزبير بن‬
‫ً‬
‫يحدث‪ ،‬فجعل يقول كلما سمع حديثا‪" :‬كذب…صدق…كذب‪ ،‬فسأل عروة‬ ‫العوام ‪ ،‬استمع إلى أبي هريرة‬
‫فال شك فيه‪،‬‬ ‫ابنه‪ :‬يا أبت ما قولك‪ :‬صدق …كذب‪ .‬قال‪ :‬يا بني أما أن يكون سمع هذه األحاديث من رسول هللا‬
‫ولكن منها ما يضعه على مواضعه‪ ،‬ومنها ما وضعه على غير مواضعه‪ 1".‬فالكذب هنا معناه التخطئة في فهم بعض‬
‫األحاديث‪ ،‬ووضعها في غير محل االستشهاد كما صرح الزبير بن العوام ‪ ،‬فعدالة أبي هريرة بين الصحابة معلومة‬
‫ومكانته مصانة‪.‬‬
‫بين‬ ‫‪ -‬استدراكات الصحابة على بعضهم البعض ال تعد تكذيبا‪ ،‬ألنهم يتفاوتون في روايتهم عن النبى‬
‫ً‬
‫يغيب عنه آخرون‪ ،‬فينفرد الحاضرون بما لم يسمعه‬ ‫مكثر ومقل‪ ،‬يحضر بعضهم مجلسا للرسول‬
‫املتخلفون‪ ،‬حتى يبلغوا به فيما بعد‪ ،‬يشهد لذلك ما رواه الحاكم عن إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق عن البراء‬
‫‪ ،‬كانت لنا ضيعة وأشغال‪ ،‬ولكن الناس لم يكونوا‬ ‫قال‪«:‬ليس كلنا كان يسمع حديث النبى‬ ‫بن عازب‬
‫يكذبون‪ ،‬فيحدث الشاهد الغائب‪ 2 ».‬ومن هذا القبيل كتاب "اإلجابة إليراد ما استدركته عائشة على الصحابة "‬
‫لإلمام بدر الدين الزركش ى‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬الطعن في عدالة غيراملجتهدين من الصحابة‪.‬‬
‫قصر البعض العدالة على املجتهدين من صحابة رسول هللا دون غيرهم‪ ،‬بهدف الطعن في السنة النبوية‬
‫الشريفة لقلة املجتهدين من صحابة رسول هللا‪ ،‬واستدلوا بما نسب لإلمام الغزالي رحمه هللا‪":‬لم يكن في الصحابة‬
‫من املجتهدين إال قليل وهم الخلفاء األربعة‪ ،‬والعبادلة‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬ومن عرف منهم الرجوع‬
‫إليه من غير نكير‪ 3".‬وهذه الشبهة مردودة من وجوه عدة‪ ،‬أذكر من بينها‪:‬‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية البن كثير (‪ )112 /8‬د‪ :‬الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 1407/1:‬هـ ‪ 1986 -‬م‬

‫‪ 2‬حديث صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬أخرجه الحاكم في املستدرك كتاب العلم‪ ،‬باب فضل توقير العالم‪ ،‬رقم‪ )216/1( 438 :‬وقال‪ ":‬هذا حديث‬
‫صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬ولم يخرجاه ومحمد بن سالم وابنه عبد هللا محتج بهما‪ ،‬فأما صحيفة إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق فقد أخرجها‬
‫البخاري في الجامع الصحيح‪ ".‬ت‪:‬مصطفى عبد القادر عطا‪ ،‬د‪ :‬الكتب العلمية‪،‬بيروت‪ ،‬ط‪1411 /1:‬ه – ‪1990‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم البن الوزير (‪ )24 /2‬ت‪ :‬شعيب األرنؤوط‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1415/3:‬هـ‪1994-‬م‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫أوال‪ :‬كثرة املجتهدين من الصحابة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إن الصحابة املجتهدين كانوا كثرة‪ ،‬ولم يكونوا قلة‪ ،‬على عكس ما نقل عن اإلمام الغزالي‪ ،‬وقد أشار ابن حزم‬
‫رحمه هللا إلى أن الفتيا نقلت عن مائة واثنين وأربعين رجال من الصحابة‪ ،‬وعن عشرين امرأة منهم‪ 1.‬واملتصفح‬
‫لكتب الفقه يجد أن فتاوى فقهاء الصحابة أثرت إلى حد كبير في اختيارات أصحاب املذاهب‪ ،‬بل إن قول‬
‫‪2‬‬
‫الصحابي االجتهادي اعتبر من مصادر التشريع عند عدد منهم‪ ،‬ومن بينهم اإلمام مالك رحمه هللا‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬قدرة الصحابة على الفهم واإلدراك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لقد نزل القرآن بلغة العرب ولسانهم جاريا على معهودهم في الكالم‪ ،‬فكل من كان من لسان العرب متمكنا‬
‫كان للقرآن أشد فهما‪ ،‬وأحسن إدراكا‪ ،‬وال يعلم أحد أفصح لسانا وال أقوم خطابا من أهل القرون األولى وخاصة‬
‫صحابة رسول هللا‪ ،‬فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم‪ ،‬فهم أعرف في فهم‬
‫الكتاب والسنة من غيرهم‪ ،‬فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة‪ .‬أضف إلى‬
‫ذلك مباشرتهم للوقائع والنوازل‪ ،‬وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة‪ ،‬فهم أقعد في فهم القرائن الحالية‪ ،‬وأعرف‬
‫بأسباب التنزيل‪ ،‬ويدركون ما ال يدركه غيرهم بسبب ذلك‪ ،‬والشاهد يرى ما ال يرى الغائب‪ ،‬فمتى جاء عنهم تقييد‬
‫‪3‬‬
‫بعض املطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬االجتهاد ليس شرطا في العدالة‪ ،‬فقد تقدم تعريف العدالة‪ ،‬واالجتهاد ليس شرطا في تحققها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تبين من خالل هذا املبحث وهن وضعف الشبه التي وجهت للنيل من عدالة الصحابة رض ي هللا عنهم‬
‫وأرضاهم‪ ،‬وهي تدل على حقد دفين على اإلسالم ونواته األولى التي ساهمت إلى حد كبير في نشره والحفاظ على‬
‫تعاليمه‪ ،‬وأنتقل في املبحث املوالي لبيان معالم املنهج الذي سلكه الصحابة في تلقي الحديث النبوي الشريف‬
‫وروايته زمن الخالفة الراشدة لنقتفي أثرهم في الحفاظ على ثوابت هويتنا ومقوماتنا الحضارية‪.‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬وسائل الصحابة في تلقي الحديث النبوي الشريف‪.‬‬
‫وحاملي‬ ‫لقد استشعر الصحابة رض ي هللا عنهم عظم األمانة واملسؤولية التي أنيطت بهم‪ ،‬فهم ورثة النبي‬
‫رسالته من بعده إلى اآلفاق‪ ،‬بغية إخراج العباد من ظلمات الشرك والوثنية إلى نور اإليمان والتوحيد‪ ،‬وانتشالهم‬
‫من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد‪ ،‬يدل على ذلك حرصهم الشديد على أن اليفوتهم ش يء من كالم رسول هللا‬

‫‪ 1‬اإلحكام في أصول األحكام البن حزم (‪)92 /5‬‬

‫‪2‬شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص‪ ،)445:‬ت‪:‬طه عبد الرؤوف سعد‪ ،‬شركة الطباعة الفنية املتحدة‪( ،‬ط‪ 1393/1:‬هـ ‪ 1973 -‬م)‬
‫‪ 3‬املوافقات في أصول الشريعة إلبراهيم بن موس ى اللخمي الغرناطي الشاطبي املالكي (‪ )337/3‬ت‪ :‬عبد هللا دراز‪ ،‬د‪:‬املعرفة بيروت‪ -.‬ترتيب املدارك‬
‫وتقريب املسالك ملعرفة أعالم مذهب مالك للقاض ي عياض بن موس ى اليحصبي (‪ )58/1‬ت‪ :‬ابن تاويت الطنجي‪ ،‬مطبعة فضالة ‪،‬املحمدية‪1965 .،‬م‬

‫‪57‬‬
‫حتى يبلغوه كما سمعوه‪ ،‬وهذا املبحث يتغيى بيان أهم الوسائل التي أعملوها في سبيل تلقي الحديث النبوي‬
‫الشريف‪.‬‬
‫أوال‪ :‬السماع املباشروالسؤال عند عدم الفهم‪.‬‬
‫‪ ،‬فعن عمر بن‬ ‫مع جاره حيث كانا يتناوبان في حضور مجالس رسول هللا‬ ‫يشهد لذلك قصة عمر‬
‫أنه قال‪«:‬كنت أنا وجار لي من األنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي املدينة – وكنا نتناوب‬ ‫الخطاب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫النزول على رسول هللا ‪ ،‬ينزل يوما وأنزل يوما‪ ،‬فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره‪ ،‬وإذا نزل فعل‬
‫مثل ذلك‪ 1».‬وكما هو معلوم فإن التلقي املباشر من أقوى وسائل اإلخبار‪ ،‬لذلك حرص جميعهم على نيل فضل‬
‫السماع املباشر من النبي حتى النساء كانت لديهن همة عالية في ذلك‪ ،‬فقد روى البخاري عن أبي سعيد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قال‪«:‬قالت النساء للنبي‪ :‬غلبنا عليك الرجال‪ ،‬فاجعل لنا يوما من نفسك‪ ،‬فوعدهن يوما لقيهن فيه‪ ،‬فوعظهن‬
‫ً‬
‫تقدم ثالثة من ولدها إال كان لها حجابا من النار‪ .‬فقالت امرأة‪:‬‬
‫وأمرهن‪ ،‬فكان فيما قال لهن‪ :‬ما منكن امرأة ِ‬
‫‪2‬‬
‫واثنتين‪ ،‬فقال‪ :‬واثنتين‪».‬‬

‫ولم تقتصر همة الصحابة رضوان هللا عليهم على سماع الحديث فقط‪ ،‬بل سمت إلى فهمه‪ ،‬واستيعابه‪،‬‬
‫عما أشكل عليهم أولم يفهموه‪ ،‬وقد كانت هذه األسئلة سببا في حفظ كثير‬ ‫وتبليغه‪ ،‬لذلك كانوا يسألون النبي‬
‫على النبي ‪ ،‬ليتوثق‬ ‫في وفود ضمام بن ثعلبة‬ ‫من العلم ونقله إلى األمة كافة‪ ،‬من ذلك حديث أنس‬
‫إلى قومه‪ ،‬حيث قال ضمام للنبي ‪«:‬يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك‬ ‫من نقل الرسول الذي أرسله النبي‬
‫هللا‪ .‬قال‪ :‬فمن خلق األرض؟ قال‪ :‬هللا‪ .‬قال‪:‬‬ ‫تزعم أن هللا أرسلك؟ قال‪ :‬صدق‪ .‬قال‪ :‬فمن خلق السماء؟ قال‬
‫فمن نصب هذه الجبال‪ ،‬وجعل فيها ما جعل؟ قال‪ :‬هللا‪ .‬قال‪ :‬فبالذي خلق السماء وخلق األرض ونصب هذه‬
‫الجبال آهلل أرسلك؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا‪ ،‬وليلتنا‪ ،‬قال‪« :‬صدق»‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فبالذي أرسلك‪ ،‬آهلل أمرك بهذا؟ قال‪« :‬نعم»‪ ،‬قال‪ :‬وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا‪ ،‬قال‪« :‬صدق»‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فبالذي أرسلك‪ ،‬آهلل أمرك بهذا؟ قال‪« :‬نعم»‪ ،‬قال‪ :‬وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«صدق»‪ ،‬قال‪ :‬فبالذي أرسلك‪ ،‬آهلل أمرك بهذا؟ قال‪« :‬نعم»‪ ،‬قال‪ :‬وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع‬
‫إليه سبيال‪ ،‬قال‪« :‬صدق»‪ ،‬قال‪ :‬ثم ولى‪ ،‬قال‪ :‬والذي بعثك بالحق‪ ،‬ال أزيد عليهن‪ ،‬وال أنقص منهن‪ ،‬فقال النبي ‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫«لئن صدق ليدخلن الجنة»‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب التناوب في العلم‪ ،‬رقم‪)33/1( 89:‬‬


‫‪ 2‬أخرجه اإلمام البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟ رقم‪)32/1 ( 101 :‬‬

‫‪ 3‬أخرجه اإلمام البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب ما جاء في العلم‪ .‬وقوله تعالى‪( :‬وقل رب زدني علما) (طه‪ )114 :‬رقم‪ )22/1( 63:‬واإلمام مسلم في كتاب‬
‫اإليمان‪ ،‬باب في بيان اإليمان باهلل وشرائع الدين‪ ،‬رقم‪ )41 /1( 12 :‬واللفظ ملسلم ‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫ثانيا‪ :‬الحفظ واملذاكرة‬

‫كان الصحابة رض ي هللا عنهم أحرص الناس على حفظ السنة وضبطها‪ ،‬إليمانهم بأن ما يحدثهم به رسول هللا‬
‫لم يكن بهدف التسلية أو الترف الفكري‪ ،‬وإنما‬ ‫إنما هو وحي من عند هللا تعالى‪ ،‬فسماعهم من رسول هللا‬
‫في حديثه األثر الواضح في تمكين‬ ‫كان للتحمل والتعلم والحفظ والتدوين والتبليغ‪ ،‬كما كان ألسلوب النبي‬
‫السامعين من حفظه وتدبره‪ ،‬إذ تميز بالهدوء واألناة‪ ،‬وقصر جمله وإعادتها عدة مرات‪ ،‬تقول أم املؤمنين عائشة‬
‫حديثا لو عده العاد ألحصاه‪ 1».‬وقالت ً‬‫ً‬
‫أيضا‪« :‬ما كان رسول هللا يسرد سردكم‬ ‫رض ي هللا عنها‪«:‬كان يحدث‬
‫‪2‬‬
‫هذا‪ ،‬ولكنه كان يتكلم بكالم يبينه فصل يحفظه من جلس إليه‪».‬‬

‫كما حرصوا رض ي هللا عنهم على مذاكرة الحديث النبوي الشريف رغبة منهم في سماع ما لم يسمعوه مباشرة‬
‫من رسول هللا‪ ،‬أو فهم ما أشكل عليهم من دقائق الحديث مما يمكنهم من التحليل واستنباط األحكام منه‪ .‬ومن‬
‫ذلك ما رواه ابن عباس رض ي هللا عنهما‪ ،‬قال‪ « :‬جلست إلى عمر بن الخطاب فقال‪ :‬يا ابن عباس إذا اشتبه على‬
‫الرجل في صالته فلم يدر أزاد أم نقص؟ قلت‪ :‬وهللا يا أمير املؤمنين‪ ،‬ما أدري ما سمعت في ذلك شيئا فقال عمر‪:‬‬
‫وهللا ما أدري‪ ،‬قال‪ :‬فبينما نحن على ذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف فقال‪ :‬ما هذا الذي تذاكران؟ فقال له‬
‫يقول‪":‬إذا صلى أحدكم فشك في‬ ‫عمر‪ :‬ذكرنا الرجل يشك في صالته كيف يصنع‪ ،‬فقال‪ :‬سمعت رسول هللا‬
‫صالته‪ ،‬فإن شك في الواحدة واالثنتين‪ ،‬فليجعلهما واحدة‪ ،‬وإن شك في االثنتين والثالث‪ ،‬فليجعلهما اثنتين‪ ،‬وإن‬
‫شك في الثالث واألربع‪ ،‬فليجعلهما ثالثا‪ ،‬حتى يكون الوهم في الزيادة‪ ،‬ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم‪ ،‬ثم‬
‫‪3‬‬
‫يسلم‪».‬‬

‫قال‪«:‬تذاكروا‬ ‫كما وجه الصحابة رض ي هللا عنهم طالب العلم إلى املذاكرة وشجعوهم عليها فعن علي‬
‫‪5 4‬‬
‫هذا الحديث‪ ،‬وتزاوروا‪ ،‬فإنكم إن ال تفعلوا‪ ،‬يدرس ‪».‬‬

‫رقم‪ )190/4( 3567 :‬واإلمام مسلم في كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب‪ :‬التثبت في الحديث وحكم‬ ‫‪ 1‬أوردها البخاري في كتاب املناقب‪ ،‬باب‪ :‬صفة النبي‬
‫كتابة العلم‪ ،‬رقم‪)2298 /4( 2493 :‬‬
‫‪ 2‬أخرجه الترمذي في أبواب املناقب‪ ،‬باب في كالم النبي رقم‪ )600 /5( 3639 :‬وقال‪«:‬هذا حديث حسن صحيح ال نعرفه إال من حديث الزهري‪ ،‬وقد‬
‫رواه يونس بن يزيد‪ ،‬عن الزهري»‬
‫‪ 3‬حديث حسن لغيره‪ ،‬أخرجه اإلمام أحمد في مسند عبد الرحمن بن عوف رض ي هللا عنه‪ ،‬رقم‪)210 /3( 1677 :‬‬
‫‪ 4‬يدرس‪ :‬يمحى‪ ،‬يقال‪ :‬درس األثر يدرس دروسا‪ ،‬أو درسه الريح تدرسه درسا‪ ،‬أي‪ :‬محته‪ .‬تهذيب اللغة لألزهري (‪ )251 /12‬ت‪ :‬محمد عوض مرعب‪ ،‬د‪:‬‬
‫إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪2001 /1:‬م‪،‬‬

‫‪ 5‬حديث صحيح اإلسناد‪ ،‬أخرجه الدارمي في سننه باب‪ :‬مذاكرة العلم‪ ،‬رقم‪ )488 /1( 650 :‬ت‪ :‬حسين سليم أسد الداراني‪ ،‬د املغني للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫اململكة العربية السعودية‪ ،‬ط‪ 1412/1:‬هـ ‪ 2000 -‬م‬
‫‪59‬‬
‫ثالثا‪ :‬كتابة الحديث‪.‬‬

‫من املعلوم أن التدوين الرسمي للحديث النبوي الشريف لم يتم إال في القرن الثاني الهجري‪ ،‬لكن هذا ال يعني‬
‫أن الصحابة لم يكتبوا شيئا من الحديث‪ ،‬فقد ثبت أنه كان لبعضهم صحائف يدونون فيها كالم رسول هللا ‪،‬‬
‫وهذا ما أكده عدد من العلماء واملحققين‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ومن بينهم الدكتور مصطفى السباعي رحمه هللا الذي حاول التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة‪،‬‬
‫واإلذن بها‪ 2،‬إذ حمل أحاديث النهي على أنه نهي عن التدوين الرسمي لها كما كان يدون القرآن‪ ،‬وأما اإلذن فهو‬
‫محمول على السماح بتدوين نصوص من السنة لظروف ومالبسات خاصة أو لبعض الصحابة الذين كانوا‬
‫‪3‬‬
‫يكتبون السنة ألنفسهم‪.‬‬

‫نجد‪:‬‬ ‫ومن الصحائف التي كتبها الصحابة رض ي هللا عنهم في حياة النبي‬

‫‪ -‬الصحيفة الصادقة‪ :‬التي كتبها عبد هللا بن عمرو بن العاص‪ ،‬وقد انتقلت هذه الصحيفة إلى حفيده عمرو بن‬
‫شعيب‪ ،‬وأخرج اإلمام أحمد في مسند عبد هللا بن عمرو من كتابه املسند قسما كبيرا من أحاديث هذه الصحيفة‬
‫‪4‬‬
‫من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪.‬‬

‫‪ -‬صحيفة علي بن أبي طالب‪ :‬وهي صحيفة صغيرة تشتمل على العقل ‪ -‬أي مقادير الديات ‪ -‬وعلى أحكام فكاك‬
‫األسير‪ ،‬وقد أخرج نبأها البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال ‪ :‬قلت هل عندكم كتاب؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬إال كتاب هللا‪ ،‬أو‬
‫فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة‪ .‬قال قلت‪ :‬فما في هذه الصحيفة؟ قال العقل‪ ،‬وفكاك األسير‪،‬‬
‫‪5‬‬
‫وأن ال يقتل مسلم بكافر‪.‬‬

‫‪ -‬صحيفة سعد بن عبادة‪ :‬فقد أخرج الترمذي في سننه‪ ،‬عن ابن سعد بن عبادة قوله‪ :‬وجدنا في كتاب سعد أن‬
‫‪6‬‬
‫قض ى باليمين والشاهد‪.‬‬ ‫النبي‬

‫عن رسول هللا ‪« :‬ال تكتبوا عني‪ ،‬ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»‪ .‬أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب‪:‬‬ ‫‪ 1‬عن أبي سعيد الخدري‬
‫التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم‪ ،‬رقم‪)2298 /4( 3004 :‬‬
‫قال‪« :‬ما من أصحاب النبي صلى هللا عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني‪ ،‬إال ما كان من عبد هللا بن عمرو‪ ،‬فإنه كان يكتب وال‬ ‫‪ 2‬عن أبي هريرة‬
‫أكتب» أخرجه البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬كتابة العلم‪ ،‬رقم‪)34 /1( 113 :‬‬
‫‪ 3‬السنة ومكانتها في التشريع اإلسالمي ملصطفى السباعي (‪)61 /1‬‬
‫‪ 4‬أخرجها اإلمام أحمد في مسند املكثرين من الصحابة‪ ،‬مسند عبد هللا بن عمرو بن العاص‪)7 /11(،‬‬

‫‪ 5‬أخرجه اإلمام البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬كتابة العلم‪ ،‬رقم‪)33 /1( 111 :‬‬
‫‪6‬أخرجه الترمذي في أبواب األحكام‪،‬باب‪:‬ما جاء في القضاء باليمين مع الشاهد‪،‬رقم‪)20/3(1343:‬وقال‪:‬حديث حسن غريب‬
‫‪60‬‬
‫إلى ملوك وأمراء عصره يدعوهم فيها إلى اإلسالم‪ :‬ككتابه إلى هرقل ملك الروم‪ ،‬وإلى املقوقس بمصر‪،‬‬ ‫‪ -‬كتبه‬
‫إضافة إلى عقوده ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار‪ :‬كصلح الحديبية‪ ،‬وصلح تبوك‪ ،‬وصحيفة املعاهدة التي‬
‫‪1‬‬ ‫ُ‬
‫أبرمت في املدينة بين املسلمين وبين من جاورهم من اليهود‪.‬‬

‫مما يدفع الشبهة التي يتداولها‬ ‫وغير ذلك مما كتب في عهده ‪ ،‬وهو كاف إلثبات تواتر الكتابة في عهده‬
‫بعض املشككين في السنة النبوية املشرفة والطاعنين في كتب الحديث الصحيح‪ ،‬بأنها غير موثقه ومشكوك في‬
‫صحة ما ورد فيها من أحاديث لبعد زمان تدوينها‪ ،‬وهي شبهة باطلة ولم يكن لها أي أساس علمي أو تاريخي‪.‬‬

‫املطلب الخامس‪ :‬منهج الصحابة في التوثق من صحة الحديث زمن الخالفة الراشدة‬
‫ً‬
‫بتبليغ حديثه ملن بعدهم حتى يبقى محفوظا وحتى ال‬ ‫لقد تواتر لدى الصحابة رض ي هللا عنهم أمر النبي‬
‫تضيع السنة النبوية‪ ،‬فعن سماك بن حرب ‪ ،‬قال‪ :‬سمعت عبد الرحمن بن عبد هللا بن مسعود‪ ،‬يحدث عن أبيه‪،‬‬
‫قال‪« :‬سمعت النبي صلى هللا عليه وسلم يقول‪ :‬نضر هللا‪ 2‬امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع‪ ،‬فرب مبلغ أوعى‬
‫من الكذب عليه‪ ،‬حيث قال عليه الصالة والسالم‪«:‬من‬ ‫من سامع‪ 3»..‬كما بلغهم التحذير الشديد لرسول هللا‬
‫كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار‪ 4».‬ففهموا من ذلك أنه البد من الحيطة الشديدة في قبول ما يضاف‬
‫من اآلخرين‪ ،‬وقد ازدادت الحاجة إلى التوثق والتأكد من الحديث بعد وفاته ‪ ،‬ولذلك تجلت لنا زمن‬ ‫إليه‬
‫الخالفة الراشدة صورة من التثبت القائم على أسس متينة كانت النواة األولى ملا يسمى باملنهج العلمي في قبول‬
‫رواية األخبار‪ ،‬وتتلخص سمات منهجهم رض ي هللا عنهم فيما يلي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬التثبت والتحري‬
‫في‬ ‫كما رأيناه سلفا مع حديث أنس‬ ‫اتخذ الصحابة رض ي هللا عنهم منهج التثبت من الحديث في حياته‬
‫وفود ضمام بن ثعلبة‪ ،‬وساروا على نفس النهج زمن الخالفة الراشدة‪ ،‬وكان أول من احتاط في قبول األخبار أبو‬
‫تلتمس أن َّ‬
‫تورث‬ ‫بكر الصديق ‪ ،‬فقد روى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر‬
‫فقال‪ « :‬ما لك في كتاب هللا ش يء‪ ،‬وما لك في سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ش يء‪ ،‬فارجعي حتى أسأل‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب كتاب النبي صلى هللا عليه وسلم إلى كسرى وقيصر‪ ،‬رقم‪ )8/6( 4424 :‬وابن أبي شيبة في املصنف‪،‬‬
‫كتاب املغازي‪ ،‬باب‪ :‬ما ذكر في كتب النبي عليه السالم وبعوثه‪ ،‬رقم‪ )346/7( 36628:‬ت‪:‬كمال يوسف الحوت‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط‪1409 /1:‬‬
‫‪ 2‬نضر هللا‪ :‬تفيد الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة يقال بتخفيف الضاد وتثقيلها وأجودهما التخفيف‪ ،‬معالم السنن للخطابي(‪ )187/4‬املطبعة‬
‫العلمية‪ ،‬حلب‪.‬ط‪ 1351 /1:‬هـ ‪ 1932 -‬م‪،‬‬
‫‪ 3‬حديث حسن صحيح‪ ،‬أخرجه الترمذي في أبواب العلم‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في الحث على تبليغ السماع‪ ،‬رقم‪ )331/4( 2657 :‬ت أحمد شاكر‪ ،‬د‪ :‬إحياء‬
‫التراث بيروت‪ .‬واإلمام أحمد في مسند املكثرين من الصحابة‪ ،‬مسند عبد هللا بن مسعود‪ ،‬رقم‪ )221/7( 4157 :‬وابن ماجة في كتاب‪ :‬اإليمان وفضائل‬
‫الصحابة والعلم‪ ،‬باب‪ :‬من بلغ علما‪ ،‬رقم‪)85 /1( 232 :‬‬
‫‪ 4‬أخرجه اإلمام البخاري في كتاب الجنائز‪ ،‬باب‪ :‬ما يكره من النياحة على امليت‪ ،‬رقم‪ )80/2( 1291:‬واإلمام مسلم في باب‪ :‬التحذير من الكذب على‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬رقم‪)10/1( 3 :‬‬
‫‪61‬‬
‫الناس‪ ،‬فسأل الناس فقال املغيرة بن شعبة‪«:‬حضرت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأعطاها السدس‪ ».‬فقال‬
‫أبو بكر‪ :‬هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة األنصاري‪ ،‬فقال مثل ما قال املغيرة بن شعبة‪ ،‬فأنفذه لها أبو‬
‫‪1‬‬
‫بكر‪».‬‬
‫قال‪«:‬كنا في‬ ‫ومن ذلك أيضا قصة عمر مع أبي موس ى األشعري رض ي هللا عنهما‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري‬
‫مجلس عند أبي بن كعب فأتى أبو موس ى األشعري مغضبا (وفي رواية فزعا أو مذعورا) حتى وقف فقال‪ :‬أنشدكم‬
‫ُ‬
‫هللا! هل سمع أحد منكم رسول هللا يقول‪" :‬اإلستئذان ثالث‪ ،‬فإن أذن لك وإال فارجع؟ قال‪ :‬أبي وما ذاك؟ قال‪:‬‬
‫استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثالث مرات فلم يؤذن لي فرجعت‪ ،‬ثم جئته اليوم‪ ،‬فدخلت عليه‪ ،‬فأخبرته‬
‫ً‬
‫أني جئت باألمس فسلمت ثالثا‪ ،‬ثم انصرفت‪ .‬قال قد سمعناك ونحن حينئذ في شغل‪ .‬فلو استأذنت حتى يؤذن‬
‫لك؟ قال‪ :‬استأذنت كما سمعت رسول هللا ‪ .‬قال‪ :‬فوهللا ألوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على‬
‫ُ‬
‫هذا؟ فقال أبي بن كعب‪ :‬فوهللا ال يقوم معك إال أحدثنا سنا‪ .‬قم يا أبا سعيد‪ .‬فقمت حتى أتيت عمر‪ ،‬فقلت‪ :‬قد‬
‫‪2‬‬
‫يقول هذا‪».‬‬ ‫سمعت رسول هللا‬
‫ثانيا‪ :‬االحتياط في التحديث‬
‫يعتبر عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه من أشد الصحابة احتياطا في التحديث وتحذيرا من اإلكثار في الرواية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يقول اإلمام ابن قتيبة‪" :‬كان عمر أيضا شديدا على من أكثر الرواية‪ ،‬أو أتى بخبر في الحكم ال شاهد عليه‪ ،‬وكان‬
‫يأمرهم بأن يقلوا الرواية‪ ،‬يريد بذلك أال يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من املنافق‬
‫والفاجر واألعرابي‪ ،‬وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول هللا ـ كأبي بكر‪ ،‬والزبير‪ ،‬وأبي عبيدة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫والعباس بن عبد املطلب ـ يقلون الرواية عنه‪ ،‬بل كان بعضهم ال يكاد يروي شيئا‪ ،‬كسعيد بن زيد بن عمرو بن‬
‫‪3‬‬
‫نفيل‪ ،‬وهو أحد العشرة املشهود لهم بالجنة‪".‬‬
‫ثالثا‪ :‬العناية باإلسناد‬
‫من وسائل الصحابة في التأكد من صحة السنة النبوية عنايتهم باإلسناد‪ ،‬حيث استعملوا العبارات التي تفيد‬
‫مزيدا من التوثق في الرواية‪ ،‬كقول أبي عمرو الشيباني‪«:‬حدثني صاحب هذه الدار‪ ،‬وأشار إلى دار عبد هللا قال‪:‬‬
‫‪ :‬أي األعمال أحب إلى هللا؟ قال‪« :‬الصالة على وقتها» قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪« :‬ثم بر الوالدين»‬ ‫سألت رسول هللا‬
‫قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪« :‬ثم الجهاد في سبيل هللا» قال‪ :‬حدثني بهن ولو استزدته لزادني‪ 4».‬فإشارة الراوي إلى دار عبد‬

‫‪ 1‬حديث حسن صحيح‪ ،‬أخرجه الترمذي في أبواب الفرائض‪ ،‬باب‪ :‬ماجاء في ميراث الجدة‪ ،‬رقم‪ )420 /4( 2101 :‬والنسائي في السنن الكبرى‪ ،‬كتاب‬
‫الفرائض باب‪ :‬ذكر الجدات واألجداد ومقادير نصيبهم‪ ،‬رقم‪)111 /6( 6306 :‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري في كتاب االستئذان‪ ،‬باب‪ :‬التسليم واالستئذان ثالثا‪ ،‬رقم‪ ،)54/8( 6245:‬ومسلم في كتاب اآلداب‪ ،‬باب‪:‬االستئذان‪ ،‬رقم‪/3( 2153 :‬‬
‫‪ )1694‬واللفظ ملسلم‪.‬‬
‫‪ 3‬تأويل مختلف الحديث البن قتيبة (ص‪ )30:‬املكتب االسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1419/2:‬هـ ‪1999 -‬م‬
‫‪ 4‬أخرجه مسلم في كتاب اإليمان‪ ،‬باب‪ :‬بيان كون اإليمان باهلل تعالى من أفضل األعمال‪ ،‬رقم‪)90 /1( 85 :‬‬
‫‪62‬‬
‫من باب التأكيد على نقله عن ابن مسعود‪ ،‬قال ابن دقيق العيد‪ ":‬قوله " حدثني صاحب‬ ‫هللا بن مسعود‬
‫هذه الدار " دليل على أن اإلشارة يكتفى بها عن التصريح باالسم‪ ،‬وتنزل منزلته إذا كانت معينة للمشار إليه‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫مميزة عن غيره‪"..‬‬
‫ومن ذلك ما رواه السائب بن يزيد ابن أخت نمر‪ ،‬أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد هللا بن السعدي‬
‫أخبره‪ :‬أنه قدم على عمر بن الخطاب في خالفته‪ ،‬فقال له عمر‪«:‬ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعماال‪،‬‬
‫فإذا أعطيت العمالة‪ 2‬كرهتها‪ ،‬فقلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقال عمر‪ :‬فما تريد إلى ذلك‪ ،‬قلت‪ :‬إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير‪،‬‬
‫وأريد أن تكون عمالتي صدقة على املسلمين‪ ،‬قال عمر‪ :‬ال تفعل‪ ،‬فإني كنت أردت الذي أردت‪ ،‬فكان رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم يعطيني العطاء‪ ،‬فأقول‪ :‬أعطه أفقر إليه مني‪ ،‬حتى أعطاني مرة ماال‪ ،‬فقلت‪ :‬أعطه أفقر‬
‫إليه مني‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬خذه‪ ،‬فتموله‪ ،‬وتصدق به‪ ،‬فما جاءك من هذا املال وأنت غير‬
‫مشرف وال سائل فخذه‪ ،‬وإال فال تتبعه نفسك‪ 3».‬واملالحظ في هذا الحديث أن أربعة من الصحابة كل منهم يروي‬
‫عن اآلخر‪ ،‬حيث لم يكتف كل واحد بما سمعه ولم يرفعه مباشرة إلى رسول هللا ‪ ،‬وإنما بين الطريق الذي وصل‬
‫إليه به الحديث‪.‬‬
‫وهذا ما أكده اإلمام النووي في شرحه للحديث بقوله‪ ":‬هذا الحديث فيه أربعة صحابيون يروي بعضهم عن‬
‫بعض وهم عمر وابن السعدي وحويطب والسائب رض ي هللا عنهم‪ ،‬وقد جاءت جملة من األحاديث فيها أربعة‬
‫‪4‬‬
‫صحابيون يروي بعضهم عن بعض‪".‬‬
‫رابعا‪ :‬نقد متن الحديث‬
‫كان للصحابة رضوان هللا عليهم فضل السبق في وضع الضوابط األساسية التي يمكن بواسطتها الحكم على‬
‫متن الحديث النبوي إذا استدعى النظر ذلك‪ ،‬ومن بين أهم هذه الضوابط أذكر‪:‬‬
‫عرض السنة على القرآن الكريم‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫القرآن الكريم هو املصدر األول والسنة النبوية خادمة وشارحة له‪ ،‬وال يمكن للفرع أن يخالف األصل أو‬
‫يناقضه‪ ،‬فإذا ما وجد تعارض بين ظاهر القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف‪ ،‬فال يعدو أن يكون تعارضا‬
‫ظاهريا غير حقيقي‪ ،‬يمكن أن ينشأ عن أسباب أخرى كخطإ الراوي أو سهوه‪ ،‬أو عدم فهم املراد من اللفظ‪.‬‬
‫وقد أعمل الصحابة الكرام هذا الضابط في نقد متن الحديث والحكم عليه‪ ،‬ومن بينهم عمر بن الخطاب‬
‫في رفضه لخبر فاطمة بنت قيس في نفقة املبتوتة حيث شهدت عند عمر بن الخطاب أنها كانت مطلقة‬

‫‪ 1‬ابن دقيق العيد‪ ،‬إحكام األحكام شرح عمدة األحكام (‪ )162 /1‬مطبعة السنة املحمدية‪.‬‬
‫‪ 2‬العمالة‪ :‬األجرة‪ ،‬وفيه بيان جواز أخذ العامل األجرة بقدر مثل عمله فيما يتواله من األمر‪.‬امعالم السنن للخطابي (‪)7 /3‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري في كتاب‪ :‬األحكام‪ ،‬باب‪ :‬رزق الحكام والعاملين عليها‪ ،‬رقم‪ )68/9( 7163:‬ومسلم في كتاب‪ :‬الزكاة‪ ،‬باب‪ :‬إباحة األخذ ملن أعطي من غير‬
‫مسألة وال إشراف‪ ،‬رقم‪ )723 /2( 1045 :‬واللفظ للبخاري‪.‬‬
‫‪ 4‬شرح النووي على مسلم (‪)136 /7‬‬
‫‪63‬‬
‫َ‬
‫نفقة وال سكنا‪ ،‬فرد شهادتها وقال‪":‬الندع كتاب هللا ‪ -‬يقصد قوله تعالى﴿ال‬ ‫الثالث فلم يجعل لها رسول هللا‬
‫ُت ْخر ُج ُ‬
‫وه َّن ِم ْن ُب ُي ِوت ِه َّن ﴾ (الطالق‪،‬آ‪ - )1:‬وال سنة نبينا لقول امرأة ال ندري لعلها حفظت أو نسيت‪ 1".‬وكذلك ما‬ ‫ِ‬
‫روي عن أم املؤمنين عائشة رض ي هللا عنها في رفضها لخبر عمر وابنه عب د هللا في حديث "تعذيب امليت ببكاء أهله‬
‫‪2‬‬
‫عليه" حيث قالت‪" :‬يغفر هللا ألبي عبد الرحمن أما أنه لم يكذب ولكنه نس ي أو أخطأ‪".‬‬
‫ب‪ -‬عرض السنة على السنة‪:‬‬
‫ً‬
‫كما تم نفي وجود التعارض بين السنة الصحيحة والقرآن الكريم‪ .‬أيضا ننفي وجود تعارض حقيقي بين‬
‫حديثان بإسنادين‬ ‫األحاديث النبوية الصحيحة‪ ،‬قال اإلمام ابن خزيمة‪" :‬ال أعرف أنه روي عن رسول هللا‬
‫‪3‬‬
‫صحيحين متضادان‪ ،‬فمن كان عنده فليأت به حتى أؤلف بينهما‪".‬‬
‫وقد اعتمد الصحابة هذا الضابط كأساس من أسس توثيق السنة‪ ،‬وتمييز الصحيح من غيره‪ ،‬يشهد لذلك‬
‫ما أخرجه الترمذي عن سليمان بن يسار‪ ،‬أن أبا هريرة‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وأبا سلمة بن عبد الرحمن تذاكروا املتوفى‬
‫عنها زوجها الحامل تضع عند وفاة زوجها‪ ،‬فقال ابن عباس‪ :‬تعتد آخر األجلين‪ ،‬وقال أبو سلمة‪ :‬بل تحل حين‬
‫تضع‪ ،‬وقال أبو هريرة‪ :‬أنا مع ابن أخي‪ ،‬يعني أبا سلمة‪ ،‬فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬قد وضعت سبيعة األسلمية بعد وفاة زوجها بيسير‪ ،‬فاستفتت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم «فأمرها‬
‫‪4‬‬
‫أن تتزوج‪».‬‬
‫خامسا‪ :‬استحالف الراوي على روايته‬
‫ً‬
‫متحريا في األخذ بالحديث‪ ،‬حيث أنه يستحلف من‬ ‫وهذا ما اشتهر به اإلمام علي كرم هللا وجهه‪ ،‬فقد كان‬
‫ً‬
‫يحدثه‪ ،‬وروى عنه أنه قال‪" :‬كنت إذا سمعت من رسول هللا حديثا‪ ،‬نفعني هللا بما شاء أن ينفعني منه‪ ،‬وكان‬
‫إذا حدثني عنه غيره استحلفته‪ ،‬فإذا حلف صدقته‪ ،‬وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال‪ :‬سمعت رسول هللا‬
‫‪5‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫يقول‪« :‬ما من عبد مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر هللا إال غفر له‪».‬‬
‫الذي كان يحلف لتالميذه وهو يحدثهم عن رسول هللا ‪ ،‬وهو غير متهم‪،‬‬ ‫وكذلك عبد هللا بن مسعود‬
‫فقد أخرج البخاري بسنده إلى عبد هللا بن مسعود قوله‪«:‬وهللا الذي ال إله غيره‪ ،‬ما أنزلت سورة من كتاب هللا إال‬

‫‪ 1‬أخرجه مسلم في كتاب الطالق‪ ،‬باب املطلقة ثالثا ال نفقة لها‪ ،‬رقم‪.)1114/2( 1480 :‬‬
‫‪ 2‬أخرجه مسلم في كتاب الجنائز‪ ،‬باب‪ :‬امليت يعذب ببكاء أهله عليه‪ ،‬رقم‪)643 /2( 932 :‬‬
‫‪ 3‬الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص‪.)432 :‬‬
‫‪ 4‬حديث حسن صحيح‪ ،‬أخرجه الترمذي في كتاب النكاح‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في الحامل املتوفى عنها زوجها تضع‪ ،‬رقم‪)490 /3( 1194:‬‬
‫‪ 5‬أخرجه الترمذي في أبواب تفسير القرآن‪ ،‬باب‪ :‬ومن سورة آل عمران‪ ،‬رقم‪ )78 /5( 3006 :‬وقال‪ ":‬هذا حديث قد رواه شعبة‪ ،‬وغير واحد عن عثمان بن‬
‫املغيرة‪ ،‬فرفعوه‪ ،‬ورواه مسعر‪ ،‬وسفيان‪ ،‬عن عثمان بن املغيرة‪ ،‬فلم يرفعاه‪ ".‬وقال األلباني‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫أنا أعلم أين أنزلت‪ ،‬وال أنزلت آية من كتاب هللا إال أنا أعلم فيم أنزلت‪ ،‬ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب هللا‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫تبلغه اإلبل لركبت إليه‪».‬‬

‫سادسا‪ :‬اختبارالراوي‬
‫للتأكد من ضبط حفظه وصحة روايته‪ ،‬فإذا سمعوا من أحدهم حديثا‪ ،‬فإنهم كانوا يختبرونه مرة أخرى‬
‫قال‪:‬حدثنا سعيد بن تليد‪ ،‬حدثني ابن وهب‪ ،‬حدثني عبد الرحمن بن‬ ‫ليوازنوا بين الروايتين‪ ،‬فعن عروة‬
‫يقول‪:‬‬ ‫شريح‪ ،‬وغيره عن أبي األسود‪ ،‬عن عروة‪ ،‬قال‪ :‬حج علينا عبد هللا بن عمرو فسمعته يقول‪ :‬سمعت النبي‬
‫« إن هللا ال ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا‪ ،‬ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم‪ ،‬فيبقى ناس جهال‪،‬‬
‫يستفتون فيفتون برأيهم‪ ،‬فيضلون ويضلون»‪ ،‬فحدثت به عائشة زوج النبي ‪ ،‬ثم إن عبد هللا بن عمرو حج بعد‬
‫فقالت‪ :‬يا ابن أختي انطلق إلى عبد هللا فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه‪ ،‬فجئته فسألته فحدثني به كنحو ما‬
‫‪2‬‬
‫حدثني‪ ،‬فأتيت عائشة فأخبرتها فعجبت فقالت‪ :‬وهللا لقد حفظ عبد هللا بن عمرو‪".‬‬
‫هذه بعض معالم منهج الصحابة رضوان هللا عليهم في التوثق من صحة رواية الحديث زمن الخالفة الراشدة‪،‬‬
‫وهذا ليس بغريب عن تالميذ املدرسة املحمدية فقد كانوا مصابيح ينشرون العلم والنور‪ ،‬ويدعون للتثبت‬
‫من أقوال وتصرفات‪.‬‬ ‫واالحتراز واليقظة في كل ما ينسب إلى رسول هللا‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري في كتاب‪ :‬فضائل القرآن‪ ،‬باب‪ :‬القراء من أصحاب النبي ‪ ،‬رقم‪)186 /6( 5002 :‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري في كتاب‪ :‬االعتصام بالكتاب والسنة‪ ،‬باب‪ :‬ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس‪ ،‬رقم‪)100 /9( 7307 :‬‬

‫‪65‬‬
‫املبحث السابع‪ :‬التصنيف في الجرح والتعديل‪.‬‬
‫ً‬
‫إن املؤلفات في هذا امليدان كثيرة جدا؛ ولذلك فإن الناظر في عناوينها فقط ليندهش أمام هذه الكثرة الوافرة‪.‬‬
‫ويقف مندهشا أيضا أمام ما فيها من ضبط وتدقيق في التعريف بالرواة وبأحوالهم وغير ذلك‪ .‬لقد وضعت هذه‬
‫املؤلفات في تاريخ الفكر اإلسالمي واإلنساني مسالك للنظر وقواعد للنقد ومثاال للنقد العلمي النزيه‪ .‬ولم تكن‬
‫أبدا مجرد حشد ألسماء األعالم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ‪ ...‬و"إنما هو اتجاه يؤكد أن كل فكرة إنما‬
‫‪1‬‬
‫تتكون وفقا التجاهات الرجال الذين يحملونها"‬‫يحملها رجال‪ ،‬وأن هذه الفكرة َّ‬
‫يمكن أن نجمل كتب الرجال في قسمين كبيرين‪ :‬قسم مباشر في أحوال الرواة‪ ،‬وقسم غير مباشر‪ :‬فأما األول‬
‫ففيه أنواع ثالثة‪:‬‬
‫أ‪ -‬كتب الثقات‪ ،‬وهي خاصة بأسماء الثقات من الرواة‪ ،‬ككتاب "الثقات واملتثبتون" لإلمام علي بن املديني‪،‬‬
‫و"الثقات" ألحمد بن عبد هللا بن صالح البستي (ت‪ )261:‬و"الثقات" البن شاهين‪ ،‬و"الثقات" البن حبان‪.‬‬
‫ب‪ -‬كتب الضعفاء واملتروكين‪ ،‬وهي خاصة بأسماء املجروحين لبيان أحوالهم‪ ،‬ككتاب "الضعفاء واملتروكين"‬
‫لإلمام يحيى بن سعيد القطان‪ ، 2‬وكتاب "الضعفاء" ألبي الحسن املدائني (‪ ، )?225‬و"الضعفاء" ليحيى بن معين‪،‬‬
‫و"الضعفاء" لعلي بن املديني‪ ،‬و"الضعفاء واملتروكين" ألبي زرعة الرازي‪ ،‬و"الضعفاء الكبير" لإلمام البخاري‪،‬‬
‫و"الضعفاء" لإلمام الدارقطني ‪...‬‬
‫ج‪ -‬كتب جامعة بين الثقات والضعفاء‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪-‬كتب التواريخ‪ ،‬أي تواريخ املحدثين‪ ،‬كـ"التاريخ" لإلمام عبد هللا بن املبارك‪ ،‬و"التاريخ" ليحيى بن معين‪،‬‬
‫و"التاريخ" البن املديني‪ ،‬و"التاريخ" ألحمد‬
‫ابن حنبل‪ ،‬و"التاريخ الكبير" للبخاري‪ ،‬و"املعرفة والتاريخ" ليعقوب الفسوي‪ ،‬و"التاريخ الكبير" البن أبي‬
‫خيثمة ‪...‬‬
‫‪-‬كتب الجرح والتعديل ومعرفة الرجال‪ ،‬كـ"معرفة الرجال" ليحيى بن معين‪ ،‬و"العلل والرجال" ألحمد بن‬
‫حنبل‪ ،‬و"الجرح والتعديل" للجوزجاني‪ ،‬و"الجرح والتعديل" ألحمد بن صالح العجلي‪ ،‬و"الجرح والتعديل"‬
‫للعقيلي‪ ،‬و"الجرح والتعديل" البن أبي حاتم الرازي‪... ،‬‬
‫هذا باإلضافة إلى كتب أخرى أفردت لبيان أحوال رواة مخصوصين ككتب املدلسين‪ ،‬وكتب املختلطين‪ ،‬وكتب‬
‫املعمرين ‪...‬‬
‫وأما القسم الثاني‪ ،‬فعبارة عن كتب مساعدة ال تعنى ببيان أحوال الرواة مباشرة‪ ،‬إنما تعنى بطبقات الرواة‬
‫وأسمائهم وأنسابهم وكناهم وغير ذلك مما يبين شخص الراوي ال حاله‪ ،‬ومن هذه الكتب‪:‬‬

‫‪ 1‬مصطلح الحديث وأثره على الدرس اللغوي عند العرب للدكتور شرف الدين علي الراجحي ص ‪284‬‬
‫‪ 2‬ذكره له اإلمام الذهبي في سير أعالم النبالء‪.183/9 ،‬‬
‫‪66‬‬
‫‪-‬كتب الطبقات‪ ،‬كـ"طبقات ابن سعد"‪ ،‬و"طبقات ابن خياط"‪.‬‬
‫وكتب اإلخوة واألخوات من الرواة والعلماء‪ ،‬وكتب األقران‪ ،‬وكتب رواية األكابر عن األصاغر‪ ،‬وكتب رواية‬
‫اآلباء عن األبناء‪ ،‬ورواية األبناء عن اآلباء‪ ،‬وكتب املبهمات‪ ،‬وكتب من ذكر بنعوت متعددة‪.‬‬
‫‪-‬ومنها كتب األسماء والكنى‪ ،‬واملتفق واملفترق‪ ،‬واملؤتلف واملختلف‪ ،‬إلى غير ذلك من أنواع الدراسات واألبحاث‬
‫املبينة لشخص الراوي‪ 1،‬وهو أمر ينم عن ضبط وتدقيق نقاد الحديث منذ القرن األول‪ ،‬وعن شمول أبحاثهم‬
‫لكل ما يتوصل به إلى معرفة شخص الراوي وتحديده من جميع النواحي الزمانية واملكانية واالسمية ‪...‬‬

‫‪ 1‬انظر معرفة علوم الحديث ص‪ ... 183-152 :‬ومقدمة ابن الصالح والرسالة املستطرفة ص‪ ... 122-120-114 :‬وكتاب الحطة في ذكر الصحاح الستة‬
‫للسيد حسن القنوجي ص‪ ... 93-92-91 :‬وكتاب املنهج اإلسالمي في الجرح والتعديل لشيخنا الدكتور فاروق حمادة حفظه هللا‪.‬‬
‫‪67‬‬

You might also like