You are on page 1of 261

‫‪http://www.shamela.

ws‬‬
‫مت إعداد هذا امللف آليا بواسطة املكتبة الشاملة‬

‫الكتاب‪ :‬احلديث يف علوم القرآن واحلديث‬


‫املؤلف‪ :‬حسن حممد أيوب (املتوىف‪1429 :‬هـ)‬
‫الناشر‪ :‬دار السالم ‪ -‬اإلسكندرية‬
‫الطبعة‪ :‬الثانية‪1425،‬هـ ‪2004 -‬م‬
‫عدد األجزاء‪1 :‬‬
‫[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل ابحلواشي]‬

‫املق ّدمة‬
‫الرحيم احلمد هلل الذي هو األول بال ابتداء واآلخر بال انتهاء‪ ،‬له اخللق واألمر‪،‬‬
‫الرمحن ّ‬
‫بسم هللا ّ‬
‫وبيده التدبري والتكوين‪ ،‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصري‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأن حممدا عبده ورسوله‪ ،‬وأن البعث حق‪ ،‬وأن اجلنة‬
‫حق‪ ،‬وأن النار حق‪ ،‬وأنه تعاىل له األوىل واآلخرة وهو احلكيم اخلبري‪.‬‬
‫وبعد‪ :‬فهذه حبوث وعلوم خاصة ابلقرآن الكرمي والسنة النبوية الشريفة أردت تقدميها سهلة ميسرة‬
‫ألبناء عصري‪ ،‬مسامهة مين يف إبراز هذه اجلواهر النفيسة‪ ،‬والآللئ املضيئة‪ ،‬راجيا أن يفيدوا منها‪،‬‬
‫ويتجملوا جبماهلا وكماهلا وجالهلا؛ ألهنا أنوار مقتبسة من كتاب هللا وسنة رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وألهنا مع جالهلا ال يهتم هبا إال القليل من طلبة العلوم الشرعية‪ ،‬وال يعمل هبا إال احلريصون‬
‫على اتباع السنة احملمدية‪ ،‬لذلك أسأل هللا تعاىل أن يشرح صدور الكثريين لدراستها وتدريسها‪ ،‬وأن‬
‫يوفق اجلميع لفهمها والعمل هبا وهو تعاىل مسيع جميب‪.‬‬
‫وقد مسيت هذا الكتاب اجلامع ألهم علوم القرآن والسنة «احلديث يف علوم القرآن واحلديث» وهللا‬
‫ويل التوفيق‪.‬‬
‫املؤلف حسن أيّوب‬

‫(‪)5/1‬‬
‫علوم القرآن‬
‫القرآن الكرمي‪ :‬هو الكالم املعجز املنزل على النيب حممد صلّى هللا عليه وسلم املكتوب يف املصاحف‬
‫املنقول ابلتواتر‪ ،‬املتعبد بتالوته‪.‬‬
‫هذا التعريف مجع اخلصائص العظمى اليت امتاز هبا القرآن الكرمي‪ ،‬وإن كان قد امتاز بكثري سواها كما‬
‫قال الزرقاين‪.‬‬
‫واملراد بعلوم القرآن‪ :‬كل علم خيدم القرآن أو يستند إليه ويؤخذ منه‪.‬‬
‫ويشمل ذلك علم التفسري‪ ،‬وعلم القراءات‪ ،‬وعلم الرسم العثماين‪ ،‬وعلم إعجاز القرآن‪ ،‬وعلم‬
‫أسباب النزول‪ ،‬وكل علم يساعد على فهمه كالنحو والصرف والبالغة‪ ،‬أو يؤرخ لتطور علومه‪ ،‬أو‬
‫يستنبط من كلماته ومفاهيمه‪ ،‬فهي إذا علوم ال حتصى‪ ،‬وقد توسع السيوطي فيها حىت اعترب منها‬
‫علم اهلندسة والطب والفلك وحنوها‪ ،‬وتوسع أكثر منه ابن العريب حىت أوصل هذه العلوم إىل مخسني‬
‫وأربعمائة وسبعة وسبعني ألف علم‪ ،‬وهذا الكالم حممول على ضرب ونوع من التوسع والشطح حبيث‬
‫حياول كل عامل أن أيخذ من كالم هللا تعاىل علوما من كل كلمة من كلماته‪ ،‬ومن كل مجلة من مجله‪،‬‬
‫وبذلك يتحول العلماء إىل ابحثني يف كتاب هللا‪ ،‬ومكتشفني من كلماته ظاهرها وابطنها‪ ،‬ونصها‬
‫ومفهومها وإشاراهتا علوما ال حصر هلا‪.‬‬
‫ولو أن املسلمني األولني اشتغلوا بذلك عن اهلدف األساسي الذي أنزل القرآن ألجله‪ ،‬ما وصلوا إىل‬
‫ما وصلوا إليه من إبراز مجال دين هللا وكماله وجالله‪ ،‬واشتماله على كل ما حيتاج إليه اخلالئق لكي‬
‫يكونوا سعداء يف دنياهم‪ ،‬انجني مقربني إىل هللا يف أخراهم‪.‬‬
‫إن اهلدف األساسي لكتاب هللا تعاىل هو هداية الناس وداللتهم على الطريق الذي ضلوا عنه مع‬
‫حبثهم الدائم‪ ،‬وشغفهم الكبري للوصول إليه وهو‪« :‬طريق السعادة الدائمة» والفوز احلقيقي‪ ،‬والسالم‬
‫الشامل‪.‬‬
‫وكل ما يف القرآن الكرمي من أحكام وحكم‪ ،‬وأمثال وعرب‪ ،‬وقصص وعظات‪ ،‬وحجج وبراهني‪ ،‬وأدلة‬
‫متأل القلب والعقل نورا‪ ،‬إمنا أريد به اهلداية إىل هذا الطريق‪.‬‬
‫ني [سورة البقرة آية‪.]2 ،1 :‬‬ ‫ْكتاب ال ريب فِ ِيه هدى لِل ِ‬ ‫قال هللا تعاىل‪ :‬امل (‪ )1‬ذلِ َ ِ‬
‫ْمتَّق َ‬ ‫ُ ً ُ‬ ‫ك ال ُ َْ َ‬
‫بار ٌك فَاتَّبِ ُعوهُ َواتَّـ ُقوا لَ َعلَّ ُك ْم تُـ ْر َمحُو َن [سورة األنعام آية‪.]155 :‬‬ ‫ِ‬
‫تاب أَنْـ َزلْناهُ ُم َ‬
‫وقال تعاىل‪َ :‬وهذا ك ٌ‬

‫(‪)7/1‬‬
‫َّاس ِِبا أَر َ‬ ‫ِ‬ ‫وقال تعاىل‪ :‬إِ َّان أَنْـزلْنا إِلَي َ ِ‬
‫اَّللُ [سورة النساء آية‪.]105 :‬‬ ‫اك َّ‬ ‫تاب ِاب ْحلَ ِّق لتَ ْح ُك َم بَ ْ َ‬
‫ني الن ِ‬ ‫ك الْك َ‬ ‫َ ْ‬
‫ض َع ْن ِذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َم ِعي َ‬
‫شةً‬ ‫ض ُّل َوال يَ ْشقى (‪َ )123‬وَم ْن أَ ْع َر َ‬ ‫وقال تعاىل‪ :‬فَم ِن اتَّـبع ُهداي فَال ي ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫قال‬
‫صرياً (‪َ )125‬‬ ‫تب ِ‬
‫ش ْرتَِين أَ ْعمى َوقَ ْد ُك ْن ُ َ‬ ‫ب ِملَ َح َ‬‫قال َر ِّ‬‫يام ِة أَ ْعمى (‪َ )124‬‬ ‫ِ‬
‫ش ُرهُ يَـ ْوَم الْق َ‬
‫ض ْنكاً َوَْحن ُ‬
‫َ‬
‫ك الْيَـ ْوَم تُـ ْنسى [سورة طه آية‪.]126 - 123 :‬‬ ‫ك آايتُنا فَـنَ ِسيتَها َوَكذلِ َ‬ ‫َكذلِ َ‬
‫ك أَتَـ ْت َ‬

‫اتريخ علوم القرآن‬


‫كان الرسول صلّى هللا عليه وسلم وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه‪ ،‬ما عرفه العلماء وفوق ما‬
‫مدونة ومل جتمع يف كتب‬
‫عرفه العلماء من بعد‪ .‬ولكن معارفهم مل توضع على ذلك العهد كفنون ّ‬
‫مؤلفة؛ ألهنم مل تكن هلم حاجة إىل التدوين والتأليف‪.‬‬
‫أما الرسول صلوات هللا وسالمه عليه فألنه كان يتلقى الوحي عن هللا وحده‪ ،‬وهللا تعاىل كتب على‬
‫نفسه ليجمعنه له يف صدره‪ ،‬وليطلقن لسانه بقراءته وترتيله‪ ،‬وليميطن له اللثام عن معانيه وأسراره‪.‬‬
‫اقرأ إن شئت قوله سبحانه‪:‬‬
‫ك لِتَـ ْع َج َل بِ ِه (‪ )16‬إِ َّن َعلَْينا مجَْ َعهُ َوقُـ ْرآنَهُ (‪ )17‬فَِإذا قَـ َرأْانهُ فَاتَّبِ ْع قُـ ْرآنَهُ (‪ُُ )18‬ثَّ إِ َّن‬
‫ال ُحتَِّر ْك بِ ِه لِسانَ َ‬
‫َعلَْينا بَيانَهُ [سورة القيامة آية‪.]19 - 16 :‬‬
‫ُثّ بلّغ الرسول صلّى هللا عليه وسلم ما أنزل عليه ألصحابه‪ ،‬وقرأه على الناس على مكث أي‪ :‬على‬
‫مهل وتؤدة‪ ،‬ليحسنوا أخذه‪ ،‬وحيفظوا لفظه‪ ،‬ويفهموا سره‪ُ ،‬ث شرح الرسول صلّى هللا عليه وسلم هلم‬
‫القرآن بقوله‪ ،‬وبعمله‪ ،‬وبتقريره‪ ،‬وخبلقه‪ :‬أي بسنته اجلامعة ألقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وتقريراته‪ ،‬وصفاته‪،‬‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم َولَ َعلَّ ُه ْم يَـتَـ َف َّك ُرو َن [سورة النحل‬ ‫مصداقا لقوله سبحانه‪ :‬وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫آية‪.]44 :‬‬
‫وكان الصحابة وقتئذ عراب خلّصا‪ ،‬متمتعني جبميع خصائص العروبة ومزاايها الكاملة من قوة يف‬
‫احلافظة‪ ،‬وذكاء يف القرحية‪ ،‬وتذوق للبيان‪ ،‬وتقدير لألساليب‪ ،‬ووزن ملا يسمعون أبدق املعايري‪ ،‬حىت‬
‫أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم وصفاء فطرهتم‪ ،‬ما ال نستطيع حنن أن ندركه مع زمحة‬
‫العلوم‪ ،‬وكثرة الفنون‪.‬‬
‫وكان الصحابة رضوان هللا عليهم مع هذه اخلصائص أميني‪ ،‬وأدوات الكتابة مل تكن ميسورة لديهم‪،‬‬
‫والرسول صلّى هللا عليه وسلم هناهم أن يكتبوا عنه شيئا غري القرآن‪ ،‬وقال هلم أول العهد بنزول‬
‫القرآن فيما رواه مسلم يف صحيحه عن أيب سعيد اخلدري رضي هللا عنه‪« :‬ال تكتبوا عين‪ ،‬ومن كتب‬
‫عين غري القرآن فليمحه‪ .‬وحدثوا عين وال حرج‪ .‬ومن كذب‬
‫(‪)8/1‬‬

‫علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»‪ .‬وذلك خمافة أن يلتبس القرآن بغريه‪ ،‬أو خيتلط ابلقرآن ما ليس‬
‫ّ‬
‫منه‪ ،‬مادام الوحي انزال ابلقرآن‪ ،‬فلتلك األسباب املتضافرة مل تكتب علوم القرآن‪ ،‬كما مل يكتب‬
‫احلديث الشريف إال عدد حمدود يف آخر حياة النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومضى الرعيل األول على‬
‫ذلك يف عهد الشيخني أيب بكر وعمر‪ .‬ولكن الصحابة كانوا مضرب األمثال يف نشر اإلسالم‬
‫وتعاليمه‪ ،‬والقرآن ومفاهيمه‪ ،‬وتعليم السنة ونقلها إىل غريهم تلقينا ال تدوينا‪ ،‬ومشافهة ال كتابة‪.‬‬

‫عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن‬


‫ُث جاءت خالفة عثمان رضي هللا عنه‪ ،‬وقد اتسعت رقعة اإلسالم‪ ،‬واختلط العرب الفاحتون ابألمم‬
‫اليت ال تعرف العربية‪ ،‬وخيف أن تذوب خصائص العروبة من جراء هذا الفتح واالختالط‪ ،‬بل خيف‬
‫على القرآن نفسه أن خيتلف املسلمون فيه إن مل جيتمعوا على مصحف إمام‪ ،‬فتكون فتنة يف األرض‬
‫وفساد كبري‪.‬‬
‫هلذا أمر رضي هللا عنه أن جيمع القرآن يف مصحف إمام‪ ،‬وأن تنسخ منه مصاحف يبعث هبا إىل أقطار‬
‫اإلسالم‪ ،‬وأن حيرق الناس كل ما عداها وال يعتمدوا سواها كما أيتيك تفصيله يف مبحث «مجع‬
‫القرآن وكتابته»‪.‬‬
‫وهبذا العمل وضع عثمان رضي هللا عنه األساس ملا نسميه «علم رسم القرآن أو علم الرسم‬
‫العثماين»‪.‬‬
‫علي رضي هللا عنه فالحظ العجمة حتيف على اللغة العربية‪ ،‬ومسع ما أوجس منه خيفة على‬
‫ُث جاء ّ‬
‫لسان العرب‪ ،‬فأمر أاب األسود الدؤيل أن يضع بعض قواعد حلماية لغة القرآن من العبث واخللل‪،‬‬
‫وخط له اخلطط وشرع له املنهج‪ ،‬وبذلك ميكننا أن نعترب أن عليّا رضي هللا عنه قد وضع األساس ملا‬
‫نسميه علم النحو‪ ،‬ويتبعه علم إعراب القرآن (على اخلالف يف هذه الرواية)‪.‬‬
‫ُث انقضى عهد اخلالفة الرشيدة‪ ،‬وجاء عهد بين أمية‪ ،‬ومهة مشاهري الصحابة والتابعني متجهة إىل‬
‫نشر علوم القرآن ابلرواية والتلقني‪ ،‬ال ابلكتابة والتدوين‪ ،‬ولكن هذه اهلمة يصح أن نعتربها متهيدا‬
‫لتدوينها‪ ،‬وعلى رأس من ضرب بسهم وفري يف هذه الرواية‪ :‬األربعة اخللفاء‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وابن‬
‫مسعود‪ ،‬وزيد بن اثبت‪ ،‬وأبو موسى األشعري‪ ،‬وعبد هللا بن الزبري‪ ،‬وكلهم من الصحابة رضوان هللا‬
‫عليهم‪ .‬وعلى رأس التابعني يف تلك الرواية‪ :‬جماهد‪ ،‬وعطاء‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬واحلسن البصري‪ ،‬وسعيد بن‬
‫(‪)9/1‬‬

‫جبري‪ ،‬وزيد بن أسلم ابملدينة‪ ،‬وعنه أخذ ابنه عبد الرمحن‪ ،‬ومالك بن أنس من اتبعي التابعني رضي هللا‬
‫عنه أمجعني‪ ،‬وهؤالء مجيعا يعتربون واضعي األساس ملا يسمى علم التفسري‪ ،‬وعلم أسباب النزول‪،‬‬
‫وعلم الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وعلم غريب القرآن وحنو ذلك‪.‬‬
‫وستجد بسطا هلذا اإلمجاع يف حبث طبقات املفسرين‪.‬‬

‫عهد التدوين لعلوم القرآن‬


‫ُث جاء عصر التدوين‪ ،‬فألفت كتب يف أنواع علوم القرآن‪ ،‬واجتهت اهلمم قبل كل شيء إىل التفسري‬
‫ابعتباره أم العلوم القرآنية ملا فيه من التعرض هلذه العلوم يف كثري من املناسبات عند شرح الكتاب‬
‫العزيز‪.‬‬
‫ومن أوائل الكاتبني يف التفسري‪ :‬شعبة بن احلجاج‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬ووكيع بن اجلراح‪ ،‬وتفاسريهم‬
‫جامعة ألقوال الصحابة والتابعني‪ ،‬وهم من علماء القرن الثاين‪.‬‬
‫ُث تالهم ابن جرير الطربي املتوىف سنة ‪ 310‬هـ‪ ،‬وكتابه أجل التفاسري وأعظمها؛ ألنه أول من تعرض‬
‫لتوجيه األقوال‪ ،‬وترجيح بعضها على بعض‪ ،‬كما تعرض لإلعراب واالستنباط‪ .‬وبقيت العناية ابلتفسري‬
‫قائمة إىل عصران هذا حىت وجدت منه جمموعة رائعة فيها املعجب واملطرب‪ ،‬واملوجز واملطول‬
‫واملتوسط‪ ،‬ومنها التفسري ابملعقول‪ ،‬والتفسري ابملأثور‪ ،‬ومنها تفسري القرآن كله‪ ،‬وتفسري جزء‪ ،‬وتفسري‬
‫سورة‪ ،‬وتفسري آية‪ ،‬وتفسري آايت األحكام‪ ،‬إىل غري ذلك‪.‬‬
‫أما علوم القرآن األخرى ففي مقدمة املؤلفني فيها‪ :‬علي بن املديين شيخ البخاري‪ ،‬إذ ألف يف أسباب‬
‫النزول‪ ،‬وأبو عبيد القاسم بن سالم إذ كتب يف الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وكالمها من علماء القرن الثالث‪.‬‬
‫ويف مقدمة من ألف يف غريب القرآن‪ :‬أبو بكر السجستاين‪ ،‬وهو من علماء القرن الرابع‪ .‬ويف طليعة‬
‫من صنف يف إعراب القرآن‪ :‬علي بن سعيد احلويف‪ ،‬وهو من علماء القرن اخلامس‪ ،‬ومن أوائل من‬
‫كتب يف مبهمات القرآن‪ :‬أبو القاسم عبد الرمحن املعروف ابلسبيلي‪ ،‬وهو من علماء القرن‬
‫السادس‪.‬‬
‫كذلك تصدى للتأليف يف جماز القرآن‪ :‬ابن عبد السالم‪ ،‬ويف القراءات‪ :‬علم الدين السخاوي‪ ،‬ومها‬
‫من علماء القرن السابع‪.‬‬
‫وهكذا قويت العزائم‪ ،‬وتبارت اهلمم‪ ،‬ونشأت علوم جديدة للقرآن‪.‬‬
‫وظهرت مؤلفات يف كل نوع منها‪ ،‬سواء يف ذلك أقسام القرآن‪ ،‬وأمثال القرآن‪،‬‬

‫(‪)10/1‬‬

‫وحجج القرآن‪ ،‬وبدائع القرآن‪ ،‬ورسم القرآن‪ ،‬وما أشبهها مما يروعك تصوره واالطالع عليه‪ ،‬ومما‬
‫ميأل خزائن كاملة من أعظم املكتبات يف العامل‪ُ .‬ث ال يزال املؤلفون‬
‫إىل عصران هذا يزيدون‪ ،‬وعلوم القرآن ومؤلفاته تنمو وتزدهر‪ .‬أليس ذلك إعجازا آخر للقرآن يريك‬
‫إىل أي حد بلغ علماء اإلسالم يف خدمة التنزيل‪ .‬ويريك أنه كتاب ال تفىن عجائبه‪ ،‬وال تنقضي‬
‫معارفه‪ ،‬ولن يستطيع أن حييط أبسراره إال صاحبه ومنزله؟‪.‬‬
‫وإذا أضفت إىل علوم القرآن ما جاء يف احلديث النبوي الشريف وعلومه وكتبه وحبوثه ابعتبارها من‬
‫علوم القرآن‪ ،‬نظرا إىل أن احلديث شارح للقرآن يبني مبهماته‪ ،‬ويفصل جممالته‪ ،‬وخيصص ع ّامه‪ ،‬كما‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم َولَ َعلَّ ُه ْم‬ ‫قال سبحانه لنبيه صلّى هللا عليه وسلم‪ :‬وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫يَـتَـ َف َّك ُرو َن [سورة النحل آية‪.]44 :‬‬
‫أقول‪ :‬إذا أضفت احلديث النبوي وعلومه إىل علوم القرآن تراءى لك حبر متالطم األمواج‪.‬‬
‫وتزداد عجبا إذا علمت أن طريقة أولئك املؤلفني يف أتليفهم كانت طريقة استيعاب واستقصاء حبيث‬
‫يقصد أصحاهبا أن حييطوا جبزئيات القرآن من الناحية اليت كتبوا فيها بقدر طاقتهم البشرية‪.‬‬
‫فمن يكتب يف غريب القرآن مثال يذكر كل مفرد من مفردات القرآن اليت فيها غرابة وإهبام‪ .‬ومن‬
‫يكتب يف جماز القرآن يقتفي أثر كل لفظ فيه جماز ّأاي كان نوعه يف القرآن‪ .‬ومن يكتب يف أمثال‬
‫القرآن يتحدث عن كل مثل ضربه هللا يف القرآن‪ ،‬وهكذا سائر أنواع علوم القرآن‪.‬‬
‫وهلذا اشرأبت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علما جديدا يكون كالفهرس والدليل عليها‪،‬‬
‫واملتحدث عنها‪ .‬فكان هذا العلم هو ما نسميه «علوم القرآن» ابملعىن املدون‪ ،‬وال نعلم أن أحدا‬
‫قبل املائة الرابعة للهجرة ألّف أو حاول أن يؤلف يف علوم القرآن ابملعىن املدون؛ ألن الدواعي مل تكن‬
‫موفورة لديهم حنو هذا النوع من التأليف‪ .‬وإن كنا نعلم أهنا كانت جمموعة يف صدور املربزين من‬
‫العلماء‪ ،‬على الرغم من أهنم مل يدونوها يف كتاب‪ ،‬ومل يفردوها ابسم‪.‬‬
‫أجل‪ :‬كانت علوم القرآن جمموعة يف صدور هؤالء العلماء‪ .‬فنحن نقرأ يف اتريخ الشافعي رضي هللا‬
‫عنه أنه أثناء حمنته اليت اهتم فيها أبنه رئيس حزب العلويني ابليمن‪ ،‬وسيق بسبب هذه التهمة إىل‬
‫الرشيد مكبال ابحلديد يف بغداد‪ ،‬سأله الرشيد حني ملح علمه وفضله‪ ،‬فقال‪ :‬كيف علمك اي شافعي‬
‫وجل؟ فإنه أوىل األشياء أن يبتدأ به؟ فقال الشافعي‪ :‬عن أي كتاب من كتب هللا‬
‫عز ّ‬‫بكتاب هللا ّ‬
‫تسألين اي أمري املؤمنني؟ فإن هللا تعاىل قد أنزل‬

‫(‪)11/1‬‬

‫كتبا كثرية‪ .‬قال الرشيد‪ :‬قد أحسنت‪ ،‬لكن إمنا سألت عن كتاب هللا املنزل على ابن عمي حممد صلّى‬
‫هللا عليه وسلم‪ .‬فقال الشافعي‪ :‬إن علوم القرآن كثرية‪ ،‬فهل تسألين عن حمكمه ومتشاهبه‪ ،‬أو عن‬
‫تقدميه وأتخريه‪ ،‬أو عن انسخه ومنسوخه‪ ،‬أو عن ‪ ، ...‬أو عن ‪ ...‬؟؟‬
‫وصار يرد عليه من علوم القرآن‪ ،‬وجييب عن كل سؤال ِبا أدهش الرشيد واحلاضرين‪.‬‬
‫فأنت ترى من جواب الشافعي هذا‪ ،‬ومن نطقه ابحلكمة يف هذا املوقف الرهيب ما يدلك على أن‬
‫قلوب أكابر العلماء كانت أوعية لعلوم القرآن من قبل أن جتمع يف كتاب‪.‬‬
‫وحنن ال نستبعد على الشافعي هذا‪ ،‬فقد كان آية من آايت هللا يف علمه وذكائه‪ ،‬ويف ابتكاره‬
‫وجتديده‪ ،‬ويف قوة حجته وتوفيقه‪ .‬حىت إنه وضع كتابه (احلجة) يف العراق يستدرك به على مذاهب‬
‫أهل الرأي‪ ،‬وألف يف مصر كتبا يستدرك هبا على مذاهب بعض أهل احلديث ُث وضع دستورا‬
‫لالجتهاد واالستنباط مل يتسن ألحد قبله‪ ،‬إذ كان أول من صنف يف أصول الفقه وهو من علوم‬
‫القرآن كما علمت‪ .‬قال ابن خلدون يف مقدمته‪« :‬كان أول من كتب فيه‪ -‬أي علم أصول الفقه‪-‬‬
‫الشافعي رضي هللا عنه‪ ،‬أملى فيه رسالته املشهورة‪ ،‬تكلم فيها على األوامر والنواهي‪ ،‬والبيان‪ ،‬واخلرب‪،‬‬
‫والنسخ‪ ،‬وحكم العلة املنصوصة من القياس اهـ‪.‬‬

‫أول عهد لظهور هذا االصطالح‬


‫لقد كان املعروف لدى الكاتبني يف اتريخ هذا الفن‪ ،‬أن أول عهد ظهر فيه هذا االصطالح أي‬
‫اصطالح علوم القرآن‪ ،‬وهو القرن السابع‪.‬‬
‫لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهري ابحلويف املتوىف سنة‬
‫لكين ظفرت يف دار الكتب املصرية بكتاب ّ‬
‫‪ 330‬هـ امسه «الربهان يف علوم القرآن» وهو يقع يف ثالثني جملدا‪ ،‬واملوجود منه اآلن مخسة عشر‬
‫جملدا‪ ،‬من نسخة خمطوطة‪ ،‬وإذا نستطيع أن نتقدم بتاريخ هذا الفن إىل بداية القرن الرابع‪.‬‬
‫ُث جاء القرن السادس فألف فيه ابن اجلوزي املتوىف سنة ‪ 597‬هـ كتابني‪ :‬أحدمها امسه‪« :‬فنون‬
‫األفنان يف علوم القرآن»‪ ،‬والثاين امسه‪« :‬اجملتىب يف علوم تتعلق ابلقرآن»‪ .‬وكالمها خمطوط بدار‬
‫الكتب املصرية‪.‬‬
‫ويف القرن السابع ألف علم الدين السخاوي املتوىف سنة ‪ 641‬هـ كتااب مساه‪:‬‬
‫«مجال القراء»‪ .‬وألف أبو شامة املتوىف سنة ‪ 665‬هـ كتااب أمساه‪« :‬املرشد الوجيز فيما يتعلق ابلقرآن‬
‫العزيز» ومها‪ -‬كما قال السيوطي‪ -:‬عبارة عن طائفة يسرية ونبذ‬

‫(‪)12/1‬‬

‫قصرية ابلنسبة للمؤلفات اليت ألفت بعد ذلك يف هذا النوع‪.‬‬


‫أهل القرن الثامن فكتب فيه بدر الدين الزركشي املتوىف سنة ‪ 794‬هـ كتااب مساه «الربهان يف علوم‬
‫ُث ّ‬
‫القرآن» يقع يف جملدين انقصني‪.‬‬
‫ُث طلع القرن التاسع على هذا العلم ابليمن والربكة‪ ،‬فدرج فيه وترعرع‪ ،‬إذ ألف حممد ابن سليمان‬
‫الكافيجي املتوىف سنة ‪ 873‬هـ كتااب يقول السيوطي عنه‪« :‬إنه مل يسبق إليه»‪.‬‬
‫ويف هذا القرن التاسع أيضا ألف السيوطي كتااب مساه‪« :‬اإلتقان يف علوم القرآن» وهو عمدة الباحثني‬
‫والكاتبني يف هذا الفن‪ .‬ذكر فيه مثانني نوعا من أنواع علوم القرآن على سبيل اإلمجال واإلدماج‪ُ ،‬ث‬
‫قال بعد أن سردها نوعا نوعا‪« :‬ولو نوعت ابعتبار ما أدجمته فيها لزادت على الثالمثائة» اه‪.‬‬
‫وتويف السيوطي رمحه هللا سنة ‪ 911‬هـ يف مفتتح القرن العاشر‪ ،‬وكأن هنايته كانت هناية لنهضة التأليف‬
‫يف علوم القرآن (عليه سحائب الرمحة والرضوان) فلم نر من سار يف هذا املضمار مثله بعده‪ ،‬كما مل‬
‫نر من بزه فيه قبله‪ .‬اه‪ .‬مناهل‪ .‬ابختصار‪.‬‬

‫مجع القرآن وسبب كتب عثمان املصاحف وإحراقه ما سواها‬


‫كان القرآن يف مدة النيب صلّى هللا عليه وسلم متفرقا يف صدور الرجال‪ ،‬وقد كتب الناس منه يف‬
‫صحف ويف جريد‪ ،‬ويف خلاف‪ ،‬وظرر‪ ،‬ويف خزف وغري ذلك‪.‬‬
‫قال األصمعي‪ :‬اللخاف‪ :‬حجارة بيض رقاق واحدهتا خلفة‪ .‬والظرر‪ :‬حجر له ح ّد كحد السكني‬
‫واجلمع ظرار‪ ،‬مثل رطب ورطاب‪ ،‬وربع ورابع‪.‬‬
‫ابلقراء يوم اليمامة يف زمن الصديق رضي هللا عنه‪ ،‬وقتل منهم يف ذلك اليوم فيما‬
‫استحر القتل ّ‬
‫ّ‬ ‫فلم‬
‫قيل سبعمائة‪ ،‬أشار عمر بن اخلطاب على أيب بكر الصديق رضي هللا عنهما جبمع القرآن خمافة أن‬
‫كأيب‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وزيد‪ ،‬فنداب زيد بن اثبت إىل ذلك‪ ،‬فجمعه غري مرتب‬
‫ميوت أشياخ القراء‪ّ ،‬‬
‫السور بعد تعب شديد رضي هللا عنه‪.‬‬
‫روى البخاري عن زيد بن اثبت رضي هللا عنه قال‪ :‬أرسل إىل أيب بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر‪،‬‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬إن عمر أاتين فقال‪ :‬إن القتل قد استحر يوم اليمامة ابلناس وإين أخشى أن يستحر‬
‫القتل ابلقراء يف املواطن فيذهب كثري من القراء إال أن جتمعوه‪ ،‬وإين ألرى أن جتمع القرآن‪ ،‬قال أبو‬
‫بكر‪ :‬فقلت لعمر‪ :‬كيف أفعل شيئا مل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم؟ فقال‪ :‬هو وهللا خري‪،‬‬
‫فلم يزل يراجعين حىت شرح هللا لذلك صدري‪ ،‬ورأيت الذي رأى عمر؛ قال زيد‪ :‬وعنده عمر جالس‬
‫ال يتكلم‪ ،‬فقال يل أبو‬

‫(‪)13/1‬‬

‫بكر‪ :‬إنك رجل شاب عاقل وال نتهمك‪ ،‬كنت تكتب الوحي لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فتتبع‬
‫علي مما أمرين به من مجع القرآن؛‬
‫القرآن فامجعه‪ ،‬فو هللا لو كلفين نقل جبل من اجلبال ما كان أثقل ّ‬
‫قلت‪ :‬كيف تفعالن شيئا مل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم؟ فقال أبو بكر‪ :‬هو وهللا خري‪ ،‬فلم‬
‫أزل أراجعه حىت شرح هللا صدري للذي شرح له صدر أيب بكر وعمر؛ فقمت فتتبعت القرآن أمجعه‬
‫من الرقاع واألكتاف والعسب‪ ،‬وصدور الرجال‪ ،‬حىت وجدت من سورة التوبة آيتني مع خزمية‬
‫ول ِم ْن أَنْـ ُف ِس ُك ْم إىل آخرها‪ .‬فكانت الصحف اليت مجع‬ ‫جاء ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫األنصاري مل أجدمها مع غريه لََق ْد َ‬
‫فيها القرآن عند أيب بكر حىت توفاه هللا‪ُ ،‬ث عند عمر حىت توفاه هللا‪ُ ،‬ث عند حفصة بنت عمر‪.‬‬
‫ول ِم ْن‬
‫جاء ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫وقال الرتمذي يف حديثه عنه‪ :‬فوجدت آخر سورة براءة مع خزمية بن اثبت لََق ْد َ‬
‫ِ َّ‬ ‫أَنْـ ُف ِس ُكم ع ِزيز علَي ِه ما عنِتُّم ح ِريص علَي ُكم ِابلْم ْؤِمنِني رُؤ ٌ ِ‬
‫يب َّ‬
‫اَّللُ‬ ‫يم (‪ )128‬فَإ ْن تَـ َول ْوا فَـ ُق ْل َح ْسِ َ‬
‫ف َرح ٌ‬ ‫ْ َ ٌ َْ َ ْ َ ٌ َْ ْ ُ َ َ‬
‫ش ال َْع ِظ ِيم [قال‪ :‬حديث حسن صحيح]‪.‬‬ ‫ب ال َْع ْر ِ‬ ‫ال إِلهَ إَِّال ُه َو َعلَْي ِه تَـ َوَّكل ُ‬
‫ْت َو ُه َو َر ُّ‬
‫ويف البخاري عن زيد بن اثبت قال‪ :‬ملا نسخنا الصحف يف املصاحف فقدت آية من سورة األحزاب‬
‫كنت أمسع رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقرؤها‪ ،‬مل أجدها مع أحد إال مع خزمية األنصاري الذي‬
‫اَّللَ َعلَْي ِه‪.‬‬
‫عاه ُدوا َّ‬
‫ص َدقُوا ما َ‬ ‫جعل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم شهادته بشهادة رجلني ِر ٌ‬
‫جال َ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما وجه مجع عثمان الناس على مصحفه‪ ،‬وقد سبقه أبو بكر إىل ذلك وفرغ منه؟ قيل‪ :‬إن‬
‫عثمان رضي هللا عنه مل يقصد ِبا صنع مجع الناس على أتليف املصحف‪ ،‬أال ترى كيف أرسل إىل‬
‫حفصة‪ :‬أن أرسلي إلينا ابلصحف ننسخها ُث نر ّدها إليك على ما أييت؛ وإمنا فعل ذلك عثمان؛ ألن‬
‫الناس اختلفوا يف القراءات بسبب تفرق الصحابة يف البلدان واشتد األمر يف ذلك وعظم اختالفهم‬
‫وتشبثهم ووقع بني أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة رضي هللا عنه وذلك أهنم اجتمعوا يف غزوة‬
‫أرمينية فقرأت كل طائفة ِبا روي هلا‪ ،‬فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والرباءة منه‬
‫وتالعنوا‪ ،‬فأشفق حذيفة مما رأى منهم‪ ،‬فلما قدم حذيفة املدينة «فيما ذكر البخاري والرتمذي» دخل‬
‫إىل عثمان قبل أن يدخل إىل بيته‪ ،‬فقال‪ :‬أدرك هذه األمة قبل أن هتلك‪ ،‬قال‪ :‬يف ماذا؟ قال‪:‬‬
‫يف كتاب هللا‪ ،‬إين حضرت هذه الغزوة ومجعت انسا من العراق والشام واحلجاز فوصف له ما تقدم‪،‬‬
‫وقال‪ :‬إين أخشى عليهم أن خيتلفوا يف كتاهبم كما اختلف اليهود والنصارى‪ ،‬قلت‪ :‬وهذا أدل دليل‬
‫على بطالن من قال‪ :‬إن املراد ابألحرف‬

‫(‪)14/1‬‬

‫السبعة قراءة القراء السبعة؛ ألن احلق ال خيتلف فيه‪ ،‬وقد روى سويد بن غفلة عن علي ابن أيب‬
‫طالب أن عثمان قال‪ :‬ما ترون يف املصاحف فإن الناس قد اختلفوا يف القراءة حىت إن الرجل ليقول‪:‬‬
‫إن قراءيت خري من قراءتك‪ ،‬وقراءيت أفضل من قراءتك‪ ،‬وهذا شبيه ابلكفر‪ ،‬قلنا‪ :‬ما الرأي عندك اي‬
‫أمري املؤمنني؟‪ .‬قال‪ :‬الرأي عندي أن جيتمع الناس على قراءة‪ ،‬فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من‬
‫بعدكم أشد اختالفا‪ ،‬قلنا‪ :‬الرأي رأيك اي أمري املؤمنني‪ .‬فأرسل عثمان إىل حفصة أن أرسلي إلينا‬
‫ابلصحف ننسخها يف املصاحف ُث نردها إليك‪ ،‬فأرسلت هبا إليه فأمر زيد بن اثبت‪ ،‬وعبد هللا بن‬
‫الزبري‪ ،‬وسعيد بن العاصي‪ ،‬وعبد الرمحن بن احلارث بن هشام‪ ،‬فنسخوها يف املصاحف‪ ،‬وقال عثمان‬
‫للرهط القرشيني‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن اثبت يف شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش‪ ،‬فإمنا نزل‬
‫بلساهنم‪ ،‬ففعلوا حىت إذا نسخوا الصحف يف املصاحف رد عثمان الصحف إىل حفصة‪ ،‬وأرسل إىل‬
‫كل أفق ِبصحف مما نسخوا‪ ،‬وأمر ِبا سوى ذلك من القرآن يف كل صحيفة أو مصحف أن حيرق‪،‬‬
‫وكان هذا من عثمان رضي هللا عنه بعد أن مجع املهاجرين واألنصار وجلة أهل اإلسالم وشاورهم يف‬
‫ذلك‪ ،‬فاتفقوا على مجعه ِبا صح وثبت من القراءات املشهورة عن النيب صلّى هللا عليه وسلم واطّراح‬
‫ما سواها‪ ،‬واستصوبوا رأيه وكان رأاي سديدا موفقا رمحة هللا عليه وعليهم أمجعني‪.‬‬
‫قال ابن شهاب‪ :‬وأخربين عبيد هللا بن عبد هللا أن عبد هللا بن مسعود كره لزيد بن اثبت نسخ‬
‫املصاحف‪ ،‬وقال‪ :،‬اي معشر املسلمني‪ ،‬أعزل عن نسخ املصاحف ويتواله رجل‪ ،‬وهللا لقد أسلمت‬
‫وإنه لفي صلب رجل كافر؟ يريد زيد بن اثبت‪.‬‬
‫قال أبو بكر األنباري‪ :‬ومل يكن االختيار لزيد من جهة أيب بكر وعمر وعثمان على عبد هللا بن‬
‫مسعود يف مجع القرآن‪ ،‬وعبد هللا أفضل من زيد‪ ،‬وأقدم يف اإلسالم وأكثر سوابق وأعظم فضائل‪ ،‬إال‬
‫ألن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد هللا إذ وعاه كله‪ ،‬ورسول هللا صلّى هللا عليه وسلم حي‪ ،‬والذي‬
‫حفظ منه عبد هللا يف حياة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم نيف وسبعون سورة‪ُ ،‬ث تعلّم الباقي بعد‬
‫وفاة الرسول‪ ،‬فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول هللا صلّى هللا عليه وسلم حي أوىل جبمع املصحف‬
‫وأحق ابإليثار واالختيار‪ ،‬وال ينبغي أن يظن جاهل أن يف هذا طعنا على عبد هللا بن مسعود؛ ألن‬
‫زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمته عليه؛ ألن أاب بكر‬
‫وعمر رضي هللا عنهما كان زيد أحفظ منهما للقرآن‪ ،‬وليس هو خريا منهما‪ ،‬وال مساواي هلما يف‬
‫الفضائل واملناقب‪.‬‬
‫ووجه هبا‬
‫ونسخ منها عثمان نسخا‪ ،‬قال غريه‪ :‬قيل سبعة‪ ،‬وقيل أربعة‪ ،‬وهو األكثر‪ّ ،‬‬

‫(‪)15/1‬‬

‫إىل اآلفاق‪ ،‬فوجه للعراق والشام ومصر أبمهات‪ ،‬فاختذها قراء األمصار معتمد اختياراهتم ومل خيالف‬
‫أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه‪ ،‬وما وجد بني هؤالء القراء السبعة من االختالف يف‬
‫كال منهم اعتمد على ما بلغه يف‬
‫حروف يزيدها بعضهم على بعض وينقصها بعضهم فذلك ألن ّ‬
‫مصحفه ورواه؛ إذ قد كان عثمان كتب تلك املواضع يف بعض النسخ ومل يكتبها يف بعض إشعارا أبن‬
‫كل ذلك صحيح‪ ،‬وأن القراءة بكل منها جائزة‪.‬‬
‫قال ابن عطية‪ُ :‬ث إن عثمان أمر ِبا سواها من املصاحف أن حترق‪ ،‬أو خترق‪ -‬تروى ابحلاء غري‬
‫منقوطة وتروى ابخلاء على معىن «تدفن» ‪ -‬ورواية احلاء غري منقوطة أحسن‪.‬‬
‫وذكر أبو بكر األنباري يف كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال‪ :‬مسعت علي بن أيب طالب يقول‪ :‬اي‬
‫حراق املصاحف‪ ،‬فو هللا ما حرقها إال عن‬
‫معشر الناس‪ :‬اتقوا هللا وإايكم والغلق يف عثمان وقولكم‪ّ :‬‬
‫مأل منا أصحاب حممد صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وعن عمر بن سعيد قال‪ :‬قال علي بن أيب طالب رضي هللا عنه‪ :‬لو كنت الوايل وقت عثمان لفعلت‬
‫يف املصاحف مثل الذي فعل عثمان‪.‬‬
‫قال أبو احلسن بن بطال‪ :‬ويف أمر عثمان بتحريق الصحف واملصاحف حني مجع القرآن جواز حتريق‬
‫الكتب اليت فيها أمساء هللا تعاىل‪ ،‬وأن ذلك إكرام هلا وصيانة عن الوطء ابألقدام‪ ،‬وطرحها يف ضياع‬
‫من األرض‪.‬‬
‫روى معمر عن ابن طاووس عن أبيه‪ :‬أنه كان حيرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم‬
‫هللا الرمحن الرحيم‪ .‬وحرق عروة بن الزبري كتب فقه كانت عنده يوم احلرة‪.‬‬
‫وكره إبراهيم أن حترق الصحف إذا كان فيها ذكر هللا تعاىل‪ ،‬وقول من حرقها أوىل ابلصواب‪ ،‬وقد‬
‫فعله عثمان؛ وقد قال القاضي أبو بكر لسان األمة‪ :‬جائز لإلمام حتريق الصحف اليت فيها القرآن‪،‬‬
‫إذا أ ّداه االجتهاد إىل ذلك‪ .‬اه ملخصا من مقدمة القرطيب‪.‬‬

‫ترتيب آايت القرآن وسوره‬


‫انعقد إمجاع األمة على أن ترتيب آايت القرآن الكرمي على هذا النمط الذي نراه اليوم ابملصاحف‪،‬‬
‫كان بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلم عن هللا تعاىل‪ ،‬وأنه ال جمال للرأي واالجتهاد فيه‪ .‬بل كان‬
‫جربيل ينزل ابآلايت على الرسول صلّى هللا عليه وسلم ويرشده إىل موضع كل آية من سورهتا‪ُ .‬ث‬
‫يقرؤها النيب صلّى هللا عليه وسلم على أصحابه‪ ،‬وأيمر كتاب الوحي بكتابتها معيّنا هلم السورة اليت‬
‫تكون فيها اآلية‪ ،‬وموضع اآلية من هذه السورة‪ .‬وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا يف صالته وعظاته‪.‬‬
‫وكان يعارض به جربيل كل عام مرة‪ ،‬وعارضه به يف العام‬

‫(‪)16/1‬‬

‫األخري مرتني‪ .‬كل ذلك كان على الرتتيب املعروف لنا يف املصاحف‪ .‬وكذلك كان كل من حفظ‬
‫القرآن أو شيئا منه من الصحابة‪ ،‬حفظه مرتب اآلايت على هذا النمط‪ ،‬يتدارسونه فيما بينهم‪،‬‬
‫ويقرءونه يف صالهتم‪ ،‬وأيخذه بعضهم عن بعض‪ ،‬ويسمعه بعضهم من بعض ابلرتتيب القائم اآلن‪،‬‬
‫فليس لواحد من الصحابة واخللفاء الراشدين يد وال تصرف يف ترتيب شيء من آايت القرآن الكرمي‪.‬‬
‫بل اجلمع الذي كان على عهد أيب بكر مل يتجاوز نقل القرآن من العسب واللخاف وغريها يف‬
‫مصحف‪ ،‬واجلمع الذي كان على عهد عثمان مل يتجاوز نقله من الصحف يف مصاحف‪ .‬وكال هذين‬
‫كان وفق الرتتيب احملفوظ املستفيض عن النيب صلّى هللا عليه وسلم عن هللا تعاىل‪.‬‬
‫اتما ال ريب فيه‪ .‬وممن حكى هذا اإلمجاع مجاعة منهم الزركشي يف‬
‫أجل‪ :‬انعقد اإلمجاع على ذلك ّ‬
‫الربهان‪ ،‬وأبو جعفر يف املناسبات إذ يقول ما نصه‪« :‬ترتيب اآلايت يف سورها واقع بتوقيفه صلّى هللا‬
‫عليه وسلم وأمره من غري خالف يف هذا بني املسلمني‪.‬‬
‫واستند هذا اإلمجاع إىل نصوص كثرية‪ :‬منها ما سبق لك قريبا‪ ،‬ومنها ما رواه اإلمام أمحد عن عثمان‬
‫بن أيب العاص قال‪ :‬كنت جالسا عند رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم إذ شخص ببصره ُث صوبه ُث‬
‫اَّللَ َأي ُْم ُر ِابل َْع ْد ِل‬
‫قال‪« :‬أاتين جربيل فأمرين أن أضع هذه اآلية يف هذا املوضع من السورة إِ َّن َّ‬
‫يتاء ِذي الْ ُقرىب ويـ ْنهى ع ِن الْ َفح ِ‬
‫شاء َوال ُْم ْن َك ِر َوالْبَـغْ ِي يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن» [سورة‬ ‫سان وإِ ِ‬
‫اإلح ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ََ َ‬ ‫َ‬ ‫َو ِْ ْ‬
‫النحل آية‪.]90 :‬‬
‫ومنها ما ثبت يف السنن الصحيحة من قراءة النيب صلّى هللا عليه وسلم بسور عديدة كسورة البقرة‪،‬‬
‫وآل عمران‪ ،‬والنساء‪ ،‬ومن قراءته لسورة األعراف يف صالة املغرب‪ ،‬وسورة قَ ْد أَفْـلَ َح ال ُْم ْؤِمنُو َن‬
‫سان يف صبح يوم‬ ‫اإلنْ ِ‬ ‫وسورة «الروم» يف صالة الصبح‪ ،‬وقراءة سورة «السجدة» وسورة َه ْل أَتى َعلَى ِْ‬
‫اجلمعة‪ ،‬وقراءة سوريت «اجلمعة واملنافقون» يف صالة اجلمعة‪ ،‬وقراءته سورة «ق» يف اخلطبة‪ ،‬وسوريت‬
‫«اقرتبت وق» يف صالة العيد‪ ،‬كان يقرأ ذلك كله مرتب اآلايت على النحو الذي يف املصحف على‬
‫مرأى ومسمع من الصحابة‪.‬‬
‫ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال‪ :‬ما سألت النيب صلّى هللا عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن‬
‫الكاللة حىت طعن أبصبعه يف صدري‪« :‬تكفيك آية الصيف اليت يف آخر سورة النساء»‪.‬‬
‫فأنت ترى أنه صلّى هللا عليه وسلم دله على موضع تلك اآلية من سورة النساء‪ ،‬وهي قوله سبحانه‪:‬‬
‫اَّللُ يُـ ْفتِي ُك ْم ِيف الْ َكاللَ ِة إخل‪.‬‬
‫ك قُ ِل َّ‬
‫يَ ْستَـ ْفتُونَ َ‬

‫(‪)17/1‬‬

‫مالحظة‪:‬‬
‫ذكر بعضهم أن كلمات القرآن ‪ 77439‬تسع وثالثون وأربعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة‪ ،‬وذكر‬
‫بعضهم غري ذلك‪ .‬قيل‪ :‬وسبب االختالف يف عدد الكلمات أن الكلمة هلا حقيقة وجماز‪ ،‬ولفظ‬
‫ورسم‪ ،‬واعتبار كل منها جائز‪ ،‬وكل من العلماء اعترب أحد ما هو جائز‪.‬‬
‫قال السخاوي‪ :‬ال أعلم لعدد الكلمات واحلروف من فائدة؛ ألن ذلك إن أفاد فإمنا يفيد يف كتاب‬
‫ميكن فيه الزايدة والنقصان‪ ،‬والقرآن ال ميكن فيه ذلك‪ ،‬وذكر ابن كثري أن عدد آايت القرآن ‪6000‬‬
‫ستة آالف آية وأن عدد حروفه قيل‪ 321180 :‬وقيل‪:‬‬
‫‪ ،323015‬وقيل‪ 340740 :‬اه‪.‬‬
‫ولكن ورد من األحاديث يف اعتبار احلروف ما أخرجه الرتمذي عن ابن مسعود مرفوعا «من قرأ حرفا‬
‫من كتاب هللا فله به حسنة‪ ،‬واحلسنة بعشر أمثاهلا‪ ،‬ال أقول «آمل» حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪ ،‬والم‬
‫حرف‪ ،‬وميم حرف»‪.‬‬

‫ترتيب السور‬
‫معىن السورة‪:‬‬
‫السورة يف اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله‪ :‬والسورة‪« :‬املنزلة»‪ ،‬ومن القرآن‬
‫معروفة؛ ألهنا منزلة بعد منزلة‪ :‬مقطوعة عن األخرى‪« ،‬والشرف» «وما طال من البناء وحسن»‪،‬‬
‫«والعالمة»‪« ،‬وعرق من عروق احلائط» اه‪.‬‬
‫وميكن تعريفها اصطالحا أبهنا‪ :‬طائفة مستقلة من آايت القرآن ذات مطلع ومقطع‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وهي مأخوذة من سور املدينة‪.‬‬
‫وذلك إما ملا فيها من وضع كلمة جبانب كلمة‪ ،‬وآية جبانب آية‪ ،‬كالسور توضع كل لبنة فيه جبانب‬
‫لبنة‪ ،‬ويقام كل صف منه على صف‪.‬‬
‫وإما ملا يف السورة من معىن العلو والرفعة املعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته احلسية‪ ،‬وإما ألهنا‬
‫حصن ومحاية حملمد صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وما جاء به كتاب هللا القرآن‪ ،‬ودين احلق اإلسالم‪ ،‬ابعتبار‬
‫أهنا معجزة خترس كل مكابر‪ ،‬وحيق هللا هبا احلق ويبطل الباطل ولو كره اجملرمون‪ ،‬أشبه بسور املدينة‪،‬‬
‫حيصنها وحيميها من غارة األعداء‪ ،‬وسطوة األشقياء‪.‬‬
‫وسور القرآن خمتلفة طوال وقصرا‪ ،‬فأقصر سورة فيه سورة الكوثر‪ ،‬وهي ثالث آايت قصار‪ ،‬وأطول‬
‫سورة فيه سورة البقرة‪ ،‬وهي مخس ومثانون أو ست ومثانون ومائتا‬

‫(‪)18/1‬‬

‫آية‪ ،‬وأكثر آايهتا من اآلايت الطوال‪ ،‬بل فيها آية ال ّدين اليت هي أطول آية يف القرآن كما سبق‪ ،‬وبني‬
‫سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثرية ختتلف طوال وتوسطا وقصرا‪.‬‬
‫ومرجع الطول والقصر والتوسط وحتديد املطلع واملقطع إىل هللا وحده‪ ،‬حلكم سامية علمها من علمها‬
‫وجهلها من جهلها‪.‬‬

‫أقسام السور‪:‬‬
‫خصوا ك ّال منها ابسم معني‪ ،‬وهي الطوال‪ ،‬واملئني‪،‬‬
‫قسم العلماء سور القرآن إىل أربعة أقسام‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫واملفصل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واملثاين‪،‬‬
‫فالطوال سبع سور‪ :‬البقرة‪ ،‬وآل عمران‪ ،‬والنساء‪ ،‬واملائدة‪ ،‬واألنعام‪ ،‬واألعراف‪ ،‬فهذه ستة‪ ،‬واختلفوا‬
‫يف السابعة أهي األنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما ابلبسملة‪ ،‬أم هي سورة يونس؟؟‪.‬‬
‫واملئون‪ :‬هي السور اليت تزيد آايهتا على مائة أو تقارهبا‪.‬‬
‫واملثاين‪ :‬هي اليت تلي املئني يف عدد اآلايت‪ ،‬وقال الفراء‪ :‬هي السور اليت آيها أقل من مائة آية؛ ألهنا‬
‫تثىن الطوال واملئون‪.‬‬
‫تكرر» أكثر مما ّ‬
‫تثىن أي « ّ‬
‫واملفصل‪ :‬هو أواخر القرآن‪ ،‬واختلفوا يف تعيني أوله على اثين عشر قوال فقيل‪ :‬أوله «ق»‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫ّ‬
‫غري ذلك‪ ،‬وصحح النووي‪ :‬أن أوله احلجرات‪ ،‬ومسي ابملفصل لكثرة الفصل بني سوره ابلبسملة‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬لقلة املنسوخ منه‪ ،‬وهلذا يسمى احملكم أيضا‪ ،‬كما روى البخاري عن سعيد بن جبري قال‪« :‬إن‬
‫الذي تدعونه املفصل هو احملكم»‪.‬‬
‫واملفصل ثالثة أقسام‪ :‬طوال‪ ،‬وأوساط‪ ،‬وقصار‪ ،‬فطواله من «أول احلجرات» إىل سورة «الربوج»‪،‬‬
‫ت إىل آخر القرآن‪.‬‬‫وأوساطه من سورة «الطارق» إىل سورة َملْ ي ُك ِن‪ ،‬وقصاره من سورة إِذا ُزلْ ِزلَ ِ‬
‫َ‬

‫املذاهب يف ترتيب السور‪:‬‬


‫اختلف يف ترتيب السور على ثالثة أقوال‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬أن ترتيب السور على ما هو عليه اآلن مل يكن بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وإمنا كان ابجتهاد من الصحابة‬
‫‪ ،‬وينسب هذا القول إىل مجهور العلماء‪ ،‬منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه‪ .‬وإىل‬
‫هذا املذهب يشري ابن فارس يف كتاب «املسائل اخلمس» بقوله‪« :‬مجع القرآن على ضربني»‪:‬‬

‫(‪)19/1‬‬

‫أحدمها‪ :‬أتليف السور‪ ،‬كتقدمي السبع الطوال وتعقيبها ابملئني‪ ،‬فهذا هو الذي تولته الصحابة رضي‬
‫هللا عنهم‪ ،‬وأما اجلمع اآلخر وهو مجع اآلايت يف السور‪ ،‬فذلك شيء تواله النيب صلّى هللا عليه‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫وسلم كما أخرب به جربيل عن أمر ربه ّ‬
‫وقد استدلوا على رأيهم هذا أبمرين‪ :‬أوال‪ :‬أن مصاحف الصحابة كانت خمتلفة يف ترتيب السور قبل‬
‫أن جيمع القرآن يف عهد عثمان‪ ،‬فلو كان هذا الرتتيب توقيفيّا منقوال عن النيب صلّى هللا عليه وسلم‬
‫ما ساغ هلم أن يهملوه ويتجاوزوه وخيتلفوا فيه ذلك االختالف الذي تصوره لنا الرواايت‪.‬‬
‫فهذا مصحف أيب بن كعب‪ ،‬روي أنه كان مبدوءا ابلفاحتة ُث البقرة‪ُ ،‬ث النساء‪ُ ،‬ث آل عمران‪ُ ،‬ث‬
‫األنعام‪.‬‬
‫وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا ابلبقرة‪ُ ،‬ث النساء‪ُ ،‬ث آل عمران ‪ ..‬إخل على اختالف شديد‪.‬‬
‫علي كان مرتبا على النزول‪ ،‬فأوله «اقرأ» ُث «املدثر» ُث «ق»‪ُ ،‬ث «املزمل»‪ُ ،‬ث‬
‫وهذا مصحف ّ‬
‫«تبت»‪ُ ،‬ث «التكوير»‪ ،‬وهكذا إىل آخر املكي واملدين‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬ما أخرجه ابن أشته يف املصاحف من طريق إمساعيل بن عباس عن حبان بن حيىي عن أيب حممد‬
‫القرشي قال‪« :‬أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة األنفال وسورة التوبة يف السبع‪ ،‬ومل‬
‫يفصل بينهما «ببسم هللا الرمحن الرحيم» اه‪.‬‬
‫ولعله يشري هبذا إىل ما رواه أمحد والرتمذي والنسائي وابن حبان واحلاكم عن ابن عباس قال‪ :‬قلت‬
‫لعثمان‪ :‬ما محلكم على أن عمدمت إىل األنفال وهي من املثاين‪ ،‬وإىل براءة وهي من املئني‪ ،‬ففرقتم‬
‫بينهما‪ ،‬ومل تكتبوا بينهما سطر «بسم هللا الرمحن الرحيم» ووضعتمومها يف السبع الطوال؟ فقال‬
‫عثمان رضي هللا عنه‪ :‬كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد‪ ،‬فكان إذا‬
‫نزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول‪:‬‬
‫«ضعوا هذه اآلايت يف السورة اليت يذكر فيها كذا وكذا»‪ ،‬وكانت األنفال من أوائل ما نزل ابملدينة‬
‫وكانت براءة من آخر القرآن نزوال‪ ،‬وكانت قصتها شبيهة بقصتها‪ ،‬فظننت أهنا منها‪ ،‬فقبض رسول‬
‫هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومل يبني لنا أهنا منها‪ ،‬فمن أجل ذلك قرنت بينهما‪ ،‬ومل أكتب بينهما سطر‬
‫«بسم هللا الرمحن الرحيم» ووضعتهما يف السبع الطوال» اه‪.‬‬
‫وميكن أن يناقش هذا املذهب ابألحاديث الدالة على التوقيف وسيأتيك يف االحتجاج للقول الثاين‪،‬‬
‫وميكن‪ -‬أيضا‪ -‬مناقشة دليلهم األول ابحتمال أن اختالف من خالف من‬

‫(‪)20/1‬‬

‫الصحابة يف الرتتيب‪ ،‬إمنا كان قبل علمهم ابلتوقيف‪ ،‬أو كان يف خصوص ما مل يرد فيه توقيف دون ما‬
‫ورد فيه‪ ،‬وميكن مناقشة دليلهم الثاين أبنه خاص ِبحل وروده وهو سورة األنفال والتوبة ويونس‪ ،‬فال‬
‫يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله‪.‬‬

‫القول الثاين‪ :‬أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلّى هللا عليه وسلم‬
‫كرتتيب اآلايت وأنه مل توضع سورة يف مكاهنا إال أبمر منه صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫واستدل أصحاب هذا الرأي أبن الصحابة أمجعوا على املصحف الذي كتب يف عهد عثمان ومل‬
‫خيالف منهم أحد‪ ،‬وإمجاعهم ال يتم إال إذا كان الرتتيب الذي أمجعوا عليه عن توقيف؛ ألنه لو كان‬
‫عن اجتهاد لتمسك أصحاب املصاحف املخالفة ِبخالفتهم‪ ،‬لكنهم مل يتمسكوا هبا بل عدلوا عنها‬
‫وعن ترتيبهم‪ ،‬وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها‪ ،‬ورجعوا إىل مصحف عثمان وترتيبه مجيعا‪ُ ،‬ث ساقوا‬
‫رواايت ملذهبهم كأدلة يستند إليها اإلمجاع‪.‬‬
‫منها ما رواه اإلمام أمحد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال‪« :‬كنت يف الوفد الذين أسلموا من‬
‫ثقيف‪ ،‬إىل أن جاء يف هذه الرواية ما نصه‪:‬‬
‫علي حزب من القرآن‪ ،‬فأردت أن ال أخرج حىت‬
‫فقال لنا رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬طرأ ّ‬
‫حنزبه‬
‫أقضيه‪ ،‬فسألنا أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قلنا‪ :‬كيف حتزبون القرآن؟ قالوا؟‪ّ :‬‬
‫ثالث سور‪ ،‬ومخس سور‪ ،‬وسبع سور‪ ،‬وتسع سور‪ ،‬وإحدى عشرة سورة‪ ،‬وثالث عشرة سورة‪،‬‬
‫وحزب املفصل من «ق» حىت خنتم»‪ .‬قالوا‪ :‬فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو يف‬
‫املصحف اآلن كان على عهد رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫اللهم إال يف ترتيب حزب املفصل خاصة خبالف ما سواه‪.‬‬
‫لكن هذه الداللة غري ظاهرة فيما نفهم ّ‬
‫واحتجوا ملذهبهم أيضا أبن السور املتجانسة يف القرآن مل يلتزم فيها الرتتيب والوالء‪ ،‬ولو كان األمر‬
‫ابالجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما‪ ،‬لكن ذلك مل يكن‪ ،‬بدليل أن سور املسبّحات‬
‫مل ترتب على التوايل بينما هي متماثلة يف افتتاح كل منها بتسبيح هللا‪ ،‬بل فصل بني سورها بسور «قد‬
‫مسع»‪« ،‬واملمتحنة»‪« ،‬واملنافقون» وبدليل أن «طسم الشعراء وطسم القصص» مل يتعاقبا مع متاثلهما‬
‫بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي «طس» النمل وقد أيد هذا املذهب أبو جعفر النحاس‬
‫فقال‪« :‬املختار أن أتليف السور على هذا الرتتيب من رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم حلديث وائلة»‬
‫«أعطيت مكان التوراة السبع الطوال»‪.‬‬

‫(‪)21/1‬‬
‫فرقه يف بضع‬
‫وكذلك انتصر أبو بكر األنباري هلذا املذهب فقال‪ :‬أنزل هللا القرآن إىل مساء الدنيا ُث ّ‬
‫النيب صلّى هللا‬
‫وعشرين سنة‪ ،‬فكانت السورة تنزل ألمر حيدث‪ ،‬واآلية جوااب ملستخرب‪ ،‬ويقف جربيل ّ‬
‫عليه وسلم على موضع السورة‪ ،‬واآلايت‪ ،‬واحلروف‪ ،‬كله من النيب صلّى هللا عليه وسلم فمن قدم‬
‫سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن‪.‬‬
‫وأخرج ابن أشته يف كتاب املصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بالل قال‪:‬‬
‫مسعت ربيعة يسأل‪ :‬مل ق ّدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع ومثانون سورة ِبكة‪ ،‬وإمنا أنزلتا‬
‫ابملدينة؟ فقال‪ :‬ق ّدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به‪ ،‬إىل أن قال‪ :‬فهذا مما ينتهى إليه وال يسأل‬
‫عنه‪ .‬اه‪.‬‬

‫القول الثالث‪ :‬أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وترتيب بعضها‬
‫اآلخر كان ابجتهاد من الصحابة‬
‫‪ ،‬وقد ذهب إىل هذا الرأي فطاحل من العلماء‪ ،‬ولعله أمثل اآلراء؛ ألنه وردت أحاديث تفيد ترتيب‬
‫البعض‪ -‬كما مر بك من الرأي الثاين القائل ابلتوقيف‪ -‬وخال البعض اآلخر مما يفيد التوقيف‪ ،‬بل‬
‫وردت آاثر تصرح أبن الرتتيب يف البعض كان عن اجتهاد كاحلديث اآلنف يف القول األول املروي‬
‫عن ابن عباس‪.‬‬
‫بيد أن املؤيدين هلذا املذهب اختلفوا يف السور اليت جاء ترتيبها عن توقيف‪ .‬والسور اليت جاء ترتيبها‬
‫عن اجتهاد‪ ،‬فقال القاضي أبو حممد بن عطية‪« :‬إن كثريا من السور قد علم ترتيبها يف حياة النيب‬
‫صلّى هللا عليه وسلم كالسبع الطوال واحلواميم واملفصل‪ ،‬وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض‬
‫األمر فيه إىل األمة بعده»‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر بن الزبري‪ :‬اآلاثر تشهد أبكثر مما نص عليه ابن عطية‪ ،‬ويبقى فيها قليل ميكن أن‬
‫جيري فيه اخلالف كقوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬اقرءوا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكحديث سعيد بن خالد‪« :‬قرأ رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ابلسبع الطوال يف ركعة»‪ .‬رواه ابن‬
‫أيب شيبة يف مصنفه‪ ،‬وفيه أنه عليه الصالة والسالم كان جيمع املفصل يف ركعة‪.‬‬
‫وروى البخاري عن ابن مسعود أنه صلّى هللا عليه وسلم قال يف بين إسرائيل والكهف ومرمي‪ ،‬وطه‪،‬‬
‫واألنبياء‪« :‬إهنن من العتاق األول‪ ،‬وهن من تالدي» قبل آل عمران؛ ألن ترتيب السور يف القراءة‬
‫ليس بواجب‪ ،‬ولعله فعل ذلك لبيان اجلواز‪ ،‬اه‪.‬‬
‫واألمر على كل حال سهل‪ ،‬حىت لقد رأى الزركشي يف الربهان‪ :‬أن جيعل اخلالف من أساسه لفظيّا‪.‬‬
‫(‪)22/1‬‬

‫احرتام هذا الرتتيب‪:‬‬


‫اجتهاداي فإنه ينبغي احرتامه خصوصا يف كتابة املصاحف؛ ألنه‬
‫ّ‬ ‫وسواء أكان ترتيب السور توقيفيّا أم‬
‫عن إمجاع الصحابة‪ ،‬واإلمجاع حجة‪ ،‬وألن خالفه جير إىل الفتنة‪ ،‬ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد‬
‫واجب‪.‬‬
‫أما ترتيب السور يف التالوة فليس بواجب‪ ،‬وإمنا هو مندوب‪ ،‬وإليك ما قاله اإلمام النووي يف كتابه‬
‫«التبيان» إذ جاء يف هذا املوضوع ِبا نصه‪:‬‬
‫قال العلماء‪ :‬االختيار أن يقرأ على ترتيب املصحف فيقرأ الفاحتة‪ُ ،‬ث البقرة‪ُ ،‬ث آل عمران‪ُ ،‬ث ما‬
‫بعدها على الرتتيب‪ ،‬سواء أقرأ يف الصالة أم يف غريها‪ ،‬حىت قال بعض أصحابنا‪ :‬إذا قرأ يف الركعة‬
‫األوىل سورة قُ ْل أَعُوذُ بَِر ِّ‬
‫ب الن ِ‬
‫َّاس يقرأ يف الثانية بعد الفاحتة من البقرة‪.‬‬
‫وقال بعض أصحابنا‪ :‬ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها اليت تليها‪ ،‬ودليل هذا أن ترتيب‬
‫املصحف إمنا جعل هكذا حلكمة‪ ،‬فينبغي أن حيافظ عليها‪ ،‬إال فيما ورد الشرع ابستثنائه‪ ،‬كصالة‬
‫ني ِم َن‬ ‫اإلنْ ِ ِ‬
‫سان ح ٌ‬ ‫الصبح يوم اجلمعة‪ ،‬يقرأ يف األوىل سورة «السجدة» ويف الثانية َه ْل أَتى َعلَى ِْ‬
‫اعةُ‪ .‬وركعيت الفجر يف األوىل‪َ :‬سبِّ ِح ْ‬
‫اس َم‬ ‫الس َ‬
‫ت َّ‬ ‫َّه ِر‪ ،‬وصالة العيد يف األوىل «ق»‪ ،‬ويف الثانية اق َْرتب ِ‬ ‫الد ْ‬
‫ََ‬
‫َح ٌد واملعوذتني‪.‬‬ ‫ك ْاألَ ْعلَى‪ ،‬ويف الثانية قُ ْل اي أَيُّـ َها الْكافِ ُرو َن‪ ،‬ويف الثالثة قُ ْل ُه َو َّ‬
‫اَّللُ أ َ‬ ‫َربِّ َ‬
‫ولو خالف املواالة فقرأ سورة ال تلي األوىل‪ ،‬أو خالف الرتتيب فقرأ سورة قبلها‪ ،‬جاز فقد جاءت‬
‫بذلك آاثر كثرية‪ ،‬وقد قرأ عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه يف الركعة األوىل من الصبح ابلكهف‪ ،‬ويف‬
‫الثانية بيوسف‪.‬‬
‫وأما قراءة السورة من آخرها إىل أوهلا فممنوع منعا متأكدا؛ ألنه يذهب بعض ضروب اإلعجاز‪،‬‬
‫ويزيل حكمة ترتيب اآلايت‪.‬‬
‫وقد روى ابن أيب داود عن إبراهيم النخعي اإلمام التابعي اجلليل وعن اإلمام مالك ابن أنس أهنما‬
‫كرها ذلك وأن مالكا كان يعيبه ويقول‪ :‬هذا عظيم‪ ،‬وأما تعليم الصبيان من آخر املصحف إىل أوله‬
‫فحسن‪ .‬وليس من هذا الباب‪ ،‬فأن ذلك قراءة متفاضلة يف أايم متعددة‪ ،‬على ما فيه من تسهيل‬
‫احلفظ عليهم‪ .‬وهللا أعلم‪ .‬اه‪ .‬رمحه هللا‪.‬‬

‫(‪)23/1‬‬
‫املكي واملدين من القرآن الكرمي‬
‫االصطالحات يف معىن املكي واملدين‬
‫للعلماء يف معىن املكي واملدين ثالثة اصطالحات‪:‬‬

‫االصطالح األول‪ :‬أن املكي ما نزل ِبكة ولو بعد اهلجرة‪ ،‬واملدين‪ :‬ما نزل ابملدينة‪،‬‬
‫ويدخل يف مكة ضواحيها كاملنزل على النيب صلّى هللا عليه وسلم ِبىن وعرفات واحلديبية‪ ،‬ويدخل يف‬
‫املدينة ضواحيها‪ -‬أيضا‪ -‬كاملنزل عليه يف بدر وأحد‪ ،‬وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما‬
‫ترى‪ ،‬لكن يرد عليه أنه غري ضابط وال حاصر؛ ألنه ال يشمل ما نزل بغري مكة واملدينة وضواحيهما‪،‬‬
‫ت َعلَْي ِه ُم ال ُّ‬
‫ش َّقةُ‬ ‫وك و ِ‬ ‫ِ‬
‫لك ْن بَـ ُع َد ْ‬ ‫كقوله سبحانه يف سورة التوبة‪ :‬لَ ْو كا َن َع َرضاً قَ ِريباً َو َس َفراً قاصداً َالتَّـبَـ ُع َ َ‬
‫اَّلل يـ ْعلَم إِ َّهنُم لَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كاذبُو َن [سورة التوبة‬ ‫س ُه ْم َو َُّ َ ُ ْ‬ ‫َو َسيَ ْحل ُفو َن ِاب ََّّلل لَ ِو ْ‬
‫استَطَ ْعنا َخلََر ْجنا َم َع ُك ْم يُـ ْهل ُكو َن أَنْـ ُف َ‬
‫آية‪ ،]42 :‬فإهنا نزلت بتبوك‪.‬‬
‫آهلَةً يُـ ْعبَ ُدو َن [سورة‬ ‫الر ْمح ِن ِ‬
‫ون َّ‬ ‫ك ِمن رسلِنا أَجعلْنا ِمن ُد ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وقوله سبحانه‪َ :‬و ْسئَ ْل َم ْن أ َْر َسلْنا م ْن قَـ ْبل َ ْ ُ ُ َ َ ْ‬
‫الزخرف آية‪ ،]45 :‬فإهنا نزلت ببيت املقدس ليلة اإلسراء‪.‬‬
‫وال ريب أن عدم الضبط يف التقسيم يرتك واسطة ال تدخل فيما يذكر من األقسام‪ ،‬وذلك عيب خيل‬
‫ابملقصود األول من التقسيم‪ ،‬وهو الضبط واحلصر‪.‬‬

‫االصطالح الثاين‪ :‬أن املكي‪ :‬ما وقع خطااب ألهل مكة‪ ،‬واملدين‪ :‬ما وقع خطااب ألهل املدينة‪،‬‬
‫َّاس فهو مكي‪ ،‬وما ص ّدر بلفظ اي‬ ‫وعليه حيمل قول من قال‪ :‬إن ما ص ّدر يف القرآن بلفظ اي أَيُّـ َها الن ُ‬
‫َّ ِ‬
‫اس وإن كان‬ ‫آمنُوا فهو مدين؛ ألن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا ب‪ :‬اي أَيُّـ َها النَّ ُ‬ ‫أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا‪ ،‬وإن‬
‫ين َ‬ ‫غريهم داخال فيهم‪ ،‬وألن اإلميان كان غالبا على أهل املدينة فخوطبوا ب اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫كان غريهم داخال فيهم‪ -‬أيضا‪ ،‬وأحلق بعضهم صيغة اي بَِين َ‬
‫آد َم بصيغة اي أَيُّـ َها الن ُ‬
‫َّاس‪.‬‬
‫َّاس أو اي بَِين‬
‫أخرج أبو عبيد يف فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال‪ :‬ما كان يف القرآن اي أَيُّـ َها الن ُ‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا‪ ،‬فإنه مدين‪.‬‬ ‫آد َم‪ ،‬فإنه مكي‪ ،‬وما كان ب‪ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َ‬

‫االصطالح الثالث وهو املشهور‪ :‬أن املكي‪ :‬ما نزل قبل هجرته صلّى هللا عليه وسلم إىل املدينة‪ ،‬وإن‬
‫كان نزوله بغري مكة‪ ،‬واملدين‪ :‬ما نزل بعد هذه اهلجرة‬
‫وإن كان نزوله ِبكة‪.‬‬
‫وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول‪ ،‬وهو تقسيم صحيح سليم؛ ألنه‬

‫(‪)24/1‬‬

‫ضابط حاصر ومطّرد ال خيتلف ابختالف سابقيه‪ ،‬ولذلك اعتمده العلماء‪ ،‬واشتهر بينهم‪ .‬وعليه فآية‬
‫الم ِديناً [سورة املائدة آية‪،]3 :‬‬ ‫يت لَ ُك ُم ِْ‬
‫اإل ْس َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ْ َ ََ‬ ‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأ َْمتَ ْم ُ‬
‫ت َعلَْي ُكم نِ ْعم ِيت ور ِ‬ ‫الْيَـ ْوَم أَ ْك َمل ُ‬
‫مدنية مع أهنا نزلت يوم اجلمعة بعرفة يف حجة الوداع‪.‬‬
‫َماانت إِىل أ َْهلِها [سورة النساء آية‪.]58 :‬‬
‫اَّلل أيْمرُكم أَ ْن تُـ َؤدُّوا ْاأل ِ‬
‫وكذلك آية‪ :‬إِ َّن ََّ َ ُ ُ ْ‬
‫فإهنا مدنية مع أهنا نزلت ِبكة يف جوف الكعبة عام الفتح األعظم‪ ،‬وقل مثل ذلك فيما نزل أبسفاره‬
‫السالم كفاحتة سورة األنفال‪ ،‬وقد نزلت ببدر‪ ،‬فإهنا مدنية ال مكية على هذا االصطالح‬
‫عليه ّ‬
‫املشهور‪.‬‬

‫فائدة العلم ابملكي واملدين‬


‫من فوائد العلم ابملكي واملدين متييز الناسخ من املنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آايت من القرآن‬
‫الكرمي يف موضوع واحد‪ ،‬وكان احلكم يف إحدى هاتني اآليتني أو اآلايت خمالفا للحكم يف غريها‪ُ ،‬ث‬
‫عرف أن بعضها مكي وبعضها مدين‪ ،‬فإننا حنكم أبن املدين منها انسخ للمكي نظرا إىل أتخر املدين‬
‫عن املكي‪.‬‬
‫ومن فوائده أيضا‪ :‬معرفة اتريخ التشريع وتدرجه احلكيم بوجه عام‪ ،‬وذلك يرتتب عليه اإلميان بسمو‬
‫السياسة اإلسالمية يف تربية الشعوب واألفراد‪ ،‬وسيستقبلك يف هذا املبحث فروق بني املكي واملدين‬
‫تالحظ فيها جالل هذه احلكمة‪.‬‬
‫ومن فوائده أيضا‪ :‬الثقة هبذا القرآن وبوصوله إلينا ساملا من التغيري والتحريف‪ .‬ويدل على ذلك‬
‫اهتمام املسلمني به كل هذا االهتمام حىت ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل اهلجرة وما نزل بعدها‪،‬‬
‫وما نزل ابحلضر وما نزل ابلسفر‪ ،‬وما نزل ابلنهار وما نزل ابلليل‪ ،‬وما نزل ابلشتاء وما نزل ابلصيف‪،‬‬
‫وما نزل ابألرض‪ ،‬وما نزل ابلسماء إىل غري ذلك‪ ،‬فال يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويرتكوا أحدا ميسه‬
‫حيتف بنزوله إىل هذا‬
‫ويعبث به‪ ،‬وهم املتحمسون حلراسته ومحايته واإلحاطة بكل ما يتصل به أو ّ‬
‫احلد‪.‬‬
‫الطريق املوصلة إىل معرفة املكي واملدين‬
‫ال سبيل إىل معرفة املكي واملدين إال ِبا ورد عن الصحابة والتابعني يف ذلك؛ ألنه مل يرد عن النيب‬
‫صلّى هللا عليه وسلم بيان للمكي واملدين‪ .‬وذلك ألن املسلمني يف زمانه مل يكونوا يف حاجة إىل هذا‬
‫البيان‪ ،‬كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل‪ ،‬ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عياان‪« ،‬وليس‬
‫بعد العيان بيان»‪.‬‬

‫(‪)25/1‬‬

‫قال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪« :‬وهللا الذي ال إله غريه ما نزلت سورة من كتاب هللا إال وأان‬
‫أعلم أين نزلت؟ وال نزلت آية من كتاب هللا إال وأان أعلم فيما نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مين‬
‫بكتاب هللا تبلغه اإلبل لركبت إليه»‪.‬‬
‫وقال أيوب‪ :‬سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال‪« :‬نزلت يف سفح ذلك اجلبل» وأشار إىل‬
‫سلع‪ .‬اه‪.‬‬
‫ولعل هذا التوجيه الذي ذكرته أوىل مما ذكره القاضي أبو بكر يف االنتصار؛ إذ يقول ما نصه‪« :‬ومل يرد‬
‫عن النيب صلّى هللا عليه وسلم يف ذلك قول؛ ألنه مل أيمر به‪ ،‬ومل جيعل هللا علم ذلك من فرائض‬
‫األمة‪ ،‬وإن وجب يف بعضه على أهل العلم معرفة اتريخ الناسخ واملنسوخ‪ ،‬فقد يعرف ذلك بغري نص‬
‫الرسول صلّى هللا عليه وسلم»‪ .‬اه‪ .‬قرطيب‪.‬‬

‫الضوابط اليت يعرف هبا املكي واملدين‬


‫قد عرفنا فيما مضى أن مرد العلم ابملكي واملدين هو السماع عن طريق الصحابة والتابعني‪ ،‬بيد أن‬
‫هناك عالمات وضوابط يعرف هبا املكي واملدين‪ ،‬وهاك ضوابط املكي‪.‬‬
‫‪ - 1‬كل سورة فيها لفظ «كال» فهي مكية‪ ،‬وقد ذكر هذا اللفظ يف القرآن ثالاث وثالثني مرة‪ ،‬يف‬
‫مخس عشرة سورة كلها يف النصف األخري من القرآن‪.‬‬
‫قال الدريين رمحه هللا‪:‬‬
‫وما نزلت «كال» بيثرب فاعلمن ‪ ...‬ومل أتت يف القرآن يف نصفه األعلى‬
‫العماين‪« :‬وحكمة ذلك أن نصف القرآن األخري نزل أكثره ِبكة‪ ،‬وأكثرها جبابرة‪ ،‬فتكررت فيه‬
‫قال ّ‬
‫على وجه التهديد والتعنيف هلم واإلنكار عليهم‪ ،‬خبالف النصف‬
‫األول‪ .‬وما نزل منه يف اليهود مل حيتج إىل إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم اه‪.‬‬
‫‪ - 2‬كل سورة فيها سجدة فهي مكية ال مدنية سوى سورة احلج‪.‬‬
‫‪ - 3‬كل سورة يف أوهلا حروف التهجي فهي مكية سوى سورة البقرة وآل عمران‪ ،‬فإهنما مدنيتان‬
‫ابإلمجاع‪ ،‬ويف الرعد خالف‪.‬‬
‫‪ - 4‬كل سورة فيها قصص األنبياء واألمم السابقة فهي مكية سوى البقرة‪.‬‬
‫‪ - 5‬كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضا‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا فهي مكية ولكنه ورد على هذا ما‬ ‫‪ - 6‬كل سورة فيها أييها الناس‪ ،‬وليس فيها اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫تقدم بني يديك من سورة احلج‪.‬‬

‫(‪)26/1‬‬

‫‪ - 7‬كل سورة من املفصل فهي مكية‪.‬‬


‫أخرج الطرباين عن ابن مسعود قال‪« :‬نزل املفصل ِبكة فمكثنا حججا نقرؤه وال ينزل غريه» لكن‬
‫ير ّد على هذا‪ :‬أن بعض سور املفصل مدين نزل بعد اهلجرة اتفاقا كسورة «النصر»‪ ،‬فإهنا كانت من‬
‫أواخر ما نزل بعد اهلجرة‪ ،‬بل قيل إهنا آخر ما نزل‪ ،‬كما يف مبحث «أول ما أنزل وآخر ما أنزل»‪،‬‬
‫فاألوىل أن حيمل كالم ابن مسعود هذا على الكثرة الغالبة من سور املفصل ال على مجيع سور‬
‫املفصل‪.‬‬
‫واملفصل على وزن معظّم‪ :‬هو السور األخرية من القرآن الكرمي مبتدأة من سورة احلجرات على‬
‫ّ‬
‫األصح‪ ،‬ومسيت بذلك لكثرة الفصل فيها بني السور بعضها وبعض من أجل قصرها‪ ،‬وقيل مسيت‬
‫بذلك لقلة املنسوخ فيها‪ ،‬فقوهلا قول فصل‪ :‬ال نسخ فيه وال نقض‪.‬‬
‫أما ضوابط املدين فكما أييت‪:‬‬
‫‪ - 1‬كل سورة فيها احلدود والفرائض فهي مدنية‪.‬‬
‫‪ - 2‬كل سورة فيها إذن ابجلهاد وبيان ألحكام اجلهاد فهي مدنية‪.‬‬
‫‪ - 3‬كل سورة فيها ذكر املنافقني فهي مدنية ماعدا سورة العنكبوت‪.‬‬
‫والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا اآلايت اإلحدى عشرة األوىل منها فإهنا مدنية‪ -‬وهي اليت‬
‫ذكر فيها املنافقون‪.‬‬
‫عدد السور املكية واملدنية واملختلف فيها‬
‫نقل السيوطي يف اإلتقان أقواال كثرية يف تعيني السور املكية واملدنية‪ ،‬من أوفقها ما ذكره أبو احلسن‬
‫احلصار يف كتابه «الناسخ واملنسوخ» إذ يقول‪:‬‬
‫«املدين‪ -‬ابتفاق‪ -‬عشرون سورة‪ ،‬واملختلف فيه اثنتا عشرة سورة‪ ،‬وما عدا ذلك مكي ابالتفاق»‪ُ .‬ث‬
‫نظم يف ذلك أبياات رقيقة جامعة‪ ،‬وهو يريد ابلسور العشرين املدنية ابالتفاق‪ :‬سورة البقرة‪ ،‬وآل‬
‫عمران‪ ،‬والنساء‪ ،‬واملائدة‪ ،‬واألنفال‪ ،‬والتوبة‪ ،‬والنور‪ ،‬واألحزاب‪ ،‬وحممد‪ ،‬والفتح‪ ،‬واحلجرات‪،‬‬
‫واحلديد‪ ،‬واجملادلة‪ ،‬واحلشر‪ ،‬واملمتحنة‪ ،‬واجلمعة‪ ،‬واملنافقون‪ ،‬والطالق‪ ،‬والتحرمي‪ ،‬والنصر‪.‬‬
‫ويريد ابلسور االثنىت عشرة املختلف فيها سورة الفاحتة‪ ،‬والرعد‪ ،‬والرمحن‪ ،‬والصف‪ ،‬والتغابن‪،‬‬
‫والتطفيف‪ ،‬والقدر‪ ،‬ومل يكن‪ ،‬وإذا زلزلت‪ ،‬واإلخالص‪ ،‬واملعوذتني‪.‬‬
‫ويريد ابلسور املكية ابتفاق ما عدا ذلك وهي اثنتان ومثانون سورة‪ .‬وإىل هذا القسم‬

‫(‪)27/1‬‬

‫املكي يشري يف منظومته بقوله‪:‬‬


‫تنزله ‪ ...‬فال تكن من خالف الناس يف حصر‬
‫مكي ّ‬
‫وما سوى ذاك ّ‬
‫فليس كل خالف جاء معتربا ‪ ...‬إال خالف له حظ من النظر‬
‫وقد جرى هذا البيت جمرى األمثال عند أهل العلم‪ .‬اه‪.‬‬

‫إنزاالت القرآن‬
‫شرف هللا هذا القرآن أبن جعل له ثالثة إنزاالت‪:‬‬
‫ّ‬

‫اإلنزال األول‪ :‬إىل اللوح احملفوظ‪،‬‬


‫ودليله قول هللا سبحانه‪ :‬بل هو قُـرآ ٌن َِجمي ٌد (‪ِ )21‬يف لَو ٍح َْحم ُف ٍ‬
‫وظ [سورة الربوج آية‪.]22 ،21 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ ْ‬
‫وكان هذا الوجود يف اللوح بكيفية ال يعلمها إال هللا تعاىل‪ُ ،‬ث من أطلعه هللا على غيبه‪ ،‬وكان مجلة ال‬
‫مفرقا؛ ألنه الظاهر من اللفظ عند اإلطالق وال صارف عنه‪ .‬وألن حكمة تنجيم القرآن على النيب‬
‫ّ‬
‫صلّى هللا عليه وسلم ال يعقل حتقيقها يف هذا اإلنزال‪.‬‬
‫وحكمة هذا اإلنزال‪ ،‬ترجع إىل احلكمة العامة من وجود اللوح نفسه‪ ،‬وإقامته سجال جامعا لكل ما‬
‫قضى هللا وقدر‪ ،‬وكل ما كان وما يكون فهو شاهد انطق‪ ،‬ومظهر من أروع املظاهر الدالة على عظمة‬
‫هللا وعلمه‪ ،‬وإرادته‪ ،‬وحكمته‪ ،‬وواسع سلطانه وقدرته‪.‬‬

‫اإلنزال الثاين‪ :‬كان إىل بيت العزة يف السماء الدنيا‬


‫‪ ،‬والدليل عليه قول هللا سبحانه‪:‬‬
‫بارَك ٍة [سورة الدخان آية‪ ،]3 :‬وقوله‪ :‬إِ َّان أَنْـ َزلْناهُ ِيف لَْيـلَ ِة الْ َق ْد ِر [سورة القدر آية‪:‬‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫إ َّان أَنْـ َزلْناهُ يف لَْيـلَة ُم َ‬
‫‪ ]1‬وقوله‪َ :‬ش ْه ُر َرَمضا َن الَّ ِذي أُنْ ِز َل فِ ِيه الْ ُق ْرآ ُن [سورة البقرة آية‪.]185 :‬‬
‫دلت هذه اآلايت على أن القرآن أنزل يف ليلة واحدة توصف أبهنا مباركة أخذا من آية الدخان‪،‬‬
‫وتسمى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر‪ ،‬وهي من ليايل شهر رمضان أخذا من آية البقرة‪ .‬وإمنا‬
‫قلنا ذلك مجعا بني هذه النصوص يف العمل هبا‪ ،‬ودفعا للتعارض فيما بينها‪.‬‬
‫ومعلوم ابألدلة القاطعة‪ -‬كما أييت‪ -‬أن القرآن أنزل على النيب صلّى هللا عليه وسلم مفرقا ال يف ليلة‬
‫واحدة‪ ،‬بل يف مدى سنني عددا‪ .‬فتعني أن يكون هذا النزول الذي ذكرته هذه اآلايت الثالث نزوال‬
‫آخر غري النزول على النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ .‬وقد جاءت األخبار الصحيحة مبينة ملكان هذا‬
‫النزول‪ ،‬وأنه يف بيت العزة من السماء الدنيا‪ .‬كما تدل الرواايت اآلتية‪:‬‬
‫‪ - 1‬أخرج احلاكم بسنده عن سعيد بن جبري عن ابن عباس أنه قال‪« :‬فصل القرآن من الذكر‬
‫فوضع يف بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جربيل ينزل به على النيب صلّى هللا عليه وسلم»‪.‬‬

‫(‪)28/1‬‬

‫‪ - 2‬وأخرج النسائي واحلاكم والبيهقي من طريق داود بن أيب هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه‬
‫قال‪« :‬أنزل القرآن مجلة واحدة إىل مساء الدنيا ليلة القدر‪ُ ،‬ث أنزل بعد ذلك يف عشرين سنة‪ُ .‬ث قرأ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِِبَثَ ٍل إَِّال ِج ْئ َ‬
‫وو قُـ ْرآانً فَـ َرقْناهُ لتَـ ْق َرأَهُ‬
‫س َن تَـ ْفسرياً [سورة الفرقان آية‪َ .]33 :‬‬ ‫ناك ِاب ْحلَِّق َوأ ْ‬
‫َح َ‬ ‫َوال َأيْتُونَ َ‬
‫َّاس َعلى مك ٍ‬
‫ْث َونَـ َّزلْناهُ تَـ ْن ِز ًيال [سورة اإلسراء آية‪.]106 :‬‬ ‫َعلَى الن ِ‬
‫ُ‬
‫‪ - 3‬وأخرج احلاكم والبيهقي وغريمها من طريق منصور عن سعيد بن جبري عن ابن عباس قال‪:‬‬
‫«أنزل القرآن مجلة واحدة إىل مساء الدنيا وكان ِبواقع النجوم وكان هللا ينزله على رسوله صلّى هللا‬
‫عليه وسلم بعضه يف إثر بعض»‪.‬‬
‫‪ - 4‬وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن األسود فقال‪:‬‬
‫أوقع يف قليب الشك قوله تعاىل‪َ :‬ش ْه ُر َرَمضا َن الَّ ِذي أُنْ ِز َل فِ ِيه الْ ُق ْرآ ُن وقوله‪:‬‬
‫إِ َّان أَنْـ َزلْناهُ ِيف لَْيـلَ ِة الْ َق ْد ِر‪ ،‬وهذا أنزل يف شوال‪ ،‬ويف ذي القعدة‪ ،‬ويف ذي احلجة‪ ،‬ويف احملرم‪ ،‬وصفر‪،‬‬
‫وشهر ربيع‪ .‬فقال ابن العباس‪ :‬إنه أنزل يف رمضان يف ليلة القدر مجلة واحدة‪ُ ،‬ث أنزل على مواقع‬
‫النجوم رسال يف الشهور واألايم‪.‬‬
‫قال أبو شامة‪ :‬رسال‪ :‬أي رفقا‪ ،‬وعلى مواقع النجوم‪ :‬أي على مثل مساقطها‪.‬‬
‫يريد أنه أنزل يف رمضان يف ليلة القدر مجلة واحدة‪ُ ،‬ث أنزل على مواقع النجوم مفرقا يتلو بعضه‬
‫بعضا على تؤدة ورفق‪.‬‬
‫هذه أحاديث من مجلة أحاديث ذكرت يف هذا الباب‪ ،‬وكلها صحيحة كما قال السيوطي‪ ،‬وهي‬
‫أحاديث موقوفة على ابن عباس غري أن هلا حكم املرفوع إىل النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬ملا هو مقرر‬
‫من أن قول الصحايب فيما ال جمال للرأي فيه ومل يعرف ابألخذ عن اإلسرائيليات‪ ،‬حكمه حكم‬
‫املرفوع‪ .‬وال ريب أن نزول القرآن إىل بيت العزة من أنباء الغيب اليت ال تعرف إال من املعصوم صلّى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وابن عباس مل يعرف ابألخذ عن اإلسرائيليات‪ ،‬فثبت االحتجاج هبا وكان هذا اإلنزال‬
‫مجلة واحدة يف ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت؛ ألنه املتبادر من نصوص اآلايت الثالث‬
‫السابقة‪ ،‬وللتنصيص على ذلك يف األحاديث اليت عرضناها عليك‪ .‬بل ذكر السيوطي أن القرطيب‬
‫نقل حكاية اإلمجاع على نزول القرآن مجلة من اللوح احملفوظ إىل بيت العزة يف السماء الدنيا‪.‬‬
‫وهناك قول اثن بنزول القرآن إىل السماء الدنيا يف عشرين ليلة قدر‪ ،‬أو ثالث وعشرين‪ ،‬أو مخس‬
‫وعشرين ينزل يف كل ليلة قدر منها ما يقدر هللا إنزاله يف كل السنة‪ُ ،‬ث ينزل بعد ذلك منجما يف مجيع‬
‫السنة على النيب صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫(‪)29/1‬‬

‫ومثة قول اثلث‪ :‬أنه ابتدئ إنزاله يف ليلة القدر‪ُ ،‬ث نزل بعد ذلك منجما يف أوقات خمتلفة من سائر‬
‫األزمان على النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ .‬وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول مجلة إىل بيت العزة يف‬
‫ليلة القدر‪.‬‬
‫وذكروا قوال رابعا أيضا هو أنه نزل من اللوح احملفوظ مجلة واحدة‪ ،‬وأن احلفظة جنمته على جربيل يف‬
‫عشرين ليلة‪ ،‬وأن جربيل جنمه على النيب صلّى هللا عليه وسلم يف عشرين سنة‪.‬‬
‫ولكن هذه األقوال الثالثة األخرية ِبعزل عن التحقيق‪ ،‬وهي حمجوجة ابألدلة اليت سقناها بني يديك‬
‫أتييدا للقول األول‪.‬‬
‫واحلكمة يف النزول‪ ،‬على ما ذكره السيوطي نقال عن أيب شامة هي تفخيم أمره (أي القرآن) وأمر من‬
‫نزل عليه إبعالم سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب املنزلة على خامت الرسل ألشرف األمم‪،‬‬
‫وإبنزاله مرتني‪ ،‬مرة مجلة‪ ،‬ومرة مفرقا‪ .‬خبالف الكتب السابقة‪ ،‬فقد كانت تنزل مجلة مرة واحدة‪.‬‬

‫اإلنزال الثالث‪[ :‬كان على قلب النيب ص بواسطة جربئيل ع]‬


‫هذا هو واسطة عقد اإلنزاالت؛ ألنه املرحلة األخرية اليت منها شع النور على العامل‪ ،‬ووصلت هداية‬
‫هللا إىل اخللق‪ ،‬وكان هذا النزول بوساطة أمني الوحي جربيل يهبط به على قلب النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ودليله قول هللا تعاىل خماطبا رسوله صلّى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫ك لِتَ ُكو َن ِمن الْم ْن ِذ ِرين (‪ )194‬بِلِ ٍ‬
‫سان َع َرٍِيب ُمبِ ٍ‬
‫ني [سورة‬ ‫ني (‪َ )193‬على قَـ ْلبِ َ‬ ‫ِ‬ ‫نَـ َز َل بِ ِه ُّ‬
‫ّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫وح ْاألَم ُ‬
‫الر ُ‬
‫الشعراء آية‪.]195 - 193 :‬‬

‫كيفية أخذ جربيل للقرآن؟ وعمن أخذ؟‬


‫هذا من أنباء الغيب‪ ،‬فال يطمئن اإلنسان إىل رأي فيه إال إن ورد بدليل صحيح عن املعصوم صلّى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وكل ما عثران عليه أقوال منثورة هنا وهناك‪.‬‬
‫وأاي ما تكن هذه األقوال‪ ،‬فإن هذا املوضوع ال يتعلق به كبري غرض‪ ،‬ما دمنا نقطع أبن مرجع اإلنزال‬
‫ّ‬
‫هو هللا تعاىل وحده‪.‬‬

‫ما الذي نزل به جربيل؟‬


‫ولتعلم يف هذا املقام أن الذي نزل به جربيل على النيب صلّى هللا عليه وسلم هو القرآن ابعتبار أنه‬
‫األلفاظ احلقيقية املعجزة من أول الفاحتة إىل آخر سورة الناس‪ .‬وتلك األلفاظ هي كالم هللا وحده‪ ،‬ال‬
‫دخل جلربيل وال حملمد صلّى هللا عليه وسلم يف إنشائها وترتيبها‪ .‬بل الذي رتبها أوال هو هللا سبحانه‬
‫تعاىل‪ ،‬ولذلك تنسب له دون سواه‪ ،‬وإن نطق هبا جربيل وحممد‪ ،‬وماليني اخللق‬

‫(‪)30/1‬‬
‫من بعد جربيل وحممد‪ ،‬من لدن نزول القرآن إىل يوم الساعة‪ ،‬وذلك كما ينسب الكالم البشري إىل‬
‫من أنشأه ورتبه أوال دون غريه‪ ،‬ولو نطق به آالف اخلالئق يف آالف األايم والسنني‪.‬‬
‫فاهلل‪ -‬جلت حكمته‪ -‬هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة‪ ،‬ولذلك ال جيوز إضافة القرآن على‬
‫سبيل اإلنشاء إىل جربيل أو حممد‪ ،‬وال لغري جربيل وحممد صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫أسف بعض الناس فزعم أن جربيل كان ينزل على النيب صلّى هللا عليه وسلم ِبعاين القرآن‬
‫وقد ّ‬
‫والرسول صلّى هللا عليه وسلم يعرب عنها بلغة العرب‪.‬‬
‫وزعم آخرون أن اللفظ جلربيل وأن هللا كان يوحي إليه املعىن فقط وكالمها قول ابطل أثيم‪ ،‬مصادم‬
‫لصريح الكتاب والسنة واإلمجاع‪ ،‬وال يساوي قيمة املداد الذي يكتب به‪.‬‬
‫وعقيديت أنه مدسوس على املسلمني يف كتبهم‪ ،‬وإال فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ حملمد‬
‫أو جلربيل؟ ُث كيف تصح نسبته إىل هللا واللفظ ليس هلل؟ مع أن هللا يقول‪ :‬ح َّىت يسمع َكالم َِّ‬
‫اَّلل‬ ‫َ َََْ َ‬
‫[سورة التوبة آية‪ ،]6 :‬إىل غري ذلك مما يطول بنا تفصيله‪.‬‬
‫واحلق أنه ليس جلربيل يف هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإحيائه إليه‪ ،‬وليس للرسول صلّى هللا‬
‫عليه وسلم يف هذا القرآن سوى وعيه وحفظه‪ُ ،‬ث حكايته وتبليغه‪ُ ،‬ث بيانه وتفسريه‪ُ ،‬ث تطبيقه‬
‫وتنفيذه‪.‬‬
‫إان نقرأ يف القرآن الكرمي أنه ليس من إنشاء جربيل وال حممد حنو قوله تعاىل‪:‬‬
‫ك لَتُـلَ َّقى الْ ُق ْرآ َن ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َعلِ ٍيم [سورة النمل آية ‪.]6‬‬ ‫َوإِنَّ َ‬
‫يل ِم ْن َرِّيب [سورة‬ ‫اجتَـبَـ ْيـتَها قُ ْل إِ َّمنا أَتَّبِ ُع ما يُوحى إِ ََّ‬ ‫ِِ ٍ‬
‫وحنو قوله تعاىل‪َ :‬وإِذا َملْ َأتْهت ْم ِِبيَة قالُوا لَ ْوال ْ‬
‫األعراف آية‪.]203 :‬‬
‫آن غَ ِْري هذا أ َْو بَ ِّدلْهُ قُ ْل‬ ‫ت بِ ُقر ٍ‬ ‫قال الَّ ِذين ال يـرجو َن لِقاء َان ائْ ِ‬ ‫نات َ‬ ‫وحنو قوله‪ :‬وإِذا تُـ ْتلى َعلَْي ِهم آايتُنا بـيِ ٍ‬
‫َّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َخاف إِ ْن عصيت رِيب عذاب يـومٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل إِِّين أ ُ َ َ ْ ُ َ ّ َ َ َ ْ‬ ‫ما يَ ُكو ُن ِيل أَ ْن أُبَ ِّدلَهُ م ْن تِلْقاء نَـ ْف ِسي إِ ْن أَتَّبِ ُع إَِّال ما يُوحى إِ ََّ‬
‫َع ِظ ٍيم [سورة يونس آية‪.]15 :‬‬
‫ِ‬ ‫َخ ْذان ِم ْنهُ ِابلْيَ ِم ِ‬
‫ني (‪ُُ )45‬ثَّ لََقطَ ْعنا م ْنهُ ال َْوتِ َ‬
‫ني‬ ‫يل (‪َ )44‬أل َ‬ ‫ض ْاألَقا ِو ِ‬‫وحنو قوله‪َ :‬ولَ ْو تَـ َق َّو َل َعلَْينا بَـ ْع َ‬
‫ِ‬ ‫(‪ )46‬فَما ِم ْن ُكم ِمن أ ٍ‬
‫ين [سورة احلاقة آية‪.]47 - 44 :‬‬ ‫َحد َع ْنهُ حاج ِز َ‬ ‫ْ ْ َ‬

‫(‪)31/1‬‬
‫الفرق بني القرآن والسنة يف الوحي‬
‫إ ّن ما ذكرانه هو حتقيق ما نزل على النيب صلّى هللا عليه وسلم من القرآن‪ .‬وإن كان قد نزل عليه‬
‫أيضا غري القرآن‪.‬‬
‫ملنزل قسمان‪:‬‬
‫نقل السيوطي عن اجلويين أنه قال‪ :‬كالم هللا ا ّ‬
‫«قسم» قال هللا جلربيل‪ :‬قل للنيب الذي أنت مرسل إليه‪ ،‬إن هللا يقول‪ :‬افعل كذا وكذا‪ .‬وأمر بكذا‬
‫وكذا‪ ،‬ففهم جربيل ما قاله ربه ُث نزل جربيل على ذلك النيب «حممد صلّى هللا عليه وسلم» وقال له‬
‫ما قاله ربه‪ ،‬ومل تكن العبارة تلك العبارة‪ ،‬كما يقول امللك‪:‬‬
‫ملن يثق به‪ :‬قل لفالن يقول لك امللك‪ :‬اجتهد يف اخلدمة‪ ،‬وامجع جندك للقتال‪ ،‬فإن قال الرسول‪:‬‬
‫يقول لك امللك ال تتهاون يف خدميت‪ ،‬وال ترتك اجلند يتفرق وحثهم على املقاتلة‪ ،‬ال ينسب إىل كذب‬
‫وال تقصري يف أداء الرسالة‪.‬‬
‫«قسم آخر» قال هللا جلربيل‪ :‬اقرأ على النيب صلّى هللا عليه وسلم هذا الكتاب‪ ،‬فنزل به جربيل من‬
‫هللا من غري تغيري‪ ،‬كما يكتب امللك كتااب ويسلمه إىل أمني ويقول‪ :‬اقرأه على فالن‪ ،‬فهو ال يغري منه‬
‫كلمة وال حرفا» اه‪.‬‬
‫قال السيوطي بعد ذلك‪ :‬قلت‪ :‬القرآن هو القسم الثاين‪ :‬والقسم األول هو السنة‪.‬‬
‫كما ورد أن جربيل كان ينزل ابلسنة كما ينزل ابلقرآن‪.‬‬
‫ومن هنا جاز رواية السنة ابملعىن؛ ألن جربيل أداها ابملعىن‪ ،‬ومل جتز القراءة ابملعىن ألن جربيل أدى‬
‫القرآن ابللفظ‪ ،‬ومل يبح له أداؤه ابملعىن‪ .‬والسر يف ذلك أن املقصود منه التعبد بلفظه واإلعجاز به‪،‬‬
‫فال يقدر أحد أن أييت بلفظ يقوم مقامه‪ ،‬وأن حتت كل حرف منه معاين ال حياط هبا كثرة‪ ،‬فال يقدر‬
‫أحد أن أييت بدله ِبا يشتمل عليه‪.‬‬
‫والتخفيف على األمة حيث جعل املنزل إليهم على قسمني‪ :‬قسم يروونه بلفظ املوحى به‪ ،‬وقسم‬
‫يروونه ابملعىن‪ .‬ولو جعل كل مما يروى ابللفظ لشق‪ ،‬أو ابملعىن مل يؤمن التبديل والتحريف فتأمل‪ .‬اه‪.‬‬
‫أقول‪ :‬وهذا كالم نفيس‪ ،‬بيد أنه ال دليل أمامنا على أن جربيل كان يتصرف يف األلفاظ املوحاة إليه‬
‫يف غري القرآن‪ .‬وما ذكره اجلويين فهو احتمال عقلي ال يكفي يف هذا الباب‪ُ .‬ث إن هذا التقسيم خال‬
‫من قسم اثلث للكتاب والسنة‪ ،‬وهو احلديث القدسي الذي قاله الرسول حاكيا عن هللا تعاىل‪ ،‬فهو‬
‫كالم هللا تعاىل أيضا‪ ،‬غري أنه ليست فيه خصائص القرآن اليت امتاز هبا عن كل ما سواه‪ .‬وهلل تعاىل‬
‫حكمة يف أن‬

‫(‪)32/1‬‬
‫جيعل من كالمه املنزل معجزا وغري معجز‪ ،‬ملثل ما سبق يف حكمة التقسيم اآلنف‪ ،‬من إقامة حجة‬
‫للرسول ولدين احلق بكالم هللا املعجز‪ ،‬ومن التخفيف على األمة بغري املعجز؛ ألنه تصح روايته‬
‫ابملعىن‪ ،‬وقراءة اجلنب ومحله له ومسه إايه إىل غري ذلك‪.‬‬
‫وصفوة القول يف هذا املقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من هللا اتفاقا‪ ،‬وأن احلديث القدسي أوحيت‬
‫ألفاظه من هللا على املشهور‪ ،‬واحلديث النبوي أوحيت معانيه يف غري ما اجتهد فيه الرسول واأللفاظ‬
‫من الرسول صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬بيد أن القرآن له خصائصه من اإلعجاز والتعبد به ووجوب‬
‫احملافظة على أدائه بلفظه وحنو ذلك‪ .‬وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه اخلصائص‪،‬‬
‫واحلكمة يف هذا التفريق أن اإلعجاز منوط أبلفاظ القرآن‪ ،‬فلو أبيح أداؤه ابملعىن لذهب إعجازه‪،‬‬
‫وكان مظنة للتغيري والتبديل واالختالف يف أصل التشريع والتنزيل‪ ،‬أما احلديث القدسي واحلديث‬
‫النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز‪ ،‬وهلذا أابح هللا روايتهما ابملعىن‪ ،‬ومل مينحهما تلك اخلصائص‬
‫والقداسة املمتازة اليت منحها للقرآن الكرمي‪ ،‬ختفيفا على األمة ورعاية ملصاحل اخللق يف احلالني من‬
‫منح ومنع‪ ،‬إن هللا ابلناس لرءوف رحيم اه‪ .‬من مناهل العرفان ابختصار وتصرف‪.‬‬

‫مدة نزول القرآن على حممد صلّى هللا عليه وسلم‬


‫ابتدأ إنزال القرآن على حممد صلّى هللا عليه وسلم من مبعثه عليه الصالة والسالم‪ ،‬وانتهى بقرب‬
‫انتهاء حياته الشريفة‪ ،‬وتقدر هذه املدة بعشرين أو ثالثة وعشرين أو مخسة وعشرين عاما‪ ،‬تبعا‬
‫للخالف يف مدة إقامته صلّى هللا عليه وسلم يف مكة بعد البعثة‪ ،‬أكانت عشر سنني أم ثالث عشرة‬
‫أم مخس عشرة‪.‬‬
‫أما مدة إقامته يف املدينة فعشر سنني اتفاقا كذلك قال السيوطي‪.‬‬
‫ولكن بعض حمققي اتريخ التشريع اإلسالمي يذكر أن مدة مقامه صلّى هللا عليه وسلم ِبكة اثنتا‬
‫عشرة سنة ومخسة أشهر وثالثة عشر يوما من ‪ 17‬رمضان سنة ‪ 41‬من مولده الشريف صلّى هللا‬
‫عليه وسلم إىل ربيع األول سنة ‪ 54‬منه‪ .‬أما مدة إقامته يف املدينة بعد اهلجرة فهي تسع سنوات‬
‫وتسعة أشهر وتسعة أايم‪ .‬من أول ربيع األول سنة ‪ 54‬من مولده إىل اتسع ذي احلجة سنة ‪ 63‬منه‪.‬‬
‫ويواقف ذلك سنة عشر من اهلجرة‪ .‬وهذا التحقيق قريب من القول أبن مدة إقامته صلّى هللا عليه‬
‫وسلم يف مكة ثالث عشرة سنة‪ ،‬ويف املدينة عشر سنني‪ ،‬وأن مدة الوحي ابلقرآن ثالثة وعشرون‬
‫عاما‪.‬‬
‫(‪)33/1‬‬

‫دليل تنجيم هذا النزول‬


‫والدليل على تفرق هذا النزول وتنجيمه‪ ،‬قول هللا‪ -‬تعالت حكمته‪ -‬يف سورة اإلسراء‪َ :‬وقُـ ْرآانً فَـ َرقْناهُ‬
‫ْث َونَـ َّزلْناهُ تَـ ْن ِز ًيال [سورة اإلسراء آية‪.]106 :‬‬ ‫َّاس َعلى مك ٍ‬
‫ُ‬ ‫لِتَـ ْق َرأَهُ َعلَى الن ِ‬
‫ؤاد َك َوَرتَّـلْناهُ تَـ ْرتِ ًيال‬ ‫ك لِنُـثَـبِّ َ‬
‫ت بِ ِه فُ َ‬
‫قال الَّ ِذين َك َفروا لَوال نـُ ِز َل علَي ِه الْ ُقرآ ُن مجُْلَةً ِ‬
‫واح َدةً َكذلِ َ‬ ‫َ ُ ْ ّ َْ ْ‬ ‫وقوله‪َ :‬و َ‬
‫س َن تَـ ْف ِسرياً [سورة الفرقان آية‪.]33 ،32 :‬‬ ‫ك ِِبَثَ ٍل إَِّال ِج ْئ َ‬
‫ناك ِاب ْحلَ ِّق َوأ ْ‬
‫َح َ‬ ‫(‪َ )32‬وال َأيْتُونَ َ‬
‫روي أن الكفار من يهود املشركني عابوا على النيب صلّى هللا عليه وسلم نزول القرآن مفرقا‪ ،‬واقرتحوا‬
‫عليه أن ينزل مجلة‪ ،‬فأنزل هللا هاتني اآليتني ر ّدا عليهم‪ ،‬وهذا الرد يدل على أمرين‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬أن القرآن نزل مفرقا على النيب صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن الكتب السماوية من قبله نزلت مجلة‪ ،‬كما اشتهر ذلك بني مجهور العلماء حىت كاد يكون‬
‫إمجاعا‪.‬‬

‫احلكم واألسرار يف تنجيم القرآن‬


‫لتنجيم نزول القرآن الكرمي آاثر عدة وحكم كثرية‪ ،‬نستطيع أن جنملها يف أربع حكم رئيسية‪.‬‬

‫احلكمة األوىل تثبيت فؤاد النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتقوية قلبه‬
‫‪ ،‬وذلك من وجوه أربعة‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن يف جتدد الوحي‪ ،‬وتكرار نزول امللك به من جانب احلق سبحانه وتعاىل إىل رسوله‬
‫صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬سرورا ميأل قلب الرسول‪ ،‬وغبطة تشرح صدره‪ ،‬وكالمها يتجدد عليه بسبب ما‬
‫يشعر به من هذه العناية اإلهلية وتعهد مواله إايه يف كل نوبة من نوابت هذا النزول‪.‬‬
‫الوجه الثاين‪ :‬أن يف التنجيم تيسريا عليه من هللا يف حفظه‪ ،‬وفهمه‪ ،‬ومعرفة أحكامه وحكمه‪ ،‬كما أن‬
‫فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أن يف أتييد حقه ودحض ابطل عدوه‪ -‬املرة بعد األخرى‪ -‬تكرارا للذة فوزه وفلجه‬
‫ابحلق والصواب‪ ،‬وشهوده لضحااي الباطل يف كل مهبط للوحي والكتاب وكل ذلك مشجع للنفس‬
‫مقو للقلب والفؤاد‪.‬‬
‫ّ‬
‫الوجه الرابع‪ :‬تعهد هللا إايه عند اشتداد اخلصام بينه وبني أعدائه ِبا يهون عليه هذه‬
‫(‪)34/1‬‬

‫الشدائد‪ .‬وال ريب أن تلك الشدائد كانت حتدث يف أوقات متعددة‪ ،‬فال جرم كانت التسلية حتدث‬
‫هي األخرى يف مرات متكافئة‪ .‬فكلما آذاه خصمه‪ ،‬ساله ربه‪ ،‬وجتيء تلك التسلية اترة عن طريق‬
‫ك ِم ْن‬ ‫ص َعلَْي َ‬ ‫قصص األنبياء واملرسلني اليت هلا يف القرآن عرض طويل‪ ،‬وفيها يقول هللا تعاىل‪َ :‬وُك اال نَـ ُق ُّ‬
‫أَنْ ِ‬
‫ؤاد َك [سورة هود آية‪.]120 :‬‬ ‫ت بِ ِه فُ َ‬ ‫الر ُس ِل ما نُـثَـبِّ ُ‬
‫باء ُّ‬
‫اصِ ْرب‬
‫واترة جتيء التسلية عن طريق وعد هللا لرسوله ابلنصر والتأييد واحلفظ كما يف قوله سبحانه‪َ :‬و ْ‬
‫ك ِأبَ ْعيُنِنا [سورة الطور آية‪.]48 :‬‬ ‫ِحلُك ِ‬
‫ْم َربِّ َ‬
‫ك فَِإنَّ َ‬
‫َّاس [سورة املائدة آية‪ ،]67 :‬وحنو ما يف سوريت الضحى‪ ،‬وأمل‬ ‫ك ِم َن الن ِ‬ ‫اَّلل يـ ْع ِ‬
‫ص ُم َ‬ ‫وقوله سبحانه‪َ :‬و َُّ َ‬
‫نشرح‪ ،‬من الوعود الكرمية والعطااي العظيمة‪.‬‬
‫وطورا أتتيه التسلية عن طريق إيعاد أعدائه وإنذارهم حنو قوله تعاىل‪َ :‬سيُـ ْه َزُم ا ْجلَ ْم ُع َويُـ َولُّو َن ُّ‬
‫الدبُـ َر‬
‫صاع َق ِة ٍ‬ ‫صاع َقةً ِمثْل ِ‬ ‫ضوا فَـ ُقل أَنْ َذرتُ ُكم ِ‬ ‫[سورة القمر آية‪ ،]45 :‬وقوله سبحانه‪ :‬فَِإ ْن أَ ْع َر ُ‬
‫عاد َوَمثُ َ‬
‫ود‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ْ‬
‫[سورة فصلت آية‪.]13 :‬‬
‫رب أُولُوا ال َْع ْزِم‬ ‫ص ََ‬ ‫اصِ ْرب َكما َ‬ ‫وطورا آخر ترد التسلية يف صورة األمر الصريح ابلصرب حنو قوله تعاىل‪ :‬فَ ْ‬
‫الر ُس ِل [سورة األحقاف آية‪.]35 :‬‬ ‫ِم َن ُّ‬
‫ك َعلَْي ِه ْم‬ ‫سَ‬ ‫ب نَـ ْف ُ‬‫أو يف صورة النهي عن التفجع عليهم‪ ،‬واحلزن منهم بنحو قوله تعاىل‪ :‬فَال تَ ْذ َه ْ‬
‫ات إِ َّن َّ ِ‬ ‫ح سر ٍ‬
‫صنَـعُو َن [سورة فاطر آية‪.]8 :‬‬ ‫يم ِِبا يَ ْ‬
‫اَّللَ َعل ٌ‬ ‫ََ‬
‫ض ْي ٍق ِممَّا ميَْ ُك ُرو َن [سورة‬ ‫ك ِيف َ‬ ‫وحنو قوله سبحانه‪ :‬واصِرب وما صرب َك إَِّال ِاب َِّ‬
‫َّلل َوال َحتْ َز ْن َعلَْي ِه ْم َوال تَ ُ‬ ‫َ ْ ْ َ َ ُْ‬
‫النحل آية‪.]127 :‬‬
‫وميكن أن تندرج هذه احلكمة بوجوهها األربعة حتت قول هللا تعاىل يف بيان احلكمة من تنجيم القرآن‬
‫ك لِنُـثَـبِّ َ‬
‫ت بِ ِه فُ َ‬
‫ؤاد َك [سورة الفرقان آية‪.]32 :‬‬ ‫َكذلِ َ‬

‫احلكمة الثانية التدرج يف تربية هذه األمة الناشئة علما وعمال‬


‫‪ ،‬وينضوي حتت هذا اإلمجال أمور مخسة أيضا‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬تيسري حفظ القرآن على األمة العربية‪ ،‬وهي كما علمت أمة أمية‪ .‬وأدوات الكتابة مل تكن‬
‫ميسورة لدى الكاتبني منهم على ندرهتم‪ ،‬وكانت مشتغلة ِبصاحلها املعاشية‪ ،‬وابلدفاع عن دينها‬
‫اجلديد‪ ،‬فلو نزل القرآن مجلة واحدة لعجزوا عن حفظه‪ ،‬فاقتضت احلكمة العليا أن ينزله هللا إليهم‬
‫مفرقا ليسهل عليهم حفظه‪ ،‬ويتهيأ هلم استظهاره‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬تسهيل فهمه عليهم كذلك‪ ،‬مثل ما سبق يف توجيه التيسري يف حفظه‪.‬‬

‫(‪)35/1‬‬

‫اثلثها‪ :‬التمهيد لكمال ختليهم عن عقائدهم الباطلة‪ ،‬وعباداهتم الفاسدة‪ ،‬وعاداهتم املرذولة‪ ،‬وذلك‬
‫أبن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا‪ ،‬بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا‪ ،‬فكلما جنح‬
‫اإلسالم معهم يف هدم ابطل‪ ،‬انتقل هبم إىل هدم آخر وهكذا كان يبدأ ابألهم ُث املهم‪ ،‬حىت انتهى‬
‫هبم آخر األمر إىل التخلص من تلك األرجاس كلها‪ ،‬فطهرهم منها وهم ال يشعرون بعنت وال حرج‪،‬‬
‫وفطمهم عنها بسهولة ويسر‪ ،‬وكانت هذه سياسة رشيدة‪ ،‬البد منها يف تربية هذه األمة اجمليدة‪ ،‬ال‬
‫سيما أهنا كانت أبية معاندة‪ ،‬تتحمس ملورواثهتا‪ ،‬وتستميت يف الدفاع عما تعتقده من شرفها وتتهور‬
‫يف سفك الدماء وشن الغارات ألتفه األسباب‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬تربيتهم على العقائد احلقة‪ ،‬والعبادات الصحيحة‪ ،‬واألخالق الفاضلة بتلك السياسة الرشيدة‪.‬‬
‫وهلذا بدأ اإلسالم بفطامهم عن الشرك واإلابحية‪ ،‬وإحياء قلوهبم بعقائد التوحيد واجلزاء‪ ،‬من جراء ما‬
‫فتح عيوهنم عليه من أدلة التوحيد‪ ،‬وبراهني البعث بعد املوت‪ ،‬وحجج احلساب واملسئولية واجلزاء‪ُ .‬ث‬
‫انتقل هبم بعد هذه املرحلة إىل العبادات فبدأهم بفرضية الصالة قبل اهلجرة‪ ،‬وثىن ابلزكاة وابلصوم يف‬
‫السنة الثانية من اهلجرة‪ ،‬وختم ابحلج يف السنة السادسة منها وكذلك كان الشأن يف أهم التشريعات‪.‬‬
‫أليس ذلك إعجازا لإلسالم يف سياسة الشعوب وهتذيب اجلماعات وتربية األمم؟‬
‫بلى‪ ،‬والتاريخ على ذلك من الشاهدين‪.‬‬
‫خامسها‪ :‬تثبيت قلوب املؤمنني وتسليحهم بعزمية الصرب واليقني بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم‬
‫الفينة بعد الفينة‪ ،‬واحلني بعد احلني‪ ،‬من قصص األنبياء واملرسلني‪ ،‬وما حصل هلم وألتباعهم مع‬
‫األعداء واملخالفني‪ ،‬وما وعد هللا به عباده الصاحلني‪ ،‬من النصر واألجر والتأييد والتمكني‪ .‬واآلايت‬
‫احل ِ‬
‫ات‬ ‫آمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َع ِملُوا َّ‬
‫الص ِ‬
‫ين َ‬
‫يف ذلك كثرية حسبك منها قول العلي الكبري‪ :‬و َع َد َّ َّ ِ‬
‫اَّللُ الذ َ‬ ‫َ‬
‫ين ِم ْن قَـ ْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن َهلُ ْم ِدينَـ ُه ُم الَّ ِذي ْارتَضى َهلُ ْم‬ ‫ض َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫ف الذ َ‬ ‫َّه ْم ِيف ْاأل َْر ِ َ ْ‬
‫ِ‬
‫لَيَ ْستَ ْخل َفنـ ُ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫َّه ْم ِم ْن بَـ ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمناً يَـ ْعبُ ُدونَِين ال يُ ْش ِرُكو َن ِيب َش ْيئاً َوَم ْن َك َف َر بَـ ْع َد ذلِ َ‬
‫ك فَأُولئِ َ‬ ‫ِ‬
‫َولَيُـبَ ّدلَنـ ُ‬
‫ْفاس ُقو َن [سورة النور‪.]55 :‬‬ ‫ال ِ‬
‫وقد صدق هللا وعده‪ ،‬ونصر عبده وأعز جنده وهزم األحزاب وحده‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب الْعالَ ِم َ‬
‫ني [سورة األنعام آية ‪.]45‬‬ ‫ين ظَلَ ُموا َوا ْحلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ‬
‫فَـ ُقط َع داب ُر الْ َق ْوم الذ َ‬

‫(‪)36/1‬‬

‫احلكمة الثالثة مسايرة احلوادث والطوارئ يف جتددها وتفرقها‬


‫فكلما جد منهم جديد‪ ،‬نزل من القرآن ما يناسبه‪ ،‬وفصل هللا هلم من أحكامه ما يوافقه‪ ،‬وتنتظم هذه‬
‫احلكمة يف أمور أربعة‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬إجابة السائلني على أسئلتهم عندما يوجهوهنا إىل الرسول صلّى هللا عليه وسلم سواء أكانت‬
‫تلك األسئلة لغرض التأكد من رسالته كما قال هللا تعاىل يف جواب سؤال‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َرِّيب َوما أُوتِيتُ ْم ِم َن ال ِْعل ِْم إَِّال قَلِ ًيال [سورة اإلسراء‬ ‫وح قُ ِل ا ُّلر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫أعدائه إايه‪َ :‬ويَ ْسئَـلُونَ َ‬
‫ني قُ ْل َسأَتْـلُوا َعلَْي ُك ْم ِم ْنهُ ِذ ْكراً [سورة الكهف آية‪:‬‬ ‫ك َع ْن ِذي الْ َق ْرنَ ْ ِ‬ ‫آية‪ ]85 :‬وقوله تعاىل َويَ ْسئَـلُونَ َ‬
‫‪ ... ]83‬إخل‪.‬‬
‫ك‬
‫اآلايت يف هذا املوضوع من سورة الكهف‪ ،‬أو كانت لغرض معرفة حكم هللا كقوله تعاىل‪َ :‬ويَ ْسئَـلُونَ َ‬
‫ماذا يُـ ْن ِف ُقو َن قُ ِل ال َْع ْف َو [سورة البقرة آية‪ .]219 :‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫وه ْم فَِإ ْخوانُ ُك ْم [سورة البقرة آية‪.]220 :‬‬ ‫ِ‬
‫ري َوإِ ْن ُختالطُ ُ‬
‫الح َهلُ ْم َخ ٌْ‬
‫ص ٌ‬ ‫ك َع ِن الْيَتامى قُ ْل إِ ْ‬
‫َويَ ْسئَـلُونَ َ‬
‫وال ريب أن تلك األسئلة كانت ترفع إىل النيب صلّى هللا عليه وسلم يف أوقات خمتلفة وعلى نوابت‬
‫متعددة‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬جماراة األقضية والوقائع يف حينها ببيان حكم هللا فيها عند حدوثها ووقوعها‪ .‬ومعلوم أن تلك‬
‫األقضية والوقائع مل تقع مجلة‪ ،‬بل وقعت تفصيال وتدرجيا فال مناص إذا من فصل هللا فيها بنزول‬
‫القرآن على وفقها تفصيال وتدرجيا‪.‬‬
‫ك‬‫صبَةٌ ِم ْن ُك ْم إىل قوله‪ :‬أُولئِ َ‬
‫ك عُ ْ‬‫واألمثلة على هذا كثرية‪ ،‬منها قول هللا سبحانه‪ :‬إِ َّن الَّ ِذين جا ُؤ ِاب ِْإلفْ ِ‬
‫َ‬
‫ربُؤ َن ِممَّا يَـ ُقولُو َن َهلُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َوِر ْز ٌق َك ِرميٌ [سورة النور آية‪.]26 - 11 :‬‬
‫ُم ََّ‬
‫ك ِيف َزْو ِجها ‪ ...‬إىل قوله‪:‬‬ ‫اَّلل قَـو َل الَِّيت ُجت ِ‬ ‫ِ‬
‫ادلُ َ‬ ‫ومن األمثلة أيضا قوله‪ :‬قَ ْد َمس َع َُّ ْ‬
‫ِ‬ ‫ود َِّ ِ ِ‬ ‫َوتِل َ‬
‫يم [سورة اجملادلة آية‪.]4 - 1 :‬‬ ‫ذاب أَل ٌ‬
‫ين َع ٌ‬‫اَّلل َوللْكاف ِر َ‬ ‫ْك ُح ُد ُ‬
‫وهن ثالث آايت نزلت عندما رفعت خولة بنت ثعلبة شكواها إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم من‬
‫أن زوجها أوس بن الصامت ظاهر منها‪ ،‬وجادلت الرسول أبن معها صبية صغارا إن ضمتهم إىل‬
‫زوجها ضاعوا‪ ،‬وإن ضمتهم إليها جاعوا‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬لفت أنظار املسلمني إىل تصحيح أغالطهم اليت خيطئون فيها وإرشادهم إىل الصواب يف‬
‫الوقت نفسه‪ .‬وال ريب أن تلك األغالط كانت يف أزمان متفرقة‪ ،‬فمن احلكمة أن يكون القرآن‬
‫النازل يف إصالحها متكافئا معها يف زماهنا‪.‬‬
‫ك تُـبـ ِوئ الْم ْؤِمنِني م ِ‬
‫قاع َد لِل ِْق ِ‬
‫تال [سورة آل عمران‬ ‫اقرأ إن شئت قوله سبحانه‪ :‬وإِ ْذ غَ َدو َ ِ ِ‬
‫ت م ْن أ َْهل َ َ ّ ُ ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫آية‪ ]121 :‬إىل آايت كثرية بعدها‪ ،‬وكلها نزلت يف غزوة أحد إرشادا‬

‫(‪)37/1‬‬

‫للمسلمني إىل مواضع أخطائهم يف هذا املوقف الرهيب واملأزق العصيب‪.‬‬


‫ريةٍ َويَـ ْوَم ُحنَ ْ ٍ‬
‫ني إِ ْذ أَ ْع َجبَـ ْت ُك ْم َكثْـ َرتُ ُك ْم فَـلَ ْم تُـ ْغ ِن‬ ‫ِ ِ‬
‫اَّللُ ِيف َمواط َن َكث َ‬‫ص َرُك ُم َّ‬
‫وكذلك اقرأ قوله سبحانه‪ :‬لََق ْد نَ َ‬
‫اَّللُ َس ِكينَـتَهُ َعلى َر ُسولِ ِه‬ ‫ين (‪ُُ )25‬ثَّ أَنْـ َز َل َّ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِِبا ر ُحبَ ْ َّ‬
‫ت ُُثَّ َول ْيـتُ ْم ُم ْدب ِر َ‬ ‫ت َعلَْي ُك ُم ْاأل َْر ُ َ‬ ‫َع ْن ُك ْم َش ْيئاً َوضاقَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ين َك َف ُروا َوذلِ َ‬ ‫و َعلَى الْم ْؤِمنِني وأَنْـز َل جنُوداً َمل تَـروها و َع َّذ َّ ِ‬
‫وب َّ‬
‫اَّللُ‬ ‫ين (‪ُُ )26‬ثَّ يَـتُ ُ‬ ‫ك َجزاءُ الْكاف ِر َ‬ ‫ب الذ َ‬ ‫ْ َْ َ َ‬ ‫ُ ََ َ ُ‬ ‫َ‬
‫يم [سورة التوبة آية‪.]27 - 25 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ك َعلى َم ْن يَشاءُ َو َّ‬‫ِم ْن بَـ ْع ِد ذل َ‬
‫ِ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫اَّللُ غَ ُف ٌ‬
‫وهي آايت تردع املؤمنني عن رذيلة اإلعجاب واالغرتار يف يوم من أايم هللا‪ ،‬وتلفت نظرهم إىل مقدار‬
‫تدارك هللا هلم يف شدهتم‪ ،‬وإىل وجوب أن يتوبوا إىل رشدهم‪ ،‬ويتوبوا إىل رهبم‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬كشف حال أعداء هللا املنافقني‪ ،‬وهتك أستارهم‪ ،‬وسرائرهم للنيب صلّى هللا عليه وسلم‬
‫واملسلمني‪ ،‬كيما أيخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرهم‪ ،‬وحىت يتوب من شاء منهم‪ ،‬اقرأ إن شئت قوله‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعاىل‪َ :‬وِم َن الن ِ‬
‫اَّللَ َعلى ُك ِّل‬ ‫آمنَّا ِاب ََّّلل َوِابلْيَـ ْوم ْاآلخ ِر َوما ُه ْم ِِبُْؤمنِ َ‬
‫ني إىل قوله تعاىل‪ :‬إِ َّن َّ‬ ‫ول َ‬
‫َّاس َم ْن يَـ ُق ُ‬
‫َش ْي ٍء قَ ِد ٌير [سورة البقرة آية‪.]20 - 8 :‬‬
‫وهن ثالث عشرة آية فضحت املنافقني كما فضحتهم سورة التوبة يف كثري من اآلايت‪ ،‬كما كشف‬
‫القرآن أستارهم يف كثري من املناسبات‪.‬‬

‫احلكمة الرابعة اإلرشاد إىل مصدر القرآن وأنه كالم هللا وحده‬
‫وأنه ال ميكن أن يكون كالم النيب صلّى هللا عليه وسلم وال كالم خملوق سواه‪.‬‬
‫وبيان ذلك أن القرآن الكرمي تقرؤه من أوله إىل آخره‪ ،‬فإذا هو حمكم السرد‪ ،‬دقيق السبك‪ ،‬متني‬
‫األسلوب‪ ،‬قوي االتصال‪ ،‬آخذ بعضه برقاب بعض يف سوره وآايته ومجله‪ ،‬جيري دم اإلعجاز فيه كله‬
‫من ألفه إىل ايئه كأنه سبيكة واحدة‪ ،‬وال يكاد يوجد بني أجزائه تفكك‪ ،‬وال ختاذل كأنه حلقة مفرغة!‬
‫أو كأنه مسط وحيد‪ ،‬وعقد فريد أيخذ ابألبصار‪ :‬نظمت حروفه وكلماته‪ ،‬ونسقت مجله وآايته‪ ،‬وجاء‬
‫آخره مساوقا ألوله‪ ،‬وبدا أوله مواتيا آلخره!!‬
‫وهنا نتساءل‪ :‬كيف اتسق للقرآن هذا التأليف املعجز‪ ،‬وكيف استقام له هذا التناسق املدهش؟ على‬
‫تفرق الوقائع واحلوادث يف أكثر من عشرين‬
‫حني أنه مل يتنزل مجلة واحدة‪ ،‬بل تنزل آحادا مفرقة ّ‬
‫عاما!!‬

‫(‪)38/1‬‬

‫سرا جديدا من أسرار اإلعجاز‪ ،‬ونشهد مسة فذة من مسات الربوبية‪ ،‬ونقرأ‬ ‫اجلواب‪ :‬أننا نلمح هنا ّ‬
‫دليال ساطعا على مصدر القرآن‪ ،‬وأنه كالم هللا الواحد الداين أَفَال يَـتَ َدبَّـ ُرو َن الْ ُق ْرآ َن َولَ ْو كا َن ِم ْن ِع ْن ِد‬
‫غَ ِري َِّ‬
‫اَّلل لََو َج ُدوا فِ ِيه ا ْختِالفاً َكثِرياً [سورة النساء آية ‪.]82‬‬ ‫ْ‬
‫وإال فحدثين‪ -‬بربك‪ -‬كيف تستطيع أنت؟ أم كيف يستطيع اخللق مجيعا أن أيتوا بكتاب حمكم‬
‫االتصال والرتابط‪ ،‬متني النسج والسرد‪ ،‬متآلف البداايت والنهاايت مع خضوعه يف التأليف لعوامل‬
‫خارجة عن مقدور البشر‪ ،‬وهي وقائع الزمن وأحداثه اليت جييء كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا‬
‫هلا‪ ،‬ومتحداث عنها؟!‪.‬‬
‫ال ريب أن هذا االنفصال الزماين وذاك االختالف امللحوظ بني هاتيك الدواعي‪ ،‬يستلزمان يف جمرى‬
‫العادة التفكك واالحنالل‪ ،‬وال يدعان جماال لالرتباط واالتصال بني جنوم هذا الكالم‪.‬‬
‫أما القرآن الكرمي فقد خرق العادة يف هذه الناحية أيضا‪ :‬نزل مفرقا منجما‪ ،‬ولكنه ُثّ مرتابطا حمكما‬
‫تفرق األسباب‪ ،‬ولكن اجتمع نظمه اجتماع مشل األحباب‪ ،‬ومل يتكامل نزوله إال بعد‬
‫وتفرقت جنومه ّ‬
‫عشرين عاما‪ ،‬ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما!!‬
‫أليس ذلك برهاان ساطعا على أنه كالم خالق القوى والقدر‪ ،‬ومالك األسباب واملسببات‪ ،‬ومدبر‬
‫اخللق والكائنات‪ ،‬وقيوم األرض والسموات‪ ،‬ومالك األسباب واملسببات‪ ،‬ومدبر اخللق والكائنات‪،‬‬
‫وقيوم األرض والسموات‪ ،‬العليم ِبا كان وما سيكون‪ ،‬اخلبري ابلزمان وما حيدث فيه من شئون؟؟‬
‫الحظ فوق ما أسلفنا أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آايت قال‪:‬‬
‫«ضعوها يف مكان كذا من سورة كذا» وهو بشر ال يدري (طبعا) ما ستجيء به األايم‪ ،‬وال يعلم ما‬
‫سيكون يف مستقبل الزمان‪ ،‬وال يدرك ما سيحدث من الدواعي واألحداث فضال عما سينزل من هللا‬
‫فيها‪ ،‬وهكذا ميضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد‪ ،‬أيتيه الوحي ابلقرآن جنما بعد جنم‪ ،‬وإذا‬
‫القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم‪ ،‬وينتظم ويتآخى‪ ،‬وأيتلف ويلتئم‪ ،‬وال يؤخذ عليه أدىن‬
‫ُح ِك َم ْ‬
‫ت آايتُهُ ُُثَّ‬ ‫تاب أ ْ‬
‫ِ‬
‫طرا ِبا فيه من انسجام ووحدة وترابط‪ :‬ك ٌ‬
‫ختاذل أو تفاوت‪ ،‬بل يعجز اخللق ّ‬
‫ت ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َخبِ ٍري [سورة هود‪ :‬آية ‪.]1‬‬ ‫فُ ِّ‬
‫صلَ ْ‬
‫وإنه ليستبني لك سر هذا اإلعجاز‪ ،‬إذا ما علمت أن حماولة مثل هذا االتساق واالنسجام لن ميكن‬
‫أن أييت على هذا النمط الذي نزل به القرآن وال على قريب من هذا النمط‪ ،‬ال يف كالم الرسول‬
‫صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وال يف كالم غريه من البلغاء‪.‬‬

‫(‪)39/1‬‬

‫حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته‬


‫أما الوحي فمعناه يف لسان الشرع‪ :‬أن يعلم هللا تعاىل من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطالعه عليه‬
‫من ألوان اهلداية والعلم‪ ،‬ولكن بطريقة سرية خفية‪ ،‬غري معتادة للبشر‪ ،‬ويكون على أنواع شىت‪:‬‬
‫‪ -‬منه ما يكون مكاملة بني العبد وربه‪ ،‬كما كلم هللا موسى تكليما‪.‬‬
‫‪ -‬ومنه ما يكون إهلاما يقذفه هللا يف قلب مصطفاه‪ ،‬على وجه من العلم الضروري ال يستطيع له دفعا‬
‫وال جيد فيه ش ّكا‪.‬‬
‫‪ -‬ومنه ما يكون مناما صادقا جييء يف حتققه ووقوعه كما جييء فلق الصبح يف تبلجه وسطوعه‪.‬‬
‫‪ -‬ومنه ما يكون بوساطة ملك كرمي ذي قوة عند ذي العرش مكني‪ ،‬مطاع ُثّ أمني (وهو جربيل عليه‬
‫السالم)‪ .‬وذلك النوع هو أشهر األنواع وأكثرها‪.‬‬
‫ّ‬
‫وح‬ ‫ووحي القرآن كله من هذا القبيل‪ ،‬وهو املصطلح عليه ابلوحي اجللي‪ ،‬قال هللا تعاىل‪ :‬نَـ َز َل بِ ِه ُّ‬
‫الر ُ‬
‫ني [سورة الشعراء آية‪:‬‬ ‫ك لِتَ ُكو َن ِمن الْم ْن ِذ ِرين (‪ )194‬بِلِ ٍ‬
‫سان َع َرٍِيب ُمبِ ٍ‬ ‫ني (‪َ )193‬على قَـ ْلبِ َ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْاألَم ُ‬
‫‪.]195 - 193‬‬
‫ُث إن ملك الوحي يهبط هو اآلخر على كيفيات شىت‪:‬‬
‫فتارة يظهر للرسول يف صورته احلقيقية امللكية‪ ،‬واترة يظهر يف صورة إنسان يراه احلاضرون ويستمعون‬
‫إليه‪ ،‬واترة يهبط على الرسول خفية فال يرى‪ ،‬ولكن يظهر أثر التغري واالنفعال على صاحب الرسالة‬
‫صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫واألدلة الشرعية على ما ذكران كثرية يف الكتاب والسنة منها قوله تعاىل‪َ :‬وما يَـ ْن ِط ُق َع ِن ا ْهلَوى (‪ )3‬إِ ْن‬
‫ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُوحى [سورة النجم آية‪.]4 ،3 :‬‬
‫ومنها احلديث الذي يرويه البخاري يف صحيحه‪ ،‬عن عائشة أم املؤمنني رضي هللا عنها‪:‬‬
‫أن احلارث بن هشام سأل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬اي رسول هللا كيف أيتيك الوحي؟‬
‫علي‬
‫فقال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬أحياان أيتيين مثل صلصلة (صوت) اجلرس‪ ،‬وهو أشده ّ‬
‫عين وقد وعيت عنه ما قال‪ ،‬وأحياان يتمثل يل امللك رجال فيكلمين فأعي ما يقول» قالت‬ ‫فيفصم ّ‬
‫عائشة‪ :‬ولقد رأيته ينزل عليه الوحي يف اليوم الشديد الربد‪ ،‬فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا‪ .‬اه‬
‫ملخصا من املناهل للزرقاين‪.‬‬

‫(‪)40/1‬‬

‫معرفة أول وآخر ما نزل من القرآن‬


‫‪ -‬أول ما نزل‬
‫اختلف يف أول ما نزل من القرآن على أقوال‪:‬‬
‫ك الَّ ِذي‬
‫أحدها‪ :‬وهو الصحيح الذي ذهب إليه أكثر األئمة كما قال ابن حجر أنه‪ :‬اقـ َْرأْ ِاب ْس ِم َربِّ َ‬
‫َخلَ َق حلديث بدء الوحي الذي رواه الشيخان‪.‬‬
‫وأخرج احلاكم يف املستدرك والبيهقي يف الدالئل وصححاه عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬أول‬
‫ك‪.‬‬ ‫سورة نزلت من القرآن‪ :‬اقـ َْرأْ ِاب ْس ِم َربِّ َ‬
‫القول الثاين‪ :‬اي أَيُّـ َها ال ُْم َّدثُِّر‪.‬‬
‫فقد روى الشيخان عن أيب سلمة بن عبد الرمحن قال‪ :‬سألت جابر بن عبد هللا أي القرآن أنزل قبل؟‬
‫قال‪ :‬اي أَيُّـ َها ال ُْم َّدثُِّر‪ .‬قلت‪ :‬أو اقـ َْرأْ ِاب ْس ِم َربِّ َ‬
‫ك‪ .‬قال‪:‬‬
‫أحدثكم ما حدثنا به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬إين‬
‫جاورت حبراء‪ ،‬فلما قضيت جواري‪ ،‬نزلت فاستبطنت الوادي‪ ،‬فنظرت أمامي وخلفي وعن مييين‬
‫ومشايل ُث نظرت إىل السماء فإذا هو «يعين جربيل» فأخذتين رجفة فأتيت خدجية‪ ،‬فأمرهتم فدثروين‪،‬‬
‫فأنزل هللا اي أَيُّـ َها ال ُْم َّدثُِّر (‪ )1‬قُ ْم فَأَنْ ِذ ْر» وأجاب القائلون ابلقول األول عن هذا احلديث أبن املراد‬
‫وعرب بعضهم عن هذا بقوله‪:‬‬ ‫أولية خمصوصة ابألمر ابإلنذار‪ّ ،‬‬
‫ك وأول ما نزل للرسالة اي أَيُّـ َها ال ُْم َّدثُِّر‪ ،‬ويدل على ذلك قوله يف‬
‫أول ما نزل للنبوة اقـ َْرأْ ِاب ْس ِم َربِّ َ‬
‫حديث جابر‪ :‬فإذا هو يعين جربيل‪ ،‬وذلك يدل على أنه رآه قبل هذه املرة‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬سورة الفاحتة‪ .‬ودليله حديث ضعيف أخرجه البيهقي يف الدالئل كما أخرجه الواحدي‪.‬‬
‫آخر ما نزل‬
‫ك قُ ِل‬
‫يف آخر ما نزل اختالف؛ فروى الشيخان عن الرباء بن عازب قال‪ :‬آخر آية نزلت يَ ْستَـ ْفتُونَ َ‬
‫اَّللُ يُـ ْفتِي ُك ْم ِيف الْ َكاللَ ِة [سورة النساء آية‪ .]176 :‬وآخر سورة نزلت «براءة»‪ .‬وروى البخاري عن‬
‫َّ‬
‫ابن عباس قال‪ :‬آخر آية نزلت آية الراب‪ ،‬وروى البيهقي عن عمر مثله واملراد هبا قوله تعاىل‪ :‬اي أَيُّـ َها‬
‫اَّللَ َوذَ ُروا ما بَِقي ِم َن ِّ‬
‫الراب [سورة البقرة آية‪.]278 :‬‬ ‫آمنُوا اتَّـ ُقوا َّ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫َ‬
‫وأخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال‪ :‬آخر شيء نزل من القرآن‪:‬‬

‫(‪)41/1‬‬

‫واتَّـ ُقوا يـوماً تُـرجعو َن فِ ِيه إِ َىل َِّ‬


‫اَّلل [سورة البقرة آية‪.]281 :‬‬ ‫َْ ْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫وأخرج أبو عبيد يف الفضائل عن ابن شهاب قال آخر القرآن عهدا ابلعرش‪« :‬آية الراب»‪ ،‬و «آية‬
‫الدين»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وال منافاة عندي بني هذه الرواايت يف آية الراب‪ ،‬وآية َواتَّـ ُقوا يَـ ْوماً‪ ،‬وآية ال ّدين؛ ألن الظاهر أهنا‬
‫نزلت دفعة واحدة كرتتيبها يف املصحف‪ ،‬وألهنا يف قصة واحدة فأخرب كل عن بعض ما نزل أبنه آخر‬
‫وذلك صحيح‪ ،‬وقول الرباء‪ :‬آخر ما نزل‪:‬‬
‫ك أي يف شأن الفرائض‪.‬‬
‫يَ ْستَـ ْفتُونَ َ‬
‫ول ِم ْن أَنْـ ُف ِس ُك ْم إىل آخر السورة‬
‫أيب بن كعب قال‪ :‬آخر آية نزلت‪ :‬لََق ْد جاءَ ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫ويف املستدرك عن ّ‬
‫[سورة التوبة آية‪.]129 ،128 :‬‬
‫وأخرج مسلم عن ابن عباس قال‪ :‬آخر سورة نزلت‪ :‬إِذا جاء نَصر َِّ‬
‫اَّلل َوالْ َف ْت ُح [سورة النصر آية‪:‬‬ ‫َ ُْ‬
‫‪.]1‬‬
‫وأخرج الرتمذي واحلاكم عن عائشة قالت‪ :‬آخر سورة نزلت «املائدة» فما وجدمت فيها من حالل‬
‫فاستحلّوه ‪ ...‬احلديث‪.‬‬
‫قال البيهقي‪ :‬جيمع بني هذه االختالفات إن صحت‪ ،‬أبن كل واحد أجاب ِبا عنده‪.‬‬
‫وقال القاضي أبو بكر يف االنتصار‪ :‬هذه األقوال ليس فيها شيء مرفوع إىل النيب صلّى هللا عليه‬
‫كال منهم أخرب عن آخر ما مسعه من‬
‫كل قاله بضرب من االجتهاد وغلبة الظن‪ ،‬وحيتمل أن ّ‬
‫وسلم‪ ،‬و ّ‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلم يف اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل‪ ،‬وغريه مسع منه بعد ذلك وإن‬
‫مل يسمعه هو‪ ،‬وحيتمل‪ -‬أيضا‪ -‬أن تنزل هذه اآلية اليت هي آخر آية تالها الرسول صلّى هللا عليه‬
‫وسلم مع آايت نزلت معها‪ ،‬فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك فيظن أنه آخر ما نزل يف‬
‫الرتتيب‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬
‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم [سورة املائدة آية‪.]3 :‬‬
‫من املشكل على ما تقدم قوله تعاىل‪ :‬الْيَـ ْوَم أَ ْك َمل ُ‬
‫فإهنا نزلت بعرفة عام حجة الوداع وظاهرها إكمال مجيع الفرائض واألحكام قبلها‪ ،‬وقد صرح بذلك‬
‫الس ّدي فقال‪ :‬مل ينزل بعدها حالل وال حرام مع أنّه ورد يف آية الراب‪ ،‬وال ّدين‪ ،‬والكاللة‬
‫مجاعة منهم ّ‬
‫يتأول على أنه أكمل هلم دينهم‬
‫أهنا نزلت بعد ذلك‪ .‬وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال‪ :‬األوىل أن ّ‬
‫إبقرارهم ابلبلد احلرام وإجالء املشركني عنه حىت حجه املسلمون ال خيالطهم املشركون ُث أيّده ِبا‬
‫أخرجه من‬

‫(‪)42/1‬‬

‫طريق ابن أيب طلحة عن ابن عباس قال‪ :‬كان املشركون واملسلمون حيجون مجيعا‪ ،‬فلما نزلت «براءة»‬
‫نفي املشركون عن البيت وحج املسلمون‪ ،‬ال يشاركهم يف البيت احلرام أحد من املشركني‪ ،‬فكان‬
‫ت َعلَْي ُك ْم نِ ْع َم ِيت [سورة املائدة آية‪ .]3 :‬اه من اإلتقان للسيوطي ابختصار‬
‫ذلك من متام النعمة َوأ َْمتَ ْم ُ‬
‫وتصرف‪.‬‬

‫(‪)43/1‬‬

‫معرفة أسباب النزول‬


‫يف هذا النوع مسائل‪:‬‬

‫[املسألة] األوىل‪ :‬زعم زاعم أنه ال طائل حتت هذا الفن جلراينه جمرى التاريخ‬
‫وأخطأ يف ذلك‪ ،‬بل له فوائد‪:‬‬
‫‪ -‬منها‪ :‬معرفة وجه احلكمة الباعثة على تشريع احلكم‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬ختصيص احلكم به عند من يرى أن العربة خبصوص السبب‪.‬‬
‫عاما ويقوم الدليل على ختصيصه فإذا عرف السبب قصر التخصيص‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬أن اللفظ قد يكون ّ‬
‫على ما عدا صورته فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها ابالجتهاد ممنوع كما حكى اإلمجاع‬
‫فجوز ذلك‪.‬‬
‫عليه القاضي أبو بكر يف التقريب وال التفات إىل من ش ّذ ّ‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬الوقوف على املعىن وإزالة اإلشكال‪ .‬قال الواحدي‪ :‬ال ميكن معرفة تفسري اآلية دون‬
‫الوقوف على قصتها وبيان نزوهلا‪.‬‬
‫وقال ابن دقيق العيد‪ :‬بيان سبب النزول طريق قوي يف فهم معاين القرآن‪.‬‬
‫وقال ابن تيمية‪ :‬معرفة سبب النزول يعني على فهم اآلية فإن العلم ابلسبب يورث العلم ابملسبب‪.‬‬
‫ين يَـ ْف َر ُحو َن ِِبا أَتَـ ْوا [سورة آل‬ ‫(وقد أشكل) على مروان بن احلكم معىن قوله تعاىل‪ :‬ال َحتْس َّ َّ ِ‬
‫َب الذ َ‬ ‫ََ‬
‫عمران آية‪ .]188 :‬وقال‪ :‬لئن كان كل امرئ فرح ِبا أويت وأحب أن حيمد ِبا مل يفعل معذاب لنعذبن‬
‫أمجعون‪ ،‬حىت ّبني له ابن عباس أن اآلية نزلت يف أهل الكتاب حني سأهلم النيب صلّى هللا عليه وسلم‬
‫عن شيء فكتموه إايه وأخربوه بغريه‪ ،‬وأروه أهنم أخربوه ِبا سأهلم عنه واستحمدوا بذلك إليه»‬
‫[أخرجه الشيخان]‪.‬‬
‫وحكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أهنما كاان يقوالن‪ :‬اخلمر مباحة‪ ،‬وحيتجان بقوله‬
‫ناح فِيما طَ ِع ُموا [سورة املائدة آية‪ ،]93 :‬ولو‬ ‫تعاىل‪ :‬لَْيس َعلَى الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصاحلات ُج ٌ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫علما سبب نزوهلا مل يقوال ذلك وهو‪ :‬أن انسا قالوا ملا حرمت اخلمر‪ :‬كيف ِبن قتلوا يف سبيل هللا‬
‫وماتوا وكانوا يشربون اخلمر وهي رجس فنزلت؟!‪[ .‬أخرجه أمحد والنسائي وغريمها]‪.‬‬
‫يض ِم ْن نِسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَـ ْبـتُ ْم فَ ِع َّد ُهتُ َّن ثَالثَةُ‬
‫الالئِي يَئِ ْس َن ِم َن ال َْم ِح ِ‬
‫ومن ذلك قوله تعاىل‪َ :‬و َّ‬

‫(‪)44/1‬‬

‫أَ ْش ُه ٍر [سورة الطالق آية‪ .]4 :‬فقد أشكل معىن هذا الشرط على بعض األئمة حىت قال الظاهرية‪:‬‬
‫أبن اآليسة ال عدة عليها‪ ،‬إذا مل ترتب (أي تشك) وقد ّبني ذلك سبب النزول‪ ،‬وهو أنه ملا نزلت‬
‫اآلية اليت يف سورة البقرة يف عدد النساء قالوا‪ :‬قد بقي عدد من عدد النساء مل يذكرن‪ :‬الصغار‬
‫والكبار فنزلت»‪ .‬أخرجه احلاكم بن أيب‪ ،‬فعلم بذلك أ ّن اآلية خطاب ملن مل يعلم حكمهن يف العدة‪،‬‬
‫واراتب هل عليهن عدة أو ال؟‬
‫وهل عدهتن كالاليت يف سورة البقرة أو ال؟ فمعىن إِ ِن ْارتَـ ْبـتُ ْم‪ :‬إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف‬
‫يعتددن فهذا حكمهن‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعاىل‪ :‬فَأَيـنما تُـولُّوا فَـثَ َّم وجه َِّ‬
‫اَّلل [سورة البقرة آية‪ ]115 :‬فإان لو تركنا ومدلول‬ ‫َ ُْ‬ ‫َْ َ‬
‫اللفظ‪ ،‬ال قتضى أن املصلي ال جيب عليه استقبال القبلة سفرا وال حضرا وهو خالف اإلمجاع‪ ،‬فلما‬
‫عرف سبب نزوهلا علم أهنا يف انفلة السفر أو فيمن صلى ابالجتهاد وابن له اخلطأ على اختالف‬
‫الرواايت يف ذلك‪.‬‬
‫َج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِ ََّ‬
‫يل ُحمَ َّرماً‬ ‫(ومنها) دفع توهم احلصر‪ ،‬قال الشافعي‪ -‬ما معناه‪ -‬يف قوله تعاىل‪ :‬قُل ال أ ِ‬
‫ْ‬
‫أحل هللا‪ ،‬وأحلّوا ما حرم هللا‪ ،‬وكانوا على‬‫حرموا ما ّ‬‫[سورة األنعام آية‪ :]145 :‬إن الك ّفار ملّا ّ‬
‫حرمتموه‪ ،‬وال حرام إال‬
‫املضا ّدة واحملا ّدة فجاءت اآلية مناقضة لغرضهم‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬ال حالل إال ما ّ‬
‫ما أحللتموه‪ ،‬انزال منزلة من يقول‪ :‬ال أتكل اليوم حالوة فتقول‪ :‬ال آكل اليوم إال حالوة‪ ،‬والغرض‬
‫املضا ّدة ال النفي واإلثبات على احلقيقة فكأنه تعاىل قال‪ :‬ال حرام إال ما أحللتموه من امليتة والدم‬
‫وحلم اخلنزير وما أهل لغري هللا به‪ ،‬ومل يقصد حل ما وراءه‪ ،‬إذ القصد إثبات التحرمي ال إثبات احلل‪،‬‬
‫قال إمام احلرمني‪ :‬وهذا يف غاية احلسن‪ ،‬ولوال سبق الشافعي إىل ذلك ملا كنا نستجيز خمالفة مالك يف‬
‫حصر احملرمات فيما ذكرته اآلية‪.‬‬

‫املسألة الثانية‪ :‬اختلف أهل األصول‪ :‬هل العربة بعموم اللفظ أم خبصوص السبب؟‬
‫واألصح عندان األول‪ ،‬وقد نزلت آايت يف أسباب واتفقوا على تعديتها إىل غري أسباهبا كنزول آية‬
‫الظهار يف سلمة بن صخر‪ ،‬وآية اللعان يف شأن هالل بن أمية‪ ،‬وح ّد القذف يف رماة عائشة ُث تع ّدى‬
‫إىل غريهم‪ ،‬ومن مل يعترب عموم اللفظ قال‪ :‬خرجت هذه اآلية وحنوها لدليل آخر كما قصرت آايت‬
‫على أسباهبا اتفاقا لدليل قام على ذلك‪.‬‬
‫عاما ليتناول كل من ابشر‬
‫خاصا‪ ،‬والوعيد ّ‬
‫قال الزخمشري «يف سورة اهلمزة»‪ :‬جيوز أن يكون السبب ّ‬
‫ذلك القبيح‪ ،‬وليكون ذلك جاراي جمرى التعريض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن األدلة على اعتبار عموم اللفظ احتجاج الصحابة وغريهم يف وقائع‬

‫(‪)45/1‬‬

‫بعموم آايت نزلت على أسباب خاصة‪.‬‬


‫قال ابن جرير‪ :‬حدثين حممد بن أيب معشر‪ ،‬أخربان أبو معشر جنيح‪ ،‬مسعت سعيدا املقربي يذكر حممد‬
‫بن كعب القرظي‪ ،‬فقال سعيد‪ :‬إن يف بعض كتب هللا‪ :‬إن هلل عبادا ألسنتهم أحلى من العسل‪،‬‬
‫أمر من الصرب لبسوا لباس مسوح الضأن من اللني جيرتون الدنيا ابل ّدين‪ .‬فقال حممد بن كعب‬ ‫وقلوهبم ّ‬
‫ك قَـ ْولُهُ ِيف ا ْحلَياةِ ُّ‬
‫الدنْيا [سورة البقرة آية‪،]204 :‬‬ ‫القرظي‪ :‬هذا يف كتاب هللا‪َ :‬وِم َن الن ِ‬
‫َّاس َم ْن يُـ ْع ِجبُ َ‬
‫فقال سعيد‪ :‬قد عرفت فيمن أنزلت‪ ،‬فقال حممد بن كعب‪ :‬إن اآلية تنزل يف الرجل ُث تكون عامة‬
‫بعد‪.‬‬
‫ين يَـ ْف َر ُحو َن [سورة آل عمران آية‪:‬‬ ‫فإن قلت‪ :‬فهذا ابن عباس مل يعترب عموم قوله‪ :‬ال َحتْس َّ َّ ِ‬
‫َب الذ َ‬ ‫ََ‬
‫‪ ]188‬بل قصرها على ما أنزلت فيه من قصة أهل الكتاب‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫أجيب عن ذلك أبنه ال خيفى عليه أن اللفظ أعم من السبب لكنه ّبني أن املراد ابللفظ خاص‪،‬‬
‫مياهنُ ْم بِظُل ٍْم [سورة األنعام‬
‫سوا إِ َ‬ ‫ِ‬
‫ونظريه تفسري النيب صلّى هللا عليه وسلم الظلم يف قوله تعاىل‪َ :‬وَملْ يَـ ْلب ُ‬
‫شر َك لَظُل ِ‬ ‫ِ‬
‫يم [سورة لقمان آية‪ .]13 :‬مع فهم‬ ‫ْم َعظ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫شرك من قوله سبحانه‪ :‬إِ َّن ال ّ ْ‬‫آية‪ ]82 :‬ابل ّ‬
‫الصحابة العموم يف كل ظلم‪.‬‬
‫وقد ورد عن ابن عباس ما يدل على اعتبار العموم‪ ،‬فإنه قال به يف آية السرقة مع أهنا نزلت يف امرأة‬
‫سرقت‪.‬‬
‫علي بن احلسني‪ ،‬نبأان حممد بن أيب محاد‪ ،‬حدثنا أبو مثيلة ابن عبد املؤمن‪،‬‬ ‫قال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا ّ‬
‫السا ِرقَةُ فَاقْطَ ُعوا أَيْ ِديَـ ُهما [سورة‬
‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫عن جندة احلنفي قال‪ :‬سألت ابن عباس عن قوله تعاىل‪َ :‬و َّ‬
‫املائدة آية‪ ]38 :‬أخاص أم عام؟ قال‪ :‬بل عام‪.‬‬
‫وقال ابن تيمية‪ :‬قد جييء كثريا من هذا الباب قوهلم‪ :‬هذه اآلية نزلت يف كذا ال سيما إن كان املذكور‬
‫شخصا‪ ،‬كقوهلم‪ :‬إن آية الظهار نزلت يف امرأة سلمة ابن صخر‪ ،‬وإن آية الكاللة نزلت يف جابر بن‬
‫اح ُك ْم بَـ ْيـنَـ ُه ْم [سورة املائدة آية‪ ]49 :‬نزلت يف بين قريظة والنضري‪ ،‬ونظائر‬ ‫ِ‬
‫عبد هللا‪ ،‬وإن قوله‪َ :‬وأَن ْ‬
‫ذلك مما يذكرون أنه نزل يف قوم من‬
‫املشركني ِبكة‪ ،‬أو يف قوم من اليهود والنصارى‪ ،‬أو يف قوم من املؤمنني‪ ،‬فالذين قالوا ذلك مل يقصدوا‬
‫أن حكم اآلية خيتص أبولئك األعيان دون غريهم‪ ،‬فإن هذا ال يقوله مسلم وال عاقل على اإلطالق‪،‬‬
‫والناس وإن تنازعوا يف اللفظ العام الوارد على سبب هل خيتص بسببه أم ال؟ فلم يقل أحد إن‬
‫املعني‪ ،‬وإمنا غاية ما يقال‪ :‬إهنا ختص بنوع ذلك الشخص‬
‫عمومات الكتاب والسنة ختتص ابلشخص ّ‬
‫معني إن كانت أمرا أو هنيا‬
‫فتعم ما يشبهه وال يكون العموم فيها حبسب اللفظ‪ ،‬واآلية اليت هلا سبب ّ‬

‫(‪)46/1‬‬
‫فهي متناولة لذلك الشخص ولغريه ممن كان ِبنزلته‪ ،‬وإن كانت خربا ِبدح أو ذم فهي متناولة لذلك‬
‫الشخص وملن كان ِبنزلته‪ .‬اه‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬
‫معني وال عموم للفظها فإهنا‬
‫قد علمت مما ذكر أن فرض املسألة يف لفظ له عموم‪ ،‬أما آية نزلت يف ّ‬
‫تقصر عليه قطعا كقوله تعاىل‪َ :‬و َسيُ َجنَّـبُـ َها ْاألَتْـ َقى (‪ )17‬الَّ ِذي يُـ ْؤِيت مالَهُ يَـتَـ َزَّكى [سورة الليل آية‪:‬‬
‫‪ ]18 ،17‬فإهنا نزلت يف أيب بكر الصديق ابإلمجاع‪ ،‬وقد استدل هبا اإلمام فخر الدين الرازي مع‬
‫قوله‪ :‬إِ َّن أَ ْكرم ُكم ِع ْن َد َِّ‬
‫اَّلل أَتْقا ُك ْم [سورة احلجرات آية‪ ]13 :‬على أنه أفضل الناس بعد رسول هللا‬ ‫ََ ْ‬
‫ووهم من ظن أن اآلية عامة يف كل من عمل عمله إجراء له على القاعدة‪،‬‬ ‫صلّى هللا عليه وسلم‪ّ ،‬‬
‫وهذا غلط فإن هذه اآلية ليس فيها صيغة عموم إذ األلف والالم إمنا تفيد العموم‪ ،‬إذا كانت موصولة‬
‫معرفة يف مجع‪ ،‬زاد قوم أو «مفرد» بشرط أن ال يكون هناك عهد‪ ،‬والالم يف األتقى ليست‬
‫أو ّ‬
‫موصولة؛ ألهنا ال توصل أبفعل التفضيل إمجاعا‪ ،‬واألتقى ليست مجعا بل هو مفرد والعهد موجود‬
‫وتعني القطع‬
‫خصوصا مع ما تفيده صيغة أفعل من التمييز وقطع املشاركة‪ ،‬فبطل القول ابلعموم ّ‬
‫ابخلصوص والقصر على من نزلت فيه رضي هللا عنه‪.‬‬

‫املسألة الثالثة‪ :‬قال الواحدي‪ :‬ال حيل القول يف أسباب نزول الكتاب إال ابلرواية والسماع ممن‬
‫شاهدوا التنزيل‬
‫‪ ،‬أو وقفوا على األسباب وحبثوا عن علمها‪ ،‬وقد قال حممد بن سريين‪ :‬سألت عبيدة عن آية من‬
‫القرآن فقال‪ :‬اتّق هللا وقل سدادا ذهب الذين يعلمون فيما أنزل هللا من القرآن‪.‬‬
‫وقال غريه‪ :‬معرفة سبب النزول أمر حيصل للصحابة بقرائن حتتف ابلقضااي ورِبا مل جيزم بعضهم فقال‪:‬‬
‫أحسب هذه اآلية نزلت يف كذا‪ ،‬كما أخرجه األئمة الستة عن عبد هللا بن الزبري قال‪ :‬خاصم الزبري‬
‫رجال من األنصار يف شراج احلرة (اسم موضع) فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬اسق اي زبري‪ُ ،‬ث‬
‫ارسل املاء إىل جارك‪ ،‬فقال األنصاري‪ :‬اي رسول هللا أن كان ابن عمتك‪ .‬فتلون وجهه ‪ .» ..‬احلديث‪.‬‬
‫ك ال يُـ ْؤِمنُو َن َح َّىت ُحيَ ِّك ُم َ‬
‫وك فِيما‬ ‫قال الزبري‪ :‬فما أحسب هذه اآلايت إال نزلت يف ذلك‪ :‬فَال َوَربِّ َ‬
‫َش َج َر بَـ ْيـنَـ ُه ْم [سورة النساء آية‪.]65 :‬‬
‫وقال احلاكم يف علوم احلديث‪ :‬إذا أخرب الصحايب الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن‪ ،‬أهنا‬
‫نزلت يف كذا‪ ،‬فإنه حديث مسند‪ ،‬ومشى على هذا ابن الصالح وغريه ومثلوه ِبا أخرجه مسلم عن‬
‫جابر قال‪ :‬كانت اليهود تقول‪ :‬من أتى امرأة من دبرها يف قبلها جاء الولد أحول‪ ،‬فأنزل هللا‪ :‬نِسا ُؤُك ْم‬
‫ث لَ ُك ْم [سورة البقرة آية‪.]223 :‬‬
‫َح ْر ٌ‬

‫(‪)47/1‬‬

‫وقال ابن تيمية‪ :‬قوهلم‪ :‬نزلت هذه اآلية يف كذا يراد به اترة سبب النزول ويراد به اترة أن ذلك داخل‬
‫يف اآلية وإن مل يكن السبب كما تقول‪ :‬عىن هبذه اآلية كذا‪.‬‬
‫وقد تنازع العلماء يف قول الصحايب‪ :‬نزلت هذه اآلية يف كذا‪ ،‬هل جيري جمرى املسند كما لو ذكر‬
‫السبب الذي أنزلت ألجله‪ ،‬أو جيري جمرى التفسري منه الذي ليس ِبسند‪ ،‬فالبخاري يدخله يف‬
‫املسند‪ ،‬وغريه ال يدخله فيه‪ ،‬وأكثر املسانيد على هذا االصطالح كمسند أمحد وغريه خبالف ما إذا‬
‫ذكر سببا نزلت عقبه فإهنم كلهم يدخلون مثل هذا يف املسند‪ .‬اه‪.‬‬
‫وقال الزركشي يف الربهان‪ :‬قد عرف من عادة الصحابة والتابعني أن أحدهم إذا قال‪:‬‬
‫نزلت هذه اآلية يف كذا فإنه يريد بذلك أهنا تتضمن هذا احلكم‪ ،‬ال أن هذا كان السبب يف نزوهلا فهو‬
‫من جنس االستدالل على احلكم ابآلية‪ ،‬ال من جنس النقل ملا وقع‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬
‫ما تقدم أنه من قبيل املسند من الصحايب إذا وقع من اتبعي فهو مرفوع أيضا‪ ،‬لكنه مرسل‪ ،‬فقد يقبل‬
‫إذا صح املسند إليه وكان من أئمة التفسري اآلخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبري‪،‬‬
‫أو اعتضد ِبرسل آخر وحنو ذلك‪.‬‬

‫املسألة الرابعة‪[ :‬يف أسباب نزول اآلية]‬


‫كثريا ما يذكر املفسرون لنزول اآلية أسبااب متعددة‪ ،‬وطريق االعتماد يف ذلك أن ينظر إىل العبارة‬
‫الواقعة‪.‬‬
‫عرب أحدهم بقوله‪ :‬نزلت يف كذا‪ ،‬واآلخر‪ :‬نزلت يف كذا وذكر أمرا آخر فقد تقدم أن هذا‬
‫‪ - 1‬فإن ّ‬
‫يراد به التفسري ال ذكر سبب النزول‪ .‬فال منافاة بني قوليهما إذا كان اللفظ يتناوهلما‪.‬‬
‫عرب واحد بقوله‪ :‬نزلت يف كذا وصرح اآلخر بذكر سبب خالفه فهو املعتمد وذاك‬
‫‪ - 2‬وإن ّ‬
‫استنباط‪ .‬مثاله‪ :‬ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال‪ :‬أنزلت‪:‬‬
‫نِسا ُؤُك ْم َح ْر ٌ‬
‫ث لَ ُك ْم يف إتيان النساء يف أدابرهن‪ .‬وتقدم عن جابر ذكر سبب خالفه فاملعتمد حديث‬
‫ومهه فيه ابن عباس‪ ،‬وذكر مثل حديث جابر‪ ،‬كما‬
‫جابر؛ ألنه نقل‪ ،‬وقول ابن عمر استنباط منه‪ ،‬وقد ّ‬
‫أخرجه أبو داود واحلاكم‪.‬‬
‫‪ - 3‬وإن ذكر واحد سببا وآخر سببا غريه‪ ،‬فإن كان إسناد أحدمها صحيحا دون اآلخر فالصحيح‬
‫هو املعتمد‪ .‬مثاله‪ :‬ما أخرجه الشيخان وغريمها عن جندب‪ .‬اشتكى النيب صلّى هللا عليه وسلم فلم‬
‫يقم ليلة أو ليلتني فأتته امرأة فقالت‪ :‬اي حممد ما أرى شيطانك إال قد تركك فأنزل هللا‪:‬‬

‫(‪)48/1‬‬

‫ك َوما قَلى [سورة الضحى آية‪.]3 - 1 :‬‬


‫ك َربُّ َ‬ ‫َوالضُّحى (‪َ )1‬واللَّْي ِل إِذا َسجى (‪ )2‬ما َود َ‬
‫َّع َ‬
‫وأخرج الطرباين وابن أيب شيبة‪ ،‬عن حفص بن ميسرة‪ ،‬عن أمه‪ ،‬عن أمها‪ ،‬وكانت خادم رسول هللا‬
‫صلّى هللا عليه وسلم أن جروا دخل بيت النيب صلّى هللا عليه وسلم فدخل حتت السرير فمات‬
‫فمكث النيب صلّى هللا عليه وسلم أربعة أايم ال ينزل عليه الوحي فقال‪ :‬اي خولة ما حدث يف بيت‬
‫رسول هللا؟ جربيل ال أيتيين فقلت يف نفسي‪ :‬لو هيأت البيت وكنسته فأهويت ابملكنسة حتت السرير‬
‫فأخرجت اجلرو فجاء النيب صلّى هللا عليه وسلم ترعد حليته وكان إذا نزل عليه «الوحي» أخذته‬
‫الرعدة فأنزل هللا َوالضُّحى إىل قوله‪ :‬فَ َ ْرتضى‪.‬‬
‫قال ابن حجر يف شرح البخاري‪ :‬قصة إبطاء جربيل بسبب اجلرو مشهورة؛ لكن كوهنا سبب نزول‬
‫اآلية غريب‪ ،‬ويف إسناده من ال يعرف فاملعتمد ما يف الصحيح‪.‬‬
‫ومن أمثلته أيضا ما أخرجه ابن جرير وابن أيب حامت من طريق علي بن أيب طلحة عن ابن عباس أن‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ملا هاجر إىل املدينة أمره هللا أن يستقبل بيت املقدس ففرحت اليهود‬
‫فاستقبلها بضعة عشر شهرا‪ ،‬وكان حيب قبلة إبراهيم‪ ،‬فكان يدعو هللا وينظر إىل السماء فأنزل هللا‪:‬‬
‫وه ُك ْم َشط َْرهُ [سورة البقرة آية‪ .]144 :‬فاراتب من ذلك اليهود وقالوا‪ :‬ما َوَّال ُه ْم عَ ْن‬ ‫فَـ َولُّوا ُو ُج َ‬
‫ب فَأَيْـنَما تُـ َولُّوا فَـثَ َّم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ق ْبـلَت ِه ُم الَِّيت كانُوا َعلَْيها [سورة البقرة آية‪ ]142 :‬فأنزل هللا َو ََّّلل ال َْم ْش ِر ُق َوال َْم ْغ ِر ُ‬
‫اَّلل [سورة البقرة آية‪.]115 :‬‬ ‫وجه َِّ‬
‫َ ُْ‬
‫اَّلل أن تصلي حيثما توجهت‬ ‫وأخرج احلاكم وغريه‪ ،‬عن ابن عمر قال‪ :‬نزلت فَأَيـنما تُـولُّوا فَـثَ َّم وجه َِّ‬
‫َ ُْ‬ ‫َْ َ‬
‫بك راحلتك يف التطوع‪.‬‬
‫وأخرج الرتمذي وضعفه من حديث عامر بن ربيعة قال‪ :‬كنا سفر يف ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة‬
‫فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكران ذلك لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فنزلت‪.‬‬
‫وأخرج الدارقطين حنوه من حديث جابر بسند ضعيف أيضا‪.‬‬
‫ب لَ ُك ْم قالوا‪ :‬إىل أين؟ فنزلت‪ .‬مرسل‪.‬‬ ‫وأخرج ابن جرير عن جماهد قال‪ :‬ملا نزلت ا ْد ُع ِوين أ ْ ِ‬
‫َستَج ْ‬
‫وأخرج عن قتادة أن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال‪ :‬إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه‪ .‬فقالوا‪ :‬إنه‬
‫كان ال يصلي إىل القبلة فنزلت‪ .‬معضل غريب ج ّدا‪.‬‬
‫فهذه مخسة أسباب خمتلفة وأضعفها األخري إلعضاله ُث ما قبله إلرساله‪ُ ،‬ث ما قبله لضعف رواته‬
‫والثاين صحيح لكنه قال‪ :‬قد أنزلت يف كذا ومل يصرح ابلسبب واألول صحيح اإلسناد وصرح فيه‬
‫بذكر السبب فهو املعتمد‪.‬‬

‫(‪)49/1‬‬

‫ومن أمثلته أيضا ما أخرجه ابن مردويه وابن أيب حامت من طريق ابن إسحاق عن حممد بن أيب حممد‬
‫عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال‪ :‬خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش‬
‫فأتوا رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فقالوا‪ :‬اي حممد تعال فتمسح ِبهلتنا وندخل معك يف دينك وكان‬
‫ك َع ِن الَّ ِذي أ َْو َح ْينا إِلَْي َ‬
‫ك [سورة اإلسراء آية‪:‬‬ ‫كادوا لَيَـ ْفتِنُونَ َ‬
‫حيب إسالم قومه فر ّق هلم‪ ،‬فأنزل هللا َوإِ ْن ُ‬
‫‪.]73‬‬
‫أجلنا‬
‫وأخرج ابن مردويه من طريق العويف‪ ،‬عن ابن عباس أن ثقيفا قالوا للنيب صلّى هللا عليه وسلم‪ّ :‬‬
‫فهم أن يؤجلهم فنزلت‪.‬‬
‫سنة حىت يهدى آلهلتنا فإذا قبضنا الذي يهدى هلا أحرزانه ُث أسلمنا ّ‬
‫هذا يقتضي نزوهلا ابملدينة وإسناده ضعيف‪ ،‬واألول يقتضي نزوهلا ِبكة‪ ،‬وإسناده حسن وله شاهد‬
‫عند أيب الشيخ عن سعيد بن جبري يرتقي به إىل درجة الصحيح فهو املعتمد‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن يستوي اإلسنادان يف الصحة فريجح أحدمها بكون روايه حاضر القصة أو حنو ذلك من‬
‫وجوه الرتجيحات‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال‪ :‬كنت أمشي مع النيب صلّى هللا عليه وسلم ابملدينة‬
‫وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم‪ :‬لو سألتموه‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬حدثنا عن الروح فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه الوحي يوحي إليه حىت صعد الوحي ُث‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َرِّيب َوما أُوتِيتُ ْم ِم َن ال ِْعل ِْم إَِّال قَلِ ًيال [سورة اإلسراء آية‪.]85 :‬‬ ‫قال‪ :‬قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬
‫وأخرج الرتمذي وصححه عن ابن عباس قال‪ :‬قالت قريش لليهود‪ :‬أعطوان شيئا نسأل هذا الرجل‬
‫وح اآلية‪ .‬فهذا يقتضي أهنا نزلت ِبكة‬‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫فقالوا‪ :‬اسألوه عن الروح فسألوه فأنزل هللا‪َ :‬ويَ ْسئَـلُونَ َ‬
‫واألول خالفه وقد رجح أبن ما رواه البخاري أصح من غريه وأبن ابن مسعود كان حاضر القصة‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن ميكن نزوهلا عقيب السببني أو األسباب املذكورة أبن ال تكون معلومة التباعد‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬أن هالل بن أمية قذف امرأته عند النيب‬
‫صلّى هللا عليه وسلم بشريك بن سحماء‪ ،‬فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬البينة أو حد يف ظهرك»‬
‫ين يَـ ْرُمو َن‬ ‫َّ ِ‬
‫فقال اي رسول هللا‪ :‬إذا رأى أحدان مع امرأته رجال ينطلق يلتمس البينة فأنزل عليه َوالذ َ‬
‫ني [سورة النور آية‪.]9 - 6 :‬‬ ‫أَ ْزواجهم حىت بلغ إِ ْن كا َن ِمن َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ‬
‫وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال‪ :‬جاء عومير إىل عاصم بن عدي فقال‪:‬‬
‫اسأل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أرأيت رجال وجد مع امرأته رجال فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟‬
‫فسأل عاصم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فعاب السائل‪ ،‬فأخرب عاصم عوميرا‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا آلتني‬

‫(‪)50/1‬‬

‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فألسألنه فأاته فقال‪« :‬إنه قد أنزل فيك ويف صاحبتك قرآن»‬
‫احلديث‪.‬‬
‫مجع بينهما أبن أول من وقع له ذلك هالل بن أمية وصادف جميء عومير أيضا فنزلت يف شأهنما معا‬
‫وإىل هذا جنح النووي وسبقه اخلطيب فقال‪ :‬لعلهما اتفق هلما ذلك يف وقت واحد‪.‬‬
‫وأخرج البزار عن حذيفة قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أليب بكر‪« :‬لو رأيت مع أم رومان‬
‫شرا‪ .‬قال‪ :‬فأنت اي عمر‪ .‬قال‪ :‬كنت أقول‪ :‬لعن هللا األعجز وإنه‬
‫رجال ما كنت فاعال به‪ .‬قال‪ّ :‬‬
‫خلبيث‪ .‬فنزلت»‪.‬‬
‫قال ابن حجر‪ :‬ال مانع من تعدد األسباب‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن ال ميكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬ما أخرجه الشيخان عن املسيب قال‪ :‬ملا حضر أاب طالب الوفاة دخل عليه رسول هللا صلّى هللا‬
‫أحاج لك هبا عند‬
‫عم قل ال إله إال هللا ّ‬
‫عليه وسلم وعنده أبو جهل‪ ،‬وعبد هللا بن أيب أمية فقال‪ :‬أي ّ‬
‫هللا فقال أبو جهل‪ ،‬وعبد هللا‪ :‬اي أاب طالب أترغب عن ملة عبد املطلب فلم يزاال يكلمانه حىت قال‬
‫هو‪ :‬على ملة عبد املطلب‪ ،‬فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫َّيب والَّ ِذين آمنُوا أَ ْن يستَـ ْغ ِفروا لِل ِ‬ ‫ِ‬
‫ْم ْش ِرك َ‬
‫ني ‪[ .....‬سورة‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫ألستغفرن لك مامل أنه عنه فنزلت‪ :‬ما كا َن للنِ ِّ َ َ َ‬
‫التوبة آية‪.]113 :‬‬
‫وأخرج الرتمذي وحسنه عن علي قال‪ :‬مسعت رجال يستغفر ألبويه ومها مشركان فقلت‪ :‬تستغفر‬
‫ألبويك ومها مشركان‪ ،‬فقال‪ :‬استغفر إبراهيم ألبيه وهو مشرك‪ ،‬فذكرت ذلك لرسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلم فنزلت‪.‬‬
‫وأخرج احلاكم‪ ،‬وغريه عن ابن مسعود قال‪ :‬خرج رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يوما إىل املقابر‪،‬‬
‫فجلس إىل قرب منها فناجاه طويال ُث بكى‪ ،‬فقال‪« :‬إن القرب الذي جلست عنده قرب أمي‪ ،‬إين‬
‫آمنُوا أَ ْن يَ ْستَـغْ ِف ُروا‬ ‫استأذنت ريب يف الدعاء هلا فلم أيذن يل فأنزل علي ما كا َن لِلنِ ِ َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫َّيب َوالذ َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لِل ِ‬
‫ني» فجمع بني هذه األحاديث بتعدد النزول‪.‬‬ ‫ْم ْش ِرك َ‬
‫ُ‬
‫ومن أمثلته أيضا ما أخرجه البيهقي والبزار عن أيب هريرة رضي هللا عنه أن النيب صلّى هللا عليه وسلم‬
‫وقف على محزة حني استشهد‪ ،‬وقد مثّل به‪ ،‬فقال‪ :‬ألمثلن بسبعني منهم مكانك‪ ،‬فنزل جربيل والنيب‬
‫صلّى هللا عليه وسلم واقف خبواتيم سورة النحل َوإِ ْن عاقَـ ْبـتُ ْم فَعاقِبُوا ِِبِثْ ِل ما ُعوقِ ْبـتُ ْم بِ ِه [سورة النحل‬
‫آية‪ ]126 :‬إخل السورة‪.‬‬
‫وأخرج الرتمذي واحلاكم عن أيب بن كعب قال‪ :‬ملا كان يوم أحد أصيب من األنصار‬

‫(‪)51/1‬‬

‫أربعة وستون ومن املهاجرين ستة منهم محزة‪ ،‬فمثلوا هبم فقالت األنصار‪ :‬لئن أصبنا منهم يوما مثل‬
‫هذا لنربني عليهم‪ ،‬فلما كان يوم فتح مكة أنزل هللا َوإِ ْن عاقَـ ْبـتُ ْم اآلية‪ .‬فظاهره أتخري نزوهلا إىل الفتح‪،‬‬
‫ويف احلديث الذي قبله نزوهلا أبحد‪ .‬قال ابن احلصار‪ :‬وجيمع أهنا نزلت أوال ِبكة قبل اهلجرة مع‬
‫السورة؛ ألهنا مكية ُث اثنيا أبحد ُث اثلثا يوم الفتح تذكريا من هللا لعباده‪ ،‬وجعل ابن كثري من هذا‬
‫القسم آية الروح‪.‬‬

‫تنبيه‪)1( :‬‬
‫قد يكون يف إحدى القصتني «فتال» فيهم الراوي فقال‪ :‬فنزل‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬ما أخرجه الرتمذي‪ ،‬وصححه عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬مر يهودي ابلنيب صلّى هللا عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬كيف تقول اي أاب القاسم إذا وضع هللا السموات على ذه واألرضني على ذه واملاء على ذه‬
‫اَّللَ َح َّق قَ ْد ِرهِ [سورة الزمر آية‪.]67 :‬‬
‫واجلبال على ذه وسائر اخللق على ذه فأنزل هللا‪َ :‬وما قَ َد ُروا َّ‬
‫واحلديث يف الصحيح بلفظ فتال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم وهو الصواب‪ ،‬فإن اآلية مكية‪.‬‬
‫ومن أمثلته أيضا‪ :‬ما أخرجه البخاري عن أنس قال‪ :‬مسع عبد هللا بن سالم ِبقدم رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلم فأاته فقال‪ :‬إين سائلك عن ثالث ال يعلمهن إال نيب‪ .‬ما أول أشراط الساعة‪ ،‬وما أول‬
‫طعام أهل اجلنة‪ ،‬ومل ينزع الولد إىل أبيه أو إىل أمه؟ قال‪ :‬أخربين هبن جربيل آنفا‪ .‬قال‪ :‬جربيل؟ قال‪:‬‬
‫يل فَِإنَّهُ نَـ َّزلَهُ َعلى قَـ ْلبِ َ‬ ‫ِِ‬
‫ك‬ ‫نعم‪ .‬قال‪ :‬ذاك عدو اليهود من املالئكة فقرأ هذه اآلية َم ْن كا َن َع ُد اوا جل ِْرب َ‬
‫[سورة البقرة آية‪.]97 :‬‬
‫قال ابن حجر يف شرح البخاري‪ :‬ظاهر السياق أن النيب صلّى هللا عليه وسلم قرأ اآلية ر ّدا على‬
‫اليهود وال يستلزم ذلك نزوهلا حينئذ‪ ،‬قال‪ :‬وهذا هو املعتمد‪ ،‬فقد صح يف سبب نزول اآلية قصة‬
‫غري قصة ابن سالم‪.‬‬

‫تنبيه‪)2( :‬‬
‫عكس ما تقدم أن يذكر سبب واحد يف نزول اآلايت املتفرقة وال إشكال يف ذلك فقد ينزل يف‬
‫الواقعة الواحدة آايت عديدة يف سور شىت‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬ما أخرجه الرتمذي واحلاكم عن أم سلمة أهنا قالت‪ :‬اي رسول هللا ال أمسع هللا ذكر النساء يف‬
‫ُضيع عمل ِ‬‫ِ‬
‫عام ٍل [سورة آل عمران آية‪.]195 :‬‬ ‫َين ال أ ُ َ َ َ‬‫جاب َهلُ ْم َرُّهبُ ْم أِّ‬
‫استَ َ‬
‫اهلجرة بشيء‪ .‬فأنزل هللا فَ ْ‬

‫(‪)52/1‬‬

‫وأخرج احلاكم عنها‪ -‬أيضا‪ -‬قالت‪ :‬قلت اي رسول هللا‪ :‬تذكر الرجال وال تذكر النساء فأنزلت إِ َّن‬
‫يع‬ ‫ِ‬ ‫مات [سورة األحزاب آية‪ ،]35 :‬وأنزلت أِّ‬ ‫ني والْمسلِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َين ال أُض ُ‬ ‫ال ُْم ْسلم َ َ ُ ْ‬
‫عام ٍل ِم ْن ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثى‬
‫عمل ِ‬
‫ََ َ‬
‫[سورة آل عمران آية‪.]195 :‬‬
‫وأخرج‪ -‬أيضا‪ -‬عنها أهنا قالت‪ :‬تغزو الرجال وال تغزو النساء‪ ،‬وإمنا لنا نصف املرياث فأنزل هللا َوال‬
‫ِ‬ ‫اَّللُ بِ ِه بَـ ْع َ‬
‫ض [سورة النساء آية‪ ،]32 :‬وأنزل‪ :‬إِ َّن ال ُْم ْسل ِم َ‬
‫ني‬ ‫ض ُك ْم َعلى بَـ ْع ٍ‬ ‫َّل َّ‬
‫تَـتَ َمنـ َّْوا ما فَض َ‬
‫مات [سورة األحزاب آية‪.]35 :‬‬ ‫والْمسلِ ِ‬
‫َ ُْ‬
‫ومن أمثلته‪ -‬أيضا‪ -‬ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن اثبت‪ ،‬أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‬
‫أملى عليه‪« :‬ال يستوي القاعدون من املؤمنني واجملاهدون يف سبيل هللا» فجاء ابن أم مكتوم وقال‪ :‬اي‬
‫ُويل الض ََّرِر [سورة النساء آية‪:‬‬
‫ري أ ِ‬
‫رسول هللا لو أستطيع اجلهاد جلاهدت وكان أعمى فأنزل هللا غَ ْ ُ‬
‫‪.]95‬‬
‫وأخرج ابن أيب حامت عن زيد بن اثبت‪ -‬أيضا‪ -‬قال‪ :‬كنت أكتب لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‬
‫فإين لواضع القلم على أذين إذ أمر ابلقتال فجعل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه‬
‫إذ جاء أعمى فقال‪ :‬كيف يل اي رسول هللا وأان أعمى‪ ،‬فأنزلت لَيس علَى الضُّع ِ‬
‫فاء [سورة التوبة آية‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫‪.]91‬‬
‫ومن أمثلته‪ :‬ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم جالسا يف‬
‫ظل حجرة فقال‪ :‬إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيين شيطان‪ ،‬فطلع رجل أزرق فدعاه رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلم فقال‪ :‬عالم تشتمين أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء أبصحابه‪ ،‬فحلفوا ابهلل ما‬
‫قالوا حىت جتاوز عنهم فأنزل هللا َحيلِ ُفو َن ِاب َِّ‬
‫َّلل ما قالُوا [سورة التوبة آية‪ ،]74 :‬وأخرجه احلاكم وأمحد‬ ‫ْ‬
‫مجيعاً فَـيَ ْحلِ ُفو َن لَهُ َكما َْحيلِ ُفو َن لَ ُك ْم [سورة اجملادلة آية‪:‬‬
‫اَّلل َِ‬
‫هبذا اللفظ وآخره فأنزل هللا يَـ ْوَم يَـ ْبـ َعثُـ ُه ُم َُّ‬
‫‪.]18‬‬

‫تنبيه‪)3( :‬‬
‫أتمل ما ذكرته لك يف هذه املسألة واشدد به يديك‪ ،‬فإين حررته واستخرجته بفكري من استقراء‬
‫صنيع األئمة ومتفرقات كالمهم‪ ،‬ومل أسبق إليه‪ .‬اه ملخصا من اإلتقان للسيوطي‪.‬‬

‫(‪)53/1‬‬

‫ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة‬


‫قال السيوطي يف اإلتقان‪ :‬هو يف احلقيقة نوع من أسباب النزول واألصل فيه موافقات عمر وقد‬
‫أفردها ابلتصنيف مجاعة‪.‬‬
‫أخرج الرتمذي عن ابن عمر أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال‪ :‬إن هللا جعل احلق على لسان‬
‫عمر وقلبه‪ .‬قال ابن عمر‪ :‬وما نزل ابلناس أمر قط فقالوا وقال إال نزل القرآن على حنو ما قال‬
‫عمر‪.‬‬
‫وأخرج ابن مردويه عن جماهد قال‪ :‬كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن‪.‬‬
‫وأخرج البخاري وغريه عن أنس قال‪ :‬قال عمر‪ :‬وافقت ريب يف ثالث قلت‪ :‬اي رسول هللا لو اختذان‬
‫صلاى [سورة البقرة آية‪ ،]125 :‬وقلت‪:‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫َِّ ِ‬
‫يم ُم َ‬
‫من مقام إبراهيم مصلى فنزلت‪َ :‬واخت ُذوا م ْن َمقام إبْراه َ‬
‫اي رسول هللا إن نساءك يدخل عليهن الرب والفاجر فلو أمرهتن أن حيتجَب فنزلت آية احلجاب‪،‬‬
‫واجتمع على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم نساؤه يف الغرية فقلت هلن‪ :‬عسى ربه إن طلقكن أن‬
‫يبدله أزواجا خريا منكن‪ ،‬فنزلت كذلك‪.‬‬
‫وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر رضي هللا عنهما قال‪ :‬وافقت ريب يف ثالث‪ :‬يف احلجاب‪ ،‬ويف‬
‫أسرى بدر‪ ،‬ويف مقام إبراهيم‪.‬‬
‫وأخرج ابن أيب حامت عن أنس رضي هللا عنه قال‪ :‬قال عمر‪ :‬وافقت ريب أو وافقين ريب يف أربع نزلت‬
‫ني ‪ ...‬اآلية‪ .‬فلما نزلت قلت أان‪ :‬فتبارك هللا أحسن‬ ‫اإلنْسا َن ِم ْن ُساللَ ٍة ِم ْن ِط ٍ‬
‫هذه اآلية‪َ :‬ولََق ْد َخلَ ْقنَا ِْ‬
‫اَّلل أَحسن ْ ِِ‬
‫ني [سورة املؤمنون آية‪.]14 - 12 :‬‬ ‫اخلالق َ‬ ‫بار َك َُّ ْ َ ُ‬
‫اخلالقني فنزلت‪ :‬فَـتَ َ‬
‫يهوداي لقي عمر بن اخلطاب فقال‪ :‬إن جربيل الذي يذكر‬ ‫ّ‬ ‫وأخرج عن عبد الرمحن بن أيب ليلى‪ ،‬أن‬
‫يل َوِم َ‬
‫يكال فَِإ َّن َّ‬
‫اَّللَ َع ُد ٌّو‬ ‫ِ ِ ِ ِِ ِِ ِ‬
‫صاحبكم عدو لنا فقال عمر‪َ :‬م ْن كا َن َع ُد اوا ََّّلل َوَمالئ َكته َوُر ُسله َوج ِْرب َ‬
‫ِ ِ‬
‫ين [سورة البقرة آية‪ ]98 :‬قال‪ :‬فنزلت على لسان عمر‪.‬‬ ‫للْكاف ِر َ‬
‫وأخرج سنيد يف تفسريه‪ ،‬عن سعيد بن جبري‪ ،‬أن سعيد بن معاذ ملا مسع ما قيل يف أمر عائشة قال‪:‬‬
‫يم [سورة النور آية‪ ]16 :‬فنزلت كذلك‪ ،‬وأخرج ابن أخي ميمي يف فوائده‬ ‫ِ‬
‫ك هذا ُهبْتا ٌن َعظ ٌ‬
‫ُس ْبحانَ َ‬
‫عن سعيد بن املسيب قال‪ :‬كان رجالن من أصحاب النيب صلّى هللا عليه وسلم إذا مسعا شيئا من‬
‫ذلك قاال‪ :‬سبحانك هذا هبتان عظيم‪ .‬زيد بن حارثة‪ ،‬وأبو أيوب فنزلت كذلك‪.‬‬
‫وأخرج ابن أيب حامت‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬قال‪ :‬ملا أبطأ على النساء اخلرب يف أحد خرجن‬

‫(‪)54/1‬‬

‫يستخربن‪ ،‬فإذا رجالن مقبالن على بعري‪ ،‬فقالت امرأة‪ :‬ما فعل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم؟‬
‫َّخ َذ ِم ْن ُك ْم‬
‫قال‪ :‬حي‪ .‬قالت‪ :‬فال أابيل يتخذ هللا من عباده الشهداء‪ ،‬فنزل القرآن على ما قالت ويـت ِ‬
‫ََ‬
‫داء [سورة آل عمران آية‪.]140 :‬‬ ‫ُش َه َ‬
‫وقال ابن سعد يف الطبقات‪ :‬أخربان الواقدي‪ ،‬حدثين إبراهيم بن حممد بن شرحبيل العبدري‪ ،‬عن أبيه‪،‬‬
‫قال‪ :‬محل مصعب بن عمري اللواء يوم أحد‪ ،‬فقطعت يده اليمىن‪ ،‬فأخذ اللواء بيده اليسرى‪ ،‬وهو‬
‫مات أ َْو قُتِ َل انْـ َقلَْبـتُ ْم َعلى أَ ْعقابِ ُك ْم [سورة‬ ‫ت ِم ْن قَـ ْبلِ ِه ُّ‬
‫الر ُس ُل أَفَِإ ْن َ‬ ‫يقول‪َ :‬وما ُحمَ َّم ٌد إَِّال َر ُس ٌ‬
‫ول قَ ْد َخلَ ْ‬
‫آل عمران آية‪ُ .]144 :‬ث قطعت يده اليسرى‪ ،‬فحين على اللواء وضمه بعضديه إىل صدره‪ ،‬وهو‬
‫يقول‪َ :‬وما ُحمَ َّم ٌد إَِّال َر ُس ٌ‬
‫ول اآلية ُث قتل‪ ،‬فسقط اللواء‪ .‬قال حممد بن شرحبيل‪ :‬وما نزلت هذه اآلية‬
‫ول يومئذ حىت نزلت بعد ذلك‪.‬‬ ‫َوما ُحمَ َّم ٌد إَِّال َر ُس ٌ‬
‫«تذنيب» يقرب من هذا ما ورد يف القرآن على لسان غري الصحابة كالنيب عليه الصالة والسالم‬
‫جاء ُك ْم بَصائُِر ِم ْن َربِّ ُك ْم‬
‫وجربيل واملالئكة غري مصرح إبضافته إليهم وال حمكي ابلقول كقوله‪ :‬قَ ْد َ‬
‫[سورة األنعام آية‪ ]104 :‬اآلية‪ .‬فإن هذا وارد على لسانه صلّى هللا عليه وسلم لقوله آخرها‪َ :‬وما‬
‫اَّلل أَبْـتَ ِغي َح َكماً [سورة مرمي آية‪ ]114 :‬فإنه وارد أيضا على لسانه‪.‬‬ ‫يظ‪ .‬وقوله‪ :‬أَفَـغَري َِّ‬ ‫أ ََان علَي ُكم ِحب ِف ٍ‬
‫َْ‬ ‫َْ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫وقوله‪َ :‬وما نَـتَـنَـ َّز ُل إَِّال ِأبَ ْم ِر َربِّ َ‬
‫ك [سورة مرمي آية‪ .]64 :‬وارد على لسان جربيل‪ ،‬وقوله‪َ :‬وما منَّا إَِّال لَهُ‬
‫سبِّ ُحو َن [سورة الصافات آية‪164 :‬‬ ‫ِ‬
‫الصافو َن (‪َ )165‬وإ َّان لَنَ ْح ُن ال ُْم َ‬
‫وم (‪َ )164‬وإِ َّان لَنَ ْح ُن َّ ُّ‬ ‫قام َم ْعلُ ٌ‬
‫َم ٌ‬
‫ِ‬
‫ني [سورة الفاحتة آية‪ ]5 :‬وارد على‬ ‫‪ ]166 -‬وارد على لسان املالئكة‪ ،‬وكذا إِ َّاي َك نَـ ْعبُ ُد َوإِ َّاي َك نَ ْستَع ُ‬
‫ألسنة العباد‪ .‬إال أنه ميكن هنا تقدير القول‪ :‬أي قولوا‪ ،‬وكذا اآليتان األوليان يصح أن يقدر فيهما‬
‫«قل» خبالف الثالثة والرابعة‪ .‬اه‪ .‬من اإلتقان‪.‬‬

‫(‪)55/1‬‬

‫ما أتخر حكمه عن نزوله وما أتخر نزوله عن حكمه‬


‫قال الزركشي يف الربهان‪ :‬قد يكون النزول سابقا على احلكم كقوله‪ :‬قَ ْد أَفْـلَ َح َم ْن تَـ َزَّكى (‪َ )14‬وذَ َك َر‬
‫ِ‬
‫صلَّى [سورة األعلى آية‪ ،]15 ،14 :‬فقد روى البيهقي وغريه عن ابن عمر أهنا نزلت يف‬ ‫اس َم َربِّه فَ َ‬
‫ْ‬
‫زكاة الفطر‪ .‬وأخرج البزار حنوه مرفوعا‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬ال أدري ما وجه هذا التأويل؛ ألن السورة‬
‫مكية ومل يكن ِبكة عيد وال زكاة وال صوم‪.‬‬
‫ْس ُم ِهب َذا الْبَـلَ ِد (‪)1‬‬
‫وأجاب البغوي؛ أبنه جيوز أن يكون النزول سابقا على احلكم‪ ،‬كما قال‪ :‬ال أُق ِ‬
‫ت ِحلٌّ ِهب َذا الْبَـلَ ِد [سورة البلد آية‪ ]2 ،1 :‬فالسورة مكية وقد ظهر أثر احلل يوم فتح مكة حىت‬ ‫َوأَنْ َ‬
‫السالم‪ :‬أحلت يل ساعة من هنار‬ ‫قال عليه ّ‬
‫وكذلك نزلت ِبكة َسيُـ ْه َزُم ا ْجلَ ْم ُع َويُـ َولُّو َن ال ُّدبُـ َر [سورة القمر آية‪ ]45 :‬قال عمر بن اخلطاب‪:‬‬
‫أي مجع؟ فلما كان يوم بدر واهنزمت قريش نظرت إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يف‬ ‫فقلت‪ّ « :‬‬
‫الدبُـ َر فكانت ليوم بدر»‪ ،‬أخرجه الطرباين يف‬ ‫آاثرهم مصلتا ابلسيف يقول‪َ :‬سيُـ ْه َزُم ا ْجلَ ْم ُع َويُـ َولُّو َن ُّ‬
‫األوسط‪.‬‬
‫اب [سورة ص آية‪ .]11 :‬قال قتادة‪« :‬وعده هللا وهو‬ ‫َحز ِ‬ ‫ك مهز ِ‬ ‫ِ‬
‫وم م َن ْاأل ْ‬ ‫وكذلك قوله‪ُ :‬ج ْن ٌد ما ُهنال َ َ ْ ُ ٌ‬
‫يومئذ ِبكة أنه سيهزم جندا من املشركني فجاء أتويلها يوم بدر» [أخرجه ابن أيب حامت]‪.‬‬
‫ومثله أيضا قوله تعاىل‪ :‬قُل جاء ا ْحل ُّق وما يـب ِدئ ال ِ‬
‫ْباط ُل َوما يُِعي ُد [سورة سبأ آية‪.]49 :‬‬ ‫ْ َ َ َ ُْ ُ‬
‫جاء ا ْحلَ ُّق قال‪ :‬السيف‪ ،‬واآلية مكية متقدمة على‬
‫أخرج ابن أيب حامت عن ابن مسعود يف قوله قُ ْل َ‬
‫فرض القتال‪ ،‬ويؤيد تفسري ابن مسعود ما أخرجه الشيخان من حديثه أيضا قال‪ :‬دخل النيب صلّى‬
‫هللا عليه وسلم مكة يوم فتح مكة وحول الكعبة ثلثمائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود كان يف يده‬
‫ويقول‪ :‬جاء احلق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا‪ .‬وما يبدئ الباطل وما يعيد‪.‬‬
‫وقال ابن احلصار‪ :‬قد ذكر هللا الزكاة يف السور املكيات كثريا تصرحيا وتعريضا وأبن هللا سينجز وعده‬
‫لرسوله‪ ،‬ويقيم دينه‪ ،‬ويظهره حىت يفرض الصالة والزكاة وسائر الشرائع‪ ،‬ومل تؤخذ الزكاة إال ابملدينة‬
‫صادهِ [سورة األنعام آية‪ .]141 :‬وقوله‪:‬‬ ‫بال خالف‪ ،‬وأورد من ذلك قوله تعاىل‪ :‬وآتُوا ح َّقهُ يـوم ح ِ‬
‫َ َ َْ َ َ‬
‫آخ ُرو َن يُقاتِلُو َن ِيف‬
‫الزكاةَ [سورة املزمل آية‪ ،]20 :‬ومن ذلك قوله فيها‪َ :‬و َ‬ ‫الصالةَ َوآتُوا َّ‬
‫يموا َّ‬ ‫ِ‬
‫َوأَق ُ‬
‫يل َِّ‬
‫اَّلل‪.‬‬ ‫َسبِ ِ‬
‫ِ ِ‬
‫اَّلل و َع ِمل ِ‬ ‫ِ‬
‫صاحلاً‬ ‫س ُن قَـ ْوًال ممَّ ْن َدعا إ َىل َّ َ َ‬
‫َح َ‬
‫ومن ذلك قوله تعاىل‪َ :‬وَم ْن أ ْ‬

‫(‪)56/1‬‬

‫[سورة فصلت آية‪.]33 :‬‬


‫فقد قالت عائشة‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬ومجاعة‪ :‬إهنا نزلت يف املؤذنني واآلية مكية ومل يشرع األذان‬
‫إال ابملدينة‪.‬‬
‫ومن أمثلة ما أتخر نزوله عن حكمه‪ :‬آية الوضوء‪ .‬ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي هللا عنها‬
‫قالت‪ :‬سقطت قالدة يل ابلبيداء وحنن داخلون املدينة فأانخ رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬ونزل‬
‫فثىن رأسه يف حجري راقدا‪ ،‬وأقبل أبو بكر‪ ،‬فلكزين لكزة شديدة وقال‪:‬‬
‫حبست الناس يف قالدة‪ُ ،‬ث إن النيب صلّى هللا عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح‪ ،‬فالتمس املاء‬
‫الصالةِ إىل قوله لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن [سورة املائدة‬
‫آمنُوا إِذا قُ ْمتُ ْم إِ َىل َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫فلم يوجد‪ ،‬فنزلت‪ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫آية‪ ،]6 :‬فاآلية مدنية إمجاعا وفرض الوضوء كان ِبكة مع فرض الصالة‪.‬‬
‫يصل منذ فرضت عليه‬
‫قال ابن عبد الرب‪ :‬معلوم عند مجيع أهل املغازي أنه صلّى هللا عليه وسلم مل ّ‬
‫الصالة إال بوضوء‪ ،‬وال يدفع ذلك إال جاهل أو معاند‪ .‬قال‪ :‬واحلكمة يف نزول آية الوضوء مع تقدم‬
‫متلوا ابلتنزيل‪.‬‬
‫العمل به؛ ليكون فرضه ّ‬
‫وقال غريه‪ :‬حيتمل أن يكون أول اآلية نزل مقدما مع فرض الوضوء‪ُ ،‬ث نزل بقيتها‪ ،‬وهو ذكر التيمم‬
‫يف هذه القصة‪ .‬قلت‪ :‬يرده اإلمجاع على أن اآلية مدنية‪.‬‬
‫ومن أمثلته أيضا‪ :‬آية اجلمعة فإهنا مدنية واجلمعة فرضت ِبكة‪ .‬وقول ابن الغرس‪:‬‬
‫إن إقامة اجلمعة مل تكن ِبكة قط‪ ،‬يرده ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرمحن بن كعب ابن مالك‪،‬‬
‫قال‪ :‬كنت قائد أيب حني ذهب بصره‪ ،‬فكنت إذا خرجت به إىل اجلمعة فسمع األذان‪ ،‬يستغفر أليب‬
‫أمامة‪ ،‬أسعد بن زرارة‪ ،‬فقلت‪ :‬اي أبتاه أرأيت صالتك على أسعد بن زرارة كلما مسعت النداء ابجلمعة‬
‫مل هذا؟ قال‪ :‬أي بين‪ :‬كان أول من صلى بنا اجلمعة قبل مقدم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم من‬
‫مكة‪.‬‬
‫قات لِ ْل ُف َقر ِاء [سورة التوبة آية‪ .]60 :‬فإهنا نزلت سنة تسع‪،‬‬ ‫ومن أمثلته أيضا قوله تعاىل‪ :‬إِ َّمنَا َّ‬
‫الص َد ُ‬
‫وقد فرضت الزكاة قبلها يف أوائل اهلجرة‪ .‬قال ابن احلصار‪ :‬فقد يكون‬
‫مصرفها قبل ذلك معلوما ومل يكن فيه قرآن متلو‪ ،‬كما كان الوضوء معلوما قبل نزول اآلية‪ُ ،‬ث نزلت‬
‫تالوة القرآن أتكيدا به‪.‬‬

‫(‪)57/1‬‬

‫إعجاز القرآن الكرمي‬


‫قال السيوطي يف اإلتقان‪ :‬أفرده ابلتصنيف خالئق منهم اخلطايب والرماين والزملكاين واإلمام الرازي‬
‫وابن سراقة‪ ،‬والقاضي أبو بكر الباقالين‪ ،‬قال ابن العريب‪:‬‬
‫ومل يصنف مثل كتابه (أي الباقالين)‪.‬‬
‫اعلم أن املعجزة أمر خارق للعادة مقرون ابلتحدي سامل عن املعارضة‪.‬‬
‫وهي إما حسية وإما عقلية‪ ،‬وأكثر معجزات بين إسرائيل كانت حسية لبالدهتم وقلة بصريهتم‪ ،‬وأكثر‬
‫معجزات هذه األمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم‪ ،‬وألن هذه الشريعة ملا كانت ابقية على‬
‫صفحات الدهر إىل يوم القيامة خصت ابملعجزة العقلية الباقية لرياها ذوو البصائر‪ ،‬كما قال صلّى هللا‬
‫عليه وسلم‪« :‬ما من األنبياء نيب إال أعطي ما مثله آمن عليه البشر‪ ،‬وإمنا كان الذي أوتيته وحيا‬
‫إيل‪ ،‬فأرجو أن أكون أكثرهم اتبعا» أخرجه البخاري‪ .‬قيل إن معناه‪ :‬أن معجزات األنبياء‬
‫أوحاه هللا ّ‬
‫انقرضت ابنقراض أعصارهم فلم يشاهدها إال من حضرها‪ ،‬ومعجزة القرآن مستمرة إىل يوم القيامة يف‬
‫خرقه العادة أبسلوبه وبالغته وإخباره ابملغيبات فال مير عصر‪ ،‬من األعصار‪ ،‬إال ويظهر فيه شيء مما‬
‫أخرب به أنه سيكون مما يدل على صحة دعواه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬املعىن أن املعجزات الواضحة املاضية كانت حسية تشاهد ابألبصار كناقة صاحل‪ ،‬وعصا‬
‫موسى‪ ،‬ومعجزات القرآن تشاهد ابلبصرية فيكون من يتبعه ألجلها أكثر‪ ،‬ألن الذي يشاهد بعني‬
‫الرأس ينقرض ابنقراض مشاهده‪ ،‬والذي يشاهد بعني العقل ابق يشاهده كل من جاء بعد األول‬
‫مستمرا‪.‬‬
‫قال يف فتح الباري‪ :‬وميكن نظم القولني يف كالم واحد‪ ،‬فإن حمصلهما ال ينايف بعضه بعضا‪ ،‬وال‬
‫خالف بني العقالء‪ :‬أن كتاب هللا تعاىل معجز‪ ،‬مل يقدر أحد على معارضته بعد حتديهم بذلك‪.‬‬
‫قال تعاىل‪ :‬وإِ ْن أَح ٌد ِمن الْم ْش ِركِني استجار َك فَأَ ِجره ح َّىت يسمع َكالم َِّ‬
‫اَّلل [سورة التوبة آية‪.]6 :‬‬ ‫ُْ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َْ َ‬
‫فلوال أن مساعه حجة عليه مل يقف أمره على مساعه وال يكون حجة إال وهو معجزة‪.‬‬
‫ايت ِع ْن َد َِّ‬
‫آايت ِم ْن َربِِّه قُ ْل إِ َّمنَا ْاآل ُ‬
‫اَّلل َوإِ َّمنا أ ََان نَ ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫ني (‪ )50‬أ ََوَملْ‬ ‫وقال تعاىل‪َ :‬وقالُوا لَ ْوال أُنْ ِز َل َعلَْي ِه ٌ‬
‫تاب يُـ ْتلى َعلَْي ِه ْم [سورة العنكبوت آية‪.]51 ،50 :‬‬ ‫ْف ِهم أ ََّان أَنْـزلْنا َعلَي َ ِ‬
‫ِ‬
‫ك الْك َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يَك ْ‬
‫فأخرب أن الكتاب آايت من آايته كاف يف الداللة قائم مقام معجزات غريه‪ ،‬وآايت‬

‫(‪)58/1‬‬

‫من سواه من األنبياء‪ ،‬وملا جاء به النيب صلّى هللا عليه وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع‬
‫اخلطباء وحتداهم على أن أيتوا ِبثله‪ ،‬وأمهلهم طول السنني‪ ،‬فلم يقدروا كما قال تعاىل‪ :‬فَـلْيَأْتُوا‬
‫ِِ‬ ‫ِحب ِد ٍ ِ ِ ِ‬
‫ني [سورة الطور آية‪ُ ،]34 :‬ث حتداهم بعشر سور منه يف قوله تعاىل‪ :‬أ َْم‬ ‫يث مثْله إِ ْن كانُوا صادق َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬ ‫ون َِّ‬
‫ايت وا ْد ُعوا م ِن استَطَ ْعتُم ِمن ُد ِ‬ ‫يـ ُقولُو َن افْ َرتاهُ قُل فَأْتُوا بِع ْش ِر سوٍر ِمثْلِ ِه م ْف َ ٍ‬
‫اَّلل إِ ْن ُك ْنـتُ ْم صادق َ‬
‫ني‬ ‫َ ْ ْ ْ‬ ‫رت َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اَّلل [سورة هود آية‪ُ .]14 ،13 :‬ث حتداهم بسورة‬ ‫(‪ )13‬فَِإ َّمل يست ِجيبوا لَ ُكم فَا ْعلَموا أ ََّمنا أُنْ ِز َل بِ ِعل ِْم َِّ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ َْ ُ‬
‫ورةٍ ِمثْلِ ِه ‪[ ...‬سورة يونس آية‪ُ ،]38 :‬ث كرر يف قوله‪َ :‬وإِ ْن‬ ‫سَ‬
‫ِ‬
‫يف قوله‪ :‬أ َْم يَـ ُقولُو َن افْ َرتاهُ قُ ْل فَأْتُوا ب ُ‬
‫ورةٍ ِم ْن ِمثْلِ ِه ‪[ ....‬سورة البقرة آية‪ ،]23 :‬فلما عجزوا‬ ‫سَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب ممَّا نَـ َّزلْنا َعلى َعبْدان فَأْتُوا ب ُ‬
‫ُك ْنـتم ِيف ري ٍ ِ‬
‫ُ ْ َْ‬
‫عن معارضته واإلتيان بسورة تشبهه على كثرة اخلطباء فيهم والبلغاء‪ ،‬اندى عليهم إبظهار العجز‬
‫اإلنْس وا ْجلِ ُّن َعلى أَ ْن أيْتُوا ِِبِثْ ِل ه َذا الْ ُقر ِ‬ ‫وإعجاز القرآن الكرمي فقال‪ :‬قُل لَئِ ِن ْ ِ‬
‫آن ال َأيْتُو َن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اجتَ َم َعت ِْ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫ض ظَ ِهرياً [سورة اإلسراء آية‪ ]88 :‬فهذا‪ ،‬وهم الفصحاء اللّ ّد وقد كانوا‬ ‫ض ُه ْم لِبَـ ْع ٍ‬
‫ِِبِثْلِ ِه َولَ ْو كا َن بَـ ْع ُ‬
‫أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره‪ ،‬فلو كان يف مقدرهتم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة‪،‬‬
‫ومل ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك وال رامه‪ ،‬بل عدلوا إىل العناد اترة وإىل‬
‫االستهزاء أخرى‪ ،‬فتارة قالوا سحر‪ ،‬واترة قالوا شعر‪ ،‬واترة قالوا أساطري األولني‪ ،‬كل ذلك من التحري‬
‫واالنقطاع‪ُ ،‬ث رضوا بتحكيم السيف يف أعناقهم وسيب ذراريهم وحرمهم‪ ،‬واستباحة أمواهلم‪ ،‬وقد كانوا‬
‫آنف شيء وأشده محية‪ ،‬فلو علموا أن اإلتيان ِبثله يف قدرهتم لبادروا إليه؛ ألنه كان أهون عليهم‪.‬‬
‫كيف وقد أخرج احلاكم عن ابن عباس قال‪ :‬جاء الوليد بن املغرية إىل النيب صلّى هللا عليه وسلم فقرأ‬
‫عليه القرآن فكأنه رق له‪ ،‬فبلغ ذلك أاب جهل فأاته فقال‪ :‬اي عم إن قومك يريدون أن جيمعوا لك‬
‫ماال ليعطوكه لئال أتيت حممدا لتتعرض ملا قاله‪ ،‬قال‪ :‬قد علمت قريش أين من أكثرها ماال‪ ،‬قال‪ :‬فقل‬
‫فيه قوال يبلغ قومك أنك كاره له‪ ،‬قال‪ :‬وماذا أقول؟‬
‫فو هللا ما فيكم رجل أعلم ابلشعر مين‪ ،‬وال برجزه‪ ،‬وال بقصيده‪ ،‬وال أبشعار اجلن‪ ،‬وهللا ما يشبه‬
‫الذي نقول شيئا من هذا‪ ،‬وهللا إن لقوله الذي يقول حلالوة وإن عليه لطالوة‪ ،‬وإنه ملثمر أعاله‪،‬‬
‫مغدق أسفله‪ ،‬وإنه ليعلو وال يعلى عليه‪ ،‬وإنه ليحطم ما حتته‪ ،‬قال‪ :‬ال يرضى عنك قومك حىت تقول‬
‫فيه‪ ،‬قال‪ :‬فدعين حىت أفكر‪ ،‬فلما فكر قال‪ :‬هذا سحر يؤثر أيثره عن غريه‪.‬‬
‫قال اجلاحظ‪ :‬بعث هللا حممدا صلّى هللا عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا‪ ،‬وأحكم ما‬

‫(‪)59/1‬‬

‫كانت لغة وأشد ما كانت عدة‪ ،‬فدعا أقصاها وأدانها إىل توحيد هللا وتصديق رسالته‪ ،‬فدعاهم ابحلجة‬
‫فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي مينعهم من اإلقرار اهلوى واحلمية دون اجلهل واحلرية‪،‬‬
‫محلهم على حظهم ابلسيف فنصب هلم احلرب ونصبوا له‪ ،‬وقتل من عليتهم وأعالمهم‪ ،‬وأعمامهم‪،‬‬
‫وبين أعمامهم‪ ،‬وهو يف ذلك حيتج‬
‫عليهم ابلقرآن ويدعوهم صباحا ومساء إىل أن يعارضوه‪ ،‬إن كان كاذاب بسورة واحدة أو ِبايت‬
‫شف عن نقصهم ما كان مستورا‪ ،‬وظهر‬
‫يسرية‪ ،‬فكلما ازداد حتداي هلم هبا‪ ،‬وتقريعا لعجزهم عنها تك ّ‬
‫منه ما كان خفيّا‪ ،‬فحني مل جيدوا حيلة وال حجة قالوا له‪ :‬أنت تعرف من أخبار األمم ما ال نعرف‪،‬‬
‫فلذلك ميكنك ما ال ميكننا‪ ،‬قال‪ :‬فهاتوها مفرتايت فلم يرم ذلك خطيب‪ ،‬وال طمع فيه شاعر‪ ،‬وال‬
‫رغب فيه ليتكلفه‪ ،‬ولو تكلفه لظهر ذلك‪ ،‬ولو ظهر لوجد من يستجيده وحيامي عليه ويكابر فيه‪،‬‬
‫ويزعم أنه قد عارض وقابل وانقض‪ ،‬فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كالمهم‪ ،‬واستحالة‬
‫لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم‪ ،‬وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء‬
‫أمته؛ ألن سورة واحدة وآايت يسرية كانت أنقض لقوله‪ ،‬وأفسد ألمره‪ ،‬وأبلغ يف تكذيبه‪ ،‬وأسرع يف‬
‫تفريق أتباعه من بذل النفوس واخلروج من األوطان وإنفاق األموال‪.‬‬

‫أوجه اإلعجاز‬
‫ملا ثبت كون القرآن معجزة نبينا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وجب االهتمام ِبعرفة أوجه اإلعجاز وقد‬
‫خاض الناس يف ذلك كثريا فبني حمسن ومسيء‪.‬‬
‫فزعم قوم أن التحدي وقع ابلكالم القدمي الذي هو صفة الذات‪ ،‬وأن العرب كلفت يف ذلك ما ال‬
‫يطاق وبه وقع عجزها‪ ،‬وهو مردود ألن ما ال ميكن الوقوف عليه ال يتصور التحدي به‪ ،‬والصواب ما‬
‫قاله اجلمهور أنه وقع ابلدال على القدمي وهو األلفاظ‪.‬‬
‫ُث زعم النظام‪ :‬أن إعجازه ابلصرفة‪ :‬أي أن هللا صرف العرب عن معارضته وسلب عقوهلم‪ ،‬وكان‬
‫مقدورا هلم‪ ،‬لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر املعجزات‪ ،‬وهذا قول فاسد بدليل‪ :‬قُ ْل لَئِ ِن‬
‫س َوا ْجلِ ُّن ‪[ ...‬سورة اإلسراء آية‪ ،]88 :‬فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهتم‪ ،‬ولو‬ ‫ْ ِ ِ‬
‫اجتَ َم َعت ْاإلنْ ُ‬
‫سلبوا القدرة مل تبق فائدة الجتماعهم ملنزلته منزلة اجتماع املوتى‪ ،‬وليس عجز املوتى مما حيتفل بذكره‪،‬‬
‫هذا مع اإلمجاع منعقد على إضافة اإلعجاز إىل القرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز‪،‬‬
‫بل املعجز هو هللا تعاىل حيث سلبهم القدرة على اإلتيان ِبثله؟!‬

‫(‪)60/1‬‬

‫وأيضا‪ -‬فيلزم من القول ابلصرفة زوال اإلعجاز بزوال زمن التحدي‪ ،‬وخلو القرآن من اإلعجاز‪ ،‬ويف‬
‫ذلك خرق إلمجاع األمة أن معجزة الرسول صلّى هللا عليه وسلم العظمى ابقية وال معجزة له ابقية‬
‫سوى القرآن الكرمي‪.‬‬
‫قال القاضي أبو بكر‪ :‬ومما يبطل القول ابلصرفة أنه لو كانت املعارضة ممكنة وإمنا منع منها الصرفة مل‬
‫يكن الكالم معجزا وإمنا يكون ابملنع معجزا فال يتضمن الكالم فضيلة على غريه يف نفسه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وليس هذا أبعجب من قول فريق منهم‪ :‬إن الكل قادرون على اإلتيان ِبثله‪ ،‬وإمنا أتخروا عنه لعدم‬
‫العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به‪ ،‬وال أبعجب من قول آخرين‪ :‬إن العجز وقع منهم‪ ،‬وأما‬
‫من بعدهم ففي قدرته اإلتيان ِبثله وكل هذا ال يعتد به‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬وجه إعجازه ما فيه من اإلخبار عن الغيوب املستقبلة ومل يكن ذلك من شأن العرب‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬ما تضمنه من اإلخبار عن قصص األولني وسائر املتقدمني حكاية من شاهدها‬
‫وحضرها‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬ما تضمنه من اإلخبار عن الضمائر من غري أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله‪:‬‬
‫تان ِم ْن ُك ْم أَ ْن تَـ ْف َ‬
‫شال [سورة آل عمران آية‪َ ،]122 :‬ويَـ ُقولُو َن ِيف أَنْـ ُف ِس ِه ْم لَ ْوال يُـ َع ِّذبُـنَا‬ ‫َّت طائَِف ِ‬
‫إِ ْذ َمه ْ‬
‫اَّللُ [سورة اجملادلة آية‪.]8 :‬‬ ‫َّ‬
‫وقال القاضي أبو بكر‪ :‬وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والرتصيف وأنه خارج عن مجيع وجوه‬
‫النظم املعتاد يف كالم العرب ومباين ألساليب خطاابهتم‪ ،‬قال‪ :‬وهلذا مل ميكنهم معارضته‪ ،‬قال‪ :‬وال‬
‫سبيل إىل معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع اليت أودعوها يف الشعر؛ ألنه ليس مما خيرق العادة‬
‫بل ميكن استدراكه ابلعلم والتدريب والتصنع به‪ ،‬كقول الشعر‪ ،‬ووصف اخلطب‪ ،‬وصناعة الرسالة‬
‫واحلذق يف البالغة‪ ،‬وله طريق تسلك فأما شأو ونظم القرآن فليس له مثال حيتذى‪ ،‬وال إمام يقتدى‬
‫به‪ ،‬وال يصح وقوع مثله اتفاقا‪ ،‬قال‪ :‬وحنن نعتقد أن اإلعجاز يف بعض القرآن أظهر ويف بعضه أدق‬
‫وأغمض‪.‬‬
‫وقال اإلمام فخر الدين‪ :‬وجه اإلعجاز الفصاحة‪ ،‬وغرابة األسلوب‪ ،‬والسالمة من مجيع العيوب‪.‬‬
‫وقال ابن عطية‪ :‬الصحيح الذي عليه اجلمهور واحلذاق يف وجه إعجازه‪ ،‬أنه بنظمه وصحة معانيه‬
‫وتوايل فصاحة ألفاظه‪ ،‬وذلك أن هللا أحاط بكل شيء علما‪ ،‬وأحاط‬

‫(‪)61/1‬‬

‫ابلكالم كله‪ ،‬فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم إبحاطته أي لفظة تصلح‪ ،‬أن تلي األوىل وتبني املعىن‬
‫بعد املعىن‪ُ ،‬ث كذلك من أول القرآن إىل آخره‪ ،‬والبشر يعمهم اجلهل والنسيان والذهول‪ ،‬ومعلوم‬
‫ضرورة أن أحدا من البشر ال حييط بذلك‪ ،‬فبهذا جاء نظم القرآن يف الغاية القصوى من الفصاحة‪،‬‬
‫وهبذا يبطل قول من قال‪ :‬إن العرب كان يف قدرهتا اإلتيان ِبثله فصرفوا عن ذلك‪ ،‬والصحيح أنه مل‬
‫يكن يف قدرة أحد قط وهلذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو اخلطبة حوال‪ُ ،‬ث ينظر فيها فيغري فيها وهلم‬
‫جرا‪ ،‬وكتاب هللا تعاىل لو نزعت منه لفظة ُث أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها‪ ،‬مل يوجد وحنن‬
‫يتبني لنا الرباعة يف أكثره‪ ،‬وخيفى علينا وجهها يف مواضع لقصوران عن مرتبة العرب يومئذ يف سالمة‬
‫الذوق وجودة القرحية‪.‬‬
‫وقامت احلجة على العامل ابلعرب إذ كانوا أرابب الفصاحة ومظنة املعارضة‪ ،‬كما قامت احلجة يف‬
‫معجزة موسى ابلسحرة‪ ،‬ويف معجزة عيسى ابألطباء‪ ،‬فإن هللا إمنا جعل معجزات األنبياء ابلوجه‬
‫الشهري الذي هو أبدع ما يكون يف زمن النيب الذي أراد إظهاره‪ ،‬فكان السحر قد انتهى يف مدة‬
‫موسى إىل غايته‪ ،‬وكذلك الطب يف زمن عيسى والفصاحة يف زمن حممد صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال حازم يف منهاج البلغاء‪ :‬وجه اإلعجاز يف القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبالغة فيه من‬
‫مجيع أحنائها يف مجيعه استمرارا ال يوجد له فرتة‪ ،‬وال يقدر عليه أحد‬
‫من البشر‪ ،‬وكالم العرب ومن تكلم بلغتهم ال تستمر الفصاحة والبالغة يف مجيع أحنائها يف العايل منه‬
‫إال يف الشيء اليسري املعدود‪ُ ،‬ث تعرض الفرتات اإلنسانية فينقطع طيب الكالم ورونقه‪ ،‬فال تستمر‬
‫لذلك الفصاحة يف مجيعه‪ ،‬بل توجد يف تفاريق وأجزاء منه‪.‬‬
‫وقال اخلطايب‪ :‬إن القرآن إمنا صار معجزا؛ ألنه جاء أبفصح األلفاظ يف أحسن نظوم التأليف‪ ،‬مضمنا‬
‫أصح املعاين من توحيد هللا تعاىل‪ ،‬وتنزيهه يف صفاته‪ ،‬ودعائه إىل طاعته‪ ،‬وبيان لطريق عبادته‪ ،‬من‬
‫حتليل وحترمي وحظر وإابحة‪ ،‬ومن وعظ وتقومي وأمر ِبعروف وهني عن منكر وإرشاد إىل حماسن‬
‫األخالق وزجر عن مساويها‪ ،‬واضعا كل شيء منها موضعه الذي ال يرى شيء أوىل منه‪ ،‬وال يتوهم‬
‫يف صورة العقل أمر أليق به منه‪ ،‬مودعا أخبار القرون املاضية وما نزل منها من مثالت هللا ِبن مضى‬
‫وعائدا منهم منبئا عن الكوائن املستقبلة يف األعصار اآلتية من الزمان‪ ،‬جامعا يف ذلك بني احلجة‬
‫واحملتج له والدليل واملدلول عليه‪ ،‬ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأدل على وجوب ما أمر به‬
‫وهنى عنه‪ ،‬ومعلوم أن اإلتيان ِبثل هذه األمور واجلمع بني أشتاهتا حىت تنتظم‬

‫(‪)62/1‬‬

‫وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر‪ ،‬وال تبلغه قدرهتم‪ ،‬فانقطع اخللق دونه وعجزوا عن معارضته ِبثله‬
‫أو مناقضته يف شكله‪ُ ،‬ث صار املعاندون له يقولون مرة‪ :‬إنه شعر ملا رأوه منظوما‪ ،‬ومرة‪ :‬إنه سحر ملا‬
‫رأوه معجوزا عنه غري مقدور عليه‪ ،‬وقد كانوا جيدون له وقعا يف القلوب‪ ،‬وقرعا يف النفوس يرهبهم‬
‫وحيريهم‪ ،‬فلم يتمالكوا أن يعرتفوا به نوعا من االعرتاف‪ ،‬ولذلك قالوا‪ :‬إن له حلالوة وإن عليه‬
‫لطالوة‪ ،‬وكانوا مرة جبهلهم يقولون‪ :‬أساطري األولني اكتتبها فهي متلى عليه بكرة وأصيال‪ ،‬مع علمهم‬
‫أن صاحبهم أمي وليس حبضرته من ميلي أو يكتب يف حنو ذلك من األمور‪ ،‬اليت أوجبها العناد واجلهل‬
‫والعجز‪.‬‬
‫ُث قال‪ :‬وقد قلت يف إعجاز القرآن وجها‪ ،‬ذهب عنه الناس وهو صنيعه يف القلوب وأتثريه يف‬
‫النفوس‪ ،‬فإنك ال تسمع كالما غري القرآن منظوما وال منثورا‪ ،‬إذا قرع السمع خلص منه إىل القلب‬
‫من اللذة واحلالوة ما ال مثيل له‪.‬‬
‫خاشعاً متص ِّدعاً ِمن َخ ْشي ِة َِّ‬
‫اَّلل [سورة احلشر آية‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪ :‬لَو أَنْـزلْنا ه َذا الْ ُقرآ َن َعلى جب ٍل لَرأَيـتَهُ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َُ َ‬ ‫ََ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫‪.]21‬‬
‫ش ْو َن َرَّهبُ ْم‬
‫ين خيَْ َ‬ ‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ جلُ ُ َّ ِ‬ ‫يث كِتاابً متَ ِ‬
‫شاهباً َم ِ‬ ‫َحسن ا ْحل ِد ِ‬ ‫وقال هللا تعاىل‪َّ :‬‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ثاينَ تَـ ْق َ‬ ‫ُ‬ ‫اَّللُ نَـ َّز َل أ ْ َ َ َ‬
‫[سورة الزمر آية‪.]23 :‬‬
‫وقال القاضي عياض يف «الشفا»‪ :‬اعلم أن القرآن منطو على وجوه من اإلعجاز كثرية وحتصيلها من‬
‫جهة ضبط أنواعها يف أربعة وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬حسن أتليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إجيازه وبالغته اخلارقة عادة العرب‪ ،‬الذين هم‬
‫فرسان الكالم وأرابب هذا الشأن‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬صورة نظمه العجيب واألسلوب الغريب؛ املخالف ألساليب كالم العرب‪ ،‬ومنها نظمها ونثرها‬
‫الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آايته‪ ،‬وانتهت إليه فواصل كلماته ومل يوجد قبله وال بعده نظري‬
‫له‪ ،‬قال‪ :‬وكل واحد من هذين النوعني اإلجياز والبالغة بذاهتا واألسلوب الغريب بذاته نوع إعجاز‬
‫على التحقيق‪ ،‬مل تقدر العرب على اإلتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرهتا‪ ،‬مباين‬
‫لفصاحتها وكالمها‪ ،‬خالفا ملن زعم أن اإلعجاز يف جمموع البالغة واألسلوب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما انطوى عليه من اإلخبار ابملغيبات‪ ،‬وما مل يكن فوجد كما ورد‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة واألمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان ال يعلم منه القصة‬
‫الواحدة‪ ،‬إال الفذ يف أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره يف تعلم‬

‫(‪)63/1‬‬

‫ذلك‪ ،‬فيورده صلّى هللا عليه وسلم على وجهه وأييت به على نصه‪ ،‬وهو أمي ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فهذه الوجوه األربعة من إعجازه بينة ال نزاع فيها‪.‬‬
‫ومن الوجوه يف إعجازه غري ذلك‪ :‬آي وردت بتعجيز قوم يف قضااي وإعالمهم أهنم ال يفعلوهنا‪ ،‬فما‬
‫ني (‪َ )94‬ولَ ْن يَـتَ َمنـ َّْوهُ أَبَداً ِِبا‬‫ِِ‬
‫ت إِ ْن ُك ْنـتُ ْم صادق َ‬
‫َّوا ال َْم ْو َ‬
‫فعلوه وال قدروا على ذلك كقوله لليهود‪ :‬فَـتَ َمنـ ُ‬
‫ت أَيْ ِدي ِه ْم [سورة البقرة آية‪ ]95 ،94 :‬فما متناه أحد منهم وهذا الوجه داخل يف الوجه الثالث‪.‬‬ ‫َّم ْ‬
‫قَد َ‬
‫ومنها‪ :‬الروعة اليت تلحق قلوب سامعيه عند مساعهم‪ ،‬واهليبة اليت تعرتيهم عند تالوته‪ ،‬وقد أسلم‬
‫مجاعة عند مساع آايت منه‪ ،‬كما وقع جلبري بن مطعم أنه مسع النيب صلّى هللا عليه وسلم يقرأ يف‬
‫املغرب «ابلطور» قال‪ :‬فلما بلغ هذه اآلية‪ :‬أ َْم ُخلِ ُقوا ِم ْن غَ ِْري َش ْي ٍء أ َْم ُه ُم ْ‬
‫اخلالُِقو َن (‪ )35‬أ َْم َخلَ ُقوا‬
‫ص ْي ِط ُرو َن [سورة الطور آية‪:‬‬ ‫ض بَ ْل ال يُوقِنُو َن (‪ )36‬أ َْم ِع ْن َد ُه ْم َخزائِ ُن َربِّ َ‬
‫ك أ َْم ُه ُم ال ُْم َ‬
‫الس ِ‬
‫ماوات َو ْاأل َْر َ‬ ‫َّ‬
‫‪ ]37 - 35‬فقال‪ :‬كاد قليب أن يطري‪ ،‬قال‪ :‬وذلك أول ما وقر اإلسالم يف قليب‪ ،‬وقد مات مجاعة‬
‫عند مساع آايت منه أفردوا ابلتصنيف‪.‬‬
‫ُث قال‪ :‬ومن وجوه إعجازه كونه آية ابقية ال يعدم ما بقيت الدنيا مع ما تكفل هللا حبفظه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن قارئه ال ميله وسامعه ال ميجه بل اإلكباب على تالوته يزيده حالوة‪ ،‬وترديده يوجب له‬
‫حمبة‪ ،‬وغريه من الكالم يعادى إذا أعيد وميل مع الرتديد‪ ،‬وهلذا وصف صلّى هللا عليه وسلم القرآن‬
‫أبنه ال خيلق على كثرة الرد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬مجعه لعلوم ومعارف مل جيمعها كتاب من الكتب وال أحاط بعلمها أحد يف كلمات قليلة‬
‫وأحرف معدودة‪ ،‬قال‪ :‬وهذا الوجه داخل يف بالغته فال جيب أن يعد فنّا مفردا يف إعجازه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫واألوجه اليت قبله تعد يف خواصه وفضائله ال إعجازه وحقيقة اإلعجاز الوجوه األربعة األول فليعتمد‬
‫عليها‪ .‬اه‪.‬‬

‫(‪)64/1‬‬

‫آداب تالوته وكيفيتها‬


‫اعلم أنه ينبغي ملح موقع النعم على من علمه هللا تعاىل القرآن العظيم أو بعضه‪ ،‬بكونه أعظم‬
‫املعجزات‪ ،‬لبقائه ببقاء دعوة اإلسالم‪ ،‬ولكونه صلّى هللا عليه وسلم خامت األنبياء‬
‫واملرسلني‪ ،‬فاحلجة ابلقرآن العظيم قائمة على كل عصر وزمان؛ ألنه كالم رب العاملني‪ ،‬وأشرف كتبه‬
‫جل وعال‪ ،‬فليعلم من عنده القرآن أن هللا أنعم عليه نعمة عظيمة‪ ،‬وليستحضر من أفعاله أن يكون‬
‫القرآن حجة له ال عليه؛ ألن القرآن مشتمل على طلب أمور‪ ،‬والكف عن أمور‪ ،‬وذكر أخبار قوم‬
‫قامت عليهم احلجة فصاروا عربة للمعتربين حني زاغوا فأزاغ هللا قلوهبم‪ ،‬وأهلكوا ملا عصوا‪ ،‬وليحذر‬
‫من علم حاهلم أن يعصي‪ ،‬فيصري مآله مآهلم‪ ،‬فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه طريقا‬
‫لكتاب هللا تعاىل‪ ،‬وأن صدره مصحف له‪ ،‬امتنعت نفسه املوفقة عن الرذائل‪ ،‬وأقبلت على العمل‬
‫الصاحل اهلائل‪ .‬وأكرب معني على ذلك حسن ترتيله وتالوته‪ ،‬قال هللا تعاىل لنبيه صلّى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫ْث‬ ‫ُ‬ ‫َوَرتِّ ِل الْ ُق ْرآ َن تَـ ْرتِ ًيال [سورة املزمل آية‪ .]4 :‬وقال تعاىل‪َ :‬وقُـ ْرآانً فَـ َرقْناهُ لِتَـ ْق َرأَهُ َعلَى النَّ ِ‬
‫اس َعلى مك ٍ‬
‫َونَـ َّزلْناهُ تَـ ْن ِز ًيال [سورة اإلسراء آية‪ .]106 :‬فحق على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتله‪ ،‬وكمال‬
‫ترتيله تفخيم ألفاظه واإلابنة عن حروفه‪ ،‬واإلفصاح جلميعه ابلتدبر حىت ينتفع بكل ما يقرأ‪ ،‬وأن‬
‫يسكت بني النّفس والنفس حىت يرجع إليه نفسه‪ ،‬وأال يدغم حرفا يف حرف؛ ألن أقل ما يف ذلك أن‬
‫يسقط من حسناته بعضها‪ ،‬وينبغي للناس أن يرغبوا يف تكثري حسناهتم؛ فهذا الذي وصفت أقل ما‬
‫جيب من الرتتيل‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬أقل الرتتيل أن أييت ِبا يبني ما يقرؤه‪ ،‬وإن كان مستعجال يف قراءته‪ ،‬وأكمله أن يتوقف فيها‪ ،‬ما‬
‫مل خيرجه إىل التمديد والتمطيط؛ فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الرتتيل فليقرأه على منازله‪ ،‬فإن كان‬
‫يقرأ هتديدا لفظ به لفظ املتهدد‪ ،‬وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم‪.‬‬
‫وينبغي أن يشتغل قلبه يف التفكر يف معىن ما يلفظ بلسانه‪ ،‬فيعرف من كل آية معناها‪ ،‬وال جياوزها إىل‬
‫غريها حىت يعرف معناها‪ ،‬فإذا مر ِبية رمحة وقف عندها وفرح ِبا وعده هللا تعاىل منها‪ ،‬واستبشر إىل‬
‫ذلك‪ ،‬وسأل هللا برمحته اجلنة‪ .‬وإن قرأ آية عذاب وقف عندها‪ ،‬وأتمل معناها؛ فإن كانت يف‬
‫الكافرين اعرتف ابإلميان‪ ،‬فقال‪ :‬آمنا ابهلل وحده‪ ،‬وعرف موضع التخويف‪ُ ،‬ث سأل هللا تعاىل أن‬
‫يعيذه من النار‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا وقف عندها‪-‬‬ ‫وإن هو مر ِبية فيها نداء للذين آمنوا فقال‪ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َ‬

‫(‪)65/1‬‬

‫وقد كان بعضهم يقول‪ :‬لبيك ريب وسعديك‪ -‬ويتأمل ما بعدها مما أمر به وهنى عنه‪.‬‬
‫وذلك إذا قرأ يف غري الصالة‪.‬‬
‫وتكره قراءة القرآن بال تدبر‪ ،‬وعليه حيمل حديث عبد هللا بن عمرو‪« :‬ال يفقه من قرأ القرآن يف أقل‬
‫من ثالث» [رواه أبو داود والرتمذي والنسائي وقال الرتمذي‪ :‬حديث حسن صحيح]‪.‬‬
‫وقول ابن مسعود ملن أخربه أنه يقوم ابلقرآن يف ليلة‪ :‬أه ّذا (سرعة) كه ّذ الشعر! وكذلك قوله صلّى‬
‫هللا عليه وسلم يف صفة اخلوارج‪« :‬يقرءون القرآن ال جياوز تراقيهم وال حناجرهم» ذمهم إبحكام‬
‫ألفاظه‪ ،‬وترك التفهم ملعانيه‪.‬‬

‫حكم أخذ األجرة على تعليم القرآن‬


‫وجيوز أخذ األجرة على التعليم‪ ،‬ففي صحيح البخاري‪« :‬إن أحق ما أخذمت عليه أجرا كتاب هللا»‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن تعني عليه مل جيز‪ .‬واختاره احلليمي‪ ،‬وقال‪ :‬استصغر الناس املعلمني لقصرهم زماهنم على‬
‫معاشرة الصبيان‪ُ ،‬ث النساء حىت أثر ذلك يف عقوهلم‪ُ ،‬ث البتغائهم عليه األجعال‪ ،‬وطمعهم يف أطعمة‬
‫الصبيان‪ ،‬فأما نفس التعليم فإنه يوجب التشريف والتفضيل‪.‬‬
‫وقال أبو الليث يف كتاب «البستان»‪ :‬التعليم على ثالثة أوجه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬للحسبة وال أيخذ به عوضا‪ .‬والثاين‪ :‬أن يعلّم ابألجرة‪ ،‬والثالث‪ :‬أن يعلّم بغري شرط‪ ،‬فإذا‬
‫أهدي إليه قبل‪.‬‬
‫فاألول‪ :‬مأجور عليه وهو عمل األنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬خمتلف فيه‪ ،‬قال أصحابنا املتقدمون‪ :‬ال جيوز؛ لقوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬بلّغوا عين ولو‬
‫آية»‪ .‬وقال مجاعة من املتأخرين‪ :‬جيوز مثل عصام بن يوسف ونصر بن حيىي‪ ،‬وأيب نصر بن سالم‪-‬‬
‫وغريهم قالوا‪ :‬واألفضل للمعلم أن يشارط األجرة للحفظ وتعليم الكتابة‪ ،‬فإن شارط لتعليم القرآن‬
‫أرجو أنه ال أبس به؛ ألن املسلمني قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه‪.‬‬
‫وأما الثالث‪ :‬فيجوز يف قوهلم مجيعا‪ :‬ألن النيب صلّى هللا عليه وسلم كان معلّما للخلق وكان يقبل‬
‫اهلدية‪ ،‬وحلديث اللديغ ملا رقوه ابلفاحتة وأخذوا منه جعال (أجرا) وقال النيب صلّى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫«واضربوا يل معكم فيها بسهم»‪.‬‬

‫(‪)66/1‬‬

‫ما يستحب عند القراءة‬


‫يستحب االستياك وتطهري فمه للقراءة ابستياكه (استعمال السواك)‪ ،‬وتطهري بدنه ابلطيب املستحب‬
‫تكرميا حلال التالوة‪ ،‬البسا من الثياب ما يتجمل به بني الناس‪ ،‬لكونه ابلتالوة بني يدي املنعم‬
‫املتفضل هبذا اإليناس‪ ،‬فإن التايل للكالم‪ِ ،‬بنزلة املكامل لصاحب الكالم وهذا غاية التشريف من‬
‫فضل الكرمي العالم‪ ،‬ويستحب أن يكون جالسا مستقبل القبلة‪ .‬سئل سعيد بن املسيب عن حديث‬
‫وهو متكئ‪ ،‬فاستوى جالسا وقال‪ :‬أكره أن أحدث عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم وأان متكئ‪،‬‬
‫وكالم هللا تعاىل أوىل‪.‬‬
‫ويستحب أن يكون متوضئا‪ ،‬وجيوز للمحدث‪ ،‬قال إمام احلرمني وغريه‪ :‬ال يقال إهنا مكروهة فقد‬
‫صح أنه صلّى هللا عليه وسلم كان يقرأ مع احلدث وعلى كل حال سوى اجلنابة ويف معناها احليض‬
‫والنفاس‪ ،‬وللشافعي قول قدمي يف احلائض‪ :‬تقرأ خوف النسيان‪ .‬وقال أبو الليث‪ :‬ال أبس أن يقرأ‬
‫اجلنب واحلائض أقل من آية واحدة‪ .‬قال‪:‬‬
‫وإذا أرادت احلائض التعلم فينبغي هلا أن تلقن نصف آية‪ُ ،‬ث تسكت وال تقرأ آية واحدة بدفعة‬
‫واحدة‪.‬‬

‫التعوذ وقراءة البسملة عند التالوة‬


‫يستحب التعوذ قبل القراءة‪ ،‬فإن قطعها قطع ترك‪ ،‬وأراد العود جدد‪ ،‬وإن قطعها لعذر عازما على‬
‫العود كفاه التعوذ األول ما مل يطل الفصل‪ ،‬وال بد من قراءة البسملة أول كل سورة حترزا من مذهب‬
‫الشافعي؛ وإال كان قارائ بعض السور ال مجيعها‪ ،‬فإن قرأ من أثنائها استحب له البسملة أيضا‪ ،‬نص‬
‫عليه الشافعي رمحه هللا فيما نقله العبادي‪.‬‬

‫قراءة القرآن يف املصحف أفضل أم عن ظهر قلب؟‬


‫وهل القراءة يف املصحف أفضل أم عن ظهر قلب‪ ،‬أم خيتلف احلال؟ ثالثة أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أهنا من املصحف أفضل؛ ألن النظر فيه عبادة‪ ،‬فيجتمع القرآن والنظر‪ ،‬وهذا قاله القاضي‬
‫حسني والغزايل‪ ،‬قال‪ :‬وعلة ذلك أنه يزيد النظر ‪ ..‬وأتمل املصحف ومحله‪ ،‬فيزيد يف األجر بسبب‬
‫ذلك‪ ،‬وقد قيل‪ :‬اخلتمة يف املصحف بسبع‪ ،‬وذكر أن األكثرين من الصحابة كانوا يقرءون يف‬
‫املصحف ويكرهون أن خيرج يوم ومل ينظروا يف املصحف‪.‬‬
‫ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رمحه هللا تعاىل املسجد وبني يديه املصحف فقال‪ :‬شغلكم‬
‫الفقه عن القرآن؛ إين ألصلي العتمة‪ ،‬وأضع املصحف يف يدي فما أطبقه حىت الصبح‪.‬‬

‫(‪)67/1‬‬

‫وقال عبد هللا بن أمحد‪ :‬كان أيب يقرأ يف كل يوم سبعا من القرآن ال يرتكه نظرا‪.‬‬
‫وعن األوزاعي كان يعجبهم النظر يف املصحف بعد القراءة هنيهة‪.‬‬
‫قال بعضهم‪ :‬وينبغي ملن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آايت يسرية وال يرتكه مهجورا‪.‬‬
‫والقول الثاين‪ :‬أن القراءة عن ظهر قلب أفضل‪ ،‬واختاره أبو حممد بن عبد السالم‪.‬‬
‫فقال يف أماليه‪ :‬قيل القراءة يف املصحف أفضل‪ ،‬ألنه جيمع فعل اجلارحتني‪ ،‬ومها اللسان والعني‪،‬‬
‫واألجر على قدر املشقة‪ ،‬وهذا ابطل؛ ألن املقصود من القراءة التدبر لقوله تعاىل‪ :‬لِيَ َّدبَّـ ُروا آايتِِه‬
‫[سورة ص آية‪ ،]29 :‬والعادة تشهد أن النظر يف املصحف خيل هبذا املقصود فكان مرجوحا‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬واختاره النووي يف األذكار‪ :‬إن كان القارئ من حفظه حيصل له من التدبر والتفكر ومجع‬
‫القلب أكثر مما حيصل له من املصحف فالقراءة من احلفظ أفضل‪ ،‬وإن استواي فمن املصحف أفضل‪،‬‬
‫قال‪ :‬وهو مراد السلف‪.‬‬

‫حكم خلط سورة بسورة‬


‫ع ّد احلليمي من اآلداب ترك خلط سورة بسورة‪ ،‬وذكر احلديث اآليت‪:‬‬
‫قال البيهقي‪ :‬وأحسن ما حيتج به أن يقال‪ :‬إن هذا التأليف لكتاب هللا مأخوذ من جهة النيب صلّى‬
‫هللا عليه وسلم وأخذه عن جربيل‪ ،‬فاألوىل ابلقارئ أن يقرأه على التأليف املنقول اجملتمع عليه؛ وقد‬
‫قال ابن سريين‪ :‬أتليف هللا خري من أتليفكم‪ .‬ونقل القاضي أبو بكر اإلمجاع على عدم جواز قراءة‬
‫آية من كل سورة‪ .‬وقد روى أبو داود يف سننه من حديث أيب هريرة أن رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم مر أبيب بكر وهو يقرأ‪ :‬خيفض صوته‪ ،‬وبعمر جيهر بصوته‪ ،‬وذكر احلديث‪ ،‬وفيه فقال‪« :‬وقد‬
‫مسعتك اي بالل وأنت تقرأ من هذه السورة‪ ،‬ومن هذه السورة»‪ .‬فقال‪ :‬كالم طيب جيمعه هللا بعضه‬
‫إىل بعض؛ فقال‪« :‬كلكم قد أصاب»‪.‬‬
‫ويف رواية أليب عبيد يف «فضائل القرآن» قال بالل‪« :‬أخلط الطيب ابلطيب»‪ ،‬فقال له‪« :‬اقرأ‬
‫السورة على وجهها» أو قال‪ :‬على حنوها‪ -‬وهذه زايدة مليحة‪ -‬ويف رواية‪« :‬إذا قرأت السورة‬
‫فأنفذها»‪ .‬أي ال ختلط سورة بسورة‪.‬‬
‫وروي عن خالد بن الوليد أنه ّأم الناس فقرأ من سور شىت‪ُ ،‬ث التفت إىل الناس حني انصرف فقال‪:‬‬
‫شغلين اجلهاد عن تعلم القرآن‪.‬‬
‫وروي املنع عن ابن سريين ُث قال أبو عبيد‪ :‬األمر عندان على الكراهة يف قراءة هذه‬

‫(‪)68/1‬‬

‫اآلايت املختلفة؛ كما أنكر رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم على بالل‪ ،‬وكما اعتذر خالد عن فعله‪،‬‬
‫ولكراهة ابن سريين له‪ُ .‬ث قال‪ :‬إن بعضهم روى حديث بالل وفيه‪ :‬فقال النيب صلّى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫«كل ذلك حسن» وهو أثبت وأشبه بنقل العلماء ‪ ..‬اه‪.‬‬

‫حكم قراءة القرآن مع مجاعة‬


‫قال اإلمام النووي يف «التبيان»‪ :‬اعلم أن قراءة اجلماعة جمتمعني مستحبة ابلدالئل الظاهرة وأفعال‬
‫السلف واخللف املتظاهرة‪ ،‬فقد صح عن النيب صلّى هللا عليه وسلم من رواية أيب هريرة وأيب سعيد‬
‫اخلدري رضي هللا عنهما‪ ،‬أنه قال‪« :‬ما من قوم يذكرون هللا إال حفت هبم املالئكة‪ ،‬وغشيتهم الرمحة‪،‬‬
‫ونزلت عليهم السكينة‪ ،‬وذكرهم هللا فيمن عنده» قال الرتمذي‪ :‬حديث حسن صحيح‪ .‬وعن أيب‬
‫هريرة رضي هللا عنه عن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬ما اجتمع قوم يف بيت من بيوت هللا يتلون‬
‫كتاب هللا ويتدارسونه بينهم إال نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرمحة وحفتهم املالئكة‪ ،‬وذكرهم هللا‬
‫فيمن عنده» [رواه مسلم وأبو داود إبسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫وعن معاوية رضي هللا عنه أن النيب صلّى هللا عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال‪« :‬ما‬
‫جيلسكم؟‬
‫السالم‬
‫ومن علينا به فقال‪ :‬أاتين جربيل عليه ّ‬
‫قالوا‪ :‬جلسنا نذكر هللا تعاىل وحنمده ملا هداان لإلسالم‪ّ ،‬‬
‫فأخربين أن هللا تعاىل يباهي بكم املالئكة» [رواه الرتمذي والنسائي‪ ،‬وقال الرتمذي‪:‬‬
‫حديث حسن صحيح] واألحاديث يف هذا كثرية‪.‬‬
‫وروى الدارمي إبسناده عن ابن عباس رضي هللا عنهما قال‪« :‬من استمع إىل آية من كتاب هللا كانت‬
‫له نورا»‪.‬‬
‫وروى ابن أيب داود‪ :‬أن أاب الدرداء رضي هللا عنه كان يدرس القرآن معه نفر يقرءون مجيعا‪ ،‬وروى ابن‬
‫أيب داود فعل الدراسة جمتمعني عن مجاعات من أفاضل السلف واخللف وقضاة املتقدمني‪.‬‬
‫وعن حسان بن عطية واألوزاعي أهنما قاال‪ :‬أول من أحدث الدراسة يف مسجد دمشق هشام بن‬
‫إمساعيل يف قدمته على عبد امللك‪.‬‬
‫وأما ما روى ابن أيب داود عن الضحاك بن عبد الرمحن بن عرزب‪ :‬أنه أنكر هذه الدراسة‪ ،‬وقال‪ :‬ما‬
‫رأيت وال مسعت‪ ،‬وقد أدركت أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ :‬يعين ما رأيت أحدا فعلها‪.‬‬
‫وعن وهب قال‪ :‬قلت ملالك‪ :‬أرأيت القوم جيتمعون فيقرءون مجيعا سورة واحدة‬

‫(‪)69/1‬‬

‫حىت خيتموها؟ فأنكر ذلك وعابه‪ ،‬وقال‪ :‬ليس هكذا تصنع الناس إمنا كان يقرأ الرجل على اآلخر‬
‫يعرضه‪ ،‬فهذا اإلنكار منهما خمالف ملا كان عليه السلف واخللف‪ ،‬وملا يقتضيه الدليل‪ ،‬فهو مرتوك‪،‬‬
‫واالعتماد على ما تقدم من استحباهبا‪.‬‬
‫ختم القرآن‬
‫ويستحب ختم القرآن يف كل أسبوع‪ ،‬قال النيب صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬اقرأ القرآن يف كل سبع وال‬
‫تزد» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وروى الطرباين بسند جيد‪ :‬سئل أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ :‬كيف كان رسول هللا صلّى‬
‫هللا عليه وسلم جيزئ القرآن؟ قالوا‪ :‬كان جيزئه ثالاث ومخسا‪ ،‬وكره قوم قراءته يف أقل من ثالث‪ ،‬ومحلوا‬
‫عليه حديث‪« :‬ال يفقه من قرأ القرآن يف أقل من ثالث» [رواه األربعة وصححه الرتمذي]‪.‬‬
‫واملختار‪ -‬وعليه أكثر احملققني‪ -‬أن ذلك خيتلف حبال الشخص يف النشاط والضعف‪ ،‬والتدبر‬
‫والغفلة؛ ألنه روي عن عثمان رضي هللا عنه أنه كان خيتمه يف ليلة واحدة‪.‬‬
‫ويكره أتخري ختمه أكثر من أربعني [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وقال أبو الليث يف كتاب «البستان»‪ :‬ينبغي أن يقرأ القرآن يف السنة مرتني إن مل يقدر على الزايدة‪.‬‬
‫وقد روى احلسن بن زايد عن أيب حنيفة أنه قال‪ :‬من قرأ القرآن يف كل سنة مرتني فقد أدى للقرآن‬
‫حقه؛ ألن النيب صلّى هللا عليه وسلم عرضه على جربيل يف السنة اليت قبض فيها مرتني‪.‬‬
‫وقال أبو الوليد الباجي‪ :‬أمر النيب صلّى هللا عليه وسلم عبد هللا بن عمرو أن خيتم يف سبع أو ثالث‬
‫حيتمل أنه األفضل يف اجلملة‪ ،‬أو أنه األفضل يف حق ابن عمرو ملا علم من ترتيله يف قراءته‪ ،‬وعلم من‬
‫ضعفه عن استدامته أكثر مما ح ّد له‪ ،‬وأما من استطاع أكثر من ذلك فال متنع الزايدة عليه‪.‬‬
‫وسئل مالك عن الرجل خيتم القرآن يف كل ليلة فقال‪ :‬ما أحسن ذلك‪ :‬إن القرآن إمام كل خري‪.‬‬
‫السري‪ :‬إمنا اآلية مثل التمرة كلما مضغتها استخرجت حالوهتا‪ ،‬فحدث به أبو سليمان‬
‫وقال بشر بن ّ‬
‫فقال‪ :‬صدق؛ إمنا يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها‪ .‬فالتأين مع التدبر والتذكر أفضل‬
‫بال شك‪ ،‬وكله إىل خري إن شاء هللا‪.‬‬

‫(‪)70/1‬‬

‫التكبري بني السور ابتداء من سورة الضحى‬


‫يستحب التكبري من أول سورة الضحى إىل أن خيتم‪ ،‬وهي قراءة أهل مكة أخذها ابن كثري عن‬
‫جماهد‪ ،‬وجماهد عن ابن عباس‪ ،‬وابن عباس عن أيب‪ ،‬وأيب عن النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬رواه ابن‬
‫أيب بسند معروف‪ ،‬وهو حديث‬
‫خزمية والبيهقي يف شعب اإلميان وقواه‪ .‬ورواه من طريق موقوفا على ّ‬
‫غريب‪ ،‬وقد أنكره أبو حامت الرازي على عادته يف التشديد‪ ،‬واستأنس له احلليمي أبن القراءة تنقسم‬
‫إىل أبعاض متفرقة‪ ،‬فكأنه كصيام الشهر؛ وقد أمر الناس إذا أكملوا العدة أن يكربوا هللا على ما‬
‫هداهم‪ ،‬فالقياس أن يكرب القارئ إذا أكمل عدة السور‪.‬‬
‫وذكر غريه أن التكبري كان الستشعار انقطاع الوحي‪ ،‬قال‪ :‬وصفته يف آخر هذه السور أنه كلما ختم‬
‫كرب‬
‫سورة وقف وقفة‪ُ ،‬ث قال‪ :‬هللا أكرب‪ُ ،‬ث وقف وقفة‪ُ ،‬ث ابتدأ السورة اليت تليها إىل آخر القرآن‪ُ ،‬ث ّ‬
‫كرب من قبل‪ُ ،‬ث أتبع التكبري احلمد والتصديق والصالة على النيب صلّى هللا عليه وسلم والدعاء‪.‬‬‫كما ّ‬
‫وقال سليم الرازي يف تفسريه‪ :‬يكرب القارئ بقراءة ابن كثري إذا بلغ َوالضُّحى بني كل سورتني تكبرية‪،‬‬
‫إىل أن خيتم القرآن‪ ،‬وال يصل آخر السورة ابلتكبري‪ ،‬بل يفصل بينهما بسكتة‪ ،‬وكأن املعىن يف ذلك ما‬
‫روي أن الوحي كان أتخر عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أايما‪ ،‬فقال انس‪ :‬إن حممدا قد و ّدعه‬
‫صاحبه وقاله‪ ،‬فنزلت هذه السورة‪ ،‬فقال‪ :‬هللا أكرب‪ ،‬قال‪ :‬وال يكرب يف قراءة الباقني؛ ومن حجتهم أن‬
‫ذلك ذريعة إىل الزايدة يف القرآن‪ ،‬أبن زيد عليه التكبري فيتوهم أنه من القرآن فيثبتونه فيه‪.‬‬

‫ما يفعله القارئ عند ختم القرآن‬


‫إذا ختم القرآن وقرأ املعوذتني قرأ الفاحتة وقرأ مخس آايت من البقرة إىل قوله ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن ألهنا آية‬
‫عند الكوفيني‪ ،‬وعند غريهم بعض آية‪ .‬وقد روى الرتمذي‪ :‬أي‬
‫احلال املرحتل» قيل املراد به‪ :‬احلث على تكرار اخلتم ختمة بعد ختمة‪،‬‬
‫العمل أحب إىل هللا؟ قال‪ّ « :‬‬
‫وقيل‪ :‬املراد به‪ :‬أنه إذا ختم ِبخر سورة بدأ بقراءة أول سورة منه ومخس آايت من سورة البقرة‬
‫احلال املرحتل» أي الذي إذا ختم القرآن بدأ بقراءة أوله‪.‬‬
‫فيكون معىن « ّ‬

‫(‪)71/1‬‬

‫حكم من شرب شيئا كتب من القرآن‬


‫منع ذلك بعضهم‪ ،‬وكرهه‪ ،‬وأجازه األكثرون وهو الصواب‪.‬‬
‫وممن صرح ابجلواز من أصحاب الشافعي العماد النيهي تلميذه البغوي فيما رأيته خبط ابن الصالح‪،‬‬
‫قال‪ :‬ال جيوز ابتالع رقعة فيها آية من القرآن‪ ،‬فلو غسلها وشرب ماءها جاز‪.‬‬
‫وجزم القاضي احلسني‪ ،‬والرافعي جبواز أكل األطعمة اليت كتب عليها شيء من القرآن‪.‬‬
‫وقال البيهقي‪ :‬أخربان أبو عبد الرمحن السلمي يف ذكر منصور بن عمار‪ :‬أنه أويت احلكمة‪ ،‬وقيل‪ :‬إن‬
‫سبب ذلك أنه وجد رقعة يف الطريق مكتواب عليها بسم هللا الرمحن الرحيم فأخذها فلم جيد هلا‬
‫موضعا‪ ،‬فأكلها‪ ،‬فأري فيما يرى النائم كأ ّن قائال قد قال له‪:‬‬
‫قد فتح هللا عليك ابحرتامك لتلك الرقعة‪ ،‬فكان بعد ذلك يتكلم ابحلكمة‪ .‬اه من الربهان‪.‬‬

‫أحكام تتعلق ابحرتام املصحف وتعظيمه‬


‫ويستحب تطييب املصحف وجعله على كرسي‪ ،‬وجيوز حتليته ابلفضة إكراما له على الصحيح‪.‬‬
‫روى البيهقي بسنده إىل الوليد بن مسلم قال‪ :‬سألت مالكا عن تفضيض املصاحف‪ ،‬فأخرج إلينا‬
‫ضضوا‬
‫مصحفا فقال‪ :‬حدثين أيب عن جدي أهنم مجعوا القرآن يف عهد عثمان رضي هللا عنه‪ ،‬وأهنم ف ّ‬
‫املصاحف على هذا وحنوه‪ ،‬وأما ابلذهب فاألصح أنه يباح للمرأة دون الرجل‪ ،‬وخص بعضهم اجلواز‬
‫بنفس املصحف دون عالقته (ما يعلق فيه املصحف) املنفصلة عنه‪ ،‬واألظهر التسوية‪.‬‬
‫وحيرم توسد املصحف وغريه من كتب العلم؛ ألن فيه إذالال وامتهاان‪ ،‬وكذلك مد الرجلني إىل شيء‬
‫من القرآن أو كتب العلم‪ ،‬ويستحب تقبيل املصحف؛ ألن عكرمة ابن أيب جهل كان يقبله‪ ،‬وابلقياس‬
‫على تقبيل احلجر األسود‪ .‬وألنه هدية هللا لعباده‪ ،‬فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغري‪.‬‬
‫وعن أمحد ثالث رواايت‪ :‬اجلواز‪ ،‬واالستحباب‪ ،‬والتوقف‪ ،‬وإن كان فيه رفعة وإكرام؛ ألنه ال يدخله‬
‫قياس‪ ،‬وهلذا قال عمر يف احلجر‪ :‬لوال أين رأيت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقبلك ما قبلتك‪.‬‬
‫وحيرم السفر ابلقرآن إىل أرض العدو للحديث فيه؛ خوف أن تناله أيديهم‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫إذا كثر الغزاة وأمن استيالؤهم عليه مل مينع‪ ،‬لقوله‪« :‬خمافة أن تناله أيديهم»‪ .‬وحيرم‬

‫(‪)72/1‬‬

‫كتابة القرآن بشيء جنس‪ ،‬وكذلك ذكر هللا تعاىل‪ ،‬وتكره كتابته يف القطع الصغري‪.‬‬
‫اه‪ .‬ملخصا من الزركشي‪.‬‬

‫جتويد القرآن‬
‫من املهمات جتويد القرآن وقد أفرده مجاعة كثريون ابلتصنيف منهم الداين وغريه‪ ،‬أخرج عن ابن‬
‫جودوا القرآن‪ .‬قال القراء‪ :‬التجويد حلية القراءة‪ ،‬وهو إعطاء احلروف حقوقها‪،‬‬
‫مسعود أنه قال‪ّ :‬‬
‫وترتيبها ورد احلرف إىل خمرجه وأصله وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غري إسراف وال تعسف‬
‫ضا‬
‫وال إفراط وال تكلف‪ ،‬وإىل ذلك أشار صلّى هللا عليه وسلم بقوله‪« :‬من أحب أن يقرأ القرآن غ ّ‬
‫كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» يعين ابن مسعود‪ ،‬وكان رضي هللا عنه قد أعطي حظّا‬
‫عظيما يف جتويد القرآن‪ ،‬وال شك أن األمة كما أهنم متعبدون بفهم معاين القرآن وإقامة حدوده‪ ،‬فهم‬
‫متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة املتلقاة من أئمة القراء املتصلة ابحلضرة النبوية‪.‬‬
‫وخفي‪ ،‬فاللحن خلل يطرأ على‬
‫ّ‬ ‫جلي‬
‫وقد ع ّد العلماء القراءة بغري جتويد حلنا‪ ،‬فقسموا اللحن إىل ّ‬
‫األلفاظ فيخل هبا‪ ،‬إال أن اجللي خيل إخالال ظاهرا يشرتك يف معرفته علماء القراءة وغريهم وهو اخلطأ‬
‫يف اإلعراب‪ ،‬واخلفي خيل إخالال خيتص ِبعرفته علماء القراءة وأئمة األداء الذين تلقوه من أفواه‬
‫العلماء وضبطوه من ألفاظ أهل األداء‪.‬‬
‫وكل منها واجب على من قدر عليه؛ ألن هبما يكون الفهم الصحيح‪.‬‬
‫قال ابن اجلزري‪ :‬وال أعلم لبلوغ النهاية يف التجويد مثل رايضة األلسن والتكرار على اللفظ املتلقى‬
‫من فم احملسن‪.‬‬
‫وقاعدته ترجع إىل كيفية الوقف واإلمالة واإلدغام‪ ،‬وأحكام اهلمزة والرتقيق والتفخيم وخمارج احلروف‪.‬‬
‫اه‪.‬‬

‫كيفية حتمل القرآن الكرمي‬


‫اعلم أن حفظ القرآن فرض كفاية على األمة‪ ،‬صرح به اجلرجاين يف «الشايف»‪ ،‬والعبادي وغريمها ‪..‬‬
‫واملعين فيه أن ال ينقطع عدد التواتر فيه‪ ،‬فال يتطرق إليه التبديل والتحريف‪ ،‬فإن قام‬
‫ّ‬ ‫قال اجلويين‪:‬‬
‫بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقني وإال أُث الكل‪.‬‬
‫وتعليمه‪ -‬أيضا‪ -‬فرض كفاية‪ ،‬وهو أفضل القرب‪ ،‬ففي الصحيح «خريكم من تعلم القرآن وعلّمه»‪.‬‬

‫(‪)73/1‬‬

‫وأوجه التحمل السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه‪.‬‬


‫أما القراءة على الشيخ فهي املستعملة سلفا وخلفا‪ ،‬وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال‬
‫به هنا؛ ألن الصحابة رضي هللا عنهم إمنا أخذوا القرآن من النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ .‬لكن مل أيخذ‬
‫به أحد من القراءة‪ ،‬واملنع فيه ظاهر؛ ألن املقصود هنا كيفية األداء‪ ،‬وليس كل من مسع من لفظ‬
‫الشيخ يقدر على األداء كهيئته خبالف احلديث‪ ،‬فإن املقصود فيه املعىن أو اللفظ ال ابهليئات املعتربة‬
‫يف أداء القرآن‪ ،‬وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرهتم على األداء كما‬
‫مسعوه من النيب صلّى هللا عليه وسلم؛ ألنه نزل بلغتهم‪ ،‬ومما يدل للقراءة على الشيخ‪ :‬عرض النيب‬
‫صلّى هللا عليه وسلم على جربيل يف رمضان كل عام‪.‬‬
‫وحيكى أن الشيخ مشس الدين اجلزري ملا قدم القاهرة وازدمحت عليه اخللق‪ ،‬مل يتسع وقته لقراءة‬
‫اجلميع فكان يقرأ عليهم اآلية‪ُ ،‬ث يعيدوهنا عليه دفعة واحدة فلم يكتف بقراءته‪.‬‬
‫وجتوز القراءة على الشيخ ولو كان غريه يقرأ عليه يف تلك احلالة حبيث ال خيفى عليه حاهلم‪.‬‬
‫وقد كان الشيخ علم الدين السخاوي يقرأ عليه اثنان وثالثة يف أماكن خمتلفة ويرد على كل منهم‪،‬‬
‫وكذا لو كان الشيخ مشتغال بشغل آخر كنسخ ومطالعة‪ ،‬وأما القراءة من احلفظ فالظاهر أهنا ليست‬
‫بشرط بل تكفي ولو من املصحف‪.‬‬

‫كيفيات القراءة‬
‫كيفيات القراءة ثالث‪:‬‬

‫إحداها‪ :‬التحقيق وهو إعطاء كل حرف حقه‪ ،‬من إشباع املد‬


‫وحتقيق اهلمزة‪ ،‬وإمتام احلركات واعتماد اإلظهار والتشديدات‪ ،‬وبيان احلروف وتفكيكها‪ ،‬وإخراج‬
‫بعضها من بعض ابلسكت والرتتيل والتؤدة‪ ،‬ومالحظة اجلائز من الوقوف بال قصر للممدود وال‬
‫حمرك وال إدغامه‪.‬‬
‫اختالس للحروف وال إسكان ّ‬
‫وهو يكون برايضة األلسن وتقومي األلفاظ‪ ،‬ويستحب األخذ به على املتعلمني من غري أن يتجاوز فيه‬
‫إىل حد اإلفراط بتوليد احلروف من احلركات‪ ،‬وتكرمي الراءات‪ ،‬وحتريك السواكن‪ ،‬وتطنني النوانت‬
‫ابملبالغة يف الغنّات‪ ،‬كما قال محزة لبعض من مسعه يبالغ يف ذلك‪ :‬أما علمت أن ما فوق البياض‬
‫برص‪ ،‬وما فوق اجلعودة قطط‪ ،‬وما فوق القراءة ليس بقراءة؟ وكذا حيرتز من الفصل بني حروف‬
‫الكلمة كمن يقف‬

‫(‪)74/1‬‬

‫ني وقفة لطيفة مدعيا أنه يرتل‪ ،‬وهذا النوع من القراءة مذهب محزة وورش‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬
‫على التاء من نَ ْستَع ُ‬
‫أيب بن كعب أنه قرأ على رسول هللا صلّى هللا‬
‫أخرج فيه الداين حديثا يف كتاب التجويد مسلسال إىل ّ‬
‫عليه وسلم التحقيق وقال‪ :‬إنه غريب مستقيم اإلسناد‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬احلدر بفتح احلاء وسكون الدال املهملتني‬


‫‪ ،‬وهو إدراج القراءة وسرعتها وختفيفها ابلقصر‪ ،‬والتسكني‪ ،‬واالختالس‪ ،‬والبدل‪ ،‬واإلدغام الكبري‪،‬‬
‫وختفيف اهلمزة‪ ،‬وحنو ذلك مما‪ -‬صحت به الرواية‪ -‬مع مراعاة إقامة اإلعراب وتقومي اللفظ ومتكني‬
‫احلروف بدون برت حروف املد واختالس أكثر احلركات‪ ،‬وذهاب صوت الغنة والتفريط إىل غاية ال‬
‫تصح هبا القراءة وال توصف هبا التالوة‪ ،‬وهذا النوع مذهب ابن كثري وأيب جعفر ومن قصر املنفصل‬
‫كأيب عمرو ويعقوب‪.‬‬

‫الثالثة‪ :‬التدوير‪ :‬وهو التوسط بني املقامني بني التحقيق واحلدر‬


‫‪ ،‬وهو الذي ورد عن أكثر األئمة ممن مد املنفصل ومل يبلغ فيه اإلشباع وهو مذهب سائر القراء‪،‬‬
‫وهو املختار عند أكثر أهل األداء‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬
‫سيأيت يف النوع الذي يلي هذا استحباب الرتتيل يف القراءة‪ ،‬والفرق بينه وبني التحقيق فيما ذكره‬
‫بعضهم‪ :‬أن التحقيق يكون للرايضة والتعليم والتمرين‪ ،‬والرتتيل يكون للتدبر والتفكر واالستنباط‬
‫فكل حتقيق ترتيل وليس كل ترتيل حتقيقا‪ .‬اه‪.‬‬

‫احملكم واملتشابه يف القرآن الكرمي‬


‫مات ُه َّن أ ُُّم‬ ‫ب ِم ْنهُ ٌ‬
‫آايت ُْحم َك ٌ‬ ‫قال السيوطي يف اإلتقان‪ :‬قال هللا تعاىل‪ :‬هو الَّ ِذي أَنْـز َل عَلَي َ ِ‬
‫ك الْكتا َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َُ‬
‫ات [سورة آل عمران آية‪.]7 :‬‬ ‫ُخر متَ ِ‬
‫شاهب ٌ‬ ‫ْك ِ‬‫ال ِ‬
‫تاب َوأ َ ُ ُ‬
‫وقد حكى ابن حبيب النيسابوري يف املسألة ثالثة أقوال‪:‬‬
‫ت آايتُهُ [سورة هود آية‪.]1 :‬‬‫ُح ِك َم ْ‬
‫تاب أ ْ‬
‫ِ‬
‫أحدها‪ :‬أن القرآن كله حمكم لقوله تعاىل‪ :‬ك ٌ‬
‫ثاينَ [سورة الزمر آية‪.]23 :‬‬ ‫الثاين‪ :‬كله متشابه لقوله تعاىل‪ :‬كِتاابً متَ ِ‬
‫شاهباً َم ِ‬ ‫ُ‬
‫الثالث‪ :‬وهو الصحيح انقسامه إىل حمكم ومتشابه لآلية املصدر هبا‪ ،‬واجلواب عن اآليتني أن املراد‬
‫إبحكامه إتقانه وعدم تطرق النقص واالختالف إليه‪ ،‬وبتشاهبه كونه يشبه بعضه بعضا يف احلق‬
‫والصدق واإلعجاز‪.‬‬
‫وقد اختلف يف تعيني احملكم واملتشابه على أقوال‪ :‬فقيل‪ :‬احملكم ما عرف املراد منه إما ابلظهور وإما‬
‫ابلتأويل‪ ،‬واملتشابه‪ :‬ما استأثر هللا بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال واحلروف املقطعة يف أوائل‬
‫السور‪.‬‬

‫(‪)75/1‬‬

‫‪ -‬وقيل‪ :‬احملكم ما وضح معناه‪ ،‬واملتشابه نقيضه‪.‬‬


‫‪ -‬وقيل‪ :‬احملكم ما ال حيتمل من التأويل إال وجها واحدا‪ ،‬واملتشابه ما احتمل أوجها‪.‬‬
‫‪ -‬وقيل‪ :‬احملكم ما كان معقول املعىن‪ ،‬واملتشابه خبالفه كأعداد الصلوات‪ ،‬واختصاص الصيام‬
‫برمضان دون شعبان قاله املاوردي‪.‬‬
‫‪ -‬وقيل‪ :‬احملكم ما استقل بنفسه‪ ،‬واملتشابه ما ال يستقل بنفسه إال برده إىل غريه‪.‬‬
‫‪ -‬وقيل احملكم الفرائض والوعد والوعيد‪ ،‬واملتشابه القصص واألمثال‪.‬‬
‫علي بن أيب طلحة عن ابن عباس قال‪ :‬احملكمات‪:‬‬
‫أخرج ابن أيب حامت من طريق ّ‬
‫انسخه وحالله وحرامه وحدوده وفرائضه‪ ،‬وما يؤمن به ويعمل به‪ ،‬واملتشاهبات‪:‬‬
‫منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به وال يعمل به‪.‬‬
‫وأخرج الفراييب عن جماهد قال‪ :‬احملكمات‪ :‬ما فيه احلالل واحلرام وما سوى ذلك منه متشابه يصدق‬
‫بعضه بعضا‪.‬‬
‫وأخرج ابن أيب حامت عن الربيع قال‪ :‬احملكمات‪ :‬هي أوامره الزاجرة‪.‬‬
‫وأخرج عن إسحاق بن سويد أن حيىي بن يعمر وأاب فاختة تراجعا يف هذه اآلية فقال أبو فاختة‪ :‬فواتح‬
‫السور‪ ،‬وقال حيىي‪ :‬الفرائض واألمر والنهي واحلالل‪.‬‬
‫وأخرج احلاكم وغريه عن ابن عباس قال‪« :‬الثالث اآلايت من آخر سورة األنعام حمكمات‪ :‬قُ ْل تَعالَ ْوا‬
‫مات‬
‫آايت ُحمْ َك ٌ‬ ‫واآليتان بعدها» وأخرج ابن أيب حامت من وجه آخر عن ابن عباس يف قوله تعاىل‪ِ :‬م ْنهُ ٌ‬
‫ك أ ََّال تَـ ْعبُ ُدوا إَِّال إِ َّايهُ إىل ثالث آايت‬
‫قال‪ :‬من ههنا قُ ْل تَعالَ ْوا إىل ثالث آايت‪ ،‬ومن ها هنا َوقَضى َربُّ َ‬
‫بعدها‪ .‬وأخرج عبد بن محيد عن الضحاك قال‪ :‬احملكمات ما مل ينسخ منه‪ ،‬واملتشاهبات ما قد نسخ‪.‬‬
‫وأخرج ابن أيب حامت عن مقاتل بن حيان قال‪ :‬املتشاهبات فيما بلغنا امل‪ ،‬واملص‪ ،‬املر‪ ،‬والر‪ ،‬قال ابن‬
‫أيب حامت‪ :‬وقد روي عن عكرمة وقتادة وغريمها‪ :‬أن احملكم الذي يعمل به‪ ،‬واملتشابه الذي يؤمن به‬
‫وال يعمل به‪.‬‬
‫واختلف هل املتشابه مما ميكن اإلطالع على علمه‪ ،‬أو ال يعلمه إال هللا ‪ ..‬؟ على قولني منشؤمها‬
‫الر ِ‬
‫اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم هل هو معطوف‪ ،‬ويقولون حال أو مبتدأ خربه يقولون‬‫االختالف يف قوله تعاىل‪َ :‬و َّ‬
‫والواو لالستئناف؟ وعلى األول طائفة يسرية منهم جماهد وهو رواية عن ابن عباس‪ ،‬فأخرج ابن املنذر‬
‫الر ِ‬
‫اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم قال‪ :‬أان ممن‬ ‫من طريق جماهد عن ابن عباس يف قوله‪َ :‬وما يَـ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إَِّال َّ‬
‫اَّللُ َو َّ‬
‫يعلم أتويله‪.‬‬

‫(‪)76/1‬‬

‫اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم قال‪ :‬يعلمون أتويله ويقولون آمنا به‪،‬‬ ‫وأخرج عبد بن محيد عن جماهد يف قوله‪ :‬وال َّر ِ‬
‫َ‬
‫الر ِ‬
‫اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم يعلمون أتويله‪ ،‬لو مل يعلموا أتويله مل‬ ‫وأخرج ابن أيب حامت عن الضحاك قال‪َ :‬و َّ‬
‫يعلموا انسخه من منسوخه‪ ،‬وال حالله من حرامه‪ ،‬وال حمكمه من متشاهبه‪ -‬واختار هذا القول‬
‫النووي فقال‪ :‬يف شرح مسلم‪:‬‬
‫إنه األصح؛ ألنه يبعد أن خياطب هللا عباده ِبا ال سبيل ألحد من اخللق إىل معرفته‪.‬‬
‫وقال ابن احلاجب‪ :‬إنه الظاهر‪.‬‬
‫وأما األكثرون من الصحابة والتابعني وأتباعهم ومن بعدهم‪ -‬خصوصا أهل السنة‪ -‬فذهبوا إىل الثاين‪،‬‬
‫وهو أصح الرواايت عن ابن عباس‪ ،‬قال ابن السمعاين‪ :‬مل يذهب إىل القول األول إال شرذمة قليلة‪،‬‬
‫واختاره العتيب‪ .‬قال‪ :‬وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة لكنه سها يف هذه املسألة قال‪ :‬وال غرو فإن‬
‫لكل جواد كبوة ولكل عامل هفوة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويدل لصحة مذهب األكثرين ما أخرجه عبد الرزاق يف تفسريه واحلاكم يف مستدركه عن ابن‬
‫عباس‪ ،‬أنه كان يقرأ َوما يَـ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إَِّال َّ‬
‫اَّللُ ويقول‪:‬‬
‫آمنَّا بِ ِه فهذا يدل على أن الواو لالستئناف؛ ألن هذه الرواية وإن مل‬ ‫ِ‬ ‫و َّ ِ‬
‫الراس ُخو َن ِيف الْعل ِْم يَـ ُقولُو َن َ‬ ‫َ‬
‫تثبت هبا القراءة فأقل درجتها أن تكون خربا إبسناد صحيح إىل ترمجان القرآن فيقدم كالمه يف ذلك‬
‫على من دونه‪ ،‬ويؤيد ذلك أن اآلية دلت على ذم مبتغي املتشابه ووصفهم ابلزيغ وابتغاء الفتنة‪،‬‬
‫وعلى مدح الذين فوضوا العلم إىل هللا وسلموا إليه‪ ،‬كما مدح هللا املؤمنني ابلغيب‪ ،‬وحكى الفراء أن‬
‫يف قراءة أيب بن كعب‪ -‬أيضا‪« -‬ويقول الراسخون»‪ .‬وأخرج ابن أيب داود يف املصاحف من طريق‬
‫األعمش‪ ،‬قال يف قراءة ابن مسعود‪« :‬وإن أتويله إال عند هللا‪ ،‬والراسخون يف العلم يقولون آمنا به»‪.‬‬
‫وأخرج الشيخان وغريمها عن عائشة قالت‪ :‬تال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم هذه اآلية‪ُ :‬ه َو الَّ ِذي‬
‫تاب إىل قوله‪ :‬أُولُوا ا ْألَل ِ‬
‫ْباب قالت‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫أَنْـز َل َعلَي َ ِ‬
‫ك الْك َ‬ ‫َ ْ‬
‫«فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين مسى هللا‪ ،‬فاحذرهم»‪.‬‬
‫وأخرج احلاكم عن ابن مسعود عن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال‪ :‬الكتاب األول ينزل من ابب‬
‫واحد على حرف واحد‪ ،‬ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف‪ :‬زجر وأمر‪ ،‬وحالل وحرام‪،‬‬
‫وحرموا حرامه‪ ،‬وافعلوا ما أمرمت به‪ ،‬وانتهوا عما هنيتم عنه‪،‬‬
‫وحمكم ومتشابه وأمثال‪ ،‬فأحلّوا حالله‪ّ ،‬‬
‫واعتربوا أبمثاله‪ ،‬واعملوا ِبحكمه وآمنوا ِبتشاهبه‪ ،‬وقولوا‪ :‬آمنا به كل من عند ربنا‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا‪ :‬أنزل القرآن على أربعة أحرف‪ :‬حالل‬

‫(‪)77/1‬‬

‫وحرام ال يعذر أحد جبهالته‪ ،‬وتفسري تفسره العرب‪ ،‬وتفسري تفسره العلماء‪ ،‬ومتشابه ال يعلمه إال هللا‪،‬‬
‫ومن ادعى علمه سوى هللا فهو كاذب‪ُ ،‬ث أخرجه من وجه آخر عن‬
‫ابن عباس موقوفا بنحوه‪.‬‬
‫وأخرج الدارمي يف مسنده عن سليمان بن يسار أن رجال يقال له صبيغ قدم املدينة «فجعل يسأل‬
‫عن متشابه القرآن‪ ،‬فأرسل إليه عمر وقد أع ّد له عراجني النخل‪ ،‬فقال‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أان عبد هللا‬
‫بن صبيغ‪ ،‬فأخذ عمر عرجوان من تلك العراجني فضربه حىت دمى رأسه» ويف رواية عنده «فضربه‬
‫ابجلريد حىت ترك ظهره دبرة‪ُ ،‬ث تركه حىت برأ‪ُ ،‬ث عاد ُث تركه حىت برأ فدعا به ليعود فقال‪ :‬إن كنت‬
‫تريد قتلي فاقتلين قتال مجيال فأذن له إىل أرضه وكتب إىل أيب موسى األشعري‪ :‬ال جيالسه أحد من‬
‫املسلمني»‪.‬‬
‫وأخرج الدارمي عن عمر بن اخلطاب قال‪ :‬إنه سيأتيكم انس جيادلونكم ِبشتبهات القرآن فخذوهم‬
‫ابلسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب هللا‪ ،‬فهذه األحاديث واآلاثر تدل على أن املتشابه مما ال‬
‫يعلمه إال هللا تعاىل وأن اخلوض فيه مذموم‪ ،‬وسيأيت قريبا زايدة على ذلك‪.‬‬
‫قال الطييب‪ :‬املراد ابحملكم‪ :‬ما اتضح معناه‪ ،‬واملتشابه خبالفه‪ ،‬ألن اللفظ الذي يقبل معىن إما أن‬
‫حيتمل غريه أو ال‪ ،‬والثاين النص‪ ،‬واألول إما أن تكون داللته على ذلك الغري أرجح أو ال واألول هو‬
‫الظاهر‪ ،‬والثاين إما أن يكون مساويه أو ال‪ ،‬واألول هو اجململ والثاين املؤول‪ ،‬فاملشرتك بني النص‬
‫والظاهر هو احملكم‪ ،‬واملشرتك بني اجململ واملؤول هو املتشابه‪ .‬ويؤيد هذا التقسيم أنه تعاىل أوقع‬
‫احملكم مقابال للمتشابه قالوا‪ :‬فالواجب أن يفسر احملكم ِبا يقابله‪ ،‬ويعضد ذلك أسلوب اآلية وهو‬
‫مات ُه َّن أ ُُّم‬ ‫اجلمع مع التقسيم؛ ألنه تعاىل فرق ما مجع يف معىن الكتاب أبن قال‪ِ :‬م ْنهُ ٌ‬
‫آايت ُْحم َك ٌ‬
‫ين ِيف قُـلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ُخر متَ ِ‬ ‫ْك ِ‬‫ال ِ‬
‫ات وأراد أن يضيف إىل كل منهما ما شاء‪ ،‬فقال أوال‪ :‬فَأ ََّما الذ َ‬ ‫شاهب ٌ‬ ‫تاب َوأ َ ُ ُ‬
‫إىل أن قال‪:‬‬
‫آمنَّا بِ ِه وكان ميكن أن يقال‪ :‬وأما الذين يف قلوهبم استقامة فيتبعون‬ ‫ِ‬ ‫و َّ ِ‬
‫الراس ُخو َن ِيف الْعل ِْم يَـ ُقولُو َن َ‬ ‫َ‬
‫اس ُخو َن ِيف ال ِْعل ِْم إلتيان لفظ الرسوخ؛ ألنه ال حيصل إال بعد‬‫الر ِ‬
‫احملكم‪ ،‬لكنه وضع موضع ذلك َو َّ‬
‫التثبت العام واالجتهاد البليغ‪ ،‬فإذا استقام القلب على طريق اإلرشاد ورسخ القدم يف العلم‪ ،‬أفصح‬
‫صاحبه النطق ابلقول احلق وكفى بدعاء الراسخني يف العلم‪:‬‬
‫غ قُـلُوبَنا بَـ ْع َد إِ ْذ َه َديْـتَنا [سورة آل عمران آية‪ .. ]8 :‬إخل شاهدا على أن الراسخني يف‬ ‫َربَّنا ال تُ ِز ْ‬
‫ين ِيف قُـلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ وفيه إشارة إىل أن الوقف على قوله‪ :‬إَِّال َّ‬
‫اَّللُ اتم‪ ،‬وإىل أن‬ ‫َّ ِ‬
‫العلم مقابل لقوله‪ :‬الذ َ‬
‫علم املتشابه خمتص ابهلل تعاىل‪ .‬وأن من حاول معرفته هو الذي أشار‬

‫(‪)78/1‬‬

‫إليه يف احلديث بقوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬فاحذرهم»‪.‬‬


‫وقال بعضهم‪ :‬العقل مبتلى ابعتقاد حقية املتشابه‪ ،‬كابتالء البدن أبداء العبادة كاحلكيم إذا صنّف‬
‫كتااب أمجل فيه أحياان؛ ليكون موضع خضوع املتعلم ألستاذه‪ ،‬وكامللك يتخذ عالمة ميتاز هبا من‬
‫يطلعه على سره‪ ،‬وقيل‪ :‬لو مل يبتل العقل الذي هو أشرف البدن الستمر العامل يف أهبة العلم على‬
‫التمرد‪ ،‬فبذلك يستأنس إىل التذلل بعز العبودية‪ ،‬واملتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها‬
‫استسالما واعرتافا بقصورها‪ ،‬ويف ختم اآلية بقوله تعاىل‪َ :‬وما يَ َّذ َّكر إَِّال أُولُوا ْاألَل ِ‬
‫ْباب تعريض للزائغني‬ ‫ُ‬
‫ومدح للراسخني‪ ،‬يعين من مل يتذكر ويتعظ وخيالف هواه‪ ،‬فليس من أويل العقول‪ ،‬ومن ُثّ قال‬
‫ّلدين‪ ،‬بعد أن استعاذوا‬
‫غ قُـلُوبَنا إىل آخر اآلية فخضعوا لباريهم الستنزال العلم ال ّ‬ ‫الراسخون‪َ :‬ربَّنا ال تُ ِز ْ‬
‫به من الزيغ النفساين‪.‬‬

‫املتشابه من آايت الصفات‬


‫ك إَِّال‬ ‫استَوى [سورة طه آية‪ُ ]5 :‬ك ُّل َش ْي ٍء هالِ ٌ‬ ‫ش ْ‬‫الر ْمح ُن َعلَى ال َْع ْر ِ‬
‫من املتشابه آايت الصفات حنو‪َّ :‬‬
‫صنَ َع َعلى َع ْي ِين‬ ‫ِ‬ ‫َو ْج َههُ [سورة القصص آية‪َ ،]88 :‬ويَـ ْبقى َو ْجهُ َربِّ َ‬
‫ك [سورة الرمحن آية‪َ ،]27 :‬ولتُ ْ‬
‫ت بِيَ ِمينِ ِه‬
‫ماوات َمطْ ِوَّاي ٌ‬
‫الس ُ‬ ‫[سورة طه آية‪ ]39 :‬ي ُد َِّ‬
‫اَّلل فَـ ْو َق أَيْ ِدي ِه ْم [سورة الفتح آية‪َ ،]10 :‬و َّ‬ ‫َ‬
‫[سورة الزمر آية‪.]67 :‬‬
‫ومجهور أهل السنة منهم السلف وأهل احلديث على اإلميان هبا وتفويض معناها املراد منها إىل هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬وال نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها‪.‬‬
‫أخرج أبو القاسم الاللكائي يف السنة‪ ،‬من طريق قرة بن خالد عن احلسن‪ ،‬عن أمه‪ ،‬عن أم سلمة يف‬
‫استَوى قالت‪ :‬الكيف غري معقول‪ ،‬واالستواء غري جمهول‪ ،‬واإلقرار به‬
‫ش ْ‬‫الر ْمح ُن َعلَى ال َْع ْر ِ‬
‫قوله تعاىل‪َّ :‬‬
‫من اإلميان‪ ،‬واجلحود به كفر‪.‬‬
‫استَوى فقال‪:‬‬
‫ش ْ‬‫الر ْمح ُن َعلَى ال َْع ْر ِ‬
‫وأخرج‪ -‬أيضا‪ -‬عن ربيعة بن أيب عبد الرمحن أنه سئل عن قوله‪َّ :‬‬
‫اإلميان غري جمهول‪ ،‬والكيف غري معقول‪ ،‬ومن هللا الرسالة وعلى الرسول البالغ املبني‪ ،‬وعلينا‬
‫التصديق‪.‬‬
‫وأخرج‪ -‬أيضا‪ -‬عن مالك أنه سئل عن اآلية فقال‪ :‬الكيف غري معقول‪ ،‬واالستواء غري جمهول‪،‬‬
‫واإلميان به واجب والسؤال عنه بدعة‪.‬‬
‫وأخرج البيهقي عنه أنه قال‪ :‬هو كما وصف نفسه‪ ،‬وال يقال‪ :‬كيف ‪ ...‬؟! وكيف عنه مرفوع‪.‬‬
‫وأخرج الاللكائي عن حممد بن احلسن قال‪ :‬اتفق الفقهاء كلهم من املشرق إىل‬

‫(‪)79/1‬‬

‫املغرب‪ ،‬على اإلميان ابلصفات من غري تفسري وال تشبيه‪ ،‬وقال الرتمذي يف الكالم على حديث‬
‫الرؤية‪ :‬املذهب يف هذا عند أهل العلم من األئمة مثل سفيان الثوري‪ ،‬ومالك‪ ،‬وابن املبارك‪ ،‬وابن‬
‫عيينة‪ ،‬ووكيع وغريهم أهنم قالوا‪ :‬نروي هذه األحاديث كما جاءت ونؤمن هبا‪ ،‬وال يقال‪ :‬كيف ‪ ..‬؟‬
‫وال نفسر وال نتوهم ‪! ..‬‬
‫وذهبت طائفة من أهل السنة إىل أننا نؤوهلا على ما يليق جبالله تعاىل وهذا مذهب اخللف‪ .‬وكان إمام‬
‫احلرمني يذهب إليه ُث رجع عنه‪ ،‬فقال يف الرسالة النظامية‪ :‬الذي نرتضيه دينا وندين هللا به عقدا اتباع‬
‫سلف األمة‪ ،‬فإهنم درجوا على ترك التعرض ملعانيها‪.‬‬
‫وقال ابن الصالح‪« :‬على هذه الطريقة مضى صدر األمة وساداهتا‪ ،‬وإايها اختار أئمة الفقهاء‬
‫وقاداهتا‪ ،‬وإليها دعا أئمة احلديث وأعالمه وال أحد من املتكلمني من أصحابنا يصدف عنها وأيابها‬
‫‪ ..‬اه‪ .‬من اإلتقان بتصرف»‪.‬‬

‫معىن كون القرآن أنزل على سبعة أحرف‬


‫أيب بن كعب أن النيب صلّى هللا عليه وسلم كان عند أضاة (مسيل املاء إىل الغدير)‬
‫روى مسلم عن ّ‬
‫السالم فقال‪« :‬إن هللا أيمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف فقال‪:‬‬
‫بين غفار‪ ،‬فأاته جربيل عليه ّ‬
‫«أسأل هللا معافاته ومغفرته‪ ،‬وإن أميت ال تطيق ذلك» ُث أاته الثانية فقال‪ :‬إن هللا أيمرك أن تقرئ‬
‫أمتك القرآن على حرفني‪ ،‬فقال «أسأل هللا معافاته ومغفرته‪ ،‬وإن أميت ال تطيق ذلك» ُث جاءه الثالثة‬
‫فقال‪« :‬إن هللا أيمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثالثة أحرف» فقال‪« :‬أسأل هللا معافاته ومغفرته‬
‫وإن أميت ال تطيق ذلك‪ُ ،‬ث جاءه الرابعة فقال‪ :‬إن هللا أيمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف‬
‫فأميا حرف قرأوا عليه فقد أصابوا»‪.‬‬
‫وروى الرتمذي عنه قال‪ :‬لقي رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم جربيل فقال‪« :‬اي جربيل‪ :‬إين بعثت إىل‬
‫أمة أمية منهم العجوز الشيخ الكبري والغالم واجلارية والرجل الذي ال يقرأ كتااب قط فقال يل اي حممد‪:‬‬
‫إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» قال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ ،‬وثبت يف األمهات‪ :‬البخاري‬
‫ومسلم واملوطأ وأيب داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وغريها من املصنفات واملسندات قصة عمر مع هشام بن‬
‫حكيم‪ ،‬وسيأيت بكماله يف آخر الباب مبينا إن شاء هللا تعاىل‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف املراد ابألحرف السبعة على مخسة وثالثني قوال‪ ،‬ذكرها أبو حامت حممد بن‬
‫حبان البسيت‪ ،‬نذكر منها يف هذا الكتاب مخسة أقوال‪:‬‬
‫األول‪ :‬وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد هللا بن وهب والطربي والطحاوي‬
‫وغريهم‪ :‬أن املراد سبعة أوجه من املعاين املتقاربة أبلفاظ خمتلفة‬

‫(‪)80/1‬‬

‫حنو‪ :‬أقبل‪ ،‬وتعال‪ ،‬وهلم‪.‬‬


‫قال الطحاوي‪ :‬وأبني ما ذكر يف ذلك حديث أيب بكرة قال‪ :‬جاء جربيل إىل النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلم فقال‪ :‬اقرأ على حرف‪ ،‬فقال ميكائيل‪ :‬استزده‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ على حرفني‪ ،‬فقال ميكائيل‪:‬‬
‫فكل شاف كاف‪ ،‬إال أن ختلط آية رمحة ِبية عذاب أو آية‬
‫استزده حىت بلغ سبعة أحرف؛ فقال‪ :‬اقرأ ّ‬
‫وعجل‪.‬‬
‫عذاب ِبية رمحة على حنو‪ :‬هلم‪ ،‬وتعال‪ ،‬وأقبل‪ ،‬وأسرع‪ّ ،‬‬
‫ِِ‬
‫آمنُوا‬ ‫وروى ورقاء عن ابن أيب جنيح عن جماهد‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬عن أيب بن كعب‪ :‬أنه كان يقرأ‪ :‬للَّذ َ‬
‫ين َ‬
‫انْظُُروان [سورة احلديد آية‪ ،]13 :‬للذين آمنوا أمهلوان‪ ،‬للذين آمنوا أخروان‪ ،‬للذين آمنوا ارقبوان‪.‬‬
‫ش ْوا فِ ِيه [سورة البقرة آية‪ ،]20 :‬مروا فيه‪ ،‬سعوا‬
‫َضاء َهلُ ْم َم َ‬ ‫َّ‬
‫أيب كان يقرأ‪ُ :‬كلما أ َ‬
‫وهبذا اإلسناد عن ّ‬
‫فيه‪.‬‬
‫ويف البخاري ومسلم قال الزهري‪ :‬إمنا هذه األحرف يف األمر الواحد ليس خيتلف يف حالل وال حرام‪.‬‬
‫قال الطحاوي‪ :‬إمنا كانت السعة للناس يف احلروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غري لغاهتم؛ ألهنم‬
‫كانوا أميني ال يكتب إال القليل منهم‪ ،‬فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إىل غريها من‬
‫اللغات‪ ،‬ولو رام ذلك مل يتهيأ له إال ِبشقة عظيمة‪ ،‬فوسع هلم يف اختالف األلفاظ‪ ،‬إذا كان املعىن‬
‫متفقا‪ ،‬فكانوا كذلك حىت كثر منهم من يكتب وعادت لغاهتم إىل لسان رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فقدروا بذلك على حتفظ ألفاظه‪ ،‬فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا خبالفها‪.‬‬
‫قال ابن عبد الرب‪ :‬فبان هبذا أن تلك السبعة األحرف إمنا كانت يف وقت خاص لضرورة دعت إىل‬
‫ذلك‪ُ ،‬ث ارتفعت تلك الضرورات فارتفع حكم هذه السبعة األحرف‪ ،‬وعاد ما يقرأ به القرآن على‬
‫حرف واحد‪.‬‬
‫روى أبو داود عن أيب قال‪ :‬قال يل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬اي أيب إين أقرئت القرآن فقيل‬
‫يل‪ :‬على حرف أو حرفني فقال امللك الذي معي‪ :‬قل على حرفني‪ .‬فقيل يل‪ :‬على حرفني أو ثالثة‪.‬‬
‫فقال امللك الذي معي‪ :‬قل على ثالثة أحرف حىت بلغ سبعة أحرف‪ُ ،‬ث قال‪ :‬ليس منها إال شاف‬
‫كاف إن قلت‪ :‬مسيعا عليما‪ ،‬عزيزا حكيما‪ ،‬ما مل ختلط آية عذاب برمحة‪ ،‬أو آية رمحة بعذاب»‪.‬‬
‫وأسند اثبت بن قاسم حنو هذا احلديث عن أيب هريرة‪ ،‬عن النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وذكر من كالم‬
‫ابن مسعود حنوه‪ ،‬قال القاضي ابن الطيب‪ :‬وإذا ثبتت هذه الرواية‪ -‬يريد‬

‫(‪)81/1‬‬

‫حديث أيب‪ -‬محل على أن هذا كان مطلقا ُث نسخ‪ ،‬فال جيوز للناس أن يبدلوا امسا هلل تعاىل يف موضع‬
‫بغريه مما يوافق معناه أو خيالف‪.‬‬
‫القول الثاين‪ :‬قال قوم‪ :‬هي سبع لغات يف القرآن على لغات العرب‪ ،‬كلها مينها ونزارها؛ ألن رسول‬
‫هللا صلّى هللا عليه وسلم مل جيهل شيئا منها‪ ،‬وكان قد أويت جوامع الكلم‪ ،‬وليس معناه أن يكون يف‬
‫احلرف الواحد سبعة أوجه ولكن هذه اللغات السبع متفرقة يف القرآن‪ ،‬فبعضه بلغة قريش‪ ،‬وبعضه‬
‫بلغة هذيل‪ ،‬وبعضه بلغة هوازن‪ ،‬وبعضه بلغة اليمن» قال اخلطايب‪ :‬على أن يف القرآن ما قد قرئ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫بسبعة أوجه وهو قوله‪َ :‬و َعبَ َد الطَّاغُ َ‬
‫وت [سورة املائدة آية‪ ]60 :‬وقوله‪ :‬أ َْرسلْهُ َم َعنا غَداً يَـ ْرتَ ْع َويَـل َْع ْ‬
‫[سورة يوسف آية‪ ]12 :‬وذكر وجوها‪ ،‬كأنه يذهب إىل أن بعضه أنزل على سبعة أحرف ال كله‪.‬‬
‫وإىل هذا القول‪ :‬أبن القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات‪ ،‬ذهب أبو عبيد القاسم بن‬
‫سالم واختاره ابن عطية‪ .‬قال أبو عبيد‪ :‬وبعض األحياء أسعد هبا وأكثر حظّا فيها من بعض‪ ،‬وذكر‬
‫حديث ابن شهاب عن أنس‪ ،‬أن عثمان قال هلم حني أمرهم أن يكتبوا املصاحف‪ :‬ما اختلفتم أنتم‬
‫وزيد فاكتبوه بلغة قريش‪ ،‬فإنه نزل بلغتهم‪ .‬ذكره البخاري‪ ،‬وذكر حديث ابن عباس قال‪ :‬نزل القرآن‬
‫بلغة الكعبني‪ :‬كعب قريش وكعب خزاعة‪ ،‬قيل‪ :‬وكيف ذلك؟ قال‪ :‬ألن الدار واحدة‪ .‬قال أبو عبيد‪:‬‬
‫يعين أن خزاعة جريان‬
‫قريش فأخذوا بلغتهم‪.‬‬
‫قال القاضي ابن الطيب‪ :‬معىن قول عثمان‪ :‬فإنه نزل بلسان قريش‪( ،‬يريد معظمه وأكثره)‪ ،‬ومل تقم‬
‫منزل بلغة قريش فقط‪ ،‬إذ فيه كلمات وحروف خالف لغة قريش‪،‬‬ ‫داللة قاطعة على أن القرآن أبسره ّ‬
‫وقد قال هللا تعاىل‪ :‬إِ َّان َج َعلْناهُ قُـ ْرآانً َع َربِياا [سورة الزخرف آية‪ ]3 :‬ومل يقل قريشيّا‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫أنه منزل جبميع لسان العرب‪ ،‬وليس ألحد أن يقول‪ :‬إنه أراد قريشا من العرب دون غريها‪ ،‬كما أنه‬
‫ليس له أن يقول‪ :‬أراد لغة عدانن دون قحطان‪ ،‬أو ربيعة دون مضر؛ ألن اسم العرب يتناول مجيع‬
‫هذه القبائل تناوال واحدا‪.‬‬
‫وقال ابن عبد الرب‪ :‬قول من قال‪ :‬إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي يف األغلب وهللا أعلم‪ ،‬ألن‬
‫غري لغة قريش موجود يف صحيح القراءات من حتقيق اهلمزات وحنوها‪ ،‬وقريش ال هتمز‪.‬‬
‫وقال ابن عطية‪ :‬معىن قول النيب صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه‬
‫عبارات سبع قبائل بلغة مجلتها نزل القرآن‪ ،‬فيعرب عن املعىن فيه مرة بعبارة قريش‪ ،‬ومرة بعبارة هذيل‪،‬‬
‫ومرة بغري ذلك حبسب األفصح واألوجز يف اللفظ‪.‬‬

‫(‪)82/1‬‬

‫أال ترى أن فَطََر معناه عند غري قريش‪« :‬ابتدأ» فجاءت يف القرآن فلم تتجه البن عباس حىت اختصم‬
‫إليه أعرابيان يف بئر‪ ،‬فقال أحدمها‪ :‬أان فطرهتا؛ قال ابن عباس‪:‬‬
‫ض [سورة فاطر آية‪ ]1 :‬وقال أيضا‪:‬‬ ‫ماوات َو ْاأل َْر ِ‬‫الس ِ‬ ‫فاط ِر َّ‬ ‫ففهمت حينئذ موقع قوله تعاىل‪ِ :‬‬
‫ني قَـ ْوِمنا ِاب ْحلَِّق [سورة األعراف آية‪ ]89 :‬حىت‬ ‫ما كنت أدري معىن قوله تعاىل‪َ :‬ربَّـنَا افْـتَ ْح بَـ ْيـنَنا َوبَ ْ َ‬
‫مسعت بنت ذي يزن تقول لزوجها‪ :‬تعال أفاحتك‪ :‬أي أحاكمك‪.‬‬
‫ف [سورة النحل‬‫ْخ َذهم على َختَُّو ٍ‬
‫وكذلك قال عمر بن اخلطاب‪ ،‬وكان ال يفهم معىن قوله تعاىل‪ :‬أ َْو َأي ُ ُ ْ َ‬
‫آية‪ ]47 :‬أي على تنقص هلم‪.‬‬
‫وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ مسع النيب صلّى هللا عليه وسلم يقرأ يف الصالة‪ :‬والنَّ ْخل ِ‬
‫ابس ٍ‬
‫قات‬ ‫َ َ‬
‫[سورة ق آية‪ ]10 :‬ذكره مسلم يف ابب القراءة يف صالة الفجر إىل غري ذلك من األمثلة‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أن هذه اللغات السبع إمنا تكون يف مضر‪ ،‬قاله قوم‪ ،‬واحتجوا بقول عثمان‪ :‬نزل‬
‫القرآن بلغة مضر‪ ،‬وقالوا‪ :‬جائز أن يكون منها لقريش‪ ،‬ومنها لكنانة‪ ،‬ومنها ألسد‪ ،‬ومنها هلزيل‪،‬‬
‫ومنها لتميم‪ ،‬ومنها لضبة‪ ،‬ومنها لقيس‪ ،‬قالوا‪ :‬فهذه قبائل مضر تستوعب بسبع لغات على هذه‬
‫املراتب‪ ،‬وقد كان ابن مسعود حيب أن يكون الذين يكتبون املصاحف من مضر‪ ،‬وأنكر آخرون أن‬
‫تكون كلها يف مضر‪ ،‬وقالوا‪ :‬يف مضر شواذ ال جيوز أن يقرأ القرآن هبا‪ ،‬مثل كشكشة قيس ومتتمة‬
‫متيم‪.‬‬
‫ك َحتْتَ ِ‬
‫ك َس ِرااي [سورة مرمي‬ ‫فأما كشكشة قيس‪ :‬فإهنم جيعلون كاف املؤنث شينا فيقولون يف‪ :‬جعل ربُّ ِ‬
‫ََ َ َ‬
‫سراي‪.‬‬
‫آية‪ ]24 :‬جعل ربّش حتتش ّ‬
‫وأما متتمة متيم‪ :‬فيقولون يف الناس‪ :‬النات‪ ،‬ويف أكياس‪ :‬أكيات‪ ،‬قالوا‪ :‬وهذه لغات يرغب عن القرآن‬
‫هبا وال حيفظ عن السلف فيها شيء‪ .‬وقال آخرون‪ :‬أما إبدال اهلمزة عينا وإبدال حروف احللق‬
‫بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء‪ ،‬وقد قرأ به اجللة واحتجوا بقراءة ابن مسعود (ليسجننه عىت‬
‫حني) ذكرها أبو داود‪.‬‬
‫وبقول ذي الرمة‪:‬‬
‫فعيناك عيناها وجيدك جيدها ‪ ...‬ولونك إال عنّها غري طائل‬
‫القول الرابع‪ :‬ما حكاه صاحب الدالئل عن بعض العلماء‪ ،‬وحكى حنوه القاضي ابن الطيب قال‪:‬‬
‫تدبرت وجوه االختالف يف القراءة فوجدهتا سبعا‪ :‬منها ما تتغري حركته وال يزول معناه وال صورته‪،‬‬
‫ص ْد ِري [سورة الشعراء آية‪ ]13 :‬ويضيق‪.‬‬ ‫مثل ُه َّن أَط َْهر لَ ُكم [سورة هود آية‪ ]78 :‬وأطهر وي ِ‬
‫يق َ‬‫ض ُ‬ ‫ََ‬ ‫ُ ْ‬

‫(‪)83/1‬‬

‫َسفا ِران [سورة سبأ آية‪]19 :‬‬ ‫ِ‬


‫ني أ ْ‬
‫ومنها‪ :‬ما ال تتغري صورته ويتغري معناه ابإلعراب مثل‪َ :‬ربَّنا ابع ْد بَ ْ َ‬
‫وابعد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما تبقى صورته ويتغري معناه ابختالف احلروف‪ ،‬مثل قوله‪ :‬نُـ ْن ِش ُزها [سورة البقرة آية‪]259 :‬‬
‫وننشرها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما تتغري صورته ويبقى معناه مثل‪َ :‬كال ِْع ْه ِن ال َْم ْنـ ُف ِ‬
‫وش [سورة القارعة آية‪ ]5 :‬وكالصوف‬
‫املنفوش‪.‬‬
‫ود [سورة الواقعة آية‪ ]29 :‬وطلع منضود‪.‬‬ ‫ض ٍ‬ ‫ْح َم ْن ُ‬
‫ومنها‪ :‬ما تتغري صورته ومعناه مثل‪َ :‬وطَل ٍ‬
‫ت سكْرةُ الْمو ِ‬
‫ت ِاب ْحلَ ِّق [سورة ق آية‪ ]19 :‬وجاءت سكرة‬ ‫جاء ْ َ َ َ ْ‬ ‫ومنها‪ :‬ابلتقدمي والتأخري كقوله‪َ :‬و َ‬
‫احلق ابملوت‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ابلزايدة والنقصان مثل قوله‪ :‬تِ ْس ٌع َوتِ ْس ُعو َن نَـ ْع َجةً [سورة ص آية‪ ]23 :‬أنثى‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬وأما الغالم فكان كافرا وكان أبواه مؤمنني)‪ ،‬وقوله‪( :‬فإن هللا من بعد إكراههن هلن غفور‬
‫رحيم)‪.‬‬
‫القول اخلامس‪ :‬أن املراد ابألحرف السبعة معاين كتاب هللا تعاىل‪ ،‬وهي أمر وهني‪ ،‬ووعد ووعيد‪،‬‬
‫وقصص وجمادلة وأمثال‪ ،‬قال ابن عطية‪ :‬وهذا ضعيف؛ ألن هذا ال يسمى أحرفا‪ -،‬وأيضا‪-‬‬
‫فاإلمجاع على أن التوسعة مل تقع يف حتليل حالل وال يف تغيري شيء من املعاين‪ .‬وذكر القاضي ابن‬
‫الطيب يف هذا املعىن حديثا عن النيب صلّى هللا عليه وسلم ُث قال‪ :‬ولكن ليست هذه هي اليت أجاز‬
‫هلم القراءة هبا‪ ،‬وإمنا احلرف يف هذه ِبعىن اجلهة والطريقة‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪َ :‬وِم َن الن ِ‬
‫َّاس َم ْن يَـ ْعبُ ُد َّ‬
‫اَّللَ‬
‫ف [سورة احلج آية‪ ]11 :‬فكذلك معىن هذا احلديث على سبع طرائق من حتليل وحترمي‬ ‫على حر ٍ‬
‫َ َْ‬
‫وغري ذلك‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن املراد بقوله عليه الصالة والسالم‪« :‬أنزل القرآن على سبعة‬
‫أحرف» القراءات السبع اليت قرأ هبا القراء السبعة؛ ألهنا كلها صحت عن رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وهذا ليس بشيء لظهور بطالنه‪.‬‬

‫القول يف القراءات السبع‬


‫قال كثري من علمائنا كالداوودي وابن أيب صفرة وغريمها‪ :‬هذه القراءات السبع اليت تنسب هلؤالء‬
‫القراء السبعة ليست هي األحرف السبعة اليت اتسعت الصحابة يف القراءة هبا‪ ،‬وإمنا هي راجعة إىل‬
‫حرف واحد من تلك السبعة وهو الذي مجع عليه عثمان املصحف‪ ،‬ذكره ابن النحاس وغريه‪ ،‬وهذه‬
‫القراءات املشهورة هي اختيارات أولئك األئمة القراء‪ ،‬وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روي‬
‫وعلم وجهه من القراءات‬

‫(‪)84/1‬‬
‫ما هو األحسن عنده واألوىل فالتزمه طريقة‪ ،‬ورواه وأقرأ به واشتهر عنه‪ ،‬وعرف به ونسب إليه‪،‬‬
‫وجوزه‪ ،‬وكل‬
‫سوغه ّ‬
‫فقيل‪ :‬حرف انفع وحرف ابن كثري ومل مينع واحد منهم اختيار اآلخر وال أنكره بل ّ‬
‫كل صحيح‪ ،‬وقد أمجع املسلمون يف هذه‬
‫واحد من هؤالء السبعة روي عنه اختياران أو أكثر و ّ‬
‫األعصار على االعتماد على ما صح عن هؤالء األئمة مما رووه ورأوه من القراءات وكتبوا يف ذلك‬
‫مصنفات‪ ،‬فاستمر اإلمجاع على الصواب‪ ،‬وحصل ما وعد هللا به من حفظ الكتاب‪ ،‬وعلى هذا‬
‫األئمة املتقدمون‪ ،‬والفضالء احملققون كالقاضي أيب بكر بن الطيب والطربي وغريمها‪ ،‬قال ابن عطية‪:‬‬
‫ومضت األعصار واألمصار على قراءة السبعة وهبا يصلّى؛ ألهنا ثبتت ابإلمجاع؛ وأما شاذ القراءات‬
‫فال يصلى به؛ ألنه مل جيمع الناس عليه‪ .‬اه‪ .‬من القرطيب‪.‬‬

‫فضل قراءة القرآن وحفظه وتعلمه وتعليمه‬


‫عن عثمان بن عفان رضي هللا عنه عن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬خريكم من تعلم القرآن‬
‫وعلمه» [رواه البخاري ومسلم‪ ،‬وأبو داود والرتمذي والنسائي وابن ماجه وغريهم]‪.‬‬
‫وعن عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬من قرأ حرفا من‬
‫كتاب هللا فله به حسنة‪ ،‬واحلسنة بعشر أمثاهلا‪ ،‬ال أقول أمل حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪ ،‬والم حرف‪،‬‬
‫وميم حرف» [رواه الرتمذي وقال‪ :‬حديث حسن صحيح غريب]‪.‬‬
‫وعن أيب هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬ما اجتمع قوم يف بيت من‬
‫بيوت هللا يتلون كتاب هللا ويتدارسونه فيما بينهم إال نزلت عليهم السكينة (الطمأنينة)‪ ،‬وغشيتهم‬
‫(عمتهم) الرمحة‪ ،‬وحفتهم املالئكة‪ ،‬وذكرهم هللا فيمن عنده» [رواه مسلم وأبو داود وغريمها]‪.‬‬
‫وعن أيب سعيد رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬يقول الرب تبارك وتعاىل‪:‬‬
‫من شغله القرآن عن مسأليت أعطيته أفضل ما أعطي السائلني‪ ،‬وفضل كالم هللا على سائر الكالم‬
‫كفضل هللا على خلقه»‪[ .‬رواه الرتمذي وقال‪ :‬حديث غريب (ضعيف)]‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬املاهر ابلقرآن مع السفرة‬
‫الكرام الربرة‪ ،‬والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه (يرتدد يف قراءته)‪ ،‬وهو عليه شاق له أجران»‪.‬‬
‫ويف رواية‪ :‬والذي يقرؤه‪ ،‬وهو يشتد عليه له أجران» [رواه البخاري ومسلم واللفظ له‪ ،‬وأبو داود‬
‫والرتمذي والنسائي وابن ماجه]‪.‬‬
‫وعن أيب ذر رضي هللا عنه قال‪ :‬قلت‪ :‬اي رسول هللا أوصين؟ قال‪ :‬عليك بتقوى هللا‪ ،‬فإنه رأس األمر‬
‫كله‪ ،‬قلت‪ :‬اي رسول هللا زدين‪ .‬قال‪ :‬عليك بتالوة القرآن‪ ،‬فإنه نور لك يف‬
‫(‪)85/1‬‬

‫األرض‪ ،‬وذخر لك يف السماء» [رواه ابن حبان يف صحيحه يف حديث طويل]‪.‬‬


‫وعن جابر رضي هللا عنه عن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬القرآن شافع مشفع وماحل (خصم‬
‫جمادل) مص ّدق‪ ،‬من جعله أمامه قاده إىل اجلنة‪ ،‬ومن جعله خلف ظهره ساقه إىل النار» [رواه ابن‬
‫حبان يف صحيحه]‪.‬‬
‫وعن أيب أمامة الباهلي رضي هللا عنه قال‪ :‬مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقول‪« :‬اقرءوا‬
‫القرآن‪ ،‬فإنه أييت يوم القيامة شفيعا ألصحابه» [احلديث رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن سهل بن معاذ عن أبيه رضي هللا عنه أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬من قرأ القرآن‪،‬‬
‫وعمل به ألبس والداه اتجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس يف بيوت الدنيا‪ ،‬فما ظنكم‬
‫ابلذي عمل هبذا» رواه أبو داود واحلاكم‪ ،‬وكالمها عن زاين عن سهل‪ ،‬وقال احلاكم‪ :‬صحيح‬
‫اإلسناد‪.‬‬
‫وعن أيب هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬جييء صاحب القرآن يوم‬
‫القيامة‪ ،‬فيقول القرآن‪ :‬اي رب حلّه‪ ،‬فيلبس اتج الكرامة‪ُ ،‬ث يقول‪ :‬اي رب زده فيلبس حلّة الكرامة ُث‬
‫يقول‪ :‬اي رب ارض عنه‪ ،‬فريضى عنه‪ ،‬فيقال له‪ :‬اقرأ وارق‪ ،‬ويزداد بكل آية حسنة» [رواه الرتمذي‬
‫وحسنه وابن خزمية واحلاكم وقال‪ :‬صحيح اإلسناد]‪.‬‬
‫وعن عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬يقال‬
‫لصاحب القرآن اقرأ وارق‪ ،‬ورتّل كما كنت ترتل يف الدنيا‪ ،‬فإن منزلت عند آخر آية تقرؤها» رواه‬
‫الرتمذي‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬وابن حبان يف صحيحه‪ ،‬وقال الرتمذي‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫قال اخلطايب‪ :‬جاء يف األثر أن عدد آي القرآن‪ ،‬على قدر درج اجلنة‪ ،‬فيقال للقارئ‪ :‬ارق يف الدرج‬
‫على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن‪ ،‬فمن استوىف قراءة مجيع القرآن‪ ،‬استوىل على أقصى درج‬
‫اجلنة يف اآلخرة‪ ،‬ومن قرأ جزءا منه كان رقية يف الدرج على قدر ذلك‪ ،‬فيكون منتهى الثواب عند‬
‫منتهى القراءة»‪.‬‬
‫وعن ابن عمر رضي هللا عنهما قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬ال حسد إال يف اثنتني‪:‬‬
‫رجل آاته هللا هذا الكتاب‪ ،‬فقام به آانء الليل وآانء النهار‪ ،‬ورجل أعطاه هللا ماال فتصدق به آانء‬
‫الليل وآانء النهار» [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫قال اململي‪ :‬واملراد ابحلسد هنا الغبطة‪ ،‬وهي متين مثل ما للمحسود‪ ،‬ال متين زوال تلك النعمة عنه‪،‬‬
‫فإن ذلك احلسد املذموم‪.‬‬
‫وعن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬من قرأ القرآن فقد‬
‫استدرج‬

‫(‪)86/1‬‬

‫النبوة بني جنبيه غري أنه ال يوحى إليه ال ينبغي لصاحب القرآن أن جيد (يغضب) مع من وجد‪ ،‬وال‬
‫جيهل مع من جهل ويف جوفه كالم هللا» [رواه احلاكم وقال‪ :‬صحيح اإلسناد]‪.‬‬
‫وعنه رضي هللا عنه أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬الصيام والقرآن يشفعان للعبد‪ ،‬يقول‬
‫الصيام‪:‬‬
‫رب إين منعته الطعام والشراب ابلنهار فش ّفعين فيه‪ ،‬ويقول القرآن‪ :‬رب منعته النوم ابلليل فشفعين‬
‫فيه فيش ّفعان» رواه أمحد وابن أيب الدنيا يف كتاب اجلوع‪ ،‬والطرباين يف الكبري واحلاكم واللفظ له‪،‬‬
‫وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪.‬‬
‫وعن عبد هللا‪ ،‬يعين ابن مسعود رضي هللا عنه‪ ،‬عن النيب صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬إن هذا القرآن‬
‫مأدبة هللا‪ ،‬فاقبلوا مأدبته ما استطعتم‪ ،‬إن هذا القرآن حبل هللا املتني والنور املبني‪ ،‬والشفاء النافع‪،‬‬
‫فيقوم‪ ،‬وال تنقضي عجائبه‪ ،‬وال‬
‫يعوج ّ‬
‫عصمة ملن متسك به‪ ،‬وجناة ملن اتبعه‪ ،‬ال يزيغ فيستعتب‪ ،‬وال ّ‬
‫خيلق (يبلى) من كثرة الرد‪ ،‬اتلوه فإن هللا أيجركم على تالوته؛ كل حرف عشر حسنات‪ ،‬أما إين ال‬
‫أقول‪ :‬أمل حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪ ،‬والم حرف‪ ،‬وميم حرف»‪ .‬رواه احلاكم من رواية صاحل بن عمر‬
‫عن إبراهيم اهلجري عن أيب األحوص عنه‪ ،‬وقال‪ :‬تفرد به صاحل بن عمر عنه‪ ،‬وهو صحيح‪.‬‬
‫وعن أيب ذر رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬اي أاب ذر ألن تغدو فتتعلم آية‬
‫من كتاب هللا خري لك من أن تصلي مائة ركعة‪ ،‬وألن تغدو فتعلم اباب من العلم عمل به أو مل يعمل به‬
‫خري من أن تصلي ألف ركعة» [رواه ابن ماجه إبسناد حسن]‪.‬‬
‫وعن أيب هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬إذا قرأ ابن آدم السجدة‬
‫فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول‪ :‬اي ويله»‪.‬‬
‫ويف رواية‪« :‬اي ويلي أمر ابن آدم ابلسجود فسجد فله اجلنة‪ ،‬وأمرت ابلسجود فأبيت فلي النار»‬
‫[رواه مسلم وابن ماجه‪ ،‬ورواه البزار من حديث أنس]‪.‬‬
‫وعن أيب سعيد اخلدري رضي هللا عنه أنه رأى رؤاي‪ :‬أنه يكتب ص فلما بلغ إىل سجدهتا قال‪ :‬رأى‬
‫الدواة والقلم وكل شيء حبضرته انقلب ساجدا‪ .‬قال‪ :‬فقصصتها على النيب صلّى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فلم يزل يسجد هبا‪[ .‬رواه أمحد ورواته رواة الصحيح]‪.‬‬

‫ترمجة القرآن وأحكامها‬


‫قال يف مناهل العرفان للزرقاين‪:‬‬
‫نوجه األذهان يف فاحتة هذا املبحث إىل أمهيته وخطره من نواح ثالث‪:‬‬
‫أوالها‪ :‬دقته وغموضه إىل حد جعل علماءان خيتلفون فيه قدميا وحديثا‪.‬‬

‫(‪)87/1‬‬

‫اثنيتها‪ :‬أن كثريا من الناس قاموا يف زعمهم بنقل القرآن إىل لغات كثرية وترمجات متعددة‪.‬‬
‫اثلثتها‪ :‬وقوع أغالط فاحشة يف هذه اليت مسوها ترمجات‪ ،‬وكان وجودها معوال هداما لبناء جمد‬
‫اإلسالم‪ ،‬وحماولة سيئة لزلزلة الوحدة الدينية واللغوية واالجتماعية ألمتنا اإلسالمية (صاهنا هللا)‪.‬‬
‫انظر ما كتبه العالمة أبو عبد هللا الزجناين يف كتابه «اتريخ القرآن» إذ يقول‪ :‬رِبا كانت أول ترمجة إىل‬
‫اللغة الالتينية لغة العلم يف أوراب‪ ،‬وذلك سنة ‪ 1143‬م بقلم (كنت) الذي استعان يف عمله ببطرس‬
‫الطليطلي‪ ،‬وعامل اثن عريب‪ ،‬فيكون القرآن قد دخل أوراب عن طريق األندلس‪ ،‬وكان الغرض من ترمجته‬
‫عرضه على (دي كلوين) بقصد الرد عليه‪ ،‬وجند فيما بعد أن القرآن ترجم ونشر ابلالتينية عام‬
‫(‪ 1509‬م) ولكن مل يسمح للقراء أن يقتنوه ويتداولوه؛ ألن طبعته مل تكن مصحوبة ابلردود‪ .‬ويف‬
‫عام (‪ 1594‬م) أصدر (هنكلمان) ترمجته‪ ،‬وجاءت على األثر عام (‪ )1598‬طبعة (مراتشي)‬
‫مصحوبة ابلردود‪.‬‬
‫أفال ترى معىن أنه جيب علينا إبزاء ذلك أن نديل برأي سديد يف هذا األمر اجللل؟‬
‫لنعلم ما يراد بنا وبقرآننا‪ ،‬ولننظر إىل أي طريق حنن مسوقون؟ عسى أن يدفعنا هذا التحري والتثبت‬
‫إىل اختاذ إجراء حازم‪ ،‬ننتصف فيه للحق من الباطل‪ ،‬ونؤدي به رسالتنا يف نشر هداية اإلسالم‬
‫والقرآن على بصرية ونور؟!‪.‬‬
‫ولنبدأ الكالم ببيان معىن الرتمجة لغة وعرفا‪ُ ،‬ث بتقسيمها إىل حرفية وتفسريية‪ُ ،‬ث ببيان الفرق بني‬
‫الرتمجة والتفسري‪ ،‬فإن حتديد معاين األلفاظ وحتقيق املراد منها‪ ،‬جمهود مهم ومفيد‪ ،‬ال سيما ما كان من‬
‫األحباث اخلالفية كهذا البحث الذي نعانيه‪.‬‬
‫الرتمجة يف اللغة‪:‬‬
‫وضعت كلمة‪« :‬ترمجة» يف اللغة العربية لتدل على أحد معان أربعة‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬تبليغ الكالم ملن مل يبلغه‪ .‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬
‫إن الثمانني‪ -‬وبلّغتها ‪ ...‬قد أحوجت مسعي إىل ترمجان‬
‫اثنيها‪ :‬تفسري الكالم بلغته اليت جاء هبا ومنه قيل يف ابن عباس‪« :‬إنه ترمجان القرآن»‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬تفسري الكالم بلغة غري لغته‪ .‬جاء يف لسان العرب ويف القاموس‪ :‬أن الرتمجان هو املفسر‬
‫للكالم‪ .‬وقال شارح القاموس ما نصه‪« :‬وقد ترمجه وترجم عنه إذا فسر كالمه بلسان آخر‪ .‬قاله‬
‫اجلوهري» اه‪.‬‬

‫(‪)88/1‬‬

‫وجاء يف تفسري ابن كثري والبغوي‪ :‬أن كلمة «ترمجة» تستعمل يف لغة العرب ِبعىن التبيني مطلقا سواء‬
‫احتدت اللغة أم اختلفت‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬نقل الكالم من لغة إىل أخرى‪ .‬قال يف لسان العرب‪« :‬الرتمجان‪ :‬ابلضم والفتح هو الذي‬
‫يرتجم الكالم أي ينقله من لغة إىل أخرى‪ ،‬واجلمع تراجم» اه‪.‬‬
‫ولكون هذه املعاين األربعة فيها بيان‪ ،‬جاز على سبيل التوسع إطالق الرتمجة على كل ما فيه بيان مما‬
‫عدا هذه األربعة‪ ،‬فقيل‪ :‬ترجم هلذا الباب بكذا‪ ،‬أي‪ :‬عنون له‪ ،‬وترجم لفالن أي ّبني اترخيه‪ .‬وترجم‬
‫حياته أي‪ّ :‬بني ما كان فيها‪ .‬وترمجة هذا الباب كذا‪ :‬أي بيان املقصود منه وهلم جرا‪.‬‬

‫الرتمجة يف العرف‪:‬‬
‫نريد ابلعرف هنا عرف التخاطب العام‪ ،‬ال عرف طائفة خاصة وال أمة معينة‪.‬‬
‫جاء هذا العرف الذي تواضع عليه الناس مجيعا فخص الرتمجة ابملعىن الرابع اللغوي‪ ،‬وهو نقل الكالم‬
‫من لغة إىل أخرى‪ ،‬ومعىن نقل الكالم من لغة إىل أخرى‪:‬‬
‫التعبري عن معناه بكالم آخر من لغة أخرى‪ ،‬مع الوفاء جبميع معانيه ومقاصده كأنك نقلت الكالم‬
‫نفسه من لغته األوىل إىل اللغة الثانية‪.‬‬
‫تقسيم الرتمجة [ابملعىن العريف]‪:‬‬
‫وتنقسم الرتمجة هبذا املعىن العريف إىل قسمني‪ :‬حرفية وتفسريية‪:‬‬
‫فالرتمجة احلرفية‪ :‬هي اليت تراعى فيها حماكاة األصل يف نظمه وترتيبه‪ ،‬فهي تشبه وضع املرادف مكان‬
‫مرادفه ‪ ..‬وبعض الناس يسمي هذه الرتمجة ترمجة لفظية وبعضهم يسميها مساوية‪.‬‬
‫والرتمجة التفسريية‪ :‬هي اليت ال تراعى فيها تلك احملاكاة‪ ،‬أي حماكاة األصل يف نظمه وترتيبه‪ ،‬بل املهم‬
‫فيها حسن تصوير املعاين واألغراض كاملة‪ ،‬وهلذا تسمى أيضا ابلرتمجة املعنوية‪ ،‬ومسيت تفسريية؛ ألن‬
‫حسن تصوير املعاين واألغراض فيها جعلها تشبه التفسري‪ ،‬وما هي بتفسري كما يتبني لك بعد‪.‬‬
‫فاملرتجم ترمجة حرفية يقصد إىل كل كلمة يف األصل فيفهمها‪ُ ،‬ث يستبدل هبا كلمة تساويها يف اللغة‬
‫األخرى مع وضعها موضعها وإحالهلا حملها‪ ،‬وإن أدى ذلك إىل خفاء املعىن املراد من األصل‪ ،‬بسبب‬
‫اختالف اللغتني يف موقع استعمال الكالم يف املعاين املرادة إلفا واستحساان‪.‬‬

‫(‪)89/1‬‬

‫أما املرتجم ترمجة تفسريية‪ ،‬فإنه يعمد إىل املعىن الذي يدل عليه تركيب األصل فيفهمه‪ُ ،‬ث يصبه يف‬
‫قالب يؤديه من اللغة األخرى‪ ،‬موافقا ملراد صاحب األصل‪ ،‬من غري أن يكلف نفسه عناء الوقوف‬
‫عند كل مفرد وال استبدال غريه به يف موضعه‪.‬‬

‫ما ال بد منه يف الرتمجة مطلقا‪:‬‬


‫وال بد لتحقيق معىن الرتمجة مطلقا حرفية كانت أو تفسريية‪ ،‬من أمور أربعة‪:‬‬
‫أوهلا‪ -‬معرفة املرتجم ألوضاع اللغتني لغة األصل ولغة الرتمجة‪.‬‬
‫اثنيها‪ -‬معرفته ألساليبهما وخصائصهما‪.‬‬
‫اثلثها‪ -‬وفاء الرتمجة جبميع معاين األصل ومقاصده على وجه مطمئن‪.‬‬
‫رابعها‪ -‬أن تكون صيغة الرتمجة مستقلة عن األصل‪ ،‬حبيث ميكن أن يستغىن هبا عنه‪ ،‬وأن حتل حمله‪،‬‬
‫كأنه ال أصل هناك وال فرع‪ ،‬وسيأيت بيان ذلك يف الفروق بني الرتمجة والتفسري‪.‬‬

‫ما ال بد منه يف الرتمجة احلرفية‪:‬‬


‫ُث إن الرتمجة احلرفية تتوقف بعد هذه األربعة على أمرين آخرين‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬وجود مفردات يف لغة الرتمجة مساوية للمفردات اليت أتلف منها األصل حىت ميكن أن حيل‬
‫كل مفرد من الرتمجة حمل نظريه من األصل‪ .‬كما هو ملحوظ يف معىن الرتمجة احلرفية‪.‬‬
‫اثنيهما‪ :‬تشابه اللغتني يف الضمائر املسترتة والروابط اليت تربط املفردات لتأليف الرتاكيب‪ ،‬سواء يف‬
‫هذا التشابه ذوات الروابط وأمكنتها‪ ،‬وإمنا اشرتطنا هذا التشابه؛ ألن حماكاة هذه الرتمجة ألصلها يف‬
‫ترتيبه تقتضيه‪ُ ،‬ث إن هذين الشرطني عسريان‪ ،‬واثنيهما أعسر من األول‪ ،‬فهيهات أن جتد يف لغة‬
‫الرتمجة مفردات مساوية جلميع مفردات األصل‪ُ .‬ث هيهات هيهات أن تظفر ابلتشابه بني اللغتني‬
‫املنقول منها واملنقول إليها يف الضمائر املسترتة ويف دوال الروابط بني املفردات لتأليف املركبات‪.‬‬
‫ومن أجل هذه العزة والندرة قال بعضهم‪ :‬إن الرتمجة احلرفية مستحيلة‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إهنا ممكنة يف بعض الكالم دون بعض‪ ،‬ولقد علمت أهنا بعد هذه الصعوابت يكتنفها‬
‫الغموض وخفاء املعىن املقصود‪.‬‬
‫أما الرتمجة التفسريية فميسورة فيما ال يعجز عنه البشر‪ ،‬وتكون املعاين املرادة من‬

‫(‪)90/1‬‬

‫ضلها املشتغلون ابلرتمجات‬


‫األصل واضحة فيها غالبا‪ ،‬وهلذا اعتمدوا عليها يف الرتمجات الزمنية‪ ،‬وف ّ‬
‫على قسيمتها الرتمجة احلرفية‪.‬‬

‫فروق بني الرتمجة والتفسري‪:‬‬


‫ومهما تكن الرتمجة حرفية أو تفسريية فإهنا غري التفسري مطلقا‪ ،‬سواء أكان تفسريا بلغة األصل‪ ،‬أم‬
‫تفسريا بغري لغة األصل‪ ،‬ولكن كثريا من الكاتبني اشتبه عليهم األمر‪ ،‬فحسبوا أن الرتمجة التفسريية‬
‫هي التفسري بغري لغة األصل‪ ،‬أو هي ترمجة تفسري األصل‪ُ ،‬ث رتبوا على ذلك أن خلعوا حكمها على‬
‫ترمجة األصل نفسه‪ ،‬وكان هلذا اللبس واالشتباه مدخل يف النزاع واخلالف‪ ،‬هلذا نرى أن نقف هنا‬
‫وقفة طويلة‪ .‬نرسم فيها فروقا أربعة‪ -‬ال فرقا واحدا‪ -‬بني هذين املشتبهني يف نظرهم‪.‬‬
‫(الفارق األول)‪ :‬أن صيغة الرتمجة صيغة استقاللية يراعى فيها االستغناء هبا عن أصلها وحلوهلا حمله‪،‬‬
‫وليس كذلك التفسري‪ ،‬فإنه قائم أبدا على االرتباط أبصله‪ ،‬أبن يؤتى مثال ابملفرد أو املركب‪ُ ،‬ث يشرح‬
‫هذا املفرد أو املركب شرحا متصال به اتصاال يشبه اتصال املبتدأ خبربه إن مل يكن إايه‪ُ ،‬ث ينتقل إىل‬
‫جزء آخر مفرد أو مجلة‪ ،‬وهكذا من بداية التفسري إىل هنايته‪ ،‬حبيث ال ميكن جتريد التفسري‪ ،‬وقطع‬
‫جرد لتفكك الكالم وصار لغوا أو أشبه ابللغو فال يؤدي معىن‬
‫وشائج اتصاله أبصله مطلقا‪ ،‬ولو ّ‬
‫سليما‪ ،‬فضال عن أن حيل يف مجلته وتفصيله حمل أصله‪.‬‬
‫(الفارق الثاين)‪ :‬أن الرتمجة ال جيوز فيها االستطراد‪ ،‬أما التفسري فيجوز بل قد جيب فيه االستطراد‪،‬‬
‫وذلك ألن الرتمجة مفروض فيها أهنا صورة مطابقة ألصلها حاكية له‪ ،‬فمن األمانة أن تساويه بدقة من‬
‫غري زايدة وال نقص‪ ،‬حىت لو كان يف األصل خطأ لوجب أن يكون اخلطأ عينه يف الرتمجة‪ ،‬خبالف‬
‫التفسري فإن املفروض فيه أنه بيان ألصله وتوضيح له‪ ،‬وقد يقتضي هذا البيان واإليضاح أن يذهب‬
‫املفسر مذاهب شىت يف االستطراد‪ ،‬توجيها لشرحه‪ ،‬أو تنويرا ملن يفسر هلم على مقدار حاجتهم إىل‬
‫استطراده‪ ،‬ويظهر ذلك يف شرح األلفاظ اللغوية خصوصا إذا أريد هبا غري ما وضعت له‪ ،‬ويف املواضع‬
‫اليت يتوقف فهمها أو االقتناع هبا على ذكر مصطلحات أو سوق أدلة أو بيان حكمة‪.‬‬
‫وهذا هو السر يف أكثر تفاسري القرآن الكرمي تشتمل على استطرادات متنوعة يف علوم اللغة‪ ،‬ويف‬
‫العقائد‪ ،‬ويف الفقه وأصوله‪ ،‬ويف أسباب النزول‪ ،‬ويف الناسخ واملنسوخ‪ ،‬ويف العلوم الكونية‬
‫واالجتماعية وغري ذلك‪.‬‬
‫ومن ألوان االستطراد‪ ،‬تنبيهه على خطأ األصل إذا أخطأ‪ ،‬كما نالحظ ذلك يف‬

‫(‪)91/1‬‬

‫شروح الكتب العلمية‪ ،‬ويستحيل أن جتد مثل هذا يف الرتمجة‪ ،‬وإال كان خروجا عن واجب األمانة‬
‫والدقة فيها‪.‬‬
‫(الفارق الثالث)‪ :‬أن الرتمجة تتضمن‪ -‬عرفا‪ -‬دعوى الوفاء جبميع معاين األصل ومقاصده‪ ،‬وليس‬
‫كذلك التفسري فإنه قائم على اإليضاح كما قلنا‪ ،‬سواء أكان هذا اإليضاح بطريق إمجايل أو تفصيلي‪،‬‬
‫املفسر‬
‫متناوال كافة املعاين واملقاصد‪ ،‬أو مقتصرا على بعضها دون بعض طوعا للظروف اليت خيضع هلا ّ‬
‫ومن يفسر هلم‪ ،‬والدليل على هذا الفارق‪ ،‬هو حكم العرف العام الذي نتحدث اآلن بلسانه‪ ،‬وإليك‬
‫مثال من أمثاله‪:‬‬
‫رجل عثر يف خملفات أبيه على صحيفتني خمطوطتني بلغة أجنبية وهو غري عامل هبذا اللسان األجنيب‪،‬‬
‫فدفعهما إىل خبري ابللغات يستفسره عنهما‪ ،‬فيجيبه اخلبري قائال‪ :‬إن الصحيفة األوىل خطاب اتفه من‬
‫مزق‬
‫معوز أجنيب‪ ،‬يستجدي أابك فيه ويستعينه‪ ،‬أما الثانية فوثيقة بدين كبري ألليك على أجنيب‪ .‬هنا ّ‬
‫الرجل خطاب االستجداء ومل حيفل به‪ ،‬أما الوثيقة فاعتد هبا وطلب من هذا املتمكن يف اللغات أن‬
‫يرتمجها له ليقاضي املدين أمام احملكمة‪ ،‬لغتها لغة الرتمجة‪.‬‬
‫أليس معىن هذا أن التفسري مل يكفه؟ بدليل أنه طلب الرتمجة من املرتجم‪ ،‬علما أبهنا هي اليت تفي‬
‫بكل ما تضمنته تلك الوثيقة‪ ،‬وبكل ما يقصد منها فال تضعف له هبا حجة‪ ،‬وال يضيع عليه حق؟‪.‬‬
‫(الفارق الرابع)‪ :‬أن الرتمجة تتضمن‪ -‬عرفا‪ -‬دعوى االطمئنان إىل أن مجيع املعاين واملقاصد اليت‬
‫نقلها املرتجم‪ ،‬هي مدلول كالم األصل‪ ،‬وأهنا مرادة لصاحب األصل منه‪ ،‬وليس كذلك التفسري‪ ،‬بل‬
‫املفسر اترة يدعي االطمئنان‪ ،‬وذلك إذا توافرت لديه أدلته‪ ،‬واترة ال يدعيه‪ ،‬وذلك عندما تعوزه تلك‬
‫األدلة‪.‬‬
‫ُث هو طورا يصرح ابالحتمال ويذكر وجوها حمتملة مرجحا بعضها على بعض‪ ،‬وطورا يسكت عن‬
‫رب‬
‫التصريح أو عن الرتجيح‪ ،‬وقد يبلغ به األمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو مجلة ويقول‪ّ :‬‬
‫الكالم أعلم ِبراده‪ ،‬على حنو ما حنفظه لكثري من املفسرين إذا عرضوا ملتشاهبات القرآن ولفواتح‬
‫السور املعروفة‪.‬‬
‫ودليلنا على أ ّن الرتمجة تتضمن دعوى االطمئنان إىل ما حوت من معان ومقاصد‪ ،‬وهو شهادة العرف‬
‫العام‪ -‬أيضا‪ -‬بذلك‪ ،‬وجراين عمل الناس مجيعا يف الرتمجات على هذا االعتبار‪ ،‬فهم حيلوهنا حمل‬
‫أصوهلا إذا شاءوا‪ ،‬ويستغنون هبا عن تلك األصول‪ ،‬بل قد ينسون هذه األصول مجلة‪ ،‬ويغيب عنهم‬
‫أن الرتمجات ترمجات فيحذفون لفظ ترمجة من االسم‪،‬‬

‫(‪)92/1‬‬

‫ويطلقون عليها اسم األصل نفسه‪ ،‬كأمنا الرتمجة أصل‪ ،‬أو كأنه ال أصل هناك وال فرع‪.‬‬
‫وإن كنت يف ريب فاسأل الناس عما بني أيدينا من ترمجات عربية لطائفة من كتبهم اليت يقدسوهنا‪،‬‬
‫ويطلقون على بعضها اسم توراة‪ ،‬وعلى بعضها اسم إجنيل‪ ،‬وما مها ابلتوراة وال ابإلجنيل‪ ،‬إمنا مها‬
‫ترمجتان عربيتان ألصلني عربيني ابعرتافهم‪ .‬ولكنهم أسقطوا حسب العرف العام لفظ ترمجة من‬
‫العنوانني االثنني‪ ،‬وما ذاك إال ملا وقر يف النفوس من أن الرتمجة صورة مطابقة لألصل‪ ،‬مطمئنة إىل أهنا‬
‫تؤدي مجيع مؤداه‪ ،‬ال فرق بينهما إال يف القشرة اللفظية‪.‬‬
‫وقل مثل ذلك فيما نعرفه من ترمجات للقوانني والواثئق الدولية والشخصية ومن ترمجات للكتب‬
‫العلمية والفنية واألدبية‪ ،‬وهي كثرية غنية عن التنويه والتمثيل‪.‬‬
‫يقال كل هذا يف الرتمجات‪ ،‬وال ميكن أن يقال مثله يف التفسري‪ ،‬فإننا ما مسعنا أن كلمة تفسري أسقطت‬
‫من عنوان كتاب من كتبه‪ .‬ويدل على هذا تلك اإلطالقات الشائعة‪ :‬تفسري البيضاوي‪ ،‬تفسري‬
‫النسفي‪ ،‬تفسري اجلاللني‪ ،‬وما أشبهها من تفسريات القرآن الكرمي‪.‬‬

‫تنبيهان مفيدان‪:‬‬
‫أوهلما‪ :‬أنه ال فرق بني الرتمجة احلرفية والتفسريية من حيث احلقيقة‬
‫‪ ،‬فكلتامها تعبري عن معىن كالم يف لغة بكالم آخر من لغة أخرى مع الوفاء جبميع معاين األصل‬
‫ومقاصده‪ ،‬وما الفرق بينهما إال شكلي وهو أن حيل كل مفرد يف الرتمجة احلرفية حمل مقابله من‬
‫األصل‪ ،‬خبالف التفسريية كما بينّا‪ ،‬فال تظن بعد هذا أن كلمة ترمجة تنصرف إىل احلرفية أكثر مما‬
‫تنصرف إىل التفسريية كما يظن بعض الناس‪ ،‬بل التفسريية أثبت قدما وأعرق وجودا وأقرب إىل‬
‫األذهان عند اإلطالق‪ ،‬ألهنا هي امليسورة‪ ،‬وهي الواضحة‪ ،‬وهي اليت يتداوهلا املرتمجون والقراء مجيعا‪،‬‬
‫تعسرها أو تع ّذرها‪ ،‬ومن غموضها وخفائها أحياان‪،‬‬
‫أما احلرفية فإهنا تكاد تكون نظرية حبتة‪ ،‬وذلك من ّ‬
‫ومن ندرة إقبال الرتاجم والقراء عليها كما سبق‪.‬‬

‫اثنيهما‪ :‬أن تفسري األصل بلغته‪ ،‬يساوي تفسريه بغري لغته‬


‫‪ ،‬فيما عدا القشرة اللفظية‪ ،‬أال ترى أنك إذا قرأت درس تفسري للخاصة كاشفا فيه عن معان معينة‬
‫ابللغة العربية‪ُ ،‬ث قرأت هذا الدرس عينه للعامة كاشفا عن هذه املعاين نفسها ولكن بلغة املخاطبني‬
‫العامية‪ ،‬فهل تشك يف مساواة هذا التفسري لذاك يف بيان املعاين املعينة اليت فهمتها من األصل؟ وهل‬
‫جتد بينهما خالفا إال يف لغة التعبري وقشرة اللفظ؟‪.‬‬
‫إذا ال حطنا ذلك أمنّا االشتباه من هذه الناحية وأمكن أن نستغين يف حبثنا هذا بذكر املساوي عن‬
‫ذكر مساويه‪ ،‬ثقة أبن ما يقال يف أحدمها يقال مثله يف اآلخر‪ ،‬فتنبه إىل ذلك دائما‪.‬‬

‫(‪)93/1‬‬

‫القرآن ومعانيه ومقاصده‬


‫اآلن وقد انتهينا من الكالم على أول املتضايفني يف لفظ (ترمجة القرآن)‪ ،‬نقف معك وقفة أخرى‬
‫جبانب اثين هذين املتضايفني يف لفظ القرآن الكرمي نفسه لتستبني املراد به هنا‪ ،‬ولتعرف أنواع معانيه‬
‫ومقاصده متهيدا للحكم الصحيح عليه أبنه متكن ترمجته أو ال متكن‪.‬‬
‫معاين القرآن نوعان‪:‬‬
‫وِبا أن الرتمجة ملحوظ فيها اإلحاطة ِبعاين األصل كلها‪ ،‬حنيطك علما أبن القرآن الكرمي‪ ،‬بل أي‬
‫كالم بليغ‪ ،‬ال بد أن حيتوي ضربني من املعاين مها املعاين األولية واملعاين الثانوية‪ ،‬أو املعاين األصلية‬
‫ألي كالم بليغ هو ما يستفاد من هذا الكالم ومن أي صيغة تؤديه‬
‫األويل ّ‬
‫واملعاين التابعة‪ ،‬فاملعىن ّ‬
‫سواه‪ ،‬ولو بلغة أخرى كمجرد إسناد حمكوم به إىل حمكوم عليه‪.‬‬
‫ومسّي معىن ّأوليّا؛ ألنه أول ما يفهم من اللفظ‪.‬‬
‫ومسّي أصليّا؛ ألنه اثبت ثبات األصول‪ ،‬ال خيتلف ابختالف املتكلمني وال املخاطبني وال لغات‬
‫التخاطب‪ ،‬بل هو مما يستوي فيه العريب والعجمي واحلضري والبدوي والذكي والغيب‪.‬‬
‫اثنواي؛ ألنه متأخر يف فهمه‬
‫األويل‪ ،‬ومسّي ّ‬
‫أما املعىن الثانوي فهو ما يستفاد من الكالم زائدا عن معناه ّ‬
‫عن ذلك‪.‬‬
‫والكالم البليغ يتفاوت تفاوات بعيد املدى‪ ،‬تبعا لدرجة توافر هذه الزوائد فيه ك ّال أو بعضا‪ ،‬ومل تعرف‬
‫الدنيا ولن تعرف كالما بلغ الطرف األعلى والنهاية العظمى يف اإلحاطة بكل اخلواص البالغية‪ ،‬سوى‬
‫القرآن الكرمي‪ ،‬الذي انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء‪ ،‬وانبهرت يف حلبته أنفاس املوهوبني‬
‫من الفصحاء‪ ،‬حىت شهدوا على أنفسهم ابلعجز حني شاهدوا روائع اإلعجاز‪ ،‬ورأوا أن كالمهم وإن‬
‫اخلالق!‬
‫عال فهو من اخللق أما القرآن فهو من ّ‬

‫(‪)94/1‬‬

‫مقاصد القرآن الكرمي‬


‫ِبا أن الرتمجة‪ -‬عرفا‪ -‬البد أن تتناول مقاصد األصل مجيعا‪ ،‬فإان نقفك على أن هلل تعاىل يف إنزال‬
‫كتابه العزيز ثالثة مقاصد رئيسية‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون هداية للثقلني‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن يقوم آية لتأييد النيب صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن يتعبد هللا خلقه بتالوة هذا الطراز األعلى من كالمه املقدس‪.‬‬

‫[املقصد األول] هداية القرآن‪:‬‬


‫هداية القرآن متتاز أبهنا عامة‪ ،‬واتمة‪ ،‬وواضحة‪.‬‬
‫أما عمومها‪ :‬فألهنا تنتظم اإلنس واجلن يف كل عصر ومصر‪ ،‬ويف كل زمان ومكان قال هللا سبحانه‪:‬‬
‫ني نَ ِذيراً [سورة الفرقان آية‪.]1 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫بار َك الَّذي نَـ َّز َل الْ ُف ْرقا َن َعلى َع ْبده ليَ ُكو َن للْعالَ ِم َ‬
‫تَ َ‬
‫ول َِّ‬
‫اَّلل إِلَْي ُكم َِ‬ ‫َّاس إِِّين َر ُس ُ‬
‫مجيعاً [سورة األعراف آية‪.]158 :‬‬ ‫ْ‬ ‫وقال سبحانه‪ :‬قُ ْل اي أَيُّـ َها الن ُ‬
‫وأما متام هذه اهلداية‪ :‬فألهنا احتوت أرقى وأوىف ما عرفت البشرية وعرف التاريخ من هداايت هللا‬
‫للناس‪ ،‬وانتظمت كل ما حيتاج إليه اخللق يف العقائد واألخالق والعبادات واملعامالت على اختالف‬
‫أنواعها‪ ،‬ومجعت بني مصاحل البشر يف العاجلة واآلجلة‪ ،‬ونظمت عالقة اإلنسان بربه‪ ،‬وابلكون الذي‬
‫يعيش فيه‪ ،‬ووفّقت بطريقة حكيمة‬
‫بني مطالب الروح واجلسد‪.‬‬
‫وأما وضوح هذه اهلداية‪ :‬فلعرضها‪ -‬عرضا رائعا مؤثرا‪ ،‬توافرت فيه كل وسائل اإليضاح وعوامل‬
‫اإلقناع‪ -‬أسلوب فذ معجز يف بالغته وبيانه‪ ،‬واستدالل بسيط عميق يستمد بساطته وعمقه من‬
‫كتاب الكون الناطق‪ ،‬وأمثال خالبة خترج أدق املعقوالت يف صورة أجلى احملسوسات‪ ،‬وحكم ابلغات‬
‫تبهر األلباب ِبحاسن اإلسالم‪ ،‬وجالل التشريع‪ ،‬وقصص حكيم خمتار يقوي اإلميان واليقني‪ ،‬ويهذب‬
‫النفوس والغرائز‪ ،‬ويصقل األفكار والعواطف‪ ،‬ويدفع اإلنسان دفعا إىل التضحية والنهضة‪ ،‬ويصور له‬
‫مستقبل األبرار والفجار تصويرا جيعله كأنه حاضر تراه األبصار يف رابعة النهار‪ ،‬واألمثلة على ذلك‬
‫كثرية يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫واملهم أن نعلم يف هذا املقام أن اهلداايت القرآنية منها ما استفيد من معاين القرآن‬

‫(‪)95/1‬‬

‫األصلية‪ ،‬ومنها ما استفيد من معانيه الثانوية‪.‬‬


‫أما القسم األول فواضح ال حيتاج إىل متثيل‪ ،‬وهو موضع اتفاق بني اجلميع‪ ،‬وأما القسم الثاين ففيه‬
‫دقة جعلت بعض الباحثني جيادل فيه‪ ،‬وإان نوضحه لك أبمثلة نستمدها من فاحتة الكتاب العزيز‪:‬‬
‫‪ -‬منها‪ :‬استفادة أدب االبتداء ابلبسملة يف كل أمر ذي ابل‪ ،‬أخذا من ابتداء هللا كالمه هبا‪ ،‬ومن‬
‫افتتاحه كل سورة من سوره هبا عدا سورة التوبة‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬أن االستعانة يف أي شيء ال تستمد إال من اسم هللا وحده‪ ،‬أخذا من إضافة االسم إىل لفظ‬
‫اجلاللة موصوفا ابلرمحن الرحيم‪ ،‬ومن القصر املفهوم من البسملة على تقدير عامل اجلار واجملرور‬
‫خاصا‪.‬‬
‫عاما ال ّ‬
‫متأخرا‪ ،‬ومن تقدير هذا العامل ّ‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬استفادة االستدالل على أن احلمد مستحق هلل أبمور ثالثة‪ :‬تربيته تعاىل للعوامل كلها‪ ،‬ورمحته‬
‫وأتصل اتصافه تعاىل هبا‪ ،‬وتصرفه وحده ابجلزاء العادل يوم اجلزاء‪ ،‬وذلك‬ ‫الواسعة اليت ظهرت آاثرها ّ‬
‫ِِ‬
‫ب الْعالَ ِم َ‬
‫ني‬ ‫أخذا من جراين هذه األوصاف على اسم اجلاللة يف مقام محده بقوله سبحانه‪ :‬ا ْحلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ‬
‫ك يَـ ْوِم ال ِّدي ِن‪.‬‬
‫الرِح ِيم (‪ )3‬مالِ ِ‬‫الر ْمح ِن َّ‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬استفادة التوحيد بنوعيه‪ :‬توحيد األلوهية‪ ،‬وتوحيد الربوبية من القصر املاثل يف قوله سبحانه‬
‫ِ‬
‫إِ َّاي َك نَـ ْعبُ ُد َوإِ َّاي َك نَ ْستَع ُ‬
‫ني‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬استفادة دليل هذا التوحيد من اآلايت السابقة عليه ووقوعه هو يف سياقها عقيبها كما تقع‬
‫النتيجة عقب مقدماهتا‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬استفادة أن اهلداية إىل الصراط املستقيم هي املطمع األمسى الذي جيب أن يرمي إليه الناس‬
‫ويتنافس فيه املتنافسون‪ ،‬يدل على ذلك اختيارها واالقتصار على طلبها والدعاء هبا‪ُ ،‬ث انتهاء سورة‬
‫الفاحتة هبا كما تنتهي البداايت ِبقاصدها‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬استفادة أن اهلداية ال يرجى فيها إال هللا وحده؛ ألهنا انتظمت مع آايت التوحيد قبلها يف‬
‫مسط (خيط) واحد‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬استفادة أدب من اآلداب‪ ،‬هو أن يقدم الداعي ثناء هللا على دعائه‪ ،‬استنتاجا من ترتيب‬
‫هذه اآلايت الكرمية‪ ،‬حيث تقدم فيها ما يتصل حبمد هللا ومتجيده وتوحيده على ما يتصل بدعائه‬
‫واستهدائه‪.‬‬
‫هذه أمثلة اقتبسناها من سورة الفاحتة وحنن ال نظن أن أحدا خياصم فيها‪.‬‬
‫واعلم أن قرآنية القرآن وامتيازه‪ ،‬ترتبط ِبعانيه الثانوية وما استفيد منها‪ ،‬أكثر مما‬

‫(‪)96/1‬‬

‫ترتبط ِبعانيه األصلية وما استفيد منها‪ ،‬لالعتبارات اآلنفة‪ ،‬وألن املعاين األصلية ضيقة الدائرة حمدودة‬
‫األفق‪ ،‬أما املعاين الثانوية فبحر زاخر متالطم األمواج تتجلى فيها علوم هللا وحكمته وعظمته اإلهلية‪،‬‬
‫وتظهر منها فيوضات هللا وإهلاماته العلوية على من وهبهم هذه الفيوضات واإلهلامات من عباده‬
‫املصطفني‪ ،‬وورثة كالمه املقربني‪ ،‬وأهل الذوق والصفاء من العلماء العاملني‪ ،‬جعلنا هللا منهم ِبنه‬
‫وكرمه‪ .‬آمني‪.‬‬
‫[املقصد الثاين] إعجاز القرآن‪:‬‬
‫املقصد الثاين من نزول القرآن الكرمي‪ :‬أن يقوم يف فم الدنيا آية شاهدة برسالة سيدان حممد صلّى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق ابهلدى ودين احلق‪ ،‬ظاهرا على الدين‬
‫كله‪ ،‬ووجوه إعجاز القرآن الكرمي كثرية نفصلها يف مبحثها إن شاء هللا‪ ،‬بيد أننا ننبهك هنا إىل أن‬
‫بالغته العليا وجه ابرز من هذه الوجوه‪ ،‬بل هي أبرز وجوهه وجودا‪ ،‬وأعظمها أفرادا؛ ألن كل مقدار‬
‫ثالث آايت قصار معجز ولو كان هذا املقدار من آية واحدة طويلة‪ ،‬فقد حتدى هللا أئمة البيان أن‬
‫أيتوا بسورة من مثله‪ ،‬وأقصر سورة هي سورة الكوثر‪ ،‬وآايهتا ثالث قصار‪ ،‬وإذا كان أئمة البيان يف‬
‫عصر ازدهاره والنباغة فيه قد عجزوا فسائر اخللق أشد عجزا‪ ،‬ولقد فرغنا من أن بالغة القرآن‬
‫منوطة ِبا اشتمل عليه من اخلصوصيات‪ ،‬واالعتبارات الزائدة وأنت خبري أبهنا سارية فيه سراين املاء‬
‫يف العود األخضر أو سراين الروح يف اجلسم احلي‪ ،‬وإن نظم القرآن الكرمي مصدر هلداايته كلها سواء‬
‫منها ما كان طريقه هيكل النظم‪ ،‬وما كان طريقه تلك اخلصوصيات الزائدة عليه‪ ،‬وهنا يطالعك‬
‫العجب العجاب‪ ،‬حني جتد دليل صدق اهلداية اإلسالمية قد آخاها‪ ،‬واحتد مطلعهما يف مساء القرآن‬
‫فأداه وأداها‪.‬‬

‫[املقصد الثالث] التعبد بتالوة القرآن‪:‬‬


‫املقصد الثالث من نزول القرآن‪ :‬أن يتعبد هللا خلقه بتالوته‪ ،‬ويقرهبم إليه‪ ،‬وأيجرهم على جمرد ترديد‬
‫َّ ِ‬
‫لفظه ولو من غري فهمه‪ ،‬فإذا ضموا إىل التالوة فهما زادوا أجرا على أجر‪ .‬قال هللا تعاىل‪ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫ور (‪ )29‬لِيُـ َوفِّيَـ ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يـ ْتـلُو َن كِتاب َِّ‬
‫ارةً لَ ْن تَـبُ َ‬ ‫الصالةَ َوأَنْـ َف ُقوا ممَّا َرَزق ُ‬
‫ْناه ْم س ارا َو َعالنيَةً يَـ ْر ُجو َن جت َ‬ ‫َقاموا َّ‬ ‫اَّلل َوأ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫أُجورهم وي ِزي َدهم من فَ ْ ِ‬
‫ضل ِه إِنَّهُ‬ ‫ُ َُ ْ ََ ُ ْ ْ‬
‫ور‬
‫ور َش ُك ٌ‬
‫غَ ُف ٌ‬
‫[سورة فاطر آية‪.]30 - 29 :‬‬
‫وقال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬من قرأ حرفا من كتاب هللا تعاىل فله به حسنة‪ ،‬واحلسنة‬
‫بعشر أمثاهلا‪ ،‬ال أقول أمل حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف والم حرف وميم حرف»‬

‫(‪)97/1‬‬
‫[رواه الرتمذي وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وروى احلاكم مثله مرفوعا وقال‪ :‬صحيح اإلسناد]‪.‬‬
‫وجاء يف حديث آخر عن أنس أنه قال‪« :‬أفضل عبادة أميت قراءة القرآن» وسنده ضعيف‪ ،‬غري أنه‬
‫يتقوى بغريه ُث إن هذه خصيصة امتاز هبا القرآن الكرمي‪ ،‬أما غريه فال أجر على جمرد تالوته‪ ،‬بل ال بد‬
‫من التفكر فيه وتدبره‪ ،‬حىت الصالة اليت هي عماد الدين ليس للمرء من ثواهبا إال ِبقدار ما عقل‬
‫منها‪.‬‬

‫حكم ترمجة القرآن تفصيال‬


‫‪ - 1‬ترمجة القرآن ِبعىن تبليغ ألفاظه‪:‬‬
‫تطلق ترمجة القرآن إطالقا مستندا إىل اللغة ويراد هبا‪ :‬تبليغ ألفاظه ونقلها إىل الغري‪ ،‬وحكمها حينئذ‬
‫أهنا جائزة شرعا‪ ،‬واملراد ابجلواز هنا ما يقابل احلظر فيصدق ابلوجوب وابلندب‪ ،‬وإن شئت دليال فها‬
‫هو صلّى هللا عليه وسلم كان يقرأ القرآن ويسمعه أولياءه وأعداءه‪.‬‬
‫ويدعو إىل هللا به يف مولده ومهاجره‪ ،‬ويف سفره وحضره‪ ،‬واألمة من ورائه هنجت هنجه‪ ،‬فبلّغت ألفاظ‬
‫القرآن‪ ،‬وتلقاها بعضهم عن بعض فردا عن فرد‪ ،‬ومجاعة عن مجاعة‪ ،‬وجيال عن جيل حىت وصل إلينا‬
‫متواترا‪ُ ،‬ث ها هو القرآن نفسه يتوعد كامتيه ويقول‪ :‬إِ َّن الَّ ِذين يكْتُمو َن ما أَنْـزلْنا ِمن الْبـيِ ِ‬
‫نات َوا ْهلُدى‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ََ ُ‬
‫َّ ِ‬ ‫اَّلل ويـلْعنـهم َّ ِ‬ ‫تاب أُولئِ َ‬ ‫ِم ْن بَـ ْع ِد ما بَـيَّـنَّاهُ لِلن ِ‬
‫َّاس ِيف ال ِ‬
‫الالعنُو َن (‪ )159‬إَِّال الذ َ‬
‫ين اتبُوا‬ ‫ك يَـل َْعنُـ ُه ُم َُّ َ َ َُ ُ ُ‬
‫ْك ِ‬
‫ِ‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم َوأ ََان التـ َّ‬ ‫َصلَ ُحوا َوبَـيَّـنُوا فَأُولئِ َ‬
‫يم [سورة البقرة آية‪.]160 ،159 :‬‬ ‫اب ال َّرح ُ‬ ‫َّو ُ‬ ‫ك أَتُ ُ‬ ‫َوأ ْ‬
‫والنيب صلّى هللا عليه وسلم يقول‪« :‬بلّغوا عين ولو آية‪ ،‬وح ّدثوا عن بين إسرائيل وال حرج‪ ،‬ومن‬
‫علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» [رواه البخاري والرتمذي وأمحد]‪.‬‬
‫كذب ّ‬
‫ويقول صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬خريكم من تعلّم القرآن وعلّمه» [رواه الشيخان]‪.‬‬

‫‪ - 2‬ترمجة القرآن ِبعىن تفسريه بلغته العربية‪:‬‬


‫مر‪ ،‬ويراد به تفسري القرآن بلغته العربية ال‬
‫هذا هو اإلطالق الثاين املستند إىل اللغة‪ -‬أيضا‪ -‬كما ّ‬
‫بلغة أخرى‪ ،‬وغين عن البيان أن حكمه اجلواز ابملعىن اآلنف‪ ،‬وإن كنت يف شك فهاك القرآن نفسه‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم [سورة النحل‬ ‫يقول هللا فيه لنبيه صلّى هللا عليه وسلم‪ :‬وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫آية‪.]44 :‬‬
‫ولقد قام الرسول صلّى هللا عليه وسلم ببيانه العريب خري قيام‪ ،‬حىت اعتربت السنة النبوية كلها شارحة‬
‫له‪ ،‬ونقل منها يف التفسري ابملأثور شيء كثري‪.‬‬
‫(‪)98/1‬‬

‫ولقد أتثر العلماء برسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يف ذلك منذ عهد الصحابة إىل اليوم‪ ،‬وها هي‬
‫املكتبات العامة واخلاصة زاخرة ابلتفاسري العربية للقرآن الكرمي على رغم ما اندثر منها‪ ،‬وعلى رغم ما‬
‫أييت به املستقبل من تفاسري يؤلفها من ال يقنعون بقدمي‪ ،‬ويتلقاها عنهم من جيدون يف أنفسهم حاجة‬
‫إىل عرض جديد لعلوم القرآن والدين‪ ،‬مما يدل على أن القرآن حبر هللا اخلضم‪ ،‬وأن العلماء مجيعا من‬
‫قدامى وحمدثني ال يزالون وقوفا بساحله‪ ،‬أيخذون منه على قدر قرائحهم وفهومهم‪ ،‬والبحر بعد ذلك‬
‫هو البحر يف فيضانه وامتالئه‪ ،‬والقرآن هو القرآن يف ثروته وغناه بعلومه وأبسراره‪ :‬قُ ْل لَ ْو كا َن الْبَ ْح ُر‬
‫مات َرِّيب َولَ ْو ِج ْئنا ِِبِثْلِ ِه َم َدداً [سورة الكهف آية‪:‬‬ ‫ِمداداً لِ َكلِ ِ‬
‫مات َرِّيب لَنَ ِف َد الْبَ ْح ُر قَـ ْب َل أَ ْن تَـ ْنـ َف َد َكلِ ُ‬
‫‪.]109‬‬

‫‪ - 3‬ترمجة القرآن ِبعىن تفسريه بلغة أجنبية‪:‬‬


‫هذا هو اإلطالق الثالث املستند إىل اللغة‪ -‬أيضا‪ -‬ويراد به تفسري القرآن بلغة غري لغته‪ ،‬أي بلغة‬
‫أعجمية ال عربية‪ ،‬وال ريب عندان يف أن تفسري القرآن بلسان أعجمي ملن ال حيسن العربية‪ ،‬جيري يف‬
‫حكمه جمرى تفسريه بلسان عريب ملن حيسن العربية‪ ،‬فكالمها عرض ملا يفهمه املفسر من كتاب هللا‬
‫بلغة يفهمها خماطبه‪ ،‬ال عرض لرتمجة القرآن نفسه‪ ،‬وكالمها حكاية ملا يستطاع من املعاين واملقاصد‪،‬‬
‫ال حكاية جلميع املقاصد‪ ،‬وتفسري القرآن الكرمي يكفي يف حتققه أن يكون بياان ملراد هللا تعاىل بقدر‬
‫الطاقة البشرية‪ ،‬ولو جاء على احتمال واحد؛ ألن التفسري يف اللغة هو اإليضاح والبيان‪ ،‬ومها‬
‫يتحققان ببيان املعىن ولو من وجه‪.‬‬
‫وألن التفسري يف االصطالح‪ :‬علم يبحث فيه عن القرآن الكرمي من حيث داللته على مراد هللا بقدر‬
‫الطاقة البشرية‪ ،‬وهذا يتحقق أيضا بعرض معىن واحد من مجلة معان حيتملها التنزيل‪ ،‬وإذا كان تفسري‬
‫القرآن بياان ملراد هللا بقدر الطاقة البشرية‪ ،‬فهذا البيان يستوي فيه ما كان بلغة العرب‪ ،‬وما ليس بلغة‬
‫كال منهما حيتاجه البشر‪ ،‬بيد أنه ال بد من أمرين‪:‬‬
‫كال منهما مقدور للبشر‪ ،‬و ّ‬
‫العرب؛ ألن ّ‬
‫‪ - 1‬أن يستويف هذا النوع شروط التفسري ابعتبار أنه تفسري‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن يستويف شروط الرتمجة ابعتبار أنه نقل ملا ميكن من معاين اللفظ العريب بلغة غري عربية‪.‬‬

‫(‪)99/1‬‬
‫أمور مهمة‪:‬‬
‫ونسرتعي نظرك إىل أمور مهمة‪:‬‬

‫أوهلا‪ :‬أن علماءان حظروا كتابة القرآن حبروف غري عربية‬


‫‪ ،‬وعلى هذا جيب عند ترمجة القرآن هبذا املعىن إىل أية لغة أن تكتب اآلايت القرآنية إذا كتبت‬
‫ابحلروف العربية كيال يقع إخالل وحتريف يف لفظه‪ ،‬فيتبعهما تغيري وفساد يف معناه‪.‬‬
‫سئلت جلنة الفتوى يف األزهر عن كتابة القرآن ابحلروف الالتينية‪ ،‬فأجابت‪ :‬بعد محد هللا والصالة‬
‫والسالم على رسوله ِبا نصه «ال شك أن احلروف الالتينية املعروفة خالية من عدة حروف توافق‬
‫العربية‪ ،‬فال تؤدي مجيع ما تؤديه احلروف العربية فلو كتب القرآن الكرمي هبا على طريقة النظم‬
‫العريب‪ -‬كما يفهم من االستفتاء‪ ،‬لوقع اإلخالل والتحريف يف لفظه‪ ،‬ويتبعهما تغيري املعىن وفساده‪،‬‬
‫وقد قضت نصوص الشريعة أبن يصان القرآن الكرمي من كل ما يعرضه للتبديل والتحريف‪ .‬وأمجع‬
‫علماء املسلمني سلفا وخلفا على أن كل تصرف يف القرآن يؤدي إىل حتريف يف لفظه أو تغيري يف‬
‫اتما‪ ،‬وحمرم حترميا قاطعا‪ ،‬وقد التزم الصحابة رضوان هللا عليهم ومن بعدهم إىل يومنا‬
‫معناه ممنوع منعا ّ‬
‫هذا كتابة القرآن ابحلروف العربية»‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬أن تفاسري القرآن املتداولة بيننا تتناول املفرد من األصل‪ ،‬وجبانبه شرحه‬
‫ُث تتناول اجلملة أو اآلية وشرحها متصل هبا كذلك غالبا‪ .‬ومعىن هذا أن ألفاظ القرآن منبثة يف ثنااي‬
‫التفسري على وجه من االرتباط واإلحكام‪ ،‬حبيث لو جردان التفاسري من ألفاظ األصل لعادت التفاسري‬
‫لغوا من القول‪ ،‬وضراب من السخف‪ ،‬وحنن ال نريد هنا يف تفسري القرآن بلغة أجنبية أن تذكر مفردات‬
‫القرآن ومجله مكتوبة بتلك اللغة األجنبية أو مرتمجة هبذه اللغة‪ُ ،‬ث تشفع بتفسريها املذكور؛ فلقد‬
‫قرران أن كتابة القرآن بغري العربية ممنوعة وسنقرر أن ترمجته ابملعىن العريف احلريف مستحيلة‪ .‬إمنا نريد‬
‫هنا نوعا من التفسري جيوز أن يصدر بطائفة من ألفاظ األصل على ما هي عليه يف عروبتها رمسا‬
‫ولفظا‪ ،‬إذا وضع لطائفة من املسلمني ُث يذكر عقيبها املعىن الذي فهمه املفسر غري خمتلط بشيء من‬
‫ألفاظ األصل وال ترمجته‪ ،‬بل يكون هذا املعىن كله من كالم املفسر‪ ،‬ويصاغ بطريقة تدل على أنه‬
‫تفسري ال ترمجة كأن يقال‪ :‬معىن اآلية املرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا‪ .‬أو يقال يف أول‬
‫نوبة من نوابت التفسري‪ :‬معىن هذه اجلملة أو اآلية كذا‪ُ .‬ث يبني يف كلتا الطريقتني أن هذا املعىن‬
‫مقطوع به أو أنه حمتمل‪ ،‬ويستطرد ِبا يظن أن حاجة املخاطبني ماسة إليه من التعريف ابملصطلحات‬

‫(‪)100/1‬‬

‫اإلسالمية واألسرار واحلكم التشريعية والتنبيه على األخطاء اليت وقعت فيها الرتمجات املزعومة‪ ،‬وحنو‬
‫ذلك مما يوقع يف روع القارئ أن ما يقرؤه ليس ترمجة لألصل حميطة جبميع معانيه ومقاصده إمنا هو‬
‫قال من كثر وقطرة من حبر‪ .‬أما القرآن نفسه‬
‫تفسري فحسب‪ ،‬مل حيمل من معاين القرآن ومقاصده إال ّ‬
‫فأعظم من هذا التفسري بكثري‪ ،‬كيف وهو النص املعجز يف ألفاظه ومعانيه من كالم العليم اخلبري؟!‬

‫األمر الثالث‪ :‬أن ترمجة القرآن هبذا املعىن مساوية لرتمجة تفسريه العريب‪.‬‬
‫ألن الرتمجة هنا مل تتناول يف احلقيقة إال رأي هذا املفسر وفهمه ملراد هللا على قدر طاقته‪ ،‬خطأ كان‬
‫فهمه أو صوااب‪ ،‬ومل تتناول كل مراد هللا من كالمه قطعا فكأن هذا املفسر وضع أوال تفسريا عربيّا ُث‬
‫يدونه‪،‬‬
‫ترجم هذا التفسري الذي وضعه‪ .‬وإن شئت فقل‪ :‬إنه ترجم تفسريا للقرآن قام هو به غري أنه مل ّ‬
‫أدونه صاحبه أم مل يدونه‪.‬‬
‫وأنت خبري أبن التفسري هو التفسري‪ ،‬سواء ّ‬

‫األمر الرابع‪ :‬ذهب بعضهم إىل تسمية هذا النوع وما يشبهه ترمجة تفسريية للقرآن ابملعىن العريف‬
‫وحنن‪ -‬مع علمنا أبن اخلالف يف التسمية اتفه‪ -‬ال نستطيع أن نرى رأيهم لشهادة العرف اليت‬
‫أقمناها ُث اعتمدان عليها يف رسم الفوارق األربعة بني أي ترمجة وأي تفسري‪.‬‬
‫فرتمجة القرآن‪ -‬على فرض إمكاهنا‪ -‬تصوير لكل ما أراد منزله من معانيه ومقاصده‪.‬‬
‫وترمجة التفسري تصوير لكل ما أراد املفسر من معانيه ومقاصده‪ .‬والقرآن ال ميكن أن يكون يف معانيه‬
‫املرادة هلل خطأ أبدا‪ ،‬فإذا صحت ترمجته على فرض إمكاهنا‪ ،‬وجب أال حتمل وال تصور خطأ‪ .‬أما‬
‫التفسري فيمكن أن يكون يف معانيه املرادة للمفسر خطأ أي خطأ‪ ،‬وعلى هذا فرتمجة هذا التفسري‬
‫ترمجة صحيحة ال بد أن حتمل هذا اخلطأ وتصوره؛ وإال ملا صح أن تكون ترمجة له؛ ألن الرتمجة صورة‬
‫مطابقة لألصل‪ ،‬ومرآة حاكية له على ما هو عليه‪ ،‬من صواب أو خطأ‪ ،‬إميان أو كفر‪ ،‬حق أو ابطل‪.‬‬
‫والقرآن مليء ابملعاين واألسرار اجللية واخلفية إىل درجة تعجز املخلوق عن اإلحاطة هبا‪ ،‬فضال عن‬
‫قدرته على حماكاهتا وتصويرها‪ ،‬بلغة عربية أو أعجمية‪ .‬أما التفسري فمعانيه حمدودة؛ ألن قدرة صاحبه‬
‫حمدودة‪ ،‬مهما حلّق يف مساء البالغة والعلم‪.‬‬
‫وعلى هذا فعدسة أي مصور له‪ ،‬تستطيع التقاطه وتصويره ابلرتمجة إىل أية لغة‪.‬‬

‫األمر اخلامس‪ :‬جيب أن تسمى مثل هذه الرتمجة‪ ،‬ترمجة تفسري القرآن‬
‫‪ ،‬أو تفسري القرآن بلغة كذا‪ ،‬وال جيوز أن تسمى ترمجة القرآن هبذا اإلطالق اللغوي احملض‪ ،‬ملا‬
‫علمت من أن لفظ ترمجة القرآن مشرتك بني معان أربعة‪ ،‬وأن املعىن الرابع هو املتبادر إىل األذهان‬
‫عند اإلطالق نظرا إىل أن العرف األممي العام ال يعرف سواه‪ .‬وال جيوز أيضا أن تسمى‬

‫(‪)101/1‬‬

‫ترمجة معاين القرآن؛ ألن الرتمجة ال تضاف إال إىل األلفاظ‪ ،‬وألن هذه التسمية توهم أهنا ترمجة للقرآن‬
‫نفسه‪ ،‬خصوصا إذا ال حظنا أن كل ترمجة ال تنقل إىل املعاين دون األلفاظ‪.‬‬

‫األمر السادس‪ :‬حيسن أن يدون التفسري العريب وتشفع به ترمجته هذه‬


‫‪ ،‬ليكون ذلك أنفى للريب وأهدى للحق‪ ،‬وأظهر يف أنه ترمجة تفسري ال ترمجة قرآن‪ ،‬ومن عرف قدر‬
‫تنمر‬
‫القرآن مل يبخل عليه هبذا االحتياط‪ ،‬ال سيما يف هذا الزمن الذي ّ‬
‫فيه أعداء اإلسالم‪ ،‬وحاربوان فيه أبسلحة مسمومة من كل مكان‪.‬‬

‫األمر السابع‪ :‬جيب أن يصدر هذا التفسري املرتجم ِبقدمة تنفي عنه يف صراحة أنه ترمجة للقرآن نفسه‬
‫‪ ،‬وتبني أن ترمجة القرآن نفسه ابملعىن املتعارف عليه أمر دونه خرط القتاد؛ ألن طبيعة أتليف هذا‬
‫الكتاب أتىب أن يكون له نظري حياكيه‪ ،‬ال من لغته وال من غري لغته‪ ،‬وذلك هو معىن إعجازه البالغي‪،‬‬
‫ومن أراد أن يتصور هذا اللون من ألوان إعجازه فلينتقل هو إىل هذا الكتاب ولغته؛ فيتذوقه هبا‬
‫وأبساليبها‪ ،‬ومن احملال أن ينتقل هذا الكتاب العزيز اتركا عرشه الذي بوأه هللا إايه وهو عرش اللغة‬
‫العربية‪ .‬وماذا يبقى للملك من عزة وسلطان إذا هو ختلى عن عرشه وملكه؟ وهذا القرآن جعله هللا‬
‫ِ‬
‫وتوجه بتاج اإلعجاز‪ ،‬واختار لغته العربية مظهرا هلذا اإلعجاز واالعتزاز‪َ :‬وإِنَّهُ لَك ٌ‬
‫تاب‬ ‫ملك الكالم‪ّ ،‬‬
‫ني ي َديْ ِه وال ِمن َخل ِْف ِه تَـ ْن ِزيل ِمن ح ِك ٍيم َِ‬
‫مح ٍ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫يد [سورة فصلت آية‪:‬‬ ‫ٌ ْ َ‬ ‫َع ِزي ٌز (‪ )41‬ال َأيْتيه الْباط ُل م ْن بَ ْ ِ َ َ ْ‬
‫‪.]42 ،41‬‬
‫فوائد الرتمجة هبذا املعىن‬
‫لرتمجة القرآن هبذا املعىن فوائد كنا يف غىن عن بياهنا ِبا أشران إليه من أهنا كالتفسري العريب الذي اتفق‬
‫اجلميع على جوازه بشرطه‪ .‬ولكن بعض الباحثني توقفوا يف جواز هذه الرتمجة كما توقفوا يف جواز‬
‫الرتمجة ابملعىن اآليت مع بعد ما بينهما‪ُ ،‬ث تذرعوا أبنه ال فائدة ترجى منها‪ ،‬وأاثروا شبهات حوهلا‪ .‬هلذا‬
‫نبسط القول ببيان فوائد هذه الرتمجة ُث بدفع الشبهات عنها‪ .‬أما فوائدها فنشرحها فيما أييت‪:‬‬

‫الفائدة األوىل‪ :‬رفع النقاب عن مجال القرآن وحماسنه ملن مل يستطع أن يراها ِبنظار اللغة العربية‬
‫من املسلمني األعاجم‪ ،‬وتيسري فهمه عليهم هبذا النوع من الرتمجة ليزدادوا إمياان مع إمياهنم‪ .‬ويعظم‬
‫تقديرهم للقرآن‪ ،‬ويشتد شوقهم إليه فيهتدوا هبديه‪ ،‬ويغرتفوا من حبره‪ ،‬ويستمتعوا ِبا حواه من نبل يف‬
‫ومسو يف التعاليم‪ ،‬ووضوح وعمق يف العقائد‪ ،‬وطهر ورشد يف العبادات‪،‬‬
‫املقاصد‪ ،‬وقوة يف الدالئل ّ‬
‫ودفع قوي إىل مكارم األخالق‪ ،‬وردع زاجر عن الرذائل واآلاثم‪ ،‬وإصالح معجز للفرد واجملموع‪،‬‬

‫(‪)102/1‬‬

‫كرم هللا هبا‬


‫واختيار موفق ألحسن القصص‪ ،‬وإخبار عن كثري من أنباء الغيب‪ ،‬وكشف عن معجزات ّ‬
‫رسوله وأمته‪ ،‬إىل غري ذلك مما من شأنه أن يسمو ابلنفوس اإلنسانية‪ ،‬وميأل العامل حضارة صحيحة‬
‫ومدنية‪.‬‬
‫ولقد دلتنا التجارب على أن كثريا من هؤالء الذين أحسوا جالل القرآن عن طريق تفسريه فكروا يف‬
‫وي ويشبعوا هنمتهم من غذائه‬
‫الر ّ‬
‫حفظه واستظهاره ودراسة لغته وعلومه‪ ،‬لريتشفوا أبنفسهم من منهله ّ‬
‫اهلين‪ ،‬مادام هذا التفسري وغريه ال حيمل كل معاين األصل‪ ،‬وما دام ثواب هللا جيري على كل من نظر‬
‫يف األصل أو تال نفس ألفاظ األصل‪.‬‬

‫الفائدة الثانية‪ :‬دفع الشبهات اليت لفقها أعداء اإلسالم وألصقوها ابلقرآن وتفسريه‬
‫كذاب وافرتاء‪ُ ،‬ث ضلّلوا هبا هؤالء املسلمني الذين ال حيذقون اللسان العريب يف شكل ترمجات مزعومة‬
‫للقرآن‪ ،‬أو مؤلفات علمية واترخيية للطالب‪ ،‬أو دوائر معارف للقراء‪ ،‬أو دروس وحماضرات‬
‫للجمهور‪ ،‬أو صحف وجمالت للعامة واخلاصة‪.‬‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬تنوير غري املسلمني من األجانب حبقائق اإلسالم‬
‫وتعاليمه خصوصا يف هذا العصر القائم على الدعاايت‪ ،‬وبني نريان هذه احلروف اليت أوقدها أهل‬
‫امللل والنحل األخرى‪ ،‬حىت ضل احلق أو كاد يضل يف سواد الباطل‪ ،‬وخفت صوت اإلسالم أو كاد‬
‫خيفت بني ضجيج غريه من املذاهب املتطرفة واألداين املنحرفة‪.‬‬

‫الفائدة الرابعة‪ :‬إزالة احلواجز واملوانع اليت أقامها اخلبثاء املاكرون للحيلولة بني اإلسالم وعشاق احلق‬
‫من األمم األجنبية‪.‬‬
‫وهذه احلواجز واملوانع ترتكز يف الغالب على أكاذيب افرتوها اترة على اإلسالم‪ ،‬واترة أخرى على‬
‫نيب اإلسالم‪.‬‬
‫وكثريا ما ينسبون هذه األكاذيب إىل القرآن وتفاسريه‪ ،‬وإىل اتريخ الرسول صلّى هللا عليه وسلم‬
‫وسريته‪ُ ،‬ث يدسوهنا فيما يزعمونه ترمجات للقرآن‪ ،‬وفيما يقرأ الناس ويسمعون ابلوسائل األخرى‪ .‬فإذا‬
‫فسران القرآن بلغة أخرى مع العناية بشروط التفسري وشروط الرتمجة‪،‬‬
‫حنن ترمجنا تفسري القرآن أو ّ‬
‫ومع العناية التامة بدفع الشبهات واألابطيل الرائجة فيهم عند كل مناسبة‪ ،‬تزلزلت بال شك تلك‬
‫القصور اليت أقاموها من اخلرافات واألابطيل وزالت العقبات من طريق طالب احلق وعشاقه من كل‬
‫قبيل‪.‬‬
‫وهاك كلمة يؤيدان هبا الكاتب اإلجنليزي (بريانردشو) إذ يقول‪« :‬لقد طبع رجال الكنيسة يف القرون‬
‫الوسطى دين اإلسالم بطابع أسود حالك‪ ،‬إما جهال وإما تعصبا‪ ،‬إهنم كانوا يف احلقيقة مسوقني بعامل‬
‫عدوا للمسيح‪ .‬ولقد درست سرية حممد الرجل العجيب‪،‬‬
‫بغض حممد ودينه‪ ،‬فعندهم أن حممدا كان ّ‬
‫ويف رأيي أنه بعيد ج ّدا من أن‬

‫(‪)103/1‬‬

‫عدوا للمسيح‪ .‬إمنا ينبغي أن يدعي منقذ البشرية‪ ،‬إخل ما قال ِبجلة «ذي مسلم رفيوبلكنو»‬
‫يكون ّ‬
‫اهلند يف جزء مارس سنة ‪ 1933‬م‪.‬‬

‫الفائدة اخلامسة‪ :‬براءة ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه‬


‫‪ ،‬فإن هذه الرتمجة مجعت بني النص الكرمي بلفظه ورمسه العربيني‪ ،‬وبني معاين القرآن على ما فهمه‬
‫املفسر وشرحه ابللغة األجنبية‪.‬‬
‫قال السيوطي وابن بطال واحلافظ ابن حجر وغريهم من العلماء‪ :‬إن الوحي جيب تبليغه ولكنه‬
‫قسمان‪:‬‬
‫قسم تبليغه بنظمه ومعناه وجواب‪ ،‬وهو القرآن الكرمي‪.‬‬
‫وقسم يصح أن يبلغ ِبعناه دون لفظه‪ ،‬وهو ما عدا القرآن‪ .‬وبذلك يتم التبليغ‪.‬‬

‫‪ - 4‬ترمجة القرآن ِبعىن نقله إىل لغة أخرى‪:‬‬


‫هذا هو اإلطالق الرابع املستند إىل اللغة‪ُ .‬ث هو اإلطالق الوحيد يف عرف التخاطب األممي العام‪.‬‬
‫نعرف ترمجة القرآن هبذا اإلطالق تعريفا مضغوطا على منط تعريفهم فنقول‪ :‬هي نقل‬
‫وميكننا أن ّ‬
‫القرآن من لغته العربية إىل لغة أخرى‪ .‬وميكننا أن نعرفها تعريفا مبسوطا فنقول‪ :‬ترمجة القرآن هي‬
‫التعبري عن معاين ألفاظه العربية ومقاصدها أبلفاظ غري عربية‪ ،‬مع الوفاء جبميع هذه املعاين واملقاصد‪.‬‬
‫ُث إن لوحظ يف هذه الرتمجة ترتيب ألفاظ القرآن‪ ،‬فتلك ترمجة القرآن احلرفية أو اللفظية أو املساوية‪،‬‬
‫وإن مل يالحظ فيها هذا الرتتيب‪ ،‬فتلك ترمجة القرآن التفسريية أو املعنوية‪.‬‬
‫والناظر فيما سلف من الكالم على معىن الرتمجة وتقسيمها والفروق بينها وبني التفسري يستغين هنا‬
‫عن شرح التعريف والتمثيل للمعرف يف قسميه‪ ،‬كما يستغين عن التدليل على أن هذا املعىن وحده‬
‫هو املعىن االصطالحي الفريد يف لسان التخاطب العام بني األمم‪ ،‬ويعلم أن ترمجة القرآن هبذا املعىن‬
‫خالف تفسريه بلغته العربية‪ .‬وخالف تفسريه بغري لغته العربية‪ ،‬وخالف ترمجة تفسريه العريب ترمجة‬
‫حرفية أو تفسريية‪ ،‬فارجع إىل هذا الذي أسلفناه إن شئت‪.‬‬

‫(‪)104/1‬‬

‫احلكم على هذه الرتمجة ابالستحالة العادية‪:‬‬


‫أما حكم ترمجة القرآن هبذا املعىن فاالستحالة العادية والشرعية‪ .‬أي عدم إمكان وقوعها عادة‪،‬‬
‫وحرمة حماولتها شرعا‪ .‬ولنا على استحالتها العادية طريقان يف االستدالل‪:‬‬
‫الطريق األول‪ :‬أن ترمجة القرآن هبذا املعىن تستلزم احملال‪ ،‬وكل ما يستلزم احملال حمال‪ .‬والدليل على‬
‫أهنا تستلزم احملال أنه ال بد يف حتققها من الوفاء جبميع معاين القرآن األولية والثانوية وجبميع مقاصده‬
‫الرئيسية الثالثة وكال هذين مستحيل‪.‬‬
‫أما األول فألن املعاين الثانوية يدل عليها خصائصه العليا اليت هي مناط بالغته وإعجازه كما بينا من‬
‫قبل‪ ،‬وما كان لبشر أن حييط هبا فضال عن أن حياكيها يف كالم له‪ ،‬وإال ملا حتقق هذا اإلعجاز‪.‬‬
‫وأما الثاين‪ :‬فألن املقصد األول من القرآن إن أمكن حتقيقه يف الرتمجة ابلنسبة إىل كل ما يفهم من‬
‫معاين القرآن األصلية فهو ال ميكن حتقيقه ابلنسبة إىل كل ما يفهم من معاين القرآن الثانوية التابعة‪،‬‬
‫ألهنا مدلولة خلصائصه العليا اليت هي مناط إعجازه البالغي كما سبق‪.‬‬
‫وكذلك مقصد القرآن الثاين وهو كونه آية ال ميكن حتقيقه فيما سواه من كالم البشر عربيّا كان أو‬
‫أعجميّا‪ ،‬وإال ملا صح أن يكون آية خارقة‪ ،‬ومعجزة غري ممكنة‪ ،‬حني تتناول هذا املقصد قدرة البشر‪.‬‬
‫كيف واملفروض أن القرآن آية بل آايت‪ ،‬ومعجزة بل معجزات ال يقدر عليها إال هللا وحده جل‬
‫وعال؟‪.‬‬
‫وجيري هذا اجملرى مقصد القرآن الثالث‪ ،‬وهو كونه متعبدا بتالوته‪ ،‬فإنه ال ميكن أن يتحقق يف‬
‫الرتمجة؛ ألن ترمجة القرآن غري القرآن قطعا‪ ،‬والتعبد ابلتالوة إمنا ورد يف خصوص القرآن وألفاظه‬
‫عينها أبساليبها وترتيباهتا نفسها‪ ،‬دون أي ألفاظ أو أساليب أخرى‪ ،‬ولو كانت عربية مرادفة أللفاظ‬
‫األصل وأساليبه‪.‬‬
‫الطريق الثاين‪ :‬أن ترمجة القرآن هبذا املعىن مثل للقرآن‪ ،‬وكل مثل للقرآن مستحيل‪ .‬أما إهنا مثل له‬
‫فألهنا مجعت معانيه كلها ومقاصده كلها مل ترتك شيئا‪ ،‬واجلامع ملعاين القرآن ومقاصده مثل له أي‬
‫مثل‪ .‬وأما أن كان كل مثل للقرآن مستحيل‪ ،‬فألن القرآن حتدى العرب أن أيتوا ِبثل أقصر سورة منه‬
‫فعجزوا عن املعارضة واحملاكاة‪ ،‬وهم يومئذ أئمة البالغة والبيان وأحرص ما يكونون على الغلبة والفوز‬
‫يف هذا امليدان‪.‬‬
‫وإذا كان هؤالء قد عجزوا وانقطعوا‪ ،‬فغريهم ممن هم دوهنم بالغة وبياان أشد عجزا وانقطاعا َوإِ ْن ُك ْنـتُ ْم‬
‫داء ُك ْم‬ ‫ب ِممَّا نَـ َّزلْنا َعلى َعب ِدان فَأْتُوا بِس ٍ ِ ِ ِ ِ‬
‫ِيف َريْ ٍ‬
‫ورة م ْن مثْله َوا ْد ُعوا ُش َه َ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬

‫(‪)105/1‬‬

‫ِِ‬ ‫ون َِّ‬‫ِمن ُد ِ‬


‫َّاس‬ ‫َّار الَِّيت َوقُ ُ‬
‫ود َها الن ُ‬ ‫ني (‪ )23‬فَِإ ْن َملْ تَـ ْف َعلُوا َولَ ْن تَـ ْف َعلُوا فَاتَّـ ُقوا الن َ‬
‫اَّلل إِ ْن ُك ْنـتُ ْم صادق َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين [سورة البقرة آية‪.]24 ،23 :‬‬ ‫َّت للْكاف ِر َ‬‫جارةُ أُعد ْ‬‫َوا ْحل َ‬
‫اآلن وقد تقرر أن ترمجة القرآن هبذا املعىن العريف من قبيل املستحيل العادي ال نرتدد يف أن نقرر‬
‫أيضا أهنا من قبيل املستحيل الشرعي‪ ،‬أي احملظور الذي حرمه هللا‪.‬‬

‫حكم قراءة الرتمجة والصالة هبا‪:‬‬


‫تكاد كلمة الفقهاء تتفق على منع قراءة ترمجة القرآن أبي لغة كانت فارسية أو غريها وسواء كانت‬
‫قراءة هذه الرتمجة يف صالة أم يف غري صالة‪ ،‬لوال خالف واضطراب يف بعض نقول احلنفية‪ .‬وإليك‬
‫نبذا من أقوال الفقهاء على اختالف مذاهبهم تتنور هبا يف ذلك‪.‬‬

‫مذهب الشافعية‪:‬‬
‫«قال يف اجملموع (ص ‪ 279‬ج ‪ :)3‬مذهبنا‪ -‬أي الشافعية‪ -‬أنه ال جيوز قراءة القرآن بغري لسان‬
‫العرب‪ ،‬سواء أمكنته العربية أم عجز عنها‪ ،‬وسواء أكان يف الصالة أم يف غريها‪ .‬فإن أتى برتمجته يف‬
‫صالة بدال عنها مل تصح صالته‪ ،‬سواء أحسن القراءة أم ال»‪ .‬وبه قال مجاهري العلماء‪ ،‬منهم مالك‪،‬‬
‫وأمحد‪ ،‬وأبو داود‪.‬‬
‫وجاء يف اإلتفاق للسيوطي‪ :‬ال جتوز قراءة القرآن ابملعىن؛ ألن جربيل أداه ابللفظ ومل يبح له إحياءه‬
‫ابملعىن‪.‬‬

‫مذهب املالكية‪:‬‬
‫جاء يف حاشية الدسوقي على شرح الدردير للمالكية (ص ‪ 236 ،232‬ط)‪:‬‬
‫«ال جتوز قراءة القرآن بغري العربية بل ال جيوز التكبري يف الصالة بغريها وال ِبرادفه من العربية فإن‬
‫عجز عن النطق ابلفاحتة ابلعربية وجب عليه أن أيمت ِبن حيسنها فإن أمكنه االئتمام ومل أيمت بطلت‬
‫صالته‪ .‬وإن مل جيد إماما سقطت عنه الفاحتة‪ ،‬وذكر هللا تعاىل وسبّحه ابلعربية‪ .‬وقالوا‪ :‬على كل‬
‫مكلف أن يتعلم الفاحتة ابلعربية وأن يبذل وسعه يف ذلك‪ .‬وجيهد نفسه يف تعلمها ومازاد عليها‪ ،‬إال‬
‫أن حيول املوت دون ذلك وهو حبال االجتهاد فيعذر‪.‬‬

‫مذهب احلنابلة‪:‬‬
‫قال يف املغين (ص ‪ 526‬ط)‪« :‬وال جتزئه القراءة بغري العربية‪ ،‬وال إبدال لفظ‬

‫(‪)106/1‬‬
‫عريب سواء أحسن القراءة ابلعربية أم مل حيسن‪ُ .‬ث قال‪ :‬فإن مل حيسن القراءة ابلعربية لزمه التعلم فإن مل‬
‫يفعل مع القدرة عليه مل تصح صالته»‪.‬‬

‫مذهب احلنفية‪:‬‬
‫اختلفت نقول احلنفية يف هذا املقام‪ ،‬واضطرب النقل بنوع خاص عن اإلمام وحنن خنتصر لك الطريق‬
‫إبيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع‪ ،‬وتوفيق بني النقول‪ ،‬اقتطفناها من جملة األزهر بقلم عامل كبري من‬
‫علماء األحناف؛ إذ جاء فيها ابختصار وتصرف ما يلي‪:‬‬
‫أمجع األئمة على أنه ال جتوز قراءة القرآن بغري العربية خارج الصالة‪ ،‬ومينع فاعل ذلك أشد املنع؛‬
‫ألن قراءته بغريها من قبيل التصرف يف قراءة القرآن ِبا خيرجه عن إعجازه‪ ،‬بل ِبا يوجب الركاكة‪.‬‬
‫وأما القراءة يف الصالة بغري العربية فتحرم إمجاعا للمعىن املتقدم لكن لو فرض وقرأ املصلي بغري‬
‫العربية‪ ،‬أتصح صالته أم تفسد؟‪.‬‬
‫ذكر احلنفية يف كتبهم أن اإلمام أاب حنيفة كان يقول‪ :‬أوال‪ :‬إذا قرأ املصلي بغري العربية مع قدرته عليها‬
‫اكتفى بتلك القراءة‪ُ ،‬ث رجع عن ذلك وقال‪ :‬مىت كان قادرا على العربية ففرض قراءة النظم العريب‪،‬‬
‫ولو قرأ بغريها فسدت صالته خللوها من القراءة مع قدرته عليها‪ ،‬واإلتيان ِبا هو من جنس كالم‬
‫الناس حيث مل يكن املقروء قرآان‪.‬‬
‫ورواية رجوع اإلمام هذه تعزى إىل أقطاب يف املذاهب منهم نوح بن مرمي‪ ،‬وهو من أصحاب أيب‬
‫حنيفة‪ .‬ومنهم علي بن اجلعد‪ ،‬وهو من أصحاب أيب يوسف‪ ،‬ومنهم أبو بكر الرازي‪ ،‬وهو شيخ‬
‫علماء احلنفية يف عصره ابلقرن الرابع‪.‬‬
‫وال خيفى أن اجملتهد إذا رجع عن قوله‪ ،‬ال يعد ذلك املرجوع عنه قوال له؛ ألنه مل يرجع عنه إال بعد أن‬
‫ظهر له أنه ليس بصواب‪ ،‬وحينئذ ال يكون يف مذهب احلنفية قول بكفاية القراءة بغري العربية يف‬
‫الصالة للقادر عليها‪ ،‬فال يصح التمسك به‪ ،‬وال النظر إليه‪.‬‬
‫أما العاجز عن قراءة القرآن ابلعربية فهو كاألمي يف أنه ال قراءة عليه‪ .‬ولكن إذا فرض أنه خالف‬
‫وأدى القرآن بلغة أخرى‪ ،‬فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أو هنيا فسدت صالته؛ ألنه متكلم بكالم‬
‫وليس ذكرا‪ .‬وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها ال تفسد صالته ألن الذكر أبي لسان ال يفسد الصالة‬
‫ال ألن القراءة برتمجة القرآن جائزة‪ ،‬فقد مضى القول أبن القراءة ابلرتمجة حمظورة شرعا على كل‬
‫حال‪ .‬اه مع التصرف واالختصار‪.‬‬

‫(‪)107/1‬‬
‫النسخ يف القرآن الكرمي‬
‫أمهية هذا املبحث‪:‬‬
‫هلذا املبحث أمهية خاصة‪ ،‬وذلك من وجوه مخسة‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أنه طويل الذيل‪ ،‬كثري التفاريع‪ ،‬متشعب املسالك‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬أنه تناول مسائل دقيقة‪ ،‬كانت مثارا خلالف الباحثني من األصوليني‪ ،‬األمر الذي يدعو إىل‬
‫اليقظة والتدقيق‪ ،‬وإىل حسن االختيار مع اإلنصاف والتوفيق‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬أن أعداء اإلسالم من مالحدة ومبشرين ومستشرقني قد اختذوا النسخ يف الشريعة اإلسالمية‬
‫أسلحة مسمومة‪ ،‬طعنوا هبا يف صدر الدين احلنيف‪ .‬وانلوا من قدسية القرآن الكرمي‪ .‬ولقد أحكموا‬
‫شراك شبهاهتم واجتهدوا يف ترويج مطاعنهم حىت سحروا عقول بعض املنتسبني إىل العلم والدين من‬
‫املسلمني فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع وأمعنوا يف هذا اجلحود الذي ركبوا له أخشن املراكب من‬
‫متحالت ساقطة وأتويالت غري سائغة‪.‬‬
‫ّ‬
‫رابعها‪ :‬أن اإلملام ابلناسخ واملنسوخ يكشف النقاب عن سري التشريع اإلسالمي‪ ،‬ويطلع اإلنسان‬
‫على حكمة هللا يف تربيته للخلق وسياسته للبشر‪ ،‬وابتالئه للناس مما يدل داللة واضحة على أن نفس‬
‫حممد النيب األمي ال ميكن أن تكون املصدر ملثل هذا القرآن‪ ،‬وال املنبع ملثل هذا التشريع‪ .‬وإمنا هو‬
‫تنزيل من حكيم محيد‪.‬‬
‫خامسها‪ :‬أن معرفة الناسخ واملنسوخ ركن عظيم يف فهم اإلسالم ويف االهتداء إىل صحيح األحكام‪،‬‬
‫خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة ال يندفع التناقض بينها إال ِبعرفة سابقها من الحقها‪،‬‬
‫وانسخها من منسوخها‪ .‬وهلذا كان سلفنا الصاحل يعنون هبذه الناحية وحيذقوهنا‪ ،‬ويلفتون أنظار الناس‬
‫إليها‪ ،‬وحيملوهنا عليها‪ .‬حىت لقد جاء يف األثر أن ابن عباس رضي هللا عنهما فسر احلكمة يف قوله‬
‫ُويتَ َخ ْرياً َكثِرياً [سورة البقرة آية‪ِ ،]269 :‬بعرفة انسخ القرآن‬
‫ْمةَ فَـ َق ْد أ ِ‬ ‫تعاىل‪ :‬ومن يـ ْؤ َ ِ‬
‫ت ا ْحلك َ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫ومنسوخه‪ ،‬وحمكمه ومتشاهبه‪ ،‬ومقدمه ومؤخره‪ ،‬وحالله وحرامه‪.‬‬

‫(‪)108/1‬‬

‫ما هو النسخ؟‬
‫النسخ يف اللغة‪:‬‬
‫يطلق النسخ يف لغة العرب على معنيني‪:‬‬
‫يب إَِّال إِذا متََ َّىن‬ ‫ٍ‬ ‫أحدمها‪ :‬إزالة الشيء وإعدامه‪ .‬ومنه قوله تعاىل‪ :‬وما أَرسلْنا ِمن قَـبلِ َ ِ‬
‫ك م ْن َر ُسول َوال نَِ ٍّ‬ ‫َ َْ ْ ْ‬
‫اَّللُ آايتِِه [سورة احلج آية‪.]52 :‬‬ ‫الش ْيطا ُن ُُثَّ ُْحي ِك ُم َّ‬
‫اَّللُ ما يُـل ِْقي َّ‬
‫س ُخ َّ‬ ‫ِ ِِ‬
‫الش ْيطا ُن ِيف أ ُْمنيَّته فَـيَـ ْن َ‬
‫أَلْ َقى َّ‬
‫ومنه قوهلم‪ :‬نسخت الشمس الظل‪ ،‬ونسخ الشيب الشباب‪ ،‬ومنه تناسخ القرون واألزمان‪.‬‬
‫اآلخر‪ :‬نقل الشيء وحتويله مع بقائه يف نفسه‪ .‬وفيه يقول السجستاين من أئمة اللغة‪« :‬والنسخ أن‬
‫حتول ما يف اخللية من النحل والعسل إىل أخرى»‪ ،‬ومنه تناسخ املواريث ابنتقاهلا من قوم إىل قوم‪،‬‬
‫وتناسخ األنفس ابنتقاهلا من بدن إىل غريه‪ ،‬عند القائلني بذلك‪ .‬ومنه نسخ الكتاب ملا فيه من‬
‫متشاهبة النقل‪ .‬وإليه اإلشارة بقوله تعاىل‪:‬‬
‫إِ َّان ُكنَّا نَ ْستَـ ْن ِس ُخ ما ُك ْنـتُ ْم تَـ ْع َملُو َن [سورة اجلاثية آية‪ ،]29 :‬واملراد به نقل األعمال إىل الصحف‪،‬‬
‫ومن الصحف إىل غريه‪ .‬اه‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء بعد ذلك يف تعيني املعىن الذي وضع له لفظ النسخ‪ :‬فقيل‪ :‬إن لفظ النسخ‬
‫وضع لكل من املعنيني وضعا أوليّا‪ .‬وعلى هذا يكون مشرتكا لفظيّا وهو الظاهر من تبادر كال املعنيني‬
‫بنسبة واحدة عند إطالق لفظ النسخ‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه وضع للمعىن األول وحده‪ ،‬فهو حقيقة فيه جماز يف اآلخر‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫عكس ذلك‪ .‬وقيل‪ :‬للقدر املشرتك بينهما‪ ،‬ولكن هذه اآلراء األخرية يعوزها الدليل وال خيلو توجيهها‬
‫من تكلف وأتويل‪.‬‬

‫النسخ يف االصطالح‪:‬‬
‫لقد عرف النسخ يف االصطالح بتعاريف كثرية خمتلفة‪ .‬ال نرى من احلكمة استعراضها‪ ،‬وال املوازنة‬
‫بينها ونقدها ولكن جنتزئ بتعريف واحد نراه أقرب وأنسب وهو (رفع احلكم الشرعي بدليل شرعي)‪.‬‬
‫ومعىن رفع احلكم الشرعي‪ :‬قطع تعلقه أبفعال املكلّفني ال رفعه هو‪ ،‬فأنه أمر واقع والواقع ال يرتفع‪.‬‬
‫واحلكم الشرعي‪ :‬هو خطاب هللا تعاىل املتعلق أبفعال املكلفني إما على سبيل الطلب‬

‫(‪)109/1‬‬

‫أو التخيري‪ .‬وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا‪.‬‬
‫متلو‪ ،‬فيشمل الكتاب والسنة‪.‬‬
‫متلوا أو غري ّ‬
‫والدليل الشرعي‪ :‬هو وحي هللا مطلقا ّ‬
‫أما القياس واإلمجاع ففي نسخهما والنسخ هبما كالم تراه يف موضع آخر‪.‬‬

‫ما ال بد منه يف النسخ‬


‫وال بد من حتقق النسخ من أمور أربعة‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أن يكون املنسوخ حكما شرعيّا‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬أن يكون دليل رفع احلكم دليال شرعيّا‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬أن يكون هذا الدليل الرافع مرتاخيا عن دليل احلكم األول غري متصل به كاتصال القيد ابملقيد‬
‫والتأقيت ابملؤقت‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أن يكون بني ذينك الدليلني تعارض حقيقي‪.‬‬
‫تلك أربعة ال بد منها لتحقق النسخ ابتفاق مجهرة الباحثني‪ .‬ومثة شروط اختلفوا يف شرطيتها ال داعي‬
‫لذكرها اآلن‪.‬‬

‫الفرق بني النسخ والبداء‬


‫البداء‪( :‬بفتح الباء) يطلق يف لغة العرب على معنيني متقاربني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬الظهور بعد اخلفاء‪ ،‬ومنه قول هللا سبحانه‪ :‬وبدا َهلم ِمن َِّ‬
‫اَّلل ما َملْ يَ ُكونُوا َْحيتَ ِسبُو َن [سورة‬ ‫َ َ ُْ َ‬
‫ئات ما َع ِملُوا [سورة اجلاثية آية‪ ،]33 :‬ومنه قوهلم‪ :‬بدا لنا سور‬ ‫الزمر آية‪َ ،]47 :‬وبَدا َهلُ ْم َسيِّ ُ‬
‫املدينة‪.‬‬
‫بدوا‪ ،‬وبداء وبداءة أي‪:‬‬
‫واآلخر‪ :‬نشأة رأي جديد مل يك موجودا‪ .‬قال يف القاموس‪ :‬وبدا له يف األمر ّ‬
‫نشأ له فيه رأي‪ .‬اه‪.‬‬
‫ايت لَيَ ْس ُجنُـنَّهُ َح َّىت ِح ٍ‬
‫ني [سورة يوسف آية‪.]35 :‬‬ ‫ومنه قول هللا تعاىل‪ُُ :‬ثَّ بدا َهلُم ِمن بـ ْع ِد ما رأَوا ْاآل ِ‬
‫َُ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫ذانك معنيان متقارابن للبداء‪ ،‬وكالمها مستحيل على هللا تعاىل‪ ،‬ملا يلزمهما من سبق اجلهل وحدوث‬
‫العلم‪ ،‬واجلهل واحلدوث عليه حماالن؛ ألن النظر الصحيح يف هذا العامل‪ ،‬دلّنا على أن خالقه ومدبره‬
‫متصف أزال وأبدا ابلعلم الواسع املطلق احمليط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن‪ ،‬كما هداان هذا‬
‫حمال للحوادث‪ ،‬وإال لكان انقصا يعجز عن‬
‫النظر الصحيح إىل أنه تعاىل ال ميكن أن يكون حاداث وال ّ‬

‫(‪)110/1‬‬
‫أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبري املعجز! ذلك إمجال لدليل العقل‪.‬‬
‫أما أدلة النقل فنصوص فياضة انطقة أبنه تعاىل أحاط بكل شيء علما‪ ،‬وأنه ال ختفى عليه خافية‪ :‬ما‬
‫ك َعلَى َِّ ِ‬
‫ربأَها إِ َّن ذلِ َ‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫أَصاب ِمن م ِ‬
‫صيبَ ٍة ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ري‬
‫اَّلل يَس ٌ‬ ‫ض َوال ِيف أَنْـ ُفس ُك ْم إ َّال ِيف كتاب م ْن قَـ ْب ِل أَ ْن نَ ْ َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫[سورة احلديد آية‪.]22 :‬‬
‫ط ِم ْن َوَرقَ ٍة إَِّال يَـ ْعلَ ُمها َوال‬ ‫ب ال يَـ ْعلَ ُمها إَِّال ُه َو َويَـ ْعلَ ُم ما ِيف ال َِ‬
‫ْربّ َوالْبَ ْح ِر َوما تَ ْس ُق ُ‬ ‫َو ِع ْن َدهُ َمفاتِ ُح الْغَْي ِ‬
‫ني [سورة‬ ‫تاب ُمبِ ٍ‬‫س إَِّال ِيف كِ ٍ‬ ‫ْب َوال ايبِ ٍ‬ ‫ض َوال َرط ٍ‬ ‫حبَّ ٍة ِيف ظُلُ ِ‬
‫مات ْاأل َْر ِ‬ ‫َ‬
‫األنعام آية‪.]59 :‬‬
‫اَّلل يـعلَم ما َحتْ ِمل ُك ُّل أُنْثى وما تَ ِغيض ْاألَرحام وما تَـزداد وُك ُّل َشي ٍء ِع ْن َده ِِبِ ْقدا ٍر (‪ِ )8‬‬
‫عاملُ الْغَْي ِ‬
‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َُ ْ َُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َُّ َ ْ ُ‬
‫عال (‪ )9‬سواء ِم ْن ُكم من أَس َّر الْ َقو َل ومن ج َهر بِ ِه ومن ُهو مستَ ْخ ٍ‬
‫ف ِابللَّْي ِل‬ ‫هادةِ الْ َكبِري الْمتَ ِ‬
‫الش َ‬‫َو َّ‬
‫َ ٌ ْ َ ْ َ ْ ََ ْ َ َ ََ ْ َ ُ ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫ب ِابلنَّها ِر [سورة الرعد آية‪ ،]10 - 8 :‬إىل غري ذلك من مئات اآلايت واألحاديث‪.‬‬ ‫َوسا ِر ٌ‬
‫ولكن على رغم وجود هذه الرباهني الساطعة من عقلية ونقلية‪ ،‬ضل أقوام سفهوا أنفسهم فأغمضوا‬
‫عيوهنم عن النظر يف كتاب الكون الناطق‪ ،‬وصموا آذاهنم عن مساع كالم هللا وكالم نبيه الصادق‪،‬‬
‫وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء! وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس األمر‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬لوال ظهور مصلحة هللا‪ ،‬ونشوء رأي جديد له‪ ،‬ما نسخ أحكامه‪ ،‬وبدل تعاليمه‪ ،‬ونسوا أو‬
‫تناسوا أن هللا تعاىل حني نسخ بعض أحكامه ببعض‪ ،‬ما ظهر له أمر كان خافيا عليه‪ ،‬وما نشأ له رأي‬
‫جديد كان يفقده من قبل‪ ،‬إمنا كان سبحانه يعلم الناسخ واملنسوخ أزال من قبل أن يشرعهما لعباده‪،‬‬
‫بل من قبل أن خيلق اخللق‪ ،‬ويربأ السماء واألرض‪ ،‬إال أنه‪ -‬جلت حكمته‪ -‬علم أن احلكم األول‬
‫املنسوخ منوط حبكمة‪ ،‬أو مصلحة تنتهي يف وقت معلوم‪ ،‬وعلم جبانب هذا أن الناسخ جييء يف هذا‬
‫امليقات املعلوم منوطا حبكمة ومصلحة أخرى‪ ،‬وال ريب أن احلكم واملصاحل ختتلف ابختالف الناس‪،‬‬
‫وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحواهلم‪ .‬وأن األحكام وحكمها‪ ،‬والعباد ومصاحلهم‪ ،‬والنواسخ‬
‫واملنسوخات‪ ،‬كانت كلها معلومة هلل من قبل‪ ،‬ظاهرة لديه مل خيف شيء منها عليه‪ ،‬واجلديد يف النسخ‬
‫إمنا هو إظهاره تعاىل ما علم لعباده‪ ،‬ال ظهور ذلك له‪ ،‬على حد التعبري املعروف‪( :‬شئون يبديها وال‬
‫ك نَ ِسياا [سورة مرمي آية‪.]64 :‬‬
‫يبتديها)‪َ ،‬وما كا َن َربُّ َ‬
‫وخالصة هذا التوجيه أن النسخ تبديل يف املعلوم ال يف العلم‪ ،‬وتغيري يف املخلوق ال يف اخلالق‪،‬‬
‫وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به علم هللا القدمي احمليط بكل شيء‪ ،‬وهلذا ذهب كثري من علمائنا‬
‫إىل تعريف النسخ أبنه‪ :‬بيان انتهاء احلكم الشرعي الذي تقرر يف أوهامنا استمراره بطريق الرتاخي‪ُ ،‬ث‬
‫قالوا توجيها هلذا االختيار‪ :‬إن يف هذا التعريف دفعا‬
‫(‪)111/1‬‬

‫ظاهرا للبداء‪ ،‬وتقريرا لكون النسخ تبديال يف حقنا‪ ،‬وبياان حمضا يف حق صاحب الشرع‪.‬‬

‫الفرق بني النسخ والتخصيص‬


‫عرفوا التخصيص أبنه‪ :‬قصر العام على‬
‫قد عرفنا النسخ أبنه‪ :‬رفع احلكم الشرعي بدليل شرعي‪ ،‬وقد ّ‬
‫قواي بني املعرفني‪ ،‬فالنسخ فيه ما‬
‫بعض أفراده‪ ،‬وابلنظر يف هذين التعريفني نالحظ أن هناك تشاهبا ّ‬
‫يشبه ختصيص احلكم ببعض األزمان‪ ،‬والتخصيص فيه ما يشبه رفع احلكم عن بعض األفراد‪ ،‬ومن‬
‫هذا التشابه وقع بعض العلماء يف االشتباه فمنهم من أنكر وقوع النسخ يف الشريعة‪ ،‬زاعما أن كل ما‬
‫نسميه حنن نسخا فهو ختصيص‪ ،‬ومنهم من أدخل صورا من التخصيص يف ابب النسخ‪ ،‬فزاد بسبب‬
‫ذلك يف عداد املنسوخات من غري موجب‪.‬‬
‫هلذا نقيم لك فروقا سبعة بني النسخ والتخصيص‪ ،‬هتديك يف ظلمات هذا االشتباه وتعصمك من أن‬
‫تتورط فيما تورط فيه سواك‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أن العام بعد ختصيصه جماز‪ ،‬ألن مدلوله وقتئذ بعض أفراده‪ ،‬مع أن لفظه موضوع للكل‪،‬‬
‫والقرينة هي املخصص‪ ،‬وكل ما كان كذلك فهو جماز‪ ،‬أما النص املنسوخ فما زال كما كان مستعمال‬
‫دل على أن إرادة هللا تعلقت أزال ابستمرار هذا احلكم إىل وقت‬
‫فيما وضع له‪ ،‬غايته أن الناسخ ّ‬
‫معني‪ ،‬وإن كان النص املنسوخ متناوال مجيع األزمان‪ ،‬ويظهر ذلك جليّا فيما إذا قال الشارع مثال‪:‬‬
‫افعلوا كذا أبدا‪ُ ،‬ث نسخه بعد زمن قصري‪ ،‬فإنه ال يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصري دون‬
‫نصا؛ بدليل قوله‪« :‬أبدا» غري أن العمل هبذا‬
‫غريه‪ ،‬بل هو مازال كما كان مستعمال يف مجيع األزمان ّ‬
‫النص الشامل جلميع األزمان لفظا قد أبطله الناسخ؛ ألن استمرار العمل ابلنص مشروط بعدم ورود‬
‫وأاي كان انسخه‪.‬‬
‫انسخ ينسخه‪ّ ،‬أاي كان ذلك النص ّ‬
‫فإن سأل سائل‪ :‬ما حكمة أتبيد النص لفظا‪ ،‬بينما هو مؤقت يف علم هللا أزال؟‬
‫أجبناه أبن حكمته ابتالء هللا لعباده‪ :‬أيرضخون حلكمه مع أتبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم ال؟‬
‫فإذا ماز هللا اخلبيث من الطيب‪ ،‬واملطمئن إىل حكمه من املتمرد عليه‪ ،‬جاء النسخ حلكمة أخرى من‬
‫التخفيف وحنوه‪.‬‬
‫العام أصال‪ ،‬خبالف ما خرج ابلنسخ‪ ،‬فإنه كان‬
‫اثنيها‪ :‬أن حكم ما خرج ابلتخصيص مل يكن مرادا من ّ‬
‫مرادا من املنسوخ لفظا‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬أن التخصيص ال يتأتى أن أييت على األمر ملأمور واحد‪ ،‬وال على النهي ملنهي‬

‫(‪)112/1‬‬

‫واحد‪ ،‬أما النسخ فيمكن أن يعرض هلذا كما يعرض لغريه‪ ،‬ومن ذلك نسخ بعض األحكام اخلاصة به‬
‫صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬أن النسخ يبطل حجية املنسوخ إذا كان رافعا للحكم ابلنسبة إىل مجيع أفراد العام‪ ،‬ويبقى‬
‫على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض‪ ،‬أما التخصيص فال‬
‫يبطل حجية العام أبدا‪ ،‬بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد ختصيصه‪.‬‬
‫خامسها‪ :‬أن النسخ ال يكون إال ابلكتاب والسنة خبالف التخصيص فإنه يكون هبما وبغريمها كدليل‬
‫السا ِرقَةُ فَاقْطَ ُعوا أَيْ ِديَـ ُهما [سورة املائدة آية‪،]38 :‬‬
‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫احلس والعقل مثل قول هللا سبحانه‪َ :‬و َّ‬
‫فأنه قد خصصه قوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬ال قطع إال يف ربع دينار»‪.‬‬
‫ومثل قوله سبحانه‪ :‬تُ َد ِّم ُر ُك َّل َش ْي ٍء ِأب َْم ِر َرِّهبا [سورة األحقاف آية‪ ]25 :‬فقد خصصه ما شهد به‬
‫احلس من سالمة السماء واألرض وعدم تدمري الريح هلما‪.‬‬
‫اَّللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير [سورة البقرة آية‪ ،]109 :‬قد خصصه ما حكم به‬ ‫ومثل قوله تعاىل‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫العقل من استحالة تعلق القدرة اإلهلية ابلواجب واملستحيل العقليني‪.‬‬
‫سادسها‪ :‬أن النسخ ال يكون إال بدليل مرتاخ عن املنسوخ‪ ،‬أما التخصيص فيكون ابلسابق والالحق‬
‫واملقارن‪ ،‬وقال قوم‪ :‬ال يكون التخصيص إال ِبقارن‪ ،‬فلو أتخر عن وقت‬
‫العمل ابلعام كان هذا املخصص انسخا للعام ابلنسبة ملا تعارضا فيه‪ ،‬كما إذا قال الشارع «اقتلوا‬
‫املشركني» وبعد وقت العمل به قال‪« :‬وال تقتلوا أهل الذمة»‪ ،‬ووجهة نظر هؤالء أن املقصود‬
‫ابملخصص بيان املراد من العام‪ ،‬فلو أتخر وقت العمل به لزم أتخري البيان عن وقت احلاجة‪ ،‬وذلك‬
‫ال جيوز‪ ،‬فلم يبق إال اعتباره انسخا‬
‫سابعها‪ :‬أن النسخ ال يقع يف األخبار خبالف التخصيص فإنه يكون يف األخبار ويف غريها‪.‬‬

‫النسخ بني مثبتيه ومنكريه‬


‫يذهب أهل األداين مذاهب ثالثة يف النسخ‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أنه جائز عقال وواقع مسعا‪ ،‬وعليه إمجاع املسلمني من قبل أن يظهر أبو مسلم األصفهاين ومن‬
‫شايعه‪ ،‬وعليه أيضا إمجاع النصارى‪ ،‬ولكن من قبل هذا العصر الذي خرقوا فيه إمجاعهم‪ ،‬وركبوا فيه‬
‫رؤوسهم‪ ،‬وهو كذلك رأي العيسوية‪ ،‬وهم طائفة من طوائف اليهود الثالث‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬أن النسخ ممتنع عقال ومسعا وإليه جنح النصارى مجيعا يف هذا العصر‪ ،‬وتشيعوا له تشيعا ظهر‬
‫يف محالهتم املتكررة على اإلسالم‪ ،‬ويف طعنهم على هذا الدين القومي من‬

‫(‪)113/1‬‬

‫هذا الطريق طريق النسخ‪ ،‬وهبذه الفرية أيضا يقول الشمعونية‪ ،‬وهم طائفة اثنية من اليهود‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬أن النسخ جائز عقال ممتنع مسعا‪ ،‬وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود‪،‬‬
‫ويعزى هذا الرأي أليب مسلم األصفهاين من املسلمني‪ ،‬ولكن على اضطراب يف النقل عنه وعلى‬
‫أتويل جيعل خالفه جلمهرة املسلمني شبيها ابخلالف اللفظي إن مل يكنه‪.‬‬

‫األدلة على النسخ‬


‫ْت ِخبَ ٍْري ِم ْنها أ َْو ِمثْلِها [سورة البقرة آية‪.]106 :‬‬
‫أوال‪ :‬قوله تعاىل‪ :‬ما نَـ ْنس ْخ ِمن آي ٍة أَو نُـ ْن ِسها ََن ِ‬
‫َ ْ َ ْ‬
‫تاب [سورة الرعد آية‪.]39 :‬‬ ‫ْك ِ‬‫ت و ِع ْن َدهُ أ ُُّم ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫اثنيا‪ :‬قوله تعاىل‪ :‬ميَْ ُحوا َّ‬
‫اَّللُ ما يَشاءُ َويُـثْب ُ َ‬
‫وقد أسلفنا الكالم على هاتني اآليتني‪ ،‬ونزيدك أن داللتهما على وقوع النسخ ظاهر فيهما‪ ،‬ألهنما‬
‫نزلتا ر ّدا على طعن الطاعنني على اإلسالم ونيب اإلسالم بوقوع النسخ يف الشريعة املطهرة‪.‬‬
‫اثلثا‪ :‬قوله تعاىل‪َ :‬وإِذا بَ َّدلْنا آيَةً َمكا َن آيٍَة َو َّ‬
‫اَّللُ أَ ْعلَ ُم ِِبا يُـنَـ ِّز ُل قالُوا إِ َّمنا أَنْ َ‬
‫ت ُم ْف ٍَرت بَ ْل أَ ْكثَـ ُرُه ْم ال‬
‫يَـ ْعلَ ُمو َن [سورة النحل آية‪.]101 :‬‬
‫ووجه الداللة يف هذه اآلية أن التبديل يتألف من رفع ألصل وإثبات لبدل‪ ،‬وذلك هو النسخ؛ سواء‬
‫أكان املرفوع تالوة أو حكما‪.‬‬
‫بات أ ِ‬
‫ُحلَّ ْ‬ ‫هادوا ح َّرْمنا َعلَْي ِهم طَيِ ٍ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫ت َهلُ ْم [سورة النساء آية‪.]160 :‬‬ ‫ْ ّ‬ ‫ين ُ َ‬ ‫رابعا‪ :‬قوله تعاىل‪ :‬فَبظُل ٍْم م َن الذ َ‬
‫ووجه الداللة فيها أهنا تفيد حترمي ما أحل من قبل وما ذلك إال نسخ‪ ،‬وكلمة أ ِ‬
‫ُحلَّ ْ‬
‫ت َهلُ ْم يفهم منها أن‬ ‫ّ‬
‫احلكم األول كان حكما شرعيّا ال براءة أصلية‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬أن سلف األمة أمجعوا على أ ّن النسخ وقع يف الشريعة اإلسالمية كما وقع هبا‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬أن يف القرآن آايت كثرية نسخت أحكامها‪.‬‬
‫وهذا دليل يف طيه أدلة متعددة؛ ألن كل آية من هذه اآلايت املنسوخة‪ ،‬تعترب مع انسخها دليال‬
‫كامال على وقوع النسخ‪ ،‬إذ الوقوع يكفي يف إثباته وجود فرد واحد‪.‬‬
‫وسنتحدث فيما بعد إن شاء هللا عن هذه اآلايت املنسوخة وما نسخها‪.‬‬

‫(‪)114/1‬‬

‫حكمة هللا يف النسخ‬


‫اآلن وقد عرفنا النسخ‪ ،‬وفرقنا بينه وبني ما يلتبس به‪ ،‬وأيدانه ابألدلة‪ ،‬وجيدر بنا أن نبني حكمة هللا‬
‫والدس‪ ،‬خصوصا يف‬
‫ّ‬ ‫تعاىل فيه‪ ،‬ألن معرفة احلكمة تريح النفس وتزيل اللبس‪ ،‬وتعصم من الوسوسة‬
‫مثل موضوعنا الذي كثر منكروه وتصيدوا إلنكاره الشبهات من هنا وهناك‪.‬‬
‫وألجل تفصيل القول يف احلكمة نذكر أن النسخ وقع ابلشريعة اإلسالمية ووقع فيها‪.‬‬
‫على معىن أن هللا نسخ ابإلسالم كل دين سبقه‪ ،‬ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض‪.‬‬
‫أما حكمته سبحانه يف أنه نسخ به األداين كلها‪ ،‬فرتجع إىل أن تشريعه أكمل تشريع يفي حباجات‬
‫اإلنسانية يف مرحلتها اليت انتهت إليها‪ ،‬وبعد أن بلغت أشدها واستوت‪ ،‬ذلك أن النوع اإلنساين‬
‫تقلّب كما يتقلب الطفل يف أدوار خمتلفة‪ ،‬ولكل دور من هذه األدوار حال تناسبه غري احلال اليت‬
‫تناسب دورا غريه‪.‬‬
‫حىت إذا بلغ العامل أوان نضجه واستوائه‪ ،‬وربطت مدنيته بني أقطاره وشعوبه‪ ،‬جاء هذا الدين احلنيف‪،‬‬
‫ختاما لألداين‪ ،‬ومتمما للشرائع‪ ،‬وجامعا لعناصر احليوية ومصاحل اإلنسانية‪ ،‬ومرونة القواعد مجعا وفق‬
‫بني مطالب الروح واجلسد‪ ،‬وآخى بني العلم والدين‪ ،‬ونظم عالقة اإلنسان ابهلل وابلعامل كله من أفراد‬
‫عاما خالدا إىل أن يرث هللا‬
‫وأسر ومجاعات‪ ،‬وأمم وشعوب وحيوان ونبات ومجاد‪ ،‬مما جعله حبق دينا ّ‬
‫األرض ومن عليها!‪.‬‬
‫وتعهدها ِبا يرقيها‬
‫وأما حكمة هللا يف أنه نسخ بعض أحكام اإلسالم ببعض فرتجع إىل سياسة األمة ّ‬
‫وميحصها‪ ،‬وبيان ذلك أن األمة اإلسالمية يف بدايتها حني صدعها الرسول صلّى هللا عليه وسلم‬
‫بدعوته‪ ،‬كانت تعاين فرتة انتقال شا ّق‪ ،‬بل كان أشق ما يكون عليها يف ترك عقائدها ومورواثهتا‬
‫وعاداهتا خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذين شوفهوا ابإلسالم‪ ،‬من التحمس ملا يعتقدون‬
‫أنه من مفاخرهم وأجمادهم‪.‬‬
‫من هنا جاءت الشريعة إىل الناس متشي على مهل متألفة هلم‪ ،‬متلطفة يف دعوهتم‪ ،‬متدرجة هبم إىل‬
‫الكمال رويدا رويدا‪ ،‬صاعدة هبم يف مدارج الرقي شيئا فشيئا‪ ،‬متمشية مع‬
‫اإللف واملران واألحداث اجلادة عليهم‪ ،‬لتسري هبم من األسهل إىل السهل‪ ،‬ومن السهل إىل الصعب‪،‬‬
‫ومن الصعب إىل األصعب حسب أصول الرتبية‪ ،‬حىت مت األمر وجنح اإلسالم جناحا مل يعرف مثله يف‬
‫سرعته وامتزاج النفوس به‪ ،‬وهنضة البشرية بسببه!‬
‫تلك احلكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان احلكم الناسخ أصعب من‬

‫(‪)115/1‬‬

‫املنسوخ‪ ،‬كموقف اإلسالم يف مسوه ونبله من مشكلة اخلمر يف عرب اجلاهلية‪ ،‬وقد كانت مشكلة‬
‫معقدة كل التعقيد‪ ،‬حيتسوهنا بصورة تكاد تكون إمجاعية‪ ،‬وأيتوهنا ال على أهنا عادة جمردة‪ ،‬بل على‬
‫الفتوة‪ ،‬وعنوان الشهامة! فقل يل بربك‪ :‬هل كان معقوال أن ينجح اإلسالم يف‬
‫أهنا أمارة القوة‪ ،‬ومظهر ّ‬
‫فطامهم عنها لو مل يتألفهم ويتلطف هبم إىل درجة أن مينت عليهم هبا أول األمر‪ ،‬كأنه يشاركهم يف‬
‫شعورهم‪.‬‬
‫وإىل حد أنه أىب أن حيرمها عليهم يف وقت استعدت فيه بعض األفكار لتسمع كلمة حترميه حني سألوه‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر [سورة البقرة آية‪.]219 :‬‬
‫ك َع ِن ْ‬
‫صلّى هللا عليه وسلم‪ :‬يَ ْسئَـلُونَ َ‬
‫أما احلكمة يف نسخ احلكم األصعب ِبا هو أسهل منه‪ ،‬فهي التخفيف على الناس ترفيها عنهم‬
‫وإظهارا لفضل هللا عليهم ورمحته هبم‪ ،‬ويف ذلك إغراء هلم على املبالغة يف شكره ومتجيده‪ ،‬وحتبيب هلم‬
‫فيه ويف دينه‪.‬‬
‫وأما احلكمة يف نسخ احلكم ِبساويه يف صعوبته أو سهولته‪ ،‬فاالبتالء واالختبار ليظهر املؤمن فيفوز‪،‬‬
‫ب‪.‬‬ ‫يث ِم َن الطَّيِّ ِ‬
‫اخلَبِ َ‬ ‫واملنافق فيهلك لِيَ ِم َيز َّ‬
‫اَّللُ ْ‬
‫يبقى الكالم يف حكمة بقاء التالوة مع نسخ احلكم‪ ،‬ويف حكمة نسخ التالوة مع بقاء احلكم‪.‬‬
‫أما حكمة بقاء التالوة مع نسخ احلكم؛ فهي تسجيل تلك الظاهرة احلكيمة‪ ،‬ظاهرة سياسة اإلسالم‬
‫للناس‪ ،‬حىت يشهدوا أنه هو الدين احلق‪ ،‬وأن نبيه نيب الصدق‪ ،‬وأن هللا هو العليم احلكيم‪ ،‬الرمحن‬
‫الرحيم‪ ،‬يضاف إىل ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التالوة‪ ،‬ومن االستمتاع ِبا حوته تلك‬
‫اآلايت املنسوخة من بالغة‪ ،‬ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية هبا‪.‬‬
‫وأما نسخ التالوة مع بقاء احلكم‪ ،‬فحكمته تظهر يف كل آية ِبا يناسبها‪ ،‬وأنه لتبدو لنا حكمة رائعة‬
‫يف مثال مشهور من هذا النوع‪.‬‬
‫ذلك أنه صح يف الرواية عن عمر بن اخلطاب وأيب بن كعب أهنما قاال‪ :‬كان فيما أنزل من القرآن‪:‬‬
‫«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة» أي كان هذا النص آية تتلى‪ُ ،‬ث نسخت تالوهتا وبقي‬
‫حكمها معموال به إىل اليوم‪ ،‬والسر يف ذلك أهنا كانت تتلى أوال لتقرير حكمها‪ ،‬ردعا ملن حتدثه نفسه‬
‫أن يتلطخ هبذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حىت إذا ما تقرر هذا احلكم يف النفوس نسخ هللا‬
‫تالوته حلكمة أخرى‪ ،‬هي اإلشارة إىل شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة‪ ،‬حيث‬
‫سلكها مسلك ما ال يليق أن يذكر فضال عن أن يفعل‪ ،‬وسار هبا يف طريق يشبه طريق املستحيل‬
‫الذي ال يقع‪ ،‬كأنه قال‪:‬‬

‫(‪)116/1‬‬

‫ّنزهوا األمساع عن مساعها‪ ،‬واأللسنة عن ذكرها فضال عن الفرار منها‪ ،‬ومن التلوث برجسها‪ .‬كتب هللا‬
‫لنا احلفظ والعصمة إنه ويل كل نعمة وتوفيق‪.‬‬

‫شبه أيب مسلم يف إنكار النسخ والرد عليها‬


‫النقل عن أيب مسلم مضطرب‪ ،‬فمن قائل‪ :‬إنه مينع وقوع النسخ على اإلطالق‪ ،‬ومن قائل‪ :‬إنه ينكر‬
‫ورجحت هذه الرواية األخرية‬
‫وقوعه يف شريعة واحدة‪ ،‬ومن قائل‪ :‬إنه ميكن وقوعه يف القرآن خاصة‪ّ ،‬‬
‫أبهنا أصح الرواايت‪ ،‬وأبن التأويالت املنقولة عنه مل خترج عن حدود ما نسخ من القرآن‪ ،‬وأبعد‬
‫الرواايت عن الرجل هي الرواية األوىل؛ ألنه ال يعقل أن مسلما فضال عن عامل كأيب مسلم ينكر وقوع‬
‫اللهم إال إذا كانت املسألة ترجع إىل التسمية فقط؛ فإهنا هتون حينئذ‪ ،‬على معىن أن ما‬
‫النسخ مجلة‪ّ ،‬‬
‫نسميه حنن نسخا‪ ،‬يسميه هو ختصيصا ابلزمان مثال‪ ،‬وإىل ذلك ذهب بعض احملققني‪.‬‬
‫قال التاج السبكي‪ :‬إن أاب مسلم ال ينكر وقوع املعىن الذي نسميه حنن نسخا‪ ،‬ولكنه يتحاشى أن‬
‫يسميه ابمسه‪ ،‬ويسميه ختصيصا ‪ ..‬اه‪.‬‬
‫ني ي َديْ ِه وال ِمن َخل ِْف ِه تَـ ْن ِزيل ِمن ح ِك ٍيم َِ‬
‫مح ٍ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫يد [سورة‬ ‫ٌ ْ َ‬ ‫احتج أبو مسلم بقوله‪ :‬ال َأيْتيه الْباط ُل م ْن بَ ْ ِ َ َ ْ‬
‫فصلت آية‪ .]42 :‬وشبهته يف االستدالل‪ :‬أن هذه اآلية تفيد أن أحكام القرآن ال تبطل أبدا‪.‬‬
‫والنسخ فيه إبطال حلكم سابق‪.‬‬
‫وندفع مذهب أيب مسلم وشبهته أبمور أربعة‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أنه لو كان معىن الباطل يف اآلية هو مرتوك العمل به مع بقاء قرآنيته‪ ،‬لكان دليله قاصرا عن‬
‫م ّدعاه؛ ألن اآلية ال تفيد حينئذ إال امتناع نوع خاص من النسخ وهو نسخ احلكم دون التالوة؛ فإنه‬
‫وحده هو الذي يرتتب عليه وجود مرتوك العمل يف القرآن‪ ،‬أما نسخ التالوة مع احلكم أو مع بقائه‬
‫فال تدل اآلية على امتناعه هبذا التأويل‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬أن معىن الباطل يف اآلية ما خالف احلق‪ ،‬والنسخ حق‪ ،‬ومعىن اآلية‪ :‬أن عقائد القرآن موافقة‬
‫للعقل‪ ،‬وأحكامه مسايرة للحكمة‪ ،‬وأخباره مطابقة للواقع‪ ،‬وألفاظه حمفوظة من التغيري والتبديل‪ ،‬وال‬
‫ميكن أن يتطرق إىل ساحته اخلطأ أبي حال‪:‬‬
‫إِ َّان َْحن ُن نَـ َّزلْنَا ال ِّذ ْك َر َوإِ َّان لَهُ َحلافِظُو َن [سورة احلجر آية‪َ ،]9 :‬وِاب ْحلَ ِّق أَنْـ َزلْناهُ َوِاب ْحلَ ِّق نَـ َز َل [سورة اإلسراء‬
‫آية‪.]105 :‬‬
‫ولعلك تدرك معي أن تفسري اآلية هبذا املعىن جيعلها أقرب إىل إثبات النسخ ووقوعه منها إىل نفيه‬
‫وامتناعه؛ ألن النسخ‪ -‬كما قرران‪ -‬تصرف إهلي حكيم تقتضيه احلكمة‬

‫(‪)117/1‬‬

‫وترتبط به املصلحة‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬أن أاب مسلم على فرض أن خالفه مع اجلمهور لفظي‪ ،‬ال يعدو حدود التسمية؛ فإنه يؤخذ‬
‫عليه أنه أساء األدب مع هللا يف حتمسه لرأي قائم على حتاشي لفظ اختاره‪ -‬جلت حكمته‪ -‬ودافع‬
‫س ْخ ِم ْن آيٍَة أ َْو نُـنْ ِسها [سورة البقرة آية‪ ،]106 :‬وهل بعد اختيار هللا‬ ‫عن معناه ِبثل قوله‪ :‬ما نَـ ْن َ‬
‫اختيار؟ وهل بعد تعبري القرآن تعبري؟‬
‫يم [سورة البقرة آية‪.]32 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ك أَنْ َ ِ‬ ‫ْم لَنا إَِّال ما َعلَّ ْمتَنا إِنَّ َ‬ ‫سبحانَ َ ِ‬
‫يم ا ْحلَك ُ‬
‫ت ال َْعل ُ‬ ‫ك ال عل َ‬ ‫ُْ‬
‫رابعها‪ :‬أن هناك فروقا بني النسخ والتخصيص‪ ،‬وقد فصلناها فيما سبق‪.‬‬

‫طرق معرفة النسخ‬


‫ال بد يف حتقق النسخ‪ -‬كما علمت‪ -‬من ورود دليلني عن الشارع‪ ،‬ومها متعارضان تعارضا حقيقيّا‪ ،‬ال‬
‫سبيل إىل تالفيه إبمكان اجلمع بينهما على أي وجه من وجوه التأويل‪.‬‬
‫وحينئذ فال مناص من أن نعترب أحدمها انسخا واآلخر منسوخا‪ ،‬دفعا للتناقض يف كالم الشارع‬
‫احلكيم‪ ،‬ولكن أي الدليلني يتعني أن يكون انسخا‪ ،‬وأيهما يتعني أن يكون منسوخا؟ هذا ما ال جيوز‬
‫احلكم فيه ابهلوى والشهوة‪ ،‬بل ال بد من دليل صحيح يقوم على أن أحدمها متأخر عن اآلخر‪،‬‬
‫فيكون السابق هو املنسوخ‪ ،‬والالحق هو الناسخ‪.‬‬
‫ولنا إىل هذا الدليل مسالك ثالثة‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أن يكون يف أحد النصني ما يدل على تعني املتأخر منهما حنو قوله تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الصالةَ َوآتُوا‬ ‫يموا َّ‬ ‫ب َّ‬
‫اَّللُ َعلَْي ُك ْم فَأَق ُ‬ ‫ص َدقات فَِإ ْذ َملْ تَـ ْف َعلُوا َوات َ‬ ‫ني يَ َد ْي َْجنوا ُك ْم َ‬ ‫أَأَ ْش َف ْقتُ ْم أَ ْن تُـ َق ّد ُموا بَ ْ َ‬
‫ري ِِبا تَـ ْع َملُو َن [سورة اجملادلة آية‪.]13 :‬‬ ‫اَّللَ ور ُسولَهُ و َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اَّللُ َخب ٌ‬ ‫َ‬ ‫يعوا َّ َ َ‬ ‫الزكا َة َوأَط ُ‬
‫ض ْعفاً فَِإ ْن يَ ُك ْن ِم ْن ُك ْم ِمائَةٌ صابَِرةٌ يَـغْلِبُوا ِمائَـتَ ْ ِ‬
‫ني َوإِ ْن‬ ‫َن فِي ُك ْم َ‬‫اَّللُ َع ْن ُك ْم َو َعلِ َم أ َّ‬
‫ف َّ‬ ‫وحنو قوله‪ْ :‬اآل َن َخ َّف َ‬
‫اَّللُ َم َع َّ ِ‬ ‫ني إبِِ ْذ ِن َِّ‬ ‫يَ ُك ْن ِم ْن ُك ْم أَل ٌ‬
‫ْف يَـغْلِبُوا أَلْ َف ْ ِ‬
‫ين [سورة األنفال آية‪.]66 :‬‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫اَّلل َو َّ‬
‫وحنو قوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬كنت هنيتكم عن زايرة القبور أال فزوروها وال تقولوا هجرا»‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬أن ينعقد إمجاع من األمة يف أي عصر من عصورها على تعيني املتقدم من النصني واملتأخر‬
‫منهما‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يفيد تعيني أحد النصني املتعارضني للسبق‬
‫على اآلخر أو الرتاخي عنه‪ ،‬كأن يقول‪ :‬نزلت هذه اآلية بعد تلك اآلية‪ ،‬أو نزلت هذه اآلية قبل تلك‬
‫اآلية‪ ،‬أو يقول‪ :‬نزلت هذه عام كذا‪ ،‬وكان معروفا سبق نزول اآلية اليت تعارضها‪ ،‬أو كان معروفا‬
‫أتخرها عنها‪.‬‬

‫(‪)118/1‬‬

‫أما قول الصحايب‪ :‬هذا انسخ وذاك منسوخ‪ ،‬فال ينهض دليال على النسخ‪ ،‬جلواز أن يكون الصحايب‬
‫صادرا يف ذلك عن اجتهاد أخطأ فيه فلم يصب فيه عني السابق وال عني الالحق خالفا البن‬
‫احلصار‪ ،‬وكذلك ال يعتمد يف معرفة الناسخ واملنسوخ على املسالك اآلتية‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ - 1‬اجتهاد اجملتهد من غري سند؛ ألن اجتهاده ليس حبجة‪.‬‬
‫‪ - 2‬قول املفسر‪ :‬هذا انسخ أو منسوخ من غري دليل؛ ألن كالمه ليس بدليل‪.‬‬
‫‪ - 3‬ثبوت أحد النصني قبل اآلخر يف املصحف؛ ألن ترتيب املصحف ليس على ترتيب النزول‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون أحد الروايني من أحداث الصحابة دون الراوي للنص اآلخر‪ ،‬فال حيكم بتأخر حديث‬
‫الصغري عن حديث الكبري؛ جلواز أن يكون الصغري قد روى املنسوخ عمن تقدمت صحبته‪ ،‬وجلواز‬
‫أن يسمع الكبري الناسخ من الرسول صلّى هللا عليه وسلم بعد أن يسمع الصغري منه املنسوخ‪ ،‬إما‬
‫وإما لتأخر تشريع الناسخ واملنسوخ كليهما‪.‬‬
‫إحالة على زمن مضى‪ّ ،‬‬
‫‪ - 5‬أن يكون أحد الراويني أسلم قبل اآلخر‪ ،‬فال حيكم أبن ما رواه سابق اإلسالم منسوخ وما رواه‬
‫املتأخر عنه انسخ‪ ،‬جلواز أن يكون الواقع عكس ذلك‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن يكون أحد الراويني قد انقطعت صحبته جلواز أن يكون حديث من بقيت صحبته سابقا‬
‫حديث من انقطعت صحبته‪.‬‬
‫‪ - 7‬أن يكون أحد النصني موافقا للرباءة األصلية دون اآلخر‪ ،‬فرِبا يتوهم أن املوافق هلا هو‬
‫السابق‪ ،‬واملتأخر عنها هو الالحق‪ ،‬مع أن ذلك غري الزم؛ ألنه ال مانع من تقدم ما خالف الرباءة‬
‫األصلية على ما وافقها‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬قوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬ال وضوء مما مست النار» فإنه ال‬
‫يلزم أن يكون سابقا على اخلرب الوارد إبجياب الوضوء مما مست النار‪ ،‬وال خيلو وقوع هذا من حكمة‬
‫عظيمة هي ختفيف هللا عن عباده بعد أن ابتالهم ابلتشديد‪.‬‬

‫قانون التعارض‪:‬‬
‫وعلى ذكر التعارض يف هذا الباب‪ ،‬نبني لك أن النصني املتعارضني إما أن يتفقا يف أهنما قطعيان أو‬
‫ظنيان‪ ،‬وإما أن خيتلفا فيكون أحدمها قطعيّا واآلخر ظنيّا‪.‬‬
‫أما املختلفان فال نسخ بينهما‪ ،‬ألن القطعي أقوى من الظين‪ ،‬فيؤخذ به‪ ،‬وما كان اليقني ليرتك ابلظن‪.‬‬
‫وأما املتفقان‪ :‬فإن علم أتخر أحدمها بطريق من تلك الطرق الثالث املعتمدة؛ فهو الناسخ واآلخر‬
‫املنسوخ‪ ،‬وإن مل يدل عليه واحد منهما؛ وجب التوقف‪ .‬وقيل‪ :‬يتخري الناظر بني العمل هبما‪.‬‬

‫(‪)119/1‬‬

‫هذا كله إذا مل ميكن اجلمع بني النصني بوجه من وجوه التخصيص والتأويل‪ ،‬وإال وجب اجلمع؛ ألن‬
‫إعمال الدليلني أوىل من إعمال دليل وإهدار آخر‪ ،‬وألن األصل يف األحكام بقاؤها وعدم نسخها‪،‬‬
‫فال ينبغي أن يرتك استصحاب هذا األصل ّإال بدليل ّبني‪.‬‬

‫ما يتناوله النسخ‬


‫إن تعريف النسخ أبنه‪ :‬رفع حكم شرعي بدليل شرعي‪ ،‬يفيد يف وضوح أن النسخ ال يكون إال يف‬
‫األحكام‪ ،‬وذلك موضع اتفاق بني القائلني ابلنسخ‪ ،‬لكن يف خصوص ما كان من فروع العبادات‬
‫واملعامالت‪ ،‬أما غري هذه الفروع من العقائد وأمهات األخالق وأصول العبادات واملعامالت‬
‫ومدلوالت األخبار احملضة‪ ،‬فال نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه مجهور العلماء‪.‬‬
‫فبدهي أال يتعلق هبا نسخ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أما العقائد‪ :‬فألهنا حقائق صحيحة اثبتة ال تقبل التغيري والتبديل‪،‬‬
‫وأما أمهات األخالق‪ :‬فألن حكمة هللا يف شرعها ومصلحة الناس يف التخلق هبا أمر ظاهر ال يتأثر‬
‫ِبرور الزمن‪ ،‬وال خيتلف ابختالف األشخاص واألمم حىت يتناوهلا النسخ ابلتبديل والتغيري‪.‬‬
‫وأما أصول العبادات واملعامالت‪ :‬فلوضوح حاجة اخللق إليهما ابستمرار‪ ،‬لتزكية النفوس وتطهريها‪،‬‬
‫ولتنظيم عالقة املخلوق ابخلالق واخللق على أساسهما‪ ،‬فال يظهر وجه من وجوه احلكمة يف رفعها‬
‫ابلنسخ‪.‬‬
‫وأما مدلوالت األخبار احملضة‪ :‬فألن نسخها يؤدي إىل كذب الشارع يف أحد خربيه الناسخ أو‬
‫املنسوخ‪ .‬وهو حمال عقال ونقال‪.‬‬
‫أما عقال‪ :‬فألن الكذب نقص‪ ،‬والنقص عليه تعاىل حمال‪.‬‬
‫َص َد ُق‬ ‫وأما نقال‪ :‬فلمثل قوله سبحانه‪ :‬ومن أَص َد ُق ِمن َِّ ِ‬
‫اَّلل ق ًيال [سورة النساء آية‪َ ،]122 :‬وَم ْن أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ ْ‬
‫ِمن َِّ‬
‫اَّلل َح ِديثاً [سورة النساء آية‪.]87 :‬‬ ‫َ‬
‫نعم إن نسخ لفظ اخلرب دون مدلوله جائز إبمجاع من قالوا ابلنسخ ولذلك صوراتن‪:‬‬
‫إحدامها‪ :‬أن تنزل اآلية خمربة عن شيء ُث تنسخ تالوهتا فقط‪.‬‬
‫واألخرى‪ :‬أن أيمران الشارع ابلتحدث عن شيء ُث ينهاان أن نتحدث به‪.‬‬
‫ودل على أمر أو هني متصلني أبحكام فرعية‬
‫وأما اخلرب الذي ليس حمضا‪ :‬أبن كان يف معىن اإلنشاء‪ّ ،‬‬
‫عملية‪ ،‬فال نزاع يف جواز نسخه والنسخ به‪ ،‬ألن العربة ابملعىن ال ابللفظ‪.‬‬

‫(‪)120/1‬‬

‫ِ‬
‫مثال اخلرب ِبعىن األمر‪ :‬قوله تعاىل‪ :‬تَـ ْزَر ُعو َن َس ْب َع سنِ َ‬
‫ني َدأَابً [سورة يوسف آية‪ ،]47 :‬فإن معناه‬
‫ازرعوا‪.‬‬
‫الزانِيةُ ال يـ ْن ِكحها إَِّال ز ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‬ ‫الز ِاين ال يَـ ْنك ُح إَِّال زانيَةً أ َْو ُم ْش ِرَكةً َو َّ َ َ ُ‬
‫ومثال اخلرب ِبعىن النهي‪ :‬قوله سبحانه‪َّ :‬‬
‫أ َْو ُم ْش ِر ٌك [سورة النور آية‪ ،]3 :‬فإن معناه ال تنكحوا مشركة وال زانية (بفتح التاء) وال تنكحوها‬
‫(بضم التاء) لكن على بعض وجوه االحتماالت دون بعض‪.‬‬
‫والفرق بني أصول العبادات واملعامالت وبني فروعها‪ ،‬أن فروعها هي ما تعلق ابهليئات واألشكال‬
‫واألمكنة واألزمنة والعدد‪ ،‬أو هي كمياهتا وكيفياهتا‪ .‬وأما أصوهلا‪ :‬فهي ذوات العبادات واملعامالت‬
‫بقطع النظر عن الكم والكيف‪.‬‬
‫واعلم أن ما قررانه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل األحكام الفرعية العملية دون سواها‪،‬‬
‫هو الرأي السائد الذي تراتح إليه النفس ويؤيده الدليل‪ ،‬وقد انزع يف ذلك قوم ال وجه هلم‪،‬‬
‫فلنضرب عن كالمهم صفحا‪:‬‬
‫ظ من النّظر‬
‫وليس كل خالف جاء معتربا ‪ ...‬إال خالف له ح ّ‬
‫ويتصل ِبا ذكران‪ :‬أن األداين اإلهلية ال تناسخ بينها فيما بيّناه من األمور اليت ال يتناوهلا النسخ‪ ،‬بل‬
‫هي متحدة يف العقائد وأمهات األخالق‪ ،‬وأصول العبادات واملعامالت‪ ،‬ويف صدق األخبار احملضة‬
‫فيها صدقا ال يقبل النسخ والنقد‪ .‬وإن شئت أدلة فهاك ما أييت من القرآن‪:‬‬
‫يم َوُموسى َو ِعيسى‬ ‫ك وما و َّ ِ ِ ِ ِ‬
‫ص ْينا به إبْراه َ‬
‫َّ ِ‬
‫صى به نُوحاً َوالذي أ َْو َح ْينا إِلَْي َ َ َ‬
‫ع لَ ُكم ِمن ال ِّدي ِن ما و َّ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫‪َ - 1‬ش َر َ ْ َ‬
‫ين َوال تَـتَـ َف َّرقُوا فِ ِيه [سورة الشورى آية‪.]13 :‬‬ ‫ِ‬
‫يموا ال ّد َ‬
‫ِ‬
‫أَ ْن أَق ُ‬
‫ون [سورة األنبياء آية‪:‬‬ ‫وحي إِلَْي ِه أَنَّهُ ال إِلهَ إَِّال أ ََان فَا ْعب ُد ِ‬ ‫ول إَِّال نُ ِ‬‫ك ِم ْن ر ُس ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫‪َ - 2‬وما أ َْر َسلْنا م ْن قَـ ْبل َ َ‬
‫‪.]25‬‬
‫ين ِم ْن قَـ ْبلِ ُك ْم [سورة البقرة آية‪:‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬
‫يام َكما ُكت َ‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬
‫الص ُ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا ُكت َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫‪ - 3‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫‪.]183‬‬
‫يق [سورة احلج آية‪:‬‬ ‫ني ِم ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِم ٍ‬ ‫ِ‬
‫جاال َو َعلى ُك ِّل ضام ٍر َأيْتِ َ‬ ‫وك ِر ً‬ ‫‪َ - 4‬وأَ ِذّ ْن ِيف الن ِ‬
‫َّاس ِاب ْحلَ ِّج َأيْتُ َ‬
‫‪.]27‬‬
‫َح ِد ِمها َوَملْ يُـتَـ َقبَّ ْل ِم َن ْاآل َخ ِر َ‬
‫قال‬ ‫ِ‬
‫آد َم ِاب ْحلَ ِّق إِ ْذ قَـ َّراب قُـ ْرابانً فَـتُـ ُقبِّ َل م ْن أ َ‬
‫ين َ‬ ‫ِ‬
‫‪َ - 5‬واتْ ُل َعلَْيه ْم نَـبَأَ ابْ َ ْ‬
‫ني [سورة املائدة آية‪.]27 :‬‬ ‫ِ‬ ‫قال إِ َّمنا يـتـ َقبَّل َّ ِ‬ ‫َألَقْـتُـلَن َ‬
‫اَّللُ م َن ال ُْمتَّق َ‬ ‫َّك َ َ َ ُ‬
‫ف‬ ‫ف ِاب ْألَنْ ِ‬ ‫ني ِابل َْع ْ ِ‬
‫ني َو ْاألَنْ َ‬ ‫س َوال َْع ْ َ‬‫س ِابلنَّـ ْف ِ‬ ‫ِ ِ َّ‬
‫‪َ - 6‬وَكتَـ ْبنا َعلَْيه ْم فيها أَن النَّـ ْف َ‬

‫(‪)121/1‬‬

‫لس ِن وا ْجلر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫صاص [سورة املائدة آية‪.]45 :‬‬ ‫وح ق ٌ‬ ‫لس َّن ِاب ّ ّ َ ُُ َ‬ ‫َو ْاألُذُ َن ِاب ْألُذُن َوا ّ‬
‫يل َعلى نَـ ْف ِس ِه ِم ْن قَـ ْب ِل أَ ْن تُـنَـ َّز َل التـ َّْوراةُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫عام كا َن ِح اال لِبَ ِين إِ ْسرائِ َِّ‬
‫يل إال ما َح َّرَم إ ْسرائ ُ‬ ‫َ‬
‫‪ُ - 7‬ك ُّل الطَّ ِ‬
‫[سورة آل عمران آية‪.]93 :‬‬
‫ْج َرِين َمث ِاينَ ِح َج ٍج [سورة القصص آية‪.]27 :‬‬ ‫ني َعلى أَ ْن َأت ُ‬‫يت هاتَ ْ ِ‬‫ك إِ ْح َدى ابْـنَ ََّ‬‫‪ - 8‬إِِّين أُ ِري ُد أَ ْن أُنْ ِك َح َ‬
‫بات أ ِ‬
‫ُحلَّ ْ‬ ‫هادوا ح َّرْمنا َعلَْي ِهم طَيِ ٍ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫ت َهلُ ْم [سورة النساء آية‪.]160 :‬‬ ‫ْ ّ‬ ‫ين ُ َ‬ ‫‪ - 9‬فَبظُل ٍْم م َن الذ َ‬
‫شر َك لَظُل ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال لُ ْقما ُن ِالبْنِ ِه َو ُه َو يَ ِعظُهُ اي بُ ََّ‬
‫يم [سورة لقمان آية‪:‬‬
‫ْم َعظ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ين ال تُ ْش ِر ْك ِاب ََّّلل إِ َّن ال ّ ْ‬ ‫‪َ - 10‬وإِ ْذ َ‬
‫‪ ]13‬إخل ما جاء يف قصة لقمان‪.‬‬

‫أنواع النسخ يف القرآن‬


‫النسخ الواقع يف القرآن يتنوع إىل أنواع ثالثة‪ :‬نسخ التالوة واحلكم معا‪ ،‬ونسخ احلكم دون التالوة‪،‬‬
‫ونسخ التالوة دون احلكم‪.‬‬

‫‪ - 1‬أما نسخ احلكم والتالوة مجيعا‪:‬‬


‫فقد أمجع عليه القائلون ابلنسخ من املسلمني‪ ،‬ويدل على وقوعه مسعا‪ :‬ما ورد عن عائشة رضي هللا‬
‫عنها أهنا قالت‪ :‬كان فيما أنزل من القرآن‪ :‬عشر رضعات معلومات حيرمن‪ُ ،‬ث نسخن خبمس‬
‫وتويف رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن‪ .‬وهو حديث صحيح‪.‬‬
‫معلومات‪ّ .‬‬
‫وإذا كان موقوفا على عائشة رضي هللا عنها فإن له احلكم املرفوع؛ ألن مثله ال يقال ابلرأي‪ .‬بل ال‬
‫بد فيه من توقيف‪ .‬وأنت خبري أبن مجلة‪« :‬عشر رضعات معلومات حيرمن» ليس هلا وجود حىت‬
‫تتلى‪ ،‬وليس العمل ِبا تفيده من احلكم ابقيا وإذا يثبت وقوع نسخ احلكم والتالوة مجيعا‪ ،‬وإذا ثبت‬
‫وقوعه ثبت جوازه؛ ألن الوقوع أول دليل على اجلواز‪ ،‬وبطل مذهب املانعني جلوازه شرعا كأيب مسلم‬
‫وأضرابه‪.‬‬

‫‪ - 2‬وأما نسخ احلكم دون التالوة‪:‬‬


‫فيدل على وقوعه آايت كثرية‪ ،‬منها‪ :‬آية تقدمي الصدقة أمام مناجاة الرسول صلّى هللا عليه وسلم‬
‫الرس َ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ص َدقَةً [سورة‬‫ني يَ َد ْي َْجنوا ُك ْم َ‬ ‫ول فَـ َق ّد ُموا بَ ْ َ‬ ‫آمنُوا إِذا َ‬
‫انج ْيـتُ ُم َّ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫وهي قوله تعاىل‪ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫اجملادلة آية‪.]12 :‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ب َّ‬
‫اَّللُ َعلَْي ُك ْم‬ ‫ص َدقات فَِإ ْذ َملْ تَـ ْف َعلُوا َوات َ‬ ‫منسوخة بقوله سبحانه‪ :‬أَأَ ْش َف ْقتُ ْم أَ ْن تُـ َق ّد ُموا بَ ْ َ‬
‫ني يَ َد ْي َْجنوا ُك ْم َ‬
‫ري ِِبا تَـ ْع َملُو َن [سورة اجملادلة آية‪.]13 :‬‬ ‫اَّللَ ور ُسولَهُ‪ ،‬و َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصالةَ َوآتُوا َّ‬ ‫ِ‬
‫اَّللُ َخب ٌ‬ ‫َ‬ ‫يعوا َّ َ َ‬ ‫الزكاةَ َوأَط ُ‬ ‫يموا َّ‬
‫فَأَق ُ‬
‫على معىن أن حكم اآلية األوىل منسوخ حبكم اآلية الثانية‪ ،‬مع أن تالوة كلتيهما ابقية‪.‬‬

‫(‪)122/1‬‬
‫عام ِم ْسكِ ٍ‬
‫ني [سورة البقرة آية‪ ،]184 :‬منسوخ‬ ‫ِ‬ ‫ومنها‪ :‬أن قوله سبحانه‪ :‬وعلَى الَّ ِذ ِ‬
‫ين يُطي ُقونَهُ ف ْديَةٌ طَ ُ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫ص ْمهُ [سورة البقرة آية‪ ]185 :‬على معىن أن حكم تلك منسوخ‬ ‫بقوله‪ :‬فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم َّ‬
‫الش ْه َر فَـلْيَ ُ‬
‫حبكم هذه‪ ،‬مع بقاء التالوة يف كلتيهما كما ترى‪.‬‬

‫‪ - 3‬وأما نسخ التالوة دون احلكم‪:‬‬


‫وأيب بن كعب أهنما قاال‪ :‬كان فيما أنزل من‬
‫فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن اخلطاب ّ‬
‫القرآن‪ :‬الشيخ والشيخة إذا زينا فارمجومها البتة ‪ ..‬اه‪.‬‬
‫وأنت تعلم أن هذه اآلية مل يعد هلا وجود بني دفيت املصحف وال على ألسنة القراء‪ ،‬مع أن حكمها‬
‫ابق على إحكامه مل ينسخ‪.‬‬
‫أيب بن كعب أنه قال‪( :‬كانت سورة األحزاب توازي سورة‬
‫ويدل على وقوعه‪ -‬أيضا‪ :-‬ما صح عن ّ‬
‫البقرة أو أكثر) مع أن هذا القدر الكبري الذي نسخت تالوته ال خيلو يف الغالب من أحكام اعتقادية‬
‫ال تقبل النسخ‪.‬‬
‫ويدل على وقوعه‪ -‬أيضا‪ :-‬اآلية الناسخة يف الرضاع‪ ،‬وقد سبق ذكرها يف النوع األول‪.‬‬
‫ويدل على وقوعه‪ -‬أيضا‪ :-‬ما صح عن أيب موسى األشعري أهنم كانوا يقرأون سورة على عهد رسول‬
‫هللا صلّى هللا عليه وسلم يف طول سورة براءة‪ ،‬وأهنا نسيت إال آية منها‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫(لو كان البن آدم واداين من مال البتغى واداي اثلثا‪ ،‬وال ميأل جوف ابن آدم إال الرتاب‪ .‬ويتوب هللا‬
‫على من اتب)‪.‬‬
‫وإذا ثبت وقوع هذين النوعني كما ترى‪ ،‬ثبت جوازمها؛ ألن الوقوع أعظم دليل على اجلواز كما هو‬
‫مقرر‪ ،‬وإذا بطل ما ذهب إليه املانعون له من انحية الشرع‪ ،‬كأيب مسلم‪ ،‬ومن لف لفه‪ .‬ويبطل كذلك‬
‫ما ذهب إليه املانعون له من انحية العقل‪ ،‬وهم فريق من املعتزلة‪ .‬ش ّذ عن اجلماعة فزعم أن هذين‬
‫النوعني األخريين مستحيالن عقال‪.‬‬
‫وميكنك أن تفحم هؤالء الشذاذ من املعتزلة بدليل على اجلواز العقلي الصرف هلذين النوعني فتقول‪:‬‬
‫إن ما يتعلق ابلنصوص القرآنية من التعلق بلفظها‪ ،‬وجواز الصالة هبا‪ ،‬وحرمتها على اجلنب يف قراءهتا‬
‫كال من‬
‫ومسها‪ ،‬شبيه‪ -‬كل الشبه‪ِ -‬با يتعلق هبا من داللتها على الوجوب واحلرمة وحنومها‪ ،‬يف أن ّ‬
‫هذه املذكورات حكم شرعي يتعلق ابلنص الكرمي وقد تقتضي املصلحة نسخ اجلميع‪ ،‬وقد تقتضي‬
‫نسخ بعض هذه املذكورات دون بعض‪ ،‬وإذا جيوز أن تنسخ اآلية تالوة وحكما‪ ،‬وجيوز أن تنسخ‬
‫تالوة ال حكما‪ ،‬وجيوز أن تنسخ حكما ال تالوة‪ ،‬وإذا ثبت هذا بطل ما ذهب إليه أولئك الشذاذ‬
‫من االستحالة العقلية للنوعني األخريين‪.‬‬
‫(‪)123/1‬‬

‫النسخ ببدل وبغري بدل‬


‫حيل‪ -‬سبحانه‪ -‬حمله حكما آخر أو ال‪.‬‬
‫احلكم الشرعي الذي ينسخه هللا‪ ،‬إما أن ّ‬
‫فإذا أحل حمله حكما آخر فذلك هو النسخ ببدل‪ ،‬وإذا مل حيل حمله حكما آخر؛ فذلك هو النسخ‬
‫بغري بدل‪ ،‬وكالمها جائز عقال وواقع مسعا على رأي اجلمهور‪.‬‬
‫مثال النسخ ببدل‪ :‬أن هللا تعاىل هنى املسلمني أول األمر عن قتال الكفار‪ ،‬ورغبهم يف العفو‬
‫سداً ِم ْن‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫والصفح؛ ِبثل قوله سبحانه‪َ :‬و َّد َكثريٌ م ْن أ َْه ِل الْكتاب لَ ْو يَـ ُردُّونَ ُك ْم م ْن بَـ ْعد إميان ُك ْم ُك َّفاراً َح َ‬
‫اَّللُ ِأب َْم ِرهِ إِ َّن ا ََّّللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء‬
‫اص َف ُحوا َح َّىت َأيِْيتَ َّ‬
‫ني َهلُُم ا ْحلَ ُّق فَا ْع ُفوا َو ْ‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ع ْند أَنْـ ُفس ِه ْم م ْن بَـ ْعد ما تَـبَ َّ َ‬
‫قَ ِد ٌير [سورة البقرة آية‪.]109 :‬‬
‫ص ِرِه ْم‬ ‫اَّللَ َعلى نَ ْ‬ ‫ين يُقاتَـلُو َن ِأب ََّهنُ ْم ظُلِ ُموا َوإِ َّن َّ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ُث نسخ هللا هذا النهي وأذن هلم ابجلهاد فقال‪ :‬أُذ َن للَّذ َ‬
‫اَّلل ولَوال دفْع َِّ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ُه ْم‬‫َّاس بَـ ْع َ‬
‫اَّلل الن َ‬ ‫ين أُ ْخ ِر ُجوا م ْن داي ِره ْم بِغَ ِْري َح ٍّق إَِّال أَ ْن يَـ ُقولُوا َربُّـنَا َُّ َ ْ َ ُ‬ ‫لََقد ٌير (‪ )39‬الذ َ‬
‫اسم َِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وات وم ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫بِبـع ٍ ِ‬
‫ص ُرهُ إِ َّن‬ ‫ص َر َّن َّ‬
‫اَّللُ َم ْن يَـ ْن ُ‬ ‫اَّلل َكثرياً َولَيَـ ْن ُ‬ ‫يها ْ ُ‬ ‫ساج ُد يُ ْذ َك ُر ف َ‬ ‫صلَ ٌ َ َ‬ ‫صوام ُع َوبِيَ ٌع َو َ‬ ‫ض َهلُّد َم ْ َ‬ ‫َْ‬
‫الزكاةَ وأَمروا ِابلْمعر ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وف َو َهنَْوا‬ ‫الصالةَ َوآتَـ ُوا َّ َ َ ُ َ ْ ُ‬ ‫َقاموا َّ‬ ‫ضأ ُ‬ ‫ين إِ ْن َم َّكن ُ‬
‫َّاه ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ي َع ِز ٌيز (‪ )40‬الذ َ‬ ‫اَّللَ لََق ِو ٌّ‬
‫َّ‬
‫َّلل عاقِبَةُ ْاأل ُُموِر [سورة احلج آية‪.]41 - 39 :‬‬ ‫ع ِن الْم ْن َك ِر وَِِّ‬
‫َ ُ َ‬
‫ُث شدد هللا وعزم عليهم يف النفري للقتال‪ ،‬وتوعدهم إن مل ينفروا فقال‪ :‬إَِّال تَـ ْن ِف ُروا يُـ َع ِّذبْ ُك ْم َعذاابً أَلِيماً‬
‫اَّللُ إِ ْذ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َرهُ َّ‬ ‫ص ُروهُ فَـ َق ْد نَ َ‬‫اَّللُ َعلى ُك ِّل َش ْيء قَد ٌير (‪ )39‬إَِّال تَـ ْن ُ‬ ‫ض ُّروهُ َش ْيئاً َو َّ‬‫ريُك ْم َوال تَ ُ‬‫َويَ ْستَـ ْبد ْل قَـ ْوماً غَ ْ َ‬
‫ول لِ ِ‬
‫اَّللُ َس ِكينَـتَهُ‬ ‫صاحبِ ِه ال َحتْ َز ْن إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ َم َعنا فَأَنْـ َز َل َّ‬ ‫ني إِ ْذ ُمها ِيف الْغا ِر إِ ْذ يَـ ُق ُ‬ ‫اثين اثْـنَ ْ ِ‬
‫ين َك َف ُروا ِ َ‬
‫َّ ِ‬
‫أَ ْخ َر َجهُ الذ َ‬
‫ِ‬ ‫الس ْفلى وَكلِمةُ َِّ‬
‫اَّلل ِه َي ال ُْعلْيا َو َّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫اَّللُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم‬ ‫ين َك َف ُروا ُّ َ َ‬ ‫َعلَْيه َوأَيَّ َدهُ جبُنُود َملْ تَـ َرْوها َو َج َع َل َكل َمةَ الذ َ‬
‫[سورة التوبة آية‪.]40 ،39 :‬‬
‫ومثال النسخ بال بدل أن هللا تعاىل أمر بتقدمي الصدقة بني يدي مناجاة الرسول‪:‬‬
‫الرس َ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ص َدقَةً [سورة اجملادلة آية‪:‬‬ ‫ني يَ َد ْي َْجنوا ُك ْم َ‬ ‫ول فَـ َق ّد ُموا بَ ْ َ‬ ‫آمنُوا إِذا َ‬
‫انج ْيـتُ ُم َّ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫فقال‪ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫حل من ترك‬
‫‪ُ ،]12‬ث رفع هذا التكليف عن الناس من غري أن يكلفهم بشيء مكانه‪ ،‬بل تركهم يف ّ‬
‫ني ي َدي َْجنوا ُكم ص َد ٍ‬ ‫ِ‬
‫قات‬ ‫ْ َ‬ ‫احلكم األول دون أن يوجه إليهم حكما آخر‪ .‬فقال‪ :‬أَأَ ْش َف ْقتُ ْم أَ ْن تُـ َق ّد ُموا بَ ْ َ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يعوا َّ‬
‫اَّللَ َوَر ُسولَهُ [سورة اجملادلة آية‪:‬‬ ‫الزكاةَ َوأَط ُ‬ ‫الصالةَ َوآتُوا َّ‬ ‫يموا َّ‬ ‫اتب َّ‬
‫اَّللُ َعلَْي ُك ْم فَأَق ُ‬ ‫فَِإ ْذ َملْ تَـ ْف َعلُوا َو َ‬
‫‪.]13‬‬
‫(‪)124/1‬‬

‫شبهة ودفعها‬
‫ذلك مذهب اجلمهور من العلماء‪ ،‬لكن بعض املعتزلة والظاهرية يقولون‪ :‬إن النسخ بغري بدل ال جيوز‬
‫ْت ِخبَ ٍْري ِم ْنها أ َْو ِمثْلِها‬
‫شرعا‪ .‬وشبهتهم يف هذا أن هللا تعاىل يقول‪ :‬ما نَـ ْنس ْخ ِمن آي ٍة أَو نُـ ْن ِسها ََن ِ‬
‫َ ْ َ ْ‬
‫[سورة البقرة آية‪.]106 :‬‬
‫ووجه اشتباههم‪ :‬أن اآلية تفيد أنه ال بد أن يؤتى مكان احلكم املنسوخ حبكم آخر هو خري منه أو‬
‫مثله‪ ،‬ولكنها شبهة مدفوعة ِبا ذكران من النصني السابقني يف تقدمي الصدقة بني يدي الرسول صلّى‬
‫س ْخ على الوجه الذي ذكروه احتجاج ابطل؛ ألن هللا تعاىل‬
‫هللا عليه وسلم‪ .‬واحتجاجهم ِبية‪ :‬ما نَـ ْن َ‬
‫إذا نسخ حكم اآلية بغري بدل‪ ،‬فهمنا ِبقتضى حكمته ورعايته ملصلحة عباده أن عدم احلكم صار‬
‫وصح حينئذ‪ :‬إن هللا نسخ حكم اآلية السابقة‪ ،‬وأتى‬
‫خريا من ذلك احلكم املنسوخ يف نفعه للناس‪ّ ،‬‬
‫خبري منها يف الداللة على عدم احلكم الذي ابت يف وقت النسخ أنفع للناس وخريا هلم من احلكم‬
‫س ْخ ال أيىب هذا التأويل‪ ،‬بل يتناوله كما يتناول سواه‪ ،‬والنسخ فيها أعم من‬
‫املنسوخ‪ .‬ومعىن آية ما نَـ ْن َ‬
‫نسخ التالوة واحلكم جمتمعني ومنفردين ببدل وبغري بدل‪ ،‬واخلريية واملثلية فيهما أعم من اخلريية‬
‫واملثلية يف الثواب والنفع‪.‬‬

‫نسخ احلكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل‬


‫النسخ إىل بدل يتنوع ثالثة أنواع‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬النسخ إىل بدل أخف على نفس املكلف من احلكم السابق؛ كنسخ حترمي األكل والشرب‬
‫واجلماع بعد النوم يف ليل رمضان إبابصة ذلك؛ إذ قال سبحانه‪:‬‬
‫باس َهلُ َّن َعلِ َم َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرفَ ُ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّللُ أَنَّ ُك ْم ُك ْنـتُ ْم َختْتانُو َن‬ ‫ث إِىل نسائ ُك ْم ُه َّن ل ٌ‬
‫باس لَ ُك ْم َوأَنْـتُ ْم ل ٌ‬ ‫يام َّ‬ ‫أُح َّل لَ ُك ْم لَْيـلَةَ ِّ‬
‫الص ِ‬
‫ب َّ‬ ‫ِ‬
‫ني‬
‫اَّللُ لَ ُك ْم َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َح َّىت يَـتَـبَ َّ َ‬ ‫وه َّن َوابْـتَـغُوا ما َكتَ َ‬‫تاب َعلَْي ُك ْم َو َعفا َعنْ ُك ْم فَ ْاآل َن َابش ُر ُ‬
‫س ُك ْم فَ َ‬ ‫أَنْـ ُف َ‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر [سورة البقرة آية‪.]187 :‬‬ ‫ط ْاألَبـيض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫اخلَْي ُ ْ َ ُ َ‬ ‫لَ ُك ُم ْ‬
‫اثنيها‪ :‬النسخ إىل بدل مساو للحكم األول يف خفته أو ثقله على نفس املكلف؛ كنسخ وجوب‬
‫الس ِ‬ ‫ُّ‬
‫ماء‬ ‫ك ِيف َّ‬ ‫ب َو ْج ِه َ‬ ‫استقبال بيت املقدس بوجوب استقبال الكعبة يف قوله سبحانه‪ :‬قَ ْد نَرى تَـ َقل َ‬
‫ث ما ُك ْنـتُ ْم فَـ َولُّوا ُو ُج َ‬
‫وه ُك ْم َشط َْرهُ‬ ‫ك َشط َْر ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام َو َح ْي ُ‬ ‫فَـلَنُـ َولِّيَـن َ‬
‫َّك قِ ْبـلَةً تَـ ْرضاها فَـ َو ِّل َو ْج َه َ‬
‫[سورة البقرة آية‪.]144 :‬‬
‫(‪)125/1‬‬

‫وهذان النوعان ال خالف يف جوازمها عقال ووقوعهما مسعا عند القائلني ابلنسخ كافة‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬النسخ إىل بدل أثقل من احلكم املنسوخ‪ ،‬ويف هذا النوع يدب اخلالف‪:‬‬
‫فجمهور العلماء يذهبون إىل جوازه عقال ومسعا كالنوعني السابقني ويستدلون على هذا أبمثلة كثرية‬
‫تثبت الوقوع السمعي‪ ،‬وهو أدل دليل على اجلواز العقلي كما علمت‪.‬‬
‫من تلك األمثلة‪ :‬أن هللا تعاىل نسخ إابحة اخلمر بتحرميها‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه تعاىل نسخ ما فرض من مساملة‬
‫ب َعلَْي ُك ُم ال ِْق ُ‬
‫تال َو ُه َو ُك ْرهٌ لَ ُك ْم [سورة البقرة آية‪.]216 :‬‬ ‫ِ‬
‫الكفار احملاربني ِبا فرض من قتاهلم‪ُ :‬كت َ‬
‫ومنها‪ :‬أن حد الزان كان يف فجر اإلسالم ال يعدو التعنيف واحلبس يف البيوت‪ُ ،‬ث نسخ ذلك ابجللد‬
‫والنفي يف حق البكر‪ ،‬وابلرجم يف حق الثيب‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هللا تعاىل فرض على املسلمني أوال صوم يوم عاشوراء‪ُ ،‬ث نسخه بفرض شهر رمضان كله‬
‫مع ختيري الصحيح املقيم بني صيامه والفدية‪ُ ،‬ث نسخ سبحانه هذا التخيري بتعيني الصوم على هذا‬
‫الصحيح املقيم إلزاما‪.‬‬

‫النسخ يف دورانه بني الكتاب والسنة‬


‫النسخ يف الشريعة اإلسالمية قد يرد به القرآن‪ ،‬وقد ترد به السنة‪ ،‬واملنسوخ كذلك قد يرد به القرآن‬
‫وقد ترد به السنة‪ .‬فاألقسام أربعة‪:‬‬

‫القسم األول‪ :‬نسخ القرآن ابلقرآن‪:‬‬


‫وقد أمجع القائلون ابلنسخ من املسلمني على جوازه‪ ،‬ووقوعه‪.‬‬
‫أما جوازه‪ :‬فألن آايت القرآن متساوية يف العلم هبا ويف وجوب العمل ِبقتضاها‪.‬‬
‫وأما وقوعه‪ :‬فلما ذكران وما سنذكر من اآلايت الناسخة واملنسوخة‪ .‬وهذا القسم يتنوع إىل أنواع‬
‫ثالثة‪ :‬نسخ التالوة واحلكم معا‪ ،‬ونسخ احلكم دون التالوة‪ ،‬ونسخ التالوة دون احلكم‪ ،‬وقد أشبعنا‬
‫الكالم عليها فيما سبق‪.‬‬

‫القسم الثاين‪ :‬نسخ القرآن ابلسنة‪:‬‬


‫جموز ومانع‪ُ ،‬ث اختلف اجملوزون بني قائل ابلوقوع وقائل‬
‫وقد اختلف العلماء يف هذا القسم بني ّ‬
‫بعدمه‪ ،‬وإذا جيري البحث يف مقامني اثنني‪ :‬مقام اجلواز‪ ،‬ومقام الوقوع‪.‬‬

‫(‪)126/1‬‬

‫‪ - 1‬مقام اجلواز‪:‬‬
‫القائلون ابجلواز هم‪ :‬مالك‪ ،‬وأصحاب أيب حنيفة‪ ،‬ومجهور املتكلمني من األشاعرة‪ ،‬واملعتزلة‪.‬‬
‫وحجتهم أن نسخ القرآن ابلسنة ليس مستحيال لذاته وال لغريه‪ .‬أما األول فظاهر‪ ،‬وأما الثاين‪ :‬فألن‬
‫السنة وحي من هللا كما أن القرآن كذلك‪ ،‬لقوله تعاىل‪َ :‬وما يَـنْ ِط ُق َع ِن ا ْهلَوى (‪ )3‬إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي‬
‫يُوحى [سورة النجم آية‪ ،]4 ،3 :‬وال فارق بينهما إال ألفاظ القرآن من ترتيب هللا وإنشائه‪ ،‬وألفاظ‬
‫السنة من ترتيب الرسول وإنشائه‪ .‬والقرآن له خصائصه‪ ،‬وللسنة خصائصها‪ ،‬وهذه الفوارق ال أثر هلا‬
‫فيما حنن بسبيله‪ ،‬مادام هللا هو الذي ينسخ وحيه بوحيه‪ ،‬وحيث ال أثر هلا‪ ،‬فنسخ أحد هذين‬
‫الوحيني ابآلخر‪ ،‬ال مانع مينعه عقال‪ ،‬كما أنه ال مانع مينعه شرعا‪ -‬أيضا‪ ،‬فتعني جوازه عقال وشرعا‪.‬‬
‫هذه حجة اجمليزين‪ .‬أما املانعون‪ -‬وهم‪ :‬الشافعي‪ ،‬وأمحد يف إحدى روايتني عنه‪ ،‬وأكثر أهل الظاهر؛‬
‫فيستدلون على املنع أبدلة قد ذكرها صاحب املناهل ورد عليها‪ ،‬ومل نذكرها ها هنا خوفا من اإلطالة‬
‫فيما ال أمهية كبرية لذكرها‪.‬‬

‫شبهتان ودفعهما‬
‫‪ - 1‬لقائل أن يقول‪ :‬إن من السنة ما يكون مثرة الجتهاده صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهذا ليس وحيا‬
‫أوحي إليه به‪ ،‬بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إىل الرسول صلّى هللا عليه وسلم يف لطف اترة‪ ،‬ويف‬
‫عنف أخرى‪ .‬فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول‪ :‬أن السنة وحي من هللا؟‪.‬‬
‫خفي‪ ،‬أما السنة االجتهادية؛ فليست‬
‫جلي أو ّ‬
‫واجلواب‪ :‬أن مرادان هنا ابلسنة‪ :‬ما كانت عن وحي ّ‬
‫مرادة هنا البته؛ ألن االجتهاد ال يكون إال عند عدم النص‪ ،‬فكيف يعارضه ويرفعه؟ وقد شرحنا أنواع‬
‫السنة يف كتابنا «املنهل احلديث يف علوم احلديث» فارجع إليه إن شئت‪.‬‬
‫آحاداي‪ ،‬وخرب الواحد مهما صح فإنه ال يفيد القطع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 2‬ولقائل أن يقول‪ :‬إن من السنة ما كان‬
‫والقرآن قطعي املنت‪ ،‬فكيف ينسخ ابلسنة اليت ال تفيد القطع؟ ومىت استطاع الظن أن يرفع اليقني؟‪.‬‬
‫واجلواب‪ :‬أن املراد ابلسنة هنا‪ :‬السنة املتواترة دون اآلحادية‪ .‬والسنة املتواترة قطعية الثبوت‪ -‬أيضا‪-‬‬
‫كالقرآن‪ .‬فهما متكافئان من هذه الناحية‪ ،‬فال مانع أن ينسخ أحدمها اآلخر‪ .‬أما خرب الواحد؛ فاحلق‬
‫عدم جواز نسخ القرآن به للمعىن املذكور‪ ،‬وهو أنه ظين والقرآن قطعي‪ ،‬والظين أضعف من القطعي‬
‫فال يقوى على رفعه‪.‬‬

‫(‪)127/1‬‬

‫والقائلون جبواز نسخ القرآن ابلسنة اآلحادية‪ ،‬اعتمادا على أن القرآن ظين الداللة‪ ،‬حجتهم ابطلة؛‬
‫ألن القرآن إن مل يكن قطعي الداللة فهو قطعي الثبوت‪ ،‬والسنة اآلحادية ظنية الداللة والثبوت معا‪،‬‬
‫فهي أضعف منه فكيف ترفعه؟‪.‬‬

‫‪ - 2‬مقام الوقوع‪:‬‬
‫ما أسلفناه بني يديك كان يف اجلواز‪ .‬أما الوقوع؛ فقد اختلف اجملوزون فيه‪ :‬منهم من أثبته‪ ،‬ومنهم من‬
‫نفاه َولِ ُك ٍّل ِو ْج َهةٌ ُه َو ُم َولِّيها وهاك وجهة كل من الفريقني لتعرف أن احلق مع النافني‪.‬‬
‫استدل املثبتون على الوقوع أبدلة أربعة‪:‬‬
‫واح ٍد ِم ْنـهما ِمائَةَ ج ْل َدةٍ‬
‫الز ِاين فَاجلِ ُدوا ُك َّل ِ‬
‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫الدليل األول‪ :‬أن آية اجللد وهي قوله تعاىل‪َّ :‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫[سورة النور آية‪ ]2 :‬تشمل احملصنني وغريهم من الزانة‪ُ .‬ث جاءت السنة فنسخت عمومها ابلنسبة‬
‫إىل احملصنني‪ ،‬وحكمت أبن جزاءهم الرجم‪.‬‬
‫وقد انقش النافون هذا الدليل أبمرين‪ :‬أحدمها‪ :‬أن الذي ذكروه ختصيص ال نسخ‪.‬‬
‫واآلخر‪ :‬أن آية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة) هي املخرجة لصور التخصيص‪ .‬وإن‬
‫جاءت السنة موافقة هلا وقد سبق الكالم على آية (الشيخ والشيخة) يف عداد ما نسخت تالوته‬
‫وبقي حكمه‪ ،‬فال تغفل عنه‪.‬‬
‫صيَّةُ لِ ْلوالِ َديْ ِن‬
‫ت إِ ْن تَـر َك َخ ْرياً الْو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫ب َعلَْي ُك ْم إِذا َح َ‬
‫ض َر أ َ‬
‫ِ‬
‫الدليل الثاين‪ :‬أن قوله تعاىل‪ُ :‬كت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني [سورة البقرة آية‪ ،]180 :‬منسوخ بقوله صلّى هللا عليه‬ ‫ني ِابل َْم ْع ُروف َح اقا َعلَى الْ ُمتَّق َ‬
‫َو ْاألَقـ َْربِ َ‬
‫وسلم‪« :‬ال وصية لوارث»‪.‬‬
‫وقد انقشه النافون أبمرين‪:‬‬
‫أوهلما‪ :‬أن احلديث املذكور خرب آحاد‪ ،‬وقد تقرر أن احلق عدم جواز نسخ القرآن خبرب اآلحاد‪.‬‬
‫اثنيهما‪ :‬أن احلديث بتمامه يفيد أن الناسخ هو آايت املواريث‪ ،‬ال هذا احلديث‪ ،‬وإليك النص‬
‫الكامل للحديث املذكور‪« :‬إن هللا قد أعطى كل ذي حق حقه فال وصية لوارث»‪.‬‬
‫ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود يف صحيحه ونصه‪ :‬عن ابن عباس رضي هللا عنهما يف قوله تعاىل‪ :‬إِ ْن‬
‫تَـر َك َخ ْرياً الْو ِ ِ ِ‬
‫ني‪ :‬كانت الوصية كذلك حىت نسختها آية املواريث‪.‬‬ ‫صيَّةُ للْوال َديْ ِن َو ْاألَقـ َْربِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْفاح َ ِ‬
‫الالِيت أيْتِني ال ِ‬
‫شةَ م ْن نِسائِ ُك ْم فَ ْ‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه َن‬ ‫الدليل الثالث‪ :‬أن قوله سبحانه‪َ :‬و َّ َ َ‬

‫(‪)128/1‬‬

‫اَّللُ َهلُ َّن َسبِ ًيال [سورة‬ ‫وه َّن ِيف الْبـي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت أ َْو َْجي َع َل َّ‬ ‫وت َح َّىت يَـتَـ َوفَّ ُ‬
‫اه َّن ال َْم ْو ُ‬ ‫ُُ‬ ‫أ َْربَـ َعةً م ْن ُك ْم فَِإ ْن َش ِه ُدوا فَأ َْمس ُك ُ‬
‫النساء آية‪ ]15 :‬منسوخة بقوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬خذوا عين‪ ،‬خذوا عين‪ .‬قد جعل هللا هلن‬
‫سبيال‪:‬‬
‫البكر ابلبكر جلد مائة وتغريب عام‪ ،‬والثيب ابلثيب جلد مائة والرجم»‪ .‬وقد انقشه النافون‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أبن الناسخ هنا هو آية اجللد‪ ،‬وآية الشيخ والشيخة‪ ،‬وإن جاء احلديث موافقا هلما‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬أبن ذلك ختصيص ال نسخ؛ ألن احلكم األول جعل هللا له غاية هو املوت‪ ،‬أو صدور تشريع‬
‫جديد يف شأن الزانيات‪ ،‬وقد حققنا أن رفع احلكم ببلوغ غايته املضروبة يف دليله األول ليس نسخا‪.‬‬
‫الدليل الرابع‪ :‬أن هنيه صلّى هللا عليه وسلم عن كل ذي انب من السباع وكل ذي خملب من الطيور‬
‫يل ُحمَ َّرماً على ِ‬
‫طاع ٍم يَط َْع ُمهُ إَِّال أَ ْن يَ ُكو َن َم ْيـتَةً أ َْو َدماً‬ ‫َج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِ ََّ‬ ‫انسخ لقوله سبحانه‪ :‬قُل ال أ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫اَّلل بِ ِه [سورة األنعام آية‪.]145 :‬‬ ‫مس ُفوحاً أَو َحلم ِخن ِزي ٍر فَِإنَّه ِرجس أَو فِسقاً أ ُِه َّل لِغَ ِري َِّ‬
‫ْ‬ ‫ُ ْ ٌ ْ ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َْ‬
‫وقد انقشه النافون‪ :‬أبن اآلية الكرمية مل تتعرض إلابحة ما عدا الذي ذكر فيها إمنا هو مباح ابلرباءة‬
‫يسمى نسخا كما سلف بيانه‪.‬‬
‫األصلية‪ ،‬واحلديث املذكور ما رفع إال هذه الرباءة األصلية‪ ،‬ورفعها ال ّ‬
‫من هذا العرض خيلص لنا أن نسخ القرآن ابلسنة ال مانع مينعه عقال وال شرعا‪ ،‬غاية األمر أنه مل يقع؛‬
‫لعدم سالمة أدلة الوقوع كما رأيت‪.‬‬

‫القسم الثالث‪ :‬نسخ السنة ابلقرآن‪:‬‬


‫مر يف القسم الثاين‪ :‬بيد أن صوت املانعني‬
‫وفيه خالف العلماء‪ -‬أيضا‪ -‬بني جتويز ومنع على منط ما ّ‬
‫هنا خافت‪ ،‬وحجتهم داحضة‪ .‬أما املثبتون فيؤيدهم دليل اجلواز كما يسعفهم برهان الوقوع‪ ،‬وهلذا‬
‫جند يف صف اإلثبات مجاهري الفقهاء واملتكلمني‪ ،‬وال نرى يف صف النفي سوى الشافعي يف أحد‬
‫قوليه ومعه قلة من أصحابه‪ ،‬ومع ذلك فنقل هذا عن الشافعي فيه شيء من االضطراب أو إرادة‬
‫خالف الظاهر‪.‬‬

‫دليل اجلواز‪:‬‬
‫استدل املثبتون على اجلواز هنا ِبثل ما استدلوا به على القسم السالف‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن نسخ السنة‬
‫ابلقرآن ليس مستحيال لذاته وال لغريه‪ .‬أما األول فظاهر‪ ،‬وأما الثاين‪ :‬فألن السنة وحي كما أن‬
‫القرآن وحي‪ ،‬وال مانع من نسخ وحي بوحي ملكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية‪.‬‬
‫واستدلوا على الوقوع بوقائع كثرية‪ ،‬كل واقعة منها دليل على اجلواز كما هي دليل على الوقوع‪ ،‬ملا‬
‫علمت من أن الوقوع يدل على اجلواز وزايدة‪.‬‬

‫(‪)129/1‬‬

‫(من تلك الوقائع) أن استقبال بيت املقدس يف الصالة مل يعرف إال من السنة وقد نسخه قوله تعاىل‪:‬‬
‫وه ُك ْم َشط َْرهُ [سورة البقرة آية‪.]144 :‬‬ ‫ث ما ُك ْنـتُ ْم فَـ َولُّوا ُو ُج َ‬‫ك َشط َْر ال َْم ْس ِج ِد ا ْحلَر ِام َو َح ْي ُ‬‫فَـ َو ِّل َو ْج َه َ‬
‫ومنها‪ :‬أن األكل والشرب واملباشرة كان حمرما يف ليل رمضان على من صام‪ُ .‬ث نسخ هذا التحرمي‬
‫ِ‬
‫ض‬‫ط ْاألَبْـيَ ُ‬ ‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫اخلَْي ُ‬ ‫ب َّ‬
‫اَّللُ لَ ُك ْم َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َح َّىت يَـتَـبَ َّ َ‬ ‫وه َّن َوابْـتَـغُوا ما َكتَ َ‬‫بقوله تعاىل‪ :‬فَ ْاآل َن َابش ُر ُ‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر [سورة البقرة آية‪.]187 :‬‬ ‫ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫َ‬
‫ومنها‪ :‬أن النيب صلّى هللا عليه وسلم أبرم مع أهل مكة عام احلديبية صلحا كان من شروطه‪ :‬أن من‬
‫وىف بعهده يف أيب جندل ومجاعة من املكيني جاءوه مسلمني‪ُ .‬ث‬ ‫جاء منهم مسلما رده عليهم‪ ،‬وقد ّ‬
‫ِ‬ ‫هاجر ٍ‬
‫نات م ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وه َّن‬‫ات فَ ْامتَحنُ ُ‬ ‫جاء ُك ُم ال ُْم ْؤم ُ ُ‬
‫آمنُوا إذا َ‬ ‫فهم أن يردها فأنزل هللا‪ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬ ‫جاءته امرأة ّ‬
‫وه َّن إِ َىل الْ ُك َّفا ِر ال ُه َّن ِحلٌّ َهلُ ْم َوال ُه ْم َِحيلُّو َن َهلُ َّن‬ ‫وه َّن م ْؤِم ٍ‬
‫نات فَال تَـ ْرِج ُع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اَّللُ أَ ْعلَ ُم إبِِمياهن َّن فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ ُ‬
‫َّ‬
‫[سورة املمتحنة آية‪.]10 :‬‬

‫شبهة للمانعني ودفعها‪:‬‬


‫أورد املانعون على هذا االستدالل املعتمد على تلك الوقائع شبهة قالوا يف تصويرها‪:‬‬
‫جيوز أن يكون النسخ فيما ذكرمت اثبتا ابلسنة‪ُ ،‬ث جاء القرآن موافقا هلا‪ ،‬وهبذا يؤول األمر إىل نسخ‬
‫السنة ابلسنة‪ ،‬وجيوز أن احلكم املنسوخ كان اثبتا أوال بقرآن‪ ،‬نسخت تالوته ُث جاءت السنة موافقة‬
‫له‪ ،‬وهبذا يؤول األمر إىل نسخ القرآن بقرآن‪.‬‬
‫وندفع هذه الشبهة أبهنا قائمة على جمرد احتماالت واهية ال يؤيدها دليل‪ ،‬ولو فتحنا ابهبا وجعلنا هلا‬
‫اعتبارا‪ ،‬ملا جاز لفقيه أن حيكم على نص أبنه انسخ آلخر إال إذا ثبت ذلك صرحيا عن رسول هللا‬
‫صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولكن ذلك ابطل إبمجاع األمة على خالفه‪ ،‬واتفاقها على أن احلكم إمنا يسند‬
‫إىل دليله الذي ال يعرف سواه بعد االستقراء املمكن‪.‬‬

‫القسم الرابع‪ :‬نسخ السنة ابلسنة‪:‬‬


‫ويتنوع إىل أنواع أربعة‪ :‬نسخ سنة متواترة ِبتواترة‪ ،‬ونسخ سنة آحادية ِبحادية‪ ،‬ونسخ سنة آحادية‬
‫بسنة متواترة‪ ،‬ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية‪ .‬أما الثالثة األول فجائزة عقال وشرعا‪ .‬وأما الرابع‬
‫وهو نسخ سنة متواترة ِبحادية‪ :‬فاتفق علماؤان على جوازه عقال‪ُ ،‬ث اختلفوا يف جوازه شرعا‪ ،‬فنفاه‬
‫اجلمهور‪ ،‬وأثبته أهل الظاهر‪.‬‬
‫أدلة اجلمهور‪ :‬استدل اجلمهور على مذهبهم بدليلني‪:‬‬
‫أوهلما‪ :‬أن املتواتر قطعي الثبوت وخرب الواحد ظين‪ ،‬والقطعي ال يرتفع ابلظين؛‬

‫(‪)130/1‬‬

‫ألنه أقوى منه واألقوى ال يرتفع ابألضعف‪.‬‬


‫اثنيهما‪ :‬أن عمر رضي هللا عنه ر ّد خرب فاطمة بنت قيس‪ :‬أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم مل جيعل‬
‫وبت طالقها‪ ،‬وقد أقر الصحابة عمر على رده هذا‪ ،‬فكان إمجاعا‪،‬‬
‫هلا سكىن‪ ،‬مع أن زوجها طلقها ّ‬
‫وما ذاك إال ألنه خرب آحادي ال يفيد إال الظن‪ ،‬فال يقوى على معارضة ما هو أقوى منه‪ ،‬وهو كتاب‬
‫ث َس َك ْنـتُ ْم ِم ْن ُو ْج ِد ُك ْم [سورة الطالق آية‪ ]6 :‬وسنة رسوله صلّى هللا‬
‫وه َّن ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫هللا إذ يقول‪ :‬أ ِ‬
‫َسكنُ ُ‬
‫ْ‬
‫عليه وسلم املتواترة يف جعل السكن ح ّقا من حقوق املبتوتة‪.‬‬

‫مالحظة‪:‬‬
‫روت كتب األصول يف هذا املوضع‪ :‬خرب فاطمة بنت قيس بصيغة مدخولة فيها أن عمر قال حني‬
‫بلغه اخلرب‪« :‬ال نرتك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة ال ندري أصدقت أم كذبت‪ ،‬حفظت أم‬
‫نسيت» وعزا بعضهم هذه الرواية املدخولة إىل اإلمام مسلم يف صحيحه‪ .‬واحلقيقة أن الرواية هبذه‬
‫الصورة غري صحيحة‪ ،‬كما أن عزوها إىل مسلم غري صحيح‪.‬‬
‫والرواية الصحيحة يف مسلم وغريه ليس فيها كلمة «أصدقت أم كذبت» بل اقتصرت على كلمة‬
‫«أحفظت أم نسيت»‪ ،‬ومثلك‪ -‬محاك هللا‪ -‬يعلم أن الشك يف حفظ فاطمة ونسياهنا ال يقدح يف‬
‫عدالتها وصدقها‪ ،‬فإايك أن ختوض مع اخلائضني من املستشرقني وأذانهبم فتطعن يف الصحابة‬
‫وجترحهم يف تثبتهم ملثل هذا اخلرب املردود‪ .‬اه‪.‬‬

‫(‪)131/1‬‬

‫التفسري واملفسرين وما يتعلق هبما‬


‫[معىن] التفسري‪:‬‬
‫التفسري معناه يف اللغة‪:‬‬
‫س َن تَـ ْف ِسرياً [سورة الفرقان‪:‬‬ ‫ك ِِبَثَ ٍل إَِّال ِج ْئ َ‬
‫ناك ِاب ْحلَ ِّق َوأ ْ‬
‫َح َ‬ ‫اإليضاح والتبيني ومنه قوله تعاىل‪َ :‬وال َأيْتُونَ َ‬
‫‪.]33‬‬

‫والتفسري يف االصطالح‪:‬‬
‫علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكرمي من حيث داللته على مراد هللا تعاىل بقدر الطاقة البشرية‪.‬‬

‫التأويل‪:‬‬
‫وأتوله‪:‬‬
‫والتأويل مرادف للتفسري يف أشهر معانيه اللغوية‪ ،‬قال صاحب القاموس‪ّ :‬أول الكالم أتويال ّ‬
‫غاء ال ِْف ْتـنَ ِة‬‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ِيف قُـلُوهب ْم َزيْ ٌغ فَـيَـتَّب ُعو َن ما تَشابَهَ م ْنهُ ابْت َ‬
‫وفسره‪ .‬ومنه قوله تعاىل‪ :‬فَأ ََّما الذ َ‬ ‫دبّره وق ّدره ّ‬
‫اَّللُ [سورة آل عمران آية‪.]7 :‬‬ ‫غاء َأتْ ِويلِ ِه َوما يَـ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إَِّال َّ‬‫ِ‬
‫َوابْت َ‬

‫أنواع التفسري‪:‬‬
‫التفسري على نوعني ابإلمجال‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬تفسري جاف ال يتجاوز حل األلفاظ وإعراب اجلمل‪ ،‬وبيان ما حيتويه نظم القرآن الكرمي‬
‫من نكات بالغية وإشارات فنية‪ ،‬وهذا النوع أقرب إىل التطبيقات العربية منه إىل التفسري وبيان مراد‬
‫هللا من هداايته‪.‬‬
‫النوع الثاين‪ :‬تفسري جياوز هذه احلدود‪ ،‬وجيعل هدفه األعلى جتلية هداايت القرآن وتعاليم القرآن‪،‬‬
‫وحكمة هللا فيما شرع للناس يف هذا القرآن على وجه جيتذب األرواح‪ ،‬ويفتح القلوب‪ ،‬ويدفع‬
‫النفوس إىل االهتداء هبدى هللا‪ ،‬وهذا هو اخلليق ابسم التفسري وفيه يساق احلديث إذا تكلمنا عن‬
‫فضله واحلاجة إليه‪.‬‬

‫فضل التفسري واحلاجة إليه‪:‬‬


‫هنضة األمم ال ميكن أن تكون صحيحة عن جتربة‪ ،‬وال سهلة متيسرة‪ ،‬وال رائعة مدهشة‪ ،‬إال عن طريق‬
‫االسرتشاد بتعاليم القرآن ونظمه احلكيمة‪ ،‬اليت روعيت فيها مجيع عناصر السعادة للنوع البشري بناء‬
‫وبدهي أن العمل هبذه التعاليم ال يكون إال بعد فهم القرآن‬
‫ّ‬ ‫على ما أحاط به علم خالقه احلكيم‪،‬‬
‫وتدبره‪ ،‬والوقوف على ما حوى من نصح ورشد‪ ،‬واإلملام ِببادئه عن طريق تلك القوة اهلائلة اليت‬
‫حيملها أسلوبه‬

‫(‪)132/1‬‬

‫البارع املعجز‪ ،‬وهذا ال يتحقق إال عن طريق الكشف والبيان ملا تدل عليه ألفاظ القرآن (وهو ما‬
‫نسميه بعلم التفسري) خصوصا يف هذه العصور األخرية اليت فسدت فيها ملكة البيان العريب‪،‬‬
‫وضاعت فيها خصائص العروبة حىت من سالئل العرب أنفسهم‪.‬‬
‫فالتفسري هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر اليت احتواها هذا الكتاب اجمليد النازل إلصالح البشر‬
‫وإنقاذ الناس‪ ،‬وإسعادهم يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وبدون التفسري ال ميكن الوصول إىل هذه الكنوز والذخائر‪ ،‬مهما ابلغ الناس يف ترديد ألفاظ القرآن‬
‫وتوافروا على قراءته كل يوم‪.‬‬
‫وهنا تلمح السر يف أتخر مسلمة هذا الزمن على رغم وفرة املصاحف يف أيديهم‪ ،‬ووجود ماليني‬
‫احل ّفاظ بني ظهرانيهم‪ ،‬وعلى رغم كثرة عددهم‪ ،‬واتساع بالدهم‪ ،‬يف حني أن سلفنا الصاحل جنحوا هبذا‬
‫القرآن جناحا مدهشا‪ ،‬كان ومازال موضع إعجاب املؤرخني‪ ،‬مع أن أسالفنا أولئك كانوا يف قلة من‬
‫العدد‪ ،‬وضيق من األرض‪ ،‬وخشونة من العيش‪ ،‬ومع أن نسخ القرآن ومصاحفه مل تكن ميسورة هلم‪،‬‬
‫ومع أن حفاظه مل يكونوا هبذه الكثرة الغامرة‪.‬‬
‫إن السر يف ذلك هو أهنم توفّروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداايته‪ ،‬يستعينون على هذه‬
‫الثقافة العليا ِبواهبهم الفطرية‪ ،‬وملكاهتم السليمة العربية من انحية‪ ،‬وِبا يشرحه رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلم ويبينه هلم أبقواله وأعماله وأخالقه وسائر أحواله كما قال‪ -‬سبحانه‪:-‬‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم َولَ َعلَّ ُه ْم يَـتَـ َف َّك ُرو َن [سورة النحل آية‪.]44 :‬‬ ‫وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫وعلى ذلك كان مههم األول هو القرآن الكرمي حيفظونه ويفهمونه‪ُ ،‬ث يعملون بتعاليمه بدقة‪ ،‬ويهتدون‬
‫هبديه يف يقظة‪.‬‬
‫هبذا وحده صفت أرواحهم وطهرت نفوسهم‪ ،‬وعظمت آاثرهم؛ ألن الروح اإلنساين هو أقوى شيء‬
‫يف هذا الوجود‪ ،‬فمىت صفا وهتذب‪ ،‬وحسن توجيهه وأتدب أتى ابلعجب العجاب‪.‬‬
‫وكذلك أتت األمة العربية ابلعجب العجاب‪ ،‬يف اهلداية واإلرشاد‪ ،‬وإنقاذ العامل وإصالح البشر‪،‬‬
‫وكتب هللا هلم النصر والتأييد والدولة والظفر‪ ،‬حىت على أقوى الدول املعادية لدعوة احلق واإلصالح‬
‫يف ذلك العهد؛ دولة الفرس يف الشرق‪ ،‬ودولة الرومان يف الغرب‪ ،‬تلك حموها من لوح الوجود هبدم‬
‫طغياهنا وإسالم شعبها‪ ،‬وهذه سلبوها ما كان يف حوزهتا من ممالك الشرق وشعوبه الكثرية‪ُ ،‬ث دانت‬
‫هلم الدنيا فاستولوا على بعض بالد أوراب وأقاموا فيها دولة عربية شاخمة البنيان كانت هبجة الدنيا وزينة‬
‫احلياة‪ ،‬ومنها شع النور على الشعوب‬

‫(‪)133/1‬‬

‫األوربية‪ ،‬وكانت النواة الناجحة يف هنضتهم احلديثة احلاضرة (تلك هى فردوس األندلس املفقود)!!‬
‫أما غالب مسلمة اليوم‪ ،‬فقد اكتفوا من القرآن أبلفاظ يرددوهنا‪ ،‬وأنغام يلحنوهنا‪ ،‬يف املآمت واملقابر‬
‫والدور‪ ،‬وِبصاحف حيملوهنا أو يودعوهنا بركة يف البيوت‪ ،‬ونسوا أن بركة القرآن العظمي إمنا هى يف‬
‫تدبره وتفهمه‪ ،‬ويف اجللوس إليه‪ ،‬واالستفادة من هديه وآدابه‪ُ ،‬ث يف الوقوف عند أوامره ومراضيه‪،‬‬
‫بار ٌك لِيَ َّدبَّـ ُروا آايتِِه َولِيَـتَ َذ َّك َر‬ ‫تاب أَنْـ َزلْناهُ إِلَْي َ‬
‫ك ُم َ‬
‫ِ‬
‫والبعد عن مساخطه ونواهيه‪ ،‬وهللا‪ -‬تعاىل‪ -‬يقول‪ :‬ك ٌ‬
‫وب أَقْفاهلُا‬ ‫ْباب [سورة ص‪ ،]29 :‬ويقول جل ذكره‪ :‬أَفَال يَـتَ َدبـَّرو َن الْ ُق ْرآ َن أ َْم َعلى قُـلُ ٍ‬ ‫أُولُوا ْاألَل ِ‬
‫ُ‬
‫س ْرَان الْ ُق ْرآ َن لِل ِّذ ْك ِر فَـ َه ْل ِم ْن ُم َّدكِ ٍر [سورة القمر آية‪:‬‬ ‫[سورة حممد‪ ،]24 :‬ويقول سبحانه‪َ :‬ولََق ْد يَ َّ‬
‫‪.]17‬‬
‫فما أشبه املسلمني اليوم ابلعطشان ميوت من الظمأ واملاء بني يديه‪ ،‬وابملريض يفتك به املرض ودواؤه‬
‫أمام عينيه‪ ،‬فال حول وال قوة إال ابهلل!! أال إن آخر هذه األمة ال يصلح إال ِبا صلح به أوهلا‪ ،‬وهو‬
‫أن يعودوا إىل كتاب هللا يستلهمونه الرشد‪ ،‬ويستمنحونه اهلدى‪ ،‬وحيكمونه يف نفوسهم ويف كل ما‬
‫يتصل هبم‪ ،‬كما كان آابؤان األولون يتلونه حق تالوته بتدبر وتفكر‪ ،‬حىت ظهرت آاثره الباهرة عاجلة‬
‫فيهم‪ ،‬فرفع نفوسهم وانتشلها من حضيض الوثنية‪ ،‬وأعلى مهمهم وهذب أخالقهم‪ ،‬وأرشدهم إىل‬
‫االنتفاع بقوى الكون ومنافعه‪ ،‬وكان من وراء ذلك أن مهروا يف العلوم والفنون والصناعات‪ ،‬كما‬
‫مهروا يف األخالق واآلداب واإلصالح واإلرشاد‪ ،‬ووصلوا إىل غاية ّبزوا فيها كل أمم الدنيا‪ ،‬حىت قال‬
‫بعض فالسفة الغرب يف كتابه (تطور األمم) ما نصه‪« :‬إن ملكة الفنون ال تستحكم يف أمة من األمم‬
‫إال يف ثالثة أجيال‪ :‬جيل التقليد‪ ،‬وجيل اخلضرمة‪ ،‬وجيل االستقالل‪ ،‬وش ّذ العرب وحدهم‬
‫فاستحكمت فيهم ملكة الفنون يف جيل واحد»‪ .‬اه‪.‬‬
‫قال السيوطي يف بيان احلاجة إىل التفسري ما ملخصه‪« :‬القرآن إمنا نزل بلسان عريب يف زمن أفصح‬
‫العرب‪ ،‬فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه»‪.‬‬
‫أما دقائق ابطنه فال تظهر هلم إال بعد البحث والنظر وسؤاهلم النيب صلّى هللا عليه وسلم مثل قوهلم‪:‬‬
‫مياهنُ ْم بِظُل ٍْم [سورة‬
‫سوا إِ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا َوَملْ يَـلْب ُ‬
‫ين َ‬
‫«وأيّنا مل يظلم نفسه ‪ ..‬؟!» حينما نزل قوله‪ -‬تعاىل‪ :-‬الذ َ‬
‫األنعام‪ ،]82 :‬ففسره النيب صلّى هللا عليه وسلم ابلشرك‪ ،‬واستدل بقوله‪ -‬سبحانه‪ :-‬إِ َّن ال ِّ‬
‫ش ْر َك‬
‫يم [سورة لقمان آية‪.]13 :‬‬ ‫لَظُل ِ‬
‫ْم َعظ ٌ‬
‫ٌ‬
‫وكذلك حني قال النيب صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬من نوقش احلساب ع ّذب» سألته عائشة أم املؤمنني‬
‫ب إِىل أ َْهلِ ِه َم ْس ُروراً [سورة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف ُحياس ِ‬
‫ب حساابً يَسرياً (‪َ )8‬ويَـ ْنـ َقل ُ‬
‫س ْو َ َ ُ‬
‫رضي هللا عنها عن قوله تعاىل‪ :‬فَ َ‬
‫االنشقاق آية‪ ،]9 ،8 :‬فقال صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬ذلك العرض»‪ ،‬وكقصة عدي بن حامت يف‬

‫(‪)134/1‬‬

‫اخليط األبيض واخليط األسود‪ ،‬وحنن حمتاجون إىل ما كانوا حيتاجون إليه‪ ،‬بل حنن أشد احتياجا إىل‬
‫التفسري لقصوران عن مدارك اللغة وأسرارها بغري تعلم» اه‪.‬‬
‫مما تقدم يتبني أن فائدة التفسري هي التذكر واالعتبار‪ ،‬ومعرفة هداية هللا يف العقائد والعبادات‬
‫واملعامالت واألخالق‪ ،‬ليفوز األفراد واجملاميع خبري العاجلة واآلجلة‪ .‬ويتبني أيضا‪ -‬أن هذا العلم من‬
‫أشرف العلوم الدينية والعربية‪ ،‬إن مل يكن أشرفها مجيعا‪ ،‬وذلك لسمو موضوعه‪ ،‬وعظم فائدته‪.‬‬
‫ومسّى «علم التفسري» ملا فيه من الكشف والتبيني‪ ،‬واختص هبذا االسم دون بقية العلوم مع أهنا كلها‬
‫مشتملة على الكشف والتبيني؛ ألنه جلاللة قدره‪ ،‬واحتياجه إىل زايدة االستعداد‪ ،‬وقصده إىل تبيني‬
‫مراد هللا من كالمه‪ ،‬كان كأنه هو التفسري وحده دون ما عداه‪.‬‬

‫(‪)135/1‬‬
‫أقسام التفسري‬
‫ورد عن ابن عباس رضي هللا عنهما أن التفسري أربعة‪ :‬حالل وحرام ال يعذر أحد جبهالته‪ ،‬وتفسري‬
‫تفسره العرب أبلسنتها‪ ،‬وتفسري تفسره العلماء‪ ،‬وتفسري ال يعلمه إال هللا‪ .‬اه‪.‬‬
‫قال الزركشي يف الربهان ما ملخصه‪« :‬هذا تقسيم صحيح»‪.‬‬
‫‪ -‬فأما الذي تعرفه العرب أبلسنتها‪ :‬فهو ما يرجع إىل لساهنم من اللغة واإلعراب‪.‬‬
‫‪ -‬وأما ما ال يعذر أحد جبهله‪ :‬فهو ما تبادر إىل األفهام معرفة معناه من النصوص املتضمنة شرائع‬
‫األحكام‪ ،‬ودالئل التوحيد‪ ،‬وكل لفظ أفاد معىن واحدا جليّا يعلم أنه مراد هللا تعاىل‪ ،‬فهذا القسم ال‬
‫استَـغْ ِف ْر‬ ‫يلتبس أتويله؛ إذ كل أحد يدرك معىن التوحيد من قوله تعاىل‪ :‬فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلهَ إَِّال َّ‬
‫اَّللُ َو ْ‬
‫ك [سورة حممد آية‪ ،]19 :‬أنه ال شريك له يف‬ ‫لِ َذنْبِ َ‬
‫األلوهية‪ ،‬وإن مل يعلم أن «ال» موضوعة يف اللغة للنفي‪ ،‬و «إال» موضوعة لإلثبات‪ ،‬وأن مقتضى‬
‫هذه الكلمة احلصر‪.‬‬
‫ويعلم كل أحد ابلضرورة أن مقتضى «أقيموا الصالة وآتوا الزكاة» وحنوه إجياب املأمور به‪ ،‬وإن مل‬
‫يعلم أن صيغة «افعل» للوجوب‪.‬‬
‫‪ -‬وأما ما ال يعلمه إال هللا تعاىل‪ :‬فهو ما جيري جمرى الغيوب‪ ،‬كاآلايت اليت تذكر فيها الساعة‬
‫والروح‪ ،‬واحلروف املقطعة‪ ،‬وكل متشابه يف القرآن عند أهل احلق‪ ،‬فال مساغ لالجتهاد يف تفسريه‪ ،‬وال‬
‫طريق إىل ذلك إال ابلتوقيف‪ ،‬وبنص من القرآن أو احلديث أو إمجاع األمة على أتويله‪.‬‬
‫‪ -‬وأما ما يعلمه العلماء‪ :‬فريجع إىل اجتهادهم؛ فهو الذي يغلب عليه إطالق التأويل‪ ،‬وذلك‬
‫استنباط األحكام‪ ،‬وبيان اجململ‪ ،‬وختصيص العموم‪ ،‬وكل لفظ احتمل معنيني فصاعدا فهو الذي ال‬
‫جيوز لغري العلماء االجتهاد فيه اعتمادا على الدالئل والشواهد دون جمرد الرأي‪ .‬اه املقصود منه‪،‬‬
‫لكنه مل يلتزم فيه ترتيب األقسام على ما روي عن ابن عباس‪ ،‬وال ضري يف ذلك مادام أنه قد‬
‫استوعب عدهتا األربعة كما رأيت‪.‬‬
‫وقسم بعضهم التفسري ابعتبار آخر إىل ثالثة أقسام‪:‬‬
‫«تفسري ابلرواية» ويسمى التفسري ابملأثور‪ ،‬و «تفسري ابلدراية» ويسمى التفسري ابلرأي‪ ،‬و «تفسري‬
‫ابإلشارة» ويسمى التفسري اإلشاري‪ ،‬وسنتحدث عن كل واحد منها إن شاء هللا‪.‬‬

‫(‪)136/1‬‬
‫التفسري ابملأثور‬
‫هو ما جاء يف القرآن‪ ،‬أو السنة‪ ،‬أو كالم الصحابة‪ ،‬بياان ملراد هللا‪ -‬تعاىل‪ -‬من كتابه‪.‬‬
‫اخلَْي ِط‬‫ض ِم َن ْ‬‫ط ْاألَبْـيَ ُ‬ ‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫اخلَْي ُ‬ ‫‪ - 1‬مثال ما جاء يف القرآن‪ :‬قوله سبحانه‪َ :‬وُكلُوا َوا ْش َربُوا َح َّىت يَـتَـبَ َّ َ‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر [سورة البقرة آية‪ ،]187 :‬فإن كلمة «من الفجر» بيان وشرح للمراد من كلمة‬ ‫ْاأل ْ‬
‫ط ْاألَبْـيَ ُ‬
‫ض اليت قبلها‪.‬‬ ‫ْ‬
‫اخلَْي ُ‬
‫اس ِري َن [سورة‬ ‫سنا َوإِ ْن َملْ تَـ ْغ ِف ْر لَنا َوتَـ ْرمحَْنا لَنَ ُكونَ َّن ِم َن ْ‬
‫اخل ِ‬
‫وكذلك قوله‪ -‬سبحانه‪ :-‬قاال َربَّنا ظَلَ ْمنا أَنْـ ُف َ‬
‫تاب َعلَْي ِه‬ ‫مات من قوله تعاىل‪ :‬فَـتَـلَ َّقى َ ِ ِ ِ ٍ‬ ‫األعراف آية‪ ،]23 :‬فإهنا بيان للفظ َكلِ ٍ‬
‫آد ُم م ْن َربِّه َكلمات فَ َ‬
‫[سورة البقرة آية‪ ،]37 :‬على بعض وجوه التفاسري‪.‬‬
‫اخلِْن ِزي ِر [سورة املائدة آية‪ ،]3 :‬فإهنا بيان للفظ ما‬ ‫ت َعلَْي ُك ُم ال َْم ْيـتَةُ َو َّ‬
‫الد ُم َو َحلْ ُم ْ‬ ‫وقوله تعاىل‪ُ :‬ح ِّرَم ْ‬
‫عام إَِّال ما يُـ ْتلى َعلَْي ُك ْم [سورة املائدة آية‪.]1 :‬‬ ‫يمةُ ْاألَنْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يـ ْتلى علَي ُكم» من قوله سبحانه‪ :‬أ ِ‬
‫ُحلَّ ْ‬
‫ت لَ ُك ْم َهب َ‬ ‫ُ َْ ْ‬
‫ِ‬ ‫وقوله‪ -‬تعاىل‪ :-‬لَئِ ْن أَقَ ْمتُ ُم َّ‬
‫سناً‬ ‫ضتُ ُم َّ‬
‫اَّللَ قَـ ْرضاً َح َ‬ ‫آم ْنـتُ ْم بُِر ُسلي َو َع َّز ْرمتُُ ُ‬
‫وه ْم َوأَقـ َْر ْ‬ ‫الزكاةَ َو َ‬‫الصالةَ َوآتَـ ْيـتُ ُم َّ‬
‫َألُ َك ِّف َر َّن َع ْن ُك ْم َسيِّئاتِ ُك ْم [سورة املائدة آية‪ ،]12 :‬فإهنا بيان للعهدين يف قوله‪ -‬سبحانه‪َ :-‬وأ َْوفُوا‬
‫ُوف بِ َع ْه ِد ُك ْم [سورة البقرة آية‪ ،]40 :‬األول لألول‪ ،‬والثاين للثاين‪.‬‬ ‫بِع ْه ِدي أ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َّج ُم‬
‫ب [سورة الطارق آية‪ ،]3 ،2 :‬فإن كلمة الن ْ‬ ‫اك َما الطَّا ِر ُق (‪ )2‬الن ْ‬
‫َّج ُم الثَّاق ُ‬ ‫وقوله تعاىل‪َ :‬وما أَ ْدر َ‬
‫ب بيان لكلمة الطَّا ِر ِق اليت قبلها‪ ،‬وغري ذلك كثري يعلم ابلتدبر يف كتاب هللا‪ -‬تعاىل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الثَّاق ُ‬
‫‪ - 2‬ومثال ما جاء يف السنة شرحا للقرآن‪ :‬أنه صلّى هللا عليه وسلم فسر الظلم ابلشرك يف قوله‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫مياهنُ ْم بِظُل ٍْم أُولئِ َ‬
‫ك َهلُ ُم ْاأل َْم ُن َو ُه ْم ُم ْهتَ ُدو َن [سورة األنعام آية‪ ،]82 :‬وأيد‬ ‫سوا إِ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا َوَملْ يَـ ْلب ُ‬
‫ين َ‬
‫الذ َ‬
‫شر َك لَظُل ِ‬ ‫ِ‬
‫يم [سورة لقمان آية‪ ،]13 :‬وفسر صلّى هللا عليه وسلم‬ ‫ْم َعظ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫تفسريه هذا بقوله تعاىل‪ :‬إِ َّن ال ّ ْ‬
‫احلساب اليسري ابلعرض حني قال‪« :‬من نوقش احلساب ع ّذب» فقالت له السيدة عائشة‪ :‬أو ليس‬
‫ب إِىل أ َْهلِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف ُحياس ِ‬ ‫قد قال هللا تعاىل‪ :‬فَأ ََّما من أ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ب حساابً يَسرياً (‪َ )8‬ويَـ ْنـ َقل ُ‬
‫س ْو َ َ ُ‬
‫ُويتَ كتابَهُ بيَمينه (‪ )7‬فَ َ‬ ‫َْ‬
‫َم ْس ُروراً [سورة االنشقاق آية‪ ،]9 - 7 :‬فقال صلّى هللا عليه وسلم «ذلك العرض» بياان للحساب‬
‫اليسري‪ ،‬وكذلك فسر الرسول صلّى هللا عليه وسلم القوة ابلرمي يف قوله‪ -‬سبحانه‪ :-‬وأ ِ‬
‫َعدُّوا َهلُ ْم َما‬ ‫َ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم ِم ْن قُـ َّوةٍ [سورة األنفال آية‪ ،]60 :‬ويف صحيح كتب السنة من ذلك شيء كثري‪.‬‬ ‫ْ‬
‫وكال هذين القسمني ال شك يف قبوله‪ ،‬وأما األول‪ :‬فألن هللا تعاىل أعلم ِبراد نفسه من غريه‪ ،‬وأصدق‬
‫احلديث كتاب هللا تعاىل‪ .‬وأما الثاين‪ :‬فألن خري اهلدي‬

‫(‪)137/1‬‬
‫هدى سيدان حممد صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬ووظيفته البيان والشرح‪ ،‬مع ّأان نقطع بعصمته وتوفيقه قال‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم [سورة النحل آية‪.]44 :‬‬ ‫تعاىل‪ :‬وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫‪ - 3‬بقي القسم الثالث وهو بيان القرآن ِبا صح وروده عن الصحابة رضوان هللا عليهم‪ :‬قال احلاكم‬
‫يف املستدرك‪« :‬إن تفسري الصحايب الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم املرفوع»‪ ،‬كذلك أطلق‬
‫احلاكم‪ ،‬وقيّده بعضهم ِبا كان يف بيان سبب النزول وحنوه مما ال جمال للرأي فيه‪ ،‬وإال فهو من‬
‫املوقوف‪.‬‬
‫ووجهة نظر احلاكم ومن وافقه‪ :‬أن الصحابة رضوان هللا عليهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل‪ ،‬وعرفوا‬
‫وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف هلم النقاب عن معاين الكتاب‪ ،‬وهلم من سالمة فطرهتم‪ ،‬وصفاء‬
‫نفوسهم‪ ،‬وعلو كعبهم يف الفصاحة والبيان‪ ،‬ما ميكنهم من الفهم الصحيح لكالم هللا‪ ،‬وما جيعلهم‬
‫يوقنون ِبراده من تنزيله وهداه‪.‬‬
‫أما ما ينقل عن التابعني ففيه خالف العلماء‪ :‬منهم من اعتربه من املأثور؛ ألهنم تلقوه من الصحابة‬
‫غالبا‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إنه من التفسري ابلرأي‪.‬‬
‫ويف تفسري ابن جرير الطربي كثري من النقول عن الصحابة والتابعني يف بيان القرآن الكرمي‪ ،‬بيد أن‬
‫احلافظ ابن كثري يقول‪ :‬إن أكثر التفسري املأثور قد سرى إىل‬
‫وجل ذلك يف قصص الرسل‬
‫الرواة من زاندقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب‪ ،‬قال بعضهم‪ّ :‬‬
‫مع أقوامهم‪ ،‬وما يتعلق بكتبهم ومعجزاهتم‪ ،‬ويف اتريخ غريهم كأصحاب الكهف‪ ،‬ومدينة إرم ذات‬
‫العماد‪ ،‬وسحر اببل‪ ،‬وعوج بن عنق‪ ،‬ويف أمور الغيب من أشراط الساعة وقيامتها‪ ،‬وما يكون فيها‬
‫وجل ذلك خرافات ومفرتايت‪ ،‬صدقهم فيها الرواة حىت بعض الصحابة رضي هللا عنهم‪،‬‬
‫وبعدها‪ّ ،‬‬
‫ولذلك قال اإلمام أمحد‪« :‬ثالثة ليس هلا أصل‪:‬‬
‫التفسري‪ ،‬واملالحم‪ ،‬واملغازي» وكان الواجب مجع الرواايت املفيدة يف كتب مستقلة‪ ،‬كبعض كتب‬
‫احلديث وبيان قيمة أسانيدها‪ُ ،‬ث يذكر يف التفسري ما يصح منها بدون سند‪ ،‬كما يذكر احلديث يف‬
‫كتب الفقه لكن يعزى إىل خمرجه‪ .‬اه ما أردان نقله‪.‬‬

‫املفسرون من الصحابة‬
‫قال السيوطي يف اإلتقان‪« :‬اشتهر ابلتفسري من الصحابة عشرة‪ ،‬اخللفاء األربعة‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وابن‬
‫وأيب بن كعب‪ ،‬وزيد بن اثبت‪ ،‬وأبو موسى األشعري‪ ،‬وعبد هللا بن الزبري‪.‬‬
‫عباس‪ّ ،‬‬
‫علي بن أيب طالب‪ -‬كرم هللا وجهه‪-‬‬
‫أما اخللفاء األربعة‪ ،‬فأكثر من روي عنه منهم‪ّ ،‬‬

‫(‪)138/1‬‬

‫والرواية عن الثالثة قليلة ج ّدا‪ ،‬وكأن السبب يف ذلك تقدم وفاهتم اه‪.‬‬
‫ومعىن هذا أن السبب يف إقالل الثالثة‪ -‬أيب بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ -‬من التفسري‪ ،‬أهنم كانوا يف وسط‬
‫أغلب أهله علماء بكتاب هللا‪ ،‬واقفون على أسرار التنزيل‪ ،‬عارفون ِبعانيه وأحكامه‪ ،‬مكتملة فيهم‬
‫خصائص العروبة‪.‬‬
‫يفسر هلم‬
‫علي رضي هللا عنه‪ :‬فقد عاش بعدهم حىت كثرت حاجة الناس يف زمانه إىل من ّ‬
‫أما اإلمام ّ‬
‫القرآن‪ ،‬وذلك التساع رقعة اإلسالم‪ ،‬ودخول العجم يف هذا الدين اجلديد ممن كادت تذوب هبم‬
‫خصائص العروبة‪ ،‬ونشأة جيل من أبناء الصحابة كان يف حاجة إىل علم الصحابة‪ ،‬فال جرم كان ما‬
‫علي أكثر مما نقل عن غريه‪ ،‬أضف إىل ذلك ما امتاز به اإلمام من خصوبة الفكر‪ ،‬وغزارة‬
‫نقل عن ّ‬
‫العلم‪ ،‬وإشراق القلب‪ُ :‬ث أضف‪ -‬أيضا‪ -‬سبق اشتغال الثالثة ِبهام اخلالفة وتصريف احلكم دونه‪.‬‬
‫روى معمر عن وهب بن عبد هللا بن أيب الطفيل قال‪ :‬شهدت عليّا رضي هللا عنه خيطب ويقول‪:‬‬
‫سلوين‪ ،‬فو هللا ال تسألوين عن شيء إال أخربتكم‪ ،‬وسلوين عن كتاب هللا‪ ،‬فو هللا ما من آية إال وأان‬
‫أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أيف سهل أم يف جبل؟‪.‬‬
‫ويف رواية عنه قال‪ :‬وهللا ما نزلت آية إال وقد علمت فيم أنزلت؟ وأين نزلت؟ إن ريب وهب يل قلبا‬
‫عقوال‪ ،‬ولساان سؤوال ‪ ..‬اه‪.‬‬
‫وقد كثرت الرواايت‪ -‬أيضا‪ -‬عن ابن مسعود‪ ،‬وحسبك يف معرفة خطره وجاللة قدره ما رواه أبو‬
‫لعلي‪ :‬أخربان عن ابن مسعود؟ قال‪:‬‬
‫نعيم عن أيب البحرتي قال‪ :‬قالوا ّ‬
‫علم القرآن والسنة ُث انتهى‪ ،‬وكفى بذلك علما‪.‬‬
‫وأما ابن عباس‪ :‬فهو ترمجان القرآن بشهادة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فعن جماهد قال‪:‬‬
‫قال ابن عباس‪ ،‬قال يل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬نعم ترمجان القرآن أنت»‪ ،‬وأخرج البيهقي‬
‫يف الدالئل عن ابن مسعود رضي هللا عنه قال‪ :‬نعم ترمجان القرآن عبد هللا بن عباس‪ ،‬وقد دعا له‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلم بقوله‪« :‬اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل»‪.‬‬
‫وروي أن رجال أتى ابن عمر يسأله عن السموات واألرض كانتا رتقا ففتقنامها‪ :‬أي من قوله تعاىل‪:‬‬
‫نامها [سورة األنبياء آية‪ ،]30 :‬فقال‪:‬‬
‫ض كانَتا َرتْقاً فَـ َفتَـ ْق ُ‬ ‫الس ِ‬ ‫ين َك َف ُروا أ َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ماوات َو ْاأل َْر َ‬ ‫َن َّ‬ ‫أ ََوَملْ يَـ َر الذ َ‬
‫اذهب إىل ابن عباس‪ُ ،‬ث تعال أخربين‪ ،‬فذهب فسأله فقال‪ :‬كانت السموات رتقا ال متطر‪ ،‬وكانت‬
‫األرض رتقا ال تنبت‪ ،‬ففتق هذه ابملطر‪ ،‬وهذه ابلنبات‪ ،‬فرجع إىل ابن عمر فأخربه فقال‪ :‬قد كنت‬
‫أقول‪ :‬ما يعجبين جراءة ابن عباس على تفسري القرآن! فاآلن‪ ،‬قد علمت أنه أويت علما ‪ ..‬اه‪.‬‬

‫(‪)139/1‬‬

‫الدس والوضع كما سيأيت‪.‬‬


‫لكنه جتب احليطة فيما عزي إىل ابن عباس من التفسري؛ فقد كثر عليه فيه ّ‬
‫أيب بن كعب بن قيس األنصاري أحد كتّاب الوحي‪ ،‬فقد كان رضي هللا عنه من املكثرين يف‬
‫وكذلك ّ‬
‫التفسري‪ ،‬املربزين فيه‪ ،‬كما اشتهر يف القراءة وبرز فيها‪ ،‬روى له يف التفسري أبو جعفر الرازي‪ ،‬عن‬
‫أيب بن كعب وإسناده صحيح‪.‬‬
‫الربيع بن أنس‪ ،‬عن أيب العالية‪ ،‬عن ّ‬
‫وأما الباقي من العشرة‪ ،‬وهم‪ :‬زيد بن اثبت‪ ،‬وأبو موسى األشعري‪ ،‬وعبد هللا بن الزبري‪ ،‬فمع شهرهتم‬
‫يف التفسري كانوا أقل من األربعة الذين قبلهم‪.‬‬
‫وقد ورد عن مجاعة من الصحابة غري هؤالء العشرة شيء من التفسري‪ ،‬بيد أنه قليل‪ ،‬منهم أنس‪ ،‬وأبو‬
‫هريرة‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وجابر‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وعائشة‪ -‬أم املؤمنني‪ -‬رضي هللا عنهم أمجعني‪.‬‬

‫تفسري ابن عباس الرواية عنه واختالف الرواة فيها‬


‫أكثر الصحابة تفسريا ابن عباس ذلك ملا عرفت من أنه ترمجان القرآن‪ ،‬ولتأخر الزمان به حىت‬
‫اشتدت حاجة الناس إىل األخذ عنه بعد اتساع اإلسالم واتساع العمران‪ ،‬والنقطاعه وتفرغه للنشر‬
‫والدعوة والتعليم‪ ،‬دون أن تشغله خالفة أو تصرف يف سياسة وتدبري لشئون الرعية‪ ،‬غري أن الرواية‬
‫عنه خمتلفة الدرجات‪.‬‬
‫قال السيوطي يف اإلتقان‪« :‬ورد عن ابن عباس يف التفسري ما ال حيصى كثرة برواايت وطرق خمتلفة‪،‬‬
‫فمن جيّدها طريق علي بن أيب طلحة اهلامشي عنه»‪.‬‬
‫علي بن أيب طلحة‪ ،‬لو رحل رجل فيها إىل‬
‫قال أمحد بن حنبل‪ِ« :‬بصر صحيفة يف التفسري رواها ّ‬
‫مصر قاصدا ما كان كثريا» [أسنده أبو جعفر النحاس]‪.‬‬
‫قال ابن حجر‪ :‬وهذه النسخة كانت عند أيب صاحل كاتب الليث‪ ،‬رواها عن معاوية بن أيب صاحل عن‬
‫علي بن أيب طلحة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬وقد اعتمد عليها البخاري يف صحيحه كثريا فيما يعلّق عن ابن‬
‫عباس‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬مل يسمع ابن أيب طلحة من ابن عباس التفسري‪ ،‬وإمنا أخذه عن جماهد أو سعيد بن جبري‪،‬‬
‫ُث قال ابن حجر‪ :‬بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة‪ ،‬فال ضري يف ذلك‪ .‬اه‪.‬‬
‫وأخرج منها ابن جرير الطربي‪ ،‬وابن أيب حامت‪ ،‬وابن املنذر كثريا‪ ،‬ولكن بوسائط‬

‫(‪)140/1‬‬

‫بينهم وبني أيب صاحل‪.‬‬


‫وأوهى طرقه‪ :‬طريق الكليب عن أيب صاحل عن ابن عباس‪ ،‬وكذا طريق مقاتل بن سليمان‪.‬‬
‫وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطع‪ ،‬فإن الضحاك مل يلقه‪.‬‬
‫وابجلملة فقد روى عن الشافعي أنه قال‪ :‬مل يثبت عن ابن عباس يف التفسري إال شبيه ِبائة حديث‪.‬‬

‫املفسرون من التابعني وطبقاهتم‬


‫نستطيع أن نعترب التابعني طبقات ثالثة‪ :‬طبقة أهل مكة‪ ،‬وطبقة أهل املدينة‪ ،‬وطبقة أهل العراق‪.‬‬

‫طبقة أهل مكة‪:‬‬


‫أما طبقة أهل مكة من التابعني‪ :‬فقد كانوا أعلم الناس ابلتفسري‪ ،‬نقل السيوطي عن ابن تيمية أنه‬
‫قال‪ :‬أعلم الناس ابلتفسري أهل مكة؛ ألهنم أصحاب ابن عباس‪ ،‬كمجاهد‪ ،‬وعطاء بن أيب رابح‪،‬‬
‫وعكرمة موىل ابن عباس‪ ،‬وسعيد بن جبري‪ ،‬وطاووس‪.‬‬
‫أما جماهد‪ :‬فقد كان أوثق من روى عن ابن عباس‪ ،‬ولذا يعتمد على تفسريه الشافعي والبخاري‬
‫وغريمها من أقطاب العلم وأئمة الدين‪.‬‬
‫قال النووي‪ :‬إذا جاءك التفسري عن جماهد فحسبك به‪ ،‬وقال الفضيل بن ميمون‪:‬‬
‫مسعت جماهدا يقول‪ :‬عرضت القرآن على ابن عباس ثالثني مرة‪ ،‬وعنه‪ -‬أيضا‪ -‬قال‪ :‬عرضت‬
‫املصحف على ابن عباس ثالث عرضات‪ ،‬أقف عند كل آية منه أسأله عنها‪ :‬فيم أنزلت؟ وكيف‬
‫كانت؟‪.‬‬
‫وال تعارض بني هاتني الروايتني‪ ،‬فاإلخبار ابلقليل ال ينايف اإلخبار ابلكثري‪ ،‬وحيتمل أن عرضه القرآن‬
‫على ابن عباس ثالثني مرة كان طلبا لضبطه وجتويده وحسن أدائه‪ ،‬وأما عرضه إايه ثالث مرات؛‬
‫فكان طلبا لتفسريه ومعرفة أسراره‪ ،‬وحكمه وأحكامه‪ ،‬كما يدل عليه قوله‪ :‬أقف عند كل آية منه‬
‫أسأله عنها‪ :‬فيم أنزلت؟ وكيف أنزلت؟‪.‬‬
‫وأما عطاء وسعيد‪ :‬فقد كان كل منهما ثقة ثبتا يف الرواية عن ابن عباس‪.‬‬
‫قال سيفان الثوري‪ :‬خذوا التفسري عن أربعة‪ :‬عن سعيد بن جبري‪ ،‬وجماهد‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬والضحاك‪.‬‬
‫وقال قتادة‪ :‬أعلم التابعني أربعة‪ ،‬كان عطاء بن أيب رابح أعلمهم ابملناسك‪ ،‬وكان‬

‫(‪)141/1‬‬

‫سعيد بن جبري أعلمهم ابلتفسري ‪ ..‬إخل‪.‬‬


‫وقال أبو حنيفة‪ :‬ما لقيت أحدا أفضل من عطاء‪.‬‬
‫وأما عكرمة موىل ابن عباس‪ :‬فقد قال الشافعي فيه‪ :‬ما بقي أحد أعلم بكتاب هللا من عكرمة‪ .‬اه‪.‬‬
‫وقال عكرمة‪ :‬كان ابن عباس جيعل يف رجلي الكبل (القيد) ويعلمين القرآن‪ .‬وكان يقول‪ :‬لقد فسرت‬
‫ما بني اللوحني (لعله يريد ما بني دفيت املصحف) وكل شيء أحدثكم يف القرآن فهو عن ابن عباس‪.‬‬
‫اه‪.‬‬
‫وأما طاووس بن كيسان اليماين‪ :‬فقد كان من رجال العلم والعمل‪ ،‬وأدرك من أصحاب النيب صلّى هللا‬
‫عليه وسلم حنو اخلمسني‪ ،‬ورد أنه حج بيت هللا احلرام أربعني مرة‪ ،‬وكان جماب الدعوة‪ ،‬قال فيه ابن‬
‫عباس‪ :‬إين ألظن طاووسا من أهل اجلنة ‪ ..‬اه‪.‬‬

‫طبقة أهل املدينة‪:‬‬


‫منهم‪ :‬زيد بن أسلم‪ :‬وقد أخذ عنه ابنه عبد الرمحن‪ ،‬ومالك بن أنس إمام دار اهلجرة‪.‬‬
‫أيب بن كعب‪ ،‬وقد روى عنه الربيع بن أنس‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬أبو العالية‪ :‬وهو من رواة ّ‬
‫ومنهم‪ :‬حممد بن كعب القرظي‪ :‬الذي قال فيه ابن عون‪ :‬ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من‬
‫القرظي‪.‬‬

‫طبقة أهل العراق‪:‬‬


‫منهم‪ :‬مسروق بن األجدع‪ :‬وكان ورعا زاهدا صحب ابن مسعود‪ ،‬قال ابن معني فيه‪ :‬ثقة ال يسأل‬
‫عنه‪ ،‬وكان القاضي شريح يستشريه يف معضالت املسائل‪ ،‬روى عنه الشعيب‪ ،‬وأبو وائل وآخرون‪،‬‬
‫لصدق روايته وأمانته‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬قتادة بن دعامة‪ :‬وهو من رواة ابن مسعود‪ ،‬شهد له ابن سريين ابلضبط واحلفظ‪ ،‬وقال فيه‬
‫فتحرج بعض‬
‫ابن املسيب‪ :‬ما رأيت عراقيّا أحفظ من قتادة‪ ،‬غري أنه كان خيوض يف القضاء والقدر‪ّ ،‬‬
‫الناس من الرواية عنه‪ .‬وقد احتج به أرابب الكتب الصحيحة‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬أبو سعيد احلسن البصري‪ :‬قال ابن سعد فيه‪ :‬كان ثقة مأموان وعاملا جليال‪ ،‬وفصيحا مجيال‪،‬‬
‫وتقيّا نقيّا‪ ،‬حىت قيل‪ :‬إنه سيد التابعني‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬عطاء بن أيب مسلم اخلرساين‪ :‬أصله من البصرة لكنه أقام خبراسان بعد أن دخلها‪ ،‬لذلك‬
‫نسب إليها‪ ،‬كان من أجالء العلماء‪ ،‬غري أنه كان مصااب بسوء احلفظ لذلك اختلفوا يف توثيقه‪.‬‬

‫(‪)142/1‬‬

‫أيب بن كعب‪ ،‬وعمر‬


‫ومنهم مرة اهلمذاين الكويف‪ :‬لكثرة عبادته قيل‪ :‬مرة الطيب‪ ،‬ومرة اخلري‪ ،‬أخذ عن ّ‬
‫بن اخلطاب وغريمها من الصحابة‪ ،‬وروى عنه الشعيب وغريه‪.‬‬
‫هؤالء هم أعالم املفسرين من التابعني استمدوا آراءهم وعلومهم مما تلقوه من الصحابة رضوان هللا‬
‫عليهم أمجعني‪.‬‬
‫وعنهم أخذ اتبعو التابعني وهكذا‪ ،‬حىت وصل إلينا دين هللا وكتابه وعلومه ومعارفه سليمة كاملة عن‬
‫طريق التلقي والتلقني‪ ،‬جيال عن جيل‪ ،‬مصداقا لقوله‪ -‬سبحانه‪:-‬‬
‫إِ َّان َْحن ُن نَـ َّزلْنَا ال ِّذ ْك َر َوإِ َّان لَهُ َحلافِظُو َن [سورة احلجر آية‪.]9 :‬‬
‫ولقوله صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬حيمل هذا العلم من كل خلف عدوله‪ ،‬ينفون عنه حتريف الغالني‪،‬‬
‫وانتحال املبطلني‪ ،‬وأتويل اجلاهلني»‪.‬‬

‫نقد املروي عن التابعني‪:‬‬


‫وتوجه الطعن إليه‪.‬‬
‫يالحظ على ما روي عن التابعني اعتبارات مهمة تثري الطعن فيه ّ‬
‫منها أهنم مل يشاهدوا عهد النبوة‪ ،‬ومل يتشرفوا أبنوار الرسول صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فيغلب على الظن‬
‫أن ما يروى عنهم من تفسري القرآن إمنا هو من قبيل الرأي هلم‪ ،‬فليس له قوة املرفوع إىل النيب صلّى‬
‫هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه يندر فيه اإلسناد الصحيح‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اشتماله على إسرائيليات وخرافات انسابت إليه اترة من زاندقة الفرس‪ ،‬وأخرى من بعض‬
‫مسلمة أهل الكتاب‪ ،‬إما حبسن نية‪ ،‬وإما بسوء نية‪.‬‬

‫ضعف الرواية ابملأثور‬


‫علمنا أن الرواية ابملأثور‪ ،‬تتناول ما كان تفسريا للقرآن ابلقرآن‪ ،‬وما كان تفسريا للقرآن ابلسنة‪ ،‬وما‬
‫كان تفسريا للقرآن ابملوقوف عن الصحابة أو التابعني على رأي‪.‬‬
‫أما تفسري بعض القرآن ببعض‪ ،‬وتفسري القرآن ابلسنة الصحيحة املرفوعة إىل النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فال خالف يف وجاهته وقبوله‪.‬‬
‫وأما تفسري القرآن ِبا يعزى إىل الصحابة والتابعني؛ فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬ما دسه أعداء اإلسالم مثل‪ :‬زاندقة اليهود والفرس‪ ،‬فقد أرادوا هدم هذا الدين املتني عن طريق‬
‫الدس والوضع‪ ،‬حينما أعيتهم احليل يف النيل منه عن طريق احلرب والقوة‪ ،‬وعن طريق الدليل‬
‫واحلجة‪.‬‬
‫علي املتطرفني‬
‫اثنيها‪ :‬ما ل ّفقه أصحاب املذاهب املتطرفة تروجيا لتطرفهم‪ ،‬كشيعة ّ‬

‫(‪)143/1‬‬

‫الذي ن نسبوا إليه ما هو منه بريء‪ ،‬وكاملتزلفني الذين حطبوا يف حبل العباسيني‪ ،‬فنسبوا إىل ابن عباس‬
‫ما مل تصح نسبته إليه متلقا هلم واستدرارا لدنياهم‪.‬‬
‫املعزوة إىل الصحابة أو التابعني من‬
‫اثلثها‪ :‬اختالط الصحيح بغري الصحيح‪ ،‬ونقل كثري من األقوال ّ‬
‫حتر‪ ،‬مما أدى إىل التباس احلق ابلباطل‪ ،‬زد على ذلك أن من يرى رأاي صار يعتمده دون‬
‫غري إسناد وال ّ‬
‫أن يذكر له سندا‪ُ ،‬ث جييء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصال‪ ،‬وال يكلف نفسه البحث عن‬
‫أصل الرواية‪ ،‬وال من يرجع إليه هذا القول‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬أن تلك الرواايت مليئة ابإلسرائيليات‪ ،‬ومنها كثري من اخلرافات اليت يقوم الدليل على‬
‫بطالهنا‪ ،‬ومنها ما يتعلق أبمور العقائد اليت ال جيوز األخذ فيها ابلظن‪ ،‬وال برواية اآلحاد‪ ،‬بل ال بد من‬
‫دليل قاطع فيها‪ ،‬كالرواايت اليت تتحدث عن أشراط الساعة‪ ،‬وأهوال القيامة وأحوال اآلخرة حني‬
‫تذكر على أهنا اعتقادايت يف اإلسالم‪.‬‬
‫خامسها‪ :‬أن ما نقل نقال صحيحا عن الكتب السابقة اليت عند أهل الكتاب كالتوراة واإلجنيل‪ ،‬أمران‬
‫الرسول صلّى هللا عليه وسلم أن نتوقف فيه‪ ،‬فال نصدقهم الحتمال أنه مما حرفوه يف تلك الكتب‪،‬‬
‫وال نكذهبم الحتمال أنه مما حفظوه منها فقد قال تعاىل فيهم إهنم‪:‬‬
‫تاب [سورة آل عمران آية‪.]23 :‬‬ ‫صيباً ِمن ال ِ‬
‫ْك ِ‬ ‫أُوتُوا نَ ِ‬
‫َ‬
‫وكلمة اإلنصاف يف هذا املوضوع‪ :‬أن التفسري ابملأثور نوعان‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬ما توافرت األدلة على صحته وقبوله‪ ،‬وهذا ال يليق أبحد رده‪ ،‬وال جيوز إمهاله وإغفاله‪ ،‬وال‬
‫جيمل أن نعتربه من الصوارف عن هدى القرآن‪ ،‬بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على‬
‫االهتداء ابلقرآن‪.‬‬
‫اثنيهما‪ :‬ما مل يصح لسبب من األسباب اآلنفة أو غريها‪ ،‬وهذا جيب رده وال جيوز قبوله وال االشتغال‬
‫به‪ ،‬اللهم إال لتمحيصه والتنبيه إىل ضالله وخطئه حىت ال يغرت به أحد‪.‬‬
‫وال يزال كثري من أيقاظ املفسرين كابن كثري يتحرون الصحة فيما ينقلون‪ ،‬ويزيّفون ما هو ابطل أو‬
‫ضعيف وال حيابون وال جيبنون‪.‬‬
‫ولعل الذين أطلقوا القول يف رد املأثور إمنا أرادوا املبالغة‪ -‬كما علمت يف توجيه كلمة اإلمام أمحد بن‬
‫حنبل‪ -‬وعذرهم أن الصحيح منه قليل اندر‪ ،‬نزر يسري‪ ،‬حىت لقد قال اإلمام الشافعي رضي هللا عنه‪:‬‬
‫مل يثبت عن ابن عباس يف التفسري إال شبيه ِبائة حديث‪.‬‬
‫أي مع كثرة ما روي عنه‪.‬‬
‫وقد أشار ابن خلدون إىل أ ّن العرب مل يكونوا أهل كتاب وال علم‪ ،‬وإمنا غلبت عليهم‬

‫(‪)144/1‬‬

‫البداوة واألمية‪ ،‬وإذا تشوفوا إىل معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية يف أسباب املكوانت‬
‫وبدء اخلليقة وأسرار الوجود‪ ،‬فإمنا يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم؛ ويستفيدون منهم إىل أن قال‪:‬‬
‫وهؤالء مثل‪ :‬كعب األحبار‪ ،‬ووهب بن منبه‪ ،‬وعبد هللا بن سالم‪ ،‬فامتألت التفاسري من املنقوالت‬
‫عنهم وتل ّقيت ابلقبول‪ ،‬ملا كان هلم من املكانة السامية‪ ،‬ولكن الراسخني يف العلم قد حتروا الصحة‪،‬‬
‫وزيفوا ما مل تتوافر أدلة صحته‪ .‬اه‪ .‬بتصرف‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬إايك أن تفهم من عبارة ابن خلدون أو ابن تيمية أو غريمها ما جيعلك ختوض مع اخلائضني يف‬
‫هؤالء األعالم الثالثة‪ :‬عبد هللا بن سالم‪ ،‬ووهب بن منبه‪ ،‬وكعب األحبار‪ ،‬فقد ضل بعض األدابء‬
‫واملؤرخني من كبار الكتاب يف هذا العصر‪ ،‬حني زعموا ذلك‪ ،‬حىت لقد سلكوا عبد هللا بن سالم‬
‫الصحايب اجلليل يف سلك واحد مع عبد هللا ابن سبأ اليهودي اخلبيث‪ ،‬الذي تظاهر ابإلسالم ُث كاد‬
‫لعلي‪ ،‬وزعم أن هللا حل فيه‪ ،‬وطعن على عثمان‪ ،‬وأظهر الرفض عند حكم‬
‫له شر الكيد‪ ،‬فتشيّع ّ‬
‫احلكمني بصفني‪ ،‬ودعا الناس إىل ضالله األثيم‪ ،‬حىت نفي مرارا‪ ،‬واحلقيقة أن ثالثتنا هؤالء عدول‬
‫ثقات‪.‬‬
‫أما ابن سالم‪ :‬فحسبك أنه صحايب من خرية الصحابة‪ ،‬ومن املبشرين ابجلنة‪ ،‬يروي الرتمذي عن معاذ‬
‫بن جبل رضي هللا عنه قال‪ :‬مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقول‪« :‬إنه عاشر عشرة يف اجلنة»‬
‫يل َعلى ِمثْلِ ِه [سورة األحقاف آية‪ ،]10 :‬وآية‪َ :‬وَم ْن‬‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وفيه أنزلت آية‪َ :‬و َشه َد شاه ٌد م ْن بَِين إ ْسرائ َ‬
‫تاب [سورة الرعد آية‪ ،]43 :‬على ما جاء يف بعض الرواايت‪.‬‬ ‫ِع ْن َدهُ ِعلْم ال ِ‬
‫ْك ِ‬
‫ُ‬
‫وأما وهب بن منبه‪ :‬فقد كان اتبعا ثقة واسع العلم‪ ،‬روى عن أيب هريرة كثريا وله حديث يف‬
‫الصحيحني عن أخيه مهام‪ :‬وقد بلغ من تنسكه وصالحه أنه لبث عشرين سنة يصلي الفجر بوضوء‬
‫العشاء رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وأما كعب‪ :‬فقد كان اتبعا جليال‪ ،‬أسلم يف خالفة أيب بكر‪ ،‬وانهيك أن الصحابة أخذوا عنه كما أخذ‬
‫هو عن الصحابة‪ ،‬وروى عنه مجاعة من التابعني مرسال‪ ،‬وله شيء يف صحيح البخاري وغريه‪.‬‬
‫ولكن جيب أن نفرق يف هذا املقام بني ما يصح أن يقال فيهم‪ ،‬وما يصح أن ينقل عنهم‪ ،‬فأما ما‬
‫يصح أن يقال فيهم؛ فهو الثقة والتقدير على حنو ما أحملنا‪ ،‬وأما الذي ينقل عنهم؛ فمنه الصحيح‬
‫وغري الصحيح‪ ،‬لكن عدم صحة ما مل يصح ال يعلل ابهتامهم وجرحهم‪ ،‬فقد علمت من هم؟! إمنا‬
‫يعلل أبحد أمرين‪:‬‬
‫أوهلما‪ :‬رجال السند الذين ينقلون عنهم‪ ،‬فقد يكون بينهم متّهم يف عدالته أو‬

‫(‪)145/1‬‬

‫ضبطه‪ ،‬وهلذا جيب النظر يف سلسلة الرواة عنهم رجال رجال‪ ،‬ولدينا من كتب اجلرح والتعديل ما يفي‬
‫هبذه الغاية‪ ،‬وال يكفي االعتماد على ذكر السند يف كتاب كبري كتفسري ابن جرير‪ ،‬فقد يذكر ابن‬
‫جرير أو غريه أشياء غري صحيحة ويسوق أسانيدها ُث ال يبني اجملروح من رجال السند وال املع ّدل‬
‫فيهم‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬أن يكون أولئك الثالثة قد رووا ما رووه على أنه مما كان يف اإلسرائيليات‪ ،‬فتقبلها‬
‫اآلخذون على أهنا من اإلسالميات‪ ،‬وهلذا جيب النظر يف هذه املروايت‪ ،‬فإن كانت مما يقرره اإلسالم‬
‫قبلناها‪ ،‬وإن كانت مما يرده رددانها‪ ،‬وإن كانت مما سكت عنه سكتنا عنها عمال بقوله صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪« :‬إذا حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم» [رواه البخاري هبذا اللفظ]‪.‬‬
‫ورواه أمحد والبزار من حديث جابر بلفظ‪« :‬ال تسألوا أهل الكتاب عن شيء‪ ،‬فإهنم لن يهدوكم وقد‬
‫حل له إال‬
‫ضلوا‪ ،‬وإنكم إما أن تك ّذبوا حبق أو تصدقوا بباطل‪ ،‬وهللا لو كان موسى بني أظهركم ما ّ‬
‫اتباعي»‪ ،‬وسبب هذا احلديث أن النيب صلّى هللا عليه وسلم علم أن عمر كتب شيئا من التوراة عن‬
‫اليهود فغضب صلّى هللا عليه وسلم وقاله‪ .‬اه‪.‬‬

‫تدوين التفسري ابملأثور وخصائص كتبه‬


‫جاء قرن اتبعي التابعني‪ ،‬وفيه ألّفت تفاسري كثرية‪ ،‬مجعت من أقوال الصحابة والتابعني‪ ،‬كتفسري‬
‫سفيان بن عيينة‪ ،‬ووكيع بن اجلراح‪ ،‬وشعبة بن احلجاج‪ ،‬ويزيد بن هارون‪ ،‬وعبد الرزاق‪ ،‬وآدم بن‬
‫إايس‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وروح بن عبادة‪ ،‬وعبد ابن محيد‪ ،‬وأيب بكر بن أيب شيبة‪ ،‬وعلي بن أيب‬
‫طلحة‪ ،‬والبخاري وآخرين‪.‬‬
‫أجل التفاسري‪ُ ،‬ث ابن أيب حامت‪ ،‬وابن‬
‫ومن بعدهم ألف ابن جرير الطربي كتابه املشهور وهو من ّ‬
‫ماجه‪ ،‬واحلاكم‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫وليس يف تفاسري هؤالء إال ما هو مسند إىل الصحابة والتابعني واتبعيهم‪ ،‬ما عدا ابن جرير؛ فإنه‬
‫تعرض لتوجيه األقوال وترجيح بعضها على بعض وذكر اإلعراب واالستنباط‪.‬‬

‫فكرة عن تفسري ابن جرير‪:‬‬


‫وتويف سنة ‪ 310‬هـ)‪،‬‬
‫ابن جرير هو‪ :‬أبو جعفر حممد بن جرير بن يزيد الطربي‪ ،‬ولد (سنة ‪ 224‬هـ)‪ّ ،‬‬
‫كان فريد عصره‪ ،‬ووحيد دهره علما وعمال‪ ،‬وحفظا لكتاب هللا وخربة ِبعانيه‪ ،‬وإحاطة ابآلايت‬
‫انسخها ومنسوخها‪ ،‬وبطرق الرواية صحيحها وسقيمها‪ ،‬وأبحوال الصحابة والتابعني‪.‬‬

‫(‪)146/1‬‬

‫أجل التفاسري ابملأثور وأصحها وأمجعها بسبب ما أورده عن الصحابة والتابعني‬


‫لذلك كان تفسريه من ّ‬
‫وعرض فيه لتوجيه األقوال‪ ،‬ورجح بعضها على بعض‪ ،‬ورجح فيه كثريا من اإلعراب واستنباط‬
‫األحكام‪ ،‬وقد شهد العارفون أبنه ال نظري له يف التفاسري‪.‬‬
‫قال النووي يف هتذيبه‪ :‬كتاب ابن جرير يف التفسري مل يصنف أحد مثله‪ ،‬وقال أبو حامد اإلسفراييين‬
‫ليحصل تفسري ابن جرير مل يكن ذلك كثريا عليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شيخ الشافعية‪ :‬لو رحل أحد إىل الصني‬
‫ومن مزاايه‪ :‬أنه حرر األسانيد وقرب البعيد‪ ،‬ومجع ما مل جيمعه غريه‪ ،‬غري أنه قد يسوق أخبارا‬
‫ابألسانيد غري صحيحة ُث ال ينبه على عدم صحتها‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن عذره يف ذلك هو ذكر السند يف زمن توافر الناس فيه على معرفة حال السند من غري‬
‫توقف على تنبيه منه‪ ،‬وهذا التفسري موجود إىل اليوم ومنتشر مطبوع‪ ،‬وهو عمدة ألكثر املفسرين‪.‬‬

‫تفسري أيب الليث السمرقندي‪:‬‬


‫هو تفسري ابملأثور‪ ،‬يذكر فيه كثريا من أقوال الصحابة والتابعني غري أنه ال يذكر األسانيد وهو خمطوط‬
‫يف جملدين وموجود يف مكتبة األزهر‪.‬‬

‫الدر املنثور يف التفسري ابملأثور‪:‬‬


‫هو لإلمام جالل الدين السيوطي‪ ،‬قال يف مقدمته‪ :‬إنه خلصه من كتاب ترمجان القرآن‪ ،‬وهو التفسري‬
‫املسند إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو مطبوع ِبصر‪ ،‬وقد ذكر يف كتابه اإلتقان أنه شرع يف‬
‫تفسري جامع ملا حيتاج إليه من التفاسري املنقولة واألقوال املعقولة‪ ،‬واالستنباط واإلشارات واألعاريب‬
‫واللغات‪ ،‬ونكت البالغة‪ ،‬وحماسن البديع‪ ،‬ومساه «جممع البحرين ومطلع البدرين»‪ ،‬وذكر أنه جعل‬
‫كتاب اإلتقان مقدمة له‪ ،‬وذكر يف خامتة كتاب اإلتقان نبذة صاحلة من التفسري ابملأثور املرفوع إىل‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلم من أول الفاحتة إىل أول سورة الناس‪.‬‬

‫تفسري ابن كثري‪:‬‬


‫ابن كثري‪ :‬هو عماد الدين أبو الفداء إمساعيل بن اخلطيب أيب حفص عمر‪ ،‬القرشي‪ ،‬الدمشقي‬
‫الشافعي املولود سنة (‪ 705‬هـ) املتويف سنة (‪ 774‬هـ)‪ ،‬وتفسريه هذا من أصح التفاسري ابملأثور إن مل‬
‫يكن أصحها مجيعا‪ ،‬نقل فيه عن النيب صلّى هللا عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعني‪ ،‬وقد أخرجته‬
‫مطبعة املنار ِبصر يف تسعة أجزاء‪ ،‬ومعه أبسفل الصفحات تفسري البغوي اآليت ذكره‪ ،‬وِبخره كتاب‬
‫«فضائل القرآن» الذي يعترب متمما له‪.‬‬

‫(‪)147/1‬‬
‫تفسري البغوي‪:‬‬
‫هو العالمة أبو حممد احلسني بن مسعود البغوي الفقيه الشافعي‪ ،‬كان إماما يف التفسري واحلديث‪ ،‬له‬
‫التصانيف املفيدة‪ ،‬ومنها‪ :‬معامل التنزيل‪ ،‬أتى فيه ابملأثور‪ ،‬ولكن جمردا عن األسانيد‪.‬‬

‫بقي بن خملد‪:‬‬
‫تفسري ّ‬
‫ذكر اإلمام السيوطي يف طبقات املفسرين أن بقي بن خملد بن يزيد بن عبد الرمحن األندلسي‬
‫القرطيب‪ ،‬أحد األعالم وصاحب التفسري والسند‪ ،‬أخذ عن حيىي بن حيىي الليثي ورحل إىل املشرق‪،‬‬
‫ولقي الكبار ابحلجاز ومصر وبغداد‪ ،‬ومسع من أمحد بن حنبل‪ ،‬ومسع ابلكوفة أاب بكر بن أيب شيبة‪،‬‬
‫ومسع ِبصر حيىي بن بكري‪ ،‬ومسع ابحلجاز أاب مصعب الزهري‪ ،‬ومسع بدمشق هشام بن عمار‪ ،‬وشيوخه‬
‫صواما صادقا جماب الدعوة‪ ،‬قليل املثل‪ ،‬حبرا يف العلم‪،‬‬
‫مائتان وأربعة ومثانون رجال‪ ،‬وكان إماما زاهدا ّ‬
‫جمتهدا ال يقلد أحدا‪ ،‬عين ابألثر‪ ،‬وليس ألحد مثل سنده يف احلديث وال يف التفسري‪.‬‬
‫قال ابن حزم‪ :‬أقطع أنه مل يؤلّف يف اإلسالم مثل تفسريه‪ ،‬ال تفسري ابن جرير وال غريه‪ ،‬ولد سنة‬
‫(‪ 204‬هـ) وتفسريه املوصوف ِبا ترى يؤسفنا أنه مل يكتب له البقاء‪ ،‬ومل يظفر ِبا ظفر به تفسري ابن‬
‫جرير من هذا اخللود‪.‬‬

‫طرق املفسرين بعد العصر األول‪:‬‬


‫ُث إن كتب التفسري ابملأثور موسوعات كبرية‪ ،‬ال نستطيع اإلحاطة هبا وال أبمساء مجيع مؤلفيها‪ ،‬وال‬
‫بطريقة كل مؤلف فيها‪ ،‬غري أان نستطيع أن جنمل القول يف طرق املفسرين بعد العصر األول فنقول‪:‬‬
‫بعد عصر األولني الذين ألفوا يف التفسري ابملأثور‪ ،‬والتزموا ذكر السند جبملته‪ ،‬جاء قوم صنفوا يف‬
‫التفسري‪ ،‬واختصروا األسانيد‪ ،‬ومل ينسبوا األقوال لقائليها‪ ،‬والتبس بذلك الصحيح وغريه‪ ،‬وصار‬
‫الناظر يف تلك الكتب يظنها كلها صحيحة‪ ،‬بينما هي مفعمة ابلقصص وابإلسرائيليات على وجه ال‬
‫متييز فيه كأهنا كلها حقائق‪ ،‬ومن هنا استهدفت رواايهتم للتجريح والطعن‪ ،‬ولوال ما يقوم به احملققون‬
‫يف كل عصر من إحقاق احلق ودحض الباطل؛ ال نطمست املعامل‪ ،‬واختلط احلابل ابلنابل‪ ،‬ولكان‬
‫ذلك مثار مطاعن توجه بال حساب إىل اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫فقد ذكروا يف قصص األنبياء‪ ،‬ويف بدء اخلليقة‪ ،‬والزالزل‪ ،‬وأيجوج ومأجوج‪،‬‬

‫(‪)148/1‬‬
‫وبرودة املاء الذي يف اآلابر زمن الصيف‪ ،‬وحرارته يف الشتاء‪ ،‬ذكروا يف ذلك كله ما يندى له اجلبني‬
‫خجال‪ ،‬وما ال يتفق واحلقائق العلمية أبدا‪ ،‬واي ليتهم نبهوا على وضعه! لو أهنم فعلوا لكان األمر‬
‫هينا‪ ،‬لكنهم مل يذكروا السند‪ ،‬كما ذكر األولون ليستطيع املطلع عليه نقده ابلرجوع إىل كتب اجلرح‬
‫والتعديل‪ُ ،‬ث مل يكلفوا أنفسهم احلكم على السند بعد حماكمته إىل كتب التعديل والتجريح (وتلك‬
‫اثلثة األاثيف)‪.‬‬
‫وقد عين بعض املفسرين أبن يسرد شتاب األقوال‪ ،‬حىت إنه ذكر يف تفسري قوله سبحانه‪ :‬غَ ِْري‬
‫ِ‬ ‫ض ِ‬
‫ني حنو عشرة أقوال‪ ،‬مع أن الوارد الصحيح تفسري املغضوب عليهم‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم َوَال الضَّالّ َ‬ ‫ال َْمغْ ُ‬
‫ابليهود‪ ،‬وتفسري الضالني ابلنصارى‪ ،‬لكن الولوع بكثرة النقول َنى هبم عن االقتصار على التفسري‬
‫املقبول‪.‬‬
‫وكذلك نالحظ أن كل ابرع يف فن يقتصر غالبا يف تفسريه على الفن الذي برع فيه‪ ،‬فاملربز يف العلوم‬
‫العقلية كالفخر الرازي‪ ،‬أغرم ابستعراض أقوال احلكماء‬
‫والفالسفة وشبههم والرد عليها يف تفسريه‪ ،‬واملربز يف الفقه كالقرطيب أولع بتقرير األدلة للفروع‬
‫كالزجاج والواحدي يف البسيط وأيب حيان يف البحر‪،‬‬
‫الفقهية وأقوال الفقهاء فيها‪ ،‬واملربز يف النحو ّ‬
‫يهتم أعظم االهتمام ابإلعراب ووجوهه‪ ،‬ونقل قواعد النحو وفروعها‪ ،‬وأصحاب املذاهب املتطرفة‬
‫والنّحل الضالة يقصدون إىل أتويل اآلايت على ما يروج مذاهبهم يف التطرف والضالل‪.‬‬
‫واألخباريون يعنيهم أن يستقصوا القصص واألخبار عمن سلف‪ ،‬صحيحة كانت أو ابطلة‪.‬‬
‫واإلشاريون وأرابب التصوف هتمهم انحية الرتغيب والرتهيب والزهد والقناعة والرضا‪ ،‬فيفسرون‬
‫القرآن ِبا يوافق مشارهبم وأذواقهم‪ ،‬وعلى اإلمجال نرى كل انبغة يف فن‪ ،‬أو داعية إىل مذهب أو‬
‫فكرة‪ ،‬جيتهد يف تفسري اآلايت ِبا يوافق فنه‪ ،‬ويالئم مشربه‪ ،‬ويناصر مذهبه‪ ،‬ولو كان بعيدا كل البعد‬
‫عن املقصد الذي نزل من أجله القرآن‪.‬‬
‫ولقد غاىل بعضهم فجعل القرآن مشتمال على العلوم الكونية‪ ،‬كالطبيعة‪ ،‬والكيمياء‪ ،‬واحلساب‪،‬‬
‫واجلرب‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬وشغل نفسه والناس معه هبذه األمور اليت مل ينزل القرآن من أجلها وإن جاءت‬
‫صراحة أو إشارة يف ثنااي الرباهني القرآنية على القضااي األساسية اليت أنزل القرآن من أجلها‪ ،‬وقد مر‬
‫ذكرها يف أول الكتاب‪.‬‬
‫واخلالصة هنا‪ :‬أنه جيب على املفسر مالحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز‪ ،‬وأن جيعل هدفه‬
‫ك َم ْن‬‫األعلى‪ ،‬ومقصده األمسى‪ ،‬إظهار هداايت هللا من كالمه‪ ،‬وبيان وجوه إعجازه يف كتابه لِيَـ ْهلِ َ‬
‫ك َع ْن بَـيِّنَ ٍة َوَْحيىي َم ْن َح َّي َع ْن بَـيِّنَ ٍة َوإِ َّن َّ‬
‫اَّللَ‬ ‫َهلَ َ‬
‫(‪)149/1‬‬

‫يم [سورة األنفال آية‪.]42 :‬‬ ‫لَس ِم ِ‬


‫يع َعل ٌ‬
‫َ ٌ‬

‫التفسري احملمود والتفسري املذموم‪:‬‬


‫تفسري الصحابة والتابعني‪ ،‬وتفسري الذين اعتمدوا على أقوال الصحابة والتابعني ابألسانيد الصحيحة‪،‬‬
‫وتفسري أهل الرأي املوفق الذين مجعوا بني املأثور الصحيح مع حذف أسانيده وبني آرائهم العلمية‬
‫املعتدلة‪ ،‬كل هذه الثالثة من التفسري احملمود‪ ،‬ويغلب هذا النوع الثالث يف عصران احلاضر؛ إذ جتمع‬
‫التفاسري لدينا بني معان مأثورة‪ ،‬ومعان توسعوا يف ذكرها عن طريق الرأي واالجتهاد املعتمد على‬
‫العلم واالعتدال‪.‬‬
‫وهناك نوع رابع‪ ،‬هو تفسري أهل األهواء والبدع وحكمه أنه مذموم قالوا‪ :‬وأشهر الغارقني يف هذا‬
‫الضالل‪ :‬الرماين‪ ،‬واجلبائي‪ ،‬والقاضي عبد اجلبار‪ُ ،‬ث اختلفوا يف الزخمشري‪ ،‬فمنهم من ع ّد تفسريه من‬
‫هذا النوع ملا فيه من مناحي االعتزال‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إن فيه فوائد مهمة‪ ،‬يريد بذلك أن يلتمس له‬
‫املعاذير وأن يغلب جانب الفوائد اليت فيه على جانب االعتزال الذي حيتويه‪ ،‬ولكن عدالة األحكام‬
‫تقضي أبن نسوي بني مجيع التفاسري وأن حناكمها إىل مبدأ واحد‪ ،‬فما وافق منها وجه الصواب‪ ،‬وكان‬
‫ِبنأى عن البدع واألهواء؛ فهو حممود‪ ،‬وما تورط منها يف اخلطأ وختبط يف اهلوى والبدعة؛ فهو مذموم‪،‬‬
‫ال فرق يف ذلك بني الزخمشري وغري الزخمشري‪ ،‬وال بني معتزيل وغري معتزيل‪.‬‬

‫ميزان املدح والذم‪:‬‬


‫ُث إن هناك ميزاان ملا حيمد من التفسري وما يذم‪ ،‬وهو الفيصل الذي جيب أن حنكمه ونزن كل تفسري‬
‫به‪ ،‬فما رجح يف هذا امليزان قلبناه ومحدانه‪ ،‬وما طاش رفضناه وذممناه‪ ،‬واملدح والذم درجات بعضها‬
‫فوق بعض‪ ،‬على حسب استيفاء التفسري لوجوه املدح والذم أو نقصها قليال أو كثريا‪ ،‬وسنضع هذا‬
‫امليزان بني يديك حتت عنوان «منهج املفسرين ابلرأي»‪.‬‬
‫غري أان نسرتعي نظرك هنا إىل كلمة أهل البدع واألهواء‪ ،‬ونريد أن تكون موفّقا يف حكمك على أية‬
‫طائفة أو أي شخص ببدعة أو هوى‪ ،‬وإال خيف عليك أن تكون أنت صاحب البدعة واهلوى يف‬
‫ذاب َش ِدي ٌد ِِبا‬ ‫يل َِّ‬‫ضلُّو َن َع ْن َسبِ ِ‬ ‫يل َِّ‬
‫اَّلل إِ َّن الَّ ِذين ي ِ‬ ‫ك َع ْن َسبِ ِ‬ ‫حكمك‪ :‬وال تَـتَّبِ ِع ا ْهلَوى فَـي ِ‬
‫ضلَّ َ‬
‫اَّلل َهلُ ْم َع ٌ‬ ‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ساب [سورة ص آية‪.]26 :‬‬ ‫نَسوا يَـ ْوَم ا ْحلِ ِ‬
‫ُ‬
‫غلطة التعصب للرأي‪:‬‬
‫واعلم أن هناك أفرادا‪ -‬بل أقواما‪ -‬تعصبوا آلرائهم ومذاهبهم‪ ،‬وزعموا أن من خالف هذه اآلراء‬
‫واملذاهب كان مبتدعا متبعا هلواه‪ ،‬ولو كان متأوال أتويال سائغا يتسع‬

‫(‪)150/1‬‬

‫له الدليل والربهان‪ ،‬كأن رأيهم ومذهبهم هو املقياس وامليزان‪ ،‬أو كأنه الكتاب والسنة واإلسالم‪،‬‬
‫وهكذا استزهلم الشيطان وأعماهم الغرور‪.‬‬
‫ولقد جنم عن هذه الغلطة الشنيعة أن تفرق كثري من املسلمني شيعا وأحزااب‪ ،‬وكانوا حراب على بعضهم‬
‫وأعداء‪ ،‬وغاب عنهم أن الكتاب والسنة واإلسالم أوسع من مذاهبهم وآرائهم‪ ،‬وأن مذاهبهم‬
‫وآراءهم أضيق من الكتاب والسنة واإلسالم‪ ،‬وأن يف ميدان احلنيفية السمحة متسعا حلرية األفكار‪،‬‬
‫واختالف األنظار‪ ،‬مادام اجلميع معتصما حببل هللا‪.‬‬
‫ت َِّ‬ ‫مجيعاً َوال تَـ َف َّرقُوا َواذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬ ‫صموا ِحبب ِل َِّ‬
‫اَّلل َعلَْي ُك ْم إِ ْذ‬ ‫اَّلل َِ‬ ‫ُث غاب عنهم أن هللا تعاىل يقول‪َ :‬وا ْعتَ ِ ُ َْ‬
‫َصبَ ْحتُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخواانً [سورة آل عمران آية‪.]103 :‬‬ ‫ني قُـلُوبِ ُك ْم فَأ ْ‬ ‫داء فَأَلَّ َ‬
‫ف بَ ْ َ‬ ‫ُك ْنـتُ ْم أَ ْع ً‬
‫ت ِم ْنـ ُه ْم ِيف َش ْي ٍء [سورة األنعام آية‪:‬‬ ‫ين فَـ َّرقُوا ِدينَـ ُه ْم َوكانُوا ِشيَعاً لَ ْس َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ويقول جل ذكره‪ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫‪.]159‬‬
‫نات َوأُولئِ َ‬
‫ك َهلُ ْم‬ ‫جاء ُه ُم الْبَـيِّ ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين تَـ َف َّرقُوا َوا ْختَـلَ ُفوا م ْن بَـ ْعد ما َ‬ ‫ويقول تقدست أمساؤه‪َ :‬وال تَ ُكونُوا َكالذ َ‬
‫ض ُو ُجوهٌ َوتَ ْس َو ُّد ُو ُجوهٌ [سورة آل عمران آية‪.]106 ،105 :‬‬ ‫يم (‪ )105‬يَـ ْوَم تَـ ْبـيَ ُّ‬ ‫ِ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬
‫َع ٌ‬
‫ملثل هذا أرأب بنفسي وبك أن تتهم مسلما ابلكفر أو البدعة واهلوى جملرد أنه خالفنا يف رأي إسالمي‬
‫نظري‪ ،‬فإن الرتامي ابلكفر والبدعة من أشنع األمور‪.‬‬
‫ولقد قرر علماؤان أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعني وجها ُث احتملت اإلميان من وجه‬
‫واحد‪ ،‬محلت على أحسن احملامل وهو اإلميان‪ ،‬وهذا موضوع مفروغ منه ومن التدليل عليه‪ ،‬لكن‬
‫يفت يف عضدان غفلة كثري من إخواننا املسلمني عن هذا األدب اإلسالمي العظيم‪ ،‬الذي حيفظ‬
‫الوحدة‪ ،‬وحيمي األخوة‪ ،‬ويظهر اإلسالم بصورته احلسنة ووجهه اجلميل من السماحة واليسر‪،‬‬
‫واتساعه جلميع االختالفات الفكرية واملنازع املذهبية‪ ،‬واملصاحل البشرية‪ ،‬مادامت معتصمة ابلكتاب‬
‫والسنة على وجه من الوجوه الصحيحة اليت حيتملها النظر السديد والتأويل الرشيد‪.‬‬
‫ولقد حدث مثل هذا االختالف على عهد رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم بني أصحابه‪ ،‬فما تنازعوا‬
‫من أجله‪ ،‬بل أخذ كل برأيه وهو حيرتم اآلخر ورأيه‪ ،‬وأقرهم الرسول صلّى هللا عليه وسلم على ذلك‪،‬‬
‫ومل يعب أحدا منهم‪ ،‬على رغم أنه ترتب على بعض هذه االختالفات أن ترك بعضهم الصالة يف‬
‫وقتها اجتهادا منه‪ ،‬إذ قال الرسول صلّى هللا عليه وسلم لفئة من أصحابه‪« :‬ال يصلني أحدكم العصر‬
‫إال يف بين قريظة» فسافروا وج ّدوا‪ ،‬ولكن الغزالة تدلت للغروب وهم ال يزالون ضاربني يف األرض‪،‬‬
‫وملّا يصلّوا‪ .‬هنالك اجتهدوا‪ ،‬فمنهم من وقف عند ظاهر النص‬

‫(‪)151/1‬‬

‫فرتك العصر حىت خرج وقته مادام مل يصل إىل بين قريظة‪ ،‬ومنهم من أتول النص ومحله على الكناية‬
‫يف اإلسراع فصلّى حني خاف فوات الوقت من قبل أن يصل إىل بين قريظة‪.‬‬
‫نقول‪ :‬إن مثل هذا اخلالف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره‪ ،‬تيسريا على املسلمني وإعالما‬
‫أبن اإلسالم دين الكافة‪ ،‬يسع مجيع البشر يف كل العصور واألحوال‪ ،‬وشهد املسلمون بعد ذلك‬
‫عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه خيتلفون فيما بينهم كثريا‪ ،‬ولكنهم كانوا جبانب هذا يتكارمون‬
‫ويتعاونون ويرتامحون كثريا‪.‬‬
‫وإن كنت يف شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي‪ ،‬واحرتام الشافعي ألمحد بن حنبل‪ ،‬حىت‬
‫ورد أنه كان يتربك بغسالة قميصه‪ ،‬أي يتربك األستاذ اإلمام بغسالة قميص تلميذه املخالف له يف‬
‫الرأي واالجتهاد! ُث سل التاريخ عن معاونة صاحب أيب حنيفة للشافعي‪ ،‬ودفعه إليه كتبه يف كرم‬
‫وحسن ضيافة وصدق حمبة! وال تنس إابء مالك على اخلليفة العباسي أن حيمل الناس يف بالد‬
‫اإلسالم كلها على موطئه ومذهبه‪ ،‬ويعتذر إليه أبن اإلسالم أوسع من موطئه ومذهبه‪ ،‬وأن أصحاب‬
‫ولكل وجهة‪.‬‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم تفرقوا يف البالد ّ‬
‫أرأيت هذا النبل والطهر؟ ‪ ..‬أجل ‪ ..‬أجل!! ولكنك يضيق بك األسف حني ترى جبانبه فئات من‬
‫املسلمني أيضا تراشقوا ابلكفر‪ ،‬وتراموا ابلشرك‪ ،‬وتقاذفوا ابلتب ّدع واهلوى جملرد أتويل يستسيغه النظر‪،‬‬
‫ويتسع له صدر االستدالل‪.‬‬
‫ُث اتسع اخلرق على الراقع يف بعض الظروف حىت دارت معارك طاحنة بني صفوف كلها مسلمة‪،‬‬
‫وأريقت دماء ذكية كلها إسالمية! وال نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما‬
‫كان أغناان عنها‪ ،‬وما كان أحراان ابحلذر منها‪ ،‬خصوصا بعد ما مسعنا من اآلايت‪ ،‬وبعد أن أقر‬
‫الرسول صلّى هللا عليه وسلم أمثال هذه اخلالفيات وبعد أن قال يف حديث واحد ثالث مرات‪:‬‬
‫«هلك املتنطعون» وهي كلمة صغرية ولكنها كبرية‪ ،‬حتذر وتنذر‪ ،‬ومتثل اهلالك جامثا ابلتنطع أبشكاله‬
‫وألوانه‪ ،‬يف األنفس واألعراض واألموال‪ ،‬ويف اجلماعات واألفراد على سواء‪.‬‬

‫التفسري ابلرأي وبيان ما جيوز منه وما ال جيوز‬


‫املراد ابلرأي هنا االجتهاد‪ ،‬فإن كان االجتهاد موفقا؛ أي مستندا إىل ما جيب االستناد إليه بعيدا عن‬
‫اجلهالة والضاللة‪ ،‬فالتفسري به حممود‪ ،‬وإال فمذموم‪ ،‬واألمور اليت جيب استناد الرأي إليها يف التفسري‬
‫نقلها السيوطي يف اإلتقان عن الزركشي فقال ما ملخصه‪:‬‬

‫(‪)152/1‬‬

‫للناظر يف القرآن لطلب التفسري مآخذ كثرية (يستمد منها تفسريه) أمهاهتا أربعة‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬النقل عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف واملوضوع‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬األخذ بقول الصحايب‪ ،‬فقد قيل‪ :‬إنه يف حكم املرفوع مطلقا‪ ،‬وخصه بعضهم أبسباب النزول‬
‫وحنوها مما ال جمال للرأي فيه‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬األخذ ِبطلق اللغة مع االحرتاز عن صرف اآلايت إىل ما ال يدل عليه الكثري من كالم‬
‫العرب‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬األخذ ِبا يقتضيه الكالم وتدل عليه األصول الشرعية‪ ،‬وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلم البن عباس يف قوله‪« :‬اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل»‪.‬‬
‫فمن فسر القرآن برأيه‪ -‬أي ابجتهاده‪ -‬ملتزما الوقوف عند هذه األصول معتمدا عليها فيما يرى‬
‫من معاين كتاب هللا؛ كان تفسريه سائغا جائزا خليقا أبن يسمى التفسري اجلائز أو التفسري احملمود‪،‬‬
‫ومن حاد عن هذه األصول وفسرا القرآن غري معتمد عليها؛ كان تفسريه ساقطا مرذوال خليقا أبن‬
‫يسمى التفسري غري اجلائز أو التفسري املذموم‪.‬‬
‫ّ‬
‫فالتفسري ابلرأي اجلائز‪ :‬جيب أن يالحظ فيه االعتماد على ما نقل عن الرسول صلّى هللا عليه وسلم‬
‫وأصحابه مما ينري السبيل للمفسر برأيه‪ ،‬وأن يكون صاحبه عارفا بقوانني اللغة خبريا أبساليبها‪ ،‬وأن‬
‫يكون بصريا بقانون الشريعة حىت ينزل كالم هللا على املعروف من تشريعه‪.‬‬
‫أما األمور اليت جيب البعد عنها يف التفسري ابلرأي فمن أمهها‪ :‬التهجم على تبيني مراد هللا من كالمه‬
‫على جهالة بقوانني اللغة أو الشريعة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬محل كالم هللا على املذاهب الفاسدة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اخلوض فيما استأثر هللا بعلمه‪ ،‬ومنها‪ :‬القطع أبن مراد هللا كذا من غري دليل‪ ،‬ومنها‪ :‬السري مع‬
‫اهلوى واالستحسان‪.‬‬
‫وميكن تلخيص هذه األمور اخلمسة يف كلمتني مها‪ :‬اجلهالة‪ ،‬واهلوى‪.‬‬
‫وينبغي أن يعلم أن يف القرآن علوما ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬علم مل يطلع هللا عليه أحدا من خلقه‪ ،‬بل استأثر به وحده؛ كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته‬
‫وغيوبه اليت ال يعلمها إال هو‪ ،‬وهذا النوع ال جيوز الكالم فيه ألحد إمجاعا‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬ما أطلع هللا عليه نبيه صلّى هللا عليه وسلم واختص به‪ ،‬وهذا ال جيوز الكالم فيه إال له عليه‬
‫الصالة والسالم وملن أذن له الرسول‪ ،‬قيل‪ :‬ومنه أوائل السور‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬العلوم اليت علمها هللا لنبيه مما أمر بتبليغه‪ ،‬وهذا النوع قسمان‪:‬‬

‫(‪)153/1‬‬

‫قسم ال جيوز الكالم فيه إال بطريق السمع‪ ،‬كالكالم يف الناسخ واملنسوخ‪ ،‬والقراءات‪ ،‬وقصص األمم‬
‫املاضية‪ ،‬وأسباب النزول‪ ،‬وأخبار احلشر والنشر واملعاد‪.‬‬
‫وقسم يعرف بطريق النظر واالستدالل‪ ،‬وهذا منه املختلف يف جوازه‪ ،‬وهو ما يتعلق ابآلايت‬
‫املتشاهبات‪ ،‬ومنه املتفق على جوازه‪ ،‬وهو ما يتعلق ِبايت األحكام واملواعظ واألمثال واحلكم وحنوها‬
‫ملن له أهلية االجتهاد‪.‬‬

‫العلوم اليت حيتاجها املفسر‬


‫وقد ّبني العلماء أنواع العلوم اليت جيب توافرها يف املفسر فقالوا‪ :‬هي اللغة‪ ،‬والنحو والصرف‪ ،‬وعلوم‬
‫البالغة‪ ،‬وعلم أصول الفقه‪ ،‬وعلم التوحيد‪ ،‬ومعرفة أسباب النزول‪ ،‬والقصص‪ ،‬والناسخ واملنسوخ‪،‬‬
‫واألحاديث املبينة للمجمل واملبهم‪ ،‬وعلم املوهبة‪ ،‬وهو علم يورثه هللا تعاىل ملن عمل ِبا علم‪ ،‬وال‬
‫ف َع ْن ِ‬
‫آاييتَ‬ ‫َص ِر ُ‬
‫يناله من يف قلبه بدعة‪ ،‬أو كرب‪ ،‬أو حب دنيا‪ ،‬أو ميل إىل املعاصي‪ ،‬قال هللا تعاىل‪َ :‬سأ ْ‬
‫ض بِغَ ِْري ا ْحلَ ِّق [سورة األعراف آية‪.]146 :‬‬
‫ربو َن ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يَـتَ َك َُّ‬
‫الذ َ‬
‫وقال اإلمام الشافعي‪:‬‬
‫شكوت إىل وكيع سوء حفظي فأرشدين إىل ترك املعاصي‬
‫وأخربين أبن العلم نور ونور هللا ال يهدى لعاصي‬

‫مالحظة‪:‬‬
‫هذه الشروط اليت ذكرانها‪ ،‬وهذه العلوم كلها‪ ،‬إمنا هي لتحقيق أعلى مراتب التفسري مع إضافة تلك‬
‫االعتبارات املهمة املسطورة يف الكلمات القيمة اآلتية أما املعاين العامة اليت يستشعر منها املرء عظمة‬
‫مواله‪ ،‬واليت يفهمها اإلنسان عند إطالق اللفظ الكرمي؛ فهي قدر يكاد يكون مشرتكا بني عامة الناس‬
‫ويسره وذلك أدىن مراتب التفسري‪.‬‬
‫سهله ّ‬
‫وهو املأمور به للتدبر والتذكر؛ ألنه سبحانه ّ‬

‫أهم كتب التفسري ابلرأي‬


‫قد علم مما سبق أن التفسري ابلرأي منه املمدوح اجلائز‪ ،‬ومنه املذموم غري اجلائز‪.‬‬
‫وهاك بياان أبشهر من ألّف يف القسم األول من أهل السنة ومؤلفاهتم‪:‬‬
‫‪ - 1‬اإلمامان اجلليالن‪ :‬جالل الدين حممد احمللي‪ ،‬وجالل الدين عبد الرمحن‬

‫(‪)154/1‬‬

‫السيوطي‪ ،‬ومها صاحبا التفسري املعروف بتفسري «اجلاللني»‪.‬‬


‫‪ - 2‬اإلمام البيضاوي انصر الدين بن سعيد صاحب التفسري املسمى «أنوار التنزيل وأسرار‬
‫التأويل»‪.‬‬
‫ي صاحب‬
‫الر ّ‬
‫‪ - 3‬اإلمام فخر الدين الرازي حممد ابن العالمة ضياء الدين عمر املشهور خبطيب ّ‬
‫التفسري املسمى «مفاتيح الغيب»‪.‬‬
‫‪ - 4‬أبو السعود حممد بن حممد بن مصطفى الطحاوي صاحب التفسري املسمى «إرشاد العقل‬
‫السليم إىل مزااي القرآن الكرمي»‪.‬‬
‫‪ - 5‬العالمة شهاب الدين األلوسي صاحب التفسري املسمى «روح املعاين»‪.‬‬
‫‪ - 6‬نظام الدين احلسن حممد النيسابوري صاحب التفسري املسمى‪« :‬غرائب القرآن ورغائب‬
‫الفرقان»‪.‬‬
‫‪ - 7‬العالمة الشيخ حممد الشربيين اخلطيب صاحب التفسري املسمى «السراج املنري يف اإلعانة على‬
‫معرفة كالم ربنا اخلبري»‪.‬‬
‫‪ - 8‬أبو الربكات عبد هللا بن أمحد بن حممود النسفي صاحب التفسري املسمى «مدارك التنزيل‬
‫وحقائق التأويل»‪.‬‬
‫علي بن حممد بن إبراهيم البغدادي صاحب التفسري املعروف «تفسري اخلازن»‪.‬‬
‫‪ - 9‬عالء الدين ّ‬

‫تفسري اجلاللني‪:‬‬
‫أما تفسري اجلاللني‪ :‬فكتاب قيم‪ ،‬سهل املأخذ إىل حد ما‪ ،‬خمتصر العبارة كثريا‪ ،‬يكاد يكون أكثر‬
‫التفاسري انتشارا ونفعا‪ ،‬وإن كان أصغرها أو من أصغرها شرحا وحجما‪ ،‬تداولته طبقات خمتلفة من‬
‫أهل العلم وغريهم‪ ،‬وطبع طبعات كثرية متنوعة‪ ،‬طبع مرة واحدة جمردا‪ ،‬وأخرى حباشية املصحف‪،‬‬
‫واثلثة مع حاشية الصاوي‪ ،‬ورابعة مع حاشية اجلمل‪ ،‬وأوسع حواشيه حاشية اجلمل‪ ،‬والعجيب أن‬
‫كثريا من فطاحل العلماء كانوا خيتارونه ألعلى دراسة عرفت يف التفسري كمادة أساسية يدورون حوهلا‪،‬‬
‫ويستلهمون وحيها‪ ،‬حىت إن دروس التفسري الشهرية للعالمة املرحوم الشيخ حممد عبده كانت مادته‬
‫فيها تفسري اجلاللني على ما مسعت‪.‬‬

‫(‪)155/1‬‬

‫تفسري البيضاوي‪:‬‬
‫وأما تفسري البيضاوي‪ :‬فهو كتاب جليل دقيق مجع بني التفسري والتأويل على قانون اللغة العربية‪،‬‬
‫وقرر األدلة على أصول أهل السنة‪ ،‬وقد التزم أن خيتم كل سورة ِبا يروى يف فضلها من األحاديث‪،‬‬
‫يتحر فيها الصحيح‪ ،‬وأحسن حواشيه املتداولة حاشية الشهاب اخلفاجي‪ ،‬وإن كان له‬
‫غري أنه مل ّ‬
‫حواش أخرى كثرية‪ ،‬ومنها حاشية سعد أفندي‪ ،‬وحاشية الروشين‪ ،‬وحاشية الششرتي وغريها‪.‬‬

‫تفسري الفخر الرازي‪:‬‬


‫وسيأيت الكالم عليه حتت عنوان «تفاسري أهل الكالم»‪.‬‬

‫تفسري أيب السعود‪:‬‬


‫تفسري رائع ممتاز يستهويك حسن تعبريه‪ ،‬ويروقك سالمة تفكريه‪ ،‬ويروعك ما أخذ نفسه به من جتلية‬
‫بالغة القرآن‪ ،‬والعناية هبذه الناحية املهمة يف بيان إعجازه مع سالمة يف الذوق‪ ،‬وتوفيق يف التطبيق‪،‬‬
‫وحمافظة على عقائد أهل السنة‪ ،‬وبعد عن احلشو والتطويل‪.‬‬

‫تفسري النيسابوري‪:‬‬
‫ميتاز بسهولة عباراته‪ ،‬وبتحقيق ما حيتاج إىل حتقيق‪ ،‬مع قصد وخلو من احلشو‪ ،‬وقد عىن أبمرين‬
‫يلتزمهما‪ :‬الكالم على القراءات واألوقف يف أول كل مرحلة من مراحل التفسري‪ ،‬والكالم على‬
‫التأويل اإلشاري يف آخر كل مرحلة من تلك املراحل‪ ،‬وهو مطبوع طبعة شهرية على هامش تفسري‬
‫ابن جرير‪ ،‬وهو خمتصر لتفسري الفخر الرازي مع هتذيب كبري‪.‬‬

‫تفسري األلوسي‪:‬‬
‫وسيأيت الكالم عليه عند التفسري اإلشاري‪.‬‬

‫تفسري النسفي‪:‬‬
‫كتاب جليل متداول مشهور‪ ،‬سهل ودقيق‪ ،‬قال فيه صاحب كشف الظنون‪ :‬هو كتاب وسط يف‬
‫التأويالت‪ ،‬جامع لوجوه اإلعراب والقراءات‪ ،‬متضمن لدقائق علم البديع واإلشارات‪ ،‬ومرشح‬
‫ألقاويل أهل السنة واجلماعة‪ ،‬خال من أابطيل أهل البدع والضاللة‪ ،‬ليس ابلطويل اململ‪ ،‬وال‬
‫ابلقصري املخل‪ .‬اه‪.‬‬

‫(‪)156/1‬‬

‫تفسري اخلطيب‪:‬‬
‫كتاب عظيم يعىن بثالثة أشياء‪ :‬تقرير األدلة وتوجيهها‪ ،‬والكالم على املناسبات بني السور واآلايت‪،‬‬
‫وسرد كثري من القصص والرواايت‪.‬‬

‫تفسري اخلازن‪:‬‬
‫تفسري مشهور‪ ،‬يعين ابملأثور‪ ،‬بيد أنه ال يذكر السند‪ ،‬وله ولوع ابلتوسع يف الرواايت والقصص‪ ،‬ومن‬
‫غر‪ ،‬وال يفنت هبا جاهل‪.‬‬
‫مزاايه أنه يتبع القصة ببيان ما فيها من ابطل؛ حىت ال ينخدع هبا ّ‬
‫تفاسري الفرق املختلفة‬
‫وذلك كالتفسري اإلشاري وتفاسري أهل الكالم‪ ،‬وأشهر الكتب يف ذلك‪.‬‬
‫وقد منيت األمة أبن تفرتق أكثر من سبعني فرقة‪ ،‬وأن يلبسها هللا شيعا ويذيق بعضها أبس بعض‪،‬‬
‫وإن كانت ال تزال طائفة من هذه األمة ظاهرين على احلق ال يضرهم من خالفهم‪ ،‬حىت أييت أمر هللا‪،‬‬
‫وقد تناولت كل طائفة كتاب هللا تفسره ِبا ارتضته لنفسها من اعتدال أو تطرف‪ ،‬فظهرت جمموعة‬
‫اجمللوة تنطبع فيها صور املفسرين هلا على اختالف مشارهبم‪ ،‬وتباين منازعهم‪ ،‬وال‬
‫التفاسري كاملرااي ّ‬
‫غرو‪ ،‬فكل إانء ِبا فيه ينضح‪ ،‬وكل يغين على لياله‪.‬‬

‫ومن هنا جتد تفاسري أهل السنة تظهر فيها عقيدة أهل السنة‪ ،‬وتفاسري املعتزلة تظهر فيها عقيدة‬
‫االعتزال‪ ،‬والشيعة تظهر يف تفاسريهم عقيدة التشيع‪ ،‬وهلم ‪ ..‬وهلم‪.‬‬
‫وقد تكلمنا حتت العنوان السابق على مناذج من تفاسري أهل السنة‪ ،‬فلنتكلم هنا على مناذج من‬
‫تفاسري الفرق املختلفة‪.‬‬
‫تفاسري املعتزلة‬
‫وخنتار منها كتاب الكشاف للزخمشري‪ :‬وصاحبه هو حممود بن عمر بن حممد ابن عمر النحوي‬
‫اللغوي املعتزيل امللقب جبار هللا‪ ،‬ولد سنة (‪ 467‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪ 538‬هـ)‪ ،‬بعد أن برع يف اللغة‬
‫واألدب والنحو‪ ،‬ومعرفة أنساب العرب حىت فاق أقرانه‪ُ ،‬ث تظاهر ابالعتزال ودعا إليه‪.‬‬
‫وكتابه خري كتاب أو من خري الكتب اليت يرجع إليها يف التفسري من انحية البالغة‪،‬‬

‫(‪)157/1‬‬

‫رغم نزعته االعتزالية‪ ،‬وأغلب التفاسري من بعده أخذت منه واعتمدت عليه‪.‬‬
‫وميتاز الكشاف أبمور‪ :‬منها‪ :‬خلوه من احلشو والتطويل‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬سالمته من القصص واإلسرائيليات‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اعتماده يف بيان املعاين على لغة العرب وأساليبهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬عنايته بعلمي املعاين والبيان والنكات البالغية‪ ،‬حتقيقا لوجوه اإلعجاز‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال واجلواب كثريا‪ ،‬ويعنون السؤال بكلمة «إن قلت»‬
‫بفتح التاء‪ ،‬ويعنون اجلواب بكلمة «قلت» بضم التاء‪.‬‬
‫وللكشاف حواش كثرية منها‪ :‬حاشية ابن كمال ابشازاده‪ ،‬وحاشية عالء الدين املعروف ابلبهلوان‪،‬‬
‫وحاشية الشيخ حيدر‪ ،‬وحاشية الرهاوي‪.‬‬

‫تفاسري الباطنية‬
‫الباطنية قوم رفضوا األخذ بظاهر القرآن وقالوا‪ :‬للقرآن ظاهر وابطن‪ ،‬واملراد منه ابطنه دون ظاهره‪،‬‬
‫ذاب [سورة‬ ‫ِ ِ ِ ِِ‬ ‫ض ِرب بـيـنـهم بِسوٍر لَه ابب ِ‬
‫ابطنُهُ فِ ِيه َّ‬
‫الر ْمحَةُ َوظاه ُرهُ م ْن قبَله ال َْع ُ‬ ‫ويستدلون بقوله تعاىل‪ :‬فَ ُ َ َ ْ َ ُ ْ ُ ُ ٌ‬
‫احلديد آية‪ ،]13 :‬وهم فرق متعددة على املثال اآليت‪:‬‬
‫منهم القرامطة‪ :‬نسبة إىل محدان قرمط؛ وقرمط إحدى قرى واسط‪ ،‬وهو الذي تزعمهم فيما ذهبوا‬
‫إليه‪.‬‬
‫واإلمساعيلية‪ :‬نسبة إىل إمساعيل‪ ،‬أكرب أوالد جعفر الصادق؛ وذلك ألهنم كانوا يعتقدون اإلمامة فيه‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬إهنم مسوا إمساعيلية؛ النتساهبم إىل حممد بن إمساعيل‪.‬‬
‫والسبعية‪ :‬نسبة إىل عدد السبعة‪ ،‬وذلك ألهنم يعتقدون أن يف كل سبعة إماما يقتدى به‪.‬‬
‫ومذهب الباطنية على عمومه وابء انتقل إليهم بطريق العدوى من اجملوس‪.‬‬
‫داو َد [سورة النمل‬
‫ث ُسلَْيما ُن ُ‬‫ومن أتويالهتم الفاسدة يف القرآن أهنم يقولون يف تفسري قوله تعاىل‪َ :‬وَوِر َ‬
‫آية‪ ،]16 :‬أن اإلمام عليّا ورث النيب يف عمله‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬معىن اجلنابة أهنا مبادرة املستجيب إبفشاء السر قبل أن ينال رتبة االستحقاق‪.‬‬
‫ومعىن الغسل‪ :‬جتديد العهد على من فعل ذلك‪.‬‬
‫ومعىن الطهارة‪ :‬التربي من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة اإلمام‪.‬‬

‫(‪)158/1‬‬

‫ومعىن التيمم‪ :‬األخذ من املأذون إىل أن يشاهد الداعي اإلمام‪.‬‬


‫ومعىن الصيام‪ :‬اإلمساك عن كشف السر‪.‬‬
‫علي و (الصفا) هو النيب صلّى هللا‬
‫ويقولون‪ :‬إن «الكعبة» هي النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬و (الباب) ّ‬
‫علي‪ ،‬و (انر إبراهيم) هي غضب النمرود عليه‪ ،‬و (عصا موسى) هي حجته‬
‫عليه وسلم‪ ،‬و (املروة) ّ‬
‫إىل غري ذلك من اخلرافات اليت ال يقبلها عقل وال يؤيدها نقل‪.‬‬
‫وهذه التأويالت الفاسدة من أشد وأنكى ما يصاب به اإلسالم واملسلمون؛ ألهنا تؤدي إىل نقض بناء‬
‫الشريعة حجرا حجرا وإىل اخلروج من ربقة اإلسالم وحل عراه عروة عروة‪.‬‬

‫تفاسري الشيعة‬
‫علي وتقديرها إايه‪ ،‬واملبالغة واإلسراف يف شأنه إىل حد‬
‫الشيعة‪ :‬طائفة كبرية ابلغت يف حبها لإلمام ّ‬
‫أوقعهم يف الرذائل‪.‬‬
‫يقول علماء األخالق‪ :‬الفضيلة وسط بني رذيلتني‪ ،‬ويقولون‪ :‬إذا خرج الشيء عن حده عاد إىل‬
‫ضده‪.‬‬
‫ولذا أمر اإلسالم ابالعتدال حىت يف حب النيب صلّى هللا عليه وسلم وتقديره‪.‬‬
‫ك لِنَـ ْف ِسي نَـ ْفعاً َوال َ ِ‬ ‫يقول هللا تعاىل لنبيه‪ :‬قُ ْل ال أ َْملِ ُ‬
‫ب‬‫ت أَ ْعلَ ُم الْغَْي َ‬
‫اَّللُ َولَ ْو ُك ْن ُ‬ ‫ض ارا إ َّال ما َ‬
‫شاء َّ‬
‫السوءُ إِ ْن أ ََان إَِّال نَ ِذ ٌير َوبَ ِشريٌ لَِق ْوٍم يُـ ْؤِمنُو َن [سورة األعراف آية‪:‬‬
‫ين ُّ‬‫سِ َ‬ ‫ت ِم َن ْ‬
‫اخلَ ِْري َوما َم َّ‬ ‫َال ْستَ ْكثَـ ْر ُ‬
‫‪.]188‬‬
‫ويقول النيب صلّى هللا عليه وسلم ألمته‪« :‬ال تطروين (متدحوين) كما أطرت النصارى ابن مرمي‪ ،‬ولكن‬
‫قولوا عبد هللا ورسوله»‪.‬‬
‫ولكن الشيعة ابلغوا وأسرفوا يف حب اإلمام وتقديره‪ ،‬وهم فرق كثرية‪.‬‬
‫فمنهم من أغرق يف نفس التشيع حىت كفر‪ ،‬وعلى رأس هؤالء عبد هللا بن سبأ اليهودي عدو هللا‬
‫الذي ما أظهر اإلسالم إال بقصد الكيد له واإلفساد فيه‪ ،‬وهلذا كانت تلك الفرقة يف موقف خصومة‬
‫وحرب من املسلمني‪ ،‬حىت ورد أن اإلمام عليّا نفسه شن الغارة عليهم وحارهبم وطاردهم‪.‬‬
‫ومنهم قوم معتدلون مل يسقطوا يف هاوية الكفر‪ ،‬وإن خالفوا أهل السنة واجلماعة يف تفضيل أيب بكر‬
‫علي يف اخلالفة‪ -‬رضي هللا عنهم أمجعني‪ -‬وهلؤالء مذاهب‬
‫وعمر وعثمان‪ ،‬وتقدميهم على اإلمام ّ‬
‫ودراسات وكتب وتفسريات‪ ،‬وأدلة وأتويالت‪.‬‬

‫(‪)159/1‬‬

‫يسمى «مرآة األنوار ومشكاة األسرار» مؤلفه يدعى املوىل عبد اللطيف‬
‫ومن تفاسري الشيعة كتاب ّ‬
‫الكازالين من النجف‪ ،‬وهذا التفسري مشتمل على أتويالت تشبه أتويالت الباطنية السابقة‪ ،‬فاألرض‬
‫يفسرها ابلدين‪ ،‬وابألئمة عليهم السالم‪ ،‬وابلشيعة‪ ،‬وابلقلوب اليت هي حمل العلم وقراره‪ ،‬وأبخبار‬
‫هاج ُروا فِيها [سورة النساء‬ ‫األمم املاضية ‪ ...‬إخل‪ ،‬فيقول يف قوله تعاىل‪ :‬أََمل تَ ُكن أَرض َِّ ِ‬
‫واسعةً فَـتُ ِ‬
‫اَّلل َ‬ ‫ْ ْ ْ ُ‬
‫آية‪ ]97 :‬املراد دين هللا وكتاب هللا‪.‬‬
‫ريوا ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض [سورة احلج آية‪ .]46 :‬املراد‪ :‬أومل ينظروا يف القرآن‪.‬‬ ‫ويقول يف قوله تعاىل‪ :‬أَفَـلَ ْم يَس ُ‬
‫فأنت ترى أنه قد محل اللفظ الذي ال جيهله أحد على معان غريبة من غري دليل‪ ،‬وما محله على ذلك‬
‫إال مركب اهلوى‪ ،‬والتعصب األعمى ملذهبه‪.‬‬
‫اَّلل فَما لَهُ ِمن ٍ‬ ‫وذلك ال شك ضالل ال يقل عن ضالل الباطنية والبهائية‪ :‬ومن ي ْ ِ‬
‫هاد [سورة‬ ‫ْ‬ ‫ضل ِل َُّ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫الزمر آية‪.]23 :‬‬

‫التفسري اإلشاري‪:‬‬
‫وهو أتويل القرآن بغري ظاهره إلشارة خفية تظهر ألرابب السلوك والتصوف‪ ،‬وميكن اجلمع بينها وبني‬
‫الظاهر املراد أيضا‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف التفسري املذكور‪ ،‬فمنهم من أجازه‪ ،‬ومنهم من منعه‪ ،‬وإليك شيئا من أقوال‬
‫العلماء لتعرف وجه احلق يف ذلك‪.‬‬
‫قال الزركشي يف الربهان‪ :‬كالم الصوفية يف تفسري القرآن قيل‪ :‬إنه ليس بتفسري‪ ،‬وإمنا هو معان‬
‫آمنُوا قاتِلُوا الَّ ِذي َن يَـلُونَ ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ومواجيد جيدوهنا عند التالوة‪ ،‬كقول بعضهم يف قوله تعاىل‪ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ِم َن الْ ُك َّفا ِر [سورة التوبة آية‪ ]123 :‬أن املراد‪ :‬النفس‪ ،‬يريدون أن علة األمر بقتال من يلينا هي‬
‫القرب‪ ،‬وأقرب شيء إىل اإلنسان نفسه‪.‬‬
‫وقال ابن الصالح يف فتاويه‪ :‬وجدت عن اإلمام أيب احلسن الواحدي املفسر أنه قال‪ :‬صنف أبو عبد‬
‫الرمحن السلمي حقائق يف التفسري‪ ،‬فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسري فقد كفر‪.‬‬
‫قال ابن الصالح‪ :‬وأان أقول‪ :‬الظن ِبن يوثق به منه إذا قال شيئا من ذلك أنه مل يذكره تفسريا‪ ،‬وال‬
‫ذهب به مذهب الشرح للكلمة؛ فإنه لو كان كذلك لكانوا قد سلكوا مسلك الباطنية؛ وإمنا ذلك‬
‫منهم تنظري ملا ورد به القرآن‪ .‬فإن النظري يذكر ابلنظري‪ ،‬ومع ذلك فيا ليتهم مل يتساهلوا ِبثل ذلك ملا‬
‫فيه من اإلهبام وااللتباس‪.‬‬
‫وقال النسفي يف عقائده‪ :‬النصوص على ظواهرها‪ ،‬والعدول عنها إىل معان يدعيها‬

‫(‪)160/1‬‬
‫أهل الباطل إحلاد‪ .‬اه‪.‬‬
‫قال التفتازاين يف شرحه‪ :‬مسّيت املالحدة ابطنية الدعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها‪ ،‬بل هلا‬
‫معان ال يعرفها إال املعلم‪ .‬وقصدهم بذلك نفي الشريعة ابلكلية‪ .‬قال‪:‬‬
‫وأما ما يذهب إليه بعض احملققني من أن النصوص على ظواهرها‪ ،‬ومع ذلك ففيها إشارات خفية إىل‬
‫دقائق تنكشف ألرابب السلوك ميكن التوفيق بينها وبني الظواهر املرادة؛ فهو من كمال اإلميان‬
‫وحمض العرفان‪.‬‬
‫ومن هنا يعلم الفرق بني تفسري الصوفية املسمى ابلتفسري اإلشاري‪ ،‬وبني تفسري الباطنية املالحدة؛‬
‫فالصوفية ال مينعون إرادة الظاهر؛ بل حيضون عليه ويقولون‪ :‬ال بد منه أوال؛ إذ من ادعى فهم أسرار‬
‫القرآن ومل حيكم الظاهر‪ ،‬كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن جياوز الباب‪.‬‬
‫أما الباطنية فإهنم يقولون‪ :‬إن الظاهر غري مراد أصال‪ ،‬وإمنا املراد الباطن‪ .‬وقصدهم نفي الشريعة‪.‬‬

‫أهم كتب التفسري اإلشاري‪:‬‬


‫وأهم كتب التفسري اإلشاري أربعة‪ :‬تفسري النيسابوري‪ ،‬وتفسري األلوسي وتفسري التسرتي‪ ،‬وتفسري‬
‫حميي الدين بن عريب‪.‬‬
‫‪ - 1‬أما تفسري النيسابوري‪ :‬فقد تقدم الكالم عليه‪ ،‬وبقي أن نذكر لك عنه أنه بعد أن يويف الكالم‬
‫على ظاهر معىن اآلية أو اآلايت يقول‪ :‬قال أهل اإلشارة‪ .‬أو يقول‪:‬‬
‫«التأويل» ُث يسوق املعىن اإلشاري لتلك اآلية أو اآلايت حتت هذا العنوان‪ .‬مثال ذلك‪:‬‬
‫قال ُموسى لَِق ْوِم ِه إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ َأي ُْم ُرُك ْم أَ ْن تَ ْذ َحبُوا بَـ َق َرةً [سورة‬ ‫أنه قال بعد التفسري الظاهر لقوله تعاىل‪َ :‬وإِ ْذ َ‬
‫البقرة آية‪ ]67 :‬قال ما نصه‪ :‬التأويل‪ :‬ذبح البقرة إشارة إىل ذبح النفس البهيمية فإن يف ذحبها حياة‬
‫القلب الروحاين‪ ،‬وهو اجلهاد األكرب‪« .‬موتوا قبل أن متوتوا»‪.‬‬
‫‪ - 2‬وأما تفسري األلوسي‪ :‬فامسه «روح املعاين»‪ .‬ومؤلفه العالمة احملقق شهاب الدين السيد حممد‬
‫أجل التفاسري وأوسعها‬
‫األلوسي البغدادي مفيت بغداد املتوىف سنة (‪ 1270‬م) وهذا التفسري من ّ‬
‫وأمجعها‪ .‬نظم فيه رواايت السلف جبانب آراء اخللف املقبولة‪.‬‬
‫وألف فيه بني ما يفهم بطريق العبارة‪ .‬وما يفهم بطريق اإلشارة‪ ،‬رمحه هللا وجتاوز عنه‪.‬‬
‫ومما قاله يف التفسري اإلشاري بعد أن فسر قوله تعاىل‪َ :‬وإِ ْذ قُـلْتُ ْم اي ُموسى لَ ْن نُـ ْؤِم َن لَ َ‬
‫ك َح َّىت نَـ َرى َّ‬
‫اَّللَ‬
‫الص ِ‬
‫اع َقةُ َوأَنْـتُ ْم تَـ ْنظُُرو َن [سورة البقرة آية‪ ]55 :‬إخل اآلايت‬ ‫َخ َذتْ ُك ُم َّ‬
‫َج ْه َرةً فَأ َ‬

‫(‪)161/1‬‬
‫بعدها قال ما نصه‪ :‬ومن مقام اإلشارة يف اآلايت‪ .‬وإذا قلتم‪ :‬اي موسى القلب‪ ،‬لن نؤمن اإلميان‬
‫احلقيقي حىت نصل إىل مقام املشاهدة والعيان‪ .‬فأخذتكم صاعقة املوت الذي هو الفناء يف التجلي‬
‫الذايت‪ ،‬وأنتم تراقبون أو تشاهدون‪ُ .‬ث بعثناكم ابحلياة احلقيقة‪ ،‬والبقاء بعد الفناء‪ ،‬لكي تشكروا نعمة‬
‫وجل‪ ،‬وظللنا عليكم غمام جتلي الصفات‪ ،‬لكوهنا حجبت‬
‫عز ّ‬‫التوحيد والوصول ابلسلوك يف هللا ّ‬
‫مشس الذات إخل ما قال‪.‬‬
‫‪ - 3‬تفسري التسرتي‪ :‬هو أبو حممد سهل بن عبد هللا التسرتي املتوىف سنة (‪ 383‬هـ) وتفسريه هذا مل‬
‫يستوعب كل اآلايت‪ ،‬وإن استوعب السور‪ ،‬وقد سلك فيه مسلك الصوفية مع موافقته ألهل‬
‫الظاهر‪.‬‬
‫وإليك منوذجا منه؛ إذ يقول يف تفسري البسملة ما نصه‪:‬‬
‫عز وجل (وهللا) هو االسم‬
‫عز وجل (امليم) جمد هللا ّ‬
‫وجل (السني) سناء هللا ّ‬
‫عز ّ‬‫(الباء) هباء هللا ّ‬
‫األعظم الذي حوى األمساء كلها ‪ ...‬إخل‪.‬‬

‫نصيحة خالصة‪:‬‬
‫بيد أن هذا التفسري كما ترى جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان املعاين الوضعية‬
‫للنصوص القرآنية‪ .‬وهنا اخلطر كل اخلطر؛ فإنه خياف على مطالعه أن يفهم أن هذه املعاين اإلشارية‬
‫هي مراد اخلالق إىل خلقه يف اهلداية إىل تعاليم اإلسالم‪ ،‬واإلرشاد إىل حقائق هذا الدين الذي ارتضاه‬
‫هلم‪.‬‬
‫ولعلك تالحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا ابإلقبال على دراسة تلك اإلشارات واخلواطر‪ ،‬فدخل‬
‫يف روعهم أن الكتاب والسنة بل اإلسالم كله ما هو إال سوانح وواردات‪،‬‬
‫على هذا النحو من التأويالت والتوجيهات‪ ،‬وزعموا أن األمر ما هو إال ختييالت‪ ،‬وأن املطلوب منهم‬
‫هو الشطح مع اخليال أينما شطح‪ ،‬فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة‪ .‬ومل حيرتموا قوانني اللغة العربية يف‬
‫فهم أبلغ النصوص العربية كتاب هللا وسنة رسوله صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫واألدهى من ذلك‪ :‬أهنم يتخيلون وخييّلون إىل الناس أهنم هم أهل احلقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا‬
‫ابهلل اتصاال أسقط عنهم التكليف‪ ،‬ومسا هبم عن حضيض األخذ ابألسباب‪ ،‬ما داموا يف زعمهم مع‬
‫رب األرابب‪ ،‬وهذا‪ -‬لعمر هللا‪ -‬هو املصاب العظيم‪ ،‬الذي عمل له الباطنية وأضراهبم من أعداء‬
‫اإلسالم‪ ،‬كيما يهدموا التشريع من أصوله‪ ،‬وأيتوا بنيانه من قواعده‪ :‬ي ِري ُدو َن أَ ْن يط ِْف ُؤا نُور َِّ‬
‫اَّلل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِأبَفْ ِ‬
‫واه ِه ْم‬

‫(‪)162/1‬‬

‫ورهُ َولَ ْو َك ِرهَ الْكافِ ُرو َن [سورة التوبة آية‪.]32 :‬‬ ‫ِ‬
‫اَّللُ إَِّال أَ ْن يُت َّم نُ َ‬
‫َو َأي َْىب َّ‬
‫فواجب النصح إلخواننا املسلمني يقتضينا أن حن ّذرهم الوقوع يف هذه الشباك‪ ،‬ونشري عليهم أن‬
‫ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسري اإلشارية امللتوية‪ ،‬وال يعولوا على أشباهها مما ورد يف كالم‬
‫القوم ابلكتب الصوفية؛ ألهنا كلها أذواق ومواجيد خارجة عن حدود الضبط والتقييد‪ .‬وكثريا ما‬
‫خيتلط فيها اخليال ابحلقيقة واحلق ابلباطل‪ ،‬وإذ جتردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل‪ ،‬وإذا‬
‫ظهر فقد يكون من الكفرايت الفاحشة‪ ،‬اليت نستبعد صدورها من العلماء واملتصوفة‪ ،‬بل من صادقي‬
‫عامة املسلمني‪ ،‬واليت نرى أن الطعن فيها ابلدس والوضع أقرب وأسلم من الطعن فيمن عزيت إليه‬
‫ابلكفر والفسق‪.‬‬
‫إن أسوأ ما يف هذه الكتب‪ :‬أهنا توهم الضعفاء يف فهم الشريعة واجلاهلني هبا أن ما فيها هو احلقيقة‬
‫اليت وصلت إليها قلوب العابدين أو املفتونني‪ ،‬واحلقيقة أن هذه العلوم طمس للحقيقة اليت أنزهلا هللا‬
‫تعاىل وبينها وشرحها رسوله صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وما هذه الشطحات إال نوع من اخلبل يراد منه‬
‫صرف الناس عن احلقائق اإلهلية اليت جاءت يف الكتاب والسنة؛ فأحيت أمة‪ ،‬وأقامت لإلسالم دولة‪،‬‬
‫وأعزت شعواب كانت مغمورة‪ ،‬وحررت إنسانية كانت مستعبدة لشياطني اإلنس واجلن‪ ،‬وشادت‬
‫لإلنسانية صروحا من العلوم والفنون؛ قامت على أصول رابنية‪ ،‬وأعمدة نورانية‪ ،‬حتت مظلة من‬
‫السعادة والسيادة اليت مل ير العامل مثيال هلا‪ .‬اه‪.‬‬
‫فاألحرى ابلفطن العاقل‪ ،‬أن ينأى بنفسه عن هذه املزالق‪ ،‬وأن يفر بدينه من هذه الشبهات‪ ،‬وأمامه‬
‫يف الكتاب والسنة وشروحهما على قوانني الشريعة واللغة رايض وجنات أَتَ ْستَـ ْب ِدلُو َن الَّ ِذي ُه َو أَ ْدىن‬
‫ِ‬
‫ِابلَّذي ُه َو َخ ٌْ‬
‫ري [سورة البقرة آية‪]61 :‬؟!‬
‫قال صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬فمن اتقى الشبهات فقد استربأ لدينه وعرضه»‪.‬‬
‫وقال صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬دع ما يريبك إىل ما ال يريبك»‪.‬‬
‫وابهلل تعاىل توفيقي وتوفيقك‪ .‬نسأل هللا تعاىل أن خيرجنا من ظلمات األوهام‪ ،‬وأن حيققنا حبقائق الدين‬
‫وتعاليم اإلسالم آمني‪ .‬اه «‪.»1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬من املناهل بتصرف قليل‪.‬‬

‫(‪)163/1‬‬

‫علوم احلديث‬
‫أمهية علوم احلديث‬
‫إن املسلمني اشتدت عنايتهم‪ -‬من عهد الصدر األول‪ -‬حبفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة‪،‬‬
‫ِبا مل تعن به أمة قبلها‪ ،‬فحفظوا القرآن‪ ،‬ورووه عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم متواترا آية آية‪،‬‬
‫وكلمة كلمة‪ ،‬وحرفا حرفا‪ ،‬حفظا يف الصدور‪ ،‬وإثباات ابلكتابة يف املصاحف‪ ،‬حىت رووا أوجه نقطه‬
‫بلهجات القبائل‪ ،‬ورووا طرق رمسه يف املصحف‪ ،‬وألفوا يف ذلك كتبا مطولة وافية‪ ،‬وحفظوا‪ -‬أيضا‪-‬‬
‫واملبني لشرعه‪ ،‬واملأمور إبقامة دينه‪ ،‬وكل‬
‫عن نبيهم كل أقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وأحواله‪ ،‬وهو املبلّغ عن ربه‪ّ ،‬‬
‫أقواله وأفعاله وأحواله بيان للقرآن‪ ،‬وهو الرسول املعصوم‪ ،‬واألسوة احلسنة الذي قال هللا تعاىل يف‬
‫صفته‪َ :‬وما يَـ ْن ِط ُق َع ِن ا ْهلَوى (‪ )3‬إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُوحى [سورة النجم آية‪.]4 ،3 :‬‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس ما نُـ ِّز َل إِلَْي ِه ْم َولَ َعلَّ ُه ْم يَـتَـ َف َّك ُرو َن [سورة النحل آية‪.]44 :‬‬ ‫وقال له‪ :‬وأَنْـزلْنا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك ال ّذ ْك َر لتُـبَِّ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫وكان عبد هللا بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فنهته‬
‫قريش‪ ،‬فذكر ذلك للرسول صلّى هللا عليه وسلم فقال‪« :‬اكتب‪ ،‬فو الذي نفسي بيده ما خرج مين‬
‫إال حق»‪[ .‬رواه أمحد يف املسند إبسناد صحيح‪ .‬ورواه أيضا أبو داود‪ ،‬واحلاكم وغريمها]‪.‬‬
‫عاما‪ ،‬فقال‪« :‬وليبلّغ الشاهد‬
‫وأمر صلّى هللا عليه وسلم املسلمني يف حجة الوداع ابلتبليغ عنه أمرا ّ‬
‫الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه» [رواه البخاري وغريه]‪.‬‬
‫فرب مبلّغ أوعى من سامع» [رواه البخاري‬
‫وقال صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬فليبلّغ الشاهد الغائب‪ّ ،‬‬
‫وغريه]‪.‬‬
‫ففهم املسلمون من كل هذا أنه جيب عليهم أن حيفظوا عن رسوهلم كل شيء‪ ،‬وقد فعلوا‪ ،‬وأ ّدوا‬
‫األمانة على وجهها‪ ،‬ورووا األحاديث عنه صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬واجتهد علماء احلديث يف رواية كل‬
‫ما رواه عنه الرواة‪ ،‬وإن مل يكن صحيحا عندهم‪ُ ،‬ث اجتهدوا يف التوثق من صحة كل حديث‪ ،‬وكل‬
‫حرف رواه الرواة‪ ،‬ونقدوا أحواهلم ورواايهتم‪ ،‬واحتاطوا أشد االحتياط يف النقل‪ ،‬فكانوا حيكمون‬
‫بضعف احلديث ألقل شبهة يف سرية الناقل الشخصية‪ ،‬مما يؤثر يف العدالة‪ ،‬أما إذا اشتبهوا يف صدقه‪،‬‬
‫أو علموا أنه كذب يف شيء من كالمه؛ فقد رفضوا روايته‪ ،‬ومسوا حديثه «موضوعا» أو «مكذواب»‬
‫وإن مل يعرف عنه الكذب يف رواية احلديث‪ ،‬مع علمهم أبنه قد يصدق الكذوب‪.‬‬
‫وكذلك توثقوا من حفظ كل راو‪ ،‬وقارنوا رواايته بعضها ببعض‪ ،‬وبرواايت غريه‪،‬‬

‫(‪)165/1‬‬

‫فإن وجدوا منه خطأ كثريا وحفظا غري جيد‪ :‬ضعفوا روايته‪ ،‬وإن كان ال مطعن عليه يف شخصه وال يف‬
‫صدقه‪ ،‬خشية أن تكون روايته مما خانه فيه احلفظ‪.‬‬
‫وقد حرروا القواعد اليت وضعوها لقبول احلديث‪ ،‬وهي قواعد هذا الفن‪ ،‬وحققوها أبقصى ما يف‬
‫الوسع اإلنساين‪ ،‬احتياطا لدينهم‪ .‬فكانت قواعدهم اليت ساروا عليها أصح القواعد وأعالها وأدقها‪.‬‬
‫وقلدهم فيها العلماء يف أكثر الفنون النقلية‪ ،‬فقلدهم علماء اللغة‪ ،‬وعلماء األدب‪ ،‬وعلماء التاريخ‪،‬‬
‫وغريهم‪ ،‬فاجتهدوا يف رواية كل نقل يف علومهم إبسناده‪ ،‬كما تراه يف كتب املتقدمني السابقني‪،‬‬
‫وطبقوا قواعد هذا العلم عند إرادة التوثق من صحة النقل يف أي شيء يرجع فيه إىل النقل‪.‬‬
‫فهذا العلم يف احلقيقة أساس لكل العلوم النقلية‪ ،‬وهو جدير ِبا وصفه به صديقي وأخي العالمة‬
‫الشيخ حممد عبد الرزاق محزة من أنه (منطق املنقول وميزان تصحيح األخبار) اه «‪.»1‬‬

‫املصنفون يف هذا العلم‬


‫قال ابن حجر العسقالين‪ :‬وأول من صنف يف ذلك القاضي أبو حممد الرامهرمزي (احلسن بن عبد‬
‫الرمحن الذي (عاش إىل قريب سنة ‪ 360‬هـ) يف كتابه «احملدث الفاضل»‪ ،‬لكنه مل يستوعب‪ ،‬واحلاكم‬
‫أبو عبد هللا النيسابوري املتوىف سنة (‪ 405‬هـ) لكنه مل يهذب ومل يرتب‪.‬‬
‫وتاله أبو نعيم األصبهاين صاحب «حلية األولياء» املتوىف سنة (‪ 430‬هـ)‪ .‬وجاء بعدهم اخلطيب أبو‬
‫بكر البغدادي‪ :‬أمحد بن علي بن اثبت صاحب اتريخ بغداد وغريه‪ ،‬املتويف سنة (‪ 463‬هـ) فصنف يف‬
‫وقل فن‬
‫قوانني الرواية كتااب مساه «الكفاية» ويف آداهبا كتااب مساه «اجلامع آلداب الشيخ والسامع»‪ّ .‬‬
‫من فنون احلديث إال وقد صنف فيه كتااب مفردا‪ ،‬فكان كما قال احلافظ أبو بكر بن نقطة‪ :‬كل من‬
‫أنصف علم أن احملدثني بعد اخلطيب عيال على كتبه‪.‬‬
‫ُث جاء بعدهم بعض من أتخر عن اخلطيب‪ ،‬فأخذ من هذا العلم بنصيب‪ ،‬فجمع القاضي عياض بن‬
‫موسى اليحصيب األندلسي املتوىف سنة (‪ 544‬هـ) كتااب مساه «اإلملاع» إىل أن جاء احلافظ الفقيه تقي‬
‫الدين أبو عمرو عثمان بن الصالح بن عبد الرمحن الشهرزوري نزيل دمشق املتوىف سنة (‪ 643‬هـ)‪،‬‬
‫فجمع ملّا توىل تدريس احلديث ابملدرسة األشرفية كتابه املشهور «علوم احلديث» الشهري ب «مقدمة‬
‫ابن الصالح» فهذب فنونه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ابختصار من كالم الشيخ أمحد شاكر‪.‬‬

‫(‪)166/1‬‬

‫وأماله شيئا بعد شيء‪ ،‬فلهذا مل حيصل ترتيبه على الوضع املناسب‪ ،‬واعتىن بتصانيف اخلطيب‬
‫املفرقة‪ ،‬فجمع شتات مقاصدها‪ ،‬وضم إليها من غريها خنب فوائدها‪ ،‬فاجتمع يف كتابه ما تفرق يف‬
‫غريه‪ ،‬فلهذا عكف الناس عليه‪ ،‬وساروا بسريه‪ ،‬فال حيصى كم انظم له وخمتصر‪ ،‬ومستدرك ومقتصر‪،‬‬
‫ومعارض له ومنتصر» اه كالم احلافظ ابختصار‪.‬‬
‫فقد ظهر لك بشهادة احلافظ ابن حجر أن كتاب ابن الصالح رمحه هللا مجع شتات الكتب وعيوهنا‪،‬‬
‫من كتب اخلطيب وغريها ممن تقدمه وأتخر‪.‬‬
‫ُث جاء اإلمام ابن كثري الفقيه احلافظ املفسر فاختصرها يف رسالة لطيفة مساها «الباعث احلثيث على‬
‫معرفة علوم احلديث» بعبارة سهلة فصيحة‪ ،‬ومجل مفهومة مليحة‪ ،‬واستدرك على ابن الصالح‬
‫فسهل على طالب الفن تناوله يف رسالة وسط وخري األمور‬
‫استدراكات مفيدة‪ ،‬يبدؤها بقوله «قلت» ّ‬
‫خمال‪ ،‬وال أطاهلا تطويال منتشرا مشوشا‪ ،‬فكانت خطوة أوىل‬
‫أوساطها‪ -‬مل خيتصرها اختصارا مضغوطا ّ‬
‫ومرحلة ابتدائية‪ ،‬يدرسها الطالب‪ ،‬فريتقي منها إىل دراسة أصلها وما بعده من كتب األئمة‪ ،‬حىت‬
‫ينتهي إىل التحقيق فيديل بدلوه مع ال ّدالء‪ .‬اه كالم الشيخ حممد عبد الرزاق محزة ابختصار‪.‬‬
‫وقد ألّف الشيخ أمحد شاكر شرحا على الباعث احلثيث مجع فيه أهم ما قاله العلماء يف كل قضية‬
‫احتاجت إىل زايدة يف البحث أو ترجيح لرأي على آخر‪ ،‬أو ذكر ألسباب االختالف‪ ،‬أو إطناب ال‬
‫بد منه ليتسع فهم طالب العلم‪ ،‬وليكون على بصرية كافية يف دراسته لعلوم احلديث حبيث ال حيتاج‬
‫إىل غري هذا الكتاب إال إذا أراد توسعا ذا ختصص‪ ،‬أو كان ممن ال يكتفي من العلم إال ابإلحاطة بكل‬
‫ما قيل فيه على قدر طاقته‪ .‬فجزى هللا اجلميع خري اجلزاء ورمحهم رمحة واسعة‪.‬‬

‫ألقاب احملدثني‬
‫قال أمحد شاكر‪ :‬واعلم أنه قد أطلق احملدثون ألقااب على العلماء ابحلديث‪.‬‬
‫فأعالها‪« :‬أمري املؤمنني يف احلديث» وهذا لقب مل يظفر به إال األفذاذ النوادر‪ ،‬الذين هم أئمة هذا‬
‫الشأن‪ ،‬واملرجع إليهم فيه‪ ،‬كشعبة بن احلجاج‪ ،‬وسفيان الثوري‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وأمحد بن‬
‫حنبل‪ ،‬والبخاري‪ ،‬والدارقطين‪ ،‬ويف املتأخرين ابن حجر العسقالين‪ ،‬رضي هللا عنهم مجيعا‪.‬‬
‫ُث يليه‪« :‬احلافظ» وقد ّبني احلافظ املزي احلد الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه احلافظ‬
‫فقال‪ :‬أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف ترامجهم وأحواهلم‬

‫(‪)167/1‬‬

‫وبلداهنم‪ :‬أكثر من الذين ال يعرفهم‪ ،‬ليكونوا احلكم للغالب»‪ .‬فقال له التقي السبكي‪:‬‬
‫هذا عزيز يف هذا الزمان‪ ،‬أدركت أنت أحدا كذلك؟‪ .‬فقال‪ :‬ما رأينا مثل الشيخ الدمياطي‪ُ ،‬ث قال‪:‬‬
‫راي من الثّرى؟!‬
‫وابن دقيق العيد كان له يف هذا مشاركة جيدة‪ ،‬ولكن أين الثّ ّ‬
‫فقال السبكي‪ :‬كان يصل إىل هذا احلد؟ قال‪ :‬ما هو إال أنه كان يشارك مشاركة جيدة يف هذا‪ ،‬أعين‬
‫يف األسانيد‪ ،‬وكان يف املتون أكثر‪ ،‬ألجل الفقه واألصول‪.‬‬
‫وقال أبو الفتح بن سيد الناس‪ّ :‬أما احمل ّدث يف عصران‪ ،‬فهو من اشتغل ابحلديث رواية ودراية‪ ،‬ومجع‬
‫رواته‪ ،‬واطّلع على كثري من الرواة والرواايت يف عصره ومتيز يف ذلك‪ ،‬حىت عرف فيه خطه‪ ،‬واشتهر‬
‫ضبطه‪ ،‬فإن توسع يف ذلك حىت عرف شيوخه وشيوخ شيوخه‪ ،‬طبقة بعد طبقة‪ ،‬حبيث يكون ما يعرفه‬
‫من كل طبقة أكثر مما جيهله‪ ،‬فهذا هو احلافظ‪.‬‬
‫وسأل شيخ اإلسالم احلافظ أبو الفضل بن حجر العسقالين شيخه احلافظ أاب الفضل العراقي فقال‪:‬‬
‫ما يقول سيدي يف احلد الذي إذا بلغه الطالب يف هذا الزمن استحق أن يسمى حافظا؟ وهل يتسامح‬
‫بنقص بعض األوصاف اليت ذكرها املزي وأبو الفتح يف ذلك‪ ،‬لنقص زمانه‪ ،‬أم ال؟ فأجاب‪ :‬االجتهاد‬
‫يف تلك خيتلف ابختالف غلبة الظن يف وقت ببلوغ بعضهم للحفظ‪ ،‬وغلبته يف وقت آخر‪،‬‬
‫وابختالف من يكون كثري املخالطة للذي يصفه بذلك‪.‬‬
‫وكالم املزي فيه ضيق‪ ،‬حبيث مل يسم ممن رآه هبذا الوصف إال الدمياطي‪.‬‬
‫وأما كالم أيب الفتح فهو أسهل‪ ،‬أبن ينشط بعد معرفة شيوخه إىل شيوخ شيوخه وما فوق‪.‬‬
‫وال شك أن مجاعة من احلفاظ املتقدمني كان شيوخهم التابعني أو أتباع التابعني وشيوخ شيوخهم‬
‫الصحابة أو التابعني‪ ،‬فكان األمر يف ذلك الزمان أسهل‪ ،‬ابعتبار أتخر الزمان‪ ،‬فإن اكتفى بكون‬
‫احلافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه أو طبقة أخرى؛ فهو سهل ملن جعله فيه ذلك دون غريه من‬
‫حفظ املتون واألسانيد‪ ،‬ومعرفة أنواع علوم احلديث كلها‪ ،‬ومعرفة الصحيح من السقيم‪ ،‬واملعمول به‬
‫من غريه‪ ،‬واختالف العلماء‪ ،‬واستنباط األحكام‪ ،‬فهو أمر ممكن‪ .‬خبالف ما ذكر من مجيع ما ذكر؛‬
‫فإنه حيتاج إىل فراغ وطول عمر مع انتفاء املوانع‪.‬‬
‫وقد روي عن الزهري أنه قال‪ :‬ال يولد احلافظ إال يف كل أربعني سنة‪ .‬فإن صح كان املراد رتبة‬
‫الكمال يف احلفظ واإلتقان‪ ،‬وإن وجد يف زمانه من يوصف ابحلفظ‪ ،‬وكم من حافظ وغريه أحفظ منه‬
‫«‪.»1‬‬
‫وأدىن من «احلافظ» درجة يسمى «احمل ّدث»‪ .‬قال التاج السبكي يف كتابه‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬نقل ذلك كله السيوطي يف التدريب (ص ‪.)8 ،7‬‬

‫(‪)168/1‬‬

‫«معيد النعم» فيما نقله يف التدريب‪ :‬إمنا احملدث‪ :‬من عرف األسانيد والعلل‪ ،‬وأمساء الرجال‪ ،‬والعايل‬
‫والنازل‪ ،‬وحفظ مع ذلك مجلة مستكثرة من املتون‪ ،‬ومسع الكتب الستة‪ ،‬ومسند أمحد بن حنبل‪،‬‬
‫وسنن البيهقي‪ ،‬ومعجم الطرباين‪ ،‬وضم إىل هذا القدر ألف جزء من األجزاء احلديثية‪ ،‬وهذا أول‬
‫درجاته‪ ،‬فإذا مسع ما ذكرانه وكتب الطباق‪ ،‬ودار على الشيوخ‪ ،‬وتكلم يف العلل والوفيات واألسانيد؛‬
‫كان يف أول درجات احملدثني‪ُ ،‬ث يزيد هللا من يشاء ما يشاء‪.‬‬
‫ودون هذين من يسمى «املسند» ‪ -‬بكسر النون‪ -‬وهو الذي يقتصر على مساع األحاديث‬
‫وإمساعها‪ ،‬من غري معرفة بعلومها أو إتقان هلا‪ ،‬وهو الرواية فقط‪.‬‬

‫اصطالحات يف كتب احلديث‬


‫قال العالمة الشاه عبد العزيز احملدث الدهلوي يف العجالة النافعة ما نصه ابلعربية‪« :‬إن كتب احلديث‬
‫هلا طرق متنوعة كاجلوامع واملسانيد واملعاجم وغريها»‪ .‬وإليك تعريفا بكل منها‪:‬‬

‫اجلامع‪:‬‬
‫فالقسم األول‪ :‬هو اجلوامع‪ ،‬واجلامع يف اصطالح احملدثني‪ :‬ما يوجد فيه مجيع أقسام احلديث‪ :‬أي‬
‫أحاديث العقائد‪ ،‬وأحاديث األحكام‪ ،‬وأحاديث الرقاق‪ ،‬وأحاديث آداب األكل والشرب‪ ،‬وأحاديث‬
‫والسري‪ ،‬وأحاديث الفنت‪ ،‬وأحاديث‬
‫السفر‪ ،‬والقيام والقعود‪ ،‬واألحاديث املتعلقة ابلتفسري التاريخ ّ‬
‫املناقب واملثالب‪ .‬وقد صنّف أهل العلم ابحلديث يف كل فن من هذه الفنون الثمانية تصانيف مفردة‪.‬‬
‫فاجلامع‪ :‬ما يوجد فيه أمنوذج كل فن من هذه الفنون املذكورة‪ ،‬كاجلامع الصحيح للبخاري‪ ،‬واجلامع‬
‫الصحيح للرتمذي‪.‬‬
‫وأما صحيح مسلم‪ :‬فإنه وإن كانت فيه أحاديث تلك الفنون؛ لكن ليس فيه ما يتعلق بفن التفسري‬
‫والقراءة‪ ،‬وهلذا ال يقال له اجلامع كما يقال ألخويه‪.‬‬

‫املسند‪:‬‬
‫القسم الثاين من املصنفات يف احلديث‪ :‬املسانيد‪ :‬واملسند يف اصطالحهم‪ :‬ما ذكرت فيه أحاديث‬
‫الصحابة إما حسب الرتتيب اهلجائي ألمسائهم‪ ،‬وإما حسب سوابقهم اإلسالمية‪ ،‬وإما حسب شرف‬
‫النسب‪ ،‬فإن روعي الرتتيب اهلجائي ألمسائهم؛ فاألحاديث املروية عن أيب بكر الصديق رضي هللا عنه‬
‫تق ّدم‪ ،‬وكذا أحاديث أسامة‬

‫(‪)169/1‬‬

‫ابن زيد‪ ،‬وأنس بن مالك‪ ،‬وحنومها على أحاديث الصحابة اآلخرين‪ ،‬وإن مجع على السوابق‬
‫اإلسالمية؛ فتقدم العشرة املبشرين ابجلنة‪ ،‬وتذكر أحاديث اخللفاء الراشدين على الرتتيب‪ُ ،‬ث أحاديث‬
‫أهل بدر‪ ،‬وأهل احلديبية‪ُ ،‬ث مسلمة الفتح‪ُ ،‬ث أحاديث النسوة الصحابيات‪ ،‬وتقدم األزواج املطهرات‬
‫على كلهن‪ ،‬ومل تقع رواية احلديث عن البنات الطاهرات إال القدر اليسري من سيدة النساء؛ ألهنن‬
‫منت يف حياة النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وماتت سيدة النساء «فاطمة» بعده بستة أشهر ومل جتد‬
‫رضي هللا عنها فرصة الرواية‪.‬‬

‫املعجم‪:‬‬
‫القسم الثالث منها‪ :‬املعاجم‪ ،‬واملعجم يف اصطالح احملدثني‪ ،‬ما تذكر فيه األحاديث على ترتيب‬
‫الشيوخ سواء اعترب تقدم وفاة الشيخ أم توافق حروف التهجي‪ ،‬أو الفضيلة‪ ،‬أو التقدم يف العلم‬
‫والتقوى‪ ،‬ولكن الغالب هو الرتتيب على حروف اهلجاء‪ ،‬ومن هذا القسم املعاجم الثالثة للطرباين‪.‬‬
‫اجلزء والرسالة األربعون‪:‬‬
‫القسم الرابع منها‪ :‬األجزاء‪ -‬واجلزء يف اصطالحهم‪ ،‬أتليف األحاديث املروية عن رجل واحد‪ ،‬سواء‬
‫كان ذلك الرجل يف طبقة الصحابة‪ ،‬أو من بعدهم‪ ،‬كجزء حديث أيب بكر‪ ،‬وجزء حديث مالك‪،‬‬
‫وقس عليهما‪.‬‬
‫وهذا القسم‪ -‬أيضا‪ -‬كثري ج ّدا‪.‬‬
‫وقد خيتارون من املطالب الثمانية املذكورة يف صفة اجلامع مطلبا جزئيّا ويصنّفون فيه مبسوطا‪ ،‬كما‬
‫واآلجري يف ابب «رؤية‬
‫ّ‬ ‫صنف أبو بكر بن أيب الدنيا يف ابب «النية وذم الدنيا» كتابني مبسوطني‪،‬‬
‫هللا»‪.‬‬
‫وعلى هذا القياس صنّفت كتب كثرية يف جزئيات تلك املطالب الثمانية‪ ،‬وللحافظ ابن حجر‪،‬‬
‫واحلافظ السيوطي يد طوىل يف أتليف الرسائل‪ ،‬وهي القسم اخلامس‪.‬‬
‫والقسم السادس‪ :‬األربعون حديثا‪ :‬وهو أن جيمعها يف ابب واحد أو أبواب شىت بسند واحد أو‬
‫أسانيد متعددة‪ ،‬وهو أيضا كثري ج ّدا كما يسمع ويروى‪.‬‬
‫فاحلاصل‪ :‬أن أقسام التصانيف يف علم احلديث ترجع إىل هذه األنواع الستة املذكورة‪ ،‬ويقال للرسائل‬
‫الكتب أيضا‪ .‬اه ملخصا‪.‬‬
‫املستخرجات‪ :‬ومن أنواع كتب احلديث املستخرجات‪.‬‬

‫(‪)170/1‬‬

‫قال السيوطي يف التدريب‪ :‬وموضوع املستخرج كما قال العراقي أن أييت املصنف إىل الكتاب‬
‫فيخرج أحاديثه أبسانيد لنفسه من غري طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه يف شيخه‬
‫كصحيح مسلم ّ‬
‫أو من فوقه‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم‪ :‬وشرطه أن ال يصل إىل شيخ أبعد حىت يفقد سندا يوصله إىل األقرب لعذر من‬
‫علو أو زايدة مهمة‪ ،‬قال‪ :‬ولذلك يقول أبو عوانة يف مستخرجه على مسلم بعد أن يسوق طرق‬
‫ّ‬
‫ملخرجه‪ُ .‬ث يسوق أسانيد جيتمع فيها مع مسلم فيمن فوق ذلك ورِبا قال‪ :‬من‬
‫مسلم كلها‪ :‬من هنا ّ‬
‫هنا مل خيرجاه‪ .‬قال‪ :‬وال يظن أنه يعين البخاري ومسلما فإين استقريت صيغة يف ذلك فوجدته إمنا يعين‬
‫مسلما وأاب الفضل أمحد بن سلمة؛ فإنه كان قرين مسلم وصنّف مثل مسلم‪ ،‬ورِبا أسقط املستخرج‬
‫أحاديث مل جيد هبا سندا يرتضيه‪ ،‬ورِبا ذكرها من طريق صاحب الكتاب‪ .‬اه‪.‬‬
‫واملستخرجات على الصحيحني أو على أحدمها كثرية‪.‬‬
‫فاملستخرج على صحيح البخاري لإلمساعيلي‪ ،‬وللربقاين‪ ،‬والبن أمحد الغطريفي‪ ،‬وأليب عبد هللا بن أيب‬
‫ذهل‪ ،‬وأليب بكر بن مردويه‪.‬‬
‫واملستخرج على صحيح مسلم أليب عوانه األسفراييين‪ ،‬وأليب جعفر بن محدان‪ ،‬وأليب بكر حممد بن‬
‫رجاء النيسابوري‪ ،‬وأليب عمران موسى بن العباس اجلويين‪ ،‬وأليب نصر الطوسي‪ ،‬وأليب سعيد بن أيب‬
‫عثمان احلريي‪ .‬وغريهم‪.‬‬
‫واملستخرج على كل منهما أليب نعيم األصبهاين‪ ،‬وأيب عبد هللا بن األحزم‪ ،‬وأيب ذر اهلروي وأيب حممد‬
‫اخلالل‪ ،‬وأيب على املأسرخسي‪ ،‬وأيب مسعود سليمان بن إبراهيم األصبهاين‪ ،‬وأيب بكر اليزدي‪ ،‬وأيب‬
‫بكر بن عبدان الشريازي‪.‬‬

‫فائدة‪:‬‬
‫اعلم أن هذه املستخرجات مل يلتزم فيها موافقة الصحيحني يف األلفاظ؛ ألهنم إمنا يروون ابأللفاظ اليت‬
‫وقعت هلم عن شيوخهم‪ ،‬فحصل فيها تفاوت قليل يف اللفظ ويف املعىن أقل‪ ،‬وكذا ما رواه البيهقي يف‬
‫السنن واملعرفة وغريمها‪ ،‬والبغوي يف شرح السنة وشبههما‪ ،‬قائلني رواه البخاري أو مسلم‪ ،‬ووقع يف‬
‫بعضه‪ -‬أيضا‪ -‬تفاوت يف املعىن أو يف األلفاظ‪ ،‬فمرادهم بقوهلم ذلك‪ :‬أهنما إمنا رواي أصل احلديث‬
‫دون اللفظ الذي أورده‪ ،‬وحينئذ ال جيوز لك أن تنقل من الكتب املذكورة من املستخرجات وغريها‬
‫حديثا وتقول فيه‪ :‬هو كذا يف الصحيحني إال أن تقابله هبما‪ ،‬أو يقول املصنّف‪ :‬أخرجاه بلفظه‪،‬‬

‫(‪)171/1‬‬

‫خبالف املختصرات من الصحيحني‪ ،‬فإهنم نقلوا فيها ألفاظهما من غري زايدة وال تغيري‪.‬‬
‫ُث اعلم أن املستخرج ال خيتص ابلصحيحني؛ فقد استخرج حممد بن عبد امللك ابن أمين على سنن‬
‫أيب داود‪ ،‬وأبو علي الطوسي على الرتمذي‪ ،‬وأبو نعيم على التوحيد البن خزمية‪ ،‬وأملى احلافظ أبو‬
‫الفضل العراقي على املستدرك مستخرجا مل يكمل‪.‬‬

‫فوائد املستخرجات على الصحيحني‪:‬‬


‫ُث اعلم أن للكتب املخرجة على الصحيحني فوائد‪:‬‬
‫علو اإلسناد‪ :‬ألن املصنف املستخرج لو روى حديثا مثال من طريق البخاري لوقع أنزل من‬
‫منها‪ّ :‬‬
‫الطريق الذي رواه به املستخرج‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬القوة بكثرة الطرق للرتجيح عند املعارضة‪ ،‬ذكره ابن الصالح يف مقدمة شرح مسلم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يكون مصنف الصحيح روى عمن اختلط ومل يبني هل مساع ذلك احلديث يف هذه الرواية‬
‫قبل االختالط أو بعده فيبينه املستخرج إما تصرحيا‪ ،‬أو أبن يرويه عنه يف الصحيح عن مدلّس‬
‫ابلعنعنة‪ :‬فريويه املستخرج ابلتصريح ابلسماع‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يروي عن مبهم‪ :‬كح ّدثنا فالن‪ ،‬أو رجل‪ ،‬أو فالن وغريه‪ ،‬أو غري واحد فيعيّنه املستخرج‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يروي عن مهمل‪ :‬كمحمد من غري ذكر ما مييزه عن غريه من احملمدين‪ ،‬ويكون يف مشايخ‬
‫من رواه كذلك من يشاركه يف االسم فيميزه املستخرج‪.‬‬
‫أعل هبا حديث يف أحد الصحيحني جاءت رواية املستخرج ساملة منها‬
‫قال شيخ اإلسالم‪ :‬وكل علة ّ‬
‫فهي من فوائده وذلك كثري ج ّدا‪.‬‬

‫املستدركات‪:‬‬
‫ومن أنواعها‪ :‬املستدركات‪ :‬واملستدرك‪ :‬كتاب مجع مؤلفه فيه أحاديث استوفت حسب نظره شروط‬
‫األحاديث اليت ذكرها البخاري أو مسلم أو غريمها يف كتابه ولكنه مل يذكرها فيه وذلك كمستدرك‬
‫احلاكم وغريه‪.‬‬

‫كتب العلل‪:‬‬
‫ومن أنواعها‪ :‬كتب العلل‪ :‬وهي الكتب اليت جيمع فيها األحاديث املعلولة مع بيان عللها‪ ،‬ومن‬
‫صنّف يف هذا النوع‪ :‬اإلمام مسلم بن احلجاج صاحب الصحيح‪ ،‬واإلمام‬

‫(‪)172/1‬‬

‫احلافظ أبو حيىي زكراي بن حيىي الساجي‪ .‬قال الذهيب يف التذكرة‪ :‬وللساجي كتاب جليل يف علل‬
‫احلديث يدل على تبحره يف هذا الفن‪ .‬اه ملخصا من مقدمة «حتفة األحوذي»‪.‬‬
‫اصطالحات لفظية لعلماء احلديث‬
‫التعريف أبلفاظ يتداوهلا أهل احلديث‪:‬‬

‫املسند‪:‬‬
‫قال احلاكم‪ :‬هو ما اتصل إسناده إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال اخلطيب‪ :‬هو ما اتصل إىل منتهاه‪ .‬وحكى ابن عبد الرب‪ :‬أنه املروي عن رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلم سواء كان متصال أو منقطعا‪ ،‬فهذه أقوال ثالثة‪.‬‬

‫املتصل‪:‬‬
‫ويقال له‪« :‬املوصول» أيضا‪ ،‬وهو ينفي اإلرسال واالنقطاع‪ ،‬ويشمل املرفوع إىل النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬واملوقوف على الصحايب أو من دونه‪.‬‬

‫املرفوع‪:‬‬
‫هو ما أضيف إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم خاصة‪ ،‬ال يقع مطلقه على غريه سواء كان متصال‬
‫أو منقطعا‪.‬‬

‫املوقوف‪:‬‬
‫هو ما أضيف إىل الصحايب قوال أو فعال أو حنوه متصال كان أو منقطعا‪ ،‬ويستعمل يف غريه مقيدا‬
‫فيقال‪ :‬حديث كذا وقفه فالن على عطاء مثال‪.‬‬

‫املعضل‪:‬‬
‫هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا‪ ،‬ومنه ما يرسله اتبع التابعي‪.‬‬

‫املقطوع‪:‬‬
‫هو املوقوف على التابعي قوال له‪ ،‬أو فعال متصال كان أو منقطعا‪.‬‬

‫املنقطع‪:‬‬
‫هو ما مل يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه‪ ،‬فإن كان الساقط رجلني فأكثر مسّي‪ -‬أيضا‪-‬‬
‫«معضال» بفتح الضاد املعجمة‪.‬‬

‫املرسل‪:‬‬
‫هو عند الفقهاء‪ ،‬وأصحاب األصول‪ ،‬واخلطيب احلافظ أيب بكر البغدادي‪ ،‬ومجاعة من احمل ّدثني‪ :‬ما‬
‫انقطع إسناده على أي وجه كان انقطاعه فهو عندهم ِبعىن املنقطع‪ .‬وقال مجاعات من احملدثني أو‬
‫يسمى مرسال إال ما أخرب فيه التابعي عن النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهذا هو الذي‬
‫أكثرهم‪ :‬ال ّ‬
‫اختلف يف العمل به؛ فمذهب احمل ّدثني أو مجهورهم ومجاعة من الفقهاء أنه ال حيتج ابملرسل‪.‬‬
‫ومذهب مالك وأيب حنيفة وأمحد وأكثر الفقهاء أنه حيتج به‪.‬‬
‫ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إىل املرسل ما يعضده احتج به‪ ،‬وذلك أبن يروى أيضا مسندا أو‬
‫مرسال من جهة أخرى‪ ،‬أو يعمل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء‪.‬‬
‫وأما مرسل الصحايب‪ :‬وهو روايته ما مل يدركه أو حيضره كقول عائشة رضي هللا عنها‪:‬‬

‫(‪)173/1‬‬

‫أول ما بدئ به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم من الوحي الرؤاي الصاحلة‪ .‬فمذهب الشافعي‬
‫واجلماهري أنه حيتج به‪ .‬وقال األستاذ اإلمام أبو إسحاق األسفرائيين الشافعي‪ :‬ال حيتج به إال أن‬
‫يقول‪ :‬إنه ال يروى إال عن صحايب والصواب األول‪.‬‬

‫حكم ما يصدر عن الصحايب من األقوال‬


‫إذا قال الصحايب‪ :‬كنا نقول أو نفعل أو يقولون أو يفعلون كذا‪ ،‬أو كنا ال نرى أو ال يرون أبسا بكذا‪،‬‬
‫اختلفوا فيه‪ ،‬فقال اإلمام أبو بكر اإلمساعيلي‪ :‬ال يكون مرفوعا بل هو موقوف‪ ،‬وسنذكر حكم‬
‫املوقوف يف فصل بعد هذا إن شاء هللا تعاىل‪.‬‬
‫وقال اجلمهور من احملدثني وأصحاب الفقه واألصول‪ :‬إن مل يضفه إىل زمن رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم؛ فليس ِبرفوع بل هو موقوف‪ ،‬وإن أضافه فقال‪ :‬كنا نفعل يف‬
‫حياة النيب صلّى هللا عليه وسلم أو يف زمنه أو وهو فينا أو بني أظهران أو حنو ذلك‪ ،‬فهو مرفوع‪،‬‬
‫وهذا هو املذهب الصحيح الظاهر؛ فإنه إذا فعل يف زمنه صلّى هللا عليه وسلم؛ فالظاهر اطالعه عليه‬
‫وتقريره إايه صلّى هللا عليه وسلم وذلك مرفوع‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إن كان ذلك الفعل مما ال خيفى غالبا كان مرفوعا وإال كان موقوفا وهبذا قطع الشيخ‬
‫أبو إسحاق الشريازي الشافعي‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وأما إذا قال الصحايب‪ :‬أمران بكذا أو هنينا عن كذا‪ ،‬أو من السنة كذا؛ فكله مرفوع على املذهب‬
‫الصحيح الذي قاله اجلماهري من أصحاب الفنون وقيل‪ :‬موقوف‪.‬‬
‫وأما إذا قال التابعي‪ :‬من السنة كذا؛ فالصحيح أنه موقوف‪ .‬وقال بعض أصحابنا الشافعيني‪ :‬إنه‬
‫مرفوع مرسل‪.‬‬
‫وأما إذا قيل عند ذكر الصحايب‪ :‬يرفعه أو ينهيه أو يبلغ به أو رواية؛ فكله مرفوع متصل بال خالف‪.‬‬
‫أما إذا قال التابعي‪ :‬كانوا يفعلون‪ ،‬فال يدل على فعل مجيع األمة بل على بعض األمة‪ ،‬فال حجة فيه‬
‫إال أن يصرح بنقله عن أهل اإلمجاع‪ ،‬فيكون نقال لإلمجاع‪ ،‬ويف ثبوته خبرب الواحد خالف‪ .‬اه‬
‫الشوكاين‪.‬‬

‫(‪)174/1‬‬

‫احلديث القدسي‬
‫معىن احلديث القدسي‪:‬‬
‫احلديث القدسي‪ :‬هو الذي يرويه النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬على أنه من كالم هللا تعاىل‪ ،‬فالرسول‬
‫انقل هلذا الكالم‪ ،‬راو له ولكن بلفظ من عنده هو‪ ،‬يتبدى ذلك صرحيا فيما ينقل الرواة يف آخر سند‬
‫احلديث‪ .‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ :‬قال هللا تعاىل‪ ،‬أو قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‬
‫عز وجل‪ .‬ويطلق بعض العلماء على األحاديث القدسية اسم «األحاديث اإلهلية»‬
‫فيما يرويه عن ربه ّ‬
‫و «األحاديث الرابنية»‪.‬‬
‫والقدسي‪ :‬نسبة إىل القدس وهي نسبة تكرمي وإجالل؛ ألهنا نسبة إىل الطهارة والتنزيه‪ ،‬فالقدس‬
‫تطهر‪ ،‬ومنه‪ :‬البيت املق ّدس؛‬ ‫والتقديس لغة‪ :‬تنزيه هللا تعاىل‪ ،‬والتقديس‪ :‬التطهري والتربيك‪ ،‬وتق ّدس‪ّ :‬‬
‫ك‬
‫س لَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ألنه يتقدس فيه من الذنوب‪ ،‬ويف القرآن الكرمي على لسان املالئكة‪ :‬وَْحنن نُ ِ ِ ِ‬
‫سبّ ُح حبَ ْمد َك َونُـ َق ّد ُ‬
‫َ ُ َ‬
‫[سورة البقرة آية‪.]30 :‬‬
‫ك أي نط ّهر أنفسنا لك‪ ،‬وكذلك نفعل ِبن أطاعك‪ ،‬نقدسه‪ :‬أي نطهره‪.‬‬ ‫س لَ َ‬ ‫ِ‬
‫الزجاج‪ :‬معىن َونُـ َق ّد ُ‬
‫قال ّ‬
‫طهرت‪.‬‬ ‫ويقول ابن األثري‪ :‬ومنه احلديث‪« :‬ال ق ّدست ّأمة ال يؤخذ لضعيفها من قويّها»‪ ،‬أي ال ّ‬
‫وأما عن روايتها‪ :‬فقد لوحظ أن لروايتها صيغتني‪:‬‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫إحدامها‪ :‬أن يقول الراوي‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ّ‬
‫والثانية‪ :‬أن يقول‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ :‬قال هللا تعاىل‪ ،‬أو يقول هللا تعاىل‪ :‬واملعىن‬
‫واحد‪ ،‬إال أ ّن العبارة األوىل هي عبارة السلف‪ ،‬ومن أجل ذلك آثرها اإلمام النووي رمحه هللا‪.‬‬

‫الفرق بني القرآن واحلديث القدسي‪:‬‬


‫إذا نظران إىل ماهية احلديث القدسي‪ ،‬وإىل خصائص القرآن وجدان أن هنالك فروقا كثرية بينهما‪ .‬من‬
‫هذه الفروق‪:‬‬
‫السالم بلفظه ومعناه‪.‬‬
‫‪ - 1‬أن القرآن الكرمي موحى به‪ ،‬إلقاء على لسان امللك جربيل عليه ّ‬
‫‪ - 2‬أن القرآن هو لفظ معجز وقف العرب‪ -‬على بالغتهم وفصاحتهم‪ -‬ال يقوون على معارضته أو‬
‫اإلتيان ولو بسورة من مثله‪ ،‬وقفوا عاجزين عن املعارضة‪ ،‬بعد أن حتداهم رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫مر األزمنة والعصور‪ ،‬ووجوه إعجازه‬
‫وسلم‪ ،‬وهو معجزة ابقية على ّ‬

‫(‪)175/1‬‬

‫كثرية‪ ،‬والتحدي به قائم حىت يرث هللا األرض ومن عليها‪.‬‬


‫‪ - 3‬إن القرآن الكرمي ال ينسب إال إىل هللا تعاىل‪ ،‬خبالف احلديث القدسي‪ ،‬فقد يروى مضافا إىل هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬وتكون النسبة إليه حينئذ نسبة إنشاء‪ ،‬فيقال‪ :‬قال هللا تعاىل‪ ،‬أو يقول هللا تعاىل‪ ،‬وقد يضاف‬
‫السالم هو املخرب به‬
‫إىل الرسول صلّى هللا عليه وسلم وتكون النسبة حينئذ نسبة إخبار؛ ألنه عليه ّ‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫عز وجل فيقال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ّ‬
‫عن هللا ّ‬
‫‪ - 4‬القرآن مجيعه قطعي الثبوت‪ ،‬ألنه منقول ابلتواتر‪ ،‬وهو حمفوظ من التغيري والتبديل‪ ،‬مصداقا‬
‫عز وجل‪ :‬إِ َّان َْحن ُن نَـ َّزلْنَا ال ِّذ ْك َر َوإِ َّان لَهُ َحلافِظُو َن [سورة احلجر آية‪ ]9 :‬وليس كذلك احلديث‬
‫لقول هللا ّ‬
‫القدسي‪.‬‬
‫مسه للمحدث‪ ،‬كما ال جتوز قراءته للجنب‪ ،‬ومها جائزان مع احلديث القدسي‪.‬‬
‫‪ - 5‬القرآن ال جيوز ّ‬
‫وقال بعضهم‪ :‬مها جائزان‪ -‬أيضا‪ -‬مع القرآن‪ ،‬وليس يف املنع حديث صحيح‪.‬‬
‫سر ِمن الْ ُقر ِ‬
‫آن [سورة املزمل‬ ‫املتعني للقراءة يف الصالة‪ :‬فَاقـ َْرُؤا ما تَـيَ َّ َ َ ْ‬
‫‪ - 6‬القرآن متعبد بتالوته‪ ،‬فهو ّ‬
‫آية‪ ]20 :‬وجمرد قراءته عبادة‪ ،‬فللتايل عشر حسنات بكل حرف يتلوه من حروفه‪ ،‬كما جاء يف‬
‫احلديث الصحيح‪ ،‬وليس كذلك احلديث القدسي‪.‬‬
‫‪ - 7‬جاحد القرآن يكفر ألنه متواتر قطعي الثبوت‪.‬‬
‫هذا عن القرآن الكرمي‪.‬‬
‫أما احلديث القدسي‪ :‬فال يثبت له شيء من ذلك‪ .‬فليس فيه إعجاز‪ ،‬واملعىن من عند هللا‪ ،‬أما اللفظ‪:‬‬
‫فهو من عند رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫واألحاديث القدسية ظنية الثبوت؛ ألن أكثرها أخبار آحاد‪ ،‬ويطرأ عليها ما يطرأ على بقية‬
‫األحاديث‪ ،‬فقد يكون الواحد منها مقبوال‪ ،‬وقد يكون مردودا‪ ،‬فمنها الصحيح‪ ،‬ومنها احلسن‪ ،‬ومنها‬
‫الضعيف‪ ،‬ووصف احلديث بكونه قدسيّا ال يعين أن يكون ذلك عنوان صحة هذا احلديث وصالحيته‬
‫للقبول‪ ،‬وإمنا خيضع كما ختضع األحاديث النبوية لسالمة النقل عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‬
‫وصحة السند؛ ألن ذلك يف الغالب هو مناط احلكم على احلديث ابلقبول أو الرد‪.‬‬

‫الفرق بني احلديث القدسي واحلديث النبوي‪:‬‬


‫‪ - 1‬ميكن القول‪ :‬أبن ما ثبت عن النيب صلّى هللا عليه وسلم سواء أكان من األمور التوقيفية‬
‫التعليمية من الوحي أو من األمور االجتهادية‪ -‬وال يقره الوحي إال على الصواب‪ -‬فمردها مجيعا‬
‫جبملتها إىل الوحي‪ ،‬وليس معىن ذلك أن كل حديث بعينه موحى به‪ ،‬بل إن هذه‬

‫(‪)176/1‬‬

‫األحاديث ال خترج جبملتها عنه‪ -‬كما قلنا‪ -‬فهو صلّى هللا عليه وسلم ال ينطق عن اهلوى‪.‬‬
‫عز وجل يلقى إىل الرسول بكيفية من كيفيات الوحي‪ -‬ال‬
‫أما احلديث القدسي‪ :‬فاملعىن من عند هللا ّ‬
‫على التعيني‪ -‬واأللفاظ والصياغة من عند رسول هللا صلوات هللا وسالمه عليه‪ ،‬ومن هنا ترى أن‬
‫املراد بنسبة احلديث القدسي إىل هللا تعاىل نسبة مضمونه ال نسبة ألفاظه‪ ،‬واستخدام هذه النسبة كثري‬
‫يف منابت العربية‪ ،‬ففي القرآن الكرمي عديد من املواقف اليت حيكي هللا تعاىل فيها بلسان عريب‪،‬‬
‫مضمون خطاب كل رسول لقومه‪ ،‬وجواب قومه له‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وينسب ذلك إليهم مع أهنم مل‬
‫يكونوا يتكلمون العربية‪.‬‬
‫‪ - 2‬ال يبدو يف األحاديث القدسية لون من ألوان األحكام التكليفية‪ ،‬أو جواب على سؤال معني‪،‬‬
‫أو معاجلة لواقعة معينة‪ ،‬وإمنا املالحظ أهنا تؤدي نوعا من التوجيه الرابين العظيم‪ ،‬مما يتعلق بصحة‬
‫عز وجل وكمال قدرته وعظمته وسعة رمحته‪ ،‬وبسالمة السلوك وصحة العمل الذي‬
‫العقيدة ابهلل ّ‬
‫ينسجم مع تلك العقيدة‪.‬‬
‫بينما جند األمر يف القرآن الكرمي واألحاديث األخرى أعم وأمشل‪ ،‬على ما نعلم من طابع اإلمجال‬
‫والعموم يف القرآن على األغلب‪ ،‬وطابع البيان والتفصيل فيما صح عن رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم من قول وفعل وتقرير‪.‬‬
‫‪ - 3‬بينما جند القرآن الكرمي قد نقل ابلتواتر‪ ،‬جند أن األحاديث القدسية أخبار آحادية‪ ،‬واألحاديث‬
‫النبوية‪ :‬فيها املتواتر اللفظي واملتواتر املعنوي‪ ،‬ولكن غالبيتها العظمى أخبار آحاد‪.‬‬

‫عدد األحاديث القدسية‪:‬‬


‫ذكر احملقق أبو الفضل أمحد بن حجر اهليثمي املتوىف سنة (‪ 975‬هـ) رمحه هللا يف شرحه لألربعني‬
‫النووية‪ :‬أن عدد األحاديث القدسية يتجاوز املائة‪ ،‬وقد أوصلها بعضهم إىل أكثر من ذلك‪ ،‬كما نرى‬
‫احمل ّدث املناوي املتوىف سنة (‪ 1031‬هـ) الذي مجع مائتني واثنني وسبعني حديثا يف كتابه الذي أمساه‬
‫«اإلحتافات السنية ابألحاديث القدسية»‪ .‬وقد ذكرها مرتبة على حروف املعجم ولكن بغري إسناد‪.‬‬

‫(‪)177/1‬‬

‫أقسام اخلرب «احلديث»‬


‫اخلرب جبميع أنواعه‪ :‬سواء كان خربا عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬أو عن صحايب أو اتبعي أو‬
‫غريهم‪ ،‬وسواء كان خربا يف أمور الدين أو أمور الدنيا ينقسم إىل متواتر‪ ،‬وآحاد‪.‬‬

‫احلديث املتواتر‬
‫القسم األول‪ :‬املتواتر‪ ،‬وهو يف اللغة‪ :‬عبارة عن جميء الواحد بعد الواحد بفرتة بينهما‪ .‬مأخوذ من‬
‫الوتر‪.‬‬
‫ويف االصطالح‪ :‬خرب أقوام بلغوا يف الكثرة إىل حيث حصل العلم بقوهلم‪.‬‬
‫وقيل يف تعريفه‪ :‬هو خرب مجاعة يفيد بنفسه العلم بصدقه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬خرب مجع عن حمسوس ميتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرهتم‪.‬‬
‫فقوهلم‪« :‬من حيث كثرهتم» إلخراج خرب قوم يستحيل كذهبم بسبب أمر خارج عن الكثرة‪ .‬كالعلم‬
‫خبربهم ضرورة أو نظرا‪.‬‬
‫وقد اختلف يف العلم احلاصل ابلتواتر هل هو ضروري حاصل بغري نظر واستدالل أو نظري حيتاج‬
‫إليهما؟ فذهب اجلمهور إىل أنه ضروري بدهي‪.‬‬
‫وقال الكعيب وأبو احلسن البصري‪ :‬إنه نظري‪ ،‬قال الغزايل‪ :‬إنه قسم اثلث ليس أوليّا وال كسبيّا‪،‬‬
‫وقال املرتضي‪ ،‬واآلمد‪ :‬ابلوقف‪.‬‬
‫واحلق قول اجلمهور؛ للقطع أبان جند نفوسنا جازمة بوجود البالد الغائبة عنا ووجود األشخاص املاضية‬
‫قبلنا جزما خاليا عن الرتدد جاراي جمرى جزمنا بوجود املشاهدات‪.‬‬
‫فاملنكر حلصول العلم الضروري ابلتواتر كاملنكر حلصول العلم الضروري ابملشاهدات وذلك سفسطة‬
‫ال يستحق صاحبها املكاملة‪.‬‬
‫نظراي ملا حصل ملن ال يكون من أهل‬
‫واحتج اجلمهور‪ -‬أيضا‪ -‬أبن العلم احلاصل ابلتواتر لو كان ّ‬
‫النظر كالصبيان املراهقني وكثري من العامة‪ ،‬فلما حصل ذلك هلم علمنا أنه ليس بنظري‪ ،‬وكما يندفع‬
‫أبدلة اجلمهور قول من قال إنه نظري يندفع‪ -‬أيضا‪ -‬قول من قال‪ :‬إنه قسم اثلث‪ ،‬وقول من قال‬
‫ابلوقف؛ ألن سبب وقفه ليس إال تعارض األدلة عليه‪ ،‬وقد اتضح ِبا ذكران أنه ال تعارض فال وقف‪.‬‬
‫واعلم أنه مل خيالف أحد من أهل اإلسالم وال من العقالء يف أن خرب التواتر يفيد العلم‪ ،‬وما روي من‬
‫اخلالف يف ذلك عن السمنية والربامهة‪ ،‬فهو خالف ابطل ال يستحق قائله اجلواب عليه‪.‬‬

‫(‪)178/1‬‬

‫مىت يفيد املتواتر العلم الضروري‬


‫اعلم أن اخلرب املتواتر ال يكون مفيدا للعمل الضروري إال بشروط‪ :‬منها ما يرجع إىل املخربين‪ ،‬ومنها‬
‫ما يرجع إىل السامعني‪ ،‬فاليت ترجع إىل املخربين أربعة‪:‬‬
‫الشرط األول‪ :‬أن يكونوا عاملني ِبا أخربوا به غري جمازفني‪ ،‬فلو كانوا ظانني لذلك فقط؛ مل يفد‬
‫القطع‪ ،‬هكذا اعترب هذا الشرط مجاعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر الباقالين‪ ،‬وقيل إنه غري‬
‫حمتاج إليه ألنه إن أريد وجوب علم الكل به فباطل؛ ألنه ال ميتنع أن يكون بعض املخربين به مقلدا‬
‫ظاان له أو جمازفا‪ ،‬وإن أريد وجوب علم البعض فمسلّم ولكنه مأخوذ من شرط كوهنم‬
‫فيه أو ّ‬
‫مستندين إىل احلس‪.‬‬
‫الشرط الثاين‪ :‬أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو مساع؛ ألن ما ال يكون كذلك حيتمل‬
‫دخول الغلط فيه‪.‬‬
‫قال األستاذ أبو منصور‪ :‬فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه ابلنظر واالستدالل‬
‫ضروراي؛ ألن املسلمني مع تواترهم خيربون الدهرية حبدوث‬
‫ّ‬ ‫أو عن شبهة‪ ،‬فإن ذلك ال يوجب علما‬
‫العامل وتوحيد الصانع‪ ،‬وخيربون أهل الذمة بصحة نبوة نبينا حممد صلّى هللا عليه وسلم فال يقع هلم‬
‫العلم الضروري بذلك؛ ألن العلم به من طريق االستدالل دون االضطرار‪ .‬اه‪.‬‬
‫ومن متام هذا الشرط أن ال تكون املشاهدة والسماع على سبيل غلط احلس كما يف أخبار النصارى‬
‫السالم‪.‬‬
‫بصلب املسيح عليه ّ‬
‫وأيضا ال بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقوهلم‪ ،‬فلو أخربوا متالعبني أو مكرهني على ذلك؛ مل‬
‫يوثق خبربهم وال يلتفت إليه‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يصل عددهم إىل حد مينع يف العادة تواطؤهم على الكذب‪ ،‬وال يقيد ذلك بعدد‬
‫معني بل ضابطه حصول العلم الضروري به‪ ،‬فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر وإال فال‪ ،‬وهذا قول‬
‫اجلمهور‪ ،‬وهناك أقوال كثرية غري ذلك ال يعبأ هبا‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬وجود العدد املعترب يف كل الطبقات‪ ،‬فريوى ذلك العدد عن مثله إىل أن يتصل ابملخرب‬
‫عنه‪.‬‬
‫وقد اشرتط عدالة النقلة خلرب املتواتر‪ ،‬فال يصح أن يكونوا أو بعضهم غري عدول‪ ،‬وعلى هذا ال بد‬
‫فساقا‪.‬‬
‫أن ال يكونوا كفارا وال ّ‬
‫وال وجه هلذا االشرتاط؛ فإن حصول العلم الضروري ابخلرب املتواتر ال يتوقف على ذلك‪ ،‬بل حيصل‬
‫خبرب الكفار والفساق والصغار املميزين واألحرار والعبيد وذلك هو املعترب‪.‬‬

‫(‪)179/1‬‬

‫وقد اشرتط‪ -‬أيضا‪ -‬اختالف أنساب أهل التواتر‪.‬‬


‫واشرتط‪ -‬أيضا‪ -‬اختالف أدايهنم‪.‬‬
‫واشرتاط‪ -‬أيضا‪ -‬اختالف أوطاهنم‪.‬‬
‫واشرتط‪ -‬أيضا‪ -‬كون املعصوم منهم‪ -‬كما يقول اإلمامية‪ -‬وال وجه لشيء من هذه الشروط‪.‬‬

‫شروط السامعني‬
‫وأما الشروط اليت ترجع إىل السامعني فإهنا ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكونوا عقالء؛ إذ يستحيل حصول العلم ملن ال عقل له‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أن يكونوا عاملني ِبدلول اخلرب‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن يكونوا خالني عن اعتقاد ما خيالف ذلك اخلرب بشبهة تقليد أو حنوه‪.‬‬

‫حديث اآلحاد‬
‫القسم الثاين‪ :‬اآلحاد‪ :‬وهو خرب ال يفيد بنفسه العلم سواء كان ال يفيده أصال‪ ،‬أو يفيده ابلقرائن‬
‫اخلارجة عنه‪ ،‬فال واسطة بني املتواتر واآلحاد‪ ،‬وهذا قول اجلمهور‪.‬‬
‫وقال أمحد بن حنبل‪ :‬إن خرب الواحد يفيد بنفسه العلم‪.‬‬
‫وحكاه ابن حزم يف كتاب «األحكام» عن داود الظاهري واحلسني بن علي الكرابيسي‪ ،‬واحلارث‬
‫احملاسيب قال‪ :‬وبه نقول‪ .‬وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس واختاره وأطال يف تقريره‪.‬‬
‫ونقل الشيخ يف التبصرة عن بعض أهل احلديث أن منها ما يوجب العلم؛ كحديث مالك عن انفع‬
‫عن ابن عمر وما أشبهه‪.‬‬
‫وحكى صاحب املصادر عن أيب بكر القفال‪ :‬أنه يوجب العلم الظاهري‪.‬‬
‫وقيل يف تعريفه‪ :‬هو مامل ينته بنفسه إىل التواتر سواء كثر رواته أو قلوا‪ ،‬وهذا كاألول يف نفي الواسطة‬
‫بني التواتر واآلحاد‪.‬‬
‫وقد ذهب اجلمهور إىل وجوب العمل خبرب الواحد وأنه وقع التعبد به‪.‬‬
‫وقال القاشاين والرافضة وابن داود‪ :‬ال جيب العمل به‪ ،‬وحكاه املاوردي عن األصم وابن علية‪.‬‬

‫(‪)180/1‬‬

‫قال ابن السمعاين‪ :‬واختلفوا‪ -‬يعين القائلني بعدم وجوب العمل خبرب الواحد‪ -‬يف املانع من القبول‪،‬‬
‫فقيل‪ :‬منع منه العقل وينسب إىل ابن علية واألصم‪.‬‬
‫وقال القاشاين من أهل الظاهر‪ ،‬والشيعة‪ :‬منع منه الشرع‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه ال يفيد إال الظن وإن الظن ال‬
‫يغين من احلق شيئا‪.‬‬
‫وجياب عن هذا أبنه عام خمصص ملا ثبت يف الشريعة من العمل أبخبار اآلحاد‪.‬‬
‫ُث اختلف اجلمهور يف طريق إثباته‪ ،‬فاألكثر منهم قالوا‪ :‬جيب بدليل السمع‪.‬‬
‫وقال أمحد بن حنبل والقفال وابن شريح‪ ،‬وأبو احلسن البصري من املعتزلة‪ ،‬وأبو جعفر الطوسي من‬
‫دل على وجوب العمل به ال حيتاج الناس إىل‬
‫اإلمامية‪ ،‬والصرييف من الشافعية‪ :‬إن الدليل العقلي ّ‬
‫معرفة بعض األشياء من جهة اخلرب الوارد‪.‬‬
‫وأما دليل السمع فقد استدلوا من الكتاب‪ِ :‬بثل قوله تعاىل‪ :‬إِ ْن جاء ُكم ِ‬
‫فاس ٌق بِنَـبٍَإ [سورة احلجرات‬ ‫َ ْ‬
‫آية‪ ،]6 :‬وِبثل قوله تعاىل‪ :‬فَـلَ ْوال نَـ َف َر ِم ْن ُك ِّل فِ ْرقَ ٍة ِم ْنـ ُه ْم طائَِفةٌ [سورة التوبة آية‪.]122 :‬‬
‫ومن السنة‪ِ :‬بثل قصة أهل قباء ملا أاتهم واحد فأخربهم أن القبلة قد حتولت فتحولوا‪ ،‬وبلغ ذلك‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلم فلم ينكر عليهم‪.‬‬
‫وِبثل بعثه صلّى هللا عليه وسلم لعماله واحدا بعد واحد‪ .‬وكذلك بعثه ابلفرد من الرسل يدعو الناس‬
‫إىل اإلسالم‪.‬‬
‫ومن اإلمجاع‪ :‬إبمجاع الصحابة والتابعني على االستدالل خبرب الواحد‪ ،‬وشاع ذلك وذاع ومل ينكره أحد‬
‫ولو أنكره منكر لنقل إلينا وذلك يوجب العلم العادي ابتفاقهم كالقول الصريح‪.‬‬
‫قال ابن دقيق العيد‪ :‬ومن تتبع أخبار النيب صلّى هللا عليه وسلم والصحابة والتابعني ومجهور األمة ما‬
‫عدا هذا الفرقة اليسرية؛ علم ذلك قطعا‪ .‬اه‪.‬‬

‫القول الفصل‬
‫وعلى اجلملة‪ :‬فلم أيت من خالف يف العمل خبرب الواحد بشيء يصلح للتمسك به‪ ،‬ومن تتبع عمل‬
‫الصحابة من اخللفاء وغريهم‪ ،‬وعمل التابعني واتبعيهم أبخبار اآلحاد؛ وجد ذلك يف غاية الكثرة‪،‬‬
‫حبيث ال يتسع له إال مصنّف بسيط‪ ،‬وإذا وقع من بعضهم تردد يف العمل به يف بعض األحوال‪،‬‬
‫فذلك ألسباب خارجة عن كونه خربا واحدا من ريبة يف الصحة‪ ،‬أو هتمة للراوي‪ ،‬أو وجود معارض‬
‫راجح أو حنو ذلك‪.‬‬

‫(‪)181/1‬‬

‫أقسام اآلحاد‬
‫واعلم أن اآلحاد تنقسم إىل أقسام‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬خرب الواحد وهو الذي تقدم ذكره‪ ،‬وهو املسمى ابلغريب‪.‬‬
‫والقسم الثاين‪ :‬املستفيض‪ ،‬وهو ما رواه ثالثة فصاعدا يف كل طبقة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬ما زاد على الثالثة‪.‬‬
‫وقال أبو إسحاق الشريازي‪ :‬أقل ما تثبت به االستفاضة اثنان‪.‬‬
‫قال السبكي‪ :‬واملختار عندان أن املستفيض ما يعده الناس شائعا‪.‬‬
‫والقسم الثالث‪ :‬املشهور‪ ،‬وهو ما اشتهر ولو يف القرن الثاين أو الثالث إىل حد ينقله ثقات ال يتوهم‬
‫تواطؤهم على الكذب‪ ،‬وال تعترب الشهرة بعد القرنني‪ ،‬هكذا قال احلنفية فاعتربوا التواتر يف بعض‬
‫طبقاته وهي الطبقة اليت روته يف القرن الثاين أو الثالث فقط‪ ،‬فبينه وبني املستفيض عموم وخصوص‬
‫من وجه لصدقهما على ما رواه الثالثة فصاعدا‪ ،‬ومل يتواتر يف القرن األول ُث تواتر يف أحد القرنني‬
‫املذكورين‪ ،‬وانفراد املستفيض إذا مل ينته يف أحدمها إىل التواتر‪ ،‬وانفراد املشهور فيما رواه اثنان يف‬
‫القرن األول ُث تواتر يف الثاين والثالث‪.‬‬
‫وجعل اجلصاص املشهور قسما من املتواتر ووافقه مجاعة من أصحاب احلنفية‪ ،‬وأما مجهورهم فجعلوه‬
‫قسيما للمتواتر ال قسما كما تقدم‪.‬‬
‫واعلم أن اخلالف الذي ذكرانه يف أول هذا البحث من إفادة خرب اآلحاد الظن أو العلم مقيد ِبا إذا‬
‫كان خربا واحدا مل ينضم إليه ما يقويه‪ ،‬وأما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهورا أو مستفيضا فال‬
‫جيري فيه اخلالف املذكور‪.‬‬
‫وال نزاع يف أن خرب الواحد إذا وقع اإلمجاع على العمل ِبقتضاه فإنه يفيد العلم؛ ألن اإلمجاع عليه‬
‫صريه من املعلوم صدقه‪.‬‬
‫قد ّ‬
‫وهكذا خرب الواحد إذا تلقته األمة ابلقبول فكانوا بني عامل به ومتأول له‪.‬‬
‫ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم‪ ،‬فإن األمة تلقت ما فيهما ابلقبول ومن مل يعمل‬
‫ابلبعض من ذلك فقد أوله‪ ،‬والتأويل فرع القبول‪.‬‬
‫قيل‪ :‬ومن خرب الواحد املعلوم صدقه أن خيرب به يف حضور مجاعة هي نصاب التواتر ومل يقدحوا يف‬
‫روايته مع كوهنم ممن يعرف علم الرواية وال مانع مينعهم من القدح يف ذلك ويف هذا نظر‪ .‬اه من إرشاد‬
‫الفحول للشوكاين مع اختصار‪.‬‬

‫(‪)182/1‬‬

‫شروط العمل خبرب الواحد‬


‫العمل خبرب الواحد له شروط‪ ،‬منها ما هو يف املخرب وهو الراوي‪ ،‬ومنها ما هو يف املخرب عنه وهو‬
‫مدلول اخلرب‪ ،‬ومنها ما هو يف اخلرب نفسه وهو اللفظ الدال‪.‬‬
‫أما الشروط الراجعة إىل الراوي فخمسة‪:‬‬

‫الشرط األول‪ -‬التكليف‪:‬‬


‫فال تقبل رواية الصيب واجملنون‪ ،‬ونقل القاضي اإلمجاع على رد رواية الصيب‪ ،‬واعرتض عليه العنربي‪،‬‬
‫وقال‪ :‬بل مها قوالن للشافعي يف إخباره عن القبلة كما حكاه القاضي حسني يف تعليقه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وألصحابنا خالف مشهور يف قبول روايته يف هالل رمضان وغريه‪.‬‬
‫قال الفوراين‪ :‬األصح قبول روايته‪ ،‬والوجه يف رد روايته أنه قد يعلم أنه غري آُث الرتفاع قلم التكليف‬
‫عنه فيكذب‪.‬‬
‫وقد أمجع الصحابة على عدم الرجوع إىل الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة وقد‬
‫رجعوا إىل النساء وسألوهن من وراء حجاب‪.‬‬
‫قال الغزايل يف املنخول‪ :‬حمل اخلالف يف املراهق املتثبت يف كالمه‪ ،‬أما غريه فال يقبل قطعا‪.‬‬
‫وهذا االشرتاط إمنا هو ابعتبار وقت األداء للرواية‪ ،‬أما لو حتملها صبيّا وأداها مكلّفا؛ فقد أمجع‬
‫السلف على قبوهلا كما يف رواية ابن عباس واحلسنني‪ ،‬ومن كان مماثال هلم كمحمود بن الربيع؛ فإنه‬
‫مج يف فيه جمة وهو ابن مخس سنني‪ .‬واعتمد العلماء روايته‪.‬‬
‫روى حديث‪ :‬أنه صلّى هللا عليه وسلم ّ‬
‫وقد كان من مع بعض الصحابة من التابعني‪ ،‬واتبعيهم‪ ،‬ومن بعدهم حيضرون الصبيان جمالس‬
‫الرواايت‪ ،‬ومل ينكر ذلك أحد‪.‬‬
‫وهكذا لو حتمل وهو فاسق أو كافر ُث روى وهو عدل مسلم‪.‬‬
‫وال أعرف خالفا يف عدم قبول رواية اجملنون يف حال جنونه‪ ،‬أما لو مسع يف حال جنونه ُث أفاق؛ فال‬
‫يصح ذلك؛ ألنه وقت اجلنون غري ضابط‪.‬‬
‫وقد روى مجاعة إمجاع أهل املدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض يف الدماء ملسيس‬
‫احلاجة إىل ذلك لكثرة وقوع اجلناايت فيما بينهم إذا انفردوا ومل حيضرهم من تصح شهادته‪ ،‬وقيدوه‬
‫بعدم تفرقهم بعد اجلناية حىت يؤدوا الشهادة‪،‬‬

‫(‪)183/1‬‬

‫واألوىل عدم القبول‪ ،‬وعمل أهل املدينة ال تقوم به حجة على ما سيأيت‪ .‬على أان مننع ثبوت هذا‬
‫اإلمجاع الفعلي عنهم‪.‬‬
‫الشرط الثاين‪ -‬اإلسالم‪:‬‬
‫فال تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراين أو غريمها إمجاعا‪ ،‬قال الرازي يف احملصول‪ :‬أمجعت األمة‬
‫على أنه ال تقبل روايته سواء علم من دينه االحرتاز عن الكذب أو مل يعلم‪ .‬قال‪ :‬واملخالف من أهل‬
‫القبلة إذا كفرانه كاجملسم وغريه هل تقبل روايته أم ال؟ احلق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب ال تقبل‬
‫روايته‪ ،‬وإال قبلناها وهو قول أيب احلسني البصري‪.‬‬
‫وقال القاضي أبو بكر‪ ،‬والقاضي عبد اجلبار‪ :‬ال تقبل روايتهم‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬أنه إن علم من مذهب املبتدع جواز الكذب مطلقا مل تقبل روايته قطعا‪ ،‬وإن علم من‬
‫مذهبه جوازه يف أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه‪ ،‬أو الكذب فيما هو ترغيب يف طاعة‬
‫أو ترهيب عن معصية‪ ،‬فقال اجلمهور ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد اجلبار‪ ،‬والغزايل واآلمدي‪ :‬ال‬
‫يقبل قياسا على الفاسق بل هو أوىل‪.‬‬
‫وقال أبو احلسني البصري‪ :‬يقبل‪ ،‬وهو رأي اجلويين وأتباعه‪ .‬واحلق عدم القبول مطلقا يف األول‪،‬‬
‫وعدم قبوله يف ذلك األمر اخلاص يف الثاين‪ ،‬وال فرق يف هذا بني املبتدع الذي يك ّفر ببدعته‪ ،‬وبني‬
‫املبتدع الذي ال يك ّفر ببدعته‪.‬‬
‫وأما إذا كان ذلك املبتدع ال يستجيز الكذب؛ فاختلفوا فيه على أقوال‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬رد روايته مطلقا؛ ألنه قد فسق ببدعته‪ ،‬فهو كالفاسق بفعل املعصية‪ ،‬وبه قال القاضي‬
‫واألستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشريازي‪.‬‬
‫القول الثاين‪ :‬أهنا تقبل‪ ،‬وهو ظاهر مذهب الشافعي‪ ،‬وابن أيب ليلى‪ ،‬والثوري‪ ،‬وأيب يوسف‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أنه إذا كان داعية إىل بدعته مل يقبل‪ ،‬وإال قبل‪ ،‬وحكاه القاضي عبد الوهاب يف‬
‫امللخص عن مالك وبه جزم سليم‪ ،‬قال القاضي عياض‪ :‬وهذا حيتمل أنه إذا مل يدع يقبل وحيتمل أنه‬
‫ال يقبل مطلقا‪ .‬اه‪.‬‬
‫واحلق أنه ال يقبل فيما يدعو به إىل بدعته ويقويها ال يف غري ذلك‪ ،‬قال اخلطيب‪:‬‬
‫وهو مذهب أمحد‪ ،‬ونسبه ابن الصالح إىل األكثرين‪ ،‬قال‪ :‬وهو أعدل املذاهب وأوالها‪ ،‬ويف‬
‫الصحيحني كثري من أحاديث املبتدعة غري الدعاة احتجاجا واستشهادا كعمران بن حطان‪ ،‬وداود بن‬
‫احلصني وغريمها‪ ،‬ونقل أبو حامت بن حبان يف كتاب الثقات اإلمجاع على ذلك‪.‬‬

‫(‪)184/1‬‬
‫قال ابن دقيق العيد‪ :‬جعل بعض املتأخرين من أهل احلديث هذا املذهب متفقا عليه وليس كما قال‪.‬‬
‫وقال ابن القطان يف كتاب «الوهم واإليهام»‪ :‬اخلالف إمنا هو يف غري الداعية‪ ،‬أما الداعية‪ :‬فهو‬
‫ساقط عند اجلميع‪ .‬قال أبو الوليد الباجي‪ :‬اخلالف يف الداعية ِبعىن أنه يظهر بدعته‪ِ ،‬بعىن محل‬
‫الناس عليها فلم خيتلف يف ترك حديثه‪.‬‬

‫الشرط الثالث‪ -‬العدالة‪:‬‬


‫قال الرازي يف احملصول‪ :‬هي هيئة راسخة يف النفس حتمل على مالزمة التقوى واملروءة مجيعا‪ ،‬حىت‬
‫حيصل ثقة النفس بصدقه‪ ،‬ويعترب فيها االجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف ابحلبة‪،‬‬
‫وسرقة ابقة من البقل‪ ،‬وعن املباحات القادحة يف املروءة؛ كاألكل يف الطريق‪ ،‬والبول يف الشارع‪،‬‬
‫وصحبة األرذال‪ ،‬واإلفراط يف‬
‫املزاح‪ ،‬والضابط فيه‪ :‬أن كل من ال يؤمن من جراءته على الكذب يرد الرواية‪ ،‬وما ال فال‪ .‬اه‪.‬‬
‫وأصل العدالة يف اللغة‪ :‬االستقامة‪ .‬يقال‪ :‬طريق عدل‪ :‬أي مستقيم‪ ،‬وتطلق على استقامة السرية‬
‫والدين‪ .‬قال الزركشي يف البحر‪ :‬واعلم أن العدالة شرط ابالتفاق‪ ،‬ولكن اختلف يف معناها‪ ،‬فعند‬
‫احلنفية‪ :‬عبارة عن اإلسالم مع عدم الفسق‪.‬‬
‫وعندان‪ :‬ملكة يف النفس متنع من اقرتاف الكبائر وصغائر اخلسة كسرقة لقمة‪ ،‬والرذائل املباحة كالبول‬
‫يف الطريق‪ ،‬واملراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة‪.‬‬
‫قال ابن القشريي‪ :‬والذي صح عن الشافعي أنه قال‪ :‬يف الناس من ميحص الطاعة فال ميزجها‬
‫ِبعصية‪ ،‬ويف املسلمني من ميحص املعصية وال ميزجها ابلطاعة‪ ،‬فال سبيل إىل رد الكل‪ ،‬وال إىل قبول‬
‫الكل‪ ،‬فإن كان األغلب على الرجل من أمره الطاعة واملروءة؛ قبلت شهادته وروايته‪ ،‬وإن كان‬
‫األغلب املعصية وخالف املروءة؛ رددهتا‪.‬‬
‫قال ابن السمعاين‪ :‬ال بد يف العدل من أربع شرائط‪:‬‬
‫‪ - 1‬احملافظة على فعل الطاعة واجتناب املعصية‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن ال يرتكب من الصغائر ما يقدح يف دين أو عرض‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن ال يفعل من املباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن ال يعتقد من املذاهب ما يرده أصول الشرع‪.‬‬
‫واألوىل أن يقال يف تعريف العدالة‪ :‬أهنا التمسك ِبداب الشرع‪ ،‬فمن متسك هبا فعال وتركا فهو‬
‫أخل بشيء منها‪ ،‬فإن كان اإلخالل بذلك الشيء يقدح يف دين فاعله أو اتركه‬
‫العدل املرضي‪ ،‬ومن ّ‬
‫كفعل احلرام وترك الواجب؛ فليس بعدل‪ ،‬وأما اعتبار العادات‬
‫(‪)185/1‬‬

‫اجلارية بني الناس املختلفة ابختالف األشخاص واألزمنة واألمكنة واألحوال‪ ،‬فال مدخل لذلك يف‬
‫هذا األمر الديين الذي تنبين عليه قنطراتن عظيمتان وجسران كبريان ومها‪:‬‬
‫الرواية‪ ،‬والشهادة‪ .‬نعم من فعل ما خيالف ما يعده الناس مروءة عرفا ال شرعا فهو اترك للمروءة‬
‫العرفية‪ ،‬وال يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية‪.‬‬

‫الصغائر والكبائر‬
‫اختلف الناس‪ :‬هل املعاصي منقسمة إىل صغائر وكبائر‪ ،‬أم هي قسم واحد؟‬
‫فذهب اجلمهور إىل أهنا صغائر وكبائر‪ ،‬ويدل على ذلك قوله سبحانه‪ :‬إِ ْن َجتْتَنِبُوا َكبائَِر ما تُـ ْنـ َه ْو َن َع ْنهُ‬
‫صيا َن [سورة‬ ‫سو َق َوال ِْع ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫نُ َك ّف ْر َع ْن ُك ْم َسيّئات ُك ْم [سورة النساء آية‪ ،]31 :‬وقوله‪َ :‬وَك َّرهَ إلَْي ُك ُم الْ ُك ْف َر َوالْ ُف ُ‬
‫احلجرات آية‪.]7 :‬‬
‫ويدل عليه ما ثبت عن النيب صلّى هللا عليه وسلم متواترا من ختصيص بعض الذنوب ابسم الكبائر‬
‫وبعضها أبكرب الكبائر‪.‬‬
‫وذهب مجاعة إىل أن املعاصي قسم واحد‪ ،‬ومنهم األستاذ أبو إسحاق‪ ،‬واجلويين‪ ،‬وابن فورك ومن‬
‫اتبعهم‪ ،‬قالوا‪ :‬إن املعاصي كلها كبائر‪ ،‬وإمنا يقال لبعضها صغرية ابلنسبة إىل ما هو أكرب كما يقال‪:‬‬
‫الزان صغرية ابلنسبة إىل الكفر‪ ،‬والقبلة احملرمة صغرية ابلنسبة إىل الزان وكلها كبائر‪ .‬قالوا‪ :‬ومعىن قوله‪:‬‬
‫إِ ْن َجتْتَنِبُوا َكبائَِر ما تُـ ْنـ َه ْو َن َع ْنهُ إن جتتنبوا الكفر ك ّفرت عنكم سيئاتكم اليت هي دون الكفر‪ ،‬والقول‬
‫األول راجح‪.‬‬
‫وهاهنا مذهب اثلث ذهب إليه احلليمي‪ ،‬فقال‪ :‬إن املعاصي تنقسم حبسب حد الكبائر إىل ثالثة‬
‫أقسام‪ :‬صغرية‪ ،‬وكبرية‪ ،‬وفاحشة‪ ،‬فقتل النفس بغري حق كبرية‪ ،‬فإن قتل ذا رحم له ففاحشة‪ ،‬فأما‬
‫اخلدشة والضربة مرة أو مرتني فصغرية‪ ،‬وجعل سائر الذنوب هكذا‪.‬‬

‫تعريف الكبائر‬
‫ُث اختلفوا يف الكبائر هل تعرف ابحلد‪ ،‬أو ال تعرف إال ابلعدد؟ فقال اجلمهور‪:‬‬
‫إهنا تعرف ابحلد‪ُ ،‬ث اختلفوا يف ذلك‪ ،‬فقيل‪ :‬إهنا املعاصي املوجبة للحد‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬ما يشعر بقلة اكرتاث مرتكبها ابلدين‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬ما كان فيه مفسدة‪.‬‬
‫وقال اجلويين‪ :‬ما نص الكتاب على حترميه أو أوجب يف حقه ح ّدا‪ .‬وقيل‪ :‬ما ورد‬

‫(‪)186/1‬‬

‫الوعيد عليه مع احلد أو لفظ يفيد الكرب‪.‬‬


‫وقال مجاعة‪ :‬إهنا ال تعرف إال ابلعدد‪ُ ،‬ث اختلفوا هل تنحصر يف عدد معني أم ال؟‬
‫فقيل‪ :‬هي سبع‪ ،‬وقيل‪ :‬تسع‪ ،‬وقيل‪ :‬عشر‪ ،‬وقيل‪ :‬اثنتا عشرة‪ ،‬وقيل‪ :‬أربع عشرة‪ ،‬وقيل‪ :‬ست‬
‫وثالثون‪ ،‬وقيل‪ :‬سبعون‪ ،‬وإىل السبعني أهناها احلافظ الذهيب يف جزء صنفه يف ذلك‪ ،‬وقد مجع ابن‬
‫حجر اهليثمي فيها مصنفا حافال مساه «الزواجر يف الكبائر» وذكر فيه حنو أربعمائة معصية‪ ،‬وابجلملة‬
‫فال دليل يدل على احنصارها يف عدد معني‪.‬‬
‫ومن املنصوص عليه منها‪ :‬القتل‪ ،‬والزان‪ ،‬واللواطة‪ ،‬وشرب اخلمر‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والغصب‪ ،‬والقذف‪،‬‬
‫والنميمة‪ ،‬وشهادة الزور‪ ،‬واليمني الفاجرة‪ ،‬وقطيعة الرحم‪ ،‬والعقوق‪،‬‬
‫والفرار من الزحف‪ ،‬وأخذ مال اليتيم‪ ،‬وخيانة الكيل والوزن‪ ،‬والكذب على رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وتقدمي الصالة وأتخريها‪ ،‬وضرب املسلم‪ ،‬وسب الصحابة‪ ،‬وكتمان الشهادة‪ ،‬والرشوة‪،‬‬
‫والدايثة‪ ،‬ومنع الزكاة‪ ،‬واليأس من الرمحة‪ ،‬وأمن املكر‪ ،‬والظهار‪ ،‬وأكل حلم اخلنزير وامليتة‪ ،‬وفطر‬
‫رمضان‪ ،‬والراب‪ ،‬والغلول‪ ،‬والسحر‪ ،‬وترك األمر ابملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬ونسيان القرآن بعد‬
‫تعلمه‪ ،‬وإحراق احليوان ابلنار‪ ،‬وامتناع الزوجة من زوجها بال سبب‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن اإلصرار على الصغرية حكمه حكم مرتكب الكبرية‪ ،‬وليس على هذا دليل يصلح‬
‫للتمسك به وإمنا هي مقالة لبعض الصوفية‪ ،‬فإنه قال‪ :‬ال صغرية مع إصرار‪ ،‬وقد روى بعض من ال‬
‫يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثا‪ ،‬وال يصح ذلك‪ ،‬بل احلق أن اإلصرار حكمه حكم ما‬
‫أصر عليه‪ ،‬فاإلصرار على الصغرية صغرية‪ ،‬واإلصرار على الكبرية كبرية‪.‬‬
‫وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه ال عدالة لفاسق‪ ،‬وقد حكى مسلم يف صحيحه اإلمجاع على رد خرب‬
‫الفاسق‪ ،‬فقال‪ :‬إنه غري مقبول عند أهل العلم‪ ،‬كما أن شهادته مردودة عند مجيعهم‪ ،‬قال اجلويين‪:‬‬
‫واحلنفية وإن ابحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يقولوا بقبول روايته‪ ،‬فإن قال به قائل فهو مسبوق‬
‫ابإلمجاع‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ -‬الضبط‪ :‬فال بد أن يكون الراوي ضابطا ملا يرويه‪ ،‬ليكون املروي له على ثقة منه يف‬
‫حفظه وقلة غلطه وسهوه‪ ،‬فإن كان كثري الغلط والسهو؛ ر ّدت روايته‪ ،‬إال فيما علم أنه مل يغلط فيه‬
‫وال سها عنه‪ ،‬وإن كان قليل الغلط؛ قبل خربه‪ ،‬إال فيما يعلم أنه غلط فيه‪ ،‬كذا قال ابن السمعاين‬
‫وغريه‪.‬‬
‫قال أبو بكر الصرييف‪ :‬من أخطأ يف حديث فليس بدليل على اخلطأ يف غريه ومل يسقط لذلك حديثه‬
‫ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه مل يقبل خربه‪.‬‬

‫(‪)187/1‬‬

‫قال الرتمذي يف العلل‪ :‬كل من كان متهما يف احلديث ابلكذب‪ ،‬أو كان مغفال خيطئ الكثري‪ ،‬فالذي‬
‫اختاره أكثر أهل احلديث من األئمة أن ال يشتغل ابلرواية عنه‪ .‬اه‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬أن األحوال ثالثة‪ :‬إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه؛ فمردود إال فيما علم أنه مل خيطئ‬
‫فيه‪ ،‬وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه؛ فمقبول إال فيما علم أنه أخطأ فيه‪ ،‬وإن استواي‪ ،‬فاخلالف‪.‬‬
‫قال القاضي عبد اجلبار‪ :‬يقبل ألن جهة التصديق راجحة يف خربه لعقله ودينه‪.‬‬
‫وقال الشيخ أبو إسحاق‪ :‬إنه ير ّد‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه يقبل خربه إذا كان مفسرا‪ ،‬وهو أن يذكر من روى عنه ويعني وقت السماع منه وما أشبه‬
‫ذلك‪ ،‬وإال فال يقبل‪ .‬وبه قال القاضي حسني‪ ،‬وحكاه اجلويين عن الشافعي يف الشهادة‪ ،‬ففي الرواية‬
‫أوىل‪.‬‬
‫وقد أطلق مجاعة من املصنفني يف علوم احلديث أن الراوي إن كان اتم الضبط مع بقية الشروط‬
‫خف ضبطه؛ فحديثه من قسم احلسن‪ ،‬وإن كثر غلطه؛‬
‫املعتربة فحديثه من قسم الصحيح‪ ،‬وإن ّ‬
‫فحديثه من قسم الضعيف‪.‬‬
‫وقال الكيا الطربي‪ :‬وال يشرتط انتفاء الغفلة‪ ،‬وال يوجب حلوق الغفلة له ر ّد حديثه إال ما يعلم أنه قد‬
‫حلققه الغفلة فيه بعينه‪.‬‬
‫وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعرتيه الغفلة يف غري ما يرويه‪ ،‬كما وقع ذلك جلماعة من احلفاظ؛ فإهنم‬
‫قد تلحقهم الغفلة يف كثري من أمور الدنيا‪ ،‬فإذا رووا كانوا من أحذق الناس ابلرواية وأنبههم فيما‬
‫يتعلق هبا‪.‬‬
‫وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأيت‪.‬‬
‫الشرط اخلامس‪ :‬أن ال يكون الراوي مدلسا‪ ،‬وسواء كان التدليس يف املنت أو يف اإلسناد‪ .‬أما‬
‫التدليس يف املنت‪ :‬فهو أن يزيد يف كالم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم كالم غريه‪ ،‬فيظن السامع أن‬
‫اجلميع من كالم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وأما التدليس يف اإلسناد‪ :‬فهو على أنواع‪:‬‬
‫فيغري عن الراوي وعن أبيه امسيهما وهذا نوع من الكذب‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يكون يف إبدال األمساء ّ‬
‫واثنيها‪ :‬أن يسميه بتسمية غري مشهورة‪ ،‬فيظن السامع أنه رجل آخر غري من قصده الراوي‪ ،‬وذلك‬
‫مثل من يكون مشهورا ابمسه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس‪ ،‬إيهاما‬

‫(‪)188/1‬‬

‫للمروي له أبنه رجل آخر غري ذلك الرجل‪ ،‬فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع أبن‬
‫املروي عنه غري ذلك الرجل‪ ،‬فال خيلو إما أن يكون ذلك الرجل املروي عنه ضعيفا‪ ،‬وكان العدول إىل‬
‫غري املشهور من امسه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غري ذلك الضعيف‪ ،‬فهذا التدليس قادح‬
‫يف عدالة الراوي‪ ،‬وإما أن يكون مقصد الراوي جمرد اإلغراب على السامع مع كون املروي عنه عدال‪،‬‬
‫على كل حال فليس هذا النوع من التدليس جبرح كما قال ابن الصالح وابن السمعاين‪ .‬وقال أبو‬
‫الفتح ابن برهان‪ :‬هو جرح‪.‬‬
‫واثلثها‪ :‬أن يكون التدليس إبطراح اسم الراوي األقرب وإضافة الرواية إىل من هو أبعد منه‪ ،‬مثل أن‬
‫يرتك شيخه ويروي احلديث عن شيخ شيخه‪ .‬فإن كان املرتوك ضعيفا؛ فذلك من اخليانة يف الرواية وال‬
‫يفعله إال من ليس بكامل العدالة‪ .‬وإن كان املرتوك ثقة وترك ذكره لغرض من األغراض اليت ال تنايف‬
‫األمانة والصدق وال تتضمن التغرير على السامع‪ ،‬فال يكون ذلك قادحا يف عدالة الراوي‪ ،‬إذا جاء‬
‫يف الرواية بصيغة حمتملة حنو أن يقول‪ :‬قال فالن‪ ،‬أو روي عن فالن‪ ،‬أو حنو ذلك‪ ،‬أما لو قال‪:‬‬
‫حدثنا فالن‪ ،‬أو أخربان فالن‪ ،‬وهو مل حي ّدث ومل خيربه بل الذي حدثه أو أخربه وهو من ترك ذكره؛‬
‫فذلك كذب يقدح يف عدالته‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬أن من كان ثقة واشتهر ابلتدليس فال يقبل إال إذا قال‪ :‬حدثنا‪ ،‬أو أخربان‪ ،‬أو مسعت‪ ،‬ال‬
‫إذا مل يقل كذلك الحتمال أن يكون قد أسقط من تقوم احلجة ِبثله‪.‬‬

‫شروط مدلول اخلرب‬


‫دل عليه اخلرب؛ فاملتفق عليه منها ثالثة‪:‬‬
‫وأما الشروط اليت ترجع إىل املعىن الذي ّ‬
‫األول‪ :‬أن ال يستحيل وجوده يف العقل‪ ،‬فإن أحاله العقل ر ّد‪.‬‬
‫الشرط الثاين‪ :‬أن ال يكون خمالفا لنص مقطوع به على وجه ال ميكن اجلمع بينهما حبال‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن ال يكون خمالفا إلمجاع األمة عند من يقول أبنه حجة قطعية‪.‬‬
‫وأما إذا خالف القياس القطعي فقال اجلمهور‪ :‬إنه مق ّدم على القياس‪ ،‬وقيل‪ :‬إن كانت مقدمات‬
‫القياس قطعية ق ّدم القياس‪ ،‬وإن كانت ظنية؛ قدم اخلرب‪ ،‬وإليه ذهب أبو بكر األهبري‪.‬‬
‫وقال القاضي أبو بكر الباقالين‪ :‬إهنما متساواين‪ .‬وهناك آراء أخرى ال أمهية لذكرها‪.‬‬
‫واحلق تقدمي اخلرب اخلارج من خمرج صحيح أو حسن على القياس مطلقا‪ ،‬إذا مل ميكن اجلمع بينهما‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬كحديث املصراة وحديث العرااي فإهنما مقدمان على القياس‪.‬‬
‫وقد كان الصحابة والتابعون إذا جاءهم اخلرب مل يلتفتوا إىل القياس وال ينظرون فيه‪،‬‬

‫(‪)189/1‬‬

‫وما روي عن بعضهم من تقدمي القياس يف بعض املواطن فبعضه غري صحيح‪ ،‬وبعضه حممول على أنه‬
‫مل يثبت اخلرب عند من قدم القياس بوجه من الوجوه‪ ،‬ومما يدل على تقدمي اخلرب على القياس حديث‬
‫معاذ؛ فإنه قدم العمل ابلكتاب والسنة على اجتهاده‪.‬‬

‫تنبيهات مهمة‬
‫‪ - 1‬اعلم أنه ال يضر اخلرب عمل أكثر األمة خبالفه‪ ،‬ألن قول األكثر ليس حبجة‪.‬‬
‫‪ - 2‬وال يضره عمل أهل املدينة خبالفه خالفا ملالك وأتباعه؛ ألهنم بعض األمة وجلواز أنه مل يبلغهم‬
‫اخلرب‪.‬‬
‫‪ - 3‬وال يضره عمل الراوي له خبالفه خالفا جلمهور احلنفية وبعض املالكية؛ ألان متعبدون ِبا أبلغنا‬
‫من اخلرب ومل نتعبد ِبا فهمه الراوي‪ ،‬ومل أيت من قدم عمل الراوي على روايته حبجة تصلح‬
‫لالستدالل هبا‪.‬‬
‫‪ - 4‬وال يضره كونه مما تعم به البلوى خالفا للحنفية وأيب عبد هللا البصري لعمل الصحابة والتابعني‬
‫أبخبار اآلحاد يف ذلك‪.‬‬
‫‪ - 5‬وال يضره كونه يف احلدود والكفارات‪ ،‬خالفا للكرخي من احلنفية وأيب عبد هللا البصري يف أحد‬
‫قوليه‪ ،‬وال وجه هلذا اخلالف فهو خرب عدل يف حكم شرعي‪ ،‬ومل يثبت يف احلدود والكفارات دليل‬
‫خيصها من عموم األحكام الشرعية واستدالهلم حبديث‪:‬‬
‫«ادرؤوا احلدود ابلشبهات» ابطل؛ فاخلرب املوجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها‪.‬‬
‫‪ - 6‬وال يضره‪ -‬أيضا‪ -‬كونه زايدة على النص القرآين أو السنة القطعية خالفا للحنفية‪ ،‬فقد قالوا‪:‬‬
‫إن خرب الواحد إذا ورد ابلزايدة يف حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخا ال يقبل‪ ،‬واحلق القبول؛‬
‫ألهنا زايدة غري منافية للمزيد فكانت مقبولة‪.‬‬
‫ودعوى أهنا انسخة ممنوعة‪ ،‬وهكذا إذا ورد اخلرب خمصصا للعام من كتاب أو سنة؛ فإنه مقبول‪ ،‬ويبىن‬
‫العام على اخلاص خالفا لبعض احلنفية‪ ،‬وهكذا إذا ورد مقيدا ملطلق الكتاب أو السنة القطعية‪.‬‬
‫‪ - 7‬وال يضره كون روايه انفرد بزايدة فيه على ما رواه غريه إذا كان عدال فقد حيفظ الفرد ما ال‬
‫حيفظه اجلماعة‪ ،‬وبه قال اجلمهور إذا كانت تلك الزايدة غري منافية للمزيد‪ ،‬أما إذا كانت منافية‬
‫فالرتجيح‪ ،‬ورواية اجلماعة أرجح من رواية الواحد‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬ال تقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية اجلماعة‪ ،‬وإن كانت تلك الزايدة غري منافية للمزيد إذا‬
‫كان جملس السماع واحدا‪ ،‬وكانت اجلماعة حبيث ال جيوز عليهم‬

‫(‪)190/1‬‬

‫الغفلة عن مثل تلك الزايدة‪ ،‬وأما إذا تعدد جملس السماع؛ فتقبل تلك الزايدة ابالتفاق‪.‬‬
‫ومثل‪ :‬انفراد العدل ابلزايدة انفراده برفع احلديث إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم الذي وقفه‬
‫اجلماعة؛ ألنه يصدق عليه (زايدة الثقة)‪.‬‬
‫وكذا انفراده إبسناد احلديث الذي أرسلوه‪.‬‬
‫وكذا انفراده بوصل احلديث الذي قطعوه؛ فإن ذلك مقبول منه؛ ألنه زايدة على ما قد رووه‬
‫وتصحيح ملا أعلّوه‪.‬‬

‫شروط لفظ اخلرب‬


‫وأما الشروط اليت ترجع إىل لفظ اخلرب‪ :‬فإنه علم أن للراوي يف نقل ما يسمعه أحواال أمهها أربعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يرويه بلفظه فيؤدي األمانة كما مسعها‪ ،‬ولكنه إذا كان النيب صلّى هللا عليه وسلم قاله جوااب‬
‫عن سؤال سائل‪ ،‬فإن كان اجلواب مستغنيا عن ذكر السؤال كقوله صلّى هللا عليه وسلم يف ماء‬
‫احلل ميتته» فالراوي خمري بني أن يذكر السؤال أو يرتكه‪ ،‬وإن كان اجلواب‬
‫البحر‪« :‬هو الطهور ماؤه‪ّ ،‬‬
‫غري مستغن عن ذكر السؤال كما يف سؤاله صلّى هللا عليه وسلم عن بيع الرطب ابلتمر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أينقص إذا جف؟ فقيل‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪« :‬فال إذا» فال بد من ذكر السؤال‪.‬‬
‫وهكذا لو كان اجلواب حيتمل أمرين‪ ،‬فإذا نقل الراوي السؤال مل حيتمل إال أمرا واحدا فال بد من‬
‫ذكر السؤال‪ ،‬وعلى كل حال فذكر السؤال مع ذكر اجلواب وما ورد على سبب أوىل من اإلمهال‪.‬‬
‫احلال الثاين‪ :‬أن يرويه بغري لفظه بل ِبعناه‪ ،‬وفيه مذاهب أمهها ما أييت‪:‬‬
‫األول منها‪ :‬أن ذلك جائز من عارف ِبعاين األلفاظ ال إذا مل يكن عارفا‪ ،‬فإنه ال جيوز له الرواية‬
‫ابملعىن‪ ،‬قال القاضي يف التقريب‪ :‬ابإلمجاع‪.‬‬
‫املذهب الثاين‪ :‬املنع من الرواية ابملعىن مطلقا‪ ،‬بل جيب نقل اللفظ بصورته من غري فرق بني العارف‬
‫وغريه‪ .‬وهكذا نقله القاضي عن كثري من السلف وأهل التحري يف احلديث‪ ،‬وقال‪ :‬إنه مذهب مالك‪،‬‬
‫ونقله اجلويين والقشريي عن معظم احمل ّدثني‪ ،‬وبعض األصوليني‪ ،‬وحكي عن أيب بكر الرازي من‬
‫احلنفية‪ ،‬وهو مذهب الظاهرية‪ ،‬نقله عنهم القاضي عبد الوهاب‪ ،‬ونقله ابن السمعاين عن عبد هللا بن‬
‫عمر‪ ،‬ومجاعة من التابعني منهم ابن سريين‪ ،‬وبه قال األستاذ أبو إسحاق اإلسفرائيين‪ ،‬وال خيفى ما يف‬
‫هذا املذهب من احلرج البالغ أو املخالفة ملا كان عليه السلف واخللف من الرواة‪ ،‬كما تراه يف كثري‬
‫من األحاديث اليت يرويها مجاعة فإن غالبها أبلفاظ خمتلفة مع االحتاد يف‬

‫(‪)191/1‬‬

‫املعىن املقصود‪ ،‬بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم أييت يف بعض احلاالت بلفظ يف رواية‪،‬‬
‫ويف أخرى بغري ذلك اللفظ مما يؤدي معناه‪ ،‬وهذا أمر ال شك فيه‪.‬‬
‫املذهب الثالث‪ :‬التفصيل بني األوامر والنواهي وبني األخبار‪ ،‬فتجوز الرواية ابملعىن يف األول دون‬
‫الثاين‪ .‬قال املاوردي والروايين‪ :‬أما األوامر والنواهي فيجوز روايتهما ابملعىن كقوله‪« :‬ال تبيعوا الذهب‬
‫ابلذهب» وروي أنه هنى عن بيع الذهب ابلذهب‪ ،‬وقوله صلّى هللا عليه وسلم‪ -‬أيضا‪« :-‬اقتلوا‬
‫األسودين يف الصالة» وروي‪ :‬أنه أمر بقتل األسودين يف الصالة‪ .‬قال‪ :‬هذا جائز بال خالف ألن‬
‫«افعل» أمر‪« ،‬وال تفعل» هني‪ ،‬فيتخري الراوي بينهما‪ ،‬وإن كان اللفظ يف املعىن حمتمال مثل‪« :‬ال‬
‫طالق يف إغالق» وجب نقله بلفظه وال يعرب عنه بغريه؛ ألن كلمة «إغالق» حتتمل أكثر من معىن‪.‬‬
‫احلال الثالث‪ :‬أن حيذف الراوي بعض لفظ اخلرب‪ ،‬فينبغي أن ينظر فإن كان احملذوف متعلقا ابحملذوف‬
‫معنواي مل جيز ابالتفاق‪ ،‬حكاه الصفي اهلندي وابن األنباري‪ ،‬فالتعلق اللفظي‬
‫منه تعلقا لفظيّا أو ّ‬
‫كالتقييد ابالستثناء والشرط والغاية والصفة‪ ،‬والتعلق املعنوي كاخلاص ابلنسبة إىل العام‪ ،‬واملقيد‬
‫ابلنسبة إىل املطلق‪ ،‬واملبني ابلنسبة إىل اجململ‪ ،‬والناسخ ابلنسبة إىل املنسوخ‪.‬‬
‫احلال الرابع‪ :‬أن يزيد الراوي يف روايته للخرب على ما مسعه من النيب صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فإن كان ما‬
‫زاده يتضمن بيان سبب احلديث أو تفسري معناه فال أبس بذلك‪ ،‬لكن بشرط أن يبني ما زاده حىت‬
‫يفهم السامع أنه من كالم الراوي‪.‬‬
‫قال املاوردي والروايين‪ :‬جيوز من الصحايب زايدة بيان السبب لكونه مشاهدا للحال‪ ،‬وال جيوز من‬
‫التابعي‪ ،‬وأما تفسري املعىن فيجوز منهما‪.‬‬
‫وال وجه لالقتصار على الصحايب والتابعي يف تفسري معىن احلديث‪ ،‬فذلك جائز لكل من يعرف معناه‬
‫معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بني اخلرب املروي وبني التفسري الواقع منه ِبا‬
‫يفهمه السامع‪ .‬اه «ابختصار وتصرف من إرشاد الفحول للشوكاين»‪.‬‬

‫إيضاح مهم‬
‫إن ما ذكره اإلمام الشوكاين فيما سبق‪ ،‬عبارة عن خالصة وافية متعلقة ابألحاديث اليت تستنبط‬
‫األدلة منها‪ ،‬سواء كانت أحاديث متواترة أو أحاديث آحاد «مستفيضة‪ ،‬أو مشهورة‪ ،‬أو عزيزة‪ ،‬أو‬
‫غريبة»‪ ،‬وسواء كانت األحاديث االحادية صحيحة أو حسنة؛ ألن األحكام الشرعية تؤخذ من‬
‫احلديث احلسن‪ ،‬كما تؤخذ من احلديث الصحيح‪ ،‬وإليك تعريفا خاصا بكل منهما على طريقة‬
‫املؤلفني يف علوم احلديث‪.‬‬

‫(‪)192/1‬‬

‫احلديث الصحيح‬
‫قال النووي يف مقدمته لشرح مسلم‪« :‬الصحيح ما اتصل سنده ابلعدول الضابطني من غري شذوذ‬
‫وال علة»‪ ،‬وقد سبق شرح ذلك للشوكاين ِبا ال حيتاج إىل مزيد‪.‬‬
‫وقال ابن كثري‪ :‬حاصل حد الصحيح‪ :‬أنه املتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله‪ ،‬حىت ينتهي‬
‫إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أو إىل منتهاه‪ ،‬من صحايب أو من دونه‪ ،‬وال يكون شاذّا وال‬
‫مردودا‪ ،‬وال معلال بعلة قادحة‪ ،‬وقد يكون مشهورا‪ ،‬أو عزيزا‪ ،‬أو غريبا‪.‬‬
‫املشهور‪:‬‬
‫والشهرة أمر نسيب‪ ،‬فقد يشتهر عند أهل احلديث أو يتواتر ما ليس عند غريهم ابلكلية‪.‬‬
‫ُث قد يكون املشهور متواترا‪ ،‬أو مستفيضا‪ ،‬وهو ما زاد نقلته على ثالثة‪.‬‬
‫وعن القاضي املاوردي‪ :‬أن املستفيض أقوى من املتواتر‪ ،‬وهذا اصطالح منه‪ .‬وقد يكون املشهور‬
‫صحيحا‪ ،‬كحديث‪« :‬األعمال ابلنيات» وحسنا‪.‬‬
‫وقد يشتهر بني الناس أحاديث ال أصل هلا‪ ،‬أو هي موضوعة ابلكلية‪ ،‬وهذا كثري ج ّدا‪ ،‬ومن نظر يف‬
‫كتاب املوضوعات أليب الفرج ابن اجلوزي عرف ذلك‪ ،‬وقد روي عن اإلمام أمحد أنه قال‪ :‬أربعة‬
‫أحاديث تدور بني الناس يف األسواق ال أصل هلا‪« :‬من بشرين خبروج آذار بشرته ابجلنة»‪ ،‬و «من‬
‫آذى ذميّا فأان خصمه يوم القيامة»‪ ،‬و «حنركم يوم صومكم»‪ ،‬و «للسائل ح ّق وإن جاء على فرس»‪،‬‬
‫والصواب أن احلديث الثاين واحلديث الرابع روامها أبو داود إبسنادين جيدين فهما قواين‪ ،‬وأما‬
‫احلديثان اآلخران فال أصل هلما‪ ،‬ولذا قال العراقي‪ :‬ال يصح هذا الكالم عن اإلمام أمحد‪ .‬اه من‬
‫املقاصد احلسنة‪.‬‬

‫الغريب والعزيز‪:‬‬
‫أما الغرابة‪ :‬فقد تكون يف املنت‪ ،‬أبن يتفرد بروايته راو واحد‪ ،‬أو يف بعضه‪ ،‬كما إذا زاد فيه واحد زايدة‬
‫مل يقلها غريه‪ ،‬وقد تقدم الكالم يف زايدة الثقة‪.‬‬
‫وقد تكون الغرابة يف اإلسناد‪ ،‬كما إذا كان أصل احلديث حمفوظا من وجه آخر أو وجوه‪ ،‬لكنه هبذا‬
‫اإلسناد غريب‪.‬‬
‫فالغريب‪ :‬ما تفرد به واحد‪ ،‬وقد يكون ثقة‪ ،‬وقد يكون ضعيفا‪ ،‬ولكل حكمه‪.‬‬
‫فإن اشرتك اثنان أو ثالثة يف روايته عن الشيخ مسي «عزيزا»‪ ،‬فإن رواه عنه مجاعة مسي «مشهورا»‬
‫كما تقدم‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫(‪)193/1‬‬

‫أقسام الصحيح من حيث القوة‬


‫قال ابن الصالح يف مقدمته‪ :‬إذا انتهى األمر يف معرفة الصحيح إىل ما خرجه األئمة يف تصانيفهم‬
‫الكفيلة ببيان ذلك‪ ،‬فاحلاجة ماسة إىل التنبيه على أقسامه‪.‬‬
‫فأوهلا‪ :‬صحيح أخرجه البخاري ومسلم مجيعا‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬صحيح انفرد به البخاري‪ :‬أي عن مسلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬صحيح انفرد به مسلم‪ :‬أي عن البخاري‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬صحيح على شرطهما ومل خيرجاه‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬صحيح على شرط البخاري ومل خيرجه‪.‬‬
‫السادس‪ :‬صحيح على شرط مسلم ومل خيرجه‪.‬‬
‫السابع‪ :‬صحيح عند غريمها وليس على شرط واحد منهما‪.‬‬
‫هذه أمهات أقسامه‪ ،‬وأعالها األول‪ .‬وهو الذي يقول فيه أهل احلديث كثريا «صحيح متفق عليه»‬
‫يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم‪ ،‬ال اتفاق األمة عليه‪ .‬لكن اتفاق األمة عليه الزم من‬
‫ذلك وحاصل معه؛ التفاقها على تلقي ما اتفقا عليه ابلقبول‪.‬‬
‫حمتجا‬
‫وهذا القسم مجيعه مقطوع بصحته والعلم اليقيين النظري واقع به‪ .‬خالفا لقول من نفى ذلك ّ‬
‫أبنه ال يفيد يف أصله إال الظن‪ ،‬وإمنا تلقته األمة ابلقبول؛ ألنه جيب عليهم العمل ابلظن والظن قد‬
‫قواي ُث ابن يل أن املذهب الذي اخرتانه أوال هو الصحيح؛‬
‫خيطئ‪ .‬وقد كنت أميل إىل هذا وأحسبه ّ‬
‫ألن ظن من هو معصوم من اخلطأ ال خيطئ‪.‬‬
‫واألمة يف إمجاعها معصومة من اخلطأ‪ ،‬وهلذا كان اإلمجاع املبين على االجتهاد حجة مقطوعا هبا‪،‬‬
‫وأكثر إمجاعات العلماء كذلك‪ .‬وهذه نكتة نفيسة انفعة‪.‬‬
‫ومن فوائدها‪ :‬القول أبن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج يف قبيل ما يقطع بصحته لتلقي األمة‬
‫كل واحد من كتابيهما ابلقبول على الوجه الذي فصلناه من حاهلما فيما سبق‪ ،‬سوى أحرف يسرية‬
‫تكلم عليها بعض أهل النقد من احلفاظ كالدارقطين وغريه وهي معروفة عند أهل هذا الشأن‪( .‬ورجح‬
‫بعض العلماء أن مراد الدارقطين أن األحاديث اليت انتقدها ليست يف املستوى العايل الذي جاءت‬
‫عليه أحاديث البخاري ومسلم‪ .‬ال أهنا أحاديث ضعيفة وهذا هو القول الراجح عند احملققني)‪.‬‬

‫(‪)194/1‬‬

‫حكم املعلق يف البخاري ومسلم‬


‫ما أسنده البخاري ومسلم رمحهما هللا يف كتابيهما ابإلسناد املتصل‪ ،‬فذلك الذي حكمناه بصحته بال‬
‫إشكال‪.‬‬
‫وأما «املعلق» وهو الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر‪ ،‬وأغلب ما وقع ذلك يف كتاب‬
‫البخاري وهو يف كتاب مسلم قليل ج ّدا‪ ،‬ففي بعضه نظر‪ .‬وينبغي أن نقول‪ :‬ما كان من ذلك وحنوه‬
‫بلفظ فيه جزم وحكم به على من علقه فقد حكم بصحته عنه‪ ،‬مثاله‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم كذا وكذا‪ ،‬قال ابن عباس كذا‪ ،‬قال جماهد كذا‪ ،‬قال عفان كذا‪ ،‬قال القعنيب كذا‪ ،‬روى أبو‬
‫هريرة كذا وكذا‪ ،‬وما أشبه ذلك من العبارات‪ ،‬فكل ذلك حكم منه على من ذكره عنه أبنه قد قال‬
‫ذلك ورواه‪ ،‬فلن يستجيز إطالق ذلك إال إذا صح عنده ذلك عنه‪ُ ،‬ث إذا كان الذي علق احلديث‬
‫عنه دون الصحابة فاحلكم بصحته يتوقف على اتصال اإلسناد بينه وبني الصحايب‪.‬‬
‫وأما ما مل يكن يف لفظه جزم وحكم‪ .‬مثل‪ :‬روي عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم كذا وكذا‪ ،‬أو‬
‫روي عن فالن كذا وكذا‪ ،‬أو يف الباب عن النيب صلّى هللا عليه وسلم كذا وكذا‪ ،‬فهذا وما أشبهه من‬
‫األلفاظ ليس يف شيء منه بصحة ذلك عمن ذكره عنه؛ ألن مثل هذه العبارات تستعمل يف احلديث‬
‫الضعيف‪ -‬أيضا‪ ،‬ومع ذلك فإيراده له يف أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن‬
‫إليه‪ .‬اه ابن الصالح‪.‬‬

‫الفرق بني‪ :‬صحيح وصحيح اإلسناد‬


‫قوهلم‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد أو حسن اإلسناد‪ .‬دون قوهلم‪ :‬هذا حديث صحيح أو حديث‬
‫حسن؛ ألنه قد قال‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد‪ .‬وال يصح؛ لكونه شاذّا أو معلال‪ ،‬غري أن املصنّف‬
‫املعتمد منهم إذا اقتصر على قوله‪ :‬إنه صحيح اإلسناد ومل يذكر له علة ومل يقدح فيه‪ ،‬فالظاهر منه‬
‫احلكم له أبنه صحيح يف نفسه؛ ألن عدم العلة والقادح هو األصل والظاهر‪.‬‬

‫مىت يصري احلسن صحيحا؟‬


‫والسرت‪،‬‬
‫إذا كان راوي احلديث متأخرا عن درجة أهل احلفظ واإلتقان غري أنه من املشهورين ابلصدق ّ‬
‫وروي مع ذلك حديثه من غري وجه فقد اجتمعت له القوة من اجلهتني‪ ،‬وذلك يرقّي حديثه من درجة‬
‫احلسن إىل درجة الصحيح‪.‬‬

‫(‪)195/1‬‬
‫مثاله‪ :‬حديث حممد بن عمرو عن أيب سلمة عن أيب هريرة أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫«لوال أن أشق على أميت ألمرهتم ابلسواك عند كل صالة» فمحمد بن عمرو بن علقمة من‬
‫املشهورين ابلصدق والصيانة‪ ،‬لكنه مل يكن من أهل اإلتقان حىت ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه‬
‫ووثقه بعضهم لصدقه وجاللته‪ ،‬فحديثه من هذه اجلهة حسن‪ ،‬فلما انضم إىل ذلك كونه روي من‬
‫أوجه أخر زال بذلك ما كنا خنشاه عليه من جهة سوء حفظه واجنرب به ذلك النقص اليسري‪ ،‬فصح‬
‫هذا اإلسناد والتحق بدرجة الصحيح‪ ،‬وهللا أعلم‪ .‬اه ابن الصالح‪.‬‬

‫واي‬
‫مىت يكون الضعيف ق ّ‬
‫لعل الباحث الفهم يقول‪ :‬إان جند أحاديث حمكوما بضعفها مع كوهنا قد رويت أبسانيد كثرية من وجوه‬
‫عديدة مثل حديث‪« :‬األذانن من الرأس» وحنوه فهال جعلتم ذلك وأمثاله من نوع احلسن؛ ألن بعض‬
‫ذلك عضد بعضا كما قلتم يف نوع احلسن على ما سبق آنفا؟‪.‬‬
‫وجواب ذلك‪ :‬أنه ليس كل ضعف يف احلديث يزول ِبجيئه من وجوه‪ ،‬بل ذلك يتفاوت‪ ،‬فمنه ضعف‬
‫يزيله ذلك أبن يكون ضعفه انشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والداينة‪ .‬فإذا رأينا‬
‫خيتل فيه ضبطه له‪ .‬وكذلك إذا كان ضعفه‬
‫ما رواه قد جاء من وجه آخر؛ عرفنا أنه مما قد حفظه ومل ّ‬
‫من حيث اإلرسال زال بنحو ذلك‪ ،‬كما يف املرسل الذي يرسله إمام حافظ؛ إذ فيه ضعف قليل يزول‬
‫بروايته من وجه آخر‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬ضعف ال يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا اجلابر عن‬
‫جربه ومقاومته‪ ،‬وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما ابلكذب‪ ،‬أو كون احلديث شاذّا‪،‬‬
‫وهذه مجلة تفاصيلها تدرك ابملباشرة والبحث‪ ،‬فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫أول من مجع صحاح احلديث‬


‫أول من اعتىن جبمع الصحيح‪ :‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬وتاله صاحبه وتلميذه أبو‬
‫احلسني مسلم بن احلجاج النيسابوري‪ .‬فهما أصح كتب احلديث‪ ،‬والبخاري أرجح؛ ألنه اشرتط يف‬
‫إخراجه احلديث يف كتابه هذا‪ :‬أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده مساعه منه‪ ،‬ومل يشرتط‬
‫مسلم الثاين‪ ،‬بل اكتفى ِبجرد املعاصرة‪.‬‬
‫ومن هنا ينفصل لك النزاع يف ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم‪ ،‬كما هو قول اجلمهور‪،‬‬
‫خالفا أليب علي النيسابوري شيخ احلاكم‪ ،‬وطائفة من علماء املغرب‪.‬‬

‫(‪)196/1‬‬
‫ُث إن البخاري ومسلما مل يلتزما إبخراج مجيع ما حيكم بصحته من األحاديث؛ فإهنما قد صححا‬
‫أحاديث ليست يف كتابيهما‪ ،‬كما ينقل الرتمذي وغريه عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده‪،‬‬
‫بل يف السنن وغريها‪.‬‬

‫عدد ما يف الصحيحني من احلديث‬


‫قال ابن الصالح‪ :‬مجيع ما يف البخاري ابملكرر‪ :‬سبعة آالف حديث ومائتان ومخسة وسبعون حديثا‪.‬‬
‫وبغري املكرر أربعة آالف‪.‬‬
‫وقال أمحد شاكر‪ :‬الذي حرره احلافظ ابن حجر يف مقدمته فتح الباري‪ :‬أن عدة ما يف البخاري من‬
‫املتون املوصولة بال تكرار (‪ )2602‬ومن املتون املعلقة املرفوعة (‪.)159‬‬
‫فمجموع ذلك (‪ .)2761‬وأن عدة أحاديثه ابملكرر وِبا فيه من التعليقات واملتابعات واختالف‬
‫الرواايت (‪.)9082‬‬
‫وهذا غري ما فيه من املوقوف على الصحابة وأقوال التابعني‪.‬‬
‫ومجيع ما يف صحيح مسلم بال تكرار‪ :‬حنو أربعة آالف حديث‪ .‬قال العراقي‪:‬‬
‫وهو ابملكرر يزيد على عدة كتاب البخاري‪ :‬لكثرة طرقه‪ .‬قال‪ :‬وقد رأيت عن أيب الفضل أمحد بن‬
‫مسلمة أنه اثنا عشر ألف حديث‪ .‬اه‪.‬‬

‫الزايدات على الصحيحني‬


‫خرجت كتب كثرية على الصحيحني يؤخذ منها زايدات مفيدة‪ ،‬وأسانيد‬
‫قال يف الباعث احلثيث‪ :‬وقد ّ‬
‫جيدة‪ ،‬كصحيح أيب عوانة‪ ،‬وأيب بكر اإلمساعيلي‪ ،‬والربقاين وأيب نعيم األصبهاين‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وكتب أخر‬
‫التزم أصحاهبا صحتها‪ ،‬كابن خزمية‪ ،‬وابن حبان البسيت‪ ،‬ومها خري من املستدرك بكثري‪ ،‬وأنظف‬
‫أسانيدا ومتوان‪.‬‬
‫وكذلك يوجد يف مسند اإلمام أمحد من األسانيد واملتون شيء كثري مما يوازي كثريا من أحاديث‬
‫مسلم‪ ،‬بل والبخاري أيضا‪ ،‬وليست عندمها وال عند أحدمها‪ ،‬بل ومل خيرجه أحد من أصحاب الكتب‬
‫األربعة‪ ،‬وهم‪ :‬أبو داود‪ ،‬والرتمذي‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وابن ماجه‪.‬‬
‫قال أمحد شاكر‪ :‬هذا كالم جيد حمقق فإن «املسند» لإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬وهو عندان أعظم دواوين‬
‫السنة‪ .‬وفيه أحاديث صحاح كثرية مل خترج يف الكتب الستة‪ ،‬كما قال احلافظ ابن كثري‪.‬‬
‫قال يف الباعث‪ :‬وكذلك يوجد يف معجمي الطرباين الكبري واألوسط‪ ،‬ومسندي أيب يعلى‬

‫(‪)197/1‬‬

‫والبزار‪ ،‬وغري ذلك من املسانيد واملعاجم والفوائد واألجزاء‪ :‬ما يتمكن املتبحر يف هذا الشأن من‬
‫احلكم بصحة كثري منه‪ ،‬بعد النظر يف حال رجاله وسالمته من التعليل املفسد‪ .‬اه‪.‬‬
‫وقد مجع احلافظ اهليثمي (املتويف سنة ‪ 807‬هـ) زوائد ستة كتب‪ .‬وهي‪ :‬مسند أمحد‪ ،‬وأيب يعلى‪،‬‬
‫والبزار‪ ،‬ومعاجم الطرباين الثالثة‪ :‬الكبري واألوسط والصغري على الكتب الستة‪ ،‬أي ما رواه هؤالء‬
‫األئمة األربعة يف كتبهم زائدا على ما يف الكتب الستة املعروفة‪ ،‬وهي‪ :‬الصحيحان والسنن األربعة‪.‬‬
‫فكان كتااب حافال انفعا مساه «جممع الزوائد»‪ ،‬طبع ِبصر سنة (‪ )1352‬يف عشرة جملدات كبار‪.‬‬
‫وتكلم فيه على إسناد كل حديث‪ ،‬مع نسبته إىل من رواه منهم‪ ،‬واملتتبع له جيد أن الصحيح منها‬
‫كثري يزيد على النصف‪ ،‬وأن أكثر الصحيح هو ما رواه اإلمام أمحد يف مسنده‪.‬‬
‫وجيوز له اإلقدام على ذلك‪ ،‬وإن مل ينص على صحته حافظ قبله‪ ،‬موافقة للشيخ أيب زكراي حيىي‬
‫النووي‪ ،‬وخالفا للشيخ أيب عمرو بن الصالح الذي ذهب إىل أنه قد تعذر يف هذه األعصار‬
‫االستقالل إبدراك الصحيح ِبجرد اعتبار األسانيد‪ ،‬ومنع‪ -‬بناء على هذا‪ -‬من اجلزم بصحة حديث‬
‫مل جنده يف أحد الصحيحني وال منصوصا على صحته يف شيء من مصنفات أئمة احلديث املعتمدة‬
‫املشهورة‪ .‬وبىن على قوله هذا‪ :‬أن ما صححه احلاكم من األحاديث ومل جند فيه لغريه من املعتمدين‬
‫تصحيحا وال تضعيفا‪:‬‬
‫حكمنا أبنه حسن‪ ،‬إال أن يظهر فيه علة توجب ضعفه‪ ،‬وقد رد العراقي وغريه قول ابن الصالح هذا‪،‬‬
‫وأجازوا ملن متكن وقويت معرفته أن حيكم ابلصحة أو ابلضعف على احلديث‪ ،‬بعد الفحص عن‬
‫إسناده وعلله وهو الصواب‪.‬‬
‫والذي أراه أن ابن الصالح ذهب إىل ما ذهب إليه بناء على القول ِبنع االجتهاد بعد األئمة‪ ،‬فكما‬
‫حظروا االجتهاد يف الفقه أراد ابن الصالح أن مينع االجتهاد يف احلديث‪.‬‬
‫وهيهات فالقول ِبنع االجتهاد قول ابطل‪ ،‬ال برهان عليه من كتاب وال سنة وال جتد له شبه دليل‪.‬‬
‫اه‪ .‬أمحد شاكر‪.‬‬
‫موطأ مالك‬
‫(تنبيه) قول اإلمام حممد بن إدريس الشافعي رمحه هللا‪ :‬ال أعلم كتااب يف هذا العلم أكثر صوااب من‬
‫كتاب مالك‪ ،‬إمنا قاله قبل البخاري ومسلم‪ .‬وقد كانت كتب كثرية مصنفة يف ذلك الوقت يف السنن‪،‬‬
‫قرة موسى بن طارق الزبيدي‪ ،‬ومصنف عبد الرزاق‬
‫البن جريج‪ ،‬وابن إسحاق‪ -‬غري السرية‪ -‬وأليب ّ‬
‫بن مهام‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬

‫(‪)198/1‬‬

‫وكان كتاب مالك وهو (املوطأ) أجلّها وأعظمها نفعا‪ ،‬وإن كان بعضها أكرب حجما منه وأكثر‬
‫أحاديث‪.‬‬
‫قال السيوطي يف شرح املوطأ‪ :‬الصواب إطالق أن املوطأ صحيح‪ ،‬ال يستثىن منه شيء «‪ »1‬وهذا‬
‫غري صواب‪ ،‬واحلق أن ما يف (املوطأ) من األحاديث املوصولة املرفوعة إىل رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم صحاح كلها‪ ،‬بل هي يف الصحة كأحاديث الصحيحني‪ ،‬وأن ما فيه من املراسيل والبالغات‬
‫وغريها يعترب فيها ما يعترب يف أمثاهلا‪ ،‬مما حتويه الكتب األخرى‪ .‬وإمنا مل يع ّد يف الكتب الصحاح لكثرهتا‬
‫وكثرة اآلراء الفقهية ملالك وغريه‪.‬‬
‫ُث إن (املوطأ) رواه عن مالك كثري من األئمة‪ ،‬والذي يف أيدينا منه رواية حيىي الليثي‪ ،‬وهي املشهورة‬
‫اآلن‪ .‬ورواية حممد بن احلسن صاحب أيب حنيفة‪ ،‬وهي مطبوعة يف اهلند‪.‬‬
‫وقد طلب املنصور من اإلمام مالك أن جيمع الناس على كتابه‪ ،‬فلم جيبه إىل ذلك‪ .‬وذلك من متام‬
‫علمه واتصافه ابإلنصاف‪ ،‬وقال‪ :‬إن الناس قد مجعوا واطلعوا على أشياء مل نطّلع عليها‪.‬‬
‫وقد اعتىن الناس بكتابة (املوطأ) وعلقوا عليه كتبا مجّة‪ .‬ومن أجود ذلك كتااب (التمهيد)‪ ،‬و‬
‫(االستذكار) للشيخ أيب عمر ابن عبد الرب النّمري القرطيب‪ .‬اه من الباعث وشرحه‪.‬‬

‫إطالق اسم الصحيح على الرتمذي والنسائي‬


‫كان احلاكم أبو عبد هللا‪ ،‬واخلطيب البغدادي يسميان كتاب الرتمذي‪« :‬اجلامع الصحيح»‪ .‬وهذا‬
‫تساهل منهما‪ .‬فإن فيه أحاديث كثرية منكرة‪ .‬وقول احلافظ أيب علي ابن السكن‪ ،‬وكذا اخلطيب‬
‫البغدادي يف كتاب «السنن» للنسائي‪ :‬إنه صحيح‪ ،‬فيه نظر‪ .‬وإن له شرطا يف الرجال أش ّد من شرط‬
‫مسلم غري مسلّم؛ فإن فيه رجاال جمهولني‪ :‬إما عينا‪ ،‬وإما حاال‪ ،‬وفيهم اجملروح‪ ،‬وفيه أحاديث ضعيفة‬
‫ومعللة ومنكرة‪ ،‬كما نبهنا عليه يف «األحكام الكبري»‪ .‬اه‪ .‬ابن كثري‪.‬‬

‫مسند اإلمام أمحد‬


‫وأما قول احلافظ أيب موسى حممد بن أيب بكر املديين عن مسند اإلمام أمحد‪ :‬إنه صحيح‪ :‬فقول‬
‫ضعيف‪ ،‬فإن فيه أحاديث ضعيفة‪ ،‬بل وموضوعة‪ ،‬كأحاديث فضائل مرو‪ ،‬وعسقالن‪ ،‬والربث (األرض‬
‫اللينة) األمحر عند محص‪ ،‬وغري ذلك كما قد نبه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬شرح املوطأ للسيوطي ص‪.8 :‬‬

‫(‪)199/1‬‬

‫عليه طائفة من احلفاظ‪.‬‬


‫وللشيخ ابن تيمية كالم حسن يف ذلك ذكره يف (التوسل والوسيلة) حمصلة‪ ،‬إن كان املراد ابملوضوع‬
‫ما يف سنده كذاب فليس يف املسند من ذلك شيء‪ ،‬وإن كان املراد ما مل يقله النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬لغلط راويه وسوء حفظه‪ .‬ففي املسند والسنن من ذلك كثري‪.‬‬

‫الكتب اخلمسة‬
‫وقول احلافظ أيب طاهر السلفي يف األصول اخلمسة يعين البخاري‪ ،‬ومسلم‪ ،‬وسنن أيب داود‪،‬‬
‫والرتمذي‪ ،‬والنسائي‪ ،‬إنه اتفق على صحتها علماء املشرق واملغرب‪:‬‬
‫تساهل منه‪ .‬وقد أنكره ابن الصالح وغريه‪ .‬قال ابن الصالح‪ :‬وهي مع ذلك أعلى رتبة من كتب‬
‫املسانيد كمسند عبد بن محيد‪ ،‬والدارمي‪ ،‬وأمحد بن حنبل‪ ،‬وأيب يعلى والبزار‪ ،‬وأيب داود الطيالسي‪،‬‬
‫واحلسن بن سفيان‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وعبيد هللا بن موسى وغريهم‪ .‬اه‪ .‬ابن كثري‪.‬‬

‫احلديث احلسن‬
‫قال اإلمام النووي يف مقدمته على شرح صحيح مسلم‪ :‬وأما احلسن فقد تقدم قول اخلطايب رمحه هللا‪:‬‬
‫أنه ما عرف خمرجه واشتهر رجاله‪.‬‬
‫وقال أبو عيسى الرتمذي‪ :‬احلسن‪ :‬ما ليس يف إسناده من يتهم وليس بشاذ وروي من غري وجه‪.‬‬
‫وضبط الشيخ اإلمام أبو عمرو ابن الصالح رمحه هللا احلسن فقال‪ :‬هو قسمان‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬الذي ال خيلو إسناده من مستور مل تتحقق أهليته وليس كثري اخلطأ فيما يرويه وال ظهر منه‬
‫مفسق‪ ،‬ويكون منت احلديث قد عرف أبن روي مثله أو حنوه من وجه‬
‫تعمد الكذب وال سبب آخر ّ‬
‫آخر‪.‬‬
‫القسم الثاين‪ :‬أن يكون راويه من املشهورين ابلصدق واألمانة‪ ،‬ومل يبلغ درجة رجال الصحيح لقصوره‬
‫عنهم يف احلفظ واإلتقان‪ ،‬إال أنه مرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا‪ .‬قال‪ :‬وعلى القسم األول ينزل‬
‫كالم الرتمذي‪ ،‬وعلى الثاين كالم اخلطايب فاقتصر كل واحد منهما على قسم رآه خفيّا‪ ،‬وال بد يف‬
‫القسمني من سالمتهما من الشذوذ والعلة‪.‬‬
‫ُث احلسن وإن كان دون الصحيح فهو كالصحيح يف جواز االحتجاج به‪.‬‬

‫(‪)200/1‬‬

‫وأما الضعيف‪ :‬فهو ما مل يوجد فيه شروط الصحة وال شروط احلسن‪ .‬وأنواعه كثرية منها‪ :‬املوضوع‪،‬‬
‫واملقلوب‪ ،‬والشاذ‪ ،‬واملعلل‪ ،‬واملضطرب وغري ذلك‪.‬‬
‫وهلذه األنواع حدود وأحكام وتفريعات معروفة عند أهل هذه الصنعة‪ ،‬وقد أتقنها مع ما حيتاج إليه‬
‫طالب احلديث من األدوات واملقدمات ويستعني به يف مجيع احلاالت اإلمام احلافظ أبو عمرو ابن‬
‫الصالح يف كتابه «علوم احلديث»‪.‬‬

‫الرتمذي أصل يف معرفة احلسن‬


‫قال ابن الصالح يف علوم احلديث‪ :‬كتاب أيب عيسى الرتمذي أصل يف معرفة احلديث احلسن‪ ،‬وهو‬
‫الذي نوه ابمسه وأكثر من ذكره يف جامعه‪ ،‬ويوجد يف متفرقات من كالم بعض مشاخيه والطبقة اليت‬
‫قبله كأمحد بن حنبل والبخاري وغريمها‪ ،‬وخيتلف النسخ من كالم الرتمذي يف قوله‪ :‬هذا حديث‬
‫حسن‪ ،‬وهذا حديث حسن صحيح‪ ،‬وحنو ذلك؛ فينبغي أن تصحح أصلك جبماعة أصول‪ ،‬وتعتمد‬
‫ما اتفقت عليه‪.‬‬

‫أبو داود سننه من مظان احلسن‬


‫قال‪ :‬ومن مظانه سنن أيب داود‪ ،‬روينا عنه أنه قال‪ :‬ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه‪ ،‬وما كان فيه‬
‫وهن شديد بينته‪ ،‬وما مل أذكر فيه شيئا فهو صاحل‪ ،‬وبعضها أصح من بعض‪ .‬قال‪ :‬وروي عنه أنه‬
‫يذكر يف كل ابب أصح ما عرف فيه‪.‬‬
‫سكت عنه فهو حسن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(قلت)‪ :‬ويروى عنه أنه قال‪ :‬وما‬
‫قال ابن الصالح‪ :‬فما وجدانه يف كتابه مذكورا مطلقا‪ ،‬وليس يف واحد من الصحيحني‪ ،‬وال نص على‬
‫صحته أحد فهو حسن عند أيب داود‪.‬‬
‫(قلت)‪ :‬الرواايت عن أيب داود بكتابه «السنن» كثرية ج ّدا ويوجد يف بعضها من الكالم‪ ،‬بل‬
‫اآلجري عنه أسئلة يف اجلرح والتعديل‪ ،‬والتصحيح‬
‫واألحاديث ما ليس يف األخرى‪ ،‬وأليب عبيد ّ‬
‫سكت عنه فهو‬
‫ّ‬ ‫والتعليل‪ ،‬كتاب مفيد‪ .‬ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها يف سننه‪ .‬فقوله‪« :‬وما‬
‫حسن» ما سكت عنه يف سننه فقط؟ أو مطلقا؟‪.‬‬
‫هذا مما ينبغي التنبيه عليه‪ ،‬والتيقظ له‪.‬‬
‫فائدة‪ :‬وقال‪ :‬احلكم ابلصحة أو احلسن على اإلسناد ال يلزم منه احلكم بذلك على‬

‫(‪)201/1‬‬

‫املنت؛ إذ قد يكون شاذّا أو معلال‪ .‬اه من الباعث احلثيث‪.‬‬

‫مفهوم قول الرتمذي‪ :‬حسن صحيح‬


‫قول الرتمذي يف جامعه‪ :‬هذا حديث حسن صحيح مشكل عند رجال احلديث‪ ،‬إذ كيف يتأتى اجلمع‬
‫خاصا به؟ وقد أجاب‬
‫يف حديث واحد بني الصحة واحلسن بعد أن عرفنا أن لكل منهما تعريفا ّ‬
‫العلماء عن ذلك أبجوبة كثرية مل تسلم كلها من النقد‪ ،‬واإلجابة اليت ارتضاها احلافظ ابن حجر هي‬
‫إجابة ابن دقيق العيد حيث قال‪ :‬والذي أقول يف جواب هذا السؤال‪ :‬إنه ال يشرتط يف احلسن قيد‬
‫القصور عن الصحيح‪ ،‬وإمنا جييئه القصور ويفهم ذلك فيه إذا اقتصر على قوله «حسن»‪ .‬فالقصور‬
‫أيتيه من قيد االقتصار ال من حيث حقيقته وذاته‪.‬‬
‫وشرح ذلك وبيانه‪ :‬أن ها هنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواية‪ ،‬ولتلك الصفات درجات بعضها‬
‫فوق بعض‪ ،‬كالتيقظ‪ ،‬واحلفظ‪ ،‬واإلتقان مثال؛ فوجود الدرجة الدنيا كالصدق‪ ،‬وعدم التهمة ابلكذب‪،‬‬
‫ال ينافيه وجود ما هو أعلى منه كاحلفظ واإلتقان‪ .‬فإذا وجدت الدرجة العليا مل يناف ذلك وجود‬
‫الدنيا كاحلفظ مع الصدق‪ ،‬فيصح أن يقال يف هذا إنه حسن ابعتبار وجود الصفة الدنيا وهي‬
‫الصدق مثال‪ ،‬صحيح ابعتبار الصفة العليا وهي احلفظ واإلتقان‪ ،‬ويلزم على هذا أن يكون كل‬
‫صحيح حسنا‪ ،‬ويؤيده ورود قوهلم‪ :‬هذا حديث حسن يف األحاديث الصحيحة‪ ،‬وهذا موجود يف‬
‫كالم املتقدمني‪ .‬اه‪.‬‬

‫حكم احلديث املوقوف‬


‫قال النووي‪ :‬إذا قال الصحايب قوال أو فعل فعال فقد قدمنا أنه يسمى «موقوفا»‪ ،‬وهل حيتج به؟ فيه‬
‫تفصيل واختالف‪.‬‬
‫قال أصحابنا‪ :‬إن مل ينتشر فليس هو إمجاعا‪ ،‬وهل هو حجة؟ فيه قوالن للشافعي رمحه هللا تعاىل ومها‬
‫مشهوران‪ ،‬أصحهما اجلديد‪ :‬أنه ليس حبجة‪ ،‬والثاين وهو القدمي‪ :‬أنه حجة‪ .‬فإن قلنا حجة؛ ق ّدم على‬
‫التابعي وغريه العمل به‪ ،‬ومل جتز خمالفته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القياس‪ ،‬ولزم‬
‫وهل خيص به العموم؟ فيه وجهان‪ .‬وإذا قلنا‪ :‬ليس حبجة؛ فالقياس مقدم عليه‪ ،‬وجيوز للتابعي خمالفته‪.‬‬

‫(‪)202/1‬‬

‫فأما إذا اختلف الصحابة رضي هللا عنهم على قولني‪ ،‬فإن قلنا ابجلديد؛ مل جيز تقليد واحد من‬
‫الفريقني بل يطلب الدليل‪ ،‬وإن قلنا ابلقدمي؛ فهما دليالن تعارضا فريجح أحدمها على اآلخر‬
‫ابملرجحات املعتمدة‪.‬‬
‫أما إذا قال التابعي قوال ومل ينتشر؛ فليس حبجة بال خالف‪ ،‬وإن انتشر وخولف؛ فليس حبجة بال‬
‫خالف أيضا‪ ،‬وإن انتشر ومل خيالف؛ فظاهر كالم مجاهري أصحابنا أن‬
‫حكمه حكم قول الصحايب املنتشر من غري خمالفة‪ ،‬وحكى بعض أصحابنا فيه وجهني‪ :‬أصحهما هذا‪،‬‬
‫والثاين ليس حبجة‪.‬‬
‫قال صاحب الشامل من أصحابنا‪ :‬الصحيح أنه يكون إمجاعا وهذا هو األفقه‪ ،‬وال فرق يف هذا بني‬
‫الصحايب والتابعي‪.‬‬

‫املعنعن‬
‫اإلسناد املعنعن وهو فالن عن فالن‪ .‬قال بعض العلماء‪ :‬هو مرسل‪ ،‬والصحيح الذي عليه العمل‪،‬‬
‫وقاله اجلماهري من أصحاب احلديث والفقه واألصول‪ :‬أنه متصل بشرط أن يكون املعنعن غري‬
‫مدلس‪ ،‬وبشرط إمكان لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا‪ ،‬ويف اشرتاط ثبوت اللقاء وطول‬
‫الصحبة ومعرفته ابلرواية عنه خالف‪.‬‬
‫منهم من مل يشرتط شيئا من ذلك‪ ،‬وهو مذهب مسلم‪ ،‬وادعى اإلمجاع عليه‪.‬‬
‫علي بن املديين والبخاري‪ ،‬وأبو بكر الصرييف‬
‫ومنهم من شرط ثبوت اللقاء وحده وهو مذهب ّ‬
‫الشافعي‪ ،‬واحملققني‪ ،‬وهو الصحيح‪.‬‬
‫ومنهم من شرط الصحبة وهو قول أيب املظفر السمعاين الفقيه الشافعي‪ ،‬ومنهم من شرط أن يكون‬
‫معروفا ابلرواية عنه‪ ،‬وبه قال أبو عمرو املقرئ‪.‬‬

‫احلديث املؤنن‬
‫وأما إذا قال‪ :‬حدثنا الزهري‪ ،‬أن ابن املسيب قال كذا‪ ،‬أو حدث بكذا‪ ،‬أو فعل أو ذكر أو روى أو‬
‫حنو ذلك؛ فإنه يسمى «املؤنن»‪ .‬وحكمه أنه عند اجلماهري مثل املعنعن‪ ،‬حممول على السماع ابلشرط‬
‫املتقدم‪ ،‬وهذا هو الصحيح‪.‬‬
‫اه‪ .‬النووي‪.‬‬

‫(‪)203/1‬‬

‫االعتبار واملتابعة والشاهد‬


‫إذا روى محاد مثال حديثا‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن ابن سريين‪ ،‬عن أيب هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬عن النيب صلّى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬ينظر هل رواه ثقة غري محاد عن أيوب أو عن ابن سريين غري أيوب أو عن أيب هريرة‬
‫غري ابن سريين‪ ،‬أو عن النيب صلّى هللا عليه وسلم غري أيب هريرة؛ فأي ذلك وجد علم أن له أصال‬
‫يسمى اعتبارا‪.‬‬
‫يرجع إليه‪ ،‬فهذا النظر والتفتيش ّ‬
‫املتابعة‬
‫املتابعة‪ :‬مثل أن يروى احلديث عن أيوب غري محاد‪ ،‬أو عن ابن سريين غري أيوب‪ ،‬أو عن أيب هريرة‬
‫يسمى‬
‫غري ابن سريين‪ ،‬أو عن النيب صلّى هللا عليه وسلم غري أيب هريرة؛ فكل واحد من هذه األقسام ّ‬
‫«متابعة» وأعالها األوىل؛ وهي متابعة محاد يف الرواية عن أيوب‪ُ ،‬ث ما بعدها على الرتتيب‪.‬‬
‫الشاهد‬
‫وتسمى املتابعة شاهدا‪ ،‬وال يسمى الشاهد متابعة‪.‬‬
‫الشاهد هو‪ :‬أن يروى حديث آخر ِبعناه‪ّ .‬‬
‫وإذا قالوا يف حنو هذا‪ :‬تفرد به أبو هريرة‪ ،‬أو ابن سريين‪ ،‬أو أيوب‪ ،‬أو محاد؛ كان مشعرا ابنتفاء وجوه‬
‫املتابعات كلها‪.‬‬
‫واعلم أنه يدخل يف املتابعات واالستشهاد رواية بعض الضعفاء‪ ،‬وال يصلح لذلك كل ضعيف‪ ،‬وإمنا‬
‫يفعلون هذا لكون التابع ال اعتماد عليه‪ ،‬وإمنا االعتماد على من قبله‪.‬‬

‫الشاذ واملنكر‬
‫إذا انتفت املتابعات‪ ،‬ومتحض فردا فله أربعة أحوال‪:‬‬
‫‪ -‬حال يكون خمالفا لرواية من هو أحفظ منه‪ ،‬فهذا ضعيف‪ ،‬ويسمى شاذّا ومنكرا‪.‬‬
‫‪ -‬وحال ال يكون خمالفا ويكون هذا الراوي حافظا ضابطا متقنا‪ ،‬فيكون صحيحا‪.‬‬
‫‪ -‬وحال يكون قاصرا عن هذا الراوي‪ ،‬ولكنه قريب من درجته‪ ،‬فيكون حديثه حسنا‪.‬‬

‫(‪)204/1‬‬

‫‪ -‬وحال يكون بعيدا عن حاله فيكون شاذّا منكرا مردودا‪.‬‬


‫فتحصل أن الفرد قسمان‪ :‬مقبول ومردود‪ ،‬واملقبول ضرابن‪ :‬فرد ال خيالف‪ ،‬وراويه كامل األهلية‪.‬‬
‫وفرد هو قريب منه‪.‬‬
‫واملردود‪ -‬أيضا‪ -‬ضرابن‪ :‬فرد خمالف لألحفظ‪ ،‬وفرد ليس يف راويه من احلفظ واإلتقان ما جيرب تفردا‪.‬‬

‫القول يف خلط الثقة‬


‫إذا خلط الثقة الختالل ضبطه خبرف أو هرم‪ ،‬أو لذهاب بصره أو حنو ذلك‪ ،‬قبل حديث من أخذ‬
‫عنه قبل االختالط‪ ،‬وال يقبل حديث من أخذ عنه بعد االختالط‪ ،‬أو شككنا يف وقت أخذه‪.‬‬
‫فمن اخلالطني‪ :‬عطاء بن السائب‪ ،‬وأبو إسحاق السبيعي‪ ،‬وسعيد اجلريري‪ ،‬وسعيد بن أيب عروبة‪،‬‬
‫وعبد الرمحن بن عبد هللا املسعودي‪ ،‬وربيعة أستاذ مالك‪ ،‬وصاحل موىل التوأمة‪ ،‬وحصني بن عبد‬
‫الوهاب الكويف‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ .‬قال حيىي القطان‪ :‬أشهد أنه اختلط سنة سبع وتسعني‪ ،‬وتوىف سنة‬
‫تسع وتسعني‪ ،‬وعبد الرزاق بن مهام عمي يف آخر عمره وكان يتلقن‪ ،‬وعارم اختلط آخرا‪ ،‬واعلم أن‬
‫حمتجا به يف الصحيحني فهو مما علم أنه أخذ قبل االختالط‪.‬‬
‫ما كان من هذا القبيل ّ‬
‫بيان الناسخ واملنسوخ‬
‫هذه أحرف خمتصرة يف بيان الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وحكم احلديثني املختلفني ظاهرا‪.‬‬
‫أما النسخ‪ :‬فهو رفع الشارع حكما منه‪ ،‬متقدما حبكم منه متأخر‪ .‬هذا هو املختار يف ح ّده‪ ،‬وقد قيل‬
‫فيه غري ذلك‪ ،‬وقد أدخل فيه كثريون أو األكثرون من املصنفني يف احلديث ما ليس منه‪ ،‬بل هو من‬
‫قسم التخصيص أو ليس منسوخا وال خمصصا بل مؤوال أو غري ذلك‪.‬‬

‫مب يعرف النسخ؟‬


‫النسخ يعرف أبمور‪:‬‬
‫منها‪ :‬تصريح رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم به‪« :‬كنت هنيتكم عن زايرة القبور فزوروها»‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬قول الصحايب‪ :‬كان آخر األمرين ترك الوضوء مما مست النار‪.‬‬

‫(‪)205/1‬‬

‫ومنها‪ :‬ما يعرف ابلتاريخ‪.‬‬


‫ومنها‪ :‬ما يعرف ابإلمجاع‪ ،‬كقتل شارب اخلمر يف املرة الرابعة؛ فإنه منسوخ عرف نسخه ابإلمجاع‪.‬‬
‫واإلمجاع ال ينسخ وال ينسخ لكن يدل على وجود انسخ‪.‬‬
‫وأما إذا تعارض حديثان يف الظاهر؛ فال بد من اجلمع بينهما أو ترجيح أحدمها‪ ،‬وإمنا يقوم بذلك‬
‫غالبا األئمة اجلامعون بني احلديث والفقه‪ ،‬واألصوليون املتمكنون يف ذلك‪ ،‬الغائصون على املعاين‬
‫الدقيقة‪ ،‬الرائضون أنفسهم يف ذلك‪ ،‬فمن كان هبذه الصفة؛ مل يشكل عليه شيء من ذلك‪ ،‬إال النادر‬
‫يف بعض األحيان‪ُ .‬ث املختلف قسمان‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬ميكن اجلمع بينهما فيتعني‪ ،‬وجيب العمل ابحلديثني مجيعا‪ ،‬ومهما أمكن محل كالم الشارع‬
‫على وجه يكون أعم للفائدة‪ ،‬تعني املصري إليه‪ ،‬وال يصار إىل النسخ مع إمكان اجلمع؛ ألن يف النسخ‬
‫إخراج أحد احلديثني عن كونه مما يعمل به‪.‬‬
‫مصح» وجه اجلمع‪ :‬أن األمراض ال‬
‫ومثال اجلمع‪« :‬ال عدوى» مع حديث‪« :‬ال يورد ممرض على ّ‬
‫تتعدى بطبعها‪ ،‬ولكن جعل هللا سبحانه وتعاىل خمالطتها سببا لإلعداء‪ ،‬فنفى يف احلديث األول ما‬
‫يعتقده اجلاهلية من العدوى بطبعها‪ ،‬وأرشد يف الثاين إىل جمانبة ما حيصل عنده الضرر عادة بقضاء هللا‬
‫وقدره وفعله‪.‬‬
‫القسم الثاين‪ :‬أن يتضادا حبيث ال ميكن اجلمع بوجه‪ ،‬فإن علمنا أحدمها انسخا قدمناه وإال عملنا‬
‫ابلراجح منهما‪ ،‬كالرتجيح بكثرة الرواة وصفاهتم وسائر وجوه الرتجيح‪ ،‬وهي حنو مخسني وجها‪ ،‬مجعها‬
‫احلافظ أبو بكر احلازمي يف أول كتابه «الناسخ واملنسوخ»‪.‬‬

‫معرفة صفة من تقبل روايته ومن تر ّد روايته‬


‫أمجع مجاهري أئمة احلديث والفقه على أنه يشرتط فيمن حيتج بروايته أن يكون عدال ضابطا ملا يرويه‪،‬‬
‫وتفصيله أن يكون مسلما‪ ،‬ابلغا‪ ،‬عاقال‪ ،‬ساملا من أسباب الفسق وخوارم املروءة‪ ،‬متيقظا غري مغفل‪،‬‬
‫حافظا إن حدث من حفظه‪ ،‬ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه‪ ،‬وإن كان حيدث ابملعىن اشرتط فيه مع‬
‫ذلك أن يكون عاملا ِبا يغري املعاين‪ ،‬وقد سبق الكالم يف شروط قبول رواية الراوي ِبا ال مزيد عليه‪،‬‬
‫ولكن توجد أمور ال بد من الكالم فيها لتكتمل الصورة‪ ،‬وهي ما نبينه فيما أييت‪:‬‬

‫(‪)206/1‬‬

‫ِبا تثبت عدالة الراوي وضبطه؟‬


‫عدالة الراوي اترة تثبت بتنصيص مع ّدلني على عدالته‪ ،‬واترة تثبت ابالستفاضة‪ ،‬فمن اشتهرت عدالته‬
‫بني أهل النقل أو حنوهم من أهل العلم‪ ،‬وشاع الثناء عليه ابلثقة واألمانة؛ استغىن فيه بذلك عن بينة‬
‫شاهدة بعدالته تنصيصا‪ ،‬وهذا هو الصحيح يف مذهب الشافعي وعليه االعتماد يف فن أصول الفقه‪.‬‬
‫وممن ذكر ذلك من أهل احلديث أبو بكر اخلطيب احلافظ‪ ،‬ومثّل ذلك ِبالك وشعبة‪ ،‬والسفيانني‪،‬‬
‫واألوزاعي‪ ،‬والليث‪ ،‬وابن املبارك‪ ،‬ووكيع‪ ،‬وأمحد بن حنبل‪ ،‬وحيىي بن معني‪ ،‬وعلي بن املديين‪ ،‬ومن‬
‫جرى جمراهم يف نباهة الذكر واستقامة األمر‪ ،‬فال يسأل عن عدالة هؤالء وأمثاهلم‪ ،‬وإمنا يسأل عن‬
‫عدالة من خفي أمره على الطالبني‪.‬‬

‫فائدة‪:‬‬
‫التعديل مقبول من غري ذكر سببه على املذهب الصحيح املشهور‪ ،‬ألن أسبابه كثرية يصعب ذكرها‪،‬‬
‫فإن ذلك حيوج املع ّدل إىل أن يقول‪« :‬مل يفعل كذا‪ ،‬مل يرتكب كذا‪ ،‬فعل كذا وكذا» فيعدد مجيع ما‬
‫يفسق بفعله أو برتكه‪ ،‬وذلك شاق ج ّدا‪.‬‬
‫مبني السبب؛ ألن الناس خيتلفون فيما جيرح وما ال جيرح‪ ،‬فيطلق‬
‫وأما اجلرح‪ :‬فإنه ال يقبل إال مفسرا ّ‬
‫أحدهم اجلرح بناء على أمر اعتقده جرحا وليس جبرح يف نفس األمر‪ ،‬فال بد من بيان سببه لينظر فيه‬
‫أهو جرح أم ال‪ ،‬وهذا ظاهر مقرر يف الفقه وأصوله‪.‬‬
‫وذكر اخلطيب احلافظ أنه مذهب األئمة من حفاظ احلديث ونقاده مثل‪ :‬البخاري‪ ،‬ومسلم وغريمها‪،‬‬
‫ولذلك احتج البخاري جبماعة سبق من غريه اجلرح هلم كعكرمة موىل ابن عباس رضي هللا عنهما‪،‬‬
‫وكإمساعيل بن أيب أويس‪ ،‬وعاصم بن علي‪ ،‬وعمرو بن مرزوق‪ ،‬وغريهم‪ .‬واحتج مسلم بسويد بن‬
‫سعيد ومجاعة اشتهر الطعن فيهم‪ .‬وهكذا فعل أبو داود السجستاين‪ ،‬وذلك دال على أهنم ذهبوا إىل‬
‫أن اجلرح ال يثبت إال إذا فسر سببه‪ ،‬ومذاهب النقاد للرجال غامضة خمتلفة‪.‬‬
‫وعقد اخلطيب اباب يف بعض أخبار من استفسر يف جرحه فذكر ما ال يصلح جارحا‪.‬‬
‫منها‪ :‬عن شعبة أنه قيل له‪ :‬مل تركت حديث فالن؟ فقال‪ :‬رأيته يركض على برذون‪ ،‬فرتكت حديثه‪.‬‬

‫(‪)207/1‬‬

‫العدد الذي يثبت به اجلرح والتعديل‬


‫اختلفوا يف أنه هل يثبت اجلرح والتعديل بقول واحد أو ال بد من اثنني؟ فمنهم من قال‪ :‬ال يثبت‬
‫ذلك إال ابثنني كما يف اجلرح والتعديل يف الشهادات‪ ،‬ومنهم من قال‪ -‬وهو الصحيح الذي اختاره‬
‫احلافظ أبو بكر اخلطيب وغريه‪ :-‬أنه يثبت بواحد؛ ألن العدد مل يشرتط يف قبول اخلرب‪ ،‬فلم يشرتط‬
‫يف جرح راويه وتعديله خبالف الشهادات‪ ،‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وإذا اجتمع يف شخص جرح وتعديل؛ فاجلرح مقدم؛ ألن املع ّدل خيرب عما ظهر من حاله‪ ،‬واجلارح‬
‫خيرب عن ابطن خفي على املع ّدل‪ .‬فإن كان عدد املعدلني أكثر فقد قيل‪ :‬التعديل أوىل‪ .‬والصحيح‬
‫الذي عليه اجلمهور أن اجلرح أوىل ملا ذكرانه‪.‬‬

‫رواية اجملهول‬
‫اجملهول ههنا أقسام‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬اجملهول العدالة من حيث الظاهر والباطن مجيعا وروايته غري مقبولة عند اجلماهري على مانبهنا‬
‫عليه أوال‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬اجملهول الذي جهلت عدالته الباطنة وهو عدل يف الظاهر وهو املستور‪.‬‬
‫فقد قال بعض أئمتنا‪« :‬املستور من يكون عدال يف الظاهر وال تعرف عدالة ابطنه»‪.‬‬
‫فهذا اجملهول حيتج بروايته بعض من رد رواية األول‪ ،‬وهو قول بعض الشافعيني‪ ،‬وبه قطع منهم اإلمام‬
‫سليم بن أيوب الرازي‪ ،‬قال‪ :‬ألن أمر األخبار مبين على حسن الظن ابلراوي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي يف كثري من كتب احلديث املشهورة يف غري واحد من‬
‫الرواة الذين تقادم العهد هبم وتعذرت اخلربة الباطنة هبم‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬اجملهول العني‪ .‬وقد يقبل رواية اجملهول العدالة من ال يقبل رواية اجملهول العني‪.‬‬
‫ومن روى عنه عدالن وعيّناه‪ ،‬فقد ارتفعت عنه هذه اجلهالة‪.‬‬
‫ذكر أبو بكر اخلطيب البغدادي يف أجوبة مسائل سئل عنها‪ :‬أن اجملهول عند أصحاب احلديث‪ :‬كل‬
‫من مل تعرفه العلماء‪ ،‬ومن مل يعرف حديثه إال من جهة راو واحد مثل‪ :‬عمرو ذي مر‪ ،‬وجبار الطائي‪،‬‬
‫وسعيد بن ذي ح ّدان‪ ،‬مل يرو عنهم غري‬

‫(‪)208/1‬‬

‫جري ابن قليب مل يرو‬


‫أيب إسحاق السبيعي‪ .‬ومثل‪ :‬اهلزهاز بن ميزن ال راوي عنه غري الشعيب‪ .‬ومثل‪ّ :‬‬
‫عنه إال قتادة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد روي عن اهلزهار الثوري‪ -‬أيضا‪ .-‬قال اخلطيب‪« :‬وأقل ما ترتفع به اجلهالة أن يروي عن‬
‫الرجل اثنان من املشهورين ابلعلم‪ ،‬إال أنه ال يثبت مل حكم العدالة بروايتهما عنه»‪.‬‬
‫خرج البخاري يف صحيحه حديث مجاعة ليس هلم غري راو واحد‪ ،‬منهم مرداس األسلمي مل‬
‫قلت‪ :‬قد ّ‬
‫خرج مسلم حديث قوم ال راوي هلم غري واحد‪ ،‬منهم‪ :‬ربيعة بن‬
‫يرو عنه غري قيس بن حازم‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫كعب األسلمي مل يرو عنه غري أيب سلمة بن عبد الرمحن‪ .‬وذلك منهما مصريا إىل أن الراوي قد خيرج‬
‫عن كونه جمهوال مردودا برواية واحد عنه‪ .‬واخلالف يف ذلك متجه حنو اجتاه اخلالف املعروف يف‬
‫االكتفاء بواحد يف التعديل على ما قدمناه‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫حكم التائب من الكذب‬


‫التائب من الكذب يف حديث الناس وغريه من أسباب الفسق تقبل روايته‪ ،‬إال التائب من الكذب‬
‫متعمدا يف حديث رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فإنه ال تقبل روايته أبدا‪ ،‬وإن حسنت توبته على‬
‫ما ذكر من غري واحد من أهل العلم‪ ،‬منهم‪ :‬أمحد بن حنبل‪ ،‬وأبو بكر احلميدي شيخ البخاري‪.‬‬
‫وأطلق اإلمام أبو بكر الصرييف الشافعي فيما وجدت له يف شرحه لرسالة الشافعي فقال‪:‬‬
‫كل من أسقطنا خربه من أهل النقل بكذب وجدانه عليه مل نعد لقبوله بتوبة تظهر‪ ،‬ومن ضعفنا نقله‬
‫قواي بعد ذلك‪ .‬وذكر أن ذلك مما افرتقت فيه الرواية والشهادة‪.‬‬
‫مل جنعله ّ‬
‫وذكر اإلمام أبو مظفر السمعاين املروزي أن كل من كذب يف خرب واحد‪ ،‬وجب إسقاط ما تقدم من‬
‫حديثه‪ ،‬وهذا أيضا هو من حيث املعىن ما ذكره الصرييف‪ .‬اه من املقدمة بتصرف‪.‬‬

‫حكم أخذ األجرة على احلديث‬


‫من أخذ على التحديث أجرا منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة احلديث‪.‬‬
‫روينا عن إسحاق بن إبراهيم أنه سئل عن احملدث حيدث ابألجر؟ فقال‪« :‬ال يكتب عنه»‪ .‬وعن أمحد‬
‫بن حنبل‪ ،‬وأيب حامت الرازي حنو ذلك‪ .‬وترخص أبو نعيم الفضل‬

‫(‪)209/1‬‬

‫وعلي بن عبد العزيز املكي وآخرون‪ ،‬يف أخذ العوض على التحديث‪ ،‬وذلك شبيه أبخذ‬
‫ابن دكني ّ‬
‫األجرة على تعليم القرآن وحنوه‪ ،‬غري أن يف هذا من حيث العرف خرما للمروءة‪ ،‬والظن يساء‬
‫بفاعله؛ إال أن يقرتن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه‪.‬‬

‫احلديث املعلل‬
‫فن خفي على كثري من علماء احلديث‪ ،‬حىت قال بعض ح ّفاظهم‪ :‬معرفتنا هبذا كهانة عند‬
‫وهو ّ‬
‫اجلاهل‪.‬‬
‫ومعوجه‬
‫ّ‬ ‫وإمنا يهتدي إىل هذا الفن اجلهابذة النقاد منهم‪ ،‬مييزون بني صحيح احلديث وسقيمه‪،‬‬
‫ومستقيمه‪ ،‬كما مييز الصرييف البصري بصنعته بني اجلياد والزيوف والداننري والفلوس‪ .‬فكما ال يتمارى‬
‫هذا‪ ،‬كذلك يقطع ذاك ِبا ذكرانه‪ ،‬ومنهم من يظن‪ ،‬ومنهم من يقف حبسب مراتب علومهم وحذقهم‬
‫واطالعهم على طرق احلديث وذوقهم حالوة عبارة الرسول صلّى هللا عليه وسلم اليت ال يشبهها‬
‫غريها من ألفاظ الناس‪.‬‬
‫فمن األحاديث املروية‪ :‬ما عليه أنوار النبوة‪ ،‬ومنها‪ :‬ما وقع فيه تغيري لفظ أو زايدة ابطلة أو جمازفة‬
‫أو حنو ذلك‪ ،‬يدركها البصري من أهل هذه الصناعة‪.‬‬
‫وقد يكون التعليل مستفادا من اإلسناد‪ ،‬وبسط أمثلة ذلك يطول ج ّدا‪ ،‬وإمنا يظهر ابلعمل‪.‬‬
‫ومن أحسن كتاب وضع يف ذلك وأجلّه وأفحله (كتاب العلل) لعلي بن املديين شيخ البخاري‪.‬‬
‫وسائر احملدثني بعده يف هذا الشأن على اخلصوص‪ .‬وكذلك «كتاب العلل» لعبد الرمحن بن أيب حامت‬
‫للخالل‪ .‬ويقع يف مسند احلافظ أيب بكر البزار من‬
‫وهو مرتب على أبواب الفقه‪« ،‬وكتاب العلل» ّ‬
‫التعاليل ما ال يوجد يف غريه من املسانيد‪.‬‬
‫أجل‬
‫أزمة ما ذكرانه كله احلافظ الكبري أبو احلسن الدارقطين يف كتابه يف ذلك‪ ،‬وهو من ّ‬‫وقد مجع ّ‬
‫أجل ما رأيناه وضع يف هذا الفن‪ ،‬مل يسبق إىل مثله‪ ،‬وقد أعجز من يريد أن أييت بعده‬
‫الكتب‪ ،‬بل ّ‬
‫فرمحه هللا وأكرم مثواه‪ .‬اه من الباعث احلثيث‪.‬‬
‫وقد قال أمحد شاكر معلقا‪ :‬واحلديث املعلول‪ :‬هو احلديث الذي اطلع فيه على علة تقدح يف‬
‫صحته‪ ،‬مع أن الظاهر سالمته منها‪.‬‬
‫والطريق إىل معرفة العلل‪ :‬مجع طرق احلديث‪ ،‬والنظر يف اختالف رواته‪ ،‬ويف ضبطهم وإتقاهنم‪ ،‬فيقع‬
‫يف نفس العامل العارف هبذا الشأن أن احلديث معلول‪ ،‬ويغلب على ظنه‪ ،‬فيحكم بعدم صحته أو‬
‫يرتدد فيتوقف فيه‪.‬‬
‫ورِبا تقصر عبارته عن إقامة احلجة على دعواه‪ .‬قال عبد الرمحن بن مهدي‪ :‬معرفة‬

‫(‪)210/1‬‬

‫علل احلديث إهلام‪ ،‬لو قلت للعامل بعلل احلديث‪ :‬من أين قلت هذا؟ مل يكن له حجة‪ ،‬وكم من‬
‫شخص ال يهتدي لذلك‪ ،‬وقيل له‪ -‬أيضا‪ :-‬إنك تقول للشيء‪:‬‬
‫فعمن تقول ذلك؟ فقال‪ :‬أرأيت لو أتيت الناقد فأريته درامهك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫هذا صحيح‪ ،‬وهذا مل يثبت‪ّ ،‬‬
‫هذا جيد‪ ،‬وهذا هبرج‪ ،‬أكنت تسأل عن ذلك‪ ،‬أو تسلّم له األمر؟! قال‪ :‬بل أسلم له األمر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فهذا كذلك لطول اجملالسة واملناظرة واخلربة‪.‬‬
‫وسئل أبو زرعة‪« :‬ما احلجة يف تعليلكم احلديث؟ فقال‪ :‬احلجة أن تسألين عن حديث به علة فأذكر‬
‫علته‪ُ ،‬ث تقصد ابن وارة‪ :‬يعين حممد بن مسلم بن وارة‪ ،‬وتسأله عنه فيذكر علته‪ُ ،‬ث تقصد أاب حامت‪.‬‬
‫كال منا تكلم على‬
‫فيعلله‪ُ .‬ث متيّز كالمنا على ذلك احلديث‪ ،‬فإن وجدت بيننا خالفا فاعلم أن ّ‬
‫مراده‪ ،‬وإن وجدت الكلمة متفقة‪ ،‬فاعلم حقيقة هذا العلم‪ .‬ففعل الرجل ذلك‪ ،‬فاتفقت كلمتهم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أشهد أن هذا العلم إهلام»‪.‬‬
‫والعلة قد تكون ابإلرسال يف املوصول أو الوقف يف املرفوع‪ ،‬أو بدخول حديث يف حديث أو وهم‬
‫واهم أو غري ذلك‪ ،‬مما يتبني للعارف هبذا الشأن من مجع الطرق ومقارنتها‪ ،‬ومن قرائن تنضم إىل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وأكثر ما تكون العلل يف أسانيد األحاديث فتقدح يف اإلسناد واملنت معا‪ ،‬إذا ظهر منها ضعف‬
‫احلديث‪.‬‬
‫مرواي إبسناد آخر صحيح‪ .‬مثل احلديث الذي رواه‬
‫وقد تقدح يف اإلسناد وحده‪ ،‬إذا كان احلديث ّ‬
‫يعلى بن عبيد الطنافسي‪ -‬أحد الثقات‪ -‬عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬البيعان ابخليار» ‪ ...‬احلديث‪ ،‬فهذا اإلسناد متصل بنقل العدل عن‬
‫العدل‪ ،‬وهو معلول‪ ،‬وإسناده غري صحيح‪ ،‬واملنت صحيح على كل حال؛ ألن يعلى بن عبيد غلط‬
‫على سفيان يف قوله‪« :‬عمرو بن دينار» وإمنا صوابه «عبد هللا بن دينار»‪ .‬هكذا رواه األئمة من‬
‫أصحاب سفيان‪ .‬كأيب نعيم الفضل بن دكني‪ ،‬وحممد بن يوسف الفراييب‪ ،‬وخملد بن يزيد وغريهم‪،‬‬
‫ورووه عن سفيان عن عبد هللا بن دينار عن ابن عمر‪.‬‬
‫وقد تقع العلة يف منت احلديث‪ ،‬كاحلديث الذي أخرجه مسلم يف صحيحه من رواية الوليد بن مسلم‪:‬‬
‫حدثنا األوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه خيربه عن أنس بن مالك أنه حدثه قال‪ :‬صليت خلف النيب‬
‫ِِ‬
‫ب الْعالَ ِم َ‬
‫ني‪ ،‬وال‬ ‫صلّى هللا عليه وسلم وأيب بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬فكانوا يستفتحون ب ا ْحلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ‬
‫يذكرون «بسم هللا الرمحن الرحيم» يف أول قراءة وال يف آخرها‪ُ .‬ث رواه مسلم‪ -‬أيضا‪ -‬من رواية‬
‫الوليد عن األوزاعي‪ .‬أخربين إسحاق‬

‫(‪)211/1‬‬

‫ابن عبد هللا بن أيب طلحة أنه مسع أنسا يذكر ذلك‪ ،‬قال ابن الصالح يف كتاب «علوم احلديث»‪:‬‬
‫«فعلّل قوم رواية اللفظ املذكور‪ -‬يعين التصريح بنفي قراءة البسملة‪ -‬ملّا رأوا األكثرين إمنا قالوا فيه‪:‬‬
‫ِِ‬
‫ني من غري تعرض لذكر البسملة‪ ،‬وهو الذي اتفق‬ ‫ب الْعالَ ِم َ‬
‫فكانوا يستفتحون القراءة ب ا ْحلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ‬
‫البخاري ومسلم على إخراجه يف الصحيح‪.‬‬
‫ورأوا أن من رواه ابللفظ املذكور رواه ابملعىن الذي وقع له‪ ،‬ففهم من قوله‪« :‬كانوا يستفتحون ب‬
‫ا ْحلم ُد َِِّ‬
‫َّلل‪ :‬أهنم كانوا ال يبسملون‪ ،‬فرواه على ما فهم‪ ،‬وأخطأ؛ ألن معناه أن السورة اليت كانوا‬ ‫َْ‬
‫يفتتحون هبا من السور هي الفاحتة‪ ،‬وليس فيه تعرض لذكر التسمية‪ .‬وانضم إىل ذلك أمور‪ :‬منها‪ :‬أنه‬
‫ثبت عن أنس أنه سئل عن االفتتاح ابلتسمية‪ ،‬فذكر أنه ال حيفظ فيه شيئا عن رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلم‪ .‬وهللا أعلم»‪.‬‬
‫وقد أطال احلافظ العراقي يف شرحه على ابن الصالح الكالم على تعليل هذا احلديث‪ ،‬وكذلك‬
‫السيوطي يف التدريب‪ .‬اه منه‪.‬‬

‫احلديث املضطرب‬
‫رجحت‬
‫إذا جاء احلديث على أوجه خمتلفة‪ ،‬يف املنت أو يف السند‪ ،‬من راو واحد‪ ،‬أو من أكثر‪ ،‬فإن ّ‬
‫إحدى الروايتني أو الرواايت بشيء من وجوه الرتجيح‪ -‬كحفظ راويها‪ ،‬أو ضبطه‪ ،‬أو كثرة صحبته‬
‫ملن روى عنه‪ -‬كانت الراجحة صحيحة‪ ،‬واملرجوحة شاذة أو منكرة‪ .‬وإن تساوت الرواايت وامتنع‬
‫الرتجيح‪ :‬كان احلديث مضطراب‪ ،‬واضطرابه موجب لضعفه‪ ،‬إال يف حالة واحدة‪ ،‬وهي أن يقع‬
‫االختالف يف اسم راو أو اسم أبيه أو نسبته مثال‪ ،‬ويكون الراوي ثقة؛ فإنه حيكم للحديث ابلصحة‪،‬‬
‫وال يضر االختالف فيما ذكر‪ ،‬مع تسميتة مضطراب‪.‬‬
‫ويف الصحيحني أحاديث كثرية هبذه املثابة‪ .‬وكذا جزم الزركشي بذلك يف خمتصره‪ ،‬فقال‪« :‬وقد يدخل‬
‫القلب والشذوذ واالضطراب يف قسم الصحيح واحلسن» نقل‬
‫ذلك السيوطي يف التدريب‪.‬‬
‫واالضطراب قد يكون يف املنت فقط‪ ،‬وقد يكون يف السند فقط‪ ،‬وقد يكون فيهما معا‪.‬‬
‫مثال االضطراب يف اإلسناد‪ ،‬على ما ذكر السيوطي يف التدريب حديث أيب بكر‪:‬‬
‫«أنه قال‪ :‬اي رسول هللا‪ .‬أراك شبت؟ قال‪« :‬شيّبتين هود وأخواهتا»‪ .‬قال الدارقطين‪ :‬هذا حديث‬
‫مضطرب؛ فإنه مل يرو إال من طريق أيب إسحاق‪ ،‬وقد اختلف عليه فيه على حنو عشرة أوجه‪ :‬فمنهم‬
‫من رواه مرسال‪ ،‬ومنهم من رواه موصوال‪،‬‬

‫(‪)212/1‬‬

‫ومنهم من جعله من مسند أيب بكر‪ ،‬ومنهم من جعله من مسند سعد‪ ،‬ومنهم من جعله من مسند‬
‫عائشة‪ ،‬ورواته ثقات‪ ،‬ال ميكن ترجيح بعضهم على بعض‪ ،‬واجلمع متعذر‪.‬‬
‫ومثله‪ :‬حديث جماهد عن احلكم بن سفيان عن النيب صلّى هللا عليه وسلم يف نضح الفرج بعد‬
‫الوضوء‪ ،‬قد اختلف فيه على عشرة أقوال‪.‬‬
‫ومثال االضطراب يف املنت‪ :‬حديث التسمية يف الصالة السابق يف «املعلّل»‪ ،‬قال السيوطي‪ :‬فإن ابن‬
‫عبد الرب أعله ابالضطراب‪ ،‬كما تقدم‪ ،‬واملضطرب جيامع املعلل؛ ألنه قد تكون علته ذلك‪.‬‬
‫وأمثلة املضطرب كثرية‪ .‬وقد ألف احلافظ ابن حجر كتااب فيه مساه «املقرتب يف بيان املضطرب»‪ .‬قال‬
‫املتبويل يف مقدمة شرحه على اجلامع الصغري‪ :‬أفاد وأجاد‪ ،‬وقد التقطه من كتاب العلل للدارقطين‪ .‬اه‬
‫أمحد شاكر‪.‬‬

‫املدرج‬
‫احلديث املدرج‪ :‬ما كان فيه زايدة ليست منه‪ .‬وهو إما مدرج يف املنت‪ ،‬وإما مدرج يف اإلسناد‪ .‬هكذا‬
‫قسمه السيوطي وغريه‪ .‬واإلدراج يف احلقيقة إمنا يكون يف املنت كما سيأيت‪.‬‬
‫ويعرف املدرج بوروده منفصال يف رواية أخرى‪ .‬أو ابلنص على ذلك من الراوي أو من بعض األئمة‬
‫املطلعني‪ ،‬أو ابستحالة كونه صلّى هللا عليه وسلم يقول ذلك‪.‬‬
‫ومدرج املنت‪ :‬هو أن يدخل يف حديث رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم شيء من كالم بعض الرواة‪.‬‬
‫وقد يكون يف أول احلديث‪ ،‬أو يف وسطه‪ ،‬أو يف آخره‪ .‬وهو األكثر‪ .‬فيتوهم من يسمع احلديث أن‬
‫هذا الكالم منه‪.‬‬
‫مثال املدرج يف أول احلديث‪ :‬ما رواه اخلطيب من رواية أيب قطن وشبابة عن شعبة عن حممد بن زايد‬
‫عن أيب هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬أسبغوا الوضوء‪ ،‬ويل لألعقاب من النار»‪.‬‬
‫فقوله‪« :‬أسبغوا الوضوء» مدرج من قول أيب هريرة‪ ،‬كما ّبني يف رواية البخاري عن آدم عن شعبة عن‬
‫حممد بن زايد عن أيب هريرة قال‪ :‬أسبغوا الوضوء فإن أاب القاسم صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬ويل‬
‫لألعقاب من النار» قال اخلطيب‪« :‬وهم أبو قطن وشبابة يف روايتهما له عن شعبة على ما سقناه‪،‬‬
‫اجلم الغفري عنه كرواية آدم» نقله يف التدريب‪.‬‬
‫وقد رواه ّ‬
‫ومثال املدرج يف الوسط‪ :‬ما رواه الدارقطين يف السنن من طريق عبد احلميد بن جعفر عن هشام بن‬
‫عروة عن أبيه عن بسرة بنت صفوان قالت‪ :‬مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يقول‪:‬‬

‫(‪)213/1‬‬

‫مس ذكره‪ ،‬أو أنثييه‪ ،‬أو رفغيه‪ ،‬فليتوضأ» قال الدارقطين‪ :‬كذا رواه عبد احلميد عن هشام‪،‬‬
‫«من ّ‬
‫ووهم يف ذكر األنثيني والرفغني‪ ،‬وأدرجه كذلك يف حديث بسرة‪ ،‬واحملفوظ أن ذلك قول عروة‪ ،‬وكذا‬
‫رواه الثقات عن هشام‪ ،‬منهم‪ :‬أيوب‪ ،‬ومحاد ابن زيد وغريمها‪ُ ،‬ث رواه من طريق أيوب بلفظ‪« :‬من‬
‫مس ذكره فليتوضأ» قال‪ :‬وكان عروة يقول‪ :‬إذا مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ‪ .‬وكذا قال‬
‫اخلطيب‪ .‬فعروة ملا فهم من لفظ اخلرب أن سبب نقض الوضوء مظنة الشهوة‪ ،‬جعل حكم ما قرب من‬
‫الذكر كذلك‪.‬‬
‫فقال ذلك‪ ،‬فظن بعض الرواة أنه من صلب اخلرب‪ ،‬فنقله مدرجا فيه‪ ،‬وفهم اآلخرون حقيقة احلال‬
‫ففصلوا‪ .‬قاله يف التدريب‪.‬‬
‫وقد يكون اإلدراج يف الوسط على سبيل التفسري من الراوي لكلمة من الغريب‪ .‬مثل‪:‬‬
‫حديث عائشة يف بدء الوحي يف البخاري وغريه‪ :‬كان النيب صلّى هللا عليه وسلم يتحنث يف غار‬
‫حراء‪ -‬وهو التعبد الليايل ذوات العدد‪ -‬فهذ التفسري من قول الزهري أدرج يف احلديث‪.‬‬
‫وكذا حديث فضالة مرفوعا عند النسائي‪« :‬أان زعيم‪ -‬والزعيم احلميل‪ -‬ملن آمن يب وأسلم وجاهد يف‬
‫سبيل هللا ببيت يف ربض اجلنة» فقوله «والزعيم احلميل» مدرج من تفسري ابن وهب‪.‬‬
‫ومثال يف آخر احلديث‪ :‬ما رواه أبو داود من طريق زهري بن معاوية عن احلسن بن احلر عن القاسم‬
‫بن خميمرة عن علقمة عن ابن مسعود‪ :‬حديث التشهد‪ ،‬ويف آخره‪:‬‬
‫«إذا قلت هذا‪ ،‬أو قضيت هذا‪ ،‬فقد قضيت صالتك‪ ،‬وإن شئت أن تقوم فقم‪ ،‬وإن شئت أن تقعد‬
‫فاقعد»‪ .‬فهذه اجلملة وصلها زهري ابحلديث املرفوع‪ ،‬وهي مدرجة من كالم ابن مسعود‪ ،‬كما نص‬
‫عليه احلاكم والبيهقي واخلطيب‪.‬‬
‫ونقل النووي يف اخلالصة اتفاق احلفاظ على أهنا مدرجة‪ -‬ومن الدليل على إدراجها‪:‬‬
‫أن حسينا اجلعفي وابن عجالن وغريمها رووا احلديث عن احلسن بن احلر بدون ذكرها‪ ،‬وكذلك كل‬
‫من روى التشهد عن علقمة أو غريه عن ابن مسعود‪ ،‬وأن شبابة بن سوار‪ ،‬وعبد الرمحن بن اثبت بن‬
‫ثوابن‪ -‬ومها ثقتان‪ -‬رواي احلديث عن احلسن بن احلر‪ ،‬ورواي فيه هذه اجلملة‪ ،‬وفصالها منه وبينا أهنا‬
‫من كالم ابن مسعود‪ .‬فهذا‬
‫التفصيل والبيان‪ -‬مع اتفاق سائر الرواة على حذفها من املرفوع‪ :-‬يؤيدان أهنا مدرجة وأن زهريا وهم‬
‫يف روايته‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬يف الصحيح عن أيب هريرة مرفوعا‪« :‬للعبد اململوك أجران»‪ .‬والذي نفسي بيده لوال‬
‫وبر أمي ألحببت أن أموت وأان مملوك‪.‬‬
‫اجلهاد واحلج ّ‬
‫فهذا مما يتبني فيه بداهة أن قوله‪ :‬والذي نفسي بيده ‪ ...‬إخل مدرج من قول أيب‬

‫(‪)214/1‬‬
‫هريرة الستحالة أن يقوله النيب صلّى هللا عليه وسلم؛ ألن أمه ماتت وهو صغري‪ ،‬وألنه ميتنع منه صلّى‬
‫هللا عليه وسلم أن يتمىن الرق وهو أفضل اخللق عليه الصالة والسالم‪ .‬هذا مدرج املنت‪.‬‬
‫وأما مدرج اإلسناد‪ :‬ومرجعه يف احلقيقة إىل املنت‪ :‬فهو ثالثة أقسام؛ وال جند احلاجة ماسة إىل ذكرها‪،‬‬
‫ّ‬
‫وفيما سبق كفاية ومن أراد املزيد فعليه بتعليق أمحد شاكر على الباعث احلثيث‪.‬‬

‫حكم اإلدراج‬
‫اإلدراج لتفسري شيء من معىن احلديث‪ ،‬فيه بعض التسامح‪ ،‬واألوىل أن ينص الراوي على بيانه‪.‬‬
‫وأما ما وقع من الراوي خطأ غري عمد‪ ،‬فال حرج على املخطئ إال إن كثر خطؤه‪ ،‬فيكون جرحا يف‬
‫ضبطه وإتقانه‪.‬‬
‫وأما إن كان من الراوي عن عمد؛ فإنه حرام كله على اختالف أنواعه ابتفاق أهل احلديث والفقه‬
‫واألصول وغريهم‪ ،‬ملا يتضمن من التلبيس والتدليس‪ ،‬ومن عزو القول إىل غري قائله‪.‬‬
‫حيرف الكلم عن مواضعه‪ ،‬وهو ملحق‬
‫قال السمعاين‪ :‬من تعمد اإلدراج فهو ساقط العدالة وممن ّ‬
‫ابلكذابني‪.‬‬

‫احلديث املوضوع‬
‫ويدل على وضعه شواهد كثرية‪ ،‬منها‪ :‬إقرار واضعه على نفسه‪ ،‬بقوله أو بداللة حاله‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ركاكة ألفاظه‪ ،‬وفساد معناه‪ ،‬أو جمازفة فاحشة‪ ،‬أو خمالفة ملا ثبت يف الكتاب والسنة الصحيحة‪.‬‬
‫نقل السيوطي يف التدريب‪ ،‬عن ابن اجلوزي قال‪ :‬ما أحسن قول القائل‪ :‬إذا رأيت احلديث احلسن‬
‫يباين املعقول‪ ،‬أو خيالف املنقول أو يناقض األصول؛ فاعلم أنه موضوع‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومعىن مناقضته لألصول‪ :‬أن يكون خارجا عن دواوين اإلسالم من املسانيد والكتب املشهورة‪،‬‬
‫فال جتوز روايته ألحد من الناس‪ ،‬إال على سبيل القدح فيه ليحذره من يغرتّ به من اجلهلة والعوام‬
‫والرعاع‪.‬‬
‫والواضعون أقسام كثرية‪ :‬منهم زاندقة‪.‬‬

‫(‪)215/1‬‬
‫ومنهم متعبدون حيسبون أهنم حيسنون صنعا‪ ،‬يضعون أحاديث فيها ترغيب وترهيب يف فضائل‬
‫الكرامية وغريهم‪ ،‬وهم أشر من فعل هذا‪ ،‬ملا حيصل بضررهم‬
‫األعمال ليعمل هبا‪ ،‬وهؤالء طائفة من ّ‬
‫من الغرر على كثري ممن يعتقد صالحهم فيظن صدقهم‪ ،‬وهم شر من كل كذاب يف هذا الباب‪.‬‬
‫وقد انتقد األئمة كل شيء فعلوه من ذلك‪ ،‬وسطروه عليهم يف كتبهم‪ ،‬عارا على واضعي ذلك يف‬
‫علي متعمدا فليتبوأ‬
‫الدنيا‪ ،‬وانرا وشنارا يف اآلخرة‪ .‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬من كذب ّ‬
‫مقعده من النار» وهذا متواتر عنه‪.‬‬
‫قال بعض هؤالء اجلهلة‪ :‬حنن ما كذبنا عليه‪ ،‬وإمنا كذبنا له‪ :‬وهذا من كمال جهلهم‪ ،‬وقلة عقلهم‪،‬‬
‫السالم ال حيتاج يف كمال شريعته وفضلها إىل غريه‪.‬‬
‫وكثرة فجورهم وافرتائهم؛ فإنه عليه ّ‬
‫وقد صنف الشيخ أبو الفرج بن اجلوزي كتااب حافال يف املوضوعات (يف جملدين) غري أنه أدخل فيه ما‬
‫وخرج عنه ما كان يلزمه ذكره‪ ،‬وقد أخذ غالبه من كتاب األابطيل للجوزقاين‪ .‬ولكن أخطأ‬
‫ليس منه‪ّ ،‬‬
‫يف بعض أحاديث انتقدها عليه احل ّفاظ‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن حجر‪ :‬غالب ما يف كتاب ابن اجلوزي موضوع‪ ،‬والذي ينتقد عليه ابلنسبة إىل ما ال‬
‫ينتقد قليل ج ّدا‪ ،‬وفيه من الضرر أن يظن ما ليس ِبوضوع موضوعا عكس الضرر ِبستدرك احلاكم‪،‬‬
‫حيث يظن ما ليس بصحيح صحيحا‪ ،‬ويتعني االعتناء ابنتقاد الكتابني يف تساهلهما؛ عدم االنتفاع‬
‫هبما إال لعامل ابلفن؛ ألنه ما من مادة حديث إال وميكن أن يكون قد وقع فيها التساهل‪.‬‬
‫وقد خلص احلافظ السيوطي كتاب ابن اجلوزي‪ ،‬وتتبع كالم احلفاظ يف تلك األحاديث خصوصا كالم‬
‫احلافظ ابن حجر يف تصانيفه وأماليه‪ُ ،‬ث أفرد األحاديث املتعقبة يف كتابني خاصني ومها (الآللئ‬
‫املصنوعة)‪ ،‬و (ذيل الآللئ املصنوعة)‪.‬‬
‫ب عن املسند) أي مسند اإلمام أمحد ابن حنبل رمحه‬
‫وألّف ابن حجر كتاب (القول املس ّدد يف ال ّذ ّ‬
‫هللا‪ ،‬ذكر فيه أربعة وعشرين حديثا من املسند‪ ،‬جاء هبا ابن اجلوزي يف املوضوعات وحكم عليها‬
‫بذلك؛ ورد عليه ابن حجر ودفع قوله‪ُ .‬ث ألّف السيوطي ذيال عليه ذكر فيه أربعة عشر حديثا أخرى‬
‫ب عن السنن) أورد فيه‬
‫كذلك من املسند‪ُ ،‬ث ألّف ذيال هلذين الكتابني مسّاه‪( :‬القول احلسن يف ال ّذ ّ‬
‫مائة وبضعة وعشرين حديثا‪ -‬من السنن األربعة‪ -‬حكم ابن اجلوزي أبنه موضوعة‪ ،‬ورد عليه حكمه‪.‬‬
‫ومن غرائب تسرع احلافظ ابن اجلوزي يف احلكم ابلوضع‪ :‬أنه زعم وضع حديث يف‬

‫(‪)216/1‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬وهو حديث أيب هريرة مرفوعا‪« :‬إن طالت بك مدة أوشك أن ترى أقواما يغدون يف‬
‫سخط هللا ويروحون يف لعنته‪ ،‬يف أيديهم مثل أذانب البقر» [رواه أمحد‬
‫يف املسند وهو يف صحيح مسلم (ج ‪ 2‬ص ‪.])355‬‬
‫قال ابن حجر يف القول املسدد «‪ :»1‬ومل أقف يف كتاب املوضوعات البن اجلوزي على شيء حكم‬
‫عليه ابلوضع وهو يف الصحيحني غري هذا احلديث‪ ،‬وإهنا لغفلة شديدة منه!!‪ .‬اه من الباعث وشرحه‪.‬‬

‫خالصة يف حكم رواية احلديث املوضوع‬


‫من علم أن حديثا من األحاديث موضوع فال حيل له أن يرويه منسواب إىل رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬إال مقروان ببيان وضعه‪ ،‬وهذا احلظر عام يف مجيع املعاين‪ ،‬سواء األحكام والقصص‪ ،‬والرتغيب‬
‫والرتهيب وغريها؛ حلديث مسرة بن جندب واملغرية بن شعبة قاال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪« :‬من ح ّدث عين حبديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابني» [رواه مسلم يف صحيحه‪ ،‬ورواه‬
‫أمحد وابن ماجه عن مسرة]‪.‬‬
‫وقوله «يرى» فيه روايتان‪ :‬بضم الياء وبفتحها‪ ،‬أي ابلبناء للمجهول والبناء للمعلوم‪.‬‬
‫وقوله «الكذابني» فيه روايتان أيضا بكسر الباء وبفتحها‪ ،‬أي بلفظ اجلمع وبلفظ املثىن‪.‬‬
‫واملعىن على الروايتني يف اللفظني صحيح‪ .‬فسواء أعلم الشخص أن احلديث الذي يرويه مكذوب‪،‬‬
‫أبن كان من أهل العلم هبذه الصناعة الشريفة أم مل يعلم‪ ،‬إن كان من غري أهلها‪ ،‬وأخربه العامل الثقة‬
‫هبا؛ فإنه حيرم عليه أن حي ّدث حبديث مفرتى على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأما مع بيان حاله‬
‫فال أبس؛ ألن البيان يزيل من ذهن السامع أو القارئ ما خيشى من اعتقاد نسبته إىل الرسول صلّى‬
‫هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫قرائن املروي‪:‬‬
‫ومن القرائن يف املروي‪ :‬أن يكون ركيكا ال يعقل أن يصدر عن النيب صلّى هللا عليه وسلم؛ فقد‬
‫وضعت أحاديث طويلة يشهد لوضعها ركاكة لفظها ومعانيها‪.‬‬
‫الرّكة على رّكة املعىن‪ .‬فحيثما وجدت دلّت على الوضع‪ ،‬وإن مل‬
‫قال احلافظ ابن حجر‪ :‬املدار يف ّ‬
‫ينضم إليها ركة اللفظ‪ ،‬ألن هذا الدين كله حماسن‪ ،‬والركة ترجع إىل الرداءة‪ ،‬أما ركاكة اللفظ فال تدل‬
‫فغري‬
‫على ذلك‪ ،‬الحتمال أن يكون رواه ابملعىن ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬القول املسدد ص‪.31 :‬‬
‫(‪)217/1‬‬

‫ألفاظه بغري فصيح‪ .‬نعم‪ .‬إن صرح أبنه من لفظ النيب صلّى هللا عليه وسلم فهو كاذب‪.‬‬
‫وقال الربيع بن خثيم‪« :‬إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه‪ ،‬وظلمة كظلمة الليل تنكره»‪.‬‬
‫وقال ابن اجلوزي‪« :‬احلديث املنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم‪ ،‬وينفر منه قلبه يف الغالب»‪.‬‬
‫قال البلقيين‪« :‬وشاهد هذا‪ :‬أن إنساان لو خدم إنساان سنني‪ ،‬وعرف ما حيب وما يكره‪ ،‬فادعى إنسان‬
‫أنه كان يكره شيئا يعلم ذلك أنه حيبه‪ ،‬فبمجرد مساعه يبادر إىل تكذيبه»‪.‬‬
‫وقال احلافظ ابن حجر‪« :‬ومما يدخل يف قرينة حال املروي ما نقل عن اخلطيب عن أيب بكر بن‬
‫الطيب‪ :‬أن من مجلة دالئل الوضع أن يكون خمالفا للعقل‪ ،‬حبيث ال يقبل التأويل‪.‬‬
‫ويلتحق به ما يدفعه احلس واملشاهدة‪ ،‬أو يكون منافيا لداللة الكتاب القطعية‪ ،‬أو السنة املتواترة‪ ،‬أو‬
‫اإلمجاع القطعي‪.‬‬
‫أما املعارضة مع إمكان اجلمع فال‪.‬‬
‫ومنها ما يصرح بتكذيب رواة احلديث املتواتر‪ ،‬أو يكون خربا عن أمر جسيم تتوافر الدواعي على‬
‫نقله ِبحضر اجلمع‪ُ ،‬ث ال ينقله منهم إال واحد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اإلفراط ابلوعيد الشديد على األمر الصغري‪ ،‬أو الوعد العظيم على الفعل احلقري‪ .‬وهذا كثري‬
‫الرّكة»‪.‬‬
‫القصاص‪ ،‬واألخري راجع إىل ّ‬
‫يف حديث ّ‬
‫قال السيوطي‪« :‬ومن القرائن‪ :‬كون الراوي رافضيّا واحلديث يف فضائل أهل البيت‪.‬‬
‫ومن املخالف للعقل ما رواه ابن اجلوزي من طريق عبد الرمحن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده‬
‫مرفوعا‪ :‬إن سفينة نوح طافت ابلبيت سبعا‪ ،‬وصلّت عند املقام ركعتني! فهذا من سخافات عبد‬
‫الرمحن بن زيد بن أسلم‪ .‬وقد ثبت عنه من طريق أخرى نقلها يف التهذيب عن الساجي عن الربيع‬
‫عن الشافعي قال‪« :‬قيل لعبد الرمحن بن زيد‪ :‬حدثك أبوك عن جدك أن رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلم قال‪ :‬إن سفينة نوح طافت ابلبيت وصلّت خلف املقام ركعتني؟! قال‪ :‬نعم!!» «‪ .»1‬وقد‬
‫عرف عبد الرمحن ِبثل هذه الغرائب حىت قال الشافعي فيما نقل يف التهذيب‪« :‬ذكر رجل ملالك‬
‫حديثا منقطعا فقال‪ :‬اذهب إىل عبد الرمحن بن زيد حيدثك عن أبيه عن نوح»‪.‬‬
‫وروى ابن اجلوزي‪ -‬أيضا‪ -‬من طريق حممد بن شجاع الثلجي‪ -‬ابلثاء املثلثة واجليم‪ -‬عن حبان‪-‬‬
‫بفتح احلاء املهملة والباء املوحدة‪ -‬ابن هالل عن محاد بن سلمة عن أيب املهزوم عن أيب هريرة‬
‫مرفوعا‪« :‬إن هللا خلق الفرس فأجراها‪ ،‬فعرقت‪ ،‬فخلق نفسه منها»!! قال السيوطي يف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬التهذيب (‪.)179 /6‬‬

‫(‪)218/1‬‬

‫التدريب‪« :‬هذا ال يضعه مسلم‪ ،‬واملتهم به حممد بن شجاع‪ .‬كان زائغا يف دينه»‪.‬‬

‫أسباب الوضع‬
‫قال أمحد شاكر تعليقا على الباعث‪:‬‬
‫ضاعني إىل االفرتاء‪ ،‬ووضع احلديث كثرية‪.‬‬
‫واألسباب اليت دعت الكذابني الو ّ‬
‫فمنهم الزاندقة‪ ،‬الذين أرادوا أن يفسدوا على الناس دينهم‪ ،‬ملا وقر يف نفوسهم من احلقد على‬
‫اإلسالم وأهله‪ ،‬يظهرون بني الناس ِبظهر املسلمني‪ ،‬وهم املنافقون ح ّقا‪.‬‬
‫قال محاد بن زيد‪« :‬وضعت الزاندقة على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث»‪.‬‬
‫مثل عبد الكرمي بن أيب العوجاء‪ .‬قتله حممد بن سليمان العباسي األمري ابلبصرة‪ ،‬على الزندقة بعد‬
‫سنة (‪ 160‬هـ)‪ ،‬يف خالفة املهدي وملا أخذ لتضرب عنقه قال‪ :‬لقد وضعت فيكم أربعة آالف‬
‫أحرم فيها احلالل‪ ،‬وأحلّل احلرام‪.‬‬
‫حديث‪ّ ،‬‬
‫علي‪ -‬كرم هللا‬
‫وكيان بن مسعان النهدي‪ ،‬من بين متيم ظهر ابلعراق بعد املائة‪ ،‬وادعى‪ -‬لعنه هللا‪ -‬إهلية ّ‬
‫وجهه‪ -‬وزعم مزاعم فاسدة‪ُ .‬ث قتله خالد بن عبد هللا القسري‪ ،‬وأحرقه ابلنار‪.‬‬
‫وكمحمد بن سعيد بن حسان األزدي الشامي املصلوب‪ .‬قال أمحد بن حنبل‪:‬‬
‫«قتله أبو جعفر املنصور يف الزندقة‪ ،‬حديثه حديث موضوع»‪.‬‬
‫وقال أمحد بن صاحل املصري‪ :‬زنديق ضربت عنقه‪ ،‬وضع أربعة آالف حديث عند هؤالء احلمقى‬
‫فاحذروها‪.‬‬
‫وقال احلاكم أبو أمحد‪« :‬كان يضع احلديث‪ ،‬صلب على الزندقة»‪.‬‬
‫وحكى عنه احلاكم أبو عبد هللا‪ :‬أنه روى عن محيد عن أنس مرفوعا‪ :‬أان خامت النبيني‪ ،‬ال نيب بعدي‪،‬‬
‫إال أن يشاء هللا‪ .‬وقال‪« :‬وضع هذا االستثناء ملا كان يدعو إليه من اإلحلاد والزندقة والدعوة إىل‬
‫التنيب (ادعاء النبوة)»‪.‬‬
‫ومنهم أصحاب األهواء والبدع واآلراء اليت ال دليل هلا من الكتاب والسنة‪ ،‬وضعوا أحاديث نصرة‬
‫ألهوائهم‪ ،‬كاخلطابية‪ ،‬والرافضة (الشيعة) وغريهم‪.‬‬
‫قال عبد هللا بن يزيد املقرئ‪« :‬إن رجال من أهل البدع رجع عن بدعته‪ ،‬فجعل يقول‪ :‬انظروا هذا‬
‫احلديث عمن أتخذونه‪ :‬فإان كنا إذا رأينا رأاي جعلنا له حديثا!»‪.‬‬
‫وقال محاد بن سلمة‪« :‬أخربين شيخ من الرافضة أهنم كانوا جيتمعون على وضع‬

‫(‪)219/1‬‬

‫األحاديث»‪.‬‬
‫وقال أبو العباس القرطيب صاحب كتاب «املفهم شرح صحيح مسلم»‪« :‬استجاز بعض فقهاء أهل‬
‫دل عليه القياس اجللي إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم نسبة قوليه‪،‬‬
‫الرأي نسبة احلكم الذي ّ‬
‫فيقولون يف ذلك‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم كذا!! وهلذا ترى كتبهم مشحونه أبحاديث‬
‫تشهد متوهنا أبهنا موضوعة تشبه فتاوى الفقهاء‪ ،‬وألهنم ال يقيمون هلا سندا»‪.‬‬
‫نقله السخاوي يف شرح ألفية العراقي «‪ ،»1‬واملتبويل يف مقدمة شرحه اجلامع الصغري‪.‬‬
‫القصاص‪ :‬يضعون األحاديث يف قصصهم قصدا للتكسب واالرتزاق‪ ،‬وتقراب للعامة بغرائب‬
‫ومنهم ّ‬
‫الرواايت‪ .‬وهلم يف هذا غرائب وعجائب‪ ،‬وصفاقة وجه ال توصف‪.‬‬
‫كما حكى أبو حامت البسيت‪ :‬أنه دخل مسجدا‪ ،‬فقام بعد الصالة شاب فقال‪:‬‬
‫حدثنا أبو خليفة‪ :‬حدثنا أبو الوليد عن شعبة عن قتادة عن أنس وذكر حديثا‪ ،‬قال أبو حامت‪ :‬فلما‬
‫فرغ دعوته‪ ،‬قلت‪ :‬رأيت أاب خليفة؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قلت‪ :‬كيف تروي عنه ومل تره؟ فقال‪ :‬إن املناقشة معنا‬
‫من قلة املروءة! أان أحفظ هذا اإلسناد‪ ،‬فكلما مسعت حديثا ضممته إىل هذا اإلسناد!!‪.‬‬
‫وأكثر هؤالء القصاص جهال‪ ،‬تشبهوا أبهل العلم‪ ،‬واندسوا بينهم‪ ،‬فأفسدوا كثريا من عقول العامة‪.‬‬
‫ويشبههم بعض علماء السوء‪ ،‬الذين اشرتوا الدنيا ابآلخرة‪ ،‬وتقربوا إىل امللوك واألمراء واخللفاء‪،‬‬
‫ابلفتاوى الكاذبة‪ ،‬واألقوال املخرتعة‪ ،‬اليت نسبوها إىل الشريعة الربيئة‪ ،‬واجرتأوا على الكذب على‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬إرضاء لألهواء الشخصية‪ ،‬ونصرا لألغراض السياسية‪ ،‬فاستحبوا‬
‫العمى على اهلدى‪ ،‬كما فعل غياث بن إبراهيم النخعي الكويف الكذاب اخلبيث‪ ،‬كما وصفه إمام أهل‬
‫اجلرح والتعديل‪ ،‬حيىي بن معني! فإنه دخل على أمري املؤمنني املهدي‪ ،‬وكان املهدي حيب احلمام‪،‬‬
‫ويلعب به‪ ،‬فإذا قدامه محام‪ ،‬فقيل له‪ :‬ح ّدث أمري املؤمنني‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا فالن عن فالن أن النيب‬
‫صلّى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫ال سبق إال يف نصل أو خف أو حافر أو جناح‪ ،‬فأمر له املهدي ببدرة (صرة فيها داننري)‪ ،‬فلما قام‬
‫قال‪ :‬أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم! ُث قال املهدي‪ :‬أان محلته‬
‫على ذلك‪ُ ،‬ث أمر بذبح احلمام‪ ،‬ورفض ما كان فيه‪.‬‬
‫وشر أصناف الوضاعني وأعظمهم ضررا‪ :‬قوم ينسبون أنفسهم إىل الزهد والتصوف‪ ،‬مل يتحرجوا من‬
‫وضع األحاديث يف الرتغيب والرتهيب‪ ،‬احتسااب لألجر‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬شرح ألفية العراقي ص‪.111 :‬‬

‫(‪)220/1‬‬

‫عند هللا‪ ،‬ورغبة يف حض الناس على عمل اخلري واجتناب املعاصي فيما زعموا‪ ،‬وهم هبذا العمل‬
‫يفسدون وال يصلحون‪ .‬ولوال رجال صدقوا يف اإلخالص هلل‪ ،‬ونصبوا أنفسهم للدفاع عن دينهم‪،‬‬
‫ب عن سنة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأفنوا أعمارهم يف التمييز بني احلديث‬
‫وتفرغوا لل ّذ ّ‬
‫الثابت واحلديث املكذوب‪ ،‬وهم أئمة السنة وأعالم اهلدى‪.‬‬
‫لوال هؤالء الختلط األمر على العلماء والدمهاء‪ ،‬ولسقطت الثقة ابألحاديث‪ :‬فقد رمسوا قواعد النقد‪،‬‬
‫ووضعوا علم اجلرح والتعديل‪ ،‬فكان من عملهم علم مصطلح احلديث‪ ،‬وهو أدق الطرق اليت ظهرت‬
‫يف العلم للتحقيق التارخيي‪ ،‬ومعرفة النقل الصحيح من الباطل‪ ،‬فجزاهم هللا عن األمة والدين أحسن‬
‫اجلزاء‪.‬‬
‫أيب بن كعب مرفوعا يف فضائل القرآن سورة‬
‫ومن األحاديث املوضوعة املعروفة‪ :‬احلديث املروي عن ّ‬
‫سورة‪ .‬وقد ذكره بعض املفسرين يف تفاسريهم‪ ،‬كالثعليب والواحدي والزخمشري والبيضاوي وقد‬
‫أخطأوا يف ذلك خطأ شديدا‪.‬‬

‫ال يلزم من ضعف السند ضعف احلديث‬


‫فائدة‪:‬‬
‫من وجد حديثا إبسناد ضعيف؛ فاألحوط أن يقول‪ :‬إنه ضعيف هبذا اإلسناد‪ ،‬وال حيكم بضعف‬
‫املنت‪ -‬مطلقا من غري تقييد‪ِ -‬بجرد ضعف ذلك اإلسناد‪ ،‬فقد يكون احلديث واردا إبسناد آخر‬
‫صحيح‪ ،‬إال أن جيد احلكم بضعف املنت منقوال عن إمام من احلفاظ املطلعني على الطرق‪ ،‬وإن نشط‬
‫الباحث عن طريق احلديث وترجح عنده أن هذا املنت مل يرد من طريق أخرى صحيحة‪ ،‬غلب على‬
‫ظنه ذلك‪ -‬فإين ال أرى أبسا أبن حيكم بضعف احلديث مطلقا‪ .‬وإمنا ذهب ابن الصالح إىل املنع‬
‫تقليدا هلم يف منع االجتهاد‪ .‬اه‪ .‬أمحد شاكر‪.‬‬

‫رواية احلديث الضعيف‬


‫قال ابن الصالح‪ :‬وجيوز رواية ما عدا املوضوع يف ابب الرتغيب والرتهيب والقصص واملواعظ‪ ،‬وحنو‬
‫عز وجل‪ .‬ويف ابب احلالل واحلرام‪.‬‬
‫ذلك‪ .‬إال يف صفات هللا ّ‬
‫قال‪ :‬وممن ير ّخص يف رواية الضعيف‪ -‬فيما ذكرانه‪ -‬ابن مهدي‪ ،‬وأمحد بن حنبل رمحهما هللا‪.‬‬

‫(‪)221/1‬‬

‫قال‪ :‬وإذا عزوته إىل النيب صلّى هللا عليه وسلم من غري إسناد فال تقل‪« :‬قال صلّى هللا عليه وسلم‬
‫يشك يف صحته أيضا‪.‬‬
‫كذا»‪ ،‬وما أشبه ذلك من األلفاظ اجلازمة‪ ،‬بل بصيغة التمريض‪ ،‬وكذا فيما ّ‬
‫حبيث ال يعلم حاله‪ ،‬أصحيح أم ضعيف‪ ،‬كأن يقول‪« :‬روي عنه كذا»‪ .‬أو «بلغنا كذا»‪.‬‬
‫وإذا تيقن ضعفه وجب عليه أن يبني أن احلديث ضعيف‪ ،‬لئال يغرت به القارئ أو السامع‪ ،‬وال جيوز‬
‫للناقل أن يذكره بصيغة اجلزم؛ ألنه يوهم غريه أن احلديث صحيح‪ ،‬خصوصا إذا كان الناقل من‬
‫علماء احلديث‪ ،‬الذين يثق الناس بنقلهم‪ ،‬ويظنون أهنم ال ينسبون إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‬
‫شيئا مل جيزموا بصحة نسبته إليه‪ .‬وقد وقع يف هذا اخلطأ كثري من املؤلفني‪ ،‬رمحهم هللا وجتاوز عنهم‪.‬‬
‫وقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غري بيان ضعفه بشروط‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أن يكون احلديث يف القصص أو املواعظ أو فضائل األعمال أو حنو ذلك‪ ،‬مما ال يتعلق‬
‫بصفات هللا تعاىل‪ ،‬وما جيوز له ويستحيل عليه سبحانه‪ ،‬وال بتفسري القرآن‪ ،‬وال ابألحكام‪ ،‬كاحلالل‬
‫واحلرام‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬أن يكون الضعف فيه غري شديد‪ ،‬فيخرج من انفراد‪ ،‬من الكذابني‪ ،‬واملتهمني ابلكذب‪ ،‬والذين‬
‫فحش غلطهم يف الرواية‪.‬‬
‫اثلثا‪ :‬أن يندرج حتت أصل معمول به‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أن ال يعتقد عند العمل به ثبوته‪ ،‬بل يعتقد االحتياط‪.‬‬
‫قال أمحد شاكر‪ :‬والذي أراه‪ :‬أن بيان الضعف يف احلديث الضعيف واجب يف كل حال؛ ألن ترك‬
‫البيان يوهم املطلع عليه أنه حديث صحيح‪ .‬وأنه ال فرق بني األحكام وبني فضائل األعمال وحنوها‬
‫يف عدم األخذ ابلرواية الضعيفة‪ ،‬بل ال حجة ألحد إال ِبا صح عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫من حديث صحيح أو حسن‪.‬‬
‫وأما ما قاله أمحد بن حنبل‪ ،‬وعبد الرمحن بن مهدي‪ ،‬وعبد هللا بن املبارك‪« :‬إذا روينا يف احلالل‬
‫أرجح‪ ،‬وهللا أعلم‪-‬‬
‫واحلرام ش ّددان‪ ،‬وإذا روينا يف الفضائل وحنوها تساهلنا»؛ فإمنا يريدون به‪ -‬فيما ّ‬
‫أن التساهل إمنا هو يف األخذ ابحلديث احلسن الذي مل يصل إىل درجة الصحة‪ ،‬فإن االصطالح يف‬
‫مستقرا واضحا بل كأ ّن أكثر املتقدمني ال يصف‬
‫ّ‬ ‫التفرقة بني الصحيح واحلسن مل يكن يف عصرهم‬
‫احلديث إال ابلصحة أو الضعف فقط‪ .‬اه من الباعث وشرحه‪.‬‬

‫(‪)222/1‬‬

‫ألفاظ التعديل واجلرح‬


‫األلفاظ املستعملة من أهل هذا الشأن يف اجلرح والتعديل‪ ،‬قد رتبها أبو حممد عبد الرمحن بن أيب‬
‫حامت الرازي يف كتابه يف اجلرح والتعديل‪ ،‬فأجاد وأحسن‪ .‬وحنن نرتبها كذلك ونورد ما ذكره ونضيف‬
‫إليه ما بلغنا يف ذلك عن غريه إن شاء هللا‪.‬‬

‫أما ألفاظ التعديل فعلى مراتب‪:‬‬


‫حيتج حبديثه»‪.‬‬
‫األوىل‪ :‬قال ابن أيب حامت‪« :‬إذا قيل للواحد إنه (ثقة أو متقن) فهو ممن ّ‬
‫قلت‪ :‬وكذا إذا قيل‪( :‬ثبت أو حجة) وكذا إذا قيل يف العدل‪( :‬إنه حافظ أو ضابط) وهللا أعلم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬قال ابن أيب حامت‪« :‬إذا قيل‪ :‬إنه صدق‪ ،‬أو حمله الصدق‪ ،‬أو ال أبس به؛ فهو ممن يكتب‬
‫حديثه وينظر فيه وهي املنزلة الثانية»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا كما قال؛ ألن هذه العبارات ال تشعر بشريطة الضبط فينظر يف حديثه وخيترب حىت يعرف‬
‫ضبطه‪.‬‬
‫ومشهور عن عبد الرمحن بن مهدي القدوة يف هذا الشأن أنه حدث فقال‪« :‬حدثنا أبو خلدة‪ .‬فقيل‬
‫له‪ :‬أكان ثقة؟ فقال‪ :‬كان صدوقا‪ ،‬وكان مأموان‪ ،‬وكان خريا‪ -‬ويف رواية‪:‬‬
‫وكان خيارا‪ ،‬الثقة شعبة وسفيان»‪ُ ،‬ث إن ذلك خمالف ملا ورد عن أيب خيثمة قال‪ :‬قلت ليحىي بن‬
‫معني‪ :‬إنك تقول‪« :‬فالن ليس به أبس»‪ ،‬وفالن «ضعيف» قال‪ :‬إذا قلت لك‪:‬‬
‫«ليس به أبس» فهو ثقة‪ ،‬وإذا قلت لك‪« :‬هو ضعيف» فليس هو بثقة‪ ،‬ال تكتب حديثه‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬قال ابن أيب حامت‪« :‬إذا قيل‪ :‬شيخ‪ :‬فهو ابملنزلة الثالثة‪ ،‬يكتب حديثه وينظر فيه‪ ،‬إال أنه دون‬
‫الثانية»‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬قال‪ :‬إذا قيل‪« :‬صاحل احلديث» فإنه يكتب حديثه لالعتبار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد جاء عن أيب جعفر أمحد بن سنان قال‪ :‬كان عبد الرمحن بن مهدي رِبا جرى ذكر حديث‬
‫الرجل فيه ضعف وهو رجل صدوق فيقول‪ :‬رجل صاحل احلديث‪ -‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫وأما ألفاظهم يف اجلرح فهي‪ -‬أيضا‪ -‬على مراتب‪:‬‬


‫بلني احلديث»؛ فهو ممن‬
‫أوالها‪ :‬قوهلم « ّلني احلديث»‪ .‬قال ابن أيب حامت‪ :‬إذا أجابوا يف الرجل « ّ‬
‫يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا‪.‬‬

‫(‪)223/1‬‬

‫قلت‪ :‬وسأل محزة بن يوسف السهمي أاب احلسن الدارقطين اإلمام‪ ،‬فقال له‪ :‬إذا قلت «فالن لني»‬
‫أيش تريد به؟ قال‪ :‬ال يكون ساقطا مرتوك احلديث‪ ،‬ولكن جمروحا بشيء ال يسقط العدالة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬قال ابن أيب حامت‪ :‬إذا قالوا‪ :‬ليس بقوي؛ فهو ِبنزلة األول يف كتب حديثه إال أنه دونه‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬قال‪ :‬إذا قالوا‪« :‬ضعيف احلديث»؛ فهو دون الثاين ال يطرح حديثه بل يعترب به‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬قال‪« :‬إذا قالوا‪« :‬مرتوك احلديث»‪ ،‬أو «ذاهب احلديث»‪ ،‬أو «كذاب»؛ فهو ساقط‬
‫احلديث ال يكتب حديثه وهي املنزلة الرابعة‪.‬‬
‫قال اخلطيب أبو بكر‪ :‬أرفع العبارات يف أحوال الرواة أن يقال‪« :‬حجة أو ثقة»‪ ،‬وأدوهنا أن يقال‪:‬‬
‫«كذاب‪ ،‬ساقط احلديث» أخربان أبو بكر عبد املنعم الصاعدي الفراوي قراءة عليه بنيسابور‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أخربان حممد بن إمساعيل الفارسي‪ ،‬قال‪ :‬أخربان أبو بكر أمحد بن احلسني البيهقي احلافظ‪ ،‬أخربان‬
‫احلسني بن الفضل‪ ،‬أخربان عبد هللا ابن جعفر‪ ،‬حدثنا يعقوب بن سفيان قال‪ :‬مسعت أمحد بن صاحل‬
‫قال‪ :‬ال يرتك حديث رجل حىت جيتمع اجلميع على ترك حديثه‪ .‬قد يقال‪« :‬فالن ضعيف»‪ ،‬فأما أن‬
‫يقال‪« :‬فالن مرتوك» فال‪ ،‬إال أن جيمع اجلميع على ترك حديثه‪.‬‬
‫ومما مل يشرحه ابن أيب حامت وغريه من األلفاظ املستعملة يف هذا الباب قوهلم‪:‬‬
‫«فالن قد روى الناس عنه‪ ،‬فالن وسط‪ ،‬فالن مقارب احلديث‪ ،‬فالن مضطرب احلديث‪ ،‬فالن ال‬
‫حيتج به‪ ،‬فالن جمهول‪ ،‬فالن ال شيء‪ ،‬فالن ليس بذاك» ورِبا قيل‪« :‬ليس بذاك القوي فالن‪ .‬فالن‬
‫فيه أو يف حديثه ضعف»‪ .‬وهو يف اجلرح أقل من قوهلم «فالن ضعيف احلديث»‪ ،‬فالن «ما أعلم به‬
‫أبسا»‪ .‬وهو يف التعديل دون قوهلم‪« :‬ال أبس به»‪ ،‬وما من لفظة منها ومن أشباهها إال وهلا نظري‬
‫أصلناه يتنبه إن شاء هللا به عليها‪ .‬وهللا أعلم‪ .‬اه‪ .‬من املقدمة البن الصالح‪.‬‬
‫شرحناه أو أصل ّ‬

‫بيان أقسام طرق نقل احلديث وحتمله‬


‫طرق نقل احلديث جيمعها مثانية أقسام‪:‬‬

‫القسم األول‪ :‬السماع من لفظ الشيخ‪:‬‬


‫وهو ينقسم إىل إمالء‪ ،‬وحتديث من غري إمالء‪ ،‬وسواء كان من حفظه أو من كتابه‪.‬‬

‫(‪)224/1‬‬

‫وهذا القسم أرفع األقسام عند اجلماهري‪ .‬وفيما نرويه عن القاضي عياض بن موسى السبيت أحد‬
‫املتأخرين املطلعني قوله‪ :‬ال خالف أنه جيوز يف هذا أن يقول السامع من شيخه‪:‬‬
‫«حدثنا‪ ،‬وأخربان‪ ،‬وأنبأان‪ ،‬ومسعت فالان يقول‪ ،‬وقال لنا فالن‪ ،‬وذكر لنا فالن»‪.‬‬
‫وذكر احلافظ أبو بكر اخلطيب أن أرفع العبارات يف ذلك «مسعت» ُث «حدثنا‪ ،‬وحدثين» فإنه ال‬
‫يكاد أحد يقول مسعت يف أحاديث اإلجازة واملكاتبة وال يف تدليس ما مل يسمعه‪.‬‬
‫وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له‪« :‬حدثنا» وروي عن احلسن أنه كان يقول‪« :‬حدثنا أبو‬
‫هريرة» ويتأول أنه حدث أهل املدينة‪ ،‬وكان احلسن إذ ذاك هبا إال أنه مل يسمع منه شيئا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومنهم من أثبت له مساعا من أيب هريرة‪ .‬اه ابن الصالح‪.‬‬
‫ُث يتلو ذلك قول‪« :‬أخربان» وهو كثري يف االستعمال‪ ،‬حىت إن مجاعة من أهل العلم كانوا ال يكادون‬
‫خيربون عما مسعوه من لفظ حدثهم به إال بقوهلم «أخربان» منهم محاد بن سلمة‪ ،‬وعبد هللا بن املبارك‪،‬‬
‫وهشام بن بشري‪ ،‬وعبيد هللا بن موسى‪ ،‬وعبد الرزاق بن مهام‪.‬‬
‫وذكر اخلطيب عن حممد بن رافع قال‪ :‬كان عبد الرزاق يقول‪« :‬أخربان» حىت قدم أمحد بن حنبل‬
‫وإسحاق بن راهويه فقاال له‪ :‬قل «حدثنا» فكل ما مسعت مع هؤالء قال‪« :‬حدثنا» وما كان قبل‬
‫ذلك قال‪« :‬أخربان»‪ .‬وعن حممد بن أيب الفوارس احلافظ قال‪« :‬هشيم‪ ،‬ويزيد بن هارون‪ ،‬وعبد‬
‫الرزاق ال يقولون إال «أخربان» فإذا رأيت «حدثنا» فهو من خطأ الكاتب»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكان هذا كله قبل أن يشيع ختصيص «أخربان» ِبا قرئ على الشيخ‪ُ ،‬ث يتلو قول «أخربان»‬
‫قول «أنبأان»‪ ،‬و «نبأان» وهو قليل يف االستعمال‪.‬‬

‫القسم الثاين من أقسام األخذ والتحمل‪ :‬القراءة على الشيخ‪:‬‬


‫وأكثر احمل ّدثني يسموهنا «عرضا» من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه‪ ،‬كما يعرض‬
‫القرآن على املقرئ وسواء كنت أنت القارئ‪ ،‬أو قرأ غريك وأنت تسمع‪ ،‬أو قرأت من كتاب‪ ،‬أو من‬
‫حفظك‪ ،‬أو كان الشيخ حيفظ ما يقرأ عليه أو ال حيفظه لكن ميسك أصله هو أو ثقة غريه‪ .‬وال‬
‫خالف أهنا رواية صحيحة إال ما حكي عن بعض من ال يعتد خبالفه‪.‬‬
‫واختلفوا يف أهنا مثل السماع من لفظ الشيخ يف املرتبة أو دونه أو فوقه‪ ،‬فنقل عن أيب حنيفة وابن أيب‬
‫ذئب وغريمها ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه‪،‬‬

‫(‪)225/1‬‬

‫وروي ذلك عن مالك أيضا‪ ،‬وروي عن مالك وغريه أهنما سواء‪ .‬وقد قيل‪ :‬إن التسوية بينهما مذهب‬
‫معظم علماء احلجاز والكوفة‪ ،‬ومذهب مالك وأصحابه‪ ،‬وأشياخه من علماء املدينة‪ ،‬ومذهب‬
‫البخاري وغريهم‪.‬‬
‫والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ‪ .‬واحلكم أبن القراءة عليه مرتبة اثنية‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن هذا‬
‫مذهب مجهور أهل املشرق‪.‬‬
‫وأما العبارة عنها عند الرواية هبا فهي على مراتب‪ ،‬أجودها وأسلمها أن يقول‪:‬‬
‫«قرأت على فالن‪ ،‬أو قرئ على فالن وأان أمسع» فهذا سائغ من غري إشكال‪.‬‬
‫ويتلو ذلك‪ :‬ما جيوز من العبارات يف السماع من لفظ الشيخ إذا أتى هبا مقيدة أبن يقول‪« :‬حدثنا‬
‫فالن قراءة عليه‪ ،‬أو أخربان قراءة عليه»‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬وكذلك «أنشدان قراءة عليه» يف الشعر‪.‬‬
‫وأما إطالق «حدثنا وأخربان» يف القراءة على الشيخ فقد اختلفوا فيه على مذاهب‪.‬‬

‫القسم الثالث من أقسام طرق نقل احلديث وحتمله‪ :‬اإلجازة‪:‬‬


‫وهي متنوعة أنواعا‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أن جييز ملعني يف معني‪ ،‬مثل أن يقول‪« :‬أجزت لك الكتاب الفالين‪ ،‬أو ما اشتملت عليه‬
‫فهرسيت هذه» فهذا أعلى أنواع اإلجازة اجملردة عن املناولة‪ .‬وزعم بعضهم أنه ال خالف يف جوازها‪،‬‬
‫وال خالف فيها أهل الظاهر‪ ،‬وإمنا خالفهم يف غري هذا النوع‪ .‬وزاد القاضي أبو الوليد الباجي املالكي‬
‫فأطلق نفي اخلالف وقال‪« :‬ال خالف يف جواز الرواية ابإلجازة من سلف هذه األمة وخلفها» وادعى‬
‫اإلمجاع من غري تفصيل‪ ،‬وحكي اخلالف يف العمل هبا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا ابطل؛ فقد خالف يف جواز الرواية ابإلجازة مجاعات من أهل احلديث والفقهاء‬
‫واألصوليني‪ ،‬وذلك إحدى الروايتني عن الشافعي رضي هللا عنه‪ .‬روى عن صاحبه الربيع بن سليمان‬
‫قال‪ :‬كان الشافعي ال يرى اإلجازة يف احلديث‪ .‬قال الربيع‪« :‬أان أخالف الشافعي يف هذا»‪ .‬وقد قال‬
‫إببطاهلا مجاعة من الشافعيني منهم القاضيان حسني بن حممد املروزي‪ ،‬وأبو احلسن املاوردي‪ ،‬وبه قطع‬
‫املاوردي يف كتابه «احلاوي» وعزاه إىل مذهب الشافعي وقاال مجيعا‪« :‬لو جازت اإلجازة لبطلت‬
‫الرحلة»‪ .‬وروى‪ -‬أيضا‪ -‬هذا الكالم عن شعبة وغريه‪.‬‬
‫ُث إن الذي استقر عليه العمل وقال به مجاهري أهل العلم من أهل احلديث وغريهم‪:‬‬
‫القول بتجويز اإلجازة وإابحة الرواية هبا‪ ،‬ويف االحتجاج لذلك غموض‪ .‬ويتجه أن‬

‫(‪)226/1‬‬

‫نقول‪ :‬إذا أجاز أن يروي عنه مروايته فقد أخربه هبا مجلة فهو كما لو أخربه تفصيال‪.‬‬
‫وإخباره هبا غري متوقف على التصريح نطقا‪ ،‬كما يف القراءة على الشيخ كما سبق‪ ،‬وإمنا الغرض‬
‫حصول اإلفهام والفهم وذلك حيصل ابإلجازة املفهمة‪.‬‬
‫النوع الثاين من أنواع اإلجازة‪ :‬أن جييز ملعني يف غري معني مثل أن يقول‪« :‬أجزت لك أو لكم مجيع‬
‫مسموعايت أو مجيع مرواييت» وما أشبه ذلك‪ ،‬فاخلالف يف هذا النوع أقوى وأكثر‪ .‬واجلمهور من‬
‫العلماء من احملدثني والفقهاء وغريهم على جتويز الرواية هبا أيضا‪ ،‬وعلى إجياب العمل ِبا روي هبا‬
‫بشرطه‪.‬‬
‫النوع الثالث من أنواع اإلجازة‪ :‬أن جييز لغري معني بوصف العموم مثل أن يقول‪:‬‬
‫«أجزت للمسلمني‪ ،‬أو أجزت لكل أحد‪ ،‬أو أجزت ملن أدرك زماين» وما أشبه ذلك فهذا نوع تكلم‬
‫جوز أصل اإلجازة واختلفوا يف جوازه‪ ،‬فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاضر أو حنوه‬
‫فيه املتأخرون ممن ّ‬
‫فهو إىل اجلواز أقرب‪ ،‬وممن جوز ذلك كله أبو بكر اخلطيب احلافظ‪.‬‬
‫وجوز القاضي أبو‬
‫وروينا عن أيب عبد هللا بن منده احلافظ أنه قال‪« :‬أجزت ملن قال ال إله إال هللا»‪ّ .‬‬
‫الطيب الطربي‪ -‬أحد الفقهاء احملققني فيما حكاه عنه اخلطيب‪ -‬اإلجازة جلميع املسلمني من كان‬
‫منهم موجودا عند اإلجازة‪ ،‬وأجاز أبو حممد بن سعيد أحد اجللّة من شيوخ األندلس لكل من دخل‬
‫قرطبة من طلبة العلم‪ ،‬ووافقه على جواز ذلك مجاعة منهم أبو عبد هللا بن عتاب رضي هللا عنهم‪.‬‬
‫وأنبأين من سأل احلازمي أاب بكر عن اإلجازة العامة هذه فكان من جوابه أن من أدركه من احلفاظ حنو‬
‫أيب العالء احلافظ وغريه كانوا مييلون إىل اجلواز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومل نر ومل نسمع عن أحد ممن يقتدى به أنه استعمل هذه اإلجازة فروى هبا وال عن الشرذمة‬
‫سوغوها‪ ،‬واإلجازة يف أصلها ضعف وتزداد هبذا التوسع واالسرتسال ضعفا كثريا ال ينبغي‬
‫املستأخرة ّ‬
‫احتماله‪ .‬وهللا أعلم اه‪ .‬ابن الصالح‪.‬‬
‫النوع الرابع من أنواع اإلجازة‪ :‬اإلجازة للمجهول أو ابجملهول‪ ،‬ويتشبث بذيلها اإلجازة املعلقة‬
‫ابلشرط وذلك مثل أن يقول‪« :‬أجزت حملمد بن خالد الدمشقي»‪ ،‬ويف وقته ذلك مجاعة مشرتكون يف‬
‫هذا االسم والنسب‪ُ ،‬ث ال يعني اجملاز له منهم‪ ،‬أو يقول‪« :‬أجزت لفالن أن يروي عين كتاب السنن»‬
‫يعني‪ .‬فهذه إجازة فاسدة ال فائدة‬
‫وهو يروي أكثر من كتاب من كتب السنن املعروفة بذلك‪ُ ،‬ث ال ّ‬
‫هلا‪.‬‬
‫النوع اخلامس من أنواع اإلجازة‪ :‬اإلجازة للمعدوم‪ ،‬ولنذكر معه اإلجازة للطفل الصغري‪ .‬هذا نوع‬
‫خاض فيه قوم من املتأخرين واختلفوا يف جوازه‪ .‬ومثاله أن يقول‪:‬‬
‫«أجزت ملن يولد لفالن» فإن عطف املعدوم يف ذلك على املوجود أبن قال‪« :‬أجزت‬

‫(‪)227/1‬‬

‫لفالن وملن يولد له‪ ،‬أو أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا» كان ذلك أقرب إىل اجلواز من‬
‫األول‪ .‬وملثل ذلك أجاز أصحاب مالك وأيب حنيفة رضي هللا عنهما أو من قال ذلك منهم يف الوقف‬
‫القسمني كليهما‪ ،‬وفعل هذا الثاين يف اإلجازة من احملدثني املتقدمني أبو بكر بن أيب داود السجستاين؛‬
‫فإان روينا عنه أنه سئل اإلجازة فقال‪« :‬قد أجزت لك وألوالدك وحلبل احلبلة» يعين الذين مل يولدوا‬
‫بعد‪.‬‬
‫النوع السادس من أنواع اإلجازة‪ :‬إجازة ما مل يسمعه اجمليز ومل يتحمله أصال بعد لريويه اجملاز إذا حتمله‬
‫اجمليز بعد ذلك‪ ،‬أخربين من أخرب عن القاضي عياض بن موسى من فضالء وقته ابملغرب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«هذا مل أر من تكلم عليه من املشايخ‪ ،‬ورأيت بعض املتأخرين والعصريني يسمعونه»‪ُ ،‬ث حكى عن‬
‫أيب الوليد يونس بن مغيث قاضي قرطبة أنه سئل اإلجازة جبميع ما رواه إىل اترخيه وما يرويه بعد‬
‫فامتنع من ذلك‪.‬‬
‫فغضب السائل‪ ،‬فقال له بعض أصحابه‪ :‬اي هذا يعطيك ما مل أيخذه؟ هذا حمال‪.‬‬
‫قال عياض‪« :‬وهذا هو الصحيح»‪.‬‬

‫القسم الرابع من أقسام طرق حتمل احلديث وتلقيه‪ :‬املناولة‪:‬‬


‫وهي على نوعني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬املناولة املقرونة ابإلجازة‪ ،‬وهي أعلى أنواع اإلجازة على اإلطالق‪ .‬وهلا صور‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن يدفع الشيخ إىل الطالب أصل مساعه أو فرعا مقابال به ويقول‪« :‬هذا مساعي أو رواييت عن‬
‫عين‪ ،‬أو أجزت لك روايته عين»‪ُ .‬ث ميلكه إايه‪ .‬أو يقول‪« :‬خذه وانسخه وقابل به ُث ر ّده‬
‫فالن فاروه ّ‬
‫إيل» أو حنو هذا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومنها‪ :‬أن جييء الطالب إىل الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ وهو‬
‫عارف متيقظ ُث يعيده إليه ويقول له‪« :‬وقفت على ما فيه وهو حديثي عن فالن‪ ،‬أو رواييت عن‬
‫شيوخي فيه‪ ،‬فاروه عين‪ .‬أو أجزت لك روايته عين» وهذا قد مساه غري واحد من أئمة احلديث‬
‫فلنسم ذلك «عرض‬
‫ّ‬ ‫«عرضا» وقد سبقت حكايتنا يف القراءة على الشيخ أهنا تسمى «عرضا» أيضا‪،‬‬
‫القراءة» وهذا «عرض املناولة»‪.‬‬
‫وهذه املناولة املقرتنة ابإلجازة حالّة حمل السماع عند مالك ومجاعة من أئمة أصحاب احلديث‪.‬‬
‫وحكى احلاكم أبو عبد هللا احلافظ النيسابوري يف عرض املناولة املذكور عن كثري من املتقدمني أنه‬
‫مساع‪ .‬وهذا مطّرد يف سائر ما مياثله من صور املناولة املقرونة ابإلجازة‪.‬‬

‫(‪)228/1‬‬

‫وقد قال احلاكم يف هذا العرض‪ :‬أما فقهاء اإلسالم الذين أفتوا يف احلالل واحلرام؛ فإهنم مل يروه‬
‫مساعا‪ ،‬وبه قال الشافعي‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬والبويطي‪ ،‬واملزين‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وسفيان الثوري‪ ،‬وأمحد بن‬
‫حنبل‪ ،‬وابن املبارك‪ ،‬وحيىي بن حيىي‪ ،‬وإسحاق ابن راهويه قال‪ :‬وعليه عهدان أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه‬
‫نذهب‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫القسم اخلامس من أقسام طرق نقل احلديث وتلقيه‪ :‬املكاتبة‪:‬‬
‫وهي أن يكتب الشيخ إىل الطالب وهو غائب شيئا من حديثه خبطه أو يكتب له ذلك وهو حاضر‪.‬‬
‫ويلتحق بذلك ما إذا أمر غريه أبن يكتب له ذلك عنه إليه‪ ،‬وهذا القسم ينقسم أيضا إىل نوعني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬أن تتجرد املكاتبة عن اإلجازة‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أن تقرتن ابإلجازة؛ أبن يكتب إليه ويقول‪« :‬أجزت لك ما كتبته لك‪ ،‬أو ما كتبت به إليك‪،‬‬
‫أو حنو ذلك من عبارات اإلجازة»‪.‬‬

‫القسم السادس من أقسام األخذ ووجوه النقل‪ :‬إعالم الراوي للطالب‪:‬‬


‫أبن هذا احلديث أو هذا الكتاب مساعه أو روايته من فالن‪ ،‬مقتصرا على ذلك من غري أن يقول‪:‬‬
‫«اروه عين‪ ،‬أو أذنت لك يف روايته» أو حنو ذلك‪ ،‬فهذا عند كثريين طريق جموز لرواية ذلك عنه‬
‫ونقله‪ .‬حكي ذلك عن ابن جريج وطوائف من احملدثني والفقهاء واألصوليني‪ ،‬والظاهريني‪ ،‬وبه قطع‬
‫أبو نصر بن الصباغ من الشافعيني واختاره ونصره أبو العباس الوليد بن بكر الغمري املالكي يف‬
‫كتاب «الوجازة يف جتويز اإلجازة»‪.‬‬

‫القسم السابع من أقسام األخذ والتحمل‪ :‬الوصية ابلكتب‪:‬‬


‫أبن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص‪ .‬فروي عن بعض السلف رضي هللا تعاىل‬
‫عنهم أنه جوز بذلك رواية املوصى له لذلك عن املوصي الراوي‪ .‬وهذا بعيد ج ّدا وهو إما زلة عامل‪،‬‬
‫متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة اليت أييت شرحها إن شاء هللا تعاىل‪ .‬وقد احتج‬
‫أو ّ‬
‫جوز الرواية ِبجرد‬
‫بعضهم لذلك فشبهه بقسم اإلعالم وقسم املناولة‪ ،‬وال يصح ذلك؛ فإن لقول من ّ‬
‫اإلعالم واملناولة مستندا ذكرانه ال يتقرر مثله‪ .‬وال قريب منه هاهنا‪.‬‬

‫القسم الثامن‪ :‬الوجادة‪:‬‬


‫وهي مصدر ل «وجد جيد» مولّد غري مسموع من العرب‪ .‬روينا عن املعاىف بن‬

‫(‪)229/1‬‬
‫فرعوا قوهلم‪« :‬وجادة» فيما أخذ من العلم من صحيفة‬
‫زكراي النهرواين العالمة يف العلوم‪ :‬أن املولّدين ّ‬
‫من غري مساع‪ ،‬وال إجازة‪ ،‬وال مناولة‪ ،‬من تفريق العرب بني مصادر «وجد» للتمييز بني املعاين‬
‫املختلفة يعين قوهلم‪« :‬وجد ضالته وجداان‪ ،‬ومطلوبه وجودا» ويف الغضب «موجدة» ويف الغىن‬
‫«وجدا» ويف احلب «وجدا»‪.‬‬
‫مثال الوجادة‪ :‬أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها خبطه ومل يلقه‪ ،‬أو لقيه ولكن مل يسمع‬
‫ط فالن‪ ،‬أو قرأت‬
‫منه ذلك الذي وجده خبطه وال له منه إجازة وال حنوها‪ ،‬فله أن يقول‪« :‬وجدت خب ّ‬
‫ط فالن‪ ،‬أو يف كتاب فالن خبطّه‪ :‬أخربان فالن بن فالن» ويذكر شيخه ويسوق سائر اإلسناد واملنت‬
‫خب ّ‬
‫معا‪ ،‬أو يقول‪« :‬وجدت أو قرأت خبط فالن عن فالن» ويذكر الذي حدثه ومن فوقه‪ ،‬هذا الذي‬
‫استمر عليه العمل قدميا وحديثا‪ ،‬وهو من ابب املنقطع واملرسل غري أنه أخذ شواب من االتصال‬
‫بقوله‪« :‬وجدت خبط فالن» اه‪ .‬ابن الصالح ابختصار وتصرف‪.‬‬

‫املصحف من أسانيد األحاديث ومتوهنا‬


‫ّ‬ ‫معرفة‬
‫هذا فن جليل إمنا ينهض أبعبائه احل ّذاق من احلفاظ‪ .‬والدارقطين منهم‪ ،‬وله فيه تصنيف مفيد‪ ،‬وروينا‬
‫عن أيب عبد هللا أمحد بن حنبل رضي هللا عنه أنه قال‪« :‬ومن يعرى (خيلو) من اخلطأ والتصحيف؟!»‪.‬‬
‫فمثال التصحيف يف اإلسناد‪ :‬حديث شعبة عن العوام بن مراجم عن أيب عثمان النهدي‪ ،‬عن عثمان‬
‫بن عفان قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪« :‬لتؤ ّد ّن احلقوق إىل أهلها ‪..‬‬
‫احلديث» صحف فيه حيىي بن معني فقال‪« :‬ابن مزاحم» ابلزاي واحلاء فر ّد عليه‪ ،‬وإمنا هو «ابن‬
‫مراجم» ابلراء املهملة واجليم‪.‬‬
‫ومنه ما رويناه عن أمحد بن حنبل قال‪ :‬حدثنا حممد بن جعفر قال‪ :‬حدثنا شعبة عن مالك بن‬
‫عرفطة‪ ،‬عن عبد خري‪ ،‬عن عائشة «أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم هنى عن الدابء واملزفت» قال‬
‫أمحد‪« :‬صحف شعبة فيه وإمنا هو خالد بن علقمة» وقد رواه زائدة بن قدامة وغريه على ما قاله‬
‫أمحد‪.‬‬
‫وبلغنا عن الدارقطين أن ابن جرير الطربي قال فيمن روى عن النيب صلّى هللا عليه وسلم من بين‬
‫سليم «ومنهم عتبة بن البذر» قاله ابلباء والذال املعجمة‪ ،‬وروى له حديثا‪ ،‬وإمنا هو «ابن الندر»‬
‫ابلنون والدال غري املعجمة‪.‬‬
‫ومثال التصحيف يف املنت‪ :‬ما رواه ابن هليعة عن كتاب موسى بن عقبة إليه إبسناده‬

‫(‪)230/1‬‬
‫عن زيد بن اثبت «أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم احتجم يف املسجد»‪ ،‬وإمنا هو ابلراء «احتجر‬
‫يف املسجد» خبص أو حصري‪ ،‬حجرة يصلي فيها‪ ،‬فصحفه ابن هليعة لكونه أخذه من كتاب بغري مساع‪.‬‬
‫ذكر ذلك مسلم يف كتاب التمييز له‪.‬‬
‫أيب يوم األحزاب على أكحله‪،‬‬
‫وبلغنا عن الدارقطين يف حديث أيب سفيان عن جابر قال‪« :‬رمي ّ‬
‫أيب» وهو أيب بن كعب‪.‬‬
‫فكواه رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم» أن غندرا قال فيه‪« :‬أيب» وإمنا هو « ّ‬
‫ذرة» قال‬
‫ويف حديث أنس «ُث خيرج من النار من قال ال إله إال هللا وكان يف قلبه من اخلري ما يزن ّ‬
‫فيه شعبة‪« :‬ذرة» ابلضم والتخفيف ونسب فيه إىل التصحيف‪.‬‬
‫املفسر» حدث عن سعيد بن أيب عروبة عن قتادة‬
‫سالم «هو ّ‬‫وبلغنا عن أيب زرعة الرازي أن حيىي بن ّ‬
‫ِِ‬
‫ني قال «مصر» واستعظم أبو زرعة هذا واستقبحه وذكر أنه يف‬ ‫يف قوله تعاىل‪َ :‬سأُ ِري ُك ْم َ‬
‫دار الْفاسق َ‬
‫تفسري سعيد عن قتادة «مصريهم»‪.‬‬
‫وبلغنا عن الدارقطين أن حممد بن املثىن أاب موسى العرتي حدث حبديث النيب صلّى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫«ال أييت أحدكم يوم القيامة ببقرة هلا خوار» قال فيه‪« :‬أو شاة تنعر» ابلنون‪ ،‬وإمنا هو «تيعر» ابلياء‬
‫املثناة من حتت‪.‬‬
‫وأنه قال هلم يوما‪« :‬حنن قوم لنا شرف‪ ،‬حنن من عنزة قد صلى النيب صلّى هللا عليه وسلم إلينا» يريد‬
‫ما روي أن النيب صلّى هللا عليه وسلم صلى إىل عنزة‪ .‬توهم أنه صلى إىل قبيلتهم‪ ،‬وإمنا العنزة ههنا‬
‫حربة نصبت بني يديه فصلى إليها‪ .‬اه‪.‬‬

‫عادة احملدثني‬
‫جرت عادة أهل احلديث حبذف قال وحنوه فيما بني رجال اإلسناد يف اخلط‪.‬‬
‫وينبغي للقارئ أن يلفظ هبا‪ ،‬وإذا كان يف الكتاب قرئ على فالن‪ ،‬أخربك فالن‪ ،‬فليقل القارئ‪ :‬قرئ‬
‫على فالن قيل له‪ :‬أخربك فالن‪ ،‬وإذا كان فيه قرئ على فالن أخربان فالن فليقل‪ :‬قرئ على فالن‪،‬‬
‫قيل له‪ :‬قلت‪ :‬أخربان فالن‪.‬‬
‫وإذا تكررت كلمة قال كقوله‪ :‬حدثنا صاحل قال‪ :‬قال الشعيب‪ :‬فإهنم حيذفون إحدامها يف اخلط‬
‫فليلفظ هبما القارئ فلو ترك القارئ لفظ قال يف هذا كله فقد أخطأ والسماع صحيح للعلم ابملقصود‬
‫ويكون هذا من احلذف لداللة احلال عليه‪ .‬اه منه‪.‬‬
‫رموز احملدثني‬
‫جرت العادة ابالقتصار على الرمز يف «حدثنا وأخربان» واستمر االصطالح عليه من‬

‫(‪)231/1‬‬

‫قدمي األعصار إىل زماننا واشتهر ذلك حبيث ال خيفى فيكتبون من حدثنا (ثنا) وهي الثاء والنون‬
‫واأللف‪ ،‬ورِبا حذفوا الثاء‪ ،‬ويكتبون من أخربان (ان) وال حيسن زايدة الباء قبل «ان»‪ ،‬وإذا كان‬
‫للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند االنتقال من إسناد إىل إسناد (ح) وهي حاء مهملة مفردة‪،‬‬
‫واملختار أهنا مأخوذة من التحول‪ ،‬لتحوله‬
‫من إسناد إىل إسناد‪ ،‬وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها‪( :‬ح) ويستمر يف قراءة ما بعدها‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إهنا من حال بني الشيئني‪ ،‬إذا حجز لكوهنا حالت بني اإلسنادين‪ ،‬وأنه ال يلفظ عند االنتهاء‬
‫إليها بشيء وليست من الرواية‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إهنا رمز إىل قوله احلديث‪ ،‬وأن أهل املغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها‪:‬‬
‫احلديث‪ .‬وقد كتب مجاعة من احلفاظ موضعها «صح» فيشعر أبهنا رمز «صح»‪ ،‬وحسنت هاهنا‬
‫كتابة «صح» لئال يتوهم أنه سقط منت اإلسناد األول‪.‬‬
‫ُث هذه احلاء توجد يف كتب املتأخرين كثريا وهي كثرية يف صحيح مسلم‪ ،‬وقليلة يف صحيح البخاري‪،‬‬
‫فيتأكد احتياج صاحب هذا الكتاب إىل معرفتها وقد أرشدانه إىل ذلك وهلل احلمد والنعمة والفضل‬
‫واملنة‪.‬‬

‫ليس للراوي أن يزيد أو ينقص يف نسب غري شيخه أو صفته‬


‫ليس للراوى أن يزيد يف نسب غري شيخه وال صفته على ما مسعه من شيخه‪ ،‬لئال يكون كاذاب على‬
‫شيخه‪ ،‬فإن أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس املتطرق إليه ملشاهبة غريه؛ فطريقه أن يقول‪ :‬قال‬
‫حدثين فالن (يعين ابن فالن‪ ،‬أو الفالين‪ ،‬أو هو ابن فالن‪ ،‬أو الفالين‪ ،‬أو حنو ذلك) فهذا جائز‬
‫حسن؛ قد استعمله األئمة‪ ،‬وقد أكثر البخاري ومسلم منه يف الصحيحني غاية اإلكثار‪ ،‬حىت إن كثريا‬
‫من أسانيدمها يقع يف اإلسناد الواحد منها موضعان أو أكثر من هذا الضرب‪ ،‬كقوله يف أول كتاب‬
‫البخاري يف ابب «املسلم من سلم املسلمون من لسانه ويده» قال أبو معاوية‪ :‬حدثنا داود (هو ابن‬
‫أيب هند) عن عامر قال‪:‬‬
‫مسعت عبد هللا (هو ابن عمرو)‪ ،‬وكقوله يف كتاب مسلم يف ابب «منع النساء من اخلروج إىل‬
‫املساجد» حدثنا عبد هللا بن مسلمة حدثنا سليمان (يعين ابن بالل) عن حيىي (وهو ابن سعيد)‬
‫ونظائره كثرية‪ ،‬وإمنا يقصدون هبذا اإليضاح كما ذكران أوال؛ فإنه لو قال‪ :‬حدثنا داود أو عبد هللا‪ ،‬مل‬
‫يعرف من هو لكثرة املشاركني يف هذا االسم‪ ،‬وال يعرف ذلك يف بعض املواطن إال اخلواص والعارفون‬
‫هبذه الصنعة وِبراتب الرجال‪ ،‬فأوضحوه لغريهم وخففوا عنهم مؤونة النظر والتفتيش‪ ،‬وهذا الفصل‬
‫نفيس يعظم االنتفاع به‪ ،‬فإن من ال يعاين هذا الفن قد يتوهم أن قوله «يعين» وقوله «هو» زايدة ال‬
‫حاجة إليها‪ ،‬وأن‬

‫(‪)232/1‬‬

‫األوىل حذفها وهذا جهل قبيح‪ ،‬وهللا أعلم‪ .‬اه كالم النووى‪.‬‬

‫ما يستحب لكاتب احلديث‬


‫عز وجل» أو «تعاىل» أو «سبحانه‬
‫عز وجل أن يكتب « ّ‬
‫يستحب لكاتب احلديث إذا مر بذكر هللا ّ‬
‫وتعاىل» أو «تبارك وتعاىل» أو «جل ذكره» أو «تبارك امسه» أو «جلت عظمته» أو ما أشبه ذلك‪،‬‬
‫وكذلك يكتب عند ذكر النيب صلّى هللا عليه وسلم بكماهلا ال رامزا إليها وال مقتصرا على أحدمها‪،‬‬
‫وكذلك يقول يف الصحايب رضي هللا عنه فإن كان صحابيّا ابن صحايب قال‪:‬‬
‫رضي هللا عنهما وكذلك يرتضى ويرتحم على سائر العلماء واألخيار ويكتب كل هذا وإن مل يكن‬
‫مكتواب يف األصل الذي ينقل منه‪ ،‬فإن هذا ليس رواية وإمنا هو دعاء‪ ،‬وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما‬
‫ذكرانه وإن مل يكن مذكورا يف األصل الذي يقرأ منه وال يسأم من تكرار ذلك‪ ،‬ومن أغفل هذا حرم‬
‫وفوت فضال جسيما‪ .‬اه منه‪.‬‬
‫خريا عظيما ّ‬

‫ذكر النيب بدل الرسول وعكسه‬


‫إذا كان الراوى يف مساعه عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪ ،‬فأراد أن يرويه ويقول عن النيب صلّى‬
‫هللا عليه وسلم أو عكسه‪ ،‬فالصحيح الذي قاله محاد بن سلمة وأمحد بن حنبل وأبو بكر اخلطيب أنه‬
‫جائز؛ ألنه ال خيتلف به هنا معىن‪ ،‬وهو املختار خالفا البن الصالح‪.‬‬
‫تعريف الصحايب والتابعي‬
‫قال النووي‪ :‬هذا فصل مما يتأكد االعتناء به ومتس احلاجة إليه فبه يعرف املتصل من املرسل‪.‬‬
‫فأما الصحايب‪ :‬فكل مسلم رأى رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ولو حلظة‪ ،‬هذا هو الصحيح يف‬
‫حده‪ ،‬وهو مذهب أمحد بن حنبل‪ ،‬وأيب عبد هللا البخاري يف صحيحه‪ ،‬واحملدثني كافة‪.‬‬
‫وذهب أكثر أصحاب الفقه واألصول إىل أنه من طالت صحبته له صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫قال اإلمام القاضي أبو الطيب الباقالين‪ :‬ال خالف بني أهل اللغة أن الصحايب مشتق من الصحبة‪،‬‬
‫وهو جار على كل من صحب غريه قليال كان أو كثريا‪ ،‬يقال‪ :‬صحبه شهرا ويوما وساعة‪ ،‬قال‪ :‬وهذا‬
‫يوجب يف حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النيب صلّى هللا عليه وسلم ولو ساعة‪ ،‬هذا هو‬
‫األصل‪ ،‬قال‪ :‬ومع هذا قد تقرر لألمة عرف يف أهنم ال يستعملونه إال فيمن كثرت صحبته واتصل‬
‫لقاؤه‪ ،‬وال جيزي ذلك على من لقى املرء ساعة ومشى معه خطوات ومسع منه حديثا‪ ،‬فوجب أن ال‬
‫جيزي يف االستعمال إال على من هذا حاله‪.‬‬

‫(‪)233/1‬‬

‫هذا كالم القاضي اجملمع على إمامته وجاللته‪ ،‬وفيه تقرير للمذهبني‪ ،‬ويستدل به على ترجيح مذهب‬
‫احملدثني‪ ،‬فإن هذا اإلمام قد نقل عن أهل اللغة أن االسم يتناول صحبة ساعة‪ ،‬وأكثر أهل احلديث‬
‫قد نقلوا االستعمال يف الشرع والعرف على وفق اللغة فوجب املصري إليه‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وأما التابعي‪ :‬ويقال فيه التابع‪ :‬فهو من لقى الصحايب‪ ،‬وقيل‪ :‬من صحبه كاخلالف يف الصحايب‪،‬‬
‫واالكتفاء هنا ِبجرد اللقاء أوىل؛ نظرا إىل مقتضى اللفظني‪.‬‬
‫وتعرف صحبة الصحابة اترة ابلتواتر‪ ،‬واترة أبخبار مستفيضة‪ ،‬واترة بشهادة غريه من الصحابة له‪،‬‬
‫واترة بروايته عن النيب صلّى هللا عليه وسلم مساعا‪ ،‬أو مشاهدة مع املعاصرة‪.‬‬
‫صحايب»‪ :‬فقد قال ابن احلاجب يف خمتصره‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فأما إذا قال املعاصر العدل‪« :‬أان‬
‫احتمل اخلالف؛ يعين ألنه خيرب عن حكم شرعي‪ ،‬كما لو قال يف الناسخ‪« :‬هذا انسخ هلذا» الحتمال‬
‫خطئه يف ذلك‪.‬‬
‫أما لو قال‪« :‬مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم قال كذا» أو «رأيته فعل كذا» أو «كنا عند‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم» وحنو هذا‪ :-‬فهذا مقبول ال حمالة‪ ،‬إذا صح السند إليه‪ ،‬وهو ممن‬
‫عاصره عليه الصالة والسالم‪ .‬اه‪.‬‬
‫أمور تتعلق ابلصحابة‬
‫‪ - 1‬عدالتهم مجيعا‪:‬‬
‫للصحابة أبسرهم خصيصة‪ ،‬وهي أنه ال يسأل عن عدالة أحد منهم‪ ،‬بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكوهنم‬
‫على اإلطالق مع ّدلني بنصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وإمجاع من يعت ّد به يف اإلمجاع من األمة‪.‬‬
‫َّاس [سورة آل عمران آية‪.]110 :‬‬ ‫ت لِلن ِ‬
‫ري أ َُّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ‬
‫قال هللا تبارك وتعاىل‪ُ :‬ك ْنـتُ ْم َخ ْ َ‬
‫قيل‪ :‬اتفق املفسرون على أنه وارد يف أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫داء َعلَى الن ِ‬
‫َّاس [سورة البقرة آية‪ ،]143 :‬وهذا‬ ‫ِ‬ ‫وقال تعاىل‪َ :‬وَكذلِ َ‬
‫ك َج َعلْنا ُك ْم أ َُّمةً َو َسطاً لتَ ُكونُوا ُش َه َ‬
‫خطاب مع املوجودين حينئذ‪.‬‬
‫وقال سبحانه تعاىل‪ُ :‬حمَ َّم ٌد رس ُ ِ‬
‫اَّلل والَّ ِذين معهُ أ ِ‬
‫َشدَّاءُ َعلَى الْ ُك َّفا ِر [سورة الفتح آية‪.]29 :‬‬ ‫ول َّ َ َ َ َ‬ ‫َُ‬
‫ويف نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة‪ ،‬منها‪ :‬حديث أيب سعيد املتفق على صحته أن رسول هللا‬
‫صلّى هللا عليه وسلم قال‪« :‬ال تسبوا أصحايب‪ ،‬فو الذي نفسي بيده لو أ ّن أحدكم‬

‫(‪)234/1‬‬

‫أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك م ّد أحدهم وال نصيفه» ُث إن األمة جممعة على تعديل مجيع الصحابة‪،‬‬
‫ومن ال بس الفنت منهم‪ ،‬فكذلك إبمجاع العلماء الذين يعتد هبم يف اإلمجاع‪ ،‬إحساان للظن هبم‪ ،‬ونظرا‬
‫متهد هلم من املآثر‪ ،‬وكأن هللا سبحانه وتعاىل أاتح اإلمجاع على ذلك لكوهنم نقلة الشريعة‪ ،‬اه‪.‬‬
‫إىل ما ّ‬
‫ابن الصالح‪.‬‬

‫‪ - 2‬أكثرهم حديثا‪:‬‬
‫أكثر الصحابة حديثا عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم أبو هريرة‪ .‬روي ذلك عن سعيد بن أيب‬
‫حديثي وهو أول صاحب حديث‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احلسن‪ ،‬وأمحد بن حنبل‪ ،‬وذلك من الظاهر الذي ال خيفى على‬
‫السجستاين قال‪« :‬رأيت أاب هريرة يف النوم وأان بسجستان أصنف حديث‬
‫بلغنا عن أيب بكر بن داود ّ‬
‫أيب هريرة فقلت‪ :‬إين ألحبك‪ ،‬فقال‪ :‬أان أول صاحب حديث كان يف الدنيا»‪.‬‬
‫وعن أمحد بن حنبل أيضا رضي هللا عنه قال‪« :‬ستة من أصحاب النيب صلّى هللا عليه وسلم أكثروا‬
‫وعمروا‪ :‬أبو هريرة‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وجابر بن عبد هللا‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وأنس‪ ،‬وأبو‬
‫الرواية عنه ّ‬
‫هريرة أكثرهم حديثا‪ ،‬ومحل عنه الثقات»‪.‬‬
‫ُث إن أكثر الصحابة فتيا تروى‪ :‬ابن عباس‪ ،‬بلغنا عن أمحد بن حنبل قال‪« :‬ليس أحد من أصحاب‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلم يروى عنه يف الفتوى أكثر من ابن عباس»‪.‬‬

‫العبادلة منهم‪:‬‬
‫وروينا عن أمحد بن حنبل‪ -‬أيضا‪ -‬أنه قيل له‪« :‬من العبادلة؟» فقال‪« :‬عبد هللا بن عباس‪ ،‬وعبد هللا‬
‫بن عمر‪ ،‬وعبد هللا بن الزبري‪ ،‬وعبد هللا بن عمرو»‪ .‬قيل له‪:‬‬
‫«فابن مسعود؟» قال‪« :‬ال‪ ،‬ليس عبد هللا بن مسعود من العبادلة»‪.‬‬
‫قال احلافظ أمحد البيهقي فيما رويناه عنه وقرأته خبطه‪« :‬وهذا ألن ابن مسعود تقدم موته‪ ،‬وهؤالء‬
‫عاشوا حىت احتيج إىل علمهم‪ ،‬فإذا اجتمعوا على شيء قيل‪ :‬هذا قول العبادلة‪ ،‬أو هذا فعلهم»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويلتحق اببن مسعود يف ذلك سائر العبادلة املسلمني بعبد هللا من الصحابة‪ ،‬وهم حنو مائتني‬
‫وعشرين نفسا‪ ،‬وهللا أعلم‪ ،‬اه من مقدمة ابن الصالح‪.‬‬

‫‪ - 3‬أكثرهم أتباعا وأكثرهم علما‪:‬‬


‫قال ابن الصالح‪ :‬روينا عن علي بن عبد هللا املديين قال‪« :‬مل يكن من أصحاب النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلم أحد له أصحاب يقومون بقوله يف الفقه إال ثالثة‪ :‬عبد هللا بن مسعود وزيد بن اثبت‪،‬‬

‫(‪)235/1‬‬

‫وابن عباس رضي هللا عنهم‪ .‬كان لكل رجل منهم أصحاب يقومون بقوله ويفتون الناس»‪ .‬وروينا عن‬
‫وأيب‪ ،‬وزيد‪،‬‬
‫مسروق قال‪« :‬وجدت علم أصحاب النيب صلّى هللا عليه وسلم انتهى إىل ستة‪ :‬عمر‪ّ ،‬‬
‫وأيب الدرداء‪ ،‬وعبد هللا بن مسعود‪ُ ،‬ث انتهى علم هؤالء الستة إىل اثنني‪ :‬علي‪ ،‬وعبد هللا»‪ .‬وروينا‬
‫حنوه عن مطرف عن الشعيب عن مسروق‪ ،‬لكن ذكر أاب موسى بدل أيب الدرداء‪ .‬وروينا عن الشعيب‬
‫قال‪« :‬كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول هللا‪ ،‬وكان عمر‪ ،‬وعبد هللا‪ ،‬وزيد‪ ،‬يشبه علم‬
‫وأيب‪ ،‬يشبه علم بعضهم بعضا‪،‬‬
‫بعضهم بعضا‪ ،‬وكان يقتبس بعضهم من بعض‪ ،‬وكان علي‪ ،‬واألشعري‪ّ .‬‬
‫وكان يقتبس بعضهم من بعض»‪ .‬وروينا عن احلافظ أمحد البيهقي أن الشافعي ذكر الصحابة يف‬
‫رسالته القدمية وأثىن عليهم ِبا هم أهله‪ُ ،‬ث قال‪« :‬وهم فوقنا يف كل علم‪ ،‬واجتهاد‪ ،‬وورع‪ ،‬وعقل‪،‬‬
‫وأمر استدرك به علم واستنبط به‪ ،‬وآراؤهم لنا أمحد وأوىل بنا من آرائنا عندان ألنفسنا‪.‬‬

‫‪ - 4‬عدد من روى األحاديث منهم‪:‬‬


‫قال ابن الصالح‪ :‬روينا عن أيب زرعة الرازي أنه سئل عن عدة من روى عن النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬ومن يضبط هذا؟ شهد مع النيب صلّى هللا عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفا‪ ،‬وشهد‬
‫معه تبوك سبعون ألفا‪.‬‬
‫وروينا عن أيب زرعة أيضا أنه قيل له‪« :‬أليس يقال‪ :‬حديث النيب صلّى هللا عليه وسلم أربعة آالف‬
‫حديث؟» قال‪« :‬ومن قال ذا قلقل هللا أنيابه! هذا قول الزاندقة‪ ،‬ومن حيصي حديث رسول هللا!‬
‫قبض رسول هللا عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روي عنه ومسع منه‪ ،‬ويف رواية‪ :‬ممن‬
‫رآه ومسع منه‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬اي أاب زرعة! هؤالء أين كانوا وأين مسعوا منه؟ قال‪« :‬أهل املدينة‪ ،‬وأهل مكة‪ ،‬ومن بينهما‪،‬‬
‫كل رآه ومسع منه يعرفه»‪.‬‬
‫واألعراب‪ ،‬ومن شهد معه حجة الوداع ّ‬

‫‪ - 5‬أفضلهم‪:‬‬
‫علي‪ ،‬وقدم‬
‫أفضلهم على اإلطالق أبو بكر‪ُ ،‬ث عمر‪ُ ،‬ث إن مجهور السلف على تقدمي عثمان على ّ‬
‫أهل الكوفة من أهل السنة عليّا على عثمان‪ ،‬وبه قال منهم سفيان الثورى أوال ُث رجع إىل تقدمي‬
‫علي على عثمان‪:‬‬
‫عثمان‪ ،‬روى ذلك عنه‪ ،‬وعنهم اخلطايب‪ .‬وممن نقل عنه من أهل احلديث تقدمي ّ‬
‫حممد بن إسحاق بن خزمية‪ ،‬وتقدمي عثمان هو الذي استقرت عليه مذاهب أصحاب احلديث وأهل‬
‫السنة‪.‬‬
‫وأما أفضل أصنافهم صنفا‪ :‬فقد قال أبو منصور البغدادي التميمي‪ :‬أصحابنا‬

‫(‪)236/1‬‬

‫جممعون على أن أفضلهم اخللفاء األربعة‪ُ ،‬ث الستة الباقون إىل متام العشرة‪ُ ،‬ث البدريون‪ُ ،‬ث أصحاب‬
‫أحد‪ُ ،‬ث أهل بيعة الرضوان ابحلديبية‪.‬‬
‫نص القرآن تفضيل السابقني األولني من املهاجرين واألنصار‪ ،‬وهم الذي صلوا إىل‬
‫قلت‪ :‬ويف ّ‬
‫القبلتني يف قول سعيد بن املسيب وطائفة‪ ،‬ويف قول الشعيب‪ :‬هم الذين شهدوا بيعة الرضوان‪ ،‬وعن‬
‫حممد بن كعب القرظى وعطاء بن يسار أهنما قاال‪ :‬هم أهل بدر‪ ،‬روى ذلك عنهما ابن عبد الرب فيما‬
‫وجدانه عنه‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫‪ - 6‬أوهلم إسالما‪:‬‬
‫اختلف السلف يف أوهلم إسالما‪ ،‬فقيل‪ :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬روي ذلك عن ابن عباس‪ ،‬وحسان بن‬
‫اثبت‪ ،‬وإبراهيم النخعي‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫علي أول من أسلم‪ ،‬روى ذلك عن زيد بن أرقم‪ ،‬وأيب ذر‪ ،‬واملقداد‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وقال احلاكم أبو‬
‫وقيل‪ّ :‬‬
‫علي بن أيب طالب أوهلم إسالما‪ ،‬واستنكر هذا من‬
‫عبد هللا‪ :‬ال أعلم خالفا بني أصحاب التواريخ أن ّ‬
‫احلاكم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬أول من أسلم زيد بن حارثة‪ .‬وذكر معمر حنو ذلك عن الزهري‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬أول من أسلم خدجية أم املؤمنني‪ ،‬روي ذلك من وجوه عن الزهري‪ ،‬وهو قول قتادة‪ ،‬وحممد‬
‫بن إسحاق بن يسار‪ ،‬ومجاعة‪.‬‬
‫وروي أيضا عن ابن عباس‪ ،‬وادعى الثعليب املفسر فيما رويناه أو بلغنا عنه اتفاق العلماء على أن أول‬
‫من أسلم خدجية‪ ،‬وأن اختالفهم إمنا هو يف أول من أسلم بعدها‪.‬‬
‫واألورع أن يقال‪ :‬أول من أسلم من الرجال األحرار‪ :‬أبو بكر‪ ،‬ومن الصبيان أو األحداث‪:‬‬
‫علي‪ ،‬ومن النساء‪ :‬خدجية‪ ،‬ومن املوايل‪ :‬زيد بن حارثة‪ ،‬ومن العبيد‪ :‬بالل‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ - 7‬آخرهم موات‪:‬‬
‫آخرهم على اإلطالق موات‪ :‬أبو الطفيل عامر بن واثلة‪ ،‬مات سنة مائة من اهلجرة‪.‬‬
‫وأما ابإلضافة إىل النواحي‪:‬‬
‫فآخر من مات منهم ابملدينة‪ :‬جابر بن عبد هللا‪ ،‬رواه أمحد بن حنبل عن قتادة‪ ،‬وقيل‪ :‬سهل بن‬
‫سعد‪ ،‬وقيل‪ :‬السائب بن زيد‪.‬‬
‫علي ابن املديين‪ :‬أن أاب‬
‫وآخر من مات منهم ِبكة‪ :‬عبد هللا بن عمر‪ ،‬وقيل‪ :‬جابر بن عبد هللا‪ ،‬وذكر ّ‬
‫الطفيل ِبكة مات‪ ،‬فهو إذا اآلخر هبا‪.‬‬

‫(‪)237/1‬‬
‫وآخر من مات منهم ابلبصرة‪ :‬أنس بن مالك‪ ،‬قال أبو عمر بن عبد الرب‪« :‬ما أعلم أحدا مات بعده‬
‫ممن رأى رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم إال أاب الطفيل»‪.‬‬
‫وآخر من مات منهم ابلكوفة‪ :‬عبد هللا بن أيب أوىف‪.‬‬
‫وابلشام‪ :‬عبد هللا بن بسر‪ ،‬وقيل‪ :‬بل أبو أمامة‪ .‬وتبسط بعضهم فقال‪ :‬آخر من مات من أصحاب‬
‫الزبيدي‪.‬‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم ِبصر‪ :‬عبد هللا ابن احلارث بن جزء ّ‬
‫وبفلسطني‪ :‬أبو أيب بن أم حرام‪.‬‬
‫وبدمشق‪ :‬واثلة بن األسقع‪.‬‬
‫وحبمص‪ :‬عبد هللا بن بسر‪.‬‬
‫وابليمامة‪ :‬اهلرماس بن زايد‪.‬‬
‫وابجلزيرة‪ :‬العرس بن عمرية‪.‬‬
‫وأبفريقية‪ :‬رويفع بن اثبت‪.‬‬
‫وابلبادية يف األعراب‪ :‬سلمة بن األكوع‪ ،‬رضي هللا عنهم أمجعني‪.‬‬
‫ويف بعض ما ذكرانه خالف مل نذكره‪ ،‬وقوله يف «رويفع» أبفريقية ال يصح؛ إمنا مات يف حاضرة برقة‬
‫وقربه هبا‪ ،‬ونزل سلمة إىل املدينة قبل موته بليال فمات هبا‪ ،‬وهللا أعلم‪ .‬اه‪ .‬ابن الصالح‪.‬‬

‫املنسوبون منهم إىل أمهاهتم‬


‫ومعوذ‪ ،‬ابين «عفراء» ومها اللذان أثبتا أاب جهل يوم بدر‪ ،‬وأمهما هذه‬
‫املنسوبون إىل أمهاهتم‪ ،‬كمعاذ ّ‬
‫عفراء بنت عبيد‪ ،‬وأبومها احلارث بن رفاعة األنصاري‪ ،‬وهلما شقيق آخر هو‪« :‬عوذ» ويقال‪:‬‬
‫«عون»‪ ،‬وقيل‪« :‬عوف»‪ .‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫بالل ابن «محامة» املؤذن‪ ،‬أبو رابح‪.‬‬
‫يؤم أحياان عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم يف‬
‫ابن «أم مكتوم» األعمى املؤذن‪ -‬أيضا‪ ،‬وقد كان ّ‬
‫غيبته‪ ،‬قيل‪ :‬امسه عبد هللا بن زائدة‪ ،‬وقيل‪ :‬عمرو بن قيس‪ ،‬وقيل غري ذلك‪.‬‬
‫صحايب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عبد هللا ابن «اللّتبيّة»‪ ،‬وقيل‪« :‬األتبية»‬
‫سهيل ابن «بيضاء» وأخواه منها‪ :‬سهل‪ ،‬وصفوان‪ ،‬واسم بيضاء «دعد» واسم أبيهم وهب‪.‬‬
‫شرحبيل ابن «حسنة» أحد أمراء الصحابة على الشام‪ ،‬هي أمه‪ ،‬وأبو عبد هللا بن املطاع الكندي‪.‬‬

‫(‪)238/1‬‬
‫عبد هللا ابن «حبينة» وهي أمه‪ ،‬وأبوه مالك بن القشب األسدي‪.‬‬
‫سعد ابن «حبتة» هي أمه‪ ،‬وأبوه جبري بن معاوية‪.‬‬
‫ومن التابعني فمن بعدهم حممد ابن «احلنفيّة»‪ ،‬وامسها «خولة»‪ ،‬وأبوه أمري املؤمنني على بن أيب‬
‫طالب‪.‬‬
‫إمساعيل ابن «عليّة»‪ ،‬هي أمه‪ ،‬وأبوه إبراهيم‪ ،‬وهو أحد أئمة احلديث والفقه ومن كبار الصاحلني‬
‫(بدت منه هفوة ُث اتب منها‪ -‬أمحد شاكر)‪.‬‬
‫ابن «هراسة» هو أبو إسحاق ابراهيم ابن هراسة‪ ،‬قال احلافظ عبد الغين بن سعيد املصري‪ :‬هي أمه‪،‬‬
‫واسم أبيه «سلمة»‪.‬‬
‫ومن هؤالء من قد ينسب إىل جدته‪ ،‬كيعلي ابن «منية»‪ ،‬قال الزبري بن بكار‪ :‬هي أم أبيه «أميّة»‪.‬‬
‫وبشري ابن «اخلصاصيّة»‪« :‬اسم أبيه» معبد‪« ،‬واخلصاصية أم جده الثالث»‪.‬‬
‫قال الشيخ أبو عمرو‪ :‬ومن أحدث ذلك عهدا شيخنا أبو أمحد عبد الوهاب بن على البغدادي‪،‬‬
‫يعرف اببن «سكينة» وهي أم أبيه‪.‬‬
‫قال ابن كثري‪ :‬وكذلك شيخنا العالمة «أبو العباس ابن تيمية»‪ ،‬هي أم أحد أجداده األبعدين‪ ،‬وهو‬
‫أمحد بن عبد احلليم بن عبد السالم بن أيب القاسم بن حممد ابن تيمية احلراين‪ .‬اه‪.‬‬

‫املخضرمون من التابعني‬
‫سبق أن قلنا‪ :‬إن التابعي هو من لقى الصحايب‪ ،‬وقيل‪ :‬من صحبه‪ ،‬كاخلالف يف الصحاىب واالكتفاء‬
‫هنا ِبجرد اللقاء أوىل‪ ،‬نظرا إىل مقتضى اللفظني‪.‬‬
‫أما املخضرمون فقد قال ابن الصالح‪ :‬املخضرمون من التابعني هم الذين أدركوا اجلاهلية وحياة‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلم وأسلموا وال صحبة هلم‪ ،‬واحدهم خمضرم بفتح الراء‪ ،‬كأنه خضرم أي‬
‫قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغريها‪ ،‬وذكرهم مسلم فبلغ هبم عشرين نفسا‪ ،‬منهم‪ :‬أبو‬
‫عمرو الشيباين‪ ،‬وسويد بن غفلة الكندي‪ ،‬وعمرو بن ميمون األودي‪ ،‬وعبد خري بن يزيد اخليواين‪،‬‬
‫وأبو عثمان النهدي‪ ،‬وعبد الرمحن بن مل‪ ،‬وأبو احلالل العتكي ربيعة بن زرارة‪ ،‬وممن مل يذكره مسلم‬
‫منهم‪ :‬أبو مسلم اخلوالين عبد هللا بن ثوب‪ ،‬واألحنف بن قيس‪.‬‬

‫(‪)239/1‬‬
‫أكابر التابعني‬
‫من أكابر التابعني السبعة من أهل املدينة وهم‪ :‬سعيد بن املسيب‪ ،‬والقاسم بن حممد‪ ،‬وعروة بن‬
‫الزبري‪ ،‬وخارجة بن زيد‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد الرمحن‪ ،‬وعبيد هللا ابن عبد هللا بن عتبة‪ ،‬وسليمان بن‬
‫يسار‪ .‬روينا عن احلافظ أيب عبد هللا أنه قال‪:‬‬
‫«هؤالء الفقهاء السبعة عند األكثر من علماء احلجاز»‪ .‬وروينا عن ابن املبارك قال‪:‬‬
‫«كان فقهاء أهل املدينة الذين يصدرون عن رأيهم سبعة»‪ ،‬فذكر هؤالء السبعة إال أنه مل يذكر أاب‬
‫سلمة بن عبد الرمحن‪ ،‬وذكر بدله سامل بن عبد هللا بن عمر‪ .‬وروينا عن أيب الزاند تسميتهم يف كتابه‬
‫عنهم‪ ،‬فذكر هؤالء إال أنه ذكر أاب بكر بن عبد الرمحن بدل أيب سلمة وسامل‪ .‬اه‪.‬‬

‫أفضل التابعني‬
‫ورد عن أمحد بن حنبل أنه قال‪« :‬أفضل التابعني سعيد بن املسيب‪ .‬فقيل له‪:‬‬
‫فعلقمة واألسود؟» فقال‪« :‬سعيد بن املسيب‪ ،‬وعلقمة‪ ،‬واألسود»‪.‬‬
‫وعنه أنه قال‪ :‬ال أعلم يف التابعني مثل أيب عثمان النهدي‪ ،‬وقيس بن أيب حازم‪.‬‬
‫وعنه‪ -‬أيضا‪ -‬قال‪ :‬أفضل التابعني قيس‪ ،‬وأبو عثمان‪ ،‬وعلقمة‪ ،‬ومسروق‪ ،‬هؤالء كانوا فاضلني ومن‬
‫علية التابعني‪.‬‬
‫وأعجبين ما وجدته عن الشيخ أيب عبد هللا بن خفيف الزاهد الشريازي يف كتاب له‪ ،‬قال‪« :‬اختلف‬
‫الناس يف أفضل التابعني‪ ،‬فأهل املدينة يقولون‪ :‬سعيد بن املسيب؛ وأهل‬
‫الكوفة يقولون‪ :‬أويس القرين؛ وأهل البصرة يقولون‪ :‬احلسن البصري»‪ .‬وبلغنا عن أمحد ابن حنبل‬
‫قال‪« :‬ليس أحد أكثر فتوى من احلسن‪ ،‬وعطاء؛ يعين من التابعني»‪.‬‬
‫وقال أيضا‪« :‬كان عطاء مفيت مكة‪ ،‬واحلسن مفيت البصرة‪ ،‬فهذان أكثر الناس عنهم رأيهم»‪ .‬وبلغنا‬
‫عن أيب بكر بن أيب داود قال‪« :‬سيدات التابعني من النساء‪:‬‬
‫حفصة بنت سريين‪ ،‬وعمرة بنت عبد الرمحن‪ ،‬واثلثتهما وليست كهما‪ :‬أم الدرداء»‪.‬‬
‫اه‪ .‬ابن الصالح‪.‬‬

‫(‪)240/1‬‬
‫اخلامتة‬
‫احلمد هلل ذي اجلالل واإلكرام‪ ،‬والفضل واإلنعام‪ ،‬والتوفيق واإلهلام‪ ،‬هو اخلالق البارئ املصور‪ ،‬له‬
‫األمساء احلسىن‪ ،‬يسبح له ما يف السموات واألرض وهو العزيز احلكيم‪.‬‬
‫العلي العظيم‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬ال حول وال قوة إال به وهو ّ‬
‫وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪ ،‬سيد األولني واآلخرين‪ ،‬وحامل لواء احلمد يوم الدين وصاحب‬
‫الشفاعة العظمى يوم العرض على رب العاملني‪.‬‬
‫صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعني هلم إبحسان إىل يوم الدين وبعد ‪..‬‬
‫فقد مت حبمد هللا تعاىل كتاب «احلديث يف علوم القرآن واحلديث»‪ ،‬فإن كنت أصبت فيما قدمت؛‬
‫فذلك رجائي‪ ،‬وإن كنت أخطأت يف شيء؛ فإين آمل أن يغفر يل القارئ املنصف‪ ،‬فلم يكتب لغري‬
‫األنبياء كمال بشرى‪ ،‬ومل يكن يوما أحد املؤلفني منزها عن اخلطأ‪.‬‬
‫نفع هللا به قارئه‪ ،‬ووفقين وإايه ملا حيب ويرضى‪ .‬آمني‪.‬‬
‫املؤلف حسن أيّوب‬

‫(‪)241/1‬‬

‫فهرست الكتاب‬
‫املوضوع الصفحة‬
‫املقدمة ‪5‬‬
‫علوم القرآن ‪7‬‬
‫اتريخ علوم القرآن ‪8‬‬
‫عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن ‪9‬‬
‫عهد التدوين لعلوم القرآن ‪10‬‬
‫أول عهد لظهور هذا االصطالح ‪12‬‬
‫مجع القرآن وسبب كتب عثمان املصاحف وإحراقه ما سواها ‪13‬‬
‫ترتيب آايت القرآن وسوره ‪16‬‬
‫مالحظة ‪18‬‬
‫ترتيب السور ‪18‬‬
‫معىن السورة ‪18‬‬
‫أقسام السور ‪19‬‬
‫املذاهب يف ترتيب السور ‪19‬‬
‫احرتام هذا الرتتيب ‪23‬‬
‫املكي واملدين من القرآن الكرمي ‪24‬‬
‫االصطالحات يف معىن املكي واملدين ‪24‬‬
‫فائدة العلم ابملكي واملدين ‪25‬‬
‫الطريق املوصلة إىل معرفة املكي واملدين ‪25‬‬
‫الضوابط اليت يعرف هبا املكي واملدين ‪26‬‬
‫عدد السور املكية واملدنية واملختلف فيها ‪27‬‬
‫إنزاالت القرآن ‪28‬‬
‫كيفية أخذ جربيل للقرآن؟ وعمن أخذ؟ ‪30‬‬
‫ما الذي نزل به جربيل؟ ‪30‬‬
‫الفرق بني القرآن والسنة يف الوحي ‪32‬‬

‫(‪)243/1‬‬

‫مدة نزول القرآن على حممد صلّى هللا عليه وسلم ‪33‬‬
‫دليل تنجيم هذا النزول ‪34‬‬
‫احلكم واألسرار يف تنجيم القرآن ‪34‬‬
‫حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته ‪40‬‬
‫معرفة أول وآخر ما نزل من القرآن ‪41‬‬
‫أول ما نزل ‪41‬‬
‫آخر ما نزل ‪41‬‬
‫تنبيه ‪42‬‬
‫معرفة أسباب النزول ‪44‬‬
‫تنبيه (‪47 )1‬‬
‫تنبيه (‪48 )2‬‬
‫تنبيه (‪52 )3‬‬
‫تنبيه (‪52 )4‬‬
‫تنبيه (‪53 )5‬‬
‫ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة ‪54‬‬
‫ما أتخر حكمه عن نزوله وما أتخر نزوله عن حكمه ‪56‬‬
‫إعجاز القرآن الكرمي ‪58‬‬
‫أوجه اإلعجاز ‪60‬‬
‫آداب تالوته وكيفيتها ‪65‬‬
‫حكم أخذ األجرة على تعليم القرآن ‪66‬‬
‫ما يستحب عند القراءة ‪67‬‬
‫التعوذ وقراءة البسملة عند التالوة ‪67‬‬
‫قراءة القرآن يف املصحف أفضل أم عن ظهر قلب؟ ‪67‬‬
‫حكم خلط سورة بسورة ‪68‬‬
‫حكم قراءة القرآن مع مجاعة ‪69‬‬
‫ختم القرآن ‪70‬‬

‫(‪)244/1‬‬

‫التكبري بني السور ابتداء من سورة الضحى ‪71‬‬


‫ما يفعله القارئ عند ختم القرآن ‪71‬‬
‫حكم من شرب شيئا كتب من القرآن ‪72‬‬
‫أحكام تتعلق ابحرتام املصحف وتعظيمه ‪72‬‬
‫جتويد القرآن ‪73‬‬
‫كيفية حتمل القرآن الكرمي ‪73‬‬
‫كيفيات القراءة ‪74‬‬
‫احملكم واملتشابه يف القرآن الكرمي ‪75‬‬
‫املتشابه من آايت الصفات ‪79‬‬
‫معىن كون القرآن أنزل على سبعة أحرف ‪80‬‬
‫القول يف القراءات السبع ‪84‬‬
‫فضل قراءة القرآن وحفظه وتعليمه وتعلمه ‪85‬‬
‫ترمجة القرآن وأحكامها ‪87‬‬
‫الرتمجة يف اللغة ‪88‬‬
‫الرتمجة يف العرف ‪89‬‬
‫تقسيم الرتمجة ‪89‬‬
‫ما ال بد منه يف الرتمجة مطلقا ‪90‬‬
‫ما ال بد منه يف الرتمجة احلرفية ‪90‬‬
‫فروق بني الرتمجة والتفسري ‪91‬‬
‫تنبيهان مفيدان ‪93‬‬
‫القرآن ومعانيه ومقاصده ‪94‬‬
‫معاين القرآن نوعان ‪94‬‬
‫مقاصد القرآن الكرمي ‪95‬‬
‫هداية القرآن ‪95‬‬
‫إعجاز القرآن ‪97‬‬
‫التعبد بتالوة القرآن ‪97‬‬

‫(‪)245/1‬‬

‫حكم ترمجة القرآن تفصيال ‪98‬‬


‫‪ - 1‬ترمجة القرآن ِبعىن تبليغ ألفاظه ‪98‬‬
‫‪ - 2‬ترمجة القرآن ِبعىن تفسريه بلغته العربية ‪98‬‬
‫‪ - 3‬ترمجة القرآن ِبعىن تفسريه بلغة أجنبية ‪99‬‬
‫أمور مهمة ‪100‬‬
‫فوائد الرتمجة هبذا املعىن ‪102‬‬
‫‪ - 4‬ترمجة القرآن ِبعىن نقله إىل لغة أخرى ‪104‬‬
‫احلكم على هذه الرتمجة ابالستحالة العادية ‪105‬‬
‫حكم قراءة الرتمجة والصالة هبا ‪106‬‬
‫مذهب الشافعية ‪106‬‬
‫مذهب املالكية ‪106‬‬
‫مذهب احلنابلة ‪106‬‬
‫مذهب احلنفية ‪107‬‬
‫النسخ يف القرآن الكرمي ‪108‬‬
‫أمهية هذا املبحث ‪108‬‬
‫ما هو النسخ ‪109‬‬
‫النسخ يف اللغة ‪109‬‬
‫النسخ يف االصطالح ‪109‬‬
‫ما البد منه يف النسخ ‪110‬‬
‫الفرق بني النسخ والبداء ‪110‬‬
‫الفرق بني النسخ والتخصيص ‪112‬‬
‫النسخ بني مثبتيه ومنكريه ‪113‬‬
‫األدلة على النسخ ‪114‬‬
‫حكمة هللا يف النسخ ‪115‬‬
‫شبه أيب مسلم يف إنكار النسخ والرد عليها ‪117‬‬
‫طرق معرفة النسخ ‪118‬‬

‫(‪)246/1‬‬

‫قانون التعارض ‪119‬‬


‫ما يتناوله النسخ ‪120‬‬
‫أنواع النسخ يف القرآن ‪122‬‬
‫النسخ ببدل وبغري بدل ‪124‬‬
‫شبهة ودفعها ‪125‬‬
‫نسخ احلكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل ‪125‬‬
‫النسخ يف دورانه بني الكتاب والسنة ‪126‬‬
‫‪ - 1‬مقام اجلواز ‪127‬‬
‫شبهتان ودفعهما ‪127‬‬
‫‪ - 2‬مقام الوقوع ‪128‬‬
‫دليل اجلواز ‪129‬‬
‫شبهة للمانعني ودفعها ‪130‬‬
‫مالحظة ‪131‬‬
‫التفسري واملفسرين وما يتعلق هبما ‪132‬‬
‫التفسري ‪132‬‬
‫التأويل ‪132‬‬
‫أنواع التفسري ‪132‬‬
‫فضل التفسري واحلاجة إليه ‪132‬‬
‫أقسام التفسري ‪136‬‬
‫التفسري ابملأثور ‪137‬‬
‫املفسرون من الصحابة ‪138‬‬
‫تفسري ابن عباس ‪140‬‬
‫الرواية عنه واختالف الرواة فيها ‪140‬‬
‫املفسرون من التابعني وطبقاهتم ‪141‬‬
‫طبقة أهل مكة ‪141‬‬
‫طبقة أهل املدينة ‪142‬‬

‫(‪)247/1‬‬

‫طبقة أهل العراق ‪142‬‬


‫نقد املروي عن التابعني ‪143‬‬
‫ضعف الرواية ابملأثور ‪143‬‬
‫تنبيه ‪145‬‬
‫تدوين التفسري ابملأثور وخصائص كتبه ‪146‬‬
‫فكرة عن تفسري ابن جرير ‪146‬‬
‫تفسري أيب الليث السمرقندي ‪147‬‬
‫الدر املنثور يف التفسري ابملأثور ‪147‬‬
‫تفسري ابن كثري ‪147‬‬
‫تفسري البغوى ‪148‬‬
‫تفسري بقى بن خملد ‪148‬‬
‫طرق املفسرين بعد العصر األول ‪148‬‬
‫التفسري احملمود والتفسري املذموم ‪150‬‬
‫ميزان املدح والذم ‪150‬‬
‫غلطة التعصب للرأي ‪150‬‬
‫التفسري ابلرأى وبيان ما جيوز منه وما ال جيوز ‪152‬‬
‫العلوم الىت حيتاجها املفسر ‪154‬‬
‫مالحظة ‪154‬‬
‫أهم كتب التفسري ابلرأى ‪154‬‬
‫تفسري اجلاللني ‪155‬‬
‫تفسري البيضاوي ‪156‬‬
‫تفسري الفخر الرازي ‪156‬‬
‫تفسري أيب السعود ‪156‬‬
‫تفسري النيسابوري ‪156‬‬
‫تفسري األلوسي ‪156‬‬
‫تفسري النسفي ‪156‬‬

‫(‪)248/1‬‬
‫تفسري اخلطيب ‪157‬‬
‫تفسري اخلازن ‪157‬‬
‫تفاسري الفرق املختلفة ‪157‬‬
‫تفاسري املعتزلة ‪157‬‬
‫تفاسري الباطنية ‪158‬‬
‫تفاسري الشيعة ‪158‬‬
‫التفسري اإلشاري ‪159‬‬
‫أهم كتب التفسري اإلشاري ‪160‬‬
‫نصيحة خالصة ‪162‬‬
‫علوم احلديث أمهية علوم احلديث ‪165‬‬
‫املصنفون يف هذا العلم ‪166‬‬
‫ألقاب احملدثني ‪167‬‬
‫اصطالحات يف كتب احلديث ‪169‬‬
‫اجلامع ‪169‬‬
‫املسند ‪169‬‬
‫املعجم ‪170‬‬
‫اجلزء والرسالة واألربعون ‪170‬‬
‫املستخرجات ‪170‬‬
‫فائدة ‪171‬‬
‫فوائد املستخرجات على الصحيحني ‪171‬‬
‫املستدركات ‪172‬‬
‫كتب العلل ‪172‬‬
‫اصطالحات لفظية لعلماء احلديث ‪173‬‬
‫املسند ‪173‬‬
‫املتصل ‪173‬‬

‫(‪)249/1‬‬
‫املرفوع ‪173‬‬
‫املوقوف ‪173‬‬
‫املعضل ‪173‬‬
‫املقطوع ‪173‬‬
‫املنقطع ‪173‬‬
‫املرسل ‪173‬‬
‫حكم ما يصدر عن الصحايب من األقوال ‪174‬‬
‫احلديث القدسي ‪175‬‬
‫معىن احلديث القدسي ‪175‬‬
‫الفرق بني القرآن واحلديث القدسي ‪175‬‬
‫الفرق بني احلديث القدسي واحلديث النبوي ‪176‬‬
‫أقسام اخلرب (احلديث) ‪177‬‬
‫احلديث املتواتر ‪177‬‬
‫مىت يفيد املتواتر العلم الضروري ‪179‬‬
‫شروط السامعني ‪180‬‬
‫حديث اآلحاد ‪180‬‬
‫القول الفصل ‪181‬‬
‫أقسام اآلحاد ‪182‬‬
‫شروط العمل خبرب الواحد ‪183‬‬
‫الصغائر والكبائر ‪186‬‬
‫تعريف الكبائر ‪186‬‬
‫شروط مدلول اخلرب ‪189‬‬
‫تنبيهات مهمة ‪190‬‬
‫شروط لفظ اخلرب ‪191‬‬
‫إيضاح مهم ‪192‬‬
‫احلديث الصحيح ‪193‬‬

‫(‪)250/1‬‬
‫املشهور ‪193‬‬
‫الغريب والعزيز ‪193‬‬
‫أقسام الصحيح من حيث القوة ‪194‬‬
‫حكم املعلق يف البخاري ومسلم ‪195‬‬
‫الفرق بني صحيح وصحيح اإلسناد ‪195‬‬
‫مىت يصري احلسن صحيحا ‪195‬‬
‫قواي ‪196‬‬
‫مىت يكون الضعيف ّ‬
‫أول من مجع صحاح احلديث ‪196‬‬
‫عدد ما يف الصحيحني من احلديث ‪197‬‬
‫الزايدات على الصحيحني ‪198‬‬
‫موطأ مالك ‪198‬‬
‫إطالق اسم الصحيح على الرتمذي والنسائي ‪199‬‬
‫مسند اإلمام أمحد ‪199‬‬
‫الكتب اخلمسة ‪200‬‬
‫احلديث احلسن ‪200‬‬
‫الرتمذي أصل يف معرفة احلسن ‪201‬‬
‫أبو داود سننه من مظان احلسن ‪201‬‬
‫مفهوم قول الرتمذي‪ :‬حسن صحيح ‪202‬‬
‫حكم احلديث املوقوف ‪202‬‬
‫املعنعن ‪203‬‬
‫احلديث املؤنن ‪203‬‬
‫االعتبار واملتابعة والشاهد ‪204‬‬
‫املتابعة ‪204‬‬
‫الشاهد ‪204‬‬
‫الشاذ واملنكر ‪204‬‬
‫القول يف خلط الثقة ‪205‬‬
‫(‪)251/1‬‬

‫بيان الناسخ واملنسوخ ‪205‬‬


‫مب يعرف النسخ؟ ‪205‬‬
‫معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته ‪206‬‬
‫مب تثبت عدالة الراوي وضبطه ‪207‬‬
‫فائدة ‪207‬‬
‫العدد الذي يثبت به اجلرح والتعديل ‪208‬‬
‫رواية اجملهول ‪208‬‬
‫حكم التائب من الكذب ‪209‬‬
‫حكم أخذ األجرة على التحديث ‪209‬‬
‫احلديث املعلل ‪210‬‬
‫احلديث املضطرب ‪212‬‬
‫املدرج ‪213‬‬
‫حكم اإلدراج ‪215‬‬
‫احلديث املوضوع ‪215‬‬
‫خالصة يف حكم رواية احلديث املوضوع ‪217‬‬
‫قرائن املروي ‪217‬‬
‫أسباب الوضع ‪219‬‬
‫ال يلزم من ضعف السند ضعف احلديث ‪221‬‬
‫رواية احلديث الضعيف ‪221‬‬
‫ألفاظ التعديل واجلرح ‪223‬‬
‫بيان أقسام طرق نقل احلديث وحتمله ‪224‬‬
‫املصحف من أسانيد األحاديث ومتوهنا ‪230‬‬
‫ّ‬ ‫معرفة‬
‫عادة احملدثني ‪231‬‬
‫رموز احملدثني ‪231‬‬
‫ليس للراوي أن يزيد أو ينقص يف نسب شيخه أو صفته ‪232‬‬
‫ما يستحب لكاتب احلديث ‪233‬‬

‫(‪)252/1‬‬

‫ذكر النيب بدل الرسول وعكسه ‪233‬‬


‫تعريف الصحايب والتابعي ‪233‬‬
‫أمور تتعلق ابلصحابة ‪234‬‬
‫عدالتهم مجيعا ‪234‬‬
‫أكثرهم حديثا ‪235‬‬
‫العبادلة منهم ‪235‬‬
‫أكثرهم أتباعا وأكثرهم علما ‪235‬‬
‫عدد من روى األحاديث منهم ‪236‬‬
‫أفضلهم ‪236‬‬
‫أوهلم إسالما ‪237‬‬
‫آخرهم موات ‪237‬‬
‫املنسوبون منهم إىل أمهاهتم ‪238‬‬
‫املخضرمون من التابعني ‪239‬‬
‫أكابر التابعني ‪240‬‬
‫أفضل التابعني ‪240‬‬
‫اخلامتة ‪241‬‬
‫فهرست الكتاب ‪243‬‬

‫(‪)253/1‬‬

You might also like