You are on page 1of 203

1

‫اإليمان‬
‫بالقدر‬

‫اإليمان بالقدر‬
‫‪2‬‬
‫ش ْي ٍء َف َق َ‬
‫دَّرهُ‬ ‫قال تعالى‪َ ":‬و َخ َل َق ُكل َّ َ‬
‫ِيرا" (الفرقان‪ ،‬آية ‪)2 :‬‬ ‫َت ْقد ً‬

‫د‪ .‬على محمد محمد‬


‫صالَّبي‬
‫ال َّ‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫‪3‬‬
‫اإلهداء‬

‫إلى كل إنسان في الوجود يبحث عن‬


‫حقيقة اإليمان بالقدر‬
‫أهدي هذا الكتاب سائالً المولى عز وجل‬
‫بأسمائه الحسنى وصفاته ال ُعال أن يكون‬
‫خالصا ً لوجهه الكريم‪A.‬‬
‫قال تعالى‪َ ":‬ف َمن َكانَ َي ْر ُجو لِ َقاء َر ِّب ِه‬
‫َف ْل َي ْع َملْ َع َماًل َ‬
‫صال ًِحا َواَل ُي ْ‬
‫ش ِر ْك ِب ِع َبادَ ِة َر ِّب ِه‬
‫أَ َح ًدا" (الكهف‪ ،‬آية ‪)110 :‬‬

‫‪4‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‪:‬‬
‫إن الحمد هلل نحمده ونس تعينه ونس تهديه ونس تغفره‪ ،‬ونع وذ باهلل من‬
‫ش رور أنفس نا وس يئات أعمالن ا‪ ،‬من يه ده هللا فال مض ل ل ه‪ ،‬ومن‬
‫يضلل فال ه ادي ل ه‪ ،‬وأش هد أن ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪،‬‬
‫وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‪.‬‬
‫وا هّللا َ َح َّق تُقَاتِ ِه َوالَ تَ ُموتُ َّن إِالَّ َوأَنتُم ُّم ْسلِ ُمونَ " (آل عمران‪،‬‬ ‫" يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫وا اتَّقُ ْ‬
‫آية ‪.)102 :‬‬
‫ث ِم ْنهُ َما‬ ‫ق ِم ْنهَا َزوْ َجهَا َوبَ َّ‬ ‫س َوا ِح َد ٍة َوخَ لَ َ‬ ‫" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُ ْ‬
‫وا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَقَ ُكم ِّمن نَّ ْف ٍ‬
‫‪9‬وا هّللا َ الَّ ِذي ت ََس‪9‬اءلُونَ بِ‪ِ 9‬ه َواألَرْ َح‪ 9‬ا َم إِ َّن هّللا َ َك‪9‬انَ َعلَ ْي ُك ْم َرقِيبًا"‬
‫ِر َجاالً َكثِيرًا َونِ َس‪9‬اء َواتَّقُ ْ‬
‫(النساء‪ ،‬آية ‪" )1 :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اتَّقُ‪99‬وا هَّللا َ َوقُولُ‪99‬وا قَ‪99‬وْ اًل َس ‪ِ 9‬ديدًا*ي ْ‬
‫ُص ‪9‬لِحْ لَ ُك ْم‬
‫أَ ْع َمالَ ُك ْم َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْم َو َمن يُ ِط ْع هَّللا َ َو َرسُولَهُ فَقَ ْد فَا َز فَوْ ًزا َع ِظي ًما" (األحزاب‪،‬‬
‫آية ‪ 70 :‬ـ ‪.)71‬‬
‫يا رب لك الحمد كما ينبغي لجالل وجهك وعظيم سلطانك لك الحمد‬
‫حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬هذا الكتاب يتحدث عن القدر وقد سرت على ه دي الق رآن‬
‫الكريم والس نة النبوي ة الص حيحة في بي ان ه ذا ال ركن من اإليم ان‬
‫وابتع دت ك ل البع د عن من اهج الف رق الكالمي ة الم ذاهب الفلس فية‬
‫وحرصت على أن أبين ما كان عليه رسول هللا وأصحابه من صفاء‬
‫ووضوح في أصول اإليمان وهذا الكتاب يستهدف مخاطبة العقول‪،‬‬
‫وأحياء القلوب وتحريك الفطر‪ ،‬وربط الناس بالخ الق العظيم وبي ان‬
‫ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضالً عن الفاضل الجلي ل وم ا‬
‫ورد في القض اء والق در والحكم ة والتعلي ل فه و أس مى المقاص د‪،‬‬
‫واإليم ان ب ه قطب رحى التوحي د ونظام ه‪ ،‬ومب دأ ال دين الم بين‬
‫وختامه فهو أحد أركان اإليمان وقاعدة أساس اإلحسان ال تي يرج ع‬
‫إليها ويدور في جميع تصاريفه عليها فالعدل ق وام المل ك‪ ،‬والحكم ة‬
‫‪5‬‬
‫مظهر الحمد‪ ،‬والتوحيد متضمن لنهاية الحكم ة وكم ال النعم ة‪ ،‬وال‬
‫إله إال هللا وحده ال شريك ل ه‪ ،‬ل ه المل ك ول ه الحم د وه و على ك ل‬
‫شيء قدير‪ ،‬فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين " أَالَ لَهُ ْال ْ‬
‫خَل‪ُ 99‬‬
‫ق‬
‫َواألَ ْم ُر تَبَا َركَ هّللا ُ َربُّ ْال َعالَ ِمينَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪.)54 :‬‬
‫ولق د وقفت على تج ارب علم اء كب ار ممن خاض وا في بح ر علم‬
‫الكالم وك ادوا أن يهلك وا ل وال رحم ة هللا بهم وق دموا لن ا خالص ة‬
‫تجاربهم المريرة لكي نستفيد منه ا ال دروس والع بر‪ ،‬وحث وا الن اس‬
‫على التمسك بالكتاب والسنة وهدي الصحابة الكرام ومن هؤالء‪:‬‬
‫‪1‬ــ أبو الحسن األشعري‪ :‬قال‪ ..... :‬قولن ا ال ذي نق ول ب ه وديانتن ا‬
‫التي ندين بها التمسك بكتاب ربن ا ع ز وج ل وس نة نبين ا ص لى هللا‬
‫عليه وسلم وما روى عن الص حابة الت ابعين‪ ،‬وأئم ة الح ديث ونحن‬
‫بذلك معتصمون‪.1‬‬
‫‪2‬ــ أبو حامد الغزالي‪ :‬قال‪ :‬إن الص حابة رض وان هللا عليهم ك انوا‬
‫محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثب اة نب وة محم د ص لى‬
‫هللا عليه وسلم فم ا زادوا على أدل ة الق رآن ش يئا ً وم ا ركب وا ظه ر‬
‫اللّجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات كل ذلك لعلمهم‬
‫بأن ذلك مث ار الفتن ومنب ع التش ويش ومن ال يقنع ه أدل ة الق رآن ال‬
‫يقمعه إال السيف والسنان‪ ،‬فما بعد بيان هللا بيان‪.2‬‬
‫‪3‬ــ إم‪AA‬ام الح‪AA‬رمين الجوي‪AA‬ني‪ :‬ق ال‪ :‬لق د خض ت البح ر الخض م‪،‬‬
‫وتركت أهل اإلسالم وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه‪ ،‬واآلن‬
‫إن لم يت داركني ربي برحمت ه فالوي ل لفالن‪ ،‬وه ا أن ا أم وت على‬
‫عقيدة أمي‪.3‬‬
‫‪4‬ــ الفخر الرازي‪ :‬قال‪:‬‬
‫نهاية إقدام العقول عقال‬
‫وأكثر سعي العالمين ضالل‬
‫وأرواحنا في وحشة من جسومنا‬
‫وحاصل دنيانا أذى ووبال‬
‫ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا‬
‫سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا‬
‫‪1‬‬
‫اإلبانة ألبي الحسن األشعري ص‪.17‬‬
‫‪2‬‬
‫إلجام العوام عن علم الكالم للغزالي ص‪ 89‬ـ ‪.90‬‬
‫صالَّبي ص‪.159‬‬
‫من عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين لل َّ‬ ‫‪3‬‬

‫‪6‬‬
‫وكم من جبال قد علت شرفاتها‬
‫رجال فماتوا والجبال جبال‬
‫لقد ت أملت الط رق الكالمي ة والمن اهج الفلس فية‪ ،‬فم ا رأيته ا تش في‬
‫عليالً وال تروي غليالً‪ ،‬ورأيت أقرب الط رق طريق ة الق رآن‪ ،‬اق رأ‬
‫ش ا ْست ََوى" (طه‪ ،‬آية ‪ " )5 :‬إِلَ ْي ِه يَصْ َع ُد ْال َكلِ ُم‬ ‫في اإلثبات " الرَّحْ َم ُن َعلَى ْال َعرْ ِ‬
‫الطَّيِّبُ " (فاطر‪ ،‬آية ‪ )10 :‬وأقرأ في النفي " َواَل يُ ِحيطُونَ بِ ِه ِع ْل ًما" (طه‪،‬‬
‫آية ‪ )110 :‬ومن جرّ ب مثل تجريبتي عرف مثل معرفتي‪.1‬‬
‫فهذا الكتاب يتح دث عن الق در بعي داً عن ص خب األه واء وأغش ية‬
‫الشبهات وضجيج المجادالت‪ ،‬فقد طالعت ركاما ً هائالً من الم يراث‬
‫التاريخي في هذا الباب فرأيت من الفائدة تركها والعودة إلى عص ر‬
‫النبوة والصحابة للوصول إلى يقين ذلك الجي ل المب ارك وطمأنينت ه‬
‫والذي نهل من المعين الصافي الذي تكف ل هللا بحفظ ه والمتمث ل في‬
‫كتاب هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ق بِ ُك ْم عَن‬ ‫الس ‪9‬بُ َل فَتَفَ ‪َّ 9‬ر َ‬ ‫اطي ُم ْستَقِي ًما فَ‪99‬اتَّبِعُوهُ َوالَ تَتَّبِ ُع‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا ُّ‬ ‫قال تعالى‪َ ":‬وأَ َّن هَـ َذا ِ‬
‫ص َر ِ‬
‫َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َوصَّا ُكم بِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ " (األنعام‪ ،‬آية ‪.)153 :‬‬
‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬تركت فيكم أمرين لن تض لوا‬
‫ما تمسكتم بهما‪ :‬كتاب هللا وسنة رسوله‪.2‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وس لم‪ :‬من أح دث في أمرن ا م ا ليس من ه فه و‬
‫رد‪.3‬‬
‫ففي هذا الكتاب كان الحديث في المبحث األول‪ :‬عن القضاء والق در‬
‫في اللغة والشرع والف رق بين القض اء والق در‪ ،‬وأدل ة الق رآن على‬
‫وجوب اإليم ان ب ه‪ ،‬وح ديث القص ص الق رآني عن ه‪ ،‬كقص ة ن وح‬
‫وإبراهيم‪ ،‬ويوس ف‪ ،‬وموس ى وزكري ا وم ريم‪ ،‬وص احب الجن تين‪،‬‬
‫واألدلة من السنة النبوية على وجوب اإليمان ب ه والوص ايا النبوي ة‬
‫لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر ونهى الرسول صلى هللا‬
‫علي ه س لم عن الخ وض في ه‪ ،‬ح ديث الص حابة عن ه وفي المبحث‬
‫الثاني‪ :‬كان التفصيل عن مراتب الق در‪ ،‬ك العلم‪ ،‬والكتاب ة‪ ،‬واإلرادة‬
‫والمش يئة‪ ،‬والخل ق‪ ،‬وتض من المبحث الث الث‪ :‬التق ادير الخمس‬
‫‪ 1‬عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين ص‪.159‬‬
‫‪ 2‬رواه مالك في الموطأ بالغا في ك القدر (‪.)898 /2‬‬
‫‪ 3‬مسلم‪ ،‬ك األقضية (‪ 1343 /2‬ـ ‪.)1344‬‬

‫‪7‬‬
‫كالتقدير األزلي‪ ،‬وتقدير يوم الميثاق‪ ،‬والعمري والحولي‪ ،‬واليومي‪،‬‬
‫وتضمن أيضاً‪ :‬أنواع اإلرادة‪ ،‬الكونية والشرعية والفرق بينهما‪.‬‬
‫في المبحث الرابع‪ :‬كان الحديث عن ال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬وعن‬
‫فضلها ومعناه ا وم ا تض منته من مع ان عقدي ة عظيم ة‪ ،‬ك اإلقرار‬
‫بالتوحيد‪ ،‬والتوكل على هللا وتفويض األمور إليه‪ ،‬كما كان الح ديث‬
‫في هذا المبحث عن االحتجاج بالقدر على المعاصي‪.‬‬
‫وفي المبحث الخ امس‪ ،‬تكلمت عن الهداي ة واإلض الل وم راتب‬
‫الهداية‪ ،‬كالهداية العامة‪ ،‬وهداية اإلرشاد وال دعوة والبي ان‪ ،‬وهداي ة‬
‫التوفي ق واإلله ام والهداي ة إلى طري ق الجن ة كم ا أش رت ألس باب‬
‫الهداية التي ذكرت في القرآن كالمحافظة على الفطرة اإلنسانية نقية‬
‫ص افية‪ ،‬واس تعمال الس مع والبص ر والعق ل‪ ،‬والعلم‪ ،‬واإليم ان‪،‬‬
‫واالهتداء‪ ،‬والدعاء‪ ،‬واالعتصام باهلل‪ ،‬واالتب اع والطاع ة‪ ،‬والخش ية‬
‫واإلنابة‪ ،‬والبراءة من الكافرين‪ ،‬والجهاد‪ ،‬كم ا أش رت إلى الض الل‬
‫ومراتبه‪ ،‬وحرية العبد في اختي اره لله دى والض الل‪ ،‬كم ا لخص ت‬
‫أهم أسباب الضالل‪ ،‬كعدم اس تخدام اإلنس ان مواهب ه في التفك ر في‬
‫آيات هللا‪ ،‬والذنوب والمعاص ي‪ ،‬واتب اع الش يطان‪ ،‬والجه ل واتب اع‬
‫الظن‪ ،‬والج دال في هللا وآيات ه بغ ير علم‪ ،‬والغفل ة ‪ ،‬والتعص ب‬
‫بالباط ل‪ ،‬والتقلي د الم ذموم‪ ،‬والش ك وال ريب‪ ،‬والجح ود‪ ،‬والت أبي‬
‫والعناد والتعنت‪ ،‬والكبر‪ ،‬وحب الدنيا واالغترار بها واتخاذها لهواً‪،‬‬
‫واتباع الهوى‪ ،‬واإلس تهزاء بآي ات هللا ورس له والمؤم نين‪ ،‬والكف ر‪،‬‬
‫والغل و في األنبي اء والص الحين‪ ،‬وص حبة الس وء والبيئ ة الفاس دة‪،‬‬
‫والتشبه بالضالين‪ ،‬واالبتداع في الدين‪.‬‬
‫وفي المبحث الس ادس‪ :‬تكلمت عن س نة هللا في األخ ذ باألس باب‬
‫وأش رت إلى األخ ذ باألس باب في الق رآن الك ريم‪ ،‬كاألس باب ال تي‬
‫اتخ ذها ذو الق رنين للتمكين ل دين هللا ع ز وج ل‪ ،‬كالدس تور الع ادل‬
‫والمنهج ال تربوي للش عوب‪ ،‬واالهتم ام ب العلوم المادي ة والمعنوي ة‬
‫وتوظيفه ا في الخ ير وفقه ه في احي اء الش عوب وأخالق ه القيادي ة‪،‬‬
‫وكاألس باب ال تي اتخ ذها س ليمان‪ ،‬كفق ه في إدارة الدول ة من دوام‬
‫المباشرة ألحوال الرعية‪ ،‬وعمل قوانين تض بط األم ور‪ ،‬واالهتم ام‬
‫باألجهزة األمنية‪ ،‬وبنصر دعوة التوحي د وال ترفع عن حط ام ال دنيا‬
‫‪8‬‬
‫والمق درة على اتخ اذ الق رار الص حيح‪ ،‬واالس تفادة من المه ارات‬
‫والمواهب‪ ،‬كما كان الحديث عن األسباب والتوكل وبي ان أن الق ول‬
‫بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بالدين‪ ،‬وأهمي ة الت وازن‬
‫بين مق امي التوك ل واألخ ذ باألس باب وعن العالق ة بين األس باب‬
‫والمسببات‪ ،‬وتأثير الس بب في المس بب‪ ،‬وش رح ح ديث رس ول هللا‬
‫صلى عليه وسلم‪ :‬ال عدوى وال طيرة وال هامة وال صفر‪ ،‬وعالق ة‬
‫الجزاء األخروى باألسباب‪ ،‬والحث على طلب األسباب في األم ور‬
‫المكفولة‪ ،‬ومراعاة صورة األسباب في الخ وارق‪ ،‬وتهيئ ة األس باب‬
‫لوقوع مراد هللا عز وجل‪ ،‬وكون األسباب تعمل مع تحقق الش روط‬
‫وانتقاء الموان ع‪ ،‬وبي ان أن إنك ار ق انون الس ببية ي ؤدي إلى إبط ال‬
‫حقائق العلوم‪ ،‬وشرح مقولة منازعة األقدار باألق دار‪ ،‬والعالق ة بين‬
‫الدعاء والقدر‪.‬‬
‫وفي المبحث السابع‪ :‬ك ان الح ديث عن الع دل اإللهي وس نة هللا في‬
‫الجزاء بجنس العمل‪ ،‬وأن األصل في العقاب المماثل ة‪ ،‬وص ور من‬
‫الج زاء بجنس العم ل في ال دنيا‪ ،‬كاالس تهزاء بالمن افقين والس خرية‬
‫منهم في الحياة الدنيا‪ ،‬وتسليط الظالم على مثله‪ ،‬واستئص ال هللا لمن‬
‫أراد أيذاء رسله وأوليائه‪ ،‬ونصر هللا منوط بنص رته لل دين والح ق‪،‬‬
‫يس ر على‬ ‫وس لب النعم ة عمن منعه ا مس تحقيها‪ ،‬وتيس ير هللا لمن َّ‬
‫عباده‪ ،‬وكان الحديث عن الجزاء بجنس العمل في اآلخرة‪ ،‬كمعامل ة‬
‫أهل الفضل بالفضل‪ ،‬وترك اإلنسان وإهماله في العذاب‪ ،‬كما أهم ل‬
‫الح ق ولم يتبع ه‪ ،‬والتهكم بالكف ار والمن افقين كم ا ك انوا يتهكم ون‬
‫بالمؤمنين في الدنيا‪ ،‬كما كان الحديث عن الجزاء بجنس العم ل بين‬
‫العباد‪.‬‬
‫وفي المبحث الثامن‪ :‬تحدثت عن الحكمة والتحسين والتقبيح وتكليف‬
‫ما ال يطاق‪ ،‬فكان الحديث عن الحكمة في أفعال هللا وشرعه‪ ،‬وفع ل‬
‫األصلح‪ ،‬ومعنى االستطاعة وتكليف بما ال يطاق‪.‬‬
‫وفي المبحث التاس ع تكلمت عن س نة هللا في اآلج ال‪ ،‬وق درة هللا‬
‫وثم ار اإليم ان بالق در وال تي ك ان من أهمه ا؛ اإلق دام على عظ ائم‬
‫األم ور‪ ،‬والقض اء على الكس ل والتواك ل والثب ات في مواجه ة‬
‫الطغيان‪ ،‬والص بر عن د ن زول المص ائب والع ز في طلب الح وائج‬
‫‪9‬‬
‫والس كينة وراح ة النفس وس كون القلب‪ ،‬والخ وف والح ذر من هللا‪،‬‬
‫والخالص من الش رك والقض اء على األم راض ال تي تعص ف‬
‫بالمجتمع ات‪ ،‬واالس تعانة باهلل‪ ،‬واالعتم اد على هللا وح ده‪،‬‬
‫واالع تراف بفض له‪ ،‬واالس تغناء بالخ الق عن الخل ق‪ ،‬واالع تراف‬
‫بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة ثم كانت الخاتمة‪.‬‬
‫هذا وق د انتهيت من ه ذا الكت اب ‪1/3/2010‬م المواف ق ‪/15‬ربي ع‬
‫األول‪1431/‬هـ والفض ل هلل من قب ل ومن بع د‪ ،‬وأس أله س بحانه‬
‫بأس مائه الحس نى‪ ،‬وص فاته العال أن يجع ل عملي لوجه ه خالص ا ً‬
‫ولعباده نافعاً‪ ،‬ويشرح صدور العباد لالنتف اع ب ه ويب ارك في ه بم ّن ه‬
‫وكرمه وجوده‪ ،‬وأن يثيب إخواني الذين أعانوني من أجل إتمام هذا‬
‫الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن ال ينسى‬
‫العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمت ه ورض وانه بال دعاء في‬
‫ظهر الغيب‪.‬‬
‫ي َوأَ ْن‬ ‫ي َو َعلَى َوالِ‪َ 99‬د َّ‬ ‫ك الَّتِي أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ‬ ‫ق ال تع الى‪َ ":‬ربِّ أَوْ ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش‪ُ 99‬ك َر نِ ْع َمتَ‪َ 99‬‬
‫الص ‪9‬الِ ِحينَ " (النمل‪ ،‬آي ة ‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ض ‪9‬اهُ َوأَ ْد ِخ ْلنِي بِ َرحْ َمتِ‪99‬كَ فِي ِعبَ‪99‬ا ِدكَ‬ ‫أَ ْع َم‪َ 9‬ل َ‬
‫ص ‪9‬الِحًا تَرْ َ‬
‫‪.)19‬‬
‫ك لَهَ‪9‬ا َو َم‪9‬ا يُ ْم ِس‪ْ 9‬ك فَاَل ُمرْ ِس‪َ 9‬ل لَ‪9‬هُ‬ ‫اس ِمن رَّحْ َم ٍة فَاَل ُم ْم ِس َ‬ ‫قال تعالى‪َ ":‬ما يَ ْفت ِ‬
‫َح هَّللا ُ لِلنَّ ِ‬
‫ِمن بَ ْع ِد ِه َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (فاطر‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬
‫صفُونَ * َو َس ‪9‬اَل ٌ‪9‬م َعلَى ْال ُمرْ َس ‪9‬لِينَ * َو ْال َح ْم‪ُ 9‬د‬ ‫قال تعالى‪ُ ":‬سب َْحانَ َربِّكَ َربِّ ْال ِع َّز ِة َع َّما يَ ِ‬
‫هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ " (الصافات‪ ،‬آية ‪ 180 :‬ـ ‪.)182‬‬
‫"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن ال إله إال أنت أستغفرك أتوب إليك‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين"‪.‬‬
‫اإلخوة الكرام‪ :‬يسرني أن تصل مالحظاتكم وانطباعاتكم ح ول ه ذا‬
‫الكتاب وغيره من كتبي وأطلب من إخواني الدعاء في ظه ر الغيب‬
‫باإلخالص هلل والصواب لخدمة دينه العظيم‬
‫‪Mail: info@alsallaby.com‬‬
‫‪Website: www.alsallaby.com‬‬

‫‪10‬‬
‫الفصل األول‬
‫القضاء والقدر‬
‫المبحث األول‪ :‬القضاء والقدر في اللغة والشرع‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬القضاء والقدر لغة وشرعاً‪:‬‬
‫‪1‬ــ معنى القضاء لغة‪ :‬إحكام أمر واتقانه وإنفاذه لجهته‪ ،1‬وقال ابن األثير في النهاي‪99‬ة‪:‬‬
‫القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقط‪99‬اع الش‪99‬يء وتمام‪99‬ه فمع‪99‬نى القض‪99‬اء في‬
‫اللغة هو إحكام الشيء‪ ،‬وإتمام األم‪99‬ر‪ ،‬وه‪99‬ذا ه‪99‬و مع‪99‬نى القض‪99‬اء‪ ،‬وإلي‪99‬ه ترج‪99‬ع جمي‪99‬ع‬
‫معاني القضاء الواردة في اللغة‪ ،‬وقد يأتي بمعنى القدر‪.2‬‬
‫وقد ورد لفظ القضاء ومشتقاته كثيراً في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم‪ ،‬وك‪99‬ل معاني‪99‬ه ال‪99‬تي ق‪99‬د ت‪99‬أتي‬
‫متداخلة أحيانا ً ـ ترجع إلى األصل السابق فمن المعاني التي ورد بها‪:‬‬
‫وا إِالَّ إِيَّاهُ" ( اإلس‪99‬راء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )23 :‬أي‪:‬‬ ‫ك أَالَّتَ ْعبُ ُد ْ‬‫ضى َربُّ َ‬‫تعالى‪":‬وقَ َ‬
‫َ‬ ‫ــ معنى األمر‪ :‬قال‬
‫‪3‬‬
‫أمر سبحانه وتعالى ـ بعبادته وحده ال شريك له ‪.‬‬
‫ك األ ْم َر" (الحج‪99‬ر‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )66 :‬أي‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ض ْينَا إِلَ ْي ِه َذلِ َ‬
‫تعالى‪":‬وقَ َ‬
‫َ‬ ‫ــ معنى اإلنهاء‪ :‬ومنه قوله‬
‫تقدمنا إليه وأنهينا‪.4‬‬
‫‪9‬اض" (ط‪99‬ه‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )72 :‬أي‪ :‬اص‪99‬نع واحكم‬ ‫ٍ‬ ‫ض َماأَنتَ قَ‬ ‫ِ‬ ‫ــ معنى الحكم‪ :‬قال تعالى‪":‬فَا ْق‬
‫وافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك‪.5‬‬
‫ت فِي يَ‪9‬وْ َمي ِْن" (فص‪9‬لت ‪،‬‬‫ض‪9‬اهُ َّن َس‪ْ 9‬ب َع َس‪َ 9‬ما َوا ٍ‬ ‫معنى الفــراغ‪ :‬ومن‪9‬ه قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪ " :‬فَقَ َ‬
‫فصلت ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )12 :‬أي ‪ :‬ف‪9‬رغ من تس‪99‬ويتهن س‪9‬بع س‪99‬ماوات في ي‪9‬ومين‪ ،6‬ومن‪9‬ه قول‪9‬ه‬
‫ضى ُمو َسى اأْل َ َج َل" (القصص‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )29 :‬أي‪ :‬ف‪99‬رغ من األج‪99‬ل األوفى‬ ‫تعالى‪":‬فَلَ َّما قَ َ‬
‫واألتم‪.7‬‬
‫َاس‪َ 9‬ك ُك ْم" (البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪9‬ة ‪ )200 :‬أي‪:‬‬ ‫ض‪ْ 9‬يتُم َّمن ِ‬ ‫ــ ومعنى األداء‪ :‬ومنه قوله تعالى‪":‬فَ‪9‬إ ِ َذا قَ َ‬
‫أديتموها وفرغتم منها‪.8‬‬
‫ض ْينَا إِلَى بَنِي إِ ْس َرائِي َل ِفي ْال ِكتَا ِ‬
‫ب" (اإلس‪99‬راء‪،‬‬ ‫ـ ومعنى اإلعالم‪ :‬ومنه قوله تعالى‪َ ":‬وقَ َ‬
‫آية ‪ )4 :‬أي‪ :‬تقدمنا وأخبرنا بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل إليهم أنهم يفسدون في‬
‫األرض مرتين‪.9‬‬

‫‪ 1‬معجم مقاييس اللغة البن فارس (‪.)99 / 5‬‬


‫‪ 2‬مفردات ألفاظ القرآن للراغب األصفهاني صـ‪.422‬‬
‫‪ 3‬تفسير الطبري (‪ ،)62 / 15‬القضاء والقدر د‪ .‬المحمود صـ‪.34‬‬
‫‪ 4‬زاد المسير البن الجوزي (‪ ،) 407 / 4‬القضاء والقدر صـ‪.43‬‬
‫‪ 5‬تفسير ابن كثير (‪ ،)298 / 5‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ‪ 43‬فيه تفصيل‪.‬‬
‫‪ 6‬تفسير الطبري (‪ ،)99 / 24‬ابن كثير (‪.)156 / 7‬‬
‫‪ 7‬معالم التنزيل للبغوي (‪.)172 / 5‬‬
‫‪ 8‬تفسير الطبري (‪ ،)295 / 2‬القضاء والقدر للمحمود صـ‪.35‬‬
‫‪ 9‬تفسير الطبري (‪ 20 / 15‬ـ ‪.)21‬‬

‫‪11‬‬
‫ـ ومعنى الموت‪ :‬يقال‪ :‬ضربه فقضى عليه‪ ،‬أي‪ :‬قتله‪ ،1‬قال تعالى‪":‬فَ َو َك َزهُ‪ُ 9‬مو َسى‬
‫ضى َعلَ ْي ِه" (القصص‪ ،‬آية ‪ )15 :‬أي‪ :‬مات‪.2‬‬ ‫فَقَ َ‬
‫‪3‬‬
‫ـ وهناك اشتقاقات أخرى ذكرتها كتب اللغة ‪ ،‬ومن خالل ع‪99‬رض ه‪99‬ذه المع‪99‬اني يت‪99‬بين‬
‫ما بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي من راب‪99‬ط ق‪99‬وي‪ ،‬فتق‪99‬دير هللا لألم‪99‬ور وكتابت‪99‬ه‬
‫لذلك‪ ،‬وكونها تجري بحكمة ودق‪9‬ة على حس‪99‬ب م‪9‬ا أراده‪99‬ا س‪99‬بحانه وقض‪99‬اها ك‪9‬ل ه‪99‬ذه‬
‫المعاني يوحي بها المعنى اللغوي بمختلف معانيه الورادة‪.4‬‬
‫‪ 2‬ـ القدر لغــة‪ :‬فالق‪9‬اف وال‪9‬دال وال‪9‬راء أص‪9‬ل ص‪9‬حيح ي‪9‬دل على مبل‪9‬غ الش‪9‬يء وكنه‪9‬ه‬
‫ونهايته‪ .5‬ويطلق القدر على الحكم والقضاء أيضا ً ومن ذلك حديث اإلستخارة "فا ْق ُدرُه‬
‫ويسرّه لي"‪.6‬‬
‫وس‪ِ 9‬ع‬‫والقدَر بتحريك الدال أو تسكينها معن‪99‬اه الطاق‪99‬ة ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬و َمتِّ ُع‪99‬وهُ َّن َعلَى ْال ُم ِ‬
‫قَ َد ُرهُ"(البقرة‪ 9،‬آية ‪ :)236 :‬طاقته‪.‬‬
‫ويأتي أيضا ً القدر بمعنى التضييق‪ 9،‬قال تعالى‪َ ":‬وأَ َّما إِ َذا َم‪99‬اا ْبتَاَل هُ فَقَ َد َر َعلَ ْي‪ِ 9‬ه" (الفج‪99‬ر‪،‬‬
‫آية ‪ .)16 :‬يعني فضيق عليه‪ ،‬ومنه قوله تعالى في ح‪99‬ق نبي‪99‬ه ي‪99‬ونس ـ علي‪99‬ه الس‪99‬الم ـ‬
‫"فَظَ َّن أَن لَّن نَّ ْق ِد َر َعلَ ْي ‪ِ 9‬ه" (األنبي‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )87 :‬أي‪ :‬لن نض‪99‬يق علي‪99‬ه‪ ،‬وليس كم‪99‬ا ظن‬
‫بعض الناس أن يونس ـ عليه السالم ـ شك في قدرة هللا كال‪ " .‬فَظَ َّن أَن لَّن نَّ ْق ِد َر َعلَيْ‪ِ 99‬ه"‬
‫أي‪ :‬لن نضيق عليه‪.7‬‬
‫وقدرت الشيء أق‪99‬دره من التق‪99‬دير‪ ،‬ومن‪99‬ه الح‪99‬ديث‪" :‬ف‪99‬إن غم عليكم فأق‪99‬دروا له‪ ."8‬أي‬
‫قدروا له عدد الشهر حتى تكمل‪9‬وه ثالثين يوم‪9‬اً‪ ،‬وقي‪9‬ل‪ :‬ق‪9‬دروا ل‪9‬ه من‪9‬ازل القم‪9‬ر‪ ،‬فإن‪9‬ه‬
‫يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أم ثالثون‪.9‬‬
‫وقدر كل شيء ومقداره‪ :‬مقياسه‪ ،‬يقال‪ :‬ق‪99‬دره ب‪99‬ه ق‪99‬دراً إذا قاس‪99‬ه‪ ،‬والق‪99‬در من الرح‪99‬ال‬
‫والسروج‪ :‬الوسط‪.10‬‬
‫ويت‪99‬بين لن‪99‬ا من التعري‪99‬ف اللغ‪99‬وي للقض‪99‬اء والق‪99‬در‪ :‬أن رابط ‪9‬ا ً قوي ‪9‬ا ً ج‪99‬داً بينهم‪99‬ا وبين‬
‫التأصيل اللغوي والشرعي كذلك‪.11‬‬
‫‪ 3‬ـ المعنى الشرعي للقضاء والقدر‪:‬‬

‫‪ 1‬لسان العرب (‪ ،)187 / 5‬القضاء والقدر للمحمود صـ‪.35‬‬


‫‪ 2‬القضاء والقدر للمحمود صـ‪.35‬‬
‫‪ 3‬الصحاح للجوهري (‪ ،)2463 / 6‬تاج العروس (‪.)396 / 10‬‬
‫‪ 4‬القضاء والقدر صـ‪.36‬‬
‫‪ 5‬الصحاح للجوهري (‪ ،)286 / 2‬معجم مقاييس اللغة (‪.)62 / 5‬‬
‫‪6‬البخاري‪ ،‬ك التهجد رقم ‪.1166‬‬
‫‪ 7‬اإليمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ‪.40‬‬
‫‪ 8‬البخاري‪ ،‬ك الصوم رقم ‪.1906‬‬
‫‪ 9‬النهاية في غريب الحديث واألثر البن األثير (‪.)23 /4‬‬
‫‪ 10‬ترتيب القاموس المحيط (‪.)570 / 3‬‬
‫‪ 11‬اإليمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ‪.40‬‬

‫‪12‬‬
‫هو تقدير هللا تعالى ـ األشياء في القدم‪ ،‬وعلمه ـ سبحانه ـ أنها ستقع في أوقات معلومة‬
‫عنده‪ ،‬وعلى صفات مخصوصة وكتابته سبحانه ـ ل‪9‬ذلك ومش‪9‬يئته له‪99‬ا ووقوعه‪9‬ا على‬
‫حسب ما قدرها ج ّل وعال وخلقه لها‪.1‬‬
‫ومراتب القدر أربع‪ :،‬كما هو ظاهر في التعريف‬
‫ــ العلم‪.‬‬
‫ــ الكتابة‪.‬‬
‫ــ المشيئة‪.‬‬
‫ــ الخلق والتكوين‪.29‬‬
‫‪ 4‬ـ الفرق بين القضاء والقدر‪:‬‬
‫من أهل العلم من قال‪ :‬ال فرق بين القضاء والقدر‪ ،‬فكل منهما يدخل في معنى اآلخ‪99‬ر‪،‬‬
‫ف‪99‬إذا أطل‪99‬ق التعري‪99‬ف على أح‪99‬دهما فيش‪99‬مل اآلخ‪99‬ر بمع‪99‬نى‪ :‬إذا أطل‪99‬ق التعري‪99‬ف على‬
‫القضاء‪ ،‬فإنه يشمل القدر‪ ،‬وإذا أطلق التعريف على القدر فإنه يشمل القضاء‪.‬‬
‫والفرق قال آخرون‪ :‬ال‪ ،‬هناك فرق بين القضاء والقدر‪ ،‬فالقضاء‪ :‬هو الحكم بالكلي‪99‬ات‬
‫على سبيل اإلجمال في األزل‪.‬‬
‫أما القدر‪ :‬فهو الحكم في وقوع الجزئيات لهذه الكليات التي قُ ّدرت في األزل‪ ،‬فالقضاء‬
‫أشمل وأعم من القدر‪.‬‬
‫ومنهم من قال‪ :‬بأن القدر‪ :‬هو التقدير‪ ،‬والقضاء‪ ،‬هو التفص‪99‬يل بمع‪99‬نى‪ :‬أن الق‪99‬در‪ :‬ه‪99‬و‬
‫التقدير الق‪99‬ديم األزلي‪ ،‬والقض‪99‬اء‪ :‬ه‪99‬و التفص‪99‬يل له‪99‬ذا الق‪99‬در الكلي في أوق‪99‬ات معلوم‪99‬ة‬
‫بمشيئة هللا تبارك وتعالى على الكيفية التي أرادها أو خلقها عز وجل‪.3‬‬
‫فالقضاء والقدر لفظ‪99‬ان متباين‪99‬ان إن اجتمع‪99‬ا‪ ،‬ومترادف‪99‬ان إن افترق‪99‬ا‪ ،‬يع‪99‬ني‪ :‬إذا افترق‪99‬ا‬
‫اجتمعا‪ ،‬وإذا اجتمعا افترقا بمعنى‪ :‬إذا ذكر القضاء والقدر مع ‪9‬اً‪ ،‬ف‪99‬المعنى لك‪99‬ل مف‪99‬ردة‬
‫منهما واحد‪ ،‬وإذا افرد اللفظان صار لكل مفردة منهما معنى يختلف عن معنى اآلخر‪.‬‬
‫فالتقدير‪ :‬هو ما قدره هللا سبحانه وتعالى في األزل أن يك‪99‬ون في خلق‪99‬ه التق‪99‬دير‪ ،‬وعلى‬
‫هذا يكون التقدير سابقا ً على القضاء‪ ،‬وأما القضاء إذا ذك‪99‬ر م‪99‬ع الق‪99‬در فكالهم‪99‬ا مع‪99‬نى‬
‫واحد مشترك‪ ،‬ويرى الخطابي‪ :‬أن القضاء والقدر أمران ال ينفك أحدهما عن اآلخ‪99‬ر‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫شفاء العليل البن القيم صـ ‪ ، 29‬القضاء والقدر للمحمود صـ ‪.40‬‬
‫‪2‬‬
‫القضاء والقدر صـ‪ 41‬للمحمود‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫اإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ‪.41‬‬

‫‪13‬‬
‫ألن أحدهما بمنزلة األساس واآلخر بمنزلة البناء‪ ،‬فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم‬
‫البناء ونقضه‪.1‬‬
‫وهللا أعلم أنه ال فرق بين القضاء والقدر‪ ،‬وال‪99‬ذين ق‪99‬الوا ب‪99‬التفريق بين القض‪99‬اء والق‪99‬در‬
‫لغة واصطالحا ً ال دليل لديهم من السنة الصحيحة‪ ،‬ال سيما وقد اتفقوا جميع‪9‬ا ً على أن‪9‬ه‬
‫إذا أطلق لفظ من هذين اللفظين فإنه يشمل اآلخر‪.2‬‬
‫ثانياً‪ :‬أدلة القرآن على وجوب اإليمان بالقدر‪:‬‬
‫وردت في كتاب هللا تعالى ـ آيات تدل على أن األمور تج‪99‬ري بق‪99‬در هللا تع‪99‬الى‪ ،‬وعلى‬
‫أن هللا تعالى علم األشياء وقدرها في األزل‪ ،‬وأنها ستقع على وفق ما قدرها ـ سبحانه‬
‫وتعالى‪.3‬‬

‫‪ 1‬ـ قال تعالى‪ ":‬إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء خَ لَ ْقنَاهُ بِقَد ٍ‬


‫َر" (القم‪99‬ر‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )49 :‬ق‪99‬در هللا ك‪99‬ل ش‪99‬يء في‬
‫األزل وكتبه سبحانه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وقول‪99‬ه تع‪99‬الى‪ُ ":‬س ‪9‬نَّةَ هَّللا ِ فِي الَّ ِذينَ خَ لَ‪99‬وْ ا ِمن قَ ْب ‪ُ 9‬ل َو َك‪99‬انَ أَ ْم‪ُ 9‬ر هَّللا ِ قَ ‪َ 9‬درًا َّم ْق ‪ُ 9‬دورًا"‬
‫(األحزاب‪ ،‬آية ‪ .)38‬أي قضاء مقضيا‪ ،‬وحكما ً مبتوتا ً وهو كظ‪99‬ل ظلي‪99‬ل‪ ،‬ولي‪99‬ل ألي‪99‬ل‪،‬‬
‫وروض أريض في قصد التأكيد‪.4‬‬
‫َر يَا ُمو َسى"(ط‪99‬ه‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫‪ 3‬ـ وقوله تعالى‪ ":‬فَلَبِ ْثتَ ِسنِينَ فِي أَ ْه ِل َم ْديَنَ ثُ َّم ِج ْئتَ َعلَى قَد ٍ‬
‫‪ ،)40‬أي أنه جاء موافقا ً لقدر هللا تعالى وإرادته على غير ميعاد‪.5‬‬
‫‪9‬وم * فَقَ‪َ 9‬درْ نَا فَنِ ْع َم ْالقَ‪9‬ا ِدرُونَ "‬ ‫َر َّم ْعلُ ٍ‬
‫ار َّم ِكي ٍن * إِلَى قَد ٍ‬ ‫‪ 4‬ـ وقوله تعالى‪":‬فَ َج َع ْلنَاهُ فِي قَ َر ٍ‬
‫(المرسالت‪ ،‬آية ‪21 :‬ـ ‪ .)23‬أي جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وه‪99‬و ال‪99‬رحم‪ ،‬م‪99‬ؤجالً‬
‫إلى قدر معلوم قد علمه هللا ـ سبحانه وتعالى ـ وحكم به‪ ،‬فقدرنا على ذل‪99‬ك تق‪99‬ديراً فنعم‬
‫الق‪99‬ادرون نحن‪ ،‬أو‪ :‬فق‪99‬درنا ذل‪99‬ك تق‪99‬ديراً فنعم المق‪99‬درون ل‪99‬ه نحن ـ على ق‪99‬راءتين‪،6‬‬
‫طفَ ‪ٍ 9‬ة َخلَقَ ‪9‬هُ فَقَ ‪َّ 9‬د َرهُ" (عبس‪،‬‬ ‫والقراءة الثانية "ق َّدرنا" بالتشديد توافق قوله تعالى‪ِ ":‬من نُّ ْ‬
‫آية ‪.)19 :‬‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء فَقَ َّد َرهُ تَ ْق‪ِ 9‬ديرًا" (الفرق‪99‬ان‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ : )2 :‬أي ك‪99‬ل ش‪99‬ي ٍء‬ ‫‪ 5‬ـ وقال تعالى‪َ 9":‬و َخلَ َ‬
‫مما سواه مخلوق مربوب‪ ،‬وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه‪ ،‬وكل ش‪99‬ي ٍء تحت‬
‫قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره‪.7‬‬
‫َار" (الرعد‪ ،‬آية ‪ )8 :‬أي‪ :‬بأجل‪ ،‬كحفظ أرزاق‬ ‫‪ 6‬ـ وقال تعالى‪َ 9":‬و ُكلُّ َش ْي ٍء ِعن َدهُ بِ ِم ْقد ٍ‬
‫خلقه وآجالهم‪ ،‬وجعل لذلك أجالً معلوما ً‪.8‬‬

‫‪ 1‬المسائل العقدية التي حكى فيها اإلجماع ابن تيمية االجماع صـ‪ ،810‬معالم السنن (‪.)77 / 5‬‬
‫‪ 2‬اإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ‪.42‬‬
‫‪ 3‬القضاء والقدر د‪ .‬المحمود صـ ‪.50‬‬
‫‪ 4‬فتح البيان في مقاصد القرآن‪ ،‬تفسير صديق حسن خان (‪.)375 / 7‬‬
‫‪ 5‬تفسير ابن كثير (‪.)287 / 5‬‬
‫‪ 6‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ‪.51‬‬
‫‪ 7‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)314 / 3‬‬
‫‪ 8‬المصدر نفسه (‪.)492 / 2‬‬

‫‪14‬‬
‫‪9‬وم" (الحج‪99‬ر‪،‬‬ ‫َر َّم ْعلُ‪ٍ 9‬‬ ‫‪ 7‬ـ وقال تعالى‪َ 9":‬وإِن ِّمن َش ْي ٍء إِالَّ ِعن َدنَا خَزَائِنُهُ َو َما نُنَ ِّزلُهُ إِالَّبِقَد ٍ‬
‫آية ‪.)21 :‬‬
‫يخبر تعالى أنه مالك كل شيء‪ ،‬وأن كل شي ٍء سهل عليه يسير لديه‪ ،‬وأن عنده خزائن‬
‫وم" كما يشاء وكما يريد ولما ل‪99‬ه‬ ‫َر َّم ْعلُ ٍ‬
‫األشياء من جميع الصنوف‪َ " ،‬و َمانُن َِّزلُهُ إِالَّ بِقَد ٍ‬
‫في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعب‪99‬اده ال على جه‪99‬ة الوج‪99‬وب ب‪99‬ل ه‪99‬و كتب على‬
‫نفسه الرحمة‪.1‬‬
‫ــ وقال تعالى‪ ":‬نَحْ ُن قَ َّدرْ نَا بَ ْينَ ُك ُم ْال َموْ تَ َو َمانَحْ ُن بِ َم ْسبُوقِينَ " (الواقعة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )60 :‬أي‪:‬‬
‫صرفناه بينكم " َو َمانَحْ ُن بِ َم ْسبُوقِينَ " أي‪ :‬وما نحن بعاجزين‪.2‬‬
‫ك فِيهَا َوقَ َّد َر فِيهَا أَ ْق َواتَهَا فِي أَرْ بَ َع ِة‬ ‫ار َ‬ ‫اس َي ِمن فَوْ قِهَا َوبَ َ‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ ":‬و َج َع َل فِيهَا َر َو ِ‬
‫أَي ٍَّام َس َواء لِّلسَّائِلِينَ " (فصلت‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫طفَ‪ٍ 9‬ة َخلَقَ‪9‬هُ فَقَ‪َّ 9‬د َرهُ" (عبس ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)19 :‬أي‪ :‬ق‪99‬در أجل‪99‬ه ورزق‪99‬ه‬ ‫ــ وقال تعالى‪ِ " :‬من نُّ ْ‬
‫وعمله‪ ،‬شقي أو سعيد ‪.3‬‬
‫وغير ذلك من اآليات التي تدل على أن هللا قدر كل شيء‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬القصص القرآني واإليمان بالقدر‪:‬‬
‫كان جميع األنبياء والرسل ومن تبعهم معتقدين بعقي‪99‬دة التوحي‪99‬د الخالص‪99‬ة الص‪99‬حيحة‪،‬‬
‫كم‪99‬ا أوحى إليهم ربهم تب‪99‬ارك وتع‪99‬الى‪ ،‬واإليم‪99‬ان بص‪99‬فات هللا تع‪99‬الى‪ ،‬ومنه‪99‬ا‪ ،‬العلم‬
‫والقدرة واإلرادة والخلق كلها داخلة في التوحيد الذي هو أساس دين اإلسالم‪ ،‬وتحدث‬
‫القرآن الكريم عن األنبياء وغيرهم‪ ،‬وبين قولهم بالقدر‪ ،‬وبأن ما شاء هللا ك‪99‬ان‪ ،‬وم‪99‬ا لم‬
‫يشأن ال يكون‪.4‬‬
‫وا يَانُو ُح قَ ْد َجاد َْلتَنَا فَ‪99‬أ َ ْكثَرْ تَ‬ ‫‪ 1‬ـ في قصة نوح عليه الصالة والسالم‪ :‬قال تعالى‪" :‬قَالُ ْ‬
‫نش‪9‬اء َو َم‪99‬ا أَنتُم‬ ‫الص ‪9‬ا ِدقِينَ * قَ‪99‬ا َل إِنَّ َم‪99‬ا يَ‪99‬أْتِي ُكم بِ ‪ِ 9‬ه هّللا ُ إِ َ‬
‫َّ‬ ‫ِجدَالَنَا فَأْتَنِا بِ َماتَ ِع ُدنَا إِن ُكنتَ ِمنَ‬
‫ص َح لَ ُك ْم إِن َكانَ هّللا ُ ي ُِري ُد أَن يُ ْغ ِويَ ُك ْم هُ َو‬ ‫دت أَ ْن أَن َ‬ ‫ْج ِزينَ * َوالَيَنفَ ُع ُك ْم نُصْ ِحي إِ ْن أَ َر ُّ‬ ‫بِ ُمع ِ‬
‫َربُّ ُك ْم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ " (هود ‪ ،‬آية ‪ 32 :‬ـ ‪.)34‬‬
‫فهم قالوا لنوح عليه السالم مستعجلين‪ :‬يا ن‪99‬وح ق‪99‬د جادلتن‪99‬ا أي‪ :‬حاججتن‪99‬ا ف‪99‬أكثرت من‬
‫ذلك‪ ،‬ونحن ال نتبعك‪ ،‬فآتنا بما تعدنا من العذاب‪ ،‬فأجابهم نوح مبينا ً أن األمر كل‪99‬ه بي‪99‬د‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء‪ ،‬ثم بين نوح أيض‪9‬ا ً أن نص‪99‬حه ال‬
‫ينفع إذا كان هللا يريد أغواءهم‪ ،‬فإرادة هللا غالبة‪ ،‬ومشيئته نافذة‪.5‬‬
‫‪ 2‬ـ وفي قصة إبراهيم ـ عليه السالم ـ مع ابنه إسماعيل ـ عليه الصالة والس‪99‬الم ـ لم‪99‬ا‬
‫‪9‬ام أَنِّي‬
‫ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمنَ‪ِ 9‬‬ ‫الس‪ْ 9‬ع َي قَ‪99‬ا َل يَ‪99‬ابُنَ َّ‬‫أراد ذبحه بأمر هللا‪ ،‬يقول‪" :‬فَلَ َّما بَلَ‪َ 9‬غ َم َع‪ 9‬هُ َّ‬
‫الص ‪9‬ابِ ِرينَ "‬ ‫َّ‬ ‫نش ‪9‬اء هَّللا ُ ِمنَ‬
‫ت ا ْف َعلْ َم‪99‬اتُ ْؤ َم ُر َس ‪9‬تَ ِج ُدنِي إِ َ‬ ‫ال يَا أَبَ ِ‬ ‫أَ ْذبَحُكَ فَانظُرْ َما َذا تَ َرى قَ َ‬
‫(الصافات ‪ ،‬آية ‪.)102 :‬‬
‫وقال تعالى‪" :‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ‬
‫‪6‬‬
‫ْي" أي‪ :‬بلغ أن ينصرف معه ويعينه ‪ ،‬وفي هذا يك‪99‬ون‬
‫في الغالب أحب ما يكون لوالديه‪ ،‬ف‪99‬رأى أب‪99‬وه في المن‪99‬ام أن هللا ي‪99‬أمره بذبح‪99‬ه‪ ،‬ورؤي‪99‬ا‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)547 / 2‬‬
‫‪ 2‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)362 / 4‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)595 / 4‬‬
‫‪ 4‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ‪.126‬‬
‫‪ 5‬تفسير ابن كثير (‪ 251 / 4‬ـ ‪ ،) 252‬تفسير السعدي (‪.)422 / 3‬‬
‫‪ 6‬تفسير غريب القرآن البن قتيبة صـ‪.273‬‬

‫‪15‬‬
‫نش‪9‬اء هَّللا ُ ِمنَ‬ ‫ت ا ْف َع‪99‬لْ َم‪99‬ا تُ‪9ْ 9‬ؤ َم ُر َس‪9‬تَ ِج ُدنِي إِ َ‬ ‫األنبي‪99‬اء وحي‪ ،‬فق‪99‬ال االبن مستس‪99‬لماً‪" :‬يَ‪99‬اأَبَ ِ‬
‫الصَّابِ ِرينَ "‪ ،‬فأخبر أنه موطِّن نفسه على الصبر‪ ،‬وقرن ذلك بمشيئة هللا تعالى ألن‪99‬ه ال‬
‫يكون شيء بدون مشيئة هللا‪ .1‬وهذا هو الشاهد‪.‬‬
‫"و َرفَ‪َ 9‬ع أَبَ َو ْي‪ِ 9‬ه َعلَى‬ ‫‪ 3‬ـ وفي قصة يوسفـ ـ عليه الصالة والس‪99‬الم ـ يق‪99‬ول هللا تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫ي ِمن قَ ْب‪ُ 9‬ل قَ ‪ْ 9‬د َج َعلَهَ‪99‬ا َربِّي َحقّ‪99‬اً‬ ‫ت هَـ َذا تَأْ ِوي ُل ر ُْؤيَ‪99‬ا َ‬ ‫وا لَهُ ُس َّجدًا َوقَا َل يَا أَبَ ِ‬ ‫ش َو َخرُّ ْ‬ ‫ْال َعرْ ِ‬
‫الش‪ْ 9‬يطَ ُ‬
‫ان‬ ‫الس‪9‬جْ ِن َو َج‪ 9‬اء بِ ُكم ِّمنَ ْالبَ‪ْ 9‬د ِو ِمن بَ ْع‪ِ 9‬د أَن نَّز َغ َّ‬ ‫َوقَ ْد أَحْ َسنَ بَي إِ ْذ أَ ْخ َر َجنِي ِمنَ ِّ‬
‫‪9‬ف لِّ َم‪99‬ا يَ َش ‪9‬اء إِنَّهُ هُ ‪َ 9‬و ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم" (يوس‪99‬ف ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫بَ ْينِي َوبَ ْينَ إِ ْخ‪َ 9‬وتِي إِ َّن َربِّي لَ ِطي‪ٌ 9‬‬
‫‪.)100‬‬
‫يف لِّ َما يَ َشاء أي‪ :‬إذا أراد أمراً قيض له أسبابا ً ويسره وقدره‪ ،‬إنه هو العليم‬ ‫إِ َّن َربِّي لَ ِط ٌ‬
‫‪2‬‬
‫عب‪9‬اده‪،‬ال َح ِكي ُم‪ :‬في أفعال‪99‬ه وأقوال‪9‬ه‪ ،‬وقض‪99‬ائه وق‪9‬دره‪ ،‬وم‪9‬ا يخت‪9‬اره ويري‪9‬ده ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫بمص‪9‬الح‬
‫فيوسف ـ عليه السالم ـ كان مؤمنا ً أن ما جرى ويجري له ولغيره إنما ه‪99‬و بقض‪99‬اء هللا‬
‫وقدره‪.3‬‬
‫‪ 4‬ـ وموسى ـ عليه الصالة والسالم ـ ذكر هللا عنه إيمانه ب‪99‬أن الهداي‪99‬ة واإلض‪99‬الل بي‪99‬د‬
‫َار ُمو َسى قَوْ َم‪ 9‬هُ َس‪ْ 9‬ب ِعينَ‬ ‫هللا‪ ،‬وهما تحت مشيئته‪ ،‬فقال تعالى في معرض قصته‪َ " :‬و ْ‬
‫اخت َ‬
‫ي أَتُ ْهلِ ُكنَ‪99‬ا بِ َم‪99‬ا‬ ‫ال َربِّ لَوْ ِش ْئتَ أَ ْهلَ ْكتَهُم ِّمن قَ ْب ُل َوإِيَّا َ‬ ‫َر ُجالً لِّ ِميقَاتِنَا فَلَ َّما أَخَ َذ ْتهُ ُم الرَّجْ فَةُ قَ َ‬
‫ضلُّ بِهَا َمن تَ َشاء َوتَ ْه ِدي َمن تَ َشاء أَنتَ َولِيُّنَا فَا ْغفِرْ‬ ‫فَ َع َل ال ُّسفَهَاء ِمنَّا إِ ْن ِه َي إِالَّ فِ ْتنَتُكَ تُ ِ‬
‫لَنَا َوارْ َح ْمنَا َوأَنتَ خَ ْي ُر ْالغَافِ ِرينَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪ ،)155 :‬فقوله‪" :‬لَوْ ِش‪ْ 99‬ئتَ أَ ْهلَ ْكتَهُم‬
‫َّاي"‪ :‬أي لو شئت إهالكنا ألهلكتنا بذنوبنا منقب‪99‬ل ه‪99‬ذا ال‪99‬وقت‪ ،‬ق‪99‬ال موس‪99‬ى‬ ‫ِّمن قَ ْب ُل َوإِي َ‬
‫اعترافا ً بالذنب وتلهفا ً على ما فرط من قومه‪ ،‬أو المعنى‪ :‬لو ش‪99‬ئت أهلكتهم وإي‪99‬اي من‬
‫قبل خروجنا حتى يعاين بنو إسرائيل ذلك وال يتهمونني‪ ،‬وهذا على أن "لَ‪99‬وْ " للتم‪99‬ني‪.‬‬
‫ض ‪9‬لُّ بِهَ‪99‬ا َمن ت ََش ‪9‬اء َوتَ ْه ‪ِ 9‬دي َمن ت ََش ‪9‬اء"‪ :‬أي م‪99‬ا ه‪99‬و إال‬ ‫ثم ق‪99‬ال‪" :‬إِ ْن ِه َي إِالَّ فِ ْتنَتُ‪99‬كَ تُ ِ‬
‫اختبارك وإمتحانك تضل بهما من تشاء وتهدي من تشاء‪ ،‬وال هادي لمن أضللت‪ ،‬وال‬
‫مضل لمن هديت‪ ،‬فأنت وحدك لك الملك ولك الخلق واألمر‪ ،4‬فق‪9‬ول موس‪99‬ى ه‪99‬ذا ي‪9‬دل‬
‫على تصديقه وإيمانه بالقدر‪.5‬‬
‫‪ 5‬ـ وفي قصة موسى مع الشيخ الكبير حينما ورد ماء مدين يقول تع‪99‬الى عن الش‪99‬يخ‪:‬‬
‫ج فَإ ِ ْن أَ ْت َم ْمتَ‬ ‫ْ‬ ‫ال إِنِّي أُ ِري ُد أَ ْن أُن ِك َح َ‬
‫ي هَاتَي ِْن َعلَى أَن تَأ ُج َرنِي ثَ َمانِ َي ِح َج ٍ‬ ‫ك إِحْ دَى ا ْبنَتَ َّ‬ ‫" قَ َ‬
‫ق َعلَ ْيكَ َستَ ِج ُدنِي إِن َشاء هَّللا ُ ِمنَ الصَّالِ ِحينَ " (القص ‪،‬‬ ‫َع ْشرًا فَ ِم ْن ِعن ِدكَ َو َما أُ ِري ُد أَ ْن أَ ُش َّ‬
‫الص‪9‬الِ ِحينَ " أي‪ :‬حس‪99‬ن الص‪99‬حبة‬ ‫َّ‬ ‫نش‪9‬اء هَّللا ُ ِمنَ‬‫آية ‪ ،)27 :‬والش‪99‬اهد قول‪99‬ه‪َ " :‬س‪9‬تَ ِج ُدنِي إِ َ‬
‫والوفاء‪ ،‬أو الصالح العام ويدخل فيه صالح المعاملة من باب أولى‪ ،‬وقيد ذلك بمش‪99‬ئة‬
‫هللا تفويضا ً لألمر إلى توفيق هللا ومعونته‪.6‬‬
‫‪ 6‬ـ ويقول تعالى عن موسى ـ عليه الصالة والسالم ـ والخضر بع‪99‬د أن بين ل‪99‬ه أن‪99‬ه ال‬
‫ص‪9‬ابِرًا‬ ‫نش‪9‬اء هَّللا ُ َ‬ ‫يستطيع الصبر مع‪99‬ه‪ ،‬فأجاب‪99‬ه موس‪99‬ى كم‪99‬ا ق‪99‬ال هللا‪" :‬قَ‪99‬ا َل َس‪9‬تَ ِج ُدنِي إِ َ‬
‫صي لَكَ أَ ْمرًا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪.)69 :‬‬ ‫َواَل أَ ْع ِ‬
‫‪ 1‬تفسير السعدي (‪.)389 / 6‬‬
‫تفسير غريب القرآن البن قتيبة صـ‪.273‬‬
‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪ ،)336 / 4‬القضاء والقدر عبد الرحمن المحمود صـ‪.127‬‬
‫‪ 3‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ‪.127‬‬
‫‪ 4‬زاد المسير البن الجوزي (‪ 268 / 3‬ـ ‪.)269‬‬
‫‪5‬القضاء والقدر للمحمود صـ‪.128‬‬
‫‪ 6‬فتح القدير للشوكاني (‪.)169 / 4‬‬

‫‪16‬‬
‫ك أَ ْم‪ 9‬رًا" أوالً؟‬ ‫ص ‪9‬ي ل َ ‪َ 9‬‬‫سأصبر بمش‪99‬يئة هللا ولكن ه‪99‬ل االس‪99‬تثناء ش‪99‬امل قول‪99‬ه‪َ " :‬واَل أَ ْع ِ‬
‫نش‪99‬اء‬ ‫قوالن للمفسرين واألرجح شموله لهما‪ ،1‬قال في تفسير الجاللين "قَا َل َست َِج ُدنِي إِ َ‬
‫ك أَ ْم‪ 9‬رًا" ت‪99‬أمرني ب‪99‬ه‪ ،‬وقي‪99‬د‬ ‫ص "لَ‪َ 9‬‬ ‫ص‪9‬ي لَ‪99‬كَ أَ ْم‪ 9‬رًا" أي‪ :‬وغ‪99‬ير ع‪99‬ا ٍ‬ ‫صابِرًا َواَل أَ ْع ِ‬ ‫هَّللا ُ َ‬
‫بالمشيئة ألنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما ال‪99‬تزم‪ ،‬وه‪99‬ذه ع‪99‬ادة األنبي‪99‬اء واألولي‪99‬اء أال‬
‫يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين‪ .2‬فتعليق األمر بمشيئة هللا تعالى دليل على إيم‪99‬ان موس‪99‬ى‬
‫بأن أي شئ ال يكون إال إذا أراده هللا وشاءه‪ ،‬وقص‪99‬ة موس‪99‬ى والخض‪99‬ر كله‪99‬ا في ب‪99‬اب‬
‫القدر‪ ،‬وقد وردت بتمامها في صحيح البخاري‪ ،‬وقال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يرحم هللا‬
‫موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما"‪.3‬‬
‫‪ 7‬ـ وبعد أن خسف هللا بقارون وداره يقول تعالى عن قومه‪َ " :‬وأَصْ بَ َ‪9‬ح الَّ ِذينَ تَ َمنَّوْ ا‬
‫ق لِ َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَا ِد ِه َويَ ْق ‪ِ 9‬د ُر لَ‪99‬وْ اَل أَن َّم َّن‬ ‫ْ‬
‫الرِّز َ‬ ‫س يَقُولُونَ َو ْي َكأ َ َّن هَّللا َ يَ ْب ُسطُ‬ ‫َم َكانَهُ بِاأْل َ ْم ِ‬
‫هَّللا ُ َعلَ ْينَا لَخَ َسفَ بِنَا َو ْي َكأَنَّهُ اَل يُ ْفلِ ُح ْال َكافِرُونَ " (القصص ‪ ،‬آية ‪.)82 :‬‬
‫ق" لبعض عباده ويُضيّقه على بعض‪99‬هم فل‪99‬ه األم‪9‬ر‪ ،‬يفع‪9‬ل م‪99‬ا يش‪9‬اء‬ ‫فقوله "يَ ْب ُسطُ الر ِّْز َ‬
‫سبحانه وتعالى‪.4‬‬
‫‪ 8‬ـ ويقول تعالى عن زكريا ومــريم‪ ":‬فَتَقَبَّلَهَا َربُّهَ‪99‬ا بِقَبُ‪99‬و ٍل َح َس‪ٍ 9‬ن َوأَنبَتَهَ‪99‬ا نَبَاتً‪99‬ا َح َس‪9‬نًا‬
‫ك‬‫اب َو َج َد ِعن َدهَا ِر ْزقا ً قَا َل يَا َم‪99‬رْ يَ ُم أَنَّى لَ ‪ِ 9‬‬ ‫َو َكفَّلَهَا زَ َك ِريَّا ُكلَّ َما َدخَ َل َعلَ ْيهَا زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ‬
‫ب" (آل عم‪99‬ران‪ ،‬آي‪99‬ة‪:‬‬ ‫‪9‬ر ِح َس‪9‬ا ٍ‬ ‫ق َمن يَ َش‪9‬اء بِ َغ ْي‪ِ 9‬‬ ‫إن هّللا َ يَ‪99‬رْ ُز ُ‬ ‫ت هُ‪َ 9‬و ِم ْن ِعن‪ِ 9‬د هّللا ِ َّ‬ ‫هَـ َذا قَالَ ْ‬
‫‪.)37‬‬
‫إن هّللا َ يَرْ ُز ُ‬
‫ق َمن يَ َشاء بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫ب" ‪ :‬الراجح أنه من كالم م‪99‬ريم‪ ،‬وه‪99‬و يفي‪99‬د‬ ‫فقوله‪َّ ":‬‬
‫التقرير بأن هللا قد يرزق عباده بغير حساب‪ ،‬وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه‪.5‬‬
‫‪ 9‬ـ وفي قصــة الرجــل صــاحب الجنــتين‪ ،‬يقول تع‪99‬الى عن ص‪99‬احبه أن‪99‬ه ق‪9‬ال ل‪99‬ه وه‪99‬و‬
‫َخَلتَ َجنَّتَكَ قُ ْلتَ َما َشاء هَّللا ُ اَل قُ َّوةَ إِاَّل بِاهَّلل ِ إِن تُ َر ِن أَنَا أَقَ َّل ِمنكَ َم‪ 99‬ااًل‬
‫يحاوره" َولَوْ اَل إِ ْذ د ْ‬
‫اش ‪9‬اءا هَّلل ُ"‪ ،‬أي األم‪99‬ر‬ ‫َو َولَ ‪9‬دًا" (الكه‪99‬ف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )39 :‬أي‪ :‬هال قلت عن‪99‬دما دخلته‪99‬ا‪َ ":‬م َ‬
‫بمشيئة هللا‪ ،‬وما شاء هللا كان فترد أمر جنت‪99‬ك من الحس‪99‬ن والنض‪99‬ارة لخالق‪99‬ه س‪99‬بحانه‪،‬‬
‫وال تفتخر به ألنه ليس من عملك وصنعك " اَل قُ ‪َّ 9‬وةَ إِاَّل بِاهَّلل ِ" أي‪ :‬وهال قلت‪" :‬اَل قُ ‪َّ 9‬وةَ‬
‫إِاَّل بِاللَّ ِه"‪ ،‬معترفا ً بأنها وما فيها بمشيئة هللا ـ تعالى ـ إن شاء أبقاها‪ ،‬وإن ش‪99‬اء أفناه‪99‬ا‪،‬‬
‫وأنك عاجز عنها‪ ،‬وعن غيرها لوال معونة هللا‪.6‬‬
‫ض أَ ْم أَ َرا َد‬ ‫ُ‬
‫‪ 10‬ـ والجن يذكر تعالى أنهم قالوا‪َ ":‬وأَنَّا اَل نَ ْد ِري أَ َش ٌّر أ ِري‪َ 99‬د بِ َمن فِي اأْل َرْ ِ‬
‫بِ ِه ْم َربُّهُ ْم َر َش ًدا" (الجن‪ ،‬آية‪ ،)10 :‬فهم بع‪9‬د أن منع‪9‬وا من اس‪9‬تراق الس‪9‬مع جزم‪9‬وا أن‬
‫هللا أراد أن يحدث في األرض حادثا ً كب‪99‬يراً من خ‪99‬ير أو ش‪99‬ر‪ ،‬فق‪99‬الوا‪َ " :‬وأَنَّا اَل نَ ‪ْ 9‬د ِري‬
‫أَ َشرٌّ أُ ِريدَ‪ "....‬اآلية‪ ،‬فهم مؤمنون بأن هللا له اإلرادة المطلق‪99‬ة‪ ،‬وق‪99‬د ك‪99‬انوا م‪99‬ؤدبين فق‪99‬د‬
‫ً‪7‬‬
‫أضافوا الخير إلى هللا تعالى والشر حذفوا فاعله تأدبا‪.‬‬
‫‪ 1‬تفسير القرطبي (‪ ،)17 / 11‬القضاء والقدر للمحمود صـ‪.129‬‬
‫‪ 2‬تفسير الجاللين‪ :‬حاشية الجمل الفتوحات اإللهية (‪.)37 / 3‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك العلم‪ ،‬فتح الباري(‪.)317 / 1‬‬
‫‪ 4‬تفسير السعدي (‪ ،) 61 / 6‬القضاء والقدر صـ‪.130‬‬
‫‪ 5‬القضاء والقدر‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.131‬‬
‫‪ 6‬فتح البيان في مقاصد القرآن‪ ،‬صديق حسن خان (‪.)454 /5‬‬
‫‪ 7‬تفسير ابن كثير (‪ ،)267 /8‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.131‬‬

‫‪17‬‬
‫إن اإليمان بالقدر داخل ضمنا ً في اإليمان باهلل‪ ،‬ب‪99‬ل ه‪99‬و ج‪99‬زء حقيقي من‪99‬ه ألن معن‪99‬اه‪،‬‬
‫اإليمان بإحاطة علم هللا تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الك‪99‬ون‪ ،‬ونف‪9‬وذ‬
‫قدرته في كل شيء واإليمان بالقدر‪ ،‬الذي جاء به اإلسالم هو إيم‪99‬ان بمقتض‪99‬ى الكم‪99‬ال‬
‫اإللهي ال‪9‬ذي تم‪9‬يزت ب‪9‬ه عقي‪9‬دة اإلس‪9‬الم‪ ،‬وص‪9‬ححت ب‪9‬ه أوه‪9‬ام الفلس‪9‬فات‪ ،‬وانح‪9‬راف‬
‫الديانات في شأن األلوهية‪ ،‬فليس اإلله في اإلسالم إلها ً معزوالً عما يج‪99‬ري في الك‪99‬ون‬
‫ال يعلمه وال يتدخل فيه بتدبير وال تصريف ك"إله أرسطو" ال‪99‬ذي ال يع‪99‬رف إال ذات‪99‬ه‪،‬‬
‫وال يعلم عن هذا الكون شيئاً‪ ،‬وال يدبر فيه أمراً‪ ،‬أو "إله أفل‪99‬وطين" ال‪9‬ذي ال يعلم ذات‪99‬ه‬
‫نفسها وليس ك" إله المجوس" الذي له نصف الكون ي‪99‬دبره ويتص‪99‬رف في‪99‬ه‪ ،‬وه‪99‬و م‪99‬ا‬
‫يتعلق بالخير والنور‪ ،‬أما النصف اآلخر وهو ما يتصل بالشر والظلمة‪ ،‬فذلك من شأن‬
‫إل‪99‬ه آخ‪99‬ر‪ ،‬فهم‪99‬ا إله‪99‬ان إذن‪ :‬أح‪99‬دهما إل‪99‬ه الخ‪99‬ير والن‪99‬ور‪ ،‬واآلخ‪99‬ر إل‪99‬ه الش‪99‬ر والظلم‪99‬ة‬
‫والحرب بينهما سجال حتى ينتصر إله الخير في النهاية وليس ه‪99‬و ك "آله‪99‬ة اليون‪99‬ان"‬
‫التي تخبط في تص‪99‬رفاتها خب‪9‬ط عش‪99‬واء وال‪99‬تي تعيش في ح‪99‬رب م‪9‬ع البش‪99‬ر‪ ،‬ح‪99‬تى إن‬
‫رواياتهم عن القدر وضرباته للناس تمثله هازئ‪9‬ا ً بهم‪ ،‬متح‪99‬ديا ً لهم‪ ،‬يط‪99‬اردهم ويتج‪99‬نى‬
‫عليهم‪ ،‬وله‪99‬ذا ك‪99‬ثر الح‪99‬ديث في أدبهم عن قس‪99‬وة الق‪99‬در‪ ،‬وعن الق‪99‬در األعمى‪ ،‬والق‪99‬در‬
‫الغاشم ونح‪99‬و ذل‪99‬ك‪ ،‬وليس ك "إل‪99‬ه ب‪99‬ني إس‪99‬رائيل" ال‪99‬ذي تص‪99‬وره ت‪99‬وراتهم المحرف‪99‬ة‪،‬‬
‫وكتبهم واساطيرهم‪ ،‬غيوراً منتقم‪9‬ا ً م‪99‬دمراً‪ ،‬متعص‪99‬با ً لش‪99‬عب إس‪99‬رائيل دون الع‪99‬المين‪،‬‬
‫خائفا ً من اإلنسان أن يأكل من شجرة الحياة‪ ،‬فيصبح كواحد من اآللهة‪ ،‬نادم ‪9‬ا ً على م‪99‬ا‬
‫يفعل‪9‬ه في بعض األحي‪99‬ان ع‪9‬اجزاً عن مقاوم‪9‬ة اإلنس‪99‬ان‪ ،‬ح‪9‬تى إن إس‪9‬رائيل ليص‪9‬ارعه‬
‫فيصرعه‪ ،1‬ليس هذا الذي تتصوره أو تصوره ال‪99‬ديانات والفلس‪99‬فات ه‪99‬و إل‪9‬ه اإلس‪9‬الم‪،‬‬
‫إنما اإلله في اإلسالم هو مال‪99‬ك المل‪99‬ك‪ ،‬وص‪99‬احب الخل‪99‬ق واألم‪99‬ر‪ ،‬رب الع‪99‬المين‪ ،‬ه‪99‬و‬
‫خالق كل شيء عن قبضة قهره‪ ،‬وال حي أو جماد عن دائرة سلطانه‪ ،‬يحكم م‪99‬ا يري‪99‬د‪،‬‬
‫ويفعل ما يشاء‪ ،‬وال يخفي علي‪99‬ه ش‪99‬يء في األرض وال في الس‪99‬ماء وه‪99‬و م‪99‬ع ه‪99‬ذا ب‪99‬ر‬
‫كريم‪ ،‬عدل رحيم‪ ،‬عليم حكيم‪ ،‬ال يظلم أحداً‪ ،‬وال يأخذ مخلوقا ً بذنب غيره‪ ،‬وال يبخسه‬
‫أجر س‪99‬عيه‪ ،‬فال يخ‪99‬اف أح‪99‬د عن‪99‬ده ظلم‪9‬ا ً وال هض‪99‬ماً‪ ،‬والظلم‪ 9:‬أن يعاقب‪99‬ه بم‪99‬ا لم يفع‪99‬ل‬
‫والهضم‪ :‬أن يضيع أجر ما قد عمل‪ ،‬وهللا سبحانه ال يعاقب بغير سيئة وال يضيع أج‪99‬ر‬
‫حس‪99‬نة‪ ،‬ب‪99‬ل يض‪99‬اعفها كم‪99‬ا ق‪99‬ال س‪99‬بحانه‪ ":‬إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْ‬
‫ظلِ ُم ِم ْثقَ‪99‬ا َل َذ َّر ٍة َوإِن تَ ‪ُ 9‬‬
‫ك َح َس ‪9‬نَةً‬
‫َظي ًما" (النساء‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬ ‫ت ِمن لَّ ُد ْنهُ أَجْ ًر ع ِ‬
‫اع ْفهَا َوي ُْؤ ِ‬
‫ُض ِ‬
‫ي َ‬
‫ه‪99‬ذا ه‪99‬و اإلل‪99‬ه ال‪99‬ذي يج‪99‬ري ك‪99‬ل ش‪99‬يء في الك‪99‬ون بتق‪99‬ديره وت‪99‬دبيره بعلم‪99‬ه ومش‪99‬يئته‬
‫ومقتضى حكمته‪ ،‬وعلى هذا األس‪99‬اس ك‪99‬ان إيم‪99‬ان الس‪99‬لف بالق‪99‬در من الص‪99‬حابة‪ ،‬ومن‬
‫تبعهم بإحس‪99‬ان‪ ،‬فليس اإليم‪99‬ان بالق‪99‬در إيمان‪99‬ا ً ب‪99‬البخت والمص‪99‬ادفات والعش‪99‬وائية في‬
‫الك‪99‬ون‪ ،‬كه‪99‬ؤالء ال‪99‬ذين ينقل‪99‬ون إلى العربي‪99‬ة التغي‪99‬يرات‪ 9‬اليوناني‪99‬ة والغربي‪99‬ة عن الق‪99‬در‬
‫ف‪99‬تراهم يقول‪99‬ون‪ :‬الق‪99‬در األعمى‪ ،‬والق‪99‬در األحم‪99‬ق‪ ،‬والق‪99‬در الغاش‪99‬م‪ ،‬وعبث األق‪99‬دار‬
‫ونحوها‪ ،‬وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها اإلسالم والمسلمون‪ ،‬إنما هو إيم‪99‬ان بإحاط‪99‬ة‬
‫علم هللا وعموم مشيئته وشمول قدرته‪ ،‬وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل م‪99‬ا يح‪99‬دث‬
‫في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تص‪99‬ميم س‪99‬ابق‪ ،‬وت‪99‬دبير ق‪99‬دير‪ ،‬وتق‪99‬دير عزي‪99‬ز‬
‫عليم‪.2‬‬
‫‪1‬‬
‫اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.10‬‬
‫‪2‬‬
‫اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.11‬‬

‫‪18‬‬
‫رابعاً‪ :‬األدلة من السنة النبوية على وجوب اإليمان بالقدر‪:‬‬
‫دلت نصوص السنة على وجوب اإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬واألحاديث الواردة في ذلك‬
‫كثيرة جداً‪ ،‬ولكن نع‪9‬رض لبعض‪9‬ها وس‪9‬نبين البعض اآلخ‪9‬ر في األدل‪9‬ة التفص‪9‬يلية عن‪9‬د‬
‫الحديث على مراتب القدر ومن هذه األحاديث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حديث جبريل‪:‬ـ المشهور برواياته المحتلفة‪ ،‬فقد قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬اإليم‪9‬ان‪:‬‬
‫أن تؤمن باهلل ومالئكته ورسله واليوم اآلخر وتؤمن بالقدر خيره وشره‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ حديث جابر بن عبد هللا ـ رضي هللا عنهما ـ قال‪ :‬ق‪99‬ال رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم‪ :‬ال يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من هللا‪ ،‬وحتى يعلم أن ما أصابه لم‬
‫يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه‪.2‬‬
‫‪ 3‬ـ حديث علي ـ رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪ :‬ال ي‪99‬ؤمن‬
‫عبد حتى يؤمن بأربع‪ :‬يش‪99‬هد أن ال إل‪99‬ه إال هللا وأني محم‪99‬د رس‪99‬ول هللا بعث‪99‬ني ب‪99‬الحق‪،‬‬
‫ويؤمن بالموت‪ ،‬وبالبعث بعد الموت‪ ،‬ويؤمن بالقدر‪.3‬‬
‫فالمراد بالحديث نفي أصل اإليمان عمن لم يؤمن بهذه االربع‪:‬شهادة أن ال إل‪99‬ه إال هللا‪،‬‬
‫وشهادة أن محمداً رسول هللا‪ ،‬ويؤمن ب‪99‬الموت‪ :‬أي فن‪99‬اء ال‪99‬دنيا‪ ،‬أو الم‪99‬راد‪ 9:‬اعتق‪99‬اد أن‬
‫الموت يحصل بأمر هللا ال بفساد المزاج كم‪99‬ا يق‪99‬ول الطب‪99‬ائعيون‪ ،‬وي‪99‬ؤمن ب‪99‬البعث بع‪99‬د‬
‫الموت‪ ،‬ويؤمن بالقدر وأن كل ما يج‪99‬ري بق‪99‬در هللا ـ تع‪99‬الى ـ وقض‪99‬ائه‪ ،4‬ونفي أص‪99‬ل‬
‫اإليمان عمن لم يؤمن بهذه األمور يدل على وجوب اإليمان بها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ حديث طاوس‪ ،‬قال‪ :‬أدركت أناسا ً من أص‪99‬حاب رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫يقول‪ :‬كل شيء بقدر‪ ،‬قال وسمعت عبد هللا بن عمر ـ رضي هللا عنهم‪99‬ا ـ يق‪99‬ول‪ :‬ق‪99‬ال‬
‫رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬ك‪99‬ل ش‪99‬يء بق‪99‬در ح‪99‬تى العج‪99‬ز والكيس أو الكيس‬
‫والعجز‪.5‬‬
‫‪ 5‬ـ وعن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬جاء مش‪99‬ركو ق‪99‬ريش يخاص‪99‬مون رس‪99‬ول هللا‬
‫ار َعلَى ُو ُج‪99‬و ِه ِه ْم ُذوقُ‪99‬وا‬
‫صلى هللا عليه وسلم في الق‪99‬در ف‪99‬نزلت‪":‬يَ‪99‬وْ َم ي ُْس‪َ 9‬حبُونَ فِي النَّ ِ‬
‫َر" (القمر‪ ،‬آية ‪ 48 :‬ـ ‪.6)49‬‬ ‫َمسَّ َسقَ َر * إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء خَ لَ ْقنَاهُ بِقَد ٍ‬
‫‪ 6‬ـ وقد ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم التح‪99‬ذير من التك‪99‬ذيب بالق‪99‬در‪ ،‬وذل‪99‬ك في‬
‫الحديث الذي رواه أبو الدرداء ـ رضي هللا عنه ـ عن النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم أن‪99‬ه‬
‫قال‪" :‬ال يدخل الجنة عاق وال مدمن خمر‪ ،‬وال مكذب بقدر"‪.7‬‬
‫خامساً‪ :‬وصايا نبوية لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر‪:‬‬
‫كان الرسول صلى هللا عليه وسلم مربيا ً ومزكيا ً لنف‪99‬وس أص‪99‬حابه‪ ،‬وهي المهم‪99‬ة ال‪99‬تي‬
‫شرفه هللا سبحانه بها‪ ،‬وتتجلى هذه التزكية‪ ،‬بأوضح ص‪9‬ورها من خالل ه‪9‬ذه الوص‪9‬ايا‬

‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان رقم ‪.8‬‬


‫‪ 2‬سلسلة األحاديث الصحيحة لأللباني رقم ‪.2439‬‬
‫‪ 3‬صحيح الترمزي لأللباني رقم ‪.2246‬‬
‫‪ 4‬تحفة األحوذي للمبارك فوري (‪.)201 /3‬‬
‫‪ 5‬مسلم‪ ،‬ك القدر رقم ‪.2655‬‬
‫‪ 6‬سلسلة األحاديث الصحيحة رقم ‪.675‬‬
‫‪ 7‬منهج اإلسالم في تزكية النفس (‪.)158 / 1‬‬

‫‪19‬‬
‫الثالثة التي تُعد بح‪99‬ق نم‪99‬اذج العالج النب‪99‬وي ألم‪99‬راض النف‪99‬وس وت‪99‬دريبها عملي‪9‬ا ً على‬
‫التسليم لقضاء هللا وقدره والرضا به‪.‬‬
‫الوصية األولى‪ :‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه ق‪99‬ال‪ :‬ق‪99‬ال رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫‪9‬ل خ‪99‬ير‪،‬‬ ‫وس‪99‬لم‪" :‬الم‪99‬ؤمن الق‪99‬وي خ‪99‬ير وأحب إلى هللا من الم‪99‬ؤمن الض‪99‬عيف‪ ،‬وفي ك‪ٍ 9‬‬
‫أحرص على ما ينفعك واستعن باهلل وال تعجز وإن أصابك شئ فال تقل‪ :‬ل‪99‬و أني فعلت‬
‫كان كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬ق ّدر هللا وما شاء فعل‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان‪.1‬‬
‫وفي هذا الحديث النبوي يبين الرسول صلى هللا عليه وسلم أن من أراد ني‪99‬ل محب‪99‬ة هللا‬
‫ورض‪99‬وانه فعلي‪99‬ه أن يب‪99‬ادر إلى تقوي‪99‬ة إيمان‪99‬ه ومجاه‪99‬دة نفس‪99‬ه‪ ،‬وطلب الق‪99‬وة في العلم‬
‫والجسم‪ ،‬وغير ذلك من عناصر القوة النافعة التي تتض‪99‬افر جميعه‪99‬ا لتك‪99‬وين شخص‪99‬ية‬
‫المسلم الذي يحبه هللا سبحانه‪ ،‬ولكي يحظى المسلم بذلك فال بد له من األخ‪99‬ذ بالوص‪99‬ايا‬
‫النبوية الواردة في هذا الحديث‪ :‬وهي أن يحرص على ما ينفعه ويطلب الع‪99‬ون من هللا‬
‫سبحانه وال يعجز‪ ،‬وأن يسلم أمره هلل فيما ق ّدر له فال يسخط وال يشتكي من المص‪99‬ائب‬
‫وال يدع للشيطان مدخالً يقوله‪" :‬لو أني فعلت كذا وك‪99‬ذا" فكلم‪99‬ة "ل‪99‬و" تجلب الحس‪99‬رة‬
‫واألسى‪ ،‬وتزيد اللوعة وتورث القلق واالضطراب‪ ،‬ولن يس‪99‬تطيع إع‪99‬ادة م‪99‬ا ف‪99‬ات وال‬
‫إحياء من مات مهما تحسر‪ ،‬وإنم‪99‬ا س‪99‬يجلب لنفس‪99‬ه الكآب‪99‬ة ولجس‪99‬مه األم‪99‬راض واآلالم‬
‫ويتعرض لغضب هللا‪ ،‬باعتراضه على قدره‪ ،‬فالعالج العملي أن يقول‪" :‬ق ‪ّ 9‬در هللا وم‪99‬ا‬
‫شاء فعل"‪ُ ،‬م ِعلنا ً استسالمه ألمر هللا ورضاه بقضائه وأن يعود لسانه على ه‪99‬ذا الق‪99‬ول‬
‫كلما ناله شئ يكرهه‪.2‬‬
‫ـ الوصية الثانية‪:‬ـ دعاء االستخارة‪:‬‬
‫عن جابر بن عبد هللا رض‪99‬ي هللا عنهم‪99‬ا ق‪99‬ال‪ :‬ك‪99‬ان رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪:‬‬
‫يعلمنا االستخارة في األمور كله‪99‬ا كالس‪99‬ورة من الق‪99‬رآن‪ ،‬يق‪99‬ول‪ :‬إذا ه َّم أح‪99‬دكم ب‪99‬األمر‬
‫فليركع ركع‪99‬تين من غ‪9‬ير الفريض‪99‬ة‪ ،‬ثم ليق‪99‬ل‪ :‬اللهم إني اس‪99‬تخريك بعلم‪99‬ك واس‪99‬تقدرك‬
‫بقدرتك‪ ،‬وأسألك من فضلك العظيم‪ ،‬فإنك تقدر وال أق‪99‬در‪ ،‬وتعلم وال أعلم‪ ،‬وأنت عالم‬
‫الغيوب‪.‬‬
‫اللهم إن كنت تعلم إن هذا األمر خ‪99‬ي ٌر لي في دي‪99‬ني ومعاش‪99‬ي وعاقب‪99‬ة أم‪99‬ري‪ ،‬أو ق‪99‬ال‪:‬‬
‫عاج‪99‬ل أم‪99‬ري وآجل‪99‬ه‪ ،‬فأق‪99‬دره لي‪ ،‬وإن كنت تعلم أن ه‪99‬ذا األم‪99‬ر ش‪ٌ 99‬ر لي في دي‪99‬ني‬
‫ومعاشي وعاقبة أمري‪ ،‬أو قال‪ :‬عاجل أمري وآجله‪ ،‬فأصرفه ع‪99‬ني واص‪99‬رفني عن‪9‬ه‪،‬‬
‫واقدر لي الخير حيث كان‪ ،‬ثم أرضني به‪ ،‬ويسمي حاجته‪.3‬‬
‫وهذه الوصية النبوية تعد تدريبا ً عمليا ً على توطين النفس ورض‪9‬اها بالقض‪9‬اء والق‪9‬در‪،‬‬
‫وتسليمها لما يقدر هللا‪ ،‬اعتقاداً بأن ذل‪99‬ك ه‪99‬و األص‪99‬لح‪ ،‬واألنف‪99‬ع للعب‪99‬د‪ ،‬ف‪99‬إذا ه َّم المس‪99‬لم‬
‫بأمر من األمور المباحة‪ ،‬من سفر أو زواج‪ ،‬أو تجارة أو غير ذلك فعليه أن يبادر إلى‬
‫العمل بهذه الوصية النبوية‪ ،‬فيدعو بدعاء االستخارة مت‪99‬ذلالً أم‪99‬ام رب‪99‬ه‪ ،‬متواض‪99‬عا ً بين‬
‫يديه‪ ،‬مستسلما ً ألمره‪ ،‬راضيا ً بحكمه‪ ،‬داعي‪9‬ا ً أن يخت‪9‬ار هللا ل‪99‬ه م‪9‬ا في‪99‬ه الخ‪9‬ير في دين‪99‬ه‬
‫ومعاشه وعاقبة أمره‪ ،‬وأن يصرف عنه هذا األمر إن كان فيه شر‪ ،‬ثم يعزم على ه‪99‬ذا‬
‫األمر‪ ،‬فإن انشرح صدره له‪ ،‬ويسر هللا طريقه‪ ،‬وهو الخير الذي اختاره هللا‪ ،‬وإن جاء‬

‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك القدر رقم ‪.2664‬‬


‫‪ 2‬منهج اإلسالم في تزكية النفس (‪.)160 / 1‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك الدعوات باب دعاء االستخارة (‪.)162 / 7‬‬

‫‪20‬‬
‫األم‪99‬ر على عكس ذل‪99‬ك‪ ،‬فعلي‪99‬ه أن يف‪99‬رح‪ ،‬ألن هللا ص‪99‬رف عن‪99‬ه ش‪99‬راً واخت‪99‬ار ل‪99‬ه م‪99‬ا‬
‫يصلحه‪ ،‬ولو لم يدرك الحكمة فلتطمئن نفسه وال يبقى متعلق ‪9‬ا ً به‪99‬ذا األم‪99‬ر‪ ،‬أو قلق ‪9‬ا ً من‬
‫أجل‪99‬ه‪ ،‬وبه‪99‬ذه الوص‪99‬ية النبوي‪99‬ة‪ ،‬ي‪99‬درب المس‪99‬لم نفس‪99‬ه عملي‪9‬ا ً على الرض‪99‬ا بقض‪99‬اء هللا‪،‬‬
‫والتسليم ألمره‪ ،‬ويجاهد نفسه على مخالفة هواها ويربيها على االل‪99‬تزام ب‪99‬أمر هللا‪ ،‬ألن‬
‫في ذلك صالح دنياه وآخرته‪.1‬‬
‫روى األعمش عن مس‪99‬عود رض‪99‬ي هللا عن‪99‬ه ق‪99‬ال‪ :‬إن العب‪99‬د ليهم ب‪99‬األمر من التج‪99‬ارة‬
‫واإلم‪99‬ارة ح‪99‬تى يتيس‪99‬ر ل‪99‬ه‪ ،‬نظ‪99‬ر إلي‪99‬ه هللا من ف‪99‬وق س‪99‬بع س‪99‬ماوات‪ ،‬فيق‪99‬ول للمالئك‪99‬ة‪:‬‬
‫أصرفوه عنه فإني أن يسرته له أدخلته النار‪ ،‬قال‪ :‬فيصرفه هللا عنه‪ ،‬ق‪99‬ال‪ :‬فيق‪99‬ول‪ :‬من‬
‫أين ُدهيت؟ وما هو إال فضل هللا سبحانه‪.‬‬
‫ول‪99‬ذلك ك‪99‬ان الرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم يهتم كث‪99‬يراً ب‪99‬دعاء االس‪99‬تخارة ليعلم‪99‬ه‬
‫ألصحابه‪ ،‬كما يعلمه السورة من القرآن‪ ،‬وهذا دليل على غاية اإلهتمام به‪ ،‬والح‪99‬رص‬
‫عليه‪ 2‬ومن هو‪........‬‬
‫الوصية الثالثــة‪ :‬قال رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا ىعلي‪99‬ه وس‪99‬لم‪" :‬انظ‪99‬روا إلى من ه‪99‬و أس‪99‬فل‬
‫منكم‪ ،‬وال تنظ‪99‬روا إلى من ه‪99‬و ف‪99‬وقكم فه‪99‬و أج‪99‬در أن ت‪99‬زدروا نعم‪99‬ة هللا عليكم‪ .3‬وفي‬
‫رواية البخاري‪ :‬إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق‪ ،‬فلينظ‪99‬ر إلى من‬
‫هو أسفل منه ممن فُضل عليه‪.4‬‬
‫وفي ه‪99‬ذا الح‪99‬ديث دواء ل‪99‬داء الحس‪99‬د والتش‪99‬كي من األق‪99‬دار‪ ،‬ف‪99‬النفس ال‪99‬تي تتطل‪99‬ع إلى‬
‫بحال من أألح‪99‬وال كلم‪99‬ا بلغت درج‪99‬ة من الغ‪99‬نى والج‪99‬اه تعودته‪99‬ا‬ ‫ٍ‬ ‫اآلخرين لن ترضى‬
‫فملتها وتطلعت إلى المزي‪99‬د فهي دائم‪9‬ا ً في تله‪99‬ف إلى ك‪99‬ثرة الم‪99‬ال وتعل‪99‬ق ب‪99‬ه وس‪99‬خط‬
‫وحسرة وإزدراء للنعم‪ ،‬وجحود للمنعم‪ ،‬وهذا مص‪99‬داق ق‪99‬ول الرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وس‪99‬لم‪" :‬ل‪99‬و أن البن آدم وادي ‪9‬ا ً من ذهب أحب أن يك‪99‬ون ل‪99‬ه وادي‪99‬ان‪ ،‬ولن يمأل ف‪99‬اه إال‬
‫التراب‪ ،‬ويتوب هللا على من تاب‪.5‬‬
‫فإذا اتبع المسلم هذه الوصية النبوية فإنه سيعرف قدر النعمة ويرضى بما قسم هللا ل‪99‬ه‪،‬‬
‫وين‪99‬ال القناع‪99‬ة‪ ،‬ويحظى بالس‪99‬عادة ول‪99‬و ك‪99‬ان مبتلى ب‪99‬الفقر أو الم‪99‬رض أو المص‪99‬ائب‬
‫المختلفة‪ ،‬ألنه إن كان فقيراً ال يملك وفرة من المال فلينظر إلى من ابتلى بالفقر المدقع‬
‫والجوع الشديد‪ ،‬وإن كان مريضا ً يش‪9‬كو من بعض اآلالم فلينظ‪9‬ر إلى من ابتلي بعاه‪9‬ة‬
‫أو مرض مزمن خطير‪ ،‬وهكذا يبقى دائما ً مقدراً للنعمة راضيا ً بما قسم هللا ل‪99‬ه ش‪99‬اكراً‬
‫صابراً‪ ،‬ولو أخذ المسلمون اليوم به‪99‬ذه الوص‪99‬ية النبوي‪99‬ة لس‪99‬عدت أح‪99‬والهم‪ ،‬واس‪99‬تقامت‬
‫أوضاعهم‪ ،‬وعرفوا الثمرة الحقيقية لإليمان بالقض‪99‬اء والق‪99‬در‪ ،‬وس‪99‬ارعوا إلى التن‪99‬افس‬
‫في التقوى والعم‪99‬ل الص‪99‬الح والتق‪99‬رب إلى هللا عوض‪9‬ا ً عن التن‪99‬افس على حط‪99‬ام ال‪99‬دنيا‬
‫الزائل‪.6‬‬
‫نهي الرسول صلى هللا عليه عن الخوض في القدر‪:‬‬
‫‪ 1‬منهج اإلسالم في تزكية النفس (‪.)161 / 1‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)161 / 1‬‬
‫‪ 3‬مسلم‪ ،‬ك الزهد رقم ‪.2963‬‬
‫‪4‬البخاري‪ ،‬ك الرقاق (‪.)187 / 7‬‬
‫و‬

‫‪ 5‬رواه البخاري‪ ،‬ك الرقاق (‪.)175 / 7‬‬


‫‪ 6‬منهج اإلسالم في تزكية النفس (‪.)163 / 1‬‬

‫‪21‬‬
‫ــ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ج‪99‬ده ق‪99‬ال‪ :‬خ‪99‬رج رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه ولم‬
‫ذات يوم والن‪99‬اس يتكلم‪99‬ون في الق‪99‬در‪ ،‬ق‪99‬ال‪" :‬وكأنم‪99‬ا تفق‪99‬أ في وجه‪99‬ه حب الرم‪99‬ان من‬
‫الغضب‪ ،‬قال‪ :‬فقال لهم‪ :‬ما لكم تضربون كتاب هللا بعضه ببعض؟ بهذا هل‪99‬ك من ك‪99‬ان‬
‫قبلكم‪.1‬‬
‫وعن ثوبان ـ رضي هللا عنه ـ عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إذا ذكر أص‪99‬حابي‬
‫فامسكوا‪ ،‬وإذا ذكرت النجوم فامسكوا‪ ،‬وإذا ذكر القدر فامسكوا‪.2‬‬
‫ـ ورى أبو هريرة ـ رضي هللا عنه ـ أن النبي صلى هللا عليه وسلم ق‪99‬ال للص‪99‬حابة لم‪99‬ا‬
‫تنازعوا في القدر‪" :‬عزمت عليكم أن تنازعوا فيه‪ ،3‬وقد اختلف العلماء في توجيه هذه‬
‫األحاديث‪:‬‬
‫أ ـ فبعضهم رأى ثبوتها‪ ،‬واس‪99‬تدل به‪99‬ا على وج‪99‬وب الوق‪99‬ف على الخ‪99‬وض والكالم في‬
‫القدر‪ ،‬وقال‪ :‬إن هذا أحسن المذاهب لمن آثر الخالص والسالمة‪.4‬‬
‫ب ـ وبعضهم رد هذه األحاديث‪ ،‬وقال‪ :‬إن أسانيدها كله‪99‬ا ال تخل‪99‬و من مق‪99‬ال‪ ،‬فهي إذن‬
‫ضعيفة ال يحتج بها‪.5‬‬
‫جـ ـ والذي نرجحه أنها ثابتة‪ ،‬وأقل ما فيها أنها حس‪99‬نة‪ ،‬ألن له‪99‬ا طرق‪9‬ا ً يق‪99‬وي بعض‪99‬ها‬
‫بعضاً‪ ،‬وحينئذ فالجواب عنها كما يلي‪:‬‬
‫ــ إن المنهي عنه إنما هو الخوض فيه‪99‬ا بالباط‪99‬ل‪ ،‬وذل‪99‬ك ب‪99‬الخوض في ك‪99‬ل م‪99‬ا يتعل‪99‬ق‬
‫بالقدر‪ ،‬ومحاولة معرفة وجه الحق فيه عن طريق العقل القاص‪99‬ر‪ ،‬وال ش‪9‬ك أن ه‪9‬ذا ال‬
‫يجوز‪.‬‬
‫ــ والقدر ركن من أركان اإلسالم‪ ،‬وقد وردت فيه اآليات واألحاديث عن النبي ص‪99‬لى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬فكيف يأتي النهي عن الكالم فيه؟ إ‪ ،‬ه‪9‬ذا دلي‪9‬ل على أن النهي إنم‪9‬ا ه‪9‬و‬
‫منصب على الخوض فيه على وجه التنازع واالعتراض على هللا ـ تع‪99‬الى ـ ال وج‪99‬ه‬
‫المعرفة الصادقة من األدلة الصحيحة‪.‬‬
‫ــ وفي األحاديث نفسها ما يدل على ذلك‪ ،‬أال وهو قوله‪" :‬إذا ذكر أصحابي فامس‪99‬كوا"‬
‫فهل معناه اإلمساك عن ذكر الصحابة وفضائلهم وجهادهم؟ أم أن النهي منص‪99‬ب على‬
‫شئ معين؟‪ :‬وهو اإلمساك عن ذكرهم بالباطل‪ ،‬وعما شجر بينهم ـ رضوان هللا عليهم‬
‫جميعا ً ـ وكذلك يقال في القدر‪.‬‬
‫ــ والرسول صلى هللا عليه وسلم نهى الصحابة عن التنازع في القدر‪ ،‬وهذا ح‪99‬ق؟ ألن‬
‫داع إلى القول فيه بغ‪99‬ير الح‪99‬ق‪ ،‬وه‪99‬و منهي عن‪99‬ه‪ ،‬وإال‬
‫التنازع مظنة االختالف‪ ،‬وهذا ٍ‬
‫فالقدر من أركان اإليمان‪ ،‬وال بد من معرفة هذا الركن بالتفصيل كما جاء في الكت‪99‬اب‬
‫والسنة وأقوال السلف‪ ،‬حتى يتحقق اإليمان‪ ،‬وحتى يثمر ثماره المرجوة‪.‬‬
‫ــ وعلماء السلف الذين ذكروا القدر‪ ،‬وبحثوا فيه‪ ،‬بل ألفوا رسائل وكتب ‪9‬ا ً مس‪99‬تقلة‪ ،‬ه‪99‬ل‬
‫معناه أنهم خالفوا أمر رسول هللا ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم؟ وإذا ك‪9‬انت ت‪9‬رد حول‪9‬ه بعض‬
‫اإلشكاالت‪ ،‬أال يجب بيان الحق للناس حتى ال يضلوا؟ وحتى ال يكون‪99‬وا على بص‪99‬يرة‬
‫من أمر دينهم؟‬
‫‪ 1‬رواه ابن ماجة في المقدمة رقم ‪ ،85‬وحسنه محقق جامع األصول‪.‬‬
‫‪ 2‬مجمع الزوائد (‪ ،)202 / 7‬صححه األلباني في الصحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 3‬سلسلة األحاديث الصحيحة رقم ‪.34‬‬
‫‪ 4‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ‪.25‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه صـ‪.25‬‬

‫‪22‬‬
‫ــ أما ما ي‪9‬ؤثر عن بعض العلم‪9‬اء من أن الق‪9‬در س‪9‬ر هلل في خلق‪9‬ه‪ ،‬وه‪9‬ذا ص‪9‬حيح يجب‬
‫إدراكه لكل من يبحث في القدر‪ ،‬لكن ه‪99‬ذا محص‪99‬ور في الج‪99‬انب الخفي من الق‪99‬در‪ ،‬أال‬
‫وهو كونه ـ سبحانه وتعالى ـ أضل وهدى‪ ،‬وأمات وأحيا‪ ،‬ومن‪99‬ع وأعطى‪ ،‬وقس‪99‬م ذل‪99‬ك‬
‫بين عباده بقدرته ومشيئته النافذة‪ ،‬فمحاولة معرفة س‪99‬ر هللا في ذل‪99‬ك ال تج‪99‬وز‪ ،‬ألن هللا‬
‫حجب علمها حتى عن أقرب المقربين‪ ،‬أما جوانب الق‪99‬در األخ‪99‬رى وحكم‪99‬ه العظيم‪99‬ة‪،‬‬
‫ومراتبه ودرجاته وآثاره‪ ،‬فهذا مما يجوز الخوض في‪9‬ه‪ ،‬وبي‪99‬ان الح‪99‬ق للن‪9‬اس في‪9‬ه‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫بيانه مما يندب إلي‪99‬ه وينبغي ش‪9‬رحه وإيض‪9‬احه للن‪9‬اس‪ ،‬إذ اإليم‪99‬ان بالق‪9‬در أح‪99‬د أرك‪9‬ان‬
‫اإليمان التي ينبغي تعلمها ومعرفتها‪.1‬‬
‫سادساً‪ :‬في عهد الخلفاء الراشدين‪:‬‬
‫كان أمر العقائد في عهد الخلفاء الراشدين ـ رضوان هللا عليهم ـ على ما كان عليه في‬
‫عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من سالمة العقي‪9‬دة‪ ،‬والتس‪9‬ليم هلل ورس‪9‬وله في ك‪9‬ل‬
‫أم‪9‬ر وع‪9‬دم الج‪9‬دال والخ‪9‬وض فيم‪9‬ا خ‪9‬اض في‪9‬ه من بع‪9‬دهم‪ ،‬وبالنس‪9‬بة لعقي‪9‬دة القض‪9‬اء‬
‫والقدر‪ ،‬كان موقف الصحابة والتابعين التسليم واإليمان به على الوجه الحق‪ ،‬كما بينه‬
‫لهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ولم يكن يبدر منهم شيء إال كم‪99‬ا ب‪9‬در من بعض‪9‬هم‬
‫في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم وسرعان ما يزول االلتباس باإليمان القوي بع‪99‬د‬
‫البيان واإليضاح‪ ،2‬ومن أقوال الصحابة في القضاء والقدر‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال أبو بكر ــ رضــي هللا عنــه ــ خلق هللا الخل‪99‬ق فك‪99‬انوا في قبض‪99‬ته فق‪99‬ال لمن في‬
‫يمينه‪ :‬ادخلوا الجنة بسالم وقال لمن في يده األخرى‪ :‬ادخل‪99‬وا الن‪99‬ار وال أب‪99‬الي ف‪99‬ذهبت‬
‫إلى يوم القيامة‪.3‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ خــرج عمــر بن الخطــاب رضــي هللا عنه من المدين‪99‬ة إلى الش‪99‬ام ومع‪99‬ه جمه‪99‬ور‬
‫المهاجرين واألنص‪99‬ار ح‪99‬تى ق‪99‬دم دمش‪99‬ق فوق‪99‬ع بالش‪99‬ام ط‪99‬اعون فخ‪99‬اف عم‪99‬ر أن يق‪99‬دم‬
‫بأصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم واستش‪99‬ار الص‪99‬حابة في ذل‪99‬ك ممن مع‪99‬ه من‬
‫المهاجرين واألنصار ومن كان بالشام فقيهاً‪ ،‬فاختلفوا عليه حتى جاء عبد ال‪99‬رحمن بن‬
‫عوف فروى له عن النبي صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ ":‬إذا س‪99‬معتم ب‪99‬أرض ق‪99‬وم فال تق‪99‬دموا‬
‫علي‪99‬ه وإذا وق‪99‬ع ب‪99‬أرض وأنتم به‪99‬ا فال تخرج‪99‬وا ف‪99‬راراً‪ .‬فحم‪99‬د هللا عم‪99‬ر ثم انص‪99‬رف‬
‫فخطبهم على باب الجابية‪ ،4‬ليقص عليهم ويع‪9‬رفهم س‪9‬بب انص‪9‬رافهم فق‪9‬ال في خطبت‪9‬ه‬
‫كما انزل هللا في كتابه وأمر رسوله استفتاح الخطيب بها‪ :‬من يضلل هللا فال ه‪99‬ادي ل‪99‬ه‬
‫ومن يهدي فال مضل له‪ ،‬فقال جاثليق‪ 5‬النصارى‪ 9:‬إن هللا ال يضل أحداً مرتين أو ثالثا ً‬
‫فأنكر الصحابة ذلك عليه مرتين‪:‬‬
‫فقال عمر ألصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما يقول؟‬
‫قالوا‪ :‬يا أمير المؤمنين يزعم أن هللا ال يضل أحداً‪ .‬فقال عمر‪ :‬كذبت بل هللا خلقك وهللا‬
‫أضلك ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء هللا أما وهللا لوال عهد لك لضربت عنقك وتف‪99‬رق‬
‫الناس وما يختلف في القدر اثنان‪.6‬‬
‫‪ 1‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ‪.27‬‬
‫‪ 2‬شرح أصول واعتقاد أهل السنة لاللكائي (‪.)734 / 4‬‬
‫‪ 3‬القضاء والقدر للمحمود صـ‪.154‬‬
‫‪ 4‬الجابية قرية من أعمال دمشق‪.‬‬
‫‪ 5‬جاثليق‪ :‬لعلها رتبة دينية عند النصارى‪.‬‬
‫‪ 6‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة (‪.)726 / 4‬‬

‫‪23‬‬
‫وعن عبد هللا بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه خرج إلى الش‪99‬ام ح‪99‬تى إذا‬
‫كان بَسْرغ‪ 1‬لقيه أمراء األجناد أبو عبيدة وأصحابه‪ ،‬ف‪99‬أخبروه أن الوب‪99‬اء وق‪99‬ع بالش‪99‬ام‪.‬‬
‫قال ابن عباس‪ :‬فقال عمر‪ :‬ادع المه‪99‬اجرين األولين ف‪99‬دعاهم فاستش‪99‬ارهم ف‪99‬أخبرهم أن‬
‫الوباء قد وقع في الشام فاختلفوا في األمر‪ ،‬فقال بعض‪99‬هم‪ :‬خ‪99‬رجت ألم‪99‬ر وال ن‪99‬رى أن‬
‫ترجع عنه‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إن معك بقية الناس وأصحاب رسول هللا صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم ال ن‪99‬رى‬
‫أن تقدمهم على هذا الوباء‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬ارفعوا عني‪:‬‬
‫ثم قال‪ :‬ادع األنصار ف‪99‬دعوا ـ ف‪99‬دعوهم ـ ل‪99‬ه‪ ،‬فاستش‪99‬ارهم فس‪99‬لكوا س‪99‬بيل المه‪99‬اجرين‬
‫فاختلفوا كاختالفهم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ارتفعوا عني‬
‫ثم قال‪ :‬ادع لي من هاهنا من مشيخة قريش من مه‪99‬اجرة الفتح ف‪99‬دعوا ل‪99‬ه فاستش‪99‬ارهم‬
‫فلم يختلف عليه منهم رجالن قالوا‪ :‬نرى أن ترجع بالناس وال تقدمهم على هذا الوباء‪،‬‬
‫فأذن عمر بالناس‪ :‬إني مص‪9‬بح على ظه‪9‬ر فأص‪9‬بحوا علي‪9‬ه‪ .‬ق‪9‬ال أب‪9‬و عبي‪9‬دة‪ :‬ي‪9‬ا أم‪9‬ير‬
‫المؤمنين أفراراً من قدر هللا؟ قال‪ :‬لو غيرك قالها يا أبا عبيدة‪ :‬نعم نفر من قدر هللا عز‬
‫وجل إلى قدر هللا أرأيت لو ك‪99‬ان ل‪99‬ك إب‪99‬ل فهبطت به‪99‬ا وادي‪9‬ا ً ل‪99‬ه ع‪99‬دوتان‪" 2‬اح‪99‬داهما"‬
‫خصبة واألخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر هللا؟ وإن رعيت الجدب‪99‬ة‬
‫رعيتها بقدر هللا؟‬
‫قال‪ :‬فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيب ‪9‬ا ً في بعض حاجت‪99‬ه فق‪99‬ال‪ :‬إن عن‪99‬دي من‬
‫هذا علماً‪ ،‬سمعت رسول هللا صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم يق‪99‬ول‪ ":‬إذا س‪99‬معتم ب‪99‬ه ب‪99‬أرض فال‬
‫تق‪99‬دموا علي‪99‬ه وإذا وق‪99‬ع ب‪99‬أرض وأنتم به‪99‬ا فال تخرج‪99‬وا ف‪99‬راراً من‪99‬ه‪ ،‬ق‪99‬ال فحم‪99‬د هللا ثم‬
‫انصرف‪.3‬‬
‫وقال أبو عثمان النهدي سمعت عمر بن الخطاب ـ وهو يطوف ب‪99‬البيت ـ يق‪99‬ول‪ :‬اللهم‬
‫إن كنت كتبتني في السعادة فاثبتني فيه‪99‬ا وإن كنت كتبت‪99‬ني على الش‪99‬قوة ف‪99‬امحني منه‪99‬ا‬
‫واثبتني في السعادة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب‪.4‬‬
‫‪ 3‬ـ علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪:‬‬
‫خطب علي بن أبي طالب فقال‪ :‬ما يمنعه أن يقوم ـ فيخض‪99‬ب ه‪99‬ذه من ه‪99‬ذا‪ .‬ق‪99‬الوا‪ :‬ي‪99‬ا‬
‫أمير المؤمنين أما إذ عرفته فأرنا نبير عترته فقال‪ :‬أنشد هللا رجالً قتل لي غير قاتلي‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فأوصنا قال‪ :‬أكلكم إلى م‪99‬ا وكلكم هللا ورس‪99‬وله إلي‪99‬ه‪ .‬ق‪99‬الوا‪ :‬فم‪99‬ا تق‪99‬ول لرب‪99‬ك إذا‬
‫قدمت عليه؟ قال‪ :‬أقول كنت عليهم شهيداً م‪99‬ادمت فيهم ح‪99‬تى توفيت‪99‬ني وهم عب‪99‬ادك إن‬
‫شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم‪.5‬‬
‫وقال‪ :‬إن أحدكم لن يخلص اإليمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينا ً غ‪9‬ير ظن أن م‪9‬ا أص‪99‬ابه‬
‫لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله‪ .6‬وق‪99‬ال علي بن أبي ط‪99‬الب‬

‫‪ 1‬سرغ‪ :‬قرية بوادي تبوك في أرض الجزيرة‪.‬‬


‫‪ 2‬ثنية عدوى‪ :‬وهو جانب من الوادي وحافته‪.‬‬
‫‪ 3‬البخاري رقم ‪.5730 ، 5729‬‬
‫‪ 4‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (‪.)735 /4‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه (‪.)736 /4‬‬
‫‪ 6‬المصدر نفسه (‪.)738 / 4‬‬

‫‪24‬‬
‫رضي هللا عن‪99‬ه‪ :‬إن الق‪99‬در ال ي‪99‬رد القض‪99‬اء ولكن ال‪99‬دعاء ي‪99‬رد القض‪99‬اء‪ ،1‬ق‪99‬ال هللا لق‪99‬وم‬
‫ي فِي ْال َحيَ‪99‬اةَ ال‪ُّ 9‬د ْنيَا َو َمتَّ ْعنَ‪99‬اهُ ْم إِلَى ِحي ٍن"‬ ‫الخ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬ز ِ‬ ‫اب ِ‬ ‫ي‪99‬ونس‪ 9":‬لَ َّمآ آ َمنُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا َك َش‪ْ 9‬فنَا َع ْنهُ ْم َع‪َ 9‬ذ َ‬
‫(يونس‪ ،‬آية ‪.)98 :‬‬
‫‪ 4‬ـ عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪:‬‬
‫قال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪ :‬ال وهللا ال يطعم رجل طعم اإليمان حتى ي‪99‬ؤمن‬
‫بالقدر ويقر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت‪.2‬‬
‫وقال رضي هللا عن‪99‬ه‪ :‬أص‪99‬دق الح‪99‬ديث كت‪99‬اب هللا وأحس‪99‬ن اله‪99‬دي ه‪99‬دي محم‪99‬د‪ ،‬وش‪ّ 9‬ر‬
‫األمور محدثاتها‪ ،‬ف‪99‬اتبعوا وال تبت‪99‬دعوا‪ ،‬ف‪99‬إن الش‪99‬قي في بطن أم‪99‬ه والس‪99‬عيد من وع‪99‬ظ‬
‫‪3‬‬
‫بغيره‬
‫‪ 5‬ـ عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما‪:‬‬
‫عن ابن ط‪99‬اووس عن أبي‪99‬ه ق‪99‬ال‪ :‬أش‪99‬هد لس‪99‬معت ابن عب‪99‬اس يق‪99‬ول‪ :‬العج‪99‬ز والكيس‬
‫بقدر‪4‬قال ابن عباس‪ :‬إن هللا عز وجل كان على عرشه قبل أن يخل‪99‬ق ش‪99‬يئا ً فخل‪99‬ق القلم‬
‫فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه‪ ،5‬وقال ابن‬
‫عباس‪ :‬القدر نظام التوحيد فمن وحد هللا ولم ي‪9‬ؤمن بالق‪9‬در ك‪9‬ان كف‪99‬ره بالقض‪9‬اء نقض‪9‬ا ً‬
‫للتوحيد‪ ،‬ومن وحد هللا وآمن بالقدر كان العروة الوثقى ال انفصام لها‪.6‬‬
‫وعن عطاء بن أبي رباح قال‪ :‬كنت عند ابن عباس فجاءه رج‪9‬ل فق‪9‬ال‪ :‬ي‪9‬ا أب‪99‬ا العب‪9‬اس‬
‫أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني الضاللة والردى أال تراه ق‪9‬د ظلم‪9‬ني؟ ق‪9‬ال‪ :‬إن‬
‫الهدى إن كان شيئا ً لك عنده فمنعكاه فق‪99‬د ظلم‪99‬ك وإن ك‪99‬ان ه‪99‬و ل‪99‬ه يؤتي‪99‬ه من يش‪99‬اء فلم‬
‫يظلمك‪ .‬قم ال تجالسني‪ .7‬عن ابن عب‪99‬اس ق‪99‬ال‪ :‬ك‪99‬ان الهده‪99‬د ي‪99‬دل س‪99‬ليمان على الم‪99‬اء‪،‬‬
‫وقلت له‪ :‬كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ عليه التراب؟ فقال‪ :‬أعضك هللا بهن أبيك‪،‬‬
‫ألم يكن إذا جاء القضاء ذهب البصر‪.8‬‬
‫‪ 6‬ـ عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما‪:‬‬
‫عن يحي بن يعمر قال‪ :‬قلت البن عمر‪ :‬إنا نسافر فنلقي قوما ً يقولون‪ :‬ال قدر‪ ،‬قال‪ :‬إذا‬
‫لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء‪ ،‬وهم براء ـ ثالث مرات‪.9‬‬
‫‪ 7‬ـ أبي بن كعب رضي هللا عنه‪:‬‬
‫عن ابن الديلمي قال‪ :‬أتيت أبي بن كعب فقلت‪ :‬أبا المنذر فإن‪99‬ه وق‪99‬ع في قل‪99‬بي ش‪99‬ئ من‬
‫هذا القدر فحدثني بشئ لعل هللا أن يذهبه عني‪ ،‬فقال‪ :‬إن هللا عز وج‪99‬ل ل‪99‬و ع‪99‬ذب أه‪99‬ل‬
‫سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم‪ ،‬ولو رحمهم ك‪99‬انت رحمت‪99‬ه لهم خ‪99‬يراً لهم‬
‫من أعمالهم‪ ،‬ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ً في سبيل هللا م‪99‬ا قب‪99‬ل من‪99‬ك ح‪99‬تى ت‪99‬ؤمن بالق‪99‬در‪،‬‬
‫وتعلم أن ما أص‪9‬ابك لم يكن ليخطئ‪9‬ك وأن م‪9‬ا أخط‪9‬أك لم يكن ليص‪9‬يبك‪ ،‬وإن مت على‬

‫‪ 1‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (‪.)737 /4‬‬


‫المصدر نفسه (‪.)738 /4‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)739 / 4‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪)738 / 4‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)741 /4‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه (‪.)742 / 4‬‬
‫‪ 6‬المصدر نفسه (‪.)742 / 4‬‬
‫‪ 7‬المصدر نفسه (‪.)743 / 4‬‬
‫‪ 8‬المصدر نفسه (‪.)743 / 4‬‬
‫‪ 9‬المصدر نفسه (‪.)744 / 4‬‬

‫‪25‬‬
‫غير ذلك دخلت النار‪ .‬قال‪ :‬ثم أتيت ابن مسعود فح‪99‬دثني بمث‪99‬ل ذل‪99‬ك ثم أتيت ابن ث‪99‬ابت‬
‫فحدثني بمثل ذلك عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪.1‬‬
‫‪ 8‬ـ عبادة بن الصامت رضي هللا عنه‪:‬‬
‫عن عبادة قال له ابنه عبد الرحمن‪ :‬يا عب‪99‬ادة أوص‪99‬ني‪ ،‬ق‪99‬ال‪ :‬أجلس‪99‬وني‪ ،‬فأجلس‪99‬وه‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬يا بني اتق هللا ولن تتق هللا حتى تؤمن بالقدر ولن تؤمن بالقدر حتى تؤمن بالق‪99‬در‬
‫خيره وشره‪ ،‬وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك‪ ،‬وما أخطأك لم يكن ليصيبك‪.2‬‬
‫‪ 9‬ـ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي هللا عنهما‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫قال الحسن بن علي‪ :‬قضي القضاء وجف القلم وأمور بقضاء في كتاب قد خال ‪.‬‬
‫‪10‬ـ عمرو بن العاص رضي هللا عنه‪:‬‬
‫قال عمرو بن العاص‪ :‬انتهى عجبي إلى ثالث‪ :‬المرء يفر من القدر وهو القيه وي‪99‬رى‬
‫في عين أخيه القذا فيعيبها ويك‪99‬ون في عين‪99‬ه مث‪99‬ل الج‪99‬ذع فال يعيبه‪99‬ا ويك‪99‬ون في دابت‪99‬ه‬
‫"الصعر" ويقومها جهده ويكون في نفسه الصعر‪ ،‬فال يقومها‪.4‬‬
‫‪ 11‬ـ أبو الدرداء رضي هللا عنه‪:‬‬
‫قال أبو الدرداء‪ :‬ذروة اإليمان أربع‪ :‬الصبر للحكم والرضا بالقدر واإلخالص للتوك‪99‬ل‬
‫واإلستسالم للرب‪.5‬‬
‫والب‪99‬د هن‪99‬ا من البي‪99‬ان أن تقس‪99‬يم الق‪99‬در إلى خ‪99‬ير وش‪99‬ر‪ ،‬إنم‪99‬ا ه‪99‬و بإض‪99‬افته إلى الن‪99‬اس‬
‫والمخلوقات‪ ،‬أما بالنسبة هلل عز وجل‪ ،‬فالقدر كله خير وحكمة وع‪99‬دل ورحم‪99‬ة من هللا‬
‫سبحانه الذي قضى بتقدير المصائب والباليا وكل ما يكره‪99‬ه اإلنس‪99‬ان لحكم كث‪99‬يرة من‬
‫أبرزها‪:‬‬
‫ــ االبتالء لعباده‪ :‬واختبارهم وتمحيص اإليمان في قل‪9‬وبهم وزي‪9‬ادة درج‪9‬اتهم وث‪9‬وابهم‬
‫إذا صبروا‪ ،‬قال تعالى‪َ " :‬ونَ ْبلُو ُكم‪ 9‬بِال َّش ِّر َو ْالخَ ي ِْر فِ ْتنَةً َوإِلَ ْينَا تُرْ َجعُونَ " (األنبياء ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫ب النَّاسُ أَن يُ ْت َر ُك‪99‬وا أَن‬ ‫‪ ،)35‬والمقصود بالفتن‪99‬ة هن‪99‬ا االختب‪99‬ار وق‪99‬ال س‪99‬بحانه‪" :‬أَ َح ِس‪َ 9‬‬
‫ص‪َ 9999‬دقُوا‬‫يَقُولُ‪9999‬وا آ َمنَّا َوهُ ْم اَل يُ ْفتَنُ‪9999‬ونَ * َولَقَ‪ْ 9999‬د فَتَنَّا الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم فَلَيَ ْعلَ َم َّن هَّللا ُ الَّ ِذينَ َ‬
‫َولَيَ ْعلَ َم َّن ْال َكا ِذبِينَ " (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ 2 :‬ـ ‪.)3‬‬
‫ــ التربيــة والتــأديب‪ :‬والج‪99‬زاء المعج‪99‬ل لكي يث‪99‬وب اإلنس‪99‬ان إلى رش‪99‬ده‪ ،‬ويرج‪99‬ع عن‬
‫ق بِ ِهم َّما َك‪99‬انُ ْ‬
‫وا بِ‪ِ 9‬ه يَ ْس ‪9‬تَه ِْز ُؤونَ "‬ ‫َات َم‪99‬ا َع ِملُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا َو َح‪ 9‬ا َ‬ ‫خطئه‪ ،6‬قال تعالى‪" :‬فَأ َ َ‬
‫صابَهُ ْم َسيِّئ ُ‬
‫(النحل ‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬
‫وعن أنس رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إذا أراد هللا بعبده‬
‫خيراً عجل له العقوبة في الدنيا‪ ،‬وإذا أراد هللا بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى ي‪99‬وافى‬
‫به يوم القيامة‪.7‬‬
‫ما يصيب اإلنسان إن كان يسره فه‪99‬و نعم‪9‬ة بين‪99‬ه‪ ،‬وإن يس‪9‬وؤه فه‪9‬و نعم‪99‬ة‪ ،‬ألن‪99‬ه يكف‪9‬ر‬
‫خطاياه‪ ،‬ويثاب عليه بالصبر ومن جه‪99‬ة إن في‪99‬ه حكم‪99‬ة ورحم‪99‬ة ال يعلمه‪99‬ا العب‪99‬د‪ ،‬ق‪99‬ال‬

‫‪ 1‬شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (‪.)745 / 4‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)746 / 4‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)746 / 4‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)747 /4‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه (‪.)749 /4‬‬
‫‪ 6‬منهج اإلسالم في تزكية النفس (‪.)152 / 1‬‬
‫‪ 7‬سنن الترمذي رقم ‪ 2396‬حديث حسن غريب‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫َس‪9‬ى أَن تُ ِحب ْ‬
‫ُّوا َش‪ْ 9‬يئًا َوهُ‪َ 9‬و َش‪ٌّ 9‬ر لكم"‬ ‫تعالى‪":‬و َع َسى أَن تَ ْك َرهُ ْ‬
‫وا َش ْيئًا َوهُ َو خَ ْي‪ٌ 9‬ر لَّ ُك ْم َوع َ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫(البقرة‪ ،‬آية ‪ .)216 :‬وكلتا النعمتين تحتاج م‪99‬ع الش‪99‬كر إلى ص‪99‬بر ‪ .‬والمقص‪99‬ود أن هللا‬
‫تعالى منعم بهذا كله‪ ،‬وإن كان ال يظهر في االبتداء ألكثر الناس‪ ،‬فإن هللا يعلم وأنتم ال‬
‫تعلمون‪.2‬‬
‫ك" (النساء‪،‬‬‫ك ِمن َسيِّئَ ٍة فَ ِمن نَّ ْف ِس َ‬ ‫صابَكَ ِم ْن َح َسنَ ٍة فَ ِمنَ هّللا ِ َو َما أَ َ‬
‫صابَ َ‬ ‫وفي بيان قوله تعالى‪َّ ":‬ما أَ َ‬
‫آية ‪ .)79 :‬نالحظ‪ :‬ف ّرق سبحانه وتعالى بين الحس‪99‬نات ال‪99‬تي هي النعم‪ ،‬وبين الس‪99‬يئات‬
‫التي هي المصائب‪ ،‬فجعل ه‪99‬ذه من هللا وه‪99‬ذه من نفس اإلنس‪99‬ان‪ ،‬ألن الحس‪99‬نة مض‪99‬افة‬
‫إلى هللا‪ ،‬إذ هو أحسن به‪99‬ا من ك‪99‬ل وج‪99‬ه‪ ..‬أم‪99‬ا الس‪99‬يئة فه‪99‬و إنم‪99‬ا يخلقه‪99‬ا لحكم‪99‬ة‪ ،‬وهي‬
‫باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب ال يفعل سيئة قط بل فعله كله حسن وخير‪.3‬‬

‫‪ 1‬مجموع الفتاوى (‪ 209 /8‬ـ ‪.)210‬‬


‫‪ 2‬منهج اإلسالم في تزكية النفس (‪.)153 /1‬‬
‫وفي بيان قوله تعالى‪ ":‬مَّا‬

‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)154 /1‬‬

‫‪27‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مراتب القدر‪:‬على أربع مراتب‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬مرتبةـ العلم‪:‬‬
‫اإليمان بعلم هللا عز وجل المحيط بكل شيء من الموجودات والمع‪99‬دومات والممكن‪9‬ات‬
‫والمستحيالت‪ ،‬فعلم ما كان وما يكون وم‪99‬الم يكن ل‪99‬و ك‪99‬ان كي‪99‬ف يك‪99‬ون‪ ،‬وأن‪99‬ه علم م‪99‬ا‬
‫الخلق عالمون قبل أن يخلقهم‪ ،‬وعلم أرزاقهم وآج‪99‬الهم وأح‪99‬والهم وأعم‪99‬الهم في جمي‪99‬ع‬
‫حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن ه‪99‬و منهم من أه‪99‬ل الجن‪99‬ة ومن ه‪99‬و منهم‬
‫من أهل النار من قبل أن يخلقهم ومن قبل أن يخلق الجنة والنار‪ ،‬علم دق ذلك وجليل‪99‬ه‬
‫وكثيره وقليله وظاهره وباطنه وسره وعالنيته ومبدأه ومنتاه‪ ،‬كل ذلك بعلمه الذي هو‬
‫صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة عاّل م الغيوب‪.1‬‬
‫واألدلة من القرآن الكريم كثيرة منها‪:‬‬
‫ب الَ يَ ْعلَ ُمهَا إِالَّ هُ َو َويَ ْعلَ ُم َما فِي ْالبَ ِّر َو ْالبَحْ ِر َو َم‪99‬ا‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ":‬و ِعن َدهُ َمفَاتِ ُح ْال َغ ْي ِ‬
‫ض َوالَ َر ْ‬
‫س إِالَّ فِي‬ ‫ب َوالَ يَ‪99‬ابِ ٍ‬ ‫ط ٍ‬ ‫ت األَرْ ِ‬ ‫تَ ْسقُطُ ِمن َو َرقَ‪ٍ 9‬ة إِالَّ يَ ْعلَ ُمهَ‪99‬ا َوالَ َحبَّ ٍة فِي ظُلُ َم‪99‬ا ِ‬
‫ب ُّمبِي ٍن" (األنعام‪ ،‬آية ‪.)59 :‬‬ ‫ِكتَا ٍ‬
‫ومفاتح الغيب فس‪99‬رها رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم بأنه‪99‬ا خمس ال يعلمه‪99‬ا إال هللا‬
‫ْث َويَ ْعلَ ُم َم‪99‬ا فِي‬ ‫‪9‬ز ُل ْال َغي َ‬
‫الس‪9‬ا َع ِة َويُنَ‪ِّ 9‬‬‫وهي المذكورة في قوله تعالى‪ ":‬إِ َّن هَّللا َ ِعن‪َ 9‬دهُ ِع ْل ُم َّ‬
‫وت إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم‬
‫ض تَ ُم ُ‬ ‫ي أَرْ ٍ‬ ‫اأْل َرْ َح ِام َو َما تَ ْد ِري نَ ْفسٌ َّما َذا تَ ْك ِسبُ َغدًا َو َما تَ ْد ِري نَ ْفسٌ بِأ َ ِّ‬
‫خَ بِيرٌ" (لقمان‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬
‫واآلية دلت على أن هللا ـ س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى ـ محي‪99‬ط علم‪99‬ه بجمي‪99‬ع الموج‪99‬ودات بريه‪99‬ا‬
‫وبحريها وما تسقط من ورقة إال يعلمه‪99‬ا فه‪99‬و يعلم حرك‪99‬ة الجم‪99‬ادات‪ ،‬ومن ب‪99‬اب أولى‬
‫غيرها من الحيوانات وبني اإلنسان المكلفين‪ ،2‬وقد أحاط علمه ـ سبحانه وتعالى ـ بكل‬
‫حبة كائنة في ظلمات األرض من األمكن‪99‬ة المظلم‪99‬ة أو النب‪99‬ات ال‪99‬ذي في بطن األرض‬
‫قبل أن يظهر‪. 3‬‬
‫الش ‪9‬هَا َد ِة" (الحش‪99‬ر‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ب َو َّ‬ ‫‪ 2‬ـ وقوله تعالى‪ ":‬هُ َو هَّللا ُ الَّ ِذي اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو َع‪99‬الِ ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫‪ )22‬أي‪ :‬السر والعالنية‪ ،‬أو الدنيا واآلخرة‪ ،‬أو المعدوم والموجود‪.4‬‬
‫‪ 3‬ـ وقال تعالى‪ ":‬لِتَ ْعلَ ُموا أَ َّن هَّللا َ َعلَى ُك‪99‬لِّ َش‪ْ 9‬ي ٍء قَ‪ِ 9‬دي ٌر َوأَ َّن هَّللا َ قَ‪ْ 9‬د أَ َح‪ 9‬اطَ بِ ُك‪99‬لِّ َش‪ْ 9‬ي ٍء‬
‫ِع ْل ًما" (الطالق‪ ،‬آية ‪ ،)12 :‬فال يخرج عن علمه شيء منها كائن‪9‬ا ً م‪99‬ا ك‪99‬ان‪ ،5‬فإحاطت‪99‬ه‬
‫سبحانه بكل شيء علما ً يدل على ثبوت صفة العلم هلل المتصف به أزالً والش‪99‬امل لك‪99‬ل‬
‫شيء‪.6‬‬
‫‪ 4‬ـ وقال تعالى‪ ":‬إِنَّ َما إِلَهُ ُك ُم هَّللا ُ الَّ ِذي اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو َو ِس َع ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْل ًما" (ط‪99‬ه‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫‪.)98‬‬

‫‪ 1‬معارج القبول للحافظ الحكمي (‪.)920 / 1‬‬


‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪.)260 /3‬‬
‫‪ 3‬فتح البيان صديق خان (‪ ،)172 /3‬القضاء والقدر للمحمود صـ ‪.56‬‬
‫‪ 4‬تفسير النسقي (‪.)181 /5‬‬
‫‪ 5‬فتح البيان (‪ ،)474 /9‬القضاء والقدر المحمود صـ ‪.56‬‬
‫‪6‬القضاء والقدر المحمود صـ ‪.56‬‬

‫‪28‬‬
‫فبعد أن أحرق موسى ـ عليه السالم ـ العجل‪ ،‬ونسفه في البح‪99‬ر‪ ،‬فبط‪99‬ل أن يك‪99‬ون إله ‪9‬ا ً‬
‫كما زعموا‪ ،‬فلما فعل ذلك وت‪99‬بين لهم بطالن‪99‬ه‪ ،‬أخ‪99‬برهم بمن يس‪99‬تحق العب‪99‬ادة وه‪99‬و هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬المتوحد باأللوهية‪ ،‬والذي قد أحاط علمه بجميع األشياء‪.1‬‬
‫ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِتَا ُل َوهُ َو ُكرْ هٌ لَّ ُك ْم َو َع َسى أَن تَ ْك َرهُ ْ‬
‫وا َش ْيئًا َوهُ َو خَ ْي ‪ٌ 9‬ر‬ ‫‪ 5‬ـ وقال تعالى‪ُ ":‬كتِ َ‬
‫ُّوا َش ‪ْ 9‬يئًا َوهُ ‪َ 9‬و َش ‪9‬رٌّ لَّ ُك ْم َوهّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَنتُ ْم الَتَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ " (البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫َس ‪9‬ى أَن تُ ِحب ْ‬
‫لَّ ُك ْم َوع َ‬
‫‪ .)216‬فعواقب األمور ال يعلمها إال هللا‪.2‬‬
‫‪ 6‬ـــ وقــال تعــالى‪ :‬مجيب‪99‬ا ً المالئك‪99‬ة ـ بع‪99‬د اخب‪99‬ارهم أن‪99‬ه جاع‪99‬ل في األرض خليف‪99‬ة‬
‫واستفهامهم ـ قال تعالى‪ ":‬إِنِّي أَ ْعلَ ُم َما الَ تَ ْعلَ ُمونَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪ )30 :‬أي‪ :‬أنه س‪99‬يكون‬
‫في تلك الخليقة أنبياء‪ ،‬ورس‪99‬ل‪ ،‬وق‪99‬وم ص‪99‬الحون‪ ،‬وس‪99‬اكنو الجنة‪ ،3‬فعلم‪99‬ه محي‪99‬ط بك‪99‬ل‬
‫شيء‪.‬‬

‫ت َواَل فِي اأْل َرْ ِ‬


‫ض‬ ‫الس‪َ 99‬ما َوا ِ‬ ‫ب اَل يَ ْع ُزبُ َع ْنهُ ِم ْثقَا ُل َذ َّر ٍة فِي َّ‬ ‫‪ 7‬ـ وقال تعالى‪ ":‬عَالِ ِم ْال َغ ْي ِ‬
‫ك َواَل أَ ْكبَرُ" (سبأ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬ ‫َواَل أَصْ َغ ُر ِمن َذلِ َ‬
‫الجمي‪99‬ع من‪99‬درج تحت علم‪99‬ه فال يخفى علي‪99‬ه ش‪99‬يء‪ ،‬فالعظ‪99‬ام وإن تالش‪99‬ت وتف‪99‬رقت‬
‫وتمزقت فهو عالم أين ذهبت؟ وأين تفرقت؟ ثم يُعي ُدهَا كم‪99‬ا ب‪99‬دأها أ ّول م‪9‬رّة فإن‪99‬ه بك‪99‬ل‬
‫شيء عليم‪.4‬‬
‫ض َوإِ ْذ أَنتُ ْم أَ ِجنَّةٌ فِي بُطُ ِ‬
‫‪99‬ون‬ ‫نش‪99‬أ َ ُكم ِّمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫‪99‬و أَ ْعلَ ُم بِ ُك ْم إِ ْذ أَ َ‬
‫‪ 8‬ــــ وقـــال تعـــالى‪ ":‬هُ َ‬
‫أُ َّمهَاتِ ُك ْم فَاَل تُ َز ُّكوا أَنفُ َس ُك ْم هُ َو أَ ْعلَ ُم بِ َم ِن اتَّقَى" (النجم‪ ،‬آية ‪ .)32 :‬أي‪ :‬ه‪99‬و بص‪99‬ير بكم‬
‫عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستص‪99‬در عنكم وتق‪99‬ع منكم‪ ،‬حين أنش‪99‬أ أب‪99‬اكم آدم‬
‫‪9‬ذرّ‪ ،‬ثم قس‪99‬مهم ف‪99‬ريقين فريق‪9‬ا ً للجن‪99‬ة‬ ‫من األرض‪ ،‬واستخرج ذريته من صُلبه أمث‪99‬ال ال‪ّ 9‬‬
‫وفريقا ً للس‪99‬عير‪ ،‬وك‪99‬ذا قول‪99‬ه" َوإِ ْذ أَنتُ ْم أَ ِجنَّةٌ ِفي بُطُ‪99‬و ِن أمه‪99‬اتكم" ق‪99‬د كتب المل‪99‬ك ال‪99‬ذي‬
‫يُ َو ُّك ُل به‪ :‬رزقه‪ ،‬وأجله‪ ،‬وعمله‪ ،‬وشقي أم سعيد‪.5‬‬
‫ور ْال َع‪99‬الَ ِمينَ " (العنكب‪99‬وت‪ ،‬آي‪99‬ة ‪.)10 :‬‬ ‫ص ُد ِ‬ ‫ْس هَّللا ُ بِأ َ ْعلَ َم بِ َما فِي ُ‬ ‫‪ 9‬ـ وقال تعالى‪ ":‬أَ َولَي َ‬
‫أي‪ :‬أوليس هللا بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم وإن أظهروا لكم الموافقة‪6‬؟‬
‫صى ُك َّل َش ْي ٍء َع َددًا" (الجن‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬ ‫‪ 10‬ـ وقال تعالى‪َ ":‬وأَ َحاطَ بِ َما لَ َد ْي ِه ْم َوأَحْ َ‬
‫ـ أدلة هذه المرتبةـ من السنة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪ :‬قال‪ :‬سئل النبي صلى هللا عليه وس‪99‬لم عن أوالد‬
‫المشركين فقال‪ :‬هللا أعلم بما كانوا عاملين‪.7‬‬
‫‪ 2‬ـ وعن أبي هريرة رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬قال رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬م‪99‬ا‬
‫من مولود إال يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه أو ينصرانه‪ ،‬كما تنتجون البهيم‪99‬ة ه‪99‬ل‬
‫تجدون فيها من جدعاء‪ ،‬ح‪9‬تى تكون‪99‬وا أنتم تج‪99‬دعونها‪ ،‬ق‪9‬الوا‪ :‬ي‪99‬ا رس‪99‬ول‪ :‬أف‪99‬رأيت من‬
‫يموت وهو صغير؟ ق‪99‬ال‪ :‬هللا أعلم بم‪99‬ا ك‪99‬انوا ع‪99‬املين‪ .‬والش‪99‬اهد قول‪99‬ه‪ " :‬هللا اعلم بم‪99‬ا‬
‫‪ 1‬تفسير السعدي (‪.)185 /5‬‬
‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪.)368 /1‬‬
‫‪ 3‬تفسير ابن كثير (‪ ،)368 /1‬القضاء والقدر المحمود صـ ‪.57‬‬
‫‪ 4‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)605 /3‬‬
‫‪ 5‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)318 /4‬‬
‫‪ 6‬لمصدر نفسه (‪.)457 /3‬‬
‫‪ 7‬البخاري رقم ‪.2660‬‬

‫‪29‬‬
‫كانوا عاملين‪ "1‬بالنسبة ألوالد المشركين والمسلمين‪ ،‬ومعنى ذلك أنهم لو عاش‪99‬وا ف‪99‬إن‬
‫هللا عالم بأعمالهم خيرها وشرها‪ ،‬فاهلل يعلم ما كان‪ ،‬ومالم يكن لو كان كيف يكون‪.2‬‬
‫‪ 3‬ـ وعن علي ـ رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬كان رسول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم ذات ي‪99‬وم‬
‫جالساً‪ ،‬وفي يده عود ينكت به‪ ،‬فرفع رأسه فقال‪ :‬ما منكم من نفس إال وقد ُعلم منزله‪99‬ا‬
‫من الجنة والنار‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬فلم نعمل؟ أفال نتكل؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬اعملوا فكل ميسر‬
‫ق بِ ْال ُح ْسنَى‪ ،"3‬إلى قوله " فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ‬ ‫لما خلق له ثم قرأ " فَأ َ َّما َمن أَ ْعطَى َواتَّقَى * َو َ‬
‫ص َّد َ‬
‫لِ ْل ُعس َْرى" (الليل‪ ،‬آية ‪ 5 :‬ـ ‪ ،)10‬والشاهد قوله‪ ":‬ما منكم من نفس إال وقد علم منزلها‬
‫من الجنة والنار" فاهلل علم أه‪9‬ل الجن‪9‬ة وأه‪9‬ل الن‪9‬ار بعلم‪9‬ه الق‪9‬ديم‪ ،‬فالح‪9‬ديث ي‪9‬دل على‬
‫ثبوت العلم الكامل هلل تعالى‪.4‬‬
‫‪ 4‬ـ وعن عائشة أم المؤمنينـ أن نبي هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬اللهم رب جبرائيل‬
‫وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬ف‪99‬اطر الس‪99‬ماوات واألرض ع‪99‬الم الغيب والش‪99‬هادة أنت تحكم بين‬
‫عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‪ ،‬أهدني لما اختلف فيه من الح‪99‬ق بإذن‪99‬ك إن‪99‬ك ته‪99‬دي من‬
‫تشاءإلى صراط مستقيم‪.5‬‬
‫‪ 5‬ـ وقال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬بسم هللا الذي ال يضر مع اسمه ش‪99‬يء في األرض وال‬
‫في السماء وهو السميع العليم‪ ،6‬فأس‪99‬م هللا "العليم"‪ 9‬يقتض‪99‬ي أن‪99‬ه س‪99‬بحانه ع‪99‬الم ب‪99‬أرزاق‬
‫العباد وآجالهم وأعم‪99‬الهم وجمي‪99‬ع حرك‪99‬اتهم وس‪99‬كناتهم والش‪99‬قي منهم والس‪99‬عيد قب‪99‬ل أن‬
‫يخلقهم‪.7‬‬
‫ثانياً‪ :‬مرتبة الكتابة‪:‬‬
‫وهي أن هللا تعالى ـ كتب مقادير المخلوقات‪ ،‬والمقصود‪ 9‬بهذه الكتابة الكتابة في الل‪99‬وح‬
‫المحفوظ‪ ،‬وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه هللا من ش‪99‬يء‪ ،‬فك‪99‬ل م‪99‬ا ج‪99‬رى ويج‪99‬ري فه‪99‬و‬
‫مكتوب عند هللا وأدلة هذه المرتبة كثيرة نذكر منها‪:‬‬
‫ب ِمن َش‪ْ 9‬ي ٍء ثُ َّم إِلَى َربِّ ِه ْم يُحْ َش‪9‬رُونَ " (األنع‪9‬ام‪،‬‬ ‫َّطنَ‪9‬ا فِي ال ِكتَ‪9‬ا ِ‬ ‫‪ 1‬ـ قولــه تعــالى‪َّ ":‬ما فَر ْ‬
‫آية ‪ ،)38 :‬على أحد الوجهين‪ ،‬وهو أن المقص‪99‬ود بالكت‪99‬اب هن‪99‬ا الل‪99‬وح المحف‪99‬وظ‪ ،‬فاهلل‬
‫أثبت فيه جميع الحوادث‪ ،‬فكل ما يجري مكتوب عند هللا في اللوح المحفوظ‪.8‬‬
‫ي‬ ‫ض يَ ِرثُهَ‪99‬ا ِعبَ‪99‬ا ِد َ‬ ‫‪9‬ور ِمن بَ ْع‪ِ 9‬د ال‪ِّ 9‬ذ ْك ِر أَ َّن اأْل َرْ َ‬
‫‪ 2‬ــ وقــال تعــالى‪َ ":‬ولَقَ ْد َكتَ ْبنَ‪99‬ا فِي ال َّزبُ‪ِ 9‬‬
‫الصَّالِحُونَ " (األنبياء‪ ،‬آية ‪ .)105 :‬فأخبر ـ تعالى ـ أن هذا مكتوب مسطور في الكتب‬
‫الشرعية والقدرية فهو كائن ال محالة‪ .9‬واآلية دال‪99‬ة على مرتب‪9‬ة الكتاب‪99‬ة عن‪99‬د من فس‪99‬ر‬
‫الزبور بالكتب بعد الذكر‪ ،‬والذكر أ ُّم الكتاب عند هللا‪ ،‬وهو اللوح المحفوظ‪.10‬‬
‫ق لَ َم َّس‪ُ 9‬ك ْم فِي َم‪99‬ا أَ َخ‪ْ 9‬ذتُ ْم‬
‫‪ 3‬ـ وقال تعالى في قص‪99‬ة أس‪99‬رى ب‪99‬در‪ ":‬لَّوْ الَ ِكتَ‪99‬ابٌ ِّمنَ هّللا ِ َس‪9‬بَ َ‬
‫َع َذابٌ َع ِظي ٌم" (األنفال‪ ،‬آية ‪ ،)68 :‬أي‪ :‬لوال كتاب سبق به القضاء عند هللا أنه قد أحل‬

‫‪ 1‬البخاري رقم ‪.2658‬‬


‫‪ 2‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.58‬‬
‫‪ 3‬مسلم رقم ‪.2647‬‬
‫‪ 4‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.59‬‬
‫‪ 5‬مسلم‪ ،‬ك الصالة رقم ‪.770‬‬
‫‪ 6‬صحيح ابن ماجة لأللباني (‪.)332 / 2‬‬
‫‪ 7‬المباحث العقدية‪ ،‬علي الكيالني (‪.)880 / 2‬‬
‫‪ 8‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.60‬‬
‫‪ 9‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)177 / 3‬‬
‫‪ 10‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.60‬‬

‫‪30‬‬
‫لكم الغنائم وأن هللا رفع عن أمة محمد ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم لمس‪99‬كم الع‪99‬ذاب‪ ،1‬فاآلي‪99‬ة‬
‫دليل على الكتاب السابق‪.2‬‬
‫ب إِ َّن‬‫ك فِي ِكتَ‪9‬ا ٍ‬ ‫الس‪َ 9‬ماء َواأْل َرْ ِ‬
‫ض إِ َّن َذلِ‪َ 9‬‬ ‫‪ 4‬ـ وقال تعــالى‪ ":‬أَلَ ْم تَ ْعلَ ْم أَ َّن هَّللا َ يَ ْعلَ ُم َم‪9‬ا فِي َّ‬
‫ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِسيرٌ" (الحج‪ ،‬آية ‪ .)70 :‬وهذه اآلية من أوضح األدلة الدالة‪ ،‬على علمه‬ ‫َذلِ َ‬
‫المحيط بكل ش‪99‬يء‪ ،‬وأن‪99‬ه علم الكائن‪99‬ات كله‪99‬ا قب‪99‬ل وجوده‪99‬ا‪ ،‬وكتب هللا ذل‪99‬ك في كتاب‪99‬ه‬
‫اللوح المحفوظ‪ ،3‬فاآلية جمعت بين المرتبتين‪.4‬‬
‫ب ُّمبِي ٍن" (النمل‪ ،‬آي‪99‬ة‬ ‫ض إِاَّل فِي ِكتَا ٍ‬ ‫‪ 5‬ـ وقال تعالى‪َ ":‬و َما ِم ْن غَائِبَ ٍة فِي ال َّس َماء َواأْل َرْ ِ‬
‫‪ ،)75 :‬أي‪ :‬خفية أو سر من أسرار الع‪99‬الم العل‪99‬وي والس‪99‬فلي‪ ،‬إال في كت‪99‬اب م‪99‬بين‪ ،‬ق‪99‬د‬
‫أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تق‪99‬وم الس‪99‬اعة‪ ،‬فم‪99‬ا من ح‪99‬ادث جلي أو‬
‫خفي‪ ،‬إال هو مطابق لما كتب في اللوح المحف‪99‬وظ‪ ،5‬فاآلي‪99‬ة دلي‪99‬ل على الكتاب‪99‬ة الس‪99‬ابقة‬
‫لكل ما سيقع‪.‬‬
‫‪9‬ون فِي َش‪9‬أْ ٍن َو َم‪9‬ا‬ ‫‪ 6‬ـ وقال تعالى في آية جمعت بين مرتب‪99‬تي العلم والكتاب‪99‬ة‪َ ":‬و َم‪99‬ا تَ ُك ُ‬
‫يض‪9‬ونَ ِفي‪ِ 9‬ه َو َم‪99‬ا‬ ‫تَ ْتلُو ِم ْنه ِمن قُرْ آ ٍن َوالَ تَ ْع َملُ‪99‬ونَ ِم ْن َع َم‪ٍ 9‬ل إِالَّ ُكنَّا َعلَ ْي ُك ْم ُش‪9‬هُودًا إِ ْذ تُفِ ُ‬
‫ك َوال‬ ‫ص‪َ 9‬غ َر ِمن َذلِ‪َ 9‬‬‫الس‪َ 9‬ماء َوالَ أَ ْ‬ ‫ض َوالَ فِي َّ‬ ‫‪9‬ال َذ َّر ٍة فِي األَرْ ِ‬ ‫ك ِمن ِّم ْثقَ‪ِ 9‬‬ ‫يَ ْع‪ُ 9‬زبُ عَن َّربِّ َ‬
‫ين" (يونس‪ ،‬آية ‪َ ،)61 :‬و َما يَ ْع ُزبُ عَن َّربِّكَ" أي‪ :‬م‪99‬ا يغيب عن‬ ‫ب ُّمبِ ٍ‬ ‫أَ ْكبَ َر إِالَّ فِي ِكتَا ٍ‬
‫علمه وبصره وسمعه ومشاهدته أي شيء‪ ،‬حتى مثاقيل الذر‪ ،‬بل هو ما أص‪99‬غر منه‪99‬ا‪،‬‬
‫ب" ‪ :‬مرتب‪99‬ة الكتاب‪99‬ة‪ ،‬وكث‪99‬يراً م‪99‬ا يق‪99‬رن هللا ـ‬ ‫وه‪99‬ذه مرتب‪99‬ة العلم‪ ،‬وقول‪99‬ه‪":‬إِالَّ فِي ِكتَ‪99‬ا ٍ‬
‫سبحانه وتعالى ـ بين هاتين المرتبتين‪.6‬‬
‫‪9‬ام ُمبِي ٍن" (يس‪ ،‬آي‪9‬ة ‪ ،)12 :‬أي‪ :‬جمي‪9‬ع‬ ‫ص‪ْ 9‬ينَاهُ فِي إِ َم ٍ‬‫‪ 7‬ـ قــال تعــالى‪َ ":‬و ُك‪َّ 9‬ل َش‪ْ 9‬ي ٍء أحْ َ‬
‫الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في ل‪9‬وح محف‪9‬وظ‪ ،‬واإلم‪99‬ام الم‪99‬بين هَهُن‪99‬ا‪:‬‬
‫هو أم الكتاب‪.7‬‬
‫ير ُم ْس ‪9‬تَطَرٌ" (القم‪99‬ر‪،‬‬ ‫ير َو َكبِ ٍ‬‫ص ِغ ٍ‬‫الزب ُِر * َو ُكلُّ َ‬ ‫‪ 8‬ـ وقال تعالى‪َ ":‬و ُكلُّ َش ْي ٍء فَ َعلُوهُ فِي ُّ‬
‫آي‪9‬ة ‪ 52 :‬ـ ‪ ،)53‬أي‪ :‬مكت‪9‬وب عليهم في الكتب ال‪9‬تي بأي‪9‬دي المالئك‪9‬ة عليهم الس‪9‬الم "‬
‫‪9‬ير" أي‪ :‬من أعم‪99‬الهم " ُم ْس‪9‬تَطَرٌ" أي‪ :‬مجم‪99‬وع عليهم‪ ،‬ومس‪99‬طر في‬ ‫ير َو َكبِ‪ٍ 9‬‬ ‫َو ُكلُّ َ‬
‫ص‪ِ 9‬غ ٍ‬
‫‪8‬‬
‫صحائفهم‪ ،‬ال يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫‪ 9‬ـ وقال تعالى عن موسى حين قال له فرعون‪ ":‬فَ َما بَا ُل القُرُو ِن اأْل ولَى * قا َل ِعل ُمهَا‬
‫ضلُّ َربِّي َواَل يَن َسى" (طه‪ ،‬آية ‪51 :‬ـ ‪.)52‬‬ ‫ب اَّل يَ ِ‬ ‫ِعن َد َربِّي فِي ِكتَا ٍ‬
‫إن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وق ّدر وه‪99‬دى‪،‬‬
‫شرع يحتج بالقرون األولى‪ ،‬أي‪ :‬الذين لم يعبدوا هللا‪ ،‬أي‪ :‬فما بالهم إذا كان األمر كم‪99‬ا‬
‫تقول لم يعبدوه بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك‪ :‬هم وإن لم يعبدوه ف‪99‬إن‬
‫عَملَه ُم عند هللا مضبوط عليهم‪ ،‬وسيجزيهم بعملهم في كتاب هللا وه‪99‬و الل‪99‬وح المحف‪99‬وظ‬
‫ضلُّ َربِّي َواَل يَن َسى" أي‪ :‬ال يشذ عن‪99‬ه ش‪99‬يء وال يفوت‪99‬ه ص‪99‬غير‬ ‫وكتاب األعمال " اَّل يَ ِ‬
‫‪ 1‬تفسير السعدي (‪.)191 /3‬‬
‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪ ،)448 /5‬تفسير النسفي (‪.)389 /3‬‬
‫‪ 3‬تفسير ابن كثير (‪ ،)448 /5‬تفسير النسفي (‪.)389 /3‬‬
‫‪4‬القضاء والقدر صـ ‪.60‬‬
‫‪ 5‬تفسير السعدي (‪.)598 /5‬‬
‫‪ 6‬تفسير السعدي (‪.)366 / 3‬‬
‫‪ 7‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)654 / 3‬‬
‫‪ 8‬المصدر نفسه (‪.)335 / 4‬‬

‫‪31‬‬
‫وال كبير وال ينسى شيئاً‪ ،‬يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط‪ ،‬وأنه ال ينسى شيئا ً‬
‫تبارك وتعالى وتق ّدس وت‪99‬نزه‪ ،‬ف‪99‬إن علم المخلوق‪99‬ات يعتري‪99‬ه نقص‪99‬انان‪ ،‬أح‪99‬دهما‪ :‬ع‪99‬دم‬
‫اإلحاطة بالشيء‪ ،‬واآلخر‪ :‬نسيانه بعد علمه‪ ،‬فنزه نفسه عن ذلك‪.1‬‬
‫‪ 10‬ـ وقال تعالى‪َ ":‬و َما تَحْ ِم ُل ِم ْن أُنثَى َواَل ت َ‬
‫َض ‪ُ 9‬ع إِاَّل بِ ِع ْل ِم‪ِ 9‬ه َو َم‪99‬ا يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل‬
‫ب إِ َّن َذلِكَ َعلَى هَّللا ِ يَ ِسيرٌ" (فاطر‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬ ‫يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل فِي ِكتَا ٍ‬
‫ـ األدلة من السنة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال عبد هللا بن عمرو بن العاص‪ ،‬ـ رضي هللا عنهما ـ س‪99‬معت رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى‬
‫هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم يق‪99‬ول‪ :‬كتب هللا مق‪99‬ادير الخالئ‪99‬ق قب‪99‬ل أن يخل‪99‬ق الس‪99‬موات واألرض‬
‫بخمسين ألف سنة‪ ،‬قال‪ :‬وكان عرشه على الماء‪ ،2‬فالدليل من الح‪99‬ديث قول‪99‬ه‪ :‬كتب هللا‬
‫مق‪99‬ادير الخالئ‪99‬ق قب‪99‬ل أن يخل‪99‬ق الس‪99‬موات واألرض‪ ،‬ف‪99‬المراد تحدي‪99‬د وقت الكتاب‪99‬ة في‬
‫اللوح المحفوظ أو غيره‪ ،‬ال أصل التقدير فإن ذل‪99‬ك أزلي ال أول ل‪99‬ه وقول‪99‬ه‪ ":‬وعرش‪99‬ه‬
‫على الماء" أي‪ :‬قبل خلق السموات واألرض‪.3‬‬
‫‪ 2‬ـ وعن عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهمــا أنه‪ :‬ركب خل‪99‬ف رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا‬
‫عليه وسلم يوما ً فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪ :‬ي‪99‬ا غالم إنّي معلم‪99‬ك كلم‪99‬ات‬
‫بهن‪ :‬احفظ هللا يحفظك‪ ،‬احفظ هللا تجده تجاه‪99‬ك‪ ،‬وإذا س‪99‬ألت فس‪99‬أل هللا‪ ،‬وإذا‬ ‫ينفعك هللا ّ‬
‫أن األمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إال بشيء‬ ‫استعنت فاستعن باهلل‪ ،‬وأعلم ّ‬
‫قد كتب‪99‬ه هللا ل‪99‬ك‪ ،‬ول‪99‬و اجتمع‪99‬وا على أن يض‪99‬روك لم يض‪9‬رّوك إال بش‪99‬يء ق‪9‬د كتب‪99‬ه هللا‬
‫عليك‪ ،‬رفعت األقالم وجفت الصحف‪.4‬‬
‫‪ 3‬ـ ومن األحاديث المشهورة حديث‪ :‬أول ما خل‪9‬ق هللا القلم وفي‪9‬ه‪ :‬أن هللا أم‪9‬ره بكتاب‪9‬ة‬
‫ما هو كائن إلى يوم القيامة‪ ،‬فعن أبي حفصة قال‪ :‬قال عبادة بن الصامت ألبنه‪ :‬يا بني‬
‫إنك لن تجد طعم حقيقة اإليمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك‪ ،‬وم‪99‬ا أخط‪99‬أك‬
‫لم يكن ليصيبك‪ ،‬سمعت رسول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم يق‪99‬ول‪ :‬إن أول م‪99‬ا خل‪99‬ق هللا‬
‫القلم‪ ،‬فقال له‪ :‬اكتب‪ ،‬قال‪ :‬رب وماذا أكتب؟ قال‪ :‬اكتب مق‪9‬ادير ك‪9‬ل ش‪9‬يء ح‪9‬تى تق‪9‬وم‬
‫الساعة‪ ،‬يا بني سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪ :‬من م‪9‬ات على غ‪9‬ير ه‪9‬ذا‬
‫فليس مني‪ ،5‬فالرواية فيها دليل على مرتب‪99‬ة الكتاب‪99‬ة حيث أم‪99‬ر هللا القلم بكتاب‪99‬ة م‪99‬ا ه‪99‬و‬
‫كائن إلى يوم القيامة‪.6‬‬
‫ثالثاً‪ :‬مرتبة اإلرادة والمشيئة‪:‬ـ‬
‫إن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمش‪99‬يئة هللا‪ ،‬س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى‪ ،‬فم‪99‬ا ش‪99‬اء هللا ك‪99‬ان‪،‬‬
‫وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فال يخرج عن إرادته الكونية شيء ومن األدلة في القرآن الكريم‪:‬‬
‫ون" (يس‪ ،‬آية ‪.)82 :‬‬ ‫‪ 1‬ـ قال تعالى‪ ":‬إِنَّ َما أَ ْم ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد َش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫أي‪ :‬إنما يأمر بالشيء‪ ،‬أمراً واحداً ال يحتاج إلى تكرار‬
‫إذا ما أراد هللا أمراً فإنما‬
‫‪ 1‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)115 / 3‬‬
‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك القدر رقم ‪.2653‬‬
‫‪ 3‬شرح النووي على صحيح مسلم (‪.)203 /16‬‬
‫‪ 4‬سنن الترمزي (‪ )667 /4‬رقم ‪ 2516‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ 5‬سنن أبي داد‪ ،‬ك السنة‪ ،‬باب في القدر رقم ‪.4700‬‬
‫‪ 6‬القضاء والقدر‪ ،‬امحمود صـ‪.65‬‬

‫‪32‬‬
‫‪1‬‬
‫يقول له "كن" قولة فيكون‬
‫‪ 2‬ـ وقد ورد في القرآن الكريم ـ في الحديث عن بعض األنبياء وغيرهم ـ تعليقهم ك‪99‬ل‬
‫أمر بمشيئة هللا ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫أ ـ ـ فنــوح عليــه الصــالة والســالم‪ ،‬لم‪99‬ا ق‪99‬ال ل‪99‬ه قوم‪99‬ه‪ ":‬فَأْتَنِ‪99‬ا بِ َم‪99‬ا تَ ِع‪ُ 9‬دنَا إِن ُكنتَ ِمنَ‬
‫ال إِنَّ َما يَأْتِي ُكم بِ ِه هّللا ُ إِن َشاء َو َما أَنتُم بِ ُم ْع ِج ِزينَ " (هود‪ ،‬آية ‪.)33 ،32 :‬‬ ‫الصَّا ِدقِينَ * قَ َ‬
‫ب ـ وشعيب عليه السالم ـ بع‪99‬د ـ م‪99‬ا طلب من‪99‬ه قوم‪99‬ه أن يع‪99‬ود إلى ملتهم بين أن‪99‬ه ال‬
‫يمكن أن يعود إلى ملتهم بعد أن نجاه هللا منها هو والمؤمنون مع‪99‬ه وال ينبغي لهم ذل‪99‬ك‬
‫إال إذا شاء هللا ذلك فقال‪ ":‬قَ ِد ا ْفت ََر ْينَا َعلَى هّللا ِ َك ِذبًا إِ ْن ُع ْدنَا فِي ِملَّتِ ُكم بَ ْع‪َ 9‬د إِ ْذ نَجَّانَ‪99‬ا هّللا ُ‬
‫ون لَنَ‪99‬ا أَن نَّ ُع‪99‬و َد فِيهَ‪9‬ا إِالَّ أَن يَ َش‪9‬اء هّللا ُ َربُّنَ‪9‬ا َو ِس‪َ 9‬ع َربُّنَ‪99‬ا ُك‪َّ 9‬ل َش‪ْ 9‬ي ٍء ِع ْل ًم‪9‬ا"‬ ‫ِم ْنهَا َو َما يَ ُك ُ‬
‫(األعراف‪ ،‬آية ‪ ،)89 :‬فعلق أعظم شيء وهو اإليمان والكفر على مشيئة هللا‪.‬‬
‫ص‪َ 9‬ر إِن َش‪9‬اء هّللا ُ‬ ‫جـ ـ ويوسف عليه السالم‪ ،‬قال ألهله بع‪99‬د أن ألتقى بهم‪ ":‬ا ْد ُخلُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا ِم ْ‬
‫آ ِمنِينَ " (يوسف‪ ،‬آية ‪.)99 :‬‬
‫ص ‪9‬ابِرًا َواَل‬ ‫هَّللا‬
‫ال َستَ ِج ُدنِي إِن َش ‪9‬اء ُ َ‬ ‫س ـ وقال موسى عليه السالم ـ للعبد الصالح "قَ َ‬
‫ك أَ ْمرًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪.)69 :‬‬ ‫صي ل َ َ‬ ‫أَ ْع ِ‬
‫ك َغدًا * إِاَّل‬ ‫ك ـ وهللا سبحانه وتعالى وجه نبيه قائالً‪َ ":‬واَل تَقُولَ َّن لِ َش ْي ٍء إِنِّي فَا ِع ٌل َذلِ َ‬
‫ك إِ َذا نَ ِسيتَ " (الكهف‪ ،‬آية ‪.)24 ،23 :‬‬ ‫أَن يَ َشاء هَّللا ُ َو ْاذ ُكر َّربَّ َ‬
‫فه‪99‬ذه اآلي‪99‬ات ت‪99‬دل على اس‪99‬تقرار عقي‪99‬دة المس‪99‬لمين ويقينهم به‪99‬ذه المرتب‪99‬ة من م‪99‬راتب‬
‫القدر‪.2‬‬
‫ع ْال ُم ْل‪99‬كَ ِم َّمن ت ََش‪9‬اء‬ ‫ك َمن ت ََش‪9‬اء َوتَ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬نز ُ‬ ‫ك تُ ْؤتِي ْال ُم ْل َ‬
‫‪ 3‬ـ قال تعالى‪ ":‬قُ ِل اللَّهُ َّم َمالِكَ ْال ُم ْل ِ‬
‫َوتُ ِع ُّز َمن تَ َشاء َوتُ ِذلُّ َمن تَ َشاء بِيَ ِدكَ ْالخَ ْي ُر إِنَّكَ َعلَ َى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِديرٌ" (آل عمران‪ ،‬آي‪99‬ة‬
‫‪ ،)26 :‬أي‪ :‬أنت المعطي وأنت المانع‪ ،‬وأنت الذي ما شئت كان وما لم يشأ لم يكن‪.3‬‬

‫ُص‪ِّ 9‬و ُر ُك ْم فِـي األَرْ َح‪ِ 9‬ام َك ْيـفَ يَ َشـاء الَ إِلَـهَ إِالَّ هُ َ‬
‫ــو‬ ‫‪ 4‬ــ قـــال تعــالى‪ ":‬هُـ َو الَّ ِذي ي َ‬
‫ـزي ُز ْال َح ِكي ُم" (آل عمـران‪ ،‬آية ‪ ،)6 :‬أي وهــو ال‪99‬ذي يص‪99‬ور الخل‪99‬ق فـي األرح‪99‬ام‬ ‫ْال َع ِ‬
‫كي‪99‬ف يش‪99‬اء ذك‪99‬وراً وإناث ‪9‬اً‪ ،‬أش‪99‬قياء وس‪99‬عداء مختلفين في ص‪99‬فاتهم وأش‪99‬كالهم‪ ،‬حس‪99‬نا ً‬
‫وقبحا ً‪.4‬‬

‫‪9‬ر ْد أَن ي ِ‬
‫ُض‪9‬لَّهُ‬ ‫إل ْس‪9‬الَ ِم َو َمن يُ‪ِ 9‬‬
‫ص‪ْ 9‬د َرهُ لِ ِ‬ ‫‪ 5‬ـ قال تعــالى‪ ":‬فَ َمن ي ُِر ِد هّللا ُ أَن يَ ْه ِديَ‪9‬هُ يَ ْش‪َ 9‬رحْ َ‬
‫الس‪َ 9‬ماء" (األنع‪99‬ام ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)125 :‬أي‪:‬‬ ‫ص‪َّ 9‬ع ُد فِي َّ‬ ‫ض‪9‬يِّقًا َح َر ًج‪99‬ا َكأَنَّ َم‪99‬ا يَ َّ‬‫ص‪ْ 9‬د َرهُ َ‬
‫يَجْ َع‪99‬لْ َ‬
‫‪9‬ر ْد أَن‬
‫ييسره له وينشطه ويس‪9‬هله ل‪9‬ذلك‪ ،‬ويوس‪9‬ع قلب‪99‬ه للتوحي‪99‬د واإليم‪9‬ان ب‪9‬ه " َو َمن يُ‪ِ 9‬‬
‫ُضلَّهُ" أي يجعل صدره ضيقاً‪ ،‬ال يتس‪99‬ع لش‪99‬يء من اله‪99‬دى وال يخلص إلي‪99‬ه ش‪99‬يء م‪99‬ا‬ ‫ي ِ‬
‫‪5‬‬
‫ينفعه من اإليمان وال ينفذ فيه ‪.‬‬

‫‪ 1‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)675 /3‬‬


‫‪ 2‬القضاء والقدر‪ ،‬المحمود صـ ‪.70‬‬
‫‪ 3‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)338 / 1‬‬
‫‪ 4‬القضاء والقدر صـ ‪.71‬‬
‫‪ 5‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)69 /2‬‬

‫‪33‬‬
‫ق ْالقَ‪99‬وْ ُل ِمنِّي أَل َ ْمأَل َ َّن َجهَنَّ َم‬ ‫‪ 6‬ـ وقال تعالى‪َ ":‬ولَوْ ِش ْئنَا آَل تَ ْينَا ُك‪َّ 9‬ل نَ ْف ٍ‬
‫س هُ‪9‬دَاهَا َولَ ِك ْن َح‪َّ 9‬‬
‫اس أَجْ َم ِعينَ " (السجدة‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬ ‫ِمنَ ْال ِجنَّ ِة َوالنَّ ِ‬
‫‪ 7‬ـ وقال تعالى‪َ ":‬ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َج َم َعهُ ْم َعلَى ْالهُدَى" (األنعام‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬
‫اس أُ َّمةً َوا ِح َدةً" (هود‪ ،‬آية ‪.)118 :‬‬ ‫ك لَ َج َع َل النَّ َ‬
‫‪ 8‬ـ وقال تعالى‪َ ":‬ولَوْ َشاء َربُّ َ‬
‫‪ 9‬ـ قوله تعالى ـ في معرض الح‪99‬ديث عن أه‪99‬ل الكت‪99‬اب‪ ،‬ونهي الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم على أن يتبع أهواءهم‪ ،‬وأم‪99‬ره أن يل‪99‬تزم الحكم بم‪99‬ا أن‪99‬زل هللا‪ ،‬مبين‪9‬ا ً أن لك‪99‬ل من‬
‫األمم الثالثة‪ :‬اليهود والنص‪99‬ارى‪ ،‬وأم‪99‬ة محم‪99‬د‪ ،‬ش‪99‬ريعة ومنهاج‪9‬ا ً في ك‪99‬ل من الت‪99‬وراة‬
‫واإلنجيل والقرآن‪ "،‬وقد نسخ القرآن ما قبله" قال بعد ذلك‪َ ":‬ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َج َعلَ ُك ْم أُ َّمةً‬
‫‪9‬و ُك ْم فِي َم‪99‬آ آتَ‪99‬ا ُكم " (المائ‪99‬دة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)48 :‬أي‪ :‬لجعلكم على ش‪99‬ريعة‬ ‫اح‪َ 9‬دةً َولَـ ِكن لِّيَ ْبلُ‪َ 9‬‬
‫َو ِ‬
‫واح‪99‬دة‪ ،‬وكت‪99‬اب واح‪99‬د‪ ،‬ورس‪99‬ول واح‪99‬د‪ ،‬لكن لم‪99‬ا لم يش‪99‬أ هللا ذل‪99‬ك‪ ،‬ب‪99‬ل ش‪99‬اء األبتالء‬
‫واالختبار‪ ،‬فكنتم على الحالة التي أنتم عليها‪ ،1‬فمشيئة هللا مطلقة‪ ،‬والنافذ هو ما يش‪99‬اؤه‬
‫ـ سبحانه وتعالى ـ فهذا دليل على مرتبة المشيئة‪.2‬‬
‫ـ أدلة هذه المرتبةـ من السنة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن أبي موسى األشعري ـ رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬ك‪99‬ان رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم إذا جاءه الس‪99‬ائل أو طلبت إلي‪99‬ه حاج‪99‬ة ق‪99‬ال‪ :‬اش‪99‬فعوا ت‪99‬ؤجروا‪ ،‬ويقض‪99‬ي هللا على‬
‫لسان نبيه صلى هللا عليه وسلم م‪99‬ا ش‪99‬اء‪ .3‬فأوص‪99‬ى بالش‪99‬فاعة وذل‪99‬ك فيم‪99‬ا ليس بمج‪99‬رم‬
‫وضابطها‪ :‬ما أذن في الشرع دون م‪99‬ا لم ي‪99‬أذن فيه‪ ،4‬ثم بين أن هللا يقض‪99‬ي على لس‪99‬ان‬
‫رسوله ما شاء‪ ،‬أي‪ :‬يظهر على لسان رسوله بالوحي أو اإللهام ما قدره في علمه بأنه‬
‫سيقع‪ ،5‬فهذا يدل على مرتبة المشيئة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬من يرد هللا به خيراً يفقه‪99‬ه في ال‪99‬دين‪ ،‬وإنم‪99‬ا‬
‫أنا قاسم وهللا يعطي‪ ،‬ولن تزال هذه األم‪99‬ة قائم‪99‬ة على أم‪99‬ر هللا ال يض‪99‬رهم من خ‪99‬الفهم‬
‫حتى يأتي أمر هللا‪ ،6‬فقوله‪ :‬من ي‪99‬رد هللا ب‪99‬ه خ‪99‬يراً يفقه‪99‬ه في ال‪99‬دين‪ ،‬في‪99‬ه إثب‪99‬ات مرتب‪99‬ة‬
‫اإلرادة‪ ،‬وأن األمور كلها تجري بمشيئة هللا تعالى ـ ولهذا ق‪99‬ال ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪:‬‬
‫وإنما أنا قاسم وهللا يعطي‪ ،‬أي‪ :‬إنما اقسم ما أم‪99‬رني هللا بقس‪99‬مته‪ ،‬والمعطي حقيق‪99‬ة ه‪99‬و‬
‫هللا ـ تع‪99‬الى ـ ف‪99‬األمور كله‪99‬ا بتق‪99‬دير هللا تع‪99‬الى‪ ،‬واإلنس‪99‬ان مص‪99‬رف مرب‪99‬وب‪ ،‬ومن‬
‫األحاديث الدالة على اإلرادة حديث حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب رس‪99‬ول هللا ص‪9‬لى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬رف‪9‬ع الح‪9‬ديث إلى رس‪9‬ول هللا ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم ‪ :‬إن ملك‪9‬ا ً م‪9‬وكالً‬
‫بالرحم‪ ،‬إذا اراد هللا أن يخلق شيئا ً بإذن هللا لبضع وأربعين ليل‪99‬ة‪ ...‬الح‪99‬ديث‪ .7‬فاهلل ه‪99‬و‬
‫المريد الخلق اآلدمي‪ ،‬واألحاديث الدالة على مرتبة المشيئة واإلرادة كثيرة جداً‪.8‬‬
‫‪ 3‬ـ وعن ابن عباس ـ رضي هللا عنهما ـ أن رجالً قال للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬م‪99‬ا‬
‫شاء هللا وشئت‪ ،‬وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أجعلتني وهللا عدالً‪ ،‬ب‪99‬ل م‪99‬ا ش‪99‬اء هللا‬

‫‪ 1‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.69‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه صـ ‪.69‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك الزكاة‪ ،‬فتح الباري (‪.)299 /3‬‬
‫‪4‬فتح الباري (‪.)451 /10‬‬
‫‪5‬المصدر نفسه (‪.)452 /13‬‬
‫‪ 6‬البخاري‪ ،‬ك فتح الباري (‪.)164 / 1‬‬
‫‪ 7‬مسلم رقم ‪.2645‬‬
‫‪ 8‬القضاء والقدر صـ‪ 76‬المحمود‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫وحده‪ ،1‬والحديث واضح الداللة على إثبات مرتبة المشيئة‪ ،‬وأن هللا تعالى ل‪99‬ه المش‪99‬يئة‬
‫المطلقة‪ ،‬وأن للعباد مشيئة خاضعة لمشيئة هللا ـ تعالى ـ‪ ،‬والنهي في الح‪99‬ديث إنم‪99‬ا ه‪99‬و‬
‫عن قرن مشيئة هللا بمشيئة الرسول صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪ ،‬حيث عطفه‪99‬ا ب‪99‬الواو وال‪99‬تي‬
‫هي لمطلق الجميع من غير ترتيب وال تعقيب‪ ،‬والرسول مثل غيره من العب‪99‬اد‪ ،‬فالك‪99‬ل‬
‫خاضعون لمشيئة هللا‪ ،‬ومشيئتهم تابعة لمشيئة هللا‪.2‬‬
‫‪ 4‬ـ وعن أبي هريرة ـ رضي هللا عنه ـ أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬ال يقل‬
‫أحدكم‪ :‬اللهم اغفر لي إن شئت أرحمني إن شئت‪ ،‬أرزق‪99‬ني إن ش‪99‬ئت‪ ،‬وليع‪99‬زم مس‪99‬ئلته‬
‫أنه يفعل ما يشاء ال مكره له‪.3‬‬
‫ففيه إثبات المشيئة هلل ـ تعالى ـ فهو الغفور الرحيم‪ ،‬وال‪99‬رازق إذا ش‪99‬اء‪ ،‬وه‪99‬و س‪99‬بحانه‬
‫يفعل ما يشاء‪ ،‬ال مكره له‪ ،‬والحديث فيه الحث على الع‪99‬زم في المس‪9‬ألة والج‪99‬زم فيه‪99‬ا‪،‬‬
‫دون ضعف أو تعليق على المشيئة‪ ،‬وإنما نهى عن التعليق على المشيئة ألنه ال يتحقق‬
‫استعمال المشيئة إال في حق من يتوجه إلى اإلكراه‪ ،‬وهللا ـ سبحانه وتعالى ـ ال مك‪99‬ره‬
‫له‪ ،‬كما نص عليه الرسول صلى هللا عليه وسلم هنا‪.4‬‬
‫‪ 5‬ـ وعن عبد هللا بن عمرو بن العاص ـ رضي هللا عنهما ـ أنه سمع رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم يقول‪ :‬إن قلوب بني آدم كله‪99‬ا بين أص‪99‬بعين من أص‪99‬ابع ال‪99‬رحمن‪ ،‬كقلب‬
‫واح‪99‬د يص‪99‬رفه حيث يش‪99‬اء‪ ،‬ثم ق‪99‬ال رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬اللهم مص‪99‬رف‬
‫القلوب صرف قلوبنا على طاعتك‪ .5‬والشاهد قوله‪" :‬كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"‪،‬‬
‫ومعناه أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده كلهم‪ ،‬فيهدي ويض‪99‬ل كم‪99‬ا يش‪99‬اء‪،‬‬
‫ففيه داللة على مرتبة المشيئة‪.6‬‬
‫‪ 6‬ـ وقد أقر النبي صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم علي بن أبي ط‪99‬الب ـ رض‪99‬ي هللا عن‪99‬ه ـ حين‬
‫أجابه بعد سؤاله له هو وفاطمة بقوله‪" :‬أال تصليان؟" فأجابه بقوله‪ :‬أنفسنا بيد هللا ف‪99‬إذا‬
‫شاء أن يبعثنا بعثنا‪ ،‬قال علي‪ :‬فانص‪99‬رف حين قلت ل‪99‬ه ذل‪99‬ك‪ ،‬ولم يرج‪99‬ع إلي ش‪99‬يئاً‪ ،‬ثم‬
‫ان أَ ْكثَ َر َش ْي ٍء َج َداًل "‪.7‬‬
‫سمعته وهو ُم َو ِّل يضرب فخذه وهو يقول‪َ " :‬و َكانَ اإْل ِ ن َس ُ‬
‫ففي هذا الحديث إثبات لمشيئة هللا ـ تعالى ـ وأن العبد ال يفعل شيئا ً إال ب‪99‬إرادة هللا وأم‪99‬ا‬
‫انصراف النبي صلى هللا عليه وس‪9‬لم وض‪9‬ربه فخ‪9‬ذه‪ ،‬واستش‪9‬هاده باآلي‪9‬ة‪ ،‬فمعن‪9‬اه‪ :‬أن‪9‬ه‬
‫تعجب من س‪99‬رعة من جواب‪99‬ه وع‪99‬دم موافقت‪99‬ه ل‪99‬ه على االعت‪99‬ذار به‪99‬ذا‪ ،‬وله‪99‬ذا ض‪99‬رب‬
‫فخذه‪.8‬‬
‫‪ 7‬ـ كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا رف‪99‬ع رأس‪99‬ه من الرك‪99‬وع يق‪99‬ول‪ :‬ربن‪99‬ا ل‪99‬ك‬
‫الحمد ملء السماوات واألرض وملء ما شئت من شئ بعد‪ ،‬أهل الثناء والمجد‪ ،‬أح‪99‬ق‬
‫ما قال العبد‪ ،‬وكلنا لك عبد‪ ،‬اللهم ال مانع لما أعطيت وال معطي لم‪99‬ا منعت‪ ،‬وال ينف‪99‬ع‬
‫ذا الجد منك الجد‪.9‬‬

‫‪ 1‬مصنف ابن أبي شيبة رقم ‪.6742‬‬


‫‪ 2‬القضاء والقدر المحمود صـ‪.75‬‬
‫‪ 3‬فتح الباري (‪ )139 / 11‬مسلم رقم ‪.2678‬‬
‫‪ 4‬شرح النووي على مسلم (‪ 6 / 17‬ـ ‪ ،)7‬فتح الباري (‪.)140 / 11‬‬
‫‪ 5‬مسلم‪ ،‬ك القدر رقمه ‪.)2045 / 4( 2654‬‬
‫‪ 6‬شرح النووي على مسلم (‪.)204 / 16‬‬
‫‪ 7‬فتح الباري (‪ )10 / 3‬مسلم رقم ‪..775‬‬
‫‪ 8‬شرح النووي (‪.)2045 / 4‬‬
‫‪ 9‬مسلم رقم ‪.771‬‬

‫‪35‬‬
‫وهذا تحقيق لوحدانيته لتوحيد الربوبية خلقا ً وقدراً وبداية وهداية هو المعطي المانع ال‬
‫مانع لما أعطى وال معطي لما من‪99‬ع ولتوحي‪99‬د اإللهي‪99‬ة ش‪99‬رعا ً وأم‪99‬راً ونهي‪9‬ا ً‪ .1‬وفي ه‪99‬ذا‬
‫الح‪99‬ديث‪ :‬في‪99‬ه من التف‪99‬ويض إلى هللا تع‪99‬الى واإلذع‪99‬ان ل‪99‬ه واالع‪99‬تراف بوحدانيت‪99‬ه‬
‫والتصريح بأنه ال حول وال قوة إال به وأن الخير والشر منه والحث على الزه‪99‬ادة في‬
‫الدنيا واإلقبال على األعمال الصالحة‪.2‬‬
‫‪ 8‬ـ وقــال رســول هللا صــلى هللا عليــه وســلم‪ :‬المؤمن الق‪99‬وي خ‪99‬ير وأحب إلى هللا من‬
‫المؤمن الضعيف وفي ك ٍل خير‪ ،‬احرص على ما ينفعك واس‪99‬تعن باهلل وال تعج‪99‬ز‪ ،‬وإن‬
‫أصابك شئ فال تقل‪ :‬لو أني فعلت كان كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر هللا وما شاء فعل‪ ،‬فإن‬
‫لو تفتح عمل الشيطان‪.3‬‬
‫ففي الحديث حث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على اإليمان بمقادير هللا وبمشيئة هللا‬
‫وإرجاع ما يقع للعبد إلى مشيئة هللا‪" :‬وما شاء فعل" فيه إثبات المشيئة هلل تعالى‪.4‬‬
‫‪ 9‬ـ وعن ابن عباس رضــي هللا نهما أن رس‪9‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم دخ‪9‬ل على‬
‫أعرابي يعوده فقال‪ :‬ال بأس عليك طهور إن شاء هللا‪ ،‬قال األعرابي‪ :‬طه‪99‬ور‪ ،‬ب‪99‬ل هي‬
‫هي حمى تفور على شيخ كبير‪ ،‬تُزيره القبور‪ ،‬ق‪99‬ال الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي وس‪99‬لم‪ :‬فنعم‬
‫إذاً‪.5‬‬
‫وهذا الحديث استدل به البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد علي إثب‪99‬ات مش‪99‬يئة هللا‬
‫ع‪99‬ز وج‪99‬ل‪ ،‬كم‪99‬ا ه‪99‬و واض‪99‬ح في تخ‪99‬ريج الح‪99‬ديث‪ ،‬حيث ب‪ّ 9‬وب ل‪99‬ه ب‪99‬اب‪ :‬في المش‪99‬يئة‬
‫واإلرادة‪.‬‬
‫والشاهد منه قوله صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إن ش‪99‬اء هللا‪ .‬فجع‪99‬ل ك‪99‬ون ه‪99‬ذا الم‪99‬رض ال‪99‬ذي‬
‫أصيب به المريض طهوراً من ذنوبه ومكفراً لها مقيداً بمشيئة هللا تعالى وف‪99‬وض ذل‪99‬ك‬
‫‪6‬‬
‫فإن شاء هللا تعالى جعله كفارة وطهوراً فهو يفعل ما يشاء وهو على كل شئ قدير‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ وفيما يقال عند دخول القبور ما ورد عن عائشة أنها قالت كان رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يخرج من آخر الليل‬
‫قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء‬ ‫إلى البقيع‪ :‬السالم عليكم دار ٍ‬
‫‪7‬‬
‫هللا بكم الحقون اللهم اغفر ألهل بقيع الغرقد ‪.‬‬
‫واألحاديث الدالة على مرتبة المشيئة واإلرادة كثيرة جداً‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬مرتبة الخلق‪ :‬وهو اإليمان بأن هللا سبحانه وتعالى خالق ك‪99‬ل ش‪99‬ئ‪ ،‬فه‪99‬و خ‪99‬الق‬
‫ك‪9‬ل عام‪99‬ل وعمل‪9‬ه‪ ،‬وك‪9‬ل متح‪9‬رك وحركت‪99‬ه‪ ،‬وك‪99‬ل س‪9‬اكن وس‪99‬كونه‪ ،‬وم‪99‬ا من ذرّة في‬
‫الس‪99‬ماوات وفي األرض إال وهللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى خالقه‪99‬ا وخ‪99‬الق حركته‪99‬ا وس‪99‬كونها‪،‬‬
‫سبحانه ال خالق غيره وال ربّ سواه‪ .8‬ومن األدلة من القرآن‪.‬‬

‫‪ 1‬مجموع الفتاوي (‪.)376 / 14‬‬


‫‪ 2‬شرح صحيح مسلم للنووي (‪ 195 / 4‬ـ ‪.)196‬‬
‫‪ 3‬مسلم رقم ‪.2664‬‬
‫‪ 4‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪.)883 / 2‬‬
‫‪ 5‬البخاري‪ ،‬ك التوحيد رقم ‪.7032‬‬
‫‪ 6‬المباحث العقدية (‪.)884 / 2‬‬
‫‪ 7‬مسلم‪ ،‬رقم ‪.974‬‬
‫‪ 8‬معارج القبول (‪.)940 / 3‬‬

‫‪36‬‬
‫ال أَتَ ْعبُ‪ُ 9‬دونَ َم‪99‬ا تَ ْن ِحتُ‪99‬ونَ * َوهَّللا ُ َخلَقَ ُك ْم َو َم‪99‬ا تَ ْع َملُ‪99‬ونَ " (الص‪99‬افات ‪،‬‬ ‫‪ 1‬ـ قال تعالى‪ " :‬قَ َ‬
‫آية ‪ 95 :‬ـ ‪ .)96‬أي خلقكم وعملكم‪ ،‬فتك‪99‬ون م‪99‬ا مص‪99‬درية‪ ،‬وقي‪99‬ل‪ :‬إنه‪99‬ا بمع‪99‬نى ال‪99‬ذي‪،‬‬
‫فيكون المعنى‪ :‬وهللا خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم وهو األصنام‪.1‬‬
‫وقد ذكر ابن كثير القولين ثم قال‪ :‬وكال القولين متالزم واألول أظهر‪ ،2‬وقد عل‪99‬ل ذل‪99‬ك‬
‫بما يؤيده من رواية البخاري في أفعال العباد عن حذيفة ـ رضي هللا عنه ـ قال رس‪99‬ول‬
‫هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪ :‬إن هللا يص‪99‬نع ك‪99‬ل ص‪99‬انع وص‪99‬نعته وتال بعض‪99‬هم عن‪99‬د ذل‪99‬ك‬
‫" َوهَّللا ُ خَ لَقَ ُك ْم َو َم‪99‬اتَ ْع َملُونَ " ف‪99‬أخبر الص‪99‬ناعات وأهله‪99‬ا مخلوقة‪ ،3‬فاهلل ـ تع‪99‬الى ـ خ‪99‬الق‬
‫الخلق وأفعالهم كما دلت على ذلك‪ ،‬اآلية والحديث‪.4‬‬
‫ق ُكلِّ َش ْي ٍء" (الرعد ‪ ،‬آية ‪ ،)16 :‬وفي آية أخ‪99‬رى‪َ " :‬ذلِ ُك ُم هَّللا ُ‬ ‫‪ 2‬ـ قال تعالى‪" :‬هّللا ُ خَ الِ ُ‬
‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء" (غافر ‪ ،‬آية ‪.)62 :‬‬ ‫َربُّ ُك ْم خَ الِ ُ‬
‫وهذه نصوص واض‪9‬حة في الدالل‪9‬ة على مرتب‪9‬ة الخل‪9‬ق‪ ،‬وق‪9‬د ج‪9‬اءت اآلي‪9‬ة األولى في‬
‫معرض إنكار أن يكون للشركاء خلق كخلقه ـ سبحانه وتعالى ـ فنفي ذلك سبحانه آمراً‬
‫رسوله أن يقرر هذه الحقيقة التي تفصل في األمر‪ ،‬وتدل على وحداني‪99‬ة هللا ـ تع‪99‬الى ـ‬
‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء َوهُ َو ْال َوا ِح‪ُ 9‬د ْالقَهَّارُ" (الرع‪99‬د ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫وانفراده بالخلق والرزق "قُ ِل هّللا ُ خَ الِ ُ‬
‫‪ ،)16‬وفي موضع آخر جاءت ه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة لبي‪99‬ان ق‪99‬درة هللا ـ تع‪99‬الى ـ وكمال‪99‬ه ودالئ‪99‬ل‬
‫ق ُكلِّ َش ْي ٍء َوهُ َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َو ِكي‪9‬لٌ" (الزم‪9‬ر ‪ ،‬آي‪9‬ة ‪ ،)62 :‬أم‪9‬ا‬ ‫وحدانيته " هَّللا ُ خَ الِ ُ‬
‫اآلية الثانية فقد جاءت أيضا ً لبيان قدرة هللا التامة‪ ،‬حيث جعل لعباده اللي‪99‬ل والنه‪99‬ار ثم‬
‫بين سبحانه أنه خالق كل شئ‪.5‬‬
‫‪ 3‬ـ وقال تعالى‪ :‬ممتنا ً على الصحابة ـ رضوان هللا تعليهم ـ بعد أن أمرهم ب‪99‬التثبت في‬
‫‪9‬ير ِّمنَ اأْل َ ْم‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ر‬ ‫"وا ْعلَ ُموا‪ 9‬أَ َّن فِي ُك ْم َرسُو َل هَّللا ِ لَوْ ي ُِطي ُع ُك ْم فِي َكثِ‪ٍ 9‬‬ ‫خبر الفاسق قال تعالى‪َ :‬‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫لَ َعنِتُّ ْم َولَ ِك َّن هَّللا َ َحب َ‬
‫َّب إِلَ ْي ُك ُم اإْل ِ ي َم‪99‬انَ َوزَ يَّنَ‪99‬هُ فِي قُلُ‪99‬وبِ ُك ْم َو َك‪َّ 99‬رهَ إِلَ ْي ُك ُم ال ُك ْف‪َ 99‬ر َوالفُ ُس‪99‬و َ‬
‫َو ْال ِعصْ يَانَ أُوْ لَئِكَ هُ ُم الرَّا ِش ُدونَ " (الحجرات ‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬
‫والش‪999‬اهد قول‪999‬ه‪َ " :‬ولَ ِك َّن هَّللا َ َحب َ‬
‫َّب إِلَ ْي ُك ُم اإْل ِ ي َم‪999‬انَ َو َزيَّنَ‪999‬هُ فِي قُلُ‪999‬وبِ ُك ْم َو َك‪َّ 999‬رهَ إِلَ ْي ُك ُم‬
‫ْال ُك ْف َر‪ ".....‬فهو سبحانه هو الذي حسنه بتوفيقه وقربه منكم‪ ،‬وهو الذي جعل ما يض‪99‬اد‬
‫اإليمان من الكفر والفسوق والعصيان مكروها ً عندكم وذل‪99‬ك بم‪99‬ا أودع في قل‪99‬وبكم من‬
‫كراهة الشر وعدم إرادة فعله‪ ،‬فالفاعل في كل ذلك هو هللا ـ تعالى‪.6‬‬
‫وهناك آيات كثيرة تدل على أن هللا ـ تع‪99‬الى ـ ه‪9‬و المض‪99‬ل واله‪9‬ادي‪ ،‬والمؤي‪9‬د لعب‪9‬اده‬
‫المؤمنين‪ ،‬والهازم ألعدائهم وأنه المض‪99‬حك والمبكي‪ ،‬والمميت والمح‪99‬يي‪ ،‬وك‪99‬ل ذل‪99‬ك‬
‫دليل مرتبة‪ 7‬الخلق‪.‬‬
‫وقد أورد الحافظ ابن كثير هذا الدعاء في تفسيره آية الحجرات الس‪99‬ابقة " َوا ْعلَ ُم‪99‬وا أَ َّن‬
‫ُول هَّللا ِ" قال ل ّما كان يوم أح‪9‬د وإنكف‪9‬أ المش‪9‬ركون ق‪9‬ال ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم‪:‬‬ ‫فِي ُك ْم َرس َ‬
‫صفُوفاً‪ :‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫ربي" فصاروا خلفه ُ‬ ‫"استووا حتى أثنى على ِّ‬
‫اللهم لك الحمد كله‪ ،‬اللهم ال قابض لما بسطت‪ ،‬وال باسط لم‪99‬ا قبض‪99‬ت‪ ،‬وال ه‪99‬ادي لم‪99‬ا‬
‫‪ 1‬زاد المسير في علم التفسير (‪.)70 / 7‬‬
‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪ )22 / 7‬القضاء والقدر صـ‪.77‬‬
‫‪ 3‬تفسير ابن كثير (‪ )22 / 7‬القضاء والقدر صـ‪.77‬‬
‫‪ 4‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ‪.77‬‬
‫‪ 5‬القضاء والقدر‪ ،‬المحمود صـ‪.78‬‬
‫‪ 6‬فتح البيان في مقاصد القرآن صديق خان (‪.)74 / 9‬‬
‫‪ 7‬القضاء والقدر‪ ،‬المحمود صـ‪.79‬‬

‫‪37‬‬
‫أض‪99‬للت‪ ،‬وال مض‪99‬ل لمن ه‪99‬ديت‪ ،‬وال معطي لم‪99‬ا منعت‪ ،‬وال م‪99‬انع لم‪99‬ا أعطيت‪ ،‬وال‬
‫مق‪99‬رب لم‪99‬ا بع‪99‬دت‪ ،‬وال مباع‪99‬د لم‪99‬ا ق‪99‬ربت‪ ،‬اللهم أبس‪99‬ط علين‪99‬ا من بركات‪99‬ك ورحمت‪99‬ك‬
‫وفض‪99‬لك ورزق‪99‬ك اللهم إني أس‪99‬ألك النعيم المقيم ال‪99‬ذي ال يح‪99‬ول وال ي‪99‬زول‪ ،‬اللهم إني‬
‫أسألك النعيم يوم العيلة‪ ،‬واألمن يوم الخوف‪ ،‬اللهم إني عائ‪9‬ذ ب‪9‬ك من ش‪9‬ر م‪9‬ا أعطيتن‪99‬ا‬
‫وشر ما منعت‪ ،‬اللهم حبب إلينا اإليمان وزينه في قلوبنا‪ ،‬وك‪99‬ره إلين‪99‬ا الكف‪99‬ر والفس‪99‬وق‬
‫والعص‪99‬يان‪ ،‬واجعلن‪99‬ا من الراش‪99‬دين‪ ،‬اللهم توفن‪99‬ا مس‪99‬لمين‪ ،‬وأحيين‪99‬ا مس‪99‬لمين وألحقن‪99‬ا‬
‫بالص‪99‬الحين‪ ،‬غ‪99‬ير خزاي‪99‬ا وال مفت‪99‬ونين‪ ،‬اللهم قات‪99‬ل الكف‪99‬رة ال‪99‬ذين يك‪99‬ذبون رس‪99‬لك‪،‬‬
‫ويصدون عن سبيلك‪ ،‬واجعل عليهم رجزك وع‪99‬ذابك‪ ،‬اللهم قات‪99‬ل الكف‪99‬رة ال‪99‬ذين أوت‪99‬وا‬
‫الكتاب إله الحق‪ .1‬فترى في هذا الحديث اإلقرار ب‪99‬أن هللا ـ تع‪99‬الى ـ ه‪99‬و الفاع‪99‬ل له‪99‬ذه‬
‫األمور‪ ،‬وهذا دليل على مرتبة الخلق‪.2‬‬
‫ـ أدلة هذه المرتبةـ من السنة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن زيد بن أرقم ـ رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬ال أقول لكم إال كما كان رسول هللا ص‪99‬لى‬
‫هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم يق‪99‬ول‪ :‬ك‪99‬ان يق‪99‬ول‪ :‬اللهم إني أع‪99‬وذ ب‪99‬ك من العج‪99‬ز والكس‪99‬ل‪ ،‬والجبن‬
‫والبخل‪ ،‬والهرم وعذاب الق‪99‬بر‪ ،‬اللهم آت نفس‪99‬ي تقواه‪99‬ا وزكه‪99‬ا أنت خ‪99‬ير من زكاه‪99‬ا‪،‬‬
‫أنت وليها وموالها‪..3‬‬
‫الشاهد قوله‪ ":‬اللهم آت نفسي تقواها وزكاها‪ ،..‬فالفاعل ه‪99‬و هللا ـ تع‪99‬الى ـ فه‪99‬و ال‪99‬ذي‬
‫يطلب منه ذلك‪ ،‬ولفظ "خير" ليس للتفض‪99‬يل‪ ،‬ب‪99‬ل ال م‪99‬زكي للنفس إال هللا‪ ،‬وله‪99‬ذا ق‪99‬ال‬
‫بعد ذلك أنت وليها وموالها‪ ،4‬فهو سبحانه الملهم للنفس الخير والشر‪.‬‬
‫ُورهَا َوتَ ْق َواهَا" (الشمس‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬ ‫قال تعالى‪ ":‬فَأ َ ْلهَ َمهَا فُج َ‬
‫قال سعيد بن حبير في تفسير ه‪9‬ذه اآلي‪9‬ة " فَأ َ ْلهَ َمهَ‪9‬ا فُجُو َرهَ‪9‬ا َوتَ ْق َواهَ‪9‬ا" أي‪ :‬ف‪9‬الخلق هلل‬
‫واإلنسان قادر على سلوك أيهما شاء ومخير فيه‪ ،‬وقال ابن زيد في معنى اآلية‪ :‬جع‪99‬ل‬
‫ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى‪ ،‬وخذالنه إياها بالفجور‪.5‬‬
‫‪ 2‬ـ وعن البراء بن عازم ـ رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬رأيت النبي صلى هللا عليه وسلم يوم‬
‫الخندق ينقل معنا التراب وهو يقول‪:‬‬
‫وهللا لوال هللا ما اهتدينا‬
‫وال صمنا وال صلينا‬
‫فأنزلن سكينة علينا‬
‫وثبت األقدام إن القينا‬
‫والمشركون قد بَ َغوْ ا علينا‬
‫‪6‬‬
‫إذا أرادوا فتنة أبينا‬
‫وفي رواية أخ‪99‬رى للبخ‪99‬اري‪ :‬وال تص‪99‬دقنا وال ص‪99‬لينا‪ ،7‬ب‪99‬دل‪ :‬وال ص‪99‬منا وال ص‪99‬لينا‪،‬‬
‫وبهذه الرواية يستقيم الوزن‪ ،‬قال ابن حجر‪ :‬وهو المحفوظ‪ .8‬ودليل هذه المرتبة قول‪99‬ه‪:‬‬
‫‪ 1‬مسند أحمد (‪ )4224 / 3‬السنة البن أبي عاصم رقم ‪.381‬‬
‫‪ 2‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ‪.80‬‬
‫‪ 3‬مسلم‪ ،‬ك الذكر والدعاء رقم ‪.)2088 /4( 2722‬‬
‫‪ 4‬شرح النووي على مسلم (‪.)41 / 17‬‬
‫‪ 5‬زاد المسير‪ ،‬ابن الجوزي (‪.)140 / 9‬‬
‫‪ 6‬فتح الباري (‪.)516 /11‬‬
‫‪ 7‬المصدر نفسه (‪.)399 /7‬‬
‫‪8‬المصدر نفسه (‪.)516 /11‬‬

‫‪38‬‬
‫لوال هللا ما اهتدينا‪ ،‬وال تص‪99‬دقنا وال ص‪99‬لينا‪ ،‬فإنه‪99‬ا دلي‪99‬ل على أن هللا ه‪99‬و خ‪99‬الق العب‪99‬اد‬
‫وأفعالهم ومنها‪ :‬الهداية‪ ،‬والصدقة‪ ،‬والصالة‪.1‬‬
‫‪ 3‬ـ وعن و ّراد مولى المغيرة بن شعبة قال‪ :‬كتب معاوي‪99‬ة إلى المغ‪99‬يرة‪ 9:‬أكتب إل ّي م‪99‬ا‬
‫سمعت الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم يق‪99‬ول خل‪99‬ف الص‪99‬الة‪ ،‬ف‪99‬أملى عل ّي المغ‪99‬يرة ق‪99‬ال‪:‬‬
‫سمعت النبي صلى هللا عليه وسلم يقول خل‪99‬ف الص‪99‬الة‪ 9:‬ال إل‪99‬ه إال هللا وح‪99‬ده ال ش‪99‬ريك‬
‫له‪ ،‬اللهم ال مانع لما أعطيت‪ ،‬وال معطي لما منعت‪ ،‬وال ينفع ذا الجد منك الجد‪.2‬‬
‫الشاهد قوله‪ :‬اللهم ال مانع لما أعطيت‪ ،‬وال معطي لما منعت فالمعطي والمانع ه‪99‬و هللا‬
‫ـ تعالى ـ‪ ،‬فهو الفاعل لهما‪ ،‬وهذا يدل على أن الخالق هو هللا ـ سبحانه وتعالى ـ ‪.‬‬
‫وقوله‪":‬وال ينفع ذا الجد منك الجد" أي‪ :‬ال ينفع ذا الغنى منك غناه‪ ،‬أو ال ينجي‪9‬ه حظ‪99‬ه‬
‫منك‪ ،‬بل ينفعه عمله الصالح‪.3‬‬
‫‪ 4‬ـ وقد قال صلى هللا عليه وسلم ألبي موسى األشعري ـ رضي هللا عنه ـ ‪:‬يا عبد هللا‬
‫ابن قيس‪ ،‬أال أدلك على كنز من كنوز الجن‪99‬ة‪ ،‬فقلت‪ :‬بلى ي‪99‬ا رس‪99‬ول هللا‪ ،‬ق‪99‬ال‪ :‬ق‪99‬ل‪ :‬ال‬
‫حول وال قوة إال باهلل‪ .4‬والشاهد قوله‪ :‬ال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬ففيها االعتراف بأنه ال‬
‫صانع غير هللا‪ ،‬وال راد ألمره وأن العبد ال يمل‪99‬ك من أم‪99‬ره ش‪99‬يئاً‪ ،‬فمعناه‪99‬ا‪ :‬ال حرك‪99‬ة‬
‫وال أستطاعة وال حيلة إال بمشيئة هللا تعالى‪ ،‬وقيل معناه ال حول في دفع ش‪99‬ر وال ق‪99‬وة‬
‫في تحصيل خير إال باهلل‪ ،‬وقيل‪ :‬ال ح‪99‬ول عن معص‪99‬ية هللا إال بعص‪99‬مته‪ ،‬وال ق‪99‬وة على‬
‫طاعة هللا إال بمعونته‪ ،‬و ُح ِك َي هذا عن ابن مسعود ـ رضي هللا عنه ـ وكل‪9‬ه متق‪9‬ارب‪،5‬‬
‫والكنز هنا‪ :‬معناه ثواب ُم َّدخر في الجنة عند هللا وهو ثواب نفيس‪.6‬‬
‫‪ 5‬ـ وعن علي بن أبي طالب عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أنه كان إذا ق‪99‬ام إلى‬
‫الص‪99‬الة ق‪99‬ال‪ :‬وجهت وجهي لل‪99‬ذي فط‪99‬ر الس‪99‬ماوات واألرض حنيف‪99‬ا ً وم‪99‬ا أن‪99‬ا من‬
‫المشركين وإذا سجد قال‪ :‬اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أس‪99‬لمت س‪99‬جد وجهي لل‪99‬ذي‬
‫خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك هللا أحسن الخالقين‪.7‬‬
‫ففي الح‪99‬ديث‪ :‬دالل‪99‬ة على أن هللا فط‪99‬ر الس‪99‬موات واألرض أي خلقهن وأب‪99‬دعهن وأتقن‬
‫صنعهن وأوجدهن من الع‪99‬دم على غ‪99‬ير مث‪99‬ال س‪99‬ابق‪ ،‬فخلق‪99‬ه س‪99‬بحانه له‪99‬ذا الك‪99‬ون من‬
‫أرض وسموات وما فيهن من رطب ويابس ومخلوق‪99‬ات عجيب‪99‬ة أك‪99‬بر دلي‪99‬ل على ه‪99‬ذه‬
‫المرتبة وأن هللا يخلق الخلق بقدرته على ما اقتضاه علمه السابق ومشيئته النافذة‪.8‬‬
‫‪ 6‬ـ قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬سيد االستغفار أن تق‪99‬ول‪ :‬اللهم أنت ربي ال إل‪99‬ه إال أنت‬
‫خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما أستطعت أعوذ بك من شر م‪99‬ا ص‪99‬نعت‬
‫أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي‪ ،‬فاغفر لي فإن‪99‬ه ال يغف‪99‬ر ال‪99‬ذنوب إال أنت‪ ،‬ق‪99‬ال‪:‬‬
‫ومن قالها من النهار موقنا ً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أه‪99‬ل الجن‪99‬ة ومن‬
‫قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة‪.9‬‬

‫‪ 1‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.83‬‬


‫‪ 2‬فتح الباري (‪.)325 / 2‬‬
‫‪ 3‬القضاء والقدر‪ ،‬المحمود صـ‪.81‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري (‪.)500 /11‬‬
‫‪5‬شرح النووي على صحيح مسلم (‪ 26 /17‬ـ ‪.)27‬‬
‫‪6‬المصدر نفسه (‪.)27 /17‬‬
‫‪ 7‬مسلم‪ ،‬ك صالة المسافرين رقم ‪.771‬‬
‫‪ 8‬المباحث العقدية (‪.)886 /2‬‬
‫‪ 9‬البخاري‪ ،‬ك الدعوات رقم ‪.5947‬‬

‫‪39‬‬
‫والحديث ي‪99‬دل على ش‪99‬يء مم‪99‬ا خل‪99‬ق هللا تع‪99‬الى وه‪99‬و خل‪99‬ق اإلنس‪99‬ان وم‪99‬ا احت‪99‬واه ه‪99‬ذا‬
‫المخلوق من أعضاء وأجهزة يعجز اإلتيان بمثلها إال من هو خالق ك‪9‬ل ش‪9‬يء س‪9‬بحانه‬
‫فالناظر في نفسه ودقة تكوينها وعجيب خلقتها يؤمن بأن هللا خالق كل شيء‪ ،1‬فتضمن‬
‫ه‪99‬ذا االس‪99‬تغفار االع‪99‬تراف من العب‪99‬د بربوبي‪99‬ة هللا وإلهيت‪99‬ه وتوحي‪99‬ده واالع‪99‬تراف بأن‪99‬ه‬
‫خالقه‪ ،‬العالم به إذ انشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه‪.2‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ 1‬المباحث العقدية (‪.)886 /2‬‬


‫‪ 2‬مدارج السالكين (‪.)221 /1‬‬
‫‪3‬‬

‫‪40‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬التقادير الخمس وأنواع اإلرادة‬
‫أوالً‪ :‬التقادير الخمس‪:‬‬
‫إن اإليمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير‬
‫‪1‬ـ التقدير األزلي‪ :‬قبل خلق السماوات واألرض عندما خلق هللا تعالى القلم‪،‬‬
‫َب هّللا ُ لَنَا" (التوبة‪ ،‬آية ‪.)51 :‬‬ ‫ُصيبَنَا إِالَّ َما َكت َ‬ ‫ـ قال تعالى ‪ ":‬قُل لَّن ي ِ‬
‫ب ِّمن‬ ‫ض َواَل فِي أَنفُ ِس ‪ُ 9‬ك ْم إِاَّل فِي ِكتَ‪99‬ا ٍ‬ ‫ص ‪9‬يبَ ٍة فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اب ِمن ُّم ِ‬ ‫ص‪َ 9‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬ما أَ َ‬
‫قَ ْب ِل أَن نَّ ْب َرأَهَا إِ َّن َذلِكَ َعلَى هَّللا ِ يَ ِسي ٌر * لِ َك ْي اَل تَأْ َس‪9‬وْ ا َعلَى َم‪9‬ا فَ‪9‬اتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َرحُ‪9‬وا بِ َم‪9‬ا‬
‫ور" (الحديد‪ ،‬آية ‪.)23 ،22 :‬‬ ‫آتَا ُك ْم َوهَّللا ُ اَل يُ ِحبُّ ُك َّل ُم ْختَا ٍل فَ ُخ ٍ‬
‫ب ُّمبِي ٍن" (النم‪99‬ل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ض إِاَّل فِي ِكتَا ٍ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬و َما ِم ْن غَائِبَ ٍة فِي ال َّس َماء َواأْل َرْ ِ‬
‫‪.)75‬‬
‫ـ ـ وقــال رســول هللا صــلى هللا عليــه وســلم‪ :‬كتب هللا مق‪99‬ادير الخالئ‪99‬ق قب‪99‬ل أن يخل‪99‬ق‬
‫السماوات واألرض بخمسين ألف سنة‪ ،‬قال‪ :‬وعر ُشهُ على الماء‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ تقدير يوم الميثاق‪:‬‬
‫‪9‬ور ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم َوأَ ْش ‪9‬هَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ‪ِ 9‬ه ْم‬
‫ك ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُهُ‪ِ 9‬‬ ‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬وإِ ْذ أَ َخ‪َ 9‬ذ َربُّ َ‬
‫وا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ‪99‬افِلِينَ * أَوْ تَقُولُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا‬ ‫وا بَلَى َش ِه ْدنَا أَن تَقُولُ ْ‬ ‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُ ْ‬
‫أَلَس ُ‬
‫إِنَّ َم‪99‬ا أَ ْش‪َ 99‬ركَ آبَا ُؤنَ‪99‬ا ِمن قَبْ‪ُ 99‬ل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِّمن بَعْ‪ِ 99‬د ِه ْم أَفَتُ ْهلِ ُكنَ‪99‬ا بِ َم‪99‬ا فَ َع‪َ 99‬ل ْال ُم ْب ِطلُ‪99‬ونَ "‪9‬‬
‫(األعراف‪ ،‬آية ‪.)173 ،172 :‬‬
‫وهو ميثاق الفطرة األول‪ ،‬وفيه أخذ هللا تعالى من ظهر آدم ذريته‪ ،‬وهم كأمث‪99‬ال ال‪99‬ذر‪،‬‬
‫وا بَلَى َش‪ِ 9‬ه ْدنَا" (األع‪99‬راف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ت بِ‪َ 9‬ربِّ ُك ْم قَ‪99‬الُ ْ‬‫وأشهدهم على أنفس‪99‬هم وق‪99‬ال لهم" أَلَ ْس‪ُ 9‬‬
‫‪ )172‬فجبلهم على حبه وتوحيده وتعظيمه وأقرهم على ذلك ب‪99‬القوة فص‪99‬ارت النف‪99‬وس‬
‫تقر بخالقها‪ ،‬وتميل إلى توحيده وبقيت تلك الفطرة في قلوبهم حجة عليهم‪.2‬‬
‫إن المراد بهذا االشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ويؤيد ذلك قوله تعالى‪":‬فِ ْ‬
‫ط‪َ 9‬رةَ‪ 9‬هَّللا ِ‬
‫ق هَّللا ِ" (الروم‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬ ‫خَل ِ‬‫يل لِ ْ‬‫اس َعلَ ْيهَا اَل تَ ْب ِد َ‬‫الَّتِي فَطَ َر النَّ َ‬
‫‪3‬‬
‫ثم جعلهم بعلمه وحكمته فريقين فري‪99‬ق في الجن‪99‬ة وفري‪99‬ق في الس‪99‬عير ‪ .‬ق‪99‬ال ص‪99‬لى هللا‬
‫عليه وسلم‪ :‬إن هللا عز وجل خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظه‪99‬ره وق‪99‬ال ه‪99‬ؤالء في الجن‪99‬ة‬
‫وال أبالي‪ ،‬وهؤالء في النار وال أبالي‪ .‬قال‪ :‬فقال قائل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬فعلى ماذا نعمل؟‬
‫قال‪ :‬على موقع القدر‪.4‬‬
‫‪ 3‬ـ التقدير العمري‪ :‬عند تخليق النطفة في ال‪99‬رحم‪ ،‬فيكتب إذ ذاك ذكوريته‪99‬ا وانوثته‪99‬ا‬
‫واألجل والعمل‪ ،‬والشقاوة والسعادة وجميع ما هو الق فال يزاد فيه وال ينقص منه‪.5‬‬
‫ب ِّمنَ ْالبَ ْع ِ‬
‫ث فَإِنَّا َخلَ ْقنَ‪99‬ا ُكم ِّمن‬ ‫ــ قــال هللا تبــارك وتعــالى‪ ":‬يَاأَيُّهَ‪99‬ا النَّاسُ إِن ُكنتُ ْم فِي َر ْي ٍ‬
‫ْ‪9‬ر ُم َخلَّقَ‪ٍ 9‬ة لِّنُبَيِّنَ لَ ُك ْم َونُقِ‪9‬رُّ ِفي‬
‫ض‪َ 9‬غ ٍة ُّمخَ لَّقَ‪ٍ 9‬ة َو َغي ِ‬ ‫طفَ ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثُ َّم ِمن ُّم ْ‬ ‫ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ‬ ‫تُ َرا ٍ‬
‫اأْل َرْ َح ِام َما نَ َشاء إِلَى أَ َج ٍل ُّم َس ًّمى ثُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفاًل ثُ َّم لِتَ ْبلُ ُغوا أَ ُش ‪َّ 9‬د ُك ْم َو ِمن ُكم َّمن يُتَ ‪َ 9‬وفَّى‬
‫َو ِمن ُكم َّمن يُ َر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َك ْياَل يَ ْعلَ َم ِمن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َش ْيئًا" (الحج‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬
‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك القدر رقم ‪.2653‬‬
‫‪ 2‬القضاء والقدر عند السلف‪ ،‬علي السيد الوصيفي صـ‪.56‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.57‬‬
‫‪4‬السلسلة الصحيحة لأللباني رقم ‪.48‬‬
‫‪ 5‬معارج القبول (‪.)934 / 3‬‬

‫‪41‬‬
‫طفَ ٍة ثُ َّم َج َعلَ ُك ْم أَ ْز َواجًا َو َما تَحْ ِم‪ُ 9‬ل ِم ْن أُنثَى‬ ‫ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ‬ ‫‪":‬وهَّللا ُ خَ لَقَ ُكم ِّمن تُ َرا ٍ‬
‫ـ وقال تعالى َ‬
‫ب إِ َّن َذلِكَ َعلَى‬ ‫َض ُع إِاَّل بِ ِع ْل ِم ِه َو َما يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل فِي ِكتَا ٍ‬ ‫َواَل ت َ‬
‫هَّللا ِ يَ ِسي ٌر" (فاطر‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ‬
‫طفَ ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثُ َّم ي ُْخ‪ِ 9‬ر ُج ُك ْم ِط ْفاًل ثُ َّم‬ ‫ـ وقال تعالى‪":‬هُ َو الَّ ِذي خَ لَقَ ُكم ِّمن تُ َرا ٍ‬
‫لِتَ ْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم ثُ َّم لِتَ ُكونُوا ُشيُو ًخا َو ِمن ُكم َّمن يُت ََوفَّى ِمن قَ ْب ُل َولِتَ ْبلُ ُغوا أَ َجاًل ُّم َس‪ًّ 9‬مى َولَ َعلَّ ُك ْم‬
‫تَ ْعقِلُونَ " (غافر‪ ،‬آية ‪.)67 :‬‬
‫اس ُع ْال َم ْغفِ َر ِة هُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ُك ْم إِ ْذ أَن َشأ َ ُكم ِّمنَ‪ 1‬اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫ك َو ِ‬ ‫ـ وقال تبارك وتعالى‪":‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫َوإِ ْذ أَنتُ ْم أَ ِجنَّةٌ ِفي بُطُو ِن أُ َّمهَاتِ ُك ْم" (النجم‪ ،‬آية ‪ )32 :‬وغيرها من اآليات ‪.‬‬
‫وقال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪ :‬حدثنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهــو‬
‫خَلفُهُ في بطن أمه أربعين يوما‪ ،‬ثم يكون في‬ ‫الصادق المصدوق قال‪ :‬إن أحدكم يُجْ َم ُع ْ‬
‫ذلك علقة مث‪99‬ل ذل‪99‬ك‪ ،‬ثم يك‪99‬ون في ذل‪99‬ك مض‪99‬غة مث‪99‬ل ذل‪99‬ك ثم يُرْ َس‪ُ 9‬ل المل‪99‬ك فينفخ في‪99‬ه‬
‫ي أو سعي ٌد‪ ،‬فوالذي ال إله‬ ‫الروح‪ ،‬ويؤمر بأربع كلمات‪ :‬بكتب رزقه وأجله وعمله وشق ٌ‬
‫غيره‪ ،‬إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ح‪99‬تى م‪99‬ا يك‪99‬ون بين‪99‬ه وبينه‪99‬ا إال ذراع فيس‪99‬بق‬
‫عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن أحدكم ليعمل بعمل أه‪99‬ل الن‪99‬ار ح‪99‬تى‬
‫يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجن‪99‬ة في‪99‬دخلها‪ ،2‬وفي‬
‫رواية أخرى‪ :‬إذا أمر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث هللا إليها ملكا فص‪99‬ورها وخل‪99‬ق‬
‫سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال‪ :‬يا رب أذكر أم أنثى‪ ،‬فيقضي رب‪99‬ك‬
‫ما يشاء ويكتب الملك‪ ،‬ثم يق‪99‬ول‪ :‬ي‪99‬ا رب أجل‪99‬ه فيق‪99‬ول رب‪99‬ك م‪99‬ا ش‪99‬اء ويكتب المل‪99‬ك ثم‬
‫يقول‪ :‬يا رب رزقه‪ ،‬فيقضي ربك ما ش‪99‬اء ويكتب المل‪99‬ك‪ ،‬ثم يخ‪99‬رج المل‪99‬ك بالص‪99‬حيفة‬
‫في يده فال يزيد على ما أمر وال ينقص‪,3‬‬
‫‪ 4‬ـ التقدير الحولي‪ :‬في ليلة القدر‪:‬‬
‫‪9‬ر َح ِك ٍيم *‬ ‫ق ُك‪99‬لُّ أَ ْم ٍ‬‫ار َك‪ٍ 9‬ة إِنَّا ُكنَّا ُمن‪ِ 9‬ذ ِرينَ * فِيهَ‪9‬ا يُ ْف‪َ 9‬ر ُ‬ ‫قال تعالى‪":‬إِنَّا أَ ْ‬
‫نزَلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ٍة ُّمبَ َ‬
‫أَ ْمرًا ِّم ْن ِعن ِدنَا إِنَّا ُكنَّا ُمرْ ِسلِينَ " (الدخان‪ ،‬آية ‪ 3 :‬ـ ‪.)5‬‬
‫قال ابن عباس ـ رضي هللا عنه ـ ‪ :‬يكتب في أم الكت‪99‬اب في ليل‪99‬ة الق‪99‬در م‪99‬ا يك‪99‬ون في‬
‫السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال‪ :‬يحج فالن وفالن‪.4‬‬
‫ومع‪9‬نى يف‪9‬رق أن‪9‬ه يكتب ويفص‪9‬ل ك‪99‬ل أم‪9‬ر حكيم من أرزاق العب‪9‬اد وآج‪99‬الهم‪ ،‬وجمي‪9‬ع‬
‫أمورهم من ه‪99‬ذه الليل‪99‬ة إلى األخ‪99‬رى من الس‪99‬نة القابلة‪ ،5‬فيقض‪99‬ي أم‪99‬ر الس‪99‬نة كله‪99‬ا من‬
‫معايش الناس ومصائبهم وموتهم وحياتهم إلى مثلها من السنة األخرى‪.6‬‬
‫‪ 5‬ـ التقدير اليومي‪ :‬هو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق‪.‬‬
‫ض ُك‪َّ 9‬ل يَ‪99‬وْ ٍم هُ‪َ 9‬و فِي َش‪9‬أْ ٍن" (ال‪99‬رحمن‪،‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ــ قال تعالى‪ ":‬يَ ْس‪9‬أَلُهُ َمن فِي َّ‬
‫الس‪َ 9‬ما َوا ِ‬
‫آية ‪.)29 :‬‬
‫روى ابن جرير بسند حسن عن منيب بن عبد هللا بن منيب األزدي عن أبيه ق‪99‬ال‪ :‬ق‪99‬رأ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم هذه اآلية‪ُ ":‬ك َّل يَوْ ٍم هُ َو فِي َشأْ ٍن" فقلن‪99‬ا‪ :‬ي‪99‬ا رس‪99‬ول هللا‪،‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)935 / 3‬‬


‫‪ 2‬البخاري في كتاب بدء الخلق رقم ‪.3208‬‬
‫‪ 3‬مسلم‪ ،‬ك القدر رقم ‪.2645‬‬
‫‪ 4‬تفسير ابن كثير (‪.)140 / 4‬‬
‫‪ 5‬تفسير أبو السعود (‪.)58 / 8‬‬
‫‪6‬القضاء والقدر المحمود ص‪.68‬‬

‫‪42‬‬
‫وما ذاك الشأن؟ قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أن يغفر ذنباً‪ ،‬ويف‪ِّ 9‬رج كرب‪99‬ا‪ ،‬ويرف‪99‬ع قوم‪9‬اً‪،‬‬
‫ويضع آخرين‪.1‬‬
‫ع ْال ُم ْل َ‬
‫ك ِم َّمن تَ َشاء َوتُ ِع ُّ‬
‫‪99‬ز‬ ‫ك تُ ْؤتِي ْال ُم ْل َ‬
‫ك َمن تَ َشاء َوت ِ‬
‫َنز ُ‬ ‫قال سبحانه‪":‬قُ ِل اللَّهُ َّم َمالِكَ ْال ُم ْل ِ‬
‫ك َعلَ َى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ"(آل عمران‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫َمن تَ َشاء َوتُ ِذلُّ َمن تَ َشاء بِيَ ِدكَ ْالخَ ْي ُر إِنَّ َ‬
‫وق‪9‬ال البغ‪9‬وي في تفس‪9‬يره" ُك‪َّ 9‬ل يَ‪9‬وْ ٍم هُ‪َ 9‬و فِي َش‪9‬أْ ٍن‪ :‬من ش‪9‬أنه أن يحي ويميت‪ ،‬ويخل‪9‬ق‬
‫ويرزق‪ ،‬ويُعز قوما ويذل قوماً‪ ،‬ويشفي مريضاً‪ ،‬ويفك عانيا‪ ،‬ويفرج مكروباً‪ ،‬ويجيب‬
‫داعياً‪ ،‬ويعطي سائالً‪ ،‬ويغفر ذنبا إلى م‪99‬ا ال يحص‪99‬ى من أفعال‪99‬ه وإحداث‪99‬ه في خلق‪99‬ه م‪99‬ا‬
‫يشاء‪.2‬‬
‫وجملة القول في ذلك أمن التقدير اليومي هو تأويل المقدورعلى العبد وإنفاذه في‪99‬ه‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي سبق أن يناله فيه‪ ،‬ال يتقدمه وال يتأخره‪.‬‬
‫ثم هذا التقدير اليومي تفصيل من تقدير الحولي‪ ،‬والحولي تفصيل من التقدير العم‪99‬ري‬
‫عند تخليق النطفة‪ ،‬والعمري تفص‪99‬يل من التخلي‪99‬ق العم‪99‬ري األول ي‪99‬وم الميث‪99‬اق‪ ،‬وه‪99‬و‬
‫تفصيل من التقدير األزلي الذي خطه القلم في اإلمام المبين واإلمام المبين هو من علم‬
‫هللا عز وجل‪ ،‬وكذلك منتهى المق‪99‬ادير في آخريته‪99‬ا إلى علم هللا‪ ،3‬ف‪99‬انتهت األوائ‪99‬ل إلى‬
‫"وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُمنتَهَى" (النجم‪ ،‬آية ‪.4)42 :‬‬
‫أوليته وإنتهت األواخر إلى آخريته َ‬
‫ثانياً‪ :‬أنواع اإلرادة‪:‬‬
‫تنقسم اإلرادة في كتاب هللا إلى إرادة كونية قدرية‪ ،‬وإرادة دينية شرعية‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ اإلرادة الكونية‪:‬‬
‫هي المشيئة العامة التي يدخل فيها جميع المخلوقات من ب‪99‬ر وف‪99‬اجر وص‪99‬الح وط‪99‬الح‪،‬‬
‫وهي إرادة هللا تع‪99‬الى لفعل‪99‬ه‪ ،‬س‪99‬واء إن ك‪99‬ان المفع‪99‬ول من‪99‬ه محبوب‪9‬ا ً أو غ‪99‬ير محب‪99‬وب‪،‬‬
‫يرضيه أم ال يرضيه‪ ،‬فاهلل تعالى يفعل ما يشاء‪ ،‬وال يشاء شيئا ً إال بعد إرادته له‪ ،‬وكل‬
‫ما كان منه فليس في‪99‬ه إال الجم‪99‬ال والجالل والحس‪99‬ن‪ ،‬أم‪99‬ا أفع‪99‬ال العب‪99‬اد فهي منقس‪99‬مة‪،‬‬
‫ففيه‪99‬ا الحس‪99‬ن وفيه‪99‬ا الق‪99‬بيح‪ ،‬وليس للعب‪99‬اد أن يفعل‪99‬وا م‪99‬ا يش‪99‬اؤون‪ ،‬وإنم‪99‬ا يفعل‪99‬ون م‪99‬ا‬
‫يؤمرون به إمتثاالً وإنتها ًء‪ ،‬وهذا هو الحسن منهم‪ ،‬وتلك اإلرادة متعلقة ب‪99‬الخلق‪ ،‬وهي‬
‫من لوازم الربوبية‪ ،‬فما ش‪99‬اء ك‪99‬ان وم‪99‬ا لم يش‪99‬أ لم يكن وي‪99‬دخل في ه‪99‬ذه المش‪99‬يئة خل‪99‬ق‬
‫األقوياء والضعفاء والفقراء والمؤمنين‪ 9‬الكفار‪ ،‬والمالئكة والشياطين‪ ،‬وخلق الخ‪99‬يرات‬
‫والفضائل‪ ،‬وخلق السيئات والحسنات‪ ،‬وخلق التوفيق والخذالن‪ ،‬وخلق القوة والعجز‪،‬‬
‫والبالدة والذكاء‪ .5‬وهذه بعض اآليات تدل على اإلرادة الكونية‪.‬‬
‫ـ قال تعالى‪َ " :‬ولَوْ َشاء َربُّكَ َما فَ َعلُوهُ" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)112 :‬‬
‫ــ قال تعالى‪َ " :‬ولَوْ َشاء هّللا ُ َما ا ْقتَتَلُ ْ‬
‫وا َولَـ ِك َّن هّللا َ يَ ْف َع ُل َما ي ُِري ُد"(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)353 :‬‬
‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪ ،)273 / 4‬صححه األلباني في ظالل الجنة‪.‬‬
‫‪ 2‬تفسير الخازن والبغوي (‪ 80 / 6‬ـ ‪.)81‬‬
‫‪ 3‬معارج القبول (‪.)939 / 3‬‬
‫‪ 4‬معارج القبول (‪.)940 / 3‬‬
‫‪ 5‬القضاء والقدر عند السلف للوصيفي صـ‪.62‬‬

‫‪43‬‬
‫ض ُكلُّهُ ْم َج ِميعًا"(يونس‪ ، 9‬آية ‪.)39 :‬‬ ‫ك آل َمنَ َمن فِيا ألَرْ ِ‬ ‫"ولَوْ َشاء َربُّ َ‬
‫ــ وقال‪َ :‬‬
‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َسلَّطَهُ ْم َعلَ ْي ُك ْم فَلَقَاتَلُو ُك ْم"(النساء ‪ ،‬آية ‪.)90 :‬‬
‫إل ْسالَ ِم َو َمن ي ُِر ْد أَن يُ ِ‬
‫ضلَّهُ يَجْ َعلْ‬ ‫ص ْد َرهُ لِ ِ‬‫ــ وقال تعالى‪" :‬فَ َمن ي ُِر ِد هّللا ُ أَن يَ ْه ِديَهُ يَ ْش َرحْ َ‬
‫ص َّع ُد فِي ال َّس َماء"(األنعام ‪ ،‬آية ‪.)125 :‬‬ ‫ضيِّقًا َح َرجًا َكأَنَّ َما يَ َّ‬
‫ص ْد َرهُ َ‬
‫َ‬
‫نص ‪َ 9‬ح لَ ُك ْم إِن َك‪99‬انَ هّللا ُ ي ُِري ‪ُ 9‬د أَن‬
‫دت أَ ْن أَ َ‬ ‫ص ‪ِ 9‬حي إِ ْن أَ َر ُّ‬ ‫ــــ وقــال تعــالى‪َ " :‬والَ يَنفَ ُع ُك ْم نُ ْ‬
‫يُ ْغ ِويَ ُك ْم" (هود ‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬
‫‪9‬وا َولَـ ِك َّن هّللا َ يَ ْف َع‪ُ 9‬ل َماي ُِري‪ُ 9‬د" (البقــرة ‪ ،‬آيــة ‪:‬‬ ‫ــ وقــال تعــالى‪َ " :‬ولَوْ َش‪9‬اء هّللا ُ َم‪99‬ا ا ْقتَتَلُ‪ْ 9‬‬
‫‪.)253‬‬
‫ك قُ ْلتَ َما َشاء هَّللا ُ اَل قُ َّوةَ إِاَّل بِاهَّلل ِ" (الكه‪99‬ف ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫َخَلتَ َجنَّتَ َ‬‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬ولَوْ اَل إِ ْذ د ْ‬
‫‪.)39‬‬
‫س هُدَاهَا" (السجدة ‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬ ‫ْ‬
‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬ولَوْ ِش ْئنَا آَل تَ ْينَا ُك َّل نَف ٍ‬
‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬و َماتَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َشاء هَّللا ُ إِ َّن هَّللا َ َكانَ َعلِي ًما َح ِكي ًما"(اإلنسان ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫‪.)30‬‬
‫ص ‪َ 9‬را ٍط ُّم ْس ‪9‬تَقِ ٍيم" (األنع‪99‬ام ‪،‬‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬من يَ َشإ ِ هّللا ُ يُضْ لِ ْلهُ َو َمن يَ َشأْ يَجْ َع ْلهُ َعلَى ِ‬
‫آية ‪.)39 :‬‬
‫ون" (يس ‪ ،‬آية ‪.)82 :‬‬ ‫ول لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ــ وقال تعالى‪ " :‬إِنَّ َما أ ْم ُرهُ إِ َذا أ َرا َد َش ْيئًا أ ْن يَقُ َ‬
‫وهذه اإلرادة وتلك المشيئة هي التي تستلزم وقوع المراد‪ ،‬والمراد إما أن يك‪9‬ون م‪9‬راد‬
‫لذاته محبوبا ً هلل تعالى‪ ،‬وذلك لم‪9‬ا في‪9‬ه من الخ‪9‬ير‪ ،‬كخل‪9‬ق األنبي‪9‬اء والص‪9‬الحين وك‪9‬ذلك‬
‫كافة الفض‪9‬ائل والخ‪9‬يرات‪ ،‬أو م‪9‬راداً لغ‪9‬يره وه‪9‬ذا يطل‪9‬ق على الكف‪9‬ر وجمي‪9‬ع الش‪9‬رور‬
‫واآلثام‪ ،‬فإنها ليست مرادة لذاتها وإنما هي مرادة لشيء آخر محبوب إلى هللا تعالى‪.‬‬
‫ْض الَّ ِذي‬ ‫ت أَيْ‪ِ 9‬دي النَّ ِ‬
‫اس لِيُ‪ِ 9‬ذيقَهُم بَع َ‬ ‫قال تعالى "ظَهَ َر ْالفَ َسا ُد فِي ْالبَ‪ِّ 9‬ر َو ْالبَحْ‪ِ 9‬ر بِ َم‪9‬ا َك َس‪9‬بَ ْ‬
‫َع ِملُوا لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجعُونَ "(الروم ‪ ،‬آية ‪.)41 :‬‬
‫وهذا دليل على إثبات الحكمة في جميع أفع‪99‬ال هللا تع‪99‬الى وأحكامه‪ ،1‬والح‪99‬ق أن جمي‪99‬ع‬
‫أفعال‪99‬ه وش‪99‬رعه له‪99‬ا حكم وغاي‪99‬ات‪ ،‬ألجله‪99‬ا ش‪99‬رع وفع‪99‬ل‪ ،‬وإن لم يعمله‪99‬ا الخل‪99‬ق على‬
‫‪2‬‬
‫التفعيل‪ ،‬فال يلزم من عدم علمهم بها إنتفاؤها في نفسها‬
‫وحاصل اإلرادة الكونية إثب‪99‬ات مش‪99‬يئة هللا تع‪99‬الى المطلق‪99‬ة في إيج‪99‬اد المخلوق‪99‬ات كله‪99‬ا‬
‫واختالف أنواعها وأشكالها‪ ،‬وتفاوت فضائلها وش‪99‬رورها وجماله‪99‬ا ودمامته‪99‬ا وكيس‪99‬ها‬
‫وعجزها‪ ،‬وكفرها وإيمانها‪ ،‬فما شاء هللا كان‪ ،‬وم‪99‬ا لم يش‪99‬أ لم يكن‪ ،‬فاهلل على ك‪99‬ل ش‪99‬ئ‬
‫قدير‪ ،‬وال يقع في ملكه إال ما يريد‪ ،‬وال يق‪9‬ع في‪9‬ه ش‪9‬ئ كره‪9‬ا ً عن‪9‬ه‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ " :‬و َمن‬
‫‪9‬ز ِذي انتِقَ‪ٍ 9‬‬
‫‪9‬ام"‬ ‫ض‪9‬لٍّ أَلَي َ‬
‫ْس هَّللا ُ بِ َع ِزي‪ٍ 9‬‬ ‫يُضْ لِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد * َو َمن يَ ْه ِد هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمن ُّم ِ‬
‫(الزمر ‪ ،‬آية ‪ 36 :‬ـ ‪.)37‬‬
‫فهو الذي أراد إيمان المؤمنين‪ ،‬وه‪99‬و ال‪99‬ذي أراد كف‪99‬ر الك‪99‬افرين‪ ،‬وك‪99‬ل ذل‪99‬ك في علم‪99‬ه‬
‫السابق‪ ،‬وال يمكن ألحد أن يخرج عن علمه‪ ،‬وعلمه يستلزم ثبوت قدرته‪ ،‬وإذا كان قد‬
‫علم أن أبا لهب سيكفر‪ ،‬فهذا معناه أنه لن يستطيع أن يخرج عن علم‪99‬ه وي‪99‬ؤمن‪ ،‬وه‪99‬ذا‬
‫دليل أن هللا تعالى سيحول بقدرته بين‪99‬ه وبين اإليم‪99‬ان‪ ،‬فلن يق‪99‬در علي‪99‬ه‪ ،‬ولن يق‪99‬در أب‪99‬و‬
‫‪ 1‬القضاء والقدر عند السلف صـ‪.63‬‬
‫‪2‬القضاء والقدر عند السلف صـ‪.64‬‬

‫‪44‬‬
‫وا أَ َّن هّللا َ يَحُو ُل بَ ْينَ ْال َم‪99‬رْ ِء َوقَ ْلبِ‪ِ 9‬ه َوأَنَّهُ إِلَ ْي‪ِ 9‬ه‬
‫لهب على خالف ذلك‪ ،‬قال تعالى‪َ " :‬وا ْعلَ ُم ْ‬
‫تُحْ َشرُونَ " (األنفال ‪ ،‬آية ‪ .)24 :‬وهذا ليس من باب تكليف ما ال يطاق‪ ،‬وإنما ه‪99‬ذا من‬
‫باب العقوبة‪ :‬وهي ن‪99‬وع من الخ‪99‬ذالن لمن زاغ عن ص‪99‬راط هللا المس‪99‬تقيم‪ ،‬وأم‪99‬ا طاق‪99‬ة‬
‫األسباب فهي مقدورة له‪ ،‬ولكن هللا تعالى لم يوفقه ولم يق‪99‬دره على بل‪9‬وغ غاياته‪99‬ا‪ ،‬فم‪9‬ا‬
‫آمن من آمن إال بفضل هللا تعالى ورحمته‪ ،‬وما كفر من كفر كرها ً عنه إنما ك‪99‬ان ذل‪99‬ك‬
‫ض ُكلُّهُ ْم َج ِميعً‪9‬ا" (ي‪99‬ونس ‪،‬‬ ‫"ولَ‪99‬وْ َش‪9‬اء َربُّكَ آل َمنَ َمن فِي األَرْ ِ‬ ‫بخ‪9‬ذالن هللا تع‪99‬الى ل‪9‬ه‪َ :‬‬
‫آية ‪ ،)99 :‬وهو سبحانه وتعالى خالق الخير‪ ،‬كم‪99‬ا ه‪99‬و خ‪99‬الق الش‪99‬ر‪ ،‬ال إل‪99‬ه غ‪99‬يره وال‬
‫‪9‬و‬‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء" (الزمر ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)22 :‬وق‪9‬ال تع‪9‬الى‪" :‬هُ َ‬ ‫ب سواه‪ ،‬قال تعالى‪" :‬هّللا ُ خَ الِ ُ‬ ‫ر ٍ‬
‫ض َج ِميع ‪9‬اً"(البق‪99‬رة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ . )29 :‬وفي اإلرادة الكوني‪99‬ة ق‪99‬د‬ ‫ق لَ ُكم َّمافِي األَرْ ِ‬ ‫الَّ ِذي خَ لَ ‪َ 9‬‬
‫‪1‬‬

‫يبغض هللا تعالى طاعة العاصي وال يعينه عليها بعد اإلراشاد والنصح والبيان‪ ،‬وذل‪99‬ك‬
‫لحكمه عظيم‪99‬ة جليل‪99‬ة‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى في المن‪99‬افقين ال‪99‬ذين تخلف‪99‬وا م‪99‬ع الخوال‪99‬ف في‬
‫بيوتهم‪ ،‬وتركوا الخروج للجهاد مع النبي صلى هللا عليه وسلم كما في غزوة تب‪99‬وك‪" :‬‬
‫وا َم‪َ 9‬ع‬ ‫‪9‬رهَ هّللا ُ انبِ َع‪99‬اثَهُ ْم فَثَبَّطَهُ ْم َوقِي‪َ 9‬ل ا ْق ُع‪ُ 9‬د ْ‬ ‫ُوج ألَ َع ُّد ْ‬
‫وا لَهُ ُع َّدةً َولَـ ِكن َك‪ِ 9‬‬ ‫وا ْال ُخر َ‬ ‫َولَوْ أَ َرا ُد ْ‬
‫اع ِدينَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪ ،)46 :‬وقد بين هللا تعالى الحكمة في بغضه لطاعته فقال‪" :‬لَوْ‬ ‫ْالقَ ِ‬
‫ُوا ِخالَلَ ُك ْم يَ ْب ُغ‪99‬ونَ ُك ُم ْالفِ ْتنَ‪9‬ةَ َوفِي ُك ْم َس‪َّ 9‬ما ُعونَ‬
‫ض‪9‬ع ْ‬ ‫ُوا فِي ُكم َّما زَا ُدو ُك ْم إِالَّ خَ بَ‪99‬االً وألَوْ َ‬
‫خَ َرج ْ‬
‫لَهُ ْم َوهّللا ُ َعلِي ٌم بِالظَّالِ ِمينَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬
‫وه‪9‬و س‪9‬بحانه‪" :‬اَل ي ُْس‪9‬أ َ ُل َع َّما يَ ْف َع‪ُ 9‬ل َوهُ ْم ي ُْس‪9‬أَلُونَ " (األنبي‪9‬اء ‪ ،‬آي‪9‬ة ‪ ،)23 :‬وذل‪9‬ك ألن‪9‬ه‬
‫يتص‪99‬رف في ملك‪99‬ه‪ ،‬وه‪99‬ذا ليس في‪99‬ه ظلم‪ ،‬إنم‪99‬ا الظلم في الحقيق‪99‬ة يك‪99‬ون من تص‪99‬رف‬
‫المتصرف فيما ال يملك‪ ،‬ومنع المس‪99‬تحق م‪99‬ا يس‪99‬تحقه‪ ،‬وهللا تع‪99‬الى ال يجب علي‪99‬ه ش‪99‬ئ‬
‫ألحد حتى يحاسب على ما ضيق ومنع‪ ،‬وعلى ما أهان وخذل‪ ،‬وإنما هو حكم‪99‬ة بالغ‪99‬ة‬
‫ورحمة واسعة وعدل قويم‪.2‬‬
‫أ ـ ـ كيــف يريــد هللا أمــراً وال يرضــاه وال يحبــه؟ وكيــف تجتمــع إرادتــه لــه وبغضــه‬
‫وكراهته؟‬
‫فالمراد نوعان‪ :‬مراد لنفسه‪ ،‬ومراد لغيره‪.‬‬
‫فالمراد لنفسه مطلوب محب‪99‬وب لذات‪99‬ه‪ ،‬وم‪99‬ا في‪99‬ه من الخ‪99‬ير‪ ،‬فه‪99‬و م‪99‬راد إرادة الغاي‪99‬ات‬
‫والمقاصد‪.‬‬
‫والمراد لغيره‪ ،‬قد ال يكون مقصود للمريد‪ ،‬وال فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته‪ ،‬م‪99‬راد‬
‫له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى م‪99‬راده‪ ،‬ف‪99‬اجتمع في‪99‬ه األم‪99‬ران‪ :‬بغض‪99‬ه وإرادت‪99‬ه وال‬
‫يتنافيان‪ ،‬الختالف متعلقهما‪ ،‬وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول ل‪99‬ه أن في‪99‬ه ش‪99‬فاؤه‪،‬‬
‫وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده‪ ،‬كقطع المس‪9‬افة الش‪9‬اقة‪ ،‬إذا علم‬
‫أنها توصل إلى مراده ومحبوبه‪.3‬‬
‫فهوسبحانه يكره الشئ‪ ،‬وال ينافي ذلك إرادته ألجل غ‪99‬يره‪ ،‬وكون‪99‬ه س‪99‬ببا ً إلى أم‪99‬ر ه‪99‬و‬
‫أحبُّ إليه من فوته‪.‬‬
‫ومن ذل‪99‬ك‪ :‬أن‪99‬ه خل‪99‬ق إبليس ال‪99‬ذي ه‪99‬و م‪99‬ادة لفس‪99‬اد األدي‪99‬ان واألعم‪99‬ال واالعتق‪99‬ادات‬
‫واإلرادات‪ ،‬وه‪9‬و س‪9‬بب لش‪9‬قاء الكث‪9‬ير من العب‪9‬اد‪ ،‬وعملهم بم‪9‬ا يغض‪9‬ب ال‪9‬رب تب‪9‬ارك‬
‫‪1‬‬
‫القضاء والقدر عند السلف صـ‪.64‬‬
‫‪2‬‬
‫القضاء القدر عند السلف صـ‪.65‬‬
‫‪3‬‬
‫منهج اإلمام ابن أبي العز الحنفي‪ ،‬عبد هللا الحافي صـ‪.329‬‬

‫‪45‬‬
‫وتعالى‪ ،‬ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه وجوده‪99‬ا‬
‫إليه من عدمها‪:‬‬
‫منها‪ :‬أنه تظهر للعباد قدرة الرب على خلق المتضادات المتقابالت‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ظهور آثار أسمائه القهرية‪ ،‬مثل القه‪99‬ار‪ ،‬المنتقم‪ ،‬والع‪99‬دل‪ ،‬والض‪99‬ار‪ ،‬والش‪99‬ديد‬
‫العقاب‪ ،‬والسريع الحساب‪ ،‬والخافض‪ ،‬والمذل‪ ،‬فإن هذه األس‪99‬ماء واألفع‪99‬ال كم‪99‬ال‪ ،‬ال‬
‫بد من وجود متعلقها‪ ،‬ولو كان الجن واإلنس على طبيعة المالئك‪99‬ة لم يظه‪99‬ر أث‪99‬ر ه‪99‬ذه‬
‫األسماء‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ظهور آثار أسمائه المتضمنة‪ 9‬لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه‬
‫وعتقه لمن شاء من عبيده‪ ،‬فلوال خلق ما يكرهه من األسباب المفضية إلى ظهور آثار‬
‫هذه األسماء‪ ،‬لتعطلت هذه الحكم والفوائد‪ ،‬وقد أشار الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم إلى‬
‫هذا بقوله‪" :‬لو لم تذنبوا‪ ،‬لذهب هللا بكم‪ ،‬ولجأ بقوم يذنبون‪ ،‬ويستغفرون‪ ،‬فيغفر لهم"‪.1‬‬
‫ومنها‪ :‬ظهور أس‪9‬ماء الحكم‪9‬ة والخ‪9‬برة‪ ،‬فإن‪9‬ه الحكيم الخب‪9‬ير ال‪9‬ذي يض‪9‬ع األش‪9‬ياء في‬
‫مواضعها‪ ،‬فال يضع الشئ في غير موض‪99‬عه‪ ،‬فه‪99‬و أعلم حيث يجع‪99‬ل رس‪99‬االته‪ ،‬وأعلم‬
‫بمن يصلح لقبولها ويشكره على إنتهائها إليه‪ ،‬وأعلم بمن ال يصلح لذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬حصول العبودية المتنوعة التى لوال خلق إبليس لما حصلت كعبودي‪9‬ة الجه‪9‬اد‪،‬‬
‫والصبر‪ ،‬ومخالفة الهوى‪ ،‬وعبودي‪9‬ة االس‪9‬تعاذة‪ ،‬إلى غ‪9‬ير ذل‪9‬ك من الحكم ال‪9‬تي تعج‪9‬ز‬
‫العقول عن إدراكها‪.2‬‬
‫ب ـ هل يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه األسباب؟‬
‫هذا سؤال فاسد وهو فرض وجود الملزوم ب‪9‬دون الزم‪9‬ه‪ ،‬كف‪99‬رض وج‪9‬ود االبن ب‪9‬دون‬
‫األب‪ ،‬والحركة بدون المتحرك‪ ،‬والتوبة بدون التائب‪.3‬‬
‫‪ 2‬ـ اإلرادة الشرعية‪:‬‬
‫هي إرادة هللا تعالى ألمره الديني الشرعي‪ ،‬وهي التي أرسل من أجلها الرسل‪ ،‬وأن‪99‬زل‬
‫من أجلها الكتب وهي ال تستلزم وقوع المراد م‪99‬ع كون‪99‬ه محبوب‪9‬ا ً هلل تع‪99‬الى إال إذا ك‪99‬ان‬
‫متعلقا ً باإلرادة الكونية‪ ،4‬واإلرادة الشرعية الدينية تدل داللة واضحة على أنه س‪99‬بحانه‬
‫ال يحب الذنوب والمعاصي والضالل والكف‪99‬ر‪ ،‬وال ي‪99‬أمر به‪9‬ا وال يرض‪99‬اها‪ ،‬وإن ك‪99‬ان‬
‫شاءها خلقا ً وتقديراً وإيجاداً‪ ،‬وأنه سبحانه وتعالى يرض‪99‬ى ويحب ك‪99‬ل م‪99‬ا يتعل‪99‬ق به‪99‬ذه‬
‫اإلرادة الدينية الشرعية ويثيب أصحابها‪ ،‬ويدخلهم الجن‪99‬ة وينص‪99‬رهم في الحي‪99‬اة ال‪99‬دنيا‬
‫وفي اآلخ‪99‬رة وينص‪99‬ر به‪99‬ا‪ ،‬أي‪ :‬اإلرادة الديني‪99‬ة الش‪99‬رعية للعب‪99‬اد من أوليائ‪99‬ه المتقين‬
‫وحزبه المفلحين وعباده الصالحين‪ ،5‬ومن اآليات الدالة على اإلرادة الشرعية‪:‬‬
‫ـ قوله تعالى‪ ":‬ي ُِري ُد هّللا ُ بِ ُك ُم ْاليُس َْر َوالَ ي ُِري ُد بِ ُك ُم ْال ُع ْس َر" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)185 :‬‬
‫ج" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬ ‫ـ وقوله تعالى‪َ ":‬ما ي ُِري ُد هّللا ُ لِيَجْ َع َل َعلَ ْي ُكم ِّم ْن َح َر ٍ‬
‫ت أَن تَ ِميلُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا‬ ‫َّ‬
‫الش‪9‬هَ َوا ِ‬ ‫ـ وقوله تعالى‪َ ":‬وهّللا ُ ي ُِري ُد أَن يَتُ‪َ 9‬‬
‫‪9‬وب َعلَ ْي ُك ْم َوي ُِري‪ُ 9‬د الَّ ِذينَ يَتَّبِ ُع‪99‬ونَ‬
‫َظي ًما" (النساء‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫َم ْيالً ع ِ‬
‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬باب التوبة رقم ‪.2748‬‬
‫‪ 2‬منهج اإلمام ابن أبي العز الحنفي صـ‪.330‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ‪.330‬‬
‫‪ 4‬القضاء والقدر عند السلف صـ ‪.65‬‬
‫‪5‬مجموع الفتاوى (‪.)188 /8‬‬

‫‪46‬‬
‫ض ِعيفًا" (النساء‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬ ‫ان َ‬ ‫اإلن َس ُ‬
‫ق ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪9":‬ي ُِري ُد هّللا ُ أَن يُ َخفِّفَ عَن ُك ْم َو ُخلِ َ‬
‫ت َويُطَهِّ َر ُك ْم ت ْ‬
‫َط ِه‪99‬يرًا"‬ ‫س أَ ْه ‪َ 9‬ل ْالبَ ْي ِ‬‫ب عَن ُك ُم ال ‪ِّ 9‬رجْ َ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬إِنَّ َم‪ 9‬ا‪ 9‬ي ُِري ‪ُ 9‬د هَّللا ُ لِيُ‪9ْ 9‬ذ ِه َ‬
‫(األحزاب‪ ،‬آية ‪.)33 :‬‬
‫ض ‪9‬ى لِ ِعبَ‪99‬ا ِد ِه ْال ُك ْف ‪َ 9‬ر وإِن ت َْش ‪ُ 9‬كرُوا‬‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬إِن‪ 9‬تَ ْكفُ ‪9‬رُوا فَ ‪9‬إ ِ َّن هَّللا َ َغنِ ٌّي عَن ُك ْم َواَل يَرْ َ‬
‫ضهُ لَ ُك ْم" (الزمر‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬ ‫يَرْ َ‬
‫‪3‬ــ الفرق بين اإلرادتين‪:‬‬
‫أــ اإلرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد‪ ،‬والشرعية ال يلزم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫ب ــ اإلرادة الشرعية تختص فيما يحبه هللا‪ ،‬والكونية عامة فيما يحبه وما ال يحبه ‪.‬‬
‫ج ــ فم‪99‬ا ك‪99‬ان بمع‪99‬نى المش‪99‬يئة فه‪99‬و إرادة كوني‪99‬ة وم‪99‬ا ك‪99‬ان بمع‪99‬نى المحب‪99‬ة فه‪99‬و إرادة‬
‫‪9‬وب َعلَ ْي ُك ْم" (النس‪99‬اء‪،‬‬ ‫شرعية‪ ،‬مث‪99‬ال اإلرادة الش‪99‬رعية قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ 9":‬وهّللا ُ ي ُِري‪ُ 9‬د أَن يَتُ‪َ 9‬‬
‫آية ‪ )27 :‬ألن يريد هنا بمعنى يحب وال تكون بمعنى المش‪99‬يئة ألن‪99‬ه ل‪99‬و ك‪99‬ان المع‪99‬نى‪:‬‬
‫وهللا يشاء أن يتوب عليكم‪ ،‬لتاب على جميع العباد وهذا أمر لم يكن فإن أك‪9‬ثر ب‪9‬ني آدم‬
‫من الكفار‪ ،‬إذن يريد أن يتوب عليكم يع‪99‬ني يجب أن يت‪99‬وب عليكم وال يل‪99‬زم من محب‪99‬ة‬
‫هللا للشيء أن يقع ألن الحكمة اإللهية البالغ‪99‬ة ق‪99‬د تقتض‪99‬ي ع‪99‬دم وقوع‪99‬ه ومث‪99‬ال اإلرادة‬
‫الكونية قوله تعالى‪":‬إِن َكانَ هّللا ُ ي ُِري ُد أَن يُ ْغ ِويَ ُك ْم" (هود‪ ،‬آية ‪ )34 :‬ألن هللا ال يحب أن‬
‫يغوي العباد إذن ال يصح أن يكون المعنى إن كان هللا يحب أن يغويكم ب‪99‬ل المع‪99‬نى إن‬
‫كان هللا يشاء أن يغويكم‪.‬‬
‫س ــ هللا يريد المعاصي كونا ً ال ش‪99‬رعاً‪ ،‬ألن اإلرادة الش‪99‬رعية بمع‪99‬نى المحب‪99‬ة وهللا ال‬
‫يحب المعاص‪99‬ي ولكن يري‪99‬دها كون‪99‬ا أي مش‪99‬يئة فك‪99‬ل م‪99‬ا في الس‪99‬موات واألرض فه‪99‬و‬
‫بمشيئة هللا‪.2‬‬
‫‪ 4‬ـ المخلوقات مع كل من اإلرادتين‪ :‬تنقسم إلى أربعة‪:‬‬
‫أ ــ ما تعلقت به اإلرادتان‪ ،‬وهو م‪9‬ا وق‪99‬ع في الوج‪9‬ود من األعم‪99‬ال الص‪9‬الحة‪ ،‬ف‪9‬إن هللا‬
‫أراده إرادة دين وشرع‪ ،‬فإمر وأحبه ورضيه‪ ،‬وأراده إرادة كون فوقع‪ ،‬ولوال ذل‪9‬ك م‪9‬ا‬
‫كان‪.‬‬
‫ب ــ ما تعلقت ب‪99‬ه اإلرادة الديني‪99‬ة فق‪99‬ط‪ ،‬وه‪99‬و م‪99‬ا أم‪99‬ر هللا ب‪99‬ه من األعم‪99‬ال الص‪99‬الحة‪،‬‬
‫فعصى ذلك الكفار والفج‪9‬ار فتل‪9‬ك كله‪99‬ا إرادة دين وه‪9‬و يحبه‪9‬ا ويرض‪9‬اها وقعت أو لم‬
‫تقع‪.‬‬
‫ج ــ ما تعلقت به اإلرادة الكونية فقط‪ ،‬وهو ما ق‪99‬دره هللا وش‪99‬اءه من الح‪99‬وادث ال‪99‬تي لم‬
‫يأمر بها كالمباحات والمعاصي فإنه لم ي‪99‬أمر به‪99‬ا‪ ،‬ولم يرض‪99‬ها‪ ،‬ولم يحبه‪99‬ا‪ ،‬إذ ه‪99‬و ال‬
‫يأمر بالفحشاء وال يرضى لعباده الكفر‪ ،‬ولوال مش‪99‬يئته وقدرت‪99‬ه وخلق‪99‬ه له‪99‬ا لم‪99‬ا ك‪99‬انت‬
‫ولما وجدت‪ ،‬فإنه ما شاء هللا كان وما لم يشأ لم يكن‪.‬‬
‫د ـ ما لم تتعلق به هذه اإلرادة وال هذه‪ ،‬فهذا ما لم يقع ولم يوج‪99‬د من أن‪99‬واع المباح‪99‬ات‬
‫والمعاصي‪.3‬‬
‫والسعيد من عباد هللا من أراد هللا منه تقديراً ما أراد به تشريعاً‪ ،‬والعبد الشقي من أراد‬
‫به تقديراً ما لم يرد به تشريعاً‪ ،‬وأهل السنة والجماعة الذين فقه‪99‬وا دين هللا ح‪99‬ق الفق‪99‬ه‪،‬‬

‫‪ 1‬شرح العقيدة الواسطية‪ ،‬محمد الصالح بن عثيمين (‪.)223/ 1‬‬


‫‪ 2‬المجموع الثمين‪ ،‬لمحمد بن عثيمين (‪.)157 / 1‬‬
‫‪ 3‬مجموع الفتاوى ابن تيمية (‪ ،)189 /8‬القضاء والقدر عمر األشقر صـ ‪.108‬‬

‫‪47‬‬
‫ولم يضربوا كتاب هللا بعضه ببعض‪ ،‬علموا أن أحكام هللا في خلق‪99‬ه تج‪99‬ري على وف‪99‬ق‬
‫ه‪99‬اتين اإلرادتين‪ ،‬فمن نظ‪99‬ر إلى األعم‪99‬ال الص‪99‬ادرة عن العب‪99‬اد به‪99‬اتين العي‪99‬نين ك‪99‬ان‬
‫بصيراً‪ ،‬ومن نظر إلى الشرع دون القدر‪ ،‬أو نظر إلى القدر دون الشرع ك‪99‬ان أع‪99‬ور‪،‬‬
‫مث‪9‬ل ق‪99‬ريش ال‪99‬ذين ق‪9‬الوا‪ ":‬لَ‪9‬وْ َش‪9‬اء هّللا ُ َم‪9‬ا أَ ْش‪َ 9‬ر ْكنَا َوالَ آبَا ُؤنَ‪9‬ا َوالَ َح َّر ْمنَ‪99‬ا ِمن َش‪ْ 9‬ي ٍء"‬
‫(األنعام‪ ،‬آية ‪.)148 :‬‬
‫‪9‬وا بَأْ َس‪9‬نَا قُ‪99‬لْ هَ‪99‬لْ ِعن‪َ 9‬د ُكم ِّم ْن ِعل ٍمْ‬
‫ب الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِهم َحتَّى َذاقُ‪ْ 9‬‬ ‫َّ‬
‫وق‪99‬ال تع‪9‬الى‪َ 9":‬ك‪َ 9‬ذلِكَ َك‪99‬ذ َ‬
‫فَتُ ْخ ِرجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّ َّن َوإِ ْن أَنتُ ْم إَالَّ ت َْخ ُرصُونَ "‪( 9‬األنعام‪ ،‬آية ‪. )148 :‬‬
‫‪1‬‬

‫ثالثاً‪ :‬كالم حسن البن القيم في الكوني والشرعي‪:‬‬


‫قال ابن القيم في شفاء العليل‪ :‬الباب التاس‪9‬ع والعش‪9‬رون‪ 9:‬في انقس‪9‬ام القض‪9‬اء‪ ،‬والحكم‪،‬‬
‫واإلرادة‪ ،‬والكتاب‪99‬ة‪ ،‬واإلذن‪ ،‬والجع‪99‬ل‪ ،‬والكلم‪99‬ات‪ ،‬والبعث‪ ،‬واإلرس‪99‬ال‪ ،‬والتح‪99‬ريم‪،‬‬
‫واإلنشاء‪ :‬إلى كوني متعلق بخلقه‪ ،‬وإلى ديني متعلق بأمره وم‪99‬ا يحق‪99‬ق ذل‪99‬ك من إزال‪99‬ة‬
‫اللبس واإلشكال‪ ،‬هذا الباب متصل بالباب الذي قبله‪ ،2‬فما كان من ك‪99‬وني فه‪99‬و متعل‪99‬ق‬
‫بربوبيته وخلقه‪ ،‬وما كان من الديني فهو متعلق بإالهيته وشرعه‪ ،‬وهو كما أخ‪99‬بر عن‬
‫نفسه سبحانه له الخلق واألمر‪ ،‬فالخلق قضاؤه وق‪99‬دره وفعل‪99‬ه‪ ،‬واألم‪99‬ر ش‪99‬رعه ودين‪99‬ه‪،‬‬
‫فهو الذي خلق وشرع وأمر‪ ،‬وأحكام‪99‬ه جاري‪99‬ة على خلق‪99‬ه ق‪99‬دراً وش‪99‬رعاً‪ ،‬وال خ‪99‬روج‬
‫ألحد عن حكمه الكوني والقدري‪.‬‬
‫أما حكمه الديني الشرعي فيعص‪99‬يه الفج‪99‬ار والفس‪99‬اق‪ ،‬واألم‪99‬ران غ‪99‬ير متالزمين‪ ،‬فق‪99‬د‬
‫يُقضى ويُقدِّر ما ال يأمر به وال شرعه‪ ،‬وقد يش ‪9‬رَّع وي‪99‬أمر بم‪99‬ا ال يقض‪99‬يه وال يق‪99‬دره‪،‬‬
‫ويجتمع األمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم‪ ،‬وينتفي األمران عما لم يقع من‬
‫المعاصي والفس‪99‬ق والكف‪99‬ر‪ ،‬وينف‪99‬رد القض‪99‬اء ال‪99‬ديني والحكم الش‪99‬رعي في م‪99‬ا أم‪99‬ر ب‪99‬ه‬
‫وشرعه ولم يفعله المأمور‪ ،‬وينفرد الحكم الك‪99‬وني فيم‪99‬ا وق‪99‬ع من المعاص‪99‬ي إذا ع‪99‬رف‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فالقضاء في كتاب هللا نوعان‪:‬‬
‫ض ْينَا َعلَ ْي ِه ْال َموْ تَ " (سبأ‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬ ‫ـ كوني قدري‪ :‬كقوله‪ ":‬فَلَ َّما قَ َ‬
‫ض َي بَ ْينَهُم بِ ْال َحقِّ" (الزمر‪ ،‬آية ‪.)75 :‬‬ ‫وكقوله تعالى‪َ ":‬وقُ ِ‬
‫ضى َربُّكَ أَالَّ تَ ْعبُ ُدو ْاإِالَّ إِيَّاهُ" (اإلس‪99‬راء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ .)23 :‬أي‪:‬‬ ‫ـ وشرعي ديني‪ :‬كقوله‪َ ":‬وقَ َ‬
‫أمر وشرع ولو كان قضاء كونيا ً لما عبد غير هللا‪.‬‬
‫والحكم أيضا ً نوعان‪:‬‬
‫فالكوني‪ :‬كقوله‪ ":‬قَا َل َربِّ احْ ُكم بِ ْال َحقِّ" (األنبياء‪ ،‬آية ‪ .)112 :‬أي‪ :‬افع‪99‬ل م‪99‬ا تنص‪99‬ر‬
‫به عبادك‪ ،‬وتخذل به أعداءك‪.‬‬
‫والديني‪ :‬كقوله‪َ ":‬ذلِ ُك ْم ُح ْك ُم هَّللا ِ يَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم" (الممتحنة‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫وقال تعالى‪ 9":‬إِ َّن هّللا َ يَحْ ُك ُم َما ي ُِري ُد" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬
‫ك فِي ُح ْك ِم ِه أَ َحدًا" (الكهف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)26 :‬فه‪99‬ذا‬ ‫وقد يرد بالمعنيين معا ً كقوله‪َ ":‬واَل يُ ْش ِر ُ‬
‫يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي‪.‬‬
‫واإلرادة نوعان‪:‬‬

‫‪ 1‬مجموع فتاوى ابن تيمية (‪ ،)198 /8‬القضاء والقدر لألشقر صـ ‪.108‬‬


‫‪ 2‬من كتاب شفاء العليل‪ ،‬أنظر‪ :‬الجامع الصحيح في القدر صـ‪.129‬‬

‫‪48‬‬
‫فالكونية‪:‬ـ كقوله تعالى‪ ":‬فَعَّا ٌل لِّ َما ي ُِري ُد" (البروج‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬
‫ك قَرْ يَةً" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬ ‫وقوله‪َ ":‬وإِ َذا أَ َر ْدنَا أَن نُّ ْهلِ َ‬
‫وقوله‪ ":‬إِن َكانَ هّللا ُ ي ُِري ُد أَن يُ ْغ ِويَ ُك ْم" (هود‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬
‫والدينيــة‪ :‬كقول‪99‬ه تع‪99‬الى‪ ":‬ي ُِري ‪ُ 9‬د هّللا ُ بِ ُك ُم ْالي ُْس ‪َ 9‬ر َوالَ ي ُِري ‪ُ 9‬د بِ ُك ُم ْالع ْ‬
‫ُس ‪َ 9‬ر" (البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫وب َعلَ ْي ُك ْم" (النساء‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫‪ .)185‬وقوله‪َ ":‬وهّللا ُ ي ُِري ُد أَن يَتُ َ‬
‫فلو كانت هذه اإلرادة كونية لما حصل العسر ألحد من‪99‬ا‪ ،‬ول‪99‬و وقعت التوب‪99‬ة من جمي‪99‬ع‬
‫المكلفين‪ ،1‬وبهذا التفصيل يزول االشتباه في مسألة األمر واإلرادة‪ ،‬هل متالزمت‪99‬ان أم‬
‫ال؟‬
‫والصواب أن األمر يستلزم اإلرادة الدينية‪ ،‬وال يستلزم اإلرادة الكوني‪99‬ة‪ ،‬فإن‪99‬ه ال ي‪99‬أمر‬
‫إال بما يريده شرعا ً وديناً‪ ،‬وقد يأمر بم‪99‬ا ال يري‪99‬ده كون‪9‬ا ً وق‪99‬دراً‪ ،‬كإيم‪99‬ان من أم‪99‬ره ولم‬
‫يوفقه لإليمان مراد له دينا ً ال كوناً‪ ،‬وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كون‪9‬ا ً وق‪99‬دراً‪،‬‬
‫وأمر رسوله بخمسين صالة ولم يرد ذلك كونا ً وقدراً‪ ،‬وبين هذين األم‪99‬رين وأم‪99‬ر من‬
‫لم يؤمن باإليمان فرق‪ ،‬فإنه س‪99‬بحانه لم يحب من إب‪99‬راهيم ذبح ول‪99‬ده‪ ،‬وإنم‪99‬ا أحب من‪99‬ه‬
‫عزمه على االمتثال‪ ،‬وأن يوطن نفسه عليه‪ ،‬وكذلك أمره محمداً صلى هللا عليه وس‪99‬لم‬
‫ليلة اإلسراء بخمسين صالة‪ ،‬وأما أم‪99‬ره من علم أن‪99‬ه ال ي‪99‬ؤمن باإليم‪99‬ان س‪99‬بحانه يحب‬
‫من عباده أن يؤمنوا به وبرسله‪ ،‬ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعض‪99‬هم على فع‪99‬ل م‪99‬ا‬
‫أمره ووفقه له‪ ،‬وخذل بعضهم فلم يعن‪99‬ه ولم يوفق‪99‬ه‪ ،‬فلم تحص‪99‬ل مص‪99‬لحة األم‪99‬ر منهم‪،‬‬
‫وحصلت من األمر بالذبح‪.2‬‬
‫وأما الكتابة‪:‬‬
‫َب هَّللا ُ أَل َ ْغلِبَ َّن أَنَا َو ُر ُسلِي" (المجادلة‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬
‫فالكونية‪:‬ـ كقوله‪َ ":‬كت َ‬
‫ض يَ ِرثُهَ‪99‬ا ِعبَ‪99‬ا ِد َ‬
‫ي‬ ‫ُ‪99‬ور ِمن بَعْ‪ِ 99‬د ال‪ِّ 99‬ذ ْك ِر أَ َّن اأْل َرْ َ‬
‫وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ 9":‬ولَقَ‪ْ 99‬د َكتَ ْبنَ‪99‬ا فِي ال َّزب ِ‬
‫الصَّالِحُونَ" (األنبياء‪ ،‬آية ‪.)105 :‬‬
‫ير" (الحج‪،‬‬ ‫ب َّ‬
‫الس‪ِ 99‬ع ِ‬ ‫ُضلُّهُ َويَ ْه ِدي ِه إِلَى َع َذا ِ‬ ‫ب َعلَ ْي ِه أَنَّهُ َمن ت ََواَّل هُ فَأَنَّهُ ي ِ‬
‫ـ وقال تعالى‪ُ ":‬كتِ َ‬
‫آية ‪.)4 :‬‬
‫ب َعلَ ْي ُك ُم الصِّ يَا ُم" (البقرة‪ ،‬آية ‪.)183 :‬‬ ‫والشرعية األمرية‪ :‬كقوله‪ُ ":‬كتِ َ‬

‫‪9‬ات األَ ِ‬
‫خ‬ ‫ت َعلَ ْي ُك ْم أُ َّمهَ‪99‬اتُ ُك ْم َوبَنَ‪99‬اتُ ُك ْم َوأَ َخ‪َ 9‬‬
‫‪9‬واتُ ُك ْم َو َع َّماتُ ُك ْم َو َخ‪ 9‬االَتُ ُك ْم َوبَنَ‪ُ 9‬‬ ‫وقول‪99‬ه‪ُ ":‬ح‪ِّ 9‬ر َم ْ‬
‫َّض‪9‬ا َع ِة َوأُ َّمهَ‪ُ 9‬‬
‫‪9‬ات نِ َس‪9‬آئِ ُك ْم‬ ‫‪9‬واتُ ُكم ِّمنَ الر َ‬ ‫ت َوأُ َّمهَ‪99‬اتُ ُك ُم الالَّتِي أَرْ َ‬
‫ض‪ْ 9‬عنَ ُك ْم َوأَ َخ‪َ 9‬‬ ‫‪9‬ات األُ ْخ ِ‬
‫َوبَنَ‪ُ 9‬‬
‫‪9‬وا َدخ َْلتُم بِ ِه َّن‬
‫َخَلتُم بِ ِه َّن فَ ‪9‬إِن لَّ ْم تَ ُكونُ‪ْ 9‬‬
‫ُور ُكم ِّمن نِّ َس ‪9‬آئِ ُك ُم الالَّتِي د ْ‬ ‫َو َربَائِبُ ُك ُم الالَّتِي فِي ُحج ِ‬
‫ُوا بَ ْينَ األُ ْختَ ْي ِن إَالَّ َما قَ ْد‬
‫َاح َعلَ ْي ُك ْم َو َحالَئِ ُل أَ ْبنَائِ ُك ُم الَّ ِذينَ ِم ْن أَصْ الَبِ ُك ْم َوأَن تَجْ َمع ْ‬ ‫فَالَ ُجن َ‬

‫‪1‬‬
‫الجامع الصحيح في القدر صـ ‪.131‬‬
‫‪2‬‬
‫المصدر نفسه صـ ‪.131‬‬

‫‪49‬‬
‫ت أَ ْي َم‪99‬انُ ُك ْم ِكتَ‪َ 9‬‬
‫‪9‬اب‬ ‫َات ِمنَ النِّ َساء إِالَّ َم‪99‬ا َملَ َك ْ‬ ‫صن ُ‬ ‫َّحي ًما * َو ْال ُمحْ َ‬ ‫َسلَفَ إِ َّن هّللا َ كانَ َغفُورًا ر ِ‬
‫هّللا ِ َعلَ ْي ُكمْ" (النساء‪ ،‬آية ‪23 :‬ـ ‪.)24‬‬
‫س" (المائ‪99‬دة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)45 :‬ف‪99‬األولى كتاب‪99‬ة‬ ‫س بِ‪99‬النَّ ْف ِ‬ ‫وقول‪99‬ه‪َ ":‬و َكتَ ْبنَ‪99‬ا َعلَ ْي ِه ْم ِفيهَ‪99‬ا أَ َّن النَّ ْف َ‬
‫‪1‬‬
‫بمعنى القدر‪ ،‬والثانية كتابة بمعنى األمر ‪.‬‬
‫‪9‬ون" (يس‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫واألمر الكوني‪ :‬كقوله‪ ":‬إِنَّ َما أَ ْم ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد َش ْيئًا أَ ْن يَقُ‪99‬و َل لَ‪9‬هُ ُك ْن فَيَ ُك‪ُ 9‬‬
‫‪.)82‬‬
‫ص ِر" (القمر‪ ،‬آية ‪.)50 :‬‬ ‫ح بِ ْالبَ َ‬ ‫وقوله‪َ ":‬و َما أَ ْم ُرنَا إِاَّل َو ِ‬
‫اح َدةٌ َكلَ ْم ٍ‬
‫وقوله‪َ ":‬و َكانَ أَ ْم ُر هّللا ِ َم ْفعُوالً" (النساء‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬
‫ضيًّا" (مريم‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬ ‫وقال تعالى‪َ 9":‬و َكانَ أَ ْمرًا َّم ْق ِ‬
‫وا فِيهَ‪99‬ا" (اإلس‪99‬راء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫وقال تعالى‪َ 9":‬وإِ َذا أَ َر ْدنَا أَن نُّ ْهلِكَ قَرْ يَةً أَ َمرْ نَا ُم ْت َرفِيهَ‪99‬ا فَفَ َس ‪9‬قُ ْ‬
‫‪ ،)16‬فهذا أمر تقدير كوني‪ ،‬ال أمر ديني شرعي‪ ،‬فإن هللا ال يأمر بالفحشاء‪ ،‬والمعنى‪:‬‬
‫قضينا ذلك وق‪99‬درناه وق‪99‬الت طائف‪99‬ة‪ :‬ب‪99‬ل ه‪99‬و أم‪99‬ر دي‪99‬ني‪ ،‬والمع‪99‬نى‪ :‬أمرن‪99‬اهم بالطاع‪99‬ة‬
‫فخالفونا وفسقوا‪ ،‬والقول األول أرجح‪.2‬‬
‫اإلحْ َسا ِن" (النحل‪ ،‬آية ‪.)90 :‬‬ ‫واألمر الديني‪:‬ـ قوله‪ ":‬إِ َّن هّللا َ يَأْ ُم ُر بِ ْال َع ْد ِل َو ِ‬
‫ت إِلَى أَ ْهلِهَ‪99‬ا" (النس‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ .)58 :‬وه‪99‬و‬ ‫وا األَ َمانَ‪99‬ا ِ‬ ‫وقول‪99‬ه‪ ":‬إِ َّن هّللا َ يَ‪99‬أْ ُم ُر ُك ْم أَن تُ‪99‬ؤ ُّد ْ‬
‫كثير‪.3‬‬
‫ضآرِّينَ بِ ِه ِم ْن أَ َح ٍد إِالَّ بِ‪9‬إ ِ ْذ ِن هّللا ِ" (البق‪9‬رة‪،‬‬ ‫وأما اإلذن الكوني‪ :‬كقوله تعالى‪َ ":‬و َما هُم بِ َ‬
‫آية ‪ ،)102 :‬أي‪ :‬بمشيئته وقدره‪ ،‬وأما الديني‪ ،‬كقوله‪َ ":‬ما قَطَ ْعتُم ِّمن لِّينَ ٍة أَوْ تَ َر ْكتُ ُموهَا‬
‫قَائِ َمةً َعلَى أُصُولِهَا فَبِإ ِ ْذ ِن هَّللا ِ" (الحشر‪ ،‬آية ‪ )5 :‬أي‪ :‬بأمره ورضاه‪.‬‬
‫ق فَ َج َع ْلتُم ِّم ْن‪9‬هُ َح َرا ًم‪99‬ا َو َحالَالً قُ‪99‬لْ آهّلل ُ أَ ِذنَ‬ ‫وقوله‪ ":‬قُ‪99‬لْ أَ َرأَ ْيتُم َّما أَن‪99‬زَ َل هّللا ُ لَ ُكم ِّمن ر ِّْز ٍ‬
‫لَ ُك ْم أَ ْم َعلَى هّللا ِ تَ ْفتَرُونَ " (يونس‪ ،‬آية ‪.)59 :‬‬
‫ِّين َما لَ ْم يَأْ َذن بِ ِه هَّللا ُ" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬ ‫وقوله‪ ":‬أَ ْم لَهُ ْم ُش َر َكاء َش َر ُعوا لَهُم ِّمنَ الد ِ‬
‫وأمــا الجعــل الكــوني‪ :‬كقول‪99‬ه‪ ":‬إِنَّا َج َع ْلنَ‪99‬ا فِي أَ ْعنَ‪99‬اقِ ِه ْم أَ ْغالَالً فَ ِه َي إِلَى األَ ْذقَ‪99‬ا ِن فَهُم‬
‫خَلفِ ِه ْم َس ًّدا" (يس‪ ،‬آية ‪ 8 :‬ـ ‪.)9‬‬ ‫ُّم ْق َمحُونَ * َو َج َع ْلنَا ِمن بَ ْي ِن أَ ْي ِدي ِه ْم َس ًّدا َو ِم ْن ْ‬
‫س َعلَى الَّ ِذينَ الَ يَ ْعقِلُونَ " (يونس‪ ،‬آية ‪.)100 :‬‬ ‫وقوله‪َ ":‬ويَجْ َع ُل الرِّ جْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقوله‪َ ":‬وهّللا ُ َج َع َل لَ ُكم ِّم ْن أنفُ ِس ُك ْم أ ْز َوا ًجا" (النحل‪ ،‬آية ‪ )72 :‬وهو كثير‪.‬‬
‫ص‪9‬يلَ ٍة َوالَ َح‪ٍ 9‬ام"‬ ‫ير ٍة َوالَ َس‪9‬آئِبَ ٍة َوالَ َو ِ‬ ‫‪9‬ل هّللا ُ ِمن بَ ِح‪َ 9‬‬ ‫وأما الجعل الديني‪:‬ـ كقول‪99‬ه‪َ ":‬م‪99‬ا َج َع‪َ 9‬‬
‫(المائدة‪ ،‬آية ‪ )103 :‬أي‪ :‬ما شرع ذلك وال أمر به‪ ،‬وإال فهو مخلوق ل‪99‬ه‪ ،‬واق‪99‬ع بق‪99‬دره‬
‫اس" (المائ‪99‬دة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫‪9‬ل هّللا ُ ْال َك ْعبَ‪9‬ةَ ْالبَيْتَ ْال َح‪َ 9‬را َم قِيَا ًم‪99‬ا لِّلنَّ ِ‬ ‫ومشيئته‪ ،‬وأم‪99‬ا قول‪99‬ه‪َ ":‬ج َع‪َ 9‬‬
‫‪.)97‬‬
‫فهذا يتناول الجعلين‪ ،‬فإنها جعلها كذلك بقدره وش‪99‬رعه وليس ه‪99‬ذا اس‪99‬تعماالً للمش‪99‬ترك‬
‫‪4‬‬
‫في معنييه‪ ،‬بل إطالق اللفظ وإرادة القدر المشترك بين معنييه فتأمله‪.‬‬
‫وا أَنَّهُ ْم الَ‬‫ك َعلَى الَّ ِذينَ فَ َس‪99‬قُ ْ‬ ‫ت َربِّ َ‬ ‫ت َكلِ َم ُ‬ ‫وأمــا الكلمــات الكونيــة‪:‬ـ كقول‪99‬ه‪َ ":‬ك‪َ 99‬ذلِكَ َحقَّ ْ‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ " (يونس‪ ،‬آية ‪.)33 :‬‬

‫‪ 1‬الجامع الصحيح في القدر‪ ،‬مقبل الوادعي صـ ‪.132‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪ 133‬نقال عن شفاء العليل البن القيم‪.‬‬
‫‪ 4‬الجامع الصحيح في القدر صـ ‪.134‬‬

‫‪50‬‬
‫ُوا" (األعراف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫صبَر ْ‬ ‫يل بِ َما َ‬ ‫ك ْال ُح ْسنَى َعلَى بَنِي إِس َْرآئِ َ‬ ‫ت َربِّ َ‬ ‫ت َكلِ َم ُ‬‫وقوله‪َ ":‬وتَ َّم ْ‬
‫‪.)137‬‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أعوذ بكلمات هللا التامات التي ال يجاوزهن ب‪99‬ر وال ف‪99‬اجر‬
‫من شر ما خلق‪ .1‬فهذه كلمات‪99‬ه الكوني‪99‬ة ال‪99‬تي يخل‪99‬ق به‪99‬ا ويك‪99‬ون‪ ،‬ول‪99‬و ك‪99‬انت الكلم‪99‬ات‬
‫الدينية التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار والكفار‪.‬‬
‫اس ‪9‬تَ َجا َرك فَ‪99‬أ َ ِجرْ هُ َحتَّى يَ ْس ‪َ 9‬م َع َكالَ َم ِ"‬
‫هّللا‬ ‫وأما الديني‪ :‬كقوله‪َ ":‬وإِ ْن أَ َح ٌد ِّمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ْ‬
‫(التوبة‪ ،‬آية ‪ )6 :‬والمراد به القرآن وقوله صلى هللا عليه وسلم في النس‪99‬اء‪ :‬واس‪99‬تحللتم‬
‫‪9‬اب لَ ُكم ِّمنَ النِّ َس ‪9‬اء"‬ ‫ُوا َم‪99‬ا طَ‪َ 9‬‬ ‫فروجهن بكلمة هللا‪ ،2‬أي‪ :‬إباحته ودين‪99‬ه‪ ،‬وقول‪99‬ه‪ ":‬فَ‪99‬ان ِكح ْ‬
‫(النساء‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬
‫ت َربِّهَ‪99‬ا َو ُكتُبِ‪ِ 9‬ه" (التح‪99‬ريم‪ ،‬آي‪99‬ة ‪.)12 :‬‬ ‫ت بِ َكلِ َم‪99‬ا ِ‬‫ص َّدقَ ْ‬
‫وقد اجتمع النوعان في قوله‪َ ":‬و َ‬
‫فكتبه كلماته التي يأمر بها‪ ،‬وينهي ويحل ويحرم‪ ،‬وكلماته التي يخلق بها ويكون‪.‬‬
‫وأما البعث الكوني‪ :‬كقوله‪ ":‬فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد أُوالهُ َم‪99‬ا بَ َع ْثنَ‪99‬ا َعلَ ْي ُك ْم ِعبَ‪99‬ادًا لَّنَ‪99‬ا أُوْ لِي بَ‪99‬أْ ٍ‬
‫س‬
‫َش ِدي ٍد" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬
‫ض" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬ ‫ث فِي األَرْ ِ‬ ‫ث هّللا ُ ُغ َرابًا يَب َْح ُ‬‫وقوله‪ ":‬فَبَ َع َ‬
‫ث فِي اأْل ُ ِّميِّينَ َر ُس ‪9‬واًل ِّم ْنهُ ْم" (الجمع‪99‬ة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫وأما البعث الديني‪ :‬كقوله‪ ":‬هُ َو الَّ ِذي بَ َع َ‬
‫‪.)2‬‬
‫ث هّللا ُ النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّش ‪ِ 9‬رينَ َو ُمن ‪ِ 9‬ذ ِرينَ " (البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫وقول‪99‬ه‪َ ":‬ك‪99‬انَ النَّاسُ أُ َّمةً َو ِ‬
‫اح‪َ 9‬دةً فَبَ َع َ‬
‫‪.)213‬‬
‫وأما اإلرسال الكوني‪ :‬كقوله‪ ":‬أَلَ ْم تَ َر أَنَّا أَرْ َس ْلنَا ال َّشيَا ِطينَ َعلَى ْال َك‪9‬افِ ِرينَ تَ‪ُ 9‬ؤ ُّزهُ ْم أَ ًّزا"‬
‫(مريم‪ ،‬آية ‪.)83 :‬‬
‫اح" (الفرقان‪ ،‬آية ‪.)48 :‬‬ ‫َ‬
‫وقوله‪ ":‬هُ َو الَّ ِذي أرْ َس َل الرِّ يَ َ‬
‫وأما اإلرسال الديني‪:‬ـ كقوله‪ ":‬هُ َو الَّ ِذي أَرْ َس َل َر ُس‪9‬ولَهُ بِ ْالهُ‪9‬دَى َو ِدي ِن ْال َح‪ 9‬قِّ" (التوب‪99‬ة‪،‬‬
‫آية ‪.)33 :‬‬
‫وقوله‪ ":‬أَرْ َس ْلنَا إِلَ ْي ُك ْم َر ُسواًل َشا ِهدًا َعلَ ْي ُك ْم َك َما أَرْ َس ْلنَا إِلَى فِرْ عَوْ نَ َر ُسواًل " (المزم‪99‬ل ‪،‬‬
‫آية ‪.)15 :‬‬
‫اض َع ِمن قَ ْبلُ" (القصص ‪ ،‬آية ‪.)12 :‬‬ ‫ْ‬
‫أما التحريم الكوني‪ ،‬كقوله " َو َح َّر ْمنَا َعلَ ْي ِه ال َم َر ِ‬
‫ال فَإِنَّهَا ُم َح َّر َمةٌ َعلَ ْي ِه ْم أَرْ بَ ِعينَ َسنَةً" (المائدة ‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫وقوله‪ " :‬قَ َ‬
‫وقوله‪َ " :‬و َح َرا ٌم َعلَى قَرْ يَ ٍة أَ ْهلَ ْكنَاهَا أَنَّهُ ْم اَل يَرْ ِجعُونَ " (األنبياء ‪ ،‬آية ‪.)95 :‬‬
‫ت‬ ‫ت َعلَ ْي ُك ْم أُ َّمهَاتُ ُك ْم" (النساء ‪ ،‬آية ‪ )23 :‬و"حُرِّ َم ْ‬ ‫وأما التحريم الديني‪:‬ـ كقوله‪ " :‬حُرِّ َم ْ‬
‫ص ْي ُد ْالبَ ِّر َما ُد ْمتُ ْم ُح ُر ًما" (المائدة ‪،‬‬
‫َعلَ ْي ُك ُم ْال َم ْيتَةُ" (المائدة ‪ ،‬آية ‪ ،)3 :‬و" َو ُح ِّر َم َعلَ ْي ُك ْم َ‬
‫آية ‪ ،)96 :‬و" َوأَ َح َّل هّللا ُ ْالبَ ْي َع َو َح َّر َم ال ِّربَا" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)275 :‬‬
‫وأما اإليتاء الكوني‬
‫ْ‬
‫كقوله تعالى‪َ " :‬وهّللا ُ ي ُْؤتِي ُمل َكهُ َمن يَ َشاء" (البق‪99‬رة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)247 :‬وقول‪99‬ه‪ " :‬قُ ‪ِ 9‬ل اللَّهُ َّم‬
‫ك تُ ْؤتِي ْال ُم ْلكَ َمن تَ َشاء"(آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫َمالِكَ ْال ُم ْل ِ‬

‫‪1‬‬
‫المصدر نفسه صـ ‪.134‬‬
‫‪2‬‬
‫المصدر نفسه صـ ‪.134‬‬

‫‪51‬‬
‫وقال تعالى‪ " :‬يُؤتِي ْال ِح ْك َمةَ َمن يَ َشاء َو َمن ي ُْؤتَ ْال ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َي َخ ْيرًا َكثِيرًا" (البقرة‬
‫‪ ،‬آية ‪ .)269 :‬فهذا يتناول النوعين‪ ،‬فإنه يؤتيها من يشاء أمراً ودينا ً وتوفيقا ً وإلهاما ً‪.1‬‬
‫وأنبياؤه ورسله وأتباعهم حظهم من هذه األمور الديني منها وأعداؤه واقفون مع القدر‬
‫الكوني‪ ،‬فحيث ما مال القدر مالوا معه‪ ،‬فدينهم دين القدر ودين الرسل‪ ،‬واتب‪99‬اعهم دين‬
‫األمر فهم يدينون ب‪99‬أمره‪ ،‬ويؤمن‪99‬ون بق‪99‬دره‪ ،‬وخص‪99‬ماء هللا يعص‪99‬ون أم‪99‬ره‪ ،‬ويحتج‪99‬ون‬
‫بق‪9‬دره‪ ،‬ويقول‪9‬ون‪ 9:‬نحن واقف‪9‬ون م‪9‬ع م‪9‬راد هللا‪ ،‬نعم م‪9‬ع م‪9‬راده الك‪9‬وني ال ال‪9‬ديني‪ ،‬وال‬
‫ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني‪ ،‬وال يكون ذلكم عذراً لكم عن‪99‬ده إذ ل‪99‬و ع‪99‬ذر ب‪99‬ذلك لم‬
‫ص وال كافر‪.2‬‬ ‫يذم أحداً من خلقه ولم يعاقبه‪ ،‬ولم يكن في خلقه عا ٍ‬

‫‪1‬‬
‫الجامع الصحيح في القدر صـ ‪.137‬‬
‫‪2‬‬
‫الجامع الصحيح في القدر صـ‪.137‬‬

‫‪52‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬ال حول وال قوة إال باهلل‬
‫إن كلمة الحوقلة "ال حول وال قوة إال باهلل" هي من األذك‪99‬ار العظيم‪99‬ة الق‪99‬در‪ ،‬الرفيع‪99‬ة‬
‫المنزل‪99‬ة‪ ،‬العالي‪99‬ة المرتب‪99‬ة‪ ،‬وله‪99‬ا من الفض‪99‬ائل والفوائ‪99‬د والمن‪99‬افع م‪99‬ا ال يعلم‪99‬ه إال هللا‬
‫سبحانه‪ ،‬وقد كان النبي صلى هللا عليه وسلم يعلمها أصحابه ويحثهم عليها‪ ،‬وتأتي هذه‬
‫الكلمة في األذكار المطلقة والمقيدة في مواضع كثيرة‪.1‬‬

‫أوالً ‪ :‬فضلها‪ :‬فمما يدل على فضلها وعلو منزلتها‪ ،‬ومما يرغب في اإلكثار من قولها‬
‫باللسان وإمرارها على الجنان أمور‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إخبار النبي صلى هللا عليه وسلم عنها بأنها كنز من كنوز الجنة‪:‬‬
‫فعن أبي موسى األشعري ـ رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬كنا مع الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪ :‬أيه‪99‬ا الن‪99‬اس‬
‫أربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم وال غائباً‪ ،‬إنكم ت‪99‬دعون س‪99‬ميعا ً قريب‪9‬ا ً وه‪99‬و‬
‫معكم‪ ،‬قال‪ :‬وأنا خلفه وأنا أقول‪ :‬قل‪ ،‬ال حول وال قوة إال باهلل‪.2‬‬
‫قال النووي رحمه هللا‪ :‬قوله صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬ال ح‪99‬ول وال ق‪99‬وة إال باهلل ك‪99‬نز من‬
‫كن‪99‬وز الجن‪99‬ة‪ :‬ق‪99‬ال العلم‪99‬اء‪ :‬س‪99‬بب ذل‪99‬ك أنه‪99‬ا كلم‪99‬ة استس‪99‬الم وتف‪99‬ويض إلى هللا تع‪99‬الى‬
‫واعتراف باإلذعان له وأنه صانع غ‪99‬يره وال راد ألم‪99‬ره وأن العب‪99‬د ال يمل‪99‬ك ش‪99‬يئا ً عن‬
‫األمر ومعنى الكفر هنا أنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس‬
‫أموالكم‪.3‬‬
‫والكنز مال مجتمع ال يحت‪99‬اج إلى جم‪99‬ع وذل‪99‬ك أنه‪99‬ا تتض‪99‬من التوك‪99‬ل واالفتق‪99‬ار إلى هللا‬
‫تعالى ومعلوم أنه ال يكون شئ إال بمشيئة هللا وقدرت‪99‬ه‪ ،‬وأن الخل‪99‬ق ليس منهم ش‪99‬ئ إال‬
‫ما أحدثه هللا فيهم‪.4‬‬
‫وقول "ال حول وال قوة إالباهلل" يوجب اإلعانة ولهذا سنها النبي صلى هللا عليه وس‪99‬لم‬
‫إذا قال المؤذن‪ :‬حي على الصالة‪ ،‬فيقول المجيب‪ :‬ال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬ف‪99‬إذا ق‪9‬ال‪:‬‬
‫حي على الفالح‪ ،‬ق‪99‬ال المجيب "ال ح‪99‬ول وال ق‪99‬وة إال باهلل"‪ ،‬وق‪99‬ال الم‪99‬ؤمن لص‪99‬احبه‪:‬‬
‫"ولوال إذا دخلت جنتك قلت ما شاء هللا ال قوة أال باهلل"‪ ،‬وله‪99‬ذا ي‪99‬ؤمر به‪99‬ذا من يخ‪99‬اف‬

‫‪ 1‬المباحث العقدية (‪.)887 / 2‬‬


‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك المغازي (‪ )1541 / 4‬رقم ‪.39668‬‬
‫‪ 3‬شرح صحيح مسلم (‪.)26 / 17‬‬
‫‪ 4‬مجموع الفتاوي (‪.)321 / 13‬‬

‫‪53‬‬
‫العين على شئ فقوله‪ :‬ما شاء هللا‪ ،‬تقديره‪ :‬ما شاء هللا كان فال يأمن‪ ،‬ب‪99‬ل ي‪9‬ؤمن بالق‪9‬در‬
‫ويقول ال قوة إال باهلل‪.1‬‬
‫‪2‬ــ ومن فضــلها أن هللا ســبحانه يصــدق قائلها ومن ص‪9‬دقه هللا تع‪9‬الى على م‪9‬ا يق‪9‬ول‬
‫فليبشر بالخير بإذن هللا‪ ،2‬فعن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬إذا قال العب‪99‬د‪ :‬ال إل‪99‬ه إال‬
‫هللا وهللا أكبر صدقه ربه‪ ،‬قال‪ :‬صدق عبدي ال إله إال أنا وأنا وحدي‪ ،‬وإذا فال‪ :‬ال إل‪99‬ه‬
‫إآل هللا وحده ال شريك له‪ ،‬صدقه ربه قال‪ :‬قال صدق عب‪99‬دي ال إل‪99‬ه إال أن‪99‬ا وال ش‪99‬ريك‬
‫لي‪ ،‬وإذا قال‪ :‬ال إله إال هللا له المل‪99‬ك ول‪99‬ه الحم‪99‬د ق‪99‬ال‪ :‬ص‪99‬دق عب‪99‬دي ال إل‪99‬ه إال أن‪99‬ا لي‬
‫الملك ولي الحمد‪ ،‬وإذا قال‪ :‬ال إله إال هللا وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬قال‪ :‬صدق عبدي‬
‫ال حول وال قوة إال بي‪.3‬‬
‫‪ 3‬ـ من فضــلها أن من قالهــا حين يخــرج من بيتهـ مع البس‪99‬ملة والتوك‪99‬ل على هللا أن‪99‬ه‬
‫يوفي ويُكفي ويُهدى‪ ،‬فعن أنس بن مالك أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إذا خرج‬
‫من بيته فقال بسم هللا وت‪99‬وكلت على هللا ال ح‪99‬ول وال ق‪99‬وة إال باهلل فيق‪99‬ال ل‪99‬ه حس‪99‬بك ق‪99‬د‬
‫كفيت وهديت ووفيت فيلقى الشيطان شيطانا ً آخر فيق‪99‬ول ل‪99‬ه كي‪99‬ف ل‪99‬ك برج‪99‬ل ق‪99‬د كفي‬
‫وهدي ووفي‪.4‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ ومن فضــائلها أنهــا من الباقيــات الصــالحات ومن أحب الكالم إلى المــولى جــل‬
‫ات َخ ْي ٌر ِعن‪َ 99‬د َربِّ َ‬
‫ك‬ ‫جالله قال هللا تبارك وتعالى في محكم التنزيل " َو ْالبَاقِيَ ُ‬
‫ات الصَّالِ َح ُ‬
‫ثَ َوابًا َو َخ ْي ٌر أَ َماًل " (الكهف ‪ ،‬آية ‪.)46 :‬‬
‫فقد ورد في تفسير هذه اآلية عن جمع من الصحابة والتابعين أن الباقي‪99‬ات الص‪99‬الحات‬
‫هي س‪99‬بحان هللا‪ ،‬والحم‪99‬د هلل‪ ،‬وال إل‪99‬ه إال هللا‪ ،‬وهللا أك‪99‬بر‪ ،‬وال ح‪99‬ول وال ق‪99‬وة إال باهلل‪،5‬‬
‫وسئل ابن عمر رض‪99‬ي هللا عنهم‪99‬ا عن الباقي‪99‬ات الص‪99‬الحات؟ فق‪99‬ال‪ :‬ال إل‪99‬ه إال هللا وهللا‬
‫أكبر وسبحان هللا وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،6‬وعن ابن عباس رض‪99‬ي هللا عنهم‪99‬ا ق‪99‬ال‪:‬‬
‫هي ذكر هللا‪ ،‬قول ال إله إال هللا وهللا أكبر وسبحان هللا والحمد هلل‪ ،‬وال إل‪99‬ه إال هللا‪ ،‬وهللا‬
‫أك‪99‬بر‪ ،‬وال ح‪99‬ول وال ق‪99‬وة إال باهلل‪ ،‬واس‪99‬تغفر هللا‪ ،‬وص‪99‬لى هللا على رس‪99‬ول هللا والقي‪99‬ام‬
‫والصالة والحج والصدقة والعتق والجهاد وأعمال الحسنات وهي الباقيات الص‪9‬الحات‬
‫التي تبقى ألهله‪99‬ا في الجنة‪ ،7‬وق‪99‬د ورد في فض‪99‬لهن أي الكلم‪99‬ات الباقي‪99‬ات الص‪99‬الحات‬
‫يكفرن الذنوب‪ ،‬فقد ثبت عنه ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم أن‪99‬ه ق‪99‬ال‪" :‬م‪99‬ا على األرض‬ ‫َّ‬ ‫أنهن‬
‫رجل يقول‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكبر‪ ،‬وس‪9‬بحان هللا‪ ،‬والحم‪9‬د هلل‪ ،‬وال ح‪9‬ول وال ق‪9‬وة إال‬
‫باهلل‪ ،‬إال ُكفِّرت عنه ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر‪.8‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)321 /13‬‬


‫‪ 2‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪.)891 /2‬‬
‫‪ 3‬سنن الترمذي‪ ،‬ك الدعوات (‪ )492 /5‬رقم ‪.3430‬‬
‫‪ 4‬سنن أبي داود رقم ‪ 5095‬قال الترمذي حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ 5‬تفسير ابن جرير الطبري (‪.)255 /15‬‬
‫‪ 6‬المصدر نفسه (‪.)255 /15‬‬
‫‪ 7‬المباحث العقدية (‪.)892 /2‬‬
‫‪ 8‬سنن الترمذي رقم ‪ 3460‬وحسنه‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫‪ 5‬ـ ومن فضائلها أنها غراس الجنة فقد ثبت أن رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم ليل‪99‬ة‬
‫أسري به مر على إبراهيم عليه السالم فقال‪ :‬من معك ي‪99‬ا جبري‪99‬ل؟ فق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذا محم‪99‬د‪،‬‬
‫فقال له إب‪99‬راهيم أأ ُم‪99‬ر أمت‪99‬ك فليك‪99‬ثروا من غ‪99‬راس الجن‪99‬ة ف‪99‬إن تربته‪99‬ا طيب‪99‬ة وأرض‪99‬ها‬
‫واسعة‪ ،‬قال‪ :‬وما غراس الجنة؟ قال‪ :‬ال حول وال قوة إال باهلل‪.1‬‬
‫ثانياً‪ :‬معنى ال حول وال قوة إال باهلل‪:‬‬
‫الح‪9‬ول الحرك‪9‬ة والحيل‪99‬ة أي ال حرك‪9‬ة وال اس‪99‬تطاعة وال حيل‪9‬ة إال بمش‪9‬يئة هللا تع‪99‬الى‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬معناه ال حول في دفع شر وال قوة في تحصيل خير إال باهلل‪ ،‬وقيل‪ :‬ال حول عن‬
‫معصية هللا إال بعصمته وال قوة على طاعته إال بمعونت‪99‬ه وحُكي ه‪99‬ذا عن ابن مس‪99‬عود‬
‫رضي هللا عنه وكله متقارب‪.2‬‬
‫وقال اإلمام الطحاوي في تفسيره لمعنى "ال حول وال ق‪99‬وة إال باهلل"‪ :‬ال حي‪99‬ل وال ق‪99‬وة‬
‫ألحد على إقامة طاعة هللا والثبات عليها إال بتوفيق هللا‪ ،‬وكل ش‪99‬ئ يج‪99‬ري بمش‪99‬يئة هللا‬
‫تعالى وعلمه وقضائه وقدره‪ ،‬غلبت مشيئته المشيئات كلها‪ ،‬وعكست إرادته اإلرادات‬
‫كلها‪ ،‬وغلب قضاؤه الحيل كلها يفعل م‪99‬ا يش‪99‬اء وه‪99‬و غ‪99‬ير ظ‪99‬الم أب‪99‬داً " اَل ي ُْس‪9‬أ َ ُل َع َّما‬
‫يَ ْف َع ُل َوهُ ْم يُسْأَلُونَ " (األنبياء ‪ ،‬آية ‪.3)23 :‬‬
‫وال شك أن معنى ال حول وال قوة إال باهلل أوسع وأعم مما ُذك‪99‬ر‪ ،‬فلف‪99‬ظ الح‪99‬ول يتن‪99‬اول‬
‫كل تحول من حال إلى حال‪ ،‬والقوة هي القدرة على ذل‪99‬ك التح‪99‬ول‪ ،‬ف‪99‬دلت ه‪99‬ذه الكلم‪99‬ة‬
‫العظيمة على أنه ليس للعالم العل‪99‬وي والس‪99‬فلي حرك‪99‬ة وتح‪99‬ول من ح‪99‬ال إلى ح‪99‬ال وال‬
‫قدرة على ذلك إال باهلل‪ ،‬ومن الناس من يفسر ذل‪99‬ك بمع‪99‬نى خ‪99‬اص فيق‪99‬ول ال ح‪99‬ول من‬
‫معصيته إال بعصمته وال ق‪99‬وة على طاعت‪99‬ه إال بمعونت‪99‬ه‪ ،‬وال‪99‬ذي ي‪99‬دل علي‪99‬ه اللف‪99‬ظ‪ ،‬أن‬
‫الحول ال يختص بالحول عن المعصية وكذلك القوة ال تختص بالقوة على الطاعة‪ ،‬بل‬
‫لف‪99‬ظ الح‪99‬ول يعم ك‪99‬ل تح‪99‬ول‪ ..‬وك‪99‬ذلك لف‪99‬ظ الق‪99‬وة‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ " :‬هَّللا ُ الَّ ِذي خَ لَقَ ُكم ِّمن‬
‫ض ْعفًا َو َش ْيبَةً" (ال‪99‬روم ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ْف قُ َّوةً ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد قُ َّو ٍة َ‬ ‫ْف ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد َ‬
‫ضع ٍ‬ ‫ضع ٍ‬‫َ‬
‫‪.)54‬‬
‫ولفظ القوة ال يراد به ما كان في القدرة أكمل من غيره فهو قدرة أرجع من غيره‪99‬ا أو‬
‫القدرة التامة ولفظ القوة قد يعم القوة التي في الجمادات بخالف لفظ الق‪99‬درة فله‪99‬ذا ك‪99‬ان‬
‫المنفي بلفظ الق‪9‬وة أش‪9‬مال وأكم‪9‬ل ف‪9‬إذا لم تكن ق‪9‬وة إال ب‪9‬ه لم تكن ق‪9‬درة إال ب‪9‬ه بطري‪9‬ق‬
‫األولى وهذا باب واسع‪.4‬‬
‫ولكلمة "ال حول وال قوة إال باهلل" تأثير في دفع داء الهم والغم والحزن‪ ،‬بسبب ما فيها‬
‫ـ من كمال التفويض والتبرئ من الح‪99‬ول والق‪99‬وة إال ب‪99‬ه وتس‪99‬ليم األم‪99‬ر كل‪99‬ه ل‪99‬ه وع‪99‬دم‬
‫منازعته في شئ من‪99‬ه وعم‪9‬وم ذل‪99‬ك لك‪9‬ل تح‪99‬ول من ح‪9‬ال إلى ح‪9‬ال في الع‪9‬الم العل‪9‬وي‬
‫والسفلي والقوة على ذلك التحول‪ ،‬وأن ذلك كله باهلل وح‪9‬ده فال يق‪9‬وم له‪99‬ذه الكلم‪99‬ة ش‪99‬ئ‬
‫وفي اآلثار أنه ما ينزل ملك من السماء وال يصعد إليها إال بال حول وال ق‪99‬وة إال باهلل‪،‬‬
‫‪5‬‬
‫ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان وهللا المستعان‬

‫‪ 1‬ابن حبان في صحيحه (‪ )103 /3‬رقم ‪.821‬‬


‫‪ 2‬تهذيب األسماء واللغات للنووي (‪.)87 /4‬‬
‫‪ 3‬العقيدة الطحاوية صـ ‪ 444‬ـ ‪ 445‬مع شرحها البن أبي العز الحنفي‪.‬‬
‫‪ 4‬مجموع الفتاوى (‪.)575 /5‬‬
‫‪ 5‬زاد المعاد البن القيم (‪.)204 /4‬‬

‫‪55‬‬
‫وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬دليل على إثبات القدر‪.1‬‬
‫وقد ذكر اإلمام البخاري ـ رحمه هللا ـ في صحيحه هذه الكلمة العظيمة في أبواب ع‪99‬دة‬
‫من صحيحه‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬كتاب القدر ومعروف أن فق‪99‬ه اإلم‪99‬ام البخ‪99‬اري كم‪99‬ا يق‪99‬ال في‬
‫تراجمه مما يدل على أنه ـ رحمه هللا ـ ما وضعها في كتاب القدر إال لداللتها عليه‪.2‬‬
‫إن كلم‪9‬ة ال ح‪9‬ول وال ق‪9‬وة إال باهلل دخلت من ب‪9‬اب الق‪9‬در لكونه‪9‬ا ت‪9‬دل على مرتب‪9‬ة من‬
‫مراتبه وهي المشيئة‪ ،‬فقد ذكرنا أن مراتب القدر أربع مراتب ومنها‪ :‬اإليم‪99‬ان بمش‪99‬يئة‬
‫هللا النافذة في خلقه وأن م‪99‬ا ش‪99‬اء هللا ك‪99‬ان وم‪99‬ا لم يش‪99‬أ لم يكن‪ ،‬فعن‪99‬دما يق‪99‬ول العب‪99‬د "ال‬
‫حول وال قوة إال باهلل" يعتقد في قرارة نفسه أنه ال يستطيع التح‪99‬ول من أم‪99‬ر آلخ‪99‬ر إال‬
‫إذا شاء هللا له ذلك وقدره ل‪99‬ه‪ ،‬فال ينص‪99‬رف عن المعص‪99‬ية إلى الطاع‪99‬ة إال بمش‪99‬يئة هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وال ينصرف من المرض إلى الصحة إال إذا كتب هللا له الشفاء وش‪99‬اء ل‪99‬ه‪ ،‬وال‬
‫عز‪ ،‬ومن قلة إلى كثرة‪ ،‬وال من جوع إلى‬ ‫يتحول من ضعف إلى قوة‪ ،‬وال من ذلٍّ إلى ٍ‬
‫شبع وال من فقر إلى غنى‪ ،‬وال من خ‪9‬وف إلى أمن‪ ،‬وال من ش‪ٍّ 9‬ر إلى خ‪9‬ير إال بمش‪9‬يئة‬
‫هللا وإرادته‪ ،‬فال يتحول ويتقلب من أي حال مهما كان إلى ح‪99‬ال غ‪99‬يره إال إذا ش‪99‬اء ل‪99‬ه‬
‫هللا ذلك‪ ،‬كما أنه ليس لعبد في نيل مطلوب والحصول على مرغوب أو دف‪99‬ع مره‪99‬وب‬
‫إال إن أعانه هللا سبحانه وأمده بق‪99‬وة من‪99‬ه‪ ،‬فالعب‪99‬د‪ ،‬بقول‪99‬ه له‪99‬ذه الكلم‪99‬ة يت‪99‬برأ من حول‪99‬ه‬
‫وقوته‪ ،‬ويعتقد أن الحول والقوة باهلل وحده فهو سبحانه مالك الملك وخالق‪ ،‬بيده أم‪99‬ور‬
‫الخلق يتص‪99‬رف بهم كي‪99‬ف يش‪99‬اء ويص‪9‬رّفهم حيث يش‪99‬اء ويقلّب أح‪99‬والهم من ح‪99‬ال إلى‬
‫حال على حسب مشيئته وحكمته وإرادته ال مانع لما قضى وال لما أعطى‪ ،‬وال معطي‬
‫لما منع بيده الملك وهو على كل شئ قدير‪.3‬‬
‫ثالثاً‪ :‬تضمنت ال حول وال قوة إال باهلل معــان عقديــة عظيمــة القــدر‪ :‬لمن فقهها غ‪99‬ير‬
‫داللتها على القدر منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها كلمة استعانة باهلل العظيم‪ ،‬ومن استعان باهلل جل جالل‪9‬ه‪ ،‬فاهلل س‪9‬بحانه يعين‪9‬ه‬
‫على قضاء حوائجه‪ ،‬وجميع ما يصلحه‪ .‬واالستعانة باهلل من أفض‪99‬ل العب‪99‬ادات وأجلّه‪99‬ا‬
‫وتعرف منزلتها وعظم شأنها من خالل سورة الفاتحة التي أم‪99‬ر هللا س‪99‬بحانه عب‪99‬اده أن‬
‫ين" فه‪99‬ذه‬‫ك نَ ْستَ ِع ُ‬ ‫يتعبدوه بتالوتها يوميا ً مراراً‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪ " :‬إِيَّا َ‬
‫ك نَ ْعبُ ُد وإِيَّا َ‬
‫اآلية فيها إخالص االستعانة هلل ألنه قدم م‪99‬ا حق‪99‬ه الت‪99‬أخير فأف‪99‬اد حص‪99‬ر االس‪99‬تعانة باهلل‬
‫وكذلك ال حول وال قوة إال باهلل كلم‪99‬ة تحت‪99‬وي على اإلخالص هلل باإلس‪99‬تعانة فهي ت‪99‬دل‬
‫على ما دلت عليه‪.4‬‬
‫‪2‬ـ ـ اإلقــرار بــأنواع التوحيد الثالث‪99‬ة‪ ،‬توحي‪99‬د الربوبي‪99‬ة وتوحي‪99‬د األس‪99‬ماء والص‪99‬فات‪،‬‬
‫وتوحيد األلوهي‪9‬ة‪ ،‬فقائله‪9‬ا يق‪9‬ر ويعتق‪9‬د ب‪9‬أن هللا وح‪9‬ده الم‪9‬دبر به‪9‬ذا الك‪9‬ون المتص‪9‬رف‬
‫بحكمته ومشيئته فال يقع فيه شئ إال بإذنه ومشيئته‪ ،‬كما أنه معترف بأن من ك‪99‬ان ه‪99‬ذا‬
‫وص‪99‬فه فه‪99‬و ب‪99‬الطبع غ‪99‬ن ًّي عن خلق‪99‬ه ق‪99‬ائم بذات‪99‬ه متص‪99‬ف بص‪99‬فات الكم‪99‬ال من الق‪99‬درة‬
‫والعظمة والقوة والعزة‪ ،‬ومن يعتقد هذا في خالق‪99‬ه ك‪99‬ان علي‪99‬ه لزام‪9‬ا ً أن يؤله‪99‬ه ويعب‪99‬ده‬

‫‪ 1‬شرح العقيدة الطحاوية صـ‪.447‬‬


‫‪ 2‬المباحث العقدية (‪.)900 /2‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)901 /2‬‬
‫‪ 4‬المباحث العقدية (‪.)902 /2‬‬

‫‪56‬‬
‫ويقصده ويلتجئ إليه وال يرجو أحداً سواه‪ ،‬وال يدعو أحداً إال هو‪ ،‬ألنه بيده التص‪99‬رف‬
‫التام وله الملك وهو على كل شئ قدير‪.1‬‬
‫‪ 3‬ـ التوكل على هللا وتفويض األمور إليه واالستسالم واإلذع‪99‬ان ل‪99‬ه م‪9‬ع إظه‪99‬ار ال‪99‬ذل‬
‫واالفتقار له سبحانه فهو الغني والعبد فقير إليه ال يملك من أمره شيئاً‪.‬‬
‫ويجدر التنبيه هنا على أمر يُخطئ به بعض الناس أال وهو‪ :‬استعمالهم هذه الكلم‪99‬ة في‬
‫غير موضعها الالئث بها‪ ،‬ونجم ذل‪99‬ك عن ع‪99‬دم معرف‪99‬ة معناه‪99‬ا ومحتواه‪99‬ا فيجعلونه‪99‬ا‬
‫كلمة استرجاع ال كلمة استعانة باهلل‪.2‬‬
‫رابعاً‪ :‬االحتجاج بالقدر على المعاصي‪:‬‬
‫االحتجاج بالقدر على فعل المعصية ق‪99‬ديم‪ ،‬ق‪99‬دم ب‪99‬دء الخليق‪99‬ة‪ ،‬وأول من ق‪99‬ال ب‪99‬ه إبليس‬
‫أعاذنا هللا منه‪ ،‬فإنه بع‪99‬د أن رفض أم‪99‬ر هللا بالس‪99‬جود آلدم ـ علي‪99‬ه الس‪99‬الم ـ واس‪99‬تحق‬
‫غضب هللا عليه بلعنه وطرده من رحمته وإخراجه من الجن‪99‬ة‪ ،‬لم ين‪99‬دم‪ ،‬ولم يتب‪ ،‬ولم‬
‫يرجع على نفسه بالالئمة‪ ،‬بل زاد عص‪99‬يانا ً وتم‪99‬رداً‪ ،‬بإض‪99‬افة غوايت‪99‬ه إلى هللا‪ ،‬فق‪99‬ال "‬
‫ض َوألُ ْغ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (الحج‪99‬ر ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪.)39 :‬‬ ‫ُ‬
‫َربِّ بِ َمآ أَ ْغ َو ْيتَنِي ألزَ يِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫وهكذا تلقى كثير من البشر هذه الحجة الباطلة عن إبليس فغرقوا في الض‪9‬الل ووقع‪99‬وا‬
‫في المعاصي واآلثام ثم احتجوا على ذلك بالحجة اإلبليسية‪ ،‬وقالوا‪ :‬هذه شئ ق‪َّ 99‬دره هللا‬
‫علينا فحملوا مسئولية خطاياهم على ربهم‪ ،‬وهو الذي نهاهم عن تل‪99‬ك المعاص‪99‬ي‪ ،‬وق‪99‬د‬
‫أخبر هللا عن أمثال هؤالء‪:3‬‬
‫وا لَوْ َش ‪9‬اء هّللا ُ َم‪99‬ا أَ ْش ‪َ 9‬ر ْكنَا َوالَ آبَا ُؤنَ‪99‬ا َوالَ َح َّر ْمنَ‪99‬ا ِمن‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬سيَقُو ُل الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُك ْ‬
‫وا بَأْ َسنَا قُلْ هَلْ ِعن َد ُكم ِّم ْن ِع ْل ٍم فَتُ ْخ ِرجُوهُ لَنَ‪99‬ا‬ ‫ب الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِهم َحتَّى َذاقُ ْ‬ ‫ك َك َّذ َ‬ ‫َش ْي ٍء َك َذلِ َ‬
‫إِن تَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّ َّن َوإِ ْن أَنتُ ْم إَالَّ ت َْخ ُرصُونَ "‪( 9‬األنعام ‪ ،‬آية ‪.)148 :‬‬
‫وا لَوْ َشاء هّللا ُ َما َعبَ ْدنَا ِمن ُدونِ ‪ِ 9‬ه ِمن َش ‪ْ 9‬ي ٍء نَّحْ ُن َوال‬ ‫"وقَا َل الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُك ْ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫‪9‬ل الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم فَهَ‪99‬لْ َعلَى الرُّ ُس‪ِ 9‬ل إِالَّ‬ ‫آبَا ُؤنَا َوالَ َح َّر ْمنَا ِمن ُدونِ ِه ِمن َش ْي ٍء َك‪َ 9‬ذلِكَ فَ َع‪َ 9‬‬
‫ين" (النحل ‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬ ‫غ ْال ُمبِ ُ‬‫ْالبَال ُ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬و َج َعلُوا ْال َماَل ئِ َكةَ الَّ ِذينَ هُ ْم ِعبَ‪99‬ا ُد ال ‪9‬رَّحْ َم ِن إِنَاثً‪99‬ا أَ َش ‪ِ 9‬ه ُدوا خ َْلقَهُ ْم َس‪9‬تُ ْكتَبُ‬
‫ك ِم ْن ِع ْل ٍم إِ ْنهُ ْم إِاَّل‬
‫َشهَا َدتُهُ ْم َويُسْأَلُونَ * َوقَالُوا لَوْ َشاء الرَّحْ َم ُن َما َعبَ ‪ْ 9‬دنَاهُم َّما لَهُم بِ ‪َ 9‬ذلِ َ‬
‫يَ ْخ ُرصُونَ " (الزخرف ‪ ،‬آية ‪ 19 :‬ـ ‪ ،)20‬وقد رد هللا في القرآن الكريم هذه الم‪99‬زاعم‪،‬‬
‫ووصف أصحابها بالكذب والتخرص‪ ،‬صحيح ما يجري في الكون يجري بمش‪99‬يئة هللا‬
‫الكونية‪ ،‬ويقع وفقا ً إلرادته‪ ،‬ولكن دعوى المشركين أنهم وقعوا فيما وقعوا في‪99‬ه بس‪99‬بب‬
‫تلك المشيئة اإللهية واإلرادة اإللهية‪ ،‬باطل ومردود لما يأتي‪.‬‬
‫‪1‬ـ إن مش‪99‬يئة هللا غيب ال يعلم‪99‬ه أح‪99‬د قب‪99‬ل أن يق‪99‬ع‪ ،‬فمن أين له‪99‬ؤالء المش‪99‬ركين أن‬
‫يعلموها ويحيلون عليها ش‪99‬ركهم وض‪99‬اللهم‪ ،‬كم‪99‬ا أن علم اإلنس‪99‬ان مح‪99‬دود‪ ،‬ومن ثم ال‬
‫أحد يستطيع أن يعلم ما قدره هللا في المستقبل من خير أو شر إال بعد وقوع أح‪99‬دها ل‪99‬ه‬
‫أو عليه‪ ،‬أما قبل ذلك فال علم ألحد بما سيحصل " َو َم‪99‬ا تَ‪ْ 9‬د ِري نَ ْفسٌ َّما َذا تَ ْك ِس‪9‬بُ َغ‪ 9‬دًا‬
‫وت إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم خَ بِيرٌ" (لقمان ‪ ،‬آية ‪ .)34 :‬فلو كان عن‪99‬د‬ ‫ض تَ ُم ُ‬ ‫َو َماتَ ْد ِري نَ ْفسٌ بِأَيِّ أَرْ ٍ‬

‫‪1‬المصدر نفسه (‪.)903 / 2‬‬


‫‪2‬الحوقلة مفهومها وفضائلها ودالالتها العقدية‪ ،‬عبد الرزاق العباد صـ‪.83‬‬
‫‪ 3‬عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬د‪ .‬سعيد مسفر القحطاني صـ‪.253‬‬

‫‪57‬‬
‫راض بذلك فليظهروه‪99‬ا‪ ،‬وإال ف‪99‬إن دع‪99‬واهم معرف‪99‬ة‬ ‫ٍ‬ ‫المشركين من حجة مقنعة بأن هللا‬
‫الغيب وكشف أسراره كذب على هللا‪ ،‬ودعوى باطلة ال برهان لهم عليها‪.‬‬
‫‪2‬ـ إن هللا أذاق الكافرين السابقين ألوان العذاب وأصناف العق‪99‬اب ج‪99‬زاء على كف‪99‬رهم‪،‬‬
‫فلو لم يكونوا مختارين لما ارتكبوه من جرائم وآثام وكف‪99‬ر وش‪99‬رك لم‪99‬ا ع‪99‬ذبهم هللا ألن‬
‫هللا عدل ال يظلم أحد " َو َما َربُّكَ بِظَاَّل ٍم لِّ ْل َعبِي‪ِ 9‬د"‪( 1‬فص‪99‬لت ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ .)46 :‬وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪:‬‬
‫اصبًا َو ِم ْنهُم َّم ْن أَ َخ َذ ْتهُ َّ‬
‫الص‪99‬ي َْحةُ َو ِم ْنهُم َّم ْن‬ ‫"فَ ُكاًّل أَخَ ْذنَا بِ َذنبِ ِه فَ ِم ْنهُم َّم ْن أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه َح ِ‬
‫ظلِ ُمونَ "‬ ‫ظلِ َمهُ ْم َولَ ِكن َكانُوا أَنفُ َسهُ ْم يَ ْ‬
‫ض َو ِم ْنهُم َّم ْن أَ ْغ َر ْقنَا َو َما َكانَ هَّللا ُ لِيَ ْ‬‫خَ َس ْفنَا بِ ِه اأْل َرْ َ‬
‫(العنكبوت ‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬
‫‪3‬ـ إن هللا خل‪99‬ق البش‪99‬ر وفط‪99‬رهم على االس‪99‬تعداد للخ‪99‬ير والش‪99‬ر واله‪99‬دى والض‪99‬الل‪،‬‬
‫ومنحهم العقل لترجيح واحد من هذه على األخ‪9‬رى‪ ،‬وبيَّن لهم اآلي‪99‬ات الكوني‪99‬ة الهادي‪99‬ة‬
‫إلى الحق والخير‪ ،‬وأرسل الرسل وأنزل الكتب والشرائع كموازين ثابتة تعين اإلنسان‬
‫في اختياره‪ ،‬ومن ثم فال حجة لإلنسان بأن وقوعه في الضالل وإنحرافه عن الح‪99‬ق لم‬
‫أن قدر هللا هو الذي أضله ‪ ،‬قال تعالى‪َ " :‬ونَ ْف ٍ‬ ‫يكن باختياره وإرادته‪ ،‬أو َّ‬
‫‪2‬‬
‫س َو َما َس‪َّ 99‬واهَا‬
‫َس ‪9‬اهَا" (الش‪99‬مس ‪،‬‬ ‫اب َمن د َّ‬ ‫* فَأ َ ْلهَ َمهَا فُجُو َرهَا َوتَ ْق َواهَا * قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن زَ َّكاهَا * َوقَ ‪ْ 9‬د خَ ‪َ 9‬‬
‫آية ‪ 7 :‬ـ ‪.)8‬‬
‫وقال تعالى‪ " :‬إِنَّا هَ َد ْينَاهُ ال َّسبِي َل إِ َّما َشا ِكرًا َوإِ َّما َكفُورًا" (اإلنس‪99‬ان ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)3 :‬ويق‪99‬ول‬
‫سبحانه " َوهَ َد ْينَاهُ النَّجْ َدي ِْن" (البلد ‪ ،‬آية ‪ ،)10 :‬فكل إنسان إذن مسؤول محاس‪99‬ب على‬
‫عمله من خير وشر‪.3‬‬
‫إن سلف هذه األمة قد فهموا القدر على حقيقته‪ ،‬ومن ثم ردوا ما تعلل ب‪99‬ه أص‪99‬حاب‬ ‫‪4‬ـ ّ‬
‫األهواء والشهوات ويروى أن أح‪99‬د اللص‪99‬وص س‪99‬رق في عه‪99‬د عم‪99‬ر رض‪99‬ي هللا عن‪99‬ه‬
‫فأحضر بين يديه فسأله عمر قائالً‪ :‬لم سرقت؟ فقال‪ :‬قدر هللا ذل‪99‬ك‪ .‬فق‪99‬ال عم‪99‬ر رض‪99‬ي‬
‫هللا عنه‪ :‬اض‪99‬ربوه ثالثين س‪9‬وطا ً ثم اقطع‪99‬وا ي‪99‬ده‪ .‬فقي‪9‬ل ل‪99‬ه‪ :‬ولم؟ فق‪9‬ال‪ :‬يقط‪99‬ع لس‪9‬رقته‬
‫ويضرب لكذبه على هللا‪ ،‬ويقول الخطابي‪ :‬قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء‬
‫والق‪99‬در إجب‪99‬ار هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى العب‪99‬د على م‪99‬ا ق‪99‬دره وقض‪99‬اه‪ ،‬وليس األم‪99‬ر كم‪99‬ا‬
‫يتوهمونه‪ ،‬وإنما معناه اإلخبار عن تقدم علم هللا تعالى‪ ،‬بما يكون من اكتسابات العب‪99‬د‪،‬‬
‫وصدورها عن تقدير منه‪ ،‬وخلقه لها خيرها وشرها‪.4‬‬
‫‪5‬ـ إن هذا القول "االحتجاج بالقدر" يل‪99‬زم من‪99‬ه أن يس‪99‬توي أولي‪99‬اء هللا وأع‪99‬داء هللا‪ ،‬وال‬
‫يتميز األبرار من الفجار‪ ،‬وال أهل الجنة من أه‪99‬ل الن‪99‬ار‪ ،‬ف‪99‬إن ه‪99‬ؤالء جميع ‪9‬ا ً ق‪99‬د كتب‬
‫مقاديرهم‪ ،‬قبل أن يخلقهم‪ ،‬وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد باإليمان والعمل الصالح‪،‬‬
‫وإلى شقي بالكفر والفسوق والعصيان‪.5‬‬
‫‪9‬ال ُمجْ ِر ِمينَ * َم‪9‬ا لَ ُك ْم َك ْي‪9‬فَ تَحْ ُك ُم‪99‬ونَ " (القلم‪ ،‬آي‪9‬ة ‪:‬‬ ‫ـ قال تعالى‪ 9":‬أَفَنَجْ َع‪ُ 9‬ل ْال ُم ْس‪9‬لِ ِمينَ َك‪ْ 9‬‬
‫‪.)36 ،35‬‬
‫ض أَ ْم‬
‫ت َك ْال ُم ْف ِس‪ِ 9‬دينَ ِفي اأْل َرْ ِ‬‫الص‪9‬الِ َحا ِ‬ ‫َّ‬ ‫ـ وقال تع‪9‬الى‪ ":‬أَ ْم نَجْ َع‪ُ 9‬ل الَّ ِذينَ آ َمنُ‪9‬وا َو َع ِملُ‪9‬وا‬
‫َّار" (ص‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬ ‫نَجْ َع ُل ْال ُمتَّقِينَ َك ْالفُج ِ‬
‫‪ 1‬العقيدة اإلسالمية د‪ .‬أحمد محمد جلي صـ ‪.385‬‬
‫‪ 2‬العقيدة اإلسالمية د‪ .‬أحمد جلي صـ ‪.210‬‬
‫‪ 3‬عقيدة التوحيد من الكتاب والسنة سعاد ميبر صـ‪.210‬‬
‫‪ 4‬صحيح مسلم‪ ،‬شرح النووي (‪ 154 /1‬ـ ‪.)155‬‬
‫‪5‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪.63‬‬

‫‪58‬‬
‫ار َوأَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ُم ْالفَ‪99‬ائِ ُزونَ "‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬اَل يَ ْست َِوي أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫(الحشر‪ ،‬آية ‪.)20 :‬‬
‫وملخص القول في االحتجاج بالقدر على المعاصي‪:‬‬
‫لو كان االحتجاج بالقدر‪ ،‬مقبوالً لقبل إبليس وغيره من العصاة ول‪99‬و ك‪99‬ان الق‪99‬در حج‪99‬ة‬
‫للعباد لم يعذب أحد من الخل‪99‬ق ال في ال‪99‬دنيا وال في اآلخ‪99‬رة‪ ،‬ول‪99‬و ك‪99‬ان الق‪99‬در حج‪99‬ة لم‬
‫تقطع يد سارق‪ ،‬وال قتل قاتل‪ ،‬وال أقيم حد على ذي جريمة‪ ،‬وال جوهد في س‪99‬بيل هللا‪،‬‬
‫وال أمر بالمعروف وال نُهي عن المنكر‪ ،1‬وه‪99‬ذا من الفس‪99‬اد في ال‪99‬دين وال‪99‬دنيا المعل‪99‬وم‬
‫ضرورة فساده بصريح المعقول المطابق لما ج‪9‬اء ب‪9‬ه الرس‪99‬ول‪ .2‬وأخ‪9‬يراً ف‪9‬إن المحتج‬
‫بالقدر يكذب واقع دعواه‪ ،‬إذا أنه ال يعلل بالقدر ك‪99‬ل أحوال‪99‬ه‪ ،‬وإال ل‪99‬و ك‪99‬ان ص‪99‬ادقا ً في‬
‫زعمه لرضي بكل ما يقدره هللا عليه من فقر وذل وجوع وذهاب مال‪ ،‬والواق‪99‬ع يش‪99‬هد‬
‫بعكس ذلك ويؤكد سعيه بكل الوسائل لجمع المال ودفع المرض وإذهاب الج‪99‬وع‪ ..‬الخ‬
‫ولو كان المحتج بالقدر صادقا ً في احتجاجه للزم أن ال ينك‪99‬ر على من يظلم‪99‬ه ويش‪99‬تمه‬
‫ويأخذ ماله ويفسد حريم‪9‬ه ويض‪99‬رب عنق‪9‬ه ويهل‪9‬ك الح‪9‬رث والنس‪9‬ل‪ ،‬وه‪9‬ؤالء جميعهم‬
‫كذابون متناقضون‪ ،3‬فإن أحدهم ال يزال يذم هذا‪ ،‬ويبغض هذا‪ ،‬ويخالف هذا‪ ،‬حتى إن‬
‫الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه‪ ،‬وينكرون عليه‪ ،‬فإن ك‪9‬ان الق‪99‬در حج‪99‬ة لمن فع‪99‬ل‬
‫المحرمات وترك الواجبات لزمهم أن ال يذموا أحداً وال يبغضوا أح‪99‬داً‪ ،‬وال يقول‪99‬وا في‬
‫أحد‪ :‬إنه ظالم ولو فعل ما فعل‪ ،‬ومعلوم أن هذا ال يمكن أح‪99‬د فعل‪99‬ه‪ ،‬وفع‪99‬ل الن‪99‬اس ه‪99‬ذا‬
‫لهلك العالم‪ ،‬فتبين أن ق‪99‬ولهم فاس‪99‬د في العق‪99‬ل‪ ...‬وأنهم ك‪99‬ذابون مف‪99‬ترون في ق‪99‬ولهم‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫القدر حجة للعبد‪.4‬‬
‫ـ هل أحتج آدم عليه السالم على الذنب بالقدر؟‬
‫ومن أشهر األدلة التي يستدل بها المحتجون بالقدر على توس‪99‬يع تف‪99‬ريطهم وعص‪99‬يانهم‬
‫حديث احتجاج آدم وموسى ـ عليهم‪99‬ا الص‪99‬الة والس‪99‬الم ـ وه‪99‬و م‪99‬ا رواه أب‪99‬و هري‪99‬رة ـ‬
‫رضي هللا عنه ـ قال‪ :‬قال‪ :‬رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪" :‬احتج آدم وموس‪99‬ى فق‪99‬ال‬
‫ل‪99‬ه موس‪99‬ى‪ :‬ي‪99‬ا آدم أنت أبون‪99‬ا خيبتن‪99‬ا وأخرجتن‪99‬ا من الجن‪99‬ة‪ .‬فق‪99‬ال ل‪99‬ه آدم‪ :‬ي‪99‬ا موس‪99‬ى‬
‫اصطفاك هللا بكالمه‪ ،‬وخط لك بيده‪ ،‬أتلومني على أمر ق‪99‬دره هللا عل ّي قب‪99‬ل أن يخلق‪99‬ني‬
‫بأربعين سنة‪ ،‬فجح آدم موسى ثالثا ً‪5‬؟‬
‫لقد تسرع بعض الناس فأنكروا هذا الحديث حين ظن‪99‬وه س‪99‬نداً لالحتج‪99‬اج على ال‪99‬ذنوب‬
‫بالقدر‪ ،‬وتمحل آخرون تأويالت غير مقبولة‪ ،‬واتخ‪99‬ذه آخ‪99‬رون تك‪99‬أة يتوك‪99‬ؤون عليه‪99‬ا‪،‬‬
‫ويستندون إليها إذا وقعوا في الذنوب واآلث‪99‬ام وال‪99‬ديث ال مطعن في ص‪99‬حته‪ ،‬فق‪99‬د رواه‬
‫الشيخان عن حديث أبي هريرة وروي في السنن بإسناد جيد من ح‪99‬ديث عم‪99‬ر رض‪99‬ي‬
‫هللا عنه‪ 6‬والحديث يشير إلى أمور في غاية الوضوح منها‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن الحديث ليس فيه أن موسى الم آدم على المعصية‪ ،‬وإنما في‪99‬ه أن‪99‬ه قال‪99‬ه‪" :‬ي‪99‬ا آدم‬
‫أنت أبونا‪ ،‬خيبتنا وأخرجتنا من الجنة"‪ ،‬وظاهر هذا القول أنه المه على اإلخ‪99‬راج من‬

‫‪1‬مجموع الفتاوى ال بن تيمية (‪ 264 /8‬ـ ‪.)265‬‬


‫‪ 2‬مجموع الرسائل والمسائل (‪.)139 /5‬‬
‫‪ 3‬العقيدة اإلسالمية د‪ .‬أحمد جلي صـ ‪.387‬‬
‫‪ 4‬مجمع الفتاوى ابن تيمية (‪.)263 /8‬‬
‫‪5‬مسلم ك القدر رقم ‪ 4042 / 4( 13‬ـ ‪ ،)4043‬البخاري‪ ،‬ك القدر (‪.)214 /7‬‬
‫‪ 6‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪66‬‬

‫‪59‬‬
‫الجن‪99‬ة ال على األك‪99‬ل من الش‪99‬جرة‪ ،‬فيك‪99‬ون الل‪99‬وم على المص‪99‬يبة ال‪99‬تي حص‪99‬لت بس‪99‬بب‬
‫المعصية‪ ،‬ال المعصية نفسها‪ ،1‬والمؤمن م‪99‬أمور على ن‪99‬زول المص‪99‬ائب أن يرج‪99‬ع إلى‬
‫الق‪99‬در ويحتمي ب‪99‬ه‪ ،‬ف‪99‬إن س‪99‬عادة العب‪99‬د أن يفع‪99‬ل الم‪99‬أمور وي‪99‬ترك المحظ‪99‬ور‪ ،‬ويس‪99‬لم‬
‫للمقدور‪ ،‬ولهذا علمنا رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم أن نق‪99‬ول عن‪99‬د حل‪99‬ول م‪99‬ا نك‪99‬ره‪:‬‬
‫قدر هللا وما شاء فعل‪.2‬‬
‫‪2‬ـ أن موسى عليه السالم أعرف باهلل سبحانه وبأمره ودينه من أن يل‪99‬وم على ذنب ق‪99‬د‬
‫‪9‬اب َعلَ ْي‪ِ 9‬ه‬‫أخبره هللا أن‪99‬ه ت‪99‬اب على ص‪99‬احبه‪ ،‬واجتب‪99‬اه بع‪99‬ده وه‪99‬داه " ثُ َّم اجْ تَبَ‪99‬اهُ َربُّهُ فَتَ‪َ 9‬‬
‫َوهَدَى" (طه ‪ ،‬آية ‪ ،)122 :‬وموسى عليه السالم ومن هو دون موسى منزلة يعلم أن‪99‬ه‬
‫بعد التوبة والمغفرة‪ ،‬ال يبقى وجه المالمة على الذنب‪ ،‬فالتائب من الذنب كمن ال ذنب‬
‫له‪ ،3‬وآدم أعلم باهلل جل شأنه من أن يحتج بالق‪9‬در على ال‪99‬ذنب‪ ،‬كي‪99‬ف وق‪9‬د اع‪99‬ترف ب‪9‬ه‬
‫واس‪99‬تغفر من‪99‬ه بقول‪99‬ه‪َ " :‬ربَّنَ‪99‬ا ظَلَ ْمنَ‪99‬ا أَنفُ َس‪99‬نَا َوإِن لَّ ْم تَ ْغفِ‪99‬رْ لَنَ‪99‬ا َوتَرْ َح ْمنَ‪99‬ا لَنَ ُك‪99‬ون ََّن ِمنَ‬
‫ْال َخا ِس ِرينَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.4)23 :‬‬
‫‪3‬ــ إن االحتجاج بالقدر على المصائب جائز‪ ،‬وكذلك االحتجاج بالقدر على المعص‪99‬ية‬
‫بعد التوبة منها جائز‪ ،‬وأما االحتج‪99‬اج بالق‪99‬در على المعص‪99‬ية ت‪99‬بريراً لموق‪99‬ف اإلنس‪99‬ان‬
‫واستمراراً فيها فغير جائز‪.5‬‬
‫‪4‬ــ من مسائل القدر في هذا الحديث‪ ،‬سبق الكتاب‪ ،‬أي كتاب‪99‬ة ك‪99‬ل ش‪99‬ئ قب‪99‬ل وج‪99‬وده‪،‬‬
‫وفيه مقارنة بين حجة آدم وحجة موسى عليهما الس‪99‬الم‪ ،‬ثم تعقيب الرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا‬
‫عليه وسلم بقوله‪" :‬فج ّح آدم موس‪9‬ى‪ ،‬ويكرره‪9‬ا ثالث‪9‬اً"‪ ،‬وال يق‪9‬ول الرس‪9‬ول الك‪9‬ريم أن‬
‫كالم موسى خطأ‪ ،‬بل يلفت النظر إلى شمول و حجة آدم عليه السالم‪.6‬‬
‫ـ الحكمة من وجود المعاصي والكفر‪:‬‬
‫لوقوع المعاصي والكفر حكم كثيرة منها‪:‬‬
‫‪1‬ــ إتمــام كلمة هللا تعالى حيث وع‪99‬د الن‪99‬ار أن يمأله‪99‬ا ق‪99‬ال هللا تع‪99‬الى‪َ " :‬والَ يَزَالُ‪99‬ونَ‬
‫ألن َجهَنَّ َم ِمنَ ْال ِجنَّ ِة‬‫ك ألَ ْم َّ‬ ‫ت َكلِ َم‪ 99‬ةُ َربِّ َ‬ ‫ك خَ لَقَهُ ْم َوتَ َّم ْ‬‫ك َولِ‪َ 99‬ذلِ َ‬ ‫ُم ْختَلِفِينَ * إِالَّ َمن ر ِ‬
‫َّح َم َربُّ َ‬
‫اس أَجْ َم ِعينَ "(هود‪ ، 9‬آية ‪ 118 :‬ـ ‪.)119‬‬ ‫َوالنَّ ِ‬
‫‪2‬ـ ظهور حكمة هللا تعالى وقدرته حيث قسم العب‪9‬اد إلى قس‪9‬مين ط‪9‬ائع وعاص‪9‬ي‪ ،‬ف‪9‬إن‬
‫هذا التقسيم يتبين به حكمة هللا عز وجل فإن الطاعة لها أهل هم أهلها‪ ،‬والمعص‪9‬ية له‪9‬ا‬
‫ْث يَجْ َع ُل ِر َسالَتَهُ" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)124 :‬‬ ‫أهل هم أهلها قال تعالى‪ " :‬هّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ‬
‫ــ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬والَّ ِذينَ ا ْهتَ ‪9‬دَوْ ا زَا َدهُ ْم هُ ‪9‬دًى َوآتَ‪99‬اهُ ْم تَ ْق‪99‬واهُ ْم" (محم‪99‬د ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪)17 :‬‬
‫فهؤالء أهل الطاعة‪.‬‬
‫ــ وق‪9‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬وأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ‪99‬وبِ ِهم َّم َرضٌ فَ‪9‬زَا َد ْتهُ ْم ِرجْ ًس‪9‬ا إِلَى ِرجْ ِس‪ِ 9‬ه ْم َو َم‪99‬اتُ ْ‬
‫وا‬
‫َوهُ ْم َكافِرُونَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)125 :‬‬

‫‪1‬منهج الحافظ ابن حجر العسقالني في العقيدة (‪.)425 / 1‬‬


‫‪ 2‬مسلم رقم ‪.2664‬‬
‫‪ 3‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪.67‬‬
‫‪4‬المصدر نفسه صـ‪.67‬‬
‫‪ 5‬المجموع الثمين البن عثيمين (‪.)159 /2‬‬
‫‪ 6‬القدر في ضوء الكتاب والسنة‪ ،‬محمد فتح هللا كولن صـ‪.48‬‬

‫‪60‬‬
‫ــ وقال‪ " :‬فَلَ َّما زَا ُغوا أَزَ ا َغ هَّللا ُ قُلُوبَهُ ْم" (الصف‪ ، 9‬آية ‪ ،)5 :‬وه‪99‬ؤالء أه‪99‬ل المعص‪99‬ية‪،‬‬
‫ويتبين بذلك قدرته بهذا التقسيم الذي ال يقدر عليه إال هللا كما قال تعالى‪ " :‬لَّي َ‬
‫ْس َعلَ ْي‪99‬كَ‬
‫هُدَاهُ ْم َولَـ ِك َّن هّللا َ يَ ْه ِدي َمن يَ َشاء" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)2729 :‬‬
‫‪999‬و أَ ْعلَ ُم‬
‫ــ وق‪999‬ال تع‪999‬الى " إِنَّكَ اَل تَهْ‪ِ 999‬دي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ يَهْ‪ِ 999‬دي َمن يَ َش‪999‬اء َوهُ َ‬
‫بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ "(القصص ‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬
‫‪3‬ـ لجوء العبد إلى ربه بالدعاء أن يباعد بينه وبين المعصية والدعاء عبادة هلل تعالى‪.‬‬
‫ومن هللا علي‪99‬ه بالتوب‪99‬ة إزداد إناب‪99‬ة إلى هللا‬ ‫‪4‬ــ ومنهــا أن العبــد إذا وقــع في المعصــية َّ‬
‫وانكسر قلبه وربما يكون بعد التوبة أكمل ح‪99‬االً من‪99‬ه قب‪99‬ل المعص‪99‬ية حيث ي‪99‬زول عن‪99‬ه‬
‫الغرور والعجب ويعرف شدة افتقاره إلى ربه‪.1‬‬
‫‪5‬ـ ومنها أن يتبين للمطيع قدر نعمة هللا علي‪99‬ه بالطاع‪99‬ة إذا رأى ح‪99‬ال أه‪99‬ل المعص‪99‬ية‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُس‪9‬والً ِّم ْن أَنفُ ِس‪ِ 9‬ه ْم يَ ْتلُ‪99‬و َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫ق‪9‬ال تع‪99‬الى‪" :‬لَقَ‪ْ 9‬د َم َّن هّللا ُ َعلَى ْال ُم‪99‬ؤ ِمنِينَ إِ ْذ بَ َع َ‬
‫ين" (آل‬ ‫ض ‪9‬ال ٍل ُّمبِ ٍ‬ ‫وا ِمن قَ ْب‪ُ 9‬ل لَفِي َ‬ ‫‪9‬اب َو ْال ِح ْك َم‪ 9‬ةَ َوإِن َك‪99‬انُ ْ‬ ‫آيَاتِ ‪ِ 9‬ه َويُ ‪َ 9‬ز ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَ‪َ 9‬‬
‫عمران ‪ ،‬آية ‪.)164 :‬‬
‫‪6‬ـ ومنه‪99‬ا إقام‪99‬ة الجه‪99‬اد واألم‪99‬ر ب‪99‬المعروف والنهي عن المنك‪99‬ر فإن‪99‬ه ل‪99‬وال المعاص‪99‬ي‬
‫والكفر لم يكن جه‪99‬اد وال أم‪99‬ر بمع‪99‬روف وال نهي عن منك‪99‬ر إلى غ‪99‬ير ذل‪99‬ك من الحكم‬
‫والمصالح الكثيرة وهلل في خلقه‪ 2‬شؤون‪.‬‬

‫‪1‬المجموع الثمين (‪.)170 / 1‬‬


‫‪2‬المجموع الثمين البن عثيمين ( ‪.)171 / 1‬‬

‫‪61‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الهداية واإلضالل‪:‬‬
‫إن مسألة هداية هللا تعالى للعبد وإضالله له هي قلب أبواب القدر ومس‪99‬ائله‪ ،‬ألن أعظم‬
‫نعمة الهداية‪ ،‬وأعظم مصيبة هي مصيبة الضالل‪.1‬‬
‫أوالً‪ :‬مراتب الهداية‪:‬‬
‫‪1‬ـ ـ الهدايــة العامــة‪ :‬وهي هداي‪99‬ة ك‪99‬ل مخل‪99‬وق لم‪99‬ا يص‪99‬لح أم‪99‬ور معاش‪99‬ه‪ ،‬وهي أعم‬
‫‪9‬ال َربُّنَ‪99‬ا الَّ ِذي أَ ْعطَى‬ ‫المراتب‪ ،‬وهي شاملة لجميع المخلوقات ودليلها قوله تع‪99‬الى‪ " :‬قَ‪َ 9‬‬
‫خَلقَهُ ثُ َّم هَدَى" (طه ‪ ،‬آية ‪.)50 :‬‬ ‫ُك َّل َش ْي ٍء ْ‬
‫وه‪99‬ذه الهداي‪99‬ة تعم جمي‪99‬ع المخلوق‪99‬ات‪ ،‬وتعم س‪99‬ائر أم‪99‬ور المع‪99‬اش من نك‪99‬اح‪ ،‬وطع‪99‬ام‬
‫وشراب‪ ،‬وجميع السلوك التي يهدي هللا تعالى مخلوقات‪99‬ه لعمله‪99‬ا من غ‪99‬ير تعليم س‪99‬ابق‬
‫كهداية النمل إلى تنظيم ط‪99‬رق المع‪99‬اش وخ‪99‬زن الطع‪99‬ام وغ‪99‬ير ذل‪99‬ك مم‪99‬ا يح‪99‬ار العق‪99‬ل‬
‫البشري فيه فسبحان من خلق فسوى ثم قدر فهدى‪.2‬‬
‫‪2‬ـ هدايــة اإلرشــاد والــدعوة والبيــان وهي أخص من ال‪9‬تي قبله‪9‬ا حيث إنه‪9‬ا مختص‪9‬ة‬
‫بالمكلفين من الخلق‪ ،‬والمراد بها دع‪99‬وة الخل‪99‬ق وبي‪99‬ان الح‪99‬ق لهم‪ ،‬وهي حج‪99‬ة هللا على‬
‫خلقه‪ ،‬فال يعذب أحداً إال بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب‪.‬‬
‫اس َعلَى هّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع‪َ 9‬د الرُّ ُس‪ِ 9‬ل‬‫ــ قال تعالى‪ " :‬رُّ ُسالً ُّمبَ ِّش ِرينَ َو ُمن‪ِ 9‬ذ ِرينَ لِئَالَّ يَ ُك‪99‬ونَ لِلنَّ ِ‬
‫َزي ًزا َح ِكي ًما" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)165 :‬‬ ‫َو َكانَ هّللا ُ ع ِ‬
‫ض‪َ 9‬ي بَ ْينَهُم بِ ْالقِ ْس‪ِ 9‬ط َوهُ ْم الَ‬ ‫َّس‪9‬و ٌل فَ‪9‬إ ِ َذا َج‪ 9‬اء َر ُس‪9‬ولُهُ ْم قُ ِ‬ ‫ــ وقال تع‪99‬الى‪َ " :‬ولِ ُك‪99‬لِّ أُ َّم ٍة ر ُ‬
‫ُظلَ ُمونَ " (يونس ‪ ،‬آية ‪.)147 :‬‬ ‫ي ْ‬
‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬وهَ َد ْينَاهُ النَّجْ َد ْي ِن" (البلد ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫ث َرسُوالً" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬و َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬
‫ــ وقال تعالى‪ُ " :‬كلَّ َما أُ ْلقِ َي فِيهَا فَوْ ٌج َسأَلَهُ ْم خَزَ نَتُهَا أَلَ ْم يَأْتِ ُك ْم نَ ِذي ٌر * قَالُوا بَلَى قَ ْد َجاءنَا‬
‫ير" (المل‪99‬ك ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 8 :‬ـ‬ ‫ضاَل ٍل َكبِ ٍ‬ ‫نَ ِذي ٌر فَ َك َّذ ْبنَا َوقُ ْلنَا َما نَ َّز َل هَّللا ُ ِمن َش ْي ٍء إِ ْن أَنتُ ْم إِاَّل فِي َ‬
‫‪.)9‬‬
‫وهذه الهداية هي التي أثبتها هللا عز وجل لنبيه صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم في قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪:‬‬
‫اط ُّم ْستَقِ ٍيم" (الشورى ‪ ،‬آية ‪.)52 :‬‬ ‫ص َر ٍ‬ ‫ك لَتَ ْه ِدي إِلَى ِ‬ ‫" َوإِنَّ َ‬
‫وهي ثابتة من بعده للعلماء‪ ،‬والدعاة إلى هللا بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،3‬وهي مرتبة‬
‫عامة يشترك فيها الناس جميع‪9‬اً‪ ،‬ولكنه‪99‬ا ال يل‪99‬زم عنه‪99‬ا هداي‪99‬ة التوفي‪99‬ق واتب‪99‬اع الح‪99‬ق‪،‬‬
‫فكثير من ال‪99‬ذين أرس‪99‬ل إليهم الرس‪99‬ل وأن‪99‬زلت عليهم الكتب‪ ،‬لم يؤمن‪99‬وا وآث‪99‬روا ط‪99‬رق‬
‫اس ‪9‬تَ ْيقَنَ ْتهَا أَنفُ ُس ‪9‬هُ ْم ظُ ْل ًم‪99‬ا َو ُعلُ ‪ًّ 9‬وا فَ‪99‬انظُرْ َك ْي‪99‬فَ َك‪99‬انَ عَاقِبَ ‪9‬ةُ‬
‫الغواي‪99‬ة " َو َج َح‪ُ 9‬دوا بِهَ‪99‬ا َو ْ‬
‫ْال ُم ْف ِس ِدينَ " (النمل ‪ ،‬آية ‪ )14 :‬أي جحدوا باآليات بعد تيقنهم من ص‪99‬حتها وه‪99‬ذا الن‪99‬وع‬
‫من الهداية عام للمؤمن والكافر‪.4‬‬
‫وحجة اهلل قائمة هبذه اهلداية بعدة أمور وهي‪:‬‬

‫في اآليات السمعية وهي متمثلة فيما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬شفاء العليل صـ ‪ 117‬البن القيم‪.‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه صـ‪ 117‬إلى ‪.129‬‬
‫‪ 3‬أصول االعتقاد في سورة يونس‪ ،‬قذلة بنت محمد القحطاني صـ ‪.508‬‬
‫‪ 4‬العقيدة اإلسالمية د‪ .‬أحمد جلي صـ ‪.382‬‬
‫وحجة هللا قائمة بهذه الهداية بعدة أمور وهي‪:‬‬

‫‪62‬‬
‫إرسال الرسل‪.‬‬
‫إنزال الكتب‪ ،‬بما فيها من الحق والبيان‪.‬‬
‫ُوا َم‪99‬ا َذا فِي‬ ‫ــ البي‪99‬ان باآلي‪99‬ات الكوني‪99‬ة والنظ‪99‬ر في اآلف‪99‬اق‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬ال‪ " :‬قُ‪ِ 99‬ل انظُ‪99‬ر ْ‬
‫‪99‬ات َوالنُّ ُذ ُرعَن قَ‪99‬وْ ٍم الَّي ُْؤ ِمنُ‪99‬ونَ " (ي‪99‬ونس ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ض َو َم‪99‬ا تُ ْغنِي اآليَ ُ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫َّ‬
‫الس‪َ 99‬ما َوا ِ‬
‫‪.)101‬‬
‫ــ بيان الصراط‪ 9‬المستقيم‪ ،‬وإقامة أسباب الهداية‪ ،‬باطنا ً وظاهراً‪ ،‬ومن لم تكتم‪99‬ل عن‪99‬ده‬
‫هذه األسباب لصغر أو لزوال عقل أو نحو ذلك فهؤالء رفع عنهم التكليف‪ ،‬ولم يكلفهم‬
‫هللا تعالى إال ما في وسعهم ودليل هذه المرتبة من س‪99‬ورة ي‪99‬ونس ـ علي‪99‬ه الس‪99‬الم ـ في‬
‫ص‪َ 99‬را ٍط ُّم ْس‪99‬تَقِ ٍيم"‬ ‫الس‪99‬الَ ِم َويَهْ‪ِ 99‬دي َمن يَ َش‪99‬اء إِلَى ِ‬ ‫َار َّ‬‫قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ " :‬وهّللا ُ يَ‪ْ 99‬د ُعو إِلَى د ِ‬
‫(يونس ‪ ،‬آية ‪ ،)25 :‬فاشتملت هذه اآلية الكريمة على هداية البيان واإلرش‪99‬اد في قول‪99‬ه‬
‫الس ‪9‬الَ ِم"‪ ،‬وعلى الهداي‪99‬ة الخاص‪99‬ة وهي هداي‪99‬ة التوفي‪99‬ق‬ ‫تع‪99‬الى‪َ " :‬وهّللا ُ يَ ‪ْ 9‬د ُعو إِلَى د ِ‬
‫َار َّ‬
‫ُس ‪9‬لُهُم‬ ‫‪9‬وا َو َج‪ 9‬اء ْتهُ ْم ر ُ‬ ‫واإللهام في قوله تعالى‪َ " :‬ولَقَ ْد أَ ْهلَ ْكنَ‪99‬ا ْالقُ ‪9‬رُونَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َّما ظَلَ ُم‪ْ 9‬‬
‫وا َك َذلِكَ نَجْ ِزي ْالقَوْ َم ْال ُمجْ ِر ِمينَ " (يونس ‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬ ‫وا لِي ُْؤ ِمنُ ْ‬‫ت َو َما َكانُ ْ‬ ‫بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ت فَ َم‪99‬ا َك‪99‬انُ ْ‬
‫وا‬ ‫ُس‪9‬الً إِلَى قَ‪99‬وْ ِم ِه ْم فَ َج‪ 9‬آ ُؤوهُم بِ ْالبَيِّنَ‪99‬ا ِ‬ ‫ــ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ " :‬ثُ َّم بَ َع ْثنَ‪99‬ا ِمن بَ ْع‪ِ 9‬د ِه ر ُ‬
‫ب ْال ُم ْعتَ ِدينَ "(يونس ‪ ،‬آية ‪ )74 :‬نفي‬ ‫َطبَ ُع َعلَى قُلو ِ‬ ‫ُوا بِ ِه ِمن قَ ْب ُل َك َذلِكَ ن ْ‬ ‫وا بِ َما َك َّذب ْ‬
‫لِي ُْؤ ِمنُ ْ‬
‫لهداي‪99‬ة التوفي‪99‬ق عنهم لظلمهم‪ ،‬وه‪99‬ذا كم‪99‬ا في قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ " :‬وأَ َّما ثَ ُم‪99‬و ُد فَهَ‪َ 99‬د ْينَاهُ ْم‬
‫‪9‬ون بِ َم‪99‬ا َك‪99‬انُوا يَ ْك ِس ‪9‬بُونَ "‬ ‫ب ْالهُ‪ِ 9‬‬ ‫ص ‪9‬ا ِعقَةُ ْال َع‪َ 9‬ذا ِ‬ ‫اس ‪9‬ت ََحبُّوا ْال َع َمى َعلَى ْالهُ ‪9‬دَى فَأَخَ ‪َ 9‬ذ ْتهُ ْم َ‬ ‫فَ ْ‬
‫(فصلت ‪ ،‬آية ‪ .)17 :‬فهداهم في الهداية األولى هداية البيان واإلرشاد فأعرضوا عنها‬
‫لم يقبلوها فعاقبهم هللا تعالى بالضالل جزاء إعراضهم وردهم الحق‪.1‬‬
‫‪3‬ـ هدية التوفيق واإللهام وخلق المش‪9‬يئة المس‪9‬تلزمة للفعل‪ ،2‬وه‪9‬ذه ال يق‪9‬در عليه‪9‬ا إال‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فمن شاء هدايته اهتدى‪ ،‬ومن شاء ضالله ضل‪ ،‬وهي أخص مم‪99‬ا‬
‫قبلها إذ هي خاص‪99‬ة للمهت‪99‬دين من المكلفين‪ ،‬وهي حتمي‪99‬ة الوق‪99‬وع وهي ال‪99‬تي نفاه‪9‬ا هللا‬
‫تعالى عن رسوله في قوله تعالى‪ " :‬إِنَّكَ اَل تَ ْه ِدي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ يَ ْه ِدي َمن يَ َشاء‬
‫َوهُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ " (القصص ‪ ،‬آية ‪.)56 :‬‬
‫ص‪َ 9‬را ٍط ُّم ْس‪9‬تَقِ ٍيم" (االنع‪99‬ام ‪،‬‬ ‫ُض‪9‬لِ ْلهُ َو َمن يَ َش‪9‬أْ يَجْ َع ْل‪9‬هُ َعلَى ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ " :‬من يَ َش‪9‬إ ِ هّللا ُ ي ْ‬
‫آية ‪.)39 :‬‬
‫ضلُّ هّللا ُ َمن يَ َشاء‬ ‫ُول إِالَّ بِلِ َسا ِن قَوْ ِم ِه لِيُبَيِّنَ لَهُ ْم فَيُ ِ‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬و َما أَرْ َس ْلنَا ِمن َّرس ٍ‬
‫َويَ ْه ِدي َمن يَ َشاء َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (إبراهيم ‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬
‫ض‪9‬لَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم َوخَ تَ َم َعلَى َس‪ْ 9‬م ِع ِه‬ ‫‪9‬واهُ َوأَ َ‬ ‫ــ وقال تعالى‪ " :‬أَفَ‪َ 9‬رأَيْتَ َم ِن اتَّخَ‪َ 9‬ذ إِلَهَ‪9‬هُ هَ‪َ 9‬‬
‫ص ِر ِه ِغ َشا َوةً فَ َمن يَ ْه ِدي ِه ِمن بَ ْع ِد هَّللا ِ أَفَاَل تَ َذ َّكرُونَ " (الجاثي‪99‬ة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ‬
‫‪.)23‬‬
‫ك‬ ‫ت ِمن َّربِّ َ‬ ‫وا َولَ‪99‬وْ الَ َكلِ َم‪ 9‬ةٌ َس ‪9‬بَقَ ْ‬ ‫‪9‬اختَلَفُ ْ‬ ‫اح َدةً فَ‪ْ 9‬‬‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬و َما َكانَ النَّاسُ إِالَّ أُ َّمةً َو ِ‬
‫ض َي بَ ْينَهُ ْم فِي َما فِي ِه يَ ْختَلِفُونَ " (يونس ‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬ ‫لَقُ ِ‬
‫اط ُّم ْس ‪9‬تَقِ ٍيم"‬ ‫ص ‪َ 9‬ر ٍ‬ ‫الس ‪9‬الَ ِم َويَ ْه‪ِ 9‬دي َمن يَ َش ‪9‬اء إِلَى ِ‬ ‫َار َّ‬ ‫ــ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬وهّللا ُ يَ ‪ْ 9‬د ُعو إِلَى د ِ‬
‫(يونس ‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬

‫‪1‬أصول االعتقاد في سورة يونس‪ ،‬صـ‪.510‬‬


‫‪ 2‬العقيدة اإلسالمية أحمد جلي صـ ‪.382‬‬

‫‪63‬‬
‫وا أَنَّهُ ْم الَ ي ُْؤ ِمنُ‪99‬ونَ " (ي‪99‬ونس ‪،‬‬ ‫ت َربِّكَ َعلَى الَّ ِذينَ فَ َسقُ ْ‬ ‫ت َكلِ َم ُ‬ ‫ك َحقَّ ْ‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬ك َذلِ َ‬
‫آية ‪.)33 :‬‬
‫ق أَفَ َمن‬ ‫‪9‬ل هّللا ُ يَ ْه‪ِ 9‬دي لِ ْل َح‪ِّ 9‬‬ ‫ق قُ‪ِ 9‬‬ ‫ــ وقال تعالى‪" :‬قُلْ هَ‪99‬لْ ِمن ُش‪َ 9‬ر َكآئِ ُكم َّمن يَ ْه‪ِ 9‬دي إِلَى ْال َح‪ِّ 9‬‬
‫ي إِالَّ أَن يُ ْه‪9‬دَى فَ َم‪99‬ا لَ ُك ْم َك ْي‪99‬فَ تَحْ ُك ُم‪99‬ونَ "‬ ‫ق أَن يُتَّبَ ‪َ 9‬ع أَ َّمن الَّ يَ ِه‪ِّ 9‬د َ‬ ‫ق أَ َح‪ُّ 9‬‬ ‫يَ ْه‪ِ 9‬دي إِلَى ْال َح‪ِّ 9‬‬
‫(يونس ‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬
‫ْ‬
‫ك أ ْعلَ ُم بِال ُم ْف ِس ‪ِ 9‬دينَ "‬ ‫َ‬ ‫"و ِمنهُم َّمن يُ‪9ْ 9‬ؤ ِم ُن بِ ‪ِ 9‬ه َو ِم ْنهُم َّمن الَّ يُ‪9ْ 9‬ؤ ِم ُن بِ ‪ِ 9‬ه َو َربُّ َ‬ ‫ــ وقال تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫(يونس ‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬
‫ت فَ َما َكانُ ْ‬
‫وا‬ ‫ــ وقال تعالى‪ " :‬ثُ َّم بَ َع ْثنَا ِمن بَ ْع ِد ِه ُر ُسالً إِلَى قَوْ ِم ِه ْم فَ َجآ ُؤوهُم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ب ْال ُم ْعتَ ِدينَ " (يونس ‪ ،‬آية ‪.)74 :‬‬ ‫َطبَ ُع َعلَى قُلو ِ‬ ‫كن ْ‬ ‫ُوا بِ ِه ِمن قَ ْب ُل َك َذلِ َ‬ ‫وا بِ َما َك َّذب ْ‬
‫لِي ُْؤ ِمنُ ْ‬
‫‪9‬وا َحتَّى يَ ‪َ 9‬ر ُو ْا‬ ‫اش ‪ُ 9‬د ْد َعلَى قُلُ‪99‬وبِ ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُ‪ْ 9‬‬ ‫‪9‬والِ ِه ْم َو ْ‬ ‫اط ِمسْ َعلَى أَ ْم‪َ 9‬‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬ربَّنَا ْ‬
‫اب األَلِي َم" (يونس ‪ ،‬آية ‪.)88 :‬‬ ‫ْال َع َذ َ‬
‫اس‬ ‫‪9‬رهُ النَّ َ‬‫ض ُكلُّهُ ْم َج ِمي ًع‪99‬ا أَفَ‪99‬أَنتَ تُ ْك‪ِ 9‬‬ ‫"ولَ‪99‬وْ َش ‪9‬اء َربُّكَ آل َمنَ َمن فِي األَرْ ِ‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫س َعلَى‬ ‫س أَن تُ‪9ْ 9‬ؤ ِمنَ إِالَّ بِ‪9‬إ ِ ْذ ِن هّللا ِ َويَجْ َع‪ُ 9‬ل ال‪99‬رِّ جْ َ‬ ‫‪9‬ؤ ِمنِينَ * َو َم‪99‬ا َك‪99‬انَ لِنَ ْف ٍ‬ ‫َحتَّى يَ ُكونُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا ُم‪ْ 9‬‬
‫الَّ ِذينَ الَ يَ ْعقِلُونَ " (يونس ‪ 99 ،‬ـ ‪.)100‬‬
‫والواقع أن استقراء النصوص القرآنية يكشف أن هذه الهداية وما يقابلها من اإلضالل‬
‫ليستا في اإلنسان ابتداء وخلقه‪ ،‬بل هما نتائج لمقدمات‪ ،‬ومسببات ألسباب‪ ،‬فكما جع‪99‬ل‬
‫هللا تعالى الطعام سببا ً في الغذاء والماء سببا ً للري‪ ،‬والس‪99‬كين ينتج عن‪99‬ه القط‪99‬ع والن‪99‬ار‬
‫تسبب الحري‪99‬ق‪ ،‬فك‪9‬ذلك جع‪9‬ل أس‪99‬بابا ً توص‪99‬ل إلى الهداي‪9‬ة وأس‪99‬بابا ً تق‪9‬ود إلى الض‪9‬الل‪،‬‬
‫فالهداية إنما هي ثمار العمل الصالح‪ ،‬والضالل إنما هو نتاج عمل قبيح وإسناد الهداية‬
‫هلل من حيث أنه وضع نظام األس‪9‬باب والمس‪9‬ببات ال أن‪9‬ه أج‪9‬بر اإلنس‪9‬ان على الض‪9‬الل‬
‫والهداية وهذا المعنى واضح جداً في اآليات القرآنية مثل‪:‬‬
‫َاب" (الرعد‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫ـ قوله تعالى‪َ ":‬ويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َم ْن أَن َ‬
‫ـ وقول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ ":‬والَّ ِذينَ َجاهَ‪ُ 99‬دوا فِينَ‪99‬ا لَنَهْ‪ِ 99‬ديَنَّهُ ْم ُس‪99‬بُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َم‪َ 99‬ع ْال ُمحْ ِس‪99‬نِينَ "‬
‫(العنكبوت‪ ،‬آية ‪.)69 :‬‬
‫ـ وقوله تعالى‪َ ":‬والَّ ِذينَ ا ْهتَدَوْ ا زَا َدهُ ْم هُدًى َوآتَاهُ ْم تَ ْقواهُ ْم" (محمد‪ ،‬آية ‪.)17 :‬‬
‫فهداية هللا للناس بمعنى لطفه بهم وتوفيقهم للعمل الصالح إنّما هي ثم‪99‬رة جه‪99‬اد للنفس‪،‬‬
‫وإنابة إلى هللا واستمساك بإرشاده ووحيه‪.1‬‬
‫ضلُّ بِ ِه إِالَّ ْالفَ ِ‬
‫اس‪99‬قِينَ‬ ‫ُضلُّ بِ ِه َكثِيراً َويَ ْه ِدي بِ ِه َكثِيراً َو َمايُ ِ‬ ‫وفي اإلضالل يقول تعالى‪ ":‬ي ِ‬
‫ص َل َويُ ْف ِس‪ُ 99‬دونَ‬‫* الَّ ِذينَ يَنقُضُونَ َع ْه َد هَّللا ِ ِمن بَ ْع ِد ِميثَاقِ ِه َويَ ْقطَعُونَ َما أَ َم َر هَّللا ُ بِ ِه أَن يُو َ‬
‫اسرُونَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪ 26 :‬ـ ‪.)27‬‬ ‫ض أُولَـئِكَ هُ ُم ْالخَ ِ‬ ‫فِي األَرْ ِ‬
‫ُضلُّ‬ ‫ت فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآل ِخ َر ِة َوي ِ‬ ‫وا بِ ْالقَوْ ِل الثَّابِ ِ‬ ‫ِّت هّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬‫ـ وقال تعالى‪ ":‬يُثَب ُ‬
‫هّللا ُ الظَّالِ ِمينَ َويَ ْف َع ُل هّللا ُ َمايَ َشاء" (إبراهيم‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬
‫َّار" (غافر‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬ ‫ب ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ‬ ‫طبَ ُع هَّللا ُ َعلَى ُك ِّل قَ ْل ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬ك َذلِكَ يَ ْ‬
‫اس‪9‬قِينَ " (الص‪9‬ف‪،‬‬ ‫ـ وقال تع‪9‬الى‪ ":‬فَلَ َّما زَا ُغ‪99‬وا أَزَا َغ هَّللا ُ قُلُ‪9‬وبَهُ ْم َوهَّللا ُ اَل يَهْ‪ِ 9‬دي ْالقَ‪9‬وْ َم ْالفَ ِ‬
‫آية ‪.)5 :‬‬

‫‪1‬العقيدة اإلسالمية د‪ .‬أحمد جلي صـ ‪.383‬‬

‫‪64‬‬
‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬كاَّل بَلْ َرانَ َعلَى قُلُوبِ ِهم َّما َكانُوا يَ ْك ِسبُونَ " (المطففين‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬بَلْ طَبَ َع هّللا ُ َعلَ ْيهَا بِ ُك ْف ِر ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُونَ إِالَّ قَلِيالً" (النساء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪.)155 :‬‬
‫فسبب الضالل هو الزيغ‪ ،‬والخروج عن تع‪99‬اليم هللا والك‪99‬بر والج‪99‬بروت والتع‪99‬الي على‬
‫الناس بغير حجة‪ ،‬ونقض عهد هللا‪ ،‬وقطع ما أمر هللا به أن يوصل ووصل ما أم‪99‬ر هللا‬
‫به أن يقطع‪ ،‬واإلفساد في األرض‪ ،‬والكف‪99‬ر واق‪99‬تراف اآلث‪9‬ام‪ ،‬فه‪99‬ذه من األس‪99‬باب ال‪9‬تي‬
‫أضلت الناس وأخ‪99‬رجتهم عن منهج الح‪99‬ق ألنهم آث‪99‬روا العمى على اله‪99‬دى‪ ،‬واس‪99‬تحبوا‬
‫الظالم على النور‪ ،‬فكان أن كاف‪99‬أهم هللا فأص‪َّ 9‬مهم وأعمى أبص‪99‬ارهم‪ ،‬بمقتض‪99‬ى نظام‪9‬ه‬
‫سبحانه في ارتباط األسباب بمسبباتها وهذا ونحوه كثير في كتاب هللا ومن ذلك‪:‬‬
‫نس لَهُ ْم قُلُ‪99‬وبٌ الَّ يَ ْفقَهُ‪99‬ونَ بِهَ‪99‬ا َولَهُ ْم‬‫اإل ِ‬ ‫قوله تعالى‪َ ":‬ولَقَ ْد َذ َر ْأنَا لِ َجهَنَّ َم َكثِيرًا ِّمنَ ْال ِجنِّ َو ِ‬
‫ك هُ ُم‬ ‫ضلُّ أُوْ لَـئِ َ‬
‫ك َكاألَ ْن َع ِام بَلْ هُ ْم أَ َ‬‫ان الَّيَ ْس َمعُونَ بِهَا أُوْ لَـئِ َ‬
‫ْصرُونَ بِهَا َولَهُ ْم آ َذ ٌ‬ ‫أَ ْعي ٌُن الَّ يُب ِ‬
‫ْالغَافِلُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪.1)179 :‬‬
‫‪4‬ـ الهداية إلى طريق الجنة‪:‬‬
‫وهذه الهداية تكون في اآلخرة بعد الحساب والجزاء ودليلها‪:‬‬
‫ت يَهْ‪ِ 9‬دي ِه ْم َربُّهُ ْم بِإِي َم‪9‬انِ ِه ْم تَجْ‪ِ 9‬ري ِمن‬ ‫الص‪9‬الِ َحا ِ‬ ‫‪9‬وا َّ‬‫‪9‬وا َو َع ِملُ ْ‬
‫ـ قوله تع‪9‬الى‪ ":‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ت النَّ ِع ِيم" (يونس‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬ ‫تَحْ تِ ِه ُم األَ ْنهَا ُر فِي َجنَّا ِ‬
‫ض َّل أَ ْع َمالَهُ ْم * َسيَ ْه ِدي ِه ْم َويُصْ لِ ُح بَالَهُ ْم"‬ ‫يل هَّللا ِ فَلَن يُ ِ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬والَّ ِذينَ قُتِلُوا فِي َسبِ ِ‬
‫(محمد‪ ،‬آية ‪.)5 ،4 :‬‬
‫وهذه الهداية حاصلة لهم بعد قتلهم‪ ،‬فدل على أن الم‪99‬راد به‪99‬ا هداي‪99‬ة إلى طري‪99‬ق الجن‪99‬ة‬
‫على القول الراجح‪.2‬‬
‫ثانياً‪ :‬أسباب الهداية‪ :‬كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ المحافظة على الفطرة اإلنسانيةـ نقية صافية‪:‬‬
‫الفط‪99‬رة اإلنس‪99‬انية مفط‪99‬ورة على اإلق‪99‬رار باهلل وإف‪99‬راده بالربوبي‪99‬ة واأللوهي‪99‬ة‪ ،‬ف‪99‬النفس‬
‫بفطرتها إذا تركت كانت مق‪99‬رة هلل باأللوهي‪99‬ة محب‪99‬ة ل‪99‬ه‪ ،‬متعب‪99‬دة‪ ،‬ال تش‪99‬رك ب‪99‬ه ش‪99‬يئا ً‪،3‬‬
‫وأصل هذا العلم فطري ضروري وأش‪9‬د رس‪99‬وخا ً في النفس من مب‪9‬دأ العلم الرياض‪99‬ي‪،‬‬
‫كقولنا‪ :‬إن الواحد نصف االثنين‪ ،‬ومبدأ العلم الطبيعي أن الجميع ال يكون في مك‪99‬انين‪،‬‬
‫ألن ه‪99‬ذه المع‪99‬ارف ق‪99‬د تع‪99‬رض عنه‪99‬ا أك‪99‬ثر الفط‪99‬ر‪ ،‬أم‪99‬ا العلم اإللهي فم‪99‬ا يتص‪99‬ور أن‬
‫تع‪99‬رض عن‪99‬ه فط‪99‬رة‪ ،4‬ف‪99‬اإلقرار باهلل ه‪99‬و أرس‪99‬خ المع‪99‬ارف‪ ،‬وأثبت العل‪99‬وم‪ ،‬وأص‪99‬لح‬
‫‪5‬‬
‫األصول‬
‫اس َعلَ ْيهَ‪99‬ا اَل تَ ْب‪ِ 9‬دي َل لِخ َْل‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ق‬ ‫‪9‬ر النَّ َ‬ ‫ك لِلدِّي ِن َحنِيفًا فِ ْ‬
‫ط َرةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ‪َ 9‬‬ ‫ـ قال تعالى‪" :‬فَأَقِ ْم َوجْ هَ َ‬
‫اس اَل يَ ْعلَ ُمونَ * ُمنِيبِينَ إِلَ ْي ِه َواتَّقُ‪99‬وهُ َوأَقِي ُم‪99‬وا َّ‬
‫الص ‪9‬اَل ةَ‬ ‫ِّين ْالقَيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫هَّللا ِ َذلِكَ الد ُ‬
‫َواَل تَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ " (الروم ‪ ،‬آية ‪ 30 :‬ـ ‪.)31‬‬
‫ُور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم َوأَ ْش ‪9‬هَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ‪ِ 9‬ه ْم‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وإِ ْذ أَخَ َذ َربُّكَ ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُه ِ‬
‫وا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ‪99‬افِلِينَ * أَوْ تَقُولُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا‬ ‫وا بَلَى َش ِه ْدنَا أَن تَقُولُ ْ‬ ‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُ ْ‬
‫أَلَس ُ‬

‫‪ 1‬المصدر السابق صـ ‪.384‬‬


‫‪2‬أصول االعتقاد في سورة يونس صـ‪.512‬‬
‫‪ 3‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية (‪.)205 /8‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)16 /2‬‬
‫‪ 5‬السنن اإللهية د‪ .‬شريف الشيخ صالح (‪.)209 /1‬‬

‫‪65‬‬
‫إِنَّ َما أَ ْش َركَ آبَا ُؤنَا ِمن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِّمن بَ ْع ِد ِه ْم أَفَتُ ْهلِ ُكنَ‪99‬ا بِ َم‪99‬ا فَ َع‪َ 9‬ل ْال ُم ْب ِطلُ‪99‬ونَ * َو َك‪َ 9‬ذلِكَ‬
‫ت َولَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجعُونَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪ 172 :‬ـ ‪.)174‬‬ ‫ص ُل اآليَا ِ‬ ‫نُفَ ِّ‬
‫وقال عليه الصالة والسالم‪" :‬م‪9‬ا من مول‪9‬ود إال يول‪9‬د على الفط‪9‬رة‪ ،‬ف‪9‬أبواه يهودان‪9‬ه أو‬
‫ينصرانه أو يمجسانه‪ ،‬كم‪99‬ا تنتج البهيم‪99‬ة جمع‪99‬اء ه‪99‬ل تحس‪99‬ون فيه‪99‬ا من ج‪99‬دعاء ح‪99‬تى‬
‫اس َعلَ ْيهَ‪99‬ا‬ ‫تك‪99‬ون أنتم تج‪99‬دعونها"‪" ،‬ثم يق‪99‬ول أب‪99‬و هري‪99‬رة‪ " :‬فِ ْ‬
‫ط ‪َ 9‬رةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ ‪َ 9‬ر النَّ َ‬
‫ق هَّللا ِ"‪.1‬‬ ‫يل لِ ْ‬
‫خَل ِ‬ ‫اَل تَ ْب ِد َ‬
‫وفي صحيح مسلم عن عياض بن عمار عن النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم فيم‪99‬ا يروي‪99‬ه‬
‫عن ربه تبارك وتعالى أنه قال‪" :‬إني خلقت عبادي حنفاء كلهم‪ ،‬وإنهم أتتهم الش‪99‬ياطين‬
‫فاجتالتهم عن دينهم‪ ،‬وحرمت ما أحللت لهم‪ ،‬وأمرتهم أن يش‪99‬ركوا بي م‪99‬ا لم أن‪99‬زل ب‪99‬ه‬
‫سلطانا ً‪.2‬‬
‫وهذا صريح في أنه سبحانه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك‪.3‬‬
‫وقد فطر هللا عز وجل اإلنسان أيضا ً على معرفة الحق ومحبته له‪ ،‬وقد ه‪99‬داه رب‪99‬ه إلى‬
‫أنواع من العلم‪ ،‬يمكنه أن يتوصل إلى سعادة الدنيا واآلخرة‪ ،‬وجعل في فطرت‪99‬ه محب‪99‬ة‬
‫ذلك‪ ،‬فإذا نظر اإلنسان فيما جاء به الرسول صلى هللا عليه وسلم أو في حاله في آيات‪99‬ه‬
‫أو نحو ذلك من شؤونه يحصل له العلم واإلقرار بالنبوة‪ ،‬ثم إذا قوي النظر في أحواله‬
‫حصل له من اليقين الضروري الذي ال يمكن دفعه‪.4‬‬
‫فال شك أن اإليمان واالهتداء هو األصل‪ ،‬وأن الكفر والضالل هو الطارئ الذي يطرأ‬
‫على النفس لسبب من أسباب الضالل‪.5‬‬
‫وقد أشارت اآليات واألحاديث التي أوردتها إلى بعض هذه األس‪99‬باب‪ ،‬فأش‪99‬ارت اآلي‪99‬ة‬
‫األولى أن الذي يصرف الفطرة عن اإليمان هو عدم العلم‪ ،‬فأش‪99‬ارت اآلي‪99‬ة الثاني‪99‬ة إلى‬
‫الغفلة والتقليد‪ ،‬وأنهم‪99‬ا يص‪99‬رفان الفط‪99‬رة عن اإليم‪99‬ان باهلل ورس‪99‬وله بع‪99‬دما أق‪99‬ام علي‪99‬ه‬
‫وا يَوْ َم ْالقِيَا َم‪ِ 9‬ة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ ‪َ 9‬ذا َغ‪99‬افِلِينَ * أَوْ تَقُولُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا‬ ‫الحجة بالفطرة والرسالة " أَن تَقُولُ ْ‬
‫إِنَّ َما أَ ْش َركَ آبَا ُؤنَا ِمن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِّمن بَ ْع ِد ِه ْم" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ 172 :‬ـ ‪.)173‬‬
‫وأشار الحديث األول إلى أثر التربية والعادة‪ ،‬وأن من ال يستخدم عقله ويهتدي بال‪99‬دين‬
‫الحق الذي يرشده إليه العقل والعلم‪ ،‬ب‪9‬ل يطي‪9‬ع والدي‪9‬ه‪ ،‬وإن أم‪9‬راه بالض‪9‬الل‪ .6‬وأش‪9‬ار‬
‫الحديث الثاني إلى أثر الشياطين في تزيين الباطل في نفوس الناس وإضاللهم بذلك‪.7‬‬
‫إن أول أسباب الهداية‪ ،‬هو إبق‪99‬اء ه‪99‬ذه الفط‪99‬رة نقي‪99‬ة ص‪99‬افية تتلقى وحي هللا وتس‪99‬تجيب‬
‫له‪.8‬‬
‫‪2‬ـ استعمال السمع والبصر والعقل‪:‬‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬فتح الباري (‪ ،)512 /8‬مسلم (‪.)2047 /4‬‬


‫‪2‬مسلم‪ ،‬ك الجنة وصفة نعيمها (‪.)2197 / 4‬‬
‫‪ 3‬شفاء العليل صـ ‪.595‬‬
‫‪ 4‬مجموع الفتاوى البن تيمية (‪.)72 /2‬‬
‫‪ 5‬شرح العقيدة الطحاوية صـ ‪.272‬‬
‫‪ 6‬المصدر السابق صـ ‪.273‬‬
‫‪ 7‬السنن اإللهية في الحياة اإلنسانية (‪.)211 /1‬‬
‫‪ 8‬المصدر نفسه (‪.)211 /1‬‬

‫‪66‬‬
‫إن هللا عز وجل وهب اإلنسان هذه النعم وأمتن علي‪99‬ه به‪99‬ا‪ ،‬وذل‪99‬ك لم‪99‬ا له‪99‬ا من غاي‪99‬ات‬
‫سامية‪ ،‬منه‪99‬ا النظ‪99‬ر والتفك‪99‬ر في آي‪99‬ات هللا المرئي‪99‬ة‪ ،‬واالس‪99‬تماع والت‪99‬دبر في آي‪99‬ات هللا‬
‫المسموعة‪.9‬‬
‫ون أُ َّمهَ‪99‬اتِ ُك ْم الَ تَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ َش‪ْ 9‬يئًا َو َج َع‪َ 9‬ل لَ ُك ُم ْال َّس‪ْ 9‬م َع‬
‫ــ وقال تعالى‪َ " :‬وهّللا ُ أَ ْخ َر َج ُكم ِّمن بُطُ ِ‬
‫صا َر َواألَ ْفئِ َدةَ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ " (النحل ‪ ،‬آية ‪.)78 :‬‬ ‫َواألَ ْب َ‬
‫وق‪99‬د جع‪99‬ل هللا اإلنس‪99‬ان مس‪99‬ئوالً عن اس‪99‬تعمال ه‪99‬ذه الملك‪99‬ات والم‪99‬واهب وعن حس‪99‬ن‬
‫ْس لَ‪9‬كَ بِ‪ِ 9‬ه ِع ْل ٌم إِ َّن َّ‬
‫الس‪ْ 9‬م َع‬ ‫‪9‬ف َم‪9‬ا لَي َ‬ ‫"والَ تَ ْق ُ‬ ‫توجيهه له‪9‬ا إلى م‪9‬ا خلقت ل‪99‬ه‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُولـئِكَ َكانَ َع ْنهُ َم ْس ُؤوالً" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬ ‫َو ْالبَ َ‬
‫وق‪99‬د مض‪99‬ت س‪99‬نة هللا أن اإلنس‪99‬ان إذا أحس‪99‬ن اس‪99‬تخدام مواهب‪99‬ه من ح‪99‬واس ومش‪99‬اعر‬
‫ومدارك‪ ،‬ووجهها إلى إدراك دالئل الهدى في الك‪99‬ون والنفس‪ ،‬وم‪99‬ا يجيء ب‪99‬ه الرس‪99‬ل‬
‫من آيات وبينات‪ ،‬فإنه يؤمن ويهتدي بهذا اإليمان إلى طريق الخالص‪.2‬‬
‫وبين سبحانه وتعالى في آيات كثيرة أن الذين ينتفعون بالنظر في هذا الكون ومظاهره‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس ‪َ 9‬م َ‬ ‫هم الذين يمعنون النظر والتفكير والتدبر بعقولهم‪ ،‬قال تعالى‪" :‬إِ َّن فِي ْ‬
‫خَل ِ‬
‫اس َو َم‪99‬ا‬ ‫ك الَّتِي تَجْ‪ِ 9‬ري فِي ْالبَحْ‪ِ 9‬ر بِ َم‪99‬ا يَنفَ‪ُ 9‬ع النَّ َ‬ ‫ار َو ْالفُ ْل‪ِ 9‬‬
‫ف اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫اختِالَ ِ‬‫ض َو ْ‬‫َواألَرْ ِ‬
‫ث فِيهَ‪99‬ا ِمن ُك ‪ِّ 9‬ل دَآبَّ ٍة‬ ‫ض بَعْ‪َ 99‬د َموْ تِهَ‪99‬ا َوبَ َّ‬ ‫الس‪َ 99‬ماء ِمن َّماء فَأَحْ يَ‪99‬ا بِ‪ِ 99‬ه األرْ َ‬ ‫أَن‪99‬زَ َل هّللا ُ ِمنَ َّ‬
‫ت لِّقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ " (البقرة‬ ‫ض آليَا ٍ‬‫ب ْال ُم َس ِّخ ِر بَ ْينَ ال َّس َماء َواألَرْ ِ‬ ‫اح َوالس ََّحا ِ‬ ‫َوتَصْ ِر ِ‬
‫يف ال ِّريَ ِ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)164 :‬‬
‫ت أِّل ُوْ لِي‬
‫ار آليَ‪99‬ا ٍ‬‫ف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫ض َو ْ‬
‫اختِالَ ِ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬ ‫ــ وقال تعالى‪" :‬إِ َّن فِي خ َْل ِ‬
‫ق ال َّس َما َوا ِ‬
‫ت‬ ‫ب * الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هّللا َ قِيَا ًما َوقُعُودًا َو َعلَ َى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خ َْل ِ‬ ‫ْ‬
‫األلبَا ِ‬
‫ار"(آل عم‪99‬ران ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪190 :‬‬ ‫ض َربَّنَا َما َخلَ ْقتَ هَذا بَا ِطالً ُس ْب َحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬
‫اب النَّ ِ‬ ‫َواألَرْ ِ‬
‫ـ ‪.)191‬‬
‫إن هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل وهب اإلنس‪99‬ان من الق‪99‬وة والملك‪99‬ات م‪99‬ا جعل‪99‬ه طريق‪9‬ا ً إلى هدايت‪99‬ه إذا‬
‫أحسن استخدامه‪ ،‬فاستعمال السمع والبصر والف‪99‬ؤاد في النظ‪99‬ر في آي‪99‬ات هللا‪ ،‬والتفك‪99‬ر‬
‫في دالالتها من أول سبل الهداية إلى معرفة هللا وصفاته‪ ،‬وإلى اإليمان بصدق رس‪99‬له‪،‬‬
‫وإلى مزيد من ذلك الهدى بعد اإليمان‪.3‬‬
‫‪3‬ـ العلم‪:‬‬
‫ومن أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى في الهداية والضالل‪ :‬العلم‪ ،‬وقد كانت‬
‫ك الَّ ِذي َخلَقَ" (العلق ‪،‬‬ ‫أول آية نزلت في القرآن الكريم في الدعوة إليه " ا ْق َر ْأ بِاس ِْم َربِّ َ‬
‫آية ‪.)1 :‬‬
‫وتوالت آيات القرآن الكريم بما يضيق المجال عن حصره في الدعوة إليه بيان فضل‬
‫العلماء‪.‬‬
‫ــ قال تعالى‪َ " :‬وقُل رَّبِّ ِز ْدنِي ِع ْل ًما" (طه ‪ ،‬آية ‪.)114 :‬‬
‫ت" (المجادل‪99‬ة ‪،‬‬ ‫ــ وقال تعالى‪ " :‬يَرْ فَ ِع هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا ِمن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُ‪99‬وا ْال ِع ْل َم َد َر َج‪ 9‬ا ٍ‬
‫آية ‪.)11 :‬‬
‫‪ 9‬منهج التربية اإلسالمية محمد قطب (‪.)77 /1‬‬
‫‪ 2‬في ظالل القرآن‪ ،‬سيد قطب (‪.)1821 /2‬‬
‫‪3‬السنن اإللهية في الحياة اإلنسانية (‪.)226 / 1‬‬

‫‪67‬‬
‫ــ وقال تع‪99‬الى‪ " :‬قُ‪99‬لْ هَ‪99‬لْ يَ ْس‪9‬ت َِوي الَّ ِذينَ يَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ َوالَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ إِنَّ َم‪99‬ا يَتَ‪َ 9‬ذ َّك ُر أُوْ لُ‪99‬وا‬
‫ب" (الزمر ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬ ‫اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ك" (محم‪99‬د ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)19 :‬ف‪99‬أمر‬ ‫اس ‪9‬تَ ْغفِرْ لِ ‪َ 9‬ذنبِ َ‬‫ــ وقال تعالى‪ " :‬فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ اَل إِلَهَ إِاَّل هَّللا ُ َو ْ‬
‫بالعمل بعد العلم‪.1‬‬
‫وقد جاء القرآن الكريم يكشف لنا بوضوح عن تلك العالق‪99‬ة الوثيق‪99‬ة بين العلم والهداي‪99‬ة‬
‫في آي‪99‬ات كث‪99‬يرة‪ ،‬وذل‪99‬ك بحديث‪99‬ه عن العلم‪99‬اء واس‪99‬تعدادهم بم‪99‬ا لهم من علم لخش‪99‬ية هللا‬
‫وحسن النظر في آياته واالعتبار بها وإدراك ما فصله هللا منزالً على رس‪99‬وله وش‪99‬هود‬
‫وحدانيته سبحانه وتعالى‪.2‬‬
‫قال هللا عز وجل مبينا ً أن العلماء هم الذين ينتفعون باآلي‪99‬ات المبثوث‪99‬ة في الك‪99‬ون‪ ،‬وهم‬
‫الذين يستشعرون عظمة هللا وقدرته‪ ،‬فيخشونه فيهديهم هللا‪ ،‬قال تعالى‪" :‬أَلَ ْم تَ‪َ 99‬ر أَ َّن هَّللا َ‬
‫ال ُج‪َ 9‬د ٌد بِيضٌ َو ُح ْم‪ٌ 9‬ر‬ ‫ت ُّم ْختَلِفًا أَ ْل َوانُهَا َو ِمنَ ْال ِجبَ ِ‬ ‫أَنزَ َل ِمنَ ال َّس َماء َماء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه ثَ َم َرا ٍ‬
‫ك‬ ‫‪9‬ف أَ ْل َوانُ‪9‬هُ َك‪َ 9‬ذلِ َ‬ ‫‪9‬ام ُم ْختَلِ‪ٌ 9‬‬‫اس َوال‪َّ 9‬د َوابِّ َواأْل َ ْن َع‪ِ 9‬‬ ‫ف أَ ْل َوانُهَا َوغ ََرابِيبُ سُو ٌد * َو ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ُّم ْختَلِ ٌ‬
‫َزي ‪ٌ 9‬ز َغفُ‪99‬ورٌ" (ف‪99‬اطر ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 27 :‬ـ ‪،)28‬‬ ‫إِنَّ َم‪99‬ا يَ ْخ َش ‪9‬ى هَّللا َ ِم ْن ِعبَ‪99‬ا ِد ِه ْال ُعلَ َم‪99‬اء إِ َّن هَّللا َ ع ِ‬
‫فالذين يس‪99‬تفيدون من اختالف أل‪99‬وان الثم‪99‬ار والجب‪99‬ال والن‪99‬اس هم العلم‪99‬اء‪ ،‬وهم ال‪99‬ذين‬
‫يخشونه حق خشيته‪ ،‬ألنهم العارفون به وبص‪99‬فاته ج‪99‬ل جالل‪99‬ه‪ ،‬وكلم‪99‬ا ك‪99‬انت المعرف‪99‬ة‬
‫للعظيم القدير الموصوف بص‪99‬فات الكم‪99‬ال‪ ،‬المنع‪99‬وت باألس‪99‬ماء الحس‪99‬نى‪ ،‬كلم‪99‬ا ك‪99‬انت‬
‫المعرفة به أتم‪ ،‬والعلم به أكمل‪ ،‬كانت هدايتهم كذلك أتم وأكمل‪.3‬‬
‫‪9‬وا َع‪َ 9‬د َد‬ ‫‪9‬از َل لِتَ ْعلَ ُم‪ْ 9‬‬
‫ضيَاء َو ْالقَ َم َر نُورًا َوقَ ‪َّ 9‬د َرهُ َمنَ‪ِ 9‬‬ ‫س ِ‬ ‫وقال تعالى‪ " :‬هُ َو الَّ ِذي َج َع َل ال َّش ْم َ‬
‫ت لِقَ‪99‬وْ ٍم يَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ " (ي‪99‬ونس ‪،‬‬ ‫ص ‪ُ 9‬ل اآليَ‪99‬ا ِ‬ ‫ق يُفَ ِّ‬ ‫ق هّللا ُ َذلِكَ إِالَّ بِ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬ال َح ِّ‬ ‫اب َما خَ لَ َ‬ ‫ال ِّسنِينَ َو ْال ِح َس َ‬
‫آية ‪.)5 :‬‬
‫والعلماء هم أكثر استفادة وإدراكا ً واتعاظا ً واعتب‪99‬اراً‪ ،‬باألمث‪99‬ال ال‪99‬تي يض‪99‬ربها هللا ع‪99‬ز‬
‫وجل في كتابه العزيز‪ ،‬وألن امتالكهم األداء ال‪99‬تي يعرف‪99‬ون به‪99‬ا عظم‪99‬ة وص‪99‬دق ه‪99‬ذه‬
‫اس َو َم‪99‬ا يَ ْعقِلُهَ‪99‬ا إِاَّل ْال َع‪99‬الِ ُمونَ "‬ ‫َض‪ِ 99‬ربُهَا لِلنَّ ِ‬ ‫األمث‪99‬ال‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬وتِ ْل‪99‬كَ اأْل َ ْمثَ‪99‬ا ُل ن ْ‬
‫(العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ )43 :‬الذين يعقلون عن هللا عز وجل وأما مغلقي القل‪99‬وب فيتخ‪99‬ذونها‬
‫مادة للسخرية والتهكم‪.4‬‬
‫كما أنهم األكثر استفادة من تبيين اآليات القرآنية وتوض‪99‬يحها وتفص‪99‬يلها وغ‪99‬ير الع‪99‬الم‬
‫يستوي عنده اإلجمال والتفصيل‪ ،‬ألنه يملك ال األداة التي يميز بها بين ذين‪99‬ك األم‪99‬رين‬
‫ق قُ‪99‬لْ ِهي‬ ‫ت ِمنَ ال‪9‬ر ِّْز ِ‬ ‫قال تعالى‪" :‬قُلْ َم ْن َح‪َّ 9‬ر َم ِزينَ‪9‬ةَ هّللا ِ الَّتِ َي أَ ْخ‪َ 9‬ر َج لِ ِعبَ‪99‬ا ِد ِه َو ْالطَّيِّبَ‪99‬ا ِ‬
‫ت لِقَ‪99‬وْ ٍم يَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ "‬ ‫ص‪ُ 9‬ل اآليَ‪99‬ا ِ‬ ‫ك نُفَ ِّ‬ ‫صةً يَ‪99‬وْ َم ْالقِيَا َم‪ِ 9‬ة َك‪َ 9‬ذلِ َ‬ ‫وا فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا خَ الِ َ‬ ‫لِلَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫(األعراف ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬
‫ص ‪ُ 9‬ل‬ ‫ْ‬
‫صالَةَ َوآتَ ‪ُ 9‬وا ال َّز َك‪99‬اةَ فَ ‪9‬إ ِ ْخ َوانُ ُك ْم فِي ال ‪9‬دِّي ِن َونُفَ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ــ وقال تعالى‪ " :‬فَإِن تَابُوا َوأقَا ُموا ال َّ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمونَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬ ‫اآليَا ِ‬
‫ت ْالبَ‪9‬رِّ َو ْالبَحْ‪ِ 9‬ر قَ‪ْ 9‬د‬ ‫وا بِهَ‪9‬ا فِي ظُلُ َم‪9‬ا ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬وهُ َو الَّ ِذي َج َع‪َ 9‬ل لَ ُك ُم النُّجُ‪9‬و َم لِتَ ْهتَ‪ُ 9‬د ْ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمونَ " (األنعام‪ ،‬اآلية‪.)97 :‬‬ ‫فَص َّْلنَا اآليَا ِ‬

‫‪ 1‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)227 / 1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)228 /1‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)328 / 1‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪ ،)329 /1‬زاد المسير البن الجوزي (‪.)273 /6‬‬

‫‪68‬‬
‫كما أن العلماء هم أك‪99‬ثر ت‪99‬أثراً بكالم هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى وأس‪99‬رع اس‪99‬تجابة ل‪99‬ه وأعظم‬
‫خشوعا ً وإخباتا ً لعظمته‪ ،‬وجالله‪ ،‬وأعظم إدراكا ً لمحكمه ومتشابهه مم‪99‬ا يجعلهم أك‪99‬ثر‬
‫تسليما ً وإذعانا ً لما يتضمنه من عقائد وأحكام‪.1‬‬
‫‪9‬وا إِ َّن الَّ ِذينَ أُوتُ ْ‬
‫‪9‬وا ْال ِع ْل َم ِمن قَ ْبلِ‪ِ 9‬ه إِ َذا يُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫‪9‬وا بِ‪ِ 9‬ه أَوْ الَتُ ْؤ ِمنُ ْ‬
‫ـ قال تع‪9‬الى‪ ":‬قُ‪99‬لْ آ ِمنُ ْ‬
‫ان ُس َّجدًا * َويَقُولُونَ ُسب َْحانَ َربِّنَا إِن َكانَ َو ْع ُد َربِّنَ‪99‬ا لَ َم ْف ُع‪99‬والً * َويَ ِخ‪99‬رُّ ونَ‬ ‫يَ ِخرُّ ونَ لِألَ ْذقَ ِ‬
‫ان يَ ْب ُكونَ َويَ ِزي ُدهُ ْم ُخ ُشوعًا" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪107 :‬ـ ‪.)109‬‬ ‫لِألَ ْذقَ ِ‬
‫ب َوأُ َخ‪ُ 9‬ر‬ ‫‪9‬ات هُ َّن أُ ُّم ْال ِكتَ‪99‬ا ِ‬
‫‪9‬ات ُّمحْ َك َم‪ٌ 9‬‬‫َاب ِم ْنهُ آيَ‪ٌ 9‬‬ ‫ك ْال ِكت َ‬ ‫ي أَنزَ َل َعلَ ْي َ‬‫ـ وقال تعالى‪ ":‬هُ َو الَّ ِذ َ‬
‫ات فَأ َ َّما الَّ ِذينَ في قُلُوبِ ِه ْم َز ْي ٌغ فَيَتَّبِعُونَ َماتَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَاء ْالفِ ْتنَ‪ِ 9‬ة َوا ْبتِغَ‪9‬اء تَأْ ِويلِ‪ِ 9‬ه‬‫ُمتَ َشابِهَ ٌ‬
‫َّاس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِّم ْن ِعن ِد َربِّنَا َو َم‪99‬ا يَ‪َّ 9‬ذ َّك ُر‬ ‫َو َمايَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِالَّ هّللا ُ َوالر ِ‬
‫ب" (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬ ‫وا ْ‬
‫األلبَا ِ‬ ‫إِالَّ أُوْ لُ ْ‬

‫وإن العلم‪99‬اء هم ال‪99‬ذين يعرف‪99‬ون ق‪99‬در كالم هللا وعظمت‪99‬ه وإعج‪99‬ازه‪ ،‬وإن ه‪99‬ذا الكالم ال‬
‫يمكن أن يصدر عن بشر فيدفعهم ذلك إلى اإليمان والتسليم واإلذعان واالس‪99‬تفادة مم‪99‬ا‬
‫حوى من هدى وبيان‪.2‬‬
‫‪9‬اب ْال ُمب ِْطلُ‪99‬ونَ‬
‫ك إِ ًذا اَّل رْ تَ‪َ 9‬‬ ‫طهُ بِيَ ِمينِ‪َ 9‬‬ ‫ب َواَل تَ ُخ ُّ‬‫نت تَ ْتلُو ِمن قَ ْبلِ ِه ِمن ِكتَا ٍ‬ ‫تعالى‪":‬و َما ُك َ‪9‬‬
‫َ‬ ‫ـ قال‬
‫ُ‬
‫ور الَّ ِذينَ أوتُ‪99‬وا ْال ِع ْل َم َو َم‪99‬ا يَجْ َح‪ُ 9‬د بِآيَاتِنَ‪99‬ا إِاَّل الظَّالِ ُمونَ "‪9‬‬ ‫‪9‬ات بَيِّنَ‪ٌ 9‬‬‫* بَلْ هُ َو آيَ‪ٌ 9‬‬
‫ص‪ُ 9‬د ِ‬ ‫‪9‬ات فِي ُ‬
‫(العنكبوت‪ ،‬آية ‪.)49 ،48 :‬‬
‫والعلماء هم األبعد عن إلقاءات الشيطان ونزغات‪99‬ه‪ ،‬ووسوس‪99‬ته وذل‪99‬ك لعلمهم بمداخل‪99‬ه‬
‫وأحابيله‪ ،‬فال تزيدهم وسوسته إال إيمانا ً ويقينا ً وتسليما ً بخالف الجهل‪99‬ة ال‪99‬ذين ينق‪99‬ادون‬
‫لوسوسته وهم يحسبون أنهم يحسنون‪.‬‬
‫ان فِ ْتنَةً لِّلَّ ِذينَ ِفي قُلُوبِ ِهم َّم َرضٌ َو ْالقَا ِسيَ ِة قُلُ‪99‬وبُهُ ْم َوإِ َّن‬ ‫قال تعالى‪ ":‬لِيَجْ َع َل َماي ُْلقِي ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ك فَي ُْؤ ِمنُ‪99‬وا بِ ‪ِ 9‬ه‬
‫ق ِمن َّربِّ َ‬ ‫ق بَ ِعي ‪ٍ 9‬د * َولِيَ ْعلَ َم الَّ ِذينَ أُوتُ‪99‬وا ْال ِع ْل َم أَنَّهُ ْال َح‪ُّ 9‬‬ ‫الظَّالِ ِمينَ لَفِي ِش ‪9‬قَا ٍ‬
‫ص‪َ 9‬را ٍط ُّم ْس‪9‬تَقِ ٍيم" (الحج‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 53 :‬ـ‬ ‫فَتُ ْخبِتَ لَ‪9‬هُ قُلُ‪99‬وبُهُ ْم َوإِ َّن هَّللا َ لَهَ‪99‬ا ِد الَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا إِلَى ِ‬
‫‪.)54‬‬
‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬ش ِه َد هّللا ُ أَنَّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ هُ َو َو ْال َمالَئِ َكةُ َوأُوْ لُ ْ‬
‫وا ْال ِع ْل ِم قَآئِ َم‪ 9‬ا ً بِ ْالقِ ْس ‪ِ 9‬ط الَ إِلَـهَ‬
‫إِالَّ هُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)18 :‬‬
‫وال ت‪9‬دل ه‪9‬ذه اآلي‪9‬ة الكريم‪9‬ة على مج‪9‬رد تش‪9‬ريف هللا س‪9‬بحانه أله‪9‬ل العلم حيث جم‪9‬ع‬
‫شهادته بالتوحيد إلى شهادة مالئكته وشهادتهم بذلك‪ ،‬ولكنها تدل ك‪99‬ذلك على أن علمهم‬
‫هو الذي يؤهلهم إلى شهود وحدانية هللا عز وجل وإنفراده بالملك والتدبير‪ ،‬ف‪99‬العلم من‬
‫أول أسباب الهداية إلى معرفة طريق هللا‪ ،‬واالستزادة منه سبيل إلى المزيد من هداه‪.3‬‬
‫‪ 4‬ـ اإليمان‪:‬‬

‫‪ 1‬السنن اإللهية في الحياة اإلنسانية (‪.)230 /1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)231 /1‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية في الحياة االجتماعية (‪.)232 /1‬‬

‫‪69‬‬
‫إن في كل ذرة من ذرات هذا الوج‪99‬ود‪ ،‬وفي ك‪99‬ل ك‪99‬ائن من الكائن‪99‬ات آلي‪99‬ة باعث‪99‬ة على‬
‫الهدى وإن في ذلك التنسيق البديع والتواف‪99‬ق بين س‪9‬ائر الكائن‪99‬ات لت‪99‬وائم حي‪9‬اة اإلنس‪9‬ان‬
‫وس‪99‬عادته ف‪99‬وق األرض آلي‪99‬ات وآي‪99‬ات كث‪99‬يرة تبعث على االهت‪99‬داء إلى الح‪99‬ق وإن في‬
‫القرآن الكريم وما حوى من دالئ‪99‬ل وبين‪99‬ات وم‪99‬ا ج‪99‬اء في‪99‬ه من موعظ‪99‬ة وآي‪99‬ات تح‪99‬يي‬
‫القلب وتشفي الصدور وتهدي إلى الحق والصراط المستقيم ولكن هذه اآليات وتل‪99‬ك ال‬
‫تتضح وال ينتفع بها إال القلب المؤمن ف‪9‬الكفر حج‪9‬اب وح‪9‬اجز ك‪99‬ثيف يمن‪9‬ع من دخ‪9‬ول‬
‫نور القرآن في القلب ويمنع كذلك من االنتفاع باآلية الهادي‪99‬ة في ه‪99‬ذا الك‪99‬ون ف‪99‬إذا زال‬
‫هذا الحجاب وانكشف ذلك الحاجز انتفع اإلنسان بتلك اآليات الكونية‪ ،‬وانفتحت أمام‪99‬ه‬
‫أيضا ً كنوز القرآن من الهدى والمعرفة وقد ج‪9‬اءت آي‪9‬ات كث‪9‬يرة ت‪9‬بين أن الم‪9‬ؤمن ه‪9‬و‬
‫الذي ينتفع ويستفيد من الذكرى ومن هدى القرآن‪ ،‬ومن اآليات الباعثة على الهدى في‬
‫هذا الكون‪:‬‬
‫ين" (النم‪99‬ل‪،‬‬ ‫ين * هُدًى َوب ُْش‪َ 9‬رى لِ ْل ُم‪ْ 9‬‬
‫‪9‬ؤ ِمنِ َ‬ ‫ب ُّمبِ ٍ‬ ‫ات ْالقُرْ ِ‬
‫آن َو ِكتَا ٍ‬ ‫ك آيَ ُ‬ ‫ـ قال تعالى‪":‬طس تِ ْل َ‬
‫آية ‪ 1 :‬ـ ‪.)2‬‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬يَ‪9‬ا أيُّهَ‪99‬ا النَّاسُ قَ‪ْ 9‬د َج‪ 9‬اء ْت ُكم َّموْ ِعظَ‪9‬ة ِّمن َّربِّ ُك ْم َو ِش‪9‬فَاء ل َم‪9‬ا فِي ُّ‬
‫الص‪ُ 9‬د ِ‬
‫ور‬ ‫َ‬
‫َوهُدًى َو َرحْ َمةٌ لِّ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ "‪( 9‬يونس‪ ،‬آية ‪.)57 :‬‬
‫صآئِ ُر ِمن َّربِّ ُك ْم‬ ‫ي ِمن َّربِّي هَـ َذا بَ َ‬ ‫وحى إِلَ َّ‬ ‫ـ وقال عز من قائل‪ ":‬قُلْ إِنَّ َما أَتَّبِ ُع َما يِ َ‬
‫َوهُدًى َو َرحْ َمةٌ لِّقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪.)203 :‬‬
‫وا َوهُدًى َوبُ ْش َرى‬ ‫ق لِيُثَبِّتَ الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ك بِ ْال َح ِّ‬ ‫س ِمن َّربِّ َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬قُلْ نَ َّزلَهُ رُو ُح ْالقُ ُد ِ‬
‫لِ ْل ُم ْسلِ ِمينَ "(النحل‪ ،‬آية ‪.)102 :‬‬
‫وقد أشارت هذه اآليات ـ وغيرها من اآليات في ه‪99‬ذا المع‪99‬نى ـ إلى معن‪99‬يين رئيس‪99‬يين‬
‫هما‪:‬‬
‫األول‪ :‬وهو أن القرآن الكريم فيه بيان وإرشاد لطرق الهداية‪ ،‬وإنه زاجر بم‪99‬ا في‪99‬ه من‬
‫الترغيب والترهيب‪ ،‬وارتكاب المعاصي‪ ،‬وإنه شافي لم‪99‬ا في الص‪99‬دور من االم‪99‬راض‬
‫المفضية إلى الهالك والشك والشرك والنف‪99‬اق والض‪99‬الل وأن‪99‬ه ه‪99‬دى من الض‪99‬اللة إلى‬
‫الرشد والحق‪ ،‬وأنه يزيد المهتدي هدى‪ ،‬وأنه تثبيت أيضا ً للمهتدين على الهدى‪ ،‬وه‪99‬و‬
‫أنه رحمة للناس بكل ما حوى من أوام‪9‬ر ون‪9‬واه واعتق‪9‬ادات وعب‪9‬ادات وأن‪9‬ه نج‪9‬اة لمن‬
‫آمن به من عذاب هللا وسبب في فوزه ودخوله الجنة‪.1‬‬
‫الثاني‪ :‬أن المؤمنين هم الذين ينتفعون بهدي الق‪99‬رآن ويس‪99‬تفيدون مم‪99‬ا ح‪99‬وى فيهت‪99‬دون‬
‫بهديه ويسيرون وفق هداه‪ ،‬فيهت‪99‬دون إلى ص‪99‬راط مس‪99‬تقيم دون غ‪99‬يرهم من الجاح‪99‬دين‬
‫والكافرين به الذي هو عليهم عمى وضاللة وغم وخزي‪ ،‬وفي اآلخ‪99‬رة ج‪99‬زاءهم على‬
‫الكفر به الخلود في لظى‪ ،2‬وقد صرح القرآن الكريم بهذا المعنى في آيات منها‪:‬‬
‫‪9‬و لِلَّ ِذينَ آ َمنُ‪9‬وا هُ‪9‬دًى َو ِش‪9‬فَاء َوالَّ ِذينَ اَل ي ُْؤ ِمنُ‪9‬ونَ فِي آ َذانِ ِه ْم َو ْق‪ٌ 9‬ر َوهُ َ‬
‫‪9‬و‬ ‫ـ ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪ 9":‬هُ َ‬
‫َعلَ ْي ِه ْم َع ًمى"(فصلت‪ 9،‬آية ‪.)44 :‬‬

‫‪ 1‬تفسير الطبري (‪ ،)162 /9‬تفسير األلوسي (‪ ،)139 /11‬زاد المسير (‪ ،)312 /3‬تفسير القرطبي(‪.)3793 /5‬‬
‫‪ 2‬تفسير الطبري (‪ ،)124 /11‬أضواء البيان (‪.)107 /1‬‬

‫‪70‬‬
‫‪9‬ؤ ِمنِينَ َوالَيَ ِزي ‪ُ 9‬د الظَّالِ ِمينَ إَالَّ‬ ‫آن َما هُ َو ِشفَاء َو َرحْ َمةٌ لِّ ْل ُم‪ْ 9‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬ونُن َِّز ُل ِمنَ ْالقُرْ ِ‬
‫خَ َسا ًرا" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)82 :‬‬
‫ت سُو َرةٌ فَ ِم ْنهُم َّمن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْتهُ هَـ ِذ ِه إِي َمانً‪99‬ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ‬ ‫نزلَ ْ‬ ‫ُ‬
‫"وإِ َذا َما أ ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫وا فَزَا َد ْتهُ ْم إِي َمانًا َوهُ ْم يَ ْستَ ْب ِشرُونَ * َوأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِهم َّم َرضٌ فَزَا َد ْتهُ ْم ِرجْ سًا إِلَى‬ ‫آ َمنُ ْ‬
‫وا َوهُ ْم َكافِرُونَ "(التوبة‪ ، 9‬آية ‪ 124 :‬ـ ‪.)125‬‬ ‫ِرجْ ِس ِه ْم َو َماتُ ْ‬
‫هذا بخصوص هداية القرآن وأن المؤمنين هم المنتفعون بهديه‪ ،‬وما ح‪99‬وى من آي‪99‬ات‪،‬‬
‫وأما عن اآليات الكونية وأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بها ويهت‪99‬دون بم‪99‬ا ترش‪99‬د إلي‪99‬ه‬
‫من التوحيد‪ ،‬ومن إضافة صفات الكم‪99‬ال هلل س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى‪ ،‬فق‪99‬د ج‪99‬اء في مث‪99‬ل قول‪99‬ه‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫ت فِي َج ِّو ال َّس َماء َما يُ ْم ِس‪ُ 99‬كه َُّن إِالَّ هّللا ُ إِ َّن فِي‬ ‫ـ قال تعالى‪ " :‬أَلَ ْم يَ َروْ ْاإِلَى الطَّي ِْر ُم َس َّخ َرا ٍ‬
‫ت لِّقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ "(النحل ‪ ،‬آية ‪.)79 :‬‬ ‫ك آَل يَا ٍ‬ ‫َذلِ َ‬
‫إن مشهد الطير وهي تحلق في ج‪99‬و الس‪99‬ماء " َم‪99‬ا يُ ْم ِس‪ُ 9‬كه َُّن إِالَّهّللا ُ" مش‪99‬هد عجيب ب‪99‬ديع‬
‫ذهب ما ب‪99‬ه من عجب‪ :‬اإللف‪99‬ة والتك‪99‬رار‪ ،‬ولكن قلب الم‪99‬ؤمن ه‪99‬و ال‪99‬ذي يش‪99‬عر بإب‪99‬داع‬
‫الخلق والتكوين‪ ،‬ويدرك ما فيه من روعة باهرة تهز المش‪99‬اعر وتس‪99‬تجيش الض‪99‬مائر‪،‬‬
‫وي‪99‬درك ق‪99‬درة هللا وإبداع‪99‬ه وحكمت‪99‬ه فيم‪99‬ا أودع فط‪99‬رة الط‪99‬ير من س‪99‬نن تمكنه‪99‬ا من‬
‫الطيران‪ ،‬وما أودع الكون من حولها من سنن مناسبة لهذا الطيران‪.1‬‬
‫ْص ‪9‬رًا إِ َّن‬ ‫‪99‬ار ُمب ِ‬ ‫ومثل قوله سبحانه وتعالى‪ " :‬أَلَ ْم يَ َروْ ا أَنَّا َج َع ْلنَا اللَّي َْل لِيَ ْس ُكنُوا فِي ِه َوالنَّهَ َ‬
‫ت لِّقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ " (النمل ‪ ،‬آية ‪.)86 :‬‬ ‫فِي َذلِكَ آَل يَا ٍ‬
‫ومشهد الليل الساكن‪ ،‬ومشهد النهار المبص‪99‬ر‪ ،‬خليق‪99‬ان أن يوقظ‪99‬ا في اإلنس‪99‬ان وج‪99‬دانا ً‬
‫ديني ‪9‬ا ً يجنح إلى االتص‪99‬ال باهلل ال‪99‬ذي يقلب اللي‪99‬ل والنه‪99‬ار‪ ،‬وهم‪99‬ا آيت‪99‬ان كونيت‪99‬ان لمن‬
‫استعدت نفسه لإليمان‪.2‬‬
‫وقال سبحانه وتعالى مبينا ً إنتفاع المؤمنين بما في السماوات واألرض من آي‪99‬ات‪ ،‬ق‪99‬ال‬
‫ت لِّ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ " (الجاثية ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض آَل يَا ٍ‬ ‫اوا ِ‬ ‫تعالى‪ " :‬إِ َّن فِي ال َّس َم َ‬
‫وإذا كان اإليمان سببا ً في إهت‪99‬داء العب‪99‬د إلى الح‪99‬ق‪ ،‬وانكش‪99‬اف الحجب أم‪99‬ام بص‪99‬يرته‪،‬‬
‫فإنه كذلك سبب في هدية هللا في العب‪99‬د وإعانت‪99‬ه وتوفيق‪99‬ه وزيادت‪99‬ه ه‪99‬دى إلى الص‪99‬راط‬
‫المستقيم‪ ،‬وتثبيته عليه‪ ،‬وقد جاءت آيات كثيرة تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ـ قوله تعالى‪َ " :‬و َمن ي ُْؤ ِمن بِاهَّلل ِ يَ ْه ِد قَ ْلبَهُ َوهَّللا ُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم"(التغابن‪ ، 9‬آية ‪.)11 :‬‬
‫ت يَ ْه ِدي ِه ْم َربُّهُ ْم بِإِي َمانِ ِه ْم تَجْ ِري‬ ‫وا الصَّالِ َحا ِ‬ ‫وا َو َع ِملُ ْ‬
‫ـ وقال عز من قائل‪ " :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ت النَّ ِع ِيم" (يونس ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬ ‫ِمن تَحْ تِ ِه ُم األَ ْنهَا ُر فِي َجنَّا ِ‬
‫ت فِي ْال َحيَ‪99‬ا ِة ال ‪ُّ 9‬د ْنيَا َوفِي اآل ِخ‪َ 9‬ر ِة‬ ‫‪9‬وا بِ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬القَوْ ِل الثَّابِ ِ‬ ‫ِّت هّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ‪ْ 9‬‬‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ " :‬يُثَب ُ‬
‫ضلُّ هّللا ُ الظَّالِ ِمينَ َويَ ْف َع ُل هّللا ُ َما يَ َشاء" (إبراهيم ‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫َويُ ِ‬
‫ْب فِي‪ِ 9‬ه‬ ‫ك ْال ِكتَ‪99‬ابُ الَ َري َ‬ ‫ـ وبين سبحانه وتعالى صفات المؤمنين الذين يهديهم فقال‪َ " :‬ذلِ‪َ 9‬‬
‫ب َويُقِي ُمونَ الصَّالةَ َو ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم يُنفِقُونَ * والَّ ِذينَ‬ ‫هُدًى لِّ ْل ُمتَّقِينَ * الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ك َعلَى هُ‪9‬دًى‬ ‫‪9‬اآلخ َر ِة هُ ْم يُوقِنُ‪9‬ونَ * أُوْ لَـئِ َ‬ ‫نز َل ِمن قَ ْبلِ‪9‬كَ َوبِ ِ‬ ‫ُ‬
‫نز َل إِلَ ْيكَ َو َما أ ِ‬
‫ُ‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ بِ َما أ ِ‬
‫ك هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ "(البقرة ‪ ،‬آية ‪ 2 :‬ـ ‪.)5‬‬ ‫ِّمن َّربِّ ِه ْم َوأُوْ لَـئِ َ‪9‬‬
‫‪1‬‬
‫في ظالل القران (‪.)2186 / 4‬‬
‫‪2‬‬
‫في ظالل القرآن (‪.)2668 / 5‬‬

‫‪71‬‬
‫‪ 5‬ـ اإلهتداء‪:‬‬
‫من أسباب الهداية المؤدية بالعبد إلى مزي‪99‬د اله‪99‬دى والتث‪99‬بيت على الص‪99‬راط‪ 9‬المس‪99‬تقيم‪:‬‬
‫اهتداؤه إلى اإليمان‪ ،‬واإلتيان بأس‪99‬بابه‪ ،‬ف‪9‬إذا فع‪99‬ل العب‪9‬د ذل‪9‬ك‪ ،‬ه‪99‬داه هللا ب‪9‬أن خل‪9‬ق في‪99‬ه‬
‫المشيئة المستلزمة للفعل‪ ،‬وألهمه ووفقه لطاعات وزاده هدى وتوفيقاً‪ ،‬وأعانه وهو م‪99‬ا‬
‫ال يقدر عليه إال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬كما يزيد الذين ظلموا زيادة ضالل‪.1‬‬
‫ضاَل لَ ِة فَ ْليَ ْم ُد ْد لَهُ الرَّحْ َم ُن َم ًّدا" (مريم ‪ ،‬آية ‪ ،)175 :‬وهو‬
‫قال تعالى‪ :‬قُلْ َمن َكانَ فِي ال َّ‬
‫من باب الجزاء من جنس العمل‪.2‬‬
‫كما في قوله تعالى‪ " :‬فَ ْاذ ُكرُونِي أَ ْذ ُكرْ ُك ْم"(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)152 :‬‬
‫صرُوا هَّللا َ يَنصُرْ ُك ْم"(محمد ‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬
‫ـ وقوله تعالى‪ " :‬إِن تَن ُ‬
‫وقد جاءت بعض آيات القرآن الك‪99‬ريم مق‪99‬ررة له‪99‬ذه الحقيق‪99‬ة زي‪99‬ادة اله‪99‬دى لمن اهت‪99‬دى‬
‫وفق سنته سبحانه وتعالى في هداية من سلك سبيل الهدى وقصده‪.3‬‬
‫ـ قال تعالى‪َ " :‬والَّ ِذينَ ا ْهتَدَوْ ا زَا َدهُ ْم هُدًى َوآتَاهُ ْم تَ ْقواهُ ْم"(محمد ‪ ،‬آية ‪.)17 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬ويَ ِزي ُد هَّللا ُ الَّ ِذينَ ا ْهتَدَوْ ا هُدًى" (مريم ‪ ،‬آية ‪.)76 :‬‬
‫وإن إيراد هداية هللا مرة بصيغة الماضي‪ ،‬ومرة بصيغة المضارع‪ ،‬يفي‪9‬د أن هداي‪9‬ة هللا‬
‫لعب‪99‬اده بس‪99‬بب اهت‪99‬دائهم أم‪99‬ر محق‪99‬ق‪ ،‬وس‪99‬نة جاري‪99‬ة ماض‪99‬ية في ال‪99‬ذين من قب‪99‬ل‪ ،‬وهي‬
‫مستمرة ودائمة إلى أن يرث هللا األرض ومن عليها‪.‬‬
‫وقد ورد في تفسير قوله تعالى‪" :‬ا ْهتَدَوْ ا" معاني متع‪99‬ددة دلت عليه‪99‬ا أق‪99‬وال المفس‪99‬رين‬
‫فذهب بعضهم إلى أن المقصود من اإلهتداء هو اإليم‪99‬ان‪ ،4‬وجم‪99‬ع بعض‪99‬هم بين‪99‬ه وبين‬
‫التصديق بآي‪99‬ات هللا‪ ،‬ورب‪99‬ط بعض‪99‬هم بين‪99‬ه بين اإلتب‪99‬اع‪ ،‬وذهب فري‪99‬ق آخ‪99‬ر إلى مع‪99‬نى‬
‫"ا ْهتَدَوْ ا" أي‪ :‬قصدوا الهداية وأرادوها‪.5‬‬
‫وقال الطبري مبينا ً إهتداء العبد وهداية هللا له‪ :‬ويزيد من س‪99‬لك قص‪99‬د المحب‪99‬ة واهت‪99‬دى‬
‫لسبيل الرشد فآمن بربه وصدق بآياته‪ ،‬فعمل بما أمره به‪ ،‬وانتهى عمن نهاه عنه هدى‬
‫ت سُو َرةٌ فَ ِم ْنهُم َّمن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْتهُ هَـ ِذ ِه‬
‫نزلَ ْ‬‫ُ‬
‫على هداه وذلك نظير قوله‪َ :‬وإِ َذا َما أ ِ‬
‫وا فَزَا َد ْتهُ ْم إِي َمانًا"‪( 6‬التوبة ‪ ،‬آية ‪.)124 :‬‬ ‫إِي َمانًا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫إن ترتيب الوقائع في اآلية يستوقف النظر‪ ،‬والذين اهتدوا بدأوا هم باإلهتداء‪ ،‬فكاف‪99‬أهم‬
‫هللا بزيادة الهدى‪ ،‬وكافأهم بما هو أعمق وأكمل " َوآتَاهُ ْم تَ ْق‪99‬واهُ ْم"‪ ،‬والتق‪99‬وى حال‪99‬ة في‬
‫القلب تجعله أبداً واجفا ً من هيبة هللا‪ ،‬ش‪99‬اعراً براقبت‪99‬ه‪ ،‬خائف ‪9‬ا ً من غض‪99‬به‪ ،‬متطلع ‪9‬ا ً إلى‬
‫رض‪99‬اه‪ ،‬متحرج‪99‬ا ً من أن ي‪99‬راه على هيئ‪99‬ة أو في حال‪99‬ة ال يرض‪99‬اها‪ ،‬ه‪99‬ذه الحساس‪99‬ية‬

‫‪ 1‬شفاء العليل ابن القيم صـ‪.74‬‬


‫‪ 2‬فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية (‪.)206 / 8‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)239 / 1‬‬
‫‪ 4‬تفسير الرازي (‪.)249 / 21‬‬
‫‪ 5‬تفسير ابن كثير (‪.)177 / 4‬‬
‫‪ 6‬تفسير الطبري (‪ )119 / 16‬السنن اإللهية (‪.)240 / 1‬‬

‫‪72‬‬
‫المرهف‪99‬ة هي التق‪99‬وى‪ ،‬وهي مكاف‪99‬أة يؤتيه‪99‬ا من يش‪99‬اء من عب‪99‬اده حين يهت‪99‬دون هم‪،‬‬
‫ويرغبون في الوصول إلى رضى هللا‪.1‬‬
‫‪ 6‬ـ الدعاء‪:‬‬
‫إن من أسباب الهداية حس‪9‬ب س‪99‬نته س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى أن يس‪99‬أل العب‪9‬د رب‪9‬ه ذل‪99‬ك ألن م‪99‬ا‬
‫يستطيعه العبد هو فعل األس‪99‬باب‪ ،‬وأم‪99‬ا م‪99‬ا تحق‪99‬ق النتيج‪99‬ة وهي الهداي‪99‬ة إلى الص‪99‬راط‬
‫المستقيم‪ ،‬واإلعانة واإللهام والتوفيق والتثبيت على الحق‪ ،‬فهي من شأن هللا وفعله‪ ،‬ال‬
‫يقدر على ذلك إال هو سبحانه وتعالى‪ ،‬فالعبد إذا فعل األسباب ال‪99‬تي يق‪99‬در عليه‪99‬ا س‪99‬أل‬
‫هللا ما ال يقدر عليه وهو الهداية‪ ،‬كمن يتعاطى العالج للشفاء من المرض‪ ،‬ثم يسأل هللا‬
‫عز وجل الشفاء ألنه هو الشافي والدواء إنما هو مجرد سبب ـ واألسباب ال تؤدي إلى‬
‫نتائجها إال بمشئة هللا ـ ووفق قدر خاص لكل شئ منه سبحانه‪.2‬‬
‫إن سؤال العبد هلل سبحانه وتعالى بالهداية هو من الدعاء الذي وعد علي‪99‬ه باالس‪99‬تجابة‪،‬‬
‫اع إِ َذا َدعَا ِن"‬ ‫ُ‬ ‫كما في قوله تعالى‪َ " :‬وإِ َذا َسأَلَ َ‬
‫ك ِعبَا ِدي َعنِّي فَإِنِّي قَ ِريبٌ أ ِجيبُ َد ْع َوةَ ال َّد ِ‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)186 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪ " :‬ا ْد ُعونِي أَ ْست َِجبْ لَ ُك ْم" (غافر ‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬
‫ولما ك‪99‬ان س‪99‬ؤال هللا تع‪99‬الى الهداي‪99‬ة إلى الص‪99‬راط المس‪99‬تقيم من أج‪َّ 9‬ل المط‪99‬الب‪ ،‬ونيل‪99‬ه‬
‫أشرف المواهب‪ ،‬فقد علم سبحانه وتعالى عب‪99‬اده ـ في س‪99‬ورة الفاتح‪99‬ة ـ كيفي‪99‬ة س‪99‬ؤاله‬
‫وأم‪99‬رهم أن يق‪99‬دموا بين يدي‪99‬ه حم‪99‬ده والثن‪99‬اء علي‪99‬ه وتمجي‪99‬ده‪ ،‬ثم ذك‪99‬ر عب‪99‬وديتهم‪،‬‬
‫وتوحيدهم‪ ،‬هاتان وسيلتان إلى مطل‪99‬وبهم‪ ،‬توس‪99‬ل إلي‪99‬ه بأس‪99‬مائه وص‪99‬فاته وتوس‪99‬ل إلي‪99‬ه‬
‫بعبوديتهم‪ ،‬وهاتان الوسيلتان ال يرد معهما الدعاء‪.3‬‬
‫وهذا الدعاء يتضمن طلب الهداي‪9‬ة ممن ه‪99‬و ق‪9‬ادر عليه‪99‬ا‪ ،‬وهي بي‪99‬ده إن ش‪9‬اء أعطاه‪99‬ا‬
‫عبده‪ ،‬وإن شاء منعه إياها‪ ،‬والهداية هي معرف‪99‬ة الح‪99‬ق والعم‪99‬ل ب‪99‬ه‪ ،‬فمن لم يجعل‪99‬ه هللا‬
‫عالما ً بالحق ع‪9‬امالً ب‪99‬ه لم يكن ل‪99‬ه س‪99‬بيل إلى االهت‪99‬داء‪ ،‬فه‪99‬و س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى المتف‪99‬رد‬
‫بالهداية الموجبة لإلهتداء التي ال يتخلف عنها وهو جعل العبد مريداً للهدى‪ ،‬محبا ً ل‪99‬ه‪،‬‬
‫مؤثراً له‪ ،‬عامالً به‪ ،‬فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب وال إلى نبي مرسل‪.4‬‬
‫‪ 7‬ـ االعتصام باهلل‪:‬‬
‫ومن بين األسباب التي رتب هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى عليه‪99‬ا الهداي‪99‬ة لعب‪99‬اده‪ ،‬حس‪99‬ب س‪99‬نته‬
‫تعالى في الهداية واإلضالل‪ :‬االعتصام باهلل وهو االمتناع باهلل وااللتجاء والف‪99‬زع إلي‪99‬ه‬
‫والتوكل عليه في دفع شرور الكفار ال‪99‬تي ت‪99‬ؤدي ب‪99‬المؤمنين إلى الض‪99‬الل ال‪99‬ذي يري‪99‬ده‬
‫وا لَ‪99‬وْ تَ ْكفُ‪9‬رُونَ َك َم‪99‬ا َكفَ‪9‬ر ْ‬
‫ُوا" (النس‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫الكفار من المؤمنين‪ 5‬عا ّمة في قول‪99‬ه‪َ ":‬و ُّد ْ‬
‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)3294 / 6‬‬
‫‪ 2‬السنن اإللهية (‪.)241 / 1‬‬
‫‪ 3‬مدارج السالكين (‪ .)23 / 1‬البن القيم‪.‬‬
‫‪ 4‬شفاء العليل صـ‪.116‬‬
‫‪ 5‬مدارج السالكين (‪ ،)461 /1‬تفسير الرازي (‪.)174 /8‬‬

‫‪73‬‬
‫يل هّللا ِ‬
‫َص ‪ُّ 9‬دونَ عَن َس ‪9‬بِ ِ‬ ‫‪ .)89‬واليهود خاصة كما ورد في قوله‪ ":‬قُلْ يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب لِ َم ت ُ‬
‫‪9‬ل َع َّما تَ ْع َملُ‪99‬ونَ "(آل‪ 9‬عم‪99‬ران ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫َم ْن آ َمنَ تَ ْب ُغونَهَا ِع َوجًا َوأَنتُ ْم ُش‪9‬هَدَاء َو َم‪99‬ا هّللا ُ بِغَافِ‪ٍ 9‬‬
‫‪.)99‬‬
‫فقد بين سبحانه وتعالى أن االعتص‪99‬ام باهلل من التمس‪99‬ك بدين‪99‬ه والتوك‪99‬ل ه‪99‬و العم‪99‬دة في‬
‫الهداي‪99‬ة إلى الص‪99‬راط المس‪99‬تقيم والعم‪99‬دة في مباع‪99‬دة الغواي‪99‬ة‪ ،‬والوس‪99‬يلة إلى الرش‪99‬اد‬
‫وطريق السداد‪.1‬‬

‫صم بِاهّلل ِ‬ ‫قال تعالى‪َ " :‬و َك ْيفَ تَ ْكفُرُونَ َوأَنتُ ْم تُ ْتلَى َعلَ ْي ُك ْم آيَ ُ‬
‫ات هّللا ِ َوفِي ُك ْم َرسُولُهُ َو َمن يَ ْعتَ ِ‬
‫ص َرا ٍط ُّم ْستَقِ ٍيم" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)101 :‬‬ ‫ي إِلَى ِ‬
‫فَقَ ْد هُ ِد َ‬
‫ص َرا ٍط ُّم ْستَقِ ٍيم" جواب الش‪99‬رط ولكون‪99‬ه ماض‪99‬يا ً م‪99‬ع "ق‪99‬د" أف‪99‬اد‬
‫ي إِلَى ِ‬
‫فقوله‪ " :‬فَقَ ْد هُ ِد َ‬
‫الكالم تحق‪99‬ق اله‪99‬دى ح‪99‬تى كأن‪99‬ه حص‪99‬ل وأن الهداي‪99‬ة حاص‪99‬لة حس‪99‬ب س‪99‬نته س‪99‬بحانه ال‬
‫محالة‪.2‬‬
‫ونظراً ألهمية االعتصام فقد جاءت عدة آيات في كتاب هللا تدعو المؤمنين وتذكرهم‬
‫باالعتصام باهلل وبعهده من ذلك قوله سبحانه وتعالى‪ " :‬فَأَقِي ُموا ال َّ‬
‫صاَل ةَ َوآتُوا ال َّز َكاةَ‬
‫صيرُ" (الحج ‪ ،‬آية ‪.)78 :‬‬ ‫َص ُموا بِاهَّلل ِ هُ َو َموْ اَل ُك ْم فَنِ ْع َم ْال َموْ لَى َونِ ْع َم النَّ ِ‬
‫َوا ْعت ِ‬
‫وا بِ َحب ِْل هّللا ِ َج ِميعًا َوالَ تَفَ َّرقُ ْ‬
‫وا" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)103 :‬‬ ‫ص ُم ْ‪9‬‬
‫وقوله تعالى‪َ " :‬وا ْعتَ ِ‬
‫‪ 8‬ـ االتباع والطاعة‪:‬‬
‫ومن أسباب الهدى حسب س‪9‬نته س‪9‬بحانه وتع‪9‬الى في الهداي‪9‬ة والض‪9‬الل االتب‪9‬اع‪ ،‬وه‪9‬و‬
‫السير وفق الش‪99‬رع ومقتض‪99‬اه‪ ،‬واط‪99‬راح ك‪99‬ل ش‪99‬ئ يخ‪99‬الف ه‪99‬دى هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى‪،‬‬
‫وطاعة هللا في طاع‪99‬ة رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ ،‬فه‪99‬و المبل‪99‬غ عن هللا س‪99‬بحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وبهذا فإن االتباع يشمل االلتزام بما ورد في كتاب هللا تع‪99‬الى‪ ،‬وس‪99‬نة رس‪99‬وله‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬من عقائد وأحكام وأوامر ونواه وآداب وأخالق‪ ،‬وكل م‪99‬ا يرش‪99‬د‬
‫إليه كتاب هللا عز وجل وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فاالتباع ليس مجرد ش‪99‬عار‬
‫يرفع‪ ،‬وإنما هو تحقيق معناه في قلب المسلم وجوارحه وأفكاره‪.3‬‬
‫ونج‪99‬د الق‪99‬رآن‪ ،‬والس‪99‬نة المطه‪99‬رة‪ ،‬يرك‪99‬زان على االتب‪99‬اع ويعتبران‪99‬ه من‪99‬اط بالهداي‪99‬ة‪،‬‬
‫والطري‪99‬ق الموص‪99‬لة إلى الس‪99‬عادة والنج‪99‬اح والفالح في ال‪99‬دنيا واآلخ‪99‬رة‪ ،‬ومن أعظم‬
‫الدالئل على ذلك أن هللا سبحانه وتعالى قد بين أهمية االتباع‪ ،‬وأثره في الوص‪99‬ول إلى‬
‫اله‪99‬دى وتجنب الض‪99‬الل عن‪99‬دما خل‪99‬ق آدم وأنزل‪99‬ه إلى األرض‪ ،‬قب‪99‬ل أن يرس‪99‬ل أنبي‪99‬اءه‬

‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪ )378 / 1‬السنن اإللهية (‪.)246 / 1‬‬


‫‪ 2‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)246 / 1‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)348 / 1‬‬

‫‪74‬‬
‫ورسله‪ ،،‬فكان ذلك دليالً حاسما ً على ما لألتب‪99‬اع من أهمي‪99‬ة ومكان‪99‬ة في الوص‪99‬ول إلى‬
‫الهداية والنجاة‪.1‬‬

‫وا ِم ْنهَا َج ِميعا ً فَإ ِ َّما يَأْتِيَنَّ ُكم ِّمنِّي هُدًى فَ َمن تَبِ َع هُدَا َ‬
‫ي فَالَ خَ وْ ٌ‬
‫ف‬ ‫ـ قال تعالى‪ " :‬قُ ْلنَا ا ْهبِطُ ْ‬
‫َعلَ ْي ِه ْم َوالَ هُ ْم يَحْ زَ نُونَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪.)38 :‬‬
‫ْض َع‪ُ 9‬د ٌّو فَإ ِ َّما يَأْتِيَنَّ ُ‬
‫ك ِّمنِّي هُ‪9‬دًى فَ َم ِن‬ ‫ال ا ْهبِطَا ِم ْنهَا َج ِمي ًع‪99‬ا بَع ُ‬
‫ْض‪ُ 9‬ك ْم لِبَع ٍ‬ ‫ـ قال تعالى‪ ":‬قَ َ‬
‫ضلُّ َواَل يَ ْشقَى" (طه‪ ،‬آية ‪.)123 :‬‬ ‫اتَّبَ َع هُد َ‬
‫َاي فَاَل يَ ِ‬
‫وقد ربط هللا عز وجل بين طاعته واتباع نبيه صلى هللا عليه وسلم وبين الهداية فجعل‬
‫الطاعة واالتباع سببا ً للهداية والرشاد‪.‬‬

‫ـ قال تعالى‪ ":‬قُلْ أَ ِطيعُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُوا ال َّرس َ‬


‫ُول فَ‪9‬إِن تَ َولَّوا فَإِنَّ َم‪99‬ا َعلَ ْي‪ِ 9‬ه َم‪99‬ا ُح ِّم َل َو َعلَ ْي ُكم‬
‫ين" (النور‪ ،‬آية ‪.)54 :‬‬ ‫غ ْال ُمبِ ُ‬‫َّما ُح ِّم ْلتُ ْم َوإِن تُ ِطيعُوهُ تَ ْهتَ ُدوا َو َما َعلَى ال َّرسُو ِل إِاَّل ْالبَاَل ُ‬
‫فأخبر ج‪99‬ل ثن‪9‬اءه أن الهداي‪9‬ة إلى المنهج الق‪9‬ويم الم‪99‬ؤدي إلى الف‪9‬وز والفالح في طاع‪99‬ة‬
‫الرس‪99‬ول ال في غيره‪99‬ا‪ ،‬فإن‪99‬ه متعل‪99‬ق بالش‪99‬رط فينتفي بانتفائ‪99‬ه‪ ،‬وليس علي‪99‬ه إال البالغ‬
‫والبيان‪.2‬‬
‫ض ‪َ 9‬وانَهُ‬ ‫ين * يَ ْه‪ِ 9‬دي بِ ‪ِ 9‬ه هّللا ُ َم ِن اتَّبَ ‪َ 9‬ع ِر ْ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬قَ ْد َجاء ُكم ِّمنَ هّللا ِ نُو ٌر َو ِكتَابٌ ُّمبِ ٌ‬
‫ص‪َ 9‬را ٍط ُّم ْس‪9‬تَقِ ٍيم"‬ ‫ور بِإ ِ ْذنِ‪ِ 9‬ه َويَهْ‪ِ 9‬دي ِه ْم إِلَى ِ‬‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫الس‪9‬الَ ِم َوي ُْخ‪ِ 9‬ر ُجهُم ِّم ِن ُّ‬
‫الظلُ َم‪99‬ا ِ‬ ‫ُس‪9‬بُ َل َّ‬
‫(المائدة‪ ،‬آية ‪ 15 :‬ـ ‪.)16‬‬
‫بين سبحانه وتعالى في هذه اآلية الكريمة أن من أتبع كتاب هللا وهو ما رضيه لعب‪99‬اده‪،‬‬
‫فإن هللا عز وجل يكافئه على ذلك بثالثة أمور‪:‬‬
‫أولها‪ :‬فهو يهدي من اتبعه سبل السالم الطرق ال‪9‬تي يس‪9‬لم به‪9‬ا في ال‪9‬دنيا واآلخ‪9‬رة من‬
‫كل ما يرديه ويشقيه‪ ،3‬فاتباع هذا القرآن يس‪99‬كب الس‪99‬الم في الحي‪99‬اة كله‪99‬ا‪ ،‬س‪99‬الم الف‪99‬رد‬
‫سالم الجماعة‪ ،‬سالم العالم‪ ،‬سالم الضمير‪ ،‬سالم العقل‪ ،‬سالم الجوارح‪ ،‬سالم ال‪9‬بيت‪،‬‬
‫سالم األسرة‪ ،‬سالم المجتمع‪ ،‬سالم البشر واإلنسانية الس‪99‬الم م‪99‬ع الحي‪99‬اة وم‪99‬ع الك‪99‬ون‪،‬‬
‫والسالم مع هللا رب الكون والحياة والسالم ال‪9‬ذي تج‪9‬ده البش‪9‬رية ولم تج‪9‬ده إال في ه‪9‬ذا‬
‫الدين وإال في منهجه ونظامه وشريعته ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته حقا ً‬
‫‪4‬‬
‫إن هللا يهدي بهذا الدين الذي رضيه طرق السالم كلها‬
‫الثاني‪ :‬أنه يخرجهم من الظلم‪99‬ات إلى الن‪99‬ور بإذن‪99‬ه‪ ،‬أي يخ‪99‬رجهم من الكف‪99‬ر إلى ن‪99‬ور‬
‫اإليمان بتوفيقه وهدايته لهم‪ ،5‬ألن الجاهلي‪99‬ة كله‪99‬ا ظلم‪99‬ات‪ ،‬ظلم‪99‬ة ش‪99‬بهات وخراف‪99‬ات‪،‬‬
‫وحيرة وقلق وانقطاع عن الهدى‪ ،‬ووحشة واضطراب‪ 9‬قيم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الطريق الموصل إلى المقص‪99‬د والغاي‪99‬ة من‬
‫الدين في أقرب وقت‪ ،‬ألنه طريق ال عوج في‪99‬ه وال انح‪99‬راف‪ ،‬فيبطئ س‪99‬الكه أو يض‪99‬ل‬
‫في سيره‪ ،‬وقد جعل هللا عز وجل اتباع رسوله فيما جاء ب‪99‬ه س‪99‬واء ك‪99‬ان مبين ‪9‬ا ً لمجم‪99‬ل‬

‫‪1‬‬
‫السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)248 / 1‬‬
‫‪2‬‬
‫في ظالل القرآن (‪.)2528 /4‬‬
‫‪3‬‬
‫تفسير المنار محمد رشيد رضا (‪.)350 /6‬‬
‫‪4‬‬
‫في ظالل القرآن (‪.)863 / 2‬‬
‫‪5‬‬
‫السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)250 / 1‬‬

‫‪75‬‬
‫القرآن‪ ،‬أو مقيداً لمطلقه‪ ،‬أو مخصصا ً لعامه أو منشئا ً ألحكام جديدة لم ترد في الق‪99‬رآن‬
‫جعل ذلك سببا ً من أسباب الهداية‪.1‬‬
‫ت‬‫الس‪َ 9‬ما َوا ِ‬ ‫ك َّ‬ ‫ـ قال تعالى‪" :‬قُلْ يَ‪99‬ا أَيُّهَ‪99‬ا النَّاسُ إِنِّي َر ُس‪9‬و ُل هّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم َج ِمي ًع‪99‬ا الَّ ِذي لَ‪9‬هُ ُم ْل‪ُ 9‬‬
‫وا بِاهّلل ِ َو َرسُولِ ِه النَّبِ ِّي األُ ِّم ِّي الَّ ِذي ي ُْؤ ِم ُن بِاهّلل ِ‬‫يت فَآ ِمنُ ْ‬‫ض ال إِلَـهَ إِالَّ هُ َو يُحْ يِـي َويُ ِم ُ‬ ‫َواألَرْ ِ‬
‫َو َكلِ َماتِ ِه َواتَّبِعُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)158 :‬‬
‫وأخ‪99‬بر الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم أن التمس‪99‬ك بس‪99‬نته عص‪99‬مة من الزي‪99‬غ والض‪99‬الل‬
‫والفتن‪ ،‬فقال‪ :‬فعليكم بسنتي وسنة الخلف‪99‬اء الراش‪99‬دين من بع‪99‬دي تمس‪99‬كوا به‪99‬ا وعض‪99‬وا‬
‫عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم ومحدثات األمور‪ ،‬فإن كل محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة‪.2‬‬
‫وقال تعالى على لسان نبيه محمد صلى هللا عليه وسلم مبينا ً أنه عليه الص‪99‬الة والس‪99‬الم‬
‫ال يتب‪99‬ع أه‪99‬واء الك‪99‬افرين‪ ،‬ألن في ذل‪99‬ك انح‪99‬راف عن الص‪99‬راط المس‪99‬تقيم وس‪99‬بيل إلى‬
‫الضالل‪:‬‬
‫ت إِ ًذا َو َما أَنَ‪9‬اْ ِمنَ ْال ُم ْهتَ‪ِ 9‬دينَ " (األنع‪9‬ام‪ ،‬آي‪9‬ة ‪:‬‬ ‫ضلَ ْل ُ‬
‫ـ قال تعالى‪ 9":‬قُل الَّ أَتَّبِ ُع أَ ْه َواء ُك ْم قَ ْد َ‬
‫‪ ،)56‬أي‪ :‬ال اتبعكم على ما ت‪99‬دعونني إلي‪99‬ه ال في العب‪99‬ادة وال في غيره‪99‬ا من االعم‪99‬ال‬
‫ألنها مؤسسة على الهوى‪ ،‬وليست على شيء من الحق واله‪99‬دى‪ ،‬ف‪99‬إذا فعلت ذل‪99‬ك فق‪99‬د‬
‫تركت محجة الحق وسرت على غير ه‪99‬دى فص‪9‬رت ض‪99‬االً مثلكم وخ‪99‬رجت من ع‪9‬داد‬
‫المهتدين‪.3‬‬
‫ول ِمن بَ ْع‪ِ 9‬د َم‪99‬ا تَبَيَّنَ لَ‪9‬هُ ْالهُ‪9‬دَى َويَتَّبِ‪ْ 9‬ع َغ ْي‪َ 9‬ر َس‪9‬بِي ِل‬ ‫َّس‪َ 9‬‬
‫ق الر ُ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬و َمن ي َُش‪9‬اقِ ِ‬
‫ص‪9‬يرًا" (النس‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)115 :‬أي‪:‬‬ ‫اءت َم ِ‬ ‫ص‪9‬لِ ِه َجهَنَّ َم َو َس‪ْ 9‬‬ ‫‪9‬ولَّى َونُ ْ‬ ‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ نُ َولِّ ِه َم‪99‬ا تَ‪َ 9‬‬
‫ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى هللا عليه وس‪99‬لم فص‪99‬ار في‬
‫شق والشرع في شق‪ ،‬وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وت‪99‬بين ل‪99‬ه واتض‪99‬ح ل‪99‬ه‬
‫ص‪9‬لِ ِه َجهَنَّ َم‬ ‫ويتبع غير سبيل المؤم‪9‬نين‪ ،‬ه‪9‬ذا مالزم للص‪9‬فة األولى‪ ":‬نُ َولِّ ِه َم‪9‬ا تَ‪َ 9‬ولَّى َونُ ْ‬
‫صيرًا" (النساء‪ ،‬آية ‪ )115 :‬أي‪ :‬إذا س‪99‬لك ه‪99‬ذا الطري‪99‬ق جازين‪99‬اه على ذل‪99‬ك‬ ‫اءت َم ِ‬ ‫َو َس ْ‬
‫بأن نحسها في صدره ونزينها له استدراجا ً له وجع‪99‬ل الن‪99‬ار مص‪99‬يره في اآلخ‪99‬رة‪ ،‬ألن‬
‫من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إال إلى النار يوم القيامة‪.4‬‬
‫ومن هذه النصوص وغيرها يتبين أن االتباع مجبلة للهداي‪99‬ة والرش‪99‬اد‪ ،‬وع‪99‬دم االتب‪99‬اع‬
‫موقع في الزيغ والضالل والهالك‪.5‬‬
‫‪9‬ـ الخشية‪:‬‬
‫ومن أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى‪ ،‬خش‪99‬ية هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل والخ‪99‬وف من‪99‬ه‪،‬‬
‫فإن خشيته عز وجل تجعل صاحبها أكثر من غيره استعداداً للت‪99‬ذكر إذا وع‪99‬ظ وذك‪99‬ر‪،‬‬
‫ولالعتبار بما يرى من آيات هللا في الك‪99‬ون والحي‪99‬اة وم‪99‬ا تج‪99‬ري ب‪99‬ه س‪99‬نته في أح‪99‬داث‬
‫التاريخ‪ ،‬ولالنتفاع باإلنذار بعذاب هللا في الدنيا واآلخرة‪ ،‬واالهتداء إلى الحق إذا هدى‬
‫إليه وآيات القرآن الكريم توضح هذه الحقائق أكمل توضيح‪ ،‬حتى أنها لتصور لن‪99‬ا م‪99‬ا‬
‫يعتري الخائفين من هللا إذا سمع آيات الهدى تتلى عليهم‪:‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)250 / 1‬‬


‫‪ 2‬سنن الترمزي (‪ )44 /5‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ 3‬تفسير المراغي (‪.)141 /7‬‬
‫‪ 4‬تفسير ابن كثير (‪ 554 /1‬ـ ‪.)55‬‬
‫‪ 5‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)253 /1‬‬

‫‪76‬‬
‫ث ِكتَابً‪99‬ا ُّمت ََش‪9‬ابِهًا َّمثَ‪99‬انِ َي تَ ْق َش‪ِ 9‬عرُّ ِم ْن‪9‬هُ ُجلُ‪99‬و ُد الَّ ِذينَ‬ ‫ـ قال تعالى‪" :‬هَّللا ُ نَ َّز َل أَحْ َس‪9‬نَ ْال َح‪ِ 9‬دي ِ‬
‫ك هُ‪9‬دَى هَّللا ِ يَ ْه‪ِ 9‬دي بِ‪ِ 9‬ه َم ْن يَ َش‪9‬اء‬ ‫ين ُجلُو ُدهُ ْم َوقُلُوبُهُ ْم إِلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ َذلِ‪َ 9‬‬
‫يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم ثُ َّم تَلِ ُ‬
‫َو َمن يُضْ لِلْ هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد" (الزمر ‪ ،‬آية ‪.) 23 :‬‬
‫ـ وقال تعالى بعد أن ساق قصة فرعون وما آل إليه أمره من النكال والهالك قال‪" :‬إِ َّن‬
‫فِي َذلِكَ لَ ِع ْب َرةً لِّ َمن يَ ْخ َشى" (النازعات ‪ ،‬آية ‪ )26 :‬فالذي يعرف ربه ويخشاه هو‬
‫الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه أما الذي ال يخشى ربه فبينه وبين‬
‫العبرة حاجز‪ ،‬وبينه وبين العظة حجاب‪.1‬‬
‫ـ ويقول هللا عز وجل عن تأثير خشيته في قبول التذكرة "طه * َما أَنز َْلنَا َعلَ ْيكَ ْالقُرْ آنَ‬
‫لِتَ ْشقَى * إِاَّل ت َْذ ِك َرةً لِّ َمن يَ ْخ َشى" (طه ‪ ،‬آية ‪ 1 :‬ـ ‪)2‬‬
‫اف َو ِعي ِد" (ق‪ ،‬آية ‪.)45 :‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬فَ َذ ِّكرْ بِ ْالقُرْ آ ِن َمن يخَ ُ‬
‫ْس لَهُم ِّمن ُدونِ ‪ِ 9‬ه َولِ ٌّي‬ ‫ُوا إِلَى َربِّ ِه ْم لَي َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬وأَن ِذرْ بِ ِه الَّ ِذينَ يَخَ افُونَ أَن يُحْ َش ‪9‬ر ْ‬
‫َوالَ َشفِي ٌع لَّ َعلَّهُ ْم يَتَّقُونَ " (األنعام‪ ،‬آية ‪.)51 :‬‬
‫فالذي يخشى يتذكر حين يذكر‪ ،‬ويتقي ربه ب‪99‬أداء فرائض‪99‬ه واجتن‪99‬اب محارم‪99‬ه‪ ،‬خش‪99‬ية‬
‫عقاب هللا ووعيده‪ ،2‬وهذه ألوان من الهداي‪99‬ة يؤتي‪99‬ه ال‪99‬ه س‪99‬بحانه من يخش‪99‬اه‪ ،‬وق‪99‬د ج‪99‬اء‬
‫التصريح بترتيب الهداية على خشية هللا دون من سواه‪.‬‬
‫اخ َشوْ نِي َوألُتِ َّم نِ ْع َمتِي َعلَ ْي ُك ْم َولَ َعل ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫َّ‬ ‫قال تعالى‪ ":‬فَالَ ت َْخ َشوْ هُ ْم َو ْ‬
‫‪.)150‬‬
‫فالهــدى إنمــا يكــون نتيجـة لخشـية هللا وحــده دون مــن سـواه‪ ،‬ألن ذلـك يدفــع‬
‫مــن يخشـى هللا إلــى اتبــاع أوامــره واجتنــاب نواهيــه‪ ،‬دون النظـر إلــى انكـار‬
‫غيــره ممــن ال يخشاهم مــن البشــر فطريق الهــدى هــو خش‪99‬ية هللا وعـدم الخش‪99‬ية‬
‫ممــن سواه‪.3‬‬
‫‪ 10‬ـ اإلنابة‪:‬‬
‫ومن أسباب الهداية التي جعلها هللا سببا ً في زي‪99‬ادة اله‪99‬دى ألص‪99‬حابها‪ ،‬إناب‪99‬ة العب‪99‬د إلى‬
‫هللا‪ ،‬إنابة عبودية ومحبة وهي تتضمن أربعة أم‪99‬ور‪ :‬محبت‪99‬ه والخض‪99‬وع ل‪99‬ه‪ ،‬واالقب‪99‬ال‬
‫عليه واإلعراض عما سواه‪.4‬‬
‫الس‪َ 9‬ماء ِر ْزقً‪99‬ا َو َم‪99‬ا يَتَ‪َ 9‬ذ َّك ُر إِاَّل َمن‬ ‫ـ قال تع‪99‬الى‪":‬هُ‪َ 9‬و الَّ ِذي يُ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ري ُك ْم آيَاتِ‪ِ 9‬ه َويُنَ‪ِّ 9‬ز ُل لَ ُكم ِّمنَ َّ‬
‫يُنِيبُ " (غافر‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬أَفَلَ ْم يَنظُرُوا إِلَى ال َّس َماء فَوْ قَهُ ْم َك ْيفَ بَنَ ْينَاهَا َو َزيَّنَّاهَ‪9‬ا َو َمالَهَ‪9‬ا ِمن فُ‪9‬ر ٍ‬
‫ُوج‬
‫ْص ‪َ 9‬رةً‬
‫يج * تَب ِ‬ ‫ج بَ ِه ٍ‬ ‫اس ‪َ 9‬ي َوأَنبَ ْتنَ‪99‬ا فِيهَ‪99‬ا ِمن ُك‪ِّ 9‬ل َزوْ ٍ‬
‫ض َم‪َ 9‬د ْدنَاهَا َوأَ ْلقَ ْينَ‪99‬ا فِيهَ‪99‬ا َر َو ِ‬ ‫*واأْل َرْ َ‬ ‫َ‬
‫ب" (ق‪ ،‬آية ‪ 6 :‬ـ ‪.)8‬‬ ‫َو ِذ ْك َرى لِ ُك ِّل َع ْب ٍد ُّمنِي ٍ‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)3816 / 6‬‬


‫‪ 2‬في ظالل القرآن (‪ ،)2327 /5‬تفسير الطبري (‪.)137 /16‬‬
‫‪ 3‬تفسير المراغي (‪.)18 / 2‬‬
‫‪ 4‬السنن اإللهية (‪.)258 / 1‬‬

‫‪77‬‬
‫ب" (ق‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )8 :‬دالل‪99‬ة على اإلناب‪99‬ة‬ ‫ص َرةً َو ِذ ْك َرى لِ ُك‪99‬لِّ َع ْب‪ٍ 9‬د ُّمنِي ٍ‬ ‫وفي قوله تعالى‪ ":‬تَ ْب ِ‬
‫سبب في االعتبار لكل من تحققت فيه هذه الصفة‪ ،‬وأن هذه الصفة لتؤهلهم لث‪99‬واب هللا‬
‫في الدنيا واآلخرة فكما يثيب هللا عز وجل عباده المنيبين إليه بالجن‪99‬ة في اآلخ‪99‬رة فإن‪99‬ه‬
‫سبحانه ي‪99‬ثيبهم أيض‪9‬ا ً بالهداي‪99‬ة في ال‪99‬دنيا حس‪9‬ب س‪99‬نته في الهداي‪9‬ة واإلض‪9‬الل فيه‪99‬ديهم‬
‫ويوفقهم إلى الرشاد وإصابة الحق‪ ،‬ويخلصهم لعبادته‪ ،‬والعم‪99‬ل بطاعت‪99‬ه واجتن‪99‬اب م‪99‬ا‬
‫حرمه ويوفقهم إلى تصديق ما جاء به الرسول عليه الصالة والسالم وإتباعه فيما جاء‬
‫به‪ 1‬وفي تقرير ذلك‪.‬‬
‫نز َل َعلَ ْي ِه آيَ ‪9‬ةٌ ِّمن َّربِّ ِه قُ‪99‬لْ إِ َّن هّللا َ ي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـ قال تعالى ‪َ " :‬ويَقُو ُل الَّ ِذينَ َكفَر ْ‬
‫ُض ‪9‬لُّ َمن‬ ‫ُوا لَوْ الَ أ ِ‬
‫َاب" (الرعد ‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫يَ َشاء َويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َم ْن أَن َ‬
‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬والَّ ِذينَ اجْ تَنَبُ‪99‬وا الطَّا ُغوتَ أَن يَ ْعبُ‪ُ 9‬دوهَا َوأَنَ‪99‬ابُوا إِلَى هَّللا ِ لَهُ ُم ْالب ُْش‪َ 9‬رى‬
‫فَبَ ِّشرْ ِعبَا ِد * الَّ ِذينَ يَ ْستَ ِمعُونَ ْالقَوْ َل فَيَتَّبِعُونَ أَحْ َسنَهُ أُوْ لَئِكَ الَّ ِذينَ هَ ‪9‬دَاهُ ُم هَّللا ُ َوأُوْ لَئِ‪99‬كَ هُ ْم‬
‫ب" (الزمر ‪ ،‬آية ‪ 17 :‬ـ ‪.)18‬‬ ‫أُوْ لُوا اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ص‪ْ 9‬ينَا‬ ‫ِّين َما َوصَّى بِ ِه نُوحًا َوالَّ ِذي أَوْ َح ْينَا إِلَ ْيكَ َو َم‪99‬ا َو َّ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬ش َر َع لَ ُكم ِّمنَ الد ِ‬
‫بِ ِه إِب َْرا ِهي َم َو ُمو َسى َو ِعي َسى أَ ْن أَقِي ُموا ال ِّدينَ َواَل تَتَفَ َّرقُ‪99‬وا فِي‪ِ 9‬ه َكبُ‪َ 9‬ر َعلَى ْال ُم ْش‪ِ 9‬ر ِكينَ َم‪99‬ا‬
‫تَ ْد ُعوهُ ْم إِلَ ْي ِه هَّللا ُ يَجْ تَبِي إِلَ ْي ِه َمن يَ َشاء َويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َمن يُنِيبُ " (الشورى ‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬
‫ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغ ْي‪َ 9‬ر بَ ِعي ‪ٍ 9‬د *‬ ‫ـ وأما جزاء المنيبين في اآلخرة فقد ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬وأُ ْزلِفَ ِ‬
‫ب" (ق ‪،‬‬ ‫ب ُّمنِي ٍ‬ ‫ب َو َجاء بِقَ ْل ٍ‬ ‫يظ * َم ْن خَ ِش َي الرَّحْ َمن بِ ْال َغ ْي ِ‬ ‫ب َحفِ ٍ‬ ‫هَ َذا َما تُو َع ُدونَ لِ ُكلِّ أَ َّوا ٍ‬
‫آية ‪ 31 :‬ـ ‪.)33‬‬
‫ي الَّ ِذينَ‬ ‫ـ ولذلك فقد أمر هللا سبحانه عباده باإلنابة كما في قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪ " :‬قُ‪99‬لْ يَ‪99‬ا ِعبَ‪99‬ا ِد َ‬
‫‪9‬و‬ ‫وب َج ِمي ًع‪99‬ا إِنَّهُ هُ‪َ 9‬‬ ‫أَ ْس ‪َ 9‬رفُوا َعلَى أَنفُ ِس ‪ِ 9‬ه ْم اَل تَ ْقنَطُ‪99‬وا ِمن رَّحْ َم‪ِ 9‬ة هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ يَ ْغفِ ‪ُ 9‬ر ال ‪ُّ 9‬ذنُ َ‬
‫َّحي ُم * َوأَنِيبُ‪99‬وا إِلَى َربِّ ُك ْم َوأَ ْس‪99‬لِ ُموا لَ‪99‬هُ ِمن قَبْ‪ِ 99‬ل أَن يَ‪99‬أْتِيَ ُك ُم ْال َع‪َ 99‬ذابُ ثُ َّم اَل‬ ‫ْال َغفُ‪99‬و ُر ال‪99‬ر ِ‬
‫صرُونَ " (الزمر ‪ ،‬آية ‪ 53 :‬ـ ‪.)54‬‬ ‫تُن َ‬
‫اس‬ ‫‪9‬ر النَّ َ‬ ‫ط‪َ 9‬رةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ‪َ 9‬‬ ‫ـ وكما في قوله تع‪99‬الى أيض‪9‬اً‪" :‬فَ‪99‬أَقِ ْم َوجْ هَ‪99‬كَ لِل‪9‬دِّي ِن َحنِيفً‪99‬ا فِ ْ‬
‫اس اَل يَ ْعلَ ُم‪9‬ونَ * ُمنِيبِينَ إِلَيْ‪ِ 9‬ه‬ ‫‪9‬ر النَّ ِ‬ ‫ِّين ْالقَيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َ‬
‫ك ال‪9‬د ُ‬ ‫َعلَ ْيهَا اَل تَبْ‪ِ 9‬دي َل لِخ َْل ِ‬
‫‪9‬ق هَّللا ِ َذلِ‪َ 9‬‬
‫صاَل ةَ َواَل تَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ "‪( 9‬الروم ‪ ،‬آية ‪ 30 :‬ـ ‪.2)31‬‬ ‫َواتَّقُوهُ َوأَقِي ُموا ال َّ‬
‫‪ 11‬ـ البراء من الكافرين‪:‬‬
‫ومن الطاعات التي خصص هللا سبحانه وتعالى ذكرها وجعله‪99‬ا س‪99‬ببا ً في زي‪99‬ادة ه‪99‬دى‬
‫أص‪99‬حابها‪ ،‬ال‪99‬براءة من الك‪99‬افرين بالبع‪99‬د عنهم والخالص منهم والع‪99‬داوة لهم وع‪99‬دم‬
‫مواالتهم بالتقرب إليهم أو إظهار الود لهم باألقوال أو األفعال أو النوايا‪ ،3‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪:‬‬
‫"اَل تَ ِج ُد قَوْ ًما ي ُْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر ي َُوا ُّدونَ َم ْن َحا َّد هَّللا َ َو َرسُولَهُ َولَوْ َكانُوا آبَ‪99‬اءهُ ْم‬
‫ُوح ِّم ْن ‪9‬هُ‬ ‫َب فِي قُلُوبِ ِه ُم اإْل ِ ي َمانَ َوأَيَّ َدهُم بِ ‪9‬ر ٍ‬ ‫ك َكت َ‬ ‫يرتَهُ ْم أُوْ لَئِ َ‬
‫أَوْ أَ ْبنَاءهُ ْم أَوْ إِ ْخ َوانَهُ ْم أَوْ ع َِش َ‬
‫ض‪9‬وا‪َ 9‬ع ْن‪9‬هُ‬ ‫ض ‪َ 9‬ي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َر ُ‬ ‫ت تَجْ ِري ِمن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر َخالِ ِدينَ فِيهَ‪99‬ا َر ِ‬ ‫َويُ ْد ِخلُهُ ْم َجنَّا ٍ‬
‫ب هَّللا ِ هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ " (المجادلة ‪ ،‬آية ‪.)22 :‬‬ ‫أُوْ لَئِكَ ِح ْزبُ هَّللا ِ أَاَل إِ َّن ِح ْز َ‬
‫وليس البراء من الكافرين هم مجرد ال‪99‬براء من أشخاص‪99‬هم‪ ،‬ب‪99‬ل ه‪99‬و أيض‪9‬ا ً ال‪99‬براء من‬
‫أفعالهم وبغضها‪ ،‬وما ذلك إال ألن والءهم ه‪99‬و س‪99‬بيل الض‪99‬الل أو الض‪99‬الل بعين‪99‬ه كم‪99‬ا‬

‫‪ 1‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)261 / 1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)261 / 1‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية في الحياة االجتماعية (‪.)264 / 1‬‬

‫‪78‬‬
‫ْض‪9‬هُ ْم‬‫ص‪9‬ا َرى أَوْ لِيَ‪99‬اء بَع ُ‬ ‫وا ْاليَهُو َد َوالنَّ َ‬‫وا الَ تَتَّ ِخ ُذ ْ‬ ‫جاء في قوله تعالى‪ " :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ْض َو َمن يَتَ َولَّهُم ِّمن ُك ْم فَإِنَّهُ ِم ْنهُ ْم إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ " (المائدة ‪ ،‬آية‬ ‫أَوْ لِيَاء بَع ٍ‬
‫‪.)51 :‬‬
‫‪9‬وا ٌل‬‫يرتُ ُك ْم َوأَ ْم‪َ 9‬‬
‫ـ وقال تعالى‪" :‬قُلْ إِن َكانَ آبَا ُؤ ُك ْم َوأَ ْبنَآ ُؤ ُك ْم َوإِ ْخ‪َ 9‬وانُ ُك ْم َوأَ ْز َوا ُج ُك ْم َوع َِش ‪َ 9‬‬
‫ض ‪9‬وْ نَهَا أَ َحبَّ إِلَ ْي ُكم ِّمنَ هّللا ِ َو َر ُس ‪9‬ولِ ِه‬‫ارةٌ ت َْخ َش‪9‬وْ نَ َك َس‪9‬ا َدهَا َو َم َس‪9‬ا ِك ُن تَرْ َ‬ ‫ا ْقتَ َر ْفتُ ُموهَا َوتِ َج َ‬
‫ُوا َحتَّى يَأْتِ َي هّللا ُ بِأ َ ْم ِر ِه َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ " (التوبة ‪،‬‬ ‫َو ِجهَا ٍد ِفي َسبِيلِ ِه فَت ََربَّص ْ‬
‫آية ‪.)24 :‬‬
‫وال‪99‬براء من الك‪99‬افرين يجنب ص‪99‬احبه الوق‪99‬وع في أعم‪99‬ال المعص‪99‬ية والض‪99‬الل ال‪99‬تي‬
‫يقترفونها‪ ،‬ويجنب‪99‬ه التش‪99‬به بأعم‪99‬الهم ال‪99‬تي ت‪99‬ؤدي ب‪99‬ه إلى الض‪99‬الل‪ ،‬ثم إن ال‪99‬براء منهم‬
‫ُوا"‬‫وا لَ‪99‬وْ تَ ْكفُ‪9‬رُونَ َك َم‪99‬ا َكفَ‪9‬ر ْ‬ ‫تجنبه محاولتهم ثنيه عن إيمان‪99‬ه وه‪99‬داه‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬و ُّد ْ‬
‫(النساء ‪ ،‬آية ‪.1)89 :‬‬
‫‪ 12‬ــ الجهــاد‪ :‬ومن أس‪99‬باب الهداي‪99‬ة الجه‪99‬اد في س‪99‬بيل هللا‪ ،‬فق‪99‬د رتب س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى‬
‫الهداي‪99‬ة على الجه‪99‬اد‪ ،‬وجعل‪99‬ه س‪99‬ببا ً من أس‪99‬باب زي‪99‬ادة اله‪99‬دى‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬والَّ ِذينَ‬
‫َجاهَ‪ُ 9‬دوا فِينَ‪9‬ا لَنَ ْه‪ِ 9‬ديَنَّهُ ْم ُس‪9‬بُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َم‪َ 9‬ع ْال ُمحْ ِس‪9‬نِينَ " (العنكب‪99‬وت ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ .)69 :‬عل‪9‬ق‬
‫سبحانه الهداية بالجهاد‪ ،‬فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً‪ ،‬ومراتب الجهاد أربع‪:‬‬
‫أ ـ جهاد النفس‪:‬‬
‫إحــداها‪ :‬أن يجاه‪99‬د على تعلم اله‪99‬دى‪ ،‬ودين الح‪99‬ق ال‪99‬ذي ال فالح له‪99‬ا‪ ،‬وال س‪99‬عادة في‬
‫معاشها ومعادها إال بها‪ ،‬ومتى فاتها علمه‪ ،‬شقيت في الدارين‪.‬‬
‫الثانيــة‪ :‬أن يجاه‪99‬دها على العم‪99‬ل ب‪99‬ه بع‪99‬د علم‪99‬ه‪ ،‬وإال فمج‪99‬رد العلم بال عم‪99‬ل إن لم‬
‫يضرها لم ينفعها‪.‬‬
‫الثالثــة‪ :‬أن يجاه‪99‬دها على ال‪99‬دعوة إلي‪99‬ه‪ ،‬وتعليم‪99‬ه من ال يعلم‪99‬ه‪ ،‬وإال ك‪99‬ان من ال‪99‬ذين‬
‫يكتمون ما أنزل هللا من الهدى والبينات وال ينفعه علمه وال ينجيه من عذاب هللا‪.‬‬
‫ق ال‪99‬دعوة إلى هللا‪ ،‬وأذى الخل‪99‬ق ويتحم‪99‬ل‬ ‫الرابعة‪ :‬أن يجاهدها على الص‪99‬بر على مش‪99‬ا ِّ‬
‫كل ذلك هلل‪.‬‬
‫فإذا استكمل هذه المراتب األربع‪ ،‬صار من الربانيين‪ ،‬ف‪99‬إن الس‪99‬لف مجمع‪99‬ون على أن‬
‫العالم ال يستحق أن يُسمى "ربانياً" حتى يعرف الحق‪ ،‬ويعم‪99‬ل ب‪99‬ه‪ ،‬ويعلم‪99‬ه‪ ،‬فمن علم‬
‫وعمل وعلَّم فذاك الذي يدعى عظيما ً في ملكوت السماوات‪.2‬‬
‫ب ـ جهاد الشيطان مرتبتان‪:‬‬
‫إحداهما‪:‬جهاده على دفع ما يأتي إلى العبد من الشبهات والشكوك الفادحة في اإليمان‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬جهاده على دفع ما يُلقى إليه من اإلرادات الفاسدة والشهوات‪.‬‬
‫فالجهاد األول‪ :‬يكون بعدة اليقين‪ ،،‬والثاني‪ :‬يكون بعدة الصبر‪.‬‬
‫ص‪9‬بَرُوا َو َك‪99‬انُوا بِآيَاتِنَ‪99‬ا يُوقِنُ‪99‬ونَ "‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬و َج َع ْلنَ‪99‬ا ِم ْنهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْه‪ُ 9‬دونَ بِأ َ ْم ِرنَ‪99‬ا لَ َّما َ‬
‫(السجدة ‪ ،‬آية ‪ ،)24 :‬فأخبر أن أمامه الدين‪ ،‬إنما تُنال بالصبر واليقين‪ ،‬فالص‪99‬بر ي‪99‬دفع‬
‫الشهوات واإلرادات الفاسدة‪ ،‬واليقين يدفع الشكوك والشبهات‪.‬‬
‫ج ـ جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب‪:‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)264 / 1‬‬


‫‪ 2‬فقه الجهاد للشيخ القرضاوي (‪.)140 / 1‬‬

‫‪79‬‬
‫وأما جهاد الكفار والمنافقين‪ ،‬فأربع مراتب‪ :‬بالقلب‪ ،‬واللسان‪ ،‬والمال‪ ،‬والنفس‪ ،‬وجهاد‬
‫الكفار أخصُّ باليد‪ ،‬وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان‪.‬‬
‫ساق ثالث مراتب‪:‬‬ ‫س ـ جهاد الظلمة والف ّ‬
‫وأما جهاد أرباب الظلم‪ ،‬والبدع‪ ،‬والمنكرات‪ ،‬فثالث مراتب‪:‬‬
‫األولى‪ :‬باليد إذا قدر‪ ،‬فإن عجز‪ ،‬انتقل إلى اللسان‪ ،‬فإن عجز‪ ،‬جاهد بقلبه‪ ،‬فهذه ثالث‪99‬ة‬
‫عشر مرتبة من الجهاد "ومن مات ولم يغز‪ ،‬ولم يح ّدث نفسه بالغزو‪ ،‬مات على شعبة من‬
‫النفاق‪ ،1‬وال يت ُّم الجهاد إال بالهجرة‪ ،‬وال الهجرة والجهاد إال باإليمان‪ ،‬والرّاجون رحمة‬
‫ُوا َو َجاهَ‪ُ 9‬د ْ‬
‫وا‬ ‫‪9‬اجر ْ‬ ‫هللا هم الذين قاموا بهذه الثالثة قال تعالى‪ ":‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا َوالَّ ِذينَ هَ‪َ 9‬‬
‫فِي َسبِي ِل هّللا ِ أُوْ لَـئِ َ‬
‫ك يَرْ جُونَ َرحْ َمتَ هّللا ِ َوهّللا ُ َغفُو ٌر َّر ِحي ٌم" (البقرة‪ ،‬آية ‪.)218 :‬‬
‫وكما أن اإليمان فرض على ك َّل أحد‪ ،‬ففرض عليه هجرتان في ك‪99‬ل وقت‪ :‬هج‪99‬رة إلى‬
‫هللا عز وجل بالتوحيد‪ ،‬واإلخالص واإلنابة والتوكل‪ ،‬والخ‪99‬وف‪ ،‬والرج‪99‬اء‪ ،‬والمحب‪99‬ة‪،‬‬
‫والتوبة‪ .‬وهجرة إلي رس‪99‬وله بالمتابع‪99‬ة‪ ،‬واالنقي‪99‬اد ألم‪99‬ره‪ ،‬والتص‪99‬ديق بخ‪99‬بره‪ ،‬وتق‪99‬ديم‬
‫أمره وخبره على أمر غيره وخبره "فمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله‪ ،‬فهجرت‪99‬ه إلى‬
‫هللا ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها‪ ،‬أو إمرأة يتزوجها‪ ،‬فهجرت‪99‬ه إلى م‪99‬ا‬
‫هاجر إليه‪ ،2‬وفرض عليه جهاد نفسه في ذات هللا‪ ،‬وجه‪99‬اد ش‪99‬يطانه‪ ،‬فه‪99‬ذا كل‪99‬ه ف‪99‬رض‬
‫عين‪ ،‬ال يتوب فيه أحد عن أحد‪ ،‬وأم‪99‬ا جه‪99‬اد الكف‪99‬ار المن‪99‬افقين‪ ،‬فق‪99‬د يُكتفى في‪99‬ه ببعض‬
‫األمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد‪.3‬‬

‫ثالثاً‪ :‬الضالل ومراتبه‪:‬ـ‬


‫الضالل‪ :‬ضد الهدى‪ ،‬وضللت بعيري‪ :‬إذا كان معقوالً فلم تهتد لمكان‪99‬ه‪ ،‬وض‪99‬ل ع‪99‬ني‪:‬‬
‫ضاع‪ ،‬وضللته‪ :‬أنسيته‪.‬‬
‫ويق‪99‬ال لك‪99‬ل ع‪99‬دول عن المنهج عم‪99‬داً‪ ،‬أو س‪99‬هواً‪ ،‬يس‪99‬يراً ك‪99‬ان أو كث‪99‬يراً‪ :‬ض‪99‬الل‪ ،‬ف‪9‬إن‬
‫الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جداً‪ ،4‬وإضالل هللا لإلنسان على وجهين‪:‬‬
‫إحداهما‪ :‬أن يكون سببه وهو أن يضل اإلنسان فيحكم هللا عليه بذلك في الدنيا‪ ،‬ويعدل‬
‫به عن طريق الجنة إلى النار في اآلخرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من إضالل هللا‪ :‬وهو أن هللا تع‪99‬الى وض‪99‬ع جبل‪99‬ة اإلنس‪99‬ان على هيئ‪99‬ة إذا راعى‬
‫طريقا ً محموداً كان أو مذموما ً ألفه واستطابه وتعسر عليه صرفه وانصرافه‪.5‬‬

‫‪ 1‬مسلم في اإلمارة رقم ‪.1910‬‬


‫‪ 2‬فقه الجهاد للقرضاوي (‪ )41 / 1‬زاد المعاد البن القيم (‪.)1205 / 3‬‬
‫‪ 3‬زاد المعاد البن القيم (‪.)1205 / 3‬‬
‫‪ 4‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)100 / 1‬‬
‫‪ 5‬شفاء العليل صـ‪ ، 196 ، 173‬السنن اإللهية (‪.)101 / 1‬‬

‫‪80‬‬
‫والمقصود بإضالل هللا للعبد ه‪9‬و خذالن‪99‬ه وع‪9‬دم توفيق‪9‬ه وإعانت‪99‬ه وع‪99‬دم خل‪99‬ق المش‪9‬يئة‬
‫المستلزمة للهداية‪.1‬‬
‫وهللا سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قبلهم‪ ،‬فهم إذا‬
‫سدوا على أنفس‪9‬هم ب‪9‬اب اله‪9‬دى إرادة منهم واختي‪9‬اراً‪ ،‬س‪9‬ده عليهم اض‪9‬طراراً‪ 9،‬فخالهم‬
‫وما اختاروا ألنفسهم ووالهم ما تولوا‪ ،‬فيكون ذلك عقوبة لهم‪ ،‬كما يعاقبهم في اآلخرة‬
‫بدخولهم النار‪.2‬‬
‫ومن رحم‪99‬ة هللا بعب‪99‬اده‪ ،‬أن م‪99‬ا يفعل‪99‬ه هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل من إض‪99‬الل بعض عب‪99‬اده ب‪99‬الطبع‬
‫والغشاوة والختم وغير ذلك‪ ،‬ال يفعله بالعبد ألول وهلة حين يأمره باإليمان ويبينه ل‪99‬ه‪،‬‬
‫وإنما يفعله به بعد تكرار ال‪99‬دعوة ب‪99‬ه س‪99‬بحانه‪ ،‬والتأكي‪99‬د في البي‪99‬ان واإلرش‪99‬اد وتك‪99‬رار‬
‫اإلعراض منه‪ ،‬والمبالغة في الكفر والعناد‪ ،‬فحينئذ يطبع هللا على قلوب هؤالء العباد‪،‬‬
‫ويختم عليهم‪ ،‬فال يقبل اله‪99‬دى بع‪99‬د ذل‪99‬ك‪ ،‬واإلع‪99‬راض والكف‪99‬ر األول لم يكن مع‪99‬ه ختم‬
‫وطبع‪ ،‬بل كان اختياراً‪ ،‬فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية‪.3‬‬
‫ُوا َس َوا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أَأَن َذرْ تَهُ ْم أَ ْم لَ ْم تُن‪ِ 99‬ذرْ هُ ْم‬
‫فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى‪" :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَر ْ‬
‫اوةٌ َولَهُ ْم َع‪َ 9‬ذابٌ‬ ‫ار ِه ْم ِغ َش ‪َ 9‬‬ ‫ْص ‪ِ 9‬‬ ‫الَ ي ُْؤ ِمنُونَ * خَ تَ َم هّللا ُ َعلَى قُلُوبِه ْم َو َعلَى َس ْم ِع ِه ْم َو َعلَى أَب َ‬
‫عظي ٌم" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ 6 :‬ـ ‪.)7‬‬ ‫ِ‬
‫‪ 1‬ـ حرية العبد في إختياره للهدى والضالل‪:‬‬
‫األعمال التي يقوم بها اإلنسان وفقا ً إلرادته الحرة وإختياره ورض‪99‬اه‪ ،‬فاإلنس‪99‬ان ك‪99‬ائن‬
‫عاقل مدرك مفكر‪ ،‬ويتميز عن غيره من المخلوقات بحرية اإلختيار‪.‬‬
‫ض َو َّ‬
‫الش‪ْ 9‬مسُ‬ ‫ت َو َمن فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ــ قــال تعــالى‪" :‬أَلَ ْم ت ََر أَ َّن هَّللا َ يَ ْس‪ُ 9‬ج ُد لَ‪9‬هُ َمن فِي َّ‬
‫الس‪َ 9‬ما َوا ِ‬
‫ق َعلَ ْي‪ِ 9‬ه ْال َع‪َ 9‬ذابُ‬ ‫َو ْالقَ َم ُر َوالنُّجُو ُم َو ْال ِجبَا ُل َوال َّش َج ُر َوال َّد َوابُّ َو َكثِي ٌر ِّمنَ النَّ ِ‬
‫اس َو َكثِي ٌر َح‪َّ 9‬‬
‫َو َمن يُ ِه ِن هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمن ُّم ْك ِر ٍم إِ َّن هَّللا َ يَ ْف َع ُل َما يَ َشاء" (الحج ‪ ،‬آية ‪.)18 :‬‬
‫فهذه الكائن‪99‬ات جميعه‪99‬ا ال حري‪99‬ة له‪99‬ا وال إختي‪99‬ار‪ ،‬بينم‪99‬ا اإلنس‪99‬ان ال‪99‬ذي يعم‪99‬ل بمحض‬
‫إرادته الحرة ومشيئته المختارة‪ ،‬قد يطيع وقد يعصي‪ ،‬وأكد الق‪99‬رآن أن اإلنس‪99‬ان ال‪99‬ذي‬
‫تحم‪9‬ل األمان‪9‬ة والتكلي‪9‬ف زوده هللا بق‪9‬وى وملك‪9‬ات وإس‪9‬تعدادات لتحقي‪9‬ق تل‪9‬ك الخالف‪9‬ة‬
‫وألداء األمان‪99‬ة‪ ،‬فخل‪99‬ق لدي‪99‬ه االس‪99‬تعداد للخ‪99‬ير والش‪99‬ر‪ ،‬للتق‪99‬وى والفج‪99‬ور‪ ،‬واله‪99‬دى‬
‫والضالل‪ ،‬ومنحه العقل ال‪9‬ذي يم‪9‬يز ب‪9‬ه بين الح‪9‬ق والباط‪9‬ل‪ ،‬والخ‪9‬ير والش‪9‬ر‪ ،‬ووهب‪9‬ه‬
‫القدرة التي ال يمكن عن طريقها أن يحق الحق ويبطل الباط‪99‬ل‪ ،‬أن ي‪99‬أتي الخ‪99‬ير وي‪99‬دع‬
‫الشر‪ ،‬وأنزل هللا الكتب‪ ،‬وأرسل الرسل لهداية اإلنسان وإرشاده لمنهج الحق والخ‪99‬ير‪،‬‬
‫وجع‪99‬ل في اإلنس‪99‬ان ق‪99‬وة ذاتي‪99‬ة واعي‪99‬ة مدرك‪99‬ة يمكن أن يس‪99‬تخدمها في تزكي‪99‬ة النفس‬

‫‪ 1‬شفاء العليل صـ‪ ،173‬السنن اإللهية (‪.)101 / 1‬‬


‫‪ 2‬السنن اإللهية (‪ ،)101 / 1‬شفاء العليل صـ‪.209 ، 186‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)102 / 1‬‬

‫‪81‬‬
‫وتطهيرها‪ ،‬وتنمية إستعداد الخير فيها وتغليبه على إستعداد الشر‪ ،‬فيفلح اإلنسان بهذا‪،‬‬
‫وقد يظلم هذه القوة ويغطيها ويضعفها فيخيب‪ ،‬قال تعالى‪ " :‬قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن َز َّكاهَا * َوقَ ‪ْ 9‬د‬
‫خَاب َمن َدسَّاهَا" (الشمس ‪ ،‬آية ‪ 9 :‬ـ ‪.)10‬‬ ‫َ‬
‫وقد نطق القرآن الكريم‪ ،‬بإسناد الفعل إلى العبد في الكثير من آياته‪ ،‬مثل قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪:‬‬
‫" َجزَاء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ " (األحقاف ‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬
‫ص‪9‬الِحًا فَلِنَ ْف ِس‪ِ 9‬ه َو َم ْن أَ َس‪9‬اء فَ َعلَ ْيهَ‪99‬ا َو َم‪99‬ا َربُّكَ بِظَاَّل ٍم لِّ ْل َعبِي‪ِ 9‬د"‬ ‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬م ْن َع ِم‪َ 9‬ل َ‬
‫(فصلت ‪ ،‬آية ‪.)46 :‬‬
‫ت َر ِهينَةٌ" (المدثر ‪ ،‬آية ‪.)38 :‬‬ ‫س بِ َما َك َسبَ ْ‬‫وقال تعالى‪ُ " :‬كلُّ نَ ْف ٍ‬
‫وأثبت القرآن للعبد في غير ما آية منه في المشيئة االختيار‪ ،‬فقال تع‪99‬الى‪ " :‬إِنَّا هَ ‪َ 9‬د ْينَاهُ‬
‫يل إِ َّما َشا ِكرًا َوإِ َّما َكفُورًا" (اإلنسان ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬ ‫ال َّسبِ َ‬
‫إن اإلنسان حر‪ ،‬لقد زوده هللا بالعقل واإلرادة‪ ،‬يختار ما يراه من حق أو باطل‪ ،‬ويفعل‬
‫ما يروق له من خير أو شر‪ ،‬فهو مزود بوسائل اإلدراك‪ ،‬يدرك ما في األشياء من قيم‬
‫ويحكم عليها ويختار‪ ،‬وهو بالخيار أن يسلك طريق الح‪99‬ق والخ‪99‬ير فيك‪99‬ون ش‪99‬اكراً‪ ،‬أو‬
‫يعوج في طريقه فيجنح نحو الشر والباطل‪ ،‬فيكون كفوراً‪.1‬‬
‫فاإلنسان ح‪99‬ر في دائ‪99‬رة أعمال‪99‬ه اإلختياري‪99‬ة والمرتبط‪99‬ة ب‪99‬التكليف والمس‪99‬ئولية‪ ،‬وه‪99‬ذه‬
‫الحرية يؤكدها ما يلي‪:‬‬
‫أ ـ واق‪99‬ع حي‪99‬اة اإلنس‪99‬ان ال‪99‬ذي يش‪99‬عر ب‪99‬الفرق الواض‪99‬ح بين األعم‪99‬ال اإلختياري‪99‬ة وبين‬
‫األعمال التي تقع عليه اضطراراً‪.‬‬
‫ب ـ كما يؤكدها العقل الذي يقضي بأن المس‪99‬ئولية والتكلي‪99‬ف‪ ،‬ال ب‪99‬د أن تك‪99‬ون منوط‪99‬ة‬
‫باستطاعة اإلنسان على الفع‪99‬ل أو ال‪99‬ترك ألن من ال يمل‪99‬ك ه‪99‬ذه اإلس‪99‬تطاعة فال يص‪99‬ح‬
‫عقالً أن تتوجه إليه المسئولية أصالً‪.‬‬
‫جـ ـ وإضافة إلى ذل‪99‬ك ل‪99‬و لم يكن اإلنس‪99‬ان مخت‪99‬اراً‪ ،‬لم‪99‬ا ك‪99‬ان ثم‪99‬ة ف‪99‬رق بين المحس‪99‬ن‬
‫والمسئ‪ ،‬إذ أن كالً منهما مجبر على م‪99‬ا قال‪99‬ه‪ ،‬ولبط‪99‬ل األم‪99‬ر ب‪99‬المعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬ال فائدة لهما‪ ،‬حيث أن اإلنسان مسلوب اإلرادة‪ ،‬ولما كان ثم‪99‬ة مع‪99‬نى لتكلي‪99‬ف‬
‫هللا للعباد‪ ،‬ألن تكليفه إياهم م‪99‬ع س‪99‬لب إختي‪99‬ارهم يتن‪99‬افى م‪99‬ع الع‪99‬دل اإللهي ال‪99‬ذي أثبت‪99‬ه‬
‫لنفسه‪ ،‬بل لو كان اإلنسان مجبراً على أفعاله‪ ،‬لضاعت فائ‪99‬دة الق‪99‬وانين‪ ،‬ولبط‪99‬ل مع‪99‬نى‬
‫الجزاء من الثواب والعقاب‪.‬‬
‫س ـ وقبل هذا كله‪ ،‬جاءت النصوص الشرعية تنسب العم‪99‬ل واإلختي‪99‬ار إلى اإلنس‪99‬ان‪،‬‬
‫وما يكتسبه نتيجة لجهده‪ ،‬وثبت الجزاء بالجنة لمن أطاع‪ ،‬والنار لمن عصى‪.2‬‬
‫ير" (الشورى ‪،‬‬ ‫ت أَ ْي ِدي ُك ْم َويَ ْعفُوعَن َكثِ ٍ‬ ‫صيبَ ٍة فَبِ َما َك َسبَ ْ‬ ‫صابَ ُكم ِّمن ُّم ِ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬و َما أَ َ‬
‫آية ‪.)30 :‬‬
‫ْض‬‫اس لِيُ ‪ِ 9‬ذيقَهُم بَع َ‬ ‫ت أَ ْي‪ِ 9‬دي النَّ ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ " :‬ظَهَ َر ْالفَ َسا ُد فِي ْالبَرِّ َو ْالبَحْ ‪ِ 9‬ر بِ َم‪99‬ا َك َس ‪9‬بَ ْ‬
‫الَّ ِذي َع ِملُوا لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجعُونَ " (الروم ‪ ،‬آية ‪.)41 :‬‬
‫ق ِمن َّربِّ ُك ْم فَ َمن َشاء فَ ْلي ُْؤ ِمن َو َمن َشاء فَ ْليَ ْكفُرْ " (الكهف ‪ ،‬آية‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وقُ ِل ْال َح ُّ‬
‫‪.)29 :‬‬
‫َ‬
‫ـ وقال تعالى‪ " :‬لِ َمن َشاء ِمن ُك ْم أن يَ ْستَقِي َم" (التكوير ‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬
‫‪1‬‬
‫العقيدة اإلسالمية د‪.‬أحمد محمد جيلي صـ‪.363‬‬
‫‪2‬‬
‫العقيدة اإلسالمية د‪ .‬أحمد جيلي صـ‪.365‬‬

‫‪82‬‬
‫ولكن هذه المشيئة اإلنس‪9‬انية مح‪9‬دودة مرتبط‪9‬ة بمش‪9‬يئة هللا المطلق‪9‬ة وتابع‪9‬ة له‪9‬ا‪ ،‬إذ أن‬
‫اإلنسان يعمل أعماله اإلختيارية ويمارس حريته في العمل داخل دائ‪99‬رة ص‪99‬غرى تق‪99‬ع‬
‫ض‪99‬من دائ‪99‬رة ك‪99‬برى‪ ،‬هي نط‪99‬اق النظ‪99‬ام الك‪99‬وني الع‪99‬ام‪ ،‬إذ أن أعمال‪99‬ه مهم‪99‬ا ك‪99‬انت‪،‬‬
‫وإختياره مهما كان خيراً أم شراً حقا ً أم باطالً‪ ،‬لن يخرج في أدائ‪99‬ه األخ‪99‬ير عن الس‪99‬نن‬
‫الكونية التي وضعها هللا في الكون‪ ،‬وتق‪99‬وم عليه‪99‬ا ق‪99‬وانين الحي‪99‬اة البش‪99‬رية " لِ َمن َش‪9‬اء‬
‫ِمن ُك ْم أَن يَ ْستَقِي َم * َو َما تَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َش‪9‬اء هَّللا ُ َربُّ ْال َع‪99‬الَ ِمينَ " (التك‪99‬وير ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 28 :‬ـ‬
‫‪.)29‬‬
‫فمشيئة هللا ليست منفصلة عن مشيئة هللا تعالى‪ ،‬وال مستقلة عنه‪99‬ا‪ ،‬ب‪99‬ل أن هللا ق‪99‬د ش‪99‬اء‬
‫لإلنس‪99‬ان أن يخت‪99‬ار أح‪99‬د الطريق‪99‬تين‪ :‬طري‪99‬ق الهداي‪99‬ة وطري‪99‬ق الض‪99‬الل‪ ،‬ف‪99‬إن إخت‪99‬ار‬
‫الطريق األول‪ ،‬وفي نطاق المشيئة اإللهية‪ ،‬وإذا إختار الثاني ففي نطاقها أيضا ً‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ التوفيق بين مشيئةـ هللا ومشيئة العبد للهدى والضالل‪:‬‬
‫أسند هللا عز وجل الهداية واإلضالل إلى مش‪99‬يئته س‪99‬بحانه في كث‪99‬ير من اآلي‪99‬ات‪ ،‬منه‪99‬ا‬
‫ضلُّ َمن يَ َشاء َويَ ْه ‪ِ 9‬دي َمن يَ َش ‪9‬اء‬ ‫قوله تعالى‪َ " :‬ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َج َعلَ ُك ْم أُ َّمةً َو ِ‬
‫اح َدةً َول ِكن يُ ِ‬
‫َولَتُسْأَلُ َّن َع َّما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (النحل ‪ ،‬آية ‪.)93 :‬‬
‫ُض ‪9‬لُّ هّللا ُ َمن يَ َش ‪9‬اء‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬و َما أَرْ َس ْلنَا ِمن َّرسُو ٍل إِالَّ بِلِ َس ِ‬
‫ان قَوْ ِم ِه لِيُبَيِّنَ لَهُ ْم فَي ِ‬
‫َويَ ْه ِدي َمن يَ َشاء َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (إبراهيم ‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬
‫ض‪9‬لٍّ"‬ ‫*و َمن يَ ْه‪ِ 9‬د هَّللا ُ فَ َم‪99‬ا لَ‪9‬هُ ِمن ُّم ِ‬ ‫ُض‪9‬لِ ِل هَّللا ُ فَ َم‪99‬ا لَ‪9‬هُ ِم ْن هَ‪99‬ا ٍد َ‬
‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬و َمن ي ْ‬
‫(الزمر‪ ،‬آية ‪ 36 :‬ـ ‪.)37‬‬
‫والواق‪99‬ع أن ه‪99‬ذه وأمثاله‪99‬ا نص‪99‬وص عام‪99‬ة والب‪99‬د أن تحم‪99‬ل على النص‪99‬وص المقي‪99‬دة‪،‬‬
‫فليست مشيئة هللا للهداية واإلضالل تسير جزافا ً ب‪99‬دون حكم‪99‬ة‪ ،‬أو ب‪99‬دون س‪99‬نة ماض‪99‬ية‬
‫في هذا الشأن وذلك ألنه توجد هناك إلى جانب هذه اآلي‪99‬ات العام‪99‬ة آي‪99‬ات أخ‪99‬رى تقي‪99‬د‬
‫مشيئة هللا في الهداية واإلضالل بأحوال خاصة وأس‪99‬باب معين‪99‬ة وه‪99‬ذه اآلي‪99‬ات المقي‪99‬دة‬
‫تبين لنا من يشاء هللا تعالى هدايته ومن يشاء إضالله وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل‪.‬‬
‫لقد ربط هللا عز وجل كث‪99‬ير من اآلي‪99‬ات بين مش‪99‬يئة العب‪99‬د لله‪99‬دى‪ ،‬والض‪99‬الل ومش‪99‬يئته‬
‫سبحانه وتعالى لهما‪ ،‬وهللا سبحانه ال يشاء إال العدل والرحمة وهذا الذي عرف‪99‬ه رس‪99‬ل‬
‫ت َعلَى هّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُكم َّما‬ ‫هللا عليهم الصالة والسالم ولهذا قال هود لقومه‪ ":‬إِنِّي تَ‪َ 99‬و َّك ْل ُ‬
‫اط ُّم ْستَقِ ٍيم" (هود‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ .)56 :‬ف‪99‬أخبر‬ ‫صيَتِهَا إِ َّن َربِّي َعلَى ِ‬
‫ص َر ٍ‬ ‫ِمن دَآبَّ ٍة إِالَّ هُ َو آ ِخ ٌذ بِنَا ِ‬
‫عن عموم ق‪99‬درة هللا ونف‪99‬وذ مش‪99‬يئته وتص‪99‬رفه في خلق‪99‬ه كي‪99‬ف يش‪99‬اء‪ ،‬ثم أخ‪99‬بر أن ه‪99‬ذا‬
‫التصرف والحكم على صراط مستقيم أي سبحانه وإن ك‪99‬انت قدرت‪99‬ه تن‪99‬الهم بم‪99‬ا يش‪99‬اء‬
‫فإنه ال يشاء إال العدل‪.2‬‬
‫فهداية هللا س‪99‬بحانه لعب‪99‬اده أو إض‪99‬اللهم إنم‪99‬ا تق‪99‬وم على أس‪99‬اس ت‪99‬رتيب المس‪99‬ببات على‬
‫أسبابها والنتائج على مقدماتها‪ ،‬كما دل على ذلك كثير من اآليات ومنها‪:‬‬
‫ضلُّ هّللا ُ الظَّالِ ِمينَ " (إبراهيم‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫ـ قوله تعالى‪َ ":‬ويُ ِ‬
‫ـ وقوله تعالى‪َ ":‬ويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َمن يُنِيبُ " (الشورى‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ 2‬السنن اإللهية (‪.)105 /1‬‬

‫‪83‬‬
‫بين سبحانه وتعالى في اآلية األولى إن س‪99‬بب إض‪99‬الله لبعض عب‪99‬اده ه‪99‬و الظلم‪ ،‬وبين‬
‫في اآلية الثانية أن سبب هدايته لبعض عباده هو إنابتهم إليه‪.3‬‬
‫ومن تدبر القرآن تبين ل‪99‬ه أن عام‪99‬ة م‪99‬ا ي‪99‬ذكره هللا من خل‪99‬ق الكف‪99‬ر والمعاص‪99‬ي يجعل‪99‬ه‬
‫إل ْس ‪9‬الَ ِم َو َمن‬ ‫‪9‬ر ِد هّللا ُ أَن يَ ْه ِديَ ‪9‬هُ يَ ْش ‪َ 9‬رحْ َ‬
‫ص ‪ْ 9‬د َرهُ لِ ِ‬ ‫جزاء لذلك العمل كقوله تعالى‪ ":‬فَ َمن يُ‪ِ 9‬‬
‫الس‪َ 9‬ماء َك‪َ 9‬ذلِكَ يَجْ َع‪ُ 9‬ل هّللا ُ‬ ‫ص‪َّ 9‬ع ُد فِي َّ‬ ‫ض‪9‬يِّقًا َح َرجً‪9‬ا َكأَنَّ َم‪9‬ا يَ َّ‬ ‫ي ُِر ْد أَن ي ِ‬
‫ُض‪9‬لَّهُ يَجْ َع‪9‬لْ َ‬
‫ص‪ْ 9‬د َرهُ َ‬
‫س َعلَى الَّ ِذينَ الَ ي ُْؤ ِمنُونَ " (األنعام‪ ،‬آية ‪.)125 :‬‬ ‫الرِّ جْ َ‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬فَلَ َّما زَا ُغوا أَزَا َغ هَّللا ُ قُلُوبَهُ ْم" (الصف‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬
‫ب بِ ْال ُح ْسنَى* فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لِ ْل ُع ْس َرى" (الليل‪،‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬وأَ َّما َمن بَ ِخ َل َوا ْستَ ْغنَى َ‬
‫*و َك َّذ َ‬
‫آية ‪ 8 :‬ـ ‪.)10‬‬
‫وهذا وأمثاله بذلوا فيه أعماالً عاقبهم هللا بها على فعل محظ‪99‬ور وت‪99‬رك م‪99‬أمور‪ ،‬وتل‪99‬ك‬
‫األمور إنما خلقت لكونهم لم يفعلوا ما خلق‪99‬وا ل‪99‬ه‪ ،‬والب‪99‬د لهم من حرك‪99‬ة وإرادة فلم‪99‬ا لم‬
‫يتحركوا بالحسنات حركوا بالسيئات عدالً من هللا‪ ،‬حيث وض‪99‬ع ذل‪99‬ك في محل‪99‬ه القاب‪99‬ل‬
‫له‪ ،‬وهو القلب الذي ال يكون إال عامالً فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في السيئة‪ :‬نفس‪99‬ك‬
‫إن لم تشغلها شغلتك‪.2‬‬
‫س أَن تُ‪9ْ 9‬ؤ ِمنَ إِالَّ بِ ‪9‬إ ِ ْذ ِن هّللا ِ‬
‫يقول الشيخ محمد رشيد رضا عند قوله تعالى‪َ ":‬و َما َكانَ لِنَ ْف ٍ‬
‫س َعلَى الَّ ِذينَ الَ يَ ْعقِلُ‪99‬ونَ " (ي‪99‬ونس‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )100 :‬أي‪ :‬وم‪99‬ا ك‪99‬ان لنفس وال‬ ‫َويَجْ َع ُل ال ِّرجْ َ‬
‫من شأنها فيما أشير إليه من استقاللها في أفعالها وال مما أعطاها هللا من االختيار فيما‬
‫هداه من النجدين وما ألهمه‪99‬ا من فجوره‪99‬ا وتقواه‪99‬ا الفط‪99‬ريين أن ت‪99‬ؤمن إال ب‪99‬إرادة هللا‬
‫ومقتض‪99‬ى س‪99‬نته في اس‪99‬تطاعة ال‪99‬ترجيح بين المتعارض‪99‬ين‪ 9،‬فهي مخت‪99‬ارة في دائ‪99‬رة‬
‫االسباب والمسببات ولكنها غير مس‪99‬تقله في اختياره‪99‬ا أتم االس‪99‬تقالل ب‪99‬ل مقي‪99‬دة بنظ‪99‬ام‬
‫السنن و األقدار‪ ،‬فالمنفي هو استطاعة الخ‪99‬روج عن ه‪99‬ذا النظ‪99‬ام الع‪99‬ام ال االس‪99‬تطاعة‬
‫الخاصة الموافقة له‪.3‬‬
‫‪ 3‬ـ التوفيق بين القدر األزلي واختيار الهدى والضالل‪:‬‬
‫ومن مراجع‪99‬ة مجموع‪99‬ة النص‪99‬وص ال‪99‬تي ت‪99‬ذكر اله‪99‬دى والض‪99‬الل‪ ،‬والتنس‪99‬يق بين‬
‫مدلوالتها جميعاً‪ ،‬يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الج‪9‬دل ال‪9‬ذي أث‪99‬اره المتكلم‪99‬ون‬
‫من الفرق اإلسالمية والذي أثاره الالهوت المسيحي والفلسفات المتع‪99‬ددة ح‪99‬ول قض‪99‬ية‬
‫القضاء والقدر عموماً‪ :‬إن مشيئة هللا سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن اإلنس‪99‬اني‬
‫هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج لله‪9‬دى والض‪9‬الل‪ ،‬وذل‪99‬ك م‪99‬ع إي‪9‬داع فطرت‪99‬ه‬
‫إدراك حقيق‪99‬ة الربوبي‪99‬ة الواح‪99‬دة واالتج‪99‬اه إليه‪99‬ا‪،‬وم‪99‬ع إعطائ‪99‬ه العق‪99‬ل المم‪99‬يز للض‪99‬الل‬
‫واله‪99‬دى‪ ،‬وم‪99‬ع إرس‪99‬ال الرس‪99‬ل بالبين‪99‬ات آليق‪99‬اظ الفط‪99‬رة إذا تعطلت وهداي‪99‬ة العق‪99‬ل إذا‬
‫ضل‪ ..‬ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك االس‪9‬تعداد الم‪9‬زدوج لله‪9‬دى والض‪9‬الل ال‪9‬ذي خل‪9‬ق‬
‫اإلنسان به‪ ،‬وفق مشيئة هللا التي جرى بها قدره‪ ،‬كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري‬
‫قدر هللا بهداية من يجاهد للهدى‪ ،‬وأن يجري قدر هللا كذلك إلضالل من ال يستخدم م‪99‬ا‬
‫أودعه هللا من عقل‪ ،‬وما أعطاه من أجهزة الرؤيا والس‪99‬مع في إدراك اآلي‪99‬ات المبثوث‪99‬ة‬
‫في صفحات الكون‪ ،‬وفي رساالت الرسل‪ ،‬الموحية للهدى‪ ،‬وفي ك‪99‬ل الح‪99‬االت تتحق‪99‬ق‬

‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)106 /1‬‬


‫‪ 2‬الحسنة والسيئة البن تيمية صـ ‪ 94‬ـ ‪.95‬‬
‫‪ 3‬تفسير المنار (‪.)484 /11‬‬

‫‪84‬‬
‫مشيئة هللا وال يتحقق سواها‪ ،‬ويق‪99‬ع م‪99‬ا يق‪99‬ع بق‪99‬در هللا ال بق‪99‬ول س‪99‬واه‪ ،‬وم‪99‬ا ك‪99‬ان األم‪99‬ر‬
‫ليكون هكذا إال أن هللا شاء هكذا‪ ،‬وما ك‪99‬ان ش‪99‬ئ ليق‪99‬ع إال أن يوقع‪99‬ه ق‪99‬در هللا‪ ،‬فليس في‬
‫هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها األم‪99‬ور‪ ،‬كم‪99‬ا أن‪99‬ه ليس هن‪99‬اك ق‪99‬وة إال بق‪99‬در هللا‬
‫ينشئ األحداث‪ ..‬وفي إطار هذه الحقيقة الكبرى يتحرك اإلنسان بنفسه‪ ،‬ويقع له ما يقع‬
‫من اله‪99‬دى والض‪99‬الل أيض‪99‬اً‪ ،‬وه‪99‬ذا ه‪99‬و التص‪99‬ور‪ 9‬اإلس‪99‬المي الي تنش‪99‬ئه مجموع‪99‬ة‬
‫النصوص القرآنية مقارنة متناسقة‪ ،‬حين ال تؤخذ فرادى وف‪9‬ق أه‪9‬واء الف‪9‬رق والنح‪9‬ل‪،‬‬
‫وحين ال يوضع بعضها في مواجهة البعض اآلخر‪ ،‬على سبيل اإلحتجاج أو الجدل‪.1‬‬
‫رابعاً‪ :‬أسباب الضالل‪:‬‬
‫للضالل أسباب كثيرة وعوامل حسبما تجري به سنة هللا في عب‪99‬اده من ت‪99‬رتيب النت‪99‬ائج‬
‫على مقدماتها واتباع المسببات ألسبابها‪ ،‬وقد تكون هذه األسباب والعوامل فكري‪99‬ة‪ ،‬أو‬
‫نفسية‪ ،‬أو أخالقية‪ ،‬وقد ترجع إلى التأثر بالوراثة أو البيئة‪ ،‬أو النشأة أو طبيع‪99‬ة الحي‪99‬اة‬
‫التي يحياها صاحبها أو غير ذلك من األسباب والعوامل والتي من أهمها‪:‬‬
‫‪1‬ـ عدم استخدام اإلنسان مواهبه في التفكر في آيات هللا‪:‬‬
‫ق بِ َما الَ يَ ْس ‪َ 9‬م ُع إِالَّ ُد َع‪99‬اء َونِ ‪9‬دَاء ُ‬
‫ص ‪ٌّ 9‬م‬ ‫ـ قال تعالى‪َ 9":‬و َمثَ ُل الَّ ِذينَ َكفَر ْ‬
‫ُوا َك َمثَ ِل الَّ ِذي يَ ْن ِع ُ‬
‫ي فَهُ ْم الَ يَ ْعقِلُونَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪.)171 :‬‬ ‫بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ‬
‫فهم ص‪99‬م ال يس‪99‬معون الح‪99‬ق وعمي ال ينظ‪99‬رون إلى آي‪99‬ات هللا في أنفس‪99‬هم وفي اآلف‪99‬اق‬
‫حتى يتبين لهم الحق‪.2‬‬

‫‪9‬رهُ ْم يَ ْس‪َ 9‬معُونَ أَوْ يَ ْعقِلُ‪99‬ونَ إِ ْن هُ ْم إِاَّل َكاأْل َ ْن َع‪ِ 9‬‬


‫‪9‬ام بَ‪99‬لْ هُ ْم‬ ‫ـ وقال تع‪99‬الى‪":‬أَ ْم تَحْ َس‪9‬بُ أَ َّن أَ ْكثَ‪َ 9‬‬
‫ضلُّ َسبِياًل " (الفرقان‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬ ‫أَ َ‬
‫فشبه أكثر الناس باألنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى واالنقياد‬
‫له وجعل األكثرين أضل سبيالً من األنعام‪ ،‬ألن البهيمة يه‪99‬ديها س‪99‬ائقها فتهت‪99‬دي وتتب‪99‬ع‬
‫الطريق فال تحيد عنها يمينا ً وال شماالً واألكثرون ي‪99‬دعوهم الرس‪99‬ل ويه‪99‬دونهم الس‪99‬بيل‬
‫فال يستجيبون‪ ،‬وال يهتدون وال يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم واألنعام تف‪99‬رق‬
‫بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وم‪9‬ا ينفعه‪99‬ا فت‪9‬ؤثره‪ ،‬وهللا تع‪9‬الى لم يخل‪9‬ق‬
‫لألنعام قلوبا ً تعقل بها وال ألسنة تنطق بها‪ ،‬وأعطى ذلك لهؤالء ثم لم ينتفعوا بما جع‪99‬ل‬
‫لهم من العقول والقلوب واأللسنة‪ ،‬واالسماع واألبصار‪ ،‬فهم أضل من البهائم ف‪99‬إن من‬
‫ال يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق ـ مع الدليل إليه ـ أضل وأس‪99‬وأ ح‪99‬االً ممن ال يهت‪99‬دي‬
‫حيث ال دليل معه‪.3‬‬
‫ُوا َوتَ ‪َ 9‬راهُ ْم يَنظُ ‪9‬رُونَ إِلَ ْي‪99‬كَ َوهُ ْم الَ‬ ‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬وإِن تَ ‪ْ 9‬د ُعوهُ ْم إِلَى ْالهُ ‪9‬دَى الَ يَ ْس ‪َ 9‬مع ْ‬
‫صرُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪ .)198 :‬فبين سبحانه عدم انتفاعهم بآيات الهدى‪.‬‬ ‫يُ ْب ِ‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)1400 / 3‬‬


‫‪ 2‬شفاء العليل صـ ‪ 206 ، 199‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)114 /1‬‬
‫‪ 3‬أعالم الموقعين البن القيم (‪.)159 /1‬‬

‫‪85‬‬
‫َّت ِمن‬ ‫ض ‪9‬ينَ * َك‪99‬أَنَّهُ ْم ُح ُم‪ٌ 9‬ر ُّم ْس ‪9‬تَنفِ َرةٌ *فَ ‪9‬ر ْ‬ ‫ْر ِ‬‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ ":‬فَ َم‪99‬ا لَهُ ْم ع َِن التَّ ْذ ِك َر ِة ُمع ِ‬
‫قَس َْو َر ٍة" (المدثر‪ ،‬آية ‪ 49 :‬ـ ‪ .)51‬فهم قد نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم‬
‫كنفور الحمر عما يهلكها‪ ،‬ويعقرها وهم في جهلهم هذا كالحمر التي ال تعقل شيئا ً‪.1‬‬
‫ض يَ ُم‪99‬رُّ ونَ َعلَ ْيهَ‪99‬ا َوهُ ْم َع ْنهَ‪99‬ا‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬و َك‪99‬أَيِّن ِّمن آيَ ‪ٍ 9‬ة فِي َّ‬
‫الس ‪َ 9‬م َ‬
‫ْرضُونَ " (يوسف‪ ،‬آية ‪.)105 :‬‬ ‫ُمع ِ‬
‫بين س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى إع‪99‬راض الص‪99‬الحين عن النظ‪99‬ر في اآلي‪99‬ات الكوني‪99‬ة ول‪99‬ذلك ف‪9‬إن‬
‫الكفار يشهدون على أنفسهم إذا عاينوا نتيجة ضاللهم بعدم العقل والسمع " َوقَ‪99‬الُوا لَ‪99‬وْ‬
‫ير" (الملك‪ ،‬آية ‪.2)10 :‬‬ ‫ب الس َِّع ِ‬ ‫ُكنَّا نَ ْس َم ُع أَوْ نَ ْعقِ ُل َما ُكنَّا فِي أَصْ َحا ِ‬
‫‪ 2‬ـ الذنوب والمعاصي‪:‬‬
‫إن من أسباب الضالل حسب سنته سبحانه وتعالى ارتكاب الذنوب والمعاص‪99‬ي وذل‪99‬ك‬
‫أن الذنوب سبب في صدأ القلب وتكون الران عليه الذي يمن‪9‬ع من دخ‪99‬ول اإليم‪99‬ان إلى‬
‫قلب صاحبه‪ ،‬قال تعالى‪ 9":‬إِاَّل ُكلُّ ُم ْعتَ ٍد أَثِ ٍيم * إِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَا قَا َل أَ َس‪99‬ا ِطي ُر اأْل َ َّولِينَ‬
‫* َكاَّل بَلْ َرانَ َعلَى قُلُ‪99‬وبِ ِهم َّما َك‪99‬انُوا يَ ْك ِس ‪9‬بُونَ " (المطففين‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 12 :‬ـ ‪ .)14‬أي ليس‬
‫األمر كما زعم‪99‬وا‪ ،‬وال كم‪9‬ا ق‪9‬الوا‪ :‬إن ه‪99‬ذا الق‪9‬رآن أس‪99‬اطير األولين‪ ،‬ب‪9‬ل ه‪99‬و كالم هللا‬
‫ووحيه وتنزيله على رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وإنما حجب قلوبهم عن اإليم‪99‬ان ب‪99‬ه‬
‫ما عليها من الران الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا‪ ،3‬ثم إن ال‪99‬ذنوب إذا‬
‫تت‪99‬ابعت على القل‪99‬وب أغلقته‪99‬ا‪ ،‬وإذا أغلقته‪99‬ا أتاه‪9‬ا حينئ‪99‬ذ الختم من قب‪99‬ل هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل‬
‫والطبع فال يكون لإليمان إليه مسلك وال للكفر منه‪99‬ا مخلص‪ ،‬ف‪99‬ذلك ه‪99‬و الطب‪99‬ع والختم‬
‫ار ِه ْم‬‫ْص‪ِ 9‬‬ ‫الذي ذكره هللا تع‪9‬الى في قول‪99‬ه‪ ":‬خَ تَ َم هّللا ُ َعلَى قُلُ‪9‬وبِه ْم َو َعلَى َس‪ْ 9‬م ِع ِه ْم َو َعلَى أَب َ‬
‫اوةٌ" (البقرة‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬ ‫ِغ َش َ‬
‫وجاء قوله تعالى مهدداً للذين يقترفون الذنوب والمعاصي ب‪99‬أن يطب‪99‬ع على قل‪99‬وبهم فال‬
‫يدخلها اإليمان‪.4‬‬

‫ض ِمن بَ ْع‪ِ 9‬د أَ ْهلِهَ‪99‬ا أَن لَّوْ ن ََش ‪9‬اء أَ َ‬


‫ص ‪ْ 9‬بنَاهُم‬ ‫ـ قــال تعــالى‪" :‬أَ َولَ ْم يَ ْه‪ِ 9‬د لِلَّ ِذينَ يَ ِرثُ‪99‬ونَ األَرْ َ‬
‫َطبَ ُع َعلَى قُلُوبِ ِه ْم فَهُ ْم الَ يَ ْس َمعُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪.)100 :‬‬ ‫بِ ُذنُوبِ ِه ْم َون ْ‬
‫ثم إن ال‪9‬ذنوب والمعاص‪9‬ي س‪9‬بب في م‪9‬رض القل‪9‬وب‪ ،‬ألن ص‪9‬حتها تك‪9‬ون بمعرف‪9‬ة هللا‬
‫وطاعته واإلنابة إليه والتزام أمره واجتناب نعيمه وإيثاره على غيره ومحبته والتوكل‬
‫عليه وإفراده بالعبودية دون سواه‪ ،5‬فإذا تتابعت ه‪99‬ذه ال‪99‬ذنوب وتك‪99‬اثرت اش‪99‬تد م‪99‬رض‬
‫القلب‪ ،‬ثم ال تزال الذنوب بالقلب حتى تغلب عليه فيموت بالكلية‪ ،‬ومن مات قلب‪99‬ه فإن‪99‬ه‬
‫ال ينتفع بالهدى وال اإليمان وال يسمع وال يعقل وال يبصر‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪ )164 /1‬بتصرف‪ ،‬السنن اإللهية (‪.)1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬تفسير ابن كثير (‪ ،)485 /4‬فتح القدير (‪.)400 /4‬‬
‫‪ 4‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)119 /1‬‬
‫‪ 5‬إغاثة اللهفان البن القيم (‪ ،)7 /1‬السنن اإللهية (‪.)119 /1‬‬

‫‪86‬‬
‫فالقرآن الكريم ال ينتفع به إال من كان حيا ً أما من صار في عداد األموات فإنه ال ينتفع‬
‫به‪.6‬‬
‫ق ْالقَ‪99‬وْ ُل َعلَى‬ ‫ين * لِيُن‪ِ 9‬ذ َر َمن َك‪9‬انَ َحيًّ‪99‬ا َويَ ِح‪َّ 9‬‬ ‫‪9‬و إِاَّل ِذ ْك‪ٌ 9‬ر َوقُ‪99‬رْ ٌ‬
‫آن ُّمبِ ٌ‬ ‫ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪ ":‬إِ ْن هُ َ‬
‫ْال َكافِ ِرينَ " (يس‪ ،‬آية ‪ 69 :‬ـ ‪.)70‬‬
‫وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ 9":‬إِنَّ َم‪99‬ا يَ ْس ‪9‬ت َِجيبُ الَّ ِذينَ يَ ْس ‪َ 9‬معُونَ َو ْال َم‪99‬وْ تَى يَ ْب َعثُهُ ُم هّللا ُ ثُ َّم إِلَ ْي‪ِ 9‬ه يُرْ َج ُع‪99‬ونَ "‬
‫(األنعام‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬
‫‪3‬ـ اتباع الشيطان‪:‬‬
‫ومن أسباب الضالل الخطيرة والتي ضل بها كث‪99‬ير من الخل‪99‬ق‪ ،‬اتب‪99‬اع الش‪99‬يطان ال‪99‬ذي‬
‫نذر نفسه وبذل عمره إلغواء بني آدم‪.‬‬
‫‪9‬رينَ * قَ‪99‬ا َل فَبِ َم‪99‬ا‬ ‫ك ِمنَ ال ُمنظَ‪ِ 9‬‬ ‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ ":‬قَ‪99‬ا َل أَن ِظ‪99‬رْ نِي إِلَى يَ‪99‬وْ ِم يُ ْب َعثُ‪99‬ونَ * قَ‪َ 9‬‬
‫‪9‬ال إِنَّ َ‬
‫ص َراطَكَ ْال ُم ْس‪9‬تَقِي َم * ثُ َّم آلتِيَنَّهُم ِّمن بَ ْي ِن أَ ْي‪ِ 9‬دي ِه ْم َو ِم ْن خ َْلفِ ِه ْم َوع َْن‬ ‫أَ ْغ َو ْيتَنِي ألَ ْق ُعد ََّن لَهُ ْم ِ‬
‫أَ ْي َمانِ ِه ْم َوعَن َش َمآئِلِ ِه ْم َوالَ ت َِج ُد أَ ْكثَ َرهُ ْم َشا ِك ِرينَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪ 14 :‬ـ ‪.)17‬‬
‫‪9‬رينَ * إِلَى‬ ‫ك ِمنَ ْال ُمنظَ‪ِ 9‬‬ ‫ال َربِّ فَأَن ِظرْ نِي إِلَى يَ‪99‬وْ ِم يُ ْب َعثُ‪99‬ونَ * قَ‪99‬ا َل فَإِنَّ َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬قَ َ‬
‫ض َوألُ ْغ ِ‬ ‫ُ‬
‫‪99‬ويَنَّهُ ْم‬ ‫‪99‬و ْيتَنِي أل َزيِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬ ‫‪99‬وم * قَ‪99‬ا َل َربِّ بِ َم‪99‬آ أَ ْغ َ‬ ‫ت ْال َم ْعلُ ِ‬ ‫‪99‬وم ْال‪َ 99‬و ْق ِ‬
‫يَ ِ‬
‫صينَ " (الحجر‪ ،‬آية ‪ 36 :‬ـ ‪.)40‬‬ ‫أَجْ َم ِعينَ * إِالَّ ِعبَادَكَ ِم ْنهُ ُم ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫وقد أمر هللا عز وجل بالحذر منه‪ ،‬واستفراغ الجه‪99‬د في معادات‪99‬ه وبين أن‪99‬ه ع‪99‬دو ل‪99‬دود‬
‫وظاهر لبني اإلنسان‪.2‬‬
‫ـ قال سبحانه وتعالى‪ ":‬إِ َّن ال َّش ْيطَانَ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو فَاتَّ ِخ ُذوهُ َع ُد ًّوا إِنَّ َم‪9‬ا يَ‪ْ 9‬د ُعو ِح ْزبَ‪9‬هُ لِيَ ُكونُ‪9‬وا‬
‫ير" (فاطر‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬ ‫ب الس َِّع ِ‬ ‫ِم ْن أَصْ َحا ِ‬
‫إل ْن َسا ِن َع ُد ًّوا ُّمبِينًا"‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬إِ َّن ال َّش ْيطَانَ َكانَ لِ ِ‬
‫وقد جاء القرآن الكريم كاشفا ً مداخل الشيطان وخططه في إضالل بني آدم في غير ما‬
‫آية ومجمل هذه الخطط والمداخل ما يلي‪:‬‬
‫أ ـ األمر بالسوء والفحشاء والقول على هللا بغير علم‪:‬‬
‫ت‬‫ُ‪99‬وا ُخطُ‪َ 99‬وا ِ‬ ‫ض َحالَالً طَيِّب‪99‬ا ً َوالَ تَتَّبِع ْ‬ ‫‪99‬وا ِم َّما فِي األَرْ ِ‬ ‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬يَ‪99‬ا أَيُّهَ‪99‬ا النَّاسُ ُكلُ ْ‬
‫وا َعلَى هّللا ِ َما الَ‬ ‫ين * إِنَّ َما يَأْ ُم ُر ُك ْم بِالسُّو ِء َو ْالفَحْ َشاء َوأَن تَقُولُ ْ‬ ‫ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ان إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌ‬
‫تَ ْعلَ ُمونَ "(البقرة ‪ ،‬آية ‪ 168 :‬ـ ‪.)169‬‬
‫والسوء‪ :‬األثم‪ ،‬وقيل معاصي هللا‪ ،‬فإنما سماها هللا س‪99‬وءاً ألنه‪99‬ا تس‪99‬وء ص‪99‬احبها بس‪99‬وء‬
‫عاقبتها ل‪99‬ه عن‪99‬د هللا‪ ،‬وأم‪99‬ا الفحش‪99‬اء فهي ك‪99‬ل مستفحش‪99‬ة ذك‪99‬ره وقبح مس‪99‬موعه‪ ،‬وقي‪99‬ل‬
‫الزنا‪.3‬‬
‫ب ـ تزيينـ األعمال الباطلة والمحرمة‪:‬‬
‫ت قُلُوبُهُ ْم َو َزيَّنَ لَهُ ُم َّ‬
‫الش ‪ْ 9‬يطَ ُ‬
‫ان‬ ‫وا َولَـ ِكن قَ َس ْ‬ ‫ـ قال تعالى‪ " :‬فَلَوْ ال إِ ْذ َجاءهُ ْم بَأْ ُسنَا تَ َ‬
‫ض َّر ُع ْ‬
‫وا يَ ْع َملُونَ "(األنعام ‪ ،‬آية ‪ )43 :‬من الشرك والمعاندة والمعاصي‪.‬‬ ‫َما َكانُ ْ‬

‫‪ 6‬السنن اإللهية (‪.)119 /1‬‬


‫‪ 2‬روح المعاني لأللوسي (‪.)94 /15‬‬
‫‪ 3‬تفسير الطبري (‪ ،)772 / 2‬السنن اإللهية (‪.)122 / 1‬‬

‫‪87‬‬
‫وبين الشيطان أنه يزين لبني آدم أعمالهم ليغويهم‪ ،‬قال تعالى حاكيا ً قوله‪ " :‬قَالَ َربِّ بِ َمآ‬
‫ض َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (الحجر ‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬ ‫ُ‬
‫أَ ْغ َو ْيتَنِي أل َزيِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ـ وقال تعالى مبينا ً نتيجة تزيين الش‪99‬يطان للن‪99‬اس أعم‪99‬الهم وه‪99‬و الض‪99‬الل‪َ " 9:‬و َزيَّنَ لَهُ ُم‬
‫ص َّدهُ ْم َع ِن ال َّسبِي ِل فَهُ ْم اَل يَ ْهتَ ُدونَ " (النمل ‪ ،‬آية ‪.)24 :‬‬ ‫ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ‬ ‫ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ص َّد َع ِن ال َّسبِي ِل" (غافر ‪،‬‬ ‫ك ُزيِّنَ لِفِرْ عَوْ نَ سُو ُء َع َملِ ِه َو ُ‬ ‫ـ وقال سبحانه وتعالى‪َ " :‬و َك َذلِ َ‬
‫آية ‪ ،)37 :‬أي‪ :‬صد عن طريق الهداية فأصبح ضاالً ال يقبل الهدى‪.1‬‬
‫وبين سبحانه وتعالى أنه قد أضل هؤالء الذين قبلوا تزيين الشياطين لهم فخلت بهم‬
‫سنته في الضالل‪ ،‬وحق عليهم القول‪ ،‬فالشيطان حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وفي‬
‫المستقبل‪ ،‬فلم يروا أنفسهم إال محسنين‪ ،‬فعاقبهم بما ارتضوا ألنفسهم‪.2‬‬
‫ق َعلَ ْي ِه ُم‬ ‫َّض‪9‬نَا لَهُ ْم قُ َرنَ‪99‬اء فَ َزيَّنُ‪99‬وا لَهُم َّما بَ ْينَ أَ ْي‪ِ 9‬دي ِه ْم َو َم‪99‬ا خ َْلفَهُ ْم َو َح‪َّ 9‬‬ ‫"وقَي ْ‬ ‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫نس إِنَّهُ ْم َكانُوا خَ ا ِس ِرينَ " (فصلت ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ت ِمن قَ ْبلِ ِهم ِّمنَ ال ِجنِّ َواإْل ِ ِ‬ ‫ْالقَوْ ُل فِي أُ َم ٍم قَ ْد خَ لَ ْ‬
‫‪.)25‬‬
‫وتزيين الشيطان للناس أعمالهم على قسمين‪ :‬فردي وجماعي‪ ،‬فالفردي كم‪99‬ا في اآلي‪99‬ة‬
‫السابقة من تزيين الشيطان لفرعون عمله‪ ،‬وأما التزيين الجماعي كما في قوله تع‪99‬الى‪:‬‬
‫ص‪َّ 9‬دهُ ْم ع َِن‬ ‫ان أَ ْع َم‪99‬الَهُ ْم فَ َ‬ ‫" َوعَادًا َوثَ ُم‪99‬و َد َوقَ‪99‬د تَّبَيَّنَ لَ ُكم ِّمن َّم َس‪9‬ا ِكنِ ِه ْم َو َزيَّنَ لَهُ ُم َّ‬
‫الش‪ْ 9‬يطَ ُ‬
‫ْص ِرينَ " (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪.3)38 :‬‬ ‫يل َو َكانُوا ُم ْستَب ِ‬ ‫ال َّسبِ ِ‬
‫جـ ـ الوعود واألماني الكاذبة‪:‬ـ‬
‫‪9‬رنَّهُ ْم فَلَيُ َغيِّر َُّن‬
‫‪9‬ام َوآل ُم‪َ 9‬‬ ‫ضلَّنَّهُ ْ‪9‬م َوألُ َمنِّيَنَّهُ ْم َوآل ُم‪َ 9‬رنَّهُ ْم فَلَيُبَتِّ ُك َّن آ َذانَ األَ ْن َع‪ِ 9‬‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬وألُ ِ‬
‫ق هّللا ِ َو َمن يَتَّ ِخ ِذ ال َّش ْيطَانَ َولِيًّا ِّمن ُدو ِن هّللا ِ فَقَ ْد خَ ِس َر ُخ ْس َرانًا ُّمبِينًا * يَ ِع ُدهُ ْم َويُ َمنِّي ِه ْم‬ ‫خَل َ‬ ‫ْ‬
‫ان إِالَّ ُغرُورًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪ 119 :‬ـ ‪ )120‬أي وألضلنهم عن الحق‬ ‫َو َما يَ ِع ُدهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫"وألُ َمنِّيَنَّهُ ْم" أي‪ :‬أزين لهم ترك التوبة وأعدهم األماني وآمرهم بالتس‪99‬ويف والت‪99‬أخير‪،‬‬ ‫َ‬
‫‪9‬ام" ق‪99‬ال ع‪99‬دد من العلم‪99‬اء‪ :‬يع‪99‬ني‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫‪9‬رنهُ ْم فَليُبَتك َّن آذانَ األن َع‪ِ 9‬‬‫َ‬ ‫َّ‬ ‫"وآل ُم‪َ 9‬‬
‫وأغ‪99‬رهم من أنفس‪99‬هم َ‬
‫‪4‬‬
‫تشقيقها وجعلها سمة وعالمة للبحيرة والسائبة والوصيلة ‪ ،‬وأما تغي‪9‬ير خل‪9‬ق هللا‪ :‬فه‪9‬و‬
‫دين هللا‪ ،‬ومعنى تغيير الدين تحليل الحرام وتحريم الحالل‪.5‬‬
‫ومن الوعود الباطلة التي يعدها الشيطان ألتباعه‪ :‬أنهم إذا أنفقوا في س‪99‬بيل هللا فس‪99‬يحل‬
‫بهم الفقر‪.6‬‬
‫‪9‬رةً ِّم ْن‪9‬هُ‬ ‫‪9‬ر َويَ‪99‬أْ ُم ُر ُكم بِ ْالفَحْ َش‪9‬اء َوهّللا ُ يَ ِع‪ُ 9‬د ُكم َّم ْغفِ‪َ 9‬‬ ‫ان يَ ِع‪ُ 9‬د ُك ُم ْالفَ ْق‪َ 9‬‬ ‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى ‪َّ " :‬‬
‫الش‪ْ 9‬يطَ ُ‬
‫َوفَضْ الً"(البقرة‪ ، 9‬آية ‪.)268 :‬‬
‫وقد فسر ابن كثير‪ :‬الفحشاء باألمر بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخالق‪.7‬‬
‫ح ـ اإلستهواء‪:‬‬

‫‪ 1‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)122 / 1‬‬


‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪ ،)97 / 4‬السنن اإللهية (‪.)124 / 1‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)125 / 1‬‬
‫‪ 4‬صحيح تفسير ابن كثير (‪.)535 / 3‬‬
‫‪ 5‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)122 / 1‬‬
‫‪ 6‬تفسير بن كثير (‪ ،)312 / 1‬السنن اإللهية (‪.)126 / 1‬‬
‫‪ 7‬تفسير ابن كثير (‪.)312 / 1‬‬

‫‪88‬‬
‫ومن الناس من يضله الشيطان بعد أن كان ق‪99‬د ع‪99‬رف اإليم‪99‬ان وذاق‪99‬ه‪ ،‬وق‪99‬د ص‪99‬ور هللا‬
‫حالة هذا الذي إستهواه الشيطان بعد أن كان مؤمنا ً فيقول‪ ،‬قال تع‪99‬الى‪" :‬قُ‪99‬لْ أَنَ ‪ْ 9‬د ُعو ِمن‬
‫ض‪9‬رُّ نَا َونُ‪َ 9‬ر ُّد َعلَى أَ ْعقَابِنَ‪99‬ا بَ ْع‪َ 9‬د إِ ْذ هَ‪9‬دَانَا هّللا ُ َكالَّ ِذي ْ‬
‫اس‪9‬تَ ْه َو ْتهُ‬ ‫ون هّللا ِ َما الَ يَنفَ ُعنَ‪99‬ا َوالَ يَ ُ‬‫ُد ِ‬
‫‪9‬و‬ ‫ض َح ْي َرانَ لَهُ أَصْ َحابٌ يَ ْد ُعونَهُ إِلَى ْالهُدَى ا ْئتِنَا قُ‪99‬لْ إِ َّن هُ‪9‬دَى هّللا ِ هُ‪َ 9‬‬ ‫ين فِي األَرْ ِ‬ ‫ال َّشيَ ِ‬
‫اط ُ‬
‫َى َوأُ ِمرْ نَا لِنُ ْسلِ َم لِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ " ( األنعام ‪ ،‬آية ‪.)71 :‬‬ ‫ْالهُد َ‬
‫فالذي استهوته الشياطين هو الذي استغوته وزينت له هواه ودعت‪99‬ه إلي‪99‬ه‪ ،‬يق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬وى‬
‫يهوي إلى الشئ أسرع فيه‪ ،‬بعد أن كان مؤمنا ً‪ ،1‬ولفظ اإلستهواء لفظ مصور ويا ليت‪99‬ه‬
‫يتبع هذا اإلستهواء في إتجاهه فيكون في إتجاه واحد‪ ،‬وه‪9‬و الض‪9‬الل‪ ،‬ولكن هن‪9‬اك من‬
‫الجانب اآلخر أصحاب يدعونه إلى الهدى يقولون‪ :‬إئتنا فال يجيبهم وال يهتدي بهديهم‪،‬‬
‫وهو بين هذا الدعاء وهذا اإلستهواء في حيرة واضطراب وضالل وتيه‪.2‬‬
‫د ـ المواالة‪:‬‬
‫ومن الناس من يتخذ الشيطان وليا ً ونصيراً‪ 9‬ومعينا ً من دون هللا‪ ،‬يلتجئ إلي‪99‬ه وي‪99‬دعوه‪،‬‬
‫الش‪9‬يَا ِطينَ أَوْ لِيَ‪99‬اء ِمن‬ ‫ضالَلَةُ إِنَّهُ ُم اتَّ َخ‪ُ 9‬ذوا َّ‬ ‫ق َعلَ ْي ِه ُم ال َّ‬ ‫قال تعالى‪ " :‬فَ ِريقًا هَدَى َوفَ ِريقًا َح َّ‬
‫ون هّللا ِ َويَحْ َسبُونَ أَنَّهُم ُّم ْهتَ ُدونَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬ ‫ُد ِ‬
‫وقد قضى هللا عز وجل فيمن تولى الشيطان أن يضله عن الص‪99‬راط المس‪99‬تقيم ويهدي‪99‬ه‬
‫إلى عذاب الجحيم‪.3‬‬
‫ُض‪9‬لُّهُ َويَ ْه ِدي‪ِ 9‬ه‬‫ب َعلَيْ‪ِ 9‬ه أَنَّهُ َمن تَ‪َ 9‬واَّل هُ فَأَنَّهُ ي ِ‬ ‫ان َّم ِري‪ٍ 9‬د * ُكتِ َ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬ويَتَّبِ ُع ُك َّل َش ْيطَ ٍ‬
‫ير" (الحج ‪ ،‬آية ‪ 3 :‬ـ ‪.)4‬‬ ‫ب الس َِّع ِ‬ ‫إِلَى َع َذا ِ‬
‫س ـ اإلستحواذ‪:‬‬
‫ويبين هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى فريق‪9‬ا ً من ال‪99‬ذين يض‪99‬لهم الش‪99‬يطان وه‪99‬ؤالء ال‪99‬ذين يس‪99‬تولي‬
‫عليهم إستيالء تاماً‪ ،‬ويغلب على عقولهم وقلوبهم بوسوسته‪ ،‬وتزيينه ح‪99‬تى يتبع‪99‬وه في‬
‫كل ما يأمرهم به‪ ،‬ويصبحون أداة طيعة للشيطان‪ ،‬فينسيهم ذكر هللا بقلوبهم وألسنتهم‪.4‬‬
‫ـ قال تعالى‪" :‬يَوْ َم يَ ْب َعثُهُ ُم هَّللا ُ َج ِميعًا فَيَحْ لِفُونَ لَهُ َك َم‪99‬ا يَحْ لِفُ‪99‬ونَ لَ ُك ْم َويَحْ َس ‪9‬بُونَ أَنَّهُ ْم َعلَى‬
‫‪9‬زبُ‬‫ك ِح‪ْ 9‬‬ ‫نس‪9‬اهُ ْم ِذ ْك‪َ 9‬ر هَّللا ِ أُوْ لَئِ‪َ 9‬‬ ‫ان فَأ َ َ‬ ‫َش ْي ٍء أَاَل إِنَّهُ ْم هُ ُم ْال َكا ِذبُونَ * ا ْستَحْ َو َذ َعلَ ْي ِه ُم َّ‬
‫الش‪ْ 9‬يطَ ُ‬
‫اسرُونَ " (المجادلة ‪ ،‬آية ‪ 18 :‬ـ ‪.)19‬‬ ‫ب ال َّش ْيطَا ِن هُ ُم ْالخَ ِ‬ ‫ان أَاَل إِ َّن ِح ْز َ‬
‫ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ين * َوأَ ْن‬ ‫ـ قال تعالى‪" :‬أَلَ ْم أَ ْعهَ ْد إِلَ ْي ُك ْم يَا بَنِي آ َد َم أَن اَّل تَ ْعبُ ُدوا ال َّش ْيطَانَ إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌ‬
‫ض‪َّ 9‬ل ِمن ُك ْم ِجبِاًّل َكثِ‪99‬يرًا أَفَلَ ْم تَ ُكونُ‪99‬وا تَ ْعقِلُ‪99‬ونَ " )‬ ‫ص‪َ 9‬راطٌ ُّم ْس‪9‬تَقِي ٌم * َولَقَ‪ْ 9‬د أَ َ‬ ‫ا ْعبُ ُدونِي هَ َذا ِ‬
‫يس ‪ ،‬آية ‪ 60 :‬ـ ‪.)62‬‬
‫‪ 4‬ـ الجهل وإتباع الظن‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ـ قال تعالى‪ :‬مبينا ً ضالل قوم ثمود‪" :‬قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا لِتَأفِ َكنَا ع َْن آلِهَتِنَ‪99‬ا فَأتِنَ‪99‬ا بِ َم‪99‬ا تَ ِع‪ُ 9‬دنَا إِن‬
‫ت بِ ‪ِ 9‬ه َولَ ِكنِّي أَ َرا ُك ْم قَوْ ًم‪99‬ا‬ ‫ُكنتَ ِمنَ الصَّا ِدقِينَ * قَا َل إِنَّ َما ْال ِع ْل ُم ِعن َد هَّللا ِ َوأُبَلِّ ُغ ُكم َّما أُرْ ِس ‪ْ 9‬ل ُ‬
‫تَجْ هَلُونَ " (األحقاف ‪ ،‬آية ‪ 22 :‬ـ ‪.)23‬‬
‫ـ وقال تعالى مبينا ً ضالل من إتبع جهله‪ ،‬ونسب إليه سبحانه الولد‪ ،‬قال تعالى‪َ " :‬ويُن ِذ َر‬
‫ت َكلِ َم‪ 9‬ةً ت َْخ‪ُ 9‬ر ُج ِم ْن‬ ‫الَّ ِذينَ قَ‪99‬الُوا اتَّخَ ‪َ 9‬ذ هَّللا ُ َولَ ‪9‬دًا * َّما لَهُم بِ ‪ِ 9‬ه ِم ْن ِع ْل ٍم َواَل آِل بَ‪99‬ائِ ِه ْم َكبُ ‪َ 9‬ر ْ‬
‫أَ ْف َوا ِه ِه ْم إِن يَقُولُونَ إِاَّل َك ِذبًا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪ 4 :‬ـ ‪.)5‬‬
‫‪ 1‬تفسير القرطبي (‪.)2454 / 3‬‬
‫‪ 2‬فتح القدير للشوكاني (‪ )130 / 2‬في ظالل القرآن (‪.)1132 / 2‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية (‪.)128 / 1‬‬
‫‪ 4‬السنن اإللهية ( ‪.)128 / 1‬‬

‫‪89‬‬
‫ـ وقال تعالى مبينا ً جهل كف‪99‬ار ق‪99‬ريش ب‪99‬دعوتهم رس‪99‬ول هللا ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم إلى‬
‫عبادة ما يعبدون من األص‪99‬نام واألحج‪99‬ار واآلله‪99‬ة المزيف‪99‬ة الم‪99‬دعاة‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪99‬الى‪" :‬هّللا َ‬
‫ض َوالَّ ِذينَ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫‪9‬و َعلَى ُك‪ِّ 9‬ل َش‪ْ 9‬ي ٍء َو ِكي‪ٌ 9‬ل * لَ‪9‬هُ َمقَالِي‪ُ 9‬د َّ‬
‫الس‪َ 9‬ما َوا ِ‬ ‫ق ُكلِّ َش‪ْ 9‬ي ٍء َوهُ‪َ 9‬‬ ‫خَالِ ُ‬
‫ك هُ ُم ْال َخا ِسرُونَ * قُلْ أَفَ َغي َْر هَّللا ِ تَ‪99‬أْ ُمرُونِّي أَ ْعبُ ‪ُ 9‬د أَيُّهَ‪99‬ا ْال َج‪ 9‬ا ِهلُونَ "‬ ‫ت هَّللا ِ أُوْ لَئِ َ‬
‫َكفَرُوا بِآيَا ِ‬
‫(الزمر ‪ ،‬آية ‪ 62 :‬ـ ‪.)64‬‬
‫اس ِفي‬ ‫ض َر ْبنَا لِلنَّ ِ‬ ‫بين سبحانه وتعالى عقابه للذين ال يعلمون وسنته فيهم فقال‪َ " :‬ولَقَ ْد َ‬
‫آن ِمن ُكلِّ َمثَ ٍل َولَئِن ِج ْئتَهُم بِآيَ ٍة لَيَقُولَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا إِ ْن أَنتُ ْم إِاَّل ُم ْب ِطلُونَ *‬ ‫هَ َذا ْالقُرْ ِ‬
‫ب الَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ " (الروم ‪ ،‬آية ‪ 58 :‬ـ ‪.)59‬‬ ‫طبَ ُع هَّللا ُ َعلَى قُلُو ِ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫َك َذلِ َ‬
‫وأما إتباع الظن والذي هو مجرد حدس وخ‪99‬رص وأوه‪99‬ام وال‪99‬ذي ال ينب‪99‬ني على علم‪،‬‬
‫فإنه وال شك سبب من أسباب الضالل حسب سنته سبحانه وتعالى‪ ،‬فق‪99‬د س‪99‬جل الق‪99‬رآن‬
‫الكريم في كثير من اآليات على كفار قريش ضاللهم بسبب إتباعهم الظن ـ كس‪99‬ابقيهم‬
‫من الكافرين ـ وذلك بجعل األصنام شركاء هلل‪ ،‬وبعبادتهم لها وزعمهم أنهم مجبورون‬
‫في ضاللهم هذا وغيهم‪.1‬‬
‫ض َو َم‪99‬ا يَتَّبِ‪ُ 9‬ع الَّ ِذينَ‬ ‫الس‪َ 9‬ما َوات َو َمن فِي األَرْ ِ‬ ‫ـ قال سبحانه وتعالى‪ " :‬أَال إِ َّن هّلِل ِ َمن فِي َّ‬
‫ُص‪9‬ونَ " (ي‪99‬ونس ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ون هّللا ِ ُش َر َكاء إِن يَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّ َّن َوإِ ْنهُ ْم إِالَّ يَ ْخر ُ‬ ‫يَ ْد ُعونَ ِمن ُد ِ‬
‫‪.)66‬‬
‫ق َش ْيئًا إِ َّن هّللا َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬و َما يَتَّبِ ُع أَ ْكثَ ُرهُ ْم إِالَّ ظَنًّا إَ َّن الظَّ َّن الَ يُ ْغنِي ِمنَ ْال َح ِّ‬
‫َعلَي ٌم بِ َما يَ ْف َعلُونَ " (يونس ‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬
‫ْب فِيهَ‪99‬ا قُ ْلتُم َّما نَ‪ْ 9‬د ِري َم‪99‬ا‬ ‫الس‪9‬ا َعةُ اَل َري َ‬ ‫ق َو َّ‬ ‫‪9‬ل إِ َّن َو ْع‪َ 9‬د هَّللا ِ َح‪ٌّ 9‬‬
‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬وإِ َذا قِي‪َ 9‬‬
‫السَّا َعةُ إِن نَّظُ ُّن إِاَّل ظَنًّا َو َما نَحْ ُن بِ ُم ْستَ ْيقِنِينَ " (الجاثية ‪،‬آية ‪. )32 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 5‬ـ الجدال في هللا وآياتهـ بغير علم‪:‬‬


‫ومن أعظم أسباب الضالل‪ :‬الجدال في توحيد هللا وصفاته‪ ،‬وشرعه‪ ،‬وق‪99‬دره‪ ،‬وكتاب‪99‬ه‪،‬‬
‫واليوم اآلخر بغير علم‪ ،‬يدفعم لذلك الكبر‪ ،‬والجه‪99‬ل‪ ،‬والحس‪99‬د والتعص‪99‬ب‪ ،‬ويزعم‪99‬ون‬
‫للن‪9‬اس وألنفس‪9‬هم أنهم إنم‪99‬ا يناقش‪99‬ون ويج‪9‬ادلون‪ ،‬ألنهم لم يقتنع‪99‬وا ب‪9‬الحق‪ ،‬وأنهم غ‪9‬ير‬
‫مستيقنين فيه‪.3‬‬
‫ور ِه ْم إِاَّل‬‫ص‪ُ 9‬د ِ‬ ‫ت هَّللا ِ بِ َغي ِْر ُس‪ْ 9‬لطَا ٍن أَتَ‪99‬اهُ ْم إِن ِفي ُ‬ ‫ـ قال تعالى‪ 9":‬إِ َّن الَّ ِذينَ ي َُجا ِدلُونَ ِفي آيَا ِ‬
‫صي ُر" (غافر‪ ،‬آية ‪.)56 :‬‬ ‫ِك ْب ٌر َّما هُم بِبَالِ ِغي ِه فَا ْستَ ِع ْذ بِاهَّلل ِ إِنَّهُ هُ َوال َّس ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫ت هَّللا ِ‬ ‫ف ُّمرْ تَ‪99‬ابٌ *الَّ ِذينَ ي َُج‪ 9‬ا ِدلُونَ فِي آيَ‪99‬ا ِ‬ ‫ُضلُّ هَّللا ُ َم ْن هُ َو ُم ْس‪ِ 9‬ر ٌ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬ك َذلِكَ ي ِ‬
‫طبَ‪ُ 9‬ع هَّللا ُ َعلَى ُك‪ِّ 9‬ل قَ ْل ِ‬
‫ب‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫بِ َغي ِْر س ُْلطَا ٍن أَتَاهُ ْم َكبُ َر َم ْقتً‪99‬ا ِعن‪َ 9‬د هَّللا ِ َو ِعن‪َ 9‬د الَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا َك‪َ 9‬ذلِ َ‬
‫َّار" (غافر‪ ،‬آية ‪ 34 :‬ـ ‪.)35‬‬ ‫ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ‬
‫‪99‬ير *ثَ‪99‬انِ َي‬ ‫ب ُّمنِ ٍ‬ ‫اس َمن ي َُجا ِد ُل ِفي هَّللا ِ بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َواَل هُدًى َواَل ِكتَا ٍ‬ ‫وقال تعالى‪َ 9":‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫‪9‬ق"‬ ‫اب ْال َح ِري‪ِ 9‬‬ ‫ي َونُ ِذيقُ‪9‬هُ يَ‪99‬وْ َم ْالقِيَا َم‪ِ 9‬ة َع‪َ 9‬ذ َ‬ ‫‪9‬ز ٌ‬ ‫يل هَّللا ِ لَ‪9‬هُ فِي ال‪ُّ 9‬د ْنيَا ِخ‪ْ 9‬‬ ‫ض َّل عَن َس‪9‬بِ ِ‬ ‫طفِ ِه لِيُ ِ‬‫ِع ْ‬
‫(الحج‪ ،‬آية ‪ 8 :‬ـ ‪.)9‬‬
‫‪6‬ـ الغفلة‪:‬‬

‫‪ 1‬روح المعاني ( ‪ ،)51 / 8‬في ظالل القرآن (‪.)1227 / 3‬‬


‫‪ 2‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية ( ‪.)132 / 1‬‬
‫‪ 3‬في ظالل القرآن (‪ .)3089 / 5‬السنن اإللهية (‪.)132/ 1‬‬

‫‪90‬‬
‫من أسباب الضالل غفلة الناس عن األدلة الموص‪99‬لة إلى الح‪99‬ق واله‪99‬دى وع‪99‬دم النظ‪99‬ر‬
‫فيها‪:‬‬
‫ت َواألَرْ ِ‬
‫ض‬ ‫الس‪َ 9‬ما َوا ِ‬ ‫ق هّللا ُ فِي َّ‬ ‫‪9‬ل َوالنَّهَ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ار َو َم‪99‬ا َخلَ ‪َ 9‬‬ ‫ف اللَّ ْي‪ِ 9‬‬
‫اختِالَ ِ‬ ‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ ":‬إِ َّن فِي ْ‬
‫وا بِهَ‪99‬ا‬ ‫اط َم‪99‬أَنُّ ْ‬‫وا بِ ْال َحي‪9‬ا ِة ال‪ُّ 9‬د ْنيَا َو ْ‬
‫ض‪ْ 9‬‬ ‫ت لِّقَوْ ٍم يَتَّقُونَ * إَ َّن الَّ ِذينَ الَ يَرْ جُ‪9‬ونَ لِقَاءنَ‪99‬ا َو َر ُ‬ ‫آليَا ٍ‬
‫وا يَ ْك ِسبُونَ " (ي‪99‬ونس‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ْ‬
‫َوالَّ ِذينَ هُ ْم ع َْن آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْ لَـئِكَ َمأ َواهُ ُم النُّا ُر بِ َما َكانُ ْ‬
‫‪ 6‬ـ ‪.)8‬‬
‫ض‪9‬ونَ * َم‪99‬ا يَ‪99‬أْتِي ِهم‬ ‫ْر ُ‬ ‫اس ِح َسابُهُ ْم َوهُ ْم فِي َغ ْفلَ‪ٍ 9‬ة َّمع ِ‬ ‫ب لِلنَّ ِ‬ ‫ـ وقال سبحانه وتعالى‪ ":‬ا ْقت ََر َ‬
‫ث إِاَّل ا ْستَ َمعُوهُ َوهُ ْم يَ ْل َعبُونَ *اَل ِهيَةً قُلُوبُهُ ْم" (األنبياء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 1 :‬ـ‬ ‫ِّمن ِذ ْك ٍر َّمن َّربِّ ِهم ُّمحْ َد ٍ‬
‫‪.)3‬‬
‫ق َوإِن يَ ‪َ 9‬روْ ْا‬ ‫ض بِ َغي ِْر ْال َح‪ِّ 9‬‬‫ف ع َْن آيَاتِ َي الَّ ِذينَ يَتَ َكبَّرُونَ فِي األَرْ ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬سأَصْ ِر ُ‬
‫َي‬ ‫يل ْالغ ِّ‬‫يل الرُّ ْش‪ِ 9‬د الَ يَتَّ ِخ‪ُ 9‬ذوهُ َس‪9‬بِيالً َوإِن يَ‪َ 9‬روْ ْا َس‪9‬بِ َ‬ ‫‪9‬روْ ْا َس‪9‬بِ َ‬ ‫وا بِهَا َوإِن يَ‪َ 9‬‬ ‫ُك َّل آيَ ٍة الَّ ي ُْؤ ِمنُ ْ‬
‫وا َع ْنهَاغَافِلِينَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪.)146 :‬‬ ‫ُوا بِآيَاتِنَا َو َكانُ ْ‬ ‫ك بِأَنَّهُ ْم َك َّذب ْ‬
‫يَتَّ ِخ ُذوهُ َسبِيالً َذلِ َ‬
‫‪7‬ـ التعصب‪:‬‬
‫إن التعصب للباطل من أس‪99‬باب الض‪99‬الل‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪99‬الى مبين‪9‬ا ً أث‪99‬ر التعص‪99‬ب في ض‪99‬الل‬
‫يل لَهُ ْم آ ِمنُ ْ‬
‫وا‬ ‫اليهود‪ ،‬وعدم إيمانهم‪ ،‬واتباعهم لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪َ ":‬وإِ َذا قِ َ‬
‫ص ‪9‬دِّقا ً لِّ َم‪99‬ا‬ ‫نز َل َعلَ ْينَا َويَ ْكفُ‪99‬رونَ بِ َم‪99‬ا َو َراءهُ َوهُ ‪َ 9‬و ْال َح‪ُّ 9‬‬ ‫ُ‬ ‫بِ َما أَنزَ َل هّللا ُ قَالُ ْ‬
‫ق ُم َ‬ ‫وا نُ ْؤ ِم ُن بِ َمآ أ ِ‬
‫َم َعهُ ْم قُلْ فَلِ َم تَ ْقتُلُونَ أَنبِيَاء هّللا ِ ِمن قَ ْب ُل إِن ُكنتُم ُّم ْؤ ِمنِينَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪.)91 :‬‬
‫وقال تعالى مبينا ً تعصب كل من طائفتي اليهود والنص‪99‬ارى لنفس‪99‬ها وزعم ك‪99‬ل طائف‪99‬ة‬
‫منهما أنها على الحق دون غيرها‪ ،‬فكفر اليه‪99‬ود بعيس‪99‬ى علي‪99‬ه الس‪99‬الم رغم أن‪99‬ه منهم‪،‬‬
‫وقد كانوا ينتظرونه إلعادة مجدهم وعزهم تعصبا ً وقالت النصارى‪ :‬أن اليه‪99‬ود ليس‪99‬وا‬
‫على شيء حقيقي من الدين إلنكارهم المسيح المتمم لشريعتهم‪.1‬‬
‫ك أَ َمانِيُّهُ ْم قُلْ هَ‪99‬اتُ ْ‬
‫وا‬ ‫صا َرى تِ ْل َ‬ ‫وا لَن يَ ْد ُخ َل ْال َجنَّةَ إِالَّ َمن َكانَ هُوداً أَوْ نَ َ‬ ‫قال تعالى‪َ ":‬وقَالُ ْ‬
‫صا ِدقِينَ *بَلَى َم ْن أَ ْسلَ َم َوجْ هَهُ هّلِل ِ َوهُ َو ُمحْ ِس ٌن فَلَهُ أَجْ‪ُ 9‬رهُ ِعن‪َ 9‬د َربِّ ِه َوالَ‬ ‫بُرْ هَانَ ُك ْم إِن ُكنتُ ْم َ‬
‫ص‪9‬ا َرى َعلَ َى َش‪ْ 9‬ي ٍء َوقَ‪99‬الَ ِ‬
‫ت‬ ‫ت النَّ َ‬ ‫ت ْاليَهُ‪99‬و ُد لَي َ‬
‫ْس‪ِ 9‬‬ ‫ف َعلَ ْي ِه ْم َوالَ هُ ْم يَحْ زَ نُ‪99‬ونَ * َوقَ‪99‬الَ ِ‬ ‫خَ‪99‬وْ ٌ‬
‫ك قَ‪99‬ا َل الَّ ِذينَ الَ يَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ ِم ْث‪َ 9‬ل‬ ‫ت ْاليَهُو ُد َعلَى َش ْي ٍء َوهُ ْم يَ ْتلُونَ ْال ِكت َ‬
‫َاب َك َذلِ َ‬ ‫ارى لَ ْي َس ِ‬ ‫ص َ‬ ‫النَّ َ‬
‫وا فِي ‪ِ 9‬ه يَ ْختَلِفُ‪99‬ونَ " (البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 111 :‬ـ‬ ‫قَ‪99‬وْ لِ ِه ْم فَاهّلل ُ يَحْ ُك ُم بَ ْينَهُ ْم يَ‪99‬وْ َم ْالقِيَا َم‪ِ 9‬ة فِي َم‪99‬ا َك‪99‬انُ ْ‬
‫‪.)113‬‬
‫‪8‬ـ التقليد‪:‬‬
‫إن من أسباب الضالل عند الكافرين من األولين واآلخرين التقليد لآلباء دون نظ‪99‬ر أو‬
‫‪9‬ال ُم ْت َرفُوهَ‪99‬ا إِنَّا‬
‫ير إِاَّل قَ‪َ 9‬‬ ‫ك َما أَرْ َس ‪ْ 9‬لنَا ِمن قَ ْبلِ ‪َ 9‬‬
‫ك فِي قَرْ يَ ‪ٍ 9‬ة ِّمن نَّ ِذ ٍ‬ ‫فكر‪ ،‬قال تعالى‪َ ":‬و َك َذلِ َ‬
‫ار ِهم ُّم ْقتَ ُدونَ " (الزخرف‪ ،‬آية ‪.)23 :‬‬ ‫ُ‬
‫َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ‬

‫‪ 1‬تفسير المنار (‪.)429 / 1‬‬

‫‪91‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وح َوعَا ٍد َوثَ ُمو َد َوالَّ ِذينَ ِمن بَعْ‪ِ 99‬د ِه ْم الَ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬أَلَ ْم يَأتِ ُك ْم نَبَأ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم قَوْ ِم نُ ٍ‬
‫وا أَ ْي‪ِ 9‬ديَهُ ْم فِي أَ ْف‪َ 9‬وا ِه ِه ْم َوقَ‪99‬الُ ْ‬
‫وا إِنَّا َكفَرْ نَ‪99‬ا بِ َم‪99‬ا‬ ‫ت فَ َر ُّد ْ‬‫يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِالَّ هّللا ُ َجاء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫‪9‬اط ِر‬ ‫ك فَ ِ‬ ‫ُس‪9‬لُهُ ْم أَفِي هّللا ِ َش‪ٌّ 9‬‬ ‫تر ُ‬ ‫ب * قَ‪9‬الَ ْ‬ ‫‪9‬ري ٍ‬ ‫ك ِّم َّما تَ‪ْ 9‬د ُعونَنَا إِلَ ْي‪ِ 9‬ه ُم‪ِ 9‬‬ ‫أُرْ ِس ْلتُم بِ ِه َوإِنَّا لَفِي َش‪ٍّ 9‬‬
‫وا إِ ْن‬ ‫ض يَ ْد ُعو ُك ْم لِيَ ْغفِ َر لَ ُكم ِّمن ُذنُوبِ ُك ْم َويُ َؤ ِّخ َر ُك ْم إِلَى أَ َج ٍل ُّم َسـ ًّمى قَ‪99‬الُ ْ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ين"‬ ‫ان ُّمبِ ٍ‬ ‫ْ‬
‫َص‪ُّ 9‬دونَا َع َّما َك‪99‬انَ يَ ْعبُ‪ُ 9‬د آبَآ ُؤنَ‪99‬ا فَأتُونَ‪99‬ا بِ ُس‪ْ 9‬لطَ ٍ‬ ‫أَنتُ ْم إِالَّ بَ َش‪ٌ 9‬ر ِّم ْثلُنَ‪99‬ا تُ ِري‪ُ 9‬دونَ أَن ت ُ‬
‫(إبراهيم‪ ،‬آية ‪ 9 :‬ـ ‪.)10‬‬
‫لقد كانت حجة الكافرين باهلل المعرضين عن االنتفاع باآليات التي جاءهم بها األنبياء‪،‬‬
‫ُ‬
‫ار ِهم ُّم ْهتَ ‪ُ 9‬دونَ " (الزخ‪99‬رف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪،)22 :‬‬ ‫قولهم‪ ":‬إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ‬
‫وهي مقول‪99‬ة ت‪99‬دعو إلى الس‪99‬خرية‪ ،‬ف‪99‬وق أنه‪99‬ا متهافت‪99‬ة ال تس‪99‬تند إلى ق‪99‬وة إنه‪99‬ا مج‪99‬رد‬
‫المحاكاة ومحض التقليد‪ ،‬بال تدبر وال تفكر وال حجة وال دلي‪99‬ل‪ ،‬وهي ص‪99‬ورة مزري‪99‬ة‬
‫تشبه صورة القطيع حيث هو منساق وال يسأل أين يمضي وال يعرف معالم الطريق‪.1‬‬
‫إنها‪ :‬طبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثني‪99‬ات في العق‪99‬ول‪ ،‬ال يفك‪99‬ر أص‪99‬حابها فيم‪99‬ا‬
‫يعبد آباؤهم ما قيمته؟ وما حقيقته؟ وماذا يساوي في معرض النقد والتفكير‪2‬؟‬
‫ومن األقوام التي حدثنا القرآن الكريم عنها‪ ،‬وكان من أسباب ضاللها تقليد اآلباء‪ :‬قوم‬
‫نوح عليه السالم الذين قابلوا دعوة نبيهم بالرفض والجحود بدون دلي‪99‬ل أو س‪99‬ند س‪99‬وى‬
‫أنهم لم يسمعوا بمثل دعوته في آبائهم األولين وكأن الحجة والدليل هو م‪99‬ا س‪99‬معوه من‬
‫آبائهم‪.‬‬
‫ـ قال تعالى‪َ 9":‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحًا إِلَى قَوْ ِم ِه فَقَا َل يَا قَوْ ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َم‪99‬ا لَ ُكم ِّم ْن إِلَ ‪ٍ 9‬ه َغ ْي‪ُ 9‬رهُ‬
‫ض‪َ 9‬ل‬ ‫أَفَاَل تَتَّقُونَ * فَقَا َل ْال َمأَل ُ الَّ ِذينَ َكفَرُوا ِمن قَوْ ِم ِه َما هَ‪َ 9‬ذا إِاَّل بَ َش‪ٌ 9‬ر ِّم ْثلُ ُك ْم ي ُِري‪ُ 9‬د أَن يَتَفَ َّ‬
‫َعلَ ْي ُك ْم َولَوْ َشاء هَّللا ُ أَل َن َز َل َماَل ئِ َكةً َّما َس ِم ْعنَا بِهَ‪َ 9‬ذا فِي آبَائِنَ‪99‬ا اأْل َ َّولِينَ " (المؤمن‪99‬ون‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫‪ 23‬ـ ‪.)24‬‬
‫وق‪9‬وم ع‪9‬اد يعجب‪9‬ون مم‪9‬ا ليس من‪9‬ه عجب‪ ،‬وينك‪9‬رون على ن‪9‬بيهم أن ي‪9‬أتيهم بعب‪9‬ادة هللا‬
‫الواح‪99‬د‪ ،‬ونب‪99‬ذ عب‪99‬ادة اآلله‪99‬ة المتفرق‪99‬ة ال‪99‬تي ك‪99‬ان يعب‪99‬دها آب‪99‬اؤهم األول‪99‬ون فيس‪99‬ألون‬
‫منكرين ‪ ":‬أَ ِج ْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هّللا َ َوحْ َدهُ َونَ َذ َر َما َكانَ يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا" (األعراف‪ ،‬آية ‪.)70 :‬‬
‫وبنفس العلة والحجة رفضت ثمود دعوة أخيهم ونبيهم صالح عليه السالم وجعل‪99‬وا م‪99‬ا‬
‫عليه آباءهم ـ سواء أكانوا سابقين أو حاضرين ـ حجة تمنعهم من اإليمان‪.3‬‬
‫‪9‬و‬ ‫وا هّللا َ َما لَ ُكم ِّم ْن إِلَـ ٍه َغ ْي ‪ُ 9‬رهُ هُ‪َ 9‬‬ ‫ال يَا قَوْ ِم ا ْعبُ ُد ْ‬ ‫صالِحًا قَ َ‬ ‫ـ قال تعالى‪ 9":‬إِلَى ثَ ُمو َد أَ َخاهُ ْم َ‬
‫‪9‬ريبٌ ُّم ِجيبٌ *‬ ‫ُوا إِلَ ْي‪ِ 9‬ه إِ َّن َربِّي قَ‪ِ 9‬‬‫ض َوا ْستَ ْع َم َر ُك ْم فِيهَا فَا ْستَ ْغفِرُوهُ ثُ َّم تُوب ْ‬ ‫أَن َشأ َ ُكم ِّمنَ األَرْ ِ‬
‫ك‬ ‫صالِ ُح قَ ْد ُكنتَ فِينَا َمرْ ُج ًّوا قَب َْل هَـ َذا أَتَ ْنهَانَا أَن نَّ ْعبُ َد َما يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا َوإِنَّنَا لَفِي َش ٍّ‬ ‫وا يَا َ‬ ‫قَالُ ْ‬
‫ب" (هود‪ ،‬آية ‪ 61 :‬ـ ‪.)62‬‬ ‫ِّم َّما تَ ْد ُعونَا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ‬
‫وك‪99‬ذلك نج‪99‬د ق‪99‬وم إب‪99‬راهيم يص‪99‬رون على عب‪99‬ادة التماثي‪99‬ل ال‪99‬تي ال تض‪99‬ر وال تنف‪99‬ع وال‬
‫يجدون جوابا ً لسؤال نبيهم ‪َ ":‬ما هَ ِذ ِه التَّ َماثِي ُل الَّتِي أَنتُ ْم لَهَ‪99‬ا َع‪99‬ا ِكفُونَ " (األنبي‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫‪ ،)52‬إال أن قالوا‪ ":‬قَالُوا َو َج‪ْ 9‬دنَا آبَاءنَ‪99‬ا لَهَ‪99‬ا عَابِ‪ِ 9‬دينَ " (األنبي‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)53 :‬ه‪99‬ذا ه‪99‬و‬
‫الجواب‪ ،‬وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد‪ ،‬في مقابلة‬
‫حرية اإليمان وانطالقه للنظر والتدبر‪ ،‬وتقويم األشياء واألوضاع بقيمته‪99‬ا الحقيقي‪99‬ة ال‬

‫‪1‬في ظالل القرآن (‪.)3182 /5‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه (‪ ،)2091 /4‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)141 /1‬‬
‫‪3‬السنن اإللهية (‪.)143 /1‬‬

‫‪92‬‬
‫التقليدي‪99‬ة‪ ،‬فاإليم‪99‬ان باهلل يح‪99‬رر اإلنس‪99‬ان من القدس‪99‬ات الوهمي‪99‬ة التقليدي‪99‬ة والوراث‪99‬ات‬
‫المتحجرة التي ال تقوم على دليل‪.1‬‬
‫ك َم‪99‬ا يَ ْعبُ ‪ُ 9‬د آبَا ُؤنَ‪99‬ا‬ ‫ك أَن نَّ ْت ُر َ‬ ‫صالَتُكَ تَأْ ُم ُر َ‬ ‫وا يَا ُش َعيْبُ أَ َ‬ ‫وقوم شعيب يقولون لنبيهم ‪ ":‬قَالُ ْ‬
‫َّش‪9‬ي ُد" (ه‪9‬ود‪ ،‬آي‪9‬ة ‪ .)87 :‬وقاب‪9‬ل‬ ‫ك أَل َنتَ ْال َحلِي ُم الر ِ‬ ‫‪9‬ل فِي أَ ْم َوالِنَ‪9‬ا َم‪9‬ا ن ََش‪9‬اء إِنَّ َ‬ ‫أَوْ أَن نَّ ْف َع َ‬
‫فرعون وملؤه دعوة موسى عليه السالم بالتقلي‪99‬د األعمى الم‪99‬زري ال‪99‬ذي يس‪99‬يطر على‬
‫العقول فيجعلها ال تفك‪99‬ر‪ ،‬وعلى البص‪99‬ائر فيقفله‪99‬ا فال يجعله‪99‬ا تنظ‪99‬ر أو تعت‪99‬بر‪ 9":‬قَ‪99‬الُ ْ‬
‫وا‬
‫ض َو َم‪99‬ا نَحْ ُن لَ ُك َم‪99‬ا‬ ‫أَ ِج ْئتَنَا لِت َْلفِتَنَا َع َّما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَاءنَا َوتَ ُك‪99‬ونَ لَ ُك َم‪99‬ا ْال ِكب ِْريَ‪99‬اء فِي األَرْ ِ‬
‫بِ ُم ْؤ ِمنِينَ " (يونس‪ ،‬آية ‪.)78 :‬‬
‫وأما كفار قريش فقد قال تعالى حاكيا ً أق‪99‬والهم‪َ ":‬وإِ َذا قِي‪َ 9‬ل لَهُ ْم تَ َع‪99‬الَوْ ْا إِلَى َم‪99‬ا أَن‪َ 9‬ز َل هّللا ُ‬
‫وا َح ْسبُنَا َما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَاءنَا أَ َو لَوْ َكانَ آبَ‪99‬ا ُؤهُ ْم الَ يَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ َش‪ْ 9‬يئًا َوالَ‬ ‫َوإِلَى ال َّرسُو ِل قَالُ ْ‬
‫يَ ْهتَ ُدونَ " (المائدة‪ ،‬آية ‪.)104 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬أَ ْم آتَ ْينَاهُ ْم ِكتَابًا ِّمن قَ ْبلِ ِه فَهُم بِ ِه ُم ْستَ ْم ِس ُكونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا َو َج‪ْ 9‬دنَا آبَاءنَ‪99‬ا‬
‫ُ‬
‫ار ِهم ُّم ْهتَ ُدونَ " (الزخرف‪ ،‬آية ‪ 21 :‬ـ ‪.)22‬‬ ‫َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ‬
‫ت قَالُوا َما هَ َذا إِاَّل َر ُج ٌل ي ُِري ُد أَن يَ ُ‬
‫ص َّد ُك ْم َع َّما‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا بَيِّنَا ٍ‬
‫َكانَ يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤ ُك ْم" (سبأ‪ ،‬آية ‪.)43 :‬‬
‫والقرآن الكريم وهو يدعو إلى ه‪9‬ذا التح‪9‬رر والتفك‪9‬ير يس‪9‬وق األدل‪9‬ة واآلي‪9‬ات والحجج‬
‫والبراهين التي تبرهن وتثبت أنه دين هللا الذي فيه نجاة البشر جميعا ً من الظلمات إلى‬
‫النور‪.2‬‬
‫صآئِ ُر ِمن َّربِّ ُك ْم َوهُدًى َو َرحْ َمةٌ لِّقَ‪99‬وْ ٍم ي ُْؤ ِمنُ‪99‬ونَ " (األع‪99‬راف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ـ قال تعالى‪ 9":‬هَـ َذا بَ َ‬
‫‪.)203‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬ك َما أرْ َسلنَا فِي ُك ْم َرسُوالً ِّمن ُك ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ُك ْم آيَاتِنَا َويُ َز ِّكي ُك ْم َويُ َعلِّ ُم ُك ُم ال ِكت َ‬
‫َاب‬
‫وا تَ ْعلَ ُمونَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪.)151 :‬‬ ‫َو ْال ِح ْك َمةَ َويُ َعلِّ ُم ُكم َّما لَ ْم تَ ُكونُ ْ‬

‫فمن ت‪99‬دبرها وعقله‪99‬ا وص‪99‬ل إلى الح‪99‬ق واهت‪99‬دى ومن هن‪99‬ا فق‪99‬د ك‪99‬ان س‪99‬بيل المؤم‪99‬نين‬
‫المهتدين هو االتباع عن بصيرة وبتدبر وتعقل‪ ،3‬كما قال موس‪99‬ى علي‪99‬ه الس‪99‬الم عن‪99‬دما‬
‫سأله فرعون‪ :‬قال تعالى‪ ":‬قَا َل فَ َمن َّربُّ ُك َما يَا ُمو َسى * قَا َل َربُّنَا الَّ ِذي أَ ْعطَى ُك َّل َش ْي ٍء‬
‫ض ‪9‬لُّ‬‫ب اَّل يَ ِ‬ ‫ُون اأْل ُولَى * قَا َل ِع ْل ُمهَا ِعن َد َربِّي فِي ِكتَ‪99‬ا ٍ‬ ‫ال فَ َما بَا ُل ْالقُر ِ‬ ‫خَلقَهُ ثُ َّم هَدَى * قَ َ‬ ‫ْ‬
‫الس‪َ 99‬ماء‬ ‫ض َم ْهدًا َو َسلَكَ لَ ُك ْم فِيهَا ُسبُاًل َوأَن َز َل ِمنَ َّ‬ ‫َربِّي َواَل يَن َسى * الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َرْ َ‬
‫ت َش‪9‬تَّى * ُكلُ‪99‬وا َوارْ َع‪99‬وْ ا أَ ْن َع‪99‬ا َم ُك ْم إِ َّن فِي َذلِ‪99‬كَ آَل يَ‪99‬ا ٍ‬
‫ت‬ ‫َماء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه أَ ْز َوا ًج‪99‬ا ِّمن نَّبَ‪99‬ا ٍ‬
‫أِّل ُوْ لِي النُّهَى" (طه‪ ،‬آية ‪ 49 :‬ـ ‪.)54‬‬
‫وكما قال يوسف عليه السالم متبعا ً ملة آبائ‪99‬ه ولكن عن بص‪99‬يرة ويقين‪ ،4‬ق‪9‬ال تع‪99‬الى‪":‬‬
‫ْت ِملَّةَ آبَآئِـي‬ ‫ت ِملَّةَ قَ‪99‬وْ ٍم الَّ ي ُْؤ ِمنُ‪99‬ونَ بِاهّلل ِ َوهُم بِ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬اآلخ َر ِة هُ ْم َك‪99‬افِرُونَ * َواتَّبَع ُ‬ ‫‪9‬ر ْك ُ‬
‫إِنِّي تَ‪َ 9‬‬
‫ض ‪ِ 9‬ل هّللا ِ َعلَ ْينَ‪99‬ا‬
‫ك ِمن فَ ْ‬ ‫ك بِاهّلل ِ ِمن َش ْي ٍء َذلِ ‪َ 9‬‬‫وب َما َكانَ لَنَا أَن نُّ ْش ِر َ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َح َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الس‪9‬جْ ِن أأرْ بَ‪99‬ابٌ ُّمتَفَ ِّرقُ‪99‬ونَ‬
‫ص‪9‬ا ِحبَ ِي ِّ‬ ‫اس الَ يَ ْش‪ُ 9‬كرُونَ * يَ‪99‬ا َ‬ ‫َ‬
‫اس َولَـ ِك َّن أ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫َو َعلَى النَّ ِ‬
‫اح ُد ْالقَهَّارُ" (يوسف‪ ،‬آية ‪ 37 :‬ـ ‪.)39‬‬ ‫خَ ْي ٌر أَ ِم هّللا ُ ْال َو ِ‬
‫‪1‬في ظالل القرآن (‪.)2385 /4‬‬
‫‪ 2‬تفسير المنار (‪ ،)27 /2‬السنن اإللهية (‪.)147 /1‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)147 /1‬‬
‫‪ 4‬تفسير المراغي (‪.)174 /12‬‬

‫‪93‬‬
‫وهكذا أمر الرسول صلى هللا عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السالم‪ ،‬قال تع‪99‬الى‪":‬‬
‫اط ُّم ْس‪9‬تَقِ ٍيم ِدينً‪9‬ا قِيَ ًم‪99‬ا ِّملَّةَ إِ ْب‪َ 9‬را ِهي َم َحنِيفً‪99‬ا َو َم‪99‬ا َك‪99‬انَ ِمنَ‬‫ص‪َ 9‬ر ٍ‬ ‫قُ‪99‬لْ إِنَّنِي هَ‪9‬دَانِي َربِّي إِلَى ِ‬
‫ك لَ ‪9‬هُ‬‫اي َو َم َماتِي هّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ * الَ َش ‪ِ 9‬ري َ‬ ‫صالَتِي َونُ ُس ِكي َو َمحْ يَ َ‬ ‫ْال ُم ْش ِر ِكينَ * قُلْ إِ َّن َ‬
‫‪9‬و َربُّ ُك‪ِّ 9‬ل َش ‪ْ 9‬ي ٍء"‬ ‫‪9‬ر هّللا ِ أَب ِْغي َربًّ‪99‬ا َوهُ‪َ 9‬‬ ‫ت َوأَنَ‪99‬اْ أَ َّو ُل ْال ُم ْس ‪9‬لِ ِمينَ * قُ‪99‬لْ أَ َغ ْي‪َ 9‬‬ ‫َوبِ ‪َ 9‬ذلِكَ أُ ِم‪99‬رْ ُ‬
‫(األنعام‪ ،‬آية ‪ 161 :‬ـ ‪.)164‬‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ك أ ِن اتَّبِ‪ْ 9‬ع ِملةَ إِ ْب‪َ 9‬را ِهي َم َحنِيفً‪99‬ا َو َما َك‪99‬انَ ِمنَ ال ُم ْش‪ِ 9‬ر ِكينَ "‬ ‫َ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ ":‬ثُ َّم أَوْ َح ْينَ‪99‬ا إِلَ ْي‪َ 9‬‬
‫(النحل‪ ،‬آية ‪.)123 :‬‬
‫فاتب‪99‬اع اآلب‪9‬اء واقتف‪99‬اء آث‪9‬ار الس‪99‬ابقين من ال‪9‬ذين ه‪9‬داهم هللا عن بين‪9‬ة ودلي‪99‬ل ه‪99‬و س‪9‬بيل‬
‫الهداي‪99‬ة‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى بع‪99‬د أن ذك‪99‬ر أنبي‪99‬اء هللا ال‪99‬ذين ه‪99‬داهم من إب‪99‬راهيم وإس‪99‬حاق‬
‫ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوس‪9‬ف وموس‪9‬ى وه‪9‬ارون وزكري‪9‬ا ويح‪9‬يى‬
‫وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس‪ ،‬ولوطا ً ومن آبائهم وذرياتهم‪.‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬أُوْ لَـئِكَ الَّ ِذينَ هَدَى هّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ‪ِ 9‬د ْه قُ‪9‬ل الَّ أَ ْس‪9‬أَلُ ُك ْم َعلَيْ‪ِ 9‬ه أَجْ‪ 9‬رًا إِ ْن هُ‪َ 9‬و إِالَّ‬
‫ِذ ْك َرى لِ ْل َعالَ ِمينَ " (األنعام‪ ،‬آية ‪.)90 :‬‬
‫وأما اتب‪99‬اع األبن‪99‬اء لآلب‪99‬اء واألج‪99‬داد وتقلي‪99‬دهم والتمس‪99‬ك ب‪99‬آرائهم‪ ،‬ومحاك‪99‬اتهم في ك‪99‬ل‬
‫أقوالهم وأعمالهم من غير بينة وال حجة ظنا ً منهم على الحق‪ ،‬دون النظر في أدل‪9‬ة من‬
‫يدعوهم إلى الهدى‪ ،‬ويقيم الدالئل والبينات على صحة ما ي‪99‬دعوا إلي‪99‬ه وه‪99‬و الض‪99‬الل‪،‬‬
‫وهو سبيل الك‪99‬افرين‪ ،‬وعل‪99‬ة اإلع‪99‬راض عن اإليم‪99‬ان باهلل والس‪99‬ير على طري‪99‬ق اله‪99‬دى‬
‫الذي ارتضاه للناس‪.1‬‬
‫‪ 9‬ـ الشك والريبة‪:‬ـ‬
‫ومن األسباب التي يس‪99‬تحق به‪99‬ا بعض العب‪99‬اد الض‪99‬الل‪ :‬م‪99‬رض القل‪99‬وب وه‪99‬و خ‪99‬روج‬
‫القلب عن صحته‪ ،‬فإن صحته أن يك‪99‬ون عارف‪9‬ا ً باهلل‪ ،‬محب‪9‬ا ً ل‪99‬ه م‪9‬ؤثراً ل‪9‬ه على غ‪99‬يره‪،‬‬
‫ومرض القلب هو شكه فمرض المنافقين هو مرض شك‪.2‬‬
‫وق‪99‬د جع‪99‬ل هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل ذل‪99‬ك س‪99‬ببا ً في زي‪99‬ادة الم‪99‬رض في قل‪99‬وبهم‪ ،‬وع‪99‬دم إيم‪99‬انهم‪،‬‬
‫فالمرض ينشئ المرض‪ ،‬واإلنحراف يبدأ يسيراً ثم ينفرج الزاوية في كل خطوة‪ ،‬سنة‬
‫ال تتخلف‪.3‬‬
‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬فِي قُلُ‪99‬وبِ ِهم َّم َرضٌ فَ‪99‬زَا َدهُ ُم هّللا ُ َم َرض‪99‬ا ً َولَهُم عَ‪َ 99‬ذابٌ أَلِي ٌم بِ َم‪99‬ا َك‪99‬انُوا‬
‫يَ ْك ِذبُونَ "(البقرة‪ ، 9‬آية ‪.)10 :‬‬
‫ت سُو َرةٌ فَ ِم ْنهُم َّمن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْتهُ هَـ ِذ ِه إِي َمانً‪99‬ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ‬
‫نزلَ ْ‬ ‫ُ‬
‫"وإِ َذا َما أ ِ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫وا فَزَا َد ْتهُ ْم إِي َمانً‪99‬ا َوهُ ْم يَ ْستَب ِْش‪9‬رُونَ * َوأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ‪99‬وبِ ِهم َّم َرضٌ فَ‪9‬زَا َد ْتهُ ْم ِرجْ ًس‪9‬ا‬ ‫آ َمنُ ْ‬
‫وا َوهُ ْم َكافِرُونَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪ 124 :‬ـ ‪.)125‬‬ ‫إِلَى ِرجْ ِس ِه ْم َو َماتُ ْ‬
‫ف ُّمرْ تَابٌ " (غافر ‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬ ‫ْر ٌ‬‫ُضلُّ هَّللا ُ َم ْن هُ َو ُمس ِ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬ك َذلِكَ ي ِ‬
‫وبين سبحانه وتعالى في آية أخرى أنه يعاقب المنافقين الذين ال يوف‪99‬ون بعه‪99‬ودهم م‪99‬ع‬
‫هللا ع‪9‬ز وج‪99‬ل بنف‪9‬اق مس‪99‬تمر في قل‪99‬وبهم إلى ي‪9‬وم لق‪9‬ائهم‪ ،‬وه‪99‬ذا حس‪9‬ب س‪99‬نته س‪9‬بحانه‬

‫‪ 1‬السنن اإللهية (‪.)149 / 1‬‬


‫‪ 2‬شفاء العليل صـ‪.211‬‬
‫‪ 3‬في ظالل القرآن (‪ )43 / 1‬السنن اإللهية (‪.)43 / 1‬‬

‫‪94‬‬
‫وتعالى في تأثير األعمال على النف‪99‬وس‪ ،‬وأن العم‪99‬ل بم‪99‬ا يقتض‪99‬يه النف‪99‬اق يمكن النف‪99‬اق‬
‫ويقويه القلب‪.1‬‬
‫الص ‪9‬الِ ِحينَ‬ ‫َّ‬ ‫ص َّدقَ َّن َولَنَ ُكون ََّن ِمنَ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬و ِم ْنهُم َّم ْن عَاهَ َد هّللا َ لَئِ ْن آتَانَا ِمن فَضْ لِ ِه لَنَ َّ‬
‫ْرضُونَ * فَأ َ ْعقَبَهُ ْم نِفَاقًا فِي قُلُ‪99‬وبِ ِه ْم إِلَى‬ ‫وا َّوهُم ُّمع ِ‬ ‫وا بِ ِه َوت ََولَّ ْ‬ ‫* فَلَ َّما آتَاهُم ِّمن فَضْ لِ ِه بَ ِخلُ ْ‬
‫وا يَ ْك ِذبُونَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪ 75 :‬ـ ‪.)77‬‬ ‫وا هّللا َ َما َو َع ُدوهُ َوبِ َما َكانُ ْ‬ ‫يَوْ ِم يَ ْلقَوْ نَهُ بِ َما أَ ْخلَفُ ْ‬
‫ثم قال سبحانه وتعالى مبينا ً أنه ال يهدي ه‪99‬ؤالء المن‪99‬افقين‪ ،‬ألن س‪99‬نته س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى‬
‫جرت في الممعنين في فسوقهم‪ ،‬وتم‪99‬ردهم المص‪99‬رين‪ 9‬على نف‪99‬اقهم ال‪99‬ذين أح‪99‬اطت بهم‬
‫خطاياهم أن يفقدوا االستعداد للتوبة واإليمان والهداية‪ ،2‬قال تعالى‪" :‬ا ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم أَوْ الَ‬
‫ُوا بِاهّلل ِ َو َرسُولِ ِه‬ ‫ك بِأَنَّهُ ْم َكفَر ْ‬ ‫تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِن تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َسب ِْعينَ َم َّرةً فَلَن يَ ْغفِ َر هّللا ُ لَهُ ْم َذلِ َ‬
‫َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)80 :‬‬
‫‪ 10‬ـ الجحود‪:‬‬
‫ومن األسباب التي رتب هللا عز وجل عليها الضالل حسب س‪99‬نته س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى في‬
‫الهداية والضالل‪ 9:‬الجحود والذي يعني اإلنكار مع العلم‪.3‬‬
‫صارًا َوأَ ْفئِ‪َ 9‬دةً فَ َم‪9‬ا‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬ولَقَ ْد َم َّكنَّاهُ ْم فِي َما إِن َّم َّكنَّا ُك ْم فِي ِه َو َج َع ْلنَا لَهُ ْم َس ْمعًا َوأَ ْب َ‬
‫ت هَّللا ِ‬ ‫ْصا ُرهُ ْم َواَل أَ ْفئِ ‪َ 9‬دتُهُم ِّمن َش ‪ْ 9‬ي ٍء إِ ْذ َك‪99‬انُوا يَجْ َح‪ُ 9‬دونَ بِآيَ‪99‬ا ِ‬ ‫أَ ْغنَى َع ْنهُ ْم َس ْم ُعهُ ْم َواَل أَب َ‬
‫ق بِ ِهم َّما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَه ِْز ُؤون" (األحقاف ‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫َو َحا َ‬
‫ت هَّللا ِ"‪ :‬بمنزلة التعليل لسلبه إياهم ما أنعم عليهم به من السمع‬ ‫" إِ ْذ َكانُوا يَجْ َح ُدونَ بِآيَا ِ‬
‫والبصر والعقل‪ ،‬حتى وقعوا في الضالل‪.4‬‬
‫َاب ي ُْؤ ِمنُونَ بِ‪ِ 9‬ه َو ِم ْن هَ‪9‬ؤُاَل ء‬ ‫َاب فَالَّ ِذينَ آتَ ْينَاهُ ُم ْال ِكت َ‬ ‫ك ْال ِكت َ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬و َك َذلِكَ أَ ْ‬
‫نزَلنَا إِلَ ْي َ‬
‫َمن ي ُْؤ ِم ُن بِ ِه َو َما يَجْ َح ُد بِآيَاتِنَا إِاَّل ْال َكافِرُونَ " (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬
‫‪9‬اب‬ ‫طهُ بِيَ ِمينِ‪99‬كَ إِ ًذا اَّل رْ تَ‪َ 9‬‬ ‫ب َواَل تَ ُخ ُّ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬و َم‪99‬ا ُكنتَ تَ ْتلُ‪99‬و ِمن قَ ْبلِ‪ِ 99‬ه ِمن ِكتَ‪99‬ا ٍ‬
‫ور الَّ ِذينَ أُوتُ‪99‬وا ْال ِع ْل َم َو َم‪99‬ا يَجْ َح‪ُ 9‬د بِآيَاتِنَ‪99‬ا إِاَّل‬ ‫ص‪ُ 9‬د ِ‬ ‫‪9‬ات فِي ُ‬ ‫‪9‬ات بَيِّنَ‪ٌ 9‬‬‫‪9‬و آيَ‪ٌ 9‬‬ ‫ْال ُم ْب ِطلُونَ * بَ‪99‬لْ هُ‪َ 9‬‬
‫الظَّالِ ُمونَ " (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ 48 :‬ـ ‪.)49‬‬
‫ص‪9‬ينَ لَ‪9‬هُ ال‪ِّ 9‬دينَ فَلَ َّما نَجَّاهُ ْم إِلَى‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وإِ َذا غ َِشيَهُم َّموْ ٌج َك ُّ‬
‫الظلَ ِل َد َع ُوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬
‫ور" (لقمان ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬ ‫ار َكفُ ٍ‬ ‫َص ٌد َو َما يَجْ َح ُد بِآيَاتِنَا إِاَّل ُكلُّ خَ تَّ ٍ‬ ‫ْالبَ ِّر فَ ِم ْنهُم ُّم ْقت ِ‬
‫والختار‪ :‬الذي هو في غاية الغدر‪ ،‬والكفور‪ :‬الذي ال يشكر نعمة هللا‪ ،‬بل يجحدها‪.5‬‬
‫‪9‬وا أَ ْم‪َ 9‬ر ُك‪99‬لِّ َجب ٍ‬
‫َّار‬ ‫ُس‪9‬لَهُ َواتَّبَ ُع‪ْ 9‬‬ ‫َص‪9‬وْ ْا ر ُ‬ ‫ت َربِّ ِه ْم َوع َ‬ ‫وا بِآيَ‪99‬ا ِ‬ ‫ك عَا ٌد َج َح ُد ْ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وتِ ْل َ‬
‫َعنِي ٍد" (هود ‪ ،‬آية ‪.)59 :‬‬
‫ت إِلَى‬ ‫ضاء ِم ْن َغي ِْر ُس ‪9‬و ٍء فِي تِ ْس‪ِ 9‬ع آيَ‪99‬ا ٍ‬ ‫ك ت َْخرُجْ بَ ْي َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وأَ ْد ِخلْ يَدَكَ فِي َج ْيبِ َ‬
‫ْص‪َ 9‬رةً قَ‪9‬الُوا هَ‪َ 9‬ذا ِس‪9‬حْ ٌر‬ ‫اس‪9‬قِينَ * فَلَ َّما َج‪ 9‬اء ْتهُ ْم آيَاتُنَ‪9‬ا ُمب ِ‬ ‫فِرْ عَوْ نَ َوقَوْ ِم ِه إِنَّهُ ْم َكانُوا قَوْ ًما فَ ِ‬
‫ين * َو َج َح ُدوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا أَنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا فَانظُرْ َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ ْال ُم ْف ِس‪ِ 99‬دينَ "‬ ‫ُّمبِ ٌ‬
‫(النمل ‪ ،‬آية ‪ 12 :‬ـ ‪.)14‬‬
‫ت‬‫ك َولَ ِك َّن الظَّالِ ِمينَ بِآيَا ِ‬ ‫ـ قال تعالى‪" :‬قَ ْد نَ ْعلَ ُم إِنَّهُ لَيَحْ ُزنُكَ الَّ ِذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُ ْم الَ يُ َك ِّذبُونَ َ‬
‫هّللا ِ يَجْ َح ُدونَ " (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)33 :‬‬
‫‪ 1‬روح المعاني (‪ ،)144 / 10‬تفسير المتار (‪.)648 / 10‬‬
‫‪ 2‬تفسير المنار (‪ ،)657 / 10‬السنن اإللهية (‪.)150 / 1‬‬
‫‪ 3‬الصحاح (‪ )451 / 2‬للجوهري‪.‬‬
‫‪ 4‬السنن اإللهية (‪.)151 / 1‬‬
‫‪ 5‬تفسير القرطبي (‪ 5162 / 6‬ـ ‪.)5163‬‬

‫‪95‬‬
‫وإذا كان مصير الجاح‪99‬دين بآي‪99‬ات هللا في ال‪99‬دنيا الض‪99‬الل والغواي‪99‬ة ف‪99‬إن مص‪99‬يرهم في‬
‫اآلخرة الحسرة والندم‪ ،‬إذ يكونون من أصحاب النار‪.1‬‬
‫ُوا َعلَ ْينَ‪99‬ا ِمنَ ْال َم‪99‬اء أَوْ ِم َّما‬ ‫اب ْال َجنَّ ِة أَ ْن أَفِيض ْ‬‫ار أَصْ َح َ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬ونَادَى أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫وا ِدينَهُ ْم لَهْ‪ً 99‬وا َولَ ِعبً‪99‬ا‬ ‫وا إِ َّن هّللا َ َح َّر َمهُ َم‪99‬ا َعلَى ْال َك‪99‬افِ ِرينَ * الَّ ِذينَ اتَّخَ‪ُ 99‬ذ ْ‬ ‫َر َزقَ ُك ُم هّللا ُ قَ‪99‬الُ ْ‬
‫وا بِآيَاتِنَ‪99‬ا‬ ‫وا لِقَ‪99‬اء يَ‪99‬وْ ِم ِه ْم هَـ َذا َو َم‪99‬ا َك‪99‬انُ ْ‬
‫َنس‪9‬اهُ ْم َك َم‪99‬ا ن َُس‪ْ 9‬‬‫‪9‬اليَوْ َم ن َ‬‫َو َغ‪َّ 9‬ر ْتهُ ُم ْال َحيَ‪99‬اةُ ال‪ُّ 9‬د ْنيَا فَ‪ْ 9‬‬
‫يَجْ َح ُدونَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪ 50 :‬ـ ‪.)51‬‬
‫‪ 11‬ـ التأبي والعناد والتعنت‪:‬‬
‫فالتأبي عن اإليمان‪ ،‬وعصيان أوامر هللا يؤديان لصاحبهما إلى الض‪99‬الل‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪:‬‬
‫ب َوأَبَى" (طه ‪ ،‬آية ‪.)56 :‬‬ ‫"ولَقَ ْد أَ َر ْينَاهُ آيَاتِنَا ُكلَّهَا فَ َك َّذ َ‬‫َ‬
‫وأما العناد فحال‪99‬ة نفس‪99‬ية ت‪99‬دفع بص‪99‬احبها إلى الت‪99‬أبي عن االنص‪99‬ياع للح‪99‬ق على س‪99‬بيل‬
‫المكابرة دون أن تكون لديه مبررات بذلك‪ ،‬حتى ولو كانت مبررات زائفة أو باطلة‪.2‬‬
‫ـ قال سبحانه وتعالى مبينا ً أن العناد مانع عن الهدى وسبب في الضالل‪َ " 9:‬كاَّل إِنَّهُ َكانَ‬
‫آِل يَاتِنَا َعنِيدًا" (المدثر ‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬
‫وقال مبينا ً على الضالل ومصوراً شدة عناد الضالين‪.‬‬
‫وا إِنَّ َم‪99‬ا‬ ‫وا فِي‪ِ 9‬ه يَ ْع ُر ُج‪99‬ونَ * لَقَ‪99‬الُ ْ‬ ‫الس‪َ 9‬ماء فَظَلُّ ْ‬
‫ـ وقال تع‪99‬الى‪َ " :‬ولَ‪99‬وْ فَتَحْ نَ‪99‬ا َعلَ ْي ِهم بَابً‪99‬ا ِّمنَ َّ‬
‫ْصا ُرنَا بَلْ نَحْ ُن قَوْ ٌم َّم ْسحُورُونَ " (الحجر ‪ ،‬آية ‪ 14 :‬ـ ‪.)15‬‬ ‫ت أَب َ‬ ‫ُس ِّك َر ْ‬
‫س فَلَ َم ُس ‪9‬وهُ بِأ َ ْي‪ِ 9‬دي ِه ْم لَقَ‪99‬ا َل‬‫"ولَوْ نَ َّز ْلنَا َعلَ ْيكَ ِكتَابًا فِي قِرْ طَ‪99‬ا ٍ‬ ‫ـ وقال سبحانه وتعالى عنه‪َ :‬‬
‫ين" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)7 :‬وقد بلغ العناد من كفر قريش‬ ‫ُوا إِ ْن هَـ َذا إِالَّ ِسحْ ٌر ُّمبِ ٌ‬ ‫الَّ ِذينَ َكفَر ْ‬
‫ك فَ‪99‬أ َ ْم ِطرْ َعلَ ْينَ‪99‬ا ِح َج‪ 9‬ا َرةً ِّمنَ‬‫ق ِم ْن ِعن‪ِ 9‬د َ‬ ‫‪9‬و ْال َح‪َّ 9‬‬
‫غايته‪ ،‬حين قالوا‪" :‬اللَّهُ َّم إِن َكانَ هَـ َذا هُ‪َ 9‬‬
‫ب أَلِ ٍيم" (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬ ‫ال َّس َماء أَ ِو ا ْئتِنَا بِ َع َذا ٍ‬
‫وأما مثال التعنت ما كان من كفار ق‪99‬ريش عن‪99‬دما طلب‪99‬وا من الرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم أن يأتيهم بآية من ست آيات اقترحوها‪ ،‬ولو عقل‪99‬وا ألدرك‪99‬وا أن في الق‪99‬رآن وفي‬
‫الكون أضعافا ً مضاعفة عن هذا العدد أو هذه اآليات التي طلبوها‪ ،3‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى حاكي‪9‬ا ً‬
‫ض يَنبُو ًع‪99‬ا * أَوْ تَ ُك‪99‬ونَ‬ ‫وا لَن نُّ ْؤ ِمنَ لَكَ َحتَّى تَ ْفج َُر لَنَ‪99‬ا ِمنَ األَرْ ِ‬ ‫قول كفار قريش‪َ " :‬وقَالُ ْ‬
‫الس‪َ 9‬ماء َك َم‪9‬ا زَ َع ْمتَ‬ ‫ار ِخاللَهَا تَ ْف ِجيرًا * أَوْ تُ ْسقِطَ َّ‬ ‫جِّر األَ ْنهَ َ‬‫ب فَتُفَ َ‬ ‫يل َو ِعنَ ٍ‬ ‫لَكَ َجنَّةٌ ِّمن نَّ ِخ ٍ‬
‫ُف أَوْ تَ‪99‬رْ قَى فِي‬ ‫ْت ِّمن ُز ْخ‪ 9‬ر ٍ‬ ‫َعلَ ْينَا ِك َسفًا أَوْ تَأْتِ َي بِاهّلل ِ َو ْال َمآلئِ َك ِة قَبِيالً * أَوْ يَ ُكونَ لَ‪99‬كَ بَي ٌ‬
‫نت إَالَّ‬ ‫ك َحتَّى تُن َِّز َل َعلَ ْينَ‪99‬ا ِكتَابً‪99‬ا نَّ ْق‪َ 9‬ر ُؤهُ قُ‪99‬لْ ُس‪9‬ب َْحانَ َربِّي هَ‪99‬لْ ُك ُ‬ ‫ال َّس َماء َولَن نُّ ْؤ ِمنَ لِ ُرقِيِّ َ‬
‫بَ َشرًا َّرسُوالً" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪ 90 :‬ـ ‪.)93‬‬
‫‪ 12‬ـ الكبر‪ :‬من أسباب الضالل طبق‪9‬ا ً لس‪9‬نته س‪9‬بحانه وتع‪9‬الى في الهداي‪9‬ة واإلض‪9‬الل‪،‬‬
‫وقد قال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬الكبر بطر الحق وغمط الناس"‪.4‬‬
‫وقال النووي الكبر هو االرتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق‪.5‬‬
‫وقد وردت اآليات في ذم الكبر والمتكبرين وهو سبب الضالل واإلضالل‪.6‬‬

‫‪ 1‬السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (‪.)157 / 1‬‬


‫‪ 2‬السنن اإللهية (‪.)157 / 1‬‬
‫‪ 3‬تفسير الطبري (‪ 159 / 15‬ـ ‪.)166‬‬
‫‪ 4‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان‪ ،‬باب تحريم الكبر (‪.)93 / 1‬‬
‫‪ 5‬صحيح مسلم شرح النووي (‪.)91 / 2‬‬
‫‪ 6‬السنن اإللهية (‪.)160 / 1‬‬

‫‪96‬‬
‫ق‪99‬ال س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى عن الكف‪99‬ار‪" :‬إِنَّهُ ْم َك‪99‬انُوا إِ َذا قِي ‪َ 9‬ل لَهُ ْم اَل إِلَ ‪9‬هَ إِاَّل هَّللا ُ يَ ْس‪9‬تَ ْكبِرُونَ "‪9‬‬
‫(الصافات ‪ ،‬آية ‪ ،)35 :‬أي ‪ :‬يتعظمون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون‪.‬‬
‫‪99‬رةٌ َوهُم‬ ‫‪99‬اآلخ َر ِة قُلُ‪99‬وبُهُم ُّمن ِك َ‬
‫ِ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬إِلَهُ ُك ْم إِلَ‪99‬هٌ َوا ِح‪ٌ 99‬د فَالَّ ِذينَ الَ ي ُْؤ ِمنُ‪99‬ونَ بِ‬
‫ُّم ْستَ ْكبِرُونَ " (النحل ‪ ،‬آية ‪.)22 :‬‬
‫وقال عن ضالل اليهود بس‪99‬بب ك‪99‬برهم‪" :‬أَفَ ُكلَّ َم‪99‬ا َج‪ 9‬اء ُك ْم َر ُس‪9‬و ٌل بِ َم‪99‬ا الَ تَ ْه‪َ 9‬وى أَنفُ ُس‪ُ 9‬ك ُم‬
‫ا ْستَ ْكبَرْ تُ ْم فَفَ ِريقا ً َك َّذ ْبتُ ْم َوفَ ِريقا ً تَ ْقتُلُونَ "(البقرة‪ ، 9‬آية ‪.)87 :‬‬
‫وقال عن كبر كفار ق‪99‬ريش وامتن‪99‬اعهم ل‪99‬ذلك عن اإليم‪99‬ان‪ ،‬كس‪99‬ابقيهم‪َ " :‬وقَ‪99‬ا َل الَّ ِذينَ اَل‬
‫اس‪9‬تَ ْكبَرُوا فِي أَنفُ ِس‪ِ 9‬ه ْم َو َعتَ‪99‬وْ‬ ‫نز َل َعلَ ْينَا ْال َماَل ئِ َكةُ أَوْ ن ََرى َربَّنَ‪99‬ا لَقَ‪ِ 9‬د ْ‬ ‫ُ‬
‫يَرْ جُونَ لِقَاءنَا لَوْ اَل أ ِ‬
‫ُعتُ ًّوا َكبِي ًرا" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬
‫"وإِنِّي ُكلَّ َم‪99‬ا‬ ‫وأما ق‪99‬وم ن‪99‬وح فق‪99‬د وص‪99‬فهم ن‪99‬بيهم علي‪99‬ه الس‪99‬الم كم‪99‬ا حكى الق‪99‬رآن ذل‪99‬ك‪َ :‬‬
‫اس‪9‬تَ ْكبَرُوا‬ ‫ص ‪9‬رُّ وا َو ْ‬ ‫ص‪9‬ابِ َعهُ ْم فِي آ َذانِ ِه ْم َوا ْستَ ْغ َش ‪9‬وْ ا ثِيَ‪99‬ابَهُ ْم َوأَ َ‬ ‫َدعَوْ تُهُ ْم لِتَ ْغفِ َر لَهُ ْم َج َعلُوا أَ َ‬
‫صابِ َعهُ ْم فِي آ َذانِ ِه ْم" لئال يسمعوا ص‪99‬وتي‬ ‫ا ْستِ ْكبَارًا" (نوح ‪ ،‬آية ‪ ،)7 :‬فقوله‪َ " :‬ج َعلُوا أَ َ‬
‫" َوا ْستَ ْغ َشوْ ا ثِيَابَهُ ْم" أي‪ :‬غط‪99‬وا به‪99‬ا وج‪99‬وههم لئال ي‪99‬روني‪ ،‬وقي‪99‬ل جعل‪99‬وا ثي‪99‬ابهم على‬
‫رؤوسهم لئال يسمعوا كالمي فيك‪99‬ون استغش‪99‬اء الثي‪99‬اب على ه‪99‬ذا النح‪99‬و زي‪99‬ادة في س‪99‬د‬
‫األذان‪.1‬‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَا َولَّى ُم ْستَ ْكبِرًا َكأَن لَّ ْم يَ ْس َم ْعهَا َكأ َ َّن فِي أُ ُذنَ ْي ِه َو ْق‪99‬رًا‬
‫ب أَلِ ٍيم" (لقمان ‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬ ‫فَبَ ِّشرْ هُ بِ َع َذا ٍ‬
‫ُص‪99‬رُّ ُم ْس‪99‬تَ ْكبِرًا َك‪99‬أَن لَّ ْم يَ ْس ‪َ 9‬م ْعهَا"‬ ‫ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَيْ‪ِ 99‬ه ثُ َّم ي ِ‬
‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ " :‬يَ ْس‪َ 99‬م ُع آيَ‪99‬ا ِ‬
‫(الجاثية ‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬
‫وس‪9‬هُ ْم َو َرأَ ْيتَهُ ْم‬ ‫‪9‬ل لَهُ ْم تَ َع‪99‬الَوْ ا يَ ْس‪9‬تَ ْغفِرْ لَ ُك ْم َر ُس‪9‬و ُل هَّللا ِ لَ‪9‬وَّوْ ا ُر ُؤ َ‬
‫ـ وقال تع‪99‬الى‪َ " :‬وإِ َذا قِي‪َ 9‬‬
‫ص ُّدونَ َوهُم ُّم ْستَ ْكبِرُونَ " (المنافقون ‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬ ‫يَ ُ‬
‫وإذا ك‪99‬ان المتك‪99‬بر يدفع‪99‬ه ك‪99‬بره أال يس‪99‬مع آي‪99‬ات هللا‪ ،‬وإذا س‪99‬معها فال ينظ‪99‬ر فيه‪99‬ا وال‬
‫يتدبرها‪ ،‬وال ينق‪99‬اد إلى م‪99‬ا ت‪99‬دعو إلي‪99‬ه من اله‪99‬دى‪ ،‬ف‪99‬إن ذل‪99‬ك يس‪99‬تتبع نتائج‪99‬ه في عقل‪99‬ه‬
‫وغيبه‪ ،‬وذلك بصرف هللا إياه عن اإلنتفاع بآياته سواء الكونية أو السمعية‪.2‬‬
‫‪9‬روْ ْا‬ ‫ق َوإِن يَ‪َ 9‬‬ ‫‪9‬ر ْال َح‪ِّ 9‬‬ ‫ف ع َْن آيَاتِ َي الَّ ِذينَ يَتَ َكبَّرُونَ فِي األَرْ ِ‬
‫ض بِ َغ ْي‪ِ 9‬‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬سأَصْ ِر ُ‬
‫َي‬‫يل ْالغ ِّ‬ ‫يل الرُّ ْش‪ِ 9‬د الَ يَتَّ ِخ‪ُ 9‬ذوهُ َس‪9‬بِيالً َوإِن يَ‪َ 9‬روْ ْا َس‪9‬بِ َ‬ ‫‪9‬روْ ْا َس‪9‬بِ َ‬‫وا بِهَا َوإِن يَ‪َ 9‬‬ ‫ُك َّل آيَ ٍة الَّ ي ُْؤ ِمنُ ْ‬
‫وا َع ْنهَا غَافِلِينَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)146 :‬‬ ‫ُوا بِآيَاتِنَا َو َكانُ ْ‬
‫ك بِأَنَّهُ ْم َك َّذب ْ‬
‫يَتَّ ِخ ُذوهُ َسبِيالً َذلِ َ‬
‫ويعاقبه كذلك بالطبع على قلبه ح‪99‬تى يص‪99‬ير ذل‪99‬ك س‪99‬جية وطبيع‪99‬ة‪ ،‬فه‪99‬و ت‪99‬أثير الزم ال‬
‫يفارقه ويغطي على قلبه ويستوثق منه فال يدخله شئ من الهدى‪ ،3‬قال تعالى‪َ " :‬ك‪َ 99‬ذلِكَ‬
‫َّار" (غافر ‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬ ‫ب ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ‬ ‫طبَ ُع هَّللا ُ َعلَى ُكلِّ قَ ْل ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪ 13‬ـ حب الدنيا واالغترار بها واتخاذها لهواً‪:‬‬
‫إن من أسباب الضالل شعور اإلنسان إن هذه الحياة الدنيا مصادفة عمياء وأن الوجود‬
‫بها ليس له هدف‪ ،‬قال سبحانه وتعالى رداً على من كان ذلك معتقدهم‪ " :‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َم‪99‬ا‬
‫خَ لَ ْقنَا ُك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَا اَل تُرْ َجعُونَ " (المؤمنون‪ ، 9‬آية ‪.)115 :‬‬

‫‪ 1‬فتح الغدير (‪ ،)297/ 5‬السنن اإللهية (‪.)164 / 1‬‬


‫‪ 2‬روح المعاني (‪.)60 / 9‬‬
‫‪ 3‬شفاء العليل صـ‪ ،199 ، 198‬السنن اإللهية (‪.)165 / 1‬‬

‫‪97‬‬
‫اجلَةَ * َوتَ َذرُونَ اآْل ِخ َرةَ"(القيامة ‪ ،‬آية ‪ 20 :‬ـ ‪.)21‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬كاَّل بَلْ تُ ِحبُّونَ ْال َع ِ‬
‫ض َو َو ْي ٌل لِّ ْل َكافِ ِرينَ ِم ْن‬ ‫ت َو َما فِي األَرْ ِ‬ ‫وقال هللا عز وجل‪ " :‬هّللا ِ الَّ ِذي لَهُ َما فِي ال َّس َما َوا ِ‬
‫يل هّللا ِ‬ ‫ص ‪ُّ 9‬دونَ عَن َس ‪9‬بِ ِ‬ ‫‪9‬ر ِة َويَ ُ‬ ‫ب َش ‪ِ 9‬دي ٍد * الَّ ِذينَ يَ ْس ‪9‬تَ ِحبُّونَ ْال َحيَ‪99‬اةَ ال ‪ُّ 9‬د ْنيَا َعلَى اآل ِخ‪َ 9‬‬ ‫َع‪َ 9‬ذا ٍ‬
‫ضالَ ٍل بَ ِعي ٍد" (إبراهيم ‪ ،‬آية ‪ 2 :‬ـ ‪.)3‬‬ ‫ك فِي َ‬ ‫َويَ ْب ُغونَهَا ِع َوجًا أُوْ لَـئِ َ‬
‫ـ وقال تعالى‪ " :‬فَأ َ ْع ِرضْ عَن َّمن ت ََولَّى عَن ِذ ْك ِرنَا َولَ ْم ي ُِر ْد إِاَّل ْال َحيَ‪99‬اةَ ال‪ُّ 99‬د ْنيَا" (النجم ‪،‬‬
‫آية ‪.)29 :‬‬
‫‪9‬واالً فِي ْال َحيَ‪99‬ا ِة‬ ‫وس‪9‬ى َربَّنَ‪99‬ا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْ َع‪99‬وْ نَ َو َمألهُ ِزينَ‪9‬ةً َوأَ ْم‪َ 9‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وقَا َل ُم َ‬
‫اط ِمسْ َعلَى أَ ْم َوالِ ِه ْم َوا ْش ُد ْد َعلَى قُلُ‪9‬وبِ ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُ ْ‬
‫‪9‬وا‬ ‫وا عَن َسبِيلِكَ َربَّنَا ْ‬ ‫ُضلُّ ْ‬
‫ال ُّد ْنيَا َربَّنَا لِي ِ‬
‫اب األَلِي َم" (يونس ‪ ،‬آية ‪.)88 :‬‬ ‫َحتَّى يَ َر ُو ْا ْال َع َذ َ‬
‫ـ وقال س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى مس‪99‬جالً عى الك‪99‬افرين بس‪99‬بب غ‪99‬رورهم بال‪99‬دنيا‪َ " :‬ذلِ ُكم بِ‪99‬أَنَّ ُك ُم‬
‫ت هَّللا ِ هُ ُز ًوا َو َغ َّر ْت ُك ُم ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا" (الجاثية ‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬ ‫اتَّخَ ْذتُ ْم آيَا ِ‬
‫ثم إن حبهم لهذه الدنيا يدفعهم إلى اإلنغماس في شهواتها ومنه‪99‬ا إلى ح‪99‬د ال‪99‬ترف ال‪99‬ذي‬
‫من طبيعته‪ ،‬أن‪99‬ه يفس‪99‬د الفط‪99‬رة‪ ،‬ويغل‪99‬ظ المش‪99‬اعر‪ ،‬ويس‪99‬د المناف‪99‬ذ‪ ،‬ويفق‪99‬د القل‪99‬وب تل‪99‬ك‬
‫الحساسية المرهفة التي تتلقى وتستجيب وتستجيب‪.1‬‬
‫فقال تعالى مبينا ً أن المترفين اتبعوا ترفهم وكف‪99‬روا بم‪99‬ا أرس‪99‬ل ب‪99‬ه المرس‪99‬لون‪" :‬فَلَ‪99‬وْ الَ‬
‫ض إِالَّ قَلِيالً ِّم َّم ْن أَن َج ْينَا‬‫وا بَقِيَّ ٍة يَ ْنهَوْ نَ ع َِن ْالفَ َسا ِد فِي األَرْ ِ‬ ‫َكانَ ِمنَ ْالقُرُو ِن ِمن قَ ْبلِ ُك ْم أُوْ لُ ْ‬
‫وا ُمجْ ِر ِمينَ " (هود ‪ ،‬آية ‪.)116 :‬‬ ‫وا فِي ِه َو َكانُ ْ‬‫وا َما أُ ْت ِرفُ ْ‬ ‫ِم ْنهُ ْم َواتَّبَ َع الَّ ِذينَ ظَلَ ُم ْ‬
‫ير إِاَّل قَا َل ُم ْت َرفُوهَا إِنَّا بِ َما أُرْ ِس ْلتُم بِ‪ِ 99‬ه‬ ‫ـ وقال تعالى ذكره‪َ " :‬و َما أَرْ َس ْلنَا فِي قَرْ يَ ٍة ِّمن نَّ ِذ ٍ‬
‫َكافِرُونَ " (سبأ ‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬
‫‪ 14‬ـ أتباع الهوى‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫والمقصود بالهوى ميل النفس للشهوة‬
‫لقد جرت سنة هللا تعالى في الهداية واإلضالل أن يكون أتباع الهوى س‪99‬ببا ً من أس‪99‬باب‬
‫الضالل‪.‬‬
‫‪9‬ر هُ‪9‬دًى ِّمنَ هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه‪ِ 9‬دي ْالقَ‪99‬وْ َم‬ ‫ض‪9‬لُّ ِم َّم ِن اتَّبَ‪َ 9‬ع هَ‪َ 9‬‬
‫‪9‬واهُ بِ َغ ْي‪ِ 9‬‬ ‫ـ قال تع‪99‬الى‪َ " :‬و َم ْن أَ َ‬
‫الظَّالِ ِمينَ " (القصص ‪ ،‬آية ‪.)50 :‬‬
‫ص َل لَ ُكم َّما َح َّر َم َعلَ ْي ُك ْم‬ ‫وا ِم َّما ُذ ِك َر ا ْس ُم هّللا ِ َعلَ ْي ِه َوقَ ْد فَ َّ‬‫ـ وقال سبحانه‪َ ":‬و َما لَ ُك ْم أَالَّ تَأْ ُكلُ ْ‬
‫ْ‪99‬ر ِع ْل ٍم إِ َّن َربَّكَ هُ‪َ 99‬و أَ ْعلَ ُم‬‫ُض‪99‬لُّونَ بِ‪99‬أ َ ْه َوائِ ِهم بِ َغي ِ‬ ‫اض‪99‬طُ ِررْ تُ ْم إِلَيْ‪ِ 99‬ه َوإِ َّن َكثِ‪99‬يرًا لَّي ِ‬ ‫إِالَّ َم‪99‬ا ْ‬
‫بِ ْال ُم ْعتَ ِدينَ " (األنعام‪ ،‬آية ‪.)119 :‬‬
‫ضلُّونَ عَن َس ‪9‬بِي ِل هَّللا ِ‬ ‫يل هَّللا ِ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ‬
‫ُضلَّكَ عَن َسبِ ِ‬ ‫ـ وقال سبحانه‪َ ":‬واَل تَتَّبِ ِع ْالهَ َوى فَي ِ‬
‫ب" (ص‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫لَهُ ْم َع َذابٌ َش ِدي ٌد بِ َما نَسُوا يَوْ َم ْال ِح َسا ِ‬
‫ض‪9‬لَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم َوخَ تَ َم َعلَى َس‪ْ 9‬م ِع ِه‬ ‫‪9‬واهُ َوأَ َ‬ ‫ـ وقال عز وجل‪ ":‬أَفَ َرأَيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ إِلَهَهُ هَ‪َ 9‬‬
‫ص ِر ِه ِغ َشا َوةً فَ َمن يَ ْه ِدي ِه ِمن بَ ْع ِد هَّللا ِ أَفَاَل تَ ‪َ 9‬ذ َّكرُونَ " (الجاثي‪99‬ة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ‬
‫‪.)23‬‬
‫والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجا ً عجيبا ً للنفس البشرية حيث تترك األصل الثابت‬
‫وتتبع الهوى المتقلب‪ ،‬حين تتعبد هواه‪99‬ا وتخض‪99‬ع ل‪99‬ه‪ ،‬وتجعل‪99‬ه مص‪99‬دراً لتص‪99‬وراتها‪،‬‬
‫وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها‪ ،‬وتقيمه إلها ً قاهراً لها مسؤوالً عليه‪99‬ا‪ ،‬تتلقى إش‪99‬ارته‬
‫‪1‬‬
‫في ظالل القرآن (‪.)6467 / 4‬‬
‫‪2‬‬
‫ذم الهوى البن الجوزي صـ‪.12‬‬

‫‪98‬‬
‫المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول‪ ،‬يرسم هذه الصورة ويعجب منها في استنكار ش‪99‬ديد‬
‫" أَفَ َرأَيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ إِلَهَهُ ه ََواهُ" ؟ أفرأيت إنه ك‪99‬ائن عجيب يس‪99‬تحق الفرج‪99‬ة والتعجيب‪،‬‬
‫وه‪99‬و يس‪99‬تحق من هللا أن يض‪99‬له‪ ،‬فال يتدارك‪99‬ه برحم‪99‬ة اله‪99‬دى فم‪99‬ا أبقى في قلب‪99‬ه مكان‪9‬ا ً‬
‫ض‪9‬لَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم" على علم من هللا باس‪9‬تحقاقه‬ ‫للهدى وهو يتعب‪9‬د ه‪9‬واه الم‪9‬ريض" َوأَ َ‬
‫للضاللة‪ ،‬أو على علم منه بالحق ال يقوم لهواه وال يصده عن اتخاذه إلها ً يطاع‪ ،‬وه‪99‬ذا‬
‫يقتضي إضالل هللا له‪ ،‬واإلمالء له عمياه " َو َختَ َم َعلَى َس ْم ِع ِه َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ‬
‫ص ِر ِه‬
‫اوةً" فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور‪ ،‬وتلك المدارك التي يتس‪99‬رب‬ ‫ِغ َش َ‬
‫منها الهدى‪ ،‬وتعطلت فيه أدوات اإلدراك بطاعته للهوى‪ ،‬طاعة العباد والتسليم " فَ َمن‬
‫يَ ْه ِدي ِه ِمن بَ ْع ِد هَّللا ِ" والهدى هدى‪ ،‬وما من أحد يملك ألح‪99‬د ه‪99‬دى أو ض‪99‬اللة‪ ،‬ف‪99‬ذلك من‬
‫شأن هللا الذي ال يشاركه فيه أحد‪ ،‬حتى رسله المختارون‪ " ،‬أَفَاَل تَ َذ َّكرُونَ " ومن ت‪99‬ذكر‬
‫صحا وتنبه وتخلص من ربقة الهوى‪ ،‬وعاد إلى النهج الثابت الواضح‪ ،‬الذي ال يض‪99‬ل‬
‫سالكوه‪.1‬‬
‫وهذه السنة سنة هللا في إضالل من اتبع هواه تحققت في أقوام سابقة وستمض‪99‬ي دائم ‪9‬ا ً‬
‫في كل قوم يتبعون أهوائهم ويحيدون عن الحق‪.2‬‬
‫ك فَا ْعلَ ْم أَنَّ َما يَتَّبِعُونَ أَ ْه َواءهُ ْم" (القصص‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬ ‫ـ قال تعالى‪ 9":‬فَإِن لَّ ْم يَ ْستَ ِجيبُوا لَ َ‬
‫س َع ِن ْالهَ ‪َ 9‬وى * فَ ‪9‬إ ِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬وأَ َّما َم ْن خَ ‪ 9‬افَ َمقَ‪99‬ا َم َربِّ ِه َونَهَى النَّ ْف َ‬
‫ْال َمأْ َوى" (النازعات‪ ،‬آية ‪ 40 :‬ـ ‪.)41‬‬
‫وقد حذر هللا عز وجل نبيه داود عليه السالم من أن يؤثر ه‪99‬واه في قض‪99‬ائه بين الن‪99‬اس‬
‫على الحق والعدل فيه فيكون نتيجة ذلك ميله عن طريق هللا الذي جعله هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل‬
‫ألهل اإليمان به‪ ،‬فيكون من الهالكين بضالله عن سبيل هللا‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ ":‬يَ‪99‬ادَا ُوو ُد إِنَّا‬
‫يل‬ ‫ك عَن َس‪9‬بِ ِ‬ ‫ق َواَل تَتَّبِ ِع ْالهَ‪َ 9‬وى فَي ِ‬
‫ُض‪9‬لَّ َ‬ ‫اس بِ ْال َح ِّ‬
‫ض فَاحْ ُكم بَ ْينَ النَّ ِ‬ ‫ك َخلِيفَةً فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫َج َع ْلنَا َ‬
‫ب" (ص‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ضلُّونَ عَن َسبِي ِل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ َش ِدي ٌد بِ َما نَسُوا يَوْ َم ْال ِح َسا ِ‬ ‫هَّللا ِ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ‬
‫‪.)26‬‬
‫وقال تعالى محذراً خاتم األنبياء والمرس‪99‬لين من طاع‪99‬ة من أغف‪99‬ل هللا قلب‪99‬ه عن ذك‪99‬ره‪،‬‬
‫واتبع هواه المتقلب وآثره على الحق‪.‬‬
‫ـ ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ 9":‬واَل تُ ِط‪ْ 9‬ع َم ْن أَ ْغفَ ْلنَ‪9‬ا قَلبَ‪9‬هُ عَن ِذ ْك ِرنَ‪99‬ا َواتَّبَ‪َ 9‬ع هَ‪َ 9‬واهُ َو َك‪9‬انَ أ ْم‪ُ 9‬رهُ فُ ُرطً‪9‬ا"‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫(الكهف‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬
‫ومن المواطن التي حذر هللا عز وجل عب‪9‬اده من اتب‪9‬اع اله‪9‬وى فيه‪9‬ا م‪9‬ا ج‪9‬اء في قول‪9‬ه‬
‫‪9‬وا قَ ‪َّ 9‬وا ِمينَ بِ ْالقِ ْس ‪ِ 9‬ط ُش ‪9‬هَدَاء هّلِل ِ َولَ‪99‬وْ َعلَى أَنفُ ِس ‪ُ 9‬ك ْم أَ ِو‬ ‫‪9‬وا ُكونُ‪ْ 9‬‬‫تع‪99‬الى‪ ":‬يَ‪99‬ا أَيُّهَ‪99‬ا الَّ ِذينَ آ َمنُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا ْالهَ ‪َ 9‬وى أَن تَ ْع‪ِ 9‬دلُ ْ‬
‫وا‬ ‫ْال َوالِ َد ْي ِن َواألَ ْق َربِينَ إِن يَ ُك ْن َغنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاهّلل ُ أَوْ لَى بِ ِه َم‪99‬ا فَالَ تَتَّبِ ُع‪ْ 9‬‬
‫ُوا فَإ ِ َّن هّللا َ َكانَ بِ َما تَ ْع َملُونَ َخبِيرًا" (النساء‪ ،‬آية ‪.)135 :‬‬ ‫ْرض ْ‬ ‫وا أَوْ تُع ِ‬ ‫َوإِن ت َْل ُو ْ‬
‫‪9‬وا أَ ْه‪َ 9‬واء قَ‪99‬وْ ٍم‬ ‫ق َوالَ تَتَّبِ ُع‪ْ 9‬‬ ‫وا فِي ِدينِ ُك ْم َغ ْي َر ْال َح‪ِّ 9‬‬ ‫ب الَ تَ ْغلُ ْ‬‫ـ وقال تعالى‪ ":‬قُلْ يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫واعَن َس َواء ال َّسبِي ِل" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)77 :‬‬ ‫ضلُّ ْ‬ ‫وا َكثِيرًا َو َ‬ ‫ضلُّ ْ‬‫وا ِمن قَ ْب ُل َوأَ َ‬ ‫ضلُّ ْ‬ ‫قَ ْد َ‬
‫ـ وقال تعالى مبينا ً عدم اتباع الرسول صلى هللا عليه وسلم لله‪99‬وى تجنب ‪9‬ا ً لم‪99‬ا يس‪99‬تتبعه‬
‫ت إِ ًذا َو َما أَنَاْ ِمنَ ْال ُم ْهتَ ِدينَ " (األنعام‪،‬‬ ‫ضلَ ْل ُ‬
‫الهوى من الضالل‪ ":‬قُل الَّ أَتَّبِ ُع أَ ْه َواء ُك ْم قَ ْد َ‬
‫آية ‪.)56 :‬‬
‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪ 3230 /5‬ـ ‪.)3231‬‬
‫‪ 2‬السنن اإللهية (‪.)171 /1‬‬

‫‪99‬‬
‫ان فَ َك‪99‬انَ ِمنَ‬ ‫ي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَان َسلَ َخ ِم ْنهَا فَأ َ ْتبَ َعهُ َّ‬
‫الش ‪ْ 9‬يطَ ُ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذ َ‬
‫‪9‬ل ْال َك ْل ِ‬
‫ب‬ ‫ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ‪ِ 9‬‬ ‫َاوينَ * َولَوْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا َولَـ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى األَرْ ِ‬ ‫ْالغ ِ‬
‫ص‬‫ص‪ِ 9‬‬ ‫‪9‬ذب ْ‬
‫ُوا بِآيَاتِنَ‪99‬ا فَا ْق ُ‬ ‫ك َمثَ ‪ُ 9‬ل ْالقَ‪99‬وْ ِم الَّ ِذينَ َك‪َّ 9‬‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْك‪ 9‬هُ يَ ْلهَث َّذلِ ‪َ 9‬‬ ‫إِن تَحْ ِم‪99‬لْ َعلَ ْي‪ِ 9‬ه يَ ْلهَ ْ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪ 175 :‬ـ ‪.)176‬‬ ‫ص َ‬ ‫ْالقَ َ‬
‫وهكذا يتبين لنا بجالء أهمية الهوى‪ ،‬وإن الوقوع في ذلك وقوع في الض‪99‬الل وبالت‪99‬الي‬
‫ق‬ ‫الوقوع في الفساد الشامل للسماء واألرض ومن فيهم كما قال تعالى‪َ ":‬ولَ ِو اتَّبَ‪َ 9‬ع ْال َح‪ُّ 9‬‬
‫ات َواأْل َرْ ضُ َو َمن فِي ِه َّن" (المؤمنون‪ 9،‬آية ‪.)71 :‬‬ ‫ت ال َّس َما َو ُ‬ ‫أَ ْه َواءهُ ْم لَفَ َس َد ِ‬
‫فالحق واحد ثابت‪ ،‬واألهواء كثيرة متقلبة‪ ،‬وبالحق الواحد يدبر الكون كله فال ينحرف‬
‫ناموسه لهوى عارض وال تتخلف س‪99‬نته لرغب‪99‬ة طارئ‪99‬ة‪ ،‬ول‪99‬و خض‪99‬ع الك‪99‬ون لأله‪99‬واء‬
‫العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله‪ ،‬ولفسد الناس معه‪ ،‬ولفس‪99‬دت القيم واألوض‪99‬اع‪،‬‬
‫واختلت الموازين والمقاييس‪ ،‬وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى والحب والبغض‬
‫والرغب‪99‬ة والرهب‪99‬ة والنش‪99‬اط والخم‪99‬ول وس‪99‬ائر م‪99‬ا يع‪99‬رض من األه‪99‬واء والمواج‪99‬د‬
‫واالنفعاالت والتأثرات‪ ،‬وبناء الكون وبما فيه اإلنسان يحت‪99‬اج إلى الثب‪99‬ات واالس‪99‬تقرار‬
‫واالطراد على قاعدة ثابتة‪ ،‬ونهج مرسوم ال يتخلف وال يتأرجح وال يحيد‪.1‬‬
‫‪ 15‬ـ االستهزاء بآيات هللا ورسله والمؤمنين‪:‬ـ‬
‫ُس‪9‬لِي هُ‪ُ 9‬ز ًوا" (الكه‪99‬ف‪،‬‬ ‫ك َجزَا ُؤهُ ْم َجهَنَّ ُم بِ َما َكفَرُوا َواتَّ َخ ُذوا آيَ‪99‬اتِي َور ُ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ 9":‬ذلِ َ‬
‫آية ‪.)106 :‬‬
‫ث هَّللا ُ َر ُس‪999‬واًل "‬ ‫ك إِاَّل هُ‪ُ 999‬ز ًوا أَهَ‪َ 999‬ذا الَّ ِذي بَ َع َ‬ ‫ـ وق‪999‬ال تع‪999‬الى‪َ ":‬وإِ َذا َرأَوْ كَ إِن يَتَّ ِخ‪ُ 999‬ذونَ َ‬
‫(الفرقان‪ ،‬آية ‪.)41 :‬‬
‫ق ِّم ْن ِعبَا ِدي يَقُولُ‪9‬ونَ َربَّنَ‪9‬ا آ َمنَّا فَ‪9‬ا ْغفِرْ لَنَ‪9‬ا َوارْ َح ْمنَ‪9‬ا َوأَنتَ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬إِنَّهُ َكانَ فَ ِري ٌ‬
‫َض‪َ 9‬ح ُكونَ "‬ ‫‪9‬ري َو ُكنتُم ِّم ْنهُ ْم ت ْ‬ ‫خَ ْي‪ُ 9‬ر ال‪9‬رَّا ِح ِمينَ * فَاتَّ َخ‪ْ 9‬ذتُ ُموهُ ْم ِس‪ْ 9‬خ ِريًّا َحتَّى أَ َ‬
‫نس‪9‬وْ ُك ْم ِذ ْك‪ِ 9‬‬
‫(المؤمنون ‪ ،‬آية ‪ 109 :‬ـ ‪.)110‬‬
‫وهكذا فإن االستهزاء بآيات هللا ورسله والمؤمنون‪ ،‬يشغل صاحبه عن التدبر والتفك‪99‬ر‬
‫في دالئل اإليمان التي في الوجود‪ ،‬وفي دالئل صدق رسول هللا صلى هللا عليه وس‪9‬لم‪،‬‬
‫ويشغله أيضا ً عن االعتبار بما أثر اإليمان في نفوس أص‪99‬حابه وح‪99‬الهم وس‪99‬لوكهم وإن‬
‫ذلك االستهزاء أيضا ً يباعد بين‪99‬ه وبين ص‪99‬احبه عن ك‪99‬ل ال‪99‬دالئل والبين‪99‬ات وال ش‪99‬ك أن‬
‫ذلك كله يسلمه إلى الضالل والغي‪.2‬‬
‫‪ 16‬ـ الكفر‪:‬‬
‫بين سبحانه وتعالى في غير ما آية وإن سنته في الك‪99‬افرين هي أن يع‪99‬اقبهم باإلض‪99‬الل‬
‫وعدم الهداية‪ ،‬وقد جاء التعبير عن كف‪99‬رهم ه‪99‬ذا ب‪99‬الظلم ت‪99‬ارة‪ ،‬وبالفس‪99‬ق ت‪99‬ارة أخ‪99‬رى‪،‬‬
‫وبالتكذيب ثالثة‪ ،‬وب‪99‬اإلجرام رابع‪99‬ة‪ ،‬ليض‪99‬يف ك‪99‬ل لف‪99‬ظ من ه‪99‬ذه األلف‪99‬اظ مع‪99‬نى آخ‪99‬ر‪،‬‬
‫باإلضافة إلى معنى الكفر‪ ،‬وقد جاء بيان جزائهم في أك‪99‬ثر من س‪99‬ياق س‪99‬واء في الكف‪99‬ر‬
‫أو الفسق أو الظلم‪ ،‬ليكشف أيضا ً علل ذلك الكفر‪ ،‬وصفات الذين حكم عليهم بالكفر أو‬
‫الفسق أو الظلم وعدم الهداية لهم‪ ،‬ومن خالل تتب‪99‬ع اآلي‪99‬ات ال‪99‬تي جعلت الظلم والفس‪99‬ق‬
‫والكفر واإلجرام سببا ً في الضالل وعدم الهداية‪ ،‬وتبين أن المقصود بمعظمها الش‪99‬رك‬

‫‪1‬‬
‫في ظالل القرآن (‪.)2475 /4‬‬
‫‪2‬‬
‫السنن اإللهية ( ‪ ،)178 / 1‬في ظالل القرآن (‪.)2482 / 4‬‬

‫‪100‬‬
‫وعدم اإليمان باهلل وما يترتب عليه‪ ،‬وجحد نبوة محمد صلى هللا عليه وس‪9‬لم والتك‪9‬ذيب‬
‫بها‪ ،‬وإن كان لكل لفظ من هذه األلفاظ له معناه الذي يختص في األصل والوضع‪.1‬‬
‫أ ـ الفسق‪ :‬والفسق يقع على كثير ال‪99‬ذنب وقليل‪99‬ه‪ ،‬ولكن‪99‬ه تع‪99‬ورف ب‪99‬الكثير أك‪99‬ثر‪ ،‬ومن‬
‫وجوه ورود الفسق في القرآن في الكف‪99‬ر وت‪99‬رك التوحي‪99‬د‪ ،‬فالك‪99‬افر فاس‪99‬ق الخالل‪99‬ه بم‪99‬ا‬
‫ك فَأُوْ لَئِ‪99‬كَ هُ ُم‬ ‫ألزمه العقل واقتضته الفطرة السليمة‪ ،2‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬و َمن َكفَ‪َ 9‬ر بَ ْع‪َ 9‬د َذلِ‪َ 9‬‬
‫اسقُونَ " (النور ‪ ،‬آية ‪.)55 :‬‬ ‫ْالفَ ِ‬
‫ومن اآليات التي بينت سنة هللا في إضالل هذا الصنف من الن‪99‬اس وال‪99‬ذي يجم‪99‬ع بينهم‬
‫ُوض‪9‬ةً فَ َم‪99‬ا فَوْ قَهَ‪99‬ا فَأ َ َّما‬
‫ب َمثَالً َّما بَع َ‬ ‫الكفر قول‪99‬ه س‪99‬بحانه‪" :‬إِ َّن هَّللا َ الَ يَ ْس‪9‬تَحْ يِي أَن يَ ْ‬
‫ض‪ِ 9‬ر َ‬
‫ُوا فَيَقُولُ‪99‬ونَ َم‪99‬ا َذا أَ َرا َد هَّللا ُ بِهَـ َذا‬
‫ق ِمن َّربِّ ِه ْم َوأَ َّما الَّ ِذينَ َكفَر ْ‬‫وا فَيَ ْعلَ ُمونَ أَنَّهُ ْال َح ُّ‬
‫الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ُضلُّ بِ ِه إِالَّ ْالفَا ِسقِينَ " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫ُضلُّ بِ ِه َكثِيراً َويَ ْه ِدي بِ ِه َكثِيراً َو َما ي ِ‬ ‫َمثَالً ي ِ‬
‫ـ وقال سبحانه وتعالى‪" :‬قُلْ إِن َكانَ آبَا ُؤ ُك ْم َوأَ ْبنَآ ُؤ ُك ْم َوإِ ْخ‪َ 9‬وانُ ُك ْم َوأَ ْز َوا ُج ُك ْم َوع َِش ‪َ 9‬‬
‫يرتُ ُك ْم‬
‫ض‪9‬وْ نَهَا أَ َحبَّ إِلَ ْي ُكم ِّمنَ هّللا ِ‬‫‪9‬وا ٌل ا ْقت ََر ْفتُ ُموهَ‪99‬ا َوتِ َج‪ 9‬ا َرةٌ ت َْخ َش‪9‬وْ نَ َك َس‪9‬ا َدهَا َو َم َس‪9‬ا ِك ُن تَرْ َ‬ ‫َوأَ ْم َ‬
‫اس‪99‬قِينَ "‬‫ُوا َحتَّى يَأْتِ َي هّللا ُ بِأ َ ْم ِر ِه َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَ ِ‬‫َو َرسُولِ ِه َو ِجهَا ٍد فِي َسبِيلِ ِه فَت ََربَّص ْ‬
‫(التوبة ‪ ،‬آية ‪.)24 :‬‬
‫المعنى‪ :‬قد مضت سنة هللا تعالى في القوم الفاسقين المارقين من ال‪99‬دين بع‪99‬د مع‪9‬رفتهم‪،‬‬
‫كالمنافقين أن يكونوا محرومين من الهداية الفطرية التي يعرفها اإلنسان بالعقل السليم‬
‫والوجدان الصحيح‪ ،‬فال يعرفون ما فيه مصلحتهم وسعادتهم من أتباعه في‪99‬ؤثرون حب‬
‫القرابة والمنفعة العارضة كالمال والتجارة على حب هللا ورسوله والجهاد المف‪99‬روض‬
‫في سبيله‪.3‬‬
‫"اس‪9‬تَ ْغفِرْ لَهُ ْم أَوْ الَ‬
‫وقال سبحانه وتعالى في حق المن‪9‬افقين وهم ك‪9‬افرون عن الحقيق‪9‬ة‪ْ :‬‬
‫ك بِأَنَّهُ ْم َكفَر ْ‬
‫ُوا بِاهّلل ِ َو َرسُولِ ِه‬ ‫تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِن تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َسب ِْعينَ َم َّرةً فَلَن يَ ْغفِ َر هّللا ُ لَهُ ْم َذلِ َ‬
‫َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)80 :‬‬
‫أي جرت سنة هللا في الراسخين في فس‪99‬وقهم وتم‪99‬ردهم‪ ،‬المص‪99‬رين على نف‪99‬اقهم ال‪99‬ذي‬
‫أحاطت بهم خطاي‪9‬اهم أن يفق‪9‬دوا االس‪9‬تعداد للهداي‪9‬ة‪ ،‬وهللا ع‪9‬ز وج‪9‬ل ل‪9‬ذلك ال يه‪9‬ديهم‪،‬‬
‫عقوبة منه ألنهم ال يستحقونها‪.4‬‬
‫وأما ترتيب عدم الهداية بسبب الظلم‪ :‬فقد ورد في آيات كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫يل‬ ‫ـ قوله تعالى‪ " :‬قُلْ أَ َرأَ ْيتُ ْم إِن َكانَ ِم ْن ِعن ِد هَّللا ِ َو َكفَرْ تُم بِ ِه َو َش ِه َد َشا ِه ٌد ِّمن بَنِي إِ ْس‪َ 9‬رائِ َ‬
‫َعلَى ِم ْثلِ ِه فَآ َمنَ َوا ْستَ ْكبَرْ تُ ْم إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ " (األحقاف ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫فح‪99‬رمهم هللا س‪99‬بحانه الهداي‪99‬ة لظلمهم ألنفس‪99‬هم ب‪99‬الكفر بع‪99‬د قي‪99‬ام الحج‪99‬ة الظ‪99‬اهرة على‬
‫وجوب اإليمان‪ ،‬ومن فقد هداية هللا ضل‪.5‬‬
‫‪9‬ار يَحْ ِم‪ُ 9‬ل أَ ْس‪9‬فَارًا‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬مثَ ُل الَّ ِذينَ ُح ِّملُ‪99‬وا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَ‪99‬ا َك َمثَ‪ِ 9‬ل ْال ِح َم‪ِ 9‬‬
‫ت هَّللا ِ َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ‪ِ 9‬دي ْالقَ‪99‬وْ َم الظَّالِ ِمينَ " (الجمع‪99‬ة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫س َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَا ِ‬ ‫بِ ْئ َ‬
‫‪.)5‬‬
‫‪ 1‬السنن اإللهية (‪.)180 / 1‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)180 / 1‬‬
‫‪ 3‬تفسير المنار (‪.)236 / 10‬‬
‫‪ 4‬تفسير المنار (‪ ،)567 / 10‬السنن اإللهية (‪.)182 / 1‬‬
‫‪ 5‬فتح القدير (‪ ،)16 / 5‬السنن اإللهية (‪.)182 / 1‬‬

‫‪101‬‬
‫‪9‬ر ِام َك َم ْن آ َمنَ بِاهّلل ِ َو ْاليَ‪99‬وْ ِم‬ ‫‪9‬ارةَ ْال َم ْس‪ِ 9‬ج ِد ْال َح‪َ 9‬‬
‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬أَ َج َع ْلتُ ْم ِس‪9‬قَايَةَ ْال َح‪ 9‬اجِّ َو ِع َم‪َ 9‬‬
‫يل هّللا ِ الَ يَ ْستَوُونَ ِعن َد هّللا ِ َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ " (التوب‪99‬ة ‪،‬‬ ‫اآلخ ِر َو َجاهَ َد فِي َسبِ ِ‬
‫ِ‬
‫آية ‪.)19 :‬‬
‫ك إِ ْذ قَا َل‬ ‫ـ وقال سبحانه وتعالى‪" :‬أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذي َحآ َّج إِب َْرا ِهي َم فِي ِربِّ ِه أَ ْن آتَاهُ هّللا ُ ْال ُم ْل َ‬
‫يت قَ‪99‬ا َل إِ ْب‪َ 9‬را ِهي ُم فَ ‪9‬إ ِ َّن هّللا َ يَ‪99‬أْتِي‬ ‫‪9‬ال أَنَ‪99‬ا أُحْ يِـي َوأُ ِم ُ‬ ‫يت قَ‪َ 9‬‬‫‪9‬را ِهي ُم َرب َِّي الَّ ِذي يُحْ يِـي َويُ ِم ُ‬ ‫إِ ْب‪َ 9‬‬
‫ب فَبُ ِهتَ الَّ ِذي َكفَ‪َ 99‬ر َوهّللا ُ الَ يَهْ‪ِ 99‬دي ْالقَ‪99‬وْ َم‬ ‫ت بِهَ‪99‬ا ِمنَ ْال َم ْغ ِ‬
‫‪99‬ر ِ‬ ‫ق فَ‪99‬أْ ِ‬‫س ِمنَ ْال َم ْش‪ِ 99‬ر ِ‬ ‫بِ َّ‬
‫الش‪ْ 99‬م ِ‬
‫الظَّالِ ِمينَ " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)258 :‬‬
‫فاهلل عز وجل من سنته أن ال يهدي ال‪9‬ذي ظلم نفس‪9‬ه باالمتن‪9‬اع عن قب‪9‬ول الهداي‪9‬ة‪ ،‬ولم‬
‫ينظر في الدالئل التي توصل إلى معرفة الحق‪ ،‬ويستسلم للطاغوت‪ ،‬ويترك ما أعط‪99‬اه‬
‫هللا من الفهم‪ ،‬إتباعا ً لهواه وشهوته‪ ،‬وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضل ضالالً بعيداً‪.1‬‬
‫ومن اآليات التي جاءت تبين أن الكفر سبب في تحقق هللا في اإلضالل‪:‬‬
‫ُوا يُ ِحلِّونَ ‪9‬هُ عَا ًم‪99‬ا‬ ‫ُض ‪9‬لُّ بِ ‪ِ 9‬ه الَّ ِذينَ َكفَ ‪9‬ر ْ‬ ‫‪9‬ر ي َ‬ ‫قول‪99‬ه س‪99‬بحانه‪" :‬إِنَّ َم‪99‬ا النَّ ِس ‪9‬ي ُء ِزيَ‪99‬ا َدةٌ فِي ْال ُك ْف‪ِ 9‬‬
‫وا َما َح‪َّ 9‬ر َم هّللا ُ ُزيِّنَ لَهُ ْم ُس ‪9‬و ُء أَ ْع َم‪99‬الِ ِه ْم‬ ‫وا ِع َّدةَ َما َح َّر َم هّللا ُ فَيُ ِحلُّ ْ‬‫اط ُؤ ْ‬
‫َويُ َح ِّر ُمونَهُ عَا ًما لِّي َُو ِ‬
‫َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْال َكافِ ِرينَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)37‬‬
‫ُ‬
‫ك َوإِن لَّ ْم تَ ْف َع‪99‬لْ فَ َم‪99‬ا‬ ‫ك ِمن َّربِّ َ‬ ‫ـ وقال سبحانه وتعالى‪ " :‬يَا أَيُّهَا ال َّرسُو ُل بَلِّ ْغ َما أ ِ‬
‫نز َل إِلَ ْي‪َ 9‬‬
‫اس إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْال َكافِ ِرينَ " (المائ‪99‬دة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ك ِمنَ النَّ ِ‬ ‫بَلَّ ْغتَ ِر َسالَتَهُ َوهّللا ُ يَع ِ‬
‫ْص ُم َ‬
‫‪.)67‬‬
‫ِّين ْالخَ‪ 9‬الِصُ َوالَّ ِذينَ اتَّخَ‪ُ 9‬ذوا ِمن ُدونِ‪ِ 9‬ه أَوْ لِيَ‪99‬اء َم‪99‬ا نَ ْعبُ‪ُ 9‬دهُ ْم إِاَّل‬ ‫ـ وقال تع‪99‬الى‪" :‬أَاَل هَّلِل ِ ال‪9‬د ُ‬
‫‪9‬و‬‫لِيُقَرِّ بُونَا إِلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى إِ َّن هَّللا َ يَحْ ُك ُم بَ ْينَهُ ْم فِي َما هُ ْم فِي ِه يَ ْختَلِفُ‪99‬ونَ إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ‪ِ 9‬دي َم ْن هُ‪َ 9‬‬
‫َكا ِذبٌ َكفَّارٌ" (الزمر ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬
‫ـ وقال سبحانه وتعالى مبينا ً أن التكذيب بآيات هللا سبب في الضالل‪َ " :‬والَ تَ ُك‪99‬ون ََّن ِمنَ‬
‫ك الَ‬ ‫ت َربِّ َ‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ْم َكلِ َم ُ‬ ‫اس‪ِ 99‬رينَ * إِ َّن الَّ ِذينَ َحقَّ ْ‬ ‫ت هّللا ِ فَتَ ُك‪99‬ونَ ِمنَ ْالخَ ِ‬ ‫‪99‬ذب ْ‬
‫ُوا بِآيَ‪99‬ا ِ‬ ‫الَّ ِذينَ َك َّ‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ " (يونس ‪ ،‬آية ‪ 95 :‬ـ ‪.)96‬‬
‫وقال سبحانه وتعالى مبينا ً أن اإلجرام س‪99‬بب في الض‪99‬الل‪ ،‬وس‪99‬بب في حل‪99‬ول س‪99‬نة هللا‬
‫ك ن َْس‪9‬لُ ُكهُ فِي‬ ‫وا بِ‪ِ 9‬ه يَ ْس‪9‬تَه ِْز ُؤونَ * َك‪َ 9‬ذلِ َ‬ ‫ُول إِالَّ َكانُ ْ‬ ‫فيمن هذه صفته " َو َما يَأْتِي ِهم ِّمن َّرس ٍ‬
‫‪2‬‬

‫ت ُسنَّةُ األَ َّولِينَ " (الحجر ‪ ،‬آية ‪ 11 :‬ـ ‪.)13‬‬ ‫ب ْال ُمجْ ِر ِمينَ *الَ ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ِه َوقَ ْد خَ لَ ْ‬ ‫قُلُو ِ‬
‫‪ 17‬ـ الغلو في األنبياء والصالحين‪:‬‬
‫إن اإلفراط والغلو في تعظيم األنبي‪99‬اء والص‪99‬الحين ب‪99‬القول واالعتق‪99‬اد والفع‪99‬ل وتج‪99‬اوز‬
‫الحد والحق في منزلتهم التي أنزلهم هللا إياها من إدع‪99‬اء األلوهي‪99‬ة لهم أو ص‪99‬رف ش‪99‬ئ‬
‫من العبادة ـ ال تنبغي إال هلل ـ لهم مث‪99‬ل التش‪99‬ريع وال‪99‬ذبح والتض‪99‬رع وال‪99‬دعاء إلى غ‪99‬ير‬
‫ذلك من أنواع العبادات سبب في الضالل‪.3‬‬

‫‪1‬تفسير البيضاوي (‪ ،)73 / 1‬تفسير المراغي (‪.)27 / 3‬‬


‫‪2‬السنن اإللهية ( ‪.)187 / 1‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية (‪.)195 /1‬‬

‫‪102‬‬
‫ت ْاليَهُو ُد عُزَ ْي ٌر‬ ‫فأما عن ضالل اليهود والنصارى بسبب غلوهم‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ " :‬وقَالَ ِ‬
‫ُض‪9‬ا ِه ُؤونَ قَ‪99‬وْ َل الَّ ِذينَ‬ ‫ك قَ‪99‬وْ لُهُم بِ‪99‬أ َ ْف َوا ِه ِه ْم ي َ‬ ‫ارى ْال َم ِس‪9‬ي ُح اب ُْن هّللا ِ َذلِ‪َ 9‬‬ ‫ص َ‬ ‫ت النَّ َ‬ ‫اب ُْن هّللا ِ َوقَالَ ْ‬
‫وا أَحْ بَا َرهُ ْم َو ُر ْهبَ‪99‬انَهُ ْم أَرْ بَابً‪99‬ا ِّمن ُدو ِن هّللا ِ‬ ‫ُوا ِمن قَ ْب ُل قَاتَلَهُ ُم هّللا ُ أَنَّى ي ُْؤفَ ُكونَ * اتَّخَ ُذ ْ‬ ‫َكفَر ْ‬
‫‪9‬و ُس ‪ْ 9‬ب َحانَهُ َع َّما‬ ‫وا إِلَـهًا َوا ِح‪ 9‬دًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ هُ‪َ 9‬‬ ‫يح ا ْبنَ َم‪99‬رْ يَ َم َو َم‪99‬ا أُ ِم‪ 9‬ر ْ‬
‫ُوا إِالَّ لِيَ ْعبُ ‪ُ 9‬د ْ‬ ‫َو ْال َم ِس ‪َ 9‬‬
‫يُ ْش ِر ُكونَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪ 30 :‬ـ ‪.)31‬‬
‫ـ وقال سبحانه وتعالى عن غلو النصارى في عيسى بن مريم علي‪99‬ه الس‪99‬الم‪" :‬يَ‪99‬ا أَ ْه‪َ 9‬ل‬
‫يس‪9‬ى اب ُْن َم‪99‬رْ يَ َم‬ ‫ق إِنَّ َم‪99‬ا ْال َم ِس‪9‬ي ُح ِع َ‬ ‫وا َعلَى هّللا ِ إِالَّ ْال َح‪ِّ 9‬‬ ‫وا فِي ِدينِ ُك ْم َوالَ تَقُولُ ْ‬ ‫ب الَ تَ ْغلُ ْ‬ ‫ْال ِكتَا ِ‬
‫‪9‬وا ثَالَثَ‪9‬ةٌ‬ ‫ُس‪9‬لِ ِه َوالَ تَقُولُ‪ْ 9‬‬
‫وا بِاهّلل ِ َور ُ‬ ‫َرسُو ُل هّللا ِ َو َكلِ َمتُ‪9‬هُ أَ ْلقَاهَ‪99‬ا إِلَى َم‪99‬رْ يَ َم َورُو ٌح ِّم ْن‪9‬هُ فَ‪99‬آ ِمنُ ْ‬
‫ُوا خَ ْيرًا لَّ ُك ْم إِنَّ َما هّللا ُ إِلَـهٌ َوا ِح ٌد ُسب َْحانَهُ أَن يَ ُكونَ لَهُ َولَ ٌد لَّهُ َما فِي ال َّس َما َوات َو َم‪99‬ا فِي‬ ‫انتَه ْ‬
‫ض َو َكفَى بِاهّلل ِ َو ِكيالً (النساء ‪ ،‬آية ‪.)171 :‬‬ ‫األَرْ ِ‬
‫‪ 18‬ـ صحبة السواء والبيئةـ الفاسدة‪:‬‬
‫بين سبحانه وتعالى أن الصاحب السوء قد يكون سببا ً في ضالل صاحبه‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪:‬‬
‫َّس‪9‬و ِل َس‪9‬بِياًل * يَ‪99‬ا َو ْيلَتَى‬ ‫ت َم‪َ 9‬ع الر ُ‬ ‫"ويَوْ َم يَ َعضُّ الظَّالِ ُم َعلَى يَ َد ْي ِه يَقُ‪99‬و ُل يَ‪99‬ا لَ ْيتَنِي اتَّ َخ‪ْ 9‬ذ ُ‬ ‫َ‬
‫ان‬ ‫الش ‪ْ 9‬يطَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫ض ‪9‬لنِي ع َِن ال ‪9‬ذك ِر بَ ْع‪َ 9‬د إِذ َج‪ 9‬اءنِي َو َك‪99‬انَ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫لَ ْيتَنِي لَ ْم أتَّ ِخ‪ 9‬ذ فاَل نً‪99‬ا َخلِياًل * لَقَ ‪ْ 9‬د أ َ‬
‫ان خَ ُذواًل " (الفرقان ‪ ،‬آية ‪ 27 :‬ـ ‪.)29‬‬ ‫لِإْل ِ ن َس ِ‬
‫ويصور القرآن الكريم جانبا ً من وسوسة صاحب السوء لصاحبه بقول‪99‬ه‪ " :‬يَقُ‪99‬و ُل أَئِنَّكَ‬
‫ص ِّدقِينَ * أَئِ َذا ِم ْتنَ‪99‬ا َو ُكنَّا تُ َرابً‪99‬ا َو ِعظَا ًم‪99‬ا أَئِنَّا لَ َم‪ِ 9‬دينُونَ " على س‪99‬بيل االس‪99‬تهجان‬ ‫لَ ِم ْن ْال ُم َ‬
‫واالستبعاد للبعث والحس‪99‬اب‪ ،‬ثم ي‪99‬بين أن‪99‬ه ل‪99‬وال فض‪99‬ل هللا على ذل‪99‬ك الص‪99‬احب وع‪99‬دم‬
‫استجابته له لكان هو وإياه في سواء الجحيم‪.1‬‬
‫ين‬ ‫ْض يَتَ َساءلُونَ * قَا َل قَائِ ٌل ِّم ْنهُ ْم إِنِّي َكانَ لِي قَ ِ‬
‫‪99‬ر ٌ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫ـ قال تعالى‪" :‬فَأ َ ْقبَ َل بَ ْع ُ‬
‫ص ِّدقِينَ * أَئِ َذا ِم ْتنَا َو ُكنَّا تُ َرابًا َو ِعظَا ًما أَئِنَّا لَ َم ِدينُونَ * قَا َل هَلْ أَنتُم‬ ‫ك لَ ِم ْن ْال ُم َ‬ ‫* يَقُو ُل أَئِنَّ َ‬
‫‪9‬دت لَتُ‪99‬رْ ِدي ِن * َولَ‪99‬وْ اَل نِ ْع َم‪ 9‬ةُ‬ ‫‪9‬ال تَاهَّلل ِ إِ ْن ِك‪َّ 9‬‬ ‫ُّمطَّلِعُونَ * فَاطَّلَ َع فَ َرآهُ فِي َس‪َ 9‬واء ْال َج ِح ِيم * قَ‪َ 9‬‬
‫ض‪ِ 99‬رينَ "‪( 9‬الص‪99‬افات ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 50 :‬ـ ‪ ،)57‬فمخالط‪99‬ة أه‪99‬ل الس‪99‬وء‬ ‫نت ِمنَ ْال ُمحْ َ‬ ‫َربِّي لَ ُك ُ‬
‫‪2‬‬
‫ومصاحبتهم ضالل‪ ،‬أو سبيل إليه‪ ،‬ومقاربة منه ‪.‬‬
‫‪ 19‬ـ التشبه بالضالين‪:‬‬
‫حذر القرآن الكريم بالتشبه باليهود والنصارى وسائر الكفرة ألن هذا التشبه يؤدي إلى‬
‫الضالل‪ ،‬ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى‪ " :‬يَ‪99‬ا أَيُّهَ‪99‬ا الَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا اَل تَ ُكونُ‪99‬وا َكالَّ ِذينَ آ َذوْ ا‬
‫ُمو َسى فَبَرَّأَهُ هَّللا ُ ِم َّما قَالُوا َو َكانَ ِعن َد هَّللا ِ َو ِجيهًا" (األحزاب ‪ ،‬آية ‪.)69 :‬‬
‫ك‬ ‫َات َوأُوْ لَـئِ َ‬ ‫وا ِمن بَ ْع ِد َما َجاءهُ ُم ْالبَيِّن ُ‬ ‫اختَلَفُ ْ‬‫وا َو ْ‬ ‫وا َكالَّ ِذينَ تَفَ َّرقُ ْ‬‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬والَ تَ ُكونُ ْ‬
‫لَهُ ْم َع َذابٌ َع ِظي ٌم"(آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)105 :‬‬
‫ص ‪ُّ 9‬دونَ‬ ‫ار ِهم بَطَ ‪9‬رًا َو ِرئَ‪99‬اء النَّ ِ‬
‫اس َويَ ُ‬ ‫وا َكالَّ ِذينَ َخ َرج ْ‬
‫ُوا ِمن ِديَ ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬والَ تَ ُكونُ ْ‬
‫يل هّللا ِ َوهّللا ُ بِ َما يَ ْع َملُونَ ُم ِحيطٌ"(األنفال ‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬
‫عَن َسبِ ِ‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪ 2987 /5‬ـ ‪.)2988‬‬


‫‪2‬السنن اإللهية (‪.)200 / 1‬‬

‫‪103‬‬
‫وكل ما ورد في القرآن من قص‪99‬ص اليه‪99‬ود أو النص‪99‬ارى‪ ،‬أو س‪99‬ائر الكف‪99‬رة من المل‪99‬ل‬
‫األخرى في بيان معاصيهم وأخالقهم ومعتقداتهم الباطلة‪ ،‬فيه عبرة لنا ح‪99‬تى ال نتش‪99‬به‬
‫‪1‬‬
‫بهم فنضل كما ضلوا‬
‫‪ 20‬ـ االبتداع في الدين‪:‬‬
‫البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقتص‪99‬د بالس‪99‬لوك عليه‪99‬ا م‪99‬ا يقص‪99‬د‬
‫بالطريقة الشرعية‪.2‬‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أم‪9‬ا بع‪9‬د ف‪9‬إن خ‪9‬ير الح‪9‬ديث كت‪9‬اب هللا وخ‪9‬ير اله‪9‬دى ه‪9‬دي‬
‫محمد‪ ،‬وشر األمور محدثاتها وكل بدعة ضاللة"‪ ،3‬فقوله‪ :‬كل بدع‪99‬ة ض‪99‬اللة‪ :‬ه‪99‬و من‬
‫جوامع الكلم ال يخرج عنه شئ‪ ،‬وهو أصل عظيم من أصول ال‪99‬دين وه‪99‬و ش‪99‬بيه بقول‪99‬ه‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"‪ 4‬فك‪99‬ل من أح‪99‬دث‬
‫شيئا ً ونسبه إلى ال‪99‬دين ولم يكن ل‪99‬ه أص‪99‬ل من ال‪99‬دين يرج‪99‬ع إلي‪99‬ه فه‪99‬و ض‪99‬اللة‪ ،‬وال‪99‬دين‬
‫بريء من‪9‬ه‪ ،‬وس‪9‬واء في ذل‪9‬ك االعتق‪9‬ادات أو األعم‪9‬ال أو األق‪9‬وال الظ‪9‬اهرة والباطنة‪.5‬‬
‫وعن العرباض بن سارية قال‪ :‬صلى بنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ذات ي‪99‬وم‪ ،‬ثم‬
‫أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب‪ ،‬فق‪99‬ال قائ‪99‬ل‪:‬‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬كأن هذه موعظ‪9‬ة م‪9‬ودع‪ ،‬فم‪9‬اذا تعه‪99‬د إلين‪9‬ا؟ فق‪99‬ال‪ :‬أوص‪99‬يكم بتق‪9‬وى هللا‬
‫والس‪99‬مع والطاع‪99‬ة‪ ،‬وإن أم‪99‬ر عليكم عب‪99‬د حبش‪99‬ي‪ ،‬فإن‪99‬ه من يعش منكم بع‪99‬دي فس‪99‬يرى‬
‫اختالفا ً كثيراً‪ ،‬فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراش‪9‬دين تمس‪99‬كوا وعض‪99‬وا علي‪9‬ه‬
‫‪6‬‬
‫بالنواجذ‪ ،‬وإياكم ومحدثات األمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضاللة‬
‫ودوافع البدعة كما ذكر الشاطبي رحمه هللا هي‪ :‬الجه‪99‬ل‪ ،‬حس‪99‬ن الظن بالعق‪99‬ل‪ ،‬واتب‪99‬اع‬
‫الهدى‪ ،‬وكل ذلك من خطط الضالل وأسبابه والعياذ باهلل‪ ،‬فاإلحداث في الشريعة‪ ،‬إنما‬
‫يقع إم‪9‬ا من جه‪99‬ة الجه‪9‬ل‪ ،‬وإم‪9‬ا من جه‪99‬ة تحس‪9‬ين الظن بالعق‪9‬ل‪ ،‬وإم‪9‬ا من جه‪99‬ة اتب‪9‬اع‬
‫اله‪99‬وى في طلب الح‪99‬ق‪ ،‬وه‪99‬ذا الح‪99‬ق بحس‪99‬ب االس‪99‬تقراء في الكت‪99‬اب والس‪99‬نة‪ ..‬إال أن‬
‫الجهات الثالثة قد تنفرد وقد تجتمع‪ ،‬فإذا اجتمعت فتارة تتعلق باألدوات التي تفهم به‪99‬ا‬
‫المقاصد وهي اللغة العربية‪ ،‬فإن هللا أنزل الق‪99‬رآن بلف‪99‬ظ ع‪99‬ربي وال يس‪99‬تخرج أحكام‪99‬ه‬
‫ويعرف مقاصده إال من كان على علم باللغة وأصولها‪ ،‬وتارة تتعلق بالمقاصد‪ ،‬وذل‪99‬ك‬
‫بالجهل أن هللا أنزل الشريعة على رسوله صلى هللا عليه وسلم فيها وتبي‪99‬ان ك‪99‬ل ش‪99‬يء‬
‫يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعن‪99‬اقهم‪ ،‬ولم‬
‫يمت رسول هللا حتى كمل الدين بشهادة هللا ب‪9‬ذلك حيث ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪ْ ":‬اليَ‪99‬وْ َم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫ت لَ ُك ْم‬
‫اإل ْسالَ َم ِدينًا" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬ ‫يت لَ ُك ُم ِ‬
‫ض ُ‬ ‫ِدينَ ُك ْم َوأَ ْت َم ْم ُ‬
‫ت َعلَ ْي ُك ْم نِ ْع َمتِي َو َر ِ‬
‫فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء فقد كذب بقوله‪ْ ":‬اليَوْ َم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫ت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم"‪.‬‬
‫وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرك‪ ،‬وتارة يقدم عليه‪ ،‬وه‪99‬ذان‬
‫النوعان يرجعان إلى نوع واحد‪ ،‬وأما جهة اتباع الهوى فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى‬

‫‪ 1‬اقتضاء الصراط المستقيم البن تيمية صـ ‪.17‬‬


‫‪ 2‬االعتصام للشاطبي (‪.)37 /1‬‬
‫‪3‬مسلم‪ ،‬ك الجمعة (‪.)591 / 2‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري (‪.)301 /5‬‬
‫‪ 5‬جامع العلوم والحكم صـ ‪.233‬‬
‫‪ 6‬سنن أبي داود (‪ 13 /5‬ـ ‪.)15‬‬

‫‪104‬‬
‫يغلب ص‪99‬احبه األدل‪99‬ة أو يس‪99‬تند إلى غ‪99‬ير دليل‪ .1‬من هن‪99‬ا يت‪99‬بين أن االبت‪99‬داع في ال‪99‬دين‬
‫وعدم اتباع هدى هللا سبحانه وتعالى سبب من أسباب الضالل‪.2‬‬

‫‪ 1‬االعتصام (‪ )293 /2‬بتصرف‪.‬‬


‫‪ 2‬السنن اإللهية (‪.)207 /1‬‬

‫‪105‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬سنةـ هللا في األخذ باألسباب‪:‬‬
‫إن اإليمان بالقدر ال يعارض األخذ باألسباب المش‪99‬روعة‪ ،‬ب‪99‬ل األس‪99‬باب مق ‪َّ 9‬درة أيض ‪9‬ا ً‬
‫كالمس‪99‬ببات‪ ،‬فمن زعم أن هللا تع‪99‬الى ق‪ّ 99‬در النت‪99‬ائج و المس‪99‬ببات من غ‪99‬ير مق‪99‬دماتها‬
‫وأس‪99‬بابها‪ ،‬فق‪99‬د ذه‪99‬ل عن حقيق‪99‬ة الق‪99‬در‪ ،‬وأعظم على هللا الغري‪99‬ة‪ ،‬فاألس‪99‬باب مق‪ّ 99‬درة‬
‫كالمسببات‪ ،1‬وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لمن س‪99‬أله عن ال‪9‬رّقي‪ ،‬ه‪99‬ل ت‪99‬رد‬
‫من ق‪99‬در هللا ش‪99‬يئاً؟ ق‪99‬ال‪ :‬هي من ق‪99‬در هللا‪ ،2‬وحي‪99‬اة الرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫وأصحابه كانت قائمة على األخذ باألسباب وسيرته تشهد بأنه كان يتخ‪99‬ذ ك‪99‬ل الوس‪99‬ائل‬
‫والتدابير وأسباب العمل‪.3‬‬
‫إن سنن هللا في كونه وشرعه تحتم علينا األخذ باألسباب كم‪99‬ا فع‪99‬ل ذل‪99‬ك أق‪99‬وى الن‪99‬اس‬
‫إيمانا ً باهلل وقضائه وقدره وهو رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬لقد قاوم الفقر بالعمل‪،‬‬
‫وقاوم الجهل بالعلم‪ ،‬وقاوم المرضى بالعالج‪ ،‬وقاوم الكفر والمعاص‪99‬ي بالجه‪99‬اد وك‪99‬ان‬
‫يس‪99‬تعيد باهلل من الهم والح‪99‬زن‪ ،‬والعج‪99‬ز والكس‪99‬ل‪ ،‬وتع‪99‬اطى أس‪99‬باب األك‪99‬ل والش‪99‬رب‪،‬‬
‫وادخر ألهله قوت سنة‪ ،‬ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء‪ ،‬وقال للذي سأله‪:‬‬
‫أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال‪ :‬اعقلها وتوكل‪.4‬‬
‫وقال‪ :‬وفر من المجذوم فرارك من األسد‪ ،5‬وما غزواته المظفرة صلى هللا عليه وسلم‬
‫إال مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة هللا وقدره‪ ،‬فقد أخذ الحذر‬
‫وأع‪99‬د الجي‪99‬وش‪ ،‬وبعث الطالئ‪99‬ع والعي‪99‬ون وظ‪99‬اهر بين درعين‪ ،‬ولبس المغف‪99‬ر على‬
‫رأس‪99‬ه‪ ،‬وأقع‪99‬د الرم‪99‬اة على فم الش‪99‬عب‪ ،‬وخن‪99‬دق ح‪99‬ول المدين‪99‬ة‪ ،‬وأذن في الهج‪99‬رة إلى‬
‫الحبشة وإلى المدينة وهاجر بنفسه واتخذ أس‪99‬باب الحيط‪99‬ة في هجرت‪99‬ه‪ ،‬أع‪99‬د الرواح‪99‬ل‬
‫التي يمتطيها والدليل الذي يصحبه وغير ذلك الطري‪99‬ق‪ ،‬واختب‪99‬أ في الغ‪99‬ار‪ ،6‬وك‪99‬ان إذا‬
‫سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين‪.‬‬
‫وقد أدرك الصحابة رضوان هللا عليهم هذا المعنى وفهموا أن اإليمان بالق‪99‬در ال يع‪99‬ني‬
‫ترك األخذ باألسباب ولهذا أدرك الصحابة رضوان هللا عليهم هذا المعنى‪ ،‬وفهموا أن‬
‫اإليمان بالقدر ال يعني ترك األخذ باألسباب‪ ،‬ولهذا أنكر عم‪99‬ر عن أبي عبي‪99‬دة رض‪99‬ي‬
‫هللا عنهما ربط‪9‬ه الق‪9‬در بع‪9‬دم اإلخ‪99‬ذ باألس‪9‬باب‪ ،‬كم‪99‬ا ورد في قص‪9‬ة ط‪9‬اعون عم‪99‬واس‬
‫الشهير‪ ،‬فحين ه ّم عمر بالرجوع إلى المدينة في ح‪99‬دود الش‪99‬ام‪ ،‬ق‪99‬ال ل‪99‬ه أب‪99‬و عبي‪99‬دة بن‬
‫الجراح‪ :‬أفراراً من قدر هللا؟ فدهش عمر لهذا االعتراض وقال ألبي عبيدة‪ :‬لو غ‪99‬يرك‬
‫قالها يا أبا عبيدة‪ :‬نعم نفر من قدر هللا إلى قدر هللا‪ ،‬ثم أردف قائالً‪ :‬أرأيت لو ك‪99‬ان إب‪99‬ل‬
‫هبطت واديا ً له عدوتان إحداهما خصيبة واألخ‪99‬رى جديب‪99‬ة‪ ،‬أليس إن رعيت الخص‪99‬بة‬
‫رعيتها بقدر هللا وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر هللا‪.7‬‬
‫أن‬‫أن القدر علم هللا السابق بما يحدث غير أن عمر كان يرى ّ‬ ‫فعمر وأبو عبيدة يعلمان ّ‬
‫قدر هللا ال دخ‪9‬ل ل‪9‬ه في موض‪9‬وع رب‪9‬ط األس‪9‬باب بالمس‪9‬ببات‪ ،‬فال‪9‬ذهاب إلى الش‪9‬ام م‪9‬ع‬
‫وجود الطاعون يتسبب عن‪99‬ه الم‪99‬وت والرج‪99‬وع أخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب للنج‪99‬اة من الط‪99‬اعون‪،‬‬
‫‪ 1‬منهج الحافظ ابن حجر العسقالني في العقيدة (‪.)428 /1‬‬
‫‪ 2‬سنن ابن ماجة (‪ ،)1137 /2‬رقم ‪ 3437‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪3‬العقيدة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬أحمد جلي صـ ‪.391‬‬
‫‪ 4‬رواه ابن حبان بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية الضميري‪.‬‬
‫‪ 5‬البخاري ك الطب باب ‪.)5380 /5( 19‬‬
‫‪ 6‬عقيدة التوحيد سعاد ميبر صـ ‪.212‬‬
‫‪ 7‬البخاري‪ ،‬ك الطب رقم ‪.5729‬‬

‫‪106‬‬
‫ولهذا أنكر عمر على أبي عبيدة أن يعترض عليه قائالً له‪ :‬لو غيرك ي‪99‬ا أباعبي‪99‬دة‪ ،‬ولم‬
‫يكتف بذلك‪ ،‬ب‪99‬ل ش‪99‬رح رأي‪99‬ه ب‪99‬أن ال‪99‬ذهاب إلى الش‪99‬ام ذه‪99‬اب بق‪99‬در هللا‪ ،‬والرج‪99‬وع إلى‬
‫المدينة رجوع بقدر هللا‪ ،‬أي بعلم هللا‪ ،‬مما يدل على أن القدر ال يصح أن يربط باإلقدام‬
‫على األعمال أو اإلحجام عنها‪ ،‬وال يصح أن يترك األخذ باألسباب بحجة القدر‪.1‬‬
‫ولهذا يذهب ابن القيم إلى‪ :‬أن الدين هو إثبات األسباب والوقوف معه‪99‬ا والنظ‪99‬ر إليه‪99‬ا‪،‬‬
‫وأنه ال دين إال بذلك كما ال حقيقة إال به‪ ،‬فالحقيقة والشريعة مبناهم‪99‬ا على إثباته‪99‬ا "أي‬
‫األسباب" ال على محوها‪ ،‬وال ننكر الوقوف معها‪ ،‬فإن الوقوف معها فرض على ك‪99‬ل‬
‫مسلم‪ ،‬ال يتم إسالمه وإيمانه إآل بذلك "اإليمان"‪ ،‬وباألسباب عرف هللا وبه‪99‬ا عب‪99‬د هللا‪،‬‬
‫وبها أطيع هللا وبها تقرب إليه المتقربون‪ ،‬وبه نال أولياؤه رضاه‪ ،‬وج‪99‬واره في جنت‪99‬ه‪،‬‬
‫وبها نصر حزبه ودينه‪ ،‬وأقاموا دعوته‪ ،‬وبها أرسل رسله وشرع شرائعه‪ ،‬وبها إنقسم‬
‫الناس إلى سعيد وشقي‪ ،‬ومهتد وغوي‪ ،‬فالوقوف معها‪ ،‬وااللتفاف إليها‪ ،‬والنظر إليها‪،‬‬
‫هو الواجب شرعاً‪ ،‬كما هو الواقع قدراً‪.2‬‬
‫إن قدر اللله حق وقدر هللا نافذ‪ ،‬ولكنه ينفذ من خالل السنن ال‪99‬تي أق‪99‬ام هللا عليه‪99‬ا نظ‪99‬ام‬
‫الكون‪ ،‬من خالل األسباب التي خلقها سبحانه وشرعها‪ ،‬وليستقيم عليه‪99‬ا أم‪99‬ر الوج‪99‬ود‬
‫ونظام التكليف‪ ،‬فهذه السنن واألسباب جزء ال يتجزأ من قدر هللا الشامل المحيط‪.3‬‬
‫أوالً‪ :‬األخذ باألسباب في القرآن الكريم‪:‬‬
‫القرآن الك‪99‬ريم حاف‪99‬ل باآلي‪9‬ات ال‪99‬تي ت‪99‬وجب على المس‪99‬لمين األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب في ش‪99‬تى‬
‫مناحي الحياة والعمل على استقصاء تل‪99‬ك االس‪99‬باب للوص‪99‬ول إلى الم‪99‬راد‪ ،‬خاص‪99‬ة في‬
‫تل‪99‬ك المواق‪99‬ف الص‪99‬عبة ال‪99‬تي تواج‪99‬ه األمم واألف‪99‬راد‪ ،‬ومن النم‪99‬اذج القرآني‪99‬ة في ه‪99‬ذا‬
‫الصدد‪.4‬‬
‫اط ْال َخ ْي ِل تُرْ ِهبُونَ بِ ِه َع ْد َّو هّللا ِ‬
‫وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة َو ِمن ِّربَ ِ‬ ‫‪1‬ـ قوله تعالى‪َ ":‬وأَ ِع ُّد ْ‬
‫وا ِمن َش ‪ْ 9‬ي ٍء فِي َس ‪9‬بِي ِل هّللا ِ‬ ‫آخَرينَ ِمن ُدونِ ِه ْم الَ تَ ْعلَ ُمونَهُ ُم هّللا ُ يَ ْعلَ ُمهُ ْم َو َما تُنفِقُ ْ‬ ‫َو َع ُد َّو ُك ْم َو ِ‬
‫ظلَ ُمونَ " (األنفال‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬ ‫ف إِلَ ْي ُك ْم َوأَنتُ ْم الَ تُ ْ‬
‫يُ َو َّ‬
‫إن أمر التمكين لهذا ال‪99‬دين يحت‪99‬اج إلى جمي‪99‬ع أن‪99‬واع الق‪99‬وى‪ ،‬على اختالفه‪99‬ا وتنوعه‪99‬ا‪،‬‬
‫ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما ً كبيراً بإرشاد األمة لألخذ بأس‪99‬باب الق‪99‬وة وأوجب هللا‬
‫تعالى على األمة األخذ بأسبابها‪ ،‬ألن التمكين لهذا ال‪99‬دين طريق‪99‬ه الوص‪99‬ول إلى الق‪99‬وى‬
‫بمفهومها الشامل وقد قال األصوليون‪ 9:‬وما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪.5‬‬
‫وفي قوله‪َّ ":‬ما ا ْستَطَ ْعتُم" قال ابن كثير‪ :‬أي مهما أمكنكم وه‪99‬ذا التعب‪99‬ير الق‪99‬رآني يش‪9‬ير‬
‫إلى أقصى حدود الطاقة‪ ،‬بحيث ال يقعد المسلمون عن سبب من أسباب القوة يدخل في‬
‫طاقاتها‪ ،6‬والمراد بالقوة هنا‪ :‬ما يكون سببا ً لحصول القوة ولهذا‪:‬‬
‫ـ قال أصحاب المعاني‪ :‬األولى أن يق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذا ع‪99‬ام في ك‪99‬ل م‪99‬ا تتق‪99‬وى ب‪99‬ه على ح‪99‬رب‬
‫العدو وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة وورد أن النبي صلى هللا عليه‬

‫‪ 1‬العقيدة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬أحمد جلي صـ ‪.391‬‬


‫‪ 2‬مدارج السالكين البن القيم (‪ 407 /3‬ـ ‪.)408‬‬
‫‪ 3‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪.51‬‬
‫‪ 4‬السنن اإللهية في األمم واألفراد د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.61‬‬
‫‪ 5‬في ظالل القرآن (‪.)919 /2‬‬
‫‪ 6‬فقه النصر والتمكين للصاّل بي صـ ‪.221‬‬

‫‪107‬‬
‫وسلم قرأ اآلية الكريمة على المنبر وقال‪" :‬أال إن القوة الرمي" قاله‪99‬ا ثالث ‪9‬ا ً‪ .1‬وه‪99‬ذا ال‬
‫ينفي كون غير الرمي معتبراً كما قوله‪ :‬الحج عرفة‪ .2‬وقوله‪ :‬الدين النصيحة‪ .3‬ال ينفي‬
‫اعتبار غيره‪ ،‬بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا‪ .4‬كم‪99‬ا‬
‫يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة "ق‪9‬وة" هن‪9‬ا نك‪9‬رة ال معرف‪9‬ة فهي تش‪9‬مل ك‪9‬ل س‪9‬الح‬
‫معروف أو س‪99‬يعرف م‪99‬ع ال‪99‬زمن المتج‪99‬دد فهي تتس‪99‬ع إلع‪99‬داد الط‪99‬ائرات والص‪99‬واريخ‬
‫وال‪99‬دبابات‪ ..‬وك‪99‬ل األس‪99‬لحة ال‪99‬تي له‪99‬ا الت‪99‬أثير الحاس‪99‬م في المعركة‪ ،5‬وت‪99‬دخل الق‪99‬وة‬
‫االقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واألمنية واإلعالمية‪.. ،‬الخ ومع‪99‬نى" ِّربَ‪99‬ا ِط ْال َخ ْي‪ِ 9‬ل"‪ :‬هي اس‪99‬م‬
‫للخيل التي ترابط في سبيل هللا تعالى‪.6‬‬
‫َرينَ ِمن ُدونِ ِه ْم" قال الطبري‪ :‬هم كل ع‪99‬دو للمس‪99‬لمين‪ ،‬وذك‪99‬ر هللا تع‪99‬الى‬ ‫ومعنى " َوآخ ِ‬
‫في هذه اآلية الكريمة ما ألجله أمر بإعداد هذه األشياء فقال ج‪99‬ل ش‪99‬أنه " تُرْ ِهبُ‪99‬ونَ بِ ‪ِ 9‬ه‬
‫آخَرينَ " ذلك أن الكفار إذا علم‪99‬وا ك‪99‬ون المس‪99‬لمين مت‪99‬أهبين للجه‪99‬اد‬ ‫َع ْد َّو هّللا ِ َو َع ُد َّو ُك ْم َو ِ‬
‫ومستعدين له ومستكملين لجميع األسلحة واآلالت خافوهم وذلك يفيد أمور كثيرة‪:‬‬
‫ـ أنهم ال يتجرأون على دخول دار اإلسالم‪.‬‬
‫ـ أنهم إذا اشتد خوفهم فربما ال‪99‬تزموا من عن‪99‬د أنفس‪99‬هم ب‪99‬إحترام المس‪99‬لمين واالس‪99‬تجابة‬
‫لطلباتهم‪.‬‬
‫ـ أنه ربما صار ذلك داعيا ً إلى اإليمان لما يرون من قوة أهله وعزتهم‪.‬‬
‫ـ أنهم ال يعينون سائر الكفار‪.‬‬
‫يحص‪9‬لوا ك‪99‬ل أس‪99‬باب الق‪99‬وة‪ ،‬فهم يواجه‪99‬ون نظام‪9‬ا ً‬ ‫ّ‬ ‫وما أحوج المس‪99‬لمين الي‪99‬وم إلى أن‬
‫عالميا ً وقوى دولية ال تعرف إال لغة القوة فعليهم أن يقرعوا الحدي‪9‬د بالحدي‪9‬د‪ ،‬ويق‪9‬ابلوا‬
‫الريح باإلعصار ويقابلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه وبكل ما امتدت إليه يدهم‪،‬‬
‫وبكل ما اكتشف اإلنسان ووصل إليه العلم في هذا العصر من سالح وعتاد واس‪99‬تعداد‬
‫حربي‪ ،‬ال يقصرون في ذلك وال يعجزون‪.7‬‬
‫إن الواجب على األمة اإلسالمية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مص‪99‬اعد المج‪99‬د‪ ،‬أن‬
‫تجاه‪99‬د بماله‪99‬ا ونفس‪99‬ها الجه‪99‬اد ال‪99‬ذي أمره‪99‬ا هللا ب‪99‬ه في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم م‪99‬راراً عدي‪99‬دة‪،‬‬
‫فالجهاد بالمال والنفس ه‪99‬و العلم األعلى ال‪99‬ذي يهت‪99‬ف ب‪99‬العلوم كله‪99‬ا‪ ،‬ف‪99‬إذا تعلمت ه‪99‬ذا‬
‫العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف‪.8‬‬
‫إن إعداد الق‪99‬وة يس‪99‬تدعي إنفاق‪9‬اً‪ ،‬وق‪99‬د تكف‪99‬ل هللا للمنفقين في س‪99‬بيله ب‪99‬إخالف م‪99‬ا أنفق‪99‬وه‬
‫ف إِلَ ْي ُك ْم َوأَنتُ ْم الَ‬ ‫"و َم‪99‬ا تُنفِقُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا ِمن َش‪ْ 9‬ي ٍء فِي َس‪9‬بِي ِل هّللا ِ يُ‪َ 9‬و َّ‬ ‫واإلثاب‪99‬ة علي‪99‬ه‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫ظلَ ُمونَ " (األنفال ‪ ،‬آية ‪ ،)60 :‬وقد جاء التحذير من ع‪99‬دم اإلنف‪99‬اق في س‪99‬بيل هللا‪ ،‬م‪99‬ع‬ ‫تُ ْ‬
‫‪9‬وا فِي َس‪9‬بِي ِل هّللا ِ َوالَ‬ ‫بيان أن ذلك سبب لألهالك والمذلة‪ ،‬وذلك في قوله تع‪9‬الى‪َ " :‬وأَنفِقُ ْ‬
‫وا بِأ َ ْي ِدي ُك ْم إِلَى التَّ ْهلُ َك ِة" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)195 :‬أي ‪ :‬إذ لم تبذلوا في س‪99‬بيل هللا وتأيي‪99‬د‬ ‫تُ ْلقُ ْ‬

‫‪ 1‬مسلم مع شرح النووي (‪.)64 /13‬‬


‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان (‪.)74 /1‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ 4‬تفسير المنار (‪.)53 /5‬‬
‫‪ 5‬التمكين لألمة اإلسالمية صـ ‪ 89‬محمد السيد يوسف‪.‬‬
‫‪ 6‬تفسير النسفي نقالً عن فقه النصر والتمكين صـ ‪.221‬‬
‫‪ 7‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي صـ ‪.225‬‬
‫‪ 8‬لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم‪ ،‬شكيب أرسالن صـ ‪.164‬‬

‫‪108‬‬
‫دينه كل م‪99‬ا تس‪99‬تطيعون من م‪99‬ال واس‪99‬تعداد فق‪99‬د أهلكتم أنفس‪99‬كم‪ ،‬ففي اآلي‪99‬ة‪ :‬النهي عن‬
‫ترك اإلنفاق في سبيل هللا ألنه سبب الهالك‪ ،1‬وقد بين أبو أيوب األنصاري رضي هللا‬
‫عنه سبب نزول هذه اآلية‪ ،‬فعن أسلم بن عمران قال‪ :‬كنا بمدينة الروم "القسطنطينية"‬
‫فأخرجوا إلينا صفا ً عظيما ً من الروم‪ ،‬فخ‪99‬رج إليهم من المس‪99‬لمين مثلهم‪ ،‬فحم‪99‬ل رج‪99‬ل‬
‫من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيه فصاح الناس وقالوا‪ :‬سبحان‪ ،‬يلقي بيديه‬
‫إلى التهلكة‪ ،‬فقام أبو أيوب األنصاري فقال‪ :‬يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه اآلي‪99‬ة ه‪99‬ذا‬
‫التأويل‪ :‬وإنما أنزلت فينا معاشر األنصار‪ ،‬لما أع ‪َّ 9‬ز هللا اإلس‪99‬الم وك‪99‬ثر ناص‪99‬روه ق‪99‬ال‬
‫بعضنا لبعض س َّراً دون رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إن أموالن‪99‬ا ق‪99‬د ض‪99‬اعت‪ ،‬وإن‬
‫هللا قد أعز اإلسالم وكثر ناصروه‪ ،‬فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها‪ ،‬فأنزل‬
‫‪9‬وا فِي َس‪9‬بِي ِل هّللا ِ َوالَ تُ ْلقُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا‬ ‫هللا على نبيه صلى هللا عليه وسلم يرد علينا ما قلن‪99‬ا‪َ " :‬وأَنفِقُ‪ْ 9‬‬
‫بِأَيْ‪ِ 99‬دي ُك ْم إِلَى التَّ ْهلُ َك‪ِ 99‬ة"(البق‪99‬رة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)195 :‬فك‪99‬انت التهلك‪99‬ة اإلقام‪99‬ة على األم‪99‬وال‬
‫وإصالحها وتركنا الغزو‪.2‬‬
‫وعموم اآلية يقتضي اإلنفاق في سبيل هللا في سائر وجوه القربات ووج‪99‬وه الطاع‪99‬ات‪،‬‬
‫وخاصة صرف األموال في قتال األعداء وبذلها فيما يقوي به المسلمون على ع‪99‬دوهم‬
‫‪3‬‬
‫واإلخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هالك ودمار لمن لزمه واعتاده‬
‫إن من أهم السنن الربانية التي ترتب‪99‬ط بعالق‪99‬ة مباش‪99‬رة م‪99‬ع س‪99‬نن التمكين‪ ،‬س‪99‬نة األخ‪99‬ذ‬
‫باألسباب ولذلك يجب على أفراد األم‪99‬ة وقادته‪99‬ا الع‪99‬املين للتمكين ل‪99‬دين هللا من فهمه‪99‬ا‬
‫واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع‪.‬‬
‫وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة َو ِمن‬ ‫إن هللا عز وجل أمرنا باإلعداد الشامل في قوله‪َ ":‬وأَ ِع ُّد ْ‬
‫‪99‬اط ْال َخيْ‪ِ 99‬ل"‪ ،‬وإع‪99‬داد الق‪99‬وة في حقيقت‪99‬ه األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب الش‪99‬املة‪ ،‬كق‪99‬وة العقي‪99‬دة‬ ‫ِّربَ ِ‬
‫واإليم‪99‬ان‪ ،‬وق‪99‬وة الص‪99‬ف والتالحم‪ ،‬وق‪99‬وة الس‪99‬الح والس‪99‬اعد‪ ،‬إن اآلي‪99‬ة الكريم‪99‬ة تض‪99‬ع‬
‫إذه‪99‬ان المس‪99‬لمين على اإلع‪99‬داد الش‪99‬امل المعن‪99‬وي والم‪99‬ادي‪ ،‬والعلمي والفقهي على‬
‫مستوى األفراد والجماعات وتدخل في طياتها اإلعداد التربوي‪ ،‬والسلوكي‪ ،‬واإلع‪99‬داد‬
‫المالي‪ ،‬واإلعداد اإلعالمي والسياسي واألمني والعسكري‪.4‬‬
‫ك عَن ِذي ْالقَرْ نَي ِْن قُلْ َسأ َ ْتلُو َعلَ ْي ُكم ِّم ْنهُ ِذ ْك‪ 9‬رًا * إِنَّا َم َّكنَّا لَ ‪9‬هُ فِي‬ ‫تعالى‪":‬ويَسْأَلُونَ َ‬
‫َ‬ ‫‪2‬ـ قال‬
‫س َو َج‪َ 9‬دهَا‬ ‫الش ‪ْ 9‬م ِ‬‫ب َّ‬ ‫‪9‬ر َ‬ ‫َ‬
‫ض َوآتَ ْينَاهُ ِمن ُكلِّ َش ْي ٍء َسبَبًا * فَأ ْتبَ َع َسبَبًا * َحتَّى إِ َذا بَلَ َغ َم ْغ‪ِ 9‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ب َوإِ َّما أَن تَتَّ ِخ‪َ 9‬ذ‬ ‫تَ ْغرُبُ فِي َع ْي ٍن َح ِمئَ ٍة َو َو َج َد ِعن َدهَا قَوْ ًما قُ ْلنَا يَ‪9‬ا َذا ْالقَ‪9‬رْ نَ ْي ِن إِ َّما أَن تُ َع‪ِّ 9‬ذ َ‬
‫ال أَ َّما َمن ظَلَ َم فَ َسوْ فَ نُ َع ِّذبُهُ ثُ َّم ي َُر ُّد إِلَى َربِّ ِه فَيُ َع ِّذبُ‪9‬هُ َع‪َ 9‬ذابًا نُّ ْك‪ 9‬رًا * َوأَ َّما‬ ‫فِي ِه ْم ُح ْسنًا * قَ َ‬
‫صالِحًا فَلَهُ َجزَ اء ْال ُح ْسنَى َو َسنَقُو ُل لَهُ ِم ْن أَ ْم ِرنَا يُ ْسرًا * ثُ َّم أَ ْتبَ َع َس ‪9‬بَبًا *‬ ‫َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ‬
‫َطلُ ُع َعلَى قَوْ ٍم لَّ ْم نَجْ َعل لَّهُم ِّمن ُدونِهَا ِس ْترًا * َك َذلِ َ‬
‫ك‬ ‫س َو َج َدهَا ت ْ‬ ‫طلِ َع ال َّش ْم ِ‬ ‫َحتَّى إِ َذا بَلَ َغ َم ْ‬

‫‪ 1‬الكشاف للزمخشري (‪.)343 /1‬‬


‫‪ 2‬سنن الترمذي (‪ )212 /5‬حسن صحيح غريب‪.‬‬
‫‪ 3‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.164‬‬
‫‪ 4‬فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم صـ ‪.214‬‬

‫‪109‬‬
‫طنَا بِ َما لَ َد ْي ِه ُخ ْبرًا * ثُ َّم أَ ْتبَ َع َس‪9‬بَبًا * َحتَّى إِ َذا بَلَ‪َ 9‬غ بَ ْينَ َّ‬
‫الس‪َّ 9‬د ْي ِن َو َج‪َ 9‬د ِمن ُدونِ ِه َم‪99‬ا‬ ‫َوقَ ْد أَ َح ْ‬
‫قَوْ ًما اَّل يَ َكا ُدونَ يَ ْفقَهُونَ قَوْ اًل * قَ‪99‬الُوا يَ‪99‬ا َذا ْالقَ‪99‬رْ نَي ِْن إِ َّن يَ‪99‬أْجُو َج َو َم‪99‬أْجُو َج ُم ْف ِس‪ُ 9‬دونَ فِي‬
‫ك خَرْ جًا َعلَى أَن تَجْ َع َل بَ ْينَنَا َوبَ ْينَهُ ْم َس ًّدا * قَا َل َما َم َّكنِّي فِي‪ِ 99‬ه َربِّي‬ ‫ض فَهَلْ نَجْ َع ُل لَ َ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫خَ ْي ٌر فَأ َ ِعينُونِي بِقُ َّو ٍة أَجْ َعلْ بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم َر ْد ًما * آتُونِي ُزبَ َر ْال َح ِدي ‪ِ 9‬د َحتَّى إِ َذا َس ‪9‬ا َوى بَ ْينَ‬
‫اس‪9‬طَا ُعوا‬ ‫ط‪9‬رًا * فَ َم‪99‬ا ْ‬ ‫ال انفُ ُخوا َحتَّى إِ َذا َج َعلَهُ نَارًا قَا َل آتُونِي أُ ْف ِر ْغ َعلَ ْي‪ِ 9‬ه قِ ْ‬ ‫ص َدفَ ْي ِن قَ َ‬‫ال َّ‬
‫أَن يَظهَرُوهُ َو َما ا ْستَطَا ُعوا لَهُ نَ ْقبًا * قَا َل هَ َذا َرحْ َمةٌ ِّمن َّربِّي فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد َربِّي َج َعلَ‪99‬هُ‬ ‫ْ‬
‫َد َّكاء َو َكانَ َو ْع ُد َربِّي َحقًّا" (الكهف‪ ،‬آية ‪ 83 :‬ـ ‪.)98‬‬
‫فقد وازن ذو القرنين بين األسباب ال‪99‬تي أتاحه‪99‬ا هللا ل‪99‬ه واتبعه‪99‬ا واستقص‪99‬اها‪ ،‬ح‪99‬تى إن‬
‫القرآن يلح على ذلك ويبينه ويك‪99‬رر التزام‪99‬ه في العم‪99‬ل باألس‪99‬باب‪ ،‬وذل‪99‬ك في مواض‪99‬ع‬
‫ثالثة من اآليات التي أشرنا إليها حيث يقول "فَأ َ ْتبَ َع َسبَبًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪ )85 :‬وبع‪99‬دها‬
‫يكرر ‪":‬ثُ َّم أَ ْتبَ َع َسبَبًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪ 89 :‬ـ ‪ ،)92‬وقرن ذو الق‪99‬رنين بم‪99‬ا انط‪99‬وى علي‪99‬ه‬
‫من أسباب معنوية‪ ،‬وما كان عليه من إيمان وتقوى وعمل صالح في قوله‪":‬هَ َذا َرحْ َمةٌ‬
‫ِّمن َّربِّي فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد َربِّي َج َعلَهُ َد َّكاء َو َك‪99‬انَ َو ْع‪ُ 9‬د َربِّي َحقًّ‪99‬ا" (الكه‪99‬ف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪،)98 :‬‬
‫ف‪99‬اجتمعت ل‪99‬ه األس‪99‬باب الظ‪99‬اهرة والباطن‪99‬ة فك‪99‬ان ل‪99‬ه التمكين والغلب‪99‬ة ونف‪99‬ع الن‪99‬اس‬
‫وإعانتهم‪.1‬‬
‫وذو القرنين علم قرآني بارز‪ ،‬خلّد هللا ذكره في كتابه الخالد‪ ،‬إن‪99‬ه الرج‪99‬ل الط‪99‬واف في‬
‫األرض‪ ،‬الصالح العادل الخاشع لربه والمنف‪99‬ذ ألم‪99‬ره‪ ،‬والق‪99‬ائم بين الن‪99‬اس باإلص‪99‬الح‪،‬‬
‫والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها‪ ،‬فلم يغره م‪99‬ال وال منص‪99‬ب‪ ،‬وال ج‪99‬اه وال ق‪99‬وة وال‬
‫سلطان‪ ،‬ب‪99‬ل إن‪99‬ه بقي ذاك‪99‬راً لفض‪99‬ل رب‪99‬ه ورحمت‪99‬ه‪ ،‬متأهب‪9‬ا ً للي‪99‬وم اآلخ‪99‬ر ليلقى ج‪99‬زاءه‬
‫العادل عند ربه ويكفي أن يبقى ذو القرنين تلك الشخصية العظيمة في التاريخ‪ ،‬وذل‪99‬ك‬
‫العلم البارز في العدل واإلصالح والقيادة‪ ،‬ومث‪99‬ال الح‪99‬اكم الص‪99‬الح على م‪99‬ر الت‪99‬اريخ‪،‬‬
‫وإلى أن يرث هللا األرض ومن عليها‪ ،‬بشهادة الكتاب الخالد‪.2‬‬
‫إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي الق‪99‬رنين وأعمال‪99‬ه وأقوال‪99‬ه‬
‫مثل‪:‬‬
‫ـ الحكم والس‪99‬لطان والتمكين في األرض ينبغي أن يس‪99‬خرلتنفيذ ش‪99‬رع هللا في األرض‬
‫وإقامة العدل بين العباد‪ ،‬وتيسير األمر على المؤمنين المحسنين وتضييق الخناق على‬
‫الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين‪.‬‬
‫ـ الرج‪99‬ال االش‪99‬داء ذوو الخ‪99‬برات الفني‪99‬ة العالي‪99‬ة في الن‪99‬واحي العس‪99‬كرية والعمراني ‪9‬ة‪9‬‬
‫واالقتص‪99‬ادية ال‪99‬ذين ك‪99‬انوا ط‪99‬وع بن‪99‬ان ذي الق‪99‬رنين‪ ،‬وك‪99‬ذلك خض‪99‬وع األق‪99‬اليم ل‪99‬ه فتح‬
‫الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية‪ ،‬كل ذلك لم يدخل في نفس‪99‬ه الغ‪99‬رور‬
‫والبطر والطيش والغواية‪ ،‬ب‪99‬ل بقي مث‪99‬ال الرج‪99‬ل الم‪99‬ؤمن العفي‪99‬ف الم‪99‬ترفع عن زين‪99‬ة‬
‫الحياة الدنيا‪.‬‬
‫ـ االهتمام باتخاذ األسباب لبلوغ األهداف والغايات التي س‪99‬عى إليه‪99‬ا حيث آت‪99‬اه هللا من‬
‫كل شيء سببا ً فأتبع سبباً‪.‬‬
‫األسباب التي اتخذها ذو القرنين للتمكين لدين هللا عز وجل‪:‬‬
‫أ ـ الدستور العادل‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.167‬‬
‫‪2‬‬
‫ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان صـ ‪ 247‬ـ ‪.249‬‬

‫‪110‬‬
‫إن المنهجية التي س‪99‬ار عليه‪99‬ا ذو الق‪99‬رنين كح‪99‬اكم م‪99‬ؤمن جعلت‪99‬ه يل‪99‬تزم بمع‪99‬اني الع‪99‬دل‬
‫المطلق في ك‪99‬ل أحوال‪99‬ه وس‪99‬كناته ول‪99‬ذلك س‪99‬اق الن‪99‬اس واألمم والش‪99‬عوب ال‪99‬تي حكمه‪99‬ا‬
‫بسيرة العدل‪ ،‬فلم يعامل األقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعس‪99‬ف‬
‫والتجبر والطغيان والبطش‪ ،‬وإنما عملهم بهذا المنهج الرب‪99‬اني‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬قَ‪99‬ا َل أَ َّما‬
‫صالِحًا‬ ‫َمن ظَلَ َم فَ َسوْ فَ نُ َع ِّذبُهُ ثُ َّم يُ َر ُّد إِلَى َربِّ ِه فَيُ َع ِّذبُهُ َع َذابًا نُّ ْكرًا * َوأَ َّما َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ‬
‫فَلَهُ َجزَ اء ْال ُح ْسنَى َو َسنَقُو ُل لَهُ ِم ْن أَ ْم ِرنَا يُ ْسرًا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪.)88 : 87 :‬‬
‫وهذا المنهج الرباني الذي سار علي‪99‬ه ي‪99‬دل على إيمان‪99‬ه وتق‪99‬واه‪ ،‬وعلى فطنت‪99‬ه وذكائ‪99‬ه‪،‬‬
‫وعلى عدل‪99‬ه ورحمت‪99‬ه‪ ،‬ألن الن‪99‬اس ال‪99‬ذين قه‪99‬رهم وفتح بالدهم‪ ،‬ليس‪99‬وا على مس‪99‬توى‬
‫واحد‪ ،‬وال على صفات واحدة‪ ،‬ولذلك ال يجوز أن يعاملوا جميعا ً معاملة واحدة‪ ،‬فمنهم‬
‫المؤمن ومنهم الكافر‪ ،‬ومنهم الصالح‪ ،‬ومنهم الطالح‪ ،‬فه‪99‬ل يس‪99‬توون في المعامل‪99‬ة؟ ذو‬
‫القرنين‪ :‬أما الظالم الكافر وسوف نعذبه لظلمه وكفره‪ ،‬وهذا التعذيب عقوبة ل‪99‬ه‪ ،‬فنحن‬
‫عادلون في تعذيبه في الدنيا‪ ،‬ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه األخروي‪.‬‬
‫‪9‬ذب م‪9‬رتين‪ ،‬م‪99‬رة في ال‪9‬دنيا على‬ ‫إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي الق‪9‬رنين مع‪ّ 9‬‬
‫يديه‪ ،‬واألخرى ي‪99‬وم القيام‪99‬ة‪ ،‬حيث يعذب‪99‬ه هللا ع‪99‬ذابا ً نك‪99‬راً‪ ،‬أم‪99‬ا الم‪99‬ؤمن الص‪99‬الح فإن‪99‬ه‬
‫مقرب من ذي القرنين يجزيه الجزاء الحسن‪ ،‬ويكافئه المكافأة الطيبة ويخاطب‪99‬ه بيس‪99‬ر‬
‫وسهولة وإشراق وبر ومو َّدة‪.1‬‬
‫لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس هو التقوى واإليمان والعمل الصالح ودائما ً‬
‫يتطلع إلى مقامات اإلحسان‪.‬‬
‫ب ـ المنهج التربوي للشعوب‪:‬‬
‫إن هللا تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفس‪99‬اد في المجتم‪99‬ع وكل‪99‬ف أه‪99‬ل‬
‫اإليمان ممن مكن لهم في األرض أن يحرص‪99‬وا على تنفي‪99‬ذ العقوب‪99‬ات للمفس‪99‬د والظ‪99‬الم‬
‫لكي تستقيم الحياة في الدنيا‪.‬‬
‫إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجا ً أساسياً‪ ،‬وطريق‪99‬ة عملي‪99‬ة لتربي‪99‬ة‬
‫الشعوب على االستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة هلل تعالى‪.2‬‬
‫وه‪99‬ذا دس‪99‬تور الح‪99‬اكم الص‪99‬الح‪ ،‬ف‪99‬المؤمن الص‪99‬الح ينبغي أن يج‪99‬د الكرام‪99‬ة والتيس‪99‬ير‪،‬‬
‫والجزاء الحسن عند الحاكم والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب واإليذاء وحين يجد‬
‫المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزا ًء حسنا ً أو مكانا ً كريما ً وعونا ً وتيسيراً‪ ،‬ويج‪99‬د‬
‫المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة‪ ،‬عندئ‪99‬ذ يج‪99‬دون م‪99‬ا يحف‪99‬زهم إلى الص‪99‬الح‬
‫واإلنتاج‪ ،‬أما حين يض‪99‬طرب م‪99‬يزان الحكم‪ ،‬ف‪99‬إذا المعت‪99‬دون المفس‪99‬دون ومقرب‪99‬ون إلى‬
‫الحاكم‪ ،‬مقدمون في الدولة‪ ،‬وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو مح‪9‬اربون‪ ،‬فعندئ‪9‬ذ‪،‬‬
‫تتحول الس‪99‬لطة في ي‪99‬د الح‪99‬اكم س‪99‬وط ع‪99‬ذاب وأداة فس‪99‬اد‪ ،‬ويص‪99‬ير نظ‪99‬ام الجماع‪99‬ة إلى‬
‫الفوضى والفساد‪.3‬‬
‫إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجع‪99‬ل الح‪99‬وافز المش‪99‬جعات هدي‪99‬ة للمحس‪99‬ن‬
‫ليزداد في إحسانه وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة اإلحس‪99‬ان وتش‪99‬عره ب‪9‬االحترام‬
‫والتقدير وتأخذ على يد المسيء لتضرب على ي‪99‬ده‪ ،‬ح‪99‬تى ي‪99‬ترك اإلس‪99‬اءة وتعم‪99‬ل على‬
‫‪1‬‬
‫مع قصص السابقين في القرآن للخالدي (‪ 330 /2‬ـ ‪.)331‬‬
‫‪2‬‬
‫فقه النصر والتمكين للصالبي صـ ‪.142‬‬
‫‪3‬‬
‫في ظالل القرآن (‪.)922 /4‬‬

‫‪111‬‬
‫توسيع دوائر الخير واإلحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد ح‪99‬د‬
‫وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان‪.1‬‬
‫جـ ـ اإلهتمام بالعلوم المادية والمعنويةـ وتوظيفها في الخير‪:‬‬
‫ض َوآتَ ْينَاهُ ِمن ُك ِّل َش ْي ٍء َسبَبًا" إنه شخص مكن له رب‬ ‫قال تعالى‪":‬إِنَّا َم َّكنَّا لَهُ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫الس‪999‬ماوات واألرض الخ‪999‬الق الم‪999‬دبر المتص‪999‬رف‪ 9‬في ش‪999‬ؤون الك‪999‬ون‪ ،‬رب الع‪999‬زة‬
‫والجبروت مكن له في األرض وآتاه من ك‪9‬ل ش‪9‬يء س‪9‬بباً‪ ،‬وينص‪9‬رف ذهن الس‪9‬امع أو‬
‫القارئ إلى وجوه التمكين له في األرض‪.‬‬
‫ـ مكن له في العلوم والمعرفة واستقراء سنن األمم والشعوب صعوداً وهبوطاً‪.‬‬
‫ـ مكن له في سياسة النفوس أفراداً وجماعات تهذيبا ً وتربية وانتظاماً‪.‬‬
‫ـ مكن له في أسباب القوة من االسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر‪.‬‬
‫ـ مكن له في أسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنما الزراعة‪.‬‬
‫ومهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين الحسنة التي تليق برج‪99‬ل رب‪99‬اني ق‪99‬د مكن‬
‫له في هذه األرض يمكن أن يدخل تحت قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪":‬إِنَّا َم َّكنَّا لَ ‪9‬هُ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َوآتَ ْينَ‪99‬اهُ‬
‫ِمن ُك‪ِّ 9‬ل َش‪ْ 9‬ي ٍء َس‪9‬بَبًا"‪ ،‬ويبقى للتص‪99‬ور مج‪99‬ال وللخي‪99‬ال س‪99‬عة الستش‪99‬فاف ص‪99‬ورة ه‪99‬ذا‬
‫التمكن وأشكاله‪ ،‬وذلك من خالل المؤكدات العدة التي وردت في اآلية الكريمة‪.2‬‬
‫ونالحظ من خالل اآليات أن ذا القرنين وظف علوم‪9‬ا ً ع‪99‬دة في دولت‪99‬ه القوي‪99‬ة ومن أهم‬
‫هذه العلوم‪:‬‬
‫ـ علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا الق‪99‬رنين ك‪99‬ان على علم بتقس‪99‬يمات األرض‪ ،‬وفجاجه‪99‬ا‬
‫وسبلها‪ ،‬ووديانها وجبالها‪ ،‬وسهولها‪ ،‬ل‪99‬ذلك اس‪99‬تطاع أن يوظ‪99‬ف ه‪99‬ذا العلم في حركت‪99‬ه‬
‫م‪99‬ع جيوش‪99‬ه ش‪99‬رقا ً وغرب‪99‬ا ً وش‪99‬ماالً وجنوب‪99‬اً‪ ،‬وال يخل‪99‬و األم‪99‬ر أن يك‪99‬ون في جيش‪99‬ه‬
‫متخصص في هذا المجال‪.3‬‬
‫ـ كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره‪ ،‬يدل على ذل‪99‬ك حس‪99‬ن‬
‫اختي‪99‬اره للخام‪99‬ات‪ ،‬ومعرفت‪99‬ه بخواص‪99‬ها‪ ،‬وإجادت‪99‬ه الس‪99‬تعمالها واالس‪99‬تفادة منه‪99‬ا‪ ،‬فق‪99‬د‬
‫اس‪99‬تعمل المع‪99‬ادن على أحس‪99‬ن م‪99‬ا خلقت ل‪99‬ه‪ ،‬ووظ‪99‬ف اإلمكان‪99‬ات على خ‪99‬ير م‪99‬ا اتيح‬
‫الص‪َ 9‬دفَ ْي ِن قَ‪99‬ا َل انفُ ُخ‪99‬وا َحتَّى إِ َذا َج َعلَ‪9‬هُ نَ‪99‬ارًا‬
‫َّ‬ ‫له ‪":‬آتُونِي ُزبَ َر ْال َح ِدي ِد َحتَّى إِ َذا َس َ‬
‫اوى بَ ْينَ‬
‫طرًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪.)96 :‬‬ ‫ال آتُونِي أُ ْف ِر ْغ َعلَ ْي ِه ِق ْ‬
‫قَ َ‬
‫أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة‪ ،‬فأتوه إياها‪ ،‬فأخذ يبني شيئا ً فش‪99‬يئا ً ح‪99‬تى جع‪99‬ل‬
‫ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا ً لهما في العلو ثم ق‪99‬ال للعم‪99‬ال‪ :‬انفخ‪99‬وا ب‪99‬الكير‬
‫في القطع الحديدية الموضوعة‪ 9‬بين الصدفين‪ .4‬فلم‪99‬ا تم ذل‪99‬ك وص‪99‬ارت الن‪99‬ار عظيم‪99‬ة‪،‬‬
‫قال للذين يتولون أمر النحاس من اإلذابة وغيره‪99‬ا‪ :‬أت‪99‬وني نحاس‪9‬ا ً م‪99‬ذابا ً أفرغ‪99‬ه علي‪99‬ه‬
‫فيصير مضاعف القوة والص‪99‬البة‪ ،‬وهي طريق‪99‬ة اس‪99‬تخدمت ح‪99‬ديثا ً في تقوي‪99‬ة الحدي‪99‬د‪،‬‬
‫فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصالبته‪.5‬‬
‫ـ كان واقعيا ً في قياسه لألمور وتدبيره لها فقد ق ّدر حجم الخطر‪ ،‬وق ّدر م‪99‬ا يحت‪99‬اج إلي‪99‬ه‬
‫من عالج‪ ،‬فلم يجع‪99‬ل الس‪99‬ور من الحج‪99‬ارة‪ ،‬فض ‪9‬الً عن الطين واللبن‪ ،‬ح‪99‬تى ال يع‪99‬ود‬
‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)624 /2‬‬
‫‪ 2‬مباحث في التفسير الموضوعي د‪ .‬مصطفى مسلم صـ ‪.304‬‬
‫‪ 3‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)624 /2‬‬
‫‪ 4‬روح المعاني لاللوسي (‪.)40 /16‬‬
‫‪ 5‬فتح القدير (‪.)313 /3‬‬

‫‪112‬‬
‫منه‪99‬اراً ألدنى ع‪99‬ارض‪ ،‬أو في أول هج‪99‬وم‪ ،‬وله‪99‬ذا ب‪99‬اءت مح‪99‬اوالت الق‪99‬وم المفس‪99‬دين‬
‫ظهَرُوهُ‬ ‫بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين ‪":‬فَ َما ا ْسطَا ُعوا أَن يَ ْ‬
‫اس‪9‬تَطَا ُعوا لَ‪9‬هُ نَ ْقبً‪99‬ا" (الكه‪99‬ف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)97 :‬أي لم يتمكن‪99‬وا من اعتالئ‪99‬ه الرتفاع‪99‬ه‬ ‫َو َم‪99‬ا ْ‬
‫‪1‬‬
‫ومالمسته‪ ،‬وما استطاعوا أن يثقبوه لصالبته وثخانته ‪.‬‬
‫لقد كان ذو القرنين على علم باخبار الغيب التي جاءت بها الشرائع‪ ،‬ومع ذلك لم يتخذ‬
‫من األقدار تكئة لتبرير القعود والهوان‪ ،‬فقد بنى السد وبذل فيه الجهد‪ ،‬م‪99‬ع علم‪99‬ه ب‪99‬أن‬
‫له أجالً سوف ينهدم فيه ال يعلمه إال هللا‪.2‬‬
‫س ـ فقهه في إحياء الشعوب‪:‬‬
‫إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحت‪99‬ك بالش‪99‬عوب واألمم وتكلم الق‪99‬رآن‬
‫الكريم عن رحالته‪:‬‬
‫ـ الرحلة األولى‪:‬‬
‫لم يحدد القرآن الكريم نقطة االنطالق فيه‪99‬ا وح‪99‬دد النهاي‪99‬ة إلى مغ‪99‬رب الش‪99‬مس ووج‪99‬د‬
‫عندها قوماً‪ ،‬فدعاهم إلى هللا تعالى‪ ،‬وسار فيهم بسيرة العدل واإلصالح‪.‬‬
‫‪9‬ر ُّد إِلَى َربِّ ِه فَيُ َع ِّذبُ ‪9‬هُ َع‪َ 9‬ذابًا نُّ ْك‪ 9‬رًا * َوأَ َّما َم ْن‬
‫قال تعالى‪":‬أَ َّما َمن ظَلَ َم فَ َسوْ فَ نُ َع ِّذبُ ‪9‬هُ ثُ َّم يُ‪َ 9‬‬
‫صالِحًا فَلَهُ َجزَ اء ْال ُح ْسنَى َو َسنَقُو ُل لَهُ ِم ْن أَ ْم ِرنَا يُ ْسرًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪ 87 :‬ـ‬ ‫آ َمنَ َو َع ِم َل َ‬
‫‪.)88‬‬
‫إنها سياس‪99‬ة الع‪99‬دل ال‪99‬تي ت‪99‬ورث التمكين في الحكم والس‪99‬لطة وفي قل‪99‬وب الن‪99‬اس الحب‬
‫والتكريم للمستقيمين‪ ،‬وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم‪ ،‬فالمؤمن المس‪99‬تقيم‬
‫يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم‪ ،‬ويكون بطانته وموضع عطف‪99‬ه وثقت‪99‬ه ورعاي‪99‬ة‬
‫مصالحه وتيسير أموره‪ ،‬أما المعتدي المتجاوز للحد‪ ،‬المنحرف الذي يري‪99‬د الفس‪99‬اد في‬
‫األرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة ثم يرد إلى ربه ي‪99‬وم القيام‪99‬ة ليلقى‬
‫العقوبة األنكى بما اقترفت يداه في حياته األولى‪.‬‬
‫ـ الرحلة الثانية‪:‬‬
‫وهي رحلة المش‪99‬رق حيث يص‪99‬ل إلى مك‪99‬ان ي‪99‬برز لعين ال‪99‬رائي أن الش‪99‬مس تطل‪99‬ع من‬
‫خلف األفق‪ ،‬ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة‪ ،‬إال أن القوم الذين ك‪99‬انوا عن‪99‬د مطل‪99‬ع‬
‫الشمس ك‪9‬انوا في أرض مكش‪99‬وفة بحيث ال يحجبهم عن‪9‬د ش‪9‬روقها مرتفع‪9‬ات جبلي‪9‬ة أو‬
‫أش‪99‬جار س‪99‬امقة‪ ،‬وذهب الش‪99‬يخ محم‪99‬د مت‪99‬ولي الش‪99‬عرواي إلى أن المقص‪99‬ود بقول‪99‬ه‬
‫تع‪99‬الى‪":‬لَّ ْ‪9‬م نَجْ َع‪99‬ل لَّهُم ِّمن ُدونِهَ‪99‬ا ِس ‪ْ 9‬ترًا" (الكه‪99‬ف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)90 :‬هي بالد القطب ال‪99‬ذي‬
‫تك‪99‬ون في‪99‬ه الش‪99‬مس س‪99‬تة ش‪99‬هور ال تغيب ط‪99‬وال ه‪99‬ذه الش‪99‬هور وال يوج‪99‬د ظالم يس‪99‬تر‬
‫الشمس في هذه األماكن‪.3‬‬
‫ونظراً لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها وهو الدس‪99‬تور المعلن‬
‫في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعالن مبادئه ألنه‪9‬ا منهج حي‪99‬اة ودس‪9‬تور دول‪9‬ة مترامي‪9‬ة‬
‫األطراف وسياسة أمم فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل‪.4‬‬
‫ـ الرحلة الثالثة‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫فتح القدير للشوكاني (‪.)313 /3‬‬
‫‪2‬‬
‫فقه النصر والتمكين للصالبي صـ ‪.144‬‬
‫‪3‬‬
‫القصص القرآني من سورة الكهف صـ ‪.87‬‬
‫‪4‬‬
‫مباحث في التفسير الموضوعي مصطفى مسلم صـ ‪.306‬‬

‫‪113‬‬
‫تختلف عن الرحل‪99‬تين الس‪99‬ابقتين من حيث طبيع‪99‬ة األرض والتعام‪99‬ل م‪99‬ع البش‪99‬ر وك‪99‬ان‬
‫المنطقة‪ ،‬ومن حيث األعمال ال‪99‬تي ق‪99‬ام به‪99‬ا‪ ،‬فلم يقتص‪99‬ر فيه‪99‬ا على األعم‪99‬ال الجهادي‪99‬ة‬
‫لكبح جماح األشرار والمفس‪99‬دين‪ ،‬ب‪99‬ل ق‪99‬ام بعم‪99‬ل عم‪99‬راني هائ‪99‬ل‪ ،‬أم‪99‬ا األرض ف‪99‬وعرة‬
‫المس‪99‬الك‪ ،‬وأم‪99‬ا الس‪99‬كان ـ وك‪99‬أن وع‪99‬ورة األرض ق‪99‬د أث‪99‬رت في طب‪99‬ائعهم‪ ،‬وطريق‪99‬ة‬
‫تخاطبهم مع غيرهم ـ ففي التفاهم والمخاطبة ال يكاد اإلنس‪99‬ان منهم يق‪99‬در على التعب‪99‬ير‬
‫عما في نفسه‪ ،‬وال أن يفقه ما يحدثه به غيره من غ‪99‬ير ب‪99‬ني قوم‪99‬ه ‪َ ":‬و َج‪َ 9‬د ِمن ُدونِ ِه َم‪99‬ا‬
‫قَوْ ًما اَّل يَ َكا ُدونَ يَ ْفقَهُونَ قَوْ اًل " (الكهف‪ ،‬آية ‪.)93 :‬‬
‫ونالحظ من خالل السياق القرآني أن هؤالء القوم اتصفوا بصفات منها‪:‬‬
‫ـ هم قوم متخلفون "اَّل يَ َكا ُدونَ يَ ْفقَهُونَ قَوْ اًل " ‪,‬هذا إما معناه أنهم ال يفقهون لغة غيرهم‬
‫من األق‪99‬وام األخ‪99‬رى‪ ،‬ألنهم لم يطلع‪99‬وا عليه‪99‬ا ولم يتعلموه‪99‬ا‪ ،‬فهم منغلق‪99‬ون على لغتهم‬
‫فقط‪ .‬وإمّا معن‪99‬اه‪ :‬إن الكالم ال ينف‪99‬ع معهم‪ ،‬ألنهم ال يفقه‪99‬ون‪ ،‬وال يتف‪99‬اعلون مع‪99‬ه‪ ،‬وال‬
‫يتف‪99‬اهمون م‪99‬ع قائل‪99‬ه‪ ،‬ال يفعل‪99‬ون ه‪99‬ذا لجف‪99‬اء وغلظ‪99‬ة عن‪99‬دهم‪ ،‬أو لغفل‪99‬ة وس‪99‬ذاجة في‬
‫طبيعتهم‪.‬‬
‫ـ هم قوم ض‪99‬عفاء‪ :‬ول‪99‬ذلك عج‪99‬زوا عن ص‪ّ 9‬د هجم‪99‬ات ي‪99‬أجوج وم‪99‬اجوج والوق‪99‬وف في‬
‫وجههم‪ ،‬ومنع أفسادهم‪.‬‬
‫هم قوم عاجزون عن ال‪9‬دفاع عن أرض‪9‬هم‪ ،‬ومقاوم‪9‬ة المعت‪9‬دين ول‪9‬ذلك لج‪9‬أوا إلى ق‪9‬وة‬
‫أخ‪99‬رى خارجي‪99‬ة‪ ،‬ق‪99‬وة ذي الق‪99‬رنين‪ ،‬حيث طلب‪99‬وا من‪99‬ه ح‪99‬ل مش‪99‬كالتهم وال‪99‬دفاع عن‬
‫أراضيهم‪.‬‬
‫ـ هم قوم اتك‪99‬اليون كس‪99‬الى‪ :‬ال يري‪99‬دون أن يب‪9‬ذلوا جه‪9‬داً وال أن يقوم‪9‬وا بعم‪99‬ل‪ ،‬ول‪9‬ذلك‬
‫أحالوا المشكلة على ذي القرنين‪ ،‬وأوكلوا إليها حقه‪99‬ا‪ ،‬أم‪99‬ا هم فمس‪99‬تعدون ل‪99‬دفع الم‪99‬ال‬
‫له‪.1‬لقد كان فقه ذي الق‪9‬رنين في التعام‪9‬ل م‪9‬ع الش‪9‬عوب المستض‪9‬عفة ه‪9‬و الس‪9‬عي الج‪9‬اد‬
‫لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنش‪99‬اط والق‪99‬وة‪ ،‬فك‪99‬ان‬
‫يدير العمل بروح الجماعة ويشترك بنفسه مع إشراك غ‪9‬يره‪ ،‬وي‪9‬دل على ذل‪9‬ك ض‪9‬مير‬
‫المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متت‪99‬ابع رفي‪99‬ع م‪99‬ع ض‪99‬مير المخ‪99‬اطب في النظم الق‪99‬رآني‬
‫الكريم مما يشير إلى روح الحماس‪99‬ة والحيوي‪9‬ة والتع‪99‬اون المش‪99‬ترك‪ ،2‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ ":‬م‪99‬ا‬
‫َم َّكنِّي فِي ِه َربِّي خَ ْي ٌر فَأ َ ِعينُونِي بِقُ َّو ٍة أَجْ َعلْ بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم َر ْد ًما * آتُونِي ُزبَ َر ْال َح ِدي ‪ِ 9‬د َحتَّى‬
‫‪9‬ر ْغ َعلَ ْي ‪ِ 9‬ه قِ ْ‬ ‫ُ‬
‫ط‪9‬رًا"‬ ‫ص َدفَ ْي ِن قَا َل انفُ ُخوا َحتَّى إِ َذا َج َعلَهُ نَارًا قَا َل آتُ‪99‬ونِي أ ْف‪ِ 9‬‬ ‫إِ َذا َسا َوى بَ ْينَ ال َّ‬
‫(الكهف‪ ،‬آية ‪ 95 :‬ـ ‪.)96‬‬
‫لقد كان ذو القرنين حريصا ً على مصلحة الناس‪ ،‬ناصحا ً لهم فيما يع‪99‬ود عليهم ب‪99‬النفع‪،‬‬
‫ولهذا طلب منهم المعون‪99‬ة الجس‪99‬دية‪ ،‬لم‪99‬ا في ذل‪99‬ك من تنش‪99‬يط لهم ورف‪99‬ع لمعنوي‪99‬اتهم‪،3‬‬
‫ومن نصحه وإخالصه لهم‪ ،‬أنه بذل ما في الوسع والخدمة أك‪99‬ثر مم‪99‬ا ك‪99‬انوا يطلب‪99‬ون‪،‬‬
‫فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سداً‪ ،‬أما ه‪99‬و فق‪99‬د وع‪99‬د ب‪99‬أن يجع‪99‬ل‬
‫بينهم ردماً‪ ،‬والردم هو الحاجز الحصين‪ ،‬والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق‪،‬‬
‫فوعدهم بفوق ما يرجعون‪.4‬‬

‫‪ 1‬مع قصص السابقين للخالدي (‪.)338 /2‬‬


‫‪ 2‬الحاكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)627 /2‬‬
‫‪ 3‬أحكام القرآن ألبي بكر بن العربي (‪.)243 /3‬‬
‫‪ 4‬روح المعاني (‪.)40 /16‬‬

‫‪114‬‬
‫‪9‬ف ذو الق‪99‬رنين عن أم‪99‬وال المستض‪99‬عفين وش‪99‬رع في تعليمهم النش‪99‬اط والعم‪99‬ل‪،‬‬ ‫لق‪99‬د ع‪ّ 9‬‬
‫والكسب‪ ،‬والس‪99‬عي‪ ،‬فق‪99‬ال لهم ‪":‬فَ‪99‬أ َ ِعينُونِي بِقُ‪َّ 9‬و ٍة أَجْ َع‪99‬لْ بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم َر ْد ًم‪99‬ا" (الكه‪99‬ف‪،‬‬
‫آية ‪.)95 :‬‬
‫إن في ه‪99‬ذه العب‪99‬ارة القرآني‪99‬ة معلم ‪9‬ا ً ب‪99‬ارزاً في تض‪99‬افر الجه‪99‬ود‪ ،‬وتوحي‪99‬د الطاق‪99‬ات‪،‬‬
‫والقدرات والقوى‪.‬‬
‫إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجيه‪99‬ه نح‪99‬و التكام‪99‬ل‬
‫لتحقيق الخير والغايات المنشودة‪.‬‬
‫إن المجتمعات البشرية غنية بالطاق‪99‬ات المتع‪99‬ددة في المج‪99‬االت المتنوع‪99‬ة في س‪99‬احات‬
‫الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية‪ ،‬ويأتي دور القيادة الربانية في األم‪99‬ة‬
‫لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاق‪99‬ات‪ ،‬وتتج‪99‬ه به‪99‬ا نح‪99‬و‬
‫خير األمة ورفعتها‪.‬‬
‫إن امتنا اإلس‪99‬المية مألى ب‪99‬المواهب الض‪99‬ائعة والطاق‪9‬ات المعطل‪99‬ة واألم‪99‬وال المه‪9‬درة‬
‫واألوقات المبّددة‪ ،‬والشباب الحيارى وهي تنتظر من قيادتها في كافة األقطار وال‪99‬دول‬
‫والبالد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجم‪99‬ع والتنس‪99‬يق والتع‪99‬اون ومحارب‪99‬ة الجه‪99‬ل‬
‫والكسل والتخلف‪" ،1‬فَأ َ ِعينُونِي بِقُ َّو ٍة"‪.‬‬
‫إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين‪ 9‬حمايتهم وإنما توريثهم أسباب القوة حتى‬
‫يستطيعوا أن يقفوا أم‪99‬ام المفس‪99‬دين‪ ،‬لق‪99‬د ك‪99‬ان ذو الق‪99‬رنين يس‪99‬تطيع أن يبقى ح‪99‬تى يب‪99‬دأ‬
‫يأجوج ومأجوج في الهجوم‪ ،‬ثم يه‪99‬اجم ويه‪99‬زمهم‪ ،‬ولكن هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى يري‪99‬د أن‬
‫يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظ‪99‬الم‪ ،‬ولكن‬
‫وظيفته منع وقوع الظلم‪.‬‬
‫ولم يأت ذو القرنين بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك وإنما طلب منهم‬
‫أن يعينوه ليس‪99‬اعدهم على حماي‪99‬ة أنفس‪99‬هم ويتعلم‪99‬وا فن‪99‬ون الحماي‪99‬ة ويكس‪99‬بوا خ‪99‬برات‪،‬‬
‫ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يبنون السد بأيديهم‪ ،‬وه‪99‬ذا أدعى للحف‪99‬اظ علي‪99‬ه‬
‫وإصالحه إن أصابه شيء‪.‬‬
‫إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤالء المستضعفون‪ 9‬عاطلين‪ ،‬وهذا يلفتنا إلى أن عطاء‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬عطاء إمكانات‪ ،‬وعطاء ذاتي في النفس‪ ..‬عطاء اإلمكانات هو م‪99‬ا‬
‫تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العم‪99‬ل‪ ،‬والعط‪99‬اء ال‪99‬ذاتي في النفس‪ 9:‬ه‪9‬و‬
‫القوة الذاتية داخلك التي تعطيك طاقة العمل‪ ،‬وكثير منا ال يلتفت إلى عطاء النفس‪ ..‬ال‬
‫يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعماالً كثيرة‪ ،‬وأنه ال يس‪99‬تخدمها وأن لدي‪99‬ه‬
‫قوة تح ّمل بإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر‪ ..‬وأن يعمل أعماالً كثيرة‪.2‬‬
‫إن ذا القرنين لم يستعن بجيشه وال بأناس آخرين‪ ،‬إنما استعان بهؤالء الضعفاء وطلب‬
‫منهم أن يأتوا بالحديد‪ ،‬ثم بناء الس‪9‬د بحيث وص‪9‬ل ب‪9‬ه إلى قم‪9‬ة الجبلين‪ ،‬ثم ق‪9‬ام بص‪9‬هر‬
‫الحديد‪ ،‬وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة‪.‬‬
‫إذن فهو ق ّوى هؤالء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج وم‪99‬أجوج‪ ،‬ب‪99‬أن علمهم كي‪99‬ف‬
‫يعينون أنفسهم وكي‪9‬ف يبن‪9‬ون الس‪9‬د وجعلهم هم ال‪9‬ذين يش‪9‬تركون في البن‪9‬اء وهم ال‪9‬ذين‬
‫يقيمونه‪ ،‬وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط‪ ،‬ليأخذوا الثق‪99‬ة في أنفس‪99‬هم ب‪99‬أنهم يس‪99‬تطيعون‬
‫‪ 1‬مع قصص السابقين (‪.)342 /2‬‬
‫‪ 2‬القصص القرآني في سورة الكهف محمد متولي الشعراوي صـ ‪.93‬‬

‫‪115‬‬
‫حماي‪99‬ة أنفس‪99‬هم وليتعلم‪99‬وا م‪99‬ا يعينهم ويحميهم‪ ،‬واإلس‪99‬الم ينهان‪99‬ا أن نع ‪ّ 9‬ود الن‪99‬اس على‬
‫الكسل أو نعطيهم أجراً بال عمل‪ ،‬ألن ذل‪99‬ك ه‪99‬و ال‪99‬ذي يفس‪99‬د المجتم‪99‬ع‪ ،‬فاإلنس‪99‬ان م‪99‬تى‬
‫تقاضى أجراً بال عمل ال يمكن أن يعمل بعد ذلك أبداً‪.1‬‬
‫إن ذا القرنين قام بمهم‪99‬ة الح‪99‬اكم الممكن ل‪99‬ه في األرض‪ ،‬فق‪99‬وى المستض‪99‬عفين وجعل‪99‬ه‬
‫قادراً على حماية أنفسهم من العدوان وال يعتمد على حماية أحد‪ ،‬ولم ي‪99‬ترك الن‪99‬اس في‬
‫مقاعد المتفرجين بل نقلهم إلى ساحة العاملين‪.‬‬
‫فعندما تحرك القوم المستضعفون‪ 9‬نحو العم‪99‬ل بقي‪99‬ادة ذي الق‪99‬رنين‪ ،‬وص‪99‬لوا إلى ه‪99‬دفهم‬
‫المنشود‪ ،‬وغايتهم المطلوبة‪.2‬‬
‫ونقف مع ذي القرنين بعد أن ت ّم بناء السد‪:‬‬
‫ـ نظ‪99‬ر ذو الق‪99‬رنين إلى العم‪99‬ل الض‪99‬خم ال‪99‬ذي ق‪99‬ام ب‪99‬ه فلم يأخ‪99‬ذه البط‪99‬ر والغ‪99‬رور‪ ،‬ولم‬
‫تسكره نشوة القوة والعلم‪ ،‬ولكنه ذكر هللا فشكره‪ ،‬ورد إليه العم‪99‬ل الص‪99‬الح ال‪99‬ذي وفق‪99‬ه‬
‫إليه‪.3‬‬
‫ـ ذكر ذي القرنين لربه عند انجاز عمله‪ ،‬يعلمنا كيف يكون ذكر هللا س‪99‬بحانه‪ ،‬ف‪99‬إن من‬
‫أعظم صور الذكر‪ ،‬هي أن يذكر العبد رب‪99‬ه عن‪99‬د توفيق‪99‬ه في عم‪99‬ل‪ ،‬فيستش‪99‬عر أن ه‪99‬ذا‬
‫بأمر ربه‪ ،‬فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر‪.‬‬
‫ـ كان بناء السد رحمة من هللا تعالى‪ ،‬وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه هللا إياه‪،‬‬
‫وتمكينه الذي مكنه هللا له‪ ،‬استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم‪ ،‬منع الع‪99‬دوان‬
‫عنهم‪ ،‬فكان علمه رحمة من ربه‪ ،‬وكان استخدامه له رحمة من ربه‪.‬‬
‫ـ كان الق‪99‬وم مه‪ّ 9‬ددين بي‪99‬أجوج وم‪99‬أجوج‪ ،‬معرض‪99‬ين إلفس‪99‬ادهم ولم يحمهم منهم إال هللا‬
‫ببناء السد‪ ،‬فكان السد رحمة من هللا لهم‪ ،‬وكان خالصا ً لهم وإنقاذاً بإذن هللا‪ ،‬فلو لم يتم‬
‫عمل وال جهد وال حركة‪ ،‬لما انقذوا أنفسهم من الخط‪99‬ر‪ ،‬ألن اإلنق‪99‬اذ ال يتم إال بالعم‪99‬ل‬
‫والجهد المتواصل وتكاتف الجهود واالنقياد الطوعي للشعوب لشرع هللا خل‪99‬ف القي‪99‬ادة‬
‫‪4‬‬
‫الربانية‬
‫ـ "فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد َربِّي َج َعلَهُ َد َّكاء َو َكانَ َو ْع ُد َربِّي َحقًّا" (الكهف‪ ،‬آية ‪.)98 :‬‬
‫طنَا بِ َما لَ َد ْي ِه ُخ ْب ًرا"‪ :‬وقبل أن يكمل القرآن الح‪99‬ديث عن‬ ‫ك َوقَ ْد أَ َح ْ‬
‫ع ـ قوله تعالى‪َ ":‬ك َذلِ َ‬
‫ح‪99‬روب ذي الق‪99‬رنين‪ ،‬وفتوحات‪99‬ه وقب‪99‬ل أن يتح‪99‬دث عن مهمت‪99‬ه في المنطق‪99‬ة الش‪99‬مالية‪،‬‬
‫ك َوقَ ْد أَ َح ْ‬
‫طنَا بِ َما لَ َد ْي ِه ُخ ْبرًا"‪.‬‬ ‫توقف سياق القرآن ليقرر حقيقة أساسية وهي قوله ‪َ ":‬ك َذلِ َ‪9‬‬
‫أي أن هللا سبحانه كان عالما ً بأحوال ذي القرنين مطلعا ً على حركاته‪ ،‬محيطا ً بأخباره‬
‫وأخبار جيشه‪ ،‬فما يسيرون خطوة إال بإذن هللا‪ ،‬وال يتحرك‪99‬ون حرك‪99‬ة إال بمش‪99‬يئة هللا‪،‬‬
‫وال يكسبون معركة أو يحتلون بل‪99‬داً إال وهللا ع‪99‬الم بهم مطل‪99‬ع عليهم‪ ،‬خب‪99‬ير بهم ونق‪99‬ف‬
‫لنتساءل عن الحكمة عن ذكر حقيقة إحاطة هللا بأخبار ذي القرنين وجيشه وعلم‪99‬ه به‪99‬ا‬
‫أثناء حديثه عن فتوحاته؟ إن الحكمة التي قد تب‪9‬دو لن‪9‬ا هي‪ :‬ح‪9‬رص الق‪9‬رآن على رب‪9‬ط‬
‫كل ما يحدث في الكون بإرادة هللا ومشيئته وعلمه سبحانه حتى ال ينس‪99‬ى الن‪99‬اس ه‪99‬ذه‬
‫الحقيق‪99‬ة وهم يت‪99‬ابعون األح‪99‬داث وح‪99‬تى ال يظن‪99‬وا أن الن‪99‬اس يتحرك‪99‬ون به‪99‬ا بق‪99‬دراتهم‬
‫الذاتي‪99‬ة‪ ،‬بمع‪99‬زل عن علم هللا وإذن‪99‬ه‪ ،‬فه‪99‬ا ه‪99‬و ذو الق‪99‬رنين ق‪99‬ام بفتوح‪99‬ات عظيم‪99‬ة‪ ،‬في‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.94‬‬
‫‪2‬فقه النصر والتمكين صـ ‪.150‬‬
‫‪3‬في ظالل القرآن (‪.)2293 /4‬‬
‫‪4‬مع قصص السابقين (‪.)350 /2‬‬

‫‪116‬‬
‫الجبهة الغربية ثم في الجبهة الشرقية وقام بإنجازات عظيمة في الجبهة الشمالية‪ ،‬لكن‬
‫هللا مطلع على أعمال‪99‬ه‪ ،‬محي‪99‬ط بأخب‪99‬اره‪ ،‬ع‪99‬الم بإنجازات‪99‬ه وه‪99‬و مق‪ّ 9‬در له‪99‬ا ومري‪99‬د له‪99‬ا‬
‫سبحانه‪.1‬‬
‫إن قص‪99‬ة ذي الق‪99‬رنين ت‪99‬دل على وج‪99‬وب األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب وبي‪99‬ان أن ذل‪99‬ك ض‪99‬روري‬
‫للنهوض الحضاري لألمم‪ ،‬وقد قدم القرآن الكريم "ذا القرنين" أنموذجا ً متجسداً لربط‬
‫األس‪99‬باب بالمس‪99‬ببات والمق‪99‬دمات بالنت‪99‬ائج واعت‪99‬بر ذل‪99‬ك مقدم‪99‬ة الب‪99‬د منه‪99‬ا للنه‪99‬وض‬
‫واإلنجاز الحضاري وبذلك لم يكتف القرآن بتأكيد موضوع الس‪99‬نن واألس‪99‬باب نظري‪9‬اً‪،‬‬
‫لقد مكن هللا له في األرض فأعطاه سلطانا ً وطيد الدعائم ويسّر له أسباب الحكم والفتح‬
‫وأسباب البناء والعمران‪ ،‬وأسباب السلطان والمتاع‪ ،‬وسائر ما هو من شأن البش‪99‬ر أن‬
‫يمكنوا فيه في هذه الحياة "فَأ َ ْتبَ َع َسبَبًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪.)85 :‬‬
‫إن قصة ذي القرنين من قصص القرآن التي يتمثل بها من الداللة على الق‪99‬درة الفائق‪99‬ة‬
‫ألصحابها ومدى ما كانوا عليه من قوة وتمكين‪ ،‬ولكن بواسطة ما سنّة هللا من أس‪99‬باب‬
‫في هذا الكون‪ ،‬ووسائل تؤدي إلى غاياتها المراد منها‪ ،‬لتمثل بذلك أنموذجا ً لكل مس‪99‬لم‬
‫يريد أن يسلك في هذه الحياة على هدي من الفهم لسنن هللا في الخلق‪ ،‬وليتقين كل أح‪99‬د‬
‫أن التمكين في األرض والس‪99‬عادة في اآلخ‪99‬رة‪ ،‬إنم‪99‬ا يتحص‪99‬ل بأس‪99‬باب ووس‪99‬ائط س‪99‬واء‬
‫المادي منها والمعنوي‪ ،‬من ما تحقق به ذو القرنين‪.2‬‬
‫ش ـ أخالقه القيادية‪:‬ـ‬
‫إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخالق رفيعة س‪99‬اعدته على تحقي‪99‬ق رس‪99‬الته الدعوي‪99‬ة‬
‫والجهادية في الحياة ومن أهم هذه األخالق‪:‬‬
‫ـ الصبر‪ :‬كان جلداً صابراً على مشاق الرحالت‪ ،‬فمثالً تلك الحمالت ال‪99‬تي ك‪99‬ان يق‪99‬وم‬
‫بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين‪ ،‬فاألعمال ال‪9‬تي ك‪9‬ان‬
‫يعمله‪99‬ا تحت‪99‬اج إلى جي‪99‬وش ض‪99‬خمة‪ ،‬وإلى عقلي‪99‬ة يقظ‪99‬ة‪ ،‬وذك‪99‬اء وق‪99‬اد‪ ،‬وص‪99‬بر عظيم‬
‫وآالت ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك‪.3‬‬
‫ـ مهابته‪ :‬كانت له مهابة ونجابة يستشعرها من يراه ألول مرة‪ ،‬ولكنه‪99‬ا ليس‪99‬ت مهاب‪99‬ة‬
‫الملوك الظلمة الجبارين فعندما بلغ بين السدين ووج‪99‬د الق‪99‬وم المستض‪99‬عفين‪ ،‬استأنس‪99‬وا‬
‫به‪ ،‬ووجدوا فيه مخلصا ً من الظلم والقهر الواق‪99‬ع عليهم فب‪99‬ادروه بس‪99‬ؤال المعون‪99‬ة فمن‬
‫الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسداً مثل المفسدين أو الظالمين‪ ،‬ومعه من القوة والعدة ما‬
‫ليس لمثلهم‪.4‬‬
‫ـ الشجاعة‪ :‬كان قوي القلب جسوراً غير هي‪99‬اب من التبع‪99‬ات الض‪99‬خمة والمس‪99‬ؤوليات‬
‫العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة هللا سبحانه‪ ،‬فإن م‪99‬ا طلب من إقام‪99‬ة الس‪99‬د ك‪99‬ان عمالً‬
‫عظيما ً في ذات‪9‬ه‪ ،‬حيث أن الق‪9‬وم المفس‪9‬دين ك‪9‬ان من الممكن أن يوجه‪9‬وا إفس‪9‬ادهم إلي‪9‬ه‬
‫وإلى جنوده ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر وال مدبر‪.5‬‬

‫‪1‬مع قصص السابقين في القرآن (‪.)325 /2‬‬


‫‪ 2‬السنن اإللهية في األمم واألفراد د‪.‬مجدي محمد عاشور ص‪.166‬‬
‫‪ 3‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)624 /2‬‬
‫‪4‬المصدر السابق (‪.)624 /2‬‬
‫‪5‬المصدر نفسه (‪.)624 /2‬‬

‫‪117‬‬
‫ـــ التــوازن في شخصــيته‪:‬ـ فلم ت‪99‬ؤثر ش‪99‬جاعته على حكمت‪99‬ه‪ ،‬ولم ينقص حزم‪99‬ه من‬
‫رحمته‪ ،‬وال حسمه من رفقه وعدالته‪ ،‬ولم تكن الدنيا كله‪9‬ا ـ وق‪9‬د س‪9‬خرت ل‪9‬ه ـ كافي‪9‬ة‬
‫إلثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته‪.‬‬
‫ــ كثــير الشــكر‪ :‬ألن‪99‬ه ك‪99‬ان ص‪99‬احب قلب حي موص‪99‬ول باهلل تع‪99‬الى‪ ،‬فلم تس‪99‬كره نش‪99‬وة‬
‫النصر‪ ،‬وحالوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين‪ ،‬بل نسب الفضل إلى ربه‪ 1‬س‪99‬بحانه‬
‫وقال‪":‬هَ َذا َرحْ َمةٌ ِّمن َّربِّي" (الكهف‪ ،‬آية ‪.)98 :‬‬
‫ـ العفة‪ :‬كان مر تفعا ً عن مال ال يحتاجه ومتاع ال ينفعه‪ ،‬فإن الق‪99‬وم المستض‪99‬عفين لم‪99‬ا‬
‫شكوا إليه فساد المفسدين‪ ،‬عرضوا عليه الخراج‪ ،‬فأج‪99‬ابهم بعف‪99‬ة وديان‪99‬ة وص‪99‬الح‪ :‬إن‬
‫الذي أعطاني هللا من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه‪ ،‬وما أنا فيه خ‪99‬ير من‬
‫الذي تبذلونه‪.2‬‬
‫إن التوازن المدهش والخالب في شخصية ذي القرنين سببه إيمانه باهلل تع‪99‬الى والي‪99‬وم‬
‫اآلخ‪99‬ر‪ ،‬ول‪99‬ذلك لم تط‪99‬غ قوت‪99‬ه على عدالت‪99‬ه وال س‪99‬لطانه على رحمت‪99‬ه‪ ،‬وال غن‪99‬اه على‬
‫تواضعه‪ ،‬وأصبح مستحقا ً لتأييد هللا وعونه‪ ،‬ول‪99‬ذلك أكرم‪99‬ه هللا تع‪99‬الى باألخ‪99‬ذ بأس‪99‬باب‬
‫التمكين والغلبة وهو تفضل من هللا تعالى على عبده الص‪99‬الح‪ ،‬فجع‪99‬ل ل‪99‬ه مكن‪99‬ة وق‪99‬درة‬
‫على التصرف في األرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجن‪99‬ود والهيب‪99‬ة والوق‪99‬ار‪.3‬‬
‫وكذلك أكرمه هللا بكثرة االعوان والجنود وق‪99‬ذف ال‪99‬رعب في قل‪99‬وب األع‪99‬داء وتس‪99‬هيل‬
‫السير عليه‪ ،‬وتعريفه فجاج األرض واستيالئه على برها وبحرها‪ ،4‬وتمكن‪99‬ه ب‪99‬ذلك من‬
‫تملك المشارق والمغارب من األرض‪ ،‬فكل هذه األمور ال تعطي لشخص عادي‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ‪ ،‬إال أن يكون مؤي‪99‬داً من هللا‪ ،‬ذل‪99‬ك‬
‫التأييد الذي ينصر هللا به عباده المؤمنين‪ ،‬ويدل على هذه العناية أيضا ً ضمير العظم‪99‬ة‬
‫‪":‬وآتَ ْينَاهُ ِمن ُكلِّ َش ْي ٍء َسبَبًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪ ،)84 :‬أي‪ :‬أمده بكل م‪99‬ا أراده من‬ ‫في قوله َ‬
‫مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه‪ ،‬فزوده بعلم منازل األرض وأعالمها وعرفه‬
‫ألسنة األقوام الذين كان يغزوهم فكان ال يغزو قوما ً إال كلمهم بلسانهم‪.5‬‬
‫لقد أعطاه هللا تعالى من كل شيء سبباً‪ ،‬وينصرف ذهن الس‪99‬امع أو الق‪99‬ارئ إلى وج‪99‬وه‬
‫التمكين له في األرض‪ ،‬وأسبابه من العلوم والمعرفة واس‪99‬تقراء س‪99‬نن األمم والش‪99‬عوب‬
‫ص‪99‬عوداً وهبوط‪9‬اً‪ ،‬وفي سياس‪99‬ة النف‪99‬وس أف‪99‬راداً وجماع‪99‬ات ته‪99‬ذيبا ً وتربي‪99‬ة وانتظام‪9‬اً‪،‬‬
‫وأعط‪99‬اه من أس‪99‬باب الق‪99‬وة من األس‪99‬لحة والجي‪99‬وش وأس‪99‬باب الق‪99‬وة والمنع‪99‬ة والظف‪99‬ر‪،‬‬
‫وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة‪ ،‬وقي‪99‬ل‪ :‬مهم‪99‬ا تص‪99‬ور‬
‫من أس‪99‬باب التمكين ال‪99‬تي تلي‪99‬ق برج‪99‬ل رب‪99‬اني ق‪99‬د مكن ل‪99‬ه في ه‪99‬ذه األرض‪ .6‬يمكن أن‬
‫ض َوآتَ ْينَاهُ ِمن ُك ِّل َش ‪ْ 9‬ي ٍء َس ‪9‬بَبًا" (الكه‪99‬ف‪،‬‬‫يدخل تحت قوله تعالى‪":‬إِنَّا َم َّكنَّا لَهُ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫آية ‪.)84 :‬‬
‫لقد كانت رعاية هللا تعالى ل‪99‬ذي الق‪99‬رنين عظيم‪99‬ة بس‪99‬بب إيمان‪99‬ه باهلل تع‪99‬الى واس‪99‬تعداده‬
‫لليوم اآلخر‪ ،‬ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية‪.‬‬

‫‪1‬المصدر نفسه (‪.)627 /2‬‬


‫‪2‬الحكم والتحاكم (‪.)625 /2‬‬
‫‪3‬روح المعاني (‪.)30 /16‬‬
‫‪4‬البر المحيط (‪.)159 /6‬‬
‫‪5‬روح المعاني (‪.)31 /16‬‬
‫‪6‬مباحث في التفسير الموضوعي صـ ‪ 304‬مصطفى مسلم‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫لقد بذل ذو القرنين م‪99‬ا في وس‪99‬عه من أج‪99‬ل دع‪99‬وة الن‪99‬اس إلى عب‪99‬ادة هللا فق‪99‬د جم‪99‬ع بين‬
‫الفتوحات العظيمة بحد السيف‪ ،‬وفتوحات القلوب باإليمان واإلحس‪99‬ان‪ ،‬فك‪99‬ان إذا ظف‪99‬ر‬
‫بأمة أو ش‪9‬عب دع‪9‬اهم إلى الح‪9‬ق واإليم‪9‬ان باهلل تع‪9‬الى قب‪9‬ل العق‪9‬اب أو الث‪9‬واب‪ ،‬وك‪9‬ان‬
‫حريصا ً على األعمال اإلصالحية في كاف‪99‬ة االق‪99‬اليم والبل‪99‬دان ال‪99‬تي فتحه‪99‬ا‪ ،‬فس‪99‬عى في‬
‫بسط س‪9‬لطان الح‪9‬ق والعدال‪9‬ة في االرض ش‪9‬رقا ً وغرب‪9‬اً‪ ،‬وك‪9‬ان ص‪9‬احب والء ومحب‪9‬ة‬
‫ألهل اإليمان‪ ،‬مثلما كان معاديا ً ألهل الكفران‪.1‬‬
‫‪3‬ـ األسباب التي اتخذها داود عليه السالم للتمكين لدين هللا‪:‬‬
‫ك َو ْال ِح ْك َم‪ 9‬ةَ َوعَلَّ َم‪ 9‬هُ ِم َّما‬
‫قال تعالى‪":‬فَهَزَ ُموهُم‪ 9‬بِإ ِ ْذ ِن هّللا ِ َوقَت ََل دَا ُو ُد َجالُوتَ َوآتَاهُ هّللا ُ ْال ُم ْل َ‬
‫ض‪ٍ 9‬ل َعلَى‬ ‫ت األَرْ ضُ َولَـ ِك َّن هّللا َ ُذو فَ ْ‬ ‫ْض لَّفَ َس‪َ 9‬د ِ‬
‫ْض‪9‬هُ ْم بِبَع ٍ‬
‫اس بَع َ‬ ‫يَ َشاء َولَ‪9‬وْ الَ َد ْف‪ُ 9‬ع هّللا ِ النَّ َ‬
‫ْال َعالَ ِمينَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪.)251 :‬‬
‫أكرم هللا تعالى بقتل جالوت وبين القرآن الكريم أن داود عليه السالم ك‪99‬ان مجاه‪99‬داً في‬
‫جيش ط‪999‬الوت‪ ،‬وممن نجح‪999‬وا في اإلمتح‪999‬ان العس‪999‬ير ال‪999‬ذي ق‪999‬رّر رئيس الجيش أن‬
‫يخوضه جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح فقد رفع داود علي‪99‬ه الس‪99‬الم رآي‪99‬ة‬
‫النصر‪ ،‬وشرع في إعادة التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لج‪99‬الوت‪ ،‬وك‪99‬ان إذ ذاك ف‪99‬تى‪،‬‬
‫وتم له الظفر‪ ،‬فالتقت على محبته القلوب‪ ،‬وتأكدت ل‪99‬ه أوام‪99‬ر اإلخالص‪ ،‬وأص‪99‬بح بين‬
‫عش‪99‬ية وض‪99‬حاها ح‪99‬ديث ب‪99‬ني إس‪99‬رائيل‪ ،‬يكن‪99‬ون ل‪99‬ه في نفوس‪99‬هم اإلح‪99‬ترام والمحب‪99‬ة‪،‬‬
‫والتوق‪9‬ير ومن‪9‬ذ ذل‪9‬ك الحين ب‪9‬دا نجم‪9‬ه يص‪9‬عد في الس‪9‬ماء ويتنق‪9‬ل من ظف‪9‬ر إلى ظف‪9‬ر‪،‬‬
‫ويجيئه النص‪99‬ر يتبع‪99‬ه النص‪99‬ر‪ ،‬ح‪99‬تى ولي المل‪99‬ك أخ‪99‬يراً وأص‪99‬بح ذا س‪99‬لطان وظه‪99‬رت‬
‫مالمح الحكم في زمن‪99‬ة في عدل‪99‬ه وحكم‪99‬ه‪ ،‬وك‪99‬ان أ ّواب‪99‬ا رجاع‪99‬ا ً إلى رب‪99‬ه بالطاع‪99‬ة‬
‫والعبادة‪ ،‬والذكر واالستغفار‪ ،‬لق‪99‬د ك‪99‬ان منهج التغي‪99‬ير في زمن داود علي‪99‬ه الس‪99‬الم ه‪99‬و‬
‫الصراع المسلح بين قوى الخير والشر واإليمان والكفر‪ ،‬والهدى والض‪99‬الل‪ ،‬وبالفع‪99‬ل‬
‫تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة مجدهم وعزهم‪.‬‬
‫اص ‪9‬بِرْ َعلَى َم‪99‬ا يَقُولُ‪99‬ونَ َو ْاذ ُك‪99‬رْ َع ْب‪َ 9‬دنَا دَا ُوو َد َذا اأْل َ ْي‪ِ 9‬د إِنَّهُ أَ َّوابٌ * إِنَّا‬ ‫ـ ـ قــال تعــالى‪ْ ":‬‬
‫اق * َوالطَّ ْي‪َ 9‬ر َمحْ ُش‪9‬و َرةً ُك‪ٌّ 9‬ل لَّهُ أَ َّوابٌ *‬ ‫َس َّخرْ نَا ْال ِجبَ‪99‬ا َل َم َع‪ 9‬هُ ي َُس‪9‬بِّحْ نَ بِ ْال َع ِش‪ِّ 9‬ي َواإْل ِ ْش‪َ 9‬ر ِ‬
‫ب" (ص ‪ ،‬آية ‪ 17 :‬ـ ‪.)20‬‬ ‫َو َش َد ْدنَا ُم ْل َكهُ َوآتَ ْينَاهُ ْال ِح ْك َمةَ َوفَصْ َل ْال ِخطَا ِ‬
‫إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السالم يتع‪99‬رف على ص‪99‬فات الح‪99‬اكم‬
‫المؤمن الذي مكن هللا له وهي تحقق للقائد المس‪99‬لم كم‪99‬ال الس‪99‬عادة في ال‪99‬دنيا واآلخ‪99‬رة‪،‬‬
‫ومن أهم هذه الصفات‪.‬‬
‫ـ الصبر‪ :‬فقد أمر هللا تعالى نبينا محم‪99‬د ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم على جالل‪99‬ة ق‪99‬دره ب‪99‬أن‬
‫يقتدي به في الصبر على طاعة هللا‪.‬‬
‫ـ العبودية‪ :‬وقد وصفه ربه بقوله‪َ " :‬ع ْب َدنَا"‪ ،‬وعبر عن نفسه بص‪99‬يغة الجم‪99‬ع للتعظيم‬
‫والوصف بالعبودية هلل غاية التشريف كوصف محم‪99‬د ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم به‪99‬ا ليل‪99‬ة‬
‫المعراج " ُس ْب َحانَ الَّ ِذي أَس َْرى بِ َع ْب ِد ِه" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬
‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)623 /2‬‬

‫‪119‬‬
‫وكان النبي ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم إذا ذك‪9‬ر داود علي‪9‬ه الس‪9‬الم تح‪9‬دث عن‪99‬ه بيَّن فض‪99‬له‬
‫وإجته‪99‬اده في العب‪99‬ادة‪" :‬إن أحب الص‪99‬يام إلى هللا ص‪99‬يام داود‪ ،‬وأحب الص‪99‬الة إلى هللا‬
‫صالة داود عليه السالم‪ :‬كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وين‪99‬ام سدس‪99‬ه‪ ،‬وك‪99‬ان يص‪99‬وم‬
‫يوما ً ويفطر يوما ً‪.1‬‬
‫ـ القوة على أداء الطاعة‪ :‬واالحتراز عن المعاصي في قوله‪َ " :‬ذا اأْل َ ْي ِد‪."....‬‬
‫ـ والرجوع إلى هللا بالطاعة في أموره كلها‪ ،‬في قوله تعالى‪" :‬إِنَّهُ أَ َّوابٌ "‪ .‬وصف‬
‫بالقوة على طاعة هللا وبأنه أواب دليل على كمال معرفته باهلل التي جعلته يجتهد في‬
‫العبادة على نهج رباني صحيح‪.‬‬
‫اق *‬ ‫ـ تسبيحـ الجبال والطيور معه‪" :‬إِنَّا َس َّخرْ نَا ْال ِجبَا َل َم َعهُ ي َُس ‪9‬بِّحْ نَ بِ ْال َع ِش ‪ِّ 9‬ي َواإْل ِ ْش ‪َ 9‬ر ِ‬
‫ورةً ُك‪99‬لٌّ لَّهُ أَ َّوابٌ " (ص ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 18 :‬ـ ‪ )19‬أي أن‪9‬ه تع‪9‬الى س‪9‬خر الجب‪9‬ال‬ ‫َوالطَّي َْر َمحْ ُش‪َ 9‬‬
‫تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار‪ ،‬كما قال عز وج‪99‬ل‪" :‬يَ‪99‬ا ِجبَ‪99‬ا ُل أَ ِّوبِي َم َع‪ 9‬هُ‬
‫َوالطَّي َْر" (سبأ ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬وكذلك الطير تسبح بتسبيحه‪ ،‬وترجع بترجيعه إذا مر ب‪99‬ه الط‪99‬ير‪ ،‬وه‪99‬و‬
‫سابح في الهواء‪ ،‬فسمعه‪ ،‬وهو يترنم بقراءة الزبور‪ ،‬ال يستطيع الذهاب‪ ،‬ب‪99‬ل يق‪99‬ف في‬
‫ً ‪2‬‬
‫الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات‪ ،‬وترجع معه‪ ،‬وتسبح تبعا له‬
‫ـ قوة الملــك ‪َ ":‬و َش َد ْدنَا ُم ْل َك‪ 9‬هُ" (ص‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )20 :‬اي‪ :‬قوين‪99‬ا ملك‪99‬ه بالجن‪99‬د أو الح‪99‬رس‪،‬‬
‫وجعلنا له ملكا ً كامالً في جميع ما يحتاج إليه الملوك‪.‬‬
‫ـ ـ الحكمــة‪َ " :‬وآتَ ْينَاهُ ْال ِح ْك َم‪ 9‬ةَ" (ص‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )20 :‬أي‪ :‬أعطين‪99‬اه الفهم والعق‪99‬ل والفطن‪99‬ة‪،‬‬
‫والعلم‪ ،‬والعدل‪ ،‬وإتقان العمل‪ ،‬والحكم بالصواب‪.‬‬
‫ب" (ص‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )20 :‬أي‪ :‬وألهمن‪99‬ا‬ ‫ـ ـ حســن الفصــل في الخصــومات‪َ " :‬وفَصْ َل ْال ِخطَ‪99‬ا ِ‬
‫حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل‪ ،‬وإيجاز البي‪99‬ان‪ ،‬بجع‪99‬ل المع‪99‬نى‬
‫الكثير في اللفظ القليل‪.3‬‬
‫إن داود عليه السالم ش ّد ملك‪99‬ه بالتس‪99‬بيح وال‪99‬ذكر والطاع‪99‬ة‪ ،‬فك‪99‬ان علي‪99‬ه الس‪99‬الم يس‪99‬بح‬
‫بالعشي واإلشراق وتجاوبت الجبال مع ذكره العذب الجميل وكذلك تجاوبت الطي‪99‬ور‪،‬‬
‫اق" (ص‪ ،‬آية ‪.)18 :‬‬ ‫ال َم َعهُ يُ َسبِّحْ نَ بِ ْال َع ِش ِّي َواإْل ِ ْش َر ِ‬‫قال تعالى‪":‬إِنَّا َس َّخرْ نَا ْال ِجبَ َ‬
‫فوهبه هللا هبة عظمى ذكرها في كتابه عز وجل ‪َ ":‬و َش َد ْدنَا ُم ْل َكهُ َوآتَ ْينَاهُ ْال ِح ْك َمةَ َوفَصْ َل‬
‫ب" (ص‪ ،‬آية ‪ ،)20 :‬الذي جعلن‪99‬ا ل‪99‬ه ملك‪9‬ا ً ك‪99‬امالً من جمي‪99‬ع المل‪99‬وك العظم‪99‬اء‪،‬‬ ‫ْال ِخطَا ِ‬
‫بحيث ال يتمكن منه أعداؤه لكثرة جيوشه‪ ،‬وكثافة حراسه الذين قيل‪ :‬إنهم ك‪99‬انوا ألوف ‪9‬ا ً‬
‫كثيرة يتناوبون في حراسته ولم ينكسر له جيش في معركة أبداً بعون هللا ونصره‪.4‬‬
‫أ ـ استخالف هللا تعالى لداود عليه السالم‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك خَ لِيفَ ‪9‬ةً فِي اأْل رْ ِ‬ ‫قال تعالى‪":‬يَا دَا ُوو ُد إِنَّا َج َع ْلنَا َ‬
‫ق َواَل تَتَّبِ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ع‬ ‫ض فَ‪99‬احْ ُكم بَ ْينَ النَّ ِ‬
‫اس بِ‪99‬ال َح ِّ‬
‫ضلُّونَ عَن َسبِي ِل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ َش ِدي ٌد بِ َم‪99‬ا ن َُس‪9‬وا‬ ‫يل هَّللا ِ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ‬
‫ك عَن َسبِ ِ‬ ‫ْالهَ َوى فَي ِ‬
‫ُضلَّ َ‬
‫ب" (ص‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫يَوْ َم ْال ِح َسا ِ‬

‫‪ 1‬مسلم ‪ ،‬ك الصيام‪ ،‬بان النهي عن صوم الدهر رقم ‪.189‬‬


‫‪2‬تفسير ابن كثير (‪.)29 /4‬‬
‫‪3‬تفسير المنير لوهبة الزحيلي (‪ 183 /23‬ـ ‪.)185‬‬
‫‪4‬تفسير القرطبي (‪.)162 /15‬‬

‫‪120‬‬
‫خاطب هللا تعالى داود عليه السالم بأن جعله حاكما ً بين الناس في األرض‪ ،‬فل‪99‬ه الحكم‬
‫والسلطة‪ ،‬وعليهم السمع والطاعة ثم بين هللا تعالى ل‪99‬ه قواع‪99‬د الحكم تعليم ‪9‬ا ً لغ‪99‬يره من‬
‫الناس‪:‬‬
‫اس بِ ْال َحقِّ" أي‪ :‬فاقضي بين الناس بالعدل‪ ،‬الذي ق‪99‬امت ب‪99‬ه الس‪99‬موات‬ ‫ـ "فَاحْ ُكم بَ ْينَ النَّ ِ‬
‫واألرض وهذه أولى وأهم قواعد الحكم‪.‬‬
‫ـ " َواَل تَتَّبِ ِع ْالهَ َوى" أي‪ :‬ال تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا‪ ،‬فإن‬
‫ك عَن َس ‪9‬بِي ِل هَّللا ِ" أي‪ :‬إن اتب‪99‬اع‬ ‫ُض ‪9‬لَّ َ‬
‫اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار‪ ،‬لذا قال ‪":‬فَي ِ‬
‫الهوى سبب في الوقوع في الضالل‪ ،‬واالنحراف عن جادة الح‪99‬ق‪ ،‬وعاقبت‪99‬ه الخ‪99‬ذالن‪،‬‬
‫ب"‬ ‫ضلُّونَ عَن َسبِي ِل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ َش ‪ِ 9‬دي ٌد بِ َم‪99‬ا ن َُس ‪9‬وا يَ‪99‬وْ َم ْال ِح َس ‪9‬ا ِ‬ ‫قال تعالى‪":‬إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ‬
‫أي‪ :‬إن الذين يتنكبون طريق الح‪99‬ق والع‪99‬دل لهم عق‪99‬اب ش‪99‬ديد ي‪99‬وم القيام‪99‬ة‪ ،‬والحس‪99‬اب‬
‫اآلخروي بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم‪ ،‬وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنس‪99‬ان‪،‬‬
‫وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم‪ ،‬ومنه القضاء بالعدل‪.1‬‬
‫ب ـ هبة من هللا مباركة وفتح وإلهام‪:‬‬
‫إن داود عليه السالم كان له كثير من االبناء واألوالد إال أن هللا خصه ب‪99‬االبن الص‪99‬الح‬
‫النبي الملك سليمان عليه السالم‪ ،‬وأثنى هللا عليه في كتاب‪99‬ه بكون‪99‬ه أواب إلى هللا ـ ع‪99‬ز‬
‫وجل ـ كثير الطاعة والعبادة واإلناب‪99‬ة إلى هللا ـ ع‪99‬ز وج‪9‬ل ـ في أك‪9‬ثر األوق‪9‬ات‪ ،‬ومن‬
‫مزيد فضل هللا على عبده داود أن وهبه س‪99‬ليمان ال‪9‬ذي ورث عن أبي‪9‬ه المل‪99‬ك والنب‪9‬وة‪،‬‬
‫تعالى‪":‬و َوهَ ْبنَا‪ 9‬لِدَا ُوو َد ُسلَ ْي َمانَ نِ ْع َم ْال َع ْب ُد إِنَّهُ أَ َّوابٌ " (ص‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬ ‫َ‬ ‫قال‬
‫لقد أكرم هللا تعالى سليمان عليه السالم بالملك والنب‪99‬وة وأعط‪99‬اه الفهم الث‪99‬اقب‪ ،‬وال‪99‬رأي‬
‫السديد‪ ،‬ورجاحة العقل ومما يدل على ذلك قوله تع‪9‬الى‪َ ":‬ودَا ُوو َ‪9‬د َو ُس‪9‬لَ ْي َمانَ إِ ْذ يَحْ ُك َم ِ‬
‫‪9‬ان‬
‫ت ِفي ِه َغنَ ُم ْالقَوْ ِم َو ُكنَّا لِ ُح ْك ِم ِه ْم َشا ِه ِدينَ * فَفَهَّ ْمنَاهَا ُسلَ ْي َمانَ َو ُكاًّل آتَ ْينَا‬
‫ث إِ ْذ نَفَ َش ْ‬‫فِي ْال َحرْ ِ‬
‫ُح ْك ًما َو ِع ْل ًما" (األنبياء‪ ،‬آية ‪ 78 :‬ـ ‪.)79‬‬
‫ج ـ ابتكار في صناعة األسلحة‪:‬‬
‫ص ‪9‬نَ ُكم ِّمن بَأْ ِس ‪ُ 9‬ك ْم فَهَ‪99‬لْ أَنتُ ْم َش ‪9‬ا ِكرُونَ "‬ ‫س لَّ ُك ْم لِتُحْ ِ‬ ‫ص ‪ْ 9‬ن َعةَ لَبُ‪99‬و ٍ‬ ‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬و َعلَّ ْمنَ‪99‬اهُ َ‬
‫(األنبياء‪ ،‬آية ‪ ،)80 :‬كان داود عليه السالم أول من اتخذ ال‪99‬دروع وص‪99‬نعها‪ ،‬وتعلمه‪99‬ا‬
‫الناس منه‪ ،‬وإنما كانت ص‪9‬فائح فه‪9‬و أول من س‪9‬ردها وحلقه‪9‬ا فأص‪9‬بحت النعم‪9‬ة علي‪9‬ه‬
‫نعمة على جميع المحاربين على الدوام ابد الدهر‪ ،‬فلزمهم شكر هللا تعالى على النعمة‪.‬‬
‫وذلك يقتضي الشكر‪ ،‬لذا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬فَهَ‪99‬لْ أنتُ ْم َش‪9‬ا ِكرُونَ " (األنبي‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )80 :‬أي‪:‬‬
‫على تيسير نعمة الدروع لكم‪ ،‬وأن تطيعوا رسول هللا فيما أمر هللا به والمراد‪ 9:‬اشكروا‬
‫هللا على م‪99‬ا يس‪99‬ر عليكم من ه‪99‬ذه النعم‪99‬ة‪ ،‬وه‪99‬ذا دلي‪99‬ل على ج‪99‬واز اتخ‪99‬اذ الص‪99‬نائع‬
‫واألسباب‪ ،‬فالسبب سنة هللا في خلقه‪ ،‬وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والض‪99‬ائع ب‪99‬أن‬
‫العمل شرف‪ ،‬واتخاذ الحرفة كرامة وه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة فيه‪99‬ا إش‪99‬ارة لحث أه‪99‬ل اإليم‪99‬ان على‬
‫العمل واإلبداع واألخذ بأسباب النصر على األعداء ومحاربة الفس‪99‬اد بإع‪99‬داد الجي‪99‬وش‬
‫مقودة بقيم اإليمان وتعاليم الرحمن‪ ،‬وشريعة الديان‪ ،‬قال تعالى‪َ ":‬وأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِدي‪َ 99‬د * أَ ِن‬
‫ص‪9‬يرٌ" (س‪9‬بأ‪ ،‬آي‪9‬ة ‪:‬‬ ‫صالِحًا إِنِّي بِ َم‪9‬ا تَ ْع َملُ‪9‬ونَ بَ ِ‬ ‫ت َوقَدِّرْ فِي السَّرْ ِد َوا ْع َملُوا َ‬ ‫ا ْع َملْ َسابِغَا ٍ‬
‫‪ 10‬ـ ‪.)11‬‬

‫‪1‬فقه النصر والتمكين صـ ‪.126‬‬

‫‪121‬‬
‫وكانت هذه هبة هللا فوق الملك والسلطان‪ ،‬مع النبوة واالس‪99‬تخالص إن هللا تع‪99‬الى أنعم‬
‫على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي ه‪99‬و م‪99‬ادة اإلعم‪99‬ار‬
‫والبناء والتصنيع‪ ،‬وال ش‪99‬ك في خط‪99‬ورة م‪99‬ادة الحدي‪99‬د في ص‪99‬ناعة الحض‪99‬ارات وبن‪99‬اء‬
‫الدول وفي حسم انتصارات الجيوش‪.1‬‬
‫ت َوأَنز َْلنَ‪99‬ا َم َعهُ ُم ْال ِكتَ‪َ 9‬‬
‫‪9‬اب‬ ‫ُس‪9‬لَنَا بِ ْالبَيِّنَ‪99‬ا ِ‬ ‫وفي سورة الحديد نقرأ هذه اآلية ‪":‬لَقَ‪ْ 9‬د أَرْ َس‪ْ 9‬لنَا ر ُ‬
‫ْ‬
‫نزَلنَا ْال َح ِدي‪َ 9‬د فِي‪ِ 9‬ه بَ‪99‬أسٌ َش‪ِ 9‬دي ٌد َو َمنَ‪99‬افِ ُع لِلنَّ ِ‬
‫اس َولِيَ ْعلَ َم هَّللا ُ‬ ‫َو ْال ِميزَ انَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِ ْس ِط َوأَ ْ‬
‫َزي ٌز" (الحديد‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬ ‫ب إِ َّن هَّللا َ قَ ِويٌّ ع ِ‬ ‫ص ُرهُ َو ُر ُسلَهُ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫َمن يَن ُ‬
‫سورة الحديد؟ هل ثمة أكثر داللة على ارتباط المسلم باألرض من التحضير واإلب‪99‬داع‬
‫والبناء التي جاء اإلسالم لكي يجعلها جزءاً أساس‪9‬يا ً من أخالقي‪9‬ات اإليم‪9‬ان وس‪99‬لوكياته‬
‫في قلب العالم‪ ،‬من هذه اآلية التي تعرض خام الحديد كنعمة كب‪99‬يرة أنزله‪99‬ا هللا لعب‪99‬اده‪،‬‬
‫وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دوما ً عن الحديد "الب‪99‬أس الش‪99‬ديد"‬
‫متمثالً باستخدام الحديد كأساس للتسلح واإلعداد العس‪99‬كري و"المن‪99‬افع" ال‪99‬تي يمكن أن‬
‫يحظى بها اإلنسان من هذه المادة الخام في كاف‪99‬ة مج‪99‬االت نش‪99‬اطه وبنائ‪99‬ه "الس‪99‬لمي"؟‬
‫وهل ثمة حاجة للتأكيد على األهمية المتزايدة للحديد بم‪99‬رور ال‪99‬زمن في مس‪99‬ائل الس‪99‬لم‬
‫والحرب‪ ،‬وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في مي‪99‬ادين الق‪99‬وى‬
‫الدولية سلما ً وحرباً؟‬
‫إن الدولة المعاصرة التي تمتلك خام الحديد تستطيع أن ترهب اعداءها بم‪9‬ا يتيح‪99‬ه له‪9‬ا‬
‫هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل‪ ...‬وتستطيع أيضا ً ـ أن تخطو خط‪99‬وات واس‪99‬عة‬
‫لكي تقف في مص‪99‬اف ال‪99‬دول الص‪99‬ناعية العظمى ال‪99‬تي يش‪99‬كل الحدي‪99‬د العم‪99‬ود الفق‪99‬ري‬
‫لصناعاتها وغناها‪.2‬‬
‫إن هللا ـ سبحانه وتعالى ـ منح الحديد لداود عليه السالم وعلمه كيف يلينه‪ ،‬ألن الفائ‪99‬دة‬
‫تتحقق بوجود الخام والقدرة على تش‪99‬كيله‪ ،‬والش‪99‬ك أن ذل‪99‬ك س‪99‬اعد على بن‪99‬اء حض‪99‬ارة‬
‫عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي ‪...‬الخ‬
‫وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخالً عميقا ً وارتباطا ً صميما ً بين آية الحدي‪99‬د‪ ،‬وإرس‪99‬ال‬
‫الرس‪99‬ل وإن‪99‬زال الكتب معهم‪ ،‬وإقام‪99‬ة الم‪99‬وازين الدقيق‪99‬ة لنش‪99‬ر الع‪99‬دل بين الن‪99‬اس وبين‬
‫إنزال الحديد الذي يحمل في طياته "الب‪99‬أس"‪ 9،‬ثم التأكي‪99‬د على أن ه‪99‬ذا كل‪99‬ه إنم‪99‬ا يجيء‬
‫َزي ٌز" (الحديد‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬ ‫يع ِ‬ ‫ص ُرهُ َو ُر ُسلَهُ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ب إِ َّن هَّللا َ قَ ِو ٌّ‬ ‫لكي يعلم هللا َمن "يَن ُ‬
‫إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة هللا إال يده المؤمنة التي تع‪99‬رف كي‪99‬ف تبحث عن‬
‫الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية اإلسالم والتقدم به وتحقيق النصر للمؤم‪99‬نين‬
‫وإقامة شرع هللا في مناحي الحياة‪.‬‬
‫إن قول هللا تعالى ‪َ ":‬وأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِديدَ" (سبأ‪ ،‬آية ‪ )10 :‬فيه إشارة إلى أهمي‪99‬ة ه‪99‬ذا الخ‪99‬ام‬
‫وتوظيفه لخدمة اإلنسانية في طاعة هللا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ األسباب التي إتخذها سليمان ـ عليه السالم ـ للتمكين لدين هللا‪:‬‬
‫تسلّم سليمان ـ عليه السالم ـ قيادة الدول‪99‬ة القوي‪99‬ة ال‪99‬تي أسس‪99‬ت على اإليم‪99‬ان والتوحي‪99‬د‬
‫وتقوى هللا تعالى‪ ،‬لقد أوتي سليمان ـ علي‪99‬ه الس‪99‬الم ـ المل‪99‬ك الواس‪99‬ع والس‪99‬لطان العظيم‬
‫بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي‪ ،‬ولكنه أعطى قبل ذل‪99‬ك عط‪99‬اء أعظم وأك‪99‬رم‪ ،‬هي‪99‬أه ألن‬
‫‪1‬فقه النصر والتمكين صـ ‪.129‬‬
‫‪2‬التفسير اإلسالمي للتاريخ صـ ‪ 221‬ـ ‪ 222‬عماد الدين خليل‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫يك‪99‬ون شخص‪99‬ية فري‪99‬دة متم‪99‬يزة في الت‪99‬اريخ‪ ،‬لق‪99‬د أعطي النب‪99‬وة‪ ،‬ومنح العلم وأوتي‬
‫الحكمة‪ ،‬وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل‪.1‬‬
‫أ ـ بداية التمكين‪:‬‬
‫‪9‬ير ِّم ْن‬ ‫ض‪9‬لَنَا َعلَى َكثِ‪ٍ 9‬‬ ‫"ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َد َو ُسلَ ْي َمانَ ِع ْل ًما َوقَااَل ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي فَ َّ‬
‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫ق الطَّي ِْر َوأُوتِينَا‬ ‫ان دَا ُوو َد َوقَا َل يَا أَيُّهَا النَّاسُ ُعلِّ ْمنَا َمن ِط َ‬ ‫ث ُسلَ ْي َم ُ‬‫ِعبَا ِد ِه ْال ُم ْؤ ِمنِينَ * َو َو ِر َ‬
‫ين" (النمل ‪ ،‬آية ‪ 15 :‬ـ ‪.)16‬‬ ‫ِمن ُك ِّل َش ْي ٍء إِ َّن هَ َذا لَهُ َو ْالفَضْ ُل ْال ُمبِ ُ‬
‫بدأ التمكين بتلك اإلشارة " َولَقَ‪ْ 9‬د آتَ ْينَ‪99‬ا دَا ُوو َد َو ُس‪9‬لَ ْي َمانَ ِع ْل ًما‪ ،"...‬وقب‪99‬ل أن تنتهي اآلي‪99‬ة‬
‫يجيء شكر داود وس‪99‬ليمان على ه‪99‬ذه النعم‪99‬ة‪ ،‬وإعالن قيمته‪99‬ا وق‪99‬درها العظيم‪ ،‬فت‪99‬برز‬
‫قيمة العلم‪ ،‬وعظمة المنة به من هللا على العباد‪ ،‬وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد‬
‫هللا المؤم‪99‬نين‪ ،‬وال ي‪99‬ذكر هن‪99‬ا ن‪99‬وع العلم وموض‪99‬وعه‪ 9،‬ألن جنس العلم ه‪99‬و المقص‪99‬ود‬
‫باإلبراز واإلظهار‪ ،‬ولإليحاء بأن العلم كله هبة من هللا‪ ،‬وبأن الالئ‪99‬ق بك‪99‬ل ذي علم أن‬
‫يعرف مصدره‪ ،‬وأن يتوجه إلى هللا بالحمد عليه‪ ،‬وأن ينفقه فيما يرضى هللا ال‪99‬ذي أنعم‬
‫به وأعطاه‪ ،‬فال يكون العلم ُمبعداً لصاحبه عن هللا‪ ،‬وال منسيا ً له إياه‪ ،‬وهو بعض منن‪99‬ه‬
‫وعطاياه وبعد اإلشارة إلى اإلنعام بمنة العلم على داود وسليمان‪ ،‬وحم‪99‬دهما هلل ربهم‪99‬ا‬
‫ان دَا ُوو َد‬ ‫ث ُس ‪9‬لَ ْي َم ُ‬ ‫على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها‪ ،‬يفرد سليمان بالح‪99‬ديث‪َ " :‬و َو ِر َ‬
‫ض‪ُ 9‬ل‬ ‫‪9‬ر َوأُوتِينَ‪99‬ا ِمن ُك‪ِّ 9‬ل َش‪ْ 9‬ي ٍء إِ َّن هَ‪َ 9‬ذا لَهُ‪َ 9‬و ْالفَ ْ‬ ‫ق الطَّ ْي‪ِ 9‬‬ ‫ال يَ‪99‬ا أَيُّهَ‪99‬ا النَّاسُ ُعلِّ ْمنَ‪99‬ا َم ِ‬
‫نط‪َ 9‬‬ ‫َوقَ َ‬
‫ين" (النمل ‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬ ‫ْال ُمبِ ُ‬
‫ب ـ فقه سليمان ـ عليه السالم ـ في إدارة الدولة‪:‬‬
‫إن القصص القرآني في سيرة سليمان أش‪99‬ار إلى أس‪99‬اليبه في إدارة الدول‪99‬ة والمحافظ‪99‬ة‬
‫على التمكين‪ ،‬وأهم هذا الفقه يظهر في النقاط اآلتية‪:‬‬
‫ــدوام المباشرة ألحوال الرعية‪ ،‬وتفقد أمورها‪ ،‬والتماس اإلحاطة بج‪99‬وانب الخل‪99‬ل في‬
‫أفرادها وجماعاتها‪ ،‬فهذا كان حال سليمان ـ عليه السالم ـ " َوتَفَقَّ َد الطَّيْر" (النمل ‪ ،‬آي‪99‬ة‬
‫‪ )20 :‬وذل‪99‬ك بحس‪99‬ب م‪99‬ا تقتض‪99‬يه العناي‪99‬ة ب‪99‬أمور المل‪99‬ك‪ ،‬واالهتم‪99‬ام بك‪99‬ل ج‪99‬زء في‪99‬ه‪،‬‬
‫والرعاية بكل واحدة فيها وخاصة الضعفاء‪.2‬‬
‫وال شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسس‪9‬ات وأجه‪99‬زة ح‪99‬تى تس‪9‬تطيع أن تق‪99‬وم به‪9‬ذه‬
‫المهمة العظيمة‪ .‬إن سليمان كان مهتما ً بمتابعة الجند وأص‪99‬حاب األعم‪99‬ال وخاص‪99‬ة إذا‬
‫راب شيء في أحوالهم‪ ،‬فسليمان عليه السالم لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال " َم‪99‬الِ َي اَل‬
‫أَ َرى ْالهُ ْدهُدَ" يعني "أهو غائب"؟ كأنه يسأل عن ص‪99‬حة م‪99‬ا الح له‪ ،3‬ثم ق‪99‬ال‪":‬أَ ْم َك‪99‬انَ‬
‫ِمنَ ْالغَائِبِينَ " (النمل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)20 :‬س‪99‬ؤال آخ‪99‬ر ينم عن ح‪99‬زم في الس‪99‬ؤال بع‪99‬د ال‪99‬ترفق‪،‬‬
‫فسليمان عليه السالم أراد أن يفهم من‪9‬ه أن‪99‬ه يس‪9‬أل عن الغ‪9‬ائب ال عن ش‪9‬فقة فق‪99‬ط ولكن‬
‫عن جد وشدة‪ ،‬إذا لم يكن الغياب بعذر‪.4‬‬
‫ـ البد للدولة من قوانين حتى تضبط األمور بحيث يعاقب المس‪99‬يئ‪ ،‬ويحس‪99‬ن للمحس‪99‬ن‬
‫والبد من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة‪ ،‬وأن تكون على قدر الخط‪99‬أ وحجم الج‪99‬رم‬
‫وهذا عين العدالة‪ ،‬ولهذا لم يقطع س‪99‬ليمان علي‪99‬ه الس‪99‬الم بق‪99‬رار واح‪99‬د في العق‪99‬اب عن‪99‬د‬

‫‪1‬فقه النصر والتمكين صـ‪.130‬‬


‫‪2‬تفسير القرطبي (‪.)177 / 13‬‬
‫‪3‬تفسير الرازي (‪.)189 /24‬‬
‫‪ 4‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)593 /2‬‬

‫‪123‬‬
‫ثبوت الخطأ‪ ،‬بل جعله متوقف ‪9‬ا ً على حجم الخط‪99‬أ "أَل ُ َع ِّذبَنَّهُ َع‪َ 9‬ذابًا َش ‪ِ 9‬ديدًا أَوْ أَل َ ْذبَ َحنَّهُ‪"..‬‬
‫(النمل‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬
‫وقد استدل أهل العلم به‪9‬ذه اآلي‪9‬ة على أن العق‪99‬اب على ق‪9‬در ال‪99‬ذنب‪ ،‬وعلى ال‪9‬ترقي من‬
‫الشدة إلى األشد بقدر ما يحتاجه إلى إصالح الخلل‪.1‬‬
‫ـ األهتمام باألجهزة األمنيةـ‪ ،‬البد للدولة المسلمة أن تهتم ب‪99‬األجهزة األمني‪99‬ة وتح‪99‬رص‬
‫أشد الحرص على اإلهتمام باألخبار والمعلومات حتى توظف لخدم‪99‬ة ال‪99‬دين‪ ،‬وعقي‪99‬دة‬
‫التوحيد‪ ،‬ونشر المبادئ السامية‪ ،‬واألهداف النبيلة‪ ،‬والمث‪99‬ل العلي‪99‬ا‪ ،‬وأن تح‪99‬رص على‬
‫تحبيب الجه‪99‬اد ألبنائه‪99‬ا بواس‪99‬طة األجه‪99‬زة اإلعالمي‪99‬ة والوس‪99‬ائل التربوي‪99‬ة‪ ،‬وأن ته‪99‬يئ‬
‫النفوس للظروف المناسبة إلقامتها للدين وإعالء لكلمة هللا‪ ،‬وهكذا ك‪99‬ان ش‪99‬أن س‪99‬ليمان‬
‫عليه السالم ـ كما قال القرطبي ـ رحمه هللا‪ :‬فإنما صار صدق الهده‪9‬د ع‪9‬ذراً ل‪9‬ه‪ ،‬ألن‪9‬ه‬
‫أخبر بما يقتضي الجهاد‪ ،‬وكان سليمان عليه السالم حبب إليه الجهاد‪.2‬‬
‫ـ اإلهتمام بنصرـ دعوة التوحيد‪ ،‬والبد للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتم بنصر دع‪99‬وة‬
‫التوحيد‪ ،‬وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف فإن س‪99‬ليمان علي‪99‬ه الس‪99‬الم لم‪99‬ا اس‪99‬تمع إلى‬
‫خبر القوم المشركين‪ ،‬ش ّمر عن ساعد الجد في إيصال البالغ إليهم‪ ،‬وبدأ معهم بالحجة‬
‫والبيان‪ .‬قال تعالى‪ْ ":‬اذهَب بِّ ِكتَابِي هَ َذا فَأ َ ْلقِ ْه إِلَ ْي ِه ْم ثُ َّم تَ َو َّل َع ْنهُ ْم فَانظُرْ َم‪99‬ا َذا يَرْ ِج ُع‪99‬ونَ "‬
‫(النمل‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬
‫قال القرطبي ـ رحم‪99‬ه هللا ـ ‪ :‬في ه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة دلي‪99‬ل على إرس‪99‬ال الكتب إلى المش‪99‬ركين‬
‫وتبليغهم ال‪99‬دعوة ودع‪99‬ائهم إلى اإلس‪99‬الم‪ ،‬وق‪99‬د كتب الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم إلى‬
‫كسرى وقيصر وإلى كل جبار‪.3‬‬
‫ولقد كان كتاب سليمان عليه السالم لملكة سبأ يبدأ بالرحمة وتتخلل‪99‬ه الكرام‪99‬ة‪ ،‬وآخ‪99‬ره‬
‫الدعوة إلى االستجابة هلل واالستسالم له سبحانه "إِنَّهُ ِمن ُسلَ ْي َمانَ َوإِنَّهُ بِس ِْم هَّللا ِ ال‪9‬رَّحْ َم ِن‬
‫ي َو ْأتُونِي ُم ْسلِ ِمينَ " (النمل‪ ،‬آية ‪ 30 :‬ـ ‪.)31‬‬ ‫َّح ِيم * أَاَّل تَ ْعلُوا َعلَ َّ‬ ‫الر ِ‬
‫ــ الــترفع على حطــام الــدنيا‪ :‬فملكة س‪99‬بأ عن‪99‬دما عملت الحيل‪99‬ة الختب‪99‬ار س‪99‬ليمان علي‪99‬ه‬
‫السالم‪ ،‬تفتق ذهنها عن بعث هدية له تمتحن به‪99‬ا حب‪99‬ه لل‪99‬دين‪ ،‬ف‪99‬أظهر ع‪99‬دم االك‪99‬تراث‬
‫بهذا المال‪ ،‬وأعلم من جاءوا به أن هللا تع‪99‬الى آت‪99‬اه ال‪99‬دين ال‪99‬ذي ه‪99‬و الس‪99‬عادة القص‪99‬وى‬
‫وآتاه من الدنيا ماالً مزيد عليه‪ ،‬فكيف يستمال مثله بمثل هذه الهدية‪ ،‬وصارحهم ب‪99‬أنهم‬
‫هم الذين من شأنهم الفرح بتلك الهدية التي ظنوا أنه سيفرح بها أما هو فلن يقب‪99‬ل منهم‬
‫ال فَ َما آتَانِ َي هَّللا ُ خَ ْي ٌر ِّم َّما آتَ‪99‬ا ُكم بَ‪99‬لْ أَنتُم‬ ‫إال اإلسالم أو السيف ‪ ،‬قال تعالى‪":‬أَتُ ِم ُّدون َِن بِ َم ٍ‬
‫‪4‬‬

‫بِهَ ِديَّتِ ُك ْم تَ ْف َرحُونَ " (النمل‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬


‫ـ المقدرة على اتخــاذ القــرار الصــحيح في ال‪99‬وقت المناس‪99‬ب للمك‪99‬ان المناس‪99‬ب‪ ،‬وع‪99‬دم‬
‫التردد في القرار الص‪99‬عب للتغلب على الح‪99‬ال األص‪99‬عب‪ ،‬فعن‪99‬دما وج‪99‬د س‪99‬ليمان علي‪99‬ه‬
‫السالم أن القوم مازالوا على الشرك‪ ،‬ب‪99‬ل يري‪99‬دون اس‪99‬تمالته وتنحيت‪99‬ه عن ص‪99‬البته في‬
‫الح‪99‬ق ق‪99‬ال للوف‪99‬د ال‪99‬ذي ج‪99‬اء بالهدي‪99‬ة ‪":‬ارْ ِج‪ْ 9‬ع إِلَ ْي ِه ْم فَلَنَ‪99‬أْتِيَنَّهُ ْم بِ ُجنُ‪99‬و ٍد اَّل قِبَ ‪َ 9‬ل لَهُم بِهَ‪99‬ا‬
‫اغرُونَ " (النمل‪ ،‬آية ‪.)37 :‬‬ ‫َولَنُ ْخ ِر َجنَّهُم ِّم ْنهَا أَ ِذلَّةً َوهُ ْم َ‬
‫ص ِ‬

‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)593 /2‬‬


‫‪2‬تفسير القرطبي (‪.)189 /13‬‬
‫‪3‬المصدر نفسه (‪.)190 /13‬‬
‫‪ 4‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)598 /2‬‬

‫‪124‬‬
‫والمانع من ركوب الشدة مع المعاند‪ ،‬واستعمال القوة في إرهاب من يصد عن الدعوة‬
‫فإن ذلك قد ال ينفع غيره في إنقاذ الن‪99‬اس من الش‪99‬رك‪ ،‬ب‪99‬ل من المع‪99‬ادن البش‪99‬رية م‪99‬ا ال‬
‫يلين إال تحت وهج السيف وسنابك الخيل‪ ،‬وكان ه‪99‬ذا االس‪99‬لوب س‪99‬ببا ً في إس‪99‬الم ملك‪99‬ة‬
‫سبأ وانقياده‪99‬ا وجنوده‪99‬ا لس‪99‬ليمان وال م‪99‬انع من اس‪99‬تعمال ال‪99‬ذكاء والعق‪99‬ل الن‪99‬ير‪ ،‬ودق‪99‬ة‬
‫التدبير‪ ،‬في استجالب قل‪99‬وب الم‪99‬دعوين إلى ال‪99‬دين واس‪99‬تخدام نعم هللا في دالل‪99‬ة الخل‪99‬ق‬
‫على هللا ومخاطب‪99‬ة الن‪99‬اس بالكيفي‪99‬ة ال‪99‬تي تس‪99‬تهوي قل‪99‬وب ع‪99‬وامهم وتجلب اح‪99‬ترام‬
‫خواصهم‪ ،‬فسليمان لما بلغه خبر مجئ ملكة سبأ في جمع من حاشيتها وجنوده‪99‬ا‪ ،‬أراد‬
‫أن يعلمها مدى ما أعطاه هللا من قوة حتى أن عرشها ال‪99‬ذي تركت‪99‬ه في حماي‪99‬ة عظيم‪99‬ة‬
‫وحرس كثيف يسبقها إليه‪.1‬‬
‫ـ االستفادة من المهارات والمواهب‪ :‬وعلى الدولة المس‪99‬لمة أن تس‪99‬تفيد من المه‪99‬ارات‬
‫والم‪99‬واهب وإمكان‪99‬ات الخاص‪99‬ة في أف‪99‬راد الرعي‪99‬ة ووض‪99‬ع الف‪99‬رد المناس‪99‬ب في مكان‪99‬ه‬
‫الصحيح‪ ،‬إن مملكة سليمان عليه السالم كان فيها من اإلنس والجن وغ‪99‬يرهم م‪99‬ا ك‪99‬ان‬
‫يمكن أن يؤدي مهمة الهدهد‪ ،‬ولكن سليمان عليه الس‪99‬الم اخت‪99‬اره م‪99‬ع ض‪99‬عفه وص‪99‬غره‬
‫لتأدية هذه المهمة فـ "تخصيصه عليه السالم إي‪99‬اه بالرس‪99‬الة دون س‪99‬ائر م‪99‬ا تحت ملك‪99‬ه‬
‫من أمن‪99‬اء الجن األقوي‪99‬اء على التص‪99‬رف‪ 9‬والتع‪99‬رف‪ ،‬لم‪99‬ا ع‪99‬اين في‪99‬ه من مخاي‪99‬ل العلم‬
‫والحكمة‪.2‬‬
‫ج ـ أبرز صفات سليمان ـ عليه السالم ـ كحاكم لدولة‪:‬‬
‫إن اآليات الكريمة عرضت صفات سليمان ـ عليه السالم ـ كملك وحاكم ممكن ل‪99‬ه في‬
‫األرض وفي هذا إشارة من هللا تعالى إلى الص‪99‬فات القيادي‪99‬ة المطلوب‪99‬ة لإلش‪99‬راف على‬
‫تمكين شرع هللا تعالى‪.‬‬
‫ـ الحــزم‪ :‬ويظه‪99‬ر ذل‪99‬ك عن‪99‬د القي‪99‬ادة إن غلب الظن أن هن‪99‬اك تقص‪99‬يراً‪ ،‬أو تكاس‪9‬الً عن‬
‫الحض‪999‬ور وقت الطلب أو الت‪999‬أخر وقت العم‪999‬ل "أَل ُ َع ِّذبَنَّهُ عَ‪َ 999‬ذابًا َش‪ِ 999‬ديدًا أَوْ أَل َ ْذبَ َحنَّهُ"‬
‫(النمل‪ ،‬آية ‪ )21 :‬فإنه قد تبين لسليمان عليه السالم أن الهدهد غائب‪ ،‬فتهدد بذلك أمام‬
‫الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب‪ ،‬حتى ال يكون غيابه ـ إن لم يؤخ‪99‬ذ ب‪99‬الحزم ـ س‪99‬ابقة‬
‫سيئة لبقية الجند‪.3‬‬
‫ـ التريث والتأني قبل الحكم‪ ،‬فلعل للغائب عذراً أو للمقص‪99‬ر حج‪99‬ة ت‪99‬دفع اإلثم‪ ،‬وترف‪99‬ع‬
‫العقوبة‪ ،‬ولهذا قال سليمان بعدها ‪":‬أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِ ُس‪ْ 9‬لطَا ٍن ُّمبِي ٍن" (النم‪99‬ل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )21 :‬أي‪:‬‬
‫بحج‪99‬ة ت‪99‬بين ع‪99‬ذره في غيبته‪ .4‬وه‪99‬ذا ه‪99‬و الالئ‪99‬ق بالح‪99‬اكم والقاض‪99‬ي إذا ك‪99‬ان ع‪99‬ادالً‪،‬‬
‫وسليمان عليه السالم الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده حتى عند النمل‪ ،‬ال ينتظ‪99‬ر من‪99‬ه‬
‫مع الهدهد‪ ،‬أو ما دونه أو ما فوقه‪ ،‬إال أن يكون ع‪99‬ادالً ال يعاج‪99‬ل بالعقوب‪99‬ة قب‪99‬ل ثب‪99‬وت‬
‫الجريمة وال يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة‪.‬‬
‫ـ سعة الصــدر في االســتماع إلى اعت‪99‬ذار المعت‪9‬ذر‪ ،‬وحج‪99‬ة المتخل‪9‬ف‪ ،‬وس‪99‬ليمان علي‪9‬ه‬
‫السالم انصت السترسال الهده‪99‬د ح‪99‬تى انتهى من قول‪99‬ه‪ ،‬على ال‪99‬رغم من أن في‪99‬ه ن‪99‬وع‬
‫ك ِمن َس‪99‬بَإ ٍ‬ ‫طت بِ َما لَ ْم تُ ِح ْ‬
‫ط بِ ِه َو ِج ْئتُ َ‬ ‫معاتبة لسليمان‪ ،‬وفيه نسبة عدم االحاطة إليه ‪":‬أَ َح ُ‬
‫َظي ٌم *‬ ‫ت ِمن ُك‪ِّ 99‬ل َش‪ْ 99‬ي ٍء َولَهَ‪99‬ا َع‪99‬رْ شٌ ع ِ‬ ‫دت ا ْم‪َ 99‬رأَةً تَ ْملِ ُكهُ ْم َوأُوتِيَ ْ‬
‫بِنَبَ‪99‬إ ٍ يَقِي ٍن * إِنِّي َو َج‪ُّ 99‬‬
‫‪1‬المصدر نفسه (‪.)193 /9‬‬
‫‪2‬تفسير روح المعاني (‪.)193 /9‬‬
‫‪3‬في ظالل القرآن (‪.)2638 /5‬‬
‫‪4‬تفسير القرطبي (‪.)180 /13‬‬

‫‪125‬‬
‫ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ‬
‫ص َّدهُ ْم ع َِن‬ ‫ون هَّللا ِ َوزَ يَّنَ لَهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫س ِمن ُد ِ‬ ‫َو َجدتُّهَا َوقَوْ َمهَا يَ ْس ُج ُدونَ لِل َّش ْم ِ‬
‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫اوا ِ‬ ‫يل فَهُ ْم اَل يَ ْهتَ‪ُ 9‬دونَ * أَاَّل يَ ْس‪ُ 9‬ج ُدوا هَّلِل ِ الَّ ِذي ي ُْخ‪ِ 9‬ر ُج ْالخَبْ َء فِي َّ‬
‫الس‪َ 9‬م َ‬ ‫َّ‬
‫الس‪9‬بِ ِ‬
‫ش ْال َع ِظ ِيم" (النم‪99‬ل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫‪9‬و َربُّ ْال َع‪99‬رْ ِ‬ ‫َويَ ْعلَ ُم َما تُ ْخفُونَ َو َما تُ ْعلِنُ‪99‬ونَ * هَّللا ُ اَل إِلَ‪9‬هَ إِاَّل هُ‪َ 9‬‬
‫‪22‬ـ ‪ ،)26‬كل هذا وسليمان ال يقاطع‪99‬ه‪ ،‬وال يكذب‪99‬ه‪ ،‬وال يعنف‪99‬ه‪ ،‬ح‪99‬تى ينتهي من س‪99‬رد‬
‫الحجة‪ ،‬التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السالم‪.‬‬
‫ـ قبول اإلعتذار ممن يعتذر في الظاهر‪ ،‬وإيكال سريرته إلى هللا‪ ،‬فسليمان عليه السالم‬
‫سكت عن المؤاخذة وانتقل إلى تحري الخير‪.‬‬
‫قال القرطبي ـ رحمه هللا ـ ‪ :‬هذا دليل على أن اإلمام يجب عليه أن يقبل ع‪9‬ذر رعيت‪9‬ه‪،‬‬
‫ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم‪ ،‬ألن سليمان لم يع‪99‬اقب الهده‪99‬د‬
‫حين اعتذر إليه‪.1‬‬
‫ـ التروي في تصديق الخبر ‪ ،‬فهذا الذي حكاه الهدهد‪ ،‬أمر ليس بالسهل وال باليسير‪ ،‬ثم‬
‫إن الهدهد ال يج‪99‬رؤ على اختالق ه‪99‬ذه القص‪99‬ة‪ ،‬الطويل‪99‬ة‪ ،‬وه‪99‬و يعلم تمكن س‪99‬ليمان من‬
‫الرعية‪ ،‬ومقدرته على التأكد من صحة األخبار‪ ،‬ومع ذل‪99‬ك لم يب‪99‬ادر علي‪99‬ه الس‪99‬الم إلى‬
‫‪9‬ال"س‪9‬نَنظُرُ" وه‪99‬و من النظ‪99‬ر‪ ،‬أو التأم‪99‬ل‬ ‫َ‬ ‫التصديق‪ ،‬كما أنه لم يتعجل التك‪99‬ذيب‪ ،‬ب‪99‬ل ق‪9‬‬
‫ت أَ ْم ُكنتَ ِمنَ ْال َك‪99‬ا ِذبِينَ " (النم‪99‬ل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)27 :‬يع‪99‬ني‬ ‫والتحري‪ ،2‬وقوله تع‪99‬الى‪":‬أَ َ‬
‫ص‪َ 9‬د ْق َ‪9‬‬
‫أصدقت في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد‪.3‬‬
‫ـ عدم االغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة الس‪99‬لطان‪ ،‬وإس‪99‬ناد الفض‪99‬ل إلى هللا في‬
‫ك‪99‬ل نعم‪99‬ة‪ ،‬وتجدي‪99‬د الش‪99‬كر على ه‪99‬ذه النعم‪ ،‬وس‪99‬ليمان علي‪99‬ه الس‪99‬الم لم‪99‬ا طلب اإلتي‪99‬ان‬
‫بعرش بلقيس أجابت‪99‬ه جن‪99‬وده ال‪99‬تي س‪99‬خرها هللا ل‪99‬ه مس‪9‬ارعين إلى الطاع‪99‬ة‪ ،‬فلم‪99‬ا وج‪99‬د‬
‫سليمان طلبه مجاباً‪ ،‬وأمره مطاع س‪99‬ارع إلى ض‪99‬بط النفس في س‪99‬لك الخش‪99‬ية ومنه‪99‬اج‬
‫التواضع والطاعة هلل رب العالمين ‪":‬فَلَ َّما َرآهُ ُم ْس‪9‬تَقِ ًّرا ِعن‪َ 9‬دهُ" (النم‪99‬ل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )40 :‬أي‪:‬‬
‫رأى العرش ثابتا ً عنده قال‪":‬هَ َذا ِمن فَضْ ِل َربِّي" أي‪ :‬هذا النص‪9‬ر والتمكين من فض‪9‬ل‬
‫ربي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها‪ ،‬فإن من شكر ال يرجع نفع شكره إال إلى نفس‪99‬ه‬
‫حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد‪ ،‬ومن كفر النعم ف‪9‬إن هللا غ‪9‬ني عن‬
‫شكره‪ ،‬كريم في عدم منع تفضله عنه‪.4‬‬
‫ـ التواضع وهو في قمة المجد وللتمكين‪ :‬كان سليمان عليه السالم دائم التواضع حتى‬
‫قيل‪ :‬إنه كان يمش‪99‬ي منكس‪99‬ر ال‪99‬رأس خش‪99‬وعا ً هلل وأثن‪99‬اء استعراض‪99‬ه لجن‪99‬وده من الجن‬
‫واإلنس والطير م‪99‬ر على واد النم‪99‬ل‪ ،‬وفي نظ‪99‬رة التواض‪99‬ع إلى األرض أبص‪99‬ر نمل‪99‬ة‪،‬‬
‫فأشخص النظر صوابها‪ ،‬وأصاخ السمع إليها‪ ،‬وبم‪99‬ا علم من منط‪99‬ق الط‪99‬ير والحي‪99‬وان‬
‫حاول تفهم أمرها‪ .‬لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجن‪99‬ود في ركب س‪99‬ليمان‪ ،‬لق‪99‬د‬
‫ت نَ ْملَ‪9‬ةٌ يَ‪99‬ا أَيُّهَ‪99‬ا النَّ ْم‪ُ 9‬ل ا ْد ُخلُ‪99‬وا َم َس‪9‬ا ِكنَ ُك ْم اَل يَحْ ِط َمنَّ ُك ْم ُس‪9‬لَ ْي َم ُ‬
‫ان‬ ‫سمعها وفهم قوله‪99‬ا ‪":‬قَ‪99‬الَ ْ‬
‫َو ُجنُو ُدهُ َوهُ ْم اَل يَ ْش ُعرُونَ " (النمل‪ ،‬آية ‪ .)18 :‬نعم إنها كائن صغير في مملكة ض‪99‬خمة‬
‫عظيمة‪ ،‬تسعى كأخواته‪99‬ا لل‪99‬رزق وتنص‪99‬ح لهم أن يفس‪99‬حوا الطري‪99‬ق أم‪99‬ام ركب المل‪99‬ك‬
‫العادل‪ ،‬حتى ال تقع مظلمة غير مقصودة من أح‪99‬د منهم‪ ،‬ق‪99‬ال القرط‪99‬بي ـ رحم‪99‬ه هللا ـ‬

‫‪1‬تفسير القرطبي (‪.)184 /13‬‬


‫‪2‬تفسير الرازي (‪.)193 /24‬‬
‫‪3‬تفسير ابن كثير (‪.)349 /3‬‬
‫‪ 4‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)600 /2‬‬

‫‪126‬‬
‫‪:‬التفاتة مؤمن ‪ :‬أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده ال يحطمون نملة‪ ،‬فما فوقه‪99‬ا‬
‫إال بأال يشعروا‪.1‬‬
‫إن هذه النملة لم تكن إال واحدة من رعايا سليمان في مملكت‪99‬ه ال‪99‬تي ض‪99‬مت إلى ج‪99‬انب‬
‫اإلنس والجن أنواعا ً وألوانا ً من الحيوان والطير والهوام‪.‬‬
‫ق قلب‪99‬ه الكب‪99‬ير‪ ،‬رفق‪9‬ا ً لجرمه‪99‬ا‬ ‫لقد سمع كالمها‪ ،‬وتفهم ش‪99‬كواها‪ ،‬فتبس‪99‬م من قوله‪99‬ا‪ ،‬ف‪99‬ر ّ‬
‫الصغير‪ ،‬فرحمها وأخواتها‪ ،‬وشكر ربه إذ علمه منط‪99‬ق ه‪99‬ذه المخلوق‪99‬ات ح‪99‬تى يتمكن‬
‫من انصافها وإيصال العدل إليها‪ ،‬و ُس َّر بأن عدالت‪99‬ه وجن‪99‬وده ق‪99‬د عرفه‪99‬ا ك‪99‬ل مخل‪99‬وق‪،‬‬
‫حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدماً‪ ،‬بأنهم إن أص‪99‬ابوا نمل‪99‬ة بأق‪99‬دامهم‪ ،‬ف‪99‬إن‬
‫ذلك من غير قصد منهم وال شعور‪.2‬‬
‫ي َو َعلَى‬‫ك الَّتِي أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ‬
‫ال َربِّ أَوْ ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ‪َ 99‬‬
‫ضا ِح ًكا ِّمن قَوْ لِهَا َوقَ َ‬‫"فَتَبَ َّس َم َ‬
‫ضاهُ" (النمل‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬ ‫صالِحًا تَرْ َ‬ ‫ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل َ‬
‫َوالِ َد َّ‬
‫لقد أدرك سليمان علي‪9‬ه الس‪9‬الم أن‪99‬ه ـ في جنب هللا ـ في حاج‪9‬ة إلى الرحم‪9‬ة والعط‪9‬ف‬
‫واللطف أشد من حاج‪99‬ة ه‪99‬ذه النمل‪99‬ة إلى ذل‪99‬ك من‪99‬ه وله‪99‬ذا ق‪99‬ال‪َ ":‬وأَ ْد ِخ ْلنِي بِ َرحْ َمتِ‪99‬كَ ِفي‬
‫ِعبَا ِدكَ الصَّالِ ِحينَ " (النمل‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬
‫ثانياً‪ :‬األسباب والتوكل‪:‬‬
‫التوكل على هللا سبحانه ـ وتعالى ـ ال يمنع من األخذ باألسباب فالمؤمن يتخذ األس‪99‬باب‬
‫من باب اإليمان باهلل وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها‪ ،‬ولكن‪99‬ه ال يجع‪99‬ل األس‪99‬باب هي‬
‫التي تنشيء النتائج فيتوكل عليها‪ ،3‬فالتوكل‪ :‬هو قط‪99‬ع النظ‪99‬ر في األس‪99‬باب بع‪99‬د تهيئ‪99‬ة‬
‫األسباب‪ ،‬كما قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أعقلها وتوكل‪.4‬‬
‫وا ِح ْذ َر ُك ْم" (النس‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫وا ُخ ُذ ْ‬
‫ففي جانب األسباب يقول هللا تعالى ‪":‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫‪)71‬‬
‫اط ْال َخ ْي ِل تُرْ ِهبُونَ بِ‪ِ 9‬ه َع‪ْ 9‬د َّو هّللا ِ‬ ‫وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة َو ِمن ِّربَ ِ‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ ":‬وأَ ِع ُّد ْ‪9‬‬
‫َو َع ُد َّو ُك ْم" (األنفال‪ ،‬آية ‪)60 :‬‬
‫ض ‪ِ 9‬ل هَّللا ِ"‬ ‫ض َوا ْبتَ ُغ‪99‬وا ِمن فَ ْ‬ ‫الص ‪9‬اَل ةُ فَانت َِش ‪9‬رُوا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ت َّ‬ ‫ض ‪9‬يَ ِ‬ ‫ــ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬فَ‪99‬إ َذا قُ ِ‬
‫(الجمعة‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫وفي ج‪99‬انب التوك‪99‬ل‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬و َعلَى‪ 9‬هَّللا ِ فَ ْليَت ََو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِمنُ‪99‬ونَ " (آل عم‪99‬ران‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫‪.)122‬‬
‫هّللا‬
‫ــ وقال تعالى‪":‬فَإ ِ َذا َعزَ ْمتَ فَت ََو َّكلْ َعلَى ِ" (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)159 :‬‬
‫وا إِن ُكنتُم ُّم ْؤ ِمنِينَ " (المائدة‪ ،‬آية ‪.)23 :‬‬ ‫ــ وقال تعالى‪َ ":‬و َعلَى‪ 9‬هّللا ِ فَتَ َو َّكلُ ْ‬
‫ولق‪99‬د أرش‪99‬دنا الن‪99‬بي ص‪99‬لى ال‪99‬ه علي‪99‬ه وس‪99‬لم في أج‪99‬اديث كث‪99‬يرة إلى ض‪99‬رورة األخ‪99‬ذ‬
‫باألس‪99‬باب م‪99‬ع التوك‪99‬ل على هللا تع‪99‬الى‪ ،‬كم‪99‬ا نب‪99‬ه ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم على ع‪99‬دم‬
‫تعارضها‪ ،‬عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم ق‪9‬ال‪:‬‬

‫‪1‬تفسير القرطبي (‪.)170 /13‬‬


‫‪ 2‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)589 /2‬‬
‫‪3‬التمكين لألمة اإلسالمية صـ ‪.252‬‬
‫‪4‬صحيح ابن حبان (‪.)510 /2‬‬

‫‪127‬‬
‫"لو أنكم توكلتم على هللا حق توكله لرزقكم كما ي‪99‬رزق الط‪99‬ير‪ ،‬تغ‪99‬دو خماس ‪9‬اً‪ ،‬وتع‪99‬ود‬
‫بطانا‪.1‬‬
‫في هذا الحديث الشريف حث على التوك‪99‬ل م‪99‬ع اإلش‪99‬ارة إلى أهمي‪99‬ة األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب‪،‬‬
‫حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان هللا تعالى الرزق لها‪.2‬‬
‫إن العمل بسنة األخذ باألسباب من صميم تحقيق العبودية هلل تعالى‪ ،‬وهو األم‪99‬ر ال‪99‬ذي‬
‫خل‪9‬ق ل‪9‬ه العبي‪9‬د‪ ،‬وأرس‪9‬لت ب‪9‬ه الرس‪9‬ل‪ ،‬وأن‪9‬زلت ألجل‪9‬ه الكتب‪ ،‬وب‪9‬ه ق‪9‬امت الس‪9‬ماوات‬
‫واألرض‪ ،‬وله وجدت الجنة والنار‪ ،‬فالقيام باألسباب المأمور بها محض العبودية‪.3‬‬
‫إن القرآن الكريم أرشدنا إلى األخذ باألسباب وأرش‪99‬دنا أال نعتم‪99‬د عليه‪99‬ا وح‪99‬دها وإنم‪99‬ا‬
‫نتوكل على هللا مع األخذ بها‪ ،‬وعلى المسلم أن يتقي في باب األسباب أمرين‪:‬‬
‫ق‬‫ــ االعتماد عليها‪ ،‬والتوك‪99‬ل عليه‪99‬ا‪ ،‬والثق‪99‬ة به‪99‬ا ورجاؤه‪99‬ا وخوفه‪99‬ا‪ ،‬فه‪99‬ذا ش‪99‬رك ي‪99‬ر ُّ‬
‫ويغلظ وبين ذلك‪.‬‬
‫ــ ترك ما أمر هللا به من األسباب‪ ،‬وهذا أيضا ً ق‪99‬د يك‪99‬ون كف‪99‬راً وظلم‪99‬ا وبين ذل‪99‬ك‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫على العبد أن يفع‪99‬ل م‪99‬ا أم‪99‬ره هللا ب‪99‬ه من األم‪99‬ر‪ ،‬ويتوك‪99‬ل على هللا توك‪99‬ل من يعتق‪99‬د أن‬
‫األمر كل‪9‬ه بمش‪9‬يئة هللا‪ ،‬س‪9‬بق به‪9‬ا علم‪9‬ه‪ ،‬وحكم‪9‬ه‪ ،‬وأن الس‪9‬بب ال يض‪9‬ر وال ينف‪9‬ع وال‬
‫يعطي وال يمنع وال يقض‪99‬ي وال يحكم‪ ،‬وال يحص‪99‬ل للعب‪99‬د م‪9‬ا ال تس‪99‬بق ل‪99‬ه ب‪99‬ه المش‪99‬يئة‬
‫اإللهية وال يصرف عنه ما سبق ب‪99‬ه الحكم والعلم‪ ،‬في‪99‬أتي باألس‪99‬باب إتي‪99‬ان م‪99‬ا ال ي‪99‬رى‬
‫النجاة والفرج والوصول إال بها‪ ،‬ويتوك‪99‬ل على هللا توك‪99‬ل من ي‪99‬رى أنه‪99‬ا ال تنجي‪99‬ه وال‬
‫تحصل له فالحا ً وال توصله إلى المقصود‪ ،‬فيجرد عزمه للقيام بها حرص ‪9‬ا ً وإجته‪99‬اداً‪،‬‬
‫ويفرغ قلبه من االعتماد عليها والركون إليها تجريداً للتوكل وإعتماداً على هللا وحده‪.4‬‬
‫وقد جمع النبي صلى هللا عليه وسلم بين ه‪99‬ذين األص‪99‬لين في الح‪99‬ديث الص‪99‬حيح‪ ،‬حيث‬
‫يقول‪" :‬أحرص على ما ينفعك واستعن باهلل وال تعجز"‪.5‬‬
‫فأمره بالحرص على األسباب واالستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان‪:‬‬
‫ــ تقصير في األسباب وعدم الحرص عليها‪.‬‬
‫ــ وتقصير في االستعانة باهلل وترك تجريدها‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫فالدين كله ظاهره وباطنه وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية ‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ القول بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بالدين‪:‬‬
‫إن القول بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بال‪9‬دين‪ ،‬وه‪9‬ذا من قل‪9‬ة العلم بس‪9‬نة‬
‫هللا في خلقه وأم‪99‬ره‪ ،‬ف‪99‬إن هللا تع‪99‬الى خل‪99‬ق المخلوق‪99‬ات بأس‪99‬باب‪ ،‬وش‪99‬رع للعب‪99‬اد أس‪99‬بابا ً‬
‫ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فمن ظن أنه بمج‪99‬رد توكل‪99‬ه م‪99‬ع‬
‫ترك‪99‬ه م‪99‬ا أم‪99‬ره هللا ب‪99‬ه من األس‪99‬باب يحص‪99‬ل مطلوب‪99‬ه‪ ،‬وأن المط‪99‬الب ال تتوق‪99‬ف على‬
‫األسباب التي جعلها هللا أسبابا ً لها فهو غالط‪.7‬‬
‫‪ 2‬ـ التوازن بين مقامي التوكل واألخذ باألسباب‪:‬‬

‫‪1‬سنن الترمذي (‪ )573 / 4‬رقم ‪ 2344‬حسن صحيح‪.‬‬


‫‪2‬التمكين لألمة اإلسالمية صـ‪.252‬‬
‫‪3‬مدارك السالكين البن القيم (‪.)130 / 2‬‬
‫‪4‬المصدر نفسه (‪.)501 / 3‬‬
‫‪5‬مسلم‪ ،‬ك القدر‪ ،‬باب األمر بالقوة (‪ )2052 / 4‬رقم ‪.2664‬‬
‫‪6‬في ظالل القرآن (‪.)919 / 2‬‬
‫‪7‬فتاوى ابن تيمية (‪.)530 ، 529 / 8‬‬

‫‪128‬‬
‫األصل أن يستعمل العبد األسباب التي بينها هللا تعالى لعباده وأذن فيها وه‪99‬و يعتق‪99‬د أن‬
‫المسبب هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وما يصل إليه من المنفع‪99‬ة عن‪99‬د اس‪99‬تعمالها بتق‪99‬دير هللا‬
‫عز وج‪99‬ل‪ ،‬وأن‪99‬ه إن ش‪99‬اء حرم‪99‬ه تل‪99‬ك المنفع‪99‬ة م‪99‬ع اس‪99‬تعماله الس‪99‬بب فتك‪99‬ون ثقت‪99‬ه باهلل‬
‫واعتماده عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب‪.1‬‬
‫وب‪99‬التتبع لم‪99‬ا قال‪99‬ه العلم‪99‬اء في الت‪99‬وازن بين المق‪99‬امين نج‪99‬د أن جمه‪99‬ورهم يق‪99‬ررون أن‬
‫التوكل يحصل بأن يثق المؤمن بوعد هللا‪ ،‬وي‪99‬وقن ب‪99‬أن قض‪99‬اءه واق‪99‬ع وال ي‪99‬ترك اتب‪99‬اع‬
‫السنة في أبتغاء الرزق مما ال بد له منه من مطعم ومش‪99‬رب وتح‪99‬رز من ع‪99‬دو بإع‪99‬داد‬
‫السالح وإغالق الباب ونحو ذلك‪ ،‬ومع ذلك فال يطمئن إلى األس‪99‬باب بقلب‪99‬ه‪ ،‬ب‪99‬ل يعتق‪99‬د‬
‫أنها ال تجلب بذاتها نفعا ً وال تدفع ض‪99‬راً‪ ،‬ب‪99‬ل الس‪99‬بب والمس‪99‬بب فع‪99‬ل هللا تع‪9‬الى والك‪99‬ل‬
‫بمشيئته‪ ،‬فإذا وقع من المرء ركون إلى سبب قدح في توكله‪ ،2‬وفي القص‪99‬ص الق‪99‬رآني‬
‫ما يجلّي هذا التوازن أيما تجلية‪ ،‬ويبين كي‪99‬ف مفه‪99‬وم ه‪99‬ذين المق‪99‬امين وتطبيقهم‪99‬ا على‬
‫أرض الواقع وعلى الوجه الذي تقتضيه العقيدة الصحيحة مثل‪:‬‬
‫أ ـ قصة يعقوب ـ عليه السالم ـ مع أبنائه عند وصيته لهم قبل دخولهم مصر لجلب ما‬
‫يحتاجونه من طعام ومواد غذائية حين أصاب بلدهم الجدب والقحط‪ ،‬فقد وصّاهم‪ :‬قال‬
‫ب ُّمتَفَ ِّرقَ ‪ٍ 9‬ة َو َم‪99‬ا أُ ْغنِي‬ ‫‪9‬وا ِم ْن أَ ْب‪َ 9‬وا ٍ‬‫ب َوا ِح ٍد َوا ْد ُخلُ‪ْ 9‬‬ ‫وا ِمن بَا ٍ‬ ‫ي الَ تَ ْد ُخلُ ْ‬ ‫"وقَ َ‬
‫ال يَا بَنِ َّ‬ ‫تعالى ‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت َو َعلَيْ‪ِ 999‬ه فَليَتَ َو َّك ِل ال ُمتَ َو ِّكلُ‪999‬ونَ "‪9‬‬ ‫ْ‬ ‫هّلِل‬ ‫ْ‬ ‫هّللا‬
‫عَن ُكم ِّمنَ ِ ِمن َش‪ْ 999‬ي ٍء إِ ِن ال ُح ْك ُم إِالَّ ِ َعلَيْ‪ِ 999‬ه تَ‪َ 999‬و َّكل ُ‬
‫(يوسف ‪ ،‬آية ‪.)67 :‬‬
‫فيعقوب ـ عليه السالم ـ ضرب لنا المثل في كيفية األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب في نط‪99‬اق التوك‪99‬ل‬
‫ب ُّمتَفَرِّ قَ‪ٍ 9‬ة" ت‪9‬دبير‬ ‫ْ‪9‬وا ٍ‬ ‫‪9‬وا ِم ْن أَب َ‬ ‫اح‪ٍ 9‬د َوا ْد ُخلُ ْ‬
‫ب َو ِ‬ ‫وا ِمن بَ‪9‬ا ٍ‬ ‫على هللا‪ ،‬إذ في قوله‪" :‬الَ تَ‪ْ 9‬د ُخلُ ْ‬
‫وتشبث باألسباب العادية التي ال تؤثر إال بإذن هللا تع‪99‬الى‪ ،‬ولكن‪99‬ه اس‪99‬تدرك ذل‪99‬ك مبين‪9‬ا ً‬
‫لهم أن األخذ باألسباب هنا ليس هو بمدافعة للقدر‪ ،‬بل هو استعانة باهلل تع‪99‬الى وه‪99‬رب‬
‫منه إليه‪.3‬‬
‫فقال‪َ " :‬و َما أُ ْغنِي عَن ُكم ِّمنَ هّللا ِ ِمن َش ْي ٍء" (يوسف ‪ ،‬آية ‪ )67 :‬أي‪ :‬ال يكون ما أمرتكم‬
‫به مغنيا ً غنا ًء مبتدئا ً من عند هللا‪ ،‬بل هو األدب والوقوف عندما أم‪99‬ر هللا‪ ،‬ف‪99‬إن ص‪99‬ادق‬
‫ما ق ّدره فقد حصل فائدتان‪ ،‬وإن خالف ما ق ّدره حصلت فائ‪99‬دة امتث‪99‬ال أوام‪99‬ره واقتن‪99‬اع‬
‫النفس بعدم التفريط‪.4‬‬
‫وقد أراد يعقوب عليه السالم بهذا أن يعلّم أبن‪99‬اءه االعتم‪99‬اد على توفي‪99‬ق هللا ولطف‪99‬ه م‪99‬ع‬
‫األخ‪9‬ذ باألس‪9‬باب المعت‪99‬ادة الظ‪99‬اهرة‪ ،‬تأدب‪9‬ا ً م‪9‬ع واض‪99‬ح األس‪9‬باب ومق‪ّ 9‬در األلط‪99‬اف في‬
‫رعاية الحالين ألنا ال نستطيع أن نطلع على مراد هللا في األعم‪99‬ال‪ ،‬فعلين‪99‬ا أن نتعرفه‪99‬ا‬
‫بعالماتها‪ ،‬وال يكون ذلك إال بالسعي لها‪ ،‬وهذا سر مسألة القدر كم‪99‬ا أش‪99‬ار إليه‪99‬ا ق‪99‬ول‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أعملوا فكل ميسر لما خلق له‪.5‬‬
‫وبهذا يثبت أن األسباب البد لها من سياج قوي من التوكل‪ ،‬تدور في فلك‪99‬ه وال تخ‪99‬رج‬
‫عن حقيقته‪ ،‬ليك‪99‬ون ذل‪99‬ك أدعى لتحقي‪99‬ق الم‪99‬راد‪ ،‬وأج‪99‬در المتث‪99‬ال أم‪99‬ر هللا‪ ،‬وذل‪99‬ك ألن‬
‫األسباب العادية لما لم تكن غير مستقلة في تأثيرها وال غنية في ذاته‪99‬ا مفتق‪99‬رة إلى م‪99‬ا‬
‫‪1‬شعب اإليمان للبيهقي (‪.)79 / 2‬‬
‫‪ 2‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي محمد عاشور صـ‪.215‬‬
‫‪3‬روح المعاني لأللوسي (‪.)19 / 13‬‬
‫‪4‬تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (‪.)12 /13‬‬
‫‪5‬فتح الباري (‪ ،)709 /8‬مسلم (‪.)2040 /4‬‬

‫‪129‬‬
‫وراءها ـ كان من الواجب على من يتوس‪99‬ل إليه‪99‬ا في مقاص‪99‬ده الحيوي‪99‬ة أن يتوك‪99‬ل م‪99‬ع‬
‫التوسل إليها على سبب وراءه‪99‬ا‪ ،‬ليتم له‪99‬ا الت‪99‬أثير‪ ،‬ويك‪99‬ون ذل‪99‬ك من‪99‬ه جريّا في س‪99‬بيل‬
‫الرشد والصواب‪ 9‬ويكون ذلك بالتوكل على هللا سبحانه في األمور كلها‪ ،‬فإن هللا ال إل‪99‬ه‬
‫إال هو‪ ،‬رب كل شيء‪ ،‬وهذا هو هللا سبحانه وحده ال شريك له‪ ،‬ف‪9‬إن هللا ال إل‪9‬ه إال ه‪9‬و‬
‫‪9‬الى‪":‬و َعلَى هّللا ِ‬
‫َ‬ ‫رب كل شيء‪ ،‬وهذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل علي‪99‬ه قول‪99‬ه تع‪9‬‬
‫فَ ْليَتَ َو َّك ِل ْال ُمت ََو ِّكلُونَ "‪( 9‬إبراهيم‪ ،‬آية ‪.)12 :‬‬
‫لقد مدح هللا تعالى هنا يعقوب عليه السالم فقال تعالى‪َ ":‬وإِنَّهُ لَ ُذو ِع ْل ٍم لِّ َما عَلَّ ْمنَاهُ َولَـ ِك َّن‬
‫اس الَ يَ ْعلَ ُمونَ " (يوسف‪ ،‬آية ‪ ،)68 :‬ألنه عم‪99‬ل األس‪99‬باب واجته‪99‬د في توفيته‪99‬ا‬ ‫أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫وهو مقتضى الحكمة‪ ،‬ثم رد األمر كل‪99‬ه هلل تع‪99‬الى واستس‪99‬لم إلي‪99‬ه وه‪99‬و حقيق‪99‬ة التوحي‪99‬د‬
‫فقال‪":‬و َما أُ ْغنِي عَن ُكم ِّمنَ هّللا ِ ِمن َش ْي ٍء إِ ِن ْال ُح ْك ُم إِالَّ هّلِل ِ" (يوسف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)67 :‬فاآلي‪99‬ة‪:‬‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫فأثنى هللا تعالى عليه من أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين ‪.‬‬
‫ج ـ قصة مريم عليها السالم‪ :‬وهي ـ كما وردت في القرآن الكريم ـ تبين لنا بوض‪99‬وح‬
‫بالغ أنه ال إختالف وال تباين بين مقامي األخذ باألسباب والتوكل‪ ،‬إذ كلُّ ل‪99‬ه مالبس‪99‬اته‬
‫وظروفه التي ترجع مقاما ً على آخر في بعض األوقات واألحوال‪.‬‬
‫كانت مريم في بداية حياتها يأتيها رزقها من غير تكسب كم‪9‬ا ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪ُ ":‬كلَّ َم‪9‬ا دَخَ‪َ 9‬ل‬
‫ت هُ َو ِم ْن ِعن ِد هّللا ِ‬ ‫ك هَـ َذا قَالَ ْ‬ ‫ال يَا َمرْ يَ ُم أَنَّى لَ ِ‬ ‫َعلَ ْيهَا زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ‬
‫اب َو َج َد ِعن َدهَا ِر ْزقا ً قَ َ‬
‫ب" (آل عمران‪ ،‬آية ‪ ،)37 :‬فلما ول‪99‬دت أُم‪99‬رت به ‪ّ 9‬ز‬ ‫ق َمن يَ َشاء بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬ ‫إن هّللا َ يَرْ ُز ُ‬ ‫َّ‬
‫ص‪9‬ب‪ ،‬فلم‪9‬ا ول‪9‬دت‬ ‫الجذع‪ ،‬قال علماؤنا‪ :‬لما كان قلبها فارغا ً فرغ هللا جارحته‪9‬ا عن النّ َ‬
‫عيسى عليه السالم وتعلق قلبها بحبه‪ ،‬واشتغل سرها بحديثه وأمره‪ ،‬وكلها إلى كس‪99‬بها‬
‫ور ّدها إلى العادة بالتعلق باألسباب في عباده‪.2‬‬
‫س ـ السنة النبوية‪ :‬فعلى مستوى السنة الفعلية ثبت أنه ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم ظ‪99‬اهر‬
‫في الحرب بين درعين‪ ،‬ولبس على رأسه المغفر‪ ،‬وأقعد الرم‪99‬اة في الش‪99‬عب‪ ،‬وخن‪99‬دق‬
‫حول المدينة‪ ،‬وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة‪ ،‬وهاجر هو وتع‪99‬اطى أس‪9‬باب‬
‫األكل والشرب وأ ّدخر ألهله قوتهم‪ ،‬ولم ينتظر أن ي‪99‬نزل علي‪99‬ه من الس‪99‬ماء وه‪99‬و ك‪99‬ان‬
‫أحق الخلق أن يحصل له ذلك‪ ،‬ومع كل ذلك ال يظن برسول هللا صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫أنه مال إلى شيء من االسباب غفلة مقدار طرفة عين‪.3‬‬
‫والمث‪99‬ال النب‪99‬وي الفعلي له‪99‬ذا الت‪99‬وازن ـ على وج‪99‬ه التفص‪99‬يل ح‪99‬ادث الهج‪99‬رة ال‪99‬ذي‬
‫أصُطحب فيه أبو بكر الصديق رضي هللا عنه فقد استوفيا هما االثنان في هذه الهج‪99‬رة‬
‫االسباب المتاحة جميعها‪ ،‬لم يغفال واحداً منها‪.4‬‬
‫إن من تأم‪99‬ل حادث‪99‬ة الهج‪99‬رة‪ ،‬ورأى دق‪99‬ة التخطي‪99‬ط فيه‪99‬ا‪ ،‬ودق‪99‬ة األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب من‬
‫ابتدائها إلى انتهائها‪ ،‬ومن مق ّدماتها إلى ما ج‪99‬رى بع‪99‬دها‪ ،‬ي‪99‬درك أن التخطي‪99‬ط المس ‪ّ 9‬دد‬
‫‪1‬تفسير الثعالبي (‪ ،)247 /2‬السنن اإللهية صـ ‪ 217‬د‪ .‬مجدي محمد عاشور‪.‬‬
‫‪2‬تفسير القرطبي (‪ 95 /11‬ـ ‪ ،)96‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي صـ ‪.217‬‬
‫‪3‬فتح الباري البن حجر (‪.)212 /10‬‬
‫‪4‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.217‬‬

‫‪130‬‬
‫بالوحي في حياة رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم ك‪99‬ان قائم‪9‬اً‪ ،‬وأن التخطي‪99‬ط ج‪99‬زء من‬
‫السنة النبوية‪ ،‬وهو جزء من التكليف اإللهي في كل ما ط‪99‬ولب ب‪99‬ه المس‪99‬لم‪ ،‬وأن ال‪99‬ذي‬
‫يميلون إلى العفوية‪ ،‬بحجة أن التخطيط وإحكام األمور ليس‪9‬ا من الس‪9‬نة‪ ،‬أمث‪9‬ال ه‪9‬ؤالء‬
‫مخطئون‪ ،‬ويجنون على أنفسهم‪ ،‬وعلى المسلمين‪.1‬‬
‫فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬شرع النبي صلى هللا عليه وس‪99‬لم‬
‫في التنفيذ‪ ،‬نالحظ اآلتي‪:‬‬
‫ــ وج‪99‬ود التنظيم ال‪99‬دقيق للهج‪99‬رة ح‪99‬تى نجحت‪ ،‬ب‪99‬رغم م‪99‬ا ك‪99‬ان يكتنفه‪99‬ا من ص‪99‬عاب‪،‬‬
‫وعقبات‪ ،‬وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسا ً دراسة وافية‪ ،‬فمثالً‪:‬‬
‫ـ جاء صلى هللا عليه وس‪99‬لم إلى بيت أبي بك‪99‬ر‪ ،‬في وقت ش‪99‬دة الح‪ّ 9‬ر ـ ال‪99‬وقت ال‪99‬ذي ال‬
‫يخرج فيه أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت‪ ،‬لماذا؟ حتى ال يراه أحد‪.‬‬
‫للص ‪ّ 9‬ديق وج‪99‬اء إلى بيت‬
‫ـ اخف‪99‬اء شخص‪99‬يته ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم في أثن‪99‬اء مجيئ‪99‬ه ّ‬
‫ص ّديق متلثماً‪ ،‬ألن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم‪.2‬‬‫ال ّ‬
‫ـ أمر صلى هللا عليه وسلم أب‪9‬ا بك‪99‬ر أن يُخ‪99‬رج من عن‪99‬ده‪ ،‬ولم‪99‬ا تكلّم لم ي‪9‬بين إال األم‪9‬ر‬
‫بالهجرة دون تحديد االتجاه‪.‬‬
‫ـ كان الخروج ليالً‪ ،‬ومن باب خلف ّي في بيت أبي بكر‪.3‬‬
‫ـ بلغ االحتياط مداه‪ ،‬باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم‪ ،‬واالستعانة في ذلك بخبير يع‪99‬رف‬
‫مسالك البادية‪ ،‬ومسارب الصحراء‪ ،‬ولو ك‪99‬ان ذل‪99‬ك الخب‪99‬ير مش‪99‬ركاً‪ ،‬م‪99‬ادام على ُخلُ‪99‬ق‬
‫ورزانة‪ ،‬وفيه دليل على أن الرسول صلى هللا عليه وسلم كان ال يحجم عن االس‪99‬تعانة‬
‫بالخبرات مهما يكن مصدرها‪.4‬‬
‫ــ انتقاء شخصيات لتقوم بالمعاونة في شؤون الهج‪99‬رة‪ ،‬ويالح‪99‬ظ أن ه‪99‬ذه الشخص‪99‬يات‬
‫كلها تترابط برباط القرابة‪ ،‬أو برباط العمل الواحد‪ ،‬مما يجعل ه‪99‬ؤالء األف‪99‬راد‪ ،‬وح‪99‬دة‬
‫متعاونة على تحقيق الهدف الكبير‪.‬‬
‫ــ وضع كل فرد من أفراد هذه األسرة في عمله المناس‪99‬ب‪ ،‬ال‪99‬ذي يجي‪99‬د القي‪99‬ام ب‪99‬ه على‬
‫أحسن وجه‪ ،‬ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته‪.‬‬

‫‪1‬األساس في السنة‪ ،‬سعيد حوي (‪.)357 /1‬‬


‫‪2‬في السيرة النبوية ـ قراءة لجوانب الحذر والحماية صـ ‪ 141‬د‪ .‬إبراهيم علي أحمد‪.‬‬
‫‪3‬من معين السيرة للشامي صـ ‪.147‬‬
‫‪ 4‬الهجرة في القرآن الكريم أحزمي سامعون صـ‪.361‬‬

‫‪131‬‬
‫ــ فكرة نوم علي بن أبي طالب رضي هللا عن‪99‬ه مك‪99‬ان الرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫فكرة ناجحة‪ ،‬قد ضلّلت القوم‪ ،‬وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية هللا‪ ،‬وهم نائمون‪ ،‬ولقد ظلت أبص‪99‬ارهم معلق‪99‬ة‬
‫بعد اليقظة‪ ،‬بمضجع الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فما كانوا يش ّكون في أنه م‪99‬ا ي‪99‬زال‬
‫نائما ً ُمس ّجى في بردته‪ ،‬في حين النائم هو علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ــ وقد كان عمل أبطال هذه الرحلة على النحو التالي‪:‬‬
‫ـ عل ّي رضي هللا عنه‪ :‬ين‪9‬ام في ف‪99‬راش الرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم‪ ،‬يخ‪99‬دع الق‪9‬وم‪،‬‬
‫ويُسلّم الودائع‪ ،‬ويلحق بالرسول صلى هللا عليه وسلم بعد ذلك‪.‬‬
‫ـ عبد هللا بن أبي بكر‪ :‬رجل المخابرات الصادق‪ ،‬وكاشف تحركات العدو‪.‬‬
‫ـ أسماء ذات النطاقين‪ :‬حاملة التموين من مكة إلى الغار‪ ،‬وسط جنود المشركين‪ ،‬بحثا ً‬
‫عن محمد صلى هللا عليه وسلم ليقتلوه‪.‬‬
‫ـ عامر بن فهيرة‪ :‬ال ّراعي البسيط الذي ق ّدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار‪ ،‬وبدد آثار‬
‫أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كي ال يتفرسها القوم‪ ،‬لقد كان هذا الرّاعي يقوم ب‪99‬دور‬
‫اإلمداد‪ ،‬والتموين‪ ،‬والتّعمية‪.‬‬
‫ـ عبد هللا بن أريقط‪ :‬دليل الهجرة األمين‪ ،‬وخبير الص‪99‬حراء البص‪99‬ير ينتظ‪99‬ر في يقظ‪99‬ة‬
‫إشارة البدء من الرس‪9‬ول ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم‪ ،‬ليأخ‪99‬ذ ال‪9‬ركب طريق‪99‬ه من الغ‪99‬ار إلى‬
‫يثرب‪ ،‬فهذا تدبير لألمور على نح‪99‬و رائ‪99‬ع دقي‪99‬ق‪ ،‬واحتي‪99‬اط للظ‪99‬روف بأس‪99‬لوب حكيم‪،‬‬
‫ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناس‪99‬ب‪ ،‬وس‪99‬د لجمي‪99‬ع الثغ‪99‬رات‪،‬‬
‫وتغطية بديعة لك‪99‬ل مط‪99‬الب الرحل‪99‬ة‪ ،‬وإقتص‪99‬ار على الع‪99‬دد الالزم من األش‪99‬خاص من‬
‫غير زيادة وال إسراف‪ ،‬لقد أخ‪99‬ذ الرس‪99‬ول ص‪99‬لى الل‪99‬ع علي‪99‬ه ويلم باألس‪99‬باب المعقول‪99‬ة‪،‬‬
‫أخذاً قويا ً حسب استطاعته وقدرته‪ ،‬ومن ثم باتت عناية هللا متوقعة‪.1‬‬
‫إن اتخاذ األسباب أمر ضروري وواجب‪ ،‬ولكن ال يعني ذلك دائم ‪9‬ا ً حص‪99‬ول النتيج‪99‬ة‪،‬‬
‫ذلك ألن هذا أمر يتعلق بأمر هللا ومشيئته‪ ،‬ومن هنا كان التوكل أم‪99‬راً ض‪99‬روريا ً وه‪99‬و‬
‫من باب استكمال إتخاذ األسباب‪.‬‬
‫إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أعد كل األس‪99‬باب‪ ،‬وإتخ‪99‬ذ ك‪99‬ل الوس‪99‬ائل‪ ،‬ولكن‪99‬ه في‬
‫الوقت نفسه مع هللا‪ ،‬يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح‪ ،‬وهنا يُستجاب ال‪99‬دعاء‪،‬‬

‫‪1‬أضواء على الهجرة‪ ،‬توفيق محمد صـ‪ 393‬ـ ‪.397‬‬

‫‪132‬‬
‫وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار وتسيخ فرس س‪99‬راقة في األرض ويكل‪99‬ل‬
‫العمل بالنجاح‪.1‬‬
‫وأما على مستوىـ السنة القولية ـ في هذا الصدد ـ نجد أن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬فر من المجذوم فرارك من األسد"‪ ،2‬في الوقت ال‪99‬ذي ثبت في‪99‬ه أن الن‪99‬بي ص‪99‬لى‬
‫هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم أك‪99‬ل م‪99‬ع المج‪99‬ذوم‪ .3‬وظ‪99‬اهر الح‪99‬ديثين ي‪99‬دل على التن‪99‬افي بين التوك‪99‬ل‬
‫واألخذ باألسباب‪ ،‬إال أنه عند التحقيق نجد أنه صلى هلل عليه وس‪99‬لم أك‪99‬ل م‪99‬ع المج‪99‬ذوم‬
‫ليبين أن هللا هو ال‪9‬ذي يم‪9‬رض ويش‪9‬في‪ ،‬وأن‪9‬ه ال ش‪9‬يء يع‪9‬دي بطبع‪9‬ه‪ ،‬نفي‪9‬ا ً لم‪9‬ا ك‪9‬انت‬
‫الجاهلية تعتقده من أن األمراض تعدي بطبعها من إضافة إلى هللا‪ ،‬فأبطل النبي ص‪99‬لى‬
‫هللا عليه وسلم إعتقادهم ذلك‪ ،‬في حين نهى النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم عن االق‪99‬تراب‬
‫من المجذوم‪ ،‬ليبين أن هذا من األسباب التي أجرى هللا تعالى العادة بأنه‪99‬ا تقتض‪99‬ي إلى‬
‫مسبباتها‪ ،‬ففي نهيه إثبات األسباب‪ ،‬وفي فعل‪99‬ه إش‪99‬ارة إلى أنه‪99‬ا ال تس‪99‬تقل‪ ،‬ب‪99‬ل هللا ه‪99‬و‬
‫الذي إن شاء سلبها قواها‪ ،‬فال ت‪9‬ؤثر ش‪9‬يئاً‪ ،‬وإن ش‪9‬اء أبقاه‪9‬ا ف‪9‬أثرت‪ ،‬وفي ذل‪9‬ك فس‪9‬حة‬
‫لمقام التوكل‪ 4‬على هللا‪ ،‬وهذا يبين أن لكل حالة مقامها التي شرعها هللا عز وج‪99‬ل له‪99‬ا‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه م َّر بق‪99‬وم فق‪99‬ال‪ :‬من أنتم؟ ق‪99‬الوا‪:‬‬
‫المتوكلون‪ .‬قال‪ :‬أنتم المتواكلون‪ 9،‬إنما التوكل رجل ألقى حبه في بطن األرض وتوك‪99‬ل‬
‫على ربه عز وجل‪.5‬‬

‫ثالثاً‪ :‬األسباب والمسببات‪:‬ـ‬


‫إن هللا تعالى قدر األشياء بأسبابها‪ ،‬فالقدر يتعلق تعلقا ً واحداً بالس‪99‬بب وبالمس‪99‬بب مع ‪9‬اً‪،‬‬
‫أي أن هذا المسبب سيقع بهذا السبب‪ ،‬ومن األدلة على ذلك قول النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم‪ :‬إن هللا خلق للجنة أهالً خلقه‪99‬ا لهم وهم في أص‪99‬الب آب‪99‬ائهم‪ ،‬وبعم‪99‬ل أه‪99‬ل الجن‪99‬ة‬
‫يعملون‪ ،‬وخلق للن‪99‬ار أهالً خلقه‪99‬ا لهم وهم في أص‪99‬الب آب‪99‬ائهم‪ ،‬وهم بعم‪99‬ل أه‪99‬ل الن‪99‬ار‬
‫يعملون‪.6‬‬
‫وفي المضمار نفسه أخبر النبي صلى هللا عليه وسلم ص‪99‬حابته ب‪99‬أن هللا كتب المق‪99‬ادير‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬أفال نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪" :‬من ك‪99‬ان من‬
‫أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة‪ ،‬ومن كان من أهل الش‪99‬قاوة فسيس‪99‬ير إلى‬
‫عمل أهل الشقاوة‪ ،‬اعملوا فكل ميسر‪ ،‬أما أهل السعادة فييسرون لعم‪99‬ل أه‪99‬ل الس‪99‬عادة‪،‬‬

‫‪1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)480 / 1‬‬


‫‪ 2‬فتح البري على صحيح البخاري (‪.)158 / 10‬‬
‫‪3‬سنن الترمذي (‪ ،)266 / 4‬صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫‪4‬فتح الباري (‪ 160 / 10‬ـ ‪.)161‬‬
‫‪5‬شعب اإليمان (‪ ،)81 / 2‬السنن د‪ .‬مجدي صـ‪.219‬‬
‫‪6‬مسلم (‪ ،)2050 / 4‬السنن د‪ .‬مجدي صـ‪.218‬‬

‫‪133‬‬
‫وأم‪99‬ا أه‪99‬ل الش‪99‬قاوة فييس‪99‬رون لعم‪99‬ل أه‪99‬ل الش‪99‬قاوة‪ ،‬ثم ق‪99‬رأ‪" :‬فَأ َ َّما َمن أَ ْعطَى َواتَّقَى *‬
‫ُس ‪9‬نَى*‬‫ب بِ ْالح ْ‬
‫‪9‬ذ َ‬ ‫ق بِ ْال ُح ْسنَى * فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لِ ْليُ ْس َرى * َوأَ َّما َمن بَ ِخ َل َو ْ‬
‫اس ‪9‬تَ ْغنَى * َو َك‪َّ 9‬‬ ‫ص َّد َ‬
‫َو َ‬
‫فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لِ ْل ُع ْس َرى" (الليل ‪ ،‬آية ‪ 5 :‬ـ ‪.)10‬‬
‫وفي هذا الحديث النهي عن ت‪9‬رك العم‪9‬ل واالتك‪9‬ال على م‪9‬ا س‪9‬بق ب‪9‬ه الق‪9‬در‪ ،‬ب‪9‬ل تجب‬
‫األعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها‪ ،‬وكل ميسر لما خلق له ال يقدر على غيره‪.1‬‬
‫فالنبي صلى هللا عليه وسلم أرشد األمة في هذا الحديث في شأن القدر إلى أمرين هم‪99‬ا‬
‫سبب السعادة‪ :‬اإليمان باألقدار‪ ،‬إذ هو نظام التوحيد‪ ،‬واإلتيان باألس‪99‬باب ال‪99‬تي توص‪99‬ل‬
‫إلى غيره وتحجز عن شره‪ ،‬وذلك نظام الشرع‪ ،‬فأرشدهم إلى نظام التوحيد واألمر‪.2‬‬
‫فال مناف‪99‬اة بين األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب واإليم‪99‬ان بالقض‪99‬اء والق‪99‬در‪ ،‬فمن القض‪99‬اء رد البالء‬
‫بالدعاء‪ ،‬فال‪99‬دعاء س‪99‬بب ل‪99‬رد البالء‪ ،‬وإس‪99‬تجالب الرحم‪99‬ة‪ ،‬كم‪99‬ا أن ال‪99‬ترس س‪99‬بب ل‪99‬رد‬
‫الس‪99‬هم‪ ،‬والم‪99‬اء س‪99‬بب لخ‪99‬روج النب‪99‬ات من األرض‪ ،‬فكم‪99‬ا أن ال‪99‬ترس ي‪99‬دفع الس‪99‬هم‬
‫فيت‪99‬دافعان‪ ،‬فك‪99‬ذلك ال‪99‬دعاء والبالء يتعالج‪99‬ان‪ ،‬وليس من ش‪99‬رط االع‪99‬تراف بقض‪99‬اء هللا‬
‫وا ِح ْذ َر ُك ْم" (النساء ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)71 :‬وأن‬ ‫تعالى أن ال يحمل السالح‪ ،‬وقد قال تعالى‪ُ " :‬خ ُذ ْ‬
‫ال يسقي األرض بعد بث البذور‪ ،‬فيقال‪ :‬إن س‪99‬بق القض‪99‬اء بالنب‪99‬ات نبت الب‪99‬ذر‪ ،‬وإن لم‬
‫يسبق لم ينبت‪ ،‬بل ربط األسباب بالمسببات هو القضاء األول ال‪99‬ذي ه‪99‬و كلمح البص‪99‬ر‬
‫أو هو أقرب‪ ،‬وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل األسباب على التدريج والتق‪99‬دير‬
‫هو القدر‪ ،‬والذي قدر الخير قدره بسببه‪ ،‬والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً‪ ،‬فال تن‪99‬اقض‬
‫بين هذه األمور عند من انفتحت بصيرته‪.3‬‬
‫ولبيان ارتباط األخذ باألسباب وتناسقه مع اإليمان والقدر وف‪99‬ق الحكم‪99‬ة اإللهي‪99‬ة يق‪99‬ول‬
‫وا ِح ْذ َر ُك ْم" (النساء ‪ ،‬آية ‪)71 :‬‬ ‫وا ُخ ُذ ْ‬
‫الرازي عن تفسير قوله تعالى‪" :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫أنه لما كان الكل لقدر كان األمر بالحذر أيضا ً داخالً في القدر‪ ،‬فك‪99‬ان ق‪99‬ول القائ‪99‬ل‪ :‬أي‬
‫فائدة من الحذر كالما ً متناقضاً‪ ،‬ألنه لم‪99‬ا ك‪99‬ان ه‪99‬ذا الح‪99‬ذر مق‪99‬دراً‪ ،‬ف‪99‬أي فائ‪99‬دة في ه‪99‬ذا‬
‫السؤال الطاعن في الحذر؟‪.4‬‬
‫وحاصل تحقيق كالم ال‪99‬رازي‪ :‬أن الق‪99‬در عب‪99‬ارة عن جري‪99‬ان األم‪99‬ور بنظ‪99‬ام ت‪99‬أتي في‪99‬ه‬
‫األسباب على قدر المسببات‪ ،‬والحذر من جملة األسباب‪ ،‬فهو عمل بمقتض‪9‬ى الق‪99‬در ال‬
‫بما يضاده‪.5‬‬
‫ويؤيد ذلك من السنة النبوية ما ورد أنه قيل للنبي صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬أرأيت أدوي‪99‬ة‬
‫نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها‪ ،‬هل ترد من قدر هللا ش‪99‬يئاً؟ فق‪99‬ال ص‪99‬لى هللا‬
‫عليه وس‪99‬لم‪ :‬هي من ق‪99‬در هللا‪ ،6‬وذل‪99‬ك ألن هللا تع‪99‬الى يعلم األش‪99‬ياء على م‪99‬ا هي علي‪99‬ه‪،‬‬
‫وكذلك يكتبها‪ ،‬فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره‪ ،‬وقضى أنها تك‪99‬ون‬
‫كذلك وقدر ذلك لم يجز أن يظن أن تلك األمور تكون ب‪99‬دون األس‪99‬باب ال‪99‬تي جعله‪99‬ا هللا‬
‫أسباباً‪ ،‬وهذا عام في جميع الحوادث‪.7‬‬

‫‪1‬صحيح مسلم بشرح النووي (‪.)196 / 16‬‬


‫‪2‬شفاء العليل البن القيم صـ‪.53‬‬
‫‪3‬إحياء علوم الدين (‪ ،)202 / 3‬الفتاوى البن تيمية (‪ 69 / 8‬ـ ‪.)70‬‬
‫‪4‬التفسير الكبير للرازي (‪.)308 / 5‬‬
‫‪5‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.210‬‬
‫‪6‬سنن الترمذي (‪ ،)399 / 4‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪7‬مجموع الحوادث (‪.)275 / 8‬‬

‫‪134‬‬
‫إن قدر هللا تعالى وقضاؤه غير معلومين لنا‪ ،‬إال بعد الوقوع فنحن م‪99‬أمورون بالس‪99‬عي‬
‫فيما عساه أن يكون كاشفا ً عن موافقة قدر هللا لمأمولنا‪ ،‬فإن استفرغنا جهودنا وحُرمن‪99‬ا‬
‫المأمول علمنا أن قدر هللا جرى من قبل على خالف مرادنا‪ ،‬فأما ترك األس‪99‬باب فليس‬
‫من شأننا‪ ،‬وهو مخالف لما أراد هللا منا‪ ،‬وإعراض عما أقامن‪99‬ا هللا في‪99‬ه في ه‪99‬ذا الع‪99‬الم‪،‬‬
‫وهو تحريف لمعنى القدر‪.1‬‬
‫إن القضاء والقدر اللذان ورد في الق‪99‬رآن ذكرهم‪99‬ا ـ وجعلهم‪99‬ا الن‪99‬اس م‪99‬رتبطين بفع‪99‬ل‬
‫اإلنسان ومسلكه في الحياة ـ سوى النظام العام الذي خل‪9‬ق هللا علي‪9‬ه الك‪9‬ون ورب‪9‬ط في‪9‬ه‬
‫بين األس‪99‬باب والمس‪99‬ببات‪ ،‬وبين النت‪99‬ائج والمق‪99‬دمات س‪99‬نة كوني‪99‬ة دائم‪99‬ة‪ ،‬ال تتخل‪99‬ف‬
‫والحاصل أن اإلسالم ال يسمح أن يضل اإلنسان أو ينحرف عن أوام‪99‬ر هللا في عقائ‪99‬ده‬
‫ودينه‪ ،‬ثم يعتذر بالقضاء والقدر‪ ،‬ولو ص‪99‬ح ذل‪99‬ك لبطلت التك‪99‬اليف وك‪99‬ان بعث الرس‪99‬ل‬
‫وإنزال الكتب‪ ،‬ودعوة اإلنس‪9‬ان إلى دين هللا وم‪99‬ا يجب‪ ،‬ووع‪9‬ده ب‪9‬الثواب أله‪9‬ل الخ‪99‬ير‬
‫وبالعقاب ألهل الش‪9‬ر ـ ب‪9‬اطالً ـ ال يتف‪9‬ق وحكم‪9‬ة الخ‪9‬الق الحكيم في تص‪9‬رفه وتكليف‪9‬ه‬
‫الرحيم بعباده‪.2‬‬
‫‪ 1‬ـ تأثيرـ السبب في المسبب‪:‬‬
‫إن الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل اإلسالم المثبت‪99‬ون للق‪99‬در‬
‫إثبات األسباب‪ ،‬وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر األس‪99‬باب في مس‪99‬بباتها‪،‬‬
‫وهللا تعالى خلق األسباب والمسببات‪ ،‬واألسباب ليست مستقلة بالمسببات‪ ،‬بل ال بد لها‬
‫من أسباب أخر تعاونها‪ ،‬ولها ـ مع ذل‪99‬ك ـ أض‪99‬داد تمانعه‪99‬ا‪ ،‬والمس‪99‬بب ال يك‪99‬ون ح‪99‬تى‬
‫يخلق هللا جميع أسبابه‪ ،‬ويدفع عنه أضداده المعارضة ل‪9‬ه‪ ،‬وه‪99‬و س‪99‬بحانه يخل‪99‬ق جمي‪9‬ع‬
‫ذلك بمشئته وقدرته‪ ،‬كم‪99‬ا يخل‪99‬ق س‪99‬ائر المخلوق‪99‬ات‪ ،‬فق‪99‬درة العب‪99‬د س‪99‬بب من األس‪99‬باب‪،‬‬
‫وفعل العبد ال يكون بها وحدها‪ ،‬بل ال بد من اإلرادة الجازمة مع القدرة‪.3‬‬
‫وال قال أحد من أئمة المسلمين ـ ال األئمة األربعة وال غيرهم وال مالك‪ ،‬وال أبو حنيفة‬
‫وال الشافعي وال أحم‪99‬د بن حنب‪99‬ل‪ ،‬وال األوزاعي‪ ،‬وال الث‪99‬وري‪ ،‬وال الليث‪ ،‬وال أمث‪99‬ال‬
‫هؤالء ـ إن‪ ،‬هللا يكلف العباد ما ال يطيقونه‪ .‬وال قال أحد منهم‪ :‬إن قدرة العب‪99‬د ال ت‪99‬أثير‬
‫لها في فعله‪ ،‬أو ال تأثير لها في كسبه‪ ،‬وال قال أحد منهم‪ :‬إن العب‪99‬د ال يك‪99‬ون ق‪99‬ادراً إال‬
‫حين الفعل‪ ،‬وإن االستطاعة على الفعل ال تك‪99‬ون إال مع‪99‬ه‪ ،‬وإن العب‪99‬د ال اس‪99‬تطاعة ل‪99‬ه‬
‫على الفعل قبل أن يفعله‪ ،‬ب‪99‬ل نصوص‪99‬هم‪ 9‬مستفيض‪99‬ة بم‪99‬ا دل علي‪99‬ه الكت‪99‬اب والس‪99‬نة من‬
‫اس ‪9‬تَطَا َع‬ ‫اس ِحجُّ ْالبَ ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬ ‫"وهّلِل ِ َعلَى النَّ ِ‬
‫إثبات استطاعة لغير الفاع‪99‬ل‪ ،‬كقول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫إِلَ ْي ِه َسبِيالً" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)97 :‬‬
‫ــ وقوله تعالى‪" :‬فَ َمن لَّ ْم يَ ْستَ ِط ْع فَإ ِ ْ‬
‫ط َعا ُم ِستِّينَ ِم ْس ِكينًا" (المجادلة ‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬
‫وقول الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم لعم‪99‬ران بن حص‪99‬ين‪ :‬ص‪99‬ل قائم‪9‬اً‪ ،‬ف‪99‬إن لم تس‪99‬تطع‬
‫فقاعداً‪ ،‬فإن لم تستطع فعلى جنب‪.4‬‬

‫‪1‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬البن عاشور (‪.)138 / 4‬‬


‫‪2‬اإلسالم عقيدة وشريعة‪ ،‬محمود شلتوت صـ‪.212‬‬
‫‪3‬مجموع فتاوى ابن تيمية (‪.)487 / 8‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري على صحيح بخاري (‪.)587 /2‬‬

‫‪135‬‬
‫والمقصود بت‪99‬أثير الس‪99‬بب في المس‪99‬بب‪ ،‬أن خ‪99‬روج الفع‪99‬ل من الع‪99‬دم إلى الوج‪99‬ود ك‪99‬ان‬
‫بتوسط الق‪99‬درة المحدث‪99‬ة بمع‪99‬نى أن الق‪99‬درة المخلوق‪99‬ة هي س‪99‬بب وواس‪99‬طة في خل‪99‬ق هللا‬
‫سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة‪ ،‬كما خلق النبات بالماء‪ ،‬وكما خلق الغيث بالسحاب‪،‬‬
‫وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب‪ ،‬فهذا حق‪ ،‬وهذا ش‪99‬أن جمي‪99‬ع‬
‫األسباب والمسببات‪ .‬وليس إض‪99‬افة الت‪99‬أثير به‪99‬ذا التفس‪99‬ير إلى ق‪99‬درة العب‪99‬د ش‪99‬ركاً‪ ،‬وإال‬
‫يكون إثبات جميع األسباب شركاً‪ ،‬وقد قال الحكيم الخبير ‪":‬فَأَنز َْلنَا بِ ِه ْال َم‪99‬اء فَأ َ ْخ َرجْ نَ‪99‬ا‬
‫ت" (األعراف‪ ،‬آية ‪.)57 :‬‬ ‫بِ ِه ِمن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ق َذاتَ بَ ْه َج ٍة" (النمل‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪":‬فَأَنبَ ْتنَا بِ ِه َحدَائِ َ‬
‫ـ وقال تعالى‪":‬قَاتِلُوهُ ْم يُ َع ِّذ ْبهُ ُم هّللا ُ بِأ َ ْي ِدي ُك ْم" (التوبة‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬
‫كما أن تأثير العبد في فعله يتوقف على تحقيق الشرط وانتفاء المانع‪ ،‬فإذا فُسّر الت‪99‬أثير‬
‫بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع‬
‫ـ وكل ذلك بخلق هللا تعالى ـ فه‪99‬ذا ح‪99‬ق‪ ،‬وت‪99‬أثير ق‪99‬درة العب‪99‬د في مق‪99‬دورها ث‪99‬ابت به‪99‬ذا‬
‫االعتبار‪ ،‬وإن فُسر الت‪99‬أثير ب‪99‬أن الم‪99‬ؤثر مس‪99‬تقل ب‪99‬األثر من غ‪99‬ير مش‪99‬ارك مع‪99‬اون وال‬
‫معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً‪ ،‬بل هللا وحده خالق كل شيء ال ش‪99‬ريك‬
‫له وال ندله‪ ،‬فما شاء هللا كان وما لم يشأ لم يكن‪.‬‬
‫ك لَهَا َو َما يُ ْم ِس ْك فَاَل ُمرْ ِس َل لَهُ ِمن‬ ‫َح هَّللا ُ لِلنَّ ِ‬
‫اس ِمن رَّحْ َم ٍة فَاَل ُم ْم ِس َ‬ ‫ـ يقول تعالى‪َ ":‬ما يَ ْفت ِ‬
‫بَ ْع ِد ِه" (فاطر‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫ون هَّللا ِ اَل يَ ْملِ ُكونَ ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة فِي ال َّس َم َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪":‬قُ ِل ا ْد ُعوا الَّ ِذينَ َز َع ْمتُم ِّمن ُد ِ‬
‫الش‪9‬فَا َعةُ‬ ‫‪9‬ير * َواَل تَنفَ‪ُ 9‬ع َّ‬ ‫ك َو َم‪9‬ا لَ‪9‬هُ ِم ْنهُم ِّمن ظَ ِه‪ٍ 9‬‬ ‫ض َو َما لَهُ ْم فِي ِه َما ِمن ِشرْ ٍ‬ ‫َواَل فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ِعن َدهُ إِاَّل لِ َم ْن أَ ِذنَ لَهُ" (سبأ‪ ،‬آية ‪ 22 :‬ـ ‪.)23‬‬
‫ات‬ ‫اش ‪9‬فَ ُ‬ ‫ون هَّللا ِ إِ ْن أَ َرا َدنِ َي هَّللا ُ بِضُرٍّ هَلْ هُ َّن َك ِ‬‫ـ وقال تعالى‪":‬قُلْ أَفَ َرأَ ْيتُم َّما تَ ْد ُعونَ ِمن ُد ِ‬
‫ض‪99‬رِّ ِه أَوْ أَ َرا َدنِي بِ َرحْ َم‪ٍ 999‬ة هَ‪99‬لْ هُ َّن ُم ْم ِس‪َ 999‬ك ُ‬
‫ات َرحْ َمتِ‪ِ 99‬ه قُ‪999‬لْ َح ْس‪99‬بِ َي هَّللا ُ َعلَيْ‪ِ 999‬ه يَت ََو َّك ُل‬ ‫ُ‬
‫ْال ُمت ََو ِّكلُونَ " (الزمر‪ ،‬آية ‪ ،)38 :‬ونظائر هذا في القرآن كثيرة ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫إن من األسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرت‪99‬ه مث‪99‬ل ال‪99‬وطء س‪99‬بب الول‪99‬د‪ ،‬والق‪99‬اء الب‪99‬ذور‬
‫سبب للزرع‪ ،‬واألكل سبب للشبع‪ ،‬وشرب الماء سبب للري ومن األس‪99‬باب م‪99‬ا يج‪99‬ادل‬
‫فيه بعض الناس مثل اتباع شرع هللا سبب للسعادة في ال‪99‬دنيا واآلخ‪99‬رة والخ‪99‬روج على‬
‫هذا الش‪99‬رع س‪99‬بب للش‪99‬قاوة في ال‪99‬دنيا واآلخ‪99‬رة‪ ،‬وال‪99‬دعاء س‪99‬بب ل‪99‬دفع المك‪99‬روه ون‪99‬وال‬
‫المطل‪999‬وب ومن األس‪999‬باب م‪999‬ا يخفى على كث‪999‬ير من الن‪999‬اس مث‪999‬ل أس‪999‬باب األح‪999‬داث‬
‫اإلجتماعي‪99‬ة وم‪99‬ا يص‪99‬يب األمم من ع‪99‬ز وذل وتق‪99‬دم وت‪99‬أخر ورخ‪99‬اء وش‪99‬دة وهزيم‪99‬ة‬
‫وانتصار ونحو ذلك فهذه األح‪99‬داث له‪99‬ا أس‪99‬بابها ال‪99‬تي تس‪99‬تدعي ه‪99‬ذه النت‪99‬ائج وال يمكن‬
‫تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها‪ ،‬فهي كاألحداث الطبيعية من تجمد الماء وغليانه‬
‫ونزول المطر فه‪99‬ذه أح‪99‬داث له‪99‬ا أس‪99‬بابها ال‪99‬تي ق‪ّ 9‬درها هللا فم‪99‬تى تحققت ه‪99‬ذه االس‪99‬باب‬
‫تحققت هذه األحداث وكل الف‪99‬رق بينه‪99‬ا وبين األح‪99‬داث اإلجتماعي‪99‬ة أن األولى أس‪99‬بابها‬
‫منضبطة ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا ع‪99‬رفت أس‪99‬بابها‪ ،‬أم‪99‬ا الثاني‪99‬ة أي األح‪99‬داث‬
‫اإلجتماعية فإن أسبابها كثيرة جداً‪ ،‬ومتشابكة ويصعب الجزم ب‪99‬وقت حص‪99‬ول نتائجه‪99‬ا‬
‫وإن أمكن الجزم بحص‪99‬ول ه‪99‬ذه النت‪99‬ائج والش‪99‬رع دلن‪99‬ا على ه‪99‬ذا الق‪99‬انون الع‪99‬ام ق‪99‬انون‬

‫‪1‬مجموع فتاوى ابن تيمية (‪ 134 /8‬ـ ‪.)135‬‬

‫‪136‬‬
‫السبب والمس‪99‬بب في نص‪99‬وص كث‪99‬يرة والمقص‪99‬ود أن م‪99‬ا ق‪ّ 9‬دره هللا وقض‪99‬اه إنم‪99‬ا ق‪ّ 9‬دره‬
‫بأس‪99‬باب‪ ،‬فمن أراد الحص‪99‬ول على نتيج‪99‬ة معين‪99‬ة فالب‪99‬د من مباش‪99‬رة الس‪99‬بب المفض‪99‬ي‬
‫إليها‪.1‬‬
‫وما ذهب إليه العلماء المحققون في فاعلية الس‪99‬بب في مس‪99‬ببه ب‪99‬إذن هللا تع‪99‬الى ه‪99‬و م‪99‬ا‬
‫يتفق مع ظاهر النصوص القرآنية واألحاديث النبوي‪99‬ة الص‪99‬حيحة وه‪99‬و المنهج الوس‪99‬ط‬
‫والطري‪99‬ق االس ‪ّ 9‬د في إعم‪99‬ال النص‪99‬وص كله‪99‬ا على وج‪99‬ه الجم‪99‬ع دون االقتص‪99‬ار على‬
‫بعضها وهذا ما ذكرناه‪ ،‬هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أه‪99‬ل العلم ب‪99‬القبول وال‬
‫يخفى أن اعتن‪99‬اق ه‪99‬ذا ال‪99‬رأي يفس‪99‬ح الطري‪99‬ق أم‪99‬ام القي‪99‬ام بأعب‪99‬اء خالف‪99‬ة اإلنس‪99‬ان في‬
‫االرض والتفكر في سنن هللا في الخلق وتوطئة للوقوف على أس‪99‬بابها ونتائجه‪99‬ا‪ ،‬ومن‬
‫ث ّم التفاعل مع معطياتها بما يحقق إناطة تحمل المسئولية بالمكلفين في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫وهو األمر الذي يوسع ويثري من دائرة الدراس‪99‬ات اإلجتماعي‪99‬ة والنفس‪99‬ية واألخالقي‪99‬ة‬
‫وفق المنهج اإلسالمي‪ ،‬مما يعيد له‪99‬ذه األم‪99‬ة ش‪99‬هودها الحض‪99‬اري ووس‪99‬طيتها الش‪99‬املة‬
‫ك َج َع ْلنَ‪99‬ا ُك ْم أُ َّمةً َو َس‪9‬طًا لِّتَ ُكونُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا‬ ‫التي ضمنها لها الشرع الشريف في قوله تعالى‪َ ":‬و َك‪َ 9‬ذلِ َ‬
‫اس َويَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيدًا" (البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)143 :‬وب‪99‬ذلك تع‪99‬ود‬ ‫ُشهَدَاء َعلَى النَّ ِ‬
‫اس" (آل عم‪99‬ران‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ت لِلنَّ ِ‬ ‫‪9‬ر أُ َّم ٍة أُ ْخ‪ِ 9‬ر َج ْ‬
‫األم‪99‬ة إلى اص‪99‬ولها وخيريته‪99‬ا ‪ُ ":‬كنتُ ْم َخ ْي‪َ 9‬‬
‫‪ ،)110‬وباألحرى تتخلص من تبعيتها للثقافات الوافدة ال‪99‬تي ت‪99‬رزخ تحت وطأته‪99‬ا إلى‬
‫يومنا هذا رغم عدم انسجامها مع معطيات الشرع وحقائق الفطرة‪.2‬‬
‫‪2‬ـ قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬ال عدوى‪ ،‬وال طيرة‪ ،‬وال هامة وال صفر‪ :3‬وش‪99‬رح ه‪99‬ذا‬
‫الحديث‪:‬‬
‫أن "العدوى"‪:‬انتقال المرض من المريض إلى الص‪99‬حيح وكم‪99‬ا يك‪99‬ون في األم‪99‬راض‬
‫الحسية يكون في األمراض المعنوية الخلقية‪ ،‬ولهذا أخبر النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫أن جليس السوء كنافخ الكير‪ ،‬إما أن يحرق ثيابك‪ ،‬وإم‪99‬ا أن تج‪99‬د من‪99‬ه رائح‪99‬ة كريه‪99‬ة‪،‬‬
‫فقوله صلى هللا عليه وسلم "عدوى" يشمل العدوى الحسية والمعنوية‪.‬‬
‫و"الطيرة"‪ :‬هي التشاؤم بمرئى أو مسموع أو معلوم‪.‬‬
‫و"الهامة"‪ :‬فسرت بتفسيرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬داء يصيب المرضى وينتقل إلى غيره‪ ،‬وعلى هذا التفس‪99‬ير يك‪99‬ون عطفه‪99‬ا على‬
‫العدوى من باب عطف الخاص على العام‪.‬‬

‫‪ 1‬اإليمان بالقضاء والقدر د‪ .‬عبد الكريم زيدان صـ ‪.20‬‬


‫‪2‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.203‬‬
‫‪3‬متفق عليه المجموع الثمين البن عثيمين (‪ ،)208 /2‬البخاري رقم ‪ ،5757‬مسلم رقم ‪.2220‬‬

‫‪137‬‬
‫الثاني‪ :‬طير معروف تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل ف‪99‬إن ه‪99‬ذه الهام‪99‬ة ت‪99‬أتي إلى أهل‪99‬ه‬
‫وتنعق على رؤوسهم حتى يأخذوا بثأره‪ ،‬وربما اعتق‪9‬د بعض‪9‬هم أنه‪9‬ا روح‪9‬ه تك‪9‬ون في‬
‫صورة الهامة وهي نوع من الطي‪9‬ور تش‪99‬به البوم‪9‬ة أو هي البوم‪99‬ة‪ ،‬ت‪9‬ؤذي أه‪99‬ل القتي‪99‬ل‬
‫بالصراخ حتى يأخذوا بثأره‪ ،‬وهم يتشاءمون به‪99‬ا ف‪9‬إذا وقعت على بيت أح‪9‬دهم ونعقت‬
‫قالوا إنها تنعق به ليموت ويعتقدون قرب أجله وهذا باطل‪.‬‬
‫و"صفر"‪ :‬فسر بتفاسير‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه شهر صفر المعروف والعرب يتشاءمون به‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه داء في البطن يصيب البعير وينتقل من بعير إلى آخر‪ ،‬فيكون عطف‪99‬ه على‬
‫العدوى من باب عطف الخاص على العام‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬صفر شهر صفر‪ ،‬والمراد به النسيء الذي يضل به ال‪9‬ذين كف‪9‬روا‪ ،‬في‪9‬ؤخرون‬
‫تحريم شهر المحرم إلى صفر يحلونه عاما ً ويحرمونه عاماً‪.‬‬
‫وأرجحها أن المراد صفر حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية‪ ،‬واألزمنة ال دخل لها‬
‫في التأثير‪ ،‬وفي تقدير هللا عز وجل فه‪9‬و كغ‪9‬يره من األزمن‪9‬ة يق‪9‬در في‪9‬ه الخ‪9‬ير والش‪9‬ر‬
‫فهذه األربعة التي نفاها الرسول صلى هللا عليه وس‪99‬لم ت‪99‬دل على وج‪99‬وب التوك‪99‬ل على‬
‫هللا‪ ،‬وصدق العزيمة وال يض‪9‬عف المس‪9‬لم أم‪9‬ام ه‪9‬ذه األم‪9‬ور‪ ،‬والنفي في ه‪9‬ذه األربع‪9‬ة‬
‫ليس نفيا ً للوجود‪ ،‬ألنها موجودة ولكنه نفي للتأثير‪ ،‬فالمؤثر هو هللا فما كان منه‪99‬ا س‪99‬ببا ً‬
‫معلوما ً فهو سبب صحيح‪ ،‬وما كان منها سببا ً موهوما ً فه‪9‬و س‪99‬بب باط‪9‬ل‪ ،‬ويك‪9‬ون نفي‪9‬ا ً‬
‫لتأثيره بنفسه ولسببيته‪ ،‬فالعدوى موجودة‪ ،‬ويدل لوجودها قوله صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪:‬‬
‫ال يورد ممرض على مصح‪ .1‬أي ال يورد صاحب اإلبل المريضة على صاحب اإلبل‬
‫الصحيحة‪ ،‬لئال تنتقل العدوى وقوله صلى هللا عليه وسلم‪ :‬فر من المجذوم ف‪99‬رارك من‬
‫األسد‪ ، 2‬الجذام‪ :‬مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه‪ ،‬فاألمر بالفرار حتى ال تق‪99‬ع‬
‫العدوى‪ ،‬وفيه اثبات العدوى لتأثيرها‪ ،‬لكن تأثيرها ليس أم‪99‬ر حتمي بحيث تك‪99‬ون عل‪99‬ة‬
‫فاعلة‪ ،‬ولكن أمر النبي صلى هللا عليه وسلم الفرار من المجذوم وأن ال يورد مم‪99‬رض‬
‫على مص‪99‬ح‪ ،‬من ب‪99‬اب تجنب األس‪99‬باب‪ ،‬ال من ب‪99‬اب ت‪99‬أثير األس‪99‬باب بنفس‪99‬ها‪ ،‬ق‪99‬ال‬
‫وا بِأ َ ْي ِدي ُك ْم إِلَى التَّ ْهلُ َك ِة" (البق‪9‬رة‪ ،‬آي‪9‬ة ‪ ،)195 :‬ويق‪9‬ال أن الرس‪9‬ول ص‪9‬لى‬
‫تعالى‪":‬والَتُ ْلقُ ْ‪9‬‬
‫َ‬
‫هللا عليه وسلم ينكر تأثير العدوى‪ ،‬ألن هذا أمر يبطله الواقع واألحاديث األخرى‪ ،‬فإن‬
‫قيل إن الرسول صلى هللا عليه وس‪99‬لم لم‪99‬ا ق‪99‬ال‪ :‬ال ع‪99‬دوى‪ ،‬ق‪99‬ال رج‪99‬ل‪ :‬ي‪99‬ا رس‪99‬ول هللا‬
‫أرأيت اإلبل تكون في الرمال مثل الضبا فيدخلها الجمل األجرب فتجرب؟ فقال الن‪99‬بي‬

‫‪1‬البخاري رقم ‪.5771‬‬


‫‪2‬البخاري رقم ‪.5707‬‬

‫‪138‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ :‬فمن أعدى األول‪ ،1‬فالنبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم أش‪99‬ار بقول‪99‬ه‪":‬‬
‫فمن أعدى األول‪ :‬إلى أن المرض انتقل من المريضة إلى هذه الصحيحات بت‪99‬دبير هللا‬
‫عز وجل‪ ،‬فالمرض نزل على األول ب‪99‬دون ع‪99‬دوى ب‪99‬ل ن‪99‬زل من عن‪99‬د هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل‪،‬‬
‫والشيء قد يكون له سبب معلوم‪ ،‬وق‪9‬د ال يك‪99‬ون ل‪99‬ه س‪9‬بب معل‪99‬وم‪ ،‬وج‪99‬رب األول ليس‬
‫معلوما ً إال أنه بتقدير هللا تعالى وجرب الذي بعده له سبب معلوم ولو شاء هللا تعالى ما‬
‫جرب‪ ،‬وله‪99‬ذا أحيان‪9‬ا ً تص‪99‬اب اإلب‪99‬ل ب‪99‬الجرب‪ ،‬ثم يرتف‪99‬ع وال تم‪99‬وت وك‪99‬ذلك الط‪99‬اعون‬
‫والكوليرا أمراض معدية قد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويس‪99‬لم آخ‪99‬رون وال‬
‫يصابون‪ ،‬فاإلنسان يعتم‪99‬د على هللا ويتوك‪99‬ل علي‪99‬ه وق‪99‬د ج‪99‬اء أن الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم قدم عليه رجل مجذوم فأخذ بيده وقال له "كل" أي من الطع‪99‬ام ال‪99‬ذي ك‪99‬ان يأك‪99‬ل‬
‫منه الرسول صلى هللا عليه وسلم لقوة توكله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهذا التوك‪99‬ل مق‪99‬اوم‬
‫لهذا السبب المعدي‪ ،‬وهذا الجمع الذي ذكرنا أحسن م‪99‬ا قي‪99‬ل في الجم‪99‬ع بين األح‪99‬اديث‬
‫وإذا أمكن الجمع وجب ألن فيه إعمال الدليلين‪.2‬‬
‫‪3‬ـ الجزاء األخروي واألسباب‪:‬‬
‫لم يقتصر قانون السببية على إقامة الكون وتسييره فحس‪99‬ب وال على الث‪99‬واب والعق‪99‬اب‬
‫الدنيوي وحده‪ ،‬وإنما تجاوز ذلك ليكون االصل أيضا ً في الثواب والعق‪99‬اب األخ‪99‬روي‪،‬‬
‫وذلك من كمال العدل الرباني والحكمة البالغة‪ ،‬واالصل في ذلك قوله تعالى‪َّ ":‬ما يَ ْف َع ُل‬
‫هّللا ُ بِ َع َذابِ ُك ْم إِن َش َكرْ تُ ْم َوآ َمنتُ ْم َو َكانَ هّللا ُ َشا ِكرًا َعلِي ًما" (النساء‪ ،‬آية ‪ ،)147 :‬فهذه اآلي‪99‬ة‬
‫دالة على اعتبار سنة االسباب ح‪99‬تى في الج‪99‬زاء األخ‪99‬روي‪ ،‬إذ ال ع‪99‬ذاب إال بكف‪99‬ران‪،‬‬
‫فإذا انتفى السبب ـ وه‪99‬و الكف‪99‬ر س‪99‬واء االعتق‪99‬ادي أو العملي ـ فال ع‪99‬ذاب ب‪99‬ل ه‪99‬و نعيم‬
‫ودخول في معية المؤمنين كما دلت على ذلك اآلي‪99‬ات الس‪99‬ابقة له‪99‬ذه اآلي‪99‬ة‪ ،‬وهي ال‪99‬تي‬
‫بيّنت طريق الخالص للمنافقين من نفاقهم وسبيل قبول هللا أعمالهم‪ ،‬فق‪99‬الت بع‪99‬د توع‪99‬د‬
‫وا بِاهّلل ِ‬‫َص‪ُ 999‬م ْ‬ ‫ص‪999‬لَح ْ‬
‫ُوا َوا ْعت َ‬ ‫ُوا َوأَ ْ‬ ‫المن‪999‬افقين بال‪999‬درك االس‪999‬فل من الن‪999‬ار‪":‬إِالَّ الَّ ِذينَ تَ‪999‬اب ْ‬
‫‪9‬ؤ ِمنِينَ أَجْ‪ 9‬رًا َع ِظي ًم‪9‬ا"‬ ‫ت هّللا ُ ْال ُم ْ‬ ‫‪9‬ؤ ِمنِينَ َو َس‪9‬وْ فَ ي ُْ‪9‬ؤ ِ‬ ‫ك َم‪َ 9‬ع ْال ُم ْ‬‫ُوا ِدينَهُ ْم هّلِل ِ فَأُوْ لَـئِ َ‬
‫َوأَ ْخلَص ْ‬
‫(النساء‪ ،‬آية ‪.)146 :‬‬
‫واآليات في اعتبار األسباب في الجزاء األخروي كثيرة‪ ،‬ومنها على سبيل المثال‪:‬‬
‫ـ قوله تعالى‪ُ ":‬كلُوا‪َ 9‬وا ْش َربُوا هَنِيئًا بِ َما أَ ْسلَ ْفتُ ْم فِي اأْل َي َِّام ْال َخالِيَ ِة" (الحاقة‪ ،‬آية ‪.)24 :‬‬
‫ـ وقوله تعالى‪ُ ":‬كلُوا‪َ 9‬وا ْش َربُوا هَنِيئًا بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (الطور‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬
‫ت أَ ْي‪ِ 9‬دي ُك ْم" (آل عم‪99‬ران‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫اب ْال َح ِري‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ق * َذلِ‪99‬كَ بِ َم‪99‬ا قَ‪َّ 9‬د َم ْ‬ ‫وا َع‪َ 9‬ذ َ‬ ‫ـ وقوله تعالى‪ُ ":‬ذوقُ ْ‪9‬‬
‫‪ 181‬ـ ‪.)182‬‬
‫َس‪9‬اقًا * َج‪99‬زَ اء ِوفَاقًا"‬ ‫ـ وقوله تعالى‪":‬اَّل يَ ُذوقُونَ فِيهَ‪99‬ا بَ‪99‬رْ دًا َواَل َش‪َ 9‬رابًا * إِاَّل َح ِمي ًم‪99‬ا َوغ َّ‬
‫(النبأ‪ ،‬آية ‪ 24 :‬ـ ‪.)26‬‬

‫‪1‬المجموع الثمين البن عثيمين (‪.)212 /2‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه (‪.)212 /2‬‬

‫‪139‬‬
‫وا يَ ْك ِس‪9‬بُونَ "‬ ‫ُوا َع ْنهُ ْم إِنَّهُ ْم ِرجْ سٌ َو َمأْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َج َزاء بِ َم‪9‬ا َك‪9‬انُ ْ‬
‫ـ وقوله تعالى‪":‬فَأ َ ْع ِرض ْ‬
‫(التوبة‪ ،‬آية ‪.3)95 :‬‬
‫‪4‬ـ الحث على طلب االسباب في األمور المكفولة‪:‬‬
‫ترشدنا اآليات القرآنية إلى األمر الشرعي قائم على حث الخلق على األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب‬
‫حتى في األم‪99‬ور ال‪99‬تي كفله‪99‬ا هللا ل‪99‬ه بم‪99‬وجب فض‪99‬له وكرم‪99‬ه‪ ،‬ومن ش‪99‬واهد ذل‪99‬ك قول‪99‬ه‬
‫ض َذلُواًل فَا ْم ُش‪9‬وا فِي َمنَا ِكبِهَ‪99‬ا َو ُكلُ‪99‬وا ِمن ر ِّْزقِ‪ِ 9‬ه َوإِلَ ْي‪ِ 9‬ه‬ ‫تعالى‪" :‬هُ َو الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َرْ َ‬
‫النُّ ُشورُ" (الملك ‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬
‫ض إِالَّ َعلَى هّللا ِ‬ ‫"و َم‪99‬ا ِمن دَآبَّ ٍة فِي األَرْ ِ‬ ‫فقد تكفل هللا برزق مخلوقاته بدليل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ِر ْزقُهَا" (هود ‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬
‫"وفِي ال َّس َماء ِر ْزقُ ُك ْم َو َماتُو َع ُدونَ " (الذاريات ‪ ،‬آية ‪.)22 :‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫هَّللا‬
‫"و َكأيِّن ِمن دَابَّ ٍة اَل تَحْ ِم ُل ِر ْزقَهَا ُ يَرْ ُزقُهَا َوإِيَّا ُك ْم" (العنكب‪99‬وت ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫‪ .)60‬ولكنه سبحانه جعل طريق وصول ه‪99‬ذا ال‪99‬رزق وتحص‪99‬يله في األخ‪99‬ذ باألس‪99‬باب‬
‫‪2‬‬
‫والسعي والكسب في الحياة‬
‫ومع تقدير هللا للعبد في الرزق‪ ،‬فيجب عليه طرق األسباب في طلب ال‪9‬رزق‪ ،‬وه‪9‬ذا ال‬
‫ينافي التوكل‪ ،‬وزيادة الرزق جعل هللا لها أسبابا ً منها‪:‬‬
‫أ ـ صلة الرحم‪ :‬قال صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬من سره أن يبسط له في رزق‪99‬ه وأن ينس‪99‬أ‬
‫له في أثره فليصل رحمه‪.3‬‬
‫ق هَّللا َ يَجْ َع‪99‬ل لَّهُ َم ْخ َرجً‪9‬ا * َويَرْ ُز ْق‪9‬هُ ِم ْن َحي ُ‬
‫ْث اَل‬ ‫ب ــ تقــوى هللا‪ :‬ق‪9‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬و َمن يَتَّ ِ‬
‫يَحْ تَ ِسبُ " (الطالق ‪ ،‬آية ‪ 2 :‬ـ ‪.)3‬‬
‫وكذلك اجتناب البغي‪ ،‬وظلم العباد‪ ،‬والرياء‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪.‬‬
‫وكذلك األسباب الطبيعية والمادية‪ ،‬كالس‪99‬عي لل‪99‬رزق وب‪99‬ذل الجه‪99‬د‪ ،‬واختي‪99‬ار األزم‪99‬ان‬
‫المناسبة وحسن اختار المكاسب النافعة ونحو ذل‪99‬ك‪ ،‬وه‪99‬ذه األس‪99‬باب والمس‪99‬ببات كله‪99‬ا‬
‫بقدر هللا تعالى ومشيئته‪.4‬‬
‫وما أجمل ما قاله عمر بن الخطاب لبعض الناس في زمنه عندما قال‪ :‬ال يقعدن أحدكم‬
‫عن طلب الرزق‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهم أرزقني وقد علم أن الس‪99‬ماء ال تمط‪99‬ر ذهب ‪9‬ا ً وال فض‪99‬ة‬
‫ت‬ ‫ض‪9‬يَ ِ‬ ‫وإنما ي‪99‬رزق هللا تع‪9‬الى بعض‪9‬هم من بعض‪ ،‬أم‪99‬ا ق‪9‬رأتم ق‪99‬ول هللا تع‪9‬الى‪" :‬فَ‪9‬إ ِ َذا قُ ِ‬
‫ض َوا ْبتَ ُغوا ِمن فَضْ ِل هَّللا ِ" (الجمعة ‪ ،‬آية ‪.5)10 :‬‬ ‫صاَل ةُ فَانت َِشرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ال َّ‬
‫‪ 5‬ـ مراعاة صورة األسباب في الخوارق‪:‬‬
‫إذا ك‪99‬ان األص‪99‬ل في الس‪99‬نن الجاري‪99‬ة ه‪99‬و تعل‪99‬ق المس‪99‬ببات بأس‪99‬بابها‪ ،‬وارتب‪99‬اط النت‪99‬ائج‬
‫بمقدامتها‪ ،‬فإن األصل ال يتغير في السنن الخارقة المبنية على خرق العادة واألسباب‪،‬‬
‫وعدم التغيير فيها يتمثل في مراعاة صورة األس‪99‬باب في تل‪99‬ك الخ‪99‬وارق ليظ‪99‬ل ق‪99‬انون‬
‫السببية عالقا ً بذهن المكلف‪ ،‬ومرتبطا ً بإقام‪99‬ة الك‪99‬ون وحرك‪99‬ة الحي‪99‬اة‪ ،‬والق‪99‬رآن الك‪99‬ريم‬
‫زاخراً باآليات التي يمكن االستدالل بها في هذا الصدر‪ ،6‬ومنها‪:‬‬

‫‪3‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.145‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه صـ‪.146‬‬
‫‪3‬البخاري رقم ‪.1961‬‬
‫‪4‬أصول االعتقاد في سورة يوسف صـ‪.501‬‬
‫‪5‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.56‬‬
‫‪6‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.147‬‬

‫‪140‬‬
‫ت ِم ْنهُ ْاثنَتَا َع ْش َرةَ َعيْناً" (البق‪99‬رة ‪،‬‬
‫صاكَ ْال َح َج َر فَانفَ َج َر ْ‬
‫ـ قوله تعالى‪" :‬فَقُ ْلنَا اضْ ِرب بِّ َع َ‬
‫آية ‪ .)60 :‬ـ وفي الكالم حذف تقديره‪ :‬فضرب فانفجرت‪.1‬‬
‫ق‪99‬ال القرط‪99‬بي‪ 9:‬وق‪99‬د ك‪99‬ان هللا تع‪99‬الى ق‪99‬ادراً على تفج‪99‬ير الم‪99‬اء وفل‪99‬ق الحج‪99‬ر من غ‪99‬ير‬
‫ضرب‪ ،‬ولكن أراد أن يربط المسببات باألس‪99‬باب حكم‪99‬ة من‪99‬ه للعب‪99‬اد في وص‪99‬ولهم إلى‬
‫المراد‪ ،‬وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في الميعاد‪.2‬‬
‫‪ 6‬ـ تهيئة األسباب لوقوع مراد هللا‪:‬‬
‫إذا أراد وقوع شئ في هذا الوجود هيأ له أسبابه التي يقع بها‪ ،‬وذل‪99‬ك ألن‪99‬ه جع‪99‬ل نظ‪99‬ام‬
‫هذا الكون مبنيا ً على سنن ال تنخرم وقوانين ال تنخرم إال بمش‪99‬يئة هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل‪ ،‬كم‪99‬ا‬
‫هو الشأن في المعجزات وخوارق العادات‪ ،‬وهو استثناء من القاع‪99‬دة ال‪99‬تي ق‪99‬ام عليه‪99‬ا‬
‫الكون من اعتبار األسباب ـ حقيقة ـ في الوصول‪ 9‬إلى مسبباتها‪ ،‬وق‪99‬د قي‪99‬ل إذا أراد هللا‬
‫أمراً يسّر أسبابه‪ ،‬ومن التطبيقات الواضحة لهذا العنوان في القرآن الكريم ما ج‪99‬اء في‬
‫حيثيات غزوة بدر ومالبساتها‪ ،‬حيث هيأ هللا تعالى أس‪99‬باب النص‪99‬ر للمس‪99‬لمين في ه‪99‬ذا‬
‫اليوم‪ ،،‬ولم يجعل نصرهم ـ في ظاهر األمر ـ من قبيل الخ‪99‬وارق المحض‪99‬ة ال‪99‬تي ليس‬
‫للسبب فيها نصيب‪ ،‬خاصة في مثل هذا الموقف الشديد الذي عانى في‪99‬ه المس‪99‬لمون من‬
‫قلة العدد والعتاد‪ ،‬كل ذلك ليت‪99‬بين للمس‪99‬لمين قب‪99‬ل غ‪99‬يرهم أن الس‪99‬نن اإللهي‪99‬ة والق‪99‬وانين‬
‫الربانية التي قام عليها نظام الكون ال تتخلف عادة‪ ،‬وقد تجلت هذه األسباب‪ ،‬وظهرت‬
‫‪9‬اس أَ َمنَ‪9‬ةً ِّم ْن‪9‬هُ َويُنَ‪ِّ 9‬ز ُل َعلَ ْي ُكم‬ ‫فيما جاء في قوله تعالى عن غزوة بدر‪" :‬إِ ْذ يُغ ِّ‬
‫َش‪9‬ي ُك ُم النُّ َع‪َ 9‬‬
‫ان َولِيَرْ بِ ‪9‬طَ َعلَى قُلُ‪99‬وبِ ُك ْم َويُثَبِّتَ‬‫الش ‪ْ 9‬يطَ ِ‬‫ب عَن ُك ْم ِرجْ َز َّ‬‫ِّمن ال َّس َماء َماء لِّيُطَهِّ َر ُكم بِ ِه َوي ُْذ ِه َ‬
‫بِ ِه األَ ْقدَا َم" (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫فإن اغشاءهم النعاس ك‪99‬ان من أس‪99‬باب النص‪99‬ر‪ ،‬ألنهم لم‪99‬ا ن‪99‬اموا زال أث‪99‬ر الخ‪99‬وف من‬
‫نفوسهم في مدة النوم ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً‪ ،‬ونشاط األعصاب يكس‪99‬ب ص‪99‬احبه‬
‫شجاعة‪ ،‬ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور األعصاب‪.3‬‬
‫‪7‬ـ األسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع والب‪99‬د من تم‪99‬ام الش‪99‬روط‬
‫وزوال الموانع ـ أي في انتاج األسباب ـ وكل ذلك بقضاء هللا وق‪99‬دره وليس ش‪99‬يء من‬
‫األسباب مستقالً بمطلوبه‪ ،‬بل الب‪9‬د من انض‪9‬مام أس‪9‬باب أخ‪9‬رى إلي‪9‬ه‪ ،‬والب‪9‬د أيض‪9‬ا ً من‬
‫صرف المواقع والمعارض‪99‬ات عن‪99‬ه ح‪99‬تى يحص‪99‬ل المقص‪99‬ود‪ ،‬ف‪99‬المطر وح‪99‬ده ال ينبت‬
‫النب‪99‬ات إال بم‪99‬ا ينض‪99‬م إلي‪99‬ه من اله‪99‬واء وال‪99‬تراب وغ‪99‬ير ذل‪99‬ك‪ ،‬ثم ال‪99‬زرع ال يتم ح‪99‬تى‬
‫تصرف عنه اآلفات المفسدة له‪ ،‬والطعام والشراب ال يغذي إال بما جعل هللا في الب‪99‬دن‬
‫من األعضاء والقوى‪.5‬‬

‫‪1‬المصدر نفسه صـ‪.148‬‬


‫‪2‬الجامع ألحكام القرطبي (‪.)419 / 1‬‬
‫‪3‬تفسير التحرير والتنوير (‪.)278 /9‬‬
‫‪4‬مجموع الفتاوى (‪.)133 /8‬‬
‫‪5‬المصدر نفسه (‪.)167 /8‬‬

‫‪141‬‬
‫ار ُعونَ "‪( 9‬الواقعة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ـ قال تعالى‪":‬أَفَ َرأَ ْيتُم َّما تَحْ ُرثُونَ * أَأَنتُ ْم ت َْز َر ُعونَهُ أَ ْم نَحْ ُن ال َّز ِ‬
‫‪ 63‬ـ ‪ )64‬أي‪ :‬إذا كانت منكم الحراثة والبذر ـ مع اعانتن‪99‬ا لكم على ذل‪99‬ك ـ ف‪99‬إن إتم‪99‬ام‬
‫الزرع واإلثمار وتوف‪99‬ير الش‪99‬روط وإزال‪99‬ة الموان‪99‬ع من ش‪99‬أننا نحن‪ ،‬ويؤك‪99‬د ذل‪99‬ك قول‪99‬ه‬
‫ق َذاتَ‬‫ض َوأَنزَ َل لَ ُكم ِّمنَ ال َّس َماء َماء فَأَنبَ ْتنَا بِ ِه َح‪ 9‬دَائِ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬ ‫تعالى‪":‬أَ َّم ْن َخلَ َ‬
‫بَه َْج ٍة َّما َكانَ لَ ُك ْم أَن تُنبِتُوا َش َج َرهَا أَإِلَهٌ َّم َع هَّللا ِ بَلْ هُ ْم قَوْ ٌم يَ ْع ِدلُونَ " (النمل‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬
‫فقد ذكر إنزال الماء ألنه من جمل‪99‬ة م‪99‬ا خل‪99‬ق هللا‪ ،‬ولقط‪99‬ع ش‪99‬بهة أن يقول‪99‬وا‪ :‬إن المنبت‬
‫للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء‪ ،‬اغتراراً بالسبب فبودر بالتأكيد بأن هللا خلق االسباب‬
‫وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والع‪99‬وارض العارض‪99‬ة لت‪99‬أثير األس‪99‬باب‪ ،‬وبتوف‪99‬ير‬
‫القوى الحاصلة في األسباب‪ ،‬وتقدير المقادير المناسبة لالنتف‪99‬اع باألس‪99‬باب‪ ،‬فق‪99‬د ي‪99‬نزل‬
‫الم‪99‬اء ب‪99‬إفراط فيج‪99‬رف ال‪99‬زرع والش‪99‬جر‪ ،‬أو يقتلهم‪99‬ا‪ ،‬ول‪99‬ذلك جم‪99‬ع بين " َوأَن‪َ 99‬ز َل"‪9‬‬
‫وقوله‪":‬فَأَنبَ ْتنَا" تنبيها ً على إزالة الشبهة‪.1‬‬
‫‪8‬ـ إنكار قانون السببيةـ يؤدي إلى ابطال حقائق العلوم‪:‬‬
‫لقد ثبت بنص القرآن أن األسباب الشرعية هي محل حكم هللا ورسوله صلى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم وهي في اقتضائها لمسسبّباتها قدراً‪ ،‬فهذا شرع ال‪9‬رب وذل‪99‬ك ق‪9‬دره‪ ،‬وهم‪9‬ا خلق‪99‬ه‬
‫وأمره‪ ،‬وهللا له الخلق واألمر‪ ،‬وال تبديل لخلق هللا‪ ،‬وال تغيير لحكمه‪ ،‬فكم‪99‬ا ال يخ‪99‬الف‬
‫لقت ل‪99‬ه‪ ،‬فهك‪99‬ذا‬ ‫سبحانه باألس‪99‬باب القدري‪99‬ة أحكامه‪99‬ا‪ ،‬ب‪99‬ل يجريه‪99‬ا على أس‪99‬بابها وم‪99‬ا ُخ ُ‬
‫األسباب الشرعية ال يخرجها عن سببها وما ُشرعت له‪ ،‬بل هذه س‪99‬نته ش‪99‬رعا ً وأم‪99‬راً‪،‬‬
‫ت هَّللا ِ تَ ْب‪ِ 9‬دياًل َولَن‬
‫وتلك سنته قضاء وقدراً‪ ،‬وسنته القدري‪99‬ة ق‪9‬ال تع‪99‬الى‪" :‬فَلَن تَ ِج‪َ 9‬د لِ ُس‪9‬نَّ ِ‬
‫ت هَّللا ِ تَحْ ِوياًل " (فاطر ‪ ،‬آية ‪.)43 :‬‬ ‫ت َِج َد لِ ُسنَّ ِ‬
‫فالمسببات مرتبطة بأسبابها شرعا ً وقدراً‪ ،‬ولذلك فطلبها من غير أسبابها م‪99‬ذموم‪ ،‬كم‪99‬ا‬
‫أن إنكار األسباب ألن تكون موصلة لها بأنها أمر مردود‪ ،‬بل أن النتائج المترتبة على‬
‫إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها‪ ،‬فإن العلوم جميعها تس‪99‬تند إلى ه‪99‬ذا‪،‬‬
‫القانون‪.2‬‬
‫ومح‪99‬و األس‪99‬باب أن تك‪99‬ون أس‪99‬بابا ً نقص في العق‪99‬ل‪ ،‬وه‪99‬و طعن في الش‪99‬رع أيض‪9‬ا ً فاهلل‬
‫ض بَ ْع‪َ 9‬د َموْ تِهَ‪99‬ا"‬ ‫ق فَأَحْ يَ‪99‬ا بِ ‪ِ 9‬ه اأْل َرْ َ‬ ‫الس ‪َ 9‬ماء ِمن ْ‬
‫رِّز ٍ‬ ‫"و َم‪99‬ا أَن ‪َ 9‬ز َل هَّللا ُ ِمنَ َّ‬ ‫تع‪99‬الى يق‪99‬ول‪َ :‬‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)164 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪" :‬يَ ْه ِدي بِ ِه هّللا ُ َم ِن اتَّبَ َع ِرضْ َوانَهُ ُسبُ َل ال َّسالَ ِم" (المائدة ‪ ،‬آية ‪. )16 :‬‬
‫‪3‬‬

‫والحاصل أنه قد ثبت بالقطع أنه ال مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء وال للفلتة‬
‫َر" (القمر ‪ ،‬آية ‪.)49 :‬‬ ‫العارضة‪" :‬إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء خَ لَ ْقنَاهُ بِقَد ٍ‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء فَقَ َّد َرهُ تَ ْق ِدي ًرا" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬ ‫"وخَ لَ َ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫هّللا‬ ‫ْ‬
‫ـ وقال تعالى‪" :‬فَ َع َسى أن تَ ْك َرهُوا َش‪ْ 9‬يئًا َويَجْ َع‪َ 9‬ل ُ ِفي‪ِ 9‬ه َخ ْي‪9‬رًا َكثِ‪99‬يرًا" (انس‪99‬اء ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫َ‬
‫‪.)19‬‬
‫ُّوا َش ْيئًا َوهُ َو َش‪ٌّ 99‬ر‬‫وا َش ْيئًا َوهُ َو َخ ْي ٌر لَّ ُك ْم َو َع َسى أَن تُ ِحب ْ‬ ‫"و َع َسى أَن تَ ْك َرهُ ْ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫لَّ ُك ْم َوهّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَنتُ ْم الَ تَ ْعلَ ُمونَ " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)216 :‬‬

‫‪1‬تفسير التحرير والتنوير (‪.)11 /20‬‬


‫‪2‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.158‬‬
‫‪3‬المصدر نفسه صـ‪.158‬‬

‫‪142‬‬
‫واألسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثاره‪99‬ا وق‪99‬د ال تتبعه‪99‬ا‪ ،‬والمق‪99‬دمات ال‪99‬تي‬
‫يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد ال تعقبها‪ ،‬ذلك أنه ليست األسباب والمقدمات‬
‫هي التي تنشيء اآلثار والنتائج‪ ،‬وإنما هي اإلرادة التي تنشيء اآلثار والنت‪99‬ائج وتهيء‬
‫ك‬‫ث بَ ْع‪َ 99‬د َذلِ ‪َ 9‬‬ ‫الظروف لتحققها‪ ،‬كما تنشيء األسباب والمقدمات "اَل تَ ْد ِري لَ َع َّل هَّللا َ يُحْ ِد ُ‬
‫"و َما تَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َشاء هَّللا ُ" (اإلنسان‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬ ‫أَ ْمرًا" (الطالق‪ ،‬آية ‪َ ،)1 :‬‬
‫والمؤمن يأخذ باألسباب ألنه مأمور باألخذ بها وهللا هو ال‪99‬ذي يُق‪ّ 9‬در آثاره‪99‬ا ونتائجه‪99‬ا‪،‬‬
‫واالطمئنان إلى رحمة هللا وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده المالذ األمين‪ ،‬والنج‪9‬اة‬
‫ان يَ ِع ُد ُك ُم ْالفَ ْق َر َويَأْ ُم ُر ُكم بِ ْالفَحْ َشاء َوهّللا ُ يَ ِع ُد ُكم َّم ْغفِ َرةً‬
‫من الوسواس والهواجس ‪":‬ال َّش ْيطَ ُ‬
‫اس ٌع َعلِي ٌم" (البقرة‪ ،‬آية ‪.1)268 :‬‬ ‫ِّم ْنهُ َوفَضْ الً َوهّللا ُ َو ِ‬
‫‪9‬ـ منازعة األقدار باألقدار‪:‬‬
‫من األصول القطعي‪99‬ة مباش‪99‬رة األس‪99‬باب وعلى ه‪99‬ذا ف‪99‬إن تركه‪99‬ا ق‪99‬دح في الش‪99‬رع مم‪99‬ا‬
‫يدحض ادعاءات الجهال والمغرضين‪ ،‬ونزيد هن‪99‬ا فنق‪99‬ول أن ص‪99‬احب اإليم‪99‬ان بالق‪99‬در‬
‫ينازع القدر بالقدر‪ ،‬بمعنى أن ال يستسلم للقدر مادام له داف‪9‬ع أو راف‪9‬ع أو م‪9‬انع‪ ،‬فيأخ‪9‬ذ‬
‫من األسباب م‪99‬ا يحق‪99‬ق ذل‪99‬ك‪ ،‬ق‪99‬ال الش‪99‬يخ عب‪99‬د الق‪99‬ادر الجيالني‪ :‬كث‪99‬ير من الرج‪99‬ال إذا‬
‫وصلوا إلى القض‪99‬اء والق‪99‬در أمس‪99‬كوا‪ ،‬وأن‪99‬ا انفتحت لي روزن‪99‬ة فن‪99‬ازعت أق‪99‬دار الح‪99‬ق‬
‫بالحق للحق‪ ،‬وما قاله هذا الش‪99‬يخ الجلي‪99‬ل الع‪99‬ارف باهلل ح‪99‬ق‪ ،‬ويري‪99‬د بقول‪99‬ه رحم‪99‬ه هللا‬
‫تعالى أنه يدافع المقدور م‪99‬ادام في مدافعت‪99‬ه مج‪99‬ال مس‪99‬تعينا ً باهلل تع‪99‬الى مبتغي‪9‬ا ً وجه‪99‬ه‪،‬‬
‫وتفصيل ذلك أن المسلم مطالب بأخذ الوقاية من المحذور لئال يق‪99‬ع ويرفع‪99‬ه ودفع‪99‬ه إذا‬
‫وقع‪ ،‬فمن األول أخذ الحمية لئال يقع المرض واالبتعاد عن محل الوباء لئال يصاب به‬
‫اإلنسان‪ ،‬والتحصن وراء الجدر والحصون في الحروب وقاية من العدو‪.‬‬
‫وليس في هذه الوقاية ومباشرة أسبابها مناقضة لإليمان بالقدر‪ ،‬وإنما أخ‪99‬ذ بق‪99‬در لمن‪99‬ع‬
‫قدر‪ ،‬والقدر مادام مجهوالً عندنا وهو محتمل الوقوع فنحن نباشر أسباب عدم وقوع‪99‬ه‬
‫فإن كان مكتوبا ً عند هللا وقوعه لم يتيسر لنا مباش‪9‬رة أس‪9‬باب دفع‪9‬ه‪ ،‬أو تتيس‪9‬ر لن‪9‬ا ه‪9‬ذه‬
‫األس‪99‬باب ولكن ال ت‪99‬ؤدي إلى نتيجته‪99‬ا لوج‪99‬ود م‪99‬انع يمن‪99‬ع من افض‪99‬ائها إلى مس‪99‬ببها‪،‬‬
‫والمقصود هنا أن مباشرة االسباب لمنع وقوع ما يحتمل وقوعه من األق‪99‬دار ليس في‪99‬ه‬
‫مناقضة للمعنى الصحيح للقدر وإنما هو أخذ بقدر لمنع قدر ألن السبب والمسبب بقدر‬
‫هللا تعالى جاء في الحديث الشريف ‪ :‬قيل يا رسول هللا أرأيت أدوية نت‪99‬دوى به‪99‬ا ورقى‬
‫نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر هللا شيئاً؟ فقال هي من قدر هللا‪ ،2‬فإذا كان من‬
‫قدر هللا أن ال يصاب اإلنسان بالمرض ق ّدر هللا له مباشرة ما يدفع ب‪99‬ه وق‪99‬وع الم‪99‬رض‬
‫وعندما وصل الخليفة الع‪99‬ادل عم‪99‬ر بن الخط‪99‬اب رض‪99‬ي هللا عن‪99‬ه إلى مش‪99‬ارف الش‪99‬ام‬

‫‪1‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.161‬‬


‫‪2‬سنن الترمذي (‪ )399 /4‬حسن صحيح‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫وعلم بنزول الطاعون فيهم وه ّم ب‪99‬الرجوع ق‪99‬ال ل‪99‬ه أب‪99‬و عبي‪99‬دة بن الج‪99‬راح رض‪99‬ي هللا‬
‫عنه‪ :‬أفرار من قدر هللا يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي هللا عنه‪ :‬لو كان غيرك قالها ي‪99‬ا‬
‫أبا عبيدة‪ ،‬نعم نفر من قدر هللا إلى قدر هللا ونقع في ق‪99‬در هللا‪ ،‬ثم ق‪99‬ال عم‪99‬ر رض‪99‬ي هللا‬
‫عنه ما معناه‪ :‬لو كان عندك غنم أو إبل وأمامك أرض مجدب‪99‬ة وأخ‪99‬رى مخص‪99‬بة ف‪99‬إذا‬
‫نزلت بالمجدبة أو المخص‪99‬بة أو تح‪99‬ولت من المجدب‪99‬ة إلى المخص‪99‬بة‪ ،‬فك‪99‬ل ذل‪99‬ك بق‪99‬در‬
‫هللا‪.1‬‬
‫ومن النوع الثاني من منازع‪99‬ة األق‪99‬دار باألق‪9‬دار مباش‪99‬رة االس‪99‬باب الرافع‪9‬ة للق‪9‬در بع‪9‬د‬
‫وقوعه كتناول الدواء لرفع المرض‪ ،‬وطرد األعداء والكف‪99‬رة من دي‪99‬ار المس‪99‬لمين بع‪99‬د‬
‫تسلطهم باعداد العدة لذلك ثم قتالهم‪ ،‬ومثاله أيضا ً انحباس المط‪99‬ر يرف‪99‬ع بااللتج‪99‬اء إلى‬
‫هللا واإلنابة إليه واستغفاره‪ ،‬كما هو معروف في الفقه في باب صالة االستسقاء‪ ،‬وكما‬
‫دل عليه قوله تعالى حكاية عن نبيه ن‪99‬وح علي‪99‬ه الس‪99‬الم وم‪99‬ا قال‪99‬ه لقوم‪99‬ه‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪:‬‬
‫"فَقُ ْل ُ‬
‫ت ا ْستَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم إِنَّهُ َك‪99‬انَ َغفَّارًا * يُرْ ِس ‪ِ 9‬ل َّ‬
‫الس ‪َ 9‬ماء َعلَ ْي ُكم ِّم ْد َرارًا" (ن‪99‬وح ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫‪ 10‬ـ ‪ .)11‬فااللتجاء إلى هللا واإلنابة إليه واس‪99‬تغفارة من أهم األس‪99‬باب ل‪99‬دفع المك‪99‬روه‬
‫ورفعه بعد وقوعه‪ ،‬ومنعه من الوقوع قبل أن يقع‪ ،‬وهذه معاني يفقهه‪99‬ا أه‪99‬ل اإليم‪99‬ان‪،‬‬
‫ال أهل الكفر والجهالة والعصيان‪.2‬‬
‫رابعاً‪ :‬الدعاء والقدر‪:‬‬
‫الدعاء مثل سائر األسباب‪ ،‬كالتوكل والصدقة‪ ...‬سبب لجلب المن‪99‬افع ودف‪99‬ع المض‪99‬ار‪،3‬‬
‫ثم الدعاء ـ م‪9‬ع ثب‪9‬وت كون‪9‬ه س‪9‬ببا ً ـ داخ‪9‬ل في القض‪9‬اء‪ ،‬وال خ‪9‬رج عن القض‪9‬اء‪ ،‬ف‪9‬إن‬
‫الدعاء من جملة ما سبق به القضاء‪ ،‬ألن هللا سبحانه أحاط بكل ش‪99‬ئ علم‪9‬اً‪ ،‬وق‪9‬در ك‪99‬ل‬
‫شئ تقديراً‪ ،‬وال يمكن أن يخرج شئ عن قضائه‪ ،‬فلهذا الدعاء نفسه داخل القضاء‪ ،‬إذا‬
‫قدر الدعاء وأنه سبب لكذا فال بد أن يدعو الرجل وأن يتسبب ذلك فيما جعله هللا سبباً‪،‬‬
‫فالدعاء سبب لجلب النفع‪ ،‬كما أنه سبب لدفع البالء‪ ،‬ف‪99‬إذا أق‪99‬وى من‪99‬ه دفع‪99‬ه‪ ،‬وإن ك‪99‬ان‬
‫سبب البالء أق‪99‬وى لم يدفع‪99‬ه‪ ،‬لكن يخفف‪99‬ه ويض‪99‬عفه‪ ،‬وليس ش‪99‬ئ من األس‪99‬باب أنف‪99‬ع من‬
‫الدعاء وال أبلغ في حصول المطل‪99‬وب‪ ،‬وله‪99‬ذا أم‪99‬ر ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم عن‪99‬د انعق‪99‬اد‬
‫أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئة هللا تعالى وقدرته من الص‪99‬الة وال‪99‬دعاء وال‪99‬ذكر‪،‬‬
‫واالستغفار والتوبة‪ ،‬واالحسان بالصدقة والعتاقة‪ ،‬فإن هذه األعمال الصالحة تعارض‬
‫الش‪99‬ر ال‪99‬ذي انعق‪99‬د س‪99‬ببه‪ ،‬كم‪99‬ا في الح‪99‬ديث‪" :‬إن ال‪99‬دعاء والبالء ليلتقي‪99‬ان بين الس‪99‬ماء‬
‫واألرض فيعتلجان‪ ،"4‬وهذا كما لو جاء عدو فإنه يدفع بالدعاء وفعل الخ‪99‬ير وبالجه‪99‬اد‬
‫له‪ ،‬وإذا هجم البرد يدفع بإتخاذ الدفء‪ ،‬فكذلك األعمال الصالحة والدعاء‪ .5‬ويدل على‬
‫دفاع العدو بالدعاء مع الجهاد قوله صلى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم لس‪9‬عد بن أبي وق‪9‬اص‪" :‬ه‪9‬ل‬
‫تنصرون إال بضعفائكم"‪ ،‬ولفظ النسائي‪" :‬إنما نصر هللا هذه األمة بضعفتهم بدعواتهم‬

‫‪ 1‬الغيمان بالقضاء والقدر عبد الكريم زيدان صـ ‪.29‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه صـ‪.30‬‬
‫‪3‬الفتاوى (‪.)550 / 10‬‬
‫‪4‬صحيح الجامع لأللباني (‪ )241 / 6‬رقم ‪.7616‬‬
‫‪ 5‬الدعاء ومنزلته من العقيدة جيالن العروسي (‪.)356 / 1‬‬

‫‪144‬‬
‫وصالتهم وإخالصهم‪ ،"1‬والحاصل إن من جملة القض‪99‬اء ر ّد البالء بال‪99‬دعاء‪ ،‬فال‪99‬دعاء‬
‫داخل تحت القضاء وليس خارجا ً عنه‪.2‬‬
‫‪ 1‬ـ داللة القرآن الكريم على ذلك‪:‬‬
‫ال َربُّ ُك ُم ا ْد ُعونِي أَ ْست َِجبْ لَ ُك ْم" (غافر ‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬وقَ َ‬
‫ُ‬
‫اع إِ َذا َد َع‪99‬ا ِن"‬ ‫"وإِ َذا َس‪9‬أَلَكَ ِعبَ‪99‬ا ِدي َعنِّي فَ‪9‬إِنِّي قَ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ريبٌ أ ِجيبُ َد ْع‪َ 9‬وةَ ال‪َّ 9‬د ِ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)186 :‬‬
‫َص‪9‬يبٌ ِّم َّما‬ ‫ال ن ِ‬ ‫ْض لِّل ِّر َج‪ِ 9‬‬
‫ْض‪ُ 9‬ك ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫ض‪َ 9‬ل هّللا ُ بِ‪ِ 9‬ه بَع َ‬ ‫ـ وقال تع‪99‬الى‪َ " :‬والَ تَتَ َمنَّوْ ْا َم‪99‬ا فَ َّ‬
‫وا هّللا َ ِمن فَضْ لِ ِه" (انساء ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬ ‫صيبٌ ِّم َّما ا ْكتَ َس ْبنَ َواسْأَلُ ْ‬ ‫ا ْكتَ َسب ْ‬
‫ُوا َولِلنِّ َساء نَ ِ‬
‫إن هللا سبحانه وتعالى نهى في هذه اآلية عن الحسد‪ ،‬وتمني زوال نعم‪99‬ة الغ‪99‬ير‪ ،‬وأم‪99‬ر‬
‫بسؤاله من فضله فدل على أنه بسبب الس‪99‬ؤال يعطي مثلم‪99‬ا أعطى ل‪99‬ذلك ال‪99‬ذي فض‪99‬له‪،‬‬
‫وربما يعطي أكثر‪ ،‬فلو ك‪9‬ان ال‪9‬دعاء والس‪99‬ؤال ال أث‪9‬ر ل‪9‬ه في إعط‪99‬اء الس‪9‬ائل م‪99‬ا تمن‪9‬اه‬
‫وسأله‪ ،‬لزم أنه ال فائدة في األمر به في ه‪99‬ذا المق‪99‬ام‪ ،‬وه‪99‬ذا يخ‪99‬الف م‪99‬ا يقتض‪99‬يه س‪99‬ياق‬
‫اآلية‪.3‬‬
‫وقدوردت آيات كثيرة جداً‪ ،‬ذكر هللا فيها ما وق‪9‬ع ألنبيائ‪9‬ه وأوليائ‪9‬ه وعب‪9‬اده الص‪9‬الحين‬
‫من المحن والباليا والشدائد العظام‪ ،‬فاس‪99‬تغاثوا ب‪99‬ربهم وتض‪99‬رعوا‪ 9‬ل‪99‬ه‪ ،‬وابتهل‪99‬وا إلي‪99‬ه‪،‬‬
‫فاس‪99‬تجاب هللا لهم‪ ،‬وكش‪99‬ف عنهم تل‪99‬ك المحن‪ ،‬بع‪99‬د دع‪99‬ائهم‪ ،‬وق‪99‬د حكى هللا لن‪99‬ا ألف‪99‬اظ‬
‫دعواتهم وصيغ إبتهاالتهم لنقتدي بها‪ ،‬ونأخذ العبر والدروس‪ 9،‬ومن تلك الدروس‪ 9‬التي‬
‫نأخ‪99‬ذها ت‪99‬أثير ال‪99‬دعاء وفائدت‪99‬ه العظيم‪99‬ة في جلب المن‪99‬افع ودف‪99‬ع المض‪99‬ار‪ ،‬وأن‪99‬ه س‪99‬مة‬
‫العبودية‪ ،‬وأنه الغذاء الروحي السيما عند نزول الشدائد المدلهمة‪ ،4‬ومن ذلك‬
‫أ ـ مما حكى هللا لنا عن نوح ـ عليه السالم ـ مما يدل على تأثير الدعاء‪:‬‬
‫ـ قال تعالى‪َ " :‬ولَقَ ْد نَادَانَا نُو ٌح فَلَنِ ْع َم ْال ُم ِجيبُونَ " (الص‪99‬افات ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)75 :‬م‪99‬ا أص‪99‬رحها‬
‫في تأثير الدعاء وأوضحها وأبينها من حج‪99‬ة قاطع‪99‬ة‪ ،‬وم‪99‬ا أبلغه‪99‬ا من بره‪99‬ان س‪99‬اطع‪،‬‬
‫"ونُوحًا إِ ْذ نَادَى ِمن قَ ْب‪ُ 9‬ل فَ ْ‬
‫اس‪9‬ت ََج ْبنَا لَ‪9‬هُ فَنَ َّج ْينَ‪9‬اهُ‬ ‫ومثلها قوله تعالى في قصة نوح أيضاً‪َ :‬‬
‫َصرْ نَاهُ ِمنَ ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُ ْم َكانُوا قَوْ َم َس‪99‬وْ ٍء‬‫ب ْال َع ِظ ِيم * َون َ‬ ‫َوأَ ْهلَهُ ِمنَ ْال َكرْ ِ‬
‫فَأ َ ْغ َر ْقنَاهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (األنبياء ‪ ،‬آية ‪ 76 :‬ـ ‪.)77‬‬
‫ب ـ دعاء أيوب ـ عليه السالم ـ‪:‬‬
‫ُّوب إِ ْذ نَادَى َربَّهُ أَنِّي َم َّسنِ َي الضُّ رُّ َوأَنتَ أَرْ َح ُم الرَّا ِح ِمينَ * فَ ْ‬
‫اس ‪9‬تَ َج ْبنَا‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬وأَي َ‬
‫ض ٍّر َوآتَ ْينَاهُ أَ ْهلَهُ َو ِم ْثلَهُم َّم َعهُ ْم َرحْ َمةً ِّم ْن ِعن ِدنَا َو ِذ ْك‪َ 9‬رى لِ ْل َعابِ‪ِ 9‬دينَ "‬
‫لَهُ فَ َك َش ْفنَا َما بِ ِه ِمن ُ‬
‫(األنبياء ‪ 83 :‬ـ ‪ ،)84‬تدل اآليتان على المقصود من عدة أوجه‪ ،‬منه‪99‬ا العط‪99‬ف بالف‪99‬اء‬
‫السببية في الموض‪99‬عين‪ :‬فاس‪99‬تجبنا‪ ،‬فكش‪99‬فنا‪ ،‬ودالل‪99‬ة فاس‪99‬تجبنا وكش‪99‬فنا اللغوي‪99‬ة ودالل‪99‬ة‬
‫السياق هذه الدالالت الواضحة على تأثير الدعاء‪.5‬‬
‫جـ ـ دعاء يونس ـ عليه السالم ـ‪:‬‬

‫‪1‬البخاري (‪ )88 / 6‬رقم ‪ ،2896‬النسائي (‪ )37 / 6‬رقم الباب ‪.37‬‬


‫‪2‬الدعاء ومنزلته من العقيدة (‪.)357 / 1‬‬
‫‪3‬الدعاء ومنزلته من العقيدة (‪.)359 / 1‬‬
‫‪4‬المصدر نفسه (‪.)360 / 1‬‬
‫‪5‬الدعاء ومنزلته من العقيدة (‪.)362 / 1‬‬

‫‪145‬‬
‫ت أَن‬ ‫ضبًا فَظَ َّن أَن لَّن نَّ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَ‪99‬ادَى فِي ُّ‬
‫الظلُ َم‪99‬ا ِ‬ ‫َب ُمغَا ِ‬ ‫ون إِذ َّذه َ‬
‫قال تعالى‪َ " :‬و َذا النُّ ِ‬
‫ك‬‫نت ِمنَ الظَّالِ ِمينَ * فَا ْستَ َج ْبنَا لَ ‪9‬هُ َونَ َّج ْينَ‪99‬اهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َك‪َ 9‬ذلِ َ‬ ‫اَّل إِلَهَ إِاَّل أَنتَ ُس ْب َحانَكَ إِنِّي ُك ُ‬
‫نُن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ " (األنبياء ‪ ،‬آية ‪ 87 :‬ـ ‪.)88‬‬
‫فدلت اآليتان على أن الدعاء هو السبب في نجاته من عدة أوجه‪ ،‬منه‪99‬ا إلغ‪99‬اء الس‪99‬ببية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ومنها كلمتا‪ :‬استجبنا ونجينا كما دلت على أن هذا ليس خاصا ً به ب‪99‬ل المؤمن‪99‬ون عام‪99‬ة‬
‫إذا وقعوا في شدة واستغاثوا بربهم فهو ينجيهم‪ ،‬كما دلت أيض‪9‬ا ً على أن‪99‬ه ل‪99‬وال ال‪99‬دعاء‬
‫لما نجا من هذا الكرب العظيم ولبقي في بطن الحوت‪ ،‬وقد صرحت ب‪99‬ذلك آي‪99‬ة أخ‪99‬رى‬
‫طنِ ِه إِلَى يَوْ ِم يُ ْب َعثُونَ " (الصافات‬ ‫ث فِي بَ ْ‬ ‫قال تعالى‪" :‬فَلَوْ اَل أَنَّهُ َكانَ ِم ْن ْال ُم َسب ِِّحينَ * لَلَبِ َ‬
‫‪ ،‬آية ‪ 143 :‬ـ ‪.)144‬‬
‫‪1‬‬
‫فكلمة لوال في مثل هذا الموضع تدل على امتناع الجملة الثانية لوج‪99‬ود األولى ‪ ،‬وه‪99‬ذا‬
‫صريح قاطع في أن الدعاء هو السبب في نجاته ولو لم يحصل الدعاء لم‪99‬ا نج‪99‬ا ولبقي‬
‫في بطن الحوت إلى يوم القيامة‪.2‬‬
‫ج ـ دعاء زكريا عليه السالم‪:‬‬
‫اس ‪9‬ت ََج ْبنَا‬ ‫ارثِينَ * فَ ْ‬ ‫تعالى‪":‬وزَ َك ِريَّا إِ ْذ نَادَى َربَّهُ َربِّ اَل تَ َذرْ نِي فَرْ دًا َوأَنتَ خَ ْي ُر ْال ‪َ 9‬و ِ‬ ‫َ‬ ‫قال‬
‫ت َويَ‪ْ 9‬د ُعونَنَا‬ ‫ار ُعونَ فِي ْالخَ ي َ‬
‫ْ‪9‬را ِ‬ ‫لَهُ َو َوهَ ْبنَا لَهُ يَحْ يَى َوأَصْ لَحْ نَا لَ‪9‬هُ زَ وْ َج‪ 9‬هُ إِنَّهُ ْم َك‪9‬انُوا ي َُس‪ِ 9‬‬
‫اش ِعينَ " (األنبياء‪ ،‬آية ‪ 89 :‬ـ ‪.)90‬‬ ‫َر َغبًا َو َرهَبًا َو َكانُوا لَنَا خَ ِ‬
‫ففي هذا ترتيب لالستجابة على النداء‪ ،‬كما أن فيه تعليالً لالستجابة بك‪9‬ونهم مس‪9‬ارعين‬
‫في الخيرات‪ ،‬وداعين هللا رغبة ورهبة‪.3‬‬
‫خ ـ في قصة موسى وهارون في استغاثتهما باهلل‪:‬‬
‫‪9‬واالً فِي ْال َحيَ‪99‬ا ِة ال ‪ُّ 9‬د ْنيَا‬‫ال ُمو َسى َربَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْ عَوْ نَ َو َمألهُ ِزينَ ‪9‬ةً َوأَ ْم‪َ 9‬‬ ‫تعالى‪":‬وقَ َ‬
‫َ‬ ‫قال‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك َربَّنَا اط ِمسْ َعلَى أ ْم َوالِ ِه ْم َوا ْش ُد ْد َعلَى قُلُ‪99‬وبِ ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُ‪99‬وا َحتَّى‬ ‫ْ‬ ‫ُضلوا عَن َسبِيلِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َربَّنَا لِي ِ‬
‫اس‪9‬تَقِي َما" (ي‪99‬ونس‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 88 :‬ـ ‪،)89‬‬ ‫‪9‬ال قَ‪ْ 9‬د أُ ِجيبَت َّد ْع َوتُ ُك َم‪99‬ا فَ ْ‬‫اب األَلِي َم * قَ َ‬ ‫يَ‪َ 9‬ر ُو ْا ْال َع‪َ 9‬ذ َ‬
‫فصرحت اآليتان بإجابة دعوتهما واستغاثتهما باهلل تعالى وأن ذلك عقب ابتهالهم‪99‬ا إلى‬
‫هللا تعالى فدل هذا على ترتيب اإلجابة على الدعاء ت‪99‬رتب المس‪99‬بب على الس‪99‬بب‪ 4‬وفي‬
‫اش‪َ 9‬رحْ لِي‬ ‫قوله تعالى في قصة تضرع موسى وابتهال‪99‬ه إلى هللا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬قَ‪99‬ا َل َربِّ ْ‬
‫وس ‪9‬ى" (ط‪99‬ه‪،‬‬ ‫ك يَا ُم َ‬ ‫ص ْد ِري * َويَسِّرْ لِي أَ ْم ِري" إلى أن أجابه هللا بقوله‪":‬قَ ْد أُوتِيتَ س ُْؤلَ َ‬ ‫َ‬
‫‪5‬‬
‫آية ‪ 25 :‬ـ ‪ ،)36‬ما أوضحها في الداللة على تأثير الدعاء في اإلجابة ‪.‬‬
‫س ـ دعاء المؤمنين من األمم السابقة‪:‬‬
‫ِّت أَ ْق‪9‬دَا َمنَا‬ ‫ص‪ْ 9‬برًا َوثَب ْ‬‫‪9‬ر ْغ َعلَ ْينَ‪99‬ا َ‬ ‫وا َربَّنَا أَ ْف‪ِ 9‬‬‫وا لِ َجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قَالُ ْ‬ ‫تعالى‪":‬ولَ َّما‪ 9‬بَ َر ُز ْ‬
‫َ‬ ‫ـ قال‬
‫َوانصُرْ نَا َعلَى ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ * فَهَ َز ُموهُم بِإ ِ ْذ ِن هّللا ِ َوقَتَ َل دَا ُو ُد َجالُوتَ " (البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬
‫‪ 249‬ـ ‪.)250‬‬

‫‪1‬المصدر نفسه (‪.)362 /1‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه (‪.)362 /1‬‬
‫‪3‬المصدر نفسه (‪.)363 /1‬‬
‫‪4‬الدعاء ومنزلته من العقيدة (‪.)364 /1‬‬
‫‪5‬المصدر نفسه (‪.)364 /1‬‬

‫‪146‬‬
‫وا ربَّنَ‪99‬ا ا ْغفِ‪99‬رْ لَنَ‪99‬ا ُذنُوبَنَ‪99‬ا َوإِ ْس‪َ 9‬رافَنَا فِي أَ ْم ِرنَ‪99‬ا‬ ‫‪":‬و َما َكانَ قَ‪99‬وْ لَهُ ْم إِالَّ أَن قَ‪99‬الُ ْ‬ ‫ـ وقال أيضا ً َ‬
‫ب‬‫ُس‪9‬نَ ثَ‪َ 9‬وا ِ‬ ‫اب ال‪ُّ 9‬د ْنيَا َوح ْ‬‫وانص‪9‬رْ نَا َعلَى ْالقَ‪9‬وْ ِم ْال َك‪9‬افِ ِرينَ * فَآتَ‪9‬اهُ ُم هّللا ُ ثَ‪َ 9‬و َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّت أَ ْقدَا َمنَا‬
‫َوثَب ْ‬
‫اآلخ َر ِة َوهّللا ُ يُ ِحبُّ ْال ُمحْ ِسنِينَ " (آل عمران‪ ،‬آية ‪ 147 :‬ـ ‪.)148‬‬ ‫ِ‬
‫‪2‬ـ داللة الفطرة على تأثير الدعاء بإذن هللا‪:‬‬
‫ض أَإِلَ‪9‬هٌ‬ ‫ف السُّو َء َويَجْ َعلُ ُك ْم ُخلَفَ‪99‬اء اأْل َرْ ِ‬ ‫قال تعالى‪":‬أَ َّمن‪ 9‬يُ ِجيبُ ْال ُمضْ طَ َّر إِ َذا َدعَاهُ َويَ ْك ِش ُ‬
‫َّم َع هَّللا ِ قَلِياًل َّما تَ َذ َّكرُونَ " (النمل‪ ،‬آية ‪.)62 :‬‬
‫فاآلية صريحة الداللة على أن دع‪99‬اء المض‪99‬طر ه‪99‬و الس‪99‬بب في إجاب‪99‬ة س‪99‬ؤاله وكش‪99‬ف‬
‫الس‪99‬وء عن‪99‬ه وه‪99‬ذا من آي‪99‬ات هللا العظيم‪99‬ة الدال‪99‬ة على وحدانيت‪99‬ه وتف‪99‬رده بالربوبي‪99‬ة‬
‫واأللوهية ولهذا أعقبه بقوله‪":‬أَإِلَهٌ َّم َع هَّللا ِ قَلِياًل َّما تَ َذ َّكرُونَ "‪.1‬‬
‫اإلنسان من طبيعته إذا وقع في شدة وضيق عليه تح‪99‬ركت فطرت‪99‬ه ومش‪99‬اعره‪ ،‬واتج‪99‬ه‬
‫إلى هللا ونسى ما ك‪99‬ان ي‪99‬دعو من قب‪99‬ل وهن‪99‬ا ي‪99‬وقن أن‪99‬ه ال منق‪99‬ذ إال هللا‪ ،‬وتنكش‪99‬ف عن‪99‬ه‬
‫الحجب‪ ،‬وي‪99‬زول ال‪99‬رين‪ ،‬وت‪99‬ذهب الغش‪99‬اوة وينط‪99‬رح بين ي‪99‬دي هللا منكس‪99‬راً متواض‪99‬عا ً‬
‫مبتهالً متضرعا ً باكيا ً ويجأر إلى هللا كاشف السوء مجيب المضطرين‪ 9‬غياث المغي‪99‬ثين‬
‫منقذ الهالكين‪ ،‬وجابر المنكسرين ومنقذ الغرقى‪ ،‬وسامع النجوى‪ ،‬فكم من ملحد ن‪99‬زلت‬
‫به ضائقة آب إلى هللا‪ ،2‬وكم من شارد فاس‪99‬ق وق‪99‬ع في م‪99‬أزق ت‪99‬اب إلى هللا ورج‪99‬ع إلى‬
‫طاعته‪ ،‬فالفطرة خير شاهد وأقوى دليل وأنصع برهان‪ ،‬وأوضح حجة ألنها ال تحتاج‬
‫إلى تركيب مقدمة وإقام‪99‬ة أدل‪99‬ة جدلي‪99‬ة واس‪99‬تنتاج ودليله‪99‬ا ال يمكن مقاومت‪99‬ه‪ ،‬وال دفع‪99‬ه‬
‫بالش‪99‬بهات والوس‪99‬اوس‪ ،‬أال ت‪99‬رى اإلنس‪99‬ان إذا م‪99‬ا وق‪99‬ع في معص‪99‬ية يتج‪99‬ه مباش‪99‬رة إلى‬
‫السماء ويرفع يديه قائالً‪ :‬يا رب يا رب وهذه الحالة تهجم عليه وتس‪99‬يطر على تفك‪99‬يره‬
‫وشعوره وتجعله يشعر أنه ال منقذ وال منجي وال مغيث إال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فلو لم‬
‫تدل الفطرة على تأثير الدعاء لما اتجهت إلى الدعاء ولكانت تلج‪99‬أ إلى وس‪99‬ائل أخ‪99‬رى‬
‫لالستغاثة واالستعانة‪.3‬‬
‫وقد ذكر هللا سبحانه وتعالى طبيعة اإلنسان هذه في عدة آيات منها‪:‬‬
‫تعالى‪":‬وإِ َذا‪َ 9‬مسَّ ا ِإلن َسانَ الضُّ رُّ َدعَانَا لِ َجنبِ ِه أَوْ قَا ِع‪ 9‬دًا أَوْ قَآئِ ًم‪99‬ا فَلَ َّما َك َش‪ْ 9‬فنَا َع ْن‪9‬هُ‬ ‫َ‬ ‫ـ قوله‬
‫ض ٍّر َّم َّسهُ" (يونس‪ ،‬آية ‪.)12 :‬‬ ‫ض َّرهُ َم َّر َكأَن لَّ ْم يَ ْد ُعنَا إِلَى ُ‬ ‫ُ‬
‫سبحانه‪":‬وإِ َذا‪َ 9‬مسَّ اإْل ِ ن َسانَ ضُرٌّ َدعَا َربَّهُ ُمنِيبًا إِلَ ْي ِه ثُ َّم إِ َذا َخ َّولَهُ نِ ْع َمةً ِّم ْن‪9‬هُ ن َِس‪َ 9‬ي‬ ‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫ض َّل عَن َسبِيلِ ِه" (الزمر‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬ ‫َما َكانَ يَ ْد ُعو إِلَ ْي ِه ِمن قَ ْب ُل َو َج َع َل هَّلِل ِ أَندَادًا لِّيُ ِ‬
‫ض َونَأى بِ َجانِبِ ِه َوإِ َذا َم َّسهُ ال َّشرُّ فَ ُذو ُدعَاء‬ ‫ان أَ ْع َر َ‬ ‫تعالى‪":‬وإِ َذا أَ ْن َع ْمنَا َعلَى اإْل ِ ن َس ِ‬
‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫يض" (فصلت‪ ،‬آية ‪.)51 :‬‬ ‫َر ٍ‬ ‫ع ِ‬
‫الض‪9‬رُّ فَإِلَ ْي‪ِ 9‬ه تَجْ‪ 9‬أَرُونَ " (النح‪99‬ل‪،‬‬ ‫تعالى‪":‬و َما بِ ُكم ِّمن نِّ ْع َم ٍة فَ ِمنَ هّللا ِ ثُ َّم إِ َذا َم َّس ُك ُم ُّ‬
‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫آية ‪.)53 :‬‬
‫‪9‬ر ْينَ بِ ِهم‬ ‫ـ وقال تعالى‪":‬هُ َو الَّ ِذي يُ َسيِّ ُر ُك ْم فِي ْالبَ‪99‬رِّ َو ْالبَحْ ‪ِ 9‬ر َحتَّى إِ َذا ُكنتُ ْم فِي ْالفُ ْل‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ك َو َج‪َ 9‬‬
‫وا أَنَّهُ ْم‬
‫ف َو َجاءهُ ُم ْال َموْ ُج ِمن ُك ِّل َم َكا ٍن َوظَنُّ ْ‬ ‫ص ٌ‬ ‫ُوا بِهَا َجاء ْتهَا ِري ٌح عَا ِ‬ ‫يح طَيِّبَ ٍة َوفَ ِرح ْ‬ ‫بِ ِر ٍ‬
‫الش‪9‬ا ِك ِرينَ "‬ ‫نج ْيتَنَ‪99‬ا ِم ْن هَـ ِذ ِه لَنَ ُك‪9‬ونَنِّ ِمنَ َّ‬ ‫ص‪9‬ينَ لَ‪9‬هُ ال‪ِّ 9‬دينَ لَئِ ْن أَ َ‬ ‫أُ ِحيطَ بِ ِه ْم َد َع‪ُ 9‬و ْا هّللا َ ُم ْخلِ ِ‬
‫(يونس‪ ،‬آية ‪.)22 :‬‬

‫‪1‬المصدر نفسه (‪.)359 /1‬‬


‫‪2‬العقيدة في هللا لعمر األشقر صـ ‪ ،67‬الدعاء ومنزلته من العقيدة (‪.)368 /1‬‬
‫‪3‬الدعاء ومنزلته من العقيدة اإلسالمية (‪.)368 /1‬‬

‫‪147‬‬
‫ض َّل َمن تَ ْد ُعونَ إِالَّ إِيَّاهُ فَلَ َّما نَجَّا ُك ْم إِلَى ْالبَ ِّر‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬وإِ َذا َم َّس ُك ُم ْالضُّ رُّ فِي ْالبَحْ ِر َ‬
‫ان َكفُو ًرا" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)67 :‬‬ ‫أَ ْع َرضْ تُ ْم َو َكانَ ِ‬
‫اإل ْن َس ُ‬
‫ص‪9‬ينَ لَ ‪9‬هُ ال‪ِّ 9‬دينَ فَلَ َّما نَجَّاهُ ْم إِلَى‬ ‫تعالى‪":‬وإِ َذا غ َِشيَهُم َّموْ ٌج َك ُّ‬
‫الظلَ ِل َد َع‪ُ 9‬وا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫ور" (لقمان‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬ ‫ار َكفُ ٍ‬ ‫ْالبَ ِّر فَ ِم ْنهُم ُّم ْقت ِ‬
‫َص ٌد َو َما يَجْ َح ُد بِآيَاتِنَا إِاَّل ُكلُّ خَ تَّ ٍ‬
‫فاإلنسان في مثل هذه الشدائد ينسى تلك األشياء التي كان يتعلق بها ويرجع إلى رب‪99‬ه‪،‬‬
‫فتحصل له معرفة قوية من أقوى مايكون المع‪99‬ارف‪ ،‬ف‪9‬إن المع‪99‬ارف ال‪99‬تي تحص‪99‬ل في‬
‫النفس باألسباب االضطرارية‪ 9‬أثبت وأرسخ من المع‪99‬ارف ال‪99‬تي ينتجه‪99‬ا مج‪99‬رد النظ‪99‬ر‬
‫القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال‪.1‬‬
‫‪3‬ـ داللة السنة النبوية على تأثير الدعاء‪:‬‬
‫وأما السنة الدالة على تأثير الدعاء‪ ،‬فأكثر من أن تحصر فقد تواتر عنه صلى هللا عليه‬
‫وسلم أمران‪ :‬فعله للدعاء والثاني‪ :‬حث‪99‬ه ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم وترغيب‪99‬ه في ال‪99‬دعاء‪،2‬‬
‫ومن األدلة ما يلي‪:‬‬
‫أ ـ حديث أنس بن مالك‪ :‬قال‪ :‬بينما النبي صلى هللا عليه وس‪99‬لم يخطب ي‪99‬وم الجمع‪99‬ة إذ‬
‫قام رجل فقال‪ :‬يا رسول هللا هلك الكراع وهلك الشاء‪ ،‬وفي رواية وجاع العي‪99‬ال‪ ،‬وفي‬
‫رواية أخرى‪ :‬هلكت األموال وانقطعت السبل فأدع هللا أن يسقينا فمد يديه ودع‪99‬ا‪ ،‬وفي‬
‫رواية وما نرى في السماء قزعة‪ ،‬فوالذي نفسي بيده م‪99‬ا وض‪99‬عها ح‪99‬تى ث‪99‬ار الس‪99‬حاب‬
‫أمثال الجبال ثم لم ينزل عن من‪99‬بره ح‪99‬تى رأيت المط‪99‬ر يتح‪99‬ادر على لحيت‪99‬ه ص‪99‬لى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة‪ ،‬ثم جاء ذلك الرج‪9‬ل أو غ‪9‬يره في الجمع‪9‬ة‬
‫المقبلة فقال‪ :‬تهدمت البيوت وانقطعت السبل فأدع هللا يمسكها‪ ،‬فرفع يدي‪99‬ه فق‪99‬ال‪ :‬اللهم‬
‫حوالينا وال علينا‪ ،‬فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إال انفرجت‪.3‬‬
‫ب ـ حديث النزول‪ ،‬وهو حديث مشهور متواتر‪ ،‬ومن طرقه‪ ،‬ما رواه أب‪99‬و هري‪99‬رة أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬ي‪99‬نزل ربن‪99‬ا تب‪99‬ارك وتع‪99‬الى ك‪99‬ل ليل‪99‬ة إلى الس‪99‬ماء‬
‫ال‪99‬دنيا ح‪99‬تى يبقى ثلث اللي‪99‬ل األخ‪99‬ير فيق‪99‬ول‪ :‬من ي‪99‬دعوني فأس‪99‬تجب ل‪99‬ه؟ ومن يس‪99‬ألني‬
‫‪4‬‬
‫فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟‬
‫إن المشاهدة لتأثير الدعاء لمن أكبر األدلة وأصدقها برهانا ً وأقواها حجة‪ ،‬فنحن رأين‪99‬ا‬
‫وشاهدنا في أنفسنا ومن حولنا تأثير الدعاء‪ ،‬فمن منا ال يقع في شدة وكرب وض‪99‬يق ثم‬
‫يستغيث بربه فال يرى أثر ذل‪99‬ك؟ فنحن نش‪99‬اهد في حياتن‪99‬ا وأيامن‪99‬ا القص‪99‬يرة وق‪99‬ائع لن‪99‬ا‬
‫ولغيرنا يحصل فيها إجابة الدعاء بعد يأس وقنوط من المخلوقات‪ ،‬وبعد انقطاع السبل‬
‫والحيل فهذا يكفي وحده للداللة‪ .‬والحق الذي ال مرية فيه أن الدعاء سبب من األسباب‬
‫وأن له تأثيراً في جلب المنافع ودفع المضار‪ ،‬كس‪99‬ائر األس‪99‬باب المق‪99‬درة والمش‪99‬روعة‪،‬‬
‫وأنه ال منافاة بين القدر والدعاء‪ ،‬فالدعاء من جملة ما س‪9‬بق ب‪9‬ه الق‪9‬در وتض‪9‬منه الق‪9‬در‬
‫السابق‪.5‬‬
‫والشك أن هللا سبحانه وتعالى هو الذي حرك العبد إلى ال‪99‬دعاء ويس‪99‬ره ل‪99‬ه وه‪99‬و ال‪99‬ذي‬
‫قذف في قلب العبد الحركة إلى الدعاء وألهمه التضرع واالبتهال واالنطراح بين يديه‬
‫‪1‬الدعاء ومنزلته من العقيدة (‪.)369 /1‬‬
‫‪2‬المصدر نفسه (‪.)366 /1‬‬
‫‪3‬البخاري رقم ‪ ،932‬مسلم رقم ‪.897‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري على صحيح البخاري (‪ ،)29 /3‬رقم ‪ ،1145‬مسلم رقم ‪.758‬‬
‫‪5‬الدعاء ومنزلته من العقيدة (‪.)374 /1‬‬

‫‪148‬‬
‫ووفقه لذلك وصرف عنه الموانع من اس‪99‬تكبار‪ ،‬وكس‪99‬ل وغ‪99‬ير ذل‪99‬ك‪ ،‬فه‪99‬ذا الخ‪99‬ير من‪99‬ه‬
‫ولوال هللا لما دعا العبد‪.‬‬
‫وقد قال عمر بن الخطاب رض‪99‬ي هللا عن‪99‬ه‪ :‬إني ال أحم‪99‬ل هم اإلجاب‪99‬ة وإنم‪99‬ا أحم‪99‬ل هم‬
‫الدعاء‪ ،‬ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن اإلجابة معه‪.1‬‬
‫فإذا أراد هللا بعبد خيراً ألهمه دعاءه واالستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سببا ً للخ‪99‬ير‬
‫الذي قضاه له‪.2‬‬

‫‪1‬المصدر نفسه (‪.)375 /1‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه (‪.)375 /1‬‬

‫‪149‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬العدل اإللهي وسنة هللا في الجزاء بجنس العمل‪:‬‬
‫من أسماء هللا الحسنى "الع‪99‬دل" ولم ي‪9‬أت ه‪99‬ذا االس‪99‬م في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم وق‪99‬د ج‪9‬اء في‬
‫حديث األسماء الحسنى وأجمعت عليه األمة ومعناه‪:‬‬
‫العادل‪ :‬وهو الذي يصدر منه فع‪9‬ل الع‪99‬دل وه‪99‬و المض‪99‬اد للج‪99‬ور والظلم وه‪9‬و ال‪9‬ذي ال‬
‫يميل به الهوى فيجور في الحكم وإذا آمن العبد بأن هللا هو العدل لم يعترض علي‪99‬ه في‬
‫أحكامه وتدبيره وسائر أفعاله‪ ،‬وافق مراد العبد أو لم يوافق‪ ،‬ألن كل ذل‪99‬ك ع‪99‬دل وه‪99‬و‬
‫كما ينبغي وعلى ما ينبغي‪.1‬‬
‫فالعدل كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرس‪99‬ل‬
‫الرس‪99‬ل‪ ،‬وأن‪99‬زل الكتب وأزاح العل‪99‬ل وم ّكن من أس‪99‬باب الهداي‪99‬ة والطاع‪99‬ة باالس‪99‬ماع‬
‫واألبصار والعقول وهذا عدله ووفق من شاء بمزي‪99‬د عناي‪99‬ة وأراد من نفس‪99‬ه أن يُعين‪99‬ه‬
‫ويُفقّه‪ ،‬فهذا فضله‪ ،‬وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفض‪99‬له‪ ،‬وخل ّى بين‪99‬ه وبين نفس‪99‬ه‪ ،‬ولم‬
‫يُرد سبحانه من نفسه أن يوفقه‪ ،‬فقطع عنه فضله‪ ،‬ولم يحرمه عدله‪.2‬‬
‫وق‪99‬د اتف‪99‬ق أه‪99‬ل األرض والس‪99‬موات على أن هللا تع‪99‬الى "ع‪99‬دل" ال يظلم أح‪99‬داً‪ ،‬ح‪99‬تى‬
‫أعداءه المشركين الجاحدين لصفات كماله‪ ،‬فإنهم مقرّون له بالعدل‪ ،‬و ُمن ّزهون ل‪99‬ه عن‬
‫الظلم‪ ،‬ح‪99‬تى إنهم لي‪99‬دخلون الن‪99‬ار وهم ُمع‪99‬ترفون بعدل‪99‬ه‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬فَ‪99‬ا ْعتَ َرفُوا‬
‫بِ َذنبِ ِه ْم" (الملك‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫ص‪99‬ونَ َعلَ ْي ُك ْم آيَ‪99‬اتِي‬ ‫ُس‪ٌ 99‬ل ِّمن ُك ْم يَقُ ُّ‬ ‫نس أَلَ ْم يَ‪99‬أْتِ ُك ْم ر ُ‬ ‫ْش‪َ 99‬ر ْال ِجنِّ َو ِ‬
‫اإل ِ‬ ‫وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬يَ‪99‬ا َمع َ‬
‫وا َعلَى‬ ‫وا َش ِه ْدنَا َعلَى أَنفُ ِسنَا َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا َو َش‪ِ 99‬ه ُد ْ‬
‫َويُن ِذرُونَ ُك ْم لِقَاء يَوْ ِم ُك ْم هَـ َذا قَالُ ْ‬
‫وا َكافِ ِرينَ " (األنعام‪ ،‬آية ‪.)130 :‬‬ ‫أَنفُ ِس ِه ْم أَنَّهُ ْم َكانُ ْ‬
‫‪9‬ك‪":‬القُ‪َ 9‬رى بِظُ ْل ٍم َوأَ ْهلُهَ‪99‬ا‬‫ْ‬ ‫فه‪99‬و س‪99‬بحانه ـ ق‪99‬د ح‪9‬رّم الظلم على نفس‪99‬ه وأخ‪99‬بر أن‪99‬ه ال يُهل‪9‬‬
‫غَافِلُونَ " (األنعام‪ ،‬آية ‪.)131 :‬‬
‫فأفعال هللا كلها جارية على سنن العدل واالستقامة‪ ،‬ليس فيها شائبة جور أص‪99‬الً‪ ،‬فهي‬
‫كلها بين الفضل والرحمة وبين العدل والحكم‪99‬ة‪ ،‬وم‪99‬ا ي‪99‬نزل هللا ـ س‪99‬بحانه ـ بالعص‪99‬اة‬
‫والمكذبين من أنواع الهالك والخ‪99‬زي في ال‪99‬دنيا وم‪99‬ا أع‪99‬ده لهم من الع‪99‬ذاب المهين في‬
‫اآلخرة‪ ،‬فإنما فعل بهم م‪99‬ا يس‪99‬تحقونه‪ ،‬فإن‪99‬ه ال يأخ‪99‬ذ إال ب‪99‬ذنب وال يع‪99‬ذب إال بع‪99‬د قي‪99‬ام‬
‫الحجة‪ ،‬وأقواله كلها عدل‪ ،‬فهو ال يأمرهم إال بما فيه مص‪99‬لحة خالص‪99‬ة أو راجح‪99‬ة وال‬
‫ينهاهم إال ع ّما مضرته خالصة أو راجحة وكذلك حكمه بين عباده يوم فص‪99‬ل القض‪99‬اء‬
‫ازينَ ْالقِ ْسطَ لِيَوْ ِم ْالقِيَا َم ‪ِ 9‬ة فَاَل‬ ‫َض ُ‪9‬ع ْال َم َو ِ‬‫ووزنه ألعمالهم ال جور فيه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ":‬ون َ‬
‫اس ‪9‬بِينَ " (األنبي‪99‬اء‪،‬‬ ‫ال َحبَّ ٍة ِّم ْن خَرْ َد ٍل أَتَ ْينَا بِهَا َو َكفَى بِنَ‪99‬ا َح ِ‬ ‫ظلَ ُم نَ ْفسٌ َش ْيئًا َوإِن َكانَ ِم ْثقَ َ‬ ‫تُ ْ‬
‫آية ‪ ،)47 :‬فهو على صراط مستقيم في قوله‪ ،‬وفعله وحكمه‪.3‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬عدل فِ ّي قضاؤك‪ .4‬فاهلل عدل في جميع أقض‪99‬يته في عب‪99‬ده‪،‬‬
‫قضائه السابق فيه قبل إيجاده‪ ،‬وقضائه فيه المقارن لحياته‪ ،‬وقض‪99‬ائه في‪99‬ه بع‪99‬د ممات‪99‬ه‪،‬‬
‫وقضائه فيه يوم معاده‪.5‬‬

‫‪ 1‬أسماء هللا الحسنى د‪ .‬فاروق حماده صـ ‪.128‬‬


‫‪ 2‬جهود اإلمام ابن القيم في توحيد اسماء األسماء والصفات د‪ .‬وليد محمد عبد هللا العلي (‪.)1291 /2‬‬
‫‪ 3‬الجزاء من جنس العمل د‪ .‬سيد حسين العفاني (‪.)33 /1‬‬
‫‪4‬صحيح ابن حبان رقم ‪.972‬‬
‫‪5‬الجزاء من جنس العمل (‪.)33 /1‬‬

‫‪150‬‬
‫ت َعلَى هّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُكم َّما ِمن‬ ‫‪9‬و َّك ْل ُ‬
‫وقال هللا ـ على لسان نبيه هود عليه الس‪99‬الم ‪":‬إِنِّي تَ‪َ 9‬‬
‫اط ُّم ْستَقِ ٍيم" (هود‪ ،‬آية ‪.)56 :‬‬ ‫ص َر ٍ‬ ‫َاصيَتِهَا إِ َّن َربِّي َعلَى ِ‬ ‫آخ ٌذ بِن ِ‬ ‫دَآبَّ ٍة إِالَّ هُ َو ِ‬
‫فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كي‪99‬ف ش‪99‬اء‪ ،‬ثم أخ‪99‬بر أن‪99‬ه في‬
‫هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم‪.1‬‬
‫فاهلل يأمر بالعدل ويفعله وهو أعدل العادلين‪ ،‬فما قضى في عب‪99‬ده قض‪99‬اء إال ه‪99‬و واق‪99‬ع‬
‫في محله الذي ال يليق به غيره‪ ،‬إذ هو الحكم العدل الغني الحميد‪.2‬‬
‫فاهلل وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل فالشرع والق‪99‬در والخل‪99‬ق واألم‪99‬ر والث‪99‬واب‬
‫ص ْدقًا َو َع ْدالً" (األنعام‪ ،‬آية ‪.)115 :‬‬ ‫ت َربِّكَ ِ‬ ‫ت َكلِ َم ُ‬ ‫والعقاب قائم بالعدل " َوتَ َّم ْ‬
‫والعدل يتضمن وضعه األشياء موضعها وتنزيلها منازلها‪ ،‬وإن‪99‬ه لم يخص ش‪99‬يئا ً منه‪99‬ا‬
‫إال بمخصص اقتضى ذلك وإنه ال يعاقب من ال يستحق العقوبة وال يمن‪99‬ع من يس‪99‬تحق‬
‫العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقا ً‪.3‬‬
‫وهللا يفعل ما يريد‪ ،‬وحكمه ماض في العبيد‪ ،‬على النهج السديد‪.4‬‬
‫ظلِ ُم َربُّكَ أَ َحدًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪ .)49 :‬وهذا الكم‪99‬ال ع‪99‬دل ف‪99‬إن النفي هن‪99‬ا إلثب‪99‬ات‬ ‫"واَل يَ ْ‬ ‫َ‬
‫‪5‬‬
‫كمال الضد ‪.‬‬
‫ال َذ َّر ٍة" (النساء‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬ ‫ظلِ ُم ِم ْثقَ َ‬‫ـ قال تعالى‪":‬إِ َّن هّللا َ الَيَ ْ‬
‫اس َش ْيئًا" (يونس‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬ ‫ظلِ ُم النَّ َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪":‬إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْ‬
‫ص‪9‬ي ٌد * َو َم‪9‬ا ظَلَ ْمنَ‪99‬اهُ ْم‬ ‫ص‪9‬هُ َعلَ ْي‪9‬كَ ِم ْنهَ‪99‬ا قَ‪99‬آئِ ٌم َو َح ِ‬ ‫ك ِم ْن أَنبَاء ْالقُ َرى نَقُ ُّ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬ذلِ َ‬
‫ون هّللا ِ ِمن َش ‪ْ 9‬ي ٍء لِّ َّما‬
‫َت َع ْنهُ ْم آلِهَتُهُ ُم الَّتِي يَ ‪ْ 9‬د ُعونَ ِمن ُد ِ‬ ‫‪9‬وا أَنفُ َس ‪9‬هُ ْم فَ َم‪99‬ا أَ ْغن ْ‬ ‫َولَـ ِكن ظَلَ ُم‪ْ 9‬‬
‫ب * َو َك َذلِكَ أَ ْخ ُذ َربِّكَ إِ َذا أَ َخ َذ ْالقُ ‪َ 9‬رى َو ِه َي ظَالِ َم‪ 9‬ةٌ‬ ‫َجاء أَ ْم ُر َربِّكَ َو َما زَا ُدوهُ ْم َغ ْي َر تَ ْتبِي ٍ‬
‫إِ َّن أَ ْخ َذهُ أَلِي ٌم َش ِدي ٌد" (هود‪ ،‬آية ‪ 100 :‬ـ ‪.)102‬‬
‫وفي الصحيحين عن أبي موسى األشعري‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪:‬‬
‫ك‬ ‫إن هللا ليملي للظالم‪ ،‬حتى إذا أخذه لم يفلته‪ ،‬ثم قرأ النبي صلى هللا عليه وسلم‪َ ":‬و َك ‪َ 9‬ذلِ َ‬
‫أَ ْخ ُذ َربِّكَ إِ َذا أَ َخ َذ ْالقُ َرى َو ِه َي ظَالِ َمةٌ إِ َّن أَ ْخ َذهُ أَلِي ٌم َش ِدي ٌد" (هود‪ ،‬آية ‪.)102 :‬‬
‫تعالى‪":‬وتِ ْلكَ ْالقُ َرى أَ ْهلَ ْكنَاهُ ْم لَ َّما ظَلَ ُموا َو َج َع ْلنَا لِ َم ْهلِ ِك ِهم َّموْ ِعدًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫‪.)59‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ـ وقال تعالى في شأن أصحاب السبت‪":‬فَلَ َّما نَسُوا َما ُذ ِّكرُوا بِ ِه أ َ‬
‫نج ْينَا ال ِذينَ يَ ْنهَوْ نَ ع َِن‬
‫وا يَ ْف ُسقُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪.)165 :‬‬ ‫س بِ َما َكانُ ْ‬‫ب بَئِي ٍ‬ ‫وا بِ َع َذا ٍ‬‫السُّو ِء َوأَ َخ ْذنَا الَّ ِذينَ ظَلَ ُم ْ‬
‫ـ فاهلل ال يظلم الناس شيئا ً في دنياهم وإنما يؤاخذهم بظلمهم‪ ،‬وال يظلمهم في اآلخرة‪.6‬‬
‫ظلَ ُم نَ ْفسٌ َش ‪ْ 9‬يئًا َواَل تُجْ ‪َ 9‬زوْ نَ إِاَّل َم‪99‬ا ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ‪99‬ونَ " (يس‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ـ قال تعالى‪":‬فَ ْاليَوْ َ‪9‬م اَل تُ ْ‬
‫‪.)54‬‬
‫ـ وقال تعالى في آخر آية نزلت قبل موت النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم بتس‪99‬ع لي‪99‬ال‪":‬ثُ َّم‬
‫ُظلَ ُمونَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪.)281 :‬‬ ‫ت َوهُ ْم الَ ي ْ‬ ‫س َّما َك َسبَ ْ‬ ‫تُ َوفَّى ُكلُّ نَ ْف ٍ‬

‫‪ 1‬جهود اإلمام ابن القيم الجوزية في تقرير االسماء والصفات (‪.)1292 /2‬‬
‫‪2‬الجزاء من جنس العمل (‪.)34 /1‬‬
‫‪3‬مدارج السالكين (‪ 457 /3‬ـ ‪.)460‬‬
‫‪4‬الجزاء من جنس العمل (‪.)34 /1‬‬
‫‪5‬الجزاء من جنس العمل (‪.)34 /1‬‬
‫‪6‬المصدر نفسه (‪.)35 /1‬‬

‫‪151‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فيما يرويه عن هللا ـ تبارك وتع‪9‬الى ـ أن‪99‬ه ق‪9‬ال‪ :‬ي‪9‬ا عب‪99‬ادي‬
‫إني حرمت الظلم على نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم محرماً‪ ،‬فال تظالموا‪.1‬‬
‫وعلى مستوى المعامالت بين الناس جاء األمر اإللهي بتحري العدل‪ ،‬قال تعالى‪":‬إِ َّن‬
‫هّللا َ يَأْ ُم ُر بِ ْال َع ْد ِل َو ِ‬
‫اإلحْ َسا ِن َوإِيتَاء ِذي ْالقُرْ بَى َويَ ْنهَى ع َِن ْالفَحْ َشاء َو ْال ُمن َك ِر َو ْالبَ ْغ ِي"‪9‬‬
‫(النحل‪ ،‬آية ‪.)90 :‬‬
‫فالنصوص التي ذكرت في القرآن والسنة للداللة على تحريم الظلم وتنزيه هللا عنه‪،‬‬
‫تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه‪ ،‬ووضعه العقوبة والثواب مواضعها‪.2‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫والعدل من أوصافه في فعله‬
‫ومقاله والحكم في الميزان‬
‫فعلى الصراط المستقيم إلهنا‬
‫قوال وفعالً ذاك في القرآن‬
‫‪3‬‬

‫ومن أكبر مظاهر عدل هللا في خلقه في الدنيا واآلخرة سنة الجزاء بجنس العمل وقد‬
‫تكاثرت النصوص لهذا المعنى‪ ،‬وهذا شرع هللا وقدره ووحيه وثوابه وعقابه‪ ،‬كله قائم‬
‫بهذا األصل‪.4‬‬
‫أوالً‪ :‬األصل في العقاب المماثلة‪:‬‬
‫إن الوعيد والعقاب اإللهي مبني على العدل اإللهي‪ ،‬بحيث تكون العقوبة مكافئة للذنب‬
‫بقوله‪":‬و َجزَ اء َسيِّئَ ٍة َسيِّئَةٌ ِّم ْثلُهَا" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬ ‫َ‬ ‫الواقع ولذلك يصرّح القرآن‬
‫‪9‬ل َم‪99‬ا ا ْعتَ‪9‬دَى‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫صاصٌ فَ َم ِن ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم فَا ْعتَ‪ُ 9‬دوا َعلَ ْي‪ِ 9‬ه بِ ِمث‪ِ 9‬‬ ‫تعالى‪":‬و ْال ُح ُر َم ُ‬
‫ات قِ َ‬ ‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫َعلَ ْي ُك ْم" (البقرة‪ ،‬آية ‪.)194 :‬‬
‫ُوا بِ ِم ْث ِل َما ُع‪99‬وقِ ْبتُم بِ‪ِ 9‬ه" (النح‪99‬ل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)126 :‬ب‪99‬ل ق‪99‬د‬ ‫تعالى‪":‬وإِ ْن عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِب ْ‬
‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫ت‬ ‫ص‪9‬يبَ ٍة فَبِ َم‪99‬ا َك َس‪9‬بَ ْ‬ ‫ص‪9‬ابَ ُكم ِّمن ُّم ِ‬ ‫‪9‬بحانه‪":‬و َم‪99‬ا أَ َ‬
‫َ‬ ‫يتجاوز هللا بمشيئته عمن أساء يق‪99‬ول س‪9‬‬
‫ير" (الشورى‪ ،‬آية ‪ ،)30 :‬ويحرّض هللا الناس على الص‪99‬فح عمن‬ ‫أَ ْي ِدي ُك ْم َويَ ْعفُو عَن َكثِ ٍ‬
‫ظلمهم أو أساء إليهم‪ ،‬فه‪99‬و يس‪9‬رّع لهم القص‪99‬اص والمعامل‪99‬ة بالمث‪99‬ل ولكن‪99‬ه في ال‪99‬وقت‬
‫يدعو إلى العفو والصفح ويوكل أجر فاعلهما عليه س‪9‬بحانه‪ ،‬زي‪9‬ادة في اإلغ‪9‬راء وحث‪9‬ا ً‬
‫ص‪9‬لَ َح فَ‪99‬أَجْ ُرهُ َعلَى‬ ‫على التسامح‪ ،‬فيقول تعالى‪َ ":‬و َجزَ اء َس‪9‬يِّئَ ٍة َس‪9‬يِّئَةٌ ِّم ْثلُهَ‪99‬ا فَ َم ْن َعفَ‪99‬ا َوأَ ْ‬
‫هَّللا ِ" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬
‫ُوا بِ ِم ْث ‪ِ 9‬ل َم‪99‬ا ُع‪99‬وقِ ْبتُم بِ ‪ِ 9‬ه َولَئِن َ‬
‫ص ‪9‬بَرْ تُ ْم لَهُ ‪َ 9‬و خَ ْي ‪ٌ 9‬ر‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬وإِ ْن َع‪99‬اقَ ْبتُ ْم فَ َع‪99‬اقِب ْ‬
‫لِّلصَّابِرينَ " (النحل‪ ،‬آية ‪.)126 :‬‬

‫‪1‬مسلم‪ ،‬ك البر والصلة رقم ‪.2577‬‬


‫‪ 2‬القضاء والقدر د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.287‬‬
‫‪3‬الجزاء من جنس العمل (‪.)33 /1‬‬
‫‪4‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.269‬‬

‫‪152‬‬
‫والحاصل أن عقاب هللا العبد يكون على قدر ذنب‪99‬ه وم‪99‬ا أرتكب‪99‬ه‪ ،‬ول‪99‬ذلك ألمحت بعض‬
‫اآليات بأن جزاء العقوبة هو ما كان يقترفه العبد‪ ،‬قال تعالى‪":‬هَلْ يُجْ َزوْ نَ إِالَّ َما َكانُ ْ‬
‫وا‬
‫يَ ْع َملُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪.)147 :‬‬
‫وبلفظ الخطاب ورد قوله تعالى‪":‬إِنَّ َما تُجْ َزوْ نَ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (النمل‪ ،‬آية ‪.)90 :‬‬
‫وقوله‪":‬و َماتُجْ زَ وْ نَ إِاَّل َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (الصافات‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬ ‫َ‬ ‫ـ‬
‫وأما في جانب الوعد والثواب فيعامل هللا عباده بالفضل والزيادة وإن ك‪99‬انت من جنس‬
‫‪9‬الى‪":‬والَّ ِذينَ ا ْهتَ‪9‬دَوْ ا زَا َدهُ ْم هُ‪9‬دًى َوآتَ‪99‬اهُ ْم تَ ْق‪99‬واهُ ْم"‬‫َ‬ ‫العم‪99‬ل ال‪99‬ذي فعل‪99‬ه العب‪99‬د‪ ،‬يق‪99‬ول تع‪9‬‬
‫(محمد‪ ،‬آية ‪.)17 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪":‬لَئِن َش َكرْ تُ ْم ألَ ِزي َدنَّ ُك ْم" (إبراهيم‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬
‫ت فَيُ‪َ 9‬وفِّي ِه ْم أُجُ‪9‬و َرهُ ْم َويَزي‪ُ 9‬دهُم ِّمن‬ ‫‪9‬وا َّ‬
‫الص‪9‬الِ َحا ِ‬ ‫‪9‬وا َو َع ِملُ ْ‬
‫ـ وق‪9‬ال تع‪9‬الى‪":‬فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫فَضْ لِ ِه" (النساء ‪ ،‬آي ‪.)173 :‬‬
‫والقرآن الكريم حافل بالتطبيقات المتنوعة على سنة الج‪99‬زاء بجنس العم‪99‬ل‪ ،‬ولكن قب‪99‬ل‬
‫الشروع في هذه النماذج نعرض لآليات القرآنية التي تعد حق‪99‬ائق أص‪99‬يلة له‪99‬ذه الس‪99‬نة‪،‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ " :‬يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ َما بَ ْغيُ ُك ْم َعلَى أَنفُ ِس ُكم"(يونس‪ ، 9‬آية ‪.)23 :‬‬
‫فالمراد بالبغي هنا ما كان على النفس خاصة بإيرادها م‪99‬وارد التهلك‪99‬ة وال‪99‬زج به‪99‬ا في‬
‫ركب الندامة الخاسر بالمعصية‪ ،‬وقد يراد به ـ أيضا ً ـ البغي على الناس‪ ،‬فالن‪99‬اس نفس‬
‫واحدة‪ ،‬على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلق‪99‬ون في أنفس‪99‬هم العاقب‪99‬ة والخط‪99‬اب‬
‫بـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ " يفيد العموم فيدخل فيه المخاطبون وغيرهم‪ ،‬وفي اآلية ذم للبغي في‬
‫أوجز لفظ‪ ،‬ومعنى " َعلَى أَنفُ ِس ُكم" أي وبال البغي عليكم وال يجنى ثمرته إال أنتم‪.1‬‬
‫وق‪99‬د دلت اآلي‪99‬ة على أن البغي يج‪99‬ازى ص‪99‬احبه علي‪99‬ه في ال‪99‬دنيا واآلخ‪99‬رة‪ ،2‬فأم‪99‬ا في‬
‫اآلخرة فهو ما دل عليه إنزال أهله الرجوع إلى هللا‪ ،‬وإنباؤه إي‪99‬اهم بم‪99‬ا ك‪99‬انوا يعملون‪99‬ه‬
‫وذل‪99‬ك في قول‪99‬ه تع‪99‬الى في عج‪99‬ز اآلي‪99‬ة نفس‪99‬ها‪" :‬ثُ َّم إِلَينَ‪99‬ا َم‪99‬رْ ِج ُع ُك ْم فَنُنَبِّئُ ُكم بِ َم‪99‬ا ُكنتُ ْم‬
‫تَ ْع َملُونَ "‪ ،‬والمراد باإلنذار هنا الزمه وهو الجزاء‪ ،‬وأما ال‪99‬دنيا فالش‪99‬اهد ال‪99‬ذي ذكرن‪99‬اه‬
‫"إِنَّ َما بَ ْغيُ ُك ْم َعلَى أَنفُ ِس ُكم" ويؤيده قول النبي صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬م‪99‬ا من ذنب يعج‪99‬ل‬
‫هللا لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في اآلخرة مثل البغي وقطيعة الرحم‪.3‬‬
‫يقول محمد رشيد رضا‪ :‬فوج‪99‬ود األع‪99‬داء والمبغض‪99‬ين ض‪99‬رب من ض‪99‬روب العقوب‪99‬ة‪،‬‬
‫وإن لم يس‪99‬تطيعوا إي‪99‬ذاء الب‪99‬اغي لعج‪99‬ز‪ ،‬فكي‪99‬ف إذا ق‪99‬دروا وفعل‪99‬وا الغ‪99‬الب؟ وأم‪99‬ا بغي‬
‫الملوك والحكام على األقوام والشعوب ف‪99‬أهون عقوبت‪99‬ه ع‪99‬داوتهم والطعن عليهم‪ ،‬وق‪99‬د‬
‫تفضي إلى إغتيال أشخاصهم‪ ،‬أو إلى شل عروشهم والقضاء على حكمهم‪ ،‬إم‪99‬ا بث‪99‬ورة‬
‫من الشعب تستبدل بها عرشا ً بعرض‪ ،‬أو نوعا ً من الكم بنوع آخر‪ ،‬وإما بإغ‪99‬ارة دول‪99‬ة‬
‫قوية على الدولة التي يضعفها البغي‪ ،‬تسلبها إس‪99‬تقاللها وتس‪99‬تولي على بالدها‪ .4‬وتل‪99‬ك‬
‫هي عدالة هللا في تحقيق قانونه في الخلق وجزائهم بجنس ما يعملون‪.5‬‬

‫‪1‬تفسير البحر المحيط (‪ ،)140 / 5‬السنن اإللهية مجدي عاشور صـ‪.227‬‬


‫‪2‬السنن اإللهية مجدي عاشور صـ‪.227‬‬
‫‪3‬أخرجه أحمد (‪ ،)38 / 5‬صحيح‪.‬‬
‫‪4‬تفسير المنار (‪.)344 / 11‬‬
‫‪5‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.228‬‬

‫‪153‬‬
‫ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِ‪ِ 9‬ه‬ ‫ق ْال َم ْك‪ُ 9‬ر َّ‬
‫الس‪9‬يِّ ُ‬ ‫ض َو َم ْك َر ال َّسي ِِّئ َواَل يَ ِحي‪ُ 9‬‬ ‫‪ 2‬ـ قال تعالى‪" :‬ا ْستِ ْكبَارًا ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ت هَّللا ِ تَحْ‪ِ 9‬وياًل "‬ ‫ت هَّللا ِ تَ ْب‪ِ 9‬دياًل َولَن ت َِج‪َ 9‬د لِ ُس‪9‬نَّ ِ‬ ‫فَهَلْ يَنظُرُونَ إِاَّل ُسنَّتَ اأْل َ َّولِينَ فَلَن تَ ِج َد لِ ُسنَّ ِ‬
‫(فاطر ‪ ،‬آية ‪.)43 :‬‬
‫ض" إي استكبروا عن اتباع آيات هللا " َو َم ْك َر ال َّسي ِِّئ"‪ ،‬أي‪ :‬ومكروا‬ ‫"ا ْستِ ْكبَا ًر افِي اأْل َرْ ِ‬
‫بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل هللا‪.‬‬
‫ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِ ِه"‪ ،‬أي‪ :‬وم‪99‬ا يع‪99‬ود وب‪99‬ال ذل‪99‬ك إال عليهم أنفس‪99‬هم دون‬ ‫ق ْال َم ْك ُر ال َّسيِّ ُ‬‫"واَل يَ ِحي ُ‬
‫َ‬
‫‪1‬‬
‫غيرهم ‪.‬‬
‫ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِ ِه"‬
‫ق ْال َم ْك ُر ال َّسيِّ ُ‬ ‫فمن سنن هللا ونواميسه في خلقه "اَل يَ ِحي ُ‬
‫ولهذا قيل‪ :‬وما ظالم إال سيُبلى بظالم‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫لكل شئ آفة من جنسه‬
‫‪2‬‬
‫حتى الحديد سطا عليه ال ُمبر ُد‬
‫فما يصيب مكرهم السيء أحداً إال أنفس‪99‬هم وه‪99‬و يحي‪99‬ط بهم ويحي‪99‬ق ويحب‪99‬ط أعم‪99‬الهم‪،‬‬
‫وإذا كان األمر كذلك فلماذا ينتظرون إذن؟‬
‫إنهم ال ينتظ‪99‬رون إال أن يح‪99‬ل بهم م‪99‬ا ح‪99‬ل بالمك‪99‬ذبين من قبلهم وه‪99‬و مع‪99‬روف لهم‬
‫ت هَّللا ِ تَبْ‪ِ 9‬دياًل َولَن ت َِج‪َ 9‬د‬ ‫وتمضي سنة هللا الثابتة في طريقها الذي ال يحيد‪" 3‬فَلَن تَ ِج َد لِ ُسنَّ ِ‬
‫ت هَّللا ِ تَحْ ِوياًل " (فاطر ‪ ،‬آية ‪.)43 :‬‬ ‫لِ ُسنَّ ِ‬
‫ث َعلَى نَ ْف ِس ِه" (الفتح ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬ ‫ث فَإِنَّ َما يَن ُك ُ‬‫‪ 3‬ـ قال تعالى‪" :‬فَ َمن نَّ َك َ‬
‫ما من بيعة بين هللا وعبد من عباده إال والعبد فيه‪99‬ا ه‪99‬و ال‪99‬رابح من فض‪99‬ل هللا وهللا ه‪99‬و‬
‫الغني عن العالمين‪ ،‬وبالمقابل فإن العبد هو الخاسر حتى ينكث وينقض عهده م‪99‬ع هللا‪،‬‬
‫فيتع‪999‬رض لغض‪999‬به وعقاب‪999‬ه على النكث ال‪999‬ذي يكره‪999‬ه ويمقت‪999‬ه‪ ،‬فاهلل يحب الوف‪999‬اء‬
‫واألوفياء‪.4‬‬
‫وقال محم‪99‬د بن كعب الق‪99‬رظي‪ :‬ثالث من فعلهن لم ينجح ح‪99‬تى ي‪99‬نزل ب‪99‬ه‪ :‬من مك‪99‬ر أو‬
‫ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِ ‪ِ 9‬ه" "إِنَّ َم‪99‬ا‬‫ق ْال َم ْك ُر ال َّسيِّ ُ‬ ‫بغي‪ ،‬أو نكث‪ ،‬وتصديقها في كتاب هللا تعالى‪" :‬اَل يَ ِحي ُ‬
‫‪5‬‬
‫ث َعلَى نَ ْف ِس ِه"‬ ‫بَ ْغيُ ُك ْم َعلَى أَنفُ ِس ُكم" "فَ َمن نَّ َك َ‬
‫ث فَإِنَّ َما يَن ُك ُ‬

‫ثانياً‪ :‬الجزاء بجنس العمل في الدنيا‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ االستهزاء بالمنافقين والسخرية منهم في الحياة الدنيا‪:‬‬
‫ْ‬ ‫وا آ َمنَّا َوإِ َذا َخلَوْ ْا إِلَى َشيَ ِ‬
‫اطينِ ِه ْم قَالُوا إِنَّا‬ ‫وا قَالُ ْ‬
‫وا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫"وإِ َذا لَقُ ْ‬
‫ـ قال تعالى‪َ :‬‬
‫َم َع ْك ْم إِنَّ َما نَحْ ُن ُم ْستَه ِْز ُؤونَ {‪ }14‬هّللا ُ يَ ْس‪9‬تَه ِْزى ُء بِ ِه ْم َويَ ُم‪ُّ 9‬دهُ ْم فِي طُ ْغيَ‪99‬انِ ِه ْم يَ ْع َمهُ‪99‬ونَ "‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪ 14 :‬ـ ‪.)15‬‬

‫‪1‬الجزاء من جنس العمل (‪.)84 / 1‬‬


‫‪2‬التحرير والتنوير (‪.)235 / 22‬‬
‫‪3‬في ظالل القرآن (‪.)2949 / 5‬‬
‫‪4‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.228‬‬
‫‪5‬السنن اإلألهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪..229‬‬

‫‪154‬‬
‫‪9‬ال ُمن َك ِر َويَ ْنهَ‪99‬وْ نَ َع ِن‬ ‫ْض يَ‪99‬أْ ُمرُونَ بِ‪ْ 9‬‬ ‫ْض ‪9‬هُم ِّمن بَع ٍ‬ ‫ات بَع ُ‬ ‫"ال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ‬ ‫ـ قال تعالى‪ْ :‬‬
‫اسقُونَ " (التوبة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ُوا هّللا َ فَنَ ِسيَهُ ْم إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ هُ ُم ْالفَ ِ‬
‫ُوف َويَ ْقبِضُونَ أَ ْي ِديَهُ ْم نَس ْ‬ ‫ْال َم ْعر ِ‬
‫‪.)67‬‬
‫ت َوالَّ ِذينَ الَ يَ ِج‪ُ 9‬دونَ‬ ‫ص َدقَا ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪" :‬الَّ ِذينَ يَ ْل ِم ُزونَ ْال ُمطَّ ِّو ِعينَ ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ فِي ال َّ‬
‫إِالَّ ُج ْه َدهُ ْم فَيَسْخَ رُونَ ِم ْنهُ ْم" (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)79 :‬‬
‫هذا من باب المقابلة على سوء ضيعهم واستهزائهم ب‪99‬المؤمنين‪ ،‬ألن الج‪99‬زاء من جنس‬
‫العمل‪ ،‬فعاملهم معاملة من يسخر منهم إنتصاراً للمؤم‪99‬نين في ال‪99‬دنيا‪ ،‬وأع‪99‬د للمن‪99‬افقين‬
‫في اآلخرة عذابا ً ألياً‪ ،‬ألن الجزاء من جنس العمل‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ تسليط الظالم على مثله‪:‬‬
‫وا يَ ْك ِس ‪9‬بُونَ " (األنع‪99‬ام ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ْض الظَّالِ ِمينَ بَ ْعضًا بِ َما َك‪99‬انُ ْ‬ ‫ك نُ َولِّي بَع َ‬ ‫"و َك َذلِ َ‬
‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫‪.)129‬‬
‫ون هّللا ِ ِم ْن أَوْ لِيَاء‬ ‫وا فَتَ َم َّس ُك ُم النَّا ُر َو َما لَ ُكم ِّمن ُد ِ‬ ‫وا إِلَى الَّ ِذينَ ظَلَ ُم ْ‬ ‫"والَتَرْ َكنُ ْ‬ ‫وفال تعالى‪َ :‬‬
‫صرُونَ " (هود ‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬ ‫ثُ َّم الَ تُن َ‬
‫ْض‪9‬هُ ْم أَوْ لِيَ‪99‬اء‬ ‫ص‪9‬ا َرى أَوْ لِيَ‪99‬اء بَع ُ‬ ‫وا ْاليَهُ‪99‬و َد َوالنَّ َ‬ ‫وا الَ تَتَّ ِخ‪ُ 9‬ذ ْ‬‫وقال تعالى‪" :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫َ‪99‬ولَّهُم ِّمن ُك ْم فَإِنَّهُ ِم ْنهُ ْم إِ َّن هّللا َ الَ يَهْ‪ِ 99‬دي ْالقَ‪99‬وْ َم الظَّالِ ِمينَ " (المائ‪99‬دة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ْض َو َمن يَت َ‬ ‫بَع ٍ‬
‫‪.)51‬‬
‫ْض‪9‬ا"‪ :‬ت‪99‬دل اآلي‪99‬ة على أن الرعي‪99‬ة م‪99‬تى‬ ‫ْض الظَّالِ ِمينَ بَع ً‬ ‫"و َك‪َ 9‬ذلِكَ نُ‪َ 9‬ولِّي بَع َ‬ ‫وفي قول‪99‬ه‪َ :‬‬
‫كانوا ظالمين فاهلل تعالى يسلط عليهم ظالم ‪9‬ا ً مثلهم‪ ،‬ف‪99‬إن أرادوا أن يتخلص‪99‬وا من ذل‪99‬ك‬
‫األمير الظالم فليتركوا الظلم‪.2‬‬
‫‪ 3‬ـ استئصال هللا لمن أراد إيذاء رسله وأوليائه‪:‬‬
‫ُ‬
‫ت ُك‪9‬لُّ أ َّم ٍة بِ َر ُس‪9‬ولِ ِه ْم‬ ‫‪9‬وح َواأْل َحْ‪َ 9‬زابُ ِمن بَعْ‪ِ 9‬د ِه ْم َوهَ َّم ْ‬ ‫ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ " :‬ك‪َّ 9‬ذبَ ْ‬
‫ت قَ ْبلَهُ ْم قَ‪9‬وْ ُم نُ ٍ‬
‫ب" (غافر ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ق فَأَخَ ْذتُهُ ْم فَ َك ْيفَ َكانَ ِعقَا ِ‬ ‫اط ِل لِيُ ْد ِحضُوا بِ ِه ْال َح َّ‬ ‫لِيَأْ ُخ ُذوهُ َو َجا َدلُوا بِ ْالبَ ِ‬
‫‪.)5‬‬
‫وقال تعالى عن ظلم فرعون لبني إسرائيل ومحاولته إخراجهم من أرضهم‪" :‬فَأ َ َرا َد أَن‬
‫اس ‪ُ 9‬كنُ ْ‬
‫وا‬ ‫ض فَأ َ ْغ َر ْقنَاهُ َو َمن َّم َعهُ َج ِميعًا * َوقُ ْلنَا ِمن بَ ْع ِد ِه لِبَنِي إِس َْرائِي َل ْ‬ ‫يَ ْستَفِ َّزهُم ِّمنَ األَرْ ِ‬
‫اآلخ َر ِة ِج ْئنَا بِ ُك ْم لَفِيفًا" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪ 103 :‬ـ ‪.)104‬‬ ‫ض فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد ِ‬ ‫األَرْ َ‬
‫ُس‪9‬لِ ِه ْم‬ ‫ويقرر القرآن الكريم هذه السنة في آيات أخر قال تعالى‪َ " :‬وقَ‪99‬ا َل الَّ ِذينَ َكفَ‪9‬ر ْ‬
‫ُوا لِر ُ‬
‫ض‪99‬نَآ أَوْ لَتَعُ‪99‬و ُد َّن فِي ِملَّتِنَ‪99‬ا فَ‪99‬أَوْ َحى إِلَ ْي ِه ْم َربُّهُ ْم لَنُ ْهلِ َك َّن الظَّالِ ِمينَ *‬ ‫لَنُ ْخ ِر َجنَّـ ُكم ِّم ْن أَرْ ِ‬
‫ض ِمن بَ ْع ِد ِه ْم" (إبراهيم ‪ ،‬آية ‪ 13 :‬ـ ‪.)14‬‬ ‫َولَنُ ْس ِكنَنَّـ ُك ُم األَرْ َ‬
‫وقال تعالى‪" :‬لَئِن لَّ ْم يَنتَ ِه ْال ُمنَافِقُونَ َوالَّ ِذينَ فِي قُلُ‪99‬وبِ ِهم َّم َرضٌ َو ْال ُمرْ ِجفُ‪99‬ونَ فِي ْال َم ِدينَ ‪ِ 9‬ة‬
‫ك فِيهَا إِاَّل قَلِياًل * َم ْلعُونِينَ أَ ْينَ َما ثُقِفُ‪99‬وا أُ ِخ‪ُ 9‬ذوا َوقُتِّلُ‪99‬وا تَ ْقتِياًل‬ ‫اورُونَ َ‬ ‫لَنُ ْغ ِريَنَّكَ بِ ِه ْم ثُ َّم اَل يُ َج ِ‬
‫* ُسنَّةَ هَّللا ِ فِي الَّ ِذينَ َخلَوْ ا ِمن قَ ْب ُل َولَن ت َِج‪َ 9‬د لِ ُس‪9‬نَّ ِة هَّللا ِ تَ ْب‪ِ 9‬دياًل " (األح‪99‬زاب ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 60 :‬ـ‬
‫‪.)62‬‬
‫‪ 4‬ـ نصر هللا منوط بنصرتهـ للدين والحق‪:‬‬
‫َب هَّللا ُ أَل َ ْغلِبَ َّن أَنَا َو ُر ُسلِي" (المجادلة ‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬ ‫قال تعالى‪َ " :‬كت َ‬

‫‪1‬السنن اإللهية د‪.‬مجدي عاشور صـ‪.229‬‬


‫‪2‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.234‬‬

‫‪155‬‬
‫ُس‪9‬لَنَا َوالَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا فِي ْال َحيَ‪99‬ا ِة ال‪ُّ 9‬د ْنيَا َويَ‪99‬وْ َم يَقُ‪99‬و ُم اأْل َ ْش‪9‬هَا ُد"‬ ‫َنص‪ُ 9‬ر ر ُ‬ ‫وقال تع‪9‬الى‪" :‬إِنَّا لَن ُ‬
‫(غافر ‪ ،‬آية ‪.)51 :‬‬
‫"و َكانَ َحقّا َعلَ ْينَا نَصْ ُر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ " (الروم ‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬ ‫ً‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫وهذا النص‪99‬ر اإللهي مش‪99‬روط باإليم‪99‬ان ونص‪99‬رة دين هللا‪ ،‬وفي ذل‪99‬ك يق‪99‬ول هللا تع‪99‬الى‪:‬‬
‫ِّت أَ ْقدَا َم ُك ْم" (محمد ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)7 :‬وق‪99‬ال‬ ‫صرُوا هَّللا َ يَنصُرْ ُك ْم َويُثَب ْ‬ ‫"يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِن تَن ُ‬
‫ص ُرهُ" (الحج ‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬ ‫تعالى‪َ " :‬ولَيَنص َُر َّن هَّللا ُ َمن يَن ُ‬
‫‪ 5‬ـ سلب النعمة عمن منعها مستحقها‪:‬‬
‫يبين القرآن الكريم أن عقاب هللا بالمرصاد لمن منع أحداً شيئا ً يستحقه وأن سنة هللا في‬
‫هذا أن ينقلب مقصود المانع عليه ويعامله هللا بنقيض مقصوده‪ ،‬فيأخذ هللا م‪99‬ا بين يدي‪99‬ه‬
‫من نعمة ويسلبه ما كان سببا ً في التجني على خلق‪99‬ه ويترك‪99‬ه في رم‪99‬اد‪ ،‬والش‪99‬اهد على‬
‫قص‪9‬ها علين‪99‬ا الق‪99‬رآن لالعتب‪99‬ار والعظ‪99‬ة‪ ،‬ق‪99‬ال‬ ‫ذلك جليا ً في قصة أصحاب الجن‪99‬ة ال‪99‬تي ّ‬
‫ص‪9‬بِ ِحينَ * َواَل‬ ‫ص ‪ِ 9‬ر ُمنَّهَا ُم ْ‬‫اب ْال َجنَّ ِة إِ ْذ أَ ْق َس ‪ُ 9‬موا لَيَ ْ‬ ‫ص ‪َ 9‬ح َ‬ ‫تعالى‪" :‬إِنَّا بَلَوْ نَاهُ ْم َك َم‪99‬ا بَلَوْ نَ‪99‬ا أَ ْ‬
‫َّر ِيم * فَتَنَ‪99‬ادَوا‬ ‫ت َكالص ِ‬ ‫ف ِّمن َّربِّكَ َوهُ ْم نَائِ ُمونَ * فَأَصْ بَ َح ْ‬ ‫يَ ْست َْثنُونَ * فَطَافَ َعلَ ْيهَا طَائِ ٌ‬
‫ار ِمينَ * فَ‪9‬انطَلَقُوا َوهُ ْم يَتَخَ‪ 9‬افَتُونَ * أَن‬ ‫ص‪ِ 9‬‬ ‫ُمصْ بِ ِحينَ * أَ ِن ا ْغ ُدوا َعلَى َحرْ ثِ ُك ْم إِن ُكنتُ ْم َ‬
‫ين * َو َغ‪ 9‬دَوْ ا َعلَى َح‪99‬رْ ٍد قَ‪99‬ا ِد ِرينَ * فَلَ َّما َرأَوْ هَ اقَ‪99‬الُوا إِنَّا‬ ‫اَّل يَ ‪ْ 9‬د ُخلَنَّهَا ْاليَ‪99‬وْ َم َعلَ ْي ُكم ِّم ْس ‪ِ 9‬ك ٌ‬
‫ضالُّونَ * بَلْ نَحْ ُن َمحْ رُو ُمونَ " (القلم ‪ 17 ،‬ـ ‪.)27‬‬ ‫لَ َ‬
‫فأصحاب الجنة لم‪99‬ا عزم‪99‬وا على من‪99‬ع الفق‪99‬ير حق‪99‬ه ال‪99‬ذي كفل‪99‬ه هللا ل‪99‬ه عوقب‪99‬وا بنقيض‬
‫قصدهم‪ ،‬فأذهب هللا ما بأيديهم بالكلية‪ ،‬رأس المال والربح والصدقة‪ ،‬فلم يبق لهم ش‪99‬ئ‬
‫ثم بين هللا أن حكمه هذا سنة جارية‪ ،‬في خلقه وقضاء ع‪99‬ام لمن وق‪99‬ع في مثل‪99‬ه " َك‪َ 9‬ذلِكَ‬
‫ْال َع َذابُ " (القلم ‪ ،‬آية ‪ )33 :‬أي‪ :‬هكذا عذاب من خالف أمر هللا وبخل بما آتاه هللا وأنعم‬
‫به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات‪.1‬‬
‫وبالمقابل فإن هللا قد ضمن لمن تعدى بخيره على غيره أن يرزق‪99‬ه من جنس م‪99‬ا أنفق‪99‬ه‬
‫‪9‬و‬‫ويزيده فيه سواء في الدنيا أو في اآلخرة‪ ،‬فقال‪َ " :‬و َما أَنفَ ْقتُم ِّمن َش ْي ٍء فَهُ َو ي ُْخلِفُ ‪9‬هُ َوهُ‪َ 9‬‬
‫َّازقِينَ " (سبأ ‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬ ‫خَ ْي ُر الر ِ‬
‫ظلَ ُمونَ " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)272 :‬‬ ‫ف إِلَ ْي ُك ْم َوأَنتُ ْم الَ تُ ْ‬‫وا ِم ْن َخي ٍْر يُ َو َّ‬ ‫"و َما تُنفِقُ ْ‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫‪2‬‬
‫وفي الحديث القدسي‪ :‬أنفق أنفق عليك ‪.‬‬
‫سر على عباده‪:‬‬ ‫‪ 6‬ـ تيسير هللا لمن ي َّ‬
‫قال تعالى‪" :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َذا قِي َل لَ ُك ْم تَفَ َّسحُوا فِي ْال َم َجالِ ِ‬
‫س فَا ْف َسحُوا يَ ْف َس ِ‬
‫ح‬
‫‪999‬ع هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ‪999‬وا ِمن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُ‪999‬وا ْال ِع ْل َم‬
‫انش‪ُ 999‬زوا يَرْ فَ ِ‬ ‫انش‪ُ 999‬زوا فَ ُ‬ ‫ي‪999‬ل ُ‬ ‫هَّللا ُ لَ ُك ْم َوإِ َذا قِ َ‬
‫ت" (المجادلة ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬ ‫د ََر َجا ٍ‬
‫ح ُ لَ ُك ْم" مطل‪99‬ق في ك‪99‬ل م‪99‬ا يطلب الن‪99‬اس الفس‪99‬حة في‪99‬ه من المك‪99‬ان‬ ‫هَّللا‬ ‫وفي قول‪99‬ه "يَ ْف َس ‪ِ 9‬‬
‫والرزق والصدر والقبر والجنة وأعلم أن ه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة دلت على أن ك‪99‬ل من وس‪99‬ع على‬
‫عباد هللا أبواب الخير والراحة‪.‬‬
‫وس‪99‬ع هللا علي‪99‬ه خ‪99‬يرات ال‪99‬دنيا واآلخ‪99‬رة وال ينبغي للعاق‪99‬ل أن يقي‪99‬د اآلي‪99‬ة بالتفس‪99‬ح في‬
‫المجلس‪ ،‬بل المراد منه أيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه‪.3‬‬

‫‪1‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.241‬‬


‫‪2‬مسلم (‪.)690 / 2‬‬
‫‪3‬السنن اإللهية مجدي عاشور صـ ‪.243‬‬

‫‪156‬‬
‫ويؤكد هذا الموضع من الشاهد قول النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬من ف‪99‬رج عن مس‪99‬لم‬
‫يس‪9‬ر على معس‪99‬ر‬ ‫كربة من كرب الدنيا فرّج هللا عنه كربة من كرب يوم القيامة‪ ،‬ومن ّ‬
‫يسّر هللا عليه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ومن ستر مسلما ً ستره هللا في الدنيا واآلخرة وهللا في‬
‫عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‪.1‬‬
‫‪9‬ع هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا ِمن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُ‪99‬وا‬ ‫انش ‪ُ 9‬زوا فَ ُ‬
‫انش ‪ُ 9‬زوا يَرْ فَ‪ِ 9‬‬ ‫يل ُ‬ ‫تعالى‪":‬وإِ َذا‪ 9‬قِ َ‬
‫َ‬ ‫وفي قوله‬
‫ت" أي‪ :‬إذا قيل‪ :‬ارتفعوا وإنما يراد بذلك وإذا قيل قوموا إلى قت‪99‬ال ع‪99‬دو أو‬ ‫ْال ِع ْل َم َد َر َجا ٍ‬
‫صالة أو عمل خير أو تفرقوا عن رسول هللا فقوموا‪ ،2‬فقد جعل جزاء امتثال أم‪99‬ره في‬
‫تلك اآلية أن رفع درجة أص‪99‬حابها بالنص‪99‬ر وحس‪99‬ن ال‪99‬ذكر في ال‪99‬دنيا وإي‪99‬وائهم غ‪99‬رف‬
‫الجنان في اآلخرة خاصة العلم‪9‬اء منهم ال‪9‬ذين جمع‪9‬وا بين العلم والعم‪9‬ل ف‪9‬إن العلم م‪9‬ع‬
‫علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة‪.3‬‬
‫‪7‬ـ الجزء بجنس العمل على مستوىـ الوسائل‪:‬‬
‫إن أي تدبير أو فعل من العبد مهما بلغ في اتقانه ونسجه فإن هللا هو القاهر فوق عباده‬
‫ال يعجزه شئ في األرض وال في السماء‪ ،‬وفي هذه الغاية القصوى في استشعار العبد‬
‫بالمراقبة‪ ،‬ومن ثم االمتثال بالعبودية‪.‬‬
‫ومن اآليات الدالة على هذه المسألة‪:‬‬
‫ـ قوله تعالى‪" :‬أَ ْم ي ُِري ُدونَ َك ْيدًا فَالَّ ِذينَ َكفَرُوا هُ ُم ال َم ِكي ُدونَ " (الطور ‪ ،‬آية ‪.)42 :‬‬
‫ْ‬
‫ـ وقال تعالى‪" :‬إِنَّهُ ْم يَ ِكي ُدونَ َك ْيدًا * َوأَ ِكي ُد َك ْيدًا" (الطارق ‪ ،‬آية ‪ 15 :‬ـ ‪.)16‬‬
‫ـ وقال تعالى عن صالح ـ عليه السالم ـ وقومه ثمود‪َ " :‬و َك‪99‬انَ فِي ْال َم ِدينَ‪ِ 9‬ة تِ ْس‪َ 9‬عةُ َر ْه‪ٍ 9‬ط‬
‫ض َواَل يُصْ لِحُونَ * قَالُوا تَقَا َس ُموا بِاهَّلل ِ لَنُبَيِّتَنَّهُ َوأَ ْهلَهُ ثُ َّم لَنَقُ‪99‬ولَ َّن لِ‪َ 9‬ولِيِّ ِه َم‬ ‫يُ ْف ِس ُدونَ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫صا ِدقُونَ * َو َم َكرُوا َم ْكرًا َو َم َكرْ نَ‪99‬ا َم ْك‪ 9‬رًا َوهُ ْم اَل يَ ْش‪ُ 9‬عرُونَ *‬ ‫ما َش ِه ْدنَا َم ْهلِكَ أَ ْهلِ ِه َوإِنَّا لَ َ‬
‫‪9‬ر ِه ْم أَنَّا َد َّمرْ نَ‪99‬اهُ ْم َوقَ‪99‬وْ َمهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (النم‪99‬ل ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 48 :‬ـ‬ ‫فَانظُرْ َك ْي‪99‬فَ َك‪99‬انَ عَاقِبَ‪9‬ةُ َم ْك‪ِ 9‬‬
‫‪.)51‬‬
‫يس‪9‬ى إِنِّي‬ ‫ُوا َو َم َك‪َ 9‬ر هّللا ُ َوهّللا ُ خَ ْي‪ُ 9‬ر ْال َم‪99‬ا ِك ِرينَ * إِ ْذ قَ‪99‬ا َل هّللا ُ يَ‪99‬ا ِع َ‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬و َم َك‪ 9‬ر ْ‬
‫ق الَّ ِذينَ‬ ‫ك فَ‪99‬وْ َ‬ ‫ُوا َو َجا ِع‪ُ 99‬ل الَّ ِذينَ اتَّبَعُ‪99‬و َ‬ ‫ي َو ُمطَهِّرُكَ ِمنَ الَّ ِذينَ َكفَ‪99‬ر ْ‬ ‫ك َو َرافِعُ‪99‬كَ إِلَ َّ‬ ‫ُمتَ َوفِّي‪َ 99‬‬
‫ي َمرْ ِج ُع ُك ْم فَأَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم فِي َما ُكنتُ ْم فِي ِه ت َْختَلِفُونَ " (آل عمران‬ ‫ُوا إِلَى يَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة ثُ َّم إِلَ َّ‬
‫َكفَر ْ‬
‫‪ ،‬آية ‪ 54 :‬ـ ‪.)55‬‬
‫ك أَوْ ي ُْخ ِر ُج‪99‬و َ‬
‫ك َويَ ْم ُك‪ 9‬رُونَ‬ ‫ك أَوْ يَ ْقتُلُ‪99‬و َ‬
‫ُوا لِي ُْثبِتُ‪99‬و َ‬
‫"وإِ ْذ يَ ْم ُك ُر بِ‪99‬كَ الَّ ِذينَ َكفَ‪9‬ر ْ‬
‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫َويَ ْم ُك ُر هّللا ُ َوهّللا ُ خَ ْي ُر ْال َما ِك ِرينَ " (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬
‫وسمي جزاء المكر مكراً‪ ،‬وجزاء الكيد كيداً‪ ،‬تنبيها ً على أن الجزاء من جنس العمل‪.4‬‬
‫ثالثاً‪ :‬الجزاء بجنس العمل في اآلخرة‪:‬‬
‫كما أن سنة الجزاء بجنس العم‪99‬ل حاكم‪99‬ة في معامل‪99‬ة هللا خلق‪99‬ه في الحي‪99‬اة ال‪99‬دنيا‪ ،‬فهي‬
‫كذلك في اآلخرة‪ ،‬ومن ثم كانت سنة أساسية بين السنن‪ ،‬والتطبيقات القرآنية تترى في‬

‫‪1‬صحيح مسلم (‪ ،)2074 /4‬السنن اإللهية صـ ‪.244‬‬


‫‪2‬جامع البيان للطبري (‪.)259 /28‬‬
‫‪ 3‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (‪.)221 /2‬‬
‫‪4‬مفتاح دار السعادة البن القيم (‪.)233 / 2‬‬

‫‪157‬‬
‫هذا المعنى‪ ،‬وتص‪99‬ل إلى ح‪99‬د الت‪99‬واتر‪ ،‬من حيث الع‪99‬دد‪ ،‬وإلى القط‪99‬ع من حيث المع‪99‬نى‬
‫والمراد من ذلك‪.1‬‬
‫‪ 1‬ـ معاملة أهل الفضل بالفضل‪:‬‬
‫ان" (الرحمن ‪ ،‬آية ‪ ،)60 :‬أي‪ :‬هل ث‪99‬واب‬ ‫ان إِاَّل اإْل ِ حْ َس ُ‬
‫ـ قال تعالى‪" :‬هَلْ َجزَ اء اإْل ِ حْ َس ِ‬
‫خوف مقام هللا عز وجل لمن خافه فأحسن في الدنيا عمله‪ ،‬وأط‪99‬اع رب‪99‬ه إال أن يحس‪99‬ن‬
‫إليه في اآلخرة ربه بأن يجازيه على إحسانه ذلك في الدنيا م‪99‬ا وص‪99‬ف في اآلي‪99‬ات من‬
‫‪9‬ان" (ال‪99‬رحمن ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)46 :‬إلى قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪:‬‬ ‫"ولِ َم ْن خَ افَ َمقَا َم َربِّ ِه َجنَّتَ‪ِ 9‬‬ ‫قوله تعالى‪َ :‬‬
‫‪2‬‬
‫ان" (الرحمن ‪ ،‬آية ‪. )58 :‬‬ ‫وت َو ْال َمرْ َج ُ‬ ‫" َكأَنَّه َُّن ْاليَاقُ ُ‬
‫اج ِع يَ ‪ْ 9‬د ُعونَ َربَّهُ ْم َخوْ فً‪99‬ا َوطَ َم ًع‪99‬ا َو ِم َّما‬ ‫ض‪ِ 9‬‬ ‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬تَتَ َج‪ 9‬افَى ُجنُ‪99‬وبُهُ ْم َع ِن ْال َم َ‬
‫َر َز ْقنَاهُ ْم يُنفِقُونَ * فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َّما أُ ْخفِ َي لَهُم ِّمن قُ َّر ِة أَ ْعيُ ٍن َج َزاء بِ َما َك‪99‬انُوا يَ ْع َملُ‪99‬ونَ "‬
‫(السجدة ‪ ،‬آية ‪ 16 :‬ـ ‪.)17‬‬
‫قال الحسن البصري‪ :‬أخفى ق‪99‬وم عملهم وأخفى هللا لهم م‪99‬ا لم ت‪99‬رعين ولم يخط‪99‬ر على‬
‫قلب بشر‪.3‬‬
‫وفي الحديث القدسي‪ :‬قال تعالى‪ " :‬أعددت لعبادي الصالحين ما ال عين رأت وال ٌ‬
‫أذن‬
‫سمعت وال خطر على قلب بشر قال أب‪99‬و هري‪99‬رة‪ :‬اق‪99‬رءوا إن ش‪99‬ئتم‪" :‬فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َّما‬
‫أُ ْخفِ َي لَهُم ِّمن قُ َّر ِة أَ ْعيُ ٍن" (السجدة ‪ ،‬آية ‪.4)17 :‬‬
‫"واَل يَأْتَ ِل أُوْ لُوا ْالفَضْ ِل ِمن ُك ْم َوال َّس َع ِة أَن ي ُْؤتُوا أُوْ لِي ْالقُ‪99‬رْ بَى َو ْال َم َس ‪9‬ا ِكينَ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ :‬‬
‫ص ‪9‬فَحُوا أَاَل تُ ِحبُّونَ أَن يَ ْغفِ ‪َ 9‬ر هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُ‪99‬و ٌر‬ ‫يل هَّللا ِ َو ْليَ ْعفُ‪99‬وا َو ْليَ ْ‬
‫َو ْال ُمهَا ِج ِرينَ فِي َسبِ ِ‬
‫َّر ِحي ٌم" )النور ‪ ،‬آية ‪.)22 :‬‬
‫اج ُك ْم َوأَوْ اَل ِد ُك ْم َع‪ُ 9‬د ًّوا لَّ ُك ْم فَاحْ ‪َ 9‬ذرُوهُ ْم َوإِن‬ ‫ـ وقال تعالى‪" :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن ِم ْن أَ ْز َو ِ‬
‫َّحي ٌم" (التغابن ‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬ ‫تَ ْعفُوا َوتَصْ فَحُوا َوتَ ْغفِرُوا فَإ ِ َّن هَّللا َ َغفُو ٌر ر ِ‬
‫‪ 2‬ـ ترك اإلنسان وإهماله في العذاب‪ ،‬كما أهمل الحق ولم يتبعه‪:‬ـ‬
‫ضن ًكا َونَحْ ُش ُرهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم‪ِ 99‬ة أَ ْع َمى‬ ‫ض عَن ِذ ْك ِري فَإ ِ َّن لَهُ َم ِعي َشةً َ‬ ‫"و َم ْن أَ ْع َر َ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫ك آيَاتُنَا فَن َِسيتَهَا َو َك‪َ 99‬ذلِكَ‬ ‫ك أَتَ ْت َ‬
‫صيرًا * قَا َل َك َذلِ َ‬ ‫نت بَ ِ‬ ‫ال َربِّ لِ َم َحشَرْ تَنِي أَ ْع َمى َوقَ ْد ُك ُ‬ ‫* قَ َ‬
‫ْاليَوْ َم تُن َسى" (طه ‪ ،‬آية ‪ 124 :‬ـ ‪.)126‬‬
‫أخبر تعالى أن الضالين في ال‪9‬دنيا يحش‪9‬رون ي‪9‬وم القيام‪9‬ة عمي‪9‬اً‪ ،‬ف‪9‬إن الج‪9‬زاء أب‪9‬داً من‬
‫جنس العمل‪.5‬‬
‫َنس ‪9‬اهُ ْم َك َم‪99‬ا‬ ‫وا ِدينَهُ ْم لَ ْه ًوا َولَ ِعبًا َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَاةُ ال ‪ُّ 9‬د ْنيَا فَ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬اليَوْ َم ن َ‬ ‫وقال تعالى‪" :‬الَّ ِذينَ اتَّ َخ ُذ ْ‬
‫ُوا لِقَاء يَوْ ِم ِه ْم هَـ َذا" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)51 :‬‬ ‫نَس ْ‬
‫الس ‪9‬ا َعةُ‬‫ْب فِيهَا قُ ْلتُم َّما نَ ْد ِري َما َّ‬ ‫ق َوالسَّا َعةُ اَل َري َ‬ ‫"وإِ َذا قِي َل إِ َّن َو ْع َد هَّللا ِ َح ٌّ‬
‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫ق بِ ِهم َّما َكانُوا بِ ِه‬ ‫َات َما َع ِملُوا َو َحا َ‬ ‫إِن نَّظُ ُّن إِاَّل ظَنًّا َو َما نَحْ ُن بِ ُم ْستَ ْيقِنِينَ * َوبَدَا لَهُ ْم َسيِّئ ُ‬
‫يل ْاليَوْ َم نَن َسا ُك ْم َك َما نَ ِسيتُ ْم لِقَاء يَوْ ِم ُك ْم هَ َذا َو َم‪99‬أْ َوا ُك ْم النَّا ُر َو َم‪99‬ا لَ ُكم ِّمن‬ ‫يَ ْستَه ِْز ُؤون * َوقِ َ‬
‫ص ِرينَ " (الجاثية ‪ ،‬آية ‪ 32 :‬ـ ‪.)34‬‬ ‫نَّا ِ‬
‫‪ 3‬ـ التهكم بالكفار والمنافقين كما كانوا يتهكمون بالمؤمنين في الدنيا‪:‬‬
‫‪1‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.250‬‬
‫‪2‬جامع البيان للطبري (‪.)198 / 27‬‬
‫‪3‬تفسير القرآن الكريم (‪ )260 / 3‬روح المعاني (‪.)132 / 21‬‬
‫‪4‬مسلم في صحيحه (‪.)2174 / 4‬‬
‫‪ 5‬السنن اإللهية‪ ،‬د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.256‬‬

‫‪158‬‬
‫ض‪َ 99‬ح ُكونَ * َوإِ َذا َم‪99‬رُّ ْ‬
‫وا بِ ِه ْم‬ ‫وا ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا يَ ْ‬ ‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬إِ َّن الَّ ِذينَ أَجْ َر ُم‪99‬وا َك‪99‬انُ ْ‬
‫ُ‪999‬وا فَ ِك ِهينَ * َوإِ َذا َرأَوْ هُ ْم قَ‪999‬الُوا إِ َّن هَ‪999‬ؤُاَل ء‬ ‫ُ‪999‬وا إِلَى أَ ْهلِ ِه ُم انقَلَب ْ‬
‫يَتَغَ‪999‬ا َم ُزونَ * َوإِ َذا انقَلَب ْ‬
‫ض‪َ 9‬ح ُكونَ *‬ ‫ار يَ ْ‬ ‫‪9‬وا ِمنَ ْال ُكفَّ ِ‬ ‫ضالُّونَ * َو َما أُرْ ِس‪9‬لُوا َعلَ ْي ِه ْم َح‪ 9‬افِ ِظينَ * فَ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬اليَوْ َم الَّ ِذينَ آ َمنُ‪ْ 9‬‬ ‫لَ َ‬
‫ب ْال ُكفَّا ُر َم‪99‬ا َك‪99‬انُوا يَ ْف َعلُ‪99‬ونَ " (المطففين ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 29 :‬ـ‬ ‫ك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُ‪ِّ 9‬‬
‫‪9‬و َ‬ ‫َعلَى اأْل َ َرائِ ِ‬
‫‪.)36‬‬
‫ور ُك ْم‬ ‫ُ‬
‫‪9‬ات لِل ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا انظرُونَ‪99‬ا نَ ْقتَبِسْ ِمن نُّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وقال تعالى‪" :‬يَوْ َم يَقُو ُل ال ُمنَ‪99‬افِقُونَ َوال ُمنَافِقَ‪ُ 9‬‬
‫ور لَّهُ بَ‪99‬ابٌ بَا ِطنُ‪9‬هُ فِي‪ِ 9‬ه الرَّحْ َم‪ 9‬ةُ‬ ‫ب بَ ْينَهُم بِ ُس‪ٍ 9‬‬ ‫قِي َل ارْ ِجعُوا َو َراء ُك ْم فَ ْالتَ ِمسُوا نُ‪99‬ورًا فَ ُ‬
‫ض‪ِ 9‬ر َ‬
‫َوظَا ِه ُرهُ ِمن قِبَلِ ِه ْال َع َذابُ "‪( 9‬الحديد ‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬
‫‪9‬ل ارْ ِج ُع‪99‬وا َو َراء ُك ْم فَ ْالتَ ِم ُس‪9‬وا نُ‪99‬ورًا"‪ ،‬فالظ‪99‬اهر من إس‪99‬ناد‬ ‫والشاهد في اآلية قول‪99‬ه‪" :‬قِي‪َ 9‬‬
‫"قِي ‪َ 9‬ل" بص‪99‬يغة المجه‪99‬ول أن قائل‪99‬ه غ‪99‬ير المؤم‪99‬نين المخ‪99‬اطبين وإنم‪99‬ا ه‪99‬و من كالم‬
‫المالئكة السائقين للمنافقين‪،1‬‬
‫وتكون مقالة المالئكة للمنافقين تهكم ‪9‬اً‪ ،‬إذ ال ن‪99‬ور وراءهم‪ ،‬وإنم‪99‬ا أرادوا إطم‪99‬اعهم ثم‬
‫تخييبهم بضرب السور بينهم وبين المؤمنين‪ ،‬ألن الخيبة بعد الطمع أش‪99‬د حس‪99‬رة وه‪99‬ذا‬
‫استهزاء كان جزاء على استهزائهم بالمؤمنين واستسخارهم بهم‪ ،2‬ومم‪99‬ا يؤي‪99‬د أن ه‪99‬ذا‬
‫التخبط والحيرة الشديدة التي أصابت المنافقين في اآلخرة هو ج‪99‬زاء لهم من جنس م‪99‬ا‬
‫كانوا عليه في الدنيا أنهم كانوا كذلك في الدنيا في قل‪99‬ق دائم وح‪99‬يرة مس‪99‬تمرة‪ ،‬وتخب‪99‬ط‬
‫ك الَ إِلَى هَـ ُؤالء َوالَ إِلَى هَـ ُؤالء" (النس‪99‬اء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫متواصل ألنهم كانوا" ُّم َذ ْب َذبِينَ بَ ْينَ َذلِ َ‬
‫‪.3)143‬‬
‫رابعاً‪ :‬الجزاء بجنس العمل بين العباد‪:‬‬
‫إن سنة هللا في خلقه أن يكون جزاؤهم بجنس م‪99‬ا عمل‪99‬وه‪ ،‬وه‪99‬ذا أم‪99‬ر تكوي‪99‬ني أق‪99‬ام هللا‬
‫عليه الدنيا واآلخرة ليكون قانونا ً حاكم‪9‬ا ً في المج‪99‬ازاة والمحاس‪99‬بة وليس ه‪99‬ذا فحس‪9‬ب‪،‬‬
‫وإنما أراد هللا عز وجل أن يكون هذا القانون وتلك السنة أمراً شرعيا ً تكليفياً‪ ،‬وقد أمر‬
‫هللا الن‪99‬اس بالتعام‪99‬ل ب‪99‬ه فيم‪99‬ا بينهم‪ ،‬ليتحق‪99‬ق الع‪99‬دل واألم‪99‬ان في المجتم‪99‬ع بين األف‪99‬راد‬
‫والجماعات واألمم‪ ،‬فأنزل اآليات التي توجب العم‪99‬ل به‪99‬ذه القاع‪99‬دة‪ ،‬وجعله‪9‬ا مس‪99‬تمرة‬
‫في أبواب الشرع عامة في مسائله‪ ،‬وبين النبي صلى هللا عليه وسلم تلك السنة بأحس‪99‬ن‬
‫بيان وأدق تطبيق‪ ،‬وبهذا يتبين أن الشرع والقدر ق‪99‬د تظ‪99‬اهرا على تقري‪99‬ر ه‪99‬ذه الس‪99‬نة‪،‬‬
‫وتلك القاعدة والتي هي من حكمة هللا البالغة في خلقه‪.4‬‬
‫"و َج‪َ 9‬زاء َس‪9‬يِّئَ ٍة َس‪9‬يِّئَةٌ ِّم ْثلُهَ‪99‬ا" (الش‪99‬ورى ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)40 :‬وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫"وإِ ْن‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫ُوا بِ ِم ْث ِل َما ُعوقِ ْبتُم بِ ِه" (النحل ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ .)126 :‬وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬فَ َم ِن ا ْعتَ ‪9‬دَى‬ ‫عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِب ْ‬
‫وا َعلَ ْي ِه بِ ِم ْث ِل َما ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)194 :‬‬
‫َعلَ ْي ُك ْم فَا ْعتَ ُد ْ‬

‫ومن األمثلة في القرآن الكريم في هذا الباب ما يلي‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ اآليات التي وردت في القصاص‪:‬‬

‫‪1‬المصدر نفسه صـ‪.262‬‬


‫‪2‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ ‪.263‬‬
‫‪3‬المصدر نفسه صـ ‪.263‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫‪9‬ال ُح ِّر َو ْال َع ْب‪ُ 9‬د‬
‫ص‪9‬اصُ ِفي ْالقَ ْتلَى ْال ُح‪99‬رُّ بِ‪ْ 9‬‬ ‫ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِ َ‬ ‫قال تعالى‪" :‬يَا أَيُّهَ‪99‬ا الَّ ِذينَ آ َمنُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا ُكتِ َ‬
‫ُوف َوأَدَاء إِلَ ْي ‪ِ 9‬ه‬‫‪9‬ال َم ْعر ِ‬ ‫بِ ْال َع ْب ‪ِ 9‬د َواألُنثَى بِ‪99‬األُنثَى فَ َم ْن ُعفِ َي لَ ‪9‬هُ ِم ْن أَ ِخي ‪ِ 9‬ه َش ‪ْ 9‬ي ٌء فَاتِّبَ‪99‬ا ٌ‬
‫ع بِ‪ْ 9‬‬
‫ك فَلَ ‪9‬هُ َع‪َ 9‬ذابٌ أَلِي ٌم * َولَ ُك ْم فِي‬ ‫يف ِّمن َّربِّ ُك ْم َو َرحْ َمةٌ فَ َم ِن ا ْعتَدَى بَ ْع َد َذلِ َ‬‫بِإِحْ َسا ٍن َذلِكَ ت َْخفِ ٌ‬
‫ب لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ " (البقرة ‪ ،‬آية ‪ 178 :‬ـ ‪.)179‬‬ ‫اص َحيَاةٌ يَاْ أُولِ ْي األَ ْلبَا ِ‬
‫ص ِ‬ ‫ْالقِ َ‬
‫وفي ه‪99‬ذا المع‪99‬نى أيض‪99‬ا ً ي‪99‬أتي قول‪99‬ه تع‪99‬الى عن حكم القص‪99‬اص في الكتب الس‪99‬ماوية‬
‫السابقة‪:‬‬
‫نف َواألُ ُذنَ‬ ‫س َو ْال َع ْينَ بِ ْال َعي ِْن َواألَنفَ بِ‪99‬األَ ِ‬ ‫"و َكتَ ْبنَا َعلَ ْي ِه ْم فِيهَا أَ َّن النَّ ْف َ‬
‫س بِالنَّ ْف ِ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫صاصٌ " (المائدة ‪ ،‬آية ‪.)45 :‬‬ ‫ُوح قِ َ‬ ‫بِاألُ ُذ ِن َوالس َِّّن بِال ِّسنِّ َو ْال ُجر َ‬
‫وقد بينت السنة المطهرة تطبيق حد القصاص على الوجه األكمل‪ ،‬وبما يحقق القاع‪99‬دة‬
‫ال‪99‬تي تتح‪99‬دث عنه‪99‬ا‪ ،‬وبه‪99‬ذا يت‪99‬بين لن‪99‬ا المص‪99‬الح الجم‪99‬ة ال‪99‬تي ب‪99‬نيت على مش‪99‬روعية‬
‫القص‪99‬اص‪ ،‬وإقامت‪99‬ه في المجتم‪99‬ع‪ ،‬ومن تل‪99‬ك المص‪99‬الح زج‪99‬ر المعت‪99‬دي ومن يح‪99‬اول‬
‫االعتداء ليرتدع قبل اقترافه عمله‪ ،‬ومنها جبر خ‪9‬اطر المعت‪99‬دي علي‪99‬ه‪ ،‬ومنه‪99‬ا التف‪99‬ادي‬
‫من ترص‪999‬د المعت‪999‬دى عليهم لالنتق‪999‬ام من المعت‪999‬دين أو من أق‪999‬وامهم‪ ،‬فإبط‪999‬ال الحكم‬
‫بالقصاص يعطل هذه المصالح ويقوض بنيان المجتم‪9‬ع‪ ،‬ويش‪9‬يع الفوض‪9‬ى في الدول‪9‬ة‪،‬‬
‫وينخر في قواها المتمثلة في أفرادها وطوئفها‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ حد الحرابة واإلفساد‪:‬‬
‫وبهذا المع‪99‬نى أيض‪9‬ا ً ج‪99‬اء ح‪99‬د الحراب‪99‬ة واإلفس‪99‬اد في قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪" :‬إِنَّ َم‪99‬ا َج‪َ 9‬زاء الَّ ِذينَ‬
‫ُوا أَوْ تُقَطَّ َع أَيْ‪ِ 99‬دي ِه ْم‬
‫صلَّب ْ‬
‫وا أَوْ يُ َ‬
‫ض فَ َسادًا أَن يُقَتَّلُ ْ‬ ‫اربُونَ هّللا َ َو َرسُولَهُ َويَ ْس َعوْ نَ فِي األَرْ ِ‬ ‫ي َُح ِ‬
‫ي فِي ال‪ُّ 9‬د ْنيَا" (المائ‪99‬دة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫‪9‬ز ٌ‬ ‫ك لَهُ ْم ِخ‪ْ 9‬‬‫ض َذلِ‪َ 9‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الف أوْ يُنفَ‪99‬وْ ا ِمنَ األرْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َوأَرْ ُجلهُم ِّم ْن ِخ ٍ‬
‫ُ‬
‫‪ ،"33‬وهي شاهد لما نحن فيه على تفسير ابن عباس في رواي‪99‬ة عط‪99‬اء‪ ،‬وه‪99‬و م‪99‬ذهب‬
‫جمهور العلماء ألن كلمة "أَوْ " هن‪99‬ا ليس‪99‬ت للتخي‪99‬ير‪ ،‬ب‪99‬ل هي للتقس‪99‬يم أو بمع‪99‬نى آخ‪99‬ر‪:‬‬
‫لبيان أن األحكام تختلف ب‪99‬اختالف الجناي‪9‬ات‪ ،‬فمن اقتص‪99‬ر على القت‪99‬ل قُت‪9‬ل‪ ،‬ومن قت‪9‬ل‬
‫وأخذ المال‪ ،‬قُتل وصُلب‪ ،‬ومن اقتصر على أخذ المال قط‪99‬ع يدي‪99‬ه ورجل‪99‬ه من خالف‪،‬‬
‫ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نُفي من األرض‪.2‬‬
‫‪ 3‬ـ من تطبيقات ذلك العصر النبوي‪:‬‬
‫ما علمنا إياه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في كيفي‪99‬ة مج‪99‬ازاة الن‪99‬اس بجنس أعم‪99‬الهم‬
‫والشاهد الصريح في ذلك ما قاله صلى هللا عليه وسلم عن أبي بكر ـ رضي هللا عنه ـ‪:‬‬
‫ما ألحد عندنا يد إال وقد كافأناه ما خال أبا بكر‪ ،‬فإن ل‪99‬ه عن‪99‬دنا ي‪99‬داً يكافي‪99‬ه هللا به‪99‬ا ي‪99‬وم‬
‫القيامة‪ ،3‬فأبو بكر ـ رضي هللا عنه ـ بذل كل ما يمل‪99‬ك ـ من م‪9‬ال ونفس وأه‪99‬ل وول‪9‬د ـ‬
‫لنص‪99‬رة الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ ،‬وك‪99‬ان عط‪99‬اؤه بال ح‪99‬دود‪ ،‬يس‪99‬تحق الج‪99‬زاء من‬
‫صاحب النعم‪99‬ة المطلق‪99‬ة‪ ،‬وولي ك‪99‬ل منح‪99‬ة وج‪99‬ود‪ ،‬ف‪99‬رد الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫مكافأته هلل عز وجل‪ ،‬ليتفض‪99‬ل على أبي بك‪99‬ر باإلنع‪9‬ام واإلك‪9‬رام‪ ،‬وليك‪9‬ون األص‪99‬ل في‬
‫الجزاء أن يكون من جنس العمل‪.4‬‬
‫‪1‬السنن اإللهية د‪ .‬مجدي عاشور صـ‪.266‬‬
‫‪2‬التفسير الكبير للرازي (‪ ،)666 / 5‬السنن اإللهية صـ‪.266‬‬
‫‪3‬سنن الترمذي (‪ )609 / 5‬حسن غريب من هذا الوجه‪.‬‬
‫‪4‬السنن اإللهية‪ ،‬مجدي عاشور صـ‪.271‬‬

‫‪160‬‬
‫والمثال الثاني في عصر النبوة‪ 9:‬أنه لما أُسرت ابن‪99‬ة ح‪99‬اتم الط‪99‬ائي في أي‪99‬دي المس‪99‬لمين‬
‫ورآها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قالت له‪ :‬ك‪99‬ان أبي يف‪99‬ك الع‪99‬اني‪ ،‬يحمي ال‪99‬ذمار‪،‬‬
‫ويق‪99‬ري الض‪99‬يف‪ ،‬ويش‪99‬بع الج‪99‬ائع‪ ،‬ويف‪99‬رج عن المك‪99‬روب‪ ،‬ويطعم الطع‪99‬ام‪ ،‬ويفش‪99‬ي‬
‫السالم‪ ،‬ولم يرد طالب حاجة‪ .‬فقال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬خلوا عنها‪ ،‬ف‪99‬إن أباه‪99‬ا ك‪99‬ان‬
‫يحب مكارم األخالق"‪.1‬‬
‫وفي رواية‪ :‬فخلى سبيلها رسول هللا صلى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم ق‪99‬الت‪ :‬فكس‪99‬اني رس‪99‬ول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم وحملني‪ ،‬وأعطاني نفقة حتى خرجت إلى أخي عدي بالشام‪.2‬‬
‫لقد عاملها الرسول صلى هللا عليه بجنس ما كان أبوها يعامل الن‪99‬اس رغم كف‪99‬ر أبيه‪99‬ا‪،‬‬
‫ليدلنا ذلك‪ ،‬على أن هذه القاع‪99‬دة عام‪99‬ة م‪99‬ا لم تح‪99‬رم أص‪9‬الً ش‪99‬رعياً‪ ،‬أو تع‪99‬ارض دليالً‬
‫قطعيا ً‪.3‬‬

‫‪1‬نوارد األصول للحكيم الترمذي (‪ ،)314 / 2‬شعب اإليمان للبيهقي (‪.)24 / 6‬‬
‫‪2‬السيرة النبوية (‪ )277 / 5‬الطبقات الكبرى (‪.)322 / 1‬‬
‫‪3‬السنن اإللهية صـ‪.271‬‬

‫‪161‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬الحكمة والتحسين والتقبيح وتكليف ما ال يطاق وقــدرة هللا‬
‫عز وجل‪:‬‬
‫أوال‪ :‬الحكمة في أفعال هللا وشرعه‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هللا الحكيم الحكم الحاكم‪:‬‬
‫من أسماء ربنا جل وتعالى التي عرَّف بها نفسه إلى عباده‪ ،‬وذكرها في كتاب‪99‬ه‪ ،‬وعلى‬
‫ألسنة رسله وأنبيائه "الحكيم"‪ ،‬وقد ورد هذا االس‪99‬م "الحكيم" أربع‪9‬ا ً وتس‪99‬عين م‪99‬رة في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬كما في قوله عز وجل‪ْ " :‬ال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم" (البقرة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪" ،)32 :‬ال َع ِزي ‪ُ 9‬ز‬
‫"وا ِسعًا َح ِكي ًما"‬‫"ال َح ِكي ُم ْالخَ بِيرُ" (األنعام ‪ ،‬آية ‪َ ،)18 :‬‬ ‫ال َح ِكي ُم" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ْ ،)129 :‬‬
‫(النساء ‪ ،‬آية ‪.)130 :‬‬
‫ص‪9‬الً" (األنع‪99‬ام ‪،‬‬ ‫وقال تعالى‪" :‬أَفَ َغ ْي َر هّللا ِ أَ ْبتَ ِغي َح َك ًما َوهُ َو الَّ ِذي أَنَ َز َل إِلَ ْي ُك ُم ْال ِكتَ‪َ 9‬‬
‫‪9‬اب ُمفَ َّ‬
‫آية ‪.)114 :‬‬
‫فهذا دليل على أن اسمه أيضا ً "الحكم"‪ ،‬وقد جاء في خمس‪99‬ة مواض‪99‬ع بص‪99‬يغة الجمي‪99‬ع‬
‫"وهُ َو خَ ْي ُر ْال َحا ِك ِمينَ " (األعراف‪ ، 9‬آية ‪ ،)87 :‬و"أَنتَ أَحْ َك ُم ْال َحا ِك ِمينَ " (ه‪99‬ود ‪،‬‬ ‫منها‪َ :‬‬
‫ْس ُ بِأحْ َك ِم ال َحا ِك ِمينَ " (التين ‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬
‫آية ‪ ،)45 :‬و"ألَي َ‬
‫و"الحكيم"‪ :‬هو الذي يُحكم األشياء ويتقنها ويض‪99‬عها في موض‪99‬عها‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال س‪99‬بحانه‬
‫ص ْن َع هَّللا ِ الَّ ِذي أَ ْتقَنَ ُك َّل َش ْي ٍء" (النمل ‪ ،‬آية ‪ ،)88 :‬و"الحكيم" هو الذي يض‪99‬ع الش‪99‬ئ‬ ‫" ُ‬
‫في موضعه بقدره‪ ،‬فال يتقدم وال يت‪99‬أخر وال يزي‪99‬د وال ينقص‪ ،‬م‪99‬ع م‪99‬ا ل‪99‬ه في ذل‪99‬ك من‬
‫الحكم البالغة العظيمة التي ال يأتي عليها الوصف‪ ،‬وال يدركها الوهم‪.1‬‬
‫ف‪99‬الحكيم ال‪99‬ذي ال ي‪99‬دخل ت‪99‬دبيره وال ش‪99‬رعه خل‪99‬ل وال زل‪99‬ل‪ ،‬وأفعال‪99‬ه وأقوال‪99‬ه تق‪99‬ع في‬
‫مواضعها بحكمة وعدل وسداد‪ ،‬فال يفعل إال الصواب‪ 9‬وال يقول إال الحق‪.2‬‬
‫وأما "الحكم" فهو من له الحكم والسلطان والقدر‪ ،‬فال يقع ش‪99‬ئ إال بإذن‪99‬ه وه‪99‬و الم‪99‬دبر‬
‫والمتصرِّ ف " ُك َّل يَوْ ٍم هُ َو فِي َشأْ ٍن" (الرحمن ‪ ،‬آية ‪.)29 :‬‬
‫و"الحكم" أيضا ً من له التشريع والتحليل والتحريم‪ ،‬ف‪99‬الحكم م‪99‬ا ش‪99‬رع هللا‪ ،‬وال‪99‬دين م‪99‬ا‬
‫أمر ونهى‪ ،‬ال معقب لحكمه وال راد لقض‪9‬ائه‪ ،‬ف‪9‬اجتمع في االس‪9‬م "الق‪99‬در" و"الش‪9‬رع"‪9‬‬
‫ق َواألَ ْمرُ" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)54 :‬‬ ‫"أَالَ لَهُ ْال ْ‬
‫خَل ُ‬
‫وحين يقول‪" :‬أَحْ َك ِم ْال َحا ِك ِمينَ " و"خَ ْي ُر ْال َحا ِك ِمينَ "‪ ،‬فإن ذلك تأكيد على عدله ورحمت‪99‬ه‬
‫تعس ‪9‬ف‪ ،‬وليس في ش‪99‬رعه‬ ‫ووض‪99‬عه األش‪99‬ياء في موض‪99‬عها‪ ،‬فليس في ق‪99‬دره ظلم وال ُّ‬
‫محاباة وال تحيز‪ ،‬بل هو حفظ للحقوق‪ ،‬حق‪99‬وق الح‪99‬اكم والمحك‪99‬وم‪ ،‬والرج‪99‬ل والم‪99‬رأة‪،‬‬
‫وس ‪9‬لماً‪،‬‬ ‫والبرِّ والفاجر‪ ،‬والمسلم والكافر‪ ،‬والقوي والضعيف‪ ،‬وفي كل األحوال حرب ‪9‬ا ً ِ‬
‫وعلى كل أحد دون استثناء‪ ،‬ولذا وجب على كل مسلم تحكيم كتاب‪99‬ه وس‪99‬نة نبي‪99‬ه ص‪99‬لى‬
‫هللا عليه وسلم في دقيق أم‪99‬وره وجلِّه‪99‬ا على الص‪99‬عيد الف‪99‬ردي والجم‪99‬اعي‪ ،‬واألس‪99‬ري‪،‬‬
‫الخ‪99‬اص والع‪99‬ام‪ ،‬والسياس‪99‬ة واالقتص‪99‬اد واالجتم‪99‬اع واإلعالم‪ ،‬وك‪99‬ل ش‪99‬ئ من حكم‪99‬ه‬
‫وحكمته‪ :‬أنه عدل ال يظلم أحداً‪ ،‬وال يحمل هذا وزر ذاك‪ ،‬وال يجازي العبد ب‪99‬أكثر من‬
‫ض ‪9‬ي ُع أَجْ ‪َ 9‬ر َم ْن أَحْ َس ‪9‬نَ َع َماًل "‬
‫ذنب‪99‬ه‪ ،‬وال ي‪99‬دع محس‪99‬نا ً إال أثاب‪99‬ه على إحس‪99‬انه "إِنَّا اَل نُ ِ‬
‫(الكهف ‪ ،‬آية ‪.3)30 :‬‬
‫‪1‬مع هللا د‪ .‬سلمان العودة صـ‪.183‬‬
‫‪2‬المصدر نفسه صـ‪ 185‬ـ ‪.186‬‬
‫‪3‬مع هللا د‪ .‬سلمان العودة صـ‪ 187‬ـ ‪.188‬‬

‫‪162‬‬
‫‪ 2‬ـ المراد بالحكمة‪:‬الغايات المحمودة المقص‪99‬ودة بفع‪99‬ل هللا وش‪99‬رعه‪ ،‬وهي مقدم‪99‬ة في‬
‫العلم واإلدارة‪ ،‬متأخرة في الوجود والحصول‪ ،‬أي أنها تترتب على األحوال واألفعال‬
‫وتحصل بعدها‪.1‬‬
‫والحكمة تتضمن شيئين‪:‬‬
‫أحــدهما‪ :‬حكم‪99‬ة تع‪99‬ود إلى هللا يحبه‪99‬ا ويرض‪99‬اها‪ ،‬فهي ص‪99‬فة ل‪99‬ه تق‪99‬وم ب‪99‬ه‪ ،‬ألن هللا ال‬
‫يوصف إال بما قام به‪ ،‬وهي ليست مطلق اإلرادة‪ ،‬وإال لكان كل مريد حكيما ً وال قائ‪99‬ل‬
‫به‪.‬‬
‫ثانيهمــا‪ :‬حكم‪99‬ة تع‪99‬ود إلى عب‪99‬اده‪ ،‬هي نعم‪99‬ة يفرح‪99‬ون ويلت‪99‬ذون به‪99‬ا في الم‪99‬أمورات‬
‫والمخلوقات والحكمة ال يحيط بها علما ً إال هللا تعالى‪ ،‬وبعضها معلوم للخلق وبعض‪99‬ها‬
‫مما يخفى عليهم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫والحكمة في أفعال هللا تعالى نوعان ‪:‬‬
‫نس إِاَّل لِيَ ْعبُ‪ُ 9‬دو ِن"‪9‬‬ ‫ت ْال ِج َّن َواإْل ِ َ‬ ‫"و َم‪99‬ا َخلَ ْق ُ‬‫ــ حكمة مطلوبة لذاتها‪ ،‬كما في قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫(الذاريات ‪ ،‬آية ‪.)56 :‬‬
‫ض ِم ْثلَه َُّن يَتَنَ َّز ُل اأْل َ ْم ُر بَ ْينَه َُّن لِتَ ْعلَ ُم‪99‬وا‬
‫ت َو ِمنَ اأْل َرْ ِ‬‫اوا ٍ‬‫ق َس ْب َع َس َم َ‬‫ــ وقال‪" :‬هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫أَ َّن هَّللا َ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر َوأَ َّن هَّللا َ قَ ْد أَ َحاطَ بِ ُكلِّ َش ْي ٍء ِع ْل ًما" (الطالق ‪ ،‬آية ‪.)12 :‬‬
‫فبين هللا أن الحكمة من خلقه الجن واإلنس ليعبدوه وحده وال يش‪99‬ركوا ب‪99‬ه ش‪99‬يئاً‪ ،‬وه‪99‬ذا‬
‫أم‪99‬ر محب‪99‬وب هلل تع‪99‬الى ومطل‪99‬وب ل‪99‬ه‪ ،‬وك‪99‬ذلك بين أن من حكم‪99‬ة خلق‪99‬ه الس‪99‬ماوات‬
‫واألرض وتدبيره لهما علم العباد بقدرة هللا وعلمه سبحانه‪.‬‬
‫ــ حكمة مطلوبة لغيرها وتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه ويوض‪99‬حها ق‪99‬ول هللا تع‪99‬الى‪:‬‬
‫ْس هّللا ُ بِ‪99‬أ َ ْعلَ َم‬
‫‪9‬وا أَهَـ ُؤالء َم َّن هّللا ُ َعلَ ْي ِهم ِّمن بَ ْينِنَ‪99‬ا أَلَي َ‬
‫ْض لِّيَقُول‪ْ 9‬‬
‫ْض ‪9‬هُم بِبَع ٍ‬ ‫"و َك‪َ 9‬ذلِكَ فَتَنَّا بَع َ‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫بِال َّشا ِك ِرينَ " (األنع‪99‬ام ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)53 :‬ف‪9‬الالم في قول‪99‬ه‪" :‬لِّيَقُول‪99‬وا"‪ 9‬دال‪99‬ة على الحكم‪99‬ة من‬
‫قوله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض فك‪99‬براؤا الق‪99‬وم ي‪99‬أنفوم ويس‪99‬تكبرون عن‬
‫قبول الحق عن‪9‬د هللا رؤيتهم ض‪9‬عفاء ق‪9‬د أس‪9‬لموا فيقول‪9‬ون عن‪9‬د ذل‪9‬ك‪" :‬أَهَـ ُؤالء َم َّن هّللا ُ‬
‫َعلَ ْي ِهم ِّمن بَ ْينِنَا"‪ ،‬فهذا القول بعض الحكمة المطلوبة به‪99‬ذا االمتح‪99‬ان‪ ،‬وهي وس‪99‬يلة إلى‬
‫مطلوب لنفسه‪ ،‬فامتح‪9‬ان هللا له‪99‬ؤالء ي‪99‬ترتب علي‪99‬ه ش‪99‬كر ه‪99‬ؤالء وكف‪9‬ر ه‪9‬ؤالء‪ ،‬وذل‪99‬ك‬
‫ي‪9‬وجب آث‪9‬ار مطلوب‪9‬ة للفاع‪9‬ل من إظه‪9‬ار عدل‪9‬ه‪ ،‬وحكمت‪9‬ه وعزت‪9‬ه‪ ،‬وقه‪9‬ره وس‪9‬لطانه‪،‬‬
‫وعطائه من يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يس‪99‬تحق المن‪99‬ع‪ ،‬وال يلي‪99‬ق‬
‫ْس هّللا ُ بِأ َ ْعلَ َم بِال َّشا ِك ِرينَ " (األنعام ‪ ،‬آية ‪.3)53 :‬‬ ‫به غيره‪ ،‬ولهذا قال هللا تعالى‪" :‬أَلَي َ‬
‫‪ 3‬ـ الحكمة الحاصلة من الشرائع‪:‬‬
‫وأما الحكمة الحاصلة من الشرائع فثالثة أنواع‪:‬‬
‫ــ النوع األول‪ :‬حكمة حاصلة من األم‪99‬ر بفع‪99‬ل مش‪99‬تمل على مص‪99‬لحة معلوم‪99‬ة بأص‪99‬ل‬
‫الفطرة والعقل‪ ،‬كالعدل واإلحسان‪ ،‬والص‪99‬دق‪ ،‬أو حاص‪99‬لة من النهي عن فع‪99‬ل مش‪99‬تمل‬
‫على مفس‪99‬دة معلوم‪99‬ة بأص‪99‬ل الفط‪99‬رة والعق‪99‬ل‪ ،‬ك‪99‬الظلم والك‪99‬ذب‪ ،‬فالع‪99‬دل مش‪99‬تمل على‬
‫مصلحة العالم‪ ،‬والظلم يشتمل عل فسادهم‪ ،‬والشرع في أمره بالع‪99‬دل ونهي‪99‬ه عن الظلم‬

‫‪1‬منهاج السنة (‪ )141 / 1‬أعالم الموقعين (‪ 197 / 1‬ـ ‪.)201‬‬


‫‪2‬شفاء العليل البن القيم صـ‪ ، 322‬مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه د‪ .‬خالد محمد نور عبد هللا (‪.)453 / 1‬‬
‫‪ 3‬مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (‪.)452 / 1‬‬

‫‪163‬‬
‫ولم يثبت للفعل صفة لم تكن ولكن ال يلزم من حصول القبح في الفعل بالعقل أن يكون‬
‫فاعله معاقبا ً في اآلخرة إذا لم يرد الشرع بذلك‪.‬‬
‫ــ النوع الثاني‪:‬حكمة حاصلة من األمر بفعل‪ ،‬أو النهي عن فعل بحسب اش‪99‬تماله على‬
‫المصلحة والمفسدة ال‪9‬تي ال تع‪9‬رف بخط‪9‬اب الش‪9‬رع‪ ،‬فيك‪9‬ون الفع‪9‬ل ق‪9‬د اكتس‪9‬ب ص‪9‬فة‬
‫الحسن والقبح بخطاب الشرع‪ ،‬كالتجرد في اإلحرام والتطه‪99‬ر ب‪99‬التراب‪ ،‬والس‪99‬عي بين‬
‫الصفاء والمروة‪ ،‬ورمي الجمار‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫ــ النوع الثالث‪ :‬حكمة يكون منشؤها من األمر ال من المأمور ب‪99‬ه‪ ،‬فيك‪99‬ون الم‪99‬راد من‬
‫األمر اإلبتالء واالمتحان وال يكون المراد فعل المأمور به ومثال‪99‬ه‪ :‬أم‪99‬ر هللا إب‪99‬راهيم ـ‬
‫عليه السالم ـ بذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السالم ـ فأراد هللا إبتالء خليله إبراهيم بع‪99‬د أن‬
‫رزقه الولد حتى يكون قلبه كله هلل‪ ،‬ولم يكن تحقق ذبح ولده مراداً هلل‪ ،‬وفي ذلك يق‪99‬ول‬
‫ك فَانظُرْ َم‪99‬ا َذا‬ ‫ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمن َِام أَنِّي أَ ْذبَ ُح َ‬ ‫ْي قَا َل يَا بُنَ َّ‬‫هللا تعالى‪" :‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ‬
‫الص‪9‬ابِ ِرينَ * فَلَ َّما أَ ْس‪9‬لَ َما َوتَلَّهُ‬ ‫َّ‬ ‫ت ا ْف َعلْ َما تُ ْؤ َم ُر َس‪9‬ت َِج ُدنِي إِن َش‪9‬اء هَّللا ُ ِمنَ‬ ‫ال يَا أَبَ ِ‬
‫ت ََرى قَ َ‬
‫ك نَجْ ‪ِ 9‬زي ْال ُمحْ ِس ‪9‬نِينَ * إِ َّن‬ ‫ص َّد ْقتَ الرُّ ْؤيَا إِنَّا َك‪َ 9‬ذلِ َ‬ ‫لِ ْل َجبِي ِن * َونَا َد ْينَاهُ أَ ْن يَا إِب َْرا ِهي ُم * قَ ْد َ‬
‫ين" (الصافات ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 102 :‬ـ ‪ )106‬فلم‪9‬ا تحق‪99‬ق م‪99‬ا أراده هللا نس‪99‬خ‬ ‫هَ َذا لَه َُو ْالبَاَل ء ْال ُمبِ ُ‬
‫األمر وهو لم يكن مريداً وقوع ذبح ابنه‪.1‬‬
‫وزاد ابن القيم نوعا ً رابعاً‪ ،‬وهو ما نشأت المصلحة فيه من الفعل المأمور ب‪99‬ه واألم‪99‬ر‬
‫معا ً ومثال‪9‬ه‪ :‬الص‪9‬وم والص‪9‬الة‪ 9‬والحج وإقام‪9‬ة الح‪9‬دود وأك‪9‬ثر األحك‪9‬ام الش‪9‬رعية‪ ،‬ف‪9‬إن‬
‫مصلحتها ناشئة من الفعل واألمر معاً‪ ،‬فالفع‪99‬ل يتض‪99‬من مص‪99‬لحة واألم‪99‬ر ب‪99‬ه يتض‪99‬من‬
‫مصلحة أخرى‪ ،‬فالمصلحة فيها من وجهين‪.2‬‬
‫‪ 4‬ـ األدلة الدالة على الحكمة‪:‬‬
‫واألدلة الدالة على الحكمة كثيرة جداً ذكرها العلماء والفقهاء في كتبهم‪ ،‬وقد حاول ابن‬
‫القيم حصرها بأنواعها ـ بعد أن ذكر أن آحاد األدلة كثيرة يصعب س‪99‬ردها كلهاـ وق‪99‬د‬
‫أوصلها إلى إلى اثنين وعشرين نوعا ً ومن هذه األدلة‪:‬‬
‫"ح ْك َم‪ 9‬ةٌ‬‫النوع األول‪ :‬وهو أعالها‪ ،‬م‪9‬ا ورد في‪9‬ه التص‪9‬ريح بلف‪9‬ظ الحكم‪9‬ة ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪ِ :‬‬
‫بَالِ َغةٌ فَ َما تُ ْغ ِن النُّ ُذرُ" (القمر ‪ ،‬آية ‪ ،)5 :‬أي أن هللا أرى الكافرين في آياته ـ وهي هن‪99‬ا‬
‫إنشقاق القمر ـ وأت‪99‬اهم بأنب‪99‬اء زاج‪99‬رة لهم عن غيهم وض‪99‬اللهم‪ ،‬ك‪99‬ل ذل‪99‬ك حكم‪99‬ة من‪99‬ه‬
‫سبحانه لتقوم حجته على العاملين‪ ،‬وال يبقى ألحد على هللا حجة بعد الرسل‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬ذكر ما هو من صرائح التعليل‪ ،‬وهو من أجل أو ألجل‪ ،‬قال هللا تع‪99‬الى‪:‬‬
‫س أَوْ فَ َسا ٍد فِي األَرْ ِ‬
‫ض‬ ‫يل أَنَّهُ َمن قَت ََل نَ ْفسًا بِ َغي ِْر نَ ْف ٍ‬ ‫ك َكتَ ْبنَا َعلَى بَنِي إِ ْس َرائِ َ‬ ‫" ِم ْن أَجْ ِل َذلِ َ‬
‫ُس‪9‬لُنَا‬
‫اس َج ِميعً‪9‬ا َولَقَ‪ْ 9‬د َج‪ 9‬اء ْتهُ ْم ر ُ‬ ‫اس َج ِميعً‪9‬ا َو َم ْن أَحْ يَاهَ‪9‬ا فَ َكأَنَّ َم‪9‬ا أَحْ يَ‪9‬ا النَّ َ‬ ‫َ‪9‬ل النَّ َ‬ ‫فَ َكأَنَّ َما قَت َ‬
‫ْرفُونَ " (المائدة ‪ ،‬آية ‪ ،)32 :‬فق‪99‬ول‬ ‫ض لَ ُمس ِ‬ ‫ت ثُ َّم إِ َّن َكثِيرًا ِّم ْنهُم بَ ْع َد َذلِكَ فِي األَرْ ِ‬ ‫بِالبَيِّنَا ِ‬
‫" ِم ْن أَجْ ِل َذلِكَ" متعلق بـ" َكتَ ْبنَا" بمعنى‪ :‬السبب في الحكم بشرعية القص‪99‬اص على ابن‬
‫آدم ألجل قتل ابن آدم أخاه‪ ،‬وكان ذلك حراسة الدنيا‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬اإلتيان بكي الص‪99‬ريحة في التعلي‪99‬ل‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪9‬ال تع‪99‬الى‪َّ " :‬ما أَفَ‪9‬اء هَّللا ُ َعلَى‬
‫ُول َولِ ِذي ْالقُرْ بَى َو ْاليَتَ‪99‬ا َمى َو ْال َم َس ‪9‬ا ِكي ِن َواب ِْن َّ‬
‫الس ‪9‬بِي ِل‬ ‫َرسُولِ ِه ِم ْن أَ ْه ِل ْالقُ َرى فَلِلَّ ِه َولِل َّرس ِ‬
‫َك ْي اَل يَ ُكونَ ُدولَةً بَ ْينَ اأْل َ ْغنِيَاء ِمن ُك ْم" (الحشر ‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬
‫‪1‬المصدر السابق (‪.)455 / 1‬‬
‫‪2‬المصدر نفسه (‪.)455 / 1‬‬

‫‪164‬‬
‫فعل‪99‬ل س‪99‬بحانه قس‪99‬مته الفئ بين األص‪99‬ناف ال‪99‬تي ذكره‪99‬ا كي ال يتناول‪99‬ه األغني‪99‬اء دون‬
‫ض َواَل فِي أَنفُ ِس‪ُ 9‬ك ْم إِاَّل فِي ِكتَ‪99‬ا ٍ‬
‫ب‬ ‫صيبَ ٍة فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اب ِمن ُّم ِ‬ ‫ص َ‬ ‫الفقراء‪ ،‬وقال تعالى‪َ " :‬ما أَ َ‬
‫ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِسي ٌر * لِ َك ْي اَل تَأْ َسوْ ا َعلَى َما فَاتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َرحُوا بِ َما‬ ‫ِّمن قَ ْب ِل أَن نَّ ْب َرأَهَا إِ َّن َذلِ َ‬
‫آتَا ُك ْم" (الحديد ‪ ،‬آية ‪ 22 :‬ـ ‪.)23‬‬
‫أنا ق‪9‬در المص‪9‬ائب والبالء قب‪9‬ل أن ي‪9‬برأ األنفس والمص‪9‬ائب واألرض‪ ،‬ومص‪9‬در ذل‪9‬ك‬
‫قدرته وحكمته البالغة التي منها أن ال يحزن عباده وال يفرحهم بما آتاهم إذا علم‪99‬وا أن‬
‫المصيبة مقدرة كائنة وال بد‪ ،‬وقد كتبت قبل خلقهم وذلك يهون عليهم ما أصابهم‪.1‬‬
‫"ونَ َّز ْلنَ‪9‬ا‬‫النوع الرابع‪ :‬ذكر المفعول له‪ ،‬وهو عل‪9‬ة للفع‪9‬ل المعل‪9‬ل ب‪9‬ه‪ ،‬ق‪9‬ال هللا تع‪9‬الى‪َ :‬‬
‫َاب تِ ْبيَانًا لِّ ُكلِّ َش ْي ٍء َوهُدًى َو َرحْ َمةً َوبُ ْش َرى لِ ْل ُم ْسلِ ِمينَ " (النح‪99‬ل ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪،)89 :‬‬ ‫َعلَ ْيكَ ْال ِكت َ‬
‫فقوله‪" :‬تِ ْبيَانًا" ـ وما بعدها ـ األحسن أن ينصب على أنه مفعول ألجله لدالل‪99‬ة ق‪99‬ول هللا‬
‫‪9‬وا فِي‪ِ 9‬ه َوهُ‪9‬دًى َو َرحْ َم‪ 9‬ةً لِّقَ‪99‬وْ ٍم‬ ‫اختَلَفُ‪ْ 9‬‬ ‫ك ْال ِكت َ‬
‫َ‪9‬اب إِالَّ لِتُبَيِّنَ لَهُ ُم الَّ ِذي ْ‬ ‫"و َما أَ ْ‬
‫نزَلنَا َعلَ ْي َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ " (النحل ‪ ،‬آية ‪.)64 :‬‬
‫اس َما نُ ِّز َل إِلَ ْي ِه ْم" (النحل ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)44 :‬وفي‬ ‫"وأَ ْ‬
‫نزَلنَا إِلَ ْيكَ ال ِّذ ْك َر لِتُبَيِّنَ لِلنَّ ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫ت إِالَّ ت َْخ ِويفًا" (اإلسراء ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪)59 :‬‬ ‫"و َما نُرْ ِس ُل بِاآليَا ِ‬ ‫اآليتين بيان لتلك‪ ،‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫أي ألجل التخويف‪.2‬‬
‫النوع الخامس‪ :‬التعليــل بـ"لع‪9‬ل" فهي في كالم هللا ت‪9‬أتي للتعلي‪9‬ل المج‪9‬رد ال لل‪9‬ترجي‬
‫الستحالته عليه‪ ،‬فإنه إنما يكون فيما تجهل عاقبته "لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ " (البقرة ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪،)21 :‬‬
‫ب َعلَى الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم‬‫الص‪9‬يَا ُم َك َم‪9‬ا ُكتِ َ‬
‫ب َعلَ ْي ُك ُم ِّ‬ ‫‪9‬وا ُكتِ َ‬‫وقول‪9‬ه‪" :‬يَ‪9‬ا أَيُّهَ‪9‬ا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫تَتَّقُونَ " (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)183 :‬وقوله "لَّ َعلَّهُ يَتَ َذ َّك ُر أَوْ يَ ْخ َشى" (طه ‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬
‫فلع ّل في المواضع المتقدمة قد أخلصت للتعليل للسبب الذي تقدم أوالً‪ ،‬والرج‪99‬اء ال‪99‬ذي‬
‫فيها متعلق المخاطبين‪.‬‬
‫النوع السادس‪ :‬تعليله سبحانه وتع‪9‬الى ع‪9‬دم الحكم الق‪9‬دري والش‪9‬رعي بوج‪9‬ود الم‪9‬انع‬
‫ض َولَ ِكن‬ ‫ق لِ ِعبَ‪99‬ا ِد ِه لَبَ َغ‪99‬وْ ا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫منه‪ ،‬فمن األول قول هللا تعالى‪َ " :‬ولَوْ بَ َسطَ هَّللا ُ ال‪ْ 9‬‬
‫‪9‬رِّز َ‬
‫صي ٌر"‪( 9‬الشورى ‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫َر َّما يَ َشاء إِنَّهُ بِ ِعبَا ِد ِه َخبِي ٌر بَ ِ‬
‫يُنَ ِّز ُل بِقَد ٍ‬
‫بيَّن سبحانه أنه ال يوسع الدنيا ـ لبعض ـ الناس سعة تضرهم في دينهم‪ ،‬وه‪99‬و س‪99‬بحانه‬
‫ينزل من رزقه بحسب ما اقتض‪99‬اه لطف‪99‬ه وحكمت‪99‬ه‪ ،‬فالم‪99‬انع من بس‪99‬ط ال‪99‬رزق حص‪99‬ول‬
‫البغي من الناس‪ ،‬ومن الثاني قول هللا تعالى‪" :‬قُلْ َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ هّللا ِ الَّتِ َي أَ ْخ َر َج لِ ِعبَ‪99‬ا ِد ِه‬
‫ق" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ ،)32 :‬فوصف بعض الرزق بكونه طيبا ً مانع‬ ‫ْ‬
‫الرِّز ِ‬ ‫ت ِمنَ‬‫َو ْالطَّيِّبَا ِ‬
‫من الحكم بتحريمه‪.‬‬
‫النوع السابع‪ :‬إنكار هللا س‪99‬بحانه على من زعم أن‪99‬ه لم يخل‪99‬ق الخل‪99‬ق لغاي‪99‬ة وال لحكم‪99‬ة‬
‫بقوله‪" :‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َما َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَا اَل تُرْ َجعُونَ " (المؤمن‪99‬ون ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪،)115 :‬‬
‫ان أَن يُ ْت َركَ ُسدًى" (القيامة ‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬ ‫وقوله‪" :‬أَيَحْ َسبُ اإْل ِ ن َس ُ‬

‫‪1‬المصدر السابق (‪.)457 / 1‬‬


‫‪2‬المصدر السابق (‪ )457 / 1‬شفاء العليل صـ ‪.326‬‬

‫‪165‬‬
‫واألنواع كثيرة واألصل أن يأتي التعليل بالحروف‪ ،‬وقد تدل عليه األس‪9‬ماء واألفع‪99‬ال‪،‬‬
‫والحق يقال أن السياق له أثر في الداللة على العلية إن لم تكن األدلة نص ‪9‬ا ً في العلي‪99‬ة‪،‬‬
‫فينظر فيما يحتمل التعليل وعدمه يحسب السياق‪.1‬‬
‫‪ 5‬ـ الحكمة من خلق إبليس ووجود هذه اآلثام والشرور في الكون‪:‬‬
‫في ذلك من الحكم ما ال يحيط بتفصيله إال هللا‪ ،‬فمنه‪99‬ا أن يكم‪99‬ل هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل ألنبيائ‪99‬ه‬
‫وأوليائه م‪99‬راتب العبودي‪99‬ة بمجاه‪99‬دة الش‪99‬يطان وحزب‪99‬ه ومخالفت‪99‬ه ومراغمت‪99‬ه وإغاظت‪99‬ه‬
‫وإغاظة أوليائه‪ ،‬واالستعاذة به سبحانه من الشيطان‪ ،‬واإللجاء إليه سبحانه أن يعي‪99‬ذهم‬
‫من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية واألخروية م‪99‬ا ال يمكن أن‬
‫يحصل لهم بدون خلق هللا‪.‬‬
‫ــ ومنها ـ أي من الحكم ـ خوف المقربين من المؤمنين من ذنوبهم بعد ما ش‪99‬اهدوا من‬
‫حال إبليس‪ ،‬وكيف طرد من رحمة هللا تعالى لذنبه؟ فكيف ي‪99‬أمن المقرب‪99‬ون بع‪99‬د ذل‪99‬ك؟‬
‫وكيف يأمن المؤمنون الصادقون بعد ذلك؟ إن كان قد طرد إبليس ب‪99‬ذنب كي‪99‬ف يعجب‬
‫بعد ذلك عالم بعلمه؟‬
‫فس‪99‬تظل ه‪99‬ذه العبودي‪99‬ة مالزم‪99‬ة للمالئك‪99‬ة المق‪99‬ربين واألنبي‪99‬اء والمرس‪99‬لين والمؤم‪99‬نين‬
‫الص‪99‬ادقين لخ‪99‬وفهم من رب الع‪99‬المين‪ ،‬ألن‪99‬ه ط‪99‬رد إبليس من رحمت‪99‬ه ب‪99‬ذنب وق‪99‬ع في‪99‬ه‪،‬‬
‫فالمالئك‪99‬ة المقرب‪99‬ون إذا م‪99‬ا أم‪99‬ر هللا إس‪99‬رافيل ب‪99‬النفخ في الص‪99‬ور ق‪99‬الوا‪ :‬س‪99‬بحانك م‪99‬ا‬
‫عبدناك حق عبادتك مع أنهم لم يخالفوا هللا في أمر‪ ،‬كما قال هللا عز وج‪99‬ل في ش‪99‬أنهم‪:‬‬
‫"اَل يَ ْعصُونَ هَّللا َ َما أَ َم َرهُ ْم َويَ ْف َعلُونَ َما ي ُْؤ َمرُونَ " (التحريم ‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أطَّت السماء وح‪9‬ق له‪99‬ا أن تَئ‪99‬ط م‪9‬ا فيه‪9‬ا من موض‪9‬ع‬
‫النبي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬ ‫ُّ‬ ‫أربع أصابع إال وملك واضع جبهته ساجداً هلل‪ ،2‬فهذا جبريل راه‬
‫وس‪99‬لم ك‪99‬الحلس الب‪99‬الي من ش‪99‬دة خوف‪99‬ه من الكب‪99‬ير المتع‪99‬ال‪ ،‬وه‪99‬و أمين وحي الس‪99‬ماء‪،‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فالمالئكة المقربون لما رأوا وشاهدوا ما كان من إبليس ازدادوا خوفا ً ووجالً‪،‬‬
‫فكيف تستخرج العبودية إال بمثل هذا اإلبتالء والتمحيص؟‬
‫واألنبياء والمرسلون وهم أعرف الن‪99‬اس باهلل إزدادوا خوف‪9‬ا ً ووجالً من رب الع‪99‬المين‪،‬‬
‫والمؤمنون الصادقون ال يغتر واحد منه بعلمه وال بعمله‪ ،‬ب‪99‬ل يظ‪99‬ل دائم‪9‬ا ً على خ‪99‬وف‬
‫ووج‪99‬ل‪ ،‬ألن‪99‬ه ال ي‪99‬أمن من مك‪99‬ر هللا‪ .3‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬فَالَ يَ‪99‬أْ َم ُن َم ْك َ‬
‫‪99‬ر هّللا ِ إِالَّ ْالقَ‪99‬وْ ُم‬
‫ْال َخا ِسرُونَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)99 :‬‬
‫ومنها‪ :‬أي من حكم خلق هللا إلبليس‪ :‬أنه تبارك وتعالى جعل‪99‬ه ع‪99‬برة لمن خ‪99‬الف أم‪99‬ره‬
‫وتكبر على طاعته وأصر على معصيته‪ ،‬كما جعل ذنب أبي البشر آدم ـ عليه السالم ـ‬
‫عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه‪ ،‬فابتلى أبوي الجن‬
‫واإلنس بالذنب‪ ،‬وجعل إبليس عبرة لمن أص‪99‬ر‪ ،‬وأق‪99‬ام على ال‪99‬ذنب‪ ،‬وجع‪99‬ل آدم ع‪99‬برة‬
‫لمن تاب ورجع إلى ربه فلله في هذا من الحكم الباهرة واآليات الظاهرة‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أي من هذه الحكم أيضاً‪ :‬أن هللا تبارك وتعالى قد جعل إبليس مح َّكا ً يمتحن ب‪99‬ه‬
‫خلق‪99‬ه ‪ ،‬ليت‪99‬بين ب‪99‬ه خ‪99‬بيثهم وطيبهم‪ ،‬وهللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى ال يبتلي خلق‪99‬ه وعب‪99‬اده ليعلم‬
‫الخ‪9‬بيث من الطيب‪ ،‬فاهلل علم الخ‪99‬بيث والطيب أزالً قب‪99‬ل أن يخل‪9‬ق الخبث‪9‬اء والطي‪99‬بين‪،‬‬
‫‪1‬مسائل أصول الدين المبحوثة في علم‬

‫‪2‬السلسلة الصحيحة لأللباني رقم ‪.1722‬‬


‫‪ 3‬اإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ‪ 154‬شفاء العليل البن القيم صـ‪ 511‬إلى ‪.520‬‬

‫‪166‬‬
‫ولكنه أراد أن يميز الخبيث من الطيب من الناس في الدنيا ويمحص الصف‪ ،‬ويجازي‬
‫العباد وفق أعمالهم ال بمقتضى علمه فيهم‪.1‬‬
‫يث ِمنَ‬ ‫‪9‬ؤ ِمنِينَ َعلَى َم‪99‬آ أَنتُ ْم َعلَ ْي‪ِ 9‬ه َحتَّ َى يَ ِم‪99‬ي َز ْال َخبِ َ‬ ‫ـ ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َّ " :‬ما َك‪99‬انَ هّللا ُ لِيَ‪َ 9‬ذ َر ْال ُم‪ْ 9‬‬
‫ب" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)179 :‬‬ ‫الطَّيِّ ِ‬
‫وا ِمن ُك ْم َويَ ْعلَ َم‬ ‫وا ْال َجنَّةَ َولَ َّما يَ ْعلَ ِم هّللا ُ الَّ ِذينَ َجاهَ‪ُ 99‬د ْ‬
‫ـ وق‪99‬ال تع‪99‬الى‪" :‬أَ ْم َح ِس‪ْ 99‬بتُ ْم أَن تَ‪ْ 99‬د ُخلُ ْ‬
‫الصَّابِ ِرينَ " (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)142 :‬‬
‫وا ْال َجنَّةَ َولَ َّما يَأْتِ ُكم َّمثَ ُل الَّ ِذينَ خَ لَوْ ْا ِمن قَ ْبلِ ُكم‬ ‫ـ وقال تبارك وتعالى‪" :‬أَ ْم َح ِس ْبتُ ْم أَن تَ ْد ُخلُ ْ‬
‫َص‪ُ 9‬ر‬ ‫‪9‬وا َم َع‪ 9‬هُ َمتَى ن ْ‬ ‫َّس‪9‬و ُل َوالَّ ِذينَ آ َمنُ‪ْ 9‬‬ ‫‪9‬ول الر ُ‬ ‫‪9‬وا َحتَّى يَقُ‪َ 9‬‬ ‫ضرَّاء َو ُز ْل ِزلُ‪ْ 9‬‬ ‫َّم َّس ْتهُ ُم ْالبَأْ َساء َوال َّ‬
‫هّللا ِ" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)214 :‬‬
‫ب النَّاسُ أَن يُ ْت َر ُكوا أَن يَقُولُوا آ َمنَّا َوهُ ْم اَل يُ ْفتَنُ‪99‬ونَ * َولَقَ‪ْ 9‬د فَتَنَّا الَّ ِذينَ‬ ‫وقال تعالى‪" :‬أَ َح ِس َ‬
‫ص َدقُوا َولَيَ ْعلَ َم َّن ْال َكا ِذبِينَ " (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ 2:‬ـ ‪.)3‬‬ ‫ِمن قَ ْبلِ ِه ْم فَلَيَ ْعلَ َم َّن هَّللا ُ الَّ ِذينَ َ‬
‫ـ ومنها‪ :‬أي من الحكم‪ :‬أن يُظهر هللا عز وجل كمال قدرته لخلقه‪ ،‬فاهلل عز وجل خل‪99‬ق‬
‫جبريل وجعله رسوالً لألنبياء‪ ،‬فهو أمين وحي السماء الذي ب‪99‬ه حي‪99‬اة األرواح‪ ،‬وخل‪99‬ق‬
‫ميكائيل‪ ،‬وجعله على األرزاق واألمطار التي بها حياة األبدان‪ ،‬وخلق إسرافيل ووكله‬
‫بالصور الذي ينفخ فيه بأمر هللا‪ ،‬لتحيا األبدان مرة أخرى‪ ،‬ففيه حياة األبدان بعد أماتة‬
‫هللا لها يوم القيامة‪ ،‬وخلق سائر المالئك‪99‬ة‪ ،‬وخل‪99‬ق إبليس والش‪99‬ياطين‪ ،‬وذل‪99‬ك من أعظم‬
‫آي‪99‬ات قدرت‪99‬ه ومش‪99‬يئته وس‪99‬لطانه‪ ،‬فإن‪99‬ه خ‪99‬الق األض‪99‬داد كالس‪99‬ماء واألرض‪ ،‬والض‪99‬ياء‬
‫والظالم‪ ،‬والجنة والنار‪ ،‬والماء والنار‪ ،‬والحر والبرد‪ ،‬والطيب والخبيث‪ ،‬والضد إنما‬
‫يظهر جنس‪9‬ه بض‪9‬ده‪ ،‬فل‪9‬وال الق‪9‬بيح لم نع‪9‬رف فض‪9‬يلة الجمي‪9‬ل‪ ،‬ول‪9‬وال الفق‪9‬ر لم نع‪9‬رف‬
‫ق‪99‬درالغنى‪ ،‬وخل‪99‬ق هللا آدم من غ‪99‬ير أب ومن غ‪99‬ير أم‪ ،‬وخل‪99‬ق ح‪99‬واء من أب دون أم‪،‬‬
‫وخلق عيس‪99‬ى من أم دون أب‪ ،‬وخل‪99‬ق س‪99‬ائر البش‪99‬ر من أب وأم‪ ،‬لنعلم أن هللا على ك‪99‬ل‬
‫شئ قدير‪ ،‬إن شاء أن يخلق بغير أب وبغ‪99‬ير أم خل‪99‬ق‪ ،‬وإن ش‪99‬اء أن يخل‪99‬ق من أب وأم‬
‫خلق‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى يخلق األضداد ليظهر كمال قدرته ومشيئته تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ـ ومنه‪99‬ا‪ :‬أن‪99‬ه س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى يحب أن يش‪99‬كر بحقيق‪99‬ة الش‪99‬كر وأنواع‪99‬ه‪ ،‬وال ريب أن‬
‫أولياءه نالوا بوجود عدو هللا إبليس وجنوده وامتحانهم ب‪99‬ه من أن‪99‬واع ش‪99‬كره م‪99‬ا لم يكن‬
‫يحصل لهم بدونه‪ ،‬فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قب‪9‬ل أن يخ‪9‬رج منه‪99‬ا‪ ،‬وبين ش‪99‬كره‬
‫بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله‪.‬‬
‫سبحانه من خلق الخلق بحكمته وعدله‪ ،‬فما من شئ في الكون صغر أو كبر علمناه أو‬
‫جهلناه‪ ،‬رأيناه أم غاب عنا إال وهو مخلوق هلل بعدله وحكمه‪.2‬‬
‫ــ ومنها‪ :‬أن المحب‪99‬ة‪ ،‬واإلناب‪9‬ة‪ ،‬والتوك‪9‬ل‪ ،‬والص‪99‬بر‪ ،‬والرض‪9‬ا إلى غ‪9‬ير ذل‪99‬ك من ه‪9‬ذه‬
‫المع‪99‬اني هي أحب العبودي‪99‬ة إلى هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى‪ ،‬وه‪99‬ذه العبودي‪99‬ة ال تتحق‪99‬ق إال‬
‫بالجهاد بكل ما تحمله الكلم‪99‬ة من مع‪99‬نى ه‪99‬و ذروة س‪99‬نام العبودي‪99‬ة‪ ،‬وأحبه‪99‬ا إلى ال‪99‬رب‬
‫سبحانه‪ ،‬فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي ال يحصى‬
‫حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إال هللا‪ ،‬لو لم يخلق هللا عز وجل إبليس‪ ،‬فكي‪99‬ف‬
‫تحقق مرتبة العبودية بجهادك لنفسك ولهواك وللشيطان؟‬

‫‪ 1‬اإليمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ‪.158‬‬


‫‪ 2‬اإليمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ‪.159‬‬

‫‪167‬‬
‫ومنها أن من أسماء هللا‪ :‬الحكيم‪ ،‬والحكمة من صفاته سبحانه وحكمت‪99‬ه تس‪99‬تلزم وض‪99‬ع‬
‫كل شيء موضعه الذي يليق به‪ ،‬فاقتضت حكمته خل‪99‬ق المتض‪99‬ادات‪ ،‬وتخص‪99‬يص ك‪99‬ل‬
‫واحد منها بما ال يليق به غيره من االحكام والصفات والخصائص‪.1‬‬
‫ومنها‪ :‬أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوج‪99‬وه‪ ،‬فه‪99‬و محم‪99‬ود على عدل‪99‬ه ومنع‪99‬ه‬
‫وخفضه وانتقامه وإهانته‪ ،‬كما هو محمود على فضله وعطائه ورفع‪99‬ه وإكرام‪99‬ه‪ ،‬فلل‪99‬ه‬
‫الحمد التام الكام‪99‬ل على ه‪99‬ذا وه‪99‬ذا‪ ،‬وه‪99‬و يحم‪99‬د نفس‪99‬ه على ذل‪99‬ك كل‪99‬ه‪ ،‬ويحم‪99‬ده علي‪99‬ه‬
‫ومالئكته ورسله وأولياؤه‪ ،‬ويحمده علي‪9‬ه أه‪9‬ل الموق‪99‬ف جميعهم‪ ،‬وم‪9‬ا ك‪99‬ان من ل‪9‬وازم‬
‫كمال حمده وتمام‪99‬ه فل‪99‬ه في خلق‪99‬ه وإيج‪99‬اده الحكم‪99‬ة التام‪99‬ة كمال‪99‬ه علي‪99‬ه الحم‪99‬د الت‪99‬ام‪،2‬‬
‫فتبارك هللا رب العالمين وأحكم الحاكمين‪ ،‬ذو الحكمة البالغ‪99‬ة والنعم‪99‬ة الس‪99‬ابغة‪ ،‬ال‪99‬ذي‬
‫وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وما ذكرنا من هذه الحكم قطرة من بحر‪ ،‬وإال‬
‫فعقول البش‪99‬ر أعج‪99‬ز وأض‪99‬عف وأقص‪99‬ر من تحي‪99‬ط بكم‪99‬ال هللا وحكمت‪99‬ه في خلق‪99‬ه لك‪99‬ل‬
‫شيء‪ ،3‬فإن كان هللا تبارك وتعالى قد خلق إبليس لهذه الحكم التي وقفن‪99‬ا على بعض‪99‬ها‪،‬‬
‫فال شك أن خلق هللا لغير إبليس ـ وهو رأس الشر ـ لحكم كث‪99‬يرة من ب‪99‬اب أولى‪ ،‬فاهلل‬
‫تبارك وتعالى لم يُطلع خلقه إال على بعض الحكم‪.4‬‬
‫ويكفي العاقل‪ :‬أن يعلم أن هللا عز وجل عليم وحكيم‪ ،‬بهرت األلباب حكمت‪99‬ه‪ ،‬ووس‪99‬عت‬
‫كل شيء رحمته‪ ،‬وأحاط بكل شيء علم‪99‬ه‪ ،‬وأحص‪99‬اه لوح‪99‬ه وقلم‪99‬ه‪ ،‬وأن هللا في ق‪99‬دره‬
‫سراً مصونا ً وعلماً‪ ،‬مخزونا ً احترز به دون جميع خلقه‪ ،‬واستأثر به على جميع بريته‬
‫وإنم‪9‬ا يص‪9‬ل أه‪9‬ل العلم ب‪9‬ه وأرب‪9‬اب واليت‪9‬ه إلى جم‪9‬ل من ذل‪9‬ك‪ ،‬وق‪9‬د ال ي‪9‬ؤذن لهم في‬
‫ذكرها‪ ،‬وربما كلموا الناس في ذلك على قدر عقولهم وقد سأل موسى وعيسى وعزير‬
‫ربنا تبارك وتعالى عن شيء من سر القدر‪ ،‬وأنه لو ش‪99‬اء أن يط‪99‬اع ألطي‪99‬ع‪ ،‬وأن‪99‬ه م‪99‬ع‬
‫ذلك يعصى ف‪9‬أخبرهم س‪9‬بحانه أن ه‪9‬ذا س‪9‬ره‪ ،‬وفي ه‪9‬ذا المق‪9‬ام ت‪9‬اهت عق‪9‬ول كث‪9‬ير من‬
‫الخالئق‪.5‬‬
‫وعن عمران بن ميمون عن ابن عباس قال‪ :‬لما بعث هللا موسى وكلمه قال‪ :‬اللهم أنت‬
‫رب عظيم ولو شئت أن تطاع ألطعت‪ ،‬ولو شئت أال تعصى لم‪99‬ا عص‪99‬يت وأنت تحب‬
‫أن تطاع‪ ،‬وأنت في ذلك تعصى‪ ،‬فكيف هذا يا رب؟ فأوحى هللا إليه‪ :‬إني ال أُسأل عم‪99‬ا‬
‫أفعل وهم يسألون‪ ،‬فانتهى موسى‪.6‬‬
‫أ ـ ما الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن هللا يعلم كل شيء‪:‬‬
‫نقول في مثل هذه اإلمور إننا قد تدرك حكمتها وقد ال تدرك فإن كث‪99‬يراً من األش‪99‬ياء ال‬
‫وح قُ ِل الرُّ و ُح ِم ْن أَ ْم ِر َربِّي َو َم‪99‬ا أُوتِيتُم‬
‫نعلم حكمتها كما قال تعالى‪َ ":‬ويَسْأَلُونَكَ ع َِن الرُّ ِ‬
‫ِّمن ْال ِع ْل ِم إِالَّ قَلِيالً" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪ ،)85 :‬فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل ما الحكمة‬
‫أن هللا جعل اإلبل على هذا الوجه‪ ،‬وجعل الخيل على هذا الوجه‪ ،‬وجع‪9‬ل الحم‪9‬ير على‬
‫هذا الوجه‪ ،‬وجعل اآلدمي على هذا الوجه‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬ول‪99‬و س‪99‬ألنا عن الحكم‪99‬ة في‬
‫هذه األمور ما علمناها ولو سئلنا ما الحكمة في أن هللا عز وج‪99‬ل جع‪99‬ل الظه‪99‬ر أربع‪9‬ا ً‬

‫‪ 1‬اإليمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ ‪.161‬‬


‫‪2‬شفاء العليل صـ ‪ ،514‬اإليمان بالقضاء والقدر صـ ‪.161‬‬
‫‪3‬شفاء العليل صـ ‪ ،239‬اإليمان بالقضاء والقدر صـ ‪.162‬‬
‫‪4‬اإليمان بالقضاء والقدر صـ ‪.162‬‬
‫‪ 5‬كالم البن تيمية نقله القرضاوي في اإليمان بالقدر صـ ‪.82‬‬
‫‪6‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪.82‬‬

‫‪168‬‬
‫وصالة العصر أربعا ً والمغرب ثالثا ً وصالة العشاء أربعا ً وما أشبه ذلك م‪99‬ا اس‪99‬تطعنا‬
‫أن نعلم الحكمة في ذلك وبهذا علمنا أن كثيراً من األمور الكوني‪99‬ة وكث‪99‬يراً من األم‪99‬ور‬
‫الشرعية تخفي علينا حكمتها وإذا كان كذلك فإن‪99‬ا نق‪99‬ول إن التماس‪99‬نا للحكم‪99‬ة في بعض‬
‫من هللا علين‪9‬ا بالوص‪9‬ول إليه‪9‬ا ف‪9‬ذاك زي‪9‬ادة فض‪9‬ل‬ ‫األشياء المخلوق‪9‬ة أو المش‪9‬روعة إن ّ‬
‫وخير وعلم‪ ،‬وإن لم تصل إليها فإن ذلك ال ينقصنا شيئاً‪ ،‬ثم نع‪99‬ود إلى ج‪99‬واب الس‪99‬ؤال‬
‫وهو ما الحكمة في أن هللا عز وجل وكل بنا كراما ً كاتبين يعلمون م‪99‬ا نفع‪99‬ل؟ فالحكم‪99‬ة‬
‫من ذلك بيان أن هللا سبحانه وتعالى نظم االشياء وق ّدرها وأحكمها إحكام ‪9‬ا ً متقن ‪9‬ا ً ح‪99‬تى‬
‫إن‪99‬ه س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى جع‪99‬ل على أفع‪99‬ال ب‪99‬ني آدم وأق‪99‬والهم كرام‪9‬ا ً ك‪99‬اتبين م‪99‬وكلين بهم‬
‫يكتبون ما يفعلون مع أن سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه ولكن كل ه‪99‬ذا‬
‫من أجل بيان كمال عناية هللا عز وج‪9‬ل باإلنس‪9‬ان‪ ،‬وكم‪9‬ال حفظ‪9‬ه تب‪9‬ارك وتع‪9‬الى وأن‬
‫هذا الكون منظم أحسن نظام ومحكم أحسن إحكام وهللا عليم حكيم‪.1‬‬
‫ب ـ الشر ال ينسب إلى هللا‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫الشر ال ينسب إلى هللا‪ ،‬قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬والش‪99‬ر ليس إليك ‪ ،‬فال ينس‪99‬ب الش‪99‬ر‬
‫ال فعالً وال تقديراً وال حكماً‪ ،‬بل الش‪99‬ر في مفع‪99‬والت هللا ال في فعل‪99‬ه‪ ،‬ففعل‪9‬ه كل‪99‬ه خ‪9‬ير‬
‫وحكمة‪ ،‬ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي‪:‬‬
‫ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكوي‪99‬ه بالن‪99‬ار‪ ،‬ف‪99‬المفعول ش‪99‬ر ولكن الفع‪99‬ل خ‪99‬ير‪،‬‬
‫ألنك تريد مصلحته‪ ،‬ثم إن ما يقدره هللا ال يكون ش‪9‬راً محص‪9‬ناً‪ ،‬ب‪9‬ل في محل‪9‬ه وزمان‪9‬ه‬
‫فقط‪ ،‬فإذا أخذ هللا الظالم أخذ عزيز مقتدر صار ذلك شراً بالنس‪99‬بة ل‪99‬ه‪ ،‬أم‪99‬ا لغ‪99‬يره ممن‬
‫يتع‪999‬ظ بم‪999‬ا ص‪999‬نع هللا‪ ،‬فيك‪999‬ون خ‪999‬يراً‪ ،‬ق‪999‬ال تع‪999‬الى في القري‪999‬ة ال‪999‬تي اعت‪999‬دت في‬
‫خَلفَهَا َو َموْ ِعظَةً لِّ ْل ُمتَّقِينَ " (البقرة‪ ،‬آية ‪.)66 :‬‬
‫َفج َع ْلنَاهَا نَ َكاالً لِّ َما بَ ْينَ يَ َد ْيهَا َو َما ْ‬
‫السبت" َ‬
‫وكذا إذا استمرت النعم على اإلنسان حمله ذلك على األشر والبط‪99‬ر‪ ،‬ب‪99‬ل إذا اس‪99‬تمرت‬
‫الحسنات ولم تحصل منه س‪9‬يئة تكس‪99‬ر من ح‪9‬دة نفس‪9‬ه‪ ،‬فق‪9‬د يغف‪99‬ل عن التوب‪99‬ة وينس‪9‬اها‬
‫ويغتر بنفسه ويعجب بعمله وكم من إنس‪99‬ان أذنب ذنب‪9‬ا ً ثم ت‪99‬ذكر واس‪99‬تغفر وص‪99‬ار بع‪99‬د‬
‫التوبة خيراً منه قبلها‪ ،‬ألنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها‪ ،‬فهذا‬
‫آدم عليه ـ الصالة والسالم ـ لم يحصل له اإلجتباء والتوبة والهداية إال بعد أن أكل من‬
‫‪9‬الى‪":‬ربَّنَ‪99‬ا ظَلَ ْمنَ‪99‬ا أَنفُ َس‪9‬نَا َوإِن لَّ ْم تَ ْغفِ‪99‬رْ لَنَ‪99‬ا َوتَرْ َح ْمنَ‪99‬ا‬
‫َ‬ ‫الشجرة وحصل منه الندم ق‪99‬ال تع‪9‬‬
‫لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ْال َخا ِس ِرينَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪ )23 :‬فقال تع‪99‬الى‪":‬ثُ َّم اجْ تَبَ‪99‬اهُ َربُّهُ فَتَ‪َ 9‬‬
‫‪9‬اب َعلَ ْي‪ِ 9‬ه‬
‫َوهَدَى" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)122 :‬‬
‫والثالثة الذين خلفوا بعد المعصية وبع‪99‬د المص‪99‬يبة ال‪99‬تي أص‪99‬ابتهم ح‪99‬تى ض‪99‬اقت علي‪99‬ه‬
‫أنفسهم وضاقت عليهم االرض بما رحبت وصار ينكرهم الناس حتى أق‪99‬اربهم‪ ،‬ص‪99‬ار‬
‫قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه ـ ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفس‪99‬ه علي‪99‬ه‪ ،‬فبع‪99‬د ه‪99‬ذا‬
‫الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظ‪99‬ير أب‪99‬داً‪ ،‬وص‪99‬ارت ح‪99‬الهم أيض‪9‬اً‪،‬‬
‫بعد أن تاب هللا عليهم أكمل من قبل وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل‪ ،‬فقد ُذكروا‬
‫ت‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ُم األَرْ ضُ بِ َم‪99‬ا َر ُحبَ ْ‬ ‫ض ‪ 9‬اق َ ْ‬
‫‪9‬وا َحتَّى إِ َذا َ‬ ‫‪9‬ال‪":‬و َعلَى الثَّالَثَ ‪ِ 9‬ة الَّ ِذينَ ُخلِّفُ‪ْ 9‬‬
‫َ‬ ‫ب‪99‬أعينهم ق‪9‬‬

‫‪1‬المجموع الثمين البن عثيمين (‪.)168 /1‬‬


‫‪2‬مسلم رقم ‪.771‬‬

‫‪169‬‬
‫‪9‬اب َعلَ ْي ِه ْم لِيَتُوبُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬وا إِ َّن هّللا َ‬ ‫وا أَن الَّ َم ْل َجأ َ ِمنَ هّللا ِ إِالَّ إِلَ ْي‪ِ 9‬ه ثُ َّم تَ‪َ 9‬‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم أَنفُ ُسهُ ْم َوظَنُّ ْ‬
‫ض اق َ ْ‬
‫َو َ‬
‫‪1‬‬
‫َّحي ُم" (التوبة‪ ،‬آية ‪. )118 :‬‬ ‫هُ َو التَّوَّابُ الر ِ‬
‫فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى ي‪99‬وم القيام‪99‬ة وه‪99‬ذا ش‪99‬يء‬
‫عظيم‪ ،‬وسواء كان ذلك في اإلمور الشرعية أو في اإلمور الكوني‪99‬ة‪ ،‬ولكن هاهن‪99‬ا أم‪99‬ر‬
‫يجب معرفته وه‪99‬و أن الخيري‪99‬ة والش‪99‬رية ليس‪99‬ت باعتب‪99‬ار قض‪99‬اء هللا س‪99‬بحانه وتع‪99‬الى‪،‬‬
‫فقضاء هللا تعالى كله خير‪ ،‬حتى ما يقضيه هللا من شر هو في الواقع خير‪ ،‬وإنما الشر‬
‫في المقضي‪ ،‬أما قضاء هللا نفسه فهو خير والدليل قول الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪:‬‬
‫الخير بيديك والشر ليس إليك‪.2‬‬
‫ولم يقل والشر بيدك‪ ،‬فال ينسب الشر إلى هللا أبداً‪ ،‬فضالً عن أن يكون بيديه فال ينسب‬
‫الشر إلى هللا ال إرادة وال قضاء فاهلل ال يريد بقضاء الش‪99‬ر ش‪99‬راً‪ ،‬لكن الش‪99‬ر يك‪99‬ون في‬
‫المقضي‪ ،‬وقد يالئم اإلنسان وقد ال يالئمه‪ ،‬وقد يكون طاعة وقد يك‪9‬ون معص‪9‬ية‪ ،‬فه‪9‬ذا‬
‫في المقضي‪ ،‬ومع ذلك فهو وإن كان شراً في محله فهو خير في محل آخر‪ ،‬وال يمكن‬
‫أن يكون شراً محضاً‪ ،‬حتى المقضي على كونه شراً ليس شراً محضاً‪ ،‬بل هو شر من‬
‫وجه خير من وجه‪ ،‬أو شر في محل خير في محل آخر ولنضرب ل‪99‬ذلك مثالً‪ :‬الج‪99‬دب‬
‫والفقر هذا شر‪ ،‬لكنه خ‪9‬ير باعتب‪9‬ار م‪9‬ا ينتج عن‪9‬ه‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪":‬ظَهَ‪َ 9‬ر ْالفَ َس‪9‬ا ُد فِي ْالبَ‪9‬رِّ‬
‫ْض الَّ ِذي َع ِملُ‪99‬وا لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِج ُع‪99‬ونَ " (ال‪99‬روم‪،‬‬ ‫اس لِيُ‪ِ 9‬ذيقَهُم بَع َ‬ ‫ت أَ ْي‪ِ 9‬دي النَّ ِ‬ ‫َو ْالبَحْ ِر بِ َما َك َس‪9‬بَ ْ‬
‫آية ‪ )41 :‬والرجوع إلى هللا ـ عز وج‪99‬ل ـ من معص‪99‬يته إلى طاعت‪99‬ه ال ش‪99‬ك أن‪99‬ه خ‪99‬ير‬
‫وينتج خيراً كثيراً‪ ،‬فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد األنفس كل‪99‬ه ينقلب إلى‬
‫لذة إذا كان يعقبه الص‪99‬الح وله‪99‬ذا ق‪99‬ال‪":‬لَ َعلَّهُ ْ‪9‬م يَرْ ِج ُع‪99‬ونَ " وكم من أن‪99‬اس طغ‪99‬وا بك‪99‬ثرة‬
‫المال وزادوا ونسوا هللا ـ عز وجل ـ واشتغلوا بالمال فإذا أُصيبوا بفقر رجع‪99‬وا إلى هللا‬
‫وعرفوا أنهم ضالون‪ ،‬فهذا الشر صار خيراً باعتبار آخر‪ ،‬ك‪99‬ذلك قط‪99‬ع ي‪99‬د الس‪99‬ارق ال‬
‫شك أنه شر عليه لكن‪9‬ه خ‪99‬ير بالنس‪9‬بة لغ‪9‬يره‪ ،‬أم‪9‬ا بالنس‪99‬بة ل‪9‬ه فألن قطعه‪99‬ا يس‪9‬قط عن‪99‬ه‬
‫العقوبة في اآلخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب اآلخ‪99‬رة‪ ،‬وه‪99‬و أيض‪9‬ا ً خ‪99‬ير في غ‪99‬ير‬
‫السارق فإن فيه ردعا ً لمن أراد أن يسرق وفيه أيضا ً حف‪99‬ظ لألم‪99‬وال‪ ،‬ألن الس‪99‬ارق إذا‬
‫عرف أنه إذا سرق ستقطع يده امتنع من السرقة فصار في ذلك حفظ ألموال الناس‪.3‬‬
‫فاهلل سبحانه وتعالى ال يخلق الش‪9‬ر المحض ال‪9‬ذي ال خ‪9‬ير في‪9‬ه‪ ،‬وال منفع‪9‬ة في‪9‬ه ألح‪9‬د‪،‬‬
‫وليس له فيه حكمة وال رحمة‪ ،‬وال يعذب الناس بال ذنب‪ ،‬وقد بين العلماء ما في خلق‪99‬ه‬
‫إلبليس والحش‪99‬رات والكواس‪99‬ر من الحكم‪99‬ة والرحم‪99‬ة‪ ،‬فالش‪99‬يء الواح‪99‬د يك‪99‬ون خلق‪99‬ه‬
‫باعتبار خيراً وباعتب‪99‬ار آخ‪99‬ر ش‪99‬راً‪ ،‬فاهلل خل‪99‬ق إبليس يبتلي ب‪99‬ه عب‪99‬اده فمنهم من يمقت‪99‬ه‬
‫ويحارب منهجه‪ ،‬ويعاديه ويعادي أولي‪99‬اءه‪ ،‬وي‪99‬والي ال‪99‬رحمن ويخض‪99‬ع ل‪99‬ه‪ ،‬ومنهم من‬
‫يواليه ويتبع خطواته‪.4‬‬
‫ثانياً‪ :‬التحسين والتقبيح‪:‬‬

‫‪ 1‬القول المفيد على كتاب التوحيد محمد صالح العثيمين (‪.)178 /3‬‬
‫‪2‬صحيح مسلم رقم ‪.771‬‬
‫‪3‬القول المفيد على كتاب التوحيد (‪.)179 /3‬‬
‫‪4‬القدر لألشقر صـ ‪.71‬‬

‫‪170‬‬
‫هذا الموضوع له عالقة بالموضوع السابق‪ ،‬ف‪99‬البحث في‪99‬ه ن‪99‬اتج عن البحث في تعلي‪99‬ل‬
‫أفعال هللا هل يحكم عليها بحكم العقل أوالً‪5‬؟ إن إطالق التحسين والتقبيح على كل فعل‬
‫من جه‪99‬ة العق‪99‬ل وح‪99‬ده دون الش‪99‬رع‪ ،‬أو نفي أي دور للعق‪99‬ل في تحس‪99‬ين األفع‪99‬ال أو‬
‫تقبيحها غير صحيح‪ ،‬والمذهب الصحيح في هذه المسألة أنه‪ :‬ثبت بالخطاب والحكم‪99‬ة‬
‫الحاصلة من الشرائع ثالثة أنواع‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن يكون الفعل مشتمالً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الش‪99‬رع ب‪99‬ذلك‪ ،‬كم‪99‬ا يعلم‬
‫أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فساده‪ ،‬فهذا النوع ه‪99‬و حس‪99‬ن‬
‫قبيح‪ ،‬وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك‪ ،‬ال أن‪99‬ه أثبت للفع‪99‬ل ص‪99‬فة لم تكن لكن ال يل‪99‬زم‬
‫من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا ً في اآلخرة إذا لم يرد الشرع ب‪99‬ذلك‪ ،‬وه‪99‬ذا‬
‫مما غلط فيه غالة القائلين بالتحس‪99‬ين والتق‪99‬بيح‪ ،2‬ف‪99‬إنهم ق‪99‬الوا‪ :‬إن العب‪99‬اد يع‪99‬اقبون على‬
‫‪9‬الى‪":‬و َم‪99‬ا ُكنَّا‬
‫َ‬ ‫أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث هللا إليهم رسوال وهذا خالف النص‪ ،‬قال تع‪9‬‬
‫ث َرسُوالً" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬ ‫ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬
‫‪2‬ـ أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً‪ ،‬وإذا نهى عن ش‪99‬يء ص‪99‬ار قبيح‪9‬اً‪ ،‬واكتس‪99‬ب‬
‫صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع‪.‬‬
‫‪3‬ـ أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن به العبد‪ ،‬ه‪9‬ل يطيع‪9‬ه أم يعص‪9‬يه‪ ،‬وال يك‪9‬ون الم‪9‬راد‬
‫فعل المأمور به‪ ،‬كما أمر إبراهيم بذبح ابنه "فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِي ِن" (الصافات‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪ )103‬حصل المقصود فف‪99‬داه بال‪99‬ذبح وك‪99‬ذلك ح‪99‬ديث االب‪99‬رص واألق‪99‬رع واألعمى لم‪99‬ا‬
‫بعث هللا إليهم من سألهم الصدقة‪ ،‬فلما أج‪99‬اب األعمى ق‪99‬ال المل‪99‬ك‪ :‬أمس‪99‬ك علي‪99‬ك مال‪99‬ك‬
‫فإنم‪99‬ا ابتليتم‪ ،‬فرض‪99‬ي هللا عن‪99‬ك وس‪99‬خط على ص‪99‬احبيك‪ ،3‬فالحكم‪99‬ة منش‪99‬ؤها من نفس‬
‫األمر ال من نفس المأمور به‪ ،‬فهذه االقسام الثالثة هي الصواب‪.4‬‬
‫وهناك نقطة مهمة وهي‪ :‬إن ادراك العقل لحسن الفعل أو قبحه أك‪99‬ثره مجم‪99‬ل‪ ،‬فالعق‪99‬ل‬
‫ال يحيط بالوجوه واالعتبارات لألفعال كلها ولذلك ك‪9‬ان الش‪99‬رع وإرس‪99‬ال الرس‪99‬ل الب‪99‬د‬
‫منه خاصة مع غلب‪99‬ة اله‪99‬وى‪ ،‬ولكن ه‪99‬ذا ال يمن‪99‬ع وج‪99‬ود ق‪99‬در مش‪99‬ترك بين العقالء في‬
‫إدراك حسن بعض األفعال أو قبحها‪ ،5‬وإذا تتبعنا نصوص الشرع لوجدنا الداللة على‬
‫أن هذا مركوز في الفطرة ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫هّللا‬ ‫َ‬ ‫هّللا‬
‫وا َو َج ْدنَا َعلَ ْيهَا آبَاءنَا َو ُ أ َم َرنَ‪99‬ا بِهَ‪99‬ا قُ‪99‬لْ إِ َّن َ الَ‬ ‫اح َشةً قَالُ ْ‬ ‫وا فَ ِ‬ ‫‪1‬ـ قال تعالى‪َ ":‬وإِ َذا‪ 9‬فَ َعلُ ْ‬
‫يَأْ ُم ُر بِ ْالفَحْ َشاء أَتَقُولُونَ َعلَى هّللا ِ َم‪99‬ا الَ تَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ * قُ‪99‬لْ أَ َم‪َ 9‬ر َربِّي بِ ْالقِ ْس‪ِ 9‬ط" (األع‪99‬راف‪،‬‬
‫آية ‪ 28 :‬ـ ‪.)29‬‬
‫فالفاحشة هنا هي طواف المشركين عراة بالبيت رجاالً ونساء‪ ،‬فبين هللا أنه ال يأمر به‬
‫لقبحه‪ ،‬ثم بين هللا أنه ال يأمر إال بما هو حسن‪.6‬‬
‫ش َما ظَهَ َر ِم ْنهَا َو َم‪99‬ا بَطَنَ َوا ِإل ْث َم َو ْالبَ ْغ َي‬
‫اح َ‬ ‫‪2‬ـ وقال هللا تعالى‪":‬قُلْ إِنَّ َما َح َّر َم َربِّ َي ْالفَ َو ِ‬
‫وا َعلَى هّللا ِ َما الَ تَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ "‬ ‫وا بِاهّلل ِ َما لَ ْم يُن َِّزلْ بِ ِه س ُْلطَانًا َوأَن تَقُولُ ْ‬
‫ق َوأَن تُ ْش ِر ُك ْ‬ ‫بِ َغي ِْر ْال َح ِّ‬
‫(األعراف‪ ،‬آية ‪ ،)33 :‬ففي اآلية علق هللا التحريم ببعض األفعال لفحشها‪.‬‬

‫‪ 5‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.248‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه صـ ‪.255‬‬
‫‪3‬البخاري رقم ‪ ،3464‬فتح الباري (‪.)500 /6‬‬
‫‪4‬مجموع فتاوى ابن تيمية (‪ 434 /8‬ـ ‪.)436‬‬
‫‪5‬مفتاح دار السعادة نقالً عن مسائل أصول الدين (‪.)382 /1‬‬
‫‪6‬مدارج السالكين (‪ )249 /1‬البن القيم‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫اح َش‪9‬ةً َو َس‪9‬اء َس‪9‬بِيالً" (اإلس‪99‬راء‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫ُوا ال ِّزنَى إِنَّهُ َكانَ فَ ِ‬ ‫‪3‬ـ وقال هللا تعالى‪َ ":‬والَ تَ ْق َرب ْ‬
‫‪ ،)32‬فاهلل عز وجل علل النهي عن قرب الزنا بكونه فاحشة‪.1‬‬
‫ق"‬ ‫ت ِمنَ ال‪9‬ر ِّْز ِ‬ ‫‪4‬ـ وقال هللا تعالى‪":‬قُلْ َم ْن َح‪َّ 9‬ر َم ِزينَ‪9‬ةَ هّللا ِ الَّتِ َي أَ ْخ‪َ 9‬ر َج لِ ِعبَ‪99‬ا ِد ِه َو ْالطَّيِّبَ‪99‬ا ِ‬
‫(األعراف‪ ،‬آية ‪ ،)32 :‬فوصف هللا بعض رزقه بأنه طيب‪ ،‬وأن هذا الوصف‪ 9‬يقتض‪99‬ي‬
‫عدم تحريمه‪ ،‬فدل على ثبوت وص‪99‬ف للفع‪99‬ل ه‪99‬و منش‪99‬أ للمص‪99‬لحة م‪99‬انع من التح‪99‬ريم‪،‬‬
‫وهذا هو التحسين العقلي عينه‪.2‬‬
‫‪5‬ـ لقد ضرب هللا أمثلة عقلية كثيرة دالة على حسن التوحي‪99‬د وم‪99‬دح فاعل‪99‬ه‪ ،‬وعلى قبح‬
‫ب لَ ُكم َّمثَاًل‬‫تعالى‪":‬ض‪َ 9‬ر َ‪9‬‬
‫َ‬ ‫الشرك وذمه وذم فاعله‪ ،‬واألدلة فيه كثيرة‪ ،‬فمن ذلك قول هللا‬
‫ت أَ ْي َم‪99‬انُ ُكم ِّمن ُش‪َ 9‬ر َكاء فِي َم‪99‬ا َرزَ ْقنَ‪99‬ا ُك ْم فَ‪99‬أَنتُ ْم فِي‪ِ 9‬ه َس‪َ 9‬واء‬ ‫ِم ْن أَنفُ ِس‪ُ 9‬ك ْم هَ‪99‬ل لَّ ُكم ِّمن َّما َملَ َك ْ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُ‪99‬ونَ " (ال‪99‬روم‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ .)28 :‬ففي‬ ‫ص ُل اآْل يَا ِ‬ ‫ك نُفَ ِّ‬ ‫تَخَافُونَهُ ْم َك ِخيفَتِ ُك ْم أَنفُ َس ُك ْم َك َذلِ َ‬
‫هذا المثل بيان من هللا للمشركين أنهم إذا كانوا ال يرضون أن يكون مم‪99‬اليكهم ش‪99‬ركاء‬
‫لهم‪ ،‬فكيف ساغ لهم أن يجعلوا المخلوقين شركاء للخالق فالخ‪99‬الق أولى بالتنزي‪99‬ه ونفي‬
‫الشريك في العبادة‪ ،3‬فلو ك‪99‬ان الش‪99‬رك قبيح‪9‬ا ً لمج‪99‬رد النهي عن‪99‬ه‪ ،‬الكتفى ب‪99‬النهي عن‪99‬ه‬
‫فقط‪ ،‬ولم يذكر مثالً يدل على قبحه في العقول والفطر‪.4‬‬
‫ض ‪ٍّ 9‬ر الَّ تُ ْغ ِن َعنِّي‬ ‫‪9‬ر ْد ِن ال ‪9‬رَّحْ َمن بِ ُ‬ ‫ومن‪99‬ه ق‪99‬ول هللا تع‪99‬الى‪9":‬أَأَتَّ ِخ‪ُ 9‬ذ ِمن ُدونِ ‪ِ 9‬ه آلِهَ ‪9‬ةً إِن يُ‪ِ 9‬‬
‫ضالَ ٍل ُّمبِي ٍن" (يس‪ ،‬آية ‪ 23 :‬ـ ‪.)24‬‬ ‫ون * إِنِّي إِ ًذا لَّفِي َ‬ ‫َشفَا َعتُهُ ْم َش ْيئًا َوالَ يُنقِ ُذ ِ‬
‫فلم يحتج هللا عليهم بمجرد األمر‪ ،‬بل احتج عليهم بالعقل ومقتضى الفطرة‪ ،‬ألن من ال‬
‫يملك دفع ضر عن نفسه ف‪9‬أولى أن ال يق‪9‬در على دفع‪9‬ه عن غ‪9‬يره‪ ،‬فك‪9‬انت عبادت‪9‬ه من‬
‫كان نافعا ً ضالالً مبينا ً‪.5‬‬
‫إن مجرد معرفة حسن األفعال وقبحها بالعقل قبل بعثة الرسول ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‬
‫ال يترتب عليه الثواب والعقاب‪ ،‬كما أننا نثبت حس‪99‬ن األفع‪99‬ال وقبحه‪99‬ا ل‪99‬ذاتها ومعرف‪99‬ة‬
‫العقل لذلك‪ ،‬كما أنه له مدخل في معرف‪99‬ة حس‪99‬ن بعض األفع‪99‬ال وقبحه‪99‬ا‪ ،‬وأم‪99‬ا الث‪99‬واب‬
‫على فعل األفعال الحسنة فإنما هو من قبل الشارع والعقاب على فعل األفعال القبيحة‪،‬‬
‫إنم‪99‬ا ه‪99‬و من قب‪99‬ل الش‪99‬ارع‪ ،‬فال يجب ش‪99‬ئ على المكل‪99‬ف قب‪99‬ل ورد الش‪99‬رع‪ ،‬والث‪99‬واب‬
‫ث‬‫والعق‪99‬اب متوق‪99‬ف على بعث‪99‬ة الرس‪99‬ل‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ " :‬و َم‪99‬ا ُكنَّا ُم َع‪ِّ 9‬ذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬
‫َرسُوالً" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬
‫وتحقيق الحق في هذا األصل العظيم أن القبح ثابت في نفسه‪ ،‬وأن‪9‬ه ال يع‪9‬ذب هللا علي‪9‬ه‬
‫إال بعد إقامة الحجة بالرسالة‪.6‬‬
‫والحق الذي ال يجد التناقض إليه السبيل إن األفعال في نفسها حسنة وقبيحة‪ ،‬كما أنه‪99‬ا‬
‫نافعة وضارة‪ ،‬ولكن ال يترتب عليها ثواب وال عقاب‪ ،‬إال باألمر والنهي‪ ،‬وقبل ورود‬
‫األم‪9‬ر والنهي ال يك‪9‬ون العم‪9‬ل الق‪9‬بيح موجب‪9‬ا ً للعق‪9‬اب م‪9‬ع قبح‪9‬ه في نفس‪9‬ه‪ ،‬واألوث‪9‬ان‪،‬‬
‫والكذب‪ ،‬والزنا‪ ،‬والظلم‪ ،‬والفواحش كلها في ذاتها‪ ،‬والعقاب عليها مشروط بالشرع‪.7‬‬

‫‪ 1‬مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (‪.483 /1‬‬


‫‪2‬مدارج السالكين البن القيم (‪.)249 /1‬‬
‫‪ 3‬مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (‪.)484 /1‬‬
‫‪4‬المصدر نفسه (‪.)484 /1‬‬
‫‪5‬المصدر نفسه (‪ ،)484 /1‬مفتاح دار السعادة (‪.)333 /2‬‬
‫‪6‬مفتاح دار السعادة البن القيم (‪.)7 / 2‬‬
‫‪7‬مدارج السالكين (‪.)247 / 1‬‬

‫‪172‬‬
‫فاهلل سبحانه وتعالى ال يع‪99‬ذب عب‪99‬اده إال بع‪99‬د إقام‪99‬ة الحج‪99‬ة عليهم ببعث‪99‬ة الرس‪99‬ل عليهم‬
‫"و َم‪99‬ا ُكنَّا ُم ْهلِ ِكي ْالقُ‪َ 9‬رى إِاَّل َوأَ ْهلُهَ‪99‬ا ظَ‪99‬الِ ُمونَ "‬ ‫فضالً منه تعالى ورحم‪99‬ة‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ :‬‬
‫(القصص ‪ ،‬آية ‪.)59 :‬‬
‫وه‪99‬ذا من فض‪99‬ل هللا ورحمت‪99‬ه أن ال يع‪99‬ذب الن‪99‬اس إال بع‪99‬د إقام‪99‬ة الحج‪99‬ة عليهم ببعث‪99‬ة‬
‫اس َعلَى هّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع‪َ 9‬د‬ ‫الرسل‪ ،‬قال هللا تعالى‪" :‬رُّ ُسالً ُّمبَ ِّش ِرينَ َو ُمن ‪ِ 9‬ذ ِرينَ لِئَالَّ ي ُك‪99‬ونَ لِلنَّ ِ‬
‫الرُّ س ُِل" (النساء ‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)165 :‬فه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة ت‪99‬دل دالل‪99‬ة ص‪99‬ريحة على أن الحج‪99‬ة إنم‪99‬ا‬
‫قامت بالرسل وأن‪9‬ه بع‪9‬د مج‪99‬يئهم ال يك‪9‬ون للن‪9‬اس على هللا حج‪9‬ة‪ ،‬وه‪99‬ذا ي‪99‬دل على أن‪99‬ه‬
‫تع‪999‬الى ال يع‪999‬ذب الن‪999‬اس قب‪999‬ل مجئ الرس‪999‬ل إليهم‪ ،‬ألن الحج‪999‬ة حينئ‪999‬ذ لم تقم عليهم‪،‬‬
‫فالصواب إثب‪99‬ات الحس‪99‬ن والقبح عقالً ونفي التع‪99‬ذيب على ذل‪99‬ك إال بع‪99‬د بعث‪99‬ة الرس‪99‬ل‪،‬‬
‫فالحسن والقبح العقلي ال يستلزم التعذيب‪ ،‬وإنما يستلزمه مخالفة المرسلين‪.1‬‬
‫ومن اآليات الدالة داللة صريحة على معرفة العق‪99‬ل حس‪99‬ن األفع‪99‬ال وقبحه‪99‬ا وأنه‪99‬ا في‬
‫ُوف َويَ ْنهَاهُ ْم ع َِن ْال ُمن َك ِر َوي ُِحلُّ لَهُ ُم‬ ‫ذاتها حسنة وقبيحة قول هللا تعالى‪" :‬يَأْ ُم ُرهُم بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ث" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ )127 :‬وذل‪99‬ك ألن المع‪99‬روف ال‪99‬ذي‬ ‫ت َويُ َحرِّ ُم َعلَ ْي ِه ُم ْال َخبَآئِ َ‬‫الطَّيِّبَا ِ‬
‫يأمرهم به تعالى هو ما تعرفه وتقر بحسنه العقول والفطر الس‪99‬ليمة وأن المنك‪99‬ر ال‪99‬ذي‬
‫ينهاهم عنه تعالى هو ما تنكره العقول والفطر السليمة وتق‪99‬ر بقبحه‪ ،2‬وي‪99‬دل على ذل‪99‬ك‬
‫ث"‪ ،‬فه‪9‬ذه‬ ‫ت َويُ َح‪9‬رِّ ُم َعلَ ْي ِه ُم ْال َخبَ‪9‬آئِ َ‬
‫أيضا ً قوله تعالى في نفس اآلية‪َ " :‬وي ُِح‪ 9‬لُّ لَهُ ُم الطَّيِّبَ‪9‬ا ِ‬
‫اآلية تدل داللة صريحة في أن الحالل كان طيبا ً قبل حله‪ ،‬وأن الخبيث كان خبيثا ً قب‪99‬ل‬
‫تحريمه‪.3‬‬
‫إن الطيب إذا أح‪99‬ل من الش‪99‬ارع فق‪99‬د اكتس‪99‬ب طيب ‪9‬ا ً آخ‪99‬ر إلى طيب‪99‬ه‪ ،‬فص‪99‬ار طيب ‪9‬ا ً من‬
‫الوجهين معاً‪ ،‬وكذلك القبيح إذا نهى الشارع عنه اكتسب قبحا ً إلى قبحه‪ ،‬فصار قبيح‪99‬ا ً‬
‫من الوجهين معا ً‪ ،4‬وذلك ألن حسن األفعال وقبحها ثابتان لذاتها‪ ،‬ويكتشف ذلك بالعقل‬
‫والشرع معا ً‪.5‬‬
‫ثالثاً‪ :‬فعل األصلح‪ ،‬معنى االستطاعة وتكليف ما ال يطاق‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ وجوب فعل اإلصلح‪:‬‬
‫هذه المسألة متفرعة عن مسألة التحسين والتقبيح العقل‪99‬يين‪ ،‬معتق‪99‬دنا في ه‪99‬ذه المس‪99‬ألة‪:‬‬
‫إنه ال يجب فعل األصلح على هللا تعالى‪ ،‬بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد‪ ،‬فاهلل‬
‫أمر العباد بما فيه صالحهم‪ ،‬ونهاهم عما فيه فسادهم‪ ،‬وأن فع‪99‬ل الم‪99‬أمور ب‪99‬ه مص‪99‬لحة‬
‫عامة لمن فعله‪ ،‬وأن إرسال الرسل مصلحة‪ ،‬وإن ك‪99‬ان في‪99‬ه ض‪99‬رر على بعض الن‪99‬اس‬
‫لمعصيته‪ ،‬ففعل المأمور به وترك المنهي عنه مصلحة لكل فاع‪99‬ل وت‪99‬ارك‪ ،‬وأم‪99‬ا نفس‬
‫األمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة للعباد‪ ،‬وإن تضمن شراً لبعضهم وهكذا سائر ما‬
‫يقدره هللا ـ تعالى ـ تغلب فيه المصلحة والرحم‪99‬ة والمنفع‪99‬ة‪ ،‬وإن ك‪99‬ان في ض‪99‬من ذل‪99‬ك‬
‫ضرر لبعض الناس‪ ،‬فلله في ذلك حكمة أخرى‪ ..‬وإن كان في بعض ما يخلق‪9‬ه م‪99‬ا في‪9‬ه‬

‫‪1‬مجموع الفتاوي (‪ )435 / 8‬دار السعادة (‪.)39 / 2‬‬


‫‪2‬منهج السلف والمتكلمين‪ ،‬جابر ادريس علي (‪.)142 / 1‬‬
‫‪3‬المصدر نفسه (‪.)142 / 1‬‬
‫‪4‬مدارج السالكين (‪ 249 / 1‬ـ ‪ ،)250‬المصدر نفسه (‪.)143 / 1‬‬
‫‪5‬منهج السلف والمتكلمين (‪.)143 / 1‬‬

‫‪173‬‬
‫ضرر لبعض الناس‪ ،‬أو هو سبب ضرر ـ كال‪99‬ذنوب ـ فالب‪99‬د في ك‪99‬ل ذل‪99‬ك من حكم‪99‬ة‬
‫ومصلحة ألجلها خلقها‪ ،‬وقد غلبت رحمته غضبه‪.1‬‬
‫‪2‬ـ معنى اإلستطاعة‪:‬‬
‫هذه المسألة من أهم المسائل في باب القدر‪ ،‬ألنها تتعلق بقدرة العب‪99‬د واس‪99‬تطاعته ال‪99‬تي‬
‫جعلها هللا مناط التكليف‪ ،‬ويتعلق بها أمران مهمان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬هل للعبد قدرة يفعل أو ال؟ والث‪99‬اني‪ :‬ه‪99‬ل اس‪99‬تطاعته قب‪99‬ل الفع‪99‬ل فق‪99‬ط أو مع‪99‬ه‬
‫فقط‪ ،‬أو هي قبل الفعل وبعده؟ وتحدث العلماء في هذه المسألة بالتفصيل فقالوا‪:‬‬
‫أ ـ فهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع‪ ،‬والتمكن وسالمة األآلت‪ ،‬وهي ال‪99‬تي‬
‫تكون مناط األمر والنهي‪ ،‬وهي المصححة للفعل‪ ،‬فهذه ال يجب أن تق‪99‬ارن الفع‪99‬ل‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫قد تكون قبله متقدمة عليه‪ ،‬وهذه االس‪99‬تطاعة المتقدم‪99‬ة ص‪99‬الحة للض‪99‬دين‪ ،‬ومث‪99‬ال ه‪99‬ذه‬
‫اس‪99‬تَطَا َع إِلَيْ‪ِ 99‬ه َس‪99‬بِيالً" (آل‬
‫ت َم ِن ْ‬ ‫اس ِحجُّ ْالبَ ْي ِ‬
‫تع‪99‬الى‪":‬وهّلِل ِ َعلَى النَّ ِ‬
‫َ‬ ‫االس‪99‬تطاعة قول‪99‬ه‬
‫عمران‪ ،‬آية ‪ ،)97 :‬فهذه االستطاعة قبل الفع‪99‬ل‪ ،‬ول‪99‬و لم تكن إال م‪99‬ع الفع‪99‬ل لم‪99‬ا وجب‬
‫الحج إال على من حج‪ ،‬وال عصى أحد بترك الحج‪ ،‬وال كان الحج واجبا ً على أحد قبل‬
‫اس ‪9‬تَطَ ْعتُ ْم" (التغ‪99‬ابن‪،‬‬ ‫اإلحرام‪ ،‬بل قبل فراغه‪ ،‬ومن أمثلتها قوله تعالى‪":‬فَ‪99‬اتَّقُوا هَّللا َ َم‪99‬ا ْ‬
‫آية ‪ .)16 :‬فأمر بالتقوى بمقدار االستطاعة‪ ،‬ولو أراد االس‪99‬تطاعة المقارن‪99‬ة لم‪99‬ا وجب‬
‫على أحد من التق‪99‬وى إال م‪9‬ا فع‪99‬ل فق‪99‬ط‪ ،‬إذ ه‪99‬و ال‪9‬ذي قارنت‪99‬ه تل‪99‬ك االس‪99‬تطاعة‪ ،2‬وه‪9‬ذه‬
‫االستطاعة هي من‪99‬اط األم‪9‬ر والنهي‪ ،‬والث‪99‬واب والعق‪9‬اب‪ ،‬وعليه‪9‬ا يتكلم الفقه‪99‬اء‪ ،‬وهي‬
‫الغالبة في عرف الناس‪.3‬‬
‫ب ـ وهناك االستطاعة التي يجب معها وجود الفعل‪ ،‬وه‪99‬ذه هي االس‪99‬تطاعة المقارن‪99‬ة‬
‫الس‪ْ 9‬م َع َو َم‪99‬ا َك‪99‬انُ ْ‬
‫وا‬ ‫للفعل الموجبة له‪ ،‬ومن أمثلتها قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ ":‬م‪99‬ا َك‪99‬انُ ْ‬
‫وا يَ ْس‪9‬تَ ِطيعُونَ َّ‬
‫صرُونَ " (هود‪ ،‬آية ‪.)20 :‬‬ ‫يُ ْب ِ‬
‫َت أَ ْعيُنُهُ ْم فِي ِغطَ‪99‬اء عَن‬
‫ض ‪9‬ا * الَّ ِذينَ َك‪99‬ان ْ‬ ‫وقوله‪":‬وع ََرضْ نَا‪َ 9‬جهَنَّ َم يَوْ َمئِ ٍذ لِّ ْل َك‪99‬افِ ِرينَ َعرْ ً‬
‫َ‬
‫ِذ ْك ِري َو َكانُوا اَل يَ ْستَ ِطيعُونَ َس ْمعًا" (الكهف‪ ،‬آية ‪ 100 :‬ـ ‪.)101‬‬
‫ف‪99‬المراد بع‪99‬دم االس‪99‬تطاعة مش‪99‬قة ذل‪99‬ك عليهم‪ ،‬وص‪99‬عوبته على نفوس‪99‬هم فنفوس‪99‬هم ال‬
‫تستطيع إرادته‪ ،‬وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوا‪ ،‬وهذه ح‪99‬ال من ص‪99‬ده ه‪99‬واه أو‬
‫رأيه الفاسد عن استماع كتب هللا المنزلة‪ ،‬واتباعه‪99‬ا‪ ،‬وق‪99‬د أخ‪99‬بر أن‪99‬ه ال يس‪99‬تطيع ذل‪99‬ك‪،‬‬
‫وهذه االستطاعة هي المقارنة الموجبة له‪ .4‬وهذه االس‪99‬تطاعة هي االس‪99‬تطاعة الكوني‪99‬ة‬
‫التي هي مناط القضاء والقدر‪ ،‬وبها يتحقق وجود الفعل‪.5‬‬
‫وبذلك نثبت نوعي االستطاعة‪ ،‬سواء التي هي مناط التكليف‪ ،‬وهذه تكون قبل الفع‪99‬ل‪،‬‬
‫وبها يتعلق الشرع حيث ال يكلف غ‪99‬ير المس‪99‬تطيع‪ ،‬واألخ‪99‬رى ال‪99‬تي تك‪99‬ون م‪99‬ع الفع‪9‬ل‪،‬‬

‫‪ 1‬القضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.259‬‬


‫‪2‬القدر‪ ،‬ابن تيمية صـ ‪.372‬‬
‫‪3‬القضاء والقدر‪ ،‬المحمود صـ ‪.269‬‬
‫‪ 4‬درء تعارض العقل والنقل البن تيمية (‪.)61 /1‬‬
‫‪5‬القضاء والقدر صـ ‪.270‬‬

‫‪174‬‬
‫فهذه يتحقق الفع‪99‬ل به‪99‬ا وتك‪99‬ون بق‪99‬درة العب‪99‬د وفعل‪99‬ه‪ ،‬لكنه‪99‬ا ال تق‪99‬ع إال موافق‪99‬ه للقض‪99‬اء‬
‫والقدر‪.6‬‬
‫‪3‬ـ ال تكليف إال بما يطاق‪:‬‬
‫لم يكلف هللا تعالى الخلق إال بما يطيقونه‪ ،‬وال يطيق‪99‬ون إال م‪99‬ا كلفهم‪ ،‬وه‪99‬و تفس‪99‬ير "ال‬
‫حول وال قوة إال باهلل" نقول‪ :‬ال حيلة ألحد وتح ّول ألحد وال حركة ألح‪99‬د عن معص‪99‬ية‬
‫هللا‪ ،‬إال بمعونة هللا وال قوة ألح‪99‬د على إقام‪99‬ة طاع‪99‬ة هللا والثب‪99‬ات عليه‪99‬ا إال بتوفي‪99‬ق هللا‬
‫ف هّللا ُ نَ ْفسًا إِالَّ ُو ْس َعهَا" (البقرة‪ ،‬آية ‪ ،)286 :‬وقال تعالى‪":‬الَ‬
‫تعالى‪ ،‬قال تعالى‪":‬الَ يُ َكلِّ ُ‬
‫ف نَ ْفسًا إِالَّ ُو ْس َعهَا" (االنعام‪ ،‬آية ‪.)152 :‬‬ ‫نُ َكلِّ ُ‬

‫‪6‬المصدر نفسه صـ ‪.272‬‬

‫‪175‬‬
‫المبحث التاسع‪ :‬سنة هللا في اآلجال وقدرة هللا وثمار اإليمان بالقدر‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬سنة هللا في اآلجال‪:‬‬
‫إن هللا سبحانه وتعالى ق ّدر آجال الخالئ‪99‬ق‪ ،‬بحيث إذا ج‪99‬اء أجلهم ال يس‪99‬تأخرون س‪99‬اعة‬
‫وال يس‪99‬تقدمون‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬إِ َذا‪َ 9‬ج‪ 9‬اء أَ َجلُهُ ْم فَالَ يَ ْس‪99‬تَأْ ِخرُونَ َس ‪9‬ا َعةً َوالَ يَ ْس‪99‬تَ ْق ِد ُمونَ "‬
‫(يونس‪ ،‬آية ‪.)49 :‬‬
‫س أَ ْن تَ ُم‪99‬وتَ إِالَّ بِ ‪9‬إ ِ ْذ ِن هللا ِكتَابً‪99‬ا ُّم َؤ َّجالً" (آل عم‪99‬ران‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫وقال تعالى‪َ ":‬و َما‪َ 9‬كانَ لِنَ ْف ٍ‬
‫‪.)145‬‬
‫وعن عبد هللا بن مسعود قال‪ :‬قالت أم حبيب‪99‬ة زوج الن‪99‬بي ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم‪ :‬اللهم‬
‫أمتعني بزوجي رسول هللا‪ ،‬وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية‪ ،‬ق‪99‬ال‪ :‬فق‪99‬ال الن‪99‬بي ص‪99‬لى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬قد سألت هللا آلج‪99‬ال مض‪99‬روبة‪ ،‬وأي‪99‬ام مع‪99‬دودة‪ ،‬وأرزاق مقس‪99‬ومة‪ ،‬لن‬
‫يعجل ش‪9‬يئا ً قب‪9‬ل حل‪9‬ه‪ ،‬ولن ي‪9‬ؤخر ش‪9‬يئا ً عن حل‪9‬ه‪ ،‬ول‪9‬و كنت س‪9‬ألت هللا أن يعي‪9‬ذك من‬
‫عذاب النار‪ ،‬وعذاب القبر‪ :‬كان خيراً وأفضل‪.1‬‬
‫فالمقتول ميت بأجله‪ ،‬فعلم هللا تعالى وق ّدر وقضى أن هذا يموت بسبب الم‪99‬رض وه‪99‬ذا‬
‫بس‪9‬بب القت‪9‬ل‪ ،‬وه‪9‬ذا بس‪9‬بب اله‪9‬دم‪ ،‬وه‪9‬ذا ب‪9‬الحرق‪ ،‬وه‪9‬ذا ب‪9‬الغرق‪ ،‬إلى غ‪9‬ير ذل‪9‬ك من‬
‫األسباب‪ ،‬وهللا خلق الموت والحياة‪ ،‬وخلق سبب الموت والحياة‪.2‬‬
‫ولما قتل في غزوة أحد من المسلمين من قتل‪ ،‬وأخذ المنافقون من ذلك قض‪99‬ية يلونه‪99‬ا‬
‫بألسنتهم‪ ،‬ويلوون المسلمين على خروجهم لقتال المشركين وإن إخوانهم ال‪99‬ذين قتل‪99‬وا‪،‬‬
‫لو كانوا عندهم‪ ،‬ولم يخرجوا للقتال‪ ،‬ما ماتوا وما قتلوا فرد عليهم الق‪99‬رآن أبل‪99‬غ ال‪99‬رد‪،‬‬
‫ق ظَ َّن‬ ‫‪9‬ر ْال َح‪ِّ 9‬‬‫‪9‬ال‪":‬وطَآئِفَ ‪9‬ةٌ قَ ‪ْ 9‬د أَهَ َّم ْتهُ ْم أَنفُ ُس ‪9‬هُ ْم يَظُنُّونَ بِاهّلل ِ َغ ْي‪َ 9‬‬
‫َ‬ ‫من‪99‬دداً بهم وبم‪99‬وقفهم‪ ،‬فق‪9‬‬
‫ْال َجا ِهلِيَّ ِة يَقُولُونَ هَل لَّنَا ِمنَ األَ ْم ِر ِمن َش ْي ٍء قُلْ إِ َّن األَ ْم َر ُكلَّهُ هَّلِل ِ ي ُْخفُ‪99‬ونَ فِي أَنفُ ِس ‪ِ 9‬هم َّما‬
‫ك يَقُولُونَ لَوْ َكانَ لَنَا ِمنَ األَ ْم ِر َش‪ْ 9‬ي ٌء َّما قُتِ ْلنَ‪99‬ا هَاهُنَ‪99‬ا قُ‪99‬ل لَّوْ ُكنتُ ْم فِي بُيُ‪99‬وتِ ُك ْم‬ ‫الَ يُ ْب ُدونَ لَ َ‬
‫ضا ِج ِع ِه ْم" (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)154 :‬‬ ‫ب َعلَ ْي ِه ُم ْالقَ ْت ُل إِلَى َم َ‬‫لَبَ َر َز الَّ ِذينَ ُكتِ َ‬
‫ب إِ َّن َذلِ‪99‬كَ َعلَى‬ ‫وجل‪":‬و َما يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل فِي ِكتَ‪99‬ا ٍ‬ ‫َ‬ ‫وقال عز‬
‫هَّللا ِ يَ ِسيرٌ" (فاطر‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫والمعمر‪ :‬من يعيش عمراً طويالً في الع‪99‬ادة‪ ،‬ومن ينقص من عم‪99‬ره‪ :‬من يعيش عم‪9‬راً‬
‫‪9‬ر ِه" عائ‪99‬د على الجنس ال‬ ‫قصيراً‪ ،‬قدره بعضهم بم‪99‬ا قب‪99‬ل الس‪99‬تين‪ ،‬والض‪99‬مير في " ُع ُم‪ِ 9‬‬
‫على العين‪ ،‬ألن الطويل العمر في الكتاب وفي علم هللا ال ينقص من عمره‪.‬‬
‫وجاء عن ابن عباس في تفسير اآلية‪ :‬ليس أح‪99‬د قض‪99‬يت ل‪99‬ه بط‪99‬ول العم‪99‬ر والحي‪99‬اة إال‬
‫وهو بالغ ما قدرت له من العمر‪ ،‬وقد قضيت ذل‪99‬ك ل‪99‬ه‪ ،‬فإنم‪99‬ا ينتهي إلى الكت‪99‬اب ال‪99‬ذي‬
‫قدرت ال يزاد عليه‪ ،‬وليس أحد قدرت له أنه قصير العم‪99‬ر والحي‪99‬اة‪ ،‬بب‪9‬الغ العم‪99‬ر "أي‬
‫الطويل" ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له ف‪99‬ذلك قول‪99‬ه‪َ ":‬و َم‪99‬ا يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل‬
‫ب" يقول‪ :‬كل ذلك في كتاب عنده‪.‬‬ ‫يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل ِفي ِكتَا ٍ‬
‫وبعضهم فسّر " َواَل يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه" بمعنى ذهب العمر قليالً‪.‬‬
‫قليالً‪ :‬سنة بعد سنة‪ ،‬وشهراً بعد شهر‪ ،‬وجمعة بعد جمعة‪ ،‬ويوما ً بعد يوم‪ ،‬وساعة بع‪99‬د‬
‫ساعة‪ ،‬الجميع مكتوب عند هللا في كتابه‪.3‬‬
‫‪ 1‬المنحة اإللهية في تهذيب شرح الطحاوية‪ ،‬عبد اآلخر حماد الغنيمي صـ ‪.320‬‬
‫‪2‬المصدر نفسه صـ ‪.320‬‬
‫‪3‬تفسير ابن كثير (‪.)550 / 2‬‬

‫‪176‬‬
‫ومنهم من فسر نقص العمر بقلة البركة فيه‪ ،‬والزيادة في العمر بإلقاء البركة فيه‪ ،1‬فقد‬
‫ج‪9‬اء في الح‪9‬ديث الش‪9‬ريف‪ :‬من س‪99‬ره أن يبس‪9‬ط ل‪99‬ه في رزق‪9‬ه‪ ،‬أو ينس‪9‬أ ل‪99‬ه في أث‪9‬ره‪،2‬‬
‫فليصل رحمه‪.3‬‬
‫فاآلجال سواء كانت قصيرة أو طويلة مقدرة من أسبابها‪ ،‬وليست منفصلة عنه‪99‬ا‪ ،‬كم‪99‬ا‬
‫يتوهم عوام الناس‪ ،‬فمن قدر له طول األجل‪ ،‬قدر له أن‪99‬ه س‪99‬يتهيأ ل‪99‬ه من األس‪99‬باب‪ ،‬من‬
‫ت‪99‬وافر الغ‪99‬ذاء الص‪99‬حي‪ ،‬وطيب اله‪99‬واء النقي‪ ،‬وممارس‪99‬ة العم‪99‬ل الب‪99‬دني أو الرياض‪99‬ي‬
‫واالبتعاد عما يضر بالبدن تناوله‪ ،‬من المسكرات أو المخدرات‪ ،‬أو الألش‪99‬ياء الض‪99‬ارة‬
‫كالتدخين‪ ،‬أو طول السهر‪ ،‬أو ارتكاب المحرمات‪ ،‬فهو به‪99‬ذه األس‪99‬باب يط‪99‬ول عم‪99‬ره‪،‬‬
‫وهذه األسباب مقدرة كمسبباتها‪ ،‬ومن ق‪99‬در ل‪99‬ه قص‪99‬ر العم‪99‬ر‪ ،‬ق‪99‬در ل‪99‬ه أن يبتلي بس‪99‬وء‬
‫التغذية‪ ،‬أو سوء التهوية أو اإلصابة بع‪99‬دوى أو تن‪99‬اول م‪99‬ا يض‪99‬ره ويؤذي‪99‬ه‪ ،‬أو يص‪99‬يبه‬
‫حادث في طريق‪ ،‬بأن يموت في كارثة عامة كالزلزال‪ ،‬أو يقتله قات‪99‬ل عم‪99‬داً أو خط‪99‬أ‪،‬‬
‫فيموت وينتهي أجله بواحد من هذه األسباب أو غيرها‪ ،‬ولكن‪99‬ه م‪99‬ات في وقت‪99‬ه المق‪99‬در‬
‫ل‪99‬ه‪ ،‬وفي "أجل‪99‬ه المس‪99‬مى" عن‪99‬د هللا‪ ،‬فال انفص‪99‬ال في األق‪99‬دار بين المس‪99‬ببات وأس‪99‬بابها‬
‫بحال‪.4‬‬
‫وقد يشكل على بعض الناس مواضع في كتاب هللا وأحاديث رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم فيقول بعضهم‪ :‬إذا كان هللا علم كل ما هو كائن‪ ،‬وكتب ذلك كل‪9‬ه عن‪9‬ده في كت‪9‬اب‬
‫ت" (الرعد‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬ ‫هللا فما معنى قوله‪":‬يَ ْمحُو هّللا ُ َما يَ َشاء َوي ُْثبِ ُ‬
‫وإذا كانت األرزاق واألعمال واآلجال مكتوبة ال تزيد وال تنقص فم‪99‬ا ت‪99‬وجيهكم لقول‪99‬ه‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ :‬من سرّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه‪.5‬‬
‫وكيف تفس‪9‬رون ق‪9‬ول ن‪9‬وح لقوم‪9‬ه ‪":‬أَ ِن ا ْعبُ‪ُ 9‬دوا هَّللا َ َواتَّقُ‪9‬وهُ َوأَ ِطيعُ‪9‬و ِن * يَ ْغفِ‪9‬رْ لَ ُكم ِّمن‬
‫ُذنُوبِ ُك ْم َويُؤَ ِّخرْ ُك ْم إِلَى أَ َج ٍل ُّم َس ًّمى" (نوح‪ ،‬آية ‪ 3 :‬ـ ‪.)4‬‬
‫والجواب أن األرزاق واألعمار نوعان‪:‬‬
‫نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب‪ ،‬فهذا ال يتغ‪99‬ير وال يتب‪99‬دل‪ ،‬ون‪99‬وع أعلم هللا ب‪99‬ه‬
‫ت‬‫مالئكته فهذا ه‪9‬و ال‪9‬ذي يزي‪9‬د وينقص‪ ،‬ول‪9‬ذلك ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪":‬يَ ْمحُ‪ 9‬و‪ 9‬هّللا ُ َم‪9‬ا يَ َش‪9‬اء َوي ُْثبِ ُ‬
‫ب" (الرعد‪ ،‬آية ‪ ،)39 :‬وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر هللا فيه‬ ‫َو ِعن َدهُ أُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫اإلم‪99‬ور على م‪99‬ا هي علي‪99‬ه‪ ،‬ففي كتب المالئك‪99‬ة يزي‪99‬د العم‪99‬ر وينقص وك‪99‬ذلك ال‪99‬رزق‬
‫بحسب األسباب‪ ،‬فإن المالئكة يكتبون له رزقا ً وأجالً‪ ،‬ف‪99‬إذا وص‪99‬ل رحم‪99‬ه زي‪99‬د ل‪99‬ه في‬
‫الرزق واألجل‪ ،‬وإال فإنه ينقص له منهما‪.6‬‬
‫واألجل أجالن‪ :‬أجل مطلق يعلمه هللا‪ ،‬وأجل مقيد ف‪99‬إن هللا ي‪99‬أمر المل‪99‬ك أن يكتب لعب‪99‬ده‬
‫أجالً‪ ،‬فإن وصل رحمه‪ ،‬فيأمره بأن يزيده في أجله ورزقه والملك ال يعلم أيزاد ل‪9‬ه في‬
‫ذلك أم ال‪ ،‬لكن هللا يعلم ما يستقر عليه األمر‪ ،‬فإذا جاء األجل لم يتقدم ولم يتأخر‪.7‬‬
‫ثانياً‪ :‬قدرة هللا عز وجل‪:‬‬
‫‪1‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.60‬‬
‫‪2‬أي في أجله‪.‬‬
‫‪3‬متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان رقم ‪.1657‬‬
‫‪4‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.60‬‬
‫‪5‬متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان رقم ‪ ،1657‬والقضاء والقدر‪ ،‬عمر سليمان األشقر صـ ‪.66‬‬
‫‪6‬مجموع فتاوى ابن تيمية (‪ ،)540 /8‬القضاء والقدر عمر األشقر صـ ‪.67‬‬
‫‪7‬المصدر السابق (‪ ،)517 /8‬القضاء والقدر عمر األشقر صـ ‪.67‬‬

‫‪177‬‬
‫القدر والقدرة والمقدار على الشيء‪ :‬الق‪99‬درة علي‪99‬ه‪ ،‬وق‪99‬درت الش‪99‬يء‪ :‬أق‪99‬دره ق‪99‬دراً‪ ،‬من‬
‫التقدير‪ ،‬وفي الحديث‪ :‬فإن غ ّم عليكم فأقدروا له‪.1‬‬
‫ق قَ‪ْ 9‬د ِر ِه" (الزم‪99‬ر‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ )67 :‬أي‪ :‬م‪99‬ا عظمّوا هللا ح‪99‬ق‬ ‫وقال تعالى‪َ ":‬و َما‪ 9‬قَ َدرُوا هَّللا َ َح‪َّ 9‬‬
‫تعظيمه‪.2‬‬
‫والقدير‪ :‬أبلغ في الوصف بالقدرة من "القادر" و"المقتدر"‪ 9:‬من أقتدر وهو أبلغ‪.‬‬
‫وقد ورد اسم هللا "القادر" سبحانه اثنتي عشرة مرة خمس منها بصيغة الجم‪99‬ع‪ ،‬كقول‪99‬ه‬
‫ت أَرْ ُجلِ ُك ْم أَوْ‬
‫ث َعلَ ْي ُك ْم َع‪َ 9‬ذابًا ِّمن فَ‪99‬وْ قِ ُك ْم أَوْ ِمن تَحْ ِ‬
‫‪9‬و ْالقَ‪99‬ا ِد ُر َعلَى أَن يَ ْب َع َ‬ ‫تع‪99‬الى‪":‬قُ‪99‬لْ هُ‪َ 9‬‬
‫ت لَ َعلَّهُ ْم يَ ْفقَهُ‪99‬ونَ "‬ ‫ص‪ُ 9‬‬
‫رِّف اآليَ‪99‬ا ِ‬ ‫ْض انظُ‪99‬رْ َك ْي‪99‬فَ نُ َ‬ ‫س بَع ٍ‬ ‫ض ُكم بَ‪99‬أْ َ‬ ‫ق بَ ْع َ‬‫يَ ْلبِ َس ُك ْم ِشيَعا ً َويُ ِذي َ‬
‫(األنعام‪ ،‬آية ‪.)65 :‬‬
‫ك َما ن َِع ُدهُ ْم لَقَا ِدرُونَ " (المؤمنون‪ ،‬آية ‪.)95 :‬‬ ‫تعالى‪":‬وإِنَّا َعلَى أَن نُّ ِريَ َ‬
‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫ق ِمثلَهُم بَلَى‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ض بِقَ‪99‬ا ِد ٍر َعلَى أ ْن يَ ْخلُ‪َ 9‬‬ ‫َ‬
‫ت َواأْل رْ َ‬ ‫ق َّ‬
‫الس‪َ 9‬ما َوا ِ‬ ‫َّ‬
‫ْس ال ِذي خَ لَ‪َ 9‬‬ ‫َ‬
‫ـ وقال تعالى‪":‬أ َولَي َ‪9‬‬
‫ق ْال َعلِي ُم" (يس‪ ،‬آية ‪.)81 :‬‬ ‫َوهُ َو ْال َخاَّل ُ‬
‫ـ وقال تعالى‪":‬فَقَ َدرْ نَا فَنِ ْع َم ْالقَا ِدرُونَ " (المرسالت‪ ،‬آية ‪.)23 :‬‬
‫وورد اسم هللا "القدير"‪ 9‬سبحانه خمسا ً وأربعين مرة منها قول‪99‬ه تع‪9‬الى‪":‬أَي َ‪ْ9‬ن َم‪9‬ا تَ ُكونُ ْ‬
‫‪9‬وا‬
‫يَأْتِبِ ُك ُم هّللا ُ َج ِميعًا إِ َّن هّللا َ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ" (البقرة‪ ،‬آية ‪)148 :‬‬
‫وا خَ ْيرًا أَوْ تُ ْخفُوهُ أَوْ تَ ْعفُ ْ‬
‫وا عَن ُس ‪َ 9‬و ٍء فَ ‪9‬إ ِ َّن هّللا َ َك‪99‬انَ َعفُ ‪ًّ 9‬وا قَ ‪ِ 9‬ديرًا"‬ ‫ـ وقال تعالى‪":‬إِن تُ ْب ُد ْ‬
‫(النساء‪ ،‬آية ‪.)149 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪":‬يُ َع ِّذبُ َمن يَ َشاء َويَ ْغفِ ُر لِ َمن يَ َش‪9‬اء َوهّللا ُ َعلَى ُك‪ِّ 9‬ل َش‪ْ 9‬ي ٍء قَ‪ِ 9‬ديرٌ" (المائ‪9‬دة‪،‬‬
‫آية ‪.)40 :‬‬
‫تعالى‪":‬وإِ َّن هَّللا َ َعلَى نَصْ ِر ِه ْم لَقَ ِديرٌ" (الحج‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬ ‫َ‬ ‫ـ وقال‬
‫ْ‬
‫‪":‬و َكانَ ُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء ُّمقتَ ِدرًا" (الكهف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫هَّللا‬ ‫وورد اسم المقتدر في قوله سبحانه َ‬
‫‪.)45‬‬
‫يز ُّم ْقتَ ِد ٍر" (القمر‪ ،‬آية ‪.)42 :‬‬ ‫َز ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ـ وقال تعالى‪":‬فَأ َخذنَاهُ ْم أ ْخ َذ ع ِ‬
‫يك ُّم ْقتَ ِد ٍر" (القمر‪ ،‬آية ‪.)55 :‬‬ ‫ق ِعن َد َملِ ٍ‬ ‫ـ وقال تعالى‪":‬فِي َم ْق َع ِد ِ‬
‫ص ْد ٍ‬
‫وهللا هو القادر على كل شيء‪ ،‬ال يعجزه شيء وال يفوته مطلوب‪ ،‬بخالف خلقه‪ ،‬فه‪99‬و‬
‫سبحانه ال يتط ّرق إلى العجز وال يعترضه فتور‪.‬‬
‫"والقادر" سبحانه هو من يتيسر له ما يريد على م‪99‬ا يري‪99‬د لظه‪99‬ور أفعال‪99‬ه‪ ،‬وال يظه‪99‬ر‬
‫الفعل اختياراً إال من قادر غير عاجز‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ ":‬ولَوْ َش ‪9‬اء هّللا ُ لَ ‪َ 9‬ذه َ‬
‫َب بِ َس ‪ْ 9‬م ِع ِه ْم‬
‫ار ِه ْم إِ َّن هَّللا َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ" (البقرة‪ ،‬آية ‪ .)20 :‬فوصف نفسه بالقدرة على‬ ‫ص ِ‬‫َوأَ ْب َ‬
‫كل شيء في هذا الموضع‪ ،‬ألنه حذر المنافقين بأس‪99‬ه وس‪99‬طوته‪ ،‬وأخ‪99‬برهم أن‪99‬ه محي‪99‬ط‬
‫بهم‪" ،‬والقدير" هو "القادر"‪ ،‬كما أن "العليم" ه‪9‬و "الع‪9‬الم" "والق‪9‬دير"‪ 9‬س‪9‬بحانه كام‪9‬ل‬
‫القدرة‪ ،‬فبقدرته أوجد الموجودات وبقدرته دبّرها وبقدرته س ‪ّ 9‬واها وأحكمه‪99‬ا‪ ،‬وبقدرت‪99‬ه‬
‫يحيي ويميت ويبعث العباد للجزاء وبقدرته يقلب القلوب على ما يشاء ويريد‪.3‬‬

‫‪1‬مع هللا‪ ،‬سلمان العودة صـ ‪ ،233‬البخاري رقم ‪.1900‬‬


‫‪2‬مع هللا صـ ‪.233‬‬
‫‪3‬مع هللا صـ ‪.235‬‬

‫‪178‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫وهو القدير وليس يُعج ُزه إذا‬
‫‪1‬‬
‫ما رام شيئا ً قط ذو سلطان‬
‫ثالثاً‪ :‬ثمار اإليمان بالقدر‪:‬‬
‫لإليمان بالقدر ـ كما جاء في القرآن والس‪99‬نة ـ وكم‪99‬ا فهم‪99‬ه س‪99‬لف األم‪99‬ة ثم‪99‬ار مبارك‪99‬ة‬
‫وآثار طيبة‪ ،‬في عقلية المسلم ونفسيته‪ ،‬في وجدان‪9‬ه وأرادت‪9‬ه‪ ،‬وعالقت‪9‬ه بنفس‪9‬ه وبرب‪9‬ه‪،‬‬
‫وبمن حوله‪ ،‬وما حوله‪ ،‬وفي الحياة اإلس‪99‬المية بص‪99‬فة عام‪99‬ة‪ ،‬يش‪99‬هد به‪99‬ا ك‪99‬ل ذي لب‪،‬‬
‫ويلمسها كل ذي بصر‪ ،‬لما لها من تأثير إيجابي في السلوك الخاص والعام وفي الس‪99‬لم‬
‫والحرب‪ ،‬وفي اليس‪9‬ر والعس‪9‬ر والرخ‪9‬اء والش‪99‬دة‪ ،‬والنعم‪99‬اء والبأس‪99‬اء‪ ،2‬ومن أهم ه‪9‬ذه‬
‫الثمار واآلثار‪:‬‬
‫‪1‬ـ اإلقدام على عظائم اإلمور‪:‬‬
‫اإليمان بالقدر في حياة المؤمن أقوى حافز للعمل الصالح واإلقدام على عظائم اإلمور‬
‫بثبات وعزم وثقة ولق‪99‬د ك‪99‬انت الص‪99‬ورة الص‪99‬حيحة لإليم‪99‬ان بالق‪99‬در في حي‪99‬اة األجي‪99‬ال‬
‫األولى من المسلمين هي التي صنعت تلك العجائب التي سجلها ت‪99‬اريخهم وال‪99‬تي ثبتت‬
‫الدعوة في األرض ونشرتها على نطاق واسع في فترة وجيزة من الزمن ال مثيل لها ـ‬
‫في قص‪99‬رها ـ في الت‪99‬اريخ‪ ،‬وهي ال‪99‬تي أق‪9‬امت ه‪99‬ذا البن‪99‬اء الش‪99‬اهق في ك‪99‬ل مي‪99‬دان من‬
‫ميادين الحياة‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد كان من أول ثماره الباهرة ذلك االستبسال في الجهاد في سبيل‬
‫هللا وفي سبيل نشر الدعوة‪ ،3‬فقد كانوا ال يخ‪99‬افون الم‪99‬وت‪ ،‬ألنهم يوقن‪99‬ون ب‪99‬أن اآلج‪99‬ال‬
‫محددة ال تت‪99‬أخر وال تتق‪99‬دم لحظ‪99‬ة واح‪99‬دة ولم‪99‬ا ك‪99‬انت ه‪99‬ذه العقي‪99‬دة راس‪99‬خة في قل‪99‬وب‬
‫المؤمنين ثبتوا في القتال وعزموا على مواصلة الجه‪99‬اد‪ ،‬فج‪99‬اءت مالحم تحم‪99‬ل أروع‬
‫األمثلة على الثبات والصمود أمام األعداء مهما كانت قوتهم‪ ،4‬ومهما كان عددهم‪ ،‬لقد‬
‫َب هّللا ُ لَنَ‪99‬ا هُ‪َ 9‬و َموْ الَنَ‪99‬ا َو َعلَى هّللا ِ فَ ْليَت ََو َّك ِل‬ ‫أيقنوا بقول هللا تعالى‪":‬قُل لَّن ي ِ‬
‫ُصيبَنَا إِالَّ َما َكت َ‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُونَ " (التوبة‪ ،‬آية ‪.)51 :‬‬
‫فإذا كان ال يصيب اإلنسان إال ما كتبه هللا له‪ ،‬سواء ك‪9‬ان قاع‪99‬داً في بيت‪9‬ه أو في مي‪9‬دان‬
‫القتال‪ ،‬ففيم الجبن وفيم الفرار من القتال خوفا ً من الموت؟ فهل القتال هو ال‪99‬ذي يقت‪99‬ل؟‬
‫أم قدر هللا إلنسان ما أن يموت في لحظة معينة في حالة معين‪99‬ة ه‪99‬و ال‪99‬ذي يميت‪99‬ه؟ وإذا‬
‫كان كتب عليه الموت فهل يعفي‪99‬ه من‪99‬ه أال ي‪99‬ذهب إلى القت‪99‬ال؟ وإن ك‪99‬ان لم يكتب علي‪99‬ه‬
‫فهل يقتله الذهاب إلى الميدان؟‬
‫هكذا كان األمر في حسّهم فأقبلوا على الجه‪9‬اد في ثق‪99‬ة وثب‪9‬ات وع‪9‬زم‪ ،‬وك‪9‬ان منهم م‪9‬ا‬
‫سجله التاريخ من مواقف رائعة من الشجاعة والصبر على الش‪99‬دة م‪99‬ع اإلطمئن‪99‬ان إلى‬
‫‪1‬مع هللا صـ ‪.234‬‬
‫‪2‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪.88‬‬
‫‪3‬ركائز اإليمان محمد قطب صـ ‪.426‬‬
‫‪ 4‬اإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪.454‬‬

‫‪179‬‬
‫قدرة هللا سبحانه‪ ،‬ولقد وعى المسلمون ك‪99‬ذلك ال‪99‬درس ال‪99‬ذي ن‪99‬زل عليهم في س‪99‬ورة آل‬
‫عمران بشأن غزوة أحد‪ ،‬حين قال المنافقون ‪":‬هَل لَّنَا ِمنَ األَ ْم ِر ِمن َش ْي ٍء" فرد عليهم‬
‫‪":‬قُلْ إِ َّن األَ ْم َر ُكلَّهُ هَّلِل ِ" وحين قالوا ‪":‬لَوْ َكانَ لَنَا ِمنَ األَ ْم ِر َش‪ْ 9‬ي ٌء َّما قُتِ ْلنَ‪99‬ا هَاهُنَ‪99‬ا" ف‪99‬رد‬
‫ض ‪9‬ا ِج ِع ِه ْم" وحين‬ ‫ب َعلَ ْي ِه ُم ْالقَ ْت‪ُ 9‬ل إِلَى َم َ‬ ‫عليهم ‪":‬قُ‪99‬ل لَّوْ ُكنتُ ْم فِي بُيُ‪99‬وتِ ُك ْم لَبَ ‪َ 9‬رزَ الَّ ِذينَ ُكتِ َ‬
‫ُوا َوقَ‪99‬الُ ْ‬
‫وا ِإل ْخ‪َ 9‬وانِ ِه ْم إِ َذا‬ ‫‪9‬وا َكالَّ ِذينَ َكفَ‪9‬ر ْ‬ ‫‪9‬وا الَ تَ ُكونُ‪ْ 9‬‬‫قال هللا للمؤمنين ‪":‬يَ‪99‬ا أَيُّهَ‪99‬ا الَّ ِذينَ آ َمنُ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬ل هّللا ُ َذلِ‪99‬كَ‬
‫‪9‬وا لِيَجْ َع‪َ 9‬‬‫وا َو َم‪99‬ا قُتِلُ‪ْ 9‬‬
‫وا ِعن َدنَا َما َماتُ ْ‬ ‫وا ُغ ًّزى لَّوْ َكانُ ْ‬ ‫ض أَوْ َكانُ ْ‬ ‫ُوا فِي األَرْ ِ‬ ‫ض َرب ْ‬ ‫َ‬
‫هّللا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫صي ٌر * َولئِن قتِلت ْم فِي َسبِي ِل ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هّللا‬ ‫ُ‬ ‫هّللا‬
‫َحس َْرة فِي قلوبِ ِه ْم َو ُ يُحْ يِـي َويُ ِميت َو ُ بِ َما تَ ْع َملونَ بَ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪9999‬رةٌ ِّمنَ هّللا ِ َو َرحْ َم‪ 9999‬ةٌ َخيْ‪ٌ 9999‬ر ِّم َّما يَجْ َمعُ‪9999‬ونَ * َولَئِن ُّمتُّ ْم أَوْ قُتِ ْلتُ ْم ِإللَى هللا‬ ‫أَوْ ُمتُّ ْم لَ َم ْغفِ َ‬
‫تُحْ َشرُونَ " (آل عمران‪ ،‬آية ‪ 156 :‬ـ ‪ .)158‬وع‪99‬وه ف‪99‬أيقنوا أن‪99‬ه ال يم‪99‬وت إال من كتب‬
‫عليه الموت ولو كان في مضجعه في بيته وأنه إن لم يكن ُكتب علي‪99‬ه الم‪99‬وت في تل‪99‬ك‬
‫اللحظة فكل هول الح‪99‬رب وك‪99‬ل س‪99‬هام األع‪99‬داء وس‪99‬يوفهم لن تص‪99‬يبه ب‪99‬الموت وأيقن‪99‬وا‬
‫كذلك أنه حين يكون اإلنسان في القتال ويموت ـ بقدر من هللا ـ فأمامه المثوبة واألج‪99‬ر‬
‫وهو الكاسب بهذا القدر الذي قدره له هللا‪ ،‬لذلك ك‪99‬ان القت‪99‬ال في س‪99‬بيل هللا أم‪99‬راً محبب‪9‬ا ً‬
‫َنص‪9‬رُوا‬ ‫إلى نفوسهم‪ ،‬فنصروا هللا فنصرهم وثبت أق‪9‬دامهم‪ ،1‬كم‪9‬ا وع‪9‬د س‪9‬بحانه ‪":‬إِن ت ُ‬
‫ِّت أَ ْقدَا َم ُك ْم" (محمد‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬ ‫هَّللا َ يَنصُرْ ُك ْم َويُثَب ْ‬
‫كذلك كان اإليمان بالقدر على هذه الصورة‪ 9‬هو حافزهم لالنس‪99‬ياح في االرض‪ ،‬س‪99‬واء‬
‫لنشر الدعوة‪ ،‬أو طلب ال‪99‬رزق‪ ،‬أو اكتش‪99‬اف المجه‪99‬ول من األرض‪ ،‬فك‪99‬ان لهم في ك‪99‬ل‬
‫ميدان نشاط ملحوظ وآثار مش‪99‬هودة‪ ،‬ففي نش‪99‬ر ال‪99‬دعوة نج‪99‬د أن اإلس‪99‬الم ق‪99‬د امت‪99‬د من‬
‫المحيط غربا ً إلى الهند شرقا ً في فترة من الزمن ال تتجاوز قرن وهي س‪99‬رعة ال مثي‪99‬ل‬
‫لها في التاريخ‪ ،‬وأنتشر مع اإلسالم سلطان الدولة اإلسالمية بما أرهب أعداء هللا‪.‬‬
‫وانتش‪99‬ر مع‪99‬ه ك‪99‬ذلك اللس‪99‬ان الع‪99‬ربي بس‪99‬رعة تف‪99‬وق الوص‪99‬ف في انتش‪99‬ار اللغ‪99‬ات في‬
‫األرض وفي ميدان طلب الرزق ت‪99‬دفقت ال‪99‬ثروات على الع‪99‬الم اإلس‪99‬المي ح‪99‬تى ص‪99‬ار‬
‫المسلمون أغنى أمة في األرض‪ ،‬ألنهم يجوبون البحار والقفار تجاراً وص‪99‬ناعا ً في‪99‬أتي‬
‫إليهم المال من كل سبيل وتتاح معه فرصة العمران والحض‪99‬ارة‪ ،‬وفي مي‪99‬دان الكش‪99‬ف‬
‫الجغ‪99‬رافي ك‪99‬ان المس‪99‬لمون هم ال‪99‬ذين ارت‪99‬ادوا البق‪99‬اع المجهول‪99‬ة ـ أول من ارتاده‪99‬ا ـ‬
‫ورسموا لها الخرائط الجغرافية الدقيقة التي مكنت "فاسكوا داجاما" و"ماجالن" فيم‪99‬ا‬
‫بعد من القيام برحالتهما حول أفريقيا وآسيا‪ ،‬كما كشفوا منابع النيل ورسموا خرائط‪99‬ه‬
‫التي ج‪99‬اء المكتش‪99‬فون األوربي‪99‬ون على ه‪99‬داها من بع‪99‬د ل‪99‬يزعموا أنهم هم المكتش‪99‬فون‪،‬‬
‫وهكذا امتدت الحياة بجميع صورها شرقا ً وغربا ً بهذا الدافع اإليماني العميق‪.2‬‬
‫‪2‬ـ القضاء على الكسل والتواكل‪:‬‬
‫إن جموع المسلمين قد انحرفت في العصور األخيرة في عقيدة القدر بشأن م‪99‬ا يج‪99‬ري‬
‫في الحياة الدنيا‪ ،‬لقد أصابهم التواك‪9‬ل فيم‪9‬ا أص‪9‬ابهم من انحراف‪9‬ات‪ ،‬وأدى بهم التواك‪9‬ل‬
‫إلى العجز والكسل والقعود‪ ،‬لقد فهم ـ بعض الناس ـ من معنى أنه ال يحدث في الك‪99‬ون‬
‫إال م‪99‬ا يري‪99‬ده هللا‪ ،‬أن‪99‬ه ال حاج‪99‬ة لإلنس‪99‬ان أن يعم‪99‬ل‪ ،‬ف‪99‬إن ق‪99‬در هللا م‪99‬اض س‪99‬واء عم‪99‬ل‬
‫اإلنسان أو لم يعمل‪ ،‬فال ضرورة للكد في طلب ال‪99‬رزق ألن‪ :‬مال‪99‬ك س‪99‬وف يأتي‪99‬ك‪ ،‬وال‬
‫ضرورة للنشاط والحركة ألنها في زعمهم ضد التوكل الصحيح‪ ،‬كما فهموا كذلك من‬
‫‪1‬ركائز اإليمان محمد قطب صـ ‪.427‬‬
‫‪2‬ركائز اإليمان صـ ‪.248‬‬

‫‪180‬‬
‫معنى التسليم لقدر هللا القعود عن تغيير ما أصاب اإلنسان من فقر أو م‪99‬رض أو جه‪99‬ل‬
‫أو ح‪99‬تى معص‪99‬ية‪ ،‬ألن ك‪99‬ل ذل‪99‬ك مق‪99‬در من عن‪99‬د هللا فال ينبغي مقاومت‪99‬ه إنم‪99‬ا ينبغي‬
‫االستسالم له! وهذا التواكل وهذه السلبية ليست من اإلس‪99‬الم في ش‪99‬يء على اإلطالق‪،‬‬
‫وإال فلو كانت من اإلسالم فكيف غابت عن الرسول صلى هللا عليه وسلم وعن صحبه‬
‫الكرام الذين تلقوا عنه المفاهيم الصحيحة لهذا الدين‪1‬؟‬
‫والفهم الص‪99‬الح لم يفهم ق‪99‬ط من عقي‪99‬دة الق‪99‬در ه‪99‬ذا الفهم الخ‪99‬اطئ ال‪99‬ذي يلغي مس‪99‬ئولية‬
‫اإلنسان عن عمله؟‬
‫لقد فهم المسلمون من درس أحد أن ما وقع لهم كان مقدراً لهم عند هللا‪ ،‬ولكنه ك‪99‬ان في‬
‫ذات الوقت من عند أنفسهم بسبب معص‪99‬يتهم للرس‪99‬ول ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم ‪":‬أَ َو لَ َّما‬
‫ص ْبتُم ِّم ْثلَ ْيهَا قُ ْلتُ ْم أَنَّى هَـ َذا قُلْ هُ َو ِم ْن ِعن ِد أَ ْنفُ ِس‪ُ 9‬ك ْم إِ َّن هّللا َ َعلَى ُك‪99‬لِّ‬‫صيبَةٌ قَ ْد أَ َ‬ ‫أَ َ‬
‫صابَ ْت ُكم ُّم ِ‬
‫صابَ ُك ْم يَوْ َم ْالتَقَى ْال َج ْم َعا ِن فَبِإ ِ ْذ ِن هّللا ِ َولِيَ ْعلَ َم ْال ُم ْؤ ِمنِينَ " (آل عم‪99‬ران‪،‬‬ ‫َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر * َو َما أَ َ‬
‫آية ‪ 165 :‬ـ ‪.)166‬‬
‫فقد وعى المسلمون من الدرس أن كون الهزيمة تمت بق‪99‬در هللا ال ين‪99‬افي أنه‪99‬ا في ذات‬
‫الوقت " ِم ْن ِعن ِد أَ ْنفُ ِس ُك ْم" أي‪ :‬أن وقوع ش‪99‬يء بق‪99‬در هللا ال ينفي مس‪99‬ئولية اإلنس‪99‬ان عن‬
‫خطئه‪ ،‬فليس لمخطئ أن يهز كتفيه ويقول‪ :‬إنما وق‪99‬ع الخط‪99‬أ م‪99‬ني بق‪99‬در من هللا‪ ،‬ولق‪99‬د‬
‫ق ّدر هللا أال أخطئ لما أخط‪99‬أت فلس‪99‬ت مس‪99‬ئوالً عن الخط‪99‬أ‪ ،‬كال‪ :‬إن اإليم‪99‬ان بالق‪99‬در ال‬
‫يتنافى فيه أن يكون الحدث مقدراً من عند هللا‪ ،‬وأن يك‪99‬ون اإلنس‪99‬ان مس‪99‬ئوالً عن عمل‪99‬ه‬
‫في ذات الوقت‪ ،‬كذلك وعى المسلمون من وقعة أحد وأحداثها درسا ً آخر‪.‬‬
‫إن عليهم أن يسلموا لقدر هللا‪ ،‬ولكن ما معنى التسليم؟ هل معن‪9‬اه القع‪9‬ود عن تغي‪9‬ير م‪9‬ا‬
‫أصابهم‪ ،‬ولو أنه قد أصابهم بقدر من هللا؟‬
‫هّللا‬
‫ص ‪9‬ابَ ُك ْم َو ُ َخبِ‪99‬ي ٌر‬ ‫إنما قال لهم‪":‬فَأَثَابَ ُك ْم ُغ َّما ً بِ َغ ٍّم لِّ َك ْي الَ تَحْ زَ نُوا َعلَى َما فَاتَ ُك ْم َوالَ َما أ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫بِ َما تَ ْع َملُونَ " (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)153 :‬‬
‫فالحزن يفتت العزيمة ويوهنها‪ ،‬وهو األمر الذي ال يريده هللا لهم‪ ،‬فوجّههم إلى التسليم‬
‫بقدر هللا لكيال يحزنوا وتتفتت عزيمتهم‪ ،‬ولكن هل طلب منهم االستس‪99‬الم لم‪99‬ا أص‪99‬ابهم‬
‫بمعنى عدم العمل على تغييره‪.2‬‬
‫إن أحداث المعركة سارت في خط مختلف تماماً‪ ،‬فقد جمع هللا الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم مشاعر المسلمين وعزائمهم كما جمع صفوفهم ليدخل بهم المعركة م‪99‬رة أخ‪99‬رى‬
‫ُوا هّلِل ِ َوال َّرسُو ِل ِمن‬ ‫على أثر الهزيمة‪ .‬وفي ذلك يقول هللا سبحانه وتعالى‪":‬الَّ ِذينَ ا ْستَ َجاب ْ‬
‫َظي ٌم * الَّ ِذينَ قَ‪99‬ال لَهُ ُم النَّاسُ إِ َّن‬ ‫وا أَجْ‪ٌ 9‬ر ع ِ‬ ‫وا ِم ْنهُ ْم َواتَّقَ ْ‬
‫صابَهُ ُم ْالقَرْ ُح لِلَّ ِذينَ أَحْ َسنُ ْ‬ ‫بَ ْع ِد َمآ أَ َ‬
‫وا َح ْس ‪9‬بُنَا هّللا ُ َونِ ْع َم ْال َو ِكي ‪ُ 9‬ل * فَ‪99‬انقَلَب ْ‬
‫ُوا‬ ‫اخ َشوْ هُ ْم فَزَا َدهُ ْم إِي َمانا ً َوقَالُ ْ‬ ‫اس قَ ْد َج َمع ْ‬
‫ُوا لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫النَّ َ‬
‫َظ ٍيم" (آل‬ ‫ض‪ٍ 9‬ل ع ِ‬ ‫ض ‪َ 9‬وانَ هّللا ِ َوهّللا ُ ُذو فَ ْ‬ ‫ُوا ِر ْ‬‫بِنِ ْع َم ٍة ِّمنَ هّللا ِ َوفَضْ ٍل لَّ ْم يَ ْم َس ْسهُ ْم سُو ٌء َواتَّبَع ْ‬
‫عمران‪ ،‬آية ‪ 172 :‬ـ ‪.)174‬‬
‫لق‪99‬د ص‪99‬رف هللا أع‪99‬داءهم فلم تق‪99‬ع المعرك‪99‬ة‪ ،‬ولكنهم ك‪99‬انوا ق‪99‬د اس‪99‬تعدوا للقت‪99‬ال تمام‪99‬ا‪،‬‬
‫استعدوا له بأرواحهم‪ ،‬ومشاعرهم‪ ،‬فجمعوا عزائمهم رغم تخويف الناس لهم وعزموا‬
‫على لقاء العدو متكلين على هللا‪ ،‬وهذا هو التوكل الحق الذي يطلبه هللا من المسلمين‪.‬‬

‫‪1‬المصدر نفسه صـ ‪.430‬‬


‫‪2‬ركائز اإليمان صـ ‪.431‬‬

‫‪181‬‬
‫إن القعود عن تغيير األمر الواقع بحجة أنه واقع بقدر من هللا جهال‪99‬ة عظيم‪99‬ة ال تنبغي‬
‫للمسلم‪ ،‬نعم إن ما وقع بالفعل قد وقع بقدر من هللا ـ وإن كان ال ينفي مسئولية اإلنس‪99‬ان‬
‫ـ ولكن من يعلم ما يك‪99‬ون علي‪99‬ه ق‪99‬در هللا غ‪99‬داً‪ ،‬ب‪99‬ل في اللحظ‪99‬ة القادم‪99‬ة‪ ،‬ه‪99‬ل علم ذل‪99‬ك‬
‫القاعد المتواكل أن قدر هللا القادم لن يكون مغايراً لقدر هللا الواقع؟ أليس في االحتم‪99‬ال‬
‫أن هللا قد قدر للحظة القادمة قدراً غير القدر ال‪99‬ذي ك‪99‬ان في اللحظ‪99‬ة الماض‪99‬ية؟ فكي‪99‬ف‬
‫يقعد عن العمل بزعم أنه متوكل على هللا مستسلم لقدره‪1‬؟‬
‫إن الفهم الصحيح لإليمان بالقدر‪ ،‬ال ينفي مسئولية اإلنس‪99‬ان عن عمل‪99‬ه‪ ،‬وال ي‪99‬دعو إلى‬
‫القعود عن تغيير الواقع‪ ،‬يدعوا إلى التواكل وع‪99‬دم األخ‪99‬ذ باالس‪99‬باب انتظ‪99‬اراً لق‪99‬در هللا‬
‫وذلك هو الفهم الذي ينبغي أن يعود المسلمون إليه‪ ،‬ل‪99‬يزول عنهم م‪99‬ا أص‪99‬ابهم من فق‪99‬ر‬
‫وجهل ومرض وتواكل وعج‪99‬ز‪ ،‬وم‪99‬ا ت‪99‬رتب على ذل‪99‬ك كل‪99‬ه من غلب‪99‬ة ع‪99‬دوهم عليهم‪،‬‬
‫وهوائهم على أنفسهم وعلى الناس‪.2‬‬
‫‪3‬ـ الثبات في مواجهة الطغيان‪:‬‬
‫ومن ثمار اإليمان بالقدر‪ ،‬أنه يهب صاحبه ثباتا ً ورسوخا ً في مقاومة الباطل ومواجهة‬
‫الظلم والطغيان‪ ،‬وإنكار المنكر‪ ،‬ال يهاب فرعونا ً متألها ً وال طاغوتا ً متجبراً‪ ،‬وذلك أن‬
‫الناس عادة يخافون على أمرين نفيسين عندهم وهما‪:‬‬
‫العمر والرزق والعمر محتوم‪ ،‬والرزق مقسوم ولهذا وقف المؤمنون في وجه الطغ‪99‬اة‬
‫والجبارين‪ ،‬ولم يعبأوا بجبروتهم ولم يهنوا أمام ق‪99‬وتهم وطغي‪99‬انهم وفي عص‪99‬رنا رأين‪99‬ا‬
‫العلماء والدعاة الش‪99‬امخين يواجه‪99‬ون المس‪99‬تعمرين‪ ،‬وأذن‪99‬اب المس‪99‬تعمرين من المل‪99‬وك‬
‫والرؤساء‪ ،‬ال يبالون بما يصيبهم في سبيل هللا‪.3‬‬
‫فاإليمان بالقدر من أعظم ما دفع المجاهدين إلى اإلقدام في ميدان النزال غ‪99‬ير هي‪99‬ابين‬
‫وال وجلين‪ ،‬وكان الواحد منهم يطلب الم‪99‬وت في مظان‪99‬ه‪ ،‬وي‪99‬رمي بنفس‪99‬ه في مض‪99‬ائق‬
‫يظن فيه‪99‬ا هلكت‪99‬ه‪ ،‬ث ّم ت‪99‬راه يم‪99‬وت على فراش‪99‬ه‪ ،‬فيبكي أن لم يس‪99‬قط في مي‪99‬دان ال‪99‬نزال‬
‫شهيداً وهو الذي كان يقتحم األخط‪99‬ار واأله‪99‬وال‪ ،4‬فه‪99‬ذا خال‪99‬د بن الولي‪99‬د لم‪99‬ا حض‪99‬رته‬
‫الوفاة وأدرك ذلك بكى وق‪99‬ال‪ :‬م‪99‬ا من عم‪99‬ل أرجى عن‪99‬دي بع‪99‬د ال إل‪99‬ه إال هللا‪ ،‬من ليل‪99‬ة‬
‫شديدة الجليد في سرية من المه‪99‬اجرين‪ ،‬بته‪99‬ا وأن‪99‬ا مت‪99‬ترس والس‪99‬ماء تنه‪99‬ل عل ّي‪ ،‬وأن‪99‬ا‬
‫انتظر الصبح حتى أغير على الكفار‪ ،‬فعليكم بالجهاد‪ ،‬لقد شهدت كذا وكذا زحفاً‪ ،‬وم‪99‬ا‬
‫في جسدي موضع شبر إال وفيه ضربة سيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح‪ ،‬وها أن‪99‬ذا‬
‫أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البع‪99‬ير‪ ،‬فال ن‪99‬امت أعين الجبن‪99‬اء‪ ،‬لق‪99‬د طلبت‬
‫القتل في مظانه‪ ،‬فلم يق‪ّ 9‬در لي إال أن أم‪9‬وت على فراشي‪ ،5‬وق‪9‬د تص‪9‬دى خال‪9‬د لطغي‪9‬ان‬
‫الفرس والروم معاً‪.‬‬
‫‪4‬ـ الصبر عند نزول المصائب‪:‬‬
‫ومن ثمرات اإليمان بالقدر الصبر عند ن‪99‬زول المص‪99‬ائب‪ ،‬ف‪99‬المؤمن بالق‪99‬در ال يس‪99‬يطر‬
‫عليه الجزع‪ ،‬والفزع‪ ،‬وال يستبد به السخط والهلع‪ ،‬بل يستقبل مصائب ال‪99‬دهر بثب‪99‬ات‪،‬‬
‫ص ‪9‬يبَ ٍة فِي‬
‫اب ِمن ُّم ِ‬
‫ص‪َ 9‬‬‫كثب‪99‬ات الجب‪99‬ال فق‪99‬د اس‪99‬تقر في اعماق‪99‬ه‪ ،‬ق‪99‬ول هللا تع‪99‬الى‪َ ":‬م‪99‬ا أَ َ‬
‫‪1‬ركائز اإليمان صـ ‪.432‬‬
‫‪2‬المصدر نفسه صـ ‪.433‬‬
‫‪3‬اإليمان بالقدر للقرضاوي‪.‬‬
‫‪4‬القضاء والقدر‪ ،‬عمر االشقر صـ ‪.112‬‬
‫صاّل بي صـ ‪.351‬‬
‫‪5‬سير أعالم النبالء للذهبي (‪ ،)382 /1‬عمر بن الخطاب لل ّ‬

‫‪182‬‬
‫ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِس‪9‬ي ٌر * لِ َك ْي‬ ‫ب ِّمن قَب ِْل أَن نَّب َْرأَهَ‪99‬ا إِ َّن َذلِ‪َ 9‬‬ ‫ض َواَل فِي أَنفُ ِس ُك ْم إِاَّل فِي ِكتَا ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اأْل َرْ‬
‫اَل تَأْ َسوْ ا َعلَى َما فَاتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َرحُوا بِ َما آتَا ُك ْم" (الحديد‪ ،‬آية ‪ 22 :‬ـ ‪.1)23‬‬
‫فاإليمان بالقدر من أعظم األدوية التي تعين المؤمن على الشدائد والمصائب والبالي‪99‬ا‪،‬‬
‫فهذه ثمرة من أعظم ثمرات اإليمان بالق‪9‬در‪ ،2‬وك‪9‬ان رس‪9‬ول هللا ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم‬
‫يغرس في نفوس أفراد األمة اإلسالمية هذا اإليمان ويرشدهم ويعلمهم كي‪99‬ف يتع‪99‬املوا‬
‫مع المصائب والش‪9‬دائد‪ ،‬فعن أس‪9‬امة بن زي‪9‬د رض‪9‬ي هللا عنهم‪9‬ا‪ ،‬ق‪9‬ال‪ :‬كن‪9‬ا عن‪9‬د الن‪9‬بي‬
‫صلى هللا عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا ً له‪99‬ا أو ابن ‪9‬ا ً له‪99‬ا‬
‫في الموت‪ ،‬فقال للرسول‪ :‬أرجع إليها فأخبرها أن هلل ما أخذ وله ما أعطى وكل ش‪99‬يء‬
‫عنده بأجل مسمى‪.3‬‬
‫ففي قوله صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إن هلل ما أخ‪99‬ذ ول‪99‬ه م‪99‬ا أعطى وك‪99‬ل ش‪99‬يء عن‪99‬ده بأج‪99‬ل‬
‫مسمى‪ :‬معناه الحث على الصبر والتسليم لقضاء هللا تعالى وتقديره أن ه‪99‬ذا ال‪99‬ذي أخ‪99‬ذ‬
‫منكم كان له ال لكم فلم يأخ‪99‬ذ إال م‪99‬ا ه‪99‬و ل‪99‬ه‪ ،‬فينبغي أن ال تجزع‪99‬وا كم‪99‬ا ال يج‪99‬زع من‬
‫استردت منه وديعة‪ ،‬وقوله صلى هللا عليه وسلم ‪":‬وله ما أعطى" معن‪99‬اه أن م‪99‬ا وهب‪99‬ه‬
‫لكم ليس خارجا ً عن ملكه بل هو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء‪ ،‬وقوله ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه‬
‫وسلم‪" :‬وكل شيء عنده بأجل مسمى" معناه‪ :‬أصبروا‪ 9‬وال تجزعوا ف‪99‬إن ك‪99‬ل من ي‪99‬أت‬
‫قد انقضى أجله المسمى فمحال تقدم‪9‬ه أو ت‪9‬أخره عن‪9‬ه‪ ،‬ف‪9‬إذا علمتم ه‪9‬ذا كل‪9‬ه فأص‪9‬بروا‬
‫واحتسبوا ما نزل بكم وهللا أعلم‪ ،‬وهذا الحديث من قواعد اإلسالم المشتملة على جم‪99‬ل‬
‫من أص‪99‬ول ال‪99‬دين وفروع‪99‬ه واآلداب‪ ،4‬والم‪9‬راد بأص‪99‬ول ال‪99‬دين هن‪99‬ا اإليم‪9‬ان بالقض‪99‬اء‬
‫والقدر‪.5‬‬
‫ومن األذكار التي علمها رسول هللا صلى هللا عليه وس‪99‬لم لألم‪99‬ة قول‪99‬ه ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم‪ :‬ال إله إال هللا وحده ال شريك له اللهم ال م‪99‬انع لم‪99‬ا أعطيت وال معطي لم‪99‬ا منعت‬
‫وال ينفع ذا الجد منك الجد‪.6‬‬
‫وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات‪ 9،‬لما اشتمل علي‪99‬ه من ألف‪99‬اظ التوحي‪99‬د‬
‫ونسبة األفعال إلى هللا والمنع واإلعطاء وتمام القدرة‪.7‬‬
‫والمسلم يرضى ويسلم ويسلي نفسه بالصبر الجمي‪9‬ل عن‪9‬د ن‪9‬زول المص‪9‬ائب‪ ،‬ق‪9‬ال ع‪9‬ز‬
‫اجع‪99‬ونَ *‬ ‫صيبَةٌ قَالُ ْ‬
‫وا إِنَّا هّلِل ِ َوإِنَّـا إِلَ ْي ِه َر ِ‬ ‫صابَ ْتهُم ُّم ِ‬‫وجل‪َ ":‬وبَ ِّش ِر الصَّابِ ِرينَ * الَّ ِذينَ إِ َذا أَ َ‬
‫ك هُ ُم ْال ُم ْهتَ‪ُ 9‬دونَ "‪( 9‬البق‪99‬رة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ 155 :‬ـ‬ ‫ات ِّمن َّربِّ ِه ْم َو َرحْ َمةٌ َوأُولَـئِ َ‬
‫صلَ َو ٌ‬ ‫ك َعلَ ْي ِه ْم َ‬ ‫أُولَـئِ َ‬
‫‪.)157‬‬
‫وتعلم الصحابة من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم هذا الدعاء العظيم‪ ،‬عن عبد هللا بن‬
‫مسعود رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬م‪99‬ا أص‪99‬اب أح‪99‬داً ق‪99‬ط‬
‫هم وال ح‪99‬زن فق‪99‬ال‪ :‬اللهم إني عب‪99‬دك ابن عب‪99‬دك ابن أمت‪99‬ك ناص‪99‬يتي بي‪99‬دك م‪99‬اض في‬

‫‪1‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪.91‬‬


‫‪2‬اإليمان بالقدر محمد حسان صـ ‪.250‬‬
‫‪3‬البخاري رقم ‪ ،6228‬مسلم ‪.923‬‬
‫‪4‬شرح صحيح مسلم للنووي (‪ 224 /6‬ـ ‪.)225‬‬
‫‪ 5‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪.)816 /2‬‬
‫‪6‬مسلم رقم ‪ ،593‬البخاري رقم ‪.844‬‬
‫‪7‬فتح الباري (‪ 332 /2‬ـ ‪.)333‬‬

‫‪183‬‬
‫حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو ل‪99‬ك س‪9‬ميت ب‪9‬ه نفس‪99‬ك أو علمت‪99‬ه أح‪99‬داً من‬
‫خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل الق‪99‬رآن ربي‪99‬ع‬
‫قلبي ونور صدري وجالء حزني وذهاب همي إال أذهب هللا همه وحزنه وأبدله مكانه‬
‫فرجاً‪ ،‬قال‪ :‬فقيل يا رسول هللا أال نتعلمها؟ فقال‪ :‬بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها‪.1‬‬
‫‪5‬ـ الرضا والقناعة بما قسم هللا‪:‬‬
‫ومن ثمار اإليمان بالقدر‪ :‬رضا المؤمن بما قسم هللا‪ ،‬وقناعته بما رزق هللا‪ ،‬وهذا بثمر‬
‫ثمرات طيبة في نفسية المؤمن وحياته‪.‬‬
‫أولها‪ :‬عن القلب‪ ،‬فمن الناس من لو أوتي واديا ً من ذهب البتغى ثانياً‪ ،‬ولو أوتي ثانيا ً‬
‫لتمنى ثالثاً‪ ،‬ومثله كجهنم يقال لها‪ :‬هل امتألت؟ وتقول‪ :‬هل من مزيد؟‬
‫والغنى الحقيقي ليس إال غنى النفس ال‪99‬ذي ق‪99‬ال عن‪99‬ه الرس‪99‬ول الك‪99‬ريم ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم‪" :‬ليس الغنى عن كثرة الغرض‪ ،‬إنما الغني عن النفس‪.2‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أرض بما قسم هللا لك تكن أغنى الناس‪.3‬‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫إن الغنى هو الغنى بنفسه‬
‫ولو أنه عار المناكب حاف‬
‫ما كل ما فوق البسيطة كافيا ً‬

‫وإذا قنعت فبعض شئ كاف‬


‫وال يعرف هذا الغنى النفسي إال من رضى بما قسمه هللا‪ ،‬وقنع به‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬اإلجمال في الطلب‪ :‬فهو يسعى في رزق‪99‬ه‪ ،‬ويك‪99‬دح في حيات‪99‬ه‪ ،‬ولكن بإجم‪99‬ال‬
‫واعتدال‪ ،‬وليس كأولئك الذين يلهثون أثناء النه‪99‬ار واللي‪99‬ل مك‪99‬دودي األجس‪99‬ام‪ ،‬مش‪99‬تتي‬
‫القلوب‪ ،‬مهمومي النف‪99‬وس‪ ،‬ال يش‪99‬عرون به‪99‬دوء ب‪99‬ال‪ ،‬وال براح‪99‬ة نفس‪ ،‬وال بإطمئن‪99‬ان‬
‫فكر‪ ،‬فإن حصلوا على المزيد إزدادوا لهثا ً وهما إن أخفقوا امتلئ‪99‬وا نك‪99‬داً وغم ‪9‬ا ً‪ ،4‬وفي‬
‫الح‪99‬ديث إن روح الق‪99‬دس نفث في روعي‪ :‬أن نفس ‪9‬ا ً لن تم‪99‬وت ح‪99‬تى تس‪99‬تكمل أجله‪99‬ا‪،‬‬
‫وتستوعب رزقها‪ ،‬فاتقوا هللا وأجملوا في الطلب‪.5‬‬
‫‪1‬سلسلة األحاديث الصحيحة (‪ ،)383 /1‬رقم ‪.199‬‬
‫‪ 2‬اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان رقم ‪.624‬‬
‫‪3‬صحيح الجامع الصغير رقم ‪.100‬‬
‫‪4‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.93‬‬
‫‪5‬صحيح الجامع الصغير رقم ‪.2085‬‬

‫‪184‬‬
‫وثالثها‪ :‬أال يتطلع إلى ما ليس في وسعه وليس من شأنه ويرضى بما وهب هللا له مما‬
‫ال يستطيع تغييره وفي حدود ما ق‪99‬در ل‪99‬ه يجب أن يك‪99‬ون نش‪99‬اطه وطموح‪99‬ه‪ ،‬فال يعيش‬
‫متمنيا ً ما ال يتيسر له‪ ،‬متطلعا ً إلى ما وهب لغيره ولم يوهب ل‪99‬ه‪ ،‬وذل‪99‬ك كتم‪99‬ني الش‪99‬يخ‬
‫أن يكون له قوة الشباب‪ ،‬وتطلع المرأة الدميمة إلى الحسناء في غيرة وحس‪99‬د‪ ،‬ونظ‪99‬رة‬
‫الشاب القصير إلى الرجل الطويل في حسرة وتلهف‪ ،‬وطموح البدوي الذي يعيش في‬
‫أرض فقراء بطبيعتها إلى رفاهية الحياة وأسباب النعيم‪ ،‬وكما حدث في عهد الرس‪99‬ول‬
‫حين تم‪99‬نى النس‪99‬اء أن يكن لهن م‪99‬ا للرج‪99‬ال‪ ،‬ف‪99‬أنزل هللا‪َ " :‬والَ تَتَ َمنَّوْ ْا َم‪99‬ا فَ َّ‬
‫ض‪َ 9‬ل هّللا ُ بِ‪ِ 9‬ه‬
‫اس ‪9‬أَلُ ْ‬
‫وا‬ ‫َص ‪9‬يبٌ ِّم َّما ا ْكت ََس ‪ْ 9‬بنَ َو ْ‬ ‫ُوا َولِلنِّ َساء ن ِ‬ ‫َصيبٌ ِّم َّما ا ْكتَ َسب ْ‬
‫ْض لِّل ِّر َجا ِل ن ِ‬
‫ْض ُك ْم َعلَى بَع ٍ‬
‫بَع َ‬
‫هّللا َ ِمن فَضْ لِ ِه" (النساء ‪ ،‬آية ‪. )23 :‬‬
‫‪1‬‬

‫إن اإليمان بالقدر يبعث إلى القناعة وعزة النفس واإلجمال في الطلب وت‪99‬رك التك‪99‬الب‬
‫على الدنيا والتحرر من رق المخلوقين وقطع الطمع مما في أي‪99‬ديهم‪ ،‬والتوج‪99‬ه ب‪99‬القلب‬
‫إلى رب العالمين‪ ،‬وهذا أسمى فالحه ورأس نجاحه قال الشاعر‪:‬‬
‫أفادتني القناعة كل عز‬
‫وهل عز أعز من القناعة‬
‫فصيرها لنفسك رأس مال‬
‫وصير بعدها التقوى بضاعة‬
‫تجز ربحا ً وتغنى عن بخيل‬
‫‪2‬‬
‫وتنعم في الجنان بصبر ساعة‬
‫‪ 6‬ـ العز في طلب الحوائج‪:‬‬
‫ومن ثمار اإليمان بالقدر‪ ،‬أن يطلب الم‪99‬ؤمن حاجت‪99‬ه عن‪99‬د من هي عن‪99‬ده بع‪99‬زة نفس ال‬
‫يطأطئ رأسه وال يذل نفسه وال يدني ظهره لمخلوق‪ ،‬إن هللا تعالى كتب العزة للمؤمن‬
‫فال ينبغي له أن يف‪9‬رط فيه‪9‬ا‪ ،‬ق‪9‬ال ع‪9‬ز وج‪9‬ل‪َ " :‬وهَّلِل ِ ْال ِع‪َّ 9‬زةُ َولِ َر ُس‪9‬ولِ ِه َولِ ْل ُم ْ‬
‫‪9‬ؤ ِمنِينَ َولَ ِك َّن‬
‫ْال ُمنَافِقِينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ " (المنافقون ‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬
‫فال يحل لمؤمن أن يذل نفسه لمخلوق مثله من أجل حاجة عنده‪ ،‬فق‪99‬د علم الن‪99‬بي ص‪99‬لى‬
‫هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم ابن عم‪99‬ه ـ عب‪99‬د هللا بن عب‪99‬اس ـ ه‪99‬ذه الكلم‪99‬ات العظيم‪99‬ة‪" :‬احف‪99‬ظ هللا‬
‫يحفظك‪ /‬احف‪9‬ظ هللا تج‪9‬ده تجاه‪9‬ك‪ ،‬وإذا س‪9‬ألت فاس‪9‬أل هللا‪ ،‬وإذا اس‪9‬تعنت فاس‪9‬تعن باهلل‪،‬‬
‫وأعلم أن األمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إال بشئ ق‪99‬د كتب‪99‬ه هللا ل‪99‬ك‪،‬‬
‫ولو اجتمعت على أن يضروك بشئ‪ ،‬لم يضروك إال بش‪99‬ئ ق‪99‬د كتب‪99‬ه هللا علي‪99‬ك‪ ،‬رفعت‬
‫األقالم وجفت الصحف‪.3‬‬
‫‪ 7‬ـ السكينة وراحة النفس وسكون القلب‪ :‬فهذه األمور من ثمرات اإليم‪99‬ان بالقض‪99‬اء‬
‫والقدر‪ ،‬وهي هدف منشود‪ ،‬فكل من على وجه البس‪99‬يطة يبتغيه‪99‬ا ويبحث عنه‪99‬ا‪ ،‬وإن‪99‬ك‬
‫لتجد عند خواص المسلمين من العلماء العاملين‪ ،‬والعباد القانتين المتبعين‪ ،‬من س‪99‬كون‬
‫القلب وطمأنينة النفس ما ال يخطر على بال وال يدور حول ما يش‪99‬بهه خي‪99‬ال‪ ،‬فلهم في‬
‫ذلك الشأن القدح المعلى والنصيب األوفى‪ ،‬فهذا أمير المؤمنين عم‪99‬ر بن عب‪99‬د العزي‪99‬ز‬
‫يقول‪ :‬أصبحت ومالي سرور إال في مواضع القضاء والقدر‪.4‬‬
‫‪1‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.94‬‬
‫‪ 2‬الوسطية في القرآن الكريم للصالبي صـ‪.343‬‬
‫‪3‬سنن الترمذي رقم ‪ 2516‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ 4‬سيرة عمر بن عبد العزيز البن الحكم صـ‪.97‬‬

‫‪185‬‬
‫وهذا ابن تيمية يقول‪ :‬إن في الدنيا جنة من لم ي‪99‬دخلها لم ي‪99‬دخل جن‪99‬ة اآلخ‪99‬رة‪ ،1‬ويق‪99‬ول‬
‫مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى الس‪99‬جن‪ :‬م‪99‬ا يص‪99‬نع أع‪99‬دائي بي أن‪99‬ا جن‪99‬تي‬
‫وبس‪99‬تاني في ص‪99‬دري‪ ،‬أينم‪99‬ا رحلت فهي معي ال تف‪99‬ارقني‪ ،‬أن‪99‬ا حبس‪99‬ي خل‪99‬وة وقتلي‬
‫شهادة‪ ،‬وإخراجي من بلدي سياحة‪.2‬‬
‫بل إنك تجد عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال‪ ،‬وبرد اليقين ما ال تجده‬
‫عن‪99‬د كب‪99‬ار الكت‪99‬اب والمفك‪99‬رين واألطب‪99‬اء من غ‪99‬ير المس‪99‬لمين‪ ،‬فكم من األطب‪99‬اء غ‪99‬ير‬
‫المسلمين على سبيل المثال من يعجب‪ ،‬ويذهب به العجب كل م‪99‬ذهب‪ ،‬وذل‪99‬ك إذا ك‪99‬ان‬
‫لديه مريض مسلم واكتشف أنه مص‪99‬اب ب‪99‬داء خط‪99‬ير ـ كالس‪99‬رطان ـ مثالً ف‪9‬ترى ه‪99‬ذا‬
‫الطبيب يحتار في كيفي‪99‬ة إخب‪99‬ار ه‪99‬ذا الم‪99‬ريض ومص‪99‬ارحته بعلت‪99‬ه‪ ،‬فتج‪99‬ده يق‪99‬دم رجالً‬
‫ويؤخر األخرى‪ ،‬وتجده يمهد الطريق‪ ،‬ويضع المقدمات‪ ،‬كل ذلك خشية من ردة فع‪99‬ل‬
‫المريض إزاء هذا الخبر‪ ،‬وما أن يعلمه بمرض‪99‬ه ويخ‪99‬بره بعلت‪99‬ه‪ ،‬إال ويفاج‪99‬أ ب‪99‬أن ه‪99‬ذا‬
‫المريض يستقبل هذا الخبر بنفس راضية وصدر رحب‪ ،‬وس‪99‬كينة وه‪99‬دوء‪ ،‬لق‪99‬د أدهش‬
‫كثيراً من هؤالء إيمان المسلمين بالقض‪9‬اء والق‪9‬در فكتب‪9‬وا في ه‪9‬ذا الش‪99‬أن مع‪9‬برين عن‬
‫دهش‪99‬تهم‪ ،‬مس‪99‬جلين ش‪99‬هادتهم بق‪99‬وة ع‪99‬زائم المس‪99‬لمين‪ ،‬وارتف‪99‬اع معنوي‪99‬اتهم‪ ،‬وحس‪99‬ن‬
‫استقبالهم لصعوبات الحياة‪ ،3‬فهذه شهادة ح‪99‬ق من ق‪99‬وم حرم‪99‬وا اإليم‪99‬ان باهلل وبقض‪99‬ائه‬
‫وقدره‪.‬‬
‫ومليحة شهدت لها ضراتها‬
‫والفضل ما شهدت به األعداء‬
‫ومن هؤالء الكتاب الذين كتبوا في ذلك ـ الكاتب المشهور "ر‪ .‬ن‪ .‬سي‪ .‬بودلي" مؤلف‬
‫كتابي "رياح على الصحراء" و"الرسول" وأربع‪99‬ة عش‪99‬ر كتاب‪9‬ا ً أخ‪99‬رى‪ ،‬وال‪99‬ذي أورد‬
‫رأيه "دبل كارينجي" في كتابه "دع القلق وأبدأ الحياة" في مقال‪99‬ة بعن‪99‬وان "عش‪99‬ت في‬
‫جنة هللا" يقول بودلي‪ :‬في عام ‪1918‬م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حي‪99‬اتي‪،‬‬
‫ويممت ش‪99‬طر أفريقي‪99‬ا الش‪99‬مالية‪ ،‬الغربي‪99‬ة‪ ،‬حيث عش‪99‬ت بين األع‪99‬راب في الص‪99‬حراء‬
‫وقضيت هنالك سبعة أعوام‪ ،‬وأتقنت خاللها لغة الب‪99‬دو‪ ،‬وكنت أرت‪99‬دي زيهم وآك‪99‬ل من‬
‫طعامهم‪ ،‬واتخذ مظاهرهم في الحياة‪ ،‬وغدوت مثلهم أمتلك أغنام ‪9‬ا ً وأن‪99‬ام كم‪99‬ا ين‪99‬امون‬
‫في الخيام‪ ،‬وقد تعمقت في دراسة اإلسالم حتى إن‪99‬ني ألفت كتاب‪9‬ا ً عن محم‪99‬د ص‪99‬لى هللا‬
‫عليه وسلم وعنوانه "الرسول"‪ 9،‬وكانت تلك األعوام السبعة ال‪99‬تي قض‪99‬يتها م‪99‬ع ه‪99‬ؤالء‬
‫البدو الرحل من أمتع سني حياتي‪ ،‬وأحفلها بالسالم‪ ،‬واإلطمئنان والرضا بالحياة‪ ،‬وق‪99‬د‬
‫تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق‪ ،‬فهم ـ بوصفهم مسلمين ـ يؤمن‪99‬ون‬
‫بالقضاء والقدر‪ ،‬ساعدهم هذا اإليمان على العيش في أمان‪ ،‬وأخذ الحياة مأخ‪99‬ذاً س‪99‬هالً‬
‫هين‪9‬اً‪ ،‬فهم ال يتعجل‪9‬ون أم‪9‬راً‪ ،‬وال يلق‪9‬ون بأنفس‪9‬هم بين ب‪9‬راثن الهم قلق‪9‬ا ً ع‪9‬ل أم‪9‬ر‪ ،‬إنهم‬
‫َب هّللا ُ لَ‪99‬ه"‪ ،‬وليس‬ ‫يؤمنون بأن " ما قدر يكون" وأن الف‪99‬رد منهم "لَّن ي ِ‬
‫ُص‪9‬يبَه إِالَّ َم‪99‬ا َكت َ‬
‫معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقف‪99‬ون في وج‪99‬ه الكارث‪9‬ة مكت‪99‬وفي األي‪99‬ادي كال‪ .4‬ثم أردف‬
‫قائالً‪ :‬ودعني أضرب لك مثالً لما أعنيه‪ ،‬هبت ذات ي‪99‬وم عاص‪99‬فة عاتي‪99‬ة حملت رم‪99‬ال‬
‫وادي "ال‪9‬رون"‪ 9‬في فرنس‪9‬ا وك‪9‬انت العاص‪9‬فة ح‪9‬ارة ش‪9‬ديدة الح‪9‬رارة‪ ،‬ولكن الع‪9‬رب لم‬
‫‪ 1‬الشهادة الزكية في ثناء األئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي صـ‪.34‬‬
‫‪ 2‬شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬جهاده ودعوته أحمد القطان صـ‪.101‬‬
‫‪ 3‬اإليمان بالقضاء والقدر محمد إبراهيم الحمد صـ‪.32‬‬
‫‪ 4‬الوسطية في القرآن الكريم للصالبي صـ‪.344‬‬

‫‪186‬‬
‫يشكو إطالقاً‪ ،‬فقد هزوا أكتافهم‪ ،‬وقالوا كلمتهم المأثورة "قضاء مكتوب"‪ ،‬لكنهم ما أن‬
‫مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنش‪99‬اط كب‪99‬ير ف‪99‬ذبحوا ص‪99‬غار الخ‪99‬راف قب‪99‬ل أن‬
‫يودي القيظ بحي‪99‬اتهم‪ ،‬ثم س‪9‬اقوا الماش‪99‬ية إلى الجن‪99‬وب نح‪99‬و الم‪99‬اء‪ ،‬فعل‪99‬وا ه‪99‬ذا كل‪99‬ه في‬
‫صمت وهدوء‪ ،‬دون أن تبدو من أحدهم شكوى‪ ،‬قال رئيس القبيلة الشيخ‪ :‬لم نفقد الشئ‬
‫الكثير‪ ،‬فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شئ‪ ،‬ولكن حمداً هلل وشكراً‪ ،‬فإن لدينا نح‪99‬و أربعين‬
‫في المائة من ماشيتنا‪ ،‬وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد‪.1‬‬
‫وثمة حادثة أخرى‪ ،‬فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوما ً فانفجرت إحدى اإلطارات‪،‬‬
‫وكان السائق قد نسي استحض‪99‬ار إط‪99‬ار إحتي‪99‬اطي‪ ،‬وت‪99‬والني الغض‪99‬ب وانت‪99‬ابني القل‪99‬ق‬
‫والهم‪ ،‬وسألت صاحبي من األعراب‪ :‬ماذا وعسى أن نفعل؟ فذكرني بأن االندفاع إلى‬
‫الغضب لن يجدي فتيالً‪ ،‬بل هو خليق أن ي‪99‬دفع اإلنس‪99‬ان إلى الطيش والحم‪99‬ق‪ ،‬ومن ثم‬
‫درجت بنا السيارة وهي تج‪99‬ري على ثالث إط‪99‬ارات ليس إال‪ ،‬لكنه‪99‬ا م‪99‬ا لبثت أن كفت‬
‫عن السير‪ ،‬وعلمت أن الب‪99‬نزين ق‪9‬د نف‪99‬ذ‪ ،‬وهنال‪99‬ك أيض‪9‬ا ً لم ت‪99‬ثر ث‪99‬ائرة أح‪99‬د من رف‪99‬اقي‬
‫األعراب‪ ،‬وال فارقهم هدوؤهم‪ ،‬بل مضوا يقطعون الطريق سيراً على األقدام‪.2‬‬
‫وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق بقوله‪ :‬قد اقنعتني األع‪99‬وام‬
‫الس‪99‬بعة ال‪99‬تي قض‪99‬يتها في الص‪99‬حراء بين األع‪99‬راب الرح‪99‬ل ـ أن م‪99‬رض النف‪99‬وس‪،‬‬
‫والسكيرين ال‪99‬ذي يحف‪99‬ل بهم أمريك‪99‬ا‪ ،‬وأورب‪99‬ا ـ م‪99‬ا هم إال ض‪99‬حايا المدني‪99‬ة ال‪99‬تي تتخ‪99‬ذ‬
‫السرعة أساسا ً لها‪ ،‬إنني لما أعان ش‪99‬يئا ً من القل‪99‬ق ق‪99‬ط وأن‪99‬ا أعيش في الص‪99‬حراء‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫هنالك في جنة هللا وجدت السكينة والقناعة والرضا‪.3‬‬
‫وأخيراً ختم كالمه بقوله‪ :‬وخالصة الق‪99‬ول أن‪99‬ني بع‪99‬د انقض‪99‬اء س‪99‬بعة عش‪99‬ر عام‪9‬ا ً على‬
‫مغادرتي الصحراء ـ ما زلت أتخذ موق‪99‬ف الع‪99‬رب حي‪99‬ال قض‪99‬اء هللا‪ ،‬فأقب‪99‬ل الح‪99‬وادث‬
‫ال‪99‬تي ال حيل‪99‬ة لي فيه‪99‬ا باله‪99‬دوء واالمتث‪99‬ال والس‪99‬كينة‪ ،‬ولق‪99‬د أفلحت ه‪99‬ذه الطب‪99‬اع ال‪99‬تي‬
‫اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آالف المسكنات والعقاقير‪.4‬‬
‫‪ 8‬ـ المؤمن ال يعيش بين "لو" و"ليت"‪:‬‬
‫إن من أهم عوامل القلق الذي يفقد اإلنسان سكينة النفس وأمنها ورض‪99‬اها ه‪99‬و تحس‪99‬ره‬
‫على الماضي وسخطه على الحاضر وخوفه من المستقبل‪.‬‬
‫إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب ال‪99‬دهر‪ ،‬فيظ‪99‬ل ش‪99‬هوراً وأعوام ‪9‬ا ً آالمه‪99‬ا‪،‬‬
‫ويستعيد ذكرياتها القائمة‪ ،‬متحسراً تارة‪ ،‬متمنيا ً أخرى‪ ،‬شعاره‪ :‬ليت‪99‬ني فعلت‪ ،،‬وليت‪99‬ني‬
‫تركت‪ ،‬وأني فعلت كذا لكان كذا‪ ،‬وقديما ً قال الشاعر‪:‬‬
‫ُ‬
‫"ليت"؟‬ ‫ليت شعري وأين من‬
‫إن "ايتا" وإن "ل ّوا"‪ 9‬ـ غناء‬
‫ولذا ينصح األطباء النفسانيون والمرش‪99‬دون االجتم‪99‬اعيون‪ ،‬ورج‪99‬ال التربي‪99‬ة‪ ،‬ورج‪99‬ال‬
‫العمل‪ ،‬أن ينسى اإلنسان آالم أمسه‪ ،‬ويعيش في واقع يومه‪ ،‬فإن الماضي بع‪99‬د أن ولَّى‬
‫ال يعود‪.‬‬
‫ما مضى فات‪ ،‬والمؤمل غيب‬
‫ولك الساعة التي أتت فيها‬
‫‪ 1‬دع القلق وأبدأ الحياة‪ ،‬ديل كارنيجي صـ‪.291 ،290‬‬
‫‪2‬المصدر نفسه صـ ‪ 290‬ـ ‪.291‬‬
‫‪3‬المصدر نفسه صـ‪ 291‬ـ ‪.295‬‬
‫‪4‬الوسطية في القرآن الكريم صـ‪.346‬‬

‫‪187‬‬
‫وقد صور هذا المع‪99‬نى أح‪99‬د المحاض‪99‬رين بإح‪99‬دى الجامع‪99‬ات بأمريك‪99‬ا تص‪99‬ويراً ب‪99‬ديعا ً‬
‫لطلبته حين سألهم‪ :‬كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع كث‪99‬ير من الطلب‪99‬ة ‪ ..‬أص‪99‬ابعهم‪،‬‬
‫فع‪99‬اد يس‪99‬ألهم‪ :‬وكم منكم م‪99‬ارس نش‪99‬ر نش‪99‬ارة الخش‪99‬ب؟ فلم يرف‪99‬ع أح‪99‬د منهم إص‪99‬بعه‪،‬‬
‫وعندئذ قال المحاضر‪ :‬بالطبع ال يمكن ألح‪9‬د أن ينش‪9‬ر نش‪9‬ارة الخش‪9‬ب‪ ،‬فهي منش‪9‬ورة‬
‫فعالً‪ .‬وكذلك الحال م‪99‬ع الماض‪99‬ي‪ :‬فعن‪99‬دما ينت‪99‬ابكم القل‪99‬ق ألم‪99‬ور ح‪99‬دثت في الماض‪99‬ي‪،‬‬
‫فاعلموا أنكم تمارسون نشر النشارة!!‬
‫وقد نقل هذا التصوير "ديل كارينجي" في كتاب‪99‬ه "دع القل‪99‬ق وأب‪99‬دأ الحي‪99‬اة"‪ ،‬كم‪99‬ا نق‪99‬ل‬
‫قول بعضهم‪ :‬لقد وجدت أن القلق على الماضي ال يجدي شيئا ً تماماً‪ ،‬كما ال يجديك أن‬
‫تطحن الطحين‪ ،‬وال أن تنش‪99‬ر النش‪99‬ارة‪ ،‬وك‪99‬ل م‪99‬ا يج‪99‬ديك إي‪99‬اه القل‪99‬ق ه‪99‬و‪ :‬أن يرس‪99‬م‬
‫التجاعيد على وجهك‪ ،‬أو يصيبك بقرحة في المعدة‪.1‬‬
‫ولكن الضعف اإلنساني يغلب على الكثيرين‪ ،‬فيجعلهم يطحنون المطحون‪ ،‬وينش‪99‬رون‬
‫المنش‪99‬ور‪ ،‬ويبك‪99‬ون على أمس ال‪99‬ذاهب‪ ،‬ويعض‪99‬ون على أي‪99‬ديهم أس‪99‬فا ً على م‪99‬ا ف‪99‬ات‪،‬‬
‫ويقلبون حسرة ما مضى‪ ،‬وأبع‪99‬د الن‪99‬اس عن االستس‪99‬الم لمث‪99‬ل ه‪99‬ذه المش‪99‬اعر األليم‪99‬ة‪،‬‬
‫واألفكار السقيمة هو المؤمن الذي ق‪99‬وي يقين‪99‬ه برب‪99‬ه‪ ،‬وآمن بقض‪99‬ائه‪ ،‬وق‪99‬دره فال يس‪99‬لم‬
‫نفسه فريسة للماضي وأحداثه‪ ،‬بل يعتق‪99‬د أن‪99‬ه أم‪99‬ر قض‪99‬اه هللا ك‪99‬ان ال ب‪99‬د أن ينف‪99‬ذ‪ ،‬وم‪99‬ا‬
‫أصابه من قضاء هللا ال يقابل بغير الرضا والتسليم‪.2‬‬
‫إن شعار المؤمن دائماً‪" :‬قدر هللا‪ ،‬وما شاء فعل‪ ،‬الحم‪99‬د هلل على ك‪99‬ل ح‪99‬ال"‪ ،‬وبه‪99‬ذا ال‬
‫يأس على ما فات وال يحيا في خضم أليم من الذكريات‪ ،‬وحسبه أن يتل‪99‬و قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪:‬‬
‫ص‪9‬يبَ ٍة إِاَّل بِ‪9‬إ ِ ْذ ِن هَّللا ِ َو َمن يُ‪9ْ 9‬ؤ ِمن بِاهَّلل ِ يَ ْه‪ِ 9‬د قَ ْلبَ‪9‬هُ َوهَّللا ُ بِ ُك‪ِّ 9‬ل َش‪ْ 9‬ي ٍء َعلِي ٌم"‬
‫اب ِمن ُّم ِ‬
‫ص َ‬‫" َما أَ َ‬
‫(التغابن ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬المؤمن‪ 9‬القوي خير وأحب إلى هللا من المؤمن الض‪99‬عيف‪،‬‬
‫وفي كل خير"‪ ،‬أحرص على ما ينفعك واستعن باهلل وال تعجز‪ ،‬وإن أص‪99‬ابك ش‪99‬ئ فال‬
‫تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر هللا وما ش‪99‬اء فع‪99‬ل‪ ،‬ف‪9‬إن ل‪99‬و تفتح عم‪99‬ل‬
‫الشيطان"‪.3‬‬
‫فقد أم‪99‬ر الم‪99‬ؤمن في ه‪99‬ذا الح‪99‬ديث ب‪99‬الحرص على م‪99‬ا ينفع‪99‬ه س‪99‬واء في دين‪99‬ه أم دني‪99‬اه‪،‬‬
‫واالستعانة باهلل على ذلك فهو الذي يهيء له األسباب‪ ،‬ويزيل من طريقه العوائق‪ ،‬كما‬
‫ين" (الفاتحة ‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬ ‫قال تعالى‪" :‬إِيَّاكَ نَ ْعبُ ُدو إِيَّاكَ نَ ْستَ ِع ُ‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫إذا لم يكن عون من هللا للفتى‬
‫فأول ما يجنى عليه اجتهاده‬
‫ومن العجز الم‪99‬ذموم هن‪99‬ا‪ :‬إلق‪99‬اء األحم‪99‬ال على الق‪99‬در واالحتج‪99‬اج ب‪99‬ه في اإلعف‪99‬اء من‬
‫المس‪99‬ئولية‪ ،‬وق‪99‬ديما ً قي‪99‬ل‪ :‬من دالئ‪99‬ل العج‪99‬ز ك‪99‬ثرة اإلحال‪99‬ة على المق‪99‬ادير وح‪99‬ديثا ً ق‪99‬ال‬
‫الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال‪ :‬المسلم الضعيف يحتج بقضاء هللا وق‪99‬دره‪ ،‬أم‪99‬ا‬
‫المسلم القوي يعتق‪99‬د أن‪99‬ه ق‪99‬در هللا ال‪99‬ذي ال يغلب وقض‪99‬اؤه ال‪99‬ذي ال ي‪99‬رد‪ ،‬وق‪99‬د روي أن‬
‫بعض الصحابة ـ في زمن الفتوح اإلسالمية ـ س‪99‬أله أح‪99‬د ق‪99‬ادة الف‪99‬رس‪ 9:‬من أنتم؟ وم‪99‬ا‬

‫‪1‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪ ،97‬دع القلق صـ‪.173‬‬


‫‪2‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ ‪.97‬‬
‫‪3‬مسلم رقم ‪.2664‬‬

‫‪188‬‬
‫حقيقتكم؟ فقال له‪ :‬نحن قدر هللا‪ ،‬ابتالكم هللا بن‪99‬ا‪ ،‬وابتالن‪9‬ا بكم‪ ،‬فل‪99‬و كنتم في س‪9‬حابة في‬
‫السماء لصعدنا إليكم‪ ،‬أو لهبطتم إلينا‪.1‬‬
‫إن من وصايا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للمسلم إذا أصابه ش‪99‬ئ من ش‪99‬دائد ال‪99‬دنيا‬
‫وابتالؤاته‪9‬ا ـ وم‪9‬ا أكثره‪9‬ا ـ أال يس‪9‬لم نفس‪9‬ه للتحس‪9‬ر واألس‪9‬ى على م‪9‬ا فات‪9‬ه‪ ،‬فيص‪9‬بح‬
‫ويمسي‪ ،‬وهو يمضغ كلمات األسى واألسف‪ ،‬ويقول‪ :‬لو أني فعلت كذا لكان ك‪99‬ذا على‬
‫سبيل التحسر والتمني‪ ،‬ويجتر الذكريات الحزينة‪ ،‬بل أمره أن يرد األمر هذا إلى ق‪99‬در‬
‫هللا‪ ،‬ويسلم أمره وقضائه قائالً‪ :‬قدر هللا وما شاء هللا فعل‪ ،‬معتبراً أن الخير فيما اختاره‬
‫له‪ ،‬ثم هو ال يقدر على غير ذلك‪ ،‬وليتجه ـ بعد ذلك ـ للمس‪99‬تقبل ويعم‪99‬ل ويب‪99‬ني وينتج‪،‬‬
‫ال إلى "اللَّولَوة" التي يقول فيها "لو أني فعلت‪ ،‬ولو أني تركت" فإن "ل‪99‬و" ه‪99‬ذه "ل‪99‬و"‬
‫المتمنية والمتحسرة تفتح عمل الشيطان‪ ،‬وعمله ليس وراءه إال الضياع والخسران‪.2‬‬
‫‪ 9‬ـ الخوف والحذر من هللا‪ :‬فالمؤمن بالقدر على حذر من هللا‪ ،‬قال تع‪99‬الى‪" :‬فَالَ يَ‪99‬أْ َم ُن‬
‫َم ْك َر هّللا ِ إِالَّ ْالقَوْ ُم ْالخَ ا ِسرُونَ " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)99 :‬‬
‫فقلوب العباد دائمة التقلب والتغير‪ ،‬والقلوب بين أص‪99‬بعين من أص‪99‬ابع ال‪99‬رحمن يقلبه‪99‬ا‬
‫كيف يشاء‪ ،‬والفتن التي توج‪99‬ه س‪99‬هامها إلى القل‪99‬وب كث‪99‬يرة‪ ،‬والم‪99‬ؤمن يح‪99‬ذر دائم‪9‬ا ً أن‬
‫يأتي‪99‬ه م‪99‬ا يض‪99‬له كم‪99‬ا يخش‪99‬ى أن يختم ل‪99‬ه بخاتم‪99‬ة س‪99‬يئة‪ ،‬وه‪99‬ذا ال يدفع‪99‬ه إلى التكاس‪99‬ل‬
‫والخمول‪ ،‬بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة لالستقامة واإلكث‪99‬ار من الص‪99‬الحات ومجانب‪99‬ة‬
‫المعاصي والموبقات‪ ،‬كم‪99‬ا يبقى قلب العب‪99‬د معلق‪9‬ا ً بخالق‪99‬ه‪ ،‬ي‪99‬دعوه ويرج‪99‬وه ويس‪99‬تعينه‬
‫ويسأله الثبات على الحق‪ ،‬كما يسأله الرشد والسداد‪.3‬‬
‫‪ 10‬ـ الخالص من الشرك‪:‬‬
‫ال يتم توحي‪99‬د هللا إال لمن أق ‪َّ 9‬ر أن هللا وح‪99‬ده الخ‪99‬الق لك‪99‬ل ش‪99‬ئ في الك‪99‬ون‪ ،‬وأن إرادت‪99‬ه‬
‫ماضية في خلقه ما شاء هللا كان وما لم يش‪9‬أ لم يكن‪ ،‬فك‪9‬ل المع‪9‬ذبين بالق‪9‬در لم يوح‪9‬دوا‬
‫ربهم‪ ،‬ولم يعرفوه حق معرفته‪ ،‬واإليمان بالقدر مفرق طري‪99‬ق بين التوحي‪99‬د والش‪99‬رك‪،‬‬
‫فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد‪ ،‬ومن لم‬
‫يؤمن هذا اإليمان فإنه يجعل من دون هللا آلهة وأربابا ً‪.4‬‬
‫‪ 11‬ـ االستقامة‪ :‬واإليمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببا ً في استقامة المسلم‬
‫وخاصة في معاملته لآلخرين‪ ،‬فحين يقصر في حقه أحد أو يسئ إليه‪ ،‬أو يرد إحس‪99‬انه‬
‫باإلساءة أو ينال من عرضه بغير حق‪ ،‬تجده يعفو ويصفح‪ ،‬ألن‪99‬ه يعلم أن ذل‪99‬ك مق‪99‬در‪،‬‬
‫وهذا إنما يحسن إذا كان في ح‪99‬ق نفس‪99‬ه‪ ،‬أم‪99‬ا في ح‪99‬ق هللا فال يج‪99‬وز العف‪99‬و وال التعل‪99‬ل‬
‫بالقدر‪ ،‬ألن القدر إنما يحتج به في المصائب ال في المعايب‪.5‬‬
‫واإليمان بالقدر يجعل اإلنسان يمض‪99‬ي في حيات‪99‬ه على منهج س‪99‬واء ال تبط‪99‬ره النعم‪99‬ة‪،‬‬
‫وال تيئسه المصيبة‪ ،‬فه‪99‬و يعلم أن ك‪99‬ل م‪99‬ا أص‪99‬ابه من نعم وحس‪99‬نات من هللا‪ ،‬ال بذكائ‪99‬ه‬
‫وحسن تدبيره " َو َما بِ ُكم ِّمن نِّ ْع َم ٍة فَ ِمنَ هّللا ِ" (النحل‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)53 :‬وال يك‪99‬ون حال‪99‬ه ح‪99‬ال‬
‫قارون الذي بغى على قومه واستطال عليهم بما أعطاه هللا من كنوز وأموال‪.‬‬

‫‪1‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.100‬‬


‫‪2‬اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ‪.101‬‬
‫‪ 3‬القضاء والقدر د‪ .‬عمر األشقر صـ‪.111‬‬
‫‪4‬القضاء والقدر لألشقر صـ‪.110‬‬
‫‪5‬القضاء والقدر للمحمود صـ ‪.457‬‬

‫‪189‬‬
‫وس ‪9‬ى فَبَغَى َعلَ ْي ِه ْم َوآتَ ْينَ‪99‬اهُ ِمنَ ْال ُكنُ‪ِ 9‬‬
‫‪9‬وز َم‪99‬ا إِ َّن‬ ‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪":‬إِ َّن قَ‪99‬ارُونَ َك‪99‬انَ ِمن قَ‪99‬وْ ِم ُم َ‬
‫‪9‬ر ِحينَ *‬ ‫‪9‬رحْ إِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْالفَ‪ِ 9‬‬ ‫َمفَاتِ َحهُ لَتَنُو ُء بِ ْالعُصْ بَ ِة أُولِي ْالقُ َّو ِة إِ ْذ قَ َ‬
‫ال لَهُ قَوْ ُم‪ 9‬هُ اَل تَ ْف‪َ 9‬‬
‫َص‪9‬يبَكَ ِمنَ ال‪ُّ 9‬د ْنيَا َوأَحْ ِس‪9‬ن َك َم‪9‬ا أَحْ َس‪9‬نَ هَّللا ُ‬ ‫َنس ن ِ‬ ‫‪9‬رةَ َواَل ت َ‬ ‫َوا ْبت َِغ فِي َما آتَاكَ هَّللا ُ ال‪َّ 9‬د َ‬
‫ار اآْل ِخ َ‬
‫‪9‬ال إِنَّ َم‪9‬ا أُوتِيتُ‪9‬هُ َعلَى ِع ْل ٍم‬‫ض إِ َّن هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ ْال ُم ْف ِس‪ِ 9‬دينَ * قَ َ‬ ‫ك َواَل تَب ِْغ ْالفَ َسا َد فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫إِلَ ْي َ‬
‫ِعن ِدي" (القصص‪ ،‬آية ‪ 76 :‬ـ ‪.)78‬‬
‫‪1‬‬
‫ويكون المؤمن بالقدر على األستقامة في حالة السراء والضراء ‪.‬‬
‫‪12‬ـ القضاء على األمراض التي تعصف بالمجتمعات‪:‬‬
‫اإليمان بالقدر يقضي على كث‪99‬ير من األم‪99‬راض ال‪99‬تي تعص‪99‬ف‪ ،‬بالمجتمع‪99‬ات وت‪99‬زرع‬
‫األحقاد بين المؤمنين‪ ،‬وذلك مثل رذيلة الحسد‪ ،‬فالمؤمن ال يحسد الناس على ما آت‪99‬اهم‬
‫هللا من فضله‪ ،‬ألنه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذل‪99‬ك‪ ،‬وه‪99‬و يعلم حين يحس‪99‬د غ‪99‬يره إنم‪99‬ا‬
‫يعترض على المقدور‪ ،‬وهك‪99‬ذا ف‪9‬المؤمن يس‪99‬عى لعم‪99‬ل الخ‪99‬ير‪ ،‬ويحب للن‪99‬اس م‪99‬ا يحب‬
‫لنفسه‪ ،‬فإن وصل إلى م‪99‬ا يص‪99‬بو إلي‪99‬ه حم‪99‬د هللا وش‪99‬كره على نعم‪99‬ه‪ ،‬وإن لم يص‪99‬ل إلى‬
‫شيء من ذلك صبر ولم يجزع‪ ،‬ولم يحقد على غيره ممن نال من الفض‪99‬ل م‪99‬ا لم ينل‪99‬ه‪،‬‬
‫ألن هللا هو الذي يقسم االرزاق فيعطي ويمنع وكل ذل‪99‬ك ابتالء وامتح‪99‬ان من‪99‬ه س‪99‬بحانه‬
‫وتعالى ـ لخلقه‪.2‬‬
‫قال ابن سيرين‪ :‬ما حسدت أحداً على ش‪9‬يء من أم‪9‬ور ال‪9‬دنيا‪ ،‬ألن‪9‬ه إن ك‪99‬ان ـ أي ه‪9‬ذا‬
‫الرجل ـ من أهل الجنة‪ ،‬فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا وهو مصيره إلى الجنة‬
‫وإن كان ـ هذا الرجل ـ من أهل النار فكيف أحسده على ش‪99‬يء من أم‪99‬ور ال‪99‬دنيا‪ ،‬وه‪99‬و‬
‫يصير إلى النار‪.3‬‬
‫فالحسد يحرق صاحبه‪ ،‬والمحسود قد يُصابُ بالعين إن ك‪99‬انت العين خبيث‪99‬ة ألن الن‪99‬بي‬
‫صلى هللا عليه وسلم يقول‪ :‬إن العين‪ .4‬وقال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬العين حق‪ ،‬ولو كان‬
‫شيء سابق القدر‪ ،‬سبقته العين‪.5‬‬
‫وقال ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم‪ :‬ال تباغض‪9‬وا‪ ،‬وال تحاس‪9‬دوا‪ ،‬وال ت‪9‬دابروا‪ ،‬وال تق‪9‬اطعوا‪،‬‬
‫وكونوا عباد هللا إخوانا‪.6‬‬
‫وعالج الحسد بالرضى بالقضاء والق‪99‬در‪ ،‬وت‪99‬ارة بالزه‪99‬د في ال‪99‬دنيا‪ ،‬وت‪99‬ارة بم‪99‬ا يتعل‪99‬ق‬
‫بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب اآلخرة‪ ،‬فيتسلى المؤمن ب‪99‬ذلك وال يعم‪99‬ل بمقتض‪99‬ى‬
‫ما في النفس أصالً وال ينطق‪ ،‬فإذا فعل ذلك لم يضره ما وض‪99‬ع في جبلته‪ .7‬يع‪99‬ني‪ :‬إذا‬
‫لم يحول الذي في نفسه إلى كلمات حاقدة حاسدة أو إلى أفعال حاقدة حاس‪99‬دة ال يض‪99‬ره‬
‫ما تحدث به النفس أحياناً‪ ،‬فالنفس قد جبلت على مثل هذا‪.8‬‬
‫فالذي يؤمن بالقدر يحمل قلبا ً نظيفا ً طاهراً من الغل والحقد والحسد والغش والض‪99‬غينة‬
‫إلخوانه‪ ،‬ألنه إن نظر إلى أخ من إخوانه ووجده في نعمة فهو يعلم يقينا ً أن ال‪99‬ذي أنعم‬
‫عليه بهذا هو هللا‪ ،‬فهو يحب ألخيه النعمة ويتضرع إلى هللا سبحانه وتعالى الذي رزق‬
‫‪1‬القضاء والقدر لألشقر صـ ‪.110‬‬
‫‪2‬القضاء والقدر للمحمود صـ ‪.453‬‬
‫‪3‬مختصر منهاج القاصدين صـ ‪.169‬‬
‫‪4‬القضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ ‪.268‬‬
‫‪5‬مسلم‪ ،‬رقم ‪.2188‬‬
‫‪6‬البخاري رقم ‪ ،6065‬مسلم رقم ‪.2559‬‬
‫‪7‬القضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ ‪.273‬‬
‫‪8‬القضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ ‪ ،273‬مختصر منهاج القاصدين صـ ‪ 169‬ـ ‪.170‬‬

‫‪190‬‬
‫أخاه أن يرزق‪99‬ه بم‪99‬ا رزق أخ‪99‬اه فه‪99‬ذه كله‪99‬ا أم‪99‬راض القلب ال ت‪99‬داوى إال باإليم‪99‬ان باهلل‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،1‬والمؤمن بالقدر يعلم بأن هللا يعطي ويمنع لحكمه‪ ،‬فإن من العب‪99‬اد من‬
‫ال ينفعه إال الغنى‪ ،‬ولو أفقره هللا ألفسده ذلك‪ ،‬ومن العباد من ال يصلحه إال الفقر‪ ،‬ولو‬
‫أغناه هللا ألفسده ذلك‪ ،‬ومن العب‪99‬اد من ال يص‪99‬لحه إال الص‪99‬حة‪ ،‬ول‪99‬و أس‪99‬قمه هللا ألفس‪99‬ده‬
‫ذلك ومن العباد من ال يصلحه إال المرض ولو صح ألفسده ذل‪99‬ك فال يوج‪99‬د ش‪99‬يء في‬
‫الك‪99‬ون ب‪99‬دون حكم‪99‬ة وبغ‪99‬ير حكم‪99‬ة‪ ،‬فاهلل ه‪99‬و الحكيم الخب‪99‬ير‪ ،‬س‪99‬واء علمن‪99‬ا الحكم‪99‬ة أم‬
‫جهلناها‪ ،‬فاهلل جل وعال يقدر بحكمة وعلم‪.2‬‬
‫‪13‬ـ اإلستعانة باهلل‪:‬‬
‫ومن ثمار اإليمان بالقدر يعلم العبد يقينا ً أن األم‪99‬ر كل‪99‬ه بي‪99‬د هللا خلق‪9‬ا ً ومش‪99‬يئة وتق‪99‬ديراً‬
‫وإيجاداً‪ ،‬فالمستعان على حصول المراد هو هللا وحده دون غيره‪ ،‬وله‪99‬ذا فه‪99‬و يس‪99‬تعين‬
‫باهلل على حصول مراده‪ ،‬وألمر ما ك‪99‬انت س‪99‬ورة الفاتح‪99‬ة تق‪99‬رأ في ك‪99‬ل ص‪99‬الة‪ ،‬ب‪99‬ل ال‬
‫صالة إال بفاتحة الكتاب‪ ،‬كما ج‪99‬اء في الح‪99‬ديث الش‪99‬ريف وفي ه‪99‬ذه الس‪99‬ورة الكريم‪99‬ة‪،‬‬
‫ين" (الفاتح‪99‬ة‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)5 :‬ف‪99‬إذا اس‪99‬تعان باهلل وباش‪99‬ر‬ ‫ك نَ ْعبُ ُد وإِيَّاكَ ن َْس‪9‬تَ ِع ُ‬
‫قوله تعالى‪":‬إِيَّا َ‬
‫السبب وحصل المقصود فهذا من فضل هللا وإن لم يحصل المقص‪99‬ود لم يي‪99‬أس المس‪99‬لم‬
‫فقد يكون في تأخير حصول المطلوب خير ال تع‪99‬رف وجه‪99‬ه‪ ،‬فاهلل يعلم ونحن ال نعلم‪،‬‬
‫وما نعلمه من حكمته تعالى شيء قلي‪99‬ل للغاي‪99‬ة بالنس‪99‬بة لم‪99‬ا ال نعرف‪99‬ه من ه‪99‬ذه الحكم‪99‬ة‬
‫وعليه ـ أي على المسلم ـ أن يجدد السعي مستعينا ً باهلل وال يعجز عن ذلك وال يقبل ل‪99‬و‬
‫إني فعلت كذا كان كذا‪ ،‬فإن هذا الكالم ال يفيد شيئا ً وإنما يفتح بابا ً لعبث الشيطان‪.3‬‬
‫‪14‬ـ االعتماد على هللا وحده‪:‬‬
‫وصاحب اإليمان الصحيح بالقدر يباشر االسباب بيده ولكن اعتماده على هللا وح‪99‬ده ال‬
‫على السبب‪ ،‬وهكذا كان حال سيدنا محمد صلى هللا عليه وس‪99‬لم‪ ،‬فق‪99‬د اختفى ص‪99‬لى هللا‬
‫علي‪99‬ه وس‪99‬لم في الغ‪99‬ار وه‪99‬ذا من‪99‬ه ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه وس‪99‬لم مباش‪99‬رة لس‪99‬بب الخالص من‬
‫المشركين ولكن ما ك‪99‬ان اعتم‪99‬اده في الخالص من المش‪99‬ركين على ه‪99‬ذا الس‪99‬بب ـ وال‬
‫ي ْاثنَي ِْن إِ ْذ‬
‫على غيره من األسباب ـ ولكن كان اعتماده على هللا وحده‪ ،‬قال تعالى‪":‬ثَ‪99‬انِ َ‪9‬‬
‫صا ِحبِ ِه الَ تَحْ زَ ْن إِ َّن هّللا َ َم َعنَا" (التوبة‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬‫َار إِ ْذ يَقُو ُل لِ َ‬‫هُ َما فِي ْالغ ِ‬
‫فثقته صلى هللا عليه وسلم واطمئنانه وسكينته وأمله في الخالص‪ ،‬إنما كان ذلك بسبب‬
‫تل‪99‬ك المعي‪99‬ة الخاص‪99‬ة المتأني‪99‬ة من اعتم‪99‬اده على هللا ال بس‪99‬بب االختف‪99‬اء بالغ‪99‬ار‪ ،‬وفي‬
‫معركة بدر بعد أن نظم صلى هللا عليه وسلم الجيش وباشر االسباب المادي‪99‬ة للمعرك‪99‬ة‬
‫رجع إلى العريش المنصوب‪ 9‬له يدعو ربه ويكثر من الدعاء ألنه يعلم ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وس‪999‬لم أن النص‪999‬ر بي‪999‬د هللا واالعتم‪999‬اد في تحص‪999‬يله يجب أن يك‪999‬ون على هللا ال على‬
‫األسباب التي باشرها وإن كان البد من مباشرتها‪ ،‬وهذا هو التوكل الصحيح الذي ه‪99‬و‬
‫"و َمن يَت ََو َّكلْ َعلَى‬ ‫من ثمرات اإليمان الصحيح بالقدر‪ ،‬ومن ثمرات التوك‪99‬ل كفاي‪99‬ة هللا َ‬
‫هَّللا ِ فَه َُو َح ْسبُهُ" (الطالق‪ ،‬آية ‪.4)3 :‬‬
‫‪15‬ـ االعتراف بفضل هللا‪:‬‬

‫‪ 1‬اإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ ‪.268‬‬


‫‪2‬المصدر نفسه صـ ‪.276‬‬
‫‪ 3‬القضاء والقدر للبيهقي مقدمة عبد الكريم زيدان صـ ‪.30‬‬
‫‪4‬المصدر نفسه صـ ‪.32‬‬

‫‪191‬‬
‫واإليمان بالقدر يجعل موقف صاحبه عند فعل الحسنات موقفا ً ص‪9‬حيحا ً س‪9‬ليما ً ت‪99‬ترتب‬
‫عليه طهارة قلبه من أرجاس كثيرة وبالتالي يستقيم سلوكه وتزك‪99‬وا اخالق‪99‬ه‪ ،‬وتفص‪99‬يل‬
‫ذلك أن صاحب اإليمان بالقدر يشاهد القدر ويستحضره في ذهنه عن‪99‬د فع‪99‬ل الحس‪99‬نات‬
‫وعمل الصالحات وهذه المشاهدة تثمر في نفس‪99‬ه االع‪99‬تراف ب‪99‬أن م‪99‬ا ص‪99‬در من‪99‬ه وه‪99‬و‬
‫بمحض فضل هللا عليه ليس له فيه شيء‪ ،‬وه‪99‬ذا ي‪99‬ؤدي ب‪99‬دوره إلى قم‪99‬ع ن‪99‬وازع الك‪99‬بر‬
‫والغرور والعجب بنفسه والمن على الن‪99‬اس ونح‪99‬و ذل‪99‬ك من األق‪99‬ذار القلبي‪99‬ة‪ ،‬ألن ه‪99‬ذه‬
‫األقذار إنما تكون في اإلنسان العتقاده أن فيه من معاني االمتياز على غيره ما يدعوه‬
‫إلى التكبر عليهم والعجب بنفسه والغرور ونحو ذلك‪ ،‬سواء كانت هذه المعاني أعماالً‬
‫صالحة أو عبادة أو فع‪99‬ل حس‪99‬نات أو ق‪99‬وة أو علم‪9‬ا ً أو س‪99‬لطانا ً أو م‪99‬االً أو ك‪99‬ثرة اتب‪99‬اع‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإذا شاهد القدر عند فعله الحسنات‪ ،‬أو عند حصول ش‪99‬يء مم‪99‬ا ذكرن‪99‬ا في‬
‫يده‪ ،‬وعلم أن ذلك كله من عند هللا وحده وم‪99‬ا حص‪99‬ل على يدي‪99‬ه ه‪99‬و محض فض‪99‬ل هللا‬
‫عليه‪ ،‬زال منه العجب والكبر والغرور والمنة على هللا وعلى الن‪99‬اس‪ ،‬وبالت‪99‬الي تج‪99‬ره‬
‫هذه المشاهدة وما يترتب عليها إلى حمد هللا وشكره وهكذا يفعل المؤمنون‪.‬‬
‫ي لَ‪99‬وْ ال أَ ْن هَ ‪9‬دَانَا هّللا ُ"‬‫وا ْال َح ْم‪ُ 9‬د هّلِل ِ الَّ ِذي هَ ‪9‬دَانَا لِهَـ َذا َو َم‪99‬ا ُكنَّا لِنَ ْهتَ ‪ِ 9‬د َ‬
‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ ":‬وقَ‪99‬الُ ْ‬
‫(األعراف‪ ،‬آية ‪ ،)43 :‬وهداية هللا للعبد تتضمن األعمال الصالحة التي يعلمها‪ ،‬والعلم‬
‫بالحقائق الدينية والعمل بها ونحو ذلك‪ ،‬كما أن مشاهدة القدر عند فع‪99‬ل الحس‪99‬نات تفي‪99‬د‬
‫المسلم من ناحية أخرى هي استدامة افتقاره إلى هللا وتصرفه بهذه الكيفية وتثبته الدائم‬
‫برحم‪9‬ة هللا وطلب عف‪9‬وه وع‪9‬دم االلتف‪9‬اف إلى عمل‪99‬ه‪ ،‬واعتق‪99‬اده الج‪9‬ازم ب‪9‬أن ف‪99‬وزه في‬
‫اآلخ‪9‬رة إنم‪9‬ا يك‪9‬ون بمحض فض‪9‬ل هللا ورحمت‪9‬ه ال بعمل‪9‬ه‪ ،‬ألن عمل‪9‬ه الطيب إنم‪9‬ا ه‪9‬و‬
‫محض فضل هللا فال يستحق به الجنة وإنما يستحقها بفضل آخ‪99‬ر من هللا تع‪99‬الى وبه‪99‬ذا‬
‫جاء في الحديث الشريف‪ :‬لن يدخل أحدكم الجنة بعمله‪ ،‬قالوا‪ :‬وال أنت ي‪99‬ا رس‪99‬ول هللا؟‬
‫قال‪ :‬وال أنا إال أن يتغمدني هللا برحمة منه وفضل‪.1‬‬
‫ور ْثتُ ُموهَ‪99‬ا بِ َم‪99‬ا ُكنتُ ْم‬ ‫ُ‬
‫لكن قد يقول بعض الناس قولكم منقوض بقوله تعالى‪":‬تِ ْل ُك ُ‪9‬م ْال َجنَّةُ أ ِ‬
‫تَ ْع َملُونَ " (األعراف‪ ،‬آية ‪ ،)43 :‬فدخول الجن‪99‬ة إنم‪99‬ا يك‪99‬ون بالعم‪99‬ل فكي‪99‬ف تنفون‪99‬ه؟ أو‬
‫تقللون من شأنه؟ والجواب أن اآلية الكريمة دلت على أن العمل س‪9‬بب ل‪9‬دخول الجن‪9‬ة‪،‬‬
‫فالباء في قوله تعالى "بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " هي باء السببية ونحن ال ننك‪99‬ر األس‪99‬باب‪ ،‬وال‬
‫كون العمل الصالح سببا ً للجنة‪ ،‬الذي تتكلم فيه وننفي‪99‬ه أن يك‪99‬ون العم‪99‬ل عوض‪9‬ا ً وثمن‪9‬ا ً‬
‫مكافئا ً لدخول الجنة‪ ،‬وهذا ما نفاه الح‪99‬ديث الش‪99‬ريف‪ ،‬فالب‪99‬اء في قول‪99‬ه ص‪99‬لى هللا علي‪99‬ه‬
‫وسلم‪ :‬لن يدخل أحدكم الجنة بعمله‪ :‬هي باء المعاوضة والثمني‪99‬ة‪ ،‬كم‪99‬ا في ق‪99‬ول القائ‪99‬ل‬
‫اشتريت هذا القلم بدرهم‪ ،‬فالعمل ليس عوضا ً وال ثمنا ً لدخل الجنة‪ ،‬وال يصلح أب‪99‬داً أن‬
‫يكون عوضا ً لها‪ .‬ولتقريب ه‪99‬ذا المع‪99‬نى إلى األذه‪99‬ان نق‪99‬ول أن اإلنس‪99‬ان ل‪99‬و عب‪99‬د رب‪99‬ه‬
‫عمره كله وأتى بالصالحات فأية نسبة بين ما ق‪99‬دم من عم‪99‬ل في عم‪99‬ره المح‪99‬دود وبين‬
‫نعيم الجنة الدائم الممدود؟ أي‪99‬ة نس‪99‬بة بين عم‪99‬ل في زمن يتن‪99‬اهى‪ ،‬ه‪99‬و عم‪99‬ر اإلنس‪99‬ان‪،‬‬
‫وبين نعيم في زمن ال يتناهى هو نعيم الجنة؟ فالبد إذن من فضل هللا ورحمت‪99‬ه ليظف‪99‬ر‬
‫الم‪99‬ؤمن بالجن‪99‬ة‪ ،‬وه‪99‬ذا المع‪99‬نى ال يمكن تحص‪99‬يله وانص‪99‬باغ النفس ب‪99‬ه إال بالمش‪99‬اهدة‬
‫الدائم‪99‬ة للق‪99‬در عن‪99‬د فع‪99‬ل الخ‪99‬ير والحس‪99‬نات وفائ‪99‬دة أخ‪99‬رى لمش‪99‬اهدة الق‪99‬در عن‪99‬د فع‪99‬ل‬

‫‪1‬المصدر نفسه صـ ‪ ،33‬البخاري (‪ ،)141 /8‬مسلم (‪.)139 /8‬‬

‫‪192‬‬
‫الحسنات هي أن المسلم إذا فعل خيراً لغيره وهذا من الحسنات‪ ،‬قد تتحرك فيه ن‪99‬وازع‬
‫المنة على الغ‪99‬ير وحب االس‪99‬تعالء علي‪99‬ه واالستش‪99‬راف إلى طلب الع‪99‬وض من‪99‬ه‪ ،‬فه‪99‬ذه‬
‫النوازع تموت إذا شاهد القدر وه‪99‬و يفع‪99‬ل الخ‪99‬ير لغ‪99‬يره ألن‪99‬ه به‪99‬ذه المش‪99‬اهدة يعلم أن‪99‬ه‬
‫واسطة فقط إليصال ما قدره هللا من خير لذلك الغير‪ ،‬فال داعي إذن ألنه يَ ُم ّن هو على‬
‫هذا الغير أن يستعلي عليه أو يتطلع إلى العوض منه‪ ،‬أرأيت لو أن سيداً أرسل خادمه‬
‫بهدية إلى شخص أيكون من ح‪99‬ق الخ‪99‬ادم أن يمن على المه‪99‬دي إلي‪99‬ه أو يس‪99‬تعلي علي‪99‬ه‬
‫بهذه الهدية وهو محض واسطة إليصالها إليه؟‬
‫وإذا كان صاحب اإليمان بالقدر ال يمن وال يستعلي على من فع‪99‬ل ل‪9‬ه خ‪9‬يراً‪،‬فمن ب‪99‬اب‬
‫أولى أن ال يكون كذلك إذا لم يفعل له شيئاً‪ ،‬وبهذا المسلك الحميد من ص‪99‬احب اإليم‪99‬ان‬
‫بالقدر‪ ،‬أي يفعله الخير للناس دون منة أو استعالء عليهم أو طلب العوض منهم يكون‬
‫ط ِع ُم ُك ْم لِ َوجْ‪ِ 99‬ه هَّللا ِ اَل نُ ِري‪ُ 99‬د ِمن ُك ْم َج‪ 99‬زَاء َواَل ُش‪ُ 99‬كورًا"‬ ‫من ال‪99‬ذين ق‪99‬ال هللا فيهم "إِنَّ َم‪99‬ا نُ ْ‬
‫(اإلنسان‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬
‫‪16‬ـ االستغناء بالخالق عن الخلق‪:‬‬
‫ومن ثمرات اإليمان بالقدر االستغناء بالخالق عن المخلوق والحرص على رض‪99‬ى هللا‬
‫وح‪99‬ده ورج‪99‬اؤه والخ‪99‬وف من‪99‬ه‪ ،‬والتوك‪99‬ل علي‪99‬ه واالس‪99‬تعانة ب‪99‬ه وتف‪99‬ويض األم‪99‬ر إلي‪99‬ه‬
‫واالنكسار بين يديه وتبليغ رساالت هللا بدون وجل وال ت‪99‬ردد وال خش‪99‬ية من أح‪99‬د على‬
‫ت هَّللا ِ َويَ ْخ َشوْ نَهُ َواَل يَ ْخ َشوْ نَ أَ َحدًا إِاَّل هَّللا َ َو َكفَى بِاهَّلل ِ‬
‫وجه األرض "الَّ ِذينَ يُبَلِّ ُغونَ ِر َسااَل ِ‬
‫َح ِسيبًا" (األحزاب‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬من أرض‪99‬ى الن‪99‬اس بس‪99‬خط هللا‪ ،‬وكل‪99‬ه هللا إلى الن‪99‬اس‪ ،‬ومن‬
‫أسخط الناس برضا هللا كفاه هللا مؤنة الناس‪.1‬‬
‫فالسعيد الذي ال يعنيه إال رضا هللا‪ ،‬وال يعنيه الشر إطالقاً‪ ،‬ال يلتفت إلى الخل‪99‬ق‪ ،‬ألن‪99‬ه‬
‫على يقين أن رزقه بيد الخ‪99‬الق‪ ،‬ال بي‪99‬د الخل‪99‬ق وأن قل‪99‬وب الخل‪99‬ق ال تقب‪99‬ل إلي‪99‬ه ب‪99‬الحب‬
‫والبغض إال بتقدير الخالق‪ ،‬فهذا ال يعلق قلبه بالمخلوقين ال بثن‪99‬ائهم‪ ،‬ال ببغض‪99‬هم‪ ،‬وال‬
‫بذمتهم‪ ،‬وال بحمدهم‪ ،‬بل يعلق قلبه بربهم جل جالله‪ ،‬فال يعني‪99‬ه إال أن يق‪99‬ول‪ :‬ق‪99‬ال هللا‪:‬‬
‫ُحص‪ُ 9‬ل ب‪99‬ه رض‪99‬ا الن‪99‬اس‪ ،2‬فمن ق‪99‬ال هلل ال‬ ‫قال رسوله بما يرض‪99‬ي هللا س‪99‬بحانه ال بم‪99‬ا ي ّ‬
‫يخشى في هللا لوم‪99‬ة الئم‪ ،‬بالحكم‪99‬ة البالغ‪99‬ة‪ ،‬والموعظ‪99‬ة الحس‪99‬نة‪ ،‬أس‪99‬عده هللا في ال‪99‬دنيا‬
‫واآلخرة‪.3‬‬
‫‪17‬ـ االعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة‪:‬ـ‬
‫وصاحب اإليمان الصحيح بالقدر يشاهد نفسه عند فع‪99‬ل الس‪99‬يئات وارتك‪99‬اب المنهي‪99‬ات‬
‫وال يحتج بالقدر على عصيانه ألنه ال حجة ألحد فيه‪ ،‬كما بيّنا‪ ،‬وإنما يرج‪99‬ع إلى نفس‪99‬ه‬
‫ليوبخها من كبوتها حاالً كما ينهض من الوح‪99‬ل‪ ،‬إذا وق‪99‬ع في‪99‬ه ويعق‪99‬د الع‪99‬زم على ع‪99‬دم‬
‫العودة إلى الذنب‪ ،‬ويتوجه إلى هللا باإلعتراف بالذنب بانكسار قلب‪ ،‬وبه‪99‬ذا كل‪99‬ه علّمن‪99‬ا‬
‫القرآن وضرب لنا األمثال وقص علينا موقف انبيائ‪99‬ه الك‪99‬رام في مث‪99‬ل ه‪99‬ذه األح‪99‬وال‪،‬‬
‫قال تعالى عن نبي‪9‬ه آدم علي‪9‬ه الس‪9‬الم ‪َ ":‬ربَّنَ‪99‬ا ظَلَ ْمنَ‪9‬ا أَنفُ َس‪9‬نَا َوإِن لَّم تَ ْغفِ‪9‬رْ لَنَ‪9‬ا َوتَرْ َح ْمنَ‪99‬ا‬

‫‪1‬السلسلة الصحيحة لأللباني رقم ‪.2311‬‬


‫‪2‬القضاء والقدر‪ ،‬محمد حسان صـ ‪.225‬‬
‫‪3‬المصدر نفسه صـ ‪.225‬‬

‫‪193‬‬
‫اس‪ِ 99‬رينَ " (األع‪99‬راف‪ ،‬آي‪99‬ة ‪ ،)23 :‬وق‪99‬ال تع‪99‬الى عن موس‪99‬ى علي‪99‬ه‬ ‫لَنَ ُك‪99‬ون ََّن ِمنَ ْالخَ ِ‬
‫ت نَ ْف ِسي فَا ْغفِرْ لِي" (القصص‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬ ‫السالم ‪َ ":‬ربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬
‫وفي الحديث الشريف‪ :‬سيد االستغفار أن تقول‪ :‬اللهم أنت ربي ال إل‪99‬ه إال أنت خلقت‪99‬ني‬
‫وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أب‪9‬وء ل‪9‬ك بنعمت‪9‬ك علي وأب‪9‬وء ب‪9‬ذنبي‬
‫فأغفر لي فإنه ال يغف‪9‬ر ال‪9‬ذنوب إال أنت‪ ،1‬أو كم‪99‬ا ق‪9‬ال ص‪9‬لى هللا علي‪9‬ه وس‪9‬لم‪ :‬أم‪9‬ا من‬
‫يشاهد القدر عند فعله السيئات محتجا ً به دافع‪9‬ا ً المس‪9‬ئولية عن نفس‪9‬ه فمثل‪9‬ه مث‪9‬ل إبليس‬
‫ُ‬
‫‪99‬و ْيتَنِي أل َزيِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ض‬ ‫‪99‬ال َربِّ بِ َم‪99‬آ أَ ْغ َ‬
‫حيث ق‪99‬ال كم‪99‬ا أخبرن‪99‬ا هللا عن‪99‬ه ‪":‬قَ َ‬
‫َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (الحجر‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬
‫وكان عاقبته كما هو معروف الطرد من رحمة هللا‪.2‬‬
‫هذه بعض ثمار اإليمان بالقدر وغيرها كثير‪:‬‬
‫ـ كأداة عبادة هللا عز وجل‪ ،‬فالقدر مما تعبدنا هللا سبحانه باإليم‪99‬ان ب‪99‬ه‪ ،‬وق‪99‬وة اإليم‪99‬ان‪،‬‬
‫فالذي يؤمن بالقدر يقوى إيمانه‪ ،‬فال يتخلى عن‪9‬ه ال ي‪9‬تزعزع أو يتضعض‪9‬ع مهم‪9‬ا نال‪9‬ه‬
‫في ذلك السبيل‪.‬‬
‫ت أَ ْي ِدي ُك ْم" (التغابن‪ ،‬آي‪99‬ة ‪:‬‬ ‫صيبَ ٍة فَبِ َما َك َسبَ ْ‬ ‫ـ الهداية‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ":‬و َما أَ َ‬
‫صابَ ُكم ِّمن ُّم ِ‬
‫‪)11‬‬
‫ـ الكرم‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر‪ ،‬وأن الفقر والغنى بيد هللا وأنه ال يفتق‪9‬ر إال إذا ق‪9‬در هللا ل‪9‬ه‬
‫ذلك‪ ،‬فإنه ينفق وال يبالي‪.‬‬
‫ـ إحسان الظن باهلل قوة الرجاء‪ ،‬فالمؤمن بالقدر حسن الظن باهلل‪ ،‬قوي الرج‪99‬اء ب‪99‬ه في‬
‫كل أحواله‪.‬‬
‫عدم االعتماد على الكهان والمنجمين المشعوذين والتمسح بأتربة القبور‪ ،‬ودعاء غ‪99‬ير‬
‫هللا‪ ،‬وصرف شيء من أنواع العبادة لغير هللا‪ ،‬ألنها ال تملك لنفسها نفعا ً وال ض ّراً‪.‬‬
‫ـ ومن ثم‪99‬رات اإليم‪99‬ان بالق‪99‬در‪ :‬الس‪99‬المة من االع‪99‬تراض على أحك‪99‬ام هللا الش‪99‬رعية‪،‬‬
‫وأقداره الكونية والتسليم هلل في ذلك كه‬
‫ـ عدم اليأس من انتصار الحق‪ :‬فالمؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقب‪99‬ة للمتقين وإن‬
‫قدرة هللا في ذلك نافذ ال محالة‪ ،‬فال يدب اليأس إلى قلب‪99‬ه‪ ،‬ال يع‪99‬رف إلي‪99‬ه طريق‪9‬ا ً مهم‪99‬ا‬
‫احلولكت ظلمة الباطل‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫ـ علو الهمة‪ ،‬وعدم الرضا بالدون‪ ،‬وعدم الرضا بالواقع األليم ‪.‬‬
‫"وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين"‬

‫‪1‬صحيح البخاري رقم ‪.6306‬‬


‫‪2‬القضاء والقدر للبيهقي صـ ‪.35‬‬
‫‪3‬الوسطية في القرآن الكريم صـ ‪ 339‬ـ ‪.343‬‬

‫‪194‬‬
‫الخاتمة‬

‫وبعد‪ :‬فهذا ما يسره هللا لي من الحديث عن اإليم ان بالق در في ه ذا‬


‫الكتاب‪ ،‬وقد سميته "اإليمان بالقدر"‪ ،‬فما كان في ه من ص واب فه و‬
‫محض فضل هللا عليَّ ‪ ،‬فله الحم د‪ ،‬والمن ة‪ ،‬م ا ك ان في ه من خط أ‪،‬‬
‫فاستغفر هللا تعالى‪ ،‬وأتوب إليه‪ ،‬وهللا ورسوله بريء من ه‪ ،‬وحس بي‬
‫أني كنت حريصا ً أال أقع في الخطأ‪ ،‬وعسى أال أحرم من األجر‪.‬‬
‫أدعو هللا أن ينفع بهذا الكتاب بني اإلنسان أينما وج د‪ ،‬ويك ون س ببا ً‬
‫في زي ادة إيمان ه‪ ،‬وهدايت ه أو تعليم ه أو ت ذكيره‪ ،‬وأن ي ذكرني من‬
‫يقرؤه من إخواني المسلمين في دعائه‪ ،‬فإن دعوة األخ ألخيه بظه ر‬
‫الغيب مس تجابة إن ش اء هللا تع الى‪ ،‬وأختم ه ذا الكت اب بق ول هللا‬
‫تعالى‪َ " :‬ربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَ‪99‬ا َوإِل ِ ْخ َوانِنَ‪99‬ا الَّ ِذينَ َس‪9‬بَقُونَا بِاإْل ِ ي َم‪99‬ا ِن َواَل تَجْ َع‪99‬لْ ِفي قُلُوبِنَ‪99‬ا ِغاًّل‬
‫لِّلَّ ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا إِنَّكَ َر ُؤ ٌ‬
‫وف َّر ِحي ٌم" (الحشر ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫وبقول الشاعر‪:‬‬
‫إلهي ال تعذبني فإني‬
‫مقر بالذي قد كان مني‬
‫وما لي حيلة إال رجائي‬
‫وعفوك إن عفوت وحسن ظني‬
‫فكم من زلة لي في البرايا‬
‫ي ذو فضل ّ‬
‫ومن‬ ‫وأنت عل َّ‬
‫إذا فكرت في ندمي عليها‬
‫عضضت أناملي وقرعت سني‬
‫يظن الناس بي خيراً وأني‬
‫لشر الناس إن لم تعف عني‬
‫((سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ال إله إال أنت استغفرك وأتوب إليك))‬

‫‪195‬‬
‫فهرس الكتاب‬
‫‪1‬‬ ‫المقدمة‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫الفصل األول‪:‬‬
‫‪7‬‬ ‫القضاء والقدر‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬القضاء والقدر في اللغة والشرع‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫أوالً‪ :‬القضاء والقدر لغة وشرعاً‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫‪ 1‬ـ معنى القضاء لغة‪:‬‬
‫‪8‬‬ ‫‪ 2‬ـ القدر لغة‪.‬‬
‫‪8‬‬ ‫‪ 3‬ـ المعنى الشرعي للقضاء والقدر‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫‪ 4‬ـ الفرق بين القضاء والقدر‪.‬‬
‫‪10‬‬ ‫ثانياً‪ :‬أدلة القرآن على وجوب اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬القصص القرآني واإليمان بالقدر‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫‪ 1‬ـ في قصة نوح عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫‪ 2‬ـ في قصة إبراهيم عليه الصالة السالم‪.‬‬
‫‪12‬‬ ‫‪ 3‬ـ في قصة يوسف عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫‪12‬‬ ‫‪ 4‬ـ موسى عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫‪12‬‬ ‫‪ 5‬ـ في قصة موسى مع الشيخ الكبير‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫‪ 6‬ـ ويقول تعالى عن موسى عليه السالم ـ والخضر‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫‪ 7‬ـ بعد أن خسف هللا بقارون وداره‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫‪ 8‬ـ يقول تعالى عن زكريا ومريم‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫‪ 9‬ـ في قصة الرجل صاحب الجنتين‪.‬‬
‫‪14‬‬ ‫‪ 10‬ـ الجن بذكره تعالى أنهم قالوا‪:‬‬
‫ض أَ ْم أَ َرا َد بِ ِه ْم َربُّهُ ْم َر َشدًا"‬ ‫ُ‬
‫" َوأَنَّا اَل نَ ْد ِري أَ َشرٌّ أ ِري َد بِ َمن فِي اأْل َرْ ِ‬
‫‪15‬‬ ‫رابعاً‪ :‬األدلة من السنة على وجوب اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫‪16‬‬ ‫خامساً‪ :‬وصايا نبوية لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر‪.‬‬
‫‪16‬‬ ‫ـ الوصية األولى‪.‬‬
‫‪16‬‬ ‫ـ الوصية الثانية‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫ـ الوصية الثالثة‪.‬‬
‫‪18‬‬ ‫ـ نهي الرسول صلى هللا عليه وسلم عن الخوض في القدر‪.‬‬

‫‪19‬‬ ‫سادساً‪ :‬في عهد الخلفاء الراشدين‪.‬‬


‫‪24‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬مراتب القدر‪.‬‬
‫‪24‬‬ ‫أوالً‪ :‬مرتبةـ العلم‪.‬‬
‫‪196‬‬
‫‪26‬‬ ‫ثانياً‪ :‬مرتبة الكتابة‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬مرتبة اإلرادة والمشيئة‪.‬ـ‬
‫‪33‬‬ ‫رابعاً‪ :‬مرتبة الخلق‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬التقادير الخمس أنواع اإلرادة‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫أوالً‪ :‬التقادير الخمس‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫‪1‬ـ التقدير األزلي‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫‪2‬ـ تقدير يوم الميثاق‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫‪3‬ـ التقدير العمري‪.‬‬
‫‪38‬‬ ‫‪4‬ـ التقدير الحولي‪.‬‬
‫‪38‬‬ ‫‪ 5‬ـ التقدير اليومي‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫ثانياً‪ :‬أنواع اإلرادة‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫‪1‬ـ اإلرادة الكونية‪.‬‬
‫‪42‬‬ ‫‪2‬ـ اإلرادة الشرعية‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫‪3‬ـ الفرق بين اإلرادتين‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫‪4‬ـ المخلوقات مع كل من اإلرادتين تنقسم إلى أربعة‪.‬‬
‫‪44‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬كالم حسن البن القيم في الكوني والشرعي‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫المبحث الرابع‪ :‬ال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫أوالً‪ :‬فضلها‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫ثانياً‪ :‬معنى ال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫‪52‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬تضمنت ال حول وال قوة إال باهلل معان عقدية عظيمة‪.‬‬
‫‪52‬‬ ‫‪1‬ـ أنها كلمة استعانة باهلل العظيم‪.‬‬
‫‪52‬‬ ‫‪2‬ـ اإلقرار بأنواع التوحيد‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫‪3‬ـ التوكل على هللا وتفويض األمور إليه‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫رابعاً‪ :‬االحتجاج بالقدر على المعاصي‪.‬‬
‫‪58‬‬ ‫المبحث الخامس‪ :‬الهداية واإلضالل‪.‬‬
‫‪58‬‬ ‫أوالً‪ :‬مراتب الهداية‪.‬‬
‫‪58‬‬ ‫‪1‬ـ الهداية العامة‪.‬‬
‫‪58‬‬ ‫‪2‬ـ هداية اإلرشاد والدعوة البيان‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫‪3‬ـ هدية التوفيق واإللهام‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫‪61‬‬ ‫‪4‬ـ الهداية إلى طريق الجنة‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫ثانياً‪ :‬أسباب الهداية‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫‪1‬ـ المحافظة على الفطرة اإلنسانيةـ نقية صافية‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫‪2‬ـ استعمال السمع والبصر والعقل‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫‪3‬ـ العلم‪.‬‬
‫‪66‬‬ ‫‪4‬ـ اإليمان‪.‬‬
‫‪68‬‬ ‫‪5‬ـ االهتداء‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫‪6‬ـ الدعاء‪.‬‬
‫‪70‬‬ ‫‪7‬ـ االعتصام باهلل‪.‬‬
‫‪70‬‬ ‫‪8‬ـ االتباع والطاعة‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫‪9‬ـ الخشية‪.‬‬
‫‪74‬‬ ‫‪10‬ـ اإلنابة‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫‪11‬ـ البراء من الكافرين‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫‪12‬ـ الجهاد‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬الضالل ومراتبه‪.‬‬
‫‪78‬‬ ‫‪1‬ـ حرية العبد في اختياره للهدى والضالل‪.‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪2‬ـ التوفيق بين مشيئةـ هللا ومشيئة العبد للهدى والضالل‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫‪3‬ـ التوفيق بين القدر األزلي واختيار الهدى والضالل‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫رابعاً‪ :‬أسباب الضالل‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫‪1‬ـ عدم استخدام اإلنسان مواهبه في التفكير في آيات هللا‪.‬‬
‫‪82‬‬ ‫‪2‬ـ الذنوب والمعاصي‪.‬‬
‫‪83‬‬ ‫‪3‬ـ اتباع الشيطان‪.‬‬
‫‪86‬‬ ‫‪4‬ـ الجهل واتباع الظن‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫‪5‬ـ الجدال في هللا وآياتهـ بغير علم‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫‪6‬ـ الغفلة‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫‪7‬ـ التعصب‪.‬‬
‫‪88‬‬ ‫‪8‬ـ التقليد‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫‪9‬ـ الشك والريبة‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫‪10‬ـ الجحود‪.‬‬
‫‪92‬‬ ‫‪11‬ـ التأبي والعناد والتعنت‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫‪ .12‬الكبر‪.‬‬
‫‪94‬‬ ‫‪13‬ـ حب الدنيا واالغترار بها واتخاذها لهواً‪.‬‬
‫‪95‬‬ ‫‪14‬ـ اتباع الهوى‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪15‬ـ االستهزاء بآيات هللا ورسله والمؤمنين‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪16‬ـ الكفر‪.‬‬
‫‪99‬‬ ‫‪17‬ـ الغلو في األنبياء والصالحين‪.‬‬
‫‪198‬‬
‫‪99‬‬ ‫‪18‬ـ صحبة السوء والبيئة الفاسدة‪.‬‬
‫‪100‬‬ ‫‪19‬ـ التشبه بالضالين‪.‬‬
‫‪100‬‬ ‫‪20‬ـ االبتداع في الدين‪.‬‬
‫‪102‬‬ ‫المبحث السادس‪ :‬سنةـ هللا في األخذ باألسباب‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫أوالً‪ :‬األخذ باألسباب في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪106‬‬ ‫ـ األسباب التي اتخذها ذو القرنين للتمكين لدين هللا عز وجل‪.‬‬
‫‪106‬‬ ‫أ ـ الدستور العادل‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫ب ـ المنهج التربوي للشعوب‪.‬‬
‫‪108‬‬ ‫ج ـ االهتمام بالعلوم المادية والمعنوية وتوظيفها في الخير‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫س ـ فقهه في إحياء الشعوب‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫ـ الرحلة األولى‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫ـ الرحلة الثانية‪.‬‬
‫‪110‬‬ ‫ـ الرحلة الثالثة‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫ش ـ أخالقه القيادية‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫‪ 3‬ـ األسباب التي اتخذها داوود عليه السالم للتمكين لدين هللا‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫‪ 4‬ـ األسباب التي اتخذها سليمان عليه السالم للتمكين لدين هللا‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫ثانياً‪ :‬األسباب والتوكل‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫‪ 1‬ـ القول بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بالدين‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫‪ 2‬ـ التوازن بين مقامي التكل واألخذ باألسباب‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬األسباب والمسببات‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫‪ 1‬ـ تأثيرـ السبب في المسبب‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫‪ 2‬ـ قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬ال عدوى وال طيرة وال هامة وال صفر‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫‪ 3‬ـ الجزاء األخروي واألسباب‪.‬‬
‫‪136‬‬ ‫‪ 4‬ـ الحث على طلب األسباب في األمور المكفولة‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫‪ 5‬ـ مراعاة صورة األسباب في الخوارق‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫‪ 6‬ـ تهيئة األسباب لوقوع مراد هللا‪.‬‬
‫‪138‬‬ ‫‪ 7‬ـ األسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع‪.‬‬
‫‪138‬‬ ‫‪ 8‬ـ إنكار قانون السببيةـ يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫‪ 9‬ـ منازعة األقدار باألقدار‪.‬‬
‫‪140‬‬ ‫رابعاً‪ :‬الدعاء والقدر‪.‬‬
‫‪141‬‬ ‫‪ 1‬ـ داللة القرآن الكريم على ذلك‪.‬‬
‫‪143‬‬ ‫‪ 2‬ـ داللة الفطرة على تأثير الدعاء بإذن هللا‪.‬‬
‫‪144‬‬ ‫‪ 3‬ـ داللة السنة على تأثير الدعاء‪.‬‬
‫‪146‬‬ ‫المبحث السابع‪ :‬العدل اإللهي وسنةـ هللا في الجزاء بجنس العمل‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫‪148‬‬ ‫أوالً‪ :‬األصل في العقاب المماثلة‪.‬‬
‫‪150‬‬ ‫ثانياً‪ :‬الجزاء بجنس العمل في الدنيا‪.‬‬
‫‪150‬‬ ‫‪ 1‬ـ االستهزاء بالمنافقين السخرية منهم في الحياة الدنيا‪.‬‬
‫‪151‬‬ ‫‪ 2‬ـ تسليط الظالم على مثله‪.‬‬
‫‪151‬‬ ‫‪ 3‬ـ االستئصال لمن أراد إيذاء رسله وأوليائه‪.‬‬
‫‪152‬‬ ‫‪ 4‬ـ نصر هللا منوط بنصرتهـ للدين والحق‪.‬‬
‫‪152‬‬ ‫‪ 5‬ـ سلب النعمة عمن منعها مستحقها‪.‬‬
‫‪152‬‬ ‫‪ 6‬ـ تيسير هللا لمن يسر على عبادها‪.‬‬
‫‪153‬‬ ‫‪ 7‬ـ الجزاء بجنس العمل على مستوىـ الوسائل‪.‬‬
‫‪154‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬الجزاء بجنس العمل في اآلخرة‪.‬‬
‫‪154‬‬ ‫‪ 1‬ـ معاملة أهل الفضل بالفضل‪.‬‬
‫‪154‬‬ ‫‪ 2‬ـ ترك اإلنسان وإهماله في العذاب‪ ،‬كما أهمل الحق ولم يتبعه‪.‬ـ‬
‫‪155‬‬ ‫‪ 3‬ـ التهكم بالكفار المنافقين‪ ،‬كما كانوا يتهكمون بالمؤمنين في الدنيا‪.‬‬
‫‪155‬‬ ‫رابعاً‪ :‬الجزاء بجنس العمل بين العباد‪.‬‬
‫‪156‬‬ ‫‪ 1‬ـ اآليات التي وردت في القصاص‪.‬‬
‫‪156‬‬ ‫‪ 2‬ـ حد الحرابة واإلفساد‪.‬‬
‫‪156‬‬ ‫‪ 3‬ـ من تطبيقات ذلك في العصر النبوي‪.‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬والحكمة والتحسين والتقبيح‬
‫‪158‬‬ ‫وتكليف ما ال يطاق وقدرة هللا عز جل‬
‫‪158‬‬ ‫أوالً‪ :‬الحكمة في أفعال هللا وشرعه‪.‬‬
‫‪158‬‬ ‫‪ 1‬ـ هللا الحكيم الحكم الحاكم‪.‬‬
‫‪159‬‬ ‫‪ 2‬ـ المراد بالحكمة‪.‬‬
‫‪159‬‬ ‫‪ 3‬ـ الحكمة الحاصلة من الشرائع‪.‬‬
‫‪160‬‬ ‫‪ 4‬ـ األدلة الدالة على الحكمة‪.‬‬
‫‪162‬‬ ‫‪ 5‬ـ الحكمة من خلق إبليس ووجود هذه اآلثام والشرور في الكون‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫ثانياً‪ :‬التحسين والتقبيح‪.‬ـ‬
‫‪169‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬فعل األصلح‪ ،‬معنى االستطاعة وتكليف ما ال يطاق‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫‪ 1‬ـ وجوب فعل األصلح‪.‬‬
‫‪170‬‬ ‫‪ 2‬ـ معنى االستطاعة‪.‬‬
‫‪171‬‬ ‫‪ 3‬ـ ال تكليف إال بما ال يطاق‪.‬‬
‫‪172‬‬ ‫المبحث التاسع‪ :‬سنة هللا في اآلجال وقدرة هللا ثمار اإليمان بالقدر‪:‬‬
‫‪172‬‬ ‫أوالً‪ :‬سنة هللا في اآلجال‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫‪174‬‬ ‫ثانياً‪ :‬قدرة هللا عز جل‪.‬‬
‫‪175‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬ثمار اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫‪175‬‬ ‫‪ 1‬ـ اإلقدام على عظائم األمور‪.‬‬
‫‪176‬‬ ‫‪ 2‬ـ القضاء على الكسل التواكل‪.‬‬
‫‪178‬‬ ‫‪ 3‬ـ الثبات في مواجهة الطغيان‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫‪ 4‬ـ الصبر عند نزول المصائب‪.‬‬
‫‪180‬‬ ‫‪ 5‬ـ الرضا والقناعة بما قسم‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫‪ 6‬ـ العز في طلب الحوائج‪.‬‬
‫‪182‬‬ ‫‪ 7‬ـ السكينة وراحة النفس وسكون القلب‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫‪ 8‬ـ المؤمن ال يعيش بين "لو" و"ليت"‪.‬‬
‫‪185‬‬ ‫‪ 9‬ـ الخوف والحذر من هللا‪.‬‬
‫‪185‬‬ ‫‪ 10‬ـ الخالص من الشرك‪.‬‬
‫‪186‬‬ ‫‪ 11‬ـ االستقامة‪.‬‬
‫‪186‬‬ ‫‪ 12‬ـ القضاء على األمراض التي تعصف بالمجتمعات‪.‬‬
‫‪187‬‬ ‫‪ 13‬ـ االستعانة باهلل‪.‬‬
‫‪188‬‬ ‫‪ 14‬ـ االعتماد على هللا وحده‪.‬‬
‫‪188‬‬ ‫‪ 15‬ـ االعتراف بفضل هللا‪.‬‬
‫‪189‬‬ ‫‪ 16‬ـ االستغناء بالخالق عن الخلق‪.‬‬
‫‪190‬‬ ‫‪ 17‬ـ االعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة‪.‬‬
‫‪192‬‬ ‫الخاتمة‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫فهرس الكتاب‪.‬‬
‫‪200‬‬ ‫كتب صدرت للمؤلف‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫كتب صدرت للمؤلف‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ السيرة النبوية‪:‬ـ عرض وقائع وتحليل أحداث‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ سيرة الخليفة األول أبو بكر الصديق رضي هللا عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي هللا عنه‪ :‬شخصيتهـ وعصره‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪ :‬شخصيته و عصره‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪ :‬شخصيتهـ و عصره‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب‪ .‬شخصيتهـ و عصره‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ الدولة العثمانية‪ :‬عوامل النهوض والسقوط‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ فقه النصر و التمكين في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ تاريخـ الحركة السنوسية في إفريقيا‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ تاريخـ دولتي المرابطين و الموحدين في الشمال اإلفريقي‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين‪.‬‬
‫‪12‬ـ الوسطية في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪13‬ـ الدولة األموية‪،‬ـ عوامل اإلزدهار و تداعيات اإلنهيار‪.‬‬
‫‪14‬ـ معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬شخصيته و عصره‪.‬‬
‫‪15‬ـ عمر بن عبد العزيز‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪16‬ـ خالفة عبد هللا بن الزبير‪.‬‬
‫‪17‬ـ عصر الدولة الزنكية‪.‬‬
‫‪18‬ـ عماد الدين زنكي‪.‬‬
‫‪19‬ـ نور الدين زنكي‪.‬‬
‫‪20‬ـ دولة السالجقة‪.‬‬
‫‪21‬ـ اإلمام الغزالي وجهوده في اإلصالح والتجديد‪.‬‬
‫‪22‬ـ الشيخ عبد القادر الجيالني‪.‬‬
‫‪23‬ـ الشيخ عمر المختار‪.‬‬
‫‪24‬ـ عبد الملك بن مروان بنوه‪.‬‬
‫‪25‬ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫‪26‬ـ حقيقة الخالف بين الصحابة‪.‬‬
‫‪27‬ـ وسطية القرآن في العقائد‪.‬‬
‫‪28‬ـ فتنة مقتل عثمان‪.‬‬
‫‪29‬ـ السلطان عبد الحميد الثاني‪.‬‬
‫‪30‬ـ دولة المرابطين‪.‬‬
‫‪31‬ـ دولة الموحدين‪.‬‬
‫‪32‬ـ عصر الدولتين األمويةـ والعباسية وظهور فكر الخوارج‪.‬‬
‫‪33‬ـ الدولة الفاطمية‪.‬‬
‫‪34‬ـ حركة الفتح اإلسالمي في الشمال االفريقي‪.‬‬
‫‪35‬ـ صالح الدين األيوبيـ وجهوده في القضاء على الدولة الفاطميــة وتحريــر الــبيت‬
‫المقدس‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫‪36‬ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى هللا عليه وسلم دروس مســتفادة من‬
‫الحروب الصليبية‪.‬ـ‬
‫‪37‬ـ الشيخ عز الدين بن عبد السالم سلطان العلماء‪.‬‬
‫‪38‬ـ الحمالت الصليبية (الرابعــة والخامســة والسادســة والســابعة) واأليوبيــون بعــد‬
‫صالح الدين‪.‬‬
‫‪39‬ـ المشروع المغولي عوامل اإلنتشار وتداعيات اإلنكسار‪.‬‬
‫‪40‬ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك‪.‬‬
‫‪41‬ـ اإليمان باهلل جل جالله‪.‬‬
‫‪42‬ـ اإليمان باليوم اآلخر‪.‬‬
‫‪43‬ـ الشورى في اإلسالم‪.‬‬
‫‪44‬ـ السلطان محمد الفاتح‪.‬‬
‫‪45‬ـ اإليمان بالقدر‪.‬‬

‫‪203‬‬

You might also like