You are on page 1of 34

‫الفصل األول‬

‫في هذا الفصل‪ ،‬سأبين فيه المفهوم اللغوي للحق و العقيدة من خالل المعاجم اللغوية و المعاني اإلصطالحية‪.‬‬
‫وسأجعل ذلك في مبحثين‪.‬‬

‫المبحث األول‪:‬‬
‫تعريف المصطلحات اللغوية واإلصطالحية للحق و العقيدة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬تعريف الحق لغة و اصطالحا‪.‬‬
‫من خالل تتبع مادة "ح‪.‬ق‪.‬ق" في مضانها اللغوية‪ ،‬يتبين أن هذا اللفظ يكاد يتمحور مدلوله اللغوي في المعاني‬
‫األتية‪:‬‬
‫الثبوت – المطابقة أو الموافقة – الوجوب – اليقين – اإلحكام والصحة‪.‬‬

‫‪ -1‬الحق بمعنى الثبوت‪:‬‬


‫جاء في لسان العرب البن منظور‪ " :‬وحق األمر ويحق حقا وحقوقا‪ :‬صار حقا وثبت (‪ )1‬وحمل على هذا المعنى قوله تعالى‪( :‬‬
‫قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤالء الذين أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون)(‪)2‬‬

‫(‪)3‬‬‫وقوله سبحانه‪( :‬ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين)‬


‫وقال عز وجل‪( :‬لقد حق القول على أكثرهم فهم ال يومنون)‬
‫(‪)4‬‬

‫‪ -2‬الحق بمعنى المطابقة‪:‬‬


‫"(‪)5‬‬ ‫يقول راغب األصفهاني‪ " :‬أصل الحق المطابقة والموافقة‬

‫‪ -3‬الحق بمعنى الوجوب‪:‬‬


‫ورد لفظ " حق " بمعنى وجب في أغلب مصادر اللغة ومعاجمها‪.‬‬
‫وهكذا نجد صاحب كتاب العين يقول‪ " :‬حق الشيء يحق حقا أي وجب وجوبا‪ .‬تقول‪ :‬يحق عليك أن تفعل كذا وأنت حقيق‬
‫على أن تفعله" (‪)6‬‬

‫(‪ )1‬لسان العرب‪ 10/49 :‬مادة "حقق"‬


‫(‪ )2‬سورة القصص‪ ,‬األية‪.63 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة الزمر‪ ,‬األية‪.71 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة يس‪ ,‬األية‪.7 :‬‬
‫(‪ )5‬معجم مفردات ألفاظ القرآن‪ .‬ص‪.124 :‬‬
‫(‪ )6‬كتاب العين للخليل بن أحمد‪ ,‬باب الحاء والقاف وما قبلهما مهمل ص‪.6 :‬‬
‫‪ -4‬الحق بمعنى اليقين‪:‬‬
‫بتتبع بعض معاجم اللغة ومصادرها‪ ،‬يتبين أن كلمة " حق " تعني اليقين‪ ،‬فقد جاء في لسان العرب‪:‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫"وحق األمر يحقه حقا‪ ،‬وأحقه‪ :‬كان منه على يقين‪ ،‬تقول‪ :‬حققت األمر وأحققته إذا كنت على يقين منه "‬
‫(‪)2‬‬ ‫وفي تاج اللغة‪ " :‬وحققت األمر وأحققته أيضا إذا تحققته وصرت منه على يقين "‬
‫‪ -5‬الحق بمعنى اإلحكام والصحة‪:‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫يرد لفظ الحق تارة ويراد] به اإلحكام والصحة‪ ،‬فيقال ‪-‬كما في لسان العرب ‪ " : -‬أحققت األمر إحقاقا إذا أحكمته وصححته "‬

‫واصطالحا‪ :‬هو الحكم المطابق للواقع‪ ،‬يطلق على "األقوال و العقائد و األديان والمذاهب‪ ،‬باعتبار اشتمالها‬
‫على ذلك‪ ،‬ويقابله الباطل"(‪.)4‬‬

‫ثانيا‪ :‬تعريف العقيدة لغة واصطالحا‪:‬‬


‫‪ -1‬العقيدة لغة‪ :‬مأخوذة من مادة "عقد" ومدارها في اللغة على اللزوم والتأكد] واإلشتقاق‪ ]،‬ففي القرآن الكريم‪( :‬اليؤاخذكم هللا‬
‫باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم االيمان)(‪)5‬‬

‫والعقود أوثق العهود‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪( :‬ياأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود)(‪ )6‬وتقول العرب أعتقد الشيء‪" :‬إذا صلب‬
‫واشتد" (‪)7‬‬

‫‪-2‬وفي اإلصطالح‪ :‬فقد عرفها د‪ .‬محمد علي أبو ريان بقوله‪" :‬األمر الذي تصدق به النفس ويطمئن إليه القلب‪ ،‬ويكون يقينا‬
‫عند صاحبه ال يمازجه شك‪ ،‬وال يخالطه ريب"(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬لسان العرب‪.10/49 :‬‬


‫(‪ )2‬تاج اللغة‪.4/1461 :‬‬
‫(‪ )3‬لسان العرب‪.10/49 :‬‬
‫(‪ )4‬تاج العروس‪.6/315 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة المائدة‪ ,‬اآلية‪.90 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة المائدة‪ ,‬اآلية‪.1 :‬‬
‫(‪ )7‬لسان العرب‪ :‬مادة عقد‪.2/836 :‬‬
‫(‪ )8‬تاريخ الفكر الفلسفي في اإلسالم‪ :‬ص‪.132/‬‬

‫المطلب األول‪ :‬تحديد السياقات القرآنية التي ورد فيها الحق ذا داللة عقدية‪.‬‬
‫استعمل القرآن الكريم لفظ الحق بدالالته العقدية في السور المكية التي سأبين سياقاتها العامة‪ ،‬تمهيدا إليضاح هذا المفهوم‪.‬‬
‫وهي حسب ترتيب نزولها (‪ )1‬كاألتي‪:‬‬

‫‪ -1‬سورة العصر‪:‬‬
‫وفيها يقول هللا عز وجل‪( :‬وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (‪ )2‬والتواصي] بالحق هو التواصي] باهلل عز وجل‪،‬‬
‫وتوحيده‪ ،‬وورود] هذا المبدأ في هذه السورة المبكرة يأتي بعد القسم بالعصر‪ ،‬والعصر] تعبير عن الزمان‪.‬‬
‫ومن ثم كان القسم بالزمان (العصر ) إشارة إلى مافي] مروره من أصناف] العجائب‪ ،‬ومايحصل] فيه من السراء والضراء‬
‫والصحة والسقم والغنى والفقر‪ ،‬بل كما يقول الفخر الرازي‪" :‬فيه ماهو أعجب من كل عجيب‪ ،‬وأن العقل ال يقوى على أن‬
‫يحكم عليه بالعدم‪ ،‬فإنه مجزأ مقسم بالسنة والشهر] واليوم] والساعة‪ ،‬ومحكوم] عليه بالزيادة والنقصان والمطابقة‪ ،‬وكونه‬
‫ماضيا ومسقبال‪ ،‬فكيف يكون معدوما؟ وال يمكنه أن يحكم عليه بالوجود] ألن الحاضر غير قابل للقسمة والماضي] والمستقبل‬
‫معدومان‪ ،‬فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود؟](‪)3‬‬

‫فالسورة على وجازتها تلخيص لعواقب النشاط] اإلنساني] كله على امتداد الزمان والمكان‪ ،‬فالمقطعون على هللا حطب جهنم‪،‬‬
‫والمتمسكون باإليمان والصالح والحق والصبر هم الذين كسبوا معركة الحياة كما يقول الشيخ الغزالي(‪.)4‬‬

‫(‪)5‬‬ ‫ولعله لهذا السبب قال اإلمام الشافعي] ‪-‬رحمه هللا – عن سورة العصر‪" :‬لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم"‬
‫قال صاحب ضالل‪" :‬والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه‪ :‬إنه على امتداد الزمان في جميع‬
‫األعصار‪ ،‬وامتداد اإلنسان في جميع األدهار‪ ،‬ليس هناك إال منهج واحد رابح‪ ،‬وطريق] واحد ناجم‪ ،‬هو ذلك المنهج الذي‬
‫ترسم السورة حدوده‪ ،‬وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار" (‪.)6‬‬

‫إذن فإطالق] اصطالح "الحق" على هللا عز وجل وتواصي] به في هذه السورة المكية المبكرة يدل على تأسيس القرآن لمبدأ‬
‫التوحيد على أساس من السعة تجعل اإلسالم مرشحا للشمول والخلود‪.‬‬
‫(‪ )1‬اعتمدت في هذا ترتيب على ماذكره السيوطي في اإلتقان‪.25-1/24 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة العصر‪.‬‬

‫(‪ )3‬مفاتيح الغيب‪.16/85 :‬‬


‫(‪ )4‬نحو تفسير موضوعي‪.539 :‬‬
‫(‪ )5‬البيان في أقسام القرآن‪.539 :‬‬
‫(‪ )6‬في ضالل القرآن سيد قطب‪.6/3964 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة مريم‪:‬‬


‫ومن السور األولى التي ورد] فيها مصطلح "الحق" دال على التوحيد سورة مريم] عليها السالم‪ ،‬حيث جاء فيها قوله تعالى‪:‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫(ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)‬
‫وفي القرآن المكي عموما حملت عارمة على الوثنية والشرك‪ ،‬وعلى هذا النسق جاءت سورة مريم تزعزع عقيدة الشرك‪،‬‬
‫وتؤسس عقيدة التوحيد‪ ،‬وهي عقيدة الرحمة‪ ،‬ألنها تخلص العبادة من عبادة العباد وترفعهم] إلى أعلى درجات المساواة بين‬
‫يدي إله واحد رحمان رحيم‪.‬‬

‫وهناك نجد اسم الرحمان من أسماء هللا الحسنى يتكرر في هذه السورة ست عشرة مرة‪ ،‬ذلك في قوله تعالى‪( :‬إني نذرت‬
‫للرحمان صوما فال أكلم اليوم إنسيا)(‪ )2‬وقوله‪( :‬إن الشيطان كان للرحمان عصيا)(‪ )3‬وقوله‪( :‬ياأبتي إني أخاف‬
‫أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا)(‪ )4‬وقوله‪( :‬إذا تتلى عليهم أيات الرحمان خروا سجدا‬
‫وبكيا) (‪ )5‬وقوله‪( :‬جنات عدن التي وعد الرحمان عباده بالغيب) (‪ )6‬وقوله‪( :‬ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد‬
‫على الرحمان عتيا) (‪ )7‬وقوله‪( :‬قل من كان في الضاللة فليمدد له الرحمان مدا)(‪ )8‬وقوله‪( :‬أطلع الغيب أن اتخذ‬
‫عند الرحمان عهدا)(‪ )9‬وقوله‪( :‬يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا)(‪ )10‬وقوله‪( :‬اليملكون الشفاعة إال من‬
‫اتخذ عند الرحمان عهدا)(‪ )11‬وقوله‪ ( :‬وقالوا اتخذ الرحمان ولدا)(‪ )12‬وقوله‪( :‬أن دعوا للرحمان ولدا)(‪ )13‬وقوله‪:‬‬
‫(إن كل من في السماوات و األرض إال أتي الرحمان عبدا)(‪ )14‬وقوله‪( :‬إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات‬
‫سيجعل لهم الرحمان ودا)(‪)15‬‬

‫)(‬‫وفي سياق هذا الضخم من الصراع بين الوثنية والتوحيد] في سورة مريم يأتي مصطلح (قول الحق الذي فيه يمترون‬
‫‪)16‬‬

‫(‪ )16( )1‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.34 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.18 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.26 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.45 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.58 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.61 :‬‬
‫(‪ )7‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.69 :‬‬
‫(‪ )8‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.75 :‬‬
‫(‪ )9‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.78 :‬‬
‫(‪ )10‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.85 :‬‬
‫(‪ )11‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.87 :‬‬
‫(‪ )12‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.88 :‬‬
‫(‪ )15( )14( )13‬سورة مريم‪ ،‬األية‪.93-92-91 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة طه‪:‬‬


‫هذه السورة من السور المكية التي استعمل فيها القرآن مصطلح "الحق" وصفا هلل عز وجل‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪( :‬فتعالى‬
‫هللا ملك الحق)(‪.)1‬‬
‫وهذا الوصف يزلزل كبرياء الكفر‪ ،‬ويحمل الناس حمال على اإليمان واالستعداد] للقائه‪.‬‬

‫(‪ )4‬سورة يونس‪:‬‬


‫في هذه السورة جاء مصطلح "الحق" وصفا هلل عز وجل‪ ،‬حيث قال هللا تعالى‪( :‬فذلكم هللا ربكم الحق فماذا بعد الحق‬
‫إال الضالل)(‪.)2‬‬

‫وهذا الوصف] يأتي في سياق التعريف باهلل عن طريق] النظر في ملكوته وتأمل في خلقه‪ ،‬وهو موضوع] بارز في سورة‬
‫يونس عليه السالم‪.‬‬
‫وورد في هذه السورة أطراف] من قصص األنبياء واألمم] السابقة كقصة يونس مع قومه التي سميت بها السورة‪ ،‬وقصة‬
‫موسى مع فرعون‪ ،‬وقصة نوح مع قومه‪ ،‬وكل أولئك األقوام كانوا يكابرون التوحيد مكابرة عنيدة‪ ،‬ويعاندون الحق معاندة‬
‫شديدة‪ ،‬وهي نفس المعاندة والمكابرة التي تشبث بها أهل مكة‪.‬‬
‫وفي ذكر ذلك إشارة إليهم وإلى أمثالهم ألن القرآن في دفاع عن اإلله الحق ووحدانيته أحر نفسا وأصدق] لهجة وأصدع‬
‫برهانا‪ ،‬وأن حرارة هذا الدفاع تسري في سياقه سريان الماء في النبات الغض‪ ،‬ألن مصدره الحق وهو يهدي إلى الحق‪.‬‬

‫ولذلك كما قال هللا تعالى‪( :‬فذلكم هللا ربكم الحق)(‪ )3‬أتبعه بما يشعر بعجز سواه عن هداية الخلق إلى الحق‪( :‬قل هل من‬
‫شركائكم من يهدي إلى الحق قل هللا يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن ال يهدي إال أن‬
‫يهدى فما لكم كيف تحكمون)(‪.)4‬‬
‫وهكذا وفي] هذا السياق يأتي الحديث عن المفهوم العقدي للحق‪.‬‬

‫(‪ )5‬سورة لقمان‪:‬‬


‫ومن السور التي جاء فيها وصف] هللا عز وجل بأنه الحق سورة لقمان حيث قال تعالى‪( :‬ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما‬
‫تدعون من دونه الباطل وأن هللا هو العلي الكبير)(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬سورة طه‪ ،‬اآلية‪.114 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة يونس‪ ،‬اآلية‪.32 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة يونس‪ ،‬اآلية‪.32 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة يونس‪ ،‬اآلية‪.35 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة لقمان‪ ،‬اآلية‪.30 :‬‬

‫فجاء هذا الوصف "الحق" في سياق حديث السورة عن قضية العقيدة و هي القضية التي يعالجها القرآن بشتى األساليب‪ ،‬فقد‬
‫ذكرت السورة الخالق الكبير بما هو أهل له من مجد وثناء‪ ،‬ولفتت األنظار] إلى أثر إبداعه في الكون‪ ،‬وتساءلت عن الشركاء‬
‫المزعومين من هم؟ وأين ما خلقوا؟ (وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في األرض‬
‫رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق‬
‫هللا فأروني ماذا خلق الذين من دونه) (‪.)1‬‬

‫(‪ )6‬سورة الحج‪:‬‬


‫هذه السورة اختلف الروات في مكيتها(‪ .)2‬جاء فيها لفظ "الحق" اسما هلل عز وجل مرتين‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪( :‬ذلك بأن‬
‫هللا هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير)(‪ .)3‬وفي قوله‪( :‬ذلك بأن هللا هو الحق وأن ما تدعون‬
‫من دونه هو الباطل وأن هللا هو العلي الكبير)(‪.)4‬‬

‫وهذا اإلسم ما هو إال نتيجة صحيحة لمقدمات صادقة عرضته السورة‪ ،‬فقد ذكر السيوطي‪" :‬أن من أول سورة الحج إلى‬
‫قوله‪( :‬وأن هللا يبعث من في القبور)(‪ .)5‬خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات"(‪.)6‬‬

‫ثم فصل ذلك مبيينا أن قوله‪( :‬ذلك بأن هللا هو الحق) ألنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة‬
‫معظما لها(‪ .)7‬وذلك مقطوع بصحته ألنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته منقول إلينا بالتواتر‪ ،‬فهو حق اليخبر‬
‫بالحق عما سيكون إال الحق‪ ،‬هللا هو الحق"(‪.)8‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬مفهوم الحق في ضوء علم المناسبة‪.‬‬


‫من المالحظ أن اإلنسان حينما يقرأ سورة من القرآن الكريم‪ ،‬يجد بين أياتها تجانسا وتالؤما] وألفة‪ ،‬فال تنافر وال تباين‪.‬‬
‫كما يجد القارئ ذلك التجانس والتالؤم] واأللفة بين بداية السورة وخاتمتها‪ ،‬وبين بداية السورة و خاتمة السورة التي قبلها‪.‬‬
‫(‪ )1‬سورة لقمان‪ ،‬اآلية‪ 9 :‬و ‪ 10‬و ‪.11‬‬
‫(‪ )2‬أنظر اإلتقان‪.1/13 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة الحج‪ ،‬اآلية‪.6 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة الحج‪ ،‬اآلية‪.62 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة الحج‪ ،‬اآلية‪.7 :‬‬
‫(‪ )6‬انظر اإلتقان‪.2/135 :‬‬
‫(‪ )7‬يشير إلى األيتين‪ 1 :‬و ‪ 2‬من سورة الحج‪.‬‬
‫(‪ )8‬اإلتقان‪.2/135 :‬‬

‫ومعلوم أن ترتيب المصحف على خالف ترتيب النزول‪ ،‬لكن ترتيب األيات في السورة الواحدة أمر توقيفي] ال مجال فيه‬
‫لالجتهاد إجماعا(‪ )1‬وأما ترتيب السور في المصحف] فالراجح أنه توقيفي ال اجتهادي(‪.)2‬‬

‫فإذا تبين هذا‪ ،‬حسن أن ننظر مفهوم الحق في ضوء علم المناسبة لكشف وجه االرتباط] بين بعض اآليات التي تحمل معنى‬
‫اصطالحيا للفظ الحق‪ ،‬ووجه االرتباط] بين بعض السور التي جاء فيها مصطلح الحق يحمل داللة عقدية‪.‬‬
‫وقبل هذا‪ ،‬البد من اإلشارة إلى أهمية علم المناسبة‪.‬‬
‫المناسبة يراد بها عند علماء القرآن المعنى الرابط بين آية وما قبلها وما بعدها‪ ،‬وبين سورة وما قبلها وما بعدها بوجه من‬
‫وجوه الربط‪.‬‬
‫قال السيوطي] في اإلتقان‪" :‬ومرجعها] ‪ -‬يعني المناسبة ‪ -‬في اآليات ونحوها إلى معنى رابط بينها عام أو خاص عقلي أو‬
‫خيالي أو غير ذلك من أنواع العالقات أو التالزم الذهني كالسبب والمسبب والعلة والمعلول والنظرين والضدين ونحوه"(‪)3‬‬

‫ومن أهمية هذا العلم أنه يجعل أجزاء الكالم بعضها آخذا بأعناق بعض‪ ،‬فيقوي بذلك الرتباط ويصير] التأليف حاله حال البناء‬
‫المحكم المتالئم األجزاء(‪.)4‬‬

‫قال البقاعي‪" :‬فعلم مناسبة القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه‪ ،‬و هو سر البالغة ألدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما‬
‫اقتضاه من الحال‪ ،‬وتتوقف] اإلجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها‪ ،‬ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع‬
‫جملها‪ ،‬فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو"(‪)5‬‬

‫وعلى ذلك فإن علم المناسبة "يرسخ اإليمان في القلب‪ ،‬ويتمكن من اللب‪ ،‬وذلك أنه يكشف أن لإلعجاز طريقين‪ :‬أحدهما‪:‬‬
‫نظم كل جملة على حالها بحسب التركيب‪ ،‬والثاني نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب" (‪.)6‬‬

‫ومن ثم فإن عدم مراعاة علم المناسبة بين اآليات يوقع] في بعد عن المعنى حتى في اآلية الواحدة‪ .‬وهذا ما‬
‫حدث لكثير من المفسرين في تفسير آية األهلة وهي قوله تعالى ‪( :‬يسئلونك عن األهلة قل هي مواقيت‬
‫للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى واتوا البيوت من‬
‫أبوابها واتقوا هللا لعلكم تفلحون) (‪. )7‬‬

‫(‪ )1‬يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن الزبير قال ‪ :‬قلت لعثمان ‪ " :‬والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية ألزواجهم متاعا إلى‬
‫الحول غير إخراج (البقرة ‪ 240 :‬قد نسختها اآلية األخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال ‪ :‬يا ابن أخي ال أغير شيئا من مكانه صحيح البخاري‪،‬‬
‫كتاب التفسير باب والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " رقم الحديث ‪.) 4530 :‬‬

‫(‪ )2‬مما يرجح هذا القول ما أخرجه البخاري من قول ابن مسعود في شأن سورة اإلسراء والكهف ومريم ‪ :‬إنهن من العتاق األول وهن من‬
‫تالدي" (صحيح البخاري‪ ،‬كتاب التفسير ‪ :‬سورة بني إسرائيل ‪ :‬رقم الحديث ‪)4708 :‬‬

‫(‪ )3‬اإلتقان ‪. 108/2 :‬‬

‫(‪ )4‬البرهان للزركشي ‪ 35/1 :‬و ‪. 36‬‬

‫(‪ )5‬نظم الدرر في تناسب اآليات والسور ‪. 6/1 :‬‬

‫(‪ )6‬نظم الدرر ‪11/1 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪189 :‬‬

‫قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه اآلية ‪:‬‬


‫قال العوفي] عن ابن عباس ‪ :‬سأل الناس رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن األهلة هذه اآلية (يسئلونك عن‬
‫األهلة قل هي مواقيت للناس) يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم] ووقت] حجهم ؛ وقال أبو جعفر عن‬
‫الربيع‪ ،‬عن أبي العالية ‪ :‬بلغنا أنهم قالوا] ‪ :‬يا رسول] هللا لم خلقت األهلة ؟ فأنزل هللا (يسئلونك عن األهلة‬
‫قل هي مواقيت للناس) يقول جعلها هللا مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم] ومحل دينهم ‪...‬‬
‫ثم بعد أن ساق عدة روايات قال ‪ :‬وقوله ‪( :‬وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من‬
‫اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) (‪. )1‬‬

‫ثم ساق روايات كلها تصب في نفس المعنى‪ ،‬وكذلك فعل ابن جرير الطبري رحمه هللا ‪.‬‬

‫‪ ‬وعادة دخول البيوت من ظهورها] في حال اإلحرام أو عند العودة من سفر عادة مألوفة في الجاهلية‪ ،‬وقد جاء‬
‫الشطر الثاني من اآلية إلبطالها‪ ،‬ولكن ما هي المناسبة فيذكر إبطال هذه العادة في هذا الشطر من هذه اآلية‬
‫عقب بيان حكمة تسخير األهلة ؟ ‪.‬‬

‫أما المفسرون الذين ال يلتفتون إلى المناسبة بين اآليات فلم يشر أحد منهم إلى شيء من ذلك ‪ .‬غير أن اإلمام‬
‫الرازي‪ -‬وهو ممن يلتفت إلى المناسبة بين اآليات‪ -‬يقول في شأن هذه اآلية ‪:‬‬

‫ذكروا في تفسير اآلية ثالثة أوجه ‪ :‬األول ‪ :‬وهو قول أكثر المفسرين حمل اآلية على هذه األحوال التي‬
‫رويناها في سبب النزول‪ ،‬إال أنه على هذا التقدير صعب الكالم في نظم اآلية‪ ،‬فإن القوم سألوا رسول] هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم عن الحكمة في تغيير نور] القمر فذكر] هللا تعالى الحكمة في ذلك وهي قوله ‪ " :‬قل هي‬
‫مواقيت للناس والحج " فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختالف نور القمر وبين هذه القصة ؟‪.‬‬

‫وبعد أن ذكر وجوها] من أقوال المفسرين ذكر وجها أكثر انسجاما فقال ‪ " :‬فجعل إتيان البيوت من ظهورها‬
‫كناية عن العدول عن الطريق الصحيح وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم" (‪. )2‬‬

‫المبحث الثاني‪:‬‬
‫بيان وجه التناسب بين بعض اآليات ذات الداللة اإلصطالحية للفظ الحق‬

‫سأعرض في هذا المبحث نماذج لتناسب اآليات التي تضمنت معنى اصطالحيا للفظ الحق‪ ،‬وسأحصر] هذه‬
‫النماذج في اآليات التي جاء فيها "الحق" بمعنى "القرآن" و"اإلسالم" وسأجعل هذه النماذج في مطلبين‪:‬‬

‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير ‪ 338/1 :‬و ‪. 339‬‬

‫(‪ )2‬مفاتيح الغيب ‪137/3 :‬‬


‫المطلب األول‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أوجه التناسب بين بعض اآليات التي فيها اصطالح "الحق" بمعنى القرآن‪:‬‬
‫(‪ )1‬قال تعالى في سورة الرعد ‪:‬‬
‫( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا األلباب ) (‪. )1‬‬
‫هذه اآلية جاءت عقب قوله تعالى ‪ ( :‬للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في‬
‫األرض جميعا ومثله معه ال افتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبيس المهاد) (‪. )2‬‬

‫وجه المناسبة بين اآليتين أن المستجيب للحق المنزل وحيا من السماء هو ذو اللب البصير الثاقب النظر‪،‬‬
‫وبذلك فله الصفة الحسنى التي تؤهله إلى مرتبة الجنة إذ بعمق نظره أدرك على جهة اليقين أن هذا الذي أنزل‬
‫على رسول] هللا صلى هللا عليه وسلم هو الحق الثابت الذي ال يطلب الهدى في غيره إال ضال‪ ،‬وبالمقابل فإن‬
‫الذي لم يعترف بأن هذا المنزل على محمد صلى هللا عليه وسلم هو الحق‪ ،‬رغم قوة حجته‪ ،‬ونصاعة براهينه‬
‫فإنه أعمى البصيرة سيكلفه عماه شقاوة أبدية ال ينجيه من سوء مصيرها كل متاع األرض ومثله معه لو‬
‫افتدى به(‪.)3‬‬

‫قال البقاعي ‪ " :‬ولما افترق] حال من أجاب ومن أعرض في الجزاء‪ ،‬وكان ما مضى مستوفيا] طرق] البيان‬
‫بإيضاح األمر بالجزئيات واألمثلة مع الترغيب والترهيب‪ ،‬فكان جديرا بترتيب األثر عليه‪ ،‬تسبب عنه‬
‫اإلنكار على من سوى بين العالم والعامل وغيره التفاتا إلى قوله (هل يستوي األعمى والبصير) (‪. )4‬‬

‫وسوى بين الحق والباطل التفاتا إلى قوله ‪( :‬كذلك يضرب هللا الحق والباطل )(‪ . )5‬فحسن قوله ‪ " :‬أفمن "‬
‫بفاء السبب " يعلم " علما نافعا وهو عامل به " أنما " أي الذي "أنزل" أي وجد إنزاله وفرغ منه إليك من‬
‫ربك أي المحسن إليك بأحسن التدبير "الحق" أي الكامل في الحقية‪ ،‬فهو نير العين للبصر والقلب لالستبصار‬
‫واالعتبار يهتدي بما يعلم إلى طريق الرشد فيسلكها وإلى طريق] الغي فيتركها ‪( . . .‬كمن هو أعمى )ال‬
‫بصر له وال بصيرة‪)6( .‬‬

‫(‪ )2‬قال تعالى في سورة الفرقان ‪:‬‬

‫(وال ياتونك بمثل` إال جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) (‪. )7‬‬

‫بعد قوله عز وجل ‪( :‬وقال الذين كفروا لوال نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك‬
‫ورتلناه ترتيال)(‪. )8‬‬
‫(‪ )1‬سورة الرعد اآلية ‪. 19 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.18 :‬‬

‫(‪ )3‬مفهوم الحق في القرآن الكريم‪ :‬ص‪126/‬‬

‫(‪ )4‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.16 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة الرعد اآلية ‪.17 :‬‬

‫(‪ )6‬نظم الدرر ‪ 326/10 :‬و ‪.327‬‬

‫(‪ )7‬سورة الفرقان اآلية ‪33 :‬‬

‫(‪ )8‬سورة الفرقان اآلية ‪32 :‬‬

‫وجه التناسب بين اآليتين أن القرآن لو نزل على رسول هللا صلى هللا عليـه وسلم جملة واحدة كما طلب ذلك‬
‫الكفار‪ ،‬ثم سألوه لم يكن عنده ما يجيب‪ ،‬لذلك أمسك عليه فإذا سألوه أجاب ليكون ذلك عالمـة عـلـى نبوته‪،‬‬
‫وهذا هدف من أهداف القرآن وهو إثبات أن هذا القرآن حق بدليل نزوله على نبي أمي ‪.‬‬

‫قال القرطبي ‪( :‬وال ياتونك بمثل` إال جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) يقول ‪ :‬لو أنزلنا عليك القرآن جملة‬
‫واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به‪ ،‬وال نمسك عليك فإذا سألوك أجبت ‪ .‬قال النحاس ‪ :‬وكان ذلك من‬
‫عالمات النبوة‪ ،‬ألنهم ال يسألون عن شيء إال أجيبوا عنه‪ ،‬وهذا ال يكون إال من نبي (‪. )1‬‬

‫قال البقاعي ‪ " :‬ولما كان التقدير ‪ :‬قد بطل ما أوتوا به من هذا االعتراض‪ ،‬عطف عليه قوله ‪" :‬ال ياتونك"‬
‫أي المشركون بمثل" أي باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء بما يجتهدون في تنميقه‬
‫وتحسينه وتدقيقه حتى يصير] عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظا ومعنى "إال جئناك" أي في جوابه‬
‫"الحق" ومن األلف والالم الدالة على الكمال يعرف أن المراد به الثابت الذي ال شيء أثبت منه‪ ،‬فيرهق] ما‬
‫أتوا به لبطالنه‪ ،‬ويفتضح بعد ذلك الستر فضيحة تخجل القائل والسامع ‪.‬‬

‫ولما كان التقدير في األصل ‪ :‬بأحق منه‪ ،‬وإنما عبر بالحق لئال يفهم أن لما يأتون به وجها في الحقيقة‪ ،‬عطف‬
‫عليه قوله ‪" :‬وأحسن " أي من مثلهم "تفسيرا" أي كشفا لما غطى الفهم من ذلك الذي خيلوا به وادعوا أنهم أو‬
‫ضحوا به وجها من وجوه المطاعن‪ ،‬فجزم أكثر السامعين بحسنه (‪. )2‬‬

‫ثانيا‪ :‬أوجه التناسب بين بعض اآليات التي فيها اصطالح "الحق" بمعنى اإلسالم‪:‬‬
‫(‪ )1‬قال تعالى في سورة اإلسراء ‪:‬‬

‫(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) (‪. )3‬‬
‫هذه اآلية جاءت عقب قوله تعالى ‪( :‬وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل‬
‫لي من لدنك سلطانا نصيرا) (‪. )4‬‬

‫فما وجه المناسبة بين اآليتين ؟ ‪.‬‬

‫ولكي يتبين وجه مناسبتها] لما قبلها البد من فهم المراد من هذه اآلية التي قبلها وهي قوله تعالى ‪( :‬وقل رب‬
‫أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصير̀ا)‪ ،‬حيث ذكر‬
‫المفسرون أوجها لمعانيها‪ ،‬ولكن المعنى الذي يناسب ما قبلها وما بعدها قد يكون هو ‪" :‬وقل رب أدخلني في‬
‫القيام بمهمات أداء دينك وشريعتك وأخرجني] منها بعد الفراغ منها إخراجا ال يبقي علي منها تبعة وبقية" (‪. )5‬‬

‫(‪ )1‬الجامع ألحكام القرآن ‪21/13 :‬‬

‫(‪ )2‬نظم الدرر ‪381/13 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪. 81 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪. 80 :‬‬

‫(‪ )5‬مفاتيح الغيب للرازي ‪34/11 :‬‬

‫وعلى هذا الوجه يصبح وجه المناسبة واضحا في االستجابة الذي تشعر به آية ‪( :‬وقل جاء الحق وزهق‬
‫الباطل) وقد أشار إلى هذا التناسب الفخر الرازي حيث قال ‪ " :‬ولما سأل هللا النصرة بين هللا له أنه أجاب‬
‫دعاءه فقال ‪( :‬وقل جاء الحق) ‪-‬وهو دينه وشرعه‪( -‬وزهق الباطل) وهو كل ما سواه من األديان‬
‫والشرائع (‪.")1‬‬

‫قال البقاعي ‪ " :‬ولما كان الدعاء قد ال يستجاب‪ ،‬قال ميسرا له بأنه ليس بين دعائه وبين استجابته إال قوله‪،‬‬
‫ومحققا لتلك البشرى باألمر بأن يخبر بها(‪.)2‬‬

‫(‪ )2‬قال تعالى في سورة األنفال‪:‬‬

‫( وإذ يعدكم هللا إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد هللا أن‬
‫يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)(‪. )3‬‬

‫هاتان اآليتان وردتا] بعد قوله تعالى ‪:‬‬

‫( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المومنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما‬
‫تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)(‪. )4‬‬
‫فما وجه التناسب بينهما ؟‬

‫يبدو التناسب بينهما من خالل تعارض إرادتين ‪ :‬إرادة هللا عز وجل الذي يريد إحقاق الحق أي نصر الدين‬
‫وعلو كلمته فاختار للمسلمين طريق النصر والعلو وهو القتال الذي عبر عنه بذات الشوكة ‪.‬‬

‫وإرادة المسلمين الذين يودون ويريدون أن تكون لهم غير ذات الشوكة أي الغنيمة من غير قتال وال مكافحة‬
‫كما وقع في معركة بدر ‪.‬‬

‫قال الزمخشري] ‪ " :‬يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفاسف] األمور] وأن ال تلقوا ما يرزقكم] في أبدانكم‬
‫وأحوالكم وهللا عز وجل يريد معاني األمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة والفوز في‬
‫الدارين وشتان ما بين المرادين‪ ،‬ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم وغلب كثرتهم]‬
‫بقلتكم وأعزكم وأذلهم وحصل لكم ما ال تعارض أدناه العير وما فيها"(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬مفاتيح الغيب للرازي ‪34/11 :‬‬

‫(‪ )2‬نظم الدرر ‪. 496/11 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪ 7 :‬و ‪. 8‬‬

‫(‪ )4‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪ 5 :‬و ‪6‬‬

‫(‪ )5‬الكشاف عن حقائق التنزيل ‪2/145 :‬‬

‫قال البقاعي ‪ " :‬ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم] بل ودادتهم] إنما كانت منصبة إلى العير ال إلى‬
‫النفير‪ ،‬تبين أن ال صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا فالحظ لهم في الغنيمة إال ما يقسمه هللا لهم‬
‫ألن الحكم لمراده ال لمراد غیره‪ ،‬فقال تعالى عاطفا على "وتودون" ويريد] أي بما له من العز والعظمة والعلم‬
‫" أن يحق الحق " أي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب‪ ،‬وهو هنا إصابة ذات الشوكة بكلماته‬
‫"أي التي أوحاها إلى نبيه صلى هللا عليه وسلم] أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون‪ ،‬وأن هذا مصرع فالن وهذا‬
‫مصرع فالن‪ ،‬ليعلي دينه ويظهر] أمره على كل أمر " (‪. )1‬‬

‫المطلب الثاني‪:‬‬
‫وجه المناسبة بين بعض السور التي جاء فيها مصطلح الحق يحمل داللة عقدية‪.‬‬

‫سأعرض في هذا المبحث نماذج ألوجه التناسب بين سور] جاء فيها مصطلح الحق ذا داللة عقدية مرتبا إياها‬
‫حسب النزول كما فعلت في مطلب المبحث األول "السياقات" قبل هذا المطلب‪ ،‬مبتدئا بأولها وهي سورة‬
‫العصر ‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة العصر ‪:‬‬

‫قال تعالى ‪ ( :‬والعصر إن اإلنسان لفي خسر إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق‬
‫وتواصوا بالصبر)(‪)2‬‬

‫هذه السورة جاءت حسب ترتيب المصحف عقب سورة " التكاثر " ومعلوم] أن التكاثر هو "التباري في الكثرة‬
‫والتباهي بها وأن يقول هؤالء نحن أكثر وهؤالء نحن أكثر "(‪ )3‬وهذا حال الدنيا ووصف أهلها كما قال‬
‫تعالى ‪( " :‬اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزين̀ة وتفاخر بينكم وتكاثر في األموال واألوالد‬
‫كمثل غيث أعجب الكفار نبات̀ه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي اآلخرة عذاب شديد‬
‫ومغفرة من هللا ورضوان وما الحياة الدنيا إال متاع الغرور )(‪. )4‬‬

‫قال البقاعي ‪ " :‬وقال األستاذ أبو جعفر بن الزبير ‪ :‬لما قال تعالى (ألهاكم التكاثر) وتضمن ذلك اإلشارة إلى‬
‫قصور] نظر اإلنسان وحصر] أدراجه في العاجل دون اآلجل الذي فيه فوزه وفالحه وذلك لبعده عن العلم‬
‫بموجب الطبع " إنه كان ظلوما جهوال "(‪ )5‬أخبر سبحانه أن ذلك شأن اإلنسان بما هو إنسان فقال‪( :‬والعصر‬
‫إن اإلنسان لفي خسر) فالقصور] شأنه‪ ،‬والظلم طبعه‪ ،‬والجهل جبلته فيحق] أن يلهيه التكاثر‪ ،‬وال يدخل هللا‬
‫عليه روح اإليمان (إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات) إلى آخرها‪ ،‬فهؤالء الذين (ال تلهيهم تجارة‬
‫وال بيع عن ذكر هللا )(‪. )6‬‬

‫(‪ )1‬نظم الدرر ‪ 230/8 :‬و ‪231‬‬

‫(‪ )2‬سورة العصر‬

‫(‪ )3‬الكشاف للزمخشري ‪ 280/4 :‬و ‪281‬‬

‫(‪ )4‬سورة الحديد‪ ]،‬اآلية ‪. 20 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة األحزاب اآلية ‪.72 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة النور ‪ ،‬اآلية ‪. 37 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة مريم ‪:‬‬


‫جاءت سورة مريم ‪ -‬حسب ترتيب المصحف] ‪ -‬بعد سورة الكهف‪ ،‬وقد اشتملت سورة مريم على آية فيها لفظ‬
‫"الحق" يحمل داللة عقدية‪ ،‬وذلك في سياق الحديث عن تنزيه هللا عز وجل عن الولد وإثبات قدرته تعالى‬
‫على اإليجاد من العدم بناء على مبدأ " كن فيكون" قال تعالى ‪( :‬وذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي‬
‫فيه يمترون ما كان هلل أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمر فإنما يقول له كن فيكون وأن هللا‬
‫ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقي̀م)(‪. )1‬‬

‫لكن ما وجه المناسبة بين سورة مريم وسورة الكهف ؟‬

‫بما أن من أهداف سورة الكهف البرهنة على أن القرآن الكريم قيم ال عوج فيه‪ ،‬كما يؤذن بذلك مطلعها ‪:‬‬
‫( الحمد هلل الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه‬
‫ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا‬
‫اتخذ هللا ولدا )(‪ . )2‬فإن من مقاصد سورة مريم البرهنة على اتصافه عز وجل ‪-‬وهو منزل القرآن‪ -‬بجميع‬
‫صفات الكمال الدالة على تمام القدرة‪ ،‬كما يشعر بذلك تسمية السورة بمريم ‪.‬‬

‫إذ قصة مريم عليها السالم ووالدتها] من غير بعل أكبر برهان على ذلك ‪.‬‬

‫وبما أن سورة الكهف تسمت باسم قصة أصحاب الكهف‪ ،‬وهي ال تقل غرابة عن قصة مريم ألن فيها بعث‬
‫الحياة من جديد لفتية قبضوا منذ أزيد من ثالثمائة سنة (فضربنا على اذانهم في الكهف سنين عددا ثم‬
‫بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)(‪. )3‬‬

‫فإن سورة مريم أذنت ببعث الحياة في شيخين قد بلغا من الكبر عتيا لتعود إليهما القدرة على اإلنجاب بعد‬
‫سنوات العقم ‪( .‬يا زكرياء إنا نبشرك بغالم اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال ربي أنى‬
‫يكون لي غالم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين‬
‫وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ﴾(‪. )4‬‬

‫قال البقاعي ‪ " :‬وقال اإلمام أبو جعفر ابن الزبير في برهانه ‪ :‬لما قال تعالى ‪( :‬أم حسبت أن أصحاب‬
‫الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) (‪ )5‬ثم أورد خبرهم] وخبر الرجلين وموسى] والخضر عليهما‬
‫السالم وقصة ذي القرنين‪ ،‬اتبع سبحانه ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجبا وأخفى سببا‪،‬‬
‫فافتتح سورة مريم بيحيى بن زكرياء وبشارة زكرياء به بعد الشيخوخة وقطع] الرجاء وعقر الزوج حتى سأل‬
‫زكرياء مستفهما ومتعجبا] ‪ ( :‬أنى يكون لي غالم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا)‬

‫(‪ )1‬سورة مريم‪ ،‬اآلية ‪ 34 :‬و ‪ 35‬و ‪36‬‬

‫(‪ )2‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪ 1 :‬و ‪ 2‬و ‪ 3‬و ‪. 4‬‬

‫(‪ )3‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪ 11 :‬و‪12‬‬

‫(‪ )4‬سورة مريم‪ ،‬اآلية ‪ 7 :‬و ‪ 8‬و ‪. 9‬‬

‫(‪ )5‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪9 :‬‬


‫فأجابه تعالى بأن ذلك عليه هين‪ ،‬وأنه يجعل ذلك آية للناس‪ ،‬وأمر هذا أعجب من القصص المتقدمة‪ ،‬فكأن قد‬
‫قيل ‪" :‬أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم] كانوا من آياتنا عجبا‪ ،‬نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما‬
‫هو أعجب وأغرب وأوضح آية‪ ،‬وهو قصة زكرياء في ابنه يحيى عليهما السالم‪ ،‬وقصة عيسى في كينونته‬
‫بغير أب ليعلم أن األسباب في الحقيقة ال يتوقف] عليها شيء من مسبباتها إال بحسب سنة هللا‪ ،‬وإنما الفعل له‬
‫سبحانه ال بسبب‪ ،‬وإلى هذا أشار بقوله تعالى لزكرياء عليه الصالة والسالم ‪( :‬وقد خلقتك من قبل ولم تك‬
‫شيئا) ثم أتبع سبحانه بشارة زكرياء بيحيى بإيتائه الحكم صبيا‪ ،‬ثم يذكر مريم وابنها عليهما الصالة والسالم]‬
‫"(‪ . )1‬فإن الذي أعاد الحياة ألصحاب الكهف بعد أكثر من ثالثة قرون‪ ،‬وأوجد] عيسى من غير أب وبشر]‬
‫زكرياء وزوجه بمولود] بعد سنوات العقم والشيخوخة لهو اإلله الحق المنزه عن الشريك والولد ‪( :‬ما اتخذ‬
‫هللا من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض سبحان هللا‬
‫عمايصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ) (‪. )2‬‬

‫(‪ )3‬سورة لقمان‪:‬‬

‫في اآلية الثالثين من هذه السورة تقرر أن هللا هو الحق‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪( :‬وذلك بأن هللا هو الحق‬
‫وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن هللا هو العلي الكبير) (‪ . )3‬وجاء هذا التقرير بعد عرض‬
‫مجموعة من الدالئل الكونية على قدرته عز وجل من خلق اإلنسان وخلق السماوات واألرض وتصريف‬
‫الليل والنهار‪ ،‬وبيان سعة علمه عز وجل‪( :‬ولو أنما في األرض من شجرة أقالم والبحر يمده من‬
‫بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات هللا إن هللا عزیز حکیم) (‪. )4‬‬

‫وقد جاءت سورة لقمان في ترتيب المصحف بعد سورة الروم‪ ،‬فماذا يجمع بينهما من مناسبة ؟‬

‫تكرر في سورة الروم الحث على التفكر في النفس وفي الكون كقوله تعالى ‪( :‬أو لم يتفكروا في أنفسهم‬
‫ما خلق هللا السماوات واألرض وما بينهما إال بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء‬
‫ربهم لكافرون) (‪ . )5‬وكأن الجواب المناسب لهذه اآلية يجيء في سورة لقمان في قوله تعالى ‪( :‬ما خلقكم‬
‫وال بعثكم إال كنفس واحدة إن هللا سميع بصي̀ر ) (‪. )6‬‬

‫وسورة الروم ختمت بالحض على العلم والصبر] عليه والتمسك] به‪ ،‬وبيان أن من فقد العلم طبع على قلبه‪:‬‬
‫( كذلك يطبع هللا على قلوب الذين ال يعلمون فاصبر وعد هللا حق وال يستخفنك الذين ال‬
‫يوقنون) (‪. )7‬‬

‫(‪ )1‬نظم الدرر ‪ 165/12 :‬و ‪166‬‬

‫(‪ )2‬سورة المومنون‪ ،‬اآلية ‪ 91 :‬و ‪. 92‬‬

‫(‪ )3‬سورة لقمان اآلية ‪.30 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة لقمان اآلية ‪.27 :‬‬


‫(‪ )5‬سورة الروم ‪ ،‬اآلية ‪. 8 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة لقمان اآلية ‪. 28 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة الروم ‪ ،‬اآلية ‪ 59 :‬و ‪. 60‬‬

‫وهذا العلم الذي جاء الحض عليه هناك ما هو إال ما تضمنه هذا القرآن الكريم من حكمة وهداية ورحمة‪ ،‬لذلك‬
‫جاء مطلع سورة لقمان يؤذن بهذا المعنى ‪ ( :‬تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين) (‪)1‬‬

‫وهذا الكتاب الحكيم الثابت الحكمة مصدره هو هللا الحق الذي وسع‪ .‬الكون كله كما أذنت بذلك آية ‪( :‬ولو أنما‬
‫في األرض من شجرة أقالم والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات هللا إن هللا عزيز‬
‫حكيم ﴾ (‪. )2‬‬

‫وقال البقاعي ‪ " :‬وقال اإلمام أبو جعفر بن الزبير ‪ :‬لما تكرر األمر باالعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب‬
‫المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه ‪( :‬أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق هللا السماوات‬
‫واألرض وما بينهما إال بالحق) (‪ ،)3‬وقوله ‪( :‬أو لم يسيروا في األرض ﴾ (‪ ،)4‬وقوله ‪( :‬هللا يبدأ‬
‫الخلق ثم يعيده ) (‪)5‬‬

‫وقوله ‪( :‬يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) إلى قوله ‪( :‬كذلك نفصل اآليات لقوم‬
‫يعقلون )(‪ ،)6‬وهي عشر آيات تحملت من جليل االعتبار والتنبيه ما ال يبقى معه شبهة وال توقف] لمن وفق‬
‫إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدالئل وذكر] ما فطر] عليه العباد وضرب األمثال الموضحة سواء‬
‫السبيل لمن عقل معانيها] وتدبر] حكمها إلى قوله ‪( :‬ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ (‪،)7‬‬
‫وهي إشارة إلى ما أودع هللا كتابه المبين من مختلف األمثال وشتى] العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك‪،‬‬
‫أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق ‪( :‬ألم تلك آيات الكتاب الحكيم) (‪ ،)8‬أي دالئله وبراهينه لمن وفق] وسبقت له‬
‫الحسنى وهم المحسنون الذين ذكرهم بعد‪ ،‬ووصف] الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه (‪. )9‬‬

‫(‪ )1‬سورة لقمان‪ ،‬اآلية ‪ 2 :‬و ‪. 3‬‬

‫(‪ )2‬سورة لقمان‪ ،‬اآلية ‪.27 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪. 8 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪. 9 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪11 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪28 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪.58 :‬‬

‫(‪ )8‬سورة لقمان‪ ،‬اآلية ‪ 1 :‬و‪. 2‬‬


‫(‪ )9‬نظم الدرر ‪ 142/15 :‬و ‪.143‬‬

‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫كشف التحريف العقدي لمفهوم الحق عند أهل الكتاب‬

‫مدخل‪:‬‬
‫مما قرره القرآن الكريم من أصول أنه جعل عقيدة المسلم تنبني على أن دين هللا في كل األمم واحد ال تختلف‬
‫أصوله باختالف األمم وأحوالها] وأزمانها وأمكنتها وإن اختلفت األحكام الفرعية باختالف ذلك‪ ،‬وهو ما يشير‬
‫إليه قوله تعالى ‪ ( :‬قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أال نعبد إال هللا وال نشرك‬
‫به شيئا وال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (‪)1‬‬
‫وقوله‪ ( :‬إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل‬
‫وإسحاق ويعقوب واألسباط وعيسى وأيوب ويونس` وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا) (‬
‫‪.)2‬‬

‫فكل ما أوحى هللا به إلى أنبيائه ورسله واحد في أصوله ألنه يدعو إلى توحيد هللا وتزكية النفس‪ ،‬وإقامة‬
‫العدل‪ ،‬كما قال هللا تعالى ‪( :‬ولقد بعثنا في كل أمة سوال أن اعبدوا هللا واجتنبوا الطاغوت فمنهم‬
‫من هدى هللا ومنهم من حقت عليه الضاللة فسيروا في األرض فانظروا كيف كان عاقبة‬
‫المكذبين ) (‪ ( . )3‬وما أرسلنا من قبلك من رسول إال يوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون) (‪)4‬‬
‫(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد‬
‫فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم هللا من ينصر̀ه ورسله بالغيب إن هللا قوي عزيز) (‪)5‬‬
‫( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى‬
‫وعيسى أن أقيموا الذين وال تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه هللا يجتبي إليه‬
‫من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) (‪. )6‬‬
‫ولقد أثنى القرآن على كتب هللا جميعا وجعل اإليمان بها جزءا من إيمان المسلم (آمن الرسول بما أنزل‬
‫إليه من ربه والمومنون كل آمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ال نفرق بين أحد من رسله وقالوا‬
‫سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير] ) (‪. )7‬‬

‫(‪ )1‬سورة آل عمران اآلية ‪.64 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة النساء ‪ ،‬اآلية ‪. 163 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.36 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪. 25 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة الحديد‪ ]،‬اآلية ‪. 25 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪13 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 285 :‬‬

‫وقال في حق التوراة ‪:‬‬

‫( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون‬
‫واألحبار بما استحفظوا من كتاب هللا وكانوا عليه شهداء فال تخشوا الناس واخشون وال‬
‫تشتروا بآياتي ثمنا قليال ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الكافرون﴾(‪( )1‬ثم آتينا موسى‬
‫الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيال لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) (‬
‫‪. )2‬‬

‫وقال في حق اإلنجيل ‪:‬‬

‫(وقفينا على آثار هم بعیسی ابن مریم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه اإلنجيل فيه‬
‫هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) (‪ . )3‬ولكن هذه الكتب لم‬
‫يضمن لها البقاء والحفظ ‪-‬كما هي ميزة القرآن‪ -‬ألنها نزلت لمجموعة خاصة من البشر في فترة خاصة من‬
‫الزمن وبيئة محدودة من األرض فحل بها ما حل من التحريف] والنسيان والضياع‪.‬‬

‫وبما أن القرآن الكريم جاء مؤذنا في الناس أن يؤمنوا] باهلل وسائر رسله وكتبه دون تفريق فما كان له أن‬
‫يسكت عما لحق هذه الكتب من تحريف] وتشويه وتزوير وكتمان‪ ،‬ومن ثم صرخ القرآن في وجه المبطلين‬
‫المحرفين لوحى هللا قائال ‪( :‬يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ﴾‬
‫(‪. )4‬‬
‫وشنع عليهم أن نقضوا ميثاق ربهم بتحريف ما أوحى به إلى رسله ‪( :‬فخلف من بعدهم خلف ورثوا‬
‫الكتاب ياخذون عرض هذا األدنى ويقولون سيغفر لنا وإن ياتهم عرض مثله‪ ،‬يأخذوه ألم‬
‫يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن ال يقولوا على هللا إال الحق ودرسوا ما فيه والدار اآلخرة خير‬
‫للذين يتقون أفال تعقلون) (‪ )5‬وأخبر أنهم نبذوا ذلك الوحي وراء ظهورهم] إيثارا لهوى النفس ‪ ،‬وإشباعا‬
‫لألنانيات الفردية أو العنصرية (وإذ أخذ هللا ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس وال تكتمونه‬
‫فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليال فبيس ما يشترون ) (‪. )6‬‬

‫وقد ورد لفظ الحق مقرونا بأهل الكتاب في سبع وأربعين موضعا من القرآن الكريم (‪ )7‬وهو ما يفسر حرص‬
‫القرآن على تصحيح مفهوم الحق الذي حاولوا تشويه وجهه باللبس والخلط بالضالل والكفر من جهة‪،‬‬
‫وإضالل الغير من جهة أخرى ألن الغير إذا اسمع دالئل الحق فإضالله إنما يكون بتشويش] تلك الدالئل عليه‬
‫بالشبهات الباطلة‪ ،‬وإذا كان لم يسمعها‪ ،‬فإضالله إنما يكون بكتمها وإخفائها عنه حتى ال يصل إليه ويستدل] بها‬
‫على الحق‪ ،‬ومن ثم دعاهم القرآن إلى شيئين ‪:‬‬

‫(‪ )1‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.44 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪154 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.46 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪. 71 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪. 169 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة آل عمران اآلية ‪.187 :‬‬

‫(‪ )7‬كقوله تعالى ‪( :‬ليكتمون] الحق وهم يعلمون ) البقرة ‪ . 146 :‬ولمها أشباه كثيرة ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬اإليمان بما نزل على محمد صلى هللا عليه وسلم] ‪ ،‬تحريرا ألنفسهم من الكفر (وآمنوا بما أنزلت‬
‫مصدقا لما معكم وال تكونوا أ َّو َل كافر به وال تشتروا بآياتي ثمنا قليال وإياي فاتقون) (‪ .)1‬ووفاء]‬
‫للعهد الذي ورثوه عن أنبيائهم الذين أخذوا عليهم الميثاق باإليمان برسالة محمد صلى هللا عليه وسلم ونصرته‬
‫( وإذ أخذ هللا ميثاق النبيئين لما أتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم‬
‫لتؤمنن به ولتنصرنه‪ ،‬قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا‬
‫معكم من الشاهدين ) (‪. )2‬‬

‫ثانيا ‪ :‬نهاهم عن التشويش عن األخرين وإضاللهم عن طريق خلط الحق بالباطل وكتمانه ‪( :‬وال تلبسوا‬
‫الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) (‪ )3‬وفي التعبير بـ "تكتموا" دليل على أنهم كانوا على علم‬
‫بأن ما جاء به محمد صلى هللا عليه وسلم هو الحق‪ ،‬ولكنهم كفروا تحيزا وتعصبا] لكونه لم ينزل على أحد من‬
‫بني قومهم‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله تعالى ‪( :‬بيسما اشتروا به أنفسهم أن‬

‫يكفروا بما أنزل هللا بغيا أن ينزل هللا من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب‬
‫على غضب وللكافرين عذاب مهين ) (‪. )4‬‬

‫وكما قال أيضا ‪( :‬ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند‬
‫أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي هللا بأمره إن هللا على كل شيء‬
‫قدير) (‪. )5‬‬

‫فأهل الكتاب يرون الحق حكرا عليهم وحدهم وأن النجاة ال تكون لسواهم ‪( :‬وقالوا لن يدخل الجنة إال من‬
‫كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (‪. )6‬‬

‫وهكذا سأعرض لبيان القرآن الكريم] تحريف] اليهود والنصارى في المبحثين اآلتيين ‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬كشف تحريف الحق في عقيدة اليهود‪.‬‬


‫يبين القرآن الكريم أن خط االنحراف] في عقيدة اليهود بدأ مبكراً في حياة نبي هللا موسى] عليه السالم‪ ،‬فقد‬
‫طلبوا منه أن يجعل لهم إلها وعهدهم ما زال قريبا من مصرع فرعون وجنده‪ ،‬وبمرأى من عيونهم‪.‬‬

‫فبعد إنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه‪ ،‬وبعد مجاوزة البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم‬
‫فقالوا ‪( :‬يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (‪،)1‬‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 41 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة آل عمران اآلية ‪. 81 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 42 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.90 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 109 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.111 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة األعراف اآلية ‪.138 :‬‬

‫فأي جهل فوق هذا الجهل أن يروا بأم عيونهم معجزة اإلله الحق في انفالق البحر حتى كان كل فرق] كالطود]‬
‫العظيم (‪ )1‬ويروا] قدرته في جعل األمواج المتالطمة طريقا يبسا (‪ )2‬ال يخافون دركا وال يخشون غرقا‪ ،‬وفي‬
‫الحال يقابلون نعمته باإلنكار والجحود‪ ،‬وهو الذي نجاهم من آل فرعون الذين كانوا يسومونهم] سوء العذاب‬
‫يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم فيطلبون] من مخلوق أن يجعل لهم إلها مخلوقا] ؟ فكيف صورت لهم‬
‫جهالتهم هذا اإلله المخلوق العاجز ؟‬
‫فاإلله الحق هو الخالق لكل ما سواه‪ ،‬وأما المخلوق فيستحيل] أن يكون إلها‪ .‬ثم زاد خط االنحراف عندهم في‬
‫تصاعد‪ ،‬ألن حنينهم إلى الوثنية سيطر] على أفكارهم وأعصابهم‪ ،‬فما كاد موسى يذهب لمناجاة ربه‪ ،‬حتى‬
‫اتخذوا من حليهم عجال جسدا له خوار ‪( :‬واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجال جسدا له خوار‬
‫ألم يروا أنه ال يكلمهم وال يهديهم سبيال اتخذوه وكانوا ظالمين) (‪)3‬‬

‫والغريب أنهم اتخذوا العجل إلها وهم الذين شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه‪ ،‬ويقلبه بين يديه مستعمال‬
‫ألدوات الصناعة وأغرب من هذا كله أن جعلوا العجل ‪-‬وهو أقل الحيوانات دفعا على نفسه ويضرب] به المثل‬
‫في البالدة‪ -‬إله كليم الرحمان أيضا (فأخرج لهم عجال جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى‬
‫فنسي أفال يرون أال يرجع إليهم قوال وال يملك لهم ضرا وال نفعا)(‪ . )4‬ولذلك ذكرهم هللا بهذا‬
‫التحريف العقدي حيث قال ‪( :‬وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم‬
‫ظالمون ) (‪. )5‬‬

‫والقرآن يسمي الشرك ظلما كما قال ‪( :‬وإذ قال لقمان البنه وهو يعظه يا بني ال تشرك باهلل إن‬
‫الشرك لظلم عظيم) (‪ . )6‬ورغم الخوارق والمعجزات التي أظهرها هللا لهم على يد نبيه موسى] عليه السالم‬
‫فما زاد أكثرهم ذلك إال انحرافا] وبعدا عن حقيقة التوحيد‪ ،‬فقالوا على سبيل التحدي لموسى ‪( :‬لن نومن لك‬
‫حتى نرى هللا جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ) (‪ )7‬وقالوا له على سبيل التهكم ‪( :‬إنا لن‬
‫ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتال إنا ههنا قاعدون) (‪. )8‬‬

‫(‪ )1‬كما قال تعالى ‪ :‬فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) ‪ :‬الشعراء ‪. 63 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة األعراف اآلية ‪.148 :‬‬

‫(‪ )3‬كما قال تعالى ‪ :‬فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ال تخاف درکا وال تخشی) طه ‪.77 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة طه اآلية ‪. 89-88 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة البقرة اآلية ‪51 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة لقمان‪ ،‬اآلية ‪13 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.55 :‬‬

‫(‪ )8‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪24 :‬‬


‫ثم كان من تحريفهم والوحي بين ظهرانيهم ينزل على نبي هللا موسى أن بدلوا وغيروا ما أمروا به من القول‬
‫والفعل ‪.‬‬

‫فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه وسلم] قال ‪ :‬قيل لبني إسرائيل ‪:‬‬
‫( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم وستزيد المحسين) (‪ )1‬فدخلوا يزحفون على‬
‫أستاهم فبدلوا] وقالوا ‪ :‬حبة في شعيرة(‪ .)2‬ثم وصل عندهم خط االنحراف] أقصاه حين زعموا البنوة هلل عز‬
‫وجل ‪ ( :‬وقالت اليهود عزير ابن هللا وقالت النصارى المسيح ابن هللا ذلك قولهم بأفواههم‬
‫يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم هللا أنى يوفكون ) (‪ )3‬أمعنوا في الغي والضالل ‪-‬كما‬
‫أمعن النصارى‪ -‬فنسبوا البنوة ألنفسهم‪ ،‬ورأوا أنهم أبناء هللا و احباؤه ‪( :‬وقالت اليهود والنصارى نحن‬
‫أبناء هللا وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من‬
‫يشاء وهلل ملك السماوات واألرض وما بينهما وإليه المصير ) (‪. )4‬‬

‫ثم ترسخت في نفوسهم هذه العقيدة المحرفة حتى صاروا ال يقبلون نبوة نبي إال إذا جاءهم بما تهوى أنفسهم‪،‬‬
‫وهذا ما نعاه عليهم القرآن إذ قال ‪( :‬ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى‬
‫ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما ال تهوى أنفسكم استكبرتم‬
‫ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) (‪. )5‬‬
‫فقتل األنبياء أصبح ديدانا لهم وصفة وخلقا راسخا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ‪( :‬فيما نقضهم ميثاقهم‬
‫وكفرهم بآيات هللا وقتلهم األنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع هللا عليها بكفرهم فال‬
‫يؤمنون إال قليال وبكفرهم وقولهم على مریم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن‬
‫مريم رسول هللا وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما‬
‫لهم به من علم إال اتباع الظن وما قتلوه يقينا ) (‪. )6‬‬
‫و مما يدل على أن قتل األنبياء كان عقيدة راسخة عند اليهود التعبير] في هذه اآلية بجمع الكثرة (األنبياء)‬
‫وتنكير (حق) وتوظيف المصدر العاري عن الزمان‪ ،‬مثل (نقضهم) و (كفرهم) و (قتلهم) و (قولهم) بخالف‬
‫ما جاء في البقرة وآل عمران من التعبير] بصيغة المضارع] وتعريف (الحق) في البقرة‪ ،‬وجمع (النبيئين) جمع‬
‫سالمة في البقرة وآل عمران مرة واحدة (‪ ،)7‬إذ ربما دل هناك على أن ذلك الفعل حصل منهم بصفة عرضية‬
‫غير منتظمة‪ .‬وتوارث] اليهود هذه العقيدة المنحرفة أبا عن جد إلى أن بعث هللا محمدا صلى هللا عليه وسلم‬
‫بالتصور] الصحيح عن مفهوم اإلاله الحق فماذا كان موقفهم من دعوته ؟ قال تعالى ‪( :‬يسئلك أهل الكتاب‬
‫أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا هللا جهرة فأخذتهم‬
‫الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى‬
‫سلطانا مبينا) (‪. )8‬‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪ .58 :‬ومثلها اآلية ‪ 162 - 161 :‬من سورة األعراف‪.‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه‪ ،‬في تفسير سورة البقرة وتفسير] سورة األعراف‬

‫(‪ )3‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.30 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 18 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.87 :‬‬


‫(‪ )6‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 157 - 156 - 155 :‬‬
‫(‪ )7‬انظر اآليات ‪ 61‬من سورة البقرة و ‪ 21‬و ‪ 112‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫(‪ )8‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 153 :‬‬

‫فهذه ليست مقترحات عقل يبحث عن الحقيقة‪ ،‬ويسعى إلى اليقين إنما هي مقترحات طبع غليظ وقلب متكبر‪،‬‬
‫واليهود من أغلظ الناس طبعا وأقساهم] قلوبا] كما قال عنهم القرآن (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا‬
‫قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به وال تزال تطلع عن خائنة‬
‫منهم إال قليال منهم فاعف عنهم واصفح إن هللا يحب المحسنين ) (‪ )1‬ولذلك أخذ عليهم الميثاق‬
‫بالتهديد حيث رفع الجبل فوق] رؤوسهم وأوشك] أن ينقض عليهم ليكون فوقهم مقبرة جماعية ‪( :‬وإذ نتقنا‬
‫الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون )‬
‫(‪ )2‬ومع ذلك نقضوا الميثاق ‪.‬‬

‫ومن ثم نجد القرآن ‪-‬في بعض المواضع‪ -‬يناديهـم] مـجـردين من كل انتساب علمي ألنهم حملوا التوراة ثم لم‬
‫يحملوها‪ ،‬ولم يعتبروا حملة كتاب ألنهم شابهوا عبدة األصنام] فى اإلنكار والجهل‪ ،‬بل زادوا عليهم الغلو‬
‫فناسب أن ينادوا بـ (يا أيها الناس) كما ينادى عن من ال عالقة له بالوحي] من أهل مكة وأشباههم‪ ،‬وبهذه‬
‫الصيغة يتوجه إليهم القرآن قائال ‪( :‬يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فأمنوا خيراً‬
‫لكم وإن تكفروا فإن هلل ما في السماوات واألرض وكان هللا عليـمـا حكيما) (‪. )3‬‬

‫ومن الحق الصادر من هللا الحق أال تفرطوا بالغلو في وصفه بما ال يليق به من صفات البشر ووصف] أنفسكم‬
‫بما يرفعكم] عن صفات البشر فتزعمون ألنفسكم االنتساب إليه بالبنوة ‪( :‬يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم‬
‫وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول هللا وكلمته ألقاها إلى مريم‬
‫وروح منه فأمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيراً لكم إنما هللا إله واحد سبحانه أن‬
‫يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال ) (‪ . )4‬أي ال تنسبوا هللا الحق ما‬
‫لم يأذن به من تشريع فتشركوا به بتحليل الحرام وتحريم] الحالل‪.‬‬

‫المطلب األول‪ :‬كشف تحريف الحق في شريعة اليهود‬

‫و مما هو شديد االرتباط بتحريف] عقيدة الحق عند اليهود تحريفهم للتشريع حيث أخبر القرآن أنهم أنكروا]‬
‫وقوع النسخ في الشرائع فحجروا] على هللا أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‪ ،‬وجعلوا هذه الشبهة وسيلة الجحد‬
‫نبوة محمد صلى هللا عليه وسلم وقالوا] ‪ " :‬إن النسخ يستلزم] البداء وذلك بأن يرى هللا رأيا ثم يبدو له رأي آخر‬
‫غير األول فيأخذ به قالوا وهذا عبث يتنزه هللا عنه وقد] أكذبهم هللا عز وجل فقال ‪( :‬كل الطعام كان حال‬
‫لبني إسرائيل إال ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فاتوا بالتوراة فاتلوها‬
‫إن كنتم صادقين فمن افترى على هللا الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) (‪ . )5‬فقد أخبر هنا‬
‫أن الطعام كله كان حالال لبني إسرائيل قبل نزول التوراة‪ ،‬سوى ما حرم يعقوب على نفسه من لحوم اإلبل‬
‫وألبانها) (‪. )6‬‬

‫(‪ )1‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 13 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪. 171 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 170 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪ 171 :‬ومثلها سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 77 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة آل عمران اآلية ‪94 - 93 :‬‬

‫(‪ )6‬تفسير ابن كثير ‪572/2 :‬‬

‫ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته وما كان حالال لهم إنما هو بإحالل هللا تعالى‬
‫له على لسان إسرائيل واألنبياء بعده إلى حين نزول التوراة‪ ،‬ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المأكل التي‬
‫كانت حالال لبني إسرائيل وهذا محض النسخ ‪.‬‬

‫وقوله تعالى ‪( :‬من قبل أن تنزل التوراة ) أي كانت حالال لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك‪ ،‬لذلك‬
‫قال لهم ‪( :‬قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما‬
‫حرمته التوراة عليكم؟ أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهي تحريم] لحوم اإلبل وألبانها خاصة؟‬

‫وإذا كان إنما حرم هذا وحده‪ ،‬وكان ما سواه حالال له ولبنيه وقد حرمت التوراة كثيرا منه ظهر كذبكم‬
‫وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر] على هللا في نسخها (‪)1‬‬

‫ويشير القرآن إلى أن اليهود حرفوا التوراة من بعد وضعه في غير مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة‬
‫بكلمة أو بإخفائه‪ ،‬وكتمانه أو الزيادة فيه والنقص منه‪ ،‬وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له‪.‬‬
‫قال تعالى ‪ ( :‬يا أيها الرسول ال يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم‬
‫ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون‬
‫الكالم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم توتوه فاحذروا ومن يرد هللا فتنت̀ه‬
‫فلن تملك له من هللا شيئا أولئك الذين لم يرد هللا أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في‬
‫اآلخرة عذاب عظيم ) (‪. )2‬‬

‫قال ابن كثير في شأن هذه اآلية ‪" :‬والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب هللا‬
‫الذي بأيديهم من األمر برجم من أحصن منهم فحرفوه و اصطلحوا] فيما بينهم على الجلد مائة جلدة‪ ،‬والتحميم]‬
‫واإلركاب على حمار مقلوبين‪ ،‬فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إليه فإن حكم‬
‫بالجلد والتحميم] فخذوا] عنه واجعلوه حجة بينكم وبين هللا‪ ،‬ويكون نبي من أنبياء هللا قد حكم بينكم بذلك وإن‬
‫حكم بالرجم فال تتبعوه في ذلك" (‪.)3‬‬

‫وفصلت كتب السنة قصة اليهود] حيث زنى منهم رجل وامرأة فجاؤوا إلى النبي صلى هللا عليه وسلم] فذكروا‬
‫له ذلك فقال لهم ‪" :‬ما تصنعون] بهما ؟ قالوا نسخم وجوههما ونخزيهما] ‪ ،‬قال ‪( :‬فاتوا بالتوراة فاتلوها إن‬
‫كنتم صادقين) فجاؤوا] فقالوا لرجل منهم مما يرضون أعور ‪ :‬اقرأ ‪ :‬فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها‪،‬‬
‫فوضع يده عليه فقال ‪" :‬ارفع يدك فرفع فإذا فيها آيات الرجم تلوح ‪ ،‬قال ‪ :‬يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا‬
‫نتكاتمه بيننا فأمر] بهما فرجما " (‪ )4‬وقد تجسد التحريف] في التشريع عندهم في النزعة العنصرية التي تقيم‬
‫تمايزا بين بني إسرائيل وغيرهم فهم يكيلون بمكيالين فيحلون ألنفسهم ما يحرمونه على غيرهم‪ ،‬على أساس‬
‫عقيدة وهمية تجعلهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم "شعب هللا المختار" الذي يجب أن يستعبد من سواه من‬
‫الشعوب ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر إغاثة اللهفان البن قيم الجوزية ‪316/2 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 41 :‬‬

‫(‪ )3‬تفسير ابن كثير ‪92/3 :‬‬

‫(‪ )4‬هذا لفظ البخاري ‪ 193/9 :‬ووردت هذه القصة في صحيح مسلم ‪ .122/5‬وفي الموطأ ‪ .819/2‬وسنن أبي داوود‬
‫‪ . 115/4‬بألفاظ مختلفة فيها بعض الزيادات ‪.‬‬

‫فاليهودي] بموجب هذه العقيدة يحل له أن يقترف كل المخالفات والموبقات من ممارسة للزنى‪ ،‬وتعامل بالربا‬
‫ومقارفة للقتل مع غير اليهود ولكن يحرم عليه فعل ذلك مع اليهود‪ ،‬ويجب عليهم إذا انتصروا على بلد ما "‬
‫أن يضربوا] رقاب جميع رجالها البالغين بحد السيف فال يبقوا على أحد منهم ويسترقوا] جميع نسائها وأطفالها‬
‫ويستولوا] على جميع ما فيها من مال و عقار وينهبون نهبا" (‪ )1‬وقد] بين القرآن سبب هذا التحريف] عند اليهود‬
‫فقال ‪ ( :‬ومن أهل الكتاب من ان تامنه بقنطار يوده إليك ومنهم من ان تامنه بدينار ال يوده إليك‬
‫إال ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في االميين سبيل` ويقولون على هللا الكذب‬
‫وهم يعلمون) (‪ )2‬أي ليس علينا في أكل أموال األميين تبعة وال ذنب (‪. )3‬‬

‫قال صاحب المنار ‪" :‬كأنهم يقولون إن كل من ليس من شعب هللا الخاص وليس من أهل دينه فهو ساقط من‬
‫نظر هللا ومبغوض عنده فال حقوق له وال حرمة لماله يحل أكله متى أمكن"(‪. )4‬‬

‫ولكن القرآن أبطل مزاعمهم الفاسدة بقوله ‪( :‬ويقـولـون عـلـــى هللا الكذب وهم يعلمون ) (‪ . )5‬فقد كذبوا‬
‫عليه ألن ما كان منه فهو ما جاء في كتابه "وليس في التوراة التي عندهم إباحة خيانة األميين وأكل أموالهم‬
‫بالباطل وهم يعلمون أن ذلك ليس فيها ولكنهم ال يأخذون الدين من الكتاب وإنما لجأوا إلى التقليد فـعـدوا كالم‬
‫أحبارهم دينا ينسبونه إلى هللا"(‪)6‬‬

‫وقد فضح هللا تعالى تحريفهم في التشريع] بتعاطيهم] الربا التي حرمها هللا قال تعالى ‪( :‬وأخذهم الربا وقد‬
‫نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ) (‪ )7‬أي أن هللا قد نهاهم‬
‫عن التعامل بالربا على ألسنة أنبيائهم "ولكن التوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم] أخذهم الربا من‬
‫شعبهم ومن إخوتهم دون األجانب" (‪ . )8‬ونقل صاحب تفسير المنار عن توراتهم] نصا صريحا] فيه النهي عن‬
‫التعامل بالربا مع اليهودي وإباحة التعامل به مع األجنبي فقال ‪" :‬وفي] سفر تثنية االشتراع ‪ 19 : 23( :‬ال‬
‫تقرض أخاك بربا‪ ،‬ربا فضة أو ربا شيء مما يقرض بربا ‪ .20.‬لألجنبي تقرض بربا ولكن ألخيك ال تقرض‬
‫بربا) (‪. )9‬‬

‫(‪ )1‬فقرتا ‪ 13 :‬و ‪ 14‬من إصحاح ‪ 2‬من سفر التثنية ‪.‬‬

‫(‪ )2‬سورة آل عمران اآلية ‪. 75 :‬‬


‫(‪ )3‬األميون ‪ :‬جمع منسوب إلى األم أو إلى األم‪ ،‬فإن كان إلى األم بمعنى العجز عن القراءة فالمقصود العرب لشيوع األمية‬
‫فيهم وإن كان منسوبا إلى األمم فالمراد الناس كلهم وهذا األخير هو المناسب ألخالق اليهود ‪.‬‬

‫(‪ )4‬تفسير المنار ‪339/3 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة آل عمران اآلية ‪.75 :‬‬

‫(‪ )6‬تفسير المنار ‪. 339/3 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 161 :‬‬

‫(‪ )8‬تفسير المنار ‪. 62/6 :‬‬

‫(‪ )9‬نفس المصدر‪.‬‬

‫وتحريف] اليهود وتحايلهم] على استحالل محارم] هللا ذكره هللا في القرآن خمس مرات في قصة أصحاب السبت‬
‫(‪ )1‬حتى مسخهم هللا قردة فكانوا] يحتالون على هللا في التنفيس عن شهواتهم] التي كانت تغلبهم‪ ،‬فإذا حرم هللا‬
‫الصيد يوم السبت عليهم ورأوا األسماك كثيرة في الماء صنعوا وراءها حاجزا يمنعها من الهرب ثم جاؤوا]‬
‫يوم األحد وأخذوها ‪( :‬و سئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تاتيهم‬
‫حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم ال يسبتون ال تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ) (‪. )2‬‬

‫ومع فداحة ما كانوا يعصون هللا به من أكل الربا واستباحة الفروج والدم الحرام فإنهم] لما استحلوا محارم هللا‬
‫بأدنى الحيل وتالعبوا بدينهم ومسخوه باالحتيال كان عقابهم من جنس العمل حيث مسخهم قردة‪ ،‬قال تعالى‬
‫موبخا إياهم ‪ ( :‬ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) (‪. )3‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬تحريف الحق في عقيدة النصارى‬


‫لقد تكرر] النداء في القرآن الكريم ألهل الكتاب مرات متعددة من أجل تصحيح مفهوم عقيدتهم المنحرفة‬
‫المبنية على التعقيد‪ ،‬المغرقة في الكهانة والغموض إلى الحد الذي يؤدي إلى إرباك العقول وإصابة النفوس‬
‫بالحيرة واالضطراب ‪.‬‬

‫ونجد هذا النداء في مثل قوله تعالى ‪( :‬يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم‬
‫تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من هللا نور وكتاب مبين ) (‪( )4‬يا أهل الكتاب قد‬
‫جاءكم رسولنا يبن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير وال نذير فقد جاءكم‬
‫بشير ونذير وهللا على كل شيء قدير ) (‪( )5‬قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا‬
‫التوراة واإلنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا‬
‫وكفرا فال تأس على القوم الكافرين ) (‪( )6‬قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إال أن آمنا باهلل وما‬
‫أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثر كم فاسقون ) (‪( )7‬قل يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم غير‬
‫الحق وال تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) (‪( )8‬يا‬
‫أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول‬
‫هللا وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيراً لكم‬
‫إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال ) (‬
‫‪. )9‬‬

‫(‪ )1‬وذلك في اآلية ‪ 65 :‬من سورة البقرة واآلية ‪ 47 :‬و ‪ 154‬من سورة النساء و اآلية ‪ 163 :‬من سورة‬

‫األعراف و اآلية ‪ 26 :‬من سورة النحل ‪.‬‬

‫(‪ )2‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪. 163 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 65 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪15 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.19 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 68 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.59 :‬‬

‫(‪ )8‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 77 :‬‬

‫(‪ )9‬سورة النساء‪ ]،‬اآلية ‪. 171 :‬‬

‫وفي المبحث السابق تبين كيف كشف القرآن تحريف عقيدة اليهود وشريعتهم‪ ،‬وفي هذا المبحث سأعرض ‪-‬‬
‫إن شاء هللا‪ -‬لتحريف] مفهوم الحق في عقيدة النصارى‪ ،‬كما وصفها القرآن قال تعالى ‪( :‬ومن الذين قالوا‬
‫إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم‬
‫القيامة وسوف ينبئهم هللا بما كانوا يصنعون ) (‪. )1‬‬

‫وفي هذا بيان أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا] به کالیهود‪ ،‬فكان نسيان هذا الحظ من كتابهم سببا لوقوعهم]‬
‫في األهواء والتفرق] في الدين الموجب ‪-‬بمقتضى سنة هللا في البشر‪ -‬للعداوة والبغضاء ‪.‬‬

‫ويبدو أن التنكير في قوله "حظا" للتعظيم‪ ،‬فيكون ما نسوه وأضاعوه مما أنزل هللا على عيسى عليه السالم‬
‫كثيرا ويدل على ذلك أن هللا عز وجل سمى إفراطهم] وتفريطهم غلوا فقال ‪( :‬ال تلغو في دينكم) ألن الغلو‬
‫يترتب عليه عدم العمل بما أوحى هللا به إلى عيسى عليه السالم وعدم العمل يترتب عليه النسيان واإلهمال‬
‫والضياع والزيادة في الدين كالنقص منه ‪.‬‬
‫وقد أورد ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" أكثر من شاهد على هذا الضياع (‪ )2‬كما ذكر صاحب تفسير‬
‫المنار فصال مطوال أبان فيه باألمثلة عن ضياع الكثير من اإلنجيل‪ ،‬وتحريف] كتب النصارى] المقدسة مؤيدا‬
‫ذلك بنصوص موثقة من الكتب التي يسمونها األناجيل األربعة (‪. )3‬‬

‫وقد نهى القرآن النصارى أن يقولوا في شأن المسيح بهواهم حيث غلوا في تقديسه‪ ،‬وأفرطوا كل اإلفراط‪( :‬يا‬
‫أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول‬
‫هللا وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيرا لكم‬
‫إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال‬
‫) (‪. )4‬‬

‫والحق هو الثابت المتحقق في نفسه بنص شرعي متواتر أو ببرهان عقلي قاطع‪ ،‬وليس للنصارى شيء من‬
‫هذا على ما يزعمون في شأن المعبود الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬و في أمر المسيح عليه السالم وشأن الصليب‬
‫وعبادته ‪.‬‬

‫ومن ثم يرسي القرآن عقيدة الحق ويطهر العقول من تلوث الشرك والتثليث مستخدما] أداة الحصر "إنما " في‬
‫قوله ‪ ( :‬يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن‬
‫مريم رسول هللا وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا‬
‫خيرا لكم إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى‬
‫باهلل وكيال ) (‪. )5‬‬

‫وبما أن الغلو شامل للتفريط واإلفراط‪ ]،‬فإن الحق واسطة بينهما‪ ،‬وقد بين هللا غلوهم بقوله ‪( :‬وقالت اليهود‬
‫عزير ابن هللا وقالت النصارى المسيح` ابن هللا ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفرا‬
‫من قبل قاتلهم هللا أنى يوفكون ) (‪. )6‬‬

‫(‪ )1‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 14 :‬‬

‫(‪ )2‬إغاثة اللهفان ‪ 2 :‬من ص ‪ 265 :‬إلى ص‪294 :‬‬

‫(‪ )3‬تفسير المنار ‪ 6 :‬من ص ‪ 289 :‬إلى ص‪309 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.171 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.171 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.30 :‬‬

‫وقوله (ولقد كفر الذين قالوا إن هللا هو المسيح ابن مريم ) (‪ . )1‬وقوله (لقد كفر الذين قالوا إن هللا‬
‫ثالث ثالثة ) (‪. )2‬‬

‫وأشار بهذا الحصر إلى إبطال هذه المفتريات مبينا أن عيسى رسول هللا إلى بني إسرائيل أمرهم أن يعبدوا هللا‬
‫وحده وال يشركوا] به شيئا وأن يرجعوا عن اإليمان بالجبت والطاغوت‪ ،‬وعن اتباع الهوى وعبادة المال‬
‫وإيثار شهوات األرض على ملكوت السماء وزهدهم] في الحياة الدنيا وحثهم على حق التقوى واالعتدال في‬
‫الجمع بين حقوق األرواح وحقوق] األجساد] ‪.‬‬

‫فعیسی عليه السالم ليس إلها وال بعضا من إله‪ ،‬وإنما هو تحقيق لكلمة التكوين التي ألقاها اإلله الحق بشارة‬
‫لمريم عليها السالم حين أرسل إليها الملك يقول لها ‪ ( :‬إنما أنا رسول ربك ألهب لك غالما زكيا ) (‪)3‬‬
‫ويرفع عنها استنكار وجود ولد من عذراء لم يمسسها] بشر (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني`‬
‫بشر قال كذلك هللا يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)(‪.)4‬‬

‫وكلمة "كن " هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض قدرة هللا عز وجل عند إرادته خلق الشيء وإيجاده‪ ،‬وقد‬
‫خلق المسيح بهذه الكلمة (‪. )5‬‬

‫وبذلك يرسخ القرآن االعتقاد بأن عيسى عبد هللا ورسول] سوله وليس إلها وال ابن هللا وقد حكت سورة آل‬
‫عمران قصة وفد] كنسي قدم المدينة يجادل الرسول صلى هللا عليه وسلم في هذه العقيدة التي قررها] ويقول‬
‫له ‪ :‬إذا كان المسيح بشرا فمن أبوه؟ إنه بشر في الصورة فقط‪ ،‬إن هللا هو أبوه ‪ .‬وجادلهم القرآن بأن فقدان‬
‫األب ال يستلزم] بنوته هلل ولو كان األمر كذلك لكان آدم أولى باأللوهية ألنه ال أب له وال أم (إن مثل عيسى‬
‫عند هللا كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فال تكن من الممترين ) (‪.)6‬‬

‫ولكنهم أصروا على موقفهم] ودافعوا عنه بحماس‪ ،‬فاقترح] عليهم القرآن أن يجتمعوا مع أهل اإلسالم في‬
‫صعيد واحد وأن يستنزلوا] لعنة هللا على أكذب الفريقين (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل‬
‫تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة هللا على‬
‫الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إال هللا وإن هللا لهو العزيز الحكيم)(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.17 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 73 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة مريم ‪ ،‬اآلية ‪:19:‬‬

‫(‪ )4‬سورة آل عمران اآلية ‪. 47 :‬‬

‫(‪ )5‬تفسير المنار ‪82/6 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة آل عمران اآلية ‪. 60 - 59 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة آل عمران اآلية ‪. 62 - 61 :‬‬


‫وقد رفض القوم هذه المباهلة مما يكشف زيف صدقهم] فيما يعتقدون‪ ،‬لذلك دعاهم القرآن إلى أن يومنوا باهلل‬
‫الحق إيمانا يليق به وهو أنه واحد أحد‪ ،‬فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأن يؤمنوا] برسل هللا‬
‫كلهم دون تمايز وأن يعتقدوا فيهم اعتقادا يليق بصفتهم البشرية وهو أنهم عبيد هللا ‪ ،‬خصهم بالوحي ليعلموا‬
‫الناس كيف يوحدون ربهم و م ويزكون أنفسهم ويصلحون أمرهم فقال تعالى ‪( :‬يا أهل الكتاب ال تغلوا في‬
‫دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول هللا وكلمته ألقاها إلى‬
‫مريم وروح منه فآمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيرا لكم إنما هللا إله واحد سبحانه‬
‫أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال ) (‪ . )1‬أما عقيدة التثليث التي‬
‫يؤمنون بها والتي تجعل اآللهة ثالثة "األب واالبن وروح] القدس أو أن هللا ثالثة أقانيم‪ ،‬كل منها عين اآلخر‬
‫وكل منها إله كامل ومجموعها إله واحد" (‪. )2‬‬

‫فهذه عقيدة الوثنيين التي تحيلها العقول السليمة‪ ،‬وتناقض] التوحيد‪ ،‬يقول لهم القرآن ‪( :‬يا أهل الكتاب ال‬
‫تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول هللا وكلمته‬
‫ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة انتهوا خيرا لكم إنما هللا إله‬
‫واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض وكفى باهلل وكيال ) (‪. )3‬‬

‫وإن كان الرسل كلهم عبيد هللا فإن عيسى عليه السالم ليس إال بشرا رسوال ال يرضى بأن يكون غير عبد هللا‪،‬‬
‫كما ال تستنكف المالئكة أن تعترف بالعبودية المطلقة هلل الحق ‪( :‬ولن يستنكف` المسيح` أن يكون عبداً‬
‫هلل وال المالئكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكب̀ر فسيحشر هم إليه جميعا ) (‪. )4‬‬

‫ومعلوم أن العقيدة الوثنية تشترك كلها في نسبة البنوة هلل تعالى وإن اختلفت صورها‪ ،‬فقد جعل مشركو] العرب‬
‫المالئكة بنات هللا (‪ ، )5‬وجعل اليهود عزير ابن هللا ‪ .‬وجعل النصارى المسيح ابن هللا ‪ .‬ولذلك يحسم القرآن‬
‫هذه المسألة بتقرير عبودية المالئكة وجميع الخالئق هلل ‪( :‬وقالت اليهود عزير ابن هللا وقالت النصارى‬
‫المسيح` ابن هللا ذلك قولهم بأفواههم يضهئون قول الذين كفرا من قبل قاتلهم هللا أنى يوفكون)‬
‫(‪ )6‬وأنهم منقادون إليه اختيارا واضطرارا (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً هلل وال المالئكة‬
‫المقربون ومن يستنكف` عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) (‪. )7‬‬

‫(‪ )1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 171 :‬‬

‫(‪ )2‬تفسير المنار ‪. 87 - 86/6 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.171 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 172 :‬‬

‫(‪ )5‬قال تعالى ‪( :‬ويجعلون هلل البنات سبحانه) النحل ‪( .57 :‬فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا المالئكة إناثا وهو‬
‫شاهدون) الصافات ‪( 150 - 149 :‬وجعلوا المالئكة الذين هم عند الرحمان إناثا) الزخرف ‪. 19 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.30 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 172 :‬‬


‫وقد برأ القرآن عيسى عليه السالم مما نسب إليه وإلى أمه من األلوهية ‪( :‬وإذ قال هللا يا عيسى ابن مريم‬
‫أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون هللا قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس‬
‫لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي وال أعلم ما في نفسك إنك أنت عالم الغيوب)‬
‫(‪. )1‬‬

‫ويصرح القرآن بأن مقولة ألوهية عيسى ونبوته وأنه ثالث ثالثة كفر فصيح بعقيدة التوحيد‪ ،‬حيث جاء النص‬
‫القرآني مؤكدا بالالم الموطئة للقسم المقرونة بقد ( لقد كفر الذين قالوا إن هللا هو المسيح` ابن مريم) (‪)2‬‬
‫( لقد كفر الذين قالوا إن هللا ثالث ثالثة وما من إله إال إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون‬
‫ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ) (‪ . )3‬ومن ثم يطلب إليهم القرآن الكريم االنتهاء عن هذا االعتقاد‬
‫الوثني قائال ‪ ( :‬يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال تقولوا على هللا إال الحق إنما المسيح عيسى‬
‫ابن مريم رسول هللا وكلمت̀ه ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا باهلل ورسله وال تقولوا ثالثة‬
‫انتهوا خيرا لكم إنما هللا إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في األرض‬
‫وكفى باهلل وكيال ) (‪. )4‬‬

‫وفي المائدة يهددهم عاقبة الكفر الذي يعتقدونه ‪( :‬وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا‬
‫منهم عذاب أليم ﴾ (‪. )5‬‬

‫وكان عيسى قد أعلن فيهم من ذي قبل أنه هو وأمه في عبودية هللا سواء وأن عاقبة الشرك والوثنية حرمان‬
‫من الجنة ‪ ( :‬وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا هللا ربي وربكم إنه من يشرك باهلل فقد حرم هللا‬
‫عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) (‪. )6‬‬

‫ولكنهم تمادوا في غيهم وضاللهم] إلى يوم الناس هذا‪ ،‬مع أن القرآن واجههم بالمنطق] الواقعي] القويم ‪ ،‬لعله‬
‫يرد فطرتهم إلى اإلدراك السليم مع التعجيب من أمرهم في االنصراف عن هذا المنطق بعد البيان واإليضاح (‬
‫‪ )7‬فقال تعالى ‪( :‬ما المسيح` ابن مريم إال رسول قد خلت من قلبه الرسل وأمه صديقة كانا ياكالن‬
‫الطعام انظر كيف نبين لهم اآليات ثم انظر أنى يوفكون ) (‪. )8‬‬

‫وربما يتساءل الذين أكبروا المسيح أن يكون بشرا‪ ،‬فيقولون ‪ :‬إذا كان اإلله الحق واحدا ال تعدد فيه وال تركيب‬
‫من أصول وال أقانيم ‪ ،‬وإذا كان التثليث أمرا باطال ال حقيقة له‪ ،‬فما بال المسيح ؟ أيعد فردا كباقي المخلوقات‬
‫ال يمتاز عليها ال بالذات وال بالصفات ؟ وما شأن أمه مريم ؟ أهي كسائر النساء ؟ يجيب القرآن ‪-‬كما في اآلية‬
‫أعاله‪ -‬مبتدئا] بذكر خصوصية المسيح التي امتاز بها عن أكثر الناس ‪( :‬ما المسيح` ابن مريم إال رسول )‬
‫فهو رسول من رسل هللا الذين بعثهم الحق سبحانه لهداية عباده‪ ،‬كما هي سننه عز وجل في الذين خلوا من‬
‫قبل مثنيا ببيان ما يدل على بشرية المسيح وأمه ‪( :‬وأمه صديقة كانا يأكالن الطعام ) ‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪116 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.72 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.73 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪. 171 :‬‬


‫(‪ )5‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 73 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.72 :‬‬

‫(‪ )7‬في ظالل القرآن ‪. 945/2 :‬‬

‫(‪ )8‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 75 :‬‬

‫ومن يأكل الطعام ويحتاج ليعيش ال يصلح أن يكون إلها وإن كانت مريم صديقة اصطفاها هللا ربها على نساء‬
‫العالمين (‪ )1‬فإنها وابنها ال يتجاوزان حقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما] من البشر بدليل أنهما يأكالن‬
‫الطعام‪ ،‬ألن من يأكل الطعام مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويمد حياته لئال ينحل بدنه‪ ،‬وتضعف قواه فيهلك‪ ،‬فضال‬
‫عما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة إلى دفع الفضالت (وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن مساو لسائر‬
‫الممكنات المخلوقات في حاجاتها إلى غيرها‪ ،‬فال يمكن أن يكون ربا خالقا وال ينبغي أن يكون‬
‫ربا معبودا) (‪. )2‬‬

‫وهكذا يقيم القرآن البرهان من حال عيسى وأمه على بطالن كونهما إلهين ببيان ما يشاركان فيه أشرف البشر‬
‫من المزايا الخاصة‪ ،‬وما يشاركان فيه عامة البشر من صفات بشرية ولكن عقول من يعتقدون العقيدة‬
‫النصرانية‪ ،‬فقدت وظيفتها بالتقليد فصرفت عن استبانة الحق بهذه البراهين وعميت عن النظر في مقدماتها‪،‬‬
‫فأحرى أن يصيبها] العمى عن نتائجها‪ ،‬ولهذا يقول القرآن ‪( :‬ما المسيح` ابن مريم إال رسول قد خلت من‬
‫قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكالن الطعام انظر كيف نبين لهم اآليات ثم انظر أنى يوفكون) (‬
‫‪. )3‬‬

‫ومن خالل هذه النماذج من تحريف اليهود لعقيدتهم وشرعتهم] وتحريف النصارى لمفهوم "عقيدة التوحيد" ‪،‬‬
‫يتبين أن هؤالء وهت صلتهم برسلهم وتبخر الوحي اإللهي من بين أيديهم وفي مسالكهم ومعامالتهم] ‪.‬‬

‫فإذا كان اليهود ال يقومون بتوراة موسى] والنصارى ال يقومون بإنجيل عيسى‪ ،‬فيم يقومون ؟ وإلى أي شيء‬
‫يدعون ؟‬

‫من أجل ذلك يقول لهم القرآن ‪( :‬قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة واإلنجيل‬
‫وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فال تأس على‬
‫القوم الكافرين ) (‪. )4‬‬

‫وبما أنهم ليسوا على شيء‪ ،‬فإن كثيرا منهم يتجهمون للقرآن ويكنون أشد البغضاء ألمته‪ ،‬وقد وقع ذلك قديما‬
‫وهو يتكرر] اآلن في صورة منكرة ذميمة ‪.‬‬

‫ومن ثم يكرر القرآن التحذير من هذه المشاعر اآلثمة فيقول ‪﴿ :‬ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من‬
‫بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي‬
‫هللا بأمره إن هللا على كل شيء قدير ) (‪ )5‬ويقول ‪( :‬ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب‬
‫يشترون الضاللة ويريدون أن تضلوا السبيل) (‪ )6‬ويقول ‪( :‬وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من‬
‫ربك طغيانا وكفرا فال تأس على القوم الكافرين) (‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬كما قال هللا تعالى ‪( :‬إن هللا اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)‪ .‬آل عمران ‪.42 :‬‬
‫(‪ )2‬تفسير المنار ‪. 487/4 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪75 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 68 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 109 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.44 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪. 68 :‬‬

‫( وقالت اليهود يد هللا مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء‬
‫وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والغضاء إلى يوم‬
‫القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها هللا ويسعون في األرض فسادا وهللا ال يحب المفسدين)‬
‫(‪ . )1‬ويقول ‪( :‬يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم‬
‫كافرين) (‪ )2‬وعاب عليهم أن يكفروا برسالة محمد صلى هللا عليه وسلم بغيا وتحيزا] وهم الذين كانوا‬
‫ينتظرون بعثته ويستفتحون به على الوثنيين في الجاهلية (ولما جاءهم كتاب من عند هللا مصدق لما‬
‫معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة هللا‬
‫على الكافرين بئس ما شتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل هللا بغيا أن ينزل` هللا من فضله‬
‫على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ﴾ (‪( )3‬وإذا قيل لهم‬
‫أمنوا بما أنزل هللا قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم‬
‫قل فلم تقتلون أنبياء هللا من قبل إن كنتم مؤمنين ) (‪( )4‬الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما‬
‫يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (‪. )5‬‬

‫ولكن القرآن يثني أشد الثناء على المنصفين من أهل الكتب ممن صفت ضمائرهم من أدران البغضاء وأنانية‬
‫التحيز فقال تعالى ‪ ( :‬وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا‬
‫من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا ال نؤمن باهلل وما جاءنا من الحق‬
‫ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم هللا بما قالوا جنات تجري من تحتها األنهار‬
‫خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) (‪. )6‬‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.90 - 89 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 91 :‬‬

‫(‪ )3‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 146 :‬‬

‫(‪ )4‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪85 - 84 - 83 :‬‬

‫(‪ )5‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.64 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة آل عمران اآلية ‪100 :‬‬

You might also like