Professional Documents
Culture Documents
ws
مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة
املق ّدمة
الرحيم احلمد هلل الذي هو األول بال ابتداء واآلخر بال انتهاء ،له اخللق واألمر،
الرمحن ّ
بسم هللا ّ
وبيده التدبري والتكوين ،ليس كمثله شيء وهو السميع البصري.
وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،وأن حممدا عبده ورسوله ،وأن البعث حق ،وأن اجلنة
حق ،وأن النار حق ،وأنه تعاىل له األوىل واآلخرة وهو احلكيم اخلبري.
وبعد :فهذه حبوث وعلوم خاصة ابلقرآن الكرمي والسنة النبوية الشريفة أردت تقدميها سهلة ميسرة
ألبناء عصري ،مسامهة مين يف إبراز هذه اجلواهر النفيسة ،والآللئ املضيئة ،راجيا أن يفيدوا منها،
ويتجملوا جبماهلا وكماهلا وجالهلا؛ ألهنا أنوار مقتبسة من كتاب هللا وسنة رسول هللا صلّى هللا عليه
وسلم ،وألهنا مع جالهلا ال يهتم هبا إال القليل من طلبة العلوم الشرعية ،وال يعمل هبا إال احلريصون
على اتباع السنة احملمدية ،لذلك أسأل هللا تعاىل أن يشرح صدور الكثريين لدراستها وتدريسها ،وأن
يوفق اجلميع لفهمها والعمل هبا وهو تعاىل مسيع جميب.
وقد مسيت هذا الكتاب اجلامع ألهم علوم القرآن والسنة «احلديث يف علوم القرآن واحلديث» وهللا
ويل التوفيق.
املؤلف حسن أيّوب
()5/1
علوم القرآن
القرآن الكرمي :هو الكالم املعجز املنزل على النيب حممد صلّى هللا عليه وسلم املكتوب يف املصاحف
املنقول ابلتواتر ،املتعبد بتالوته.
هذا التعريف مجع اخلصائص العظمى اليت امتاز هبا القرآن الكرمي ،وإن كان قد امتاز بكثري سواها كما
قال الزرقاين.
واملراد بعلوم القرآن :كل علم خيدم القرآن أو يستند إليه ويؤخذ منه.
ويشمل ذلك علم التفسري ،وعلم القراءات ،وعلم الرسم العثماين ،وعلم إعجاز القرآن ،وعلم
أسباب النزول ،وكل علم يساعد على فهمه كالنحو والصرف والبالغة ،أو يؤرخ لتطور علومه ،أو
يستنبط من كلماته ومفاهيمه ،فهي إذا علوم ال حتصى ،وقد توسع السيوطي فيها حىت اعترب منها
علم اهلندسة والطب والفلك وحنوها ،وتوسع أكثر منه ابن العريب حىت أوصل هذه العلوم إىل مخسني
وأربعمائة وسبعة وسبعني ألف علم ،وهذا الكالم حممول على ضرب ونوع من التوسع والشطح حبيث
حياول كل عامل أن أيخذ من كالم هللا تعاىل علوما من كل كلمة من كلماته ،ومن كل مجلة من مجله،
وبذلك يتحول العلماء إىل ابحثني يف كتاب هللا ،ومكتشفني من كلماته ظاهرها وابطنها ،ونصها
ومفهومها وإشاراهتا علوما ال حصر هلا.
ولو أن املسلمني األولني اشتغلوا بذلك عن اهلدف األساسي الذي أنزل القرآن ألجله ،ما وصلوا إىل
ما وصلوا إليه من إبراز مجال دين هللا وكماله وجالله ،واشتماله على كل ما حيتاج إليه اخلالئق لكي
يكونوا سعداء يف دنياهم ،انجني مقربني إىل هللا يف أخراهم.
إن اهلدف األساسي لكتاب هللا تعاىل هو هداية الناس وداللتهم على الطريق الذي ضلوا عنه مع
حبثهم الدائم ،وشغفهم الكبري للوصول إليه وهو« :طريق السعادة الدائمة» والفوز احلقيقي ،والسالم
الشامل.
وكل ما يف القرآن الكرمي من أحكام وحكم ،وأمثال وعرب ،وقصص وعظات ،وحجج وبراهني ،وأدلة
متأل القلب والعقل نورا ،إمنا أريد به اهلداية إىل هذا الطريق.
ني [سورة البقرة آية.]2 ،1 : ْكتاب ال ريب فِ ِيه هدى لِل ِ قال هللا تعاىل :امل ( )1ذلِ َ ِ
ْمتَّق َ ُ ً ُ ك ال ُ َْ َ
بار ٌك فَاتَّبِ ُعوهُ َواتَّـ ُقوا لَ َعلَّ ُك ْم تُـ ْر َمحُو َن [سورة األنعام آية.]155 : ِ
تاب أَنْـ َزلْناهُ ُم َ
وقال تعاىلَ :وهذا ك ٌ
()7/1
َّاس ِِبا أَر َ ِ وقال تعاىل :إِ َّان أَنْـزلْنا إِلَي َ ِ
اَّللُ [سورة النساء آية.]105 : اك َّ تاب ِاب ْحلَ ِّق لتَ ْح ُك َم بَ ْ َ
ني الن ِ ك الْك َ َ ْ
ض َع ْن ِذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َم ِعي َ
شةً ض ُّل َوال يَ ْشقى (َ )123وَم ْن أَ ْع َر َ وقال تعاىل :فَم ِن اتَّـبع ُهداي فَال ي ِ
َ َ َ ََ
قال
صرياً (َ )125 تب ِ
ش ْرتَِين أَ ْعمى َوقَ ْد ُك ْن ُ َ ب ِملَ َح َقال َر ِّيام ِة أَ ْعمى (َ )124 ِ
ش ُرهُ يَـ ْوَم الْق َ
ض ْنكاً َوَْحن ُ
َ
ك الْيَـ ْوَم تُـ ْنسى [سورة طه آية.]126 - 123 : ك آايتُنا فَـنَ ِسيتَها َوَكذلِ َ َكذلِ َ
ك أَتَـ ْت َ
علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» .وذلك خمافة أن يلتبس القرآن بغريه ،أو خيتلط ابلقرآن ما ليس
ّ
منه ،مادام الوحي انزال ابلقرآن ،فلتلك األسباب املتضافرة مل تكتب علوم القرآن ،كما مل يكتب
احلديث الشريف إال عدد حمدود يف آخر حياة النيب صلّى هللا عليه وسلم ،ومضى الرعيل األول على
ذلك يف عهد الشيخني أيب بكر وعمر .ولكن الصحابة كانوا مضرب األمثال يف نشر اإلسالم
وتعاليمه ،والقرآن ومفاهيمه ،وتعليم السنة ونقلها إىل غريهم تلقينا ال تدوينا ،ومشافهة ال كتابة.
جبري ،وزيد بن أسلم ابملدينة ،وعنه أخذ ابنه عبد الرمحن ،ومالك بن أنس من اتبعي التابعني رضي هللا
عنه أمجعني ،وهؤالء مجيعا يعتربون واضعي األساس ملا يسمى علم التفسري ،وعلم أسباب النزول،
وعلم الناسخ واملنسوخ ،وعلم غريب القرآن وحنو ذلك.
وستجد بسطا هلذا اإلمجاع يف حبث طبقات املفسرين.
()10/1
وحجج القرآن ،وبدائع القرآن ،ورسم القرآن ،وما أشبهها مما يروعك تصوره واالطالع عليه ،ومما
ميأل خزائن كاملة من أعظم املكتبات يف العاملُ .ث ال يزال املؤلفون
إىل عصران هذا يزيدون ،وعلوم القرآن ومؤلفاته تنمو وتزدهر .أليس ذلك إعجازا آخر للقرآن يريك
إىل أي حد بلغ علماء اإلسالم يف خدمة التنزيل .ويريك أنه كتاب ال تفىن عجائبه ،وال تنقضي
معارفه ،ولن يستطيع أن حييط أبسراره إال صاحبه ومنزله؟.
وإذا أضفت إىل علوم القرآن ما جاء يف احلديث النبوي الشريف وعلومه وكتبه وحبوثه ابعتبارها من
علوم القرآن ،نظرا إىل أن احلديث شارح للقرآن يبني مبهماته ،ويفصل جممالته ،وخيصص ع ّامه ،كما
ني لِلن ِ
َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم َولَ َعلَّ ُه ْم قال سبحانه لنبيه صلّى هللا عليه وسلم :وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ
ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ َ َ ْ
يَـتَـ َف َّك ُرو َن [سورة النحل آية.]44 :
أقول :إذا أضفت احلديث النبوي وعلومه إىل علوم القرآن تراءى لك حبر متالطم األمواج.
وتزداد عجبا إذا علمت أن طريقة أولئك املؤلفني يف أتليفهم كانت طريقة استيعاب واستقصاء حبيث
يقصد أصحاهبا أن حييطوا جبزئيات القرآن من الناحية اليت كتبوا فيها بقدر طاقتهم البشرية.
فمن يكتب يف غريب القرآن مثال يذكر كل مفرد من مفردات القرآن اليت فيها غرابة وإهبام .ومن
يكتب يف جماز القرآن يقتفي أثر كل لفظ فيه جماز ّأاي كان نوعه يف القرآن .ومن يكتب يف أمثال
القرآن يتحدث عن كل مثل ضربه هللا يف القرآن ،وهكذا سائر أنواع علوم القرآن.
وهلذا اشرأبت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علما جديدا يكون كالفهرس والدليل عليها،
واملتحدث عنها .فكان هذا العلم هو ما نسميه «علوم القرآن» ابملعىن املدون ،وال نعلم أن أحدا
قبل املائة الرابعة للهجرة ألّف أو حاول أن يؤلف يف علوم القرآن ابملعىن املدون؛ ألن الدواعي مل تكن
موفورة لديهم حنو هذا النوع من التأليف .وإن كنا نعلم أهنا كانت جمموعة يف صدور املربزين من
العلماء ،على الرغم من أهنم مل يدونوها يف كتاب ،ومل يفردوها ابسم.
أجل :كانت علوم القرآن جمموعة يف صدور هؤالء العلماء .فنحن نقرأ يف اتريخ الشافعي رضي هللا
عنه أنه أثناء حمنته اليت اهتم فيها أبنه رئيس حزب العلويني ابليمن ،وسيق بسبب هذه التهمة إىل
الرشيد مكبال ابحلديد يف بغداد ،سأله الرشيد حني ملح علمه وفضله ،فقال :كيف علمك اي شافعي
وجل؟ فإنه أوىل األشياء أن يبتدأ به؟ فقال الشافعي :عن أي كتاب من كتب هللا
عز ّبكتاب هللا ّ
تسألين اي أمري املؤمنني؟ فإن هللا تعاىل قد أنزل
()11/1
كتبا كثرية .قال الرشيد :قد أحسنت ،لكن إمنا سألت عن كتاب هللا املنزل على ابن عمي حممد صلّى
هللا عليه وسلم .فقال الشافعي :إن علوم القرآن كثرية ،فهل تسألين عن حمكمه ومتشاهبه ،أو عن
تقدميه وأتخريه ،أو عن انسخه ومنسوخه ،أو عن ، ...أو عن ...؟؟
وصار يرد عليه من علوم القرآن ،وجييب عن كل سؤال ِبا أدهش الرشيد واحلاضرين.
فأنت ترى من جواب الشافعي هذا ،ومن نطقه ابحلكمة يف هذا املوقف الرهيب ما يدلك على أن
قلوب أكابر العلماء كانت أوعية لعلوم القرآن من قبل أن جتمع يف كتاب.
وحنن ال نستبعد على الشافعي هذا ،فقد كان آية من آايت هللا يف علمه وذكائه ،ويف ابتكاره
وجتديده ،ويف قوة حجته وتوفيقه .حىت إنه وضع كتابه (احلجة) يف العراق يستدرك به على مذاهب
أهل الرأي ،وألف يف مصر كتبا يستدرك هبا على مذاهب بعض أهل احلديث ُث وضع دستورا
لالجتهاد واالستنباط مل يتسن ألحد قبله ،إذ كان أول من صنف يف أصول الفقه وهو من علوم
القرآن كما علمت .قال ابن خلدون يف مقدمته« :كان أول من كتب فيه -أي علم أصول الفقه-
الشافعي رضي هللا عنه ،أملى فيه رسالته املشهورة ،تكلم فيها على األوامر والنواهي ،والبيان ،واخلرب،
والنسخ ،وحكم العلة املنصوصة من القياس اهـ.
()12/1
()13/1
بكر :إنك رجل شاب عاقل وال نتهمك ،كنت تكتب الوحي لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ،فتتبع
علي مما أمرين به من مجع القرآن؛
القرآن فامجعه ،فو هللا لو كلفين نقل جبل من اجلبال ما كان أثقل ّ
قلت :كيف تفعالن شيئا مل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم؟ فقال أبو بكر :هو وهللا خري ،فلم
أزل أراجعه حىت شرح هللا صدري للذي شرح له صدر أيب بكر وعمر؛ فقمت فتتبعت القرآن أمجعه
من الرقاع واألكتاف والعسب ،وصدور الرجال ،حىت وجدت من سورة التوبة آيتني مع خزمية
ول ِم ْن أَنْـ ُف ِس ُك ْم إىل آخرها .فكانت الصحف اليت مجع جاء ُك ْم َر ُس ٌ
األنصاري مل أجدمها مع غريه لََق ْد َ
فيها القرآن عند أيب بكر حىت توفاه هللاُ ،ث عند عمر حىت توفاه هللاُ ،ث عند حفصة بنت عمر.
ول ِم ْن
جاء ُك ْم َر ُس ٌ
وقال الرتمذي يف حديثه عنه :فوجدت آخر سورة براءة مع خزمية بن اثبت لََق ْد َ
ِ َّ أَنْـ ُف ِس ُكم ع ِزيز علَي ِه ما عنِتُّم ح ِريص علَي ُكم ِابلْم ْؤِمنِني رُؤ ٌ ِ
يب َّ
اَّللُ يم ( )128فَإ ْن تَـ َول ْوا فَـ ُق ْل َح ْسِ َ
ف َرح ٌ ْ َ ٌ َْ َ ْ َ ٌ َْ ْ ُ َ َ
ش ال َْع ِظ ِيم [قال :حديث حسن صحيح]. ب ال َْع ْر ِ ال إِلهَ إَِّال ُه َو َعلَْي ِه تَـ َوَّكل ُ
ْت َو ُه َو َر ُّ
ويف البخاري عن زيد بن اثبت قال :ملا نسخنا الصحف يف املصاحف فقدت آية من سورة األحزاب
كنت أمسع رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقرؤها ،مل أجدها مع أحد إال مع خزمية األنصاري الذي
اَّللَ َعلَْي ِه.
عاه ُدوا َّ
ص َدقُوا ما َ جعل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم شهادته بشهادة رجلني ِر ٌ
جال َ
فإن قيل :فما وجه مجع عثمان الناس على مصحفه ،وقد سبقه أبو بكر إىل ذلك وفرغ منه؟ قيل :إن
عثمان رضي هللا عنه مل يقصد ِبا صنع مجع الناس على أتليف املصحف ،أال ترى كيف أرسل إىل
حفصة :أن أرسلي إلينا ابلصحف ننسخها ُث نر ّدها إليك على ما أييت؛ وإمنا فعل ذلك عثمان؛ ألن
الناس اختلفوا يف القراءات بسبب تفرق الصحابة يف البلدان واشتد األمر يف ذلك وعظم اختالفهم
وتشبثهم ووقع بني أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة رضي هللا عنه وذلك أهنم اجتمعوا يف غزوة
أرمينية فقرأت كل طائفة ِبا روي هلا ،فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والرباءة منه
وتالعنوا ،فأشفق حذيفة مما رأى منهم ،فلما قدم حذيفة املدينة «فيما ذكر البخاري والرتمذي» دخل
إىل عثمان قبل أن يدخل إىل بيته ،فقال :أدرك هذه األمة قبل أن هتلك ،قال :يف ماذا؟ قال:
يف كتاب هللا ،إين حضرت هذه الغزوة ومجعت انسا من العراق والشام واحلجاز فوصف له ما تقدم،
وقال :إين أخشى عليهم أن خيتلفوا يف كتاهبم كما اختلف اليهود والنصارى ،قلت :وهذا أدل دليل
على بطالن من قال :إن املراد ابألحرف
()14/1
السبعة قراءة القراء السبعة؛ ألن احلق ال خيتلف فيه ،وقد روى سويد بن غفلة عن علي ابن أيب
طالب أن عثمان قال :ما ترون يف املصاحف فإن الناس قد اختلفوا يف القراءة حىت إن الرجل ليقول:
إن قراءيت خري من قراءتك ،وقراءيت أفضل من قراءتك ،وهذا شبيه ابلكفر ،قلنا :ما الرأي عندك اي
أمري املؤمنني؟ .قال :الرأي عندي أن جيتمع الناس على قراءة ،فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من
بعدكم أشد اختالفا ،قلنا :الرأي رأيك اي أمري املؤمنني .فأرسل عثمان إىل حفصة أن أرسلي إلينا
ابلصحف ننسخها يف املصاحف ُث نردها إليك ،فأرسلت هبا إليه فأمر زيد بن اثبت ،وعبد هللا بن
الزبري ،وسعيد بن العاصي ،وعبد الرمحن بن احلارث بن هشام ،فنسخوها يف املصاحف ،وقال عثمان
للرهط القرشيني :إذا اختلفتم أنتم وزيد بن اثبت يف شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ،فإمنا نزل
بلساهنم ،ففعلوا حىت إذا نسخوا الصحف يف املصاحف رد عثمان الصحف إىل حفصة ،وأرسل إىل
كل أفق ِبصحف مما نسخوا ،وأمر ِبا سوى ذلك من القرآن يف كل صحيفة أو مصحف أن حيرق،
وكان هذا من عثمان رضي هللا عنه بعد أن مجع املهاجرين واألنصار وجلة أهل اإلسالم وشاورهم يف
ذلك ،فاتفقوا على مجعه ِبا صح وثبت من القراءات املشهورة عن النيب صلّى هللا عليه وسلم واطّراح
ما سواها ،واستصوبوا رأيه وكان رأاي سديدا موفقا رمحة هللا عليه وعليهم أمجعني.
قال ابن شهاب :وأخربين عبيد هللا بن عبد هللا أن عبد هللا بن مسعود كره لزيد بن اثبت نسخ
املصاحف ،وقال :،اي معشر املسلمني ،أعزل عن نسخ املصاحف ويتواله رجل ،وهللا لقد أسلمت
وإنه لفي صلب رجل كافر؟ يريد زيد بن اثبت.
قال أبو بكر األنباري :ومل يكن االختيار لزيد من جهة أيب بكر وعمر وعثمان على عبد هللا بن
مسعود يف مجع القرآن ،وعبد هللا أفضل من زيد ،وأقدم يف اإلسالم وأكثر سوابق وأعظم فضائل ،إال
ألن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد هللا إذ وعاه كله ،ورسول هللا صلّى هللا عليه وسلم حي ،والذي
حفظ منه عبد هللا يف حياة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم نيف وسبعون سورةُ ،ث تعلّم الباقي بعد
وفاة الرسول ،فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول هللا صلّى هللا عليه وسلم حي أوىل جبمع املصحف
وأحق ابإليثار واالختيار ،وال ينبغي أن يظن جاهل أن يف هذا طعنا على عبد هللا بن مسعود؛ ألن
زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمته عليه؛ ألن أاب بكر
وعمر رضي هللا عنهما كان زيد أحفظ منهما للقرآن ،وليس هو خريا منهما ،وال مساواي هلما يف
الفضائل واملناقب.
ووجه هبا
ونسخ منها عثمان نسخا ،قال غريه :قيل سبعة ،وقيل أربعة ،وهو األكثرّ ،
()15/1
إىل اآلفاق ،فوجه للعراق والشام ومصر أبمهات ،فاختذها قراء األمصار معتمد اختياراهتم ومل خيالف
أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه ،وما وجد بني هؤالء القراء السبعة من االختالف يف
كال منهم اعتمد على ما بلغه يف
حروف يزيدها بعضهم على بعض وينقصها بعضهم فذلك ألن ّ
مصحفه ورواه؛ إذ قد كان عثمان كتب تلك املواضع يف بعض النسخ ومل يكتبها يف بعض إشعارا أبن
كل ذلك صحيح ،وأن القراءة بكل منها جائزة.
قال ابن عطيةُ :ث إن عثمان أمر ِبا سواها من املصاحف أن حترق ،أو خترق -تروى ابحلاء غري
منقوطة وتروى ابخلاء على معىن «تدفن» -ورواية احلاء غري منقوطة أحسن.
وذكر أبو بكر األنباري يف كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال :مسعت علي بن أيب طالب يقول :اي
حراق املصاحف ،فو هللا ما حرقها إال عن
معشر الناس :اتقوا هللا وإايكم والغلق يف عثمان وقولكمّ :
مأل منا أصحاب حممد صلّى هللا عليه وسلم.
وعن عمر بن سعيد قال :قال علي بن أيب طالب رضي هللا عنه :لو كنت الوايل وقت عثمان لفعلت
يف املصاحف مثل الذي فعل عثمان.
قال أبو احلسن بن بطال :ويف أمر عثمان بتحريق الصحف واملصاحف حني مجع القرآن جواز حتريق
الكتب اليت فيها أمساء هللا تعاىل ،وأن ذلك إكرام هلا وصيانة عن الوطء ابألقدام ،وطرحها يف ضياع
من األرض.
روى معمر عن ابن طاووس عن أبيه :أنه كان حيرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم
هللا الرمحن الرحيم .وحرق عروة بن الزبري كتب فقه كانت عنده يوم احلرة.
وكره إبراهيم أن حترق الصحف إذا كان فيها ذكر هللا تعاىل ،وقول من حرقها أوىل ابلصواب ،وقد
فعله عثمان؛ وقد قال القاضي أبو بكر لسان األمة :جائز لإلمام حتريق الصحف اليت فيها القرآن،
إذا أ ّداه االجتهاد إىل ذلك .اه ملخصا من مقدمة القرطيب.
()16/1
األخري مرتني .كل ذلك كان على الرتتيب املعروف لنا يف املصاحف .وكذلك كان كل من حفظ
القرآن أو شيئا منه من الصحابة ،حفظه مرتب اآلايت على هذا النمط ،يتدارسونه فيما بينهم،
ويقرءونه يف صالهتم ،وأيخذه بعضهم عن بعض ،ويسمعه بعضهم من بعض ابلرتتيب القائم اآلن،
فليس لواحد من الصحابة واخللفاء الراشدين يد وال تصرف يف ترتيب شيء من آايت القرآن الكرمي.
بل اجلمع الذي كان على عهد أيب بكر مل يتجاوز نقل القرآن من العسب واللخاف وغريها يف
مصحف ،واجلمع الذي كان على عهد عثمان مل يتجاوز نقله من الصحف يف مصاحف .وكال هذين
كان وفق الرتتيب احملفوظ املستفيض عن النيب صلّى هللا عليه وسلم عن هللا تعاىل.
اتما ال ريب فيه .وممن حكى هذا اإلمجاع مجاعة منهم الزركشي يف
أجل :انعقد اإلمجاع على ذلك ّ
الربهان ،وأبو جعفر يف املناسبات إذ يقول ما نصه« :ترتيب اآلايت يف سورها واقع بتوقيفه صلّى هللا
عليه وسلم وأمره من غري خالف يف هذا بني املسلمني.
واستند هذا اإلمجاع إىل نصوص كثرية :منها ما سبق لك قريبا ،ومنها ما رواه اإلمام أمحد عن عثمان
بن أيب العاص قال :كنت جالسا عند رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم إذ شخص ببصره ُث صوبه ُث
اَّللَ َأي ُْم ُر ِابل َْع ْد ِل
قال« :أاتين جربيل فأمرين أن أضع هذه اآلية يف هذا املوضع من السورة إِ َّن َّ
يتاء ِذي الْ ُقرىب ويـ ْنهى ع ِن الْ َفح ِ
شاء َوال ُْم ْن َك ِر َوالْبَـغْ ِي يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن» [سورة سان وإِ ِ
اإلح ِ
ْ ْ ََ َ َ َو ِْ ْ
النحل آية.]90 :
ومنها ما ثبت يف السنن الصحيحة من قراءة النيب صلّى هللا عليه وسلم بسور عديدة كسورة البقرة،
وآل عمران ،والنساء ،ومن قراءته لسورة األعراف يف صالة املغرب ،وسورة قَ ْد أَفْـلَ َح ال ُْم ْؤِمنُو َن
سان يف صبح يوم اإلنْ ِ وسورة «الروم» يف صالة الصبح ،وقراءة سورة «السجدة» وسورة َه ْل أَتى َعلَى ِْ
اجلمعة ،وقراءة سوريت «اجلمعة واملنافقون» يف صالة اجلمعة ،وقراءته سورة «ق» يف اخلطبة ،وسوريت
«اقرتبت وق» يف صالة العيد ،كان يقرأ ذلك كله مرتب اآلايت على النحو الذي يف املصحف على
مرأى ومسمع من الصحابة.
ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال :ما سألت النيب صلّى هللا عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن
الكاللة حىت طعن أبصبعه يف صدري« :تكفيك آية الصيف اليت يف آخر سورة النساء».
فأنت ترى أنه صلّى هللا عليه وسلم دله على موضع تلك اآلية من سورة النساء ،وهي قوله سبحانه:
اَّللُ يُـ ْفتِي ُك ْم ِيف الْ َكاللَ ِة إخل.
ك قُ ِل َّ
يَ ْستَـ ْفتُونَ َ
()17/1
مالحظة:
ذكر بعضهم أن كلمات القرآن 77439تسع وثالثون وأربعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة ،وذكر
بعضهم غري ذلك .قيل :وسبب االختالف يف عدد الكلمات أن الكلمة هلا حقيقة وجماز ،ولفظ
ورسم ،واعتبار كل منها جائز ،وكل من العلماء اعترب أحد ما هو جائز.
قال السخاوي :ال أعلم لعدد الكلمات واحلروف من فائدة؛ ألن ذلك إن أفاد فإمنا يفيد يف كتاب
ميكن فيه الزايدة والنقصان ،والقرآن ال ميكن فيه ذلك ،وذكر ابن كثري أن عدد آايت القرآن 6000
ستة آالف آية وأن عدد حروفه قيل 321180 :وقيل:
،323015وقيل 340740 :اه.
ولكن ورد من األحاديث يف اعتبار احلروف ما أخرجه الرتمذي عن ابن مسعود مرفوعا «من قرأ حرفا
من كتاب هللا فله به حسنة ،واحلسنة بعشر أمثاهلا ،ال أقول «آمل» حرف ،ولكن ألف حرف ،والم
حرف ،وميم حرف».
ترتيب السور
معىن السورة:
السورة يف اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله :والسورة« :املنزلة» ،ومن القرآن
معروفة؛ ألهنا منزلة بعد منزلة :مقطوعة عن األخرى« ،والشرف» «وما طال من البناء وحسن»،
«والعالمة»« ،وعرق من عروق احلائط» اه.
وميكن تعريفها اصطالحا أبهنا :طائفة مستقلة من آايت القرآن ذات مطلع ومقطع.
قالوا :وهي مأخوذة من سور املدينة.
وذلك إما ملا فيها من وضع كلمة جبانب كلمة ،وآية جبانب آية ،كالسور توضع كل لبنة فيه جبانب
لبنة ،ويقام كل صف منه على صف.
وإما ملا يف السورة من معىن العلو والرفعة املعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته احلسية ،وإما ألهنا
حصن ومحاية حملمد صلّى هللا عليه وسلم ،وما جاء به كتاب هللا القرآن ،ودين احلق اإلسالم ،ابعتبار
أهنا معجزة خترس كل مكابر ،وحيق هللا هبا احلق ويبطل الباطل ولو كره اجملرمون ،أشبه بسور املدينة،
حيصنها وحيميها من غارة األعداء ،وسطوة األشقياء.
وسور القرآن خمتلفة طوال وقصرا ،فأقصر سورة فيه سورة الكوثر ،وهي ثالث آايت قصار ،وأطول
سورة فيه سورة البقرة ،وهي مخس ومثانون أو ست ومثانون ومائتا
()18/1
آية ،وأكثر آايهتا من اآلايت الطوال ،بل فيها آية ال ّدين اليت هي أطول آية يف القرآن كما سبق ،وبني
سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثرية ختتلف طوال وتوسطا وقصرا.
ومرجع الطول والقصر والتوسط وحتديد املطلع واملقطع إىل هللا وحده ،حلكم سامية علمها من علمها
وجهلها من جهلها.
أقسام السور:
خصوا ك ّال منها ابسم معني ،وهي الطوال ،واملئني،
قسم العلماء سور القرآن إىل أربعة أقسامّ ،
ّ
واملفصل.
ّ واملثاين،
فالطوال سبع سور :البقرة ،وآل عمران ،والنساء ،واملائدة ،واألنعام ،واألعراف ،فهذه ستة ،واختلفوا
يف السابعة أهي األنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما ابلبسملة ،أم هي سورة يونس؟؟.
واملئون :هي السور اليت تزيد آايهتا على مائة أو تقارهبا.
واملثاين :هي اليت تلي املئني يف عدد اآلايت ،وقال الفراء :هي السور اليت آيها أقل من مائة آية؛ ألهنا
تثىن الطوال واملئون.
تكرر» أكثر مما ّ
تثىن أي « ّ
واملفصل :هو أواخر القرآن ،واختلفوا يف تعيني أوله على اثين عشر قوال فقيل :أوله «ق» ،وقيل:
ّ
غري ذلك ،وصحح النووي :أن أوله احلجرات ،ومسي ابملفصل لكثرة الفصل بني سوره ابلبسملة،
وقيل :لقلة املنسوخ منه ،وهلذا يسمى احملكم أيضا ،كما روى البخاري عن سعيد بن جبري قال« :إن
الذي تدعونه املفصل هو احملكم».
واملفصل ثالثة أقسام :طوال ،وأوساط ،وقصار ،فطواله من «أول احلجرات» إىل سورة «الربوج»،
ت إىل آخر القرآن.وأوساطه من سورة «الطارق» إىل سورة َملْ ي ُك ِن ،وقصاره من سورة إِذا ُزلْ ِزلَ ِ
َ
القول األول :أن ترتيب السور على ما هو عليه اآلن مل يكن بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلم،
وإمنا كان ابجتهاد من الصحابة
،وينسب هذا القول إىل مجهور العلماء ،منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه .وإىل
هذا املذهب يشري ابن فارس يف كتاب «املسائل اخلمس» بقوله« :مجع القرآن على ضربني»:
()19/1
أحدمها :أتليف السور ،كتقدمي السبع الطوال وتعقيبها ابملئني ،فهذا هو الذي تولته الصحابة رضي
هللا عنهم ،وأما اجلمع اآلخر وهو مجع اآلايت يف السور ،فذلك شيء تواله النيب صلّى هللا عليه
عز وجل.
وسلم كما أخرب به جربيل عن أمر ربه ّ
وقد استدلوا على رأيهم هذا أبمرين :أوال :أن مصاحف الصحابة كانت خمتلفة يف ترتيب السور قبل
أن جيمع القرآن يف عهد عثمان ،فلو كان هذا الرتتيب توقيفيّا منقوال عن النيب صلّى هللا عليه وسلم
ما ساغ هلم أن يهملوه ويتجاوزوه وخيتلفوا فيه ذلك االختالف الذي تصوره لنا الرواايت.
فهذا مصحف أيب بن كعب ،روي أنه كان مبدوءا ابلفاحتة ُث البقرةُ ،ث النساءُ ،ث آل عمرانُ ،ث
األنعام.
وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا ابلبقرةُ ،ث النساءُ ،ث آل عمران ..إخل على اختالف شديد.
علي كان مرتبا على النزول ،فأوله «اقرأ» ُث «املدثر» ُث «ق»ُ ،ث «املزمل»ُ ،ث
وهذا مصحف ّ
«تبت»ُ ،ث «التكوير» ،وهكذا إىل آخر املكي واملدين.
اثنيا :ما أخرجه ابن أشته يف املصاحف من طريق إمساعيل بن عباس عن حبان بن حيىي عن أيب حممد
القرشي قال« :أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة األنفال وسورة التوبة يف السبع ،ومل
يفصل بينهما «ببسم هللا الرمحن الرحيم» اه.
ولعله يشري هبذا إىل ما رواه أمحد والرتمذي والنسائي وابن حبان واحلاكم عن ابن عباس قال :قلت
لعثمان :ما محلكم على أن عمدمت إىل األنفال وهي من املثاين ،وإىل براءة وهي من املئني ،ففرقتم
بينهما ،ومل تكتبوا بينهما سطر «بسم هللا الرمحن الرحيم» ووضعتمومها يف السبع الطوال؟ فقال
عثمان رضي هللا عنه :كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد ،فكان إذا
نزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول:
«ضعوا هذه اآلايت يف السورة اليت يذكر فيها كذا وكذا» ،وكانت األنفال من أوائل ما نزل ابملدينة
وكانت براءة من آخر القرآن نزوال ،وكانت قصتها شبيهة بقصتها ،فظننت أهنا منها ،فقبض رسول
هللا صلّى هللا عليه وسلم ،ومل يبني لنا أهنا منها ،فمن أجل ذلك قرنت بينهما ،ومل أكتب بينهما سطر
«بسم هللا الرمحن الرحيم» ووضعتهما يف السبع الطوال» اه.
وميكن أن يناقش هذا املذهب ابألحاديث الدالة على التوقيف وسيأتيك يف االحتجاج للقول الثاين،
وميكن -أيضا -مناقشة دليلهم األول ابحتمال أن اختالف من خالف من
()20/1
الصحابة يف الرتتيب ،إمنا كان قبل علمهم ابلتوقيف ،أو كان يف خصوص ما مل يرد فيه توقيف دون ما
ورد فيه ،وميكن مناقشة دليلهم الثاين أبنه خاص ِبحل وروده وهو سورة األنفال والتوبة ويونس ،فال
يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله.
القول الثاين :أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلّى هللا عليه وسلم
كرتتيب اآلايت وأنه مل توضع سورة يف مكاهنا إال أبمر منه صلّى هللا عليه وسلم.
واستدل أصحاب هذا الرأي أبن الصحابة أمجعوا على املصحف الذي كتب يف عهد عثمان ومل
خيالف منهم أحد ،وإمجاعهم ال يتم إال إذا كان الرتتيب الذي أمجعوا عليه عن توقيف؛ ألنه لو كان
عن اجتهاد لتمسك أصحاب املصاحف املخالفة ِبخالفتهم ،لكنهم مل يتمسكوا هبا بل عدلوا عنها
وعن ترتيبهم ،وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها ،ورجعوا إىل مصحف عثمان وترتيبه مجيعاُ ،ث ساقوا
رواايت ملذهبهم كأدلة يستند إليها اإلمجاع.
منها ما رواه اإلمام أمحد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال« :كنت يف الوفد الذين أسلموا من
ثقيف ،إىل أن جاء يف هذه الرواية ما نصه:
علي حزب من القرآن ،فأردت أن ال أخرج حىت
فقال لنا رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم« :طرأ ّ
حنزبه
أقضيه ،فسألنا أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قلنا :كيف حتزبون القرآن؟ قالوا؟ّ :
ثالث سور ،ومخس سور ،وسبع سور ،وتسع سور ،وإحدى عشرة سورة ،وثالث عشرة سورة،
وحزب املفصل من «ق» حىت خنتم» .قالوا :فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو يف
املصحف اآلن كان على عهد رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم.
اللهم إال يف ترتيب حزب املفصل خاصة خبالف ما سواه.
لكن هذه الداللة غري ظاهرة فيما نفهم ّ
واحتجوا ملذهبهم أيضا أبن السور املتجانسة يف القرآن مل يلتزم فيها الرتتيب والوالء ،ولو كان األمر
ابالجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما ،لكن ذلك مل يكن ،بدليل أن سور املسبّحات
مل ترتب على التوايل بينما هي متماثلة يف افتتاح كل منها بتسبيح هللا ،بل فصل بني سورها بسور «قد
مسع»« ،واملمتحنة»« ،واملنافقون» وبدليل أن «طسم الشعراء وطسم القصص» مل يتعاقبا مع متاثلهما
بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي «طس» النمل وقد أيد هذا املذهب أبو جعفر النحاس
فقال« :املختار أن أتليف السور على هذا الرتتيب من رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم حلديث وائلة»
«أعطيت مكان التوراة السبع الطوال».
()21/1
فرقه يف بضع
وكذلك انتصر أبو بكر األنباري هلذا املذهب فقال :أنزل هللا القرآن إىل مساء الدنيا ُث ّ
النيب صلّى هللا
وعشرين سنة ،فكانت السورة تنزل ألمر حيدث ،واآلية جوااب ملستخرب ،ويقف جربيل ّ
عليه وسلم على موضع السورة ،واآلايت ،واحلروف ،كله من النيب صلّى هللا عليه وسلم فمن قدم
سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن.
وأخرج ابن أشته يف كتاب املصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بالل قال:
مسعت ربيعة يسأل :مل ق ّدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع ومثانون سورة ِبكة ،وإمنا أنزلتا
ابملدينة؟ فقال :ق ّدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به ،إىل أن قال :فهذا مما ينتهى إليه وال يسأل
عنه .اه.
القول الثالث :أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلم ،وترتيب بعضها
اآلخر كان ابجتهاد من الصحابة
،وقد ذهب إىل هذا الرأي فطاحل من العلماء ،ولعله أمثل اآلراء؛ ألنه وردت أحاديث تفيد ترتيب
البعض -كما مر بك من الرأي الثاين القائل ابلتوقيف -وخال البعض اآلخر مما يفيد التوقيف ،بل
وردت آاثر تصرح أبن الرتتيب يف البعض كان عن اجتهاد كاحلديث اآلنف يف القول األول املروي
عن ابن عباس.
بيد أن املؤيدين هلذا املذهب اختلفوا يف السور اليت جاء ترتيبها عن توقيف .والسور اليت جاء ترتيبها
عن اجتهاد ،فقال القاضي أبو حممد بن عطية« :إن كثريا من السور قد علم ترتيبها يف حياة النيب
صلّى هللا عليه وسلم كالسبع الطوال واحلواميم واملفصل ،وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض
األمر فيه إىل األمة بعده».
وقال أبو جعفر بن الزبري :اآلاثر تشهد أبكثر مما نص عليه ابن عطية ،ويبقى فيها قليل ميكن أن
جيري فيه اخلالف كقوله صلّى هللا عليه وسلم« :اقرءوا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران» [رواه مسلم].
وكحديث سعيد بن خالد« :قرأ رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ابلسبع الطوال يف ركعة» .رواه ابن
أيب شيبة يف مصنفه ،وفيه أنه عليه الصالة والسالم كان جيمع املفصل يف ركعة.
وروى البخاري عن ابن مسعود أنه صلّى هللا عليه وسلم قال يف بين إسرائيل والكهف ومرمي ،وطه،
واألنبياء« :إهنن من العتاق األول ،وهن من تالدي» قبل آل عمران؛ ألن ترتيب السور يف القراءة
ليس بواجب ،ولعله فعل ذلك لبيان اجلواز ،اه.
واألمر على كل حال سهل ،حىت لقد رأى الزركشي يف الربهان :أن جيعل اخلالف من أساسه لفظيّا.
()22/1
()23/1
املكي واملدين من القرآن الكرمي
االصطالحات يف معىن املكي واملدين
للعلماء يف معىن املكي واملدين ثالثة اصطالحات:
االصطالح األول :أن املكي ما نزل ِبكة ولو بعد اهلجرة ،واملدين :ما نزل ابملدينة،
ويدخل يف مكة ضواحيها كاملنزل على النيب صلّى هللا عليه وسلم ِبىن وعرفات واحلديبية ،ويدخل يف
املدينة ضواحيها -أيضا -كاملنزل عليه يف بدر وأحد ،وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما
ترى ،لكن يرد عليه أنه غري ضابط وال حاصر؛ ألنه ال يشمل ما نزل بغري مكة واملدينة وضواحيهما،
ت َعلَْي ِه ُم ال ُّ
ش َّقةُ وك و ِ ِ
لك ْن بَـ ُع َد ْ كقوله سبحانه يف سورة التوبة :لَ ْو كا َن َع َرضاً قَ ِريباً َو َس َفراً قاصداً َالتَّـبَـ ُع َ َ
اَّلل يـ ْعلَم إِ َّهنُم لَ ِ ِ ِ ِ
كاذبُو َن [سورة التوبة س ُه ْم َو َُّ َ ُ ْ َو َسيَ ْحل ُفو َن ِاب ََّّلل لَ ِو ْ
استَطَ ْعنا َخلََر ْجنا َم َع ُك ْم يُـ ْهل ُكو َن أَنْـ ُف َ
آية ،]42 :فإهنا نزلت بتبوك.
آهلَةً يُـ ْعبَ ُدو َن [سورة الر ْمح ِن ِ
ون َّ ك ِمن رسلِنا أَجعلْنا ِمن ُد ِ ِ ِ
وقوله سبحانهَ :و ْسئَ ْل َم ْن أ َْر َسلْنا م ْن قَـ ْبل َ ْ ُ ُ َ َ ْ
الزخرف آية ،]45 :فإهنا نزلت ببيت املقدس ليلة اإلسراء.
وال ريب أن عدم الضبط يف التقسيم يرتك واسطة ال تدخل فيما يذكر من األقسام ،وذلك عيب خيل
ابملقصود األول من التقسيم ،وهو الضبط واحلصر.
االصطالح الثاين :أن املكي :ما وقع خطااب ألهل مكة ،واملدين :ما وقع خطااب ألهل املدينة،
َّاس فهو مكي ،وما ص ّدر بلفظ اي وعليه حيمل قول من قال :إن ما ص ّدر يف القرآن بلفظ اي أَيُّـ َها الن ُ
َّ ِ
اس وإن كان آمنُوا فهو مدين؛ ألن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا ب :اي أَيُّـ َها النَّ ُ أَيُّـ َها الذ َ
ين َ
َّ ِ
آمنُوا ،وإن
ين َ غريهم داخال فيهم ،وألن اإلميان كان غالبا على أهل املدينة فخوطبوا ب اي أَيُّـ َها الذ َ
كان غريهم داخال فيهم -أيضا ،وأحلق بعضهم صيغة اي بَِين َ
آد َم بصيغة اي أَيُّـ َها الن ُ
َّاس.
َّاس أو اي بَِين
أخرج أبو عبيد يف فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال :ما كان يف القرآن اي أَيُّـ َها الن ُ
َّ ِ
آمنُوا ،فإنه مدين. آد َم ،فإنه مكي ،وما كان ب :اي أَيُّـ َها الذ َ
ين َ َ
االصطالح الثالث وهو املشهور :أن املكي :ما نزل قبل هجرته صلّى هللا عليه وسلم إىل املدينة ،وإن
كان نزوله بغري مكة ،واملدين :ما نزل بعد هذه اهلجرة
وإن كان نزوله ِبكة.
وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول ،وهو تقسيم صحيح سليم؛ ألنه
()24/1
ضابط حاصر ومطّرد ال خيتلف ابختالف سابقيه ،ولذلك اعتمده العلماء ،واشتهر بينهم .وعليه فآية
الم ِديناً [سورة املائدة آية،]3 : يت لَ ُك ُم ِْ
اإل ْس َ ض ُ ْ َ ََ ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأ َْمتَ ْم ُ
ت َعلَْي ُكم نِ ْعم ِيت ور ِ الْيَـ ْوَم أَ ْك َمل ُ
مدنية مع أهنا نزلت يوم اجلمعة بعرفة يف حجة الوداع.
َماانت إِىل أ َْهلِها [سورة النساء آية.]58 :
اَّلل أيْمرُكم أَ ْن تُـ َؤدُّوا ْاأل ِ
وكذلك آية :إِ َّن ََّ َ ُ ُ ْ
فإهنا مدنية مع أهنا نزلت ِبكة يف جوف الكعبة عام الفتح األعظم ،وقل مثل ذلك فيما نزل أبسفاره
السالم كفاحتة سورة األنفال ،وقد نزلت ببدر ،فإهنا مدنية ال مكية على هذا االصطالح
عليه ّ
املشهور.
()25/1
قال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه« :وهللا الذي ال إله غريه ما نزلت سورة من كتاب هللا إال وأان
أعلم أين نزلت؟ وال نزلت آية من كتاب هللا إال وأان أعلم فيما نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مين
بكتاب هللا تبلغه اإلبل لركبت إليه».
وقال أيوب :سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال« :نزلت يف سفح ذلك اجلبل» وأشار إىل
سلع .اه.
ولعل هذا التوجيه الذي ذكرته أوىل مما ذكره القاضي أبو بكر يف االنتصار؛ إذ يقول ما نصه« :ومل يرد
عن النيب صلّى هللا عليه وسلم يف ذلك قول؛ ألنه مل أيمر به ،ومل جيعل هللا علم ذلك من فرائض
األمة ،وإن وجب يف بعضه على أهل العلم معرفة اتريخ الناسخ واملنسوخ ،فقد يعرف ذلك بغري نص
الرسول صلّى هللا عليه وسلم» .اه .قرطيب.
()26/1
()27/1
إنزاالت القرآن
شرف هللا هذا القرآن أبن جعل له ثالثة إنزاالت:
ّ
()28/1
- 2وأخرج النسائي واحلاكم والبيهقي من طريق داود بن أيب هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه
قال« :أنزل القرآن مجلة واحدة إىل مساء الدنيا ليلة القدرُ ،ث أنزل بعد ذلك يف عشرين سنةُ .ث قرأ:
ِ ِ ك ِِبَثَ ٍل إَِّال ِج ْئ َ
وو قُـ ْرآانً فَـ َرقْناهُ لتَـ ْق َرأَهُ
س َن تَـ ْفسرياً [سورة الفرقان آيةَ .]33 : ناك ِاب ْحلَِّق َوأ ْ
َح َ َوال َأيْتُونَ َ
َّاس َعلى مك ٍ
ْث َونَـ َّزلْناهُ تَـ ْن ِز ًيال [سورة اإلسراء آية.]106 : َعلَى الن ِ
ُ
- 3وأخرج احلاكم والبيهقي وغريمها من طريق منصور عن سعيد بن جبري عن ابن عباس قال:
«أنزل القرآن مجلة واحدة إىل مساء الدنيا وكان ِبواقع النجوم وكان هللا ينزله على رسوله صلّى هللا
عليه وسلم بعضه يف إثر بعض».
- 4وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن األسود فقال:
أوقع يف قليب الشك قوله تعاىلَ :ش ْه ُر َرَمضا َن الَّ ِذي أُنْ ِز َل فِ ِيه الْ ُق ْرآ ُن وقوله:
إِ َّان أَنْـ َزلْناهُ ِيف لَْيـلَ ِة الْ َق ْد ِر ،وهذا أنزل يف شوال ،ويف ذي القعدة ،ويف ذي احلجة ،ويف احملرم ،وصفر،
وشهر ربيع .فقال ابن العباس :إنه أنزل يف رمضان يف ليلة القدر مجلة واحدةُ ،ث أنزل على مواقع
النجوم رسال يف الشهور واألايم.
قال أبو شامة :رسال :أي رفقا ،وعلى مواقع النجوم :أي على مثل مساقطها.
يريد أنه أنزل يف رمضان يف ليلة القدر مجلة واحدةُ ،ث أنزل على مواقع النجوم مفرقا يتلو بعضه
بعضا على تؤدة ورفق.
هذه أحاديث من مجلة أحاديث ذكرت يف هذا الباب ،وكلها صحيحة كما قال السيوطي ،وهي
أحاديث موقوفة على ابن عباس غري أن هلا حكم املرفوع إىل النيب صلّى هللا عليه وسلم ،ملا هو مقرر
من أن قول الصحايب فيما ال جمال للرأي فيه ومل يعرف ابألخذ عن اإلسرائيليات ،حكمه حكم
املرفوع .وال ريب أن نزول القرآن إىل بيت العزة من أنباء الغيب اليت ال تعرف إال من املعصوم صلّى
هللا عليه وسلم ،وابن عباس مل يعرف ابألخذ عن اإلسرائيليات ،فثبت االحتجاج هبا وكان هذا اإلنزال
مجلة واحدة يف ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت؛ ألنه املتبادر من نصوص اآلايت الثالث
السابقة ،وللتنصيص على ذلك يف األحاديث اليت عرضناها عليك .بل ذكر السيوطي أن القرطيب
نقل حكاية اإلمجاع على نزول القرآن مجلة من اللوح احملفوظ إىل بيت العزة يف السماء الدنيا.
وهناك قول اثن بنزول القرآن إىل السماء الدنيا يف عشرين ليلة قدر ،أو ثالث وعشرين ،أو مخس
وعشرين ينزل يف كل ليلة قدر منها ما يقدر هللا إنزاله يف كل السنةُ ،ث ينزل بعد ذلك منجما يف مجيع
السنة على النيب صلّى هللا عليه وسلم.
()29/1
ومثة قول اثلث :أنه ابتدئ إنزاله يف ليلة القدرُ ،ث نزل بعد ذلك منجما يف أوقات خمتلفة من سائر
األزمان على النيب صلّى هللا عليه وسلم .وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول مجلة إىل بيت العزة يف
ليلة القدر.
وذكروا قوال رابعا أيضا هو أنه نزل من اللوح احملفوظ مجلة واحدة ،وأن احلفظة جنمته على جربيل يف
عشرين ليلة ،وأن جربيل جنمه على النيب صلّى هللا عليه وسلم يف عشرين سنة.
ولكن هذه األقوال الثالثة األخرية ِبعزل عن التحقيق ،وهي حمجوجة ابألدلة اليت سقناها بني يديك
أتييدا للقول األول.
واحلكمة يف النزول ،على ما ذكره السيوطي نقال عن أيب شامة هي تفخيم أمره (أي القرآن) وأمر من
نزل عليه إبعالم سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب املنزلة على خامت الرسل ألشرف األمم،
وإبنزاله مرتني ،مرة مجلة ،ومرة مفرقا .خبالف الكتب السابقة ،فقد كانت تنزل مجلة مرة واحدة.
()30/1
من بعد جربيل وحممد ،من لدن نزول القرآن إىل يوم الساعة ،وذلك كما ينسب الكالم البشري إىل
من أنشأه ورتبه أوال دون غريه ،ولو نطق به آالف اخلالئق يف آالف األايم والسنني.
فاهلل -جلت حكمته -هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة ،ولذلك ال جيوز إضافة القرآن على
سبيل اإلنشاء إىل جربيل أو حممد ،وال لغري جربيل وحممد صلّى هللا عليه وسلم.
أسف بعض الناس فزعم أن جربيل كان ينزل على النيب صلّى هللا عليه وسلم ِبعاين القرآن
وقد ّ
والرسول صلّى هللا عليه وسلم يعرب عنها بلغة العرب.
وزعم آخرون أن اللفظ جلربيل وأن هللا كان يوحي إليه املعىن فقط وكالمها قول ابطل أثيم ،مصادم
لصريح الكتاب والسنة واإلمجاع ،وال يساوي قيمة املداد الذي يكتب به.
وعقيديت أنه مدسوس على املسلمني يف كتبهم ،وإال فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ حملمد
أو جلربيل؟ ُث كيف تصح نسبته إىل هللا واللفظ ليس هلل؟ مع أن هللا يقول :ح َّىت يسمع َكالم َِّ
اَّلل َ َََْ َ
[سورة التوبة آية ،]6 :إىل غري ذلك مما يطول بنا تفصيله.
واحلق أنه ليس جلربيل يف هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإحيائه إليه ،وليس للرسول صلّى هللا
عليه وسلم يف هذا القرآن سوى وعيه وحفظهُ ،ث حكايته وتبليغهُ ،ث بيانه وتفسريهُ ،ث تطبيقه
وتنفيذه.
إان نقرأ يف القرآن الكرمي أنه ليس من إنشاء جربيل وال حممد حنو قوله تعاىل:
ك لَتُـلَ َّقى الْ ُق ْرآ َن ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َعلِ ٍيم [سورة النمل آية .]6 َوإِنَّ َ
يل ِم ْن َرِّيب [سورة اجتَـبَـ ْيـتَها قُ ْل إِ َّمنا أَتَّبِ ُع ما يُوحى إِ ََّ ِِ ٍ
وحنو قوله تعاىلَ :وإِذا َملْ َأتْهت ْم ِِبيَة قالُوا لَ ْوال ْ
األعراف آية.]203 :
آن غَ ِْري هذا أ َْو بَ ِّدلْهُ قُ ْل ت بِ ُقر ٍ قال الَّ ِذين ال يـرجو َن لِقاء َان ائْ ِ نات َ وحنو قوله :وإِذا تُـ ْتلى َعلَْي ِهم آايتُنا بـيِ ٍ
َّ
ْ َ َ َْ ُ ْ َ
َخاف إِ ْن عصيت رِيب عذاب يـومٍ ِ ِ
يل إِِّين أ ُ َ َ ْ ُ َ ّ َ َ َ ْ ما يَ ُكو ُن ِيل أَ ْن أُبَ ِّدلَهُ م ْن تِلْقاء نَـ ْف ِسي إِ ْن أَتَّبِ ُع إَِّال ما يُوحى إِ ََّ
َع ِظ ٍيم [سورة يونس آية.]15 :
ِ َخ ْذان ِم ْنهُ ِابلْيَ ِم ِ
ني (ُُ )45ثَّ لََقطَ ْعنا م ْنهُ ال َْوتِ َ
ني يل (َ )44أل َ ض ْاألَقا ِو ِوحنو قولهَ :ولَ ْو تَـ َق َّو َل َعلَْينا بَـ ْع َ
ِ ( )46فَما ِم ْن ُكم ِمن أ ٍ
ين [سورة احلاقة آية.]47 - 44 : َحد َع ْنهُ حاج ِز َ ْ ْ َ
()31/1
الفرق بني القرآن والسنة يف الوحي
إ ّن ما ذكرانه هو حتقيق ما نزل على النيب صلّى هللا عليه وسلم من القرآن .وإن كان قد نزل عليه
أيضا غري القرآن.
ملنزل قسمان:
نقل السيوطي عن اجلويين أنه قال :كالم هللا ا ّ
«قسم» قال هللا جلربيل :قل للنيب الذي أنت مرسل إليه ،إن هللا يقول :افعل كذا وكذا .وأمر بكذا
وكذا ،ففهم جربيل ما قاله ربه ُث نزل جربيل على ذلك النيب «حممد صلّى هللا عليه وسلم» وقال له
ما قاله ربه ،ومل تكن العبارة تلك العبارة ،كما يقول امللك:
ملن يثق به :قل لفالن يقول لك امللك :اجتهد يف اخلدمة ،وامجع جندك للقتال ،فإن قال الرسول:
يقول لك امللك ال تتهاون يف خدميت ،وال ترتك اجلند يتفرق وحثهم على املقاتلة ،ال ينسب إىل كذب
وال تقصري يف أداء الرسالة.
«قسم آخر» قال هللا جلربيل :اقرأ على النيب صلّى هللا عليه وسلم هذا الكتاب ،فنزل به جربيل من
هللا من غري تغيري ،كما يكتب امللك كتااب ويسلمه إىل أمني ويقول :اقرأه على فالن ،فهو ال يغري منه
كلمة وال حرفا» اه.
قال السيوطي بعد ذلك :قلت :القرآن هو القسم الثاين :والقسم األول هو السنة.
كما ورد أن جربيل كان ينزل ابلسنة كما ينزل ابلقرآن.
ومن هنا جاز رواية السنة ابملعىن؛ ألن جربيل أداها ابملعىن ،ومل جتز القراءة ابملعىن ألن جربيل أدى
القرآن ابللفظ ،ومل يبح له أداؤه ابملعىن .والسر يف ذلك أن املقصود منه التعبد بلفظه واإلعجاز به،
فال يقدر أحد أن أييت بلفظ يقوم مقامه ،وأن حتت كل حرف منه معاين ال حياط هبا كثرة ،فال يقدر
أحد أن أييت بدله ِبا يشتمل عليه.
والتخفيف على األمة حيث جعل املنزل إليهم على قسمني :قسم يروونه بلفظ املوحى به ،وقسم
يروونه ابملعىن .ولو جعل كل مما يروى ابللفظ لشق ،أو ابملعىن مل يؤمن التبديل والتحريف فتأمل .اه.
أقول :وهذا كالم نفيس ،بيد أنه ال دليل أمامنا على أن جربيل كان يتصرف يف األلفاظ املوحاة إليه
يف غري القرآن .وما ذكره اجلويين فهو احتمال عقلي ال يكفي يف هذا البابُ .ث إن هذا التقسيم خال
من قسم اثلث للكتاب والسنة ،وهو احلديث القدسي الذي قاله الرسول حاكيا عن هللا تعاىل ،فهو
كالم هللا تعاىل أيضا ،غري أنه ليست فيه خصائص القرآن اليت امتاز هبا عن كل ما سواه .وهلل تعاىل
حكمة يف أن
()32/1
جيعل من كالمه املنزل معجزا وغري معجز ،ملثل ما سبق يف حكمة التقسيم اآلنف ،من إقامة حجة
للرسول ولدين احلق بكالم هللا املعجز ،ومن التخفيف على األمة بغري املعجز؛ ألنه تصح روايته
ابملعىن ،وقراءة اجلنب ومحله له ومسه إايه إىل غري ذلك.
وصفوة القول يف هذا املقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من هللا اتفاقا ،وأن احلديث القدسي أوحيت
ألفاظه من هللا على املشهور ،واحلديث النبوي أوحيت معانيه يف غري ما اجتهد فيه الرسول واأللفاظ
من الرسول صلّى هللا عليه وسلم ،بيد أن القرآن له خصائصه من اإلعجاز والتعبد به ووجوب
احملافظة على أدائه بلفظه وحنو ذلك .وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه اخلصائص،
واحلكمة يف هذا التفريق أن اإلعجاز منوط أبلفاظ القرآن ،فلو أبيح أداؤه ابملعىن لذهب إعجازه،
وكان مظنة للتغيري والتبديل واالختالف يف أصل التشريع والتنزيل ،أما احلديث القدسي واحلديث
النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز ،وهلذا أابح هللا روايتهما ابملعىن ،ومل مينحهما تلك اخلصائص
والقداسة املمتازة اليت منحها للقرآن الكرمي ،ختفيفا على األمة ورعاية ملصاحل اخللق يف احلالني من
منح ومنع ،إن هللا ابلناس لرءوف رحيم اه .من مناهل العرفان ابختصار وتصرف.
احلكمة األوىل تثبيت فؤاد النيب صلّى هللا عليه وسلم ،وتقوية قلبه
،وذلك من وجوه أربعة:
الوجه األول :أن يف جتدد الوحي ،وتكرار نزول امللك به من جانب احلق سبحانه وتعاىل إىل رسوله
صلّى هللا عليه وسلم ،سرورا ميأل قلب الرسول ،وغبطة تشرح صدره ،وكالمها يتجدد عليه بسبب ما
يشعر به من هذه العناية اإلهلية وتعهد مواله إايه يف كل نوبة من نوابت هذا النزول.
الوجه الثاين :أن يف التنجيم تيسريا عليه من هللا يف حفظه ،وفهمه ،ومعرفة أحكامه وحكمه ،كما أن
فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله.
الوجه الثالث :أن يف أتييد حقه ودحض ابطل عدوه -املرة بعد األخرى -تكرارا للذة فوزه وفلجه
ابحلق والصواب ،وشهوده لضحااي الباطل يف كل مهبط للوحي والكتاب وكل ذلك مشجع للنفس
مقو للقلب والفؤاد.
ّ
الوجه الرابع :تعهد هللا إايه عند اشتداد اخلصام بينه وبني أعدائه ِبا يهون عليه هذه
()34/1
الشدائد .وال ريب أن تلك الشدائد كانت حتدث يف أوقات متعددة ،فال جرم كانت التسلية حتدث
هي األخرى يف مرات متكافئة .فكلما آذاه خصمه ،ساله ربه ،وجتيء تلك التسلية اترة عن طريق
ك ِم ْن ص َعلَْي َ قصص األنبياء واملرسلني اليت هلا يف القرآن عرض طويل ،وفيها يقول هللا تعاىلَ :وُك اال نَـ ُق ُّ
أَنْ ِ
ؤاد َك [سورة هود آية.]120 : ت بِ ِه فُ َ الر ُس ِل ما نُـثَـبِّ ُ
باء ُّ
اصِ ْرب
واترة جتيء التسلية عن طريق وعد هللا لرسوله ابلنصر والتأييد واحلفظ كما يف قوله سبحانهَ :و ْ
ك ِأبَ ْعيُنِنا [سورة الطور آية.]48 : ِحلُك ِ
ْم َربِّ َ
ك فَِإنَّ َ
َّاس [سورة املائدة آية ،]67 :وحنو ما يف سوريت الضحى ،وأمل ك ِم َن الن ِ اَّلل يـ ْع ِ
ص ُم َ وقوله سبحانهَ :و َُّ َ
نشرح ،من الوعود الكرمية والعطااي العظيمة.
وطورا أتتيه التسلية عن طريق إيعاد أعدائه وإنذارهم حنو قوله تعاىلَ :سيُـ ْه َزُم ا ْجلَ ْم ُع َويُـ َولُّو َن ُّ
الدبُـ َر
صاع َق ِة ٍ صاع َقةً ِمثْل ِ ضوا فَـ ُقل أَنْ َذرتُ ُكم ِ [سورة القمر آية ،]45 :وقوله سبحانه :فَِإ ْن أَ ْع َر ُ
عاد َوَمثُ َ
ود َ ْ ْ ْ
[سورة فصلت آية.]13 :
رب أُولُوا ال َْع ْزِم ص ََ اصِ ْرب َكما َ وطورا آخر ترد التسلية يف صورة األمر الصريح ابلصرب حنو قوله تعاىل :فَ ْ
الر ُس ِل [سورة األحقاف آية.]35 : ِم َن ُّ
ك َعلَْي ِه ْم سَ ب نَـ ْف ُأو يف صورة النهي عن التفجع عليهم ،واحلزن منهم بنحو قوله تعاىل :فَال تَ ْذ َه ْ
ات إِ َّن َّ ِ ح سر ٍ
صنَـعُو َن [سورة فاطر آية.]8 : يم ِِبا يَ ْ
اَّللَ َعل ٌ ََ
ض ْي ٍق ِممَّا ميَْ ُك ُرو َن [سورة ك ِيف َ وحنو قوله سبحانه :واصِرب وما صرب َك إَِّال ِاب َِّ
َّلل َوال َحتْ َز ْن َعلَْي ِه ْم َوال تَ ُ َ ْ ْ َ َ ُْ
النحل آية.]127 :
وميكن أن تندرج هذه احلكمة بوجوهها األربعة حتت قول هللا تعاىل يف بيان احلكمة من تنجيم القرآن
ك لِنُـثَـبِّ َ
ت بِ ِه فُ َ
ؤاد َك [سورة الفرقان آية.]32 : َكذلِ َ
()35/1
اثلثها :التمهيد لكمال ختليهم عن عقائدهم الباطلة ،وعباداهتم الفاسدة ،وعاداهتم املرذولة ،وذلك
أبن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا ،بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا ،فكلما جنح
اإلسالم معهم يف هدم ابطل ،انتقل هبم إىل هدم آخر وهكذا كان يبدأ ابألهم ُث املهم ،حىت انتهى
هبم آخر األمر إىل التخلص من تلك األرجاس كلها ،فطهرهم منها وهم ال يشعرون بعنت وال حرج،
وفطمهم عنها بسهولة ويسر ،وكانت هذه سياسة رشيدة ،البد منها يف تربية هذه األمة اجمليدة ،ال
سيما أهنا كانت أبية معاندة ،تتحمس ملورواثهتا ،وتستميت يف الدفاع عما تعتقده من شرفها وتتهور
يف سفك الدماء وشن الغارات ألتفه األسباب.
رابعها :تربيتهم على العقائد احلقة ،والعبادات الصحيحة ،واألخالق الفاضلة بتلك السياسة الرشيدة.
وهلذا بدأ اإلسالم بفطامهم عن الشرك واإلابحية ،وإحياء قلوهبم بعقائد التوحيد واجلزاء ،من جراء ما
فتح عيوهنم عليه من أدلة التوحيد ،وبراهني البعث بعد املوت ،وحجج احلساب واملسئولية واجلزاءُ .ث
انتقل هبم بعد هذه املرحلة إىل العبادات فبدأهم بفرضية الصالة قبل اهلجرة ،وثىن ابلزكاة وابلصوم يف
السنة الثانية من اهلجرة ،وختم ابحلج يف السنة السادسة منها وكذلك كان الشأن يف أهم التشريعات.
أليس ذلك إعجازا لإلسالم يف سياسة الشعوب وهتذيب اجلماعات وتربية األمم؟
بلى ،والتاريخ على ذلك من الشاهدين.
خامسها :تثبيت قلوب املؤمنني وتسليحهم بعزمية الصرب واليقني بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم
الفينة بعد الفينة ،واحلني بعد احلني ،من قصص األنبياء واملرسلني ،وما حصل هلم وألتباعهم مع
األعداء واملخالفني ،وما وعد هللا به عباده الصاحلني ،من النصر واألجر والتأييد والتمكني .واآلايت
احل ِ
ات آمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َع ِملُوا َّ
الص ِ
ين َ
يف ذلك كثرية حسبك منها قول العلي الكبري :و َع َد َّ َّ ِ
اَّللُ الذ َ َ
ين ِم ْن قَـ ْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن َهلُ ْم ِدينَـ ُه ُم الَّ ِذي ْارتَضى َهلُ ْم ض َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ
ف الذ َ َّه ْم ِيف ْاأل َْر ِ َ ْ
ِ
لَيَ ْستَ ْخل َفنـ ُ
ك ُه ُم َّه ْم ِم ْن بَـ ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمناً يَـ ْعبُ ُدونَِين ال يُ ْش ِرُكو َن ِيب َش ْيئاً َوَم ْن َك َف َر بَـ ْع َد ذلِ َ
ك فَأُولئِ َ ِ
َولَيُـبَ ّدلَنـ ُ
ْفاس ُقو َن [سورة النور.]55 : ال ِ
وقد صدق هللا وعده ،ونصر عبده وأعز جنده وهزم األحزاب وحده.
ِِ ِ َّ ِ ِ ِ
ب الْعالَ ِم َ
ني [سورة األنعام آية .]45 ين ظَلَ ُموا َوا ْحلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ
فَـ ُقط َع داب ُر الْ َق ْوم الذ َ
()36/1
()37/1
احلكمة الرابعة اإلرشاد إىل مصدر القرآن وأنه كالم هللا وحده
وأنه ال ميكن أن يكون كالم النيب صلّى هللا عليه وسلم وال كالم خملوق سواه.
وبيان ذلك أن القرآن الكرمي تقرؤه من أوله إىل آخره ،فإذا هو حمكم السرد ،دقيق السبك ،متني
األسلوب ،قوي االتصال ،آخذ بعضه برقاب بعض يف سوره وآايته ومجله ،جيري دم اإلعجاز فيه كله
من ألفه إىل ايئه كأنه سبيكة واحدة ،وال يكاد يوجد بني أجزائه تفكك ،وال ختاذل كأنه حلقة مفرغة!
أو كأنه مسط وحيد ،وعقد فريد أيخذ ابألبصار :نظمت حروفه وكلماته ،ونسقت مجله وآايته ،وجاء
آخره مساوقا ألوله ،وبدا أوله مواتيا آلخره!!
وهنا نتساءل :كيف اتسق للقرآن هذا التأليف املعجز ،وكيف استقام له هذا التناسق املدهش؟ على
تفرق الوقائع واحلوادث يف أكثر من عشرين
حني أنه مل يتنزل مجلة واحدة ،بل تنزل آحادا مفرقة ّ
عاما!!
()38/1
سرا جديدا من أسرار اإلعجاز ،ونشهد مسة فذة من مسات الربوبية ،ونقرأ اجلواب :أننا نلمح هنا ّ
دليال ساطعا على مصدر القرآن ،وأنه كالم هللا الواحد الداين أَفَال يَـتَ َدبَّـ ُرو َن الْ ُق ْرآ َن َولَ ْو كا َن ِم ْن ِع ْن ِد
غَ ِري َِّ
اَّلل لََو َج ُدوا فِ ِيه ا ْختِالفاً َكثِرياً [سورة النساء آية .]82 ْ
وإال فحدثين -بربك -كيف تستطيع أنت؟ أم كيف يستطيع اخللق مجيعا أن أيتوا بكتاب حمكم
االتصال والرتابط ،متني النسج والسرد ،متآلف البداايت والنهاايت مع خضوعه يف التأليف لعوامل
خارجة عن مقدور البشر ،وهي وقائع الزمن وأحداثه اليت جييء كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا
هلا ،ومتحداث عنها؟!.
ال ريب أن هذا االنفصال الزماين وذاك االختالف امللحوظ بني هاتيك الدواعي ،يستلزمان يف جمرى
العادة التفكك واالحنالل ،وال يدعان جماال لالرتباط واالتصال بني جنوم هذا الكالم.
أما القرآن الكرمي فقد خرق العادة يف هذه الناحية أيضا :نزل مفرقا منجما ،ولكنه ُثّ مرتابطا حمكما
تفرق األسباب ،ولكن اجتمع نظمه اجتماع مشل األحباب ،ومل يتكامل نزوله إال بعد
وتفرقت جنومه ّ
عشرين عاما ،ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما!!
أليس ذلك برهاان ساطعا على أنه كالم خالق القوى والقدر ،ومالك األسباب واملسببات ،ومدبر
اخللق والكائنات ،وقيوم األرض والسموات ،ومالك األسباب واملسببات ،ومدبر اخللق والكائنات،
وقيوم األرض والسموات ،العليم ِبا كان وما سيكون ،اخلبري ابلزمان وما حيدث فيه من شئون؟؟
الحظ فوق ما أسلفنا أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آايت قال:
«ضعوها يف مكان كذا من سورة كذا» وهو بشر ال يدري (طبعا) ما ستجيء به األايم ،وال يعلم ما
سيكون يف مستقبل الزمان ،وال يدرك ما سيحدث من الدواعي واألحداث فضال عما سينزل من هللا
فيها ،وهكذا ميضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد ،أيتيه الوحي ابلقرآن جنما بعد جنم ،وإذا
القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم ،وينتظم ويتآخى ،وأيتلف ويلتئم ،وال يؤخذ عليه أدىن
ُح ِك َم ْ
ت آايتُهُ ُُثَّ تاب أ ْ
ِ
طرا ِبا فيه من انسجام ووحدة وترابط :ك ٌ
ختاذل أو تفاوت ،بل يعجز اخللق ّ
ت ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َخبِ ٍري [سورة هود :آية .]1 فُ ِّ
صلَ ْ
وإنه ليستبني لك سر هذا اإلعجاز ،إذا ما علمت أن حماولة مثل هذا االتساق واالنسجام لن ميكن
أن أييت على هذا النمط الذي نزل به القرآن وال على قريب من هذا النمط ،ال يف كالم الرسول
صلّى هللا عليه وسلم ،وال يف كالم غريه من البلغاء.
()39/1
()40/1
()41/1
تنبيه:
ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم [سورة املائدة آية.]3 :
من املشكل على ما تقدم قوله تعاىل :الْيَـ ْوَم أَ ْك َمل ُ
فإهنا نزلت بعرفة عام حجة الوداع وظاهرها إكمال مجيع الفرائض واألحكام قبلها ،وقد صرح بذلك
الس ّدي فقال :مل ينزل بعدها حالل وال حرام مع أنّه ورد يف آية الراب ،وال ّدين ،والكاللة
مجاعة منهم ّ
يتأول على أنه أكمل هلم دينهم
أهنا نزلت بعد ذلك .وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال :األوىل أن ّ
إبقرارهم ابلبلد احلرام وإجالء املشركني عنه حىت حجه املسلمون ال خيالطهم املشركون ُث أيّده ِبا
أخرجه من
()42/1
طريق ابن أيب طلحة عن ابن عباس قال :كان املشركون واملسلمون حيجون مجيعا ،فلما نزلت «براءة»
نفي املشركون عن البيت وحج املسلمون ،ال يشاركهم يف البيت احلرام أحد من املشركني ،فكان
ت َعلَْي ُك ْم نِ ْع َم ِيت [سورة املائدة آية .]3 :اه من اإلتقان للسيوطي ابختصار
ذلك من متام النعمة َوأ َْمتَ ْم ُ
وتصرف.
()43/1
[املسألة] األوىل :زعم زاعم أنه ال طائل حتت هذا الفن جلراينه جمرى التاريخ
وأخطأ يف ذلك ،بل له فوائد:
-منها :معرفة وجه احلكمة الباعثة على تشريع احلكم.
-ومنها :ختصيص احلكم به عند من يرى أن العربة خبصوص السبب.
عاما ويقوم الدليل على ختصيصه فإذا عرف السبب قصر التخصيص
-ومنها :أن اللفظ قد يكون ّ
على ما عدا صورته فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها ابالجتهاد ممنوع كما حكى اإلمجاع
فجوز ذلك.
عليه القاضي أبو بكر يف التقريب وال التفات إىل من ش ّذ ّ
-ومنها :الوقوف على املعىن وإزالة اإلشكال .قال الواحدي :ال ميكن معرفة تفسري اآلية دون
الوقوف على قصتها وبيان نزوهلا.
وقال ابن دقيق العيد :بيان سبب النزول طريق قوي يف فهم معاين القرآن.
وقال ابن تيمية :معرفة سبب النزول يعني على فهم اآلية فإن العلم ابلسبب يورث العلم ابملسبب.
ين يَـ ْف َر ُحو َن ِِبا أَتَـ ْوا [سورة آل (وقد أشكل) على مروان بن احلكم معىن قوله تعاىل :ال َحتْس َّ َّ ِ
َب الذ َ ََ
عمران آية .]188 :وقال :لئن كان كل امرئ فرح ِبا أويت وأحب أن حيمد ِبا مل يفعل معذاب لنعذبن
أمجعون ،حىت ّبني له ابن عباس أن اآلية نزلت يف أهل الكتاب حني سأهلم النيب صلّى هللا عليه وسلم
عن شيء فكتموه إايه وأخربوه بغريه ،وأروه أهنم أخربوه ِبا سأهلم عنه واستحمدوا بذلك إليه»
[أخرجه الشيخان].
وحكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أهنما كاان يقوالن :اخلمر مباحة ،وحيتجان بقوله
ناح فِيما طَ ِع ُموا [سورة املائدة آية ،]93 :ولو تعاىل :لَْيس َعلَى الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ
الصاحلات ُج ٌ َ َ َ َ
علما سبب نزوهلا مل يقوال ذلك وهو :أن انسا قالوا ملا حرمت اخلمر :كيف ِبن قتلوا يف سبيل هللا
وماتوا وكانوا يشربون اخلمر وهي رجس فنزلت؟![ .أخرجه أمحد والنسائي وغريمها].
يض ِم ْن نِسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَـ ْبـتُ ْم فَ ِع َّد ُهتُ َّن ثَالثَةُ
الالئِي يَئِ ْس َن ِم َن ال َْم ِح ِ
ومن ذلك قوله تعاىلَ :و َّ
()44/1
أَ ْش ُه ٍر [سورة الطالق آية .]4 :فقد أشكل معىن هذا الشرط على بعض األئمة حىت قال الظاهرية:
أبن اآليسة ال عدة عليها ،إذا مل ترتب (أي تشك) وقد ّبني ذلك سبب النزول ،وهو أنه ملا نزلت
اآلية اليت يف سورة البقرة يف عدد النساء قالوا :قد بقي عدد من عدد النساء مل يذكرن :الصغار
والكبار فنزلت» .أخرجه احلاكم بن أيب ،فعلم بذلك أ ّن اآلية خطاب ملن مل يعلم حكمهن يف العدة،
واراتب هل عليهن عدة أو ال؟
وهل عدهتن كالاليت يف سورة البقرة أو ال؟ فمعىن إِ ِن ْارتَـ ْبـتُ ْم :إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف
يعتددن فهذا حكمهن.
ومن ذلك قوله تعاىل :فَأَيـنما تُـولُّوا فَـثَ َّم وجه َِّ
اَّلل [سورة البقرة آية ]115 :فإان لو تركنا ومدلول َ ُْ َْ َ
اللفظ ،ال قتضى أن املصلي ال جيب عليه استقبال القبلة سفرا وال حضرا وهو خالف اإلمجاع ،فلما
عرف سبب نزوهلا علم أهنا يف انفلة السفر أو فيمن صلى ابالجتهاد وابن له اخلطأ على اختالف
الرواايت يف ذلك.
َج ُد ِيف ما أ ِ
ُوح َي إِ ََّ
يل ُحمَ َّرماً (ومنها) دفع توهم احلصر ،قال الشافعي -ما معناه -يف قوله تعاىل :قُل ال أ ِ
ْ
أحل هللا ،وأحلّوا ما حرم هللا ،وكانوا علىحرموا ما ّ[سورة األنعام آية :]145 :إن الك ّفار ملّا ّ
حرمتموه ،وال حرام إال
املضا ّدة واحملا ّدة فجاءت اآلية مناقضة لغرضهم ،فكأنه قال :ال حالل إال ما ّ
ما أحللتموه ،انزال منزلة من يقول :ال أتكل اليوم حالوة فتقول :ال آكل اليوم إال حالوة ،والغرض
املضا ّدة ال النفي واإلثبات على احلقيقة فكأنه تعاىل قال :ال حرام إال ما أحللتموه من امليتة والدم
وحلم اخلنزير وما أهل لغري هللا به ،ومل يقصد حل ما وراءه ،إذ القصد إثبات التحرمي ال إثبات احلل،
قال إمام احلرمني :وهذا يف غاية احلسن ،ولوال سبق الشافعي إىل ذلك ملا كنا نستجيز خمالفة مالك يف
حصر احملرمات فيما ذكرته اآلية.
املسألة الثانية :اختلف أهل األصول :هل العربة بعموم اللفظ أم خبصوص السبب؟
واألصح عندان األول ،وقد نزلت آايت يف أسباب واتفقوا على تعديتها إىل غري أسباهبا كنزول آية
الظهار يف سلمة بن صخر ،وآية اللعان يف شأن هالل بن أمية ،وح ّد القذف يف رماة عائشة ُث تع ّدى
إىل غريهم ،ومن مل يعترب عموم اللفظ قال :خرجت هذه اآلية وحنوها لدليل آخر كما قصرت آايت
على أسباهبا اتفاقا لدليل قام على ذلك.
عاما ليتناول كل من ابشر
خاصا ،والوعيد ّ
قال الزخمشري «يف سورة اهلمزة» :جيوز أن يكون السبب ّ
ذلك القبيح ،وليكون ذلك جاراي جمرى التعريض.
قلت :ومن األدلة على اعتبار عموم اللفظ احتجاج الصحابة وغريهم يف وقائع
()45/1
()46/1
فهي متناولة لذلك الشخص ولغريه ممن كان ِبنزلته ،وإن كانت خربا ِبدح أو ذم فهي متناولة لذلك
الشخص وملن كان ِبنزلته .اه.
تنبيه:
معني وال عموم للفظها فإهنا
قد علمت مما ذكر أن فرض املسألة يف لفظ له عموم ،أما آية نزلت يف ّ
تقصر عليه قطعا كقوله تعاىلَ :و َسيُ َجنَّـبُـ َها ْاألَتْـ َقى ( )17الَّ ِذي يُـ ْؤِيت مالَهُ يَـتَـ َزَّكى [سورة الليل آية:
]18 ،17فإهنا نزلت يف أيب بكر الصديق ابإلمجاع ،وقد استدل هبا اإلمام فخر الدين الرازي مع
قوله :إِ َّن أَ ْكرم ُكم ِع ْن َد َِّ
اَّلل أَتْقا ُك ْم [سورة احلجرات آية ]13 :على أنه أفضل الناس بعد رسول هللا ََ ْ
ووهم من ظن أن اآلية عامة يف كل من عمل عمله إجراء له على القاعدة، صلّى هللا عليه وسلمّ ،
وهذا غلط فإن هذه اآلية ليس فيها صيغة عموم إذ األلف والالم إمنا تفيد العموم ،إذا كانت موصولة
معرفة يف مجع ،زاد قوم أو «مفرد» بشرط أن ال يكون هناك عهد ،والالم يف األتقى ليست
أو ّ
موصولة؛ ألهنا ال توصل أبفعل التفضيل إمجاعا ،واألتقى ليست مجعا بل هو مفرد والعهد موجود
وتعني القطع
خصوصا مع ما تفيده صيغة أفعل من التمييز وقطع املشاركة ،فبطل القول ابلعموم ّ
ابخلصوص والقصر على من نزلت فيه رضي هللا عنه.
املسألة الثالثة :قال الواحدي :ال حيل القول يف أسباب نزول الكتاب إال ابلرواية والسماع ممن
شاهدوا التنزيل
،أو وقفوا على األسباب وحبثوا عن علمها ،وقد قال حممد بن سريين :سألت عبيدة عن آية من
القرآن فقال :اتّق هللا وقل سدادا ذهب الذين يعلمون فيما أنزل هللا من القرآن.
وقال غريه :معرفة سبب النزول أمر حيصل للصحابة بقرائن حتتف ابلقضااي ورِبا مل جيزم بعضهم فقال:
أحسب هذه اآلية نزلت يف كذا ،كما أخرجه األئمة الستة عن عبد هللا بن الزبري قال :خاصم الزبري
رجال من األنصار يف شراج احلرة (اسم موضع) فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم« :اسق اي زبريُ ،ث
ارسل املاء إىل جارك ،فقال األنصاري :اي رسول هللا أن كان ابن عمتك .فتلون وجهه .» ..احلديث.
ك ال يُـ ْؤِمنُو َن َح َّىت ُحيَ ِّك ُم َ
وك فِيما قال الزبري :فما أحسب هذه اآلايت إال نزلت يف ذلك :فَال َوَربِّ َ
َش َج َر بَـ ْيـنَـ ُه ْم [سورة النساء آية.]65 :
وقال احلاكم يف علوم احلديث :إذا أخرب الصحايب الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن ،أهنا
نزلت يف كذا ،فإنه حديث مسند ،ومشى على هذا ابن الصالح وغريه ومثلوه ِبا أخرجه مسلم عن
جابر قال :كانت اليهود تقول :من أتى امرأة من دبرها يف قبلها جاء الولد أحول ،فأنزل هللا :نِسا ُؤُك ْم
ث لَ ُك ْم [سورة البقرة آية.]223 :
َح ْر ٌ
()47/1
وقال ابن تيمية :قوهلم :نزلت هذه اآلية يف كذا يراد به اترة سبب النزول ويراد به اترة أن ذلك داخل
يف اآلية وإن مل يكن السبب كما تقول :عىن هبذه اآلية كذا.
وقد تنازع العلماء يف قول الصحايب :نزلت هذه اآلية يف كذا ،هل جيري جمرى املسند كما لو ذكر
السبب الذي أنزلت ألجله ،أو جيري جمرى التفسري منه الذي ليس ِبسند ،فالبخاري يدخله يف
املسند ،وغريه ال يدخله فيه ،وأكثر املسانيد على هذا االصطالح كمسند أمحد وغريه خبالف ما إذا
ذكر سببا نزلت عقبه فإهنم كلهم يدخلون مثل هذا يف املسند .اه.
وقال الزركشي يف الربهان :قد عرف من عادة الصحابة والتابعني أن أحدهم إذا قال:
نزلت هذه اآلية يف كذا فإنه يريد بذلك أهنا تتضمن هذا احلكم ،ال أن هذا كان السبب يف نزوهلا فهو
من جنس االستدالل على احلكم ابآلية ،ال من جنس النقل ملا وقع.
تنبيه:
ما تقدم أنه من قبيل املسند من الصحايب إذا وقع من اتبعي فهو مرفوع أيضا ،لكنه مرسل ،فقد يقبل
إذا صح املسند إليه وكان من أئمة التفسري اآلخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبري،
أو اعتضد ِبرسل آخر وحنو ذلك.
()48/1
()49/1
ومن أمثلته أيضا ما أخرجه ابن مردويه وابن أيب حامت من طريق ابن إسحاق عن حممد بن أيب حممد
عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال :خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش
فأتوا رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فقالوا :اي حممد تعال فتمسح ِبهلتنا وندخل معك يف دينك وكان
ك َع ِن الَّ ِذي أ َْو َح ْينا إِلَْي َ
ك [سورة اإلسراء آية: كادوا لَيَـ ْفتِنُونَ َ
حيب إسالم قومه فر ّق هلم ،فأنزل هللا َوإِ ْن ُ
.]73
أجلنا
وأخرج ابن مردويه من طريق العويف ،عن ابن عباس أن ثقيفا قالوا للنيب صلّى هللا عليه وسلمّ :
فهم أن يؤجلهم فنزلت.
سنة حىت يهدى آلهلتنا فإذا قبضنا الذي يهدى هلا أحرزانه ُث أسلمنا ّ
هذا يقتضي نزوهلا ابملدينة وإسناده ضعيف ،واألول يقتضي نزوهلا ِبكة ،وإسناده حسن وله شاهد
عند أيب الشيخ عن سعيد بن جبري يرتقي به إىل درجة الصحيح فهو املعتمد.
- 4أن يستوي اإلسنادان يف الصحة فريجح أحدمها بكون روايه حاضر القصة أو حنو ذلك من
وجوه الرتجيحات.
مثاله :ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال :كنت أمشي مع النيب صلّى هللا عليه وسلم ابملدينة
وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم :لو سألتموه.
فقالوا :حدثنا عن الروح فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه الوحي يوحي إليه حىت صعد الوحي ُث
وح ِم ْن أ َْم ِر َرِّيب َوما أُوتِيتُ ْم ِم َن ال ِْعل ِْم إَِّال قَلِ ًيال [سورة اإلسراء آية.]85 : قال :قُ ِل ُّ
الر ُ
وأخرج الرتمذي وصححه عن ابن عباس قال :قالت قريش لليهود :أعطوان شيئا نسأل هذا الرجل
وح اآلية .فهذا يقتضي أهنا نزلت ِبكةك َع ِن ُّ
الر ِ فقالوا :اسألوه عن الروح فسألوه فأنزل هللاَ :ويَ ْسئَـلُونَ َ
واألول خالفه وقد رجح أبن ما رواه البخاري أصح من غريه وأبن ابن مسعود كان حاضر القصة.
- 5أن ميكن نزوهلا عقيب السببني أو األسباب املذكورة أبن ال تكون معلومة التباعد.
مثاله :ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة ،عن ابن عباس ،أن هالل بن أمية قذف امرأته عند النيب
صلّى هللا عليه وسلم بشريك بن سحماء ،فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم« :البينة أو حد يف ظهرك»
ين يَـ ْرُمو َن َّ ِ
فقال اي رسول هللا :إذا رأى أحدان مع امرأته رجال ينطلق يلتمس البينة فأنزل عليه َوالذ َ
ني [سورة النور آية.]9 - 6 : أَ ْزواجهم حىت بلغ إِ ْن كا َن ِمن َّ ِ ِ
الصادق َ َ َُ ْ
وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال :جاء عومير إىل عاصم بن عدي فقال:
اسأل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أرأيت رجال وجد مع امرأته رجال فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟
فسأل عاصم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ،فعاب السائل ،فأخرب عاصم عوميرا ،فقال :وهللا آلتني
()50/1
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فألسألنه فأاته فقال« :إنه قد أنزل فيك ويف صاحبتك قرآن»
احلديث.
مجع بينهما أبن أول من وقع له ذلك هالل بن أمية وصادف جميء عومير أيضا فنزلت يف شأهنما معا
وإىل هذا جنح النووي وسبقه اخلطيب فقال :لعلهما اتفق هلما ذلك يف وقت واحد.
وأخرج البزار عن حذيفة قال :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أليب بكر« :لو رأيت مع أم رومان
شرا .قال :فأنت اي عمر .قال :كنت أقول :لعن هللا األعجز وإنه
رجال ما كنت فاعال به .قالّ :
خلبيث .فنزلت».
قال ابن حجر :ال مانع من تعدد األسباب.
- 6أن ال ميكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره.
مثاله :ما أخرجه الشيخان عن املسيب قال :ملا حضر أاب طالب الوفاة دخل عليه رسول هللا صلّى هللا
أحاج لك هبا عند
عم قل ال إله إال هللا ّ
عليه وسلم وعنده أبو جهل ،وعبد هللا بن أيب أمية فقال :أي ّ
هللا فقال أبو جهل ،وعبد هللا :اي أاب طالب أترغب عن ملة عبد املطلب فلم يزاال يكلمانه حىت قال
هو :على ملة عبد املطلب ،فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم:
َّيب والَّ ِذين آمنُوا أَ ْن يستَـ ْغ ِفروا لِل ِ ِ
ْم ْش ِرك َ
ني [ .....سورة َْ ُ ُ ألستغفرن لك مامل أنه عنه فنزلت :ما كا َن للنِ ِّ َ َ َ
التوبة آية.]113 :
وأخرج الرتمذي وحسنه عن علي قال :مسعت رجال يستغفر ألبويه ومها مشركان فقلت :تستغفر
ألبويك ومها مشركان ،فقال :استغفر إبراهيم ألبيه وهو مشرك ،فذكرت ذلك لرسول هللا صلّى هللا
عليه وسلم فنزلت.
وأخرج احلاكم ،وغريه عن ابن مسعود قال :خرج رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يوما إىل املقابر،
فجلس إىل قرب منها فناجاه طويال ُث بكى ،فقال« :إن القرب الذي جلست عنده قرب أمي ،إين
آمنُوا أَ ْن يَ ْستَـغْ ِف ُروا استأذنت ريب يف الدعاء هلا فلم أيذن يل فأنزل علي ما كا َن لِلنِ ِ َّ ِ
ين َ
َّيب َوالذ َ
ّ ّ
لِل ِ
ني» فجمع بني هذه األحاديث بتعدد النزول. ْم ْش ِرك َ
ُ
ومن أمثلته أيضا ما أخرجه البيهقي والبزار عن أيب هريرة رضي هللا عنه أن النيب صلّى هللا عليه وسلم
وقف على محزة حني استشهد ،وقد مثّل به ،فقال :ألمثلن بسبعني منهم مكانك ،فنزل جربيل والنيب
صلّى هللا عليه وسلم واقف خبواتيم سورة النحل َوإِ ْن عاقَـ ْبـتُ ْم فَعاقِبُوا ِِبِثْ ِل ما ُعوقِ ْبـتُ ْم بِ ِه [سورة النحل
آية ]126 :إخل السورة.
وأخرج الرتمذي واحلاكم عن أيب بن كعب قال :ملا كان يوم أحد أصيب من األنصار
()51/1
أربعة وستون ومن املهاجرين ستة منهم محزة ،فمثلوا هبم فقالت األنصار :لئن أصبنا منهم يوما مثل
هذا لنربني عليهم ،فلما كان يوم فتح مكة أنزل هللا َوإِ ْن عاقَـ ْبـتُ ْم اآلية .فظاهره أتخري نزوهلا إىل الفتح،
ويف احلديث الذي قبله نزوهلا أبحد .قال ابن احلصار :وجيمع أهنا نزلت أوال ِبكة قبل اهلجرة مع
السورة؛ ألهنا مكية ُث اثنيا أبحد ُث اثلثا يوم الفتح تذكريا من هللا لعباده ،وجعل ابن كثري من هذا
القسم آية الروح.
تنبيه)1( :
قد يكون يف إحدى القصتني «فتال» فيهم الراوي فقال :فنزل.
مثاله :ما أخرجه الرتمذي ،وصححه عن ابن عباس ،قال :مر يهودي ابلنيب صلّى هللا عليه وسلم
فقال :كيف تقول اي أاب القاسم إذا وضع هللا السموات على ذه واألرضني على ذه واملاء على ذه
اَّللَ َح َّق قَ ْد ِرهِ [سورة الزمر آية.]67 :
واجلبال على ذه وسائر اخللق على ذه فأنزل هللاَ :وما قَ َد ُروا َّ
واحلديث يف الصحيح بلفظ فتال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم وهو الصواب ،فإن اآلية مكية.
ومن أمثلته أيضا :ما أخرجه البخاري عن أنس قال :مسع عبد هللا بن سالم ِبقدم رسول هللا صلّى هللا
عليه وسلم فأاته فقال :إين سائلك عن ثالث ال يعلمهن إال نيب .ما أول أشراط الساعة ،وما أول
طعام أهل اجلنة ،ومل ينزع الولد إىل أبيه أو إىل أمه؟ قال :أخربين هبن جربيل آنفا .قال :جربيل؟ قال:
يل فَِإنَّهُ نَـ َّزلَهُ َعلى قَـ ْلبِ َ ِِ
ك نعم .قال :ذاك عدو اليهود من املالئكة فقرأ هذه اآلية َم ْن كا َن َع ُد اوا جل ِْرب َ
[سورة البقرة آية.]97 :
قال ابن حجر يف شرح البخاري :ظاهر السياق أن النيب صلّى هللا عليه وسلم قرأ اآلية ر ّدا على
اليهود وال يستلزم ذلك نزوهلا حينئذ ،قال :وهذا هو املعتمد ،فقد صح يف سبب نزول اآلية قصة
غري قصة ابن سالم.
تنبيه)2( :
عكس ما تقدم أن يذكر سبب واحد يف نزول اآلايت املتفرقة وال إشكال يف ذلك فقد ينزل يف
الواقعة الواحدة آايت عديدة يف سور شىت.
مثاله :ما أخرجه الرتمذي واحلاكم عن أم سلمة أهنا قالت :اي رسول هللا ال أمسع هللا ذكر النساء يف
ُضيع عمل ِِ
عام ٍل [سورة آل عمران آية.]195 : َين ال أ ُ َ َ َجاب َهلُ ْم َرُّهبُ ْم أِّ
استَ َ
اهلجرة بشيء .فأنزل هللا فَ ْ
()52/1
وأخرج احلاكم عنها -أيضا -قالت :قلت اي رسول هللا :تذكر الرجال وال تذكر النساء فأنزلت إِ َّن
يع ِ مات [سورة األحزاب آية ،]35 :وأنزلت أِّ ني والْمسلِ ِ ِِ
َين ال أُض ُ ال ُْم ْسلم َ َ ُ ْ
عام ٍل ِم ْن ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثى
عمل ِ
ََ َ
[سورة آل عمران آية.]195 :
وأخرج -أيضا -عنها أهنا قالت :تغزو الرجال وال تغزو النساء ،وإمنا لنا نصف املرياث فأنزل هللا َوال
ِ اَّللُ بِ ِه بَـ ْع َ
ض [سورة النساء آية ،]32 :وأنزل :إِ َّن ال ُْم ْسل ِم َ
ني ض ُك ْم َعلى بَـ ْع ٍ َّل َّ
تَـتَ َمنـ َّْوا ما فَض َ
مات [سورة األحزاب آية.]35 : والْمسلِ ِ
َ ُْ
ومن أمثلته -أيضا -ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن اثبت ،أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم
أملى عليه« :ال يستوي القاعدون من املؤمنني واجملاهدون يف سبيل هللا» فجاء ابن أم مكتوم وقال :اي
ُويل الض ََّرِر [سورة النساء آية:
ري أ ِ
رسول هللا لو أستطيع اجلهاد جلاهدت وكان أعمى فأنزل هللا غَ ْ ُ
.]95
وأخرج ابن أيب حامت عن زيد بن اثبت -أيضا -قال :كنت أكتب لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلم
فإين لواضع القلم على أذين إذ أمر ابلقتال فجعل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه
إذ جاء أعمى فقال :كيف يل اي رسول هللا وأان أعمى ،فأنزلت لَيس علَى الضُّع ِ
فاء [سورة التوبة آية: َ ْ َ َ
.]91
ومن أمثلته :ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس ،قال :كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم جالسا يف
ظل حجرة فقال :إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيين شيطان ،فطلع رجل أزرق فدعاه رسول هللا صلّى هللا
عليه وسلم فقال :عالم تشتمين أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء أبصحابه ،فحلفوا ابهلل ما
قالوا حىت جتاوز عنهم فأنزل هللا َحيلِ ُفو َن ِاب َِّ
َّلل ما قالُوا [سورة التوبة آية ،]74 :وأخرجه احلاكم وأمحد ْ
مجيعاً فَـيَ ْحلِ ُفو َن لَهُ َكما َْحيلِ ُفو َن لَ ُك ْم [سورة اجملادلة آية:
اَّلل َِ
هبذا اللفظ وآخره فأنزل هللا يَـ ْوَم يَـ ْبـ َعثُـ ُه ُم َُّ
.]18
تنبيه)3( :
أتمل ما ذكرته لك يف هذه املسألة واشدد به يديك ،فإين حررته واستخرجته بفكري من استقراء
صنيع األئمة ومتفرقات كالمهم ،ومل أسبق إليه .اه ملخصا من اإلتقان للسيوطي.
()53/1
()54/1
يستخربن ،فإذا رجالن مقبالن على بعري ،فقالت امرأة :ما فعل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم؟
َّخ َذ ِم ْن ُك ْم
قال :حي .قالت :فال أابيل يتخذ هللا من عباده الشهداء ،فنزل القرآن على ما قالت ويـت ِ
ََ
داء [سورة آل عمران آية.]140 : ُش َه َ
وقال ابن سعد يف الطبقات :أخربان الواقدي ،حدثين إبراهيم بن حممد بن شرحبيل العبدري ،عن أبيه،
قال :محل مصعب بن عمري اللواء يوم أحد ،فقطعت يده اليمىن ،فأخذ اللواء بيده اليسرى ،وهو
مات أ َْو قُتِ َل انْـ َقلَْبـتُ ْم َعلى أَ ْعقابِ ُك ْم [سورة ت ِم ْن قَـ ْبلِ ِه ُّ
الر ُس ُل أَفَِإ ْن َ يقولَ :وما ُحمَ َّم ٌد إَِّال َر ُس ٌ
ول قَ ْد َخلَ ْ
آل عمران آيةُ .]144 :ث قطعت يده اليسرى ،فحين على اللواء وضمه بعضديه إىل صدره ،وهو
يقولَ :وما ُحمَ َّم ٌد إَِّال َر ُس ٌ
ول اآلية ُث قتل ،فسقط اللواء .قال حممد بن شرحبيل :وما نزلت هذه اآلية
ول يومئذ حىت نزلت بعد ذلك. َوما ُحمَ َّم ٌد إَِّال َر ُس ٌ
«تذنيب» يقرب من هذا ما ورد يف القرآن على لسان غري الصحابة كالنيب عليه الصالة والسالم
جاء ُك ْم بَصائُِر ِم ْن َربِّ ُك ْم
وجربيل واملالئكة غري مصرح إبضافته إليهم وال حمكي ابلقول كقوله :قَ ْد َ
[سورة األنعام آية ]104 :اآلية .فإن هذا وارد على لسانه صلّى هللا عليه وسلم لقوله آخرهاَ :وما
اَّلل أَبْـتَ ِغي َح َكماً [سورة مرمي آية ]114 :فإنه وارد أيضا على لسانه. يظ .وقوله :أَفَـغَري َِّ أ ََان علَي ُكم ِحب ِف ٍ
َْ َْ ْ َ
ِ وقولهَ :وما نَـتَـنَـ َّز ُل إَِّال ِأبَ ْم ِر َربِّ َ
ك [سورة مرمي آية .]64 :وارد على لسان جربيل ،وقولهَ :وما منَّا إَِّال لَهُ
سبِّ ُحو َن [سورة الصافات آية164 : ِ
الصافو َن (َ )165وإ َّان لَنَ ْح ُن ال ُْم َ
وم (َ )164وإِ َّان لَنَ ْح ُن َّ ُّ قام َم ْعلُ ٌ
َم ٌ
ِ
ني [سورة الفاحتة آية ]5 :وارد على ]166 -وارد على لسان املالئكة ،وكذا إِ َّاي َك نَـ ْعبُ ُد َوإِ َّاي َك نَ ْستَع ُ
ألسنة العباد .إال أنه ميكن هنا تقدير القول :أي قولوا ،وكذا اآليتان األوليان يصح أن يقدر فيهما
«قل» خبالف الثالثة والرابعة .اه .من اإلتقان.
()55/1
()56/1
()57/1
()58/1
من سواه من األنبياء ،وملا جاء به النيب صلّى هللا عليه وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع
اخلطباء وحتداهم على أن أيتوا ِبثله ،وأمهلهم طول السنني ،فلم يقدروا كما قال تعاىل :فَـلْيَأْتُوا
ِِ ِحب ِد ٍ ِ ِ ِ
ني [سورة الطور آيةُ ،]34 :ث حتداهم بعشر سور منه يف قوله تعاىل :أ َْم يث مثْله إِ ْن كانُوا صادق َ َ
ِِ ون َِّ
ايت وا ْد ُعوا م ِن استَطَ ْعتُم ِمن ُد ِ يـ ُقولُو َن افْ َرتاهُ قُل فَأْتُوا بِع ْش ِر سوٍر ِمثْلِ ِه م ْف َ ٍ
اَّلل إِ ْن ُك ْنـتُ ْم صادق َ
ني َ ْ ْ ْ رت َ ُ َ َ َُ ْ َ
اَّلل [سورة هود آيةُ .]14 ،13 :ث حتداهم بسورة ( )13فَِإ َّمل يست ِجيبوا لَ ُكم فَا ْعلَموا أ ََّمنا أُنْ ِز َل بِ ِعل ِْم َِّ
ُ ْ ْ َ َْ ُ
ورةٍ ِمثْلِ ِه [ ...سورة يونس آيةُ ،]38 :ث كرر يف قولهَ :وإِ ْن سَ
ِ
يف قوله :أ َْم يَـ ُقولُو َن افْ َرتاهُ قُ ْل فَأْتُوا ب ُ
ورةٍ ِم ْن ِمثْلِ ِه [ ....سورة البقرة آية ،]23 :فلما عجزوا سَ
ِ ِ
ب ممَّا نَـ َّزلْنا َعلى َعبْدان فَأْتُوا ب ُ
ُك ْنـتم ِيف ري ٍ ِ
ُ ْ َْ
عن معارضته واإلتيان بسورة تشبهه على كثرة اخلطباء فيهم والبلغاء ،اندى عليهم إبظهار العجز
اإلنْس وا ْجلِ ُّن َعلى أَ ْن أيْتُوا ِِبِثْ ِل ه َذا الْ ُقر ِ وإعجاز القرآن الكرمي فقال :قُل لَئِ ِن ْ ِ
آن ال َأيْتُو َن ْ َ اجتَ َم َعت ِْ ُ َ ْ
ض ظَ ِهرياً [سورة اإلسراء آية ]88 :فهذا ،وهم الفصحاء اللّ ّد وقد كانوا ض ُه ْم لِبَـ ْع ٍ
ِِبِثْلِ ِه َولَ ْو كا َن بَـ ْع ُ
أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره ،فلو كان يف مقدرهتم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة،
ومل ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك وال رامه ،بل عدلوا إىل العناد اترة وإىل
االستهزاء أخرى ،فتارة قالوا سحر ،واترة قالوا شعر ،واترة قالوا أساطري األولني ،كل ذلك من التحري
واالنقطاعُ ،ث رضوا بتحكيم السيف يف أعناقهم وسيب ذراريهم وحرمهم ،واستباحة أمواهلم ،وقد كانوا
آنف شيء وأشده محية ،فلو علموا أن اإلتيان ِبثله يف قدرهتم لبادروا إليه؛ ألنه كان أهون عليهم.
كيف وقد أخرج احلاكم عن ابن عباس قال :جاء الوليد بن املغرية إىل النيب صلّى هللا عليه وسلم فقرأ
عليه القرآن فكأنه رق له ،فبلغ ذلك أاب جهل فأاته فقال :اي عم إن قومك يريدون أن جيمعوا لك
ماال ليعطوكه لئال أتيت حممدا لتتعرض ملا قاله ،قال :قد علمت قريش أين من أكثرها ماال ،قال :فقل
فيه قوال يبلغ قومك أنك كاره له ،قال :وماذا أقول؟
فو هللا ما فيكم رجل أعلم ابلشعر مين ،وال برجزه ،وال بقصيده ،وال أبشعار اجلن ،وهللا ما يشبه
الذي نقول شيئا من هذا ،وهللا إن لقوله الذي يقول حلالوة وإن عليه لطالوة ،وإنه ملثمر أعاله،
مغدق أسفله ،وإنه ليعلو وال يعلى عليه ،وإنه ليحطم ما حتته ،قال :ال يرضى عنك قومك حىت تقول
فيه ،قال :فدعين حىت أفكر ،فلما فكر قال :هذا سحر يؤثر أيثره عن غريه.
قال اجلاحظ :بعث هللا حممدا صلّى هللا عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ،وأحكم ما
()59/1
كانت لغة وأشد ما كانت عدة ،فدعا أقصاها وأدانها إىل توحيد هللا وتصديق رسالته ،فدعاهم ابحلجة
فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي مينعهم من اإلقرار اهلوى واحلمية دون اجلهل واحلرية،
محلهم على حظهم ابلسيف فنصب هلم احلرب ونصبوا له ،وقتل من عليتهم وأعالمهم ،وأعمامهم،
وبين أعمامهم ،وهو يف ذلك حيتج
عليهم ابلقرآن ويدعوهم صباحا ومساء إىل أن يعارضوه ،إن كان كاذاب بسورة واحدة أو ِبايت
شف عن نقصهم ما كان مستورا ،وظهر
يسرية ،فكلما ازداد حتداي هلم هبا ،وتقريعا لعجزهم عنها تك ّ
منه ما كان خفيّا ،فحني مل جيدوا حيلة وال حجة قالوا له :أنت تعرف من أخبار األمم ما ال نعرف،
فلذلك ميكنك ما ال ميكننا ،قال :فهاتوها مفرتايت فلم يرم ذلك خطيب ،وال طمع فيه شاعر ،وال
رغب فيه ليتكلفه ،ولو تكلفه لظهر ذلك ،ولو ظهر لوجد من يستجيده وحيامي عليه ويكابر فيه،
ويزعم أنه قد عارض وقابل وانقض ،فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كالمهم ،واستحالة
لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم ،وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء
أمته؛ ألن سورة واحدة وآايت يسرية كانت أنقض لقوله ،وأفسد ألمره ،وأبلغ يف تكذيبه ،وأسرع يف
تفريق أتباعه من بذل النفوس واخلروج من األوطان وإنفاق األموال.
أوجه اإلعجاز
ملا ثبت كون القرآن معجزة نبينا صلّى هللا عليه وسلم ،وجب االهتمام ِبعرفة أوجه اإلعجاز وقد
خاض الناس يف ذلك كثريا فبني حمسن ومسيء.
فزعم قوم أن التحدي وقع ابلكالم القدمي الذي هو صفة الذات ،وأن العرب كلفت يف ذلك ما ال
يطاق وبه وقع عجزها ،وهو مردود ألن ما ال ميكن الوقوف عليه ال يتصور التحدي به ،والصواب ما
قاله اجلمهور أنه وقع ابلدال على القدمي وهو األلفاظ.
ُث زعم النظام :أن إعجازه ابلصرفة :أي أن هللا صرف العرب عن معارضته وسلب عقوهلم ،وكان
مقدورا هلم ،لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر املعجزات ،وهذا قول فاسد بدليل :قُ ْل لَئِ ِن
س َوا ْجلِ ُّن [ ...سورة اإلسراء آية ،]88 :فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهتم ،ولو ْ ِ ِ
اجتَ َم َعت ْاإلنْ ُ
سلبوا القدرة مل تبق فائدة الجتماعهم ملنزلته منزلة اجتماع املوتى ،وليس عجز املوتى مما حيتفل بذكره،
هذا مع اإلمجاع منعقد على إضافة اإلعجاز إىل القرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز،
بل املعجز هو هللا تعاىل حيث سلبهم القدرة على اإلتيان ِبثله؟!
()60/1
وأيضا -فيلزم من القول ابلصرفة زوال اإلعجاز بزوال زمن التحدي ،وخلو القرآن من اإلعجاز ،ويف
ذلك خرق إلمجاع األمة أن معجزة الرسول صلّى هللا عليه وسلم العظمى ابقية وال معجزة له ابقية
سوى القرآن الكرمي.
قال القاضي أبو بكر :ومما يبطل القول ابلصرفة أنه لو كانت املعارضة ممكنة وإمنا منع منها الصرفة مل
يكن الكالم معجزا وإمنا يكون ابملنع معجزا فال يتضمن الكالم فضيلة على غريه يف نفسه ،قال:
وليس هذا أبعجب من قول فريق منهم :إن الكل قادرون على اإلتيان ِبثله ،وإمنا أتخروا عنه لعدم
العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به ،وال أبعجب من قول آخرين :إن العجز وقع منهم ،وأما
من بعدهم ففي قدرته اإلتيان ِبثله وكل هذا ال يعتد به.
وقال قوم :وجه إعجازه ما فيه من اإلخبار عن الغيوب املستقبلة ومل يكن ذلك من شأن العرب.
وقال آخرون :ما تضمنه من اإلخبار عن قصص األولني وسائر املتقدمني حكاية من شاهدها
وحضرها.
وقال آخرون :ما تضمنه من اإلخبار عن الضمائر من غري أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله:
تان ِم ْن ُك ْم أَ ْن تَـ ْف َ
شال [سورة آل عمران آيةَ ،]122 :ويَـ ُقولُو َن ِيف أَنْـ ُف ِس ِه ْم لَ ْوال يُـ َع ِّذبُـنَا َّت طائَِف ِ
إِ ْذ َمه ْ
اَّللُ [سورة اجملادلة آية.]8 : َّ
وقال القاضي أبو بكر :وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والرتصيف وأنه خارج عن مجيع وجوه
النظم املعتاد يف كالم العرب ومباين ألساليب خطاابهتم ،قال :وهلذا مل ميكنهم معارضته ،قال :وال
سبيل إىل معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع اليت أودعوها يف الشعر؛ ألنه ليس مما خيرق العادة
بل ميكن استدراكه ابلعلم والتدريب والتصنع به ،كقول الشعر ،ووصف اخلطب ،وصناعة الرسالة
واحلذق يف البالغة ،وله طريق تسلك فأما شأو ونظم القرآن فليس له مثال حيتذى ،وال إمام يقتدى
به ،وال يصح وقوع مثله اتفاقا ،قال :وحنن نعتقد أن اإلعجاز يف بعض القرآن أظهر ويف بعضه أدق
وأغمض.
وقال اإلمام فخر الدين :وجه اإلعجاز الفصاحة ،وغرابة األسلوب ،والسالمة من مجيع العيوب.
وقال ابن عطية :الصحيح الذي عليه اجلمهور واحلذاق يف وجه إعجازه ،أنه بنظمه وصحة معانيه
وتوايل فصاحة ألفاظه ،وذلك أن هللا أحاط بكل شيء علما ،وأحاط
()61/1
ابلكالم كله ،فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم إبحاطته أي لفظة تصلح ،أن تلي األوىل وتبني املعىن
بعد املعىنُ ،ث كذلك من أول القرآن إىل آخره ،والبشر يعمهم اجلهل والنسيان والذهول ،ومعلوم
ضرورة أن أحدا من البشر ال حييط بذلك ،فبهذا جاء نظم القرآن يف الغاية القصوى من الفصاحة،
وهبذا يبطل قول من قال :إن العرب كان يف قدرهتا اإلتيان ِبثله فصرفوا عن ذلك ،والصحيح أنه مل
يكن يف قدرة أحد قط وهلذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو اخلطبة حوالُ ،ث ينظر فيها فيغري فيها وهلم
جرا ،وكتاب هللا تعاىل لو نزعت منه لفظة ُث أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها ،مل يوجد وحنن
يتبني لنا الرباعة يف أكثره ،وخيفى علينا وجهها يف مواضع لقصوران عن مرتبة العرب يومئذ يف سالمة
الذوق وجودة القرحية.
وقامت احلجة على العامل ابلعرب إذ كانوا أرابب الفصاحة ومظنة املعارضة ،كما قامت احلجة يف
معجزة موسى ابلسحرة ،ويف معجزة عيسى ابألطباء ،فإن هللا إمنا جعل معجزات األنبياء ابلوجه
الشهري الذي هو أبدع ما يكون يف زمن النيب الذي أراد إظهاره ،فكان السحر قد انتهى يف مدة
موسى إىل غايته ،وكذلك الطب يف زمن عيسى والفصاحة يف زمن حممد صلّى هللا عليه وسلم.
وقال حازم يف منهاج البلغاء :وجه اإلعجاز يف القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبالغة فيه من
مجيع أحنائها يف مجيعه استمرارا ال يوجد له فرتة ،وال يقدر عليه أحد
من البشر ،وكالم العرب ومن تكلم بلغتهم ال تستمر الفصاحة والبالغة يف مجيع أحنائها يف العايل منه
إال يف الشيء اليسري املعدودُ ،ث تعرض الفرتات اإلنسانية فينقطع طيب الكالم ورونقه ،فال تستمر
لذلك الفصاحة يف مجيعه ،بل توجد يف تفاريق وأجزاء منه.
وقال اخلطايب :إن القرآن إمنا صار معجزا؛ ألنه جاء أبفصح األلفاظ يف أحسن نظوم التأليف ،مضمنا
أصح املعاين من توحيد هللا تعاىل ،وتنزيهه يف صفاته ،ودعائه إىل طاعته ،وبيان لطريق عبادته ،من
حتليل وحترمي وحظر وإابحة ،ومن وعظ وتقومي وأمر ِبعروف وهني عن منكر وإرشاد إىل حماسن
األخالق وزجر عن مساويها ،واضعا كل شيء منها موضعه الذي ال يرى شيء أوىل منه ،وال يتوهم
يف صورة العقل أمر أليق به منه ،مودعا أخبار القرون املاضية وما نزل منها من مثالت هللا ِبن مضى
وعائدا منهم منبئا عن الكوائن املستقبلة يف األعصار اآلتية من الزمان ،جامعا يف ذلك بني احلجة
واحملتج له والدليل واملدلول عليه ،ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأدل على وجوب ما أمر به
وهنى عنه ،ومعلوم أن اإلتيان ِبثل هذه األمور واجلمع بني أشتاهتا حىت تنتظم
()62/1
وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر ،وال تبلغه قدرهتم ،فانقطع اخللق دونه وعجزوا عن معارضته ِبثله
أو مناقضته يف شكلهُ ،ث صار املعاندون له يقولون مرة :إنه شعر ملا رأوه منظوما ،ومرة :إنه سحر ملا
رأوه معجوزا عنه غري مقدور عليه ،وقد كانوا جيدون له وقعا يف القلوب ،وقرعا يف النفوس يرهبهم
وحيريهم ،فلم يتمالكوا أن يعرتفوا به نوعا من االعرتاف ،ولذلك قالوا :إن له حلالوة وإن عليه
لطالوة ،وكانوا مرة جبهلهم يقولون :أساطري األولني اكتتبها فهي متلى عليه بكرة وأصيال ،مع علمهم
أن صاحبهم أمي وليس حبضرته من ميلي أو يكتب يف حنو ذلك من األمور ،اليت أوجبها العناد واجلهل
والعجز.
ُث قال :وقد قلت يف إعجاز القرآن وجها ،ذهب عنه الناس وهو صنيعه يف القلوب وأتثريه يف
النفوس ،فإنك ال تسمع كالما غري القرآن منظوما وال منثورا ،إذا قرع السمع خلص منه إىل القلب
من اللذة واحلالوة ما ال مثيل له.
خاشعاً متص ِّدعاً ِمن َخ ْشي ِة َِّ
اَّلل [سورة احلشر آية: قال تعاىل :لَو أَنْـزلْنا ه َذا الْ ُقرآ َن َعلى جب ٍل لَرأَيـتَهُ ِ
ْ َ َُ َ ََ َ ْ ْ ْ َ
.]21
ش ْو َن َرَّهبُ ْم
ين خيَْ َ ش ِع ُّر ِم ْنهُ جلُ ُ َّ ِ يث كِتاابً متَ ِ
شاهباً َم ِ َحسن ا ْحل ِد ِ وقال هللا تعاىلَّ :
ود الذ َ ُ ثاينَ تَـ ْق َ ُ اَّللُ نَـ َّز َل أ ْ َ َ َ
[سورة الزمر آية.]23 :
وقال القاضي عياض يف «الشفا» :اعلم أن القرآن منطو على وجوه من اإلعجاز كثرية وحتصيلها من
جهة ضبط أنواعها يف أربعة وجوه:
األول :حسن أتليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إجيازه وبالغته اخلارقة عادة العرب ،الذين هم
فرسان الكالم وأرابب هذا الشأن.
الثاين :صورة نظمه العجيب واألسلوب الغريب؛ املخالف ألساليب كالم العرب ،ومنها نظمها ونثرها
الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آايته ،وانتهت إليه فواصل كلماته ومل يوجد قبله وال بعده نظري
له ،قال :وكل واحد من هذين النوعني اإلجياز والبالغة بذاهتا واألسلوب الغريب بذاته نوع إعجاز
على التحقيق ،مل تقدر العرب على اإلتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرهتا ،مباين
لفصاحتها وكالمها ،خالفا ملن زعم أن اإلعجاز يف جمموع البالغة واألسلوب.
الثالث :ما انطوى عليه من اإلخبار ابملغيبات ،وما مل يكن فوجد كما ورد.
الرابع :ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة واألمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان ال يعلم منه القصة
الواحدة ،إال الفذ يف أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره يف تعلم
()63/1
ذلك ،فيورده صلّى هللا عليه وسلم على وجهه وأييت به على نصه ،وهو أمي ال يقرأ وال يكتب ،قال:
فهذه الوجوه األربعة من إعجازه بينة ال نزاع فيها.
ومن الوجوه يف إعجازه غري ذلك :آي وردت بتعجيز قوم يف قضااي وإعالمهم أهنم ال يفعلوهنا ،فما
ني (َ )94ولَ ْن يَـتَ َمنـ َّْوهُ أَبَداً ِِباِِ
ت إِ ْن ُك ْنـتُ ْم صادق َ
َّوا ال َْم ْو َ
فعلوه وال قدروا على ذلك كقوله لليهود :فَـتَ َمنـ ُ
ت أَيْ ِدي ِه ْم [سورة البقرة آية ]95 ،94 :فما متناه أحد منهم وهذا الوجه داخل يف الوجه الثالث. َّم ْ
قَد َ
ومنها :الروعة اليت تلحق قلوب سامعيه عند مساعهم ،واهليبة اليت تعرتيهم عند تالوته ،وقد أسلم
مجاعة عند مساع آايت منه ،كما وقع جلبري بن مطعم أنه مسع النيب صلّى هللا عليه وسلم يقرأ يف
املغرب «ابلطور» قال :فلما بلغ هذه اآلية :أ َْم ُخلِ ُقوا ِم ْن غَ ِْري َش ْي ٍء أ َْم ُه ُم ْ
اخلالُِقو َن ( )35أ َْم َخلَ ُقوا
ص ْي ِط ُرو َن [سورة الطور آية: ض بَ ْل ال يُوقِنُو َن ( )36أ َْم ِع ْن َد ُه ْم َخزائِ ُن َربِّ َ
ك أ َْم ُه ُم ال ُْم َ
الس ِ
ماوات َو ْاأل َْر َ َّ
]37 - 35فقال :كاد قليب أن يطري ،قال :وذلك أول ما وقر اإلسالم يف قليب ،وقد مات مجاعة
عند مساع آايت منه أفردوا ابلتصنيف.
ُث قال :ومن وجوه إعجازه كونه آية ابقية ال يعدم ما بقيت الدنيا مع ما تكفل هللا حبفظه.
ومنها :أن قارئه ال ميله وسامعه ال ميجه بل اإلكباب على تالوته يزيده حالوة ،وترديده يوجب له
حمبة ،وغريه من الكالم يعادى إذا أعيد وميل مع الرتديد ،وهلذا وصف صلّى هللا عليه وسلم القرآن
أبنه ال خيلق على كثرة الرد.
ومنها :مجعه لعلوم ومعارف مل جيمعها كتاب من الكتب وال أحاط بعلمها أحد يف كلمات قليلة
وأحرف معدودة ،قال :وهذا الوجه داخل يف بالغته فال جيب أن يعد فنّا مفردا يف إعجازه ،قال:
واألوجه اليت قبله تعد يف خواصه وفضائله ال إعجازه وحقيقة اإلعجاز الوجوه األربعة األول فليعتمد
عليها .اه.
()64/1
()65/1
وقد كان بعضهم يقول :لبيك ريب وسعديك -ويتأمل ما بعدها مما أمر به وهنى عنه.
وذلك إذا قرأ يف غري الصالة.
وتكره قراءة القرآن بال تدبر ،وعليه حيمل حديث عبد هللا بن عمرو« :ال يفقه من قرأ القرآن يف أقل
من ثالث» [رواه أبو داود والرتمذي والنسائي وقال الرتمذي :حديث حسن صحيح].
وقول ابن مسعود ملن أخربه أنه يقوم ابلقرآن يف ليلة :أه ّذا (سرعة) كه ّذ الشعر! وكذلك قوله صلّى
هللا عليه وسلم يف صفة اخلوارج« :يقرءون القرآن ال جياوز تراقيهم وال حناجرهم» ذمهم إبحكام
ألفاظه ،وترك التفهم ملعانيه.
()66/1
()67/1
وقال عبد هللا بن أمحد :كان أيب يقرأ يف كل يوم سبعا من القرآن ال يرتكه نظرا.
وعن األوزاعي كان يعجبهم النظر يف املصحف بعد القراءة هنيهة.
قال بعضهم :وينبغي ملن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آايت يسرية وال يرتكه مهجورا.
والقول الثاين :أن القراءة عن ظهر قلب أفضل ،واختاره أبو حممد بن عبد السالم.
فقال يف أماليه :قيل القراءة يف املصحف أفضل ،ألنه جيمع فعل اجلارحتني ،ومها اللسان والعني،
واألجر على قدر املشقة ،وهذا ابطل؛ ألن املقصود من القراءة التدبر لقوله تعاىل :لِيَ َّدبَّـ ُروا آايتِِه
[سورة ص آية ،]29 :والعادة تشهد أن النظر يف املصحف خيل هبذا املقصود فكان مرجوحا.
والثالث :واختاره النووي يف األذكار :إن كان القارئ من حفظه حيصل له من التدبر والتفكر ومجع
القلب أكثر مما حيصل له من املصحف فالقراءة من احلفظ أفضل ،وإن استواي فمن املصحف أفضل،
قال :وهو مراد السلف.
()68/1
اآلايت املختلفة؛ كما أنكر رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم على بالل ،وكما اعتذر خالد عن فعله،
ولكراهة ابن سريين لهُ .ث قال :إن بعضهم روى حديث بالل وفيه :فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم:
«كل ذلك حسن» وهو أثبت وأشبه بنقل العلماء ..اه.
()69/1
حىت خيتموها؟ فأنكر ذلك وعابه ،وقال :ليس هكذا تصنع الناس إمنا كان يقرأ الرجل على اآلخر
يعرضه ،فهذا اإلنكار منهما خمالف ملا كان عليه السلف واخللف ،وملا يقتضيه الدليل ،فهو مرتوك،
واالعتماد على ما تقدم من استحباهبا.
ختم القرآن
ويستحب ختم القرآن يف كل أسبوع ،قال النيب صلّى هللا عليه وسلم« :اقرأ القرآن يف كل سبع وال
تزد» [رواه أبو داود].
وروى الطرباين بسند جيد :سئل أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم :كيف كان رسول هللا صلّى
هللا عليه وسلم جيزئ القرآن؟ قالوا :كان جيزئه ثالاث ومخسا ،وكره قوم قراءته يف أقل من ثالث ،ومحلوا
عليه حديث« :ال يفقه من قرأ القرآن يف أقل من ثالث» [رواه األربعة وصححه الرتمذي].
واملختار -وعليه أكثر احملققني -أن ذلك خيتلف حبال الشخص يف النشاط والضعف ،والتدبر
والغفلة؛ ألنه روي عن عثمان رضي هللا عنه أنه كان خيتمه يف ليلة واحدة.
ويكره أتخري ختمه أكثر من أربعني [رواه أبو داود].
وقال أبو الليث يف كتاب «البستان» :ينبغي أن يقرأ القرآن يف السنة مرتني إن مل يقدر على الزايدة.
وقد روى احلسن بن زايد عن أيب حنيفة أنه قال :من قرأ القرآن يف كل سنة مرتني فقد أدى للقرآن
حقه؛ ألن النيب صلّى هللا عليه وسلم عرضه على جربيل يف السنة اليت قبض فيها مرتني.
وقال أبو الوليد الباجي :أمر النيب صلّى هللا عليه وسلم عبد هللا بن عمرو أن خيتم يف سبع أو ثالث
حيتمل أنه األفضل يف اجلملة ،أو أنه األفضل يف حق ابن عمرو ملا علم من ترتيله يف قراءته ،وعلم من
ضعفه عن استدامته أكثر مما ح ّد له ،وأما من استطاع أكثر من ذلك فال متنع الزايدة عليه.
وسئل مالك عن الرجل خيتم القرآن يف كل ليلة فقال :ما أحسن ذلك :إن القرآن إمام كل خري.
السري :إمنا اآلية مثل التمرة كلما مضغتها استخرجت حالوهتا ،فحدث به أبو سليمان
وقال بشر بن ّ
فقال :صدق؛ إمنا يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها .فالتأين مع التدبر والتذكر أفضل
بال شك ،وكله إىل خري إن شاء هللا.
()70/1
()71/1
()72/1
كتابة القرآن بشيء جنس ،وكذلك ذكر هللا تعاىل ،وتكره كتابته يف القطع الصغري.
اه .ملخصا من الزركشي.
جتويد القرآن
من املهمات جتويد القرآن وقد أفرده مجاعة كثريون ابلتصنيف منهم الداين وغريه ،أخرج عن ابن
جودوا القرآن .قال القراء :التجويد حلية القراءة ،وهو إعطاء احلروف حقوقها،
مسعود أنه قالّ :
وترتيبها ورد احلرف إىل خمرجه وأصله وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غري إسراف وال تعسف
ضا
وال إفراط وال تكلف ،وإىل ذلك أشار صلّى هللا عليه وسلم بقوله« :من أحب أن يقرأ القرآن غ ّ
كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» يعين ابن مسعود ،وكان رضي هللا عنه قد أعطي حظّا
عظيما يف جتويد القرآن ،وال شك أن األمة كما أهنم متعبدون بفهم معاين القرآن وإقامة حدوده ،فهم
متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة املتلقاة من أئمة القراء املتصلة ابحلضرة النبوية.
وخفي ،فاللحن خلل يطرأ على
ّ جلي
وقد ع ّد العلماء القراءة بغري جتويد حلنا ،فقسموا اللحن إىل ّ
األلفاظ فيخل هبا ،إال أن اجللي خيل إخالال ظاهرا يشرتك يف معرفته علماء القراءة وغريهم وهو اخلطأ
يف اإلعراب ،واخلفي خيل إخالال خيتص ِبعرفته علماء القراءة وأئمة األداء الذين تلقوه من أفواه
العلماء وضبطوه من ألفاظ أهل األداء.
وكل منها واجب على من قدر عليه؛ ألن هبما يكون الفهم الصحيح.
قال ابن اجلزري :وال أعلم لبلوغ النهاية يف التجويد مثل رايضة األلسن والتكرار على اللفظ املتلقى
من فم احملسن.
وقاعدته ترجع إىل كيفية الوقف واإلمالة واإلدغام ،وأحكام اهلمزة والرتقيق والتفخيم وخمارج احلروف.
اه.
()73/1
كيفيات القراءة
كيفيات القراءة ثالث:
()74/1
ني وقفة لطيفة مدعيا أنه يرتل ،وهذا النوع من القراءة مذهب محزة وورش ،وقد ِ
على التاء من نَ ْستَع ُ
أيب بن كعب أنه قرأ على رسول هللا صلّى هللا
أخرج فيه الداين حديثا يف كتاب التجويد مسلسال إىل ّ
عليه وسلم التحقيق وقال :إنه غريب مستقيم اإلسناد.
تنبيه:
سيأيت يف النوع الذي يلي هذا استحباب الرتتيل يف القراءة ،والفرق بينه وبني التحقيق فيما ذكره
بعضهم :أن التحقيق يكون للرايضة والتعليم والتمرين ،والرتتيل يكون للتدبر والتفكر واالستنباط
فكل حتقيق ترتيل وليس كل ترتيل حتقيقا .اه.
()75/1
()76/1
اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم قال :يعلمون أتويله ويقولون آمنا به، وأخرج عبد بن محيد عن جماهد يف قوله :وال َّر ِ
َ
الر ِ
اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم يعلمون أتويله ،لو مل يعلموا أتويله مل وأخرج ابن أيب حامت عن الضحاك قالَ :و َّ
يعلموا انسخه من منسوخه ،وال حالله من حرامه ،وال حمكمه من متشاهبه -واختار هذا القول
النووي فقال :يف شرح مسلم:
إنه األصح؛ ألنه يبعد أن خياطب هللا عباده ِبا ال سبيل ألحد من اخللق إىل معرفته.
وقال ابن احلاجب :إنه الظاهر.
وأما األكثرون من الصحابة والتابعني وأتباعهم ومن بعدهم -خصوصا أهل السنة -فذهبوا إىل الثاين،
وهو أصح الرواايت عن ابن عباس ،قال ابن السمعاين :مل يذهب إىل القول األول إال شرذمة قليلة،
واختاره العتيب .قال :وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة لكنه سها يف هذه املسألة قال :وال غرو فإن
لكل جواد كبوة ولكل عامل هفوة.
قلت :ويدل لصحة مذهب األكثرين ما أخرجه عبد الرزاق يف تفسريه واحلاكم يف مستدركه عن ابن
عباس ،أنه كان يقرأ َوما يَـ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إَِّال َّ
اَّللُ ويقول:
آمنَّا بِ ِه فهذا يدل على أن الواو لالستئناف؛ ألن هذه الرواية وإن مل ِ و َّ ِ
الراس ُخو َن ِيف الْعل ِْم يَـ ُقولُو َن َ َ
تثبت هبا القراءة فأقل درجتها أن تكون خربا إبسناد صحيح إىل ترمجان القرآن فيقدم كالمه يف ذلك
على من دونه ،ويؤيد ذلك أن اآلية دلت على ذم مبتغي املتشابه ووصفهم ابلزيغ وابتغاء الفتنة،
وعلى مدح الذين فوضوا العلم إىل هللا وسلموا إليه ،كما مدح هللا املؤمنني ابلغيب ،وحكى الفراء أن
يف قراءة أيب بن كعب -أيضا« -ويقول الراسخون» .وأخرج ابن أيب داود يف املصاحف من طريق
األعمش ،قال يف قراءة ابن مسعود« :وإن أتويله إال عند هللا ،والراسخون يف العلم يقولون آمنا به».
وأخرج الشيخان وغريمها عن عائشة قالت :تال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم هذه اآليةُ :ه َو الَّ ِذي
تاب إىل قوله :أُولُوا ا ْألَل ِ
ْباب قالت :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم: أَنْـز َل َعلَي َ ِ
ك الْك َ َ ْ
«فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين مسى هللا ،فاحذرهم».
وأخرج احلاكم عن ابن مسعود عن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال :الكتاب األول ينزل من ابب
واحد على حرف واحد ،ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف :زجر وأمر ،وحالل وحرام،
وحرموا حرامه ،وافعلوا ما أمرمت به ،وانتهوا عما هنيتم عنه،
وحمكم ومتشابه وأمثال ،فأحلّوا حاللهّ ،
واعتربوا أبمثاله ،واعملوا ِبحكمه وآمنوا ِبتشاهبه ،وقولوا :آمنا به كل من عند ربنا.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا :أنزل القرآن على أربعة أحرف :حالل
()77/1
وحرام ال يعذر أحد جبهالته ،وتفسري تفسره العرب ،وتفسري تفسره العلماء ،ومتشابه ال يعلمه إال هللا،
ومن ادعى علمه سوى هللا فهو كاذبُ ،ث أخرجه من وجه آخر عن
ابن عباس موقوفا بنحوه.
وأخرج الدارمي يف مسنده عن سليمان بن يسار أن رجال يقال له صبيغ قدم املدينة «فجعل يسأل
عن متشابه القرآن ،فأرسل إليه عمر وقد أع ّد له عراجني النخل ،فقال :من أنت؟ قال :أان عبد هللا
بن صبيغ ،فأخذ عمر عرجوان من تلك العراجني فضربه حىت دمى رأسه» ويف رواية عنده «فضربه
ابجلريد حىت ترك ظهره دبرةُ ،ث تركه حىت برأُ ،ث عاد ُث تركه حىت برأ فدعا به ليعود فقال :إن كنت
تريد قتلي فاقتلين قتال مجيال فأذن له إىل أرضه وكتب إىل أيب موسى األشعري :ال جيالسه أحد من
املسلمني».
وأخرج الدارمي عن عمر بن اخلطاب قال :إنه سيأتيكم انس جيادلونكم ِبشتبهات القرآن فخذوهم
ابلسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب هللا ،فهذه األحاديث واآلاثر تدل على أن املتشابه مما ال
يعلمه إال هللا تعاىل وأن اخلوض فيه مذموم ،وسيأيت قريبا زايدة على ذلك.
قال الطييب :املراد ابحملكم :ما اتضح معناه ،واملتشابه خبالفه ،ألن اللفظ الذي يقبل معىن إما أن
حيتمل غريه أو ال ،والثاين النص ،واألول إما أن تكون داللته على ذلك الغري أرجح أو ال واألول هو
الظاهر ،والثاين إما أن يكون مساويه أو ال ،واألول هو اجململ والثاين املؤول ،فاملشرتك بني النص
والظاهر هو احملكم ،واملشرتك بني اجململ واملؤول هو املتشابه .ويؤيد هذا التقسيم أنه تعاىل أوقع
احملكم مقابال للمتشابه قالوا :فالواجب أن يفسر احملكم ِبا يقابله ،ويعضد ذلك أسلوب اآلية وهو
مات ُه َّن أ ُُّم اجلمع مع التقسيم؛ ألنه تعاىل فرق ما مجع يف معىن الكتاب أبن قالِ :م ْنهُ ٌ
آايت ُْحم َك ٌ
ين ِيف قُـلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ َّ ِ ُخر متَ ِ ْك ِال ِ
ات وأراد أن يضيف إىل كل منهما ما شاء ،فقال أوال :فَأ ََّما الذ َ شاهب ٌ تاب َوأ َ ُ ُ
إىل أن قال:
آمنَّا بِ ِه وكان ميكن أن يقال :وأما الذين يف قلوهبم استقامة فيتبعون ِ و َّ ِ
الراس ُخو َن ِيف الْعل ِْم يَـ ُقولُو َن َ َ
اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم إلتيان لفظ الرسوخ؛ ألنه ال حيصل إال بعدالر ِ
احملكم ،لكنه وضع موضع ذلك َو َّ
التثبت العام واالجتهاد البليغ ،فإذا استقام القلب على طريق اإلرشاد ورسخ القدم يف العلم ،أفصح
صاحبه النطق ابلقول احلق وكفى بدعاء الراسخني يف العلم:
غ قُـلُوبَنا بَـ ْع َد إِ ْذ َه َديْـتَنا [سورة آل عمران آية .. ]8 :إخل شاهدا على أن الراسخني يف َربَّنا ال تُ ِز ْ
ين ِيف قُـلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ وفيه إشارة إىل أن الوقف على قوله :إَِّال َّ
اَّللُ اتم ،وإىل أن َّ ِ
العلم مقابل لقوله :الذ َ
علم املتشابه خمتص ابهلل تعاىل .وأن من حاول معرفته هو الذي أشار
()78/1
()79/1
املغرب ،على اإلميان ابلصفات من غري تفسري وال تشبيه ،وقال الرتمذي يف الكالم على حديث
الرؤية :املذهب يف هذا عند أهل العلم من األئمة مثل سفيان الثوري ،ومالك ،وابن املبارك ،وابن
عيينة ،ووكيع وغريهم أهنم قالوا :نروي هذه األحاديث كما جاءت ونؤمن هبا ،وال يقال :كيف ..؟
وال نفسر وال نتوهم ! ..
وذهبت طائفة من أهل السنة إىل أننا نؤوهلا على ما يليق جبالله تعاىل وهذا مذهب اخللف .وكان إمام
احلرمني يذهب إليه ُث رجع عنه ،فقال يف الرسالة النظامية :الذي نرتضيه دينا وندين هللا به عقدا اتباع
سلف األمة ،فإهنم درجوا على ترك التعرض ملعانيها.
وقال ابن الصالح« :على هذه الطريقة مضى صدر األمة وساداهتا ،وإايها اختار أئمة الفقهاء
وقاداهتا ،وإليها دعا أئمة احلديث وأعالمه وال أحد من املتكلمني من أصحابنا يصدف عنها وأيابها
..اه .من اإلتقان بتصرف».
()80/1
()81/1
حديث أيب -محل على أن هذا كان مطلقا ُث نسخ ،فال جيوز للناس أن يبدلوا امسا هلل تعاىل يف موضع
بغريه مما يوافق معناه أو خيالف.
القول الثاين :قال قوم :هي سبع لغات يف القرآن على لغات العرب ،كلها مينها ونزارها؛ ألن رسول
هللا صلّى هللا عليه وسلم مل جيهل شيئا منها ،وكان قد أويت جوامع الكلم ،وليس معناه أن يكون يف
احلرف الواحد سبعة أوجه ولكن هذه اللغات السبع متفرقة يف القرآن ،فبعضه بلغة قريش ،وبعضه
بلغة هذيل ،وبعضه بلغة هوازن ،وبعضه بلغة اليمن» قال اخلطايب :على أن يف القرآن ما قد قرئ
ب ِ بسبعة أوجه وهو قولهَ :و َعبَ َد الطَّاغُ َ
وت [سورة املائدة آية ]60 :وقوله :أ َْرسلْهُ َم َعنا غَداً يَـ ْرتَ ْع َويَـل َْع ْ
[سورة يوسف آية ]12 :وذكر وجوها ،كأنه يذهب إىل أن بعضه أنزل على سبعة أحرف ال كله.
وإىل هذا القول :أبن القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات ،ذهب أبو عبيد القاسم بن
سالم واختاره ابن عطية .قال أبو عبيد :وبعض األحياء أسعد هبا وأكثر حظّا فيها من بعض ،وذكر
حديث ابن شهاب عن أنس ،أن عثمان قال هلم حني أمرهم أن يكتبوا املصاحف :ما اختلفتم أنتم
وزيد فاكتبوه بلغة قريش ،فإنه نزل بلغتهم .ذكره البخاري ،وذكر حديث ابن عباس قال :نزل القرآن
بلغة الكعبني :كعب قريش وكعب خزاعة ،قيل :وكيف ذلك؟ قال :ألن الدار واحدة .قال أبو عبيد:
يعين أن خزاعة جريان
قريش فأخذوا بلغتهم.
قال القاضي ابن الطيب :معىن قول عثمان :فإنه نزل بلسان قريش( ،يريد معظمه وأكثره) ،ومل تقم
منزل بلغة قريش فقط ،إذ فيه كلمات وحروف خالف لغة قريش، داللة قاطعة على أن القرآن أبسره ّ
وقد قال هللا تعاىل :إِ َّان َج َعلْناهُ قُـ ْرآانً َع َربِياا [سورة الزخرف آية ]3 :ومل يقل قريشيّا ،وهذا يدل على
أنه منزل جبميع لسان العرب ،وليس ألحد أن يقول :إنه أراد قريشا من العرب دون غريها ،كما أنه
ليس له أن يقول :أراد لغة عدانن دون قحطان ،أو ربيعة دون مضر؛ ألن اسم العرب يتناول مجيع
هذه القبائل تناوال واحدا.
وقال ابن عبد الرب :قول من قال :إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي يف األغلب وهللا أعلم ،ألن
غري لغة قريش موجود يف صحيح القراءات من حتقيق اهلمزات وحنوها ،وقريش ال هتمز.
وقال ابن عطية :معىن قول النيب صلّى هللا عليه وسلم« :أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه
عبارات سبع قبائل بلغة مجلتها نزل القرآن ،فيعرب عن املعىن فيه مرة بعبارة قريش ،ومرة بعبارة هذيل،
ومرة بغري ذلك حبسب األفصح واألوجز يف اللفظ.
()82/1
أال ترى أن فَطََر معناه عند غري قريش« :ابتدأ» فجاءت يف القرآن فلم تتجه البن عباس حىت اختصم
إليه أعرابيان يف بئر ،فقال أحدمها :أان فطرهتا؛ قال ابن عباس:
ض [سورة فاطر آية ]1 :وقال أيضا: ماوات َو ْاأل َْر ِالس ِ فاط ِر َّ ففهمت حينئذ موقع قوله تعاىلِ :
ني قَـ ْوِمنا ِاب ْحلَِّق [سورة األعراف آية ]89 :حىت ما كنت أدري معىن قوله تعاىلَ :ربَّـنَا افْـتَ ْح بَـ ْيـنَنا َوبَ ْ َ
مسعت بنت ذي يزن تقول لزوجها :تعال أفاحتك :أي أحاكمك.
ف [سورة النحلْخ َذهم على َختَُّو ٍ
وكذلك قال عمر بن اخلطاب ،وكان ال يفهم معىن قوله تعاىل :أ َْو َأي ُ ُ ْ َ
آية ]47 :أي على تنقص هلم.
وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ مسع النيب صلّى هللا عليه وسلم يقرأ يف الصالة :والنَّ ْخل ِ
ابس ٍ
قات َ َ
[سورة ق آية ]10 :ذكره مسلم يف ابب القراءة يف صالة الفجر إىل غري ذلك من األمثلة.
القول الثالث :أن هذه اللغات السبع إمنا تكون يف مضر ،قاله قوم ،واحتجوا بقول عثمان :نزل
القرآن بلغة مضر ،وقالوا :جائز أن يكون منها لقريش ،ومنها لكنانة ،ومنها ألسد ،ومنها هلزيل،
ومنها لتميم ،ومنها لضبة ،ومنها لقيس ،قالوا :فهذه قبائل مضر تستوعب بسبع لغات على هذه
املراتب ،وقد كان ابن مسعود حيب أن يكون الذين يكتبون املصاحف من مضر ،وأنكر آخرون أن
تكون كلها يف مضر ،وقالوا :يف مضر شواذ ال جيوز أن يقرأ القرآن هبا ،مثل كشكشة قيس ومتتمة
متيم.
ك َحتْتَ ِ
ك َس ِرااي [سورة مرمي فأما كشكشة قيس :فإهنم جيعلون كاف املؤنث شينا فيقولون يف :جعل ربُّ ِ
ََ َ َ
سراي.
آية ]24 :جعل ربّش حتتش ّ
وأما متتمة متيم :فيقولون يف الناس :النات ،ويف أكياس :أكيات ،قالوا :وهذه لغات يرغب عن القرآن
هبا وال حيفظ عن السلف فيها شيء .وقال آخرون :أما إبدال اهلمزة عينا وإبدال حروف احللق
بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء ،وقد قرأ به اجللة واحتجوا بقراءة ابن مسعود (ليسجننه عىت
حني) ذكرها أبو داود.
وبقول ذي الرمة:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ...ولونك إال عنّها غري طائل
القول الرابع :ما حكاه صاحب الدالئل عن بعض العلماء ،وحكى حنوه القاضي ابن الطيب قال:
تدبرت وجوه االختالف يف القراءة فوجدهتا سبعا :منها ما تتغري حركته وال يزول معناه وال صورته،
ص ْد ِري [سورة الشعراء آية ]13 :ويضيق. مثل ُه َّن أَط َْهر لَ ُكم [سورة هود آية ]78 :وأطهر وي ِ
يق َض ُ ََ ُ ْ
()83/1
()84/1
ما هو األحسن عنده واألوىل فالتزمه طريقة ،ورواه وأقرأ به واشتهر عنه ،وعرف به ونسب إليه،
وجوزه ،وكل
سوغه ّ
فقيل :حرف انفع وحرف ابن كثري ومل مينع واحد منهم اختيار اآلخر وال أنكره بل ّ
كل صحيح ،وقد أمجع املسلمون يف هذه
واحد من هؤالء السبعة روي عنه اختياران أو أكثر و ّ
األعصار على االعتماد على ما صح عن هؤالء األئمة مما رووه ورأوه من القراءات وكتبوا يف ذلك
مصنفات ،فاستمر اإلمجاع على الصواب ،وحصل ما وعد هللا به من حفظ الكتاب ،وعلى هذا
األئمة املتقدمون ،والفضالء احملققون كالقاضي أيب بكر بن الطيب والطربي وغريمها ،قال ابن عطية:
ومضت األعصار واألمصار على قراءة السبعة وهبا يصلّى؛ ألهنا ثبتت ابإلمجاع؛ وأما شاذ القراءات
فال يصلى به؛ ألنه مل جيمع الناس عليه .اه .من القرطيب.
()86/1
النبوة بني جنبيه غري أنه ال يوحى إليه ال ينبغي لصاحب القرآن أن جيد (يغضب) مع من وجد ،وال
جيهل مع من جهل ويف جوفه كالم هللا» [رواه احلاكم وقال :صحيح اإلسناد].
وعنه رضي هللا عنه أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال« :الصيام والقرآن يشفعان للعبد ،يقول
الصيام:
رب إين منعته الطعام والشراب ابلنهار فش ّفعين فيه ،ويقول القرآن :رب منعته النوم ابلليل فشفعين
فيه فيش ّفعان» رواه أمحد وابن أيب الدنيا يف كتاب اجلوع ،والطرباين يف الكبري واحلاكم واللفظ له،
وقال :صحيح على شرط مسلم.
وعن عبد هللا ،يعين ابن مسعود رضي هللا عنه ،عن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال« :إن هذا القرآن
مأدبة هللا ،فاقبلوا مأدبته ما استطعتم ،إن هذا القرآن حبل هللا املتني والنور املبني ،والشفاء النافع،
فيقوم ،وال تنقضي عجائبه ،وال
يعوج ّ
عصمة ملن متسك به ،وجناة ملن اتبعه ،ال يزيغ فيستعتب ،وال ّ
خيلق (يبلى) من كثرة الرد ،اتلوه فإن هللا أيجركم على تالوته؛ كل حرف عشر حسنات ،أما إين ال
أقول :أمل حرف ،ولكن ألف حرف ،والم حرف ،وميم حرف» .رواه احلاكم من رواية صاحل بن عمر
عن إبراهيم اهلجري عن أيب األحوص عنه ،وقال :تفرد به صاحل بن عمر عنه ،وهو صحيح.
وعن أيب ذر رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم« :اي أاب ذر ألن تغدو فتتعلم آية
من كتاب هللا خري لك من أن تصلي مائة ركعة ،وألن تغدو فتعلم اباب من العلم عمل به أو مل يعمل به
خري من أن تصلي ألف ركعة» [رواه ابن ماجه إبسناد حسن].
وعن أيب هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم« :إذا قرأ ابن آدم السجدة
فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول :اي ويله».
ويف رواية« :اي ويلي أمر ابن آدم ابلسجود فسجد فله اجلنة ،وأمرت ابلسجود فأبيت فلي النار»
[رواه مسلم وابن ماجه ،ورواه البزار من حديث أنس].
وعن أيب سعيد اخلدري رضي هللا عنه أنه رأى رؤاي :أنه يكتب ص فلما بلغ إىل سجدهتا قال :رأى
الدواة والقلم وكل شيء حبضرته انقلب ساجدا .قال :فقصصتها على النيب صلّى هللا عليه وسلم،
فلم يزل يسجد هبا[ .رواه أمحد ورواته رواة الصحيح].
()87/1
اثنيتها :أن كثريا من الناس قاموا يف زعمهم بنقل القرآن إىل لغات كثرية وترمجات متعددة.
اثلثتها :وقوع أغالط فاحشة يف هذه اليت مسوها ترمجات ،وكان وجودها معوال هداما لبناء جمد
اإلسالم ،وحماولة سيئة لزلزلة الوحدة الدينية واللغوية واالجتماعية ألمتنا اإلسالمية (صاهنا هللا).
انظر ما كتبه العالمة أبو عبد هللا الزجناين يف كتابه «اتريخ القرآن» إذ يقول :رِبا كانت أول ترمجة إىل
اللغة الالتينية لغة العلم يف أوراب ،وذلك سنة 1143م بقلم (كنت) الذي استعان يف عمله ببطرس
الطليطلي ،وعامل اثن عريب ،فيكون القرآن قد دخل أوراب عن طريق األندلس ،وكان الغرض من ترمجته
عرضه على (دي كلوين) بقصد الرد عليه ،وجند فيما بعد أن القرآن ترجم ونشر ابلالتينية عام
( 1509م) ولكن مل يسمح للقراء أن يقتنوه ويتداولوه؛ ألن طبعته مل تكن مصحوبة ابلردود .ويف
عام ( 1594م) أصدر (هنكلمان) ترمجته ،وجاءت على األثر عام ( )1598طبعة (مراتشي)
مصحوبة ابلردود.
أفال ترى معىن أنه جيب علينا إبزاء ذلك أن نديل برأي سديد يف هذا األمر اجللل؟
لنعلم ما يراد بنا وبقرآننا ،ولننظر إىل أي طريق حنن مسوقون؟ عسى أن يدفعنا هذا التحري والتثبت
إىل اختاذ إجراء حازم ،ننتصف فيه للحق من الباطل ،ونؤدي به رسالتنا يف نشر هداية اإلسالم
والقرآن على بصرية ونور؟!.
ولنبدأ الكالم ببيان معىن الرتمجة لغة وعرفاُ ،ث بتقسيمها إىل حرفية وتفسرييةُ ،ث ببيان الفرق بني
الرتمجة والتفسري ،فإن حتديد معاين األلفاظ وحتقيق املراد منها ،جمهود مهم ومفيد ،ال سيما ما كان من
األحباث اخلالفية كهذا البحث الذي نعانيه.
الرتمجة يف اللغة:
وضعت كلمة« :ترمجة» يف اللغة العربية لتدل على أحد معان أربعة:
أوهلا :تبليغ الكالم ملن مل يبلغه .ومنه قول الشاعر:
إن الثمانني -وبلّغتها ...قد أحوجت مسعي إىل ترمجان
اثنيها :تفسري الكالم بلغته اليت جاء هبا ومنه قيل يف ابن عباس« :إنه ترمجان القرآن».
اثلثها :تفسري الكالم بلغة غري لغته .جاء يف لسان العرب ويف القاموس :أن الرتمجان هو املفسر
للكالم .وقال شارح القاموس ما نصه« :وقد ترمجه وترجم عنه إذا فسر كالمه بلسان آخر .قاله
اجلوهري» اه.
()88/1
وجاء يف تفسري ابن كثري والبغوي :أن كلمة «ترمجة» تستعمل يف لغة العرب ِبعىن التبيني مطلقا سواء
احتدت اللغة أم اختلفت.
رابعها :نقل الكالم من لغة إىل أخرى .قال يف لسان العرب« :الرتمجان :ابلضم والفتح هو الذي
يرتجم الكالم أي ينقله من لغة إىل أخرى ،واجلمع تراجم» اه.
ولكون هذه املعاين األربعة فيها بيان ،جاز على سبيل التوسع إطالق الرتمجة على كل ما فيه بيان مما
عدا هذه األربعة ،فقيل :ترجم هلذا الباب بكذا ،أي :عنون له ،وترجم لفالن أي ّبني اترخيه .وترجم
حياته أيّ :بني ما كان فيها .وترمجة هذا الباب كذا :أي بيان املقصود منه وهلم جرا.
الرتمجة يف العرف:
نريد ابلعرف هنا عرف التخاطب العام ،ال عرف طائفة خاصة وال أمة معينة.
جاء هذا العرف الذي تواضع عليه الناس مجيعا فخص الرتمجة ابملعىن الرابع اللغوي ،وهو نقل الكالم
من لغة إىل أخرى ،ومعىن نقل الكالم من لغة إىل أخرى:
التعبري عن معناه بكالم آخر من لغة أخرى ،مع الوفاء جبميع معانيه ومقاصده كأنك نقلت الكالم
نفسه من لغته األوىل إىل اللغة الثانية.
تقسيم الرتمجة [ابملعىن العريف]:
وتنقسم الرتمجة هبذا املعىن العريف إىل قسمني :حرفية وتفسريية:
فالرتمجة احلرفية :هي اليت تراعى فيها حماكاة األصل يف نظمه وترتيبه ،فهي تشبه وضع املرادف مكان
مرادفه ..وبعض الناس يسمي هذه الرتمجة ترمجة لفظية وبعضهم يسميها مساوية.
والرتمجة التفسريية :هي اليت ال تراعى فيها تلك احملاكاة ،أي حماكاة األصل يف نظمه وترتيبه ،بل املهم
فيها حسن تصوير املعاين واألغراض كاملة ،وهلذا تسمى أيضا ابلرتمجة املعنوية ،ومسيت تفسريية؛ ألن
حسن تصوير املعاين واألغراض فيها جعلها تشبه التفسري ،وما هي بتفسري كما يتبني لك بعد.
فاملرتجم ترمجة حرفية يقصد إىل كل كلمة يف األصل فيفهمهاُ ،ث يستبدل هبا كلمة تساويها يف اللغة
األخرى مع وضعها موضعها وإحالهلا حملها ،وإن أدى ذلك إىل خفاء املعىن املراد من األصل ،بسبب
اختالف اللغتني يف موقع استعمال الكالم يف املعاين املرادة إلفا واستحساان.
()89/1
أما املرتجم ترمجة تفسريية ،فإنه يعمد إىل املعىن الذي يدل عليه تركيب األصل فيفهمهُ ،ث يصبه يف
قالب يؤديه من اللغة األخرى ،موافقا ملراد صاحب األصل ،من غري أن يكلف نفسه عناء الوقوف
عند كل مفرد وال استبدال غريه به يف موضعه.
()90/1
()91/1
شروح الكتب العلمية ،ويستحيل أن جتد مثل هذا يف الرتمجة ،وإال كان خروجا عن واجب األمانة
والدقة فيها.
(الفارق الثالث) :أن الرتمجة تتضمن -عرفا -دعوى الوفاء جبميع معاين األصل ومقاصده ،وليس
كذلك التفسري فإنه قائم على اإليضاح كما قلنا ،سواء أكان هذا اإليضاح بطريق إمجايل أو تفصيلي،
املفسر
متناوال كافة املعاين واملقاصد ،أو مقتصرا على بعضها دون بعض طوعا للظروف اليت خيضع هلا ّ
ومن يفسر هلم ،والدليل على هذا الفارق ،هو حكم العرف العام الذي نتحدث اآلن بلسانه ،وإليك
مثال من أمثاله:
رجل عثر يف خملفات أبيه على صحيفتني خمطوطتني بلغة أجنبية وهو غري عامل هبذا اللسان األجنيب،
فدفعهما إىل خبري ابللغات يستفسره عنهما ،فيجيبه اخلبري قائال :إن الصحيفة األوىل خطاب اتفه من
مزق
معوز أجنيب ،يستجدي أابك فيه ويستعينه ،أما الثانية فوثيقة بدين كبري ألليك على أجنيب .هنا ّ
الرجل خطاب االستجداء ومل حيفل به ،أما الوثيقة فاعتد هبا وطلب من هذا املتمكن يف اللغات أن
يرتمجها له ليقاضي املدين أمام احملكمة ،لغتها لغة الرتمجة.
أليس معىن هذا أن التفسري مل يكفه؟ بدليل أنه طلب الرتمجة من املرتجم ،علما أبهنا هي اليت تفي
بكل ما تضمنته تلك الوثيقة ،وبكل ما يقصد منها فال تضعف له هبا حجة ،وال يضيع عليه حق؟.
(الفارق الرابع) :أن الرتمجة تتضمن -عرفا -دعوى االطمئنان إىل أن مجيع املعاين واملقاصد اليت
نقلها املرتجم ،هي مدلول كالم األصل ،وأهنا مرادة لصاحب األصل منه ،وليس كذلك التفسري ،بل
املفسر اترة يدعي االطمئنان ،وذلك إذا توافرت لديه أدلته ،واترة ال يدعيه ،وذلك عندما تعوزه تلك
األدلة.
ُث هو طورا يصرح ابالحتمال ويذكر وجوها حمتملة مرجحا بعضها على بعض ،وطورا يسكت عن
رب
التصريح أو عن الرتجيح ،وقد يبلغ به األمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو مجلة ويقولّ :
الكالم أعلم ِبراده ،على حنو ما حنفظه لكثري من املفسرين إذا عرضوا ملتشاهبات القرآن ولفواتح
السور املعروفة.
ودليلنا على أ ّن الرتمجة تتضمن دعوى االطمئنان إىل ما حوت من معان ومقاصد ،وهو شهادة العرف
العام -أيضا -بذلك ،وجراين عمل الناس مجيعا يف الرتمجات على هذا االعتبار ،فهم حيلوهنا حمل
أصوهلا إذا شاءوا ،ويستغنون هبا عن تلك األصول ،بل قد ينسون هذه األصول مجلة ،ويغيب عنهم
أن الرتمجات ترمجات فيحذفون لفظ ترمجة من االسم،
()92/1
ويطلقون عليها اسم األصل نفسه ،كأمنا الرتمجة أصل ،أو كأنه ال أصل هناك وال فرع.
وإن كنت يف ريب فاسأل الناس عما بني أيدينا من ترمجات عربية لطائفة من كتبهم اليت يقدسوهنا،
ويطلقون على بعضها اسم توراة ،وعلى بعضها اسم إجنيل ،وما مها ابلتوراة وال ابإلجنيل ،إمنا مها
ترمجتان عربيتان ألصلني عربيني ابعرتافهم .ولكنهم أسقطوا حسب العرف العام لفظ ترمجة من
العنوانني االثنني ،وما ذاك إال ملا وقر يف النفوس من أن الرتمجة صورة مطابقة لألصل ،مطمئنة إىل أهنا
تؤدي مجيع مؤداه ،ال فرق بينهما إال يف القشرة اللفظية.
وقل مثل ذلك فيما نعرفه من ترمجات للقوانني والواثئق الدولية والشخصية ومن ترمجات للكتب
العلمية والفنية واألدبية ،وهي كثرية غنية عن التنويه والتمثيل.
يقال كل هذا يف الرتمجات ،وال ميكن أن يقال مثله يف التفسري ،فإننا ما مسعنا أن كلمة تفسري أسقطت
من عنوان كتاب من كتبه .ويدل على هذا تلك اإلطالقات الشائعة :تفسري البيضاوي ،تفسري
النسفي ،تفسري اجلاللني ،وما أشبهها من تفسريات القرآن الكرمي.
تنبيهان مفيدان:
أوهلما :أنه ال فرق بني الرتمجة احلرفية والتفسريية من حيث احلقيقة
،فكلتامها تعبري عن معىن كالم يف لغة بكالم آخر من لغة أخرى مع الوفاء جبميع معاين األصل
ومقاصده ،وما الفرق بينهما إال شكلي وهو أن حيل كل مفرد يف الرتمجة احلرفية حمل مقابله من
األصل ،خبالف التفسريية كما بينّا ،فال تظن بعد هذا أن كلمة ترمجة تنصرف إىل احلرفية أكثر مما
تنصرف إىل التفسريية كما يظن بعض الناس ،بل التفسريية أثبت قدما وأعرق وجودا وأقرب إىل
األذهان عند اإلطالق ،ألهنا هي امليسورة ،وهي الواضحة ،وهي اليت يتداوهلا املرتمجون والقراء مجيعا،
تعسرها أو تع ّذرها ،ومن غموضها وخفائها أحياان،
أما احلرفية فإهنا تكاد تكون نظرية حبتة ،وذلك من ّ
ومن ندرة إقبال الرتاجم والقراء عليها كما سبق.
()93/1
()94/1
()95/1
()96/1
ترتبط ِبعانيه األصلية وما استفيد منها ،لالعتبارات اآلنفة ،وألن املعاين األصلية ضيقة الدائرة حمدودة
األفق ،أما املعاين الثانوية فبحر زاخر متالطم األمواج تتجلى فيها علوم هللا وحكمته وعظمته اإلهلية،
وتظهر منها فيوضات هللا وإهلاماته العلوية على من وهبهم هذه الفيوضات واإلهلامات من عباده
املصطفني ،وورثة كالمه املقربني ،وأهل الذوق والصفاء من العلماء العاملني ،جعلنا هللا منهم ِبنه
وكرمه .آمني.
[املقصد الثاين] إعجاز القرآن:
املقصد الثاين من نزول القرآن الكرمي :أن يقوم يف فم الدنيا آية شاهدة برسالة سيدان حممد صلّى هللا
عليه وسلم ،وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق ابهلدى ودين احلق ،ظاهرا على الدين
كله ،ووجوه إعجاز القرآن الكرمي كثرية نفصلها يف مبحثها إن شاء هللا ،بيد أننا ننبهك هنا إىل أن
بالغته العليا وجه ابرز من هذه الوجوه ،بل هي أبرز وجوهه وجودا ،وأعظمها أفرادا؛ ألن كل مقدار
ثالث آايت قصار معجز ولو كان هذا املقدار من آية واحدة طويلة ،فقد حتدى هللا أئمة البيان أن
أيتوا بسورة من مثله ،وأقصر سورة هي سورة الكوثر ،وآايهتا ثالث قصار ،وإذا كان أئمة البيان يف
عصر ازدهاره والنباغة فيه قد عجزوا فسائر اخللق أشد عجزا ،ولقد فرغنا من أن بالغة القرآن
منوطة ِبا اشتمل عليه من اخلصوصيات ،واالعتبارات الزائدة وأنت خبري أبهنا سارية فيه سراين املاء
يف العود األخضر أو سراين الروح يف اجلسم احلي ،وإن نظم القرآن الكرمي مصدر هلداايته كلها سواء
منها ما كان طريقه هيكل النظم ،وما كان طريقه تلك اخلصوصيات الزائدة عليه ،وهنا يطالعك
العجب العجاب ،حني جتد دليل صدق اهلداية اإلسالمية قد آخاها ،واحتد مطلعهما يف مساء القرآن
فأداه وأداها.
()97/1
[رواه الرتمذي وقال :حسن صحيح ،وروى احلاكم مثله مرفوعا وقال :صحيح اإلسناد].
وجاء يف حديث آخر عن أنس أنه قال« :أفضل عبادة أميت قراءة القرآن» وسنده ضعيف ،غري أنه
يتقوى بغريه ُث إن هذه خصيصة امتاز هبا القرآن الكرمي ،أما غريه فال أجر على جمرد تالوته ،بل ال بد
من التفكر فيه وتدبره ،حىت الصالة اليت هي عماد الدين ليس للمرء من ثواهبا إال ِبقدار ما عقل
منها.
ولقد أتثر العلماء برسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يف ذلك منذ عهد الصحابة إىل اليوم ،وها هي
املكتبات العامة واخلاصة زاخرة ابلتفاسري العربية للقرآن الكرمي على رغم ما اندثر منها ،وعلى رغم ما
أييت به املستقبل من تفاسري يؤلفها من ال يقنعون بقدمي ،ويتلقاها عنهم من جيدون يف أنفسهم حاجة
إىل عرض جديد لعلوم القرآن والدين ،مما يدل على أن القرآن حبر هللا اخلضم ،وأن العلماء مجيعا من
قدامى وحمدثني ال يزالون وقوفا بساحله ،أيخذون منه على قدر قرائحهم وفهومهم ،والبحر بعد ذلك
هو البحر يف فيضانه وامتالئه ،والقرآن هو القرآن يف ثروته وغناه بعلومه وأبسراره :قُ ْل لَ ْو كا َن الْبَ ْح ُر
مات َرِّيب َولَ ْو ِج ْئنا ِِبِثْلِ ِه َم َدداً [سورة الكهف آية: ِمداداً لِ َكلِ ِ
مات َرِّيب لَنَ ِف َد الْبَ ْح ُر قَـ ْب َل أَ ْن تَـ ْنـ َف َد َكلِ ُ
.]109
()99/1
أمور مهمة:
ونسرتعي نظرك إىل أمور مهمة:
األمر الثاين :أن تفاسري القرآن املتداولة بيننا تتناول املفرد من األصل ،وجبانبه شرحه
ُث تتناول اجلملة أو اآلية وشرحها متصل هبا كذلك غالبا .ومعىن هذا أن ألفاظ القرآن منبثة يف ثنااي
التفسري على وجه من االرتباط واإلحكام ،حبيث لو جردان التفاسري من ألفاظ األصل لعادت التفاسري
لغوا من القول ،وضراب من السخف ،وحنن ال نريد هنا يف تفسري القرآن بلغة أجنبية أن تذكر مفردات
القرآن ومجله مكتوبة بتلك اللغة األجنبية أو مرتمجة هبذه اللغةُ ،ث تشفع بتفسريها املذكور؛ فلقد
قرران أن كتابة القرآن بغري العربية ممنوعة وسنقرر أن ترمجته ابملعىن العريف احلريف مستحيلة .إمنا نريد
هنا نوعا من التفسري جيوز أن يصدر بطائفة من ألفاظ األصل على ما هي عليه يف عروبتها رمسا
ولفظا ،إذا وضع لطائفة من املسلمني ُث يذكر عقيبها املعىن الذي فهمه املفسر غري خمتلط بشيء من
ألفاظ األصل وال ترمجته ،بل يكون هذا املعىن كله من كالم املفسر ،ويصاغ بطريقة تدل على أنه
تفسري ال ترمجة كأن يقال :معىن اآلية املرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا .أو يقال يف أول
نوبة من نوابت التفسري :معىن هذه اجلملة أو اآلية كذاُ .ث يبني يف كلتا الطريقتني أن هذا املعىن
مقطوع به أو أنه حمتمل ،ويستطرد ِبا يظن أن حاجة املخاطبني ماسة إليه من التعريف ابملصطلحات
()100/1
اإلسالمية واألسرار واحلكم التشريعية والتنبيه على األخطاء اليت وقعت فيها الرتمجات املزعومة ،وحنو
ذلك مما يوقع يف روع القارئ أن ما يقرؤه ليس ترمجة لألصل حميطة جبميع معانيه ومقاصده إمنا هو
قال من كثر وقطرة من حبر .أما القرآن نفسه
تفسري فحسب ،مل حيمل من معاين القرآن ومقاصده إال ّ
فأعظم من هذا التفسري بكثري ،كيف وهو النص املعجز يف ألفاظه ومعانيه من كالم العليم اخلبري؟!
األمر الثالث :أن ترمجة القرآن هبذا املعىن مساوية لرتمجة تفسريه العريب.
ألن الرتمجة هنا مل تتناول يف احلقيقة إال رأي هذا املفسر وفهمه ملراد هللا على قدر طاقته ،خطأ كان
فهمه أو صوااب ،ومل تتناول كل مراد هللا من كالمه قطعا فكأن هذا املفسر وضع أوال تفسريا عربيّا ُث
يدونه،
ترجم هذا التفسري الذي وضعه .وإن شئت فقل :إنه ترجم تفسريا للقرآن قام هو به غري أنه مل ّ
أدونه صاحبه أم مل يدونه.
وأنت خبري أبن التفسري هو التفسري ،سواء ّ
األمر الرابع :ذهب بعضهم إىل تسمية هذا النوع وما يشبهه ترمجة تفسريية للقرآن ابملعىن العريف
وحنن -مع علمنا أبن اخلالف يف التسمية اتفه -ال نستطيع أن نرى رأيهم لشهادة العرف اليت
أقمناها ُث اعتمدان عليها يف رسم الفوارق األربعة بني أي ترمجة وأي تفسري.
فرتمجة القرآن -على فرض إمكاهنا -تصوير لكل ما أراد منزله من معانيه ومقاصده.
وترمجة التفسري تصوير لكل ما أراد املفسر من معانيه ومقاصده .والقرآن ال ميكن أن يكون يف معانيه
املرادة هلل خطأ أبدا ،فإذا صحت ترمجته على فرض إمكاهنا ،وجب أال حتمل وال تصور خطأ .أما
التفسري فيمكن أن يكون يف معانيه املرادة للمفسر خطأ أي خطأ ،وعلى هذا فرتمجة هذا التفسري
ترمجة صحيحة ال بد أن حتمل هذا اخلطأ وتصوره؛ وإال ملا صح أن تكون ترمجة له؛ ألن الرتمجة صورة
مطابقة لألصل ،ومرآة حاكية له على ما هو عليه ،من صواب أو خطأ ،إميان أو كفر ،حق أو ابطل.
والقرآن مليء ابملعاين واألسرار اجللية واخلفية إىل درجة تعجز املخلوق عن اإلحاطة هبا ،فضال عن
قدرته على حماكاهتا وتصويرها ،بلغة عربية أو أعجمية .أما التفسري فمعانيه حمدودة؛ ألن قدرة صاحبه
حمدودة ،مهما حلّق يف مساء البالغة والعلم.
وعلى هذا فعدسة أي مصور له ،تستطيع التقاطه وتصويره ابلرتمجة إىل أية لغة.
األمر اخلامس :جيب أن تسمى مثل هذه الرتمجة ،ترمجة تفسري القرآن
،أو تفسري القرآن بلغة كذا ،وال جيوز أن تسمى ترمجة القرآن هبذا اإلطالق اللغوي احملض ،ملا
علمت من أن لفظ ترمجة القرآن مشرتك بني معان أربعة ،وأن املعىن الرابع هو املتبادر إىل األذهان
عند اإلطالق نظرا إىل أن العرف األممي العام ال يعرف سواه .وال جيوز أيضا أن تسمى
()101/1
ترمجة معاين القرآن؛ ألن الرتمجة ال تضاف إال إىل األلفاظ ،وألن هذه التسمية توهم أهنا ترمجة للقرآن
نفسه ،خصوصا إذا ال حظنا أن كل ترمجة ال تنقل إىل املعاين دون األلفاظ.
األمر السابع :جيب أن يصدر هذا التفسري املرتجم ِبقدمة تنفي عنه يف صراحة أنه ترمجة للقرآن نفسه
،وتبني أن ترمجة القرآن نفسه ابملعىن املتعارف عليه أمر دونه خرط القتاد؛ ألن طبيعة أتليف هذا
الكتاب أتىب أن يكون له نظري حياكيه ،ال من لغته وال من غري لغته ،وذلك هو معىن إعجازه البالغي،
ومن أراد أن يتصور هذا اللون من ألوان إعجازه فلينتقل هو إىل هذا الكتاب ولغته؛ فيتذوقه هبا
وأبساليبها ،ومن احملال أن ينتقل هذا الكتاب العزيز اتركا عرشه الذي بوأه هللا إايه وهو عرش اللغة
العربية .وماذا يبقى للملك من عزة وسلطان إذا هو ختلى عن عرشه وملكه؟ وهذا القرآن جعله هللا
ِ
وتوجه بتاج اإلعجاز ،واختار لغته العربية مظهرا هلذا اإلعجاز واالعتزازَ :وإِنَّهُ لَك ٌ
تاب ملك الكالمّ ،
ني ي َديْ ِه وال ِمن َخل ِْف ِه تَـ ْن ِزيل ِمن ح ِك ٍيم َِ
مح ٍ ِِ ِ ِ
يد [سورة فصلت آية: ٌ ْ َ َع ِزي ٌز ( )41ال َأيْتيه الْباط ُل م ْن بَ ْ ِ َ َ ْ
.]42 ،41
فوائد الرتمجة هبذا املعىن
لرتمجة القرآن هبذا املعىن فوائد كنا يف غىن عن بياهنا ِبا أشران إليه من أهنا كالتفسري العريب الذي اتفق
اجلميع على جوازه بشرطه .ولكن بعض الباحثني توقفوا يف جواز هذه الرتمجة كما توقفوا يف جواز
الرتمجة ابملعىن اآليت مع بعد ما بينهماُ ،ث تذرعوا أبنه ال فائدة ترجى منها ،وأاثروا شبهات حوهلا .هلذا
نبسط القول ببيان فوائد هذه الرتمجة ُث بدفع الشبهات عنها .أما فوائدها فنشرحها فيما أييت:
الفائدة األوىل :رفع النقاب عن مجال القرآن وحماسنه ملن مل يستطع أن يراها ِبنظار اللغة العربية
من املسلمني األعاجم ،وتيسري فهمه عليهم هبذا النوع من الرتمجة ليزدادوا إمياان مع إمياهنم .ويعظم
تقديرهم للقرآن ،ويشتد شوقهم إليه فيهتدوا هبديه ،ويغرتفوا من حبره ،ويستمتعوا ِبا حواه من نبل يف
ومسو يف التعاليم ،ووضوح وعمق يف العقائد ،وطهر ورشد يف العبادات،
املقاصد ،وقوة يف الدالئل ّ
ودفع قوي إىل مكارم األخالق ،وردع زاجر عن الرذائل واآلاثم ،وإصالح معجز للفرد واجملموع،
()102/1
الفائدة الثانية :دفع الشبهات اليت لفقها أعداء اإلسالم وألصقوها ابلقرآن وتفسريه
كذاب وافرتاءُ ،ث ضلّلوا هبا هؤالء املسلمني الذين ال حيذقون اللسان العريب يف شكل ترمجات مزعومة
للقرآن ،أو مؤلفات علمية واترخيية للطالب ،أو دوائر معارف للقراء ،أو دروس وحماضرات
للجمهور ،أو صحف وجمالت للعامة واخلاصة.
الفائدة الثالثة :تنوير غري املسلمني من األجانب حبقائق اإلسالم
وتعاليمه خصوصا يف هذا العصر القائم على الدعاايت ،وبني نريان هذه احلروف اليت أوقدها أهل
امللل والنحل األخرى ،حىت ضل احلق أو كاد يضل يف سواد الباطل ،وخفت صوت اإلسالم أو كاد
خيفت بني ضجيج غريه من املذاهب املتطرفة واألداين املنحرفة.
الفائدة الرابعة :إزالة احلواجز واملوانع اليت أقامها اخلبثاء املاكرون للحيلولة بني اإلسالم وعشاق احلق
من األمم األجنبية.
وهذه احلواجز واملوانع ترتكز يف الغالب على أكاذيب افرتوها اترة على اإلسالم ،واترة أخرى على
نيب اإلسالم.
وكثريا ما ينسبون هذه األكاذيب إىل القرآن وتفاسريه ،وإىل اتريخ الرسول صلّى هللا عليه وسلم
وسريتهُ ،ث يدسوهنا فيما يزعمونه ترمجات للقرآن ،وفيما يقرأ الناس ويسمعون ابلوسائل األخرى .فإذا
فسران القرآن بلغة أخرى مع العناية بشروط التفسري وشروط الرتمجة،
حنن ترمجنا تفسري القرآن أو ّ
ومع العناية التامة بدفع الشبهات واألابطيل الرائجة فيهم عند كل مناسبة ،تزلزلت بال شك تلك
القصور اليت أقاموها من اخلرافات واألابطيل وزالت العقبات من طريق طالب احلق وعشاقه من كل
قبيل.
وهاك كلمة يؤيدان هبا الكاتب اإلجنليزي (بريانردشو) إذ يقول« :لقد طبع رجال الكنيسة يف القرون
الوسطى دين اإلسالم بطابع أسود حالك ،إما جهال وإما تعصبا ،إهنم كانوا يف احلقيقة مسوقني بعامل
عدوا للمسيح .ولقد درست سرية حممد الرجل العجيب،
بغض حممد ودينه ،فعندهم أن حممدا كان ّ
ويف رأيي أنه بعيد ج ّدا من أن
()103/1
عدوا للمسيح .إمنا ينبغي أن يدعي منقذ البشرية ،إخل ما قال ِبجلة «ذي مسلم رفيوبلكنو»
يكون ّ
اهلند يف جزء مارس سنة 1933م.
()104/1
()105/1
مذهب الشافعية:
«قال يف اجملموع (ص 279ج :)3مذهبنا -أي الشافعية -أنه ال جيوز قراءة القرآن بغري لسان
العرب ،سواء أمكنته العربية أم عجز عنها ،وسواء أكان يف الصالة أم يف غريها .فإن أتى برتمجته يف
صالة بدال عنها مل تصح صالته ،سواء أحسن القراءة أم ال» .وبه قال مجاهري العلماء ،منهم مالك،
وأمحد ،وأبو داود.
وجاء يف اإلتفاق للسيوطي :ال جتوز قراءة القرآن ابملعىن؛ ألن جربيل أداه ابللفظ ومل يبح له إحياءه
ابملعىن.
مذهب املالكية:
جاء يف حاشية الدسوقي على شرح الدردير للمالكية (ص 236 ،232ط):
«ال جتوز قراءة القرآن بغري العربية بل ال جيوز التكبري يف الصالة بغريها وال ِبرادفه من العربية فإن
عجز عن النطق ابلفاحتة ابلعربية وجب عليه أن أيمت ِبن حيسنها فإن أمكنه االئتمام ومل أيمت بطلت
صالته .وإن مل جيد إماما سقطت عنه الفاحتة ،وذكر هللا تعاىل وسبّحه ابلعربية .وقالوا :على كل
مكلف أن يتعلم الفاحتة ابلعربية وأن يبذل وسعه يف ذلك .وجيهد نفسه يف تعلمها ومازاد عليها ،إال
أن حيول املوت دون ذلك وهو حبال االجتهاد فيعذر.
مذهب احلنابلة:
قال يف املغين (ص 526ط)« :وال جتزئه القراءة بغري العربية ،وال إبدال لفظ
()106/1
عريب سواء أحسن القراءة ابلعربية أم مل حيسنُ .ث قال :فإن مل حيسن القراءة ابلعربية لزمه التعلم فإن مل
يفعل مع القدرة عليه مل تصح صالته».
مذهب احلنفية:
اختلفت نقول احلنفية يف هذا املقام ،واضطرب النقل بنوع خاص عن اإلمام وحنن خنتصر لك الطريق
إبيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع ،وتوفيق بني النقول ،اقتطفناها من جملة األزهر بقلم عامل كبري من
علماء األحناف؛ إذ جاء فيها ابختصار وتصرف ما يلي:
أمجع األئمة على أنه ال جتوز قراءة القرآن بغري العربية خارج الصالة ،ومينع فاعل ذلك أشد املنع؛
ألن قراءته بغريها من قبيل التصرف يف قراءة القرآن ِبا خيرجه عن إعجازه ،بل ِبا يوجب الركاكة.
وأما القراءة يف الصالة بغري العربية فتحرم إمجاعا للمعىن املتقدم لكن لو فرض وقرأ املصلي بغري
العربية ،أتصح صالته أم تفسد؟.
ذكر احلنفية يف كتبهم أن اإلمام أاب حنيفة كان يقول :أوال :إذا قرأ املصلي بغري العربية مع قدرته عليها
اكتفى بتلك القراءةُ ،ث رجع عن ذلك وقال :مىت كان قادرا على العربية ففرض قراءة النظم العريب،
ولو قرأ بغريها فسدت صالته خللوها من القراءة مع قدرته عليها ،واإلتيان ِبا هو من جنس كالم
الناس حيث مل يكن املقروء قرآان.
ورواية رجوع اإلمام هذه تعزى إىل أقطاب يف املذاهب منهم نوح بن مرمي ،وهو من أصحاب أيب
حنيفة .ومنهم علي بن اجلعد ،وهو من أصحاب أيب يوسف ،ومنهم أبو بكر الرازي ،وهو شيخ
علماء احلنفية يف عصره ابلقرن الرابع.
وال خيفى أن اجملتهد إذا رجع عن قوله ،ال يعد ذلك املرجوع عنه قوال له؛ ألنه مل يرجع عنه إال بعد أن
ظهر له أنه ليس بصواب ،وحينئذ ال يكون يف مذهب احلنفية قول بكفاية القراءة بغري العربية يف
الصالة للقادر عليها ،فال يصح التمسك به ،وال النظر إليه.
أما العاجز عن قراءة القرآن ابلعربية فهو كاألمي يف أنه ال قراءة عليه .ولكن إذا فرض أنه خالف
وأدى القرآن بلغة أخرى ،فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أو هنيا فسدت صالته؛ ألنه متكلم بكالم
وليس ذكرا .وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها ال تفسد صالته ألن الذكر أبي لسان ال يفسد الصالة
ال ألن القراءة برتمجة القرآن جائزة ،فقد مضى القول أبن القراءة ابلرتمجة حمظورة شرعا على كل
حال .اه مع التصرف واالختصار.
()107/1
النسخ يف القرآن الكرمي
أمهية هذا املبحث:
هلذا املبحث أمهية خاصة ،وذلك من وجوه مخسة:
أوهلا :أنه طويل الذيل ،كثري التفاريع ،متشعب املسالك.
اثنيها :أنه تناول مسائل دقيقة ،كانت مثارا خلالف الباحثني من األصوليني ،األمر الذي يدعو إىل
اليقظة والتدقيق ،وإىل حسن االختيار مع اإلنصاف والتوفيق.
اثلثها :أن أعداء اإلسالم من مالحدة ومبشرين ومستشرقني قد اختذوا النسخ يف الشريعة اإلسالمية
أسلحة مسمومة ،طعنوا هبا يف صدر الدين احلنيف .وانلوا من قدسية القرآن الكرمي .ولقد أحكموا
شراك شبهاهتم واجتهدوا يف ترويج مطاعنهم حىت سحروا عقول بعض املنتسبني إىل العلم والدين من
املسلمني فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع وأمعنوا يف هذا اجلحود الذي ركبوا له أخشن املراكب من
متحالت ساقطة وأتويالت غري سائغة.
ّ
رابعها :أن اإلملام ابلناسخ واملنسوخ يكشف النقاب عن سري التشريع اإلسالمي ،ويطلع اإلنسان
على حكمة هللا يف تربيته للخلق وسياسته للبشر ،وابتالئه للناس مما يدل داللة واضحة على أن نفس
حممد النيب األمي ال ميكن أن تكون املصدر ملثل هذا القرآن ،وال املنبع ملثل هذا التشريع .وإمنا هو
تنزيل من حكيم محيد.
خامسها :أن معرفة الناسخ واملنسوخ ركن عظيم يف فهم اإلسالم ويف االهتداء إىل صحيح األحكام،
خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة ال يندفع التناقض بينها إال ِبعرفة سابقها من الحقها،
وانسخها من منسوخها .وهلذا كان سلفنا الصاحل يعنون هبذه الناحية وحيذقوهنا ،ويلفتون أنظار الناس
إليها ،وحيملوهنا عليها .حىت لقد جاء يف األثر أن ابن عباس رضي هللا عنهما فسر احلكمة يف قوله
ُويتَ َخ ْرياً َكثِرياً [سورة البقرة آيةِ ،]269 :بعرفة انسخ القرآن
ْمةَ فَـ َق ْد أ ِ تعاىل :ومن يـ ْؤ َ ِ
ت ا ْحلك َ ََ ْ ُ
ومنسوخه ،وحمكمه ومتشاهبه ،ومقدمه ومؤخره ،وحالله وحرامه.
()108/1
ما هو النسخ؟
النسخ يف اللغة:
يطلق النسخ يف لغة العرب على معنيني:
يب إَِّال إِذا متََ َّىن ٍ أحدمها :إزالة الشيء وإعدامه .ومنه قوله تعاىل :وما أَرسلْنا ِمن قَـبلِ َ ِ
ك م ْن َر ُسول َوال نَِ ٍّ َ َْ ْ ْ
اَّللُ آايتِِه [سورة احلج آية.]52 : الش ْيطا ُن ُُثَّ ُْحي ِك ُم َّ
اَّللُ ما يُـل ِْقي َّ
س ُخ َّ ِ ِِ
الش ْيطا ُن ِيف أ ُْمنيَّته فَـيَـ ْن َ
أَلْ َقى َّ
ومنه قوهلم :نسخت الشمس الظل ،ونسخ الشيب الشباب ،ومنه تناسخ القرون واألزمان.
اآلخر :نقل الشيء وحتويله مع بقائه يف نفسه .وفيه يقول السجستاين من أئمة اللغة« :والنسخ أن
حتول ما يف اخللية من النحل والعسل إىل أخرى» ،ومنه تناسخ املواريث ابنتقاهلا من قوم إىل قوم،
وتناسخ األنفس ابنتقاهلا من بدن إىل غريه ،عند القائلني بذلك .ومنه نسخ الكتاب ملا فيه من
متشاهبة النقل .وإليه اإلشارة بقوله تعاىل:
إِ َّان ُكنَّا نَ ْستَـ ْن ِس ُخ ما ُك ْنـتُ ْم تَـ ْع َملُو َن [سورة اجلاثية آية ،]29 :واملراد به نقل األعمال إىل الصحف،
ومن الصحف إىل غريه .اه.
وقد اختلف العلماء بعد ذلك يف تعيني املعىن الذي وضع له لفظ النسخ :فقيل :إن لفظ النسخ
وضع لكل من املعنيني وضعا أوليّا .وعلى هذا يكون مشرتكا لفظيّا وهو الظاهر من تبادر كال املعنيني
بنسبة واحدة عند إطالق لفظ النسخ.
وقيل :إنه وضع للمعىن األول وحده ،فهو حقيقة فيه جماز يف اآلخر .وقيل:
عكس ذلك .وقيل :للقدر املشرتك بينهما ،ولكن هذه اآلراء األخرية يعوزها الدليل وال خيلو توجيهها
من تكلف وأتويل.
النسخ يف االصطالح:
لقد عرف النسخ يف االصطالح بتعاريف كثرية خمتلفة .ال نرى من احلكمة استعراضها ،وال املوازنة
بينها ونقدها ولكن جنتزئ بتعريف واحد نراه أقرب وأنسب وهو (رفع احلكم الشرعي بدليل شرعي).
ومعىن رفع احلكم الشرعي :قطع تعلقه أبفعال املكلّفني ال رفعه هو ،فأنه أمر واقع والواقع ال يرتفع.
واحلكم الشرعي :هو خطاب هللا تعاىل املتعلق أبفعال املكلفني إما على سبيل الطلب
()109/1
أو التخيري .وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا.
متلو ،فيشمل الكتاب والسنة.
متلوا أو غري ّ
والدليل الشرعي :هو وحي هللا مطلقا ّ
أما القياس واإلمجاع ففي نسخهما والنسخ هبما كالم تراه يف موضع آخر.
()110/1
أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبري املعجز! ذلك إمجال لدليل العقل.
أما أدلة النقل فنصوص فياضة انطقة أبنه تعاىل أحاط بكل شيء علما ،وأنه ال ختفى عليه خافية :ما
ك َعلَى َِّ ِ
ربأَها إِ َّن ذلِ َ ِ ٍ ِ ِ ِ أَصاب ِمن م ِ
صيبَ ٍة ِيف ْاأل َْر ِ
ري
اَّلل يَس ٌ ض َوال ِيف أَنْـ ُفس ُك ْم إ َّال ِيف كتاب م ْن قَـ ْب ِل أَ ْن نَ ْ َ َ ْ ُ
[سورة احلديد آية.]22 :
ط ِم ْن َوَرقَ ٍة إَِّال يَـ ْعلَ ُمها َوال ب ال يَـ ْعلَ ُمها إَِّال ُه َو َويَـ ْعلَ ُم ما ِيف ال َِ
ْربّ َوالْبَ ْح ِر َوما تَ ْس ُق ُ َو ِع ْن َدهُ َمفاتِ ُح الْغَْي ِ
ني [سورة تاب ُمبِ ٍس إَِّال ِيف كِ ٍ ْب َوال ايبِ ٍ ض َوال َرط ٍ حبَّ ٍة ِيف ظُلُ ِ
مات ْاأل َْر ِ َ
األنعام آية.]59 :
اَّلل يـعلَم ما َحتْ ِمل ُك ُّل أُنْثى وما تَ ِغيض ْاألَرحام وما تَـزداد وُك ُّل َشي ٍء ِع ْن َده ِِبِ ْقدا ٍر (ِ )8
عاملُ الْغَْي ِ
ب ُ ْ ُ ْ َُ ْ َُ َ ُ َُّ َ ْ ُ
عال ( )9سواء ِم ْن ُكم من أَس َّر الْ َقو َل ومن ج َهر بِ ِه ومن ُهو مستَ ْخ ٍ
ف ِابللَّْي ِل هادةِ الْ َكبِري الْمتَ ِ
الش ََو َّ
َ ٌ ْ َ ْ َ ْ ََ ْ َ َ ََ ْ َ ُ ْ ُ ُ
ب ِابلنَّها ِر [سورة الرعد آية ،]10 - 8 :إىل غري ذلك من مئات اآلايت واألحاديث. َوسا ِر ٌ
ولكن على رغم وجود هذه الرباهني الساطعة من عقلية ونقلية ،ضل أقوام سفهوا أنفسهم فأغمضوا
عيوهنم عن النظر يف كتاب الكون الناطق ،وصموا آذاهنم عن مساع كالم هللا وكالم نبيه الصادق،
وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء! وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس األمر،
وقالوا :لوال ظهور مصلحة هللا ،ونشوء رأي جديد له ،ما نسخ أحكامه ،وبدل تعاليمه ،ونسوا أو
تناسوا أن هللا تعاىل حني نسخ بعض أحكامه ببعض ،ما ظهر له أمر كان خافيا عليه ،وما نشأ له رأي
جديد كان يفقده من قبل ،إمنا كان سبحانه يعلم الناسخ واملنسوخ أزال من قبل أن يشرعهما لعباده،
بل من قبل أن خيلق اخللق ،ويربأ السماء واألرض ،إال أنه -جلت حكمته -علم أن احلكم األول
املنسوخ منوط حبكمة ،أو مصلحة تنتهي يف وقت معلوم ،وعلم جبانب هذا أن الناسخ جييء يف هذا
امليقات املعلوم منوطا حبكمة ومصلحة أخرى ،وال ريب أن احلكم واملصاحل ختتلف ابختالف الناس،
وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحواهلم .وأن األحكام وحكمها ،والعباد ومصاحلهم ،والنواسخ
واملنسوخات ،كانت كلها معلومة هلل من قبل ،ظاهرة لديه مل خيف شيء منها عليه ،واجلديد يف النسخ
إمنا هو إظهاره تعاىل ما علم لعباده ،ال ظهور ذلك له ،على حد التعبري املعروف( :شئون يبديها وال
ك نَ ِسياا [سورة مرمي آية.]64 :
يبتديها)َ ،وما كا َن َربُّ َ
وخالصة هذا التوجيه أن النسخ تبديل يف املعلوم ال يف العلم ،وتغيري يف املخلوق ال يف اخلالق،
وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به علم هللا القدمي احمليط بكل شيء ،وهلذا ذهب كثري من علمائنا
إىل تعريف النسخ أبنه :بيان انتهاء احلكم الشرعي الذي تقرر يف أوهامنا استمراره بطريق الرتاخيُ ،ث
قالوا توجيها هلذا االختيار :إن يف هذا التعريف دفعا
()111/1
ظاهرا للبداء ،وتقريرا لكون النسخ تبديال يف حقنا ،وبياان حمضا يف حق صاحب الشرع.
()112/1
واحد ،أما النسخ فيمكن أن يعرض هلذا كما يعرض لغريه ،ومن ذلك نسخ بعض األحكام اخلاصة به
صلّى هللا عليه وسلم.
رابعها :أن النسخ يبطل حجية املنسوخ إذا كان رافعا للحكم ابلنسبة إىل مجيع أفراد العام ،ويبقى
على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض ،أما التخصيص فال
يبطل حجية العام أبدا ،بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد ختصيصه.
خامسها :أن النسخ ال يكون إال ابلكتاب والسنة خبالف التخصيص فإنه يكون هبما وبغريمها كدليل
السا ِرقَةُ فَاقْطَ ُعوا أَيْ ِديَـ ُهما [سورة املائدة آية،]38 :
السا ِر ُق َو َّ
احلس والعقل مثل قول هللا سبحانهَ :و َّ
فأنه قد خصصه قوله صلّى هللا عليه وسلم« :ال قطع إال يف ربع دينار».
ومثل قوله سبحانه :تُ َد ِّم ُر ُك َّل َش ْي ٍء ِأب َْم ِر َرِّهبا [سورة األحقاف آية ]25 :فقد خصصه ما شهد به
احلس من سالمة السماء واألرض وعدم تدمري الريح هلما.
اَّللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير [سورة البقرة آية ،]109 :قد خصصه ما حكم به ومثل قوله تعاىل :إِ َّن َّ
العقل من استحالة تعلق القدرة اإلهلية ابلواجب واملستحيل العقليني.
سادسها :أن النسخ ال يكون إال بدليل مرتاخ عن املنسوخ ،أما التخصيص فيكون ابلسابق والالحق
واملقارن ،وقال قوم :ال يكون التخصيص إال ِبقارن ،فلو أتخر عن وقت
العمل ابلعام كان هذا املخصص انسخا للعام ابلنسبة ملا تعارضا فيه ،كما إذا قال الشارع «اقتلوا
املشركني» وبعد وقت العمل به قال« :وال تقتلوا أهل الذمة» ،ووجهة نظر هؤالء أن املقصود
ابملخصص بيان املراد من العام ،فلو أتخر وقت العمل به لزم أتخري البيان عن وقت احلاجة ،وذلك
ال جيوز ،فلم يبق إال اعتباره انسخا
سابعها :أن النسخ ال يقع يف األخبار خبالف التخصيص فإنه يكون يف األخبار ويف غريها.
()113/1
هذا الطريق طريق النسخ ،وهبذه الفرية أيضا يقول الشمعونية ،وهم طائفة اثنية من اليهود.
اثلثها :أن النسخ جائز عقال ممتنع مسعا ،وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود،
ويعزى هذا الرأي أليب مسلم األصفهاين من املسلمني ،ولكن على اضطراب يف النقل عنه وعلى
أتويل جيعل خالفه جلمهرة املسلمني شبيها ابخلالف اللفظي إن مل يكنه.
()114/1
()115/1
املنسوخ ،كموقف اإلسالم يف مسوه ونبله من مشكلة اخلمر يف عرب اجلاهلية ،وقد كانت مشكلة
معقدة كل التعقيد ،حيتسوهنا بصورة تكاد تكون إمجاعية ،وأيتوهنا ال على أهنا عادة جمردة ،بل على
الفتوة ،وعنوان الشهامة! فقل يل بربك :هل كان معقوال أن ينجح اإلسالم يف
أهنا أمارة القوة ،ومظهر ّ
فطامهم عنها لو مل يتألفهم ويتلطف هبم إىل درجة أن مينت عليهم هبا أول األمر ،كأنه يشاركهم يف
شعورهم.
وإىل حد أنه أىب أن حيرمها عليهم يف وقت استعدت فيه بعض األفكار لتسمع كلمة حترميه حني سألوه
اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر [سورة البقرة آية.]219 :
ك َع ِن ْ
صلّى هللا عليه وسلم :يَ ْسئَـلُونَ َ
أما احلكمة يف نسخ احلكم األصعب ِبا هو أسهل منه ،فهي التخفيف على الناس ترفيها عنهم
وإظهارا لفضل هللا عليهم ورمحته هبم ،ويف ذلك إغراء هلم على املبالغة يف شكره ومتجيده ،وحتبيب هلم
فيه ويف دينه.
وأما احلكمة يف نسخ احلكم ِبساويه يف صعوبته أو سهولته ،فاالبتالء واالختبار ليظهر املؤمن فيفوز،
ب. يث ِم َن الطَّيِّ ِ
اخلَبِ َ واملنافق فيهلك لِيَ ِم َيز َّ
اَّللُ ْ
يبقى الكالم يف حكمة بقاء التالوة مع نسخ احلكم ،ويف حكمة نسخ التالوة مع بقاء احلكم.
أما حكمة بقاء التالوة مع نسخ احلكم؛ فهي تسجيل تلك الظاهرة احلكيمة ،ظاهرة سياسة اإلسالم
للناس ،حىت يشهدوا أنه هو الدين احلق ،وأن نبيه نيب الصدق ،وأن هللا هو العليم احلكيم ،الرمحن
الرحيم ،يضاف إىل ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التالوة ،ومن االستمتاع ِبا حوته تلك
اآلايت املنسوخة من بالغة ،ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية هبا.
وأما نسخ التالوة مع بقاء احلكم ،فحكمته تظهر يف كل آية ِبا يناسبها ،وأنه لتبدو لنا حكمة رائعة
يف مثال مشهور من هذا النوع.
ذلك أنه صح يف الرواية عن عمر بن اخلطاب وأيب بن كعب أهنما قاال :كان فيما أنزل من القرآن:
«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة» أي كان هذا النص آية تتلىُ ،ث نسخت تالوهتا وبقي
حكمها معموال به إىل اليوم ،والسر يف ذلك أهنا كانت تتلى أوال لتقرير حكمها ،ردعا ملن حتدثه نفسه
أن يتلطخ هبذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حىت إذا ما تقرر هذا احلكم يف النفوس نسخ هللا
تالوته حلكمة أخرى ،هي اإلشارة إىل شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة ،حيث
سلكها مسلك ما ال يليق أن يذكر فضال عن أن يفعل ،وسار هبا يف طريق يشبه طريق املستحيل
الذي ال يقع ،كأنه قال:
()116/1
ّنزهوا األمساع عن مساعها ،واأللسنة عن ذكرها فضال عن الفرار منها ،ومن التلوث برجسها .كتب هللا
لنا احلفظ والعصمة إنه ويل كل نعمة وتوفيق.
()117/1
وترتبط به املصلحة.
اثلثها :أن أاب مسلم على فرض أن خالفه مع اجلمهور لفظي ،ال يعدو حدود التسمية؛ فإنه يؤخذ
عليه أنه أساء األدب مع هللا يف حتمسه لرأي قائم على حتاشي لفظ اختاره -جلت حكمته -ودافع
س ْخ ِم ْن آيٍَة أ َْو نُـنْ ِسها [سورة البقرة آية ،]106 :وهل بعد اختيار هللا عن معناه ِبثل قوله :ما نَـ ْن َ
اختيار؟ وهل بعد تعبري القرآن تعبري؟
يم [سورة البقرة آية.]32 : ِ ك أَنْ َ ِ ْم لَنا إَِّال ما َعلَّ ْمتَنا إِنَّ َ سبحانَ َ ِ
يم ا ْحلَك ُ
ت ال َْعل ُ ك ال عل َ ُْ
رابعها :أن هناك فروقا بني النسخ والتخصيص ،وقد فصلناها فيما سبق.
()118/1
أما قول الصحايب :هذا انسخ وذاك منسوخ ،فال ينهض دليال على النسخ ،جلواز أن يكون الصحايب
صادرا يف ذلك عن اجتهاد أخطأ فيه فلم يصب فيه عني السابق وال عني الالحق خالفا البن
احلصار ،وكذلك ال يعتمد يف معرفة الناسخ واملنسوخ على املسالك اآلتية:
ّ
- 1اجتهاد اجملتهد من غري سند؛ ألن اجتهاده ليس حبجة.
- 2قول املفسر :هذا انسخ أو منسوخ من غري دليل؛ ألن كالمه ليس بدليل.
- 3ثبوت أحد النصني قبل اآلخر يف املصحف؛ ألن ترتيب املصحف ليس على ترتيب النزول.
- 4أن يكون أحد الروايني من أحداث الصحابة دون الراوي للنص اآلخر ،فال حيكم بتأخر حديث
الصغري عن حديث الكبري؛ جلواز أن يكون الصغري قد روى املنسوخ عمن تقدمت صحبته ،وجلواز
أن يسمع الكبري الناسخ من الرسول صلّى هللا عليه وسلم بعد أن يسمع الصغري منه املنسوخ ،إما
وإما لتأخر تشريع الناسخ واملنسوخ كليهما.
إحالة على زمن مضىّ ،
- 5أن يكون أحد الراويني أسلم قبل اآلخر ،فال حيكم أبن ما رواه سابق اإلسالم منسوخ وما رواه
املتأخر عنه انسخ ،جلواز أن يكون الواقع عكس ذلك.
- 6أن يكون أحد الراويني قد انقطعت صحبته جلواز أن يكون حديث من بقيت صحبته سابقا
حديث من انقطعت صحبته.
- 7أن يكون أحد النصني موافقا للرباءة األصلية دون اآلخر ،فرِبا يتوهم أن املوافق هلا هو
السابق ،واملتأخر عنها هو الالحق ،مع أن ذلك غري الزم؛ ألنه ال مانع من تقدم ما خالف الرباءة
األصلية على ما وافقها ،مثال ذلك :قوله صلّى هللا عليه وسلم« :ال وضوء مما مست النار» فإنه ال
يلزم أن يكون سابقا على اخلرب الوارد إبجياب الوضوء مما مست النار ،وال خيلو وقوع هذا من حكمة
عظيمة هي ختفيف هللا عن عباده بعد أن ابتالهم ابلتشديد.
قانون التعارض:
وعلى ذكر التعارض يف هذا الباب ،نبني لك أن النصني املتعارضني إما أن يتفقا يف أهنما قطعيان أو
ظنيان ،وإما أن خيتلفا فيكون أحدمها قطعيّا واآلخر ظنيّا.
أما املختلفان فال نسخ بينهما ،ألن القطعي أقوى من الظين ،فيؤخذ به ،وما كان اليقني ليرتك ابلظن.
وأما املتفقان :فإن علم أتخر أحدمها بطريق من تلك الطرق الثالث املعتمدة؛ فهو الناسخ واآلخر
املنسوخ ،وإن مل يدل عليه واحد منهما؛ وجب التوقف .وقيل :يتخري الناظر بني العمل هبما.
()119/1
هذا كله إذا مل ميكن اجلمع بني النصني بوجه من وجوه التخصيص والتأويل ،وإال وجب اجلمع؛ ألن
إعمال الدليلني أوىل من إعمال دليل وإهدار آخر ،وألن األصل يف األحكام بقاؤها وعدم نسخها،
فال ينبغي أن يرتك استصحاب هذا األصل ّإال بدليل ّبني.
()120/1
ِ
مثال اخلرب ِبعىن األمر :قوله تعاىل :تَـ ْزَر ُعو َن َس ْب َع سنِ َ
ني َدأَابً [سورة يوسف آية ،]47 :فإن معناه
ازرعوا.
الزانِيةُ ال يـ ْن ِكحها إَِّال ز ٍ ِ ِ
ان الز ِاين ال يَـ ْنك ُح إَِّال زانيَةً أ َْو ُم ْش ِرَكةً َو َّ َ َ ُ
ومثال اخلرب ِبعىن النهي :قوله سبحانهَّ :
أ َْو ُم ْش ِر ٌك [سورة النور آية ،]3 :فإن معناه ال تنكحوا مشركة وال زانية (بفتح التاء) وال تنكحوها
(بضم التاء) لكن على بعض وجوه االحتماالت دون بعض.
والفرق بني أصول العبادات واملعامالت وبني فروعها ،أن فروعها هي ما تعلق ابهليئات واألشكال
واألمكنة واألزمنة والعدد ،أو هي كمياهتا وكيفياهتا .وأما أصوهلا :فهي ذوات العبادات واملعامالت
بقطع النظر عن الكم والكيف.
واعلم أن ما قررانه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل األحكام الفرعية العملية دون سواها،
هو الرأي السائد الذي تراتح إليه النفس ويؤيده الدليل ،وقد انزع يف ذلك قوم ال وجه هلم،
فلنضرب عن كالمهم صفحا:
ظ من النّظر
وليس كل خالف جاء معتربا ...إال خالف له ح ّ
ويتصل ِبا ذكران :أن األداين اإلهلية ال تناسخ بينها فيما بيّناه من األمور اليت ال يتناوهلا النسخ ،بل
هي متحدة يف العقائد وأمهات األخالق ،وأصول العبادات واملعامالت ،ويف صدق األخبار احملضة
فيها صدقا ال يقبل النسخ والنقد .وإن شئت أدلة فهاك ما أييت من القرآن:
يم َوُموسى َو ِعيسى ك وما و َّ ِ ِ ِ ِ
ص ْينا به إبْراه َ
َّ ِ
صى به نُوحاً َوالذي أ َْو َح ْينا إِلَْي َ َ َ
ع لَ ُكم ِمن ال ِّدي ِن ما و َّ ِ ِ
َ َ - 1ش َر َ ْ َ
ين َوال تَـتَـ َف َّرقُوا فِ ِيه [سورة الشورى آية.]13 : ِ
يموا ال ّد َ
ِ
أَ ْن أَق ُ
ون [سورة األنبياء آية: وحي إِلَْي ِه أَنَّهُ ال إِلهَ إَِّال أ ََان فَا ْعب ُد ِ ول إَِّال نُ ِك ِم ْن ر ُس ٍ ِ ِ
ُ َ - 2وما أ َْر َسلْنا م ْن قَـ ْبل َ َ
.]25
ين ِم ْن قَـ ْبلِ ُك ْم [سورة البقرة آية: َّ ِ
ب َعلَى الذ َ
ِ
يام َكما ُكت َ ب َعلَْي ُك ُم ِّ
الص ُ
ِ
آمنُوا ُكت َ ين َ
َّ ِ
- 3اي أَيُّـ َها الذ َ
.]183
يق [سورة احلج آية: ني ِم ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِم ٍ ِ
جاال َو َعلى ُك ِّل ضام ٍر َأيْتِ َ وك ِر ً َ - 4وأَ ِذّ ْن ِيف الن ِ
َّاس ِاب ْحلَ ِّج َأيْتُ َ
.]27
َح ِد ِمها َوَملْ يُـتَـ َقبَّ ْل ِم َن ْاآل َخ ِر َ
قال ِ
آد َم ِاب ْحلَ ِّق إِ ْذ قَـ َّراب قُـ ْرابانً فَـتُـ ُقبِّ َل م ْن أ َ
ين َ ِ
َ - 5واتْ ُل َعلَْيه ْم نَـبَأَ ابْ َ ْ
ني [سورة املائدة آية.]27 : ِ قال إِ َّمنا يـتـ َقبَّل َّ ِ َألَقْـتُـلَن َ
اَّللُ م َن ال ُْمتَّق َ َّك َ َ َ ُ
ف ف ِاب ْألَنْ ِ ني ِابل َْع ْ ِ
ني َو ْاألَنْ َ س َوال َْع ْ َس ِابلنَّـ ْف ِ ِ ِ َّ
َ - 6وَكتَـ ْبنا َعلَْيه ْم فيها أَن النَّـ ْف َ
()121/1
()122/1
عام ِم ْسكِ ٍ
ني [سورة البقرة آية ،]184 :منسوخ ِ ومنها :أن قوله سبحانه :وعلَى الَّ ِذ ِ
ين يُطي ُقونَهُ ف ْديَةٌ طَ ُ
َ ََ
ص ْمهُ [سورة البقرة آية ]185 :على معىن أن حكم تلك منسوخ بقوله :فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم َّ
الش ْه َر فَـلْيَ ُ
حبكم هذه ،مع بقاء التالوة يف كلتيهما كما ترى.
شبهة ودفعها
ذلك مذهب اجلمهور من العلماء ،لكن بعض املعتزلة والظاهرية يقولون :إن النسخ بغري بدل ال جيوز
ْت ِخبَ ٍْري ِم ْنها أ َْو ِمثْلِها
شرعا .وشبهتهم يف هذا أن هللا تعاىل يقول :ما نَـ ْنس ْخ ِمن آي ٍة أَو نُـ ْن ِسها ََن ِ
َ ْ َ ْ
[سورة البقرة آية.]106 :
ووجه اشتباههم :أن اآلية تفيد أنه ال بد أن يؤتى مكان احلكم املنسوخ حبكم آخر هو خري منه أو
مثله ،ولكنها شبهة مدفوعة ِبا ذكران من النصني السابقني يف تقدمي الصدقة بني يدي الرسول صلّى
س ْخ على الوجه الذي ذكروه احتجاج ابطل؛ ألن هللا تعاىل
هللا عليه وسلم .واحتجاجهم ِبية :ما نَـ ْن َ
إذا نسخ حكم اآلية بغري بدل ،فهمنا ِبقتضى حكمته ورعايته ملصلحة عباده أن عدم احلكم صار
وصح حينئذ :إن هللا نسخ حكم اآلية السابقة ،وأتى
خريا من ذلك احلكم املنسوخ يف نفعه للناسّ ،
خبري منها يف الداللة على عدم احلكم الذي ابت يف وقت النسخ أنفع للناس وخريا هلم من احلكم
س ْخ ال أيىب هذا التأويل ،بل يتناوله كما يتناول سواه ،والنسخ فيها أعم من
املنسوخ .ومعىن آية ما نَـ ْن َ
نسخ التالوة واحلكم جمتمعني ومنفردين ببدل وبغري بدل ،واخلريية واملثلية فيهما أعم من اخلريية
واملثلية يف الثواب والنفع.
وهذان النوعان ال خالف يف جوازمها عقال ووقوعهما مسعا عند القائلني ابلنسخ كافة.
اثلثها :النسخ إىل بدل أثقل من احلكم املنسوخ ،ويف هذا النوع يدب اخلالف:
فجمهور العلماء يذهبون إىل جوازه عقال ومسعا كالنوعني السابقني ويستدلون على هذا أبمثلة كثرية
تثبت الوقوع السمعي ،وهو أدل دليل على اجلواز العقلي كما علمت.
من تلك األمثلة :أن هللا تعاىل نسخ إابحة اخلمر بتحرميها ،ومنها :أنه تعاىل نسخ ما فرض من مساملة
ب َعلَْي ُك ُم ال ِْق ُ
تال َو ُه َو ُك ْرهٌ لَ ُك ْم [سورة البقرة آية.]216 : ِ
الكفار احملاربني ِبا فرض من قتاهلمُ :كت َ
ومنها :أن حد الزان كان يف فجر اإلسالم ال يعدو التعنيف واحلبس يف البيوتُ ،ث نسخ ذلك ابجللد
والنفي يف حق البكر ،وابلرجم يف حق الثيب.
ومنها :أن هللا تعاىل فرض على املسلمني أوال صوم يوم عاشوراءُ ،ث نسخه بفرض شهر رمضان كله
مع ختيري الصحيح املقيم بني صيامه والفديةُ ،ث نسخ سبحانه هذا التخيري بتعيني الصوم على هذا
الصحيح املقيم إلزاما.
()126/1
- 1مقام اجلواز:
القائلون ابجلواز هم :مالك ،وأصحاب أيب حنيفة ،ومجهور املتكلمني من األشاعرة ،واملعتزلة.
وحجتهم أن نسخ القرآن ابلسنة ليس مستحيال لذاته وال لغريه .أما األول فظاهر ،وأما الثاين :فألن
السنة وحي من هللا كما أن القرآن كذلك ،لقوله تعاىلَ :وما يَـنْ ِط ُق َع ِن ا ْهلَوى ( )3إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي
يُوحى [سورة النجم آية ،]4 ،3 :وال فارق بينهما إال ألفاظ القرآن من ترتيب هللا وإنشائه ،وألفاظ
السنة من ترتيب الرسول وإنشائه .والقرآن له خصائصه ،وللسنة خصائصها ،وهذه الفوارق ال أثر هلا
فيما حنن بسبيله ،مادام هللا هو الذي ينسخ وحيه بوحيه ،وحيث ال أثر هلا ،فنسخ أحد هذين
الوحيني ابآلخر ،ال مانع مينعه عقال ،كما أنه ال مانع مينعه شرعا -أيضا ،فتعني جوازه عقال وشرعا.
هذه حجة اجمليزين .أما املانعون -وهم :الشافعي ،وأمحد يف إحدى روايتني عنه ،وأكثر أهل الظاهر؛
فيستدلون على املنع أبدلة قد ذكرها صاحب املناهل ورد عليها ،ومل نذكرها ها هنا خوفا من اإلطالة
فيما ال أمهية كبرية لذكرها.
شبهتان ودفعهما
- 1لقائل أن يقول :إن من السنة ما يكون مثرة الجتهاده صلّى هللا عليه وسلم ،وهذا ليس وحيا
أوحي إليه به ،بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إىل الرسول صلّى هللا عليه وسلم يف لطف اترة ،ويف
عنف أخرى .فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول :أن السنة وحي من هللا؟.
خفي ،أما السنة االجتهادية؛ فليست
جلي أو ّ
واجلواب :أن مرادان هنا ابلسنة :ما كانت عن وحي ّ
مرادة هنا البته؛ ألن االجتهاد ال يكون إال عند عدم النص ،فكيف يعارضه ويرفعه؟ وقد شرحنا أنواع
السنة يف كتابنا «املنهل احلديث يف علوم احلديث» فارجع إليه إن شئت.
آحاداي ،وخرب الواحد مهما صح فإنه ال يفيد القطع،
ّ - 2ولقائل أن يقول :إن من السنة ما كان
والقرآن قطعي املنت ،فكيف ينسخ ابلسنة اليت ال تفيد القطع؟ ومىت استطاع الظن أن يرفع اليقني؟.
واجلواب :أن املراد ابلسنة هنا :السنة املتواترة دون اآلحادية .والسنة املتواترة قطعية الثبوت -أيضا-
كالقرآن .فهما متكافئان من هذه الناحية ،فال مانع أن ينسخ أحدمها اآلخر .أما خرب الواحد؛ فاحلق
عدم جواز نسخ القرآن به للمعىن املذكور ،وهو أنه ظين والقرآن قطعي ،والظين أضعف من القطعي
فال يقوى على رفعه.
()127/1
والقائلون جبواز نسخ القرآن ابلسنة اآلحادية ،اعتمادا على أن القرآن ظين الداللة ،حجتهم ابطلة؛
ألن القرآن إن مل يكن قطعي الداللة فهو قطعي الثبوت ،والسنة اآلحادية ظنية الداللة والثبوت معا،
فهي أضعف منه فكيف ترفعه؟.
- 2مقام الوقوع:
ما أسلفناه بني يديك كان يف اجلواز .أما الوقوع؛ فقد اختلف اجملوزون فيه :منهم من أثبته ،ومنهم من
نفاه َولِ ُك ٍّل ِو ْج َهةٌ ُه َو ُم َولِّيها وهاك وجهة كل من الفريقني لتعرف أن احلق مع النافني.
استدل املثبتون على الوقوع أبدلة أربعة:
واح ٍد ِم ْنـهما ِمائَةَ ج ْل َدةٍ
الز ِاين فَاجلِ ُدوا ُك َّل ِ
الزانِيَةُ َو َّ
الدليل األول :أن آية اجللد وهي قوله تعاىلَّ :
َ ُ ْ
[سورة النور آية ]2 :تشمل احملصنني وغريهم من الزانةُ .ث جاءت السنة فنسخت عمومها ابلنسبة
إىل احملصنني ،وحكمت أبن جزاءهم الرجم.
وقد انقش النافون هذا الدليل أبمرين :أحدمها :أن الذي ذكروه ختصيص ال نسخ.
واآلخر :أن آية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة) هي املخرجة لصور التخصيص .وإن
جاءت السنة موافقة هلا وقد سبق الكالم على آية (الشيخ والشيخة) يف عداد ما نسخت تالوته
وبقي حكمه ،فال تغفل عنه.
صيَّةُ لِ ْلوالِ َديْ ِن
ت إِ ْن تَـر َك َخ ْرياً الْو ِ
َ َ َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ ب َعلَْي ُك ْم إِذا َح َ
ض َر أ َ
ِ
الدليل الثاين :أن قوله تعاىلُ :كت َ
ِ ِ
ني [سورة البقرة آية ،]180 :منسوخ بقوله صلّى هللا عليه ني ِابل َْم ْع ُروف َح اقا َعلَى الْ ُمتَّق َ
َو ْاألَقـ َْربِ َ
وسلم« :ال وصية لوارث».
وقد انقشه النافون أبمرين:
أوهلما :أن احلديث املذكور خرب آحاد ،وقد تقرر أن احلق عدم جواز نسخ القرآن خبرب اآلحاد.
اثنيهما :أن احلديث بتمامه يفيد أن الناسخ هو آايت املواريث ،ال هذا احلديث ،وإليك النص
الكامل للحديث املذكور« :إن هللا قد أعطى كل ذي حق حقه فال وصية لوارث».
ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود يف صحيحه ونصه :عن ابن عباس رضي هللا عنهما يف قوله تعاىل :إِ ْن
تَـر َك َخ ْرياً الْو ِ ِ ِ
ني :كانت الوصية كذلك حىت نسختها آية املواريث. صيَّةُ للْوال َديْ ِن َو ْاألَقـ َْربِ َ َ َ
ْفاح َ ِ
الالِيت أيْتِني ال ِ
شةَ م ْن نِسائِ ُك ْم فَ ْ
استَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه َن الدليل الثالث :أن قوله سبحانهَ :و َّ َ َ
()128/1
اَّللُ َهلُ َّن َسبِ ًيال [سورة وه َّن ِيف الْبـي ِ ِ ِ
ت أ َْو َْجي َع َل َّ وت َح َّىت يَـتَـ َوفَّ ُ
اه َّن ال َْم ْو ُ ُُ أ َْربَـ َعةً م ْن ُك ْم فَِإ ْن َش ِه ُدوا فَأ َْمس ُك ُ
النساء آية ]15 :منسوخة بقوله صلّى هللا عليه وسلم« :خذوا عين ،خذوا عين .قد جعل هللا هلن
سبيال:
البكر ابلبكر جلد مائة وتغريب عام ،والثيب ابلثيب جلد مائة والرجم» .وقد انقشه النافون.
أوال :أبن الناسخ هنا هو آية اجللد ،وآية الشيخ والشيخة ،وإن جاء احلديث موافقا هلما.
اثنيا :أبن ذلك ختصيص ال نسخ؛ ألن احلكم األول جعل هللا له غاية هو املوت ،أو صدور تشريع
جديد يف شأن الزانيات ،وقد حققنا أن رفع احلكم ببلوغ غايته املضروبة يف دليله األول ليس نسخا.
الدليل الرابع :أن هنيه صلّى هللا عليه وسلم عن كل ذي انب من السباع وكل ذي خملب من الطيور
يل ُحمَ َّرماً على ِ
طاع ٍم يَط َْع ُمهُ إَِّال أَ ْن يَ ُكو َن َم ْيـتَةً أ َْو َدماً َج ُد ِيف ما أ ِ
ُوح َي إِ ََّ انسخ لقوله سبحانه :قُل ال أ ِ
َ ْ
اَّلل بِ ِه [سورة األنعام آية.]145 : مس ُفوحاً أَو َحلم ِخن ِزي ٍر فَِإنَّه ِرجس أَو فِسقاً أ ُِه َّل لِغَ ِري َِّ
ْ ُ ْ ٌ ْ ْ ْ َْ َْ
وقد انقشه النافون :أبن اآلية الكرمية مل تتعرض إلابحة ما عدا الذي ذكر فيها إمنا هو مباح ابلرباءة
يسمى نسخا كما سلف بيانه.
األصلية ،واحلديث املذكور ما رفع إال هذه الرباءة األصلية ،ورفعها ال ّ
من هذا العرض خيلص لنا أن نسخ القرآن ابلسنة ال مانع مينعه عقال وال شرعا ،غاية األمر أنه مل يقع؛
لعدم سالمة أدلة الوقوع كما رأيت.
دليل اجلواز:
استدل املثبتون على اجلواز هنا ِبثل ما استدلوا به على القسم السالف ،فقالوا :إن نسخ السنة
ابلقرآن ليس مستحيال لذاته وال لغريه .أما األول فظاهر ،وأما الثاين :فألن السنة وحي كما أن
القرآن وحي ،وال مانع من نسخ وحي بوحي ملكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية.
واستدلوا على الوقوع بوقائع كثرية ،كل واقعة منها دليل على اجلواز كما هي دليل على الوقوع ،ملا
علمت من أن الوقوع يدل على اجلواز وزايدة.
()129/1
(من تلك الوقائع) أن استقبال بيت املقدس يف الصالة مل يعرف إال من السنة وقد نسخه قوله تعاىل:
وه ُك ْم َشط َْرهُ [سورة البقرة آية.]144 : ث ما ُك ْنـتُ ْم فَـ َولُّوا ُو ُج َك َشط َْر ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام َو َح ْي ُفَـ َو ِّل َو ْج َه َ
ومنها :أن األكل والشرب واملباشرة كان حمرما يف ليل رمضان على من صامُ .ث نسخ هذا التحرمي
ِ
ضط ْاألَبْـيَ ُ ني لَ ُك ُم ْ
اخلَْي ُ ب َّ
اَّللُ لَ ُك ْم َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َح َّىت يَـتَـبَ َّ َ وه َّن َوابْـتَـغُوا ما َكتَ َبقوله تعاىل :فَ ْاآل َن َابش ُر ُ
َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر [سورة البقرة آية.]187 : ِمن ْ ِ
اخلَْيط ْاأل ْ َ
ومنها :أن النيب صلّى هللا عليه وسلم أبرم مع أهل مكة عام احلديبية صلحا كان من شروطه :أن من
وىف بعهده يف أيب جندل ومجاعة من املكيني جاءوه مسلمنيُ .ث جاء منهم مسلما رده عليهم ،وقد ّ
ِ هاجر ٍ
نات م ِ ِ ين َ ِ َّ ِ
وه َّنات فَ ْامتَحنُ ُ جاء ُك ُم ال ُْم ْؤم ُ ُ
آمنُوا إذا َ فهم أن يردها فأنزل هللا :اي أَيُّـ َها الذ َ جاءته امرأة ّ
وه َّن إِ َىل الْ ُك َّفا ِر ال ُه َّن ِحلٌّ َهلُ ْم َوال ُه ْم َِحيلُّو َن َهلُ َّن وه َّن م ْؤِم ٍ
نات فَال تَـ ْرِج ُع ُ
ِ ِِ
اَّللُ أَ ْعلَ ُم إبِِمياهن َّن فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ ُ
َّ
[سورة املمتحنة آية.]10 :
()130/1
مالحظة:
روت كتب األصول يف هذا املوضع :خرب فاطمة بنت قيس بصيغة مدخولة فيها أن عمر قال حني
بلغه اخلرب« :ال نرتك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة ال ندري أصدقت أم كذبت ،حفظت أم
نسيت» وعزا بعضهم هذه الرواية املدخولة إىل اإلمام مسلم يف صحيحه .واحلقيقة أن الرواية هبذه
الصورة غري صحيحة ،كما أن عزوها إىل مسلم غري صحيح.
والرواية الصحيحة يف مسلم وغريه ليس فيها كلمة «أصدقت أم كذبت» بل اقتصرت على كلمة
«أحفظت أم نسيت» ،ومثلك -محاك هللا -يعلم أن الشك يف حفظ فاطمة ونسياهنا ال يقدح يف
عدالتها وصدقها ،فإايك أن ختوض مع اخلائضني من املستشرقني وأذانهبم فتطعن يف الصحابة
وجترحهم يف تثبتهم ملثل هذا اخلرب املردود .اه.
()131/1
والتفسري يف االصطالح:
علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكرمي من حيث داللته على مراد هللا تعاىل بقدر الطاقة البشرية.
التأويل:
وأتوله:
والتأويل مرادف للتفسري يف أشهر معانيه اللغوية ،قال صاحب القاموسّ :أول الكالم أتويال ّ
غاء ال ِْف ْتـنَ ِةِ ِ ِ ِِ َّ ِ
ين ِيف قُـلُوهب ْم َزيْ ٌغ فَـيَـتَّب ُعو َن ما تَشابَهَ م ْنهُ ابْت َ
وفسره .ومنه قوله تعاىل :فَأ ََّما الذ َ دبّره وق ّدره ّ
اَّللُ [سورة آل عمران آية.]7 : غاء َأتْ ِويلِ ِه َوما يَـ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إَِّال َِّ
َوابْت َ
أنواع التفسري:
التفسري على نوعني ابإلمجال:
النوع األول :تفسري جاف ال يتجاوز حل األلفاظ وإعراب اجلمل ،وبيان ما حيتويه نظم القرآن الكرمي
من نكات بالغية وإشارات فنية ،وهذا النوع أقرب إىل التطبيقات العربية منه إىل التفسري وبيان مراد
هللا من هداايته.
النوع الثاين :تفسري جياوز هذه احلدود ،وجيعل هدفه األعلى جتلية هداايت القرآن وتعاليم القرآن،
وحكمة هللا فيما شرع للناس يف هذا القرآن على وجه جيتذب األرواح ،ويفتح القلوب ،ويدفع
النفوس إىل االهتداء هبدى هللا ،وهذا هو اخلليق ابسم التفسري وفيه يساق احلديث إذا تكلمنا عن
فضله واحلاجة إليه.
()132/1
البارع املعجز ،وهذا ال يتحقق إال عن طريق الكشف والبيان ملا تدل عليه ألفاظ القرآن (وهو ما
نسميه بعلم التفسري) خصوصا يف هذه العصور األخرية اليت فسدت فيها ملكة البيان العريب،
وضاعت فيها خصائص العروبة حىت من سالئل العرب أنفسهم.
فالتفسري هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر اليت احتواها هذا الكتاب اجمليد النازل إلصالح البشر
وإنقاذ الناس ،وإسعادهم يف الدنيا واآلخرة.
وبدون التفسري ال ميكن الوصول إىل هذه الكنوز والذخائر ،مهما ابلغ الناس يف ترديد ألفاظ القرآن
وتوافروا على قراءته كل يوم.
وهنا تلمح السر يف أتخر مسلمة هذا الزمن على رغم وفرة املصاحف يف أيديهم ،ووجود ماليني
احل ّفاظ بني ظهرانيهم ،وعلى رغم كثرة عددهم ،واتساع بالدهم ،يف حني أن سلفنا الصاحل جنحوا هبذا
القرآن جناحا مدهشا ،كان ومازال موضع إعجاب املؤرخني ،مع أن أسالفنا أولئك كانوا يف قلة من
العدد ،وضيق من األرض ،وخشونة من العيش ،ومع أن نسخ القرآن ومصاحفه مل تكن ميسورة هلم،
ومع أن حفاظه مل يكونوا هبذه الكثرة الغامرة.
إن السر يف ذلك هو أهنم توفّروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداايته ،يستعينون على هذه
الثقافة العليا ِبواهبهم الفطرية ،وملكاهتم السليمة العربية من انحية ،وِبا يشرحه رسول هللا صلّى هللا
عليه وسلم ويبينه هلم أبقواله وأعماله وأخالقه وسائر أحواله كما قال -سبحانه:-
ني لِلن ِ
َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم َولَ َعلَّ ُه ْم يَـتَـ َف َّك ُرو َن [سورة النحل آية.]44 : وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ
ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ َ َ ْ
وعلى ذلك كان مههم األول هو القرآن الكرمي حيفظونه ويفهمونهُ ،ث يعملون بتعاليمه بدقة ،ويهتدون
هبديه يف يقظة.
هبذا وحده صفت أرواحهم وطهرت نفوسهم ،وعظمت آاثرهم؛ ألن الروح اإلنساين هو أقوى شيء
يف هذا الوجود ،فمىت صفا وهتذب ،وحسن توجيهه وأتدب أتى ابلعجب العجاب.
وكذلك أتت األمة العربية ابلعجب العجاب ،يف اهلداية واإلرشاد ،وإنقاذ العامل وإصالح البشر،
وكتب هللا هلم النصر والتأييد والدولة والظفر ،حىت على أقوى الدول املعادية لدعوة احلق واإلصالح
يف ذلك العهد؛ دولة الفرس يف الشرق ،ودولة الرومان يف الغرب ،تلك حموها من لوح الوجود هبدم
طغياهنا وإسالم شعبها ،وهذه سلبوها ما كان يف حوزهتا من ممالك الشرق وشعوبه الكثريةُ ،ث دانت
هلم الدنيا فاستولوا على بعض بالد أوراب وأقاموا فيها دولة عربية شاخمة البنيان كانت هبجة الدنيا وزينة
احلياة ،ومنها شع النور على الشعوب
()133/1
األوربية ،وكانت النواة الناجحة يف هنضتهم احلديثة احلاضرة (تلك هى فردوس األندلس املفقود)!!
أما غالب مسلمة اليوم ،فقد اكتفوا من القرآن أبلفاظ يرددوهنا ،وأنغام يلحنوهنا ،يف املآمت واملقابر
والدور ،وِبصاحف حيملوهنا أو يودعوهنا بركة يف البيوت ،ونسوا أن بركة القرآن العظمي إمنا هى يف
تدبره وتفهمه ،ويف اجللوس إليه ،واالستفادة من هديه وآدابهُ ،ث يف الوقوف عند أوامره ومراضيه،
بار ٌك لِيَ َّدبَّـ ُروا آايتِِه َولِيَـتَ َذ َّك َر تاب أَنْـ َزلْناهُ إِلَْي َ
ك ُم َ
ِ
والبعد عن مساخطه ونواهيه ،وهللا -تعاىل -يقول :ك ٌ
وب أَقْفاهلُا ْباب [سورة ص ،]29 :ويقول جل ذكره :أَفَال يَـتَ َدبـَّرو َن الْ ُق ْرآ َن أ َْم َعلى قُـلُ ٍ أُولُوا ْاألَل ِ
ُ
س ْرَان الْ ُق ْرآ َن لِل ِّذ ْك ِر فَـ َه ْل ِم ْن ُم َّدكِ ٍر [سورة القمر آية: [سورة حممد ،]24 :ويقول سبحانهَ :ولََق ْد يَ َّ
.]17
فما أشبه املسلمني اليوم ابلعطشان ميوت من الظمأ واملاء بني يديه ،وابملريض يفتك به املرض ودواؤه
أمام عينيه ،فال حول وال قوة إال ابهلل!! أال إن آخر هذه األمة ال يصلح إال ِبا صلح به أوهلا ،وهو
أن يعودوا إىل كتاب هللا يستلهمونه الرشد ،ويستمنحونه اهلدى ،وحيكمونه يف نفوسهم ويف كل ما
يتصل هبم ،كما كان آابؤان األولون يتلونه حق تالوته بتدبر وتفكر ،حىت ظهرت آاثره الباهرة عاجلة
فيهم ،فرفع نفوسهم وانتشلها من حضيض الوثنية ،وأعلى مهمهم وهذب أخالقهم ،وأرشدهم إىل
االنتفاع بقوى الكون ومنافعه ،وكان من وراء ذلك أن مهروا يف العلوم والفنون والصناعات ،كما
مهروا يف األخالق واآلداب واإلصالح واإلرشاد ،ووصلوا إىل غاية ّبزوا فيها كل أمم الدنيا ،حىت قال
بعض فالسفة الغرب يف كتابه (تطور األمم) ما نصه« :إن ملكة الفنون ال تستحكم يف أمة من األمم
إال يف ثالثة أجيال :جيل التقليد ،وجيل اخلضرمة ،وجيل االستقالل ،وش ّذ العرب وحدهم
فاستحكمت فيهم ملكة الفنون يف جيل واحد» .اه.
قال السيوطي يف بيان احلاجة إىل التفسري ما ملخصه« :القرآن إمنا نزل بلسان عريب يف زمن أفصح
العرب ،فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه».
أما دقائق ابطنه فال تظهر هلم إال بعد البحث والنظر وسؤاهلم النيب صلّى هللا عليه وسلم مثل قوهلم:
مياهنُ ْم بِظُل ٍْم [سورة
سوا إِ َ ِ َّ ِ
آمنُوا َوَملْ يَـلْب ُ
ين َ
«وأيّنا مل يظلم نفسه ..؟!» حينما نزل قوله -تعاىل :-الذ َ
األنعام ،]82 :ففسره النيب صلّى هللا عليه وسلم ابلشرك ،واستدل بقوله -سبحانه :-إِ َّن ال ِّ
ش ْر َك
يم [سورة لقمان آية.]13 : لَظُل ِ
ْم َعظ ٌ
ٌ
وكذلك حني قال النيب صلّى هللا عليه وسلم« :من نوقش احلساب ع ّذب» سألته عائشة أم املؤمنني
ب إِىل أ َْهلِ ِه َم ْس ُروراً [سورة ِ ِ ف ُحياس ِ
ب حساابً يَسرياً (َ )8ويَـ ْنـ َقل ُ
س ْو َ َ ُ
رضي هللا عنها عن قوله تعاىل :فَ َ
االنشقاق آية ،]9 ،8 :فقال صلّى هللا عليه وسلم« :ذلك العرض» ،وكقصة عدي بن حامت يف
()134/1
اخليط األبيض واخليط األسود ،وحنن حمتاجون إىل ما كانوا حيتاجون إليه ،بل حنن أشد احتياجا إىل
التفسري لقصوران عن مدارك اللغة وأسرارها بغري تعلم» اه.
مما تقدم يتبني أن فائدة التفسري هي التذكر واالعتبار ،ومعرفة هداية هللا يف العقائد والعبادات
واملعامالت واألخالق ،ليفوز األفراد واجملاميع خبري العاجلة واآلجلة .ويتبني أيضا -أن هذا العلم من
أشرف العلوم الدينية والعربية ،إن مل يكن أشرفها مجيعا ،وذلك لسمو موضوعه ،وعظم فائدته.
ومسّى «علم التفسري» ملا فيه من الكشف والتبيني ،واختص هبذا االسم دون بقية العلوم مع أهنا كلها
مشتملة على الكشف والتبيني؛ ألنه جلاللة قدره ،واحتياجه إىل زايدة االستعداد ،وقصده إىل تبيني
مراد هللا من كالمه ،كان كأنه هو التفسري وحده دون ما عداه.
()135/1
أقسام التفسري
ورد عن ابن عباس رضي هللا عنهما أن التفسري أربعة :حالل وحرام ال يعذر أحد جبهالته ،وتفسري
تفسره العرب أبلسنتها ،وتفسري تفسره العلماء ،وتفسري ال يعلمه إال هللا .اه.
قال الزركشي يف الربهان ما ملخصه« :هذا تقسيم صحيح».
-فأما الذي تعرفه العرب أبلسنتها :فهو ما يرجع إىل لساهنم من اللغة واإلعراب.
-وأما ما ال يعذر أحد جبهله :فهو ما تبادر إىل األفهام معرفة معناه من النصوص املتضمنة شرائع
األحكام ،ودالئل التوحيد ،وكل لفظ أفاد معىن واحدا جليّا يعلم أنه مراد هللا تعاىل ،فهذا القسم ال
استَـغْ ِف ْر يلتبس أتويله؛ إذ كل أحد يدرك معىن التوحيد من قوله تعاىل :فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلهَ إَِّال َّ
اَّللُ َو ْ
ك [سورة حممد آية ،]19 :أنه ال شريك له يف لِ َذنْبِ َ
األلوهية ،وإن مل يعلم أن «ال» موضوعة يف اللغة للنفي ،و «إال» موضوعة لإلثبات ،وأن مقتضى
هذه الكلمة احلصر.
ويعلم كل أحد ابلضرورة أن مقتضى «أقيموا الصالة وآتوا الزكاة» وحنوه إجياب املأمور به ،وإن مل
يعلم أن صيغة «افعل» للوجوب.
-وأما ما ال يعلمه إال هللا تعاىل :فهو ما جيري جمرى الغيوب ،كاآلايت اليت تذكر فيها الساعة
والروح ،واحلروف املقطعة ،وكل متشابه يف القرآن عند أهل احلق ،فال مساغ لالجتهاد يف تفسريه ،وال
طريق إىل ذلك إال ابلتوقيف ،وبنص من القرآن أو احلديث أو إمجاع األمة على أتويله.
-وأما ما يعلمه العلماء :فريجع إىل اجتهادهم؛ فهو الذي يغلب عليه إطالق التأويل ،وذلك
استنباط األحكام ،وبيان اجململ ،وختصيص العموم ،وكل لفظ احتمل معنيني فصاعدا فهو الذي ال
جيوز لغري العلماء االجتهاد فيه اعتمادا على الدالئل والشواهد دون جمرد الرأي .اه املقصود منه،
لكنه مل يلتزم فيه ترتيب األقسام على ما روي عن ابن عباس ،وال ضري يف ذلك مادام أنه قد
استوعب عدهتا األربعة كما رأيت.
وقسم بعضهم التفسري ابعتبار آخر إىل ثالثة أقسام:
«تفسري ابلرواية» ويسمى التفسري ابملأثور ،و «تفسري ابلدراية» ويسمى التفسري ابلرأي ،و «تفسري
ابإلشارة» ويسمى التفسري اإلشاري ،وسنتحدث عن كل واحد منها إن شاء هللا.
()136/1
التفسري ابملأثور
هو ما جاء يف القرآن ،أو السنة ،أو كالم الصحابة ،بياان ملراد هللا -تعاىل -من كتابه.
اخلَْي ِطض ِم َن ْط ْاألَبْـيَ ُ ني لَ ُك ُم ْ
اخلَْي ُ - 1مثال ما جاء يف القرآن :قوله سبحانهَ :وُكلُوا َوا ْش َربُوا َح َّىت يَـتَـبَ َّ َ
َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر [سورة البقرة آية ،]187 :فإن كلمة «من الفجر» بيان وشرح للمراد من كلمة ْاأل ْ
ط ْاألَبْـيَ ُ
ض اليت قبلها. ْ
اخلَْي ُ
اس ِري َن [سورة سنا َوإِ ْن َملْ تَـ ْغ ِف ْر لَنا َوتَـ ْرمحَْنا لَنَ ُكونَ َّن ِم َن ْ
اخل ِ
وكذلك قوله -سبحانه :-قاال َربَّنا ظَلَ ْمنا أَنْـ ُف َ
تاب َعلَْي ِه مات من قوله تعاىل :فَـتَـلَ َّقى َ ِ ِ ِ ٍ األعراف آية ،]23 :فإهنا بيان للفظ َكلِ ٍ
آد ُم م ْن َربِّه َكلمات فَ َ
[سورة البقرة آية ،]37 :على بعض وجوه التفاسري.
اخلِْن ِزي ِر [سورة املائدة آية ،]3 :فإهنا بيان للفظ ما ت َعلَْي ُك ُم ال َْم ْيـتَةُ َو َّ
الد ُم َو َحلْ ُم ْ وقوله تعاىلُ :ح ِّرَم ْ
عام إَِّال ما يُـ ْتلى َعلَْي ُك ْم [سورة املائدة آية.]1 : يمةُ ْاألَنْ ِ ِ يـ ْتلى علَي ُكم» من قوله سبحانه :أ ِ
ُحلَّ ْ
ت لَ ُك ْم َهب َ ُ َْ ْ
ِ وقوله -تعاىل :-لَئِ ْن أَقَ ْمتُ ُم َّ
سناً ضتُ ُم َّ
اَّللَ قَـ ْرضاً َح َ آم ْنـتُ ْم بُِر ُسلي َو َع َّز ْرمتُُ ُ
وه ْم َوأَقـ َْر ْ الزكاةَ َو َالصالةَ َوآتَـ ْيـتُ ُم َّ
َألُ َك ِّف َر َّن َع ْن ُك ْم َسيِّئاتِ ُك ْم [سورة املائدة آية ،]12 :فإهنا بيان للعهدين يف قوله -سبحانهَ :-وأ َْوفُوا
ُوف بِ َع ْه ِد ُك ْم [سورة البقرة آية ،]40 :األول لألول ،والثاين للثاين. بِع ْه ِدي أ ِ
َ
ِ
َّج ُم
ب [سورة الطارق آية ،]3 ،2 :فإن كلمة الن ْ اك َما الطَّا ِر ُق ( )2الن ْ
َّج ُم الثَّاق ُ وقوله تعاىلَ :وما أَ ْدر َ
ب بيان لكلمة الطَّا ِر ِق اليت قبلها ،وغري ذلك كثري يعلم ابلتدبر يف كتاب هللا -تعاىل. ِ
الثَّاق ُ
- 2ومثال ما جاء يف السنة شرحا للقرآن :أنه صلّى هللا عليه وسلم فسر الظلم ابلشرك يف قوله
سبحانه:
مياهنُ ْم بِظُل ٍْم أُولئِ َ
ك َهلُ ُم ْاأل َْم ُن َو ُه ْم ُم ْهتَ ُدو َن [سورة األنعام آية ،]82 :وأيد سوا إِ َ ِ َّ ِ
آمنُوا َوَملْ يَـ ْلب ُ
ين َ
الذ َ
شر َك لَظُل ِ ِ
يم [سورة لقمان آية ،]13 :وفسر صلّى هللا عليه وسلم ْم َعظ ٌ ٌ تفسريه هذا بقوله تعاىل :إِ َّن ال ّ ْ
احلساب اليسري ابلعرض حني قال« :من نوقش احلساب ع ّذب» فقالت له السيدة عائشة :أو ليس
ب إِىل أ َْهلِ ِه ِ ِ ف ُحياس ِ قد قال هللا تعاىل :فَأ ََّما من أ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ب حساابً يَسرياً (َ )8ويَـ ْنـ َقل ُ
س ْو َ َ ُ
ُويتَ كتابَهُ بيَمينه ( )7فَ َ َْ
َم ْس ُروراً [سورة االنشقاق آية ،]9 - 7 :فقال صلّى هللا عليه وسلم «ذلك العرض» بياان للحساب
اليسري ،وكذلك فسر الرسول صلّى هللا عليه وسلم القوة ابلرمي يف قوله -سبحانه :-وأ ِ
َعدُّوا َهلُ ْم َما َ
استَطَ ْعتُ ْم ِم ْن قُـ َّوةٍ [سورة األنفال آية ،]60 :ويف صحيح كتب السنة من ذلك شيء كثري. ْ
وكال هذين القسمني ال شك يف قبوله ،وأما األول :فألن هللا تعاىل أعلم ِبراد نفسه من غريه ،وأصدق
احلديث كتاب هللا تعاىل .وأما الثاين :فألن خري اهلدي
()137/1
هدى سيدان حممد صلّى هللا عليه وسلم ،ووظيفته البيان والشرح ،مع ّأان نقطع بعصمته وتوفيقه قال
ني لِلن ِ
َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم [سورة النحل آية.]44 : تعاىل :وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ
ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ َ َ ْ
- 3بقي القسم الثالث وهو بيان القرآن ِبا صح وروده عن الصحابة رضوان هللا عليهم :قال احلاكم
يف املستدرك« :إن تفسري الصحايب الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم املرفوع» ،كذلك أطلق
احلاكم ،وقيّده بعضهم ِبا كان يف بيان سبب النزول وحنوه مما ال جمال للرأي فيه ،وإال فهو من
املوقوف.
ووجهة نظر احلاكم ومن وافقه :أن الصحابة رضوان هللا عليهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل ،وعرفوا
وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف هلم النقاب عن معاين الكتاب ،وهلم من سالمة فطرهتم ،وصفاء
نفوسهم ،وعلو كعبهم يف الفصاحة والبيان ،ما ميكنهم من الفهم الصحيح لكالم هللا ،وما جيعلهم
يوقنون ِبراده من تنزيله وهداه.
أما ما ينقل عن التابعني ففيه خالف العلماء :منهم من اعتربه من املأثور؛ ألهنم تلقوه من الصحابة
غالبا ،ومنهم من قال :إنه من التفسري ابلرأي.
ويف تفسري ابن جرير الطربي كثري من النقول عن الصحابة والتابعني يف بيان القرآن الكرمي ،بيد أن
احلافظ ابن كثري يقول :إن أكثر التفسري املأثور قد سرى إىل
وجل ذلك يف قصص الرسل
الرواة من زاندقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب ،قال بعضهمّ :
مع أقوامهم ،وما يتعلق بكتبهم ومعجزاهتم ،ويف اتريخ غريهم كأصحاب الكهف ،ومدينة إرم ذات
العماد ،وسحر اببل ،وعوج بن عنق ،ويف أمور الغيب من أشراط الساعة وقيامتها ،وما يكون فيها
وجل ذلك خرافات ومفرتايت ،صدقهم فيها الرواة حىت بعض الصحابة رضي هللا عنهم،
وبعدهاّ ،
ولذلك قال اإلمام أمحد« :ثالثة ليس هلا أصل:
التفسري ،واملالحم ،واملغازي» وكان الواجب مجع الرواايت املفيدة يف كتب مستقلة ،كبعض كتب
احلديث وبيان قيمة أسانيدهاُ ،ث يذكر يف التفسري ما يصح منها بدون سند ،كما يذكر احلديث يف
كتب الفقه لكن يعزى إىل خمرجه .اه ما أردان نقله.
املفسرون من الصحابة
قال السيوطي يف اإلتقان« :اشتهر ابلتفسري من الصحابة عشرة ،اخللفاء األربعة ،وابن مسعود ،وابن
وأيب بن كعب ،وزيد بن اثبت ،وأبو موسى األشعري ،وعبد هللا بن الزبري.
عباسّ ،
علي بن أيب طالب -كرم هللا وجهه-
أما اخللفاء األربعة ،فأكثر من روي عنه منهمّ ،
()138/1
والرواية عن الثالثة قليلة ج ّدا ،وكأن السبب يف ذلك تقدم وفاهتم اه.
ومعىن هذا أن السبب يف إقالل الثالثة -أيب بكر ،وعمر ،وعثمان -من التفسري ،أهنم كانوا يف وسط
أغلب أهله علماء بكتاب هللا ،واقفون على أسرار التنزيل ،عارفون ِبعانيه وأحكامه ،مكتملة فيهم
خصائص العروبة.
يفسر هلم
علي رضي هللا عنه :فقد عاش بعدهم حىت كثرت حاجة الناس يف زمانه إىل من ّ
أما اإلمام ّ
القرآن ،وذلك التساع رقعة اإلسالم ،ودخول العجم يف هذا الدين اجلديد ممن كادت تذوب هبم
خصائص العروبة ،ونشأة جيل من أبناء الصحابة كان يف حاجة إىل علم الصحابة ،فال جرم كان ما
علي أكثر مما نقل عن غريه ،أضف إىل ذلك ما امتاز به اإلمام من خصوبة الفكر ،وغزارة
نقل عن ّ
العلم ،وإشراق القلبُ :ث أضف -أيضا -سبق اشتغال الثالثة ِبهام اخلالفة وتصريف احلكم دونه.
روى معمر عن وهب بن عبد هللا بن أيب الطفيل قال :شهدت عليّا رضي هللا عنه خيطب ويقول:
سلوين ،فو هللا ال تسألوين عن شيء إال أخربتكم ،وسلوين عن كتاب هللا ،فو هللا ما من آية إال وأان
أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أيف سهل أم يف جبل؟.
ويف رواية عنه قال :وهللا ما نزلت آية إال وقد علمت فيم أنزلت؟ وأين نزلت؟ إن ريب وهب يل قلبا
عقوال ،ولساان سؤوال ..اه.
وقد كثرت الرواايت -أيضا -عن ابن مسعود ،وحسبك يف معرفة خطره وجاللة قدره ما رواه أبو
لعلي :أخربان عن ابن مسعود؟ قال:
نعيم عن أيب البحرتي قال :قالوا ّ
علم القرآن والسنة ُث انتهى ،وكفى بذلك علما.
وأما ابن عباس :فهو ترمجان القرآن بشهادة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ،فعن جماهد قال:
قال ابن عباس ،قال يل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم« :نعم ترمجان القرآن أنت» ،وأخرج البيهقي
يف الدالئل عن ابن مسعود رضي هللا عنه قال :نعم ترمجان القرآن عبد هللا بن عباس ،وقد دعا له
النيب صلّى هللا عليه وسلم بقوله« :اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل».
وروي أن رجال أتى ابن عمر يسأله عن السموات واألرض كانتا رتقا ففتقنامها :أي من قوله تعاىل:
نامها [سورة األنبياء آية ،]30 :فقال:
ض كانَتا َرتْقاً فَـ َفتَـ ْق ُ الس ِ ين َك َف ُروا أ َّ َّ ِ
ماوات َو ْاأل َْر َ َن َّ أ ََوَملْ يَـ َر الذ َ
اذهب إىل ابن عباسُ ،ث تعال أخربين ،فذهب فسأله فقال :كانت السموات رتقا ال متطر ،وكانت
األرض رتقا ال تنبت ،ففتق هذه ابملطر ،وهذه ابلنبات ،فرجع إىل ابن عمر فأخربه فقال :قد كنت
أقول :ما يعجبين جراءة ابن عباس على تفسري القرآن! فاآلن ،قد علمت أنه أويت علما ..اه.
()139/1
()140/1
()141/1
()142/1
()143/1
الذي ن نسبوا إليه ما هو منه بريء ،وكاملتزلفني الذين حطبوا يف حبل العباسيني ،فنسبوا إىل ابن عباس
ما مل تصح نسبته إليه متلقا هلم واستدرارا لدنياهم.
املعزوة إىل الصحابة أو التابعني من
اثلثها :اختالط الصحيح بغري الصحيح ،ونقل كثري من األقوال ّ
حتر ،مما أدى إىل التباس احلق ابلباطل ،زد على ذلك أن من يرى رأاي صار يعتمده دون
غري إسناد وال ّ
أن يذكر له سنداُ ،ث جييء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصال ،وال يكلف نفسه البحث عن
أصل الرواية ،وال من يرجع إليه هذا القول.
رابعها :أن تلك الرواايت مليئة ابإلسرائيليات ،ومنها كثري من اخلرافات اليت يقوم الدليل على
بطالهنا ،ومنها ما يتعلق أبمور العقائد اليت ال جيوز األخذ فيها ابلظن ،وال برواية اآلحاد ،بل ال بد من
دليل قاطع فيها ،كالرواايت اليت تتحدث عن أشراط الساعة ،وأهوال القيامة وأحوال اآلخرة حني
تذكر على أهنا اعتقادايت يف اإلسالم.
خامسها :أن ما نقل نقال صحيحا عن الكتب السابقة اليت عند أهل الكتاب كالتوراة واإلجنيل ،أمران
الرسول صلّى هللا عليه وسلم أن نتوقف فيه ،فال نصدقهم الحتمال أنه مما حرفوه يف تلك الكتب،
وال نكذهبم الحتمال أنه مما حفظوه منها فقد قال تعاىل فيهم إهنم:
تاب [سورة آل عمران آية.]23 : صيباً ِمن ال ِ
ْك ِ أُوتُوا نَ ِ
َ
وكلمة اإلنصاف يف هذا املوضوع :أن التفسري ابملأثور نوعان:
أحدمها :ما توافرت األدلة على صحته وقبوله ،وهذا ال يليق أبحد رده ،وال جيوز إمهاله وإغفاله ،وال
جيمل أن نعتربه من الصوارف عن هدى القرآن ،بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على
االهتداء ابلقرآن.
اثنيهما :ما مل يصح لسبب من األسباب اآلنفة أو غريها ،وهذا جيب رده وال جيوز قبوله وال االشتغال
به ،اللهم إال لتمحيصه والتنبيه إىل ضالله وخطئه حىت ال يغرت به أحد.
وال يزال كثري من أيقاظ املفسرين كابن كثري يتحرون الصحة فيما ينقلون ،ويزيّفون ما هو ابطل أو
ضعيف وال حيابون وال جيبنون.
ولعل الذين أطلقوا القول يف رد املأثور إمنا أرادوا املبالغة -كما علمت يف توجيه كلمة اإلمام أمحد بن
حنبل -وعذرهم أن الصحيح منه قليل اندر ،نزر يسري ،حىت لقد قال اإلمام الشافعي رضي هللا عنه:
مل يثبت عن ابن عباس يف التفسري إال شبيه ِبائة حديث.
أي مع كثرة ما روي عنه.
وقد أشار ابن خلدون إىل أ ّن العرب مل يكونوا أهل كتاب وال علم ،وإمنا غلبت عليهم
()144/1
البداوة واألمية ،وإذا تشوفوا إىل معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية يف أسباب املكوانت
وبدء اخلليقة وأسرار الوجود ،فإمنا يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم؛ ويستفيدون منهم إىل أن قال:
وهؤالء مثل :كعب األحبار ،ووهب بن منبه ،وعبد هللا بن سالم ،فامتألت التفاسري من املنقوالت
عنهم وتل ّقيت ابلقبول ،ملا كان هلم من املكانة السامية ،ولكن الراسخني يف العلم قد حتروا الصحة،
وزيفوا ما مل تتوافر أدلة صحته .اه .بتصرف.
تنبيه :إايك أن تفهم من عبارة ابن خلدون أو ابن تيمية أو غريمها ما جيعلك ختوض مع اخلائضني يف
هؤالء األعالم الثالثة :عبد هللا بن سالم ،ووهب بن منبه ،وكعب األحبار ،فقد ضل بعض األدابء
واملؤرخني من كبار الكتاب يف هذا العصر ،حني زعموا ذلك ،حىت لقد سلكوا عبد هللا بن سالم
الصحايب اجلليل يف سلك واحد مع عبد هللا ابن سبأ اليهودي اخلبيث ،الذي تظاهر ابإلسالم ُث كاد
لعلي ،وزعم أن هللا حل فيه ،وطعن على عثمان ،وأظهر الرفض عند حكم
له شر الكيد ،فتشيّع ّ
احلكمني بصفني ،ودعا الناس إىل ضالله األثيم ،حىت نفي مرارا ،واحلقيقة أن ثالثتنا هؤالء عدول
ثقات.
أما ابن سالم :فحسبك أنه صحايب من خرية الصحابة ،ومن املبشرين ابجلنة ،يروي الرتمذي عن معاذ
بن جبل رضي هللا عنه قال :مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقول« :إنه عاشر عشرة يف اجلنة»
يل َعلى ِمثْلِ ِه [سورة األحقاف آية ،]10 :وآيةَ :وَم ْنِ ِ ِ ِ ِ
وفيه أنزلت آيةَ :و َشه َد شاه ٌد م ْن بَِين إ ْسرائ َ
تاب [سورة الرعد آية ،]43 :على ما جاء يف بعض الرواايت. ِع ْن َدهُ ِعلْم ال ِ
ْك ِ
ُ
وأما وهب بن منبه :فقد كان اتبعا ثقة واسع العلم ،روى عن أيب هريرة كثريا وله حديث يف
الصحيحني عن أخيه مهام :وقد بلغ من تنسكه وصالحه أنه لبث عشرين سنة يصلي الفجر بوضوء
العشاء رضي هللا عنه.
وأما كعب :فقد كان اتبعا جليال ،أسلم يف خالفة أيب بكر ،وانهيك أن الصحابة أخذوا عنه كما أخذ
هو عن الصحابة ،وروى عنه مجاعة من التابعني مرسال ،وله شيء يف صحيح البخاري وغريه.
ولكن جيب أن نفرق يف هذا املقام بني ما يصح أن يقال فيهم ،وما يصح أن ينقل عنهم ،فأما ما
يصح أن يقال فيهم؛ فهو الثقة والتقدير على حنو ما أحملنا ،وأما الذي ينقل عنهم؛ فمنه الصحيح
وغري الصحيح ،لكن عدم صحة ما مل يصح ال يعلل ابهتامهم وجرحهم ،فقد علمت من هم؟! إمنا
يعلل أبحد أمرين:
أوهلما :رجال السند الذين ينقلون عنهم ،فقد يكون بينهم متّهم يف عدالته أو
()145/1
ضبطه ،وهلذا جيب النظر يف سلسلة الرواة عنهم رجال رجال ،ولدينا من كتب اجلرح والتعديل ما يفي
هبذه الغاية ،وال يكفي االعتماد على ذكر السند يف كتاب كبري كتفسري ابن جرير ،فقد يذكر ابن
جرير أو غريه أشياء غري صحيحة ويسوق أسانيدها ُث ال يبني اجملروح من رجال السند وال املع ّدل
فيهم.
األمر الثاين :أن يكون أولئك الثالثة قد رووا ما رووه على أنه مما كان يف اإلسرائيليات ،فتقبلها
اآلخذون على أهنا من اإلسالميات ،وهلذا جيب النظر يف هذه املروايت ،فإن كانت مما يقرره اإلسالم
قبلناها ،وإن كانت مما يرده رددانها ،وإن كانت مما سكت عنه سكتنا عنها عمال بقوله صلّى هللا عليه
وسلم« :إذا حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم» [رواه البخاري هبذا اللفظ].
ورواه أمحد والبزار من حديث جابر بلفظ« :ال تسألوا أهل الكتاب عن شيء ،فإهنم لن يهدوكم وقد
حل له إال
ضلوا ،وإنكم إما أن تك ّذبوا حبق أو تصدقوا بباطل ،وهللا لو كان موسى بني أظهركم ما ّ
اتباعي» ،وسبب هذا احلديث أن النيب صلّى هللا عليه وسلم علم أن عمر كتب شيئا من التوراة عن
اليهود فغضب صلّى هللا عليه وسلم وقاله .اه.
()146/1
()147/1
تفسري البغوي:
هو العالمة أبو حممد احلسني بن مسعود البغوي الفقيه الشافعي ،كان إماما يف التفسري واحلديث ،له
التصانيف املفيدة ،ومنها :معامل التنزيل ،أتى فيه ابملأثور ،ولكن جمردا عن األسانيد.
بقي بن خملد:
تفسري ّ
ذكر اإلمام السيوطي يف طبقات املفسرين أن بقي بن خملد بن يزيد بن عبد الرمحن األندلسي
القرطيب ،أحد األعالم وصاحب التفسري والسند ،أخذ عن حيىي بن حيىي الليثي ورحل إىل املشرق،
ولقي الكبار ابحلجاز ومصر وبغداد ،ومسع من أمحد بن حنبل ،ومسع ابلكوفة أاب بكر بن أيب شيبة،
ومسع ِبصر حيىي بن بكري ،ومسع ابحلجاز أاب مصعب الزهري ،ومسع بدمشق هشام بن عمار ،وشيوخه
صواما صادقا جماب الدعوة ،قليل املثل ،حبرا يف العلم،
مائتان وأربعة ومثانون رجال ،وكان إماما زاهدا ّ
جمتهدا ال يقلد أحدا ،عين ابألثر ،وليس ألحد مثل سنده يف احلديث وال يف التفسري.
قال ابن حزم :أقطع أنه مل يؤلّف يف اإلسالم مثل تفسريه ،ال تفسري ابن جرير وال غريه ،ولد سنة
( 204هـ) وتفسريه املوصوف ِبا ترى يؤسفنا أنه مل يكتب له البقاء ،ومل يظفر ِبا ظفر به تفسري ابن
جرير من هذا اخللود.
()148/1
وبرودة املاء الذي يف اآلابر زمن الصيف ،وحرارته يف الشتاء ،ذكروا يف ذلك كله ما يندى له اجلبني
خجال ،وما ال يتفق واحلقائق العلمية أبدا ،واي ليتهم نبهوا على وضعه! لو أهنم فعلوا لكان األمر
هينا ،لكنهم مل يذكروا السند ،كما ذكر األولون ليستطيع املطلع عليه نقده ابلرجوع إىل كتب اجلرح
والتعديلُ ،ث مل يكلفوا أنفسهم احلكم على السند بعد حماكمته إىل كتب التعديل والتجريح (وتلك
اثلثة األاثيف).
وقد عين بعض املفسرين أبن يسرد شتاب األقوال ،حىت إنه ذكر يف تفسري قوله سبحانه :غَ ِْري
ِ ض ِ
ني حنو عشرة أقوال ،مع أن الوارد الصحيح تفسري املغضوب عليهم وب َعلَْي ِه ْم َوَال الضَّالّ َ ال َْمغْ ُ
ابليهود ،وتفسري الضالني ابلنصارى ،لكن الولوع بكثرة النقول َنى هبم عن االقتصار على التفسري
املقبول.
وكذلك نالحظ أن كل ابرع يف فن يقتصر غالبا يف تفسريه على الفن الذي برع فيه ،فاملربز يف العلوم
العقلية كالفخر الرازي ،أغرم ابستعراض أقوال احلكماء
والفالسفة وشبههم والرد عليها يف تفسريه ،واملربز يف الفقه كالقرطيب أولع بتقرير األدلة للفروع
كالزجاج والواحدي يف البسيط وأيب حيان يف البحر،
الفقهية وأقوال الفقهاء فيها ،واملربز يف النحو ّ
يهتم أعظم االهتمام ابإلعراب ووجوهه ،ونقل قواعد النحو وفروعها ،وأصحاب املذاهب املتطرفة
والنّحل الضالة يقصدون إىل أتويل اآلايت على ما يروج مذاهبهم يف التطرف والضالل.
واألخباريون يعنيهم أن يستقصوا القصص واألخبار عمن سلف ،صحيحة كانت أو ابطلة.
واإلشاريون وأرابب التصوف هتمهم انحية الرتغيب والرتهيب والزهد والقناعة والرضا ،فيفسرون
القرآن ِبا يوافق مشارهبم وأذواقهم ،وعلى اإلمجال نرى كل انبغة يف فن ،أو داعية إىل مذهب أو
فكرة ،جيتهد يف تفسري اآلايت ِبا يوافق فنه ،ويالئم مشربه ،ويناصر مذهبه ،ولو كان بعيدا كل البعد
عن املقصد الذي نزل من أجله القرآن.
ولقد غاىل بعضهم فجعل القرآن مشتمال على العلوم الكونية ،كالطبيعة ،والكيمياء ،واحلساب،
واجلرب ،وما إىل ذلك ،وشغل نفسه والناس معه هبذه األمور اليت مل ينزل القرآن من أجلها وإن جاءت
صراحة أو إشارة يف ثنااي الرباهني القرآنية على القضااي األساسية اليت أنزل القرآن من أجلها ،وقد مر
ذكرها يف أول الكتاب.
واخلالصة هنا :أنه جيب على املفسر مالحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز ،وأن جيعل هدفه
ك َم ْناألعلى ،ومقصده األمسى ،إظهار هداايت هللا من كالمه ،وبيان وجوه إعجازه يف كتابه لِيَـ ْهلِ َ
ك َع ْن بَـيِّنَ ٍة َوَْحيىي َم ْن َح َّي َع ْن بَـيِّنَ ٍة َوإِ َّن َّ
اَّللَ َهلَ َ
()149/1
()150/1
له الدليل والربهان ،كأن رأيهم ومذهبهم هو املقياس وامليزان ،أو كأنه الكتاب والسنة واإلسالم،
وهكذا استزهلم الشيطان وأعماهم الغرور.
ولقد جنم عن هذه الغلطة الشنيعة أن تفرق كثري من املسلمني شيعا وأحزااب ،وكانوا حراب على بعضهم
وأعداء ،وغاب عنهم أن الكتاب والسنة واإلسالم أوسع من مذاهبهم وآرائهم ،وأن مذاهبهم
وآراءهم أضيق من الكتاب والسنة واإلسالم ،وأن يف ميدان احلنيفية السمحة متسعا حلرية األفكار،
واختالف األنظار ،مادام اجلميع معتصما حببل هللا.
ت َِّ مجيعاً َوال تَـ َف َّرقُوا َواذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ صموا ِحبب ِل َِّ
اَّلل َعلَْي ُك ْم إِ ْذ اَّلل َِ ُث غاب عنهم أن هللا تعاىل يقولَ :وا ْعتَ ِ ُ َْ
َصبَ ْحتُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخواانً [سورة آل عمران آية.]103 : ني قُـلُوبِ ُك ْم فَأ ْ داء فَأَلَّ َ
ف بَ ْ َ ُك ْنـتُ ْم أَ ْع ً
ت ِم ْنـ ُه ْم ِيف َش ْي ٍء [سورة األنعام آية: ين فَـ َّرقُوا ِدينَـ ُه ْم َوكانُوا ِشيَعاً لَ ْس َ َّ ِ
ويقول جل ذكره :إِ َّن الذ َ
.]159
نات َوأُولئِ َ
ك َهلُ ْم جاء ُه ُم الْبَـيِّ ُ ِ ِ َّ ِ
ين تَـ َف َّرقُوا َوا ْختَـلَ ُفوا م ْن بَـ ْعد ما َ ويقول تقدست أمساؤهَ :وال تَ ُكونُوا َكالذ َ
ض ُو ُجوهٌ َوتَ ْس َو ُّد ُو ُجوهٌ [سورة آل عمران آية.]106 ،105 : يم ( )105يَـ ْوَم تَـ ْبـيَ ُّ ِ
ذاب َعظ ٌ
َع ٌ
ملثل هذا أرأب بنفسي وبك أن تتهم مسلما ابلكفر أو البدعة واهلوى جملرد أنه خالفنا يف رأي إسالمي
نظري ،فإن الرتامي ابلكفر والبدعة من أشنع األمور.
ولقد قرر علماؤان أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعني وجها ُث احتملت اإلميان من وجه
واحد ،محلت على أحسن احملامل وهو اإلميان ،وهذا موضوع مفروغ منه ومن التدليل عليه ،لكن
يفت يف عضدان غفلة كثري من إخواننا املسلمني عن هذا األدب اإلسالمي العظيم ،الذي حيفظ
الوحدة ،وحيمي األخوة ،ويظهر اإلسالم بصورته احلسنة ووجهه اجلميل من السماحة واليسر،
واتساعه جلميع االختالفات الفكرية واملنازع املذهبية ،واملصاحل البشرية ،مادامت معتصمة ابلكتاب
والسنة على وجه من الوجوه الصحيحة اليت حيتملها النظر السديد والتأويل الرشيد.
ولقد حدث مثل هذا االختالف على عهد رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم بني أصحابه ،فما تنازعوا
من أجله ،بل أخذ كل برأيه وهو حيرتم اآلخر ورأيه ،وأقرهم الرسول صلّى هللا عليه وسلم على ذلك،
ومل يعب أحدا منهم ،على رغم أنه ترتب على بعض هذه االختالفات أن ترك بعضهم الصالة يف
وقتها اجتهادا منه ،إذ قال الرسول صلّى هللا عليه وسلم لفئة من أصحابه« :ال يصلني أحدكم العصر
إال يف بين قريظة» فسافروا وج ّدوا ،ولكن الغزالة تدلت للغروب وهم ال يزالون ضاربني يف األرض،
وملّا يصلّوا .هنالك اجتهدوا ،فمنهم من وقف عند ظاهر النص
()151/1
فرتك العصر حىت خرج وقته مادام مل يصل إىل بين قريظة ،ومنهم من أتول النص ومحله على الكناية
يف اإلسراع فصلّى حني خاف فوات الوقت من قبل أن يصل إىل بين قريظة.
نقول :إن مثل هذا اخلالف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره ،تيسريا على املسلمني وإعالما
أبن اإلسالم دين الكافة ،يسع مجيع البشر يف كل العصور واألحوال ،وشهد املسلمون بعد ذلك
عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه خيتلفون فيما بينهم كثريا ،ولكنهم كانوا جبانب هذا يتكارمون
ويتعاونون ويرتامحون كثريا.
وإن كنت يف شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي ،واحرتام الشافعي ألمحد بن حنبل ،حىت
ورد أنه كان يتربك بغسالة قميصه ،أي يتربك األستاذ اإلمام بغسالة قميص تلميذه املخالف له يف
الرأي واالجتهاد! ُث سل التاريخ عن معاونة صاحب أيب حنيفة للشافعي ،ودفعه إليه كتبه يف كرم
وحسن ضيافة وصدق حمبة! وال تنس إابء مالك على اخلليفة العباسي أن حيمل الناس يف بالد
اإلسالم كلها على موطئه ومذهبه ،ويعتذر إليه أبن اإلسالم أوسع من موطئه ومذهبه ،وأن أصحاب
ولكل وجهة.
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم تفرقوا يف البالد ّ
أرأيت هذا النبل والطهر؟ ..أجل ..أجل!! ولكنك يضيق بك األسف حني ترى جبانبه فئات من
املسلمني أيضا تراشقوا ابلكفر ،وتراموا ابلشرك ،وتقاذفوا ابلتب ّدع واهلوى جملرد أتويل يستسيغه النظر،
ويتسع له صدر االستدالل.
ُث اتسع اخلرق على الراقع يف بعض الظروف حىت دارت معارك طاحنة بني صفوف كلها مسلمة،
وأريقت دماء ذكية كلها إسالمية! وال نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما
كان أغناان عنها ،وما كان أحراان ابحلذر منها ،خصوصا بعد ما مسعنا من اآلايت ،وبعد أن أقر
الرسول صلّى هللا عليه وسلم أمثال هذه اخلالفيات وبعد أن قال يف حديث واحد ثالث مرات:
«هلك املتنطعون» وهي كلمة صغرية ولكنها كبرية ،حتذر وتنذر ،ومتثل اهلالك جامثا ابلتنطع أبشكاله
وألوانه ،يف األنفس واألعراض واألموال ،ويف اجلماعات واألفراد على سواء.
()152/1
للناظر يف القرآن لطلب التفسري مآخذ كثرية (يستمد منها تفسريه) أمهاهتا أربعة:
األوىل :النقل عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف واملوضوع.
الثانية :األخذ بقول الصحايب ،فقد قيل :إنه يف حكم املرفوع مطلقا ،وخصه بعضهم أبسباب النزول
وحنوها مما ال جمال للرأي فيه.
الثالثة :األخذ ِبطلق اللغة مع االحرتاز عن صرف اآلايت إىل ما ال يدل عليه الكثري من كالم
العرب.
الرابعة :األخذ ِبا يقتضيه الكالم وتدل عليه األصول الشرعية ،وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به
النيب صلّى هللا عليه وسلم البن عباس يف قوله« :اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل».
فمن فسر القرآن برأيه -أي ابجتهاده -ملتزما الوقوف عند هذه األصول معتمدا عليها فيما يرى
من معاين كتاب هللا؛ كان تفسريه سائغا جائزا خليقا أبن يسمى التفسري اجلائز أو التفسري احملمود،
ومن حاد عن هذه األصول وفسرا القرآن غري معتمد عليها؛ كان تفسريه ساقطا مرذوال خليقا أبن
يسمى التفسري غري اجلائز أو التفسري املذموم.
ّ
فالتفسري ابلرأي اجلائز :جيب أن يالحظ فيه االعتماد على ما نقل عن الرسول صلّى هللا عليه وسلم
وأصحابه مما ينري السبيل للمفسر برأيه ،وأن يكون صاحبه عارفا بقوانني اللغة خبريا أبساليبها ،وأن
يكون بصريا بقانون الشريعة حىت ينزل كالم هللا على املعروف من تشريعه.
أما األمور اليت جيب البعد عنها يف التفسري ابلرأي فمن أمهها :التهجم على تبيني مراد هللا من كالمه
على جهالة بقوانني اللغة أو الشريعة.
ومنها :محل كالم هللا على املذاهب الفاسدة.
ومنها :اخلوض فيما استأثر هللا بعلمه ،ومنها :القطع أبن مراد هللا كذا من غري دليل ،ومنها :السري مع
اهلوى واالستحسان.
وميكن تلخيص هذه األمور اخلمسة يف كلمتني مها :اجلهالة ،واهلوى.
وينبغي أن يعلم أن يف القرآن علوما ثالثة:
األول :علم مل يطلع هللا عليه أحدا من خلقه ،بل استأثر به وحده؛ كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته
وغيوبه اليت ال يعلمها إال هو ،وهذا النوع ال جيوز الكالم فيه ألحد إمجاعا.
الثاين :ما أطلع هللا عليه نبيه صلّى هللا عليه وسلم واختص به ،وهذا ال جيوز الكالم فيه إال له عليه
الصالة والسالم وملن أذن له الرسول ،قيل :ومنه أوائل السور.
الثالث :العلوم اليت علمها هللا لنبيه مما أمر بتبليغه ،وهذا النوع قسمان:
()153/1
قسم ال جيوز الكالم فيه إال بطريق السمع ،كالكالم يف الناسخ واملنسوخ ،والقراءات ،وقصص األمم
املاضية ،وأسباب النزول ،وأخبار احلشر والنشر واملعاد.
وقسم يعرف بطريق النظر واالستدالل ،وهذا منه املختلف يف جوازه ،وهو ما يتعلق ابآلايت
املتشاهبات ،ومنه املتفق على جوازه ،وهو ما يتعلق ِبايت األحكام واملواعظ واألمثال واحلكم وحنوها
ملن له أهلية االجتهاد.
مالحظة:
هذه الشروط اليت ذكرانها ،وهذه العلوم كلها ،إمنا هي لتحقيق أعلى مراتب التفسري مع إضافة تلك
االعتبارات املهمة املسطورة يف الكلمات القيمة اآلتية أما املعاين العامة اليت يستشعر منها املرء عظمة
مواله ،واليت يفهمها اإلنسان عند إطالق اللفظ الكرمي؛ فهي قدر يكاد يكون مشرتكا بني عامة الناس
ويسره وذلك أدىن مراتب التفسري.
سهله ّ
وهو املأمور به للتدبر والتذكر؛ ألنه سبحانه ّ
()154/1
تفسري اجلاللني:
أما تفسري اجلاللني :فكتاب قيم ،سهل املأخذ إىل حد ما ،خمتصر العبارة كثريا ،يكاد يكون أكثر
التفاسري انتشارا ونفعا ،وإن كان أصغرها أو من أصغرها شرحا وحجما ،تداولته طبقات خمتلفة من
أهل العلم وغريهم ،وطبع طبعات كثرية متنوعة ،طبع مرة واحدة جمردا ،وأخرى حباشية املصحف،
واثلثة مع حاشية الصاوي ،ورابعة مع حاشية اجلمل ،وأوسع حواشيه حاشية اجلمل ،والعجيب أن
كثريا من فطاحل العلماء كانوا خيتارونه ألعلى دراسة عرفت يف التفسري كمادة أساسية يدورون حوهلا،
ويستلهمون وحيها ،حىت إن دروس التفسري الشهرية للعالمة املرحوم الشيخ حممد عبده كانت مادته
فيها تفسري اجلاللني على ما مسعت.
()155/1
تفسري البيضاوي:
وأما تفسري البيضاوي :فهو كتاب جليل دقيق مجع بني التفسري والتأويل على قانون اللغة العربية،
وقرر األدلة على أصول أهل السنة ،وقد التزم أن خيتم كل سورة ِبا يروى يف فضلها من األحاديث،
يتحر فيها الصحيح ،وأحسن حواشيه املتداولة حاشية الشهاب اخلفاجي ،وإن كان له
غري أنه مل ّ
حواش أخرى كثرية ،ومنها حاشية سعد أفندي ،وحاشية الروشين ،وحاشية الششرتي وغريها.
تفسري النيسابوري:
ميتاز بسهولة عباراته ،وبتحقيق ما حيتاج إىل حتقيق ،مع قصد وخلو من احلشو ،وقد عىن أبمرين
يلتزمهما :الكالم على القراءات واألوقف يف أول كل مرحلة من مراحل التفسري ،والكالم على
التأويل اإلشاري يف آخر كل مرحلة من تلك املراحل ،وهو مطبوع طبعة شهرية على هامش تفسري
ابن جرير ،وهو خمتصر لتفسري الفخر الرازي مع هتذيب كبري.
تفسري األلوسي:
وسيأيت الكالم عليه عند التفسري اإلشاري.
تفسري النسفي:
كتاب جليل متداول مشهور ،سهل ودقيق ،قال فيه صاحب كشف الظنون :هو كتاب وسط يف
التأويالت ،جامع لوجوه اإلعراب والقراءات ،متضمن لدقائق علم البديع واإلشارات ،ومرشح
ألقاويل أهل السنة واجلماعة ،خال من أابطيل أهل البدع والضاللة ،ليس ابلطويل اململ ،وال
ابلقصري املخل .اه.
()156/1
تفسري اخلطيب:
كتاب عظيم يعىن بثالثة أشياء :تقرير األدلة وتوجيهها ،والكالم على املناسبات بني السور واآلايت،
وسرد كثري من القصص والرواايت.
تفسري اخلازن:
تفسري مشهور ،يعين ابملأثور ،بيد أنه ال يذكر السند ،وله ولوع ابلتوسع يف الرواايت والقصص ،ومن
غر ،وال يفنت هبا جاهل.
مزاايه أنه يتبع القصة ببيان ما فيها من ابطل؛ حىت ال ينخدع هبا ّ
تفاسري الفرق املختلفة
وذلك كالتفسري اإلشاري وتفاسري أهل الكالم ،وأشهر الكتب يف ذلك.
وقد منيت األمة أبن تفرتق أكثر من سبعني فرقة ،وأن يلبسها هللا شيعا ويذيق بعضها أبس بعض،
وإن كانت ال تزال طائفة من هذه األمة ظاهرين على احلق ال يضرهم من خالفهم ،حىت أييت أمر هللا،
وقد تناولت كل طائفة كتاب هللا تفسره ِبا ارتضته لنفسها من اعتدال أو تطرف ،فظهرت جمموعة
اجمللوة تنطبع فيها صور املفسرين هلا على اختالف مشارهبم ،وتباين منازعهم ،وال
التفاسري كاملرااي ّ
غرو ،فكل إانء ِبا فيه ينضح ،وكل يغين على لياله.
ومن هنا جتد تفاسري أهل السنة تظهر فيها عقيدة أهل السنة ،وتفاسري املعتزلة تظهر فيها عقيدة
االعتزال ،والشيعة تظهر يف تفاسريهم عقيدة التشيع ،وهلم ..وهلم.
وقد تكلمنا حتت العنوان السابق على مناذج من تفاسري أهل السنة ،فلنتكلم هنا على مناذج من
تفاسري الفرق املختلفة.
تفاسري املعتزلة
وخنتار منها كتاب الكشاف للزخمشري :وصاحبه هو حممود بن عمر بن حممد ابن عمر النحوي
اللغوي املعتزيل امللقب جبار هللا ،ولد سنة ( 467هـ) ،وتويف سنة ( 538هـ) ،بعد أن برع يف اللغة
واألدب والنحو ،ومعرفة أنساب العرب حىت فاق أقرانهُ ،ث تظاهر ابالعتزال ودعا إليه.
وكتابه خري كتاب أو من خري الكتب اليت يرجع إليها يف التفسري من انحية البالغة،
()157/1
رغم نزعته االعتزالية ،وأغلب التفاسري من بعده أخذت منه واعتمدت عليه.
وميتاز الكشاف أبمور :منها :خلوه من احلشو والتطويل.
ومنها :سالمته من القصص واإلسرائيليات.
ومنها :اعتماده يف بيان املعاين على لغة العرب وأساليبهم.
ومنها :عنايته بعلمي املعاين والبيان والنكات البالغية ،حتقيقا لوجوه اإلعجاز.
ومنها :سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال واجلواب كثريا ،ويعنون السؤال بكلمة «إن قلت»
بفتح التاء ،ويعنون اجلواب بكلمة «قلت» بضم التاء.
وللكشاف حواش كثرية منها :حاشية ابن كمال ابشازاده ،وحاشية عالء الدين املعروف ابلبهلوان،
وحاشية الشيخ حيدر ،وحاشية الرهاوي.
تفاسري الباطنية
الباطنية قوم رفضوا األخذ بظاهر القرآن وقالوا :للقرآن ظاهر وابطن ،واملراد منه ابطنه دون ظاهره،
ذاب [سورة ِ ِ ِ ِِ ض ِرب بـيـنـهم بِسوٍر لَه ابب ِ
ابطنُهُ فِ ِيه َّ
الر ْمحَةُ َوظاه ُرهُ م ْن قبَله ال َْع ُ ويستدلون بقوله تعاىل :فَ ُ َ َ ْ َ ُ ْ ُ ُ ٌ
احلديد آية ،]13 :وهم فرق متعددة على املثال اآليت:
منهم القرامطة :نسبة إىل محدان قرمط؛ وقرمط إحدى قرى واسط ،وهو الذي تزعمهم فيما ذهبوا
إليه.
واإلمساعيلية :نسبة إىل إمساعيل ،أكرب أوالد جعفر الصادق؛ وذلك ألهنم كانوا يعتقدون اإلمامة فيه،
وقيل :إهنم مسوا إمساعيلية؛ النتساهبم إىل حممد بن إمساعيل.
والسبعية :نسبة إىل عدد السبعة ،وذلك ألهنم يعتقدون أن يف كل سبعة إماما يقتدى به.
ومذهب الباطنية على عمومه وابء انتقل إليهم بطريق العدوى من اجملوس.
داو َد [سورة النمل
ث ُسلَْيما ُن ُومن أتويالهتم الفاسدة يف القرآن أهنم يقولون يف تفسري قوله تعاىلَ :وَوِر َ
آية ،]16 :أن اإلمام عليّا ورث النيب يف عمله.
ويقولون :معىن اجلنابة أهنا مبادرة املستجيب إبفشاء السر قبل أن ينال رتبة االستحقاق.
ومعىن الغسل :جتديد العهد على من فعل ذلك.
ومعىن الطهارة :التربي من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة اإلمام.
()158/1
تفاسري الشيعة
علي وتقديرها إايه ،واملبالغة واإلسراف يف شأنه إىل حد
الشيعة :طائفة كبرية ابلغت يف حبها لإلمام ّ
أوقعهم يف الرذائل.
يقول علماء األخالق :الفضيلة وسط بني رذيلتني ،ويقولون :إذا خرج الشيء عن حده عاد إىل
ضده.
ولذا أمر اإلسالم ابالعتدال حىت يف حب النيب صلّى هللا عليه وسلم وتقديره.
ك لِنَـ ْف ِسي نَـ ْفعاً َوال َ ِ يقول هللا تعاىل لنبيه :قُ ْل ال أ َْملِ ُ
بت أَ ْعلَ ُم الْغَْي َ
اَّللُ َولَ ْو ُك ْن ُ ض ارا إ َّال ما َ
شاء َّ
السوءُ إِ ْن أ ََان إَِّال نَ ِذ ٌير َوبَ ِشريٌ لَِق ْوٍم يُـ ْؤِمنُو َن [سورة األعراف آية:
ين ُّسِ َ ت ِم َن ْ
اخلَ ِْري َوما َم َّ َال ْستَ ْكثَـ ْر ُ
.]188
ويقول النيب صلّى هللا عليه وسلم ألمته« :ال تطروين (متدحوين) كما أطرت النصارى ابن مرمي ،ولكن
قولوا عبد هللا ورسوله».
ولكن الشيعة ابلغوا وأسرفوا يف حب اإلمام وتقديره ،وهم فرق كثرية.
فمنهم من أغرق يف نفس التشيع حىت كفر ،وعلى رأس هؤالء عبد هللا بن سبأ اليهودي عدو هللا
الذي ما أظهر اإلسالم إال بقصد الكيد له واإلفساد فيه ،وهلذا كانت تلك الفرقة يف موقف خصومة
وحرب من املسلمني ،حىت ورد أن اإلمام عليّا نفسه شن الغارة عليهم وحارهبم وطاردهم.
ومنهم قوم معتدلون مل يسقطوا يف هاوية الكفر ،وإن خالفوا أهل السنة واجلماعة يف تفضيل أيب بكر
علي يف اخلالفة -رضي هللا عنهم أمجعني -وهلؤالء مذاهب
وعمر وعثمان ،وتقدميهم على اإلمام ّ
ودراسات وكتب وتفسريات ،وأدلة وأتويالت.
()159/1
يسمى «مرآة األنوار ومشكاة األسرار» مؤلفه يدعى املوىل عبد اللطيف
ومن تفاسري الشيعة كتاب ّ
الكازالين من النجف ،وهذا التفسري مشتمل على أتويالت تشبه أتويالت الباطنية السابقة ،فاألرض
يفسرها ابلدين ،وابألئمة عليهم السالم ،وابلشيعة ،وابلقلوب اليت هي حمل العلم وقراره ،وأبخبار
هاج ُروا فِيها [سورة النساء األمم املاضية ...إخل ،فيقول يف قوله تعاىل :أََمل تَ ُكن أَرض َِّ ِ
واسعةً فَـتُ ِ
اَّلل َ ْ ْ ْ ُ
آية ]97 :املراد دين هللا وكتاب هللا.
ريوا ِيف ْاأل َْر ِ ِ
ض [سورة احلج آية .]46 :املراد :أومل ينظروا يف القرآن. ويقول يف قوله تعاىل :أَفَـلَ ْم يَس ُ
فأنت ترى أنه قد محل اللفظ الذي ال جيهله أحد على معان غريبة من غري دليل ،وما محله على ذلك
إال مركب اهلوى ،والتعصب األعمى ملذهبه.
اَّلل فَما لَهُ ِمن ٍ وذلك ال شك ضالل ال يقل عن ضالل الباطنية والبهائية :ومن ي ْ ِ
هاد [سورة ْ ضل ِل َُّ ََ ْ ُ
الزمر آية.]23 :
التفسري اإلشاري:
وهو أتويل القرآن بغري ظاهره إلشارة خفية تظهر ألرابب السلوك والتصوف ،وميكن اجلمع بينها وبني
الظاهر املراد أيضا.
وقد اختلف العلماء يف التفسري املذكور ،فمنهم من أجازه ،ومنهم من منعه ،وإليك شيئا من أقوال
العلماء لتعرف وجه احلق يف ذلك.
قال الزركشي يف الربهان :كالم الصوفية يف تفسري القرآن قيل :إنه ليس بتفسري ،وإمنا هو معان
آمنُوا قاتِلُوا الَّ ِذي َن يَـلُونَ ُك ْم َّ ِ
ومواجيد جيدوهنا عند التالوة ،كقول بعضهم يف قوله تعاىل :اي أَيُّـ َها الذ َ
ين َ
ِم َن الْ ُك َّفا ِر [سورة التوبة آية ]123 :أن املراد :النفس ،يريدون أن علة األمر بقتال من يلينا هي
القرب ،وأقرب شيء إىل اإلنسان نفسه.
وقال ابن الصالح يف فتاويه :وجدت عن اإلمام أيب احلسن الواحدي املفسر أنه قال :صنف أبو عبد
الرمحن السلمي حقائق يف التفسري ،فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسري فقد كفر.
قال ابن الصالح :وأان أقول :الظن ِبن يوثق به منه إذا قال شيئا من ذلك أنه مل يذكره تفسريا ،وال
ذهب به مذهب الشرح للكلمة؛ فإنه لو كان كذلك لكانوا قد سلكوا مسلك الباطنية؛ وإمنا ذلك
منهم تنظري ملا ورد به القرآن .فإن النظري يذكر ابلنظري ،ومع ذلك فيا ليتهم مل يتساهلوا ِبثل ذلك ملا
فيه من اإلهبام وااللتباس.
وقال النسفي يف عقائده :النصوص على ظواهرها ،والعدول عنها إىل معان يدعيها
()160/1
أهل الباطل إحلاد .اه.
قال التفتازاين يف شرحه :مسّيت املالحدة ابطنية الدعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها ،بل هلا
معان ال يعرفها إال املعلم .وقصدهم بذلك نفي الشريعة ابلكلية .قال:
وأما ما يذهب إليه بعض احملققني من أن النصوص على ظواهرها ،ومع ذلك ففيها إشارات خفية إىل
دقائق تنكشف ألرابب السلوك ميكن التوفيق بينها وبني الظواهر املرادة؛ فهو من كمال اإلميان
وحمض العرفان.
ومن هنا يعلم الفرق بني تفسري الصوفية املسمى ابلتفسري اإلشاري ،وبني تفسري الباطنية املالحدة؛
فالصوفية ال مينعون إرادة الظاهر؛ بل حيضون عليه ويقولون :ال بد منه أوال؛ إذ من ادعى فهم أسرار
القرآن ومل حيكم الظاهر ،كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن جياوز الباب.
أما الباطنية فإهنم يقولون :إن الظاهر غري مراد أصال ،وإمنا املراد الباطن .وقصدهم نفي الشريعة.
()161/1
بعدها قال ما نصه :ومن مقام اإلشارة يف اآلايت .وإذا قلتم :اي موسى القلب ،لن نؤمن اإلميان
احلقيقي حىت نصل إىل مقام املشاهدة والعيان .فأخذتكم صاعقة املوت الذي هو الفناء يف التجلي
الذايت ،وأنتم تراقبون أو تشاهدونُ .ث بعثناكم ابحلياة احلقيقة ،والبقاء بعد الفناء ،لكي تشكروا نعمة
وجل ،وظللنا عليكم غمام جتلي الصفات ،لكوهنا حجبت
عز ّالتوحيد والوصول ابلسلوك يف هللا ّ
مشس الذات إخل ما قال.
- 3تفسري التسرتي :هو أبو حممد سهل بن عبد هللا التسرتي املتوىف سنة ( 383هـ) وتفسريه هذا مل
يستوعب كل اآلايت ،وإن استوعب السور ،وقد سلك فيه مسلك الصوفية مع موافقته ألهل
الظاهر.
وإليك منوذجا منه؛ إذ يقول يف تفسري البسملة ما نصه:
عز وجل (وهللا) هو االسم
عز وجل (امليم) جمد هللا ّ
وجل (السني) سناء هللا ّ
عز ّ(الباء) هباء هللا ّ
األعظم الذي حوى األمساء كلها ...إخل.
نصيحة خالصة:
بيد أن هذا التفسري كما ترى جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان املعاين الوضعية
للنصوص القرآنية .وهنا اخلطر كل اخلطر؛ فإنه خياف على مطالعه أن يفهم أن هذه املعاين اإلشارية
هي مراد اخلالق إىل خلقه يف اهلداية إىل تعاليم اإلسالم ،واإلرشاد إىل حقائق هذا الدين الذي ارتضاه
هلم.
ولعلك تالحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا ابإلقبال على دراسة تلك اإلشارات واخلواطر ،فدخل
يف روعهم أن الكتاب والسنة بل اإلسالم كله ما هو إال سوانح وواردات،
على هذا النحو من التأويالت والتوجيهات ،وزعموا أن األمر ما هو إال ختييالت ،وأن املطلوب منهم
هو الشطح مع اخليال أينما شطح ،فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة .ومل حيرتموا قوانني اللغة العربية يف
فهم أبلغ النصوص العربية كتاب هللا وسنة رسوله صلّى هللا عليه وسلم.
واألدهى من ذلك :أهنم يتخيلون وخييّلون إىل الناس أهنم هم أهل احلقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا
ابهلل اتصاال أسقط عنهم التكليف ،ومسا هبم عن حضيض األخذ ابألسباب ،ما داموا يف زعمهم مع
رب األرابب ،وهذا -لعمر هللا -هو املصاب العظيم ،الذي عمل له الباطنية وأضراهبم من أعداء
اإلسالم ،كيما يهدموا التشريع من أصوله ،وأيتوا بنيانه من قواعده :ي ِري ُدو َن أَ ْن يط ِْف ُؤا نُور َِّ
اَّلل َ ُ ُ
ِأبَفْ ِ
واه ِه ْم
()162/1
ورهُ َولَ ْو َك ِرهَ الْكافِ ُرو َن [سورة التوبة آية.]32 : ِ
اَّللُ إَِّال أَ ْن يُت َّم نُ َ
َو َأي َْىب َّ
فواجب النصح إلخواننا املسلمني يقتضينا أن حن ّذرهم الوقوع يف هذه الشباك ،ونشري عليهم أن
ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسري اإلشارية امللتوية ،وال يعولوا على أشباهها مما ورد يف كالم
القوم ابلكتب الصوفية؛ ألهنا كلها أذواق ومواجيد خارجة عن حدود الضبط والتقييد .وكثريا ما
خيتلط فيها اخليال ابحلقيقة واحلق ابلباطل ،وإذ جتردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل ،وإذا
ظهر فقد يكون من الكفرايت الفاحشة ،اليت نستبعد صدورها من العلماء واملتصوفة ،بل من صادقي
عامة املسلمني ،واليت نرى أن الطعن فيها ابلدس والوضع أقرب وأسلم من الطعن فيمن عزيت إليه
ابلكفر والفسق.
إن أسوأ ما يف هذه الكتب :أهنا توهم الضعفاء يف فهم الشريعة واجلاهلني هبا أن ما فيها هو احلقيقة
اليت وصلت إليها قلوب العابدين أو املفتونني ،واحلقيقة أن هذه العلوم طمس للحقيقة اليت أنزهلا هللا
تعاىل وبينها وشرحها رسوله صلّى هللا عليه وسلم ،وما هذه الشطحات إال نوع من اخلبل يراد منه
صرف الناس عن احلقائق اإلهلية اليت جاءت يف الكتاب والسنة؛ فأحيت أمة ،وأقامت لإلسالم دولة،
وأعزت شعواب كانت مغمورة ،وحررت إنسانية كانت مستعبدة لشياطني اإلنس واجلن ،وشادت
لإلنسانية صروحا من العلوم والفنون؛ قامت على أصول رابنية ،وأعمدة نورانية ،حتت مظلة من
السعادة والسيادة اليت مل ير العامل مثيال هلا .اه.
فاألحرى ابلفطن العاقل ،أن ينأى بنفسه عن هذه املزالق ،وأن يفر بدينه من هذه الشبهات ،وأمامه
يف الكتاب والسنة وشروحهما على قوانني الشريعة واللغة رايض وجنات أَتَ ْستَـ ْب ِدلُو َن الَّ ِذي ُه َو أَ ْدىن
ِ
ِابلَّذي ُه َو َخ ٌْ
ري [سورة البقرة آية]61 :؟!
قال صلّى هللا عليه وسلم« :فمن اتقى الشبهات فقد استربأ لدينه وعرضه».
وقال صلّى هللا عليه وسلم« :دع ما يريبك إىل ما ال يريبك».
وابهلل تعاىل توفيقي وتوفيقك .نسأل هللا تعاىل أن خيرجنا من ظلمات األوهام ،وأن حيققنا حبقائق الدين
وتعاليم اإلسالم آمني .اه «.»1
__________
( )1من املناهل بتصرف قليل.
()163/1
علوم احلديث
أمهية علوم احلديث
إن املسلمني اشتدت عنايتهم -من عهد الصدر األول -حبفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة،
ِبا مل تعن به أمة قبلها ،فحفظوا القرآن ،ورووه عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم متواترا آية آية،
وكلمة كلمة ،وحرفا حرفا ،حفظا يف الصدور ،وإثباات ابلكتابة يف املصاحف ،حىت رووا أوجه نقطه
بلهجات القبائل ،ورووا طرق رمسه يف املصحف ،وألفوا يف ذلك كتبا مطولة وافية ،وحفظوا -أيضا-
واملبني لشرعه ،واملأمور إبقامة دينه ،وكل
عن نبيهم كل أقواله ،وأفعاله ،وأحواله ،وهو املبلّغ عن ربهّ ،
أقواله وأفعاله وأحواله بيان للقرآن ،وهو الرسول املعصوم ،واألسوة احلسنة الذي قال هللا تعاىل يف
صفتهَ :وما يَـ ْن ِط ُق َع ِن ا ْهلَوى ( )3إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُوحى [سورة النجم آية.]4 ،3 :
ني لِلن ِ
َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم َولَ َعلَّ ُه ْم يَـتَـ َف َّك ُرو َن [سورة النحل آية.]44 : وقال له :وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ
ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ َ َ ْ
وكان عبد هللا بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ،فنهته
قريش ،فذكر ذلك للرسول صلّى هللا عليه وسلم فقال« :اكتب ،فو الذي نفسي بيده ما خرج مين
إال حق»[ .رواه أمحد يف املسند إبسناد صحيح .ورواه أيضا أبو داود ،واحلاكم وغريمها].
عاما ،فقال« :وليبلّغ الشاهد
وأمر صلّى هللا عليه وسلم املسلمني يف حجة الوداع ابلتبليغ عنه أمرا ّ
الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه» [رواه البخاري وغريه].
فرب مبلّغ أوعى من سامع» [رواه البخاري
وقال صلّى هللا عليه وسلم« :فليبلّغ الشاهد الغائبّ ،
وغريه].
ففهم املسلمون من كل هذا أنه جيب عليهم أن حيفظوا عن رسوهلم كل شيء ،وقد فعلوا ،وأ ّدوا
األمانة على وجهها ،ورووا األحاديث عنه صلّى هللا عليه وسلم ،واجتهد علماء احلديث يف رواية كل
ما رواه عنه الرواة ،وإن مل يكن صحيحا عندهمُ ،ث اجتهدوا يف التوثق من صحة كل حديث ،وكل
حرف رواه الرواة ،ونقدوا أحواهلم ورواايهتم ،واحتاطوا أشد االحتياط يف النقل ،فكانوا حيكمون
بضعف احلديث ألقل شبهة يف سرية الناقل الشخصية ،مما يؤثر يف العدالة ،أما إذا اشتبهوا يف صدقه،
أو علموا أنه كذب يف شيء من كالمه؛ فقد رفضوا روايته ،ومسوا حديثه «موضوعا» أو «مكذواب»
وإن مل يعرف عنه الكذب يف رواية احلديث ،مع علمهم أبنه قد يصدق الكذوب.
وكذلك توثقوا من حفظ كل راو ،وقارنوا رواايته بعضها ببعض ،وبرواايت غريه،
()165/1
فإن وجدوا منه خطأ كثريا وحفظا غري جيد :ضعفوا روايته ،وإن كان ال مطعن عليه يف شخصه وال يف
صدقه ،خشية أن تكون روايته مما خانه فيه احلفظ.
وقد حرروا القواعد اليت وضعوها لقبول احلديث ،وهي قواعد هذا الفن ،وحققوها أبقصى ما يف
الوسع اإلنساين ،احتياطا لدينهم .فكانت قواعدهم اليت ساروا عليها أصح القواعد وأعالها وأدقها.
وقلدهم فيها العلماء يف أكثر الفنون النقلية ،فقلدهم علماء اللغة ،وعلماء األدب ،وعلماء التاريخ،
وغريهم ،فاجتهدوا يف رواية كل نقل يف علومهم إبسناده ،كما تراه يف كتب املتقدمني السابقني،
وطبقوا قواعد هذا العلم عند إرادة التوثق من صحة النقل يف أي شيء يرجع فيه إىل النقل.
فهذا العلم يف احلقيقة أساس لكل العلوم النقلية ،وهو جدير ِبا وصفه به صديقي وأخي العالمة
الشيخ حممد عبد الرزاق محزة من أنه (منطق املنقول وميزان تصحيح األخبار) اه «.»1
()166/1
وأماله شيئا بعد شيء ،فلهذا مل حيصل ترتيبه على الوضع املناسب ،واعتىن بتصانيف اخلطيب
املفرقة ،فجمع شتات مقاصدها ،وضم إليها من غريها خنب فوائدها ،فاجتمع يف كتابه ما تفرق يف
غريه ،فلهذا عكف الناس عليه ،وساروا بسريه ،فال حيصى كم انظم له وخمتصر ،ومستدرك ومقتصر،
ومعارض له ومنتصر» اه كالم احلافظ ابختصار.
فقد ظهر لك بشهادة احلافظ ابن حجر أن كتاب ابن الصالح رمحه هللا مجع شتات الكتب وعيوهنا،
من كتب اخلطيب وغريها ممن تقدمه وأتخر.
ُث جاء اإلمام ابن كثري الفقيه احلافظ املفسر فاختصرها يف رسالة لطيفة مساها «الباعث احلثيث على
معرفة علوم احلديث» بعبارة سهلة فصيحة ،ومجل مفهومة مليحة ،واستدرك على ابن الصالح
فسهل على طالب الفن تناوله يف رسالة وسط وخري األمور
استدراكات مفيدة ،يبدؤها بقوله «قلت» ّ
خمال ،وال أطاهلا تطويال منتشرا مشوشا ،فكانت خطوة أوىل
أوساطها -مل خيتصرها اختصارا مضغوطا ّ
ومرحلة ابتدائية ،يدرسها الطالب ،فريتقي منها إىل دراسة أصلها وما بعده من كتب األئمة ،حىت
ينتهي إىل التحقيق فيديل بدلوه مع ال ّدالء .اه كالم الشيخ حممد عبد الرزاق محزة ابختصار.
وقد ألّف الشيخ أمحد شاكر شرحا على الباعث احلثيث مجع فيه أهم ما قاله العلماء يف كل قضية
احتاجت إىل زايدة يف البحث أو ترجيح لرأي على آخر ،أو ذكر ألسباب االختالف ،أو إطناب ال
بد منه ليتسع فهم طالب العلم ،وليكون على بصرية كافية يف دراسته لعلوم احلديث حبيث ال حيتاج
إىل غري هذا الكتاب إال إذا أراد توسعا ذا ختصص ،أو كان ممن ال يكتفي من العلم إال ابإلحاطة بكل
ما قيل فيه على قدر طاقته .فجزى هللا اجلميع خري اجلزاء ورمحهم رمحة واسعة.
ألقاب احملدثني
قال أمحد شاكر :واعلم أنه قد أطلق احملدثون ألقااب على العلماء ابحلديث.
فأعالها« :أمري املؤمنني يف احلديث» وهذا لقب مل يظفر به إال األفذاذ النوادر ،الذين هم أئمة هذا
الشأن ،واملرجع إليهم فيه ،كشعبة بن احلجاج ،وسفيان الثوري ،وإسحاق بن راهويه ،وأمحد بن
حنبل ،والبخاري ،والدارقطين ،ويف املتأخرين ابن حجر العسقالين ،رضي هللا عنهم مجيعا.
ُث يليه« :احلافظ» وقد ّبني احلافظ املزي احلد الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه احلافظ
فقال :أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف ترامجهم وأحواهلم
()167/1
وبلداهنم :أكثر من الذين ال يعرفهم ،ليكونوا احلكم للغالب» .فقال له التقي السبكي:
هذا عزيز يف هذا الزمان ،أدركت أنت أحدا كذلك؟ .فقال :ما رأينا مثل الشيخ الدمياطيُ ،ث قال:
راي من الثّرى؟!
وابن دقيق العيد كان له يف هذا مشاركة جيدة ،ولكن أين الثّ ّ
فقال السبكي :كان يصل إىل هذا احلد؟ قال :ما هو إال أنه كان يشارك مشاركة جيدة يف هذا ،أعين
يف األسانيد ،وكان يف املتون أكثر ،ألجل الفقه واألصول.
وقال أبو الفتح بن سيد الناسّ :أما احمل ّدث يف عصران ،فهو من اشتغل ابحلديث رواية ودراية ،ومجع
رواته ،واطّلع على كثري من الرواة والرواايت يف عصره ومتيز يف ذلك ،حىت عرف فيه خطه ،واشتهر
ضبطه ،فإن توسع يف ذلك حىت عرف شيوخه وشيوخ شيوخه ،طبقة بعد طبقة ،حبيث يكون ما يعرفه
من كل طبقة أكثر مما جيهله ،فهذا هو احلافظ.
وسأل شيخ اإلسالم احلافظ أبو الفضل بن حجر العسقالين شيخه احلافظ أاب الفضل العراقي فقال:
ما يقول سيدي يف احلد الذي إذا بلغه الطالب يف هذا الزمن استحق أن يسمى حافظا؟ وهل يتسامح
بنقص بعض األوصاف اليت ذكرها املزي وأبو الفتح يف ذلك ،لنقص زمانه ،أم ال؟ فأجاب :االجتهاد
يف تلك خيتلف ابختالف غلبة الظن يف وقت ببلوغ بعضهم للحفظ ،وغلبته يف وقت آخر،
وابختالف من يكون كثري املخالطة للذي يصفه بذلك.
وكالم املزي فيه ضيق ،حبيث مل يسم ممن رآه هبذا الوصف إال الدمياطي.
وأما كالم أيب الفتح فهو أسهل ،أبن ينشط بعد معرفة شيوخه إىل شيوخ شيوخه وما فوق.
وال شك أن مجاعة من احلفاظ املتقدمني كان شيوخهم التابعني أو أتباع التابعني وشيوخ شيوخهم
الصحابة أو التابعني ،فكان األمر يف ذلك الزمان أسهل ،ابعتبار أتخر الزمان ،فإن اكتفى بكون
احلافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه أو طبقة أخرى؛ فهو سهل ملن جعله فيه ذلك دون غريه من
حفظ املتون واألسانيد ،ومعرفة أنواع علوم احلديث كلها ،ومعرفة الصحيح من السقيم ،واملعمول به
من غريه ،واختالف العلماء ،واستنباط األحكام ،فهو أمر ممكن .خبالف ما ذكر من مجيع ما ذكر؛
فإنه حيتاج إىل فراغ وطول عمر مع انتفاء املوانع.
وقد روي عن الزهري أنه قال :ال يولد احلافظ إال يف كل أربعني سنة .فإن صح كان املراد رتبة
الكمال يف احلفظ واإلتقان ،وإن وجد يف زمانه من يوصف ابحلفظ ،وكم من حافظ وغريه أحفظ منه
«.»1
وأدىن من «احلافظ» درجة يسمى «احمل ّدث» .قال التاج السبكي يف كتابه:
__________
( )1نقل ذلك كله السيوطي يف التدريب (ص .)8 ،7
()168/1
«معيد النعم» فيما نقله يف التدريب :إمنا احملدث :من عرف األسانيد والعلل ،وأمساء الرجال ،والعايل
والنازل ،وحفظ مع ذلك مجلة مستكثرة من املتون ،ومسع الكتب الستة ،ومسند أمحد بن حنبل،
وسنن البيهقي ،ومعجم الطرباين ،وضم إىل هذا القدر ألف جزء من األجزاء احلديثية ،وهذا أول
درجاته ،فإذا مسع ما ذكرانه وكتب الطباق ،ودار على الشيوخ ،وتكلم يف العلل والوفيات واألسانيد؛
كان يف أول درجات احملدثنيُ ،ث يزيد هللا من يشاء ما يشاء.
ودون هذين من يسمى «املسند» -بكسر النون -وهو الذي يقتصر على مساع األحاديث
وإمساعها ،من غري معرفة بعلومها أو إتقان هلا ،وهو الرواية فقط.
اجلامع:
فالقسم األول :هو اجلوامع ،واجلامع يف اصطالح احملدثني :ما يوجد فيه مجيع أقسام احلديث :أي
أحاديث العقائد ،وأحاديث األحكام ،وأحاديث الرقاق ،وأحاديث آداب األكل والشرب ،وأحاديث
والسري ،وأحاديث الفنت ،وأحاديث
السفر ،والقيام والقعود ،واألحاديث املتعلقة ابلتفسري التاريخ ّ
املناقب واملثالب .وقد صنّف أهل العلم ابحلديث يف كل فن من هذه الفنون الثمانية تصانيف مفردة.
فاجلامع :ما يوجد فيه أمنوذج كل فن من هذه الفنون املذكورة ،كاجلامع الصحيح للبخاري ،واجلامع
الصحيح للرتمذي.
وأما صحيح مسلم :فإنه وإن كانت فيه أحاديث تلك الفنون؛ لكن ليس فيه ما يتعلق بفن التفسري
والقراءة ،وهلذا ال يقال له اجلامع كما يقال ألخويه.
املسند:
القسم الثاين من املصنفات يف احلديث :املسانيد :واملسند يف اصطالحهم :ما ذكرت فيه أحاديث
الصحابة إما حسب الرتتيب اهلجائي ألمسائهم ،وإما حسب سوابقهم اإلسالمية ،وإما حسب شرف
النسب ،فإن روعي الرتتيب اهلجائي ألمسائهم؛ فاألحاديث املروية عن أيب بكر الصديق رضي هللا عنه
تق ّدم ،وكذا أحاديث أسامة
()169/1
ابن زيد ،وأنس بن مالك ،وحنومها على أحاديث الصحابة اآلخرين ،وإن مجع على السوابق
اإلسالمية؛ فتقدم العشرة املبشرين ابجلنة ،وتذكر أحاديث اخللفاء الراشدين على الرتتيبُ ،ث أحاديث
أهل بدر ،وأهل احلديبيةُ ،ث مسلمة الفتحُ ،ث أحاديث النسوة الصحابيات ،وتقدم األزواج املطهرات
على كلهن ،ومل تقع رواية احلديث عن البنات الطاهرات إال القدر اليسري من سيدة النساء؛ ألهنن
منت يف حياة النيب صلّى هللا عليه وسلم ،وماتت سيدة النساء «فاطمة» بعده بستة أشهر ومل جتد
رضي هللا عنها فرصة الرواية.
املعجم:
القسم الثالث منها :املعاجم ،واملعجم يف اصطالح احملدثني ،ما تذكر فيه األحاديث على ترتيب
الشيوخ سواء اعترب تقدم وفاة الشيخ أم توافق حروف التهجي ،أو الفضيلة ،أو التقدم يف العلم
والتقوى ،ولكن الغالب هو الرتتيب على حروف اهلجاء ،ومن هذا القسم املعاجم الثالثة للطرباين.
اجلزء والرسالة األربعون:
القسم الرابع منها :األجزاء -واجلزء يف اصطالحهم ،أتليف األحاديث املروية عن رجل واحد ،سواء
كان ذلك الرجل يف طبقة الصحابة ،أو من بعدهم ،كجزء حديث أيب بكر ،وجزء حديث مالك،
وقس عليهما.
وهذا القسم -أيضا -كثري ج ّدا.
وقد خيتارون من املطالب الثمانية املذكورة يف صفة اجلامع مطلبا جزئيّا ويصنّفون فيه مبسوطا ،كما
واآلجري يف ابب «رؤية
ّ صنف أبو بكر بن أيب الدنيا يف ابب «النية وذم الدنيا» كتابني مبسوطني،
هللا».
وعلى هذا القياس صنّفت كتب كثرية يف جزئيات تلك املطالب الثمانية ،وللحافظ ابن حجر،
واحلافظ السيوطي يد طوىل يف أتليف الرسائل ،وهي القسم اخلامس.
والقسم السادس :األربعون حديثا :وهو أن جيمعها يف ابب واحد أو أبواب شىت بسند واحد أو
أسانيد متعددة ،وهو أيضا كثري ج ّدا كما يسمع ويروى.
فاحلاصل :أن أقسام التصانيف يف علم احلديث ترجع إىل هذه األنواع الستة املذكورة ،ويقال للرسائل
الكتب أيضا .اه ملخصا.
املستخرجات :ومن أنواع كتب احلديث املستخرجات.
()170/1
قال السيوطي يف التدريب :وموضوع املستخرج كما قال العراقي أن أييت املصنف إىل الكتاب
فيخرج أحاديثه أبسانيد لنفسه من غري طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه يف شيخه
كصحيح مسلم ّ
أو من فوقه.
قال شيخ اإلسالم :وشرطه أن ال يصل إىل شيخ أبعد حىت يفقد سندا يوصله إىل األقرب لعذر من
علو أو زايدة مهمة ،قال :ولذلك يقول أبو عوانة يف مستخرجه على مسلم بعد أن يسوق طرق
ّ
ملخرجهُ .ث يسوق أسانيد جيتمع فيها مع مسلم فيمن فوق ذلك ورِبا قال :من
مسلم كلها :من هنا ّ
هنا مل خيرجاه .قال :وال يظن أنه يعين البخاري ومسلما فإين استقريت صيغة يف ذلك فوجدته إمنا يعين
مسلما وأاب الفضل أمحد بن سلمة؛ فإنه كان قرين مسلم وصنّف مثل مسلم ،ورِبا أسقط املستخرج
أحاديث مل جيد هبا سندا يرتضيه ،ورِبا ذكرها من طريق صاحب الكتاب .اه.
واملستخرجات على الصحيحني أو على أحدمها كثرية.
فاملستخرج على صحيح البخاري لإلمساعيلي ،وللربقاين ،والبن أمحد الغطريفي ،وأليب عبد هللا بن أيب
ذهل ،وأليب بكر بن مردويه.
واملستخرج على صحيح مسلم أليب عوانه األسفراييين ،وأليب جعفر بن محدان ،وأليب بكر حممد بن
رجاء النيسابوري ،وأليب عمران موسى بن العباس اجلويين ،وأليب نصر الطوسي ،وأليب سعيد بن أيب
عثمان احلريي .وغريهم.
واملستخرج على كل منهما أليب نعيم األصبهاين ،وأيب عبد هللا بن األحزم ،وأيب ذر اهلروي وأيب حممد
اخلالل ،وأيب على املأسرخسي ،وأيب مسعود سليمان بن إبراهيم األصبهاين ،وأيب بكر اليزدي ،وأيب
بكر بن عبدان الشريازي.
فائدة:
اعلم أن هذه املستخرجات مل يلتزم فيها موافقة الصحيحني يف األلفاظ؛ ألهنم إمنا يروون ابأللفاظ اليت
وقعت هلم عن شيوخهم ،فحصل فيها تفاوت قليل يف اللفظ ويف املعىن أقل ،وكذا ما رواه البيهقي يف
السنن واملعرفة وغريمها ،والبغوي يف شرح السنة وشبههما ،قائلني رواه البخاري أو مسلم ،ووقع يف
بعضه -أيضا -تفاوت يف املعىن أو يف األلفاظ ،فمرادهم بقوهلم ذلك :أهنما إمنا رواي أصل احلديث
دون اللفظ الذي أورده ،وحينئذ ال جيوز لك أن تنقل من الكتب املذكورة من املستخرجات وغريها
حديثا وتقول فيه :هو كذا يف الصحيحني إال أن تقابله هبما ،أو يقول املصنّف :أخرجاه بلفظه،
()171/1
خبالف املختصرات من الصحيحني ،فإهنم نقلوا فيها ألفاظهما من غري زايدة وال تغيري.
ُث اعلم أن املستخرج ال خيتص ابلصحيحني؛ فقد استخرج حممد بن عبد امللك ابن أمين على سنن
أيب داود ،وأبو علي الطوسي على الرتمذي ،وأبو نعيم على التوحيد البن خزمية ،وأملى احلافظ أبو
الفضل العراقي على املستدرك مستخرجا مل يكمل.
املستدركات:
ومن أنواعها :املستدركات :واملستدرك :كتاب مجع مؤلفه فيه أحاديث استوفت حسب نظره شروط
األحاديث اليت ذكرها البخاري أو مسلم أو غريمها يف كتابه ولكنه مل يذكرها فيه وذلك كمستدرك
احلاكم وغريه.
كتب العلل:
ومن أنواعها :كتب العلل :وهي الكتب اليت جيمع فيها األحاديث املعلولة مع بيان عللها ،ومن
صنّف يف هذا النوع :اإلمام مسلم بن احلجاج صاحب الصحيح ،واإلمام
()172/1
احلافظ أبو حيىي زكراي بن حيىي الساجي .قال الذهيب يف التذكرة :وللساجي كتاب جليل يف علل
احلديث يدل على تبحره يف هذا الفن .اه ملخصا من مقدمة «حتفة األحوذي».
اصطالحات لفظية لعلماء احلديث
التعريف أبلفاظ يتداوهلا أهل احلديث:
املسند:
قال احلاكم :هو ما اتصل إسناده إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم.
وقال اخلطيب :هو ما اتصل إىل منتهاه .وحكى ابن عبد الرب :أنه املروي عن رسول هللا صلّى هللا
عليه وسلم سواء كان متصال أو منقطعا ،فهذه أقوال ثالثة.
املتصل:
ويقال له« :املوصول» أيضا ،وهو ينفي اإلرسال واالنقطاع ،ويشمل املرفوع إىل النيب صلّى هللا عليه
وسلم ،واملوقوف على الصحايب أو من دونه.
املرفوع:
هو ما أضيف إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم خاصة ،ال يقع مطلقه على غريه سواء كان متصال
أو منقطعا.
املوقوف:
هو ما أضيف إىل الصحايب قوال أو فعال أو حنوه متصال كان أو منقطعا ،ويستعمل يف غريه مقيدا
فيقال :حديث كذا وقفه فالن على عطاء مثال.
املعضل:
هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا ،ومنه ما يرسله اتبع التابعي.
املقطوع:
هو املوقوف على التابعي قوال له ،أو فعال متصال كان أو منقطعا.
املنقطع:
هو ما مل يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه ،فإن كان الساقط رجلني فأكثر مسّي -أيضا-
«معضال» بفتح الضاد املعجمة.
املرسل:
هو عند الفقهاء ،وأصحاب األصول ،واخلطيب احلافظ أيب بكر البغدادي ،ومجاعة من احمل ّدثني :ما
انقطع إسناده على أي وجه كان انقطاعه فهو عندهم ِبعىن املنقطع .وقال مجاعات من احملدثني أو
يسمى مرسال إال ما أخرب فيه التابعي عن النيب صلّى هللا عليه وسلم ،وهذا هو الذي
أكثرهم :ال ّ
اختلف يف العمل به؛ فمذهب احمل ّدثني أو مجهورهم ومجاعة من الفقهاء أنه ال حيتج ابملرسل.
ومذهب مالك وأيب حنيفة وأمحد وأكثر الفقهاء أنه حيتج به.
ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إىل املرسل ما يعضده احتج به ،وذلك أبن يروى أيضا مسندا أو
مرسال من جهة أخرى ،أو يعمل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء.
وأما مرسل الصحايب :وهو روايته ما مل يدركه أو حيضره كقول عائشة رضي هللا عنها:
()173/1
أول ما بدئ به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم من الوحي الرؤاي الصاحلة .فمذهب الشافعي
واجلماهري أنه حيتج به .وقال األستاذ اإلمام أبو إسحاق األسفرائيين الشافعي :ال حيتج به إال أن
يقول :إنه ال يروى إال عن صحايب والصواب األول.
()174/1
احلديث القدسي
معىن احلديث القدسي:
احلديث القدسي :هو الذي يرويه النيب صلّى هللا عليه وسلم ،على أنه من كالم هللا تعاىل ،فالرسول
انقل هلذا الكالم ،راو له ولكن بلفظ من عنده هو ،يتبدى ذلك صرحيا فيما ينقل الرواة يف آخر سند
احلديث .قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم :قال هللا تعاىل ،أو قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم
عز وجل .ويطلق بعض العلماء على األحاديث القدسية اسم «األحاديث اإلهلية»
فيما يرويه عن ربه ّ
و «األحاديث الرابنية».
والقدسي :نسبة إىل القدس وهي نسبة تكرمي وإجالل؛ ألهنا نسبة إىل الطهارة والتنزيه ،فالقدس
تطهر ،ومنه :البيت املق ّدس؛ والتقديس لغة :تنزيه هللا تعاىل ،والتقديس :التطهري والتربيك ،وتق ّدسّ :
ك
س لَ َ ِ ألنه يتقدس فيه من الذنوب ،ويف القرآن الكرمي على لسان املالئكة :وَْحنن نُ ِ ِ ِ
سبّ ُح حبَ ْمد َك َونُـ َق ّد ُ
َ ُ َ
[سورة البقرة آية.]30 :
ك أي نط ّهر أنفسنا لك ،وكذلك نفعل ِبن أطاعك ،نقدسه :أي نطهره. س لَ َ ِ
الزجاج :معىن َونُـ َق ّد ُ
قال ّ
طهرت. ويقول ابن األثري :ومنه احلديث« :ال ق ّدست ّأمة ال يؤخذ لضعيفها من قويّها» ،أي ال ّ
وأما عن روايتها :فقد لوحظ أن لروايتها صيغتني:
عز وجل.
إحدامها :أن يقول الراوي :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ّ
والثانية :أن يقول :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم :قال هللا تعاىل ،أو يقول هللا تعاىل :واملعىن
واحد ،إال أ ّن العبارة األوىل هي عبارة السلف ،ومن أجل ذلك آثرها اإلمام النووي رمحه هللا.
()175/1
()176/1
األحاديث ال خترج جبملتها عنه -كما قلنا -فهو صلّى هللا عليه وسلم ال ينطق عن اهلوى.
عز وجل يلقى إىل الرسول بكيفية من كيفيات الوحي -ال
أما احلديث القدسي :فاملعىن من عند هللا ّ
على التعيني -واأللفاظ والصياغة من عند رسول هللا صلوات هللا وسالمه عليه ،ومن هنا ترى أن
املراد بنسبة احلديث القدسي إىل هللا تعاىل نسبة مضمونه ال نسبة ألفاظه ،واستخدام هذه النسبة كثري
يف منابت العربية ،ففي القرآن الكرمي عديد من املواقف اليت حيكي هللا تعاىل فيها بلسان عريب،
مضمون خطاب كل رسول لقومه ،وجواب قومه له ،وغري ذلك ،وينسب ذلك إليهم مع أهنم مل
يكونوا يتكلمون العربية.
- 2ال يبدو يف األحاديث القدسية لون من ألوان األحكام التكليفية ،أو جواب على سؤال معني،
أو معاجلة لواقعة معينة ،وإمنا املالحظ أهنا تؤدي نوعا من التوجيه الرابين العظيم ،مما يتعلق بصحة
عز وجل وكمال قدرته وعظمته وسعة رمحته ،وبسالمة السلوك وصحة العمل الذي
العقيدة ابهلل ّ
ينسجم مع تلك العقيدة.
بينما جند األمر يف القرآن الكرمي واألحاديث األخرى أعم وأمشل ،على ما نعلم من طابع اإلمجال
والعموم يف القرآن على األغلب ،وطابع البيان والتفصيل فيما صح عن رسول هللا صلّى هللا عليه
وسلم من قول وفعل وتقرير.
- 3بينما جند القرآن الكرمي قد نقل ابلتواتر ،جند أن األحاديث القدسية أخبار آحادية ،واألحاديث
النبوية :فيها املتواتر اللفظي واملتواتر املعنوي ،ولكن غالبيتها العظمى أخبار آحاد.
()177/1
احلديث املتواتر
القسم األول :املتواتر ،وهو يف اللغة :عبارة عن جميء الواحد بعد الواحد بفرتة بينهما .مأخوذ من
الوتر.
ويف االصطالح :خرب أقوام بلغوا يف الكثرة إىل حيث حصل العلم بقوهلم.
وقيل يف تعريفه :هو خرب مجاعة يفيد بنفسه العلم بصدقه.
وقيل :خرب مجع عن حمسوس ميتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرهتم.
فقوهلم« :من حيث كثرهتم» إلخراج خرب قوم يستحيل كذهبم بسبب أمر خارج عن الكثرة .كالعلم
خبربهم ضرورة أو نظرا.
وقد اختلف يف العلم احلاصل ابلتواتر هل هو ضروري حاصل بغري نظر واستدالل أو نظري حيتاج
إليهما؟ فذهب اجلمهور إىل أنه ضروري بدهي.
وقال الكعيب وأبو احلسن البصري :إنه نظري ،قال الغزايل :إنه قسم اثلث ليس أوليّا وال كسبيّا،
وقال املرتضي ،واآلمد :ابلوقف.
واحلق قول اجلمهور؛ للقطع أبان جند نفوسنا جازمة بوجود البالد الغائبة عنا ووجود األشخاص املاضية
قبلنا جزما خاليا عن الرتدد جاراي جمرى جزمنا بوجود املشاهدات.
فاملنكر حلصول العلم الضروري ابلتواتر كاملنكر حلصول العلم الضروري ابملشاهدات وذلك سفسطة
ال يستحق صاحبها املكاملة.
نظراي ملا حصل ملن ال يكون من أهل
واحتج اجلمهور -أيضا -أبن العلم احلاصل ابلتواتر لو كان ّ
النظر كالصبيان املراهقني وكثري من العامة ،فلما حصل ذلك هلم علمنا أنه ليس بنظري ،وكما يندفع
أبدلة اجلمهور قول من قال إنه نظري يندفع -أيضا -قول من قال :إنه قسم اثلث ،وقول من قال
ابلوقف؛ ألن سبب وقفه ليس إال تعارض األدلة عليه ،وقد اتضح ِبا ذكران أنه ال تعارض فال وقف.
واعلم أنه مل خيالف أحد من أهل اإلسالم وال من العقالء يف أن خرب التواتر يفيد العلم ،وما روي من
اخلالف يف ذلك عن السمنية والربامهة ،فهو خالف ابطل ال يستحق قائله اجلواب عليه.
()178/1
()179/1
شروط السامعني
وأما الشروط اليت ترجع إىل السامعني فإهنا ثالثة:
األول :أن يكونوا عقالء؛ إذ يستحيل حصول العلم ملن ال عقل له.
والثاين :أن يكونوا عاملني ِبدلول اخلرب.
والثالث :أن يكونوا خالني عن اعتقاد ما خيالف ذلك اخلرب بشبهة تقليد أو حنوه.
حديث اآلحاد
القسم الثاين :اآلحاد :وهو خرب ال يفيد بنفسه العلم سواء كان ال يفيده أصال ،أو يفيده ابلقرائن
اخلارجة عنه ،فال واسطة بني املتواتر واآلحاد ،وهذا قول اجلمهور.
وقال أمحد بن حنبل :إن خرب الواحد يفيد بنفسه العلم.
وحكاه ابن حزم يف كتاب «األحكام» عن داود الظاهري واحلسني بن علي الكرابيسي ،واحلارث
احملاسيب قال :وبه نقول .وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس واختاره وأطال يف تقريره.
ونقل الشيخ يف التبصرة عن بعض أهل احلديث أن منها ما يوجب العلم؛ كحديث مالك عن انفع
عن ابن عمر وما أشبهه.
وحكى صاحب املصادر عن أيب بكر القفال :أنه يوجب العلم الظاهري.
وقيل يف تعريفه :هو مامل ينته بنفسه إىل التواتر سواء كثر رواته أو قلوا ،وهذا كاألول يف نفي الواسطة
بني التواتر واآلحاد.
وقد ذهب اجلمهور إىل وجوب العمل خبرب الواحد وأنه وقع التعبد به.
وقال القاشاين والرافضة وابن داود :ال جيب العمل به ،وحكاه املاوردي عن األصم وابن علية.
()180/1
قال ابن السمعاين :واختلفوا -يعين القائلني بعدم وجوب العمل خبرب الواحد -يف املانع من القبول،
فقيل :منع منه العقل وينسب إىل ابن علية واألصم.
وقال القاشاين من أهل الظاهر ،والشيعة :منع منه الشرع ،فقالوا :إنه ال يفيد إال الظن وإن الظن ال
يغين من احلق شيئا.
وجياب عن هذا أبنه عام خمصص ملا ثبت يف الشريعة من العمل أبخبار اآلحاد.
ُث اختلف اجلمهور يف طريق إثباته ،فاألكثر منهم قالوا :جيب بدليل السمع.
وقال أمحد بن حنبل والقفال وابن شريح ،وأبو احلسن البصري من املعتزلة ،وأبو جعفر الطوسي من
دل على وجوب العمل به ال حيتاج الناس إىل
اإلمامية ،والصرييف من الشافعية :إن الدليل العقلي ّ
معرفة بعض األشياء من جهة اخلرب الوارد.
وأما دليل السمع فقد استدلوا من الكتابِ :بثل قوله تعاىل :إِ ْن جاء ُكم ِ
فاس ٌق بِنَـبٍَإ [سورة احلجرات َ ْ
آية ،]6 :وِبثل قوله تعاىل :فَـلَ ْوال نَـ َف َر ِم ْن ُك ِّل فِ ْرقَ ٍة ِم ْنـ ُه ْم طائَِفةٌ [سورة التوبة آية.]122 :
ومن السنةِ :بثل قصة أهل قباء ملا أاتهم واحد فأخربهم أن القبلة قد حتولت فتحولوا ،وبلغ ذلك
النيب صلّى هللا عليه وسلم فلم ينكر عليهم.
وِبثل بعثه صلّى هللا عليه وسلم لعماله واحدا بعد واحد .وكذلك بعثه ابلفرد من الرسل يدعو الناس
إىل اإلسالم.
ومن اإلمجاع :إبمجاع الصحابة والتابعني على االستدالل خبرب الواحد ،وشاع ذلك وذاع ومل ينكره أحد
ولو أنكره منكر لنقل إلينا وذلك يوجب العلم العادي ابتفاقهم كالقول الصريح.
قال ابن دقيق العيد :ومن تتبع أخبار النيب صلّى هللا عليه وسلم والصحابة والتابعني ومجهور األمة ما
عدا هذا الفرقة اليسرية؛ علم ذلك قطعا .اه.
القول الفصل
وعلى اجلملة :فلم أيت من خالف يف العمل خبرب الواحد بشيء يصلح للتمسك به ،ومن تتبع عمل
الصحابة من اخللفاء وغريهم ،وعمل التابعني واتبعيهم أبخبار اآلحاد؛ وجد ذلك يف غاية الكثرة،
حبيث ال يتسع له إال مصنّف بسيط ،وإذا وقع من بعضهم تردد يف العمل به يف بعض األحوال،
فذلك ألسباب خارجة عن كونه خربا واحدا من ريبة يف الصحة ،أو هتمة للراوي ،أو وجود معارض
راجح أو حنو ذلك.
()181/1
أقسام اآلحاد
واعلم أن اآلحاد تنقسم إىل أقسام:
القسم األول :خرب الواحد وهو الذي تقدم ذكره ،وهو املسمى ابلغريب.
والقسم الثاين :املستفيض ،وهو ما رواه ثالثة فصاعدا يف كل طبقة.
وقيل :ما زاد على الثالثة.
وقال أبو إسحاق الشريازي :أقل ما تثبت به االستفاضة اثنان.
قال السبكي :واملختار عندان أن املستفيض ما يعده الناس شائعا.
والقسم الثالث :املشهور ،وهو ما اشتهر ولو يف القرن الثاين أو الثالث إىل حد ينقله ثقات ال يتوهم
تواطؤهم على الكذب ،وال تعترب الشهرة بعد القرنني ،هكذا قال احلنفية فاعتربوا التواتر يف بعض
طبقاته وهي الطبقة اليت روته يف القرن الثاين أو الثالث فقط ،فبينه وبني املستفيض عموم وخصوص
من وجه لصدقهما على ما رواه الثالثة فصاعدا ،ومل يتواتر يف القرن األول ُث تواتر يف أحد القرنني
املذكورين ،وانفراد املستفيض إذا مل ينته يف أحدمها إىل التواتر ،وانفراد املشهور فيما رواه اثنان يف
القرن األول ُث تواتر يف الثاين والثالث.
وجعل اجلصاص املشهور قسما من املتواتر ووافقه مجاعة من أصحاب احلنفية ،وأما مجهورهم فجعلوه
قسيما للمتواتر ال قسما كما تقدم.
واعلم أن اخلالف الذي ذكرانه يف أول هذا البحث من إفادة خرب اآلحاد الظن أو العلم مقيد ِبا إذا
كان خربا واحدا مل ينضم إليه ما يقويه ،وأما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهورا أو مستفيضا فال
جيري فيه اخلالف املذكور.
وال نزاع يف أن خرب الواحد إذا وقع اإلمجاع على العمل ِبقتضاه فإنه يفيد العلم؛ ألن اإلمجاع عليه
صريه من املعلوم صدقه.
قد ّ
وهكذا خرب الواحد إذا تلقته األمة ابلقبول فكانوا بني عامل به ومتأول له.
ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم ،فإن األمة تلقت ما فيهما ابلقبول ومن مل يعمل
ابلبعض من ذلك فقد أوله ،والتأويل فرع القبول.
قيل :ومن خرب الواحد املعلوم صدقه أن خيرب به يف حضور مجاعة هي نصاب التواتر ومل يقدحوا يف
روايته مع كوهنم ممن يعرف علم الرواية وال مانع مينعهم من القدح يف ذلك ويف هذا نظر .اه من إرشاد
الفحول للشوكاين مع اختصار.
()182/1
()183/1
واألوىل عدم القبول ،وعمل أهل املدينة ال تقوم به حجة على ما سيأيت .على أان مننع ثبوت هذا
اإلمجاع الفعلي عنهم.
الشرط الثاين -اإلسالم:
فال تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراين أو غريمها إمجاعا ،قال الرازي يف احملصول :أمجعت األمة
على أنه ال تقبل روايته سواء علم من دينه االحرتاز عن الكذب أو مل يعلم .قال :واملخالف من أهل
القبلة إذا كفرانه كاجملسم وغريه هل تقبل روايته أم ال؟ احلق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب ال تقبل
روايته ،وإال قبلناها وهو قول أيب احلسني البصري.
وقال القاضي أبو بكر ،والقاضي عبد اجلبار :ال تقبل روايتهم.
واحلاصل :أنه إن علم من مذهب املبتدع جواز الكذب مطلقا مل تقبل روايته قطعا ،وإن علم من
مذهبه جوازه يف أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه ،أو الكذب فيما هو ترغيب يف طاعة
أو ترهيب عن معصية ،فقال اجلمهور ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد اجلبار ،والغزايل واآلمدي :ال
يقبل قياسا على الفاسق بل هو أوىل.
وقال أبو احلسني البصري :يقبل ،وهو رأي اجلويين وأتباعه .واحلق عدم القبول مطلقا يف األول،
وعدم قبوله يف ذلك األمر اخلاص يف الثاين ،وال فرق يف هذا بني املبتدع الذي يك ّفر ببدعته ،وبني
املبتدع الذي ال يك ّفر ببدعته.
وأما إذا كان ذلك املبتدع ال يستجيز الكذب؛ فاختلفوا فيه على أقوال:
القول األول :رد روايته مطلقا؛ ألنه قد فسق ببدعته ،فهو كالفاسق بفعل املعصية ،وبه قال القاضي
واألستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشريازي.
القول الثاين :أهنا تقبل ،وهو ظاهر مذهب الشافعي ،وابن أيب ليلى ،والثوري ،وأيب يوسف.
القول الثالث :أنه إذا كان داعية إىل بدعته مل يقبل ،وإال قبل ،وحكاه القاضي عبد الوهاب يف
امللخص عن مالك وبه جزم سليم ،قال القاضي عياض :وهذا حيتمل أنه إذا مل يدع يقبل وحيتمل أنه
ال يقبل مطلقا .اه.
واحلق أنه ال يقبل فيما يدعو به إىل بدعته ويقويها ال يف غري ذلك ،قال اخلطيب:
وهو مذهب أمحد ،ونسبه ابن الصالح إىل األكثرين ،قال :وهو أعدل املذاهب وأوالها ،ويف
الصحيحني كثري من أحاديث املبتدعة غري الدعاة احتجاجا واستشهادا كعمران بن حطان ،وداود بن
احلصني وغريمها ،ونقل أبو حامت بن حبان يف كتاب الثقات اإلمجاع على ذلك.
()184/1
قال ابن دقيق العيد :جعل بعض املتأخرين من أهل احلديث هذا املذهب متفقا عليه وليس كما قال.
وقال ابن القطان يف كتاب «الوهم واإليهام» :اخلالف إمنا هو يف غري الداعية ،أما الداعية :فهو
ساقط عند اجلميع .قال أبو الوليد الباجي :اخلالف يف الداعية ِبعىن أنه يظهر بدعتهِ ،بعىن محل
الناس عليها فلم خيتلف يف ترك حديثه.
اجلارية بني الناس املختلفة ابختالف األشخاص واألزمنة واألمكنة واألحوال ،فال مدخل لذلك يف
هذا األمر الديين الذي تنبين عليه قنطراتن عظيمتان وجسران كبريان ومها:
الرواية ،والشهادة .نعم من فعل ما خيالف ما يعده الناس مروءة عرفا ال شرعا فهو اترك للمروءة
العرفية ،وال يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية.
الصغائر والكبائر
اختلف الناس :هل املعاصي منقسمة إىل صغائر وكبائر ،أم هي قسم واحد؟
فذهب اجلمهور إىل أهنا صغائر وكبائر ،ويدل على ذلك قوله سبحانه :إِ ْن َجتْتَنِبُوا َكبائَِر ما تُـ ْنـ َه ْو َن َع ْنهُ
صيا َن [سورة سو َق َوال ِْع ْ ِ ِ ِ ِ
نُ َك ّف ْر َع ْن ُك ْم َسيّئات ُك ْم [سورة النساء آية ،]31 :وقولهَ :وَك َّرهَ إلَْي ُك ُم الْ ُك ْف َر َوالْ ُف ُ
احلجرات آية.]7 :
ويدل عليه ما ثبت عن النيب صلّى هللا عليه وسلم متواترا من ختصيص بعض الذنوب ابسم الكبائر
وبعضها أبكرب الكبائر.
وذهب مجاعة إىل أن املعاصي قسم واحد ،ومنهم األستاذ أبو إسحاق ،واجلويين ،وابن فورك ومن
اتبعهم ،قالوا :إن املعاصي كلها كبائر ،وإمنا يقال لبعضها صغرية ابلنسبة إىل ما هو أكرب كما يقال:
الزان صغرية ابلنسبة إىل الكفر ،والقبلة احملرمة صغرية ابلنسبة إىل الزان وكلها كبائر .قالوا :ومعىن قوله:
إِ ْن َجتْتَنِبُوا َكبائَِر ما تُـ ْنـ َه ْو َن َع ْنهُ إن جتتنبوا الكفر ك ّفرت عنكم سيئاتكم اليت هي دون الكفر ،والقول
األول راجح.
وهاهنا مذهب اثلث ذهب إليه احلليمي ،فقال :إن املعاصي تنقسم حبسب حد الكبائر إىل ثالثة
أقسام :صغرية ،وكبرية ،وفاحشة ،فقتل النفس بغري حق كبرية ،فإن قتل ذا رحم له ففاحشة ،فأما
اخلدشة والضربة مرة أو مرتني فصغرية ،وجعل سائر الذنوب هكذا.
تعريف الكبائر
ُث اختلفوا يف الكبائر هل تعرف ابحلد ،أو ال تعرف إال ابلعدد؟ فقال اجلمهور:
إهنا تعرف ابحلدُ ،ث اختلفوا يف ذلك ،فقيل :إهنا املعاصي املوجبة للحد.
وقال بعضهم :هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد.
وقال آخرون :ما يشعر بقلة اكرتاث مرتكبها ابلدين.
وقيل :ما كان فيه مفسدة.
وقال اجلويين :ما نص الكتاب على حترميه أو أوجب يف حقه ح ّدا .وقيل :ما ورد
()186/1
()187/1
قال الرتمذي يف العلل :كل من كان متهما يف احلديث ابلكذب ،أو كان مغفال خيطئ الكثري ،فالذي
اختاره أكثر أهل احلديث من األئمة أن ال يشتغل ابلرواية عنه .اه.
واحلاصل :أن األحوال ثالثة :إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه؛ فمردود إال فيما علم أنه مل خيطئ
فيه ،وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه؛ فمقبول إال فيما علم أنه أخطأ فيه ،وإن استواي ،فاخلالف.
قال القاضي عبد اجلبار :يقبل ألن جهة التصديق راجحة يف خربه لعقله ودينه.
وقال الشيخ أبو إسحاق :إنه ير ّد.
وقيل :إنه يقبل خربه إذا كان مفسرا ،وهو أن يذكر من روى عنه ويعني وقت السماع منه وما أشبه
ذلك ،وإال فال يقبل .وبه قال القاضي حسني ،وحكاه اجلويين عن الشافعي يف الشهادة ،ففي الرواية
أوىل.
وقد أطلق مجاعة من املصنفني يف علوم احلديث أن الراوي إن كان اتم الضبط مع بقية الشروط
خف ضبطه؛ فحديثه من قسم احلسن ،وإن كثر غلطه؛
املعتربة فحديثه من قسم الصحيح ،وإن ّ
فحديثه من قسم الضعيف.
وقال الكيا الطربي :وال يشرتط انتفاء الغفلة ،وال يوجب حلوق الغفلة له ر ّد حديثه إال ما يعلم أنه قد
حلققه الغفلة فيه بعينه.
وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعرتيه الغفلة يف غري ما يرويه ،كما وقع ذلك جلماعة من احلفاظ؛ فإهنم
قد تلحقهم الغفلة يف كثري من أمور الدنيا ،فإذا رووا كانوا من أحذق الناس ابلرواية وأنبههم فيما
يتعلق هبا.
وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأيت.
الشرط اخلامس :أن ال يكون الراوي مدلسا ،وسواء كان التدليس يف املنت أو يف اإلسناد .أما
التدليس يف املنت :فهو أن يزيد يف كالم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم كالم غريه ،فيظن السامع أن
اجلميع من كالم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم.
وأما التدليس يف اإلسناد :فهو على أنواع:
فيغري عن الراوي وعن أبيه امسيهما وهذا نوع من الكذب.
أحدها :أن يكون يف إبدال األمساء ّ
واثنيها :أن يسميه بتسمية غري مشهورة ،فيظن السامع أنه رجل آخر غري من قصده الراوي ،وذلك
مثل من يكون مشهورا ابمسه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس ،إيهاما
()188/1
للمروي له أبنه رجل آخر غري ذلك الرجل ،فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع أبن
املروي عنه غري ذلك الرجل ،فال خيلو إما أن يكون ذلك الرجل املروي عنه ضعيفا ،وكان العدول إىل
غري املشهور من امسه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غري ذلك الضعيف ،فهذا التدليس قادح
يف عدالة الراوي ،وإما أن يكون مقصد الراوي جمرد اإلغراب على السامع مع كون املروي عنه عدال،
على كل حال فليس هذا النوع من التدليس جبرح كما قال ابن الصالح وابن السمعاين .وقال أبو
الفتح ابن برهان :هو جرح.
واثلثها :أن يكون التدليس إبطراح اسم الراوي األقرب وإضافة الرواية إىل من هو أبعد منه ،مثل أن
يرتك شيخه ويروي احلديث عن شيخ شيخه .فإن كان املرتوك ضعيفا؛ فذلك من اخليانة يف الرواية وال
يفعله إال من ليس بكامل العدالة .وإن كان املرتوك ثقة وترك ذكره لغرض من األغراض اليت ال تنايف
األمانة والصدق وال تتضمن التغرير على السامع ،فال يكون ذلك قادحا يف عدالة الراوي ،إذا جاء
يف الرواية بصيغة حمتملة حنو أن يقول :قال فالن ،أو روي عن فالن ،أو حنو ذلك ،أما لو قال:
حدثنا فالن ،أو أخربان فالن ،وهو مل حي ّدث ومل خيربه بل الذي حدثه أو أخربه وهو من ترك ذكره؛
فذلك كذب يقدح يف عدالته.
واحلاصل :أن من كان ثقة واشتهر ابلتدليس فال يقبل إال إذا قال :حدثنا ،أو أخربان ،أو مسعت ،ال
إذا مل يقل كذلك الحتمال أن يكون قد أسقط من تقوم احلجة ِبثله.
()189/1
وما روي عن بعضهم من تقدمي القياس يف بعض املواطن فبعضه غري صحيح ،وبعضه حممول على أنه
مل يثبت اخلرب عند من قدم القياس بوجه من الوجوه ،ومما يدل على تقدمي اخلرب على القياس حديث
معاذ؛ فإنه قدم العمل ابلكتاب والسنة على اجتهاده.
تنبيهات مهمة
- 1اعلم أنه ال يضر اخلرب عمل أكثر األمة خبالفه ،ألن قول األكثر ليس حبجة.
- 2وال يضره عمل أهل املدينة خبالفه خالفا ملالك وأتباعه؛ ألهنم بعض األمة وجلواز أنه مل يبلغهم
اخلرب.
- 3وال يضره عمل الراوي له خبالفه خالفا جلمهور احلنفية وبعض املالكية؛ ألان متعبدون ِبا أبلغنا
من اخلرب ومل نتعبد ِبا فهمه الراوي ،ومل أيت من قدم عمل الراوي على روايته حبجة تصلح
لالستدالل هبا.
- 4وال يضره كونه مما تعم به البلوى خالفا للحنفية وأيب عبد هللا البصري لعمل الصحابة والتابعني
أبخبار اآلحاد يف ذلك.
- 5وال يضره كونه يف احلدود والكفارات ،خالفا للكرخي من احلنفية وأيب عبد هللا البصري يف أحد
قوليه ،وال وجه هلذا اخلالف فهو خرب عدل يف حكم شرعي ،ومل يثبت يف احلدود والكفارات دليل
خيصها من عموم األحكام الشرعية واستدالهلم حبديث:
«ادرؤوا احلدود ابلشبهات» ابطل؛ فاخلرب املوجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها.
- 6وال يضره -أيضا -كونه زايدة على النص القرآين أو السنة القطعية خالفا للحنفية ،فقد قالوا:
إن خرب الواحد إذا ورد ابلزايدة يف حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخا ال يقبل ،واحلق القبول؛
ألهنا زايدة غري منافية للمزيد فكانت مقبولة.
ودعوى أهنا انسخة ممنوعة ،وهكذا إذا ورد اخلرب خمصصا للعام من كتاب أو سنة؛ فإنه مقبول ،ويبىن
العام على اخلاص خالفا لبعض احلنفية ،وهكذا إذا ورد مقيدا ملطلق الكتاب أو السنة القطعية.
- 7وال يضره كون روايه انفرد بزايدة فيه على ما رواه غريه إذا كان عدال فقد حيفظ الفرد ما ال
حيفظه اجلماعة ،وبه قال اجلمهور إذا كانت تلك الزايدة غري منافية للمزيد ،أما إذا كانت منافية
فالرتجيح ،ورواية اجلماعة أرجح من رواية الواحد.
وقيل :ال تقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية اجلماعة ،وإن كانت تلك الزايدة غري منافية للمزيد إذا
كان جملس السماع واحدا ،وكانت اجلماعة حبيث ال جيوز عليهم
()190/1
الغفلة عن مثل تلك الزايدة ،وأما إذا تعدد جملس السماع؛ فتقبل تلك الزايدة ابالتفاق.
ومثل :انفراد العدل ابلزايدة انفراده برفع احلديث إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم الذي وقفه
اجلماعة؛ ألنه يصدق عليه (زايدة الثقة).
وكذا انفراده إبسناد احلديث الذي أرسلوه.
وكذا انفراده بوصل احلديث الذي قطعوه؛ فإن ذلك مقبول منه؛ ألنه زايدة على ما قد رووه
وتصحيح ملا أعلّوه.
()191/1
املعىن املقصود ،بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم أييت يف بعض احلاالت بلفظ يف رواية،
ويف أخرى بغري ذلك اللفظ مما يؤدي معناه ،وهذا أمر ال شك فيه.
املذهب الثالث :التفصيل بني األوامر والنواهي وبني األخبار ،فتجوز الرواية ابملعىن يف األول دون
الثاين .قال املاوردي والروايين :أما األوامر والنواهي فيجوز روايتهما ابملعىن كقوله« :ال تبيعوا الذهب
ابلذهب» وروي أنه هنى عن بيع الذهب ابلذهب ،وقوله صلّى هللا عليه وسلم -أيضا« :-اقتلوا
األسودين يف الصالة» وروي :أنه أمر بقتل األسودين يف الصالة .قال :هذا جائز بال خالف ألن
«افعل» أمر« ،وال تفعل» هني ،فيتخري الراوي بينهما ،وإن كان اللفظ يف املعىن حمتمال مثل« :ال
طالق يف إغالق» وجب نقله بلفظه وال يعرب عنه بغريه؛ ألن كلمة «إغالق» حتتمل أكثر من معىن.
احلال الثالث :أن حيذف الراوي بعض لفظ اخلرب ،فينبغي أن ينظر فإن كان احملذوف متعلقا ابحملذوف
معنواي مل جيز ابالتفاق ،حكاه الصفي اهلندي وابن األنباري ،فالتعلق اللفظي
منه تعلقا لفظيّا أو ّ
كالتقييد ابالستثناء والشرط والغاية والصفة ،والتعلق املعنوي كاخلاص ابلنسبة إىل العام ،واملقيد
ابلنسبة إىل املطلق ،واملبني ابلنسبة إىل اجململ ،والناسخ ابلنسبة إىل املنسوخ.
احلال الرابع :أن يزيد الراوي يف روايته للخرب على ما مسعه من النيب صلّى هللا عليه وسلم ،فإن كان ما
زاده يتضمن بيان سبب احلديث أو تفسري معناه فال أبس بذلك ،لكن بشرط أن يبني ما زاده حىت
يفهم السامع أنه من كالم الراوي.
قال املاوردي والروايين :جيوز من الصحايب زايدة بيان السبب لكونه مشاهدا للحال ،وال جيوز من
التابعي ،وأما تفسري املعىن فيجوز منهما.
وال وجه لالقتصار على الصحايب والتابعي يف تفسري معىن احلديث ،فذلك جائز لكل من يعرف معناه
معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بني اخلرب املروي وبني التفسري الواقع منه ِبا
يفهمه السامع .اه «ابختصار وتصرف من إرشاد الفحول للشوكاين».
إيضاح مهم
إن ما ذكره اإلمام الشوكاين فيما سبق ،عبارة عن خالصة وافية متعلقة ابألحاديث اليت تستنبط
األدلة منها ،سواء كانت أحاديث متواترة أو أحاديث آحاد «مستفيضة ،أو مشهورة ،أو عزيزة ،أو
غريبة» ،وسواء كانت األحاديث االحادية صحيحة أو حسنة؛ ألن األحكام الشرعية تؤخذ من
احلديث احلسن ،كما تؤخذ من احلديث الصحيح ،وإليك تعريفا خاصا بكل منهما على طريقة
املؤلفني يف علوم احلديث.
()192/1
احلديث الصحيح
قال النووي يف مقدمته لشرح مسلم« :الصحيح ما اتصل سنده ابلعدول الضابطني من غري شذوذ
وال علة» ،وقد سبق شرح ذلك للشوكاين ِبا ال حيتاج إىل مزيد.
وقال ابن كثري :حاصل حد الصحيح :أنه املتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله ،حىت ينتهي
إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أو إىل منتهاه ،من صحايب أو من دونه ،وال يكون شاذّا وال
مردودا ،وال معلال بعلة قادحة ،وقد يكون مشهورا ،أو عزيزا ،أو غريبا.
املشهور:
والشهرة أمر نسيب ،فقد يشتهر عند أهل احلديث أو يتواتر ما ليس عند غريهم ابلكلية.
ُث قد يكون املشهور متواترا ،أو مستفيضا ،وهو ما زاد نقلته على ثالثة.
وعن القاضي املاوردي :أن املستفيض أقوى من املتواتر ،وهذا اصطالح منه .وقد يكون املشهور
صحيحا ،كحديث« :األعمال ابلنيات» وحسنا.
وقد يشتهر بني الناس أحاديث ال أصل هلا ،أو هي موضوعة ابلكلية ،وهذا كثري ج ّدا ،ومن نظر يف
كتاب املوضوعات أليب الفرج ابن اجلوزي عرف ذلك ،وقد روي عن اإلمام أمحد أنه قال :أربعة
أحاديث تدور بني الناس يف األسواق ال أصل هلا« :من بشرين خبروج آذار بشرته ابجلنة» ،و «من
آذى ذميّا فأان خصمه يوم القيامة» ،و «حنركم يوم صومكم» ،و «للسائل ح ّق وإن جاء على فرس»،
والصواب أن احلديث الثاين واحلديث الرابع روامها أبو داود إبسنادين جيدين فهما قواين ،وأما
احلديثان اآلخران فال أصل هلما ،ولذا قال العراقي :ال يصح هذا الكالم عن اإلمام أمحد .اه من
املقاصد احلسنة.
الغريب والعزيز:
أما الغرابة :فقد تكون يف املنت ،أبن يتفرد بروايته راو واحد ،أو يف بعضه ،كما إذا زاد فيه واحد زايدة
مل يقلها غريه ،وقد تقدم الكالم يف زايدة الثقة.
وقد تكون الغرابة يف اإلسناد ،كما إذا كان أصل احلديث حمفوظا من وجه آخر أو وجوه ،لكنه هبذا
اإلسناد غريب.
فالغريب :ما تفرد به واحد ،وقد يكون ثقة ،وقد يكون ضعيفا ،ولكل حكمه.
فإن اشرتك اثنان أو ثالثة يف روايته عن الشيخ مسي «عزيزا» ،فإن رواه عنه مجاعة مسي «مشهورا»
كما تقدم ،وهللا أعلم.
()193/1
()194/1
()195/1
مثاله :حديث حممد بن عمرو عن أيب سلمة عن أيب هريرة أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال:
«لوال أن أشق على أميت ألمرهتم ابلسواك عند كل صالة» فمحمد بن عمرو بن علقمة من
املشهورين ابلصدق والصيانة ،لكنه مل يكن من أهل اإلتقان حىت ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه
ووثقه بعضهم لصدقه وجاللته ،فحديثه من هذه اجلهة حسن ،فلما انضم إىل ذلك كونه روي من
أوجه أخر زال بذلك ما كنا خنشاه عليه من جهة سوء حفظه واجنرب به ذلك النقص اليسري ،فصح
هذا اإلسناد والتحق بدرجة الصحيح ،وهللا أعلم .اه ابن الصالح.
واي
مىت يكون الضعيف ق ّ
لعل الباحث الفهم يقول :إان جند أحاديث حمكوما بضعفها مع كوهنا قد رويت أبسانيد كثرية من وجوه
عديدة مثل حديث« :األذانن من الرأس» وحنوه فهال جعلتم ذلك وأمثاله من نوع احلسن؛ ألن بعض
ذلك عضد بعضا كما قلتم يف نوع احلسن على ما سبق آنفا؟.
وجواب ذلك :أنه ليس كل ضعف يف احلديث يزول ِبجيئه من وجوه ،بل ذلك يتفاوت ،فمنه ضعف
يزيله ذلك أبن يكون ضعفه انشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والداينة .فإذا رأينا
خيتل فيه ضبطه له .وكذلك إذا كان ضعفه
ما رواه قد جاء من وجه آخر؛ عرفنا أنه مما قد حفظه ومل ّ
من حيث اإلرسال زال بنحو ذلك ،كما يف املرسل الذي يرسله إمام حافظ؛ إذ فيه ضعف قليل يزول
بروايته من وجه آخر ،ومن ذلك :ضعف ال يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا اجلابر عن
جربه ومقاومته ،وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما ابلكذب ،أو كون احلديث شاذّا،
وهذه مجلة تفاصيلها تدرك ابملباشرة والبحث ،فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة ،وهللا أعلم.
()196/1
ُث إن البخاري ومسلما مل يلتزما إبخراج مجيع ما حيكم بصحته من األحاديث؛ فإهنما قد صححا
أحاديث ليست يف كتابيهما ،كما ينقل الرتمذي وغريه عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده،
بل يف السنن وغريها.
()197/1
والبزار ،وغري ذلك من املسانيد واملعاجم والفوائد واألجزاء :ما يتمكن املتبحر يف هذا الشأن من
احلكم بصحة كثري منه ،بعد النظر يف حال رجاله وسالمته من التعليل املفسد .اه.
وقد مجع احلافظ اهليثمي (املتويف سنة 807هـ) زوائد ستة كتب .وهي :مسند أمحد ،وأيب يعلى،
والبزار ،ومعاجم الطرباين الثالثة :الكبري واألوسط والصغري على الكتب الستة ،أي ما رواه هؤالء
األئمة األربعة يف كتبهم زائدا على ما يف الكتب الستة املعروفة ،وهي :الصحيحان والسنن األربعة.
فكان كتااب حافال انفعا مساه «جممع الزوائد» ،طبع ِبصر سنة ( )1352يف عشرة جملدات كبار.
وتكلم فيه على إسناد كل حديث ،مع نسبته إىل من رواه منهم ،واملتتبع له جيد أن الصحيح منها
كثري يزيد على النصف ،وأن أكثر الصحيح هو ما رواه اإلمام أمحد يف مسنده.
وجيوز له اإلقدام على ذلك ،وإن مل ينص على صحته حافظ قبله ،موافقة للشيخ أيب زكراي حيىي
النووي ،وخالفا للشيخ أيب عمرو بن الصالح الذي ذهب إىل أنه قد تعذر يف هذه األعصار
االستقالل إبدراك الصحيح ِبجرد اعتبار األسانيد ،ومنع -بناء على هذا -من اجلزم بصحة حديث
مل جنده يف أحد الصحيحني وال منصوصا على صحته يف شيء من مصنفات أئمة احلديث املعتمدة
املشهورة .وبىن على قوله هذا :أن ما صححه احلاكم من األحاديث ومل جند فيه لغريه من املعتمدين
تصحيحا وال تضعيفا:
حكمنا أبنه حسن ،إال أن يظهر فيه علة توجب ضعفه ،وقد رد العراقي وغريه قول ابن الصالح هذا،
وأجازوا ملن متكن وقويت معرفته أن حيكم ابلصحة أو ابلضعف على احلديث ،بعد الفحص عن
إسناده وعلله وهو الصواب.
والذي أراه أن ابن الصالح ذهب إىل ما ذهب إليه بناء على القول ِبنع االجتهاد بعد األئمة ،فكما
حظروا االجتهاد يف الفقه أراد ابن الصالح أن مينع االجتهاد يف احلديث.
وهيهات فالقول ِبنع االجتهاد قول ابطل ،ال برهان عليه من كتاب وال سنة وال جتد له شبه دليل.
اه .أمحد شاكر.
موطأ مالك
(تنبيه) قول اإلمام حممد بن إدريس الشافعي رمحه هللا :ال أعلم كتااب يف هذا العلم أكثر صوااب من
كتاب مالك ،إمنا قاله قبل البخاري ومسلم .وقد كانت كتب كثرية مصنفة يف ذلك الوقت يف السنن،
قرة موسى بن طارق الزبيدي ،ومصنف عبد الرزاق
البن جريج ،وابن إسحاق -غري السرية -وأليب ّ
بن مهام ،وغري ذلك.
()198/1
وكان كتاب مالك وهو (املوطأ) أجلّها وأعظمها نفعا ،وإن كان بعضها أكرب حجما منه وأكثر
أحاديث.
قال السيوطي يف شرح املوطأ :الصواب إطالق أن املوطأ صحيح ،ال يستثىن منه شيء « »1وهذا
غري صواب ،واحلق أن ما يف (املوطأ) من األحاديث املوصولة املرفوعة إىل رسول هللا صلّى هللا عليه
وسلم صحاح كلها ،بل هي يف الصحة كأحاديث الصحيحني ،وأن ما فيه من املراسيل والبالغات
وغريها يعترب فيها ما يعترب يف أمثاهلا ،مما حتويه الكتب األخرى .وإمنا مل يع ّد يف الكتب الصحاح لكثرهتا
وكثرة اآلراء الفقهية ملالك وغريه.
ُث إن (املوطأ) رواه عن مالك كثري من األئمة ،والذي يف أيدينا منه رواية حيىي الليثي ،وهي املشهورة
اآلن .ورواية حممد بن احلسن صاحب أيب حنيفة ،وهي مطبوعة يف اهلند.
وقد طلب املنصور من اإلمام مالك أن جيمع الناس على كتابه ،فلم جيبه إىل ذلك .وذلك من متام
علمه واتصافه ابإلنصاف ،وقال :إن الناس قد مجعوا واطلعوا على أشياء مل نطّلع عليها.
وقد اعتىن الناس بكتابة (املوطأ) وعلقوا عليه كتبا مجّة .ومن أجود ذلك كتااب (التمهيد) ،و
(االستذكار) للشيخ أيب عمر ابن عبد الرب النّمري القرطيب .اه من الباعث وشرحه.
()199/1
الكتب اخلمسة
وقول احلافظ أيب طاهر السلفي يف األصول اخلمسة يعين البخاري ،ومسلم ،وسنن أيب داود،
والرتمذي ،والنسائي ،إنه اتفق على صحتها علماء املشرق واملغرب:
تساهل منه .وقد أنكره ابن الصالح وغريه .قال ابن الصالح :وهي مع ذلك أعلى رتبة من كتب
املسانيد كمسند عبد بن محيد ،والدارمي ،وأمحد بن حنبل ،وأيب يعلى والبزار ،وأيب داود الطيالسي،
واحلسن بن سفيان ،وإسحاق بن راهويه ،وعبيد هللا بن موسى وغريهم .اه .ابن كثري.
احلديث احلسن
قال اإلمام النووي يف مقدمته على شرح صحيح مسلم :وأما احلسن فقد تقدم قول اخلطايب رمحه هللا:
أنه ما عرف خمرجه واشتهر رجاله.
وقال أبو عيسى الرتمذي :احلسن :ما ليس يف إسناده من يتهم وليس بشاذ وروي من غري وجه.
وضبط الشيخ اإلمام أبو عمرو ابن الصالح رمحه هللا احلسن فقال :هو قسمان:
أحدمها :الذي ال خيلو إسناده من مستور مل تتحقق أهليته وليس كثري اخلطأ فيما يرويه وال ظهر منه
مفسق ،ويكون منت احلديث قد عرف أبن روي مثله أو حنوه من وجه
تعمد الكذب وال سبب آخر ّ
آخر.
القسم الثاين :أن يكون راويه من املشهورين ابلصدق واألمانة ،ومل يبلغ درجة رجال الصحيح لقصوره
عنهم يف احلفظ واإلتقان ،إال أنه مرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا .قال :وعلى القسم األول ينزل
كالم الرتمذي ،وعلى الثاين كالم اخلطايب فاقتصر كل واحد منهما على قسم رآه خفيّا ،وال بد يف
القسمني من سالمتهما من الشذوذ والعلة.
ُث احلسن وإن كان دون الصحيح فهو كالصحيح يف جواز االحتجاج به.
()200/1
وأما الضعيف :فهو ما مل يوجد فيه شروط الصحة وال شروط احلسن .وأنواعه كثرية منها :املوضوع،
واملقلوب ،والشاذ ،واملعلل ،واملضطرب وغري ذلك.
وهلذه األنواع حدود وأحكام وتفريعات معروفة عند أهل هذه الصنعة ،وقد أتقنها مع ما حيتاج إليه
طالب احلديث من األدوات واملقدمات ويستعني به يف مجيع احلاالت اإلمام احلافظ أبو عمرو ابن
الصالح يف كتابه «علوم احلديث».
()201/1
()202/1
فأما إذا اختلف الصحابة رضي هللا عنهم على قولني ،فإن قلنا ابجلديد؛ مل جيز تقليد واحد من
الفريقني بل يطلب الدليل ،وإن قلنا ابلقدمي؛ فهما دليالن تعارضا فريجح أحدمها على اآلخر
ابملرجحات املعتمدة.
أما إذا قال التابعي قوال ومل ينتشر؛ فليس حبجة بال خالف ،وإن انتشر وخولف؛ فليس حبجة بال
خالف أيضا ،وإن انتشر ومل خيالف؛ فظاهر كالم مجاهري أصحابنا أن
حكمه حكم قول الصحايب املنتشر من غري خمالفة ،وحكى بعض أصحابنا فيه وجهني :أصحهما هذا،
والثاين ليس حبجة.
قال صاحب الشامل من أصحابنا :الصحيح أنه يكون إمجاعا وهذا هو األفقه ،وال فرق يف هذا بني
الصحايب والتابعي.
املعنعن
اإلسناد املعنعن وهو فالن عن فالن .قال بعض العلماء :هو مرسل ،والصحيح الذي عليه العمل،
وقاله اجلماهري من أصحاب احلديث والفقه واألصول :أنه متصل بشرط أن يكون املعنعن غري
مدلس ،وبشرط إمكان لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا ،ويف اشرتاط ثبوت اللقاء وطول
الصحبة ومعرفته ابلرواية عنه خالف.
منهم من مل يشرتط شيئا من ذلك ،وهو مذهب مسلم ،وادعى اإلمجاع عليه.
علي بن املديين والبخاري ،وأبو بكر الصرييف
ومنهم من شرط ثبوت اللقاء وحده وهو مذهب ّ
الشافعي ،واحملققني ،وهو الصحيح.
ومنهم من شرط الصحبة وهو قول أيب املظفر السمعاين الفقيه الشافعي ،ومنهم من شرط أن يكون
معروفا ابلرواية عنه ،وبه قال أبو عمرو املقرئ.
احلديث املؤنن
وأما إذا قال :حدثنا الزهري ،أن ابن املسيب قال كذا ،أو حدث بكذا ،أو فعل أو ذكر أو روى أو
حنو ذلك؛ فإنه يسمى «املؤنن» .وحكمه أنه عند اجلماهري مثل املعنعن ،حممول على السماع ابلشرط
املتقدم ،وهذا هو الصحيح.
اه .النووي.
()203/1
الشاذ واملنكر
إذا انتفت املتابعات ،ومتحض فردا فله أربعة أحوال:
-حال يكون خمالفا لرواية من هو أحفظ منه ،فهذا ضعيف ،ويسمى شاذّا ومنكرا.
-وحال ال يكون خمالفا ويكون هذا الراوي حافظا ضابطا متقنا ،فيكون صحيحا.
-وحال يكون قاصرا عن هذا الراوي ،ولكنه قريب من درجته ،فيكون حديثه حسنا.
()204/1
()205/1
()206/1
فائدة:
التعديل مقبول من غري ذكر سببه على املذهب الصحيح املشهور ،ألن أسبابه كثرية يصعب ذكرها،
فإن ذلك حيوج املع ّدل إىل أن يقول« :مل يفعل كذا ،مل يرتكب كذا ،فعل كذا وكذا» فيعدد مجيع ما
يفسق بفعله أو برتكه ،وذلك شاق ج ّدا.
مبني السبب؛ ألن الناس خيتلفون فيما جيرح وما ال جيرح ،فيطلق
وأما اجلرح :فإنه ال يقبل إال مفسرا ّ
أحدهم اجلرح بناء على أمر اعتقده جرحا وليس جبرح يف نفس األمر ،فال بد من بيان سببه لينظر فيه
أهو جرح أم ال ،وهذا ظاهر مقرر يف الفقه وأصوله.
وذكر اخلطيب احلافظ أنه مذهب األئمة من حفاظ احلديث ونقاده مثل :البخاري ،ومسلم وغريمها،
ولذلك احتج البخاري جبماعة سبق من غريه اجلرح هلم كعكرمة موىل ابن عباس رضي هللا عنهما،
وكإمساعيل بن أيب أويس ،وعاصم بن علي ،وعمرو بن مرزوق ،وغريهم .واحتج مسلم بسويد بن
سعيد ومجاعة اشتهر الطعن فيهم .وهكذا فعل أبو داود السجستاين ،وذلك دال على أهنم ذهبوا إىل
أن اجلرح ال يثبت إال إذا فسر سببه ،ومذاهب النقاد للرجال غامضة خمتلفة.
وعقد اخلطيب اباب يف بعض أخبار من استفسر يف جرحه فذكر ما ال يصلح جارحا.
منها :عن شعبة أنه قيل له :مل تركت حديث فالن؟ فقال :رأيته يركض على برذون ،فرتكت حديثه.
()207/1
رواية اجملهول
اجملهول ههنا أقسام:
أحدها :اجملهول العدالة من حيث الظاهر والباطن مجيعا وروايته غري مقبولة عند اجلماهري على مانبهنا
عليه أوال.
الثاين :اجملهول الذي جهلت عدالته الباطنة وهو عدل يف الظاهر وهو املستور.
فقد قال بعض أئمتنا« :املستور من يكون عدال يف الظاهر وال تعرف عدالة ابطنه».
فهذا اجملهول حيتج بروايته بعض من رد رواية األول ،وهو قول بعض الشافعيني ،وبه قطع منهم اإلمام
سليم بن أيوب الرازي ،قال :ألن أمر األخبار مبين على حسن الظن ابلراوي.
قلت :ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي يف كثري من كتب احلديث املشهورة يف غري واحد من
الرواة الذين تقادم العهد هبم وتعذرت اخلربة الباطنة هبم ،وهللا أعلم.
الثالث :اجملهول العني .وقد يقبل رواية اجملهول العدالة من ال يقبل رواية اجملهول العني.
ومن روى عنه عدالن وعيّناه ،فقد ارتفعت عنه هذه اجلهالة.
ذكر أبو بكر اخلطيب البغدادي يف أجوبة مسائل سئل عنها :أن اجملهول عند أصحاب احلديث :كل
من مل تعرفه العلماء ،ومن مل يعرف حديثه إال من جهة راو واحد مثل :عمرو ذي مر ،وجبار الطائي،
وسعيد بن ذي ح ّدان ،مل يرو عنهم غري
()208/1
()209/1
وعلي بن عبد العزيز املكي وآخرون ،يف أخذ العوض على التحديث ،وذلك شبيه أبخذ
ابن دكني ّ
األجرة على تعليم القرآن وحنوه ،غري أن يف هذا من حيث العرف خرما للمروءة ،والظن يساء
بفاعله؛ إال أن يقرتن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه.
احلديث املعلل
فن خفي على كثري من علماء احلديث ،حىت قال بعض ح ّفاظهم :معرفتنا هبذا كهانة عند
وهو ّ
اجلاهل.
ومعوجه
ّ وإمنا يهتدي إىل هذا الفن اجلهابذة النقاد منهم ،مييزون بني صحيح احلديث وسقيمه،
ومستقيمه ،كما مييز الصرييف البصري بصنعته بني اجلياد والزيوف والداننري والفلوس .فكما ال يتمارى
هذا ،كذلك يقطع ذاك ِبا ذكرانه ،ومنهم من يظن ،ومنهم من يقف حبسب مراتب علومهم وحذقهم
واطالعهم على طرق احلديث وذوقهم حالوة عبارة الرسول صلّى هللا عليه وسلم اليت ال يشبهها
غريها من ألفاظ الناس.
فمن األحاديث املروية :ما عليه أنوار النبوة ،ومنها :ما وقع فيه تغيري لفظ أو زايدة ابطلة أو جمازفة
أو حنو ذلك ،يدركها البصري من أهل هذه الصناعة.
وقد يكون التعليل مستفادا من اإلسناد ،وبسط أمثلة ذلك يطول ج ّدا ،وإمنا يظهر ابلعمل.
ومن أحسن كتاب وضع يف ذلك وأجلّه وأفحله (كتاب العلل) لعلي بن املديين شيخ البخاري.
وسائر احملدثني بعده يف هذا الشأن على اخلصوص .وكذلك «كتاب العلل» لعبد الرمحن بن أيب حامت
للخالل .ويقع يف مسند احلافظ أيب بكر البزار من
وهو مرتب على أبواب الفقه« ،وكتاب العلل» ّ
التعاليل ما ال يوجد يف غريه من املسانيد.
أجل
أزمة ما ذكرانه كله احلافظ الكبري أبو احلسن الدارقطين يف كتابه يف ذلك ،وهو من ّوقد مجع ّ
أجل ما رأيناه وضع يف هذا الفن ،مل يسبق إىل مثله ،وقد أعجز من يريد أن أييت بعده
الكتب ،بل ّ
فرمحه هللا وأكرم مثواه .اه من الباعث احلثيث.
وقد قال أمحد شاكر معلقا :واحلديث املعلول :هو احلديث الذي اطلع فيه على علة تقدح يف
صحته ،مع أن الظاهر سالمته منها.
والطريق إىل معرفة العلل :مجع طرق احلديث ،والنظر يف اختالف رواته ،ويف ضبطهم وإتقاهنم ،فيقع
يف نفس العامل العارف هبذا الشأن أن احلديث معلول ،ويغلب على ظنه ،فيحكم بعدم صحته أو
يرتدد فيتوقف فيه.
ورِبا تقصر عبارته عن إقامة احلجة على دعواه .قال عبد الرمحن بن مهدي :معرفة
()210/1
علل احلديث إهلام ،لو قلت للعامل بعلل احلديث :من أين قلت هذا؟ مل يكن له حجة ،وكم من
شخص ال يهتدي لذلك ،وقيل له -أيضا :-إنك تقول للشيء:
فعمن تقول ذلك؟ فقال :أرأيت لو أتيت الناقد فأريته درامهك ،فقال:
هذا صحيح ،وهذا مل يثبتّ ،
هذا جيد ،وهذا هبرج ،أكنت تسأل عن ذلك ،أو تسلّم له األمر؟! قال :بل أسلم له األمر ،قال:
فهذا كذلك لطول اجملالسة واملناظرة واخلربة.
وسئل أبو زرعة« :ما احلجة يف تعليلكم احلديث؟ فقال :احلجة أن تسألين عن حديث به علة فأذكر
علتهُ ،ث تقصد ابن وارة :يعين حممد بن مسلم بن وارة ،وتسأله عنه فيذكر علتهُ ،ث تقصد أاب حامت.
كال منا تكلم على
فيعللهُ .ث متيّز كالمنا على ذلك احلديث ،فإن وجدت بيننا خالفا فاعلم أن ّ
مراده ،وإن وجدت الكلمة متفقة ،فاعلم حقيقة هذا العلم .ففعل الرجل ذلك ،فاتفقت كلمتهم،
فقال :أشهد أن هذا العلم إهلام».
والعلة قد تكون ابإلرسال يف املوصول أو الوقف يف املرفوع ،أو بدخول حديث يف حديث أو وهم
واهم أو غري ذلك ،مما يتبني للعارف هبذا الشأن من مجع الطرق ومقارنتها ،ومن قرائن تنضم إىل
ذلك.
وأكثر ما تكون العلل يف أسانيد األحاديث فتقدح يف اإلسناد واملنت معا ،إذا ظهر منها ضعف
احلديث.
مرواي إبسناد آخر صحيح .مثل احلديث الذي رواه
وقد تقدح يف اإلسناد وحده ،إذا كان احلديث ّ
يعلى بن عبيد الطنافسي -أحد الثقات -عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن
النيب صلّى هللا عليه وسلم قال« :البيعان ابخليار» ...احلديث ،فهذا اإلسناد متصل بنقل العدل عن
العدل ،وهو معلول ،وإسناده غري صحيح ،واملنت صحيح على كل حال؛ ألن يعلى بن عبيد غلط
على سفيان يف قوله« :عمرو بن دينار» وإمنا صوابه «عبد هللا بن دينار» .هكذا رواه األئمة من
أصحاب سفيان .كأيب نعيم الفضل بن دكني ،وحممد بن يوسف الفراييب ،وخملد بن يزيد وغريهم،
ورووه عن سفيان عن عبد هللا بن دينار عن ابن عمر.
وقد تقع العلة يف منت احلديث ،كاحلديث الذي أخرجه مسلم يف صحيحه من رواية الوليد بن مسلم:
حدثنا األوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه خيربه عن أنس بن مالك أنه حدثه قال :صليت خلف النيب
ِِ
ب الْعالَ ِم َ
ني ،وال صلّى هللا عليه وسلم وأيب بكر ،وعمر ،وعثمان ،فكانوا يستفتحون ب ا ْحلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ
يذكرون «بسم هللا الرمحن الرحيم» يف أول قراءة وال يف آخرهاُ .ث رواه مسلم -أيضا -من رواية
الوليد عن األوزاعي .أخربين إسحاق
()211/1
ابن عبد هللا بن أيب طلحة أنه مسع أنسا يذكر ذلك ،قال ابن الصالح يف كتاب «علوم احلديث»:
«فعلّل قوم رواية اللفظ املذكور -يعين التصريح بنفي قراءة البسملة -ملّا رأوا األكثرين إمنا قالوا فيه:
ِِ
ني من غري تعرض لذكر البسملة ،وهو الذي اتفق ب الْعالَ ِم َ
فكانوا يستفتحون القراءة ب ا ْحلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ
البخاري ومسلم على إخراجه يف الصحيح.
ورأوا أن من رواه ابللفظ املذكور رواه ابملعىن الذي وقع له ،ففهم من قوله« :كانوا يستفتحون ب
ا ْحلم ُد َِِّ
َّلل :أهنم كانوا ال يبسملون ،فرواه على ما فهم ،وأخطأ؛ ألن معناه أن السورة اليت كانوا َْ
يفتتحون هبا من السور هي الفاحتة ،وليس فيه تعرض لذكر التسمية .وانضم إىل ذلك أمور :منها :أنه
ثبت عن أنس أنه سئل عن االفتتاح ابلتسمية ،فذكر أنه ال حيفظ فيه شيئا عن رسول هللا صلّى هللا
عليه وسلم .وهللا أعلم».
وقد أطال احلافظ العراقي يف شرحه على ابن الصالح الكالم على تعليل هذا احلديث ،وكذلك
السيوطي يف التدريب .اه منه.
احلديث املضطرب
رجحت
إذا جاء احلديث على أوجه خمتلفة ،يف املنت أو يف السند ،من راو واحد ،أو من أكثر ،فإن ّ
إحدى الروايتني أو الرواايت بشيء من وجوه الرتجيح -كحفظ راويها ،أو ضبطه ،أو كثرة صحبته
ملن روى عنه -كانت الراجحة صحيحة ،واملرجوحة شاذة أو منكرة .وإن تساوت الرواايت وامتنع
الرتجيح :كان احلديث مضطراب ،واضطرابه موجب لضعفه ،إال يف حالة واحدة ،وهي أن يقع
االختالف يف اسم راو أو اسم أبيه أو نسبته مثال ،ويكون الراوي ثقة؛ فإنه حيكم للحديث ابلصحة،
وال يضر االختالف فيما ذكر ،مع تسميتة مضطراب.
ويف الصحيحني أحاديث كثرية هبذه املثابة .وكذا جزم الزركشي بذلك يف خمتصره ،فقال« :وقد يدخل
القلب والشذوذ واالضطراب يف قسم الصحيح واحلسن» نقل
ذلك السيوطي يف التدريب.
واالضطراب قد يكون يف املنت فقط ،وقد يكون يف السند فقط ،وقد يكون فيهما معا.
مثال االضطراب يف اإلسناد ،على ما ذكر السيوطي يف التدريب حديث أيب بكر:
«أنه قال :اي رسول هللا .أراك شبت؟ قال« :شيّبتين هود وأخواهتا» .قال الدارقطين :هذا حديث
مضطرب؛ فإنه مل يرو إال من طريق أيب إسحاق ،وقد اختلف عليه فيه على حنو عشرة أوجه :فمنهم
من رواه مرسال ،ومنهم من رواه موصوال،
()212/1
ومنهم من جعله من مسند أيب بكر ،ومنهم من جعله من مسند سعد ،ومنهم من جعله من مسند
عائشة ،ورواته ثقات ،ال ميكن ترجيح بعضهم على بعض ،واجلمع متعذر.
ومثله :حديث جماهد عن احلكم بن سفيان عن النيب صلّى هللا عليه وسلم يف نضح الفرج بعد
الوضوء ،قد اختلف فيه على عشرة أقوال.
ومثال االضطراب يف املنت :حديث التسمية يف الصالة السابق يف «املعلّل» ،قال السيوطي :فإن ابن
عبد الرب أعله ابالضطراب ،كما تقدم ،واملضطرب جيامع املعلل؛ ألنه قد تكون علته ذلك.
وأمثلة املضطرب كثرية .وقد ألف احلافظ ابن حجر كتااب فيه مساه «املقرتب يف بيان املضطرب» .قال
املتبويل يف مقدمة شرحه على اجلامع الصغري :أفاد وأجاد ،وقد التقطه من كتاب العلل للدارقطين .اه
أمحد شاكر.
املدرج
احلديث املدرج :ما كان فيه زايدة ليست منه .وهو إما مدرج يف املنت ،وإما مدرج يف اإلسناد .هكذا
قسمه السيوطي وغريه .واإلدراج يف احلقيقة إمنا يكون يف املنت كما سيأيت.
ويعرف املدرج بوروده منفصال يف رواية أخرى .أو ابلنص على ذلك من الراوي أو من بعض األئمة
املطلعني ،أو ابستحالة كونه صلّى هللا عليه وسلم يقول ذلك.
ومدرج املنت :هو أن يدخل يف حديث رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم شيء من كالم بعض الرواة.
وقد يكون يف أول احلديث ،أو يف وسطه ،أو يف آخره .وهو األكثر .فيتوهم من يسمع احلديث أن
هذا الكالم منه.
مثال املدرج يف أول احلديث :ما رواه اخلطيب من رواية أيب قطن وشبابة عن شعبة عن حممد بن زايد
عن أيب هريرة قال :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم« :أسبغوا الوضوء ،ويل لألعقاب من النار».
فقوله« :أسبغوا الوضوء» مدرج من قول أيب هريرة ،كما ّبني يف رواية البخاري عن آدم عن شعبة عن
حممد بن زايد عن أيب هريرة قال :أسبغوا الوضوء فإن أاب القاسم صلّى هللا عليه وسلم قال« :ويل
لألعقاب من النار» قال اخلطيب« :وهم أبو قطن وشبابة يف روايتهما له عن شعبة على ما سقناه،
اجلم الغفري عنه كرواية آدم» نقله يف التدريب.
وقد رواه ّ
ومثال املدرج يف الوسط :ما رواه الدارقطين يف السنن من طريق عبد احلميد بن جعفر عن هشام بن
عروة عن أبيه عن بسرة بنت صفوان قالت :مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقول:
()213/1
مس ذكره ،أو أنثييه ،أو رفغيه ،فليتوضأ» قال الدارقطين :كذا رواه عبد احلميد عن هشام،
«من ّ
ووهم يف ذكر األنثيني والرفغني ،وأدرجه كذلك يف حديث بسرة ،واحملفوظ أن ذلك قول عروة ،وكذا
رواه الثقات عن هشام ،منهم :أيوب ،ومحاد ابن زيد وغريمهاُ ،ث رواه من طريق أيوب بلفظ« :من
مس ذكره فليتوضأ» قال :وكان عروة يقول :إذا مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ .وكذا قال
اخلطيب .فعروة ملا فهم من لفظ اخلرب أن سبب نقض الوضوء مظنة الشهوة ،جعل حكم ما قرب من
الذكر كذلك.
فقال ذلك ،فظن بعض الرواة أنه من صلب اخلرب ،فنقله مدرجا فيه ،وفهم اآلخرون حقيقة احلال
ففصلوا .قاله يف التدريب.
وقد يكون اإلدراج يف الوسط على سبيل التفسري من الراوي لكلمة من الغريب .مثل:
حديث عائشة يف بدء الوحي يف البخاري وغريه :كان النيب صلّى هللا عليه وسلم يتحنث يف غار
حراء -وهو التعبد الليايل ذوات العدد -فهذ التفسري من قول الزهري أدرج يف احلديث.
وكذا حديث فضالة مرفوعا عند النسائي« :أان زعيم -والزعيم احلميل -ملن آمن يب وأسلم وجاهد يف
سبيل هللا ببيت يف ربض اجلنة» فقوله «والزعيم احلميل» مدرج من تفسري ابن وهب.
ومثال يف آخر احلديث :ما رواه أبو داود من طريق زهري بن معاوية عن احلسن بن احلر عن القاسم
بن خميمرة عن علقمة عن ابن مسعود :حديث التشهد ،ويف آخره:
«إذا قلت هذا ،أو قضيت هذا ،فقد قضيت صالتك ،وإن شئت أن تقوم فقم ،وإن شئت أن تقعد
فاقعد» .فهذه اجلملة وصلها زهري ابحلديث املرفوع ،وهي مدرجة من كالم ابن مسعود ،كما نص
عليه احلاكم والبيهقي واخلطيب.
ونقل النووي يف اخلالصة اتفاق احلفاظ على أهنا مدرجة -ومن الدليل على إدراجها:
أن حسينا اجلعفي وابن عجالن وغريمها رووا احلديث عن احلسن بن احلر بدون ذكرها ،وكذلك كل
من روى التشهد عن علقمة أو غريه عن ابن مسعود ،وأن شبابة بن سوار ،وعبد الرمحن بن اثبت بن
ثوابن -ومها ثقتان -رواي احلديث عن احلسن بن احلر ،ورواي فيه هذه اجلملة ،وفصالها منه وبينا أهنا
من كالم ابن مسعود .فهذا
التفصيل والبيان -مع اتفاق سائر الرواة على حذفها من املرفوع :-يؤيدان أهنا مدرجة وأن زهريا وهم
يف روايته.
مثال آخر :يف الصحيح عن أيب هريرة مرفوعا« :للعبد اململوك أجران» .والذي نفسي بيده لوال
وبر أمي ألحببت أن أموت وأان مملوك.
اجلهاد واحلج ّ
فهذا مما يتبني فيه بداهة أن قوله :والذي نفسي بيده ...إخل مدرج من قول أيب
()214/1
هريرة الستحالة أن يقوله النيب صلّى هللا عليه وسلم؛ ألن أمه ماتت وهو صغري ،وألنه ميتنع منه صلّى
هللا عليه وسلم أن يتمىن الرق وهو أفضل اخللق عليه الصالة والسالم .هذا مدرج املنت.
وأما مدرج اإلسناد :ومرجعه يف احلقيقة إىل املنت :فهو ثالثة أقسام؛ وال جند احلاجة ماسة إىل ذكرها،
ّ
وفيما سبق كفاية ومن أراد املزيد فعليه بتعليق أمحد شاكر على الباعث احلثيث.
حكم اإلدراج
اإلدراج لتفسري شيء من معىن احلديث ،فيه بعض التسامح ،واألوىل أن ينص الراوي على بيانه.
وأما ما وقع من الراوي خطأ غري عمد ،فال حرج على املخطئ إال إن كثر خطؤه ،فيكون جرحا يف
ضبطه وإتقانه.
وأما إن كان من الراوي عن عمد؛ فإنه حرام كله على اختالف أنواعه ابتفاق أهل احلديث والفقه
واألصول وغريهم ،ملا يتضمن من التلبيس والتدليس ،ومن عزو القول إىل غري قائله.
حيرف الكلم عن مواضعه ،وهو ملحق
قال السمعاين :من تعمد اإلدراج فهو ساقط العدالة وممن ّ
ابلكذابني.
احلديث املوضوع
ويدل على وضعه شواهد كثرية ،منها :إقرار واضعه على نفسه ،بقوله أو بداللة حاله ،ومن ذلك:
ركاكة ألفاظه ،وفساد معناه ،أو جمازفة فاحشة ،أو خمالفة ملا ثبت يف الكتاب والسنة الصحيحة.
نقل السيوطي يف التدريب ،عن ابن اجلوزي قال :ما أحسن قول القائل :إذا رأيت احلديث احلسن
يباين املعقول ،أو خيالف املنقول أو يناقض األصول؛ فاعلم أنه موضوع.
قال :ومعىن مناقضته لألصول :أن يكون خارجا عن دواوين اإلسالم من املسانيد والكتب املشهورة،
فال جتوز روايته ألحد من الناس ،إال على سبيل القدح فيه ليحذره من يغرتّ به من اجلهلة والعوام
والرعاع.
والواضعون أقسام كثرية :منهم زاندقة.
()215/1
ومنهم متعبدون حيسبون أهنم حيسنون صنعا ،يضعون أحاديث فيها ترغيب وترهيب يف فضائل
الكرامية وغريهم ،وهم أشر من فعل هذا ،ملا حيصل بضررهم
األعمال ليعمل هبا ،وهؤالء طائفة من ّ
من الغرر على كثري ممن يعتقد صالحهم فيظن صدقهم ،وهم شر من كل كذاب يف هذا الباب.
وقد انتقد األئمة كل شيء فعلوه من ذلك ،وسطروه عليهم يف كتبهم ،عارا على واضعي ذلك يف
علي متعمدا فليتبوأ
الدنيا ،وانرا وشنارا يف اآلخرة .قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم« :من كذب ّ
مقعده من النار» وهذا متواتر عنه.
قال بعض هؤالء اجلهلة :حنن ما كذبنا عليه ،وإمنا كذبنا له :وهذا من كمال جهلهم ،وقلة عقلهم،
السالم ال حيتاج يف كمال شريعته وفضلها إىل غريه.
وكثرة فجورهم وافرتائهم؛ فإنه عليه ّ
وقد صنف الشيخ أبو الفرج بن اجلوزي كتااب حافال يف املوضوعات (يف جملدين) غري أنه أدخل فيه ما
وخرج عنه ما كان يلزمه ذكره ،وقد أخذ غالبه من كتاب األابطيل للجوزقاين .ولكن أخطأ
ليس منهّ ،
يف بعض أحاديث انتقدها عليه احل ّفاظ.
قال احلافظ ابن حجر :غالب ما يف كتاب ابن اجلوزي موضوع ،والذي ينتقد عليه ابلنسبة إىل ما ال
ينتقد قليل ج ّدا ،وفيه من الضرر أن يظن ما ليس ِبوضوع موضوعا عكس الضرر ِبستدرك احلاكم،
حيث يظن ما ليس بصحيح صحيحا ،ويتعني االعتناء ابنتقاد الكتابني يف تساهلهما؛ عدم االنتفاع
هبما إال لعامل ابلفن؛ ألنه ما من مادة حديث إال وميكن أن يكون قد وقع فيها التساهل.
وقد خلص احلافظ السيوطي كتاب ابن اجلوزي ،وتتبع كالم احلفاظ يف تلك األحاديث خصوصا كالم
احلافظ ابن حجر يف تصانيفه وأماليهُ ،ث أفرد األحاديث املتعقبة يف كتابني خاصني ومها (الآللئ
املصنوعة) ،و (ذيل الآللئ املصنوعة).
ب عن املسند) أي مسند اإلمام أمحد ابن حنبل رمحه
وألّف ابن حجر كتاب (القول املس ّدد يف ال ّذ ّ
هللا ،ذكر فيه أربعة وعشرين حديثا من املسند ،جاء هبا ابن اجلوزي يف املوضوعات وحكم عليها
بذلك؛ ورد عليه ابن حجر ودفع قولهُ .ث ألّف السيوطي ذيال عليه ذكر فيه أربعة عشر حديثا أخرى
ب عن السنن) أورد فيه
كذلك من املسندُ ،ث ألّف ذيال هلذين الكتابني مسّاه( :القول احلسن يف ال ّذ ّ
مائة وبضعة وعشرين حديثا -من السنن األربعة -حكم ابن اجلوزي أبنه موضوعة ،ورد عليه حكمه.
ومن غرائب تسرع احلافظ ابن اجلوزي يف احلكم ابلوضع :أنه زعم وضع حديث يف
()216/1
صحيح مسلم ،وهو حديث أيب هريرة مرفوعا« :إن طالت بك مدة أوشك أن ترى أقواما يغدون يف
سخط هللا ويروحون يف لعنته ،يف أيديهم مثل أذانب البقر» [رواه أمحد
يف املسند وهو يف صحيح مسلم (ج 2ص .])355
قال ابن حجر يف القول املسدد « :»1ومل أقف يف كتاب املوضوعات البن اجلوزي على شيء حكم
عليه ابلوضع وهو يف الصحيحني غري هذا احلديث ،وإهنا لغفلة شديدة منه!! .اه من الباعث وشرحه.
قرائن املروي:
ومن القرائن يف املروي :أن يكون ركيكا ال يعقل أن يصدر عن النيب صلّى هللا عليه وسلم؛ فقد
وضعت أحاديث طويلة يشهد لوضعها ركاكة لفظها ومعانيها.
الرّكة على رّكة املعىن .فحيثما وجدت دلّت على الوضع ،وإن مل
قال احلافظ ابن حجر :املدار يف ّ
ينضم إليها ركة اللفظ ،ألن هذا الدين كله حماسن ،والركة ترجع إىل الرداءة ،أما ركاكة اللفظ فال تدل
فغري
على ذلك ،الحتمال أن يكون رواه ابملعىن ّ
__________
( )1القول املسدد ص.31 :
()217/1
ألفاظه بغري فصيح .نعم .إن صرح أبنه من لفظ النيب صلّى هللا عليه وسلم فهو كاذب.
وقال الربيع بن خثيم« :إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه ،وظلمة كظلمة الليل تنكره».
وقال ابن اجلوزي« :احلديث املنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم ،وينفر منه قلبه يف الغالب».
قال البلقيين« :وشاهد هذا :أن إنساان لو خدم إنساان سنني ،وعرف ما حيب وما يكره ،فادعى إنسان
أنه كان يكره شيئا يعلم ذلك أنه حيبه ،فبمجرد مساعه يبادر إىل تكذيبه».
وقال احلافظ ابن حجر« :ومما يدخل يف قرينة حال املروي ما نقل عن اخلطيب عن أيب بكر بن
الطيب :أن من مجلة دالئل الوضع أن يكون خمالفا للعقل ،حبيث ال يقبل التأويل.
ويلتحق به ما يدفعه احلس واملشاهدة ،أو يكون منافيا لداللة الكتاب القطعية ،أو السنة املتواترة ،أو
اإلمجاع القطعي.
أما املعارضة مع إمكان اجلمع فال.
ومنها ما يصرح بتكذيب رواة احلديث املتواتر ،أو يكون خربا عن أمر جسيم تتوافر الدواعي على
نقله ِبحضر اجلمعُ ،ث ال ينقله منهم إال واحد.
ومنها :اإلفراط ابلوعيد الشديد على األمر الصغري ،أو الوعد العظيم على الفعل احلقري .وهذا كثري
الرّكة».
القصاص ،واألخري راجع إىل ّ
يف حديث ّ
قال السيوطي« :ومن القرائن :كون الراوي رافضيّا واحلديث يف فضائل أهل البيت.
ومن املخالف للعقل ما رواه ابن اجلوزي من طريق عبد الرمحن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده
مرفوعا :إن سفينة نوح طافت ابلبيت سبعا ،وصلّت عند املقام ركعتني! فهذا من سخافات عبد
الرمحن بن زيد بن أسلم .وقد ثبت عنه من طريق أخرى نقلها يف التهذيب عن الساجي عن الربيع
عن الشافعي قال« :قيل لعبد الرمحن بن زيد :حدثك أبوك عن جدك أن رسول هللا صلّى هللا عليه
وسلم قال :إن سفينة نوح طافت ابلبيت وصلّت خلف املقام ركعتني؟! قال :نعم!!» « .»1وقد
عرف عبد الرمحن ِبثل هذه الغرائب حىت قال الشافعي فيما نقل يف التهذيب« :ذكر رجل ملالك
حديثا منقطعا فقال :اذهب إىل عبد الرمحن بن زيد حيدثك عن أبيه عن نوح».
وروى ابن اجلوزي -أيضا -من طريق حممد بن شجاع الثلجي -ابلثاء املثلثة واجليم -عن حبان-
بفتح احلاء املهملة والباء املوحدة -ابن هالل عن محاد بن سلمة عن أيب املهزوم عن أيب هريرة
مرفوعا« :إن هللا خلق الفرس فأجراها ،فعرقت ،فخلق نفسه منها»!! قال السيوطي يف
__________
( )1التهذيب (.)179 /6
()218/1
التدريب« :هذا ال يضعه مسلم ،واملتهم به حممد بن شجاع .كان زائغا يف دينه».
أسباب الوضع
قال أمحد شاكر تعليقا على الباعث:
ضاعني إىل االفرتاء ،ووضع احلديث كثرية.
واألسباب اليت دعت الكذابني الو ّ
فمنهم الزاندقة ،الذين أرادوا أن يفسدوا على الناس دينهم ،ملا وقر يف نفوسهم من احلقد على
اإلسالم وأهله ،يظهرون بني الناس ِبظهر املسلمني ،وهم املنافقون ح ّقا.
قال محاد بن زيد« :وضعت الزاندقة على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث».
مثل عبد الكرمي بن أيب العوجاء .قتله حممد بن سليمان العباسي األمري ابلبصرة ،على الزندقة بعد
سنة ( 160هـ) ،يف خالفة املهدي وملا أخذ لتضرب عنقه قال :لقد وضعت فيكم أربعة آالف
أحرم فيها احلالل ،وأحلّل احلرام.
حديثّ ،
علي -كرم هللا
وكيان بن مسعان النهدي ،من بين متيم ظهر ابلعراق بعد املائة ،وادعى -لعنه هللا -إهلية ّ
وجهه -وزعم مزاعم فاسدةُ .ث قتله خالد بن عبد هللا القسري ،وأحرقه ابلنار.
وكمحمد بن سعيد بن حسان األزدي الشامي املصلوب .قال أمحد بن حنبل:
«قتله أبو جعفر املنصور يف الزندقة ،حديثه حديث موضوع».
وقال أمحد بن صاحل املصري :زنديق ضربت عنقه ،وضع أربعة آالف حديث عند هؤالء احلمقى
فاحذروها.
وقال احلاكم أبو أمحد« :كان يضع احلديث ،صلب على الزندقة».
وحكى عنه احلاكم أبو عبد هللا :أنه روى عن محيد عن أنس مرفوعا :أان خامت النبيني ،ال نيب بعدي،
إال أن يشاء هللا .وقال« :وضع هذا االستثناء ملا كان يدعو إليه من اإلحلاد والزندقة والدعوة إىل
التنيب (ادعاء النبوة)».
ومنهم أصحاب األهواء والبدع واآلراء اليت ال دليل هلا من الكتاب والسنة ،وضعوا أحاديث نصرة
ألهوائهم ،كاخلطابية ،والرافضة (الشيعة) وغريهم.
قال عبد هللا بن يزيد املقرئ« :إن رجال من أهل البدع رجع عن بدعته ،فجعل يقول :انظروا هذا
احلديث عمن أتخذونه :فإان كنا إذا رأينا رأاي جعلنا له حديثا!».
وقال محاد بن سلمة« :أخربين شيخ من الرافضة أهنم كانوا جيتمعون على وضع
()219/1
األحاديث».
وقال أبو العباس القرطيب صاحب كتاب «املفهم شرح صحيح مسلم»« :استجاز بعض فقهاء أهل
دل عليه القياس اجللي إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم نسبة قوليه،
الرأي نسبة احلكم الذي ّ
فيقولون يف ذلك :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم كذا!! وهلذا ترى كتبهم مشحونه أبحاديث
تشهد متوهنا أبهنا موضوعة تشبه فتاوى الفقهاء ،وألهنم ال يقيمون هلا سندا».
نقله السخاوي يف شرح ألفية العراقي « ،»1واملتبويل يف مقدمة شرحه اجلامع الصغري.
القصاص :يضعون األحاديث يف قصصهم قصدا للتكسب واالرتزاق ،وتقراب للعامة بغرائب
ومنهم ّ
الرواايت .وهلم يف هذا غرائب وعجائب ،وصفاقة وجه ال توصف.
كما حكى أبو حامت البسيت :أنه دخل مسجدا ،فقام بعد الصالة شاب فقال:
حدثنا أبو خليفة :حدثنا أبو الوليد عن شعبة عن قتادة عن أنس وذكر حديثا ،قال أبو حامت :فلما
فرغ دعوته ،قلت :رأيت أاب خليفة؟ قال :ال ،قلت :كيف تروي عنه ومل تره؟ فقال :إن املناقشة معنا
من قلة املروءة! أان أحفظ هذا اإلسناد ،فكلما مسعت حديثا ضممته إىل هذا اإلسناد!!.
وأكثر هؤالء القصاص جهال ،تشبهوا أبهل العلم ،واندسوا بينهم ،فأفسدوا كثريا من عقول العامة.
ويشبههم بعض علماء السوء ،الذين اشرتوا الدنيا ابآلخرة ،وتقربوا إىل امللوك واألمراء واخللفاء،
ابلفتاوى الكاذبة ،واألقوال املخرتعة ،اليت نسبوها إىل الشريعة الربيئة ،واجرتأوا على الكذب على
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ،إرضاء لألهواء الشخصية ،ونصرا لألغراض السياسية ،فاستحبوا
العمى على اهلدى ،كما فعل غياث بن إبراهيم النخعي الكويف الكذاب اخلبيث ،كما وصفه إمام أهل
اجلرح والتعديل ،حيىي بن معني! فإنه دخل على أمري املؤمنني املهدي ،وكان املهدي حيب احلمام،
ويلعب به ،فإذا قدامه محام ،فقيل له :ح ّدث أمري املؤمنني ،قال :حدثنا فالن عن فالن أن النيب
صلّى هللا عليه وسلم قال:
ال سبق إال يف نصل أو خف أو حافر أو جناح ،فأمر له املهدي ببدرة (صرة فيها داننري) ،فلما قام
قال :أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم! ُث قال املهدي :أان محلته
على ذلكُ ،ث أمر بذبح احلمام ،ورفض ما كان فيه.
وشر أصناف الوضاعني وأعظمهم ضررا :قوم ينسبون أنفسهم إىل الزهد والتصوف ،مل يتحرجوا من
وضع األحاديث يف الرتغيب والرتهيب ،احتسااب لألجر
__________
( )1شرح ألفية العراقي ص.111 :
()220/1
عند هللا ،ورغبة يف حض الناس على عمل اخلري واجتناب املعاصي فيما زعموا ،وهم هبذا العمل
يفسدون وال يصلحون .ولوال رجال صدقوا يف اإلخالص هلل ،ونصبوا أنفسهم للدفاع عن دينهم،
ب عن سنة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ،وأفنوا أعمارهم يف التمييز بني احلديث
وتفرغوا لل ّذ ّ
الثابت واحلديث املكذوب ،وهم أئمة السنة وأعالم اهلدى.
لوال هؤالء الختلط األمر على العلماء والدمهاء ،ولسقطت الثقة ابألحاديث :فقد رمسوا قواعد النقد،
ووضعوا علم اجلرح والتعديل ،فكان من عملهم علم مصطلح احلديث ،وهو أدق الطرق اليت ظهرت
يف العلم للتحقيق التارخيي ،ومعرفة النقل الصحيح من الباطل ،فجزاهم هللا عن األمة والدين أحسن
اجلزاء.
أيب بن كعب مرفوعا يف فضائل القرآن سورة
ومن األحاديث املوضوعة املعروفة :احلديث املروي عن ّ
سورة .وقد ذكره بعض املفسرين يف تفاسريهم ،كالثعليب والواحدي والزخمشري والبيضاوي وقد
أخطأوا يف ذلك خطأ شديدا.
()221/1
قال :وإذا عزوته إىل النيب صلّى هللا عليه وسلم من غري إسناد فال تقل« :قال صلّى هللا عليه وسلم
يشك يف صحته أيضا.
كذا» ،وما أشبه ذلك من األلفاظ اجلازمة ،بل بصيغة التمريض ،وكذا فيما ّ
حبيث ال يعلم حاله ،أصحيح أم ضعيف ،كأن يقول« :روي عنه كذا» .أو «بلغنا كذا».
وإذا تيقن ضعفه وجب عليه أن يبني أن احلديث ضعيف ،لئال يغرت به القارئ أو السامع ،وال جيوز
للناقل أن يذكره بصيغة اجلزم؛ ألنه يوهم غريه أن احلديث صحيح ،خصوصا إذا كان الناقل من
علماء احلديث ،الذين يثق الناس بنقلهم ،ويظنون أهنم ال ينسبون إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم
شيئا مل جيزموا بصحة نسبته إليه .وقد وقع يف هذا اخلطأ كثري من املؤلفني ،رمحهم هللا وجتاوز عنهم.
وقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غري بيان ضعفه بشروط:
أوال :أن يكون احلديث يف القصص أو املواعظ أو فضائل األعمال أو حنو ذلك ،مما ال يتعلق
بصفات هللا تعاىل ،وما جيوز له ويستحيل عليه سبحانه ،وال بتفسري القرآن ،وال ابألحكام ،كاحلالل
واحلرام.
اثنيا :أن يكون الضعف فيه غري شديد ،فيخرج من انفراد ،من الكذابني ،واملتهمني ابلكذب ،والذين
فحش غلطهم يف الرواية.
اثلثا :أن يندرج حتت أصل معمول به.
رابعا :أن ال يعتقد عند العمل به ثبوته ،بل يعتقد االحتياط.
قال أمحد شاكر :والذي أراه :أن بيان الضعف يف احلديث الضعيف واجب يف كل حال؛ ألن ترك
البيان يوهم املطلع عليه أنه حديث صحيح .وأنه ال فرق بني األحكام وبني فضائل األعمال وحنوها
يف عدم األخذ ابلرواية الضعيفة ،بل ال حجة ألحد إال ِبا صح عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم،
من حديث صحيح أو حسن.
وأما ما قاله أمحد بن حنبل ،وعبد الرمحن بن مهدي ،وعبد هللا بن املبارك« :إذا روينا يف احلالل
أرجح ،وهللا أعلم-
واحلرام ش ّددان ،وإذا روينا يف الفضائل وحنوها تساهلنا»؛ فإمنا يريدون به -فيما ّ
أن التساهل إمنا هو يف األخذ ابحلديث احلسن الذي مل يصل إىل درجة الصحة ،فإن االصطالح يف
مستقرا واضحا بل كأ ّن أكثر املتقدمني ال يصف
ّ التفرقة بني الصحيح واحلسن مل يكن يف عصرهم
احلديث إال ابلصحة أو الضعف فقط .اه من الباعث وشرحه.
()222/1
()223/1
قلت :وسأل محزة بن يوسف السهمي أاب احلسن الدارقطين اإلمام ،فقال له :إذا قلت «فالن لني»
أيش تريد به؟ قال :ال يكون ساقطا مرتوك احلديث ،ولكن جمروحا بشيء ال يسقط العدالة.
الثانية :قال ابن أيب حامت :إذا قالوا :ليس بقوي؛ فهو ِبنزلة األول يف كتب حديثه إال أنه دونه.
الثالثة :قال :إذا قالوا« :ضعيف احلديث»؛ فهو دون الثاين ال يطرح حديثه بل يعترب به.
الرابعة :قال« :إذا قالوا« :مرتوك احلديث» ،أو «ذاهب احلديث» ،أو «كذاب»؛ فهو ساقط
احلديث ال يكتب حديثه وهي املنزلة الرابعة.
قال اخلطيب أبو بكر :أرفع العبارات يف أحوال الرواة أن يقال« :حجة أو ثقة» ،وأدوهنا أن يقال:
«كذاب ،ساقط احلديث» أخربان أبو بكر عبد املنعم الصاعدي الفراوي قراءة عليه بنيسابور ،قال:
أخربان حممد بن إمساعيل الفارسي ،قال :أخربان أبو بكر أمحد بن احلسني البيهقي احلافظ ،أخربان
احلسني بن الفضل ،أخربان عبد هللا ابن جعفر ،حدثنا يعقوب بن سفيان قال :مسعت أمحد بن صاحل
قال :ال يرتك حديث رجل حىت جيتمع اجلميع على ترك حديثه .قد يقال« :فالن ضعيف» ،فأما أن
يقال« :فالن مرتوك» فال ،إال أن جيمع اجلميع على ترك حديثه.
ومما مل يشرحه ابن أيب حامت وغريه من األلفاظ املستعملة يف هذا الباب قوهلم:
«فالن قد روى الناس عنه ،فالن وسط ،فالن مقارب احلديث ،فالن مضطرب احلديث ،فالن ال
حيتج به ،فالن جمهول ،فالن ال شيء ،فالن ليس بذاك» ورِبا قيل« :ليس بذاك القوي فالن .فالن
فيه أو يف حديثه ضعف» .وهو يف اجلرح أقل من قوهلم «فالن ضعيف احلديث» ،فالن «ما أعلم به
أبسا» .وهو يف التعديل دون قوهلم« :ال أبس به» ،وما من لفظة منها ومن أشباهها إال وهلا نظري
أصلناه يتنبه إن شاء هللا به عليها .وهللا أعلم .اه .من املقدمة البن الصالح.
شرحناه أو أصل ّ
()224/1
وهذا القسم أرفع األقسام عند اجلماهري .وفيما نرويه عن القاضي عياض بن موسى السبيت أحد
املتأخرين املطلعني قوله :ال خالف أنه جيوز يف هذا أن يقول السامع من شيخه:
«حدثنا ،وأخربان ،وأنبأان ،ومسعت فالان يقول ،وقال لنا فالن ،وذكر لنا فالن».
وذكر احلافظ أبو بكر اخلطيب أن أرفع العبارات يف ذلك «مسعت» ُث «حدثنا ،وحدثين» فإنه ال
يكاد أحد يقول مسعت يف أحاديث اإلجازة واملكاتبة وال يف تدليس ما مل يسمعه.
وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له« :حدثنا» وروي عن احلسن أنه كان يقول« :حدثنا أبو
هريرة» ويتأول أنه حدث أهل املدينة ،وكان احلسن إذ ذاك هبا إال أنه مل يسمع منه شيئا.
قلت :ومنهم من أثبت له مساعا من أيب هريرة .اه ابن الصالح.
ُث يتلو ذلك قول« :أخربان» وهو كثري يف االستعمال ،حىت إن مجاعة من أهل العلم كانوا ال يكادون
خيربون عما مسعوه من لفظ حدثهم به إال بقوهلم «أخربان» منهم محاد بن سلمة ،وعبد هللا بن املبارك،
وهشام بن بشري ،وعبيد هللا بن موسى ،وعبد الرزاق بن مهام.
وذكر اخلطيب عن حممد بن رافع قال :كان عبد الرزاق يقول« :أخربان» حىت قدم أمحد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه فقاال له :قل «حدثنا» فكل ما مسعت مع هؤالء قال« :حدثنا» وما كان قبل
ذلك قال« :أخربان» .وعن حممد بن أيب الفوارس احلافظ قال« :هشيم ،ويزيد بن هارون ،وعبد
الرزاق ال يقولون إال «أخربان» فإذا رأيت «حدثنا» فهو من خطأ الكاتب».
قلت :وكان هذا كله قبل أن يشيع ختصيص «أخربان» ِبا قرئ على الشيخُ ،ث يتلو قول «أخربان»
قول «أنبأان» ،و «نبأان» وهو قليل يف االستعمال.
()225/1
وروي ذلك عن مالك أيضا ،وروي عن مالك وغريه أهنما سواء .وقد قيل :إن التسوية بينهما مذهب
معظم علماء احلجاز والكوفة ،ومذهب مالك وأصحابه ،وأشياخه من علماء املدينة ،ومذهب
البخاري وغريهم.
والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ .واحلكم أبن القراءة عليه مرتبة اثنية ،وقد قيل :إن هذا
مذهب مجهور أهل املشرق.
وأما العبارة عنها عند الرواية هبا فهي على مراتب ،أجودها وأسلمها أن يقول:
«قرأت على فالن ،أو قرئ على فالن وأان أمسع» فهذا سائغ من غري إشكال.
ويتلو ذلك :ما جيوز من العبارات يف السماع من لفظ الشيخ إذا أتى هبا مقيدة أبن يقول« :حدثنا
فالن قراءة عليه ،أو أخربان قراءة عليه» ،وحنو ذلك ،وكذلك «أنشدان قراءة عليه» يف الشعر.
وأما إطالق «حدثنا وأخربان» يف القراءة على الشيخ فقد اختلفوا فيه على مذاهب.
()226/1
نقول :إذا أجاز أن يروي عنه مروايته فقد أخربه هبا مجلة فهو كما لو أخربه تفصيال.
وإخباره هبا غري متوقف على التصريح نطقا ،كما يف القراءة على الشيخ كما سبق ،وإمنا الغرض
حصول اإلفهام والفهم وذلك حيصل ابإلجازة املفهمة.
النوع الثاين من أنواع اإلجازة :أن جييز ملعني يف غري معني مثل أن يقول« :أجزت لك أو لكم مجيع
مسموعايت أو مجيع مرواييت» وما أشبه ذلك ،فاخلالف يف هذا النوع أقوى وأكثر .واجلمهور من
العلماء من احملدثني والفقهاء وغريهم على جتويز الرواية هبا أيضا ،وعلى إجياب العمل ِبا روي هبا
بشرطه.
النوع الثالث من أنواع اإلجازة :أن جييز لغري معني بوصف العموم مثل أن يقول:
«أجزت للمسلمني ،أو أجزت لكل أحد ،أو أجزت ملن أدرك زماين» وما أشبه ذلك فهذا نوع تكلم
جوز أصل اإلجازة واختلفوا يف جوازه ،فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاضر أو حنوه
فيه املتأخرون ممن ّ
فهو إىل اجلواز أقرب ،وممن جوز ذلك كله أبو بكر اخلطيب احلافظ.
وجوز القاضي أبو
وروينا عن أيب عبد هللا بن منده احلافظ أنه قال« :أجزت ملن قال ال إله إال هللا»ّ .
الطيب الطربي -أحد الفقهاء احملققني فيما حكاه عنه اخلطيب -اإلجازة جلميع املسلمني من كان
منهم موجودا عند اإلجازة ،وأجاز أبو حممد بن سعيد أحد اجللّة من شيوخ األندلس لكل من دخل
قرطبة من طلبة العلم ،ووافقه على جواز ذلك مجاعة منهم أبو عبد هللا بن عتاب رضي هللا عنهم.
وأنبأين من سأل احلازمي أاب بكر عن اإلجازة العامة هذه فكان من جوابه أن من أدركه من احلفاظ حنو
أيب العالء احلافظ وغريه كانوا مييلون إىل اجلواز.
قلت :ومل نر ومل نسمع عن أحد ممن يقتدى به أنه استعمل هذه اإلجازة فروى هبا وال عن الشرذمة
سوغوها ،واإلجازة يف أصلها ضعف وتزداد هبذا التوسع واالسرتسال ضعفا كثريا ال ينبغي
املستأخرة ّ
احتماله .وهللا أعلم اه .ابن الصالح.
النوع الرابع من أنواع اإلجازة :اإلجازة للمجهول أو ابجملهول ،ويتشبث بذيلها اإلجازة املعلقة
ابلشرط وذلك مثل أن يقول« :أجزت حملمد بن خالد الدمشقي» ،ويف وقته ذلك مجاعة مشرتكون يف
هذا االسم والنسبُ ،ث ال يعني اجملاز له منهم ،أو يقول« :أجزت لفالن أن يروي عين كتاب السنن»
يعني .فهذه إجازة فاسدة ال فائدة
وهو يروي أكثر من كتاب من كتب السنن املعروفة بذلكُ ،ث ال ّ
هلا.
النوع اخلامس من أنواع اإلجازة :اإلجازة للمعدوم ،ولنذكر معه اإلجازة للطفل الصغري .هذا نوع
خاض فيه قوم من املتأخرين واختلفوا يف جوازه .ومثاله أن يقول:
«أجزت ملن يولد لفالن» فإن عطف املعدوم يف ذلك على املوجود أبن قال« :أجزت
()227/1
لفالن وملن يولد له ،أو أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا» كان ذلك أقرب إىل اجلواز من
األول .وملثل ذلك أجاز أصحاب مالك وأيب حنيفة رضي هللا عنهما أو من قال ذلك منهم يف الوقف
القسمني كليهما ،وفعل هذا الثاين يف اإلجازة من احملدثني املتقدمني أبو بكر بن أيب داود السجستاين؛
فإان روينا عنه أنه سئل اإلجازة فقال« :قد أجزت لك وألوالدك وحلبل احلبلة» يعين الذين مل يولدوا
بعد.
النوع السادس من أنواع اإلجازة :إجازة ما مل يسمعه اجمليز ومل يتحمله أصال بعد لريويه اجملاز إذا حتمله
اجمليز بعد ذلك ،أخربين من أخرب عن القاضي عياض بن موسى من فضالء وقته ابملغرب ،فقال:
«هذا مل أر من تكلم عليه من املشايخ ،ورأيت بعض املتأخرين والعصريني يسمعونه»ُ ،ث حكى عن
أيب الوليد يونس بن مغيث قاضي قرطبة أنه سئل اإلجازة جبميع ما رواه إىل اترخيه وما يرويه بعد
فامتنع من ذلك.
فغضب السائل ،فقال له بعض أصحابه :اي هذا يعطيك ما مل أيخذه؟ هذا حمال.
قال عياض« :وهذا هو الصحيح».
()228/1
وقد قال احلاكم يف هذا العرض :أما فقهاء اإلسالم الذين أفتوا يف احلالل واحلرام؛ فإهنم مل يروه
مساعا ،وبه قال الشافعي ،واألوزاعي ،والبويطي ،واملزين ،وأبو حنيفة ،وسفيان الثوري ،وأمحد بن
حنبل ،وابن املبارك ،وحيىي بن حيىي ،وإسحاق ابن راهويه قال :وعليه عهدان أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه
نذهب .وهللا أعلم.
القسم اخلامس من أقسام طرق نقل احلديث وتلقيه :املكاتبة:
وهي أن يكتب الشيخ إىل الطالب وهو غائب شيئا من حديثه خبطه أو يكتب له ذلك وهو حاضر.
ويلتحق بذلك ما إذا أمر غريه أبن يكتب له ذلك عنه إليه ،وهذا القسم ينقسم أيضا إىل نوعني:
أحدمها :أن تتجرد املكاتبة عن اإلجازة.
والثاين :أن تقرتن ابإلجازة؛ أبن يكتب إليه ويقول« :أجزت لك ما كتبته لك ،أو ما كتبت به إليك،
أو حنو ذلك من عبارات اإلجازة».
()229/1
فرعوا قوهلم« :وجادة» فيما أخذ من العلم من صحيفة
زكراي النهرواين العالمة يف العلوم :أن املولّدين ّ
من غري مساع ،وال إجازة ،وال مناولة ،من تفريق العرب بني مصادر «وجد» للتمييز بني املعاين
املختلفة يعين قوهلم« :وجد ضالته وجداان ،ومطلوبه وجودا» ويف الغضب «موجدة» ويف الغىن
«وجدا» ويف احلب «وجدا».
مثال الوجادة :أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها خبطه ومل يلقه ،أو لقيه ولكن مل يسمع
ط فالن ،أو قرأت
منه ذلك الذي وجده خبطه وال له منه إجازة وال حنوها ،فله أن يقول« :وجدت خب ّ
ط فالن ،أو يف كتاب فالن خبطّه :أخربان فالن بن فالن» ويذكر شيخه ويسوق سائر اإلسناد واملنت
خب ّ
معا ،أو يقول« :وجدت أو قرأت خبط فالن عن فالن» ويذكر الذي حدثه ومن فوقه ،هذا الذي
استمر عليه العمل قدميا وحديثا ،وهو من ابب املنقطع واملرسل غري أنه أخذ شواب من االتصال
بقوله« :وجدت خبط فالن» اه .ابن الصالح ابختصار وتصرف.
()230/1
عن زيد بن اثبت «أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم احتجم يف املسجد» ،وإمنا هو ابلراء «احتجر
يف املسجد» خبص أو حصري ،حجرة يصلي فيها ،فصحفه ابن هليعة لكونه أخذه من كتاب بغري مساع.
ذكر ذلك مسلم يف كتاب التمييز له.
أيب يوم األحزاب على أكحله،
وبلغنا عن الدارقطين يف حديث أيب سفيان عن جابر قال« :رمي ّ
أيب» وهو أيب بن كعب.
فكواه رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم» أن غندرا قال فيه« :أيب» وإمنا هو « ّ
ذرة» قال
ويف حديث أنس «ُث خيرج من النار من قال ال إله إال هللا وكان يف قلبه من اخلري ما يزن ّ
فيه شعبة« :ذرة» ابلضم والتخفيف ونسب فيه إىل التصحيف.
املفسر» حدث عن سعيد بن أيب عروبة عن قتادة
سالم «هو ّوبلغنا عن أيب زرعة الرازي أن حيىي بن ّ
ِِ
ني قال «مصر» واستعظم أبو زرعة هذا واستقبحه وذكر أنه يف يف قوله تعاىلَ :سأُ ِري ُك ْم َ
دار الْفاسق َ
تفسري سعيد عن قتادة «مصريهم».
وبلغنا عن الدارقطين أن حممد بن املثىن أاب موسى العرتي حدث حبديث النيب صلّى هللا عليه وسلم:
«ال أييت أحدكم يوم القيامة ببقرة هلا خوار» قال فيه« :أو شاة تنعر» ابلنون ،وإمنا هو «تيعر» ابلياء
املثناة من حتت.
وأنه قال هلم يوما« :حنن قوم لنا شرف ،حنن من عنزة قد صلى النيب صلّى هللا عليه وسلم إلينا» يريد
ما روي أن النيب صلّى هللا عليه وسلم صلى إىل عنزة .توهم أنه صلى إىل قبيلتهم ،وإمنا العنزة ههنا
حربة نصبت بني يديه فصلى إليها .اه.
عادة احملدثني
جرت عادة أهل احلديث حبذف قال وحنوه فيما بني رجال اإلسناد يف اخلط.
وينبغي للقارئ أن يلفظ هبا ،وإذا كان يف الكتاب قرئ على فالن ،أخربك فالن ،فليقل القارئ :قرئ
على فالن قيل له :أخربك فالن ،وإذا كان فيه قرئ على فالن أخربان فالن فليقل :قرئ على فالن،
قيل له :قلت :أخربان فالن.
وإذا تكررت كلمة قال كقوله :حدثنا صاحل قال :قال الشعيب :فإهنم حيذفون إحدامها يف اخلط
فليلفظ هبما القارئ فلو ترك القارئ لفظ قال يف هذا كله فقد أخطأ والسماع صحيح للعلم ابملقصود
ويكون هذا من احلذف لداللة احلال عليه .اه منه.
رموز احملدثني
جرت العادة ابالقتصار على الرمز يف «حدثنا وأخربان» واستمر االصطالح عليه من
()231/1
قدمي األعصار إىل زماننا واشتهر ذلك حبيث ال خيفى فيكتبون من حدثنا (ثنا) وهي الثاء والنون
واأللف ،ورِبا حذفوا الثاء ،ويكتبون من أخربان (ان) وال حيسن زايدة الباء قبل «ان» ،وإذا كان
للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند االنتقال من إسناد إىل إسناد (ح) وهي حاء مهملة مفردة،
واملختار أهنا مأخوذة من التحول ،لتحوله
من إسناد إىل إسناد ،وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها( :ح) ويستمر يف قراءة ما بعدها.
وقيل :إهنا من حال بني الشيئني ،إذا حجز لكوهنا حالت بني اإلسنادين ،وأنه ال يلفظ عند االنتهاء
إليها بشيء وليست من الرواية.
وقيل :إهنا رمز إىل قوله احلديث ،وأن أهل املغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها:
احلديث .وقد كتب مجاعة من احلفاظ موضعها «صح» فيشعر أبهنا رمز «صح» ،وحسنت هاهنا
كتابة «صح» لئال يتوهم أنه سقط منت اإلسناد األول.
ُث هذه احلاء توجد يف كتب املتأخرين كثريا وهي كثرية يف صحيح مسلم ،وقليلة يف صحيح البخاري،
فيتأكد احتياج صاحب هذا الكتاب إىل معرفتها وقد أرشدانه إىل ذلك وهلل احلمد والنعمة والفضل
واملنة.
()232/1
األوىل حذفها وهذا جهل قبيح ،وهللا أعلم .اه كالم النووى.
()233/1
هذا كالم القاضي اجملمع على إمامته وجاللته ،وفيه تقرير للمذهبني ،ويستدل به على ترجيح مذهب
احملدثني ،فإن هذا اإلمام قد نقل عن أهل اللغة أن االسم يتناول صحبة ساعة ،وأكثر أهل احلديث
قد نقلوا االستعمال يف الشرع والعرف على وفق اللغة فوجب املصري إليه ،وهللا أعلم.
وأما التابعي :ويقال فيه التابع :فهو من لقى الصحايب ،وقيل :من صحبه كاخلالف يف الصحايب،
واالكتفاء هنا ِبجرد اللقاء أوىل؛ نظرا إىل مقتضى اللفظني.
وتعرف صحبة الصحابة اترة ابلتواتر ،واترة أبخبار مستفيضة ،واترة بشهادة غريه من الصحابة له،
واترة بروايته عن النيب صلّى هللا عليه وسلم مساعا ،أو مشاهدة مع املعاصرة.
صحايب» :فقد قال ابن احلاجب يف خمتصره:
ّ فأما إذا قال املعاصر العدل« :أان
احتمل اخلالف؛ يعين ألنه خيرب عن حكم شرعي ،كما لو قال يف الناسخ« :هذا انسخ هلذا» الحتمال
خطئه يف ذلك.
أما لو قال« :مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال كذا» أو «رأيته فعل كذا» أو «كنا عند
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم» وحنو هذا :-فهذا مقبول ال حمالة ،إذا صح السند إليه ،وهو ممن
عاصره عليه الصالة والسالم .اه.
أمور تتعلق ابلصحابة
- 1عدالتهم مجيعا:
للصحابة أبسرهم خصيصة ،وهي أنه ال يسأل عن عدالة أحد منهم ،بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكوهنم
على اإلطالق مع ّدلني بنصوص الكتاب والسنة ،وإمجاع من يعت ّد به يف اإلمجاع من األمة.
َّاس [سورة آل عمران آية.]110 : ت لِلن ِ
ري أ َُّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ
قال هللا تبارك وتعاىلُ :ك ْنـتُ ْم َخ ْ َ
قيل :اتفق املفسرون على أنه وارد يف أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم.
داء َعلَى الن ِ
َّاس [سورة البقرة آية ،]143 :وهذا ِ وقال تعاىلَ :وَكذلِ َ
ك َج َعلْنا ُك ْم أ َُّمةً َو َسطاً لتَ ُكونُوا ُش َه َ
خطاب مع املوجودين حينئذ.
وقال سبحانه تعاىلُ :حمَ َّم ٌد رس ُ ِ
اَّلل والَّ ِذين معهُ أ ِ
َشدَّاءُ َعلَى الْ ُك َّفا ِر [سورة الفتح آية.]29 : ول َّ َ َ َ َ َُ
ويف نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة ،منها :حديث أيب سعيد املتفق على صحته أن رسول هللا
صلّى هللا عليه وسلم قال« :ال تسبوا أصحايب ،فو الذي نفسي بيده لو أ ّن أحدكم
()234/1
أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك م ّد أحدهم وال نصيفه» ُث إن األمة جممعة على تعديل مجيع الصحابة،
ومن ال بس الفنت منهم ،فكذلك إبمجاع العلماء الذين يعتد هبم يف اإلمجاع ،إحساان للظن هبم ،ونظرا
متهد هلم من املآثر ،وكأن هللا سبحانه وتعاىل أاتح اإلمجاع على ذلك لكوهنم نقلة الشريعة ،اه.
إىل ما ّ
ابن الصالح.
- 2أكثرهم حديثا:
أكثر الصحابة حديثا عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أبو هريرة .روي ذلك عن سعيد بن أيب
حديثي وهو أول صاحب حديث،
ّ احلسن ،وأمحد بن حنبل ،وذلك من الظاهر الذي ال خيفى على
السجستاين قال« :رأيت أاب هريرة يف النوم وأان بسجستان أصنف حديث
بلغنا عن أيب بكر بن داود ّ
أيب هريرة فقلت :إين ألحبك ،فقال :أان أول صاحب حديث كان يف الدنيا».
وعن أمحد بن حنبل أيضا رضي هللا عنه قال« :ستة من أصحاب النيب صلّى هللا عليه وسلم أكثروا
وعمروا :أبو هريرة ،وابن عمر ،وعائشة ،وجابر بن عبد هللا ،وابن عباس ،وأنس ،وأبو
الرواية عنه ّ
هريرة أكثرهم حديثا ،ومحل عنه الثقات».
ُث إن أكثر الصحابة فتيا تروى :ابن عباس ،بلغنا عن أمحد بن حنبل قال« :ليس أحد من أصحاب
النيب صلّى هللا عليه وسلم يروى عنه يف الفتوى أكثر من ابن عباس».
العبادلة منهم:
وروينا عن أمحد بن حنبل -أيضا -أنه قيل له« :من العبادلة؟» فقال« :عبد هللا بن عباس ،وعبد هللا
بن عمر ،وعبد هللا بن الزبري ،وعبد هللا بن عمرو» .قيل له:
«فابن مسعود؟» قال« :ال ،ليس عبد هللا بن مسعود من العبادلة».
قال احلافظ أمحد البيهقي فيما رويناه عنه وقرأته خبطه« :وهذا ألن ابن مسعود تقدم موته ،وهؤالء
عاشوا حىت احتيج إىل علمهم ،فإذا اجتمعوا على شيء قيل :هذا قول العبادلة ،أو هذا فعلهم».
قلت :ويلتحق اببن مسعود يف ذلك سائر العبادلة املسلمني بعبد هللا من الصحابة ،وهم حنو مائتني
وعشرين نفسا ،وهللا أعلم ،اه من مقدمة ابن الصالح.
()235/1
وابن عباس رضي هللا عنهم .كان لكل رجل منهم أصحاب يقومون بقوله ويفتون الناس» .وروينا عن
وأيب ،وزيد،
مسروق قال« :وجدت علم أصحاب النيب صلّى هللا عليه وسلم انتهى إىل ستة :عمرّ ،
وأيب الدرداء ،وعبد هللا بن مسعودُ ،ث انتهى علم هؤالء الستة إىل اثنني :علي ،وعبد هللا» .وروينا
حنوه عن مطرف عن الشعيب عن مسروق ،لكن ذكر أاب موسى بدل أيب الدرداء .وروينا عن الشعيب
قال« :كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول هللا ،وكان عمر ،وعبد هللا ،وزيد ،يشبه علم
وأيب ،يشبه علم بعضهم بعضا،
بعضهم بعضا ،وكان يقتبس بعضهم من بعض ،وكان علي ،واألشعريّ .
وكان يقتبس بعضهم من بعض» .وروينا عن احلافظ أمحد البيهقي أن الشافعي ذكر الصحابة يف
رسالته القدمية وأثىن عليهم ِبا هم أهلهُ ،ث قال« :وهم فوقنا يف كل علم ،واجتهاد ،وورع ،وعقل،
وأمر استدرك به علم واستنبط به ،وآراؤهم لنا أمحد وأوىل بنا من آرائنا عندان ألنفسنا.
- 5أفضلهم:
علي ،وقدم
أفضلهم على اإلطالق أبو بكرُ ،ث عمرُ ،ث إن مجهور السلف على تقدمي عثمان على ّ
أهل الكوفة من أهل السنة عليّا على عثمان ،وبه قال منهم سفيان الثورى أوال ُث رجع إىل تقدمي
علي على عثمان:
عثمان ،روى ذلك عنه ،وعنهم اخلطايب .وممن نقل عنه من أهل احلديث تقدمي ّ
حممد بن إسحاق بن خزمية ،وتقدمي عثمان هو الذي استقرت عليه مذاهب أصحاب احلديث وأهل
السنة.
وأما أفضل أصنافهم صنفا :فقد قال أبو منصور البغدادي التميمي :أصحابنا
()236/1
جممعون على أن أفضلهم اخللفاء األربعةُ ،ث الستة الباقون إىل متام العشرةُ ،ث البدريونُ ،ث أصحاب
أحدُ ،ث أهل بيعة الرضوان ابحلديبية.
نص القرآن تفضيل السابقني األولني من املهاجرين واألنصار ،وهم الذي صلوا إىل
قلت :ويف ّ
القبلتني يف قول سعيد بن املسيب وطائفة ،ويف قول الشعيب :هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ،وعن
حممد بن كعب القرظى وعطاء بن يسار أهنما قاال :هم أهل بدر ،روى ذلك عنهما ابن عبد الرب فيما
وجدانه عنه .وهللا أعلم.
- 6أوهلم إسالما:
اختلف السلف يف أوهلم إسالما ،فقيل :أبو بكر الصديق ،روي ذلك عن ابن عباس ،وحسان بن
اثبت ،وإبراهيم النخعي ،وغريهم.
علي أول من أسلم ،روى ذلك عن زيد بن أرقم ،وأيب ذر ،واملقداد ،وغريهم ،وقال احلاكم أبو
وقيلّ :
علي بن أيب طالب أوهلم إسالما ،واستنكر هذا من
عبد هللا :ال أعلم خالفا بني أصحاب التواريخ أن ّ
احلاكم.
وقيل :أول من أسلم زيد بن حارثة .وذكر معمر حنو ذلك عن الزهري.
وقيل :أول من أسلم خدجية أم املؤمنني ،روي ذلك من وجوه عن الزهري ،وهو قول قتادة ،وحممد
بن إسحاق بن يسار ،ومجاعة.
وروي أيضا عن ابن عباس ،وادعى الثعليب املفسر فيما رويناه أو بلغنا عنه اتفاق العلماء على أن أول
من أسلم خدجية ،وأن اختالفهم إمنا هو يف أول من أسلم بعدها.
واألورع أن يقال :أول من أسلم من الرجال األحرار :أبو بكر ،ومن الصبيان أو األحداث:
علي ،ومن النساء :خدجية ،ومن املوايل :زيد بن حارثة ،ومن العبيد :بالل .وهللا أعلم.
ّ
- 7آخرهم موات:
آخرهم على اإلطالق موات :أبو الطفيل عامر بن واثلة ،مات سنة مائة من اهلجرة.
وأما ابإلضافة إىل النواحي:
فآخر من مات منهم ابملدينة :جابر بن عبد هللا ،رواه أمحد بن حنبل عن قتادة ،وقيل :سهل بن
سعد ،وقيل :السائب بن زيد.
علي ابن املديين :أن أاب
وآخر من مات منهم ِبكة :عبد هللا بن عمر ،وقيل :جابر بن عبد هللا ،وذكر ّ
الطفيل ِبكة مات ،فهو إذا اآلخر هبا.
()237/1
وآخر من مات منهم ابلبصرة :أنس بن مالك ،قال أبو عمر بن عبد الرب« :ما أعلم أحدا مات بعده
ممن رأى رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم إال أاب الطفيل».
وآخر من مات منهم ابلكوفة :عبد هللا بن أيب أوىف.
وابلشام :عبد هللا بن بسر ،وقيل :بل أبو أمامة .وتبسط بعضهم فقال :آخر من مات من أصحاب
الزبيدي.
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ِبصر :عبد هللا ابن احلارث بن جزء ّ
وبفلسطني :أبو أيب بن أم حرام.
وبدمشق :واثلة بن األسقع.
وحبمص :عبد هللا بن بسر.
وابليمامة :اهلرماس بن زايد.
وابجلزيرة :العرس بن عمرية.
وأبفريقية :رويفع بن اثبت.
وابلبادية يف األعراب :سلمة بن األكوع ،رضي هللا عنهم أمجعني.
ويف بعض ما ذكرانه خالف مل نذكره ،وقوله يف «رويفع» أبفريقية ال يصح؛ إمنا مات يف حاضرة برقة
وقربه هبا ،ونزل سلمة إىل املدينة قبل موته بليال فمات هبا ،وهللا أعلم .اه .ابن الصالح.
()238/1
عبد هللا ابن «حبينة» وهي أمه ،وأبوه مالك بن القشب األسدي.
سعد ابن «حبتة» هي أمه ،وأبوه جبري بن معاوية.
ومن التابعني فمن بعدهم حممد ابن «احلنفيّة» ،وامسها «خولة» ،وأبوه أمري املؤمنني على بن أيب
طالب.
إمساعيل ابن «عليّة» ،هي أمه ،وأبوه إبراهيم ،وهو أحد أئمة احلديث والفقه ومن كبار الصاحلني
(بدت منه هفوة ُث اتب منها -أمحد شاكر).
ابن «هراسة» هو أبو إسحاق ابراهيم ابن هراسة ،قال احلافظ عبد الغين بن سعيد املصري :هي أمه،
واسم أبيه «سلمة».
ومن هؤالء من قد ينسب إىل جدته ،كيعلي ابن «منية» ،قال الزبري بن بكار :هي أم أبيه «أميّة».
وبشري ابن «اخلصاصيّة»« :اسم أبيه» معبد« ،واخلصاصية أم جده الثالث».
قال الشيخ أبو عمرو :ومن أحدث ذلك عهدا شيخنا أبو أمحد عبد الوهاب بن على البغدادي،
يعرف اببن «سكينة» وهي أم أبيه.
قال ابن كثري :وكذلك شيخنا العالمة «أبو العباس ابن تيمية» ،هي أم أحد أجداده األبعدين ،وهو
أمحد بن عبد احلليم بن عبد السالم بن أيب القاسم بن حممد ابن تيمية احلراين .اه.
املخضرمون من التابعني
سبق أن قلنا :إن التابعي هو من لقى الصحايب ،وقيل :من صحبه ،كاخلالف يف الصحاىب واالكتفاء
هنا ِبجرد اللقاء أوىل ،نظرا إىل مقتضى اللفظني.
أما املخضرمون فقد قال ابن الصالح :املخضرمون من التابعني هم الذين أدركوا اجلاهلية وحياة
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم وأسلموا وال صحبة هلم ،واحدهم خمضرم بفتح الراء ،كأنه خضرم أي
قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغريها ،وذكرهم مسلم فبلغ هبم عشرين نفسا ،منهم :أبو
عمرو الشيباين ،وسويد بن غفلة الكندي ،وعمرو بن ميمون األودي ،وعبد خري بن يزيد اخليواين،
وأبو عثمان النهدي ،وعبد الرمحن بن مل ،وأبو احلالل العتكي ربيعة بن زرارة ،وممن مل يذكره مسلم
منهم :أبو مسلم اخلوالين عبد هللا بن ثوب ،واألحنف بن قيس.
()239/1
أكابر التابعني
من أكابر التابعني السبعة من أهل املدينة وهم :سعيد بن املسيب ،والقاسم بن حممد ،وعروة بن
الزبري ،وخارجة بن زيد ،وأبو سلمة بن عبد الرمحن ،وعبيد هللا ابن عبد هللا بن عتبة ،وسليمان بن
يسار .روينا عن احلافظ أيب عبد هللا أنه قال:
«هؤالء الفقهاء السبعة عند األكثر من علماء احلجاز» .وروينا عن ابن املبارك قال:
«كان فقهاء أهل املدينة الذين يصدرون عن رأيهم سبعة» ،فذكر هؤالء السبعة إال أنه مل يذكر أاب
سلمة بن عبد الرمحن ،وذكر بدله سامل بن عبد هللا بن عمر .وروينا عن أيب الزاند تسميتهم يف كتابه
عنهم ،فذكر هؤالء إال أنه ذكر أاب بكر بن عبد الرمحن بدل أيب سلمة وسامل .اه.
أفضل التابعني
ورد عن أمحد بن حنبل أنه قال« :أفضل التابعني سعيد بن املسيب .فقيل له:
فعلقمة واألسود؟» فقال« :سعيد بن املسيب ،وعلقمة ،واألسود».
وعنه أنه قال :ال أعلم يف التابعني مثل أيب عثمان النهدي ،وقيس بن أيب حازم.
وعنه -أيضا -قال :أفضل التابعني قيس ،وأبو عثمان ،وعلقمة ،ومسروق ،هؤالء كانوا فاضلني ومن
علية التابعني.
وأعجبين ما وجدته عن الشيخ أيب عبد هللا بن خفيف الزاهد الشريازي يف كتاب له ،قال« :اختلف
الناس يف أفضل التابعني ،فأهل املدينة يقولون :سعيد بن املسيب؛ وأهل
الكوفة يقولون :أويس القرين؛ وأهل البصرة يقولون :احلسن البصري» .وبلغنا عن أمحد ابن حنبل
قال« :ليس أحد أكثر فتوى من احلسن ،وعطاء؛ يعين من التابعني».
وقال أيضا« :كان عطاء مفيت مكة ،واحلسن مفيت البصرة ،فهذان أكثر الناس عنهم رأيهم» .وبلغنا
عن أيب بكر بن أيب داود قال« :سيدات التابعني من النساء:
حفصة بنت سريين ،وعمرة بنت عبد الرمحن ،واثلثتهما وليست كهما :أم الدرداء».
اه .ابن الصالح.
()240/1
اخلامتة
احلمد هلل ذي اجلالل واإلكرام ،والفضل واإلنعام ،والتوفيق واإلهلام ،هو اخلالق البارئ املصور ،له
األمساء احلسىن ،يسبح له ما يف السموات واألرض وهو العزيز احلكيم.
العلي العظيم.
وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،ال حول وال قوة إال به وهو ّ
وأشهد أن حممدا عبده ورسوله ،سيد األولني واآلخرين ،وحامل لواء احلمد يوم الدين وصاحب
الشفاعة العظمى يوم العرض على رب العاملني.
صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعني هلم إبحسان إىل يوم الدين وبعد ..
فقد مت حبمد هللا تعاىل كتاب «احلديث يف علوم القرآن واحلديث» ،فإن كنت أصبت فيما قدمت؛
فذلك رجائي ،وإن كنت أخطأت يف شيء؛ فإين آمل أن يغفر يل القارئ املنصف ،فلم يكتب لغري
األنبياء كمال بشرى ،ومل يكن يوما أحد املؤلفني منزها عن اخلطأ.
نفع هللا به قارئه ،ووفقين وإايه ملا حيب ويرضى .آمني.
املؤلف حسن أيّوب
()241/1
فهرست الكتاب
املوضوع الصفحة
املقدمة 5
علوم القرآن 7
اتريخ علوم القرآن 8
عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن 9
عهد التدوين لعلوم القرآن 10
أول عهد لظهور هذا االصطالح 12
مجع القرآن وسبب كتب عثمان املصاحف وإحراقه ما سواها 13
ترتيب آايت القرآن وسوره 16
مالحظة 18
ترتيب السور 18
معىن السورة 18
أقسام السور 19
املذاهب يف ترتيب السور 19
احرتام هذا الرتتيب 23
املكي واملدين من القرآن الكرمي 24
االصطالحات يف معىن املكي واملدين 24
فائدة العلم ابملكي واملدين 25
الطريق املوصلة إىل معرفة املكي واملدين 25
الضوابط اليت يعرف هبا املكي واملدين 26
عدد السور املكية واملدنية واملختلف فيها 27
إنزاالت القرآن 28
كيفية أخذ جربيل للقرآن؟ وعمن أخذ؟ 30
ما الذي نزل به جربيل؟ 30
الفرق بني القرآن والسنة يف الوحي 32
()243/1
مدة نزول القرآن على حممد صلّى هللا عليه وسلم 33
دليل تنجيم هذا النزول 34
احلكم واألسرار يف تنجيم القرآن 34
حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته 40
معرفة أول وآخر ما نزل من القرآن 41
أول ما نزل 41
آخر ما نزل 41
تنبيه 42
معرفة أسباب النزول 44
تنبيه (47 )1
تنبيه (48 )2
تنبيه (52 )3
تنبيه (52 )4
تنبيه (53 )5
ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة 54
ما أتخر حكمه عن نزوله وما أتخر نزوله عن حكمه 56
إعجاز القرآن الكرمي 58
أوجه اإلعجاز 60
آداب تالوته وكيفيتها 65
حكم أخذ األجرة على تعليم القرآن 66
ما يستحب عند القراءة 67
التعوذ وقراءة البسملة عند التالوة 67
قراءة القرآن يف املصحف أفضل أم عن ظهر قلب؟ 67
حكم خلط سورة بسورة 68
حكم قراءة القرآن مع مجاعة 69
ختم القرآن 70
()244/1
()245/1
()246/1
()247/1
()248/1
تفسري اخلطيب 157
تفسري اخلازن 157
تفاسري الفرق املختلفة 157
تفاسري املعتزلة 157
تفاسري الباطنية 158
تفاسري الشيعة 158
التفسري اإلشاري 159
أهم كتب التفسري اإلشاري 160
نصيحة خالصة 162
علوم احلديث أمهية علوم احلديث 165
املصنفون يف هذا العلم 166
ألقاب احملدثني 167
اصطالحات يف كتب احلديث 169
اجلامع 169
املسند 169
املعجم 170
اجلزء والرسالة واألربعون 170
املستخرجات 170
فائدة 171
فوائد املستخرجات على الصحيحني 171
املستدركات 172
كتب العلل 172
اصطالحات لفظية لعلماء احلديث 173
املسند 173
املتصل 173
()249/1
املرفوع 173
املوقوف 173
املعضل 173
املقطوع 173
املنقطع 173
املرسل 173
حكم ما يصدر عن الصحايب من األقوال 174
احلديث القدسي 175
معىن احلديث القدسي 175
الفرق بني القرآن واحلديث القدسي 175
الفرق بني احلديث القدسي واحلديث النبوي 176
أقسام اخلرب (احلديث) 177
احلديث املتواتر 177
مىت يفيد املتواتر العلم الضروري 179
شروط السامعني 180
حديث اآلحاد 180
القول الفصل 181
أقسام اآلحاد 182
شروط العمل خبرب الواحد 183
الصغائر والكبائر 186
تعريف الكبائر 186
شروط مدلول اخلرب 189
تنبيهات مهمة 190
شروط لفظ اخلرب 191
إيضاح مهم 192
احلديث الصحيح 193
()250/1
املشهور 193
الغريب والعزيز 193
أقسام الصحيح من حيث القوة 194
حكم املعلق يف البخاري ومسلم 195
الفرق بني صحيح وصحيح اإلسناد 195
مىت يصري احلسن صحيحا 195
قواي 196
مىت يكون الضعيف ّ
أول من مجع صحاح احلديث 196
عدد ما يف الصحيحني من احلديث 197
الزايدات على الصحيحني 198
موطأ مالك 198
إطالق اسم الصحيح على الرتمذي والنسائي 199
مسند اإلمام أمحد 199
الكتب اخلمسة 200
احلديث احلسن 200
الرتمذي أصل يف معرفة احلسن 201
أبو داود سننه من مظان احلسن 201
مفهوم قول الرتمذي :حسن صحيح 202
حكم احلديث املوقوف 202
املعنعن 203
احلديث املؤنن 203
االعتبار واملتابعة والشاهد 204
املتابعة 204
الشاهد 204
الشاذ واملنكر 204
القول يف خلط الثقة 205
()251/1
()252/1
()253/1