Professional Documents
Culture Documents
الجدل واملنطق
خصائص الجدل القرآني :
بما أن القرآن الكريم جاء للناس جميعا ،لألحمر ولألسود ولألبيض ،دون أن تقتصر دعوته على جيل معين أو زمان معين وجب
أن يقع الناس جميعا باختالف مداركهم ومستوياتهم وأشكالهم وألوانهم وتعدد نزعاتهم ،ووجب أن يكون أسلوبه ال يعلو على
مدارك طائفة وال ينزل عن مدارك طائفة أخرى ،وال يرض ي طائفة دون أخرى بل يجد فيه بغيته الجميع دون استثناء ،1ومن ثم
فاملتدبر آلياته املتفكر في مناهجه يجد فيه ما يعلم الجاهل وينبه الغافل ويرض ي نهمة العالم 2فالقرآن الكريم وما يشتمل من
أدلة هو واضح للعامي يدرك ما يناسب خياله ويسمو إليه إدراكه وما يدرآه منه صدق وال شبهة فيه ويرى فيه العالم الباحث
ينَ َكفََرواَأَ َنَََ
حقائق صادقة ملا وصل إليها العلم الحديث بعد تجارب ومجهودات عقلية ،لنقرأ قوله تعالى مثال ﴿ أ َوََلََيََرَالذ َ
3
اَرتَقَاَفَفَتَقَنَا َُهَاََ﴾ 4فالعامي من الناس يرى فيها علما لم يكن يعلم قد أدركه بأسهل بيان وأبلغه كما سم َ
ضَ َكانَتَ َ
َو َاْل ََر َ
اوات َ
ال َ َ َ
يرى فيه العالم والفيلسوف الباحث عن نشأة الكون ،دقة العلم وإحكامه وموافقته ما وصل إليه العقل البشري مع سمو
البيان وعلو الدليل ..
.2متانته وإحكامه
فإذا تأملنا القرآن وما يسوقه من جدل نجد أن حججه وبراهينه "قامت على أسس متينة من الجودة واإلحكام سواء أكان ذلك
في نظمها وتراكيبها أم في صحة مقدماتها ونتائجها وبعد مراميها في معالجة أدواء القلوب إصالح املجتمعات اإلنسانية"5
كان جدل القرآن يدعو آل من يتصدى للتوجيه والدعوة و اإلصالح إلى استعمال الرفق واللين والجدال بالتي هي أحسن،
فلقد أمر هللاا نبيه موس ى وأخاه هارون عليهما السالم أن يدعوا فرعون بالتي هي أحسن .حيث قال هللاا تعالى ﴿ :فقوال له قوال
ى ﴾6 لينا لعله يتذكر أو يخش
.1االستفهام التقريري
وهو االستفهام عن املقدمات البينة البرهانية التي ال يمكن ألحد ان ينكرها ،وهي تدل على املطلوب لتقرير املخاطب بالحق
والعترافه بإنكار الباطل.
وهذا النوع من أحسن جدل القرآن بالبرهان فإن الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم باملقدامات أو أن تكون بينة
معروفة فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية7
وأعلم أن القرآن ال يستدل في مجادالته بمقدمة ملجرد الخصم بها ،كما هي الطريقة الجدلية املعروفة عند أهل املنطق بل
يستدل بالقضايا واملقدمات التي يسلمها الناس لتكون ادعى لالنقياد للحق ومجانبة الباطل ،وال شك أن في االستفهام
استشارة وبيانا ملا في النفوس ليكون اإللزام أبلغ وأقوى8
قد يساق الدليل في قصة ويأخذ صورته من واقع الحياة في حوادثها ،فتصفي إليه اآلذان ،وتميل إليه النفوس ،وترتاح إليه
األفئدة ،وتتأثر بما فيها من عظات وعبر.
وقد اتخذ القرآن الكريم من القصص سبيال لإلقناع والتأثير ،وفي ضمن القصة أدلة على بطالن الشرك وعبادة األوثان،
وقد يكون موضوع القصة رسوال يعرفون قدره ومكانته كإبراهيم وموس ى عليهما السالم ،فإن معظم العرب كانوا يعظمون
إبراهيم عليه السالم ألنهم ينتسبون إليه وكانوا يزعمون أنهم على ملته ،واليهود تعظمه أيضا وتعظم موس ى عليه السالم،
ومجيء الدليل على لسان رسول يقر بفضله املخالفون كإبراهيم عند العرب وموس ى عند بني إسرائيل يعطي الدليل قوة
فوق قوته ،إذ تكون الحجة قد أقيمت عليهم من جهتين :من جهة قوة الدليل الذاتية ،ومن جهة أن الذي قاله رسول امين
يعرفونه ،فيكون هذا قوة إضافية ،وفوق ذلك فيه إلزام وإفحام إذ أنهم يدعون انهم أتباعه.
وذلك كدعوى اليهود بان النار لم تمسهم إال بقدر األيام التي عبدوا فيها العجل كما ذكرها بعض املفسرين فال تعالى :
ىَاَّللََمَ َ
اََّلَتَعَلَ َمو َن﴾ َاَّللََعَهَ َدهََََأَمََتَقَولَو َنَعَلَ َ
ف ََ َاَّللََعه َداَفَلَ َ َ َارَإَََّلَأَََّيمَاَمَعَ َدودَةَََقَلََأَََّتَذَ َُتََعَ َ
نََيَل َ ند َ َ َ سنَاَالن َ
﴿ َوقَالَواَلَنََتََ َ
( البقرة ) 80 :
ومن املعلوم أن هذه الدعوى كانت في أمر غبي ال يثبت إال بالوحي فكأن القرآن الكريم قال لهم :دعواكم هذه مبنية على
احد افتراضين :إما أن يكون عندكم عهد من هللاا وبرهان على ما تقولون فيلزمكم اإلدالء به ،وهللاا ال يخلف عهده ،وإما ان
يكون قولكم هذا نقوال على هللاا بال علم فتكون دعواكم خالية من الدليل.
وبما أنه لم يثبت عندكم من هللاا عهد فقد انتفى هذا االفتراض ،وثبت االفتراض الثاني وهو أن دعواكم خالية من الدليل
فبطلت لخلوها من العلم والبرهان ،وهذا النوع كثير في القرآن الكريم ،وهو نوع بديع من أنواع الجدل ألن فيه قطعا
للخصم و إفحاما له10.
أوال :ينبغي أن يعلم أن الالزم من قول هللاا تعالى ,وقول رسوله صلى هللاا عليه وسلم إذا صح أن يكون الزما فهو حق ،يثبت ويحكم
به ،ألن كالم هللاا ورسوله حق ،والزم الحق حق؛ وألن هللاا تعالى عالم بما يكون الزما من كالمه وكالم رسوله ،فيكون مرادا11
كذلك قول اإلنسان إما أن يكون موافقا للكتاب والسنة فيكون حقا ،والزمه حقا ،وإما أن يكون مخالفا للكتاب والسنة فيكون
باطال والزمه باطال12
الحالة األولى :أن يذكر له الزم قوله فليتزمه ،مثل أن يقول ملن يثبت وزن األعمال في اآلخرة :يلزمك القول بجواز وزن األعراض.
فيقول املثبت :نعم التزم به ،ألن أحوال اآلخرة تختلف عن أحوال الدنيا ،وهللاا تعالى على كل ش يء قدير ،ثم إنه قد وجد في زماننا
هذا موازين للحرارة ,والبرودة ,واإلضاءة ,ونحو ذلك من األعراض.
وهذا الالزم يجوز إضافته إليه إذا علم منه أنه ال يمنعه.
الحالة الثانية :أن يذكر له الزم قوله ،فيمنع التالزم بينه وبين قوله ،مثل أن يقول نافي الصفات ملن يثبتها ،يلزمك أن يكون هللاا
تعالى مشابها للخلق في صفاته ،فيقول املثبت :ال يلزم ذلك؛ ألننا عندما أضفنا الصفات إلى الخالق سبحانه قطعنا توهم
االشتراك واملشابهة ،كما أنك أيها النافي للصفات ،تثبت ذاتا هلل تعالى وتمنع أن يكون هللاا مشابها للخلق في ذاته ،فقل ذلك أيضا
في الصفات إذ ال فرق بينهما.
وهذا الالزم ال يجوز إضافته إليه بعد أن بين هو وجه امتناع التالزم بين قوله وبين ما أضيف إليه.
الحالة الثالثة :أن يكون الالزم مسكوتا عنه فال يذكر بالتزام وال منع ،فهذا حكمه أن ال ينسب إليه ،ألنه إذا ذكر له الالزم :فقد
يلتزمه ،وقد يمنع التالزم ،وقد يتبين له وجه الحق فيرجع عن الالزم وامللزوم جميعا .وألجل هذه االحتماالت فال ينبغي إضافة
الالزم إليه وال سيما أن اإلنسان بشر وتعتريه حاالت نفسية وخارجية توجب له الذهول عن الالزم؛ فقد يغفل ،أو يسهو ،أو
ينغلق فكره ،أو يقول القول في مضايق املناظرات من غير تدبر في لوازمه ،ونحو ذلك.
الخصمان إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم ال ،فإن لم يتفقا على ش يء ،لم تقع بمناظرتهما فائدة ،وإذا كانت الدعوى البد
لها من دليل ،وكان الدليل عند الخصم متنازعا فيه ،ليس عنده بدليل ،صار اإلتيان به عبثا ،ال يفيد فائدة وال يحصل
مقصودا ،إذ مقصود املناظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه ،فالبد من الرجوع إلى دليل يعرفه الخصم السائل ،معرفة
الخصم املستدل:
ولهذا كان الرجوع عند املسلمين إلى الكتاب والسنة ،التفاقهم عليهما ،وكان املرجوع إليه عند التنازع مع غير املسلمين ما يسلم
به الكفار ،كما قال تعالى - :في محاجة الكفار ﴿ :قل ملن األرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون ّلِل قل أفال تذكرون قل
من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون ّلِل قل أفال تتقون قل من بيده ملكوت كل ش يء وهو يجير وال يجار
عليه إن كنتم تعلمون سيقولون ّلِل قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ﴾(املؤمنون14)90-84 :
قال تعالى ﴿ :ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه هللاا امللك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت
قال إبراهيم فإن هللاا يأتي بالشمس من املشرق فأت بها من املغرب فبهت الذي كفر وهللاا ال يهدي القوم الظاملين ﴾(البقرة.)258 :
فلما سوى امللحد نفسه باهلل تعالى في ادعاء اإلحياء واإلماتة طالبه إبراهيم بطرد املساواة ،وهي أن من حقوق الربوبية التصرف
في الكون ،وفي كواكبه وأجرامه ،ومن ذلك أن هللاا تعالى يسير الشمس من املشرق على املغرب ،فإن كنت صادقا في ادعاء املساواة
هلل تعالى في اإلحياء واإلماتة ،فأعكس حركة هذه الشمس ،واجعلها تسير من املغرب إلى املشرق ﴿ ،فبهت الذي كفر وهللاا ال يهدي
القوم الظاملين ﴾15
مجادلة نوح عليه السالم قومه في دعوته إلى عبادة هللاا وحده ،وعدم اإلشراك به ،قال تعالى :و﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني
لكم نذير مبين أن ال تعبدوا إال ّللا إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال املأل الذين كفروا من قومه ما نراك إال بشرا مثلنا
وما نراك اتبعك إال الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على
بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم ال أسألكم عليه ماال إن أجري إال على
ّللا ومآ أنا بطارد الذين آمنوا إنهم مالقو ربهم ولـكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من ّللا إن طردتهم أفال تذكرون
وال أقول لكم عندي خزآئن ّللا وال أعلم الغيب وال أقول إني ملك وال أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم ّللا خيرا ّللا أعلم
لجدال الذي دار بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وبين النبي صلى هللاا عليه وسلم في غزوة األحزاب .قال ابن كثير :قال ابن
إسحاق ( :فأقام رسول هللاا صلى هللاا عليه وسلم مرابطا ،وأقام املشركون يحاصرونه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ،ولم
يكن بينهم حرب إال الرمي بالنبل .فلما اشتد على الناس البالء بعث رسول هللاا صلى هللاا عليه وسلم ...إلى عيينة بن حصن
والحارث بن عوف املري ،وهما قائدا غطفان ،وأعطاهما ثلث ثمار املدينة ،على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه ،فجرى
بينه وبينهم الصلح ،حتى كتبوا الكتاب ،ولم تقع الشهادة وال عزيمة الصلح ،إال املراوضة .فلما أراد رسول هللاا صلى هللاا عليه
وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك ،واستشارهما فيه .فقاال :يا رسول هللاا ،أمرا تحبه فنصنعه ،أم شيئا
أمرك هللاا به ال بد لنا من العمل به ،أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال :بل ش يء أصنعه لكم ،وهللاا ما أصنع ذلك إال ألني رأيت العرب
رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ،فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما .فقال له سعد بن معاذ :يا رسول
هللاا ،قد كنا وهؤالء على الشرك باهلل وعبادة األوثان ،ال نعبد هللاا وال نعرفه ،وهم ال يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إال قرى
أو بيعا ،أفحين أكرمنا هللاا باإلسالم وهدانا له وأعزنا بك وبه ،نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة ،وهللاا ال نعطيهم إال السيف،
حتى يحكم هللاا بيننا وبينهم! فقال النبي صلى هللاا عليه وسلم :أنت وذاك .فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من
الكتاب ،ثم قال :ليجهدوا علينا )16
ذكر أن نصرانيا ورد قرطبة في أيام علمائها ،وطلب املناظرة فاتفق أن اجتمع به ابن الطالع ،فقال له النصراني :ما تقول في
عيس ى ؟ فقال له ابن الطالع :لعلك تريد املبشر بمحمد ؟ فانقطع النصراني ألنه رأى إن أنكر له هذا الوصف كذب إنجيله
وكقر بعيس ى على الحقيقة ألنه إنما أقر بعيس ى آخر وإن أقر لزمه الدخول في اإلسالم ملا وجب عليه عند إيمانه بعيس ى من
اإليمان بما بشر به وإال فليس بمؤمن17 .