Professional Documents
Culture Documents
في هذا الفصل ،سأبين فيه المفهوم اللغوي للحق و العقيدة من خالل المعاجم اللغوية و المعاني اإلصطالحية.
وسأجعل ذلك في مبحثين.
المبحث األول:
تعريف المصطلحات اللغوية واإلصطالحية للحق و العقيدة.
أوال :تعريف الحق لغة و اصطالحا.
من خالل تتبع مادة "ح.ق.ق" في مضانها اللغوية ،يتبين أن هذا اللفظ يكاد يتمحور مدلوله اللغوي في المعاني
األتية:
الثبوت – المطابقة أو الموافقة – الوجوب – اليقين – اإلحكام والصحة.
واصطالحا :هو الحكم المطابق للواقع ،يطلق على "األقوال و العقائد و األديان والمذاهب ،باعتبار اشتمالها
على ذلك ،ويقابله الباطل"(.)4
والعقود أوثق العهود ،ومنه قوله تعالى( :ياأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود)( )6وتقول العرب أعتقد الشيء" :إذا صلب
واشتد" ()7
-2وفي اإلصطالح :فقد عرفها د .محمد علي أبو ريان بقوله" :األمر الذي تصدق به النفس ويطمئن إليه القلب ،ويكون يقينا
عند صاحبه ال يمازجه شك ،وال يخالطه ريب"(.)8
المطلب األول :تحديد السياقات القرآنية التي ورد فيها الحق ذا داللة عقدية.
استعمل القرآن الكريم لفظ الحق بدالالته العقدية في السور المكية التي سأبين سياقاتها العامة ،تمهيدا إليضاح هذا المفهوم.
وهي حسب ترتيب نزولها ( )1كاألتي:
-1سورة العصر:
وفيها يقول هللا عز وجل( :وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ( )2والتواصي] بالحق هو التواصي] باهلل عز وجل،
وتوحيده ،وورود] هذا المبدأ في هذه السورة المبكرة يأتي بعد القسم بالعصر ،والعصر] تعبير عن الزمان.
ومن ثم كان القسم بالزمان (العصر ) إشارة إلى مافي] مروره من أصناف] العجائب ،ومايحصل] فيه من السراء والضراء
والصحة والسقم والغنى والفقر ،بل كما يقول الفخر الرازي" :فيه ماهو أعجب من كل عجيب ،وأن العقل ال يقوى على أن
يحكم عليه بالعدم ،فإنه مجزأ مقسم بالسنة والشهر] واليوم] والساعة ،ومحكوم] عليه بالزيادة والنقصان والمطابقة ،وكونه
ماضيا ومسقبال ،فكيف يكون معدوما؟ وال يمكنه أن يحكم عليه بالوجود] ألن الحاضر غير قابل للقسمة والماضي] والمستقبل
معدومان ،فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود؟]()3
فالسورة على وجازتها تلخيص لعواقب النشاط] اإلنساني] كله على امتداد الزمان والمكان ،فالمقطعون على هللا حطب جهنم،
والمتمسكون باإليمان والصالح والحق والصبر هم الذين كسبوا معركة الحياة كما يقول الشيخ الغزالي(.)4
()5 ولعله لهذا السبب قال اإلمام الشافعي] -رحمه هللا – عن سورة العصر" :لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم"
قال صاحب ضالل" :والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه :إنه على امتداد الزمان في جميع
األعصار ،وامتداد اإلنسان في جميع األدهار ،ليس هناك إال منهج واحد رابح ،وطريق] واحد ناجم ،هو ذلك المنهج الذي
ترسم السورة حدوده ،وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار" (.)6
إذن فإطالق] اصطالح "الحق" على هللا عز وجل وتواصي] به في هذه السورة المكية المبكرة يدل على تأسيس القرآن لمبدأ
التوحيد على أساس من السعة تجعل اإلسالم مرشحا للشمول والخلود.
( )1اعتمدت في هذا ترتيب على ماذكره السيوطي في اإلتقان.25-1/24 :
( )2سورة العصر.
وهناك نجد اسم الرحمان من أسماء هللا الحسنى يتكرر في هذه السورة ست عشرة مرة ،ذلك في قوله تعالى( :إني نذرت
للرحمان صوما فال أكلم اليوم إنسيا)( )2وقوله( :إن الشيطان كان للرحمان عصيا)( )3وقوله( :ياأبتي إني أخاف
أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا)( )4وقوله( :إذا تتلى عليهم أيات الرحمان خروا سجدا
وبكيا) ( )5وقوله( :جنات عدن التي وعد الرحمان عباده بالغيب) ( )6وقوله( :ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد
على الرحمان عتيا) ( )7وقوله( :قل من كان في الضاللة فليمدد له الرحمان مدا)( )8وقوله( :أطلع الغيب أن اتخذ
عند الرحمان عهدا)( )9وقوله( :يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا)( )10وقوله( :اليملكون الشفاعة إال من
اتخذ عند الرحمان عهدا)( )11وقوله ( :وقالوا اتخذ الرحمان ولدا)( )12وقوله( :أن دعوا للرحمان ولدا)( )13وقوله:
(إن كل من في السماوات و األرض إال أتي الرحمان عبدا)( )14وقوله( :إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات
سيجعل لهم الرحمان ودا)()15
)(وفي سياق هذا الضخم من الصراع بين الوثنية والتوحيد] في سورة مريم يأتي مصطلح (قول الحق الذي فيه يمترون
)16
وهذا الوصف] يأتي في سياق التعريف باهلل عن طريق] النظر في ملكوته وتأمل في خلقه ،وهو موضوع] بارز في سورة
يونس عليه السالم.
وورد في هذه السورة أطراف] من قصص األنبياء واألمم] السابقة كقصة يونس مع قومه التي سميت بها السورة ،وقصة
موسى مع فرعون ،وقصة نوح مع قومه ،وكل أولئك األقوام كانوا يكابرون التوحيد مكابرة عنيدة ،ويعاندون الحق معاندة
شديدة ،وهي نفس المعاندة والمكابرة التي تشبث بها أهل مكة.
وفي ذكر ذلك إشارة إليهم وإلى أمثالهم ألن القرآن في دفاع عن اإلله الحق ووحدانيته أحر نفسا وأصدق] لهجة وأصدع
برهانا ،وأن حرارة هذا الدفاع تسري في سياقه سريان الماء في النبات الغض ،ألن مصدره الحق وهو يهدي إلى الحق.
ولذلك كما قال هللا تعالى( :فذلكم هللا ربكم الحق)( )3أتبعه بما يشعر بعجز سواه عن هداية الخلق إلى الحق( :قل هل من
شركائكم من يهدي إلى الحق قل هللا يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن ال يهدي إال أن
يهدى فما لكم كيف تحكمون)(.)4
وهكذا وفي] هذا السياق يأتي الحديث عن المفهوم العقدي للحق.
فجاء هذا الوصف "الحق" في سياق حديث السورة عن قضية العقيدة و هي القضية التي يعالجها القرآن بشتى األساليب ،فقد
ذكرت السورة الخالق الكبير بما هو أهل له من مجد وثناء ،ولفتت األنظار] إلى أثر إبداعه في الكون ،وتساءلت عن الشركاء
المزعومين من هم؟ وأين ما خلقوا؟ (وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في األرض
رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق
هللا فأروني ماذا خلق الذين من دونه) (.)1
وهذا اإلسم ما هو إال نتيجة صحيحة لمقدمات صادقة عرضته السورة ،فقد ذكر السيوطي" :أن من أول سورة الحج إلى
قوله( :وأن هللا يبعث من في القبور)( .)5خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات"(.)6
ثم فصل ذلك مبيينا أن قوله( :ذلك بأن هللا هو الحق) ألنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة
معظما لها( .)7وذلك مقطوع بصحته ألنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته منقول إلينا بالتواتر ،فهو حق اليخبر
بالحق عما سيكون إال الحق ،هللا هو الحق"(.)8
ومعلوم أن ترتيب المصحف على خالف ترتيب النزول ،لكن ترتيب األيات في السورة الواحدة أمر توقيفي] ال مجال فيه
لالجتهاد إجماعا( )1وأما ترتيب السور في المصحف] فالراجح أنه توقيفي ال اجتهادي(.)2
فإذا تبين هذا ،حسن أن ننظر مفهوم الحق في ضوء علم المناسبة لكشف وجه االرتباط] بين بعض اآليات التي تحمل معنى
اصطالحيا للفظ الحق ،ووجه االرتباط] بين بعض السور التي جاء فيها مصطلح الحق يحمل داللة عقدية.
وقبل هذا ،البد من اإلشارة إلى أهمية علم المناسبة.
المناسبة يراد بها عند علماء القرآن المعنى الرابط بين آية وما قبلها وما بعدها ،وبين سورة وما قبلها وما بعدها بوجه من
وجوه الربط.
قال السيوطي] في اإلتقان" :ومرجعها] -يعني المناسبة -في اآليات ونحوها إلى معنى رابط بينها عام أو خاص عقلي أو
خيالي أو غير ذلك من أنواع العالقات أو التالزم الذهني كالسبب والمسبب والعلة والمعلول والنظرين والضدين ونحوه"()3
ومن أهمية هذا العلم أنه يجعل أجزاء الكالم بعضها آخذا بأعناق بعض ،فيقوي بذلك الرتباط ويصير] التأليف حاله حال البناء
المحكم المتالئم األجزاء(.)4
قال البقاعي" :فعلم مناسبة القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه ،و هو سر البالغة ألدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما
اقتضاه من الحال ،وتتوقف] اإلجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها ،ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع
جملها ،فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو"()5
وعلى ذلك فإن علم المناسبة "يرسخ اإليمان في القلب ،ويتمكن من اللب ،وذلك أنه يكشف أن لإلعجاز طريقين :أحدهما:
نظم كل جملة على حالها بحسب التركيب ،والثاني نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب" (.)6
ومن ثم فإن عدم مراعاة علم المناسبة بين اآليات يوقع] في بعد عن المعنى حتى في اآلية الواحدة .وهذا ما
حدث لكثير من المفسرين في تفسير آية األهلة وهي قوله تعالى ( :يسئلونك عن األهلة قل هي مواقيت
للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى واتوا البيوت من
أبوابها واتقوا هللا لعلكم تفلحون) (. )7
( )1يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن الزبير قال :قلت لعثمان " :والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية ألزواجهم متاعا إلى
الحول غير إخراج (البقرة 240 :قد نسختها اآلية األخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال :يا ابن أخي ال أغير شيئا من مكانه صحيح البخاري،
كتاب التفسير باب والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " رقم الحديث .) 4530 :
( )2مما يرجح هذا القول ما أخرجه البخاري من قول ابن مسعود في شأن سورة اإلسراء والكهف ومريم :إنهن من العتاق األول وهن من
تالدي" (صحيح البخاري ،كتاب التفسير :سورة بني إسرائيل :رقم الحديث )4708 :
ثم ساق روايات كلها تصب في نفس المعنى ،وكذلك فعل ابن جرير الطبري رحمه هللا .
وعادة دخول البيوت من ظهورها] في حال اإلحرام أو عند العودة من سفر عادة مألوفة في الجاهلية ،وقد جاء
الشطر الثاني من اآلية إلبطالها ،ولكن ما هي المناسبة فيذكر إبطال هذه العادة في هذا الشطر من هذه اآلية
عقب بيان حكمة تسخير األهلة ؟ .
أما المفسرون الذين ال يلتفتون إلى المناسبة بين اآليات فلم يشر أحد منهم إلى شيء من ذلك .غير أن اإلمام
الرازي -وهو ممن يلتفت إلى المناسبة بين اآليات -يقول في شأن هذه اآلية :
ذكروا في تفسير اآلية ثالثة أوجه :األول :وهو قول أكثر المفسرين حمل اآلية على هذه األحوال التي
رويناها في سبب النزول ،إال أنه على هذا التقدير صعب الكالم في نظم اآلية ،فإن القوم سألوا رسول] هللا
صلى هللا عليه وسلم عن الحكمة في تغيير نور] القمر فذكر] هللا تعالى الحكمة في ذلك وهي قوله " :قل هي
مواقيت للناس والحج " فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختالف نور القمر وبين هذه القصة ؟.
وبعد أن ذكر وجوها] من أقوال المفسرين ذكر وجها أكثر انسجاما فقال " :فجعل إتيان البيوت من ظهورها
كناية عن العدول عن الطريق الصحيح وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم" (. )2
المبحث الثاني:
بيان وجه التناسب بين بعض اآليات ذات الداللة اإلصطالحية للفظ الحق
سأعرض في هذا المبحث نماذج لتناسب اآليات التي تضمنت معنى اصطالحيا للفظ الحق ،وسأحصر] هذه
النماذج في اآليات التي جاء فيها "الحق" بمعنى "القرآن" و"اإلسالم" وسأجعل هذه النماذج في مطلبين:
وجه المناسبة بين اآليتين أن المستجيب للحق المنزل وحيا من السماء هو ذو اللب البصير الثاقب النظر،
وبذلك فله الصفة الحسنى التي تؤهله إلى مرتبة الجنة إذ بعمق نظره أدرك على جهة اليقين أن هذا الذي أنزل
على رسول] هللا صلى هللا عليه وسلم هو الحق الثابت الذي ال يطلب الهدى في غيره إال ضال ،وبالمقابل فإن
الذي لم يعترف بأن هذا المنزل على محمد صلى هللا عليه وسلم هو الحق ،رغم قوة حجته ،ونصاعة براهينه
فإنه أعمى البصيرة سيكلفه عماه شقاوة أبدية ال ينجيه من سوء مصيرها كل متاع األرض ومثله معه لو
افتدى به(.)3
قال البقاعي " :ولما افترق] حال من أجاب ومن أعرض في الجزاء ،وكان ما مضى مستوفيا] طرق] البيان
بإيضاح األمر بالجزئيات واألمثلة مع الترغيب والترهيب ،فكان جديرا بترتيب األثر عليه ،تسبب عنه
اإلنكار على من سوى بين العالم والعامل وغيره التفاتا إلى قوله (هل يستوي األعمى والبصير) (. )4
وسوى بين الحق والباطل التفاتا إلى قوله ( :كذلك يضرب هللا الحق والباطل )( . )5فحسن قوله " :أفمن "
بفاء السبب " يعلم " علما نافعا وهو عامل به " أنما " أي الذي "أنزل" أي وجد إنزاله وفرغ منه إليك من
ربك أي المحسن إليك بأحسن التدبير "الحق" أي الكامل في الحقية ،فهو نير العين للبصر والقلب لالستبصار
واالعتبار يهتدي بما يعلم إلى طريق الرشد فيسلكها وإلى طريق] الغي فيتركها ( . . .كمن هو أعمى )ال
بصر له وال بصيرة)6( .
(وال ياتونك بمثل` إال جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) (. )7
بعد قوله عز وجل ( :وقال الذين كفروا لوال نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك
ورتلناه ترتيال)(. )8
( )1سورة الرعد اآلية . 19 :
وجه التناسب بين اآليتين أن القرآن لو نزل على رسول هللا صلى هللا عليـه وسلم جملة واحدة كما طلب ذلك
الكفار ،ثم سألوه لم يكن عنده ما يجيب ،لذلك أمسك عليه فإذا سألوه أجاب ليكون ذلك عالمـة عـلـى نبوته،
وهذا هدف من أهداف القرآن وهو إثبات أن هذا القرآن حق بدليل نزوله على نبي أمي .
قال القرطبي ( :وال ياتونك بمثل` إال جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) يقول :لو أنزلنا عليك القرآن جملة
واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به ،وال نمسك عليك فإذا سألوك أجبت .قال النحاس :وكان ذلك من
عالمات النبوة ،ألنهم ال يسألون عن شيء إال أجيبوا عنه ،وهذا ال يكون إال من نبي (. )1
قال البقاعي " :ولما كان التقدير :قد بطل ما أوتوا به من هذا االعتراض ،عطف عليه قوله " :ال ياتونك"
أي المشركون بمثل" أي باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء بما يجتهدون في تنميقه
وتحسينه وتدقيقه حتى يصير] عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظا ومعنى "إال جئناك" أي في جوابه
"الحق" ومن األلف والالم الدالة على الكمال يعرف أن المراد به الثابت الذي ال شيء أثبت منه ،فيرهق] ما
أتوا به لبطالنه ،ويفتضح بعد ذلك الستر فضيحة تخجل القائل والسامع .
ولما كان التقدير في األصل :بأحق منه ،وإنما عبر بالحق لئال يفهم أن لما يأتون به وجها في الحقيقة ،عطف
عليه قوله " :وأحسن " أي من مثلهم "تفسيرا" أي كشفا لما غطى الفهم من ذلك الذي خيلوا به وادعوا أنهم أو
ضحوا به وجها من وجوه المطاعن ،فجزم أكثر السامعين بحسنه (. )2
ثانيا :أوجه التناسب بين بعض اآليات التي فيها اصطالح "الحق" بمعنى اإلسالم:
( )1قال تعالى في سورة اإلسراء :
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) (. )3
هذه اآلية جاءت عقب قوله تعالى ( :وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل
لي من لدنك سلطانا نصيرا) (. )4
ولكي يتبين وجه مناسبتها] لما قبلها البد من فهم المراد من هذه اآلية التي قبلها وهي قوله تعالى ( :وقل رب
أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصير̀ا) ،حيث ذكر
المفسرون أوجها لمعانيها ،ولكن المعنى الذي يناسب ما قبلها وما بعدها قد يكون هو " :وقل رب أدخلني في
القيام بمهمات أداء دينك وشريعتك وأخرجني] منها بعد الفراغ منها إخراجا ال يبقي علي منها تبعة وبقية" (. )5
وعلى هذا الوجه يصبح وجه المناسبة واضحا في االستجابة الذي تشعر به آية ( :وقل جاء الحق وزهق
الباطل) وقد أشار إلى هذا التناسب الفخر الرازي حيث قال " :ولما سأل هللا النصرة بين هللا له أنه أجاب
دعاءه فقال ( :وقل جاء الحق) -وهو دينه وشرعه( -وزهق الباطل) وهو كل ما سواه من األديان
والشرائع (.")1
قال البقاعي " :ولما كان الدعاء قد ال يستجاب ،قال ميسرا له بأنه ليس بين دعائه وبين استجابته إال قوله،
ومحققا لتلك البشرى باألمر بأن يخبر بها(.)2
( وإذ يعدكم هللا إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد هللا أن
يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)(. )3
( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المومنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما
تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)(. )4
فما وجه التناسب بينهما ؟
يبدو التناسب بينهما من خالل تعارض إرادتين :إرادة هللا عز وجل الذي يريد إحقاق الحق أي نصر الدين
وعلو كلمته فاختار للمسلمين طريق النصر والعلو وهو القتال الذي عبر عنه بذات الشوكة .
وإرادة المسلمين الذين يودون ويريدون أن تكون لهم غير ذات الشوكة أي الغنيمة من غير قتال وال مكافحة
كما وقع في معركة بدر .
قال الزمخشري] " :يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفاسف] األمور] وأن ال تلقوا ما يرزقكم] في أبدانكم
وأحوالكم وهللا عز وجل يريد معاني األمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة والفوز في
الدارين وشتان ما بين المرادين ،ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم وغلب كثرتهم]
بقلتكم وأعزكم وأذلهم وحصل لكم ما ال تعارض أدناه العير وما فيها"(.)5
قال البقاعي " :ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم] بل ودادتهم] إنما كانت منصبة إلى العير ال إلى
النفير ،تبين أن ال صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا فالحظ لهم في الغنيمة إال ما يقسمه هللا لهم
ألن الحكم لمراده ال لمراد غیره ،فقال تعالى عاطفا على "وتودون" ويريد] أي بما له من العز والعظمة والعلم
" أن يحق الحق " أي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب ،وهو هنا إصابة ذات الشوكة بكلماته
"أي التي أوحاها إلى نبيه صلى هللا عليه وسلم] أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون ،وأن هذا مصرع فالن وهذا
مصرع فالن ،ليعلي دينه ويظهر] أمره على كل أمر " (. )1
المطلب الثاني:
وجه المناسبة بين بعض السور التي جاء فيها مصطلح الحق يحمل داللة عقدية.
سأعرض في هذا المبحث نماذج ألوجه التناسب بين سور] جاء فيها مصطلح الحق ذا داللة عقدية مرتبا إياها
حسب النزول كما فعلت في مطلب المبحث األول "السياقات" قبل هذا المطلب ،مبتدئا بأولها وهي سورة
العصر .
قال تعالى ( :والعصر إن اإلنسان لفي خسر إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر)()2
هذه السورة جاءت حسب ترتيب المصحف عقب سورة " التكاثر " ومعلوم] أن التكاثر هو "التباري في الكثرة
والتباهي بها وأن يقول هؤالء نحن أكثر وهؤالء نحن أكثر "( )3وهذا حال الدنيا ووصف أهلها كما قال
تعالى ( " :اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزين̀ة وتفاخر بينكم وتكاثر في األموال واألوالد
كمثل غيث أعجب الكفار نبات̀ه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي اآلخرة عذاب شديد
ومغفرة من هللا ورضوان وما الحياة الدنيا إال متاع الغرور )(. )4
قال البقاعي " :وقال األستاذ أبو جعفر بن الزبير :لما قال تعالى (ألهاكم التكاثر) وتضمن ذلك اإلشارة إلى
قصور] نظر اإلنسان وحصر] أدراجه في العاجل دون اآلجل الذي فيه فوزه وفالحه وذلك لبعده عن العلم
بموجب الطبع " إنه كان ظلوما جهوال "( )5أخبر سبحانه أن ذلك شأن اإلنسان بما هو إنسان فقال( :والعصر
إن اإلنسان لفي خسر) فالقصور] شأنه ،والظلم طبعه ،والجهل جبلته فيحق] أن يلهيه التكاثر ،وال يدخل هللا
عليه روح اإليمان (إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات) إلى آخرها ،فهؤالء الذين (ال تلهيهم تجارة
وال بيع عن ذكر هللا )(. )6
بما أن من أهداف سورة الكهف البرهنة على أن القرآن الكريم قيم ال عوج فيه ،كما يؤذن بذلك مطلعها :
( الحمد هلل الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه
ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا
اتخذ هللا ولدا )( . )2فإن من مقاصد سورة مريم البرهنة على اتصافه عز وجل -وهو منزل القرآن -بجميع
صفات الكمال الدالة على تمام القدرة ،كما يشعر بذلك تسمية السورة بمريم .
إذ قصة مريم عليها السالم ووالدتها] من غير بعل أكبر برهان على ذلك .
وبما أن سورة الكهف تسمت باسم قصة أصحاب الكهف ،وهي ال تقل غرابة عن قصة مريم ألن فيها بعث
الحياة من جديد لفتية قبضوا منذ أزيد من ثالثمائة سنة (فضربنا على اذانهم في الكهف سنين عددا ثم
بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)(. )3
فإن سورة مريم أذنت ببعث الحياة في شيخين قد بلغا من الكبر عتيا لتعود إليهما القدرة على اإلنجاب بعد
سنوات العقم ( .يا زكرياء إنا نبشرك بغالم اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال ربي أنى
يكون لي غالم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين
وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ﴾(. )4
قال البقاعي " :وقال اإلمام أبو جعفر ابن الزبير في برهانه :لما قال تعالى ( :أم حسبت أن أصحاب
الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) ( )5ثم أورد خبرهم] وخبر الرجلين وموسى] والخضر عليهما
السالم وقصة ذي القرنين ،اتبع سبحانه ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجبا وأخفى سببا،
فافتتح سورة مريم بيحيى بن زكرياء وبشارة زكرياء به بعد الشيخوخة وقطع] الرجاء وعقر الزوج حتى سأل
زكرياء مستفهما ومتعجبا] ( :أنى يكون لي غالم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا)
في اآلية الثالثين من هذه السورة تقرر أن هللا هو الحق ،وذلك في قوله تعالى( :وذلك بأن هللا هو الحق
وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن هللا هو العلي الكبير) ( . )3وجاء هذا التقرير بعد عرض
مجموعة من الدالئل الكونية على قدرته عز وجل من خلق اإلنسان وخلق السماوات واألرض وتصريف
الليل والنهار ،وبيان سعة علمه عز وجل( :ولو أنما في األرض من شجرة أقالم والبحر يمده من
بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات هللا إن هللا عزیز حکیم) (. )4
وقد جاءت سورة لقمان في ترتيب المصحف بعد سورة الروم ،فماذا يجمع بينهما من مناسبة ؟
تكرر في سورة الروم الحث على التفكر في النفس وفي الكون كقوله تعالى ( :أو لم يتفكروا في أنفسهم
ما خلق هللا السماوات واألرض وما بينهما إال بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء
ربهم لكافرون) ( . )5وكأن الجواب المناسب لهذه اآلية يجيء في سورة لقمان في قوله تعالى ( :ما خلقكم
وال بعثكم إال كنفس واحدة إن هللا سميع بصي̀ر ) (. )6
وسورة الروم ختمت بالحض على العلم والصبر] عليه والتمسك] به ،وبيان أن من فقد العلم طبع على قلبه:
( كذلك يطبع هللا على قلوب الذين ال يعلمون فاصبر وعد هللا حق وال يستخفنك الذين ال
يوقنون) (. )7
وهذا العلم الذي جاء الحض عليه هناك ما هو إال ما تضمنه هذا القرآن الكريم من حكمة وهداية ورحمة ،لذلك
جاء مطلع سورة لقمان يؤذن بهذا المعنى ( :تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين) ()1
وهذا الكتاب الحكيم الثابت الحكمة مصدره هو هللا الحق الذي وسع .الكون كله كما أذنت بذلك آية ( :ولو أنما
في األرض من شجرة أقالم والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات هللا إن هللا عزيز
حكيم ﴾ (. )2
وقال البقاعي " :وقال اإلمام أبو جعفر بن الزبير :لما تكرر األمر باالعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب
المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه ( :أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق هللا السماوات
واألرض وما بينهما إال بالحق) ( ،)3وقوله ( :أو لم يسيروا في األرض ﴾ ( ،)4وقوله ( :هللا يبدأ
الخلق ثم يعيده ) ()5
وقوله ( :يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) إلى قوله ( :كذلك نفصل اآليات لقوم
يعقلون )( ،)6وهي عشر آيات تحملت من جليل االعتبار والتنبيه ما ال يبقى معه شبهة وال توقف] لمن وفق
إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدالئل وذكر] ما فطر] عليه العباد وضرب األمثال الموضحة سواء
السبيل لمن عقل معانيها] وتدبر] حكمها إلى قوله ( :ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ (،)7
وهي إشارة إلى ما أودع هللا كتابه المبين من مختلف األمثال وشتى] العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك،
أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق ( :ألم تلك آيات الكتاب الحكيم) ( ،)8أي دالئله وبراهينه لمن وفق] وسبقت له
الحسنى وهم المحسنون الذين ذكرهم بعد ،ووصف] الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه (. )9
الفصل الثاني:
كشف التحريف العقدي لمفهوم الحق عند أهل الكتاب
مدخل:
مما قرره القرآن الكريم من أصول أنه جعل عقيدة المسلم تنبني على أن دين هللا في كل األمم واحد ال تختلف
أصوله باختالف األمم وأحوالها] وأزمانها وأمكنتها وإن اختلفت األحكام الفرعية باختالف ذلك ،وهو ما يشير
إليه قوله تعالى ( :قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك
به شيئا وال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) ()1
وقوله ( :إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب واألسباط وعيسى وأيوب ويونس` وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا) (
.)2
فكل ما أوحى هللا به إلى أنبيائه ورسله واحد في أصوله ألنه يدعو إلى توحيد هللا وتزكية النفس ،وإقامة
العدل ،كما قال هللا تعالى ( :ولقد بعثنا في كل أمة سوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت فمنهم
من هدى هللا ومنهم من حقت عليه الضاللة فسيروا في األرض فانظروا كيف كان عاقبة
المكذبين ) ( ( . )3وما أرسلنا من قبلك من رسول إال يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون) ()4
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد
فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم هللا من ينصر̀ه ورسله بالغيب إن هللا قوي عزيز) ()5
( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الذين وال تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه هللا يجتبي إليه
من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) (. )6
ولقد أثنى القرآن على كتب هللا جميعا وجعل اإليمان بها جزءا من إيمان المسلم (آمن الرسول بما أنزل
إليه من ربه والمومنون كل آمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ال نفرق بين أحد من رسله وقالوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير] ) (. )7
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون
واألحبار بما استحفظوا من كتاب هللا وكانوا عليه شهداء فال تخشوا الناس واخشون وال
تشتروا بآياتي ثمنا قليال ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الكافرون﴾(( )1ثم آتينا موسى
الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيال لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) (
. )2
(وقفينا على آثار هم بعیسی ابن مریم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه اإلنجيل فيه
هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) ( . )3ولكن هذه الكتب لم
يضمن لها البقاء والحفظ -كما هي ميزة القرآن -ألنها نزلت لمجموعة خاصة من البشر في فترة خاصة من
الزمن وبيئة محدودة من األرض فحل بها ما حل من التحريف] والنسيان والضياع.
وبما أن القرآن الكريم جاء مؤذنا في الناس أن يؤمنوا] باهلل وسائر رسله وكتبه دون تفريق فما كان له أن
يسكت عما لحق هذه الكتب من تحريف] وتشويه وتزوير وكتمان ،ومن ثم صرخ القرآن في وجه المبطلين
المحرفين لوحى هللا قائال ( :يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ﴾
(. )4
وشنع عليهم أن نقضوا ميثاق ربهم بتحريف ما أوحى به إلى رسله ( :فخلف من بعدهم خلف ورثوا
الكتاب ياخذون عرض هذا األدنى ويقولون سيغفر لنا وإن ياتهم عرض مثله ،يأخذوه ألم
يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن ال يقولوا على هللا إال الحق ودرسوا ما فيه والدار اآلخرة خير
للذين يتقون أفال تعقلون) ( )5وأخبر أنهم نبذوا ذلك الوحي وراء ظهورهم] إيثارا لهوى النفس ،وإشباعا
لألنانيات الفردية أو العنصرية (وإذ أخذ هللا ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس وال تكتمونه
فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليال فبيس ما يشترون ) (. )6
وقد ورد لفظ الحق مقرونا بأهل الكتاب في سبع وأربعين موضعا من القرآن الكريم ( )7وهو ما يفسر حرص
القرآن على تصحيح مفهوم الحق الذي حاولوا تشويه وجهه باللبس والخلط بالضالل والكفر من جهة،
وإضالل الغير من جهة أخرى ألن الغير إذا اسمع دالئل الحق فإضالله إنما يكون بتشويش] تلك الدالئل عليه
بالشبهات الباطلة ،وإذا كان لم يسمعها ،فإضالله إنما يكون بكتمها وإخفائها عنه حتى ال يصل إليه ويستدل] بها
على الحق ،ومن ثم دعاهم القرآن إلى شيئين :
( )7كقوله تعالى ( :ليكتمون] الحق وهم يعلمون ) البقرة . 146 :ولمها أشباه كثيرة .
أوال :اإليمان بما نزل على محمد صلى هللا عليه وسلم] ،تحريرا ألنفسهم من الكفر (وآمنوا بما أنزلت
مصدقا لما معكم وال تكونوا أ َّو َل كافر به وال تشتروا بآياتي ثمنا قليال وإياي فاتقون) ( .)1ووفاء]
للعهد الذي ورثوه عن أنبيائهم الذين أخذوا عليهم الميثاق باإليمان برسالة محمد صلى هللا عليه وسلم ونصرته
( وإذ أخذ هللا ميثاق النبيئين لما أتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم
لتؤمنن به ولتنصرنه ،قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا
معكم من الشاهدين ) (. )2
ثانيا :نهاهم عن التشويش عن األخرين وإضاللهم عن طريق خلط الحق بالباطل وكتمانه ( :وال تلبسوا
الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) ( )3وفي التعبير بـ "تكتموا" دليل على أنهم كانوا على علم
بأن ما جاء به محمد صلى هللا عليه وسلم هو الحق ،ولكنهم كفروا تحيزا وتعصبا] لكونه لم ينزل على أحد من
بني قومهم ،كما أشار إلى ذلك قوله تعالى ( :بيسما اشتروا به أنفسهم أن
يكفروا بما أنزل هللا بغيا أن ينزل هللا من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب
على غضب وللكافرين عذاب مهين ) (. )4
وكما قال أيضا ( :ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند
أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي هللا بأمره إن هللا على كل شيء
قدير) (. )5
فأهل الكتاب يرون الحق حكرا عليهم وحدهم وأن النجاة ال تكون لسواهم ( :وقالوا لن يدخل الجنة إال من
كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (. )6
وهكذا سأعرض لبيان القرآن الكريم] تحريف] اليهود والنصارى في المبحثين اآلتيين :
فبعد إنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه ،وبعد مجاوزة البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم
فقالوا ( :يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (،)1
فأي جهل فوق هذا الجهل أن يروا بأم عيونهم معجزة اإلله الحق في انفالق البحر حتى كان كل فرق] كالطود]
العظيم ( )1ويروا] قدرته في جعل األمواج المتالطمة طريقا يبسا ( )2ال يخافون دركا وال يخشون غرقا ،وفي
الحال يقابلون نعمته باإلنكار والجحود ،وهو الذي نجاهم من آل فرعون الذين كانوا يسومونهم] سوء العذاب
يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم فيطلبون] من مخلوق أن يجعل لهم إلها مخلوقا] ؟ فكيف صورت لهم
جهالتهم هذا اإلله المخلوق العاجز ؟
فاإلله الحق هو الخالق لكل ما سواه ،وأما المخلوق فيستحيل] أن يكون إلها .ثم زاد خط االنحراف عندهم في
تصاعد ،ألن حنينهم إلى الوثنية سيطر] على أفكارهم وأعصابهم ،فما كاد موسى يذهب لمناجاة ربه ،حتى
اتخذوا من حليهم عجال جسدا له خوار ( :واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجال جسدا له خوار
ألم يروا أنه ال يكلمهم وال يهديهم سبيال اتخذوه وكانوا ظالمين) ()3
والغريب أنهم اتخذوا العجل إلها وهم الذين شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه ،ويقلبه بين يديه مستعمال
ألدوات الصناعة وأغرب من هذا كله أن جعلوا العجل -وهو أقل الحيوانات دفعا على نفسه ويضرب] به المثل
في البالدة -إله كليم الرحمان أيضا (فأخرج لهم عجال جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى
فنسي أفال يرون أال يرجع إليهم قوال وال يملك لهم ضرا وال نفعا)( . )4ولذلك ذكرهم هللا بهذا
التحريف العقدي حيث قال ( :وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم
ظالمون ) (. )5
والقرآن يسمي الشرك ظلما كما قال ( :وإذ قال لقمان البنه وهو يعظه يا بني ال تشرك باهلل إن
الشرك لظلم عظيم) ( . )6ورغم الخوارق والمعجزات التي أظهرها هللا لهم على يد نبيه موسى] عليه السالم
فما زاد أكثرهم ذلك إال انحرافا] وبعدا عن حقيقة التوحيد ،فقالوا على سبيل التحدي لموسى ( :لن نومن لك
حتى نرى هللا جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ) ( )7وقالوا له على سبيل التهكم ( :إنا لن
ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتال إنا ههنا قاعدون) (. )8
( )1كما قال تعالى :فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) :الشعراء . 63 :
( )3كما قال تعالى :فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ال تخاف درکا وال تخشی) طه .77 :
فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه وسلم] قال :قيل لبني إسرائيل :
( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم وستزيد المحسين) ( )1فدخلوا يزحفون على
أستاهم فبدلوا] وقالوا :حبة في شعيرة( .)2ثم وصل عندهم خط االنحراف] أقصاه حين زعموا البنوة هلل عز
وجل ( :وقالت اليهود عزير ابن هللا وقالت النصارى المسيح ابن هللا ذلك قولهم بأفواههم
يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم هللا أنى يوفكون ) ( )3أمعنوا في الغي والضالل -كما
أمعن النصارى -فنسبوا البنوة ألنفسهم ،ورأوا أنهم أبناء هللا و احباؤه ( :وقالت اليهود والنصارى نحن
أبناء هللا وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من
يشاء وهلل ملك السماوات واألرض وما بينهما وإليه المصير ) (. )4
ثم ترسخت في نفوسهم هذه العقيدة المحرفة حتى صاروا ال يقبلون نبوة نبي إال إذا جاءهم بما تهوى أنفسهم،
وهذا ما نعاه عليهم القرآن إذ قال ( :ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى
ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما ال تهوى أنفسكم استكبرتم
ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) (. )5
فقتل األنبياء أصبح ديدانا لهم وصفة وخلقا راسخا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ( :فيما نقضهم ميثاقهم
وكفرهم بآيات هللا وقتلهم األنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع هللا عليها بكفرهم فال
يؤمنون إال قليال وبكفرهم وقولهم على مریم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن
مريم رسول هللا وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما
لهم به من علم إال اتباع الظن وما قتلوه يقينا ) (. )6
و مما يدل على أن قتل األنبياء كان عقيدة راسخة عند اليهود التعبير] في هذه اآلية بجمع الكثرة (األنبياء)
وتنكير (حق) وتوظيف المصدر العاري عن الزمان ،مثل (نقضهم) و (كفرهم) و (قتلهم) و (قولهم) بخالف
ما جاء في البقرة وآل عمران من التعبير] بصيغة المضارع] وتعريف (الحق) في البقرة ،وجمع (النبيئين) جمع
سالمة في البقرة وآل عمران مرة واحدة ( ،)7إذ ربما دل هناك على أن ذلك الفعل حصل منهم بصفة عرضية
غير منتظمة .وتوارث] اليهود هذه العقيدة المنحرفة أبا عن جد إلى أن بعث هللا محمدا صلى هللا عليه وسلم
بالتصور] الصحيح عن مفهوم اإلاله الحق فماذا كان موقفهم من دعوته ؟ قال تعالى ( :يسئلك أهل الكتاب
أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا هللا جهرة فأخذتهم
الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى
سلطانا مبينا) (. )8
( )1سورة البقرة ،اآلية .58 :ومثلها اآلية 162 - 161 :من سورة األعراف.
( )2أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ،في تفسير سورة البقرة وتفسير] سورة األعراف
فهذه ليست مقترحات عقل يبحث عن الحقيقة ،ويسعى إلى اليقين إنما هي مقترحات طبع غليظ وقلب متكبر،
واليهود من أغلظ الناس طبعا وأقساهم] قلوبا] كما قال عنهم القرآن (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا
قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به وال تزال تطلع عن خائنة
منهم إال قليال منهم فاعف عنهم واصفح إن هللا يحب المحسنين ) ( )1ولذلك أخذ عليهم الميثاق
بالتهديد حيث رفع الجبل فوق] رؤوسهم وأوشك] أن ينقض عليهم ليكون فوقهم مقبرة جماعية ( :وإذ نتقنا
الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون )
( )2ومع ذلك نقضوا الميثاق .
ومن ثم نجد القرآن -في بعض المواضع -يناديهـم] مـجـردين من كل انتساب علمي ألنهم حملوا التوراة ثم لم
يحملوها ،ولم يعتبروا حملة كتاب ألنهم شابهوا عبدة األصنام] فى اإلنكار والجهل ،بل زادوا عليهم الغلو
فناسب أن ينادوا بـ (يا أيها الناس) كما ينادى عن من ال عالقة له بالوحي] من أهل مكة وأشباههم ،وبهذه
الصيغة يتوجه إليهم القرآن قائال ( :يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فأمنوا خيراً
لكم وإن تكفروا فإن هلل ما في السماوات واألرض وكان هللا عليـمـا حكيما) (. )3
ومن الحق الصادر من هللا الحق أال تفرطوا بالغلو في وصفه بما ال يليق به من صفات البشر ووصف] أنفسكم
بما يرفعكم] عن صفات البشر فتزعمون ألنفسكم االنتساب إليه بالبنوة ( :يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم
وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول هللا وكلمته ألقاها إلى مريم
وروح منه فأمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيراً لكم إنما هللا إله واحد سبحانه أن
يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال ) ( . )4أي ال تنسبوا هللا الحق ما
لم يأذن به من تشريع فتشركوا به بتحليل الحرام وتحريم] الحالل.
و مما هو شديد االرتباط بتحريف] عقيدة الحق عند اليهود تحريفهم للتشريع حيث أخبر القرآن أنهم أنكروا]
وقوع النسخ في الشرائع فحجروا] على هللا أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ،وجعلوا هذه الشبهة وسيلة الجحد
نبوة محمد صلى هللا عليه وسلم وقالوا] " :إن النسخ يستلزم] البداء وذلك بأن يرى هللا رأيا ثم يبدو له رأي آخر
غير األول فيأخذ به قالوا وهذا عبث يتنزه هللا عنه وقد] أكذبهم هللا عز وجل فقال ( :كل الطعام كان حال
لبني إسرائيل إال ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فاتوا بالتوراة فاتلوها
إن كنتم صادقين فمن افترى على هللا الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) ( . )5فقد أخبر هنا
أن الطعام كله كان حالال لبني إسرائيل قبل نزول التوراة ،سوى ما حرم يعقوب على نفسه من لحوم اإلبل
وألبانها) (. )6
( )4سورة النساء ،اآلية 171 :ومثلها سورة المائدة ،اآلية . 77 :
ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته وما كان حالال لهم إنما هو بإحالل هللا تعالى
له على لسان إسرائيل واألنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ،ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المأكل التي
كانت حالال لبني إسرائيل وهذا محض النسخ .
وقوله تعالى ( :من قبل أن تنزل التوراة ) أي كانت حالال لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ،لذلك
قال لهم ( :قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما
حرمته التوراة عليكم؟ أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهي تحريم] لحوم اإلبل وألبانها خاصة؟
وإذا كان إنما حرم هذا وحده ،وكان ما سواه حالال له ولبنيه وقد حرمت التوراة كثيرا منه ظهر كذبكم
وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر] على هللا في نسخها ()1
ويشير القرآن إلى أن اليهود حرفوا التوراة من بعد وضعه في غير مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة
بكلمة أو بإخفائه ،وكتمانه أو الزيادة فيه والنقص منه ،وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له.
قال تعالى ( :يا أيها الرسول ال يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم
ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون
الكالم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم توتوه فاحذروا ومن يرد هللا فتنت̀ه
فلن تملك له من هللا شيئا أولئك الذين لم يرد هللا أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في
اآلخرة عذاب عظيم ) (. )2
قال ابن كثير في شأن هذه اآلية " :والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب هللا
الذي بأيديهم من األمر برجم من أحصن منهم فحرفوه و اصطلحوا] فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ،والتحميم]
واإلركاب على حمار مقلوبين ،فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إليه فإن حكم
بالجلد والتحميم] فخذوا] عنه واجعلوه حجة بينكم وبين هللا ،ويكون نبي من أنبياء هللا قد حكم بينكم بذلك وإن
حكم بالرجم فال تتبعوه في ذلك" (.)3
وفصلت كتب السنة قصة اليهود] حيث زنى منهم رجل وامرأة فجاؤوا إلى النبي صلى هللا عليه وسلم] فذكروا
له ذلك فقال لهم " :ما تصنعون] بهما ؟ قالوا نسخم وجوههما ونخزيهما] ،قال ( :فاتوا بالتوراة فاتلوها إن
كنتم صادقين) فجاؤوا] فقالوا لرجل منهم مما يرضون أعور :اقرأ :فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها،
فوضع يده عليه فقال " :ارفع يدك فرفع فإذا فيها آيات الرجم تلوح ،قال :يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا
نتكاتمه بيننا فأمر] بهما فرجما " ( )4وقد تجسد التحريف] في التشريع عندهم في النزعة العنصرية التي تقيم
تمايزا بين بني إسرائيل وغيرهم فهم يكيلون بمكيالين فيحلون ألنفسهم ما يحرمونه على غيرهم ،على أساس
عقيدة وهمية تجعلهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم "شعب هللا المختار" الذي يجب أن يستعبد من سواه من
الشعوب .
( )4هذا لفظ البخاري 193/9 :ووردت هذه القصة في صحيح مسلم .122/5وفي الموطأ .819/2وسنن أبي داوود
. 115/4بألفاظ مختلفة فيها بعض الزيادات .
فاليهودي] بموجب هذه العقيدة يحل له أن يقترف كل المخالفات والموبقات من ممارسة للزنى ،وتعامل بالربا
ومقارفة للقتل مع غير اليهود ولكن يحرم عليه فعل ذلك مع اليهود ،ويجب عليهم إذا انتصروا على بلد ما "
أن يضربوا] رقاب جميع رجالها البالغين بحد السيف فال يبقوا على أحد منهم ويسترقوا] جميع نسائها وأطفالها
ويستولوا] على جميع ما فيها من مال و عقار وينهبون نهبا" ( )1وقد] بين القرآن سبب هذا التحريف] عند اليهود
فقال ( :ومن أهل الكتاب من ان تامنه بقنطار يوده إليك ومنهم من ان تامنه بدينار ال يوده إليك
إال ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في االميين سبيل` ويقولون على هللا الكذب
وهم يعلمون) ( )2أي ليس علينا في أكل أموال األميين تبعة وال ذنب (. )3
قال صاحب المنار " :كأنهم يقولون إن كل من ليس من شعب هللا الخاص وليس من أهل دينه فهو ساقط من
نظر هللا ومبغوض عنده فال حقوق له وال حرمة لماله يحل أكله متى أمكن"(. )4
ولكن القرآن أبطل مزاعمهم الفاسدة بقوله ( :ويقـولـون عـلـــى هللا الكذب وهم يعلمون ) ( . )5فقد كذبوا
عليه ألن ما كان منه فهو ما جاء في كتابه "وليس في التوراة التي عندهم إباحة خيانة األميين وأكل أموالهم
بالباطل وهم يعلمون أن ذلك ليس فيها ولكنهم ال يأخذون الدين من الكتاب وإنما لجأوا إلى التقليد فـعـدوا كالم
أحبارهم دينا ينسبونه إلى هللا"()6
وقد فضح هللا تعالى تحريفهم في التشريع] بتعاطيهم] الربا التي حرمها هللا قال تعالى ( :وأخذهم الربا وقد
نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ) ( )7أي أن هللا قد نهاهم
عن التعامل بالربا على ألسنة أنبيائهم "ولكن التوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم] أخذهم الربا من
شعبهم ومن إخوتهم دون األجانب" ( . )8ونقل صاحب تفسير المنار عن توراتهم] نصا صريحا] فيه النهي عن
التعامل بالربا مع اليهودي وإباحة التعامل به مع األجنبي فقال " :وفي] سفر تثنية االشتراع 19 : 23( :ال
تقرض أخاك بربا ،ربا فضة أو ربا شيء مما يقرض بربا .20.لألجنبي تقرض بربا ولكن ألخيك ال تقرض
بربا) (. )9
وتحريف] اليهود وتحايلهم] على استحالل محارم] هللا ذكره هللا في القرآن خمس مرات في قصة أصحاب السبت
( )1حتى مسخهم هللا قردة فكانوا] يحتالون على هللا في التنفيس عن شهواتهم] التي كانت تغلبهم ،فإذا حرم هللا
الصيد يوم السبت عليهم ورأوا األسماك كثيرة في الماء صنعوا وراءها حاجزا يمنعها من الهرب ثم جاؤوا]
يوم األحد وأخذوها ( :و سئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تاتيهم
حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم ال يسبتون ال تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ) (. )2
ومع فداحة ما كانوا يعصون هللا به من أكل الربا واستباحة الفروج والدم الحرام فإنهم] لما استحلوا محارم هللا
بأدنى الحيل وتالعبوا بدينهم ومسخوه باالحتيال كان عقابهم من جنس العمل حيث مسخهم قردة ،قال تعالى
موبخا إياهم ( :ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) (. )3
ونجد هذا النداء في مثل قوله تعالى ( :يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم
تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من هللا نور وكتاب مبين ) (( )4يا أهل الكتاب قد
جاءكم رسولنا يبن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير وال نذير فقد جاءكم
بشير ونذير وهللا على كل شيء قدير ) (( )5قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا
التوراة واإلنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا
وكفرا فال تأس على القوم الكافرين ) (( )6قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إال أن آمنا باهلل وما
أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثر كم فاسقون ) (( )7قل يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم غير
الحق وال تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) (( )8يا
أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول
هللا وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيراً لكم
إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال ) (
. )9
( )1وذلك في اآلية 65 :من سورة البقرة واآلية 47 :و 154من سورة النساء و اآلية 163 :من سورة
وفي المبحث السابق تبين كيف كشف القرآن تحريف عقيدة اليهود وشريعتهم ،وفي هذا المبحث سأعرض -
إن شاء هللا -لتحريف] مفهوم الحق في عقيدة النصارى ،كما وصفها القرآن قال تعالى ( :ومن الذين قالوا
إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
القيامة وسوف ينبئهم هللا بما كانوا يصنعون ) (. )1
وفي هذا بيان أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا] به کالیهود ،فكان نسيان هذا الحظ من كتابهم سببا لوقوعهم]
في األهواء والتفرق] في الدين الموجب -بمقتضى سنة هللا في البشر -للعداوة والبغضاء .
ويبدو أن التنكير في قوله "حظا" للتعظيم ،فيكون ما نسوه وأضاعوه مما أنزل هللا على عيسى عليه السالم
كثيرا ويدل على ذلك أن هللا عز وجل سمى إفراطهم] وتفريطهم غلوا فقال ( :ال تلغو في دينكم) ألن الغلو
يترتب عليه عدم العمل بما أوحى هللا به إلى عيسى عليه السالم وعدم العمل يترتب عليه النسيان واإلهمال
والضياع والزيادة في الدين كالنقص منه .
وقد أورد ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" أكثر من شاهد على هذا الضياع ( )2كما ذكر صاحب تفسير
المنار فصال مطوال أبان فيه باألمثلة عن ضياع الكثير من اإلنجيل ،وتحريف] كتب النصارى] المقدسة مؤيدا
ذلك بنصوص موثقة من الكتب التي يسمونها األناجيل األربعة (. )3
وقد نهى القرآن النصارى أن يقولوا في شأن المسيح بهواهم حيث غلوا في تقديسه ،وأفرطوا كل اإلفراط( :يا
أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول
هللا وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيرا لكم
إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال
) (. )4
والحق هو الثابت المتحقق في نفسه بنص شرعي متواتر أو ببرهان عقلي قاطع ،وليس للنصارى شيء من
هذا على ما يزعمون في شأن المعبود الحق سبحانه وتعالى ،و في أمر المسيح عليه السالم وشأن الصليب
وعبادته .
ومن ثم يرسي القرآن عقيدة الحق ويطهر العقول من تلوث الشرك والتثليث مستخدما] أداة الحصر "إنما " في
قوله ( :يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن
مريم رسول هللا وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا
خيرا لكم إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى
باهلل وكيال ) (. )5
وبما أن الغلو شامل للتفريط واإلفراط ]،فإن الحق واسطة بينهما ،وقد بين هللا غلوهم بقوله ( :وقالت اليهود
عزير ابن هللا وقالت النصارى المسيح` ابن هللا ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفرا
من قبل قاتلهم هللا أنى يوفكون ) (. )6
وقوله (ولقد كفر الذين قالوا إن هللا هو المسيح ابن مريم ) ( . )1وقوله (لقد كفر الذين قالوا إن هللا
ثالث ثالثة ) (. )2
وأشار بهذا الحصر إلى إبطال هذه المفتريات مبينا أن عيسى رسول هللا إلى بني إسرائيل أمرهم أن يعبدوا هللا
وحده وال يشركوا] به شيئا وأن يرجعوا عن اإليمان بالجبت والطاغوت ،وعن اتباع الهوى وعبادة المال
وإيثار شهوات األرض على ملكوت السماء وزهدهم] في الحياة الدنيا وحثهم على حق التقوى واالعتدال في
الجمع بين حقوق األرواح وحقوق] األجساد] .
فعیسی عليه السالم ليس إلها وال بعضا من إله ،وإنما هو تحقيق لكلمة التكوين التي ألقاها اإلله الحق بشارة
لمريم عليها السالم حين أرسل إليها الملك يقول لها ( :إنما أنا رسول ربك ألهب لك غالما زكيا ) ()3
ويرفع عنها استنكار وجود ولد من عذراء لم يمسسها] بشر (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني`
بشر قال كذلك هللا يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)(.)4
وكلمة "كن " هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض قدرة هللا عز وجل عند إرادته خلق الشيء وإيجاده ،وقد
خلق المسيح بهذه الكلمة (. )5
وبذلك يرسخ القرآن االعتقاد بأن عيسى عبد هللا ورسول] سوله وليس إلها وال ابن هللا وقد حكت سورة آل
عمران قصة وفد] كنسي قدم المدينة يجادل الرسول صلى هللا عليه وسلم في هذه العقيدة التي قررها] ويقول
له :إذا كان المسيح بشرا فمن أبوه؟ إنه بشر في الصورة فقط ،إن هللا هو أبوه .وجادلهم القرآن بأن فقدان
األب ال يستلزم] بنوته هلل ولو كان األمر كذلك لكان آدم أولى باأللوهية ألنه ال أب له وال أم (إن مثل عيسى
عند هللا كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فال تكن من الممترين ) (.)6
ولكنهم أصروا على موقفهم] ودافعوا عنه بحماس ،فاقترح] عليهم القرآن أن يجتمعوا مع أهل اإلسالم في
صعيد واحد وأن يستنزلوا] لعنة هللا على أكذب الفريقين (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة هللا على
الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إال هللا وإن هللا لهو العزيز الحكيم)(.)7
فهذه عقيدة الوثنيين التي تحيلها العقول السليمة ،وتناقض] التوحيد ،يقول لهم القرآن ( :يا أهل الكتاب ال
تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول هللا وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيرا لكم إنما هللا إله
واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال ) (. )3
وإن كان الرسل كلهم عبيد هللا فإن عيسى عليه السالم ليس إال بشرا رسوال ال يرضى بأن يكون غير عبد هللا،
كما ال تستنكف المالئكة أن تعترف بالعبودية المطلقة هلل الحق ( :ولن يستنكف` المسيح` أن يكون عبداً
هلل وال المالئكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكب̀ر فسيحشر هم إليه جميعا ) (. )4
ومعلوم أن العقيدة الوثنية تشترك كلها في نسبة البنوة هلل تعالى وإن اختلفت صورها ،فقد جعل مشركو] العرب
المالئكة بنات هللا ( ، )5وجعل اليهود عزير ابن هللا .وجعل النصارى المسيح ابن هللا .ولذلك يحسم القرآن
هذه المسألة بتقرير عبودية المالئكة وجميع الخالئق هلل ( :وقالت اليهود عزير ابن هللا وقالت النصارى
المسيح` ابن هللا ذلك قولهم بأفواههم يضهئون قول الذين كفرا من قبل قاتلهم هللا أنى يوفكون)
( )6وأنهم منقادون إليه اختيارا واضطرارا (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً هلل وال المالئكة
المقربون ومن يستنكف` عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) (. )7
( )5قال تعالى ( :ويجعلون هلل البنات سبحانه) النحل ( .57 :فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا المالئكة إناثا وهو
شاهدون) الصافات ( 150 - 149 :وجعلوا المالئكة الذين هم عند الرحمان إناثا) الزخرف . 19 :
ويصرح القرآن بأن مقولة ألوهية عيسى ونبوته وأنه ثالث ثالثة كفر فصيح بعقيدة التوحيد ،حيث جاء النص
القرآني مؤكدا بالالم الموطئة للقسم المقرونة بقد ( لقد كفر الذين قالوا إن هللا هو المسيح` ابن مريم) ()2
( لقد كفر الذين قالوا إن هللا ثالث ثالثة وما من إله إال إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون
ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ) ( . )3ومن ثم يطلب إليهم القرآن الكريم االنتهاء عن هذا االعتقاد
الوثني قائال ( :يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى
ابن مريم رسول هللا وكلمت̀ه ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة
انتهوا خيرا لكم إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض
وكفى باهلل وكيال ) (. )4
وفي المائدة يهددهم عاقبة الكفر الذي يعتقدونه ( :وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا
منهم عذاب أليم ﴾ (. )5
وكان عيسى قد أعلن فيهم من ذي قبل أنه هو وأمه في عبودية هللا سواء وأن عاقبة الشرك والوثنية حرمان
من الجنة ( :وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا هللا ربي وربكم إنه من يشرك باهلل فقد حرم هللا
عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) (. )6
ولكنهم تمادوا في غيهم وضاللهم] إلى يوم الناس هذا ،مع أن القرآن واجههم بالمنطق] الواقعي] القويم ،لعله
يرد فطرتهم إلى اإلدراك السليم مع التعجيب من أمرهم في االنصراف عن هذا المنطق بعد البيان واإليضاح (
)7فقال تعالى ( :ما المسيح` ابن مريم إال رسول قد خلت من قلبه الرسل وأمه صديقة كانا ياكالن
الطعام انظر كيف نبين لهم اآليات ثم انظر أنى يوفكون ) (. )8
وربما يتساءل الذين أكبروا المسيح أن يكون بشرا ،فيقولون :إذا كان اإلله الحق واحدا ال تعدد فيه وال تركيب
من أصول وال أقانيم ،وإذا كان التثليث أمرا باطال ال حقيقة له ،فما بال المسيح ؟ أيعد فردا كباقي المخلوقات
ال يمتاز عليها ال بالذات وال بالصفات ؟ وما شأن أمه مريم ؟ أهي كسائر النساء ؟ يجيب القرآن -كما في اآلية
أعاله -مبتدئا] بذكر خصوصية المسيح التي امتاز بها عن أكثر الناس ( :ما المسيح` ابن مريم إال رسول )
فهو رسول من رسل هللا الذين بعثهم الحق سبحانه لهداية عباده ،كما هي سننه عز وجل في الذين خلوا من
قبل مثنيا ببيان ما يدل على بشرية المسيح وأمه ( :وأمه صديقة كانا يأكالن الطعام ) .
ومن يأكل الطعام ويحتاج ليعيش ال يصلح أن يكون إلها وإن كانت مريم صديقة اصطفاها هللا ربها على نساء
العالمين ( )1فإنها وابنها ال يتجاوزان حقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما] من البشر بدليل أنهما يأكالن
الطعام ،ألن من يأكل الطعام مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويمد حياته لئال ينحل بدنه ،وتضعف قواه فيهلك ،فضال
عما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة إلى دفع الفضالت (وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن مساو لسائر
الممكنات المخلوقات في حاجاتها إلى غيرها ،فال يمكن أن يكون ربا خالقا وال ينبغي أن يكون
ربا معبودا) (. )2
وهكذا يقيم القرآن البرهان من حال عيسى وأمه على بطالن كونهما إلهين ببيان ما يشاركان فيه أشرف البشر
من المزايا الخاصة ،وما يشاركان فيه عامة البشر من صفات بشرية ولكن عقول من يعتقدون العقيدة
النصرانية ،فقدت وظيفتها بالتقليد فصرفت عن استبانة الحق بهذه البراهين وعميت عن النظر في مقدماتها،
فأحرى أن يصيبها] العمى عن نتائجها ،ولهذا يقول القرآن ( :ما المسيح` ابن مريم إال رسول قد خلت من
قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكالن الطعام انظر كيف نبين لهم اآليات ثم انظر أنى يوفكون) (
. )3
ومن خالل هذه النماذج من تحريف اليهود لعقيدتهم وشرعتهم] وتحريف النصارى لمفهوم "عقيدة التوحيد" ،
يتبين أن هؤالء وهت صلتهم برسلهم وتبخر الوحي اإللهي من بين أيديهم وفي مسالكهم ومعامالتهم] .
فإذا كان اليهود ال يقومون بتوراة موسى] والنصارى ال يقومون بإنجيل عيسى ،فيم يقومون ؟ وإلى أي شيء
يدعون ؟
من أجل ذلك يقول لهم القرآن ( :قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة واإلنجيل
وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فال تأس على
القوم الكافرين ) (. )4
وبما أنهم ليسوا على شيء ،فإن كثيرا منهم يتجهمون للقرآن ويكنون أشد البغضاء ألمته ،وقد وقع ذلك قديما
وهو يتكرر] اآلن في صورة منكرة ذميمة .
ومن ثم يكرر القرآن التحذير من هذه المشاعر اآلثمة فيقول ﴿ :ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من
بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي
هللا بأمره إن هللا على كل شيء قدير ) ( )5ويقول ( :ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب
يشترون الضاللة ويريدون أن تضلوا السبيل) ( )6ويقول ( :وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من
ربك طغيانا وكفرا فال تأس على القوم الكافرين) (.)7
( )1كما قال هللا تعالى ( :إن هللا اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) .آل عمران .42 :
( )2تفسير المنار . 487/4 :
( وقالت اليهود يد هللا مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والغضاء إلى يوم
القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها هللا ويسعون في األرض فسادا وهللا ال يحب المفسدين)
( . )1ويقول ( :يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم
كافرين) ( )2وعاب عليهم أن يكفروا برسالة محمد صلى هللا عليه وسلم بغيا وتحيزا] وهم الذين كانوا
ينتظرون بعثته ويستفتحون به على الوثنيين في الجاهلية (ولما جاءهم كتاب من عند هللا مصدق لما
معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة هللا
على الكافرين بئس ما شتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل هللا بغيا أن ينزل` هللا من فضله
على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ﴾ (( )3وإذا قيل لهم
أمنوا بما أنزل هللا قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم
قل فلم تقتلون أنبياء هللا من قبل إن كنتم مؤمنين ) (( )4الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما
يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (. )5
ولكن القرآن يثني أشد الثناء على المنصفين من أهل الكتب ممن صفت ضمائرهم من أدران البغضاء وأنانية
التحيز فقال تعالى ( :وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا
من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا ال نؤمن باهلل وما جاءنا من الحق
ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم هللا بما قالوا جنات تجري من تحتها األنهار
خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) (. )6