Professional Documents
Culture Documents
اإليمان
بالقدر
اإليمان بالقدر
2
ش ْي ٍء َف َق َ
دَّرهُ قال تعالىَ ":و َخ َل َق ُكل َّ َ
ِيرا" (الفرقان ،آية )2 : َت ْقد ً
3
اإلهداء
4
بسم هللا الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد هلل نحمده ونس تعينه ونس تهديه ونس تغفره ،ونع وذ باهلل من
ش رور أنفس نا وس يئات أعمالن ا ،من يه ده هللا فال مض ل ل ه ،ومن
يضلل فال ه ادي ل ه ،وأش هد أن ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وا هّللا َ َح َّق تُقَاتِ ِه َوالَ تَ ُموتُ َّن إِالَّ َوأَنتُم ُّم ْسلِ ُمونَ " (آل عمران، " يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
وا اتَّقُ ْ
آية .)102 :
ث ِم ْنهُ َما ق ِم ْنهَا َزوْ َجهَا َوبَ َّ س َوا ِح َد ٍة َوخَ لَ َ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُ ْ
وا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَقَ ُكم ِّمن نَّ ْف ٍ
9وا هّللا َ الَّ ِذي ت ََس9اءلُونَ بِِ 9ه َواألَرْ َح 9ا َم إِ َّن هّللا َ َك9انَ َعلَ ْي ُك ْم َرقِيبًا"
ِر َجاالً َكثِيرًا َونِ َس9اء َواتَّقُ ْ
(النساء ،آية " )1 :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اتَّقُ99وا هَّللا َ َوقُولُ99وا قَ99وْ اًل َس ِ 9ديدًا*ي ْ
ُص 9لِحْ لَ ُك ْم
أَ ْع َمالَ ُك ْم َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْم َو َمن يُ ِط ْع هَّللا َ َو َرسُولَهُ فَقَ ْد فَا َز فَوْ ًزا َع ِظي ًما" (األحزاب،
آية 70 :ـ .)71
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجالل وجهك وعظيم سلطانك لك الحمد
حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد :هذا الكتاب يتحدث عن القدر وقد سرت على ه دي الق رآن
الكريم والس نة النبوي ة الص حيحة في بي ان ه ذا ال ركن من اإليم ان
وابتع دت ك ل البع د عن من اهج الف رق الكالمي ة الم ذاهب الفلس فية
وحرصت على أن أبين ما كان عليه رسول هللا وأصحابه من صفاء
ووضوح في أصول اإليمان وهذا الكتاب يستهدف مخاطبة العقول،
وأحياء القلوب وتحريك الفطر ،وربط الناس بالخ الق العظيم وبي ان
ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضالً عن الفاضل الجلي ل وم ا
ورد في القض اء والق در والحكم ة والتعلي ل فه و أس مى المقاص د،
واإليم ان ب ه قطب رحى التوحي د ونظام ه ،ومب دأ ال دين الم بين
وختامه فهو أحد أركان اإليمان وقاعدة أساس اإلحسان ال تي يرج ع
إليها ويدور في جميع تصاريفه عليها فالعدل ق وام المل ك ،والحكم ة
5
مظهر الحمد ،والتوحيد متضمن لنهاية الحكم ة وكم ال النعم ة ،وال
إله إال هللا وحده ال شريك ل ه ،ل ه المل ك ول ه الحم د وه و على ك ل
شيء قدير ،فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين " أَالَ لَهُ ْال ْ
خَلُ 99
ق
َواألَ ْم ُر تَبَا َركَ هّللا ُ َربُّ ْال َعالَ ِمينَ " (األعراف ،آية .)54 :
ولق د وقفت على تج ارب علم اء كب ار ممن خاض وا في بح ر علم
الكالم وك ادوا أن يهلك وا ل وال رحم ة هللا بهم وق دموا لن ا خالص ة
تجاربهم المريرة لكي نستفيد منه ا ال دروس والع بر ،وحث وا الن اس
على التمسك بالكتاب والسنة وهدي الصحابة الكرام ومن هؤالء:
1ــ أبو الحسن األشعري :قال ..... :قولن ا ال ذي نق ول ب ه وديانتن ا
التي ندين بها التمسك بكتاب ربن ا ع ز وج ل وس نة نبين ا ص لى هللا
عليه وسلم وما روى عن الص حابة الت ابعين ،وأئم ة الح ديث ونحن
بذلك معتصمون.1
2ــ أبو حامد الغزالي :قال :إن الص حابة رض وان هللا عليهم ك انوا
محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثب اة نب وة محم د ص لى
هللا عليه وسلم فم ا زادوا على أدل ة الق رآن ش يئا ً وم ا ركب وا ظه ر
اللّجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات كل ذلك لعلمهم
بأن ذلك مث ار الفتن ومنب ع التش ويش ومن ال يقنع ه أدل ة الق رآن ال
يقمعه إال السيف والسنان ،فما بعد بيان هللا بيان.2
3ــ إمAAام الحAAرمين الجويAAني :ق ال :لق د خض ت البح ر الخض م،
وتركت أهل اإلسالم وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه ،واآلن
إن لم يت داركني ربي برحمت ه فالوي ل لفالن ،وه ا أن ا أم وت على
عقيدة أمي.3
4ــ الفخر الرازي :قال:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضالل
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
1
اإلبانة ألبي الحسن األشعري ص.17
2
إلجام العوام عن علم الكالم للغزالي ص 89ـ .90
صالَّبي ص.159
من عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين لل َّ 3
6
وكم من جبال قد علت شرفاتها
رجال فماتوا والجبال جبال
لقد ت أملت الط رق الكالمي ة والمن اهج الفلس فية ،فم ا رأيته ا تش في
عليالً وال تروي غليالً ،ورأيت أقرب الط رق طريق ة الق رآن ،اق رأ
ش ا ْست ََوى" (طه ،آية " )5 :إِلَ ْي ِه يَصْ َع ُد ْال َكلِ ُم في اإلثبات " الرَّحْ َم ُن َعلَى ْال َعرْ ِ
الطَّيِّبُ " (فاطر ،آية )10 :وأقرأ في النفي " َواَل يُ ِحيطُونَ بِ ِه ِع ْل ًما" (طه،
آية )110 :ومن جرّ ب مثل تجريبتي عرف مثل معرفتي.1
فهذا الكتاب يتح دث عن الق در بعي داً عن ص خب األه واء وأغش ية
الشبهات وضجيج المجادالت ،فقد طالعت ركاما ً هائالً من الم يراث
التاريخي في هذا الباب فرأيت من الفائدة تركها والعودة إلى عص ر
النبوة والصحابة للوصول إلى يقين ذلك الجي ل المب ارك وطمأنينت ه
والذي نهل من المعين الصافي الذي تكف ل هللا بحفظ ه والمتمث ل في
كتاب هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
ق بِ ُك ْم عَن الس 9بُ َل فَتَفَ َّ 9ر َ اطي ُم ْستَقِي ًما فَ99اتَّبِعُوهُ َوالَ تَتَّبِ ُعْ 9
9وا ُّ قال تعالىَ ":وأَ َّن هَـ َذا ِ
ص َر ِ
َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َوصَّا ُكم بِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ " (األنعام ،آية .)153 :
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :تركت فيكم أمرين لن تض لوا
ما تمسكتم بهما :كتاب هللا وسنة رسوله.2
وقال صلى هللا عليه وس لم :من أح دث في أمرن ا م ا ليس من ه فه و
رد.3
ففي هذا الكتاب كان الحديث في المبحث األول :عن القضاء والق در
في اللغة والشرع والف رق بين القض اء والق در ،وأدل ة الق رآن على
وجوب اإليم ان ب ه ،وح ديث القص ص الق رآني عن ه ،كقص ة ن وح
وإبراهيم ،ويوس ف ،وموس ى وزكري ا وم ريم ،وص احب الجن تين،
واألدلة من السنة النبوية على وجوب اإليمان ب ه والوص ايا النبوي ة
لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر ونهى الرسول صلى هللا
علي ه س لم عن الخ وض في ه ،ح ديث الص حابة عن ه وفي المبحث
الثاني :كان التفصيل عن مراتب الق در ،ك العلم ،والكتاب ة ،واإلرادة
والمش يئة ،والخل ق ،وتض من المبحث الث الث :التق ادير الخمس
1عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين ص.159
2رواه مالك في الموطأ بالغا في ك القدر (.)898 /2
3مسلم ،ك األقضية ( 1343 /2ـ .)1344
7
كالتقدير األزلي ،وتقدير يوم الميثاق ،والعمري والحولي ،واليومي،
وتضمن أيضاً :أنواع اإلرادة ،الكونية والشرعية والفرق بينهما.
في المبحث الرابع :كان الحديث عن ال حول وال قوة إال باهلل ،وعن
فضلها ومعناه ا وم ا تض منته من مع ان عقدي ة عظيم ة ،ك اإلقرار
بالتوحيد ،والتوكل على هللا وتفويض األمور إليه ،كما كان الح ديث
في هذا المبحث عن االحتجاج بالقدر على المعاصي.
وفي المبحث الخ امس ،تكلمت عن الهداي ة واإلض الل وم راتب
الهداية ،كالهداية العامة ،وهداية اإلرشاد وال دعوة والبي ان ،وهداي ة
التوفي ق واإلله ام والهداي ة إلى طري ق الجن ة كم ا أش رت ألس باب
الهداية التي ذكرت في القرآن كالمحافظة على الفطرة اإلنسانية نقية
ص افية ،واس تعمال الس مع والبص ر والعق ل ،والعلم ،واإليم ان،
واالهتداء ،والدعاء ،واالعتصام باهلل ،واالتب اع والطاع ة ،والخش ية
واإلنابة ،والبراءة من الكافرين ،والجهاد ،كم ا أش رت إلى الض الل
ومراتبه ،وحرية العبد في اختي اره لله دى والض الل ،كم ا لخص ت
أهم أسباب الضالل ،كعدم اس تخدام اإلنس ان مواهب ه في التفك ر في
آيات هللا ،والذنوب والمعاص ي ،واتب اع الش يطان ،والجه ل واتب اع
الظن ،والج دال في هللا وآيات ه بغ ير علم ،والغفل ة ،والتعص ب
بالباط ل ،والتقلي د الم ذموم ،والش ك وال ريب ،والجح ود ،والت أبي
والعناد والتعنت ،والكبر ،وحب الدنيا واالغترار بها واتخاذها لهواً،
واتباع الهوى ،واإلس تهزاء بآي ات هللا ورس له والمؤم نين ،والكف ر،
والغل و في األنبي اء والص الحين ،وص حبة الس وء والبيئ ة الفاس دة،
والتشبه بالضالين ،واالبتداع في الدين.
وفي المبحث الس ادس :تكلمت عن س نة هللا في األخ ذ باألس باب
وأش رت إلى األخ ذ باألس باب في الق رآن الك ريم ،كاألس باب ال تي
اتخ ذها ذو الق رنين للتمكين ل دين هللا ع ز وج ل ،كالدس تور الع ادل
والمنهج ال تربوي للش عوب ،واالهتم ام ب العلوم المادي ة والمعنوي ة
وتوظيفه ا في الخ ير وفقه ه في احي اء الش عوب وأخالق ه القيادي ة،
وكاألس باب ال تي اتخ ذها س ليمان ،كفق ه في إدارة الدول ة من دوام
المباشرة ألحوال الرعية ،وعمل قوانين تض بط األم ور ،واالهتم ام
باألجهزة األمنية ،وبنصر دعوة التوحي د وال ترفع عن حط ام ال دنيا
8
والمق درة على اتخ اذ الق رار الص حيح ،واالس تفادة من المه ارات
والمواهب ،كما كان الحديث عن األسباب والتوكل وبي ان أن الق ول
بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بالدين ،وأهمي ة الت وازن
بين مق امي التوك ل واألخ ذ باألس باب وعن العالق ة بين األس باب
والمسببات ،وتأثير الس بب في المس بب ،وش رح ح ديث رس ول هللا
صلى عليه وسلم :ال عدوى وال طيرة وال هامة وال صفر ،وعالق ة
الجزاء األخروى باألسباب ،والحث على طلب األسباب في األم ور
المكفولة ،ومراعاة صورة األسباب في الخ وارق ،وتهيئ ة األس باب
لوقوع مراد هللا عز وجل ،وكون األسباب تعمل مع تحقق الش روط
وانتقاء الموان ع ،وبي ان أن إنك ار ق انون الس ببية ي ؤدي إلى إبط ال
حقائق العلوم ،وشرح مقولة منازعة األقدار باألق دار ،والعالق ة بين
الدعاء والقدر.
وفي المبحث السابع :ك ان الح ديث عن الع دل اإللهي وس نة هللا في
الجزاء بجنس العمل ،وأن األصل في العقاب المماثل ة ،وص ور من
الج زاء بجنس العم ل في ال دنيا ،كاالس تهزاء بالمن افقين والس خرية
منهم في الحياة الدنيا ،وتسليط الظالم على مثله ،واستئص ال هللا لمن
أراد أيذاء رسله وأوليائه ،ونصر هللا منوط بنص رته لل دين والح ق،
يس ر على وس لب النعم ة عمن منعه ا مس تحقيها ،وتيس ير هللا لمن َّ
عباده ،وكان الحديث عن الجزاء بجنس العمل في اآلخرة ،كمعامل ة
أهل الفضل بالفضل ،وترك اإلنسان وإهماله في العذاب ،كما أهم ل
الح ق ولم يتبع ه ،والتهكم بالكف ار والمن افقين كم ا ك انوا يتهكم ون
بالمؤمنين في الدنيا ،كما كان الحديث عن الجزاء بجنس العم ل بين
العباد.
وفي المبحث الثامن :تحدثت عن الحكمة والتحسين والتقبيح وتكليف
ما ال يطاق ،فكان الحديث عن الحكمة في أفعال هللا وشرعه ،وفع ل
األصلح ،ومعنى االستطاعة وتكليف بما ال يطاق.
وفي المبحث التاس ع تكلمت عن س نة هللا في اآلج ال ،وق درة هللا
وثم ار اإليم ان بالق در وال تي ك ان من أهمه ا؛ اإلق دام على عظ ائم
األم ور ،والقض اء على الكس ل والتواك ل والثب ات في مواجه ة
الطغيان ،والص بر عن د ن زول المص ائب والع ز في طلب الح وائج
9
والس كينة وراح ة النفس وس كون القلب ،والخ وف والح ذر من هللا،
والخالص من الش رك والقض اء على األم راض ال تي تعص ف
بالمجتمع ات ،واالس تعانة باهلل ،واالعتم اد على هللا وح ده،
واالع تراف بفض له ،واالس تغناء بالخ الق عن الخل ق ،واالع تراف
بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة ثم كانت الخاتمة.
هذا وق د انتهيت من ه ذا الكت اب 1/3/2010م المواف ق /15ربي ع
األول1431/هـ والفض ل هلل من قب ل ومن بع د ،وأس أله س بحانه
بأس مائه الحس نى ،وص فاته العال أن يجع ل عملي لوجه ه خالص ا ً
ولعباده نافعاً ،ويشرح صدور العباد لالنتف اع ب ه ويب ارك في ه بم ّن ه
وكرمه وجوده ،وأن يثيب إخواني الذين أعانوني من أجل إتمام هذا
الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن ال ينسى
العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمت ه ورض وانه بال دعاء في
ظهر الغيب.
ي َوأَ ْن ي َو َعلَى َوالَِ 99د َّ ك الَّتِي أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ ق ال تع الىَ ":ربِّ أَوْ ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْشُ 99ك َر نِ ْع َمتََ 99
الص 9الِ ِحينَ " (النمل ،آي ة : َّ ض 9اهُ َوأَ ْد ِخ ْلنِي بِ َرحْ َمتِ99كَ فِي ِعبَ99ا ِدكَ أَ ْع َمَ 9ل َ
ص 9الِحًا تَرْ َ
.)19
ك لَهَ9ا َو َم9ا يُ ْم ِسْ 9ك فَاَل ُمرْ ِسَ 9ل لَ9هُ اس ِمن رَّحْ َم ٍة فَاَل ُم ْم ِس َ قال تعالىَ ":ما يَ ْفت ِ
َح هَّللا ُ لِلنَّ ِ
ِمن بَ ْع ِد ِه َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (فاطر ،آية .)2 :
صفُونَ * َو َس 9اَل ٌ9م َعلَى ْال ُمرْ َس 9لِينَ * َو ْال َح ْمُ 9د قال تعالىُ ":سب َْحانَ َربِّكَ َربِّ ْال ِع َّز ِة َع َّما يَ ِ
هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ " (الصافات ،آية 180 :ـ .)182
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن ال إله إال أنت أستغفرك أتوب إليك
وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين".
اإلخوة الكرام :يسرني أن تصل مالحظاتكم وانطباعاتكم ح ول ه ذا
الكتاب وغيره من كتبي وأطلب من إخواني الدعاء في ظه ر الغيب
باإلخالص هلل والصواب لخدمة دينه العظيم
Mail: info@alsallaby.com
Website: www.alsallaby.com
10
الفصل األول
القضاء والقدر
المبحث األول :القضاء والقدر في اللغة والشرع:
أوالً :القضاء والقدر لغة وشرعاً:
1ــ معنى القضاء لغة :إحكام أمر واتقانه وإنفاذه لجهته ،1وقال ابن األثير في النهاي99ة:
القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقط99اع الش99يء وتمام99ه فمع99نى القض99اء في
اللغة هو إحكام الشيء ،وإتمام األم99ر ،وه99ذا ه99و مع99نى القض99اء ،وإلي99ه ترج99ع جمي99ع
معاني القضاء الواردة في اللغة ،وقد يأتي بمعنى القدر.2
وقد ورد لفظ القضاء ومشتقاته كثيراً في الق99رآن الك99ريم ،وك99ل معاني99ه ال99تي ق99د ت99أتي
متداخلة أحيانا ً ـ ترجع إلى األصل السابق فمن المعاني التي ورد بها:
وا إِالَّ إِيَّاهُ" ( اإلس99راء ،آي99ة )23 :أي: ك أَالَّتَ ْعبُ ُد ْضى َربُّ َتعالى":وقَ َ
َ ــ معنى األمر :قال
3
أمر سبحانه وتعالى ـ بعبادته وحده ال شريك له .
ك األ ْم َر" (الحج99ر ،آي99ة )66 :أي: َ ض ْينَا إِلَ ْي ِه َذلِ َ
تعالى":وقَ َ
َ ــ معنى اإلنهاء :ومنه قوله
تقدمنا إليه وأنهينا.4
9اض" (ط99ه ،آي99ة )72 :أي :اص99نع واحكم ٍ ض َماأَنتَ قَ ِ ــ معنى الحكم :قال تعالى":فَا ْق
وافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك.5
ت فِي يَ9وْ َمي ِْن" (فص9لت ،ض9اهُ َّن َسْ 9ب َع َسَ 9ما َوا ٍ معنى الفــراغ :ومن9ه قول9ه تع9الى " :فَقَ َ
فصلت ،آي99ة )12 :أي :ف9رغ من تس99ويتهن س9بع س99ماوات في ي9ومين ،6ومن9ه قول9ه
ضى ُمو َسى اأْل َ َج َل" (القصص ،آي99ة )29 :أي :ف99رغ من األج99ل األوفى تعالى":فَلَ َّما قَ َ
واألتم.7
َاسَ 9ك ُك ْم" (البق99رة ،آي9ة )200 :أي: ضْ 9يتُم َّمن ِ ــ ومعنى األداء :ومنه قوله تعالى":فَ9إ ِ َذا قَ َ
أديتموها وفرغتم منها.8
ض ْينَا إِلَى بَنِي إِ ْس َرائِي َل ِفي ْال ِكتَا ِ
ب" (اإلس99راء، ـ ومعنى اإلعالم :ومنه قوله تعالىَ ":وقَ َ
آية )4 :أي :تقدمنا وأخبرنا بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل إليهم أنهم يفسدون في
األرض مرتين.9
11
ـ ومعنى الموت :يقال :ضربه فقضى عليه ،أي :قتله ،1قال تعالى":فَ َو َك َزهُُ 9مو َسى
ضى َعلَ ْي ِه" (القصص ،آية )15 :أي :مات.2 فَقَ َ
3
ـ وهناك اشتقاقات أخرى ذكرتها كتب اللغة ،ومن خالل ع99رض ه99ذه المع99اني يت99بين
ما بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي من راب99ط ق99وي ،فتق99دير هللا لألم99ور وكتابت99ه
لذلك ،وكونها تجري بحكمة ودق9ة على حس99ب م9ا أراده99ا س99بحانه وقض99اها ك9ل ه99ذه
المعاني يوحي بها المعنى اللغوي بمختلف معانيه الورادة.4
2ـ القدر لغــة :فالق9اف وال9دال وال9راء أص9ل ص9حيح ي9دل على مبل9غ الش9يء وكنه9ه
ونهايته .5ويطلق القدر على الحكم والقضاء أيضا ً ومن ذلك حديث اإلستخارة "فا ْق ُدرُه
ويسرّه لي".6
وسِ 9عوالقدَر بتحريك الدال أو تسكينها معن99اه الطاق99ة ق99ال تع99الىَ ":و َمتِّ ُع99وهُ َّن َعلَى ْال ُم ِ
قَ َد ُرهُ"(البقرة 9،آية :)236 :طاقته.
ويأتي أيضا ً القدر بمعنى التضييق 9،قال تعالىَ ":وأَ َّما إِ َذا َم99اا ْبتَاَل هُ فَقَ َد َر َعلَ ْيِ 9ه" (الفج99ر،
آية .)16 :يعني فضيق عليه ،ومنه قوله تعالى في ح99ق نبي99ه ي99ونس ـ علي99ه الس99الم ـ
"فَظَ َّن أَن لَّن نَّ ْق ِد َر َعلَ ْي ِ 9ه" (األنبي99اء ،آي99ة )87 :أي :لن نض99يق علي99ه ،وليس كم99ا ظن
بعض الناس أن يونس ـ عليه السالم ـ شك في قدرة هللا كال " .فَظَ َّن أَن لَّن نَّ ْق ِد َر َعلَيِْ 99ه"
أي :لن نضيق عليه.7
وقدرت الشيء أق99دره من التق99دير ،ومن99ه الح99ديث" :ف99إن غم عليكم فأق99دروا له ."8أي
قدروا له عدد الشهر حتى تكمل9وه ثالثين يوم9اً ،وقي9ل :ق9دروا ل9ه من9ازل القم9ر ،فإن9ه
يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أم ثالثون.9
وقدر كل شيء ومقداره :مقياسه ،يقال :ق99دره ب99ه ق99دراً إذا قاس99ه ،والق99در من الرح99ال
والسروج :الوسط.10
ويت99بين لن99ا من التعري99ف اللغ99وي للقض99اء والق99در :أن رابط 9ا ً قوي 9ا ً ج99داً بينهم99ا وبين
التأصيل اللغوي والشرعي كذلك.11
3ـ المعنى الشرعي للقضاء والقدر:
12
هو تقدير هللا تعالى ـ األشياء في القدم ،وعلمه ـ سبحانه ـ أنها ستقع في أوقات معلومة
عنده ،وعلى صفات مخصوصة وكتابته سبحانه ـ ل9ذلك ومش9يئته له99ا ووقوعه9ا على
حسب ما قدرها ج ّل وعال وخلقه لها.1
ومراتب القدر أربع :،كما هو ظاهر في التعريف
ــ العلم.
ــ الكتابة.
ــ المشيئة.
ــ الخلق والتكوين.29
4ـ الفرق بين القضاء والقدر:
من أهل العلم من قال :ال فرق بين القضاء والقدر ،فكل منهما يدخل في معنى اآلخ99ر،
ف99إذا أطل99ق التعري99ف على أح99دهما فيش99مل اآلخ99ر بمع99نى :إذا أطل99ق التعري99ف على
القضاء ،فإنه يشمل القدر ،وإذا أطلق التعريف على القدر فإنه يشمل القضاء.
والفرق قال آخرون :ال ،هناك فرق بين القضاء والقدر ،فالقضاء :هو الحكم بالكلي99ات
على سبيل اإلجمال في األزل.
أما القدر :فهو الحكم في وقوع الجزئيات لهذه الكليات التي قُ ّدرت في األزل ،فالقضاء
أشمل وأعم من القدر.
ومنهم من قال :بأن القدر :هو التقدير ،والقضاء ،هو التفص99يل بمع99نى :أن الق99در :ه99و
التقدير الق99ديم األزلي ،والقض99اء :ه99و التفص99يل له99ذا الق99در الكلي في أوق99ات معلوم99ة
بمشيئة هللا تبارك وتعالى على الكيفية التي أرادها أو خلقها عز وجل.3
فالقضاء والقدر لفظ99ان متباين99ان إن اجتمع99ا ،ومترادف99ان إن افترق99ا ،يع99ني :إذا افترق99ا
اجتمعا ،وإذا اجتمعا افترقا بمعنى :إذا ذكر القضاء والقدر مع 9اً ،ف99المعنى لك99ل مف99ردة
منهما واحد ،وإذا افرد اللفظان صار لكل مفردة منهما معنى يختلف عن معنى اآلخر.
فالتقدير :هو ما قدره هللا سبحانه وتعالى في األزل أن يك99ون في خلق99ه التق99دير ،وعلى
هذا يكون التقدير سابقا ً على القضاء ،وأما القضاء إذا ذك99ر م99ع الق99در فكالهم99ا مع99نى
واحد مشترك ،ويرى الخطابي :أن القضاء والقدر أمران ال ينفك أحدهما عن اآلخ99ر،
1
شفاء العليل البن القيم صـ ، 29القضاء والقدر للمحمود صـ .40
2
القضاء والقدر صـ 41للمحمود.
3
اإليمان بالقضاء والقدر ،محمد حسان صـ.41
13
ألن أحدهما بمنزلة األساس واآلخر بمنزلة البناء ،فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم
البناء ونقضه.1
وهللا أعلم أنه ال فرق بين القضاء والقدر ،وال99ذين ق99الوا ب99التفريق بين القض99اء والق99در
لغة واصطالحا ً ال دليل لديهم من السنة الصحيحة ،ال سيما وقد اتفقوا جميع9ا ً على أن9ه
إذا أطلق لفظ من هذين اللفظين فإنه يشمل اآلخر.2
ثانياً :أدلة القرآن على وجوب اإليمان بالقدر:
وردت في كتاب هللا تعالى ـ آيات تدل على أن األمور تج99ري بق99در هللا تع99الى ،وعلى
أن هللا تعالى علم األشياء وقدرها في األزل ،وأنها ستقع على وفق ما قدرها ـ سبحانه
وتعالى.3
1المسائل العقدية التي حكى فيها اإلجماع ابن تيمية االجماع صـ ،810معالم السنن (.)77 / 5
2اإليمان بالقضاء والقدر ،محمد حسان صـ.42
3القضاء والقدر د .المحمود صـ .50
4فتح البيان في مقاصد القرآن ،تفسير صديق حسن خان (.)375 / 7
5تفسير ابن كثير (.)287 / 5
6القضاء والقدر د .عبد الرحمن المحمود صـ.51
7صحيح تفسير ابن كثير (.)314 / 3
8المصدر نفسه (.)492 / 2
14
9وم" (الحج99ر، َر َّم ْعلٍُ 9 7ـ وقال تعالىَ 9":وإِن ِّمن َش ْي ٍء إِالَّ ِعن َدنَا خَزَائِنُهُ َو َما نُنَ ِّزلُهُ إِالَّبِقَد ٍ
آية .)21 :
يخبر تعالى أنه مالك كل شيء ،وأن كل شي ٍء سهل عليه يسير لديه ،وأن عنده خزائن
وم" كما يشاء وكما يريد ولما ل99ه َر َّم ْعلُ ٍ
األشياء من جميع الصنوفَ " ،و َمانُن َِّزلُهُ إِالَّ بِقَد ٍ
في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعب99اده ال على جه99ة الوج99وب ب99ل ه99و كتب على
نفسه الرحمة.1
ــ وقال تعالى ":نَحْ ُن قَ َّدرْ نَا بَ ْينَ ُك ُم ْال َموْ تَ َو َمانَحْ ُن بِ َم ْسبُوقِينَ " (الواقعة ،آي99ة )60 :أي:
صرفناه بينكم " َو َمانَحْ ُن بِ َم ْسبُوقِينَ " أي :وما نحن بعاجزين.2
ك فِيهَا َوقَ َّد َر فِيهَا أَ ْق َواتَهَا فِي أَرْ بَ َع ِة ار َ اس َي ِمن فَوْ قِهَا َوبَ َ ــ وقال تعالىَ ":و َج َع َل فِيهَا َر َو ِ
أَي ٍَّام َس َواء لِّلسَّائِلِينَ " (فصلت ،آية .)10 :
طفٍَ 9ة َخلَقَ9هُ فَقََّ 9د َرهُ" (عبس ،آي99ة ،)19 :أي :ق99در أجل99ه ورزق99ه ــ وقال تعالىِ " :من نُّ ْ
وعمله ،شقي أو سعيد .3
وغير ذلك من اآليات التي تدل على أن هللا قدر كل شيء.
ثالثاً :القصص القرآني واإليمان بالقدر:
كان جميع األنبياء والرسل ومن تبعهم معتقدين بعقي99دة التوحي99د الخالص99ة الص99حيحة،
كم99ا أوحى إليهم ربهم تب99ارك وتع99الى ،واإليم99ان بص99فات هللا تع99الى ،ومنه99ا ،العلم
والقدرة واإلرادة والخلق كلها داخلة في التوحيد الذي هو أساس دين اإلسالم ،وتحدث
القرآن الكريم عن األنبياء وغيرهم ،وبين قولهم بالقدر ،وبأن ما شاء هللا ك99ان ،وم99ا لم
يشأن ال يكون.4
وا يَانُو ُح قَ ْد َجاد َْلتَنَا فَ99أ َ ْكثَرْ تَ 1ـ في قصة نوح عليه الصالة والسالم :قال تعالى" :قَالُ ْ
نش9اء َو َم99ا أَنتُم الص 9ا ِدقِينَ * قَ99ا َل إِنَّ َم99ا يَ99أْتِي ُكم بِ ِ 9ه هّللا ُ إِ َ
َّ ِجدَالَنَا فَأْتَنِا بِ َماتَ ِع ُدنَا إِن ُكنتَ ِمنَ
ص َح لَ ُك ْم إِن َكانَ هّللا ُ ي ُِري ُد أَن يُ ْغ ِويَ ُك ْم هُ َو دت أَ ْن أَن َ ْج ِزينَ * َوالَيَنفَ ُع ُك ْم نُصْ ِحي إِ ْن أَ َر ُّ بِ ُمع ِ
َربُّ ُك ْم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ " (هود ،آية 32 :ـ .)34
فهم قالوا لنوح عليه السالم مستعجلين :يا ن99وح ق99د جادلتن99ا أي :حاججتن99ا ف99أكثرت من
ذلك ،ونحن ال نتبعك ،فآتنا بما تعدنا من العذاب ،فأجابهم نوح مبينا ً أن األمر كل99ه بي99د
هللا سبحانه وتعالى ،فهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء ،ثم بين نوح أيض9ا ً أن نص99حه ال
ينفع إذا كان هللا يريد أغواءهم ،فإرادة هللا غالبة ،ومشيئته نافذة.5
2ـ وفي قصة إبراهيم ـ عليه السالم ـ مع ابنه إسماعيل ـ عليه الصالة والس99الم ـ لم99ا
9ام أَنِّي
ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمنَِ 9 السْ 9ع َي قَ99ا َل يَ99ابُنَ َّأراد ذبحه بأمر هللا ،يقول" :فَلَ َّما بَلََ 9غ َم َع 9هُ َّ
الص 9ابِ ِرينَ " َّ نش 9اء هَّللا ُ ِمنَ
ت ا ْف َعلْ َم99اتُ ْؤ َم ُر َس 9تَ ِج ُدنِي إِ َ ال يَا أَبَ ِ أَ ْذبَحُكَ فَانظُرْ َما َذا تَ َرى قَ َ
(الصافات ،آية .)102 :
وقال تعالى" :فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ
6
ْي" أي :بلغ أن ينصرف معه ويعينه ،وفي هذا يك99ون
في الغالب أحب ما يكون لوالديه ،ف99رأى أب99وه في المن99ام أن هللا ي99أمره بذبح99ه ،ورؤي99ا
1المصدر نفسه (.)547 / 2
2صحيح تفسير ابن كثير (.)362 / 4
3المصدر نفسه (.)595 / 4
4القضاء والقدر ،عبد الرحمن المحمود صـ.126
5تفسير ابن كثير ( 251 / 4ـ ،) 252تفسير السعدي (.)422 / 3
6تفسير غريب القرآن البن قتيبة صـ.273
15
نش9اء هَّللا ُ ِمنَ ت ا ْف َع99لْ َم99ا تُ9ْ 9ؤ َم ُر َس9تَ ِج ُدنِي إِ َ األنبي99اء وحي ،فق99ال االبن مستس99لماً" :يَ99اأَبَ ِ
الصَّابِ ِرينَ " ،فأخبر أنه موطِّن نفسه على الصبر ،وقرن ذلك بمشيئة هللا تعالى ألن99ه ال
يكون شيء بدون مشيئة هللا .1وهذا هو الشاهد.
"و َرفََ 9ع أَبَ َو ْيِ 9ه َعلَى 3ـ وفي قصة يوسفـ ـ عليه الصالة والس99الم ـ يق99ول هللا تع99الىَ :
ي ِمن قَ ْبُ 9ل قَ ْ 9د َج َعلَهَ99ا َربِّي َحقّ99اً ت هَـ َذا تَأْ ِوي ُل ر ُْؤيَ99ا َ وا لَهُ ُس َّجدًا َوقَا َل يَا أَبَ ِ ش َو َخرُّ ْ ْال َعرْ ِ
الشْ 9يطَ ُ
ان الس9جْ ِن َو َج 9اء بِ ُكم ِّمنَ ْالبَْ 9د ِو ِمن بَ ْعِ 9د أَن نَّز َغ َّ َوقَ ْد أَحْ َسنَ بَي إِ ْذ أَ ْخ َر َجنِي ِمنَ ِّ
9ف لِّ َم99ا يَ َش 9اء إِنَّهُ هُ َ 9و ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم" (يوس99ف ،آي99ة : بَ ْينِي َوبَ ْينَ إِ ْخَ 9وتِي إِ َّن َربِّي لَ ِطيٌ 9
.)100
يف لِّ َما يَ َشاء أي :إذا أراد أمراً قيض له أسبابا ً ويسره وقدره ،إنه هو العليم إِ َّن َربِّي لَ ِط ٌ
2
عب9اده،ال َح ِكي ُم :في أفعال99ه وأقوال9ه ،وقض99ائه وق9دره ،وم9ا يخت9اره ويري9ده ، ْ بمص9الح
فيوسف ـ عليه السالم ـ كان مؤمنا ً أن ما جرى ويجري له ولغيره إنما ه99و بقض99اء هللا
وقدره.3
4ـ وموسى ـ عليه الصالة والسالم ـ ذكر هللا عنه إيمانه ب99أن الهداي99ة واإلض99الل بي99د
َار ُمو َسى قَوْ َم 9هُ َسْ 9ب ِعينَ هللا ،وهما تحت مشيئته ،فقال تعالى في معرض قصتهَ " :و ْ
اخت َ
ي أَتُ ْهلِ ُكنَ99ا بِ َم99ا ال َربِّ لَوْ ِش ْئتَ أَ ْهلَ ْكتَهُم ِّمن قَ ْب ُل َوإِيَّا َ َر ُجالً لِّ ِميقَاتِنَا فَلَ َّما أَخَ َذ ْتهُ ُم الرَّجْ فَةُ قَ َ
ضلُّ بِهَا َمن تَ َشاء َوتَ ْه ِدي َمن تَ َشاء أَنتَ َولِيُّنَا فَا ْغفِرْ فَ َع َل ال ُّسفَهَاء ِمنَّا إِ ْن ِه َي إِالَّ فِ ْتنَتُكَ تُ ِ
لَنَا َوارْ َح ْمنَا َوأَنتَ خَ ْي ُر ْالغَافِ ِرينَ " (األعراف ،آية ،)155 :فقوله" :لَوْ ِشْ 99ئتَ أَ ْهلَ ْكتَهُم
َّاي" :أي لو شئت إهالكنا ألهلكتنا بذنوبنا منقب99ل ه99ذا ال99وقت ،ق99ال موس99ى ِّمن قَ ْب ُل َوإِي َ
اعترافا ً بالذنب وتلهفا ً على ما فرط من قومه ،أو المعنى :لو ش99ئت أهلكتهم وإي99اي من
قبل خروجنا حتى يعاين بنو إسرائيل ذلك وال يتهمونني ،وهذا على أن "لَ99وْ " للتم99ني.
ض 9لُّ بِهَ99ا َمن ت ََش 9اء َوتَ ْه ِ 9دي َمن ت ََش 9اء" :أي م99ا ه99و إال ثم ق99ال" :إِ ْن ِه َي إِالَّ فِ ْتنَتُ99كَ تُ ِ
اختبارك وإمتحانك تضل بهما من تشاء وتهدي من تشاء ،وال هادي لمن أضللت ،وال
مضل لمن هديت ،فأنت وحدك لك الملك ولك الخلق واألمر ،4فق9ول موس99ى ه99ذا ي9دل
على تصديقه وإيمانه بالقدر.5
5ـ وفي قصة موسى مع الشيخ الكبير حينما ورد ماء مدين يقول تع99الى عن الش99يخ:
ج فَإ ِ ْن أَ ْت َم ْمتَ ْ ال إِنِّي أُ ِري ُد أَ ْن أُن ِك َح َ
ي هَاتَي ِْن َعلَى أَن تَأ ُج َرنِي ثَ َمانِ َي ِح َج ٍ ك إِحْ دَى ا ْبنَتَ َّ " قَ َ
ق َعلَ ْيكَ َستَ ِج ُدنِي إِن َشاء هَّللا ُ ِمنَ الصَّالِ ِحينَ " (القص ، َع ْشرًا فَ ِم ْن ِعن ِدكَ َو َما أُ ِري ُد أَ ْن أَ ُش َّ
الص9الِ ِحينَ " أي :حس99ن الص99حبة َّ نش9اء هَّللا ُ ِمنَآية ،)27 :والش99اهد قول99هَ " :س9تَ ِج ُدنِي إِ َ
والوفاء ،أو الصالح العام ويدخل فيه صالح المعاملة من باب أولى ،وقيد ذلك بمش99ئة
هللا تفويضا ً لألمر إلى توفيق هللا ومعونته.6
6ـ ويقول تعالى عن موسى ـ عليه الصالة والسالم ـ والخضر بع99د أن بين ل99ه أن99ه ال
ص9ابِرًا نش9اء هَّللا ُ َ يستطيع الصبر مع99ه ،فأجاب99ه موس99ى كم99ا ق99ال هللا" :قَ99ا َل َس9تَ ِج ُدنِي إِ َ
صي لَكَ أَ ْمرًا" (الكهف ،آية .)69 : َواَل أَ ْع ِ
1تفسير السعدي (.)389 / 6
تفسير غريب القرآن البن قتيبة صـ.273
2تفسير ابن كثير ( ،)336 / 4القضاء والقدر عبد الرحمن المحمود صـ.127
3القضاء والقدر ،عبد الرحمن المحمود صـ.127
4زاد المسير البن الجوزي ( 268 / 3ـ .)269
5القضاء والقدر للمحمود صـ.128
6فتح القدير للشوكاني (.)169 / 4
16
ك أَ ْم 9رًا" أوالً؟ ص 9ي ل َ َ 9سأصبر بمش99يئة هللا ولكن ه99ل االس99تثناء ش99امل قول99هَ " :واَل أَ ْع ِ
نش99اء قوالن للمفسرين واألرجح شموله لهما ،1قال في تفسير الجاللين "قَا َل َست َِج ُدنِي إِ َ
ك أَ ْم 9رًا" ت99أمرني ب99ه ،وقي99د ص "لََ 9 ص9ي لَ99كَ أَ ْم 9رًا" أي :وغ99ير ع99ا ٍ صابِرًا َواَل أَ ْع ِ هَّللا ُ َ
بالمشيئة ألنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما ال99تزم ،وه99ذه ع99ادة األنبي99اء واألولي99اء أال
يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين .2فتعليق األمر بمشيئة هللا تعالى دليل على إيم99ان موس99ى
بأن أي شئ ال يكون إال إذا أراده هللا وشاءه ،وقص99ة موس99ى والخض99ر كله99ا في ب99اب
القدر ،وقد وردت بتمامها في صحيح البخاري ،وقال صلى هللا عليه وسلم" :يرحم هللا
موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما".3
7ـ وبعد أن خسف هللا بقارون وداره يقول تعالى عن قومهَ " :وأَصْ بَ َ9ح الَّ ِذينَ تَ َمنَّوْ ا
ق لِ َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَا ِد ِه َويَ ْق ِ 9د ُر لَ99وْ اَل أَن َّم َّن ْ
الرِّز َ س يَقُولُونَ َو ْي َكأ َ َّن هَّللا َ يَ ْب ُسطُ َم َكانَهُ بِاأْل َ ْم ِ
هَّللا ُ َعلَ ْينَا لَخَ َسفَ بِنَا َو ْي َكأَنَّهُ اَل يُ ْفلِ ُح ْال َكافِرُونَ " (القصص ،آية .)82 :
ق" لبعض عباده ويُضيّقه على بعض99هم فل99ه األم9ر ،يفع9ل م99ا يش9اء فقوله "يَ ْب ُسطُ الر ِّْز َ
سبحانه وتعالى.4
8ـ ويقول تعالى عن زكريا ومــريم ":فَتَقَبَّلَهَا َربُّهَ99ا بِقَبُ99و ٍل َح َسٍ 9ن َوأَنبَتَهَ99ا نَبَاتً99ا َح َس9نًا
كاب َو َج َد ِعن َدهَا ِر ْزقا ً قَا َل يَا َم99رْ يَ ُم أَنَّى لَ ِ 9 َو َكفَّلَهَا زَ َك ِريَّا ُكلَّ َما َدخَ َل َعلَ ْيهَا زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ
ب" (آل عم99ران ،آي99ة: 9ر ِح َس9ا ٍ ق َمن يَ َش9اء بِ َغ ْيِ 9 إن هّللا َ يَ99رْ ُز ُ ت هَُ 9و ِم ْن ِعنِ 9د هّللا ِ َّ هَـ َذا قَالَ ْ
.)37
إن هّللا َ يَرْ ُز ُ
ق َمن يَ َشاء بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ
ب" :الراجح أنه من كالم م99ريم ،وه99و يفي99د فقولهَّ ":
التقرير بأن هللا قد يرزق عباده بغير حساب ،وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه.5
9ـ وفي قصــة الرجــل صــاحب الجنــتين ،يقول تع99الى عن ص99احبه أن99ه ق9ال ل99ه وه99و
َخَلتَ َجنَّتَكَ قُ ْلتَ َما َشاء هَّللا ُ اَل قُ َّوةَ إِاَّل بِاهَّلل ِ إِن تُ َر ِن أَنَا أَقَ َّل ِمنكَ َم 99ااًل
يحاوره" َولَوْ اَل إِ ْذ د ْ
اش 9اءا هَّلل ُ" ،أي األم99ر َو َولَ 9دًا" (الكه99ف ،آي99ة )39 :أي :هال قلت عن99دما دخلته99اَ ":م َ
بمشيئة هللا ،وما شاء هللا كان فترد أمر جنت99ك من الحس99ن والنض99ارة لخالق99ه س99بحانه،
وال تفتخر به ألنه ليس من عملك وصنعك " اَل قُ َّ 9وةَ إِاَّل بِاهَّلل ِ" أي :وهال قلت" :اَل قُ َّ 9وةَ
إِاَّل بِاللَّ ِه" ،معترفا ً بأنها وما فيها بمشيئة هللا ـ تعالى ـ إن شاء أبقاها ،وإن ش99اء أفناه99ا،
وأنك عاجز عنها ،وعن غيرها لوال معونة هللا.6
ض أَ ْم أَ َرا َد ُ
10ـ والجن يذكر تعالى أنهم قالواَ ":وأَنَّا اَل نَ ْد ِري أَ َش ٌّر أ ِريَ 99د بِ َمن فِي اأْل َرْ ِ
بِ ِه ْم َربُّهُ ْم َر َش ًدا" (الجن ،آية ،)10 :فهم بع9د أن منع9وا من اس9تراق الس9مع جزم9وا أن
هللا أراد أن يحدث في األرض حادثا ً كب99يراً من خ99ير أو ش99ر ،فق99الواَ " :وأَنَّا اَل نَ ْ 9د ِري
أَ َشرٌّ أُ ِريدَ "....اآلية ،فهم مؤمنون بأن هللا له اإلرادة المطلق99ة ،وق99د ك99انوا م99ؤدبين فق99د
ً7
أضافوا الخير إلى هللا تعالى والشر حذفوا فاعله تأدبا.
1تفسير القرطبي ( ،)17 / 11القضاء والقدر للمحمود صـ.129
2تفسير الجاللين :حاشية الجمل الفتوحات اإللهية (.)37 / 3
3البخاري ،ك العلم ،فتح الباري(.)317 / 1
4تفسير السعدي ( ،) 61 / 6القضاء والقدر صـ.130
5القضاء والقدر ،د .عبد الرحمن المحمود صـ .131
6فتح البيان في مقاصد القرآن ،صديق حسن خان (.)454 /5
7تفسير ابن كثير ( ،)267 /8القضاء والقدر د .عبد الرحمن المحمود صـ .131
17
إن اإليمان بالقدر داخل ضمنا ً في اإليمان باهلل ،ب99ل ه99و ج99زء حقيقي من99ه ألن معن99اه،
اإليمان بإحاطة علم هللا تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الك99ون ،ونف9وذ
قدرته في كل شيء واإليمان بالقدر ،الذي جاء به اإلسالم هو إيم99ان بمقتض99ى الكم99ال
اإللهي ال9ذي تم9يزت ب9ه عقي9دة اإلس9الم ،وص9ححت ب9ه أوه9ام الفلس9فات ،وانح9راف
الديانات في شأن األلوهية ،فليس اإلله في اإلسالم إلها ً معزوالً عما يج99ري في الك99ون
ال يعلمه وال يتدخل فيه بتدبير وال تصريف ك"إله أرسطو" ال99ذي ال يع99رف إال ذات99ه،
وال يعلم عن هذا الكون شيئاً ،وال يدبر فيه أمراً ،أو "إله أفل99وطين" ال9ذي ال يعلم ذات99ه
نفسها وليس ك" إله المجوس" الذي له نصف الكون ي99دبره ويتص99رف في99ه ،وه99و م99ا
يتعلق بالخير والنور ،أما النصف اآلخر وهو ما يتصل بالشر والظلمة ،فذلك من شأن
إل99ه آخ99ر ،فهم99ا إله99ان إذن :أح99دهما إل99ه الخ99ير والن99ور ،واآلخ99ر إل99ه الش99ر والظلم99ة
والحرب بينهما سجال حتى ينتصر إله الخير في النهاية وليس ه99و ك "آله99ة اليون99ان"
التي تخبط في تص99رفاتها خب9ط عش99واء وال99تي تعيش في ح99رب م9ع البش99ر ،ح99تى إن
رواياتهم عن القدر وضرباته للناس تمثله هازئ9ا ً بهم ،متح99ديا ً لهم ،يط99اردهم ويتج99نى
عليهم ،وله99ذا ك99ثر الح99ديث في أدبهم عن قس99وة الق99در ،وعن الق99در األعمى ،والق99در
الغاشم ونح99و ذل99ك ،وليس ك "إل99ه ب99ني إس99رائيل" ال99ذي تص99وره ت99وراتهم المحرف99ة،
وكتبهم واساطيرهم ،غيوراً منتقم9ا ً م99دمراً ،متعص99با ً لش99عب إس99رائيل دون الع99المين،
خائفا ً من اإلنسان أن يأكل من شجرة الحياة ،فيصبح كواحد من اآللهة ،نادم 9ا ً على م99ا
يفعل9ه في بعض األحي99ان ع9اجزاً عن مقاوم9ة اإلنس99ان ،ح9تى إن إس9رائيل ليص9ارعه
فيصرعه ،1ليس هذا الذي تتصوره أو تصوره ال99ديانات والفلس99فات ه99و إل9ه اإلس9الم،
إنما اإلله في اإلسالم هو مال99ك المل99ك ،وص99احب الخل99ق واألم99ر ،رب الع99المين ،ه99و
خالق كل شيء عن قبضة قهره ،وال حي أو جماد عن دائرة سلطانه ،يحكم م99ا يري99د،
ويفعل ما يشاء ،وال يخفي علي99ه ش99يء في األرض وال في الس99ماء وه99و م99ع ه99ذا ب99ر
كريم ،عدل رحيم ،عليم حكيم ،ال يظلم أحداً ،وال يأخذ مخلوقا ً بذنب غيره ،وال يبخسه
أجر س99عيه ،فال يخ99اف أح99د عن99ده ظلم9ا ً وال هض99ماً ،والظلم 9:أن يعاقب99ه بم99ا لم يفع99ل
والهضم :أن يضيع أجر ما قد عمل ،وهللا سبحانه ال يعاقب بغير سيئة وال يضيع أج99ر
حس99نة ،ب99ل يض99اعفها كم99ا ق99ال س99بحانه ":إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْ
ظلِ ُم ِم ْثقَ99ا َل َذ َّر ٍة َوإِن تَ ُ 9
ك َح َس 9نَةً
َظي ًما" (النساء ،آية .)40 : ت ِمن لَّ ُد ْنهُ أَجْ ًر ع ِ
اع ْفهَا َوي ُْؤ ِ
ُض ِ
ي َ
ه99ذا ه99و اإلل99ه ال99ذي يج99ري ك99ل ش99يء في الك99ون بتق99ديره وت99دبيره بعلم99ه ومش99يئته
ومقتضى حكمته ،وعلى هذا األس99اس ك99ان إيم99ان الس99لف بالق99در من الص99حابة ،ومن
تبعهم بإحس99ان ،فليس اإليم99ان بالق99در إيمان99ا ً ب99البخت والمص99ادفات والعش99وائية في
الك99ون ،كه99ؤالء ال99ذين ينقل99ون إلى العربي99ة التغي99يرات 9اليوناني99ة والغربي99ة عن الق99در
ف99تراهم يقول99ون :الق99در األعمى ،والق99در األحم99ق ،والق99در الغاش99م ،وعبث األق99دار
ونحوها ،وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها اإلسالم والمسلمون ،إنما هو إيم99ان بإحاط99ة
علم هللا وعموم مشيئته وشمول قدرته ،وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل م99ا يح99دث
في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تص99ميم س99ابق ،وت99دبير ق99دير ،وتق99دير عزي99ز
عليم.2
1
اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ.10
2
اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ.11
18
رابعاً :األدلة من السنة النبوية على وجوب اإليمان بالقدر:
دلت نصوص السنة على وجوب اإليمان بالقضاء والقدر ،واألحاديث الواردة في ذلك
كثيرة جداً ،ولكن نع9رض لبعض9ها وس9نبين البعض اآلخ9ر في األدل9ة التفص9يلية عن9د
الحديث على مراتب القدر ومن هذه األحاديث:
1ـ حديث جبريل:ـ المشهور برواياته المحتلفة ،فقد قال صلى هللا عليه وسلم :اإليم9ان:
أن تؤمن باهلل ومالئكته ورسله واليوم اآلخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.1
2ـ حديث جابر بن عبد هللا ـ رضي هللا عنهما ـ قال :ق99ال رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه
وسلم :ال يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من هللا ،وحتى يعلم أن ما أصابه لم
يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.2
3ـ حديث علي ـ رضي هللا عنه ـ قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم :ال ي99ؤمن
عبد حتى يؤمن بأربع :يش99هد أن ال إل99ه إال هللا وأني محم99د رس99ول هللا بعث99ني ب99الحق،
ويؤمن بالموت ،وبالبعث بعد الموت ،ويؤمن بالقدر.3
فالمراد بالحديث نفي أصل اإليمان عمن لم يؤمن بهذه االربع:شهادة أن ال إل99ه إال هللا،
وشهادة أن محمداً رسول هللا ،ويؤمن ب99الموت :أي فن99اء ال99دنيا ،أو الم99راد 9:اعتق99اد أن
الموت يحصل بأمر هللا ال بفساد المزاج كم99ا يق99ول الطب99ائعيون ،وي99ؤمن ب99البعث بع99د
الموت ،ويؤمن بالقدر وأن كل ما يج99ري بق99در هللا ـ تع99الى ـ وقض99ائه ،4ونفي أص99ل
اإليمان عمن لم يؤمن بهذه األمور يدل على وجوب اإليمان بها.
4ـ حديث طاوس ،قال :أدركت أناسا ً من أص99حاب رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم
يقول :كل شيء بقدر ،قال وسمعت عبد هللا بن عمر ـ رضي هللا عنهم99ا ـ يق99ول :ق99ال
رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم :ك99ل ش99يء بق99در ح99تى العج99ز والكيس أو الكيس
والعجز.5
5ـ وعن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :جاء مش99ركو ق99ريش يخاص99مون رس99ول هللا
ار َعلَى ُو ُج99و ِه ِه ْم ُذوقُ99وا
صلى هللا عليه وسلم في الق99در ف99نزلت":يَ99وْ َم ي ُْسَ 9حبُونَ فِي النَّ ِ
َر" (القمر ،آية 48 :ـ .6)49 َمسَّ َسقَ َر * إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء خَ لَ ْقنَاهُ بِقَد ٍ
6ـ وقد ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم التح99ذير من التك99ذيب بالق99در ،وذل99ك في
الحديث الذي رواه أبو الدرداء ـ رضي هللا عنه ـ عن النبي ص99لى هللا علي99ه وس99لم أن99ه
قال" :ال يدخل الجنة عاق وال مدمن خمر ،وال مكذب بقدر".7
خامساً :وصايا نبوية لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر:
كان الرسول صلى هللا عليه وسلم مربيا ً ومزكيا ً لنف99وس أص99حابه ،وهي المهم99ة ال99تي
شرفه هللا سبحانه بها ،وتتجلى هذه التزكية ،بأوضح ص9ورها من خالل ه9ذه الوص9ايا
19
الثالثة التي تُعد بح99ق نم99اذج العالج النب99وي ألم99راض النف99وس وت99دريبها عملي9ا ً على
التسليم لقضاء هللا وقدره والرضا به.
الوصية األولى :عن أبي هريرة رضي هللا عنه ق99ال :ق99ال رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه
9ل خ99ير، وس99لم" :الم99ؤمن الق99وي خ99ير وأحب إلى هللا من الم99ؤمن الض99عيف ،وفي كٍ 9
أحرص على ما ينفعك واستعن باهلل وال تعجز وإن أصابك شئ فال تقل :ل99و أني فعلت
كان كذا وكذا ،ولكن قل :ق ّدر هللا وما شاء فعل ،فإن لو تفتح عمل الشيطان.1
وفي هذا الحديث النبوي يبين الرسول صلى هللا عليه وسلم أن من أراد ني99ل محب99ة هللا
ورض99وانه فعلي99ه أن يب99ادر إلى تقوي99ة إيمان99ه ومجاه99دة نفس99ه ،وطلب الق99وة في العلم
والجسم ،وغير ذلك من عناصر القوة النافعة التي تتض99افر جميعه99ا لتك99وين شخص99ية
المسلم الذي يحبه هللا سبحانه ،ولكي يحظى المسلم بذلك فال بد له من األخ99ذ بالوص99ايا
النبوية الواردة في هذا الحديث :وهي أن يحرص على ما ينفعه ويطلب الع99ون من هللا
سبحانه وال يعجز ،وأن يسلم أمره هلل فيما ق ّدر له فال يسخط وال يشتكي من المص99ائب
وال يدع للشيطان مدخالً يقوله" :لو أني فعلت كذا وك99ذا" فكلم99ة "ل99و" تجلب الحس99رة
واألسى ،وتزيد اللوعة وتورث القلق واالضطراب ،ولن يس99تطيع إع99ادة م99ا ف99ات وال
إحياء من مات مهما تحسر ،وإنم99ا س99يجلب لنفس99ه الكآب99ة ولجس99مه األم99راض واآلالم
ويتعرض لغضب هللا ،باعتراضه على قدره ،فالعالج العملي أن يقول" :ق ّ 9در هللا وم99ا
شاء فعل"ُ ،م ِعلنا ً استسالمه ألمر هللا ورضاه بقضائه وأن يعود لسانه على ه99ذا الق99ول
كلما ناله شئ يكرهه.2
ـ الوصية الثانية:ـ دعاء االستخارة:
عن جابر بن عبد هللا رض99ي هللا عنهم99ا ق99ال :ك99ان رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم:
يعلمنا االستخارة في األمور كله99ا كالس99ورة من الق99رآن ،يق99ول :إذا ه َّم أح99دكم ب99األمر
فليركع ركع99تين من غ9ير الفريض99ة ،ثم ليق99ل :اللهم إني اس99تخريك بعلم99ك واس99تقدرك
بقدرتك ،وأسألك من فضلك العظيم ،فإنك تقدر وال أق99در ،وتعلم وال أعلم ،وأنت عالم
الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم إن هذا األمر خ99ي ٌر لي في دي99ني ومعاش99ي وعاقب99ة أم99ري ،أو ق99ال:
عاج99ل أم99ري وآجل99ه ،فأق99دره لي ،وإن كنت تعلم أن ه99ذا األم99ر شٌ 99ر لي في دي99ني
ومعاشي وعاقبة أمري ،أو قال :عاجل أمري وآجله ،فأصرفه ع99ني واص99رفني عن9ه،
واقدر لي الخير حيث كان ،ثم أرضني به ،ويسمي حاجته.3
وهذه الوصية النبوية تعد تدريبا ً عمليا ً على توطين النفس ورض9اها بالقض9اء والق9در،
وتسليمها لما يقدر هللا ،اعتقاداً بأن ذل99ك ه99و األص99لح ،واألنف99ع للعب99د ،ف99إذا ه َّم المس99لم
بأمر من األمور المباحة ،من سفر أو زواج ،أو تجارة أو غير ذلك فعليه أن يبادر إلى
العمل بهذه الوصية النبوية ،فيدعو بدعاء االستخارة مت99ذلالً أم99ام رب99ه ،متواض99عا ً بين
يديه ،مستسلما ً ألمره ،راضيا ً بحكمه ،داعي9ا ً أن يخت9ار هللا ل99ه م9ا في99ه الخ9ير في دين99ه
ومعاشه وعاقبة أمره ،وأن يصرف عنه هذا األمر إن كان فيه شر ،ثم يعزم على ه99ذا
األمر ،فإن انشرح صدره له ،ويسر هللا طريقه ،وهو الخير الذي اختاره هللا ،وإن جاء
20
األم99ر على عكس ذل99ك ،فعلي99ه أن يف99رح ،ألن هللا ص99رف عن99ه ش99راً واخت99ار ل99ه م99ا
يصلحه ،ولو لم يدرك الحكمة فلتطمئن نفسه وال يبقى متعلق 9ا ً به99ذا األم99ر ،أو قلق 9ا ً من
أجل99ه ،وبه99ذه الوص99ية النبوي99ة ،ي99درب المس99لم نفس99ه عملي9ا ً على الرض99ا بقض99اء هللا،
والتسليم ألمره ،ويجاهد نفسه على مخالفة هواها ويربيها على االل99تزام ب99أمر هللا ،ألن
في ذلك صالح دنياه وآخرته.1
روى األعمش عن مس99عود رض99ي هللا عن99ه ق99ال :إن العب99د ليهم ب99األمر من التج99ارة
واإلم99ارة ح99تى يتيس99ر ل99ه ،نظ99ر إلي99ه هللا من ف99وق س99بع س99ماوات ،فيق99ول للمالئك99ة:
أصرفوه عنه فإني أن يسرته له أدخلته النار ،قال :فيصرفه هللا عنه ،ق99ال :فيق99ول :من
أين ُدهيت؟ وما هو إال فضل هللا سبحانه.
ول99ذلك ك99ان الرس99ول ص99لى هللا علي99ه وس99لم يهتم كث99يراً ب99دعاء االس99تخارة ليعلم99ه
ألصحابه ،كما يعلمه السورة من القرآن ،وهذا دليل على غاية اإلهتمام به ،والح99رص
عليه 2ومن هو........
الوصية الثالثــة :قال رس99ول هللا ص99لى هللا ىعلي99ه وس99لم" :انظ99روا إلى من ه99و أس99فل
منكم ،وال تنظ99روا إلى من ه99و ف99وقكم فه99و أج99در أن ت99زدروا نعم99ة هللا عليكم .3وفي
رواية البخاري :إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق ،فلينظ99ر إلى من
هو أسفل منه ممن فُضل عليه.4
وفي ه99ذا الح99ديث دواء ل99داء الحس99د والتش99كي من األق99دار ،ف99النفس ال99تي تتطل99ع إلى
بحال من أألح99وال كلم99ا بلغت درج99ة من الغ99نى والج99اه تعودته99ا ٍ اآلخرين لن ترضى
فملتها وتطلعت إلى المزي99د فهي دائم9ا ً في تله99ف إلى ك99ثرة الم99ال وتعل99ق ب99ه وس99خط
وحسرة وإزدراء للنعم ،وجحود للمنعم ،وهذا مص99داق ق99ول الرس99ول ص99لى هللا علي99ه
وس99لم" :ل99و أن البن آدم وادي 9ا ً من ذهب أحب أن يك99ون ل99ه وادي99ان ،ولن يمأل ف99اه إال
التراب ،ويتوب هللا على من تاب.5
فإذا اتبع المسلم هذه الوصية النبوية فإنه سيعرف قدر النعمة ويرضى بما قسم هللا ل99ه،
وين99ال القناع99ة ،ويحظى بالس99عادة ول99و ك99ان مبتلى ب99الفقر أو الم99رض أو المص99ائب
المختلفة ،ألنه إن كان فقيراً ال يملك وفرة من المال فلينظر إلى من ابتلى بالفقر المدقع
والجوع الشديد ،وإن كان مريضا ً يش9كو من بعض اآلالم فلينظ9ر إلى من ابتلي بعاه9ة
أو مرض مزمن خطير ،وهكذا يبقى دائما ً مقدراً للنعمة راضيا ً بما قسم هللا ل99ه ش99اكراً
صابراً ،ولو أخذ المسلمون اليوم به99ذه الوص99ية النبوي99ة لس99عدت أح99والهم ،واس99تقامت
أوضاعهم ،وعرفوا الثمرة الحقيقية لإليمان بالقض99اء والق99در ،وس99ارعوا إلى التن99افس
في التقوى والعم99ل الص99الح والتق99رب إلى هللا عوض9ا ً عن التن99افس على حط99ام ال99دنيا
الزائل.6
نهي الرسول صلى هللا عليه عن الخوض في القدر:
1منهج اإلسالم في تزكية النفس (.)161 / 1
2المصدر نفسه (.)161 / 1
3مسلم ،ك الزهد رقم .2963
4البخاري ،ك الرقاق (.)187 / 7
و
21
ــ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ج99ده ق99ال :خ99رج رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه ولم
ذات يوم والن99اس يتكلم99ون في الق99در ،ق99ال" :وكأنم99ا تفق99أ في وجه99ه حب الرم99ان من
الغضب ،قال :فقال لهم :ما لكم تضربون كتاب هللا بعضه ببعض؟ بهذا هل99ك من ك99ان
قبلكم.1
وعن ثوبان ـ رضي هللا عنه ـ عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال" :إذا ذكر أص99حابي
فامسكوا ،وإذا ذكرت النجوم فامسكوا ،وإذا ذكر القدر فامسكوا.2
ـ ورى أبو هريرة ـ رضي هللا عنه ـ أن النبي صلى هللا عليه وسلم ق99ال للص99حابة لم99ا
تنازعوا في القدر" :عزمت عليكم أن تنازعوا فيه ،3وقد اختلف العلماء في توجيه هذه
األحاديث:
أ ـ فبعضهم رأى ثبوتها ،واس99تدل به99ا على وج99وب الوق99ف على الخ99وض والكالم في
القدر ،وقال :إن هذا أحسن المذاهب لمن آثر الخالص والسالمة.4
ب ـ وبعضهم رد هذه األحاديث ،وقال :إن أسانيدها كله99ا ال تخل99و من مق99ال ،فهي إذن
ضعيفة ال يحتج بها.5
جـ ـ والذي نرجحه أنها ثابتة ،وأقل ما فيها أنها حس99نة ،ألن له99ا طرق9ا ً يق99وي بعض99ها
بعضاً ،وحينئذ فالجواب عنها كما يلي:
ــ إن المنهي عنه إنما هو الخوض فيه99ا بالباط99ل ،وذل99ك ب99الخوض في ك99ل م99ا يتعل99ق
بالقدر ،ومحاولة معرفة وجه الحق فيه عن طريق العقل القاص99ر ،وال ش9ك أن ه9ذا ال
يجوز.
ــ والقدر ركن من أركان اإلسالم ،وقد وردت فيه اآليات واألحاديث عن النبي ص99لى
هللا عليه وسلم ،فكيف يأتي النهي عن الكالم فيه؟ إ ،ه9ذا دلي9ل على أن النهي إنم9ا ه9و
منصب على الخوض فيه على وجه التنازع واالعتراض على هللا ـ تع99الى ـ ال وج99ه
المعرفة الصادقة من األدلة الصحيحة.
ــ وفي األحاديث نفسها ما يدل على ذلك ،أال وهو قوله" :إذا ذكر أصحابي فامس99كوا"
فهل معناه اإلمساك عن ذكر الصحابة وفضائلهم وجهادهم؟ أم أن النهي منص99ب على
شئ معين؟ :وهو اإلمساك عن ذكرهم بالباطل ،وعما شجر بينهم ـ رضوان هللا عليهم
جميعا ً ـ وكذلك يقال في القدر.
ــ والرسول صلى هللا عليه وسلم نهى الصحابة عن التنازع في القدر ،وهذا ح99ق؟ ألن
داع إلى القول فيه بغ99ير الح99ق ،وه99و منهي عن99ه ،وإال
التنازع مظنة االختالف ،وهذا ٍ
فالقدر من أركان اإليمان ،وال بد من معرفة هذا الركن بالتفصيل كما جاء في الكت99اب
والسنة وأقوال السلف ،حتى يتحقق اإليمان ،وحتى يثمر ثماره المرجوة.
ــ وعلماء السلف الذين ذكروا القدر ،وبحثوا فيه ،بل ألفوا رسائل وكتب 9ا ً مس99تقلة ،ه99ل
معناه أنهم خالفوا أمر رسول هللا ص9لى هللا علي9ه وس9لم؟ وإذا ك9انت ت9رد حول9ه بعض
اإلشكاالت ،أال يجب بيان الحق للناس حتى ال يضلوا؟ وحتى ال يكون99وا على بص99يرة
من أمر دينهم؟
1رواه ابن ماجة في المقدمة رقم ،85وحسنه محقق جامع األصول.
2مجمع الزوائد ( ،)202 / 7صححه األلباني في الصحيح الجامع.
3سلسلة األحاديث الصحيحة رقم .34
4القضاء والقدر د .عبد الرحمن المحمود صـ.25
5المصدر نفسه صـ.25
22
ــ أما ما ي9ؤثر عن بعض العلم9اء من أن الق9در س9ر هلل في خلق9ه ،وه9ذا ص9حيح يجب
إدراكه لكل من يبحث في القدر ،لكن ه99ذا محص99ور في الج99انب الخفي من الق99در ،أال
وهو كونه ـ سبحانه وتعالى ـ أضل وهدى ،وأمات وأحيا ،ومن99ع وأعطى ،وقس99م ذل99ك
بين عباده بقدرته ومشيئته النافذة ،فمحاولة معرفة س99ر هللا في ذل99ك ال تج99وز ،ألن هللا
حجب علمها حتى عن أقرب المقربين ،أما جوانب الق99در األخ99رى وحكم99ه العظيم99ة،
ومراتبه ودرجاته وآثاره ،فهذا مما يجوز الخوض في9ه ،وبي99ان الح99ق للن9اس في9ه ،ب99ل
بيانه مما يندب إلي99ه وينبغي ش9رحه وإيض9احه للن9اس ،إذ اإليم99ان بالق9در أح99د أرك9ان
اإليمان التي ينبغي تعلمها ومعرفتها.1
سادساً :في عهد الخلفاء الراشدين:
كان أمر العقائد في عهد الخلفاء الراشدين ـ رضوان هللا عليهم ـ على ما كان عليه في
عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من سالمة العقي9دة ،والتس9ليم هلل ورس9وله في ك9ل
أم9ر وع9دم الج9دال والخ9وض فيم9ا خ9اض في9ه من بع9دهم ،وبالنس9بة لعقي9دة القض9اء
والقدر ،كان موقف الصحابة والتابعين التسليم واإليمان به على الوجه الحق ،كما بينه
لهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ولم يكن يبدر منهم شيء إال كم99ا ب9در من بعض9هم
في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم وسرعان ما يزول االلتباس باإليمان القوي بع99د
البيان واإليضاح ،2ومن أقوال الصحابة في القضاء والقدر:
1ـ قال أبو بكر ــ رضــي هللا عنــه ــ خلق هللا الخل99ق فك99انوا في قبض99ته فق99ال لمن في
يمينه :ادخلوا الجنة بسالم وقال لمن في يده األخرى :ادخل99وا الن99ار وال أب99الي ف99ذهبت
إلى يوم القيامة.3
2ـ ـ خــرج عمــر بن الخطــاب رضــي هللا عنه من المدين99ة إلى الش99ام ومع99ه جمه99ور
المهاجرين واألنص99ار ح99تى ق99دم دمش99ق فوق99ع بالش99ام ط99اعون فخ99اف عم99ر أن يق99دم
بأصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم واستش99ار الص99حابة في ذل99ك ممن مع99ه من
المهاجرين واألنصار ومن كان بالشام فقيهاً ،فاختلفوا عليه حتى جاء عبد ال99رحمن بن
عوف فروى له عن النبي صلى هللا علي99ه وس99لم ":إذا س99معتم ب99أرض ق99وم فال تق99دموا
علي99ه وإذا وق99ع ب99أرض وأنتم به99ا فال تخرج99وا ف99راراً .فحم99د هللا عم99ر ثم انص99رف
فخطبهم على باب الجابية ،4ليقص عليهم ويع9رفهم س9بب انص9رافهم فق9ال في خطبت9ه
كما انزل هللا في كتابه وأمر رسوله استفتاح الخطيب بها :من يضلل هللا فال ه99ادي ل99ه
ومن يهدي فال مضل له ،فقال جاثليق 5النصارى 9:إن هللا ال يضل أحداً مرتين أو ثالثا ً
فأنكر الصحابة ذلك عليه مرتين:
فقال عمر ألصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما يقول؟
قالوا :يا أمير المؤمنين يزعم أن هللا ال يضل أحداً .فقال عمر :كذبت بل هللا خلقك وهللا
أضلك ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء هللا أما وهللا لوال عهد لك لضربت عنقك وتف99رق
الناس وما يختلف في القدر اثنان.6
1القضاء والقدر د .عبد الرحمن المحمود صـ.27
2شرح أصول واعتقاد أهل السنة لاللكائي (.)734 / 4
3القضاء والقدر للمحمود صـ.154
4الجابية قرية من أعمال دمشق.
5جاثليق :لعلها رتبة دينية عند النصارى.
6شرح أصول اعتقاد أهل السنة (.)726 / 4
23
وعن عبد هللا بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه خرج إلى الش99ام ح99تى إذا
كان بَسْرغ 1لقيه أمراء األجناد أبو عبيدة وأصحابه ،ف99أخبروه أن الوب99اء وق99ع بالش99ام.
قال ابن عباس :فقال عمر :ادع المه99اجرين األولين ف99دعاهم فاستش99ارهم ف99أخبرهم أن
الوباء قد وقع في الشام فاختلفوا في األمر ،فقال بعض99هم :خ99رجت ألم99ر وال ن99رى أن
ترجع عنه.
وقال آخرون :إن معك بقية الناس وأصحاب رسول هللا صلى هللا علي99ه وس99لم ال ن99رى
أن تقدمهم على هذا الوباء.
فقال عمر :ارفعوا عني:
ثم قال :ادع األنصار ف99دعوا ـ ف99دعوهم ـ ل99ه ،فاستش99ارهم فس99لكوا س99بيل المه99اجرين
فاختلفوا كاختالفهم.
فقال :ارتفعوا عني
ثم قال :ادع لي من هاهنا من مشيخة قريش من مه99اجرة الفتح ف99دعوا ل99ه فاستش99ارهم
فلم يختلف عليه منهم رجالن قالوا :نرى أن ترجع بالناس وال تقدمهم على هذا الوباء،
فأذن عمر بالناس :إني مص9بح على ظه9ر فأص9بحوا علي9ه .ق9ال أب9و عبي9دة :ي9ا أم9ير
المؤمنين أفراراً من قدر هللا؟ قال :لو غيرك قالها يا أبا عبيدة :نعم نفر من قدر هللا عز
وجل إلى قدر هللا أرأيت لو ك99ان ل99ك إب99ل فهبطت به99ا وادي9ا ً ل99ه ع99دوتان" 2اح99داهما"
خصبة واألخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر هللا؟ وإن رعيت الجدب99ة
رعيتها بقدر هللا؟
قال :فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيب 9ا ً في بعض حاجت99ه فق99ال :إن عن99دي من
هذا علماً ،سمعت رسول هللا صلى هللا علي99ه وس99لم يق99ول ":إذا س99معتم ب99ه ب99أرض فال
تق99دموا علي99ه وإذا وق99ع ب99أرض وأنتم به99ا فال تخرج99وا ف99راراً من99ه ،ق99ال فحم99د هللا ثم
انصرف.3
وقال أبو عثمان النهدي سمعت عمر بن الخطاب ـ وهو يطوف ب99البيت ـ يق99ول :اللهم
إن كنت كتبتني في السعادة فاثبتني فيه99ا وإن كنت كتبت99ني على الش99قوة ف99امحني منه99ا
واثبتني في السعادة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.4
3ـ علي بن أبي طالب رضي هللا عنه:
خطب علي بن أبي طالب فقال :ما يمنعه أن يقوم ـ فيخض99ب ه99ذه من ه99ذا .ق99الوا :ي99ا
أمير المؤمنين أما إذ عرفته فأرنا نبير عترته فقال :أنشد هللا رجالً قتل لي غير قاتلي.
قالوا :فأوصنا قال :أكلكم إلى م99ا وكلكم هللا ورس99وله إلي99ه .ق99الوا :فم99ا تق99ول لرب99ك إذا
قدمت عليه؟ قال :أقول كنت عليهم شهيداً م99ادمت فيهم ح99تى توفيت99ني وهم عب99ادك إن
شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.5
وقال :إن أحدكم لن يخلص اإليمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينا ً غ9ير ظن أن م9ا أص99ابه
لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله .6وق99ال علي بن أبي ط99الب
24
رضي هللا عن99ه :إن الق99در ال ي99رد القض99اء ولكن ال99دعاء ي99رد القض99اء ،1ق99ال هللا لق99وم
ي فِي ْال َحيَ99اةَ الُّ 9د ْنيَا َو َمتَّ ْعنَ99اهُ ْم إِلَى ِحي ٍن" الخْ 9
9ز ِ اب ِ ي99ونس 9":لَ َّمآ آ َمنُْ 9
9وا َك َشْ 9فنَا َع ْنهُ ْم َعَ 9ذ َ
(يونس ،آية .)98 :
4ـ عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه:
قال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه :ال وهللا ال يطعم رجل طعم اإليمان حتى ي99ؤمن
بالقدر ويقر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت.2
وقال رضي هللا عن99ه :أص99دق الح99ديث كت99اب هللا وأحس99ن اله99دي ه99دي محم99د ،وشّ 9ر
األمور محدثاتها ،ف99اتبعوا وال تبت99دعوا ،ف99إن الش99قي في بطن أم99ه والس99عيد من وع99ظ
3
بغيره
5ـ عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما:
عن ابن ط99اووس عن أبي99ه ق99ال :أش99هد لس99معت ابن عب99اس يق99ول :العج99ز والكيس
بقدر4قال ابن عباس :إن هللا عز وجل كان على عرشه قبل أن يخل99ق ش99يئا ً فخل99ق القلم
فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه ،5وقال ابن
عباس :القدر نظام التوحيد فمن وحد هللا ولم ي9ؤمن بالق9در ك9ان كف99ره بالقض9اء نقض9ا ً
للتوحيد ،ومن وحد هللا وآمن بالقدر كان العروة الوثقى ال انفصام لها.6
وعن عطاء بن أبي رباح قال :كنت عند ابن عباس فجاءه رج9ل فق9ال :ي9ا أب99ا العب9اس
أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني الضاللة والردى أال تراه ق9د ظلم9ني؟ ق9ال :إن
الهدى إن كان شيئا ً لك عنده فمنعكاه فق99د ظلم99ك وإن ك99ان ه99و ل99ه يؤتي99ه من يش99اء فلم
يظلمك .قم ال تجالسني .7عن ابن عب99اس ق99ال :ك99ان الهده99د ي99دل س99ليمان على الم99اء،
وقلت له :كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ عليه التراب؟ فقال :أعضك هللا بهن أبيك،
ألم يكن إذا جاء القضاء ذهب البصر.8
6ـ عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما:
عن يحي بن يعمر قال :قلت البن عمر :إنا نسافر فنلقي قوما ً يقولون :ال قدر ،قال :إذا
لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء ،وهم براء ـ ثالث مرات.9
7ـ أبي بن كعب رضي هللا عنه:
عن ابن الديلمي قال :أتيت أبي بن كعب فقلت :أبا المنذر فإن99ه وق99ع في قل99بي ش99ئ من
هذا القدر فحدثني بشئ لعل هللا أن يذهبه عني ،فقال :إن هللا عز وج99ل ل99و ع99ذب أه99ل
سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم ،ولو رحمهم ك99انت رحمت99ه لهم خ99يراً لهم
من أعمالهم ،ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ً في سبيل هللا م99ا قب99ل من99ك ح99تى ت99ؤمن بالق99در،
وتعلم أن ما أص9ابك لم يكن ليخطئ9ك وأن م9ا أخط9أك لم يكن ليص9يبك ،وإن مت على
25
غير ذلك دخلت النار .قال :ثم أتيت ابن مسعود فح99دثني بمث99ل ذل99ك ثم أتيت ابن ث99ابت
فحدثني بمثل ذلك عن النبي صلى هللا عليه وسلم.1
8ـ عبادة بن الصامت رضي هللا عنه:
عن عبادة قال له ابنه عبد الرحمن :يا عب99ادة أوص99ني ،ق99ال :أجلس99وني ،فأجلس99وه ،ثم
قال :يا بني اتق هللا ولن تتق هللا حتى تؤمن بالقدر ولن تؤمن بالقدر حتى تؤمن بالق99در
خيره وشره ،وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ،وما أخطأك لم يكن ليصيبك.2
9ـ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي هللا عنهما:
3
قال الحسن بن علي :قضي القضاء وجف القلم وأمور بقضاء في كتاب قد خال .
10ـ عمرو بن العاص رضي هللا عنه:
قال عمرو بن العاص :انتهى عجبي إلى ثالث :المرء يفر من القدر وهو القيه وي99رى
في عين أخيه القذا فيعيبها ويك99ون في عين99ه مث99ل الج99ذع فال يعيبه99ا ويك99ون في دابت99ه
"الصعر" ويقومها جهده ويكون في نفسه الصعر ،فال يقومها.4
11ـ أبو الدرداء رضي هللا عنه:
قال أبو الدرداء :ذروة اإليمان أربع :الصبر للحكم والرضا بالقدر واإلخالص للتوك99ل
واإلستسالم للرب.5
والب99د هن99ا من البي99ان أن تقس99يم الق99در إلى خ99ير وش99ر ،إنم99ا ه99و بإض99افته إلى الن99اس
والمخلوقات ،أما بالنسبة هلل عز وجل ،فالقدر كله خير وحكمة وع99دل ورحم99ة من هللا
سبحانه الذي قضى بتقدير المصائب والباليا وكل ما يكره99ه اإلنس99ان لحكم كث99يرة من
أبرزها:
ــ االبتالء لعباده :واختبارهم وتمحيص اإليمان في قل9وبهم وزي9ادة درج9اتهم وث9وابهم
إذا صبروا ،قال تعالىَ " :ونَ ْبلُو ُكم 9بِال َّش ِّر َو ْالخَ ي ِْر فِ ْتنَةً َوإِلَ ْينَا تُرْ َجعُونَ " (األنبياء ،آي99ة :
ب النَّاسُ أَن يُ ْت َر ُك99وا أَن ،)35والمقصود بالفتن99ة هن99ا االختب99ار وق99ال س99بحانه" :أَ َح ِسَ 9
صَ 9999دقُوايَقُولُ9999وا آ َمنَّا َوهُ ْم اَل يُ ْفتَنُ9999ونَ * َولَقَْ 9999د فَتَنَّا الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم فَلَيَ ْعلَ َم َّن هَّللا ُ الَّ ِذينَ َ
َولَيَ ْعلَ َم َّن ْال َكا ِذبِينَ " (العنكبوت ،آية 2 :ـ .)3
ــ التربيــة والتــأديب :والج99زاء المعج99ل لكي يث99وب اإلنس99ان إلى رش99ده ،ويرج99ع عن
ق بِ ِهم َّما َك99انُ ْ
وا بِِ 9ه يَ ْس 9تَه ِْز ُؤونَ " َات َم99ا َع ِملُْ 9
9وا َو َح 9ا َ خطئه ،6قال تعالى" :فَأ َ َ
صابَهُ ْم َسيِّئ ُ
(النحل ،آية .)34 :
وعن أنس رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :إذا أراد هللا بعبده
خيراً عجل له العقوبة في الدنيا ،وإذا أراد هللا بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى ي99وافى
به يوم القيامة.7
ما يصيب اإلنسان إن كان يسره فه99و نعم9ة بين99ه ،وإن يس9وؤه فه9و نعم99ة ،ألن99ه يكف9ر
خطاياه ،ويثاب عليه بالصبر ومن جه99ة إن في99ه حكم99ة ورحم99ة ال يعلمه99ا العب99د ،ق99ال
26
َس9ى أَن تُ ِحب ْ
ُّوا َشْ 9يئًا َوهَُ 9و َشٌّ 9ر لكم" تعالى":و َع َسى أَن تَ ْك َرهُ ْ
وا َش ْيئًا َوهُ َو خَ ْيٌ 9ر لَّ ُك ْم َوع َ َ
1
(البقرة ،آية .)216 :وكلتا النعمتين تحتاج م99ع الش99كر إلى ص99بر .والمقص99ود أن هللا
تعالى منعم بهذا كله ،وإن كان ال يظهر في االبتداء ألكثر الناس ،فإن هللا يعلم وأنتم ال
تعلمون.2
ك" (النساء،ك ِمن َسيِّئَ ٍة فَ ِمن نَّ ْف ِس َ صابَكَ ِم ْن َح َسنَ ٍة فَ ِمنَ هّللا ِ َو َما أَ َ
صابَ َ وفي بيان قوله تعالىَّ ":ما أَ َ
آية .)79 :نالحظ :ف ّرق سبحانه وتعالى بين الحس99نات ال99تي هي النعم ،وبين الس99يئات
التي هي المصائب ،فجعل ه99ذه من هللا وه99ذه من نفس اإلنس99ان ،ألن الحس99نة مض99افة
إلى هللا ،إذ هو أحسن به99ا من ك99ل وج99ه ..أم99ا الس99يئة فه99و إنم99ا يخلقه99ا لحكم99ة ،وهي
باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب ال يفعل سيئة قط بل فعله كله حسن وخير.3
27
المبحث الثاني :مراتب القدر:على أربع مراتب:
أوالً :مرتبةـ العلم:
اإليمان بعلم هللا عز وجل المحيط بكل شيء من الموجودات والمع99دومات والممكن9ات
والمستحيالت ،فعلم ما كان وما يكون وم99الم يكن ل99و ك99ان كي99ف يك99ون ،وأن99ه علم م99ا
الخلق عالمون قبل أن يخلقهم ،وعلم أرزاقهم وآج99الهم وأح99والهم وأعم99الهم في جمي99ع
حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن ه99و منهم من أه99ل الجن99ة ومن ه99و منهم
من أهل النار من قبل أن يخلقهم ومن قبل أن يخلق الجنة والنار ،علم دق ذلك وجليل99ه
وكثيره وقليله وظاهره وباطنه وسره وعالنيته ومبدأه ومنتاه ،كل ذلك بعلمه الذي هو
صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة عاّل م الغيوب.1
واألدلة من القرآن الكريم كثيرة منها:
ب الَ يَ ْعلَ ُمهَا إِالَّ هُ َو َويَ ْعلَ ُم َما فِي ْالبَ ِّر َو ْالبَحْ ِر َو َم99ا 1ـ قوله تعالىَ ":و ِعن َدهُ َمفَاتِ ُح ْال َغ ْي ِ
ض َوالَ َر ْ
س إِالَّ فِي ب َوالَ يَ99ابِ ٍ ط ٍ ت األَرْ ِ تَ ْسقُطُ ِمن َو َرقٍَ 9ة إِالَّ يَ ْعلَ ُمهَ99ا َوالَ َحبَّ ٍة فِي ظُلُ َم99ا ِ
ب ُّمبِي ٍن" (األنعام ،آية .)59 : ِكتَا ٍ
ومفاتح الغيب فس99رها رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم بأنه99ا خمس ال يعلمه99ا إال هللا
ْث َويَ ْعلَ ُم َم99ا فِي 9ز ُل ْال َغي َ
الس9ا َع ِة َويُنَِّ 9وهي المذكورة في قوله تعالى ":إِ َّن هَّللا َ ِعنَ 9دهُ ِع ْل ُم َّ
وت إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم
ض تَ ُم ُ ي أَرْ ٍ اأْل َرْ َح ِام َو َما تَ ْد ِري نَ ْفسٌ َّما َذا تَ ْك ِسبُ َغدًا َو َما تَ ْد ِري نَ ْفسٌ بِأ َ ِّ
خَ بِيرٌ" (لقمان ،آية .)34 :
واآلية دلت على أن هللا ـ س99بحانه وتع99الى ـ محي99ط علم99ه بجمي99ع الموج99ودات بريه99ا
وبحريها وما تسقط من ورقة إال يعلمه99ا فه99و يعلم حرك99ة الجم99ادات ،ومن ب99اب أولى
غيرها من الحيوانات وبني اإلنسان المكلفين ،2وقد أحاط علمه ـ سبحانه وتعالى ـ بكل
حبة كائنة في ظلمات األرض من األمكن99ة المظلم99ة أو النب99ات ال99ذي في بطن األرض
قبل أن يظهر. 3
الش 9هَا َد ِة" (الحش99ر ،آي99ة : ب َو َّ 2ـ وقوله تعالى ":هُ َو هَّللا ُ الَّ ِذي اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو َع99الِ ُم ْال َغ ْي ِ
)22أي :السر والعالنية ،أو الدنيا واآلخرة ،أو المعدوم والموجود.4
3ـ وقال تعالى ":لِتَ ْعلَ ُموا أَ َّن هَّللا َ َعلَى ُك99لِّ َشْ 9ي ٍء قَِ 9دي ٌر َوأَ َّن هَّللا َ قَْ 9د أَ َح 9اطَ بِ ُك99لِّ َشْ 9ي ٍء
ِع ْل ًما" (الطالق ،آية ،)12 :فال يخرج عن علمه شيء منها كائن9ا ً م99ا ك99ان ،5فإحاطت99ه
سبحانه بكل شيء علما ً يدل على ثبوت صفة العلم هلل المتصف به أزالً والش99امل لك99ل
شيء.6
4ـ وقال تعالى ":إِنَّ َما إِلَهُ ُك ُم هَّللا ُ الَّ ِذي اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو َو ِس َع ُك َّل َش ْي ٍء ِع ْل ًما" (ط99ه ،آي99ة :
.)98
28
فبعد أن أحرق موسى ـ عليه السالم ـ العجل ،ونسفه في البح99ر ،فبط99ل أن يك99ون إله 9ا ً
كما زعموا ،فلما فعل ذلك وت99بين لهم بطالن99ه ،أخ99برهم بمن يس99تحق العب99ادة وه99و هللا
سبحانه وتعالى ،المتوحد باأللوهية ،والذي قد أحاط علمه بجميع األشياء.1
ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِتَا ُل َوهُ َو ُكرْ هٌ لَّ ُك ْم َو َع َسى أَن تَ ْك َرهُ ْ
وا َش ْيئًا َوهُ َو خَ ْي ٌ 9ر 5ـ وقال تعالىُ ":كتِ َ
ُّوا َش ْ 9يئًا َوهُ َ 9و َش 9رٌّ لَّ ُك ْم َوهّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَنتُ ْم الَتَ ْعلَ ُم99ونَ " (البق99رة ،آي99ة :
َس 9ى أَن تُ ِحب ْ
لَّ ُك ْم َوع َ
.)216فعواقب األمور ال يعلمها إال هللا.2
6ـــ وقــال تعــالى :مجيب99ا ً المالئك99ة ـ بع99د اخب99ارهم أن99ه جاع99ل في األرض خليف99ة
واستفهامهم ـ قال تعالى ":إِنِّي أَ ْعلَ ُم َما الَ تَ ْعلَ ُمونَ " (البقرة ،آية )30 :أي :أنه س99يكون
في تلك الخليقة أنبياء ،ورس99ل ،وق99وم ص99الحون ،وس99اكنو الجنة ،3فعلم99ه محي99ط بك99ل
شيء.
29
كانوا عاملين "1بالنسبة ألوالد المشركين والمسلمين ،ومعنى ذلك أنهم لو عاش99وا ف99إن
هللا عالم بأعمالهم خيرها وشرها ،فاهلل يعلم ما كان ،ومالم يكن لو كان كيف يكون.2
3ـ وعن علي ـ رضي هللا عنه ـ قال :كان رسول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم ذات ي99وم
جالساً ،وفي يده عود ينكت به ،فرفع رأسه فقال :ما منكم من نفس إال وقد ُعلم منزله99ا
من الجنة والنار .قالوا :يا رسول هللا ،فلم نعمل؟ أفال نتكل؟ قال :ال ،اعملوا فكل ميسر
ق بِ ْال ُح ْسنَى ،"3إلى قوله " فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لما خلق له ثم قرأ " فَأ َ َّما َمن أَ ْعطَى َواتَّقَى * َو َ
ص َّد َ
لِ ْل ُعس َْرى" (الليل ،آية 5 :ـ ،)10والشاهد قوله ":ما منكم من نفس إال وقد علم منزلها
من الجنة والنار" فاهلل علم أه9ل الجن9ة وأه9ل الن9ار بعلم9ه الق9ديم ،فالح9ديث ي9دل على
ثبوت العلم الكامل هلل تعالى.4
4ـ وعن عائشة أم المؤمنينـ أن نبي هللا صلى هللا عليه وسلم قال :اللهم رب جبرائيل
وميكائيل وإسرافيل ،ف99اطر الس99ماوات واألرض ع99الم الغيب والش99هادة أنت تحكم بين
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ،أهدني لما اختلف فيه من الح99ق بإذن99ك إن99ك ته99دي من
تشاءإلى صراط مستقيم.5
5ـ وقال صلى هللا عليه وسلم :بسم هللا الذي ال يضر مع اسمه ش99يء في األرض وال
في السماء وهو السميع العليم ،6فأس99م هللا "العليم" 9يقتض99ي أن99ه س99بحانه ع99الم ب99أرزاق
العباد وآجالهم وأعم99الهم وجمي99ع حرك99اتهم وس99كناتهم والش99قي منهم والس99عيد قب99ل أن
يخلقهم.7
ثانياً :مرتبة الكتابة:
وهي أن هللا تعالى ـ كتب مقادير المخلوقات ،والمقصود 9بهذه الكتابة الكتابة في الل99وح
المحفوظ ،وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه هللا من ش99يء ،فك99ل م99ا ج99رى ويج99ري فه99و
مكتوب عند هللا وأدلة هذه المرتبة كثيرة نذكر منها:
ب ِمن َشْ 9ي ٍء ثُ َّم إِلَى َربِّ ِه ْم يُحْ َش9رُونَ " (األنع9ام، َّطنَ9ا فِي ال ِكتَ9ا ِ 1ـ قولــه تعــالىَّ ":ما فَر ْ
آية ،)38 :على أحد الوجهين ،وهو أن المقص99ود بالكت99اب هن99ا الل99وح المحف99وظ ،فاهلل
أثبت فيه جميع الحوادث ،فكل ما يجري مكتوب عند هللا في اللوح المحفوظ.8
ي ض يَ ِرثُهَ99ا ِعبَ99ا ِد َ 9ور ِمن بَ ْعِ 9د الِّ 9ذ ْك ِر أَ َّن اأْل َرْ َ
2ــ وقــال تعــالىَ ":ولَقَ ْد َكتَ ْبنَ99ا فِي ال َّزبُِ 9
الصَّالِحُونَ " (األنبياء ،آية .)105 :فأخبر ـ تعالى ـ أن هذا مكتوب مسطور في الكتب
الشرعية والقدرية فهو كائن ال محالة .9واآلية دال99ة على مرتب9ة الكتاب99ة عن99د من فس99ر
الزبور بالكتب بعد الذكر ،والذكر أ ُّم الكتاب عند هللا ،وهو اللوح المحفوظ.10
ق لَ َم َّسُ 9ك ْم فِي َم99ا أَ َخْ 9ذتُ ْم
3ـ وقال تعالى في قص99ة أس99رى ب99در ":لَّوْ الَ ِكتَ99ابٌ ِّمنَ هّللا ِ َس9بَ َ
َع َذابٌ َع ِظي ٌم" (األنفال ،آية ،)68 :أي :لوال كتاب سبق به القضاء عند هللا أنه قد أحل
30
لكم الغنائم وأن هللا رفع عن أمة محمد ص99لى هللا علي99ه وس99لم لمس99كم الع99ذاب ،1فاآلي99ة
دليل على الكتاب السابق.2
ب إِ َّنك فِي ِكتَ9ا ٍ السَ 9ماء َواأْل َرْ ِ
ض إِ َّن َذلَِ 9 4ـ وقال تعــالى ":أَلَ ْم تَ ْعلَ ْم أَ َّن هَّللا َ يَ ْعلَ ُم َم9ا فِي َّ
ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِسيرٌ" (الحج ،آية .)70 :وهذه اآلية من أوضح األدلة الدالة ،على علمه َذلِ َ
المحيط بكل ش99يء ،وأن99ه علم الكائن99ات كله99ا قب99ل وجوده99ا ،وكتب هللا ذل99ك في كتاب99ه
اللوح المحفوظ ،3فاآلية جمعت بين المرتبتين.4
ب ُّمبِي ٍن" (النمل ،آي99ة ض إِاَّل فِي ِكتَا ٍ 5ـ وقال تعالىَ ":و َما ِم ْن غَائِبَ ٍة فِي ال َّس َماء َواأْل َرْ ِ
،)75 :أي :خفية أو سر من أسرار الع99الم العل99وي والس99فلي ،إال في كت99اب م99بين ،ق99د
أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تق99وم الس99اعة ،فم99ا من ح99ادث جلي أو
خفي ،إال هو مطابق لما كتب في اللوح المحف99وظ ،5فاآلي99ة دلي99ل على الكتاب99ة الس99ابقة
لكل ما سيقع.
9ون فِي َش9أْ ٍن َو َم9ا 6ـ وقال تعالى في آية جمعت بين مرتب99تي العلم والكتاب99ةَ ":و َم99ا تَ ُك ُ
يض9ونَ ِفيِ 9ه َو َم99ا تَ ْتلُو ِم ْنه ِمن قُرْ آ ٍن َوالَ تَ ْع َملُ99ونَ ِم ْن َع َمٍ 9ل إِالَّ ُكنَّا َعلَ ْي ُك ْم ُش9هُودًا إِ ْذ تُفِ ُ
ك َوال صَ 9غ َر ِمن َذلَِ 9السَ 9ماء َوالَ أَ ْ ض َوالَ فِي َّ 9ال َذ َّر ٍة فِي األَرْ ِ ك ِمن ِّم ْثقَِ 9 يَ ْعُ 9زبُ عَن َّربِّ َ
ين" (يونس ،آية َ ،)61 :و َما يَ ْع ُزبُ عَن َّربِّكَ" أي :م99ا يغيب عن ب ُّمبِ ٍ أَ ْكبَ َر إِالَّ فِي ِكتَا ٍ
علمه وبصره وسمعه ومشاهدته أي شيء ،حتى مثاقيل الذر ،بل هو ما أص99غر منه99ا،
ب" :مرتب99ة الكتاب99ة ،وكث99يراً م99ا يق99رن هللا ـ وه99ذه مرتب99ة العلم ،وقول99ه":إِالَّ فِي ِكتَ99ا ٍ
سبحانه وتعالى ـ بين هاتين المرتبتين.6
9ام ُمبِي ٍن" (يس ،آي9ة ،)12 :أي :جمي9ع صْ 9ينَاهُ فِي إِ َم ٍ 7ـ قــال تعــالىَ ":و ُكَّ 9ل َشْ 9ي ٍء أحْ َ
الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في ل9وح محف9وظ ،واإلم99ام الم99بين هَهُن99ا:
هو أم الكتاب.7
ير ُم ْس 9تَطَرٌ" (القم99ر، ير َو َكبِ ٍص ِغ ٍالزب ُِر * َو ُكلُّ َ 8ـ وقال تعالىَ ":و ُكلُّ َش ْي ٍء فَ َعلُوهُ فِي ُّ
آي9ة 52 :ـ ،)53أي :مكت9وب عليهم في الكتب ال9تي بأي9دي المالئك9ة عليهم الس9الم "
9ير" أي :من أعم99الهم " ُم ْس9تَطَرٌ" أي :مجم99وع عليهم ،ومس99طر في ير َو َكبٍِ 9 َو ُكلُّ َ
صِ 9غ ٍ
8
صحائفهم ،ال يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها .
ْ ُ ْ
9ـ وقال تعالى عن موسى حين قال له فرعون ":فَ َما بَا ُل القُرُو ِن اأْل ولَى * قا َل ِعل ُمهَا
ضلُّ َربِّي َواَل يَن َسى" (طه ،آية 51 :ـ .)52 ب اَّل يَ ِ ِعن َد َربِّي فِي ِكتَا ٍ
إن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وق ّدر وه99دى،
شرع يحتج بالقرون األولى ،أي :الذين لم يعبدوا هللا ،أي :فما بالهم إذا كان األمر كم99ا
تقول لم يعبدوه بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك :هم وإن لم يعبدوه ف99إن
عَملَه ُم عند هللا مضبوط عليهم ،وسيجزيهم بعملهم في كتاب هللا وه99و الل99وح المحف99وظ
ضلُّ َربِّي َواَل يَن َسى" أي :ال يشذ عن99ه ش99يء وال يفوت99ه ص99غير وكتاب األعمال " اَّل يَ ِ
1تفسير السعدي (.)191 /3
2تفسير ابن كثير ( ،)448 /5تفسير النسفي (.)389 /3
3تفسير ابن كثير ( ،)448 /5تفسير النسفي (.)389 /3
4القضاء والقدر صـ .60
5تفسير السعدي (.)598 /5
6تفسير السعدي (.)366 / 3
7صحيح تفسير ابن كثير (.)654 / 3
8المصدر نفسه (.)335 / 4
31
وال كبير وال ينسى شيئاً ،يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط ،وأنه ال ينسى شيئا ً
تبارك وتعالى وتق ّدس وت99نزه ،ف99إن علم المخلوق99ات يعتري99ه نقص99انان ،أح99دهما :ع99دم
اإلحاطة بالشيء ،واآلخر :نسيانه بعد علمه ،فنزه نفسه عن ذلك.1
10ـ وقال تعالىَ ":و َما تَحْ ِم ُل ِم ْن أُنثَى َواَل ت َ
َض ُ 9ع إِاَّل بِ ِع ْل ِمِ 9ه َو َم99ا يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل
ب إِ َّن َذلِكَ َعلَى هَّللا ِ يَ ِسيرٌ" (فاطر ،آية .)11 : يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل فِي ِكتَا ٍ
ـ األدلة من السنة:
1ـ قال عبد هللا بن عمرو بن العاص ،ـ رضي هللا عنهما ـ س99معت رس99ول هللا ص99لى
هللا علي99ه وس99لم يق99ول :كتب هللا مق99ادير الخالئ99ق قب99ل أن يخل99ق الس99موات واألرض
بخمسين ألف سنة ،قال :وكان عرشه على الماء ،2فالدليل من الح99ديث قول99ه :كتب هللا
مق99ادير الخالئ99ق قب99ل أن يخل99ق الس99موات واألرض ،ف99المراد تحدي99د وقت الكتاب99ة في
اللوح المحفوظ أو غيره ،ال أصل التقدير فإن ذل99ك أزلي ال أول ل99ه وقول99ه ":وعرش99ه
على الماء" أي :قبل خلق السموات واألرض.3
2ـ وعن عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهمــا أنه :ركب خل99ف رس99ول هللا ص99لى هللا
عليه وسلم يوما ً فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم :ي99ا غالم إنّي معلم99ك كلم99ات
بهن :احفظ هللا يحفظك ،احفظ هللا تجده تجاه99ك ،وإذا س99ألت فس99أل هللا ،وإذا ينفعك هللا ّ
أن األمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إال بشيء استعنت فاستعن باهلل ،وأعلم ّ
قد كتب99ه هللا ل99ك ،ول99و اجتمع99وا على أن يض99روك لم يض9رّوك إال بش99يء ق9د كتب99ه هللا
عليك ،رفعت األقالم وجفت الصحف.4
3ـ ومن األحاديث المشهورة حديث :أول ما خل9ق هللا القلم وفي9ه :أن هللا أم9ره بكتاب9ة
ما هو كائن إلى يوم القيامة ،فعن أبي حفصة قال :قال عبادة بن الصامت ألبنه :يا بني
إنك لن تجد طعم حقيقة اإليمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ،وم99ا أخط99أك
لم يكن ليصيبك ،سمعت رسول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم يق99ول :إن أول م99ا خل99ق هللا
القلم ،فقال له :اكتب ،قال :رب وماذا أكتب؟ قال :اكتب مق9ادير ك9ل ش9يء ح9تى تق9وم
الساعة ،يا بني سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول :من م9ات على غ9ير ه9ذا
فليس مني ،5فالرواية فيها دليل على مرتب99ة الكتاب99ة حيث أم99ر هللا القلم بكتاب99ة م99ا ه99و
كائن إلى يوم القيامة.6
ثالثاً :مرتبة اإلرادة والمشيئة:ـ
إن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمش99يئة هللا ،س99بحانه وتع99الى ،فم99ا ش99اء هللا ك99ان،
وما لم يشأ لم يكن ،فال يخرج عن إرادته الكونية شيء ومن األدلة في القرآن الكريم:
ون" (يس ،آية .)82 : 1ـ قال تعالى ":إِنَّ َما أَ ْم ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد َش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ
أي :إنما يأمر بالشيء ،أمراً واحداً ال يحتاج إلى تكرار
إذا ما أراد هللا أمراً فإنما
1صحيح تفسير ابن كثير (.)115 / 3
2مسلم ،ك القدر رقم .2653
3شرح النووي على صحيح مسلم (.)203 /16
4سنن الترمزي ( )667 /4رقم 2516حسن صحيح.
5سنن أبي داد ،ك السنة ،باب في القدر رقم .4700
6القضاء والقدر ،امحمود صـ.65
32
1
يقول له "كن" قولة فيكون
2ـ وقد ورد في القرآن الكريم ـ في الحديث عن بعض األنبياء وغيرهم ـ تعليقهم ك99ل
أمر بمشيئة هللا ـ سبحانه وتعالى ـ
أ ـ ـ فنــوح عليــه الصــالة والســالم ،لم99ا ق99ال ل99ه قوم99ه ":فَأْتَنِ99ا بِ َم99ا تَ ِعُ 9دنَا إِن ُكنتَ ِمنَ
ال إِنَّ َما يَأْتِي ُكم بِ ِه هّللا ُ إِن َشاء َو َما أَنتُم بِ ُم ْع ِج ِزينَ " (هود ،آية .)33 ،32 : الصَّا ِدقِينَ * قَ َ
ب ـ وشعيب عليه السالم ـ بع99د ـ م99ا طلب من99ه قوم99ه أن يع99ود إلى ملتهم بين أن99ه ال
يمكن أن يعود إلى ملتهم بعد أن نجاه هللا منها هو والمؤمنون مع99ه وال ينبغي لهم ذل99ك
إال إذا شاء هللا ذلك فقال ":قَ ِد ا ْفت ََر ْينَا َعلَى هّللا ِ َك ِذبًا إِ ْن ُع ْدنَا فِي ِملَّتِ ُكم بَ ْعَ 9د إِ ْذ نَجَّانَ99ا هّللا ُ
ون لَنَ99ا أَن نَّ ُع99و َد فِيهَ9ا إِالَّ أَن يَ َش9اء هّللا ُ َربُّنَ9ا َو ِسَ 9ع َربُّنَ99ا ُكَّ 9ل َشْ 9ي ٍء ِع ْل ًم9ا" ِم ْنهَا َو َما يَ ُك ُ
(األعراف ،آية ،)89 :فعلق أعظم شيء وهو اإليمان والكفر على مشيئة هللا.
صَ 9ر إِن َش9اء هّللا ُ جـ ـ ويوسف عليه السالم ،قال ألهله بع99د أن ألتقى بهم ":ا ْد ُخلُْ 9
9وا ِم ْ
آ ِمنِينَ " (يوسف ،آية .)99 :
ص 9ابِرًا َواَل هَّللا
ال َستَ ِج ُدنِي إِن َش 9اء ُ َ س ـ وقال موسى عليه السالم ـ للعبد الصالح "قَ َ
ك أَ ْمرًا" (الكهف ،آية .)69 : صي ل َ َ أَ ْع ِ
ك َغدًا * إِاَّل ك ـ وهللا سبحانه وتعالى وجه نبيه قائالًَ ":واَل تَقُولَ َّن لِ َش ْي ٍء إِنِّي فَا ِع ٌل َذلِ َ
ك إِ َذا نَ ِسيتَ " (الكهف ،آية .)24 ،23 : أَن يَ َشاء هَّللا ُ َو ْاذ ُكر َّربَّ َ
فه99ذه اآلي99ات ت99دل على اس99تقرار عقي99دة المس99لمين ويقينهم به99ذه المرتب99ة من م99راتب
القدر.2
ع ْال ُم ْل99كَ ِم َّمن ت ََش9اء ك َمن ت ََش9اء َوتَِ 9
9نز ُ ك تُ ْؤتِي ْال ُم ْل َ
3ـ قال تعالى ":قُ ِل اللَّهُ َّم َمالِكَ ْال ُم ْل ِ
َوتُ ِع ُّز َمن تَ َشاء َوتُ ِذلُّ َمن تَ َشاء بِيَ ِدكَ ْالخَ ْي ُر إِنَّكَ َعلَ َى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِديرٌ" (آل عمران ،آي99ة
،)26 :أي :أنت المعطي وأنت المانع ،وأنت الذي ما شئت كان وما لم يشأ لم يكن.3
ُصِّ 9و ُر ُك ْم فِـي األَرْ َحِ 9ام َك ْيـفَ يَ َشـاء الَ إِلَـهَ إِالَّ هُ َ
ــو 4ــ قـــال تعــالى ":هُـ َو الَّ ِذي ي َ
ـزي ُز ْال َح ِكي ُم" (آل عمـران ،آية ،)6 :أي وهــو ال99ذي يص99ور الخل99ق فـي األرح99ام ْال َع ِ
كي99ف يش99اء ذك99وراً وإناث 9اً ،أش99قياء وس99عداء مختلفين في ص99فاتهم وأش99كالهم ،حس99نا ً
وقبحا ً.4
9ر ْد أَن ي ِ
ُض9لَّهُ إل ْس9الَ ِم َو َمن يُِ 9
صْ 9د َرهُ لِ ِ 5ـ قال تعــالى ":فَ َمن ي ُِر ِد هّللا ُ أَن يَ ْه ِديَ9هُ يَ ْشَ 9رحْ َ
السَ 9ماء" (األنع99ام ،آي99ة ،)125 :أي: صَّ 9ع ُد فِي َّ ض9يِّقًا َح َر ًج99ا َكأَنَّ َم99ا يَ َّصْ 9د َرهُ َ
يَجْ َع99لْ َ
9ر ْد أَن
ييسره له وينشطه ويس9هله ل9ذلك ،ويوس9ع قلب99ه للتوحي99د واإليم9ان ب9ه " َو َمن يُِ 9
ُضلَّهُ" أي يجعل صدره ضيقاً ،ال يتس99ع لش99يء من اله99دى وال يخلص إلي99ه ش99يء م99ا ي ِ
5
ينفعه من اإليمان وال ينفذ فيه .
33
ق ْالقَ99وْ ُل ِمنِّي أَل َ ْمأَل َ َّن َجهَنَّ َم 6ـ وقال تعالىَ ":ولَوْ ِش ْئنَا آَل تَ ْينَا ُكَّ 9ل نَ ْف ٍ
س هُ9دَاهَا َولَ ِك ْن َحَّ 9
اس أَجْ َم ِعينَ " (السجدة ،آية .)13 : ِمنَ ْال ِجنَّ ِة َوالنَّ ِ
7ـ وقال تعالىَ ":ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َج َم َعهُ ْم َعلَى ْالهُدَى" (األنعام ،آية .)35 :
اس أُ َّمةً َوا ِح َدةً" (هود ،آية .)118 : ك لَ َج َع َل النَّ َ
8ـ وقال تعالىَ ":ولَوْ َشاء َربُّ َ
9ـ قوله تعالى ـ في معرض الح99ديث عن أه99ل الكت99اب ،ونهي الن99بي ص99لى هللا علي99ه
وسلم على أن يتبع أهواءهم ،وأم99ره أن يل99تزم الحكم بم99ا أن99زل هللا ،مبين9ا ً أن لك99ل من
األمم الثالثة :اليهود والنص99ارى ،وأم99ة محم99د ،ش99ريعة ومنهاج9ا ً في ك99ل من الت99وراة
واإلنجيل والقرآن "،وقد نسخ القرآن ما قبله" قال بعد ذلكَ ":ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َج َعلَ ُك ْم أُ َّمةً
9و ُك ْم فِي َم99آ آتَ99ا ُكم " (المائ99دة ،آي99ة ،)48 :أي :لجعلكم على ش99ريعة احَ 9دةً َولَـ ِكن لِّيَ ْبلَُ 9
َو ِ
واح99دة ،وكت99اب واح99د ،ورس99ول واح99د ،لكن لم99ا لم يش99أ هللا ذل99ك ،ب99ل ش99اء األبتالء
واالختبار ،فكنتم على الحالة التي أنتم عليها ،1فمشيئة هللا مطلقة ،والنافذ هو ما يش99اؤه
ـ سبحانه وتعالى ـ فهذا دليل على مرتبة المشيئة.2
ـ أدلة هذه المرتبةـ من السنة:
1ـ عن أبي موسى األشعري ـ رضي هللا عنه ـ قال :ك99ان رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه
وسلم إذا جاءه الس99ائل أو طلبت إلي99ه حاج99ة ق99ال :اش99فعوا ت99ؤجروا ،ويقض99ي هللا على
لسان نبيه صلى هللا عليه وسلم م99ا ش99اء .3فأوص99ى بالش99فاعة وذل99ك فيم99ا ليس بمج99رم
وضابطها :ما أذن في الشرع دون م99ا لم ي99أذن فيه ،4ثم بين أن هللا يقض99ي على لس99ان
رسوله ما شاء ،أي :يظهر على لسان رسوله بالوحي أو اإللهام ما قدره في علمه بأنه
سيقع ،5فهذا يدل على مرتبة المشيئة.
2ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :من يرد هللا به خيراً يفقه99ه في ال99دين ،وإنم99ا
أنا قاسم وهللا يعطي ،ولن تزال هذه األم99ة قائم99ة على أم99ر هللا ال يض99رهم من خ99الفهم
حتى يأتي أمر هللا ،6فقوله :من ي99رد هللا ب99ه خ99يراً يفقه99ه في ال99دين ،في99ه إثب99ات مرتب99ة
اإلرادة ،وأن األمور كلها تجري بمشيئة هللا تعالى ـ ولهذا ق99ال ص99لى هللا علي99ه وس99لم:
وإنما أنا قاسم وهللا يعطي ،أي :إنما اقسم ما أم99رني هللا بقس99مته ،والمعطي حقيق99ة ه99و
هللا ـ تع99الى ـ ف99األمور كله99ا بتق99دير هللا تع99الى ،واإلنس99ان مص99رف مرب99وب ،ومن
األحاديث الدالة على اإلرادة حديث حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب رس99ول هللا ص9لى
هللا عليه وسلم ،رف9ع الح9ديث إلى رس9ول هللا ص9لى هللا علي9ه وس9لم :إن ملك9ا ً م9وكالً
بالرحم ،إذا اراد هللا أن يخلق شيئا ً بإذن هللا لبضع وأربعين ليل99ة ...الح99ديث .7فاهلل ه99و
المريد الخلق اآلدمي ،واألحاديث الدالة على مرتبة المشيئة واإلرادة كثيرة جداً.8
3ـ وعن ابن عباس ـ رضي هللا عنهما ـ أن رجالً قال للنبي صلى هللا عليه وسلم :م99ا
شاء هللا وشئت ،وقال النبي صلى هللا عليه وسلم :أجعلتني وهللا عدالً ،ب99ل م99ا ش99اء هللا
34
وحده ،1والحديث واضح الداللة على إثبات مرتبة المشيئة ،وأن هللا تعالى ل99ه المش99يئة
المطلقة ،وأن للعباد مشيئة خاضعة لمشيئة هللا ـ تعالى ـ ،والنهي في الح99ديث إنم99ا ه99و
عن قرن مشيئة هللا بمشيئة الرسول صلى هللا عليه وس99لم ،حيث عطفه99ا ب99الواو وال99تي
هي لمطلق الجميع من غير ترتيب وال تعقيب ،والرسول مثل غيره من العب99اد ،فالك99ل
خاضعون لمشيئة هللا ،ومشيئتهم تابعة لمشيئة هللا.2
4ـ وعن أبي هريرة ـ رضي هللا عنه ـ أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال :ال يقل
أحدكم :اللهم اغفر لي إن شئت أرحمني إن شئت ،أرزق99ني إن ش99ئت ،وليع99زم مس99ئلته
أنه يفعل ما يشاء ال مكره له.3
ففيه إثبات المشيئة هلل ـ تعالى ـ فهو الغفور الرحيم ،وال99رازق إذا ش99اء ،وه99و س99بحانه
يفعل ما يشاء ،ال مكره له ،والحديث فيه الحث على الع99زم في المس9ألة والج99زم فيه99ا،
دون ضعف أو تعليق على المشيئة ،وإنما نهى عن التعليق على المشيئة ألنه ال يتحقق
استعمال المشيئة إال في حق من يتوجه إلى اإلكراه ،وهللا ـ سبحانه وتعالى ـ ال مك99ره
له ،كما نص عليه الرسول صلى هللا عليه وسلم هنا.4
5ـ وعن عبد هللا بن عمرو بن العاص ـ رضي هللا عنهما ـ أنه سمع رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم يقول :إن قلوب بني آدم كله99ا بين أص99بعين من أص99ابع ال99رحمن ،كقلب
واح99د يص99رفه حيث يش99اء ،ثم ق99ال رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم :اللهم مص99رف
القلوب صرف قلوبنا على طاعتك .5والشاهد قوله" :كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"،
ومعناه أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده كلهم ،فيهدي ويض99ل كم99ا يش99اء،
ففيه داللة على مرتبة المشيئة.6
6ـ وقد أقر النبي صلى هللا علي99ه وس99لم علي بن أبي ط99الب ـ رض99ي هللا عن99ه ـ حين
أجابه بعد سؤاله له هو وفاطمة بقوله" :أال تصليان؟" فأجابه بقوله :أنفسنا بيد هللا ف99إذا
شاء أن يبعثنا بعثنا ،قال علي :فانص99رف حين قلت ل99ه ذل99ك ،ولم يرج99ع إلي ش99يئاً ،ثم
ان أَ ْكثَ َر َش ْي ٍء َج َداًل ".7
سمعته وهو ُم َو ِّل يضرب فخذه وهو يقولَ " :و َكانَ اإْل ِ ن َس ُ
ففي هذا الحديث إثبات لمشيئة هللا ـ تعالى ـ وأن العبد ال يفعل شيئا ً إال ب99إرادة هللا وأم99ا
انصراف النبي صلى هللا عليه وس9لم وض9ربه فخ9ذه ،واستش9هاده باآلي9ة ،فمعن9اه :أن9ه
تعجب من س99رعة من جواب99ه وع99دم موافقت99ه ل99ه على االعت99ذار به99ذا ،وله99ذا ض99رب
فخذه.8
7ـ كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا رف99ع رأس99ه من الرك99وع يق99ول :ربن99ا ل99ك
الحمد ملء السماوات واألرض وملء ما شئت من شئ بعد ،أهل الثناء والمجد ،أح99ق
ما قال العبد ،وكلنا لك عبد ،اللهم ال مانع لما أعطيت وال معطي لم99ا منعت ،وال ينف99ع
ذا الجد منك الجد.9
35
وهذا تحقيق لوحدانيته لتوحيد الربوبية خلقا ً وقدراً وبداية وهداية هو المعطي المانع ال
مانع لما أعطى وال معطي لما من99ع ولتوحي99د اإللهي99ة ش99رعا ً وأم99راً ونهي9ا ً .1وفي ه99ذا
الح99ديث :في99ه من التف99ويض إلى هللا تع99الى واإلذع99ان ل99ه واالع99تراف بوحدانيت99ه
والتصريح بأنه ال حول وال قوة إال به وأن الخير والشر منه والحث على الزه99ادة في
الدنيا واإلقبال على األعمال الصالحة.2
8ـ وقــال رســول هللا صــلى هللا عليــه وســلم :المؤمن الق99وي خ99ير وأحب إلى هللا من
المؤمن الضعيف وفي ك ٍل خير ،احرص على ما ينفعك واس99تعن باهلل وال تعج99ز ،وإن
أصابك شئ فال تقل :لو أني فعلت كان كذا وكذا ،ولكن قل :قدر هللا وما شاء فعل ،فإن
لو تفتح عمل الشيطان.3
ففي الحديث حث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على اإليمان بمقادير هللا وبمشيئة هللا
وإرجاع ما يقع للعبد إلى مشيئة هللا" :وما شاء فعل" فيه إثبات المشيئة هلل تعالى.4
9ـ وعن ابن عباس رضــي هللا نهما أن رس9ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم دخ9ل على
أعرابي يعوده فقال :ال بأس عليك طهور إن شاء هللا ،قال األعرابي :طه99ور ،ب99ل هي
هي حمى تفور على شيخ كبير ،تُزيره القبور ،ق99ال الن99بي ص99لى هللا علي وس99لم :فنعم
إذاً.5
وهذا الحديث استدل به البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد علي إثب99ات مش99يئة هللا
ع99ز وج99ل ،كم99ا ه99و واض99ح في تخ99ريج الح99ديث ،حيث بّ 9وب ل99ه ب99اب :في المش99يئة
واإلرادة.
والشاهد منه قوله صلى هللا عليه وسلم :إن ش99اء هللا .فجع99ل ك99ون ه99ذا الم99رض ال99ذي
أصيب به المريض طهوراً من ذنوبه ومكفراً لها مقيداً بمشيئة هللا تعالى وف99وض ذل99ك
6
فإن شاء هللا تعالى جعله كفارة وطهوراً فهو يفعل ما يشاء وهو على كل شئ قدير.
10ـ وفيما يقال عند دخول القبور ما ورد عن عائشة أنها قالت كان رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يخرج من آخر الليل
قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء إلى البقيع :السالم عليكم دار ٍ
7
هللا بكم الحقون اللهم اغفر ألهل بقيع الغرقد .
واألحاديث الدالة على مرتبة المشيئة واإلرادة كثيرة جداً.
رابعاً :مرتبة الخلق :وهو اإليمان بأن هللا سبحانه وتعالى خالق ك99ل ش99ئ ،فه99و خ99الق
ك9ل عام99ل وعمل9ه ،وك9ل متح9رك وحركت99ه ،وك99ل س9اكن وس99كونه ،وم99ا من ذرّة في
الس99ماوات وفي األرض إال وهللا س99بحانه وتع99الى خالقه99ا وخ99الق حركته99ا وس99كونها،
سبحانه ال خالق غيره وال ربّ سواه .8ومن األدلة من القرآن.
36
ال أَتَ ْعبُُ 9دونَ َم99ا تَ ْن ِحتُ99ونَ * َوهَّللا ُ َخلَقَ ُك ْم َو َم99ا تَ ْع َملُ99ونَ " (الص99افات ، 1ـ قال تعالى " :قَ َ
آية 95 :ـ .)96أي خلقكم وعملكم ،فتك99ون م99ا مص99درية ،وقي99ل :إنه99ا بمع99نى ال99ذي،
فيكون المعنى :وهللا خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم وهو األصنام.1
وقد ذكر ابن كثير القولين ثم قال :وكال القولين متالزم واألول أظهر ،2وقد عل99ل ذل99ك
بما يؤيده من رواية البخاري في أفعال العباد عن حذيفة ـ رضي هللا عنه ـ قال رس99ول
هللا صلى هللا عليه وس99لم :إن هللا يص99نع ك99ل ص99انع وص99نعته وتال بعض99هم عن99د ذل99ك
" َوهَّللا ُ خَ لَقَ ُك ْم َو َم99اتَ ْع َملُونَ " ف99أخبر الص99ناعات وأهله99ا مخلوقة ،3فاهلل ـ تع99الى ـ خ99الق
الخلق وأفعالهم كما دلت على ذلك ،اآلية والحديث.4
ق ُكلِّ َش ْي ٍء" (الرعد ،آية ،)16 :وفي آية أخ99رىَ " :ذلِ ُك ُم هَّللا ُ 2ـ قال تعالى" :هّللا ُ خَ الِ ُ
ق ُك ِّل َش ْي ٍء" (غافر ،آية .)62 : َربُّ ُك ْم خَ الِ ُ
وهذه نصوص واض9حة في الدالل9ة على مرتب9ة الخل9ق ،وق9د ج9اءت اآلي9ة األولى في
معرض إنكار أن يكون للشركاء خلق كخلقه ـ سبحانه وتعالى ـ فنفي ذلك سبحانه آمراً
رسوله أن يقرر هذه الحقيقة التي تفصل في األمر ،وتدل على وحداني99ة هللا ـ تع99الى ـ
ق ُك ِّل َش ْي ٍء َوهُ َو ْال َوا ِحُ 9د ْالقَهَّارُ" (الرع99د ،آي99ة : وانفراده بالخلق والرزق "قُ ِل هّللا ُ خَ الِ ُ
،)16وفي موضع آخر جاءت ه99ذه اآلي99ة لبي99ان ق99درة هللا ـ تع99الى ـ وكمال99ه ودالئ99ل
ق ُكلِّ َش ْي ٍء َوهُ َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َو ِكي9لٌ" (الزم9ر ،آي9ة ،)62 :أم9ا وحدانيته " هَّللا ُ خَ الِ ُ
اآلية الثانية فقد جاءت أيضا ً لبيان قدرة هللا التامة ،حيث جعل لعباده اللي99ل والنه99ار ثم
بين سبحانه أنه خالق كل شئ.5
3ـ وقال تعالى :ممتنا ً على الصحابة ـ رضوان هللا تعليهم ـ بعد أن أمرهم ب99التثبت في
9ير ِّمنَ اأْل َ ْمِ 9
9ر "وا ْعلَ ُموا 9أَ َّن فِي ُك ْم َرسُو َل هَّللا ِ لَوْ ي ُِطي ُع ُك ْم فِي َكثٍِ 9 خبر الفاسق قال تعالىَ :
ق ْ ْ لَ َعنِتُّ ْم َولَ ِك َّن هَّللا َ َحب َ
َّب إِلَ ْي ُك ُم اإْل ِ ي َم99انَ َوزَ يَّنَ99هُ فِي قُلُ99وبِ ُك ْم َو َكَّ 99رهَ إِلَ ْي ُك ُم ال ُك ْفَ 99ر َوالفُ ُس99و َ
َو ْال ِعصْ يَانَ أُوْ لَئِكَ هُ ُم الرَّا ِش ُدونَ " (الحجرات ،آية .)7 :
والش999اهد قول999هَ " :ولَ ِك َّن هَّللا َ َحب َ
َّب إِلَ ْي ُك ُم اإْل ِ ي َم999انَ َو َزيَّنَ999هُ فِي قُلُ999وبِ ُك ْم َو َكَّ 999رهَ إِلَ ْي ُك ُم
ْال ُك ْف َر ".....فهو سبحانه هو الذي حسنه بتوفيقه وقربه منكم ،وهو الذي جعل ما يض99اد
اإليمان من الكفر والفسوق والعصيان مكروها ً عندكم وذل99ك بم99ا أودع في قل99وبكم من
كراهة الشر وعدم إرادة فعله ،فالفاعل في كل ذلك هو هللا ـ تعالى.6
وهناك آيات كثيرة تدل على أن هللا ـ تع99الى ـ ه9و المض99ل واله9ادي ،والمؤي9د لعب9اده
المؤمنين ،والهازم ألعدائهم وأنه المض99حك والمبكي ،والمميت والمح99يي ،وك99ل ذل99ك
دليل مرتبة 7الخلق.
وقد أورد الحافظ ابن كثير هذا الدعاء في تفسيره آية الحجرات الس99ابقة " َوا ْعلَ ُم99وا أَ َّن
ُول هَّللا ِ" قال ل ّما كان يوم أح9د وإنكف9أ المش9ركون ق9ال ص9لى هللا علي9ه وس9لم: فِي ُك ْم َرس َ
صفُوفاً :فقال النبي صلى هللا عليه وسلم: ربي" فصاروا خلفه ُ "استووا حتى أثنى على ِّ
اللهم لك الحمد كله ،اللهم ال قابض لما بسطت ،وال باسط لم99ا قبض99ت ،وال ه99ادي لم99ا
1زاد المسير في علم التفسير (.)70 / 7
2تفسير ابن كثير ( )22 / 7القضاء والقدر صـ.77
3تفسير ابن كثير ( )22 / 7القضاء والقدر صـ.77
4القضاء والقدر ،عبد الرحمن المحمود صـ.77
5القضاء والقدر ،المحمود صـ.78
6فتح البيان في مقاصد القرآن صديق خان (.)74 / 9
7القضاء والقدر ،المحمود صـ.79
37
أض99للت ،وال مض99ل لمن ه99ديت ،وال معطي لم99ا منعت ،وال م99انع لم99ا أعطيت ،وال
مق99رب لم99ا بع99دت ،وال مباع99د لم99ا ق99ربت ،اللهم أبس99ط علين99ا من بركات99ك ورحمت99ك
وفض99لك ورزق99ك اللهم إني أس99ألك النعيم المقيم ال99ذي ال يح99ول وال ي99زول ،اللهم إني
أسألك النعيم يوم العيلة ،واألمن يوم الخوف ،اللهم إني عائ9ذ ب9ك من ش9ر م9ا أعطيتن99ا
وشر ما منعت ،اللهم حبب إلينا اإليمان وزينه في قلوبنا ،وك99ره إلين99ا الكف99ر والفس99وق
والعص99يان ،واجعلن99ا من الراش99دين ،اللهم توفن99ا مس99لمين ،وأحيين99ا مس99لمين وألحقن99ا
بالص99الحين ،غ99ير خزاي99ا وال مفت99ونين ،اللهم قات99ل الكف99رة ال99ذين يك99ذبون رس99لك،
ويصدون عن سبيلك ،واجعل عليهم رجزك وع99ذابك ،اللهم قات99ل الكف99رة ال99ذين أوت99وا
الكتاب إله الحق .1فترى في هذا الحديث اإلقرار ب99أن هللا ـ تع99الى ـ ه99و الفاع99ل له99ذه
األمور ،وهذا دليل على مرتبة الخلق.2
ـ أدلة هذه المرتبةـ من السنة:
1ـ عن زيد بن أرقم ـ رضي هللا عنه ـ قال :ال أقول لكم إال كما كان رسول هللا ص99لى
هللا علي99ه وس99لم يق99ول :ك99ان يق99ول :اللهم إني أع99وذ ب99ك من العج99ز والكس99ل ،والجبن
والبخل ،والهرم وعذاب الق99بر ،اللهم آت نفس99ي تقواه99ا وزكه99ا أنت خ99ير من زكاه99ا،
أنت وليها وموالها..3
الشاهد قوله ":اللهم آت نفسي تقواها وزكاها ،..فالفاعل ه99و هللا ـ تع99الى ـ فه99و ال99ذي
يطلب منه ذلك ،ولفظ "خير" ليس للتفض99يل ،ب99ل ال م99زكي للنفس إال هللا ،وله99ذا ق99ال
بعد ذلك أنت وليها وموالها ،4فهو سبحانه الملهم للنفس الخير والشر.
ُورهَا َوتَ ْق َواهَا" (الشمس ،آية .)8 : قال تعالى ":فَأ َ ْلهَ َمهَا فُج َ
قال سعيد بن حبير في تفسير ه9ذه اآلي9ة " فَأ َ ْلهَ َمهَ9ا فُجُو َرهَ9ا َوتَ ْق َواهَ9ا" أي :ف9الخلق هلل
واإلنسان قادر على سلوك أيهما شاء ومخير فيه ،وقال ابن زيد في معنى اآلية :جع99ل
ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى ،وخذالنه إياها بالفجور.5
2ـ وعن البراء بن عازم ـ رضي هللا عنه ـ قال :رأيت النبي صلى هللا عليه وسلم يوم
الخندق ينقل معنا التراب وهو يقول:
وهللا لوال هللا ما اهتدينا
وال صمنا وال صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت األقدام إن القينا
والمشركون قد بَ َغوْ ا علينا
6
إذا أرادوا فتنة أبينا
وفي رواية أخ99رى للبخ99اري :وال تص99دقنا وال ص99لينا ،7ب99دل :وال ص99منا وال ص99لينا،
وبهذه الرواية يستقيم الوزن ،قال ابن حجر :وهو المحفوظ .8ودليل هذه المرتبة قول99ه:
1مسند أحمد ( )4224 / 3السنة البن أبي عاصم رقم .381
2القضاء والقدر ،عبد الرحمن المحمود صـ.80
3مسلم ،ك الذكر والدعاء رقم .)2088 /4( 2722
4شرح النووي على مسلم (.)41 / 17
5زاد المسير ،ابن الجوزي (.)140 / 9
6فتح الباري (.)516 /11
7المصدر نفسه (.)399 /7
8المصدر نفسه (.)516 /11
38
لوال هللا ما اهتدينا ،وال تص99دقنا وال ص99لينا ،فإنه99ا دلي99ل على أن هللا ه99و خ99الق العب99اد
وأفعالهم ومنها :الهداية ،والصدقة ،والصالة.1
3ـ وعن و ّراد مولى المغيرة بن شعبة قال :كتب معاوي99ة إلى المغ99يرة 9:أكتب إل ّي م99ا
سمعت الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم يق99ول خل99ف الص99الة ،ف99أملى عل ّي المغ99يرة ق99ال:
سمعت النبي صلى هللا عليه وسلم يقول خل99ف الص99الة 9:ال إل99ه إال هللا وح99ده ال ش99ريك
له ،اللهم ال مانع لما أعطيت ،وال معطي لما منعت ،وال ينفع ذا الجد منك الجد.2
الشاهد قوله :اللهم ال مانع لما أعطيت ،وال معطي لما منعت فالمعطي والمانع ه99و هللا
ـ تعالى ـ ،فهو الفاعل لهما ،وهذا يدل على أن الخالق هو هللا ـ سبحانه وتعالى ـ .
وقوله":وال ينفع ذا الجد منك الجد" أي :ال ينفع ذا الغنى منك غناه ،أو ال ينجي9ه حظ99ه
منك ،بل ينفعه عمله الصالح.3
4ـ وقد قال صلى هللا عليه وسلم ألبي موسى األشعري ـ رضي هللا عنه ـ :يا عبد هللا
ابن قيس ،أال أدلك على كنز من كنوز الجن99ة ،فقلت :بلى ي99ا رس99ول هللا ،ق99ال :ق99ل :ال
حول وال قوة إال باهلل .4والشاهد قوله :ال حول وال قوة إال باهلل ،ففيها االعتراف بأنه ال
صانع غير هللا ،وال راد ألمره وأن العبد ال يمل99ك من أم99ره ش99يئاً ،فمعناه99ا :ال حرك99ة
وال أستطاعة وال حيلة إال بمشيئة هللا تعالى ،وقيل معناه ال حول في دفع ش99ر وال ق99وة
في تحصيل خير إال باهلل ،وقيل :ال ح99ول عن معص99ية هللا إال بعص99مته ،وال ق99وة على
طاعة هللا إال بمعونته ،و ُح ِك َي هذا عن ابن مسعود ـ رضي هللا عنه ـ وكل9ه متق9ارب،5
والكنز هنا :معناه ثواب ُم َّدخر في الجنة عند هللا وهو ثواب نفيس.6
5ـ وعن علي بن أبي طالب عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :أنه كان إذا ق99ام إلى
الص99الة ق99ال :وجهت وجهي لل99ذي فط99ر الس99ماوات واألرض حنيف99ا ً وم99ا أن99ا من
المشركين وإذا سجد قال :اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أس99لمت س99جد وجهي لل99ذي
خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك هللا أحسن الخالقين.7
ففي الح99ديث :دالل99ة على أن هللا فط99ر الس99موات واألرض أي خلقهن وأب99دعهن وأتقن
صنعهن وأوجدهن من الع99دم على غ99ير مث99ال س99ابق ،فخلق99ه س99بحانه له99ذا الك99ون من
أرض وسموات وما فيهن من رطب ويابس ومخلوق99ات عجيب99ة أك99بر دلي99ل على ه99ذه
المرتبة وأن هللا يخلق الخلق بقدرته على ما اقتضاه علمه السابق ومشيئته النافذة.8
6ـ قال صلى هللا عليه وسلم :سيد االستغفار أن تق99ول :اللهم أنت ربي ال إل99ه إال أنت
خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما أستطعت أعوذ بك من شر م99ا ص99نعت
أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي ،فاغفر لي فإن99ه ال يغف99ر ال99ذنوب إال أنت ،ق99ال:
ومن قالها من النهار موقنا ً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أه99ل الجن99ة ومن
قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.9
39
والحديث ي99دل على ش99يء مم99ا خل99ق هللا تع99الى وه99و خل99ق اإلنس99ان وم99ا احت99واه ه99ذا
المخلوق من أعضاء وأجهزة يعجز اإلتيان بمثلها إال من هو خالق ك9ل ش9يء س9بحانه
فالناظر في نفسه ودقة تكوينها وعجيب خلقتها يؤمن بأن هللا خالق كل شيء ،1فتضمن
ه99ذا االس99تغفار االع99تراف من العب99د بربوبي99ة هللا وإلهيت99ه وتوحي99ده واالع99تراف بأن99ه
خالقه ،العالم به إذ انشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه.2
3
40
المبحث الثالث :التقادير الخمس وأنواع اإلرادة
أوالً :التقادير الخمس:
إن اإليمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير
1ـ التقدير األزلي :قبل خلق السماوات واألرض عندما خلق هللا تعالى القلم،
َب هّللا ُ لَنَا" (التوبة ،آية .)51 : ُصيبَنَا إِالَّ َما َكت َ ـ قال تعالى ":قُل لَّن ي ِ
ب ِّمن ض َواَل فِي أَنفُ ِس ُ 9ك ْم إِاَّل فِي ِكتَ99ا ٍ ص 9يبَ ٍة فِي اأْل َرْ ِ اب ِمن ُّم ِ صَ 9 ـ وقال تعالىَ ":ما أَ َ
قَ ْب ِل أَن نَّ ْب َرأَهَا إِ َّن َذلِكَ َعلَى هَّللا ِ يَ ِسي ٌر * لِ َك ْي اَل تَأْ َس9وْ ا َعلَى َم9ا فَ9اتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َرحُ9وا بِ َم9ا
ور" (الحديد ،آية .)23 ،22 : آتَا ُك ْم َوهَّللا ُ اَل يُ ِحبُّ ُك َّل ُم ْختَا ٍل فَ ُخ ٍ
ب ُّمبِي ٍن" (النم99ل ،آي99ة : ض إِاَّل فِي ِكتَا ٍ ـ وقال تعالىَ ":و َما ِم ْن غَائِبَ ٍة فِي ال َّس َماء َواأْل َرْ ِ
.)75
ـ ـ وقــال رســول هللا صــلى هللا عليــه وســلم :كتب هللا مق99ادير الخالئ99ق قب99ل أن يخل99ق
السماوات واألرض بخمسين ألف سنة ،قال :وعر ُشهُ على الماء.1
2ـ تقدير يوم الميثاق:
9ور ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم َوأَ ْش 9هَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِ 9ه ْم
ك ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُهُِ 9 ق99ال تع99الىَ ":وإِ ْذ أَ َخَ 9ذ َربُّ َ
وا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ99افِلِينَ * أَوْ تَقُولُْ 9
9وا وا بَلَى َش ِه ْدنَا أَن تَقُولُ ْ ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُ ْ
أَلَس ُ
إِنَّ َم99ا أَ ْشَ 99ركَ آبَا ُؤنَ99ا ِمن قَبُْ 99ل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِّمن بَعِْ 99د ِه ْم أَفَتُ ْهلِ ُكنَ99ا بِ َم99ا فَ َعَ 99ل ْال ُم ْب ِطلُ99ونَ "9
(األعراف ،آية .)173 ،172 :
وهو ميثاق الفطرة األول ،وفيه أخذ هللا تعالى من ظهر آدم ذريته ،وهم كأمث99ال ال99ذر،
وا بَلَى َشِ 9ه ْدنَا" (األع99راف ،آي99ة : ت بَِ 9ربِّ ُك ْم قَ99الُ ْوأشهدهم على أنفس99هم وق99ال لهم" أَلَ ْسُ 9
)172فجبلهم على حبه وتوحيده وتعظيمه وأقرهم على ذلك ب99القوة فص99ارت النف99وس
تقر بخالقها ،وتميل إلى توحيده وبقيت تلك الفطرة في قلوبهم حجة عليهم.2
إن المراد بهذا االشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ويؤيد ذلك قوله تعالى":فِ ْ
طَ 9رةَ 9هَّللا ِ
ق هَّللا ِ" (الروم ،آية .)30 : خَل ِيل لِ ْاس َعلَ ْيهَا اَل تَ ْب ِد َالَّتِي فَطَ َر النَّ َ
3
ثم جعلهم بعلمه وحكمته فريقين فري99ق في الجن99ة وفري99ق في الس99عير .ق99ال ص99لى هللا
عليه وسلم :إن هللا عز وجل خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظه99ره وق99ال ه99ؤالء في الجن99ة
وال أبالي ،وهؤالء في النار وال أبالي .قال :فقال قائل :يا رسول هللا ،فعلى ماذا نعمل؟
قال :على موقع القدر.4
3ـ التقدير العمري :عند تخليق النطفة في ال99رحم ،فيكتب إذ ذاك ذكوريته99ا وانوثته99ا
واألجل والعمل ،والشقاوة والسعادة وجميع ما هو الق فال يزاد فيه وال ينقص منه.5
ب ِّمنَ ْالبَ ْع ِ
ث فَإِنَّا َخلَ ْقنَ99ا ُكم ِّمن ــ قــال هللا تبــارك وتعــالى ":يَاأَيُّهَ99ا النَّاسُ إِن ُكنتُ ْم فِي َر ْي ٍ
ْ9ر ُم َخلَّقٍَ 9ة لِّنُبَيِّنَ لَ ُك ْم َونُقِ9رُّ ِفي
ضَ 9غ ٍة ُّمخَ لَّقٍَ 9ة َو َغي ِ طفَ ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثُ َّم ِمن ُّم ْ ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ تُ َرا ٍ
اأْل َرْ َح ِام َما نَ َشاء إِلَى أَ َج ٍل ُّم َس ًّمى ثُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفاًل ثُ َّم لِتَ ْبلُ ُغوا أَ ُش َّ 9د ُك ْم َو ِمن ُكم َّمن يُتَ َ 9وفَّى
َو ِمن ُكم َّمن يُ َر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َك ْياَل يَ ْعلَ َم ِمن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َش ْيئًا" (الحج ،آية .)5 :
1مسلم ،ك القدر رقم .2653
2القضاء والقدر عند السلف ،علي السيد الوصيفي صـ.56
3المصدر نفسه صـ .57
4السلسلة الصحيحة لأللباني رقم .48
5معارج القبول (.)934 / 3
41
طفَ ٍة ثُ َّم َج َعلَ ُك ْم أَ ْز َواجًا َو َما تَحْ ِمُ 9ل ِم ْن أُنثَى ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ ":وهَّللا ُ خَ لَقَ ُكم ِّمن تُ َرا ٍ
ـ وقال تعالى َ
ب إِ َّن َذلِكَ َعلَى َض ُع إِاَّل بِ ِع ْل ِم ِه َو َما يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل فِي ِكتَا ٍ َواَل ت َ
هَّللا ِ يَ ِسي ٌر" (فاطر ،آية .)11 :
ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ
طفَ ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثُ َّم ي ُْخِ 9ر ُج ُك ْم ِط ْفاًل ثُ َّم ـ وقال تعالى":هُ َو الَّ ِذي خَ لَقَ ُكم ِّمن تُ َرا ٍ
لِتَ ْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم ثُ َّم لِتَ ُكونُوا ُشيُو ًخا َو ِمن ُكم َّمن يُت ََوفَّى ِمن قَ ْب ُل َولِتَ ْبلُ ُغوا أَ َجاًل ُّم َسًّ 9مى َولَ َعلَّ ُك ْم
تَ ْعقِلُونَ " (غافر ،آية .)67 :
اس ُع ْال َم ْغفِ َر ِة هُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ُك ْم إِ ْذ أَن َشأ َ ُكم ِّمنَ 1اأْل َرْ ِ
ض ك َو ِ ـ وقال تبارك وتعالى":إِ َّن َربَّ َ
َوإِ ْذ أَنتُ ْم أَ ِجنَّةٌ ِفي بُطُو ِن أُ َّمهَاتِ ُك ْم" (النجم ،آية )32 :وغيرها من اآليات .
وقال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه :حدثنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهــو
خَلفُهُ في بطن أمه أربعين يوما ،ثم يكون في الصادق المصدوق قال :إن أحدكم يُجْ َم ُع ْ
ذلك علقة مث99ل ذل99ك ،ثم يك99ون في ذل99ك مض99غة مث99ل ذل99ك ثم يُرْ َسُ 9ل المل99ك فينفخ في99ه
ي أو سعي ٌد ،فوالذي ال إله الروح ،ويؤمر بأربع كلمات :بكتب رزقه وأجله وعمله وشق ٌ
غيره ،إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ح99تى م99ا يك99ون بين99ه وبينه99ا إال ذراع فيس99بق
عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ،وإن أحدكم ليعمل بعمل أه99ل الن99ار ح99تى
يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجن99ة في99دخلها ،2وفي
رواية أخرى :إذا أمر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث هللا إليها ملكا فص99ورها وخل99ق
سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال :يا رب أذكر أم أنثى ،فيقضي رب99ك
ما يشاء ويكتب الملك ،ثم يق99ول :ي99ا رب أجل99ه فيق99ول رب99ك م99ا ش99اء ويكتب المل99ك ثم
يقول :يا رب رزقه ،فيقضي ربك ما ش99اء ويكتب المل99ك ،ثم يخ99رج المل99ك بالص99حيفة
في يده فال يزيد على ما أمر وال ينقص,3
4ـ التقدير الحولي :في ليلة القدر:
9ر َح ِك ٍيم * ق ُك99لُّ أَ ْم ٍار َكٍ 9ة إِنَّا ُكنَّا ُمنِ 9ذ ِرينَ * فِيهَ9ا يُ ْفَ 9ر ُ قال تعالى":إِنَّا أَ ْ
نزَلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ٍة ُّمبَ َ
أَ ْمرًا ِّم ْن ِعن ِدنَا إِنَّا ُكنَّا ُمرْ ِسلِينَ " (الدخان ،آية 3 :ـ .)5
قال ابن عباس ـ رضي هللا عنه ـ :يكتب في أم الكت99اب في ليل99ة الق99در م99ا يك99ون في
السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال :يحج فالن وفالن.4
ومع9نى يف9رق أن9ه يكتب ويفص9ل ك99ل أم9ر حكيم من أرزاق العب9اد وآج99الهم ،وجمي9ع
أمورهم من ه99ذه الليل99ة إلى األخ99رى من الس99نة القابلة ،5فيقض99ي أم99ر الس99نة كله99ا من
معايش الناس ومصائبهم وموتهم وحياتهم إلى مثلها من السنة األخرى.6
5ـ التقدير اليومي :هو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق.
ض ُكَّ 9ل يَ99وْ ٍم هَُ 9و فِي َش9أْ ٍن" (ال99رحمن، ت َواأْل َرْ ِ ــ قال تعالى ":يَ ْس9أَلُهُ َمن فِي َّ
السَ 9ما َوا ِ
آية .)29 :
روى ابن جرير بسند حسن عن منيب بن عبد هللا بن منيب األزدي عن أبيه ق99ال :ق99رأ
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم هذه اآليةُ ":ك َّل يَوْ ٍم هُ َو فِي َشأْ ٍن" فقلن99ا :ي99ا رس99ول هللا،
42
وما ذاك الشأن؟ قال صلى هللا عليه وسلم :أن يغفر ذنباً ،ويفِّ 9رج كرب99ا ،ويرف99ع قوم9اً،
ويضع آخرين.1
ع ْال ُم ْل َ
ك ِم َّمن تَ َشاء َوتُ ِع ُّ
99ز ك تُ ْؤتِي ْال ُم ْل َ
ك َمن تَ َشاء َوت ِ
َنز ُ قال سبحانه":قُ ِل اللَّهُ َّم َمالِكَ ْال ُم ْل ِ
ك َعلَ َى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ"(آل عمران ،آية .)26 : َمن تَ َشاء َوتُ ِذلُّ َمن تَ َشاء بِيَ ِدكَ ْالخَ ْي ُر إِنَّ َ
وق9ال البغ9وي في تفس9يره" ُكَّ 9ل يَ9وْ ٍم هَُ 9و فِي َش9أْ ٍن :من ش9أنه أن يحي ويميت ،ويخل9ق
ويرزق ،ويُعز قوما ويذل قوماً ،ويشفي مريضاً ،ويفك عانيا ،ويفرج مكروباً ،ويجيب
داعياً ،ويعطي سائالً ،ويغفر ذنبا إلى م99ا ال يحص99ى من أفعال99ه وإحداث99ه في خلق99ه م99ا
يشاء.2
وجملة القول في ذلك أمن التقدير اليومي هو تأويل المقدورعلى العبد وإنفاذه في99ه ،في
الوقت الذي سبق أن يناله فيه ،ال يتقدمه وال يتأخره.
ثم هذا التقدير اليومي تفصيل من تقدير الحولي ،والحولي تفصيل من التقدير العم99ري
عند تخليق النطفة ،والعمري تفص99يل من التخلي99ق العم99ري األول ي99وم الميث99اق ،وه99و
تفصيل من التقدير األزلي الذي خطه القلم في اإلمام المبين واإلمام المبين هو من علم
هللا عز وجل ،وكذلك منتهى المق99ادير في آخريته99ا إلى علم هللا ،3ف99انتهت األوائ99ل إلى
"وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُمنتَهَى" (النجم ،آية .4)42 :
أوليته وإنتهت األواخر إلى آخريته َ
ثانياً :أنواع اإلرادة:
تنقسم اإلرادة في كتاب هللا إلى إرادة كونية قدرية ،وإرادة دينية شرعية.
1ـ اإلرادة الكونية:
هي المشيئة العامة التي يدخل فيها جميع المخلوقات من ب99ر وف99اجر وص99الح وط99الح،
وهي إرادة هللا تع99الى لفعل99ه ،س99واء إن ك99ان المفع99ول من99ه محبوب9ا ً أو غ99ير محب99وب،
يرضيه أم ال يرضيه ،فاهلل تعالى يفعل ما يشاء ،وال يشاء شيئا ً إال بعد إرادته له ،وكل
ما كان منه فليس في99ه إال الجم99ال والجالل والحس99ن ،أم99ا أفع99ال العب99اد فهي منقس99مة،
ففيه99ا الحس99ن وفيه99ا الق99بيح ،وليس للعب99اد أن يفعل99وا م99ا يش99اؤون ،وإنم99ا يفعل99ون م99ا
يؤمرون به إمتثاالً وإنتها ًء ،وهذا هو الحسن منهم ،وتلك اإلرادة متعلقة ب99الخلق ،وهي
من لوازم الربوبية ،فما ش99اء ك99ان وم99ا لم يش99أ لم يكن وي99دخل في ه99ذه المش99يئة خل99ق
األقوياء والضعفاء والفقراء والمؤمنين 9الكفار ،والمالئكة والشياطين ،وخلق الخ99يرات
والفضائل ،وخلق السيئات والحسنات ،وخلق التوفيق والخذالن ،وخلق القوة والعجز،
والبالدة والذكاء .5وهذه بعض اآليات تدل على اإلرادة الكونية.
ـ قال تعالىَ " :ولَوْ َشاء َربُّكَ َما فَ َعلُوهُ" (األنعام ،آية .)112 :
ــ قال تعالىَ " :ولَوْ َشاء هّللا ُ َما ا ْقتَتَلُ ْ
وا َولَـ ِك َّن هّللا َ يَ ْف َع ُل َما ي ُِري ُد"(البقرة ،آية .)353 :
1تفسير ابن كثير ( ،)273 / 4صححه األلباني في ظالل الجنة.
2تفسير الخازن والبغوي ( 80 / 6ـ .)81
3معارج القبول (.)939 / 3
4معارج القبول (.)940 / 3
5القضاء والقدر عند السلف للوصيفي صـ.62
43
ض ُكلُّهُ ْم َج ِميعًا"(يونس ، 9آية .)39 : ك آل َمنَ َمن فِيا ألَرْ ِ "ولَوْ َشاء َربُّ َ
ــ وقالَ :
ــ وقال تعالىَ " :ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َسلَّطَهُ ْم َعلَ ْي ُك ْم فَلَقَاتَلُو ُك ْم"(النساء ،آية .)90 :
إل ْسالَ ِم َو َمن ي ُِر ْد أَن يُ ِ
ضلَّهُ يَجْ َعلْ ص ْد َرهُ لِ ِــ وقال تعالى" :فَ َمن ي ُِر ِد هّللا ُ أَن يَ ْه ِديَهُ يَ ْش َرحْ َ
ص َّع ُد فِي ال َّس َماء"(األنعام ،آية .)125 : ضيِّقًا َح َرجًا َكأَنَّ َما يَ َّ
ص ْد َرهُ َ
َ
نص َ 9ح لَ ُك ْم إِن َك99انَ هّللا ُ ي ُِري ُ 9د أَن
دت أَ ْن أَ َ ص ِ 9حي إِ ْن أَ َر ُّ ــــ وقــال تعــالىَ " :والَ يَنفَ ُع ُك ْم نُ ْ
يُ ْغ ِويَ ُك ْم" (هود ،آية .)44 :
9وا َولَـ ِك َّن هّللا َ يَ ْف َعُ 9ل َماي ُِريُ 9د" (البقــرة ،آيــة : ــ وقــال تعــالىَ " :ولَوْ َش9اء هّللا ُ َم99ا ا ْقتَتَلُْ 9
.)253
ك قُ ْلتَ َما َشاء هَّللا ُ اَل قُ َّوةَ إِاَّل بِاهَّلل ِ" (الكه99ف ،آي99ة : َخَلتَ َجنَّتَ َــ وقال تعالىَ " :ولَوْ اَل إِ ْذ د ْ
.)39
س هُدَاهَا" (السجدة ،آية .)13 : ْ
ــ وقال تعالىَ " :ولَوْ ِش ْئنَا آَل تَ ْينَا ُك َّل نَف ٍ
ــ وقال تعالىَ " :و َماتَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َشاء هَّللا ُ إِ َّن هَّللا َ َكانَ َعلِي ًما َح ِكي ًما"(اإلنسان ،آي99ة :
.)30
ص َ 9را ٍط ُّم ْس 9تَقِ ٍيم" (األنع99ام ، ــ وقال تعالىَ " :من يَ َشإ ِ هّللا ُ يُضْ لِ ْلهُ َو َمن يَ َشأْ يَجْ َع ْلهُ َعلَى ِ
آية .)39 :
ون" (يس ،آية .)82 : ول لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ َ َ َ
ــ وقال تعالى " :إِنَّ َما أ ْم ُرهُ إِ َذا أ َرا َد َش ْيئًا أ ْن يَقُ َ
وهذه اإلرادة وتلك المشيئة هي التي تستلزم وقوع المراد ،والمراد إما أن يك9ون م9راد
لذاته محبوبا ً هلل تعالى ،وذلك لم9ا في9ه من الخ9ير ،كخل9ق األنبي9اء والص9الحين وك9ذلك
كافة الفض9ائل والخ9يرات ،أو م9راداً لغ9يره وه9ذا يطل9ق على الكف9ر وجمي9ع الش9رور
واآلثام ،فإنها ليست مرادة لذاتها وإنما هي مرادة لشيء آخر محبوب إلى هللا تعالى.
ْض الَّ ِذي ت أَيِْ 9دي النَّ ِ
اس لِيُِ 9ذيقَهُم بَع َ قال تعالى "ظَهَ َر ْالفَ َسا ُد فِي ْالبَِّ 9ر َو ْالبَحِْ 9ر بِ َم9ا َك َس9بَ ْ
َع ِملُوا لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجعُونَ "(الروم ،آية .)41 :
وهذا دليل على إثبات الحكمة في جميع أفع99ال هللا تع99الى وأحكامه ،1والح99ق أن جمي99ع
أفعال99ه وش99رعه له99ا حكم وغاي99ات ،ألجله99ا ش99رع وفع99ل ،وإن لم يعمله99ا الخل99ق على
2
التفعيل ،فال يلزم من عدم علمهم بها إنتفاؤها في نفسها
وحاصل اإلرادة الكونية إثب99ات مش99يئة هللا تع99الى المطلق99ة في إيج99اد المخلوق99ات كله99ا
واختالف أنواعها وأشكالها ،وتفاوت فضائلها وش99رورها وجماله99ا ودمامته99ا وكيس99ها
وعجزها ،وكفرها وإيمانها ،فما شاء هللا كان ،وم99ا لم يش99أ لم يكن ،فاهلل على ك99ل ش99ئ
قدير ،وال يقع في ملكه إال ما يريد ،وال يق9ع في9ه ش9ئ كره9ا ً عن9ه ،ق9ال تع9الىَ " :و َمن
9ز ِذي انتِقٍَ 9
9ام" ض9لٍّ أَلَي َ
ْس هَّللا ُ بِ َع ِزيٍ 9 يُضْ لِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد * َو َمن يَ ْه ِد هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمن ُّم ِ
(الزمر ،آية 36 :ـ .)37
فهو الذي أراد إيمان المؤمنين ،وه99و ال99ذي أراد كف99ر الك99افرين ،وك99ل ذل99ك في علم99ه
السابق ،وال يمكن ألحد أن يخرج عن علمه ،وعلمه يستلزم ثبوت قدرته ،وإذا كان قد
علم أن أبا لهب سيكفر ،فهذا معناه أنه لن يستطيع أن يخرج عن علم99ه وي99ؤمن ،وه99ذا
دليل أن هللا تعالى سيحول بقدرته بين99ه وبين اإليم99ان ،فلن يق99در علي99ه ،ولن يق99در أب99و
1القضاء والقدر عند السلف صـ.63
2القضاء والقدر عند السلف صـ.64
44
وا أَ َّن هّللا َ يَحُو ُل بَ ْينَ ْال َم99رْ ِء َوقَ ْلبِِ 9ه َوأَنَّهُ إِلَ ْيِ 9ه
لهب على خالف ذلك ،قال تعالىَ " :وا ْعلَ ُم ْ
تُحْ َشرُونَ " (األنفال ،آية .)24 :وهذا ليس من باب تكليف ما ال يطاق ،وإنما ه99ذا من
باب العقوبة :وهي ن99وع من الخ99ذالن لمن زاغ عن ص99راط هللا المس99تقيم ،وأم99ا طاق99ة
األسباب فهي مقدورة له ،ولكن هللا تعالى لم يوفقه ولم يق99دره على بل9وغ غاياته99ا ،فم9ا
آمن من آمن إال بفضل هللا تعالى ورحمته ،وما كفر من كفر كرها ً عنه إنما ك99ان ذل99ك
ض ُكلُّهُ ْم َج ِميعً9ا" (ي99ونس ، "ولَ99وْ َش9اء َربُّكَ آل َمنَ َمن فِي األَرْ ِ بخ9ذالن هللا تع99الى ل9هَ :
آية ،)99 :وهو سبحانه وتعالى خالق الخير ،كم99ا ه99و خ99الق الش99ر ،ال إل99ه غ99يره وال
9وق ُك ِّل َش ْي ٍء" (الزمر ،آي99ة ،)22 :وق9ال تع9الى" :هُ َ ب سواه ،قال تعالى" :هّللا ُ خَ الِ ُ ر ٍ
ض َج ِميع 9اً"(البق99رة ،آي99ة . )29 :وفي اإلرادة الكوني99ة ق99د ق لَ ُكم َّمافِي األَرْ ِ الَّ ِذي خَ لَ َ 9
1
يبغض هللا تعالى طاعة العاصي وال يعينه عليها بعد اإلراشاد والنصح والبيان ،وذل99ك
لحكمه عظيم99ة جليل99ة ،كم99ا ق99ال تع99الى في المن99افقين ال99ذين تخلف99وا م99ع الخوال99ف في
بيوتهم ،وتركوا الخروج للجهاد مع النبي صلى هللا عليه وسلم كما في غزوة تب99وك" :
وا َمَ 9ع 9رهَ هّللا ُ انبِ َع99اثَهُ ْم فَثَبَّطَهُ ْم َوقِيَ 9ل ا ْق ُعُ 9د ْ ُوج ألَ َع ُّد ْ
وا لَهُ ُع َّدةً َولَـ ِكن َكِ 9 وا ْال ُخر َ َولَوْ أَ َرا ُد ْ
اع ِدينَ " (التوبة ،آية ،)46 :وقد بين هللا تعالى الحكمة في بغضه لطاعته فقال" :لَوْ ْالقَ ِ
ُوا ِخالَلَ ُك ْم يَ ْب ُغ99ونَ ُك ُم ْالفِ ْتنَ9ةَ َوفِي ُك ْم َسَّ 9ما ُعونَ
ض9ع ْ ُوا فِي ُكم َّما زَا ُدو ُك ْم إِالَّ خَ بَ99االً وألَوْ َ
خَ َرج ْ
لَهُ ْم َوهّللا ُ َعلِي ٌم بِالظَّالِ ِمينَ " (التوبة ،آية .)47 :
وه9و س9بحانه" :اَل ي ُْس9أ َ ُل َع َّما يَ ْف َعُ 9ل َوهُ ْم ي ُْس9أَلُونَ " (األنبي9اء ،آي9ة ،)23 :وذل9ك ألن9ه
يتص99رف في ملك99ه ،وه99ذا ليس في99ه ظلم ،إنم99ا الظلم في الحقيق99ة يك99ون من تص99رف
المتصرف فيما ال يملك ،ومنع المس99تحق م99ا يس99تحقه ،وهللا تع99الى ال يجب علي99ه ش99ئ
ألحد حتى يحاسب على ما ضيق ومنع ،وعلى ما أهان وخذل ،وإنما هو حكم99ة بالغ99ة
ورحمة واسعة وعدل قويم.2
أ ـ ـ كيــف يريــد هللا أمــراً وال يرضــاه وال يحبــه؟ وكيــف تجتمــع إرادتــه لــه وبغضــه
وكراهته؟
فالمراد نوعان :مراد لنفسه ،ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه مطلوب محب99وب لذات99ه ،وم99ا في99ه من الخ99ير ،فه99و م99راد إرادة الغاي99ات
والمقاصد.
والمراد لغيره ،قد ال يكون مقصود للمريد ،وال فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ،م99راد
له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى م99راده ،ف99اجتمع في99ه األم99ران :بغض99ه وإرادت99ه وال
يتنافيان ،الختالف متعلقهما ،وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول ل99ه أن في99ه ش99فاؤه،
وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ،كقطع المس9افة الش9اقة ،إذا علم
أنها توصل إلى مراده ومحبوبه.3
فهوسبحانه يكره الشئ ،وال ينافي ذلك إرادته ألجل غ99يره ،وكون99ه س99ببا ً إلى أم99ر ه99و
أحبُّ إليه من فوته.
ومن ذل99ك :أن99ه خل99ق إبليس ال99ذي ه99و م99ادة لفس99اد األدي99ان واألعم99ال واالعتق99ادات
واإلرادات ،وه9و س9بب لش9قاء الكث9ير من العب9اد ،وعملهم بم9ا يغض9ب ال9رب تب9ارك
1
القضاء والقدر عند السلف صـ.64
2
القضاء القدر عند السلف صـ.65
3
منهج اإلمام ابن أبي العز الحنفي ،عبد هللا الحافي صـ.329
45
وتعالى ،ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه وجوده99ا
إليه من عدمها:
منها :أنه تظهر للعباد قدرة الرب على خلق المتضادات المتقابالت.
ومنها :ظهور آثار أسمائه القهرية ،مثل القه99ار ،المنتقم ،والع99دل ،والض99ار ،والش99ديد
العقاب ،والسريع الحساب ،والخافض ،والمذل ،فإن هذه األس99ماء واألفع99ال كم99ال ،ال
بد من وجود متعلقها ،ولو كان الجن واإلنس على طبيعة المالئك99ة لم يظه99ر أث99ر ه99ذه
األسماء.
ومنها :ظهور آثار أسمائه المتضمنة 9لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه
وعتقه لمن شاء من عبيده ،فلوال خلق ما يكرهه من األسباب المفضية إلى ظهور آثار
هذه األسماء ،لتعطلت هذه الحكم والفوائد ،وقد أشار الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم إلى
هذا بقوله" :لو لم تذنبوا ،لذهب هللا بكم ،ولجأ بقوم يذنبون ،ويستغفرون ،فيغفر لهم".1
ومنها :ظهور أس9ماء الحكم9ة والخ9برة ،فإن9ه الحكيم الخب9ير ال9ذي يض9ع األش9ياء في
مواضعها ،فال يضع الشئ في غير موض99عه ،فه99و أعلم حيث يجع99ل رس99االته ،وأعلم
بمن يصلح لقبولها ويشكره على إنتهائها إليه ،وأعلم بمن ال يصلح لذلك.
ومنها :حصول العبودية المتنوعة التى لوال خلق إبليس لما حصلت كعبودي9ة الجه9اد،
والصبر ،ومخالفة الهوى ،وعبودي9ة االس9تعاذة ،إلى غ9ير ذل9ك من الحكم ال9تي تعج9ز
العقول عن إدراكها.2
ب ـ هل يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه األسباب؟
هذا سؤال فاسد وهو فرض وجود الملزوم ب9دون الزم9ه ،كف99رض وج9ود االبن ب9دون
األب ،والحركة بدون المتحرك ،والتوبة بدون التائب.3
2ـ اإلرادة الشرعية:
هي إرادة هللا تعالى ألمره الديني الشرعي ،وهي التي أرسل من أجلها الرسل ،وأن99زل
من أجلها الكتب وهي ال تستلزم وقوع المراد م99ع كون99ه محبوب9ا ً هلل تع99الى إال إذا ك99ان
متعلقا ً باإلرادة الكونية ،4واإلرادة الشرعية الدينية تدل داللة واضحة على أنه س99بحانه
ال يحب الذنوب والمعاصي والضالل والكف99ر ،وال ي99أمر به9ا وال يرض99اها ،وإن ك99ان
شاءها خلقا ً وتقديراً وإيجاداً ،وأنه سبحانه وتعالى يرض99ى ويحب ك99ل م99ا يتعل99ق به99ذه
اإلرادة الدينية الشرعية ويثيب أصحابها ،ويدخلهم الجن99ة وينص99رهم في الحي99اة ال99دنيا
وفي اآلخ99رة وينص99ر به99ا ،أي :اإلرادة الديني99ة الش99رعية للعب99اد من أوليائ99ه المتقين
وحزبه المفلحين وعباده الصالحين ،5ومن اآليات الدالة على اإلرادة الشرعية:
ـ قوله تعالى ":ي ُِري ُد هّللا ُ بِ ُك ُم ْاليُس َْر َوالَ ي ُِري ُد بِ ُك ُم ْال ُع ْس َر" (البقرة ،آية .)185 :
ج" (المائدة ،آية .)6 : ـ وقوله تعالىَ ":ما ي ُِري ُد هّللا ُ لِيَجْ َع َل َعلَ ْي ُكم ِّم ْن َح َر ٍ
ت أَن تَ ِميلُْ 9
9وا َّ
الش9هَ َوا ِ ـ وقوله تعالىَ ":وهّللا ُ ي ُِري ُد أَن يَتَُ 9
9وب َعلَ ْي ُك ْم َوي ُِريُ 9د الَّ ِذينَ يَتَّبِ ُع99ونَ
َظي ًما" (النساء ،آية .)27 : َم ْيالً ع ِ
1مسلم ،باب التوبة رقم .2748
2منهج اإلمام ابن أبي العز الحنفي صـ.330
3المصدر نفسه صـ.330
4القضاء والقدر عند السلف صـ .65
5مجموع الفتاوى (.)188 /8
46
ض ِعيفًا" (النساء ،آية .)28 : ان َ اإلن َس ُ
ق ِ ـ وقال تعالى9":ي ُِري ُد هّللا ُ أَن يُ َخفِّفَ عَن ُك ْم َو ُخلِ َ
ت َويُطَهِّ َر ُك ْم ت ْ
َط ِه99يرًا" س أَ ْه َ 9ل ْالبَ ْي ِب عَن ُك ُم ال ِّ 9رجْ َ ـ وق99ال تع99الى":إِنَّ َم 9ا 9ي ُِري ُ 9د هَّللا ُ لِيُ9ْ 9ذ ِه َ
(األحزاب ،آية .)33 :
ض 9ى لِ ِعبَ99ا ِد ِه ْال ُك ْف َ 9ر وإِن ت َْش ُ 9كرُواـ ق99ال تع99الى":إِن 9تَ ْكفُ 9رُوا فَ 9إ ِ َّن هَّللا َ َغنِ ٌّي عَن ُك ْم َواَل يَرْ َ
ضهُ لَ ُك ْم" (الزمر ،آية .)7 : يَرْ َ
3ــ الفرق بين اإلرادتين:
أــ اإلرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد ،والشرعية ال يلزم.
1
ب ــ اإلرادة الشرعية تختص فيما يحبه هللا ،والكونية عامة فيما يحبه وما ال يحبه .
ج ــ فم99ا ك99ان بمع99نى المش99يئة فه99و إرادة كوني99ة وم99ا ك99ان بمع99نى المحب99ة فه99و إرادة
9وب َعلَ ْي ُك ْم" (النس99اء، شرعية ،مث99ال اإلرادة الش99رعية قول99ه تع99الىَ 9":وهّللا ُ ي ُِريُ 9د أَن يَتَُ 9
آية )27 :ألن يريد هنا بمعنى يحب وال تكون بمعنى المش99يئة ألن99ه ل99و ك99ان المع99نى:
وهللا يشاء أن يتوب عليكم ،لتاب على جميع العباد وهذا أمر لم يكن فإن أك9ثر ب9ني آدم
من الكفار ،إذن يريد أن يتوب عليكم يع99ني يجب أن يت99وب عليكم وال يل99زم من محب99ة
هللا للشيء أن يقع ألن الحكمة اإللهية البالغ99ة ق99د تقتض99ي ع99دم وقوع99ه ومث99ال اإلرادة
الكونية قوله تعالى":إِن َكانَ هّللا ُ ي ُِري ُد أَن يُ ْغ ِويَ ُك ْم" (هود ،آية )34 :ألن هللا ال يحب أن
يغوي العباد إذن ال يصح أن يكون المعنى إن كان هللا يحب أن يغويكم ب99ل المع99نى إن
كان هللا يشاء أن يغويكم.
س ــ هللا يريد المعاصي كونا ً ال ش99رعاً ،ألن اإلرادة الش99رعية بمع99نى المحب99ة وهللا ال
يحب المعاص99ي ولكن يري99دها كون99ا أي مش99يئة فك99ل م99ا في الس99موات واألرض فه99و
بمشيئة هللا.2
4ـ المخلوقات مع كل من اإلرادتين :تنقسم إلى أربعة:
أ ــ ما تعلقت به اإلرادتان ،وهو م9ا وق99ع في الوج9ود من األعم99ال الص9الحة ،ف9إن هللا
أراده إرادة دين وشرع ،فإمر وأحبه ورضيه ،وأراده إرادة كون فوقع ،ولوال ذل9ك م9ا
كان.
ب ــ ما تعلقت ب99ه اإلرادة الديني99ة فق99ط ،وه99و م99ا أم99ر هللا ب99ه من األعم99ال الص99الحة،
فعصى ذلك الكفار والفج9ار فتل9ك كله99ا إرادة دين وه9و يحبه9ا ويرض9اها وقعت أو لم
تقع.
ج ــ ما تعلقت به اإلرادة الكونية فقط ،وهو ما ق99دره هللا وش99اءه من الح99وادث ال99تي لم
يأمر بها كالمباحات والمعاصي فإنه لم ي99أمر به99ا ،ولم يرض99ها ،ولم يحبه99ا ،إذ ه99و ال
يأمر بالفحشاء وال يرضى لعباده الكفر ،ولوال مش99يئته وقدرت99ه وخلق99ه له99ا لم99ا ك99انت
ولما وجدت ،فإنه ما شاء هللا كان وما لم يشأ لم يكن.
د ـ ما لم تتعلق به هذه اإلرادة وال هذه ،فهذا ما لم يقع ولم يوج99د من أن99واع المباح99ات
والمعاصي.3
والسعيد من عباد هللا من أراد هللا منه تقديراً ما أراد به تشريعاً ،والعبد الشقي من أراد
به تقديراً ما لم يرد به تشريعاً ،وأهل السنة والجماعة الذين فقه99وا دين هللا ح99ق الفق99ه،
47
ولم يضربوا كتاب هللا بعضه ببعض ،علموا أن أحكام هللا في خلق99ه تج99ري على وف99ق
ه99اتين اإلرادتين ،فمن نظ99ر إلى األعم99ال الص99ادرة عن العب99اد به99اتين العي99نين ك99ان
بصيراً ،ومن نظر إلى الشرع دون القدر ،أو نظر إلى القدر دون الشرع ك99ان أع99ور،
مث9ل ق99ريش ال99ذين ق9الوا ":لَ9وْ َش9اء هّللا ُ َم9ا أَ ْشَ 9ر ْكنَا َوالَ آبَا ُؤنَ9ا َوالَ َح َّر ْمنَ99ا ِمن َشْ 9ي ٍء"
(األنعام ،آية .)148 :
9وا بَأْ َس9نَا قُ99لْ هَ99لْ ِعنَ 9د ُكم ِّم ْن ِعل ٍمْ
ب الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِهم َحتَّى َذاقُْ 9 َّ
وق99ال تع9الىَ 9":كَ 9ذلِكَ َك99ذ َ
فَتُ ْخ ِرجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّ َّن َوإِ ْن أَنتُ ْم إَالَّ ت َْخ ُرصُونَ "( 9األنعام ،آية . )148 :
1
48
فالكونية:ـ كقوله تعالى ":فَعَّا ٌل لِّ َما ي ُِري ُد" (البروج ،آية .)16 :
ك قَرْ يَةً" (اإلسراء ،آية .)16 : وقولهَ ":وإِ َذا أَ َر ْدنَا أَن نُّ ْهلِ َ
وقوله ":إِن َكانَ هّللا ُ ي ُِري ُد أَن يُ ْغ ِويَ ُك ْم" (هود ،آية .)34 :
والدينيــة :كقول99ه تع99الى ":ي ُِري ُ 9د هّللا ُ بِ ُك ُم ْالي ُْس َ 9ر َوالَ ي ُِري ُ 9د بِ ُك ُم ْالع ْ
ُس َ 9ر" (البق99رة ،آي99ة :
وب َعلَ ْي ُك ْم" (النساء ،آية .)27 : .)185وقولهَ ":وهّللا ُ ي ُِري ُد أَن يَتُ َ
فلو كانت هذه اإلرادة كونية لما حصل العسر ألحد من99ا ،ول99و وقعت التوب99ة من جمي99ع
المكلفين ،1وبهذا التفصيل يزول االشتباه في مسألة األمر واإلرادة ،هل متالزمت99ان أم
ال؟
والصواب أن األمر يستلزم اإلرادة الدينية ،وال يستلزم اإلرادة الكوني99ة ،فإن99ه ال ي99أمر
إال بما يريده شرعا ً وديناً ،وقد يأمر بم99ا ال يري99ده كون9ا ً وق99دراً ،كإيم99ان من أم99ره ولم
يوفقه لإليمان مراد له دينا ً ال كوناً ،وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كون9ا ً وق99دراً،
وأمر رسوله بخمسين صالة ولم يرد ذلك كونا ً وقدراً ،وبين هذين األم99رين وأم99ر من
لم يؤمن باإليمان فرق ،فإنه س99بحانه لم يحب من إب99راهيم ذبح ول99ده ،وإنم99ا أحب من99ه
عزمه على االمتثال ،وأن يوطن نفسه عليه ،وكذلك أمره محمداً صلى هللا عليه وس99لم
ليلة اإلسراء بخمسين صالة ،وأما أم99ره من علم أن99ه ال ي99ؤمن باإليم99ان س99بحانه يحب
من عباده أن يؤمنوا به وبرسله ،ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعض99هم على فع99ل م99ا
أمره ووفقه له ،وخذل بعضهم فلم يعن99ه ولم يوفق99ه ،فلم تحص99ل مص99لحة األم99ر منهم،
وحصلت من األمر بالذبح.2
وأما الكتابة:
َب هَّللا ُ أَل َ ْغلِبَ َّن أَنَا َو ُر ُسلِي" (المجادلة ،آية .)21 :
فالكونية:ـ كقولهَ ":كت َ
ض يَ ِرثُهَ99ا ِعبَ99ا ِد َ
ي ُ99ور ِمن بَعِْ 99د الِّ 99ذ ْك ِر أَ َّن اأْل َرْ َ
وق99ال تع99الىَ 9":ولَقَْ 99د َكتَ ْبنَ99ا فِي ال َّزب ِ
الصَّالِحُونَ" (األنبياء ،آية .)105 :
ير" (الحج، ب َّ
السِ 99ع ِ ُضلُّهُ َويَ ْه ِدي ِه إِلَى َع َذا ِ ب َعلَ ْي ِه أَنَّهُ َمن ت ََواَّل هُ فَأَنَّهُ ي ِ
ـ وقال تعالىُ ":كتِ َ
آية .)4 :
ب َعلَ ْي ُك ُم الصِّ يَا ُم" (البقرة ،آية .)183 : والشرعية األمرية :كقولهُ ":كتِ َ
9ات األَ ِ
خ ت َعلَ ْي ُك ْم أُ َّمهَ99اتُ ُك ْم َوبَنَ99اتُ ُك ْم َوأَ َخَ 9
9واتُ ُك ْم َو َع َّماتُ ُك ْم َو َخ 9االَتُ ُك ْم َوبَنَُ 9 وقول99هُ ":حِّ 9ر َم ْ
َّض9ا َع ِة َوأُ َّمهَُ 9
9ات نِ َس9آئِ ُك ْم 9واتُ ُكم ِّمنَ الر َ ت َوأُ َّمهَ99اتُ ُك ُم الالَّتِي أَرْ َ
ضْ 9عنَ ُك ْم َوأَ َخَ 9 9ات األُ ْخ ِ
َوبَنَُ 9
9وا َدخ َْلتُم بِ ِه َّن
َخَلتُم بِ ِه َّن فَ 9إِن لَّ ْم تَ ُكونُْ 9
ُور ُكم ِّمن نِّ َس 9آئِ ُك ُم الالَّتِي د ْ َو َربَائِبُ ُك ُم الالَّتِي فِي ُحج ِ
ُوا بَ ْينَ األُ ْختَ ْي ِن إَالَّ َما قَ ْد
َاح َعلَ ْي ُك ْم َو َحالَئِ ُل أَ ْبنَائِ ُك ُم الَّ ِذينَ ِم ْن أَصْ الَبِ ُك ْم َوأَن تَجْ َمع ْ فَالَ ُجن َ
1
الجامع الصحيح في القدر صـ .131
2
المصدر نفسه صـ .131
49
ت أَ ْي َم99انُ ُك ْم ِكتََ 9
9اب َات ِمنَ النِّ َساء إِالَّ َم99ا َملَ َك ْ صن ُ َّحي ًما * َو ْال ُمحْ َ َسلَفَ إِ َّن هّللا َ كانَ َغفُورًا ر ِ
هّللا ِ َعلَ ْي ُكمْ" (النساء ،آية 23 :ـ .)24
س" (المائ99دة ،آي99ة ،)45 :ف99األولى كتاب99ة س بِ99النَّ ْف ِ وقول99هَ ":و َكتَ ْبنَ99ا َعلَ ْي ِه ْم ِفيهَ99ا أَ َّن النَّ ْف َ
1
بمعنى القدر ،والثانية كتابة بمعنى األمر .
9ون" (يس ،آي99ة : واألمر الكوني :كقوله ":إِنَّ َما أَ ْم ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد َش ْيئًا أَ ْن يَقُ99و َل لَ9هُ ُك ْن فَيَ ُكُ 9
.)82
ص ِر" (القمر ،آية .)50 : ح بِ ْالبَ َ وقولهَ ":و َما أَ ْم ُرنَا إِاَّل َو ِ
اح َدةٌ َكلَ ْم ٍ
وقولهَ ":و َكانَ أَ ْم ُر هّللا ِ َم ْفعُوالً" (النساء ،آية .)47 :
ضيًّا" (مريم ،آية .)21 : وقال تعالىَ 9":و َكانَ أَ ْمرًا َّم ْق ِ
وا فِيهَ99ا" (اإلس99راء ،آي99ة : وقال تعالىَ 9":وإِ َذا أَ َر ْدنَا أَن نُّ ْهلِكَ قَرْ يَةً أَ َمرْ نَا ُم ْت َرفِيهَ99ا فَفَ َس 9قُ ْ
،)16فهذا أمر تقدير كوني ،ال أمر ديني شرعي ،فإن هللا ال يأمر بالفحشاء ،والمعنى:
قضينا ذلك وق99درناه وق99الت طائف99ة :ب99ل ه99و أم99ر دي99ني ،والمع99نى :أمرن99اهم بالطاع99ة
فخالفونا وفسقوا ،والقول األول أرجح.2
اإلحْ َسا ِن" (النحل ،آية .)90 : واألمر الديني:ـ قوله ":إِ َّن هّللا َ يَأْ ُم ُر بِ ْال َع ْد ِل َو ِ
ت إِلَى أَ ْهلِهَ99ا" (النس99اء ،آي99ة .)58 :وه99و وا األَ َمانَ99ا ِ وقول99ه ":إِ َّن هّللا َ يَ99أْ ُم ُر ُك ْم أَن تُ99ؤ ُّد ْ
كثير.3
ضآرِّينَ بِ ِه ِم ْن أَ َح ٍد إِالَّ بِ9إ ِ ْذ ِن هّللا ِ" (البق9رة، وأما اإلذن الكوني :كقوله تعالىَ ":و َما هُم بِ َ
آية ،)102 :أي :بمشيئته وقدره ،وأما الديني ،كقولهَ ":ما قَطَ ْعتُم ِّمن لِّينَ ٍة أَوْ تَ َر ْكتُ ُموهَا
قَائِ َمةً َعلَى أُصُولِهَا فَبِإ ِ ْذ ِن هَّللا ِ" (الحشر ،آية )5 :أي :بأمره ورضاه.
ق فَ َج َع ْلتُم ِّم ْن9هُ َح َرا ًم99ا َو َحالَالً قُ99لْ آهّلل ُ أَ ِذنَ وقوله ":قُ99لْ أَ َرأَ ْيتُم َّما أَن99زَ َل هّللا ُ لَ ُكم ِّمن ر ِّْز ٍ
لَ ُك ْم أَ ْم َعلَى هّللا ِ تَ ْفتَرُونَ " (يونس ،آية .)59 :
ِّين َما لَ ْم يَأْ َذن بِ ِه هَّللا ُ" (الشورى ،آية .)21 : وقوله ":أَ ْم لَهُ ْم ُش َر َكاء َش َر ُعوا لَهُم ِّمنَ الد ِ
وأمــا الجعــل الكــوني :كقول99ه ":إِنَّا َج َع ْلنَ99ا فِي أَ ْعنَ99اقِ ِه ْم أَ ْغالَالً فَ ِه َي إِلَى األَ ْذقَ99ا ِن فَهُم
خَلفِ ِه ْم َس ًّدا" (يس ،آية 8 :ـ .)9 ُّم ْق َمحُونَ * َو َج َع ْلنَا ِمن بَ ْي ِن أَ ْي ِدي ِه ْم َس ًّدا َو ِم ْن ْ
س َعلَى الَّ ِذينَ الَ يَ ْعقِلُونَ " (يونس ،آية .)100 : وقولهَ ":ويَجْ َع ُل الرِّ جْ َ
َ َ
وقولهَ ":وهّللا ُ َج َع َل لَ ُكم ِّم ْن أنفُ ِس ُك ْم أ ْز َوا ًجا" (النحل ،آية )72 :وهو كثير.
ص9يلَ ٍة َوالَ َحٍ 9ام" ير ٍة َوالَ َس9آئِبَ ٍة َوالَ َو ِ 9ل هّللا ُ ِمن بَ ِحَ 9 وأما الجعل الديني:ـ كقول99هَ ":م99ا َج َعَ 9
(المائدة ،آية )103 :أي :ما شرع ذلك وال أمر به ،وإال فهو مخلوق ل99ه ،واق99ع بق99دره
اس" (المائ99دة ،آي99ة : 9ل هّللا ُ ْال َك ْعبَ9ةَ ْالبَيْتَ ْال َحَ 9را َم قِيَا ًم99ا لِّلنَّ ِ ومشيئته ،وأم99ا قول99هَ ":ج َعَ 9
.)97
فهذا يتناول الجعلين ،فإنها جعلها كذلك بقدره وش99رعه وليس ه99ذا اس99تعماالً للمش99ترك
4
في معنييه ،بل إطالق اللفظ وإرادة القدر المشترك بين معنييه فتأمله.
وا أَنَّهُ ْم الَك َعلَى الَّ ِذينَ فَ َس99قُ ْ ت َربِّ َ ت َكلِ َم ُ وأمــا الكلمــات الكونيــة:ـ كقول99هَ ":كَ 99ذلِكَ َحقَّ ْ
ي ُْؤ ِمنُونَ " (يونس ،آية .)33 :
50
ُوا" (األعراف ،آي99ة : صبَر ْ يل بِ َما َ ك ْال ُح ْسنَى َعلَى بَنِي إِس َْرآئِ َ ت َربِّ َ ت َكلِ َم ُوقولهَ ":وتَ َّم ْ
.)137
وقوله صلى هللا عليه وسلم :أعوذ بكلمات هللا التامات التي ال يجاوزهن ب99ر وال ف99اجر
من شر ما خلق .1فهذه كلمات99ه الكوني99ة ال99تي يخل99ق به99ا ويك99ون ،ول99و ك99انت الكلم99ات
الدينية التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار والكفار.
اس 9تَ َجا َرك فَ99أ َ ِجرْ هُ َحتَّى يَ ْس َ 9م َع َكالَ َم ِ"
هّللا وأما الديني :كقولهَ ":وإِ ْن أَ َح ٌد ِّمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ْ
(التوبة ،آية )6 :والمراد به القرآن وقوله صلى هللا عليه وسلم في النس99اء :واس99تحللتم
9اب لَ ُكم ِّمنَ النِّ َس 9اء" ُوا َم99ا طََ 9 فروجهن بكلمة هللا ،2أي :إباحته ودين99ه ،وقول99ه ":فَ99ان ِكح ْ
(النساء ،آية .)3 :
ت َربِّهَ99ا َو ُكتُبِِ 9ه" (التح99ريم ،آي99ة .)12 : ت بِ َكلِ َم99ا ِص َّدقَ ْ
وقد اجتمع النوعان في قولهَ ":و َ
فكتبه كلماته التي يأمر بها ،وينهي ويحل ويحرم ،وكلماته التي يخلق بها ويكون.
وأما البعث الكوني :كقوله ":فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد أُوالهُ َم99ا بَ َع ْثنَ99ا َعلَ ْي ُك ْم ِعبَ99ادًا لَّنَ99ا أُوْ لِي بَ99أْ ٍ
س
َش ِدي ٍد" (اإلسراء ،آية .)5 :
ض" (المائدة ،آية .)31 : ث فِي األَرْ ِ ث هّللا ُ ُغ َرابًا يَب َْح ُوقوله ":فَبَ َع َ
ث فِي اأْل ُ ِّميِّينَ َر ُس 9واًل ِّم ْنهُ ْم" (الجمع99ة ،آي99ة : وأما البعث الديني :كقوله ":هُ َو الَّ ِذي بَ َع َ
.)2
ث هّللا ُ النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّش ِ 9رينَ َو ُمن ِ 9ذ ِرينَ " (البق99رة ،آي99ة : وقول99هَ ":ك99انَ النَّاسُ أُ َّمةً َو ِ
احَ 9دةً فَبَ َع َ
.)213
وأما اإلرسال الكوني :كقوله ":أَلَ ْم تَ َر أَنَّا أَرْ َس ْلنَا ال َّشيَا ِطينَ َعلَى ْال َك9افِ ِرينَ تَُ 9ؤ ُّزهُ ْم أَ ًّزا"
(مريم ،آية .)83 :
اح" (الفرقان ،آية .)48 : َ
وقوله ":هُ َو الَّ ِذي أرْ َس َل الرِّ يَ َ
وأما اإلرسال الديني:ـ كقوله ":هُ َو الَّ ِذي أَرْ َس َل َر ُس9ولَهُ بِ ْالهُ9دَى َو ِدي ِن ْال َح 9قِّ" (التوب99ة،
آية .)33 :
وقوله ":أَرْ َس ْلنَا إِلَ ْي ُك ْم َر ُسواًل َشا ِهدًا َعلَ ْي ُك ْم َك َما أَرْ َس ْلنَا إِلَى فِرْ عَوْ نَ َر ُسواًل " (المزم99ل ،
آية .)15 :
اض َع ِمن قَ ْبلُ" (القصص ،آية .)12 : ْ
أما التحريم الكوني ،كقوله " َو َح َّر ْمنَا َعلَ ْي ِه ال َم َر ِ
ال فَإِنَّهَا ُم َح َّر َمةٌ َعلَ ْي ِه ْم أَرْ بَ ِعينَ َسنَةً" (المائدة ،آية .)26 : وقوله " :قَ َ
وقولهَ " :و َح َرا ٌم َعلَى قَرْ يَ ٍة أَ ْهلَ ْكنَاهَا أَنَّهُ ْم اَل يَرْ ِجعُونَ " (األنبياء ،آية .)95 :
ت ت َعلَ ْي ُك ْم أُ َّمهَاتُ ُك ْم" (النساء ،آية )23 :و"حُرِّ َم ْ وأما التحريم الديني:ـ كقوله " :حُرِّ َم ْ
ص ْي ُد ْالبَ ِّر َما ُد ْمتُ ْم ُح ُر ًما" (المائدة ،
َعلَ ْي ُك ُم ْال َم ْيتَةُ" (المائدة ،آية ،)3 :و" َو ُح ِّر َم َعلَ ْي ُك ْم َ
آية ،)96 :و" َوأَ َح َّل هّللا ُ ْالبَ ْي َع َو َح َّر َم ال ِّربَا" (البقرة ،آية .)275 :
وأما اإليتاء الكوني
ْ
كقوله تعالىَ " :وهّللا ُ ي ُْؤتِي ُمل َكهُ َمن يَ َشاء" (البق99رة ،آي99ة ،)247 :وقول99ه " :قُ ِ 9ل اللَّهُ َّم
ك تُ ْؤتِي ْال ُم ْلكَ َمن تَ َشاء"(آل عمران ،آية .)26 : َمالِكَ ْال ُم ْل ِ
1
المصدر نفسه صـ .134
2
المصدر نفسه صـ .134
51
وقال تعالى " :يُؤتِي ْال ِح ْك َمةَ َمن يَ َشاء َو َمن ي ُْؤتَ ْال ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َي َخ ْيرًا َكثِيرًا" (البقرة
،آية .)269 :فهذا يتناول النوعين ،فإنه يؤتيها من يشاء أمراً ودينا ً وتوفيقا ً وإلهاما ً.1
وأنبياؤه ورسله وأتباعهم حظهم من هذه األمور الديني منها وأعداؤه واقفون مع القدر
الكوني ،فحيث ما مال القدر مالوا معه ،فدينهم دين القدر ودين الرسل ،واتب99اعهم دين
األمر فهم يدينون ب99أمره ،ويؤمن99ون بق99دره ،وخص99ماء هللا يعص99ون أم99ره ،ويحتج99ون
بق9دره ،ويقول9ون 9:نحن واقف9ون م9ع م9راد هللا ،نعم م9ع م9راده الك9وني ال ال9ديني ،وال
ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني ،وال يكون ذلكم عذراً لكم عن99ده إذ ل99و ع99ذر ب99ذلك لم
ص وال كافر.2 يذم أحداً من خلقه ولم يعاقبه ،ولم يكن في خلقه عا ٍ
1
الجامع الصحيح في القدر صـ .137
2
الجامع الصحيح في القدر صـ.137
52
المبحث الرابع :ال حول وال قوة إال باهلل
إن كلمة الحوقلة "ال حول وال قوة إال باهلل" هي من األذك99ار العظيم99ة الق99در ،الرفيع99ة
المنزل99ة ،العالي99ة المرتب99ة ،وله99ا من الفض99ائل والفوائ99د والمن99افع م99ا ال يعلم99ه إال هللا
سبحانه ،وقد كان النبي صلى هللا عليه وسلم يعلمها أصحابه ويحثهم عليها ،وتأتي هذه
الكلمة في األذكار المطلقة والمقيدة في مواضع كثيرة.1
أوالً :فضلها :فمما يدل على فضلها وعلو منزلتها ،ومما يرغب في اإلكثار من قولها
باللسان وإمرارها على الجنان أمور:
1ـ إخبار النبي صلى هللا عليه وسلم عنها بأنها كنز من كنوز الجنة:
فعن أبي موسى األشعري ـ رضي هللا عنه ـ قال :كنا مع الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم
في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير ،فقال النبي صلى هللا عليه وس99لم :أيه99ا الن99اس
أربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم وال غائباً ،إنكم ت99دعون س99ميعا ً قريب9ا ً وه99و
معكم ،قال :وأنا خلفه وأنا أقول :قل ،ال حول وال قوة إال باهلل.2
قال النووي رحمه هللا :قوله صلى هللا علي99ه وس99لم :ال ح99ول وال ق99وة إال باهلل ك99نز من
كن99وز الجن99ة :ق99ال العلم99اء :س99بب ذل99ك أنه99ا كلم99ة استس99الم وتف99ويض إلى هللا تع99الى
واعتراف باإلذعان له وأنه صانع غ99يره وال راد ألم99ره وأن العب99د ال يمل99ك ش99يئا ً عن
األمر ومعنى الكفر هنا أنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس
أموالكم.3
والكنز مال مجتمع ال يحت99اج إلى جم99ع وذل99ك أنه99ا تتض99من التوك99ل واالفتق99ار إلى هللا
تعالى ومعلوم أنه ال يكون شئ إال بمشيئة هللا وقدرت99ه ،وأن الخل99ق ليس منهم ش99ئ إال
ما أحدثه هللا فيهم.4
وقول "ال حول وال قوة إالباهلل" يوجب اإلعانة ولهذا سنها النبي صلى هللا عليه وس99لم
إذا قال المؤذن :حي على الصالة ،فيقول المجيب :ال حول وال قوة إال باهلل ،ف99إذا ق9ال:
حي على الفالح ،ق99ال المجيب "ال ح99ول وال ق99وة إال باهلل" ،وق99ال الم99ؤمن لص99احبه:
"ولوال إذا دخلت جنتك قلت ما شاء هللا ال قوة أال باهلل" ،وله99ذا ي99ؤمر به99ذا من يخ99اف
53
العين على شئ فقوله :ما شاء هللا ،تقديره :ما شاء هللا كان فال يأمن ،ب99ل ي9ؤمن بالق9در
ويقول ال قوة إال باهلل.1
2ــ ومن فضــلها أن هللا ســبحانه يصــدق قائلها ومن ص9دقه هللا تع9الى على م9ا يق9ول
فليبشر بالخير بإذن هللا ،2فعن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :إذا قال العب99د :ال إل99ه إال
هللا وهللا أكبر صدقه ربه ،قال :صدق عبدي ال إله إال أنا وأنا وحدي ،وإذا فال :ال إل99ه
إآل هللا وحده ال شريك له ،صدقه ربه قال :قال صدق عب99دي ال إل99ه إال أن99ا وال ش99ريك
لي ،وإذا قال :ال إله إال هللا له المل99ك ول99ه الحم99د ق99ال :ص99دق عب99دي ال إل99ه إال أن99ا لي
الملك ولي الحمد ،وإذا قال :ال إله إال هللا وال حول وال قوة إال باهلل ،قال :صدق عبدي
ال حول وال قوة إال بي.3
3ـ من فضــلها أن من قالهــا حين يخــرج من بيتهـ مع البس99ملة والتوك99ل على هللا أن99ه
يوفي ويُكفي ويُهدى ،فعن أنس بن مالك أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال" :إذا خرج
من بيته فقال بسم هللا وت99وكلت على هللا ال ح99ول وال ق99وة إال باهلل فيق99ال ل99ه حس99بك ق99د
كفيت وهديت ووفيت فيلقى الشيطان شيطانا ً آخر فيق99ول ل99ه كي99ف ل99ك برج99ل ق99د كفي
وهدي ووفي.4
4ـ ـ ومن فضــائلها أنهــا من الباقيــات الصــالحات ومن أحب الكالم إلى المــولى جــل
ات َخ ْي ٌر ِعنَ 99د َربِّ َ
ك جالله قال هللا تبارك وتعالى في محكم التنزيل " َو ْالبَاقِيَ ُ
ات الصَّالِ َح ُ
ثَ َوابًا َو َخ ْي ٌر أَ َماًل " (الكهف ،آية .)46 :
فقد ورد في تفسير هذه اآلية عن جمع من الصحابة والتابعين أن الباقي99ات الص99الحات
هي س99بحان هللا ،والحم99د هلل ،وال إل99ه إال هللا ،وهللا أك99بر ،وال ح99ول وال ق99وة إال باهلل،5
وسئل ابن عمر رض99ي هللا عنهم99ا عن الباقي99ات الص99الحات؟ فق99ال :ال إل99ه إال هللا وهللا
أكبر وسبحان هللا وال حول وال قوة إال باهلل ،6وعن ابن عباس رض99ي هللا عنهم99ا ق99ال:
هي ذكر هللا ،قول ال إله إال هللا وهللا أكبر وسبحان هللا والحمد هلل ،وال إل99ه إال هللا ،وهللا
أك99بر ،وال ح99ول وال ق99وة إال باهلل ،واس99تغفر هللا ،وص99لى هللا على رس99ول هللا والقي99ام
والصالة والحج والصدقة والعتق والجهاد وأعمال الحسنات وهي الباقيات الص9الحات
التي تبقى ألهله99ا في الجنة ،7وق99د ورد في فض99لهن أي الكلم99ات الباقي99ات الص99الحات
يكفرن الذنوب ،فقد ثبت عنه ص99لى هللا علي99ه وس99لم أن99ه ق99ال" :م99ا على األرض َّ أنهن
رجل يقول :ال إله إال هللا ،وهللا أكبر ،وس9بحان هللا ،والحم9د هلل ،وال ح9ول وال ق9وة إال
باهلل ،إال ُكفِّرت عنه ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر.8
54
5ـ ومن فضائلها أنها غراس الجنة فقد ثبت أن رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم ليل99ة
أسري به مر على إبراهيم عليه السالم فقال :من معك ي99ا جبري99ل؟ فق99ال :ه99ذا محم99د،
فقال له إب99راهيم أأ ُم99ر أمت99ك فليك99ثروا من غ99راس الجن99ة ف99إن تربته99ا طيب99ة وأرض99ها
واسعة ،قال :وما غراس الجنة؟ قال :ال حول وال قوة إال باهلل.1
ثانياً :معنى ال حول وال قوة إال باهلل:
الح9ول الحرك9ة والحيل99ة أي ال حرك9ة وال اس99تطاعة وال حيل9ة إال بمش9يئة هللا تع99الى،
وقيل :معناه ال حول في دفع شر وال قوة في تحصيل خير إال باهلل ،وقيل :ال حول عن
معصية هللا إال بعصمته وال قوة على طاعته إال بمعونت99ه وحُكي ه99ذا عن ابن مس99عود
رضي هللا عنه وكله متقارب.2
وقال اإلمام الطحاوي في تفسيره لمعنى "ال حول وال ق99وة إال باهلل" :ال حي99ل وال ق99وة
ألحد على إقامة طاعة هللا والثبات عليها إال بتوفيق هللا ،وكل ش99ئ يج99ري بمش99يئة هللا
تعالى وعلمه وقضائه وقدره ،غلبت مشيئته المشيئات كلها ،وعكست إرادته اإلرادات
كلها ،وغلب قضاؤه الحيل كلها يفعل م99ا يش99اء وه99و غ99ير ظ99الم أب99داً " اَل ي ُْس9أ َ ُل َع َّما
يَ ْف َع ُل َوهُ ْم يُسْأَلُونَ " (األنبياء ،آية .3)23 :
وال شك أن معنى ال حول وال قوة إال باهلل أوسع وأعم مما ُذك99ر ،فلف99ظ الح99ول يتن99اول
كل تحول من حال إلى حال ،والقوة هي القدرة على ذل99ك التح99ول ،ف99دلت ه99ذه الكلم99ة
العظيمة على أنه ليس للعالم العل99وي والس99فلي حرك99ة وتح99ول من ح99ال إلى ح99ال وال
قدرة على ذلك إال باهلل ،ومن الناس من يفسر ذل99ك بمع99نى خ99اص فيق99ول ال ح99ول من
معصيته إال بعصمته وال ق99وة على طاعت99ه إال بمعونت99ه ،وال99ذي ي99دل علي99ه اللف99ظ ،أن
الحول ال يختص بالحول عن المعصية وكذلك القوة ال تختص بالقوة على الطاعة ،بل
لف99ظ الح99ول يعم ك99ل تح99ول ..وك99ذلك لف99ظ الق99وة ،ق99ال تع99الى " :هَّللا ُ الَّ ِذي خَ لَقَ ُكم ِّمن
ض ْعفًا َو َش ْيبَةً" (ال99روم ،آي99ة : ْف قُ َّوةً ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد قُ َّو ٍة َ ْف ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد َ
ضع ٍ ضع ٍَ
.)54
ولفظ القوة ال يراد به ما كان في القدرة أكمل من غيره فهو قدرة أرجع من غيره99ا أو
القدرة التامة ولفظ القوة قد يعم القوة التي في الجمادات بخالف لفظ الق99درة فله99ذا ك99ان
المنفي بلفظ الق9وة أش9مال وأكم9ل ف9إذا لم تكن ق9وة إال ب9ه لم تكن ق9درة إال ب9ه بطري9ق
األولى وهذا باب واسع.4
ولكلمة "ال حول وال قوة إال باهلل" تأثير في دفع داء الهم والغم والحزن ،بسبب ما فيها
ـ من كمال التفويض والتبرئ من الح99ول والق99وة إال ب99ه وتس99ليم األم99ر كل99ه ل99ه وع99دم
منازعته في شئ من99ه وعم9وم ذل99ك لك9ل تح99ول من ح9ال إلى ح9ال في الع9الم العل9وي
والسفلي والقوة على ذلك التحول ،وأن ذلك كله باهلل وح9ده فال يق9وم له99ذه الكلم99ة ش99ئ
وفي اآلثار أنه ما ينزل ملك من السماء وال يصعد إليها إال بال حول وال ق99وة إال باهلل،
5
ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان وهللا المستعان
55
وال حول وال قوة إال باهلل ،دليل على إثبات القدر.1
وقد ذكر اإلمام البخاري ـ رحمه هللا ـ في صحيحه هذه الكلمة العظيمة في أبواب ع99دة
من صحيحه ،ومن ذلك :كتاب القدر ومعروف أن فق99ه اإلم99ام البخ99اري كم99ا يق99ال في
تراجمه مما يدل على أنه ـ رحمه هللا ـ ما وضعها في كتاب القدر إال لداللتها عليه.2
إن كلم9ة ال ح9ول وال ق9وة إال باهلل دخلت من ب9اب الق9در لكونه9ا ت9دل على مرتب9ة من
مراتبه وهي المشيئة ،فقد ذكرنا أن مراتب القدر أربع مراتب ومنها :اإليم99ان بمش99يئة
هللا النافذة في خلقه وأن م99ا ش99اء هللا ك99ان وم99ا لم يش99أ لم يكن ،فعن99دما يق99ول العب99د "ال
حول وال قوة إال باهلل" يعتقد في قرارة نفسه أنه ال يستطيع التح99ول من أم99ر آلخ99ر إال
إذا شاء هللا له ذلك وقدره ل99ه ،فال ينص99رف عن المعص99ية إلى الطاع99ة إال بمش99يئة هللا
تعالى ،وال ينصرف من المرض إلى الصحة إال إذا كتب هللا له الشفاء وش99اء ل99ه ،وال
عز ،ومن قلة إلى كثرة ،وال من جوع إلى يتحول من ضعف إلى قوة ،وال من ذلٍّ إلى ٍ
شبع وال من فقر إلى غنى ،وال من خ9وف إلى أمن ،وال من شٍّ 9ر إلى خ9ير إال بمش9يئة
هللا وإرادته ،فال يتحول ويتقلب من أي حال مهما كان إلى ح99ال غ99يره إال إذا ش99اء ل99ه
هللا ذلك ،كما أنه ليس لعبد في نيل مطلوب والحصول على مرغوب أو دف99ع مره99وب
إال إن أعانه هللا سبحانه وأمده بق99وة من99ه ،فالعب99د ،بقول99ه له99ذه الكلم99ة يت99برأ من حول99ه
وقوته ،ويعتقد أن الحول والقوة باهلل وحده فهو سبحانه مالك الملك وخالق ،بيده أم99ور
الخلق يتص99رف بهم كي99ف يش99اء ويص9رّفهم حيث يش99اء ويقلّب أح99والهم من ح99ال إلى
حال على حسب مشيئته وحكمته وإرادته ال مانع لما قضى وال لما أعطى ،وال معطي
لما منع بيده الملك وهو على كل شئ قدير.3
ثالثاً :تضمنت ال حول وال قوة إال باهلل معــان عقديــة عظيمــة القــدر :لمن فقهها غ99ير
داللتها على القدر منها:
1ـ أنها كلمة استعانة باهلل العظيم ،ومن استعان باهلل جل جالل9ه ،فاهلل س9بحانه يعين9ه
على قضاء حوائجه ،وجميع ما يصلحه .واالستعانة باهلل من أفض99ل العب99ادات وأجلّه99ا
وتعرف منزلتها وعظم شأنها من خالل سورة الفاتحة التي أم99ر هللا س99بحانه عب99اده أن
ين" فه99ذهك نَ ْستَ ِع ُ يتعبدوه بتالوتها يوميا ً مراراً ،وذلك في قوله تعالى " :إِيَّا َ
ك نَ ْعبُ ُد وإِيَّا َ
اآلية فيها إخالص االستعانة هلل ألنه قدم م99ا حق99ه الت99أخير فأف99اد حص99ر االس99تعانة باهلل
وكذلك ال حول وال قوة إال باهلل كلم99ة تحت99وي على اإلخالص هلل باإلس99تعانة فهي ت99دل
على ما دلت عليه.4
2ـ ـ اإلقــرار بــأنواع التوحيد الثالث99ة ،توحي99د الربوبي99ة وتوحي99د األس99ماء والص99فات،
وتوحيد األلوهي9ة ،فقائله9ا يق9ر ويعتق9د ب9أن هللا وح9ده الم9دبر به9ذا الك9ون المتص9رف
بحكمته ومشيئته فال يقع فيه شئ إال بإذنه ومشيئته ،كما أنه معترف بأن من ك99ان ه99ذا
وص99فه فه99و ب99الطبع غ99ن ًّي عن خلق99ه ق99ائم بذات99ه متص99ف بص99فات الكم99ال من الق99درة
والعظمة والقوة والعزة ،ومن يعتقد هذا في خالق99ه ك99ان علي99ه لزام9ا ً أن يؤله99ه ويعب99ده
56
ويقصده ويلتجئ إليه وال يرجو أحداً سواه ،وال يدعو أحداً إال هو ،ألنه بيده التص99رف
التام وله الملك وهو على كل شئ قدير.1
3ـ التوكل على هللا وتفويض األمور إليه واالستسالم واإلذع99ان ل99ه م9ع إظه99ار ال99ذل
واالفتقار له سبحانه فهو الغني والعبد فقير إليه ال يملك من أمره شيئاً.
ويجدر التنبيه هنا على أمر يُخطئ به بعض الناس أال وهو :استعمالهم هذه الكلم99ة في
غير موضعها الالئث بها ،ونجم ذل99ك عن ع99دم معرف99ة معناه99ا ومحتواه99ا فيجعلونه99ا
كلمة استرجاع ال كلمة استعانة باهلل.2
رابعاً :االحتجاج بالقدر على المعاصي:
االحتجاج بالقدر على فعل المعصية ق99ديم ،ق99دم ب99دء الخليق99ة ،وأول من ق99ال ب99ه إبليس
أعاذنا هللا منه ،فإنه بع99د أن رفض أم99ر هللا بالس99جود آلدم ـ علي99ه الس99الم ـ واس99تحق
غضب هللا عليه بلعنه وطرده من رحمته وإخراجه من الجن99ة ،لم ين99دم ،ولم يتب ،ولم
يرجع على نفسه بالالئمة ،بل زاد عص99يانا ً وتم99رداً ،بإض99افة غوايت99ه إلى هللا ،فق99ال "
ض َوألُ ْغِ 9
9ويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (الحج99ر ،آي99ة .)39 : ُ
َربِّ بِ َمآ أَ ْغ َو ْيتَنِي ألزَ يِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ
وهكذا تلقى كثير من البشر هذه الحجة الباطلة عن إبليس فغرقوا في الض9الل ووقع99وا
في المعاصي واآلثام ثم احتجوا على ذلك بالحجة اإلبليسية ،وقالوا :هذه شئ قَّ 99دره هللا
علينا فحملوا مسئولية خطاياهم على ربهم ،وهو الذي نهاهم عن تل99ك المعاص99ي ،وق99د
أخبر هللا عن أمثال هؤالء:3
وا لَوْ َش 9اء هّللا ُ َم99ا أَ ْش َ 9ر ْكنَا َوالَ آبَا ُؤنَ99ا َوالَ َح َّر ْمنَ99ا ِمن ـ قال تعالىَ " :سيَقُو ُل الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُك ْ
وا بَأْ َسنَا قُلْ هَلْ ِعن َد ُكم ِّم ْن ِع ْل ٍم فَتُ ْخ ِرجُوهُ لَنَ99ا ب الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِهم َحتَّى َذاقُ ْ ك َك َّذ َ َش ْي ٍء َك َذلِ َ
إِن تَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّ َّن َوإِ ْن أَنتُ ْم إَالَّ ت َْخ ُرصُونَ "( 9األنعام ،آية .)148 :
وا لَوْ َشاء هّللا ُ َما َعبَ ْدنَا ِمن ُدونِ ِ 9ه ِمن َش ْ 9ي ٍء نَّحْ ُن َوال "وقَا َل الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُك ْ
ـ وقال تعالىَ :
9ل الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم فَهَ99لْ َعلَى الرُّ ُسِ 9ل إِالَّ آبَا ُؤنَا َوالَ َح َّر ْمنَا ِمن ُدونِ ِه ِمن َش ْي ٍء َكَ 9ذلِكَ فَ َعَ 9
ين" (النحل ،آية .)35 : غ ْال ُمبِ ُْالبَال ُ
ـ وقال تعالىَ " :و َج َعلُوا ْال َماَل ئِ َكةَ الَّ ِذينَ هُ ْم ِعبَ99ا ُد ال 9رَّحْ َم ِن إِنَاثً99ا أَ َش ِ 9ه ُدوا خ َْلقَهُ ْم َس9تُ ْكتَبُ
ك ِم ْن ِع ْل ٍم إِ ْنهُ ْم إِاَّل
َشهَا َدتُهُ ْم َويُسْأَلُونَ * َوقَالُوا لَوْ َشاء الرَّحْ َم ُن َما َعبَ ْ 9دنَاهُم َّما لَهُم بِ َ 9ذلِ َ
يَ ْخ ُرصُونَ " (الزخرف ،آية 19 :ـ ،)20وقد رد هللا في القرآن الكريم هذه الم99زاعم،
ووصف أصحابها بالكذب والتخرص ،صحيح ما يجري في الكون يجري بمش99يئة هللا
الكونية ،ويقع وفقا ً إلرادته ،ولكن دعوى المشركين أنهم وقعوا فيما وقعوا في99ه بس99بب
تلك المشيئة اإللهية واإلرادة اإللهية ،باطل ومردود لما يأتي.
1ـ إن مش99يئة هللا غيب ال يعلم99ه أح99د قب99ل أن يق99ع ،فمن أين له99ؤالء المش99ركين أن
يعلموها ويحيلون عليها ش99ركهم وض99اللهم ،كم99ا أن علم اإلنس99ان مح99دود ،ومن ثم ال
أحد يستطيع أن يعلم ما قدره هللا في المستقبل من خير أو شر إال بعد وقوع أح99دها ل99ه
أو عليه ،أما قبل ذلك فال علم ألحد بما سيحصل " َو َم99ا تَْ 9د ِري نَ ْفسٌ َّما َذا تَ ْك ِس9بُ َغ 9دًا
وت إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم خَ بِيرٌ" (لقمان ،آية .)34 :فلو كان عن99د ض تَ ُم ُ َو َماتَ ْد ِري نَ ْفسٌ بِأَيِّ أَرْ ٍ
57
راض بذلك فليظهروه99ا ،وإال ف99إن دع99واهم معرف99ة ٍ المشركين من حجة مقنعة بأن هللا
الغيب وكشف أسراره كذب على هللا ،ودعوى باطلة ال برهان لهم عليها.
2ـ إن هللا أذاق الكافرين السابقين ألوان العذاب وأصناف العق99اب ج99زاء على كف99رهم،
فلو لم يكونوا مختارين لما ارتكبوه من جرائم وآثام وكف99ر وش99رك لم99ا ع99ذبهم هللا ألن
هللا عدل ال يظلم أحد " َو َما َربُّكَ بِظَاَّل ٍم لِّ ْل َعبِيِ 9د"( 1فص99لت ،آي99ة .)46 :وق99ال تع99الى:
اصبًا َو ِم ْنهُم َّم ْن أَ َخ َذ ْتهُ َّ
الص99ي َْحةُ َو ِم ْنهُم َّم ْن "فَ ُكاًّل أَخَ ْذنَا بِ َذنبِ ِه فَ ِم ْنهُم َّم ْن أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه َح ِ
ظلِ ُمونَ " ظلِ َمهُ ْم َولَ ِكن َكانُوا أَنفُ َسهُ ْم يَ ْ
ض َو ِم ْنهُم َّم ْن أَ ْغ َر ْقنَا َو َما َكانَ هَّللا ُ لِيَ ْخَ َس ْفنَا بِ ِه اأْل َرْ َ
(العنكبوت ،آية .)40 :
3ـ إن هللا خل99ق البش99ر وفط99رهم على االس99تعداد للخ99ير والش99ر واله99دى والض99الل،
ومنحهم العقل لترجيح واحد من هذه على األخ9رى ،وبيَّن لهم اآلي99ات الكوني99ة الهادي99ة
إلى الحق والخير ،وأرسل الرسل وأنزل الكتب والشرائع كموازين ثابتة تعين اإلنسان
في اختياره ،ومن ثم فال حجة لإلنسان بأن وقوعه في الضالل وإنحرافه عن الح99ق لم
أن قدر هللا هو الذي أضله ،قال تعالىَ " :ونَ ْف ٍ يكن باختياره وإرادته ،أو َّ
2
س َو َما َسَّ 99واهَا
َس 9اهَا" (الش99مس ، اب َمن د َّ * فَأ َ ْلهَ َمهَا فُجُو َرهَا َوتَ ْق َواهَا * قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن زَ َّكاهَا * َوقَ ْ 9د خَ َ 9
آية 7 :ـ .)8
وقال تعالى " :إِنَّا هَ َد ْينَاهُ ال َّسبِي َل إِ َّما َشا ِكرًا َوإِ َّما َكفُورًا" (اإلنس99ان ،آي99ة ،)3 :ويق99ول
سبحانه " َوهَ َد ْينَاهُ النَّجْ َدي ِْن" (البلد ،آية ،)10 :فكل إنسان إذن مسؤول محاس99ب على
عمله من خير وشر.3
إن سلف هذه األمة قد فهموا القدر على حقيقته ،ومن ثم ردوا ما تعلل ب99ه أص99حاب 4ـ ّ
األهواء والشهوات ويروى أن أح99د اللص99وص س99رق في عه99د عم99ر رض99ي هللا عن99ه
فأحضر بين يديه فسأله عمر قائالً :لم سرقت؟ فقال :قدر هللا ذل99ك .فق99ال عم99ر رض99ي
هللا عنه :اض99ربوه ثالثين س9وطا ً ثم اقطع99وا ي99ده .فقي9ل ل99ه :ولم؟ فق9ال :يقط99ع لس9رقته
ويضرب لكذبه على هللا ،ويقول الخطابي :قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء
والق99در إجب99ار هللا س99بحانه وتع99الى العب99د على م99ا ق99دره وقض99اه ،وليس األم99ر كم99ا
يتوهمونه ،وإنما معناه اإلخبار عن تقدم علم هللا تعالى ،بما يكون من اكتسابات العب99د،
وصدورها عن تقدير منه ،وخلقه لها خيرها وشرها.4
5ـ إن هذا القول "االحتجاج بالقدر" يل99زم من99ه أن يس99توي أولي99اء هللا وأع99داء هللا ،وال
يتميز األبرار من الفجار ،وال أهل الجنة من أه99ل الن99ار ،ف99إن ه99ؤالء جميع 9ا ً ق99د كتب
مقاديرهم ،قبل أن يخلقهم ،وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد باإليمان والعمل الصالح،
وإلى شقي بالكفر والفسوق والعصيان.5
9ال ُمجْ ِر ِمينَ * َم9ا لَ ُك ْم َك ْي9فَ تَحْ ُك ُم99ونَ " (القلم ،آي9ة : ـ قال تعالى 9":أَفَنَجْ َعُ 9ل ْال ُم ْس9لِ ِمينَ َكْ 9
.)36 ،35
ض أَ ْم
ت َك ْال ُم ْف ِسِ 9دينَ ِفي اأْل َرْ ِالص9الِ َحا ِ َّ ـ وقال تع9الى ":أَ ْم نَجْ َعُ 9ل الَّ ِذينَ آ َمنُ9وا َو َع ِملُ9وا
َّار" (ص ،آية .)28 : نَجْ َع ُل ْال ُمتَّقِينَ َك ْالفُج ِ
1العقيدة اإلسالمية د .أحمد محمد جلي صـ .385
2العقيدة اإلسالمية د .أحمد جلي صـ .210
3عقيدة التوحيد من الكتاب والسنة سعاد ميبر صـ.210
4صحيح مسلم ،شرح النووي ( 154 /1ـ .)155
5اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ .63
58
ار َوأَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ُم ْالفَ99ائِ ُزونَ "
ـ وقال تعالى ":اَل يَ ْست َِوي أَصْ َحابُ النَّ ِ
(الحشر ،آية .)20 :
وملخص القول في االحتجاج بالقدر على المعاصي:
لو كان االحتجاج بالقدر ،مقبوالً لقبل إبليس وغيره من العصاة ول99و ك99ان الق99در حج99ة
للعباد لم يعذب أحد من الخل99ق ال في ال99دنيا وال في اآلخ99رة ،ول99و ك99ان الق99در حج99ة لم
تقطع يد سارق ،وال قتل قاتل ،وال أقيم حد على ذي جريمة ،وال جوهد في س99بيل هللا،
وال أمر بالمعروف وال نُهي عن المنكر ،1وه99ذا من الفس99اد في ال99دين وال99دنيا المعل99وم
ضرورة فساده بصريح المعقول المطابق لما ج9اء ب9ه الرس99ول .2وأخ9يراً ف9إن المحتج
بالقدر يكذب واقع دعواه ،إذا أنه ال يعلل بالقدر ك99ل أحوال99ه ،وإال ل99و ك99ان ص99ادقا ً في
زعمه لرضي بكل ما يقدره هللا عليه من فقر وذل وجوع وذهاب مال ،والواق99ع يش99هد
بعكس ذلك ويؤكد سعيه بكل الوسائل لجمع المال ودفع المرض وإذهاب الج99وع ..الخ
ولو كان المحتج بالقدر صادقا ً في احتجاجه للزم أن ال ينك99ر على من يظلم99ه ويش99تمه
ويأخذ ماله ويفسد حريم9ه ويض99رب عنق9ه ويهل9ك الح9رث والنس9ل ،وه9ؤالء جميعهم
كذابون متناقضون ،3فإن أحدهم ال يزال يذم هذا ،ويبغض هذا ،ويخالف هذا ،حتى إن
الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه ،وينكرون عليه ،فإن ك9ان الق99در حج99ة لمن فع99ل
المحرمات وترك الواجبات لزمهم أن ال يذموا أحداً وال يبغضوا أح99داً ،وال يقول99وا في
أحد :إنه ظالم ولو فعل ما فعل ،ومعلوم أن هذا ال يمكن أح99د فعل99ه ،وفع99ل الن99اس ه99ذا
لهلك العالم ،فتبين أن ق99ولهم فاس99د في العق99ل ...وأنهم ك99ذابون مف99ترون في ق99ولهمَّ :
إن
القدر حجة للعبد.4
ـ هل أحتج آدم عليه السالم على الذنب بالقدر؟
ومن أشهر األدلة التي يستدل بها المحتجون بالقدر على توس99يع تف99ريطهم وعص99يانهم
حديث احتجاج آدم وموسى ـ عليهم99ا الص99الة والس99الم ـ وه99و م99ا رواه أب99و هري99رة ـ
رضي هللا عنه ـ قال :قال :رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم" :احتج آدم وموس99ى فق99ال
ل99ه موس99ى :ي99ا آدم أنت أبون99ا خيبتن99ا وأخرجتن99ا من الجن99ة .فق99ال ل99ه آدم :ي99ا موس99ى
اصطفاك هللا بكالمه ،وخط لك بيده ،أتلومني على أمر ق99دره هللا عل ّي قب99ل أن يخلق99ني
بأربعين سنة ،فجح آدم موسى ثالثا ً5؟
لقد تسرع بعض الناس فأنكروا هذا الحديث حين ظن99وه س99نداً لالحتج99اج على ال99ذنوب
بالقدر ،وتمحل آخرون تأويالت غير مقبولة ،واتخ99ذه آخ99رون تك99أة يتوك99ؤون عليه99ا،
ويستندون إليها إذا وقعوا في الذنوب واآلث99ام وال99ديث ال مطعن في ص99حته ،فق99د رواه
الشيخان عن حديث أبي هريرة وروي في السنن بإسناد جيد من ح99ديث عم99ر رض99ي
هللا عنه 6والحديث يشير إلى أمور في غاية الوضوح منها:
1ـ أن الحديث ليس فيه أن موسى الم آدم على المعصية ،وإنما في99ه أن99ه قال99ه" :ي99ا آدم
أنت أبونا ،خيبتنا وأخرجتنا من الجنة" ،وظاهر هذا القول أنه المه على اإلخ99راج من
59
الجن99ة ال على األك99ل من الش99جرة ،فيك99ون الل99وم على المص99يبة ال99تي حص99لت بس99بب
المعصية ،ال المعصية نفسها ،1والمؤمن م99أمور على ن99زول المص99ائب أن يرج99ع إلى
الق99در ويحتمي ب99ه ،ف99إن س99عادة العب99د أن يفع99ل الم99أمور وي99ترك المحظ99ور ،ويس99لم
للمقدور ،ولهذا علمنا رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم أن نق99ول عن99د حل99ول م99ا نك99ره:
قدر هللا وما شاء فعل.2
2ـ أن موسى عليه السالم أعرف باهلل سبحانه وبأمره ودينه من أن يل99وم على ذنب ق99د
9اب َعلَ ْيِ 9هأخبره هللا أن99ه ت99اب على ص99احبه ،واجتب99اه بع99ده وه99داه " ثُ َّم اجْ تَبَ99اهُ َربُّهُ فَتََ 9
َوهَدَى" (طه ،آية ،)122 :وموسى عليه السالم ومن هو دون موسى منزلة يعلم أن99ه
بعد التوبة والمغفرة ،ال يبقى وجه المالمة على الذنب ،فالتائب من الذنب كمن ال ذنب
له ،3وآدم أعلم باهلل جل شأنه من أن يحتج بالق9در على ال99ذنب ،كي99ف وق9د اع99ترف ب9ه
واس99تغفر من99ه بقول99هَ " :ربَّنَ99ا ظَلَ ْمنَ99ا أَنفُ َس99نَا َوإِن لَّ ْم تَ ْغفِ99رْ لَنَ99ا َوتَرْ َح ْمنَ99ا لَنَ ُك99ون ََّن ِمنَ
ْال َخا ِس ِرينَ " (األعراف ،آية .4)23 :
3ــ إن االحتجاج بالقدر على المصائب جائز ،وكذلك االحتجاج بالقدر على المعص99ية
بعد التوبة منها جائز ،وأما االحتج99اج بالق99در على المعص99ية ت99بريراً لموق99ف اإلنس99ان
واستمراراً فيها فغير جائز.5
4ــ من مسائل القدر في هذا الحديث ،سبق الكتاب ،أي كتاب99ة ك99ل ش99ئ قب99ل وج99وده،
وفيه مقارنة بين حجة آدم وحجة موسى عليهما الس99الم ،ثم تعقيب الرس99ول ص99لى هللا
عليه وسلم بقوله" :فج ّح آدم موس9ى ،ويكرره9ا ثالث9اً" ،وال يق9ول الرس9ول الك9ريم أن
كالم موسى خطأ ،بل يلفت النظر إلى شمول و حجة آدم عليه السالم.6
ـ الحكمة من وجود المعاصي والكفر:
لوقوع المعاصي والكفر حكم كثيرة منها:
1ــ إتمــام كلمة هللا تعالى حيث وع99د الن99ار أن يمأله99ا ق99ال هللا تع99الىَ " :والَ يَزَالُ99ونَ
ألن َجهَنَّ َم ِمنَ ْال ِجنَّ ِةك ألَ ْم َّ ت َكلِ َم 99ةُ َربِّ َ ك خَ لَقَهُ ْم َوتَ َّم ْك َولَِ 99ذلِ َ ُم ْختَلِفِينَ * إِالَّ َمن ر ِ
َّح َم َربُّ َ
اس أَجْ َم ِعينَ "(هود ، 9آية 118 :ـ .)119 َوالنَّ ِ
2ـ ظهور حكمة هللا تعالى وقدرته حيث قسم العب9اد إلى قس9مين ط9ائع وعاص9ي ،ف9إن
هذا التقسيم يتبين به حكمة هللا عز وجل فإن الطاعة لها أهل هم أهلها ،والمعص9ية له9ا
ْث يَجْ َع ُل ِر َسالَتَهُ" (األنعام ،آية .)124 : أهل هم أهلها قال تعالى " :هّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ
ــ وق99ال تع99الىَ " :والَّ ِذينَ ا ْهتَ 9دَوْ ا زَا َدهُ ْم هُ 9دًى َوآتَ99اهُ ْم تَ ْق99واهُ ْم" (محم99د ،آي99ة )17 :
فهؤالء أهل الطاعة.
ــ وق9ال تع99الىَ " :وأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ99وبِ ِهم َّم َرضٌ فَ9زَا َد ْتهُ ْم ِرجْ ًس9ا إِلَى ِرجْ ِسِ 9ه ْم َو َم99اتُ ْ
وا
َوهُ ْم َكافِرُونَ " (التوبة ،آية .)125 :
60
ــ وقال " :فَلَ َّما زَا ُغوا أَزَ ا َغ هَّللا ُ قُلُوبَهُ ْم" (الصف ، 9آية ،)5 :وه99ؤالء أه99ل المعص99ية،
ويتبين بذلك قدرته بهذا التقسيم الذي ال يقدر عليه إال هللا كما قال تعالى " :لَّي َ
ْس َعلَ ْي99كَ
هُدَاهُ ْم َولَـ ِك َّن هّللا َ يَ ْه ِدي َمن يَ َشاء" (البقرة ،آية .)2729 :
999و أَ ْعلَ ُم
ــ وق999ال تع999الى " إِنَّكَ اَل تَهِْ 999دي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ يَهِْ 999دي َمن يَ َش999اء َوهُ َ
بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ "(القصص ،آية .)26 :
3ـ لجوء العبد إلى ربه بالدعاء أن يباعد بينه وبين المعصية والدعاء عبادة هلل تعالى.
ومن هللا علي99ه بالتوب99ة إزداد إناب99ة إلى هللا 4ــ ومنهــا أن العبــد إذا وقــع في المعصــية َّ
وانكسر قلبه وربما يكون بعد التوبة أكمل ح99االً من99ه قب99ل المعص99ية حيث ي99زول عن99ه
الغرور والعجب ويعرف شدة افتقاره إلى ربه.1
5ـ ومنها أن يتبين للمطيع قدر نعمة هللا علي99ه بالطاع99ة إذا رأى ح99ال أه99ل المعص99ية
ث فِي ِه ْم َر ُس9والً ِّم ْن أَنفُ ِسِ 9ه ْم يَ ْتلُ99و َعلَ ْي ِه ْم ق9ال تع99الى" :لَقَْ 9د َم َّن هّللا ُ َعلَى ْال ُم99ؤ ِمنِينَ إِ ْذ بَ َع َ
ين" (آل ض 9ال ٍل ُّمبِ ٍ وا ِمن قَ ْبُ 9ل لَفِي َ 9اب َو ْال ِح ْك َم 9ةَ َوإِن َك99انُ ْ آيَاتِ ِ 9ه َويُ َ 9ز ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتََ 9
عمران ،آية .)164 :
6ـ ومنه99ا إقام99ة الجه99اد واألم99ر ب99المعروف والنهي عن المنك99ر فإن99ه ل99وال المعاص99ي
والكفر لم يكن جه99اد وال أم99ر بمع99روف وال نهي عن منك99ر إلى غ99ير ذل99ك من الحكم
والمصالح الكثيرة وهلل في خلقه 2شؤون.
61
المبحث الخامس :الهداية واإلضالل:
إن مسألة هداية هللا تعالى للعبد وإضالله له هي قلب أبواب القدر ومس99ائله ،ألن أعظم
نعمة الهداية ،وأعظم مصيبة هي مصيبة الضالل.1
أوالً :مراتب الهداية:
1ـ ـ الهدايــة العامــة :وهي هداي99ة ك99ل مخل99وق لم99ا يص99لح أم99ور معاش99ه ،وهي أعم
9ال َربُّنَ99ا الَّ ِذي أَ ْعطَى المراتب ،وهي شاملة لجميع المخلوقات ودليلها قوله تع99الى " :قََ 9
خَلقَهُ ثُ َّم هَدَى" (طه ،آية .)50 : ُك َّل َش ْي ٍء ْ
وه99ذه الهداي99ة تعم جمي99ع المخلوق99ات ،وتعم س99ائر أم99ور المع99اش من نك99اح ،وطع99ام
وشراب ،وجميع السلوك التي يهدي هللا تعالى مخلوقات99ه لعمله99ا من غ99ير تعليم س99ابق
كهداية النمل إلى تنظيم ط99رق المع99اش وخ99زن الطع99ام وغ99ير ذل99ك مم99ا يح99ار العق99ل
البشري فيه فسبحان من خلق فسوى ثم قدر فهدى.2
2ـ هدايــة اإلرشــاد والــدعوة والبيــان وهي أخص من ال9تي قبله9ا حيث إنه9ا مختص9ة
بالمكلفين من الخلق ،والمراد بها دع99وة الخل99ق وبي99ان الح99ق لهم ،وهي حج99ة هللا على
خلقه ،فال يعذب أحداً إال بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
اس َعلَى هّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْعَ 9د الرُّ ُسِ 9لــ قال تعالى " :رُّ ُسالً ُّمبَ ِّش ِرينَ َو ُمنِ 9ذ ِرينَ لِئَالَّ يَ ُك99ونَ لِلنَّ ِ
َزي ًزا َح ِكي ًما" (النساء ،آية .)165 : َو َكانَ هّللا ُ ع ِ
ضَ 9ي بَ ْينَهُم بِ ْالقِ ْسِ 9ط َوهُ ْم الَ َّس9و ٌل فَ9إ ِ َذا َج 9اء َر ُس9ولُهُ ْم قُ ِ ــ وقال تع99الىَ " :ولِ ُك99لِّ أُ َّم ٍة ر ُ
ُظلَ ُمونَ " (يونس ،آية .)147 : ي ْ
ــ وقال تعالىَ " :وهَ َد ْينَاهُ النَّجْ َد ْي ِن" (البلد ،آية .)10 :
ث َرسُوالً" (اإلسراء ،آية .)15 : ــ وقال تعالىَ " :و َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ
ــ وقال تعالىُ " :كلَّ َما أُ ْلقِ َي فِيهَا فَوْ ٌج َسأَلَهُ ْم خَزَ نَتُهَا أَلَ ْم يَأْتِ ُك ْم نَ ِذي ٌر * قَالُوا بَلَى قَ ْد َجاءنَا
ير" (المل99ك ،آي99ة 8 :ـ ضاَل ٍل َكبِ ٍ نَ ِذي ٌر فَ َك َّذ ْبنَا َوقُ ْلنَا َما نَ َّز َل هَّللا ُ ِمن َش ْي ٍء إِ ْن أَنتُ ْم إِاَّل فِي َ
.)9
وهذه الهداية هي التي أثبتها هللا عز وجل لنبيه صلى هللا علي99ه وس99لم في قول99ه تع99الى:
اط ُّم ْستَقِ ٍيم" (الشورى ،آية .)52 : ص َر ٍ ك لَتَ ْه ِدي إِلَى ِ " َوإِنَّ َ
وهي ثابتة من بعده للعلماء ،والدعاة إلى هللا بالحكمة والموعظة الحسنة ،3وهي مرتبة
عامة يشترك فيها الناس جميع9اً ،ولكنه99ا ال يل99زم عنه99ا هداي99ة التوفي99ق واتب99اع الح99ق،
فكثير من ال99ذين أرس99ل إليهم الرس99ل وأن99زلت عليهم الكتب ،لم يؤمن99وا وآث99روا ط99رق
اس 9تَ ْيقَنَ ْتهَا أَنفُ ُس 9هُ ْم ظُ ْل ًم99ا َو ُعلُ ًّ 9وا فَ99انظُرْ َك ْي99فَ َك99انَ عَاقِبَ 9ةُ
الغواي99ة " َو َج َحُ 9دوا بِهَ99ا َو ْ
ْال ُم ْف ِس ِدينَ " (النمل ،آية )14 :أي جحدوا باآليات بعد تيقنهم من ص99حتها وه99ذا الن99وع
من الهداية عام للمؤمن والكافر.4
وحجة اهلل قائمة هبذه اهلداية بعدة أمور وهي:
62
إرسال الرسل.
إنزال الكتب ،بما فيها من الحق والبيان.
ُوا َم99ا َذا فِي ــ البي99ان باآلي99ات الكوني99ة والنظ99ر في اآلف99اق ،ق99ال تع99ال " :قُِ 99ل انظُ99ر ْ
99ات َوالنُّ ُذ ُرعَن قَ99وْ ٍم الَّي ُْؤ ِمنُ99ونَ " (ي99ونس ،آي99ة : ض َو َم99ا تُ ْغنِي اآليَ ُ ت َواألَرْ ِ َّ
السَ 99ما َوا ِ
.)101
ــ بيان الصراط 9المستقيم ،وإقامة أسباب الهداية ،باطنا ً وظاهراً ،ومن لم تكتم99ل عن99ده
هذه األسباب لصغر أو لزوال عقل أو نحو ذلك فهؤالء رفع عنهم التكليف ،ولم يكلفهم
هللا تعالى إال ما في وسعهم ودليل هذه المرتبة من س99ورة ي99ونس ـ علي99ه الس99الم ـ في
صَ 99را ٍط ُّم ْس99تَقِ ٍيم" الس99الَ ِم َويَهِْ 99دي َمن يَ َش99اء إِلَى ِ َار َّقول99ه تع99الىَ " :وهّللا ُ يَْ 99د ُعو إِلَى د ِ
(يونس ،آية ،)25 :فاشتملت هذه اآلية الكريمة على هداية البيان واإلرش99اد في قول99ه
الس 9الَ ِم" ،وعلى الهداي99ة الخاص99ة وهي هداي99ة التوفي99ق تع99الىَ " :وهّللا ُ يَ ْ 9د ُعو إِلَى د ِ
َار َّ
ُس 9لُهُم 9وا َو َج 9اء ْتهُ ْم ر ُ واإللهام في قوله تعالىَ " :ولَقَ ْد أَ ْهلَ ْكنَ99ا ْالقُ 9رُونَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َّما ظَلَ ُمْ 9
وا َك َذلِكَ نَجْ ِزي ْالقَوْ َم ْال ُمجْ ِر ِمينَ " (يونس ،آية .)13 : وا لِي ُْؤ ِمنُ ْت َو َما َكانُ ْ بِ ْالبَيِّنَا ِ
ت فَ َم99ا َك99انُ ْ
وا ُس9الً إِلَى قَ99وْ ِم ِه ْم فَ َج 9آ ُؤوهُم بِ ْالبَيِّنَ99ا ِ ــ وق99ال تع99الى " :ثُ َّم بَ َع ْثنَ99ا ِمن بَ ْعِ 9د ِه ر ُ
ب ْال ُم ْعتَ ِدينَ "(يونس ،آية )74 :نفي َطبَ ُع َعلَى قُلو ِ ُوا بِ ِه ِمن قَ ْب ُل َك َذلِكَ ن ْ وا بِ َما َك َّذب ْ
لِي ُْؤ ِمنُ ْ
لهداي99ة التوفي99ق عنهم لظلمهم ،وه99ذا كم99ا في قول99ه تع99الىَ " :وأَ َّما ثَ ُم99و ُد فَهََ 99د ْينَاهُ ْم
9ون بِ َم99ا َك99انُوا يَ ْك ِس 9بُونَ " ب ْالهُِ 9 ص 9ا ِعقَةُ ْال َعَ 9ذا ِ اس 9ت ََحبُّوا ْال َع َمى َعلَى ْالهُ 9دَى فَأَخَ َ 9ذ ْتهُ ْم َ فَ ْ
(فصلت ،آية .)17 :فهداهم في الهداية األولى هداية البيان واإلرشاد فأعرضوا عنها
لم يقبلوها فعاقبهم هللا تعالى بالضالل جزاء إعراضهم وردهم الحق.1
3ـ هدية التوفيق واإللهام وخلق المش9يئة المس9تلزمة للفعل ،2وه9ذه ال يق9در عليه9ا إال
هللا سبحانه وتعالى ،فمن شاء هدايته اهتدى ،ومن شاء ضالله ضل ،وهي أخص مم99ا
قبلها إذ هي خاص99ة للمهت99دين من المكلفين ،وهي حتمي99ة الوق99وع وهي ال99تي نفاه9ا هللا
تعالى عن رسوله في قوله تعالى " :إِنَّكَ اَل تَ ْه ِدي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ يَ ْه ِدي َمن يَ َشاء
َوهُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ " (القصص ،آية .)56 :
صَ 9را ٍط ُّم ْس9تَقِ ٍيم" (االنع99ام ، ُض9لِ ْلهُ َو َمن يَ َش9أْ يَجْ َع ْل9هُ َعلَى ِ وقال تعالىَ " :من يَ َش9إ ِ هّللا ُ ي ْ
آية .)39 :
ضلُّ هّللا ُ َمن يَ َشاء ُول إِالَّ بِلِ َسا ِن قَوْ ِم ِه لِيُبَيِّنَ لَهُ ْم فَيُ ِ ــ وقال تعالىَ " :و َما أَرْ َس ْلنَا ِمن َّرس ٍ
َويَ ْه ِدي َمن يَ َشاء َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (إبراهيم ،آية .)4 :
ض9لَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم َوخَ تَ َم َعلَى َسْ 9م ِع ِه 9واهُ َوأَ َ ــ وقال تعالى " :أَفََ 9رأَيْتَ َم ِن اتَّخََ 9ذ إِلَهَ9هُ هََ 9
ص ِر ِه ِغ َشا َوةً فَ َمن يَ ْه ِدي ِه ِمن بَ ْع ِد هَّللا ِ أَفَاَل تَ َذ َّكرُونَ " (الجاثي99ة ،آي99ة : َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ
.)23
ك ت ِمن َّربِّ َ وا َولَ99وْ الَ َكلِ َم 9ةٌ َس 9بَقَ ْ 9اختَلَفُ ْ اح َدةً فَْ 9ــ وقال تعالىَ " :و َما َكانَ النَّاسُ إِالَّ أُ َّمةً َو ِ
ض َي بَ ْينَهُ ْم فِي َما فِي ِه يَ ْختَلِفُونَ " (يونس ،آية .)19 : لَقُ ِ
اط ُّم ْس 9تَقِ ٍيم" ص َ 9ر ٍ الس 9الَ ِم َويَ ْهِ 9دي َمن يَ َش 9اء إِلَى ِ َار َّ ــ وق99ال تع99الىَ " :وهّللا ُ يَ ْ 9د ُعو إِلَى د ِ
(يونس ،آية .)25 :
63
وا أَنَّهُ ْم الَ ي ُْؤ ِمنُ99ونَ " (ي99ونس ، ت َربِّكَ َعلَى الَّ ِذينَ فَ َسقُ ْ ت َكلِ َم ُ ك َحقَّ ْ ــ وقال تعالىَ " :ك َذلِ َ
آية .)33 :
ق أَفَ َمن 9ل هّللا ُ يَ ْهِ 9دي لِ ْل َحِّ 9 ق قُِ 9 ــ وقال تعالى" :قُلْ هَ99لْ ِمن ُشَ 9ر َكآئِ ُكم َّمن يَ ْهِ 9دي إِلَى ْال َحِّ 9
ي إِالَّ أَن يُ ْه9دَى فَ َم99ا لَ ُك ْم َك ْي99فَ تَحْ ُك ُم99ونَ " ق أَن يُتَّبَ َ 9ع أَ َّمن الَّ يَ ِهِّ 9د َ ق أَ َحُّ 9 يَ ْهِ 9دي إِلَى ْال َحِّ 9
(يونس ،آية .)35 :
ْ
ك أ ْعلَ ُم بِال ُم ْف ِس ِ 9دينَ " َ "و ِمنهُم َّمن يُ9ْ 9ؤ ِم ُن بِ ِ 9ه َو ِم ْنهُم َّمن الَّ يُ9ْ 9ؤ ِم ُن بِ ِ 9ه َو َربُّ َ ــ وقال تع99الىَ :
(يونس ،آية .)40 :
ت فَ َما َكانُ ْ
وا ــ وقال تعالى " :ثُ َّم بَ َع ْثنَا ِمن بَ ْع ِد ِه ُر ُسالً إِلَى قَوْ ِم ِه ْم فَ َجآ ُؤوهُم بِ ْالبَيِّنَا ِ
ب ْال ُم ْعتَ ِدينَ " (يونس ،آية .)74 : َطبَ ُع َعلَى قُلو ِ كن ْ ُوا بِ ِه ِمن قَ ْب ُل َك َذلِ َ وا بِ َما َك َّذب ْ
لِي ُْؤ ِمنُ ْ
9وا َحتَّى يَ َ 9ر ُو ْا اش ُ 9د ْد َعلَى قُلُ99وبِ ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُْ 9 9والِ ِه ْم َو ْ اط ِمسْ َعلَى أَ ْمَ 9 ــ وقال تعالىَ " :ربَّنَا ْ
اب األَلِي َم" (يونس ،آية .)88 : ْال َع َذ َ
اس 9رهُ النَّ َض ُكلُّهُ ْم َج ِمي ًع99ا أَفَ99أَنتَ تُ ْكِ 9 "ولَ99وْ َش 9اء َربُّكَ آل َمنَ َمن فِي األَرْ ِ ــ وقال تعالىَ :
س َعلَى س أَن تُ9ْ 9ؤ ِمنَ إِالَّ بِ9إ ِ ْذ ِن هّللا ِ َويَجْ َعُ 9ل ال99رِّ جْ َ 9ؤ ِمنِينَ * َو َم99ا َك99انَ لِنَ ْف ٍ َحتَّى يَ ُكونُْ 9
9وا ُمْ 9
الَّ ِذينَ الَ يَ ْعقِلُونَ " (يونس 99 ،ـ .)100
والواقع أن استقراء النصوص القرآنية يكشف أن هذه الهداية وما يقابلها من اإلضالل
ليستا في اإلنسان ابتداء وخلقه ،بل هما نتائج لمقدمات ،ومسببات ألسباب ،فكما جع99ل
هللا تعالى الطعام سببا ً في الغذاء والماء سببا ً للري ،والس99كين ينتج عن99ه القط99ع والن99ار
تسبب الحري99ق ،فك9ذلك جع9ل أس99بابا ً توص99ل إلى الهداي9ة وأس99بابا ً تق9ود إلى الض9الل،
فالهداية إنما هي ثمار العمل الصالح ،والضالل إنما هو نتاج عمل قبيح وإسناد الهداية
هلل من حيث أنه وضع نظام األس9باب والمس9ببات ال أن9ه أج9بر اإلنس9ان على الض9الل
والهداية وهذا المعنى واضح جداً في اآليات القرآنية مثل:
َاب" (الرعد ،آية .)27 : ـ قوله تعالىَ ":ويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َم ْن أَن َ
ـ وقول99ه تع99الىَ ":والَّ ِذينَ َجاهَُ 99دوا فِينَ99ا لَنَهِْ 99ديَنَّهُ ْم ُس99بُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َمَ 99ع ْال ُمحْ ِس99نِينَ "
(العنكبوت ،آية .)69 :
ـ وقوله تعالىَ ":والَّ ِذينَ ا ْهتَدَوْ ا زَا َدهُ ْم هُدًى َوآتَاهُ ْم تَ ْقواهُ ْم" (محمد ،آية .)17 :
فهداية هللا للناس بمعنى لطفه بهم وتوفيقهم للعمل الصالح إنّما هي ثم99رة جه99اد للنفس،
وإنابة إلى هللا واستمساك بإرشاده ووحيه.1
ضلُّ بِ ِه إِالَّ ْالفَ ِ
اس99قِينَ ُضلُّ بِ ِه َكثِيراً َويَ ْه ِدي بِ ِه َكثِيراً َو َمايُ ِ وفي اإلضالل يقول تعالى ":ي ِ
ص َل َويُ ْف ِسُ 99دونَ* الَّ ِذينَ يَنقُضُونَ َع ْه َد هَّللا ِ ِمن بَ ْع ِد ِميثَاقِ ِه َويَ ْقطَعُونَ َما أَ َم َر هَّللا ُ بِ ِه أَن يُو َ
اسرُونَ " (البقرة ،آية 26 :ـ .)27 ض أُولَـئِكَ هُ ُم ْالخَ ِ فِي األَرْ ِ
ُضلُّ ت فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآل ِخ َر ِة َوي ِ وا بِ ْالقَوْ ِل الثَّابِ ِ ِّت هّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ ْـ وقال تعالى ":يُثَب ُ
هّللا ُ الظَّالِ ِمينَ َويَ ْف َع ُل هّللا ُ َمايَ َشاء" (إبراهيم ،آية .)27 :
َّار" (غافر ،آية .)35 : ب ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ طبَ ُع هَّللا ُ َعلَى ُك ِّل قَ ْل ِ ـ وقال تعالىَ ":ك َذلِكَ يَ ْ
اس9قِينَ " (الص9ف، ـ وقال تع9الى ":فَلَ َّما زَا ُغ99وا أَزَا َغ هَّللا ُ قُلُ9وبَهُ ْم َوهَّللا ُ اَل يَهِْ 9دي ْالقَ9وْ َم ْالفَ ِ
آية .)5 :
64
ـ وقال تعالىَ ":كاَّل بَلْ َرانَ َعلَى قُلُوبِ ِهم َّما َكانُوا يَ ْك ِسبُونَ " (المطففين ،آية .)14 :
ـ وقال تعالى ":بَلْ طَبَ َع هّللا ُ َعلَ ْيهَا بِ ُك ْف ِر ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُونَ إِالَّ قَلِيالً" (النساء ،آي99ة .)155 :
فسبب الضالل هو الزيغ ،والخروج عن تع99اليم هللا والك99بر والج99بروت والتع99الي على
الناس بغير حجة ،ونقض عهد هللا ،وقطع ما أمر هللا به أن يوصل ووصل ما أم99ر هللا
به أن يقطع ،واإلفساد في األرض ،والكف99ر واق99تراف اآلث9ام ،فه99ذه من األس99باب ال9تي
أضلت الناس وأخ99رجتهم عن منهج الح99ق ألنهم آث99روا العمى على اله99دى ،واس99تحبوا
الظالم على النور ،فكان أن كاف99أهم هللا فأصَّ 9مهم وأعمى أبص99ارهم ،بمقتض99ى نظام9ه
سبحانه في ارتباط األسباب بمسبباتها وهذا ونحوه كثير في كتاب هللا ومن ذلك:
نس لَهُ ْم قُلُ99وبٌ الَّ يَ ْفقَهُ99ونَ بِهَ99ا َولَهُ ْماإل ِ قوله تعالىَ ":ولَقَ ْد َذ َر ْأنَا لِ َجهَنَّ َم َكثِيرًا ِّمنَ ْال ِجنِّ َو ِ
ك هُ ُم ضلُّ أُوْ لَـئِ َ
ك َكاألَ ْن َع ِام بَلْ هُ ْم أَ َان الَّيَ ْس َمعُونَ بِهَا أُوْ لَـئِ َ
ْصرُونَ بِهَا َولَهُ ْم آ َذ ٌ أَ ْعي ٌُن الَّ يُب ِ
ْالغَافِلُونَ " (األعراف ،آية .1)179 :
4ـ الهداية إلى طريق الجنة:
وهذه الهداية تكون في اآلخرة بعد الحساب والجزاء ودليلها:
ت يَهِْ 9دي ِه ْم َربُّهُ ْم بِإِي َم9انِ ِه ْم تَجِْ 9ري ِمن الص9الِ َحا ِ 9وا َّ9وا َو َع ِملُ ْ
ـ قوله تع9الى ":إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ت النَّ ِع ِيم" (يونس ،آية .)9 : تَحْ تِ ِه ُم األَ ْنهَا ُر فِي َجنَّا ِ
ض َّل أَ ْع َمالَهُ ْم * َسيَ ْه ِدي ِه ْم َويُصْ لِ ُح بَالَهُ ْم" يل هَّللا ِ فَلَن يُ ِ
ـ وقال تعالىَ ":والَّ ِذينَ قُتِلُوا فِي َسبِ ِ
(محمد ،آية .)5 ،4 :
وهذه الهداية حاصلة لهم بعد قتلهم ،فدل على أن الم99راد به99ا هداي99ة إلى طري99ق الجن99ة
على القول الراجح.2
ثانياً :أسباب الهداية :كثيرة منها:
1ـ المحافظة على الفطرة اإلنسانيةـ نقية صافية:
الفط99رة اإلنس99انية مفط99ورة على اإلق99رار باهلل وإف99راده بالربوبي99ة واأللوهي99ة ،ف99النفس
بفطرتها إذا تركت كانت مق99رة هلل باأللوهي99ة محب99ة ل99ه ،متعب99دة ،ال تش99رك ب99ه ش99يئا ً،3
وأصل هذا العلم فطري ضروري وأش9د رس99وخا ً في النفس من مب9دأ العلم الرياض99ي،
كقولنا :إن الواحد نصف االثنين ،ومبدأ العلم الطبيعي أن الجميع ال يكون في مك99انين،
ألن ه99ذه المع99ارف ق99د تع99رض عنه99ا أك99ثر الفط99ر ،أم99ا العلم اإللهي فم99ا يتص99ور أن
تع99رض عن99ه فط99رة ،4ف99اإلقرار باهلل ه99و أرس99خ المع99ارف ،وأثبت العل99وم ،وأص99لح
5
األصول
اس َعلَ ْيهَ99ا اَل تَ ْبِ 9دي َل لِخ َْلِ 9
9ق 9ر النَّ َ ك لِلدِّي ِن َحنِيفًا فِ ْ
ط َرةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطََ 9 ـ قال تعالى" :فَأَقِ ْم َوجْ هَ َ
اس اَل يَ ْعلَ ُمونَ * ُمنِيبِينَ إِلَ ْي ِه َواتَّقُ99وهُ َوأَقِي ُم99وا َّ
الص 9اَل ةَ ِّين ْالقَيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ
هَّللا ِ َذلِكَ الد ُ
َواَل تَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ " (الروم ،آية 30 :ـ .)31
ُور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم َوأَ ْش 9هَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِ 9ه ْم
ـ وقال تعالىَ " :وإِ ْذ أَخَ َذ َربُّكَ ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُه ِ
وا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ99افِلِينَ * أَوْ تَقُولُْ 9
9وا وا بَلَى َش ِه ْدنَا أَن تَقُولُ ْ ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُ ْ
أَلَس ُ
65
إِنَّ َما أَ ْش َركَ آبَا ُؤنَا ِمن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِّمن بَ ْع ِد ِه ْم أَفَتُ ْهلِ ُكنَ99ا بِ َم99ا فَ َعَ 9ل ْال ُم ْب ِطلُ99ونَ * َو َكَ 9ذلِكَ
ت َولَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجعُونَ " (األعراف ،آية 172 :ـ .)174 ص ُل اآليَا ِ نُفَ ِّ
وقال عليه الصالة والسالم" :م9ا من مول9ود إال يول9د على الفط9رة ،ف9أبواه يهودان9ه أو
ينصرانه أو يمجسانه ،كم99ا تنتج البهيم99ة جمع99اء ه99ل تحس99ون فيه99ا من ج99دعاء ح99تى
اس َعلَ ْيهَ99ا تك99ون أنتم تج99دعونها"" ،ثم يق99ول أب99و هري99رة " :فِ ْ
ط َ 9رةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ َ 9ر النَّ َ
ق هَّللا ِ".1 يل لِ ْ
خَل ِ اَل تَ ْب ِد َ
وفي صحيح مسلم عن عياض بن عمار عن النبي ص99لى هللا علي99ه وس99لم فيم99ا يروي99ه
عن ربه تبارك وتعالى أنه قال" :إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ،وإنهم أتتهم الش99ياطين
فاجتالتهم عن دينهم ،وحرمت ما أحللت لهم ،وأمرتهم أن يش99ركوا بي م99ا لم أن99زل ب99ه
سلطانا ً.2
وهذا صريح في أنه سبحانه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك.3
وقد فطر هللا عز وجل اإلنسان أيضا ً على معرفة الحق ومحبته له ،وقد ه99داه رب99ه إلى
أنواع من العلم ،يمكنه أن يتوصل إلى سعادة الدنيا واآلخرة ،وجعل في فطرت99ه محب99ة
ذلك ،فإذا نظر اإلنسان فيما جاء به الرسول صلى هللا عليه وسلم أو في حاله في آيات99ه
أو نحو ذلك من شؤونه يحصل له العلم واإلقرار بالنبوة ،ثم إذا قوي النظر في أحواله
حصل له من اليقين الضروري الذي ال يمكن دفعه.4
فال شك أن اإليمان واالهتداء هو األصل ،وأن الكفر والضالل هو الطارئ الذي يطرأ
على النفس لسبب من أسباب الضالل.5
وقد أشارت اآليات واألحاديث التي أوردتها إلى بعض هذه األس99باب ،فأش99ارت اآلي99ة
األولى أن الذي يصرف الفطرة عن اإليمان هو عدم العلم ،فأش99ارت اآلي99ة الثاني99ة إلى
الغفلة والتقليد ،وأنهم99ا يص99رفان الفط99رة عن اإليم99ان باهلل ورس99وله بع99دما أق99ام علي99ه
وا يَوْ َم ْالقِيَا َمِ 9ة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َ 9ذا َغ99افِلِينَ * أَوْ تَقُولُْ 9
9وا الحجة بالفطرة والرسالة " أَن تَقُولُ ْ
إِنَّ َما أَ ْش َركَ آبَا ُؤنَا ِمن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِّمن بَ ْع ِد ِه ْم" (األعراف ،آية 172 :ـ .)173
وأشار الحديث األول إلى أثر التربية والعادة ،وأن من ال يستخدم عقله ويهتدي بال99دين
الحق الذي يرشده إليه العقل والعلم ،ب9ل يطي9ع والدي9ه ،وإن أم9راه بالض9الل .6وأش9ار
الحديث الثاني إلى أثر الشياطين في تزيين الباطل في نفوس الناس وإضاللهم بذلك.7
إن أول أسباب الهداية ،هو إبق99اء ه99ذه الفط99رة نقي99ة ص99افية تتلقى وحي هللا وتس99تجيب
له.8
2ـ استعمال السمع والبصر والعقل:
66
إن هللا عز وجل وهب اإلنسان هذه النعم وأمتن علي99ه به99ا ،وذل99ك لم99ا له99ا من غاي99ات
سامية ،منه99ا النظ99ر والتفك99ر في آي99ات هللا المرئي99ة ،واالس99تماع والت99دبر في آي99ات هللا
المسموعة.9
ون أُ َّمهَ99اتِ ُك ْم الَ تَ ْعلَ ُم99ونَ َشْ 9يئًا َو َج َعَ 9ل لَ ُك ُم ْال َّسْ 9م َع
ــ وقال تعالىَ " :وهّللا ُ أَ ْخ َر َج ُكم ِّمن بُطُ ِ
صا َر َواألَ ْفئِ َدةَ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ " (النحل ،آية .)78 : َواألَ ْب َ
وق99د جع99ل هللا اإلنس99ان مس99ئوالً عن اس99تعمال ه99ذه الملك99ات والم99واهب وعن حس99ن
ْس لَ9كَ بِِ 9ه ِع ْل ٌم إِ َّن َّ
السْ 9م َع 9ف َم9ا لَي َ "والَ تَ ْق ُ توجيهه له9ا إلى م9ا خلقت ل99ه ،ق9ال تع99الىَ :
ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُولـئِكَ َكانَ َع ْنهُ َم ْس ُؤوالً" (اإلسراء ،آية .)36 : َو ْالبَ َ
وق99د مض99ت س99نة هللا أن اإلنس99ان إذا أحس99ن اس99تخدام مواهب99ه من ح99واس ومش99اعر
ومدارك ،ووجهها إلى إدراك دالئل الهدى في الك99ون والنفس ،وم99ا يجيء ب99ه الرس99ل
من آيات وبينات ،فإنه يؤمن ويهتدي بهذا اإليمان إلى طريق الخالص.2
وبين سبحانه وتعالى في آيات كثيرة أن الذين ينتفعون بالنظر في هذا الكون ومظاهره
ت
اوا ِ ق َّ
الس َ 9م َ هم الذين يمعنون النظر والتفكير والتدبر بعقولهم ،قال تعالى" :إِ َّن فِي ْ
خَل ِ
اس َو َم99ا ك الَّتِي تَجِْ 9ري فِي ْالبَحِْ 9ر بِ َم99ا يَنفَُ 9ع النَّ َ ار َو ْالفُ ْلِ 9
ف اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ
اختِالَ ِض َو َْواألَرْ ِ
ث فِيهَ99ا ِمن ُك ِّ 9ل دَآبَّ ٍة ض بَعَْ 99د َموْ تِهَ99ا َوبَ َّ السَ 99ماء ِمن َّماء فَأَحْ يَ99ا بِِ 99ه األرْ َ أَن99زَ َل هّللا ُ ِمنَ َّ
ت لِّقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ " (البقرة ض آليَا ٍب ْال ُم َس ِّخ ِر بَ ْينَ ال َّس َماء َواألَرْ ِ اح َوالس ََّحا ِ َوتَصْ ِر ِ
يف ال ِّريَ ِ
،آية .)164 :
ت أِّل ُوْ لِي
ار آليَ99ا ٍف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ ض َو ْ
اختِالَ ِ ت َواألَرْ ِ ق ال َّس َم َ
اوا ِ ــ وقال تعالى" :إِ َّن فِي خ َْل ِ
ق ال َّس َما َوا ِ
ت ب * الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هّللا َ قِيَا ًما َوقُعُودًا َو َعلَ َى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خ َْل ِ ْ
األلبَا ِ
ار"(آل عم99ران ،آي99ة 190 : ض َربَّنَا َما َخلَ ْقتَ هَذا بَا ِطالً ُس ْب َحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ
اب النَّ ِ َواألَرْ ِ
ـ .)191
إن هللا ع99ز وج99ل وهب اإلنس99ان من الق99وة والملك99ات م99ا جعل99ه طريق9ا ً إلى هدايت99ه إذا
أحسن استخدامه ،فاستعمال السمع والبصر والف99ؤاد في النظ99ر في آي99ات هللا ،والتفك99ر
في دالالتها من أول سبل الهداية إلى معرفة هللا وصفاته ،وإلى اإليمان بصدق رس99له،
وإلى مزيد من ذلك الهدى بعد اإليمان.3
3ـ العلم:
ومن أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى في الهداية والضالل :العلم ،وقد كانت
ك الَّ ِذي َخلَقَ" (العلق ، أول آية نزلت في القرآن الكريم في الدعوة إليه " ا ْق َر ْأ بِاس ِْم َربِّ َ
آية .)1 :
وتوالت آيات القرآن الكريم بما يضيق المجال عن حصره في الدعوة إليه بيان فضل
العلماء.
ــ قال تعالىَ " :وقُل رَّبِّ ِز ْدنِي ِع ْل ًما" (طه ،آية .)114 :
ت" (المجادل99ة ، ــ وقال تعالى " :يَرْ فَ ِع هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ99وا ِمن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُ99وا ْال ِع ْل َم َد َر َج 9ا ٍ
آية .)11 :
9منهج التربية اإلسالمية محمد قطب (.)77 /1
2في ظالل القرآن ،سيد قطب (.)1821 /2
3السنن اإللهية في الحياة اإلنسانية (.)226 / 1
67
ــ وقال تع99الى " :قُ99لْ هَ99لْ يَ ْس9ت َِوي الَّ ِذينَ يَ ْعلَ ُم99ونَ َوالَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُم99ونَ إِنَّ َم99ا يَتََ 9ذ َّك ُر أُوْ لُ99وا
ب" (الزمر ،آية .)9 : اأْل َ ْلبَا ِ
ك" (محم99د ،آي99ة ،)19 :ف99أمر اس 9تَ ْغفِرْ لِ َ 9ذنبِ َــ وقال تعالى " :فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ اَل إِلَهَ إِاَّل هَّللا ُ َو ْ
بالعمل بعد العلم.1
وقد جاء القرآن الكريم يكشف لنا بوضوح عن تلك العالق99ة الوثيق99ة بين العلم والهداي99ة
في آي99ات كث99يرة ،وذل99ك بحديث99ه عن العلم99اء واس99تعدادهم بم99ا لهم من علم لخش99ية هللا
وحسن النظر في آياته واالعتبار بها وإدراك ما فصله هللا منزالً على رس99وله وش99هود
وحدانيته سبحانه وتعالى.2
قال هللا عز وجل مبينا ً أن العلماء هم الذين ينتفعون باآلي99ات المبثوث99ة في الك99ون ،وهم
الذين يستشعرون عظمة هللا وقدرته ،فيخشونه فيهديهم هللا ،قال تعالى" :أَلَ ْم تََ 99ر أَ َّن هَّللا َ
ال ُجَ 9د ٌد بِيضٌ َو ُح ْمٌ 9ر ت ُّم ْختَلِفًا أَ ْل َوانُهَا َو ِمنَ ْال ِجبَ ِ أَنزَ َل ِمنَ ال َّس َماء َماء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه ثَ َم َرا ٍ
ك 9ف أَ ْل َوانُ9هُ َكَ 9ذلِ َ 9ام ُم ْختَلٌِ 9اس َوالَّ 9د َوابِّ َواأْل َ ْن َعِ 9 ف أَ ْل َوانُهَا َوغ ََرابِيبُ سُو ٌد * َو ِمنَ النَّ ِ ُّم ْختَلِ ٌ
َزي ٌ 9ز َغفُ99ورٌ" (ف99اطر ،آي99ة 27 :ـ ،)28 إِنَّ َم99ا يَ ْخ َش 9ى هَّللا َ ِم ْن ِعبَ99ا ِد ِه ْال ُعلَ َم99اء إِ َّن هَّللا َ ع ِ
فالذين يس99تفيدون من اختالف أل99وان الثم99ار والجب99ال والن99اس هم العلم99اء ،وهم ال99ذين
يخشونه حق خشيته ،ألنهم العارفون به وبص99فاته ج99ل جالل99ه ،وكلم99ا ك99انت المعرف99ة
للعظيم القدير الموصوف بص99فات الكم99ال ،المنع99وت باألس99ماء الحس99نى ،كلم99ا ك99انت
المعرفة به أتم ،والعلم به أكمل ،كانت هدايتهم كذلك أتم وأكمل.3
9وا َعَ 9د َد 9از َل لِتَ ْعلَ ُمْ 9
ضيَاء َو ْالقَ َم َر نُورًا َوقَ َّ 9د َرهُ َمنَِ 9 س ِ وقال تعالى " :هُ َو الَّ ِذي َج َع َل ال َّش ْم َ
ت لِقَ99وْ ٍم يَ ْعلَ ُم99ونَ " (ي99ونس ، ص ُ 9ل اآليَ99ا ِ ق يُفَ ِّ ق هّللا ُ َذلِكَ إِالَّ بِْ 9
9ال َح ِّ اب َما خَ لَ َ ال ِّسنِينَ َو ْال ِح َس َ
آية .)5 :
والعلماء هم أكثر استفادة وإدراكا ً واتعاظا ً واعتب99اراً ،باألمث99ال ال99تي يض99ربها هللا ع99ز
وجل في كتابه العزيز ،وألن امتالكهم األداء ال99تي يعرف99ون به99ا عظم99ة وص99دق ه99ذه
اس َو َم99ا يَ ْعقِلُهَ99ا إِاَّل ْال َع99الِ ُمونَ " َضِ 99ربُهَا لِلنَّ ِ األمث99ال ،ق99ال تع99الىَ " :وتِ ْل99كَ اأْل َ ْمثَ99ا ُل ن ْ
(العنكبوت ،آية )43 :الذين يعقلون عن هللا عز وجل وأما مغلقي القل99وب فيتخ99ذونها
مادة للسخرية والتهكم.4
كما أنهم األكثر استفادة من تبيين اآليات القرآنية وتوض99يحها وتفص99يلها وغ99ير الع99الم
يستوي عنده اإلجمال والتفصيل ،ألنه يملك ال األداة التي يميز بها بين ذين99ك األم99رين
ق قُ99لْ ِهي ت ِمنَ ال9ر ِّْز ِ قال تعالى" :قُلْ َم ْن َحَّ 9ر َم ِزينَ9ةَ هّللا ِ الَّتِ َي أَ ْخَ 9ر َج لِ ِعبَ99ا ِد ِه َو ْالطَّيِّبَ99ا ِ
ت لِقَ99وْ ٍم يَ ْعلَ ُم99ونَ " صُ 9ل اآليَ99ا ِ ك نُفَ ِّ صةً يَ99وْ َم ْالقِيَا َمِ 9ة َكَ 9ذلِ َ وا فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا خَ الِ َ لِلَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
(األعراف ،آية .)32 :
ص ُ 9ل ْ
صالَةَ َوآتَ ُ 9وا ال َّز َك99اةَ فَ 9إ ِ ْخ َوانُ ُك ْم فِي ال 9دِّي ِن َونُفَ ِّ ْ َ ْ
ــ وقال تعالى " :فَإِن تَابُوا َوأقَا ُموا ال َّ
ت لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمونَ " (التوبة ،آية .)11 : اآليَا ِ
ت ْالبَ9رِّ َو ْالبَحِْ 9ر قَْ 9د وا بِهَ9ا فِي ظُلُ َم9ا ِ ـ وقال تعالىَ ":وهُ َو الَّ ِذي َج َعَ 9ل لَ ُك ُم النُّجُ9و َم لِتَ ْهتَُ 9د ْ
ت لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمونَ " (األنعام ،اآلية.)97 : فَص َّْلنَا اآليَا ِ
68
كما أن العلماء هم أك99ثر ت99أثراً بكالم هللا س99بحانه وتع99الى وأس99رع اس99تجابة ل99ه وأعظم
خشوعا ً وإخباتا ً لعظمته ،وجالله ،وأعظم إدراكا ً لمحكمه ومتشابهه مم99ا يجعلهم أك99ثر
تسليما ً وإذعانا ً لما يتضمنه من عقائد وأحكام.1
9وا إِ َّن الَّ ِذينَ أُوتُ ْ
9وا ْال ِع ْل َم ِمن قَ ْبلِِ 9ه إِ َذا يُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم 9وا بِِ 9ه أَوْ الَتُ ْؤ ِمنُ ْ
ـ قال تع9الى ":قُ99لْ آ ِمنُ ْ
ان ُس َّجدًا * َويَقُولُونَ ُسب َْحانَ َربِّنَا إِن َكانَ َو ْع ُد َربِّنَ99ا لَ َم ْف ُع99والً * َويَ ِخ99رُّ ونَ يَ ِخرُّ ونَ لِألَ ْذقَ ِ
ان يَ ْب ُكونَ َويَ ِزي ُدهُ ْم ُخ ُشوعًا" (اإلسراء ،آية 107 :ـ .)109 لِألَ ْذقَ ِ
ب َوأُ َخُ 9ر 9ات هُ َّن أُ ُّم ْال ِكتَ99ا ِ
9ات ُّمحْ َك َمٌ 9َاب ِم ْنهُ آيٌَ 9 ك ْال ِكت َ ي أَنزَ َل َعلَ ْي َـ وقال تعالى ":هُ َو الَّ ِذ َ
ات فَأ َ َّما الَّ ِذينَ في قُلُوبِ ِه ْم َز ْي ٌغ فَيَتَّبِعُونَ َماتَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَاء ْالفِ ْتنَِ 9ة َوا ْبتِغَ9اء تَأْ ِويلِِ 9هُمتَ َشابِهَ ٌ
َّاس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِّم ْن ِعن ِد َربِّنَا َو َم99ا يََّ 9ذ َّك ُر َو َمايَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِالَّ هّللا ُ َوالر ِ
ب" (آل عمران ،آية .)7 : وا ْ
األلبَا ِ إِالَّ أُوْ لُ ْ
وإن العلم99اء هم ال99ذين يعرف99ون ق99در كالم هللا وعظمت99ه وإعج99ازه ،وإن ه99ذا الكالم ال
يمكن أن يصدر عن بشر فيدفعهم ذلك إلى اإليمان والتسليم واإلذعان واالس99تفادة مم99ا
حوى من هدى وبيان.2
9اب ْال ُمب ِْطلُ99ونَ
ك إِ ًذا اَّل رْ تََ 9 طهُ بِيَ ِمينَِ 9 ب َواَل تَ ُخ ُّنت تَ ْتلُو ِمن قَ ْبلِ ِه ِمن ِكتَا ٍ تعالى":و َما ُك َ9
َ ـ قال
ُ
ور الَّ ِذينَ أوتُ99وا ْال ِع ْل َم َو َم99ا يَجْ َحُ 9د بِآيَاتِنَ99ا إِاَّل الظَّالِ ُمونَ "9 9ات بَيِّنٌَ 9* بَلْ هُ َو آيٌَ 9
صُ 9د ِ 9ات فِي ُ
(العنكبوت ،آية .)49 ،48 :
والعلماء هم األبعد عن إلقاءات الشيطان ونزغات99ه ،ووسوس99ته وذل99ك لعلمهم بمداخل99ه
وأحابيله ،فال تزيدهم وسوسته إال إيمانا ً ويقينا ً وتسليما ً بخالف الجهل99ة ال99ذين ينق99ادون
لوسوسته وهم يحسبون أنهم يحسنون.
ان فِ ْتنَةً لِّلَّ ِذينَ ِفي قُلُوبِ ِهم َّم َرضٌ َو ْالقَا ِسيَ ِة قُلُ99وبُهُ ْم َوإِ َّن قال تعالى ":لِيَجْ َع َل َماي ُْلقِي ال َّش ْيطَ ُ
ك فَي ُْؤ ِمنُ99وا بِ ِ 9ه
ق ِمن َّربِّ َ ق بَ ِعي ٍ 9د * َولِيَ ْعلَ َم الَّ ِذينَ أُوتُ99وا ْال ِع ْل َم أَنَّهُ ْال َحُّ 9 الظَّالِ ِمينَ لَفِي ِش 9قَا ٍ
صَ 9را ٍط ُّم ْس9تَقِ ٍيم" (الحج ،آي99ة 53 :ـ فَتُ ْخبِتَ لَ9هُ قُلُ99وبُهُ ْم َوإِ َّن هَّللا َ لَهَ99ا ِد الَّ ِذينَ آ َمنُ99وا إِلَى ِ
.)54
ـ وقال تعالىَ ":ش ِه َد هّللا ُ أَنَّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ هُ َو َو ْال َمالَئِ َكةُ َوأُوْ لُ ْ
وا ْال ِع ْل ِم قَآئِ َم 9ا ً بِ ْالقِ ْس ِ 9ط الَ إِلَـهَ
إِالَّ هُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (آل عمران ،آية .)18 :
وال ت9دل ه9ذه اآلي9ة الكريم9ة على مج9رد تش9ريف هللا س9بحانه أله9ل العلم حيث جم9ع
شهادته بالتوحيد إلى شهادة مالئكته وشهادتهم بذلك ،ولكنها تدل ك99ذلك على أن علمهم
هو الذي يؤهلهم إلى شهود وحدانية هللا عز وجل وإنفراده بالملك والتدبير ،ف99العلم من
أول أسباب الهداية إلى معرفة طريق هللا ،واالستزادة منه سبيل إلى المزيد من هداه.3
4ـ اإليمان:
69
إن في كل ذرة من ذرات هذا الوج99ود ،وفي ك99ل ك99ائن من الكائن99ات آلي99ة باعث99ة على
الهدى وإن في ذلك التنسيق البديع والتواف99ق بين س9ائر الكائن99ات لت99وائم حي9اة اإلنس9ان
وس99عادته ف99وق األرض آلي99ات وآي99ات كث99يرة تبعث على االهت99داء إلى الح99ق وإن في
القرآن الكريم وما حوى من دالئ99ل وبين99ات وم99ا ج99اء في99ه من موعظ99ة وآي99ات تح99يي
القلب وتشفي الصدور وتهدي إلى الحق والصراط المستقيم ولكن هذه اآليات وتل99ك ال
تتضح وال ينتفع بها إال القلب المؤمن ف9الكفر حج9اب وح9اجز ك99ثيف يمن9ع من دخ9ول
نور القرآن في القلب ويمنع كذلك من االنتفاع باآلية الهادي99ة في ه99ذا الك99ون ف99إذا زال
هذا الحجاب وانكشف ذلك الحاجز انتفع اإلنسان بتلك اآليات الكونية ،وانفتحت أمام99ه
أيضا ً كنوز القرآن من الهدى والمعرفة وقد ج9اءت آي9ات كث9يرة ت9بين أن الم9ؤمن ه9و
الذي ينتفع ويستفيد من الذكرى ومن هدى القرآن ،ومن اآليات الباعثة على الهدى في
هذا الكون:
ين" (النم99ل، ين * هُدًى َوب ُْشَ 9رى لِ ْل ُمْ 9
9ؤ ِمنِ َ ب ُّمبِ ٍ ات ْالقُرْ ِ
آن َو ِكتَا ٍ ك آيَ ُ ـ قال تعالى":طس تِ ْل َ
آية 1 :ـ .)2
ِّ ٌ
ـ وقال تعالى ":يَ9ا أيُّهَ99ا النَّاسُ قَْ 9د َج 9اء ْت ُكم َّموْ ِعظَ9ة ِّمن َّربِّ ُك ْم َو ِش9فَاء ل َم9ا فِي ُّ
الصُ 9د ِ
ور َ
َوهُدًى َو َرحْ َمةٌ لِّ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ "( 9يونس ،آية .)57 :
صآئِ ُر ِمن َّربِّ ُك ْم ي ِمن َّربِّي هَـ َذا بَ َ وحى إِلَ َّ ـ وقال عز من قائل ":قُلْ إِنَّ َما أَتَّبِ ُع َما يِ َ
َوهُدًى َو َرحْ َمةٌ لِّقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ " (األعراف ،آية .)203 :
وا َوهُدًى َوبُ ْش َرى ق لِيُثَبِّتَ الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ك بِ ْال َح ِّ س ِمن َّربِّ َ ـ وقال تعالى ":قُلْ نَ َّزلَهُ رُو ُح ْالقُ ُد ِ
لِ ْل ُم ْسلِ ِمينَ "(النحل ،آية .)102 :
وقد أشارت هذه اآليات ـ وغيرها من اآليات في ه99ذا المع99نى ـ إلى معن99يين رئيس99يين
هما:
األول :وهو أن القرآن الكريم فيه بيان وإرشاد لطرق الهداية ،وإنه زاجر بم99ا في99ه من
الترغيب والترهيب ،وارتكاب المعاصي ،وإنه شافي لم99ا في الص99دور من االم99راض
المفضية إلى الهالك والشك والشرك والنف99اق والض99الل وأن99ه ه99دى من الض99اللة إلى
الرشد والحق ،وأنه يزيد المهتدي هدى ،وأنه تثبيت أيضا ً للمهتدين على الهدى ،وه99و
أنه رحمة للناس بكل ما حوى من أوام9ر ون9واه واعتق9ادات وعب9ادات وأن9ه نج9اة لمن
آمن به من عذاب هللا وسبب في فوزه ودخوله الجنة.1
الثاني :أن المؤمنين هم الذين ينتفعون بهدي الق99رآن ويس99تفيدون مم99ا ح99وى فيهت99دون
بهديه ويسيرون وفق هداه ،فيهت99دون إلى ص99راط مس99تقيم دون غ99يرهم من الجاح99دين
والكافرين به الذي هو عليهم عمى وضاللة وغم وخزي ،وفي اآلخ99رة ج99زاءهم على
الكفر به الخلود في لظى ،2وقد صرح القرآن الكريم بهذا المعنى في آيات منها:
9و لِلَّ ِذينَ آ َمنُ9وا هُ9دًى َو ِش9فَاء َوالَّ ِذينَ اَل ي ُْؤ ِمنُ9ونَ فِي آ َذانِ ِه ْم َو ْقٌ 9ر َوهُ َ
9و ـ ق9ال تع9الى 9":هُ َ
َعلَ ْي ِه ْم َع ًمى"(فصلت 9،آية .)44 :
1تفسير الطبري ( ،)162 /9تفسير األلوسي ( ،)139 /11زاد المسير ( ،)312 /3تفسير القرطبي(.)3793 /5
2تفسير الطبري ( ،)124 /11أضواء البيان (.)107 /1
70
9ؤ ِمنِينَ َوالَيَ ِزي ُ 9د الظَّالِ ِمينَ إَالَّ آن َما هُ َو ِشفَاء َو َرحْ َمةٌ لِّ ْل ُمْ 9 ـ وقال تعالىَ ":ونُن َِّز ُل ِمنَ ْالقُرْ ِ
خَ َسا ًرا" (اإلسراء ،آية .)82 :
ت سُو َرةٌ فَ ِم ْنهُم َّمن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْتهُ هَـ ِذ ِه إِي َمانً99ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ نزلَ ْ ُ
"وإِ َذا َما أ ِ ـ وقال تعالىَ :
وا فَزَا َد ْتهُ ْم إِي َمانًا َوهُ ْم يَ ْستَ ْب ِشرُونَ * َوأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِهم َّم َرضٌ فَزَا َد ْتهُ ْم ِرجْ سًا إِلَى آ َمنُ ْ
وا َوهُ ْم َكافِرُونَ "(التوبة ، 9آية 124 :ـ .)125 ِرجْ ِس ِه ْم َو َماتُ ْ
هذا بخصوص هداية القرآن وأن المؤمنين هم المنتفعون بهديه ،وما ح99وى من آي99ات،
وأما عن اآليات الكونية وأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بها ويهت99دون بم99ا ترش99د إلي99ه
من التوحيد ،ومن إضافة صفات الكم99ال هلل س99بحانه وتع99الى ،فق99د ج99اء في مث99ل قول99ه
سبحانه:
ت فِي َج ِّو ال َّس َماء َما يُ ْم ِسُ 99كه َُّن إِالَّ هّللا ُ إِ َّن فِي ـ قال تعالى " :أَلَ ْم يَ َروْ ْاإِلَى الطَّي ِْر ُم َس َّخ َرا ٍ
ت لِّقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ "(النحل ،آية .)79 : ك آَل يَا ٍ َذلِ َ
إن مشهد الطير وهي تحلق في ج99و الس99ماء " َم99ا يُ ْم ِسُ 9كه َُّن إِالَّهّللا ُ" مش99هد عجيب ب99ديع
ذهب ما ب99ه من عجب :اإللف99ة والتك99رار ،ولكن قلب الم99ؤمن ه99و ال99ذي يش99عر بإب99داع
الخلق والتكوين ،ويدرك ما فيه من روعة باهرة تهز المش99اعر وتس99تجيش الض99مائر،
وي99درك ق99درة هللا وإبداع99ه وحكمت99ه فيم99ا أودع فط99رة الط99ير من س99نن تمكنه99ا من
الطيران ،وما أودع الكون من حولها من سنن مناسبة لهذا الطيران.1
ْص 9رًا إِ َّن 99ار ُمب ِ ومثل قوله سبحانه وتعالى " :أَلَ ْم يَ َروْ ا أَنَّا َج َع ْلنَا اللَّي َْل لِيَ ْس ُكنُوا فِي ِه َوالنَّهَ َ
ت لِّقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ " (النمل ،آية .)86 : فِي َذلِكَ آَل يَا ٍ
ومشهد الليل الساكن ،ومشهد النهار المبص99ر ،خليق99ان أن يوقظ99ا في اإلنس99ان وج99دانا ً
ديني 9ا ً يجنح إلى االتص99ال باهلل ال99ذي يقلب اللي99ل والنه99ار ،وهم99ا آيت99ان كونيت99ان لمن
استعدت نفسه لإليمان.2
وقال سبحانه وتعالى مبينا ً إنتفاع المؤمنين بما في السماوات واألرض من آي99ات ،ق99ال
ت لِّ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ " (الجاثية ،آية .)3 : ت َواأْل َرْ ِ
ض آَل يَا ٍ اوا ِ تعالى " :إِ َّن فِي ال َّس َم َ
وإذا كان اإليمان سببا ً في إهت99داء العب99د إلى الح99ق ،وانكش99اف الحجب أم99ام بص99يرته،
فإنه كذلك سبب في هدية هللا في العب99د وإعانت99ه وتوفيق99ه وزيادت99ه ه99دى إلى الص99راط
المستقيم ،وتثبيته عليه ،وقد جاءت آيات كثيرة تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها ،منها:
ـ قوله تعالىَ " :و َمن ي ُْؤ ِمن بِاهَّلل ِ يَ ْه ِد قَ ْلبَهُ َوهَّللا ُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم"(التغابن ، 9آية .)11 :
ت يَ ْه ِدي ِه ْم َربُّهُ ْم بِإِي َمانِ ِه ْم تَجْ ِري وا الصَّالِ َحا ِ وا َو َع ِملُ ْ
ـ وقال عز من قائل " :إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ت النَّ ِع ِيم" (يونس ،آية .)9 : ِمن تَحْ تِ ِه ُم األَ ْنهَا ُر فِي َجنَّا ِ
ت فِي ْال َحيَ99ا ِة ال ُّ 9د ْنيَا َوفِي اآل ِخَ 9ر ِة 9وا بِْ 9
9القَوْ ِل الثَّابِ ِ ِّت هّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُْ 9ـ وق99ال تع99الى " :يُثَب ُ
ضلُّ هّللا ُ الظَّالِ ِمينَ َويَ ْف َع ُل هّللا ُ َما يَ َشاء" (إبراهيم ،آية .)27 : َويُ ِ
ْب فِيِ 9ه ك ْال ِكتَ99ابُ الَ َري َ ـ وبين سبحانه وتعالى صفات المؤمنين الذين يهديهم فقالَ " :ذلَِ 9
ب َويُقِي ُمونَ الصَّالةَ َو ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم يُنفِقُونَ * والَّ ِذينَ هُدًى لِّ ْل ُمتَّقِينَ * الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ْال َغ ْي ِ
ك َعلَى هُ9دًى 9اآلخ َر ِة هُ ْم يُوقِنُ9ونَ * أُوْ لَـئِ َ نز َل ِمن قَ ْبلِ9كَ َوبِ ِ ُ
نز َل إِلَ ْيكَ َو َما أ ِ
ُ
ي ُْؤ ِمنُونَ بِ َما أ ِ
ك هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ "(البقرة ،آية 2 :ـ .)5 ِّمن َّربِّ ِه ْم َوأُوْ لَـئِ َ9
1
في ظالل القران (.)2186 / 4
2
في ظالل القرآن (.)2668 / 5
71
5ـ اإلهتداء:
من أسباب الهداية المؤدية بالعبد إلى مزي99د اله99دى والتث99بيت على الص99راط 9المس99تقيم:
اهتداؤه إلى اإليمان ،واإلتيان بأس99بابه ،ف9إذا فع99ل العب9د ذل9ك ،ه99داه هللا ب9أن خل9ق في99ه
المشيئة المستلزمة للفعل ،وألهمه ووفقه لطاعات وزاده هدى وتوفيقاً ،وأعانه وهو م99ا
ال يقدر عليه إال هللا سبحانه وتعالى ،كما يزيد الذين ظلموا زيادة ضالل.1
ضاَل لَ ِة فَ ْليَ ْم ُد ْد لَهُ الرَّحْ َم ُن َم ًّدا" (مريم ،آية ،)175 :وهو
قال تعالى :قُلْ َمن َكانَ فِي ال َّ
من باب الجزاء من جنس العمل.2
كما في قوله تعالى " :فَ ْاذ ُكرُونِي أَ ْذ ُكرْ ُك ْم"(البقرة ،آية .)152 :
صرُوا هَّللا َ يَنصُرْ ُك ْم"(محمد ،آية .)7 :
ـ وقوله تعالى " :إِن تَن ُ
وقد جاءت بعض آيات القرآن الك99ريم مق99ررة له99ذه الحقيق99ة زي99ادة اله99دى لمن اهت99دى
وفق سنته سبحانه وتعالى في هداية من سلك سبيل الهدى وقصده.3
ـ قال تعالىَ " :والَّ ِذينَ ا ْهتَدَوْ ا زَا َدهُ ْم هُدًى َوآتَاهُ ْم تَ ْقواهُ ْم"(محمد ،آية .)17 :
ـ وقال تعالىَ " :ويَ ِزي ُد هَّللا ُ الَّ ِذينَ ا ْهتَدَوْ ا هُدًى" (مريم ،آية .)76 :
وإن إيراد هداية هللا مرة بصيغة الماضي ،ومرة بصيغة المضارع ،يفي9د أن هداي9ة هللا
لعب99اده بس99بب اهت99دائهم أم99ر محق99ق ،وس99نة جاري99ة ماض99ية في ال99ذين من قب99ل ،وهي
مستمرة ودائمة إلى أن يرث هللا األرض ومن عليها.
وقد ورد في تفسير قوله تعالى" :ا ْهتَدَوْ ا" معاني متع99ددة دلت عليه99ا أق99وال المفس99رين
فذهب بعضهم إلى أن المقصود من اإلهتداء هو اإليم99ان ،4وجم99ع بعض99هم بين99ه وبين
التصديق بآي99ات هللا ،ورب99ط بعض99هم بين99ه بين اإلتب99اع ،وذهب فري99ق آخ99ر إلى مع99نى
"ا ْهتَدَوْ ا" أي :قصدوا الهداية وأرادوها.5
وقال الطبري مبينا ً إهتداء العبد وهداية هللا له :ويزيد من س99لك قص99د المحب99ة واهت99دى
لسبيل الرشد فآمن بربه وصدق بآياته ،فعمل بما أمره به ،وانتهى عمن نهاه عنه هدى
ت سُو َرةٌ فَ ِم ْنهُم َّمن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْتهُ هَـ ِذ ِه
نزلَ ُْ
على هداه وذلك نظير قولهَ :وإِ َذا َما أ ِ
وا فَزَا َد ْتهُ ْم إِي َمانًا"( 6التوبة ،آية .)124 : إِي َمانًا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
إن ترتيب الوقائع في اآلية يستوقف النظر ،والذين اهتدوا بدأوا هم باإلهتداء ،فكاف99أهم
هللا بزيادة الهدى ،وكافأهم بما هو أعمق وأكمل " َوآتَاهُ ْم تَ ْق99واهُ ْم" ،والتق99وى حال99ة في
القلب تجعله أبداً واجفا ً من هيبة هللا ،ش99اعراً براقبت99ه ،خائف 9ا ً من غض99به ،متطلع 9ا ً إلى
رض99اه ،متحرج99ا ً من أن ي99راه على هيئ99ة أو في حال99ة ال يرض99اها ،ه99ذه الحساس99ية
72
المرهف99ة هي التق99وى ،وهي مكاف99أة يؤتيه99ا من يش99اء من عب99اده حين يهت99دون هم،
ويرغبون في الوصول إلى رضى هللا.1
6ـ الدعاء:
إن من أسباب الهداية حس9ب س99نته س99بحانه وتع99الى أن يس99أل العب9د رب9ه ذل99ك ألن م99ا
يستطيعه العبد هو فعل األس99باب ،وأم99ا م99ا تحق99ق النتيج99ة وهي الهداي99ة إلى الص99راط
المستقيم ،واإلعانة واإللهام والتوفيق والتثبيت على الحق ،فهي من شأن هللا وفعله ،ال
يقدر على ذلك إال هو سبحانه وتعالى ،فالعبد إذا فعل األسباب ال99تي يق99در عليه99ا س99أل
هللا ما ال يقدر عليه وهو الهداية ،كمن يتعاطى العالج للشفاء من المرض ،ثم يسأل هللا
عز وجل الشفاء ألنه هو الشافي والدواء إنما هو مجرد سبب ـ واألسباب ال تؤدي إلى
نتائجها إال بمشئة هللا ـ ووفق قدر خاص لكل شئ منه سبحانه.2
إن سؤال العبد هلل سبحانه وتعالى بالهداية هو من الدعاء الذي وعد علي99ه باالس99تجابة،
اع إِ َذا َدعَا ِن" ُ كما في قوله تعالىَ " :وإِ َذا َسأَلَ َ
ك ِعبَا ِدي َعنِّي فَإِنِّي قَ ِريبٌ أ ِجيبُ َد ْع َوةَ ال َّد ِ
(البقرة ،آية .)186 :
ـ وقال تعالى " :ا ْد ُعونِي أَ ْست َِجبْ لَ ُك ْم" (غافر ،آية .)60 :
ولما ك99ان س99ؤال هللا تع99الى الهداي99ة إلى الص99راط المس99تقيم من أجَّ 9ل المط99الب ،ونيل99ه
أشرف المواهب ،فقد علم سبحانه وتعالى عب99اده ـ في س99ورة الفاتح99ة ـ كيفي99ة س99ؤاله
وأم99رهم أن يق99دموا بين يدي99ه حم99ده والثن99اء علي99ه وتمجي99ده ،ثم ذك99ر عب99وديتهم،
وتوحيدهم ،هاتان وسيلتان إلى مطل99وبهم ،توس99ل إلي99ه بأس99مائه وص99فاته وتوس99ل إلي99ه
بعبوديتهم ،وهاتان الوسيلتان ال يرد معهما الدعاء.3
وهذا الدعاء يتضمن طلب الهداي9ة ممن ه99و ق9ادر عليه99ا ،وهي بي99ده إن ش9اء أعطاه99ا
عبده ،وإن شاء منعه إياها ،والهداية هي معرف99ة الح99ق والعم99ل ب99ه ،فمن لم يجعل99ه هللا
عالما ً بالحق ع9امالً ب99ه لم يكن ل99ه س99بيل إلى االهت99داء ،فه99و س99بحانه وتع99الى المتف99رد
بالهداية الموجبة لإلهتداء التي ال يتخلف عنها وهو جعل العبد مريداً للهدى ،محبا ً ل99ه،
مؤثراً له ،عامالً به ،فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب وال إلى نبي مرسل.4
7ـ االعتصام باهلل:
ومن بين األسباب التي رتب هللا س99بحانه وتع99الى عليه99ا الهداي99ة لعب99اده ،حس99ب س99نته
تعالى في الهداية واإلضالل :االعتصام باهلل وهو االمتناع باهلل وااللتجاء والف99زع إلي99ه
والتوكل عليه في دفع شرور الكفار ال99تي ت99ؤدي ب99المؤمنين إلى الض99الل ال99ذي يري99ده
وا لَ99وْ تَ ْكفُ9رُونَ َك َم99ا َكفَ9ر ْ
ُوا" (النس99اء ،آي99ة : الكفار من المؤمنين 5عا ّمة في قول99هَ ":و ُّد ْ
1في ظالل القرآن (.)3294 / 6
2السنن اإللهية (.)241 / 1
3مدارج السالكين ( .)23 / 1البن القيم.
4شفاء العليل صـ.116
5مدارج السالكين ( ،)461 /1تفسير الرازي (.)174 /8
73
يل هّللا ِ
َص ُّ 9دونَ عَن َس 9بِ ِ .)89واليهود خاصة كما ورد في قوله ":قُلْ يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ
ب لِ َم ت ُ
9ل َع َّما تَ ْع َملُ99ونَ "(آل 9عم99ران ،آي99ة : َم ْن آ َمنَ تَ ْب ُغونَهَا ِع َوجًا َوأَنتُ ْم ُش9هَدَاء َو َم99ا هّللا ُ بِغَافٍِ 9
.)99
فقد بين سبحانه وتعالى أن االعتص99ام باهلل من التمس99ك بدين99ه والتوك99ل ه99و العم99دة في
الهداي99ة إلى الص99راط المس99تقيم والعم99دة في مباع99دة الغواي99ة ،والوس99يلة إلى الرش99اد
وطريق السداد.1
صم بِاهّلل ِ قال تعالىَ " :و َك ْيفَ تَ ْكفُرُونَ َوأَنتُ ْم تُ ْتلَى َعلَ ْي ُك ْم آيَ ُ
ات هّللا ِ َوفِي ُك ْم َرسُولُهُ َو َمن يَ ْعتَ ِ
ص َرا ٍط ُّم ْستَقِ ٍيم" (آل عمران ،آية .)101 : ي إِلَى ِ
فَقَ ْد هُ ِد َ
ص َرا ٍط ُّم ْستَقِ ٍيم" جواب الش99رط ولكون99ه ماض99يا ً م99ع "ق99د" أف99اد
ي إِلَى ِ
فقوله " :فَقَ ْد هُ ِد َ
الكالم تحق99ق اله99دى ح99تى كأن99ه حص99ل وأن الهداي99ة حاص99لة حس99ب س99نته س99بحانه ال
محالة.2
ونظراً ألهمية االعتصام فقد جاءت عدة آيات في كتاب هللا تدعو المؤمنين وتذكرهم
باالعتصام باهلل وبعهده من ذلك قوله سبحانه وتعالى " :فَأَقِي ُموا ال َّ
صاَل ةَ َوآتُوا ال َّز َكاةَ
صيرُ" (الحج ،آية .)78 : َص ُموا بِاهَّلل ِ هُ َو َموْ اَل ُك ْم فَنِ ْع َم ْال َموْ لَى َونِ ْع َم النَّ ِ
َوا ْعت ِ
وا بِ َحب ِْل هّللا ِ َج ِميعًا َوالَ تَفَ َّرقُ ْ
وا" (آل عمران ،آية .)103 : ص ُم ْ9
وقوله تعالىَ " :وا ْعتَ ِ
8ـ االتباع والطاعة:
ومن أسباب الهدى حسب س9نته س9بحانه وتع9الى في الهداي9ة والض9الل االتب9اع ،وه9و
السير وفق الش99رع ومقتض99اه ،واط99راح ك99ل ش99ئ يخ99الف ه99دى هللا س99بحانه وتع99الى،
وطاعة هللا في طاع99ة رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم ،فه99و المبل99غ عن هللا س99بحانه
وتعالى ،وبهذا فإن االتباع يشمل االلتزام بما ورد في كتاب هللا تع99الى ،وس99نة رس99وله
صلى هللا عليه وسلم ،من عقائد وأحكام وأوامر ونواه وآداب وأخالق ،وكل م99ا يرش99د
إليه كتاب هللا عز وجل وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم ،فاالتباع ليس مجرد ش99عار
يرفع ،وإنما هو تحقيق معناه في قلب المسلم وجوارحه وأفكاره.3
ونج99د الق99رآن ،والس99نة المطه99رة ،يرك99زان على االتب99اع ويعتبران99ه من99اط بالهداي99ة،
والطري99ق الموص99لة إلى الس99عادة والنج99اح والفالح في ال99دنيا واآلخ99رة ،ومن أعظم
الدالئل على ذلك أن هللا سبحانه وتعالى قد بين أهمية االتباع ،وأثره في الوص99ول إلى
اله99دى وتجنب الض99الل عن99دما خل99ق آدم وأنزل99ه إلى األرض ،قب99ل أن يرس99ل أنبي99اءه
74
ورسله ،،فكان ذلك دليالً حاسما ً على ما لألتب99اع من أهمي99ة ومكان99ة في الوص99ول إلى
الهداية والنجاة.1
وا ِم ْنهَا َج ِميعا ً فَإ ِ َّما يَأْتِيَنَّ ُكم ِّمنِّي هُدًى فَ َمن تَبِ َع هُدَا َ
ي فَالَ خَ وْ ٌ
ف ـ قال تعالى " :قُ ْلنَا ا ْهبِطُ ْ
َعلَ ْي ِه ْم َوالَ هُ ْم يَحْ زَ نُونَ " (البقرة ،آية .)38 :
ْض َعُ 9د ٌّو فَإ ِ َّما يَأْتِيَنَّ ُ
ك ِّمنِّي هُ9دًى فَ َم ِن ال ا ْهبِطَا ِم ْنهَا َج ِمي ًع99ا بَع ُ
ْضُ 9ك ْم لِبَع ٍ ـ قال تعالى ":قَ َ
ضلُّ َواَل يَ ْشقَى" (طه ،آية .)123 : اتَّبَ َع هُد َ
َاي فَاَل يَ ِ
وقد ربط هللا عز وجل بين طاعته واتباع نبيه صلى هللا عليه وسلم وبين الهداية فجعل
الطاعة واالتباع سببا ً للهداية والرشاد.
1
السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (.)248 / 1
2
في ظالل القرآن (.)2528 /4
3
تفسير المنار محمد رشيد رضا (.)350 /6
4
في ظالل القرآن (.)863 / 2
5
السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (.)250 / 1
75
القرآن ،أو مقيداً لمطلقه ،أو مخصصا ً لعامه أو منشئا ً ألحكام جديدة لم ترد في الق99رآن
جعل ذلك سببا ً من أسباب الهداية.1
تالسَ 9ما َوا ِ ك َّ ـ قال تعالى" :قُلْ يَ99ا أَيُّهَ99ا النَّاسُ إِنِّي َر ُس9و ُل هّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم َج ِمي ًع99ا الَّ ِذي لَ9هُ ُم ْلُ 9
وا بِاهّلل ِ َو َرسُولِ ِه النَّبِ ِّي األُ ِّم ِّي الَّ ِذي ي ُْؤ ِم ُن بِاهّلل ِيت فَآ ِمنُ ْض ال إِلَـهَ إِالَّ هُ َو يُحْ يِـي َويُ ِم ُ َواألَرْ ِ
َو َكلِ َماتِ ِه َواتَّبِعُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ " (األعراف ،آية .)158 :
وأخ99بر الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم أن التمس99ك بس99نته عص99مة من الزي99غ والض99الل
والفتن ،فقال :فعليكم بسنتي وسنة الخلف99اء الراش99دين من بع99دي تمس99كوا به99ا وعض99وا
عليها بالنواجذ ،وإياكم ومحدثات األمور ،فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضاللة.2
وقال تعالى على لسان نبيه محمد صلى هللا عليه وسلم مبينا ً أنه عليه الص99الة والس99الم
ال يتب99ع أه99واء الك99افرين ،ألن في ذل99ك انح99راف عن الص99راط المس99تقيم وس99بيل إلى
الضالل:
ت إِ ًذا َو َما أَنَ9اْ ِمنَ ْال ُم ْهتَِ 9دينَ " (األنع9ام ،آي9ة : ضلَ ْل ُ
ـ قال تعالى 9":قُل الَّ أَتَّبِ ُع أَ ْه َواء ُك ْم قَ ْد َ
،)56أي :ال اتبعكم على ما ت99دعونني إلي99ه ال في العب99ادة وال في غيره99ا من االعم99ال
ألنها مؤسسة على الهوى ،وليست على شيء من الحق واله99دى ،ف99إذا فعلت ذل99ك فق99د
تركت محجة الحق وسرت على غير ه99دى فص9رت ض99االً مثلكم وخ99رجت من ع9داد
المهتدين.3
ول ِمن بَ ْعِ 9د َم99ا تَبَيَّنَ لَ9هُ ْالهُ9دَى َويَتَّبِْ 9ع َغ ْيَ 9ر َس9بِي ِل َّسَ 9
ق الر ُ ـ وق99ال تع99الىَ ":و َمن ي َُش9اقِ ِ
ص9يرًا" (النس99اء ،آي99ة ،)115 :أي: اءت َم ِ ص9لِ ِه َجهَنَّ َم َو َسْ 9 9ولَّى َونُ ْ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ نُ َولِّ ِه َم99ا تََ 9
ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى هللا عليه وس99لم فص99ار في
شق والشرع في شق ،وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وت99بين ل99ه واتض99ح ل99ه
ص9لِ ِه َجهَنَّ َم ويتبع غير سبيل المؤم9نين ،ه9ذا مالزم للص9فة األولى ":نُ َولِّ ِه َم9ا تََ 9ولَّى َونُ ْ
صيرًا" (النساء ،آية )115 :أي :إذا س99لك ه99ذا الطري99ق جازين99اه على ذل99ك اءت َم ِ َو َس ْ
بأن نحسها في صدره ونزينها له استدراجا ً له وجع99ل الن99ار مص99يره في اآلخ99رة ،ألن
من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إال إلى النار يوم القيامة.4
ومن هذه النصوص وغيرها يتبين أن االتباع مجبلة للهداي99ة والرش99اد ،وع99دم االتب99اع
موقع في الزيغ والضالل والهالك.5
9ـ الخشية:
ومن أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى ،خش99ية هللا ع99ز وج99ل والخ99وف من99ه،
فإن خشيته عز وجل تجعل صاحبها أكثر من غيره استعداداً للت99ذكر إذا وع99ظ وذك99ر،
ولالعتبار بما يرى من آيات هللا في الك99ون والحي99اة وم99ا تج99ري ب99ه س99نته في أح99داث
التاريخ ،ولالنتفاع باإلنذار بعذاب هللا في الدنيا واآلخرة ،واالهتداء إلى الحق إذا هدى
إليه وآيات القرآن الكريم توضح هذه الحقائق أكمل توضيح ،حتى أنها لتصور لن99ا م99ا
يعتري الخائفين من هللا إذا سمع آيات الهدى تتلى عليهم:
76
ث ِكتَابً99ا ُّمت ََش9ابِهًا َّمثَ99انِ َي تَ ْق َشِ 9عرُّ ِم ْن9هُ ُجلُ99و ُد الَّ ِذينَ ـ قال تعالى" :هَّللا ُ نَ َّز َل أَحْ َس9نَ ْال َحِ 9دي ِ
ك هُ9دَى هَّللا ِ يَ ْهِ 9دي بِِ 9ه َم ْن يَ َش9اء ين ُجلُو ُدهُ ْم َوقُلُوبُهُ ْم إِلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ َذلَِ 9
يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم ثُ َّم تَلِ ُ
َو َمن يُضْ لِلْ هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد" (الزمر ،آية .) 23 :
ـ وقال تعالى بعد أن ساق قصة فرعون وما آل إليه أمره من النكال والهالك قال" :إِ َّن
فِي َذلِكَ لَ ِع ْب َرةً لِّ َمن يَ ْخ َشى" (النازعات ،آية )26 :فالذي يعرف ربه ويخشاه هو
الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه أما الذي ال يخشى ربه فبينه وبين
العبرة حاجز ،وبينه وبين العظة حجاب.1
ـ ويقول هللا عز وجل عن تأثير خشيته في قبول التذكرة "طه * َما أَنز َْلنَا َعلَ ْيكَ ْالقُرْ آنَ
لِتَ ْشقَى * إِاَّل ت َْذ ِك َرةً لِّ َمن يَ ْخ َشى" (طه ،آية 1 :ـ )2
اف َو ِعي ِد" (ق ،آية .)45 : ـ وقال تعالى ":فَ َذ ِّكرْ بِ ْالقُرْ آ ِن َمن يخَ ُ
ْس لَهُم ِّمن ُدونِ ِ 9ه َولِ ٌّي ُوا إِلَى َربِّ ِه ْم لَي َ ـ وقال تعالىَ ":وأَن ِذرْ بِ ِه الَّ ِذينَ يَخَ افُونَ أَن يُحْ َش 9ر ْ
َوالَ َشفِي ٌع لَّ َعلَّهُ ْم يَتَّقُونَ " (األنعام ،آية .)51 :
فالذي يخشى يتذكر حين يذكر ،ويتقي ربه ب99أداء فرائض99ه واجتن99اب محارم99ه ،خش99ية
عقاب هللا ووعيده ،2وهذه ألوان من الهداي99ة يؤتي99ه ال99ه س99بحانه من يخش99اه ،وق99د ج99اء
التصريح بترتيب الهداية على خشية هللا دون من سواه.
اخ َشوْ نِي َوألُتِ َّم نِ ْع َمتِي َعلَ ْي ُك ْم َولَ َعل ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ " (البقرة ،آية :
َّ قال تعالى ":فَالَ ت َْخ َشوْ هُ ْم َو ْ
.)150
فالهــدى إنمــا يكــون نتيجـة لخشـية هللا وحــده دون مــن سـواه ،ألن ذلـك يدفــع
مــن يخشـى هللا إلــى اتبــاع أوامــره واجتنــاب نواهيــه ،دون النظـر إلــى انكـار
غيــره ممــن ال يخشاهم مــن البشــر فطريق الهــدى هــو خش99ية هللا وعـدم الخش99ية
ممــن سواه.3
10ـ اإلنابة:
ومن أسباب الهداية التي جعلها هللا سببا ً في زي99ادة اله99دى ألص99حابها ،إناب99ة العب99د إلى
هللا ،إنابة عبودية ومحبة وهي تتضمن أربعة أم99ور :محبت99ه والخض99وع ل99ه ،واالقب99ال
عليه واإلعراض عما سواه.4
السَ 9ماء ِر ْزقً99ا َو َم99ا يَتََ 9ذ َّك ُر إِاَّل َمن ـ قال تع99الى":هَُ 9و الَّ ِذي يُِ 9
9ري ُك ْم آيَاتِِ 9ه َويُنَِّ 9ز ُل لَ ُكم ِّمنَ َّ
يُنِيبُ " (غافر ،آية .)13 :
ـ وقال تعالى ":أَفَلَ ْم يَنظُرُوا إِلَى ال َّس َماء فَوْ قَهُ ْم َك ْيفَ بَنَ ْينَاهَا َو َزيَّنَّاهَ9ا َو َمالَهَ9ا ِمن فُ9ر ٍ
ُوج
ْص َ 9رةً
يج * تَب ِ ج بَ ِه ٍ اس َ 9ي َوأَنبَ ْتنَ99ا فِيهَ99ا ِمن ُكِّ 9ل َزوْ ٍ
ض َمَ 9د ْدنَاهَا َوأَ ْلقَ ْينَ99ا فِيهَ99ا َر َو ِ *واأْل َرْ َ َ
ب" (ق ،آية 6 :ـ .)8 َو ِذ ْك َرى لِ ُك ِّل َع ْب ٍد ُّمنِي ٍ
77
ب" (ق ،آي99ة )8 :دالل99ة على اإلناب99ة ص َرةً َو ِذ ْك َرى لِ ُك99لِّ َع ْبٍ 9د ُّمنِي ٍ وفي قوله تعالى ":تَ ْب ِ
سبب في االعتبار لكل من تحققت فيه هذه الصفة ،وأن هذه الصفة لتؤهلهم لث99واب هللا
في الدنيا واآلخرة فكما يثيب هللا عز وجل عباده المنيبين إليه بالجن99ة في اآلخ99رة فإن99ه
سبحانه ي99ثيبهم أيض9ا ً بالهداي99ة في ال99دنيا حس9ب س99نته في الهداي9ة واإلض9الل فيه99ديهم
ويوفقهم إلى الرشاد وإصابة الحق ،ويخلصهم لعبادته ،والعم99ل بطاعت99ه واجتن99اب م99ا
حرمه ويوفقهم إلى تصديق ما جاء به الرسول عليه الصالة والسالم وإتباعه فيما جاء
به 1وفي تقرير ذلك.
نز َل َعلَ ْي ِه آيَ 9ةٌ ِّمن َّربِّ ِه قُ99لْ إِ َّن هّللا َ ي ِ ُ ـ قال تعالى َ " :ويَقُو ُل الَّ ِذينَ َكفَر ْ
ُض 9لُّ َمن ُوا لَوْ الَ أ ِ
َاب" (الرعد ،آية .)27 : يَ َشاء َويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َم ْن أَن َ
ـ وق99ال تع99الىَ " :والَّ ِذينَ اجْ تَنَبُ99وا الطَّا ُغوتَ أَن يَ ْعبُُ 9دوهَا َوأَنَ99ابُوا إِلَى هَّللا ِ لَهُ ُم ْالب ُْشَ 9رى
فَبَ ِّشرْ ِعبَا ِد * الَّ ِذينَ يَ ْستَ ِمعُونَ ْالقَوْ َل فَيَتَّبِعُونَ أَحْ َسنَهُ أُوْ لَئِكَ الَّ ِذينَ هَ 9دَاهُ ُم هَّللا ُ َوأُوْ لَئِ99كَ هُ ْم
ب" (الزمر ،آية 17 :ـ .)18 أُوْ لُوا اأْل َ ْلبَا ِ
صْ 9ينَا ِّين َما َوصَّى بِ ِه نُوحًا َوالَّ ِذي أَوْ َح ْينَا إِلَ ْيكَ َو َم99ا َو َّ ـ وقال تعالىَ " :ش َر َع لَ ُكم ِّمنَ الد ِ
بِ ِه إِب َْرا ِهي َم َو ُمو َسى َو ِعي َسى أَ ْن أَقِي ُموا ال ِّدينَ َواَل تَتَفَ َّرقُ99وا فِيِ 9ه َكبَُ 9ر َعلَى ْال ُم ْشِ 9ر ِكينَ َم99ا
تَ ْد ُعوهُ ْم إِلَ ْي ِه هَّللا ُ يَجْ تَبِي إِلَ ْي ِه َمن يَ َشاء َويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َمن يُنِيبُ " (الشورى ،آية .)13 :
ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغ ْيَ 9ر بَ ِعي ٍ 9د * ـ وأما جزاء المنيبين في اآلخرة فقد ق99ال تع99الىَ " :وأُ ْزلِفَ ِ
ب" (ق ، ب ُّمنِي ٍ ب َو َجاء بِقَ ْل ٍ يظ * َم ْن خَ ِش َي الرَّحْ َمن بِ ْال َغ ْي ِ ب َحفِ ٍ هَ َذا َما تُو َع ُدونَ لِ ُكلِّ أَ َّوا ٍ
آية 31 :ـ .)33
ي الَّ ِذينَ ـ ولذلك فقد أمر هللا سبحانه عباده باإلنابة كما في قول99ه تع99الى " :قُ99لْ يَ99ا ِعبَ99ا ِد َ
9و وب َج ِمي ًع99ا إِنَّهُ هَُ 9 أَ ْس َ 9رفُوا َعلَى أَنفُ ِس ِ 9ه ْم اَل تَ ْقنَطُ99وا ِمن رَّحْ َمِ 9ة هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ يَ ْغفِ ُ 9ر ال ُّ 9ذنُ َ
َّحي ُم * َوأَنِيبُ99وا إِلَى َربِّ ُك ْم َوأَ ْس99لِ ُموا لَ99هُ ِمن قَبِْ 99ل أَن يَ99أْتِيَ ُك ُم ْال َعَ 99ذابُ ثُ َّم اَل ْال َغفُ99و ُر ال99ر ِ
صرُونَ " (الزمر ،آية 53 :ـ .)54 تُن َ
اس 9ر النَّ َ طَ 9رةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطََ 9 ـ وكما في قوله تع99الى أيض9اً" :فَ99أَقِ ْم َوجْ هَ99كَ لِل9دِّي ِن َحنِيفً99ا فِ ْ
اس اَل يَ ْعلَ ُم9ونَ * ُمنِيبِينَ إِلَيِْ 9ه 9ر النَّ ِ ِّين ْالقَيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َ
ك ال9د ُ َعلَ ْيهَا اَل تَبِْ 9دي َل لِخ َْل ِ
9ق هَّللا ِ َذلَِ 9
صاَل ةَ َواَل تَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ "( 9الروم ،آية 30 :ـ .2)31 َواتَّقُوهُ َوأَقِي ُموا ال َّ
11ـ البراء من الكافرين:
ومن الطاعات التي خصص هللا سبحانه وتعالى ذكرها وجعله99ا س99ببا ً في زي99ادة ه99دى
أص99حابها ،ال99براءة من الك99افرين بالبع99د عنهم والخالص منهم والع99داوة لهم وع99دم
مواالتهم بالتقرب إليهم أو إظهار الود لهم باألقوال أو األفعال أو النوايا ،3ق99ال تع99الى:
"اَل تَ ِج ُد قَوْ ًما ي ُْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر ي َُوا ُّدونَ َم ْن َحا َّد هَّللا َ َو َرسُولَهُ َولَوْ َكانُوا آبَ99اءهُ ْم
ُوح ِّم ْن 9هُ َب فِي قُلُوبِ ِه ُم اإْل ِ ي َمانَ َوأَيَّ َدهُم بِ 9ر ٍ ك َكت َ يرتَهُ ْم أُوْ لَئِ َ
أَوْ أَ ْبنَاءهُ ْم أَوْ إِ ْخ َوانَهُ ْم أَوْ ع َِش َ
ض9واَ 9ع ْن9هُ ض َ 9ي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َر ُ ت تَجْ ِري ِمن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر َخالِ ِدينَ فِيهَ99ا َر ِ َويُ ْد ِخلُهُ ْم َجنَّا ٍ
ب هَّللا ِ هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ " (المجادلة ،آية .)22 : أُوْ لَئِكَ ِح ْزبُ هَّللا ِ أَاَل إِ َّن ِح ْز َ
وليس البراء من الكافرين هم مجرد ال99براء من أشخاص99هم ،ب99ل ه99و أيض9ا ً ال99براء من
أفعالهم وبغضها ،وما ذلك إال ألن والءهم ه99و س99بيل الض99الل أو الض99الل بعين99ه كم99ا
78
ْض9هُ ْمص9ا َرى أَوْ لِيَ99اء بَع ُ وا ْاليَهُو َد َوالنَّ َوا الَ تَتَّ ِخ ُذ ْ جاء في قوله تعالى " :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ْض َو َمن يَتَ َولَّهُم ِّمن ُك ْم فَإِنَّهُ ِم ْنهُ ْم إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ " (المائدة ،آية أَوْ لِيَاء بَع ٍ
.)51 :
9وا ٌليرتُ ُك ْم َوأَ ْمَ 9
ـ وقال تعالى" :قُلْ إِن َكانَ آبَا ُؤ ُك ْم َوأَ ْبنَآ ُؤ ُك ْم َوإِ ْخَ 9وانُ ُك ْم َوأَ ْز َوا ُج ُك ْم َوع َِش َ 9
ض 9وْ نَهَا أَ َحبَّ إِلَ ْي ُكم ِّمنَ هّللا ِ َو َر ُس 9ولِ ِهارةٌ ت َْخ َش9وْ نَ َك َس9ا َدهَا َو َم َس9ا ِك ُن تَرْ َ ا ْقتَ َر ْفتُ ُموهَا َوتِ َج َ
ُوا َحتَّى يَأْتِ َي هّللا ُ بِأ َ ْم ِر ِه َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ " (التوبة ، َو ِجهَا ٍد ِفي َسبِيلِ ِه فَت ََربَّص ْ
آية .)24 :
وال99براء من الك99افرين يجنب ص99احبه الوق99وع في أعم99ال المعص99ية والض99الل ال99تي
يقترفونها ،ويجنب99ه التش99به بأعم99الهم ال99تي ت99ؤدي ب99ه إلى الض99الل ،ثم إن ال99براء منهم
ُوا"وا لَ99وْ تَ ْكفُ9رُونَ َك َم99ا َكفَ9ر ْ تجنبه محاولتهم ثنيه عن إيمان99ه وه99داه ،ق99ال تع99الىَ " :و ُّد ْ
(النساء ،آية .1)89 :
12ــ الجهــاد :ومن أس99باب الهداي99ة الجه99اد في س99بيل هللا ،فق99د رتب س99بحانه وتع99الى
الهداي99ة على الجه99اد ،وجعل99ه س99ببا ً من أس99باب زي99ادة اله99دى ،ق99ال تع99الىَ " :والَّ ِذينَ
َجاهَُ 9دوا فِينَ9ا لَنَ ْهِ 9ديَنَّهُ ْم ُس9بُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َمَ 9ع ْال ُمحْ ِس9نِينَ " (العنكب99وت ،آي99ة .)69 :عل9ق
سبحانه الهداية بالجهاد ،فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً ،ومراتب الجهاد أربع:
أ ـ جهاد النفس:
إحــداها :أن يجاه99د على تعلم اله99دى ،ودين الح99ق ال99ذي ال فالح له99ا ،وال س99عادة في
معاشها ومعادها إال بها ،ومتى فاتها علمه ،شقيت في الدارين.
الثانيــة :أن يجاه99دها على العم99ل ب99ه بع99د علم99ه ،وإال فمج99رد العلم بال عم99ل إن لم
يضرها لم ينفعها.
الثالثــة :أن يجاه99دها على ال99دعوة إلي99ه ،وتعليم99ه من ال يعلم99ه ،وإال ك99ان من ال99ذين
يكتمون ما أنزل هللا من الهدى والبينات وال ينفعه علمه وال ينجيه من عذاب هللا.
ق ال99دعوة إلى هللا ،وأذى الخل99ق ويتحم99ل الرابعة :أن يجاهدها على الص99بر على مش99ا ِّ
كل ذلك هلل.
فإذا استكمل هذه المراتب األربع ،صار من الربانيين ،ف99إن الس99لف مجمع99ون على أن
العالم ال يستحق أن يُسمى "ربانياً" حتى يعرف الحق ،ويعم99ل ب99ه ،ويعلم99ه ،فمن علم
وعمل وعلَّم فذاك الذي يدعى عظيما ً في ملكوت السماوات.2
ب ـ جهاد الشيطان مرتبتان:
إحداهما:جهاده على دفع ما يأتي إلى العبد من الشبهات والشكوك الفادحة في اإليمان.
الثانية :جهاده على دفع ما يُلقى إليه من اإلرادات الفاسدة والشهوات.
فالجهاد األول :يكون بعدة اليقين ،،والثاني :يكون بعدة الصبر.
ص9بَرُوا َو َك99انُوا بِآيَاتِنَ99ا يُوقِنُ99ونَ " ـ قال تعالىَ " :و َج َع ْلنَ99ا ِم ْنهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْهُ 9دونَ بِأ َ ْم ِرنَ99ا لَ َّما َ
(السجدة ،آية ،)24 :فأخبر أن أمامه الدين ،إنما تُنال بالصبر واليقين ،فالص99بر ي99دفع
الشهوات واإلرادات الفاسدة ،واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
ج ـ جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب:
79
وأما جهاد الكفار والمنافقين ،فأربع مراتب :بالقلب ،واللسان ،والمال ،والنفس ،وجهاد
الكفار أخصُّ باليد ،وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.
ساق ثالث مراتب: س ـ جهاد الظلمة والف ّ
وأما جهاد أرباب الظلم ،والبدع ،والمنكرات ،فثالث مراتب:
األولى :باليد إذا قدر ،فإن عجز ،انتقل إلى اللسان ،فإن عجز ،جاهد بقلبه ،فهذه ثالث99ة
عشر مرتبة من الجهاد "ومن مات ولم يغز ،ولم يح ّدث نفسه بالغزو ،مات على شعبة من
النفاق ،1وال يت ُّم الجهاد إال بالهجرة ،وال الهجرة والجهاد إال باإليمان ،والرّاجون رحمة
ُوا َو َجاهَُ 9د ْ
وا 9اجر ْ هللا هم الذين قاموا بهذه الثالثة قال تعالى ":إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُْ 9
9وا َوالَّ ِذينَ هََ 9
فِي َسبِي ِل هّللا ِ أُوْ لَـئِ َ
ك يَرْ جُونَ َرحْ َمتَ هّللا ِ َوهّللا ُ َغفُو ٌر َّر ِحي ٌم" (البقرة ،آية .)218 :
وكما أن اإليمان فرض على ك َّل أحد ،ففرض عليه هجرتان في ك99ل وقت :هج99رة إلى
هللا عز وجل بالتوحيد ،واإلخالص واإلنابة والتوكل ،والخ99وف ،والرج99اء ،والمحب99ة،
والتوبة .وهجرة إلي رس99وله بالمتابع99ة ،واالنقي99اد ألم99ره ،والتص99ديق بخ99بره ،وتق99ديم
أمره وخبره على أمر غيره وخبره "فمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله ،فهجرت99ه إلى
هللا ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ،أو إمرأة يتزوجها ،فهجرت99ه إلى م99ا
هاجر إليه ،2وفرض عليه جهاد نفسه في ذات هللا ،وجه99اد ش99يطانه ،فه99ذا كل99ه ف99رض
عين ،ال يتوب فيه أحد عن أحد ،وأم99ا جه99اد الكف99ار المن99افقين ،فق99د يُكتفى في99ه ببعض
األمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد.3
80
والمقصود بإضالل هللا للعبد ه9و خذالن99ه وع9دم توفيق9ه وإعانت99ه وع99دم خل99ق المش9يئة
المستلزمة للهداية.1
وهللا سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قبلهم ،فهم إذا
سدوا على أنفس9هم ب9اب اله9دى إرادة منهم واختي9اراً ،س9ده عليهم اض9طراراً 9،فخالهم
وما اختاروا ألنفسهم ووالهم ما تولوا ،فيكون ذلك عقوبة لهم ،كما يعاقبهم في اآلخرة
بدخولهم النار.2
ومن رحم99ة هللا بعب99اده ،أن م99ا يفعل99ه هللا ع99ز وج99ل من إض99الل بعض عب99اده ب99الطبع
والغشاوة والختم وغير ذلك ،ال يفعله بالعبد ألول وهلة حين يأمره باإليمان ويبينه ل99ه،
وإنما يفعله به بعد تكرار ال99دعوة ب99ه س99بحانه ،والتأكي99د في البي99ان واإلرش99اد وتك99رار
اإلعراض منه ،والمبالغة في الكفر والعناد ،فحينئذ يطبع هللا على قلوب هؤالء العباد،
ويختم عليهم ،فال يقبل اله99دى بع99د ذل99ك ،واإلع99راض والكف99ر األول لم يكن مع99ه ختم
وطبع ،بل كان اختياراً ،فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية.3
ُوا َس َوا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أَأَن َذرْ تَهُ ْم أَ ْم لَ ْم تُنِ 99ذرْ هُ ْم
فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى" :إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَر ْ
اوةٌ َولَهُ ْم َعَ 9ذابٌ ار ِه ْم ِغ َش َ 9 ْص ِ 9 الَ ي ُْؤ ِمنُونَ * خَ تَ َم هّللا ُ َعلَى قُلُوبِه ْم َو َعلَى َس ْم ِع ِه ْم َو َعلَى أَب َ
عظي ٌم" (البقرة ،آية 6 :ـ .)7 ِ
1ـ حرية العبد في إختياره للهدى والضالل:
األعمال التي يقوم بها اإلنسان وفقا ً إلرادته الحرة وإختياره ورض99اه ،فاإلنس99ان ك99ائن
عاقل مدرك مفكر ،ويتميز عن غيره من المخلوقات بحرية اإلختيار.
ض َو َّ
الشْ 9مسُ ت َو َمن فِي اأْل َرْ ِ ــ قــال تعــالى" :أَلَ ْم ت ََر أَ َّن هَّللا َ يَ ْسُ 9ج ُد لَ9هُ َمن فِي َّ
السَ 9ما َوا ِ
ق َعلَ ْيِ 9ه ْال َعَ 9ذابُ َو ْالقَ َم ُر َوالنُّجُو ُم َو ْال ِجبَا ُل َوال َّش َج ُر َوال َّد َوابُّ َو َكثِي ٌر ِّمنَ النَّ ِ
اس َو َكثِي ٌر َحَّ 9
َو َمن يُ ِه ِن هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمن ُّم ْك ِر ٍم إِ َّن هَّللا َ يَ ْف َع ُل َما يَ َشاء" (الحج ،آية .)18 :
فهذه الكائن99ات جميعه99ا ال حري99ة له99ا وال إختي99ار ،بينم99ا اإلنس99ان ال99ذي يعم99ل بمحض
إرادته الحرة ومشيئته المختارة ،قد يطيع وقد يعصي ،وأكد الق99رآن أن اإلنس99ان ال99ذي
تحم9ل األمان9ة والتكلي9ف زوده هللا بق9وى وملك9ات وإس9تعدادات لتحقي9ق تل9ك الخالف9ة
وألداء األمان99ة ،فخل99ق لدي99ه االس99تعداد للخ99ير والش99ر ،للتق99وى والفج99ور ،واله99دى
والضالل ،ومنحه العقل ال9ذي يم9يز ب9ه بين الح9ق والباط9ل ،والخ9ير والش9ر ،ووهب9ه
القدرة التي ال يمكن عن طريقها أن يحق الحق ويبطل الباط99ل ،أن ي99أتي الخ99ير وي99دع
الشر ،وأنزل هللا الكتب ،وأرسل الرسل لهداية اإلنسان وإرشاده لمنهج الحق والخ99ير،
وجع99ل في اإلنس99ان ق99وة ذاتي99ة واعي99ة مدرك99ة يمكن أن يس99تخدمها في تزكي99ة النفس
81
وتطهيرها ،وتنمية إستعداد الخير فيها وتغليبه على إستعداد الشر ،فيفلح اإلنسان بهذا،
وقد يظلم هذه القوة ويغطيها ويضعفها فيخيب ،قال تعالى " :قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن َز َّكاهَا * َوقَ ْ 9د
خَاب َمن َدسَّاهَا" (الشمس ،آية 9 :ـ .)10 َ
وقد نطق القرآن الكريم ،بإسناد الفعل إلى العبد في الكثير من آياته ،مثل قول99ه تع99الى:
" َجزَاء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ " (األحقاف ،آية .)14 :
ص9الِحًا فَلِنَ ْف ِسِ 9ه َو َم ْن أَ َس9اء فَ َعلَ ْيهَ99ا َو َم99ا َربُّكَ بِظَاَّل ٍم لِّ ْل َعبِيِ 9د" ـ ق99ال تع99الىَ " :م ْن َع ِمَ 9ل َ
(فصلت ،آية .)46 :
ت َر ِهينَةٌ" (المدثر ،آية .)38 : س بِ َما َك َسبَ ْوقال تعالىُ " :كلُّ نَ ْف ٍ
وأثبت القرآن للعبد في غير ما آية منه في المشيئة االختيار ،فقال تع99الى " :إِنَّا هَ َ 9د ْينَاهُ
يل إِ َّما َشا ِكرًا َوإِ َّما َكفُورًا" (اإلنسان ،آية .)3 : ال َّسبِ َ
إن اإلنسان حر ،لقد زوده هللا بالعقل واإلرادة ،يختار ما يراه من حق أو باطل ،ويفعل
ما يروق له من خير أو شر ،فهو مزود بوسائل اإلدراك ،يدرك ما في األشياء من قيم
ويحكم عليها ويختار ،وهو بالخيار أن يسلك طريق الح99ق والخ99ير فيك99ون ش99اكراً ،أو
يعوج في طريقه فيجنح نحو الشر والباطل ،فيكون كفوراً.1
فاإلنسان ح99ر في دائ99رة أعمال99ه اإلختياري99ة والمرتبط99ة ب99التكليف والمس99ئولية ،وه99ذه
الحرية يؤكدها ما يلي:
أ ـ واق99ع حي99اة اإلنس99ان ال99ذي يش99عر ب99الفرق الواض99ح بين األعم99ال اإلختياري99ة وبين
األعمال التي تقع عليه اضطراراً.
ب ـ كما يؤكدها العقل الذي يقضي بأن المس99ئولية والتكلي99ف ،ال ب99د أن تك99ون منوط99ة
باستطاعة اإلنسان على الفع99ل أو ال99ترك ألن من ال يمل99ك ه99ذه اإلس99تطاعة فال يص99ح
عقالً أن تتوجه إليه المسئولية أصالً.
جـ ـ وإضافة إلى ذل99ك ل99و لم يكن اإلنس99ان مخت99اراً ،لم99ا ك99ان ثم99ة ف99رق بين المحس99ن
والمسئ ،إذ أن كالً منهما مجبر على م99ا قال99ه ،ولبط99ل األم99ر ب99المعروف والنهي عن
المنكر ،ال فائدة لهما ،حيث أن اإلنسان مسلوب اإلرادة ،ولما كان ثم99ة مع99نى لتكلي99ف
هللا للعباد ،ألن تكليفه إياهم م99ع س99لب إختي99ارهم يتن99افى م99ع الع99دل اإللهي ال99ذي أثبت99ه
لنفسه ،بل لو كان اإلنسان مجبراً على أفعاله ،لضاعت فائ99دة الق99وانين ،ولبط99ل مع99نى
الجزاء من الثواب والعقاب.
س ـ وقبل هذا كله ،جاءت النصوص الشرعية تنسب العم99ل واإلختي99ار إلى اإلنس99ان،
وما يكتسبه نتيجة لجهده ،وثبت الجزاء بالجنة لمن أطاع ،والنار لمن عصى.2
ير" (الشورى ، ت أَ ْي ِدي ُك ْم َويَ ْعفُوعَن َكثِ ٍ صيبَ ٍة فَبِ َما َك َسبَ ْ صابَ ُكم ِّمن ُّم ِ ـ قال تعالىَ " :و َما أَ َ
آية .)30 :
ْضاس لِيُ ِ 9ذيقَهُم بَع َ ت أَ ْيِ 9دي النَّ ِ ـ وقال تعالى " :ظَهَ َر ْالفَ َسا ُد فِي ْالبَرِّ َو ْالبَحْ ِ 9ر بِ َم99ا َك َس 9بَ ْ
الَّ ِذي َع ِملُوا لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجعُونَ " (الروم ،آية .)41 :
ق ِمن َّربِّ ُك ْم فَ َمن َشاء فَ ْلي ُْؤ ِمن َو َمن َشاء فَ ْليَ ْكفُرْ " (الكهف ،آية ـ وقال تعالىَ " :وقُ ِل ْال َح ُّ
.)29 :
َ
ـ وقال تعالى " :لِ َمن َشاء ِمن ُك ْم أن يَ ْستَقِي َم" (التكوير ،آية .)28 :
1
العقيدة اإلسالمية د.أحمد محمد جيلي صـ.363
2
العقيدة اإلسالمية د .أحمد جيلي صـ.365
82
ولكن هذه المشيئة اإلنس9انية مح9دودة مرتبط9ة بمش9يئة هللا المطلق9ة وتابع9ة له9ا ،إذ أن
اإلنسان يعمل أعماله اإلختيارية ويمارس حريته في العمل داخل دائ99رة ص99غرى تق99ع
ض99من دائ99رة ك99برى ،هي نط99اق النظ99ام الك99وني الع99ام ،إذ أن أعمال99ه مهم99ا ك99انت،
وإختياره مهما كان خيراً أم شراً حقا ً أم باطالً ،لن يخرج في أدائ99ه األخ99ير عن الس99نن
الكونية التي وضعها هللا في الكون ،وتق99وم عليه99ا ق99وانين الحي99اة البش99رية " لِ َمن َش9اء
ِمن ُك ْم أَن يَ ْستَقِي َم * َو َما تَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َش9اء هَّللا ُ َربُّ ْال َع99الَ ِمينَ " (التك99وير ،آي99ة 28 :ـ
.)29
فمشيئة هللا ليست منفصلة عن مشيئة هللا تعالى ،وال مستقلة عنه99ا ،ب99ل أن هللا ق99د ش99اء
لإلنس99ان أن يخت99ار أح99د الطريق99تين :طري99ق الهداي99ة وطري99ق الض99الل ،ف99إن إخت99ار
الطريق األول ،وفي نطاق المشيئة اإللهية ،وإذا إختار الثاني ففي نطاقها أيضا ً.1
2ـ التوفيق بين مشيئةـ هللا ومشيئة العبد للهدى والضالل:
أسند هللا عز وجل الهداية واإلضالل إلى مش99يئته س99بحانه في كث99ير من اآلي99ات ،منه99ا
ضلُّ َمن يَ َشاء َويَ ْه ِ 9دي َمن يَ َش 9اء قوله تعالىَ " :ولَوْ َشاء هّللا ُ لَ َج َعلَ ُك ْم أُ َّمةً َو ِ
اح َدةً َول ِكن يُ ِ
َولَتُسْأَلُ َّن َع َّما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (النحل ،آية .)93 :
ُض 9لُّ هّللا ُ َمن يَ َش 9اء ـ وقال تعالىَ " :و َما أَرْ َس ْلنَا ِمن َّرسُو ٍل إِالَّ بِلِ َس ِ
ان قَوْ ِم ِه لِيُبَيِّنَ لَهُ ْم فَي ِ
َويَ ْه ِدي َمن يَ َشاء َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم" (إبراهيم ،آية .)4 :
ض9لٍّ" *و َمن يَ ْهِ 9د هَّللا ُ فَ َم99ا لَ9هُ ِمن ُّم ِ ُض9لِ ِل هَّللا ُ فَ َم99ا لَ9هُ ِم ْن هَ99ا ٍد َ
ـ وق99ال تع99الىَ ":و َمن ي ْ
(الزمر ،آية 36 :ـ .)37
والواق99ع أن ه99ذه وأمثاله99ا نص99وص عام99ة والب99د أن تحم99ل على النص99وص المقي99دة،
فليست مشيئة هللا للهداية واإلضالل تسير جزافا ً ب99دون حكم99ة ،أو ب99دون س99نة ماض99ية
في هذا الشأن وذلك ألنه توجد هناك إلى جانب هذه اآلي99ات العام99ة آي99ات أخ99رى تقي99د
مشيئة هللا في الهداية واإلضالل بأحوال خاصة وأس99باب معين99ة وه99ذه اآلي99ات المقي99دة
تبين لنا من يشاء هللا تعالى هدايته ومن يشاء إضالله وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل.
لقد ربط هللا عز وجل كث99ير من اآلي99ات بين مش99يئة العب99د لله99دى ،والض99الل ومش99يئته
سبحانه وتعالى لهما ،وهللا سبحانه ال يشاء إال العدل والرحمة وهذا الذي عرف99ه رس99ل
ت َعلَى هّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُكم َّما هللا عليهم الصالة والسالم ولهذا قال هود لقومه ":إِنِّي تََ 99و َّك ْل ُ
اط ُّم ْستَقِ ٍيم" (هود ،آي99ة .)56 :ف99أخبر صيَتِهَا إِ َّن َربِّي َعلَى ِ
ص َر ٍ ِمن دَآبَّ ٍة إِالَّ هُ َو آ ِخ ٌذ بِنَا ِ
عن عموم ق99درة هللا ونف99وذ مش99يئته وتص99رفه في خلق99ه كي99ف يش99اء ،ثم أخ99بر أن ه99ذا
التصرف والحكم على صراط مستقيم أي سبحانه وإن ك99انت قدرت99ه تن99الهم بم99ا يش99اء
فإنه ال يشاء إال العدل.2
فهداية هللا س99بحانه لعب99اده أو إض99اللهم إنم99ا تق99وم على أس99اس ت99رتيب المس99ببات على
أسبابها والنتائج على مقدماتها ،كما دل على ذلك كثير من اآليات ومنها:
ضلُّ هّللا ُ الظَّالِ ِمينَ " (إبراهيم ،آية .)27 : ـ قوله تعالىَ ":ويُ ِ
ـ وقوله تعالىَ ":ويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َمن يُنِيبُ " (الشورى ،آية .)13 :
1المصدر نفسه.
2السنن اإللهية (.)105 /1
83
بين سبحانه وتعالى في اآلية األولى إن س99بب إض99الله لبعض عب99اده ه99و الظلم ،وبين
في اآلية الثانية أن سبب هدايته لبعض عباده هو إنابتهم إليه.3
ومن تدبر القرآن تبين ل99ه أن عام99ة م99ا ي99ذكره هللا من خل99ق الكف99ر والمعاص99ي يجعل99ه
إل ْس 9الَ ِم َو َمن 9ر ِد هّللا ُ أَن يَ ْه ِديَ 9هُ يَ ْش َ 9رحْ َ
ص ْ 9د َرهُ لِ ِ جزاء لذلك العمل كقوله تعالى ":فَ َمن يُِ 9
السَ 9ماء َكَ 9ذلِكَ يَجْ َعُ 9ل هّللا ُ صَّ 9ع ُد فِي َّ ض9يِّقًا َح َرجً9ا َكأَنَّ َم9ا يَ َّ ي ُِر ْد أَن ي ِ
ُض9لَّهُ يَجْ َع9لْ َ
صْ 9د َرهُ َ
س َعلَى الَّ ِذينَ الَ ي ُْؤ ِمنُونَ " (األنعام ،آية .)125 : الرِّ جْ َ
ـ وقال تعالى ":فَلَ َّما زَا ُغوا أَزَا َغ هَّللا ُ قُلُوبَهُ ْم" (الصف ،آية .)5 :
ب بِ ْال ُح ْسنَى* فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لِ ْل ُع ْس َرى" (الليل، ـ وقال تعالىَ ":وأَ َّما َمن بَ ِخ َل َوا ْستَ ْغنَى َ
*و َك َّذ َ
آية 8 :ـ .)10
وهذا وأمثاله بذلوا فيه أعماالً عاقبهم هللا بها على فعل محظ99ور وت99رك م99أمور ،وتل99ك
األمور إنما خلقت لكونهم لم يفعلوا ما خلق99وا ل99ه ،والب99د لهم من حرك99ة وإرادة فلم99ا لم
يتحركوا بالحسنات حركوا بالسيئات عدالً من هللا ،حيث وض99ع ذل99ك في محل99ه القاب99ل
له ،وهو القلب الذي ال يكون إال عامالً فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في السيئة :نفس99ك
إن لم تشغلها شغلتك.2
س أَن تُ9ْ 9ؤ ِمنَ إِالَّ بِ 9إ ِ ْذ ِن هّللا ِ
يقول الشيخ محمد رشيد رضا عند قوله تعالىَ ":و َما َكانَ لِنَ ْف ٍ
س َعلَى الَّ ِذينَ الَ يَ ْعقِلُ99ونَ " (ي99ونس ،آي99ة )100 :أي :وم99ا ك99ان لنفس وال َويَجْ َع ُل ال ِّرجْ َ
من شأنها فيما أشير إليه من استقاللها في أفعالها وال مما أعطاها هللا من االختيار فيما
هداه من النجدين وما ألهمه99ا من فجوره99ا وتقواه99ا الفط99ريين أن ت99ؤمن إال ب99إرادة هللا
ومقتض99ى س99نته في اس99تطاعة ال99ترجيح بين المتعارض99ين 9،فهي مخت99ارة في دائ99رة
االسباب والمسببات ولكنها غير مس99تقله في اختياره99ا أتم االس99تقالل ب99ل مقي99دة بنظ99ام
السنن و األقدار ،فالمنفي هو استطاعة الخ99روج عن ه99ذا النظ99ام الع99ام ال االس99تطاعة
الخاصة الموافقة له.3
3ـ التوفيق بين القدر األزلي واختيار الهدى والضالل:
ومن مراجع99ة مجموع99ة النص99وص ال99تي ت99ذكر اله99دى والض99الل ،والتنس99يق بين
مدلوالتها جميعاً ،يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الج9دل ال9ذي أث99اره المتكلم99ون
من الفرق اإلسالمية والذي أثاره الالهوت المسيحي والفلسفات المتع99ددة ح99ول قض99ية
القضاء والقدر عموماً :إن مشيئة هللا سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن اإلنس99اني
هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج لله9دى والض9الل ،وذل99ك م99ع إي9داع فطرت99ه
إدراك حقيق99ة الربوبي99ة الواح99دة واالتج99اه إليه99ا،وم99ع إعطائ99ه العق99ل المم99يز للض99الل
واله99دى ،وم99ع إرس99ال الرس99ل بالبين99ات آليق99اظ الفط99رة إذا تعطلت وهداي99ة العق99ل إذا
ضل ..ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك االس9تعداد الم9زدوج لله9دى والض9الل ال9ذي خل9ق
اإلنسان به ،وفق مشيئة هللا التي جرى بها قدره ،كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري
قدر هللا بهداية من يجاهد للهدى ،وأن يجري قدر هللا كذلك إلضالل من ال يستخدم م99ا
أودعه هللا من عقل ،وما أعطاه من أجهزة الرؤيا والس99مع في إدراك اآلي99ات المبثوث99ة
في صفحات الكون ،وفي رساالت الرسل ،الموحية للهدى ،وفي ك99ل الح99االت تتحق99ق
84
مشيئة هللا وال يتحقق سواها ،ويق99ع م99ا يق99ع بق99در هللا ال بق99ول س99واه ،وم99ا ك99ان األم99ر
ليكون هكذا إال أن هللا شاء هكذا ،وما ك99ان ش99ئ ليق99ع إال أن يوقع99ه ق99در هللا ،فليس في
هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها األم99ور ،كم99ا أن99ه ليس هن99اك ق99وة إال بق99در هللا
ينشئ األحداث ..وفي إطار هذه الحقيقة الكبرى يتحرك اإلنسان بنفسه ،ويقع له ما يقع
من اله99دى والض99الل أيض99اً ،وه99ذا ه99و التص99ور 9اإلس99المي الي تنش99ئه مجموع99ة
النصوص القرآنية مقارنة متناسقة ،حين ال تؤخذ فرادى وف9ق أه9واء الف9رق والنح9ل،
وحين ال يوضع بعضها في مواجهة البعض اآلخر ،على سبيل اإلحتجاج أو الجدل.1
رابعاً :أسباب الضالل:
للضالل أسباب كثيرة وعوامل حسبما تجري به سنة هللا في عب99اده من ت99رتيب النت99ائج
على مقدماتها واتباع المسببات ألسبابها ،وقد تكون هذه األسباب والعوامل فكري99ة ،أو
نفسية ،أو أخالقية ،وقد ترجع إلى التأثر بالوراثة أو البيئة ،أو النشأة أو طبيع99ة الحي99اة
التي يحياها صاحبها أو غير ذلك من األسباب والعوامل والتي من أهمها:
1ـ عدم استخدام اإلنسان مواهبه في التفكر في آيات هللا:
ق بِ َما الَ يَ ْس َ 9م ُع إِالَّ ُد َع99اء َونِ 9دَاء ُ
ص ٌّ 9م ـ قال تعالىَ 9":و َمثَ ُل الَّ ِذينَ َكفَر ْ
ُوا َك َمثَ ِل الَّ ِذي يَ ْن ِع ُ
ي فَهُ ْم الَ يَ ْعقِلُونَ " (البقرة ،آية .)171 : بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ
فهم ص99م ال يس99معون الح99ق وعمي ال ينظ99رون إلى آي99ات هللا في أنفس99هم وفي اآلف99اق
حتى يتبين لهم الحق.2
85
َّت ِمن ض 9ينَ * َك99أَنَّهُ ْم ُح ُمٌ 9ر ُّم ْس 9تَنفِ َرةٌ *فَ 9ر ْ ْر ِـ وق99ال تع99الى ":فَ َم99ا لَهُ ْم ع َِن التَّ ْذ ِك َر ِة ُمع ِ
قَس َْو َر ٍة" (المدثر ،آية 49 :ـ .)51فهم قد نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم
كنفور الحمر عما يهلكها ،ويعقرها وهم في جهلهم هذا كالحمر التي ال تعقل شيئا ً.1
ض يَ ُم99رُّ ونَ َعلَ ْيهَ99ا َوهُ ْم َع ْنهَ99ا ت َواألَرْ ِ اوا ِ ـ وق99ال تع99الىَ ":و َك99أَيِّن ِّمن آيَ ٍ 9ة فِي َّ
الس َ 9م َ
ْرضُونَ " (يوسف ،آية .)105 : ُمع ِ
بين س99بحانه وتع99الى إع99راض الص99الحين عن النظ99ر في اآلي99ات الكوني99ة ول99ذلك ف9إن
الكفار يشهدون على أنفسهم إذا عاينوا نتيجة ضاللهم بعدم العقل والسمع " َوقَ99الُوا لَ99وْ
ير" (الملك ،آية .2)10 : ب الس َِّع ِ ُكنَّا نَ ْس َم ُع أَوْ نَ ْعقِ ُل َما ُكنَّا فِي أَصْ َحا ِ
2ـ الذنوب والمعاصي:
إن من أسباب الضالل حسب سنته سبحانه وتعالى ارتكاب الذنوب والمعاص99ي وذل99ك
أن الذنوب سبب في صدأ القلب وتكون الران عليه الذي يمن9ع من دخ99ول اإليم99ان إلى
قلب صاحبه ،قال تعالى 9":إِاَّل ُكلُّ ُم ْعتَ ٍد أَثِ ٍيم * إِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَا قَا َل أَ َس99ا ِطي ُر اأْل َ َّولِينَ
* َكاَّل بَلْ َرانَ َعلَى قُلُ99وبِ ِهم َّما َك99انُوا يَ ْك ِس 9بُونَ " (المطففين ،آي99ة 12 :ـ .)14أي ليس
األمر كما زعم99وا ،وال كم9ا ق9الوا :إن ه99ذا الق9رآن أس99اطير األولين ،ب9ل ه99و كالم هللا
ووحيه وتنزيله على رسوله صلى هللا عليه وسلم ،وإنما حجب قلوبهم عن اإليم99ان ب99ه
ما عليها من الران الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ،3ثم إن ال99ذنوب إذا
تت99ابعت على القل99وب أغلقته99ا ،وإذا أغلقته99ا أتاه9ا حينئ99ذ الختم من قب99ل هللا ع99ز وج99ل
والطبع فال يكون لإليمان إليه مسلك وال للكفر منه99ا مخلص ،ف99ذلك ه99و الطب99ع والختم
ار ِه ْمْصِ 9 الذي ذكره هللا تع9الى في قول99ه ":خَ تَ َم هّللا ُ َعلَى قُلُ9وبِه ْم َو َعلَى َسْ 9م ِع ِه ْم َو َعلَى أَب َ
اوةٌ" (البقرة ،آية .)7 : ِغ َش َ
وجاء قوله تعالى مهدداً للذين يقترفون الذنوب والمعاصي ب99أن يطب99ع على قل99وبهم فال
يدخلها اإليمان.4
86
فالقرآن الكريم ال ينتفع به إال من كان حيا ً أما من صار في عداد األموات فإنه ال ينتفع
به.6
ق ْالقَ99وْ ُل َعلَى ين * لِيُنِ 9ذ َر َمن َك9انَ َحيًّ99ا َويَ ِحَّ 9 9و إِاَّل ِذ ْكٌ 9ر َوقُ99رْ ٌ
آن ُّمبِ ٌ ق9ال تع9الى ":إِ ْن هُ َ
ْال َكافِ ِرينَ " (يس ،آية 69 :ـ .)70
وق99ال تع99الى 9":إِنَّ َم99ا يَ ْس 9ت َِجيبُ الَّ ِذينَ يَ ْس َ 9معُونَ َو ْال َم99وْ تَى يَ ْب َعثُهُ ُم هّللا ُ ثُ َّم إِلَ ْيِ 9ه يُرْ َج ُع99ونَ "
(األنعام ،آية .)36 :
3ـ اتباع الشيطان:
ومن أسباب الضالل الخطيرة والتي ضل بها كث99ير من الخل99ق ،اتب99اع الش99يطان ال99ذي
نذر نفسه وبذل عمره إلغواء بني آدم.
9رينَ * قَ99ا َل فَبِ َم99ا ك ِمنَ ال ُمنظَِ 9 ق99ال تع99الى ":قَ99ا َل أَن ِظ99رْ نِي إِلَى يَ99وْ ِم يُ ْب َعثُ99ونَ * قََ 9
9ال إِنَّ َ
ص َراطَكَ ْال ُم ْس9تَقِي َم * ثُ َّم آلتِيَنَّهُم ِّمن بَ ْي ِن أَ ْيِ 9دي ِه ْم َو ِم ْن خ َْلفِ ِه ْم َوع َْن أَ ْغ َو ْيتَنِي ألَ ْق ُعد ََّن لَهُ ْم ِ
أَ ْي َمانِ ِه ْم َوعَن َش َمآئِلِ ِه ْم َوالَ ت َِج ُد أَ ْكثَ َرهُ ْم َشا ِك ِرينَ " (األعراف ،آية 14 :ـ .)17
9رينَ * إِلَى ك ِمنَ ْال ُمنظَِ 9 ال َربِّ فَأَن ِظرْ نِي إِلَى يَ99وْ ِم يُ ْب َعثُ99ونَ * قَ99ا َل فَإِنَّ َ ـ وقال تعالى ":قَ َ
ض َوألُ ْغ ِ ُ
99ويَنَّهُ ْم 99و ْيتَنِي أل َزيِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ 99وم * قَ99ا َل َربِّ بِ َم99آ أَ ْغ َ ت ْال َم ْعلُ ِ 99وم ْالَ 99و ْق ِ
يَ ِ
صينَ " (الحجر ،آية 36 :ـ .)40 أَجْ َم ِعينَ * إِالَّ ِعبَادَكَ ِم ْنهُ ُم ْال ُم ْخلَ ِ
وقد أمر هللا عز وجل بالحذر منه ،واستفراغ الجه99د في معادات99ه وبين أن99ه ع99دو ل99دود
وظاهر لبني اإلنسان.2
ـ قال سبحانه وتعالى ":إِ َّن ال َّش ْيطَانَ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو فَاتَّ ِخ ُذوهُ َع ُد ًّوا إِنَّ َم9ا يَْ 9د ُعو ِح ْزبَ9هُ لِيَ ُكونُ9وا
ير" (فاطر ،آية .)6 : ب الس َِّع ِ ِم ْن أَصْ َحا ِ
إل ْن َسا ِن َع ُد ًّوا ُّمبِينًا"
ـ وقال تعالى ":إِ َّن ال َّش ْيطَانَ َكانَ لِ ِ
وقد جاء القرآن الكريم كاشفا ً مداخل الشيطان وخططه في إضالل بني آدم في غير ما
آية ومجمل هذه الخطط والمداخل ما يلي:
أ ـ األمر بالسوء والفحشاء والقول على هللا بغير علم:
تُ99وا ُخطَُ 99وا ِ ض َحالَالً طَيِّب99ا ً َوالَ تَتَّبِع ْ 99وا ِم َّما فِي األَرْ ِ ق99ال تع99الى":يَ99ا أَيُّهَ99ا النَّاسُ ُكلُ ْ
وا َعلَى هّللا ِ َما الَ ين * إِنَّ َما يَأْ ُم ُر ُك ْم بِالسُّو ِء َو ْالفَحْ َشاء َوأَن تَقُولُ ْ ال َّش ْيطَ ِ
ان إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌ
تَ ْعلَ ُمونَ "(البقرة ،آية 168 :ـ .)169
والسوء :األثم ،وقيل معاصي هللا ،فإنما سماها هللا س99وءاً ألنه99ا تس99وء ص99احبها بس99وء
عاقبتها ل99ه عن99د هللا ،وأم99ا الفحش99اء فهي ك99ل مستفحش99ة ذك99ره وقبح مس99موعه ،وقي99ل
الزنا.3
ب ـ تزيينـ األعمال الباطلة والمحرمة:
ت قُلُوبُهُ ْم َو َزيَّنَ لَهُ ُم َّ
الش ْ 9يطَ ُ
ان وا َولَـ ِكن قَ َس ْ ـ قال تعالى " :فَلَوْ ال إِ ْذ َجاءهُ ْم بَأْ ُسنَا تَ َ
ض َّر ُع ْ
وا يَ ْع َملُونَ "(األنعام ،آية )43 :من الشرك والمعاندة والمعاصي. َما َكانُ ْ
87
وبين الشيطان أنه يزين لبني آدم أعمالهم ليغويهم ،قال تعالى حاكيا ً قوله " :قَالَ َربِّ بِ َمآ
ض َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (الحجر ،آية .)39 : ُ
أَ ْغ َو ْيتَنِي أل َزيِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ
ـ وقال تعالى مبينا ً نتيجة تزيين الش99يطان للن99اس أعم99الهم وه99و الض99اللَ " 9:و َزيَّنَ لَهُ ُم
ص َّدهُ ْم َع ِن ال َّسبِي ِل فَهُ ْم اَل يَ ْهتَ ُدونَ " (النمل ،آية .)24 : ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ ال َّش ْيطَ ُ
ص َّد َع ِن ال َّسبِي ِل" (غافر ، ك ُزيِّنَ لِفِرْ عَوْ نَ سُو ُء َع َملِ ِه َو ُ ـ وقال سبحانه وتعالىَ " :و َك َذلِ َ
آية ،)37 :أي :صد عن طريق الهداية فأصبح ضاالً ال يقبل الهدى.1
وبين سبحانه وتعالى أنه قد أضل هؤالء الذين قبلوا تزيين الشياطين لهم فخلت بهم
سنته في الضالل ،وحق عليهم القول ،فالشيطان حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وفي
المستقبل ،فلم يروا أنفسهم إال محسنين ،فعاقبهم بما ارتضوا ألنفسهم.2
ق َعلَ ْي ِه ُم َّض9نَا لَهُ ْم قُ َرنَ99اء فَ َزيَّنُ99وا لَهُم َّما بَ ْينَ أَ ْيِ 9دي ِه ْم َو َم99ا خ َْلفَهُ ْم َو َحَّ 9 "وقَي ْ ـ ق99ال تع99الىَ :
نس إِنَّهُ ْم َكانُوا خَ ا ِس ِرينَ " (فصلت ،آية : ْ
ت ِمن قَ ْبلِ ِهم ِّمنَ ال ِجنِّ َواإْل ِ ِ ْالقَوْ ُل فِي أُ َم ٍم قَ ْد خَ لَ ْ
.)25
وتزيين الشيطان للناس أعمالهم على قسمين :فردي وجماعي ،فالفردي كم99ا في اآلي99ة
السابقة من تزيين الشيطان لفرعون عمله ،وأما التزيين الجماعي كما في قوله تع99الى:
صَّ 9دهُ ْم ع َِن ان أَ ْع َم99الَهُ ْم فَ َ " َوعَادًا َوثَ ُم99و َد َوقَ99د تَّبَيَّنَ لَ ُكم ِّمن َّم َس9ا ِكنِ ِه ْم َو َزيَّنَ لَهُ ُم َّ
الشْ 9يطَ ُ
ْص ِرينَ " (العنكبوت ،آية .3)38 : يل َو َكانُوا ُم ْستَب ِ ال َّسبِ ِ
جـ ـ الوعود واألماني الكاذبة:ـ
9رنَّهُ ْم فَلَيُ َغيِّر َُّن
9ام َوآل ُمَ 9 ضلَّنَّهُ ْ9م َوألُ َمنِّيَنَّهُ ْم َوآل ُمَ 9رنَّهُ ْم فَلَيُبَتِّ ُك َّن آ َذانَ األَ ْن َعِ 9 ـ قال تعالىَ " :وألُ ِ
ق هّللا ِ َو َمن يَتَّ ِخ ِذ ال َّش ْيطَانَ َولِيًّا ِّمن ُدو ِن هّللا ِ فَقَ ْد خَ ِس َر ُخ ْس َرانًا ُّمبِينًا * يَ ِع ُدهُ ْم َويُ َمنِّي ِه ْم خَل َ ْ
ان إِالَّ ُغرُورًا" (النساء ،آية 119 :ـ )120أي وألضلنهم عن الحق َو َما يَ ِع ُدهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ
"وألُ َمنِّيَنَّهُ ْم" أي :أزين لهم ترك التوبة وأعدهم األماني وآمرهم بالتس99ويف والت99أخير، َ
9ام" ق99ال ع99دد من العلم99اء :يع99ني ْ َ َ ُ ِّ
9رنهُ ْم فَليُبَتك َّن آذانَ األن َعِ 9َ َّ "وآل ُمَ 9
وأغ99رهم من أنفس99هم َ
4
تشقيقها وجعلها سمة وعالمة للبحيرة والسائبة والوصيلة ،وأما تغي9ير خل9ق هللا :فه9و
دين هللا ،ومعنى تغيير الدين تحليل الحرام وتحريم الحالل.5
ومن الوعود الباطلة التي يعدها الشيطان ألتباعه :أنهم إذا أنفقوا في س99بيل هللا فس99يحل
بهم الفقر.6
9رةً ِّم ْن9هُ 9ر َويَ99أْ ُم ُر ُكم بِ ْالفَحْ َش9اء َوهّللا ُ يَ ِعُ 9د ُكم َّم ْغفَِ 9 ان يَ ِعُ 9د ُك ُم ْالفَ ْقَ 9 ـ ق99ال تع99الى َّ " :
الشْ 9يطَ ُ
َوفَضْ الً"(البقرة ، 9آية .)268 :
وقد فسر ابن كثير :الفحشاء باألمر بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخالق.7
ح ـ اإلستهواء:
88
ومن الناس من يضله الشيطان بعد أن كان ق99د ع99رف اإليم99ان وذاق99ه ،وق99د ص99ور هللا
حالة هذا الذي إستهواه الشيطان بعد أن كان مؤمنا ً فيقول ،قال تع99الى" :قُ99لْ أَنَ ْ 9د ُعو ِمن
ض9رُّ نَا َونَُ 9ر ُّد َعلَى أَ ْعقَابِنَ99ا بَ ْعَ 9د إِ ْذ هَ9دَانَا هّللا ُ َكالَّ ِذي ْ
اس9تَ ْه َو ْتهُ ون هّللا ِ َما الَ يَنفَ ُعنَ99ا َوالَ يَ ُُد ِ
9و ض َح ْي َرانَ لَهُ أَصْ َحابٌ يَ ْد ُعونَهُ إِلَى ْالهُدَى ا ْئتِنَا قُ99لْ إِ َّن هُ9دَى هّللا ِ هَُ 9 ين فِي األَرْ ِ ال َّشيَ ِ
اط ُ
َى َوأُ ِمرْ نَا لِنُ ْسلِ َم لِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ " ( األنعام ،آية .)71 : ْالهُد َ
فالذي استهوته الشياطين هو الذي استغوته وزينت له هواه ودعت99ه إلي99ه ،يق99ال :ه99وى
يهوي إلى الشئ أسرع فيه ،بعد أن كان مؤمنا ً ،1ولفظ اإلستهواء لفظ مصور ويا ليت99ه
يتبع هذا اإلستهواء في إتجاهه فيكون في إتجاه واحد ،وه9و الض9الل ،ولكن هن9اك من
الجانب اآلخر أصحاب يدعونه إلى الهدى يقولون :إئتنا فال يجيبهم وال يهتدي بهديهم،
وهو بين هذا الدعاء وهذا اإلستهواء في حيرة واضطراب وضالل وتيه.2
د ـ المواالة:
ومن الناس من يتخذ الشيطان وليا ً ونصيراً 9ومعينا ً من دون هللا ،يلتجئ إلي99ه وي99دعوه،
الش9يَا ِطينَ أَوْ لِيَ99اء ِمن ضالَلَةُ إِنَّهُ ُم اتَّ َخُ 9ذوا َّ ق َعلَ ْي ِه ُم ال َّ قال تعالى " :فَ ِريقًا هَدَى َوفَ ِريقًا َح َّ
ون هّللا ِ َويَحْ َسبُونَ أَنَّهُم ُّم ْهتَ ُدونَ " (األعراف ،آية .)30 : ُد ِ
وقد قضى هللا عز وجل فيمن تولى الشيطان أن يضله عن الص99راط المس99تقيم ويهدي99ه
إلى عذاب الجحيم.3
ُض9لُّهُ َويَ ْه ِديِ 9هب َعلَيِْ 9ه أَنَّهُ َمن تََ 9واَّل هُ فَأَنَّهُ ي ِ ان َّم ِريٍ 9د * ُكتِ َ ـ قال تعالىَ " :ويَتَّبِ ُع ُك َّل َش ْيطَ ٍ
ير" (الحج ،آية 3 :ـ .)4 ب الس َِّع ِ إِلَى َع َذا ِ
س ـ اإلستحواذ:
ويبين هللا س99بحانه وتع99الى فريق9ا ً من ال99ذين يض99لهم الش99يطان وه99ؤالء ال99ذين يس99تولي
عليهم إستيالء تاماً ،ويغلب على عقولهم وقلوبهم بوسوسته ،وتزيينه ح99تى يتبع99وه في
كل ما يأمرهم به ،ويصبحون أداة طيعة للشيطان ،فينسيهم ذكر هللا بقلوبهم وألسنتهم.4
ـ قال تعالى" :يَوْ َم يَ ْب َعثُهُ ُم هَّللا ُ َج ِميعًا فَيَحْ لِفُونَ لَهُ َك َم99ا يَحْ لِفُ99ونَ لَ ُك ْم َويَحْ َس 9بُونَ أَنَّهُ ْم َعلَى
9زبُك ِحْ 9 نس9اهُ ْم ِذ ْكَ 9ر هَّللا ِ أُوْ لَئَِ 9 ان فَأ َ َ َش ْي ٍء أَاَل إِنَّهُ ْم هُ ُم ْال َكا ِذبُونَ * ا ْستَحْ َو َذ َعلَ ْي ِه ُم َّ
الشْ 9يطَ ُ
اسرُونَ " (المجادلة ،آية 18 :ـ .)19 ب ال َّش ْيطَا ِن هُ ُم ْالخَ ِ ان أَاَل إِ َّن ِح ْز َ
ال َّش ْيطَ ِ
ين * َوأَ ْن ـ قال تعالى" :أَلَ ْم أَ ْعهَ ْد إِلَ ْي ُك ْم يَا بَنِي آ َد َم أَن اَّل تَ ْعبُ ُدوا ال َّش ْيطَانَ إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌ
ضَّ 9ل ِمن ُك ْم ِجبِاًّل َكثِ99يرًا أَفَلَ ْم تَ ُكونُ99وا تَ ْعقِلُ99ونَ " ) صَ 9راطٌ ُّم ْس9تَقِي ٌم * َولَقَْ 9د أَ َ ا ْعبُ ُدونِي هَ َذا ِ
يس ،آية 60 :ـ .)62
4ـ الجهل وإتباع الظن:
ْ ْ
ـ قال تعالى :مبينا ً ضالل قوم ثمود" :قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا لِتَأفِ َكنَا ع َْن آلِهَتِنَ99ا فَأتِنَ99ا بِ َم99ا تَ ِعُ 9دنَا إِن
ت بِ ِ 9ه َولَ ِكنِّي أَ َرا ُك ْم قَوْ ًم99ا ُكنتَ ِمنَ الصَّا ِدقِينَ * قَا َل إِنَّ َما ْال ِع ْل ُم ِعن َد هَّللا ِ َوأُبَلِّ ُغ ُكم َّما أُرْ ِس ْ 9ل ُ
تَجْ هَلُونَ " (األحقاف ،آية 22 :ـ .)23
ـ وقال تعالى مبينا ً ضالل من إتبع جهله ،ونسب إليه سبحانه الولد ،قال تعالىَ " :ويُن ِذ َر
ت َكلِ َم 9ةً ت َْخُ 9ر ُج ِم ْن الَّ ِذينَ قَ99الُوا اتَّخَ َ 9ذ هَّللا ُ َولَ 9دًا * َّما لَهُم بِ ِ 9ه ِم ْن ِع ْل ٍم َواَل آِل بَ99ائِ ِه ْم َكبُ َ 9ر ْ
أَ ْف َوا ِه ِه ْم إِن يَقُولُونَ إِاَّل َك ِذبًا" (الكهف ،آية 4 :ـ .)5
1تفسير القرطبي (.)2454 / 3
2فتح القدير للشوكاني ( )130 / 2في ظالل القرآن (.)1132 / 2
3السنن اإللهية (.)128 / 1
4السنن اإللهية ( .)128 / 1
89
ـ وقال تعالى مبينا ً جهل كف99ار ق99ريش ب99دعوتهم رس99ول هللا ص99لى هللا علي99ه وس99لم إلى
عبادة ما يعبدون من األص99نام واألحج99ار واآلله99ة المزيف99ة الم99دعاة ،ق9ال تع99الى" :هّللا َ
ض َوالَّ ِذينَ ت َواأْل َرْ ِ 9و َعلَى ُكِّ 9ل َشْ 9ي ٍء َو ِكيٌ 9ل * لَ9هُ َمقَالِيُ 9د َّ
السَ 9ما َوا ِ ق ُكلِّ َشْ 9ي ٍء َوهَُ 9 خَالِ ُ
ك هُ ُم ْال َخا ِسرُونَ * قُلْ أَفَ َغي َْر هَّللا ِ تَ99أْ ُمرُونِّي أَ ْعبُ ُ 9د أَيُّهَ99ا ْال َج 9ا ِهلُونَ " ت هَّللا ِ أُوْ لَئِ َ
َكفَرُوا بِآيَا ِ
(الزمر ،آية 62 :ـ .)64
اس ِفي ض َر ْبنَا لِلنَّ ِ بين سبحانه وتعالى عقابه للذين ال يعلمون وسنته فيهم فقالَ " :ولَقَ ْد َ
آن ِمن ُكلِّ َمثَ ٍل َولَئِن ِج ْئتَهُم بِآيَ ٍة لَيَقُولَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا إِ ْن أَنتُ ْم إِاَّل ُم ْب ِطلُونَ * هَ َذا ْالقُرْ ِ
ب الَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ " (الروم ،آية 58 :ـ .)59 طبَ ُع هَّللا ُ َعلَى قُلُو ِ ك يَ ْ َك َذلِ َ
وأما إتباع الظن والذي هو مجرد حدس وخ99رص وأوه99ام وال99ذي ال ينب99ني على علم،
فإنه وال شك سبب من أسباب الضالل حسب سنته سبحانه وتعالى ،فق99د س99جل الق99رآن
الكريم في كثير من اآليات على كفار قريش ضاللهم بسبب إتباعهم الظن ـ كس99ابقيهم
من الكافرين ـ وذلك بجعل األصنام شركاء هلل ،وبعبادتهم لها وزعمهم أنهم مجبورون
في ضاللهم هذا وغيهم.1
ض َو َم99ا يَتَّبُِ 9ع الَّ ِذينَ السَ 9ما َوات َو َمن فِي األَرْ ِ ـ قال سبحانه وتعالى " :أَال إِ َّن هّلِل ِ َمن فِي َّ
ُص9ونَ " (ي99ونس ،آي99ة : ون هّللا ِ ُش َر َكاء إِن يَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّ َّن َوإِ ْنهُ ْم إِالَّ يَ ْخر ُ يَ ْد ُعونَ ِمن ُد ِ
.)66
ق َش ْيئًا إِ َّن هّللا َ ـ وقال تعالىَ " :و َما يَتَّبِ ُع أَ ْكثَ ُرهُ ْم إِالَّ ظَنًّا إَ َّن الظَّ َّن الَ يُ ْغنِي ِمنَ ْال َح ِّ
َعلَي ٌم بِ َما يَ ْف َعلُونَ " (يونس ،آية .)36 :
ْب فِيهَ99ا قُ ْلتُم َّما نَْ 9د ِري َم99ا الس9ا َعةُ اَل َري َ ق َو َّ 9ل إِ َّن َو ْعَ 9د هَّللا ِ َحٌّ 9
ـ وق99ال تع99الىَ " :وإِ َذا قِيَ 9
السَّا َعةُ إِن نَّظُ ُّن إِاَّل ظَنًّا َو َما نَحْ ُن بِ ُم ْستَ ْيقِنِينَ " (الجاثية ،آية . )32 :
2
90
من أسباب الضالل غفلة الناس عن األدلة الموص99لة إلى الح99ق واله99دى وع99دم النظ99ر
فيها:
ت َواألَرْ ِ
ض السَ 9ما َوا ِ ق هّللا ُ فِي َّ 9ل َوالنَّهَِ 9
9ار َو َم99ا َخلَ َ 9 ف اللَّ ْيِ 9
اختِالَ ِ ـ ق99ال تع99الى ":إِ َّن فِي ْ
وا بِهَ99ا اط َم99أَنُّ ْوا بِ ْال َحي9ا ِة الُّ 9د ْنيَا َو ْ
ضْ 9 ت لِّقَوْ ٍم يَتَّقُونَ * إَ َّن الَّ ِذينَ الَ يَرْ جُ9ونَ لِقَاءنَ99ا َو َر ُ آليَا ٍ
وا يَ ْك ِسبُونَ " (ي99ونس ،آي99ة : ْ
َوالَّ ِذينَ هُ ْم ع َْن آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْ لَـئِكَ َمأ َواهُ ُم النُّا ُر بِ َما َكانُ ْ
6ـ .)8
ض9ونَ * َم99ا يَ99أْتِي ِهم ْر ُ اس ِح َسابُهُ ْم َوهُ ْم فِي َغ ْفلٍَ 9ة َّمع ِ ب لِلنَّ ِ ـ وقال سبحانه وتعالى ":ا ْقت ََر َ
ث إِاَّل ا ْستَ َمعُوهُ َوهُ ْم يَ ْل َعبُونَ *اَل ِهيَةً قُلُوبُهُ ْم" (األنبياء ،آي99ة 1 :ـ ِّمن ِذ ْك ٍر َّمن َّربِّ ِهم ُّمحْ َد ٍ
.)3
ق َوإِن يَ َ 9روْ ْا ض بِ َغي ِْر ْال َحِّ 9ف ع َْن آيَاتِ َي الَّ ِذينَ يَتَ َكبَّرُونَ فِي األَرْ ِ ـ وقال تعالىَ ":سأَصْ ِر ُ
َي يل ْالغ ِّيل الرُّ ْشِ 9د الَ يَتَّ ِخُ 9ذوهُ َس9بِيالً َوإِن يََ 9روْ ْا َس9بِ َ 9روْ ْا َس9بِ َ وا بِهَا َوإِن يََ 9 ُك َّل آيَ ٍة الَّ ي ُْؤ ِمنُ ْ
وا َع ْنهَاغَافِلِينَ " (األعراف ،آية .)146 : ُوا بِآيَاتِنَا َو َكانُ ْ ك بِأَنَّهُ ْم َك َّذب ْ
يَتَّ ِخ ُذوهُ َسبِيالً َذلِ َ
7ـ التعصب:
إن التعصب للباطل من أس99باب الض99الل ،ق9ال تع99الى مبين9ا ً أث99ر التعص99ب في ض99الل
يل لَهُ ْم آ ِمنُ ْ
وا اليهود ،وعدم إيمانهم ،واتباعهم لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم َ ":وإِ َذا قِ َ
ص 9دِّقا ً لِّ َم99ا نز َل َعلَ ْينَا َويَ ْكفُ99رونَ بِ َم99ا َو َراءهُ َوهُ َ 9و ْال َحُّ 9 ُ بِ َما أَنزَ َل هّللا ُ قَالُ ْ
ق ُم َ وا نُ ْؤ ِم ُن بِ َمآ أ ِ
َم َعهُ ْم قُلْ فَلِ َم تَ ْقتُلُونَ أَنبِيَاء هّللا ِ ِمن قَ ْب ُل إِن ُكنتُم ُّم ْؤ ِمنِينَ " (البقرة ،آية .)91 :
وقال تعالى مبينا ً تعصب كل من طائفتي اليهود والنص99ارى لنفس99ها وزعم ك99ل طائف99ة
منهما أنها على الحق دون غيرها ،فكفر اليه99ود بعيس99ى علي99ه الس99الم رغم أن99ه منهم،
وقد كانوا ينتظرونه إلعادة مجدهم وعزهم تعصبا ً وقالت النصارى :أن اليه99ود ليس99وا
على شيء حقيقي من الدين إلنكارهم المسيح المتمم لشريعتهم.1
ك أَ َمانِيُّهُ ْم قُلْ هَ99اتُ ْ
وا صا َرى تِ ْل َ وا لَن يَ ْد ُخ َل ْال َجنَّةَ إِالَّ َمن َكانَ هُوداً أَوْ نَ َ قال تعالىَ ":وقَالُ ْ
صا ِدقِينَ *بَلَى َم ْن أَ ْسلَ َم َوجْ هَهُ هّلِل ِ َوهُ َو ُمحْ ِس ٌن فَلَهُ أَجُْ 9رهُ ِعنَ 9د َربِّ ِه َوالَ بُرْ هَانَ ُك ْم إِن ُكنتُ ْم َ
ص9ا َرى َعلَ َى َشْ 9ي ٍء َوقَ99الَ ِ
ت ت النَّ َ ت ْاليَهُ99و ُد لَي َ
ْسِ 9 ف َعلَ ْي ِه ْم َوالَ هُ ْم يَحْ زَ نُ99ونَ * َوقَ99الَ ِ خَ99وْ ٌ
ك قَ99ا َل الَّ ِذينَ الَ يَ ْعلَ ُم99ونَ ِم ْثَ 9ل ت ْاليَهُو ُد َعلَى َش ْي ٍء َوهُ ْم يَ ْتلُونَ ْال ِكت َ
َاب َك َذلِ َ ارى لَ ْي َس ِ ص َ النَّ َ
وا فِي ِ 9ه يَ ْختَلِفُ99ونَ " (البق99رة ،آي99ة 111 :ـ قَ99وْ لِ ِه ْم فَاهّلل ُ يَحْ ُك ُم بَ ْينَهُ ْم يَ99وْ َم ْالقِيَا َمِ 9ة فِي َم99ا َك99انُ ْ
.)113
8ـ التقليد:
إن من أسباب الضالل عند الكافرين من األولين واآلخرين التقليد لآلباء دون نظ99ر أو
9ال ُم ْت َرفُوهَ99ا إِنَّا
ير إِاَّل قََ 9 ك َما أَرْ َس ْ 9لنَا ِمن قَ ْبلِ َ 9
ك فِي قَرْ يَ ٍ 9ة ِّمن نَّ ِذ ٍ فكر ،قال تعالىَ ":و َك َذلِ َ
ار ِهم ُّم ْقتَ ُدونَ " (الزخرف ،آية .)23 : ُ
َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ
91
ُ ْ
وح َوعَا ٍد َوثَ ُمو َد َوالَّ ِذينَ ِمن بَعِْ 99د ِه ْم الَ ـ وقال تعالى ":أَلَ ْم يَأتِ ُك ْم نَبَأ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم قَوْ ِم نُ ٍ
وا أَ ْيِ 9ديَهُ ْم فِي أَ ْفَ 9وا ِه ِه ْم َوقَ99الُ ْ
وا إِنَّا َكفَرْ نَ99ا بِ َم99ا ت فَ َر ُّد ْيَ ْعلَ ُمهُ ْم إِالَّ هّللا ُ َجاء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَا ِ
9اط ِر ك فَ ِ ُس9لُهُ ْم أَفِي هّللا ِ َشٌّ 9 تر ُ ب * قَ9الَ ْ 9ري ٍ ك ِّم َّما تَْ 9د ُعونَنَا إِلَ ْيِ 9ه ُمِ 9 أُرْ ِس ْلتُم بِ ِه َوإِنَّا لَفِي َشٍّ 9
وا إِ ْن ض يَ ْد ُعو ُك ْم لِيَ ْغفِ َر لَ ُكم ِّمن ُذنُوبِ ُك ْم َويُ َؤ ِّخ َر ُك ْم إِلَى أَ َج ٍل ُّم َسـ ًّمى قَ99الُ ْ ت َواألَرْ ِ ال َّس َم َ
اوا ِ
ين" ان ُّمبِ ٍ ْ
َصُّ 9دونَا َع َّما َك99انَ يَ ْعبُُ 9د آبَآ ُؤنَ99ا فَأتُونَ99ا بِ ُسْ 9لطَ ٍ أَنتُ ْم إِالَّ بَ َشٌ 9ر ِّم ْثلُنَ99ا تُ ِريُ 9دونَ أَن ت ُ
(إبراهيم ،آية 9 :ـ .)10
لقد كانت حجة الكافرين باهلل المعرضين عن االنتفاع باآليات التي جاءهم بها األنبياء،
ُ
ار ِهم ُّم ْهتَ ُ 9دونَ " (الزخ99رف ،آي99ة ،)22 : قولهم ":إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ
وهي مقول99ة ت99دعو إلى الس99خرية ،ف99وق أنه99ا متهافت99ة ال تس99تند إلى ق99وة إنه99ا مج99رد
المحاكاة ومحض التقليد ،بال تدبر وال تفكر وال حجة وال دلي99ل ،وهي ص99ورة مزري99ة
تشبه صورة القطيع حيث هو منساق وال يسأل أين يمضي وال يعرف معالم الطريق.1
إنها :طبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثني99ات في العق99ول ،ال يفك99ر أص99حابها فيم99ا
يعبد آباؤهم ما قيمته؟ وما حقيقته؟ وماذا يساوي في معرض النقد والتفكير2؟
ومن األقوام التي حدثنا القرآن الكريم عنها ،وكان من أسباب ضاللها تقليد اآلباء :قوم
نوح عليه السالم الذين قابلوا دعوة نبيهم بالرفض والجحود بدون دلي99ل أو س99ند س99وى
أنهم لم يسمعوا بمثل دعوته في آبائهم األولين وكأن الحجة والدليل هو م99ا س99معوه من
آبائهم.
ـ قال تعالىَ 9":ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحًا إِلَى قَوْ ِم ِه فَقَا َل يَا قَوْ ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َم99ا لَ ُكم ِّم ْن إِلَ ٍ 9ه َغ ْيُ 9رهُ
ضَ 9ل أَفَاَل تَتَّقُونَ * فَقَا َل ْال َمأَل ُ الَّ ِذينَ َكفَرُوا ِمن قَوْ ِم ِه َما هََ 9ذا إِاَّل بَ َشٌ 9ر ِّم ْثلُ ُك ْم ي ُِريُ 9د أَن يَتَفَ َّ
َعلَ ْي ُك ْم َولَوْ َشاء هَّللا ُ أَل َن َز َل َماَل ئِ َكةً َّما َس ِم ْعنَا بِهََ 9ذا فِي آبَائِنَ99ا اأْل َ َّولِينَ " (المؤمن99ون ،آي99ة :
23ـ .)24
وق9وم ع9اد يعجب9ون مم9ا ليس من9ه عجب ،وينك9رون على ن9بيهم أن ي9أتيهم بعب9ادة هللا
الواح99د ،ونب99ذ عب99ادة اآلله99ة المتفرق99ة ال99تي ك99ان يعب99دها آب99اؤهم األول99ون فيس99ألون
منكرين ":أَ ِج ْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هّللا َ َوحْ َدهُ َونَ َذ َر َما َكانَ يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا" (األعراف ،آية .)70 :
وبنفس العلة والحجة رفضت ثمود دعوة أخيهم ونبيهم صالح عليه السالم وجعل99وا م99ا
عليه آباءهم ـ سواء أكانوا سابقين أو حاضرين ـ حجة تمنعهم من اإليمان.3
9و وا هّللا َ َما لَ ُكم ِّم ْن إِلَـ ٍه َغ ْي ُ 9رهُ هَُ 9 ال يَا قَوْ ِم ا ْعبُ ُد ْ صالِحًا قَ َ ـ قال تعالى 9":إِلَى ثَ ُمو َد أَ َخاهُ ْم َ
9ريبٌ ُّم ِجيبٌ * ُوا إِلَ ْيِ 9ه إِ َّن َربِّي قَِ 9ض َوا ْستَ ْع َم َر ُك ْم فِيهَا فَا ْستَ ْغفِرُوهُ ثُ َّم تُوب ْ أَن َشأ َ ُكم ِّمنَ األَرْ ِ
ك صالِ ُح قَ ْد ُكنتَ فِينَا َمرْ ُج ًّوا قَب َْل هَـ َذا أَتَ ْنهَانَا أَن نَّ ْعبُ َد َما يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤنَا َوإِنَّنَا لَفِي َش ٍّ وا يَا َ قَالُ ْ
ب" (هود ،آية 61 :ـ .)62 ِّم َّما تَ ْد ُعونَا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ
وك99ذلك نج99د ق99وم إب99راهيم يص99رون على عب99ادة التماثي99ل ال99تي ال تض99ر وال تنف99ع وال
يجدون جوابا ً لسؤال نبيهم َ ":ما هَ ِذ ِه التَّ َماثِي ُل الَّتِي أَنتُ ْم لَهَ99ا َع99ا ِكفُونَ " (األنبي99اء ،آي99ة :
،)52إال أن قالوا ":قَالُوا َو َجْ 9دنَا آبَاءنَ99ا لَهَ99ا عَابِِ 9دينَ " (األنبي99اء ،آي99ة ،)53 :ه99ذا ه99و
الجواب ،وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد ،في مقابلة
حرية اإليمان وانطالقه للنظر والتدبر ،وتقويم األشياء واألوضاع بقيمته99ا الحقيقي99ة ال
92
التقليدي99ة ،فاإليم99ان باهلل يح99رر اإلنس99ان من القدس99ات الوهمي99ة التقليدي99ة والوراث99ات
المتحجرة التي ال تقوم على دليل.1
ك َم99ا يَ ْعبُ ُ 9د آبَا ُؤنَ99ا ك أَن نَّ ْت ُر َ صالَتُكَ تَأْ ُم ُر َ وا يَا ُش َعيْبُ أَ َ وقوم شعيب يقولون لنبيهم ":قَالُ ْ
َّش9ي ُد" (ه9ود ،آي9ة .)87 :وقاب9ل ك أَل َنتَ ْال َحلِي ُم الر ِ 9ل فِي أَ ْم َوالِنَ9ا َم9ا ن ََش9اء إِنَّ َ أَوْ أَن نَّ ْف َع َ
فرعون وملؤه دعوة موسى عليه السالم بالتقلي99د األعمى الم99زري ال99ذي يس99يطر على
العقول فيجعلها ال تفك99ر ،وعلى البص99ائر فيقفله99ا فال يجعله99ا تنظ99ر أو تعت99بر 9":قَ99الُ ْ
وا
ض َو َم99ا نَحْ ُن لَ ُك َم99ا أَ ِج ْئتَنَا لِت َْلفِتَنَا َع َّما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَاءنَا َوتَ ُك99ونَ لَ ُك َم99ا ْال ِكب ِْريَ99اء فِي األَرْ ِ
بِ ُم ْؤ ِمنِينَ " (يونس ،آية .)78 :
وأما كفار قريش فقد قال تعالى حاكيا ً أق99والهمَ ":وإِ َذا قِيَ 9ل لَهُ ْم تَ َع99الَوْ ْا إِلَى َم99ا أَنَ 9ز َل هّللا ُ
وا َح ْسبُنَا َما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَاءنَا أَ َو لَوْ َكانَ آبَ99ا ُؤهُ ْم الَ يَ ْعلَ ُم99ونَ َشْ 9يئًا َوالَ َوإِلَى ال َّرسُو ِل قَالُ ْ
يَ ْهتَ ُدونَ " (المائدة ،آية .)104 :
ـ وقال تعالى ":أَ ْم آتَ ْينَاهُ ْم ِكتَابًا ِّمن قَ ْبلِ ِه فَهُم بِ ِه ُم ْستَ ْم ِس ُكونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا َو َجْ 9دنَا آبَاءنَ99ا
ُ
ار ِهم ُّم ْهتَ ُدونَ " (الزخرف ،آية 21 :ـ .)22 َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ
ت قَالُوا َما هَ َذا إِاَّل َر ُج ٌل ي ُِري ُد أَن يَ ُ
ص َّد ُك ْم َع َّما ـ وقال تعالىَ ":وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا بَيِّنَا ٍ
َكانَ يَ ْعبُ ُد آبَا ُؤ ُك ْم" (سبأ ،آية .)43 :
والقرآن الكريم وهو يدعو إلى ه9ذا التح9رر والتفك9ير يس9وق األدل9ة واآلي9ات والحجج
والبراهين التي تبرهن وتثبت أنه دين هللا الذي فيه نجاة البشر جميعا ً من الظلمات إلى
النور.2
صآئِ ُر ِمن َّربِّ ُك ْم َوهُدًى َو َرحْ َمةٌ لِّقَ99وْ ٍم ي ُْؤ ِمنُ99ونَ " (األع99راف ،آي99ة : ـ قال تعالى 9":هَـ َذا بَ َ
.)203
ْ ْ َ
ـ وقال تعالىَ ":ك َما أرْ َسلنَا فِي ُك ْم َرسُوالً ِّمن ُك ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ُك ْم آيَاتِنَا َويُ َز ِّكي ُك ْم َويُ َعلِّ ُم ُك ُم ال ِكت َ
َاب
وا تَ ْعلَ ُمونَ " (البقرة ،آية .)151 : َو ْال ِح ْك َمةَ َويُ َعلِّ ُم ُكم َّما لَ ْم تَ ُكونُ ْ
فمن ت99دبرها وعقله99ا وص99ل إلى الح99ق واهت99دى ومن هن99ا فق99د ك99ان س99بيل المؤم99نين
المهتدين هو االتباع عن بصيرة وبتدبر وتعقل ،3كما قال موس99ى علي99ه الس99الم عن99دما
سأله فرعون :قال تعالى ":قَا َل فَ َمن َّربُّ ُك َما يَا ُمو َسى * قَا َل َربُّنَا الَّ ِذي أَ ْعطَى ُك َّل َش ْي ٍء
ض 9لُّب اَّل يَ ِ ُون اأْل ُولَى * قَا َل ِع ْل ُمهَا ِعن َد َربِّي فِي ِكتَ99ا ٍ ال فَ َما بَا ُل ْالقُر ِ خَلقَهُ ثُ َّم هَدَى * قَ َ ْ
السَ 99ماء ض َم ْهدًا َو َسلَكَ لَ ُك ْم فِيهَا ُسبُاًل َوأَن َز َل ِمنَ َّ َربِّي َواَل يَن َسى * الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َرْ َ
ت َش9تَّى * ُكلُ99وا َوارْ َع99وْ ا أَ ْن َع99ا َم ُك ْم إِ َّن فِي َذلِ99كَ آَل يَ99ا ٍ
ت َماء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه أَ ْز َوا ًج99ا ِّمن نَّبَ99ا ٍ
أِّل ُوْ لِي النُّهَى" (طه ،آية 49 :ـ .)54
وكما قال يوسف عليه السالم متبعا ً ملة آبائ99ه ولكن عن بص99يرة ويقين ،4ق9ال تع99الى":
ْت ِملَّةَ آبَآئِـي ت ِملَّةَ قَ99وْ ٍم الَّ ي ُْؤ ِمنُ99ونَ بِاهّلل ِ َوهُم بِِ 9
9اآلخ َر ِة هُ ْم َك99افِرُونَ * َواتَّبَع ُ 9ر ْك ُ
إِنِّي تََ 9
ض ِ 9ل هّللا ِ َعلَ ْينَ99ا
ك ِمن فَ ْ ك بِاهّلل ِ ِمن َش ْي ٍء َذلِ َ 9وب َما َكانَ لَنَا أَن نُّ ْش ِر َ ق َويَ ْعقُ َ إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َح َ
َ َ
الس9جْ ِن أأرْ بَ99ابٌ ُّمتَفَ ِّرقُ99ونَ
ص9ا ِحبَ ِي ِّ اس الَ يَ ْشُ 9كرُونَ * يَ99ا َ َ
اس َولَـ ِك َّن أ ْكثَ َر النَّ ِ
َو َعلَى النَّ ِ
اح ُد ْالقَهَّارُ" (يوسف ،آية 37 :ـ .)39 خَ ْي ٌر أَ ِم هّللا ُ ْال َو ِ
1في ظالل القرآن (.)2385 /4
2تفسير المنار ( ،)27 /2السنن اإللهية (.)147 /1
3السنن اإللهية في الحياة اإلجتماعية (.)147 /1
4تفسير المراغي (.)174 /12
93
وهكذا أمر الرسول صلى هللا عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السالم ،قال تع99الى":
اط ُّم ْس9تَقِ ٍيم ِدينً9ا قِيَ ًم99ا ِّملَّةَ إِ ْبَ 9را ِهي َم َحنِيفً99ا َو َم99ا َك99انَ ِمنَصَ 9ر ٍ قُ99لْ إِنَّنِي هَ9دَانِي َربِّي إِلَى ِ
ك لَ 9هُاي َو َم َماتِي هّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ * الَ َش ِ 9ري َ صالَتِي َونُ ُس ِكي َو َمحْ يَ َ ْال ُم ْش ِر ِكينَ * قُلْ إِ َّن َ
9و َربُّ ُكِّ 9ل َش ْ 9ي ٍء" 9ر هّللا ِ أَب ِْغي َربًّ99ا َوهَُ 9 ت َوأَنَ99اْ أَ َّو ُل ْال ُم ْس 9لِ ِمينَ * قُ99لْ أَ َغ ْيَ 9 َوبِ َ 9ذلِكَ أُ ِم99رْ ُ
(األنعام ،آية 161 :ـ .)164
ْ َّ
ك أ ِن اتَّبِْ 9ع ِملةَ إِ ْبَ 9را ِهي َم َحنِيفً99ا َو َما َك99انَ ِمنَ ال ُم ْشِ 9ر ِكينَ " َ ـ وق99ال تع99الى ":ثُ َّم أَوْ َح ْينَ99ا إِلَ ْيَ 9
(النحل ،آية .)123 :
فاتب99اع اآلب9اء واقتف99اء آث9ار الس99ابقين من ال9ذين ه9داهم هللا عن بين9ة ودلي99ل ه99و س9بيل
الهداي99ة ،كم99ا ق99ال تع99الى بع99د أن ذك99ر أنبي99اء هللا ال99ذين ه99داهم من إب99راهيم وإس99حاق
ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوس9ف وموس9ى وه9ارون وزكري9ا ويح9يى
وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ،ولوطا ً ومن آبائهم وذرياتهم.
قال تعالى ":أُوْ لَـئِكَ الَّ ِذينَ هَدَى هّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَِ 9د ْه قُ9ل الَّ أَ ْس9أَلُ ُك ْم َعلَيِْ 9ه أَجْ 9رًا إِ ْن هَُ 9و إِالَّ
ِذ ْك َرى لِ ْل َعالَ ِمينَ " (األنعام ،آية .)90 :
وأما اتب99اع األبن99اء لآلب99اء واألج99داد وتقلي99دهم والتمس99ك ب99آرائهم ،ومحاك99اتهم في ك99ل
أقوالهم وأعمالهم من غير بينة وال حجة ظنا ً منهم على الحق ،دون النظر في أدل9ة من
يدعوهم إلى الهدى ،ويقيم الدالئل والبينات على صحة ما ي99دعوا إلي99ه وه99و الض99الل،
وهو سبيل الك99افرين ،وعل99ة اإلع99راض عن اإليم99ان باهلل والس99ير على طري99ق اله99دى
الذي ارتضاه للناس.1
9ـ الشك والريبة:ـ
ومن األسباب التي يس99تحق به99ا بعض العب99اد الض99الل :م99رض القل99وب وه99و خ99روج
القلب عن صحته ،فإن صحته أن يك99ون عارف9ا ً باهلل ،محب9ا ً ل99ه م9ؤثراً ل9ه على غ99يره،
ومرض القلب هو شكه فمرض المنافقين هو مرض شك.2
وق99د جع99ل هللا ع99ز وج99ل ذل99ك س99ببا ً في زي99ادة الم99رض في قل99وبهم ،وع99دم إيم99انهم،
فالمرض ينشئ المرض ،واإلنحراف يبدأ يسيراً ثم ينفرج الزاوية في كل خطوة ،سنة
ال تتخلف.3
ـ ق99ال تع99الى" :فِي قُلُ99وبِ ِهم َّم َرضٌ فَ99زَا َدهُ ُم هّللا ُ َم َرض99ا ً َولَهُم عََ 99ذابٌ أَلِي ٌم بِ َم99ا َك99انُوا
يَ ْك ِذبُونَ "(البقرة ، 9آية .)10 :
ت سُو َرةٌ فَ ِم ْنهُم َّمن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْتهُ هَـ ِذ ِه إِي َمانً99ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ
نزلَ ْ ُ
"وإِ َذا َما أ ِ
ـ وقال تعالىَ :
وا فَزَا َد ْتهُ ْم إِي َمانً99ا َوهُ ْم يَ ْستَب ِْش9رُونَ * َوأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ99وبِ ِهم َّم َرضٌ فَ9زَا َد ْتهُ ْم ِرجْ ًس9ا آ َمنُ ْ
وا َوهُ ْم َكافِرُونَ " (التوبة ،آية 124 :ـ .)125 إِلَى ِرجْ ِس ِه ْم َو َماتُ ْ
ف ُّمرْ تَابٌ " (غافر ،آية .)34 : ْر ٌُضلُّ هَّللا ُ َم ْن هُ َو ُمس ِ
ـ وقال تعالىَ " :ك َذلِكَ ي ِ
وبين سبحانه وتعالى في آية أخرى أنه يعاقب المنافقين الذين ال يوف99ون بعه99ودهم م99ع
هللا ع9ز وج99ل بنف9اق مس99تمر في قل99وبهم إلى ي9وم لق9ائهم ،وه99ذا حس9ب س99نته س9بحانه
94
وتعالى في تأثير األعمال على النف99وس ،وأن العم99ل بم99ا يقتض99يه النف99اق يمكن النف99اق
ويقويه القلب.1
الص 9الِ ِحينَ َّ ص َّدقَ َّن َولَنَ ُكون ََّن ِمنَ ـ قال تعالىَ " :و ِم ْنهُم َّم ْن عَاهَ َد هّللا َ لَئِ ْن آتَانَا ِمن فَضْ لِ ِه لَنَ َّ
ْرضُونَ * فَأ َ ْعقَبَهُ ْم نِفَاقًا فِي قُلُ99وبِ ِه ْم إِلَى وا َّوهُم ُّمع ِ وا بِ ِه َوت ََولَّ ْ * فَلَ َّما آتَاهُم ِّمن فَضْ لِ ِه بَ ِخلُ ْ
وا يَ ْك ِذبُونَ " (التوبة ،آية 75 :ـ .)77 وا هّللا َ َما َو َع ُدوهُ َوبِ َما َكانُ ْ يَوْ ِم يَ ْلقَوْ نَهُ بِ َما أَ ْخلَفُ ْ
ثم قال سبحانه وتعالى مبينا ً أنه ال يهدي ه99ؤالء المن99افقين ،ألن س99نته س99بحانه وتع99الى
جرت في الممعنين في فسوقهم ،وتم99ردهم المص99رين 9على نف99اقهم ال99ذين أح99اطت بهم
خطاياهم أن يفقدوا االستعداد للتوبة واإليمان والهداية ،2قال تعالى" :ا ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم أَوْ الَ
ُوا بِاهّلل ِ َو َرسُولِ ِه ك بِأَنَّهُ ْم َكفَر ْ تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِن تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َسب ِْعينَ َم َّرةً فَلَن يَ ْغفِ َر هّللا ُ لَهُ ْم َذلِ َ
َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ " (التوبة ،آية .)80 :
10ـ الجحود:
ومن األسباب التي رتب هللا عز وجل عليها الضالل حسب س99نته س99بحانه وتع99الى في
الهداية والضالل 9:الجحود والذي يعني اإلنكار مع العلم.3
صارًا َوأَ ْفئَِ 9دةً فَ َم9ا ـ قال تعالىَ " :ولَقَ ْد َم َّكنَّاهُ ْم فِي َما إِن َّم َّكنَّا ُك ْم فِي ِه َو َج َع ْلنَا لَهُ ْم َس ْمعًا َوأَ ْب َ
ت هَّللا ِ ْصا ُرهُ ْم َواَل أَ ْفئِ َ 9دتُهُم ِّمن َش ْ 9ي ٍء إِ ْذ َك99انُوا يَجْ َحُ 9دونَ بِآيَ99ا ِ أَ ْغنَى َع ْنهُ ْم َس ْم ُعهُ ْم َواَل أَب َ
ق بِ ِهم َّما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَه ِْز ُؤون" (األحقاف ،آية .)26 : َو َحا َ
ت هَّللا ِ" :بمنزلة التعليل لسلبه إياهم ما أنعم عليهم به من السمع " إِ ْذ َكانُوا يَجْ َح ُدونَ بِآيَا ِ
والبصر والعقل ،حتى وقعوا في الضالل.4
َاب ي ُْؤ ِمنُونَ بِِ 9ه َو ِم ْن هَ9ؤُاَل ء َاب فَالَّ ِذينَ آتَ ْينَاهُ ُم ْال ِكت َ ك ْال ِكت َ ـ قال تعالىَ " :و َك َذلِكَ أَ ْ
نزَلنَا إِلَ ْي َ
َمن ي ُْؤ ِم ُن بِ ِه َو َما يَجْ َح ُد بِآيَاتِنَا إِاَّل ْال َكافِرُونَ " (العنكبوت ،آية .)47 :
9اب طهُ بِيَ ِمينِ99كَ إِ ًذا اَّل رْ تََ 9 ب َواَل تَ ُخ ُّ ـ وق99ال تع99الىَ " :و َم99ا ُكنتَ تَ ْتلُ99و ِمن قَ ْبلِِ 99ه ِمن ِكتَ99ا ٍ
ور الَّ ِذينَ أُوتُ99وا ْال ِع ْل َم َو َم99ا يَجْ َحُ 9د بِآيَاتِنَ99ا إِاَّل صُ 9د ِ 9ات فِي ُ 9ات بَيِّنٌَ 99و آيٌَ 9 ْال ُم ْب ِطلُونَ * بَ99لْ هَُ 9
الظَّالِ ُمونَ " (العنكبوت ،آية 48 :ـ .)49
ص9ينَ لَ9هُ الِّ 9دينَ فَلَ َّما نَجَّاهُ ْم إِلَى ـ وقال تعالىَ " :وإِ َذا غ َِشيَهُم َّموْ ٌج َك ُّ
الظلَ ِل َد َع ُوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ
ور" (لقمان ،آية .)32 : ار َكفُ ٍ َص ٌد َو َما يَجْ َح ُد بِآيَاتِنَا إِاَّل ُكلُّ خَ تَّ ٍ ْالبَ ِّر فَ ِم ْنهُم ُّم ْقت ِ
والختار :الذي هو في غاية الغدر ،والكفور :الذي ال يشكر نعمة هللا ،بل يجحدها.5
9وا أَ ْمَ 9ر ُك99لِّ َجب ٍ
َّار ُس9لَهُ َواتَّبَ ُعْ 9 َص9وْ ْا ر ُ ت َربِّ ِه ْم َوع َ وا بِآيَ99ا ِ ك عَا ٌد َج َح ُد ْ ـ وقال تعالىَ " :وتِ ْل َ
َعنِي ٍد" (هود ،آية .)59 :
ت إِلَى ضاء ِم ْن َغي ِْر ُس 9و ٍء فِي تِ ْسِ 9ع آيَ99ا ٍ ك ت َْخرُجْ بَ ْي َ ـ وقال تعالىَ " :وأَ ْد ِخلْ يَدَكَ فِي َج ْيبِ َ
ْصَ 9رةً قَ9الُوا هََ 9ذا ِس9حْ ٌر اس9قِينَ * فَلَ َّما َج 9اء ْتهُ ْم آيَاتُنَ9ا ُمب ِ فِرْ عَوْ نَ َوقَوْ ِم ِه إِنَّهُ ْم َكانُوا قَوْ ًما فَ ِ
ين * َو َج َح ُدوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا أَنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا فَانظُرْ َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ ْال ُم ْف ِسِ 99دينَ " ُّمبِ ٌ
(النمل ،آية 12 :ـ .)14
تك َولَ ِك َّن الظَّالِ ِمينَ بِآيَا ِ ـ قال تعالى" :قَ ْد نَ ْعلَ ُم إِنَّهُ لَيَحْ ُزنُكَ الَّ ِذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُ ْم الَ يُ َك ِّذبُونَ َ
هّللا ِ يَجْ َح ُدونَ " (األنعام ،آية .)33 :
1روح المعاني ( ،)144 / 10تفسير المتار (.)648 / 10
2تفسير المنار ( ،)657 / 10السنن اإللهية (.)150 / 1
3الصحاح ( )451 / 2للجوهري.
4السنن اإللهية (.)151 / 1
5تفسير القرطبي ( 5162 / 6ـ .)5163
95
وإذا كان مصير الجاح99دين بآي99ات هللا في ال99دنيا الض99الل والغواي99ة ف99إن مص99يرهم في
اآلخرة الحسرة والندم ،إذ يكونون من أصحاب النار.1
ُوا َعلَ ْينَ99ا ِمنَ ْال َم99اء أَوْ ِم َّما اب ْال َجنَّ ِة أَ ْن أَفِيض ْار أَصْ َح َ ـ قال تعالىَ " :ونَادَى أَصْ َحابُ النَّ ِ
وا ِدينَهُ ْم لَهًْ 99وا َولَ ِعبً99ا وا إِ َّن هّللا َ َح َّر َمهُ َم99ا َعلَى ْال َك99افِ ِرينَ * الَّ ِذينَ اتَّخَُ 99ذ ْ َر َزقَ ُك ُم هّللا ُ قَ99الُ ْ
وا بِآيَاتِنَ99ا وا لِقَ99اء يَ99وْ ِم ِه ْم هَـ َذا َو َم99ا َك99انُ ْ
َنس9اهُ ْم َك َم99ا ن َُسْ 99اليَوْ َم ن ََو َغَّ 9ر ْتهُ ُم ْال َحيَ99اةُ الُّ 9د ْنيَا فَْ 9
يَجْ َح ُدونَ " (األعراف ،آية 50 :ـ .)51
11ـ التأبي والعناد والتعنت:
فالتأبي عن اإليمان ،وعصيان أوامر هللا يؤديان لصاحبهما إلى الض99الل ،ق9ال تع9الى:
ب َوأَبَى" (طه ،آية .)56 : "ولَقَ ْد أَ َر ْينَاهُ آيَاتِنَا ُكلَّهَا فَ َك َّذ ََ
وأما العناد فحال99ة نفس99ية ت99دفع بص99احبها إلى الت99أبي عن االنص99ياع للح99ق على س99بيل
المكابرة دون أن تكون لديه مبررات بذلك ،حتى ولو كانت مبررات زائفة أو باطلة.2
ـ قال سبحانه وتعالى مبينا ً أن العناد مانع عن الهدى وسبب في الضاللَ " 9:كاَّل إِنَّهُ َكانَ
آِل يَاتِنَا َعنِيدًا" (المدثر ،آية .)16 :
وقال مبينا ً على الضالل ومصوراً شدة عناد الضالين.
وا إِنَّ َم99ا وا فِيِ 9ه يَ ْع ُر ُج99ونَ * لَقَ99الُ ْ السَ 9ماء فَظَلُّ ْ
ـ وقال تع99الىَ " :ولَ99وْ فَتَحْ نَ99ا َعلَ ْي ِهم بَابً99ا ِّمنَ َّ
ْصا ُرنَا بَلْ نَحْ ُن قَوْ ٌم َّم ْسحُورُونَ " (الحجر ،آية 14 :ـ .)15 ت أَب َ ُس ِّك َر ْ
س فَلَ َم ُس 9وهُ بِأ َ ْيِ 9دي ِه ْم لَقَ99ا َل"ولَوْ نَ َّز ْلنَا َعلَ ْيكَ ِكتَابًا فِي قِرْ طَ99ا ٍ ـ وقال سبحانه وتعالى عنهَ :
ين" (األنعام ،آية ،)7 :وقد بلغ العناد من كفر قريش ُوا إِ ْن هَـ َذا إِالَّ ِسحْ ٌر ُّمبِ ٌ الَّ ِذينَ َكفَر ْ
ك فَ99أ َ ْم ِطرْ َعلَ ْينَ99ا ِح َج 9ا َرةً ِّمنَق ِم ْن ِعنِ 9د َ 9و ْال َحَّ 9
غايته ،حين قالوا" :اللَّهُ َّم إِن َكانَ هَـ َذا هَُ 9
ب أَلِ ٍيم" (األنفال ،آية .)32 : ال َّس َماء أَ ِو ا ْئتِنَا بِ َع َذا ٍ
وأما مثال التعنت ما كان من كفار ق99ريش عن99دما طلب99وا من الرس99ول ص99لى هللا علي99ه
وسلم أن يأتيهم بآية من ست آيات اقترحوها ،ولو عقل99وا ألدرك99وا أن في الق99رآن وفي
الكون أضعافا ً مضاعفة عن هذا العدد أو هذه اآليات التي طلبوها ،3ق9ال تع9الى حاكي9ا ً
ض يَنبُو ًع99ا * أَوْ تَ ُك99ونَ وا لَن نُّ ْؤ ِمنَ لَكَ َحتَّى تَ ْفج َُر لَنَ99ا ِمنَ األَرْ ِ قول كفار قريشَ " :وقَالُ ْ
السَ 9ماء َك َم9ا زَ َع ْمتَ ار ِخاللَهَا تَ ْف ِجيرًا * أَوْ تُ ْسقِطَ َّ جِّر األَ ْنهَ َب فَتُفَ َ يل َو ِعنَ ٍ لَكَ َجنَّةٌ ِّمن نَّ ِخ ٍ
ُف أَوْ تَ99رْ قَى فِي ْت ِّمن ُز ْخ 9ر ٍ َعلَ ْينَا ِك َسفًا أَوْ تَأْتِ َي بِاهّلل ِ َو ْال َمآلئِ َك ِة قَبِيالً * أَوْ يَ ُكونَ لَ99كَ بَي ٌ
نت إَالَّ ك َحتَّى تُن َِّز َل َعلَ ْينَ99ا ِكتَابً99ا نَّ ْقَ 9ر ُؤهُ قُ99لْ ُس9ب َْحانَ َربِّي هَ99لْ ُك ُ ال َّس َماء َولَن نُّ ْؤ ِمنَ لِ ُرقِيِّ َ
بَ َشرًا َّرسُوالً" (اإلسراء ،آية 90 :ـ .)93
12ـ الكبر :من أسباب الضالل طبق9ا ً لس9نته س9بحانه وتع9الى في الهداي9ة واإلض9الل،
وقد قال صلى هللا عليه وسلم" :الكبر بطر الحق وغمط الناس".4
وقال النووي الكبر هو االرتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق.5
وقد وردت اآليات في ذم الكبر والمتكبرين وهو سبب الضالل واإلضالل.6
96
ق99ال س99بحانه وتع99الى عن الكف99ار" :إِنَّهُ ْم َك99انُوا إِ َذا قِي َ 9ل لَهُ ْم اَل إِلَ 9هَ إِاَّل هَّللا ُ يَ ْس9تَ ْكبِرُونَ "9
(الصافات ،آية ،)35 :أي :يتعظمون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون.
99رةٌ َوهُم 99اآلخ َر ِة قُلُ99وبُهُم ُّمن ِك َ
ِ ـ وق99ال تع99الى" :إِلَهُ ُك ْم إِلَ99هٌ َوا ِحٌ 99د فَالَّ ِذينَ الَ ي ُْؤ ِمنُ99ونَ بِ
ُّم ْستَ ْكبِرُونَ " (النحل ،آية .)22 :
وقال عن ضالل اليهود بس99بب ك99برهم" :أَفَ ُكلَّ َم99ا َج 9اء ُك ْم َر ُس9و ٌل بِ َم99ا الَ تَ ْهَ 9وى أَنفُ ُسُ 9ك ُم
ا ْستَ ْكبَرْ تُ ْم فَفَ ِريقا ً َك َّذ ْبتُ ْم َوفَ ِريقا ً تَ ْقتُلُونَ "(البقرة ، 9آية .)87 :
وقال عن كبر كفار ق99ريش وامتن99اعهم ل99ذلك عن اإليم99ان ،كس99ابقيهمَ " :وقَ99ا َل الَّ ِذينَ اَل
اس9تَ ْكبَرُوا فِي أَنفُ ِسِ 9ه ْم َو َعتَ99وْ نز َل َعلَ ْينَا ْال َماَل ئِ َكةُ أَوْ ن ََرى َربَّنَ99ا لَقَِ 9د ْ ُ
يَرْ جُونَ لِقَاءنَا لَوْ اَل أ ِ
ُعتُ ًّوا َكبِي ًرا" (الفرقان ،آية .)21 :
"وإِنِّي ُكلَّ َم99ا وأما ق99وم ن99وح فق99د وص99فهم ن99بيهم علي99ه الس99الم كم99ا حكى الق99رآن ذل99كَ :
اس9تَ ْكبَرُوا ص 9رُّ وا َو ْ ص9ابِ َعهُ ْم فِي آ َذانِ ِه ْم َوا ْستَ ْغ َش 9وْ ا ثِيَ99ابَهُ ْم َوأَ َ َدعَوْ تُهُ ْم لِتَ ْغفِ َر لَهُ ْم َج َعلُوا أَ َ
صابِ َعهُ ْم فِي آ َذانِ ِه ْم" لئال يسمعوا ص99وتي ا ْستِ ْكبَارًا" (نوح ،آية ،)7 :فقولهَ " :ج َعلُوا أَ َ
" َوا ْستَ ْغ َشوْ ا ثِيَابَهُ ْم" أي :غط99وا به99ا وج99وههم لئال ي99روني ،وقي99ل جعل99وا ثي99ابهم على
رؤوسهم لئال يسمعوا كالمي فيك99ون استغش99اء الثي99اب على ه99ذا النح99و زي99ادة في س99د
األذان.1
ـ وقال تعالىَ " :وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَا َولَّى ُم ْستَ ْكبِرًا َكأَن لَّ ْم يَ ْس َم ْعهَا َكأ َ َّن فِي أُ ُذنَ ْي ِه َو ْق99رًا
ب أَلِ ٍيم" (لقمان ،آية .)7 : فَبَ ِّشرْ هُ بِ َع َذا ٍ
ُص99رُّ ُم ْس99تَ ْكبِرًا َك99أَن لَّ ْم يَ ْس َ 9م ْعهَا" ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَيِْ 99ه ثُ َّم ي ِ
ـ وق99ال تع99الى " :يَ ْسَ 99م ُع آيَ99ا ِ
(الجاثية ،آية .)8 :
وس9هُ ْم َو َرأَ ْيتَهُ ْم 9ل لَهُ ْم تَ َع99الَوْ ا يَ ْس9تَ ْغفِرْ لَ ُك ْم َر ُس9و ُل هَّللا ِ لَ9وَّوْ ا ُر ُؤ َ
ـ وقال تع99الىَ " :وإِ َذا قِيَ 9
ص ُّدونَ َوهُم ُّم ْستَ ْكبِرُونَ " (المنافقون ،آية .)5 : يَ ُ
وإذا ك99ان المتك99بر يدفع99ه ك99بره أال يس99مع آي99ات هللا ،وإذا س99معها فال ينظ99ر فيه99ا وال
يتدبرها ،وال ينق99اد إلى م99ا ت99دعو إلي99ه من اله99دى ،ف99إن ذل99ك يس99تتبع نتائج99ه في عقل99ه
وغيبه ،وذلك بصرف هللا إياه عن اإلنتفاع بآياته سواء الكونية أو السمعية.2
9روْ ْا ق َوإِن يََ 9 9ر ْال َحِّ 9 ف ع َْن آيَاتِ َي الَّ ِذينَ يَتَ َكبَّرُونَ فِي األَرْ ِ
ض بِ َغ ْيِ 9 ـ قال تعالىَ " :سأَصْ ِر ُ
َييل ْالغ ِّ يل الرُّ ْشِ 9د الَ يَتَّ ِخُ 9ذوهُ َس9بِيالً َوإِن يََ 9روْ ْا َس9بِ َ 9روْ ْا َس9بِ َوا بِهَا َوإِن يََ 9 ُك َّل آيَ ٍة الَّ ي ُْؤ ِمنُ ْ
وا َع ْنهَا غَافِلِينَ " (األعراف ،آية .)146 : ُوا بِآيَاتِنَا َو َكانُ ْ
ك بِأَنَّهُ ْم َك َّذب ْ
يَتَّ ِخ ُذوهُ َسبِيالً َذلِ َ
ويعاقبه كذلك بالطبع على قلبه ح99تى يص99ير ذل99ك س99جية وطبيع99ة ،فه99و ت99أثير الزم ال
يفارقه ويغطي على قلبه ويستوثق منه فال يدخله شئ من الهدى ،3قال تعالىَ " :كَ 99ذلِكَ
َّار" (غافر ،آية .)35 : ب ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ طبَ ُع هَّللا ُ َعلَى ُكلِّ قَ ْل ِ يَ ْ
13ـ حب الدنيا واالغترار بها واتخاذها لهواً:
إن من أسباب الضالل شعور اإلنسان إن هذه الحياة الدنيا مصادفة عمياء وأن الوجود
بها ليس له هدف ،قال سبحانه وتعالى رداً على من كان ذلك معتقدهم " :أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َم99ا
خَ لَ ْقنَا ُك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَا اَل تُرْ َجعُونَ " (المؤمنون ، 9آية .)115 :
97
اجلَةَ * َوتَ َذرُونَ اآْل ِخ َرةَ"(القيامة ،آية 20 :ـ .)21 ـ وقال تعالىَ " :كاَّل بَلْ تُ ِحبُّونَ ْال َع ِ
ض َو َو ْي ٌل لِّ ْل َكافِ ِرينَ ِم ْن ت َو َما فِي األَرْ ِ وقال هللا عز وجل " :هّللا ِ الَّ ِذي لَهُ َما فِي ال َّس َما َوا ِ
يل هّللا ِ ص ُّ 9دونَ عَن َس 9بِ ِ 9ر ِة َويَ ُ ب َش ِ 9دي ٍد * الَّ ِذينَ يَ ْس 9تَ ِحبُّونَ ْال َحيَ99اةَ ال ُّ 9د ْنيَا َعلَى اآل ِخَ 9 َعَ 9ذا ٍ
ضالَ ٍل بَ ِعي ٍد" (إبراهيم ،آية 2 :ـ .)3 ك فِي َ َويَ ْب ُغونَهَا ِع َوجًا أُوْ لَـئِ َ
ـ وقال تعالى " :فَأ َ ْع ِرضْ عَن َّمن ت ََولَّى عَن ِذ ْك ِرنَا َولَ ْم ي ُِر ْد إِاَّل ْال َحيَ99اةَ الُّ 99د ْنيَا" (النجم ،
آية .)29 :
9واالً فِي ْال َحيَ99ا ِة وس9ى َربَّنَ99ا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْ َع99وْ نَ َو َمألهُ ِزينَ9ةً َوأَ ْمَ 9 ـ وقال تعالىَ " :وقَا َل ُم َ
اط ِمسْ َعلَى أَ ْم َوالِ ِه ْم َوا ْش ُد ْد َعلَى قُلُ9وبِ ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُ ْ
9وا وا عَن َسبِيلِكَ َربَّنَا ْ ُضلُّ ْ
ال ُّد ْنيَا َربَّنَا لِي ِ
اب األَلِي َم" (يونس ،آية .)88 : َحتَّى يَ َر ُو ْا ْال َع َذ َ
ـ وقال س99بحانه وتع99الى مس99جالً عى الك99افرين بس99بب غ99رورهم بال99دنياَ " :ذلِ ُكم بِ99أَنَّ ُك ُم
ت هَّللا ِ هُ ُز ًوا َو َغ َّر ْت ُك ُم ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا" (الجاثية ،آية .)35 : اتَّخَ ْذتُ ْم آيَا ِ
ثم إن حبهم لهذه الدنيا يدفعهم إلى اإلنغماس في شهواتها ومنه99ا إلى ح99د ال99ترف ال99ذي
من طبيعته ،أن99ه يفس99د الفط99رة ،ويغل99ظ المش99اعر ،ويس99د المناف99ذ ،ويفق99د القل99وب تل99ك
الحساسية المرهفة التي تتلقى وتستجيب وتستجيب.1
فقال تعالى مبينا ً أن المترفين اتبعوا ترفهم وكف99روا بم99ا أرس99ل ب99ه المرس99لون" :فَلَ99وْ الَ
ض إِالَّ قَلِيالً ِّم َّم ْن أَن َج ْينَاوا بَقِيَّ ٍة يَ ْنهَوْ نَ ع َِن ْالفَ َسا ِد فِي األَرْ ِ َكانَ ِمنَ ْالقُرُو ِن ِمن قَ ْبلِ ُك ْم أُوْ لُ ْ
وا ُمجْ ِر ِمينَ " (هود ،آية .)116 : وا فِي ِه َو َكانُ ْوا َما أُ ْت ِرفُ ْ ِم ْنهُ ْم َواتَّبَ َع الَّ ِذينَ ظَلَ ُم ْ
ير إِاَّل قَا َل ُم ْت َرفُوهَا إِنَّا بِ َما أُرْ ِس ْلتُم بِِ 99ه ـ وقال تعالى ذكرهَ " :و َما أَرْ َس ْلنَا فِي قَرْ يَ ٍة ِّمن نَّ ِذ ٍ
َكافِرُونَ " (سبأ ،آية .)34 :
14ـ أتباع الهوى:
2
والمقصود بالهوى ميل النفس للشهوة
لقد جرت سنة هللا تعالى في الهداية واإلضالل أن يكون أتباع الهوى س99ببا ً من أس99باب
الضالل.
9ر هُ9دًى ِّمنَ هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْهِ 9دي ْالقَ99وْ َم ض9لُّ ِم َّم ِن اتَّبََ 9ع هََ 9
9واهُ بِ َغ ْيِ 9 ـ قال تع99الىَ " :و َم ْن أَ َ
الظَّالِ ِمينَ " (القصص ،آية .)50 :
ص َل لَ ُكم َّما َح َّر َم َعلَ ْي ُك ْم وا ِم َّما ُذ ِك َر ا ْس ُم هّللا ِ َعلَ ْي ِه َوقَ ْد فَ َّـ وقال سبحانهَ ":و َما لَ ُك ْم أَالَّ تَأْ ُكلُ ْ
ْ99ر ِع ْل ٍم إِ َّن َربَّكَ هَُ 99و أَ ْعلَ ُمُض99لُّونَ بِ99أ َ ْه َوائِ ِهم بِ َغي ِ اض99طُ ِررْ تُ ْم إِلَيِْ 99ه َوإِ َّن َكثِ99يرًا لَّي ِ إِالَّ َم99ا ْ
بِ ْال ُم ْعتَ ِدينَ " (األنعام ،آية .)119 :
ضلُّونَ عَن َس 9بِي ِل هَّللا ِ يل هَّللا ِ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ
ُضلَّكَ عَن َسبِ ِ ـ وقال سبحانهَ ":واَل تَتَّبِ ِع ْالهَ َوى فَي ِ
ب" (ص ،آية .)26 : لَهُ ْم َع َذابٌ َش ِدي ٌد بِ َما نَسُوا يَوْ َم ْال ِح َسا ِ
ض9لَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم َوخَ تَ َم َعلَى َسْ 9م ِع ِه 9واهُ َوأَ َ ـ وقال عز وجل ":أَفَ َرأَيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ إِلَهَهُ هََ 9
ص ِر ِه ِغ َشا َوةً فَ َمن يَ ْه ِدي ِه ِمن بَ ْع ِد هَّللا ِ أَفَاَل تَ َ 9ذ َّكرُونَ " (الجاثي99ة ،آي99ة : َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ
.)23
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجا ً عجيبا ً للنفس البشرية حيث تترك األصل الثابت
وتتبع الهوى المتقلب ،حين تتعبد هواه99ا وتخض99ع ل99ه ،وتجعل99ه مص99دراً لتص99وراتها،
وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها ،وتقيمه إلها ً قاهراً لها مسؤوالً عليه99ا ،تتلقى إش99ارته
1
في ظالل القرآن (.)6467 / 4
2
ذم الهوى البن الجوزي صـ.12
98
المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول ،يرسم هذه الصورة ويعجب منها في استنكار ش99ديد
" أَفَ َرأَيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ إِلَهَهُ ه ََواهُ" ؟ أفرأيت إنه ك99ائن عجيب يس99تحق الفرج99ة والتعجيب،
وه99و يس99تحق من هللا أن يض99له ،فال يتدارك99ه برحم99ة اله99دى فم99ا أبقى في قلب99ه مكان9ا ً
ض9لَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم" على علم من هللا باس9تحقاقه للهدى وهو يتعب9د ه9واه الم9ريض" َوأَ َ
للضاللة ،أو على علم منه بالحق ال يقوم لهواه وال يصده عن اتخاذه إلها ً يطاع ،وه99ذا
يقتضي إضالل هللا له ،واإلمالء له عمياه " َو َختَ َم َعلَى َس ْم ِع ِه َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ
ص ِر ِه
اوةً" فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ،وتلك المدارك التي يتس99رب ِغ َش َ
منها الهدى ،وتعطلت فيه أدوات اإلدراك بطاعته للهوى ،طاعة العباد والتسليم " فَ َمن
يَ ْه ِدي ِه ِمن بَ ْع ِد هَّللا ِ" والهدى هدى ،وما من أحد يملك ألح99د ه99دى أو ض99اللة ،ف99ذلك من
شأن هللا الذي ال يشاركه فيه أحد ،حتى رسله المختارون " ،أَفَاَل تَ َذ َّكرُونَ " ومن ت99ذكر
صحا وتنبه وتخلص من ربقة الهوى ،وعاد إلى النهج الثابت الواضح ،الذي ال يض99ل
سالكوه.1
وهذه السنة سنة هللا في إضالل من اتبع هواه تحققت في أقوام سابقة وستمض99ي دائم 9ا ً
في كل قوم يتبعون أهوائهم ويحيدون عن الحق.2
ك فَا ْعلَ ْم أَنَّ َما يَتَّبِعُونَ أَ ْه َواءهُ ْم" (القصص ،آية .)44 : ـ قال تعالى 9":فَإِن لَّ ْم يَ ْستَ ِجيبُوا لَ َ
س َع ِن ْالهَ َ 9وى * فَ 9إ ِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي ـ وق99ال تع99الىَ ":وأَ َّما َم ْن خَ 9افَ َمقَ99ا َم َربِّ ِه َونَهَى النَّ ْف َ
ْال َمأْ َوى" (النازعات ،آية 40 :ـ .)41
وقد حذر هللا عز وجل نبيه داود عليه السالم من أن يؤثر ه99واه في قض99ائه بين الن99اس
على الحق والعدل فيه فيكون نتيجة ذلك ميله عن طريق هللا الذي جعله هللا ع99ز وج99ل
ألهل اإليمان به ،فيكون من الهالكين بضالله عن سبيل هللا ،ق99ال تع99الى ":يَ99ادَا ُوو ُد إِنَّا
يل ك عَن َس9بِ ِ ق َواَل تَتَّبِ ِع ْالهََ 9وى فَي ِ
ُض9لَّ َ اس بِ ْال َح ِّ
ض فَاحْ ُكم بَ ْينَ النَّ ِ ك َخلِيفَةً فِي اأْل َرْ ِ َج َع ْلنَا َ
ب" (ص ،آية : ضلُّونَ عَن َسبِي ِل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ َش ِدي ٌد بِ َما نَسُوا يَوْ َم ْال ِح َسا ِ هَّللا ِ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ
.)26
وقال تعالى محذراً خاتم األنبياء والمرس99لين من طاع99ة من أغف99ل هللا قلب99ه عن ذك99ره،
واتبع هواه المتقلب وآثره على الحق.
ـ ق9ال تع9الىَ 9":واَل تُ ِطْ 9ع َم ْن أَ ْغفَ ْلنَ9ا قَلبَ9هُ عَن ِذ ْك ِرنَ99ا َواتَّبََ 9ع هََ 9واهُ َو َك9انَ أ ْمُ 9رهُ فُ ُرطً9ا"
َ ْ
(الكهف ،آية .)28 :
ومن المواطن التي حذر هللا عز وجل عب9اده من اتب9اع اله9وى فيه9ا م9ا ج9اء في قول9ه
9وا قَ َّ 9وا ِمينَ بِ ْالقِ ْس ِ 9ط ُش 9هَدَاء هّلِل ِ َولَ99وْ َعلَى أَنفُ ِس ُ 9ك ْم أَ ِو 9وا ُكونُْ 9تع99الى ":يَ99ا أَيُّهَ99ا الَّ ِذينَ آ َمنُْ 9
9وا ْالهَ َ 9وى أَن تَ ْعِ 9دلُ ْ
وا ْال َوالِ َد ْي ِن َواألَ ْق َربِينَ إِن يَ ُك ْن َغنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاهّلل ُ أَوْ لَى بِ ِه َم99ا فَالَ تَتَّبِ ُعْ 9
ُوا فَإ ِ َّن هّللا َ َكانَ بِ َما تَ ْع َملُونَ َخبِيرًا" (النساء ،آية .)135 : ْرض ْ وا أَوْ تُع ِ َوإِن ت َْل ُو ْ
9وا أَ ْهَ 9واء قَ99وْ ٍم ق َوالَ تَتَّبِ ُعْ 9 وا فِي ِدينِ ُك ْم َغ ْي َر ْال َحِّ 9 ب الَ تَ ْغلُ ْـ وقال تعالى ":قُلْ يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ
واعَن َس َواء ال َّسبِي ِل" (المائدة ،آية .)77 : ضلُّ ْ وا َكثِيرًا َو َ ضلُّ ْوا ِمن قَ ْب ُل َوأَ َ ضلُّ ْ قَ ْد َ
ـ وقال تعالى مبينا ً عدم اتباع الرسول صلى هللا عليه وسلم لله99وى تجنب 9ا ً لم99ا يس99تتبعه
ت إِ ًذا َو َما أَنَاْ ِمنَ ْال ُم ْهتَ ِدينَ " (األنعام، ضلَ ْل ُ
الهوى من الضالل ":قُل الَّ أَتَّبِ ُع أَ ْه َواء ُك ْم قَ ْد َ
آية .)56 :
1في ظالل القرآن ( 3230 /5ـ .)3231
2السنن اإللهية (.)171 /1
99
ان فَ َك99انَ ِمنَ ي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَان َسلَ َخ ِم ْنهَا فَأ َ ْتبَ َعهُ َّ
الش ْ 9يطَ ُ ـ وقال تعالىَ ":وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذ َ
9ل ْال َك ْل ِ
ب ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَِ 9 َاوينَ * َولَوْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا َولَـ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى األَرْ ِ ْالغ ِ
صصِ 9 9ذب ْ
ُوا بِآيَاتِنَ99ا فَا ْق ُ ك َمثَ ُ 9ل ْالقَ99وْ ِم الَّ ِذينَ َكَّ 9 ث أَوْ تَ ْت ُر ْك 9هُ يَ ْلهَث َّذلِ َ 9 إِن تَحْ ِم99لْ َعلَ ْيِ 9ه يَ ْلهَ ْ
ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ " (األعراف ،آية 175 :ـ .)176 ص َ ْالقَ َ
وهكذا يتبين لنا بجالء أهمية الهوى ،وإن الوقوع في ذلك وقوع في الض99الل وبالت99الي
ق الوقوع في الفساد الشامل للسماء واألرض ومن فيهم كما قال تعالىَ ":ولَ ِو اتَّبََ 9ع ْال َحُّ 9
ات َواأْل َرْ ضُ َو َمن فِي ِه َّن" (المؤمنون 9،آية .)71 : ت ال َّس َما َو ُ أَ ْه َواءهُ ْم لَفَ َس َد ِ
فالحق واحد ثابت ،واألهواء كثيرة متقلبة ،وبالحق الواحد يدبر الكون كله فال ينحرف
ناموسه لهوى عارض وال تتخلف س99نته لرغب99ة طارئ99ة ،ول99و خض99ع الك99ون لأله99واء
العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله ،ولفسد الناس معه ،ولفس99دت القيم واألوض99اع،
واختلت الموازين والمقاييس ،وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى والحب والبغض
والرغب99ة والرهب99ة والنش99اط والخم99ول وس99ائر م99ا يع99رض من األه99واء والمواج99د
واالنفعاالت والتأثرات ،وبناء الكون وبما فيه اإلنسان يحت99اج إلى الثب99ات واالس99تقرار
واالطراد على قاعدة ثابتة ،ونهج مرسوم ال يتخلف وال يتأرجح وال يحيد.1
15ـ االستهزاء بآيات هللا ورسله والمؤمنين:ـ
ُس9لِي هُُ 9ز ًوا" (الكه99ف، ك َجزَا ُؤهُ ْم َجهَنَّ ُم بِ َما َكفَرُوا َواتَّ َخ ُذوا آيَ99اتِي َور ُ ـ قال تعالىَ 9":ذلِ َ
آية .)106 :
ث هَّللا ُ َر ُس999واًل " ك إِاَّل هُُ 999ز ًوا أَهََ 999ذا الَّ ِذي بَ َع َ ـ وق999ال تع999الىَ ":وإِ َذا َرأَوْ كَ إِن يَتَّ ِخُ 999ذونَ َ
(الفرقان ،آية .)41 :
ق ِّم ْن ِعبَا ِدي يَقُولُ9ونَ َربَّنَ9ا آ َمنَّا فَ9ا ْغفِرْ لَنَ9ا َوارْ َح ْمنَ9ا َوأَنتَ ـ وقال تعالى ":إِنَّهُ َكانَ فَ ِري ٌ
َضَ 9ح ُكونَ " 9ري َو ُكنتُم ِّم ْنهُ ْم ت ْ خَ ْيُ 9ر ال9رَّا ِح ِمينَ * فَاتَّ َخْ 9ذتُ ُموهُ ْم ِسْ 9خ ِريًّا َحتَّى أَ َ
نس9وْ ُك ْم ِذ ْكِ 9
(المؤمنون ،آية 109 :ـ .)110
وهكذا فإن االستهزاء بآيات هللا ورسله والمؤمنون ،يشغل صاحبه عن التدبر والتفك99ر
في دالئل اإليمان التي في الوجود ،وفي دالئل صدق رسول هللا صلى هللا عليه وس9لم،
ويشغله أيضا ً عن االعتبار بما أثر اإليمان في نفوس أص99حابه وح99الهم وس99لوكهم وإن
ذلك االستهزاء أيضا ً يباعد بين99ه وبين ص99احبه عن ك99ل ال99دالئل والبين99ات وال ش99ك أن
ذلك كله يسلمه إلى الضالل والغي.2
16ـ الكفر:
بين سبحانه وتعالى في غير ما آية وإن سنته في الك99افرين هي أن يع99اقبهم باإلض99الل
وعدم الهداية ،وقد جاء التعبير عن كف99رهم ه99ذا ب99الظلم ت99ارة ،وبالفس99ق ت99ارة أخ99رى،
وبالتكذيب ثالثة ،وب99اإلجرام رابع99ة ،ليض99يف ك99ل لف99ظ من ه99ذه األلف99اظ مع99نى آخ99ر،
باإلضافة إلى معنى الكفر ،وقد جاء بيان جزائهم في أك99ثر من س99ياق س99واء في الكف99ر
أو الفسق أو الظلم ،ليكشف أيضا ً علل ذلك الكفر ،وصفات الذين حكم عليهم بالكفر أو
الفسق أو الظلم وعدم الهداية لهم ،ومن خالل تتب99ع اآلي99ات ال99تي جعلت الظلم والفس99ق
والكفر واإلجرام سببا ً في الضالل وعدم الهداية ،وتبين أن المقصود بمعظمها الش99رك
1
في ظالل القرآن (.)2475 /4
2
السنن اإللهية ( ،)178 / 1في ظالل القرآن (.)2482 / 4
100
وعدم اإليمان باهلل وما يترتب عليه ،وجحد نبوة محمد صلى هللا عليه وس9لم والتك9ذيب
بها ،وإن كان لكل لفظ من هذه األلفاظ له معناه الذي يختص في األصل والوضع.1
أ ـ الفسق :والفسق يقع على كثير ال99ذنب وقليل99ه ،ولكن99ه تع99ورف ب99الكثير أك99ثر ،ومن
وجوه ورود الفسق في القرآن في الكف99ر وت99رك التوحي99د ،فالك99افر فاس99ق الخالل99ه بم99ا
ك فَأُوْ لَئِ99كَ هُ ُم ألزمه العقل واقتضته الفطرة السليمة ،2ق99ال تع99الىَ " :و َمن َكفََ 9ر بَ ْعَ 9د َذلَِ 9
اسقُونَ " (النور ،آية .)55 : ْالفَ ِ
ومن اآليات التي بينت سنة هللا في إضالل هذا الصنف من الن99اس وال99ذي يجم99ع بينهم
ُوض9ةً فَ َم99ا فَوْ قَهَ99ا فَأ َ َّما
ب َمثَالً َّما بَع َ الكفر قول99ه س99بحانه" :إِ َّن هَّللا َ الَ يَ ْس9تَحْ يِي أَن يَ ْ
ضِ 9ر َ
ُوا فَيَقُولُ99ونَ َم99ا َذا أَ َرا َد هَّللا ُ بِهَـ َذا
ق ِمن َّربِّ ِه ْم َوأَ َّما الَّ ِذينَ َكفَر ْوا فَيَ ْعلَ ُمونَ أَنَّهُ ْال َح ُّ
الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ُضلُّ بِ ِه إِالَّ ْالفَا ِسقِينَ " (البقرة ،آية .)26 : ُضلُّ بِ ِه َكثِيراً َويَ ْه ِدي بِ ِه َكثِيراً َو َما ي ِ َمثَالً ي ِ
ـ وقال سبحانه وتعالى" :قُلْ إِن َكانَ آبَا ُؤ ُك ْم َوأَ ْبنَآ ُؤ ُك ْم َوإِ ْخَ 9وانُ ُك ْم َوأَ ْز َوا ُج ُك ْم َوع َِش َ 9
يرتُ ُك ْم
ض9وْ نَهَا أَ َحبَّ إِلَ ْي ُكم ِّمنَ هّللا ِ9وا ٌل ا ْقت ََر ْفتُ ُموهَ99ا َوتِ َج 9ا َرةٌ ت َْخ َش9وْ نَ َك َس9ا َدهَا َو َم َس9ا ِك ُن تَرْ َ َوأَ ْم َ
اس99قِينَ "ُوا َحتَّى يَأْتِ َي هّللا ُ بِأ َ ْم ِر ِه َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَ َِو َرسُولِ ِه َو ِجهَا ٍد فِي َسبِيلِ ِه فَت ََربَّص ْ
(التوبة ،آية .)24 :
المعنى :قد مضت سنة هللا تعالى في القوم الفاسقين المارقين من ال99دين بع99د مع9رفتهم،
كالمنافقين أن يكونوا محرومين من الهداية الفطرية التي يعرفها اإلنسان بالعقل السليم
والوجدان الصحيح ،فال يعرفون ما فيه مصلحتهم وسعادتهم من أتباعه في99ؤثرون حب
القرابة والمنفعة العارضة كالمال والتجارة على حب هللا ورسوله والجهاد المف99روض
في سبيله.3
"اس9تَ ْغفِرْ لَهُ ْم أَوْ الَ
وقال سبحانه وتعالى في حق المن9افقين وهم ك9افرون عن الحقيق9ةْ :
ك بِأَنَّهُ ْم َكفَر ْ
ُوا بِاهّلل ِ َو َرسُولِ ِه تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِن تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َسب ِْعينَ َم َّرةً فَلَن يَ ْغفِ َر هّللا ُ لَهُ ْم َذلِ َ
َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ " (التوبة ،آية .)80 :
أي جرت سنة هللا في الراسخين في فس99وقهم وتم99ردهم ،المص99رين على نف99اقهم ال99ذي
أحاطت بهم خطاي9اهم أن يفق9دوا االس9تعداد للهداي9ة ،وهللا ع9ز وج9ل ل9ذلك ال يه9ديهم،
عقوبة منه ألنهم ال يستحقونها.4
وأما ترتيب عدم الهداية بسبب الظلم :فقد ورد في آيات كثيرة ،منها:
يل ـ قوله تعالى " :قُلْ أَ َرأَ ْيتُ ْم إِن َكانَ ِم ْن ِعن ِد هَّللا ِ َو َكفَرْ تُم بِ ِه َو َش ِه َد َشا ِه ٌد ِّمن بَنِي إِ ْسَ 9رائِ َ
َعلَى ِم ْثلِ ِه فَآ َمنَ َوا ْستَ ْكبَرْ تُ ْم إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ " (األحقاف ،آية .)10 :
فح99رمهم هللا س99بحانه الهداي99ة لظلمهم ألنفس99هم ب99الكفر بع99د قي99ام الحج99ة الظ99اهرة على
وجوب اإليمان ،ومن فقد هداية هللا ضل.5
9ار يَحْ ِمُ 9ل أَ ْس9فَارًا ـ وقال تعالىَ " :مثَ ُل الَّ ِذينَ ُح ِّملُ99وا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَ99ا َك َمثَِ 9ل ْال ِح َمِ 9
ت هَّللا ِ َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِ 9دي ْالقَ99وْ َم الظَّالِ ِمينَ " (الجمع99ة ،آي99ة : س َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَا ِ بِ ْئ َ
.)5
1السنن اإللهية (.)180 / 1
2المصدر نفسه (.)180 / 1
3تفسير المنار (.)236 / 10
4تفسير المنار ( ،)567 / 10السنن اإللهية (.)182 / 1
5فتح القدير ( ،)16 / 5السنن اإللهية (.)182 / 1
101
9ر ِام َك َم ْن آ َمنَ بِاهّلل ِ َو ْاليَ99وْ ِم 9ارةَ ْال َم ْسِ 9ج ِد ْال َحَ 9
ـ وق99ال تع99الى" :أَ َج َع ْلتُ ْم ِس9قَايَةَ ْال َح 9اجِّ َو ِع َمَ 9
يل هّللا ِ الَ يَ ْستَوُونَ ِعن َد هّللا ِ َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ " (التوب99ة ، اآلخ ِر َو َجاهَ َد فِي َسبِ ِ
ِ
آية .)19 :
ك إِ ْذ قَا َل ـ وقال سبحانه وتعالى" :أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذي َحآ َّج إِب َْرا ِهي َم فِي ِربِّ ِه أَ ْن آتَاهُ هّللا ُ ْال ُم ْل َ
يت قَ99ا َل إِ ْبَ 9را ِهي ُم فَ 9إ ِ َّن هّللا َ يَ99أْتِي 9ال أَنَ99ا أُحْ يِـي َوأُ ِم ُ يت قََ 99را ِهي ُم َرب َِّي الَّ ِذي يُحْ يِـي َويُ ِم ُ إِ ْبَ 9
ب فَبُ ِهتَ الَّ ِذي َكفََ 99ر َوهّللا ُ الَ يَهِْ 99دي ْالقَ99وْ َم ت بِهَ99ا ِمنَ ْال َم ْغ ِ
99ر ِ ق فَ99أْ ِس ِمنَ ْال َم ْشِ 99ر ِ بِ َّ
الشْ 99م ِ
الظَّالِ ِمينَ " (البقرة ،آية .)258 :
فاهلل عز وجل من سنته أن ال يهدي ال9ذي ظلم نفس9ه باالمتن9اع عن قب9ول الهداي9ة ،ولم
ينظر في الدالئل التي توصل إلى معرفة الحق ،ويستسلم للطاغوت ،ويترك ما أعط99اه
هللا من الفهم ،إتباعا ً لهواه وشهوته ،وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضل ضالالً بعيداً.1
ومن اآليات التي جاءت تبين أن الكفر سبب في تحقق هللا في اإلضالل:
ُوا يُ ِحلِّونَ 9هُ عَا ًم99ا ُض 9لُّ بِ ِ 9ه الَّ ِذينَ َكفَ 9ر ْ 9ر ي َ قول99ه س99بحانه" :إِنَّ َم99ا النَّ ِس 9ي ُء ِزيَ99ا َدةٌ فِي ْال ُك ْفِ 9
وا َما َحَّ 9ر َم هّللا ُ ُزيِّنَ لَهُ ْم ُس 9و ُء أَ ْع َم99الِ ِه ْم وا ِع َّدةَ َما َح َّر َم هّللا ُ فَيُ ِحلُّ ْاط ُؤ ْ
َويُ َح ِّر ُمونَهُ عَا ًما لِّي َُو ِ
َوهّللا ُ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْال َكافِ ِرينَ " (التوبة ،آية .)37
ُ
ك َوإِن لَّ ْم تَ ْف َع99لْ فَ َم99ا ك ِمن َّربِّ َ ـ وقال سبحانه وتعالى " :يَا أَيُّهَا ال َّرسُو ُل بَلِّ ْغ َما أ ِ
نز َل إِلَ ْيَ 9
اس إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْال َكافِ ِرينَ " (المائ99دة ،آي99ة : ك ِمنَ النَّ ِ بَلَّ ْغتَ ِر َسالَتَهُ َوهّللا ُ يَع ِ
ْص ُم َ
.)67
ِّين ْالخَ 9الِصُ َوالَّ ِذينَ اتَّخَُ 9ذوا ِمن ُدونِِ 9ه أَوْ لِيَ99اء َم99ا نَ ْعبُُ 9دهُ ْم إِاَّل ـ وقال تع99الى" :أَاَل هَّلِل ِ ال9د ُ
9ولِيُقَرِّ بُونَا إِلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى إِ َّن هَّللا َ يَحْ ُك ُم بَ ْينَهُ ْم فِي َما هُ ْم فِي ِه يَ ْختَلِفُ99ونَ إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ِ 9دي َم ْن هَُ 9
َكا ِذبٌ َكفَّارٌ" (الزمر ،آية .)3 :
ـ وقال سبحانه وتعالى مبينا ً أن التكذيب بآيات هللا سبب في الضاللَ " :والَ تَ ُك99ون ََّن ِمنَ
ك الَ ت َربِّ َ ت َعلَ ْي ِه ْم َكلِ َم ُ اسِ 99رينَ * إِ َّن الَّ ِذينَ َحقَّ ْ ت هّللا ِ فَتَ ُك99ونَ ِمنَ ْالخَ ِ 99ذب ْ
ُوا بِآيَ99ا ِ الَّ ِذينَ َك َّ
ي ُْؤ ِمنُونَ " (يونس ،آية 95 :ـ .)96
وقال سبحانه وتعالى مبينا ً أن اإلجرام س99بب في الض99الل ،وس99بب في حل99ول س99نة هللا
ك ن َْس9لُ ُكهُ فِي وا بِِ 9ه يَ ْس9تَه ِْز ُؤونَ * َكَ 9ذلِ َ ُول إِالَّ َكانُ ْ فيمن هذه صفته " َو َما يَأْتِي ِهم ِّمن َّرس ٍ
2
ت ُسنَّةُ األَ َّولِينَ " (الحجر ،آية 11 :ـ .)13 ب ْال ُمجْ ِر ِمينَ *الَ ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ِه َوقَ ْد خَ لَ ْ قُلُو ِ
17ـ الغلو في األنبياء والصالحين:
إن اإلفراط والغلو في تعظيم األنبي99اء والص99الحين ب99القول واالعتق99اد والفع99ل وتج99اوز
الحد والحق في منزلتهم التي أنزلهم هللا إياها من إدع99اء األلوهي99ة لهم أو ص99رف ش99ئ
من العبادة ـ ال تنبغي إال هلل ـ لهم مث99ل التش99ريع وال99ذبح والتض99رع وال99دعاء إلى غ99ير
ذلك من أنواع العبادات سبب في الضالل.3
102
ت ْاليَهُو ُد عُزَ ْي ٌر فأما عن ضالل اليهود والنصارى بسبب غلوهم ،فقد قال تعالىَ " :وقَالَ ِ
ُض9ا ِه ُؤونَ قَ99وْ َل الَّ ِذينَ ك قَ99وْ لُهُم بِ99أ َ ْف َوا ِه ِه ْم ي َ ارى ْال َم ِس9ي ُح اب ُْن هّللا ِ َذلَِ 9 ص َ ت النَّ َ اب ُْن هّللا ِ َوقَالَ ْ
وا أَحْ بَا َرهُ ْم َو ُر ْهبَ99انَهُ ْم أَرْ بَابً99ا ِّمن ُدو ِن هّللا ِ ُوا ِمن قَ ْب ُل قَاتَلَهُ ُم هّللا ُ أَنَّى ي ُْؤفَ ُكونَ * اتَّخَ ُذ ْ َكفَر ْ
9و ُس ْ 9ب َحانَهُ َع َّما وا إِلَـهًا َوا ِح 9دًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ هَُ 9 يح ا ْبنَ َم99رْ يَ َم َو َم99ا أُ ِم 9ر ْ
ُوا إِالَّ لِيَ ْعبُ ُ 9د ْ َو ْال َم ِس َ 9
يُ ْش ِر ُكونَ " (التوبة ،آية 30 :ـ .)31
ـ وقال سبحانه وتعالى عن غلو النصارى في عيسى بن مريم علي99ه الس99الم" :يَ99ا أَ ْهَ 9ل
يس9ى اب ُْن َم99رْ يَ َم ق إِنَّ َم99ا ْال َم ِس9ي ُح ِع َ وا َعلَى هّللا ِ إِالَّ ْال َحِّ 9 وا فِي ِدينِ ُك ْم َوالَ تَقُولُ ْ ب الَ تَ ْغلُ ْ ْال ِكتَا ِ
9وا ثَالَثَ9ةٌ ُس9لِ ِه َوالَ تَقُولُْ 9
وا بِاهّلل ِ َور ُ َرسُو ُل هّللا ِ َو َكلِ َمتُ9هُ أَ ْلقَاهَ99ا إِلَى َم99رْ يَ َم َورُو ٌح ِّم ْن9هُ فَ99آ ِمنُ ْ
ُوا خَ ْيرًا لَّ ُك ْم إِنَّ َما هّللا ُ إِلَـهٌ َوا ِح ٌد ُسب َْحانَهُ أَن يَ ُكونَ لَهُ َولَ ٌد لَّهُ َما فِي ال َّس َما َوات َو َم99ا فِي انتَه ْ
ض َو َكفَى بِاهّلل ِ َو ِكيالً (النساء ،آية .)171 : األَرْ ِ
18ـ صحبة السواء والبيئةـ الفاسدة:
بين سبحانه وتعالى أن الصاحب السوء قد يكون سببا ً في ضالل صاحبه ،ق99ال تع99الى:
َّس9و ِل َس9بِياًل * يَ99ا َو ْيلَتَى ت َمَ 9ع الر ُ "ويَوْ َم يَ َعضُّ الظَّالِ ُم َعلَى يَ َد ْي ِه يَقُ99و ُل يَ99ا لَ ْيتَنِي اتَّ َخْ 9ذ ُ َ
ان الش ْ 9يطَ ُ ْ ْ ِّ
ض 9لنِي ع َِن ال 9ذك ِر بَ ْعَ 9د إِذ َج 9اءنِي َو َك99انَ َّ َّ َ ُ ْ َ
لَ ْيتَنِي لَ ْم أتَّ ِخ 9ذ فاَل نً99ا َخلِياًل * لَقَ ْ 9د أ َ
ان خَ ُذواًل " (الفرقان ،آية 27 :ـ .)29 لِإْل ِ ن َس ِ
ويصور القرآن الكريم جانبا ً من وسوسة صاحب السوء لصاحبه بقول99ه " :يَقُ99و ُل أَئِنَّكَ
ص ِّدقِينَ * أَئِ َذا ِم ْتنَ99ا َو ُكنَّا تُ َرابً99ا َو ِعظَا ًم99ا أَئِنَّا لَ َمِ 9دينُونَ " على س99بيل االس99تهجان لَ ِم ْن ْال ُم َ
واالستبعاد للبعث والحس99اب ،ثم ي99بين أن99ه ل99وال فض99ل هللا على ذل99ك الص99احب وع99دم
استجابته له لكان هو وإياه في سواء الجحيم.1
ين ْض يَتَ َساءلُونَ * قَا َل قَائِ ٌل ِّم ْنهُ ْم إِنِّي َكانَ لِي قَ ِ
99ر ٌ ضهُ ْم َعلَى بَع ٍ ـ قال تعالى" :فَأ َ ْقبَ َل بَ ْع ُ
ص ِّدقِينَ * أَئِ َذا ِم ْتنَا َو ُكنَّا تُ َرابًا َو ِعظَا ًما أَئِنَّا لَ َم ِدينُونَ * قَا َل هَلْ أَنتُم ك لَ ِم ْن ْال ُم َ * يَقُو ُل أَئِنَّ َ
9دت لَتُ99رْ ِدي ِن * َولَ99وْ اَل نِ ْع َم 9ةُ 9ال تَاهَّلل ِ إِ ْن ِكَّ 9 ُّمطَّلِعُونَ * فَاطَّلَ َع فَ َرآهُ فِي َسَ 9واء ْال َج ِح ِيم * قََ 9
ضِ 99رينَ "( 9الص99افات ،آي99ة 50 :ـ ،)57فمخالط99ة أه99ل الس99وء نت ِمنَ ْال ُمحْ َ َربِّي لَ ُك ُ
2
ومصاحبتهم ضالل ،أو سبيل إليه ،ومقاربة منه .
19ـ التشبه بالضالين:
حذر القرآن الكريم بالتشبه باليهود والنصارى وسائر الكفرة ألن هذا التشبه يؤدي إلى
الضالل ،ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى " :يَ99ا أَيُّهَ99ا الَّ ِذينَ آ َمنُ99وا اَل تَ ُكونُ99وا َكالَّ ِذينَ آ َذوْ ا
ُمو َسى فَبَرَّأَهُ هَّللا ُ ِم َّما قَالُوا َو َكانَ ِعن َد هَّللا ِ َو ِجيهًا" (األحزاب ،آية .)69 :
ك َات َوأُوْ لَـئِ َ وا ِمن بَ ْع ِد َما َجاءهُ ُم ْالبَيِّن ُ اختَلَفُ ْوا َو ْ وا َكالَّ ِذينَ تَفَ َّرقُ ْـ وقال تعالىَ " :والَ تَ ُكونُ ْ
لَهُ ْم َع َذابٌ َع ِظي ٌم"(آل عمران ،آية .)105 :
ص ُّ 9دونَ ار ِهم بَطَ 9رًا َو ِرئَ99اء النَّ ِ
اس َويَ ُ وا َكالَّ ِذينَ َخ َرج ْ
ُوا ِمن ِديَ ِ ـ وقال تعالىَ " :والَ تَ ُكونُ ْ
يل هّللا ِ َوهّللا ُ بِ َما يَ ْع َملُونَ ُم ِحيطٌ"(األنفال ،آية .)47 :
عَن َسبِ ِ
103
وكل ما ورد في القرآن من قص99ص اليه99ود أو النص99ارى ،أو س99ائر الكف99رة من المل99ل
األخرى في بيان معاصيهم وأخالقهم ومعتقداتهم الباطلة ،فيه عبرة لنا ح99تى ال نتش99به
1
بهم فنضل كما ضلوا
20ـ االبتداع في الدين:
البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقتص99د بالس99لوك عليه99ا م99ا يقص99د
بالطريقة الشرعية.2
قال صلى هللا عليه وسلم" :أم9ا بع9د ف9إن خ9ير الح9ديث كت9اب هللا وخ9ير اله9دى ه9دي
محمد ،وشر األمور محدثاتها وكل بدعة ضاللة" ،3فقوله :كل بدع99ة ض99اللة :ه99و من
جوامع الكلم ال يخرج عنه شئ ،وهو أصل عظيم من أصول ال99دين وه99و ش99بيه بقول99ه
صلى هللا عليه وسلم" :من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 4فك99ل من أح99دث
شيئا ً ونسبه إلى ال99دين ولم يكن ل99ه أص99ل من ال99دين يرج99ع إلي99ه فه99و ض99اللة ،وال99دين
بريء من9ه ،وس9واء في ذل9ك االعتق9ادات أو األعم9ال أو األق9وال الظ9اهرة والباطنة.5
وعن العرباض بن سارية قال :صلى بنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ذات ي99وم ،ثم
أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ،فق99ال قائ99ل:
يا رسول هللا ،كأن هذه موعظ9ة م9ودع ،فم9اذا تعه99د إلين9ا؟ فق99ال :أوص99يكم بتق9وى هللا
والس99مع والطاع99ة ،وإن أم99ر عليكم عب99د حبش99ي ،فإن99ه من يعش منكم بع99دي فس99يرى
اختالفا ً كثيراً ،فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراش9دين تمس99كوا وعض99وا علي9ه
6
بالنواجذ ،وإياكم ومحدثات األمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضاللة
ودوافع البدعة كما ذكر الشاطبي رحمه هللا هي :الجه99ل ،حس99ن الظن بالعق99ل ،واتب99اع
الهدى ،وكل ذلك من خطط الضالل وأسبابه والعياذ باهلل ،فاإلحداث في الشريعة ،إنما
يقع إم9ا من جه99ة الجه9ل ،وإم9ا من جه99ة تحس9ين الظن بالعق9ل ،وإم9ا من جه99ة اتب9اع
اله99وى في طلب الح99ق ،وه99ذا الح99ق بحس99ب االس99تقراء في الكت99اب والس99نة ..إال أن
الجهات الثالثة قد تنفرد وقد تجتمع ،فإذا اجتمعت فتارة تتعلق باألدوات التي تفهم به99ا
المقاصد وهي اللغة العربية ،فإن هللا أنزل الق99رآن بلف99ظ ع99ربي وال يس99تخرج أحكام99ه
ويعرف مقاصده إال من كان على علم باللغة وأصولها ،وتارة تتعلق بالمقاصد ،وذل99ك
بالجهل أن هللا أنزل الشريعة على رسوله صلى هللا عليه وسلم فيها وتبي99ان ك99ل ش99يء
يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعن99اقهم ،ولم
يمت رسول هللا حتى كمل الدين بشهادة هللا ب9ذلك حيث ق9ال تع9الىْ ":اليَ99وْ َم أَ ْك َم ْل ُ
ت لَ ُك ْم
اإل ْسالَ َم ِدينًا" (المائدة ،آية .)3 : يت لَ ُك ُم ِ
ض ُ ِدينَ ُك ْم َوأَ ْت َم ْم ُ
ت َعلَ ْي ُك ْم نِ ْع َمتِي َو َر ِ
فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء فقد كذب بقولهْ ":اليَوْ َم أَ ْك َم ْل ُ
ت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم".
وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرك ،وتارة يقدم عليه ،وه99ذان
النوعان يرجعان إلى نوع واحد ،وأما جهة اتباع الهوى فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى
104
يغلب ص99احبه األدل99ة أو يس99تند إلى غ99ير دليل .1من هن99ا يت99بين أن االبت99داع في ال99دين
وعدم اتباع هدى هللا سبحانه وتعالى سبب من أسباب الضالل.2
105
المبحث السادس :سنةـ هللا في األخذ باألسباب:
إن اإليمان بالقدر ال يعارض األخذ باألسباب المش99روعة ،ب99ل األس99باب مق َّ 9درة أيض 9ا ً
كالمس99ببات ،فمن زعم أن هللا تع99الى قّ 99در النت99ائج و المس99ببات من غ99ير مق99دماتها
وأس99بابها ،فق99د ذه99ل عن حقيق99ة الق99در ،وأعظم على هللا الغري99ة ،فاألس99باب مقّ 99درة
كالمسببات ،1وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لمن س99أله عن ال9رّقي ،ه99ل ت99رد
من ق99در هللا ش99يئاً؟ ق99ال :هي من ق99در هللا ،2وحي99اة الرس99ول ص99لى هللا علي99ه وس99لم
وأصحابه كانت قائمة على األخذ باألسباب وسيرته تشهد بأنه كان يتخ99ذ ك99ل الوس99ائل
والتدابير وأسباب العمل.3
إن سنن هللا في كونه وشرعه تحتم علينا األخذ باألسباب كم99ا فع99ل ذل99ك أق99وى الن99اس
إيمانا ً باهلل وقضائه وقدره وهو رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،لقد قاوم الفقر بالعمل،
وقاوم الجهل بالعلم ،وقاوم المرضى بالعالج ،وقاوم الكفر والمعاص99ي بالجه99اد وك99ان
يس99تعيد باهلل من الهم والح99زن ،والعج99ز والكس99ل ،وتع99اطى أس99باب األك99ل والش99رب،
وادخر ألهله قوت سنة ،ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء ،وقال للذي سأله:
أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال :اعقلها وتوكل.4
وقال :وفر من المجذوم فرارك من األسد ،5وما غزواته المظفرة صلى هللا عليه وسلم
إال مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة هللا وقدره ،فقد أخذ الحذر
وأع99د الجي99وش ،وبعث الطالئ99ع والعي99ون وظ99اهر بين درعين ،ولبس المغف99ر على
رأس99ه ،وأقع99د الرم99اة على فم الش99عب ،وخن99دق ح99ول المدين99ة ،وأذن في الهج99رة إلى
الحبشة وإلى المدينة وهاجر بنفسه واتخذ أس99باب الحيط99ة في هجرت99ه ،أع99د الرواح99ل
التي يمتطيها والدليل الذي يصحبه وغير ذلك الطري99ق ،واختب99أ في الغ99ار ،6وك99ان إذا
سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين.
وقد أدرك الصحابة رضوان هللا عليهم هذا المعنى وفهموا أن اإليمان بالق99در ال يع99ني
ترك األخذ باألسباب ولهذا أدرك الصحابة رضوان هللا عليهم هذا المعنى ،وفهموا أن
اإليمان بالقدر ال يعني ترك األخذ باألسباب ،ولهذا أنكر عم99ر عن أبي عبي99دة رض99ي
هللا عنهما ربط9ه الق9در بع9دم اإلخ99ذ باألس9باب ،كم99ا ورد في قص9ة ط9اعون عم99واس
الشهير ،فحين ه ّم عمر بالرجوع إلى المدينة في ح99دود الش99ام ،ق99ال ل99ه أب99و عبي99دة بن
الجراح :أفراراً من قدر هللا؟ فدهش عمر لهذا االعتراض وقال ألبي عبيدة :لو غ99يرك
قالها يا أبا عبيدة :نعم نفر من قدر هللا إلى قدر هللا ،ثم أردف قائالً :أرأيت لو ك99ان إب99ل
هبطت واديا ً له عدوتان إحداهما خصيبة واألخ99رى جديب99ة ،أليس إن رعيت الخص99بة
رعيتها بقدر هللا وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر هللا.7
أنأن القدر علم هللا السابق بما يحدث غير أن عمر كان يرى ّ فعمر وأبو عبيدة يعلمان ّ
قدر هللا ال دخ9ل ل9ه في موض9وع رب9ط األس9باب بالمس9ببات ،فال9ذهاب إلى الش9ام م9ع
وجود الطاعون يتسبب عن99ه الم99وت والرج99وع أخ99ذ باألس99باب للنج99اة من الط99اعون،
1منهج الحافظ ابن حجر العسقالني في العقيدة (.)428 /1
2سنن ابن ماجة ( ،)1137 /2رقم 3437حسن صحيح.
3العقيدة اإلسالمية ،د .أحمد جلي صـ .391
4رواه ابن حبان بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية الضميري.
5البخاري ك الطب باب .)5380 /5( 19
6عقيدة التوحيد سعاد ميبر صـ .212
7البخاري ،ك الطب رقم .5729
106
ولهذا أنكر عمر على أبي عبيدة أن يعترض عليه قائالً له :لو غيرك ي99ا أباعبي99دة ،ولم
يكتف بذلك ،ب99ل ش99رح رأي99ه ب99أن ال99ذهاب إلى الش99ام ذه99اب بق99در هللا ،والرج99وع إلى
المدينة رجوع بقدر هللا ،أي بعلم هللا ،مما يدل على أن القدر ال يصح أن يربط باإلقدام
على األعمال أو اإلحجام عنها ،وال يصح أن يترك األخذ باألسباب بحجة القدر.1
ولهذا يذهب ابن القيم إلى :أن الدين هو إثبات األسباب والوقوف معه99ا والنظ99ر إليه99ا،
وأنه ال دين إال بذلك كما ال حقيقة إال به ،فالحقيقة والشريعة مبناهم99ا على إثباته99ا "أي
األسباب" ال على محوها ،وال ننكر الوقوف معها ،فإن الوقوف معها فرض على ك99ل
مسلم ،ال يتم إسالمه وإيمانه إآل بذلك "اإليمان" ،وباألسباب عرف هللا وبه99ا عب99د هللا،
وبها أطيع هللا وبها تقرب إليه المتقربون ،وبه نال أولياؤه رضاه ،وج99واره في جنت99ه،
وبها نصر حزبه ودينه ،وأقاموا دعوته ،وبها أرسل رسله وشرع شرائعه ،وبها إنقسم
الناس إلى سعيد وشقي ،ومهتد وغوي ،فالوقوف معها ،وااللتفاف إليها ،والنظر إليها،
هو الواجب شرعاً ،كما هو الواقع قدراً.2
إن قدر اللله حق وقدر هللا نافذ ،ولكنه ينفذ من خالل السنن ال99تي أق99ام هللا عليه99ا نظ99ام
الكون ،من خالل األسباب التي خلقها سبحانه وشرعها ،وليستقيم عليه99ا أم99ر الوج99ود
ونظام التكليف ،فهذه السنن واألسباب جزء ال يتجزأ من قدر هللا الشامل المحيط.3
أوالً :األخذ باألسباب في القرآن الكريم:
القرآن الك99ريم حاف99ل باآلي9ات ال99تي ت99وجب على المس99لمين األخ99ذ باألس99باب في ش99تى
مناحي الحياة والعمل على استقصاء تل99ك االس99باب للوص99ول إلى الم99راد ،خاص99ة في
تل99ك المواق99ف الص99عبة ال99تي تواج99ه األمم واألف99راد ،ومن النم99اذج القرآني99ة في ه99ذا
الصدد.4
اط ْال َخ ْي ِل تُرْ ِهبُونَ بِ ِه َع ْد َّو هّللا ِ
وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة َو ِمن ِّربَ ِ 1ـ قوله تعالىَ ":وأَ ِع ُّد ْ
وا ِمن َش ْ 9ي ٍء فِي َس 9بِي ِل هّللا ِ آخَرينَ ِمن ُدونِ ِه ْم الَ تَ ْعلَ ُمونَهُ ُم هّللا ُ يَ ْعلَ ُمهُ ْم َو َما تُنفِقُ ْ َو َع ُد َّو ُك ْم َو ِ
ظلَ ُمونَ " (األنفال ،آية .)60 : ف إِلَ ْي ُك ْم َوأَنتُ ْم الَ تُ ْ
يُ َو َّ
إن أمر التمكين لهذا ال99دين يحت99اج إلى جمي99ع أن99واع الق99وى ،على اختالفه99ا وتنوعه99ا،
ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما ً كبيراً بإرشاد األمة لألخذ بأس99باب الق99وة وأوجب هللا
تعالى على األمة األخذ بأسبابها ،ألن التمكين لهذا ال99دين طريق99ه الوص99ول إلى الق99وى
بمفهومها الشامل وقد قال األصوليون 9:وما ال يتم الواجب إال به فهو واجب.5
وفي قولهَّ ":ما ا ْستَطَ ْعتُم" قال ابن كثير :أي مهما أمكنكم وه99ذا التعب99ير الق99رآني يش9ير
إلى أقصى حدود الطاقة ،بحيث ال يقعد المسلمون عن سبب من أسباب القوة يدخل في
طاقاتها ،6والمراد بالقوة هنا :ما يكون سببا ً لحصول القوة ولهذا:
ـ قال أصحاب المعاني :األولى أن يق99ال :ه99ذا ع99ام في ك99ل م99ا تتق99وى ب99ه على ح99رب
العدو وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة وورد أن النبي صلى هللا عليه
107
وسلم قرأ اآلية الكريمة على المنبر وقال" :أال إن القوة الرمي" قاله99ا ثالث 9ا ً .1وه99ذا ال
ينفي كون غير الرمي معتبراً كما قوله :الحج عرفة .2وقوله :الدين النصيحة .3ال ينفي
اعتبار غيره ،بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا .4كم99ا
يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة "ق9وة" هن9ا نك9رة ال معرف9ة فهي تش9مل ك9ل س9الح
معروف أو س99يعرف م99ع ال99زمن المتج99دد فهي تتس99ع إلع99داد الط99ائرات والص99واريخ
وال99دبابات ..وك99ل األس99لحة ال99تي له99ا الت99أثير الحاس99م في المعركة ،5وت99دخل الق99وة
االقتصادية ،والسياسية ،واألمنية واإلعالمية.. ،الخ ومع99نى" ِّربَ99ا ِط ْال َخ ْيِ 9ل" :هي اس99م
للخيل التي ترابط في سبيل هللا تعالى.6
َرينَ ِمن ُدونِ ِه ْم" قال الطبري :هم كل ع99دو للمس99لمين ،وذك99ر هللا تع99الى ومعنى " َوآخ ِ
في هذه اآلية الكريمة ما ألجله أمر بإعداد هذه األشياء فقال ج99ل ش99أنه " تُرْ ِهبُ99ونَ بِ ِ 9ه
آخَرينَ " ذلك أن الكفار إذا علم99وا ك99ون المس99لمين مت99أهبين للجه99اد َع ْد َّو هّللا ِ َو َع ُد َّو ُك ْم َو ِ
ومستعدين له ومستكملين لجميع األسلحة واآلالت خافوهم وذلك يفيد أمور كثيرة:
ـ أنهم ال يتجرأون على دخول دار اإلسالم.
ـ أنهم إذا اشتد خوفهم فربما ال99تزموا من عن99د أنفس99هم ب99إحترام المس99لمين واالس99تجابة
لطلباتهم.
ـ أنه ربما صار ذلك داعيا ً إلى اإليمان لما يرون من قوة أهله وعزتهم.
ـ أنهم ال يعينون سائر الكفار.
يحص9لوا ك99ل أس99باب الق99وة ،فهم يواجه99ون نظام9ا ً ّ وما أحوج المس99لمين الي99وم إلى أن
عالميا ً وقوى دولية ال تعرف إال لغة القوة فعليهم أن يقرعوا الحدي9د بالحدي9د ،ويق9ابلوا
الريح باإلعصار ويقابلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه وبكل ما امتدت إليه يدهم،
وبكل ما اكتشف اإلنسان ووصل إليه العلم في هذا العصر من سالح وعتاد واس99تعداد
حربي ،ال يقصرون في ذلك وال يعجزون.7
إن الواجب على األمة اإلسالمية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مص99اعد المج99د ،أن
تجاه99د بماله99ا ونفس99ها الجه99اد ال99ذي أمره99ا هللا ب99ه في الق99رآن الك99ريم م99راراً عدي99دة،
فالجهاد بالمال والنفس ه99و العلم األعلى ال99ذي يهت99ف ب99العلوم كله99ا ،ف99إذا تعلمت ه99ذا
العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف.8
إن إعداد الق99وة يس99تدعي إنفاق9اً ،وق99د تكف99ل هللا للمنفقين في س99بيله ب99إخالف م99ا أنفق99وه
ف إِلَ ْي ُك ْم َوأَنتُ ْم الَ "و َم99ا تُنفِقُْ 9
9وا ِمن َشْ 9ي ٍء فِي َس9بِي ِل هّللا ِ يَُ 9و َّ واإلثاب99ة علي99ه ،ق99ال تع99الىَ :
ظلَ ُمونَ " (األنفال ،آية ،)60 :وقد جاء التحذير من ع99دم اإلنف99اق في س99بيل هللا ،م99ع تُ ْ
9وا فِي َس9بِي ِل هّللا ِ َوالَ بيان أن ذلك سبب لألهالك والمذلة ،وذلك في قوله تع9الىَ " :وأَنفِقُ ْ
وا بِأ َ ْي ِدي ُك ْم إِلَى التَّ ْهلُ َك ِة" (البقرة ،آية ،)195 :أي :إذ لم تبذلوا في س99بيل هللا وتأيي99د تُ ْلقُ ْ
108
دينه كل م99ا تس99تطيعون من م99ال واس99تعداد فق99د أهلكتم أنفس99كم ،ففي اآلي99ة :النهي عن
ترك اإلنفاق في سبيل هللا ألنه سبب الهالك ،1وقد بين أبو أيوب األنصاري رضي هللا
عنه سبب نزول هذه اآلية ،فعن أسلم بن عمران قال :كنا بمدينة الروم "القسطنطينية"
فأخرجوا إلينا صفا ً عظيما ً من الروم ،فخ99رج إليهم من المس99لمين مثلهم ،فحم99ل رج99ل
من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيه فصاح الناس وقالوا :سبحان ،يلقي بيديه
إلى التهلكة ،فقام أبو أيوب األنصاري فقال :يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه اآلي99ة ه99ذا
التأويل :وإنما أنزلت فينا معاشر األنصار ،لما أع َّ 9ز هللا اإلس99الم وك99ثر ناص99روه ق99ال
بعضنا لبعض س َّراً دون رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :إن أموالن99ا ق99د ض99اعت ،وإن
هللا قد أعز اإلسالم وكثر ناصروه ،فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ،فأنزل
9وا فِي َس9بِي ِل هّللا ِ َوالَ تُ ْلقُْ 9
9وا هللا على نبيه صلى هللا عليه وسلم يرد علينا ما قلن99اَ " :وأَنفِقُْ 9
بِأَيِْ 99دي ُك ْم إِلَى التَّ ْهلُ َكِ 99ة"(البق99رة ،آي99ة ،)195 :فك99انت التهلك99ة اإلقام99ة على األم99وال
وإصالحها وتركنا الغزو.2
وعموم اآلية يقتضي اإلنفاق في سبيل هللا في سائر وجوه القربات ووج99وه الطاع99ات،
وخاصة صرف األموال في قتال األعداء وبذلها فيما يقوي به المسلمون على ع99دوهم
3
واإلخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هالك ودمار لمن لزمه واعتاده
إن من أهم السنن الربانية التي ترتب99ط بعالق99ة مباش99رة م99ع س99نن التمكين ،س99نة األخ99ذ
باألسباب ولذلك يجب على أفراد األم99ة وقادته99ا الع99املين للتمكين ل99دين هللا من فهمه99ا
واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع.
وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة َو ِمن إن هللا عز وجل أمرنا باإلعداد الشامل في قولهَ ":وأَ ِع ُّد ْ
99اط ْال َخيِْ 99ل" ،وإع99داد الق99وة في حقيقت99ه األخ99ذ باألس99باب الش99املة ،كق99وة العقي99دة ِّربَ ِ
واإليم99ان ،وق99وة الص99ف والتالحم ،وق99وة الس99الح والس99اعد ،إن اآلي99ة الكريم99ة تض99ع
إذه99ان المس99لمين على اإلع99داد الش99امل المعن99وي والم99ادي ،والعلمي والفقهي على
مستوى األفراد والجماعات وتدخل في طياتها اإلعداد التربوي ،والسلوكي ،واإلع99داد
المالي ،واإلعداد اإلعالمي والسياسي واألمني والعسكري.4
ك عَن ِذي ْالقَرْ نَي ِْن قُلْ َسأ َ ْتلُو َعلَ ْي ُكم ِّم ْنهُ ِذ ْك 9رًا * إِنَّا َم َّكنَّا لَ 9هُ فِي تعالى":ويَسْأَلُونَ َ
َ 2ـ قال
س َو َجَ 9دهَا الش ْ 9م ِب َّ 9ر َ َ
ض َوآتَ ْينَاهُ ِمن ُكلِّ َش ْي ٍء َسبَبًا * فَأ ْتبَ َع َسبَبًا * َحتَّى إِ َذا بَلَ َغ َم ْغِ 9 اأْل َرْ ِ
ب َوإِ َّما أَن تَتَّ ِخَ 9ذ تَ ْغرُبُ فِي َع ْي ٍن َح ِمئَ ٍة َو َو َج َد ِعن َدهَا قَوْ ًما قُ ْلنَا يَ9ا َذا ْالقَ9رْ نَ ْي ِن إِ َّما أَن تُ َعِّ 9ذ َ
ال أَ َّما َمن ظَلَ َم فَ َسوْ فَ نُ َع ِّذبُهُ ثُ َّم ي َُر ُّد إِلَى َربِّ ِه فَيُ َع ِّذبُ9هُ َعَ 9ذابًا نُّ ْك 9رًا * َوأَ َّما فِي ِه ْم ُح ْسنًا * قَ َ
صالِحًا فَلَهُ َجزَ اء ْال ُح ْسنَى َو َسنَقُو ُل لَهُ ِم ْن أَ ْم ِرنَا يُ ْسرًا * ثُ َّم أَ ْتبَ َع َس 9بَبًا * َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ
َطلُ ُع َعلَى قَوْ ٍم لَّ ْم نَجْ َعل لَّهُم ِّمن ُدونِهَا ِس ْترًا * َك َذلِ َ
ك س َو َج َدهَا ت ْ طلِ َع ال َّش ْم ِ َحتَّى إِ َذا بَلَ َغ َم ْ
109
طنَا بِ َما لَ َد ْي ِه ُخ ْبرًا * ثُ َّم أَ ْتبَ َع َس9بَبًا * َحتَّى إِ َذا بَلََ 9غ بَ ْينَ َّ
السَّ 9د ْي ِن َو َجَ 9د ِمن ُدونِ ِه َم99ا َوقَ ْد أَ َح ْ
قَوْ ًما اَّل يَ َكا ُدونَ يَ ْفقَهُونَ قَوْ اًل * قَ99الُوا يَ99ا َذا ْالقَ99رْ نَي ِْن إِ َّن يَ99أْجُو َج َو َم99أْجُو َج ُم ْف ِسُ 9دونَ فِي
ك خَرْ جًا َعلَى أَن تَجْ َع َل بَ ْينَنَا َوبَ ْينَهُ ْم َس ًّدا * قَا َل َما َم َّكنِّي فِيِ 99ه َربِّي ض فَهَلْ نَجْ َع ُل لَ َ اأْل َرْ ِ
خَ ْي ٌر فَأ َ ِعينُونِي بِقُ َّو ٍة أَجْ َعلْ بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم َر ْد ًما * آتُونِي ُزبَ َر ْال َح ِدي ِ 9د َحتَّى إِ َذا َس 9ا َوى بَ ْينَ
اس9طَا ُعوا ط9رًا * فَ َم99ا ْ ال انفُ ُخوا َحتَّى إِ َذا َج َعلَهُ نَارًا قَا َل آتُونِي أُ ْف ِر ْغ َعلَ ْيِ 9ه قِ ْ ص َدفَ ْي ِن قَ َال َّ
أَن يَظهَرُوهُ َو َما ا ْستَطَا ُعوا لَهُ نَ ْقبًا * قَا َل هَ َذا َرحْ َمةٌ ِّمن َّربِّي فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد َربِّي َج َعلَ99هُ ْ
َد َّكاء َو َكانَ َو ْع ُد َربِّي َحقًّا" (الكهف ،آية 83 :ـ .)98
فقد وازن ذو القرنين بين األسباب ال99تي أتاحه99ا هللا ل99ه واتبعه99ا واستقص99اها ،ح99تى إن
القرآن يلح على ذلك ويبينه ويك99رر التزام99ه في العم99ل باألس99باب ،وذل99ك في مواض99ع
ثالثة من اآليات التي أشرنا إليها حيث يقول "فَأ َ ْتبَ َع َسبَبًا" (الكهف ،آية )85 :وبع99دها
يكرر ":ثُ َّم أَ ْتبَ َع َسبَبًا" (الكهف ،آية 89 :ـ ،)92وقرن ذو الق99رنين بم99ا انط99وى علي99ه
من أسباب معنوية ،وما كان عليه من إيمان وتقوى وعمل صالح في قوله":هَ َذا َرحْ َمةٌ
ِّمن َّربِّي فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد َربِّي َج َعلَهُ َد َّكاء َو َك99انَ َو ْعُ 9د َربِّي َحقًّ99ا" (الكه99ف ،آي99ة ،)98 :
ف99اجتمعت ل99ه األس99باب الظ99اهرة والباطن99ة فك99ان ل99ه التمكين والغلب99ة ونف99ع الن99اس
وإعانتهم.1
وذو القرنين علم قرآني بارز ،خلّد هللا ذكره في كتابه الخالد ،إن99ه الرج99ل الط99واف في
األرض ،الصالح العادل الخاشع لربه والمنف99ذ ألم99ره ،والق99ائم بين الن99اس باإلص99الح،
والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها ،فلم يغره م99ال وال منص99ب ،وال ج99اه وال ق99وة وال
سلطان ،ب99ل إن99ه بقي ذاك99راً لفض99ل رب99ه ورحمت99ه ،متأهب9ا ً للي99وم اآلخ99ر ليلقى ج99زاءه
العادل عند ربه ويكفي أن يبقى ذو القرنين تلك الشخصية العظيمة في التاريخ ،وذل99ك
العلم البارز في العدل واإلصالح والقيادة ،ومث99ال الح99اكم الص99الح على م99ر الت99اريخ،
وإلى أن يرث هللا األرض ومن عليها ،بشهادة الكتاب الخالد.2
إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي الق99رنين وأعمال99ه وأقوال99ه
مثل:
ـ الحكم والس99لطان والتمكين في األرض ينبغي أن يس99خرلتنفيذ ش99رع هللا في األرض
وإقامة العدل بين العباد ،وتيسير األمر على المؤمنين المحسنين وتضييق الخناق على
الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
ـ الرج99ال االش99داء ذوو الخ99برات الفني99ة العالي99ة في الن99واحي العس99كرية والعمراني 9ة9
واالقتص99ادية ال99ذين ك99انوا ط99وع بن99ان ذي الق99رنين ،وك99ذلك خض99وع األق99اليم ل99ه فتح
الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية ،كل ذلك لم يدخل في نفس99ه الغ99رور
والبطر والطيش والغواية ،ب99ل بقي مث99ال الرج99ل الم99ؤمن العفي99ف الم99ترفع عن زين99ة
الحياة الدنيا.
ـ االهتمام باتخاذ األسباب لبلوغ األهداف والغايات التي س99عى إليه99ا حيث آت99اه هللا من
كل شيء سببا ً فأتبع سبباً.
األسباب التي اتخذها ذو القرنين للتمكين لدين هللا عز وجل:
أ ـ الدستور العادل:
1
السنن اإللهية د .مجدي عاشور صـ .167
2
ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان صـ 247ـ .249
110
إن المنهجية التي س99ار عليه99ا ذو الق99رنين كح99اكم م99ؤمن جعلت99ه يل99تزم بمع99اني الع99دل
المطلق في ك99ل أحوال99ه وس99كناته ول99ذلك س99اق الن99اس واألمم والش99عوب ال99تي حكمه99ا
بسيرة العدل ،فلم يعامل األقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعس99ف
والتجبر والطغيان والبطش ،وإنما عملهم بهذا المنهج الرب99اني ،ق99ال تع99الى" :قَ99ا َل أَ َّما
صالِحًا َمن ظَلَ َم فَ َسوْ فَ نُ َع ِّذبُهُ ثُ َّم يُ َر ُّد إِلَى َربِّ ِه فَيُ َع ِّذبُهُ َع َذابًا نُّ ْكرًا * َوأَ َّما َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ
فَلَهُ َجزَ اء ْال ُح ْسنَى َو َسنَقُو ُل لَهُ ِم ْن أَ ْم ِرنَا يُ ْسرًا" (الكهف ،آية .)88 : 87 :
وهذا المنهج الرباني الذي سار علي99ه ي99دل على إيمان99ه وتق99واه ،وعلى فطنت99ه وذكائ99ه،
وعلى عدل99ه ورحمت99ه ،ألن الن99اس ال99ذين قه99رهم وفتح بالدهم ،ليس99وا على مس99توى
واحد ،وال على صفات واحدة ،ولذلك ال يجوز أن يعاملوا جميعا ً معاملة واحدة ،فمنهم
المؤمن ومنهم الكافر ،ومنهم الصالح ،ومنهم الطالح ،فه99ل يس99توون في المعامل99ة؟ ذو
القرنين :أما الظالم الكافر وسوف نعذبه لظلمه وكفره ،وهذا التعذيب عقوبة ل99ه ،فنحن
عادلون في تعذيبه في الدنيا ،ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه األخروي.
9ذب م9رتين ،م99رة في ال9دنيا على إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي الق9رنين معّ 9
يديه ،واألخرى ي99وم القيام99ة ،حيث يعذب99ه هللا ع99ذابا ً نك99راً ،أم99ا الم99ؤمن الص99الح فإن99ه
مقرب من ذي القرنين يجزيه الجزاء الحسن ،ويكافئه المكافأة الطيبة ويخاطب99ه بيس99ر
وسهولة وإشراق وبر ومو َّدة.1
لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس هو التقوى واإليمان والعمل الصالح ودائما ً
يتطلع إلى مقامات اإلحسان.
ب ـ المنهج التربوي للشعوب:
إن هللا تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفس99اد في المجتم99ع وكل99ف أه99ل
اإليمان ممن مكن لهم في األرض أن يحرص99وا على تنفي99ذ العقوب99ات للمفس99د والظ99الم
لكي تستقيم الحياة في الدنيا.
إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجا ً أساسياً ،وطريق99ة عملي99ة لتربي99ة
الشعوب على االستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة هلل تعالى.2
وه99ذا دس99تور الح99اكم الص99الح ،ف99المؤمن الص99الح ينبغي أن يج99د الكرام99ة والتيس99ير،
والجزاء الحسن عند الحاكم والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب واإليذاء وحين يجد
المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزا ًء حسنا ً أو مكانا ً كريما ً وعونا ً وتيسيراً ،ويج99د
المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة ،عندئ99ذ يج99دون م99ا يحف99زهم إلى الص99الح
واإلنتاج ،أما حين يض99طرب م99يزان الحكم ،ف99إذا المعت99دون المفس99دون ومقرب99ون إلى
الحاكم ،مقدمون في الدولة ،وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو مح9اربون ،فعندئ9ذ،
تتحول الس99لطة في ي99د الح99اكم س99وط ع99ذاب وأداة فس99اد ،ويص99ير نظ99ام الجماع99ة إلى
الفوضى والفساد.3
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجع99ل الح99وافز المش99جعات هدي99ة للمحس99ن
ليزداد في إحسانه وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة اإلحس99ان وتش99عره ب9االحترام
والتقدير وتأخذ على يد المسيء لتضرب على ي99ده ،ح99تى ي99ترك اإلس99اءة وتعم99ل على
1
مع قصص السابقين في القرآن للخالدي ( 330 /2ـ .)331
2
فقه النصر والتمكين للصالبي صـ .142
3
في ظالل القرآن (.)922 /4
111
توسيع دوائر الخير واإلحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد ح99د
وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.1
جـ ـ اإلهتمام بالعلوم المادية والمعنويةـ وتوظيفها في الخير:
ض َوآتَ ْينَاهُ ِمن ُك ِّل َش ْي ٍء َسبَبًا" إنه شخص مكن له رب قال تعالى":إِنَّا َم َّكنَّا لَهُ فِي اأْل َرْ ِ
الس999ماوات واألرض الخ999الق الم999دبر المتص999رف 9في ش999ؤون الك999ون ،رب الع999زة
والجبروت مكن له في األرض وآتاه من ك9ل ش9يء س9بباً ،وينص9رف ذهن الس9امع أو
القارئ إلى وجوه التمكين له في األرض.
ـ مكن له في العلوم والمعرفة واستقراء سنن األمم والشعوب صعوداً وهبوطاً.
ـ مكن له في سياسة النفوس أفراداً وجماعات تهذيبا ً وتربية وانتظاماً.
ـ مكن له في أسباب القوة من االسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر.
ـ مكن له في أسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنما الزراعة.
ومهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين الحسنة التي تليق برج99ل رب99اني ق99د مكن
له في هذه األرض يمكن أن يدخل تحت قول99ه تع99الى":إِنَّا َم َّكنَّا لَ 9هُ فِي اأْل َرْ ِ
ض َوآتَ ْينَ99اهُ
ِمن ُكِّ 9ل َشْ 9ي ٍء َس9بَبًا" ،ويبقى للتص99ور مج99ال وللخي99ال س99عة الستش99فاف ص99ورة ه99ذا
التمكن وأشكاله ،وذلك من خالل المؤكدات العدة التي وردت في اآلية الكريمة.2
ونالحظ من خالل اآليات أن ذا القرنين وظف علوم9ا ً ع99دة في دولت99ه القوي99ة ومن أهم
هذه العلوم:
ـ علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا الق99رنين ك99ان على علم بتقس99يمات األرض ،وفجاجه99ا
وسبلها ،ووديانها وجبالها ،وسهولها ،ل99ذلك اس99تطاع أن يوظ99ف ه99ذا العلم في حركت99ه
م99ع جيوش99ه ش99رقا ً وغرب99ا ً وش99ماالً وجنوب99اً ،وال يخل99و األم99ر أن يك99ون في جيش99ه
متخصص في هذا المجال.3
ـ كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره ،يدل على ذل99ك حس99ن
اختي99اره للخام99ات ،ومعرفت99ه بخواص99ها ،وإجادت99ه الس99تعمالها واالس99تفادة منه99ا ،فق99د
اس99تعمل المع99ادن على أحس99ن م99ا خلقت ل99ه ،ووظ99ف اإلمكان99ات على خ99ير م99ا اتيح
الصَ 9دفَ ْي ِن قَ99ا َل انفُ ُخ99وا َحتَّى إِ َذا َج َعلَ9هُ نَ99ارًا
َّ له ":آتُونِي ُزبَ َر ْال َح ِدي ِد َحتَّى إِ َذا َس َ
اوى بَ ْينَ
طرًا" (الكهف ،آية .)96 : ال آتُونِي أُ ْف ِر ْغ َعلَ ْي ِه ِق ْ
قَ َ
أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة ،فأتوه إياها ،فأخذ يبني شيئا ً فش99يئا ً ح99تى جع99ل
ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا ً لهما في العلو ثم ق99ال للعم99ال :انفخ99وا ب99الكير
في القطع الحديدية الموضوعة 9بين الصدفين .4فلم99ا تم ذل99ك وص99ارت الن99ار عظيم99ة،
قال للذين يتولون أمر النحاس من اإلذابة وغيره99ا :أت99وني نحاس9ا ً م99ذابا ً أفرغ99ه علي99ه
فيصير مضاعف القوة والص99البة ،وهي طريق99ة اس99تخدمت ح99ديثا ً في تقوي99ة الحدي99د،
فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصالبته.5
ـ كان واقعيا ً في قياسه لألمور وتدبيره لها فقد ق ّدر حجم الخطر ،وق ّدر م99ا يحت99اج إلي99ه
من عالج ،فلم يجع99ل الس99ور من الحج99ارة ،فض 9الً عن الطين واللبن ،ح99تى ال يع99ود
1الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (.)624 /2
2مباحث في التفسير الموضوعي د .مصطفى مسلم صـ .304
3الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (.)624 /2
4روح المعاني لاللوسي (.)40 /16
5فتح القدير (.)313 /3
112
منه99اراً ألدنى ع99ارض ،أو في أول هج99وم ،وله99ذا ب99اءت مح99اوالت الق99وم المفس99دين
ظهَرُوهُ بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين ":فَ َما ا ْسطَا ُعوا أَن يَ ْ
اس9تَطَا ُعوا لَ9هُ نَ ْقبً99ا" (الكه99ف ،آي99ة ،)97 :أي لم يتمكن99وا من اعتالئ99ه الرتفاع99ه َو َم99ا ْ
1
ومالمسته ،وما استطاعوا أن يثقبوه لصالبته وثخانته .
لقد كان ذو القرنين على علم باخبار الغيب التي جاءت بها الشرائع ،ومع ذلك لم يتخذ
من األقدار تكئة لتبرير القعود والهوان ،فقد بنى السد وبذل فيه الجهد ،م99ع علم99ه ب99أن
له أجالً سوف ينهدم فيه ال يعلمه إال هللا.2
س ـ فقهه في إحياء الشعوب:
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحت99ك بالش99عوب واألمم وتكلم الق99رآن
الكريم عن رحالته:
ـ الرحلة األولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطة االنطالق فيه99ا وح99دد النهاي99ة إلى مغ99رب الش99مس ووج99د
عندها قوماً ،فدعاهم إلى هللا تعالى ،وسار فيهم بسيرة العدل واإلصالح.
9ر ُّد إِلَى َربِّ ِه فَيُ َع ِّذبُ 9هُ َعَ 9ذابًا نُّ ْك 9رًا * َوأَ َّما َم ْن
قال تعالى":أَ َّما َمن ظَلَ َم فَ َسوْ فَ نُ َع ِّذبُ 9هُ ثُ َّم يَُ 9
صالِحًا فَلَهُ َجزَ اء ْال ُح ْسنَى َو َسنَقُو ُل لَهُ ِم ْن أَ ْم ِرنَا يُ ْسرًا" (الكهف ،آية 87 :ـ آ َمنَ َو َع ِم َل َ
.)88
إنها سياس99ة الع99دل ال99تي ت99ورث التمكين في الحكم والس99لطة وفي قل99وب الن99اس الحب
والتكريم للمستقيمين ،وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم ،فالمؤمن المس99تقيم
يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم ،ويكون بطانته وموضع عطف99ه وثقت99ه ورعاي99ة
مصالحه وتيسير أموره ،أما المعتدي المتجاوز للحد ،المنحرف الذي يري99د الفس99اد في
األرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة ثم يرد إلى ربه ي99وم القيام99ة ليلقى
العقوبة األنكى بما اقترفت يداه في حياته األولى.
ـ الرحلة الثانية:
وهي رحلة المش99رق حيث يص99ل إلى مك99ان ي99برز لعين ال99رائي أن الش99مس تطل99ع من
خلف األفق ،ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة ،إال أن القوم الذين ك99انوا عن99د مطل99ع
الشمس ك9انوا في أرض مكش99وفة بحيث ال يحجبهم عن9د ش9روقها مرتفع9ات جبلي9ة أو
أش99جار س99امقة ،وذهب الش99يخ محم99د مت99ولي الش99عرواي إلى أن المقص99ود بقول99ه
تع99الى":لَّ ْ9م نَجْ َع99ل لَّهُم ِّمن ُدونِهَ99ا ِس ْ 9ترًا" (الكه99ف ،آي99ة ،)90 :هي بالد القطب ال99ذي
تك99ون في99ه الش99مس س99تة ش99هور ال تغيب ط99وال ه99ذه الش99هور وال يوج99د ظالم يس99تر
الشمس في هذه األماكن.3
ونظراً لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها وهو الدس99تور المعلن
في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعالن مبادئه ألنه9ا منهج حي99اة ودس9تور دول9ة مترامي9ة
األطراف وسياسة أمم فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل.4
ـ الرحلة الثالثة:
1
فتح القدير للشوكاني (.)313 /3
2
فقه النصر والتمكين للصالبي صـ .144
3
القصص القرآني من سورة الكهف صـ .87
4
مباحث في التفسير الموضوعي مصطفى مسلم صـ .306
113
تختلف عن الرحل99تين الس99ابقتين من حيث طبيع99ة األرض والتعام99ل م99ع البش99ر وك99ان
المنطقة ،ومن حيث األعمال ال99تي ق99ام به99ا ،فلم يقتص99ر فيه99ا على األعم99ال الجهادي99ة
لكبح جماح األشرار والمفس99دين ،ب99ل ق99ام بعم99ل عم99راني هائ99ل ،أم99ا األرض ف99وعرة
المس99الك ،وأم99ا الس99كان ـ وك99أن وع99ورة األرض ق99د أث99رت في طب99ائعهم ،وطريق99ة
تخاطبهم مع غيرهم ـ ففي التفاهم والمخاطبة ال يكاد اإلنس99ان منهم يق99در على التعب99ير
عما في نفسه ،وال أن يفقه ما يحدثه به غيره من غ99ير ب99ني قوم99ه َ ":و َجَ 9د ِمن ُدونِ ِه َم99ا
قَوْ ًما اَّل يَ َكا ُدونَ يَ ْفقَهُونَ قَوْ اًل " (الكهف ،آية .)93 :
ونالحظ من خالل السياق القرآني أن هؤالء القوم اتصفوا بصفات منها:
ـ هم قوم متخلفون "اَّل يَ َكا ُدونَ يَ ْفقَهُونَ قَوْ اًل " ,هذا إما معناه أنهم ال يفقهون لغة غيرهم
من األق99وام األخ99رى ،ألنهم لم يطلع99وا عليه99ا ولم يتعلموه99ا ،فهم منغلق99ون على لغتهم
فقط .وإمّا معن99اه :إن الكالم ال ينف99ع معهم ،ألنهم ال يفقه99ون ،وال يتف99اعلون مع99ه ،وال
يتف99اهمون م99ع قائل99ه ،ال يفعل99ون ه99ذا لجف99اء وغلظ99ة عن99دهم ،أو لغفل99ة وس99ذاجة في
طبيعتهم.
ـ هم قوم ض99عفاء :ول99ذلك عج99زوا عن صّ 9د هجم99ات ي99أجوج وم99اجوج والوق99وف في
وجههم ،ومنع أفسادهم.
هم قوم عاجزون عن ال9دفاع عن أرض9هم ،ومقاوم9ة المعت9دين ول9ذلك لج9أوا إلى ق9وة
أخ99رى خارجي99ة ،ق99وة ذي الق99رنين ،حيث طلب99وا من99ه ح99ل مش99كالتهم وال99دفاع عن
أراضيهم.
ـ هم قوم اتك99اليون كس99الى :ال يري99دون أن يب9ذلوا جه9داً وال أن يقوم9وا بعم99ل ،ول9ذلك
أحالوا المشكلة على ذي القرنين ،وأوكلوا إليها حقه99ا ،أم99ا هم فمس99تعدون ل99دفع الم99ال
له.1لقد كان فقه ذي الق9رنين في التعام9ل م9ع الش9عوب المستض9عفة ه9و الس9عي الج9اد
لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنش99اط والق99وة ،فك99ان
يدير العمل بروح الجماعة ويشترك بنفسه مع إشراك غ9يره ،وي9دل على ذل9ك ض9مير
المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متت99ابع رفي99ع م99ع ض99مير المخ99اطب في النظم الق99رآني
الكريم مما يشير إلى روح الحماس99ة والحيوي9ة والتع99اون المش99ترك ،2ق9ال تع9الىَ ":م99ا
َم َّكنِّي فِي ِه َربِّي خَ ْي ٌر فَأ َ ِعينُونِي بِقُ َّو ٍة أَجْ َعلْ بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم َر ْد ًما * آتُونِي ُزبَ َر ْال َح ِدي ِ 9د َحتَّى
9ر ْغ َعلَ ْي ِ 9ه قِ ْ ُ
ط9رًا" ص َدفَ ْي ِن قَا َل انفُ ُخوا َحتَّى إِ َذا َج َعلَهُ نَارًا قَا َل آتُ99ونِي أ ْفِ 9 إِ َذا َسا َوى بَ ْينَ ال َّ
(الكهف ،آية 95 :ـ .)96
لقد كان ذو القرنين حريصا ً على مصلحة الناس ،ناصحا ً لهم فيما يع99ود عليهم ب99النفع،
ولهذا طلب منهم المعون99ة الجس99دية ،لم99ا في ذل99ك من تنش99يط لهم ورف99ع لمعنوي99اتهم،3
ومن نصحه وإخالصه لهم ،أنه بذل ما في الوسع والخدمة أك99ثر مم99ا ك99انوا يطلب99ون،
فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سداً ،أما ه99و فق99د وع99د ب99أن يجع99ل
بينهم ردماً ،والردم هو الحاجز الحصين ،والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق،
فوعدهم بفوق ما يرجعون.4
114
9ف ذو الق99رنين عن أم99وال المستض99عفين وش99رع في تعليمهم النش99اط والعم99ل، لق99د عّ 9
والكسب ،والس99عي ،فق99ال لهم ":فَ99أ َ ِعينُونِي بِقَُّ 9و ٍة أَجْ َع99لْ بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم َر ْد ًم99ا" (الكه99ف،
آية .)95 :
إن في ه99ذه العب99ارة القرآني99ة معلم 9ا ً ب99ارزاً في تض99افر الجه99ود ،وتوحي99د الطاق99ات،
والقدرات والقوى.
إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجيه99ه نح99و التكام99ل
لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاق99ات المتع99ددة في المج99االت المتنوع99ة في س99احات
الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية ،ويأتي دور القيادة الربانية في األم99ة
لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاق99ات ،وتتج99ه به99ا نح99و
خير األمة ورفعتها.
إن امتنا اإلس99المية مألى ب99المواهب الض99ائعة والطاق9ات المعطل99ة واألم99وال المه9درة
واألوقات المبّددة ،والشباب الحيارى وهي تنتظر من قيادتها في كافة األقطار وال99دول
والبالد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجم99ع والتنس99يق والتع99اون ومحارب99ة الجه99ل
والكسل والتخلف" ،1فَأ َ ِعينُونِي بِقُ َّو ٍة".
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين 9حمايتهم وإنما توريثهم أسباب القوة حتى
يستطيعوا أن يقفوا أم99ام المفس99دين ،لق99د ك99ان ذو الق99رنين يس99تطيع أن يبقى ح99تى يب99دأ
يأجوج ومأجوج في الهجوم ،ثم يه99اجم ويه99زمهم ،ولكن هللا س99بحانه وتع99الى يري99د أن
يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظ99الم ،ولكن
وظيفته منع وقوع الظلم.
ولم يأت ذو القرنين بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك وإنما طلب منهم
أن يعينوه ليس99اعدهم على حماي99ة أنفس99هم ويتعلم99وا فن99ون الحماي99ة ويكس99بوا خ99برات،
ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يبنون السد بأيديهم ،وه99ذا أدعى للحف99اظ علي99ه
وإصالحه إن أصابه شيء.
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤالء المستضعفون 9عاطلين ،وهذا يلفتنا إلى أن عطاء
هللا سبحانه وتعالى ،عطاء إمكانات ،وعطاء ذاتي في النفس ..عطاء اإلمكانات هو م99ا
تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العم99ل ،والعط99اء ال99ذاتي في النفس 9:ه9و
القوة الذاتية داخلك التي تعطيك طاقة العمل ،وكثير منا ال يلتفت إلى عطاء النفس ..ال
يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعماالً كثيرة ،وأنه ال يس99تخدمها وأن لدي99ه
قوة تح ّمل بإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر ..وأن يعمل أعماالً كثيرة.2
إن ذا القرنين لم يستعن بجيشه وال بأناس آخرين ،إنما استعان بهؤالء الضعفاء وطلب
منهم أن يأتوا بالحديد ،ثم بناء الس9د بحيث وص9ل ب9ه إلى قم9ة الجبلين ،ثم ق9ام بص9هر
الحديد ،وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو ق ّوى هؤالء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج وم99أجوج ،ب99أن علمهم كي99ف
يعينون أنفسهم وكي9ف يبن9ون الس9د وجعلهم هم ال9ذين يش9تركون في البن9اء وهم ال9ذين
يقيمونه ،وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط ،ليأخذوا الثق99ة في أنفس99هم ب99أنهم يس99تطيعون
1مع قصص السابقين (.)342 /2
2القصص القرآني في سورة الكهف محمد متولي الشعراوي صـ .93
115
حماي99ة أنفس99هم وليتعلم99وا م99ا يعينهم ويحميهم ،واإلس99الم ينهان99ا أن نع ّ 9ود الن99اس على
الكسل أو نعطيهم أجراً بال عمل ،ألن ذل99ك ه99و ال99ذي يفس99د المجتم99ع ،فاإلنس99ان م99تى
تقاضى أجراً بال عمل ال يمكن أن يعمل بعد ذلك أبداً.1
إن ذا القرنين قام بمهم99ة الح99اكم الممكن ل99ه في األرض ،فق99وى المستض99عفين وجعل99ه
قادراً على حماية أنفسهم من العدوان وال يعتمد على حماية أحد ،ولم ي99ترك الن99اس في
مقاعد المتفرجين بل نقلهم إلى ساحة العاملين.
فعندما تحرك القوم المستضعفون 9نحو العم99ل بقي99ادة ذي الق99رنين ،وص99لوا إلى ه99دفهم
المنشود ،وغايتهم المطلوبة.2
ونقف مع ذي القرنين بعد أن ت ّم بناء السد:
ـ نظ99ر ذو الق99رنين إلى العم99ل الض99خم ال99ذي ق99ام ب99ه فلم يأخ99ذه البط99ر والغ99رور ،ولم
تسكره نشوة القوة والعلم ،ولكنه ذكر هللا فشكره ،ورد إليه العم99ل الص99الح ال99ذي وفق99ه
إليه.3
ـ ذكر ذي القرنين لربه عند انجاز عمله ،يعلمنا كيف يكون ذكر هللا س99بحانه ،ف99إن من
أعظم صور الذكر ،هي أن يذكر العبد رب99ه عن99د توفيق99ه في عم99ل ،فيستش99عر أن ه99ذا
بأمر ربه ،فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
ـ كان بناء السد رحمة من هللا تعالى ،وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه هللا إياه،
وتمكينه الذي مكنه هللا له ،استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم ،منع الع99دوان
عنهم ،فكان علمه رحمة من ربه ،وكان استخدامه له رحمة من ربه.
ـ كان الق99وم مهّ 9ددين بي99أجوج وم99أجوج ،معرض99ين إلفس99ادهم ولم يحمهم منهم إال هللا
ببناء السد ،فكان السد رحمة من هللا لهم ،وكان خالصا ً لهم وإنقاذاً بإذن هللا ،فلو لم يتم
عمل وال جهد وال حركة ،لما انقذوا أنفسهم من الخط99ر ،ألن اإلنق99اذ ال يتم إال بالعم99ل
والجهد المتواصل وتكاتف الجهود واالنقياد الطوعي للشعوب لشرع هللا خل99ف القي99ادة
4
الربانية
ـ "فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد َربِّي َج َعلَهُ َد َّكاء َو َكانَ َو ْع ُد َربِّي َحقًّا" (الكهف ،آية .)98 :
طنَا بِ َما لَ َد ْي ِه ُخ ْب ًرا" :وقبل أن يكمل القرآن الح99ديث عن ك َوقَ ْد أَ َح ْ
ع ـ قوله تعالىَ ":ك َذلِ َ
ح99روب ذي الق99رنين ،وفتوحات99ه وقب99ل أن يتح99دث عن مهمت99ه في المنطق99ة الش99مالية،
ك َوقَ ْد أَ َح ْ
طنَا بِ َما لَ َد ْي ِه ُخ ْبرًا". توقف سياق القرآن ليقرر حقيقة أساسية وهي قوله َ ":ك َذلِ َ9
أي أن هللا سبحانه كان عالما ً بأحوال ذي القرنين مطلعا ً على حركاته ،محيطا ً بأخباره
وأخبار جيشه ،فما يسيرون خطوة إال بإذن هللا ،وال يتحرك99ون حرك99ة إال بمش99يئة هللا،
وال يكسبون معركة أو يحتلون بل99داً إال وهللا ع99الم بهم مطل99ع عليهم ،خب99ير بهم ونق99ف
لنتساءل عن الحكمة عن ذكر حقيقة إحاطة هللا بأخبار ذي القرنين وجيشه وعلم99ه به99ا
أثناء حديثه عن فتوحاته؟ إن الحكمة التي قد تب9دو لن9ا هي :ح9رص الق9رآن على رب9ط
كل ما يحدث في الكون بإرادة هللا ومشيئته وعلمه سبحانه حتى ال ينس99ى الن99اس ه99ذه
الحقيق99ة وهم يت99ابعون األح99داث وح99تى ال يظن99وا أن الن99اس يتحرك99ون به99ا بق99دراتهم
الذاتي99ة ،بمع99زل عن علم هللا وإذن99ه ،فه99ا ه99و ذو الق99رنين ق99ام بفتوح99ات عظيم99ة ،في
1المصدر نفسه صـ .94
2فقه النصر والتمكين صـ .150
3في ظالل القرآن (.)2293 /4
4مع قصص السابقين (.)350 /2
116
الجبهة الغربية ثم في الجبهة الشرقية وقام بإنجازات عظيمة في الجبهة الشمالية ،لكن
هللا مطلع على أعمال99ه ،محي99ط بأخب99اره ،ع99الم بإنجازات99ه وه99و مقّ 9در له99ا ومري99د له99ا
سبحانه.1
إن قص99ة ذي الق99رنين ت99دل على وج99وب األخ99ذ باألس99باب وبي99ان أن ذل99ك ض99روري
للنهوض الحضاري لألمم ،وقد قدم القرآن الكريم "ذا القرنين" أنموذجا ً متجسداً لربط
األس99باب بالمس99ببات والمق99دمات بالنت99ائج واعت99بر ذل99ك مقدم99ة الب99د منه99ا للنه99وض
واإلنجاز الحضاري وبذلك لم يكتف القرآن بتأكيد موضوع الس99نن واألس99باب نظري9اً،
لقد مكن هللا له في األرض فأعطاه سلطانا ً وطيد الدعائم ويسّر له أسباب الحكم والفتح
وأسباب البناء والعمران ،وأسباب السلطان والمتاع ،وسائر ما هو من شأن البش99ر أن
يمكنوا فيه في هذه الحياة "فَأ َ ْتبَ َع َسبَبًا" (الكهف ،آية .)85 :
إن قصة ذي القرنين من قصص القرآن التي يتمثل بها من الداللة على الق99درة الفائق99ة
ألصحابها ومدى ما كانوا عليه من قوة وتمكين ،ولكن بواسطة ما سنّة هللا من أس99باب
في هذا الكون ،ووسائل تؤدي إلى غاياتها المراد منها ،لتمثل بذلك أنموذجا ً لكل مس99لم
يريد أن يسلك في هذه الحياة على هدي من الفهم لسنن هللا في الخلق ،وليتقين كل أح99د
أن التمكين في األرض والس99عادة في اآلخ99رة ،إنم99ا يتحص99ل بأس99باب ووس99ائط س99واء
المادي منها والمعنوي ،من ما تحقق به ذو القرنين.2
ش ـ أخالقه القيادية:ـ
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخالق رفيعة س99اعدته على تحقي99ق رس99الته الدعوي99ة
والجهادية في الحياة ومن أهم هذه األخالق:
ـ الصبر :كان جلداً صابراً على مشاق الرحالت ،فمثالً تلك الحمالت ال99تي ك99ان يق99وم
بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين ،فاألعمال ال9تي ك9ان
يعمله99ا تحت99اج إلى جي99وش ض99خمة ،وإلى عقلي99ة يقظ99ة ،وذك99اء وق99اد ،وص99بر عظيم
وآالت ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك.3
ـ مهابته :كانت له مهابة ونجابة يستشعرها من يراه ألول مرة ،ولكنه99ا ليس99ت مهاب99ة
الملوك الظلمة الجبارين فعندما بلغ بين السدين ووج99د الق99وم المستض99عفين ،استأنس99وا
به ،ووجدوا فيه مخلصا ً من الظلم والقهر الواق99ع عليهم فب99ادروه بس99ؤال المعون99ة فمن
الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسداً مثل المفسدين أو الظالمين ،ومعه من القوة والعدة ما
ليس لمثلهم.4
ـ الشجاعة :كان قوي القلب جسوراً غير هي99اب من التبع99ات الض99خمة والمس99ؤوليات
العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة هللا سبحانه ،فإن م99ا طلب من إقام99ة الس99د ك99ان عمالً
عظيما ً في ذات9ه ،حيث أن الق9وم المفس9دين ك9ان من الممكن أن يوجه9وا إفس9ادهم إلي9ه
وإلى جنوده ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر وال مدبر.5
117
ـــ التــوازن في شخصــيته:ـ فلم ت99ؤثر ش99جاعته على حكمت99ه ،ولم ينقص حزم99ه من
رحمته ،وال حسمه من رفقه وعدالته ،ولم تكن الدنيا كله9ا ـ وق9د س9خرت ل9ه ـ كافي9ة
إلثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
ــ كثــير الشــكر :ألن99ه ك99ان ص99احب قلب حي موص99ول باهلل تع99الى ،فلم تس99كره نش99وة
النصر ،وحالوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين ،بل نسب الفضل إلى ربه 1س99بحانه
وقال":هَ َذا َرحْ َمةٌ ِّمن َّربِّي" (الكهف ،آية .)98 :
ـ العفة :كان مر تفعا ً عن مال ال يحتاجه ومتاع ال ينفعه ،فإن الق99وم المستض99عفين لم99ا
شكوا إليه فساد المفسدين ،عرضوا عليه الخراج ،فأج99ابهم بعف99ة وديان99ة وص99الح :إن
الذي أعطاني هللا من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه ،وما أنا فيه خ99ير من
الذي تبذلونه.2
إن التوازن المدهش والخالب في شخصية ذي القرنين سببه إيمانه باهلل تع99الى والي99وم
اآلخ99ر ،ول99ذلك لم تط99غ قوت99ه على عدالت99ه وال س99لطانه على رحمت99ه ،وال غن99اه على
تواضعه ،وأصبح مستحقا ً لتأييد هللا وعونه ،ول99ذلك أكرم99ه هللا تع99الى باألخ99ذ بأس99باب
التمكين والغلبة وهو تفضل من هللا تعالى على عبده الص99الح ،فجع99ل ل99ه مكن99ة وق99درة
على التصرف في األرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجن99ود والهيب99ة والوق99ار.3
وكذلك أكرمه هللا بكثرة االعوان والجنود وق99ذف ال99رعب في قل99وب األع99داء وتس99هيل
السير عليه ،وتعريفه فجاج األرض واستيالئه على برها وبحرها ،4وتمكن99ه ب99ذلك من
تملك المشارق والمغارب من األرض ،فكل هذه األمور ال تعطي لشخص عادي ،وال
يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ ،إال أن يكون مؤي99داً من هللا ،ذل99ك
التأييد الذي ينصر هللا به عباده المؤمنين ،ويدل على هذه العناية أيضا ً ضمير العظم99ة
":وآتَ ْينَاهُ ِمن ُكلِّ َش ْي ٍء َسبَبًا" (الكهف ،آية ،)84 :أي :أمده بكل م99ا أراده من في قوله َ
مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه ،فزوده بعلم منازل األرض وأعالمها وعرفه
ألسنة األقوام الذين كان يغزوهم فكان ال يغزو قوما ً إال كلمهم بلسانهم.5
لقد أعطاه هللا تعالى من كل شيء سبباً ،وينصرف ذهن الس99امع أو الق99ارئ إلى وج99وه
التمكين له في األرض ،وأسبابه من العلوم والمعرفة واس99تقراء س99نن األمم والش99عوب
ص99عوداً وهبوط9اً ،وفي سياس99ة النف99وس أف99راداً وجماع99ات ته99ذيبا ً وتربي99ة وانتظام9اً،
وأعط99اه من أس99باب الق99وة من األس99لحة والجي99وش وأس99باب الق99وة والمنع99ة والظف99ر،
وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة ،وقي99ل :مهم99ا تص99ور
من أس99باب التمكين ال99تي تلي99ق برج99ل رب99اني ق99د مكن ل99ه في ه99ذه األرض .6يمكن أن
ض َوآتَ ْينَاهُ ِمن ُك ِّل َش ْ 9ي ٍء َس 9بَبًا" (الكه99ف،يدخل تحت قوله تعالى":إِنَّا َم َّكنَّا لَهُ فِي اأْل َرْ ِ
آية .)84 :
لقد كانت رعاية هللا تعالى ل99ذي الق99رنين عظيم99ة بس99بب إيمان99ه باهلل تع99الى واس99تعداده
لليوم اآلخر ،ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
118
لقد بذل ذو القرنين م99ا في وس99عه من أج99ل دع99وة الن99اس إلى عب99ادة هللا فق99د جم99ع بين
الفتوحات العظيمة بحد السيف ،وفتوحات القلوب باإليمان واإلحس99ان ،فك99ان إذا ظف99ر
بأمة أو ش9عب دع9اهم إلى الح9ق واإليم9ان باهلل تع9الى قب9ل العق9اب أو الث9واب ،وك9ان
حريصا ً على األعمال اإلصالحية في كاف99ة االق99اليم والبل99دان ال99تي فتحه99ا ،فس99عى في
بسط س9لطان الح9ق والعدال9ة في االرض ش9رقا ً وغرب9اً ،وك9ان ص9احب والء ومحب9ة
ألهل اإليمان ،مثلما كان معاديا ً ألهل الكفران.1
3ـ األسباب التي اتخذها داود عليه السالم للتمكين لدين هللا:
ك َو ْال ِح ْك َم 9ةَ َوعَلَّ َم 9هُ ِم َّما
قال تعالى":فَهَزَ ُموهُم 9بِإ ِ ْذ ِن هّللا ِ َوقَت ََل دَا ُو ُد َجالُوتَ َوآتَاهُ هّللا ُ ْال ُم ْل َ
ضٍ 9ل َعلَى ت األَرْ ضُ َولَـ ِك َّن هّللا َ ُذو فَ ْ ْض لَّفَ َسَ 9د ِ
ْض9هُ ْم بِبَع ٍ
اس بَع َ يَ َشاء َولَ9وْ الَ َد ْفُ 9ع هّللا ِ النَّ َ
ْال َعالَ ِمينَ " (البقرة ،آية .)251 :
أكرم هللا تعالى بقتل جالوت وبين القرآن الكريم أن داود عليه السالم ك99ان مجاه99داً في
جيش ط999الوت ،وممن نجح999وا في اإلمتح999ان العس999ير ال999ذي ق999رّر رئيس الجيش أن
يخوضه جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح فقد رفع داود علي99ه الس99الم رآي99ة
النصر ،وشرع في إعادة التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لج99الوت ،وك99ان إذ ذاك ف99تى،
وتم له الظفر ،فالتقت على محبته القلوب ،وتأكدت ل99ه أوام99ر اإلخالص ،وأص99بح بين
عش99ية وض99حاها ح99ديث ب99ني إس99رائيل ،يكن99ون ل99ه في نفوس99هم اإلح99ترام والمحب99ة،
والتوق9ير ومن9ذ ذل9ك الحين ب9دا نجم9ه يص9عد في الس9ماء ويتنق9ل من ظف9ر إلى ظف9ر،
ويجيئه النص99ر يتبع99ه النص99ر ،ح99تى ولي المل99ك أخ99يراً وأص99بح ذا س99لطان وظه99رت
مالمح الحكم في زمن99ة في عدل99ه وحكم99ه ،وك99ان أ ّواب99ا رجاع99ا ً إلى رب99ه بالطاع99ة
والعبادة ،والذكر واالستغفار ،لق99د ك99ان منهج التغي99ير في زمن داود علي99ه الس99الم ه99و
الصراع المسلح بين قوى الخير والشر واإليمان والكفر ،والهدى والض99الل ،وبالفع99ل
تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة مجدهم وعزهم.
اص 9بِرْ َعلَى َم99ا يَقُولُ99ونَ َو ْاذ ُك99رْ َع ْبَ 9دنَا دَا ُوو َد َذا اأْل َ ْيِ 9د إِنَّهُ أَ َّوابٌ * إِنَّا ـ ـ قــال تعــالىْ ":
اق * َوالطَّ ْيَ 9ر َمحْ ُش9و َرةً ُكٌّ 9ل لَّهُ أَ َّوابٌ * َس َّخرْ نَا ْال ِجبَ99ا َل َم َع 9هُ ي َُس9بِّحْ نَ بِ ْال َع ِشِّ 9ي َواإْل ِ ْشَ 9ر ِ
ب" (ص ،آية 17 :ـ .)20 َو َش َد ْدنَا ُم ْل َكهُ َوآتَ ْينَاهُ ْال ِح ْك َمةَ َوفَصْ َل ْال ِخطَا ِ
إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السالم يتع99رف على ص99فات الح99اكم
المؤمن الذي مكن هللا له وهي تحقق للقائد المس99لم كم99ال الس99عادة في ال99دنيا واآلخ99رة،
ومن أهم هذه الصفات.
ـ الصبر :فقد أمر هللا تعالى نبينا محم99د ص99لى هللا علي99ه وس99لم على جالل99ة ق99دره ب99أن
يقتدي به في الصبر على طاعة هللا.
ـ العبودية :وقد وصفه ربه بقولهَ " :ع ْب َدنَا" ،وعبر عن نفسه بص99يغة الجم99ع للتعظيم
والوصف بالعبودية هلل غاية التشريف كوصف محم99د ص99لى هللا علي99ه وس99لم به99ا ليل99ة
المعراج " ُس ْب َحانَ الَّ ِذي أَس َْرى بِ َع ْب ِد ِه" (اإلسراء ،آية .)1 :
1الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (.)623 /2
119
وكان النبي ص9لى هللا علي9ه وس9لم إذا ذك9ر داود علي9ه الس9الم تح9دث عن99ه بيَّن فض99له
وإجته99اده في العب99ادة" :إن أحب الص99يام إلى هللا ص99يام داود ،وأحب الص99الة إلى هللا
صالة داود عليه السالم :كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وين99ام سدس99ه ،وك99ان يص99وم
يوما ً ويفطر يوما ً.1
ـ القوة على أداء الطاعة :واالحتراز عن المعاصي في قولهَ " :ذا اأْل َ ْي ِد."....
ـ والرجوع إلى هللا بالطاعة في أموره كلها ،في قوله تعالى" :إِنَّهُ أَ َّوابٌ " .وصف
بالقوة على طاعة هللا وبأنه أواب دليل على كمال معرفته باهلل التي جعلته يجتهد في
العبادة على نهج رباني صحيح.
اق * ـ تسبيحـ الجبال والطيور معه" :إِنَّا َس َّخرْ نَا ْال ِجبَا َل َم َعهُ ي َُس 9بِّحْ نَ بِ ْال َع ِش ِّ 9ي َواإْل ِ ْش َ 9ر ِ
ورةً ُك99لٌّ لَّهُ أَ َّوابٌ " (ص ،آي99ة 18 :ـ )19أي أن9ه تع9الى س9خر الجب9ال َوالطَّي َْر َمحْ ُشَ 9
تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار ،كما قال عز وج99ل" :يَ99ا ِجبَ99ا ُل أَ ِّوبِي َم َع 9هُ
َوالطَّي َْر" (سبأ ،آية .)10 :
قال ابن كثير :وكذلك الطير تسبح بتسبيحه ،وترجع بترجيعه إذا مر ب99ه الط99ير ،وه99و
سابح في الهواء ،فسمعه ،وهو يترنم بقراءة الزبور ،ال يستطيع الذهاب ،ب99ل يق99ف في
ً 2
الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ،وترجع معه ،وتسبح تبعا له
ـ قوة الملــك َ ":و َش َد ْدنَا ُم ْل َك 9هُ" (ص ،آي99ة )20 :اي :قوين99ا ملك99ه بالجن99د أو الح99رس،
وجعلنا له ملكا ً كامالً في جميع ما يحتاج إليه الملوك.
ـ ـ الحكمــةَ " :وآتَ ْينَاهُ ْال ِح ْك َم 9ةَ" (ص ،آي99ة )20 :أي :أعطين99اه الفهم والعق99ل والفطن99ة،
والعلم ،والعدل ،وإتقان العمل ،والحكم بالصواب.
ب" (ص ،آي99ة )20 :أي :وألهمن99ا ـ ـ حســن الفصــل في الخصــوماتَ " :وفَصْ َل ْال ِخطَ99ا ِ
حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل ،وإيجاز البي99ان ،بجع99ل المع99نى
الكثير في اللفظ القليل.3
إن داود عليه السالم ش ّد ملك99ه بالتس99بيح وال99ذكر والطاع99ة ،فك99ان علي99ه الس99الم يس99بح
بالعشي واإلشراق وتجاوبت الجبال مع ذكره العذب الجميل وكذلك تجاوبت الطي99ور،
اق" (ص ،آية .)18 : ال َم َعهُ يُ َسبِّحْ نَ بِ ْال َع ِش ِّي َواإْل ِ ْش َر ِقال تعالى":إِنَّا َس َّخرْ نَا ْال ِجبَ َ
فوهبه هللا هبة عظمى ذكرها في كتابه عز وجل َ ":و َش َد ْدنَا ُم ْل َكهُ َوآتَ ْينَاهُ ْال ِح ْك َمةَ َوفَصْ َل
ب" (ص ،آية ،)20 :الذي جعلن99ا ل99ه ملك9ا ً ك99امالً من جمي99ع المل99وك العظم99اء، ْال ِخطَا ِ
بحيث ال يتمكن منه أعداؤه لكثرة جيوشه ،وكثافة حراسه الذين قيل :إنهم ك99انوا ألوف 9ا ً
كثيرة يتناوبون في حراسته ولم ينكسر له جيش في معركة أبداً بعون هللا ونصره.4
أ ـ استخالف هللا تعالى لداود عليه السالم:
ْ َ
ك خَ لِيفَ 9ةً فِي اأْل رْ ِ قال تعالى":يَا دَا ُوو ُد إِنَّا َج َع ْلنَا َ
ق َواَل تَتَّبِِ 9
9ع ض فَ99احْ ُكم بَ ْينَ النَّ ِ
اس بِ99ال َح ِّ
ضلُّونَ عَن َسبِي ِل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ َش ِدي ٌد بِ َم99ا ن َُس9وا يل هَّللا ِ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ
ك عَن َسبِ ِ ْالهَ َوى فَي ِ
ُضلَّ َ
ب" (ص ،آية .)26 : يَوْ َم ْال ِح َسا ِ
120
خاطب هللا تعالى داود عليه السالم بأن جعله حاكما ً بين الناس في األرض ،فل99ه الحكم
والسلطة ،وعليهم السمع والطاعة ثم بين هللا تعالى ل99ه قواع99د الحكم تعليم 9ا ً لغ99يره من
الناس:
اس بِ ْال َحقِّ" أي :فاقضي بين الناس بالعدل ،الذي ق99امت ب99ه الس99موات ـ "فَاحْ ُكم بَ ْينَ النَّ ِ
واألرض وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
ـ " َواَل تَتَّبِ ِع ْالهَ َوى" أي :ال تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا ،فإن
ك عَن َس 9بِي ِل هَّللا ِ" أي :إن اتب99اع ُض 9لَّ َ
اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار ،لذا قال ":فَي ِ
الهوى سبب في الوقوع في الضالل ،واالنحراف عن جادة الح99ق ،وعاقبت99ه الخ99ذالن،
ب" ضلُّونَ عَن َسبِي ِل هَّللا ِ لَهُ ْم َع َذابٌ َش ِ 9دي ٌد بِ َم99ا ن َُس 9وا يَ99وْ َم ْال ِح َس 9ا ِ قال تعالى":إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ِ
أي :إن الذين يتنكبون طريق الح99ق والع99دل لهم عق99اب ش99ديد ي99وم القيام99ة ،والحس99اب
اآلخروي بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم ،وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنس99ان،
وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم ،ومنه القضاء بالعدل.1
ب ـ هبة من هللا مباركة وفتح وإلهام:
إن داود عليه السالم كان له كثير من االبناء واألوالد إال أن هللا خصه ب99االبن الص99الح
النبي الملك سليمان عليه السالم ،وأثنى هللا عليه في كتاب99ه بكون99ه أواب إلى هللا ـ ع99ز
وجل ـ كثير الطاعة والعبادة واإلناب99ة إلى هللا ـ ع99ز وج9ل ـ في أك9ثر األوق9ات ،ومن
مزيد فضل هللا على عبده داود أن وهبه س99ليمان ال9ذي ورث عن أبي9ه المل99ك والنب9وة،
تعالى":و َوهَ ْبنَا 9لِدَا ُوو َد ُسلَ ْي َمانَ نِ ْع َم ْال َع ْب ُد إِنَّهُ أَ َّوابٌ " (ص ،آية .)30 : َ قال
لقد أكرم هللا تعالى سليمان عليه السالم بالملك والنب99وة وأعط99اه الفهم الث99اقب ،وال99رأي
السديد ،ورجاحة العقل ومما يدل على ذلك قوله تع9الىَ ":ودَا ُوو َ9د َو ُس9لَ ْي َمانَ إِ ْذ يَحْ ُك َم ِ
9ان
ت ِفي ِه َغنَ ُم ْالقَوْ ِم َو ُكنَّا لِ ُح ْك ِم ِه ْم َشا ِه ِدينَ * فَفَهَّ ْمنَاهَا ُسلَ ْي َمانَ َو ُكاًّل آتَ ْينَا
ث إِ ْذ نَفَ َش ْفِي ْال َحرْ ِ
ُح ْك ًما َو ِع ْل ًما" (األنبياء ،آية 78 :ـ .)79
ج ـ ابتكار في صناعة األسلحة:
ص 9نَ ُكم ِّمن بَأْ ِس ُ 9ك ْم فَهَ99لْ أَنتُ ْم َش 9ا ِكرُونَ " س لَّ ُك ْم لِتُحْ ِ ص ْ 9ن َعةَ لَبُ99و ٍ ق99ال تع99الىَ ":و َعلَّ ْمنَ99اهُ َ
(األنبياء ،آية ،)80 :كان داود عليه السالم أول من اتخذ ال99دروع وص99نعها ،وتعلمه99ا
الناس منه ،وإنما كانت ص9فائح فه9و أول من س9ردها وحلقه9ا فأص9بحت النعم9ة علي9ه
نعمة على جميع المحاربين على الدوام ابد الدهر ،فلزمهم شكر هللا تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر ،لذا ق99ال تع99الى":فَهَ99لْ أنتُ ْم َش9ا ِكرُونَ " (األنبي99اء ،آي99ة )80 :أي:
على تيسير نعمة الدروع لكم ،وأن تطيعوا رسول هللا فيما أمر هللا به والمراد 9:اشكروا
هللا على م99ا يس99ر عليكم من ه99ذه النعم99ة ،وه99ذا دلي99ل على ج99واز اتخ99اذ الص99نائع
واألسباب ،فالسبب سنة هللا في خلقه ،وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والض99ائع ب99أن
العمل شرف ،واتخاذ الحرفة كرامة وه99ذه اآلي99ة فيه99ا إش99ارة لحث أه99ل اإليم99ان على
العمل واإلبداع واألخذ بأسباب النصر على األعداء ومحاربة الفس99اد بإع99داد الجي99وش
مقودة بقيم اإليمان وتعاليم الرحمن ،وشريعة الديان ،قال تعالىَ ":وأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِديَ 99د * أَ ِن
ص9يرٌ" (س9بأ ،آي9ة : صالِحًا إِنِّي بِ َم9ا تَ ْع َملُ9ونَ بَ ِ ت َوقَدِّرْ فِي السَّرْ ِد َوا ْع َملُوا َ ا ْع َملْ َسابِغَا ٍ
10ـ .)11
121
وكانت هذه هبة هللا فوق الملك والسلطان ،مع النبوة واالس99تخالص إن هللا تع99الى أنعم
على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي ه99و م99ادة اإلعم99ار
والبناء والتصنيع ،وال ش99ك في خط99ورة م99ادة الحدي99د في ص99ناعة الحض99ارات وبن99اء
الدول وفي حسم انتصارات الجيوش.1
ت َوأَنز َْلنَ99ا َم َعهُ ُم ْال ِكتََ 9
9اب ُس9لَنَا بِ ْالبَيِّنَ99ا ِ وفي سورة الحديد نقرأ هذه اآلية ":لَقَْ 9د أَرْ َسْ 9لنَا ر ُ
ْ
نزَلنَا ْال َح ِديَ 9د فِيِ 9ه بَ99أسٌ َشِ 9دي ٌد َو َمنَ99افِ ُع لِلنَّ ِ
اس َولِيَ ْعلَ َم هَّللا ُ َو ْال ِميزَ انَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِ ْس ِط َوأَ ْ
َزي ٌز" (الحديد ،آية .)25 : ب إِ َّن هَّللا َ قَ ِويٌّ ع ِ ص ُرهُ َو ُر ُسلَهُ بِ ْال َغ ْي ِ
َمن يَن ُ
سورة الحديد؟ هل ثمة أكثر داللة على ارتباط المسلم باألرض من التحضير واإلب99داع
والبناء التي جاء اإلسالم لكي يجعلها جزءاً أساس9يا ً من أخالقي9ات اإليم9ان وس99لوكياته
في قلب العالم ،من هذه اآلية التي تعرض خام الحديد كنعمة كب99يرة أنزله99ا هللا لعب99اده،
وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دوما ً عن الحديد "الب99أس الش99ديد"
متمثالً باستخدام الحديد كأساس للتسلح واإلعداد العس99كري و"المن99افع" ال99تي يمكن أن
يحظى بها اإلنسان من هذه المادة الخام في كاف99ة مج99االت نش99اطه وبنائ99ه "الس99لمي"؟
وهل ثمة حاجة للتأكيد على األهمية المتزايدة للحديد بم99رور ال99زمن في مس99ائل الس99لم
والحرب ،وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في مي99ادين الق99وى
الدولية سلما ً وحرباً؟
إن الدولة المعاصرة التي تمتلك خام الحديد تستطيع أن ترهب اعداءها بم9ا يتيح99ه له9ا
هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل ...وتستطيع أيضا ً ـ أن تخطو خط99وات واس99عة
لكي تقف في مص99اف ال99دول الص99ناعية العظمى ال99تي يش99كل الحدي99د العم99ود الفق99ري
لصناعاتها وغناها.2
إن هللا ـ سبحانه وتعالى ـ منح الحديد لداود عليه السالم وعلمه كيف يلينه ،ألن الفائ99دة
تتحقق بوجود الخام والقدرة على تش99كيله ،والش99ك أن ذل99ك س99اعد على بن99اء حض99ارة
عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي ...الخ
وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخالً عميقا ً وارتباطا ً صميما ً بين آية الحدي99د ،وإرس99ال
الرس99ل وإن99زال الكتب معهم ،وإقام99ة الم99وازين الدقيق99ة لنش99ر الع99دل بين الن99اس وبين
إنزال الحديد الذي يحمل في طياته "الب99أس" 9،ثم التأكي99د على أن ه99ذا كل99ه إنم99ا يجيء
َزي ٌز" (الحديد ،آية .)25 : يع ِ ص ُرهُ َو ُر ُسلَهُ بِ ْال َغ ْي ِ
ب إِ َّن هَّللا َ قَ ِو ٌّ لكي يعلم هللا َمن "يَن ُ
إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة هللا إال يده المؤمنة التي تع99رف كي99ف تبحث عن
الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية اإلسالم والتقدم به وتحقيق النصر للمؤم99نين
وإقامة شرع هللا في مناحي الحياة.
إن قول هللا تعالى َ ":وأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِديدَ" (سبأ ،آية )10 :فيه إشارة إلى أهمي99ة ه99ذا الخ99ام
وتوظيفه لخدمة اإلنسانية في طاعة هللا.
4ـ األسباب التي إتخذها سليمان ـ عليه السالم ـ للتمكين لدين هللا:
تسلّم سليمان ـ عليه السالم ـ قيادة الدول99ة القوي99ة ال99تي أسس99ت على اإليم99ان والتوحي99د
وتقوى هللا تعالى ،لقد أوتي سليمان ـ علي99ه الس99الم ـ المل99ك الواس99ع والس99لطان العظيم
بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي ،ولكنه أعطى قبل ذل99ك عط99اء أعظم وأك99رم ،هي99أه ألن
1فقه النصر والتمكين صـ .129
2التفسير اإلسالمي للتاريخ صـ 221ـ 222عماد الدين خليل.
122
يك99ون شخص99ية فري99دة متم99يزة في الت99اريخ ،لق99د أعطي النب99وة ،ومنح العلم وأوتي
الحكمة ،وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل.1
أ ـ بداية التمكين:
9ير ِّم ْن ض9لَنَا َعلَى َكثٍِ 9 "ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َد َو ُسلَ ْي َمانَ ِع ْل ًما َوقَااَل ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي فَ َّ
قال تعالىَ :
ق الطَّي ِْر َوأُوتِينَا ان دَا ُوو َد َوقَا َل يَا أَيُّهَا النَّاسُ ُعلِّ ْمنَا َمن ِط َ ث ُسلَ ْي َم ُِعبَا ِد ِه ْال ُم ْؤ ِمنِينَ * َو َو ِر َ
ين" (النمل ،آية 15 :ـ .)16 ِمن ُك ِّل َش ْي ٍء إِ َّن هَ َذا لَهُ َو ْالفَضْ ُل ْال ُمبِ ُ
بدأ التمكين بتلك اإلشارة " َولَقَْ 9د آتَ ْينَ99ا دَا ُوو َد َو ُس9لَ ْي َمانَ ِع ْل ًما ،"...وقب99ل أن تنتهي اآلي99ة
يجيء شكر داود وس99ليمان على ه99ذه النعم99ة ،وإعالن قيمته99ا وق99درها العظيم ،فت99برز
قيمة العلم ،وعظمة المنة به من هللا على العباد ،وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد
هللا المؤم99نين ،وال ي99ذكر هن99ا ن99وع العلم وموض99وعه 9،ألن جنس العلم ه99و المقص99ود
باإلبراز واإلظهار ،ولإليحاء بأن العلم كله هبة من هللا ،وبأن الالئ99ق بك99ل ذي علم أن
يعرف مصدره ،وأن يتوجه إلى هللا بالحمد عليه ،وأن ينفقه فيما يرضى هللا ال99ذي أنعم
به وأعطاه ،فال يكون العلم ُمبعداً لصاحبه عن هللا ،وال منسيا ً له إياه ،وهو بعض منن99ه
وعطاياه وبعد اإلشارة إلى اإلنعام بمنة العلم على داود وسليمان ،وحم99دهما هلل ربهم99ا
ان دَا ُوو َد ث ُس 9لَ ْي َم ُ على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها ،يفرد سليمان بالح99ديثَ " :و َو ِر َ
ضُ 9ل 9ر َوأُوتِينَ99ا ِمن ُكِّ 9ل َشْ 9ي ٍء إِ َّن هََ 9ذا لَهَُ 9و ْالفَ ْ ق الطَّ ْيِ 9 ال يَ99ا أَيُّهَ99ا النَّاسُ ُعلِّ ْمنَ99ا َم ِ
نطَ 9 َوقَ َ
ين" (النمل ،آية .)16 : ْال ُمبِ ُ
ب ـ فقه سليمان ـ عليه السالم ـ في إدارة الدولة:
إن القصص القرآني في سيرة سليمان أش99ار إلى أس99اليبه في إدارة الدول99ة والمحافظ99ة
على التمكين ،وأهم هذا الفقه يظهر في النقاط اآلتية:
ــدوام المباشرة ألحوال الرعية ،وتفقد أمورها ،والتماس اإلحاطة بج99وانب الخل99ل في
أفرادها وجماعاتها ،فهذا كان حال سليمان ـ عليه السالم ـ " َوتَفَقَّ َد الطَّيْر" (النمل ،آي99ة
)20 :وذل99ك بحس99ب م99ا تقتض99يه العناي99ة ب99أمور المل99ك ،واالهتم99ام بك99ل ج99زء في99ه،
والرعاية بكل واحدة فيها وخاصة الضعفاء.2
وال شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسس9ات وأجه99زة ح99تى تس9تطيع أن تق99وم به9ذه
المهمة العظيمة .إن سليمان كان مهتما ً بمتابعة الجند وأص99حاب األعم99ال وخاص99ة إذا
راب شيء في أحوالهم ،فسليمان عليه السالم لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال " َم99الِ َي اَل
أَ َرى ْالهُ ْدهُدَ" يعني "أهو غائب"؟ كأنه يسأل عن ص99حة م99ا الح له ،3ثم ق99ال":أَ ْم َك99انَ
ِمنَ ْالغَائِبِينَ " (النمل ،آي99ة ،)20 :س99ؤال آخ99ر ينم عن ح99زم في الس99ؤال بع99د ال99ترفق،
فسليمان عليه السالم أراد أن يفهم من9ه أن99ه يس9أل عن الغ9ائب ال عن ش9فقة فق99ط ولكن
عن جد وشدة ،إذا لم يكن الغياب بعذر.4
ـ البد للدولة من قوانين حتى تضبط األمور بحيث يعاقب المس99يئ ،ويحس99ن للمحس99ن
والبد من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة ،وأن تكون على قدر الخط99أ وحجم الج99رم
وهذا عين العدالة ،ولهذا لم يقطع س99ليمان علي99ه الس99الم بق99رار واح99د في العق99اب عن99د
123
ثبوت الخطأ ،بل جعله متوقف 9ا ً على حجم الخط99أ "أَل ُ َع ِّذبَنَّهُ َعَ 9ذابًا َش ِ 9ديدًا أَوْ أَل َ ْذبَ َحنَّهُ"..
(النمل ،آية .)21 :
وقد استدل أهل العلم به9ذه اآلي9ة على أن العق99اب على ق9در ال99ذنب ،وعلى ال9ترقي من
الشدة إلى األشد بقدر ما يحتاجه إلى إصالح الخلل.1
ـ األهتمام باألجهزة األمنيةـ ،البد للدولة المسلمة أن تهتم ب99األجهزة األمني99ة وتح99رص
أشد الحرص على اإلهتمام باألخبار والمعلومات حتى توظف لخدم99ة ال99دين ،وعقي99دة
التوحيد ،ونشر المبادئ السامية ،واألهداف النبيلة ،والمث99ل العلي99ا ،وأن تح99رص على
تحبيب الجه99اد ألبنائه99ا بواس99طة األجه99زة اإلعالمي99ة والوس99ائل التربوي99ة ،وأن ته99يئ
النفوس للظروف المناسبة إلقامتها للدين وإعالء لكلمة هللا ،وهكذا ك99ان ش99أن س99ليمان
عليه السالم ـ كما قال القرطبي ـ رحمه هللا :فإنما صار صدق الهده9د ع9ذراً ل9ه ،ألن9ه
أخبر بما يقتضي الجهاد ،وكان سليمان عليه السالم حبب إليه الجهاد.2
ـ اإلهتمام بنصرـ دعوة التوحيد ،والبد للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتم بنصر دع99وة
التوحيد ،وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف فإن س99ليمان علي99ه الس99الم لم99ا اس99تمع إلى
خبر القوم المشركين ،ش ّمر عن ساعد الجد في إيصال البالغ إليهم ،وبدأ معهم بالحجة
والبيان .قال تعالىْ ":اذهَب بِّ ِكتَابِي هَ َذا فَأ َ ْلقِ ْه إِلَ ْي ِه ْم ثُ َّم تَ َو َّل َع ْنهُ ْم فَانظُرْ َم99ا َذا يَرْ ِج ُع99ونَ "
(النمل ،آية .)28 :
قال القرطبي ـ رحم99ه هللا ـ :في ه99ذه اآلي99ة دلي99ل على إرس99ال الكتب إلى المش99ركين
وتبليغهم ال99دعوة ودع99ائهم إلى اإلس99الم ،وق99د كتب الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم إلى
كسرى وقيصر وإلى كل جبار.3
ولقد كان كتاب سليمان عليه السالم لملكة سبأ يبدأ بالرحمة وتتخلل99ه الكرام99ة ،وآخ99ره
الدعوة إلى االستجابة هلل واالستسالم له سبحانه "إِنَّهُ ِمن ُسلَ ْي َمانَ َوإِنَّهُ بِس ِْم هَّللا ِ ال9رَّحْ َم ِن
ي َو ْأتُونِي ُم ْسلِ ِمينَ " (النمل ،آية 30 :ـ .)31 َّح ِيم * أَاَّل تَ ْعلُوا َعلَ َّ الر ِ
ــ الــترفع على حطــام الــدنيا :فملكة س99بأ عن99دما عملت الحيل99ة الختب99ار س99ليمان علي99ه
السالم ،تفتق ذهنها عن بعث هدية له تمتحن به99ا حب99ه لل99دين ،ف99أظهر ع99دم االك99تراث
بهذا المال ،وأعلم من جاءوا به أن هللا تع99الى آت99اه ال99دين ال99ذي ه99و الس99عادة القص99وى
وآتاه من الدنيا ماالً مزيد عليه ،فكيف يستمال مثله بمثل هذه الهدية ،وصارحهم ب99أنهم
هم الذين من شأنهم الفرح بتلك الهدية التي ظنوا أنه سيفرح بها أما هو فلن يقب99ل منهم
ال فَ َما آتَانِ َي هَّللا ُ خَ ْي ٌر ِّم َّما آتَ99ا ُكم بَ99لْ أَنتُم إال اإلسالم أو السيف ،قال تعالى":أَتُ ِم ُّدون َِن بِ َم ٍ
4
124
والمانع من ركوب الشدة مع المعاند ،واستعمال القوة في إرهاب من يصد عن الدعوة
فإن ذلك قد ال ينفع غيره في إنقاذ الن99اس من الش99رك ،ب99ل من المع99ادن البش99رية م99ا ال
يلين إال تحت وهج السيف وسنابك الخيل ،وكان ه99ذا االس99لوب س99ببا ً في إس99الم ملك99ة
سبأ وانقياده99ا وجنوده99ا لس99ليمان وال م99انع من اس99تعمال ال99ذكاء والعق99ل الن99ير ،ودق99ة
التدبير ،في استجالب قل99وب الم99دعوين إلى ال99دين واس99تخدام نعم هللا في دالل99ة الخل99ق
على هللا ومخاطب99ة الن99اس بالكيفي99ة ال99تي تس99تهوي قل99وب ع99وامهم وتجلب اح99ترام
خواصهم ،فسليمان لما بلغه خبر مجئ ملكة سبأ في جمع من حاشيتها وجنوده99ا ،أراد
أن يعلمها مدى ما أعطاه هللا من قوة حتى أن عرشها ال99ذي تركت99ه في حماي99ة عظيم99ة
وحرس كثيف يسبقها إليه.1
ـ االستفادة من المهارات والمواهب :وعلى الدولة المس99لمة أن تس99تفيد من المه99ارات
والم99واهب وإمكان99ات الخاص99ة في أف99راد الرعي99ة ووض99ع الف99رد المناس99ب في مكان99ه
الصحيح ،إن مملكة سليمان عليه السالم كان فيها من اإلنس والجن وغ99يرهم م99ا ك99ان
يمكن أن يؤدي مهمة الهدهد ،ولكن سليمان عليه الس99الم اخت99اره م99ع ض99عفه وص99غره
لتأدية هذه المهمة فـ "تخصيصه عليه السالم إي99اه بالرس99الة دون س99ائر م99ا تحت ملك99ه
من أمن99اء الجن األقوي99اء على التص99رف 9والتع99رف ،لم99ا ع99اين في99ه من مخاي99ل العلم
والحكمة.2
ج ـ أبرز صفات سليمان ـ عليه السالم ـ كحاكم لدولة:
إن اآليات الكريمة عرضت صفات سليمان ـ عليه السالم ـ كملك وحاكم ممكن ل99ه في
األرض وفي هذا إشارة من هللا تعالى إلى الص99فات القيادي99ة المطلوب99ة لإلش99راف على
تمكين شرع هللا تعالى.
ـ الحــزم :ويظه99ر ذل99ك عن99د القي99ادة إن غلب الظن أن هن99اك تقص99يراً ،أو تكاس9الً عن
الحض999ور وقت الطلب أو الت999أخر وقت العم999ل "أَل ُ َع ِّذبَنَّهُ عََ 999ذابًا َشِ 999ديدًا أَوْ أَل َ ْذبَ َحنَّهُ"
(النمل ،آية )21 :فإنه قد تبين لسليمان عليه السالم أن الهدهد غائب ،فتهدد بذلك أمام
الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب ،حتى ال يكون غيابه ـ إن لم يؤخ99ذ ب99الحزم ـ س99ابقة
سيئة لبقية الجند.3
ـ التريث والتأني قبل الحكم ،فلعل للغائب عذراً أو للمقص99ر حج99ة ت99دفع اإلثم ،وترف99ع
العقوبة ،ولهذا قال سليمان بعدها ":أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِ ُسْ 9لطَا ٍن ُّمبِي ٍن" (النم99ل ،آي99ة )21 :أي:
بحج99ة ت99بين ع99ذره في غيبته .4وه99ذا ه99و الالئ99ق بالح99اكم والقاض99ي إذا ك99ان ع99ادالً،
وسليمان عليه السالم الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده حتى عند النمل ،ال ينتظ99ر من99ه
مع الهدهد ،أو ما دونه أو ما فوقه ،إال أن يكون ع99ادالً ال يعاج99ل بالعقوب99ة قب99ل ثب99وت
الجريمة وال يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة.
ـ سعة الصــدر في االســتماع إلى اعت99ذار المعت9ذر ،وحج99ة المتخل9ف ،وس99ليمان علي9ه
السالم انصت السترسال الهده99د ح99تى انتهى من قول99ه ،على ال99رغم من أن في99ه ن99وع
ك ِمن َس99بَإ ٍ طت بِ َما لَ ْم تُ ِح ْ
ط بِ ِه َو ِج ْئتُ َ معاتبة لسليمان ،وفيه نسبة عدم االحاطة إليه ":أَ َح ُ
َظي ٌم * ت ِمن ُكِّ 99ل َشْ 99ي ٍء َولَهَ99ا َع99رْ شٌ ع ِ دت ا ْمَ 99رأَةً تَ ْملِ ُكهُ ْم َوأُوتِيَ ْ
بِنَبَ99إ ٍ يَقِي ٍن * إِنِّي َو َجُّ 99
1المصدر نفسه (.)193 /9
2تفسير روح المعاني (.)193 /9
3في ظالل القرآن (.)2638 /5
4تفسير القرطبي (.)180 /13
125
ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ
ص َّدهُ ْم ع َِن ون هَّللا ِ َوزَ يَّنَ لَهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ
س ِمن ُد ِ َو َجدتُّهَا َوقَوْ َمهَا يَ ْس ُج ُدونَ لِل َّش ْم ِ
ت َواأْل َرْ ِ
ض اوا ِ يل فَهُ ْم اَل يَ ْهتَُ 9دونَ * أَاَّل يَ ْسُ 9ج ُدوا هَّلِل ِ الَّ ِذي ي ُْخِ 9ر ُج ْالخَبْ َء فِي َّ
السَ 9م َ َّ
الس9بِ ِ
ش ْال َع ِظ ِيم" (النم99ل ،آي99ة : 9و َربُّ ْال َع99رْ ِ َويَ ْعلَ ُم َما تُ ْخفُونَ َو َما تُ ْعلِنُ99ونَ * هَّللا ُ اَل إِلَ9هَ إِاَّل هَُ 9
22ـ ،)26كل هذا وسليمان ال يقاطع99ه ،وال يكذب99ه ،وال يعنف99ه ،ح99تى ينتهي من س99رد
الحجة ،التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السالم.
ـ قبول اإلعتذار ممن يعتذر في الظاهر ،وإيكال سريرته إلى هللا ،فسليمان عليه السالم
سكت عن المؤاخذة وانتقل إلى تحري الخير.
قال القرطبي ـ رحمه هللا ـ :هذا دليل على أن اإلمام يجب عليه أن يقبل ع9ذر رعيت9ه،
ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ،ألن سليمان لم يع99اقب الهده99د
حين اعتذر إليه.1
ـ التروي في تصديق الخبر ،فهذا الذي حكاه الهدهد ،أمر ليس بالسهل وال باليسير ،ثم
إن الهدهد ال يج99رؤ على اختالق ه99ذه القص99ة ،الطويل99ة ،وه99و يعلم تمكن س99ليمان من
الرعية ،ومقدرته على التأكد من صحة األخبار ،ومع ذل99ك لم يب99ادر علي99ه الس99الم إلى
9ال"س9نَنظُرُ" وه99و من النظ99ر ،أو التأم99ل َ التصديق ،كما أنه لم يتعجل التك99ذيب ،ب99ل ق9
ت أَ ْم ُكنتَ ِمنَ ْال َك99ا ِذبِينَ " (النم99ل ،آي99ة ،)27 :يع99ني والتحري ،2وقوله تع99الى":أَ َ
صَ 9د ْق َ9
أصدقت في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد.3
ـ عدم االغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة الس99لطان ،وإس99ناد الفض99ل إلى هللا في
ك99ل نعم99ة ،وتجدي99د الش99كر على ه99ذه النعم ،وس99ليمان علي99ه الس99الم لم99ا طلب اإلتي99ان
بعرش بلقيس أجابت99ه جن99وده ال99تي س99خرها هللا ل99ه مس9ارعين إلى الطاع99ة ،فلم99ا وج99د
سليمان طلبه مجاباً ،وأمره مطاع س99ارع إلى ض99بط النفس في س99لك الخش99ية ومنه99اج
التواضع والطاعة هلل رب العالمين ":فَلَ َّما َرآهُ ُم ْس9تَقِ ًّرا ِعنَ 9دهُ" (النم99ل ،آي99ة )40 :أي:
رأى العرش ثابتا ً عنده قال":هَ َذا ِمن فَضْ ِل َربِّي" أي :هذا النص9ر والتمكين من فض9ل
ربي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها ،فإن من شكر ال يرجع نفع شكره إال إلى نفس99ه
حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد ،ومن كفر النعم ف9إن هللا غ9ني عن
شكره ،كريم في عدم منع تفضله عنه.4
ـ التواضع وهو في قمة المجد وللتمكين :كان سليمان عليه السالم دائم التواضع حتى
قيل :إنه كان يمش99ي منكس99ر ال99رأس خش99وعا ً هلل وأثن99اء استعراض99ه لجن99وده من الجن
واإلنس والطير م99ر على واد النم99ل ،وفي نظ99رة التواض99ع إلى األرض أبص99ر نمل99ة،
فأشخص النظر صوابها ،وأصاخ السمع إليها ،وبم99ا علم من منط99ق الط99ير والحي99وان
حاول تفهم أمرها .لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجن99ود في ركب س99ليمان ،لق99د
ت نَ ْملَ9ةٌ يَ99ا أَيُّهَ99ا النَّ ْمُ 9ل ا ْد ُخلُ99وا َم َس9ا ِكنَ ُك ْم اَل يَحْ ِط َمنَّ ُك ْم ُس9لَ ْي َم ُ
ان سمعها وفهم قوله99ا ":قَ99الَ ْ
َو ُجنُو ُدهُ َوهُ ْم اَل يَ ْش ُعرُونَ " (النمل ،آية .)18 :نعم إنها كائن صغير في مملكة ض99خمة
عظيمة ،تسعى كأخواته99ا لل99رزق وتنص99ح لهم أن يفس99حوا الطري99ق أم99ام ركب المل99ك
العادل ،حتى ال تقع مظلمة غير مقصودة من أح99د منهم ،ق99ال القرط99بي ـ رحم99ه هللا ـ
126
:التفاتة مؤمن :أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده ال يحطمون نملة ،فما فوقه99ا
إال بأال يشعروا.1
إن هذه النملة لم تكن إال واحدة من رعايا سليمان في مملكت99ه ال99تي ض99مت إلى ج99انب
اإلنس والجن أنواعا ً وألوانا ً من الحيوان والطير والهوام.
ق قلب99ه الكب99ير ،رفق9ا ً لجرمه99ا لقد سمع كالمها ،وتفهم ش99كواها ،فتبس99م من قوله99ا ،ف99ر ّ
الصغير ،فرحمها وأخواتها ،وشكر ربه إذ علمه منط99ق ه99ذه المخلوق99ات ح99تى يتمكن
من انصافها وإيصال العدل إليها ،و ُس َّر بأن عدالت99ه وجن99وده ق99د عرفه99ا ك99ل مخل99وق،
حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدماً ،بأنهم إن أص99ابوا نمل99ة بأق99دامهم ،ف99إن
ذلك من غير قصد منهم وال شعور.2
ي َو َعلَىك الَّتِي أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ
ال َربِّ أَوْ ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتََ 99
ضا ِح ًكا ِّمن قَوْ لِهَا َوقَ َ"فَتَبَ َّس َم َ
ضاهُ" (النمل ،آية .)19 : صالِحًا تَرْ َ ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل َ
َوالِ َد َّ
لقد أدرك سليمان علي9ه الس9الم أن99ه ـ في جنب هللا ـ في حاج9ة إلى الرحم9ة والعط9ف
واللطف أشد من حاج99ة ه99ذه النمل99ة إلى ذل99ك من99ه وله99ذا ق99الَ ":وأَ ْد ِخ ْلنِي بِ َرحْ َمتِ99كَ ِفي
ِعبَا ِدكَ الصَّالِ ِحينَ " (النمل ،آية .)19 :
ثانياً :األسباب والتوكل:
التوكل على هللا سبحانه ـ وتعالى ـ ال يمنع من األخذ باألسباب فالمؤمن يتخذ األس99باب
من باب اإليمان باهلل وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ،ولكن99ه ال يجع99ل األس99باب هي
التي تنشيء النتائج فيتوكل عليها ،3فالتوكل :هو قط99ع النظ99ر في األس99باب بع99د تهيئ99ة
األسباب ،كما قال صلى هللا عليه وسلم :أعقلها وتوكل.4
وا ِح ْذ َر ُك ْم" (النس99اء ،آي99ة : وا ُخ ُذ ْ
ففي جانب األسباب يقول هللا تعالى ":يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
)71
اط ْال َخ ْي ِل تُرْ ِهبُونَ بِِ 9ه َعْ 9د َّو هّللا ِ وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة َو ِمن ِّربَ ِ ــ وقال تعالىَ ":وأَ ِع ُّد ْ9
َو َع ُد َّو ُك ْم" (األنفال ،آية )60 :
ض ِ 9ل هَّللا ِ" ض َوا ْبتَ ُغ99وا ِمن فَ ْ الص 9اَل ةُ فَانت َِش 9رُوا فِي اأْل َرْ ِ ت َّ ض 9يَ ِ ــ وق99ال تع99الى":فَ99إ َذا قُ ِ
(الجمعة ،آية .)10 :
وفي ج99انب التوك99ل ،ق99ال تع99الىَ ":و َعلَى 9هَّللا ِ فَ ْليَت ََو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِمنُ99ونَ " (آل عم99ران ،آي99ة :
.)122
هّللا
ــ وقال تعالى":فَإ ِ َذا َعزَ ْمتَ فَت ََو َّكلْ َعلَى ِ" (آل عمران ،آية .)159 :
وا إِن ُكنتُم ُّم ْؤ ِمنِينَ " (المائدة ،آية .)23 : ــ وقال تعالىَ ":و َعلَى 9هّللا ِ فَتَ َو َّكلُ ْ
ولق99د أرش99دنا الن99بي ص99لى ال99ه علي99ه وس99لم في أج99اديث كث99يرة إلى ض99رورة األخ99ذ
باألس99باب م99ع التوك99ل على هللا تع99الى ،كم99ا نب99ه ص99لى هللا علي99ه وس99لم على ع99دم
تعارضها ،عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا علي9ه وس9لم ق9ال:
127
"لو أنكم توكلتم على هللا حق توكله لرزقكم كما ي99رزق الط99ير ،تغ99دو خماس 9اً ،وتع99ود
بطانا.1
في هذا الحديث الشريف حث على التوك99ل م99ع اإلش99ارة إلى أهمي99ة األخ99ذ باألس99باب،
حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان هللا تعالى الرزق لها.2
إن العمل بسنة األخذ باألسباب من صميم تحقيق العبودية هلل تعالى ،وهو األم99ر ال99ذي
خل9ق ل9ه العبي9د ،وأرس9لت ب9ه الرس9ل ،وأن9زلت ألجل9ه الكتب ،وب9ه ق9امت الس9ماوات
واألرض ،وله وجدت الجنة والنار ،فالقيام باألسباب المأمور بها محض العبودية.3
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى األخذ باألسباب وأرش99دنا أال نعتم99د عليه99ا وح99دها وإنم99ا
نتوكل على هللا مع األخذ بها ،وعلى المسلم أن يتقي في باب األسباب أمرين:
قــ االعتماد عليها ،والتوك99ل عليه99ا ،والثق99ة به99ا ورجاؤه99ا وخوفه99ا ،فه99ذا ش99رك ي99ر ُّ
ويغلظ وبين ذلك.
ــ ترك ما أمر هللا به من األسباب ،وهذا أيضا ً ق99د يك99ون كف99راً وظلم99ا وبين ذل99ك ،ب99ل
على العبد أن يفع99ل م99ا أم99ره هللا ب99ه من األم99ر ،ويتوك99ل على هللا توك99ل من يعتق99د أن
األمر كل9ه بمش9يئة هللا ،س9بق به9ا علم9ه ،وحكم9ه ،وأن الس9بب ال يض9ر وال ينف9ع وال
يعطي وال يمنع وال يقض99ي وال يحكم ،وال يحص99ل للعب99د م9ا ال تس99بق ل99ه ب99ه المش99يئة
اإللهية وال يصرف عنه ما سبق ب99ه الحكم والعلم ،في99أتي باألس99باب إتي99ان م99ا ال ي99رى
النجاة والفرج والوصول إال بها ،ويتوك99ل على هللا توك99ل من ي99رى أنه99ا ال تنجي99ه وال
تحصل له فالحا ً وال توصله إلى المقصود ،فيجرد عزمه للقيام بها حرص 9ا ً وإجته99اداً،
ويفرغ قلبه من االعتماد عليها والركون إليها تجريداً للتوكل وإعتماداً على هللا وحده.4
وقد جمع النبي صلى هللا عليه وسلم بين ه99ذين األص99لين في الح99ديث الص99حيح ،حيث
يقول" :أحرص على ما ينفعك واستعن باهلل وال تعجز".5
فأمره بالحرص على األسباب واالستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان:
ــ تقصير في األسباب وعدم الحرص عليها.
ــ وتقصير في االستعانة باهلل وترك تجريدها.
6
فالدين كله ظاهره وباطنه وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية .
1ـ القول بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بالدين:
إن القول بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بال9دين ،وه9ذا من قل9ة العلم بس9نة
هللا في خلقه وأم99ره ،ف99إن هللا تع99الى خل99ق المخلوق99ات بأس99باب ،وش99رع للعب99اد أس99بابا ً
ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا واآلخرة ،فمن ظن أنه بمج99رد توكل99ه م99ع
ترك99ه م99ا أم99ره هللا ب99ه من األس99باب يحص99ل مطلوب99ه ،وأن المط99الب ال تتوق99ف على
األسباب التي جعلها هللا أسبابا ً لها فهو غالط.7
2ـ التوازن بين مقامي التوكل واألخذ باألسباب:
128
األصل أن يستعمل العبد األسباب التي بينها هللا تعالى لعباده وأذن فيها وه99و يعتق99د أن
المسبب هو هللا سبحانه وتعالى ،وما يصل إليه من المنفع99ة عن99د اس99تعمالها بتق99دير هللا
عز وج99ل ،وأن99ه إن ش99اء حرم99ه تل99ك المنفع99ة م99ع اس99تعماله الس99بب فتك99ون ثقت99ه باهلل
واعتماده عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب.1
وب99التتبع لم99ا قال99ه العلم99اء في الت99وازن بين المق99امين نج99د أن جمه99ورهم يق99ررون أن
التوكل يحصل بأن يثق المؤمن بوعد هللا ،وي99وقن ب99أن قض99اءه واق99ع وال ي99ترك اتب99اع
السنة في أبتغاء الرزق مما ال بد له منه من مطعم ومش99رب وتح99رز من ع99دو بإع99داد
السالح وإغالق الباب ونحو ذلك ،ومع ذلك فال يطمئن إلى األس99باب بقلب99ه ،ب99ل يعتق99د
أنها ال تجلب بذاتها نفعا ً وال تدفع ض99راً ،ب99ل الس99بب والمس99بب فع99ل هللا تع9الى والك99ل
بمشيئته ،فإذا وقع من المرء ركون إلى سبب قدح في توكله ،2وفي القص99ص الق99رآني
ما يجلّي هذا التوازن أيما تجلية ،ويبين كي99ف مفه99وم ه99ذين المق99امين وتطبيقهم99ا على
أرض الواقع وعلى الوجه الذي تقتضيه العقيدة الصحيحة مثل:
أ ـ قصة يعقوب ـ عليه السالم ـ مع أبنائه عند وصيته لهم قبل دخولهم مصر لجلب ما
يحتاجونه من طعام ومواد غذائية حين أصاب بلدهم الجدب والقحط ،فقد وصّاهم :قال
ب ُّمتَفَ ِّرقَ ٍ 9ة َو َم99ا أُ ْغنِي 9وا ِم ْن أَ ْبَ 9وا ٍب َوا ِح ٍد َوا ْد ُخلُْ 9 وا ِمن بَا ٍ ي الَ تَ ْد ُخلُ ْ "وقَ َ
ال يَا بَنِ َّ تعالى َ :
ْ ْ
ت َو َعلَيِْ 999ه فَليَتَ َو َّك ِل ال ُمتَ َو ِّكلُ999ونَ "9 ْ هّلِل ْ هّللا
عَن ُكم ِّمنَ ِ ِمن َشْ 999ي ٍء إِ ِن ال ُح ْك ُم إِالَّ ِ َعلَيِْ 999ه تََ 999و َّكل ُ
(يوسف ،آية .)67 :
فيعقوب ـ عليه السالم ـ ضرب لنا المثل في كيفية األخ99ذ باألس99باب في نط99اق التوك99ل
ب ُّمتَفَرِّ قٍَ 9ة" ت9دبير ْ9وا ٍ 9وا ِم ْن أَب َ احٍ 9د َوا ْد ُخلُ ْ
ب َو ِ وا ِمن بَ9ا ٍ على هللا ،إذ في قوله" :الَ تَْ 9د ُخلُ ْ
وتشبث باألسباب العادية التي ال تؤثر إال بإذن هللا تع99الى ،ولكن99ه اس99تدرك ذل99ك مبين9ا ً
لهم أن األخذ باألسباب هنا ليس هو بمدافعة للقدر ،بل هو استعانة باهلل تع99الى وه99رب
منه إليه.3
فقالَ " :و َما أُ ْغنِي عَن ُكم ِّمنَ هّللا ِ ِمن َش ْي ٍء" (يوسف ،آية )67 :أي :ال يكون ما أمرتكم
به مغنيا ً غنا ًء مبتدئا ً من عند هللا ،بل هو األدب والوقوف عندما أم99ر هللا ،ف99إن ص99ادق
ما ق ّدره فقد حصل فائدتان ،وإن خالف ما ق ّدره حصلت فائ99دة امتث99ال أوام99ره واقتن99اع
النفس بعدم التفريط.4
وقد أراد يعقوب عليه السالم بهذا أن يعلّم أبن99اءه االعتم99اد على توفي99ق هللا ولطف99ه م99ع
األخ9ذ باألس9باب المعت99ادة الظ99اهرة ،تأدب9ا ً م9ع واض99ح األس9باب ومقّ 9در األلط99اف في
رعاية الحالين ألنا ال نستطيع أن نطلع على مراد هللا في األعم99ال ،فعلين99ا أن نتعرفه99ا
بعالماتها ،وال يكون ذلك إال بالسعي لها ،وهذا سر مسألة القدر كم99ا أش99ار إليه99ا ق99ول
النبي صلى هللا عليه وسلم :أعملوا فكل ميسر لما خلق له.5
وبهذا يثبت أن األسباب البد لها من سياج قوي من التوكل ،تدور في فلك99ه وال تخ99رج
عن حقيقته ،ليك99ون ذل99ك أدعى لتحقي99ق الم99راد ،وأج99در المتث99ال أم99ر هللا ،وذل99ك ألن
األسباب العادية لما لم تكن غير مستقلة في تأثيرها وال غنية في ذاته99ا مفتق99رة إلى م99ا
1شعب اإليمان للبيهقي (.)79 / 2
2السنن اإللهية د .مجدي محمد عاشور صـ.215
3روح المعاني لأللوسي (.)19 / 13
4تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (.)12 /13
5فتح الباري ( ،)709 /8مسلم (.)2040 /4
129
وراءها ـ كان من الواجب على من يتوس99ل إليه99ا في مقاص99ده الحيوي99ة أن يتوك99ل م99ع
التوسل إليها على سبب وراءه99ا ،ليتم له99ا الت99أثير ،ويك99ون ذل99ك من99ه جريّا في س99بيل
الرشد والصواب 9ويكون ذلك بالتوكل على هللا سبحانه في األمور كلها ،فإن هللا ال إل99ه
إال هو ،رب كل شيء ،وهذا هو هللا سبحانه وحده ال شريك له ،ف9إن هللا ال إل9ه إال ه9و
9الى":و َعلَى هّللا ِ
َ رب كل شيء ،وهذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل علي99ه قول99ه تع9
فَ ْليَتَ َو َّك ِل ْال ُمت ََو ِّكلُونَ "( 9إبراهيم ،آية .)12 :
لقد مدح هللا تعالى هنا يعقوب عليه السالم فقال تعالىَ ":وإِنَّهُ لَ ُذو ِع ْل ٍم لِّ َما عَلَّ ْمنَاهُ َولَـ ِك َّن
اس الَ يَ ْعلَ ُمونَ " (يوسف ،آية ،)68 :ألنه عم99ل األس99باب واجته99د في توفيته99ا أَ ْكثَ َر النَّ ِ
وهو مقتضى الحكمة ،ثم رد األمر كل99ه هلل تع99الى واستس99لم إلي99ه وه99و حقيق99ة التوحي99د
فقال":و َما أُ ْغنِي عَن ُكم ِّمنَ هّللا ِ ِمن َش ْي ٍء إِ ِن ْال ُح ْك ُم إِالَّ هّلِل ِ" (يوسف ،آي99ة ،)67 :فاآلي99ة: َ
1
فأثنى هللا تعالى عليه من أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين .
ج ـ قصة مريم عليها السالم :وهي ـ كما وردت في القرآن الكريم ـ تبين لنا بوض99وح
بالغ أنه ال إختالف وال تباين بين مقامي األخذ باألسباب والتوكل ،إذ كلُّ ل99ه مالبس99اته
وظروفه التي ترجع مقاما ً على آخر في بعض األوقات واألحوال.
كانت مريم في بداية حياتها يأتيها رزقها من غير تكسب كم9ا ق9ال تع9الىُ ":كلَّ َم9ا دَخََ 9ل
ت هُ َو ِم ْن ِعن ِد هّللا ِ ك هَـ َذا قَالَ ْ ال يَا َمرْ يَ ُم أَنَّى لَ ِ َعلَ ْيهَا زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ
اب َو َج َد ِعن َدهَا ِر ْزقا ً قَ َ
ب" (آل عمران ،آية ،)37 :فلما ول99دت أُم99رت به ّ 9ز ق َمن يَ َشاء بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ إن هّللا َ يَرْ ُز ُ َّ
ص9ب ،فلم9ا ول9دت الجذع ،قال علماؤنا :لما كان قلبها فارغا ً فرغ هللا جارحته9ا عن النّ َ
عيسى عليه السالم وتعلق قلبها بحبه ،واشتغل سرها بحديثه وأمره ،وكلها إلى كس99بها
ور ّدها إلى العادة بالتعلق باألسباب في عباده.2
س ـ السنة النبوية :فعلى مستوى السنة الفعلية ثبت أنه ص99لى هللا علي99ه وس99لم ظ99اهر
في الحرب بين درعين ،ولبس على رأسه المغفر ،وأقعد الرم99اة في الش99عب ،وخن99دق
حول المدينة ،وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة ،وهاجر هو وتع99اطى أس9باب
األكل والشرب وأ ّدخر ألهله قوتهم ،ولم ينتظر أن ي99نزل علي99ه من الس99ماء وه99و ك99ان
أحق الخلق أن يحصل له ذلك ،ومع كل ذلك ال يظن برسول هللا صلى هللا علي99ه وس99لم
أنه مال إلى شيء من االسباب غفلة مقدار طرفة عين.3
والمث99ال النب99وي الفعلي له99ذا الت99وازن ـ على وج99ه التفص99يل ح99ادث الهج99رة ال99ذي
أصُطحب فيه أبو بكر الصديق رضي هللا عنه فقد استوفيا هما االثنان في هذه الهج99رة
االسباب المتاحة جميعها ،لم يغفال واحداً منها.4
إن من تأم99ل حادث99ة الهج99رة ،ورأى دق99ة التخطي99ط فيه99ا ،ودق99ة األخ99ذ باألس99باب من
ابتدائها إلى انتهائها ،ومن مق ّدماتها إلى ما ج99رى بع99دها ،ي99درك أن التخطي99ط المس ّ 9دد
1تفسير الثعالبي ( ،)247 /2السنن اإللهية صـ 217د .مجدي محمد عاشور.
2تفسير القرطبي ( 95 /11ـ ،)96السنن اإللهية د .مجدي صـ .217
3فتح الباري البن حجر (.)212 /10
4السنن اإللهية د .مجدي عاشور صـ .217
130
بالوحي في حياة رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم ك99ان قائم9اً ،وأن التخطي99ط ج99زء من
السنة النبوية ،وهو جزء من التكليف اإللهي في كل ما ط99ولب ب99ه المس99لم ،وأن ال99ذي
يميلون إلى العفوية ،بحجة أن التخطيط وإحكام األمور ليس9ا من الس9نة ،أمث9ال ه9ؤالء
مخطئون ،ويجنون على أنفسهم ،وعلى المسلمين.1
فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى هللا عليه وسلم ،شرع النبي صلى هللا عليه وس99لم
في التنفيذ ،نالحظ اآلتي:
ــ وج99ود التنظيم ال99دقيق للهج99رة ح99تى نجحت ،ب99رغم م99ا ك99ان يكتنفه99ا من ص99عاب،
وعقبات ،وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسا ً دراسة وافية ،فمثالً:
ـ جاء صلى هللا عليه وس99لم إلى بيت أبي بك99ر ،في وقت ش99دة الحّ 9ر ـ ال99وقت ال99ذي ال
يخرج فيه أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت ،لماذا؟ حتى ال يراه أحد.
للص ّ 9ديق وج99اء إلى بيت
ـ اخف99اء شخص99يته ص99لى هللا علي99ه وس99لم في أثن99اء مجيئ99ه ّ
ص ّديق متلثماً ،ألن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.2ال ّ
ـ أمر صلى هللا عليه وسلم أب9ا بك99ر أن يُخ99رج من عن99ده ،ولم99ا تكلّم لم ي9بين إال األم9ر
بالهجرة دون تحديد االتجاه.
ـ كان الخروج ليالً ،ومن باب خلف ّي في بيت أبي بكر.3
ـ بلغ االحتياط مداه ،باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم ،واالستعانة في ذلك بخبير يع99رف
مسالك البادية ،ومسارب الصحراء ،ولو ك99ان ذل99ك الخب99ير مش99ركاً ،م99ادام على ُخلُ99ق
ورزانة ،وفيه دليل على أن الرسول صلى هللا عليه وسلم كان ال يحجم عن االس99تعانة
بالخبرات مهما يكن مصدرها.4
ــ انتقاء شخصيات لتقوم بالمعاونة في شؤون الهج99رة ،ويالح99ظ أن ه99ذه الشخص99يات
كلها تترابط برباط القرابة ،أو برباط العمل الواحد ،مما يجعل ه99ؤالء األف99راد ،وح99دة
متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
ــ وضع كل فرد من أفراد هذه األسرة في عمله المناس99ب ،ال99ذي يجي99د القي99ام ب99ه على
أحسن وجه ،ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
131
ــ فكرة نوم علي بن أبي طالب رضي هللا عن99ه مك99ان الرس99ول ص99لى هللا علي99ه وس99لم
فكرة ناجحة ،قد ضلّلت القوم ،وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى هللا عليه وسلم،
حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية هللا ،وهم نائمون ،ولقد ظلت أبص99ارهم معلق99ة
بعد اليقظة ،بمضجع الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فما كانوا يش ّكون في أنه م99ا ي99زال
نائما ً ُمس ّجى في بردته ،في حين النائم هو علي بن أبي طالب رضي هللا عنه.
ــ وقد كان عمل أبطال هذه الرحلة على النحو التالي:
ـ عل ّي رضي هللا عنه :ين9ام في ف99راش الرس99ول ص99لى هللا علي9ه وس9لم ،يخ99دع الق9وم،
ويُسلّم الودائع ،ويلحق بالرسول صلى هللا عليه وسلم بعد ذلك.
ـ عبد هللا بن أبي بكر :رجل المخابرات الصادق ،وكاشف تحركات العدو.
ـ أسماء ذات النطاقين :حاملة التموين من مكة إلى الغار ،وسط جنود المشركين ،بحثا ً
عن محمد صلى هللا عليه وسلم ليقتلوه.
ـ عامر بن فهيرة :ال ّراعي البسيط الذي ق ّدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار ،وبدد آثار
أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كي ال يتفرسها القوم ،لقد كان هذا الرّاعي يقوم ب99دور
اإلمداد ،والتموين ،والتّعمية.
ـ عبد هللا بن أريقط :دليل الهجرة األمين ،وخبير الص99حراء البص99ير ينتظ99ر في يقظ99ة
إشارة البدء من الرس9ول ص9لى هللا علي9ه وس9لم ،ليأخ99ذ ال9ركب طريق99ه من الغ99ار إلى
يثرب ،فهذا تدبير لألمور على نح99و رائ99ع دقي99ق ،واحتي99اط للظ99روف بأس99لوب حكيم،
ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناس99ب ،وس99د لجمي99ع الثغ99رات،
وتغطية بديعة لك99ل مط99الب الرحل99ة ،وإقتص99ار على الع99دد الالزم من األش99خاص من
غير زيادة وال إسراف ،لقد أخ99ذ الرس99ول ص99لى الل99ع علي99ه ويلم باألس99باب المعقول99ة،
أخذاً قويا ً حسب استطاعته وقدرته ،ومن ثم باتت عناية هللا متوقعة.1
إن اتخاذ األسباب أمر ضروري وواجب ،ولكن ال يعني ذلك دائم 9ا ً حص99ول النتيج99ة،
ذلك ألن هذا أمر يتعلق بأمر هللا ومشيئته ،ومن هنا كان التوكل أم99راً ض99روريا ً وه99و
من باب استكمال إتخاذ األسباب.
إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أعد كل األس99باب ،وإتخ99ذ ك99ل الوس99ائل ،ولكن99ه في
الوقت نفسه مع هللا ،يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح ،وهنا يُستجاب ال99دعاء،
132
وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار وتسيخ فرس س99راقة في األرض ويكل99ل
العمل بالنجاح.1
وأما على مستوىـ السنة القولية ـ في هذا الصدد ـ نجد أن النبي صلى هللا عليه وسلم
قال" :فر من المجذوم فرارك من األسد" ،2في الوقت ال99ذي ثبت في99ه أن الن99بي ص99لى
هللا علي99ه وس99لم أك99ل م99ع المج99ذوم .3وظ99اهر الح99ديثين ي99دل على التن99افي بين التوك99ل
واألخذ باألسباب ،إال أنه عند التحقيق نجد أنه صلى هلل عليه وس99لم أك99ل م99ع المج99ذوم
ليبين أن هللا هو ال9ذي يم9رض ويش9في ،وأن9ه ال ش9يء يع9دي بطبع9ه ،نفي9ا ً لم9ا ك9انت
الجاهلية تعتقده من أن األمراض تعدي بطبعها من إضافة إلى هللا ،فأبطل النبي ص99لى
هللا عليه وسلم إعتقادهم ذلك ،في حين نهى النبي ص99لى هللا علي99ه وس99لم عن االق99تراب
من المجذوم ،ليبين أن هذا من األسباب التي أجرى هللا تعالى العادة بأنه99ا تقتض99ي إلى
مسبباتها ،ففي نهيه إثبات األسباب ،وفي فعل99ه إش99ارة إلى أنه99ا ال تس99تقل ،ب99ل هللا ه99و
الذي إن شاء سلبها قواها ،فال ت9ؤثر ش9يئاً ،وإن ش9اء أبقاه9ا ف9أثرت ،وفي ذل9ك فس9حة
لمقام التوكل 4على هللا ،وهذا يبين أن لكل حالة مقامها التي شرعها هللا عز وج99ل له99ا.
ومن ذلك ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه م َّر بق99وم فق99ال :من أنتم؟ ق99الوا:
المتوكلون .قال :أنتم المتواكلون 9،إنما التوكل رجل ألقى حبه في بطن األرض وتوك99ل
على ربه عز وجل.5
133
وأم99ا أه99ل الش99قاوة فييس99رون لعم99ل أه99ل الش99قاوة ،ثم ق99رأ" :فَأ َ َّما َمن أَ ْعطَى َواتَّقَى *
ُس 9نَى*ب بِ ْالح ْ
9ذ َ ق بِ ْال ُح ْسنَى * فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لِ ْليُ ْس َرى * َوأَ َّما َمن بَ ِخ َل َو ْ
اس 9تَ ْغنَى * َو َكَّ 9 ص َّد َ
َو َ
فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لِ ْل ُع ْس َرى" (الليل ،آية 5 :ـ .)10
وفي هذا الحديث النهي عن ت9رك العم9ل واالتك9ال على م9ا س9بق ب9ه الق9در ،ب9ل تجب
األعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها ،وكل ميسر لما خلق له ال يقدر على غيره.1
فالنبي صلى هللا عليه وسلم أرشد األمة في هذا الحديث في شأن القدر إلى أمرين هم99ا
سبب السعادة :اإليمان باألقدار ،إذ هو نظام التوحيد ،واإلتيان باألس99باب ال99تي توص99ل
إلى غيره وتحجز عن شره ،وذلك نظام الشرع ،فأرشدهم إلى نظام التوحيد واألمر.2
فال مناف99اة بين األخ99ذ باألس99باب واإليم99ان بالقض99اء والق99در ،فمن القض99اء رد البالء
بالدعاء ،فال99دعاء س99بب ل99رد البالء ،وإس99تجالب الرحم99ة ،كم99ا أن ال99ترس س99بب ل99رد
الس99هم ،والم99اء س99بب لخ99روج النب99ات من األرض ،فكم99ا أن ال99ترس ي99دفع الس99هم
فيت99دافعان ،فك99ذلك ال99دعاء والبالء يتعالج99ان ،وليس من ش99رط االع99تراف بقض99اء هللا
وا ِح ْذ َر ُك ْم" (النساء ،آي99ة ،)71 :وأن تعالى أن ال يحمل السالح ،وقد قال تعالىُ " :خ ُذ ْ
ال يسقي األرض بعد بث البذور ،فيقال :إن س99بق القض99اء بالنب99ات نبت الب99ذر ،وإن لم
يسبق لم ينبت ،بل ربط األسباب بالمسببات هو القضاء األول ال99ذي ه99و كلمح البص99ر
أو هو أقرب ،وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل األسباب على التدريج والتق99دير
هو القدر ،والذي قدر الخير قدره بسببه ،والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً ،فال تن99اقض
بين هذه األمور عند من انفتحت بصيرته.3
ولبيان ارتباط األخذ باألسباب وتناسقه مع اإليمان والقدر وف99ق الحكم99ة اإللهي99ة يق99ول
وا ِح ْذ َر ُك ْم" (النساء ،آية )71 : وا ُخ ُذ ْ
الرازي عن تفسير قوله تعالى" :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
أنه لما كان الكل لقدر كان األمر بالحذر أيضا ً داخالً في القدر ،فك99ان ق99ول القائ99ل :أي
فائدة من الحذر كالما ً متناقضاً ،ألنه لم99ا ك99ان ه99ذا الح99ذر مق99دراً ،ف99أي فائ99دة في ه99ذا
السؤال الطاعن في الحذر؟.4
وحاصل تحقيق كالم ال99رازي :أن الق99در عب99ارة عن جري99ان األم99ور بنظ99ام ت99أتي في99ه
األسباب على قدر المسببات ،والحذر من جملة األسباب ،فهو عمل بمقتض9ى الق99در ال
بما يضاده.5
ويؤيد ذلك من السنة النبوية ما ورد أنه قيل للنبي صلى هللا علي99ه وس99لم :أرأيت أدوي99ة
نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها ،هل ترد من قدر هللا ش99يئاً؟ فق99ال ص99لى هللا
عليه وس99لم :هي من ق99در هللا ،6وذل99ك ألن هللا تع99الى يعلم األش99ياء على م99ا هي علي99ه،
وكذلك يكتبها ،فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره ،وقضى أنها تك99ون
كذلك وقدر ذلك لم يجز أن يظن أن تلك األمور تكون ب99دون األس99باب ال99تي جعله99ا هللا
أسباباً ،وهذا عام في جميع الحوادث.7
134
إن قدر هللا تعالى وقضاؤه غير معلومين لنا ،إال بعد الوقوع فنحن م99أمورون بالس99عي
فيما عساه أن يكون كاشفا ً عن موافقة قدر هللا لمأمولنا ،فإن استفرغنا جهودنا وحُرمن99ا
المأمول علمنا أن قدر هللا جرى من قبل على خالف مرادنا ،فأما ترك األس99باب فليس
من شأننا ،وهو مخالف لما أراد هللا منا ،وإعراض عما أقامن99ا هللا في99ه في ه99ذا الع99الم،
وهو تحريف لمعنى القدر.1
إن القضاء والقدر اللذان ورد في الق99رآن ذكرهم99ا ـ وجعلهم99ا الن99اس م99رتبطين بفع99ل
اإلنسان ومسلكه في الحياة ـ سوى النظام العام الذي خل9ق هللا علي9ه الك9ون ورب9ط في9ه
بين األس99باب والمس99ببات ،وبين النت99ائج والمق99دمات س99نة كوني99ة دائم99ة ،ال تتخل99ف
والحاصل أن اإلسالم ال يسمح أن يضل اإلنسان أو ينحرف عن أوام99ر هللا في عقائ99ده
ودينه ،ثم يعتذر بالقضاء والقدر ،ولو ص99ح ذل99ك لبطلت التك99اليف وك99ان بعث الرس99ل
وإنزال الكتب ،ودعوة اإلنس9ان إلى دين هللا وم99ا يجب ،ووع9ده ب9الثواب أله9ل الخ99ير
وبالعقاب ألهل الش9ر ـ ب9اطالً ـ ال يتف9ق وحكم9ة الخ9الق الحكيم في تص9رفه وتكليف9ه
الرحيم بعباده.2
1ـ تأثيرـ السبب في المسبب:
إن الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل اإلسالم المثبت99ون للق99در
إثبات األسباب ،وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر األس99باب في مس99بباتها،
وهللا تعالى خلق األسباب والمسببات ،واألسباب ليست مستقلة بالمسببات ،بل ال بد لها
من أسباب أخر تعاونها ،ولها ـ مع ذل99ك ـ أض99داد تمانعه99ا ،والمس99بب ال يك99ون ح99تى
يخلق هللا جميع أسبابه ،ويدفع عنه أضداده المعارضة ل9ه ،وه99و س99بحانه يخل99ق جمي9ع
ذلك بمشئته وقدرته ،كم99ا يخل99ق س99ائر المخلوق99ات ،فق99درة العب99د س99بب من األس99باب،
وفعل العبد ال يكون بها وحدها ،بل ال بد من اإلرادة الجازمة مع القدرة.3
وال قال أحد من أئمة المسلمين ـ ال األئمة األربعة وال غيرهم وال مالك ،وال أبو حنيفة
وال الشافعي وال أحم99د بن حنب99ل ،وال األوزاعي ،وال الث99وري ،وال الليث ،وال أمث99ال
هؤالء ـ إن ،هللا يكلف العباد ما ال يطيقونه .وال قال أحد منهم :إن قدرة العب99د ال ت99أثير
لها في فعله ،أو ال تأثير لها في كسبه ،وال قال أحد منهم :إن العب99د ال يك99ون ق99ادراً إال
حين الفعل ،وإن االستطاعة على الفعل ال تك99ون إال مع99ه ،وإن العب99د ال اس99تطاعة ل99ه
على الفعل قبل أن يفعله ،ب99ل نصوص99هم 9مستفيض99ة بم99ا دل علي99ه الكت99اب والس99نة من
اس 9تَطَا َع اس ِحجُّ ْالبَ ْي ِ
ت َم ِن ْ "وهّلِل ِ َعلَى النَّ ِ
إثبات استطاعة لغير الفاع99ل ،كقول99ه تع99الىَ :
إِلَ ْي ِه َسبِيالً" (آل عمران ،آية .)97 :
ــ وقوله تعالى" :فَ َمن لَّ ْم يَ ْستَ ِط ْع فَإ ِ ْ
ط َعا ُم ِستِّينَ ِم ْس ِكينًا" (المجادلة ،آية .)4 :
وقول الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم لعم99ران بن حص99ين :ص99ل قائم9اً ،ف99إن لم تس99تطع
فقاعداً ،فإن لم تستطع فعلى جنب.4
135
والمقصود بت99أثير الس99بب في المس99بب ،أن خ99روج الفع99ل من الع99دم إلى الوج99ود ك99ان
بتوسط الق99درة المحدث99ة بمع99نى أن الق99درة المخلوق99ة هي س99بب وواس99طة في خل99ق هللا
سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة ،كما خلق النبات بالماء ،وكما خلق الغيث بالسحاب،
وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب ،فهذا حق ،وهذا ش99أن جمي99ع
األسباب والمسببات .وليس إض99افة الت99أثير به99ذا التفس99ير إلى ق99درة العب99د ش99ركاً ،وإال
يكون إثبات جميع األسباب شركاً ،وقد قال الحكيم الخبير ":فَأَنز َْلنَا بِ ِه ْال َم99اء فَأ َ ْخ َرجْ نَ99ا
ت" (األعراف ،آية .)57 : بِ ِه ِمن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ
ق َذاتَ بَ ْه َج ٍة" (النمل ،آية .)60 : ـ وقال تعالى":فَأَنبَ ْتنَا بِ ِه َحدَائِ َ
ـ وقال تعالى":قَاتِلُوهُ ْم يُ َع ِّذ ْبهُ ُم هّللا ُ بِأ َ ْي ِدي ُك ْم" (التوبة ،آية .)14 :
كما أن تأثير العبد في فعله يتوقف على تحقيق الشرط وانتفاء المانع ،فإذا فُسّر الت99أثير
بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع
ـ وكل ذلك بخلق هللا تعالى ـ فه99ذا ح99ق ،وت99أثير ق99درة العب99د في مق99دورها ث99ابت به99ذا
االعتبار ،وإن فُسر الت99أثير ب99أن الم99ؤثر مس99تقل ب99األثر من غ99ير مش99ارك مع99اون وال
معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً ،بل هللا وحده خالق كل شيء ال ش99ريك
له وال ندله ،فما شاء هللا كان وما لم يشأ لم يكن.
ك لَهَا َو َما يُ ْم ِس ْك فَاَل ُمرْ ِس َل لَهُ ِمن َح هَّللا ُ لِلنَّ ِ
اس ِمن رَّحْ َم ٍة فَاَل ُم ْم ِس َ ـ يقول تعالىَ ":ما يَ ْفت ِ
بَ ْع ِد ِه" (فاطر ،آية .)2 :
ت
اوا ِ ون هَّللا ِ اَل يَ ْملِ ُكونَ ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة فِي ال َّس َم َ ـ وقال تعالى":قُ ِل ا ْد ُعوا الَّ ِذينَ َز َع ْمتُم ِّمن ُد ِ
الش9فَا َعةُ 9ير * َواَل تَنفَُ 9ع َّ ك َو َم9ا لَ9هُ ِم ْنهُم ِّمن ظَ ِهٍ 9 ض َو َما لَهُ ْم فِي ِه َما ِمن ِشرْ ٍ َواَل فِي اأْل َرْ ِ
ِعن َدهُ إِاَّل لِ َم ْن أَ ِذنَ لَهُ" (سبأ ،آية 22 :ـ .)23
ات اش 9فَ ُ ون هَّللا ِ إِ ْن أَ َرا َدنِ َي هَّللا ُ بِضُرٍّ هَلْ هُ َّن َك ِـ وقال تعالى":قُلْ أَفَ َرأَ ْيتُم َّما تَ ْد ُعونَ ِمن ُد ِ
ض99رِّ ِه أَوْ أَ َرا َدنِي بِ َرحْ َمٍ 999ة هَ99لْ هُ َّن ُم ْم ِسَ 999ك ُ
ات َرحْ َمتِِ 99ه قُ999لْ َح ْس99بِ َي هَّللا ُ َعلَيِْ 999ه يَت ََو َّك ُل ُ
ْال ُمت ََو ِّكلُونَ " (الزمر ،آية ،)38 :ونظائر هذا في القرآن كثيرة .
1
إن من األسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرت99ه مث99ل ال99وطء س99بب الول99د ،والق99اء الب99ذور
سبب للزرع ،واألكل سبب للشبع ،وشرب الماء سبب للري ومن األس99باب م99ا يج99ادل
فيه بعض الناس مثل اتباع شرع هللا سبب للسعادة في ال99دنيا واآلخ99رة والخ99روج على
هذا الش99رع س99بب للش99قاوة في ال99دنيا واآلخ99رة ،وال99دعاء س99بب ل99دفع المك99روه ون99وال
المطل999وب ومن األس999باب م999ا يخفى على كث999ير من الن999اس مث999ل أس999باب األح999داث
اإلجتماعي99ة وم99ا يص99يب األمم من ع99ز وذل وتق99دم وت99أخر ورخ99اء وش99دة وهزيم99ة
وانتصار ونحو ذلك فهذه األح99داث له99ا أس99بابها ال99تي تس99تدعي ه99ذه النت99ائج وال يمكن
تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها ،فهي كاألحداث الطبيعية من تجمد الماء وغليانه
ونزول المطر فه99ذه أح99داث له99ا أس99بابها ال99تي قّ 9درها هللا فم99تى تحققت ه99ذه االس99باب
تحققت هذه األحداث وكل الف99رق بينه99ا وبين األح99داث اإلجتماعي99ة أن األولى أس99بابها
منضبطة ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا ع99رفت أس99بابها ،أم99ا الثاني99ة أي األح99داث
اإلجتماعية فإن أسبابها كثيرة جداً ،ومتشابكة ويصعب الجزم ب99وقت حص99ول نتائجه99ا
وإن أمكن الجزم بحص99ول ه99ذه النت99ائج والش99رع دلن99ا على ه99ذا الق99انون الع99ام ق99انون
136
السبب والمس99بب في نص99وص كث99يرة والمقص99ود أن م99ا قّ 9دره هللا وقض99اه إنم99ا قّ 9دره
بأس99باب ،فمن أراد الحص99ول على نتيج99ة معين99ة فالب99د من مباش99رة الس99بب المفض99ي
إليها.1
وما ذهب إليه العلماء المحققون في فاعلية الس99بب في مس99ببه ب99إذن هللا تع99الى ه99و م99ا
يتفق مع ظاهر النصوص القرآنية واألحاديث النبوي99ة الص99حيحة وه99و المنهج الوس99ط
والطري99ق االس ّ 9د في إعم99ال النص99وص كله99ا على وج99ه الجم99ع دون االقتص99ار على
بعضها وهذا ما ذكرناه ،هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أه99ل العلم ب99القبول وال
يخفى أن اعتن99اق ه99ذا ال99رأي يفس99ح الطري99ق أم99ام القي99ام بأعب99اء خالف99ة اإلنس99ان في
االرض والتفكر في سنن هللا في الخلق وتوطئة للوقوف على أس99بابها ونتائجه99ا ،ومن
ث ّم التفاعل مع معطياتها بما يحقق إناطة تحمل المسئولية بالمكلفين في الدنيا واآلخرة،
وهو األمر الذي يوسع ويثري من دائرة الدراس99ات اإلجتماعي99ة والنفس99ية واألخالقي99ة
وفق المنهج اإلسالمي ،مما يعيد له99ذه األم99ة ش99هودها الحض99اري ووس99طيتها الش99املة
ك َج َع ْلنَ99ا ُك ْم أُ َّمةً َو َس9طًا لِّتَ ُكونُْ 9
9وا التي ضمنها لها الشرع الشريف في قوله تعالىَ ":و َكَ 9ذلِ َ
اس َويَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيدًا" (البق99رة ،آي99ة ،)143 :وب99ذلك تع99ود ُشهَدَاء َعلَى النَّ ِ
اس" (آل عم99ران ،آي99ة : ت لِلنَّ ِ 9ر أُ َّم ٍة أُ ْخِ 9ر َج ْ
األم99ة إلى اص99ولها وخيريته99ا ُ ":كنتُ ْم َخ ْيَ 9
،)110وباألحرى تتخلص من تبعيتها للثقافات الوافدة ال99تي ت99رزخ تحت وطأته99ا إلى
يومنا هذا رغم عدم انسجامها مع معطيات الشرع وحقائق الفطرة.2
2ـ قال صلى هللا عليه وسلم :ال عدوى ،وال طيرة ،وال هامة وال صفر :3وش99رح ه99ذا
الحديث:
أن "العدوى":انتقال المرض من المريض إلى الص99حيح وكم99ا يك99ون في األم99راض
الحسية يكون في األمراض المعنوية الخلقية ،ولهذا أخبر النبي ص99لى هللا علي99ه وس99لم
أن جليس السوء كنافخ الكير ،إما أن يحرق ثيابك ،وإم99ا أن تج99د من99ه رائح99ة كريه99ة،
فقوله صلى هللا عليه وسلم "عدوى" يشمل العدوى الحسية والمعنوية.
و"الطيرة" :هي التشاؤم بمرئى أو مسموع أو معلوم.
و"الهامة" :فسرت بتفسيرين:
األول :داء يصيب المرضى وينتقل إلى غيره ،وعلى هذا التفس99ير يك99ون عطفه99ا على
العدوى من باب عطف الخاص على العام.
137
الثاني :طير معروف تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل ف99إن ه99ذه الهام99ة ت99أتي إلى أهل99ه
وتنعق على رؤوسهم حتى يأخذوا بثأره ،وربما اعتق9د بعض9هم أنه9ا روح9ه تك9ون في
صورة الهامة وهي نوع من الطي9ور تش99به البوم9ة أو هي البوم99ة ،ت9ؤذي أه99ل القتي99ل
بالصراخ حتى يأخذوا بثأره ،وهم يتشاءمون به99ا ف9إذا وقعت على بيت أح9دهم ونعقت
قالوا إنها تنعق به ليموت ويعتقدون قرب أجله وهذا باطل.
و"صفر" :فسر بتفاسير:
األول :أنه شهر صفر المعروف والعرب يتشاءمون به.
الثاني :أنه داء في البطن يصيب البعير وينتقل من بعير إلى آخر ،فيكون عطف99ه على
العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث :صفر شهر صفر ،والمراد به النسيء الذي يضل به ال9ذين كف9روا ،في9ؤخرون
تحريم شهر المحرم إلى صفر يحلونه عاما ً ويحرمونه عاماً.
وأرجحها أن المراد صفر حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية ،واألزمنة ال دخل لها
في التأثير ،وفي تقدير هللا عز وجل فه9و كغ9يره من األزمن9ة يق9در في9ه الخ9ير والش9ر
فهذه األربعة التي نفاها الرسول صلى هللا عليه وس99لم ت99دل على وج99وب التوك99ل على
هللا ،وصدق العزيمة وال يض9عف المس9لم أم9ام ه9ذه األم9ور ،والنفي في ه9ذه األربع9ة
ليس نفيا ً للوجود ،ألنها موجودة ولكنه نفي للتأثير ،فالمؤثر هو هللا فما كان منه99ا س99ببا ً
معلوما ً فهو سبب صحيح ،وما كان منها سببا ً موهوما ً فه9و س99بب باط9ل ،ويك9ون نفي9ا ً
لتأثيره بنفسه ولسببيته ،فالعدوى موجودة ،ويدل لوجودها قوله صلى هللا علي99ه وس99لم:
ال يورد ممرض على مصح .1أي ال يورد صاحب اإلبل المريضة على صاحب اإلبل
الصحيحة ،لئال تنتقل العدوى وقوله صلى هللا عليه وسلم :فر من المجذوم ف99رارك من
األسد ، 2الجذام :مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه ،فاألمر بالفرار حتى ال تق99ع
العدوى ،وفيه اثبات العدوى لتأثيرها ،لكن تأثيرها ليس أم99ر حتمي بحيث تك99ون عل99ة
فاعلة ،ولكن أمر النبي صلى هللا عليه وسلم الفرار من المجذوم وأن ال يورد مم99رض
على مص99ح ،من ب99اب تجنب األس99باب ،ال من ب99اب ت99أثير األس99باب بنفس99ها ،ق99ال
وا بِأ َ ْي ِدي ُك ْم إِلَى التَّ ْهلُ َك ِة" (البق9رة ،آي9ة ،)195 :ويق9ال أن الرس9ول ص9لى
تعالى":والَتُ ْلقُ ْ9
َ
هللا عليه وسلم ينكر تأثير العدوى ،ألن هذا أمر يبطله الواقع واألحاديث األخرى ،فإن
قيل إن الرسول صلى هللا عليه وس99لم لم99ا ق99ال :ال ع99دوى ،ق99ال رج99ل :ي99ا رس99ول هللا
أرأيت اإلبل تكون في الرمال مثل الضبا فيدخلها الجمل األجرب فتجرب؟ فقال الن99بي
138
صلى هللا عليه وسلم :فمن أعدى األول ،1فالنبي ص99لى هللا علي99ه وس99لم أش99ار بقول99ه":
فمن أعدى األول :إلى أن المرض انتقل من المريضة إلى هذه الصحيحات بت99دبير هللا
عز وجل ،فالمرض نزل على األول ب99دون ع99دوى ب99ل ن99زل من عن99د هللا ع99ز وج99ل،
والشيء قد يكون له سبب معلوم ،وق9د ال يك99ون ل99ه س9بب معل99وم ،وج99رب األول ليس
معلوما ً إال أنه بتقدير هللا تعالى وجرب الذي بعده له سبب معلوم ولو شاء هللا تعالى ما
جرب ،وله99ذا أحيان9ا ً تص99اب اإلب99ل ب99الجرب ،ثم يرتف99ع وال تم99وت وك99ذلك الط99اعون
والكوليرا أمراض معدية قد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويس99لم آخ99رون وال
يصابون ،فاإلنسان يعتم99د على هللا ويتوك99ل علي99ه وق99د ج99اء أن الن99بي ص99لى هللا علي99ه
وسلم قدم عليه رجل مجذوم فأخذ بيده وقال له "كل" أي من الطع99ام ال99ذي ك99ان يأك99ل
منه الرسول صلى هللا عليه وسلم لقوة توكله صلى هللا عليه وسلم ،فهذا التوك99ل مق99اوم
لهذا السبب المعدي ،وهذا الجمع الذي ذكرنا أحسن م99ا قي99ل في الجم99ع بين األح99اديث
وإذا أمكن الجمع وجب ألن فيه إعمال الدليلين.2
3ـ الجزاء األخروي واألسباب:
لم يقتصر قانون السببية على إقامة الكون وتسييره فحس99ب وال على الث99واب والعق99اب
الدنيوي وحده ،وإنما تجاوز ذلك ليكون االصل أيضا ً في الثواب والعق99اب األخ99روي،
وذلك من كمال العدل الرباني والحكمة البالغة ،واالصل في ذلك قوله تعالىَّ ":ما يَ ْف َع ُل
هّللا ُ بِ َع َذابِ ُك ْم إِن َش َكرْ تُ ْم َوآ َمنتُ ْم َو َكانَ هّللا ُ َشا ِكرًا َعلِي ًما" (النساء ،آية ،)147 :فهذه اآلي99ة
دالة على اعتبار سنة االسباب ح99تى في الج99زاء األخ99روي ،إذ ال ع99ذاب إال بكف99ران،
فإذا انتفى السبب ـ وه99و الكف99ر س99واء االعتق99ادي أو العملي ـ فال ع99ذاب ب99ل ه99و نعيم
ودخول في معية المؤمنين كما دلت على ذلك اآلي99ات الس99ابقة له99ذه اآلي99ة ،وهي ال99تي
بيّنت طريق الخالص للمنافقين من نفاقهم وسبيل قبول هللا أعمالهم ،فق99الت بع99د توع99د
وا بِاهّلل َِصُ 999م ْ ص999لَح ْ
ُوا َوا ْعت َ ُوا َوأَ ْ المن999افقين بال999درك االس999فل من الن999ار":إِالَّ الَّ ِذينَ تَ999اب ْ
9ؤ ِمنِينَ أَجْ 9رًا َع ِظي ًم9ا" ت هّللا ُ ْال ُم ْ 9ؤ ِمنِينَ َو َس9وْ فَ ي ُْ9ؤ ِ ك َمَ 9ع ْال ُم ُْوا ِدينَهُ ْم هّلِل ِ فَأُوْ لَـئِ َ
َوأَ ْخلَص ْ
(النساء ،آية .)146 :
واآليات في اعتبار األسباب في الجزاء األخروي كثيرة ،ومنها على سبيل المثال:
ـ قوله تعالىُ ":كلُواَ 9وا ْش َربُوا هَنِيئًا بِ َما أَ ْسلَ ْفتُ ْم فِي اأْل َي َِّام ْال َخالِيَ ِة" (الحاقة ،آية .)24 :
ـ وقوله تعالىُ ":كلُواَ 9وا ْش َربُوا هَنِيئًا بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (الطور ،آية .)19 :
ت أَ ْيِ 9دي ُك ْم" (آل عم99ران ،آي99ة : اب ْال َح ِريِ 9
9ق * َذلِ99كَ بِ َم99ا قََّ 9د َم ْ وا َعَ 9ذ َ ـ وقوله تعالىُ ":ذوقُ ْ9
181ـ .)182
َس9اقًا * َج99زَ اء ِوفَاقًا" ـ وقوله تعالى":اَّل يَ ُذوقُونَ فِيهَ99ا بَ99رْ دًا َواَل َشَ 9رابًا * إِاَّل َح ِمي ًم99ا َوغ َّ
(النبأ ،آية 24 :ـ .)26
139
وا يَ ْك ِس9بُونَ " ُوا َع ْنهُ ْم إِنَّهُ ْم ِرجْ سٌ َو َمأْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َج َزاء بِ َم9ا َك9انُ ْ
ـ وقوله تعالى":فَأ َ ْع ِرض ْ
(التوبة ،آية .3)95 :
4ـ الحث على طلب االسباب في األمور المكفولة:
ترشدنا اآليات القرآنية إلى األمر الشرعي قائم على حث الخلق على األخ99ذ باألس99باب
حتى في األم99ور ال99تي كفله99ا هللا ل99ه بم99وجب فض99له وكرم99ه ،ومن ش99واهد ذل99ك قول99ه
ض َذلُواًل فَا ْم ُش9وا فِي َمنَا ِكبِهَ99ا َو ُكلُ99وا ِمن ر ِّْزقِِ 9ه َوإِلَ ْيِ 9ه تعالى" :هُ َو الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َرْ َ
النُّ ُشورُ" (الملك ،آية .)15 :
ض إِالَّ َعلَى هّللا ِ "و َم99ا ِمن دَآبَّ ٍة فِي األَرْ ِ فقد تكفل هللا برزق مخلوقاته بدليل قوله تعالىَ :
ِر ْزقُهَا" (هود ،آية .)6 :
"وفِي ال َّس َماء ِر ْزقُ ُك ْم َو َماتُو َع ُدونَ " (الذاريات ،آية .)22 : ـ وقال تعالىَ :
هَّللا
"و َكأيِّن ِمن دَابَّ ٍة اَل تَحْ ِم ُل ِر ْزقَهَا ُ يَرْ ُزقُهَا َوإِيَّا ُك ْم" (العنكب99وت ،آي99ة : َ ـ وقال تعالىَ :
.)60ولكنه سبحانه جعل طريق وصول ه99ذا ال99رزق وتحص99يله في األخ99ذ باألس99باب
2
والسعي والكسب في الحياة
ومع تقدير هللا للعبد في الرزق ،فيجب عليه طرق األسباب في طلب ال9رزق ،وه9ذا ال
ينافي التوكل ،وزيادة الرزق جعل هللا لها أسبابا ً منها:
أ ـ صلة الرحم :قال صلى هللا عليه وسلم " :من سره أن يبسط له في رزق99ه وأن ينس99أ
له في أثره فليصل رحمه.3
ق هَّللا َ يَجْ َع99ل لَّهُ َم ْخ َرجً9ا * َويَرْ ُز ْق9هُ ِم ْن َحي ُ
ْث اَل ب ــ تقــوى هللا :ق9ال تع99الىَ " :و َمن يَتَّ ِ
يَحْ تَ ِسبُ " (الطالق ،آية 2 :ـ .)3
وكذلك اجتناب البغي ،وظلم العباد ،والرياء ،وأكل مال اليتيم.
وكذلك األسباب الطبيعية والمادية ،كالس99عي لل99رزق وب99ذل الجه99د ،واختي99ار األزم99ان
المناسبة وحسن اختار المكاسب النافعة ونحو ذل99ك ،وه99ذه األس99باب والمس99ببات كله99ا
بقدر هللا تعالى ومشيئته.4
وما أجمل ما قاله عمر بن الخطاب لبعض الناس في زمنه عندما قال :ال يقعدن أحدكم
عن طلب الرزق ،ويقول :اللهم أرزقني وقد علم أن الس99ماء ال تمط99ر ذهب 9ا ً وال فض99ة
ت ض9يَ ِ وإنما ي99رزق هللا تع9الى بعض9هم من بعض ،أم99ا ق9رأتم ق99ول هللا تع9الى" :فَ9إ ِ َذا قُ ِ
ض َوا ْبتَ ُغوا ِمن فَضْ ِل هَّللا ِ" (الجمعة ،آية .5)10 : صاَل ةُ فَانت َِشرُوا فِي اأْل َرْ ِ
ال َّ
5ـ مراعاة صورة األسباب في الخوارق:
إذا ك99ان األص99ل في الس99نن الجاري99ة ه99و تعل99ق المس99ببات بأس99بابها ،وارتب99اط النت99ائج
بمقدامتها ،فإن األصل ال يتغير في السنن الخارقة المبنية على خرق العادة واألسباب،
وعدم التغيير فيها يتمثل في مراعاة صورة األس99باب في تل99ك الخ99وارق ليظ99ل ق99انون
السببية عالقا ً بذهن المكلف ،ومرتبطا ً بإقام99ة الك99ون وحرك99ة الحي99اة ،والق99رآن الك99ريم
زاخراً باآليات التي يمكن االستدالل بها في هذا الصدر ،6ومنها:
140
ت ِم ْنهُ ْاثنَتَا َع ْش َرةَ َعيْناً" (البق99رة ،
صاكَ ْال َح َج َر فَانفَ َج َر ْ
ـ قوله تعالى" :فَقُ ْلنَا اضْ ِرب بِّ َع َ
آية .)60 :ـ وفي الكالم حذف تقديره :فضرب فانفجرت.1
ق99ال القرط99بي 9:وق99د ك99ان هللا تع99الى ق99ادراً على تفج99ير الم99اء وفل99ق الحج99ر من غ99ير
ضرب ،ولكن أراد أن يربط المسببات باألس99باب حكم99ة من99ه للعب99اد في وص99ولهم إلى
المراد ،وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في الميعاد.2
6ـ تهيئة األسباب لوقوع مراد هللا:
إذا أراد وقوع شئ في هذا الوجود هيأ له أسبابه التي يقع بها ،وذل99ك ألن99ه جع99ل نظ99ام
هذا الكون مبنيا ً على سنن ال تنخرم وقوانين ال تنخرم إال بمش99يئة هللا ع99ز وج99ل ،كم99ا
هو الشأن في المعجزات وخوارق العادات ،وهو استثناء من القاع99دة ال99تي ق99ام عليه99ا
الكون من اعتبار األسباب ـ حقيقة ـ في الوصول 9إلى مسبباتها ،وق99د قي99ل إذا أراد هللا
أمراً يسّر أسبابه ،ومن التطبيقات الواضحة لهذا العنوان في القرآن الكريم ما ج99اء في
حيثيات غزوة بدر ومالبساتها ،حيث هيأ هللا تعالى أس99باب النص99ر للمس99لمين في ه99ذا
اليوم ،،ولم يجعل نصرهم ـ في ظاهر األمر ـ من قبيل الخ99وارق المحض99ة ال99تي ليس
للسبب فيها نصيب ،خاصة في مثل هذا الموقف الشديد الذي عانى في99ه المس99لمون من
قلة العدد والعتاد ،كل ذلك ليت99بين للمس99لمين قب99ل غ99يرهم أن الس99نن اإللهي99ة والق99وانين
الربانية التي قام عليها نظام الكون ال تتخلف عادة ،وقد تجلت هذه األسباب ،وظهرت
9اس أَ َمنَ9ةً ِّم ْن9هُ َويُنَِّ 9ز ُل َعلَ ْي ُكم فيما جاء في قوله تعالى عن غزوة بدر" :إِ ْذ يُغ ِّ
َش9ي ُك ُم النُّ َعَ 9
ان َولِيَرْ بِ 9طَ َعلَى قُلُ99وبِ ُك ْم َويُثَبِّتَالش ْ 9يطَ ِب عَن ُك ْم ِرجْ َز َِّّمن ال َّس َماء َماء لِّيُطَهِّ َر ُكم بِ ِه َوي ُْذ ِه َ
بِ ِه األَ ْقدَا َم" (األنفال ،آية .)11 :
فإن اغشاءهم النعاس ك99ان من أس99باب النص99ر ،ألنهم لم99ا ن99اموا زال أث99ر الخ99وف من
نفوسهم في مدة النوم ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً ،ونشاط األعصاب يكس99ب ص99احبه
شجاعة ،ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور األعصاب.3
7ـ األسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع:
4
فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع والب99د من تم99ام الش99روط
وزوال الموانع ـ أي في انتاج األسباب ـ وكل ذلك بقضاء هللا وق99دره وليس ش99يء من
األسباب مستقالً بمطلوبه ،بل الب9د من انض9مام أس9باب أخ9رى إلي9ه ،والب9د أيض9ا ً من
صرف المواقع والمعارض99ات عن99ه ح99تى يحص99ل المقص99ود ،ف99المطر وح99ده ال ينبت
النب99ات إال بم99ا ينض99م إلي99ه من اله99واء وال99تراب وغ99ير ذل99ك ،ثم ال99زرع ال يتم ح99تى
تصرف عنه اآلفات المفسدة له ،والطعام والشراب ال يغذي إال بما جعل هللا في الب99دن
من األعضاء والقوى.5
141
ار ُعونَ "( 9الواقعة ،آي99ة : ـ قال تعالى":أَفَ َرأَ ْيتُم َّما تَحْ ُرثُونَ * أَأَنتُ ْم ت َْز َر ُعونَهُ أَ ْم نَحْ ُن ال َّز ِ
63ـ )64أي :إذا كانت منكم الحراثة والبذر ـ مع اعانتن99ا لكم على ذل99ك ـ ف99إن إتم99ام
الزرع واإلثمار وتوف99ير الش99روط وإزال99ة الموان99ع من ش99أننا نحن ،ويؤك99د ذل99ك قول99ه
ق َذاتَض َوأَنزَ َل لَ ُكم ِّمنَ ال َّس َماء َماء فَأَنبَ ْتنَا بِ ِه َح 9دَائِ َ ت َواأْل َرْ َ اوا ِ ق ال َّس َم َ تعالى":أَ َّم ْن َخلَ َ
بَه َْج ٍة َّما َكانَ لَ ُك ْم أَن تُنبِتُوا َش َج َرهَا أَإِلَهٌ َّم َع هَّللا ِ بَلْ هُ ْم قَوْ ٌم يَ ْع ِدلُونَ " (النمل ،آية .)60 :
فقد ذكر إنزال الماء ألنه من جمل99ة م99ا خل99ق هللا ،ولقط99ع ش99بهة أن يقول99وا :إن المنبت
للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء ،اغتراراً بالسبب فبودر بالتأكيد بأن هللا خلق االسباب
وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والع99وارض العارض99ة لت99أثير األس99باب ،وبتوف99ير
القوى الحاصلة في األسباب ،وتقدير المقادير المناسبة لالنتف99اع باألس99باب ،فق99د ي99نزل
الم99اء ب99إفراط فيج99رف ال99زرع والش99جر ،أو يقتلهم99ا ،ول99ذلك جم99ع بين " َوأَنَ 99ز َل"9
وقوله":فَأَنبَ ْتنَا" تنبيها ً على إزالة الشبهة.1
8ـ إنكار قانون السببيةـ يؤدي إلى ابطال حقائق العلوم:
لقد ثبت بنص القرآن أن األسباب الشرعية هي محل حكم هللا ورسوله صلى هللا علي99ه
وسلم وهي في اقتضائها لمسسبّباتها قدراً ،فهذا شرع ال9رب وذل99ك ق9دره ،وهم9ا خلق99ه
وأمره ،وهللا له الخلق واألمر ،وال تبديل لخلق هللا ،وال تغيير لحكمه ،فكم99ا ال يخ99الف
لقت ل99ه ،فهك99ذا سبحانه باألس99باب القدري99ة أحكامه99ا ،ب99ل يجريه99ا على أس99بابها وم99ا ُخ ُ
األسباب الشرعية ال يخرجها عن سببها وما ُشرعت له ،بل هذه س99نته ش99رعا ً وأم99راً،
ت هَّللا ِ تَ ْبِ 9دياًل َولَن
وتلك سنته قضاء وقدراً ،وسنته القدري99ة ق9ال تع99الى" :فَلَن تَ ِجَ 9د لِ ُس9نَّ ِ
ت هَّللا ِ تَحْ ِوياًل " (فاطر ،آية .)43 : ت َِج َد لِ ُسنَّ ِ
فالمسببات مرتبطة بأسبابها شرعا ً وقدراً ،ولذلك فطلبها من غير أسبابها م99ذموم ،كم99ا
أن إنكار األسباب ألن تكون موصلة لها بأنها أمر مردود ،بل أن النتائج المترتبة على
إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها ،فإن العلوم جميعها تس99تند إلى ه99ذا،
القانون.2
ومح99و األس99باب أن تك99ون أس99بابا ً نقص في العق99ل ،وه99و طعن في الش99رع أيض9ا ً فاهلل
ض بَ ْعَ 9د َموْ تِهَ99ا" ق فَأَحْ يَ99ا بِ ِ 9ه اأْل َرْ َ الس َ 9ماء ِمن ْ
رِّز ٍ "و َم99ا أَن َ 9ز َل هَّللا ُ ِمنَ َّ تع99الى يق99ولَ :
(البقرة ،آية .)164 :
ـ وقال تعالى" :يَ ْه ِدي بِ ِه هّللا ُ َم ِن اتَّبَ َع ِرضْ َوانَهُ ُسبُ َل ال َّسالَ ِم" (المائدة ،آية . )16 :
3
والحاصل أنه قد ثبت بالقطع أنه ال مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء وال للفلتة
َر" (القمر ،آية .)49 : العارضة" :إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء خَ لَ ْقنَاهُ بِقَد ٍ
ق ُك َّل َش ْي ٍء فَقَ َّد َرهُ تَ ْق ِدي ًرا" (الفرقان ،آية .)2 : "وخَ لَ َ
ـ وقال تعالىَ :
هّللا ْ
ـ وقال تعالى" :فَ َع َسى أن تَ ْك َرهُوا َشْ 9يئًا َويَجْ َعَ 9ل ُ ِفيِ 9ه َخ ْي9رًا َكثِ99يرًا" (انس99اء ،آي99ة : َ
.)19
ُّوا َش ْيئًا َوهُ َو َشٌّ 99روا َش ْيئًا َوهُ َو َخ ْي ٌر لَّ ُك ْم َو َع َسى أَن تُ ِحب ْ "و َع َسى أَن تَ ْك َرهُ ْ ـ وقال تعالىَ :
لَّ ُك ْم َوهّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَنتُ ْم الَ تَ ْعلَ ُمونَ " (البقرة ،آية .)216 :
142
واألسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثاره99ا وق99د ال تتبعه99ا ،والمق99دمات ال99تي
يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد ال تعقبها ،ذلك أنه ليست األسباب والمقدمات
هي التي تنشيء اآلثار والنتائج ،وإنما هي اإلرادة التي تنشيء اآلثار والنت99ائج وتهيء
كث بَ ْعَ 99د َذلِ َ 9 الظروف لتحققها ،كما تنشيء األسباب والمقدمات "اَل تَ ْد ِري لَ َع َّل هَّللا َ يُحْ ِد ُ
"و َما تَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َشاء هَّللا ُ" (اإلنسان ،آية .)30 : أَ ْمرًا" (الطالق ،آية َ ،)1 :
والمؤمن يأخذ باألسباب ألنه مأمور باألخذ بها وهللا هو ال99ذي يُقّ 9در آثاره99ا ونتائجه99ا،
واالطمئنان إلى رحمة هللا وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده المالذ األمين ،والنج9اة
ان يَ ِع ُد ُك ُم ْالفَ ْق َر َويَأْ ُم ُر ُكم بِ ْالفَحْ َشاء َوهّللا ُ يَ ِع ُد ُكم َّم ْغفِ َرةً
من الوسواس والهواجس ":ال َّش ْيطَ ُ
اس ٌع َعلِي ٌم" (البقرة ،آية .1)268 : ِّم ْنهُ َوفَضْ الً َوهّللا ُ َو ِ
9ـ منازعة األقدار باألقدار:
من األصول القطعي99ة مباش99رة األس99باب وعلى ه99ذا ف99إن تركه99ا ق99دح في الش99رع مم99ا
يدحض ادعاءات الجهال والمغرضين ،ونزيد هن99ا فنق99ول أن ص99احب اإليم99ان بالق99در
ينازع القدر بالقدر ،بمعنى أن ال يستسلم للقدر مادام له داف9ع أو راف9ع أو م9انع ،فيأخ9ذ
من األسباب م99ا يحق99ق ذل99ك ،ق99ال الش99يخ عب99د الق99ادر الجيالني :كث99ير من الرج99ال إذا
وصلوا إلى القض99اء والق99در أمس99كوا ،وأن99ا انفتحت لي روزن99ة فن99ازعت أق99دار الح99ق
بالحق للحق ،وما قاله هذا الش99يخ الجلي99ل الع99ارف باهلل ح99ق ،ويري99د بقول99ه رحم99ه هللا
تعالى أنه يدافع المقدور م99ادام في مدافعت99ه مج99ال مس99تعينا ً باهلل تع99الى مبتغي9ا ً وجه99ه،
وتفصيل ذلك أن المسلم مطالب بأخذ الوقاية من المحذور لئال يق99ع ويرفع99ه ودفع99ه إذا
وقع ،فمن األول أخذ الحمية لئال يقع المرض واالبتعاد عن محل الوباء لئال يصاب به
اإلنسان ،والتحصن وراء الجدر والحصون في الحروب وقاية من العدو.
وليس في هذه الوقاية ومباشرة أسبابها مناقضة لإليمان بالقدر ،وإنما أخ99ذ بق99در لمن99ع
قدر ،والقدر مادام مجهوالً عندنا وهو محتمل الوقوع فنحن نباشر أسباب عدم وقوع99ه
فإن كان مكتوبا ً عند هللا وقوعه لم يتيسر لنا مباش9رة أس9باب دفع9ه ،أو تتيس9ر لن9ا ه9ذه
األس99باب ولكن ال ت99ؤدي إلى نتيجته99ا لوج99ود م99انع يمن99ع من افض99ائها إلى مس99ببها،
والمقصود هنا أن مباشرة االسباب لمنع وقوع ما يحتمل وقوعه من األق99دار ليس في99ه
مناقضة للمعنى الصحيح للقدر وإنما هو أخذ بقدر لمنع قدر ألن السبب والمسبب بقدر
هللا تعالى جاء في الحديث الشريف :قيل يا رسول هللا أرأيت أدوية نت99دوى به99ا ورقى
نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر هللا شيئاً؟ فقال هي من قدر هللا ،2فإذا كان من
قدر هللا أن ال يصاب اإلنسان بالمرض ق ّدر هللا له مباشرة ما يدفع ب99ه وق99وع الم99رض
وعندما وصل الخليفة الع99ادل عم99ر بن الخط99اب رض99ي هللا عن99ه إلى مش99ارف الش99ام
143
وعلم بنزول الطاعون فيهم وه ّم ب99الرجوع ق99ال ل99ه أب99و عبي99دة بن الج99راح رض99ي هللا
عنه :أفرار من قدر هللا يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي هللا عنه :لو كان غيرك قالها ي99ا
أبا عبيدة ،نعم نفر من قدر هللا إلى قدر هللا ونقع في ق99در هللا ،ثم ق99ال عم99ر رض99ي هللا
عنه ما معناه :لو كان عندك غنم أو إبل وأمامك أرض مجدب99ة وأخ99رى مخص99بة ف99إذا
نزلت بالمجدبة أو المخص99بة أو تح99ولت من المجدب99ة إلى المخص99بة ،فك99ل ذل99ك بق99در
هللا.1
ومن النوع الثاني من منازع99ة األق99دار باألق9دار مباش99رة االس99باب الرافع9ة للق9در بع9د
وقوعه كتناول الدواء لرفع المرض ،وطرد األعداء والكف99رة من دي99ار المس99لمين بع99د
تسلطهم باعداد العدة لذلك ثم قتالهم ،ومثاله أيضا ً انحباس المط99ر يرف99ع بااللتج99اء إلى
هللا واإلنابة إليه واستغفاره ،كما هو معروف في الفقه في باب صالة االستسقاء ،وكما
دل عليه قوله تعالى حكاية عن نبيه ن99وح علي99ه الس99الم وم99ا قال99ه لقوم99ه ،ق99ال تع99الى:
"فَقُ ْل ُ
ت ا ْستَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم إِنَّهُ َك99انَ َغفَّارًا * يُرْ ِس ِ 9ل َّ
الس َ 9ماء َعلَ ْي ُكم ِّم ْد َرارًا" (ن99وح ،آي99ة :
10ـ .)11فااللتجاء إلى هللا واإلنابة إليه واس99تغفارة من أهم األس99باب ل99دفع المك99روه
ورفعه بعد وقوعه ،ومنعه من الوقوع قبل أن يقع ،وهذه معاني يفقهه99ا أه99ل اإليم99ان،
ال أهل الكفر والجهالة والعصيان.2
رابعاً :الدعاء والقدر:
الدعاء مثل سائر األسباب ،كالتوكل والصدقة ...سبب لجلب المن99افع ودف99ع المض99ار،3
ثم الدعاء ـ م9ع ثب9وت كون9ه س9ببا ً ـ داخ9ل في القض9اء ،وال خ9رج عن القض9اء ،ف9إن
الدعاء من جملة ما سبق به القضاء ،ألن هللا سبحانه أحاط بكل ش99ئ علم9اً ،وق9در ك99ل
شئ تقديراً ،وال يمكن أن يخرج شئ عن قضائه ،فلهذا الدعاء نفسه داخل القضاء ،إذا
قدر الدعاء وأنه سبب لكذا فال بد أن يدعو الرجل وأن يتسبب ذلك فيما جعله هللا سبباً،
فالدعاء سبب لجلب النفع ،كما أنه سبب لدفع البالء ،ف99إذا أق99وى من99ه دفع99ه ،وإن ك99ان
سبب البالء أق99وى لم يدفع99ه ،لكن يخفف99ه ويض99عفه ،وليس ش99ئ من األس99باب أنف99ع من
الدعاء وال أبلغ في حصول المطل99وب ،وله99ذا أم99ر ص99لى هللا علي99ه وس99لم عن99د انعق99اد
أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئة هللا تعالى وقدرته من الص99الة وال99دعاء وال99ذكر،
واالستغفار والتوبة ،واالحسان بالصدقة والعتاقة ،فإن هذه األعمال الصالحة تعارض
الش99ر ال99ذي انعق99د س99ببه ،كم99ا في الح99ديث" :إن ال99دعاء والبالء ليلتقي99ان بين الس99ماء
واألرض فيعتلجان ،"4وهذا كما لو جاء عدو فإنه يدفع بالدعاء وفعل الخ99ير وبالجه99اد
له ،وإذا هجم البرد يدفع بإتخاذ الدفء ،فكذلك األعمال الصالحة والدعاء .5ويدل على
دفاع العدو بالدعاء مع الجهاد قوله صلى هللا علي9ه وس9لم لس9عد بن أبي وق9اص" :ه9ل
تنصرون إال بضعفائكم" ،ولفظ النسائي" :إنما نصر هللا هذه األمة بضعفتهم بدعواتهم
144
وصالتهم وإخالصهم ،"1والحاصل إن من جملة القض99اء ر ّد البالء بال99دعاء ،فال99دعاء
داخل تحت القضاء وليس خارجا ً عنه.2
1ـ داللة القرآن الكريم على ذلك:
ال َربُّ ُك ُم ا ْد ُعونِي أَ ْست َِجبْ لَ ُك ْم" (غافر ،آية .)60 : ـ قال تعالىَ " :وقَ َ
ُ
اع إِ َذا َد َع99ا ِن" "وإِ َذا َس9أَلَكَ ِعبَ99ا ِدي َعنِّي فَ9إِنِّي قَِ 9
9ريبٌ أ ِجيبُ َد ْعَ 9وةَ الَّ 9د ِ ـ وق99ال تع99الىَ :
(البقرة ،آية .)186 :
َص9يبٌ ِّم َّما ال ن ِ ْض لِّل ِّر َجِ 9
ْضُ 9ك ْم َعلَى بَع ٍ ضَ 9ل هّللا ُ بِِ 9ه بَع َ ـ وقال تع99الىَ " :والَ تَتَ َمنَّوْ ْا َم99ا فَ َّ
وا هّللا َ ِمن فَضْ لِ ِه" (انساء ،آية .)32 : صيبٌ ِّم َّما ا ْكتَ َس ْبنَ َواسْأَلُ ْ ا ْكتَ َسب ْ
ُوا َولِلنِّ َساء نَ ِ
إن هللا سبحانه وتعالى نهى في هذه اآلية عن الحسد ،وتمني زوال نعم99ة الغ99ير ،وأم99ر
بسؤاله من فضله فدل على أنه بسبب الس99ؤال يعطي مثلم99ا أعطى ل99ذلك ال99ذي فض99له،
وربما يعطي أكثر ،فلو ك9ان ال9دعاء والس99ؤال ال أث9ر ل9ه في إعط99اء الس9ائل م99ا تمن9اه
وسأله ،لزم أنه ال فائدة في األمر به في ه99ذا المق99ام ،وه99ذا يخ99الف م99ا يقتض99يه س99ياق
اآلية.3
وقدوردت آيات كثيرة جداً ،ذكر هللا فيها ما وق9ع ألنبيائ9ه وأوليائ9ه وعب9اده الص9الحين
من المحن والباليا والشدائد العظام ،فاس99تغاثوا ب99ربهم وتض99رعوا 9ل99ه ،وابتهل99وا إلي99ه،
فاس99تجاب هللا لهم ،وكش99ف عنهم تل99ك المحن ،بع99د دع99ائهم ،وق99د حكى هللا لن99ا ألف99اظ
دعواتهم وصيغ إبتهاالتهم لنقتدي بها ،ونأخذ العبر والدروس 9،ومن تلك الدروس 9التي
نأخ99ذها ت99أثير ال99دعاء وفائدت99ه العظيم99ة في جلب المن99افع ودف99ع المض99ار ،وأن99ه س99مة
العبودية ،وأنه الغذاء الروحي السيما عند نزول الشدائد المدلهمة ،4ومن ذلك
أ ـ مما حكى هللا لنا عن نوح ـ عليه السالم ـ مما يدل على تأثير الدعاء:
ـ قال تعالىَ " :ولَقَ ْد نَادَانَا نُو ٌح فَلَنِ ْع َم ْال ُم ِجيبُونَ " (الص99افات ،آي99ة ،)75 :م99ا أص99رحها
في تأثير الدعاء وأوضحها وأبينها من حج99ة قاطع99ة ،وم99ا أبلغه99ا من بره99ان س99اطع،
"ونُوحًا إِ ْذ نَادَى ِمن قَ ْبُ 9ل فَ ْ
اس9ت ََج ْبنَا لَ9هُ فَنَ َّج ْينَ9اهُ ومثلها قوله تعالى في قصة نوح أيضاًَ :
َصرْ نَاهُ ِمنَ ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُ ْم َكانُوا قَوْ َم َس99وْ ٍءب ْال َع ِظ ِيم * َون َ َوأَ ْهلَهُ ِمنَ ْال َكرْ ِ
فَأ َ ْغ َر ْقنَاهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (األنبياء ،آية 76 :ـ .)77
ب ـ دعاء أيوب ـ عليه السالم ـ:
ُّوب إِ ْذ نَادَى َربَّهُ أَنِّي َم َّسنِ َي الضُّ رُّ َوأَنتَ أَرْ َح ُم الرَّا ِح ِمينَ * فَ ْ
اس 9تَ َج ْبنَا ـ قال تعالىَ " :وأَي َ
ض ٍّر َوآتَ ْينَاهُ أَ ْهلَهُ َو ِم ْثلَهُم َّم َعهُ ْم َرحْ َمةً ِّم ْن ِعن ِدنَا َو ِذ ْكَ 9رى لِ ْل َعابِِ 9دينَ "
لَهُ فَ َك َش ْفنَا َما بِ ِه ِمن ُ
(األنبياء 83 :ـ ،)84تدل اآليتان على المقصود من عدة أوجه ،منه99ا العط99ف بالف99اء
السببية في الموض99عين :فاس99تجبنا ،فكش99فنا ،ودالل99ة فاس99تجبنا وكش99فنا اللغوي99ة ودالل99ة
السياق هذه الدالالت الواضحة على تأثير الدعاء.5
جـ ـ دعاء يونس ـ عليه السالم ـ:
145
ت أَن ضبًا فَظَ َّن أَن لَّن نَّ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَ99ادَى فِي ُّ
الظلُ َم99ا ِ َب ُمغَا ِ ون إِذ َّذه َ
قال تعالىَ " :و َذا النُّ ِ
كنت ِمنَ الظَّالِ ِمينَ * فَا ْستَ َج ْبنَا لَ 9هُ َونَ َّج ْينَ99اهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َكَ 9ذلِ َ اَّل إِلَهَ إِاَّل أَنتَ ُس ْب َحانَكَ إِنِّي ُك ُ
نُن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ " (األنبياء ،آية 87 :ـ .)88
فدلت اآليتان على أن الدعاء هو السبب في نجاته من عدة أوجه ،منه99ا إلغ99اء الس99ببية، ّ
ومنها كلمتا :استجبنا ونجينا كما دلت على أن هذا ليس خاصا ً به ب99ل المؤمن99ون عام99ة
إذا وقعوا في شدة واستغاثوا بربهم فهو ينجيهم ،كما دلت أيض9ا ً على أن99ه ل99وال ال99دعاء
لما نجا من هذا الكرب العظيم ولبقي في بطن الحوت ،وقد صرحت ب99ذلك آي99ة أخ99رى
طنِ ِه إِلَى يَوْ ِم يُ ْب َعثُونَ " (الصافات ث فِي بَ ْ قال تعالى" :فَلَوْ اَل أَنَّهُ َكانَ ِم ْن ْال ُم َسب ِِّحينَ * لَلَبِ َ
،آية 143 :ـ .)144
1
فكلمة لوال في مثل هذا الموضع تدل على امتناع الجملة الثانية لوج99ود األولى ،وه99ذا
صريح قاطع في أن الدعاء هو السبب في نجاته ولو لم يحصل الدعاء لم99ا نج99ا ولبقي
في بطن الحوت إلى يوم القيامة.2
ج ـ دعاء زكريا عليه السالم:
اس 9ت ََج ْبنَا ارثِينَ * فَ ْ تعالى":وزَ َك ِريَّا إِ ْذ نَادَى َربَّهُ َربِّ اَل تَ َذرْ نِي فَرْ دًا َوأَنتَ خَ ْي ُر ْال َ 9و ِ َ قال
ت َويَْ 9د ُعونَنَا ار ُعونَ فِي ْالخَ ي َ
ْ9را ِ لَهُ َو َوهَ ْبنَا لَهُ يَحْ يَى َوأَصْ لَحْ نَا لَ9هُ زَ وْ َج 9هُ إِنَّهُ ْم َك9انُوا ي َُسِ 9
اش ِعينَ " (األنبياء ،آية 89 :ـ .)90 َر َغبًا َو َرهَبًا َو َكانُوا لَنَا خَ ِ
ففي هذا ترتيب لالستجابة على النداء ،كما أن فيه تعليالً لالستجابة بك9ونهم مس9ارعين
في الخيرات ،وداعين هللا رغبة ورهبة.3
خ ـ في قصة موسى وهارون في استغاثتهما باهلل:
9واالً فِي ْال َحيَ99ا ِة ال ُّ 9د ْنيَاال ُمو َسى َربَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْ عَوْ نَ َو َمألهُ ِزينَ 9ةً َوأَ ْمَ 9 تعالى":وقَ َ
َ قال
ْ َ
ك َربَّنَا اط ِمسْ َعلَى أ ْم َوالِ ِه ْم َوا ْش ُد ْد َعلَى قُلُ99وبِ ِه ْم فَالَ ي ُْؤ ِمنُ99وا َحتَّى ْ ُضلوا عَن َسبِيلِ َ ْ ُّ َربَّنَا لِي ِ
اس9تَقِي َما" (ي99ونس ،آي99ة 88 :ـ ،)89 9ال قَْ 9د أُ ِجيبَت َّد ْع َوتُ ُك َم99ا فَ ْاب األَلِي َم * قَ َ يََ 9ر ُو ْا ْال َعَ 9ذ َ
فصرحت اآليتان بإجابة دعوتهما واستغاثتهما باهلل تعالى وأن ذلك عقب ابتهالهم99ا إلى
هللا تعالى فدل هذا على ترتيب اإلجابة على الدعاء ت99رتب المس99بب على الس99بب 4وفي
اشَ 9رحْ لِي قوله تعالى في قصة تضرع موسى وابتهال99ه إلى هللا ق99ال تع99الى":قَ99ا َل َربِّ ْ
وس 9ى" (ط99ه، ك يَا ُم َ ص ْد ِري * َويَسِّرْ لِي أَ ْم ِري" إلى أن أجابه هللا بقوله":قَ ْد أُوتِيتَ س ُْؤلَ َ َ
5
آية 25 :ـ ،)36ما أوضحها في الداللة على تأثير الدعاء في اإلجابة .
س ـ دعاء المؤمنين من األمم السابقة:
ِّت أَ ْق9دَا َمنَا صْ 9برًا َوثَب ْ9ر ْغ َعلَ ْينَ99ا َ وا َربَّنَا أَ ْفِ 9وا لِ َجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قَالُ ْ تعالى":ولَ َّما 9بَ َر ُز ْ
َ ـ قال
َوانصُرْ نَا َعلَى ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ * فَهَ َز ُموهُم بِإ ِ ْذ ِن هّللا ِ َوقَتَ َل دَا ُو ُد َجالُوتَ " (البق99رة ،آي99ة :
249ـ .)250
146
وا ربَّنَ99ا ا ْغفِ99رْ لَنَ99ا ُذنُوبَنَ99ا َوإِ ْسَ 9رافَنَا فِي أَ ْم ِرنَ99ا ":و َما َكانَ قَ99وْ لَهُ ْم إِالَّ أَن قَ99الُ ْ ـ وقال أيضا ً َ
بُس9نَ ثََ 9وا ِ اب الُّ 9د ْنيَا َوح ْوانص9رْ نَا َعلَى ْالقَ9وْ ِم ْال َك9افِ ِرينَ * فَآتَ9اهُ ُم هّللا ُ ثََ 9و َ ُ ِّت أَ ْقدَا َمنَا
َوثَب ْ
اآلخ َر ِة َوهّللا ُ يُ ِحبُّ ْال ُمحْ ِسنِينَ " (آل عمران ،آية 147 :ـ .)148 ِ
2ـ داللة الفطرة على تأثير الدعاء بإذن هللا:
ض أَإِلَ9هٌ ف السُّو َء َويَجْ َعلُ ُك ْم ُخلَفَ99اء اأْل َرْ ِ قال تعالى":أَ َّمن 9يُ ِجيبُ ْال ُمضْ طَ َّر إِ َذا َدعَاهُ َويَ ْك ِش ُ
َّم َع هَّللا ِ قَلِياًل َّما تَ َذ َّكرُونَ " (النمل ،آية .)62 :
فاآلية صريحة الداللة على أن دع99اء المض99طر ه99و الس99بب في إجاب99ة س99ؤاله وكش99ف
الس99وء عن99ه وه99ذا من آي99ات هللا العظيم99ة الدال99ة على وحدانيت99ه وتف99رده بالربوبي99ة
واأللوهية ولهذا أعقبه بقوله":أَإِلَهٌ َّم َع هَّللا ِ قَلِياًل َّما تَ َذ َّكرُونَ ".1
اإلنسان من طبيعته إذا وقع في شدة وضيق عليه تح99ركت فطرت99ه ومش99اعره ،واتج99ه
إلى هللا ونسى ما ك99ان ي99دعو من قب99ل وهن99ا ي99وقن أن99ه ال منق99ذ إال هللا ،وتنكش99ف عن99ه
الحجب ،وي99زول ال99رين ،وت99ذهب الغش99اوة وينط99رح بين ي99دي هللا منكس99راً متواض99عا ً
مبتهالً متضرعا ً باكيا ً ويجأر إلى هللا كاشف السوء مجيب المضطرين 9غياث المغي99ثين
منقذ الهالكين ،وجابر المنكسرين ومنقذ الغرقى ،وسامع النجوى ،فكم من ملحد ن99زلت
به ضائقة آب إلى هللا ،2وكم من شارد فاس99ق وق99ع في م99أزق ت99اب إلى هللا ورج99ع إلى
طاعته ،فالفطرة خير شاهد وأقوى دليل وأنصع برهان ،وأوضح حجة ألنها ال تحتاج
إلى تركيب مقدمة وإقام99ة أدل99ة جدلي99ة واس99تنتاج ودليله99ا ال يمكن مقاومت99ه ،وال دفع99ه
بالش99بهات والوس99اوس ،أال ت99رى اإلنس99ان إذا م99ا وق99ع في معص99ية يتج99ه مباش99رة إلى
السماء ويرفع يديه قائالً :يا رب يا رب وهذه الحالة تهجم عليه وتس99يطر على تفك99يره
وشعوره وتجعله يشعر أنه ال منقذ وال منجي وال مغيث إال هللا سبحانه وتعالى ،فلو لم
تدل الفطرة على تأثير الدعاء لما اتجهت إلى الدعاء ولكانت تلج99أ إلى وس99ائل أخ99رى
لالستغاثة واالستعانة.3
وقد ذكر هللا سبحانه وتعالى طبيعة اإلنسان هذه في عدة آيات منها:
تعالى":وإِ َذاَ 9مسَّ ا ِإلن َسانَ الضُّ رُّ َدعَانَا لِ َجنبِ ِه أَوْ قَا ِع 9دًا أَوْ قَآئِ ًم99ا فَلَ َّما َك َشْ 9فنَا َع ْن9هُ َ ـ قوله
ض ٍّر َّم َّسهُ" (يونس ،آية .)12 : ض َّرهُ َم َّر َكأَن لَّ ْم يَ ْد ُعنَا إِلَى ُ ُ
سبحانه":وإِ َذاَ 9مسَّ اإْل ِ ن َسانَ ضُرٌّ َدعَا َربَّهُ ُمنِيبًا إِلَ ْي ِه ثُ َّم إِ َذا َخ َّولَهُ نِ ْع َمةً ِّم ْن9هُ ن َِسَ 9ي َ ـ وقال
ض َّل عَن َسبِيلِ ِه" (الزمر ،آية .)8 : َما َكانَ يَ ْد ُعو إِلَ ْي ِه ِمن قَ ْب ُل َو َج َع َل هَّلِل ِ أَندَادًا لِّيُ ِ
ض َونَأى بِ َجانِبِ ِه َوإِ َذا َم َّسهُ ال َّشرُّ فَ ُذو ُدعَاء ان أَ ْع َر َ تعالى":وإِ َذا أَ ْن َع ْمنَا َعلَى اإْل ِ ن َس ِ
َ ـ وقال
يض" (فصلت ،آية .)51 : َر ٍ ع ِ
الض9رُّ فَإِلَ ْيِ 9ه تَجْ 9أَرُونَ " (النح99ل، تعالى":و َما بِ ُكم ِّمن نِّ ْع َم ٍة فَ ِمنَ هّللا ِ ثُ َّم إِ َذا َم َّس ُك ُم ُّ
َ ـ وقال
آية .)53 :
9ر ْينَ بِ ِهم ـ وقال تعالى":هُ َو الَّ ِذي يُ َسيِّ ُر ُك ْم فِي ْالبَ99رِّ َو ْالبَحْ ِ 9ر َحتَّى إِ َذا ُكنتُ ْم فِي ْالفُ ْلِ 9
9ك َو َجَ 9
وا أَنَّهُ ْم
ف َو َجاءهُ ُم ْال َموْ ُج ِمن ُك ِّل َم َكا ٍن َوظَنُّ ْ ص ٌ ُوا بِهَا َجاء ْتهَا ِري ٌح عَا ِ يح طَيِّبَ ٍة َوفَ ِرح ْ بِ ِر ٍ
الش9ا ِك ِرينَ " نج ْيتَنَ99ا ِم ْن هَـ ِذ ِه لَنَ ُك9ونَنِّ ِمنَ َّ ص9ينَ لَ9هُ الِّ 9دينَ لَئِ ْن أَ َ أُ ِحيطَ بِ ِه ْم َد َعُ 9و ْا هّللا َ ُم ْخلِ ِ
(يونس ،آية .)22 :
147
ض َّل َمن تَ ْد ُعونَ إِالَّ إِيَّاهُ فَلَ َّما نَجَّا ُك ْم إِلَى ْالبَ ِّر ـ وقال تعالىَ ":وإِ َذا َم َّس ُك ُم ْالضُّ رُّ فِي ْالبَحْ ِر َ
ان َكفُو ًرا" (اإلسراء ،آية .)67 : أَ ْع َرضْ تُ ْم َو َكانَ ِ
اإل ْن َس ُ
ص9ينَ لَ 9هُ الِّ 9دينَ فَلَ َّما نَجَّاهُ ْم إِلَى تعالى":وإِ َذا غ َِشيَهُم َّموْ ٌج َك ُّ
الظلَ ِل َد َعُ 9وا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ َ ـ وقال
ور" (لقمان ،آية .)32 : ار َكفُ ٍ ْالبَ ِّر فَ ِم ْنهُم ُّم ْقت ِ
َص ٌد َو َما يَجْ َح ُد بِآيَاتِنَا إِاَّل ُكلُّ خَ تَّ ٍ
فاإلنسان في مثل هذه الشدائد ينسى تلك األشياء التي كان يتعلق بها ويرجع إلى رب99ه،
فتحصل له معرفة قوية من أقوى مايكون المع99ارف ،ف9إن المع99ارف ال99تي تحص99ل في
النفس باألسباب االضطرارية 9أثبت وأرسخ من المع99ارف ال99تي ينتجه99ا مج99رد النظ99ر
القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال.1
3ـ داللة السنة النبوية على تأثير الدعاء:
وأما السنة الدالة على تأثير الدعاء ،فأكثر من أن تحصر فقد تواتر عنه صلى هللا عليه
وسلم أمران :فعله للدعاء والثاني :حث99ه ص99لى هللا علي99ه وس99لم وترغيب99ه في ال99دعاء،2
ومن األدلة ما يلي:
أ ـ حديث أنس بن مالك :قال :بينما النبي صلى هللا عليه وس99لم يخطب ي99وم الجمع99ة إذ
قام رجل فقال :يا رسول هللا هلك الكراع وهلك الشاء ،وفي رواية وجاع العي99ال ،وفي
رواية أخرى :هلكت األموال وانقطعت السبل فأدع هللا أن يسقينا فمد يديه ودع99ا ،وفي
رواية وما نرى في السماء قزعة ،فوالذي نفسي بيده م99ا وض99عها ح99تى ث99ار الس99حاب
أمثال الجبال ثم لم ينزل عن من99بره ح99تى رأيت المط99ر يتح99ادر على لحيت99ه ص99لى هللا
عليه وسلم ،فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة ،ثم جاء ذلك الرج9ل أو غ9يره في الجمع9ة
المقبلة فقال :تهدمت البيوت وانقطعت السبل فأدع هللا يمسكها ،فرفع يدي99ه فق99ال :اللهم
حوالينا وال علينا ،فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إال انفرجت.3
ب ـ حديث النزول ،وهو حديث مشهور متواتر ،ومن طرقه ،ما رواه أب99و هري99رة أن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال :ي99نزل ربن99ا تب99ارك وتع99الى ك99ل ليل99ة إلى الس99ماء
ال99دنيا ح99تى يبقى ثلث اللي99ل األخ99ير فيق99ول :من ي99دعوني فأس99تجب ل99ه؟ ومن يس99ألني
4
فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟
إن المشاهدة لتأثير الدعاء لمن أكبر األدلة وأصدقها برهانا ً وأقواها حجة ،فنحن رأين99ا
وشاهدنا في أنفسنا ومن حولنا تأثير الدعاء ،فمن منا ال يقع في شدة وكرب وض99يق ثم
يستغيث بربه فال يرى أثر ذل99ك؟ فنحن نش99اهد في حياتن99ا وأيامن99ا القص99يرة وق99ائع لن99ا
ولغيرنا يحصل فيها إجابة الدعاء بعد يأس وقنوط من المخلوقات ،وبعد انقطاع السبل
والحيل فهذا يكفي وحده للداللة .والحق الذي ال مرية فيه أن الدعاء سبب من األسباب
وأن له تأثيراً في جلب المنافع ودفع المضار ،كس99ائر األس99باب المق99درة والمش99روعة،
وأنه ال منافاة بين القدر والدعاء ،فالدعاء من جملة ما س9بق ب9ه الق9در وتض9منه الق9در
السابق.5
والشك أن هللا سبحانه وتعالى هو الذي حرك العبد إلى ال99دعاء ويس99ره ل99ه وه99و ال99ذي
قذف في قلب العبد الحركة إلى الدعاء وألهمه التضرع واالبتهال واالنطراح بين يديه
1الدعاء ومنزلته من العقيدة (.)369 /1
2المصدر نفسه (.)366 /1
3البخاري رقم ،932مسلم رقم .897
4فتح الباري على صحيح البخاري ( ،)29 /3رقم ،1145مسلم رقم .758
5الدعاء ومنزلته من العقيدة (.)374 /1
148
ووفقه لذلك وصرف عنه الموانع من اس99تكبار ،وكس99ل وغ99ير ذل99ك ،فه99ذا الخ99ير من99ه
ولوال هللا لما دعا العبد.
وقد قال عمر بن الخطاب رض99ي هللا عن99ه :إني ال أحم99ل هم اإلجاب99ة وإنم99ا أحم99ل هم
الدعاء ،ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن اإلجابة معه.1
فإذا أراد هللا بعبد خيراً ألهمه دعاءه واالستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سببا ً للخ99ير
الذي قضاه له.2
149
المبحث السابع :العدل اإللهي وسنة هللا في الجزاء بجنس العمل:
من أسماء هللا الحسنى "الع99دل" ولم ي9أت ه99ذا االس99م في الق99رآن الك99ريم وق99د ج9اء في
حديث األسماء الحسنى وأجمعت عليه األمة ومعناه:
العادل :وهو الذي يصدر منه فع9ل الع99دل وه99و المض99اد للج99ور والظلم وه9و ال9ذي ال
يميل به الهوى فيجور في الحكم وإذا آمن العبد بأن هللا هو العدل لم يعترض علي99ه في
أحكامه وتدبيره وسائر أفعاله ،وافق مراد العبد أو لم يوافق ،ألن كل ذل99ك ع99دل وه99و
كما ينبغي وعلى ما ينبغي.1
فالعدل كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرس99ل
الرس99ل ،وأن99زل الكتب وأزاح العل99ل وم ّكن من أس99باب الهداي99ة والطاع99ة باالس99ماع
واألبصار والعقول وهذا عدله ووفق من شاء بمزي99د عناي99ة وأراد من نفس99ه أن يُعين99ه
ويُفقّه ،فهذا فضله ،وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفض99له ،وخل ّى بين99ه وبين نفس99ه ،ولم
يُرد سبحانه من نفسه أن يوفقه ،فقطع عنه فضله ،ولم يحرمه عدله.2
وق99د اتف99ق أه99ل األرض والس99موات على أن هللا تع99الى "ع99دل" ال يظلم أح99داً ،ح99تى
أعداءه المشركين الجاحدين لصفات كماله ،فإنهم مقرّون له بالعدل ،و ُمن ّزهون ل99ه عن
الظلم ،ح99تى إنهم لي99دخلون الن99ار وهم ُمع99ترفون بعدل99ه ،كم99ا ق99ال تع99الى":فَ99ا ْعتَ َرفُوا
بِ َذنبِ ِه ْم" (الملك ،آية .)11 :
ص99ونَ َعلَ ْي ُك ْم آيَ99اتِي ُسٌ 99ل ِّمن ُك ْم يَقُ ُّ نس أَلَ ْم يَ99أْتِ ُك ْم ر ُ ْشَ 99ر ْال ِجنِّ َو ِ
اإل ِ وق99ال تع99الى":يَ99ا َمع َ
وا َعلَى وا َش ِه ْدنَا َعلَى أَنفُ ِسنَا َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا َو َشِ 99ه ُد ْ
َويُن ِذرُونَ ُك ْم لِقَاء يَوْ ِم ُك ْم هَـ َذا قَالُ ْ
وا َكافِ ِرينَ " (األنعام ،آية .)130 : أَنفُ ِس ِه ْم أَنَّهُ ْم َكانُ ْ
9ك":القَُ 9رى بِظُ ْل ٍم َوأَ ْهلُهَ99اْ فه99و س99بحانه ـ ق99د ح9رّم الظلم على نفس99ه وأخ99بر أن99ه ال يُهل9
غَافِلُونَ " (األنعام ،آية .)131 :
فأفعال هللا كلها جارية على سنن العدل واالستقامة ،ليس فيها شائبة جور أص99الً ،فهي
كلها بين الفضل والرحمة وبين العدل والحكم99ة ،وم99ا ي99نزل هللا ـ س99بحانه ـ بالعص99اة
والمكذبين من أنواع الهالك والخ99زي في ال99دنيا وم99ا أع99ده لهم من الع99ذاب المهين في
اآلخرة ،فإنما فعل بهم م99ا يس99تحقونه ،فإن99ه ال يأخ99ذ إال ب99ذنب وال يع99ذب إال بع99د قي99ام
الحجة ،وأقواله كلها عدل ،فهو ال يأمرهم إال بما فيه مص99لحة خالص99ة أو راجح99ة وال
ينهاهم إال ع ّما مضرته خالصة أو راجحة وكذلك حكمه بين عباده يوم فص99ل القض99اء
ازينَ ْالقِ ْسطَ لِيَوْ ِم ْالقِيَا َم ِ 9ة فَاَل َض ُ9ع ْال َم َو ِووزنه ألعمالهم ال جور فيه ،كما قال تعالىَ ":ون َ
اس 9بِينَ " (األنبي99اء، ال َحبَّ ٍة ِّم ْن خَرْ َد ٍل أَتَ ْينَا بِهَا َو َكفَى بِنَ99ا َح ِ ظلَ ُم نَ ْفسٌ َش ْيئًا َوإِن َكانَ ِم ْثقَ َ تُ ْ
آية ،)47 :فهو على صراط مستقيم في قوله ،وفعله وحكمه.3
وقال صلى هللا عليه وسلم :عدل فِ ّي قضاؤك .4فاهلل عدل في جميع أقض99يته في عب99ده،
قضائه السابق فيه قبل إيجاده ،وقضائه فيه المقارن لحياته ،وقض99ائه في99ه بع99د ممات99ه،
وقضائه فيه يوم معاده.5
150
ت َعلَى هّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُكم َّما ِمن 9و َّك ْل ُ
وقال هللا ـ على لسان نبيه هود عليه الس99الم ":إِنِّي تََ 9
اط ُّم ْستَقِ ٍيم" (هود ،آية .)56 : ص َر ٍ َاصيَتِهَا إِ َّن َربِّي َعلَى ِ آخ ٌذ بِن ِ دَآبَّ ٍة إِالَّ هُ َو ِ
فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كي99ف ش99اء ،ثم أخ99بر أن99ه في
هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم.1
فاهلل يأمر بالعدل ويفعله وهو أعدل العادلين ،فما قضى في عب99ده قض99اء إال ه99و واق99ع
في محله الذي ال يليق به غيره ،إذ هو الحكم العدل الغني الحميد.2
فاهلل وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل فالشرع والق99در والخل99ق واألم99ر والث99واب
ص ْدقًا َو َع ْدالً" (األنعام ،آية .)115 : ت َربِّكَ ِ ت َكلِ َم ُ والعقاب قائم بالعدل " َوتَ َّم ْ
والعدل يتضمن وضعه األشياء موضعها وتنزيلها منازلها ،وإن99ه لم يخص ش99يئا ً منه99ا
إال بمخصص اقتضى ذلك وإنه ال يعاقب من ال يستحق العقوبة وال يمن99ع من يس99تحق
العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقا ً.3
وهللا يفعل ما يريد ،وحكمه ماض في العبيد ،على النهج السديد.4
ظلِ ُم َربُّكَ أَ َحدًا" (الكهف ،آية .)49 :وهذا الكم99ال ع99دل ف99إن النفي هن99ا إلثب99ات "واَل يَ ْ َ
5
كمال الضد .
ال َذ َّر ٍة" (النساء ،آية .)40 : ظلِ ُم ِم ْثقَ َـ قال تعالى":إِ َّن هّللا َ الَيَ ْ
اس َش ْيئًا" (يونس ،آية .)44 : ظلِ ُم النَّ َ ـ وقال تعالى":إِ َّن هّللا َ الَ يَ ْ
ص9ي ٌد * َو َم9ا ظَلَ ْمنَ99اهُ ْم ص9هُ َعلَ ْي9كَ ِم ْنهَ99ا قَ99آئِ ٌم َو َح ِ ك ِم ْن أَنبَاء ْالقُ َرى نَقُ ُّ ـ وقال تعالىَ ":ذلِ َ
ون هّللا ِ ِمن َش ْ 9ي ٍء لِّ َّما
َت َع ْنهُ ْم آلِهَتُهُ ُم الَّتِي يَ ْ 9د ُعونَ ِمن ُد ِ 9وا أَنفُ َس 9هُ ْم فَ َم99ا أَ ْغن ْ َولَـ ِكن ظَلَ ُمْ 9
ب * َو َك َذلِكَ أَ ْخ ُذ َربِّكَ إِ َذا أَ َخ َذ ْالقُ َ 9رى َو ِه َي ظَالِ َم 9ةٌ َجاء أَ ْم ُر َربِّكَ َو َما زَا ُدوهُ ْم َغ ْي َر تَ ْتبِي ٍ
إِ َّن أَ ْخ َذهُ أَلِي ٌم َش ِدي ٌد" (هود ،آية 100 :ـ .)102
وفي الصحيحين عن أبي موسى األشعري ،قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم:
ك إن هللا ليملي للظالم ،حتى إذا أخذه لم يفلته ،ثم قرأ النبي صلى هللا عليه وسلمَ ":و َك َ 9ذلِ َ
أَ ْخ ُذ َربِّكَ إِ َذا أَ َخ َذ ْالقُ َرى َو ِه َي ظَالِ َمةٌ إِ َّن أَ ْخ َذهُ أَلِي ٌم َش ِدي ٌد" (هود ،آية .)102 :
تعالى":وتِ ْلكَ ْالقُ َرى أَ ْهلَ ْكنَاهُ ْم لَ َّما ظَلَ ُموا َو َج َع ْلنَا لِ َم ْهلِ ِك ِهم َّموْ ِعدًا" (الكهف ،آية : َ ـ وقال
.)59
َّ َ ْ ْ
ـ وقال تعالى في شأن أصحاب السبت":فَلَ َّما نَسُوا َما ُذ ِّكرُوا بِ ِه أ َ
نج ْينَا ال ِذينَ يَ ْنهَوْ نَ ع َِن
وا يَ ْف ُسقُونَ " (األعراف ،آية .)165 : س بِ َما َكانُ ْب بَئِي ٍ وا بِ َع َذا ٍالسُّو ِء َوأَ َخ ْذنَا الَّ ِذينَ ظَلَ ُم ْ
ـ فاهلل ال يظلم الناس شيئا ً في دنياهم وإنما يؤاخذهم بظلمهم ،وال يظلمهم في اآلخرة.6
ظلَ ُم نَ ْفسٌ َش ْ 9يئًا َواَل تُجْ َ 9زوْ نَ إِاَّل َم99ا ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ99ونَ " (يس ،آي99ة : ـ قال تعالى":فَ ْاليَوْ َ9م اَل تُ ْ
.)54
ـ وقال تعالى في آخر آية نزلت قبل موت النبي ص99لى هللا علي99ه وس99لم بتس99ع لي99ال":ثُ َّم
ُظلَ ُمونَ " (البقرة ،آية .)281 : ت َوهُ ْم الَ ي ْ س َّما َك َسبَ ْ تُ َوفَّى ُكلُّ نَ ْف ٍ
1جهود اإلمام ابن القيم الجوزية في تقرير االسماء والصفات (.)1292 /2
2الجزاء من جنس العمل (.)34 /1
3مدارج السالكين ( 457 /3ـ .)460
4الجزاء من جنس العمل (.)34 /1
5الجزاء من جنس العمل (.)34 /1
6المصدر نفسه (.)35 /1
151
وقال صلى هللا عليه وسلم ،فيما يرويه عن هللا ـ تبارك وتع9الى ـ أن99ه ق9ال :ي9ا عب99ادي
إني حرمت الظلم على نفسي ،وجعلته بينكم محرماً ،فال تظالموا.1
وعلى مستوى المعامالت بين الناس جاء األمر اإللهي بتحري العدل ،قال تعالى":إِ َّن
هّللا َ يَأْ ُم ُر بِ ْال َع ْد ِل َو ِ
اإلحْ َسا ِن َوإِيتَاء ِذي ْالقُرْ بَى َويَ ْنهَى ع َِن ْالفَحْ َشاء َو ْال ُمن َك ِر َو ْالبَ ْغ ِي"9
(النحل ،آية .)90 :
فالنصوص التي ذكرت في القرآن والسنة للداللة على تحريم الظلم وتنزيه هللا عنه،
تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ،ووضعه العقوبة والثواب مواضعها.2
قال الشاعر:
والعدل من أوصافه في فعله
ومقاله والحكم في الميزان
فعلى الصراط المستقيم إلهنا
قوال وفعالً ذاك في القرآن
3
ومن أكبر مظاهر عدل هللا في خلقه في الدنيا واآلخرة سنة الجزاء بجنس العمل وقد
تكاثرت النصوص لهذا المعنى ،وهذا شرع هللا وقدره ووحيه وثوابه وعقابه ،كله قائم
بهذا األصل.4
أوالً :األصل في العقاب المماثلة:
إن الوعيد والعقاب اإللهي مبني على العدل اإللهي ،بحيث تكون العقوبة مكافئة للذنب
بقوله":و َجزَ اء َسيِّئَ ٍة َسيِّئَةٌ ِّم ْثلُهَا" (الشورى ،آية .)40 : َ الواقع ولذلك يصرّح القرآن
9ل َم99ا ا ْعتَ9دَى ْ ْ
صاصٌ فَ َم ِن ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم فَا ْعتَُ 9دوا َعلَ ْيِ 9ه بِ ِمثِ 9 تعالى":و ْال ُح ُر َم ُ
ات قِ َ َ ـ وقال
َعلَ ْي ُك ْم" (البقرة ،آية .)194 :
ُوا بِ ِم ْث ِل َما ُع99وقِ ْبتُم بِِ 9ه" (النح99ل ،آي99ة ،)126 :ب99ل ق99د تعالى":وإِ ْن عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِب ْ
َ ـ وقال
ت ص9يبَ ٍة فَبِ َم99ا َك َس9بَ ْ ص9ابَ ُكم ِّمن ُّم ِ 9بحانه":و َم99ا أَ َ
َ يتجاوز هللا بمشيئته عمن أساء يق99ول س9
ير" (الشورى ،آية ،)30 :ويحرّض هللا الناس على الص99فح عمن أَ ْي ِدي ُك ْم َويَ ْعفُو عَن َكثِ ٍ
ظلمهم أو أساء إليهم ،فه99و يس9رّع لهم القص99اص والمعامل99ة بالمث99ل ولكن99ه في ال99وقت
يدعو إلى العفو والصفح ويوكل أجر فاعلهما عليه س9بحانه ،زي9ادة في اإلغ9راء وحث9ا ً
ص9لَ َح فَ99أَجْ ُرهُ َعلَى على التسامح ،فيقول تعالىَ ":و َجزَ اء َس9يِّئَ ٍة َس9يِّئَةٌ ِّم ْثلُهَ99ا فَ َم ْن َعفَ99ا َوأَ ْ
هَّللا ِ" (الشورى ،آية .)40 :
ُوا بِ ِم ْث ِ 9ل َم99ا ُع99وقِ ْبتُم بِ ِ 9ه َولَئِن َ
ص 9بَرْ تُ ْم لَهُ َ 9و خَ ْي ٌ 9ر ـ وق99ال تع99الىَ ":وإِ ْن َع99اقَ ْبتُ ْم فَ َع99اقِب ْ
لِّلصَّابِرينَ " (النحل ،آية .)126 :
152
والحاصل أن عقاب هللا العبد يكون على قدر ذنب99ه وم99ا أرتكب99ه ،ول99ذلك ألمحت بعض
اآليات بأن جزاء العقوبة هو ما كان يقترفه العبد ،قال تعالى":هَلْ يُجْ َزوْ نَ إِالَّ َما َكانُ ْ
وا
يَ ْع َملُونَ " (األعراف ،آية .)147 :
وبلفظ الخطاب ورد قوله تعالى":إِنَّ َما تُجْ َزوْ نَ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (النمل ،آية .)90 :
وقوله":و َماتُجْ زَ وْ نَ إِاَّل َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " (الصافات ،آية .)39 : َ ـ
وأما في جانب الوعد والثواب فيعامل هللا عباده بالفضل والزيادة وإن ك99انت من جنس
9الى":والَّ ِذينَ ا ْهتَ9دَوْ ا زَا َدهُ ْم هُ9دًى َوآتَ99اهُ ْم تَ ْق99واهُ ْم"َ العم99ل ال99ذي فعل99ه العب99د ،يق99ول تع9
(محمد ،آية .)17 :
ـ وقال تعالى":لَئِن َش َكرْ تُ ْم ألَ ِزي َدنَّ ُك ْم" (إبراهيم ،آية .)7 :
ت فَيَُ 9وفِّي ِه ْم أُجُ9و َرهُ ْم َويَزيُ 9دهُم ِّمن 9وا َّ
الص9الِ َحا ِ 9وا َو َع ِملُ ْ
ـ وق9ال تع9الى":فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
فَضْ لِ ِه" (النساء ،آي .)173 :
والقرآن الكريم حافل بالتطبيقات المتنوعة على سنة الج99زاء بجنس العم99ل ،ولكن قب99ل
الشروع في هذه النماذج نعرض لآليات القرآنية التي تعد حق99ائق أص99يلة له99ذه الس99نة،
ومن األمثلة على ذلك:
1ـ قوله تعالى " :يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ َما بَ ْغيُ ُك ْم َعلَى أَنفُ ِس ُكم"(يونس ، 9آية .)23 :
فالمراد بالبغي هنا ما كان على النفس خاصة بإيرادها م99وارد التهلك99ة وال99زج به99ا في
ركب الندامة الخاسر بالمعصية ،وقد يراد به ـ أيضا ً ـ البغي على الناس ،فالن99اس نفس
واحدة ،على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلق99ون في أنفس99هم العاقب99ة والخط99اب
بـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ " يفيد العموم فيدخل فيه المخاطبون وغيرهم ،وفي اآلية ذم للبغي في
أوجز لفظ ،ومعنى " َعلَى أَنفُ ِس ُكم" أي وبال البغي عليكم وال يجنى ثمرته إال أنتم.1
وق99د دلت اآلي99ة على أن البغي يج99ازى ص99احبه علي99ه في ال99دنيا واآلخ99رة ،2فأم99ا في
اآلخرة فهو ما دل عليه إنزال أهله الرجوع إلى هللا ،وإنباؤه إي99اهم بم99ا ك99انوا يعملون99ه
وذل99ك في قول99ه تع99الى في عج99ز اآلي99ة نفس99ها" :ثُ َّم إِلَينَ99ا َم99رْ ِج ُع ُك ْم فَنُنَبِّئُ ُكم بِ َم99ا ُكنتُ ْم
تَ ْع َملُونَ " ،والمراد باإلنذار هنا الزمه وهو الجزاء ،وأما ال99دنيا فالش99اهد ال99ذي ذكرن99اه
"إِنَّ َما بَ ْغيُ ُك ْم َعلَى أَنفُ ِس ُكم" ويؤيده قول النبي صلى هللا علي99ه وس99لم :م99ا من ذنب يعج99ل
هللا لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في اآلخرة مثل البغي وقطيعة الرحم.3
يقول محمد رشيد رضا :فوج99ود األع99داء والمبغض99ين ض99رب من ض99روب العقوب99ة،
وإن لم يس99تطيعوا إي99ذاء الب99اغي لعج99ز ،فكي99ف إذا ق99دروا وفعل99وا الغ99الب؟ وأم99ا بغي
الملوك والحكام على األقوام والشعوب ف99أهون عقوبت99ه ع99داوتهم والطعن عليهم ،وق99د
تفضي إلى إغتيال أشخاصهم ،أو إلى شل عروشهم والقضاء على حكمهم ،إم99ا بث99ورة
من الشعب تستبدل بها عرشا ً بعرض ،أو نوعا ً من الكم بنوع آخر ،وإما بإغ99ارة دول99ة
قوية على الدولة التي يضعفها البغي ،تسلبها إس99تقاللها وتس99تولي على بالدها .4وتل99ك
هي عدالة هللا في تحقيق قانونه في الخلق وجزائهم بجنس ما يعملون.5
153
ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِِ 9ه ق ْال َم ْكُ 9ر َّ
الس9يِّ ُ ض َو َم ْك َر ال َّسي ِِّئ َواَل يَ ِحيُ 9 2ـ قال تعالى" :ا ْستِ ْكبَارًا ِفي اأْل َرْ ِ
ت هَّللا ِ تَحِْ 9وياًل " ت هَّللا ِ تَ ْبِ 9دياًل َولَن ت َِجَ 9د لِ ُس9نَّ ِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِاَّل ُسنَّتَ اأْل َ َّولِينَ فَلَن تَ ِج َد لِ ُسنَّ ِ
(فاطر ،آية .)43 :
ض" إي استكبروا عن اتباع آيات هللا " َو َم ْك َر ال َّسي ِِّئ" ،أي :ومكروا "ا ْستِ ْكبَا ًر افِي اأْل َرْ ِ
بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل هللا.
ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِ ِه" ،أي :وم99ا يع99ود وب99ال ذل99ك إال عليهم أنفس99هم دون ق ْال َم ْك ُر ال َّسيِّ ُ"واَل يَ ِحي ُ
َ
1
غيرهم .
ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِ ِه"
ق ْال َم ْك ُر ال َّسيِّ ُ فمن سنن هللا ونواميسه في خلقه "اَل يَ ِحي ُ
ولهذا قيل :وما ظالم إال سيُبلى بظالم
وقال الشاعر:
لكل شئ آفة من جنسه
2
حتى الحديد سطا عليه ال ُمبر ُد
فما يصيب مكرهم السيء أحداً إال أنفس99هم وه99و يحي99ط بهم ويحي99ق ويحب99ط أعم99الهم،
وإذا كان األمر كذلك فلماذا ينتظرون إذن؟
إنهم ال ينتظ99رون إال أن يح99ل بهم م99ا ح99ل بالمك99ذبين من قبلهم وه99و مع99روف لهم
ت هَّللا ِ تَبِْ 9دياًل َولَن ت َِجَ 9د وتمضي سنة هللا الثابتة في طريقها الذي ال يحيد" 3فَلَن تَ ِج َد لِ ُسنَّ ِ
ت هَّللا ِ تَحْ ِوياًل " (فاطر ،آية .)43 : لِ ُسنَّ ِ
ث َعلَى نَ ْف ِس ِه" (الفتح ،آية .)10 : ث فَإِنَّ َما يَن ُك ُ 3ـ قال تعالى" :فَ َمن نَّ َك َ
ما من بيعة بين هللا وعبد من عباده إال والعبد فيه99ا ه99و ال99رابح من فض99ل هللا وهللا ه99و
الغني عن العالمين ،وبالمقابل فإن العبد هو الخاسر حتى ينكث وينقض عهده م99ع هللا،
فيتع999رض لغض999به وعقاب999ه على النكث ال999ذي يكره999ه ويمقت999ه ،فاهلل يحب الوف999اء
واألوفياء.4
وقال محم99د بن كعب الق99رظي :ثالث من فعلهن لم ينجح ح99تى ي99نزل ب99ه :من مك99ر أو
ئ إِاَّل بِأ َ ْهلِ ِ 9ه" "إِنَّ َم99اق ْال َم ْك ُر ال َّسيِّ ُ بغي ،أو نكث ،وتصديقها في كتاب هللا تعالى" :اَل يَ ِحي ُ
5
ث َعلَى نَ ْف ِس ِه" بَ ْغيُ ُك ْم َعلَى أَنفُ ِس ُكم" "فَ َمن نَّ َك َ
ث فَإِنَّ َما يَن ُك ُ
154
9ال ُمن َك ِر َويَ ْنهَ99وْ نَ َع ِن ْض يَ99أْ ُمرُونَ بِْ 9 ْض 9هُم ِّمن بَع ٍ ات بَع ُ "ال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ ـ قال تعالىْ :
اسقُونَ " (التوبة ،آية : ُوا هّللا َ فَنَ ِسيَهُ ْم إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ هُ ُم ْالفَ ِ
ُوف َويَ ْقبِضُونَ أَ ْي ِديَهُ ْم نَس ْ ْال َم ْعر ِ
.)67
ت َوالَّ ِذينَ الَ يَ ِجُ 9دونَ ص َدقَا ِ ـ وقال تعالى" :الَّ ِذينَ يَ ْل ِم ُزونَ ْال ُمطَّ ِّو ِعينَ ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ فِي ال َّ
إِالَّ ُج ْه َدهُ ْم فَيَسْخَ رُونَ ِم ْنهُ ْم" (التوبة ،آية .)79 :
هذا من باب المقابلة على سوء ضيعهم واستهزائهم ب99المؤمنين ،ألن الج99زاء من جنس
العمل ،فعاملهم معاملة من يسخر منهم إنتصاراً للمؤم99نين في ال99دنيا ،وأع99د للمن99افقين
في اآلخرة عذابا ً ألياً ،ألن الجزاء من جنس العمل.1
2ـ تسليط الظالم على مثله:
وا يَ ْك ِس 9بُونَ " (األنع99ام ،آي99ة : ْض الظَّالِ ِمينَ بَ ْعضًا بِ َما َك99انُ ْ ك نُ َولِّي بَع َ "و َك َذلِ َ
قال تعالىَ :
.)129
ون هّللا ِ ِم ْن أَوْ لِيَاء وا فَتَ َم َّس ُك ُم النَّا ُر َو َما لَ ُكم ِّمن ُد ِ وا إِلَى الَّ ِذينَ ظَلَ ُم ْ "والَتَرْ َكنُ ْ وفال تعالىَ :
صرُونَ " (هود ،آية .)13 : ثُ َّم الَ تُن َ
ْض9هُ ْم أَوْ لِيَ99اء ص9ا َرى أَوْ لِيَ99اء بَع ُ وا ْاليَهُ99و َد َوالنَّ َ وا الَ تَتَّ ِخُ 9ذ ْوقال تعالى" :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
َ99ولَّهُم ِّمن ُك ْم فَإِنَّهُ ِم ْنهُ ْم إِ َّن هّللا َ الَ يَهِْ 99دي ْالقَ99وْ َم الظَّالِ ِمينَ " (المائ99دة ،آي99ة : ْض َو َمن يَت َ بَع ٍ
.)51
ْض9ا" :ت99دل اآلي99ة على أن الرعي99ة م99تى ْض الظَّالِ ِمينَ بَع ً "و َكَ 9ذلِكَ نَُ 9ولِّي بَع َ وفي قول99هَ :
كانوا ظالمين فاهلل تعالى يسلط عليهم ظالم 9ا ً مثلهم ،ف99إن أرادوا أن يتخلص99وا من ذل99ك
األمير الظالم فليتركوا الظلم.2
3ـ استئصال هللا لمن أراد إيذاء رسله وأوليائه:
ُ
ت ُك9لُّ أ َّم ٍة بِ َر ُس9ولِ ِه ْم 9وح َواأْل َحَْ 9زابُ ِمن بَعِْ 9د ِه ْم َوهَ َّم ْ ق9ال تع9الىَ " :كَّ 9ذبَ ْ
ت قَ ْبلَهُ ْم قَ9وْ ُم نُ ٍ
ب" (غافر ،آي99ة : ق فَأَخَ ْذتُهُ ْم فَ َك ْيفَ َكانَ ِعقَا ِ اط ِل لِيُ ْد ِحضُوا بِ ِه ْال َح َّ لِيَأْ ُخ ُذوهُ َو َجا َدلُوا بِ ْالبَ ِ
.)5
وقال تعالى عن ظلم فرعون لبني إسرائيل ومحاولته إخراجهم من أرضهم" :فَأ َ َرا َد أَن
اس ُ 9كنُ ْ
وا ض فَأ َ ْغ َر ْقنَاهُ َو َمن َّم َعهُ َج ِميعًا * َوقُ ْلنَا ِمن بَ ْع ِد ِه لِبَنِي إِس َْرائِي َل ْ يَ ْستَفِ َّزهُم ِّمنَ األَرْ ِ
اآلخ َر ِة ِج ْئنَا بِ ُك ْم لَفِيفًا" (اإلسراء ،آية 103 :ـ .)104 ض فَإ ِ َذا َجاء َو ْع ُد ِ األَرْ َ
ُس9لِ ِه ْم ويقرر القرآن الكريم هذه السنة في آيات أخر قال تعالىَ " :وقَ99ا َل الَّ ِذينَ َكفَ9ر ْ
ُوا لِر ُ
ض99نَآ أَوْ لَتَعُ99و ُد َّن فِي ِملَّتِنَ99ا فَ99أَوْ َحى إِلَ ْي ِه ْم َربُّهُ ْم لَنُ ْهلِ َك َّن الظَّالِ ِمينَ * لَنُ ْخ ِر َجنَّـ ُكم ِّم ْن أَرْ ِ
ض ِمن بَ ْع ِد ِه ْم" (إبراهيم ،آية 13 :ـ .)14 َولَنُ ْس ِكنَنَّـ ُك ُم األَرْ َ
وقال تعالى" :لَئِن لَّ ْم يَنتَ ِه ْال ُمنَافِقُونَ َوالَّ ِذينَ فِي قُلُ99وبِ ِهم َّم َرضٌ َو ْال ُمرْ ِجفُ99ونَ فِي ْال َم ِدينَ ِ 9ة
ك فِيهَا إِاَّل قَلِياًل * َم ْلعُونِينَ أَ ْينَ َما ثُقِفُ99وا أُ ِخُ 9ذوا َوقُتِّلُ99وا تَ ْقتِياًل اورُونَ َ لَنُ ْغ ِريَنَّكَ بِ ِه ْم ثُ َّم اَل يُ َج ِ
* ُسنَّةَ هَّللا ِ فِي الَّ ِذينَ َخلَوْ ا ِمن قَ ْب ُل َولَن ت َِجَ 9د لِ ُس9نَّ ِة هَّللا ِ تَ ْبِ 9دياًل " (األح99زاب ،آي99ة 60 :ـ
.)62
4ـ نصر هللا منوط بنصرتهـ للدين والحق:
َب هَّللا ُ أَل َ ْغلِبَ َّن أَنَا َو ُر ُسلِي" (المجادلة ،آية .)21 : قال تعالىَ " :كت َ
155
ُس9لَنَا َوالَّ ِذينَ آ َمنُ99وا فِي ْال َحيَ99ا ِة الُّ 9د ْنيَا َويَ99وْ َم يَقُ99و ُم اأْل َ ْش9هَا ُد" َنصُ 9ر ر ُ وقال تع9الى" :إِنَّا لَن ُ
(غافر ،آية .)51 :
"و َكانَ َحقّا َعلَ ْينَا نَصْ ُر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ " (الروم ،آية .)47 : ً وقال تعالىَ :
وهذا النص99ر اإللهي مش99روط باإليم99ان ونص99رة دين هللا ،وفي ذل99ك يق99ول هللا تع99الى:
ِّت أَ ْقدَا َم ُك ْم" (محمد ،آي99ة ،)7 :وق99ال صرُوا هَّللا َ يَنصُرْ ُك ْم َويُثَب ْ "يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِن تَن ُ
ص ُرهُ" (الحج ،آية .)40 : تعالىَ " :ولَيَنص َُر َّن هَّللا ُ َمن يَن ُ
5ـ سلب النعمة عمن منعها مستحقها:
يبين القرآن الكريم أن عقاب هللا بالمرصاد لمن منع أحداً شيئا ً يستحقه وأن سنة هللا في
هذا أن ينقلب مقصود المانع عليه ويعامله هللا بنقيض مقصوده ،فيأخذ هللا م99ا بين يدي99ه
من نعمة ويسلبه ما كان سببا ً في التجني على خلق99ه ويترك99ه في رم99اد ،والش99اهد على
قص9ها علين99ا الق99رآن لالعتب99ار والعظ99ة ،ق99ال ذلك جليا ً في قصة أصحاب الجن99ة ال99تي ّ
ص9بِ ِحينَ * َواَل ص ِ 9ر ُمنَّهَا ُم ْاب ْال َجنَّ ِة إِ ْذ أَ ْق َس ُ 9موا لَيَ ْ ص َ 9ح َ تعالى" :إِنَّا بَلَوْ نَاهُ ْم َك َم99ا بَلَوْ نَ99ا أَ ْ
َّر ِيم * فَتَنَ99ادَوا ت َكالص ِ ف ِّمن َّربِّكَ َوهُ ْم نَائِ ُمونَ * فَأَصْ بَ َح ْ يَ ْست َْثنُونَ * فَطَافَ َعلَ ْيهَا طَائِ ٌ
ار ِمينَ * فَ9انطَلَقُوا َوهُ ْم يَتَخَ 9افَتُونَ * أَن صِ 9 ُمصْ بِ ِحينَ * أَ ِن ا ْغ ُدوا َعلَى َحرْ ثِ ُك ْم إِن ُكنتُ ْم َ
ين * َو َغ 9دَوْ ا َعلَى َح99رْ ٍد قَ99ا ِد ِرينَ * فَلَ َّما َرأَوْ هَ اقَ99الُوا إِنَّا اَّل يَ ْ 9د ُخلَنَّهَا ْاليَ99وْ َم َعلَ ْي ُكم ِّم ْس ِ 9ك ٌ
ضالُّونَ * بَلْ نَحْ ُن َمحْ رُو ُمونَ " (القلم 17 ،ـ .)27 لَ َ
فأصحاب الجنة لم99ا عزم99وا على من99ع الفق99ير حق99ه ال99ذي كفل99ه هللا ل99ه عوقب99وا بنقيض
قصدهم ،فأذهب هللا ما بأيديهم بالكلية ،رأس المال والربح والصدقة ،فلم يبق لهم ش99ئ
ثم بين هللا أن حكمه هذا سنة جارية ،في خلقه وقضاء ع99ام لمن وق99ع في مثل99ه " َكَ 9ذلِكَ
ْال َع َذابُ " (القلم ،آية )33 :أي :هكذا عذاب من خالف أمر هللا وبخل بما آتاه هللا وأنعم
به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات.1
وبالمقابل فإن هللا قد ضمن لمن تعدى بخيره على غيره أن يرزق99ه من جنس م99ا أنفق99ه
9وويزيده فيه سواء في الدنيا أو في اآلخرة ،فقالَ " :و َما أَنفَ ْقتُم ِّمن َش ْي ٍء فَهُ َو ي ُْخلِفُ 9هُ َوهَُ 9
َّازقِينَ " (سبأ ،آية .)39 : خَ ْي ُر الر ِ
ظلَ ُمونَ " (البقرة ،آية .)272 : ف إِلَ ْي ُك ْم َوأَنتُ ْم الَ تُ ْوا ِم ْن َخي ٍْر يُ َو َّ "و َما تُنفِقُ ْ وقال تعالىَ :
2
وفي الحديث القدسي :أنفق أنفق عليك .
سر على عباده: 6ـ تيسير هللا لمن ي َّ
قال تعالى" :يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َذا قِي َل لَ ُك ْم تَفَ َّسحُوا فِي ْال َم َجالِ ِ
س فَا ْف َسحُوا يَ ْف َس ِ
ح
999ع هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ999وا ِمن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُ999وا ْال ِع ْل َم
انشُ 999زوا يَرْ فَ ِ انشُ 999زوا فَ ُ ي999ل ُ هَّللا ُ لَ ُك ْم َوإِ َذا قِ َ
ت" (المجادلة ،آية .)11 : د ََر َجا ٍ
ح ُ لَ ُك ْم" مطل99ق في ك99ل م99ا يطلب الن99اس الفس99حة في99ه من المك99ان هَّللا وفي قول99ه "يَ ْف َس ِ 9
والرزق والصدر والقبر والجنة وأعلم أن ه99ذه اآلي99ة دلت على أن ك99ل من وس99ع على
عباد هللا أبواب الخير والراحة.
وس99ع هللا علي99ه خ99يرات ال99دنيا واآلخ99رة وال ينبغي للعاق99ل أن يقي99د اآلي99ة بالتفس99ح في
المجلس ،بل المراد منه أيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.3
156
ويؤكد هذا الموضع من الشاهد قول النبي ص99لى هللا علي99ه وس99لم :من ف99رج عن مس99لم
يس9ر على معس99ر كربة من كرب الدنيا فرّج هللا عنه كربة من كرب يوم القيامة ،ومن ّ
يسّر هللا عليه في الدنيا واآلخرة ،ومن ستر مسلما ً ستره هللا في الدنيا واآلخرة وهللا في
عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.1
9ع هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ99وا ِمن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُ99وا انش ُ 9زوا فَ ُ
انش ُ 9زوا يَرْ فَِ 9 يل ُ تعالى":وإِ َذا 9قِ َ
َ وفي قوله
ت" أي :إذا قيل :ارتفعوا وإنما يراد بذلك وإذا قيل قوموا إلى قت99ال ع99دو أو ْال ِع ْل َم َد َر َجا ٍ
صالة أو عمل خير أو تفرقوا عن رسول هللا فقوموا ،2فقد جعل جزاء امتثال أم99ره في
تلك اآلية أن رفع درجة أص99حابها بالنص99ر وحس99ن ال99ذكر في ال99دنيا وإي99وائهم غ99رف
الجنان في اآلخرة خاصة العلم9اء منهم ال9ذين جمع9وا بين العلم والعم9ل ف9إن العلم م9ع
علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة.3
7ـ الجزء بجنس العمل على مستوىـ الوسائل:
إن أي تدبير أو فعل من العبد مهما بلغ في اتقانه ونسجه فإن هللا هو القاهر فوق عباده
ال يعجزه شئ في األرض وال في السماء ،وفي هذه الغاية القصوى في استشعار العبد
بالمراقبة ،ومن ثم االمتثال بالعبودية.
ومن اآليات الدالة على هذه المسألة:
ـ قوله تعالى" :أَ ْم ي ُِري ُدونَ َك ْيدًا فَالَّ ِذينَ َكفَرُوا هُ ُم ال َم ِكي ُدونَ " (الطور ،آية .)42 :
ْ
ـ وقال تعالى" :إِنَّهُ ْم يَ ِكي ُدونَ َك ْيدًا * َوأَ ِكي ُد َك ْيدًا" (الطارق ،آية 15 :ـ .)16
ـ وقال تعالى عن صالح ـ عليه السالم ـ وقومه ثمودَ " :و َك99انَ فِي ْال َم ِدينَِ 9ة تِ ْسَ 9عةُ َر ْهٍ 9ط
ض َواَل يُصْ لِحُونَ * قَالُوا تَقَا َس ُموا بِاهَّلل ِ لَنُبَيِّتَنَّهُ َوأَ ْهلَهُ ثُ َّم لَنَقُ99ولَ َّن لَِ 9ولِيِّ ِه َم يُ ْف ِس ُدونَ فِي اأْل َرْ ِ
صا ِدقُونَ * َو َم َكرُوا َم ْكرًا َو َم َكرْ نَ99ا َم ْك 9رًا َوهُ ْم اَل يَ ْشُ 9عرُونَ * ما َش ِه ْدنَا َم ْهلِكَ أَ ْهلِ ِه َوإِنَّا لَ َ
9ر ِه ْم أَنَّا َد َّمرْ نَ99اهُ ْم َوقَ99وْ َمهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (النم99ل ،آي99ة 48 :ـ فَانظُرْ َك ْي99فَ َك99انَ عَاقِبَ9ةُ َم ْكِ 9
.)51
يس9ى إِنِّي ُوا َو َم َكَ 9ر هّللا ُ َوهّللا ُ خَ ْيُ 9ر ْال َم99ا ِك ِرينَ * إِ ْذ قَ99ا َل هّللا ُ يَ99ا ِع َ ـ وق99ال تع99الىَ " :و َم َك 9ر ْ
ق الَّ ِذينَ ك فَ99وْ َ ُوا َو َجا ِعُ 99ل الَّ ِذينَ اتَّبَعُ99و َ ي َو ُمطَهِّرُكَ ِمنَ الَّ ِذينَ َكفَ99ر ْ ك َو َرافِعُ99كَ إِلَ َّ ُمتَ َوفِّيَ 99
ي َمرْ ِج ُع ُك ْم فَأَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم فِي َما ُكنتُ ْم فِي ِه ت َْختَلِفُونَ " (آل عمران ُوا إِلَى يَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة ثُ َّم إِلَ َّ
َكفَر ْ
،آية 54 :ـ .)55
ك أَوْ ي ُْخ ِر ُج99و َ
ك َويَ ْم ُك 9رُونَ ك أَوْ يَ ْقتُلُ99و َ
ُوا لِي ُْثبِتُ99و َ
"وإِ ْذ يَ ْم ُك ُر بِ99كَ الَّ ِذينَ َكفَ9ر ْ
ـ وقال تعالىَ :
َويَ ْم ُك ُر هّللا ُ َوهّللا ُ خَ ْي ُر ْال َما ِك ِرينَ " (األنفال ،آية .)30 :
وسمي جزاء المكر مكراً ،وجزاء الكيد كيداً ،تنبيها ً على أن الجزاء من جنس العمل.4
ثالثاً :الجزاء بجنس العمل في اآلخرة:
كما أن سنة الجزاء بجنس العم99ل حاكم99ة في معامل99ة هللا خلق99ه في الحي99اة ال99دنيا ،فهي
كذلك في اآلخرة ،ومن ثم كانت سنة أساسية بين السنن ،والتطبيقات القرآنية تترى في
157
هذا المعنى ،وتص99ل إلى ح99د الت99واتر ،من حيث الع99دد ،وإلى القط99ع من حيث المع99نى
والمراد من ذلك.1
1ـ معاملة أهل الفضل بالفضل:
ان" (الرحمن ،آية ،)60 :أي :هل ث99واب ان إِاَّل اإْل ِ حْ َس ُ
ـ قال تعالى" :هَلْ َجزَ اء اإْل ِ حْ َس ِ
خوف مقام هللا عز وجل لمن خافه فأحسن في الدنيا عمله ،وأط99اع رب99ه إال أن يحس99ن
إليه في اآلخرة ربه بأن يجازيه على إحسانه ذلك في الدنيا م99ا وص99ف في اآلي99ات من
9ان" (ال99رحمن ،آي99ة ،)46 :إلى قول99ه تع99الى: "ولِ َم ْن خَ افَ َمقَا َم َربِّ ِه َجنَّتَِ 9 قوله تعالىَ :
2
ان" (الرحمن ،آية . )58 : وت َو ْال َمرْ َج ُ " َكأَنَّه َُّن ْاليَاقُ ُ
اج ِع يَ ْ 9د ُعونَ َربَّهُ ْم َخوْ فً99ا َوطَ َم ًع99ا َو ِم َّما ضِ 9 ـ وق99ال تع99الى" :تَتَ َج 9افَى ُجنُ99وبُهُ ْم َع ِن ْال َم َ
َر َز ْقنَاهُ ْم يُنفِقُونَ * فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َّما أُ ْخفِ َي لَهُم ِّمن قُ َّر ِة أَ ْعيُ ٍن َج َزاء بِ َما َك99انُوا يَ ْع َملُ99ونَ "
(السجدة ،آية 16 :ـ .)17
قال الحسن البصري :أخفى ق99وم عملهم وأخفى هللا لهم م99ا لم ت99رعين ولم يخط99ر على
قلب بشر.3
وفي الحديث القدسي :قال تعالى " :أعددت لعبادي الصالحين ما ال عين رأت وال ٌ
أذن
سمعت وال خطر على قلب بشر قال أب99و هري99رة :اق99رءوا إن ش99ئتم" :فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َّما
أُ ْخفِ َي لَهُم ِّمن قُ َّر ِة أَ ْعيُ ٍن" (السجدة ،آية .4)17 :
"واَل يَأْتَ ِل أُوْ لُوا ْالفَضْ ِل ِمن ُك ْم َوال َّس َع ِة أَن ي ُْؤتُوا أُوْ لِي ْالقُ99رْ بَى َو ْال َم َس 9ا ِكينَ ـ وقال تعالىَ :
ص 9فَحُوا أَاَل تُ ِحبُّونَ أَن يَ ْغفِ َ 9ر هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُ99و ٌر يل هَّللا ِ َو ْليَ ْعفُ99وا َو ْليَ ْ
َو ْال ُمهَا ِج ِرينَ فِي َسبِ ِ
َّر ِحي ٌم" )النور ،آية .)22 :
اج ُك ْم َوأَوْ اَل ِد ُك ْم َعُ 9د ًّوا لَّ ُك ْم فَاحْ َ 9ذرُوهُ ْم َوإِن ـ وقال تعالى" :يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن ِم ْن أَ ْز َو ِ
َّحي ٌم" (التغابن ،آية .)14 : تَ ْعفُوا َوتَصْ فَحُوا َوتَ ْغفِرُوا فَإ ِ َّن هَّللا َ َغفُو ٌر ر ِ
2ـ ترك اإلنسان وإهماله في العذاب ،كما أهمل الحق ولم يتبعه:ـ
ضن ًكا َونَحْ ُش ُرهُ يَوْ َم ْالقِيَا َمِ 99ة أَ ْع َمى ض عَن ِذ ْك ِري فَإ ِ َّن لَهُ َم ِعي َشةً َ "و َم ْن أَ ْع َر َ قال تعالىَ :
ك آيَاتُنَا فَن َِسيتَهَا َو َكَ 99ذلِكَ ك أَتَ ْت َ
صيرًا * قَا َل َك َذلِ َ نت بَ ِ ال َربِّ لِ َم َحشَرْ تَنِي أَ ْع َمى َوقَ ْد ُك ُ * قَ َ
ْاليَوْ َم تُن َسى" (طه ،آية 124 :ـ .)126
أخبر تعالى أن الضالين في ال9دنيا يحش9رون ي9وم القيام9ة عمي9اً ،ف9إن الج9زاء أب9داً من
جنس العمل.5
َنس 9اهُ ْم َك َم99ا وا ِدينَهُ ْم لَ ْه ًوا َولَ ِعبًا َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَاةُ ال ُّ 9د ْنيَا فَْ 9
9اليَوْ َم ن َ وقال تعالى" :الَّ ِذينَ اتَّ َخ ُذ ْ
ُوا لِقَاء يَوْ ِم ِه ْم هَـ َذا" (األعراف ،آية .)51 : نَس ْ
الس 9ا َعةُْب فِيهَا قُ ْلتُم َّما نَ ْد ِري َما َّ ق َوالسَّا َعةُ اَل َري َ "وإِ َذا قِي َل إِ َّن َو ْع َد هَّللا ِ َح ٌّ
وقال تعالىَ :
ق بِ ِهم َّما َكانُوا بِ ِه َات َما َع ِملُوا َو َحا َ إِن نَّظُ ُّن إِاَّل ظَنًّا َو َما نَحْ ُن بِ ُم ْستَ ْيقِنِينَ * َوبَدَا لَهُ ْم َسيِّئ ُ
يل ْاليَوْ َم نَن َسا ُك ْم َك َما نَ ِسيتُ ْم لِقَاء يَوْ ِم ُك ْم هَ َذا َو َم99أْ َوا ُك ْم النَّا ُر َو َم99ا لَ ُكم ِّمن يَ ْستَه ِْز ُؤون * َوقِ َ
ص ِرينَ " (الجاثية ،آية 32 :ـ .)34 نَّا ِ
3ـ التهكم بالكفار والمنافقين كما كانوا يتهكمون بالمؤمنين في الدنيا:
1السنن اإللهية د .مجدي عاشور صـ.250
2جامع البيان للطبري (.)198 / 27
3تفسير القرآن الكريم ( )260 / 3روح المعاني (.)132 / 21
4مسلم في صحيحه (.)2174 / 4
5السنن اإللهية ،د .مجدي عاشور صـ.256
158
ضَ 99ح ُكونَ * َوإِ َذا َم99رُّ ْ
وا بِ ِه ْم وا ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ99وا يَ ْ ق99ال تع99الى" :إِ َّن الَّ ِذينَ أَجْ َر ُم99وا َك99انُ ْ
ُ999وا فَ ِك ِهينَ * َوإِ َذا َرأَوْ هُ ْم قَ999الُوا إِ َّن هَ999ؤُاَل ء ُ999وا إِلَى أَ ْهلِ ِه ُم انقَلَب ْ
يَتَغَ999ا َم ُزونَ * َوإِ َذا انقَلَب ْ
ضَ 9ح ُكونَ * ار يَ ْ 9وا ِمنَ ْال ُكفَّ ِ ضالُّونَ * َو َما أُرْ ِس9لُوا َعلَ ْي ِه ْم َح 9افِ ِظينَ * فَْ 9
9اليَوْ َم الَّ ِذينَ آ َمنُْ 9 لَ َ
ب ْال ُكفَّا ُر َم99ا َك99انُوا يَ ْف َعلُ99ونَ " (المطففين ،آي99ة 29 :ـ ك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُِّ 9
9و َ َعلَى اأْل َ َرائِ ِ
.)36
ور ُك ْم ُ
9ات لِل ِذينَ آ َمنُ99وا انظرُونَ99ا نَ ْقتَبِسْ ِمن نُّ ِ َّ ْ ْ
وقال تعالى" :يَوْ َم يَقُو ُل ال ُمنَ99افِقُونَ َوال ُمنَافِقَُ 9
ور لَّهُ بَ99ابٌ بَا ِطنُ9هُ فِيِ 9ه الرَّحْ َم 9ةُ ب بَ ْينَهُم بِ ُسٍ 9 قِي َل ارْ ِجعُوا َو َراء ُك ْم فَ ْالتَ ِمسُوا نُ99ورًا فَ ُ
ضِ 9ر َ
َوظَا ِه ُرهُ ِمن قِبَلِ ِه ْال َع َذابُ "( 9الحديد ،آية .)13 :
9ل ارْ ِج ُع99وا َو َراء ُك ْم فَ ْالتَ ِم ُس9وا نُ99ورًا" ،فالظ99اهر من إس99ناد والشاهد في اآلية قول99ه" :قِيَ 9
"قِي َ 9ل" بص99يغة المجه99ول أن قائل99ه غ99ير المؤم99نين المخ99اطبين وإنم99ا ه99و من كالم
المالئكة السائقين للمنافقين،1
وتكون مقالة المالئكة للمنافقين تهكم 9اً ،إذ ال ن99ور وراءهم ،وإنم99ا أرادوا إطم99اعهم ثم
تخييبهم بضرب السور بينهم وبين المؤمنين ،ألن الخيبة بعد الطمع أش99د حس99رة وه99ذا
استهزاء كان جزاء على استهزائهم بالمؤمنين واستسخارهم بهم ،2ومم99ا يؤي99د أن ه99ذا
التخبط والحيرة الشديدة التي أصابت المنافقين في اآلخرة هو ج99زاء لهم من جنس م99ا
كانوا عليه في الدنيا أنهم كانوا كذلك في الدنيا في قل99ق دائم وح99يرة مس99تمرة ،وتخب99ط
ك الَ إِلَى هَـ ُؤالء َوالَ إِلَى هَـ ُؤالء" (النس99اء ،آي99ة : متواصل ألنهم كانوا" ُّم َذ ْب َذبِينَ بَ ْينَ َذلِ َ
.3)143
رابعاً :الجزاء بجنس العمل بين العباد:
إن سنة هللا في خلقه أن يكون جزاؤهم بجنس م99ا عمل99وه ،وه99ذا أم99ر تكوي99ني أق99ام هللا
عليه الدنيا واآلخرة ليكون قانونا ً حاكم9ا ً في المج99ازاة والمحاس99بة وليس ه99ذا فحس9ب،
وإنما أراد هللا عز وجل أن يكون هذا القانون وتلك السنة أمراً شرعيا ً تكليفياً ،وقد أمر
هللا الن99اس بالتعام99ل ب99ه فيم99ا بينهم ،ليتحق99ق الع99دل واألم99ان في المجتم99ع بين األف99راد
والجماعات واألمم ،فأنزل اآليات التي توجب العم99ل به99ذه القاع99دة ،وجعله9ا مس99تمرة
في أبواب الشرع عامة في مسائله ،وبين النبي صلى هللا عليه وسلم تلك السنة بأحس99ن
بيان وأدق تطبيق ،وبهذا يتبين أن الشرع والقدر ق99د تظ99اهرا على تقري99ر ه99ذه الس99نة،
وتلك القاعدة والتي هي من حكمة هللا البالغة في خلقه.4
"و َجَ 9زاء َس9يِّئَ ٍة َس9يِّئَةٌ ِّم ْثلُهَ99ا" (الش99ورى ،آي99ة ،)40 :وق99ال تع99الىَ :
"وإِ ْن قال تعالىَ :
ُوا بِ ِم ْث ِل َما ُعوقِ ْبتُم بِ ِه" (النحل ،آي99ة .)126 :وق99ال تع99الى" :فَ َم ِن ا ْعتَ 9دَى عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِب ْ
وا َعلَ ْي ِه بِ ِم ْث ِل َما ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم" (البقرة ،آية .)194 :
َعلَ ْي ُك ْم فَا ْعتَ ُد ْ
159
9ال ُح ِّر َو ْال َع ْبُ 9د
ص9اصُ ِفي ْالقَ ْتلَى ْال ُح99رُّ بِْ 9 ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِ َ قال تعالى" :يَا أَيُّهَ99ا الَّ ِذينَ آ َمنُْ 9
9وا ُكتِ َ
ُوف َوأَدَاء إِلَ ْي ِ 9ه9ال َم ْعر ِ بِ ْال َع ْب ِ 9د َواألُنثَى بِ99األُنثَى فَ َم ْن ُعفِ َي لَ 9هُ ِم ْن أَ ِخي ِ 9ه َش ْ 9ي ٌء فَاتِّبَ99ا ٌ
ع بِْ 9
ك فَلَ 9هُ َعَ 9ذابٌ أَلِي ٌم * َولَ ُك ْم فِي يف ِّمن َّربِّ ُك ْم َو َرحْ َمةٌ فَ َم ِن ا ْعتَدَى بَ ْع َد َذلِ َبِإِحْ َسا ٍن َذلِكَ ت َْخفِ ٌ
ب لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ " (البقرة ،آية 178 :ـ .)179 اص َحيَاةٌ يَاْ أُولِ ْي األَ ْلبَا ِ
ص ِ ْالقِ َ
وفي ه99ذا المع99نى أيض99ا ً ي99أتي قول99ه تع99الى عن حكم القص99اص في الكتب الس99ماوية
السابقة:
نف َواألُ ُذنَ س َو ْال َع ْينَ بِ ْال َعي ِْن َواألَنفَ بِ99األَ ِ "و َكتَ ْبنَا َعلَ ْي ِه ْم فِيهَا أَ َّن النَّ ْف َ
س بِالنَّ ْف ِ قال تعالىَ :
صاصٌ " (المائدة ،آية .)45 : ُوح قِ َ بِاألُ ُذ ِن َوالس َِّّن بِال ِّسنِّ َو ْال ُجر َ
وقد بينت السنة المطهرة تطبيق حد القصاص على الوجه األكمل ،وبما يحقق القاع99دة
ال99تي تتح99دث عنه99ا ،وبه99ذا يت99بين لن99ا المص99الح الجم99ة ال99تي ب99نيت على مش99روعية
القص99اص ،وإقامت99ه في المجتم99ع ،ومن تل99ك المص99الح زج99ر المعت99دي ومن يح99اول
االعتداء ليرتدع قبل اقترافه عمله ،ومنها جبر خ9اطر المعت99دي علي99ه ،ومنه99ا التف99ادي
من ترص999د المعت999دى عليهم لالنتق999ام من المعت999دين أو من أق999وامهم ،فإبط999ال الحكم
بالقصاص يعطل هذه المصالح ويقوض بنيان المجتم9ع ،ويش9يع الفوض9ى في الدول9ة،
وينخر في قواها المتمثلة في أفرادها وطوئفها.1
2ـ حد الحرابة واإلفساد:
وبهذا المع99نى أيض9ا ً ج99اء ح99د الحراب99ة واإلفس99اد في قول99ه تع99الى" :إِنَّ َم99ا َجَ 9زاء الَّ ِذينَ
ُوا أَوْ تُقَطَّ َع أَيِْ 99دي ِه ْم
صلَّب ْ
وا أَوْ يُ َ
ض فَ َسادًا أَن يُقَتَّلُ ْ اربُونَ هّللا َ َو َرسُولَهُ َويَ ْس َعوْ نَ فِي األَرْ ِ ي َُح ِ
ي فِي الُّ 9د ْنيَا" (المائ99دة ،آي99ة : 9ز ٌ ك لَهُ ْم ِخْ 9ض َذلَِ 9 َ ْ
الف أوْ يُنفَ99وْ ا ِمنَ األرْ ِ َ َوأَرْ ُجلهُم ِّم ْن ِخ ٍ
ُ
،"33وهي شاهد لما نحن فيه على تفسير ابن عباس في رواي99ة عط99اء ،وه99و م99ذهب
جمهور العلماء ألن كلمة "أَوْ " هن99ا ليس99ت للتخي99ير ،ب99ل هي للتقس99يم أو بمع99نى آخ99ر:
لبيان أن األحكام تختلف ب99اختالف الجناي9ات ،فمن اقتص99ر على القت99ل قُت9ل ،ومن قت9ل
وأخذ المال ،قُتل وصُلب ،ومن اقتصر على أخذ المال قط99ع يدي99ه ورجل99ه من خالف،
ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نُفي من األرض.2
3ـ من تطبيقات ذلك العصر النبوي:
ما علمنا إياه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في كيفي99ة مج99ازاة الن99اس بجنس أعم99الهم
والشاهد الصريح في ذلك ما قاله صلى هللا عليه وسلم عن أبي بكر ـ رضي هللا عنه ـ:
ما ألحد عندنا يد إال وقد كافأناه ما خال أبا بكر ،فإن ل99ه عن99دنا ي99داً يكافي99ه هللا به99ا ي99وم
القيامة ،3فأبو بكر ـ رضي هللا عنه ـ بذل كل ما يمل99ك ـ من م9ال ونفس وأه99ل وول9د ـ
لنص99رة الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم ،وك99ان عط99اؤه بال ح99دود ،يس99تحق الج99زاء من
صاحب النعم99ة المطلق99ة ،وولي ك99ل منح99ة وج99ود ،ف99رد الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم
مكافأته هلل عز وجل ،ليتفض99ل على أبي بك99ر باإلنع9ام واإلك9رام ،وليك9ون األص99ل في
الجزاء أن يكون من جنس العمل.4
1السنن اإللهية د .مجدي عاشور صـ.266
2التفسير الكبير للرازي ( ،)666 / 5السنن اإللهية صـ.266
3سنن الترمذي ( )609 / 5حسن غريب من هذا الوجه.
4السنن اإللهية ،مجدي عاشور صـ.271
160
والمثال الثاني في عصر النبوة 9:أنه لما أُسرت ابن99ة ح99اتم الط99ائي في أي99دي المس99لمين
ورآها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قالت له :ك99ان أبي يف99ك الع99اني ،يحمي ال99ذمار،
ويق99ري الض99يف ،ويش99بع الج99ائع ،ويف99رج عن المك99روب ،ويطعم الطع99ام ،ويفش99ي
السالم ،ولم يرد طالب حاجة .فقال صلى هللا عليه وسلم" :خلوا عنها ،ف99إن أباه99ا ك99ان
يحب مكارم األخالق".1
وفي رواية :فخلى سبيلها رسول هللا صلى هللا علي99ه وس99لم ق99الت :فكس99اني رس99ول هللا
صلى هللا عليه وسلم وحملني ،وأعطاني نفقة حتى خرجت إلى أخي عدي بالشام.2
لقد عاملها الرسول صلى هللا عليه بجنس ما كان أبوها يعامل الن99اس رغم كف99ر أبيه99ا،
ليدلنا ذلك ،على أن هذه القاع99دة عام99ة م99ا لم تح99رم أص9الً ش99رعياً ،أو تع99ارض دليالً
قطعيا ً.3
1نوارد األصول للحكيم الترمذي ( ،)314 / 2شعب اإليمان للبيهقي (.)24 / 6
2السيرة النبوية ( )277 / 5الطبقات الكبرى (.)322 / 1
3السنن اإللهية صـ.271
161
المبحث الثامن :الحكمة والتحسين والتقبيح وتكليف ما ال يطاق وقــدرة هللا
عز وجل:
أوال :الحكمة في أفعال هللا وشرعه:
1ـ هللا الحكيم الحكم الحاكم:
من أسماء ربنا جل وتعالى التي عرَّف بها نفسه إلى عباده ،وذكرها في كتاب99ه ،وعلى
ألسنة رسله وأنبيائه "الحكيم" ،وقد ورد هذا االس99م "الحكيم" أربع9ا ً وتس99عين م99رة في
القرآن الكريم ،كما في قوله عز وجلْ " :ال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم" (البقرة ،آي99ة " ،)32 :ال َع ِزي ُ 9ز
"وا ِسعًا َح ِكي ًما""ال َح ِكي ُم ْالخَ بِيرُ" (األنعام ،آية َ ،)18 : ال َح ِكي ُم" (البقرة ،آية ْ ،)129 :
(النساء ،آية .)130 :
ص9الً" (األنع99ام ، وقال تعالى" :أَفَ َغ ْي َر هّللا ِ أَ ْبتَ ِغي َح َك ًما َوهُ َو الَّ ِذي أَنَ َز َل إِلَ ْي ُك ُم ْال ِكتََ 9
9اب ُمفَ َّ
آية .)114 :
فهذا دليل على أن اسمه أيضا ً "الحكم" ،وقد جاء في خمس99ة مواض99ع بص99يغة الجمي99ع
"وهُ َو خَ ْي ُر ْال َحا ِك ِمينَ " (األعراف ، 9آية ،)87 :و"أَنتَ أَحْ َك ُم ْال َحا ِك ِمينَ " (ه99ود ، منهاَ :
ْس ُ بِأحْ َك ِم ال َحا ِك ِمينَ " (التين ،آية .)8 :ْ َ هَّللا َ
آية ،)45 :و"ألَي َ
و"الحكيم" :هو الذي يُحكم األشياء ويتقنها ويض99عها في موض99عها ،كم99ا ق99ال س99بحانه
ص ْن َع هَّللا ِ الَّ ِذي أَ ْتقَنَ ُك َّل َش ْي ٍء" (النمل ،آية ،)88 :و"الحكيم" هو الذي يض99ع الش99ئ " ُ
في موضعه بقدره ،فال يتقدم وال يت99أخر وال يزي99د وال ينقص ،م99ع م99ا ل99ه في ذل99ك من
الحكم البالغة العظيمة التي ال يأتي عليها الوصف ،وال يدركها الوهم.1
ف99الحكيم ال99ذي ال ي99دخل ت99دبيره وال ش99رعه خل99ل وال زل99ل ،وأفعال99ه وأقوال99ه تق99ع في
مواضعها بحكمة وعدل وسداد ،فال يفعل إال الصواب 9وال يقول إال الحق.2
وأما "الحكم" فهو من له الحكم والسلطان والقدر ،فال يقع ش99ئ إال بإذن99ه وه99و الم99دبر
والمتصرِّ ف " ُك َّل يَوْ ٍم هُ َو فِي َشأْ ٍن" (الرحمن ،آية .)29 :
و"الحكم" أيضا ً من له التشريع والتحليل والتحريم ،ف99الحكم م99ا ش99رع هللا ،وال99دين م99ا
أمر ونهى ،ال معقب لحكمه وال راد لقض9ائه ،ف9اجتمع في االس9م "الق99در" و"الش9رع"9
ق َواألَ ْمرُ" (األعراف ،آية .)54 : "أَالَ لَهُ ْال ْ
خَل ُ
وحين يقول" :أَحْ َك ِم ْال َحا ِك ِمينَ " و"خَ ْي ُر ْال َحا ِك ِمينَ " ،فإن ذلك تأكيد على عدله ورحمت99ه
تعس 9ف ،وليس في ش99رعه ووض99عه األش99ياء في موض99عها ،فليس في ق99دره ظلم وال ُّ
محاباة وال تحيز ،بل هو حفظ للحقوق ،حق99وق الح99اكم والمحك99وم ،والرج99ل والم99رأة،
وس 9لماً، والبرِّ والفاجر ،والمسلم والكافر ،والقوي والضعيف ،وفي كل األحوال حرب 9ا ً ِ
وعلى كل أحد دون استثناء ،ولذا وجب على كل مسلم تحكيم كتاب99ه وس99نة نبي99ه ص99لى
هللا عليه وسلم في دقيق أم99وره وجلِّه99ا على الص99عيد الف99ردي والجم99اعي ،واألس99ري،
الخ99اص والع99ام ،والسياس99ة واالقتص99اد واالجتم99اع واإلعالم ،وك99ل ش99ئ من حكم99ه
وحكمته :أنه عدل ال يظلم أحداً ،وال يحمل هذا وزر ذاك ،وال يجازي العبد ب99أكثر من
ض 9ي ُع أَجْ َ 9ر َم ْن أَحْ َس 9نَ َع َماًل "
ذنب99ه ،وال ي99دع محس99نا ً إال أثاب99ه على إحس99انه "إِنَّا اَل نُ ِ
(الكهف ،آية .3)30 :
1مع هللا د .سلمان العودة صـ.183
2المصدر نفسه صـ 185ـ .186
3مع هللا د .سلمان العودة صـ 187ـ .188
162
2ـ المراد بالحكمة:الغايات المحمودة المقص99ودة بفع99ل هللا وش99رعه ،وهي مقدم99ة في
العلم واإلدارة ،متأخرة في الوجود والحصول ،أي أنها تترتب على األحوال واألفعال
وتحصل بعدها.1
والحكمة تتضمن شيئين:
أحــدهما :حكم99ة تع99ود إلى هللا يحبه99ا ويرض99اها ،فهي ص99فة ل99ه تق99وم ب99ه ،ألن هللا ال
يوصف إال بما قام به ،وهي ليست مطلق اإلرادة ،وإال لكان كل مريد حكيما ً وال قائ99ل
به.
ثانيهمــا :حكم99ة تع99ود إلى عب99اده ،هي نعم99ة يفرح99ون ويلت99ذون به99ا في الم99أمورات
والمخلوقات والحكمة ال يحيط بها علما ً إال هللا تعالى ،وبعضها معلوم للخلق وبعض99ها
مما يخفى عليهم.
2
والحكمة في أفعال هللا تعالى نوعان :
نس إِاَّل لِيَ ْعبُُ 9دو ِن"9 ت ْال ِج َّن َواإْل ِ َ "و َم99ا َخلَ ْق ُــ حكمة مطلوبة لذاتها ،كما في قول99ه تع99الىَ :
(الذاريات ،آية .)56 :
ض ِم ْثلَه َُّن يَتَنَ َّز ُل اأْل َ ْم ُر بَ ْينَه َُّن لِتَ ْعلَ ُم99وا
ت َو ِمنَ اأْل َرْ ِاوا ٍق َس ْب َع َس َم َــ وقال" :هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ
أَ َّن هَّللا َ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر َوأَ َّن هَّللا َ قَ ْد أَ َحاطَ بِ ُكلِّ َش ْي ٍء ِع ْل ًما" (الطالق ،آية .)12 :
فبين هللا أن الحكمة من خلقه الجن واإلنس ليعبدوه وحده وال يش99ركوا ب99ه ش99يئاً ،وه99ذا
أم99ر محب99وب هلل تع99الى ومطل99وب ل99ه ،وك99ذلك بين أن من حكم99ة خلق99ه الس99ماوات
واألرض وتدبيره لهما علم العباد بقدرة هللا وعلمه سبحانه.
ــ حكمة مطلوبة لغيرها وتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه ويوض99حها ق99ول هللا تع99الى:
ْس هّللا ُ بِ99أ َ ْعلَ َم
9وا أَهَـ ُؤالء َم َّن هّللا ُ َعلَ ْي ِهم ِّمن بَ ْينِنَ99ا أَلَي َ
ْض لِّيَقُولْ 9
ْض 9هُم بِبَع ٍ "و َكَ 9ذلِكَ فَتَنَّا بَع َ
َ
ْ
بِال َّشا ِك ِرينَ " (األنع99ام ،آي99ة ،)53 :ف9الالم في قول99ه" :لِّيَقُول99وا" 9دال99ة على الحكم99ة من
قوله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض فك99براؤا الق99وم ي99أنفوم ويس99تكبرون عن
قبول الحق عن9د هللا رؤيتهم ض9عفاء ق9د أس9لموا فيقول9ون عن9د ذل9ك" :أَهَـ ُؤالء َم َّن هّللا ُ
َعلَ ْي ِهم ِّمن بَ ْينِنَا" ،فهذا القول بعض الحكمة المطلوبة به99ذا االمتح99ان ،وهي وس99يلة إلى
مطلوب لنفسه ،فامتح9ان هللا له99ؤالء ي99ترتب علي99ه ش99كر ه99ؤالء وكف9ر ه9ؤالء ،وذل99ك
ي9وجب آث9ار مطلوب9ة للفاع9ل من إظه9ار عدل9ه ،وحكمت9ه وعزت9ه ،وقه9ره وس9لطانه،
وعطائه من يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يس99تحق المن99ع ،وال يلي99ق
ْس هّللا ُ بِأ َ ْعلَ َم بِال َّشا ِك ِرينَ " (األنعام ،آية .3)53 : به غيره ،ولهذا قال هللا تعالى" :أَلَي َ
3ـ الحكمة الحاصلة من الشرائع:
وأما الحكمة الحاصلة من الشرائع فثالثة أنواع:
ــ النوع األول :حكمة حاصلة من األم99ر بفع99ل مش99تمل على مص99لحة معلوم99ة بأص99ل
الفطرة والعقل ،كالعدل واإلحسان ،والص99دق ،أو حاص99لة من النهي عن فع99ل مش99تمل
على مفس99دة معلوم99ة بأص99ل الفط99رة والعق99ل ،ك99الظلم والك99ذب ،فالع99دل مش99تمل على
مصلحة العالم ،والظلم يشتمل عل فسادهم ،والشرع في أمره بالع99دل ونهي99ه عن الظلم
163
ولم يثبت للفعل صفة لم تكن ولكن ال يلزم من حصول القبح في الفعل بالعقل أن يكون
فاعله معاقبا ً في اآلخرة إذا لم يرد الشرع بذلك.
ــ النوع الثاني:حكمة حاصلة من األمر بفعل ،أو النهي عن فعل بحسب اش99تماله على
المصلحة والمفسدة ال9تي ال تع9رف بخط9اب الش9رع ،فيك9ون الفع9ل ق9د اكتس9ب ص9فة
الحسن والقبح بخطاب الشرع ،كالتجرد في اإلحرام والتطه99ر ب99التراب ،والس99عي بين
الصفاء والمروة ،ورمي الجمار ،ونحو ذلك.
ــ النوع الثالث :حكمة يكون منشؤها من األمر ال من المأمور ب99ه ،فيك99ون الم99راد من
األمر اإلبتالء واالمتحان وال يكون المراد فعل المأمور به ومثال99ه :أم99ر هللا إب99راهيم ـ
عليه السالم ـ بذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السالم ـ فأراد هللا إبتالء خليله إبراهيم بع99د أن
رزقه الولد حتى يكون قلبه كله هلل ،ولم يكن تحقق ذبح ولده مراداً هلل ،وفي ذلك يق99ول
ك فَانظُرْ َم99ا َذا ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمن َِام أَنِّي أَ ْذبَ ُح َ ْي قَا َل يَا بُنَ َّهللا تعالى" :فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّسع َ
الص9ابِ ِرينَ * فَلَ َّما أَ ْس9لَ َما َوتَلَّهُ َّ ت ا ْف َعلْ َما تُ ْؤ َم ُر َس9ت َِج ُدنِي إِن َش9اء هَّللا ُ ِمنَ ال يَا أَبَ ِ
ت ََرى قَ َ
ك نَجْ ِ 9زي ْال ُمحْ ِس 9نِينَ * إِ َّن ص َّد ْقتَ الرُّ ْؤيَا إِنَّا َكَ 9ذلِ َ لِ ْل َجبِي ِن * َونَا َد ْينَاهُ أَ ْن يَا إِب َْرا ِهي ُم * قَ ْد َ
ين" (الصافات ،آي99ة 102 :ـ )106فلم9ا تحق99ق م99ا أراده هللا نس99خ هَ َذا لَه َُو ْالبَاَل ء ْال ُمبِ ُ
األمر وهو لم يكن مريداً وقوع ذبح ابنه.1
وزاد ابن القيم نوعا ً رابعاً ،وهو ما نشأت المصلحة فيه من الفعل المأمور ب99ه واألم99ر
معا ً ومثال9ه :الص9وم والص9الة 9والحج وإقام9ة الح9دود وأك9ثر األحك9ام الش9رعية ،ف9إن
مصلحتها ناشئة من الفعل واألمر معاً ،فالفع99ل يتض99من مص99لحة واألم99ر ب99ه يتض99من
مصلحة أخرى ،فالمصلحة فيها من وجهين.2
4ـ األدلة الدالة على الحكمة:
واألدلة الدالة على الحكمة كثيرة جداً ذكرها العلماء والفقهاء في كتبهم ،وقد حاول ابن
القيم حصرها بأنواعها ـ بعد أن ذكر أن آحاد األدلة كثيرة يصعب س99ردها كلهاـ وق99د
أوصلها إلى إلى اثنين وعشرين نوعا ً ومن هذه األدلة:
"ح ْك َم 9ةٌالنوع األول :وهو أعالها ،م9ا ورد في9ه التص9ريح بلف9ظ الحكم9ة ق9ال تع9الىِ :
بَالِ َغةٌ فَ َما تُ ْغ ِن النُّ ُذرُ" (القمر ،آية ،)5 :أي أن هللا أرى الكافرين في آياته ـ وهي هن99ا
إنشقاق القمر ـ وأت99اهم بأنب99اء زاج99رة لهم عن غيهم وض99اللهم ،ك99ل ذل99ك حكم99ة من99ه
سبحانه لتقوم حجته على العاملين ،وال يبقى ألحد على هللا حجة بعد الرسل.
النوع الثاني :ذكر ما هو من صرائح التعليل ،وهو من أجل أو ألجل ،قال هللا تع99الى:
س أَوْ فَ َسا ٍد فِي األَرْ ِ
ض يل أَنَّهُ َمن قَت ََل نَ ْفسًا بِ َغي ِْر نَ ْف ٍ ك َكتَ ْبنَا َعلَى بَنِي إِ ْس َرائِ َ " ِم ْن أَجْ ِل َذلِ َ
ُس9لُنَا
اس َج ِميعً9ا َولَقَْ 9د َج 9اء ْتهُ ْم ر ُ اس َج ِميعً9ا َو َم ْن أَحْ يَاهَ9ا فَ َكأَنَّ َم9ا أَحْ يَ9ا النَّ َ َ9ل النَّ َ فَ َكأَنَّ َما قَت َ
ْرفُونَ " (المائدة ،آية ،)32 :فق99ول ض لَ ُمس ِ ت ثُ َّم إِ َّن َكثِيرًا ِّم ْنهُم بَ ْع َد َذلِكَ فِي األَرْ ِ بِالبَيِّنَا ِ
" ِم ْن أَجْ ِل َذلِكَ" متعلق بـ" َكتَ ْبنَا" بمعنى :السبب في الحكم بشرعية القص99اص على ابن
آدم ألجل قتل ابن آدم أخاه ،وكان ذلك حراسة الدنيا.
النوع الثالث :اإلتيان بكي الص99ريحة في التعلي99ل ،كم99ا ق9ال تع99الىَّ " :ما أَفَ9اء هَّللا ُ َعلَى
ُول َولِ ِذي ْالقُرْ بَى َو ْاليَتَ99ا َمى َو ْال َم َس 9ا ِكي ِن َواب ِْن َّ
الس 9بِي ِل َرسُولِ ِه ِم ْن أَ ْه ِل ْالقُ َرى فَلِلَّ ِه َولِل َّرس ِ
َك ْي اَل يَ ُكونَ ُدولَةً بَ ْينَ اأْل َ ْغنِيَاء ِمن ُك ْم" (الحشر ،آية .)7 :
1المصدر السابق (.)455 / 1
2المصدر نفسه (.)455 / 1
164
فعل99ل س99بحانه قس99مته الفئ بين األص99ناف ال99تي ذكره99ا كي ال يتناول99ه األغني99اء دون
ض َواَل فِي أَنفُ ِسُ 9ك ْم إِاَّل فِي ِكتَ99ا ٍ
ب صيبَ ٍة فِي اأْل َرْ ِ اب ِمن ُّم ِ ص َ الفقراء ،وقال تعالىَ " :ما أَ َ
ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِسي ٌر * لِ َك ْي اَل تَأْ َسوْ ا َعلَى َما فَاتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َرحُوا بِ َما ِّمن قَ ْب ِل أَن نَّ ْب َرأَهَا إِ َّن َذلِ َ
آتَا ُك ْم" (الحديد ،آية 22 :ـ .)23
أنا ق9در المص9ائب والبالء قب9ل أن ي9برأ األنفس والمص9ائب واألرض ،ومص9در ذل9ك
قدرته وحكمته البالغة التي منها أن ال يحزن عباده وال يفرحهم بما آتاهم إذا علم99وا أن
المصيبة مقدرة كائنة وال بد ،وقد كتبت قبل خلقهم وذلك يهون عليهم ما أصابهم.1
"ونَ َّز ْلنَ9االنوع الرابع :ذكر المفعول له ،وهو عل9ة للفع9ل المعل9ل ب9ه ،ق9ال هللا تع9الىَ :
َاب تِ ْبيَانًا لِّ ُكلِّ َش ْي ٍء َوهُدًى َو َرحْ َمةً َوبُ ْش َرى لِ ْل ُم ْسلِ ِمينَ " (النح99ل ،آي99ة ،)89 : َعلَ ْيكَ ْال ِكت َ
فقوله" :تِ ْبيَانًا" ـ وما بعدها ـ األحسن أن ينصب على أنه مفعول ألجله لدالل99ة ق99ول هللا
9وا فِيِ 9ه َوهُ9دًى َو َرحْ َم 9ةً لِّقَ99وْ ٍم اختَلَفُْ 9 ك ْال ِكت َ
َ9اب إِالَّ لِتُبَيِّنَ لَهُ ُم الَّ ِذي ْ "و َما أَ ْ
نزَلنَا َعلَ ْي َ تعالىَ :
ي ُْؤ ِمنُونَ " (النحل ،آية .)64 :
اس َما نُ ِّز َل إِلَ ْي ِه ْم" (النحل ،آي99ة ،)44 :وفي "وأَ ْ
نزَلنَا إِلَ ْيكَ ال ِّذ ْك َر لِتُبَيِّنَ لِلنَّ ِ وقال تعالىَ :
ت إِالَّ ت َْخ ِويفًا" (اإلسراء ،آي99ة )59 : "و َما نُرْ ِس ُل بِاآليَا ِ اآليتين بيان لتلك ،وقال تعالىَ :
أي ألجل التخويف.2
النوع الخامس :التعليــل بـ"لع9ل" فهي في كالم هللا ت9أتي للتعلي9ل المج9رد ال لل9ترجي
الستحالته عليه ،فإنه إنما يكون فيما تجهل عاقبته "لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ " (البقرة ،آي99ة ،)21 :
ب َعلَى الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْمالص9يَا ُم َك َم9ا ُكتِ َ
ب َعلَ ْي ُك ُم ِّ 9وا ُكتِ َوقول9ه" :يَ9ا أَيُّهَ9ا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
تَتَّقُونَ " (البقرة ،آية ،)183 :وقوله "لَّ َعلَّهُ يَتَ َذ َّك ُر أَوْ يَ ْخ َشى" (طه ،آية .)44 :
فلع ّل في المواضع المتقدمة قد أخلصت للتعليل للسبب الذي تقدم أوالً ،والرج99اء ال99ذي
فيها متعلق المخاطبين.
النوع السادس :تعليله سبحانه وتع9الى ع9دم الحكم الق9دري والش9رعي بوج9ود الم9انع
ض َولَ ِكن ق لِ ِعبَ99ا ِد ِه لَبَ َغ99وْ ا فِي اأْل َرْ ِ منه ،فمن األول قول هللا تعالىَ " :ولَوْ بَ َسطَ هَّللا ُ الْ 9
9رِّز َ
صي ٌر"( 9الشورى ،آية .)27 : َر َّما يَ َشاء إِنَّهُ بِ ِعبَا ِد ِه َخبِي ٌر بَ ِ
يُنَ ِّز ُل بِقَد ٍ
بيَّن سبحانه أنه ال يوسع الدنيا ـ لبعض ـ الناس سعة تضرهم في دينهم ،وه99و س99بحانه
ينزل من رزقه بحسب ما اقتض99اه لطف99ه وحكمت99ه ،فالم99انع من بس99ط ال99رزق حص99ول
البغي من الناس ،ومن الثاني قول هللا تعالى" :قُلْ َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ هّللا ِ الَّتِ َي أَ ْخ َر َج لِ ِعبَ99ا ِد ِه
ق" (األعراف ،آية ،)32 :فوصف بعض الرزق بكونه طيبا ً مانع ْ
الرِّز ِ ت ِمنََو ْالطَّيِّبَا ِ
من الحكم بتحريمه.
النوع السابع :إنكار هللا س99بحانه على من زعم أن99ه لم يخل99ق الخل99ق لغاي99ة وال لحكم99ة
بقوله" :أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َما َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَا اَل تُرْ َجعُونَ " (المؤمن99ون ،آي99ة ،)115 :
ان أَن يُ ْت َركَ ُسدًى" (القيامة ،آية .)36 : وقوله" :أَيَحْ َسبُ اإْل ِ ن َس ُ
165
واألنواع كثيرة واألصل أن يأتي التعليل بالحروف ،وقد تدل عليه األس9ماء واألفع99ال،
والحق يقال أن السياق له أثر في الداللة على العلية إن لم تكن األدلة نص 9ا ً في العلي99ة،
فينظر فيما يحتمل التعليل وعدمه يحسب السياق.1
5ـ الحكمة من خلق إبليس ووجود هذه اآلثام والشرور في الكون:
في ذلك من الحكم ما ال يحيط بتفصيله إال هللا ،فمنه99ا أن يكم99ل هللا ع99ز وج99ل ألنبيائ99ه
وأوليائه م99راتب العبودي99ة بمجاه99دة الش99يطان وحزب99ه ومخالفت99ه ومراغمت99ه وإغاظت99ه
وإغاظة أوليائه ،واالستعاذة به سبحانه من الشيطان ،واإللجاء إليه سبحانه أن يعي99ذهم
من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية واألخروية م99ا ال يمكن أن
يحصل لهم بدون خلق هللا.
ــ ومنها ـ أي من الحكم ـ خوف المقربين من المؤمنين من ذنوبهم بعد ما ش99اهدوا من
حال إبليس ،وكيف طرد من رحمة هللا تعالى لذنبه؟ فكيف ي99أمن المقرب99ون بع99د ذل99ك؟
وكيف يأمن المؤمنون الصادقون بعد ذلك؟ إن كان قد طرد إبليس ب99ذنب كي99ف يعجب
بعد ذلك عالم بعلمه؟
فس99تظل ه99ذه العبودي99ة مالزم99ة للمالئك99ة المق99ربين واألنبي99اء والمرس99لين والمؤم99نين
الص99ادقين لخ99وفهم من رب الع99المين ،ألن99ه ط99رد إبليس من رحمت99ه ب99ذنب وق99ع في99ه،
فالمالئك99ة المقرب99ون إذا م99ا أم99ر هللا إس99رافيل ب99النفخ في الص99ور ق99الوا :س99بحانك م99ا
عبدناك حق عبادتك مع أنهم لم يخالفوا هللا في أمر ،كما قال هللا عز وج99ل في ش99أنهم:
"اَل يَ ْعصُونَ هَّللا َ َما أَ َم َرهُ ْم َويَ ْف َعلُونَ َما ي ُْؤ َمرُونَ " (التحريم ،آية .)6 :
قال النبي صلى هللا عليه وسلم" :أطَّت السماء وح9ق له99ا أن تَئ99ط م9ا فيه9ا من موض9ع
النبي ص99لى هللا علي99ه ُّ أربع أصابع إال وملك واضع جبهته ساجداً هلل ،2فهذا جبريل راه
وس99لم ك99الحلس الب99الي من ش99دة خوف99ه من الكب99ير المتع99ال ،وه99و أمين وحي الس99ماء،
وهكذا ،فالمالئكة المقربون لما رأوا وشاهدوا ما كان من إبليس ازدادوا خوفا ً ووجالً،
فكيف تستخرج العبودية إال بمثل هذا اإلبتالء والتمحيص؟
واألنبياء والمرسلون وهم أعرف الن99اس باهلل إزدادوا خوف9ا ً ووجالً من رب الع99المين،
والمؤمنون الصادقون ال يغتر واحد منه بعلمه وال بعمله ،ب99ل يظ99ل دائم9ا ً على خ99وف
ووج99ل ،ألن99ه ال ي99أمن من مك99ر هللا .3ق99ال تع99الى" :فَالَ يَ99أْ َم ُن َم ْك َ
99ر هّللا ِ إِالَّ ْالقَ99وْ ُم
ْال َخا ِسرُونَ " (األعراف ،آية .)99 :
ومنها :أي من حكم خلق هللا إلبليس :أنه تبارك وتعالى جعل99ه ع99برة لمن خ99الف أم99ره
وتكبر على طاعته وأصر على معصيته ،كما جعل ذنب أبي البشر آدم ـ عليه السالم ـ
عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه ،فابتلى أبوي الجن
واإلنس بالذنب ،وجعل إبليس عبرة لمن أص99ر ،وأق99ام على ال99ذنب ،وجع99ل آدم ع99برة
لمن تاب ورجع إلى ربه فلله في هذا من الحكم الباهرة واآليات الظاهرة.
ومنها :أي من هذه الحكم أيضاً :أن هللا تبارك وتعالى قد جعل إبليس مح َّكا ً يمتحن ب99ه
خلق99ه ،ليت99بين ب99ه خ99بيثهم وطيبهم ،وهللا س99بحانه وتع99الى ال يبتلي خلق99ه وعب99اده ليعلم
الخ9بيث من الطيب ،فاهلل علم الخ99بيث والطيب أزالً قب99ل أن يخل9ق الخبث9اء والطي99بين،
1مسائل أصول الدين المبحوثة في علم
166
ولكنه أراد أن يميز الخبيث من الطيب من الناس في الدنيا ويمحص الصف ،ويجازي
العباد وفق أعمالهم ال بمقتضى علمه فيهم.1
يث ِمنَ 9ؤ ِمنِينَ َعلَى َم99آ أَنتُ ْم َعلَ ْيِ 9ه َحتَّ َى يَ ِم99ي َز ْال َخبِ َ ـ ق99ال تع99الىَّ " :ما َك99انَ هّللا ُ لِيََ 9ذ َر ْال ُمْ 9
ب" (آل عمران ،آية .)179 : الطَّيِّ ِ
وا ِمن ُك ْم َويَ ْعلَ َم وا ْال َجنَّةَ َولَ َّما يَ ْعلَ ِم هّللا ُ الَّ ِذينَ َجاهَُ 99د ْ
ـ وق99ال تع99الى" :أَ ْم َح ِسْ 99بتُ ْم أَن تَْ 99د ُخلُ ْ
الصَّابِ ِرينَ " (آل عمران ،آية .)142 :
وا ْال َجنَّةَ َولَ َّما يَأْتِ ُكم َّمثَ ُل الَّ ِذينَ خَ لَوْ ْا ِمن قَ ْبلِ ُكم ـ وقال تبارك وتعالى" :أَ ْم َح ِس ْبتُ ْم أَن تَ ْد ُخلُ ْ
َصُ 9ر 9وا َم َع 9هُ َمتَى ن ْ َّس9و ُل َوالَّ ِذينَ آ َمنُْ 9 9ول الر ُ 9وا َحتَّى يَقَُ 9 ضرَّاء َو ُز ْل ِزلُْ 9 َّم َّس ْتهُ ُم ْالبَأْ َساء َوال َّ
هّللا ِ" (البقرة ،آية .)214 :
ب النَّاسُ أَن يُ ْت َر ُكوا أَن يَقُولُوا آ َمنَّا َوهُ ْم اَل يُ ْفتَنُ99ونَ * َولَقَْ 9د فَتَنَّا الَّ ِذينَ وقال تعالى" :أَ َح ِس َ
ص َدقُوا َولَيَ ْعلَ َم َّن ْال َكا ِذبِينَ " (العنكبوت ،آية 2:ـ .)3 ِمن قَ ْبلِ ِه ْم فَلَيَ ْعلَ َم َّن هَّللا ُ الَّ ِذينَ َ
ـ ومنها :أي من الحكم :أن يُظهر هللا عز وجل كمال قدرته لخلقه ،فاهلل عز وجل خل99ق
جبريل وجعله رسوالً لألنبياء ،فهو أمين وحي السماء الذي ب99ه حي99اة األرواح ،وخل99ق
ميكائيل ،وجعله على األرزاق واألمطار التي بها حياة األبدان ،وخلق إسرافيل ووكله
بالصور الذي ينفخ فيه بأمر هللا ،لتحيا األبدان مرة أخرى ،ففيه حياة األبدان بعد أماتة
هللا لها يوم القيامة ،وخلق سائر المالئك99ة ،وخل99ق إبليس والش99ياطين ،وذل99ك من أعظم
آي99ات قدرت99ه ومش99يئته وس99لطانه ،فإن99ه خ99الق األض99داد كالس99ماء واألرض ،والض99ياء
والظالم ،والجنة والنار ،والماء والنار ،والحر والبرد ،والطيب والخبيث ،والضد إنما
يظهر جنس9ه بض9ده ،فل9وال الق9بيح لم نع9رف فض9يلة الجمي9ل ،ول9وال الفق9ر لم نع9رف
ق99درالغنى ،وخل99ق هللا آدم من غ99ير أب ومن غ99ير أم ،وخل99ق ح99واء من أب دون أم،
وخلق عيس99ى من أم دون أب ،وخل99ق س99ائر البش99ر من أب وأم ،لنعلم أن هللا على ك99ل
شئ قدير ،إن شاء أن يخلق بغير أب وبغ99ير أم خل99ق ،وإن ش99اء أن يخل99ق من أب وأم
خلق ،فاهلل سبحانه وتعالى يخلق األضداد ليظهر كمال قدرته ومشيئته تبارك وتعالى.
ـ ومنه99ا :أن99ه س99بحانه وتع99الى يحب أن يش99كر بحقيق99ة الش99كر وأنواع99ه ،وال ريب أن
أولياءه نالوا بوجود عدو هللا إبليس وجنوده وامتحانهم ب99ه من أن99واع ش99كره م99ا لم يكن
يحصل لهم بدونه ،فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قب9ل أن يخ9رج منه99ا ،وبين ش99كره
بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله.
سبحانه من خلق الخلق بحكمته وعدله ،فما من شئ في الكون صغر أو كبر علمناه أو
جهلناه ،رأيناه أم غاب عنا إال وهو مخلوق هلل بعدله وحكمه.2
ــ ومنها :أن المحب99ة ،واإلناب9ة ،والتوك9ل ،والص99بر ،والرض9ا إلى غ9ير ذل99ك من ه9ذه
المع99اني هي أحب العبودي99ة إلى هللا س99بحانه وتع99الى ،وه99ذه العبودي99ة ال تتحق99ق إال
بالجهاد بكل ما تحمله الكلم99ة من مع99نى ه99و ذروة س99نام العبودي99ة ،وأحبه99ا إلى ال99رب
سبحانه ،فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي ال يحصى
حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إال هللا ،لو لم يخلق هللا عز وجل إبليس ،فكي99ف
تحقق مرتبة العبودية بجهادك لنفسك ولهواك وللشيطان؟
167
ومنها أن من أسماء هللا :الحكيم ،والحكمة من صفاته سبحانه وحكمت99ه تس99تلزم وض99ع
كل شيء موضعه الذي يليق به ،فاقتضت حكمته خل99ق المتض99ادات ،وتخص99يص ك99ل
واحد منها بما ال يليق به غيره من االحكام والصفات والخصائص.1
ومنها :أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوج99وه ،فه99و محم99ود على عدل99ه ومنع99ه
وخفضه وانتقامه وإهانته ،كما هو محمود على فضله وعطائه ورفع99ه وإكرام99ه ،فلل99ه
الحمد التام الكام99ل على ه99ذا وه99ذا ،وه99و يحم99د نفس99ه على ذل99ك كل99ه ،ويحم99ده علي99ه
ومالئكته ورسله وأولياؤه ،ويحمده علي9ه أه9ل الموق99ف جميعهم ،وم9ا ك99ان من ل9وازم
كمال حمده وتمام99ه فل99ه في خلق99ه وإيج99اده الحكم99ة التام99ة كمال99ه علي99ه الحم99د الت99ام،2
فتبارك هللا رب العالمين وأحكم الحاكمين ،ذو الحكمة البالغ99ة والنعم99ة الس99ابغة ،ال99ذي
وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وما ذكرنا من هذه الحكم قطرة من بحر ،وإال
فعقول البش99ر أعج99ز وأض99عف وأقص99ر من تحي99ط بكم99ال هللا وحكمت99ه في خلق99ه لك99ل
شيء ،3فإن كان هللا تبارك وتعالى قد خلق إبليس لهذه الحكم التي وقفن99ا على بعض99ها،
فال شك أن خلق هللا لغير إبليس ـ وهو رأس الشر ـ لحكم كث99يرة من ب99اب أولى ،فاهلل
تبارك وتعالى لم يُطلع خلقه إال على بعض الحكم.4
ويكفي العاقل :أن يعلم أن هللا عز وجل عليم وحكيم ،بهرت األلباب حكمت99ه ،ووس99عت
كل شيء رحمته ،وأحاط بكل شيء علم99ه ،وأحص99اه لوح99ه وقلم99ه ،وأن هللا في ق99دره
سراً مصونا ً وعلماً ،مخزونا ً احترز به دون جميع خلقه ،واستأثر به على جميع بريته
وإنم9ا يص9ل أه9ل العلم ب9ه وأرب9اب واليت9ه إلى جم9ل من ذل9ك ،وق9د ال ي9ؤذن لهم في
ذكرها ،وربما كلموا الناس في ذلك على قدر عقولهم وقد سأل موسى وعيسى وعزير
ربنا تبارك وتعالى عن شيء من سر القدر ،وأنه لو ش99اء أن يط99اع ألطي99ع ،وأن99ه م99ع
ذلك يعصى ف9أخبرهم س9بحانه أن ه9ذا س9ره ،وفي ه9ذا المق9ام ت9اهت عق9ول كث9ير من
الخالئق.5
وعن عمران بن ميمون عن ابن عباس قال :لما بعث هللا موسى وكلمه قال :اللهم أنت
رب عظيم ولو شئت أن تطاع ألطعت ،ولو شئت أال تعصى لم99ا عص99يت وأنت تحب
أن تطاع ،وأنت في ذلك تعصى ،فكيف هذا يا رب؟ فأوحى هللا إليه :إني ال أُسأل عم99ا
أفعل وهم يسألون ،فانتهى موسى.6
أ ـ ما الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن هللا يعلم كل شيء:
نقول في مثل هذه اإلمور إننا قد تدرك حكمتها وقد ال تدرك فإن كث99يراً من األش99ياء ال
وح قُ ِل الرُّ و ُح ِم ْن أَ ْم ِر َربِّي َو َم99ا أُوتِيتُم
نعلم حكمتها كما قال تعالىَ ":ويَسْأَلُونَكَ ع َِن الرُّ ِ
ِّمن ْال ِع ْل ِم إِالَّ قَلِيالً" (اإلسراء ،آية ،)85 :فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل ما الحكمة
أن هللا جعل اإلبل على هذا الوجه ،وجعل الخيل على هذا الوجه ،وجع9ل الحم9ير على
هذا الوجه ،وجعل اآلدمي على هذا الوجه ،وما أشبه ذلك ،ول99و س99ألنا عن الحكم99ة في
هذه األمور ما علمناها ولو سئلنا ما الحكمة في أن هللا عز وج99ل جع99ل الظه99ر أربع9ا ً
168
وصالة العصر أربعا ً والمغرب ثالثا ً وصالة العشاء أربعا ً وما أشبه ذلك م99ا اس99تطعنا
أن نعلم الحكمة في ذلك وبهذا علمنا أن كثيراً من األمور الكوني99ة وكث99يراً من األم99ور
الشرعية تخفي علينا حكمتها وإذا كان كذلك فإن99ا نق99ول إن التماس99نا للحكم99ة في بعض
من هللا علين9ا بالوص9ول إليه9ا ف9ذاك زي9ادة فض9ل األشياء المخلوق9ة أو المش9روعة إن ّ
وخير وعلم ،وإن لم تصل إليها فإن ذلك ال ينقصنا شيئاً ،ثم نع99ود إلى ج99واب الس99ؤال
وهو ما الحكمة في أن هللا عز وجل وكل بنا كراما ً كاتبين يعلمون م99ا نفع99ل؟ فالحكم99ة
من ذلك بيان أن هللا سبحانه وتعالى نظم االشياء وق ّدرها وأحكمها إحكام 9ا ً متقن 9ا ً ح99تى
إن99ه س99بحانه وتع99الى جع99ل على أفع99ال ب99ني آدم وأق99والهم كرام9ا ً ك99اتبين م99وكلين بهم
يكتبون ما يفعلون مع أن سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه ولكن كل ه99ذا
من أجل بيان كمال عناية هللا عز وج9ل باإلنس9ان ،وكم9ال حفظ9ه تب9ارك وتع9الى وأن
هذا الكون منظم أحسن نظام ومحكم أحسن إحكام وهللا عليم حكيم.1
ب ـ الشر ال ينسب إلى هللا:
2
الشر ال ينسب إلى هللا ،قال صلى هللا عليه وسلم :والش99ر ليس إليك ،فال ينس99ب الش99ر
ال فعالً وال تقديراً وال حكماً ،بل الش99ر في مفع99والت هللا ال في فعل99ه ،ففعل9ه كل99ه خ9ير
وحكمة ،ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي:
ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكوي99ه بالن99ار ،ف99المفعول ش99ر ولكن الفع99ل خ99ير،
ألنك تريد مصلحته ،ثم إن ما يقدره هللا ال يكون ش9راً محص9ناً ،ب9ل في محل9ه وزمان9ه
فقط ،فإذا أخذ هللا الظالم أخذ عزيز مقتدر صار ذلك شراً بالنس99بة ل99ه ،أم99ا لغ99يره ممن
يتع999ظ بم999ا ص999نع هللا ،فيك999ون خ999يراً ،ق999ال تع999الى في القري999ة ال999تي اعت999دت في
خَلفَهَا َو َموْ ِعظَةً لِّ ْل ُمتَّقِينَ " (البقرة ،آية .)66 :
َفج َع ْلنَاهَا نَ َكاالً لِّ َما بَ ْينَ يَ َد ْيهَا َو َما ْ
السبت" َ
وكذا إذا استمرت النعم على اإلنسان حمله ذلك على األشر والبط99ر ،ب99ل إذا اس99تمرت
الحسنات ولم تحصل منه س9يئة تكس99ر من ح9دة نفس9ه ،فق9د يغف99ل عن التوب99ة وينس9اها
ويغتر بنفسه ويعجب بعمله وكم من إنس99ان أذنب ذنب9ا ً ثم ت99ذكر واس99تغفر وص99ار بع99د
التوبة خيراً منه قبلها ،ألنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها ،فهذا
آدم عليه ـ الصالة والسالم ـ لم يحصل له اإلجتباء والتوبة والهداية إال بعد أن أكل من
9الى":ربَّنَ99ا ظَلَ ْمنَ99ا أَنفُ َس9نَا َوإِن لَّ ْم تَ ْغفِ99رْ لَنَ99ا َوتَرْ َح ْمنَ99ا
َ الشجرة وحصل منه الندم ق99ال تع9
لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ْال َخا ِس ِرينَ " (األعراف ،آية )23 :فقال تع99الى":ثُ َّم اجْ تَبَ99اهُ َربُّهُ فَتََ 9
9اب َعلَ ْيِ 9ه
َوهَدَى" (الشورى ،آية .)122 :
والثالثة الذين خلفوا بعد المعصية وبع99د المص99يبة ال99تي أص99ابتهم ح99تى ض99اقت علي99ه
أنفسهم وضاقت عليهم االرض بما رحبت وصار ينكرهم الناس حتى أق99اربهم ،ص99ار
قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه ـ ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفس99ه علي99ه ،فبع99د ه99ذا
الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظ99ير أب99داً ،وص99ارت ح99الهم أيض9اً،
بعد أن تاب هللا عليهم أكمل من قبل وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل ،فقد ُذكروا
ت ت َعلَ ْي ِه ُم األَرْ ضُ بِ َم99ا َر ُحبَ ْ ض 9اق َ ْ
9وا َحتَّى إِ َذا َ 9ال":و َعلَى الثَّالَثَ ِ 9ة الَّ ِذينَ ُخلِّفُْ 9
َ ب99أعينهم ق9
169
9اب َعلَ ْي ِه ْم لِيَتُوبُْ 9
9وا إِ َّن هّللا َ وا أَن الَّ َم ْل َجأ َ ِمنَ هّللا ِ إِالَّ إِلَ ْيِ 9ه ثُ َّم تََ 9
ت َعلَ ْي ِه ْم أَنفُ ُسهُ ْم َوظَنُّ ْ
ض اق َ ْ
َو َ
1
َّحي ُم" (التوبة ،آية . )118 : هُ َو التَّوَّابُ الر ِ
فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى ي99وم القيام99ة وه99ذا ش99يء
عظيم ،وسواء كان ذلك في اإلمور الشرعية أو في اإلمور الكوني99ة ،ولكن هاهن99ا أم99ر
يجب معرفته وه99و أن الخيري99ة والش99رية ليس99ت باعتب99ار قض99اء هللا س99بحانه وتع99الى،
فقضاء هللا تعالى كله خير ،حتى ما يقضيه هللا من شر هو في الواقع خير ،وإنما الشر
في المقضي ،أما قضاء هللا نفسه فهو خير والدليل قول الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم:
الخير بيديك والشر ليس إليك.2
ولم يقل والشر بيدك ،فال ينسب الشر إلى هللا أبداً ،فضالً عن أن يكون بيديه فال ينسب
الشر إلى هللا ال إرادة وال قضاء فاهلل ال يريد بقضاء الش99ر ش99راً ،لكن الش99ر يك99ون في
المقضي ،وقد يالئم اإلنسان وقد ال يالئمه ،وقد يكون طاعة وقد يك9ون معص9ية ،فه9ذا
في المقضي ،ومع ذلك فهو وإن كان شراً في محله فهو خير في محل آخر ،وال يمكن
أن يكون شراً محضاً ،حتى المقضي على كونه شراً ليس شراً محضاً ،بل هو شر من
وجه خير من وجه ،أو شر في محل خير في محل آخر ولنضرب ل99ذلك مثالً :الج99دب
والفقر هذا شر ،لكنه خ9ير باعتب9ار م9ا ينتج عن9ه ،ق9ال تع9الى":ظَهََ 9ر ْالفَ َس9ا ُد فِي ْالبَ9رِّ
ْض الَّ ِذي َع ِملُ99وا لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِج ُع99ونَ " (ال99روم، اس لِيُِ 9ذيقَهُم بَع َ ت أَ ْيِ 9دي النَّ ِ َو ْالبَحْ ِر بِ َما َك َس9بَ ْ
آية )41 :والرجوع إلى هللا ـ عز وج99ل ـ من معص99يته إلى طاعت99ه ال ش99ك أن99ه خ99ير
وينتج خيراً كثيراً ،فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد األنفس كل99ه ينقلب إلى
لذة إذا كان يعقبه الص99الح وله99ذا ق99ال":لَ َعلَّهُ ْ9م يَرْ ِج ُع99ونَ " وكم من أن99اس طغ99وا بك99ثرة
المال وزادوا ونسوا هللا ـ عز وجل ـ واشتغلوا بالمال فإذا أُصيبوا بفقر رجع99وا إلى هللا
وعرفوا أنهم ضالون ،فهذا الشر صار خيراً باعتبار آخر ،ك99ذلك قط99ع ي99د الس99ارق ال
شك أنه شر عليه لكن9ه خ99ير بالنس9بة لغ9يره ،أم9ا بالنس99بة ل9ه فألن قطعه99ا يس9قط عن99ه
العقوبة في اآلخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب اآلخ99رة ،وه99و أيض9ا ً خ99ير في غ99ير
السارق فإن فيه ردعا ً لمن أراد أن يسرق وفيه أيضا ً حف99ظ لألم99وال ،ألن الس99ارق إذا
عرف أنه إذا سرق ستقطع يده امتنع من السرقة فصار في ذلك حفظ ألموال الناس.3
فاهلل سبحانه وتعالى ال يخلق الش9ر المحض ال9ذي ال خ9ير في9ه ،وال منفع9ة في9ه ألح9د،
وليس له فيه حكمة وال رحمة ،وال يعذب الناس بال ذنب ،وقد بين العلماء ما في خلق99ه
إلبليس والحش99رات والكواس99ر من الحكم99ة والرحم99ة ،فالش99يء الواح99د يك99ون خلق99ه
باعتبار خيراً وباعتب99ار آخ99ر ش99راً ،فاهلل خل99ق إبليس يبتلي ب99ه عب99اده فمنهم من يمقت99ه
ويحارب منهجه ،ويعاديه ويعادي أولي99اءه ،وي99والي ال99رحمن ويخض99ع ل99ه ،ومنهم من
يواليه ويتبع خطواته.4
ثانياً :التحسين والتقبيح:
1القول المفيد على كتاب التوحيد محمد صالح العثيمين (.)178 /3
2صحيح مسلم رقم .771
3القول المفيد على كتاب التوحيد (.)179 /3
4القدر لألشقر صـ .71
170
هذا الموضوع له عالقة بالموضوع السابق ،ف99البحث في99ه ن99اتج عن البحث في تعلي99ل
أفعال هللا هل يحكم عليها بحكم العقل أوالً5؟ إن إطالق التحسين والتقبيح على كل فعل
من جه99ة العق99ل وح99ده دون الش99رع ،أو نفي أي دور للعق99ل في تحس99ين األفع99ال أو
تقبيحها غير صحيح ،والمذهب الصحيح في هذه المسألة أنه :ثبت بالخطاب والحكم99ة
الحاصلة من الشرائع ثالثة أنواع:
1ـ أن يكون الفعل مشتمالً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الش99رع ب99ذلك ،كم99ا يعلم
أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فساده ،فهذا النوع ه99و حس99ن
قبيح ،وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك ،ال أن99ه أثبت للفع99ل ص99فة لم تكن لكن ال يل99زم
من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا ً في اآلخرة إذا لم يرد الشرع ب99ذلك ،وه99ذا
مما غلط فيه غالة القائلين بالتحس99ين والتق99بيح ،2ف99إنهم ق99الوا :إن العب99اد يع99اقبون على
9الى":و َم99ا ُكنَّا
َ أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث هللا إليهم رسوال وهذا خالف النص ،قال تع9
ث َرسُوالً" (اإلسراء ،آية .)15 : ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ
2ـ أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً ،وإذا نهى عن ش99يء ص99ار قبيح9اً ،واكتس99ب
صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
3ـ أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن به العبد ،ه9ل يطيع9ه أم يعص9يه ،وال يك9ون الم9راد
فعل المأمور به ،كما أمر إبراهيم بذبح ابنه "فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِي ِن" (الصافات ،آية :
)103حصل المقصود فف99داه بال99ذبح وك99ذلك ح99ديث االب99رص واألق99رع واألعمى لم99ا
بعث هللا إليهم من سألهم الصدقة ،فلما أج99اب األعمى ق99ال المل99ك :أمس99ك علي99ك مال99ك
فإنم99ا ابتليتم ،فرض99ي هللا عن99ك وس99خط على ص99احبيك ،3فالحكم99ة منش99ؤها من نفس
األمر ال من نفس المأمور به ،فهذه االقسام الثالثة هي الصواب.4
وهناك نقطة مهمة وهي :إن ادراك العقل لحسن الفعل أو قبحه أك99ثره مجم99ل ،فالعق99ل
ال يحيط بالوجوه واالعتبارات لألفعال كلها ولذلك ك9ان الش99رع وإرس99ال الرس99ل الب99د
منه خاصة مع غلب99ة اله99وى ،ولكن ه99ذا ال يمن99ع وج99ود ق99در مش99ترك بين العقالء في
إدراك حسن بعض األفعال أو قبحها ،5وإذا تتبعنا نصوص الشرع لوجدنا الداللة على
أن هذا مركوز في الفطرة ومن األدلة على ذلك:
هّللا َ هّللا
وا َو َج ْدنَا َعلَ ْيهَا آبَاءنَا َو ُ أ َم َرنَ99ا بِهَ99ا قُ99لْ إِ َّن َ الَ اح َشةً قَالُ ْ وا فَ ِ 1ـ قال تعالىَ ":وإِ َذا 9فَ َعلُ ْ
يَأْ ُم ُر بِ ْالفَحْ َشاء أَتَقُولُونَ َعلَى هّللا ِ َم99ا الَ تَ ْعلَ ُم99ونَ * قُ99لْ أَ َمَ 9ر َربِّي بِ ْالقِ ْسِ 9ط" (األع99راف،
آية 28 :ـ .)29
فالفاحشة هنا هي طواف المشركين عراة بالبيت رجاالً ونساء ،فبين هللا أنه ال يأمر به
لقبحه ،ثم بين هللا أنه ال يأمر إال بما هو حسن.6
ش َما ظَهَ َر ِم ْنهَا َو َم99ا بَطَنَ َوا ِإل ْث َم َو ْالبَ ْغ َي
اح َ 2ـ وقال هللا تعالى":قُلْ إِنَّ َما َح َّر َم َربِّ َي ْالفَ َو ِ
وا َعلَى هّللا ِ َما الَ تَ ْعلَ ُم99ونَ " وا بِاهّلل ِ َما لَ ْم يُن َِّزلْ بِ ِه س ُْلطَانًا َوأَن تَقُولُ ْ
ق َوأَن تُ ْش ِر ُك ْ بِ َغي ِْر ْال َح ِّ
(األعراف ،آية ،)33 :ففي اآلية علق هللا التحريم ببعض األفعال لفحشها.
171
اح َش9ةً َو َس9اء َس9بِيالً" (اإلس99راء ،آي99ة : ُوا ال ِّزنَى إِنَّهُ َكانَ فَ ِ 3ـ وقال هللا تعالىَ ":والَ تَ ْق َرب ْ
،)32فاهلل عز وجل علل النهي عن قرب الزنا بكونه فاحشة.1
ق" ت ِمنَ ال9ر ِّْز ِ 4ـ وقال هللا تعالى":قُلْ َم ْن َحَّ 9ر َم ِزينَ9ةَ هّللا ِ الَّتِ َي أَ ْخَ 9ر َج لِ ِعبَ99ا ِد ِه َو ْالطَّيِّبَ99ا ِ
(األعراف ،آية ،)32 :فوصف هللا بعض رزقه بأنه طيب ،وأن هذا الوصف 9يقتض99ي
عدم تحريمه ،فدل على ثبوت وص99ف للفع99ل ه99و منش99أ للمص99لحة م99انع من التح99ريم،
وهذا هو التحسين العقلي عينه.2
5ـ لقد ضرب هللا أمثلة عقلية كثيرة دالة على حسن التوحي99د وم99دح فاعل99ه ،وعلى قبح
ب لَ ُكم َّمثَاًلتعالى":ضَ 9ر َ9
َ الشرك وذمه وذم فاعله ،واألدلة فيه كثيرة ،فمن ذلك قول هللا
ت أَ ْي َم99انُ ُكم ِّمن ُشَ 9ر َكاء فِي َم99ا َرزَ ْقنَ99ا ُك ْم فَ99أَنتُ ْم فِيِ 9ه َسَ 9واء ِم ْن أَنفُ ِسُ 9ك ْم هَ99ل لَّ ُكم ِّمن َّما َملَ َك ْ
ت لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُ99ونَ " (ال99روم ،آي99ة .)28 :ففي ص ُل اآْل يَا ِ ك نُفَ ِّ تَخَافُونَهُ ْم َك ِخيفَتِ ُك ْم أَنفُ َس ُك ْم َك َذلِ َ
هذا المثل بيان من هللا للمشركين أنهم إذا كانوا ال يرضون أن يكون مم99اليكهم ش99ركاء
لهم ،فكيف ساغ لهم أن يجعلوا المخلوقين شركاء للخالق فالخ99الق أولى بالتنزي99ه ونفي
الشريك في العبادة ،3فلو ك99ان الش99رك قبيح9ا ً لمج99رد النهي عن99ه ،الكتفى ب99النهي عن99ه
فقط ،ولم يذكر مثالً يدل على قبحه في العقول والفطر.4
ض ٍّ 9ر الَّ تُ ْغ ِن َعنِّي 9ر ْد ِن ال 9رَّحْ َمن بِ ُ ومن99ه ق99ول هللا تع99الى9":أَأَتَّ ِخُ 9ذ ِمن ُدونِ ِ 9ه آلِهَ 9ةً إِن يُِ 9
ضالَ ٍل ُّمبِي ٍن" (يس ،آية 23 :ـ .)24 ون * إِنِّي إِ ًذا لَّفِي َ َشفَا َعتُهُ ْم َش ْيئًا َوالَ يُنقِ ُذ ِ
فلم يحتج هللا عليهم بمجرد األمر ،بل احتج عليهم بالعقل ومقتضى الفطرة ،ألن من ال
يملك دفع ضر عن نفسه ف9أولى أن ال يق9در على دفع9ه عن غ9يره ،فك9انت عبادت9ه من
كان نافعا ً ضالالً مبينا ً.5
إن مجرد معرفة حسن األفعال وقبحها بالعقل قبل بعثة الرسول ص99لى هللا علي99ه وس99لم
ال يترتب عليه الثواب والعقاب ،كما أننا نثبت حس99ن األفع99ال وقبحه99ا ل99ذاتها ومعرف99ة
العقل لذلك ،كما أنه له مدخل في معرف99ة حس99ن بعض األفع99ال وقبحه99ا ،وأم99ا الث99واب
على فعل األفعال الحسنة فإنما هو من قبل الشارع والعقاب على فعل األفعال القبيحة،
إنم99ا ه99و من قب99ل الش99ارع ،فال يجب ش99ئ على المكل99ف قب99ل ورد الش99رع ،والث99واب
ثوالعق99اب متوق99ف على بعث99ة الرس99ل ،كم99ا ق99ال تع99الىَ " :و َم99ا ُكنَّا ُم َعِّ 9ذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ
َرسُوالً" (اإلسراء ،آية .)15 :
وتحقيق الحق في هذا األصل العظيم أن القبح ثابت في نفسه ،وأن9ه ال يع9ذب هللا علي9ه
إال بعد إقامة الحجة بالرسالة.6
والحق الذي ال يجد التناقض إليه السبيل إن األفعال في نفسها حسنة وقبيحة ،كما أنه99ا
نافعة وضارة ،ولكن ال يترتب عليها ثواب وال عقاب ،إال باألمر والنهي ،وقبل ورود
األم9ر والنهي ال يك9ون العم9ل الق9بيح موجب9ا ً للعق9اب م9ع قبح9ه في نفس9ه ،واألوث9ان،
والكذب ،والزنا ،والظلم ،والفواحش كلها في ذاتها ،والعقاب عليها مشروط بالشرع.7
172
فاهلل سبحانه وتعالى ال يع99ذب عب99اده إال بع99د إقام99ة الحج99ة عليهم ببعث99ة الرس99ل عليهم
"و َم99ا ُكنَّا ُم ْهلِ ِكي ْالقَُ 9رى إِاَّل َوأَ ْهلُهَ99ا ظَ99الِ ُمونَ " فضالً منه تعالى ورحم99ة ،ق99ال تع99الىَ :
(القصص ،آية .)59 :
وه99ذا من فض99ل هللا ورحمت99ه أن ال يع99ذب الن99اس إال بع99د إقام99ة الحج99ة عليهم ببعث99ة
اس َعلَى هّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْعَ 9د الرسل ،قال هللا تعالى" :رُّ ُسالً ُّمبَ ِّش ِرينَ َو ُمن ِ 9ذ ِرينَ لِئَالَّ ي ُك99ونَ لِلنَّ ِ
الرُّ س ُِل" (النساء ،آي99ة ،)165 :فه99ذه اآلي99ة ت99دل دالل99ة ص99ريحة على أن الحج99ة إنم99ا
قامت بالرسل وأن9ه بع9د مج99يئهم ال يك9ون للن9اس على هللا حج9ة ،وه99ذا ي99دل على أن99ه
تع999الى ال يع999ذب الن999اس قب999ل مجئ الرس999ل إليهم ،ألن الحج999ة حينئ999ذ لم تقم عليهم،
فالصواب إثب99ات الحس99ن والقبح عقالً ونفي التع99ذيب على ذل99ك إال بع99د بعث99ة الرس99ل،
فالحسن والقبح العقلي ال يستلزم التعذيب ،وإنما يستلزمه مخالفة المرسلين.1
ومن اآليات الدالة داللة صريحة على معرفة العق99ل حس99ن األفع99ال وقبحه99ا وأنه99ا في
ُوف َويَ ْنهَاهُ ْم ع َِن ْال ُمن َك ِر َوي ُِحلُّ لَهُ ُم ذاتها حسنة وقبيحة قول هللا تعالى" :يَأْ ُم ُرهُم بِ ْال َم ْعر ِ
ث" (األعراف ،آية )127 :وذل99ك ألن المع99روف ال99ذي ت َويُ َحرِّ ُم َعلَ ْي ِه ُم ْال َخبَآئِ َالطَّيِّبَا ِ
يأمرهم به تعالى هو ما تعرفه وتقر بحسنه العقول والفطر الس99ليمة وأن المنك99ر ال99ذي
ينهاهم عنه تعالى هو ما تنكره العقول والفطر السليمة وتق99ر بقبحه ،2وي99دل على ذل99ك
ث" ،فه9ذه ت َويُ َح9رِّ ُم َعلَ ْي ِه ُم ْال َخبَ9آئِ َ
أيضا ً قوله تعالى في نفس اآليةَ " :وي ُِح 9لُّ لَهُ ُم الطَّيِّبَ9ا ِ
اآلية تدل داللة صريحة في أن الحالل كان طيبا ً قبل حله ،وأن الخبيث كان خبيثا ً قب99ل
تحريمه.3
إن الطيب إذا أح99ل من الش99ارع فق99د اكتس99ب طيب 9ا ً آخ99ر إلى طيب99ه ،فص99ار طيب 9ا ً من
الوجهين معاً ،وكذلك القبيح إذا نهى الشارع عنه اكتسب قبحا ً إلى قبحه ،فصار قبيح99ا ً
من الوجهين معا ً ،4وذلك ألن حسن األفعال وقبحها ثابتان لذاتها ،ويكتشف ذلك بالعقل
والشرع معا ً.5
ثالثاً :فعل األصلح ،معنى االستطاعة وتكليف ما ال يطاق:
1ـ وجوب فعل اإلصلح:
هذه المسألة متفرعة عن مسألة التحسين والتقبيح العقل99يين ،معتق99دنا في ه99ذه المس99ألة:
إنه ال يجب فعل األصلح على هللا تعالى ،بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ،فاهلل
أمر العباد بما فيه صالحهم ،ونهاهم عما فيه فسادهم ،وأن فع99ل الم99أمور ب99ه مص99لحة
عامة لمن فعله ،وأن إرسال الرسل مصلحة ،وإن ك99ان في99ه ض99رر على بعض الن99اس
لمعصيته ،ففعل المأمور به وترك المنهي عنه مصلحة لكل فاع99ل وت99ارك ،وأم99ا نفس
األمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة للعباد ،وإن تضمن شراً لبعضهم وهكذا سائر ما
يقدره هللا ـ تعالى ـ تغلب فيه المصلحة والرحم99ة والمنفع99ة ،وإن ك99ان في ض99من ذل99ك
ضرر لبعض الناس ،فلله في ذلك حكمة أخرى ..وإن كان في بعض ما يخلق9ه م99ا في9ه
173
ضرر لبعض الناس ،أو هو سبب ضرر ـ كال99ذنوب ـ فالب99د في ك99ل ذل99ك من حكم99ة
ومصلحة ألجلها خلقها ،وقد غلبت رحمته غضبه.1
2ـ معنى اإلستطاعة:
هذه المسألة من أهم المسائل في باب القدر ،ألنها تتعلق بقدرة العب99د واس99تطاعته ال99تي
جعلها هللا مناط التكليف ،ويتعلق بها أمران مهمان:
أحدهما :هل للعبد قدرة يفعل أو ال؟ والث99اني :ه99ل اس99تطاعته قب99ل الفع99ل فق99ط أو مع99ه
فقط ،أو هي قبل الفعل وبعده؟ وتحدث العلماء في هذه المسألة بالتفصيل فقالوا:
أ ـ فهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع ،والتمكن وسالمة األآلت ،وهي ال99تي
تكون مناط األمر والنهي ،وهي المصححة للفعل ،فهذه ال يجب أن تق99ارن الفع99ل ،ب99ل
قد تكون قبله متقدمة عليه ،وهذه االس99تطاعة المتقدم99ة ص99الحة للض99دين ،ومث99ال ه99ذه
اس99تَطَا َع إِلَيِْ 99ه َس99بِيالً" (آل
ت َم ِن ْ اس ِحجُّ ْالبَ ْي ِ
تع99الى":وهّلِل ِ َعلَى النَّ ِ
َ االس99تطاعة قول99ه
عمران ،آية ،)97 :فهذه االستطاعة قبل الفع99ل ،ول99و لم تكن إال م99ع الفع99ل لم99ا وجب
الحج إال على من حج ،وال عصى أحد بترك الحج ،وال كان الحج واجبا ً على أحد قبل
اس 9تَطَ ْعتُ ْم" (التغ99ابن، اإلحرام ،بل قبل فراغه ،ومن أمثلتها قوله تعالى":فَ99اتَّقُوا هَّللا َ َم99ا ْ
آية .)16 :فأمر بالتقوى بمقدار االستطاعة ،ولو أراد االس99تطاعة المقارن99ة لم99ا وجب
على أحد من التق99وى إال م9ا فع99ل فق99ط ،إذ ه99و ال9ذي قارنت99ه تل99ك االس99تطاعة ،2وه9ذه
االستطاعة هي من99اط األم9ر والنهي ،والث99واب والعق9اب ،وعليه9ا يتكلم الفقه99اء ،وهي
الغالبة في عرف الناس.3
ب ـ وهناك االستطاعة التي يجب معها وجود الفعل ،وه99ذه هي االس99تطاعة المقارن99ة
السْ 9م َع َو َم99ا َك99انُ ْ
وا للفعل الموجبة له ،ومن أمثلتها قول99ه تع99الىَ ":م99ا َك99انُ ْ
وا يَ ْس9تَ ِطيعُونَ َّ
صرُونَ " (هود ،آية .)20 : يُ ْب ِ
َت أَ ْعيُنُهُ ْم فِي ِغطَ99اء عَن
ض 9ا * الَّ ِذينَ َك99ان ْ وقوله":وع ََرضْ نَاَ 9جهَنَّ َم يَوْ َمئِ ٍذ لِّ ْل َك99افِ ِرينَ َعرْ ً
َ
ِذ ْك ِري َو َكانُوا اَل يَ ْستَ ِطيعُونَ َس ْمعًا" (الكهف ،آية 100 :ـ .)101
ف99المراد بع99دم االس99تطاعة مش99قة ذل99ك عليهم ،وص99عوبته على نفوس99هم فنفوس99هم ال
تستطيع إرادته ،وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوا ،وهذه ح99ال من ص99ده ه99واه أو
رأيه الفاسد عن استماع كتب هللا المنزلة ،واتباعه99ا ،وق99د أخ99بر أن99ه ال يس99تطيع ذل99ك،
وهذه االستطاعة هي المقارنة الموجبة له .4وهذه االس99تطاعة هي االس99تطاعة الكوني99ة
التي هي مناط القضاء والقدر ،وبها يتحقق وجود الفعل.5
وبذلك نثبت نوعي االستطاعة ،سواء التي هي مناط التكليف ،وهذه تكون قبل الفع99ل،
وبها يتعلق الشرع حيث ال يكلف غ99ير المس99تطيع ،واألخ99رى ال99تي تك99ون م99ع الفع9ل،
174
فهذه يتحقق الفع99ل به99ا وتك99ون بق99درة العب99د وفعل99ه ،لكنه99ا ال تق99ع إال موافق99ه للقض99اء
والقدر.6
3ـ ال تكليف إال بما يطاق:
لم يكلف هللا تعالى الخلق إال بما يطيقونه ،وال يطيق99ون إال م99ا كلفهم ،وه99و تفس99ير "ال
حول وال قوة إال باهلل" نقول :ال حيلة ألحد وتح ّول ألحد وال حركة ألح99د عن معص99ية
هللا ،إال بمعونة هللا وال قوة ألح99د على إقام99ة طاع99ة هللا والثب99ات عليه99ا إال بتوفي99ق هللا
ف هّللا ُ نَ ْفسًا إِالَّ ُو ْس َعهَا" (البقرة ،آية ،)286 :وقال تعالى":الَ
تعالى ،قال تعالى":الَ يُ َكلِّ ُ
ف نَ ْفسًا إِالَّ ُو ْس َعهَا" (االنعام ،آية .)152 : نُ َكلِّ ُ
175
المبحث التاسع :سنة هللا في اآلجال وقدرة هللا وثمار اإليمان بالقدر:
أوالً :سنة هللا في اآلجال:
إن هللا سبحانه وتعالى ق ّدر آجال الخالئ99ق ،بحيث إذا ج99اء أجلهم ال يس99تأخرون س99اعة
وال يس99تقدمون ،ق99ال تع99الى":إِ َذاَ 9ج 9اء أَ َجلُهُ ْم فَالَ يَ ْس99تَأْ ِخرُونَ َس 9ا َعةً َوالَ يَ ْس99تَ ْق ِد ُمونَ "
(يونس ،آية .)49 :
س أَ ْن تَ ُم99وتَ إِالَّ بِ 9إ ِ ْذ ِن هللا ِكتَابً99ا ُّم َؤ َّجالً" (آل عم99ران ،آي99ة : وقال تعالىَ ":و َماَ 9كانَ لِنَ ْف ٍ
.)145
وعن عبد هللا بن مسعود قال :قالت أم حبيب99ة زوج الن99بي ص99لى هللا علي99ه وس99لم :اللهم
أمتعني بزوجي رسول هللا ،وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية ،ق99ال :فق99ال الن99بي ص99لى
هللا عليه وسلم ،قد سألت هللا آلج99ال مض99روبة ،وأي99ام مع99دودة ،وأرزاق مقس99ومة ،لن
يعجل ش9يئا ً قب9ل حل9ه ،ولن ي9ؤخر ش9يئا ً عن حل9ه ،ول9و كنت س9ألت هللا أن يعي9ذك من
عذاب النار ،وعذاب القبر :كان خيراً وأفضل.1
فالمقتول ميت بأجله ،فعلم هللا تعالى وق ّدر وقضى أن هذا يموت بسبب الم99رض وه99ذا
بس9بب القت9ل ،وه9ذا بس9بب اله9دم ،وه9ذا ب9الحرق ،وه9ذا ب9الغرق ،إلى غ9ير ذل9ك من
األسباب ،وهللا خلق الموت والحياة ،وخلق سبب الموت والحياة.2
ولما قتل في غزوة أحد من المسلمين من قتل ،وأخذ المنافقون من ذلك قض99ية يلونه99ا
بألسنتهم ،ويلوون المسلمين على خروجهم لقتال المشركين وإن إخوانهم ال99ذين قتل99وا،
لو كانوا عندهم ،ولم يخرجوا للقتال ،ما ماتوا وما قتلوا فرد عليهم الق99رآن أبل99غ ال99رد،
ق ظَ َّن 9ر ْال َحِّ 99ال":وطَآئِفَ 9ةٌ قَ ْ 9د أَهَ َّم ْتهُ ْم أَنفُ ُس 9هُ ْم يَظُنُّونَ بِاهّلل ِ َغ ْيَ 9
َ من99دداً بهم وبم99وقفهم ،فق9
ْال َجا ِهلِيَّ ِة يَقُولُونَ هَل لَّنَا ِمنَ األَ ْم ِر ِمن َش ْي ٍء قُلْ إِ َّن األَ ْم َر ُكلَّهُ هَّلِل ِ ي ُْخفُ99ونَ فِي أَنفُ ِس ِ 9هم َّما
ك يَقُولُونَ لَوْ َكانَ لَنَا ِمنَ األَ ْم ِر َشْ 9ي ٌء َّما قُتِ ْلنَ99ا هَاهُنَ99ا قُ99ل لَّوْ ُكنتُ ْم فِي بُيُ99وتِ ُك ْم الَ يُ ْب ُدونَ لَ َ
ضا ِج ِع ِه ْم" (آل عمران ،آية .)154 : ب َعلَ ْي ِه ُم ْالقَ ْت ُل إِلَى َم َلَبَ َر َز الَّ ِذينَ ُكتِ َ
ب إِ َّن َذلِ99كَ َعلَى وجل":و َما يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل فِي ِكتَ99ا ٍ َ وقال عز
هَّللا ِ يَ ِسيرٌ" (فاطر ،آية .)11 :
والمعمر :من يعيش عمراً طويالً في الع99ادة ،ومن ينقص من عم99ره :من يعيش عم9راً
9ر ِه" عائ99د على الجنس ال قصيراً ،قدره بعضهم بم99ا قب99ل الس99تين ،والض99مير في " ُع ُمِ 9
على العين ،ألن الطويل العمر في الكتاب وفي علم هللا ال ينقص من عمره.
وجاء عن ابن عباس في تفسير اآلية :ليس أح99د قض99يت ل99ه بط99ول العم99ر والحي99اة إال
وهو بالغ ما قدرت له من العمر ،وقد قضيت ذل99ك ل99ه ،فإنم99ا ينتهي إلى الكت99اب ال99ذي
قدرت ال يزاد عليه ،وليس أحد قدرت له أنه قصير العم99ر والحي99اة ،بب9الغ العم99ر "أي
الطويل" ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له ف99ذلك قول99هَ ":و َم99ا يُ َع َّم ُر ِمن ُّم َع َّم ٍر َواَل
ب" يقول :كل ذلك في كتاب عنده. يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه إِاَّل ِفي ِكتَا ٍ
وبعضهم فسّر " َواَل يُنقَصُ ِم ْن ُع ُم ِر ِه" بمعنى ذهب العمر قليالً.
قليالً :سنة بعد سنة ،وشهراً بعد شهر ،وجمعة بعد جمعة ،ويوما ً بعد يوم ،وساعة بع99د
ساعة ،الجميع مكتوب عند هللا في كتابه.3
1المنحة اإللهية في تهذيب شرح الطحاوية ،عبد اآلخر حماد الغنيمي صـ .320
2المصدر نفسه صـ .320
3تفسير ابن كثير (.)550 / 2
176
ومنهم من فسر نقص العمر بقلة البركة فيه ،والزيادة في العمر بإلقاء البركة فيه ،1فقد
ج9اء في الح9ديث الش9ريف :من س99ره أن يبس9ط ل99ه في رزق9ه ،أو ينس9أ ل99ه في أث9ره،2
فليصل رحمه.3
فاآلجال سواء كانت قصيرة أو طويلة مقدرة من أسبابها ،وليست منفصلة عنه99ا ،كم99ا
يتوهم عوام الناس ،فمن قدر له طول األجل ،قدر له أن99ه س99يتهيأ ل99ه من األس99باب ،من
ت99وافر الغ99ذاء الص99حي ،وطيب اله99واء النقي ،وممارس99ة العم99ل الب99دني أو الرياض99ي
واالبتعاد عما يضر بالبدن تناوله ،من المسكرات أو المخدرات ،أو الألش99ياء الض99ارة
كالتدخين ،أو طول السهر ،أو ارتكاب المحرمات ،فهو به99ذه األس99باب يط99ول عم99ره،
وهذه األسباب مقدرة كمسبباتها ،ومن ق99در ل99ه قص99ر العم99ر ،ق99در ل99ه أن يبتلي بس99وء
التغذية ،أو سوء التهوية أو اإلصابة بع99دوى أو تن99اول م99ا يض99ره ويؤذي99ه ،أو يص99يبه
حادث في طريق ،بأن يموت في كارثة عامة كالزلزال ،أو يقتله قات99ل عم99داً أو خط99أ،
فيموت وينتهي أجله بواحد من هذه األسباب أو غيرها ،ولكن99ه م99ات في وقت99ه المق99در
ل99ه ،وفي "أجل99ه المس99مى" عن99د هللا ،فال انفص99ال في األق99دار بين المس99ببات وأس99بابها
بحال.4
وقد يشكل على بعض الناس مواضع في كتاب هللا وأحاديث رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم فيقول بعضهم :إذا كان هللا علم كل ما هو كائن ،وكتب ذلك كل9ه عن9ده في كت9اب
ت" (الرعد ،آية .)39 : هللا فما معنى قوله":يَ ْمحُو هّللا ُ َما يَ َشاء َوي ُْثبِ ُ
وإذا كانت األرزاق واألعمال واآلجال مكتوبة ال تزيد وال تنقص فم99ا ت99وجيهكم لقول99ه
صلى هللا عليه وسلم :من سرّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه.5
وكيف تفس9رون ق9ول ن9وح لقوم9ه ":أَ ِن ا ْعبُُ 9دوا هَّللا َ َواتَّقُ9وهُ َوأَ ِطيعُ9و ِن * يَ ْغفِ9رْ لَ ُكم ِّمن
ُذنُوبِ ُك ْم َويُؤَ ِّخرْ ُك ْم إِلَى أَ َج ٍل ُّم َس ًّمى" (نوح ،آية 3 :ـ .)4
والجواب أن األرزاق واألعمار نوعان:
نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب ،فهذا ال يتغ99ير وال يتب99دل ،ون99وع أعلم هللا ب99ه
تمالئكته فهذا ه9و ال9ذي يزي9د وينقص ،ول9ذلك ق9ال تع9الى":يَ ْمحُ 9و 9هّللا ُ َم9ا يَ َش9اء َوي ُْثبِ ُ
ب" (الرعد ،آية ،)39 :وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر هللا فيه َو ِعن َدهُ أُ ُّم ْال ِكتَا ِ
اإلم99ور على م99ا هي علي99ه ،ففي كتب المالئك99ة يزي99د العم99ر وينقص وك99ذلك ال99رزق
بحسب األسباب ،فإن المالئكة يكتبون له رزقا ً وأجالً ،ف99إذا وص99ل رحم99ه زي99د ل99ه في
الرزق واألجل ،وإال فإنه ينقص له منهما.6
واألجل أجالن :أجل مطلق يعلمه هللا ،وأجل مقيد ف99إن هللا ي99أمر المل99ك أن يكتب لعب99ده
أجالً ،فإن وصل رحمه ،فيأمره بأن يزيده في أجله ورزقه والملك ال يعلم أيزاد ل9ه في
ذلك أم ال ،لكن هللا يعلم ما يستقر عليه األمر ،فإذا جاء األجل لم يتقدم ولم يتأخر.7
ثانياً :قدرة هللا عز وجل:
1اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ.60
2أي في أجله.
3متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان رقم .1657
4اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ.60
5متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان رقم ،1657والقضاء والقدر ،عمر سليمان األشقر صـ .66
6مجموع فتاوى ابن تيمية ( ،)540 /8القضاء والقدر عمر األشقر صـ .67
7المصدر السابق ( ،)517 /8القضاء والقدر عمر األشقر صـ .67
177
القدر والقدرة والمقدار على الشيء :الق99درة علي99ه ،وق99درت الش99يء :أق99دره ق99دراً ،من
التقدير ،وفي الحديث :فإن غ ّم عليكم فأقدروا له.1
ق قَْ 9د ِر ِه" (الزم99ر ،آي99ة )67 :أي :م99ا عظمّوا هللا ح99ق وقال تعالىَ ":و َما 9قَ َدرُوا هَّللا َ َحَّ 9
تعظيمه.2
والقدير :أبلغ في الوصف بالقدرة من "القادر" و"المقتدر" 9:من أقتدر وهو أبلغ.
وقد ورد اسم هللا "القادر" سبحانه اثنتي عشرة مرة خمس منها بصيغة الجم99ع ،كقول99ه
ت أَرْ ُجلِ ُك ْم أَوْ
ث َعلَ ْي ُك ْم َعَ 9ذابًا ِّمن فَ99وْ قِ ُك ْم أَوْ ِمن تَحْ ِ
9و ْالقَ99ا ِد ُر َعلَى أَن يَ ْب َع َ تع99الى":قُ99لْ هَُ 9
ت لَ َعلَّهُ ْم يَ ْفقَهُ99ونَ " صُ 9
رِّف اآليَ99ا ِ ْض انظُ99رْ َك ْي99فَ نُ َ س بَع ٍ ض ُكم بَ99أْ َ ق بَ ْع َيَ ْلبِ َس ُك ْم ِشيَعا ً َويُ ِذي َ
(األنعام ،آية .)65 :
ك َما ن َِع ُدهُ ْم لَقَا ِدرُونَ " (المؤمنون ،آية .)95 : تعالى":وإِنَّا َعلَى أَن نُّ ِريَ َ
َ ـ وقال
ق ِمثلَهُم بَلَى ْ َ
ض بِقَ99ا ِد ٍر َعلَى أ ْن يَ ْخلَُ 9 َ
ت َواأْل رْ َ ق َّ
السَ 9ما َوا ِ َّ
ْس ال ِذي خَ لََ 9 َ
ـ وقال تعالى":أ َولَي َ9
ق ْال َعلِي ُم" (يس ،آية .)81 : َوهُ َو ْال َخاَّل ُ
ـ وقال تعالى":فَقَ َدرْ نَا فَنِ ْع َم ْالقَا ِدرُونَ " (المرسالت ،آية .)23 :
وورد اسم هللا "القدير" 9سبحانه خمسا ً وأربعين مرة منها قول99ه تع9الى":أَي َْ9ن َم9ا تَ ُكونُ ْ
9وا
يَأْتِبِ ُك ُم هّللا ُ َج ِميعًا إِ َّن هّللا َ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ" (البقرة ،آية )148 :
وا خَ ْيرًا أَوْ تُ ْخفُوهُ أَوْ تَ ْعفُ ْ
وا عَن ُس َ 9و ٍء فَ 9إ ِ َّن هّللا َ َك99انَ َعفُ ًّ 9وا قَ ِ 9ديرًا" ـ وقال تعالى":إِن تُ ْب ُد ْ
(النساء ،آية .)149 :
ـ وقال تعالى":يُ َع ِّذبُ َمن يَ َشاء َويَ ْغفِ ُر لِ َمن يَ َش9اء َوهّللا ُ َعلَى ُكِّ 9ل َشْ 9ي ٍء قَِ 9ديرٌ" (المائ9دة،
آية .)40 :
تعالى":وإِ َّن هَّللا َ َعلَى نَصْ ِر ِه ْم لَقَ ِديرٌ" (الحج ،آية .)39 : َ ـ وقال
ْ
":و َكانَ ُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء ُّمقتَ ِدرًا" (الكهف ،آي99ة : هَّللا وورد اسم المقتدر في قوله سبحانه َ
.)45
يز ُّم ْقتَ ِد ٍر" (القمر ،آية .)42 : َز ٍ َ ْ َ
ـ وقال تعالى":فَأ َخذنَاهُ ْم أ ْخ َذ ع ِ
يك ُّم ْقتَ ِد ٍر" (القمر ،آية .)55 : ق ِعن َد َملِ ٍ ـ وقال تعالى":فِي َم ْق َع ِد ِ
ص ْد ٍ
وهللا هو القادر على كل شيء ،ال يعجزه شيء وال يفوته مطلوب ،بخالف خلقه ،فه99و
سبحانه ال يتط ّرق إلى العجز وال يعترضه فتور.
"والقادر" سبحانه هو من يتيسر له ما يريد على م99ا يري99د لظه99ور أفعال99ه ،وال يظه99ر
الفعل اختياراً إال من قادر غير عاجز ،كما قال سبحانهَ ":ولَوْ َش 9اء هّللا ُ لَ َ 9ذه َ
َب بِ َس ْ 9م ِع ِه ْم
ار ِه ْم إِ َّن هَّللا َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ" (البقرة ،آية .)20 :فوصف نفسه بالقدرة على ص َِوأَ ْب َ
كل شيء في هذا الموضع ،ألنه حذر المنافقين بأس99ه وس99طوته ،وأخ99برهم أن99ه محي99ط
بهم" ،والقدير" هو "القادر" ،كما أن "العليم" ه9و "الع9الم" "والق9دير" 9س9بحانه كام9ل
القدرة ،فبقدرته أوجد الموجودات وبقدرته دبّرها وبقدرته س ّ 9واها وأحكمه99ا ،وبقدرت99ه
يحيي ويميت ويبعث العباد للجزاء وبقدرته يقلب القلوب على ما يشاء ويريد.3
178
قال الشاعر:
وهو القدير وليس يُعج ُزه إذا
1
ما رام شيئا ً قط ذو سلطان
ثالثاً :ثمار اإليمان بالقدر:
لإليمان بالقدر ـ كما جاء في القرآن والس99نة ـ وكم99ا فهم99ه س99لف األم99ة ثم99ار مبارك99ة
وآثار طيبة ،في عقلية المسلم ونفسيته ،في وجدان9ه وأرادت9ه ،وعالقت9ه بنفس9ه وبرب9ه،
وبمن حوله ،وما حوله ،وفي الحياة اإلس99المية بص99فة عام99ة ،يش99هد به99ا ك99ل ذي لب،
ويلمسها كل ذي بصر ،لما لها من تأثير إيجابي في السلوك الخاص والعام وفي الس99لم
والحرب ،وفي اليس9ر والعس9ر والرخ9اء والش99دة ،والنعم99اء والبأس99اء ،2ومن أهم ه9ذه
الثمار واآلثار:
1ـ اإلقدام على عظائم اإلمور:
اإليمان بالقدر في حياة المؤمن أقوى حافز للعمل الصالح واإلقدام على عظائم اإلمور
بثبات وعزم وثقة ولق99د ك99انت الص99ورة الص99حيحة لإليم99ان بالق99در في حي99اة األجي99ال
األولى من المسلمين هي التي صنعت تلك العجائب التي سجلها ت99اريخهم وال99تي ثبتت
الدعوة في األرض ونشرتها على نطاق واسع في فترة وجيزة من الزمن ال مثيل لها ـ
في قص99رها ـ في الت99اريخ ،وهي ال99تي أق9امت ه99ذا البن99اء الش99اهق في ك99ل مي99دان من
ميادين الحياة ،نعم ،لقد كان من أول ثماره الباهرة ذلك االستبسال في الجهاد في سبيل
هللا وفي سبيل نشر الدعوة ،3فقد كانوا ال يخ99افون الم99وت ،ألنهم يوقن99ون ب99أن اآلج99ال
محددة ال تت99أخر وال تتق99دم لحظ99ة واح99دة ولم99ا ك99انت ه99ذه العقي99دة راس99خة في قل99وب
المؤمنين ثبتوا في القتال وعزموا على مواصلة الجه99اد ،فج99اءت مالحم تحم99ل أروع
األمثلة على الثبات والصمود أمام األعداء مهما كانت قوتهم ،4ومهما كان عددهم ،لقد
َب هّللا ُ لَنَ99ا هَُ 9و َموْ الَنَ99ا َو َعلَى هّللا ِ فَ ْليَت ََو َّك ِل أيقنوا بقول هللا تعالى":قُل لَّن ي ِ
ُصيبَنَا إِالَّ َما َكت َ
ْال ُم ْؤ ِمنُونَ " (التوبة ،آية .)51 :
فإذا كان ال يصيب اإلنسان إال ما كتبه هللا له ،سواء ك9ان قاع99داً في بيت9ه أو في مي9دان
القتال ،ففيم الجبن وفيم الفرار من القتال خوفا ً من الموت؟ فهل القتال هو ال99ذي يقت99ل؟
أم قدر هللا إلنسان ما أن يموت في لحظة معينة في حالة معين99ة ه99و ال99ذي يميت99ه؟ وإذا
كان كتب عليه الموت فهل يعفي99ه من99ه أال ي99ذهب إلى القت99ال؟ وإن ك99ان لم يكتب علي99ه
فهل يقتله الذهاب إلى الميدان؟
هكذا كان األمر في حسّهم فأقبلوا على الجه9اد في ثق99ة وثب9ات وع9زم ،وك9ان منهم م9ا
سجله التاريخ من مواقف رائعة من الشجاعة والصبر على الش99دة م99ع اإلطمئن99ان إلى
1مع هللا صـ .234
2اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ .88
3ركائز اإليمان محمد قطب صـ .426
4اإليمان بالقضاء والقدر ،عبد الرحمن المحمود صـ .454
179
قدرة هللا سبحانه ،ولقد وعى المسلمون ك99ذلك ال99درس ال99ذي ن99زل عليهم في س99ورة آل
عمران بشأن غزوة أحد ،حين قال المنافقون ":هَل لَّنَا ِمنَ األَ ْم ِر ِمن َش ْي ٍء" فرد عليهم
":قُلْ إِ َّن األَ ْم َر ُكلَّهُ هَّلِل ِ" وحين قالوا ":لَوْ َكانَ لَنَا ِمنَ األَ ْم ِر َشْ 9ي ٌء َّما قُتِ ْلنَ99ا هَاهُنَ99ا" ف99رد
ض 9ا ِج ِع ِه ْم" وحين ب َعلَ ْي ِه ُم ْالقَ ْتُ 9ل إِلَى َم َ عليهم ":قُ99ل لَّوْ ُكنتُ ْم فِي بُيُ99وتِ ُك ْم لَبَ َ 9رزَ الَّ ِذينَ ُكتِ َ
ُوا َوقَ99الُ ْ
وا ِإل ْخَ 9وانِ ِه ْم إِ َذا 9وا َكالَّ ِذينَ َكفَ9ر ْ 9وا الَ تَ ُكونُْ 9قال هللا للمؤمنين ":يَ99ا أَيُّهَ99ا الَّ ِذينَ آ َمنُْ 9
9ل هّللا ُ َذلِ99كَ
9وا لِيَجْ َعَ 9وا َو َم99ا قُتِلُْ 9
وا ِعن َدنَا َما َماتُ ْ وا ُغ ًّزى لَّوْ َكانُ ْ ض أَوْ َكانُ ْ ُوا فِي األَرْ ِ ض َرب ْ َ
هّللا ُ ْ ُ
صي ٌر * َولئِن قتِلت ْم فِي َسبِي ِل ِ َ ُ هّللا ُ هّللا
َحس َْرة فِي قلوبِ ِه ْم َو ُ يُحْ يِـي َويُ ِميت َو ُ بِ َما تَ ْع َملونَ بَ ِ ُ ُ ً
9999رةٌ ِّمنَ هّللا ِ َو َرحْ َم 9999ةٌ َخيٌْ 9999ر ِّم َّما يَجْ َمعُ9999ونَ * َولَئِن ُّمتُّ ْم أَوْ قُتِ ْلتُ ْم ِإللَى هللا أَوْ ُمتُّ ْم لَ َم ْغفِ َ
تُحْ َشرُونَ " (آل عمران ،آية 156 :ـ .)158وع99وه ف99أيقنوا أن99ه ال يم99وت إال من كتب
عليه الموت ولو كان في مضجعه في بيته وأنه إن لم يكن ُكتب علي99ه الم99وت في تل99ك
اللحظة فكل هول الح99رب وك99ل س99هام األع99داء وس99يوفهم لن تص99يبه ب99الموت وأيقن99وا
كذلك أنه حين يكون اإلنسان في القتال ويموت ـ بقدر من هللا ـ فأمامه المثوبة واألج99ر
وهو الكاسب بهذا القدر الذي قدره له هللا ،لذلك ك99ان القت99ال في س99بيل هللا أم99راً محبب9ا ً
َنص9رُوا إلى نفوسهم ،فنصروا هللا فنصرهم وثبت أق9دامهم ،1كم9ا وع9د س9بحانه ":إِن ت ُ
ِّت أَ ْقدَا َم ُك ْم" (محمد ،آية .)7 : هَّللا َ يَنصُرْ ُك ْم َويُثَب ْ
كذلك كان اإليمان بالقدر على هذه الصورة 9هو حافزهم لالنس99ياح في االرض ،س99واء
لنشر الدعوة ،أو طلب ال99رزق ،أو اكتش99اف المجه99ول من األرض ،فك99ان لهم في ك99ل
ميدان نشاط ملحوظ وآثار مش99هودة ،ففي نش99ر ال99دعوة نج99د أن اإلس99الم ق99د امت99د من
المحيط غربا ً إلى الهند شرقا ً في فترة من الزمن ال تتجاوز قرن وهي س99رعة ال مثي99ل
لها في التاريخ ،وأنتشر مع اإلسالم سلطان الدولة اإلسالمية بما أرهب أعداء هللا.
وانتش99ر مع99ه ك99ذلك اللس99ان الع99ربي بس99رعة تف99وق الوص99ف في انتش99ار اللغ99ات في
األرض وفي ميدان طلب الرزق ت99دفقت ال99ثروات على الع99الم اإلس99المي ح99تى ص99ار
المسلمون أغنى أمة في األرض ،ألنهم يجوبون البحار والقفار تجاراً وص99ناعا ً في99أتي
إليهم المال من كل سبيل وتتاح معه فرصة العمران والحض99ارة ،وفي مي99دان الكش99ف
الجغ99رافي ك99ان المس99لمون هم ال99ذين ارت99ادوا البق99اع المجهول99ة ـ أول من ارتاده99ا ـ
ورسموا لها الخرائط الجغرافية الدقيقة التي مكنت "فاسكوا داجاما" و"ماجالن" فيم99ا
بعد من القيام برحالتهما حول أفريقيا وآسيا ،كما كشفوا منابع النيل ورسموا خرائط99ه
التي ج99اء المكتش99فون األوربي99ون على ه99داها من بع99د ل99يزعموا أنهم هم المكتش99فون،
وهكذا امتدت الحياة بجميع صورها شرقا ً وغربا ً بهذا الدافع اإليماني العميق.2
2ـ القضاء على الكسل والتواكل:
إن جموع المسلمين قد انحرفت في العصور األخيرة في عقيدة القدر بشأن م99ا يج99ري
في الحياة الدنيا ،لقد أصابهم التواك9ل فيم9ا أص9ابهم من انحراف9ات ،وأدى بهم التواك9ل
إلى العجز والكسل والقعود ،لقد فهم ـ بعض الناس ـ من معنى أنه ال يحدث في الك99ون
إال م99ا يري99ده هللا ،أن99ه ال حاج99ة لإلنس99ان أن يعم99ل ،ف99إن ق99در هللا م99اض س99واء عم99ل
اإلنسان أو لم يعمل ،فال ضرورة للكد في طلب ال99رزق ألن :مال99ك س99وف يأتي99ك ،وال
ضرورة للنشاط والحركة ألنها في زعمهم ضد التوكل الصحيح ،كما فهموا كذلك من
1ركائز اإليمان محمد قطب صـ .427
2ركائز اإليمان صـ .248
180
معنى التسليم لقدر هللا القعود عن تغيير ما أصاب اإلنسان من فقر أو م99رض أو جه99ل
أو ح99تى معص99ية ،ألن ك99ل ذل99ك مق99در من عن99د هللا فال ينبغي مقاومت99ه إنم99ا ينبغي
االستسالم له! وهذا التواكل وهذه السلبية ليست من اإلس99الم في ش99يء على اإلطالق،
وإال فلو كانت من اإلسالم فكيف غابت عن الرسول صلى هللا عليه وسلم وعن صحبه
الكرام الذين تلقوا عنه المفاهيم الصحيحة لهذا الدين1؟
والفهم الص99الح لم يفهم ق99ط من عقي99دة الق99در ه99ذا الفهم الخ99اطئ ال99ذي يلغي مس99ئولية
اإلنسان عن عمله؟
لقد فهم المسلمون من درس أحد أن ما وقع لهم كان مقدراً لهم عند هللا ،ولكنه ك99ان في
ذات الوقت من عند أنفسهم بسبب معص99يتهم للرس99ول ص99لى هللا علي99ه وس99لم ":أَ َو لَ َّما
ص ْبتُم ِّم ْثلَ ْيهَا قُ ْلتُ ْم أَنَّى هَـ َذا قُلْ هُ َو ِم ْن ِعن ِد أَ ْنفُ ِسُ 9ك ْم إِ َّن هّللا َ َعلَى ُك99لِّصيبَةٌ قَ ْد أَ َ أَ َ
صابَ ْت ُكم ُّم ِ
صابَ ُك ْم يَوْ َم ْالتَقَى ْال َج ْم َعا ِن فَبِإ ِ ْذ ِن هّللا ِ َولِيَ ْعلَ َم ْال ُم ْؤ ِمنِينَ " (آل عم99ران، َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر * َو َما أَ َ
آية 165 :ـ .)166
فقد وعى المسلمون من الدرس أن كون الهزيمة تمت بق99در هللا ال ين99افي أنه99ا في ذات
الوقت " ِم ْن ِعن ِد أَ ْنفُ ِس ُك ْم" أي :أن وقوع ش99يء بق99در هللا ال ينفي مس99ئولية اإلنس99ان عن
خطئه ،فليس لمخطئ أن يهز كتفيه ويقول :إنما وق99ع الخط99أ م99ني بق99در من هللا ،ولق99د
ق ّدر هللا أال أخطئ لما أخط99أت فلس99ت مس99ئوالً عن الخط99أ ،كال :إن اإليم99ان بالق99در ال
يتنافى فيه أن يكون الحدث مقدراً من عند هللا ،وأن يك99ون اإلنس99ان مس99ئوالً عن عمل99ه
في ذات الوقت ،كذلك وعى المسلمون من وقعة أحد وأحداثها درسا ً آخر.
إن عليهم أن يسلموا لقدر هللا ،ولكن ما معنى التسليم؟ هل معن9اه القع9ود عن تغي9ير م9ا
أصابهم ،ولو أنه قد أصابهم بقدر من هللا؟
هّللا
ص 9ابَ ُك ْم َو ُ َخبِ99ي ٌر إنما قال لهم":فَأَثَابَ ُك ْم ُغ َّما ً بِ َغ ٍّم لِّ َك ْي الَ تَحْ زَ نُوا َعلَى َما فَاتَ ُك ْم َوالَ َما أ َ
َ ْ
بِ َما تَ ْع َملُونَ " (آل عمران ،آية .)153 :
فالحزن يفتت العزيمة ويوهنها ،وهو األمر الذي ال يريده هللا لهم ،فوجّههم إلى التسليم
بقدر هللا لكيال يحزنوا وتتفتت عزيمتهم ،ولكن هل طلب منهم االستس99الم لم99ا أص99ابهم
بمعنى عدم العمل على تغييره.2
إن أحداث المعركة سارت في خط مختلف تماماً ،فقد جمع هللا الرسول صلى هللا عليه
وسلم مشاعر المسلمين وعزائمهم كما جمع صفوفهم ليدخل بهم المعركة م99رة أخ99رى
ُوا هّلِل ِ َوال َّرسُو ِل ِمن على أثر الهزيمة .وفي ذلك يقول هللا سبحانه وتعالى":الَّ ِذينَ ا ْستَ َجاب ْ
َظي ٌم * الَّ ِذينَ قَ99ال لَهُ ُم النَّاسُ إِ َّن وا أَجٌْ 9ر ع ِ وا ِم ْنهُ ْم َواتَّقَ ْ
صابَهُ ُم ْالقَرْ ُح لِلَّ ِذينَ أَحْ َسنُ ْ بَ ْع ِد َمآ أَ َ
وا َح ْس 9بُنَا هّللا ُ َونِ ْع َم ْال َو ِكي ُ 9ل * فَ99انقَلَب ْ
ُوا اخ َشوْ هُ ْم فَزَا َدهُ ْم إِي َمانا ً َوقَالُ ْ اس قَ ْد َج َمع ْ
ُوا لَ ُك ْم فَ ْ النَّ َ
َظ ٍيم" (آل ضٍ 9ل ع ِ ض َ 9وانَ هّللا ِ َوهّللا ُ ُذو فَ ْ ُوا ِر ْبِنِ ْع َم ٍة ِّمنَ هّللا ِ َوفَضْ ٍل لَّ ْم يَ ْم َس ْسهُ ْم سُو ٌء َواتَّبَع ْ
عمران ،آية 172 :ـ .)174
لق99د ص99رف هللا أع99داءهم فلم تق99ع المعرك99ة ،ولكنهم ك99انوا ق99د اس99تعدوا للقت99ال تمام99ا،
استعدوا له بأرواحهم ،ومشاعرهم ،فجمعوا عزائمهم رغم تخويف الناس لهم وعزموا
على لقاء العدو متكلين على هللا ،وهذا هو التوكل الحق الذي يطلبه هللا من المسلمين.
181
إن القعود عن تغيير األمر الواقع بحجة أنه واقع بقدر من هللا جهال99ة عظيم99ة ال تنبغي
للمسلم ،نعم إن ما وقع بالفعل قد وقع بقدر من هللا ـ وإن كان ال ينفي مسئولية اإلنس99ان
ـ ولكن من يعلم ما يك99ون علي99ه ق99در هللا غ99داً ،ب99ل في اللحظ99ة القادم99ة ،ه99ل علم ذل99ك
القاعد المتواكل أن قدر هللا القادم لن يكون مغايراً لقدر هللا الواقع؟ أليس في االحتم99ال
أن هللا قد قدر للحظة القادمة قدراً غير القدر ال99ذي ك99ان في اللحظ99ة الماض99ية؟ فكي99ف
يقعد عن العمل بزعم أنه متوكل على هللا مستسلم لقدره1؟
إن الفهم الصحيح لإليمان بالقدر ،ال ينفي مسئولية اإلنس99ان عن عمل99ه ،وال ي99دعو إلى
القعود عن تغيير الواقع ،يدعوا إلى التواكل وع99دم األخ99ذ باالس99باب انتظ99اراً لق99در هللا
وذلك هو الفهم الذي ينبغي أن يعود المسلمون إليه ،ل99يزول عنهم م99ا أص99ابهم من فق99ر
وجهل ومرض وتواكل وعج99ز ،وم99ا ت99رتب على ذل99ك كل99ه من غلب99ة ع99دوهم عليهم،
وهوائهم على أنفسهم وعلى الناس.2
3ـ الثبات في مواجهة الطغيان:
ومن ثمار اإليمان بالقدر ،أنه يهب صاحبه ثباتا ً ورسوخا ً في مقاومة الباطل ومواجهة
الظلم والطغيان ،وإنكار المنكر ،ال يهاب فرعونا ً متألها ً وال طاغوتا ً متجبراً ،وذلك أن
الناس عادة يخافون على أمرين نفيسين عندهم وهما:
العمر والرزق والعمر محتوم ،والرزق مقسوم ولهذا وقف المؤمنون في وجه الطغ99اة
والجبارين ،ولم يعبأوا بجبروتهم ولم يهنوا أمام ق99وتهم وطغي99انهم وفي عص99رنا رأين99ا
العلماء والدعاة الش99امخين يواجه99ون المس99تعمرين ،وأذن99اب المس99تعمرين من المل99وك
والرؤساء ،ال يبالون بما يصيبهم في سبيل هللا.3
فاإليمان بالقدر من أعظم ما دفع المجاهدين إلى اإلقدام في ميدان النزال غ99ير هي99ابين
وال وجلين ،وكان الواحد منهم يطلب الم99وت في مظان99ه ،وي99رمي بنفس99ه في مض99ائق
يظن فيه99ا هلكت99ه ،ث ّم ت99راه يم99وت على فراش99ه ،فيبكي أن لم يس99قط في مي99دان ال99نزال
شهيداً وهو الذي كان يقتحم األخط99ار واأله99وال ،4فه99ذا خال99د بن الولي99د لم99ا حض99رته
الوفاة وأدرك ذلك بكى وق99ال :م99ا من عم99ل أرجى عن99دي بع99د ال إل99ه إال هللا ،من ليل99ة
شديدة الجليد في سرية من المه99اجرين ،بته99ا وأن99ا مت99ترس والس99ماء تنه99ل عل ّي ،وأن99ا
انتظر الصبح حتى أغير على الكفار ،فعليكم بالجهاد ،لقد شهدت كذا وكذا زحفاً ،وم99ا
في جسدي موضع شبر إال وفيه ضربة سيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح ،وها أن99ذا
أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البع99ير ،فال ن99امت أعين الجبن99اء ،لق99د طلبت
القتل في مظانه ،فلم يقّ 9در لي إال أن أم9وت على فراشي ،5وق9د تص9دى خال9د لطغي9ان
الفرس والروم معاً.
4ـ الصبر عند نزول المصائب:
ومن ثمرات اإليمان بالقدر الصبر عند ن99زول المص99ائب ،ف99المؤمن بالق99در ال يس99يطر
عليه الجزع ،والفزع ،وال يستبد به السخط والهلع ،بل يستقبل مصائب ال99دهر بثب99ات،
ص 9يبَ ٍة فِي
اب ِمن ُّم ِ
صَ 9كثب99ات الجب99ال فق99د اس99تقر في اعماق99ه ،ق99ول هللا تع99الىَ ":م99ا أَ َ
1ركائز اإليمان صـ .432
2المصدر نفسه صـ .433
3اإليمان بالقدر للقرضاوي.
4القضاء والقدر ،عمر االشقر صـ .112
صاّل بي صـ .351
5سير أعالم النبالء للذهبي ( ،)382 /1عمر بن الخطاب لل ّ
182
ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِس9ي ٌر * لِ َك ْي ب ِّمن قَب ِْل أَن نَّب َْرأَهَ99ا إِ َّن َذلَِ 9 ض َواَل فِي أَنفُ ِس ُك ْم إِاَّل فِي ِكتَا ٍ ِ اأْل َرْ
اَل تَأْ َسوْ ا َعلَى َما فَاتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َرحُوا بِ َما آتَا ُك ْم" (الحديد ،آية 22 :ـ .1)23
فاإليمان بالقدر من أعظم األدوية التي تعين المؤمن على الشدائد والمصائب والبالي99ا،
فهذه ثمرة من أعظم ثمرات اإليمان بالق9در ،2وك9ان رس9ول هللا ص9لى هللا علي9ه وس9لم
يغرس في نفوس أفراد األمة اإلسالمية هذا اإليمان ويرشدهم ويعلمهم كي99ف يتع99املوا
مع المصائب والش9دائد ،فعن أس9امة بن زي9د رض9ي هللا عنهم9ا ،ق9ال :كن9ا عن9د الن9بي
صلى هللا عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا ً له99ا أو ابن 9ا ً له99ا
في الموت ،فقال للرسول :أرجع إليها فأخبرها أن هلل ما أخذ وله ما أعطى وكل ش99يء
عنده بأجل مسمى.3
ففي قوله صلى هللا عليه وسلم :إن هلل ما أخ99ذ ول99ه م99ا أعطى وك99ل ش99يء عن99ده بأج99ل
مسمى :معناه الحث على الصبر والتسليم لقضاء هللا تعالى وتقديره أن ه99ذا ال99ذي أخ99ذ
منكم كان له ال لكم فلم يأخ99ذ إال م99ا ه99و ل99ه ،فينبغي أن ال تجزع99وا كم99ا ال يج99زع من
استردت منه وديعة ،وقوله صلى هللا عليه وسلم ":وله ما أعطى" معن99اه أن م99ا وهب99ه
لكم ليس خارجا ً عن ملكه بل هو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ،وقوله ص9لى هللا علي9ه
وسلم" :وكل شيء عنده بأجل مسمى" معناه :أصبروا 9وال تجزعوا ف99إن ك99ل من ي99أت
قد انقضى أجله المسمى فمحال تقدم9ه أو ت9أخره عن9ه ،ف9إذا علمتم ه9ذا كل9ه فأص9بروا
واحتسبوا ما نزل بكم وهللا أعلم ،وهذا الحديث من قواعد اإلسالم المشتملة على جم99ل
من أص99ول ال99دين وفروع99ه واآلداب ،4والم9راد بأص99ول ال99دين هن99ا اإليم9ان بالقض99اء
والقدر.5
ومن األذكار التي علمها رسول هللا صلى هللا عليه وس99لم لألم99ة قول99ه ص99لى هللا علي99ه
وسلم :ال إله إال هللا وحده ال شريك له اللهم ال م99انع لم99ا أعطيت وال معطي لم99ا منعت
وال ينفع ذا الجد منك الجد.6
وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات 9،لما اشتمل علي99ه من ألف99اظ التوحي99د
ونسبة األفعال إلى هللا والمنع واإلعطاء وتمام القدرة.7
والمسلم يرضى ويسلم ويسلي نفسه بالصبر الجمي9ل عن9د ن9زول المص9ائب ،ق9ال ع9ز
اجع99ونَ * صيبَةٌ قَالُ ْ
وا إِنَّا هّلِل ِ َوإِنَّـا إِلَ ْي ِه َر ِ صابَ ْتهُم ُّم ِوجلَ ":وبَ ِّش ِر الصَّابِ ِرينَ * الَّ ِذينَ إِ َذا أَ َ
ك هُ ُم ْال ُم ْهتَُ 9دونَ "( 9البق99رة ،آي99ة 155 :ـ ات ِّمن َّربِّ ِه ْم َو َرحْ َمةٌ َوأُولَـئِ َ
صلَ َو ٌ ك َعلَ ْي ِه ْم َ أُولَـئِ َ
.)157
وتعلم الصحابة من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم هذا الدعاء العظيم ،عن عبد هللا بن
مسعود رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :م99ا أص99اب أح99داً ق99ط
هم وال ح99زن فق99ال :اللهم إني عب99دك ابن عب99دك ابن أمت99ك ناص99يتي بي99دك م99اض في
183
حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو ل99ك س9ميت ب9ه نفس99ك أو علمت99ه أح99داً من
خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل الق99رآن ربي99ع
قلبي ونور صدري وجالء حزني وذهاب همي إال أذهب هللا همه وحزنه وأبدله مكانه
فرجاً ،قال :فقيل يا رسول هللا أال نتعلمها؟ فقال :بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.1
5ـ الرضا والقناعة بما قسم هللا:
ومن ثمار اإليمان بالقدر :رضا المؤمن بما قسم هللا ،وقناعته بما رزق هللا ،وهذا بثمر
ثمرات طيبة في نفسية المؤمن وحياته.
أولها :عن القلب ،فمن الناس من لو أوتي واديا ً من ذهب البتغى ثانياً ،ولو أوتي ثانيا ً
لتمنى ثالثاً ،ومثله كجهنم يقال لها :هل امتألت؟ وتقول :هل من مزيد؟
والغنى الحقيقي ليس إال غنى النفس ال99ذي ق99ال عن99ه الرس99ول الك99ريم ص99لى هللا علي99ه
وسلم" :ليس الغنى عن كثرة الغرض ،إنما الغني عن النفس.2
وقال صلى هللا عليه وسلم" :أرض بما قسم هللا لك تكن أغنى الناس.3
وقال الشاعر:
إن الغنى هو الغنى بنفسه
ولو أنه عار المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا ً
184
وثالثها :أال يتطلع إلى ما ليس في وسعه وليس من شأنه ويرضى بما وهب هللا له مما
ال يستطيع تغييره وفي حدود ما ق99در ل99ه يجب أن يك99ون نش99اطه وطموح99ه ،فال يعيش
متمنيا ً ما ال يتيسر له ،متطلعا ً إلى ما وهب لغيره ولم يوهب ل99ه ،وذل99ك كتم99ني الش99يخ
أن يكون له قوة الشباب ،وتطلع المرأة الدميمة إلى الحسناء في غيرة وحس99د ،ونظ99رة
الشاب القصير إلى الرجل الطويل في حسرة وتلهف ،وطموح البدوي الذي يعيش في
أرض فقراء بطبيعتها إلى رفاهية الحياة وأسباب النعيم ،وكما حدث في عهد الرس99ول
حين تم99نى النس99اء أن يكن لهن م99ا للرج99ال ،ف99أنزل هللاَ " :والَ تَتَ َمنَّوْ ْا َم99ا فَ َّ
ضَ 9ل هّللا ُ بِِ 9ه
اس 9أَلُ ْ
وا َص 9يبٌ ِّم َّما ا ْكت ََس ْ 9بنَ َو ْ ُوا َولِلنِّ َساء ن ِ َصيبٌ ِّم َّما ا ْكتَ َسب ْ
ْض لِّل ِّر َجا ِل ن ِ
ْض ُك ْم َعلَى بَع ٍ
بَع َ
هّللا َ ِمن فَضْ لِ ِه" (النساء ،آية . )23 :
1
إن اإليمان بالقدر يبعث إلى القناعة وعزة النفس واإلجمال في الطلب وت99رك التك99الب
على الدنيا والتحرر من رق المخلوقين وقطع الطمع مما في أي99ديهم ،والتوج99ه ب99القلب
إلى رب العالمين ،وهذا أسمى فالحه ورأس نجاحه قال الشاعر:
أفادتني القناعة كل عز
وهل عز أعز من القناعة
فصيرها لنفسك رأس مال
وصير بعدها التقوى بضاعة
تجز ربحا ً وتغنى عن بخيل
2
وتنعم في الجنان بصبر ساعة
6ـ العز في طلب الحوائج:
ومن ثمار اإليمان بالقدر ،أن يطلب الم99ؤمن حاجت99ه عن99د من هي عن99ده بع99زة نفس ال
يطأطئ رأسه وال يذل نفسه وال يدني ظهره لمخلوق ،إن هللا تعالى كتب العزة للمؤمن
فال ينبغي له أن يف9رط فيه9ا ،ق9ال ع9ز وج9لَ " :وهَّلِل ِ ْال ِعَّ 9زةُ َولِ َر ُس9ولِ ِه َولِ ْل ُم ْ
9ؤ ِمنِينَ َولَ ِك َّن
ْال ُمنَافِقِينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ " (المنافقون ،آية .)8 :
فال يحل لمؤمن أن يذل نفسه لمخلوق مثله من أجل حاجة عنده ،فق99د علم الن99بي ص99لى
هللا علي99ه وس99لم ابن عم99ه ـ عب99د هللا بن عب99اس ـ ه99ذه الكلم99ات العظيم99ة" :احف99ظ هللا
يحفظك /احف9ظ هللا تج9ده تجاه9ك ،وإذا س9ألت فاس9أل هللا ،وإذا اس9تعنت فاس9تعن باهلل،
وأعلم أن األمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إال بشئ ق99د كتب99ه هللا ل99ك،
ولو اجتمعت على أن يضروك بشئ ،لم يضروك إال بش99ئ ق99د كتب99ه هللا علي99ك ،رفعت
األقالم وجفت الصحف.3
7ـ السكينة وراحة النفس وسكون القلب :فهذه األمور من ثمرات اإليم99ان بالقض99اء
والقدر ،وهي هدف منشود ،فكل من على وجه البس99يطة يبتغيه99ا ويبحث عنه99ا ،وإن99ك
لتجد عند خواص المسلمين من العلماء العاملين ،والعباد القانتين المتبعين ،من س99كون
القلب وطمأنينة النفس ما ال يخطر على بال وال يدور حول ما يش99بهه خي99ال ،فلهم في
ذلك الشأن القدح المعلى والنصيب األوفى ،فهذا أمير المؤمنين عم99ر بن عب99د العزي99ز
يقول :أصبحت ومالي سرور إال في مواضع القضاء والقدر.4
1اإليمان بالقدر للقرضاوي صـ.94
2الوسطية في القرآن الكريم للصالبي صـ.343
3سنن الترمذي رقم 2516حسن صحيح.
4سيرة عمر بن عبد العزيز البن الحكم صـ.97
185
وهذا ابن تيمية يقول :إن في الدنيا جنة من لم ي99دخلها لم ي99دخل جن99ة اآلخ99رة ،1ويق99ول
مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى الس99جن :م99ا يص99نع أع99دائي بي أن99ا جن99تي
وبس99تاني في ص99دري ،أينم99ا رحلت فهي معي ال تف99ارقني ،أن99ا حبس99ي خل99وة وقتلي
شهادة ،وإخراجي من بلدي سياحة.2
بل إنك تجد عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال ،وبرد اليقين ما ال تجده
عن99د كب99ار الكت99اب والمفك99رين واألطب99اء من غ99ير المس99لمين ،فكم من األطب99اء غ99ير
المسلمين على سبيل المثال من يعجب ،ويذهب به العجب كل م99ذهب ،وذل99ك إذا ك99ان
لديه مريض مسلم واكتشف أنه مص99اب ب99داء خط99ير ـ كالس99رطان ـ مثالً ف9ترى ه99ذا
الطبيب يحتار في كيفي99ة إخب99ار ه99ذا الم99ريض ومص99ارحته بعلت99ه ،فتج99ده يق99دم رجالً
ويؤخر األخرى ،وتجده يمهد الطريق ،ويضع المقدمات ،كل ذلك خشية من ردة فع99ل
المريض إزاء هذا الخبر ،وما أن يعلمه بمرض99ه ويخ99بره بعلت99ه ،إال ويفاج99أ ب99أن ه99ذا
المريض يستقبل هذا الخبر بنفس راضية وصدر رحب ،وس99كينة وه99دوء ،لق99د أدهش
كثيراً من هؤالء إيمان المسلمين بالقض9اء والق9در فكتب9وا في ه9ذا الش99أن مع9برين عن
دهش99تهم ،مس99جلين ش99هادتهم بق99وة ع99زائم المس99لمين ،وارتف99اع معنوي99اتهم ،وحس99ن
استقبالهم لصعوبات الحياة ،3فهذه شهادة ح99ق من ق99وم حرم99وا اإليم99ان باهلل وبقض99ائه
وقدره.
ومليحة شهدت لها ضراتها
والفضل ما شهدت به األعداء
ومن هؤالء الكتاب الذين كتبوا في ذلك ـ الكاتب المشهور "ر .ن .سي .بودلي" مؤلف
كتابي "رياح على الصحراء" و"الرسول" وأربع99ة عش99ر كتاب9ا ً أخ99رى ،وال99ذي أورد
رأيه "دبل كارينجي" في كتابه "دع القلق وأبدأ الحياة" في مقال99ة بعن99وان "عش99ت في
جنة هللا" يقول بودلي :في عام 1918م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حي99اتي،
ويممت ش99طر أفريقي99ا الش99مالية ،الغربي99ة ،حيث عش99ت بين األع99راب في الص99حراء
وقضيت هنالك سبعة أعوام ،وأتقنت خاللها لغة الب99دو ،وكنت أرت99دي زيهم وآك99ل من
طعامهم ،واتخذ مظاهرهم في الحياة ،وغدوت مثلهم أمتلك أغنام 9ا ً وأن99ام كم99ا ين99امون
في الخيام ،وقد تعمقت في دراسة اإلسالم حتى إن99ني ألفت كتاب9ا ً عن محم99د ص99لى هللا
عليه وسلم وعنوانه "الرسول" 9،وكانت تلك األعوام السبعة ال99تي قض99يتها م99ع ه99ؤالء
البدو الرحل من أمتع سني حياتي ،وأحفلها بالسالم ،واإلطمئنان والرضا بالحياة ،وق99د
تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق ،فهم ـ بوصفهم مسلمين ـ يؤمن99ون
بالقضاء والقدر ،ساعدهم هذا اإليمان على العيش في أمان ،وأخذ الحياة مأخ99ذاً س99هالً
هين9اً ،فهم ال يتعجل9ون أم9راً ،وال يلق9ون بأنفس9هم بين ب9راثن الهم قلق9ا ً ع9ل أم9ر ،إنهم
َب هّللا ُ لَ99ه" ،وليس يؤمنون بأن " ما قدر يكون" وأن الف99رد منهم "لَّن ي ِ
ُص9يبَه إِالَّ َم99ا َكت َ
معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقف99ون في وج99ه الكارث9ة مكت99وفي األي99ادي كال .4ثم أردف
قائالً :ودعني أضرب لك مثالً لما أعنيه ،هبت ذات ي99وم عاص99فة عاتي99ة حملت رم99ال
وادي "ال9رون" 9في فرنس9ا وك9انت العاص9فة ح9ارة ش9ديدة الح9رارة ،ولكن الع9رب لم
1الشهادة الزكية في ثناء األئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي صـ.34
2شيخ اإلسالم ابن تيمية ،جهاده ودعوته أحمد القطان صـ.101
3اإليمان بالقضاء والقدر محمد إبراهيم الحمد صـ.32
4الوسطية في القرآن الكريم للصالبي صـ.344
186
يشكو إطالقاً ،فقد هزوا أكتافهم ،وقالوا كلمتهم المأثورة "قضاء مكتوب" ،لكنهم ما أن
مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنش99اط كب99ير ف99ذبحوا ص99غار الخ99راف قب99ل أن
يودي القيظ بحي99اتهم ،ثم س9اقوا الماش99ية إلى الجن99وب نح99و الم99اء ،فعل99وا ه99ذا كل99ه في
صمت وهدوء ،دون أن تبدو من أحدهم شكوى ،قال رئيس القبيلة الشيخ :لم نفقد الشئ
الكثير ،فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شئ ،ولكن حمداً هلل وشكراً ،فإن لدينا نح99و أربعين
في المائة من ماشيتنا ،وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد.1
وثمة حادثة أخرى ،فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوما ً فانفجرت إحدى اإلطارات،
وكان السائق قد نسي استحض99ار إط99ار إحتي99اطي ،وت99والني الغض99ب وانت99ابني القل99ق
والهم ،وسألت صاحبي من األعراب :ماذا وعسى أن نفعل؟ فذكرني بأن االندفاع إلى
الغضب لن يجدي فتيالً ،بل هو خليق أن ي99دفع اإلنس99ان إلى الطيش والحم99ق ،ومن ثم
درجت بنا السيارة وهي تج99ري على ثالث إط99ارات ليس إال ،لكنه99ا م99ا لبثت أن كفت
عن السير ،وعلمت أن الب99نزين ق9د نف99ذ ،وهنال99ك أيض9ا ً لم ت99ثر ث99ائرة أح99د من رف99اقي
األعراب ،وال فارقهم هدوؤهم ،بل مضوا يقطعون الطريق سيراً على األقدام.2
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق بقوله :قد اقنعتني األع99وام
الس99بعة ال99تي قض99يتها في الص99حراء بين األع99راب الرح99ل ـ أن م99رض النف99وس،
والسكيرين ال99ذي يحف99ل بهم أمريك99ا ،وأورب99ا ـ م99ا هم إال ض99حايا المدني99ة ال99تي تتخ99ذ
السرعة أساسا ً لها ،إنني لما أعان ش99يئا ً من القل99ق ق99ط وأن99ا أعيش في الص99حراء ،ب99ل
هنالك في جنة هللا وجدت السكينة والقناعة والرضا.3
وأخيراً ختم كالمه بقوله :وخالصة الق99ول أن99ني بع99د انقض99اء س99بعة عش99ر عام9ا ً على
مغادرتي الصحراء ـ ما زلت أتخذ موق99ف الع99رب حي99ال قض99اء هللا ،فأقب99ل الح99وادث
ال99تي ال حيل99ة لي فيه99ا باله99دوء واالمتث99ال والس99كينة ،ولق99د أفلحت ه99ذه الطب99اع ال99تي
اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آالف المسكنات والعقاقير.4
8ـ المؤمن ال يعيش بين "لو" و"ليت":
إن من أهم عوامل القلق الذي يفقد اإلنسان سكينة النفس وأمنها ورض99اها ه99و تحس99ره
على الماضي وسخطه على الحاضر وخوفه من المستقبل.
إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب ال99دهر ،فيظ99ل ش99هوراً وأعوام 9ا ً آالمه99ا،
ويستعيد ذكرياتها القائمة ،متحسراً تارة ،متمنيا ً أخرى ،شعاره :ليت99ني فعلت ،،وليت99ني
تركت ،وأني فعلت كذا لكان كذا ،وقديما ً قال الشاعر:
ُ
"ليت"؟ ليت شعري وأين من
إن "ايتا" وإن "ل ّوا" 9ـ غناء
ولذا ينصح األطباء النفسانيون والمرش99دون االجتم99اعيون ،ورج99ال التربي99ة ،ورج99ال
العمل ،أن ينسى اإلنسان آالم أمسه ،ويعيش في واقع يومه ،فإن الماضي بع99د أن ولَّى
ال يعود.
ما مضى فات ،والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أتت فيها
1دع القلق وأبدأ الحياة ،ديل كارنيجي صـ.291 ،290
2المصدر نفسه صـ 290ـ .291
3المصدر نفسه صـ 291ـ .295
4الوسطية في القرآن الكريم صـ.346
187
وقد صور هذا المع99نى أح99د المحاض99رين بإح99دى الجامع99ات بأمريك99ا تص99ويراً ب99ديعا ً
لطلبته حين سألهم :كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع كث99ير من الطلب99ة ..أص99ابعهم،
فع99اد يس99ألهم :وكم منكم م99ارس نش99ر نش99ارة الخش99ب؟ فلم يرف99ع أح99د منهم إص99بعه،
وعندئذ قال المحاضر :بالطبع ال يمكن ألح9د أن ينش9ر نش9ارة الخش9ب ،فهي منش9ورة
فعالً .وكذلك الحال م99ع الماض99ي :فعن99دما ينت99ابكم القل99ق ألم99ور ح99دثت في الماض99ي،
فاعلموا أنكم تمارسون نشر النشارة!!
وقد نقل هذا التصوير "ديل كارينجي" في كتاب99ه "دع القل99ق وأب99دأ الحي99اة" ،كم99ا نق99ل
قول بعضهم :لقد وجدت أن القلق على الماضي ال يجدي شيئا ً تماماً ،كما ال يجديك أن
تطحن الطحين ،وال أن تنش99ر النش99ارة ،وك99ل م99ا يج99ديك إي99اه القل99ق ه99و :أن يرس99م
التجاعيد على وجهك ،أو يصيبك بقرحة في المعدة.1
ولكن الضعف اإلنساني يغلب على الكثيرين ،فيجعلهم يطحنون المطحون ،وينش99رون
المنش99ور ،ويبك99ون على أمس ال99ذاهب ،ويعض99ون على أي99ديهم أس99فا ً على م99ا ف99ات،
ويقلبون حسرة ما مضى ،وأبع99د الن99اس عن االستس99الم لمث99ل ه99ذه المش99اعر األليم99ة،
واألفكار السقيمة هو المؤمن الذي ق99وي يقين99ه برب99ه ،وآمن بقض99ائه ،وق99دره فال يس99لم
نفسه فريسة للماضي وأحداثه ،بل يعتق99د أن99ه أم99ر قض99اه هللا ك99ان ال ب99د أن ينف99ذ ،وم99ا
أصابه من قضاء هللا ال يقابل بغير الرضا والتسليم.2
إن شعار المؤمن دائماً" :قدر هللا ،وما شاء فعل ،الحم99د هلل على ك99ل ح99ال" ،وبه99ذا ال
يأس على ما فات وال يحيا في خضم أليم من الذكريات ،وحسبه أن يتل99و قول99ه تع99الى:
ص9يبَ ٍة إِاَّل بِ9إ ِ ْذ ِن هَّللا ِ َو َمن يُ9ْ 9ؤ ِمن بِاهَّلل ِ يَ ْهِ 9د قَ ْلبَ9هُ َوهَّللا ُ بِ ُكِّ 9ل َشْ 9ي ٍء َعلِي ٌم"
اب ِمن ُّم ِ
ص َ" َما أَ َ
(التغابن ،آية .)11 :
وقال صلى هللا عليه وسلم" :المؤمن 9القوي خير وأحب إلى هللا من المؤمن الض99عيف،
وفي كل خير" ،أحرص على ما ينفعك واستعن باهلل وال تعجز ،وإن أص99ابك ش99ئ فال
تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ،ولكن قل :قدر هللا وما ش99اء فع99ل ،ف9إن ل99و تفتح عم99ل
الشيطان".3
فقد أم99ر الم99ؤمن في ه99ذا الح99ديث ب99الحرص على م99ا ينفع99ه س99واء في دين99ه أم دني99اه،
واالستعانة باهلل على ذلك فهو الذي يهيء له األسباب ،ويزيل من طريقه العوائق ،كما
ين" (الفاتحة ،آية .)5 : قال تعالى" :إِيَّاكَ نَ ْعبُ ُدو إِيَّاكَ نَ ْستَ ِع ُ
وقال الشاعر:
إذا لم يكن عون من هللا للفتى
فأول ما يجنى عليه اجتهاده
ومن العجز الم99ذموم هن99ا :إلق99اء األحم99ال على الق99در واالحتج99اج ب99ه في اإلعف99اء من
المس99ئولية ،وق99ديما ً قي99ل :من دالئ99ل العج99ز ك99ثرة اإلحال99ة على المق99ادير وح99ديثا ً ق99ال
الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال :المسلم الضعيف يحتج بقضاء هللا وق99دره ،أم99ا
المسلم القوي يعتق99د أن99ه ق99در هللا ال99ذي ال يغلب وقض99اؤه ال99ذي ال ي99رد ،وق99د روي أن
بعض الصحابة ـ في زمن الفتوح اإلسالمية ـ س99أله أح99د ق99ادة الف99رس 9:من أنتم؟ وم99ا
188
حقيقتكم؟ فقال له :نحن قدر هللا ،ابتالكم هللا بن99ا ،وابتالن9ا بكم ،فل99و كنتم في س9حابة في
السماء لصعدنا إليكم ،أو لهبطتم إلينا.1
إن من وصايا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للمسلم إذا أصابه ش99ئ من ش99دائد ال99دنيا
وابتالؤاته9ا ـ وم9ا أكثره9ا ـ أال يس9لم نفس9ه للتحس9ر واألس9ى على م9ا فات9ه ،فيص9بح
ويمسي ،وهو يمضغ كلمات األسى واألسف ،ويقول :لو أني فعلت كذا لكان ك99ذا على
سبيل التحسر والتمني ،ويجتر الذكريات الحزينة ،بل أمره أن يرد األمر هذا إلى ق99در
هللا ،ويسلم أمره وقضائه قائالً :قدر هللا وما شاء هللا فعل ،معتبراً أن الخير فيما اختاره
له ،ثم هو ال يقدر على غير ذلك ،وليتجه ـ بعد ذلك ـ للمس99تقبل ويعم99ل ويب99ني وينتج،
ال إلى "اللَّولَوة" التي يقول فيها "لو أني فعلت ،ولو أني تركت" فإن "ل99و" ه99ذه "ل99و"
المتمنية والمتحسرة تفتح عمل الشيطان ،وعمله ليس وراءه إال الضياع والخسران.2
9ـ الخوف والحذر من هللا :فالمؤمن بالقدر على حذر من هللا ،قال تع99الى" :فَالَ يَ99أْ َم ُن
َم ْك َر هّللا ِ إِالَّ ْالقَوْ ُم ْالخَ ا ِسرُونَ " (األعراف ،آية .)99 :
فقلوب العباد دائمة التقلب والتغير ،والقلوب بين أص99بعين من أص99ابع ال99رحمن يقلبه99ا
كيف يشاء ،والفتن التي توج99ه س99هامها إلى القل99وب كث99يرة ،والم99ؤمن يح99ذر دائم9ا ً أن
يأتي99ه م99ا يض99له كم99ا يخش99ى أن يختم ل99ه بخاتم99ة س99يئة ،وه99ذا ال يدفع99ه إلى التكاس99ل
والخمول ،بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة لالستقامة واإلكث99ار من الص99الحات ومجانب99ة
المعاصي والموبقات ،كم99ا يبقى قلب العب99د معلق9ا ً بخالق99ه ،ي99دعوه ويرج99وه ويس99تعينه
ويسأله الثبات على الحق ،كما يسأله الرشد والسداد.3
10ـ الخالص من الشرك:
ال يتم توحي99د هللا إال لمن أق َّ 9ر أن هللا وح99ده الخ99الق لك99ل ش99ئ في الك99ون ،وأن إرادت99ه
ماضية في خلقه ما شاء هللا كان وما لم يش9أ لم يكن ،فك9ل المع9ذبين بالق9در لم يوح9دوا
ربهم ،ولم يعرفوه حق معرفته ،واإليمان بالقدر مفرق طري99ق بين التوحي99د والش99رك،
فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد ،ومن لم
يؤمن هذا اإليمان فإنه يجعل من دون هللا آلهة وأربابا ً.4
11ـ االستقامة :واإليمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببا ً في استقامة المسلم
وخاصة في معاملته لآلخرين ،فحين يقصر في حقه أحد أو يسئ إليه ،أو يرد إحس99انه
باإلساءة أو ينال من عرضه بغير حق ،تجده يعفو ويصفح ،ألن99ه يعلم أن ذل99ك مق99در،
وهذا إنما يحسن إذا كان في ح99ق نفس99ه ،أم99ا في ح99ق هللا فال يج99وز العف99و وال التعل99ل
بالقدر ،ألن القدر إنما يحتج به في المصائب ال في المعايب.5
واإليمان بالقدر يجعل اإلنسان يمض99ي في حيات99ه على منهج س99واء ال تبط99ره النعم99ة،
وال تيئسه المصيبة ،فه99و يعلم أن ك99ل م99ا أص99ابه من نعم وحس99نات من هللا ،ال بذكائ99ه
وحسن تدبيره " َو َما بِ ُكم ِّمن نِّ ْع َم ٍة فَ ِمنَ هّللا ِ" (النحل ،آي99ة ،)53 :وال يك99ون حال99ه ح99ال
قارون الذي بغى على قومه واستطال عليهم بما أعطاه هللا من كنوز وأموال.
189
وس 9ى فَبَغَى َعلَ ْي ِه ْم َوآتَ ْينَ99اهُ ِمنَ ْال ُكنُِ 9
9وز َم99ا إِ َّن ق99ال تع99الى":إِ َّن قَ99ارُونَ َك99انَ ِمن قَ99وْ ِم ُم َ
9ر ِحينَ * 9رحْ إِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْالفَِ 9 َمفَاتِ َحهُ لَتَنُو ُء بِ ْالعُصْ بَ ِة أُولِي ْالقُ َّو ِة إِ ْذ قَ َ
ال لَهُ قَوْ ُم 9هُ اَل تَ ْفَ 9
َص9يبَكَ ِمنَ الُّ 9د ْنيَا َوأَحْ ِس9ن َك َم9ا أَحْ َس9نَ هَّللا ُ َنس ن ِ 9رةَ َواَل ت َ َوا ْبت َِغ فِي َما آتَاكَ هَّللا ُ الَّ 9د َ
ار اآْل ِخ َ
9ال إِنَّ َم9ا أُوتِيتُ9هُ َعلَى ِع ْل ٍمض إِ َّن هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ ْال ُم ْف ِسِ 9دينَ * قَ َ ك َواَل تَب ِْغ ْالفَ َسا َد فِي اأْل َرْ ِ إِلَ ْي َ
ِعن ِدي" (القصص ،آية 76 :ـ .)78
1
ويكون المؤمن بالقدر على األستقامة في حالة السراء والضراء .
12ـ القضاء على األمراض التي تعصف بالمجتمعات:
اإليمان بالقدر يقضي على كث99ير من األم99راض ال99تي تعص99ف ،بالمجتمع99ات وت99زرع
األحقاد بين المؤمنين ،وذلك مثل رذيلة الحسد ،فالمؤمن ال يحسد الناس على ما آت99اهم
هللا من فضله ،ألنه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذل99ك ،وه99و يعلم حين يحس99د غ99يره إنم99ا
يعترض على المقدور ،وهك99ذا ف9المؤمن يس99عى لعم99ل الخ99ير ،ويحب للن99اس م99ا يحب
لنفسه ،فإن وصل إلى م99ا يص99بو إلي99ه حم99د هللا وش99كره على نعم99ه ،وإن لم يص99ل إلى
شيء من ذلك صبر ولم يجزع ،ولم يحقد على غيره ممن نال من الفض99ل م99ا لم ينل99ه،
ألن هللا هو الذي يقسم االرزاق فيعطي ويمنع وكل ذل99ك ابتالء وامتح99ان من99ه س99بحانه
وتعالى ـ لخلقه.2
قال ابن سيرين :ما حسدت أحداً على ش9يء من أم9ور ال9دنيا ،ألن9ه إن ك99ان ـ أي ه9ذا
الرجل ـ من أهل الجنة ،فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا وهو مصيره إلى الجنة
وإن كان ـ هذا الرجل ـ من أهل النار فكيف أحسده على ش99يء من أم99ور ال99دنيا ،وه99و
يصير إلى النار.3
فالحسد يحرق صاحبه ،والمحسود قد يُصابُ بالعين إن ك99انت العين خبيث99ة ألن الن99بي
صلى هللا عليه وسلم يقول :إن العين .4وقال صلى هللا عليه وسلم :العين حق ،ولو كان
شيء سابق القدر ،سبقته العين.5
وقال ص9لى هللا علي9ه وس9لم :ال تباغض9وا ،وال تحاس9دوا ،وال ت9دابروا ،وال تق9اطعوا،
وكونوا عباد هللا إخوانا.6
وعالج الحسد بالرضى بالقضاء والق99در ،وت99ارة بالزه99د في ال99دنيا ،وت99ارة بم99ا يتعل99ق
بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب اآلخرة ،فيتسلى المؤمن ب99ذلك وال يعم99ل بمقتض99ى
ما في النفس أصالً وال ينطق ،فإذا فعل ذلك لم يضره ما وض99ع في جبلته .7يع99ني :إذا
لم يحول الذي في نفسه إلى كلمات حاقدة حاسدة أو إلى أفعال حاقدة حاس99دة ال يض99ره
ما تحدث به النفس أحياناً ،فالنفس قد جبلت على مثل هذا.8
فالذي يؤمن بالقدر يحمل قلبا ً نظيفا ً طاهراً من الغل والحقد والحسد والغش والض99غينة
إلخوانه ،ألنه إن نظر إلى أخ من إخوانه ووجده في نعمة فهو يعلم يقينا ً أن ال99ذي أنعم
عليه بهذا هو هللا ،فهو يحب ألخيه النعمة ويتضرع إلى هللا سبحانه وتعالى الذي رزق
1القضاء والقدر لألشقر صـ .110
2القضاء والقدر للمحمود صـ .453
3مختصر منهاج القاصدين صـ .169
4القضاء والقدر ،محمد حسان صـ .268
5مسلم ،رقم .2188
6البخاري رقم ،6065مسلم رقم .2559
7القضاء والقدر ،محمد حسان صـ .273
8القضاء والقدر ،محمد حسان صـ ،273مختصر منهاج القاصدين صـ 169ـ .170
190
أخاه أن يرزق99ه بم99ا رزق أخ99اه فه99ذه كله99ا أم99راض القلب ال ت99داوى إال باإليم99ان باهلل
سبحانه وتعالى ،1والمؤمن بالقدر يعلم بأن هللا يعطي ويمنع لحكمه ،فإن من العب99اد من
ال ينفعه إال الغنى ،ولو أفقره هللا ألفسده ذلك ،ومن العباد من ال يصلحه إال الفقر ،ولو
أغناه هللا ألفسده ذلك ،ومن العب99اد من ال يص99لحه إال الص99حة ،ول99و أس99قمه هللا ألفس99ده
ذلك ومن العباد من ال يصلحه إال المرض ولو صح ألفسده ذل99ك فال يوج99د ش99يء في
الك99ون ب99دون حكم99ة وبغ99ير حكم99ة ،فاهلل ه99و الحكيم الخب99ير ،س99واء علمن99ا الحكم99ة أم
جهلناها ،فاهلل جل وعال يقدر بحكمة وعلم.2
13ـ اإلستعانة باهلل:
ومن ثمار اإليمان بالقدر يعلم العبد يقينا ً أن األم99ر كل99ه بي99د هللا خلق9ا ً ومش99يئة وتق99ديراً
وإيجاداً ،فالمستعان على حصول المراد هو هللا وحده دون غيره ،وله99ذا فه99و يس99تعين
باهلل على حصول مراده ،وألمر ما ك99انت س99ورة الفاتح99ة تق99رأ في ك99ل ص99الة ،ب99ل ال
صالة إال بفاتحة الكتاب ،كما ج99اء في الح99ديث الش99ريف وفي ه99ذه الس99ورة الكريم99ة،
ين" (الفاتح99ة ،آي99ة ،)5 :ف99إذا اس99تعان باهلل وباش99ر ك نَ ْعبُ ُد وإِيَّاكَ ن َْس9تَ ِع ُ
قوله تعالى":إِيَّا َ
السبب وحصل المقصود فهذا من فضل هللا وإن لم يحصل المقص99ود لم يي99أس المس99لم
فقد يكون في تأخير حصول المطلوب خير ال تع99رف وجه99ه ،فاهلل يعلم ونحن ال نعلم،
وما نعلمه من حكمته تعالى شيء قلي99ل للغاي99ة بالنس99بة لم99ا ال نعرف99ه من ه99ذه الحكم99ة
وعليه ـ أي على المسلم ـ أن يجدد السعي مستعينا ً باهلل وال يعجز عن ذلك وال يقبل ل99و
إني فعلت كذا كان كذا ،فإن هذا الكالم ال يفيد شيئا ً وإنما يفتح بابا ً لعبث الشيطان.3
14ـ االعتماد على هللا وحده:
وصاحب اإليمان الصحيح بالقدر يباشر االسباب بيده ولكن اعتماده على هللا وح99ده ال
على السبب ،وهكذا كان حال سيدنا محمد صلى هللا عليه وس99لم ،فق99د اختفى ص99لى هللا
علي99ه وس99لم في الغ99ار وه99ذا من99ه ص99لى هللا علي99ه وس99لم مباش99رة لس99بب الخالص من
المشركين ولكن ما ك99ان اعتم99اده في الخالص من المش99ركين على ه99ذا الس99بب ـ وال
ي ْاثنَي ِْن إِ ْذ
على غيره من األسباب ـ ولكن كان اعتماده على هللا وحده ،قال تعالى":ثَ99انِ َ9
صا ِحبِ ِه الَ تَحْ زَ ْن إِ َّن هّللا َ َم َعنَا" (التوبة ،آية .)40 :َار إِ ْذ يَقُو ُل لِ َهُ َما فِي ْالغ ِ
فثقته صلى هللا عليه وسلم واطمئنانه وسكينته وأمله في الخالص ،إنما كان ذلك بسبب
تل99ك المعي99ة الخاص99ة المتأني99ة من اعتم99اده على هللا ال بس99بب االختف99اء بالغ99ار ،وفي
معركة بدر بعد أن نظم صلى هللا عليه وسلم الجيش وباشر االسباب المادي99ة للمعرك99ة
رجع إلى العريش المنصوب 9له يدعو ربه ويكثر من الدعاء ألنه يعلم ص99لى هللا علي99ه
وس999لم أن النص999ر بي999د هللا واالعتم999اد في تحص999يله يجب أن يك999ون على هللا ال على
األسباب التي باشرها وإن كان البد من مباشرتها ،وهذا هو التوكل الصحيح الذي ه99و
"و َمن يَت ََو َّكلْ َعلَى من ثمرات اإليمان الصحيح بالقدر ،ومن ثمرات التوك99ل كفاي99ة هللا َ
هَّللا ِ فَه َُو َح ْسبُهُ" (الطالق ،آية .4)3 :
15ـ االعتراف بفضل هللا:
191
واإليمان بالقدر يجعل موقف صاحبه عند فعل الحسنات موقفا ً ص9حيحا ً س9ليما ً ت99ترتب
عليه طهارة قلبه من أرجاس كثيرة وبالتالي يستقيم سلوكه وتزك99وا اخالق99ه ،وتفص99يل
ذلك أن صاحب اإليمان بالقدر يشاهد القدر ويستحضره في ذهنه عن99د فع99ل الحس99نات
وعمل الصالحات وهذه المشاهدة تثمر في نفس99ه االع99تراف ب99أن م99ا ص99در من99ه وه99و
بمحض فضل هللا عليه ليس له فيه شيء ،وه99ذا ي99ؤدي ب99دوره إلى قم99ع ن99وازع الك99بر
والغرور والعجب بنفسه والمن على الن99اس ونح99و ذل99ك من األق99ذار القلبي99ة ،ألن ه99ذه
األقذار إنما تكون في اإلنسان العتقاده أن فيه من معاني االمتياز على غيره ما يدعوه
إلى التكبر عليهم والعجب بنفسه والغرور ونحو ذلك ،سواء كانت هذه المعاني أعماالً
صالحة أو عبادة أو فع99ل حس99نات أو ق99وة أو علم9ا ً أو س99لطانا ً أو م99االً أو ك99ثرة اتب99اع
ونحو ذلك ،فإذا شاهد القدر عند فعله الحسنات ،أو عند حصول ش99يء مم99ا ذكرن99ا في
يده ،وعلم أن ذلك كله من عند هللا وحده وم99ا حص99ل على يدي99ه ه99و محض فض99ل هللا
عليه ،زال منه العجب والكبر والغرور والمنة على هللا وعلى الن99اس ،وبالت99الي تج99ره
هذه المشاهدة وما يترتب عليها إلى حمد هللا وشكره وهكذا يفعل المؤمنون.
ي لَ99وْ ال أَ ْن هَ 9دَانَا هّللا ُ"وا ْال َح ْمُ 9د هّلِل ِ الَّ ِذي هَ 9دَانَا لِهَـ َذا َو َم99ا ُكنَّا لِنَ ْهتَ ِ 9د َ
ق99ال تع99الىَ ":وقَ99الُ ْ
(األعراف ،آية ،)43 :وهداية هللا للعبد تتضمن األعمال الصالحة التي يعلمها ،والعلم
بالحقائق الدينية والعمل بها ونحو ذلك ،كما أن مشاهدة القدر عند فع99ل الحس99نات تفي99د
المسلم من ناحية أخرى هي استدامة افتقاره إلى هللا وتصرفه بهذه الكيفية وتثبته الدائم
برحم9ة هللا وطلب عف9وه وع9دم االلتف9اف إلى عمل99ه ،واعتق99اده الج9ازم ب9أن ف99وزه في
اآلخ9رة إنم9ا يك9ون بمحض فض9ل هللا ورحمت9ه ال بعمل9ه ،ألن عمل9ه الطيب إنم9ا ه9و
محض فضل هللا فال يستحق به الجنة وإنما يستحقها بفضل آخ99ر من هللا تع99الى وبه99ذا
جاء في الحديث الشريف :لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ،قالوا :وال أنت ي99ا رس99ول هللا؟
قال :وال أنا إال أن يتغمدني هللا برحمة منه وفضل.1
ور ْثتُ ُموهَ99ا بِ َم99ا ُكنتُ ْم ُ
لكن قد يقول بعض الناس قولكم منقوض بقوله تعالى":تِ ْل ُك ُ9م ْال َجنَّةُ أ ِ
تَ ْع َملُونَ " (األعراف ،آية ،)43 :فدخول الجن99ة إنم99ا يك99ون بالعم99ل فكي99ف تنفون99ه؟ أو
تقللون من شأنه؟ والجواب أن اآلية الكريمة دلت على أن العمل س9بب ل9دخول الجن9ة،
فالباء في قوله تعالى "بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ " هي باء السببية ونحن ال ننك99ر األس99باب ،وال
كون العمل الصالح سببا ً للجنة ،الذي تتكلم فيه وننفي99ه أن يك99ون العم99ل عوض9ا ً وثمن9ا ً
مكافئا ً لدخول الجنة ،وهذا ما نفاه الح99ديث الش99ريف ،فالب99اء في قول99ه ص99لى هللا علي99ه
وسلم :لن يدخل أحدكم الجنة بعمله :هي باء المعاوضة والثمني99ة ،كم99ا في ق99ول القائ99ل
اشتريت هذا القلم بدرهم ،فالعمل ليس عوضا ً وال ثمنا ً لدخل الجنة ،وال يصلح أب99داً أن
يكون عوضا ً لها .ولتقريب ه99ذا المع99نى إلى األذه99ان نق99ول أن اإلنس99ان ل99و عب99د رب99ه
عمره كله وأتى بالصالحات فأية نسبة بين ما ق99دم من عم99ل في عم99ره المح99دود وبين
نعيم الجنة الدائم الممدود؟ أي99ة نس99بة بين عم99ل في زمن يتن99اهى ،ه99و عم99ر اإلنس99ان،
وبين نعيم في زمن ال يتناهى هو نعيم الجنة؟ فالبد إذن من فضل هللا ورحمت99ه ليظف99ر
الم99ؤمن بالجن99ة ،وه99ذا المع99نى ال يمكن تحص99يله وانص99باغ النفس ب99ه إال بالمش99اهدة
الدائم99ة للق99در عن99د فع99ل الخ99ير والحس99نات وفائ99دة أخ99رى لمش99اهدة الق99در عن99د فع99ل
192
الحسنات هي أن المسلم إذا فعل خيراً لغيره وهذا من الحسنات ،قد تتحرك فيه ن99وازع
المنة على الغ99ير وحب االس99تعالء علي99ه واالستش99راف إلى طلب الع99وض من99ه ،فه99ذه
النوازع تموت إذا شاهد القدر وه99و يفع99ل الخ99ير لغ99يره ألن99ه به99ذه المش99اهدة يعلم أن99ه
واسطة فقط إليصال ما قدره هللا من خير لذلك الغير ،فال داعي إذن ألنه يَ ُم ّن هو على
هذا الغير أن يستعلي عليه أو يتطلع إلى العوض منه ،أرأيت لو أن سيداً أرسل خادمه
بهدية إلى شخص أيكون من ح99ق الخ99ادم أن يمن على المه99دي إلي99ه أو يس99تعلي علي99ه
بهذه الهدية وهو محض واسطة إليصالها إليه؟
وإذا كان صاحب اإليمان بالقدر ال يمن وال يستعلي على من فع99ل ل9ه خ9يراً،فمن ب99اب
أولى أن ال يكون كذلك إذا لم يفعل له شيئاً ،وبهذا المسلك الحميد من ص99احب اإليم99ان
بالقدر ،أي يفعله الخير للناس دون منة أو استعالء عليهم أو طلب العوض منهم يكون
ط ِع ُم ُك ْم لِ َوجِْ 99ه هَّللا ِ اَل نُ ِريُ 99د ِمن ُك ْم َج 99زَاء َواَل ُشُ 99كورًا" من ال99ذين ق99ال هللا فيهم "إِنَّ َم99ا نُ ْ
(اإلنسان ،آية .)9 :
16ـ االستغناء بالخالق عن الخلق:
ومن ثمرات اإليمان بالقدر االستغناء بالخالق عن المخلوق والحرص على رض99ى هللا
وح99ده ورج99اؤه والخ99وف من99ه ،والتوك99ل علي99ه واالس99تعانة ب99ه وتف99ويض األم99ر إلي99ه
واالنكسار بين يديه وتبليغ رساالت هللا بدون وجل وال ت99ردد وال خش99ية من أح99د على
ت هَّللا ِ َويَ ْخ َشوْ نَهُ َواَل يَ ْخ َشوْ نَ أَ َحدًا إِاَّل هَّللا َ َو َكفَى بِاهَّلل ِ
وجه األرض "الَّ ِذينَ يُبَلِّ ُغونَ ِر َسااَل ِ
َح ِسيبًا" (األحزاب ،آية .)39 :
وقال صلى هللا عليه وسلم :من أرض99ى الن99اس بس99خط هللا ،وكل99ه هللا إلى الن99اس ،ومن
أسخط الناس برضا هللا كفاه هللا مؤنة الناس.1
فالسعيد الذي ال يعنيه إال رضا هللا ،وال يعنيه الشر إطالقاً ،ال يلتفت إلى الخل99ق ،ألن99ه
على يقين أن رزقه بيد الخ99الق ،ال بي99د الخل99ق وأن قل99وب الخل99ق ال تقب99ل إلي99ه ب99الحب
والبغض إال بتقدير الخالق ،فهذا ال يعلق قلبه بالمخلوقين ال بثن99ائهم ،ال ببغض99هم ،وال
بذمتهم ،وال بحمدهم ،بل يعلق قلبه بربهم جل جالله ،فال يعني99ه إال أن يق99ول :ق99ال هللا:
ُحصُ 9ل ب99ه رض99ا الن99اس ،2فمن ق99ال هلل ال قال رسوله بما يرض99ي هللا س99بحانه ال بم99ا ي ّ
يخشى في هللا لوم99ة الئم ،بالحكم99ة البالغ99ة ،والموعظ99ة الحس99نة ،أس99عده هللا في ال99دنيا
واآلخرة.3
17ـ االعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة:ـ
وصاحب اإليمان الصحيح بالقدر يشاهد نفسه عند فع99ل الس99يئات وارتك99اب المنهي99ات
وال يحتج بالقدر على عصيانه ألنه ال حجة ألحد فيه ،كما بيّنا ،وإنما يرج99ع إلى نفس99ه
ليوبخها من كبوتها حاالً كما ينهض من الوح99ل ،إذا وق99ع في99ه ويعق99د الع99زم على ع99دم
العودة إلى الذنب ،ويتوجه إلى هللا باإلعتراف بالذنب بانكسار قلب ،وبه99ذا كل99ه علّمن99ا
القرآن وضرب لنا األمثال وقص علينا موقف انبيائ99ه الك99رام في مث99ل ه99ذه األح99وال،
قال تعالى عن نبي9ه آدم علي9ه الس9الم َ ":ربَّنَ99ا ظَلَ ْمنَ9ا أَنفُ َس9نَا َوإِن لَّم تَ ْغفِ9رْ لَنَ9ا َوتَرْ َح ْمنَ99ا
193
اسِ 99رينَ " (األع99راف ،آي99ة ،)23 :وق99ال تع99الى عن موس99ى علي99ه لَنَ ُك99ون ََّن ِمنَ ْالخَ ِ
ت نَ ْف ِسي فَا ْغفِرْ لِي" (القصص ،آية .)16 : السالم َ ":ربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ
وفي الحديث الشريف :سيد االستغفار أن تقول :اللهم أنت ربي ال إل99ه إال أنت خلقت99ني
وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أب9وء ل9ك بنعمت9ك علي وأب9وء ب9ذنبي
فأغفر لي فإنه ال يغف9ر ال9ذنوب إال أنت ،1أو كم99ا ق9ال ص9لى هللا علي9ه وس9لم :أم9ا من
يشاهد القدر عند فعله السيئات محتجا ً به دافع9ا ً المس9ئولية عن نفس9ه فمثل9ه مث9ل إبليس
ُ
99و ْيتَنِي أل َزيِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ
ض 99ال َربِّ بِ َم99آ أَ ْغ َ
حيث ق99ال كم99ا أخبرن99ا هللا عن99ه ":قَ َ
َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ " (الحجر ،آية .)39 :
وكان عاقبته كما هو معروف الطرد من رحمة هللا.2
هذه بعض ثمار اإليمان بالقدر وغيرها كثير:
ـ كأداة عبادة هللا عز وجل ،فالقدر مما تعبدنا هللا سبحانه باإليم99ان ب99ه ،وق99وة اإليم99ان،
فالذي يؤمن بالقدر يقوى إيمانه ،فال يتخلى عن9ه ال ي9تزعزع أو يتضعض9ع مهم9ا نال9ه
في ذلك السبيل.
ت أَ ْي ِدي ُك ْم" (التغابن ،آي99ة : صيبَ ٍة فَبِ َما َك َسبَ ْ ـ الهداية ،كما قال تعالىَ ":و َما أَ َ
صابَ ُكم ِّمن ُّم ِ
)11
ـ الكرم ،فالذي يؤمن بالقدر ،وأن الفقر والغنى بيد هللا وأنه ال يفتق9ر إال إذا ق9در هللا ل9ه
ذلك ،فإنه ينفق وال يبالي.
ـ إحسان الظن باهلل قوة الرجاء ،فالمؤمن بالقدر حسن الظن باهلل ،قوي الرج99اء ب99ه في
كل أحواله.
عدم االعتماد على الكهان والمنجمين المشعوذين والتمسح بأتربة القبور ،ودعاء غ99ير
هللا ،وصرف شيء من أنواع العبادة لغير هللا ،ألنها ال تملك لنفسها نفعا ً وال ض ّراً.
ـ ومن ثم99رات اإليم99ان بالق99در :الس99المة من االع99تراض على أحك99ام هللا الش99رعية،
وأقداره الكونية والتسليم هلل في ذلك كه
ـ عدم اليأس من انتصار الحق :فالمؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقب99ة للمتقين وإن
قدرة هللا في ذلك نافذ ال محالة ،فال يدب اليأس إلى قلب99ه ،ال يع99رف إلي99ه طريق9ا ً مهم99ا
احلولكت ظلمة الباطل.
3
ـ علو الهمة ،وعدم الرضا بالدون ،وعدم الرضا بالواقع األليم .
"وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين"
194
الخاتمة
195
فهرس الكتاب
1 المقدمة.
7 الفصل األول:
7 القضاء والقدر.
7 المبحث األول :القضاء والقدر في اللغة والشرع.
7 أوالً :القضاء والقدر لغة وشرعاً.
7 1ـ معنى القضاء لغة:
8 2ـ القدر لغة.
8 3ـ المعنى الشرعي للقضاء والقدر.
9 4ـ الفرق بين القضاء والقدر.
10 ثانياً :أدلة القرآن على وجوب اإليمان بالقدر.
11 ثالثاً :القصص القرآني واإليمان بالقدر.
11 1ـ في قصة نوح عليه الصالة والسالم.
11 2ـ في قصة إبراهيم عليه الصالة السالم.
12 3ـ في قصة يوسف عليه الصالة والسالم.
12 4ـ موسى عليه الصالة والسالم.
12 5ـ في قصة موسى مع الشيخ الكبير.
13 6ـ ويقول تعالى عن موسى عليه السالم ـ والخضر.
13 7ـ بعد أن خسف هللا بقارون وداره.
13 8ـ يقول تعالى عن زكريا ومريم.
13 9ـ في قصة الرجل صاحب الجنتين.
14 10ـ الجن بذكره تعالى أنهم قالوا:
ض أَ ْم أَ َرا َد بِ ِه ْم َربُّهُ ْم َر َشدًا" ُ
" َوأَنَّا اَل نَ ْد ِري أَ َشرٌّ أ ِري َد بِ َمن فِي اأْل َرْ ِ
15 رابعاً :األدلة من السنة على وجوب اإليمان بالقدر.
16 خامساً :وصايا نبوية لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر.
16 ـ الوصية األولى.
16 ـ الوصية الثانية.
17 ـ الوصية الثالثة.
18 ـ نهي الرسول صلى هللا عليه وسلم عن الخوض في القدر.
197
61 4ـ الهداية إلى طريق الجنة.
61 ثانياً :أسباب الهداية.
61 1ـ المحافظة على الفطرة اإلنسانيةـ نقية صافية.
63 2ـ استعمال السمع والبصر والعقل.
63 3ـ العلم.
66 4ـ اإليمان.
68 5ـ االهتداء.
69 6ـ الدعاء.
70 7ـ االعتصام باهلل.
70 8ـ االتباع والطاعة.
73 9ـ الخشية.
74 10ـ اإلنابة.
75 11ـ البراء من الكافرين.
75 12ـ الجهاد.
77 ثالثاً :الضالل ومراتبه.
78 1ـ حرية العبد في اختياره للهدى والضالل.
79 2ـ التوفيق بين مشيئةـ هللا ومشيئة العبد للهدى والضالل.
81 3ـ التوفيق بين القدر األزلي واختيار الهدى والضالل.
81 رابعاً :أسباب الضالل.
81 1ـ عدم استخدام اإلنسان مواهبه في التفكير في آيات هللا.
82 2ـ الذنوب والمعاصي.
83 3ـ اتباع الشيطان.
86 4ـ الجهل واتباع الظن.
87 5ـ الجدال في هللا وآياتهـ بغير علم.
87 6ـ الغفلة.
87 7ـ التعصب.
88 8ـ التقليد.
91 9ـ الشك والريبة.
91 10ـ الجحود.
92 11ـ التأبي والعناد والتعنت.
93 .12الكبر.
94 13ـ حب الدنيا واالغترار بها واتخاذها لهواً.
95 14ـ اتباع الهوى.
97 15ـ االستهزاء بآيات هللا ورسله والمؤمنين.
97 16ـ الكفر.
99 17ـ الغلو في األنبياء والصالحين.
198
99 18ـ صحبة السوء والبيئة الفاسدة.
100 19ـ التشبه بالضالين.
100 20ـ االبتداع في الدين.
102 المبحث السادس :سنةـ هللا في األخذ باألسباب.
103 أوالً :األخذ باألسباب في القرآن الكريم.
106 ـ األسباب التي اتخذها ذو القرنين للتمكين لدين هللا عز وجل.
106 أ ـ الدستور العادل.
107 ب ـ المنهج التربوي للشعوب.
108 ج ـ االهتمام بالعلوم المادية والمعنوية وتوظيفها في الخير.
109 س ـ فقهه في إحياء الشعوب.
109 ـ الرحلة األولى.
109 ـ الرحلة الثانية.
110 ـ الرحلة الثالثة.
113 ش ـ أخالقه القيادية.
115 3ـ األسباب التي اتخذها داوود عليه السالم للتمكين لدين هللا.
119 4ـ األسباب التي اتخذها سليمان عليه السالم للتمكين لدين هللا.
123 ثانياً :األسباب والتوكل.
125 1ـ القول بالتنافي بين التوكل واألخذ باألسباب جهل بالدين.
125 2ـ التوازن بين مقامي التكل واألخذ باألسباب.
129 ثالثاً :األسباب والمسببات.
131 1ـ تأثيرـ السبب في المسبب.
133 2ـ قال صلى هللا عليه وسلم :ال عدوى وال طيرة وال هامة وال صفر.
135 3ـ الجزاء األخروي واألسباب.
136 4ـ الحث على طلب األسباب في األمور المكفولة.
137 5ـ مراعاة صورة األسباب في الخوارق.
137 6ـ تهيئة األسباب لوقوع مراد هللا.
138 7ـ األسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
138 8ـ إنكار قانون السببيةـ يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم.
139 9ـ منازعة األقدار باألقدار.
140 رابعاً :الدعاء والقدر.
141 1ـ داللة القرآن الكريم على ذلك.
143 2ـ داللة الفطرة على تأثير الدعاء بإذن هللا.
144 3ـ داللة السنة على تأثير الدعاء.
146 المبحث السابع :العدل اإللهي وسنةـ هللا في الجزاء بجنس العمل.
199
148 أوالً :األصل في العقاب المماثلة.
150 ثانياً :الجزاء بجنس العمل في الدنيا.
150 1ـ االستهزاء بالمنافقين السخرية منهم في الحياة الدنيا.
151 2ـ تسليط الظالم على مثله.
151 3ـ االستئصال لمن أراد إيذاء رسله وأوليائه.
152 4ـ نصر هللا منوط بنصرتهـ للدين والحق.
152 5ـ سلب النعمة عمن منعها مستحقها.
152 6ـ تيسير هللا لمن يسر على عبادها.
153 7ـ الجزاء بجنس العمل على مستوىـ الوسائل.
154 ثالثاً :الجزاء بجنس العمل في اآلخرة.
154 1ـ معاملة أهل الفضل بالفضل.
154 2ـ ترك اإلنسان وإهماله في العذاب ،كما أهمل الحق ولم يتبعه.ـ
155 3ـ التهكم بالكفار المنافقين ،كما كانوا يتهكمون بالمؤمنين في الدنيا.
155 رابعاً :الجزاء بجنس العمل بين العباد.
156 1ـ اآليات التي وردت في القصاص.
156 2ـ حد الحرابة واإلفساد.
156 3ـ من تطبيقات ذلك في العصر النبوي.
المبحث الثامن :والحكمة والتحسين والتقبيح
158 وتكليف ما ال يطاق وقدرة هللا عز جل
158 أوالً :الحكمة في أفعال هللا وشرعه.
158 1ـ هللا الحكيم الحكم الحاكم.
159 2ـ المراد بالحكمة.
159 3ـ الحكمة الحاصلة من الشرائع.
160 4ـ األدلة الدالة على الحكمة.
162 5ـ الحكمة من خلق إبليس ووجود هذه اآلثام والشرور في الكون.
163 ثانياً :التحسين والتقبيح.ـ
169 ثالثاً :فعل األصلح ،معنى االستطاعة وتكليف ما ال يطاق.
169 1ـ وجوب فعل األصلح.
170 2ـ معنى االستطاعة.
171 3ـ ال تكليف إال بما ال يطاق.
172 المبحث التاسع :سنة هللا في اآلجال وقدرة هللا ثمار اإليمان بالقدر:
172 أوالً :سنة هللا في اآلجال.
200
174 ثانياً :قدرة هللا عز جل.
175 ثالثاً :ثمار اإليمان بالقدر.
175 1ـ اإلقدام على عظائم األمور.
176 2ـ القضاء على الكسل التواكل.
178 3ـ الثبات في مواجهة الطغيان.
179 4ـ الصبر عند نزول المصائب.
180 5ـ الرضا والقناعة بما قسم.
181 6ـ العز في طلب الحوائج.
182 7ـ السكينة وراحة النفس وسكون القلب.
183 8ـ المؤمن ال يعيش بين "لو" و"ليت".
185 9ـ الخوف والحذر من هللا.
185 10ـ الخالص من الشرك.
186 11ـ االستقامة.
186 12ـ القضاء على األمراض التي تعصف بالمجتمعات.
187 13ـ االستعانة باهلل.
188 14ـ االعتماد على هللا وحده.
188 15ـ االعتراف بفضل هللا.
189 16ـ االستغناء بالخالق عن الخلق.
190 17ـ االعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة.
192 الخاتمة.
193 فهرس الكتاب.
200 كتب صدرت للمؤلف.
201
كتب صدرت للمؤلف:
1ـ السيرة النبوية:ـ عرض وقائع وتحليل أحداث.
2ـ سيرة الخليفة األول أبو بكر الصديق رضي هللا عنه :شخصيته وعصره.
3ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي هللا عنه :شخصيتهـ وعصره.
4ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي هللا عنه :شخصيته و عصره.
5ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي هللا عنه :شخصيتهـ و عصره.
6ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب .شخصيتهـ و عصره.
7ـ الدولة العثمانية :عوامل النهوض والسقوط.
8ـ فقه النصر و التمكين في القرآن الكريم.
9ـ تاريخـ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10ـ تاريخـ دولتي المرابطين و الموحدين في الشمال اإلفريقي.
11ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12ـ الوسطية في القرآن الكريم.
13ـ الدولة األموية،ـ عوامل اإلزدهار و تداعيات اإلنهيار.
14ـ معاوية بن أبي سفيان ،شخصيته و عصره.
15ـ عمر بن عبد العزيز ،شخصيته وعصره.
16ـ خالفة عبد هللا بن الزبير.
17ـ عصر الدولة الزنكية.
18ـ عماد الدين زنكي.
19ـ نور الدين زنكي.
20ـ دولة السالجقة.
21ـ اإلمام الغزالي وجهوده في اإلصالح والتجديد.
22ـ الشيخ عبد القادر الجيالني.
23ـ الشيخ عمر المختار.
24ـ عبد الملك بن مروان بنوه.
25ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26ـ حقيقة الخالف بين الصحابة.
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين األمويةـ والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح اإلسالمي في الشمال االفريقي.
35ـ صالح الدين األيوبيـ وجهوده في القضاء على الدولة الفاطميــة وتحريــر الــبيت
المقدس.
202
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى هللا عليه وسلم دروس مســتفادة من
الحروب الصليبية.ـ
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السالم سلطان العلماء.
38ـ الحمالت الصليبية (الرابعــة والخامســة والسادســة والســابعة) واأليوبيــون بعــد
صالح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل اإلنتشار وتداعيات اإلنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.
41ـ اإليمان باهلل جل جالله.
42ـ اإليمان باليوم اآلخر.
43ـ الشورى في اإلسالم.
44ـ السلطان محمد الفاتح.
45ـ اإليمان بالقدر.
203