You are on page 1of 264

‫اإليمان باهلل‬

‫جل جالله‬
‫قال تعاىل‪َ " :‬و َمن يُ ْؤ ِمن بِاللَّ ِه َي ْه ِد‬
‫يم"‬ ‫َق ْلبه واللَّه بِ ُكل شي ٍء علِ‬
‫َ ُ َ ُ ِّ َ ْ َ ٌ‬
‫( التغابن ‪ ،‬آية ‪)11 :‬‬

‫د‪ .‬علي حممد حممد الصاليب‬

‫‪1‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫اإلهداء‬

‫يف الوجود يبحث عن الطريق ملعرفة اهلل‪ ،‬واإلميان به‬ ‫إىل كل إنسان‬
‫الشاملة على املنهج الصحيح أهدي هذا الكتاب سائالً‬ ‫وحتقيق عبوديته‬
‫بأمسائه احلسىن وصفاته العُال أن يكون خالصاً لوجه‬ ‫وجل‬
‫ّ‬ ‫املوىل عز‬
‫الكرمي‪.‬‬
‫صاحِلًا َواَل يُ ْش ِر ْك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ل َقاء َربِّه َف ْلَي ْع َم ْل َع َماًل َ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬فَ َمن َكا َن َي ْر ُجو‬
‫آية ‪.)110 :‬‬ ‫َح ًدا" (الكهف ‪،‬‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫بعبَ َادة َربِّه أ َ‬
‫د‪ .‬علي حممد حممد الصاليب‬

‫‪2‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‬
‫إن احلمد هلل‪ ،‬حنمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ باهلل من‬
‫شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن‬
‫يضلل فال هادي له وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‬
‫وأشهد أن حممداً عبده ورسوله‪.‬‬
‫ين َآمنُواْ َّات ُقواْ اللّهَ َح َّق ُت َقاتِِه َوالَ مَتُوتُ َّن إِالَّ َوأَنتُم‬ ‫َّ ِ‬
‫" يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ُّم ْسلِ ُمو َن" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)102 :‬‬
‫اح َد ٍة َو َخلَ َق ِمْن َها‬ ‫س وِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َّاس َّات ُقواْ َربَّ ُك ُم الذي َخلَ َق ُكم ِّمن نَّ ْف ٍ َ‬ ‫" يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫ث ِمْن ُه َما ِر َجاالً َكثِ ًريا َونِ َساء َو َّات ُقواْ اللّهَ الَّ ِذي تَ َساءلُو َن بِِه‬ ‫َز ْو َج َها َوبَ َّ‬
‫َواأل َْر َح َام إِ َّن اللّهَ َكا َن َعلَْي ُك ْم َرقِيبًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬
‫صلِ ْح لَ ُك ْم‬
‫يدا* يُ ْ‬‫ين َآمنُوا َّات ُقوا اللَّهَ َوقُولُوا َق ْواًل َس ِد ً‬ ‫َّ ِ‬
‫" يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫أ َْع َمالَ ُك ْم َو َي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َو َمن يُ ِط ْع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َف َق ْد فَ َاز َف ْو ًزا‬
‫يما" (األحزاب ‪ ،‬آية ‪.)71 ،70 :‬‬ ‫ِ‬
‫َعظ ً‬
‫يا رب لك احلمد حىت ترضى ولك احلمد إذا رضيت‪ ،‬ولك احلمد‬
‫بعد الرضى‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫الفعال ملا يريد‪،‬‬ ‫هذا الكتاب يتحدث عن اخلالق العظيم والرازق الكرمي‪ّ ،‬‬
‫الكرمي املنان‪ ،‬الواسع العليم‪ ،‬الذي رأيت من خالل مسرييت يف عامل‬
‫التاريخ عظمته يف احلياة‪ ،‬ويف قيام الدول وزواهلا‪ ،‬وانتشار احلضارات‬
‫وإندثارها‪ ،‬وعز احلكومات وإذالهلا وقصص الناس ‪ ،‬ويف خملوقاته العجيبة‬
‫الغريبة ويف هذا الكون الفسيح وحركة التاريخ‪.‬‬
‫هذا الكتاب إمنا كان نتاج هذه املسرية‪ ،‬بل إحدى مثارها حيث‬
‫وجدت أن الذين أمنوا باهلل العظيم واتبعوا رسوله الكرمي هدى اهلل‬
‫‪3‬‬
‫قلوهبم بل زادها إميانا ‪ ،‬لقد عرفوا رهبم وعلموا أن اهلل هو التواب‬
‫الرحيم ذو الفضل العظيم‪ ،‬العزيز احلكيم الذي ابتلى إبراهيم بكلمات‪،‬‬
‫ومسع نداء يونس يف الظلمات‪ ،‬واستجاب لزكريا فوهبه على الكرب حيىي‬
‫هادياً مهدياً‪ ،‬وحنّاناً من لدنه وكان تقيا‪.‬‬
‫اهلل الذي أزال الكرب عن أيوب وأالن احلديد لداود وسخر الريح‬
‫لسليمان‪ ،‬وفلق البحر ملوسى‪ ،‬ورفع إليه عيسى‪ ،‬وجنّا هوداً وأهلك‬
‫قومه‪ ،‬وجنّا صاحلاً من الظاملني فأصبح قومه يف دارهم جامثني‪ ،‬وجعل‬
‫النار برداً وسالماً على إبراهيم‪ ،‬وفداء إمساعيل بذبح عظيم‪ ،‬وجعل‬
‫عيسى وأمه آية للعاملني‪.‬‬
‫اهلل الذي أغرق فرعون وقومه وجنّاه ببدنه ليكون ملن خلقه آية‪،‬‬
‫وخسف بقارون وداره األرض‪ ،‬وجنّا يوسف من غيابت اجلب وجعله‬
‫على خزائن األرض‪ ،‬ونصر نوحاً على القوم الكافرين وجنّاه وأهله من‬
‫الكرب العظيم‪.‬‬
‫اهلل الذي أضحك وأبكى‪ ،‬وأمات وأحيا‪ ،‬وأسعد وأشقى‪ ،‬وأوجد وأبلى‪،‬‬
‫ورفع وخفض‪ ،‬وأعز وأذل‪ ،‬وأعطى ومنع‪.‬‬
‫هدى نوحاً وأضل ابنه‪ ،‬واختار ابراهيم وأبعد أباه‪ ،‬وأنقذ لوطاً وأهلك‬
‫امرأته‪ ،‬ولعن فرعون وهدى زوجته‪ ،‬واصطفى حممد ومقت عمه وجعل‬
‫من أنصار دعوته أبناء ألد خصومه‪ ،‬كخالد بن الوليد وعكرمة بن أيب‬
‫جهل‪ ،‬فسبحانه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته‪.1‬‬
‫جل وعال الذي مجع يف هذا الوجود بني الكمال واجلمال وعنصر‬ ‫اهلل ّ‬
‫اجلمال يف هذا الكون مقصوداً قصداً‪ ،‬مجال مقصود وكمال بال حدود‪،‬‬
‫فرؤية اجلمال على حقيقته ال تكون إال حينما ينظر القلب بنور اهلل‪،‬‬
‫فتتكشف له األشياء عن جوهرها اجلميلة وروائعها البديعة‪ ،‬ويتذكر اهلل‬
‫كلما وقعت عينه أو حسه على شيء بديع‪ ،‬أو منظر حسن‪ ،‬فيحسن‬
‫‪ 1‬هللا أهل الثناء والمجد ‪ ،‬د‪ .‬ناصر الزهراني صـ ‪.41‬‬
‫‪4‬‬
‫بالصلة ويشعر بالرتابط بني املبدع وما أبدع واجلميل وما مجّل واحملسن‬
‫وما أحسن‪ ،‬ويرى من وراء هذا اجلمال مجال اهلل وجالله وكماله‬
‫والقرآن الكرمي يوقظ القلوب لتتبع مواضع احلسن وآيات اجلمال يف‬
‫ِِ‬
‫ني" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪،)14 :‬‬ ‫َح َس ُن اخْلَالق َ‬ ‫هذا الكون البديع " َفتَبَ َار َك اللَّهُ أ ْ‬
‫َح َس َن ُك َّل َش ْي ٍء َخلَ َقهُ" (السجدة ‪ ،‬آية ‪ ،)7 :‬وقال تعاىل‪ ":‬أََفلَ ْم‬ ‫ِ‬
‫"الَّذي أ ْ‬
‫وج" (ق‬ ‫َّاها َو َما هَلَا ِمن ُفُر ٍ‬ ‫اها َو َزيَّن َ‬‫ف َبَنْينَ َ‬ ‫يَنظُُروا إِىَل َّ‬
‫الس َماء َف ْو َق ُه ْم َكْي َ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬
‫وتأمل كلمة" أََفلَ ْم يَنظُُروا" إنه استفهام استنكاري ألولئك الذين هلم أعني‬
‫ال يبصرون هبا‪ ،‬وقلوب ال يفقهون هبا‪ ،‬وال يرون ذلك اجلمال‬
‫الساحر‪ ،‬واإلبداع األخاذ واحلسن اجل ّذاب الذي يدل على رب العباد‪،‬‬
‫ولذلك يكثر يف القرآن الكرمي األمر بالنظر ألخذ العربة‪ ،‬ولإلحساس‬
‫باجلمال‪:‬‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َخلَ َق اللّهُ‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬أ ََومَلْ يَنظُُرواْ يِف َملَ ُكوت َّ َ َ‬
‫ِمن َش ْي ٍء" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)185 :‬‬
‫ض َب ْع َد َم ْوهِتَا‬ ‫ف حُيْيِي اأْل َْر َ‬
‫ِ ِ‬
‫وقال تعاىل‪ ":‬فَانظُْر إِىَل آثَا ِر َرمْح َت اللَّه َكْي َ‬
‫ك لَ ُم ْحيِي الْ َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير" (الروم ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫إِ َّن ذَل َ‬
‫‪.)50‬‬
‫ف بَ َدأَ اخْلَْل َق مُثَّ اللَّهُ‬ ‫ض فَانظُُروا َكْي َ‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬قُ ْل ِسريُوا يِف اأْل َْر ِ‬
‫نش ُئ النَّ ْشأََة اآْل ِخَر َة إِ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير" (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫يِ‬
‫ُ‬
‫‪.)20‬‬
‫ِِ‬
‫صبًّا* مُثَّ َش َق ْقنَا‬
‫صبَْبنَا الْ َماء َ‬ ‫نسا ُن إِىَل طَ َعامه* أَنَّا َ‬ ‫ِ ِ‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬ف ْليَنظُر اإْل َ‬
‫ض َش ًّقا* فَأَنبَْتنَا فِ َيها َحبًّا* َو ِعنَبًا َوقَ ْ‬
‫ضبًا* َو َز ْيتُونًا َوخَن ْاًل * َو َح َدائِ َق غُ ْلبًا*‬ ‫اأْل َْر َ‬
‫اعا لَّ ُك ْم َوأِل َْن َع ِام ُك ْم" (عبس ‪ ،‬آية ‪24 :‬ـ ‪.)32‬‬ ‫ِ‬
‫َوفَاك َهةً َوأَبًّا* َّمتَ ً‬

‫‪5‬‬
‫ض" (يونس ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬‫السماو ِ‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬قُ ِل انظُرواْ َما َذا يِف‬
‫َّ َ َ‬ ‫ُ‬
‫‪.)101‬‬
‫فأين األعني الناظرة‪ ،‬والقلوب املبصرة‪ ،‬واألذهان املتوقدة‪ ،‬والفطرة‬
‫السليمة‪ ،‬واملشاعر احلية‪ ،‬واألحاسيس املرهفة؟ يا اهلل ما أروع هذا‬
‫الكون وما أمجل هذا الوجود‪ ،‬إن املتأمل فيه يبهر جبماله‪ ،‬وروعة‬
‫نظامه وعظمة إحكامه كل شيء فيه مجيل ليله وهناره‪ ،‬صبحه ومساؤه‪،‬‬
‫حره وبرده‪ ،‬غيمه وصحوه‪ ،‬أخضره‬ ‫أرضه ومساؤه‪ ،‬بدره ومشسه‪ّ ،‬‬
‫وأغربه‪ ،‬جباله وتالله‪ ،1‬سهوله ووديانه‪ ،‬بره وحبره‪ ،‬كل شيء مجيل‪،‬‬
‫وكل شيء بديع وكل شيء متقن‪ ،‬وكل شيء متناسق وكل شيء‬
‫منتظم‪ ،‬وكل شيء بقدر‪ ،‬وكل شيء بإحكام‪ ،‬من الذرة الصغرية إىل‬
‫اجلرم الكبري‪ ،‬ومن اخللية الساذجة إىل أعقد األجسام‪.‬‬
‫أنظر إىل اإلنسان وروعة خلقه‪ ،‬وتباين أجناسه وتعدد لغاته وإختالف‬
‫جل وعال قد أحسن كل شيء خلقه ومن أحسن خملوقاته‬ ‫نغماته‪ ،‬فهو ّ‬
‫صريُ" (التغابن ‪ ،‬آية‬ ‫وأمجلها اإلنسان" وص َّور ُكم فَأَحسن صور ُكم وإِلَي ِه الْم ِ‬
‫َ َ َ ْ ْ َ َ َُ َ ْ َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫ك فَ َس َّو َاك‬‫ك الْ َك ِر ِمي* الَّذي َخلَ َق َ‬‫نسا ُن َما َغَّر َك بَِربِّ َ‬ ‫ِ‬
‫‪ " ،)3 :‬يَا أَيُّ َها اإْل َ‬
‫ك" (اإلنفطار ‪ ،‬آية ‪6 :‬ـ ‪ ،)8‬قال‬ ‫ور ٍة َّما َشاء َر َّكبَ َ‬ ‫صَ‬ ‫َي ُ‬ ‫ك* يِف أ ِّ‬ ‫َف َع َدلَ َ‬
‫َح َس ِن َت ْق ِو ٍمي" (التني ‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬ ‫نسا َن يِف أ ْ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل‪ ":‬لََق ْد َخلَ ْقنَا اإْل َ‬
‫أنظر إىل السماء وهيبتها والنجوم وفتنتها‪ ،‬والشمس وحسنها‪ ،‬والكواكب‬
‫وروعتها‪ ،‬والبدر وإشراقه‪ ،‬والفضاء ورحابته‪ ،‬تأمل يف السماء يف ليلة‬
‫حالكة وقد انتشرت فيها الكواكب وبثت فيها النجوم‪.‬‬
‫أنظر إىل األرض كيف دحاها‪ ،‬وأخرج منها ماءها ومرعاها‪ ،‬واجلبال‬
‫أرساها‪ ،‬هذه البحار‪ ،‬هذه األهنار‪ ،‬هذا الليل‪ ،‬هذا الصبح‪ ،‬هذا الضياء‪،‬‬
‫هذه الظالل‪ ،‬هذه السحب‪ ،‬هذا التناغم الساري يف الوجود كله‪ ،‬هذا‬
‫التناسق هذه الزهرة‪ ،‬هذه الوردة هذه الثمرة اليانعة‪ ،‬هذا اللنب السائغ‪،‬‬
‫‪ 1‬هللا أهل الثناء والمجد صـ ‪.67 ،66‬‬
‫‪6‬‬
‫هذا الشهد املذاب‪ ،‬هذه النخلة هذه النحلة‪ ،‬هذه النملة هذه الدويبة‬
‫الصغرية اجملهزة باألرجل أو الشعريات أو املالمسة واملرونة لتشق طريقها‬
‫وتتعامل مع واقعها‪ ،‬هذه السمكة‪ ،‬هذا الطائر املغرد‪ ،‬والبلبل الشادي‬
‫هذه الزاحفة‪ ،‬هذا احليوان مجال ال ينفذ‪ ،‬وحسن ال ينتهي وقرة عني‬
‫صبِ ُحو َن* َولَهُ احْلَ ْم ُد يِف‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ال تنقطع ‪ " ،‬فَ ُسْب َحا َن اللَّه ح َ‬
‫‪1‬‬
‫ني تُ ْ‬ ‫ني مُتْ ُسو َن َوح َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض و َع ِشيًّا و ِح َ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ِج‬
‫ِج احْلَ َّي م َن الْ َميِّت َوخُيْر ُ‬ ‫ني تُظْهُرو َن* خُيْر ُ‬ ‫َ‬ ‫الس َم َاوات َواأْل َْر ِ َ‬
‫ِ‬ ‫هِت‬ ‫الْميِّ ِ‬
‫ك خُتَْر ُجو َن " (الروم ‪،‬‬ ‫ض َب ْع َد َم ْو َا َو َك َذل َ‬ ‫ت م َن احْلَ ِّي َوحُيْيِي اأْل َْر َ‬ ‫َ َ‬
‫آية ‪17 :‬ـ ‪.)19‬‬
‫اهلل سبحانه إله واحد ليس له شريك‪ ،‬وليس له مثيل يف ذاته أو‬
‫صفاته أو أفعاله كل ما يف الكون من إبداع ونظام وانسجام يدل‬
‫على أن مبدعه ومدبره واحد ولو كان وراء هذا الكون أكثر من‬
‫مدبر وأكثر من منظم ألختل نظامه‪ ،‬واضطربت سننه " لَ ْو َكا َن فِي ِه َما‬
‫ب الْعر ِش ع َّما ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫هِل ِ‬
‫ص ُفو َن" (األنبياء ‪،‬‬ ‫َ َ‬ ‫آ َةٌ إاَّل اللَّهُ لََف َس َدتَا فَ ُسْب َحا َن اللَّه َر ِّ َ ْ‬
‫آية ‪.)22 :‬‬
‫وليس التوحيد جمرد إقرار العبد بأنه ال خالق إال اهلل وأن اهلل رب‬
‫كل شيء ومليكه‪ ،‬كما كان عبّاد األصنام مقرين بذلك وهم‬
‫مشركون‪ ،‬بل التوحيد يتضمن‪ ،‬من حمبة اهلل واخلضوع له والذل له‪،‬‬
‫وكمال اإلنقياد لطاعته وإخالص العبادة له وإرادة وجهه األعلى جبميع‬
‫األقوال واألعمال واملنع والعطاء واحلب والبغض وهو واحد سبحانه يف‬
‫ألوهيته فال يستحق العبادة إال هو وال جيوز التوجه خبوف أو رجاء‬
‫إال إليه ال خشية إال منه‪ ،‬وال ذل إال إليه‪ ،‬وال طمع إال يف رمحته‪،‬‬
‫وال إعتماد إال عليه وال إنقياد إال حلكمه‪.2‬‬

‫‪ 1‬هللا أهل الثناء والمجد صـ ‪.69 ،68‬‬


‫‪ 2‬هللا أهل الثناء والمجد صـ ‪.85‬‬
‫‪7‬‬
‫َّاس أَنتُ ُم الْ ُف َقَراء إِىَل‬
‫اهلل كل اخللق مفتقرون إليه‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫يد" (فاطر ‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬ ‫اللَّ ِه َواللَّهُ ُه َو الْغَيِن ُّ احْلَ ِم ُ‬
‫قد يعطي اإلنسان أمواالً وقد مينح عقاراً‪ ،‬وقد يرزق عياالً وقد يوهب‬
‫جاهاً‪ ،‬وقد ينال منصباً عظيماً أو مركزاً كرمياً أو زعامة عريضة‪ ،‬أو‬
‫رياسة مكينة‪ ،‬قد حيف به اخلدم وحييط به اجلند‪ ،‬وحترسه اجليوش‪،‬‬
‫ويرضخ له الناس وتذل له الرؤوس‪ ،‬وتدين له الشعوب ولكنه مع ذلك‬
‫فقري إىل اهلل حمتاج إىل مواله‪.1‬‬
‫اهلل‪ ،‬أسعد عباده بكتابه‪ ،‬وأهبج قلوهبم بكالمهم وأنار بصائرهم بقراءته‪،‬‬
‫أكثرهم قراءة له من أش ّدهم تعظيماً له‪ ،‬وأقرهبم منزلة منه‪ ،‬أقرهبم من‬
‫كالمه‪ ،‬أقرؤهم لوحيه كالم معجز‪ ،‬وقرآن مبهج‪ ،‬وحبل متني‪ ،‬ونور‬
‫مبني ينطق بالعظمة ويهتف باإلبداع‪ ،‬ويصدح باأللوهية يشهد للربوبية‪.2‬‬
‫ِ ِ‬ ‫هِب‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َح َس َن احْلَديث كتَابًا ُّمتَ َشا ًا َّمثَايِن َ َت ْق َشعُّر مْنهُ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬اللَّهُ َنَّز َل أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جلُ َّ ِ‬
‫ود ُه ْم َو ُقلُوبُ ُه ْم إِىَل ذ ْك ِر اللَّ ِه َذل َ‬
‫ك‬ ‫ني ُجلُ ُ‬
‫ين خَي ْ َش ْو َن َربَّ ُه ْم مُثَّ تَل ُ‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ضلِ ْل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد" (الزمر‬ ‫ُه َدى اللَّ ِه َي ْه ِدي بِِه َم ْن يَ َشاء َو َمن يُ ْ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)23 :‬‬
‫جل وعال أمر ثابت يف األنفس‪ ،‬متمكن يف الفطر‪ ،‬مزروع‬ ‫وجود اهلل ّ‬
‫يف األذهان‪ ،‬مغروس يف األفئدة ال حيتاج إىل دليل وال يتطلب إثبات‪،‬‬
‫وال يفتقر إىل تأكيد‪.‬‬
‫وليس يصح يف األذهان شيء‬
‫‪3‬‬
‫إذا احتاج النهار إىل دليل‬
‫ولكن بعض ذوي الفطر املنكوسة واألنفس املريضة‪ ،‬والعقليات املتعنتة قد‬
‫جيادلون يف ذلك مع أنه مغروس يف حقيقة ضمائرهم " َو َج َح ُدوا هِبَا‬
‫اسَتْي َقنَْت َها أَن ُف ُس ُه ْم" (النمل ‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬ ‫َو ْ‬
‫‪ 1‬المصدر السابق صـ ‪.127 ،126‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.490‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.565‬‬
‫‪8‬‬
‫تسر‬
‫وجاء القرآن الكرمي مزدهراً بآيات تنطق بالعظمة وتشهد بالربوبية‪ُ ،‬‬
‫أنفس الواثقني‪ ،‬وتدحض مزاعم املارقني " أ َْم ُخلِ ُقوا ِم ْن َغرْيِ َش ْي ٍء أ َْم‬
‫ُه ُم اخْلَالُِقو َن" (الطور ‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬
‫وقد تعرض أنبياء اهلل وأمناء الوحي ومحلة الدعوة ومصابيح الدجى‬
‫مر العصور مع‬ ‫وأنصار التوحيد‪ ،‬تعرضوا لعدد من املتعنتني على ّ‬
‫اختالف يف طبقاهتم وتباين يف تفنناهتم إال أن بعضهم وصل به األمر‬
‫أن ادعى أنه رب العاملني فأيد اهلل أولياءه حبجج قاهرة ودالئل باهرة‬
‫وأدلة قاصمة‪ ،‬وصواعق مرسلة تدمر أباطيلهم وتنسف إفرتاءاهتم وتزلزل‬
‫كياناهتم وتظهر سخف عقوهلم وقلة فهمهم واحنطاط أمانيهم‪.‬‬
‫فهذا إبراهيم عليه السالم حياور النمرود الذي طغى وجترب وعتا وتكرب‬
‫وادعى الربوبية من دون املوىل عز وجل‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬أَمَلْ َتَر إِىَل الَّ ِذي‬
‫يم َريِّبَ الَّ ِذي‬ ‫ِ ِ‬ ‫آج إِ ْبر ِاهيم يِف ِربِِّه أَ ْن آتَاهُ اللّهُ الْم ْل َ ِ‬
‫ك إ ْذ قَ َال إ ْبَراه ُ‬ ‫ُ‬ ‫َح َّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫يت قَ َال إِ ْبر ِاه ِ‬ ‫ِ‬
‫ُحيِـي َوأُم ُ‬
‫ِ‬
‫حُيْيِـي َومُي ُ‬
‫س‬‫َّم ِ‬‫يم فَإ َّن اللّهَ يَأْيِت بالش ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫يت قَ َال أَنَا أ ْ‬
‫ت الَّ ِذي َك َفَر َواللّهُ الَ َي ْه ِدي‬ ‫ب َفبُ ِه َ‬ ‫ت هِب ا ِمن الْم ْغ ِر ِ‬
‫َ َ َ‬
‫ِمن الْم ْش ِر ِق فَأْ ِ‬
‫َ َ‬
‫ِِ‬
‫ني" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)258 :‬‬ ‫الْ َق ْو َم الظَّالم َ‬
‫فحينما أدىل إبراهيم بالدليل األول على وجود اهلل تعاىل وربوبيته فقال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يت" قال النمرود‪ :‬وأنا أحيي وأميت أي أنه إذا‬ ‫" َريِّبَ الَّذي حُيْيِـي َومُي ُ‬
‫أتى بالرجلني قد حتتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدمها وعفا عن اآلخر‬
‫فكأنه قد أحياه وأمات اآلخر‪ ،‬وهذه حجة واهية ورد سخيف‪ ،‬ولكن‬
‫إبراهيم عليه السالم‪ ،‬تدرج معه يف احملاجة فأتاه بالضربة القاضية واحلجة‬
‫ت هِبَا ِم َن‬‫س ِمن الْم ْش ِر ِق فَأْ ِ‬
‫َّم ِ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدامغة فقال‪ ":‬فَإ َّن اللّهَ يَأْيِت بالش ْ‬
‫ب" ‪ :‬أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من املشرق كما‬ ‫الْم ْغ ِر ِ‬
‫َ‬
‫سخرها خالقها ومسرّي ها وقاهرها وهو اهلل الذي ال إله إال هو خالق‬
‫كل شيء‪ ،‬فإن كنت كما زعمت أنك حتيي ومتيت فأت هبذه‬

‫‪9‬‬
‫الشمس من املغرب‪ ،‬فإن الذي حييي ومييت هو الذي يفعل ما يشاء‬
‫وال ميانع وال يغالب بل قد قهر كل شيء‪ ،‬ودان له كل شيء‪ ،‬فإن‬
‫كنت كما تزعم فأفعل هذا فإن مل تفعله فلست كما زعمت وأنت‬
‫تعلم وكل أحد انك ال تقدر على هذا ومل يبق للنمرود كالم جييب‬
‫ت الَّ ِذي َك َفَر‬ ‫فيه اخلليل عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وهلذا قال تعاىل‪َ ":‬فبُ ِه َ‬
‫‪1‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َواللّهُ الَ َي ْهدي الْ َق ْو َم الظَّالم َ‬
‫ني"‪.‬‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫فيا عجباً كيف يعصي اإلله‬
‫أم كيف جيحده اجلاحد‬
‫واهلل يف كل حتريكة‬
‫ويف كل تسكينة شاهد‬
‫ويف كل شيء له آية‬
‫‪2‬‬
‫تدل على أنه واحد‬
‫وما أمجل هذه األبيات الرائعة اليت قاهلا الشاعر إبراهيم بريول ـ رمحه‬
‫اهلل‪:‬‬
‫إين أويت لكل مأوى يف احلياة‬
‫فما رأيت أعز من مأواكا‬
‫وتلمست نفسي السبيل إىل النجاة‬
‫فلم جتد منجي سوى منجاكا‬
‫وحبثت عن ِسّر السعادة جاهداً‬
‫فوجدت هذا السر يف تقواكا‬
‫فلريضى عين الناس أو فليسخطوا‬
‫أنا مل أعد أسعى لغري رضاكا‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.567‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.572‬‬
‫‪10‬‬
‫أدعوك يا ريب لتغفر حوبيت‬
‫وتعينين ومتدين هبداكا‬
‫فأقبل دعائي واستجب لرجائي‬
‫ما خاب يوماً من دعا ورجاكا‬
‫إىل أن قال‪:‬‬
‫يا أيها اإلنسان مهالً ما الذي‬
‫جل جالله أغراكا‬ ‫باهلل ّ‬
‫فأسجد ملوالك القدير فإمنا‬
‫البد يوماً تنتهي دنياك‬
‫وتكون يف يوم القيامة ماثالً‬
‫‪1‬‬
‫جتزى مبا قد ق ّدمته يداكا‬
‫إن حقائق اإلسالم ثابتة ال تتغري منذ أنزلت على رسول اهلل صلى اله‬
‫عليه وسلم إىل قيام الساعة‪ ،‬املرجع فيها هو كتاب اهلل وسنة رسوله‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ولكن علماء األمة يف كل جيل ـ وطالب العلم‬
‫فيها ـ يتناولوهنا بالشرح والتفسري من خالل الواقع الذي يعيشه كل‬
‫جيل‪ ،‬وما ج ّد فيه من نوازل وما حدث فيه من احنراف يف الفهم‬
‫أو السلوك‪ ،‬وإن جيلنا الذي نعيش فيه هلو من أحوج األجيال إىل‬
‫التعرف على حقائق دينه وخصوصاً اركان اإلميان الستة وهذا الكتاب‬
‫الذي بني يدي القارئ يتناول الركن األول ((اإلميان باهلل عز وجل))‬
‫وستلحقه بإذن اهلل تعاىل دراسات أخرى يف أركان اإلميان الستة‪،‬‬
‫واألخالق والرتبية الروحية‪ ،‬والسنن اإلهلية‪ ،‬ومقاصد الشريعة والسياسة‬
‫الشرعية‪ ،‬وعلم املصاحل واملفاسد وغريها من الدراسات املنهجية اهلادفة‬
‫إىل املسامهة يف هنضة األمة وانطالقتها احلضارية اجلديدة املرتقبة‪.‬‬
‫هذا وقد قسمت هذا الكتاب إىل مباحث‪:‬‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.550‬‬
‫‪11‬‬
‫املبحث األول‪ :‬معىن ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل وبينت فضل ال‬
‫إله إال اهلل‪ ،‬وأهنا أفضل الذكر وحتدثت عن شروطها‪ ،‬كالعلم‪ ،‬واليقني‬
‫والقبول واالنقياد والصدق‪ ،‬واإلخالص واحملبة وارتباطها بالوالء والرباء‬
‫وآثار اإلقرار هبذه الكلمة يف حياتنا‪.‬‬
‫ويف املبحث الثاين والثالث‪ :‬تكلمت عن إثبات وجود اخلالق‪ ،‬وتوحيد‬
‫الربوبية وأشرت لدليل اخللق‪ ،‬ودليل الفطرة والعهد‪ ،‬ودليل اآلفاق ودليل‬
‫األنفس‪ ،‬ودليل اهلداية‪ ،‬ودليل انتظام الكون وعدم فساده ودليل التقدير‬
‫ودليل التسوية‪ ،‬اليت جاءت يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫ووضحت يف املبحث والرابع واخلامس‪ :‬توحيد األمساء والصفات‪ ،‬وتوحيد‬
‫االلوهية وتكلمت عن عالقة حتكيم الشريعة بالتوحيد‪ ،‬واآلثار احلسنة‬
‫للحكم مبا أنزل اهلل‪ ،‬كاإلستخالف والتمكني واألمن واالستقرار والنصر‬
‫والفتح والعز والشرف‪ ،‬وبركة العيش ورغده واهلداية والتثبيت والفالح‬
‫والصدِّقني‪ ،‬كما وقفت‬ ‫ِّ‬ ‫والفوز واملغفرة وتكفري السيئات‪ ،‬ومرافقة النبيني‬
‫مع اآلثار السيئة للحكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬كقسوة القلب والضالل عن‬
‫احلق‪ ،‬والوقوع يف النفاق واحلرمان من التوبة‪ ،‬والص ّد عن سبيل اهلل‪،‬‬
‫وغياب األمن وانتشار الفوضى وانتشار العداوة والبغضاء‪ ،‬واحلرمان من‬
‫النصر والتمكني‪ ،‬وهول العقاب الذي ينتظر املبدلني لشرعه‪ ،‬واإلهانة‬
‫عند قبض األرواح واألكل من النار وغضب اجلبار والعذاب املهني‪،‬‬
‫وتكلمت عن جهود النيب صلى اهلل عليه وسلم يف محاية توحيد‬
‫األلوهية‪ ،‬كالنهي عن الغلو واإلطراء‪ ،‬لشخصه الكرمي‪ ،‬وكيفية التعامل‬
‫مع الرقي والتمائم وهنيه عن الكهانة‪ ...‬اخل‬
‫أما يف املبحث السادس‪ :‬كان احلديث عن اإلميان‪ ،‬واخرتت كلمة اإلميان‬
‫بدالً من العقيدة واستخدمتها يف كتايب متاشياً مع العرض القرآين الذي‬
‫عرض مقررات اإلميان‪ ،‬وخصائصه ضمن املصطلح اللطيف والكلمة احلبيبة‬

‫‪12‬‬
‫((اإلميان)) وال شك أن العودة إىل تعبري القرآن والرسول عليه الصالة‬
‫والسالم أنفع وأوىل مع جواز املصطلحات األخرى‪ ،‬فكلمة اإلميان أرقى‬
‫معىن وأشف ظالً وأحل على املقصود من الكلمات األخرى‪ ،‬فهي‬
‫تشيع يف األجواء عندما تكتب أو تنطق معاين األمن والثقة وتلقي‬
‫ظالل الطمأنينة واليقني وتوحي مبعاين اإللزام والتصديق واخلضوع وتطلق‬
‫إحياءات الثبات والدوام واملتانة واحليوية وكلمة العقيدة ال تتضمن كل‬
‫هذا كما أنين بينت الفرق بني اإلسالم واإلميان واإلحسان واألسس اليت‬
‫يقوم عليها اإلميان باهلل عز وجل وشرحت بعض اآليات القرآنية اليت‬
‫حتدثت عن اإلميان‪ ،‬كزينة اإلميان‪ ،‬ونور اإلميان‪ ،‬وروح اإلميان‪ ،‬وخلصت‬
‫يف هذا الكتاب أهم أسباب قوة اإلميان مثل‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ معرفة أمساء اهلل احلسىن‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تدبر القرآن على وجه العموم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ معرفة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التفكري يف الكون والنظر يف األنفس‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ اإلكثار من ذكر اهلل يف كل وقت‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ معرفة حماسن الدين‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ االجتهاد يف التحقق من مقام اإلحسان‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ الدعوة إىل اهلل‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ توطني النفس على مقاومة ما ينايف اإلميان‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر لآلخرة‪.‬‬
‫وعرضت بعض صفات املؤمنني اليت جاءت يف القرآن الكرمي‪ ،‬وشرحتها‬
‫وبينت أمهيتها وركزت على أهم فوائد اإلميان ومثراته‪ ،‬كاالغتباط بوالية‬
‫اهلل اخلاصة ودفاع اهلل عن املؤمنني والفوز برضا اهلل‪ ،‬وحصول البشارة‬
‫بكرامة اهلل‪ ،‬حصول الفالح واهلدى‪ ،‬االنتفاع باملواعظ والتذكري‪ ،‬والشكر‬

‫‪13‬‬
‫والصرب‪ ،‬تأثريه على األعمال واألقوال‪ ،‬هداية اهلل إىل الصراط املستقيم‪،‬‬
‫حمبة اهلل واملؤمنني من خلقه‪ ،‬رفع اهلل ملكانتهم‪.‬‬
‫ويف املبحث السابع واألخري‪ :‬كان احلديث عن الشرك والكفر والنفاق‬
‫والردة والفسق واملعاصي‪.‬‬
‫أيها القاري الكرمي أضع بني يديك هذا الكتاب راجياً من اهلل أن‬
‫حيي قلبك وتزداد هداية مع كل معرفة جديدة عن ربك فاهلدف من‬
‫كتابته هو زيادة إميانك برب العاملني بعيدا عن العوائق اليت وضعت يف‬
‫طريق اإلميان الذي بينه رسولنا حممد صلى اهلل عليه وسلم وسار عليه‬
‫الصحابة الكرام سهال ميسرا بدون عناء وال شقاء فأمنوا برهبم فهدى‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل قلوهبم قال اهلل سبحانه وتعاىل " َو َمن يُ ْؤمن بِاللَّه َي ْهد َق ْلبَهُ َواللَّهُ‬
‫يم" ( التغابن ‪ ،‬آية ‪ ،)11 :‬هذا وقد انتهيت من هذا‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫الكتاب يوم األحد الثالثة إال ربع ظهراً بتاريخ ‪8/5/1430‬هـ‪/‬‬
‫‪3/3/2009‬م بالدوحة‪ ،‬والفضل هلل من قبل ومن بعد وأسأله سبحانه‬
‫بأمسائه احلسىن وصفاته العال أن جيعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده‬
‫نافعا‪ ،‬ويشرح صدور العباد لالنتفاع به ويبارك فيه مبنه وكرمه وجوده‬
‫وأن يثيب أخواين الذين أعانوين من أجل إمتام هذا اجلهد املتواضع‪،‬‬
‫ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن ال ينسى العبد الفقري إىل‬
‫ب أ َْو ِز ْعيِن أَ ْن أَ ْش ُكَر‬ ‫عفنو ربه ومغفرته ورمحته ورضوانه من دعائه " َر ِّ‬
‫ي وأَ ْن أَعمل حِل‬ ‫ِ‬
‫ضاهُ‬‫صا ًا َت ْر َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َوال َد َّ َ‬ ‫ك الَّيِت أَْن َع ْم َ‬ ‫نِ ْع َمتَ َ‬
‫ني" (النمل ‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬ ‫ك يِف ِعب ِاد َك َّ حِلِ‬ ‫َوأ َْد ِخ ْليِن بَِرمْح َتِ َ‬
‫الصا َ‬ ‫َ‬
‫ك‬‫ك هَلَا َو َما مُيْ ِس ْ‬ ‫َّاس ِمن رَّمْح ٍَة فَاَل مُمْ ِس َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ " :‬ما َي ْفتَ ِح اللَّهُ لِلن ِ‬
‫يم" (فاطر ‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فَاَل ُم ْرس َل لَهُ من َب ْعده َو ُه َو الْ َعز ُيز احْلَك ُ‬
‫ص ُفو َن * َو َساَل ٌم َعلَى‬ ‫ب الْعَِّز ِة ع َّما ي ِ‬ ‫ك َر ِّ‬ ‫وقال تعاىل‪ُ " :‬سْب َحا َن َربِّ َ‬
‫َ َ‬
‫ني" (الصافات ‪ ،‬آية ‪ 180 :‬ـ ‪.)183‬‬ ‫ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫ني * َواحْلَ ْم ُد لِلَّ ِه َر ِّ‬ ‫ِ‬
‫الْ ُم ْر َسل َ‬

‫‪14‬‬
‫سبحانك اللهم وحبمدك أشهد أن ال إله إآل أنت استغفرك وأتوب‬
‫إليك وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫االخوة الكرام‪ :‬يسرين أن تصل مالحظاتكم وانطباعاتكم حو هذا الكتاب‬
‫وغريه من كتيب من خالل دور النشر‪ ،‬وأطلب من أخواين الدعاء يف‬
‫ظهر الغيب باإلخالص هلل والصواب خلدمة دينه العظيم‪.‬‬

‫‪Mail: info@alsallaby.com‬‬
‫‪Website : www.alsallaby.com‬‬

‫‪15‬‬
‫الفصل األول‬

‫كلمة الشهادة‬

‫ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬معنى ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل فضلها‬
‫وشروطها‪:‬‬
‫أول كلمة يدخل هبا اإلنسان بوابة اإلسالم‪ ،‬ويصل إىل مدارج التوحيد‪،‬‬
‫ويرتقي يف مراقي العبودية‪ ،‬هي كلمة "ال إله إال اهلل حممد رسول‬
‫اهلل" اليت مبوجبها يعرتف العبد هلل عز وجل وحده بالربوبية واأللوهية‬
‫وحملمد صلى اهلل عليه وسلم بالرسالة‪ .‬وأن يشهد العبد أن اهلل هو‬
‫املستحق للعبادة‪ ،‬وأن تنصرف قواه ـ قوى عقله وقلبه وبدنه وجوارحه‬
‫ـ يف التسبيح والتهليل والتمجيد‪ ،‬والعبودية هلذا اإلله العظيم‪ ،‬الذي أنت‬
‫ذرات كيانك الداخلية‬ ‫أيها اإلنسان بعض فضله وبعض خلقه‪ ،‬فكل َّ‬
‫ومتجده وتسبِّحه‪ ،‬شئت أم أبيت‪ ،‬غفلت أم انتبهت‪ ،‬حييت‬ ‫َّ‬ ‫تعرتف به‪،‬‬
‫ت‪ ،‬آمنت أو كفرت‪ ،‬فيبقى اختيار اإلنسان أن يعبد ربه سبحانه‬ ‫أم ِم َّ‬
‫وتعاىل طوعاً مبا أمره اهلل تعاىل ومبا جاء على ألسنة رسله املكرمني‬
‫عليهم الصالة والسالم ‪ .‬وأن يشهد بأن حممد صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪1‬‬

‫اخلامت للرسل هو عبد اهلل ورسوله أرسله ربنا إىل اخللق أمجعني من‬
‫اإلنس واجلن وذلك إقرارا باللسان وإميانا بالقلب بأنه رمحة مهداة‬
‫للعاملني‪.‬‬

‫إال اهلل محمد رسول اهلل‪:‬‬ ‫أوال‪ :‬معنى ال إله‬


‫‪ 1‬مع هللا صـ‪.39‬‬
‫‪16‬‬
‫إن معىن كلمة‪ :‬ال إله إال اهلل أنه ال معبود حبق إال اهلل‪ ،‬فهو وحده‬
‫سبحانه املستحق بأن تصرف له مجيع العبادات وتكون خالصة له دون‬
‫يم"‬ ‫اح ٌد الَّ إِلَه إِالَّ هو الرَّمْح ن َّ ِ‬ ‫سواه‪ ،‬قال تعاىل‪" :‬وإِلَـه ُكم إِلَه و ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ ٌ َ‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)163 :‬‬
‫يم أِل َبِ ِيه َو َق ْو ِم ِه إِنَّيِن َبَراء مِّمَّا َت ْعبُ ُدو َن * إِلَّا‬ ‫وقال تعاىل ‪" :‬وإِ ْذ قَ َال إِبر ِ‬
‫اه‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫الَّ ِذي فَطََريِن فَِإنَّهُ َسَي ْه ِدي ِن * َو َج َعلَ َها َكلِ َمةً بَاقِيَةً يِف َع ِقبِ ِه لَ َعلَّ ُه ْم‬
‫َي ْر ِجعُو َن" (الزخرف ‪ ،‬آية ‪.)28 ، 26 :‬‬
‫وم" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫وقال تعاىل ‪" :‬اللّهُ ال إِلَـهَ إِالَّ ُه َو احْلَ ُّي الْ َقيُّ ُ‬
‫‪.)2‬‬
‫ومعىن شهادة أن حممداً رسول اهلل‪ :‬اإلقرار باللسان واإلميان بالقلب بأن‬
‫حممد بن عبد اهلل القرشي اهلامشي رسول اهلل ـ عز وجل ـ إىل مجيع‬
‫ول اللّ ِه‬ ‫َّاس إِيِّن َر ُس ُ‬ ‫اخللق من اجلن واإلنس‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬قُ ْل يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ال إِلَـهَ إِالَّ ُهو حُيْيِـي‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫ك َّ َ َ‬ ‫إِلَْي ُك ْم مَجِ ًيعا الَّذي لَهُ ُم ْل ُ‬
‫يت فَ ِآمنُواْ بِاللّ ِه َو َر ُسولِِه النَّيِب ِّ األ ُِّم ِّي الَّ ِذي يُ ْؤ ِم ُن بِاللّ ِه َو َكلِ َماتِِه‬‫ِ‬
‫َومُي ُ‬
‫َواتَّبِعُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم َت ْهتَ ُدو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ .)158‬وقال تعاىل‪َ" :‬تبَ َار َك الَّ ِذي‬
‫ني نَ ِذ ًيرا" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َنَّز َل الْ ُف ْرقَا َن َعلَى َعْبده ليَ ُكو َن ل ْل َعالَم َ‬
‫فكلمة ال إله إال اهلل تشمل جزأيني‪ ،‬النفي واإلثبات‪:‬‬
‫‪ -1‬أما النفي (ال إله) نافية مجيع ما يعبد من دون اهلل تعاىل فال‬
‫يستحق أن يعبد أحد سواه‪ ،‬والنكرة يف سياق النفي تعم وتفيد‬
‫العموم‪ ،‬فهي تشمل كل ما ميكن أن يتوجه إليه بالعبادة وكل من‬
‫تصرف إليه غري اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وأما اإلثبات (إال اهلل) مثبتاً العبادة هلل تعاىل فهو اإلله احلق‬
‫املستحق للعبادة فإن خرب (ال) احملذوف (حبق) هو الذي جاءت به‬
‫نصوص الكتاب‪ ،‬فمعىن أنه ال إله حبق إال اهلل‪ ،‬أي ال معبود حبق إال‬

‫‪17‬‬
‫اهلل‪ ،‬فكما تفرد سبحانه وتعاىل باخللق والرزق واإلحياء‪ ،‬واإلماتة‬
‫واإلجياد‪ ،‬واإلعدام والنفع والضر‪ ،‬وغري ذلك من معاين ربوبيته ومل‬
‫يشاركه أحد يف خلق املخلوقات وال يف التصرف يف شئ منها‪،‬‬
‫ك بِأ َّ‬
‫َن‬ ‫ِ‬
‫فكذلك تفرد سبحانه باأللوهية حق ال شريك له‪ ،‬قال تعاىل‪" :‬ذَل َ‬
‫َن اللَّهَ ُه َو الْ َعلِ ُّي‬ ‫َن ما ي ْدعو َن ِمن دونِِه الْب ِ‬
‫اط ُل َوأ َّ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اللَّهَ ُه َو احْلَ ُّق َوأ َّ َ َ ُ‬
‫الْ َكبِريُ" (لقمان‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫ولفظ اجلاللة يف كلمة الشهادة (اهلل) عز وجل فهو اسم من أمسائه جل‬
‫وتعاىل‪ ،‬بل هو امسه األعظم عند قوم‪ ،‬وهذا أكثر األمساء تردداً يف‬
‫القرآن والسنة‪( .‬اهلل) هو أكثر األمساء إشتهاراً وترديداً على ألسنة‬
‫املخلوقني كلهم مبختلف لغاهتم وألسنتهم‪.‬‬
‫((اهلل)) هو اإلسم الدال عل الذات العظيمة اجلامعة لصفات اإلهلية‬
‫والربوبية فهو إسم له وحده ال يتعلق به أحد سواه‪ ،‬وال يُطلق على‬
‫غريه وال ي ّدعيه أحد من خلقه‪.‬‬
‫ميجده اخللق ويسبحونه وحيمدونه‪،‬‬ ‫((اهلل)) اسم للرب املعبود احملمود الذي َّ‬
‫وتسبح له السماوات السبع واألرضون السبع ومن فيهم والليل والنهار‬
‫ـكن الَّ‬ ‫واإلنس واجلن والرب والبحر "وإِن ِّمن َشي ٍء إِالَّ يسبِّح حِب م َد ِه ولَ ِ‬
‫ُ َ ُ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ورا" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪."44 :‬‬ ‫ف‬
‫ُ‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫يم‬‫َت ْف َقهو َن تَسبِيحهم إِنَّه َكا َن حلِ‬
‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫ْ َُ ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫((اهلل)) هو الرب الذي تأهلُههُ القلوب وحتن إليه النفوس وتتطلع إليه‬
‫األشواق‪ ،‬وحتب وتأنس بذكره وقربه وتشتاق إليه وتفتقر إليه املخلوقات‬
‫كلها يف كل حلظة وومضة‪ ،‬وخطرة وفكرة يف أمورها اخلاصة والعامة‪،‬‬
‫ومْن ِشئها‬
‫والكبرية والصغرية‪ ،‬واحلاضرة واملستقبلة‪ ،‬فهو مبديها ومعيدها‪ُ ،‬‬
‫وباريها وهي تدين له سبحانه وتُِقُّر‪ ،‬ةتفتقر إليه يف كل شؤوهنا‬
‫طوقه ِمنَناً ونِعماً‬ ‫وأمورها ما من خملوق إال ويشعر بأن اهلل تعاىل ّ‬

‫‪ 1‬العقيدة الصافية‪ ،‬سيد سعيد عبد الغني صـ‪.260‬‬


‫‪18‬‬
‫وأفاض عليه من آالئه وكرمه وإفضاله وإنعامه بالشئ الكثري‪ ،‬فجدير‬
‫بأن يتوجه قلب اإلنسان إىل اهلل تبارك وتعاىل باحلب والتعظيم واحلنني‪.‬‬
‫((اهلل))‪ :‬أنه العظيم يف ذاته وصفاته وأمسائه وجالله وجمده‪ ،‬ال حتيط به‬
‫العقول وال تدركه األفهام وال تصل إىل عظمته الظنون‪ ،‬فالعقول حتار‬
‫يف عظمته وإن كانت تستطيع مبا ُمنحت من الطّوق والقدرة على أن‬
‫تدرك جانباً من هذه العظمة‪ ،‬مينحها حمبة اهلل واخلوف منه والرجاء فيه‬
‫والتعبد له بكل ما تستطيع ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫قال الشاعر‪:‬‬
‫هلل يف اآلفاق آيات‬
‫لعل أقلَّها هو ما إليه هداكا‬
‫ولعل ما يف النفس من آياته‬
‫َّ‬
‫عجب عُجاب لو ترى عيناكا‬
‫والكون مشحون بأسرار‬
‫إذا حاولت تفسرياً هلا أعياكا‬
‫‪2‬‬

‫((اهلل)) هو اإلله املعبود الذي خُي لص له املؤمنون قلوهبم وعبادهتم‪،‬‬


‫صالَيِت َونُ ُس ِكي‬ ‫وح َّجهم وأنساكهم وحياهتم وآخرهتم "قُ ْل إِ َّن َ‬ ‫وصالهتم َ‬
‫يك لَه وبِ َذلِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اي َومَمَايِت لِلّ ِه َر ِّ‬
‫ت َوأَنَاْ أ ََّو ُل‬‫ك أُم ْر ُ‬ ‫ني * الَ َش ِر َ ُ َ‬‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َوحَمْيَ َ‬
‫ني" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)163 ، 162 :‬‬ ‫ِِ‬
‫الْ ُم ْسلم َ‬
‫وروح ال إله إال اهلل وسرها‪ :‬إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أمساؤه‬
‫وتبارك امسه وتعاىل جده وال إله غريه باحملبة واإلجالل والتعظيم‬
‫واخلوف والرجاء وتوابع ذلك من التوكل واإلنابة والرغبة والرهبة‪ ،‬فال‬
‫حيب سواه‪ ،‬بل كان ما كان حيب غريه فإمنا هو تبعاً حملبته وكونه‬
‫وسيلة إىل زيادة حمبته وال خُي اف سواه‪ ،‬وال يُرجي سواه‪ ،‬وال يتوكل‬
‫‪ 1‬مع هللا‪ ،‬د‪.‬سلمان العودة صـ‪.37 ، 36‬‬
‫‪ 2‬مع هللا صـ‪.39‬‬
‫‪19‬‬
‫إال عليه وال يُرغب إال إليه‪ ،‬وال يُرهب إال منه‪ ،‬وال حُي لف إال‬
‫بامسه‪ ،‬وال يُنذر إال له‪ ،‬وال يُتاب إال إليه‪ ،‬وال يُطاع إال بأمره‪ ،‬وال‬
‫حُي تسب إال له‪ ،‬وال يُستعان يف الشدائد إال به‪ ،‬وال يُلتجأ إال إليه‪،‬‬
‫وال يُسجد إال له‪ ،‬وال "يُذبح إال له وبامسه‪ ،‬جيتمع ذلك يف حرف‬
‫واحد هو أن ال يعبد جبميع أنواع العبادات إال هو فهذا هو حتقيق‬
‫شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وهلذا حرم اهلل على النار من شهد أن ال‬
‫إله إال اهلل حقيقة الشهادة‪ ،‬وحمال أن يدخل النار من حتقق حبقيقة‬
‫ين ُهم بِ َش َه َاداهِتِ ْم قَائِ ُمو َن"‬ ‫َّ ِ‬
‫هذه الشهادة وقام هبا كما قال تعاىل " َوالذ َ‬
‫(املعارج ‪ ،‬آية ‪ .)13 :‬فيكون قائماً بشاهدته يف باطنه وظاهره ويف‬
‫قلبه وقالبه ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ومقتضى هذه الشهادة أن تصدِّق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما‬
‫أخرب وأن متتثل أمره فيما أمر‪ ،‬وأن تتجنب ما عنه هنى وزجر‪ ،‬وأن‬
‫ال تعبد اهلل إال مبا شرع وأن ال تعتقد أن لرسول اهلل حقاً يف‬
‫الربوبية وتصريف الكون‪ ،‬أو حقاً يف العبادة‪ ،‬بل هو صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عب ٌد ال يعبد ورسول ال يكذب‪ ،‬وال ميلك لنفسه وال لغريه‬
‫‪2‬‬
‫شيئاً من النفع أو الضر إال ما شاء اهلل ‪.‬‬
‫لقد عرفت ال إله إال اهلل لدى املسلمني بكلمة "التوحيد" وكلمة‬
‫"اإلخالص" وكلمة "التقوى"‪ ،‬وكانت ال إله إال اهلل‪ ،‬إعالن ثورة على‬
‫جبابرة األرض وطواغيت اجلاهلية‪ ،‬ثورة على كل األصنام واآلهلة‪،‬‬
‫املزعومة‪ ،‬من دون اهلل‪ ،‬سواء كانت شجراً أم حجراً أم بشراً‪ ،‬وكان‬
‫ال إله إال اهلل نداءً عاملياً لتحرير اإلنسان من عبودية اإلنسان والطبيعة‬
‫وكل من خلق‪ ،‬وكانت ال إله إال اهلل عنوان منهج اهلل الذي ال‬

‫‪ 1‬الجواب الكافي البن القيم صـ‪.139‬‬


‫‪ 2‬األمثال في القرآن د‪ .‬عبد هللا جربوع (‪.)233 / 1‬‬
‫‪20‬‬
‫تعنو الوجوه إال له‪ ،‬وال تنقاد القلوب إال حلكمه‪ ،‬وال ختضع إال‬
‫لسلطانه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ثانياً ‪ :‬فضل كلمة ال إله إال اهلل‪ :‬لقد ورد يف كتاب اهلل وسنة‬
‫نبيه من الفضائل اجلمة هلذه الكلمة واخلصال العديدة واألوصاف‬
‫احلميدة‪ ،‬ما يصعب استقصاؤه يف هذا املوضع‪ ،‬فهي‪ ،‬كلمة قامت هبا‬
‫وخلقت ألجلها مجيع املخلوقات‪ ،‬وهبا أرسل اهلل‬ ‫األرض والسماوات‪ُ ،‬‬
‫تعاىل رسله‪ ،‬وأنزل كتبه وشرع شرائعه وألجلها نصبت املوازين‬
‫ووضعت الدواوين‪ ،‬وقام سوق اجلنة والنار‪ ،‬وهبا انقسمت اخلليقة إىل‬
‫املؤمنني والكفار واألبرار والفجار‪ ،‬فهي منشأ اخللق واألمر والثواب‬
‫والعقاب‪ ،‬وهي احلق الذي خلقت له اخلليقة‪ ،‬وعنها وعن حقوقها‬
‫السؤال واحلساب‪ ،‬وعليها يقع الثواب والعقاب‪ ،‬وعليها نصبت القبلة‪،‬‬
‫وعليها أسست امللة‪ ،‬وألجلها جردت سيوف اجلهاد‪ ،‬وهي حق اهلل‬
‫على مجيع العباد‪ ،‬فهي كلمة اإلسالم ومفتاح دار السالم‪ ،‬وعنها يُسأل‬
‫األولون واآلخرون فال تزول قدما العبد بني يدي اهلل حىت يُسأل عن‬
‫مسألتني‪ :‬ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم املرسلني؟‬
‫فجواب األوىل‪ :‬بتحقيق ال إله إال اهلل معرفة وإقراراً وعمالً‪.‬‬
‫وجواب الثاين‪ :‬بتحقيق أن حممداً رسول اهلل معرفة وإقراراً وانقياداً‬
‫وطاعة ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ومما ورد يف فضل هذه الكلمة يف القرآن الكرمي أهنا وصفت بالكلمة‬
‫ب اللّهُ َمثَالً‬ ‫ضَر َ‬
‫ف َ‬ ‫الطيبة والقول الثابت كما قال تعاىل‪ " :‬أَمَلْ َتَر َكْي َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الس َماء * ُت ْؤيِت أُ ُكلَ َها‬
‫َّ‬ ‫َصلُ َها ثَابِ ٌ‬
‫ت َو َف ْرعُ َها يِف‬ ‫َكل َمةً طَيِّبَةً َك َش َجر ٍة طَيِّبَة أ ْ‬

‫‪ 1‬اإليمان والحياة للقرضاوي صـ‪.31‬‬


‫‪ 2‬زاد المعاد (‪.)34 / 1‬‬
‫‪21‬‬
‫ب اللّهُ األ َْمثَ َال لِلن ِ‬
‫َّاس لَ َعلَّ ُه ْم َيتَ َذ َّكُرو َن"‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫ُك َّل ِح ٍ‬
‫ني بِِإ ْذ ِن َر ِّب َها َويَ ْ‬
‫(إبراهيم‪ ،‬اآليات‪ 24:،‬ـ ‪.)25‬‬
‫وت َويُ ْؤ ِمن بِاللّ ِه‬ ‫وأهنا العروة الوثقى‪ ،‬كما قال تعاىل‪" :‬فَمن ي ْك ُفر بِالطَّاغُ ِ‬
‫َْ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َام هَلَا" (البقرة‪،‬آية‪.)256:‬‬ ‫ك بِالْعُْر َوة الْ ُو ْث َق َى الَ انف َ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫َف َقد ْ‬
‫ومن فضائلها أن الرسل مجيعهم أُرسلوا هبا منذرين ومبشرين كما قال‬
‫وحي إِلَْي ِه أَنَّهُ اَل إِلَهَ إِاَّل‬ ‫ول إِاَّل نُ ِ‬
‫ك ِمن َّرس ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫تعاىل‪َ " :‬و َما أ َْر َس ْلنَا ِمن َقْبل َ‬
‫اعب ُد ِ‬
‫ون " (األنبياء ‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬ ‫أَنَا فَ ْ ُ‬
‫إىل غري ذلك من الفضائل اليت ذكرت يف القرآن الكرمي وأما ما ورد‬
‫يف فضلها يف السنة املشرفة فكثري جداً نذكر منه بعضها‪:‬‬
‫ـ فمن ذلك أهنا أعلى شعب اإلميان فقد ورد عنه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أنه قال‪ :‬اإلميان بضع وسبعون شعبة أعالها قول ال إله إال اهلل‬
‫‪1‬‬
‫وأدناها إماطة األذى عن الطريق ‪.‬‬
‫ـ ومن فضائلها أن اجلهاد أقيم من أجل إعالئها كما قال الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أن ال إله‬
‫إال اهلل وأن حممداً رسول اهلل ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة‪ ،‬فإذ فعلوا‬
‫‪2‬‬
‫عصموا مين دماءهم وأمواهلم إال حبقها وحساهبم على اهلل ‪.‬‬
‫ـ ومن فضائلها أهنا ترجح بصحائف الذنوب كما يف حديث البطاقة‪،‬‬
‫فعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن اهلل سيخلص رجالً من أميت على رؤوس‬
‫اخلالئق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعني سجالً كل سجل مثل‬
‫مد البصر مث يقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتيب احلافظون؟‬
‫فيقول‪ :‬ال يا رب‪ ،‬فيقول‪ :‬ألك عذر؟ فيقول‪ :‬ال يا رب‪ ،‬فيقول‪ :‬بلى إن‬
‫لك عندنا حسنة فإنه ال ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد‬

‫‪ 1‬البخاري ‪ ،‬ك باب أمور اإليمان (‪.)21 / 1‬‬


‫‪ 2‬البخاري ‪ ،‬ك المساجد رقم ‪.415‬‬
‫‪22‬‬
‫أن ال إله إال اهلل وأشهد أن حممداً عبده ورسوله‪ ،‬فيقول أحضر‬
‫وزنك‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجالت يف كفة‬
‫والبطاقة يف كفة فطاشت السجالت وثقلت البطاقة فال يثقل مع اسم‬
‫اهلل شيء ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ثالثاً‪ :‬أفضل الذكر ال إله إال اهلل‪:‬‬


‫إن ذكر اهلل من أجل العبادات املقربة إىل اهلل تعاىل وأجلّها وأعظمها‬
‫يسره اهلل عليه هذا وإن أفضل‬ ‫أجراً‪ ،‬مع سهولته ويسره على من ّ‬
‫أنواع الذكر بعد القرآن العظيم هو قول املرء‪ :‬ال إله إال اهلل وهي‬
‫كلمة التوحيد‪ ،‬كما ورد عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪:‬أفضل‬
‫الذكر ال إله إال اهلل ‪،‬وهذه الكلمة اجلليلة واجب على كل مسلم أن‬ ‫‪2‬‬

‫يتعلمها ويعلم مضموهنا ومعناها وشروطها وأركاهنا وكل ما يتعلق هبا‬


‫ألهنا الكلمة اليت يعري هبا املرء مسلماً‪ ،‬فهي الفيصل بني الكفر‬
‫واإلسالم‪ ،‬وألن اهلل جل جالله أمر أفضل خلقه وخامت رسله صلى اهلل‬
‫اعلَ ْم أَنَّهُ اَل‬
‫عليه وسلم أن يعلم كل ما يتعلق هبا ويعتقده يف قوله‪" :‬فَ ْ‬
‫إِلَهَ إِاَّل اللَّهُ" (حممد ‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬
‫وقد ذم اهلل سبحانه من استكرب عنها وأعرض عنها وترك العمل هبا‬
‫يل هَلُ ْم اَل إِلَهَ إِاَّل اللَّهُ يَ ْستَ ْكرِب ُو َن *‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يف قوله ‪ ":‬إنَّ ُه ْم َكانُوا إ َذا ق َ‬
‫ون" (الصافات ‪ ،‬آية ‪ 35 :‬ـ ‪.)36‬‬ ‫وي ُقولُو َن أَئِنَّا لَتَا ِر ُكوا آهِل تِنَا لِ َش ِ‬
‫اع ٍر جَّمْنُ ٍ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫ووصف اهلل سبحانه نفسه مبا تضمنته هذه الكلمة يف غري موضع من‬
‫وم" (البقرة ‪ ،‬آية ‪)255 :‬‬ ‫كتابه فقال‪" :‬اللّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ ُه َو احْلَ ُّي الْ َقيُّ ُ‬
‫وقال سبحانه‪ُ " :‬ه َو احْلَ ُّي اَل إِلَهَ إِاَّل ُه َو " (غافر ‪ ،‬آية ‪ )65 :‬وحققها‬
‫إبراهيم عليه السالم كما حكى اهلل عنه بقوله‪ " :‬إِنَّيِن َبَراء مِّمَّا َت ْعبُ ُدو َن‬

‫‪ 1‬سنن الترمذي رقم ‪ 2639‬صحيح األلباني رقم ‪.9080‬‬


‫‪ 2‬صحيح الجامع لأللباني رقم ‪.1115‬‬
‫‪23‬‬
‫* إِاَّل الَّ ِذي فَطََريِن فَِإنَّهُ َسَي ْه ِدي ِن * َو َج َعلَ َها َكلِ َمةً بَاقِيَةً يِف َع ِقبِ ِه"‬
‫(الزخرف‪ ،‬آية‪26:‬ـ ‪.)28‬‬

‫رابعاً‪ :‬أشعة كلمة الإله إال اهلل‪ ،‬تبدد ظلمات القلوب‪:‬‬


‫اعلم أن أشعة ال إله إال اهلل تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر‬
‫قوة ذلك الشعاع وضعفه‪ ،‬فلها نور‪ ،‬وتفاوت أهلها وتفاوت أهلها يف‬
‫ذلك النور‪ ،‬قوة وضعفاً‪ ،‬ال حيصيه إال اهلل تعاىل‪ ،‬فمن الناس‪ ،‬من نور‬
‫هذه الكلمة كالشمس‪ ،‬ومنهم‪ ،‬من نورها يف قلبه كالكوكب الدري‪،‬‬
‫ومنهم من نورها يف قلبه كاملشعل العظيم‪ ،‬وآخر كالسراج املضيء‪،‬‬
‫وآخر كالسرج الضعيف وهلذا تظهر األنوار يوم القيامة بأمياهنم‪ ،‬وبني‬
‫أيديهم‪ ،‬على هذا املقدار‪ ،‬حبسب ما يف قلوهبم من نور هذه الكلمة‬
‫علماً وعمالً ومعرفة وحاالً وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق‬
‫من الشبهات والشهوات حبسب قوته وشدته‪ ،‬حىت انه رمبا وصل إىل‬
‫حال ال يصادف معها شبهة وال شهوة وال ذنباً‪ ،‬إال أحرقه‪ ،‬وهذا‬
‫حال الصادق يف توحيده الذي مل يشرك باهلل شيئاً‪ ،‬فأي ذنب أو‬
‫شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها‪ ،‬فسماء إميانه قد حرست‬
‫غرة‬
‫بالنجوم من كل سارق حلسناته‪ ،‬فال ينال منها السارق إال على ّ‬
‫وغفلة ال بد منها للبشر‪ ،‬فإذا استيقظ وعلم ما ُسرق منه استنقذه من‬
‫حصل أضعافه بكسبه‪ ،‬فهو هكذا أبداً مع لصوص اجلن‬ ‫سارقه أو ّ‬
‫واإلنس‪ ،‬ليس كمن فتح هلم خزانته ووىل الباب ظهره ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫خامساً‪ :‬التوافق بين ال إله إال اهلل "وإياك نعبد"‪:‬‬

‫‪ 1‬مدارج السالكين (‪.)369 / 1‬‬


‫‪24‬‬
‫ني"‬ ‫ِ‬ ‫اك َن ْعبُ ُد وإِيَّ َ‬
‫إن معىن ال إله إال اهلل تضمنه قوله ‪":‬إِيَّ َ‬
‫اك نَ ْستَع ُ‬
‫(الفاحتة‪ ،‬اآلية‪ )5:‬وهذه اآلية متضمنة ألجل الغايات‪ ،‬ففيها يسر اخللق‬
‫واألمر‪ ،‬والدنيا واآلخرة‪ ،‬وهي متضمنة ألجل الغايات وأفضل الوسائل‬
‫فأجل الغايات عبوديته‪ ،‬وأفضل الوسائل إعانته‪ ،‬فال معبود يستحق‬
‫العبادة إال هو‪ ،‬وال معني على عبادته غريه‪ ،‬فعبادته أعلى الغايات‪،‬‬
‫أجل الوسائل‪.‬‬
‫وإعانته ّ‬
‫وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد‪ ،‬ومها توحيد الربوبية‪،‬‬
‫وتوحيد اإلهلية‪ ،‬وتضمنت التعبد باسم الرب واسم اهلل‪ ،‬فهو يعبد‬
‫بألوهيته‪ ،‬ويستعان بربوبيته‪ ،‬ويهدي إىل الصراط املستقيم برمحته‪ ،‬فكان‬
‫أول السورة ذكر أمسه‪ :‬اهلل والرب‪ ،‬والرمحن تطابقاً ألجل الطالب من‬
‫عبادته وإعانته وهدايته وهو املنفرد بإعطاء ذلك كله‪ ،‬ال يعني على‬
‫‪1‬‬
‫عبادته سواه وال يهدي سواه ‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬شروط ال إله إال اهلل‪ :‬ملا كان معىن ال إله إال اهلل هو‪ :‬أنه‬
‫ّ‬
‫ال معبود حبق إال اهلل‪ ،‬وملا كان كثري من الناس ال يدرك معىن وأمهية‬
‫ّ‬
‫بد لنا أن نتحدث عن شروط هذه الكلمة‪.‬‬ ‫ال إله إال اهلل‪ :‬كان ال َّ‬
‫ورحم اهلل وهب بن منبه حني سئل‪ :‬أليست ال إله إال اهلل مفتاح‬
‫اجلنَّة؟ قال‪:‬بلى‪ ،‬ولكن ما من مفتاح إال وله أسنان‪ ،‬فإن جئت مبفتاح‬
‫له أسنان فتح لك‪ ،‬وإال مل يفتح لك ‪ ،‬وهذه األسنان هي شروط‬
‫‪2‬‬

‫هذه الكلمة العظيمة ‪ ،‬واليت عددها سبعة عند العلماء‪ ،‬وليس املراد من‬ ‫‪3‬‬

‫عام ّي إجتمعت فيه والتزمها‪ ،‬ولو‬


‫عد ألفاظها‪ ،‬وحفظها‪ ،‬فكم من ّ‬ ‫هذا ُّ‬
‫قيل له أعددها مل حيسن ذلك وكم حافظ أللفاظها جيري فيها‬
‫كالسهم‪ ،‬وتراه يقع كثرياً فيما يناقضها والتوفيق بيد اهلل ‪ ،‬وإليك هذه‬
‫‪4‬‬

‫‪ 1‬اإليمان باهلل د‪ .‬عمر األشقر صـ‪ 96‬نقالً عن ابن القيم في الصالة‪.‬‬


‫‪ 2‬رواه البخاري ‪ ،‬ك الجنائز (‪.)109 / 3‬‬
‫‪ 3‬مسائل هامة في توحيد العبادة‪ ،‬محمد القحطاني صـ‪.21‬‬
‫‪ 4‬معارج القبول للحكمي (‪.)377 / 1‬‬
‫‪25‬‬
‫الشروط مع أدلتها من كتاب اهلل وسنة نبيه صلى اهلل عليه وسلم مع‬
‫اإلختصار‪:‬‬
‫‪1‬ـ العلم مبعناها‪ ،‬نفياً وإثباتاً‪ ،‬علماً ينايف اجلهل هبا قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫اعلَ ْم أَنَّهُ اَل إِلَهَ إِاَّل اللَّهُ" (حممد ‪ ،‬آية ‪ ،)19 :‬وقال تعاىل‪َ " :‬ش ِه َد اللّهُ‬ ‫"فَ ْ‬
‫أَنَّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ ُه َو َوالْ َمالَئِ َكةُ َوأ ُْولُواْ الْعِْل ِم قَآئِ َماً بِالْ ِق ْس ِط الَ إِلَـهَ إِالَّ‬
‫يم" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)18 :‬‬ ‫هو الْع ِزيز احْل ِ‬
‫ك‬
‫َُ َ ُ َ ُ‬
‫ويف الصحيح قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬من مات وهو يعلم أنه ال إله‬
‫إال اهلل دخل اجلنة ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫مستيقناً مبدلول هذه‬ ‫قائلها‬ ‫‪2‬ـ اليقين املنايف للشك‪ ،‬وذلك بأن يكون‬
‫َآمنُوا بِاللَّ ِه َو َر ُسولِِه‬ ‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬ ‫الكلمة يقيناً جازماً قال تعاىل‪" :‬إِمَّنَا الْ ُم ْؤ ِمنُو َن‬
‫ك ُه ُم‬‫اللَّ ِه أ ُْولَئِ َ‬ ‫َسبِ ِيل‬ ‫اه ُدوا بِأ َْمواهِلِ ْم َوأَن ُف ِس ِه ْم يِف‬
‫مُثَّ مَلْ َي ْرتَابُوا َو َج َ‬
‫َ‬
‫الص ِادقُو َن" ( احلجرات ‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬ ‫َّ‬
‫اهلل وإين رسول اهلل‪،‬‬ ‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أشهد أن ال إله إال‬
‫اجلنة ‪ ،‬وقال صلى اهلل‬ ‫‪2‬‬
‫ال يلق اهلل هبما عبد غري شاك فيهما إال دخل‬
‫وراء هذا احلائط‬ ‫عليه وسلم أليب هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬من لقيت‬
‫باجلنة ‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫يشهد أن ال إله إال اهلل مستيقناً هبا قلبه فبشره‬
‫‪3‬ـ القبول لما اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان وقد قص‬
‫ردها‬
‫اهلل علينا من أنباء ما قد سبق من إجناء من قبلها وإنتقامه ممّن ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ُر ُساًل إِىَل َق ْوم ِه ْم فَ َج ُاؤ ُ‬
‫وهم‬ ‫وأباها قال تعاىل‪َ " :‬ولََق ْد أ َْر َس ْلنَا ِمن َقْبل َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫بِالْبِّينَ ِ‬
‫ني"‬‫صُر الْ ُم ْؤمن َ‬‫َجَر ُموا َو َكا َن َح ًّقا َعلَْينَا نَ ْ‬
‫ين أ ْ‬ ‫انت َق ْمنَا م َن الذ َ‬
‫ات فَ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ َك َذل َ‬ ‫(الروم ‪ ،‬آية ‪ )47 :‬وقال تعاىل‪ " :‬مُثَّ نُنَ ِّجي ُر ُسلَنَا َوالذ َ‬
‫ني" (يونس ‪ ،‬آية ‪ ،)102:‬وقال تعاىل عن الذين‬ ‫ِِ‬ ‫َح ًّقا َعلَْينَا نُ ِ‬
‫نج الْ ُم ْؤمن َ‬

‫‪ 1‬مسلم ك اإليمان (‪.)55 / 1‬‬


‫‪ 2‬مسلم ك اإليمان رقم ‪.31‬‬
‫‪ 3‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان رقم ‪.)60 / 1( 31‬‬
‫‪26‬‬
‫ف‬ ‫ِ‬
‫انت َق ْمنَا مْن ُه ْم فَانظُْر َكْي َ‬
‫كذبوا هبذه الكلمة ورفضوها ومل يقبلوها‪" :‬فَ َ‬
‫ِ‬
‫َكا َن َعاقبَةُ الْ ُم َك ِّذبِ َ‬
‫ني" الزخرف‪ ،‬آية ‪.)25:‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬مثل ما بعثين اهلل به من اهلدى والعلم‪،‬‬
‫كمثل الغيث الكثري أصاب أرضاً‪ ،‬فكان منها نقية قبلت املاء فأنبتت‬
‫الكأل والعشب الكثري‪ ،‬وكانت منها أجادب أمسكت املاء فنفع اهلل هبا‬
‫الناس فشربوا وسقوا‪ ،‬وزرعوا‪ ،‬وأصابت منها طائفة أخرى إمنا هي‬
‫قيعان ال متسك ماء وال تنبت كأل‪ ،‬فذلك مثل من فقه يف دين اهلل‬
‫ونفعه ما بعثين اهلل به فعلم وعمل‪ ،‬ومثل من مل يرفع بذلك رأساً‬
‫ومل يقبل هدي اهلل الذي أرسلت به ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪4‬ـ االنقياد لما دلت عليه المنافي لترك ذلك‪ :‬قال اهلل سبحانه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتعاىل‪" :‬وأَنِيبوا إِىَل ربِّ ُكم وأ ِ‬
‫َسل ُموا لَهُ من َقْب ِل أَن يَأْتيَ ُك ُم الْ َع َذ ُ‬
‫اب مُثَّ اَل‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫َح َس ُن دينًا مِّم َّْن أ ْ‬
‫َسلَ َم‬ ‫نصُرو َن" (الزمر ‪ ،‬آية ‪ ،)54 :‬وقال تعاىل‪َ " :‬و َم ْن أ ْ‬ ‫تُ َ‬
‫َو ْج َههُ هلل َو ُه َو حُمْ ِس ٌن" ( النساء ‪ ،‬آية ‪.)125 :‬‬
‫‪5‬ـ الصدق المنافي للكذب‪ ،‬وذلك بأن يقوهلا صدقاً من قلبه‬
‫َّاس أَن يُْتَر ُكوا أَن َي ُقولُوا‬ ‫يواطئ قلبه لسانه قال تعاىل‪" :‬امل * أ ِ‬
‫ب الن ُ‬‫َحس َ‬‫َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫آمنَّا وهم اَل ي ْفَتنُو َن * ولََق ْد َفَتنَّا الَّ ِذ ِ‬
‫ين من َقْبله ْم َفلََي ْعلَ َم َّن اللَّهُ الذ َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َُْ‬
‫ِ‬
‫ني" (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ 1 :‬ـ ‪.)3‬‬ ‫ص َدقُوا َولََي ْعلَ َم َّن الْ َكاذبِ َ‬
‫َ‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ما من أحد يشهد أن ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫حرمه اهلل على النار ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وأن حممداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إال ّ‬
‫وهو تصفية العمل لصاحل النية عن مجيع شوائب الشرك‪،‬‬ ‫‪6‬ـ اإلخالص‬
‫اعبُ ِد‬
‫ص" (الزمر ‪ ،‬آية‪ ،)3 :‬وقال تعاىل ((فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫للَّه الد ُ‬
‫ِّين اخْلَال ُ‬ ‫قال تعاىل‪" :‬أَاَل‬
‫ِّين" ( الزمر ‪ ،‬آية ‪ ،)2 :‬وقال تعاىل‪َ " :‬و َما أ ُِمروا إِاَّل‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫الد َ‬ ‫صا لَّهُ‬ ‫اللَّهَ خُمْل ً‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك العلم (‪ )42 / 1‬رقم ‪.79‬‬


‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك العلم (‪ )226 / 1‬رقم ‪.128‬‬
‫‪27‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫يموا الصَّاَل َة َويُ ْؤتُوا َّ‬
‫الز َكا َة‬ ‫ِّين ُحَن َفاء َويُق ُ‬ ‫لَي ْعبُ ُدوا اللَّهَ خُمْلص َ‬
‫ني لَهُ الد َ‬
‫ين الْ َقيِّ َم ِة" (البينة ‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬ ‫و َذلِ ِ‬
‫ك دُ‬ ‫َ َ‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أسعد الناس بشفاعيت من قال ال إله إال‬
‫اهلل خالصاً من قلبه أو نفسه ‪ ،‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن اهلل‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫حرم على النار من قال ال إله إال اهلل يبتغي بذلك وجه اهلل ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫العاملني هبا‬ ‫ودلت عليه‪ ،‬وألهلها‬ ‫‪7‬ـ المحبة هلذه الكلمة وملا اقتضته‬
‫الن ِ‬
‫َّاس َمن‬ ‫ذلك قال تعاىل‪َ " :‬و ِم َن‬
‫امللتزمني بشروطها وبغض ما ناقض‬
‫َكح ِّ ِ َّ ِ‬
‫َنداداً حُيِ بُّو َن ُه ْم‬
‫َش ُّد ُحبًّا‬
‫ين َآمنُواْ أ َ‬ ‫ب اللّه َوالذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ون اللّ ِه أ َ‬
‫َّخ ُذ ِمن د ِ‬
‫ُ‬
‫يت ِ‬
‫َ‬
‫لِّلّ ِه" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)165 :‬‬
‫هبن حالوة‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ثالث من كن فيه وجد ّ‬
‫اإلميان‪ :‬أن يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سوامها‪ ،‬وأن حيب املرء ال‬
‫حيبُه إال اهلل‪ ،‬وأن يكره أن يعود يف الكفر بعد أن أنقذه اهلل منه‪،‬‬
‫كما يكره أن يقذف يف النار ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ال يؤمن أحدكم حىت أكون أحب إليه من‬
‫ولده ووالده والناس أمجعني ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫وحمبة اهلل سبحانه وتعاىل ال تتم إال مبحبة ما حيبه وكره ما يكرهه‬
‫وطريق معرفة ذلك هو اتباع الرسول صلى اهلل عليه وسلم وحمبته‪،‬‬
‫فمحبة اهلل تستلزم حمبة الرسول صلى اهلل عليه وسلم واتباعه وطاعته‬
‫‪5‬‬

‫فهذه الشروط من حققها وعمل هبا وابتعد عما يناقضها أوجب له‬
‫مغفرة الذنوب بإذن اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫سابعاً‪ :‬إرتباط ال إله إال اهلل بالوالء والبراء‪:‬‬


‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك العلم باب الحرص رقمم ‪.99‬‬
‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك المساجد (‪ )397 / 1‬رقم ‪.415‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك اإليمان‪ ،‬رقم ‪.)16 / 1( 21‬‬
‫‪ 4‬معارج القبول للحكمي (‪ 418 / 2‬ـ ‪.)427‬‬
‫‪ 5‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار‪,)623 / 2( ،‬‬
‫‪ 6‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار‪,)623 / 2( ،‬‬
‫‪28‬‬
‫وملا كان أصل املواالة‪ :‬احلب‪ ،‬وأصل املعاداة‪ :‬البغض‪ ،‬وينشأ عنهما من‬
‫أعمال القلوب واجلوارح ما يدخل يف حقيقة املواالة واملعاداة كالنفرة‬
‫واألنس واملعاونة‪ ،‬وكاجلهاد واهلجرة وحنو ذلك ‪ ،‬فإن الوالء والرباء من‬
‫‪1‬‬

‫ين أ َْولِيَاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬


‫لوازم ال إله إال اهلل قال اهلل تعاىل‪" :‬الَّ َيتَّخذ الْ ُم ْؤمنُو َن الْ َكاف ِر َ‬
‫س ِم َن اللّ ِه يِف َش ْي ٍء إِالَّ أَن‬ ‫َ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫َ‬
‫ِمن دو ِن الْمؤ ِمنِني ومن ي ْفعل ذَلِ‬
‫ُْ َ َ َ َ َ ْ‬ ‫ُْ‬
‫صريُ" (آل عمران ‪،‬‬ ‫َتَّت ُقواْ ِمْنهم ُت َقاةً وحُي ِّذر ُكم اللّه َن ْفسه وإِىَل اللّ ِه الْم ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ ُ ُ َُ َ‬ ‫ُْ‬
‫ود‬ ‫ِ‬ ‫آية ‪ ،)28 :‬وقال تعاىل‪ " :‬يا أَيُّها الَّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ الَ َتتَّخ ُذواْ الَْي ُه َ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ َ‬
‫ض َو َمن َيَت َوهَّلُم ِّمن ُك ْم فَِإنَّهُ ِمْن ُه ْم إِ َّن‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَاء َب ْع ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّص َارى أ َْوليَاء َب ْع ُ‬‫َوالن َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (املائدة ‪ ،‬آية ‪ ،)51‬وقال رسول اهلل‬ ‫اللّهَ الَ َي ْهدي الْ َق ْو َم الظَّالم َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أوثق عرى اإلميان احلب يف اهلل والبغض يف اهلل ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ولقد ضرب نيب اهلل إبراهيم عليه السالم منوذج السوة احلسنة يف والئه‬
‫لرب العاملني حيث كان عليه السالم أسوة حسنة وقدوة طيبة يف‬
‫والئه لربه ودينه وعباد اهلل املؤمنني وبرائه ومعاداته ألعداء اهلل ومنهم‬
‫أبوه‪،‬لقد كانت سرية نيب اهلل ابراهيم عليه السالم مع قومه‪ ،‬كأي نيب‬
‫رسول‪ ،‬حيث دعاهم باليت هي أحسن إىل عبادة اهلل وتوحيده‪ ،‬وإفراده‬
‫بالعبادة والكفر بكل طاغوت يعبد من دون اهلل‪.3‬‬
‫يم إِنَّهُ َكا َن ِصدِّي ًقا نَّبِيًّا * إِ ْذ قَ َال‬ ‫اب إِبر ِ‬
‫اه‬ ‫قال تعاىل‪ " :‬واذْ ُكر يِف الْ ِكتَ ِ‬
‫َْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫نك َشْيئًا *‬ ‫صُر َواَل يُ ْغيِن َع َ‬ ‫ت مِل َتعب ُد ما اَل يسمع واَل يب ِ‬ ‫أِل َبِ ِيه يا أَب ِ‬
‫َ ْ َ ُ َ ُْ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫َ َ‬
‫ك فَاتَّبِ ْعيِن أ َْه ِد َك ِصَراطًا‬ ‫ت إِيِّن قَ ْد َجاءيِن ِم َن الْعِْل ِم َما مَلْ يَأْتِ َ‬ ‫يا أَب ِ‬
‫َ َ‬
‫صيًّا * يَا‬ ‫ت اَل َتعب ِد الشَّيطَا َن إِ َّن الشَّيطَا َن َكا َن لِلرَّمْح ِن ع ِ‬ ‫س ِويًّا * يا أَب ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ان َولِيًّا *‬ ‫ك ع َذاب ِّمن الرَّمْح ن َفتَ ُكو َن لِلشَّيطَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اف أَن مَيَ َّس َ َ ٌ َ‬ ‫َخ ُ‬ ‫ِ‬
‫أَبَت إِيِّن أ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫هِل‬
‫َّك َو ْاه ُج ْريِن‬‫يم لَئِن مَّلْ تَنتَ ِه أَل َْرمُجَن َ‬ ‫َنت َع ْن آ َيِت يَا إبْراه ُ‬ ‫ب أ َ‬
‫ِ‬
‫قَ َال أ ََراغ ٌ‬
‫ك َريِّب إِنَّهُ َكا َن يِب َح ِفيًّا *‬ ‫ملِيًّا * قَ َال ساَل م علَيك سأ ِ‬
‫َسَت ْغفُر لَ َ‬‫َ ٌ َْ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬الرسائل المفيدة‪ ،‬عبد اللطيف بن عبد الرحمن صـ‪.296‬‬
‫‪ 2‬اإليمان البن أبي شيبة صـ‪.45‬‬
‫‪ 3‬الوالء والبراء في اإلسالم د‪ .‬القحطاني صـ‪,145‬‬
‫‪29‬‬
‫ون اللَّ ِه َوأ َْدعُو َريِّب َع َسى أَاَّل أَ ُكو َن بِ ُد َعاء‬ ‫وأ َْعتَ ِزلُ ُكم وما تَ ْدعو َن ِمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ‬
‫ون اللَّ ِه َو َهْبنَا لَهُ إِ ْس َح َق‬ ‫ريِّب َش ِقيًّا * َفلَ َّما ْاعَتزهَل م وما يعب ُدو َن ِمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُْ َ َ َ ُْ‬ ‫َ‬
‫وب َو ُكاًّل َج َع ْلنَا نَبِيًّا" (مرمي ‪ ،‬آية ‪ 41 :‬ـ ‪ .)49‬تلك هي نقطة‬ ‫َو َي ْع ُق َ‬
‫البدء يف دعوة خليل الرمحن‪ ،‬دعوة باحلسىن‪ ،‬مبتدئاً بأقرب الناس إليه‪،‬‬
‫فإن مل يكن هناك جتاوب مع هذه الدعوة فاالعتزال هلذا الباطل‬
‫عل يف ذلك ردعاً وزجراً وتفكراً يف هذا األمر اجلديد وجناة‬ ‫وأصحابه ّ‬
‫للداعي من مشاركة أهل الباطل يف باطلهم‪ ،‬إذا كان ال بد له من‬
‫خمالطتهم ومعاشرهتم وعدم متكنه من اهلجرة يف أرضهم‪ ،‬مث ميضي‬
‫القرآن يف بيان دعوة ابراهيم عليه السالم‪ ،‬مبيناً أنه استخدم مع قومه‬
‫يم * إِ ْذ قَ َال أِل َبِ ِيه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫كل حجة ودليل‪ ،‬قال تعاىل‪َ " :‬واتْ ُل َعلَْيه ْم َنبَأَ إ ْبَراه َ‬
‫ني * قَ َال‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫َصنَ ًاما َفنَظَ ُّل هَلَا َعاكف َ‬ ‫َو َق ْومه َما َت ْعبُ ُدو َن {‪ }70‬قَالُوا َن ْعبُ ُد أ ْ‬
‫ضُّرو َن * قَالُوا بَ ْل َو َج ْدنَا‬ ‫َه ْل يَ ْس َمعُونَ ُك ْم إِ ْذ تَ ْدعُو َن * أ َْو يَن َفعُونَ ُك ْم أ َْو يَ ُ‬
‫ك َي ْف َعلُو َن * قَ َال أََفَرأ َْيتُم َّما ُكنتُ ْم َت ْعبُ ُدو َن * أَنتُ ْم َوآبَا ُؤ ُك ُم‬ ‫ِ‬
‫آبَاءنَا َك َذل َ‬
‫ني" (الشعراء ‪ ،‬آية ‪ 70 :‬ـ‬ ‫ِ‬ ‫اأْل َقْ َد ُمو َن * فَِإنَّ ُه ْم َع ُد ٌّو يِّل إِاَّل َر َّ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬
‫‪.)77‬‬
‫وملا مل جيدوا حجة وإمنا هو التقليد األعمى لفعل اآلباء واألجداد قال‬
‫ت‬‫هلم ابراهيم عليه السالم‪ ،‬أنا عدو آهلتكم هذه‪ ،‬قال تعاىل‪" :‬قَ ْد َكانَ ْ‬
‫ين َم َعهُ إِ ْذ قَالُوا لَِق ْو ِم ِه ْم إِنَّا بَُراء‬ ‫َّ ِ‬
‫يم َوالذ َ‬
‫لَ ُكم أُسوةٌ حسنةٌ يِف ِ ِ‬
‫إ ْبَراه َ‬ ‫ْ ْ َ َ ََ‬
‫ون اللَّ ِه َك َفْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا َبْيَننَا َو َبْينَ ُك ُم الْ َع َد َاوةُ‬ ‫ِمن ُكم ومِم َّا َتعب ُدو َن ِمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ َ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َحىَّت ُت ْؤ ِمنُوا بِاللَّ ِه َو ْح َدهُ" ( املمتحنة ‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬ ‫َوالَْب ْغ َ‬
‫وعقيدة ابراهيم عليه السالم هذه هي اليت عرب عنها علماؤنا األجالء‬
‫بقوهلم‪ :‬ال مواالة إال باملعاداة‪ ،‬وال تصح املواالة إال باملعاداة‪ 1‬كما قال‬
‫تعاىل عن إمام احلنفاء احملبني‪ ،‬أنه قال لقومه‪" :‬أفرأيتم ما تعبدون أنتم‬
‫وآباؤكم األقدمون فإهنم عدو يل إال رب العاملني" فلم تصح خلليل اهلل‬
‫‪ 1‬الوالء والبراء صـ‪.147 ، 146‬‬
‫‪30‬‬
‫هذه املواالة واخللة إال بتحقيق هذه املعادلة فإنه ال والء إال هلل‪ ،‬وال‬
‫والء إال بالرباء من كل معبود سواه قال تعاىل‪ " :‬إِنَّيِن َبَراء مِّمَّا َت ْعبُ ُدو َن‬
‫* إِاَّل الَّ ِذي فَطََريِن فَِإنَّهُ َسَي ْه ِدي ِن * َو َج َعلَ َها َكلِ َمةً بَاقِيَةً يِف َع ِقبِ ِه لَ َعلَّ ُه ْم‬
‫َي ْر ِجعُو َن" (الزخرف ‪ ،‬آية ‪ ،)28 ، 26 :‬أي جعل هذه املواالة هلل‪،‬‬
‫والرباءة من كل معبود سواه‪ ،‬كلمة باقية يف عقبه يتوارثها األنبياء‬
‫بعضهم عن بعض‪ ،‬وهي كلمة ال إله إال اهلل وهي اليت ورثها أمام‬
‫احلنفاء ألتباعه إىل يوم القيامة‪ .‬وقد كان من نتيجة هذه املعاداة وهذا‬
‫الرباء القوي أن أمجع الطغاة على قتل إبراهيم ـ كما هو حال كل‬
‫طاغية على مر عصور التاريخ يف إبادة الدعاة إىل اهلل ال لشئ إال‬
‫ألهنم يدعوهنم إىل عبادة اهلل وحده ومجعوا له ناراً عظيمة فكانت‬
‫رعاية اهلل وحفظه حتوطان خليله الصادق عليه الصالة والسالم فصارت‬
‫النار برداً وسالماً عليه‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬قَالُوا ْابنُوا لَهُ بُْنيَانًا فَأَلْ ُقوهُ يِف‬
‫ني" (الصافات ‪ ،‬آية ‪ 97 :‬ـ‬ ‫اجْل ِحي ِم * فَأَرادوا بِِه َكي ًدا فَجع ْلناهم اأْل ِ‬
‫َس َفل َ‬
‫ََ َ ُ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫‪.)98‬‬
‫لقد عدلوا عن اجلدال واملناظرة ملا انقطعوا وغلبوا‪ ،‬ومل تبق هلم حجة‬
‫وال شبهة إىل إستعمال قوهتم وسلطاهنم لينصروا ما هم عليه من‬
‫جل جالله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه‬ ‫سفههم وطغياهنم فكادهم الرب ّ‬
‫ِِ‬ ‫هِل‬
‫ني * ُق ْلنَا‬ ‫انصُروا آ تَ ُك ْم إِن ُكنتُ ْم فَاعل َ‬ ‫كما قال تعاىل‪ " :‬قَالُوا َحِّرقُوهُ َو ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اه ُم‬‫يم * َوأ ََر ُادوا بِه َكْي ًدا فَ َج َع ْلنَ ُ‬ ‫يِن‬
‫يَا نَ ُار ُكو َب ْر ًدا َو َساَل ًما َعلَى إ ْبَراه َ‬
‫ين" ( األنبياء ‪ ،‬آية ‪ 68 :‬ـ ‪.)70‬‬ ‫َخ َس ِر َ‬
‫اأْل ْ‬
‫وجاءت التوجيهات الربانية خلامت األنبياء حممد صلى اهلل عليه وسلم‬
‫باتباع ملة ابراهيم عليه السالم‪.1‬‬
‫يم َحنِي ًفا َو َما َكا َن ِم َن‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ ِ‬
‫ك أَن اتَّب ْع ملةَ إ ْبَراه َ‬ ‫ـ قال تعاىل‪ " :‬مُثَّ أ َْو َحْينَا إِلَْي َ‬
‫ِ‬
‫ني" (النحل ‪ ،‬آية ‪.)123 :‬‬ ‫الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫‪ 1‬الوالء والبراء في اإلسالم صـ‪.149 ، 148‬‬
‫‪31‬‬
‫ِ‬ ‫ِم َن‬‫يم َحنِي ًفا َو َما َكا َن‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫ني" (آل عمران‬ ‫الْ ُم ْش ِرك َ‬ ‫ـ قال تعاىل‪(( :‬ملةَ إ ْبَراه َ‬
‫ص َارى َت ْهتَ ُدواْ قُ ْل‬
‫أ َْو نَ َ‬ ‫ودا‬
‫ُه ً‬ ‫‪ ،‬آية ‪ .)95 :‬ـ قال تعاىل‪َ " :‬وقَالُواْ ُكونُواْ‬
‫يم‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫بَ ْل ملةَ إ ْبَراه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)135 :‬‬ ‫َحني ًفا َو َما َكا َن م َن الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاس بِِإبر ِ‬ ‫ِ‬
‫يم لَلَّذ َ‬
‫ين اتََّبعُوهُ َو َهـ َذا النَّيِب ُّ َوالذ َ‬
‫ين‬ ‫ـ قال تعاىل‪ " :‬إ َّن أ َْوىَل الن ِ ْ َ َ‬
‫اه‬
‫َآمنُواْ َواللّهُ َويِل ُّ‬
‫ني" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)68 :‬‬ ‫ِِ‬
‫الْ ُم ْؤمن َ‬
‫َسلَ َم َو ْج َههُ هلل َو ُه َو حُمْ ِس ٌن واتَّبَ َع‬ ‫ِ‬
‫َح َس ُن دينًا مِّم َّْن أ ْ‬ ‫ـ قال تعاىل‪َ " :‬و َم ْن أ ْ‬
‫يم َخلِيالً" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)125 :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫خَّت‬
‫يم َحني ًفا َوا َ َذ اللّهُ إ ْبَراه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫ملةَ إ ْبَراه َ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ قال تعاىل‪َ (( :‬و َجاه ُدوا يِف اللَّه َح َّق ج َهاده ُه َو ْ‬
‫اجتَبَا ُك ْم َو َما َج َع َل‬
‫مني ِمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َعلَْي ُك ْم يِف‬
‫يم ُه َو مَسَّا ُك ُم الْ ُم ْسل َ‬‫الدِّي ِن م ْن َحَر ٍج ِّملةَ أَبي ُك ْم إ ْبَراه َ‬
‫َقْب ُل" (احلج ‪ ،‬آية ‪.)78 :‬‬
‫يم إِالَّ َمن َس ِفهَ َن ْف َسهُ "‬ ‫َّ ِ ِ ِ‬
‫ب َعن ِّملة إ ْبَراه َ‬ ‫ـ قال تعاىل‪َ " :‬و َمن َي ْر َغ ُ‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)130 :‬‬
‫فهذه األخبار من اهلل ألمة حممد صلى اهلل عليه وسلم عن فعل ابراهيم‬
‫عليه السالم من أجل االقتداء به يف اإلخالص والتوكل على اهلل‬
‫وحده‪ ،‬وعبادة اهلل وحده والرباء من الشرك وأهله ومعاداة الباطل‬
‫وحزبه‪.1‬‬
‫واألمثلة على أن من لوازم ال إله إال اهلل الوالء والرباء كثرية‪ ،‬كقصة‬
‫نوح مع نوح وزوجته‪ ،‬وغريها من القصص‪.‬‬
‫لقد مجعت ال إله إال اهلل صهيباً الرومي وبالل احلبشي وسلمان‬
‫الفارسي وأبا بكر العريب القرشي‪ ،‬وتوارت عصبية القبيلة واجلنس‬
‫واألرض وقال هلم صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬دعوها فإهنا منتنة‪ ،2‬وقال ليس‬

‫‪ 1‬الوالء والبراء في اإلسالم صـ‪.150‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.4095‬‬
‫‪32‬‬
‫منا من دعا إىل عصبية وليس منا من قاتل على عصبية‪ ،‬وليس منا‬
‫من مات على عصبية‪ .1‬وتبقى سرية املصطفى وسرية صحابته األخيار‬
‫منار هدى وإصالح ملن سلك ذلك السبيل ورضى بذلك النهج القومي‪.2‬‬
‫ثامناً‪ :‬آثار اإلقرار بـ (ال إله إال اهلل)‪:‬‬
‫إن لكلمة ال إله إال اهلل آثاراً عظيمة يف حياة املؤمن منها‪:‬‬
‫‪1‬ـ إن املؤمن هبذه الكلمة ال يكون ضيق النظر‪ ،‬خبالف من يقول‬
‫بآهلة متعددة‪ ،‬أو من جيحدها‪.‬‬
‫‪2‬ـ إن اإلميان هبذه الكلمة ينشيء يف النفس من األنفة وعزة النفس ما‬
‫ال يقوم دونه شيء‪ ،‬ألنه ال نافع إال اهلل وال ضار إال اهلل‪ ،‬وهو‬
‫احمليي املميت وهو احلكيم القوي ملك امللك‪ ،‬ومن مث ينزع من القلب‬
‫كل خوف إال منه سبحانه‪ ،‬فال يطأطئ الرأس أمام أحد من اخللق‪،‬‬
‫وال يتضرع إال إليه‪ ،‬وال يتكفف له وال يرتعب من كربيائه وعظمته‪،‬‬
‫ألن هلل وحده الكربياء والعظمة والقدرة وهذا خبالف املشرك والكافر‬
‫وامللحد‪.‬‬
‫‪3‬ـ ينشأ من هذه الكلمة‪ ،‬تواضع من غري ذل وترفع من غري كرب‪.‬‬
‫‪4‬ـ املؤمن هبذه الكلمة‪ ،‬يعلم علم اليقني أنه ال سبيل إىل النجاة‬
‫والفالح إال بتزكية النفس والعمل الصاحل‪ ،‬أما املشركون والكفار فإهنم‬
‫يقضون حياهتم على أماين كاذبة‪ ،‬فمنهم من يقول إن ابن اهلل قتل‬
‫وصلب كفارة لذنوبنا عند أبيه ومنهم من يقول‪ ،‬حنن أبناء اهلل‬
‫وأحباؤه فلن يعذبنا بذنوبنا‪ ،‬ومنهم من يقول‪ ،‬إنا سنتشفع عند اهلل‬
‫بكربائنا وأتقيائنا‪ ،‬ومنهم من يقدم النذور والقرابني إىل آهلته زاعماً أنه‬
‫قد نال بذلك رخصة يف العمل مبا يشاء‪ ،‬أما امللحد الذي ال يؤمن‬

‫‪ 1‬مسلم رقم ‪.1848‬‬


‫‪ 2‬الوالء والبراء صـ‪.158‬‬
‫‪33‬‬
‫باهلل فيعتقد أنه حر يف هذه الدنيا غري مقيد بشرع اهلل وإمنا ا هلاه‬
‫هواه وشهوته وهو عبدمها‪.‬‬
‫‪5‬ـ قائل هذه الكلمة ال يتسرب إليه اليأس‪ ،‬وال يقعد به القنوط ألنه‬
‫يؤمن أن اهلل له خزائن السموات واألرض ومن مث فهو على طمأنينة‬
‫وسكينة وأمل‪ ،‬حىت ولو طرد وأهني وضاقت عليه سبل العيش‪.‬‬
‫‪6‬ـ اإلميان هبذه الكلمة يريب اإلنسان على قوة عظيمة من العزم‬
‫واإلقدام والصرب والثبات والتوكل حينما يضطلع مبعايل األمور ابتغاء‬
‫مرضاة اهلل‪ ،‬إنه يشعر أن وراءه قوة مالك السماء واألرض‪ ،‬فيكون‬
‫ثباته ورسوخه وصالبته اليت يستمدها من هذا التصور‪ ،‬كاجلبال الراسية‬
‫وأىن للشرك والكفر مبثل هذه القوة والثبات؟‬
‫‪7‬ـ هذه الكلمة تشجع اإلنسان ومتأل قلبه جرأة‪ ،‬ألن الذي جينب‬
‫اإلنسان ويوهن عزمه شيئان‪ ،‬حبه للنفس واملال واألهل‪ ،‬أو إعتقاده أن‬
‫هناك أحداً غري اهلل مييت اإلنسان‪ ،‬فإميان املرء بال إله إال اهلل ينزع‬
‫عن قلبه كل ذلك‪ ،‬فيجعله موقناً أن اهلل هو املالك الوحيد لنفسه‬
‫وماله فعندئذ يضحي يف سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده‪،‬‬
‫وينزع الثاين بأن يلقي يف روعه أنه ال يقدر على سلب احلياة منه‬
‫إنسان وال حيوان وال غريه إال إذا جاء أجله‪ ،‬من أجل ذلك ال‬
‫يكون يف الدنيا أشجع وال أجرأ ممن يؤمن باهلل تعاىل فال يكاد خييفه‬
‫أو يثبت يف وجهه زحف اجليوش‪ ،‬وال السيوف املسلولة‪ ،‬وال مطر‬
‫الرصاص وال وابل القنابل ‪.‬‬
‫‪8‬ـ اإلميان بـ (ال إله إال اهلل) يرفع قدر اإلنسان وينشيء فيه الرتفع‬
‫والقناعة واإلستغناء ويطهر قلبه من أوساخ الطمع والشره واحلسد‬
‫والدناءة‪ ،‬واللؤم وغريها من الصفات القبيحة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪9‬ـ واإلميان بـ (ال إله إال اهلل) جيعل اإلنسان متقيداً بشرع اهلل وحمافظاً‬
‫عليه‪ ،‬فإن املؤمن يعتقد بيقني أن اهلل خبري بكل شيء‪ ،‬وهو أقرب إليه‬
‫أي كان‪،‬‬ ‫من حبل الوريد وأنه إن كان يستطيع أن يفلت من بطش ّ‬
‫فإنه ال يستطيع أن يفلت من اهلل عز وجل‪ ،‬وعلى قدر ما يكون‬
‫هذا اإلميان راسخاً يف ذهن اإلنسان يكون متبعاً ألحكام اهلل قائماً‬
‫عند حدوده ال جيرؤ على اقرتاف ما حرم اهلل‪ ،‬ويسارع إىل اخلريات‬
‫والعمل مبا أمر اهلل‪.‬‬
‫لذا فالعبد الذي ملىء اهلل قلبه إميانا بـ (ال إله إال اهلل) هو يف احلقيقة‬
‫عبد مطيع منقاد لربه سبحانه وتعاىل وهذا هو أصل اإلسالم‪ ،‬وهو‬
‫مصدر قوته وكل ماعداه من معتقدات اإلسالم وأحكامه إمنا هي مبنية‬
‫عليه وال تستمد قوهتا إال منه‪ ،‬واإلسالم ال يبقى منه شيء لو زال‬
‫هذا األساس ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫المبحث الثاني‬

‫إثبات وجود الخالق‬

‫رغم أنه ال يوجد يف القرآن مناقشة صرحية ملنكري اخلالق إال أن‬
‫اإلميان بوجود خالق هلذا الكون قضية ضرورية ال مساغ للعقل يف‬
‫إنكارها‪ ،‬فهي ليست قضية نظرية حتتاج إىل دليل وبرهان‪ ،‬ذلك ألن‬
‫داللة األثر على املؤثر يدركها العقل بداهة والعقل ال ميكن أن يتصور‬
‫أثراً من غري مؤثر‪ ،‬أي أثر ولو كان أثراً تافهاً فكيف هبذا الكون‬
‫العظيم؟ ولذلك مل يناقش القرآن هذه القضية‪ ،‬حىت حينما أورد إنكار‬
‫ني" (الشعراء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬
‫فرعون لرب العاملني يوم أن قال‪َ " :‬و َما َر ُّ‬

‫‪ 1‬مبادئ اإلسالم للمودودي صـ‪.87‬‬


‫‪35‬‬
‫ت لَ ُكم ِّم ْن إِلٍَه َغرْيِ ي" (القصص ‪ ،‬آية ‪ " ،)38 :‬يَا‬ ‫ِ‬
‫‪ ،)23‬و" َما َعل ْم ُ‬
‫ات فَأَطَّلِ َع إِىَل‬ ‫السماو ِ‬
‫اب َّ َ َ‬ ‫َسبَ َ‬
‫اب* أ ْ‬‫َسبَ َ‬ ‫ص ْر ًحا لَّ َعلِّي أ َْبلُ ُغ اأْل ْ‬
‫َه َاما ُن ابْ ِن يِل َ‬
‫وسى َوإِيِّن أَل َظُنُّهُ َك ِاذبًا" (غافر ‪ ،‬آية ‪ .)37 ،36 :‬فكان موسى‬ ‫إلَه ُم َ‬
‫ِِ‬
‫عليه السالم ال يعري اهتماماً هلذه اإلنكارات وتعامل مع فرعون على‬
‫ت َما‬ ‫ِ‬
‫أساس أنه مؤمن بوجود اخلالق فرتاه يقول له مثالً‪ ":‬قَ َال لََق ْد َعل ْم َ‬
‫لسماو ِ‬
‫ُّك يَا‬‫صآئَِر َوإِيِّن أَل َظُن َ‬ ‫ض بَ َ‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫ب ا َّ َ َ‬ ‫َنز َل َه ُـؤالء إِالَّ َر ُّ‬ ‫أَ‬
‫ورا" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪ .)102 :‬وقد عزا القرآن الكرمي هذا‬ ‫ب‬‫ث‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ر‬ ‫فِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َخاهُ َه ُارو َن‬ ‫وسى َوأ َ‬ ‫اإلنكا ر والتكرب والعناد‪ ،‬فقال ‪ " :‬مُثَّ أ َْر َس ْلنَا ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫بِآياتِنَا وس ْلطَ ٍ‬
‫ني‬
‫استَ ْكَبُروا َو َكانُوا َق ْو ًما َعال َ‬ ‫ني * إِىَل ف ْر َع ْو َن َو َملَئه فَ ْ‬ ‫ان ُّمبِ ٍ‬ ‫َ َُ‬
‫* َف َقالُوا أَنُ ْؤ ِم ُن لِبَ َشَريْ ِن ِمثْلِنَا َو َق ْو ُم ُه َما لَنَا َعابِ ُدو َن" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪45 :‬‬
‫اسَتْي َقنَْت َها أَن ُف ُس ُه ْم ظُْل ًما‬ ‫هِب‬
‫ـ ‪ ،)47‬وأوضح أكثر فقال‪َ " :‬و َج َح ُدوا َا َو ْ‬
‫َوعُلًُّوا‪( "...‬النمل ‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬
‫إن البيئة اليت أنزل فيها القرآن الكرمي كانت وثنية يف الغالب وكتابية‬
‫يف بعض القرى أو بعض األشخاص والكتابيون ال ينكرون اخلالق‪ ،‬وأما‬
‫الوثنيون فمع عبادهتم لألوثان إال أهنم كانوا يؤمنون باخلالق سبحانه‪،‬‬
‫وسجل القرآن هذا هلم يف أكثر من موضع‪ ،1‬قال تعاىل ‪َ " :‬ولَئِن‬
‫ض لََي ُقولُ َّن اللَّهُ " (لقمان ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫سأَلَْتهم َّمن خلَق َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني لَهُ‬ ‫‪ ،)25‬وقال تعاىل‪َ " :‬وإِ َذا َغشَي ُهم َّم ْو ٌج َكالظُّلَ ِل َد َع ُوا اللَّهَ خُمْلص َ‬
‫ِّين" (لقمان ‪ ،‬آية ‪ ،)32 :‬وهلذا مل حيتج القرآن أن يفتح املوضوع‬ ‫الد َ‬
‫مع هؤالء الناس بل حىت خارج هذه البيئة مل يعرف هناك منكر‬
‫للخالق يقول الشهرستاين‪ :‬أما تعطيل العامل عن الصانع العليم القادر‬
‫احلكيم فلست أرها مقالة ألحد‪ ،‬وال أعرف عليها صاحب مقالة إال‬
‫ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية ولست أرى صاحب هذه املقالة‬

‫‪ 1‬المحكم في العقيدة‪ ،‬د‪ .‬محمد الكبيسي صـ‪.66 ، 65‬‬


‫‪36‬‬
‫ممن ينكر الصانع‪ ،‬بل هو معرتف بالصانع‪ ،‬فما عُدت هذه املسألة من‬
‫النظريات اليت قام عليها دليل‪.1‬‬
‫ومع خلو القرآن من مناقشة صرحية ملنكري اخلالق إال أنه تضمن أدلة‬
‫كثرية إلثبات اخلالق‪ ،‬غري أهنا جاءت يف الغالب إلثبات مسائل أخرى‪،‬‬
‫كالوحدانية والنبوة والبعث ‪ ،‬ومن هذه األدلة اليت ذكرت يف القرآن‬
‫‪2‬‬

‫الكرمي‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬دليل الخلق‪ :‬وخالصة هذا الدليل‪ ،‬أن هذا اخللق بكل ما فيه‬
‫شاهد على وجود خالقه العلي القدير سبحانه‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬أ َْم ُخلِ ُقوا ِم ْن‬
‫ض بَل اَّل‬ ‫َغ ِ َشي ٍء أَم هم اخْل الُِقو َن * أَم خلَ ُقوا َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ ْ ُُ َ‬ ‫رْي‬
‫يُوقِنُو َن" (الطور‪ ،‬آية ‪ 35:‬ـ ‪ ،)36‬يقول هلم أنتم موجودون هذه حقيقة‬
‫ال تنكروهنا وكذلك السموات واألرض موجودتان وال شك وقد تقرر‬
‫يف العقول أن املوجود البد من سبب لوجوده‪ ،‬وهذا يدركه راعي‬
‫اإلبل يف الصحراء فيقول‪ :‬البعرة تدل على البعري واألثر يدل على املسري‬
‫فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج تدل على العليم اخلبري‪ .‬ويدركه‬
‫كبار العلماء الباحثني يف احلياة واألحياء‪ ،‬يقول أحدهم‪ :‬إن اهلل األزيل‬
‫الكبري العامل بكل شيء واملقتدر على كل شيء قد جتلى يل ببدائع‬
‫صنعه حىت صرت دهشاً متحرياً فأي قدرة وأي حكمة وأي إبداع‬
‫أودعه مصنوعات يده صغريها وكبريها‪ .3‬وهذا الذي أشارت إليه اآلية‬
‫هو الذي يعرف عند العلماء باسم‪ :‬قانون السببية هذا القانون يقول‪ :‬إن‬
‫شيئاً من "املمكنات" ال حيدث بنفسه من غري شيء‪ ،‬ألنه ال حيمل يف‬
‫طبيعته السبب الكايف لوجوده وال يستقل بإحداث شيء‪ ،‬ألنه ال‬
‫يستطيع أن مينح غريه شيئاً ال ميلكه هو‪ .4‬وهبذا الدليل كان علماء‬

‫‪ 1‬نهاية اإلقدام للشهرستاني صـ ‪.124 ،123‬‬


‫‪ 2‬المحكم في العقيدة صـ‬
‫‪ 3‬مع هللا للشيخ حسن أيوب صـ ‪.76‬‬
‫‪ 4‬العقيدة في هللا د‪ .‬عمر األشقر صـ ‪.69‬‬
‫‪37‬‬
‫اإلسالم وال يزالون يواجهون اجلاحدين‪ ،‬فهذا اإلمام أبو حنيفة يعرض‬
‫له بعض الزنادقة املنكرين للخالق‪ ،‬فيقول هلم‪ :‬ما تقولون يف رجل يقول‬
‫لكم‪ :‬رأيت سفينة مشحونة باألمحال مملوءة من األنفال‪ ،‬قد أحتوشتها يف‬
‫جلة البحر أمواج متالطمة ورياح خمتلفة‪ ،‬وهي من بينها جتري مستوية‬
‫ليس هلا ماّل ح جيريها وال متعهد يدفعها‪ ،‬هل جيوز يف العقل؟ قالوا‬
‫هذا شيء ال يقبله العقل‪ ،‬فقال أبو حنيفة‪ :‬يا سبحان اهلل إذا مل جيز‬
‫يف العقل سفينة جتري يف البحر مستوية من غري متعهد وال جمر‬
‫فكيف جيوز قيام هذه الدنيا على إختالف أحواهلا وتغرّي أعماهلا وسعة‬
‫أطرافها وتباين أكنافها من غري صانع وال حافظ‪ ،‬فبكوا مجيعاً‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫صدقت وتابوا‪ ،1‬هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو‬
‫الذي تشري إليه اآلية الكرمية‪" :‬أم خلقوا من غري شيء أم هم اخلالقون"‬
‫وهو دليل يرغم العقالء على التسليم بأن هناك خالقاً معبوداً‪ ،‬إال أن‬
‫اآلية صاغته صياغة بليغة مؤثرة فال تكاد اآلية متس السمع حىت تزلزل‬
‫النفس وهتزها ‪.2‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫فوا عجبا كيف يعصى اإلله‬
‫أم كيف جيحده اجلاحد‬
‫ويف كل شيء له آية‬
‫تدل على أنه واحد‬
‫لقد تناول القرآن الكرمي قضية اخللق والتدبري تناوالً فريداً وعىن بتوجيه‬
‫العقول إىل النظر يف آفاق الكون وآيات اهلل الكثرية‪ ،‬وأهاب بالعقل أن‬
‫يستيقظ من سباته‪ ،‬ليتفكر يف ملكوت السموات واألرض وما أودع‬
‫فيها من اآليات‪ ،‬ويكرر القرآن ذلك يف أساليب متنوعة لريى هذا‬

‫‪ 1‬مع هللا صـ ‪ 68‬حسن أيوب‪ ،‬العقيدة في هللا صـ ‪.70‬‬


‫‪ 2‬العقيدة في هللا لألشقر صـ ‪.71‬‬
‫‪38‬‬
‫اإلنسان ويسمع يف آفاق الكون ما يقوده إىل اإلميان خبالقه سبحانه‬
‫وتعاىل ويعلم أن هذا الكون هو من صنع اهلل اخلالق املدبر املستحق‬
‫للعبادة وحده ال شريك له ‪.‬‬‫‪1‬‬

‫ثانياً‪ :‬دليل الفطرة والعهد‪:‬‬


‫إن معرفة اخلالق واإلقرار بوجوده تبارك وتعاىل وربوبيته أمر بديهي‬
‫مغروس يف نفوس الناس وفطرهم إذ لو تُرك اإلنسان يف مكان خال‬
‫ال يوجد فيه أحد بعيداً عن كل املؤثرات اخلارجية وعن كل الشوائب‬
‫العقدية‪ ،‬إلستطاع بفطرته أن يعرف أن هلذا الكون خالقاً مدبراً‬
‫ومتصرفاً‪ ،‬مث بفطرته يتوجه حملبة خالقه ومن هنا نعلم أن من أنكر‬
‫وجود اخلالق جل جالله من امللحدين إمنا أُتوا من احنراف فطرهم ومن‬
‫تأثري الشياطني عليهم وتالعبهم هبم ودليل الفطرة هذا دل عليه القرآن‬
‫ك لِلدِّي ِن َحنِي ًفا‬ ‫ِ‬
‫الكرمي والسنة النبوية املطهرة‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬فَأَق ْم َو ْج َه َ‬
‫ِ‬ ‫فِطْر َة اللَّ ِه الَّيِت فَطَر النَّاس علَيها اَل َتب ِد خِل‬
‫ِّين الْ َقيِّ ُم‬ ‫ك الد ُ‬ ‫يل َْل ِق اللَّ ِه َذل َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َّاس اَل َي ْعلَ ُمو َن" (الروم ‪ ،‬آية ‪ .)30 :‬فالفرتة املقصودة هبا‬ ‫َولَ ِك َّن أَ ْكَثَر الن ِ‬
‫هنا اإلسالم‪ ،‬فاهلل جل جالله فطر الناس على دين اإلسالم والتوحيد‪،2‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ما من مولود إال يولد على الفطرة فأبواه‬
‫يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه كما تتبع البهيمة هبيمة مجعاء هل‬
‫حتسون فيها من جدعاء‪ ،3‬ويف احلديث القدسي يقول تبارك وتعاىل‪" :‬إين‬
‫خلقت عبادي كلهم‪ ،‬وإهنم أتتهم الشياطني فاجتالتهم عن دينهم‪ .4‬ومعىن‬
‫(حنفاء) أي‪ :‬مائلني عن األديان كلها إىل دين اإلسالم‪ .5‬ومن أجل أمهية‬
‫الفطرة يف داللة الناس على رهبم وتعريفهم به كان صلى اهلل عليه‬

‫‪ 1‬حماية الرسول حمى التوحيد للغامدي صـ ‪.216‬‬


‫‪ 2‬المباحث العقيدية المتعلقة باألذكار (‪.)1/368‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك الجنائز رقم ‪.1293‬‬
‫‪ 4‬مسلم رقم ‪.2865‬‬
‫‪ 5‬تفسير القرطبي (‪.)20/144‬‬
‫‪39‬‬
‫وسلم إذا أصبح أو أمسى يقرر أنه يصبح وميسي على هذه الفطرة‬
‫فطرة اإلسالم وأهنا مل تتأثر باملؤثرات والعوارض اخلارجية من نزغات‬
‫الشيطان ووساوسهم‪ ،‬فقد ورد عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه كان‬
‫يقول إذا أصبح وإذا أمسى‪" :‬أصبحنا أو أمسينا على فطرة اإلسالم‬
‫وعلى كلمة اإلخالص‪ ،‬وعلى دين نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من املشركني‪ .1‬فقد أكد‬
‫على سالمة الفطرة من االحنراف بقوله‪ .‬وعلى كلمة اإلخالص وهي‬
‫الشهادة‪" :‬ال إله إال اهلل وبقوله‪ .‬وعلى دين نبينا حممد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وهو الدين اإلسالمي‪ ،‬وبقوله‪ :‬وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً‬
‫مسلما‪ .‬أي مائالً عن كل ما خيالف هذه الفطرة من األديان والعقائد‬
‫الفاسدة اليت تنكر الرب سبحانه وتعاىل أو تزعم أن معه شريكاً يف‬
‫ملكه أو عبوديته إىل اإلسالم اخلالص‪ ،‬فإذا حقق توحيد األلوهية كان‬
‫توحيد الربوبية حمققاً‪ ،‬ألن توحيد األلوهية يتضمن توحيد الربوبية‪،‬‬
‫وبذلك تكون الفطرة قد دلت على توحيد الربوبية‪.2‬‬
‫وهذه الفطرة اليت فطر اهلل عليها عباده هلا صلة وارتباط وثيق بالعهد‬
‫الذي أخذه اهلل سبحانه وتعاىل على بين آدم وهم يف عامل الذر كما‬
‫آد َم ِمن ظُ ُهو ِر ِه ْم ذُِّريََّت ُه ْم‬ ‫أشار اهلل بقوله‪ " :‬وإِ ْذ أَخ َذ ربُّ َ ِ‬
‫ك من بَيِن َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ت بَِربِّ ُك ْم قَالُواْ َبلَى َش ِه ْدنَا أَن َت ُقولُواْ َي ْو َم‬ ‫ِ‬
‫َوأَ ْش َه َد ُه ْم َعلَى أَن ُفس ِه ْم أَلَ ْس َ‬
‫ني * أ َْو َت ُقولُواْ إِمَّنَا أَ ْشَر َك آبَ ُاؤنَا ِمن َقْب ُل‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الْقيَ َامة إِنَّا ُكنَّا َع ْن َه َذا َغافل َ‬
‫َو ُكنَّا ذُِّريَّةً ِّمن َب ْع ِد ِه ْم أََفُت ْهلِ ُكنَا مِب َا َف َع َل الْ ُمْب ِطلُو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪.)173 ، 172‬‬
‫فهذا العهد وامليثاق الذي أخذه اهلل جل جالله على الناس مضمونه‬
‫اإلعرتاف واإلقرار بربوبيته‪ ،‬وأشهدهم على أنفسهم فشهدوا‪ ،‬فمن الناس‬

‫‪ 1‬السلسلة الصحيحة لأللباني رقم ‪ ،2989‬مسند أحمد (‪.)407 ، 3/406‬‬


‫‪ 2‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪.)1/370‬‬
‫‪40‬‬
‫من حافظ على ذلك العهد وقام مبقتضاه والزمه من عبادة ربه وحده‬
‫ال شريك له وتوحيده‪ .‬وصدق رسل اهلل وآمن هبم ومبا جاءوا به‪،‬‬
‫ومن الناس من تغريت فطرته واحنرفت واجتالته الشياطني ـ والعياذ باهلل‬
‫ـ فنسى ما شهد عليه وما جبل عليه من اإلقرار بربوبية اهلل عز وجل‬
‫فوقع يف الكفر واإلحلاد‪ ،‬مع أن اهلل سبحانه مل يرتك عباده سدى بل‬
‫أرسل هلم الرسل وأنزل معهم الكتب ليذ ّكروا الناس هبذا اإلشهاد وهذا‬
‫العهد وامليثاق ولكي يبقى املسلم متذكراً هذا العهد الذي أخذه اهلل‬
‫عليه يف عامل الذر فقد علم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه‬
‫ذكراً يقولونه يف الصباح واملساء ففي احلديث الصحيح عنه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال‪ :‬سيد اإلستغفار أن يقول العبد‪ :‬اللهم أنت ريب ال إله‬
‫إال أنت خلقتين وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما أستطعت أعوذ‬
‫بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي أبوء بذنيب فأغفريل إنه ال‬
‫يغفر الذنوب إال أنت ‪ .‬فقوله‪ :‬وأنا على عهدك‪ :‬أي‪ :‬ما عاهدتك عليه من‬
‫‪1‬‬

‫اإلميان بك واإلقرار بوحدانيتك‪ ،‬ال أزول عنه ‪ ،‬قال ابن حجر‪ :‬وقال‬
‫‪2‬‬

‫ابن بطال قوله‪ :‬وأنا على عهدك ووعدك يريد العهد الذي أخذه اهلل‬
‫على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست‬
‫بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية‪ ،‬وبالوعد ما قاله على‬
‫لسان نبيه ‪ ،‬فهذا الذكر العظيم من داوم عليه يومياً والزمه حفظ‬ ‫‪3‬‬

‫نفسه ـ بإذن اهلل ـ من إحنراف فطرته وتغرّي ها ووىّف بعهده الذي بينه‬
‫وبني ربه ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ثالثاً‪ :‬دليل اآلفاق‪:‬‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك الدعوات رقم ‪.5947‬‬


‫‪ 2‬نتائج األفكار في شرح حديث االستغفار صـ ‪.240‬‬
‫‪ 3‬فتح الباري (‪.)99 / 11‬‬
‫‪ 4‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪.)373 / 1‬‬
‫‪41‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬سنُ ِري ِه ْم آيَاتنَا يِف اآْل فَاق َويِف أَن ُفس ِه ْم َحىَّت َيتََبنَّي َ هَلُ ْم أَنَّهُ‬
‫ك أَنَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد" (فصلت‪ ،‬آية‪.)53:‬‬ ‫ف بَِربِّ َ‬‫احْل ُّق أَومَل ي ْك ِ‬
‫َ َ ْ َ‬
‫‪1‬‬
‫اق" أي‪ :‬عالمات وحدانيتنا وقدرتنا ‪ ،‬وقوله"‬ ‫فقوله‪" :‬سنُ ِري ِهم آياتِنَا يِف اآْل فَ ِ‬
‫َ ْ َ‬
‫يف اآلفاق" يعين أقطار السموات واألرض من الشمس والقمر والنجوم‬
‫والليل والنهار والرياح واألمطار والرعد والربق‪ ،‬والصواعق والنبات‪،2‬‬
‫وغري ذلك مما فيها من عجائب خلق اهلل‪ ،‬ويف حديث العلماء عن‬
‫اإلعجاز العلمي يف القرآن الكرمي ما يدل على آيات اهلل يف اآلفاق‬
‫واليت منها‪:‬‬
‫‪1‬ـ نقص األوكسجين في اإلرتفاعات‪:‬‬
‫ص ْد َرهُ لِ ِإل ْسالَِم َو َمن يُِر ْد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪ " :‬فَ َمن يُِرد اللّهُ أَن َي ْهديَهُ يَ ْشَر ْح َ‬
‫ِ‬ ‫ص َّع ُد يِف‬
‫ضِّي ًقا َحَر ًجا َكأَمَّنَا يَ َّ‬ ‫ِ‬
‫ك‬
‫الس َماء َك َذل َ‬
‫َّ‬ ‫أَن يُضلَّهُ جَيْ َع ْل َ‬
‫ص ْد َرهُ َ‬
‫ين الَ يُ ْؤ ِمنُو َن" (األنعام‪ ،‬آية ‪ ،)125 :‬تنص‬ ‫َّ ِ‬
‫س َعلَى الذ َ‬ ‫الر ْج َ‬
‫جَيْ َع ُل اللّهُ ِّ‬
‫يص ّعد يف السماء أي يرتفع‬ ‫هذه اآلية الكرمية على أن اإلنسان عندما ّ‬
‫يف أعايل اجلو يضيق صدره ويشعر باالختناق‪ ،‬وهذه حقيقة علمية‬
‫سببها أن نسبة االوكسجني تقل كلما ارتفعنا إىل أعلى كما يقل‬
‫الضغط اجلوي‪ ،‬وهذان السببان جيعالن اإلنسان يشعر بضيق التنفس‪.‬‬
‫‪2‬ـ حركة النجوم والكواكب في مداراتها‪:‬‬
‫كان الناس يرون أن األرض مركز الكون ويدور حوهلا الشمس والقمر‬
‫والنجوم السيارة‪ ،‬ويرون جنوماً ثابتة طوال السنة فيصفوهنا بالثبات‪ ،‬مث‬
‫حدث يف عصر "غاليلو" رأي يعترب أن األرض هي اليت تدور حول‬
‫الشمس‪ ،‬والشمس هي مركز الكون‪ ،‬أما القرآن الكرمي فقد رفض قبل‬
‫ذلك مجيع اآلراء اليت تزعم أن للكون مركزاً ثابتاً‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬و ُكلٌّ‬
‫ك يَ ْسبَ ُحو َن" (يس‪ ،‬آية‪ .)40:‬وكان ذلك يف عصره سبق علمي‪.3‬‬ ‫يِف َفلَ ٍ‬
‫‪ 1‬تفسير القرطبي (‪.)374 / 15‬‬
‫‪ 2‬تفسير القرطبي (‪.)374 / 15‬‬
‫‪ 3‬البراهين العلمية‪ ،‬عبد المجيد العرجاوي صـ ‪.105‬‬
‫‪42‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬فَاَل أُقْ ِسم مِب واقِ ِع الن ِ‬
‫ُّجوم * َوإنَّهُ لََق َس ٌم لَّْو َت ْعلَ ُمو َن َعظ ٌ‬
‫يم"‬ ‫ُ‬ ‫ُ ََ‬
‫(الواقعة‪ ،‬آية‪ 75:‬ـ ‪ .)76‬فقد وجد العلماء أن مواقع النجوم ومساراهتا‬
‫ليست اعتباطية‪ ،‬فالكوكب ُوضع يف مسار حبيث ال تؤدي قوى‬
‫التجاذب الكونية الكثرية والقوى النابذة الناشئة عن الدوران إىل ضطراب‬
‫كوين‪ ،‬ولقد اختري له املسار الذي حيقق له التوازن بني تلك القوى‬
‫الكثرية ووجد العلماء أيضاً أن أبعاد اجملموعة الشمسية تتبع سلسلة‬
‫حسابية‪ ،‬وأىن للعريب اجلاهلي الذي كان يرى النجوم مبعثرة يف صفحة‬
‫السماء أن يعرف من تلقاء نفسه أن ملواقعها شأن عظيم‪.1‬‬
‫‪3‬ـ دوران األرض والجبال‪:‬‬
‫صْن َع‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬وَترى اجْلِب َال حَتْسبها ج ِام َد ًة و ِهي مَتُُّر مَّر َّ ِ‬
‫الس َحاب ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫اللَّ ِه الَّ ِذي أَْت َق َن ُك َّل َش ْي ٍء" (النمل‪ ،‬آية‪ ،)88:‬لقد كان الناس قدمياً‬
‫يرون أن األرض وجباهلا ثابتة‪ ،‬بل يضربون املثل بثباهتا‪ ،‬فجاء القرآن‬
‫ليخالف ما ألفه الناس واستقر يف أذهاهنم‪ ،‬وحتدث عن ظاهرة كونية‪،‬‬
‫فقال عن اجلبال أهنا متر مر السحاب‪ ،‬أي أن اجلبال كالسحاب‪ ،‬فكما‬
‫أن السحاب ال يتحرك ذاتياً إال إذا كان هناك شيء يدفعه إىل‬
‫التحرك‪ ،‬والذي حيرك السحاب ويدفعه هي الرياح‪ ،‬فكذلك اجلبال ال‬
‫تتحرك بنفسها‪ ،‬ألهنا أوتاد األرض ولكن هي تتحرك‪ ،‬وحركتها تابعة‬
‫ومتر‬
‫حلركة األرض فاألرض تتحرك وتدور‪ ،‬وإال فكيف تتحرك اجلبال ّ‬
‫مر السحاب وهذا من صنع اهلل الذي أتقن كل شيء حينئذ يكون‬ ‫ّ‬
‫‪2‬‬
‫هناك يقني ثابت ‪.‬‬
‫‪4‬ـ حاجز بين بحرين مالحين‪:‬‬
‫ان * بيَنهما بر َز ٌخ اَّل يبغِي ِ‬
‫ان * فَبِأ ِّ‬
‫َي آاَل ء‬ ‫قال تعاىل‪":‬مرج الْبحري ِن ي ْلتَ ِقي ِ‬
‫َْ َ‬ ‫َْ ُ َ َ ْ‬ ‫ََ َ َ ْ َ ْ َ َ‬
‫ان * خَي ُْر ُج ِمْن ُه َما اللُّ ْؤلُُؤ َوالْ َم ْر َجا ُن" (الرمحن‪ ،‬آية‪19:‬ـ‪.)22‬‬
‫ربِّ ُكما تُ َك ِّذب ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫‪ 1‬البراهين العلمية صـ ‪.106‬‬
‫‪ 2‬تأمالت في العلم واإليمان صـ ‪.178‬‬
‫‪43‬‬
‫تتحدث اآليات الكرمية عن حبرين يتالقيان ويف مكان تالقيهما يوجد‬
‫حاجز والظاهر أهنا تتحدث عن حبرين حقيقني ماحلني وليس عن حبر‬
‫وهنر ألنه قال‪":‬خيرج منهما اللؤلؤ واملرجان"‪.‬‬
‫واملرجان‪ :‬هو اخلرز األمحر‪ ،‬ال خيرج إال من املياه املاحلة‪ ،‬فآلية الكرمية‬
‫إذن تتحدث عن حاجز حقيقي بني حبرين ماحلني يف مكان تالقيهما‪،‬‬
‫والبحران يتالقيان يف املضائق‪ ،‬ألنه‪ ،‬إن مل يكن هناك مضيق فليس من‬
‫مسوغ العتبارمها حبرين‪ ،‬بل يكونان حبراً واحداً‪ ،‬إن هذا الذي أثبتته‬
‫اآلية الكرمية مستغرباً جداً يف عرف الناس‪ ،‬إذ االنطباع السائد أن‬
‫املياه املتالقية ال حواجز بينها‪ ،‬وما كان أحد يعرف هذه احلقيقة وال‬
‫ختطر له على بال إىل أن اكتشفت عام ‪1962‬م‪ ،‬وثبت ما قاله‬
‫القرآن الكرمي كحقيقة مدهشة ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪5‬ـ اهتزاز األرض وزيادتها بالمطر‪:‬‬


‫ِ‬
‫ت‬
‫ت َو َربَ ْ‬ ‫ض َهام َد ًة فَِإ َذا أ َ‬
‫َنزلْنَا َعلَْي َها الْ َماء ْاهَتَّز ْ‬ ‫قال تعاىل‪َ ":‬وَتَرى اأْل َْر َ‬
‫يج" (احلج‪ ،‬آية‪ .)5:‬إن العلم يؤكد أن األرض‬ ‫ت ِمن ُك ِّل َز ْو ٍج هَبِ ٍ‬ ‫َوأَنبَتَ ْ‬
‫هتتز فعالً بنزول الغيث عليها فاحلبوب والبصيالت والدرنات واحلويصالت‬
‫واجلراثيم كلها تبدأ باحلركة واإلنقسامات اخللوية وامتصاص املاء وحتليل‬
‫الغذاء املعقد إىل وحدات أقل ارتباطاً وأكثر عدداً وأكرب حجماً‪،‬‬
‫وبامتالء مسام األرض باملاء تتحرك جزيئات الطني وتبدأ عملية تأين‬
‫عجيبة يف جزيئات الرتبة‪ ،‬وتنشط الديدان األرضية يف شق األنفاق‬
‫األرضية وابتالع كميات كبرية من الرتبة املتالصقة وإخراجها بعد ذلك‬
‫مفككة‪ ،‬كل هذه النشاطات تؤدي إىل زيادة حجم الرتبة وميكننا رؤية‬
‫صورة مصغرة هلذه العمليات بتخمري العجني وزيادة حجمه نتيجة نشاط‬

‫‪ 1‬البراهين العلمية صـ ‪.111‬‬


‫‪44‬‬
‫خاليا اخلمائر‪ ،‬ويف الرتبة حتدث ضروب كثرية ملثل هذا النشاط‪ ،‬من‬
‫‪1‬‬
‫كل ما سبق جند التوافق بني ما عرفه العلم وما وصفه القرآن الكرمي‬
‫‪6‬ـ أوهن البيوت‪:‬‬
‫ون اللَّ ِه أَولِياء َكمثَ ِل الْعن َكب ِ‬
‫وت‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬مثَل الَّ ِذين اخَّتَ ُذوا ِمن د ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫وت لَبيت الْعن َكب ِ‬
‫وت لَ ْو َكانُوا َي ْعلَ ُمو َن"‬ ‫اخَّتَ َذت بيتًا وإِ َّن أَوهن الْبي ِ‬
‫َْ ُ َ ُ‬ ‫ْ َ َ ُُ‬ ‫ْ َْ َ‬
‫(العنكبوت‪ ،‬آية‪.)41:‬إن قوله سبحانه"لو كانوا يعلمون" وقوله بعد ذلك‬
‫"وتلك األمثال نضرهبا للناس وما يعقلها إال العاملون" (العنكبوت‪ ،‬آية‪:‬‬
‫‪ ،)43‬يشريان إىل أن وهن بيت العنكبوت املتحدث عنه وهن غري‬
‫ظاهر ومعروف لدى عامة الناس‪ ،‬وقد ضرب هذا الوهن مثالً ملواالة‬
‫الكافرين بعضهم لبعض‪ ،‬فماذا وجد العلماء عند دراسة العنكبوت؟‬
‫وجدوا أن الروابط بني أفراد العنكبوت يف غاية التفكك‪ ،‬فاألنثى كثرياً‬
‫ما تأكل الذكر بعد اإللقاح وقد تأكل ابناءها واألبناء يأكل بعضهم‬
‫بعضاً‪ ،‬فهو بيت متفكك متداع وذلك مثل مواالة الكافرين بعضهم‬
‫بعضاً‪.2‬‬
‫واألمثلة يف الرباهني العلمية على صحة العقيدة اإلسالمية كثرية‪ ،‬ذكرت‬
‫يف كتب حبثت هذا املوضع‪ ،‬كرحلة اإلميان يف جسم اإلنسان‪ ،‬د‪.‬حامد‬
‫أمحد حامد‪ ،‬والرباهني العلمية على صحة العقيدة‪ ،‬لعبد اجمليد العرجاوي‬
‫ووحدانية اهلل تتجلى يف وحدة خملوقاته لالستاذ عمر أمحد اهلواري‬
‫وغريها كثري ملن أراد التوسع‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬دليل األنفس‪:‬‬


‫أَن ُف ِس ُكم أَفَاَل تُب ِ‬
‫صُرو َن" (الذاريات‪ ،‬آية‪ .)21:‬وملا كان‬ ‫قال تعاىل‪َ ":‬ويِف‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫إىل اإلنسان نفسه دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره‬ ‫أقرب األشياء‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.127‬‬


‫‪ 2‬البراهين العلمية صـ ‪.128‬‬
‫‪45‬‬
‫من قطرة ماء إىل التبصر والتفكر يف نفسه‪ ،‬فإذا تفكر اإلنسان يف‬
‫نفسه استنارت له آيات الربوبية وسطعت له أنوار اليقني‪ ،‬واضمحلت‬
‫عنه غمرات الشك والريب وانقشعت عنه ظلمات اجلهل فإنه إذا نظر‬
‫يف نفسه وجد آثار التدبري فيه قائمات‪ ،‬وأدلة التوحيد على ربه‬
‫ناطقات‪ ،‬شاهدة ملدبره‪ ،‬دالة عليه مرشدة إليه ‪ ،‬وإليك بعض الرباهني‬
‫‪1‬‬

‫العلمية املتعلقة باإلنسان وخلقه‪:‬‬


‫‪1‬ـ اإلحساس والجلد‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ف نُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ت‬ ‫ين َك َفُرواْ بِآيَاتنَا َس ْو َ ْ‬
‫صلي ِه ْم نَ ًارا ُكلَّ َما نَض َج ْ‬ ‫قال تعاىل‪":‬إ َّن الذ َ‬
‫ِ‬
‫اب" (النساء‪ ،‬آية‪ ،)56:‬وهذه‬ ‫ودا َغْيَر َها ليَ ُذوقُواْ الْ َع َذ َ‬ ‫ود ُه ْم بَ َّدلْنَ ُ‬
‫اه ْم ُجلُ ً‬ ‫ُجلُ ُ‬
‫حقيقة كونية وهي أن موطن اإلحساس واألمل يف اإلنسان هو اجللد‪،‬‬
‫فالكافرون يعذبون عن طريق تبديل اجللد أو تغيريه‪ ،‬وذلك ليذوقوا‬
‫العذاب‪ ،‬فاإلذاقة حسب القرآن حملها اجللد وقد بني التشريح اجملهري‬
‫للجلد أنه عضو غين باأللياف العصبية اليت تقوم باستقبال ونقل مجيع‬
‫أنواع احلس من احمليط اخلارجي وذلك عن طريق طبقات اجللد"البشرة‪،‬‬
‫األدمة‪ ،‬النسيج حتت األدمة" وهي تنقل حس األمل‪ ،‬واحلرارة والربودة‪،‬‬
‫والضغط‪ ،‬وحس اللمس‪ ،‬فالقرآن ينبهنا إىل هذه احلقيقة الكونية ويقول‪:‬‬
‫إن اهلل ـ سبحانه ـ كلما أراد أن يذيق الكفار ب ّدل جلودهم اليت‬
‫احرتقت‪ ،‬وماتت فيها األلياف العصبية جبلود سليمة مل حترتق‪ ،‬ليذوقوا‬
‫العذاب مرة أخرى وعندما يأيت التشريح اجملهري‪ ،‬ليقول‪ :‬إن األلياف‬
‫العصبية تكمن يف اجللد نقول‪ :‬إن اهلل ـ سبحانه وتعاىل ـ قد أخربنا‬
‫هبذه احلقيقة يف القرآن الكرمي منذ أربعة عشر قرناً‪.2‬‬
‫‪2‬ـ البصمات وتحديدها لهوية اإلنسان‪:‬‬

‫‪ 1‬التبيان في أقسام القرآن البن القيم (‪.)190/ 1‬‬


‫‪ 2‬تأمالت في العلم واإليمان صـ ‪.180‬‬
‫‪46‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫قال تعاىل‪":‬أَحَيْس ُ ِ‬
‫ين َعلَى أَن‬‫نسا ُن أَلن جَنْ َم َع عظَ َامهُ * َبلَى قَادر َ‬
‫ب اإْل َ‬ ‫َ‬
‫ي َبنَانَهُ" (القيامة‪ ،‬آية ‪ .)4 ، 3 :‬لقد توصل العلم إىل سر البصمة‬ ‫نُّ َس ِّو َ‬
‫يف القرن التاسع عشر‪ ،‬وبني أن البصمة تتكون من خطوط بارزة يف‬
‫بشرة اجللد جتاوزها منخفضات‪ ،‬وتعلو اخلطوط البارزة فتحات املسام‬
‫صنات وفروع‪،‬‬ ‫العرقية‪ ،‬تتمادى هذه اخلطوط وتتلوى‪ ،‬وتتفرع عنها َتغَ ُّ‬
‫لتأخذ يف النهاية ويف كل شخص شكالً مميزاً‪ ،‬وقد ثبت أنه ال ميكن‬
‫للبصمة أن تتطابق وتتماثل يف شخصني يف العامل‪ ،‬حىت يف التوائم‬
‫املتماثلة اليت أصلها من بويضة واحدة‪ ،‬يتم تكون البنان يف اجلنني يف‬
‫الشهر الرابع‪،‬وتظل ثابتة ومميزة له طوال حياته وميكن أن تتقارب‬
‫بصمتان يف الشكل تقارباً‪ ،‬ولكنهما ال تتطابقان البتة‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫البصمة تعد دليالً قاطعاً‪ ،‬ومميزاً لشخصية اإلنسان معمول هبا يف كل‬
‫بالد العامل‪ ،‬ويعتمد عليها يف حتقيق القضايا اجلنائية‪ ،‬لكشف اجملرمني‬
‫واللصوص وقد يكون هذا هو السر يف أن اهلل ـ سبحانه وتعاىل ـ‬
‫خص البنان بالذكر ليبني لإلنسان هذين األمرين‪:‬‬
‫ـ السر املختفي يف البنان الذي مل يعلم أمره إال يف عصر الكشوف‬
‫العلمية‪.‬‬
‫ـ القدرة الفائقة على إعادة خلق اإلنسان بصورته وخلقته اليت كان‬
‫عليها ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والدعوة مفتوحة لإلنسان يف التفكر يف أجهزته العضوية كاجلهاز اهلضمي‬


‫والنفسي والدموي وغريها يف جسم اإلنسان‪ ،‬ويف التأمل يف عامل‬
‫املشاعر واألحاسيس واألفكار والعقائد‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬دليل الهداية‪:‬‬
‫َّر‬ ‫َّ ِ‬ ‫َعلَى * الَّ ِذي‬
‫فَ َس َّوى * َوالذي قَد َ‬ ‫َخلَ َق‬ ‫ك اأْل ْ‬
‫اس َم َربِّ َ‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬سبِّ ِح ْ‬
‫أ َْعطَى ُك َّل َش ْي ٍء‬ ‫الَّ ِذي‬ ‫َف َه َدى" (األعلى‪ ،‬آية‪ 1:‬ـ‪ ،)3‬وقال تعاىل‪َ ":‬ربُّنَا‬
‫‪ 1‬تأمالت في العلم واإليمان صـ‬
‫‪47‬‬
‫َخ ْل َقهُ مُثَّ َه َدى" (طه‪ ،‬آية ‪ ،)50 :‬واملقصود باهلداية املرادة يف اآليات‬
‫السابقة‪ ،‬إعطاء كل خملوق من اخللق والتصوير ما يصلح به ملا خلق‬
‫له‪ ،‬وإرشاده إىل ما يصلح يف معيشته ومطعمه ومشربه‪ ،‬ومنكحه وتقلبه‬
‫وتصرفه‪.1‬‬
‫ويعرفهم‬ ‫بصر عباده ّ‬ ‫ومن امساء اهلل احلسىن اهلادي سبحانه وتعاىل الذي يُ ّ‬
‫طريق اإلميان به واإلقرار بإلوهيته ومعرفة طريق بناء احلياة ومعرفة‬
‫واهلوام والوحوش إىل ما‬ ‫ّ‬ ‫نواميسها وسننها حىت هدى الطيور واحليوانات‬
‫يضرها أو يُ ْع ِطبُها وقد جاء اسم‬ ‫فيه مصاحلها وعيشها وحماذرة ما ّ‬
‫ص ًريا"‬ ‫ك ه ِاديا ونَ ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلادي يف القرآن الكرمي يف قوله سبحانه‪َ " :‬و َك َفى بَربِّ َ َ ً َ‬
‫(الفرقان‪ ،‬آية ‪ ،)31 :‬وقوله‪":‬وإن اهلل هلاد الذين آمنوا إىل صراط‬
‫مستقيم" (احلج‪ ،‬آية‪.)54:‬‬
‫إهنا هداية املعارف الفطرية الضرورية لكل خملوق " قَ َال َربُّنَا الَّ ِذي‬
‫أ َْعطَى ُك َّل َش ْي ٍء َخ ْل َقهُ مُثَّ َه َدى" (طه‪ ،‬آية‪.)50:‬‬
‫وهي ثانياً‪ :‬هداية اإلرشاد والبيان اليت بعث هبا أنبياءه وأنزل هبا كتبه‬
‫اه ْم أَئِ َّمةً َي ْه ُدو َن بِأ َْم ِرنَا" (السجدة‪ ،‬آية‪.)24:‬‬‫" َو َج َع ْلنَ ُ‬
‫وثالثاً‪ :‬األخذ بالقلوب والعقول إىل مواضع رضاه بالتوفيق واإلهلام‬
‫ات َي ْه ِدي ِه ْم‬ ‫الصاحِل ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُواْ َو َعملُواْ َّ َ‬ ‫َ‬
‫واحلفظ‪ ،‬كما وعد سبحانه "إِ َّن الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َّه ْم ُسُبلَنَا"‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ هِنِ‬
‫اه ُدوا فينَا لََن ْهد َين ُ‬‫ين َج َ‬‫َربُّ ُه ْم بإميَا ْم" (يونس‪ ،‬آية ‪َ " ،)9 :‬والذ َ‬
‫(العنكبوت‪ ،‬آية‪ .)69:‬وهو منزل الكتاب الذي من تركه ضاع يف بيداء‬
‫احلياة ومن أبتغى اهلدى يف غريه أضله اهلل‪ .2‬وقد نبّه العلماء على كثري‬
‫من هداية اهلل ملخلوقاته وكتبوا يف ذلك كتباً نافعاً‪ ،‬فتحدثوا عن هداية‬
‫اهلل للنمل وللهدهد والنحل وغريها من خملوقات اهلل الكثرية وهذا باب‬
‫ِ ِ‬ ‫تعاىل‪":‬وما ِمن َدآبٍَّة يِف األ َْر ِ‬
‫ض َوالَ طَائ ٍر يَطريُ‬ ‫َ‬ ‫واسع يكفي فيه قوله‬

‫‪ 1‬دار السعادة (‪ ،)1/109‬شفاء العليل صـ ‪.78‬‬


‫‪ 2‬مع هللا‪ ،‬االسم األعظم صـ ‪.280‬‬
‫‪48‬‬
‫اب ِمن َش ْي ٍء مُثَّ إِىَل َرهِّبِ ْم‬ ‫ِ‬
‫الكتَ ِ‬ ‫احْي ِه إِالَّ أ َُم ٌم أ َْمثَالُ ُكم َّما َفَّرطْنَا يِف‬
‫َنَ َ‬
‫جِب‬
‫حُيْ َشُرو َن " (األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)38‬وهذه األمم تعبد اهلل وتسبحه وحتمده‪،‬‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬وإِن ِّمن َش ْي ٍء إِالَّ يُ َسبِّ ُح حِب َ ْم َد ِه" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪ ،)44 :‬ومثل‬
‫ض َوالطَّْيُر‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫َن اللَّهَ يُسبِّ ُح لَهُ َمن يِف‬ ‫قوله‪ " :‬أَمَلْ َتَر أ َّ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يحهُ" (النور‪ ،‬آية ‪ ،)41:‬وتأمل معي‬ ‫صاَل تَهُ َوتَ ْسبِ َ‬
‫صافَّات ُكلٌّ قَ ْد َعل َم َ‬ ‫َ‬
‫يف كل من‪:‬‬
‫َّح ِل أ َِن اخَّتِ ِذي ِم َن اجْلِبَ ِال‬‫ك إِىَل الن ْ‬ ‫‪1‬ـ النحل‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬وأ َْو َحى َربُّ َ‬
‫اسلُ ِكي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫مِم‬ ‫ِ‬
‫َّج ِر َو َّا َي ْع ِر ُشو َن * مُثَّ ُكلي من ُك ِّل الث ََّمَرات فَ ْ‬ ‫بُيُوتًا َوم َن الش َ‬
‫ف أَلْ َوانُهُ فِ ِيه ِش َفاء لِلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫ِ‬
‫اب خُّمْتَل ٌ‬
‫هِن‬ ‫ِ‬
‫ُسبُ َل َربِّك ذُلُالً خَي ُْر ُج من بُطُو َا َشَر ٌ‬
‫ِ‬
‫ك آليَةً لَِّق ْوٍم َيَت َف َّكُرو َن" (النحل‪ ،‬آية‪68:‬ـ ‪ .)69‬فأنظر إليها‬ ‫ِ‬
‫إِ َّن يِف َذل َ‬
‫وإىل اجتهادها يف صنعة العسل وبنائها البيوت املس ّدسة اليت هي من‬
‫أمتّ األشكال وأحسنها استدارة وأحكمها صنعاً‪ ،‬وتلك من أثر صنع اهلل‬
‫وإهلامه إياها وإحيائه إليها مث انظر ّأداها حسن اإلمتثال إىل أن اختذت‬
‫البيوت أوالً‪ ،‬فإذا استقر هلا بيت خرجت منه‪ ،‬فرعت وأكلت من‬
‫الثمار‪ ،‬مث آوت إىل بيوهتا‪ ،‬ألن رهبا سبحانه أمرها باختاذ البيوت أوالً‬
‫مث باألكل بعد ذلك مث إذا سلكت سبل رهبا مذلّلة ال يستوعر عليها‬
‫شيء‪ ،‬مث ترعى مث تعود‪ ،‬ومن عجيب شأهنا‪ :‬أن هلا أمرياً يسمى‬
‫"اليعسوب" ال يتم هلا رواح وال إياب‪ ،‬وال عمل وال مرعى إال به‪،‬‬
‫فهي مؤمترة ألمره‪ ،‬سامعة له مطيعة‪ ،‬وله عليها تكليف وأمر وهني‪،‬‬
‫وهي منقادة ألمره‪ ،‬متبعة لرأيه يدبّرها‪ ،‬كما يدبّر امللك أمر رعيته‪،‬‬
‫حىت إهنا إذا آوت إىل بيوهتا وقف على باب البيت فال يدع واحدة‬
‫تزحم األخرى ال تتقدم عليها يف العبور‪ ،‬بل تعرب بيوهتا واحدة بعد‬
‫واحدة بغري تزاحم وال تصادم وال تراكم‪ ،‬كما يفعل األمري إذا انتهى‬
‫بعسكره إىل معرب ضيق ال جيوز إال واحد واحد ومن تدبر أحواهلا‬

‫‪49‬‬
‫وسياساهتا وهدايتها واجتماع مشلها وانتظام أمرها وتدبري ملكها‪ ،‬وتفويض‬
‫كل عمل إىل واحد منها‪ ،‬يتعجب منها كل العجب‪ ،‬ويعلم أن هذا‬
‫ليس يف مقدورها وال هو من ذاهتا‪ ،‬فإن هذه أعمال حمكمة متقنة يف‬
‫غاية اإلحكام واإلتقان‪ ،‬فمن الذي أوحى إليها أمرها‪ ،‬وجعل ما جعل‬
‫يف طباعها‪ ،‬ومن الذي هداها لشأهنا؟ ومن الذي أنزل هلا من الطّل‬
‫ردته عسالً صافياً خمتلفاً ألوانه يف غاية احلالوة واللذاذة‬
‫ما إذا جنته ّ‬
‫واملنفعة‪1‬؟ إنه"الذي أعطى كل شيء خلقه مث هدى"‪.‬‬
‫‪2‬ـ الهدهد‪ :‬ومن هدايته ما حكاه اهلل عنه يف كتابه أن قال لنيب اهلل‬
‫سليمان وقد فقده وتوعده فلما جاء بدره بالعذر قبل أن ينذره‬
‫سليمان بالعقوبة‪ ،‬وخاطبه خطاباً هيجه به على اإلصغاء إليه والقبول‬
‫منه‪ ،‬فقال أحط مبا مل حتطت به‪ ،‬ويف ضمن هذا أين أتيتك بأمر قد‬
‫عرفته حق املعرفة حبيث أحطت وهو خرب عظيم له شأن فلذلك قال‪:‬‬
‫وجئتك من سبأ بنبأ يقني‪ ،‬والنبأ هو اخلرب الذي له شأن والنفوس‬
‫متطلعة إىل معرفته‪ ،‬مث وصفه بأنه نبأ يقني ال شك فيه وال ريب‪،‬‬
‫فهذه مقدمة بني يدي إخباره لنيب اهلل بذلك النبأ استفرغت قلب‬
‫املخرب لتلقي اخلرب‪ ،‬وأوجبت له التشويق التام إىل مساعه ومعرفته‪ ،‬وهذا‬
‫نوع من براعة االستهالل وخطاب التهييج‪ ،‬مث كشف عن حقيقة اخلرب‬
‫كشفاً مؤكداً بأدلة التأكيد‪ ،‬فقال‪ :‬إين وجدت إمرأة متلكهم‪ ،‬مث أخرب‬
‫أجل امللوك حبيث أوتيت من كل شيء‬ ‫ّ‬ ‫عن شأن تلك امللكة وأهنا من‬
‫يصلح أن تؤتاه امللوك‪ ،‬مث زاد يف عظيم شأهنا بذكر عرشها اليت‬
‫جتلس عليه وأنه عرش عظيم مث أخربه مبا يدعوه إىل قصدهم وغزوهم‬
‫يف عقر دارهم بعد دعوهتم إىل اهلل فقال‪:‬وجدهتا وقومها يسجدون‬
‫للشمس من دون اهلل‪ .‬وحذف أداة العطف من هذه اجلملة وأتى هبا‬
‫مستقلة غري معطوفة على ما قبلها إيذاناً بأهنا املقصودة وما قبلها توطئة‬
‫‪ 1‬مفتاح دار السعادة (‪ 1/309‬ـ‪.)310‬‬
‫‪50‬‬
‫هلا‪ ،‬مث أخرب عن املغوى هلم احلامل هلم على ذلك وهو تزيني الشيطان‬
‫هلم أعماهلم حىت صدهم عن السبيل املستقيم وهو السجود هلل وحده‪،‬‬
‫مث أخرب أن ذلك الصد حال بينهم وبني اهلداية والسجود هلل الذي ال‬
‫ينبغي السجود إال له‪ ،‬مث ذكر من أفعاله سبحانه اخراج اخلبء يف‬
‫السموات واألرض‪ ،‬وهو املخبوء فيهما من املطر والنبات واملعادن‬
‫وأنواع ما ينزل من السماء وما خيرج من األرض‪ ،‬ويف ذكر اهلدهد‬
‫هذا الشأن من أفعال الرب تعاىل خبصوصه إشعار مبا خصه اهلل به من‬
‫إخراج املاء املخبوء حتت األرض‪ ،‬قال صاحب الكشاف ويف إخراج‬
‫اخلبء إمارة على أنه من كالم اهلدهد هلندسته ومعرفته املاء حتت‬
‫األرض وذلك بإهلام من خيرج اخلبء يف السموات واألرض جلت‬
‫قدرته ولطف علمه وال يكاد خيفي على ذي الفراسة‪ ،‬الناظر بنور اهلل‬
‫خمايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم يف روائه ومنطقه ومشائله‬
‫فما عمل آدمي عمالً إال ألقى اهلل عليه رداء عمله ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫سادساً‪ :‬دليل انتظام الكون وعدم فساده‪:‬‬


‫وانتظام أمر العامل‪ ،‬العلوي والسفلي‪ ،‬وارتباط بعضه ببعض‪ ،‬وجريانه‬
‫أدل دليل على أن مدبّره‬ ‫على نظام حمكم‪ ،‬ال خيتلف وال يفسد من ّ‬
‫‪2‬‬
‫واحد ال إله غريه ‪.‬‬
‫قال تعاىل‪ ":‬لَ ْو َكا َن فِي ِه َما آهِلَةٌ إِاَّل اللَّهُ لََف َس َدتَا فَ ُسْب َحا َن اللَّ ِه َر ِّ‬
‫ب‬
‫ص ُفو َن" (األنبياء‪ ،‬آية‪ ،)22:‬لو كان يف السموات واألرض‬ ‫الْعر ِش ع َّما ي ِ‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫آهلة تصلح هلم العبادة سوى اهلل الذي هو خالق األشياء وله العبادة‬
‫واأللوهية اليت ال تصلح إال له "لفسدتا" أي‪:‬لفسد أهل السموات‬
‫واألرض‪.3‬‬

‫‪ 1‬العقيدة في هللا صـ ‪.116‬‬


‫‪ 2‬الصواعق المرسلة البن القيم (‪.)3/464‬‬
‫‪ 3‬تفسير الطبري (‪.)17/13‬‬
‫‪51‬‬
‫ب‬ ‫وقال تعاىل‪َ ":‬ما اخَّتَ َذ اللَّهُ ِمن َولَ ٍد َو َما َكا َن َم َعهُ ِم ْن إِلٍَه إِ ًذا‬
‫َّ‬
‫ل َذ َه َ‬
‫ض ُسْب َحا َن اللَّ ِه َع َّما‬
‫يِ‬
‫ص ُفو َن"‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ُك ُّل إِلَه مِب َا َخلَ َق َولَ َعاَل َب ْع ُ‬
‫ض ُه ْم َعلَى َب ْع ٍ‬
‫(املؤمنون‪ ،‬آية‪.)91:‬‬
‫يقول تعاىل ذكره‪ :‬ماهلل من ولد وال كان معه يف القدمي أو عند خلقه‬
‫األشياء من تصلح عبادته‪ ،‬إذن العتزل كل إله منهم مبا خلق من‬
‫شيء فانفرد به ولتغالبوا‪ ،‬ولعال بعضهم على بعض‪ ،‬وغلب القوي منهم‬
‫الضعيف‪ ،‬ألن القوي ال يرضى أن يعلوه الضعيف‪ ،‬والضعيف ال يصلح‬
‫أن يكون إهلاً‪ ،‬فسبحان اهلل ما أبلغها من حجة وأوجزها ملن عقل‬
‫وتدبر‪ .1‬وهكذا فإن دليل انتظام الكون وعدم فساده دليل عقلي قوي‬
‫رده‪ ،‬وهي ترى انتظام أمر‬ ‫على وحدانية اهلل‪ ،‬ال متلك العقول السوية ّ‬
‫السموات واألرض وما فيهن‪ ،‬مما يدل على وجود إله واحد متفرد‬
‫باخللق والتدبري‪ ،‬مما يستوجب صرف العبادة له دون سواه‪.2‬‬

‫سابعاً‪ :‬دليل التقدير‪:‬‬


‫َّرهُ َت ْق ِد ًيرا" (الفرقان‪ ،‬آية‪ ،)2:‬وقال‬
‫د‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫قال تعاىل‪":‬وخلَق ُكل شي ٍ‬
‫ء‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َّ َ ْ‬
‫تعاىل‪":‬إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء َخلَ ْقنَاهُ بَِق َد ٍر" (القمر ‪ ،‬آية ‪ ،)49 :‬وقال تعاىل‪:‬‬
‫ندهُ مِبِ ْق َدا ٍر" (الرعد‪ ،‬آية ‪ ،)8 :‬وظاهرة التقدير تبدو يف‬ ‫ٍ‬
‫" َو ُك ُّل َش ْيء ِع َ‬
‫كل ما خلق اهلل عز وجل يف األرض والسماء واإلنسان والنبات‬
‫واحليوان‪ ،‬فقد نظم اهلل أجزاء هذا الوجود على أحسن نظام وأدلّه‬
‫على كمال قدرة خالقه وكمال عمله وكمال حكمته وكمال لطفه ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫ثامناً‪ :‬دليل التسوية‪:‬‬

‫‪ 1‬تفسير الطبري (‪.)18/49‬‬


‫‪ 2‬الداللة العقلية في القرآن صـ ‪.314‬‬
‫‪ 3‬مفتاح دار السعادة (‪.)1/259‬‬
‫‪52‬‬
‫اها * َرفَ َع مَسْ َك َها فَ َس َّو َاها"‬ ‫َش ُّد َخ ْل ًقا أَِم َّ‬
‫الس َماء َبنَ َ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬أَأَنتُ ْم أ َ‬
‫صْن َع اللَّ ِه الَّ ِذي أَْت َق َن ُك َّل‬
‫(النازعات‪ ،‬آية ‪ )28 ،27 :‬وقال تعاىل‪ُ ":‬‬
‫َح َس َن ُك َّل َش ْي ٍء َخلَ َقهُ َوبَ َدأَ‬ ‫ِ‬
‫َش ْيء" (النمل‪ ،‬آية ‪ )88 :‬وقال تعاىل‪":‬الَّذي أ ْ‬
‫ٍ‬
‫ني" (السجدة‪،‬آية‪.)7:‬‬ ‫ان ِمن ِط ٍ‬ ‫خ ْلق اإْلِ نس ِ‬
‫َ َ‬
‫َ‬
‫والتسوية‪ :‬إحسان اخللق‪ ،‬وإكمال الصنعة حبيث يكون املخلوق مهيئاً‬
‫ألداء وظيفته وبلوغ كماله املقدَّر عنه وجعله مستوياً معتدال متناسب‬
‫خيل باملقصود‪1‬منها وإذا تأملنا يف مظاهر‬ ‫األجزاء حبيث ال حيصل تفاوت ّ‬
‫التسوية يف اإلنسان تبدو فـي كل عضـو من أعضائه فقد أحسن اهلل‬
‫خلقه كمال قال تعاىل‪":‬لقد خلقنا اإلنسان يف أحسن تقومي" (التني ‪،‬‬
‫سوي األعضاء حسنها‪ ،2‬كما قال سبحانه يف‬ ‫َّ‬ ‫آية ‪ )4 :‬منتصب القامة‬
‫موضع آخر" الَّ ِذي‬
‫ك" (االنفطار‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ور ٍة َّما َشاء َر َّكبَ َ‬‫صَ‬ ‫َي ُ‬ ‫ك * يِف أ ِّ‬ ‫ك فَ َس َّو َاك َف َع َدلَ َ‬‫َخلَ َق َ‬
‫‪ ،)8 ، 7‬وإن اجلمال والسواء واالعتدال ليبدو يف تكوين اإلنسان‬
‫اجلسدي‪ ،‬والعقلي والروحي وكل ذلك يتناسق يف كيانه يف مجال‬
‫واستواء واألجهزة العامة لتكوين اإلنسان اجلسدي‪ ،‬كاجلهاز العظمي‬
‫واجلهاز العضلي واجلهاز اهلضمي واجلهاز التنفسي ‪...‬إىل غري ذلك من‬
‫أجهزة اجلسم املتعدد‪ ،‬كل منها عجيبة‪ ،‬ال تقاس إليها كل العجائب‬
‫الصناعية اليت يقف اإلنسان مدهوشاً أمامها وينسى عجائب ذاته‪ ،‬وهي‬
‫أضخم وأعمق وأدق مبا ال يقاس ‪ .‬وخلق اإلنسان على هذه الصورة‬
‫‪3‬‬

‫السويّة املعتدلة أمر يستحق التدبر الطويل ألنه خلق ال ميلك العقل‬
‫حياله إال اإلقرار بعظمة اهلل والشكر له بأن أكرمه هبذه اخل ْلقة وقد‬
‫‪4‬‬
‫يشاؤها ‪.‬‬ ‫كان قادراً أن يركبه يف أي صورة أخرى َ‬

‫‪ 1‬المدخل إلى الثقافة اإلسالمية‪ ،‬أحمد جلي صـ‪.75‬‬


‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪)4/396‬‬
‫‪ 3‬الداللة العقلية في القران صـ‪.294‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه صـ‪.294‬‬
‫‪53‬‬
‫المبحث الثالث‬

‫توحيد الربوبية‪:‬‬

‫ومعىن توحيد الربوبية‪ :‬هو االعتقاد اجلازم بأن اهلل جل جالله رب كل‬
‫شيء ومالكه وخالقه ومدبر أمره ورازقه وأنه وحده الذي ينفع ويضر‬
‫وحيي ومييت وأنه سبحانه وحده املتصرف هبذا الكون وما شاء كان‬
‫وما مل يشأ مل يكن‪ ،‬ال مانع ملا أعطى وال معطى ملا منع بيده اخلري‬
‫وإليه ترجع األمور وهو على كل شيء قدير‪ ،1‬وهذا التوحيد ال يكفي‬
‫يأت مع ذلك بال زمة من‬ ‫العبد يف حصول اإلسالم‪ ،‬بل ال بد أن ِ‬
‫توحيد اإلهلية‪ ،‬ألن اهلل تعاىل حكى عن املشركني أهنم مقرون هبذا‬
‫ض‬ ‫التوحيد هلل وحده قال تعاىل‪ ":‬ولَئِن سأَلَْتهم َّمن خلَق َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫لَي ُقولُ َّن اللَّه قُل أََفرأَيتُم َّما تَ ْدعو َن ِمن د ِ ِ‬
‫ون اللَّه إِ ْن أ ََر َاديِن َ اللَّهُ بِ ُ‬
‫ضٍّر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ َْ‬ ‫َ‬
‫ات َرمْح َتِ ِه قُ ْل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ضِّر ِه أ َْو أ ََر َاديِن بَِرمْح َة َه ْل ُه َّن مُمْس َك ُ‬ ‫ات ُ‬
‫ِ‬
‫َه ْل ُه َّن َكاش َف ُ‬
‫َح ْسيِب َ اللَّهُ َعلَْي ِه َيَت َو َّك ُل الْ ُمَت َو ِّكلُو َن" (الزمر‪ ،‬آية‪.)38:‬‬
‫ض َو َمن فِ َيها إِن ُكنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن * َسَي ُقولُو َن‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬قُل لِّ َم ِن اأْل َْر ُ‬
‫ب الْ َع ْر ِش‬‫السْب ِع َو َر ُّ‬
‫ات َّ‬ ‫السماو ِ‬
‫ب َّ َ َ‬ ‫لِلَّ ِه قُ ْل أَفَاَل تَ َذ َّكُرو َن * قُ ْل َمن َّر ُّ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وت ُك ِّل‬ ‫الْ َعظي ِم * َسَي ُقولُو َن للَّه قُ ْل أَفَاَل َتَّت ُقو َن * قُ ْل َمن بِيَده َملَ ُك ُ‬
‫َش ْي ٍء َو ُه َو جُيِ ريُ َواَل جُيَ ُار َعلَْي ِه إِن ُكنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن * َسَي ُقولُو َن لِلَّ ِه قُ ْل‬
‫اهم بِاحْلَ ِّق َوإِنَّ ُه ْم لَ َك ِاذبُو َن * َما اخَّتَ َذ اللَّهُ ِمن‬ ‫فَأَىَّن تُ ْس َحُرو َن * بَ ْل أََتْينَ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ َّ‬ ‫ٍ‬
‫ض ُه ْم‬ ‫ب ُك ُّل إِلَه مِب َا َخلَ َق َولَ َعاَل َب ْع ُ‬ ‫َولَد َو َما َكا َن َم َعهُ م ْن إلَه إ ًذا ل َذ َه َ‬
‫َّه َاد ِة َفَت َعاىَل َع َّما‬ ‫ب َوالش َ‬ ‫ص ُفو َن * َعامِلِ الْغَْي ِ‬ ‫ض سبحا َن اللَّ ِه ع َّما ي ِ‬
‫َ َ‬ ‫َعلَى َب ْع ٍ ُ ْ َ‬
‫يُ ْش ِر ُكو َن" (املؤمنون‪ ،‬آية‪ 84:‬ـ ‪.)92‬‬

‫‪ 1‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪.)1/348‬‬


‫‪54‬‬
‫ـ وقال تعاىل‪َ ":‬و َما يُ ْؤ ِم ُن أَ ْكَثُر ُه ْم بِاللّ ِه إِالَّ َو ُهم ُّم ْش ِر ُكو َن" (يوسف ‪،‬‬
‫آية ‪.)106 :‬‬
‫وغري ذلك من اآليات من القرآن كثري مما يدل على اعرتف الكفار‬
‫خبالقهم وإقرارهم به ‪ ،‬وإمنا عبدوا من دون اهلل ما عبدوا ليجعلوهم‬ ‫‪1‬‬

‫وسائط وشفعاء بينهم وبني اهلل‪ ،‬ومع ذلك يتخلون عنهم إذا نزلت‬
‫هبم الشدائد ووقت االضطرار‪ ،‬ومع هذا اإلقرار فلم تغىن عنهم شيئاً‬
‫ومل ينتفعوا به إذ مل يصبحوا به مسلمني ومل تعصم أمواهلم وال‬
‫دماؤهم وال أعراضهم‪ ،‬ألهنم أنكروا توحيد األلوهية‪ ،‬وأشركوا برهبم‪،‬‬
‫ومل يلتزموا بالزم ما أقروا به إذ أن توحيد الربوبية يلزم منه توحيد‬
‫األلوهية ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫وهو أفراد اهلل عز وجل جبميع أنواع العبادات‪ ،‬إن املؤمن يشعر‬
‫بطمأنينة كبرية وهو يتأمل يف ملكوت اهلل تبارك وتعاىل فريى عظمة‬
‫اهلل يف خلقه وحكمته البالغة يف تدبريه " أَفَ َمن مَيْ ِشي ُم ِكبًّا َعلَى َو ْج ِه ِه‬
‫اط ُّم ْستَ ِقي ٍم" (امللك ‪ ،‬آية ‪.)22 :‬‬ ‫أَه َدى أ ََّمن مَيْ ِشي س ِويًّا علَى ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫واحلديث عن عظمة اهلل ميالء القلب سكينة والتدبر يف ملكوته ميلءه‬
‫فحق للشاعر أن يتسأل بعد جولة تأمل يف خملوقات اهلل سبحانه‬ ‫إميانا ُ‬
‫فقال‪:‬‬

‫ش بالبكاء‬
‫وأج َه َ‬
‫قل للوليد بكى ْ‬
‫لدى الوالدة ما الذي أبكاكا‬
‫ث مُسّه‬
‫وإذا ترى الثعبان ين ُف ُ‬
‫فاسأله من ذا بالسموم حشاكا‬
‫واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو‬
‫السم ميألُ فاكا‬
‫ُّ‬ ‫حتيا وهذا‬
‫‪ 1‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪.)1/353‬‬
‫‪ 2‬اقتضاء الصراط صـ(‪.)460‬‬
‫‪55‬‬
‫واسأل بطون النحل كيف تقاطرت‬
‫شهدا وقل للشهد من حاَّل كا‬
‫ْ‬
‫بل سائل اللنب املص ّفى كان‬
‫صفاكا‬ ‫ِ‬
‫وفرث ما الذي َّ‬ ‫بني دم‬
‫واسأل شعاع الشمس يدنو وهي‬
‫أبعد كل شيء ما الذي أدناكا‬
‫يا أيها اإلنسان مهالً ما الذي‬
‫جل جالله أغراكا ؟‬
‫‪1‬‬
‫باهلل ّ‬

‫املتأمل يف خلق اهلل عز وجل وملكوته يقود إىل رسوخ اإلميان به‬ ‫إن ُّ‬
‫ف اللَّْي ِل‬ ‫ض واختِالَ ِ‬ ‫سبحانه وهلذا قال تعاىل‪":‬إِ َّن يِف خ ْل ِق َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َواأل َْر ِ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫والن َ ِ‬
‫ودا َو َعلَ َى‬ ‫َّهار آليَات أِّل ُْويِل األلْبَاب * الذ َ‬
‫ين يَ ْذ ُكُرو َن اللّهَ قيَ ًاما َو ُقعُ ً‬ ‫َ‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫هِبِ‬
‫ت َهذا‬ ‫ض َربَّنَا َما َخلَ ْق َ‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫ُجنُو ْم َو َيَت َفكُرو َن يِف َخ ْلق َّ َ َ‬
‫اب النَّا ِر" (آل عمران‪،‬آية‪.)191 ،190:‬‬ ‫ِ‬ ‫بِ‬
‫ك فَقنَا َع َذ َ‬‫اطالً ُسْب َحانَ َ‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬
‫وسبح وتعبد ملن خلقك وذرأك وإليه املصري ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫فتأمل‬
‫َّ‬
‫إن من أبرز صفات اهلل عز وجل ال ّدالة على ربوبيته صفة اخللق وما‬
‫متيزت به من اتقان وبديع صنع ال يكون إال من رب العاملني‪ ،‬فاهلل‬
‫عز وجل هو الذي خلق املخلوقات ومن عظيم إتقانه أن سن هلا‬
‫قوانني وسنناً ثابتة منها العام ومنها اخلاص عليها مدار انضباطها‪ ،‬وهذه‬
‫السنن ال ميكن إضافتها لغري اهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬ألنه هو املتفرد‬
‫‪3‬‬
‫بالربوبية وحده ال شريك له ‪.‬‬
‫فالسنن العامة ختضع هلا مجيع الكائنات يف وجودها املادي وما مير هبا‬
‫من حوادث مادية‪ ،‬كنمو اإلنسان‪ ،‬وحركته ومرضه وما شابه ذلك‪،‬‬

‫‪ 1‬مع هللا االسم األعظم صـ ‪.79‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.79‬‬
‫‪ 3‬منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني صـ ‪.29‬‬
‫‪56‬‬
‫وما تقع من حوادث كونية‪ ،‬كنزول املطر وتعاقب الليل والنهار وغريها‬
‫من متعلقات الوجود املادي ملخلوقات اهلل عز وجل ولقد وجه األنبياء‬
‫والرسل أقوامهم إىل املشاهدة والنظر‪ ،‬والتأمل والتفكر يف مثل هذه‬
‫وحسن تدبريه‬ ‫السنن اليت تتضمن دالالت كبرية على عظمة اخلالق ُ‬
‫وبديع خلقه ألمره وتدبريه عز وجل وفق سننه ونظامه وقوانينه اليت‬
‫وضعه بقدرته وحده ال شريك له‪ ،‬ومن ذلك قول نوح عليه السالم‬
‫ات ِطبَاقًا * َو َج َع َل‬ ‫لقومه قال تعاىل‪ ":‬أَمَل َتروا َكيف خلَق اللَّه سبع مَس او ٍ‬
‫ْ َ ْ ْ َ َ َ ُ َْ َ َ َ‬
‫ض َنبَاتًا‬ ‫اجا * َواللَّهُ أَنبَتَ ُكم ِّم َن اأْل َْر ِ‬ ‫الْ َقمر فِي ِه َّن نُورا وجعل الشَّم ِ‬
‫س سَر ً‬ ‫ْ َ‬ ‫ً َ ََ َ‬ ‫ََ‬
‫ض بِ َساطًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اجا * َواللَّهُ َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َْر َ‬
‫* مُثَّ يُعي ُد ُك ْم ف َيها َوخُيْ ِر ُج ُك ْم إ ْخَر ً‬
‫اجا"‪( 1‬نوح ‪ ،‬آية ‪ 15 :‬ـ ‪.)20‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫* لتَ ْسلُ ُكوا مْن َها ُسبُاًل ف َج ً‬
‫وأما السنن اخلاصة فهي تتعلق خبضوع البشر هلا باعتبارهم أفراداً وأمماً‬
‫ومجاعات‪ ،‬خضوعاً يتعلق بتصرفاهتم وأفعاهلم وسلوكهم يف احلياة‪ ،‬وما‬
‫يكونون عليه من أحوال وما يرتتب على ذلك من نتائج كالسعادة‬
‫والقوة والضعف‪ ،‬والنصر واهلزمية‪ ،‬وحنو ذلك من‬ ‫ّ‬ ‫والشقاء‪ ،‬والعز والذل‪،‬‬
‫األمور االجتماعية يف الدنيا وما يرتتب عليها من جزاء يف اآلخرة‬
‫وسى لَِق ْو ِم ِه‬ ‫سواء كان عذاباً أو نعيماً ومن ذلك قوله تعاىل‪ ":‬قَ َال ُم َ‬
‫ض لِلّ ِه يُو ِرثُ َها َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِاد ِه‬ ‫اصرِب ُواْ إِ َّن األ َْر َ‬
‫ِ‬
‫استَعينُوا بِاللّه َو ْ‬
‫ِ‬
‫ْ‬
‫ني" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ ،)128 :‬أي اخلامتة احملمودة أو النهاية‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َوالْ َعاقبَةُ ل ْل ُمتَّق َ‬
‫يف الدنيا واآلخرة ملن أتقى‪ ،2‬وكذلك ما ورد يف القرآن حول غزوة‬
‫ِ‬
‫ب لَ ُك ْم" (آل عمران ‪،‬‬ ‫أحد مثل قوله تعاىل‪":‬إِن يَ ُ‬
‫نص ْر ُك ُم اللّهُ فَالَ َغال َ‬
‫آية ‪ .)160 :‬ومن هذه مسات هذه السنن بنوعيها الثبات واإلطراد‬
‫والعموم‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬ولَن جَتِ َد لِ ُسن َِّة اللَّ ِه َتْب ِدياًل " (األحزاب ‪ ،‬آية ‪،)62 :‬‬
‫أي لن جتد هلا حتويالً وتغيرياً‪ ،‬بل هي ثابتة دائمة‪ ،3‬فما من نيب إال‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.29‬‬
‫‪ 2‬منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني صـ ‪.30‬‬
‫‪ 3‬زبدة التفسير‪ ،‬محمد سليمان األشقر صـ ‪.560‬‬
‫‪57‬‬
‫أرشد قومه إىل هذه السنن بُغية توحيد اخلالق‪ ،‬وخاصة النوع الثاين‬
‫منها اليت تتعلق باألحوال اإلجتماعية‪ ،‬ففي االعتبار واالتعاظ هبا تتحقق‬
‫االستقامة املطلوبة يف سلوك البشر‪ ،‬وتتحقق الضوابط املرجوة يف سبيل‬
‫حتقيق العبودية اخلالصة هلل عز وجل‪ ،‬لذا كان من أهداف إيراد‬
‫القصص يف القرآن الكرمي االتعاظ مبا جاء فيها من ذكر هلذه السنن‪،‬‬
‫كسنة األخذ باألسباب‪ ،‬وسنة التدافع‪ ،‬وسنة اهلل يف نصر املؤمنني‪،‬‬
‫وسنة اهلل يف الفتنة واالبتالء وسنة اهلل يف الظلم والطغيان‪ 1‬وغريها‪.‬‬
‫إن توحيد الربوبية هو أعظم برهان ودليل على توحيد األلوهية وهو‬
‫بالنسبة له كاملقدمة بالنسبة للنتيجة‪ ،‬فمن أعتقد أن هلذا الكون العظيم‬
‫الواسع خالقاً ومدبراً وقاهراً ومتصرفاً فيه‪ ،‬يفعل ما يشاء وله القدرة‬
‫الكاملة على تبديله وتغيريه وأنه الرازق جلميع املخلوقات بيده النفع‬
‫والضر‪ ،‬ومينع ويعطي‪،‬ومييت وحيي‪ ،‬وينجي عند الشدائد‪ ،‬والكربات‬
‫وجييب املضطر عند اضطراره‪ ،‬من اعتقد ذلك صدقاً تولد يف قلبه‬
‫حب ذلك اخلالق العظيم‪ ،‬وهذه احملبة البد أن تثمر خضوعاً وانكساراً‬
‫وتذلالً‪ ،‬وانقياداً وطاعة وعبودية و ِرقاً ملالك هذا الكون‪ ،‬وكثرياً ما‬
‫يذكر اهلل سبحانه يف كتابه الناس مجيعهم بأنه هو املنعم عليهم‬
‫واملتفضل عليهم باخللق والرزق ومجيع النعم‪ ،‬فريشدهم بذلك لعبادته‬
‫ت اللَّ ِه‬ ‫ِ‬
‫َّاس اذْ ُكُروا ن ْع َم َ‬
‫ُ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ي‬
‫ُّ‬‫َ‬‫أ‬ ‫ا‬‫َ‬‫ي‬ ‫تعاىل‪":‬‬ ‫قال‬ ‫‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫وحده ال شريك له‬
‫ض اَل إِلَهَ إِاَّل‬ ‫َعلَْي ُك ْم َه ْل ِم ْن َخالِ ٍق َغْيُر اللَّ ِه َي ْر ُزقُ ُكم ِّم َن َّ‬
‫الس َماء َواأْل َْر ِ‬
‫ُه َو فَأَىَّن ُت ْؤفَ ُكو َن" (فاطر ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬

‫‪ 1‬منهج الدعوة إلى العقيدة صـ ‪ 30‬إلى ‪.36‬‬


‫‪ 2‬المباحث العقدية المتعلقة باألذكار (‪ 1/431‬إلى ‪.)435‬‬
‫‪58‬‬
‫المبحث الرابع‬

‫توحيد األسماء والصفات‬

‫ومعناه‪ :‬اإلميان مبا أثبته اهلل تعاىل لنفسه يف كتابه وأثبته له رسوله صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يف سنته من األمساء احلسىن والصفات العلى‪ ،‬من غري‬
‫حتريف ألفاظها أو معانيها‪ ،‬وال تعطيلها بنفيها أو نفي بعضها عن اهلل‬
‫عز وجل‪ ،‬وال تكييفها بتحديد ُكنهها‪ ،‬وإثبات كيفية معينة هلا‪ ،‬وال‬
‫تشبيهها بصفات املخلوقني ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫أوالً‪ :‬األسس التي يقوم عليها توحيد األسماء والصفات‪:‬‬


‫إن توحيد اهلل سبحانه وتعاىل يف أمسائه وصفاته يتطلب التقيد يف ذلك‬
‫بكتاب ربنا وبسنة رسولنا صلى اهلل عليه وسلم فال نصنع له امسا او‬
‫صفة ليست واردة يف املنهلني وال نشبه باحد من خلقه فهو سبحانه‬
‫س َك ِمثْلِ ِه َش ْيءٌ َو ُه َو‬
‫متصف بكل كمال منزه عن كل نقص ‪":‬لَْي َ‬
‫صريُ" (الشورى ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬وعلى ذلك فيمكن أن نذكر‬ ‫الس ِميع الب ِ‬
‫َّ ُ َ‬
‫هذه االسس‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن أمساء اهلل تعاىل وصفاته توقيفية فال نثبت هلل تعاىل وال ننفي‬
‫عنه إال بدليل من الكتاب أو السنة إذ ال سبيل إىل سبيل ذلك إال‬
‫من هذا الطريق‪.‬‬
‫‪2‬ـ وأن اإلميان بأن اهلل تعاىل ال يشبه أحداً من خلقه يف أمسائه وال‬
‫صفاته كما ال يشبهه أحد من خلقه‪ ،‬وإن مسى أو وصف أحداً من‬
‫املخلوقني بتلك األمساء والصفات فذلك اشرتاك يف اللفظ ال يوجب‬
‫مماثلة املخلوقني له فيما دلت عليه هذه األمساء والصفات‪ ،‬فأمساء اهلل‬
‫تعاىل وصفاته على ما يليق به سبحانه وتعاىل وما يسمى به من‬
‫‪ 1‬اإليمان د‪ .‬محمد نعيم ياسين صـ ‪.27‬‬
‫‪59‬‬
‫املخلوقني أو يوصف من ذلك فعلى مايليق باملخلوق نفسه‪ ،‬فكل ما‬
‫الس ِميع الب ِ‬
‫صريُ" (الشورى‪،‬آية‪:‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫س َكمثْله َش ْيءٌ َو ُه َو َّ ُ َ‬
‫يليق به قال تعاىل‪ ":‬لَْي َ‬
‫‪.)11‬‬
‫‪3‬ـ وأن صفات اهلل كلها صفات كمال‪ ،‬فله سبحانه الكمال املطلق‬
‫وهو املنزه عن كل نقص‪ ،‬ومما ينبغي معرفته يف اإلميان بأمساء اهلل‬
‫وصفاته أن يقطع الطمع يف كيفيتها وأال يسأل عن ذلك‪ ،‬إذ ال يسأل‬
‫عن صفات اهلل تعاىل بكيف وأن يعلم مع ذلك ويعتقد أن هذه‬
‫الصفات معلومة املعىن‪ ،‬فلم خياطب اهلل تعاىل عباده ويتعبدهم بأمور ال‬
‫يعلمون معناها وهلذا قال اإلمام مالك وغريه من علماء األمة ملن سأل‬
‫عن كيفية استواء اهلل تعاىل على عرشه‪ :‬االستواء معلوم والكيف جمهول‬
‫واإلميان به واجب والسؤال عنه بدعة ‪ .‬وقال ربيعة شيخ مالك قبله‪:‬‬
‫‪1‬‬

‫االستواء معلوم‪ ،‬والكيف جمهول‪ ،‬ومن اهلل البيان‪ ،‬وعلى الرسول البالغ‪،‬‬
‫وعلينا البيان ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ثانياً‪ :‬أدلة هذا النوع من التوحيد‪ :‬ال ختلو سورة من سور القرآن‬
‫الكرمي من ذكر اسم من أمساء اهلل تعاىل أو صفة من صفاته ومن‬
‫ذلك سورة اإلخالص فهي بكاملها عن أمساء اهلل وصفاته قال تعاىل‪":‬‬
‫ِ‬
‫الص َم ُد * مَلْ يَل ْد َومَلْ يُولَ ْد * َومَلْ يَ ُكن لَّهُ‬
‫َح ٌد * اللَّهُ َّ‬
‫قُ ْل ُه َو اللَّهُ أ َ‬
‫َح ٌد"(اإلخالص)‪ .‬ففي هذه السورة وصف اهلل سبحانه وتعاىل نفسه‬ ‫ُك ُف ًوا أ َ‬
‫بأنه أحد صمد‪ ،‬فهذان الوصفان يدالن اتصاف اهلل بغاية الكمال‬
‫املطلق‪ ،3‬ومعىن الصمد‪ :‬إنه املستغين عن كل أحد واحملتاج إليه كل‬
‫أحد‪ .‬وهذا املعىن يدل على اإلثبات والتنزيه فاإلثبات بوصفه سبحانه بأنه‬
‫هو الذي يصمد إليه أي يرجع إليه يف كل أمر وذلك ألنه هو‬
‫والفعال ملا‬
‫ّ‬ ‫املتصف جبميع صفات الكمال‪ ،‬فهو القادر على كل شيء‬
‫‪ 1‬فتاوى ابن تيمية (‪.)3/58‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪ ،)3/58‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ ‪.255‬‬
‫‪ 3‬علو هللا على خلقه بتصرف صـ ‪.28‬‬
‫‪60‬‬
‫يريد والذي بيده اخللق واألمر واجلزاء وما من قوة لغريه تعاىل إال‬
‫هبيمنة منه إذا شاء أبقاها ومىت شاء سلبها فاملرجع واملراد إليه‬
‫سبحانه‪ .1‬وأما التنزيه‪ :‬فبوصفه تعاىل بأنه غين عن كل شيء فال افتقار‬
‫فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬ال يف وجوده‪ ،‬فإنه األول الذي ليس قبله شيء‬
‫طعم‬ ‫ِ‬
‫وهو الذي مل يلد ومل يولد وال يف بقائه فإنه الذي يُطعم وال يُ َ‬
‫وال يف أفعاله فال شريك له وال ظهري‪ ،2‬كما أن وصفه سبحانه بأنه‬
‫أحد صمد يدل على اتصافه بالكمال املطلق فكذلك يدالن على معىن‬
‫آخر وهو نفي الوالدة والتوليد عن اهلل سبحانه قال تعاىل‪ ":‬قُ ْل أَ َغْيَر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اط ِر َّ ِ‬ ‫اللّ ِه أَخَّتِ ُذ ولِيًّا فَ ِ‬
‫الس َم َاوات َواأل َْرض َو ُه َو يُطْع ُم َوالَ يُطْ َع ُم قُ ْل إيِّنَ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (األنعام ‪،‬‬ ‫َسلَ َم َوالَ تَ ُكونَ َّن م َن الْ ُم ْش ِر َك َ‬
‫ت أَ ْن أَ ُكو َن أ ََّو َل َم ْن أ ْ‬ ‫أُم ْر ُ‬
‫ون * َما‬ ‫آية ‪ .)14 :‬وقال تعاىل‪" :‬وما خلَ ْقت اجْلِ َّن واإْلِ نس إِاَّل لِيعب ُد ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫َّاق ذُو‬ ‫ون * إِ َّن اللَّهَ ُه َو َّ‬
‫الرز ُ‬ ‫يد أَن يطْعِم ِ‬ ‫يد ِمْن ُهم ِّمن ِّر ْز ٍق َو َما أُِر ُ‬ ‫أُِر ُ‬
‫ُ ُ‬
‫ني" (الذاريات ‪ ،‬آية ‪.)58 ،57 ،56 :‬‬ ‫ِ ِ‬
‫الْ ُق َّوة الْ َمت ُ‬
‫فإن األحد هو الذي ال كفؤ له وال نظري فيمتنع أن تكون له صاحبة‬
‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫ض أَىَّن يَ ُكو ُن لَهُ َولَ ٌد َومَلْ‬ ‫يع َّ َ َ‬ ‫وال ولد قال تعاىل‪ ":‬بَد ُ‬
‫يم" (األنعام ‪ ،‬آية‬ ‫ٍ ِ‬ ‫احبةٌ و َخلَ َق ُك َّل َشي ٍء ُ ِ‬ ‫تَ ُكن لَّه ص ِ‬
‫وه َو ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫‪.)101:‬‬
‫ويف هذا نفي عن املخلوقات مكافأته أو مماثلته للخالق ومثل ذلك‬
‫ِ‬ ‫قوله‪ ":‬احْل م ُد لِلّ ِه الَّ ِذي خلَق َّ ِ‬
‫ض َو َج َع َل الظُّلُ َمات َوالن َ‬
‫ُّور‬ ‫الس َم َاوات َواأل َْر َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫ين َك َفُرواْ بَِرهِّبِم َي ْع ِدلُو َن" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)1 :‬أي يعدلون به‬ ‫َّ ِ‬
‫مُثَّ الذ َ‬
‫‪3‬‬
‫ب‬‫غريه فيجعلون له من خلقه عدالً ونظرياً ‪،‬ومثال هذا قوله تعاىل‪َ ":‬ر ُّ‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫السماو ِ‬
‫اصطَرِب ْ لعبَ َادته َه ْل َت ْعلَ ُم لَهُ‬ ‫اعبُ ْدهُ َو ْ‬
‫ض َو َما َبْيَن ُه َما فَ ْ‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫مَسِ يًّا" (مرمي ‪ ،‬آية ‪ .)65 :‬أي ال شيء يساميه ال ند وال عدل وال‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.29 ،28‬‬
‫‪ 2‬علو هللا في خلقه صـ ‪.29 ،28‬‬
‫‪ 3‬من عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين صـ ‪.62‬‬
‫‪61‬‬
‫نظري له يساويه‪ ،‬فانكر التشبيه والتمثيل وهبذا يتبني لنا أن تنزيهه‬
‫سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته كما دلت على ذلك سورة‬
‫اإلخالص‪.1‬‬
‫ثالثاً‪ :‬أسماء اهلل الحسنى‪ :‬لربنا تبارك وتعاىل أمساء مسّى هبا نفسه‬
‫منها ما أنزله يف كتابه‪ ،‬كاألمساء املوجودة يف القرآن ومنها ما علّمه‬
‫اهلل تعاىل بعض خلقه من األنبياء واملرسلني أو املالئكة املقربني أو ما‬
‫شاء اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬ومن أمسائه سبحانه ما استأثر به يف علم‬
‫الغيب عنده فال يعلمه أحد‪ ،‬وذلك أن هلل تعاىل من معاين العظمة ما‬
‫ال تستطيع املخلوقات إدراكه‪ ،‬ألنه اإلله احلق املبني‪ ،‬له اجلمال املطلق‪،‬‬
‫والكمال املطلق‪ ،‬واجلالل املطلق‪ ،‬والعظمة التامة‪ ،‬والقدرة الكاملة‪ ،‬فلله‬
‫تعاىل أمساء وصفات ال حييط هبا إال هو سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫‪1‬ـ أسماء اهلل تبارك وتعالى كثيرة‪،‬بل كما قال ربنا عز‬
‫ات َريِّب لَنَ ِف َد الْبَ ْحُر َقْب َل أَن‬
‫وجل‪ ":‬قُل لَّو َكا َن الْبحر ِم َدادا لِّ َكلِم ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ ُْ‬ ‫ْ‬
‫ات َريِّب َولَ ْو ِجْئنَا مِبِثْلِ ِه َم َد ًدا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪،)109 :‬‬ ‫ِ‬
‫تَن َف َد َكل َم ُ‬
‫ض ِمن َش َجَر ٍة أَقْاَل ٌم َوالْبَ ْحُر مَيُدُّهُ ِمن َب ْع ِد ِه َسْب َعةُ‬ ‫وقال‪َ ":‬ولَ ْو أَمَّنَا يِف اأْل َْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ت َكلِم ُ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم" (لقمان ‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫ات اللَّه إ َّن اللَّهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫َ‬ ‫أَحْب ُ ٍر َّما نَف َد ْ‬
‫فلله عز وجل من معاين احلمد واجملد‪ ،‬والكمال والعظمة والقوة والقدرة‬
‫والسلطان ما ال حييط به بشر‪ ،‬وال يدركه عقل‪ ،‬وال يقف عند‬
‫منتهى ُكنهه إدراك‪ ،‬وهذا احلديث ال يعين قصر األمساء احلسىن على‬
‫التسعة والتسعني‪ ،‬بل إن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال يف احلديث‬
‫الصحيح ـ الذي رواه ابن مسعود رضي اهلل عنه ـ مناجياً وداعياً ربه‬
‫تبارك وتعاىل (اسألك بكل اسم هو لك‪ ،‬مسيت به نفسك‪ ،‬أو أنزلته‬

‫‪ 1‬من عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين للصّ اَّل بي صـ ‪.62‬‬


‫‪62‬‬
‫يف كتابك‪ ،‬أو علمته أحداً من خلقك‪ ،‬أو استأثرت به يف علم الغيب‬
‫عندك‪.1‬‬
‫وذكر يف حديث الشفاعة أنه يسجد صلى اهلل عليه وسلم حتت‬
‫يعلمها له‪ ،‬مل يكن يعلمها من قبل ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫العرش‪ ،‬فيفتح اهلل عليه مبحامد ّ‬
‫‪2‬ـ أسماء اهلل تبارك وتعالى توقيفية فال حيق ألحد من الناس أن‬
‫خيرتع هلل تعاىل امساً‪ ،‬وإمنا أمساؤه سبحانه ما جاء يف القرآن أو السنة‬
‫بصفة االسم‪ ،‬مثل‪ ،‬اخلالق‪ ،‬البارئ‪ ،‬املصور‪ ،‬امللك‪ ،‬القدوس‪ ،‬السالم‪،‬‬
‫العلي‪ ،‬العظيم‪ ،‬املؤمن‪ ،‬املهيمن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العزيز‪ ،‬احلكيم‪،‬‬
‫‪3‬ـ من اسماء اهلل الحسنى ما يختص به سبحانه‪ ،‬فال جيوز أن‬
‫سمى هبا غريه وهي " الرَّمْح َ َـن" " اللّهَ " " قُ ِل ْادعُواْ اللّهَ أَ ِو ْادعُواْ‬
‫يُ َّ‬
‫الرَّمْح َ َـن"(اإلسراء ‪ ،‬آية ‪ ،)110‬وهلذا ال يتسمى أحد هبذين االمسني من‬
‫املخلوقني قط إال قصمه اهلل تعاىل‪" ،‬فاهلل" و" الرَّمْح َ َـن" من األمساء اليت ال‬
‫‪3‬‬
‫سمى هبا أحد إال اهلل عز وجل ‪.‬‬ ‫يُ َّ‬
‫‪4‬ـ من أسماء اهلل عز وجل ما يجوز أن يذكر وحده‬
‫منفرداً‪ ،‬كالعزيز‪ ،‬واحلميد‪ ،‬واحلكيم‪ ،‬والرحيم‪ ،‬والعليم‪ ،‬واخلبري‪ ،‬والبصري‪..‬‬
‫وما أشبه ذلك‪ ،‬فتناديه هبا وتدعوه هبا‪ ،‬وتعرفه سبحانه‪ ،‬ومن االمساء‬
‫ما ال يُذكر إال مع نظريه‪ ،‬بأن تصف اهلل تبارك وتعاىل بأنه هو‬
‫"النافع الضار" أو "القابض الباسط" وما أشبه ذلك من األمساء اليت تكون‬
‫متقابلة‪ ،‬فلو وصفت ربك تبارك وتعاىل بأنه الضار فحسب‪ ،‬أو القابض‬
‫فحسب لكان هذا ُمومِه اً ملعىن ال يليق مبجد اهلل وكرمه وعظمته‬
‫وكماله وقدسيته‪ ،‬هلذا ال تُذكر هذه االمساء منفردة‪ ،‬وإمنا تذكر مع‬
‫نظريها ومقابلها‪.‬‬

‫‪ 1‬مسند أحمد رقم ‪ ،3712‬الحاكم( ‪.)1/508‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪ ،7410‬مسلم رقم ‪.193‬‬
‫‪ 3‬مع هللا صـ ‪.24‬‬
‫‪63‬‬
‫‪5‬ـ معىن اإلحصاء يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن هلل تسعة وتسعني‬
‫امساً‪ ،‬مائة إال واحداً‪ ،‬من أحصاها دخل اجلنة‪ :‬يشمل أموراً منها‪:‬‬
‫أ ـ معرفة هذه األمساء وحفظها‪ ،‬حبيث يستطيع اإلنسان أن يعدها عداً‪،‬‬
‫كالز َّجاج وابن‬
‫وقد اعتىن مجاعة من أهل العلم بع ّد هذه األمساء‪َّ ،‬‬
‫منده‪ ،‬وابن حزم وأيب حامد الغزايل وابن العريب والقرطيب‪ ،‬وغريهم من‬
‫املصنفني والعلماء الذين اعتنوا بذكر هذه األمساء وتعدادها واستخراجها‬
‫من القرآن والسنة النبوية الصحيحة‪ ،‬وهذا داخل يف معىن إحصاء أمساء‬
‫اهلل احلسىن‪ ،‬وفضل عظيم لإلنسان أن يكون عنده إملام ومعرفة بأمساء‬
‫اهلل عز وجل‪ ،‬وأن يتلوها‪ ،‬وأن يدعو اهلل هبا‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ب ـ من معاين إحصائها‪ ،‬معرفة معانيها‪ ،‬فإن هذه األمساء ليست أمساء‬


‫رمزية وال ومهية‪ ،‬وال جامدة‪ ،‬وال غامضة املعىن‪ ،‬وإمنا هي بلسان عريب‬
‫مبني‪ ،‬أُريد من اإلنسان أن يتفهم معانيها‪ ،‬حىت تكون تالوتنا هلا ذات‬
‫معىن وليس جمرد ترديد أللفاظ ال نفقه ما وراءها وهذا حب ّد ذاته‪،‬‬
‫مكسب عظيم‪ ،‬يبارك النفس ويزكيها ويرتقي بالقلب والعقل والروح‪.‬‬
‫ج ـ اإلحلاح بالدعاء هلل عز وجل هبذه األمساء كما قال تعاىل‪َ ":‬ولِلّ ِه‬
‫ين يُْل ِح ُدو َن يِف أَمْسَآئِِه" (األعراف ‪،‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫هِب‬
‫األَمْسَاء احْلُ ْسىَن فَ ْادعُوهُ َا َوذَ ُرواْ الذ َ‬
‫آية ‪.)180 :‬‬
‫إن اهلل تبارك جيب أن يدعى هبا وهلذا قيل‪:‬‬
‫ين آدم حاجة‬ ‫تسألن بُ ّ‬
‫َّ‬ ‫ال‬

‫وسل الذي أبوابُه ال حُت جب‬

‫اهلل يغضب إن تركت سؤاله‬

‫‪ 1‬مع هللا صـ ‪.26‬‬


‫‪64‬‬
‫يغضب‬
‫ُ‬ ‫سأل‬
‫ين آدم حني يُ ُ‬ ‫وبُ ُّ‬
‫فندعو اهلل بأمسائه احلسىن باعتدال وذلك بأن تدعو اهلل تعاىل وتسأله‬
‫وترجوه فيما أملَّ بك من أمر دنياك وآخرتك مما حتب وترجو‪ ،‬أو مما‬
‫ختاف وتكره‪ ،‬أو تدعوه هبذه األمساء باستحضار معانيها‪ ،‬وتأملها‬
‫وتدبُِّرها والتعبد‪ ،‬مبقتضياهتا‪ ،‬والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبري والصالة‬
‫والذكر واالستحضار ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ح ـ استحضار معاين تلك األمساء‪ ،‬فإن شر ما يُبتلى به الناس‪ :‬الغفلة‬


‫واالستغراق يف ماديات احلياة واالنسياق وراء صوارفها وخري دواء‬
‫للقلوب هو استحضار عظمة عاَّل م الغيوب‪ ،‬والتدرج بالنفس يف مراقي‬
‫معرفته واإلميان به سبحانه‪ ،‬حىت تصل درجة‪ :‬أن تعبد اهلل كأنك تراه‪،2‬‬
‫فهذا يزيد املرء إقباالً على الطاعة وحفاوة ونشاطاً‪ ،‬كما قال سبحانه‪:‬‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين" (الشعراء آية‪ 218 :‬ـ‬‫الساجد َ‬
‫ك يِف‬
‫وم * َوَت َقلُّبَ َ‬ ‫"الَّذي َيَر َاك ح َ‬
‫ني َت ُق ُ‬
‫‪ .)219‬كما أن استشعار معاين هذه األمساء يزيد املؤمن إعراضاً عن‬
‫املعصية وزهداً فيها وإسراعاً يف اإلقالع عنها وقوة يف التوبة واألوبة ملا‬
‫حيس به من وحشة القلب والبعد عن الرب‪ ،‬وملا حياذره ويستشعره من‬ ‫ُ‬
‫‪3‬‬
‫غضبه أو عتبه أو مؤاخذته سبحانه للعبد على إقامته على الذنب ‪.‬‬
‫إن من خري ما تورثه تلك األمساء الصفاء والسكينة والوئام‪ ،‬واإلحجام‬
‫عن الناس‪ ،‬والتواضع لذي اجلالل‪ ،‬إىل سعة العقل والفهم واإلدراك‪،‬‬
‫ولعل من إحصائها أال تتحول إىل مادة للخصام أو اجلدل األكادميي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الذي ال يثمر معرفة قلبية‪ ،‬على أن البحث العلمي اهلادي مطلب ال‬
‫ب ّد منه ملن أراد سلوك الطريق‪.4‬‬

‫‪ 1‬مع هللا صـ ‪.27‬‬


‫‪ 2‬مع هللا صـ ‪.28‬‬
‫‪ 3‬مع هللا صـ ‪.28‬‬
‫‪ 4‬مع هللا صـ ‪.28‬‬
‫‪65‬‬
‫رابعاً‪ :‬الصفات اإللهية‪ :‬تنقسم الصفات اإلهلية إىل عقلية وخربية وإىل‬
‫ذاتية وفعلية اختيارية‪ ،‬فالصفات العقلية واخلربية جاء هبا القرآن وحتدثت‬
‫هبا السنة‪.‬‬
‫‪1‬ـ فالصفات العقلية‪ :‬هي اليت ميكن أن يستدل عليها بالعقل فطريق‬
‫اثباهتا السمع والبصر‪ ،‬كالعلم والقدرة واإلرادة واحلياة والسمع والبصر‬
‫والكالم والرمحة واحلكمة والعلو وحنوها ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬ـ والصفات الخبرية‪ :‬وهي اليت ال يستطيع العقل إدراكها من غري‬


‫طريق النصوص‪ ،‬فطريق إثباهتا ورود خرب الصادق هبا فقط‪ ،‬وذلك‬
‫كالوجه واليدين والعني‪ ،‬واالستواء على العرش وحنو ذلك‪ ،2‬فهذه‬
‫الصفات اخلربية جيب‪ ،‬اإلميان هبا كالعقلية من غري متثيل وال تعطيل وال‬
‫الس ِميع الب ِ‬
‫صريُ"‬ ‫َّ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ء‬ ‫ي‬‫ش‬‫َ‬ ‫حتريف وال تكييف‪ ،3‬قال تعاىل‪ ":‬لَيس َك ِمثْلِ ِ‬
‫ه‬
‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ٌْ َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫(الشورى ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫‪3‬ـ صفات ذاتية‪ :‬ال تنفك عنها الذات‪ ،‬بل هي الزمة هلا أزالً وأبداً‬
‫وذلك كاحلياة والعلم والقدرة والقوة وامللك والعظمة والكربياء واجملد‬
‫والعلو واجلالل والوجه وغريها‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫‪4‬ـ صفات فعلية‪:‬ـ تتعلق هبا مشيئته وقدرته كل وقت وآن‪ ،‬وحتت‬
‫مشيئته وقدرته آحاد تلك الصفات من األفعال وإن كان هو سبحانه‬
‫مل يزل موصوفاً بالفعل مبعىن أن نوع األفعال قدمي وأفرادها حادثة‪،‬‬
‫فهو سبحانه مل يزل فعاالً ملا يريد ومل يزل وال يزال يقول ويتكلم‬
‫وخيلق ويدبر األمور‪ ،‬وأفعاله تقع شيئاً فشيئاً تبعاً حلكمته وإرادته‪ ،‬ومثل‬
‫هذا االستواء على العرش واجمليء واإلتيان والنزول إىل السماء الدنيا‬

‫‪ 1‬علو هللا على خلقه صـ ‪.61 ،60 ،59‬‬


‫‪ 2‬علو هللا على خلقه صـ ‪.60‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.61‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه صـ ‪.65‬‬
‫‪66‬‬
‫والضحك والرضا والغضب والكراهية واحملبة واخللق والرزق واإلحياء‬
‫‪1‬‬
‫واألمانة وأنواع التدبري ‪.‬‬
‫وأفعاله سبحانه وتعاىل منها الالزم ومنها املتعدي‪ ،‬فاالستواء واجمليء‬
‫والنزول وحنو ذلك أفعال الزمة ال تتعدى إىل مفعول‪ ،‬بل هي قائمة‬
‫بالفاعل‪ ،‬واخللق والرزق واألمانة واإلحياء واإلعطاء واملنع وحنو ذلك‬
‫تتعدى إىل مفعول‪ ،2‬وقد مجع اهلل بينهما يف قوله تعاىل‪ ":‬الَّ ِذي َخلَ َق‬
‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اسَت َوى َعلَى الْ َع ْر ِش‬ ‫ض َو َما َبْيَن ُه َما يِف ستَّة أَيَّ ٍام مُثَّ ْ‬ ‫الس َم َاوات َواأْل َْر َ‬
‫اسأ َْل بِِه َخبِ ًريا" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪ ،)59 :‬فذكر الفعلني املتعدي‬ ‫الرَّمْح َ ُن فَ ْ‬
‫والالزم وكالمها حاصل مبشيئته وقدرته وهو متصف هبا سبحانه‪ ،‬كما‬
‫جيب التنبيه أيضاً إىل أن من صفاته سبحانه وتعاىل ما يأيت‪ :‬صفة ذات‬
‫وصفة فعل وذلك مثل صفة الكالم‪ ،‬واخللق والرمحة‪.3‬‬
‫وقد دلت اآليات واألحاديث على اتصاف اهلل بالصفات الذاتية والفعلية‪،‬‬
‫ك ذُو اجْلَاَل ِل َواإْلِ ْكَر ِام" (الرمحن ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ":‬و َيْب َقى َو ْجهُ َربِّ َ‬
‫ص َّو ْرنَا ُك ْم مُثَّ ُق ْلنَا لِْل َمآلئِ َك ِة‬
‫‪ ،)27‬وقال تعاىل‪َ ":‬ولََق ْد َخلَ ْقنَا ُك ْم مُثَّ َ‬
‫ين" (األعراف ‪،‬‬ ‫اسج ُدواْ آلدم فَسج ُدواْ إِالَّ إِبلِيس مَل ي ُكن ِّمن َّ ِ ِ‬
‫الساجد َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫ُْ‬
‫آد َم َخلَ َقهُ ِمن‬ ‫آية ‪ ،)11 :‬وقوله تعاىل‪":‬إِ َّن مثَل ِعيسى ِع َ ِ‬
‫ند اللّه َك َمثَ ِل َ‬ ‫َ َ َ‬
‫اب مِث َّ قَ َال لَهُ ُكن َفيَ ُكو ُن" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪ ،)59 :‬وقال تعاىل‪":‬‬ ‫ُتر ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َحبَ َط أ َْع َماهَلُ ْم"‬
‫ض َوانَهُ فَأ ْ‬ ‫َس َخ َط اللَّهَ َو َك ِر ُهوا ِر ْ‬ ‫ك بِأَنَّ ُه ُم اتََّبعُوا َما أ ْ‬‫َذل َ‬
‫(حممد ‪ ،‬آية ‪ ،)28 :‬وقال تعاىل‪ ":‬قُل إِن ُكنتُ ْم حُتِ بُّو َن اللّهَ فَاتَّبِعُويِن‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫حُيْبِْب ُك ُم اللّهُ َو َي ْغف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َواللّهُ َغ ُف ٌ‬
‫‪ ،)31‬وحديث أيب هريرة قال‪ :‬أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها هنشة مث قال‪ :‬أنا‬
‫سيد الناس يوم القيامة إىل أن قال‪ ..‬فيأتون آدم عليه السالم فيقولون‬
‫‪ 1‬شرح العقيدة الواسطية صـ ‪105‬ـ ‪.106‬‬
‫‪ 2‬علو هللا على خلقه صـ ‪.66‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.66‬‬
‫‪67‬‬
‫له أنت أبو البشر خلقك اهلل بيده ونفخ فيك من روحه وأمر املالئكة‬
‫فسجدوا لك اشفع لنا إىل ربك إال ترى إىل ما حنن فيه‪ ،‬أال ترى‬
‫إىل ما قد بلغنا فيقول آدم إن ريب قد غضب غضباً مل يغضب قبله‬
‫مثله ولن يغضب بعده مثله‪ .1‬وعلينا اثبات مجيع ما ورد به الكتاب‬
‫والسنة من الصفات بال حتريف وال تعطيل وبال تشبيه وال متثيل‪.2‬‬
‫أـ بعض الصفات الذاتية‪:‬‬
‫ـ صفة الحياة‪ :‬إن اهلل تعاىل له احلياة الدائمة التامة اليت ال يعرتيها‪،‬‬
‫نقص بوجه من الوجوه‪ ،‬وهلذا قال‪ " :‬الَ تَأْ ُخ ُذهُ ِسنَةٌ َوالَ َن ْو ٌم"‪ .‬وصفة‬
‫احلياة ثابتة باآليات القرآنية واألحاديث النبوية‪ ،‬فاآليات منها قوله‬
‫وم" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)255 :‬وقوله‬ ‫تعاىل‪ ":‬اللّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ ُه َو احْلَ ُّي الْ َقيُّ ُ‬
‫تعاىل‪ُ ":‬ه َو احْلَ ُّي اَل إِلَهَ إِاَّل ُه َو" (غافر ‪ ،‬آية ‪ ،)65 :‬وقوله تعاىل‪":‬‬
‫ِ‬
‫وت" (الفرقان‪ ،‬آية ‪ .)58 :‬وأما األحاديث‪،‬‬ ‫َوَت َو َّك ْل َعلَى احْلَ ِّي الَّذي اَل مَيُ ُ‬
‫فمنها حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪:‬إن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم كان يقول‪ :‬اللهم لك أسلمت‪ ،‬وبك آمنت وعليك توكلت‪،‬‬
‫وإليك أنبت‪ ،‬وبك خاصمت‪ ،‬أعوذ بعزتك‪ ،‬ال إله إال أنت أن تضلين‪،‬‬
‫أنت احلي الذي ال ميوت‪ ،‬واجلن واإلنس ميوتون‪ .3‬ومن معاين (احلي) أن‬
‫حياته صفة ذاتية خبالف املخلوقني‪ ،‬فإن حياهتم من فضل اهلل عز وجل‬
‫عليهم ومعيشتهم من عطائه وجوده وكرمه‪ ،‬فاهلل تعاىل متصف باحلياة‬
‫وهي صفة لذاته جل وعال‪ .‬ومن معانيها أيضا أنه مينح احلياة لألحياء‬
‫يف الدنيا‪ ،‬ومينح أهل اجلنة حياهتم األبدية األزلية السرمدية اليت ال‬
‫زوال هلا‪ ،‬بل هي خلود أبدي بال موت وال فناء ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫‪ 1‬صحيح البخاري (‪ )4/286‬ك التفسير‪.‬‬


‫‪ 2‬علو هللا على خلقه صـ ‪.69‬‬
‫‪ 3‬مسلم رقم ‪.2717‬‬
‫‪ 4‬مع هللا صـ‪.216‬‬
‫‪68‬‬
‫صفة العلم‪ :‬والعلم يقتضي نفي اجلهل وعلمه سبحانه علم شامل كامل‬
‫حميط باملاضي واحلاضر واملستقبل‪ ،‬وعلم مطابق للواقع‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬أَاَل‬
‫يف اخْلَبِريُ" (امللك ‪ ،‬آية ‪،)14 :‬قال تعاىل‪َ " :‬والَ‬ ‫ِ‬
‫َي ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َق َو ُه َو اللَّط ُ‬
‫حُيِ يطُو َن بِ َش ْي ٍء ِّم ْن ِع ْل ِم ِه إِالَّ مِب َا َشاء" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ .)255 :‬وقال‬
‫َنزلَهُ بِعِْل ِم ِه" (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ك أَ‬ ‫َنز َل إِلَْي َ‬ ‫مِب‬ ‫ِ‬
‫تعاىل‪" :‬لَّـك ِن اللّهُ يَ ْش َه ُد َا أ َ‬
‫‪.)166‬‬
‫فاهلل سبحانه وتعاىل أحاط بكل شئ علماً ووسع كل شئ رمحة‬
‫ط ِمن‬ ‫وحكمة ال خيفي عليه شئ يف األرض وال يف السماء " َو َما تَ ْس ُق ُ‬
‫ب َوالَ يَابِ ٍ‬ ‫ض والَ رطْ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ ِ‬
‫س‬ ‫َو َرقَة إالَّ َي ْعلَ ُم َها َوالَ َحبَّة يِف ظُلُ َمات األ َْر ِ َ َ‬
‫ني" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ .)59 :‬وكما أن علمه ال يسبقه‬ ‫إِالَّ يِف كِتَ ٍ‬
‫اب ُّمبِ ٍ‬
‫نسى" (طه ‪ ،‬آية ‪.)52‬‬ ‫اَّل ِ‬
‫جهل فال يلحقه نسيان " يَض ُّل َريِّب َواَل يَ َ‬
‫ِ‬
‫ني" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ ،)7 :‬وهو يعلم الدقائق‬ ‫وقال تعاىل " َو َما ُكنَّا َغآئبِ َ‬
‫والتفاصيل والظواهر والبواطن‪ ،‬والكليات واجلزئيات‪ ،‬واملعاين واملاديات‪،‬‬
‫ولقد كتب مقادير كل شئ يف كتاب عنده‪ ،‬ولذا يقول سبحانه‪َ " :‬و َما‬
‫أُوتِيتُم ِّمن الْعِْل ِم إِالَّ قَلِيالً" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪.)85 :‬‬
‫فهذا العلم يوجب اخلشية منه وتعظيمه‪ ،‬ولذا قيل‪ ،‬من كان باهلل‬
‫أعرف كان منه أخوف‪ .‬ويوجب مراقبته‪ ،‬ألنه كل شئ بعلمه ومسعه‬
‫وبصره وحتت سلطانه‪.‬‬
‫ويوجب حمبته ألنه كمال العلم حمبوب للنفوس الشريفة التواقة‪ ،‬ويوجب‬
‫حمبة العلم والسعي فيه وحتصيله والتلذذ به‪ ،‬ألن اهلل حيب العلم‬
‫والعلماء ويكره اجلهل واجلهالء ويوجب الصرب على التعلم وذله‪ ،‬ألنه‬
‫عبادة‪ ،‬وكذلك علم الدنيا والكون واإلنسان‪ ،‬وألوان املعارف اإلنسانية‬
‫هي حمبوبة‪ .‬وعلم الشريعة والوحي واآلخرة حمبوب‪ ،‬ألنه يثمر املعرفة به‬
‫والقرىب منه ومعرفة ما يريد وما حيب وما يكره سبحانه وتعاىل‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫وكذلك علم الدنيا والكون واإلنسان وألوان املعارف اإلنسانية هي‬
‫حمبوبة ألهنا تزيد العبد بصرية خبلق اهلل وقدرته وحكمته وعظمته وتيسر‬
‫ات َو َما يِف اأْل َْر ِ‬
‫ض‬ ‫السماو ِ‬ ‫االنتفاع هبذا الكون " َو َس َّخر لَ ُكم َّما يِف‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫مَجِ ًيعا ِّمْنهُ" (اجلاثية ‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬
‫إن صفة العلم مستمدة من امسه العليم‪ ،‬وهذا اإلسم الشريف العظيم‬
‫يولد يف النفس تسليماً ملا يفعله اهلل يف كونه‪ ،‬وأنه بعلمه وإرادته‬
‫يم‬ ‫وحكمته‪ ،‬فاحلكمة هي العلم‪ ،‬والقدرة هي قرين العلم "وهو الْعلِ‬
‫َ َُ َ ُ‬
‫يم الْ َق ِد ُير" (الروم ‪ ،‬آية ‪،)54‬‬ ‫ِ‬
‫يم" (التحرمي ‪ ،‬آية ‪َ " )2 :‬و ُه َو الْ َعل ُ‬
‫ِ‬
‫احْلَك ُ‬
‫صيبَ ٍة إِاَّل بِِإ ْذ ِن اللَّهِ‬
‫فكل شئ بقدر وكل قدر حبكمة " ما أَصاب ِمن ُّم ِ‬
‫َ َ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫يم" (التغابن ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َو َمن يُ ْؤمن باللَّه َي ْهد َق ْلبَهُ َواللَّهُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫‪.)11‬‬
‫إن اإلميان بالرب (العليم) جيعل العبد أقرب إىل ربه وأكثر استشعاراً‬
‫ملعيّته‪.‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫هو العليم أحاط علماً بالذي‬
‫يف الكون من سر ومن‬
‫إعالن‬
‫وبكل شئ علمه سبحانه‬
‫قاصي األمور لديه قبل الداين‬
‫ال جهل يسبق علمه كال وال‬
‫‪1‬‬
‫ينسى كما اإلنسان ذو نسيان‬

‫صفة القدرة‪ :‬القدير سبحانه هو كامل القدرة‪ ،‬فبقدرته أوجد‬


‫سواها وأحكمها وبقدرته حيي‬
‫املوجودات‪ ،‬وبقدرته دبرها‪ ،‬وبقدرته ّ‬
‫‪ 1‬مع هللا صـ‪.121‬‬
‫‪70‬‬
‫ومييت ويبعث العباد للجزاء‪ ،‬وبقدرته سبحانه يقلب القلوب على ما‬
‫ِِ‬
‫ين َعلَى أَن نُّ َس ِّو َ‬
‫ي َبنَانَهُ" (القيامة ‪،‬‬ ‫يشاء ويريد ‪ .‬قال تعاىل‪َ " :‬بلَى قَادر َ‬
‫‪1‬‬

‫آية ‪ .)4 :‬وقال‪" :‬وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون"‪ .‬ومن السنة‬
‫املطهرة حديث جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما قال‪ :‬كان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعلمنا االستخارة كما يعلمنا السورة من‬
‫هم أحدكم باألمر فلريكع ركعتني من غري الفريضة‬ ‫القرآن‪ ،‬يقول‪ :‬إذا َّ‬
‫مث ليقل‪ :‬اللهم إين استخريك بعلمك واستقدرك بقدرتك ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫صفة اإلرادة‪ :‬اإلرادة واملشيئة مبعىن واحد فاإلرادة اليت تعىن املشيئة هي‬
‫اإلرادة الكونية وأما اإلرادة الشرعية فتختلف عن اإلرادة الكونية وسيايت‬
‫احلديث عنها مفصال بإذن اهلل الحقا واآليات واألحاديث يف بياهنا‬
‫يد اللّهُ لِيَ ْج َع َل َعلَْي ُكم ِّم ْن َحَر ٍج‬ ‫كثرية جداً منها قال تعاىل‪َ " :‬ما يُِر ُ‬
‫يد لِيُطَ َّهَر ُك ْم َولِيُتِ َّم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكُرو َن" (املائدة ‪ ،‬آية‬ ‫ولَ ِ‬
‫ـكن يُِر ُ‬ ‫َ‬
‫يد بِ ُك ُم‬
‫يد اللّهُ بِ ُك ُم الْيُ ْسَر َوالَ يُِر ُ‬ ‫‪ ،)6 :‬وقوله سبحانه وتعاىل‪" :‬يُِر ُ‬
‫الْعُ ْسَر" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ .)185 :‬وأما األحاديث فمنها حديث معاوية رضي‬
‫اهلل عنه قال‪" :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ :‬من يرد‬
‫اهلل به خرياً يفقهه يف الدين‪."3‬‬
‫إثبات صفة السمع والبصر‪ :‬واملعلوم واملقدر عند أهل السنة أن‬
‫السميع ال يكون إال بسمع والبصري ال يكون إال ببصر كما ال يكون‬
‫القدير واحلكيم إال بقدرة وحكمة‪ .4‬واآليات يف إثبات صفيت السمع‬
‫والبصر كثرية‪ ،‬واألحاديث أيضاً‪ ،‬ولذلك سنستدل ببعض اآليات قال‬
‫الس ِميع الْب ِ‬ ‫تعاىل‪ ":‬فَ ْ ِ ِ ِ ِ‬
‫صريُ" (غافر ‪ ،‬آية ‪ ،)56 :‬وقال‬ ‫استَع ْذ باللَّه إنَّهُ ُه َو َّ ُ َ‬
‫تعاىل‪":‬وكان اهلل مسيعاً بصرياً"‪.‬‬

‫‪ 1‬مع هللا صـ‪.235‬‬


‫‪ 2‬البخاري شرح الباري (‪.)13/387‬‬
‫‪ 3‬البخاري رقم ‪ ، 71‬مسلم رقم ‪.37‬‬
‫‪ 4‬من عقيدة المسلمين صـ ‪.72‬‬
‫‪71‬‬
‫إثبات صفة الكالم‪ :‬أهل السنة متفقون على أن اهلل يتكلم مبشيئته‪،‬‬
‫وأنه مل يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء‪ ،1‬قال تعاىل‪ِّ ":‬مْن ُهم َّمن َكلَّ َم‬
‫ِ‬
‫يما"‬ ‫اللّهُ" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)253 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬و َكلَّ َم اللّهُ ُم َ‬
‫وسى تَ ْكل ً‬
‫(النساء ‪ ،‬آية ‪ .)164 :‬فلله عز وجل من صفاته صفة الكالم وهي‬
‫صفة قائمة به غري بائنة عنه‪ ،‬ال إبتداءً ال تصافه هبا وال إنتهاءً‪،‬‬
‫يتكلم هبا مبشيئته واختياره وكالمه تعاىل أحسن الكالم‪ ،‬وال يشابه‬
‫كالم املخلوقني‪ ،‬وإذا اخلالق ال يقاس باملخلوق ويكلم به من شاء‬
‫وبغريها ويسمعه على احلقيقة من شاء من مالئكته ورسله‪ ،‬ويسمعه‬
‫عباده يف الدار اآلخرة بصوت نفسه‪ ،‬كما كلم موسى وناداه حني أتى‬
‫الشجرة بصوت نفسه فسمعه موسى‪ ،‬كما أن كالمه تعاىل ال يشبهه‬
‫كالم املخلوقني فإن صوته ال يشبه أصواهتم وكلماته تعاىل ال هناية هلا‬
‫ومن كالمه القرآن والتوراة واإلجنيل‪ ،‬فالقرآن كالمه‪ ،‬سوره وآياته‬
‫وكلماته‪ ،2‬والقرآن الكرمي غري خملوق‪ ،‬منه بدأ وإليه يعود فهو كالم‬
‫َح ٌد‬ ‫ِ‬
‫اهلل وحروفه ومعانيه‪ ،‬والدليل أنه من كالم اهلل قوله تعاىل‪َ ":‬وإ ْن أ َ‬
‫استَ َج َار َك فَأ َِج ْرهُ َحىَّت يَ ْس َم َع َكالَ َم اللّ ِه" (التوبة ‪ ،‬اآلية ‪:‬‬ ‫ني ْ‬
‫ِ‬
‫ِّم َن الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫‪.)6‬‬
‫والقرآن منزل من عند اهلل تعاىل‪َ ":‬تبَ َار َك الَّ ِذي َنَّز َل الْ ُف ْرقَا َن َعلَى َعْب ِد ِه"‬
‫(الفرقان ‪ ،‬اآلية ‪ )1 :‬والقرآن غري خملوق والدليل قوله تعاىل‪ ":‬أَالَ لَهُ‬
‫اخْلَْل ُق َواأل َْمُر" (األعراف‪ ،‬اآلية‪ )54 :‬فجعل األمر غري اخللق والقرآن من‬
‫ِ‬
‫وحا ِّم ْن أ َْم ِرنَا" (الشورى ‪ ،‬آية‬ ‫ك ُر ً‬ ‫ك أ َْو َحْينَا إِلَْي َ‬
‫األمر لقوله تعاىل‪َ ":‬و َك َذل َ‬
‫َنزلَهُ إِلَْي ُك ْم " (الطالق ‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك أ َْمُر اللَّه أ َ‬ ‫‪ ،)22 :‬وقوله‪َ ":‬ذل َ‬
‫علو اهلل على خلقه‪ :‬إن اهلل تعاىل وصف نفسه بالعلو يف السماء‬
‫ووصفه بذلك حممد خامت األنبياء وأمجع على ذلك مجيع العلماء من‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.73‬‬


‫‪ 2‬من كتاب العقيدة السلفية في كالمه رب البرية صـ‪.63‬‬
‫‪72‬‬
‫الصحابة األتقياء واألئمة الفقهاء وتواترت األخبار بذلك على وجه‬
‫حصل به اليقني ومجع اهلل عليه قلوب املسلمني‪ ،‬وجعله مغروزاً يف‬
‫طباع اخللق أمجعني فرتاهم عند نزول الكرب هبم يلحظون السماء‬
‫بأعينهم ويرفعون حنوها للدعاء أيديهم وينتظرون جميء الفرج من رهبم‬
‫وينطقون ذلك بألسنتهم ال ينكر ذلك إال مبتدع غال يف بدعته أو‬
‫مفتون بتقليده واتباعه على ضاللته ‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬ت ْعُر ُج الْ َماَل ئِ َكةُ َو ُّ‬
‫‪1‬‬
‫وح‬
‫الر ُ‬
‫اهُر َف ْو َق ِعبَ ِاد ِه "‬ ‫إِلَي ِه" (املعارج ‪ ،‬آية ‪ ،)4 :‬وقال تعاىل‪ ":‬وهو الْ َق ِ‬
‫َ َُ‬ ‫ْ‬
‫(األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)18 :‬ومجيع معاين العلو ثابتة له سبحانه علو الذات‪،‬‬
‫وعلو القدرة‪ ،‬وعلو القهر والغلبة‪ ،‬وعلو احلجة‪ ،‬فهو علو ذات وعلو‬
‫اسَت َوى" (طه ‪ ،‬آية‬ ‫صفات ولذا وصف نفسه بأنه " الرَّمْح َ ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫‪ ،)5 :‬فالعلو الكامل له وحده سبحانه‪ ،‬والعلو الدائم له وحده سبحانه‬
‫وهلذا قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬حق على اهلل أن ال يرتفع شيء‬
‫من الدنيا إال وضعه‪ .2‬ومن علوه أن جعل الرفعة والعلو لكتابه ولدينه‬
‫َعلَى" (طه‬‫َنت اأْل ْ‬ ‫ك أ َ‬ ‫ف إِنَّ َ‬ ‫وألوليائه الصادقني كما قال تعاىل‪ُ ":‬ق ْلنَا اَل خَتَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم" (الزخرف‬ ‫‪ ،‬آية ‪ ،)68 :‬وقال‪َ ":‬وإنَّهُ يِف أ ُِّم الْكتَاب لَ َد ْينَا لَ َعل ٌّي َحك ٌ‬
‫‪ ،‬آية ‪ )4:‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن اهلل يرفع هبذا الكتاب أقواماً‬
‫ويضع به آخرين‪ .3‬ومع علوه سبحانه فهو القريب جميب مسيع‪ ،‬ولذا‬
‫يناديه العبد نداءً خفياً " إِ ْذ نَ َادى َربَّهُ نِ َداء َخ ِفيًّا" (مرمي ‪ ،‬آية ‪.)3:‬‬
‫وخيرب عن نفسه أنه يسمع السر واخفى والسر ضد اجلهر‪ ،‬وما هو‬
‫أخفى من السر فهو اخلطرات اليت ال يعيها صاحبها‪ ،‬وال يدركها‪،‬‬
‫واملعاين املكنونة ال حييط املرء هبا حىت عن نفسه وذاته‪ ،‬فهناك عامل‬
‫األسرار وهناك عامل الالشعور والالوعي وهناك اخلفايا اخللقية اليت مل‬
‫يصل إليها العلم‪ ،‬وهناك اخلفايا املستقبلية‪ ،‬فهو مع علوه وإستوائه على‬
‫‪ 1‬اثبات صفة العلو للمقدسي صـ ‪.63‬‬
‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.2872‬‬
‫‪ 3‬مسلم رقم ‪.817‬‬
‫‪73‬‬
‫عرشه حميط بذلك كله‪ ،‬ال ختفى عليه خافية ولذا مسَّي نفسه بذي‬
‫وح إِلَْي ِه"‬ ‫الر ُ‬ ‫وفسره بقوله‪َ ":‬ت ْعُر ُج الْ َماَل ئِ َكةُ َو ُّ‬ ‫املعارج"من اهلل ذي املعارج" َّ‬
‫(املعارج ‪ ،‬آية ‪ )4 :‬وذكر نزول املالئكة والروح ونزول الوحي‪ ،‬كما‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َوالْ َع َم ُل‬ ‫ص َع ُد الْ َكل ُم الطَّيِّ ُ‬‫ذكر ارتفاع األشياء وصعودها إليه" إِلَْيه يَ ْ‬
‫الصالِ ُح َي ْر َفعُهُ" (فاطر ‪ ،‬آية ‪ " )10 :‬بَل َّر َف َعهُ اللّهُ إِلَْي ِه" (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َّ‬
‫‪)158‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫إذا ضاقت بك األحوال يوماً‬
‫‪1‬‬
‫العلي‬
‫ِّ‬ ‫فثق بالواحد الصمد‬
‫إثبات صفة الوجه‪ :‬نثبت هلل صفة الوجه بدون حتريف وال تعطيل‬
‫وال تكييف وال متثيل وهو وجه يليق به سبحانه قال تعاىل‪َ ":‬و َيْب َقى‬
‫ك ذُو اجْلَاَل ِل َواإْلِ ْكَر ِام " (الرمحن ‪ ،‬آية ‪ )27 :‬وقال تعاىل‪ُ ":‬ك ُّل‬ ‫َو ْجهُ َربِّ َ‬
‫ٍ‬
‫ك إِاَّل َو ْج َههُ لَهُ احْلُ ْك ُم َوإِلَْي ِه ُت ْر َجعُو َن" (القصص ‪ ،‬آية ‪)88 :‬‬ ‫َش ْيء َهالِ ٌ‬
‫وقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إنك لن تنفق نفقة تبتغي هبا وجه‬
‫اهلل إال أجرت عليها‪.2‬‬
‫ان" (املائدة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫اثبات صفة اليدين‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬بل ي َداه مبسوطَتَ ِ‬
‫َ ْ َ ُ َْ ُ‬
‫ي" (سورة ص‬ ‫ت بِيَ َد َّ‬ ‫ِ‬
‫ك أَن تَ ْس ُج َد ل َما َخلَ ْق ُ‬ ‫‪ ،)64‬وقال تعاىل‪َ ":‬ما َمَن َع َ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)75 :‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن املقسطني على منابر من نور عن ميني‬
‫الرمحن عز وجل وكلتا يديه ميني‪ ،‬والذين يعدلون يف أهلهم‪ ،‬وحكمهم‪،‬‬
‫وما ولوا ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وقد ذكر اهلل سبحانه وتعاىل يف صفة اليد اإلفراد والتثنية واجلمع ففي‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك" (امللك ‪ ،‬آية ‪،)1 :‬‬ ‫اإلفراد مثل قوله تعاىل‪َ ":‬تبَ َار َك الَّذي بِيَده الْ ُم ْل ُ‬
‫‪ 1‬مع هللا صـ‪.150‬‬
‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك الجنائز‪ ،‬باب رثاء سعد (‪.)2/103‬‬
‫‪ 3‬مسلم ك اإلمارة (‪.)3/1458‬‬
‫‪74‬‬
‫ان" (املائدة ‪ ،‬آية ‪ ،)64:‬ويف‬ ‫ويف التثنية كقوله تعاىل‪ ":‬بل ي َداه مبسوطَتَ ِ‬
‫َ ْ َ ُ َْ ُ‬
‫ت أَيْ ِدينَا أَْن َع ًاما"‬ ‫مِم ِ‬
‫اجلمع كقوله تعاىل‪ ":‬أ ََومَلْ َيَر ْوا أَنَّا َخلَ ْقنَا هَلُ ْم َّا َعملَ ْ‬
‫(يس ‪ ،‬آية ‪ .)71 :‬والتوفيق بني هذه الوجوه أن نقول‪ :‬الوجه األول‬
‫مفرد مضاف فيشمل كل ما ثبت هلل من يد وال ينايف الثنيتني وأما‬
‫اجلمع فهو للتعظيم ال حلقيقة العدد الذي هو ثالثة فأكثر وحينئذ ال‬
‫ينايف التثين على أنه قد قيل إن أقل اجلمع اثنان‪ ،‬فإذا محل اجلمع‬
‫‪1‬‬
‫على أقله فال معارضة بينه وبني التثنية أصالً ‪.‬‬
‫اثبات صفة العين‪ :‬واثبات صفة العني على ما يليق باهلل تعاىل وال‬
‫يفهم منها أن العني هلل جارحة كأعيننا بل له سبحانه وتعاىل عني‬
‫حقيقية تليق بعظمته وجالله وقِ َدمه وللمخلوق عني حقيقية تناسب حاله‬
‫وحدوثه وضعفه وهذا شأن مجيع الصفات اليت فيها املشاركة اللفظية‬
‫مع صفات املخلوق‪ ،2‬والعني صفة هلل تعاىل بال كيف‪ ،‬وهي من‬
‫صنَ َع َعلَى َعْييِن " (طه ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الصفات اخلربية الذاتية قال تعاىل‪َ ":‬ولتُ ْ‬
‫‪ ،)39‬وذكر العني مفردة ال يدل على أهنا عني واحدة فقط ألن‬
‫املفرد املضاف يراد به أكثر من واحد مثل قوله تعاىل‪َ ":‬وإِن َتعُدُّواْ‬
‫وها" (ابراهيم ‪ ،‬آية ‪ ،)34 :‬وقال تعاىل‪ ":‬جَتْ ِري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َ‬‫ت اللّه الَ حُتْ ُ‬ ‫ن ْع َم َ‬
‫َعيُنِنَا" (القمر ‪ ،‬آية ‪ ،)14 :‬وهنا ذكرت بصيغة اجلمع مضافة إىل‬ ‫بِأ ْ‬
‫ضمري اجلمع‪.3‬‬
‫ب َربُّ ُك ْم َعلَى َن ْف ِس ِه الرَّمْح َةَ "‬‫اثبات صفة النفس‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬كتَ َ‬
‫(األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)54 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬ت ْعلَ ُم َما يِف َن ْف ِسي َوالَ أ َْعلَ ُم َما‬
‫ك" (املائدة ‪ ،‬آية ‪ ،)116 :‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬يقول‬ ‫يِف َن ْف ِس َ‬
‫انا مع عبدي حني يذكرين فإن ذكرين يف نفسه ذكرته يف نفسي وإن‬

‫‪ 1‬لمعة االعتقاد صـ ‪.50‬‬


‫‪ 2‬الصفات اإللهية صـ ‪.319‬‬
‫‪ 3‬من عقيدة المسلمين صـ ‪.82‬‬
‫‪75‬‬
‫ذكرين يف مأل ذكرته يف مأل خري منهم‪ .1‬فاهلل جاّل وعال أثبت يف‬
‫كتابه أن له نفساً وكذلك قد بني على لسان نبيه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أن له نفساً كما أثبت النفس يف كتابه‪ ،‬ونثبتها له على الوجه‬
‫الالئق به‪.2‬‬
‫بـ بعض الصفات الخبرية‪:‬‬
‫إثبات إستواء اهلل على عرشه‪:‬قال تعاىل‪ ":‬إِ َّن َربَّ ُك ُم اللّهُ الَّ ِذي َخلَ َق‬
‫اسَت َوى َعلَى الْ َع ْر ِش يُ ْغ ِشي اللَّْي َل‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ض يِف ستَّة أَيَّ ٍام مُثَّ ْ‬ ‫الس َم َاوات َواأل َْر َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وم ُم َس َّخَرات بِأ َْم ِر ِه أَالَ لَهُ‬‫ُّج َ‬
‫س َوالْ َق َمَر َوالن ُ‬ ‫َّم َ‬
‫َّه َار يَطْلُبُهُ َحثيثًا َوالش ْ‬ ‫الن َ‬
‫ني" (االعراف ‪ ،‬آية ‪ ،)54 :‬وقال‬ ‫ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫اخْلَْل ُق َواأل َْمُر َتبَ َار َك اللّهُ َر ُّ‬
‫تعاىل‪َ ":‬وَت َو َّك ْل‬
‫وت وسبِّح حِب َم ِد ِه و َك َفى بِِه بِ ُذنُ ِ‬
‫وب ِعبَ ِاد ِه‬ ‫َّ ِ‬
‫َعلَى احْلَ ِّي الذي اَل مَيُ ُ َ َ ْ ْ َ‬
‫ِِ‬ ‫خبِريا*الَّ ِذي خلَق َّ ِ‬
‫ض َو َما َبْيَن ُه َما يِف ستَّة أَيَّ ٍام مُثَّ ْ‬
‫اسَت َوى‬ ‫الس َم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ً‬
‫اسأ َْل بِِه َخبِ ًريا " (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)59 ، 58 :‬‬ ‫َعلَى الْ َع ْر ِش الرَّمْح َ ُن فَ ْ‬
‫وجيب اثبات استواء اهلل على عرشه من غري حتريف وال تعطيل وال‬
‫تكييف وال متثيل‪ ،‬وهو استواء حقيقي معناه العلو واالستقرار على وجه‬
‫يليق باهلل تعاىل ‪ .‬وملا سئل مالك بن أنس عن قوله ‪ ":‬الرَّمْح َ ُن َعلَى‬ ‫‪3‬‬

‫اسَت َوى" (طه ‪ ،‬آية ‪ ،)5 :‬قال االستواء غري جمهول‪ ،‬والكيف‬ ‫الْ َع ْر ِش ْ‬
‫غري معقول‪ ،‬واإلميان واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬وما أراك إال ضاالً‬
‫وأمر أن خيرج السائل من اجمللس ‪ .‬وأكثر من صرح بأن اهلل مستو‬
‫‪4‬‬

‫بذاته على عرشه أئمة املالكية‪ ،‬فصرح أبو حممد بن أيب يزيد يف ثالثة‬
‫مواضع من كتبه أشهرها الرسالة‪ ،‬ويف كتاب جامع النوادر ويف كتاب‬
‫اآلداب‪ ،‬وصرح بذلك القاضي أبو بكر الباقالين وكان مالكياً وصرح‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك التوحيد‪ ،‬رقم‪.7405‬‬


‫‪ 2‬لمعة االعتقاد البن قدامة صـ ‪.51‬‬
‫‪ 3‬لمعة االعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد صـ ‪.62‬‬
‫‪ 4‬شرح حديث النزول البن تيمية‪ ،‬عقيدةالمسلمين صـ‪.86‬‬
‫‪76‬‬
‫به أبو عبد اهلل القرطيب يف كتاب األمساء احلسىن وكذلك أبو عمر بن‬
‫عبد الرب والطلمنكي وغريمها من األندليسيني وغري ذلك من السادة‬
‫املالكية ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫إن كتاب اهلل عز وجل من أوله إىل آخره وسنة رسوله صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وعامة الصحابة والتابعني وكالم سائر األئمة‪ ،‬مملوء مبا هو‬
‫نص أو ظاهر يف أن اهلل سبحانه وتعاىل فوق كل شئ وأنه فوق‬
‫العرش وفوق السماوات مست ٍو على عرشه ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ص ًّفا" (الفجر ‪ ،‬آية‬ ‫ص ًّفا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ك َوالْ َملَ ُ‬ ‫صفة المجئ‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬و َجاء َربُّ َ‬
‫‪ ،)22 :‬قال تعاىل‪َ " :‬ه ْل يَنظُُرو َن إِالَّ أَن يَأْتَِي ُه ُم اللّهُ" (البقرة ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪ .)210‬وجيب إثبات اجملئ من غري حتريف وال تعطيل‪ ،‬وال تكييف وال‬
‫‪3‬‬
‫متثيل وهو جمئ حقيقة يليق باهلل تعاىل ‪.‬‬
‫ضواْ َعْنهُ" (املائدة ‪ ،‬آية‬ ‫صفة الرضا‪ :‬قال تعاىل‪َّ " :‬ر ِض َي اللّهُ َعْن ُه ْم َو َر ُ‬
‫‪.)119 :‬‬
‫ف يَأْيِت اللّهُ بَِق ْوٍم حُيِ ُّب ُه ْم َوحُيِ بُّونَهُ" (املائدة‬ ‫صفة المحبة‪ :‬قال تعاىل‪ " :‬فَ َس ْو َ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)54 :‬‬
‫ب اللّهُ َعلَْي ِه َولَ َعنَهُ" (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫صفة الغضب‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬و َغض َ‬
‫‪.)93‬‬
‫ِ‬
‫َس َخ َط اللَّهَ" (حممد ‪،‬‬ ‫ك بِأَنَّ ُه ُم اتََّبعُوا َما أ ْ‬ ‫صفة السخط‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬ذل َ‬
‫آية ‪.)28 :‬‬
‫ـكن َك ِر َه اللّهُ انبِ َعاثَ ُه ْم " (التوبة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫صفة الكراهة‪ :‬قال تعاىل‪ " :‬ولَ ِ‬
‫َ‬
‫‪.)46‬‬

‫‪ 1‬الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة صـ(‪.)2/134‬‬


‫‪ 2‬اجتماعـ الجيوش اإلسالمية صـ‪.96‬‬
‫‪ 3‬لمعة االعتقاد صـ‪.52‬‬
‫‪77‬‬
‫فصفة الرضا‪ ،‬واحملبة والغضب والسخط والكراهة صفات ثابتة هلل عز‬
‫وجل من غري حتريف وال تعطيل وال تكييف وال متثيل‪ ،‬فهي على ما‬
‫يليق به عز وجل‪ ،‬وكذلك صفة الغرية‪ ،‬والفرح والضحك‪ ،‬فقد جاء‬
‫ذكرها يف أحاديث نبوية صحيحة‪.‬‬
‫ج ـ بعض الصفات التي تطلق في باب المقابلة‪ :‬ورد يف القرآن‬
‫الكرمي أفعال أطلقها اهلل عز وجل على نفسه على سبيل اجلزاء‬
‫والعدل واملقابلة وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال ولكن ال جيوز أن‬
‫يشتق هلل تعاىل منها أمساء‪ ،‬وال تطلق عليه يف غري ما سيقت فيه من‬
‫ني خُيَ ِادعُو َن اللّهَ َو ُه َو َخ ِادعُ ُه ْم" (البقرة ‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫اآليات كقوله تعاىل‪ " :‬إِ َّن الْ ُمنَافق َ‬
‫آية ‪ ،)142 :‬وقال تعاىل‪َ " :‬و َم َكُرواْ َو َم َكَر اللّهُ" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪ ،)54‬وقوله تعاىل‪ " :‬نَ ُسواْ اللّهَ َفنَ ِسَي ُه ْم" (التوبة ‪ ،‬آية ‪ .)67 :‬وقال‬
‫اطينِ ِه ْم قَالُواْ إِنَّا َم َع ْك ْم إِمَّنَا حَنْ ُن ُم ْسَت ْه ِز ُؤو َن‬
‫تعاىل‪ " :‬وإِ َذا خلَواْ إِىَل َشي ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫*اللّهُ يَ ْسَت ْه ِزىءُ هِبِ ْم" (البقرة ‪ ،‬آية‪ 14 :‬ـ ‪ .)15‬فال يطلق على اهلل لفظ‬
‫ناس‪ ،‬مستهز ٍئ‪ ،‬وحنو ذلك تعاىل اهلل عنه علواً كبرياً‪،‬‬ ‫خمادع‪ ،‬ماك ٍر‪ٍ ،‬‬
‫ٍ‬
‫وال يقال‪ :‬اهلل يستهزئ وخيادع وميكر‪ ،‬وينسى على سبيل اإلطالق‪ ،‬وقد‬
‫أخطأ الذين عدوا ذلك من أمسائه احلسىن خطأً كبرياً‪ ،‬ألن اخلداع‬
‫واملكر يكون مدحاً ويكون ذماً‪ ،‬فال جيوز أن يطلق على اهلل إال‬
‫مقيداً مبا يزيل االحتمال املذموم منه كما ورد مقيداً يف اآليات ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫س ـ اهلل ينزه عن كل صفة نقص‪ :‬ينزه اهلل عز وجل عن الغفلة‬


‫والنسيان بأي وجه من الوجوه‪ ،‬ألنه عامل الغيب والشهادة وعلمه حميط‬
‫بكل شئ‪ ،‬فال يعرض له ما يعرض لعلم املخلوق من خطأ بعض‬
‫املعلومات أو نسياهنا والذهول عنها‪ ،‬قال تعاىل‪ِ " :‬ع ْل ُم َها ِع َ‬
‫ند َريِّب يِف‬
‫نسى" (طه ‪ ،‬آية ‪ ،)52 :‬ومنزه عن االحتياج‬ ‫كِتَ ٍ‬
‫اب اَّل ِ‬
‫يَض ُّل َريِّب َواَل يَ َ‬

‫‪ 1‬معارج القبول (‪.)1/76‬‬


‫‪78‬‬
‫إىل الرزق والطعام ألنه هو الرزاق جلميع اخللق الغين عنهم وكلهم‬
‫ون {‪َ }56‬ما‬ ‫فقراء إليه‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬وما خلَ ْقت اجْلِ َّن واإْلِ نس إِاَّل لِيعب ُد ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫َّاق‬
‫الرز ُ‬ ‫ون {‪ }57‬إِ َّن اللَّهَ ُه َو َّ‬ ‫يد أَن يطْعِم ِ‬ ‫يد ِمْن ُهم ِّمن ِّر ْز ٍق َو َما أُِر ُ‬ ‫أُِر ُ‬
‫ُ ُ‬
‫ني" (الذاريات ‪ ،‬آية ‪ 56 :‬ـ ‪ 57‬ـ ‪ .)58‬وقوله تعاىل‪َ " :‬و ُه َو‬ ‫ِ ِ‬
‫ذُو الْ ُق َّوة الْ َمت ُ‬
‫طع ُم" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)14 :‬واهلل منزه عن الظلم للعباد‬ ‫ِ‬
‫يُطْع ُم وال يُ َ‬
‫بأن يزيد يف سيئاهتم أو ينقص من حسناهتم أو يعاقبهم على ما مل‬
‫يفعلوا‪ ،‬فإن الظلم ال يفعله إال من هو حمتاج إليه أو من هو‬
‫موصوف باجلور‪ ،‬أما اهلل الغين عن خلقه من مجيع الوجوه احلكم‬
‫يد"‬‫العدل احلميد‪ ،‬فما له وظلم العباد؟ قال تعاىل‪ ":‬وما ربُّك بِظَاَّل ٍم لِّْلعبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫(فصلت‪ ،‬آية‪ ،)46 :‬وواهلل منزه عن العبث يف اخللق واألمر فلم خيلق‬
‫سبحانه وتعاىل شيئاً عبثاً وال باطالً‪ ،‬وال شرع إال حكمة عظيمة ألنه‬
‫حكيم محيد‪ ،‬فمن متام حكمته ومحده اتقان املصنوعات وإحكامها‬
‫وإحكام الشرائع على أكمل وجه وأمته‪.1‬‬
‫‪ 4‬ـ صفات اهلل كلها صفات كمال‪ :‬ال نقص فيها بوجه من‬
‫الوجوه‪ ،‬كاحلياة‪ ،‬والعلم والقدرة والسمع والبصر‪ ،‬والرمحة والعزة‬
‫واحلكمة والعلو والعظمة وغري ذلك‪ ،‬وهلل عز وجل املثل األعلى قال‬
‫اآلخر ِة مثل َّ ِ ِ‬ ‫تعاىل‪ ":‬لِلَّ ِذين الَ ي ْؤ ِمنُو َن بِ ِ‬
‫الس ْوء َوللّ ِه الْ َمثَ ُل األ ْ‬
‫َعلَ َى َو ُه َو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َعلَى يِف‬ ‫يم" (النحل ‪ ،‬آية ‪ ،)60 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬ولَهُ الْ َمثَ ُل اأْل ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الْ َعز ُيز احْلَك ُ‬
‫يم " (الروم ‪ ،‬آية ‪ ،)27 :‬واملثل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫ض َو ُه َو الْ َعز ُيز احْلَك ُ‬ ‫َّ َ َ‬
‫األعلى هو الوصف األعلى إن اخللق مضطرون على كون اخلالق‬
‫سبحانه وتعاىل أجل وأكرب وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء‬
‫فهذا مستقر يف فطر الناس وهو ضروري يف حق من سلمت فطرته‪،‬‬
‫فداللة الفطرة على الصفات واضحة وبينة فإن كل حادث البد له من‬
‫حمدث‪ ،‬وهذا احملدث البد أن يكون قادراً‪ ،‬عاملاً‪ ،‬مريداً‪ ،‬حكيماً‪،‬‬
‫‪ 1‬الحق الواضح المبين البن سعدي صـ ‪.10‬‬
‫‪79‬‬
‫فالفعل يستلزم القدرة‪ ،‬واالحكام يستلزم العلم‪ ،‬والتخصيص يستلزم‬
‫اإلرادة‪ ،‬وحسن العاقبة يستلزم احلكمة ويف الفطرة اإلقرار هلل تعاىل‬
‫بالكمال املطلق‪ ،‬والذي ال نقص فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬وكذلك يف‬
‫الفطرة تنزيه اهلل عن النقائص والعيوب‪ ،‬ومن القضايا البديهية املستقرة‬
‫يف الفطرة أن الذي يعلم والذي يقدر والذي يتكلم ويبصر أكمل من‬
‫العادم لذلك‪ ،‬وهلذا يذكر اهلل تعاىل هذه املسألة خبطاب اإلستفهام‬
‫اإلنكاري ليبني أهنا مستقرة يف الفطرة وأن النايف هلا قال قوالً منكراً‬
‫يف الفطرة‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬أَفَ َمن خَي ْلُ ُق َك َمن الَّ خَي ْلُ ُق أَفَال تَ َذ َّكُرو َن" (النحل‬
‫‪ ،‬آية ‪ .)17 :‬فالتسوية منكرة يف الفطرة وينكر ذلك على من سوى‬
‫بينهما‪ ،‬فالذي ليست لديه صفات كمال‪ ،‬ال ميكن أن يكون رباً‪ ،‬وال‬
‫ت مِل‬ ‫معبوداً‪ ،‬وأن العلم بذلك فطري‪،1‬كما قال اخلليل قال تعاىل‪ ":‬يا أَب ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫نك َشْيئًا" (مرمي ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫صُر َواَل يُ ْغيِن َع َ‬ ‫َتعب ُد ما اَل يسمع واَل يب ِ‬
‫َ ْ َ ُ َ ُْ‬ ‫ُْ َ‬
‫‪ ،)42‬وقال تعاىل عن عجل بين إسرائيل‪ ":‬أَمَلْ َيَر ْواْ أَنَّهُ الَ يُ َكلِّ ُم ُه ْم‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)148 :‬‬ ‫َوالَ َي ْهدي ِه ْم َسبِيالً اخَّتَ ُذوهُ َو َكانُواْ ظَالم َ‬

‫‪ 1‬عقيدة المسلمين‪ ،‬صفات رب العالمين صـ ‪.102‬‬


‫‪80‬‬
‫‪5‬ـ من لوازم استحقاق اهلل تعالى لصفات الكمال تفرده بالحكم‬
‫فمن اآليات القرآنية اليت أوضح هبا تعاىل صفات من له احلكم‬
‫اخَتلَ ْفتُ ْم فِ ِيه ِمن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ إِىَل اللَّ ِه" (الشورى ‪،‬‬ ‫والتشريع قوله‪َ ":‬و َما ْ‬
‫آية ‪ ،)10 :‬مث قال مبيناً صفات من له احلكم‪َ ":‬ذلِ ُك ُم اللَّهُ َريِّب َعلَْي ِه‬
‫ض َج َع َل لَ ُكم ِّم ْن أَن ُف ِس ُك ْم‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫يب *فَاطُر َّ َ َ‬ ‫ت َوإلَْيه أُن ُ‬ ‫َت َو َّك ْل ُ‬
‫يع‬ ‫أ َْزواجا و ِمن اأْل َْنع ِام أ َْزواجا ي ْذر ُؤ ُكم فِ ِيه لَيس َك ِمثْلِ ِه َشيء وهو َّ ِ‬
‫السم ُ‬ ‫ْ ٌ َ َُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ً ََ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ً َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْز َق ل َمن يَ َشاء َو َي ْقد ُر إِنَّهُ‬ ‫ط ِّ‬ ‫ض َيْب ُس ُ‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫يد َّ َ َ‬ ‫صريُ*لَهُ َم َقالِ ُ‬ ‫الب ِ‬
‫َ‬
‫يم " (الشورى ‪ ،‬آية ‪.)12 ،11 ،10 :‬‬ ‫بِ ُكل شي ٍء علِ‬
‫ِّ َ ْ َ ٌ‬
‫ذكر سبحانه وتعاىل صفات الرب الذي تفوض إليه اإلمور ويتوكل‬
‫عليه‪ ،‬وإنه فاطر السموات واألرض وخالقها‪ ،‬على غري مثال سابق‪،‬‬
‫وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً خلق هلم أزواج األنعام الثمانية‬
‫س َك ِمثْلِ ِه َش ْي ٌء‬ ‫ْ َ‬‫ي‬‫ل‬
‫َ‬ ‫"‬ ‫وإنه‬ ‫‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫املذكورة‬
‫ض" (الشورى ‪،‬‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫يد َّ َ َ‬ ‫صريُ " وإنه‪ ":‬لَهُ َم َقالِ ُ‬ ‫الس ِميع الب ِ‬
‫َو ُه َو َّ ُ َ‬
‫الر ْز َق لِ َمن يَ َشاء َو َي ْق ِد ُر"‬
‫ط ِّ‬ ‫آية ‪ ،)12 :‬وأنه سبحانه وتعاىل‪َ ":‬يْب ُس ُ‬
‫(الشورى ‪ ،‬آية ‪ ،)12 :‬ويقدر أي مبعىن يضيقه على من يشاء وهو‬
‫بكل شيء عليم‪ ،‬فعلى املسلم أن يتفقه صفات من يستحق أن يشرع‬
‫وحيلل وحيرم ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪6‬ـ نفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم اإللحاد فيها‪ :‬ونفي‬


‫ين يُْل ِح ُدو َن‬ ‫َّ ِ‬
‫معاين أمسائه احلسىن من أعظم اإلحلاد قال تعاىل‪َ ":‬و َذ ُرواْ الذ َ‬
‫يِف أَمْسَآئِِه َسيُ ْجَز ْو َن َما َكانُواْ َي ْع َملُو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)180 :‬‬
‫ألهنا لو مل تكن تدل على معاين وأوصاف مل جيز أن خيرب عنها‬
‫مبصادرها ويوصف هبا ولكن اهلل أخرب عن نفسه‪ ،‬مبصادرها‪ ،‬وأثبتها‬

‫‪ 1‬أضواء البيان بتصرف (‪.)163 /7‬‬


‫‪ 2‬من عقيدة المسلمين صـ ‪.141‬‬
‫‪81‬‬
‫لنفسه‪ ،‬وأثبتها له رسوله صلى اهلل عليه وسلم قال تعاىل‪ ":‬إِ َّن اللَّهَ ُه َو‬
‫ني" (الذاريات ‪ ،‬آية ‪ ،)58 :‬فعلم أن "القوي" من‬ ‫ِ ِ‬
‫َّاق ذُو الْ ُق َّوة الْ َمت ُ‬
‫الرز ُ‬
‫َّ‬
‫أمسائه‪ ،‬ومعناه املوصوف بالقوة‪ .‬وكذلك قوله تعاىل‪ ":‬فَلِلَّ ِه الْعَِّزةُ مَجِ ًيعا "‬
‫(فاطر ‪ ،‬آية ‪ ،)10 :‬فالعزيز من له العزة‪ ،‬فلوال ثبوت القوة والعزة‬
‫له مل يسم قوياً وال عزيزاً وهكذا يف سائر أمسائه‪ ،‬وحقيقة اإلحلاد‬
‫فيها أي يف أمسائه تعاىل العدول فيها عن الصواب فيها وإدخال ما‬
‫ليس من معانيها عنها‪:‬‬
‫ـ أن تسمى بعض املعبودات باسم من أمساء اهلل تعاىل أو يقتبس هلا‬
‫اسم من بعض أمسائه تعاىل‪ ،‬كتسمية املشركني بعض أصنامهم "الالت"‬
‫أخذاً من "اإلله" و"العزى" أخذاً من "العزيز" وتسميتهم األصنام أحياناً‬
‫"آهلة" وهذا إحلاد واضح كما ترى ألهنم عدلوا بأمسائه تعاىل إىل‬
‫معبوداهتم الباطلة ‪.‬‬
‫ـ تسميته تعاىل مبا ال يليق به‪ ،‬كتسمية النصارى له (أب)‪ ،‬وإطالق‬
‫الفالسفة عليه "موجباً لذاته" أو علة فاعلة بالطبع وحنو ذلك‪.‬‬
‫ـ وصف اهلل تعاىل مبا ينزه عنه سبحانه‪ ،‬كقول اليهود ولعنوا مبا قالوا‪،‬‬
‫إنه فقري وقوهلم أنه اسرتاح وبعد أن خلق خلقه‪ ،‬وقوهلم أيضاَ غلت‬
‫أيديهم‪ ،‬يد اهلل مغلولة‪ ،‬وغري ذلك من األلفاظ اليت يطلقها أعداء اهلل‬
‫قدمياً وحديثاً‪.‬‬
‫ـ تعطيل أمسائه تعاىل عن معانيها وهي الصفات وجحد حقائقها‪ ،‬كما‬
‫فعلت بعض الفرق املبتدعة حيث جعلوا أمساء اهلل ألفاظاً جمردة ال تدل‬
‫على الصفات‪ ،‬كقوهلم مسيع بال مسع‪ ،‬وعليم بال علم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫ـ تشبيه اهلل تعاىل بصفات خلقه ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ آثار الصفات اإللهية في النفس والكون والحياة‪ :‬ومشهد‬
‫األمساء والصفات من أجل املشاهد‪ ،‬واملطلع على هذا املشهد يعرف أن‬
‫‪ 1‬بدائع الفوائد البن القيم (‪.)169/ 1‬‬
‫‪82‬‬
‫الوجود متعلق خلقاً وأمراً باألمساء احلسىن والصفات العال‪ ،‬ومرتبط هبا‬
‫وإن كل ما يف العامل مبا فيه من بعض آثارها ومقتضياهتا‪.‬‬
‫فإمسه احلميد‪ ،‬اجمليد‪ ،‬مينع ترك اإلنسان سدى‪ ،‬مهمالً معطالً‪ ،‬ال يؤمر‬
‫وال ينهى‪ ،‬وال يثاب وال يعاقب‪ ،‬وكذلك امسه(احلكيم) يأىب ذلك‪،‬‬
‫وهكذا فكل اسم من أمسائه له موجبات وله صفات‪ ،‬فال ينبغي‬
‫تعطيلها عن كماهلا ومقتضياهتا‪ ،‬والرب تعاىل حيب ذاته وأوصافه‬
‫وأمساؤه‪ ،‬فهو عفو حيب العفو‪ ،‬وحيب املغفرة‪ ،‬وحيب التوبة‪ ،‬ويفرح‬
‫بتوبة عبده حني يتوب إليه فرحاً ال خيطر بالبال‪ ،‬وكان تقدير ما‬
‫يغفره ويعفو عن فاعله‪ ،‬وحيلم عنه ويتوب عليه ويساحمه مبوجب أمسائه‬
‫وصفاته‪ ،‬وحصول ما حيبه ويرضاه من ذلك‪ ،‬وما حيمد به نفسه‬
‫وحيمده به أهل مساواته وأهل أرضه‪ ،‬وما هو من موجبات كماله‬
‫ومقتضى محده وهو سبحانه احلميد اجمليد‪ ،‬ومحده وجمده يقتضيان‬
‫آثارمها‪.‬‬
‫ومن آثارمها‪ ،‬مغفرة الزالت وإقالة العثرات‪ ،‬والعفو عن السيئات‬
‫واملساحمة على اجلنايات مع كمال القدرة على استيفاء احلق‪ ،‬والعلم منه‬
‫سبحانه باجلناية ومقدار عقوبتها فحلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته‪،‬‬
‫ومغفرته عن كمال عزته وحكمته‪ .1‬كما قال اهلل على لسان عيسى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬‫اد َك َوإِن َت ْغف ْر هَلُ ْم فَِإنَّ َ‬
‫عليه السالم يف القرآن‪ ":‬إِن ُت َع ِّذ ْب ُه ْم فَِإنَّ ُه ْم عبَ ُ‬
‫يم" (املائدة ‪ ،‬آية ‪ .)118 :‬أي فمغفرتك عن كمال‬ ‫ِ‬ ‫أ َ ِ‬
‫َنت الْ َعز ُيز احْلَك ُ‬
‫قدرتك‪ ،‬وحكمتك ليست كمن يغفر عجزاً ويسامح جهالً بقدر احلق‪،‬‬
‫بل أنت عليم حبقك‪ ،‬قادر على استيفائه حكيم يف األخذ منه‪ ،‬فمن‬
‫تأمل سريان آثار األمساء والصفات يف العامل ويف األمر‪ ،‬تبني له إن‬
‫مصدر قضاء هذه اجلنايات من العبيد‪ ،‬وتقديرها‪ :‬هو من كمال األمساء‬
‫والصفات واألفعال وغايتها أيضاً مقتضى محده وجمده‪ ،‬كما هو مقتضى‬
‫‪ 1‬مدارج السالكين صـ ‪.418 ،417‬‬
‫‪83‬‬
‫ربوبيته وإهليته فلله يف كل ما قضاه وقدره احلكمة البالغة واآليات‬
‫الباهرة واهلل سبحانه دعا عباده إىل معرفته بأمسائه وصفاته وأمرهم‬
‫بشكره وحمبته وذكره وتعبدهم بأمسائه احلسىن وصفاته العلى ألن كل‬
‫اسم له تعبد خمتص به‪ ،‬علماً ومعرفة وحاالً وأكمل الناس عبودية‪:‬‬
‫املتعبد جبميع األمساء والصفات اليت يطلع عليها البشر فال حيجبه عبودية‬
‫اسم عن اسم آخر‪ ،‬كما ال حيجبه التعبد بامسه "القدير" عن التعبد‬
‫بامسه "احلليم الرحيم" أو حيجبه عبودية امسه "املعطي" عن عبودية امسه‬
‫"املانع" أو عبودية امسه "الرحيم والعفو والغفور" عن اسم "املنتقم" أو‬
‫التعبد بأمساء "الرب واإلحسان واللطيف" عن أمساء "العدل واجلربوت‬
‫والعظمة والكربياء" وهذه طريقة الكمال من السائرين إىل اهلل وهي‬
‫ِِ‬
‫طريقة مشتقة من قلب القرآن الكرمي قال تعاىل‪َ ":‬وللّه األَمْسَاء احْلُ ْسىَن‬
‫فَ ْادعُوهُ" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ .)180 :‬والدعاء هبا يتناول دعاء املسألة ودعاء‬
‫الثناء‪ ،‬ودعاء التعبد‪ .1‬وهو سبحانه يدعو عباده إىل أن يعرفوه بأمسائه‬
‫وصفاته ويثنوا عليه هبا ويأخذوا حبظهم من عبوديتها‪ ،‬فاهلل سبحانه‬
‫وتعاىل حُي ب موجب أمسائه وصفاته‪ ،‬فهو "عليم" حيب كل عليم وهو‬
‫"ج َو ٌاد" حيب كل جواد‪" ،‬وتر" حيب الوتر "مجيل" حيب اجلمال‪" ،‬عفو"‬ ‫َ‬
‫حيب العفو وأهله "حيي" حيب احلياء وأهله "بر" حيب األبرار "شكور"‬
‫حيب الشاكرين "صبور" حيب الصابرين "حليم" حيب أهل احللم‪ ،‬فلمحبته‬
‫سبحانه للتوبة واملغفرة‪ ،‬والعفو والصفح‪ .‬خلق من يغفر هلم ويتوب‬
‫عليهم ويعفو عنهم‪ ،‬وقدر عليهم ما يقتضي وقوع املكروه واملبغوض‬
‫له‪ ،‬ليرتتب عليه احملبوب له املرضي له‪ ،2‬وظهور أمساء اهلل وصفاته يف‬
‫هذه احلياة ويف النفس البشرية ويف الكون كله واضح‪ ،‬ال حيتاج إىل‬
‫دليل‪ ،‬إال أن اإلهتداء إىل تلك اآلثار أو اإلنتباه هلا يتوقف على توفيق‬

‫‪ 1‬مدارج السالكين (‪.)2/419‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)2/420‬‬
‫‪84‬‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬بل أن التوفيق نفسه من آثار رمحته اليت وسعت كل شيء‪،‬‬
‫فلو فكر اإلنسان يف هذا الكون الفسيح ويف نفسه لرجع من هذه‬
‫اجلولة الفكرية‪ ،‬بعجائب واستفاد منها فوائد ما كان حيلم هبا‪ ،‬ولو‬
‫تأملنا هذه اآلية الكرمية لرأينا أموراً تعجز عن التعبري عنها قال تعاىل‪":‬‬
‫ِ‬
‫أَفَ َح ِسْبتُ ْم أَمَّنَا َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِلَْينَا اَل ُت ْر َجعُو َن* َفَت َعاىَل اللَّهُ الْ َمل ُ‬
‫ك‬
‫ب الْ َع ْر ِش الْ َك ِر ِمي" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪،115 :‬‬ ‫احْلَ ُّق اَل إِلَهَ إِاَّل ُه َو َر ُّ‬
‫‪.)116‬‬
‫ومما يؤكد أمهية هذا التوحيد هو ما تثمره أمساء اهلل وصفاته يف قلب‬
‫املؤمن من زيادة اإلميان ورسوخ يف اليقني‪ ،‬وما جتلبه له من النور‬
‫والبصرية اليت حتصنه من الشبهات املضللة والشهوات اجملرمة ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫فهذا العلم إذا رسخ يف القلب أوجب خشية اهلل ال حمالة فكل اسم‬
‫من أمساء اهلل له تأثري يف القلب والسلوك‪ ،‬فإذا أدرك القلب معىن‬
‫االسم وما يتضمنه واستشعر ذلك‪ ،‬جتاوب مع هذه املعاين وانعكست‬
‫هذه املعرفة على تفكريه وسلوكه ولكل صفة عبودية خاصة هي من‬
‫موجباهتا مقتضياهتا فاألمساء احلسىن والصفات العلى مقتضاها آلثرها من‬
‫العبودية وهذا مطرد يف مجيع أنواع العبودية اليت على القلب واجلوارح‪،‬‬
‫فمثالً‪ :‬علم العبد بتفرد الرب تعاىل بالضر والنفع والعطاء واملنع واخللق‬
‫والرزق واإلحياء واإلماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ولوازم‬
‫التوكل ومثراته ظاهراً‪ ،‬وعلمه بسمعه وبصره وعلمه أنه ال خيفى عليه‬
‫مثقال ذرة يف السموات وال يف األرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم‬
‫خائنة األعني وما ختفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه‬
‫وخطرات قلبه عن كل ما ال يرضي اهلل وأن جيعل تعلق هذه األعضاء‬
‫مبا حيبه ويرضاه فيثمر له ذلك احلياء باطناً‪ ،‬ويثمر له احلياء اجتناب‬
‫احملرمات والقبائح‪ ،‬ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره‪ ،‬وإحسانه ورمحته‬
‫‪ 1‬انظر‪ :‬دراسات في مباحث األسماء والصفات صـ ‪.15 ،14‬‬
‫‪85‬‬
‫توجب له سعة الرجاء‪ ،‬ويثمر له ذلك من أنواع العبودية ‪ ،‬الظاهرة‬
‫‪1‬‬

‫والباطنة حبسب معرفته وعلمه وكذلك معرفته جبالل اهلل وعزه تثمر له‬
‫اخلضوع واإلستكانة واحملبة‪ ،‬وتثمر له تلك األحوال الباطنة أنواعاً من‬
‫العبودية الظاهرة هي موجباهتا وكذلك علمه لكماله ومجاله وصفاته‬
‫العلى يوجب له حمبة خاصة مبنزلة أنواع العبودية فرجعت تلك العبودية‬
‫كلها إىل مقتضى األمساء والصفات وارتبطت هبا ‪ ،‬وهذه األحوال اليت‬
‫‪2‬‬

‫تتصف هبا القلوب‪ :‬هي أكمل األحوال‪ ،‬وأجل وصف يتصف به القلب‬
‫وينصبغ به‪ ،‬وال يزال العبد ميرن نفسه عليها حىت تنجذب نفسه‬
‫وروحه بدواعيه منقادة راغبة وهبذه األعمال القلبية تكمل األعمال‬
‫البدنية فسأل اهلل أن ميأل قلوبنا من معرفته وحمبته واإلنابة إليه‪ ،‬فإنه‬
‫أكرم األكرمني وأجود األجودين ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫خامساً‪ :‬أثر الصفات اإللهية على األخالق‪ :‬حتدث الشيخ عز الدين‬


‫بن عبد السالم يف كتابه شجرة املعارف واألحوال وصاحل األقوال‬
‫واألعمال على صفات اهلل وكيفية توحيده وتنزيهه والوجه األسلم يف‬
‫ذلك‪ ،‬وكيفية التخلق بصفات اهلل عز وجل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪1‬ـ التخلق بالقدوس‪ :‬فقال‪ :‬القدوس هو الطاهر من كل عيب ونقصان‬
‫ومثرة معرفته‪ :‬التعظيم‪ ،‬واإلجالل والتخلق به بالتطهري من كل حرام‬
‫ومكروه وشبهة‪ ،‬وفضل مباح شاغل عن موالك‪.‬‬
‫‪2‬ـ التخلق بالسالم‪ :‬إن أُخذ من تسليمه على عباده فعليك بإفشاء‬
‫السالم‪ ،‬فإنه من أفضل خصال اإلسالم وإن أخذ من السالمة من‬
‫العيوب‪ ،‬فهو كالقدوس‪ ،‬وإن أخذ من الذي سلم عباده من ظلمه‪،‬‬

‫‪ 1‬مفتاح السعادة (‪.)2/90‬‬


‫‪ 2‬مفتاح دار السعادة (‪.)2/90‬‬
‫‪ 3‬القواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي صـ ‪.130‬‬
‫‪86‬‬
‫وشرك‪ ،‬فإن املسلم من سلم‬
‫وضرك ّ‬
‫ّ‬ ‫فليسلم الناس من غشك وظلمك‬
‫املسلمون من لسانه ويده‪.‬‬
‫‪3‬ـ التخلق باإليمان‪" :‬المؤمن" إن أُخذ من تصديق اهلل نفسه فعليك‬
‫باإلميان بكل ما أنزله الرمحن وإن أُخذ من أمنه العباد من ظلمه‬
‫فأظهر من برك وخريك ما يؤمن الناس من شرك وضريك وإن أخذ‬
‫من خالق كل أمن فاسع لعباد اهلل من كل أمن ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪4‬ـ التخلق بالهيمنة‪ :‬املهيمن‪ ،‬هو الشهيد‪ ،‬فإن أخذ من مشاهدته‬


‫لعباده وعليهم يف القيامة‪ ،‬فثمرة معرفته خوفك وحياؤك من شهادته‬
‫عليك إن عصيته‪ ،‬ورجاؤك شهادته لك إن أطعته‪ ،‬والتخلق به أن تقوم‬
‫وسر‪ ،‬ولو على نفسك أو‬‫وضر‪ ،‬وساء‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫بالشهادة يف كل ما نفع‬
‫الوالدين واألقربني‪.‬‬
‫‪5‬ـ التخلق بالعزة‪" :‬العزيز"‪ ،‬إن أخذ من الغلبة فهو كالقهار ومثرة‬
‫الضيم فال ختلق به إال يف‬
‫معرفته اخلوف وإن أخذ من االمتناع من ّ‬
‫الضيوم‪ ،‬كضيم الكفار الفجار‪ ،‬وإن أخذ من الذي يعز وجود‬ ‫بعض ُ‬
‫مثله فهو سالب للنظري‪ ،‬فال ختلق به إال بالتوحد بالطاعة والعرفان على‬
‫حسب اإلمكان‪ ،‬بالنسبة إىل أبناء الزمان ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 6‬ـ التخلق بالجبر "الجبار"‪ :‬إن أخذ من جربوت العظم والفقري‪ ،‬إذ‬
‫أصلحتهما فثمرت معرفته رجاء جربه وإصالحه والتخلق به‪ ،‬بأن تعامل‬
‫عباده بكل خري وإصالح تقدر عليه‪ ،‬أو تصل إليه‪ ،‬وإن أخذ من‬
‫العلو فهو كالعلي‪ ،‬ومثرة معرفته كالثمرات معارف مجيع الصفات‪ ،‬وإن‬
‫أخذ من اإلجبار فهو كالقهار ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ 1‬شجرة المعارف صـ ‪.39‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.39‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.39‬‬
‫‪87‬‬
‫‪ 7‬ـ التخلق بالتكبر عن الرذائل "المتكبر"‪ :‬إن أخذ من تكربه عن‬
‫النقائص فهو كالقدوس‪ ،‬فتكرب عن كل خلق دينء‪ ،‬وإن جعل شامالً‬
‫جلميع األوصاف فثمرة معرفته اإلجالل واملهابة يف مجيع األحوال‬
‫احلادثات من سائر الصفات‪ ،‬وكذلك العظيم واجلليل والعلي واألعلى ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 8‬ـ التخلق بالحلم‪" :‬الحليم"‪ :‬هو الذي ال يعجل بعقوبة املذنبني‪،‬‬


‫فأحلم عن كل من آذاك وظلمك وسبّك‪ ،‬وشتمك‪ ،‬فإن موالك صبور‬
‫حليم‪َ ،‬بٌّر كرمي‪ ،‬يقبل التوبة عن عباده‪ ،‬ويعفو عن السيئات ويعلم ما‬
‫تفعلون‪.‬‬
‫‪9‬ـ التخلق بالصبر‪":‬الصبور" هو الذي يعامل عباده معاملة الصابرين‪،‬‬
‫فعليك بالصرب على أذية املؤذين وإساءة املسيئني فإن اهلل حيب‬
‫الصابرين ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪10‬ـ التخلق باإلعزاز‪" :‬المعز" خالق العِِّز ومثرة معرفته الطمع يف‬
‫إعزازه باملعارف والطاعات والتخلق به‪ ،‬بإعزاز الدين ومن تبعه من‬
‫عباد اهلل املؤمنني‪.‬‬
‫‪11‬ـ التخلق باإلذالل‪" :‬المذل" خالق ُّ‬
‫الذل ومثرة معرفته خوف‬
‫اإلذالل باملعاصي واملخالفات‪ ،‬واملعاملة به بإذالل الباطل وأشياعه وإمخال‬
‫العُدوان وأتباعه ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪12‬ـ التخلق باالنتقام‪" :‬المنتقم" هو املعذب ملا يشاء من عباده عدالً‪،‬‬


‫ومثرة معرفته اخلوف من انتقامه والتخلق به ملن ابتُلي بشيء من‬
‫الواليات باالنتقام من اجلنُاة باحلدود‪ ،‬والتعزيزات والعقوبات املشروعات ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫‪13‬ـ التخلق باللطف‪" :‬اللطيف" إن أخذ من معرفة الدقائق فثمرة‬


‫معرفته خوفك ومهابتك وحياؤك من معرفته‪ ،‬بدقائق أحوالك وخفايا‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.39‬‬
‫‪ 2‬شجرة المعارف صـ ‪.39‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.41‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه صـ ‪.43‬‬
‫‪88‬‬
‫أقوالك وأعمالك إذ ال يعذب عن خالق األشياء مثقال ذرة يف األرض‬
‫يف اخْلَبِريُ" (امللك‪ ،‬آية‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وال يف السماء " أَاَل َي ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َق َو ُه َو اللَّط ُ‬
‫‪.)14‬‬
‫‪14‬ـ التخلق بالشكر‪" :‬الشكور" إن أخذ من ثنائه على عباده‪ ،‬فثمرة‬
‫معرفته رجاؤك الدخول يف مدحته بطاعته ومعرفته والتخلق به بشكر‬
‫موالك وشكر أبويك وشكر كل من أحسن إليك ‪ ،‬من اليشكر الناس‬
‫‪1‬‬

‫ال يشكر اهلل ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 15‬ـ التخلق بالحفظ‪" :‬الحفيظ" ‪ ،‬إن أخذ من العلم فقد سبق‪ ،‬وإن‬
‫أوالدك‬ ‫أخذ من ضبط األشياء وحفظها فثمرة معرفته رجاؤك حفظه يف‬
‫فإن‬ ‫أمرت به من الطاعات واألمانات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأُخراك والتخلق به حبفظ ما‬
‫َما‬ ‫اهلل قد مدح احلافظني حلدوده‪ ،‬وبشََّر ُهم بإجناز وعوده فقال‪َ ":‬ه َذا‬
‫يظ" (ق ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬ ‫اب ح ِف ٍ‬
‫وع ُدو َن لِ ُك ِّل أ ََّو ٍ‬
‫َ‬ ‫تُ َ‬
‫واملؤخر"‪ ،‬مثرة معرفتها املهابة‬
‫ِّ‬ ‫خلُّق بالتقديم والتأخير‪" :‬املقدم‬
‫‪ 16‬ـ الت َ‬
‫ِّمك بطاعته‪،‬‬ ‫واإلجالل واالعتماد عليه يف تقدميه وتأخريه ورجاء أن يُقد َ‬
‫يؤخرك مبعصيته والتخلق هبما بتقدمي ما أمرت بتقدميه‬ ‫وخوف أن ِّ‬
‫وتأخري ما أمرت بتأخريه‪ ،‬بأن تقدم األمثال على األراذل‪ ،‬وأن تقدم‬
‫ومضي َقها على‬
‫َّ‬ ‫أوجب الطاعات على واجبها‪ ،‬وأفضلها على فاضلها‪،‬‬
‫موسعها‪ ،‬وبأن تقدم ال ُقربات والطاعات إىل أوائل األوقات‪ ،‬فإن اهلل‬
‫مدح الذين يسارعون يف اخلريات ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫بالب ِّر‪( :‬البُّر)‪ :‬هو املنعم‪ ،‬ومثرة معرفته رجاء أنواع ّبره‪،‬‬
‫‪ 17‬ـ التخلق َ‬
‫بأحب أموالك إليك‬
‫ِّ‬ ‫والتخلق به بأن ترَّب ُك َّل من تقدر على بره‬

‫‪ 1‬شجرة المعارف واألحوال صـ‪.45‬‬


‫‪ 2‬سنن أبي داود رقم ‪.4811‬‬
‫‪ 3‬شجرة المعارف صـ ‪.45‬‬
‫‪89‬‬
‫فإن موالك يقول‪ ":‬لَن َتنَالُواْ الْرِب َّ َحىَّت تُ ِنف ُقواْ مِم َّا حُتِ بُّو َن"‬
‫وأنفسها لديك‪َّ ،‬‬
‫( آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)92 :‬‬
‫‪ 18‬ـ التخلق بالتوبة‪":‬التّواب"‪ :‬إن ُجعل مبعىن املوفِّق للتوبة فثمرة‬
‫ث املسيءَ على التوبة‬ ‫معرفته رجاء توبته عليك‪ ،‬والتخلف به بأن حَتُ َّ‬
‫األوبَة‪ ،‬وإن ُجعل مبعىن قابل التوبة‪ ،‬فاقبل عذر من أساء‬ ‫وحترضهُ على ْ‬
‫َّ‬
‫إليك وندم على جرأته عليك‪.1‬‬

‫‪ 19‬ـ التخلق بمعنى المغني‪ :‬والتحلق به بأن تُغين ّ‬


‫كل حمتاج مبا‬
‫تقدر عليه من علم وغريه‪ ،‬فتذكر الغافل‪ ،‬وتُعلم اجلاهل‪ ،‬وتُقيم املائل‬
‫وتُسرِّي العائل‪.‬‬
‫‪ 20‬ـ التّخلق بالضُّر والنَّفع‪":‬الضار والنافع"‪ :‬مثرة معرفتها خوف‬
‫وضر‬
‫ِّ‬ ‫الضَّرر ورجاءُ النفع والتخلف هبما بنفع كل من أُمرت بنفعه‬
‫كل من أمرت بضره جبد أو قتل أو غريه‪ ،‬واخللق عيال اهلل‪ ،‬فأحبهم‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫وشاسع ‪.‬‬‫‪2‬‬
‫لكل دان‬
‫إليه أنفعهم لعياله‪ ،‬فعليك ببذل املنافع ِّ‬
‫‪ 21‬ـ التخلق بهداية الضال‪ :‬النور اهلادي‪ ،‬مثرة معرفتها رجاؤك أن‬
‫ينور َجنَانك مبعرفته ويزين أركانك بآثار هدايته‪ ،‬والتخلق هبما بأن‬
‫تكون نوراً من أنوار اهلل‪ ،‬هدايا إىل صراط اهلل‪ .‬فواهلل آلن يهدي اهلل‬
‫بك رجالً واحداً خريٌ لك من أن تكون لك مُح ر النَّعم ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ 22‬ـ التخلق بالقبض والبسط‪":‬القابض الباسط"‪ :‬مثرة معرفتها اخلوف‬


‫من قبض منافع الدينا واآلخرة‪ ،‬ورجاء بسط اخلريات العاجلة واآلجلة‪،‬‬
‫والتخلق بالبسط بأن تسبط برك ومعروفك على كل حمتاج حىت على‬
‫الدواب والكالب وال ّذ ّر إذ يف كل كبد رطبة أجر ‪ .‬والتخلق بالقبض‬
‫‪4‬‬

‫‪ 1‬شجرة المعارف واألحوال وصالح األقوال صـ‪.47‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ‪.48‬‬
‫‪ 3‬البخاري رقم ‪.2942‬‬
‫‪ 4‬البخاري رقم ‪.2363‬‬
‫‪90‬‬
‫بأن تقبض عن كل أحد ما ليس له أهالً‪ ،‬من مال ووالية وعلم‬
‫وحكمة‪ ،‬فال تؤتوا السفهاء أموالكم فيتلفوها ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪23‬ـ التخلق ببذل الهبات‪" :‬الوهاب" مثرة معرفته رجاء أنواع هباته‬
‫والصالت ُمق ّدماً لآلباء واألمهات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وصالته‪ ،‬والتخلق به بكثرة اهلبات‬
‫والبنني والبنات‪.‬‬
‫‪24‬ـ التخلق بالجود والكرم‪" :‬الجواد الكريم" مثرة معرفتهما الطمع‬
‫يف آثار جوده وكرمه والتخلق هبما ملن أراد الوصول إليه بأن جتود‬
‫بكل ما يقدر عليه من مال وجاه وعلم وحكمة‪ ،‬وبر ومساعدة‪.‬‬
‫‪25‬ـ التخلق باالجابة‪" :‬المجيب" مثرة معرفته رجاء إجابة دعائك‬
‫لعلمه بافتقارك إليه واعتمادك عليه‪ ،‬وأنه سامع لدعائك عامل ببالئك‪،‬‬
‫وضرائِك‪ ،‬والتخلق به بإجابة موالك فيما دعاك إليه من‬
‫ّ‬ ‫لسرائِك‬
‫خابر ّ‬
‫ُقُرباته‪ ،‬وبإجابة كل داع إىل ما يُرضي موالك يف طاعاته وعباداته ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪26‬ـ التخلق بالمجد‪" :‬المجيد" الذي كثر شرفه‪ ،‬ومتّ كماله وجالله‬
‫يف ذاته وصفاته‪ ،‬ومثرة معرفته املهابة واإلجالل والتخلق به ميكن التخلق‬
‫به مما سبق ذكره‪ ،‬فإنه شامل جلميع الصفات كما ِمشلها ذو اجلالل‬
‫بالصفات وال حيصل التخلق‬‫ّ‬ ‫واإلكرام فهذه إشارات إىل كيفية التخلق‬
‫بالصفات إال ملن واظب على التحديق إليها‪ ،‬واإلقبال عليها‪ ،‬ولذلك‬
‫أمرنا اهلل تعاىل بإكثار ذكره لنُالبس ما يثمره ذكره من األحوال‬
‫واألقوال واألعمال ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫سادساً‪ :‬وصف اهلل نفسه بالمغفرة ال يعني اإلسراف في‬


‫المعاصي‪:‬‬

‫‪ 1‬شجرة المعارف واألحوال وصالح األقوال صـ ‪.49‬‬


‫‪ 2‬شجرة المعارف واألحوال وصالح األقوال صـ ‪.49‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.50‬‬
‫‪91‬‬
‫وصف اهلل سبحانه نفسه بأنه غفار وغفور للذنوب واخلطايا والسيئات‬
‫لصغريها وكبريها‪ ،‬وحىت الشرك إذا تاب منه اإلنسان واستغفر ربه قبِل‬
‫َسَرفُوا َعلَى‬ ‫اهلل توبته وغفر له ذنبه‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬قُل يا ِعب ِاد َّ ِ‬
‫ين أ ْ‬‫ي ال ذ َ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫وب مَجِ ًيعا إِنَّهُ ُه َو‬ ‫أَن ُف ِس ِه ْم اَل َت ْقنَطُوا ِمن رَّمْح َِة اللَّ ِه إِ َّن اللَّهَ َي ْغ ِفر ُّ‬
‫الذنُ َ‬ ‫ُ‬
‫يم " (الزمر‪ ،‬آية‪ ،)53 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬و َمن َي ْع َم ْل ُسوءًا أ َْو‬ ‫الر ِ‬
‫ور َّ ُ‬
‫ح‬ ‫الْغَ ُف ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما " (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ورا َّرح ً‬ ‫يَظْل ْم َن ْف َسهُ مُثَّ يَ ْسَت ْغف ِر اللّهَ جَي د اللّهَ َغ ُف ً‬
‫‪ )110‬ومهما كربت ذنوب هذا اإلنسان فإن مغفرة اهلل ورمحته أعظم‬
‫ك َو ِاس ُع الْ َم ْغ ِفَر ِة" (النجم ‪،‬‬ ‫من ذنوبه اليت ارتكبها قال تعاىل‪ ":‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫آية ‪ ،)32 :‬وقد تكفل اهلل سبحانه باملغفرة ملن تاب وآمن قال تعاىل‪":‬‬
‫صاحِلًا مُثَّ ْاهتَ َدى" (طه ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫اب َو َآم َن َو َعم َل َ‬ ‫َوإِيِّن لَغَ َّف ٌار لِّ َمن تَ َ‬
‫‪ ،)82‬ومن فضله وجوده وكرمه تعهد أن يبدل سيئات املذنبني إىل‬
‫ِ‬
‫يما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪ .)70 :‬ولكن ال‬ ‫ورا َّرح ً‬ ‫حسنات " َو َكا َن اللَّهُ َغ ُف ً‬
‫جيوز للمسلم أن يسرف يف اخلطايا واملعاصي والفواحش حبجة أن اهلل‬
‫غفور رحيم‪ ،‬فاملغفرة إمنا تكون للتائبني األوابني‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬إِن تَ ُكونُواْ‬
‫ِ‬ ‫حِلِ‬
‫ورا" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪ ،)25 :‬وقال سبحانه‬ ‫ني َغ ُف ً‬ ‫ني فَِإنَّهُ َكا َن لأل ََّوابِ َ‬ ‫صا َ‬ ‫َ‬
‫يم" (النمل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫وتعاىل‪ ":‬إِاَّل َمن ظَلَ َم مُثَّ بَد َ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫َّل ُح ْسنًا َب ْع َد ُسوء فَإيِّن َغ ُف ٌ‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)11 :‬فاشرتط تبدل احلال من عمل املعاصي والسيئات إىل‬
‫الصاحلات واحلسنات لكي تتحقق املغفرة والرمحة‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬إِ َّن اللّهَ الَ‬
‫َي ْغ ِفُر أَن يُ ْشَر َك بِِه " (النساء ‪ ،‬آية ‪ ،)48 :‬يبني اهلل أن املقيم على‬
‫الشرك حىت الوفاة ال غفران لذنوبه ألنه مل يبدل حسناً بعد سوء‬
‫وكذلك قوله تعاىل عن املنافقني‪َ ":‬س َواء َعلَْي ِه ْم‬
‫ت هَلُ ْم أ َْم مَلْ تَ ْسَت ْغ ِف ْر هَلُ ْم لَن َي ْغ ِفَر اللَّهُ هَلُ ْم" (املنافقون‪ ،‬آية ‪)6 :‬‬ ‫َسَت ْغ َف ْر َ‬
‫أْ‬
‫ألهنم مل خيلصوا دينهم هلل ومل يصلحوا من أحواهلم‪ ،‬وأما إذا حصل‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ذلك فإن املغفرة حتصل هلم مع املؤمنني‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬إالَّ الذ َ‬
‫ين تَابُواْ‬

‫‪92‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‬ ‫صواْ د َين ُه ْم للّ ِه فَأ ُْولَـئِ َ‬
‫ك َم َع الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫َخلَ ُ‬
‫ِ‬
‫ص ُمواْ بِاللّه َوأ ْ‬ ‫َصلَ ُحواْ َو ْاعتَ َ‬
‫َوأ ْ‬
‫يما" (النساء ‪ ،‬آية ‪ ،)146 :‬فالبد‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َجًرا َعظ ً‬ ‫ني أ ْ‬ ‫ف يُ ْؤت اللّهُ الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫َو َس ْو َ‬
‫من األخذ باالسباب املؤدية إىل املغفرة‪ ،‬وأما إن مات وهو مقيم على‬
‫الكبائر من غري أن يتوب‪ ،‬فإنه ليس له عهد عند اهلل باملغفرة والرمحة‪،‬‬
‫بل إن شاء غفر له وعفا عنه لفضله وإن شاء عذبه يف النار لعدله‬
‫مث خيرجه برمحته وشفاعة الشافعني من أهل طاعته مث يدخله اجلنة‬
‫‪1‬‬
‫وذلك للموحدين خاصة‬

‫‪ 1‬النهج األسمى في شرح أسماء هللا الحسنى صـ ‪ ،151 ،150‬شرح الطحاوية صـ ‪416‬ـ ‪.421‬‬
‫‪93‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫توحيد األلوهية‬

‫أوالً‪ :‬تعريفه ومكانته خاصة‪ :1‬هو إفراد اهلل عز وجل جبميع أنواع‬
‫العبادات وإخالصها له وحده ال شريك له ظاهراً وباطناً وهو توحيد‬
‫اهلل تعاىل بأفعال العباد ويسمى توحيد العبادة‪ ،‬ألن األلوهية والعبودية‬
‫مبعىن واحد‪ ،‬إذا معىن اإلله‪ :‬املعبود ‪ ،‬قال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪:‬‬
‫‪2‬‬

‫اهلل ذو األلوهية والعبودية على خلقه أمجعني ‪.‬‬


‫‪3‬‬

‫وهذا التوحيد أعظم أنواع التوحيد وأمهها‪ ،‬واملتضمن هلا مجيعاً‪ ،‬وال‬
‫يصري العبد مؤمناً إال بتحقيقه وهو الذي ألجله خلق اهلل عباده وأنزل‬
‫كتبه‪ ،‬وبعث أنبياءه ورسله عليهم الصالة والسالم‪ ،4‬قال تعاىل‪َ ":‬و َما‬
‫ون" (الذاريات ‪ ،‬آية‪ )56:‬وقال تعاىل‪َ ":‬ولََق ْد‬ ‫خلَ ْقت اجْلِ َّن واإْلِ نس إِاَّل لِيعب ُد ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫وت فَ ِمْن ُهم َّم ْن‬ ‫بع ْثنَا يِف ُك ِّل أ َُّم ٍة َّرسوالً أ َِن ْاعب ُدواْ اللّه و ِ‬
‫اجتَنبُواْ الطَّاغُ َ‬
‫َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫ت َعلَْي ِه الضَّاللَةُ" (النحل ‪ ،‬آية ‪.)36:‬‬ ‫ِ‬
‫َه َدى اللّهُ َومْن ُهم َّم ْن َح َّق ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّين" (البينة ‪ ،‬آية‬ ‫ني لَهُ الد َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ":‬و َما أُمُروا إِاَّل لَي ْعبُ ُدوا اللَّهَ خُمْلص َ‬
‫‪.)5 :‬‬
‫ـ وهذا التوحيد هو معىن قول‪ :‬ال إله إال اهلل واليت معناها‪ :‬ال معبود‬
‫حبق إال اهلل ‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫ـ ومما يدل على أمهية توحيد األلوهية أنه هو التوحيد الذي أرسل اهلل‬
‫به الرسل من أوهلم إىل آخرهم واتفقت دعوة الرسل من أول رسول‬
‫بعثه اهلل إىل خامتهم حممد صلى اهلل عليه وسلم اتفقت دعوهتم إىل‬
‫ِ‬
‫البدء بدعوة أقوامهم إىل إخالص العبادة هلل ونبذ الشرك بكل صوره‬
‫‪ 1‬المنهج األسمى في شرح أسماء هللا الحسنى صـ‪ ،151 ،150‬شرح الطحاوية صـ‪ 416‬ـ ‪.421‬‬
‫‪ 2‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ‪.234‬‬
‫‪ 3‬دعوة التوحيد‪ ،‬خليل الهراس صـ‪.37‬‬
‫‪ 4‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ‪.234‬‬
‫‪ 5‬منهج السلف والمتكلمين في موافقه العقل للنقل (‪.)1/261‬‬
‫‪94‬‬
‫ك ِمن‬ ‫ِ‬
‫وأسبابه ووسائله املؤدية إليه قال تعاىل‪َ ":‬و َما أ َْر َس ْلنَا ِمن َقْبل َ‬
‫اعب ُد ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫ون" (األنبياء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َّر ُسول إاَّل نُوحي إلَْيه أَنَّهُ اَل إلَهَ إاَّل أَنَا فَ ْ ُ‬
‫‪ ،)25‬وقال تعاىل عن نوح عليه السالم أنه قال لقومه‪ْ ":‬اعبُ ُدواْ اللَّهَ َما‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظي ٍم" (األعراف ‪،‬‬ ‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬
‫َخ ُ‬ ‫ٍ‬
‫لَ ُكم ِّم ْن إِلَـه َغْيُرهُ إِيِّنَ أ َ‬
‫آية ‪ ،)59 :‬وقال عن نبيه ابراهيم عليه السالم أنه قال لقومه‪":‬‬
‫يم إِ ْذ قَ َال لَِق ْو ِم ِه ْاعبُ ُدوا اللَّهَ َو َّات ُقوهُ ذَلِ ُك ْم َخْيٌر لَّ ُك ْم إِن ُكنتُ ْم‬ ‫وإِبر ِ‬
‫اه‬
‫َ َْ َ‬
‫َت ْعلَ ُمو َن" (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ ،)16 :‬وقال تعاىل عن كليمه موسى عليه‬
‫السالم أنه قال لقومه‪ ":‬إِمَّنَا إِهَلُ ُك ُم اللَّهُ الَّ ِذي اَل إِلَهَ إِاَّل ُه َو َو ِس َع ُك َّل‬
‫َش ْي ٍء ِع ْل ًما" (طه ‪ ،‬آية ‪ ،)98 :‬وقال تعاىل عن املسيح عليه السالم أنه‬
‫ض الَّ ِذي خَت ْتَلِ ُفو َن فِ ِيه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫قال لقومه‪ ":‬قَ ْد جْئتُ ُكم بِاحْل ْك َمة َوأِل َُبنِّي َ لَ ُكم َب ْع َ‬
‫اعبُ ُدوهُ َه َذا ِصَرا ٌط‬‫ون* إِ َّن اللَّهَ ُه َو َريِّب َو َربُّ ُك ْم فَ ْ‬‫َطيع ِ‬‫ِ‬
‫فَ َّات ُقوا اللَّهَ َوأ ُ‬
‫يم" (الزخرف ‪ ،‬آية ‪.)64 ،63 :‬‬ ‫ِ‬
‫ُّم ْستَق ٌ‬
‫ـ وأول ما بدأ به خامتهم حممد صلى اهلل عليه وسلم دعوته إىل اهلل‬
‫عز وجل دعوة الناس إىل اخالص العبادة هلل‪ ،‬ونبذ الشرك بأنواعه‬
‫ووسائله وأسبابه بالقول والفعل‪ ،‬فحمى صلى اهلل عليه وسلم محى‬
‫التوحيد‪ ،‬ودعا إليه‪ ،‬وأنذر الشرك غاية اإلنذار واستمر على هذا املنهج‬
‫حىت حلق بالرفيق األعلى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واقتدى به اصحابه‬
‫رضوان اهلل عليهم أمجعني وكل من اتبع طريقته واسنت بسنته‪ ،‬فطريقته‬
‫يف الدعوة هي‪ ":‬قُل ه ِـذ ِه سبِيلِي أ َْدعو إِىَل اللّ ِه علَى ب ِ‬
‫ص َري ٍة أَنَاْ َو َم ِن‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (يوسف ‪ ،‬آية ‪،)108 :‬‬ ‫اتََّب َعيِن َو ُسْب َحا َن اللّه َو َما أَنَاْ م َن الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫ويف هذه اآلية أمر اهلل رسوله صلى اهلل عليه وسلم أن خيرب الناس أن‬
‫هذه سبيله أي‪ :‬طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إىل شهادة أن ال‬
‫إله إال اهلل وحده ال شريك له يدعو هبا على بصرية من ذلك ويقني‬

‫‪95‬‬
‫وبرهان وكل من اتبعه يدعو إىل ما دعا إليه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم على بصرية وبرهان عقلي وشرعي‪.1‬‬
‫وقد بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن توحيد العبادة أساس‬
‫اإلسالم وأنه أول ما يبدأ له يف الدعوة إىل اهلل ويدل على ذلك‬
‫رسائله صلى اهلل عليه وسلم ومبايعته وجهاده ووصاياه لقواده‪ ،‬وغري‬
‫ذلك من األمور‪ ،‬ومن األمثلة الدالة على هذا‪:‬‬
‫‪1‬ـ إرساله صلى اهلل عليه وسلم معاذاً رضي اهلل عنه إىل اليمن لدعوة‬
‫قوم من أهل الكتاب إىل توحيد اهلل عز وجل‪ ،‬فعن ابن عباس رضي‬
‫اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا بعث معاذاً إىل‬
‫اليمن قال له‪ :‬إنك تأيت قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم‬
‫إليه شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬ويف رواية‪ :‬إىل أن يوحدوا اهلل‪ ،‬فإن‬
‫هم أطاعوك على ذلك فأعلمهم أن اهلل افرتض عليهم مخس صلوات‬
‫يف كل يوم وليلة ‪ ،‬فبني صلى اهلل عليه وسلم أن أول ما يبدأ به يف‬
‫‪2‬‬

‫الدعوة إىل اهلل تعاىل إىل شهادة أن ال إله إال اهلل وإخالص العبادة له‬
‫جال وعال ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪2‬ـ وكذلك أمره صلى اهلل عليه وسلم علي بن أيب طالب رضي اهلل‬
‫عنه يوم خيرب بدعوة اليهود إىل التوحيد أوالً حيث أعطاه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم الراية وقال‪ :‬انفذ على رسلك‪ ،‬حىت تنزل بساحتهم‪ ،‬مث‬
‫ادعهم إىل اإلسالم‪ ،‬وأخربهم مبا جيب عليهم من حق اهلل تعاىل فيه‪،‬‬
‫فواهلل ألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خري لك محر النعم ‪ ،‬ويف‬
‫‪4‬‬

‫رواية أخرى‪ :‬فسار علي رضي اهلل عنه مث وقف ومل يلتفت فصرخ‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل على ماذا أقاتل الناس؟ فقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬قاتلهم‬

‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪ 2/513‬ـ ‪.)514‬‬


‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك المغازي رقم ‪.4347‬‬
‫‪ 3‬منهج السلف والمتكلمين (‪.)267 /1‬‬
‫‪ 4‬البخاري‪ ،‬ك فضائل الصحابة‪ ،‬رقم ‪.3701‬‬
‫‪96‬‬
‫حىت يشهدوا أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن حممداً رسول اهلل‪ ،‬فإذا فعلوا‬
‫ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأمواهلم إال حبقها وحساهبم على اهلل ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪3‬ـ وكذلك مبايعاته صلى اهلل عليه وسلم تدل على أن أول ما يبدأ‬
‫به يف الدعوة إىل اهلل إخالص العبادة هلل الذي هو التوحيد ومن‬
‫األمثلة على ذلك‪ ،‬عن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال لنا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحنن يف جملس‪ :‬تبايعوين على أن ال‬
‫تشركوا باهلل شيئاً‪ ،2‬وعن أم عطية رضي اهلل عنها قالت‪ :‬بايعنا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقرأ علينا‪ ":‬أَن اَّل يُ ْش ِر ْك َن بِاللَّ ِه َشْيئًا"‬
‫(املمتحنة ‪ ،‬آية ‪.3)12 :‬‬
‫‪4‬ـ وكذلك جهاد النيب صلى اهلل عليه وسلم وقتاله إمنا كان من أجل‬
‫دعوة الناس إىل إخالص العبادة هلل عز وجل والرباءة من الشرك وأهله‪،‬‬
‫والدفاع عن راية التوحيد‪ ،‬فعن ابن عمر رضي اهلل عنهما أن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أن‬
‫ال إله إال اهلل وأن حممداً رسول اهلل‪ ،‬ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪،‬‬
‫فإذا فعلوا ذلك عصموا مين دماءهم وأمواهلم إال حبق اإلسالم وحساهبم‬
‫على اهلل عز وجل ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫ثانياً‪ :‬الطريقة القرآنية في الدعوة لتوحيد األلوهية‪ :‬تعددت‬


‫األساليب القرآنية يف الدعوة إىل توحيد األلوهية‪:‬‬
‫‪1‬ـ منها بيان آيات ربوبيته سبحانه اليت يراها الناس ويقرون هبا‪،‬‬
‫وإنه هو سبحانه هو خالقها‪ ،‬مث خيتمها بالدعوة إىل أفراده سبحانه‬
‫بالعبادة‪ ،‬فكما أنه املتفرد هبذا اخللق‪ ،‬فيجب أن يكون وحده سبحانه‬

‫‪ 1‬مسلم رقم ‪.2405‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.7213‬‬
‫‪ 3‬البخاري رقم ‪.7215‬‬
‫‪ 4‬البخاري رقم ‪.25‬‬
‫‪97‬‬
‫املتفرد بالعبادة ال شريك له ومن ذلك قوله تعاىل‪":‬يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫َّاس‬
‫ين ِمن َقْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َتَّت ُقو َن * الَّ ِذي‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ْاعبُ ُدواْ َربَّ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم َوالذ َ‬
‫َخَر َج‬ ‫الس َماء َماء فَأ ْ‬ ‫َنز َل ِم َن َّ‬ ‫الس َماء بِنَاء َوأ َ‬ ‫ض فَِراشاً َو َّ‬ ‫َج َع َل لَ ُك ُم األ َْر َ‬
‫َنداداً َوأَنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن" (البقرة‪،‬‬ ‫ات ِر ْزقاً لَّ ُك ْم فَالَ جَتْ َعلُواْ لِلّ ِه أ َ‬ ‫بِِه ِمن الثَّمر ِ‬
‫َ ََ‬
‫آية‪.)22 ،21 :‬‬
‫اصطََفى آللَّهُ َخْيٌر‬ ‫وكقوله تعاىل‪":‬قُ ِل احْل م ُد لِلَّ ِه وساَل م علَى ِعب ِاد ِه الَّ ِ‬
‫ين ْ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ََ ٌ َ‬ ‫َْ‬
‫الس َماء‬‫َنز َل لَ ُكم ِّم َن َّ‬ ‫أ ََّما ي ْش ِر ُكو َن * أ ََّمن خلَق َّ ِ‬
‫ض َوأ َ‬ ‫الس َم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات َب ْه َجة َّما َكا َن لَ ُك ْم أَن تُنبِتُوا َش َجَر َها أَإِلَهٌ‬ ‫َماء فَأَنبَْتنَا بِه َح َدائ َق َذ َ‬
‫ض َقَر ًارا َو َج َع َل ِخاَل هَلَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َع اللَّه بَ ْل ُه ْم َق ْو ٌم َي ْعدلُو َن * أ ََّمن َج َع َل اأْل َْر َ‬
‫اجًزا أَإِلَهٌ َّم َع اللَّ ِه بَ ْل‬‫أَْنهارا وجعل هَل ا رو ِاسي وجعل ب الْبحري ِن ح ِ‬
‫َ ً َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َنْي َ َ ْ َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السوءَ‬‫ف ُّ‬ ‫ضطََّر إِ َذا َد َعاهُ َويَ ْكش ُ‬ ‫يب الْ ُم ْ‬ ‫أَ ْكَثُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُمو َن * أ ََّمن جُي ُ‬
‫ض أَإِلَهٌ َّم َع اللَّ ِه قَلِياًل َّما تَ َذ َّكُرو َن * أ ََّمن َي ْه ِدي ُك ْم‬ ‫َوجَيْ َعلُ ُك ْم ُخلَ َفاء اأْل َْر ِ‬
‫ِِ‬ ‫ات الَْبِّر َوالْبَ ْح ِر َو َمن يُْر ِس ُل ِّ‬ ‫يِف ظُلُم ِ‬
‫اح بُ ْشًرا َبنْي َ يَ َد ْي َرمْح َته أَإِلَهٌ‬ ‫الريَ َ‬ ‫َ‬
‫َّم َع اللَّ ِه َت َعاىَل اللَّهُ َع َّما يُ ْش ِر ُكو َن * أ ََّمن َيْب َدأُ اخْلَْل َق مُثَّ يُعِ ُ‬
‫يدهُ َو َمن‬
‫ض أَإِلَهٌ َّم َع اللَّ ِه قُ ْل َهاتُوا بُْر َهانَ ُك ْم إِن ُكنتُ ْم‬ ‫الس َماء َواأْل َْر ِ‬ ‫َي ْر ُزقُ ُكم ِّم َن َّ‬
‫ني" (النمل‪ ،‬آية‪59 :‬ـ ‪ ،)64‬يقول اهلل تعاىل يف آخر كل آية "أإله‬ ‫ِِ‬
‫صادق َ‬ ‫َ‬
‫مع اهلل" أي أإله مع اهلل فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار‪ ،‬يتضمن نفي‬
‫ذلك‪ ،‬وهم كانوا مقرين بأنه مل يفعل ذلك غري اهلل‪.1‬‬
‫‪2‬ـ ومنها شهادة اهلل سبحانه على توحيد األلوهية‪ ،‬فقد شهد اهلل‬
‫لنفسه هبذا التوحيد‪ ،‬وشهدت له به مالئكته وأنبياؤه ورسله‪ ،‬قال‬
‫تعاىل‪َ ":‬ش ِه َد اللّهُ أَنَّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ ُه َو َوالْ َمالَئِ َكةُ َوأ ُْولُواْ الْعِْل ِم قَآئِ َماً‬
‫ند اللّ ِه ا ِإل ْسالَ ُم" (آل‬ ‫ِّين ِع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫يم * إ َّن الد َ‬ ‫بالْق ْسط الَ إلَـهَ إالَّ ُه َو الْ َعز ُيز احْلَك ُ‬
‫عمران‪ ،‬آية‪.)19 ،18 :‬‬

‫‪ 1‬المنحة اإللهية في تهذيب شرح الطحاوية صـ ‪.56 ،55‬‬


‫‪98‬‬
‫‪3‬ـ ومنها بيان عجز اآللهة التي يدعونها من دون اهلل تعالى‪،‬‬
‫وإهنا ال متلك لنفسها كما ال متلك لغريها نفعاً وال ضراً من دون‬
‫اهلل‪ ،‬وجاء ذلك يف آيات كثرية من كتاب اهلل‪ ،‬فعلى سبيل املثال‪،‬‬
‫ين تَ ْدعُو َن ِمن‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ض ِرب مثَل فَ ِ‬
‫استَمعُوا لَهُ إ َّن الذ َ‬
‫َّاس ُ َ َ ٌ ْ‬ ‫قال تعاىل‪" :‬يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫اب َشْيئًا اَّل‬ ‫اجتَ َمعُوا لَهُ َوإِن يَ ْسلُْب ُهم ُّ‬ ‫ِ ِ‬
‫الذبَ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُدون اللَّه لَن خَي ْلُ ُقوا ذُبَابًا َولَ ِو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وب" (احلج ‪ ،‬آية ‪ ،)73 :‬واآليات‬ ‫ب َوالْ َمطْلُ ُ‬ ‫ف الطَّال ُ‬‫ضعُ َ‬ ‫يَ ْستَنق ُذوهُ مْنهُ َ‬
‫يف هذا كثرية تبني عجز هذه األهلة اليت اختذوها من دون اهلل تعاىل‬
‫وأهنا ال متلك لنفسها وال لغريها نفعاً وال ضراً‪.‬‬
‫‪4‬ـ ومنها بيان عبّاد هذه اآللهة والتنديد هبم‪ ،‬والتشنيع عليهم‬
‫ووصفهم بالضالل والغي والعمى‪ ،‬والبعد عن اهلدى والرشاد قال تعاىل‪:‬‬
‫ون اللَّ ِه من اَّل يست ِجيب لَه إِىَل ي ِ‬
‫وم‬ ‫َض ُّل مِم َّن ي ْدعو ِمن د ِ‬ ‫" َو َم ْن أ َ‬
‫َ‬ ‫َ َْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫َّاس َكانُوا هَلُ ْم أ َْع َداء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الْقيَ َامة َو ُه ْم َعن ُد َعائه ْم َغافلُو َن * َوإ َذا ُحشَر الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ هِتِ‬
‫ين" (األحقاف ‪ ،‬آية ‪ ،)6 ، 5 :‬وقوله تعاىل‪َ " :‬مثَ ُل‬ ‫َو َكانُوا بعبَ َاد ْم َكاف ِر َ‬
‫ِ‬ ‫الَّ ِذين اخَّت ُذوا ِمن د ِ ِ ِ‬
‫ت َبْيتًا َوإِ َّن‬‫ون اللَّه أ َْوليَاء َك َمثَ ِل الْ َعن َكبُوت اخَّتَ َذ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫وت لَ ْو َكانُوا َي ْعلَ ُمو َن" (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫وت لَبيت الْعن َكب ِ‬ ‫أَوهن الْبي ِ‬
‫َْ ُ َ ُ‬ ‫ْ َ َ ُُ‬
‫‪ ،)41‬وقال تعاىل‪َ " :‬واخَّتَ ُذوا ِمن ُدونِِه آهِلَةً اَّل خَي ْلُ ُقو َن َشْيئًا َو ُه ْم خُيْلَ ُقو َن‬
‫ضًّرا َواَل َن ْف ًعا َواَل مَيْلِ ُكو َن َم ْوتًا َواَل َحيَاةً َواَل‬ ‫أِل ِ‬ ‫ِ‬
‫َواَل مَيْل ُكو َن َن ُفس ِه ْم َ‬
‫ورا" (الفرقان ‪ ،‬آية‪ )3 :‬واآليات يف هذا الباب كثرية‪.‬‬ ‫نُ ُش ً‬
‫‪5‬ـ ومنها بيان ما يقع يوم القيامة بني هؤالء املشركني وآهلتهم‬
‫من براءة بعضهم من بعض‪ ،‬وختليهم عن عابديهم وتنكرهم التباعهم‪،‬‬
‫يف حال هم أحوج ما يكون إىل من يشفع هلم‪ ،‬ويدافع عنهم ومن‬
‫ذلك قوله تعاىل‪":‬ويوم حَن شرهم مَجِ يعا مُثَّ َن ُق ُ ِ ِ‬
‫ين أَ ْشَر ُكواْ َم َكانَ ُك ْم‬ ‫ول للَّذ َ‬ ‫ً‬ ‫َ َْ َ ْ ُُ ُ ْ‬
‫آؤ ُهم َّما ُكنتُ ْم إِيَّانَا َت ْعبُ ُدو َن *‬
‫أَنتُ ْم َو ُشَر َكآ ُؤ ُك ْم َفَزيَّ ْلنَا َبْيَن ُه ْم َوقَ َال ُشَر َك ُ‬

‫‪99‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫فَ َك َفى بِاللّ ِه‬
‫يدا َبْيَننَا َو َبْينَ ُك ْم إِن ُكنَّا َع ْن عبَ َادت ُك ْم لَغَافل َ‬
‫ني" (يونس ‪،‬‬ ‫َش ِه ً‬
‫‪.)29‬‬ ‫آية ‪، 28 :‬‬
‫‪6‬ـ ومنها ما جاء في قصص األنبياء والرسل عليهم الصالة‬
‫والسالم يف دعوهتم أممهم إىل توحيد اهلل وإفراده وحده بالعبادة‪،‬‬
‫وكان ذلك مفتاح دعوة كل نيب ورسول وما جرى بينهم وبني‬
‫أقوامهم ألجله من خصومة وما دارت بسببه من معارك عظيمة بالبيان‬
‫والسنان‪ ،‬وما كان من ذلة وهالك ألعداء اهلل وأعداء رسله ونصر‬
‫ومنعة وغلبة للرسل وأتباعهم‪ ،‬وتلك سنة اهلل يف خلقه‪ ،‬وهو الذي‬
‫يقول بعد ما قص دعوة عدد من األنبياء والرسل عليهم الصالة‬
‫يد" (هود ‪ ،‬آية ‪ ،)83 :‬واآليات عن‬ ‫والسالم‪ ":‬وما ِهي ِمن الظَّالِ ِمني بِبعِ ٍ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫قصص األنبياء والرسل عليهم الصالة والسالم مع أممهم كثرية جداً‬
‫ين ِمن‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫نكتفي مبثال واحد لذلك وهو قوله تعاىل‪":‬أَمَلْ يَأْت ُك ْم َنبَأُ الذ َ‬
‫ِِ‬ ‫وح وع ٍاد ومَثُود والَّ ِذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين من َب ْعده ْم الَ َي ْعلَ ُم ُه ْم إِالَّ اللّهُ‬ ‫َقْبل ُك ْم َق ْوم نُ ٍ َ َ َ َ َ َ‬
‫ات َفَر ُّدواْ أَيْ ِد َي ُه ْم يِف أَْف َو ِاه ِه ْم َوقَالُواْ إِنَّا َك َفْرنَا مِب َا‬ ‫جاء ْتهم رسلُهم بِالْبِّينَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُْ ُ ُ ُ‬
‫ت ُر ُسلُ ُه ْم أَيِف‬ ‫يب * قَالَ ْ‬ ‫ك مِّمَّا تَ ْدعُونَنَا إِلَْي ِه ُم ِر ٍ‬ ‫أ ُْر ِس ْلتُم بِِه َوإِنَّا لَِفي َش ٍّ‬
‫ض يَ ْدعُو ُك ْم لَِي ْغ ِفَر لَ ُكم ِّمن ذُنُوبِ ُك ْم‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫اللّ ِه َش ٌّ ِ‬
‫ك فَاط ِر َّ َ َ‬
‫يدو َن أَن‬ ‫َج ٍل ُّم َس ًّـمى قَالُواْ إِ ْن أَنتُ ْم إِالَّ بَ َشٌر ِّم ْثلُنَا تُِر ُ‬ ‫ِ‬
‫َويُ َؤ ِّخَر ُك ْم إىَل أ َ‬
‫ت هَلُ ْم ُر ُسلُ ُه ْم‬ ‫ان ُّمبِ ٍ‬ ‫آؤنَا فَأْتُونَا بِس ْلطَ ٍ‬
‫ني * قَالَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫صدُّونَا َع َّما َكا َن َي ْعبُ ُد آبَ ُ‬ ‫تَ ُ‬
‫ـك َّن اللّهَ مَيُ ُّن َعلَى َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِاد ِه َو َما‬ ‫إِن حَّنْن إِالَّ ب َشر ِّم ْثلُ ُكم ولَ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ُ‬
‫ان إِالَّ بِِإ ْذ ِن اللّ ِه َوعلَى اللّ ِه َف ْليََت َو َّك ِل الْ ُم ْؤ ِمنُو َن‬ ‫َكا َن لَنَا أَن نَّأْتِي ُكم بِس ْلطَ ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫صرِب َ َّن َعلَى َما‬ ‫ِ‬
‫* َو َما لَنَا أَالَّ َنَت َو َّك َل َعلَى اللّه َوقَ ْد َه َدانَا ُسُبلَنَا َولَنَ ْ‬
‫ين َك َفُرواْ لُِر ُسلِ ِه ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫آ َذ ْيتُ ُمونَا َو َعلَى اللّه َف ْليََت َو َّك ِل الْ ُمَت َو ِّكلُو َن * َوقَ َال الذ َ‬
‫ود َّن يِف ِملَّتِنَا فَأ َْو َحى إِلَْي ِه ْم َربُّ ُه ْم لَُن ْهلِ َك َّن‬ ‫ِ‬
‫لَنُ ْخ ِر َجنَّـ ُكم ِّم ْن أ َْرضنَآ أ َْو لََتعُ ُ‬

‫‪100‬‬
‫ك لِ َم ْن َخ َ‬
‫اف َم َق ِامي‬ ‫ِِ ِ‬
‫ض ِمن َب ْعده ْم َذل َ‬ ‫ِ‬
‫ني * َولَنُ ْسكَننَّـ ُك ُم األ َْر َ‬
‫ِِ‬
‫الظَّالم َ‬
‫يد" (ابراهيم‪ ،‬آية‪9 :‬ـ ‪.)14‬‬ ‫اف و ِع ِ‬
‫َو َخ َ َ‬
‫واحلديث عن قصص األنبياء والرسل عليهم الصالة والسالم مع أممهم‬
‫يف دعوهتم يوضح أن توحيد اهلل وإفراده بالعبادة وحده ال شريك له‬
‫هو املهمة األوىل للرسل عليهم الصالة والسالم ومما تقدم يتبني أمهية‬
‫توحيد األلوهية املتضمن ألنواع التوحيد مجيعاً واملطلوب من الناس‬
‫كافة ‪.‬‬‫‪1‬‬

‫ثالثاً‪ :‬معنى العبادة وشروط قبولها‪ :‬مدار العبادة يف اللغة والشرع‬


‫على التذلل واخلضوع واالنقياد‪ ،‬والعبادة يف اللغة من الذلة‪ ،‬يقال‪ :‬طريق‬
‫معبد وبعري معبد أي مذلل‪ ،‬ويف الشرع عبارة عما جيمع كمال احملبة‬
‫واخلضوع واخلوف ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والعبادة يف تعريفها الشامل هي‪ :‬اسم جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه‬
‫من األقوال واألعمال الباطنة والظاهرة‪ ،‬فالصالة والزكاة والصيام واحلج‬
‫وصدق احلديث وأداء األمانة وبر الوالدين وصلة األرحام والوفاء بالعهود‬
‫واألمر باملعروف والنهي عن املنكر واجلهاد للكفار واملنافقني‪ ،‬واإلحسان‬
‫إىل اجلار‪ ،‬واليتيم واملسكني وابن السبيل واململوك من اآلدميني والبهائم‪،‬‬
‫والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة‪ ،‬وكذلك حب اهلل‬
‫ورسوله وخشية اهلل واإلنابة إليه وإخالص الدين له والصرب حلكمه‬
‫والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرمحته واخلوف من‬
‫عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة هلل وذلك أن العبادة هي الغاية‬
‫ت‬
‫احملبوبة له واملرضية له اليت خلق اخللق هلا كما قال تعاىل‪َ ":‬و َما َخلَ ْق ُ‬

‫‪ 1‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ ‪.249‬‬


‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪ ،)1/26‬تفسير الطبري (‪.)1/160‬‬
‫‪101‬‬
‫ون" (الذاريات ‪ ،‬آية ‪ ،)56 :‬وهبا أرسل مجيع‬‫اجْلِ َّن واإْلِ نس إِاَّل لِيعب ُد ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َ‬
‫الرسل‪.1‬‬
‫والعبادة تتضمن كمال احلب وهنايته وكمال الذل وهنايته‪ ،‬فاحملبوب الذي‬
‫ال يعظم وال يذل له ال يكون معبوداً‪ ،‬واملعظم الذي ال حيب ال‬
‫يكون معبوداً ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫شروط قبول العبادة في القرآن الكريم‪:‬‬


‫الشرط األول‪ :‬اإلخالص‪ :‬وهذا الشرط متعلق باإلرادة‪ ،‬والقصد‪ ،‬والنية‬
‫واملقصود به‪ ،‬إفراد احلق سبحانه وتعاىل بالقصد والطاعة‪ ،3‬والنية تقع يف‬
‫كالم العلماء مبعنيني‪ ،‬إحدامها‪ :‬متييز العبادات بعضها عن بعض‪ ،‬كتمييز‬
‫صالة الظهر عن صالة العصر مثالً‪ ،‬إىل أن قال‪ :‬واملعىن الثاين‪ :‬مبعىن‬
‫متييز املقصود بالعمل هل هو هلل وحده ال شريك له‪ ،‬أم هلل وغريه‪،‬‬
‫وهذه النية اليت يتكلم فيها العارفون يف كتبهم يف كالمهم على‬
‫اإلخالص وتوابعه‪ ،4‬واألدلة على هذا األصل يف القرآن والسنة وعلماء‬
‫األمة ومن سار على هنجهم كثرية فمن القرآن الكرمي قوله تعاىل‪":‬إِنَّا‬
‫ِِ‬ ‫اعبُ ِد اللَّهَ خُمْلِ ً َّ‬
‫اب بِاحْلَ ِّق فَ ْ‬ ‫أَنزلْنَا إِلَي َ ِ‬
‫ِّين * أَاَل للَّه الد ُ‬
‫ِّين‬ ‫صا لهُ الد َ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ص" (الزمر ‪ ،‬آية ‪ 2 :‬ـ ‪ ،)3‬أي ال يقبل اهلل من العمل إال ما‬ ‫ِ‬
‫اخْلَال ُ‬
‫أخلص فيه العامل هلل وحده ال شريك له‪.5‬‬
‫ند ُك ِّل َم ْس ِج ٍد‬‫وه ُك ْم ِع َ‬
‫يمواْ ُو ُج َ‬
‫وقوله تعاىل‪ ":‬قُل أَمر ريِّب بِالْ ِقس ِط وأَقِ‬
‫ْ َ ُ‬ ‫ْ ََ َ‬
‫ِِ‬
‫ودو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)29 :‬‬ ‫ِّين َك َما بَ َدأَ ُك ْم َتعُ ُ‬
‫ني لَهُ الد َ‬ ‫َو ْادعُوهُ خُمْلص َ‬
‫ومن األحاديث النبوية قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إمنا األعمال بالنيات‬
‫وإمنا لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إىل اهلل ورسوله فهجرته‬

‫‪ 1‬مجموع الفتاوى (‪10/149‬ـ ‪.)150‬‬


‫‪ 2‬التحفة العراقية صـ ‪ ،63‬مجموع الفتاوى (‪.)20/6‬‬
‫‪ 3‬مدارج السالكين (‪.)2/91‬‬
‫‪ 4‬جامع العلوم والحكم البن رجب صـ ‪.8‬‬
‫‪ 5‬تفسير ابن كثير (‪.)3/158‬‬
‫‪102‬‬
‫إىل اهلل ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‬
‫فهجرته إىل ما هاجر إليه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ويف حديث أيب هريرة قال‪ :‬مسعت النيب صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ :‬إن‬
‫أول الناس يقضي يوم القيامة عليه‪ ،‬رجل استشهد فأتى به فعرفعه‬
‫نعمته فعرفها قال‪ :‬فما عملت فيها؟ قال‪ :‬قاتلت فيك حىت استشهدت‪،‬‬
‫ئ فقد قيل‪ :‬مث أمر به‬
‫قال كذبت‪ ،‬ولكنك قاتلت ألن يقال جر ُ‬
‫فسحب على وجهه حىت ألقى يف النار‪ ،‬ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ‬
‫القرآن‪ ،‬فأتى به‪ ،‬فعرفه نعمه فعرفها‪ ،‬قال فما عملت؟ قال‪ :‬تعلمت‬
‫العلم وعلمته‪ ،‬وقرأت فيك القرآن‪ ،‬قال‪ :‬كذبت ولكنك تعلمت ليقال‪:‬‬
‫عامل وقرأت القرآن ليقال‪ :‬قارئ فقد قيل‪ ،‬مث أمر به فسحب على‬
‫وسع اهلل عليه وأعطاه من أصناف‬ ‫وجهه حىت ألقى يف النار‪ ،‬ورجل ّ‬
‫املال‪ ،‬فأتى به فعرفه نعمه فعرفها‪ ،‬قال فما عملت فيها؟ قال‪ :‬ما‬
‫تركت من سبيل حتب أن ينفق فيها إال أنفقت فيها لك‪ ،‬قال‪ :‬كذبت‬
‫ولكنك فعلت ليقال‪ :‬جواد‪ ،‬وقد قيل‪ ،‬مث أمر به فسحب على وجهه‪،‬‬
‫حىت ألقى يف النار ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫الشرط الثاني في قبول العبادة‪ ،‬الموافقة للشرع‪ :‬وأما األدلة من‬


‫القرآن فكثرية منها‪:‬‬
‫يما فَاتَّبِعُوهُ َوالَ َتتَّبِعُواْ ُّ‬
‫السبُ َل َفَت َفَّر َق‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قوله تعاىل‪َ " :‬وأ َّ‬
‫صَراطي ُم ْستَق ً‬ ‫َن َهـ َذا‬
‫صا ُكم بِِه لَ َعلَّ ُك ْم َتَّت ُقو َن" (األنعام ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫َو َّ‬ ‫بِ ُك ْم َعن َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم‬
‫‪.)153‬‬
‫ت َعلَْي ُك ْم نِ ْع َميِت‬ ‫ِ‬
‫ت لَ ُك ْم دينَ ُك ْم َوأَمْتَ ْم ُ‬
‫أَ ْك َم ْل ُ‬ ‫وقوله سبحانه‪ " :‬الَْي ْو َم‬
‫ِدينًا" (املائدة ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬ ‫يت لَ ُك ُم ا ِإل ْسالَ َم‬ ‫ِ‬
‫َو َرض ُ‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك بدء الوحي (‪.)1/2‬‬


‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك اإلمارة (‪.)1513 /2‬‬
‫‪103‬‬
‫َسلَ َم َو ْج َههُ هلل َو ُه َو حُمْ ِس ٌن واتَّبَ َع‬ ‫ِ‬
‫َح َس ُن دينًا مِّم َّْن أ ْ‬ ‫وقال تعاىل‪َ " :‬و َم ْن أ ْ‬
‫يم َحنِي ًفا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)125 :‬‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫ملةَ إ ْبَراه َ‬
‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما متسكتم‬
‫هبما‪ :‬كتاب اهلل وسنة رسوله" ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من أحدث يف أمرنا ما ليس منه فهو‬
‫رد" ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها‬
‫كنهارها ال يزيغ عنها إآل هالك" ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وعن مطرف بن عبد اهلل يقول‪ :‬مسعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده‬
‫الزائغني يف الدين يقول‪ :‬قال عمر بن عبد العزيز رضي اهلل عنه‪َ :‬س َّن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وواله األمر بعده سنناً‪ ،‬األخذ هبا‬
‫اتباع لكتاب اهلل عز وجل‪ ،‬واستكماالً لطاعة اهلل عز وجل‪ ،‬وقوة‬
‫على دين اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬ليس ألحد من اخللق تغيريها وال تبديلها‪،‬‬
‫وال النظر يف شئ خالفها‪ ،‬من اهتدى هبا فهو مهتد‪ ،‬ومن استنصر هبا‬
‫فهو منصور‪ ،‬ومن تركها واتبع غري سبيل املؤمنني‪ ،‬واله اهلل تعاىل ما‬
‫توىل وأصاله جهنم وساءت مصرياً ‪ .‬ومما روى عن الفضيل بن عياض‬
‫‪4‬‬

‫ِ‬
‫َح َس ُن َع َمالً" ( تبارك ‪ ،‬آية ‪،)2 :‬‬ ‫أنه تال قوله تعاىل‪" :‬ليَْبلَُو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ‬
‫فقال‪ :‬أخلصه وأصوبه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ :‬إذا‬
‫كان العمل خالصاً ومل يكن صواباً‪ ،‬مل يقبل‪ ،‬وإذا كان صواباً ومل‬
‫يكن خالصاً مل يقبل‪ ،‬حىت يكون خالصاً صواباً‪ ،‬واخلالص إذا كان هلل‬
‫عز وجل والصواب إذا كان على السنة ‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫‪ 1‬رواه مالك في الموطأ بالغاً‪ ،‬ك القدر‪ ،‬باب النهي عن قول الغقدر (‪.)2/898‬‬
‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك األقضية (‪.)1344 ، 2/1343‬‬
‫‪ 3‬سنن ابن ماجة‪ ،‬باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (‪.)14 / 1‬‬
‫‪ 4‬الشريعة لآلجري صـ‪.48‬‬
‫‪ 5‬مدارج السالكين (‪.)89 / 2‬‬
‫‪104‬‬
‫وبعد ذكر شرطي العبادة املقبولة عند اهلل سبحانه وتعاىل يتبني أن دين‬
‫اإلسالم مبين على أصلني‪ :‬أن نعبد اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأن نعبده‬
‫مبا شرعه من الدين‪ ،‬وهو ما أمرت به الرسل ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫إن الغاية من خلق اإلنسان وكتابة املوت واحلياة عليه واضح يف قوله‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َس ُن َع َماًل َو ُه َو الْ َع ِز ُيز‬
‫ت َواحْلَيَاةَ ليَْبلَُو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ‬ ‫تعاىل‪" :‬الَّذي َخلَ َق الْ َم ْو َ‬
‫ور" (تبارك ‪ ،‬آية ‪ .)2 :‬واألحسن عمالً يتضمن أمرين‪ :‬كما فسر‬ ‫الْغَ ُف ُ‬
‫ذلك الفضيل بن عياض ـ رمحه اهلل ـ عندما قال‪ :‬أحسنه أي أخلصه‬
‫وأصوبه‪.2‬‬
‫فأخلصه هو ((ال إله إال اهلل))‪ ،‬وأصوبه هو ((حممد رسول اهلل))‪ ،‬وهو‬
‫الصَرا َط‬ ‫الذي أشارت إليه سورة الفاحتة ـ أم القرآن الكرمي ـ " ِ‬
‫اهدنَـ ــا ِّ‬
‫ني"‬ ‫وب َعلَي ِه ْم َوالَ الضَّالِّ َ‬ ‫غض ِ‬‫مت َعلَي ِه ْم َغ ِري امل ُ‬ ‫َ‬ ‫َنع‬
‫َ‬ ‫ين أ‬ ‫َ‬ ‫يم * ِصَرا َط الَّ ِذ‬ ‫َ‬ ‫املستَ ِق‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫(الفاحتة ‪ ،‬آية ‪ 6‬ـ ‪ .)7‬والذين أنعم اهلل عليهم هم النبيون والصديقون‬
‫والشهداء والصاحلون‪ ،‬ومنهم الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الصَرا َط‬
‫وصحابته ـ رضوان اهلل عليهم ـ والذين ساروا على هذا (( ِّ‬
‫يم))‪ ،‬أي الصواب املوصل للغاية‪ ،‬وهذا الطريق وسط بني طرفني ‪.‬‬ ‫ق‬‫املست ِ‬
‫َُ َ‬
‫‪3‬‬

‫رابعاً‪ :‬حقيقة العبادة‪ :‬إن دائرة العبادة اليت خلق اهلل هلا اإلنسان‪،‬‬
‫وجعلها غايته يف احلياة ومهمته يف األرض‪ ،‬دائرة رحبة واسعة‪ :‬أهنا‬
‫تشمل شئون اإلنسان كلها‪ ،‬وتستوعبه حياته مجيعاً‪ ،‬وتستغرق كافة‬
‫مناشطه‪ ،‬وأعماله ‪ ،‬ومن التعريف السابق للعبادة‪ ،‬عندما ذكرنا بأنه اسم‬ ‫‪4‬‬

‫جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه‪ ،‬من األقوال واألعمال الباطلة والظاهرة‪،‬‬
‫ال ميكن أن خيرج أي شئ من نشاطات اإلنسان وأعماله سواء أكان‬
‫ذلك يف العبادات احملضة‪ ،‬أو يف املعامالت املشروعة‪ ،‬أو يف العادات‬
‫‪ 1‬مجموع الفتاوى (‪.)189 / 1‬‬
‫‪ 2‬تفسير اللغوي‪ ،‬معالم التنزيل (‪.)269 / 4‬‬
‫‪ 3‬الوسطية في القرآن الكريم صـ‪.389‬‬
‫‪ 4‬العبادة في اإلسالم للقرضاوي صـ‪.53‬‬
‫‪105‬‬
‫اليت طبع اإلنسان على فعلها‪ ،‬وإن كان ينبغي لنا اإلشارة إىل أن‬
‫األصل يف العبادات احملضة املنع حىت يرد ما يدل على مشروعيتها‪ ،‬وأن‬
‫أصل العادات العفو حىت يرد ما يدل على منعها‪ ،‬وذلك مبين على أن‬
‫تصرفات العباد من األقوال واألفعال نوعان‪ :‬عبادات يصلح هبا دينه‪،‬‬
‫وعادات حيتاجون إليها يف دنياهم‪ ،‬فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن‬
‫العبادات اليت أوجبها اهلل‪ ،‬أو أحبها ال يثبت األمر هبا إآل بالشرع‪.‬‬
‫وأما العادات‪ :‬فهي ما اعتاده الناس يف دنياهم مما حيتاجون إليه‪ ،‬واألصل‬
‫فيه عدم احلظر‪ ،‬فال حيظر منه إال ما حظره اهلل سبحانه وتعاىل وذلك‬
‫ألن األمر والنهي هنا شرع اهلل‪ ،‬والعبادة ال بد أن يكون مأموراً هبا ‪،‬‬
‫‪1‬‬

‫فما مل يثبت أنه مأمور به‪ ،‬كيف حيكم عليه بأنه عبادة؟ وما مل‬
‫يثبت من العبادات أنه منهي عنه كيف حيكم عليه أنه حمظور؟‬
‫والعادات األصل فيها العفو وال حيظر منها إال ما حرم اهلل ‪ .‬وهذا‬
‫‪2‬‬

‫التقسيم يف احلظر واإلباحة ال خيرج شيئاً من أفعال اإلنسان العادية من‬


‫دائرة العبادة هلل‪ ،‬ولكن ذلك خيتلف من درجته ما بني عبادة حمضة‬
‫وعادة مشوبة بالعبادة‪ ،‬وعادة تتحول بالنية والقصد إىل عبادة‪ ،‬ألن‬
‫املباحات يؤجر عليها بالنية والقصد احلسن‪ ،‬إذا صارت وسائل للمقاصد‬
‫الواجبة‪ ،‬أو املندوبة‪ ،‬أو تكميالً لشئ منها ‪ ،‬وقال النووي فشرحه‬
‫‪3‬‬

‫حلديث‪" :‬ويف بضع أحكم صدقة" ‪ .‬ويف هذا دليل على أن املباحات‬
‫‪4‬‬

‫تصري طاعات بالنية الصادقة ‪ ،‬ومن ذلك يتضح‪ :‬أن الدين كله داخل يف‬
‫‪5‬‬

‫العبادة والدين منهج اهلل‪ ،‬جاء ليسع احلياة كلها‪ ،‬وينظم مجيع أمورها‬
‫من أدب األكل والشرب وقضاء احلاجة إىل بناء الدولة‪ ،‬وسياسة املال‪،‬‬

‫‪ 1‬الوسطية في القرآن الكريم صـ‪.380‬‬


‫‪ 2‬مجموع الفتاوى (‪.)117 ، 116 / 29‬‬
‫‪ 3‬حقيقة البدعة وأحكماها للغامدي (‪.)19 ، 1‬‬
‫‪ 4‬مسلم (‪.)697 ، 1‬‬
‫‪ 5‬شرح النووي ك (‪.)92 ، 7‬‬
‫‪106‬‬
‫وشئون املعامالت والعقوبات‪ ،‬وأصول العالقات الدولية يف السلم‬
‫واحلرب‪.‬‬
‫إن الشعائر التعبدية من صالة وصوم‪ ،‬وزكاة هلا أمهيتها ومكانتها‪،‬‬
‫ولكنها ليست العبادة كلها‪ ،‬بل هي جزء من العبادة اليت يريدها اهلل‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫إن مقتضى العبادة املطالب هبا اإلنسان أن جيعل املسلم أقواله وأفعاله‬
‫وتصرفاته وسلوكه وعالقاته مع الناس وفق املناهج واألوضاع اليت جاءت‬
‫‪1‬‬
‫هبا الشريعة اإلسالمية‪ ،‬يفعل ذلك طاعة هلل واستسالماً ألمره ‪.‬‬
‫والدليل على املفهوم الشامل للعبادة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة‬
‫رضوان اهلل عليهم‪ ،‬فأما من القرآن الكرمي فقوله تعاىل‪ ":‬قُ ْل إِ َّن َ‬
‫صالَيِت‬
‫يك لَه وبِ َذلِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اي َومَمَايِت لِلّ ِه َر ِّ‬ ‫ِ‬
‫ت‬‫ك أُم ْر ُ‬ ‫ني* الَ َش ِر َ ُ َ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َونُ ُسكي َوحَمْيَ َ‬
‫ِِ‬
‫ني" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)163 ،162:‬‬ ‫َوأَنَاْ أ ََّو ُل الْ ُم ْسلم َ‬
‫ومن السنة قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن املسلم إذا أنفق على أهله‬
‫نفقة‪ ،‬وهو حيتسبها كانت له صدقة ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬دخلت امرأة النار يف هرة‪ ،‬ربطتها فلم‬
‫تطعمها‪ ،‬ومل تدعها تأكل من حشاش األرض حىت ماتت ‪ ،‬وأما‬
‫‪3‬‬

‫االستدال على عموم العبادة ومشوهلا حلياة اإلنسان‪ ،‬عند الصحابة ففي‬
‫قصة بعث أيب موسى ومعاذ إىل اليمن‪ ،‬ويف آخره قال أبو موسى‬
‫ملعاذ‪ :‬فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال‪ :‬أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت‬
‫جزئي من النوم‪ ،‬فأقرأ ما كتب اهلل يل‪ ،‬فأحتسب نوميت كما أحتسب‬
‫قوميت ‪ ،‬ويف كالم معاذ رضي اهلل عنه دليل أن املباحات يؤجر عليها‬ ‫‪4‬‬

‫بالقصد والنية‪.‬‬

‫‪ 1‬مقاصد المكلفين د‪ .‬عمر األشقر صـ‪.47 ، 46‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.55‬‬
‫‪ 3‬البخاري رقم ‪.2318‬‬
‫‪ 4‬البخاري رقم ‪.4342‬‬
‫‪107‬‬
‫خامساً‪ :‬أنواع العبادات‪:‬‬
‫إن أنواع العبادات كثرية نذكر منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الدعاء‪ :‬لغة‪ :‬الرغبة إىل اهلل وجاء يف نصوص القرآن والسنة مبعىن‬
‫ين يَ ْستَ ْكرِب ُو َن‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫العبادة قال تعاىل‪ ":‬وقَ َال ربُّ ُكم ادعويِن أ ِ‬
‫ب لَ ُك ْم إ َّن الذ َ‬ ‫َستَج ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ُْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ يِت‬
‫ين" (غافر ‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬ ‫َّم َداخ ِر َ‬‫َع ْن عبَ َاد َسيَ ْد ُخلُو َن َج َهن َ‬
‫ِّين َولَ ْو َك ِر َه الْ َكافُِرو َن" (غافر ‪،‬‬ ‫ني لَهُ الد َ‬
‫ِِ‬
‫وقال تعاىل‪ ":‬فَ ْادعُوا اللَّهَ خُمْلص َ‬
‫آية ‪.)54 :‬‬
‫َّاع إِذَا‬‫يب َد ْع َو َة الد ِ‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬وإِذَا سأَلَك ِعب ِادي عيِّن فَِإيِّن قَ ِريب أ ِ‬
‫ُج‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ان َف ْليَ ْستَ ِجيبُواْ يِل َولُْي ْؤ ِمنُواْ يِب لَ َعلَّ ُه ْم َي ْر ُش ُدو َن" (البقرة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫دع ِ‬
‫ََ‬
‫‪.)186‬‬
‫ين {‪}55‬‬ ‫ِ‬ ‫ضُّر ًعا َو ُخ ْفيَةً إِنَّهُ الَ حُيِ ُّ‬
‫ب الْ ُم ْعتَد َ‬ ‫وقال تعاىل‪ْ ":‬ادعُواْ َربَّ ُك ْم تَ َ‬
‫ض بع َد إِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬‫صالَح َها َو ْادعُوهُ َخ ْوفًا َوطَ َم ًعا إِ َّن َرمْح َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َوالَ ُت ْفس ُدواْ يِف األ َْر ِ َ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)56 ،55 :‬‬ ‫اللّه قَ ِر ٌ‬
‫يب ِّم َن الْ ُم ْحسن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (الشعراء‬ ‫آخَر َفتَ ُكو َن م َن الْ ُم َع َّذبِ َ‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬فَاَل تَ ْدعُ َم َع اللَّه إِهَلًا َ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)213 :‬‬
‫ومن أسباب قبول الدعاة‪ ،‬املطعم احلالل‪ ،‬وأال يستبطئ اإلجابة‪ ،‬وال‬
‫يدعو بإمث وال قطيعة رحم‪ ،‬واألمر باملعروف والنهي عن املنكر واجلزم‬
‫يف الدعاء‪ ،‬وحضور القلب وسالمته من الغفلة واخلشوع واإلبتعاد عن‬
‫‪1‬‬
‫املعاصي واإلخالص يف الدعاء هلل عز وجل ‪.‬‬
‫وميكن أن يقرتن الدعاء بتوسل مشروع كالتوسل بامساء اهلل احلسىن أو‬
‫بصفة من صفاته العليا‪ ،‬أو أن يتوسل العبد إىل اهلل بأعماله الصاحلة‬
‫اليت يرجى قبوهلا عند اهلل أو يطلب الدعاء ممن يظن صاحلهم أو‬

‫‪ 1‬الذي والدعاء والعالج بالرقي من الكتاب والسنة‪ ،‬للقحطاني صـ‪.122‬‬


‫‪108‬‬
‫بالتوسل هبم بشرط أهنم أحياء‪ ،‬وقد حتدث العلماء عن أنواع التوسل‬
‫املشروعة منها‪:‬‬
‫أ ـ التوسل إلى اهلل بأسمائه الحسنى أو صفة من صفاته‬
‫العليا‪:‬‬
‫األَمْسَاء‬ ‫والدليل على هذا النوع من أنواع التوسل قول اهلل تعاىل‪َ " :‬ولِلّ ِه‬
‫َكانُواْ‬ ‫ين يُْل ِح ُدو َن يِف أَمْسَآئِِه َسيُ ْجَز ْو َن َما‬ ‫َّ ِ‬ ‫هِب‬
‫احْلُ ْسىَن فَ ْادعُوهُ َا َوذَ ُرواْ الذ َ‬
‫َي ْع َملُو َن" (األعراف‪،‬آية‪ .)180:‬كأن يقول املسلم يف دعائه‪ :‬اللهم إين‬
‫أسألك بأنك أنت الرمحن الرحيم‪ ،‬اللطيف اخلبري أن تعافيين أو يقول‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫أسألك برمحتك اليت وسعت كل شيء أن ترمحين‪ ،‬وتغفر يل ‪.‬‬
‫ولقوله سبحانه وتعاىل‪َ ":‬ولِلّ ِه األَمْسَاء احْلُ ْسىَن فَ ْادعُوهُ هِبَا" (األعراف ‪ ،‬آية‬
‫‪ ،)180:‬اي ادعوا اهلل تعاىل متوسلني إليه بأمسائه احلسىن وال شك أن‬
‫صفاته العليا عز وجل داخله يف هذا الطلب‪ ،‬ألن أمساء اهلل احلسىن‬
‫سبحانه صفات له خصت به تبارك وتعاىل ‪ ،‬ومن األدلة كذلك دعا‬
‫‪2‬‬

‫ك الَّيِت‬ ‫سليمان عليه الصالة والسالم حيث قال‪ ":‬أ َْو ِز ْعيِن أَ ْن أَ ْش ُكَر نِ ْع َمتَ َ‬
‫ي وأَ ْن أَعمل حِل‬ ‫ِ‬
‫ك يِف‬ ‫ضاهُ َوأ َْد ِخ ْليِن بَِرمْح َتِ َ‬
‫صا ًا َت ْر َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫أَْن َع ْم َ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َوال َد َّ َ‬
‫ني" (النمل ‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬ ‫ِعب ِاد َك َّ حِلِ‬
‫الصا َ‬ ‫َ‬

‫ب ـ التوسل إلى اهلل تعالى باألعمال الصالحة اليت يقوم هبا‬


‫يتوسل إىل اهلل تعاىل باإلميان به وطاعته وأتباع رسوله صلى‬ ‫َّ‬ ‫العبد كأن‬
‫ين َي ُقولُو َن‬ ‫َّ ِ‬
‫اهلل عليه وسلم وحمبَّته ومن هذا النوع قول اهلل تعاىل‪ ":‬الذ َ‬
‫اب النَّا ِر" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َربَّنَا إنَّنَا َآمنَّا فَا ْغف ْر لَنَا ذُنُ َ‬
‫وبنَا َوقنَا َع َذ َ‬
‫‪.)193‬‬

‫‪ 1‬الذكر والدعاء والعالج بالرقي من الكتاب والسنة صـ‪.99‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ‪ ،99‬انظر‪ :‬منهج القرآن في الدعوة إلى هللا صـ‪.166 ،165‬‬
‫‪109‬‬
‫فيمكن للعبد أن يقول‪ :‬اللهم بإمياين بك‪ ،‬أو حمبيت لك‪ ،‬أو أتباعي‬
‫لرسولك اغفر يل أو تقول‪ :‬اللهم إين أسألك مبحبيت حملمد صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وإمياين به إن تفرج عين‪ ،‬ومن ذلك أن يذكر الداعي‬
‫عمالً صاحلاً ذا بال فيه خوفه من اهلل سبحانه‪ ،‬وتقواه إياه‪ ،‬وإيثاره‬
‫رضاه على كل شيء وطاعته له جل شأنه‪ ،‬مث يتوسل به إىل اهلل يف‬
‫دعائه‪ ،‬ليكون أرجى لقبوله وإجابته ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ج ـ التوسل إلى اهلل تعالى بدعاء الصالحين األحياء‪ ،‬بأن يطلب‬


‫احلي احلاضر أن يدعو اهلل له‪ ،‬فهذا النوع من التوسل‬ ‫املسلم من أخيه ِّ‬
‫مشروع لثبوته عن بعض الصحابة مع النيب صلى اهلل عليه وسلم حيث‬
‫كان بعضهم يأتيه صلوات اهلل وسالمه عليه ويطلب منه الدعاء له أو‬
‫لعموم املسلمني‪ ،‬ومن ذلك ما ثبت يف الصحيحني عن أنسى بن مالك‬
‫رضي اهلل عنه أن أعرابياً قام يوم اجلمعة والنيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫خيطب فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هلك املال وجاع العيال‪ ،‬فادع اهلل لنا‪،‬‬
‫فرفع يديه ـ وما نرى يف السماء قزعه ـ فوالذي نفسي بيده ما‬
‫وضعها حىت ثار السحاب أمثال اجلبال مث مل ينزل عن منرب حىت‬
‫رأيت املطر يتحادر على حليته صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬إىل آخر احلديث‪،‬‬
‫‪2‬‬

‫ومثله كذلك توسل الصحابة رضي اهلل عنهم بدعاء العباس رضي اهلل‬
‫عنه وهو يف صحيح البخاري من حديث أنس رضي اهلل عنه‪ :‬أن عمر‬
‫بن اخلطاب رضي اهلل عنه كان إذا قُحطوا استسقى بالعباس بن عبد‬
‫املطلب‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪3‬‬
‫بعم نبينا فاسقنا‪ ،‬قال‪ :‬فيسقون ‪.‬‬
‫فتسقينا‪ ،‬وإنا نتوسل إليك ِّ‬
‫بعم نبِّينا‪ ،‬أي بدعائه فبهذه األنواع‬
‫واملراد بقوله‪ :‬إنا نتوسل إليك ِّ‬
‫وأما ما‬‫الثالثة من التوسل كلها مشروعة لداللة نصوص الشرع عليها ّ‬
‫‪ 1‬الذكر والدعاء والعالج بالرقي صـ‪.100‬‬
‫‪ 2‬البخاري (‪ ،)1/224‬مسلم(‪.)2/613‬‬
‫‪ 3‬صحيح البخاري رقم ‪.1010‬‬
‫‪110‬‬
‫سوى ذلك مما ال أصل له‪ ،‬وال دليل على مشروعيته فينبغي على‬
‫املسلم أن جيتنبه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬ــ النذر‪ :‬هو التزام قربة غري الزمة يف أصل الشرع بلفظ يشعر‬
‫‪2‬‬
‫علي أن أصوم ثالثة أيام ‪.‬‬ ‫بذلك‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬هلل َّ‬
‫وحكم النذر الكراهة‪ ،‬بل حرمه بعض العلماء لعدم حتمل املسلم ما قد‬
‫يعجز عن الوفاء به‪ ،‬ولكن إذا نذر املسلم‪ ،‬وجب عليه الوفاء هبذا‬
‫النذر وذلك ما مل يكن يف معصية اهلل‪ ،‬فأصبح هذا النذر معلقاً يف‬
‫‪3‬‬
‫رقبته‪ ،‬وديناً عليه حىت يوفيه ‪.‬‬
‫ـ قال تعاىل‪ ":‬يُوفُو َن بِالنَّ ْذ ِر َوخَيَافُو َن َي ْو ًما َكا َن َشُّرهُ ُم ْستَ ِط ًريا" (اإلنسان ‪،‬‬
‫آية ‪.)7 :‬‬
‫ٍ‬
‫ـ وقال تعاىل‪َ ":‬و َما أَن َف ْقتُم ِّمن نَّ َف َقة أ َْو نَ َذ ْرمُت ِّمن نَّ ْذ ٍر فَِإ َّن اللّهَ َي ْعلَ ُمهُ‬
‫َنصا ٍر" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)270 :‬‬ ‫وما لِلظَّالِ ِم ِ‬
‫ني م ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ضوا َت َفَثهم ولْيوفُوا نُ ُذورهم ولْيطََّّوفُوا بِالْبي ِ‬
‫ت‬ ‫ـ وقال تعاىل‪ ":‬مُثَّ لَْي ْق ُ‬
‫َْ‬ ‫َُْ ََ‬ ‫ُْ َ ُ‬
‫الْ َعتِ ِيق" (احلج ‪ ،‬آية ‪.)29 :‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم من نذر أن يطيع اهلل فليطعه ومن نذر أن‬
‫‪4‬‬
‫يعصي اهلل فال يعصه‬
‫ومن شروط النذر‪:‬‬
‫أ ـ أن يكون طاعة هلل‪ :‬لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ال نذر يف‬
‫معصية اهلل‪ ،‬وال يف قطيعة رحم ‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫ب ـ أن يكون مما يطيقه العبد‪ :‬وعن ابن عباس رضي اهلل عنهما‬
‫قال‪ :‬بينما النيب صلى اهلل عليه وسلم خيطب إذ هو برجل قائم فسأل‬
‫عنه‪ ،‬فقالوا‪ :‬أبو سرائيل‪ ،‬نذر أن يقوم فال يقعد وال يستظل وال يتكلم‬
‫‪ 1‬فقه األدعية واألذكار صـ‪.341‬‬
‫‪ 2‬اللباب في شرح العقيدة على ضوء السنة والكتاب صـ‪.54‬‬
‫‪ 3‬العقيدة الصافية صـ ‪.274‬‬
‫‪ 4‬البخاري (‪.)585 ،11/581‬‬
‫‪ 5‬سنن أبي داوود‪ ،‬ك اإليمان واسناده حسن‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫ويصوم فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬مرة فليتكلم وليستظل وليقعد‬
‫وليتم صومه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ج ـ أن يكون فيما يملك‪ :‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ال وفاء لنذر‬
‫يف معصية اهلل وال فيما ال ميلك ابن آدم ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫س ـ أال يعتقد الناذر تأثير النذر في حصول الشيء وعدمه‪:‬‬


‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن النذر ال يقدم شيئاً وال‬
‫يؤخره وإمنا يستخرج بالنذر من البخيل ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وإذا كان النذر هلل تعاىل عبادة ونوعاً من أنواع التقرب إىل اهلل‪ ،‬فإن‬
‫صرفه لغري اهلل تعاىل شرك أكرب خيرج من امللة‪ ،‬ويوجب لصاحبه النار‪،‬‬
‫ألن كل ما شأنه عبادة ال جيوز حبال من األحوال أن يُصرف لغري‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬ومن املؤسف حقاً أن نرى مثل هذه العبادات تصرف لغري‬
‫اهلل تعاىل ‪ ،‬وهذا جهل عظيم باإلسالم وال عالج له إال نشر العلم‬ ‫‪4‬‬

‫واحياء اإلميان باهلل عز وجل يف القلوب‪.‬‬


‫‪3‬ـ الذبح‪ :‬ومعىن الذبح شرعاً‪ :‬هو كل ما ذُبح هدياً أو عقيقة وغريها‬
‫هلل تعاىل‪ ،‬وبقصد التعبد هلل والتقرب له ‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬إِنَّا أ َْعطَْينَ َ‬
‫‪5‬‬
‫اك‬
‫ك َواحْنَْر" (الكوثر ‪ ،‬آية ‪ ،)2 ،1 :‬أي اخلص له‬ ‫ِ‬
‫ص ِّل لَربِّ َ‬
‫الْ َك ْوثََر* فَ َ‬
‫اي َومَمَايِت لِلّ ِه‬ ‫ِ‬ ‫صالتك وذحبك‪ ،6‬وقال تعاىل‪ ":‬قُل إِ َّن َ يِت‬
‫صالَ َونُ ُسكي َوحَمْيَ َ‬ ‫ْ‬
‫يك لَهُ" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)163 ،162 :‬والنسك‪:‬‬ ‫ني* الَ َش ِر َ‬ ‫ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َر ِّ‬
‫الذبح‪ ،7‬وعن علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه قال‪ :‬حدثين رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بأربع كلمات‪ :‬لعن اهلل من ذبح لغري اهلل‪ ،‬ولعن‬
‫اهلل من لعن والديه‪ ،‬ولعن اهلل من آوى حمدثاً‪ ،‬ولعن اهلل من غري منار‬
‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك اإليمان والنذر‪ ،‬باب النذر فيما ال يملك‪.‬‬
‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك النذر‪ ،‬في وسط كتاب النذر‪.‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك القدر‪ ،‬باب إلقاء العبد النذر إلى القدر‪.‬‬
‫‪ 4‬العقيدة الصافية صـ ‪.278‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه صـ ‪.280‬‬
‫ً‬
‫‪ 6‬المصدر نفسه صـ ‪ ،281‬نقال عن تفسير ابن كثير‪.‬‬
‫‪ 7‬المصدر نفسه صـ ‪.281‬‬
‫‪112‬‬
‫لغري اهلل‪،‬‬ ‫األرض‪ :1‬أما لعن الوالد والوالدة فهو من الكبائر وأما الذبح‬
‫أو‬ ‫فاملراد به أن يذبح باسم غري اهلل تعاىل‪ ،‬كمن ذبح للصنم‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬فكل‬ ‫الصليب أو ملوسى أو لعيسى عليه السالم‪ ،‬أو للكعبة وحنو‬
‫أو نصرانياً‬ ‫هذا حرام‪ ،‬وال حتل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلماً‬
‫أو يهودياً‪.2‬‬
‫إن الذبح قربة وعبادة يُتقرب هبا إىل اهلل تعاىل ويتعبد هبا ولذلك‬
‫وجب صرفها هلل تعاىل‪.‬‬
‫‪4‬ـ التوكل‪:‬ـ هو الثقة مبا عند اهلل واليأس عما يف أيدي الناس‪ ،‬وقيل‬
‫والتوكل عبادة وجيب‬ ‫هو اعتماد القلب على اهلل وثقته به وأنه كفاية ‪،‬‬
‫‪3‬‬

‫شوائب الشرك‬ ‫صرفها هلل تعاىل حىت يتم توحيد العبد وخيلو من‬
‫عليه وحده ال غريه‪.‬‬ ‫وأدران اجلاهلية واهلل سبحانه وتعاىل يأمرنا بالتوكل‬
‫َو َسبِّ ْح حِب َ ْم ِد ِه َو َك َفى‬ ‫ِ‬
‫ـ قال تعالى‪َ ":‬وَت َو َّك ْل َعلَى احْلَ ِّي الَّذي اَل مَيُ ُ‬
‫وت‬
‫وب ِعبَ ِاد ِه َخبِ ًريا" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)58 :‬‬ ‫بِِه بِ ُذنُ ِ‬
‫ت َعلَى اللّ ِه َريِّب َو َربِّ ُكم َّما ِمن َدآبٍَّة إِالَّ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬إِيِّن َت َو َّك ْل ُ‬
‫اط ُّم ْستَ ِقي ٍم" (هود ‪ ،‬آية ‪.)56 :‬‬ ‫اصيتِها إِ َّن ريِّب علَى ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُه َو آخ ٌذ بِنَ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ وقال تعالى‪ " :‬وَتو َّكل علَى الْع ِزي ِز َّ ِ‬
‫وم‬
‫ني َت ُق ُ‬ ‫الرحي ِم * الَّذي َيَر َاك ح َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫الس ِميع الْعلِ‬ ‫اج ِدين * إِ‬ ‫الس ِ‬ ‫ك يِف‬
‫يم" (الشعراء ‪ ،‬آية ‪217 :‬ـ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬‫ه‬‫َّ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫* َوَت َقلُّبَ َ‬
‫‪.)220‬‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وَت َو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه َو َك َفى بِاللَّ ِه َوكِياًل " (األحزاب ‪،‬‬
‫آية ‪.)48 :‬‬
‫وقال رسول اهلل عليه وسلم‪ :‬لو أنكم تتوكلون على اهلل حق توكله‬
‫لرزقكم كما يرزق الطري تغدو مخاصاً وتروح بطاناً ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫‪ 1‬مسلم (‪.)1567 /3‬‬


‫‪ 2‬شرح النووي على صحيح مسلم (‪.)656 /4‬‬
‫‪ 3‬اللباب صـ‪.57‬‬
‫‪ 4‬سلسلة األحاديث الصحيحة رقم ‪.310‬‬
‫‪113‬‬
‫‪ 5‬ـ اإلستعانة‪ :‬وهي طلب العون من اهلل تعاىل على سبيل التعبد هلل‪،‬‬
‫وهي من أنواع العبادة ولذلك جيب اإلستعانة باهلل وحده‪.‬‬
‫ني" (الفاحتة ‪ ،‬آية ‪ .)5 :‬أي ال نعبد‬ ‫ِ‬ ‫اك َن ْعبُ ُد وإِيَّ َ‬
‫قال تعاىل‪ ":‬إِيَّ َ‬
‫اك نَ ْستَع ُ‬
‫إال إياك وال نستعني إال بك‪ ،‬ونربأ من كل معبود دونك ومن‬
‫عابديه‪ ،‬ونربأ من احلول والقوة إال بك فال حول ألحد عن معصيتك‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وال قوة على طاعتك إال بتوفيقك ومعونتك ‪.‬‬
‫اح ُكم بِاحْلَ ِّق َو َربُّنَا الرَّمْح َ ُن الْ ُم ْسَت َعا ُن َعلَى َما‬ ‫ب ْ‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬قَ َال َر ِّ‬
‫ص ُفو َن" (األنبياء ‪ ،‬آية ‪.)112 :‬‬ ‫تَ ِ‬
‫ويف حديث عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما قال‪:‬كنت خلف النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يوماً فقال‪ :‬يا غالم‪ ،‬إين أعلمك كلمات احفظ‬
‫اهلل حيفظك‪ ،‬احفظ اهلل جتده جتاهك‪ ،‬إذا سألت فأسأل اهلل‪ ،‬وإذا‬
‫استعنت فاستعن باهلل‪ ،‬واعلم أن األمة لو اجتمعت على أن ينفعوك‬
‫بشيء مل ينفعوك إال بشيء قد كتبه اهلل لك‪ ،‬وإن اجتمعوا على أن‬
‫يضروك بشيء مل يضروك إال بشيء قد كتبه اهلل عليك رفعت األقالم‬
‫‪2‬‬
‫وجفت الصحف ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ اإلستغاثة‪ :‬هي طلب الغوث‪ ،‬وهو إزالة الشدة‪ ،‬كاإلستنصار طلب‬
‫النصرة‪ ،‬واإلستغاثة‪ ،‬طلب الغوث‪ ،‬والفرق بني اإلستغاثة والدعاء أن‬
‫أعم فيكون من املكروب‬ ‫اإلستغاثة ال تكون إال من املكروب والدعاء ّ‬
‫وغريه‪ ،3‬فاإلستغاثة نوع من العبادة جيب صرفها هلل تعاىل‪ ،‬فال يستغات‬
‫إال باهلل عز وجل‪ ،‬ولقد ذكر اهلل تعاىل اإلستغاثة يف كتابه العزيز‪ ،‬فلم‬
‫ِ‬
‫اب لَ ُك ْم‬ ‫تصرف إال له سبحانه قال تعاىل‪ ":‬إِ ْذ تَ ْستَغيثُو َن َربَّ ُك ْم فَ ْ‬
‫استَ َج َ‬
‫ني" (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫أَيِّن مُمِ ُّد ُكم بِأَلْ ٍ‬
‫ف ِّم َن الْ َمآلئ َكة ُم ْردف َ‬

‫‪ 1‬معارج القبول (‪.)2/452‬‬


‫‪ 2‬الترمذي (‪7/219‬ـ ‪ )220‬صحيح األلباني (‪.)6/200‬‬
‫‪ 3‬اللباب صـ‪.57‬‬
‫‪114‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السوءَ" (النمل ‪ ،‬آية‬ ‫ف ُّ‬ ‫ضطََّر إِ َذا َد َعاهُ َويَ ْكش ُ‬
‫يب الْ ُم ْ‬
‫وقال تعاىل‪ ":‬أ ََّمن جُي ُ‬
‫‪.)62 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ث ِمن َب ْعد َما َقنَطُوا َويَ ُ‬
‫نشُر َرمْح َتَهُ"‬ ‫وقال تعاىل‪َ ":‬و ُه َو الَّذي يَُنِّز ُل الْغَْي َ‬
‫(الشورى ‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬
‫حي يا قيوم يا ذا‬ ‫وكان من دعاء النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬يا ُّ‬
‫اجلالل واإلكرام برمحتك استغيث ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وعن ثابت بن الضحاك‪ :‬أنه كان يف زمن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫منافق يُوذي املؤمنني فقال بعضهم‪ :‬قوموا بنا نستغيث برسول اهلل من‬
‫هذا املنافق‪ .‬فقال الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنه ال يستغاث يب وإمنا‬
‫يستغاث باهلل ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 7‬ـ الخشية‪ :‬هي خضوع القلب واجلوارح هلل تعاىل طاعة وخشوعاً‬
‫‪3‬‬
‫وخوفاً من مقامه ووعيده‪ ،‬على سبيل التعبد هلل تعاىل ‪.‬‬
‫اخ َش ْو ُه ْم َفَز َاد ُه ْم إِميَاناً َوقَالُواْ‬ ‫ِ‬
‫ـ قال تعاىل‪ ":‬إ َّن الن َ‬
‫َّاس قَ ْد مَجَعُواْ لَ ُك ْم فَ ْ‬
‫يل" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)173 :‬‬ ‫حسبنَا اللّه ونِعم الْوكِ‬
‫ُ َ َْ َ ُ‬ ‫َ ُْ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يَُبلِّغُو َن ِر َسااَل ت اللَّه َوخَي ْ َش ْونَهُ َواَل خَي ْ َش ْو َن أ َ‬
‫َح ًدا‬ ‫ـ وقال تعاىل‪ ":‬الذ َ‬
‫إِاَّل اللَّهَ َو َك َفى بِاللَّ ِه َح ِسيبًا" (األحزاب ‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬
‫ين ُهم ِّم ْن َخ ْشيَ ِة َرهِّبِم ُّم ْش ِف ُقو َن" (املؤمنون ‪ ،‬آية‬ ‫َ‬ ‫ذ‬‫ـ وقال تعاىل‪ ":‬إِ َّن الَّ ِ‬
‫‪.)57 :‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ ....:‬أما واهلل إين ألخشاكم وأتقاكم له‪،‬‬
‫لكين أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن‬
‫‪4‬‬
‫سنيت فليس مين ‪.‬‬

‫‪ 1‬رواه الحاكم في مسنده صحيح األسناد ولم يوافقه الذهبي‪.‬‬


‫‪ 2‬رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫‪ 3‬العقيدة الصافية صـ‪.309‬‬
‫‪ 4‬البخاري رقم ‪.5063‬‬
‫‪115‬‬
‫واخلشية نوع من أنواع العبادة اليت جيب أاّل تصرف إال هلل تعاىل‬
‫وصرفها لغري اهلل يُع ّد شركاً ينقض ويهدم اإلميان وكلما زاد إميان‬
‫العبد بربه وخلص كلما زادت خشيته منه ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 8‬ـ الخوف‪ :‬هو اضطراب القلب وحركته من تذكر املخوف ‪ ،‬وهو‬


‫‪2‬‬

‫َ‬
‫أفضل مقامات الدين وأجلها وأمجع أنواع العبادة اليت جيب إخالصها هلل‬
‫تعاىل ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫ف أَولِياءه فَالَ خَتَافُوهم وخافُ ِ‬ ‫ِ‬


‫ون‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫ـ قال تعالى‪ " :‬إِمَّنَا َذل ُك ُم الشَّْيطَا ُن خُيَِّو ُ ْ َ ُ‬
‫ِِ‬
‫ني" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)175 :‬‬ ‫إِن ُكنتُم ُّم ْؤمن َ‬
‫ين َك َفُرواْ لُِر ُسلِ ِه ْم لَنُ ْخ ِر َجنَّـ ُكم ِّم ْن أ َْر ِضنَآ أ َْو‬ ‫َّ ِ‬
‫ـ وقال تعالى‪:‬ـ " َوقَ َال الذ َ‬
‫ني* َولَنُ ْس ِكَننَّـ ُك ُم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ود َّن يِف ملَّتنَا فَأ َْو َحى إِلَْي ِه ْم َربُّ ُه ْم لَُن ْهل َك َّن الظَّالم َ‬
‫لََتعُ ُ‬
‫اف و ِع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك لِ َم ْن َخ َ‬ ‫ِِ ِ‬
‫يد" (ابراهيم ‪،‬‬ ‫اف َم َقامي َو َخ َ َ‬ ‫ض ِمن َب ْعده ْم ذَل َ‬ ‫األ َْر َ‬
‫آية ‪.)14 ،13 :‬‬
‫اف م َقام ربِِّه جنَّتَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان" (الرمحن ‪ ،‬آية ‪.)46 :‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪:‬ـ " َول َم ْن َخ َ َ َ َ َ‬
‫س َع ِن اهْلََوى {‬ ‫اف َم َق َام َربِِّه َو َن َهى َّ‬
‫الن ْف َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪:‬ـ " َوأ ََّما َم ْن َخ َ‬
‫‪ }40‬فَِإ َّن اجْلَنَّةَ ِه َي الْ َمأْ َوى " (النازعات ‪ ،‬آية ‪.)41 ،40 :‬‬
‫وعن عدي بن حامت رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪ :‬اتقوا النار ولو بشق مترة ‪ ،‬فالنافع والضار هو اهلل‪ ،‬فال خوف إال‬ ‫‪4‬‬

‫منه وحده سبحانه وتعاىل‪.‬‬


‫‪9‬ـ المحبة‪ :‬يعد خلق احملبة من أجل األخالق اإلميانية ألهنا أصل كل‬
‫فعل ومبدؤه‪ ،‬فال يكون الفعل إال عن حمبة وإرادة وكذلك الرتك ال‬
‫يكن إال عنها‪ ،‬وهلذا كان رأس اإلميان‪ ،‬احلب يف اهلل والبغض يف اهلل‪،‬‬

‫‪ 1‬العقيدة الصافية صـ ‪.312‬‬


‫‪ 2‬مدارج السالكين (‪.)1/512‬‬
‫‪ 3‬اللباب صـ ‪.65‬‬
‫‪ 4‬البخاري‪ ،‬ك الزكاة باب اتقوا النار ولو بشق تمرة‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫وكان من أحب هلل ومن أبغض هلل وأعطى هلل ومنع هلل فقد استكمل‬
‫اإلميان ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫اج ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫قال تعاىل‪ ":‬قُ ْل إن َكا َن آبَا ُؤ ُك ْم َوأ َْبنَآ ُؤ ُك ْم َوإ ْخ َوانُ ُك ْم َوأ َْز َو ُ‬
‫ض ْونَ َها‬ ‫ِ‬ ‫جِت‬ ‫ِ‬
‫وها َو َ َارةٌ خَت ْ َش ْو َن َك َس َاد َها َو َم َساك ُن َت ْر َ‬ ‫َو َعش َريتُ ُك ْم َوأ َْم َو ٌال ا ْقَتَر ْفتُ ُم َ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫صواْ َحىَّت يَأْيِت َ اللّهُ‬ ‫ب إِلَْي ُكم ِّم َن اللّه َو َر ُسوله َوج َهاد يِف َسبِيله َفَتَربَّ ُ‬ ‫َح َّ‬
‫أَ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)24 :‬‬ ‫بِأ َْم ِر ِه َواللّهُ الَ َي ْهدي الْ َق ْو َم الْ َفاسق َ‬
‫فإن هذه اآلية حتمل وعيداً شديداً على تقدمي حمبة أي شيء من أمور‬
‫الدنيا على حمبة اهلل تعاىل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم وأنه جيب‬
‫إيثارها يف احملبة على من سوامها وهذه احملبة تقتضي إيثار طاعتهما‬
‫واتباع أمرمها‪ ،‬على إيثار من ذكر اهلل من األقارب واألموال وغريمها‬
‫مما قد تريد النفس تقدميها ‪ ،‬وهذه احملبة يقتضيها اإلميان‪ ،‬فمن كان‬ ‫‪2‬‬

‫مؤمناً أوجب عليه إميانه أن يتحلى هبا كما يدل عليه قوله تعاىل‪":‬‬
‫َنداداً حُيِ بُّو َنهم َكح ِّ ِ َّ ِ‬
‫ين‬
‫ب اللّه َوالذ َ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫ون اللّ ِه أ َ‬ ‫َّخ ُذ ِمن د ِ‬
‫ُ‬
‫َّاس من يت ِ‬
‫َوم َن الن ِ َ َ‬
‫ِ‬
‫َش ُّد ُحبًّا لِّلّ ِه" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)165 :‬‬ ‫َآمنُواْ أ َ‬
‫وقد بني القرآن الكرمي عالمات احملبة هلل تعاىل‪ ،‬فجعل من ذلك‪ ،‬اتباع‬
‫نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والذلة للمؤمنني‪ ،‬والعزة على الكافرين‪،‬‬
‫واجلهاد يف سبيله‪ ،‬وعدم اخلوف من لوم الئم ومعاداة أعدائه‪ ،‬أما‬
‫االتباع لنبيه صلى اهلل عليه وسلم فقد دل عليه قوله تعاىل‪ ":‬قُ ْل إِن‬
‫ُكنتُ ْم حُتِ بُّو َن اللّهَ فَاتَّبِعُويِن حُيْبِْب ُك ُم اللّهُ" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪ ،)31 :‬فإن‬
‫هذه اآلية تسمى آية احملبة ‪ ،‬فهذه اآلية الكرمية حاكمة على كل من‬ ‫‪3‬‬

‫ادعى حمبة اهلل وليس هو على الطريقة احملمدية‪ ،‬فإنه كاذب يف دعواه‬
‫يف نفس األمر حىت يتبع الشرع احملمدي‪ ،‬والدين النبوي يف مجيع أقواله‬

‫‪ 1‬اخالق النبي صلى هللا عليه وسلم في القرآن والسنة د‪ .‬أحمد الحداد (‪.)1/204‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)1/205‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)1/207‬‬
‫‪117‬‬
‫وأفعاله كما ثبت يف الصحيح عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬من‬
‫‪1‬‬
‫عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ‬ ‫وأما العالمات األخرى فقد دل عليها قوله تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ف يَأْيِت اللّهُ بَِق ْوٍم حُيِ ُّب ُه ْم َوحُيِ بُّونَهُ أ َِذلٍَّة‬
‫َمن َي ْرتَ َّد ِمن ُك ْم َعن ِدينِ ِه فَ َس ْو َ‬
‫اه ُدو َن يِف َسبِ ِيل اللّ ِه َوالَ خَيَافُو َن‬ ‫َعَّز ٍة علَى الْ َكافِ ِرين جُي ِ‬‫علَى الْم ْؤ ِمنِني أ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫يم " (املائدة‬ ‫ض ُل اللّه يُ ْؤتيه َمن يَ َشاء َواللّهُ َواس ٌع َعل ٌ‬ ‫ك فَ ْ‬ ‫لَ ْو َمةَ آلئِ ٍم ذَل َ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)54 :‬‬
‫وأنواع العبادات كثيرة وإمنا هذه على سبيل املثال وقد قسم العلماء‬
‫أنواع العبادات اليت ال جيوز أن يقصد هبا غري اهلل إىل‪:‬‬
‫ـ عبادات اعتقادية‪ :‬وهذه أساس العبادات كلها وهي أن يعتقد العبد‬
‫أن اهلل هو الرب الواحد األحد الذي له اخللق واألمر‪ ،‬وبيده النفع‬
‫والضر‪ ،‬الذي ال شريك له‪ ،‬ويشفع عنده أحد إال بإذنه وأنه ال معبود‬
‫حبق غريه‪.‬‬
‫ـ عبادات قلبية‪ :‬والعبادات القلبية اليت ال جيوز أن يقصد هبا إال اهلل‬
‫وحده‪ ،‬وصرفها لغري اهلل شرك كثرية‪ ،‬كاخلوف والرجاء‪ ،‬والرغبة والرهبة‬
‫واخلشوع واخلشية واحلب واالنابة‪ ،‬والتوكل‪ ،‬واخلضوع واخلشوع‪،‬‬
‫واالستغاثة‪....‬اخل‬
‫ـ قولية‪ :‬كالنطق بكلمة التوحيد‪ ،‬إذ ال يكفي اعتقاد معناها بل البد‬
‫من النطق هبا‪ ،‬وكاالستعاذة باهلل‪ ،‬واالستعانة به‪ ،‬والدعاء له‪ ،‬وتسبيحه‪،‬‬
‫ومتجيده‪ ،‬وتالوة القرآن‪.‬‬
‫ـ بدنية‪ :‬كالصالة والصوم‪ ،‬واحلج والذبح والنذر وغري ذلك‪.‬‬
‫ـ مالية‪ :‬كالزكاة وأنواع الصدقات والكفارات‪ ،‬واألضحية والنفقة‪.2‬‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك البيوع (‪ ،)3/91‬مسلم رقم ‪.1718‬‬


‫‪ 2‬العقيدة في هللا صـ ‪.236‬‬
‫‪118‬‬
‫سادساً‪ :‬أفضل العبادات‪:‬‬
‫إن أفضل العبادة‪ ،‬العمل على مرضاة الرب يف كل وقت ومبا هو‬
‫مقتضى ذلك الوقت ووظيفته‪ ،‬فأفضل العبادات يف وقت اجلهاد‪ ،‬اجلهاد‪،‬‬
‫وإن آل إىل ترك األوراد من صالة الليل وصيام النهار‪.‬‬
‫ـ واألفضل يف وقت حضور الضيف مثالً‪ ،‬القيام حبقه‪ ،‬واالشتغال به‬
‫عن الورد املستحب وكذلك يف أداء حق الزوجة واألهل‪ .‬واألفضل يف‬
‫السحر‪.‬‬
‫أوقات َّ‬
‫االشتغال بالصالة والقرآن‪ ،‬والدعاء والذكر واالستغفار‪.‬‬
‫ـ واألفضل يف وقت اسرتشاد الطالب‪ ،‬وتعليم اجلاهل‪:‬‬
‫اإلقبال على تعليمه واالشتغال به‪ ،‬واألفضل يف أوقات األذان‪ ،‬ترك ما‬
‫هو فيه من ورده واالشتغال بإجابة املؤذِّن‪.‬‬
‫ـ واألفضل يف أوقات الصلوات اخلمس‪ُّ :‬‬
‫اجلد والنُّصح يف إيقاعها على‬
‫أكمل الوجوه واملبادرة إليها يف أول الوقت واخلروج إىل اجلامع‪ ،‬وإن‬
‫بعد كان أفضل‪.‬‬
‫ـ واألفضل يف أوقات ضرورة احملتاج إىل املساعدة باجلاه أو البدن‪ ،‬أو‬
‫ِ‬
‫أواردك وخلوتك‪.‬‬ ‫املال‪ :‬االشتغال مبساعدته وإغاثة هلفته‪ ،‬وإيثار ذلك على‬
‫ـ األفضل يف وقت قراءة القرآن‪ :‬مجع القلب واهلمة على تدبره وتفهمه‪،‬‬
‫اطبك به‪ ،‬فتجمع قلبك على فهمه وتدبره‪،‬‬ ‫حىت كأن اهلل تعاىل خُي ِ‬
‫والعزم على تنفيذ أوامره‪ ،‬أعظم من مجعية قلب من جاءه كتاب من‬
‫السلطان على ذلك‪.‬‬
‫ـ واألفضل يف وقت الوقوف بعرفة‪ ،‬االجتهاد يف التضرع والدعاء‬
‫والذكر‪ ،‬دون الصوم‪ ،‬املضعف عن ذلك‪.‬‬
‫ُ‬
‫ـ واألفضل يف أيام عشر ذي احلجة‪ ،‬اإلكثار من التعبد ال سيَّما‬
‫التكبري والتهليل والتحميد‪ ،‬فهو أفضل من اجلهاد غري املتعنَّي ‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫ـ واألفضل يف العشر األخري من رمضان‪ ،‬لزوم املسجد فيه واخللوة‬
‫واالعتكاف‪ ،‬دون التصدي ملخالطة الناس واالشتغال هبم‪ ،‬حىت إنه أفضل‬
‫من اإلقبال على تعليمهم العلم‪ ،‬وإقرائهم القرآن عند كثري من العلماء ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ـ واألفضل يف وقت مرض أخيك املسلم أو موته‪ :،‬عيادته وحضور‬


‫جنازته وتشييعه‪.‬‬
‫ـ واألفضل يف وقت نزول النوازل‪ ،‬وأذاة الناس لك‪ :‬أداء واجب الصرب‬
‫مع خلطتك هبم‪ ،‬دون اهلرب منهم‪ ،‬فإن املؤمن الذي خيالط الناس‬
‫ليصرب على أذاهم أفضل من الذي ال خيالطهم وال يُؤذونه‪.‬‬
‫ـ واألفضل خلطتهم يف اخلري‪ ،‬فهي خري من اعتزاهلم فيه واعتزاهلم يف‬
‫الشر‪ ،‬فهو أفضل من خلطتهم فيه‪ ،‬فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو‬
‫قلله‪ ،‬فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزاهلم‪.‬‬
‫فاألفضل يف كل وقت وحال‪ ،‬إيثار مرضاة اهلل يف ذلك الوقت واحلال‬
‫واالشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫سابعاً‪ :‬تحكيم الشريعة وارتباطها بالتوحيد‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ ربطها بتوحيد العبادة‪:‬‬
‫َت ْعبُ ُدو َن‬ ‫قال تعاىل يف قصة يوسف ودعوته إىل اهلل يف السجن " َما‬
‫ِمن س ْلطَ ٍ‬
‫ان‬ ‫ُ‬ ‫َنز َل اللّهُ هِبَا‬
‫وها أَنتُ ْم َوآبَآ ُؤ ُكم َّما أ َ‬
‫ِِ‬
‫من ُدونه إِالَّ أَمْسَاء مَسَّْيتُ ُم َ‬
‫ِ‬
‫ولَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك َّن‬ ‫َ‬ ‫ِّين الْ َقيِّ ُم‬
‫ك الد ُ‬ ‫إِ ِن احْلُ ْك ُم إِالَّ للّ ِه أ ََمَر أَالَّ َت ْعبُ ُدواْ إِالَّ إِيَّاهُ َذل َ‬
‫َّاس الَ َي ْعلَ ُمو َن " (يوسف ‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬ ‫أَ ْكَثَر الن ِ‬
‫يَ ْك ُف ْر‬ ‫الر ْش ُد ِم َن الْغَ ِّي فَ َم ْن‬‫وقال تعاىل‪ " :‬الَ إِ ْكَر َاه يِف الدِّي ِن قَد تََّبنَّي َ ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هَلَا‬ ‫ك بِالْعُْر َوة الْ ُو ْث َق َى الَ انف َ‬
‫ص َام‬ ‫بِالطَّاغُوت َويُ ْؤمن بِاللّه َف َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫يم " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)256 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َعل ٌ‬ ‫َواللّهُ مَس ٌ‬

‫‪ 1‬تهذيب مدارج السالكين (‪.)1/103‬‬


‫‪ 2‬تهذيب مدراج السالكين (‪.)104 ، 1/103‬‬
‫‪120‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يح‬
‫ِّمن ُدون اللّه َوالْ َمس َ‬ ‫وقال تعاىل‪ " :‬اخَّتَ ُذواْ أ ْ‬
‫َحبَ َار ُه ْم َو ُر ْهبَا َن ُه ْم أ َْربَابًا‬
‫ابن مرمَي وما أ ُِمرواْ إِالَّ لِيعب ُدواْ إِلَـها و ِ‬
‫الَّ إِلَـهَ إِالَّ ُه َو ُسْب َحانَهُ‬ ‫اح ًدا‬ ‫ً َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ْ َ َْ َ َ َ ُ‬
‫َع َّما يُ ْش ِر ُكو َن " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬
‫‪ 2‬ـ ربطها بتوحيد الربوبية‪ :‬قال تعاىل‪" :‬إِ َّن َربَّ ُك ُم اللّهُ الَّ ِذي َخلَ َق‬
‫اسَت َوى َعلَى الْ َع ْر ِش يُ ْغ ِشي اللَّْي َل‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ض يِف ستَّة أَيَّ ٍام مُثَّ ْ‬ ‫الس َم َاوات َواأل َْر َ‬
‫ٍ‬ ‫النَّهار يطْلُبه حثِ‬
‫وم ُم َس َّخَرات بِأ َْم ِر ِه أَالَ لَهُ‬‫ُّج َ‬‫س َوالْ َق َمَر َوالن ُ‬ ‫َ‬ ‫َّم‬
‫ْ‬ ‫الش‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ا‬‫ً‬‫يث‬ ‫َ َ َ ُُ َ‬
‫ني " (األعراف ‪ ،‬آية ‪."54 :‬‬ ‫ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫اخْلَْل ُق َواأل َْمُر َتبَ َار َك اللّهُ َر ُّ‬
‫‪ 3‬ـ ربطها بتوحيد األسماء والصفات‪:‬‬
‫اب‬ ‫ِ‬
‫الْكتَ َ‬ ‫قال تعال‪ " :‬أََفغَْيَر اللّ ِه أ َْبتَغِي َح َك ًما َو ُه َو الَّ ِذي أََنَز َل إِلَْي ُك ُم‬
‫بِاحْلَ ِّق فَالَ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك‬‫اب َي ْعلَ ُمو َن أَنَّهُ ُمَنَّز ٌل ِّمن َّربِّ َ‬ ‫اه ُم الْكتَ َ‬ ‫ين آَتْينَ ُ‬ ‫صالً َوالذ َ‬ ‫ُم َف َّ‬
‫ين " (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)114 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تَ ُكونَ َّن م َن الْ ُم ْمرَت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم "‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫وقال تعاىل‪َ " :‬ذل ُك ْم ُح ْك ُم اللَّه حَيْ ُك ُم َبْينَ ُك ْم َواللَّهُ َعل ٌ‬
‫(املمتحنة ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫اب " (الرعد‬ ‫وقال تعاىل‪ " :‬واللّهُ حَيْ ُكم الَ معقِّب حِل ْك ِم ِه و ُهو س ِريع احْلِس ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫َُ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)41 :‬‬
‫ص احْلَ َّق َو ُه َو َخْيُر‬ ‫وقال تعاىل‪" :‬وقال تعاىل‪ " :‬إِ ِن احْلُ ْك ُم إِالَّ لِلّ ِه َي ُق ُّ‬
‫ني" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)57 :‬‬ ‫ِِ‬
‫الْ َفاصل َ‬
‫عرف هبا نفسه إىل عباده وذكرها‬ ‫إن من أمساء ربنا جل وتعاىل اليت ّ‬
‫يف كتابه‪ ،‬وعلى ألسنة رسله وأنبيائه ((احلكيم)) وقد ورد هذا اإلسم‬
‫احلكيم أربعاً وتسعني مرة يف القرآن الكرمي كما يف قوله عز وجل "‬
‫يم " (البقرة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الْ َعلِيم احْلَ ِكيم " (البقرة ‪ ،‬آية ‪ِ َ " )32 :‬‬
‫العز ُيز احلَك ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يما " (النساء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم اخْلَبريُ " (األنعام ‪ ،‬آية ‪َ " )18 :‬واس ًعا َحك ً‬ ‫‪ " )129‬احْلَك ُ‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)130 :‬ويقول تعاىل‪ " :‬أََفغَْيَر اللّ ِه أ َْبتَغِي َح َك ًما َو ُه َو الَّ ِذي‬
‫ِ‬
‫صالً " (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)114 :‬‬ ‫اب ُم َف َّ‬‫أََنَز َل إِلَْي ُك ُم الْكتَ َ‬
‫‪121‬‬
‫فهذا دليل على أن امسه أيضاً "احلكم"‪.‬‬
‫ومبعناه‪" :‬احلاكم" وقد جاء يف مخسة مواضع بصيغة اجلمع منها " َو ُه َو‬
‫ني " (هود‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫َح َك ُم احْلَاكم َ‬
‫َنت أ ْ‬
‫ني " (األعراف ‪ ،‬آية ‪َ " )87 :‬وأ َ‬ ‫َخْيُر احْلَاكم َ‬
‫ِِ‬
‫ني " (التني ‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬ ‫َح َك ِم احْلَاكم َ‬ ‫س اللَّهُ بِأ ْ‬
‫‪ ،‬آية ‪ " )45 :‬أَلَْي َ‬
‫واحلكيم‪ :‬هو الذي حُي كم األشياء ويتقنها ويضعها يف موضعها كما قال‬
‫صْن َع اللَّ ِه الَّ ِذي أَْت َق َن ُك َّل َش ْي ٍء " (النمل ‪ ،‬آية ‪.)88 :‬‬ ‫سبحانه‪ُ " :‬‬
‫فـ"احلكيم" هو الذي يضع الشئ يف موضعه بقدره‪ ،‬فال يتقدم احلكم‬
‫الو َه ْم‪ ،‬ومن‬ ‫البالغة العظيمة‪ ،‬اليت ال يأيت عليها الوصف‪ ،‬وال يدركها َ‬
‫معاين احلكمة‪ :‬حكمته يف خلقه‪ ،‬ومن ذلك ما تراه يف جسد اإلنسان‬
‫وعقله وروحه من حكمته جل وعز‪ ،‬حيث خلق اإلنسان يف أحسن‬
‫َح َس ِن َت ْق ِو ٍمي " (التني ‪،‬‬ ‫نسا َن يِف أ ْ‬ ‫ِ‬
‫تقومي‪ ،‬كما قال تعال‪ " :‬لََق ْد َخلَ ْقنَا اإْل َ‬
‫آية ‪ ،)4 :‬ولو نظرت لإلنسان يف هيئته وصورته أو نظرت يف قُدراته‬
‫وإمكانياته أو نظرت يف عقله وروحه‪ ،‬لوجدت احلكمة البالغة العظيمة ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ومن معاين حكمة اهلل تبارك وتعاىل‪ :‬الشرع الذي أنزله يف كتابه على‬
‫لسان رسوله وهلذا وصف اهلل تعاىل القرآن بأنه حكيم‪ ،‬كما يف قوله‪:‬‬
‫الذ ْك ِر احْلَ ِكي ِم " (آل عمران ‪ ،‬آية ‪، )58 :‬‬ ‫ات و ِّ‬ ‫ِ‬ ‫" َنْتلُوه علَي َ ِ‬
‫ك م َن اآليَ َ‬ ‫ُ َْ‬
‫آن احْلَ ِكي ِم " (يس ‪ ،‬آية ‪ )2 :‬فتشريعاته حكمة يف‬ ‫وقوله " والْ ُقر ِ‬
‫َ ْ‬
‫مقاصدها وأسرارها ومآالهتا‪ ،‬فشريعته حكمة‪ ،‬وخلقه وقدره حكمة‪ ،‬حىت‬
‫وإن عجزت بعض العقول يف فهم أبعادها‪ ،‬فإن من احلوادث والشرائع‬
‫ما ال يتبني مداه إال بعد أجيال وعصور‪ ،‬وال زال العلم البشري‬
‫يصح أن يكون اجلهل أو عدم‬ ‫ُّ‬ ‫يكتشف الشئ بعد الشئ وليس‬
‫اإلدراك يف وقت أو مكان أو بالنسبة لفرد أو مجاعة سبباً يف عدم‬
‫القناعة مبا جاء عن اهلل‪ ،‬ألن أحكم احلاكمني‪ ،‬وأعلم العاملني‪ ،‬وخري‬
‫الرازقني‪ ،‬وأحسن اخلالقني‪ ،‬فاحلكيم الذي ال يدخل يف تدبريه وال‬
‫‪ 1‬مع اللع صـ‪.184‬‬
‫‪122‬‬
‫شرعه خلل وال زلل وأفعاله وأقواله تقع يف مواضعها حبكمة وعدل‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وسداد‪ ،‬فال يفعل إال السداد وال يقول إال الصواب ‪.‬‬
‫والقرآن احلكيم فيه احللول الصادقة واملناسبة املالئمة واألحكام الصحيحة‬
‫وح ُّل مشكالهتم اليت يواجهوهنا اليوم‪ ،‬سواء‬ ‫اليت هبا قوام حياة الناس‪َ ،‬‬
‫على صعيد الفكر أو االقتصاد أو السياسة‪ ،‬أو اجملتمع‪ ،‬وقد وضع‬
‫االُطُر العامة اليت هتدي الناس إليها ‪ ،‬وال شك أن أصول اهلداية الكلية‬
‫‪2‬‬

‫صلُح هبا‬ ‫موجودة يف القرآن الكرمي‪ ،‬فإنه تضمن األصول العامة اليت تَ ْ‬
‫ِ‬
‫ني َر ُسواًل‬ ‫ث يِف اأْل ُِّميِّ َ‬ ‫حياة الناس وهلذا قال اهلل عز وجل‪ُ ":‬ه َو الَّذي َب َع َ‬
‫اب َواحْلِ ْك َمةَ َوإِن َكانُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ِّمْن ُه ْم َيْتلُو َعلَْي ِه ْم آيَاته َويَُز ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُم ُه ُم الْكتَ َ‬
‫ني " (اجلمعة ‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬ ‫ضاَل ٍل ُّمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من َقْب ُل لَفي َ‬
‫وهذا دليل على أن احلكمة تعين السنة‪ ،‬فمن حكمته عز وجل أن‬
‫يرسل الرسل الذين خيتارهم من البشر‪ ،‬كما قال اهلل عز وجل‪ ":‬لََق ْد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يص َعلَْي ُكم‬ ‫ُّم َح ِر ٌ‬ ‫ول ِّم ْن أَن ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْيه َما َعنت ْ‬ ‫َجاء ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫يم " (التوبة ‪ ،‬آية ‪.)128 :‬‬ ‫بِالْم ْؤ ِمنِني ر ُؤ ٌ ِ‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫ُ َ َ‬
‫فيختار سبحانه من الرسل أفضل البشر ممن هلم الكمال البشري يف‬
‫علومهم وعقوهلم وأفهامهم ومداركهم وقدراهتم‪ ،‬ليتم بذلك البالغ وتقوم‬
‫احلجة على الناس وهلذا كان النيب صلى اهلل عليه وسلم باملنزلة العظيمة‬
‫اليت يعرفها كل من قرأ سريته‪ ،‬وقد امنت اهلل سبحانه على الناس‬
‫ببعثته هلذا الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ ":‬لََق ْد َم َّن اللّهُ َعلَى‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُسوالً ِّم ْن أَن ُف ِس ِه ْم َيْتلُو َعلَْي ِه ْم آيَاتِِه َويَُز ِّكي ِه ْم‬ ‫ني إِ ْذ َب َع َ‬ ‫ِِ‬
‫الْ ُمؤمن َ‬
‫ض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (آل‬ ‫الل ُّمبِ ٍ‬ ‫اب َواحْل ْك َمةَ َوإِن َكانُواْ من َقْب ُل لَفي َ‬ ‫َويُ َعلِّ ُم ُه ُم الْكتَ َ‬
‫عمران ‪ ،‬آية ‪.)164 :‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ‪.186‬‬


‫‪ 2‬مع هللا صـ ‪.186‬‬
‫‪123‬‬
‫فمن حكمة اهلل عز وجل أن بعث الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب هداية للناس‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وإقامة للحجة ‪.‬‬
‫ومن معاين حكمة اهلل عز وجل‪ :‬أن يُلهم بعض العباد احلكمة كما‬
‫ت احْلِ ْك َمةَ َف َق ْد أُويِت َ َخْيًرا‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪ ":‬يُؤيِت احْل ْك َمةَ َمن يَ َشاء َو َمن يُ ْؤ َ‬
‫اب" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)269 :‬فاهلل تعاىل‬ ‫َكثِريا وما ي َّذ َّكر إِالَّ أُولُواْ األَلْب ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً ََ َ ُ‬
‫يؤيت احلكمة بعض عباده‪ ،‬فيعرفون كيف حيلون املشكالت‪ ،‬وكيف‬
‫لمات واالزمات وكيف يتعاملون مع املواقف الصعبة‪،‬‬ ‫خيرجون من املُ ّ‬
‫وكيف يصنعون األمور يف مواضعها والعامل اإلسالمي يف أشد احلاجة‬
‫جمللس حكماء من الذين حنكتهم التجارب‪ ،‬لكي تستفيد األمة من‬
‫خربهتم ومعرفتهم وتوقعاهتم‪ ،‬حىت ال خيبط املسلمون خبط عشواء وال‬
‫‪2‬‬
‫يقعوا ضحية املفاجآت واالزمات وهم ال يشعرون ‪.‬‬
‫وأما "احلَ َكم" فهو من له احلكم والسلطان والقدر‪ ،‬فال يقع شيء إال‬
‫املتصرف " ُك َّل َي ْوٍم ُه َو يِف َشأْ ٍن" (الرمحن ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫بإذنه وهو املدبر‬
‫‪.)29‬‬
‫"واحلَ َكم" أيضاً من له التشريع والتحليل والتحرمي‪ ،‬فاحلكم ما شرع‪،‬‬
‫راد لقضائه‪ .‬فاجتمع (القدر)‬ ‫والدين ما أمر وهنى‪ ،‬ال معقب حلُكمه وال ّ‬
‫و(الشرع) " أَالَ لَهُ اخْلَْل ُق‬
‫َواأل َْمُر " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)54 :‬‬
‫وحني يقول"أحكم احلاكمني" و"خري احلاكمني" فإن ذلك تأكيد على عدله‬
‫ورمحته ووضعه األشياء يف مواضعها فليس يف قدره ظلم وال تعسف‬
‫وليس يف شرعه حُم اباة وال حتيُّز بل هو ِحفظ للحقوق‪ ،‬احلاكم‬
‫والرب والفاجر‪ ،‬واملسلم والكافر‪ ،‬والقوي‬ ‫ّ‬ ‫واحملكوم‪ ،‬والرجل واملرأة‬
‫والضعيف‪ ،‬ويف كل األحوال َحرباً وسلماً وعلى كل أحد دون‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.187‬‬


‫‪ 2‬مع هللا صـ ‪.187‬‬
‫‪124‬‬
‫استثناء‪ ،‬ولذا وجب على كل مسلم حتكيم كتابه وسنة نبيه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يف دقيق أموره جلّها على الصعيد الفردي واجلماعي‬
‫واألسري واخلاص والعام‪ ،‬والسياسة واالقتصاد‪ ،‬واالجتماع واإلعالم‪ ،‬وكل‬
‫شيء ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ أَطيعُواْ اللّهَ‬ ‫‪4‬ـ ربطها باإليمان‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ول َوأ ُْويِل األ َْم ِر ِمن ُك ْم فَِإن َتنَ َاز ْعتُ ْم يِف َش ْي ٍء َفُر ُّدوهُ إِىَل‬ ‫الر ُس َ‬ ‫وأ ِ‬
‫َطيعُواْ َّ‬ ‫َ‬
‫ول إِن ُكنتم ُتؤ ِمنو َن بِاللّ ِه والْيوِم ِ ِ‬ ‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َس ُن‬ ‫ك َخْيٌر َوأ ْ‬ ‫اآلخ ِر َذل َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُْ ْ ُ‬ ‫اللّه َو َّ ُ‬
‫تَأْ ِويالً " (النساء‪ ،‬آية‪.)59 :‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ين َي ْزعُ ُمو َن أَنَّ ُه ْم َآمنُواْ مِب َا أُن ِز َل إِلَْي َ‬
‫ك‬ ‫ـ وقال تعالى‪ " :‬أَمَلْ َتَر إىَل الذ َ‬
‫وت َوقَ ْد أ ُِمُرواْ أَن‬ ‫يدو َن أَن يتَحا َكمواْ إِىَل الطَّاغُ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ك يُِر ُ‬ ‫َو َما أُن ِز َل ِمن َقْبل َ‬
‫يدا" (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬ ‫ضلَّ ُه ْم َ‬ ‫يد الشَّيطَا ُن أَن ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫يَ ْك ُفُرواْ بِِه َويُِر ُ‬
‫‪.)60‬‬
‫ني إِ َذا ُدعُوا إِىَل اللَّ ِه َو َر ُسولِِه‬ ‫ِِ‬
‫ـ وقال تعالى‪ " :‬إِمَّنَا َكا َن َق ْو َل الْ ُم ْؤمن َ‬
‫ك ُه ُم الْ ُم ْفلِ ُحو َن" (النور ‪،‬‬ ‫ليَ ْح ُك َم َبْيَن ُه ْم أَن َي ُقولُوا مَسِ ْعنَا َوأَطَ ْعنَا َوأ ُْولَئِ َ‬
‫ِ‬
‫آية ‪.)51 :‬‬
‫‪5‬ـ ربطها باإلسالم‪ :‬واإلسالم أساسه اإلستسالم هلل واالنقياد له بالطاعة‬
‫واخللوص من الشرك ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫َسلَ َم َو ْج َههُ هلل َو ُه َو حُمْ ِس ٌن "‬ ‫ِ‬


‫ـ قال تعالى‪َ " :‬و َم ْن أ ْ‬
‫َح َس ُن دينًا مِّم َّْن أ ْ‬
‫(النساء ‪ ،‬آية ‪.)125 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬و َمن َيْبتَ ِغ َغْير ا ِإل ْسالَِم ِدينًا َفلَن يُ ْقبَل ِمْنهُ َو ُهو يِف‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين " (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)85 :‬‬ ‫اآلخَرة م َن اخْلَاس ِر َ‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.188‬‬


‫‪ 2‬الحكم بغير ما أنزل هللا د‪ .‬عبد الرحمن المحمود صـ ‪22‬إلى ‪.27‬‬
‫‪125‬‬
‫اب تِْبيَانًا لِّ ُك ِّل َش ْي ٍء َو ُه ًدى َو َرمْح َةً‬ ‫ـ وقال تعالى‪ " :‬و َنَّزلْنَا علَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ني " (النحل ‪ ،‬آية ‪.)89 :‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫َوبُ ْشَرى ل ْل ُم ْسلم َ‬
‫‪6‬ـ ربطها بالشهادتين‪ :‬أما شهادة أن ال إله إال اهلل فقد سبق يف‬
‫أدلة توحيد العبادة ما يبني ذلك وأما شهادة أن حممداً رسول اهلل‪:‬‬
‫يما َش َجَر َبْيَن ُه ْم‬ ‫ـ فقال تعاىل‪ ":‬فَالَ وربِّك الَ يؤ ِمنو َن حىَّت حُي ِّكم َ ِ‬
‫وك ف َ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما " (النساء ‪،‬‬ ‫ت َويُ َسلِّ ُمواْ تَ ْسل ً‬ ‫مُثَّ الَ جَيِ ُدواْ يِف أَن ُفس ِه ْم َحَر ًجا مِّمَّا قَ َ‬
‫ضْي َ‬
‫آية ‪.)65 :‬‬
‫انت ُهوا "‬ ‫ول فَ ُخ ُذوهُ َو َما َن َها ُك ْم َعْنهُ فَ َ‬ ‫ـ وقوله تعالى‪َ " :‬و َما آتَا ُك ُم َّ‬
‫الر ُس ُ‬
‫(احلشر ‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪ " :‬إِن ُكنتُ ْم حُتِ بُّو َن اللّهَ فَاتَّبِعُويِن حُيْبِْب ُك ُم اللّهُ َو َي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم‬
‫ذُنُوب ُكم واللّه َغ ُفور َّر ِحيم* قُل أ ِ‬
‫ول فِإن َت َولَّْواْ فَِإ َّن اللّهَ‬ ‫الر ُس َ‬
‫َطيعُواْ اللّهَ َو َّ‬ ‫ٌ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ْ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫الَ حُيِ ُّ‬
‫ين " (آل عمران ‪ ،‬آية ‪31 :‬ـ ‪.)32‬‬ ‫ب الْ َكاف ِر َ‬
‫‪7‬ـ طاعة غير اهلل واإلعراض عنه كفر وشرك‪:‬‬
‫َح ًدا ً" (الكهف ‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬ ‫أَ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ " :‬واَل يُ ْش ِر ُك يِف ُح ْك ِم ِه‬
‫لَ ُم ْش ِر ُكو َن " (األنعام ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫وه ْم إِنَّ ُك ْم‬
‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬وإِ ْن أَطَ ْعتُ ُم ُ‬
‫‪.)121‬‬
‫َح َس ُن ِم َن اللّ ِه ُح ْك ًما‬ ‫ِِ ِ‬
‫ـ وقال تعالى‪ " :‬أَفَ ُح ْك َم اجْلَاهليَّة َيْبغُو َن َو َم ْن أ ْ‬
‫لَِّق ْوٍم يُوقِنُو َن " (املائدة ‪ ،‬آية ‪.)50 :‬‬
‫فهذه األدلة جاءت كنماذج وإال فهي كثرية جداً تبني مدى ارتباط‬
‫حتكيم الشريعة باإلميان باهلل عز وجل‪.‬‬
‫ثامناً‪ :‬اآلثار الحسنة للحكم بما أنزل اهلل‪:‬‬
‫‪1‬ـ االستخالف والتمكين‪:‬‬

‫‪126‬‬
‫إذا أقام العباد دين اهلل تعاىل‪ ،‬وخلص هلل حتاكمهم يف السر والعالنية‬
‫ويشد من أزرهم حىت يستخلفهم يف األرض‬ ‫ُّ‬ ‫فإن اهلل سبحانه يقويهم‬
‫ومكن هلم‪ ،‬وهي سنة إهلية ماضية‬
‫ّ‬ ‫كما استخلف الذين من قبلهم‬
‫جندها يف قصص شىت يف كتاب اهلل تعاىل‪.‬‬
‫أ ـ فهذا يوسف عليه السالم صار من أهل االستخالف والتمكني‪ ،‬بعد‬
‫أن ابتلى فأبلى بالء حسناً‪ ،‬وظهر أنه كان من احملسنني‪ ،‬قال تعاىل‪":‬‬
‫يب بَِرمْح َتِنَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ض َيتََب َّوأُ ِمْن َها َحْي ُ‬
‫ث يَ َشاء نُص ُ‬ ‫ف يِف األ َْر ِ‬ ‫ك َم َّكنِّا ليُ ُ‬
‫وس َ‬ ‫َو َك َذل َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني " (يوسف‪ ،‬آية‪.)56 :‬‬ ‫َجَر الْ ُم ْحسن َ‬ ‫َمن نَّ َشاء َوالَ نُض ُ‬
‫يع أ ْ‬
‫ب ـ وهذا موسى عليه السالم كان حريصاً على أن يُظهر لقومه هذه‬
‫استَعِينُوا‬‫السنة املاضية‪ ،‬عندما خافوا بطش فرعون وقومه‪ ،‬فيقول هلم‪ْ ":‬‬
‫ض لِلّ ِه يُو ِرثُ َها َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِاد ِه َوالْ َعاقِبَةُ‬ ‫اصرِب ُواْ إِ َّن األ َْر َ‬
‫ِ‬
‫بِاللّه َو ْ‬
‫ني " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)128 :‬أي‪ :‬العاقبة احلسنة ستكون لكم‬ ‫ِ ِ‬
‫ل ْل ُمتَّق َ‬
‫بإرث األرض شريطة أن تكونوا من املتقني‪ ،‬بإقامة شرع اهلل يف‬
‫األرض‪.1‬‬
‫وملا استبطؤوا العاقبة واستأخروا النصر‪ ،‬نبّههم موسى عليه السالم إىل‬
‫ض‬ ‫ك َع ُد َّو ُك ْم َويَ ْستَ ْخلِ َف ُك ْم يِف األ َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ُسنّة االستخالف" َع َسى َربُّ ُك ْم أَن يُ ْهل َ‬
‫ف َت ْع َملُو َن " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)129 :‬‬ ‫َفيَنظَُر َكْي َ‬
‫مث اجنز اهلل عز وجل هلم ما وعد كما يف قوله تعاىل‪َ ":‬وأ َْو َر ْثنَا الْ َق ْو َم‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ت‬‫ض َو َمغَا ِر َب َها الَّيِت بَ َار ْكنَا ف َيها َومَتَّ ْ‬ ‫ض َع ُفو َن َم َشا ِر َق األ َْر ِ‬ ‫ين َكانُواْ يُ ْستَ ْ‬ ‫الذ َ‬
‫صنَ ُع‬ ‫ك احْل س علَى بيِن إِسرآئِ مِب‬ ‫َكلِ‬
‫صَبُرواْ َو َد َّم ْرنَا َما َكا َن يَ ْ‬ ‫يل َا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ىَن‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬
‫ِّ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫م‬
‫َ‬
‫فِْر َع ْو ُن َو َق ْو ُمهُ َو َما َكانُواْ َي ْع ِر ُشو َن " (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)137 :‬‬
‫من اهلل عليهم بالتمكني فقال‬ ‫وبعد وراثة األرض‪ ،‬واالستخالف فيها‪ّ ،‬‬
‫ض َوجَنْ َعلَ ُه ْم أَئِ َّمةً‬ ‫ضعِ ُفوا يِف اأْل َْر ِ‬ ‫يد أَن مَّنُ َّن علَى الَّ ِ‬
‫استُ ْ‬
‫ين ْ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫سبحانه‪َ ":‬ونُِر ُ‬

‫‪ 1‬تفسير المنار (‪.)9/81‬‬


‫‪127‬‬
‫ِ‬ ‫ني* َومُنَ ِّك َن‬‫ِ‬
‫هَلُ ْم يِف اأْل َْر ِ‬
‫ض َونُِري ف ْر َع ْو َن َو َه َاما َن َو ُجنُ َ‬
‫ودمُهَا‬ ‫َوجَنْ َعلَ ُه ُم الْ َوا ِرث َ‬
‫" (القصص ‪ ،‬آية ‪5 :‬ـ ‪.)6‬‬ ‫ِمْن ُهم َّما َكانُوا حَيْ َذ ُرو َن‬
‫ت ـ واهلل تعاىل وعد املؤمنني من هذه األمة مبا وعد به املؤمنني من‬
‫الصاحِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ات‬ ‫ين َآمنُوا من ُك ْم َو َعملُوا َّ َ‬ ‫قبلهم‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬و َع َد اللَّهُ الذ َ‬
‫ين ِمن َقْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن هَلُ ْم‬ ‫َ‬
‫ض َكما استخلَف الَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َر‬
‫ْ‬ ‫أْل‬ ‫ا‬ ‫يِف‬ ‫م‬ ‫َّه‬
‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫لَيستخلِ‬
‫َ َْ ْ‬
‫َّهم ِّمن َب ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمنًا َي ْعبُ ُدونَيِن اَل‬ ‫ضى هَلُ ْم َولَيُبَ ِّدلَن ُ‬
‫ِ‬
‫د َين ُه ُم الَّذي ْارتَ َ‬
‫ِ‬
‫ك هم الْ َف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس ُقو َن" (النور ‪،‬‬ ‫ك فَأ ُْولَئ َ ُ ُ‬ ‫يُ ْش ِر ُكو َن يِب َشْيئًا َو َمن َك َفَر َب ْع َد َذل َ‬
‫آية ‪.)55 :‬‬
‫فإذا حقق الناس اإلميان‪ ،‬وحتاكموا إىل شريعة الرمحن فستأتيهم مثرة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضى هَلُ ْم " (النور ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ذلك‪ ،‬وأثره الباقي " َولَيُ َم ِّكنَ َّن هَلُ ْم د َين ُه ُم الَّذي ْارتَ َ‬
‫‪ ،)55‬فهي مقدمات ونتائج أعمال وآثار‪ ،‬فتحقيق التحاكم إىل اهلل‪،‬‬
‫يتحقق به االستخالف وحتقيق احلكم به‪ ،‬يوصل إىل التمكني ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫إن وقائع التاريخ اإلسالمي‪ ،‬تصدق هذا الوعد اإلهلي لألمة بالنصر‬
‫والتمكني إذا أقامت شرعه‪ ،‬فليست هناك من جوالت املسلمني انتصروا‬
‫فيها على أعدائهم‪ ،‬وتق ّدموا يف شؤون دنياهم إال وكان واقعهم شاهداً‬
‫‪2‬‬
‫على متكني القرآن الكرمي منهم اعتقاداً وعمالً ‪.‬‬
‫‪2‬ـ األمن واالستقرار‪ :‬ضمن اهلل عز وجل ألهل اإلميان والعمل بشرعه‬
‫وحكمه‪ ،‬أن حُي قق هلم األمن الذي ينشدون إذا استقاموا على التوحيد‬
‫ين َآمنُواْ َومَلْ َي ْلبِ ُسواْ إِميَا َن ُهم بِظُْل ٍم‬ ‫َّ ِ‬
‫ونبذوا الشرك بأنواعه‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬الذ َ‬
‫أ ُْولَـئِ َ‬
‫ك هَلُ ُم األ َْم ُن َو ُهم ُّم ْهتَ ُدو َن " (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)82 :‬‬
‫وال يتصور حتقيق أمة لإلخالص يف العبودية‪ ،‬واخللوص من الشرك‪،‬‬
‫وبالتايل الشعور باألمن واالستقرار إال بإقامة شرع اهلل كامالً غري‬
‫منقوص‪ ،‬وإال فإن األمم املنحرفة عن شرع اهلل حُي يط هبا اخلوف والقلق‬

‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي د‪ .‬عبد العزيز مصطفى (‪.)1/673‬‬


‫‪ 2‬هجر القرآن الكريم انواعه واحكامه د‪ .‬محمود الدوسري صـ ‪.627‬‬
‫‪128‬‬
‫من مجيع جوانبها ألن األمن واألمان قد ُسلب‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬أَفَأ َِم َن أ َْه ُل‬
‫الْ ُقَرى أَن يَأْتَِي ُه ْم بَأْ ُسنَا َبيَاتاً َو ُه ْم نَآئِ ُمو َن* أ ََو أ َِم َن أ َْه ُل الْ ُقَرى أَن‬
‫ض ًحى َو ُه ْم َي ْل َعبُو َن* أَفَأ َِمنُواْ َم ْكَر اللّ ِه فَالَ يَأْ َم ُن َم ْكَر اللّ ِه‬ ‫ِ‬
‫يَأْتَي ُه ْم بَأْ ُسنَا ُ‬
‫ض ِمن َب ْع ِد أ َْهلِ َها أَن‬ ‫ين يَِرثُو َن األ َْر َ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إالَّ الْ َق ْو ُم اخْلَاسُرو َن* أ ََومَلْ َي ْهد للَّذ َ‬
‫اهم بِ ُذنُوهِبِ ْم َونَطْبَ ُع َعلَى ُقلُوهِبِ ْم َف ُه ْم الَ يَ ْس َمعُو َن "‬ ‫لَّْو نَ َشاء أ َ‬
‫َصْبنَ ُ‬
‫(األعراف ‪ ،‬آية ‪.)100 ، 97 :‬‬
‫امنت على املؤمنني باألمن يف مظنَّة اخلوف ملا انقادوا‬ ‫يف حني أن اهلل َّ‬
‫َّ‬
‫حلكم اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ُ " :‬ه َو الَّ ِذي‬
‫هِنِ ِ ِ‬ ‫وب الْمؤ ِمنِ ِ‬ ‫أَنز َل َّ ِ‬
‫ني لَي ْز َد ُادوا إِميَانًا َّم َع إِميَا ْم َوللَّه ُجنُ ُ‬
‫ود‬ ‫السكينَةَ يِف ُقلُ ِ ُ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫يما " (الفتح ‪ ،‬آية ‪،)4 :‬‬ ‫يما َحك ً‬ ‫ض َو َكا َن اللَّهُ َعل ً‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫والسكينة هي الطمأنينة‪ ،‬والذين أنزل عليهم السكينة هم الصحابة رضي‬
‫اهلل عنهم يوم احلديبية الذين استجابوا هلل ولرسوله‪ ،‬وانقادوا حلكم اهلل‬
‫ورسوله ‪ ،‬وإذا امتثل الناس شرع اهلل‪ ،‬وطبقوا أحكامه‪ ،‬ضمنوا األمن‬ ‫‪1‬‬

‫التام يف أمواهلم وأعراضهم ودمائهم‪ ،‬فما من حد من احلدود‪ ،‬وال‬


‫شرعة من الشرائع إال وحتفظ بسببها ضرورة من الضرورات اخلمس‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والعرض واملال ‪.‬‬
‫وقوانني البشر الوضعية ال حُت رز أمناً وال توفر استقراراً‪ ،‬إذا ما قورنت‬
‫بالتشريعات اإلسالمية‪ ،‬فالدول قدمياً وحديثاً تنفق األموال الطائلة وترصد‬
‫امليزانيات اهلائلة‪ ،‬لتأمني الداخل ومع ذلك ال حيصل للناس من األمان‬
‫عشر معشار ما ميكنهم حتصيله‪ ،‬لو أنهم أقاموا حد من حدود هللا تعالى‬
‫كح ِّد السرقة مثالً‪.3‬‬
‫نصُرهُ إِ َّن اللَّهَ‬
‫نصَر َّن اللَّهُ َمن يَ ُ‬ ‫‪ 3‬ـ النصر والفتح‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬ولَيَ ُ‬
‫ي ع ِزيز* الَّ ِ‬
‫الز َكاةَ‬‫ض أَقَ ُاموا الصَّاَل ةَ َوآَت ُوا َّ‬ ‫ين إِن َّم َّكن ُ‬
‫َّاه ْم يِف اأْل َْر ِ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫لََق ِو ٌّ َ ٌ‬
‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ‪.628‬‬
‫‪ 2‬هجر القرآن الكريم صـ‪.628‬‬
‫‪ 3‬قجر القرآن الكريم صـ‪.629‬‬
‫‪129‬‬
‫وف َو َن َه ْوا َع ِن الْ ُمن َك ِر َولِلَّ ِه َعاقِبَةُ اأْل ُُمو ِر" (احلج ‪ ،‬آية‬ ‫وأَمروا بِالْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َُ‬
‫‪.)41 ، 40‬‬
‫واملعىن‪ :‬لينصرن اهلل عز وجل من ينصر دينه‪ ،‬ومن ينصر أولياءه وينتصر‬
‫لشرعه يف األولني واآلخرين‪ ،‬كما نصر املهاجرين واألنصار‪ ،‬على‬
‫الروم‪ ،‬وأورثهم أرضهم‬ ‫صناديد العرب‪ ،‬وأكاسرة العجم‪ ،‬وقياصرة ُّ‬
‫وديارهم ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وسنة اهلل تعاىل ماضية يف نصر من ينصر دينه‪ ،‬كما قال تعاىل‪ " :‬إِن‬
‫ت أَقْ َد َام ُك ْم " (حممد ‪ ،‬آية ‪ ،)7 :‬وقال‬ ‫نصُروا اللَّهَ يَ ُ‬
‫نص ْر ُك ْم َويُثَبِّ ْ‬ ‫تَ ُ‬
‫تعاىل‪َ ":‬و َكا َن َح ًّقا َعلَْينَا نَ ْ‬
‫صُر‬
‫ني (الروم ‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬ ‫ِِ‬
‫الْ ُم ْؤمن َ‬
‫والعزة أو عدمها يعترب مقياساً دقيقاً‬ ‫َّ‬ ‫وهلذا فإن حال األمة من النَّصر‬
‫وميزاناً للحكم على مقدار امتثاهلا ـ ُرعاة ورعيَّة ـ لشريعة اهلل ظاهراً‬
‫وباطناً‪,‬‬
‫فباالستجابة للشريعة يُستجلب الفتح‪ ،‬ويُستنزل النصر‪ ،‬وتُستفتح األرض ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫َنزلْنَا إِلَْي ُك ْم كِتَابًا فِ ِيه ِذ ْكُر ُك ْم‬


‫‪ 4‬ـ العز والشرف‪ :‬قال تعاىل‪ " :‬لََق ْد أ َ‬
‫أَفَاَل َت ْع ِقلُو َن" (األنبياء ‪ ،‬آية ‪ .)10 :‬أي فيه شرفكم وصيتكم‪ ،‬وقال‬
‫تعاىل يف آخر اآلية‪" :‬أفال تعقلون" واالستفهام للتوبيخ والتقريع واملعىن‪ :‬أفال‬
‫فضلتم به على غريكم ‪ ،‬فهذه األمة ال تستمد الشرف‬ ‫‪3‬‬
‫تعقلون ما ِّ‬
‫والعزة إال من استمساكها بدينها وتطبيقها ألحكام الشريعة يف مجيع‬
‫أذل قوم ما‬ ‫نواحي احلياة‪ ،‬كما قال عمر رضي اهلل عنه‪ " :‬إنا كنا َ‬
‫العز بغري ما أعزنا اهلل به أذلنا‬ ‫أعزنا اهلل إال باإلسالم‪،‬فمهما نطلب ّ‬ ‫َ‬
‫اهلل ‪ ،‬فهناك ارتباط وثيق بني حال األمة اإلسالمية عزاً وذالً‪ ،‬مع‬ ‫‪4‬‬

‫‪ 1‬روح المعاني لأللوسي (‪.)164 / 17‬‬


‫‪ 2‬هجر القرآن العظيم ‪.630‬‬
‫‪ 3‬زاد المسير البن الجوزي (‪3419 / 5‬ز‬
‫‪ 4‬صحيح الترغيب والترهيب (‪ )3/100‬رقم ‪.2893‬‬
‫‪130‬‬
‫عزت يف يوم بغري دين‬ ‫موقفها من تطبيق الشريعة إقباالً وإدباراً فما ّ‬
‫اهلل وما ذلّت يف يوم إال باالحنراف عنه ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫العزة فليتعزر بطاعة اهلل تعاىل‪ ،‬ألن مصدرها من اهلل تعاىل‬ ‫ومن أراد ّ‬
‫يد الْعَِّزةَ فَلِلَّ ِه الْعَِّزةُ‬
‫فليطلبها من مصدرها‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ":‬من َكا َن يُِر ُ‬
‫ِ ِِ ِ ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫مَج ًيعا " (فاطر ‪ ،‬آية ‪ ،)10 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬وللَّه الْعَّزةُ َولَر ُسوله َول ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ني‬
‫ني اَل َي ْعلَ ُمو َن" (املنافقون ‪ ،‬آية ‪ ،)8 :‬وهذه العزة كما‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َولَك َّن الْ ُمنَافق َ‬
‫كانت للمؤمنني السابقني فهي كذلك لالحقني شريطة أن يقتفوا أثرهم‬
‫يف تعظيم حرمات اهلل وتطبيق شرعه واالعتزاز بدينه‪.2‬‬
‫َن أ َْه َل الْ ُقَرى َآمنُواْ َو َّات َقواْ‬ ‫‪5‬ـ بركة العيش ورغده‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬ولَ ْو أ َّ‬
‫اهم مِب َا‬ ‫ِ‬ ‫لََفتَحنَا علَي ِهم بر َك ٍ‬
‫ض َولَـكن َك َّذبُواْ فَأ َ‬
‫َخ ْذنَ ُ‬ ‫الس َماء َواأل َْر ِ‬
‫ات ِّم َن َّ‬ ‫ْ َ ْ ََ‬
‫َكانُواْ يَ ْك ِسبُو َن" (األعراف‪ ،‬آية‪ ،)96 :‬فاآلية الكرمية تعد املؤمنني‬
‫املستجيبني لشرع اهلل بالربكات مىت ما حققوا معىن اإلميان والتقوى‬
‫والطريق إىل بركات السماء واألرض االستجابة هلل وروسوله صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وإقامة شريعته حىت ينالوا هذا املطلب النفسي‪.3‬‬
‫وك‬‫ك الَ يُ ْؤ ِمنُو َن َحىَّتَ حُيَ ِّك ُم َ‬ ‫‪6‬ـ الهداية والتثبيت‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬فَالَ َو َربِّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َويُ َسلِّ ُمواْ‬ ‫ضْي َ‬ ‫يما َش َجَر َبْيَن ُه ْم مُثَّ الَ جَيِ ُدواْ يِف أَن ُفس ِه ْم َحَر ًجا مِّمَّا قَ َ‬ ‫فَ‬
‫اخُر ُجواْ ِمن ِديَا ِر ُكم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما* َولَ ْو أَنَّا َكتَْبنَا َعلَْي ِه ْم أَن ا ْقُتلُواْ أَن ُف َس ُك ْم أَ ِو ْ‬ ‫تَ ْسل ً‬
‫وعظُو َن بِِه لَ َكا َن َخْيًرا‬ ‫َّما َفعلُوه إِالَّ قَلِ‬
‫يل ِّمْن ُه ْم َولَ ْو أَنَّ ُه ْم َف َعلُواْ َما يُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ‬
‫اه ْم ِصَراطًا‬ ‫ِ‬
‫يما* َوهَلََد ْينَ ُ‬
‫َجراً َعظ ً‬ ‫اهم ِّمن لَّ ُدنَّـا أ ْ‬ ‫َش َّد َتثْبِيتًا * َوإِذاً آَّل َتْينَ ُ‬
‫هَّلُ ْم َوأ َ‬
‫يما " (النساء ‪ ،‬آية ‪65 :‬ـ ‪.)66‬‬ ‫ِ‬
‫ُّم ْستَق ً‬

‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ ‪.631‬‬


‫‪ 2‬المصدر بنفسه صـ ‪.631‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.632‬‬
‫‪131‬‬
‫ووعدوا اخلري ألجله‪ ،‬هو حتكيم الشريعة‬ ‫واألمر الذي ُوعظوا به ُ‬
‫واالنقياد التام للرسول صلى اهلل عليه وسلم فلو أهنم امتثلوا ما أمروا‬
‫‪4‬‬
‫به‪ ،‬لثبت اهلل تعاىل اقدامهم على احلق فال يضطرون يف أمر دينهم ‪.‬‬
‫ني إِ َذا ُدعُوا إِىَل‬ ‫ِِ‬
‫‪7‬ـ الفالح والفوز‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬إِمَّنَا َكا َن َق ْو َل الْ ُم ْؤمن َ‬
‫ِ ِ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫اللَّ ِه َو َر ُسول ِه ليَ ْح ُك َم َبْيَن ُه ْم أَن َي ُقولُوا مَسِ ْعنَا َوأَطَ ْعنَا َوأ ُْولَئِ َ‬
‫ِ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫ش اللَّهَ َو َيَّت ْق ِه فَأ ُْولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫الْ ُم ْفل ُحو َن {‪َ }51‬و َمن يُط ِع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َوخَي ْ َ‬
‫الْ َفائُِزو َن " (النور ‪ ،‬آية ‪.)52 ،51 :‬‬
‫فقد مجعت هذه اآلية الكرمية أسباب الفوز يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫طاعة اهلل ورسوله‪ ،‬وخشية اهلل وتقواه ‪.‬‬
‫‪8‬ـ المغفرةـ وتكفير السيئات‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها النَّيِب ُّ إِذَا َج َ‬
‫اءك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات يُبَايِ ْعنَ َ‬ ‫ِ‬
‫ك َعلَى أَن اَّل يُ ْش ِر ْك َن بِاللَّه َشْيئًا َواَل يَ ْس ِرقْ َن َواَل َي ْزن َ‬
‫ني‬ ‫الْ ُم ْؤمنَ ُ‬
‫ان َي ْفرَتِ ينَهُ َبنْي َ أَيْ ِدي ِه َّن َوأ َْر ُجلِ ِه َّن َواَل‬‫واَل ي ْقُت ْلن أَواَل ده َّن واَل يأْتِني بِبهتَ ٍ‬
‫َ َ َ ْ َُ َ َ َ ُْ‬
‫ِ‬ ‫وف َفبايِعه َّن و ِ‬ ‫صينَك يِف معر ٍ‬
‫يم "‬ ‫ور َّرح ٌ‬
‫ِ‬
‫اسَت ْغف ْر هَلُ َّن اللَّهَ إ َّن اللَّهَ َغ ُف ٌ‬ ‫َ ُْ َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َي ْع ِ َ‬
‫(املمتحنة ‪ ،‬آية ‪ .)12 :‬فقد أمر اهلل تعاىل نبيه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫والرضى حبكم‬ ‫هن بايعنه على السمع والطاعة ّ‬ ‫أن يستغفر للمؤمنات إذا ّ‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬وقد جاء احلديث على كون اهلل غفور رحيم للمبايعات‬
‫إذا هن وفني ببيعتهن‪.3‬‬
‫وعن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه أن رسول اهلل قال وحوله‬
‫صابة من أصحابه‪ :‬بايعوين على أال تشركوا باهلل شيئاً وال تسرقوا وال‬ ‫ِ‬
‫عَ‬
‫تزنوا‪ ،‬وال تقتلوا أوالدكم‪ ،‬وال تأتوا ببهتان تفرتونه بني أيديكم‬
‫وىف منكم فأجره على اهلل ومن‬ ‫وأرجلكم وال تعصوا يف معروف فمن ّ‬
‫أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب يف الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من‬
‫ذلك شيئاً مث سرته فهو إىل اهلل‪ ،‬إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه‪،‬‬
‫‪ 4‬فتح القدير للشوكاني (‪.)1/732‬‬
‫‪ 2‬التحرير والتنويرـ للطاهر بن عاشور (‪.)221 /18‬‬
‫‪ 3‬هجر القرآن العظيم صـ ‪.637‬‬
‫‪132‬‬
‫فقد كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يبايع املؤمنني واملؤمنات على أمور‬
‫هي يف مضموهنا إثبات ملوقف التحاكم إىل الشريعة واخلضوع هلا وهذه‬
‫البيعة كانت على االمتثال لسائر شرائع اإلسالم‪ ،‬وما مل يذكر يف هذه‬
‫املبايعة كالصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وسائر أركان الدين وشعائر اإلسالم لوضوح‬
‫أمره واشتهاره‪.‬‬
‫إن حتكيم الشريعة مظنة توبة التائبني يف الدنيا‪ ،‬وقبول هذه التوبة يف‬
‫اآلخرة باملغفرة وحمو السيئات‪.‬‬
‫ول‬ ‫والص ّديقين‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬و َمن يُ ِط ِع اللّهَ َو َّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫ّ‬ ‫‪9‬ـ مرافقة النبيين‬
‫ُّه َداء‬ ‫فَأُولَـئِك مع الَّ ِذين أَْنعم اللّه علَي ِهم ِّمن النَّبِيِّني و ِّ ِ‬
‫ني َوالش َ‬ ‫الصدِّيق َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ َ ْ‬ ‫ْ َ ََ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك الْ َف ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما‬
‫ض ُل م َن اللّه َو َك َفى باللّه َعل ً‬ ‫ك َرفي ًقا* َذل َ‬ ‫ني َو َح ُس َن أُولَـئِ َ‬‫و َّ حِلِ‬
‫الصا َ‬ ‫َ‬
‫" (النساء ‪ ،‬آية ‪ .)70 ،69 :‬مسّى اهلل تبارك وتعاىل التحاكم إىل‬
‫ومقاماً كرمياً يف صحبة‬ ‫الرسول (طاعة) وجعل عاقبتهما معية كرمية ُ‬
‫كرمية يف جوار اهلل الكرمي وحق ملن أقام هذا التحاكم على ما يريد‬
‫صعُداً مع هذه الصحبة املباركة يف الفردوس‬ ‫اهلل تعاىل‪ ،‬أن يرقى ُ‬
‫والص ّديقني والشهداء والصاحلني هم خري من أطاع‬ ‫ّ‬ ‫األعلى‪ ،‬ألن النبيني‬
‫ووحده‪ ،‬فمن حذا حذوهم ُح ِشر‬ ‫ّ‬ ‫اهلل تعاىل ظاهراً وباطناً وأقام شريعته‬
‫لكل‬
‫معهم وصحبهم يف الفردوس األعلى من اجلنة وهو طريق مفتوح ّ‬
‫من اقتدى هبم ظاهراً وباطناً ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ ‪636‬إلى ‪.639‬‬


‫‪133‬‬
‫تاسعاً‪ :‬اآلثار السيئة للحكم بغير ما أنزل هللا‪:‬‬

‫إن للحكم بغريما أنزل اهلل آثار دنيوية وأخروية سيئة‪ ،‬تبدو على احلياة‬
‫يف وجهتها الدينية واإلجتماعية والسياسية واإلقتصادية‪ ،‬تصيب بشررها‬
‫وتشوه معاملها‪ ،‬وبذلك تتحول احلياة إىل فتنة يف الدنيا واآلخرة‬ ‫ِّ‬ ‫حماسنها‬
‫فلله عز وجل ح ّذرنا من خمالفة األوامر الشرعية يف قوله تعاىل‪َ ":‬ف ْليَ ْح َذ ِر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم "‬ ‫اب أَل ٌ‬ ‫ين خُيَال ُفو َن َع ْن أ َْم ِر ِه أَن تُص َيب ُه ْم فْتنَةٌ أ َْو يُص َيب ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫الذ َ‬
‫(النور ‪،‬آية ‪ ،)63:‬أي‪ :‬فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم باطناً أو ظاهراً "أن تصيبهم فتنة"‪.‬أي‪ :‬يف قلوهبم من‬
‫كفر أو نفاق أو بدعة" أو يُصيبهم عذاب أليم"‪ ،‬أي‪ :‬يف الدنيا بقتل‪،‬‬
‫أو حدِّ‪ ،‬أو حبس‪ ،‬أو حنو ذلك‪.1‬‬
‫إن اجملتمعات والشعوب اليت تُسلِ ُم قيادهتا للحكام الذين حيكومنها بغري‬
‫شريعة اهلل‪ ،‬تدفع ضريبة التخلي عن احلكم مبا أنزل اهلل من أمواهلا‬
‫واملادية‪ ،‬ذلك‬ ‫ّ‬ ‫وأعراضها وعقول أبنائها‪ ،‬وغري ذلك من ثرواهتا األدبية‬
‫إىل جانب ما جيُّره التَّخلِّي عن احلكم مبا أنزل اهلل من اجلوع واخلوف‬
‫‪2‬‬
‫وضنك العيش‪ ،‬وغضب اهلل يف الدنيا واآلخرة ‪.‬‬
‫وإليك بعض اآلثار املرتتبة على احلكم مبا أنزل اهلل يف احلياة الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪1‬ـ قسوة القلب‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬فَبِ َما نَ ْقض ِهم ِّميثَا َق ُه ْم لَعن ُ‬
‫َّاه ْم َو َج َع ْلنَا‬
‫اضعِ ِه َونَ ُسواْ َحظًّا مِّمَّا ذُ ِّكُرواْ بِِه"‬ ‫اسيةً حُي ِّرفُو َن الْ َكلِم عن َّمو ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫وب ُه ْم قَ َ َ‬ ‫ُقلُ َ‬
‫(املائدة ‪ ،‬آية ‪ .)13:‬فهم ملا نقضوا ميثاق اهلل على السمع والطاعة‪،‬‬
‫َّ‬
‫وتأولوا كتاب اهلل على غري ما أنزله‪،‬‬ ‫تصرفهم يف آيات اهلل ّ‬ ‫وساء ُّ‬
‫ومحلوه على غري مراده‪ ،‬وقالوا عليه ما مل يقل‪ ،‬مث تركوا العمل به‬
‫رغبة عنه‪ ،‬جعل اهلل قلوهبم قاسية‪ ،‬فال يتعظون مبوعظة لغلظتها‬
‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ‪.642‬‬
‫‪ 2‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)710 ،2/705‬‬
‫‪134‬‬
‫وقساوهتا وهذا من أعظم العقوبات اليت خُي ذل القلب‪ ،‬ومُي نع األلطاف‬
‫‪1‬‬
‫كل من‬ ‫شراً ‪ .‬وهكذا الشأن يف ِّ‬ ‫الربانية‪ ،‬وال يزيده اهلدى واخلري إال ّ‬
‫عدل عن شرع اهلل‪ ،‬حُم ِّكماً عقله وهواه‪ ،‬فجزاؤه أن يُطبع على قلبه‬
‫َضلَّهُ اللَّهُ َعلَى ِع ْل ٍم َو َختَ َم‬ ‫ت َم ِن اخَّتَ َذ إِهَلَهُ َه َواهُ َوأ َ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬أََفَرأَيْ َ‬
‫ص ِر ِه ِغ َش َاوةً فَ َمن َي ْه ِد ِيه ِمن َب ْع ِد اللَّ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َعلَى مَسْعه َو َق ْلبِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ‬
‫أَفَاَل تَ َذ َّكُرو َن " (اجلاثية ‪ ،‬آية ‪.)23:‬‬
‫‪2‬‬

‫اك َخلِي َفةً يِف‬ ‫ود إِنَّا َج َع ْلنَ َ‬‫‪ 2‬ـ الضالل عن الحق‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬يَا َد ُاو ُ‬
‫ك َعن َسبِ ِيل اللَّ ِه‬ ‫ضلَّ َ‬ ‫َّاس بِاحْل ِّق واَل َتتَّبِ ِع اهْل وى َفي ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫اح ُكم َبنْي َ الن ِ َ َ‬ ‫ض فَ ْ‬ ‫اأْل َْر ِ‬
‫اب َش ِدي ٌد مِب َا نَ ُسوا َي ْو َم‬ ‫ِ‬
‫ين يَضلُّو َن َعن َسبِ ِيل اللَّه هَلُ ْم َع َذ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫إ َّن الذ َ‬
‫اب" (ص ‪ ،‬آية ‪ ،)26 :‬ومعلوم أن نيب اهلل داود عليه السالم ال‬ ‫احْلِس ِ‬
‫َ‬
‫ولكن اهلل تعاىل‬ ‫َّ‬ ‫احلق وال يتبع اهلوى فيضله عن سبيل اهلل‪،‬‬ ‫حيكم بغري ِّ‬
‫‪3‬‬
‫شرعوا ألممهم ‪.‬‬ ‫يأمر أنبياءه عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وينهاهم‪ ،‬ليُ ِّ‬
‫وقد جاء التحذير الصريح يف خطورة اتباع األهواء وتقدميها على‬
‫أحكام اهلل تعاىل‪ ،‬وأنه ليس ملؤمن وال مؤمنة أن يكون له اختيار عند‬
‫حكم اهلل ورسوله‪ ،‬فما أمر اهلل هو املتبع‪ ،‬وما أراد النيب هو احلق‪،‬‬
‫ضل ضالالً مبيناً‪ ،‬ألن اهلل هو املقصد‬ ‫ومن خالفهما يف شيء فقد ّ‬
‫املقصد‪ ،‬ومل يسمع قول اهلادي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والنيب هو اهلادي املوصل‪ ،‬فمن ترك‬
‫ٍِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ضى اللَّهُ‬ ‫فهو ضال قطعاً ‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬و َما َكا َن ل ُم ْؤم ٍن َواَل ُم ْؤمنَة إِ َذا قَ َ‬ ‫‪4‬‬

‫ص اللَّهَ َو َر ُسولَهُ‬ ‫َو َر ُسولُهُ أ َْمًرا أَن يَ ُكو َن هَلُ ُم اخْلَِيَرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم َو َمن َي ْع ِ‬
‫ضاَل اًل ُّمبِينًا " (األحزاب ‪ ،‬آية ‪.)36:‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫َف َق ْد َ‬
‫‪3‬ـ الوقوع في النفاق‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬وإِذَا قِ‬
‫يل هَلُ ْم َت َعالَ ْواْ إِىَل َما أ َ‬
‫َنز َل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف إِ َذا‬ ‫ِِ‬ ‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫ودا* فَ َكْي َ‬ ‫ص ُد ً‬ ‫نك ُ‬ ‫صدُّو َن َع َ‬ ‫ني يَ ُ‬ ‫ت الْ ُمنَافق َ‬ ‫ول َرأَيْ َ‬ ‫اللّهُ َوإىَل َّ ُ‬

‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ‪.643‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ‪.643‬‬
‫‪ 3‬أضواء البيان (‪.)7/28‬‬
‫‪ 4‬التفسير الكبير (‪.)25/183‬‬
‫‪135‬‬
‫وك حَيْلِ ُفو َن بِاللّ ِه إِ ْن أ ََر ْدنَا إِالَّ‬ ‫آؤ َ‬ ‫ِ‬
‫ت أَيْدي ِه ْم مُثَّ َج ُ‬ ‫َّم ْ‬
‫ِ مِب‬
‫َص َابْت ُهم ُّمصيبَةٌ َا قَد َ‬ ‫أَ‬
‫إِ ْح َسانًا َوَت ْوفِي ًقا " (النساء ‪ ،‬آية ‪61:‬ـ‪.)62‬‬
‫يبتلى بالنفاق من يضمرون الكراهية لشرع اهلل تعاىل‪ ،‬حىت تصري قلوهبم‬
‫مريضة هبذا النفاق‪ ،‬فيحاولون جهدهم أن خُي فوا نفاقهم‪ ،‬ظانِّني أن ذلك‬
‫أمر ممكن‪ ،‬ولكن يأىب اهلل تعاىل إال أن يفضح املنافقني بفلتات ألسنتهم‬
‫هِبِ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬أَم ح ِسب الَّ ِ‬
‫ِج اللَّهُ‬‫ض أَن لَّن خُيْر َ‬ ‫ين يِف ُقلُو م َّمَر ٌ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِِ‬
‫َح ِن‬ ‫َّه ْم يِف ل ْ‬ ‫اه ْم َولََت ْع ِر َفن ُ‬
‫يم ُ‬
‫َضغَا َن ُه ْم* َولَ ْو نَ َشاء أَل ََر ْينَا َك ُه ْم َفلَ َعَر ْفَت ُهم بس َ‬ ‫أْ‬
‫الْ َق ْو ِل َواللَّهُ َي ْعلَ ُم أ َْع َمالَ ُك ْم " (حممد ‪ ،‬آية ‪29 :‬ـ‪.)30‬‬
‫واألضغان‪ :‬مجع ِضغن‪ ،‬وهو ما يف النفوس من احلسد واحلقد‪ ،‬والعداوة‬
‫‪1‬‬
‫لإلسالم وأهله‪ ،‬القائمني بنصره ‪.‬‬
‫وحلن القول‪ :‬ما يبدو من كالمهم ال ّدال على مقاصدهم بالتعريض أو‬
‫التورية‪.‬‬
‫عما‬
‫إن شأن املنافقني الدائم هو اإلستهزاء بالشريعة‪ ،‬ومحلتها واإلعراض ّ‬
‫والصد عن سبيله وقد كانوا يُشفقون من افتضاح‬ ‫َّ‬ ‫أنزل اهلل تعاىل‪،‬‬
‫نفاقهم هبذا اإلستهزاء واإلعراض‪ ،‬حىت قال قائلهم‪ :‬واهلل لوددت أيِّن‬
‫فجلدت مائة وال ينزل فينا شيء يفضحنا‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل‬ ‫قُدِّمت ُ‬
‫ورةٌ ُتنَبُِّئ ُه ْم مِب َا يِف ُقلُوهِبِم قُ ِل‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ه‬‫فيهم‪ ":‬حَيْ َذر الْمنَافِ ُقو َن أَن ُتَنَّز َل َعلَْي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫ِج َّما حَتْ َذ ُرو َن {‪َ }64‬ولَئِن َسأَلَْت ُه ْم لََي ُقولُ َّن إِمَّنَا‬ ‫اسَت ْه ِز ُؤواْ إِ َّن اللّهَ خُمْر ٌ‬
‫ْ‬
‫ب قُ ْل أَبِاللّ ِه َوآيَاتِِه َو َر ُسولِِه ُكنتُ ْم تَ ْسَت ْه ِز ُؤو َن {‪ }65‬الَ‬ ‫وض َو َن ْل َع ُ‬ ‫ُكنَّا خَنُ ُ‬
‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ف َعن طَآئ َفة ِّمن ُك ْم نُ َع ِّذ ْ‬ ‫َت ْعتَذ ُرواْ قَ ْد َك َفْرمُت َب ْع َد إِميَان ُك ْم إِن نَّ ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني " (التوبة ‪ ،‬آية ‪64:‬ـ‪.)66‬‬ ‫طَآئ َفةً بِأَنَّ ُه ْم َكانُواْ جُمْ ِرم َ‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬ ‫‪4‬ـ الحرمان من التوبة‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها َّ‬
‫نك الذ َ‬ ‫ول الَ حَيْ ُز َ‬ ‫الر ُس ُ‬
‫ين قَالُواْ َآمنَّا بِأَ ْف َو ِاه ِه ْم َومَلْ ُت ْؤ ِمن ُقلُوبُ ُه ْم‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫الْ ُك ْف ِر م َن الذ َ‬
‫يُسا ِرعُو َن يِف‬
‫َ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ادواْ مَسَّاعُو َن لِْل َك ِذ ِ‬ ‫وِمن الَّ ِذ ِ‬
‫ين مَلْ يَأْتُ َ‬
‫وك‬ ‫آخ ِر َ‬ ‫ب مَسَّاعُو َن ل َق ْوم َ‬ ‫ين ه ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ‪.645‬‬
‫‪136‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫حُيَِّرفُو َن الْ َكل َم من َب ْعد َم َواضعه َي ُقولُو َن إِ ْن أُوتيتُ ْم َهـ َذا فَ ُخ ُذوهُ َوإِن مَّلْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ك لَهُ ِم َن اللّ ِه َشْيئًا أ ُْولَـئِ َ‬ ‫اح َذ ُرواْ َو َمن يُِرد اللّهُ فْتنَتَهُ َفلَن مَتْل َ‬
‫ُت ْؤَت ْوهُ فَ ْ‬
‫ي َوهَلُ ْم يِف‬ ‫الَّ ِذين مَل ي ِر ِد اللّه أَن يطَ ِّهر ُقلُوبهم هَل م يِف ُّ ِ‬
‫الد ْنيَا خ ْز ٌ‬ ‫َ ُ ْ ُْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم " (املائدة ‪ ،‬آية ‪ :)41:‬نزلت هذه اآليات الكرميات‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫اآلخَر ِة َع َذ ٌ‬
‫يف املسارعني يف الكفر‪ ،‬اخلارجني عن طاعة اهلل ورسوله املقدِّمني‬
‫آراءهم وأهواءهم على شرائع اهلل عز وجل"من الذين قالوا ءامنَّا‬
‫بأفواههم ومل تؤمن قلوهبم"‪،‬أي‪ :‬أظهروا اإلميان بألسنتهم وقلوهبم خراب‬
‫‪1‬‬
‫خاوية منه‪ ،‬وهؤالء املنافقون"ومن الذين هادوا" أعداء اإلسالم وأهله ‪،‬‬
‫واجلرمية اليت اقرتفها هؤالء‪ :‬هي إحنرافهم عن شريعة اإلسالم بتبعيضها‬
‫تارة‪ ،‬وأخرى بتحريفها حسب أهوائهم وشهواهتم‪ ،‬ومصاحلهم الدَّنيئة‪،‬‬
‫فجاءت عقوبتهم متالئمة مع فظاعة ُجرمهم‬
‫ـ احلرمان من التوبة "أولئِك الذين مل يرد اهلل أن يطهر قلوهبم" أي‪ :‬أن‬
‫اهلل تعاىل حتم عليهم أال يتوبوا من ضالهلم وكفرهم‪ ،‬فلم "يُرد ـ اهلل‬
‫أن يطهرـ من دنس الكفر‪ ،‬ووسخ الشرك ـ قلوهبم بطهارة اإلسالم‬
‫ونظافة اإلميان فيتوبوا‪.2‬‬
‫ودلت اآلية الكرمية‪ ،‬على أن من كان مقصوده بالتحاكم إىل احلُكم‬
‫الشرعي‪ ،‬اتّباع هواه‪ ،‬وأنه إن ُح ِك َم له رضي وإن مل حُي كم له‬
‫فإن ذلك من عدم طهارة قلبه‪ ،‬كما أن من حاكم أو حتاكم‬ ‫سخط‪َّ ،‬‬
‫إىل الشرع ورضي به وافق هواه أو خالفه‪ ،‬فإنه من طهارة القلب‪.‬‬
‫ودل على أن طهارة القلب سبب لكل خري‪ ،‬وهو أكرب داع إىل كل‬ ‫َّ‬
‫قول رشيد وعمل سديد ‪ ،‬كما دلت على اخلزي لليهود واملنفقني‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫فباإلضافة لعدم طهارة قلوهبم فإن هناك خزياً يالحقهم وحييط هبم من‬
‫مجيع اجلهات‪ ،‬قال تعاىل‪":‬هلم يف الدنيا خزي" فخزي اليهود‪ :‬فضيحتهم‬
‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪ )3/136‬هجر القرآن العظيم صـ‪.647‬‬
‫‪ 2‬تفسير الطبري (‪ )4/209‬هجر القرآن صـ‪.647‬‬
‫‪ 3‬تفسير السعدي (‪.)1/485‬‬
‫‪137‬‬
‫نص اهلل تعاىل‪ ،‬يف إجياب الرحم وأخذ اجلزية‬ ‫بظهور كذهبم يف كتمان ِّ‬
‫منهم‪ ،‬وخزي املنافقني‪:‬هتك أستارهم بإطالع الرسول صلى اهلل عليه‬
‫‪1‬‬
‫وسلم على كذهبم وخوفهم من القتل ‪.‬‬
‫ات اللّ ِه مَثَنًا قَلِيالً‬ ‫الص ُّد عن سبيل اهلل‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬ا ْشَترواْ بِآي ِ‬
‫َْ َ‬ ‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫صدُّواْ‬‫فَ َ‬
‫َعن َسبِيلِ ِه إِنَّ ُه ْم َساء َما َكانُواْ َي ْع َملُو َن " (التوبة ‪ ،‬آية ‪ .)9 :‬فهذا‬
‫حديث القرآن الكرمي عن مشركي العرب الذين اعتاضوا عن اتّباع‬
‫شرع اهلل‪ ،‬مبا اهتوا به من أمور الدنيا اخلسيسة صادين الناس عن‬
‫اإلسالم وهناك صنفان متقابالن من أهل الكتاب‪ ،‬حتدث القرآن الكرمي‬
‫عنهم يف قوله تعاىل‪ ":‬فَبِظُْل ٍم ِّمن الَّ ِذين هادواْ حَّرمنَا علَي ِهم طَيِّب ٍ‬
‫ات‬ ‫َ َ ُ َ ْ َْ ْ َ‬ ‫َ‬
‫الربَا َوقَ ْد نُ ُهواْ َعْنهُ‬ ‫َخ ِذ ِه ُم ِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫صدِّه ْم َعن َسبِ ِيل اللّه َكث ًريا* َوأ ْ‬
‫أ ُِحلَّت هَل م وبِ ِ‬
‫ْ ُْ َ َ‬
‫اط ِل وأ َْعتَ ْدنَا لِْل َكافِ ِرين ِمْنهم ع َذابا أَلِيما* لَّ ِ‬ ‫َّاس بِالْب ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك ِن‬ ‫َ ُْ َ ً ً‬ ‫َ‬ ‫َوأَ ْكل ِه ْم أ َْم َو َال الن ِ َ‬
‫يك َو َما أُن ِز َل‬ ‫الر ِاس ُخو َن يِف الْعِْل ِم ِمْن ُه ْم َوالْ ُم ْؤ ِمنُو َن يُ ْؤ ِمنُو َن مِب َا أُن ِز َل إِلَ َ‬ ‫َّ‬
‫الز َكا َة َوالْ ُم ْؤ ِمنُو َن بِاللّ ِه َوالَْي ْوِم‬
‫الصالََة َوالْ ُم ْؤتُو َن َّ‬‫ني َّ‬ ‫ِِ‬
‫ك َوالْ ُمقيم َ‬
‫ِ‬
‫ِمن َقْبل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآلخ ِر أ ُْولَـئِ َ‬‫ِ‬
‫يما" (النساء ‪ ،‬آية ‪160:‬ـ‪ .)162‬ففريق‬ ‫َجًرا َعظ ً‬ ‫ك َسُن ْؤتي ِه ْم أ ْ‬
‫الرشوة على احلكم فصدوا‬ ‫توعدهم اهلل تعاىل بالعذاب األليم‪ ،‬لتعاطيهم ِّ‬
‫الربا وأموال الناس بالباطل ويف‬ ‫الناس عن الدِّين‪ ،‬إضافة إىل أكلهم ِّ‬
‫املنزلة‪ ،‬مث إمياهنم‬ ‫مقابلهم فريق استحقوا األجر العظيم‪ ،‬إلمياهنم بالشريعة َّ‬
‫‪2‬‬
‫بالشريعة احلقة الناسخة‪ ،‬فكانوا مثالً يُقتدى هبم ‪.‬‬
‫والص ِّد عن دينه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وهلذا اإلرتباط الوثيق بني اإلحنراف عن شرع اهلل‬
‫الصادون عن سبيله اللعنة والطرد من رمحته قال تعاىل‪ ":‬أَن لَّ ْعنَةُ‬ ‫استحق َّ‬
‫صدُّو َن َعن َسبِ ِيل اللّ ِه َو َيْبغُو َن َها ِع َو ًجا َو ُهم‬ ‫اللّ ِه علَى الظَّالِ ِم َّ ِ‬
‫ين يَ ُ‬ ‫ني* الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اآلخَر ِة َكافُِرو َن " (األعراف ‪ ،‬آية ‪44 :‬ـ‪.)45‬‬ ‫بِ ِ‬

‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)2/718‬‬


‫‪ 2‬هجر القرآن العظيم صـ‪.649‬‬
‫‪138‬‬
‫اَّل ِ ِ‬
‫نسا َن‬‫‪6‬ـ غياب األمن وانتشار الفوضى‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬ك إ َّن اإْل َ‬
‫اسَت ْغىَن " (العلق ‪ ،‬آية ‪6 :‬ـ‪ .)7‬والطغيان هو الصفة السائدة‬ ‫لَيَطْغَى* أَن َّرآهُ ْ‬
‫تأملنا وصف‬ ‫يف اإلنسان عندما يكون يف معزل عن شرع الرمحان ولو ّ‬
‫القرآن الكرمي لإلنسان مبعزل عن اإلميان‪ ،‬لوجدناه عجباً‪:‬فهو ضعيف‬
‫وكفار للنعم وجمادل‬ ‫ونسى لإلحسان وظلوم يف احلقوق‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أمام املغريات‪،‬‬
‫باحلق أو الباطل‪ ،‬وعجول متسرع‪ ،‬وناكر للفضل‪ ،‬وخبيل مبا عنده‬
‫وش ِره يف جلب اخلري لنفسه‪ ،‬وقنوط إذا عجز عن‬ ‫وشديد يف اخلصومة‪َ ،‬‬
‫شر‪ ،‬وهو‬ ‫بضِّر أو أملَّ به ُّ‬ ‫جلب هذا اخلري‪ ،‬وهلع جزع إذا أصيب ُ‬
‫ضان باخلري إذا حتصل عليه وال ميكن أن تواجه وتعاجل وهتذب طباع‬
‫هذا املخلوق إال بشريعة من عند خالقه‪ ":‬أَاَل َي ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َق َو ُه َو‬
‫يف اخْلَبِريُ " (امللك ‪ ،‬آية ‪ ،)14 :‬وكيف نتخيل جمتمعنا يرتك فيه‬ ‫ِ‬
‫اللَّط ُ‬
‫تطهر قلبه‬ ‫بع الكاسر‪ ،‬دومنا شريعة ِّ‬ ‫الس ُ‬‫اإلنسان كالوحش الضاري‪ ،‬أو َّ‬
‫وجوارحه‪.1‬‬
‫إن حتقيق األمن يف اجملتمعات مرتبط بتطبيق شرع هلل‪ ،‬فقد خص اهلل‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫عز وجل من طبق شرعه‪ ،‬وحقق شريعته باألمن قال تعاىل‪ ":‬الذ َ‬
‫ك هَلُ ُم األ َْم ُن َو ُهم ُّم ْهتَ ُدو َن " (األنعام‬ ‫َآمنُواْ َومَلْ َي ْلبِ ُسواْ إِميَا َن ُهم بِظُْل ٍم أ ُْولَـئِ َ‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)82 :‬واملتآمل يف حال اجملتمعات الغري حمكومة حبكمة الشريعة‬
‫بكل‬
‫وضبطها لألمور يرى‪ ،‬كثرة القتل‪ ،‬واإلغتصاب‪ ،‬واستباحة األموال ِّ‬
‫الطرق واألشكال‪ ،‬وانتشار الفواحش والزنا‪ ،‬والفجور واخلَنا‪ ،‬واإلدمان‪،‬‬
‫واللصوصية‪ ،‬واجلاسوسيّة والتحاسد والشح والبخل واجلهل والظلم وهذا‬
‫كله من مظاهر غياب األمن املرتبط بتحكيم شرع اهلل‪.‬‬
‫يد َّن َكثِ ًريا ِّمْن ُهم َّما أُن ِز َل‬ ‫‪7‬ـ انتشار العداوة والبغضاء‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬ولَيَ ِز َ‬
‫ضاء إِىَل َي ْوِم‬ ‫ك طُ ْغيَانًا َو ُك ْفًرا َوأَلْ َقْينَا َبْيَن ُه ُم الْ َع َد َاو َة َوالَْب ْغ َ‬ ‫ك ِمن َّربِّ َ‬ ‫إِلَْي َ‬

‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ‪.650‬‬


‫‪139‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫الْ ِقيَ َام ِة " (املائدة ‪ ،‬آية ‪ .)64:‬فاليهود ملا خالفوا‬
‫اهلل عز وجل أن‬ ‫وكذبوه‪ ،‬ومل ينقادوا لشريعته‪ ،‬أخرب‬ ‫َّ‬ ‫عليه وسلم‬
‫ألهنم خالفوا شريعة‬ ‫قلوهبم ال جتتمع‪ ،‬بل العداوة واقعة بينهم دائماً‪،‬‬
‫احلق ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫والنصارى برتكهم بعض ما ذُ ّكروا به من شريعتهم‪ ،‬مث تبكريهم عن‬


‫اتباع النيب صلى اهلل عليه وسلم كانت عاقبتهم كعاقبة إخواهنم اليهود‪،‬‬
‫َخ ْذنَا ِميثَا َق ُه ْم َفنَ ُسواْ َحظًّا مِّمَّا‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬و ِمن الَّ ِ‬
‫ص َارى أ َ‬ ‫ين قَالُواْ إِنَّا نَ َ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫ضاء إِىَل َي ْوم الْ ِقيَ َام ِة َو َس ْو َ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫ذُ ِّكُرواْ بِه فَأَ ْغَر ْينَا َبْيَن ُه ُم الْ َع َد َاو َة َوالَْب ْغ َ‬
‫صَنعُو َن" (املائدة ‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬ ‫مِب‬
‫يُنَبُِّئ ُه ُم اللّهُ َا َكانُواْ يَ ْ‬
‫واألمة اإلسالمية وعظها اهلل تعاىل بالعداوة امللقاة فيما بني طوائف‬
‫ُ‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬حىت ال يقع فيما وقعوا فيه‪،‬فالرعية تُلقى بينهم‬
‫العداوات إذا رغبت عن شرع اهلل‪ ،‬فمىت ترك الناس بعض ما أمرهم‬
‫اهلل به‪ ،‬وقعت بينهم العداوة والبغضاء‪ ،‬وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا‬
‫وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫وإذا خرج والة األمور عن احلكم بني الناس بالكتاب والسنة‪ ،‬فقد‬
‫حكموا بغري ما أنزل اهلل ووقع بأسهم بينهم وهذا من أعظم أسباب‬
‫تعوذ النيب صلى اهلل عليه وسلم من مغبة ترك احلكم‬ ‫تغيري الدول ‪.‬وقد ّ‬
‫‪3‬‬

‫بغري ما انزل اهلل وع ّد ذلك من أعظم أسباب وقوع العداوة والبغضاء‬


‫بني املسلمني ‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قال‪:‬أقبل علينا‬ ‫‪4‬‬

‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬يا معشر املهاجرين‪ ،‬مخس إذا‬
‫ابتليتم هبن واعوذ باهلل أن تُدركوهن وما مل حتكم أئمتهم بكتاب اهلل‬
‫‪5‬‬
‫ويتخرّي وا مبا أنزل اهلل‪ ،‬إال جعل اهلل بأسهم بينهم ‪.‬‬

‫‪ 1‬هجر القرآن العظيم صـ‪.653‬‬


‫‪ 2‬مجموع الفتاوى (‪.)3/421‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)35/388‬‬
‫‪ 4‬هجر القرآن العظيم صـ ‪.656‬‬
‫‪ 5‬صحيح سنن ابن ماجة لأللباني (‪ )3/316‬رقم ‪.3262‬‬
‫‪140‬‬
‫‪8‬ـ الحرمان من النصر والتمكين‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬إِن يَ ُ‬
‫نص ْر ُك ُم اللّهُ فَالَ‬
‫نصُر ُكم ِّمن َب ْع ِد ِه َو َعلَى اللّ ِه‬ ‫ِ‬
‫ب لَ ُك ْم َوإِن خَي ْ ُذلْ ُك ْم فَ َمن َذا الَّذي يَ ُ‬
‫ِ‬
‫َغال َ‬
‫َف ْليََت َو ِّك ِل الْ ُم ْؤ ِمنُو َن " (آل عمران ‪ ،‬آية ‪ ،)160 :‬وليس شيء أدعى‬
‫للخذالن‪ ،‬وللحرمان من النصر والتمكني مثل هجر التحاكم إىل شريعة‬
‫اهلل تعاىل وعدم نصرها يف األرض ويُعترب ذلك إخالالً بشرط النصر‬
‫املنصوص عليه يف آي كثرية من كتاب اهلل‪ ،‬كما قال تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها‬
‫الَّ ِ‬
‫ت أَقْ َد َام ُك ْم " (حممد ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫نص ْر ُك ْم َويُثَبِّ ْ‬ ‫ين َآمنُوا إِن تَ ُ‬
‫نصُروا اللَّهَ يَ ُ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬
‫‪ ،)7‬واملعىن‪ :‬إن تنصروا دين اهلل وشريعته بالعمل هبا‪ ،‬وتعظيمها ينصركم‬
‫اجلن واإلنس‪ ،‬فإن اجلزاء من‬ ‫اهلل على انفسكم‪ ،‬وأعدائكم من شياطني ّ‬
‫جنس العمل ‪ .‬وقد نص القرآن الكرمي على كيفية نصر الدين والشريعة‬ ‫‪1‬‬

‫َّ ِ‬
‫الز َكا َة‬ ‫ض أَقَ ُاموا الصَّاَل َة َوآَت ُوا َّ‬‫َّاه ْم يِف اأْل َْر ِ‬ ‫ين إِن َّم َّكن ُ‬
‫يف قوله تعاىل‪ ":‬الذ َ‬
‫وف َو َن َه ْوا َع ِن الْ ُمن َك ِر َولِلَّ ِه َعاقِبَةُ اأْل ُُمو ِر" (احلج ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫وأَمروا بِالْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َُ‬
‫‪ .)41‬واآلية الكرمية تدل على أن الذين ال يقيمون الصالة وال يؤتون‬
‫الزكاة‪ ،‬وال يأمرون باملعروف وال ينهون عن املنكر ليس هلم وعد من‬
‫يتسمون باسم‬ ‫ّ‬ ‫اهلل بالنصر البتة‪ ...‬فالذين يرتكبون مجيع املعاصي ممّن‬
‫املسلمني‪ ،‬مث يقولون‪ :‬إن اهلل سينصرنا مغرورون‪ ،‬ألهنم ليسوا من حزب‬
‫اهلل‪ ،‬املوعودين بنصره‪ ،‬كما ال خيفى ومعىن نصر املؤمنني هلل‪ ،‬نصرهم‬
‫لدينه ولكتابه‪ ،‬وسعيهم وجهادهم يف أن تكون كلمته هي العليا‪ ،‬وأن‬
‫تقام حدوده يف أرضه‪ ،‬ومُت تثل أوامره وجتتنب نواهيه وحيكم يف عباده‬
‫‪2‬‬
‫مبا أنزل على رسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫العقاب الذي ينتظر المبدلين لشرعه‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬قُ ْل‬ ‫‪9‬ـ هول‬
‫ٍ‬
‫َنز َل اللّهُ لَ ُكم ِّمن ِّر ْزق فَ َج َع ْلتُم ِّمْنهُ َحَر ًاما َو َحالَالً قُ ْل آللّهُ‬
‫أَ‬ ‫أ ََرأ َْيتُم َّما‬
‫ين َي ْفَتُرو َن َعلَى اللّ ِه‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ َِذ َن لَ ُك ْم‬
‫أ َْم َعلَى اللّه َت ْفَتُرو َن* َو َما ظَ ُّن الذ َ‬
‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪ ،)4/175‬هجر القرآن العظيم صـ ‪.656‬‬
‫‪ 2‬هجرة القرآن العظيم صـ ‪.657‬‬
‫‪141‬‬
‫ب َي ْو َم الْ ِقيَ َام ِة إِ َّن اللّهَ لَ ُذو فَ ْ‬
‫َّاس ولَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك َّن أَ ْكَثَر ُه ْم الَ‬ ‫ض ٍل َعلَى الن ِ َ‬ ‫الْ َكذ َ‬
‫يَ ْش ُكُرو َن " (يونس ‪ ،‬آية ‪ ،)60 ،59 :‬ففي هذه اآليات الكرمية‪ :‬أنكر‬
‫حرم اهلل‪ ،‬مبجرد‬ ‫أحل ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫أحل اهلل أو‬ ‫حرم ما ّ‬ ‫اهلل تعاىل على من ّ‬
‫اآلراء واألهواء‪ ،‬اليت ال مستند هلا‪ ،‬وال دليل عليها مث توع ّدهم على‬
‫ذلك يوم القيامة فقال‪":‬وما ظن الذين يفرتون على اهلل الكذب يوم‬
‫القيامة" أي‪ :‬ما ظنهم أن يُصنع هبم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة‪1‬؟‬
‫فهذا استفهام يراد منه هتويل وتفظيع العقاب األليم‪ ،‬الذي ينتظر املفرتين‬
‫املتقولني على اهلل‪ ،‬املب ّدلني لشرعه‪ ،‬ولذا نُ ّكر وأُهبم‪ ،‬فمصريهم هو أسوأ‬
‫املصري‪ ،‬وعقاهبم هو أوخم العقاب ‪ .‬وصيغة الغائب تشمل جنس الذين‬ ‫‪2‬‬

‫يفرتون على اهلل الكذب‪ ،‬وتنتظمهم مجيعاً‪ ،‬فما ظنهم يا تُرى؟ ما‬
‫الذي يتصورون أن يكون يف شأهنم يوم القيامة؟ وهو سؤال تذوب‬
‫أمامه جىت اجلبال الصلدة اجلاسية ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫ِ َّ ِ‬
‫ين ْارتَدُّوا َعلَى‬ ‫‪ 10‬ـ اإلهانة عند قبض األرواح‪ :‬قال تعاىل‪" :‬إ َّن الذ َ‬
‫أ َْدبَا ِر ِهم ِّمن َب ْع ِد َما َتَبنَّي َ هَلُ ُم اهْلَُدى الشَّْيطَا ُن َس َّو َل هَلُ ْم َوأ َْملَى هَلُ ْم *‬
‫ض اأْل َْم ِر‬ ‫ين َك ِر ُهوا َما نََّز َل اللَّهُ َسنُ ِطيعُ ُك ْم يِف َب ْع ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َذلِ َ ِ‬
‫ك بأَنَّ ُه ْم قَالُوا للَّذ َ‬
‫ف إِذَا َت َو َّفْت ُه ْم الْ َماَل ئِ َكةُ يَ ْ‬
‫ض ِربُو َن ُو ُج َ‬
‫وه ُه ْم‬ ‫َواللَّهُ َي ْعلَ ُم إِ ْسَر َار ُه ْم* َف َكْي َ‬
‫ِ‬
‫َحبَ َط‬ ‫َس َخ َط اللَّهَ َو َك ِر ُهوا ِر ْ‬
‫ض َوانَهُ فَأ ْ‬ ‫ك بِأَنَّ ُه ُم اتََّبعُوا َما أ ْ‬ ‫َوأ َْدبَ َار ُه ْم * َذل َ‬
‫أ َْع َماهَلُ ْم" (حممد ‪ ،‬آية ‪ 25 :‬ـ ‪ .)28‬هذه اآليات الكرميات هتدد وتتوعد‬
‫نوعاً من املنحرفني عما أنزل اهلل تعاىل‪ ،‬وهم الذين يطيعون أعداء اهلل‬
‫ـ كاليهود والنصارى ـ يف بعض ما يأمرون به‪ ،‬واآليات تصفهم بالردة‬
‫بسبب ذلك الفعل‪ ،‬وتتوعدهم مبصري مظلم‪ ،‬وعذاب مؤمل يبدأ معهم‬
‫منذ اللحظات األوىل من مفارقة الدنيا ‪" ،‬فكيف إذا توفتهم املالئكة‬
‫‪4‬‬

‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪ ،)4/290‬هجرة القرآن العظيم صـ ‪.658‬‬


‫‪ 2‬تفسير أبي السعود (‪ ،)4/157‬هجرة القرآن العظيم صـ ‪.658‬‬
‫‪ 3‬في ظالل القرآن (‪.)1802 / 3‬‬
‫‪ 4‬تفسير القاسمي (‪ ،)6/259‬تفسير الطبري (‪.)26/60‬‬
‫‪142‬‬
‫يضربون وجوههم وأدبارهم" أي‪ :‬كيف حاهلم إذا جاءهتم املالئكة لقبض‬
‫وتعصت األرواح يف أجسادهم‪ ،‬واستخرجتها املالئكة بالعنف‬ ‫ّ‬ ‫أرواحهم‬
‫والقهر والضرب ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وقال سبحانه يف نوع آخر من املنحرفني عن شرعه املنزل‪َ ":‬و َم ْن أَظْلَ ُم‬
‫مِم َّ ِن ا ْفَترى علَى اللّ ِه َك ِذبا أَو قَ َال أُو ِحي إِيَلَّ ومَل ي ِ ِ‬
‫وح إلَْيه َش ْيءٌ‬ ‫َ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ً ْ‬ ‫َ َ‬
‫ات‬‫زل اللّه ولَو َترى إِ ِذ الظَّالِمو َن يِف َغمر ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬‫َ‬‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ث‬
‫ْ‬ ‫ومن قَ َال سأُن ِز ُل ِ‬
‫م‬
‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ ِر ُجواْ َن ُف َس ُك ُم الَْي ْو َم جُتَْز ْو َن َع َذ َ‬
‫اب‬ ‫الْ َم ْوت َوالْ َمآلئ َكةُ بَاسطُواْ أَيْدي ِه ْم أ ْ‬
‫ون مِب َا ُكنتُ ْم َت ُقولُو َن َعلَى اللّ ِه َغْيَر احْلَ ِّق َو ُكنتُ ْم َع ْن آيَاتِِه تَ ْستَ ْكرِب ُو َن"‬ ‫اهْل ِ‬
‫ُ‬
‫(األنعام‪ ،‬آية‪ ،.)93 :‬فاآلية حتكي أحوال هؤالء عند معاينة املوت‬
‫واخلروج من الدنيا "ولو ترى إذ الظاملون يف غمرات املوت" أي‪ :‬شدائده‬
‫وسكراته "واملالئكة باسطوا أيديهم" بالعذاب ومطارق احلديد لقبض‬
‫ارواحهم "اخرجوا انفسكم" أي‪ :‬اخرجوا ارواحكم من اجسادكم أي‬
‫هاتوا أرواحكم‪ ،‬واألمر لإلهانة واإلرهاق‪ ،‬إغالظاً يف قبض أرواحهم‪،‬‬
‫وال يرتكون هلم راحة‪ ،‬وال يعاملوهنم بلني‪ ،‬وفيه إشارة إىل أهنم‬
‫جيزعون فال يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه‪ ،‬وعيد باآلالم عند‬
‫النزاع جزاءً يف الدنيا على شركهم‪" .2‬اليوم جتزون عذاب اهلون" أي‪:‬‬
‫اهلََوان "مبا كنتم تقولون على اهلل غري احلق وكنتم عن آياته تستكربون"‬
‫أي‪ :‬تتعظمون وتأنفون عن قبول ما أنزله اهلل يف آياته‪.3‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫‪11‬ـ األكل من النار وغضب الجبار‪ :‬قال العليم اخلبري ‪":‬إ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫ِ‬
‫ك َما‬ ‫اب َويَ ْشَتُرو َن بِِه مَثَنًا قَليالً أُولَـئِ َ‬ ‫ي ْكتُمو َن ما أَنز َل اللّهُ ِمن الْ ِكتَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬
‫َّار َوالَ يُ َكلِّ ُم ُه ُم اللّهُ َي ْو َم الْ ِقيَ َام ِة َوالَ يَُز ِّكي ِه ْم‬ ‫هِنِ ِ‬
‫يَأْ ُكلُو َن يِف بُطُو ْم إالَّ الن َ‬
‫وهَل م ع َذاب أَلِيم * أُولَـئِ َّ ِ‬
‫الضالَلَةَ بِاهْلَُدى َوالْ َع َذ َ‬
‫اب‬ ‫ين ا ْشَتَر ُواْ َّ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ َ ٌ ٌ‬
‫اب بِاحْلَ ِّق‬ ‫ِ‬ ‫ك بِأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن اللّهَ َنَّز َل الْكتَ َ‬ ‫َصَبَر ُه ْم َعلَى النَّا ِر * َذل َ‬ ‫بِالْ َم ْغفَر ِة فَ َمآ أ ْ‬
‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪.)7/323‬‬
‫‪ 2‬التحرير والتنويرـ (‪.)6/223‬‬
‫‪ 3‬تفسير القرطبي (‪7/43‬ـ ‪.)44‬‬
‫‪143‬‬
‫اق بعِ ٍ‬
‫ِ ِ ِ ِ ٍ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫يد"(البقرة‪ ،‬آية‪174 :‬ـ‬ ‫اخَتلَ ُفواْ يِف الْكتَاب لَفي ش َق َ‬ ‫َوإ َّن الذ َ‬
‫ين ْ‬
‫‪.)176‬‬
‫بعد أن حتدثت اآليات عن بعض أحكام الشريعة مثل حترمي أكل امليتة‬
‫والدم‪ ،‬وحلم اخلنزير‪ ،‬وما أهل لغري اهلل به‪ ،‬توعدت من يكتمون‬
‫أحكام الشريعة مقابل مثن قليل يأكلونه‪ ،‬ألن كتمان الشريعة‪ ،‬يستلزم‬
‫أنواعاً من اإلحنراف عنها ‪ ،‬فهؤالء الذين يكتمون احلق املنزل‪ ،‬لقاء مثن‬
‫‪1‬‬

‫رخيص‪ ،‬إمنا يأتون حراماً يعذهبم اهلل عليه بنار جهنم يأكلوهنا يف‬
‫نار على احلقيقة يأكلوهنا يوم القيامة‪ ،‬جزاء ما‬ ‫بطوهنم اجلشعة‪ ،‬فهي ٌ‬
‫اقرتفوا من أكل الرشوة على الدين ‪ ،‬والذي اعظم عليهم من عذاب‬
‫‪2‬‬

‫النار‪ ،‬هو غضب اهلل عليهم‪ ،‬وإعراضه عنهم "ال يكلمهم اهلل يوم‬
‫الرذيلة‪ ،‬إذ ليس هلم‬ ‫يطهرهم من األخالق َّ‬ ‫القيامة وال يزكيهم" أي‪ :‬ال ِّ‬
‫والرضا واجلزاء عليها‪ ،‬بل يعذهبم عذاباً أليماً‪،‬‬‫أعمال تصلح للمدح ِّ‬
‫ألهنم تركوا كتاب اهلل وأعرضوا عنه‪ ،‬وعن التحاكم إليه يف الدنيا‬
‫واختاروا الضاللة على اهلدى والعذاب على املغفرة ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪12‬ـ العذاب المهين‪ :‬ذكر العزيز احلكيم جوانب من أحكام الشريعة‬


‫يف صدر سورة النساء‪ ،‬واملتمثلة يف‪ ،‬بيان أموال اليتامى‪ ،‬وأحكام‬
‫األنكحة‪ ،‬وأحوال املواريث والوصايا مث ذكر بعد ذلك‪ :‬الوعد والوعيد‪،‬‬
‫ترغيباً يف الطاعة‪ ،‬وترهيباً يف املعصية فقال سبحانه "تلك حدود اهلل"‬
‫أي هذه أحكام اهلل قد بينها لكم‪ ،‬لتعرفوها‪ ،‬وتعملوا هبا " ومن يطع‬
‫ِ‬
‫اهلل ورسوله" يف متابعة حدوده‪ ،‬والعمل هبا كما أمره اهلل تعاىل" يُ ْدخ ْلهُ‬
‫ِ‬ ‫َّات جَت ِري ِمن حَت تِها األَْنهار خالِ ِد ِ‬
‫يم "‬ ‫ِ‬
‫ك الْ َف ْو ُز الْ َعظ ُ‬
‫ين ف َيها َو َذل َ‬
‫َُ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َجن ٍ ْ‬
‫(النساء ‪ ،‬آية ‪ )13:‬فهذا هو الوعد‪.‬‬

‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)764 /2‬‬


‫‪ 2‬تفسير القرطبي (‪ ،)2/239‬تفسير السعدي (‪.)1/134‬‬
‫‪ 3‬هجر القرآن العظيم صـ‪.662‬‬
‫‪144‬‬
‫ودهُ يُ ْد ِخ ْلهُ نَ ًارا َخالِ ًدا‬ ‫أما الوعيد‪َ ":‬و َمن َي ْع ِ‬
‫ص اللّهَ َو َر ُسولَهُ َو َيَت َع َّد ُح ُد َ‬
‫ِ‬
‫ني " (النساء ‪ ،‬آية ‪ )14:‬فكل من اعتدى على‬ ‫اب ُّم ِه ٌ‬
‫ف َيها َولَهُ َع َذ ٌ‬
‫متوعد‬
‫َّ‬ ‫حدود اهلل تعاىل ُمكذبِّاً أو جاحداً‪ ،‬أو ُمبدِّال أو مبغضاً فهو‬
‫وضاد يف ُحكمه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هبذا العذاب املهني‪ ،‬لكونه غرَّي ما حكم اهلل به‬
‫الرضا مبا قسم اهلل‪ ،‬وحكم به‪ ،‬وهلذا جُي ازيه‬ ‫وهذا إمنا يصدر عن عدم ّ‬
‫باإلهانة يف العذاب األليم‪.1‬‬
‫هذه هي أهم اآلثار السيئة للحكم بغري ما أنزل اهلل قال الشاعر‪:‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ‪.664‬‬


‫‪145‬‬
‫واهلل ما خويف الذنوب فإهنا‬
‫لعلى طريق العفو والغفران‬
‫لكنّما أخشى انسالخ القلب عن‬
‫حتكيم هذا الوحي والقرآن‬
‫عاشراً‪ :‬حماية الرسول صلى اهلل عليه وسلم لتوحيد األلوهية‪:‬‬
‫بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذا التوحيد أمت بيان ودعا إليه‬
‫وجل القرآن الكرمي نزل ليقرر هذا النوع من التوحيد‬
‫ُّ‬ ‫أعظم دعوة‪،‬‬
‫ويدعو إليه وجاهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ذلك أعظم‬
‫جهاد‪ ،‬وقام يف محايته وصيانة محاه حىت أتاه اليقني‪ ،‬بل إنه وهو يف‬
‫الرمق األخري‪ ،‬وهو يعاجل نزع الروح يبني ألمته أمهية هذا التوحيد‪،‬‬
‫كما رىب أصحابه رضي اهلل عنهم على ذلك ليكونوا جنوداً ومحاة هلذا‬
‫ويسلموا هذه األمانة إىل من بعدهم صافية نقية‪ ،‬وقد كانوا‬ ‫ّ‬ ‫التوحيد‬
‫كذلك رضي اهلل عنهم وأرضاهم وفيما يلي بعض األمثلة يف محاية‬
‫رسول اهلل هلذا النوع من التوحيد وبيانه والنهي عن كل ما يضاده‬
‫من شرك‪ ،‬أو بدعة أو يكون وسيلة وذريعة إىل ذلك وإن مل يكن‬
‫يف نفسه شرساً ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪1‬ـ النهي عن الغلو واإلطراء‪ :‬حذر الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫امته من الغلو وهناهم عن ذلك وحذرهم منه ومن إطرائه أو جتاوز‬
‫احلد يف مدحه والثناء عليه محاية جلانب التوحيد قال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬إياكم والغلو فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو ‪ ،‬وسد الذرائع‬
‫‪2‬‬

‫املوصلة إليه‪ ،‬فنهى عن اإلطراء وقال‪ :‬ال تطروين كما أطرت النصارى‬
‫ابن مرمي‪ ،‬إمنا أنا عبد فقولوا عبد اهلل ورسوله ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪2‬ـ زيارة القبور والنهي عن اتخاذها مساجد‪:‬‬


‫‪ 1‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ‪.287‬‬
‫‪ 2‬مسند اإلمام أحمد (‪ )1/215‬حديث صحيح‪.‬‬
‫‪ 3‬البخاري رقم ‪.3445‬‬
‫‪146‬‬
‫بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الغاية من زيارة القبور واحلكمة‬
‫اليت من أجلها شرعت زيارهتا فقد قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬فزوروا‬
‫القبور فإهنا تذكركم املوت ‪ ،‬ووضح أيضاً أن من احلكمة يف زيارة‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫القبور الدعاء للميت واالستغفار له والرتحم عليه ‪.‬‬
‫وبني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كيفية الزيارة الشرعية للقبور‬
‫بقوله وعمله وعلمها أصحابه‪ ،‬فعن أم املؤمنني عائشة رضي اهلل عنها‪:‬‬
‫أن جربيل عليه السالم أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬إن‬
‫ربك يأمرك أن تأيت أهل البقيع فتستغفر هلم‪ ،‬قالت‪ :‬قلت‪ :‬كيف أقول‬
‫هلم يا رسول اهلل؟ قال قوىل‪ :‬السالم على أهل الديار من املؤمنني‬
‫واملسلمني‪ ،‬ويرحم اهلل املستقدمني منا واملستأخرين‪ ،‬وإن شاء اهلل بكم‬
‫الحقون ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد هنى عن زيارة القبور أول‬
‫األمر سداً للذريعة‪ ،‬مث أذن فيها حني متكن التوحيد يف القلوب وبني‬
‫الزيارة املشروعة وأمر هبا وهنى عن كل ما خيالفها وحذر منها أشد‬
‫التحذير ‪ .‬وكان من دعائه صلى اهلل عليه وسلم قوله‪ :‬اللهم ال جتعل‬ ‫‪4‬‬

‫قربي وثناً يعبد ‪ ،‬وكان حيذر وينهي أمته عن اختاذ قربه مسجداً أو‬
‫‪5‬‬

‫القبور مساجداً‪ ،‬فعن أم سلمة رضي اهلل عنها وأم حبيبة رضي اهلل‬
‫عنها ذكرتا لرسول اهلل كنيسة رأهتا بأرض احلبشة وما فيها من‬
‫الصور‪ ،‬فقال‪ :‬أولئك إذا مات فيهم الرجل الصاحل‪ ،‬أو العبد الصاحل بنوا‬
‫على قربه مسجد‪ ،‬وصوروا فيه تلك الصور‪ ،‬أولئك شرار اخللق عند‬
‫اهلل ‪ ،‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول يف مرض موته‪ :‬لعنة‬ ‫‪6‬‬

‫اهلل على اليهود والنصارى اختذوا قبور انبيائهم مساجد حيذر ما صنعوا‬
‫‪ 1‬صحيح مسلم بشرح النووي (‪.)7/46‬‬
‫‪ 2‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ ‪.295‬‬
‫‪ 3‬صحيح مسلم بشرح النووي (‪.)7/44‬‬
‫‪ 4‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ ‪.296‬‬
‫‪ 5‬مسند أحمد (‪ ،)2/246‬حديث شريف‪.‬‬
‫‪ 6‬البخاري مع الفتح (‪.)1/531‬‬
‫‪147‬‬
‫ولوال ذلك ألبرز قربه ‪ ،‬وقد هنى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫‪1‬‬

‫يبىن على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها ‪.‬‬


‫‪2‬‬

‫‪3‬ـ الرقى والتمائم‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن الرقى‬
‫والتمائم والتولة شرك ‪ .‬واملقصود بالرقى غري املشروع منها وهي اليت‬
‫‪3‬‬

‫تسمى العزائم‪ ،‬اليت يعتقدون فيها دفع اآلفات واحلفظ من املكروهات‬


‫وأما ما كان منها من الشرع واملأثور من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فال يدخل يف ذلك‪ ،‬ملا جاء يف احلديث عن عوف بن مالك‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬كنا نرقي يف اجلاهلية‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل كيف‬
‫علي رقاكم‪ ،‬ال بأس بالرقى ما مل تكن‬ ‫ترى يف ذلك؟ فقال‪ :‬اعرضوا ّ‬
‫شرك ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫والرقى املشروعة هي اليت توفرت فيها شروط ثالثة‪:‬‬


‫ـ أن تكون بكالم اهلل‪ ،‬أو بأمسائه وصفاته‪.‬‬
‫ـ أن تكون باللسان العريب ومبعان معروفة‪.‬‬
‫بتقدير اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫ـ أن يعتقد أن الرقية ال تؤثر بذاهتا‪ ،‬بل‬
‫عادة على الصبيان من خرز‬ ‫أما التمائم‪ :‬فهي مجع متيمة وهي‪ :‬ما يعلق‬
‫دفع العني عنهم‪ ،‬وقد هنى‬ ‫أو عظام أو جلد‪ ،‬أو حنو ذلك العتقاد‬
‫فيها من شرك‪ ،‬أو ذريعة‬ ‫عنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا‬
‫إليه ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫وأما التولة‪ :‬بكسر التاء وفتح الواو فهي ما يضع بزعم أنه حيبب املرأة‬
‫إىل زوجها‪ ،‬كما فسر ذلك ابن مسعود رضي اهلل عنه قالوا‪ :‬يا ابا‬
‫عبد الرمحن هذه الرقى والتمائم قد عرفناها‪ ،‬فما التولة؟ قال‪ :‬شيء‬
‫تضعه النساء يتحبنب إىل أزواجهن ‪ ،‬وكانت املرأة جتلب به حمبة زوجها‬
‫‪6‬‬

‫‪ 1‬البخاري مع الفتح (‪.)1/532‬‬


‫‪ 2‬مسند أبي يعلي (‪ ،)2/66‬اسناده صحيح‪.‬‬
‫‪ 3‬مسند أحمد (‪ ،)1/381‬صححه الحاكم على شرط الشيخين ‪.‬‬
‫‪ 4‬صحيح مسلم شرح النووي (‪.)1/187‬‬
‫‪ 5‬حماية الرسول صـ ‪.316‬‬
‫‪ 6‬المصدر نفسه صـ ‪.317‬‬
‫‪148‬‬
‫وهو ضرب من السحر ‪ .‬وهذه األحاديث وغريها اليت تنهى عن هذه‬ ‫‪1‬‬

‫األمور‪ ،‬اليت فيها توكل على غري اهلل تعاىل‪ ،‬واعتقاد جلب نفع‪ ،‬أو‬
‫ك اللّهُ بِ ُ‬
‫ضٍّر‬ ‫ضر من دونه عز وجل‪ ،‬واهلل تعاىل يقول‪َ ":‬وإِن مَيْ َس ْس َ‬ ‫دفع ّ‬
‫يب بِِه َمن‬ ‫آد لَِف ْ ِ ِ‬
‫ف لَهُ إِالَّ ُه َو َوإِن يُِر ْد َك خِب َرْيٍ فَالَ َر َّ‬ ‫ِ‬
‫ص ُ‬‫ضله يُ َ‬ ‫فَالَ َكاش َ‬
‫يم " (يونس ‪ ،‬آية ‪.)107 :‬‬ ‫ح‬‫الر ِ‬
‫َّ‬ ‫ور‬ ‫ف‬
‫ُ‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫يشاء ِمن ِعب ِاد ِ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ‬
‫فقد حرص رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على محاية التوحيد من‬
‫مثل األمور اليت قد يتساهل فيها املرء مع خطورهتا‪ ،‬فمن تعلق وأنزل‬
‫حوائجه به والتجأ إليه‪ ،‬وفوض أمره إليه‪ ،‬كفاه وقرب إليه كل بعيد‪،‬‬
‫ويسر له كل عسري‪ ،‬ومن تعلق بغريه أو سكن على رايه وعقله‬ ‫ّ‬
‫ودوائه ومتائمه وحنو ذلك وكله هلل إىل ذلك وخذ له وهذا معروف‬
‫بالنصوص والتجارب قال تعاىل‪َ ":‬و َمن َيَت َو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه َف ُه َو َح ْسبُهُ "‬
‫‪2‬‬
‫(الطالق ‪ ،‬آية ‪. )3 :‬‬
‫‪4‬ـ االستسقاء باألنواء‪ :‬ومعناه نسبة السقيا ونزول املطر إىل األنواء‬
‫واألنواء‪ :‬مجع نوء‪ ،‬وهي منازل القمر ‪ .‬وقد حرص الرسول صلى اهلل‬
‫‪3‬‬

‫عليه وسلم أن يبني ألمته ما كان عليه أهل اجلاهليه من شرك وضالل‬
‫وأمرهم باحلذر من ذلك والبعد عنه‪ ،‬وأهم ذلك وأعظمه ما كان‬
‫متعلقاً بأمور االعتقاد ومن ذلك ما كان شائعاً يف اجلاهلية من نسبة‬
‫نزول املطر إىل النجوم ومطالعها ومغارهبا‪ ،‬وبني عليه الصالة والسالم‬
‫ما يف ذلك من الشرك املنايف للتوحيد‪ ،‬كما جاء يف حديث أيب مالك‬
‫األشعري رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬أربع‬
‫من أميت من أمر اجلاهلية ال يرتكوهنن‪ :‬الفخر باألحساب‪ ،‬والطعن يف‬
‫األنساب‪ ،‬واالستسقاء بالنجوم‪ ،‬والنياحة ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.317‬‬


‫‪ 2‬فتح المجيد صـ ‪ ،105‬عبد الرحمن بن حسن‪.‬‬
‫‪ 3‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ ‪.320‬‬
‫‪ 4‬صحيح مسلم بشرح النووي (‪.)2/644‬‬
‫‪149‬‬
‫وعن زيد بن خالد رضي اهلل عنه قال‪ :‬صلى بنا رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم صالة الصبح باحلديبية على إثر مساء كانت من الليل فلما‬
‫انصرف أقبل على الناس فقال‪ :‬هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا‪ :‬اهلل‬
‫ورسوله أعلم‪ .‬قال أصبح من عبادي مؤمن يب وكافر‪ ،‬فأما من قال‪:‬‬
‫مطرنا بفضل اهلل ورمحته فذلك مؤمن يب‪ ،‬كافر بالكواكب‪ ،‬وأما من‬
‫‪1‬‬
‫قال‪ :‬مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر يب مؤمن بالكواكب ‪.‬‬
‫وهذا احلديث القدسي العظيم خيرب به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫عن ربه عز وجل أن من الناس من ينسب نعمه سبحانه وتعاىل إىل‬
‫غريه ويضيف أفعاله إىل سواه‪ ،‬وهو تعاىل املنعم وحده الذي جيب أن‬
‫تنسب إليه وحده مجيع النعم‪ ،‬جل شأنه‪ ،‬فهو املتفرد بالرزق‪ ،‬املستحق‬
‫أن تنسب إليه النعم ويفرد بالشكر عليها وحده ال شريك له‪.2‬‬
‫وهذا البيان من رسول اهلل صلى اهلل محاية منه جلناب التوحيد وحرصاً‬
‫على أمته من الشرك وقد نزل القرآن الكرمي على رسول اهلل وبني أن‬
‫اهلل سبحانه هو ينزل األمطار يف آيات حمكمات قال تعاىل‪ ":‬اللَّهُ الَّ ِذي‬
‫ف يَ َشاء َوجَيْ َعلُهُ كِ َس ًفا‬ ‫الس َماء َكْي َ‬ ‫َّ‬ ‫اح َفتُثِري َس َحابًا َفيَْبسطُهُ يِف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬‫ي‬‫الر‬
‫ِّ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ُْ ُ‬
‫ير ِ‬
‫اب بِِه َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِاد ِه إِذَا‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫َص َ‬ ‫َفَتَرى الْ َو ْد َق خَي ُْر ُج م ْن خاَل له فَِإذَا أ َ‬
‫ُه ْم يَ ْستَْب ِشُرو َن * َوإِن َكانُوا ِمن َقْب ِل أَن يَُنَّز َل َعلَْي ِهم ِّمن َقْبلِ ِه‬
‫ض َب ْع َد َم ْوهِتَا إِ َّن‬ ‫ف حُيْيِي اأْل َْر َ‬
‫ِ ِ‬
‫ني* فَانظُْر إِىَل آثَا ِر َرمْح َت اللَّه َكْي َ‬
‫ِِ‬
‫لَ ُمْبلس َ‬
‫ك لَ ُم ْحيِي الْ َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير" (الروم ‪ ،‬آية ‪48:‬ـ‬ ‫ِ‬
‫َذل َ‬
‫‪.)50‬‬
‫ض َر َو ِاس َي‬ ‫ات بِغَرْيِ َع َم ٍد َتَر ْو َن َها َوأَلْ َقى يِف اأْل َْر ِ‬
‫السماو ِ‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬خلَ َق َّ َ َ‬
‫الس َماء َماء فَأَنبَْتنَا‬ ‫َنزلْنَا ِم َن َّ‬ ‫ٍ‬ ‫يد بِ ُكم وب َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ث ف َيها من ُك ِّل َدابَّة َوأ َ‬ ‫أَن مَت َ ْ َ َ‬

‫‪ 1‬صحيح مسلم (‪.)1/83،84‬‬


‫‪ 2‬حماية حمى التوحيد صـ‪.323‬‬
‫‪150‬‬
‫ين ِمن‬ ‫َّ ِ‬ ‫يِن‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ف َيها من ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِرمي* َه َذا َخ ْل ُق اللَّه فَأ َُرو َما َذا َخلَ َق الذ َ‬
‫ضاَل ٍل ُّمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ني " (لقمان ‪ ،‬آية ‪.)11 ،10 :‬‬ ‫ُدونه بَ ِل الظَّال ُمو َن يِف َ‬
‫وقد نزل القرآن الكرمي على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبني‬
‫الد ْنيا مِب َ َ ِ‬
‫يح‬
‫صاب َ‬ ‫الس َماء ُّ َ‬
‫احلكمة من خلق النجوم قال تعاىل‪َ ":‬ولََق ْد َزيَّنَّا َّ‬
‫السعِ ِري " (امللك ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫اب َّ‬ ‫ني َوأ َْعتَ ْدنَا هَلُ ْم َع َذ َ‬
‫وجع ْلنَاها رجوما لِّلشَّي ِ‬
‫اط ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َ ُ ُ ً‬
‫‪.)5‬‬
‫فهذه ثالث حكم جعلها اهلل سبحانه وتعاىل يف خلق النجوم فهي زينة‬
‫للسماء ورجوم‪ .‬ترجم هبا الشياطني عند اسرتاقهم السمع ووسيلة لإلهتداء‬
‫يف ظلمات الرب والبحر ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪5‬ـ السحر‪ :‬رقى وعزائم وعقد يفعلها السحرة تؤثر يف القلوب ويف‬
‫األبدان مبرض أو قتل أو تفريق بني املرء وزوجه‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬كما‬
‫أخرب اهلل عن ذلك يف كتابه الكرمي‪ ،‬فقال‪َ ":‬فيََت َعلَّ ُمو َن ِمْن ُه َما َما يُ َفِّرقُو َن‬
‫بِِه َبنْي َ الْ َم ْر ِء َو َز ْو ِج ِه" (البقرة‪،‬آية‪ ،)102:‬ويقع ضرره مبشيئة اهلل عز‬
‫َح ٍد إِالَّ بِِإ ْذ ِن اللّ ِه " (البقرة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫آر ِِ ِ‬
‫ين به م ْن أ َ‬ ‫ض ِّ َ‬‫وجل " َو َما ُهم بِ َ‬
‫‪.)102‬‬
‫والسحر حقيقه‪ ،‬وقد أمر اهلل باإلستعادة من أهله إذ يقول عز وجل‪":‬‬
‫ب* َو ِمن‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب الْ َفلَق* من َشِّر َما َخلَ َق* َومن َشِّر َغاسق إذَا َوقَ َ‬
‫قُل أَعوذُ بِر ِّ ِ ِ‬
‫ْ ُ َ‬
‫اس ٍد إِ َذا َح َس َد " (الفلق) والنفاثات‪:‬‬ ‫ات يِف الْع َق ِد* وِمن َشِّر ح ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫َشِّر الن ََّّفاثَ ِ‬
‫هن السواحر وبني سبحانه أن السحر كفر باهلل تعاىل‪َ ":‬و َما َك َفَر‬
‫الس ْحَر َو َما أُن ِز َل َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس ِّ‬ ‫ني َك َفُرواْ يُ َعلِّ ُمو َن الن َ‬
‫ُسلَْي َما ُن َولَـك َّن الشَّْياط َ‬
‫َح ٍد َحىَّت َي ُقوالَ إِمَّنَا‬ ‫ِ ِ‬
‫وت َو َما يُ َعلِّ َمان م ْن أ َ‬ ‫وت َو َم ُار َ‬‫الْ َملَ َكنْي ِ بِبَابِ َل َه ُار َ‬
‫حَنْ ُن فِْتنَةٌ فَالَ تَ ْك ُف ْر " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)102:‬‬
‫قال أبو بكر ابن العريب‪ :‬وما كفر سليمان قط وال سحر ولكن‬
‫الشياطني كفروا بسحرهم‪ ،‬وأهنم يعلمون الناس‪ ،‬ومعتقد السحر كافر‪،‬‬
‫‪ 1‬حماية الرسول حمى التوحيد صـ‪.326‬‬
‫‪151‬‬
‫ببابل‬ ‫وقائله كفر‪ ،‬ومعلمه كافر‪ ،‬ويعلمون الناس ما أنزل على امللكني‬
‫حَنْ ُن‬ ‫هاروت وماروت وما كان امللكان يعلمان أحداً حىت يقوال‪ ":‬إِمَّنَا‬
‫َو َما‬ ‫فِْتنَةٌ فَالَ تَ ْك ُف ْر َفيََت َعلَّ ُمو َن ِمْن ُه َما َما يُ َفِّرقُو َن بِِه َبنْي َ الْ َم ْر ِء َو َز ْو ِج ِه‬
‫ِ‬ ‫آرين بِِه ِمن أ ٍ‬
‫ضُّر ُه ْم َوالَ‬ ‫َحد إِالَّ بِِإ ْذ ِن اللّه َو َيَت َعلَّ ُمو َن َما يَ ُ‬‫ْ َ‬ ‫ض ِّ َ‬‫ُهم بِ َ‬
‫يَن َفعُ ُه ْم " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)102:‬‬
‫وقد ذم اهلل عز وجل السحر وأهله يف كتابه الكرمي‪ ،‬وبني بطالن‬
‫عملهم‪ ،‬وأهنم ال خالف يف اآلخرة وجاء ذلك يف آيات كثرية من‬
‫كتابه منها‪.‬‬
‫اآلخَر ِة ِم ْن َخالَ ٍق‬ ‫ِ‬ ‫ـ قوله عز وجل‪َ ":‬ولََق ْد َعلِ ُمواْ لَ َم ِن ا ْشَتراهُ َما لَهُ يِف‬
‫َ‬
‫س َما َشَر ْواْ بِِه أَن ُف َس ُه ْم لَ ْو َكانُواْ َي ْعلَ ُمو َن " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)102:‬‬ ‫ِ‬
‫َولَبْئ َ‬
‫ِ‬
‫الس ْحُر إِ َّن اللّهَ َسيُْبطلُهُ‬ ‫وسى َما ِجْئتُم بِِه ِّ‬ ‫وقوله تعاىل‪َ ":‬فلَ َّما أَلْ َقواْ قَ َال ُم َ‬
‫ين " (يونس ‪ ،‬آية ‪.)81:‬‬ ‫ِِ‬ ‫إِ َّن اللّه الَ ي ِ‬
‫صل ُح َع َم َل الْ ُم ْفسد َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ث‬‫احُر َحْي ُ‬ ‫اح ٍر َواَل يُ ْفلِ ُح َّ‬
‫الس ِ‬ ‫وقوله تبارك وتعاىل‪ ":‬إِمَّنَا صَنعوا َكي ُد س ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َُ‬
‫أَتَى " (طه ‪ ،‬آية ‪.)69:‬‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اجتنبوا السبع املوبقات قالوا‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل وما هن؟ قال‪ :‬الشرك باهلل والسحر وقتل النفس اليت حرم‬
‫اهلل إال باحلق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتويل يوم الزحف وقذف‬
‫احملصنات املؤمنات ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪6‬ـ الكهانة‪ :‬تضافرت اآليات واألحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان‬


‫الكهان وتصديقهم فيما يقولون‪ ،‬وحترمي ما يعطون من حلوان ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ـ قال تعاىل‪ ":‬هل أَُنبِّئُ ُكم علَى من َتَنَّز ُل الشَّي ِ‬


‫اطنيُ* َتَنَّز ُل َعلَى ُك ِّل‬‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َْ‬
‫الس ْم َع َوأَ ْكَثُر ُه ْم َك ِاذبُو َن " (الشعراء ‪ ،‬آيات ‪221:‬ـ‬ ‫اك أَثِي ٍم* يُْل ُقو َن َّ‬
‫أَفَّ ٍ‬
‫‪)223‬‬

‫‪ 1‬البخارى‪ ،‬ك الوصايا رقم ‪.2766‬‬


‫‪ 2‬موقف اإلسالم من السحر حياة سعيد (‪ )1/237‬حلوان الكاهن ما يعطاه على كهاتنة‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫ـ قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬من أتى عرافاً فسأله عن شيء‪ ،‬مل تقبل‬
‫له صالة أربعني ليلة‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ـ وعن ابن مسعود قال‪ :‬هنى رسول اهلل عن مثن الكلب‪ ،‬ومهر البغي‬
‫وحلوان الكاهن‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪7‬ـ الشفاعة‪ :‬بني الرسول صلى اهلل عليه وسلم الصراط املستقيم الذي‬
‫يصلهم برهبم دون شفعاء وال وسائط وهو طريق التوحيد اخلالص هلل‬
‫عز وجل وإفراده سبحانه بالعبادة دون ما سواه‪ ،‬أما الشفاعة املثبتة‬
‫اليت أثبتها القرآن الكرمي وبينها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلها‬
‫شرطان‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ ـ اإلذن من اهلل تعاىل للشافع قال تعاىل‪َ " :‬من ذَا الَّذي يَ ْش َف ُع عْن َدهُ‬
‫إِالَّ بِِإ ْذنِِه " "البقرة ‪ ،‬آية ‪"255 :‬‬
‫ِ‬
‫ضى‬ ‫ب ـ الرضا عن املشفوع له قال تعاىل‪َ " :‬واَل يَ ْش َفعُو َن إِاَّل ل َم ِن ْارتَ َ‬
‫" "األنبياء ‪ ،‬آية ‪"28 :‬‬
‫وهذه الشفاعة خص اهلل تعاىل هبا أهل توحيده وعبادته تفضالً منه‬
‫وكرماً‪ ،‬فهذه خاصة هبم ألهنم مل يتخذوا من دون اهلل ولياً وال‬
‫شفيعاً وقد رضي اهلل قوهلم وعملهم‪ ،‬كما يف حديث أيب هريرة رضي‬
‫اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬من أسعد الناس‬
‫بشفاعتك؟ فقال عليه الصالة والسالم‪ :‬من قال ال إله إال اهلل خالصاً‬
‫من قلبه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وأول الشافعني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إمام املوحدين وخامت‬
‫املرسلني صلوات اهلل عليهم أمجعني والذي اختصه اهلل تعاىل وأكرمه‬
‫بشفاعات عظيمة يف ذلك اليوم تفضالً وتكرمياً منه سبحانه لرسوله‬
‫حممد صلى اهلل عليه وسلم ورمحة بأمته عليه الصالة والسالم قال‬
‫‪ 1‬مسلم ( ‪) 37 / 7‬‬
‫‪ 2‬البخاري ك الطب ( ‪) 176 / 7‬‬
‫‪ 3‬البخاري مع الفتح ( ‪) 418 / 11‬‬
‫‪153‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬لكل نيب دعوة مستجابة‪ ،‬وأين اختبأت‬
‫دعويت شفاعة ألميت يوم القيامة فهي نائلة إن شاء اهلل من مات ال‬
‫‪1‬‬
‫يشرك باهلل شيئاً‪.‬‬
‫فله عليه الصالة والسالم الشفاعة العظمى يوم القيامة واليت يتخلى عنها‬
‫أولو العزم من الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وهي كما بني ألهل‬
‫التوحيد من أمته وهو الذي يشفع يف دخول املؤمنني اجلنة‪ ،‬ويف إخراج‬
‫عصاة املوحدين من النار‪ ،‬والشفاعة إمنا تكون وتنفع أهل التوحيد‪ ،‬أما‬
‫ني " (املدثر‬ ‫ِِ‬
‫اعةُ الشَّافع َ‬ ‫غريهم فهم كما قال عز وجل " فَ َما تَن َفعُ ُه ْم َش َف َ‬
‫‪2‬‬

‫‪ ،‬آية ‪)48 :‬‬


‫ون اللَّ ِه ُش َف َعاء قُ ْل أ ََولَ ْو َكانُوا اَل‬ ‫ـ وقال تعاىل‪ " :‬أَِم اخَّتَ ُذوا ِمن د ِ‬
‫ُ‬
‫مَيْلِ ُكو َن َشْيئًا َواَل َي ْع ِقلُو َن " "الزمر ‪ ،‬آية ‪"44 :‬‬
‫ضُّر ُه ْم َوالَ يَن َفعُ ُه ْم‬ ‫ـ وقال تعاىل " ويعب ُدو َن ِمن د ِ ِ‬
‫ون اللّه َما الَ يَ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُْ‬
‫ند اللّ ِه قُل أَُتنَبِّئُو َن اللّهَ مِب َا الَ َي ْعلَم يِف‬ ‫َو َي ُقولُو َن َه ُـؤالء ُش َف َع ُاؤنَا ِع َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ات َوالَ يِف األ َْرض ُسْب َحانَهُ َوَت َعاىَل َع َّما يُ ْش ِر ُكون" ‪0‬يونس ‪ ،‬آية‬ ‫السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬
‫‪.)18 :‬‬

‫‪ 1‬مسلم بشرح النووي ( ‪) 74 / 3‬‬


‫‪ 2‬حماية الرسول حمى التوحيد ص ‪348‬‬
‫‪154‬‬
‫المبحث السادس‬
‫اإليمان‬

‫أوال‪ :‬اإليمان لغة وشرعا ً وزيادة ونقصاناً‪:‬‬


‫عن إخوة يوسف مع أبيهم "‬ ‫اإلميان لغة‪ :‬التصديق‪ ،‬قال تعاىل حكاية‬
‫ب‬ ‫ند متَ ِ‬
‫اعنَا فَأَ َكلَهُ ِّ‬ ‫يوس ِ‬ ‫قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا َذ َهْبنَا نَ ْستَبِ ُق َوَتَر ْكنَا‬
‫الذئْ ُ‬ ‫ف عَ َ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫" (يوسف ‪ ،‬آية ‪ )17 :‬أي‪:‬‬ ‫ني‬ ‫وما أَنت مِب ؤ ِم ٍن لِّنا ولَو ُكنَّا ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ََ‬
‫مبصدق لنا‪.‬‬
‫وشرعاً‪ :‬هو نطق اللسان واعتقاد بالقلب وعمل باجلوارح ويزيد بالطاعة‬
‫‪1‬‬
‫وينقص باملعصية ‪.‬‬
‫ومن األدلة من الكتاب والسنة على زيادة اإلميان ونقصانه‪:‬‬
‫ين َآمنُوا إِميَانًا"‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫اب َو َي ْز َد َاد الذ َ‬‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬ ‫ـ قوله تعاىل‪ ":‬ليَ ْسَتْيق َن الذ َ‬
‫(املدثر ‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬
‫ت ُقلُوبُ ُه ْم َوإِ َذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين إِ َذا ذُكَر اللّهُ َوجلَ ْ‬ ‫ِمَّن‬
‫ـ وقوله تعاىل‪ " :‬إ َا الْ ُم ْؤمنُو َن الذ َ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم آيَاتُهُ َز َاد ْت ُه ْم إِميَانًا َو َعلَى َرهِّبِ ْم َيَت َو َّكلُو َن" (األنفال ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫تُليَ ْ‬
‫‪."2‬‬
‫يد اللَّه الَّ ِذين اهت َدوا ه ًدى والْباقِيات َّ حِل‬
‫ات َخْيٌر‬ ‫الصا َ ُ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫َ َْ ْ ُ‬ ‫ـ قال تعاىل‪َ " :‬ويَِز ُ ُ‬
‫ك ثَ َوابًا َو َخْيٌر َّمَر ًّدا" (مرمي ‪ ،‬آية ‪.)76 :‬‬ ‫ِع َ‬
‫ند َربِّ َ‬
‫ِ‬
‫اب قَالُوا َه َذا َما َو َع َدنَا اللَّهُ‬ ‫ـ وقال تعاىل‪َ " :‬ولَ َّما َرأَى الْ ُم ْؤمنُو َن اأْل ْ‬
‫َحَز َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يما" (األحزاب ‪،‬‬ ‫ص َد َق اللَّهُ َو َر ُسولُهُ َو َما َز َاد ُه ْم إاَّل إميَانًا َوتَ ْسل ً‬ ‫َو َر ُسولُهُ َو َ‬
‫آية ‪.)22 :‬‬

‫‪ 1‬فتح الباري (‪1/45‬ـ ‪ ،)48‬شرح أصول اعتقاد وأهل السنة (‪.)1/151‬‬


‫‪155‬‬
‫وعن جندب بن عبد اهلل قال‪ :‬كنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وحنن فتيان فتعلمنا اإلميان قبل أن نتعلم القرآن‪ ،‬مث تعلمنا القرآن‬
‫فازددنا به إمياناً ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬اإلميان بضع وسبعون شعبة‪،‬‬
‫فأفضلها قول‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬واحلياة‬
‫شعبة من اإلميان ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ـ عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"ال يزين الزاين حني يزين وهو مؤمن‪ ،‬وال يشرب حني يشرب وهو‬
‫مؤمن‪ ،‬وال يسرق حني يسرق وهو مؤمن‪ ،‬وال ينتهب هنبة يرفع‬
‫‪3‬‬

‫الناس إليها فيها أبصارهم حني ينتهبها وهو مؤمن ‪ .‬والقول الصحيح‬
‫‪4‬‬

‫الذي قاله احملققون يف شرح هذا احلديث أن معناه ال يفعل هذه‬


‫‪5‬‬
‫املعاصي وهو كامل اإلميان ‪.‬‬
‫والطاعات واألعمال الصاحلة داخلة يف اإلميان‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ض يَأْ ُمُرو َن‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَاء َب ْع ٍ‬
‫ات َب ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ قوله تعاىل‪َ " :‬والْ ُم ْؤمنُو َن َوالْ ُم ْؤمنَ ُ‬
‫الز َكا َة َويُ ِطيعُو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصالََة َويُ ْؤتُو َن َّ‬ ‫يمو َن َّ‬ ‫بالْ َم ْعُروف َو َيْن َه ْو َن َع ِن الْ ُمن َك ِر َويُق ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اللّهَ َو َر ُسولَهُ أ ُْولَـئِ َ‬
‫يم" (التوبة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ك َسَي ْرمَحُ ُه ُم اللّهُ إ َّن اللّهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫‪.)71‬‬
‫وقد أطلق القرآن الكرمي لفظ اإلميان على العمل يف بعض اآليات ومن‬
‫ذلك‪:‬‬
‫نت َعلَْي َها إِالَّ لَِن ْعلَ َم َمن َيتَّبِ ُع‬ ‫ِ‬
‫ـ قوله تعاىل‪َ " :‬و َما َج َع ْلنَا الْقْبلَةَ الَّيِت ُك َ‬
‫ين َه َدى‬ ‫ول مِم َّن ين َقلِب علَى ع ِقبي ِه وإِن َكانَت لَ َكبِريةً إِالَّ علَى الَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫الر ُس َ‬
‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ َ َْ َ‬
‫يم" (البقرة‬ ‫ح‬‫وف َّر ِ‬‫ٌ‬ ‫ؤ‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫َ‬‫ل‬ ‫ِ‬
‫َّاس‬‫ن‬ ‫ال‬‫ضيع إِميَانَ ُكم إِ َّن اللّهَ بِ‬ ‫اللّه وما َكا َن اللّه لِي ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ ََ‬
‫‪ 2‬سنن ابن ماجة (‪ )23 / 1‬اسناده صحيح‪.‬‬
‫‪ 2‬مسلم (‪.)1/63‬‬
‫ً‬
‫‪ 3‬أي‪ :‬ال يختلس شيئا له قيمة عالية‪.‬‬
‫‪ 4‬البخاري (‪ )119 / 5‬مسلم (‪.)76 / 1‬‬
‫‪ 5‬شرح النووي على صحيح مسلم (‪.)241 / 1‬‬
‫‪156‬‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)143 :‬واإلميان هنا يراد به الصالة‪ ،‬وقد ذهب مجهور‬
‫املفسرين إىل هذا‪ ،‬بل إن الصحابة فهموا هذا‪ ،‬وتضافرت الروايات‬
‫عنهم يف سبب نزول اآلية ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وه ُك ْم قِبَ َل‬


‫س الْرِب َّ أَن ُت َولُّواْ ُو ُج َ‬ ‫َّ‬
‫ـ ومن هذه اآليات قوله تعاىل‪" :‬لْي َ‬
‫ـك َّن الْرِب َّ من آمن بِاللّ ِه والْيوِم ِ‬
‫اآلخ ِر َوالْ َمآلئِ َك ِة‬ ‫ب ولَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ‬ ‫َْ ََ‬ ‫الْ َم ْش ِرق َوالْ َم ْغ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والْ ِكتَ ِ‬
‫ني َوآتَى الْ َم َال َعلَى ُحبِّه َذ ِوي الْ ُق ْرىَب َوالْيَتَ َامى َوالْ َم َساك َ‬
‫ني‬ ‫اب َوالنَّبِيِّ َ‬ ‫َ‬
‫الز َكا َة َوالْ ُموفُو َن‬‫الصال َة َوآتَى َّ‬ ‫اب َوأَقَ َام َّ‬ ‫الرقَ ِ‬
‫ني َويِف ِّ‬ ‫السبِ ِيل و َّ ِِ‬
‫السآئل َ‬ ‫َ‬ ‫َوابْ َن َّ‬
‫ِِ‬
‫ك‬‫ني الْبَأْ ِس أُولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫ين يِف الْبَأْ َساء والضََّّراء َوح َ‬ ‫اه ُدواْ و َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬ ‫َ‬ ‫بِ َع ْهده ْم إِ َذا َع َ‬
‫َّ ِ‬
‫ك ُه ُم الْ ُمَّت ُقو َن" (البقرة‪ ،‬آية ‪ ،)177 :‬فاآلية اعتربت‬ ‫ص َدقُوا َوأُولَـئِ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫هذه اخلصال تصديقاً وإمياناً‪ ،‬وجعلت أعمال الرب هذه من اإلميان‪،‬‬
‫ووجه الداللة من اآلية ما فسره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫حيث روى عبد الرزاق يف مصنفه وغريه عن أيب ذر الغفاري رضي‬
‫اهلل عنه أنه سأل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن اإلميان فتلى‬
‫‪2‬‬
‫عليه هذه اآلية (ليس الرب‪...‬اخل)) واحلديث رجاله ثقات ‪.‬‬

‫ثانياًً‪ :‬اإلسالم واإليمان واإلحسان‪:‬‬


‫قال عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪" :‬بينما حنن عند رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ذات يوم‪ ،‬إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب‬
‫شديد سواد الشعر ال يرى عليه أثر السفر وال يعرفه منا أحد‪ ،‬حىت‬
‫جلس إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم فأسند ركبتيه إىل ركبتيه ووضع‬
‫كفيه على فخذيه وقال‪ :‬يا حممد أخربين عن اإلسالم‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اإلسالم أن تشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن حممداً‬
‫رسول اهلل‪ ،‬وتقيم الصالة وتؤيت الزكاة وتصوم رمضان وحتج البيت إن‬
‫استطعت إليه سبيال‪ .‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬قال‪ :‬فعجبنا له ليسأله ويصدقه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ 1‬فقه النصر والتمكين صـ‪.163‬‬
‫‪ 2‬فتح الباري‪ ،‬ك اإليمان‪ ،‬باب أمور اإليمان (‪.)74 / 1‬‬
‫‪157‬‬
‫فأخربين عن اإلميان؟‪ ،‬قال‪ :‬أن تؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه ورسله‬
‫واليوم اآلخر وتؤمن بالقدر خريه وشره‪ ،‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬قال‪ :‬فأخربين عن‬
‫اإلحسان؟ قال‪ :‬أن تعبد اهلل كأنك تراه‪ ،‬فإن مل تكن تراه فإنه يراك‪...‬‬
‫إىل أن قال يا عمر أتدري من السائل؟ قلت اهلل ورسوله أعلم‪ .‬قال‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫أنه جربيل‪ ،‬أتاكم يعلمكم دينكم ‪.‬‬
‫فجعل الدين هو اإلسالم واإلميان واإلحسان‪ ،‬فتبني أن ديننا جيمع‬
‫الثالثة‪ ،‬لكن هو درجات ثالث مسلم‪ ،‬مث مؤمن‪ ،‬مث حمسن‪ ،‬واملراد‬
‫باإلميان ما ذكر مع اإلسالم قطعاً‪ ،‬كما أنه يريد باإلحسان مع اإلميان‬
‫واإلسالم‪ ،‬ال أن اإلحسان يكون جمرداً عن اإلميان‪ .2‬وهذا كما قال اهلل‬
‫اصطََفْينَا ِم ْن ِعبَ ِادنَا فَ ِمْن ُه ْم ظَامِلٌ لَِّن ْف ِس ِه‬‫ين ْ‬
‫َّ ِ‬
‫اب الذ َ‬
‫ِ‬
‫تعاىل‪" :‬مُثَّ أ َْو َر ْثنَا الْكتَ َ‬
‫ِ‬ ‫ص ٌد وِمْنهم سابِق بِاخْل ير ِ‬
‫ض ُل الْ َكبِريُ"‬ ‫ك ُه َوالْ َف ْ‬ ‫ات بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه َذل َ‬ ‫َ ُ ْ َ ٌ َْ َ‬
‫وِمْنهم ُّم ْقتَ ِ‬
‫َ ُ‬
‫(فاطر ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬
‫واملقتصد والسابق كالمها يدخل اجلنة بال عقوبة‪ ،‬خبالف الظامل لنفسه‪،‬‬
‫فإنه معرض للوعيد‪ ،‬وهكذا من أتى باإلسالم الظاهر مع التصديق‬
‫بالقلب‪ ،‬لكن مل يقم مبا جيب عليه من اإلميان الباطن‪ ،‬فإنه معرض‬
‫للوعيد‪ ،‬فأما اإلحسان وهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة‬
‫أهله‪ ،‬واإلميان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من اإلسالم‪،‬‬
‫فاإلحسان يدخل فيه اإلميان‪ ،‬واإلميان فيه اإلسالم‪ ،‬واحملسنون أخص من‬
‫‪3‬‬
‫املؤمنني واملؤمنون أخص من املسلمني ‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬أصل اإليمان‪:‬‬


‫أصل اإلميان‪ ،‬به يدخل العبد يف اإلسالم‪ ،‬وبه يكون اعتبار سائر‬
‫األعمال‪ ،‬وبصالح ما يف القلب أو فساده يكون صالح األعمال أو‬

‫‪ 1‬مسلم رقم ‪ 8‬ك اإليمان‪.‬‬


‫‪ 2‬المنحة اإللهية في تهذيب الطحاوية صـ‪.146‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ‪.147‬‬
‫‪158‬‬
‫فسادها‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أال إن يف اجلسد مضغة إذا‬
‫صلحت صلح اجلسد كله وإذا فسدت فسد اجلسد كله‪ ،‬أال وهي‬
‫القلب ‪ ،‬فأصل اإلميان يف القلب وهو قول القلب وعمله وهو إقرار‬ ‫‪1‬‬

‫بالتصديق واحلب واالنقياد‪ ،‬فالتصديق هو قول القلب‪ ،‬وهو املعرفة‬


‫واالثبات ملا دلت عليه الشهادتان‪ .‬واحلب‪ :‬عمل القلب حنو املشهود هلما‪،‬‬
‫وهو اهلل تبارك وتعاىل يف شهادة أن ال إله إال اهلل وحممد بن عبد‬
‫اهلل يف شهادة أن حممداً رسول اهلل‪ ،‬فيحب اهلل ورسوله صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ودينه‪ .‬واالنقياد‪ :‬عمل القلب أيضاً‪ ،‬وهو القبول‪ ،‬وعقد العزم‬
‫على االمتثال ملا دلت عليه الشهادتان ‪ ،‬وينعقد أصل اإلميان بثالثة أمور‪:‬‬
‫‪2‬‬

‫‪1‬ـ النطق بالشهادتني‪.‬‬


‫‪2‬ـ قول القلب وهو العلم والتصديق مبعاهنما‪ ،‬وأن الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم صادق يف كل ما أخرب به عن اهلل‪.‬‬
‫‪3‬ـ عمل القلب‪ ،‬وهو قبول التوحيد والرباءة من ضده‪ ،‬واحملبة هلل‬
‫ولرسوله ولدينه والعزم على االنقياد هلما فإذا جاء العبد بأصل اإلميان‬
‫فهو مأمور مكلف بتكميل إميانه‪ ،‬ليس له أمن يف احلياة الدنيا وال يف‬
‫اآلخرة إال بذلك‪ ،‬فإذا اجتنب العبد الطاعات‪ ،‬واجتنب احملرمات‪ ،‬فقد‬
‫‪3‬‬
‫استكمل عرى اإلميان الواجب وأصبح يف مرتبة املقتصد ‪.‬‬
‫وقد كتب عمر بن عبد العزيز إىل عدي بن عدي‪ :‬أن لإلميان فرائض‬
‫وشرائع وحدوداً وسنناً‪ ،‬فمن استكملها استكمل اإلميان ومن مل‬
‫‪4‬‬
‫يستكملها مل يستكمل اإلميان ‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬األسس التي يقوم عليها اإليمان باهلل عز وجل‪:‬‬


‫يقوم اإلميان باهلل عز وجل على أسس من أمهها‪:‬‬
‫‪ 1‬البخاري رقم ‪ 52‬ك اإليمان‪.‬‬
‫‪ 2‬أثر اإليمان في تحصين األمة (‪.)1/191‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)1/193‬‬
‫‪ 4‬صحيح البخاري مع الفتح (‪.)1/45‬‬
‫‪159‬‬
‫‪1‬ـ الكفر بالطاغوت‪ :‬فُسر الطاغوت بالشيطان‪ ،‬والساحر والكاهن‪،‬‬
‫واألصنام ‪ ،‬وهذا تفسري له ببعض أفراده‪ ،‬وإال فالطاغوت يطلق على‬ ‫‪1‬‬

‫وأدعى حقاً من حقوق اهلل اليت تفرد هبا ‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫كل من طغى وجتاوز حده ّ‬
‫ك بِالْعُْر َو ِة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ ْم َس َ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬فَ َم ْن يَ ْك ُف ْر بِالطَّاغُوت َويُ ْؤمن بِاللّه َف َقد ْ‬
‫يم " (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)256 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َعل ٌ‬ ‫ص َام هَلَا َواللّهُ مَس ٌ‬
‫الْ ُو ْث َق َى الَ انف َ‬
‫وها َوأَنَابُوا إِىَل اللَّ ِه هَلُ ُم‬ ‫َّ ِ‬
‫وت أَن َي ْعبُ ُد َ‬ ‫اجَتنَبُوا الطَّاغُ َ‬
‫ين ْ‬ ‫قال تعاىل‪َ ":‬والذ َ‬
‫الْبُ ْشَرى َفبَش ِّْر ِعبَ ِاد" (الزمر ‪ ،‬آية ‪ .)17 :‬ويف ذلك إشارة إىل أن‬
‫التطهري مقدم على التزكية وأن ختليص القلب من أدرانه وجناسته املتمثلة‬
‫باملعتقدات الباطلة وما يرتتب عليها من حمبة الطواغيت أو التعلق هبم‬
‫واجب حللول اإلميان بالقلب‪.3‬‬
‫ب فِ ِيه ُه ًدى‬ ‫َ َ‬‫ي‬
‫ْ‬ ‫ر‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫اب‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ك الْ ِ‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫‪2‬ـ اإليمان بالغيب‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬امل* ذَلِ‬
‫اه ْم يُ ِنف ُقو َن "‬ ‫مِم‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لِّْلمت َِّق َّ ِ‬
‫الصال َة َو َّا َر َز ْقنَ ُ‬
‫يمو َن َّ‬ ‫ين يُ ْؤمنُو َن بالْغَْيب َويُق ُ‬ ‫ني* الذ َ‬‫ُ َ‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪1 :‬ـ ‪.)3‬‬
‫والغيب هو كل ما غاب عنك ويف قوله‪":‬الذين يؤمنون بالغيب" أي‪:‬‬
‫آمنوا باهلل ومالئكته ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وجنته‪ ،‬وناره ولقائه‪ ،‬وأمنوا‬
‫باحلياة بعد املوت ‪ ،‬وقد مجع الرسول صلى اهلل عليه وسلم أصول‬ ‫‪4‬‬

‫االمور الغيبية بتعريفه لإلميان يف حديث جربيل عليه السالم ـ حيث‬


‫قال‪ :‬أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر‬
‫‪5‬‬
‫خريه وشره‬
‫ت اجْلِ َّن‬‫‪3‬ـ امتثال األوامر واجتناب النواهي‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬و َما َخلَ ْق ُ‬
‫ون " (الذاريات ‪ ،‬آية ‪ ،)56 :‬ففي هذه اآلية بيان‬ ‫واإْلِ نس إِاَّل لِيعب ُد ِ‬
‫َ َ َ ُْ‬
‫للحكمة اليت خلق اهلل من أجلها الناس وهي أن يكلفهم بعبادته‪،‬‬
‫‪ 1‬جامع البيان ال بن جرير (‪.)19 ،3/18‬‬
‫‪ 2‬أثر اإليمان (‪.)1/47‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)1/44‬‬
‫‪ 4‬جامع البيان (‪.)1/101‬‬
‫‪ 5‬مسلم‪ ،‬ك القدر رقم ‪.8‬‬
‫‪160‬‬
‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ‬ ‫باالمتثال ألوامره واالنتهاء عن نواهيه‪ ،‬وقال تعاىل‪ ":‬يَاأَيُّ َها الذ َ‬
‫ان إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو‬‫ات الشَّيطَ ِ‬ ‫الس ْل ِم َكآفَّةً والَ َتتَّبِعواْ خطُو ِ‬
‫ِّ‬ ‫ْاد ُخلُواْ يِف‬
‫ْ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ني" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ )208 :‬والسلم‪ :‬هو اإلسالم واملراد بكافة‪ :‬أي مجيع‬ ‫ُّمبِ ٌ‬
‫شرائع اإلسالم‪ ،‬ففي األية يدعو اهلل املؤمنني إىل األخذ جبميع شرائع‬
‫اإلسالم‪ ،‬وإقامة مجيع احكامه‪ ،‬وحدوده‪ ،‬دون تضييع بعضه والعمل‬
‫ببعضه‪.1‬‬
‫‪4‬ـ اإلخالص هلل في العبادة‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬إِمَّنَا نُطْعِ ُم ُك ْم لَِو ْج ِه اللَّ ِه اَل‬
‫ورا " (اإلنسان ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬ ‫نُِر ُ ِ‬
‫يد من ُك ْم َجَزاء َواَل ُش ُك ً‬
‫ِِ‬
‫ِّين" (غافر ‪،‬‬ ‫ني لَهُ الد َ‬ ‫وقال تعاىل‪ُ ":‬ه َو احْلَ ُّي اَل إِلَهَ إِاَّل ُه َو فَ ْادعُوهُ خُمْلص َ‬
‫آية ‪.)65 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ص " (الزمر ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪ ":‬أَاَل للَّه الد ُ‬
‫ِّين اخْلَال ُ‬
‫فاإلخالص شرط يف صحة العبادة وأساس مهم من أسس اإلميان بدونه‬
‫ال يدخل العبد يف والية اهلل‪ ،‬وال يقبل منه عمل وال يتحصل على‬
‫مثرات اإلميان وكراماته اليت وعد هبا عباده املؤمنني ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪5‬ـ صدق المتابعة للنبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬لََق ْد‬
‫ِ ِ‬
‫َكا َن لَ ُك ْم يِف َر ُسول اللَّه أ ْ‬
‫ُس َوةٌ َح َسنَةٌ لِّ َمن َكا َن َي ْر ُجو اللَّهَ َوالَْي ْو َم‬
‫اآْل ِخَر َوذَ َكَر اللَّهَ َكثِ ًريا " (األحزاب ‪ ،‬آية ‪ ،)21 :‬هذه اآلية الكرمية‬
‫أصل كبري يف التأسي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أقواله‬
‫وأفعاله وأحواله‪.3‬‬
‫صاحِلًا َواَل يُ ْش ِر ْك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪ ":‬فَ َمن َكا َن َي ْر ُجو ل َقاء َربِّه َف ْلَي ْع َم ْل َع َماًل َ‬
‫َح ًدا " (الكهف ‪ ،‬آية ‪.)110 :‬‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫بعبَ َادة َربِّه أ َ‬
‫وهذان ركنا العمل املتقبل البد أن يكون صواباً خالصاً فالصواب‪ :‬أن‬
‫يكون على السنة وإليه اإلشارة بقوله‪":‬فليعمل عمالً صاحلاً" واخلالص‪ :‬أن‬
‫‪ 1‬جامع البيان (‪.)2/324‬‬
‫‪ 2‬أثر اإليمان (‪.)1/65‬‬
‫‪ 3‬تفسير القرآن العظيم البن كثير (‪.)6/392‬‬
‫‪161‬‬
‫خيلص من الشرك اجللي‪ ،‬واخلفي‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله‪ ":‬وال يشرك بعبادة‬
‫ربه أحداً" ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ني"‬ ‫ِ‬
‫يل الْ ُم ْج ِرم َ‬ ‫ات ولِتَستَبِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪6‬ـ العلم‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬و َك َذل َ‬
‫ني َسب ُ‬ ‫ص ُل اآليَ َ ْ‬ ‫ك ن َف ِّ‬
‫(األنعام ‪ ،‬آية ‪ .)55 :‬فالعلم أساس هام يف اإلميان باهلل وركن بارز يف‬
‫دعوة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬قُ ْل َه ِـذ ِه َسبِيلِي أ َْدعُو إِىَل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ني "‬ ‫اللّه َعلَى بَص َرية أَنَاْ َو َم ِن اتََّب َعيِن َو ُسْب َحا َن اللّه َو َما أَنَاْ م َن الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫(يوسف ‪ ،‬آية ‪ ،)108 :‬فدلت آية سورة يوسف على أن طريق النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يقوم على ثالثة أمور‪:‬‬
‫ـ التوحيد اخلالص‪ :‬القائم على فعل الطاعات واجتناب احملرمات مع‬
‫اإلخالص هلل يف ذلك‪.‬‬
‫ـ الدعوة إىل التوحيد‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ـ العلم والبصرية يف ذلك كله ‪.‬‬
‫وقد بني سبحانه أن التعليم من أخص وظائف النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وأنه أخرج به املسلمني من الضالل املبني‪ ،‬فقال سبحانه‪ُ ":‬ه َو‬
‫ني َر ُسواًل ِّمْن ُه ْم َيْتلُو َعلَْي ِه ْم آيَاتِِه َويَُز ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُم ُه ُم‬ ‫ِ‬
‫ث يِف اأْل ُِّميِّ َ‬‫الَّذي َب َع َ‬
‫ضاَل ٍل ُّمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني " (اجلمعة ‪ ،‬آية‬ ‫اب َواحْل ْك َمةَ َوإِن َكانُوا من َقْب ُل لَفي َ‬ ‫الْكتَ َ‬
‫‪.)2 :‬‬
‫فيجب علينا أن نعلم أهم املسائل واليت هي‪:‬‬
‫ـ العلم‪ ،‬وهو معرفة اهلل‪ ،‬ومعرفة نبيه‪ ،‬ومعرفة دين اإلسالم باألدلة‪.‬‬
‫ـ العمل به‪.‬‬
‫ـ الدعوة إليه‪.‬‬
‫ـ الصرب على األذى فيه‪.‬‬

‫‪ 1‬تيسير العزيز الحميد صـ ‪.525‬‬


‫‪ 2‬جامع البيان (‪ ،)80 ،13/79‬أثر اإليمان (‪.)1/71‬‬
‫‪162‬‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫والدليل قول اهلل تعاىل‪َ ":‬والْ َع ْ ِ ِ ِ‬
‫ين َآمنُوا‬‫نسا َن لَفي ُخ ْس ٍر* إاَّل الذ َ‬
‫صر* إ َّن اإْل َ‬
‫اص ْوا بِ َّ‬ ‫وع ِملُوا َّ حِل ِ‬
‫الصرْبِ " (العصر ‪ ،‬آية ‪1 :‬ـ‬ ‫اص ْوا بِاحْلَ ِّق َوَت َو َ‬
‫الصا َات َوَت َو َ‬ ‫ََ‬
‫‪.)3‬‬
‫إن العمل الصاحل يقوم على اإلميان‪ ،‬واإلميان يقوم على التوحيد‪.‬‬
‫واإلميان الذي يريده اهلل هو اإلميان احلي الفاعل‪ ،‬هو اإلميان املؤثر‬
‫النامي‪ ،‬هو اإلميان القائد املوجه‪ ...‬اإلميان الذي ينفع صاحبه هو اإلميان‬
‫الذي يغرس يف قلبه فينمو ويزدهر وينري ويضيء ويزين هذا القلب‬
‫بزينته وميلؤه يف كل جوانبه وزواياه اإلميان الذي ميد أغصانه وفروعه‬
‫على كيان هذا املؤمن ووجوده ويلقى ظالله على حياته وواقعه ويعطى‬
‫مثاره له يف ليله وهناره‪ ،‬اإلميان الذي عاشه املؤمنون الصادقون العاملون‬
‫من األنبياء واألولياء الصاحلني هو الذي تنتج عنه األعمال‪ ،‬ويضبط به‬
‫السلوك‪ ،‬ويصلح به الواقع‪ ،‬وتستقيم به احلياة‪ ،‬اإلميان املعرب هو الذي‬
‫يبعث على اهلمة والنشاط والسعي‪ ،‬واجلهد واجملاهدة واجلهاد والرتبية‪،‬‬
‫واإلستعالء والعزة والثبات واليقني ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫خامساً‪ :‬شرح بعض اآليات القرآنية التي تحدثت عن اإليمان‪:‬‬


‫‪1‬ـ زينة اإليمان‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬ولَ ِك َّن اللَّهَ َحبَّب إِلَْي ُكم اإْلِ ميَا َن َو َزيَّنَهُ يِف‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الر ِاش ُدو َن "‬ ‫صيَا َن أ ُْولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُقلُوبِ ُك ْم َو َكَّر َه إِلَْي ُك ُم الْ ُك ْفَر َوالْ ُف ُس َ‬
‫وق َوالْع ْ‬
‫(احلجر ‪ ،‬آية ‪ ،)7:‬ملا كانت املعاصي بعضها كفر‪ ،‬وبعضها ليس‬
‫بكفر‪ ،‬فرق بينها فجعلها ثالثة أنواع منها كفر‪ ،‬ونوع منها فسوق‬
‫وليس بكفر‪ ،‬ونوع عصيان وليس بكفر وال فسوق وأخرب أنه كرهها‬
‫كلها إىل املؤمنني‪ ،‬وملا كانت الطاعات كلها داخلة يف اإلميان‪ ،‬وليس‬
‫فيها شيء خارج عنه أمل يفرق بينها‪ ،‬فيقول‪ :‬حبب إليكم اإلميان‬

‫‪ 1‬في ظالل اإليمان صـ‪.63‬‬


‫‪163‬‬
‫ب إِلَْي ُك ُم اإْلِ ميَا َن "‬ ‫والفرائض وسائر الطاعات‪ ،‬بل أمجل ذلك فقال‪َ ":‬حبَّ َ‬
‫فدخل يف ذلك مجيع الطاعات‪.1‬‬
‫ض َمثَ ُل نُو ِر ِه‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫ور َّ َ َ‬ ‫‪2‬ـ نور اإليمان‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬اللَّهُ نُ ُ‬
‫اج ٍة ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِ ِ‬
‫ب‬‫اجةُ َكأَنَّ َها َك ْو َك ٌ‬ ‫الز َج َ‬ ‫اح يِف ُز َج َ‬ ‫صبَ ُ‬‫اح الْم ْ‬ ‫صبَ ٌ‬‫َكم ْش َكاة ف َيها م ْ‬
‫ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اد َز ْيُت َها‬ ‫ي يُوقَ ُد من َش َجَر ٍة ُّمبَ َار َكة َز ْيتُونة اَّل َش ْرقيَّة َواَل َغ ْربِيَّة يَ َك ُ‬ ‫ُد ِّر ٌّ‬
‫ور َعلَى نُو ٍر َي ْه ِدي اللَّهُ لِنُو ِر ِه َمن يَ َشاء‬ ‫ِ‬
‫يُضيءُ َولَ ْو مَلْ مَتْ َس ْسهُ نَ ٌار نُّ ٌ‬
‫يم اهلل" (النور ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َّاس واللَّه بِ ُكل شي ٍء علِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬‫ل‬‫ض ِرب اللَّه اأْل َمث َال لِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َويَ ْ ُ ُ ْ َ‬
‫‪.)35‬‬
‫السماو ِ‬
‫منور السموات‬ ‫ض" بكونه ّ‬ ‫ات َواأْل َْر ِ‬ ‫ور َّ َ َ‬ ‫وقد فسر قوله تعاىل‪ ":‬اللَّهُ نُ ُ‬
‫واألرض‪ ،‬وهادي أهل السموات واألرض‪ ،‬فبنوره اهتدى أهل السموات‬
‫واألرض‪ ،‬وهذا إمنا هو فعله وإال فالنور هو من أوصافه قائم به ومنه‬
‫اشتق اسم النور الذي هو أحد األمساء احلسىن والنور يضاف إليه‬
‫سبحانه على أحد وجهني‪ :‬إضافة صفة إىل موصوفها‪ ،‬وإضافة مفعول إىل‬
‫فاعله ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ويف قوله تعاىل‪":‬مثل نوره" وهي أن أصل اإلميان يكون من اهلل عندما‬
‫يشرح صدر عبده املؤمن لإلسالم وجيعل له نوراً فيبدأ به النور واحلياة‬
‫وقد شبه العلم املستفاد من الوحي الواصل للقلب بالزيت اجليد‪،‬‬
‫فاستدامة النور وقوته وسالمته وتنامي حياة القلب إمنا تكون بالعلم‬
‫‪3‬‬
‫بالكتاب والسنة والعمل به‪ ،‬فهي غذاؤه ومادة حياته ‪.‬‬
‫ـ إن ضياء النار حيتاج يف دوامه إىل مادة حتمله‪ ،‬وتلك املادة للضياء‬
‫مبنزلة غذاء احليوان فكذلك نور اإلميان حيتاج إىل مادة من العلم النافع‬

‫‪ 1‬األمثال القرآنية (‪ )1/194‬مجموع الفتاوى (‪.)7/42‬‬


‫‪ 2‬اجتماعـ الجيوش اإلسالمية البن القيم صـ‪.6‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ‪ ،20‬األمثال القرآنية (‪.)1/360‬‬
‫‪164‬‬
‫والعمل الصاحل يقوم هبا ويدوم بدوامها‪ ،‬فإذا ذهبت مادة اإلميان طفئ‬
‫كما تطفأ النار بفراغ مادهتا ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ـ إن املثل دل على أن اإلميان يزيد وينقص يزيد بزيادة العلم الواصل‬


‫للقلب املستفاد من نور الكتاب والسنة كما ينقص بنقصه ومأخذ ذلك‬
‫من املثل هو تشبيه العلم الذي ميد القلب باملعارف واحلقائق اإلميانية‬
‫بالزيت الذي ميد املصباح بالوقود وكون املصباح يزيد ضوؤه ويصفو‬
‫بزيادة الزيت وجودته واملؤمنون يتفاوتون بقوة النور الكائن يف قلوهبم‬
‫حبسب ما عندهم من العلم واإلميان وأكمل املؤمنني نوراً هو النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لكمال علمه وإميانه‪.‬‬
‫ـ إن املثل دل على أن النور الذي جيعله اهلل يف قلوب املؤمنني نور‬
‫حقيقي‪ ،‬ومأخذ ذلك هو تشبيه ذلك النور الذي يعلم معناه وال تعتقل‬
‫كيفيته بنور املصباح احملسوس فالتشبيه باحملسوس يؤكد وجوده وحقيقته ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ـ هناك تشابه بني الفطرة والفتيلة‪ ،‬من حيث إن كال منهما يف أصل‬
‫خلقه وصنعه مهيأ إلستدعاء وتشرب ما يناسبه‪ ،‬فالفتيلة تتشرب الوقود‬
‫املناسب ومتتصه وتتبلل به وتصبح مهيأة به لإلشتغال إذا أوقدت‬
‫وكذلك الفطرة على الدين احلنيف اليت فطر اهلل قلوب العباد عليها‬
‫مهيأة إلستدعاء ما يناسب ما فُطرت عليه من التوحيد والدين واحلق‪،‬‬
‫فإذا تشربت ما يرد إليها من ذلك من العلم بالكتاب والسنة‪ ،‬فإهنا‬
‫تكون مهيأة إليقاد مصباح القلب وقذف نور اإلميان به قال تعاىل‪":‬‬
‫يل‬ ‫فَأَقِم وجهك لِلدِّي ِن حنِي ًفا فِطْرةَ اللَّ ِه الَّيِت فَطَر النَّاس علَيها اَل َتب ِ‬
‫د‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َْ َ‬
‫خِلَْل ِق اللَّ ِه" (الروم ‪ ،‬آية ‪.)30:‬‬
‫فاهلل عز وجل فطر كل الناس على معرفته وتوحيده وحمبته وجبل‬
‫نفوسهم على استدعاء وقبول ما يناسب ذلك من الدين واإلسالم‬

‫‪ 1‬اجتماعـ الجيوش اإلسالمية صـ‪.20‬‬


‫‪ 2‬األمثال القرآنية (‪1/370‬ـ‪.)375‬‬
‫‪165‬‬
‫والفطرة تزكى بالعلم املستمد من الكتاب والسنة وتطهريها من مكايد‬
‫شياطني اإلنس واجلن الذين جيتهدون يف إفسادها ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ـ إن املثل دل على أثر نور العلم واإلميان على العقل حيث أكسبه‬
‫سالمة التعقل‪ ،‬وسداد النظر‪ ،‬وصحة اإلستنتاج وأن الطريق إىل احلق يف‬
‫كل املطالب الدينية إمنا يكون بإعمال العقل املستنري بالوحي النازل على‬
‫الرسول صلى اله عليه وسلم إلستخالص احلقائق واملعارف اليقينية‬
‫وغريها‪ ،‬وأن العقل اجملرد عن العلم ال سبيل له إىل تلك احلقائق‪،‬‬
‫كما دل املثل على أن النور سطع وأشرق على كل أعمال القلب‬
‫ووظائفه األخرى من العقائد‪ ،‬والعواطف‪ ،‬واإلرادات‪ ،‬واإلنفاعالت‪،‬‬
‫فأخصبها باخلري والسالمة والصالح ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ـ يف قوله"نور على نور" دل على أن نور القرآن والسنة والعلم املستفاد‬


‫منهما يغذي نور اإلميان‪ ،‬ويزيده ويقويه ويف قوله‪":‬ومن مل جيعل اهلل له‬
‫نوراً فما له من نور" دليل على أن النورين من اهلل‪ ،‬نور اإلميان الذي‬
‫يقذف يف القلب ونور العلم الذي طريقه الوحي‪ ،‬فمن ُهدى إىل األول‬
‫واهتدى بالثاين فقد أعطاه اهلل نوراً تاماً ومن أخطأه اهلل فليس له من‬
‫‪3‬‬
‫نور بل هو يف طريق من طرق الضالل سائر يف الظلّمات ‪.‬‬
‫ِ‬
‫وحا ِّم ْن أ َْم ِرنَا َما‬
‫ك ُر ً‬ ‫ك أ َْو َحْينَا إِلَْي َ‬ ‫‪3‬ـ روح اإليمان‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬و َك َذل َ‬
‫ورا نَّ ْه ِدي بِِه َم ْن‬ ‫ِ‬
‫اب َواَل اإْلِ ميَا ُن َولَكن َج َع ْلنَاهُ نُ ً‬
‫ِ‬
‫نت تَ ْد ِري َما الْكتَ ُ‬
‫ُك َ‬
‫اط ُّم ْستَ ِقي ٍم" (الشورى ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ك لََته ِدي إِىَل ِصر ٍ‬
‫َ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫نَّ َشاء م ْن عبَادنَا َوإِنَّ َ ْ‬
‫‪ .)52‬فسمى وحيه روحاً ملا حيصل به من حياة القلوب واألرواح اليت‬
‫هي احلياة يف احلقيقة ومن عدمها فهو ميت ال حي‪ ..‬ومساه نوراً ملا‬
‫حيصل به من استنارة القلوب وإضاءهتا وكمال الروح هباتني الصفتني‬
‫باحلياة والنور‪ ،‬وال سبيل إليهما إال على أيدي الرسل صلوات اهلل‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪1/390‬ـ‪.)412‬‬
‫‪ 2‬األمثال (‪.)1/418‬‬
‫‪ 3‬األمثال القرآنية( ‪.)1/420‬‬
‫‪166‬‬
‫وسالمه عليهم واإلهتداء مبا بعثوا به‪ ،‬وتلقي العلم النافع والعمل الصاحل‬
‫من مشكاهتم وإال فالروح ميتة مظلمة وإن كان العبد مشاراً إليه‬
‫بالزهد والفقه والفضيلة والكالم يف البحوث‪ ،‬فإن احلياة واإلستنارة‬
‫بالروح الذي أوحاه اهلل تعاىل إىل رسوله صلى اهلل عليه وسلم وجعله‬
‫نوراً يهدى به من يشاء من عباده فليس العلم كثرة النقل والبحث‬
‫والكالم ولكن نور مييز به صحيح األقوال من سقيمها وحقها من‬
‫باطلها‪ ،‬وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫سادساً‪ :‬أسباب قوة اإليمان‪ :‬هذا الفصل عظيم النفع واحلاجة‪ ،‬بل‬
‫الضرورة ماسة إىل معرفته والعناية به‪ ،‬معرفة واتصافاً ـ وذلك‪ :‬أن‬
‫اإلميان هو كمال العبد‪ ،‬وبه ترتفع درجاته يف الدنيا واآلخرة وهو‬
‫السبب والطريق لكل خري عاجل وآجل‪ ،‬وال حيصل‪ ،‬وال يقوى‪ ،‬وال‬
‫يتم إال مبعرفة ما منه يستمد وإىل ينبوعه وأسبابه وطرقه واهلل تعاىل قد‬
‫جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه‪ ،‬واإلميان أعظم املطالب‬
‫وأمهها وأعمها‪ ،‬وقد جعل اهلل له مواد كبرية جتلبه وتقويه‪ ،‬كما كان‬
‫له أسباب تضعفه وهتويه ومواده اليت جتلبه وتقويه أمران‪ :‬جممل ومفصل‪:‬‬
‫أما اجململ فهو‪ :‬التدبر آليات اهلل املتلوة‪ :‬من الكتاب والسنة‪ ،‬والتأمل‬
‫آلياته الكونية على اختالف أنواعها‪ ،‬واحلرص على معرفة احلق الذي‬
‫خلق له العبد‪ ،‬والعمل باحلق‪ ،‬فجميع األسباب مرجعها إىل هذا األصل‬
‫العظيم ‪ ،‬وأما التفصيل‪ :‬فاإلميان حيصل ويقوى بأمور كثرية‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪1‬ـ معرفة أسماء اهلل الحسنى الواردة يف الكتاب والسنة واحلرص‬


‫على فهم معانيها والتعبد هلل هبا‪ ،‬فقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬إن هلل تسعة وتسعني امساً ـ مائة إال واحداً من أحصاها دخل‬
‫اجلنة‪ .‬أي من حفظها وفهم معانيها واعتقدها وتعبَّد اهلل هبا دخل اجلنة‪،‬‬

‫‪ 1‬اجتماعـ الجيوش اإلسالمية على غزو المعطلة صـ‪.24‬‬


‫‪ 2‬شجرة اإليمان للسعدى صـ‪.39‬‬
‫‪167‬‬
‫واجلنة ال يدخلها إال املؤمنون‪ ،‬فعلم أن ذلك أعظم ينبوع ومادة‬
‫حلصول اإلميان وقوته وثباته‪ ،‬ومعرفة األمساء احلسىن هي أصل اإلميان‬
‫واإلميان يرجع إليها‪ ،‬فكلما إزداد العبد معرفة بأمساء اهلل وصفاته إزداد‬
‫إميانه‪ ،‬وقوى يقينه‪ ،‬فينبغي للمؤمن‪ :‬أن يبذل مقدوره ومستطاعه يف‬
‫معرفة األمساء والصفات‪ ،‬وتكون هذه املعرفة متلقاه من الكتاب والسنة‬
‫وما روى عن الصحابة والتابعني هلم بإحسان‪ ،‬فهذه املعرفة النافعة جتعل‬
‫املؤمن يف زيادة يف إميانه وقوة يقينه وطمأنية يف أحواله ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬ـ تدبر القرآن على وجه العموم‪ :‬فإن املتدبر ال يزال يستفيد من‬
‫ِ‬
‫علوم القرآن ومعارفه‪ ،‬ما يزداد به إمياناً‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ":‬وإِ َذا تُليَ ْ‬
‫ت‬
‫َعلَْي ِه ْم آيَاتُهُ َز َاد ْت ُه ْم إِميَانًا َو َعلَى َرهِّبِ ْم َيَت َو َّكلُو َن " (األنفال ‪ ،‬آية ‪،)2:‬‬
‫َّاس قَ ْد‬ ‫وهو العالج الناجح ألمراض القلوب قال تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫الص ُدو ِر َو ُه ًدى َو َرمْح َةٌ‬
‫ُّ‬ ‫َجاءتْ ُكم َّم ْو ِعظَةٌ ِّمن َّربِّ ُك ْم َو ِش َفاء لِّ َما يِف‬
‫ِِ‬
‫ني " (يونس ‪ ،‬آية ‪ ،)57:‬أنه موعظة من اهلل وهل هناك أبلغ‬ ‫لِّْل ُم ْؤمن َ‬
‫من املوعظة الربانية؟ وأيسر منها؟ وأكثر نفاذا إىل القلب والضمري؟ ففيه‬
‫الشفاء ألمراض الشبهات والشهوات وأمراض اهلوى واإلحنراف وأمراض‬
‫الشك والشرك وأمراض القلوب والنفوس واجلوارح واحلواس وأمراض‬
‫السياسة واإلقتصاد واألخالق واإلجتماع واحلياة واحلضارة‪ ،2‬قال تعاىل‪":‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني " (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َونَُنِّز ُل م َن الْ ُق ْرآن َما ُه َو ش َفاء َو َرمْح َةٌ لِّْل ُم ْؤمن َ‬
‫‪.)82‬‬
‫فهو غذاء للروح‪ ،‬وعالج يشفي النفوس من عللَّها ويكسبها املناعة‬
‫القوية ‪ ،‬ومن مثرات تدبر القرآن‪ :‬أنه وسيلة ملعرفة ما يريد اهلل منا‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫وكيفية عبادته تبارك وتعاىل‪ ،‬ومعرفة ما أنزل اهلل إليها‪ ،‬ألن القرآن‬
‫الكرمي منهج حياة أنزله اهلل عز وجل وهو أساس التشريع الذي جيب‬
‫‪ 1‬شجرة اإليمان للسعدي صـ‪.41‬‬
‫‪ 2‬اإليمان أوالً فكيف نبدأ به د‪.‬الهدلي صـ‪.119‬‬
‫‪ 3‬هجر القرآن العظيم د‪.‬محمود الدوسري صـ‪.567‬‬
‫‪168‬‬
‫على العباد أن يتدبروه‪ ،‬ويلتزموا بأوامره‪ ،‬وجيتنبوا نواهيه ليحققوا عبادة‬
‫اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وإذا نظر إىل انتظام القرآن الكرمي وإحكامه‪ ،‬وأنه يصدق بعضه بعضاً‪،‬‬
‫ويوافق بعضه بعضاً‪ ،‬ليس فيه تناقض وال اختالف‪ :‬تيقن أنه" اَل يَأْتِ ِيه‬
‫يد" (فصلت ‪،‬‬ ‫اطل ِمن ب ِ ي َدي ِه واَل ِمن خ ْل ِف ِه تَن ِزيل ِّمن ح ِكي ٍم مَحِ ٍ‬ ‫الْب ِ‬
‫ٌ ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َنْي َ ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫آية ‪ )42:‬وأنه لو كان من عند غري اهلل‪ ،‬لوجد فيه‪ ،‬من التناقض‬
‫واالختالف أمور كثرية قال تعاىل‪ ":‬أَفَالَ َيتَ َدبَُّرو َن الْ ُق ْرآ َن َولَ ْو َكا َن ِم ْن‬
‫اختِالَفًا َكثِ ًريا" (فصلت ‪ ،‬آية ‪ ،)82:‬وهذا‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫عند َغرْيِ اللّه لََو َج ُدواْ فيه ْ‬
‫من أعظم مقويات اإلميان‪ ،‬ويقويه من وجوه كثرية فاملؤمن مبجرد ما‬
‫يتلو آيات اهلل‪ ،‬ويعرف ما ركب عليه من األخبار الصادقة واألحكام‬
‫احلسنة‪ ،‬حيصل له من أمور اإلميان خري كبري‪ ،‬فكيف إذا أحسن تأمله‬
‫وفهم مقاصده وأسراره؟ وهلذا كان املؤمنون الكمل يقولون" َّربَّنَا إِنَّنَا‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنَّا" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫مَس ْعنَا ُمنَاديًا يُنَادي ل ِإلميَان أَ ْن آمنُواْ بَربِّ ُك ْم فَ َ‬
‫‪.)193‬‬
‫‪3‬ـ معرفة النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬وما هو عليه من األخالق‬
‫العالية واألوصاف الكاملة‪ ،‬فإن من عرفه حق املعرفة مل يرتب يف‬
‫صدقه‪ ،‬وصدق ما جاء به‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬أ َْم مَلْ َي ْع ِرفُوا َر ُسوهَلُ ْم َف ُه ْم لَهُ‬
‫نكُرو َن" أي‪ :‬فمعرفته صلى اهلل عليه وسلم توجب للعبد املبادرة إىل‬ ‫م ِ‬
‫ُ‬
‫اإلميان ممن مل يؤمن وزيادة اإلميان ممن آمن به وقال تعاىل مشجعاً هلم‬
‫اح َد ٍة أَن‬
‫َعظُ ُكم بِو ِ‬
‫َ‬
‫على تدبر أحوال الرسول الداعية لإلميان‪ ":‬قُل إِمَّنَا أ ِ‬
‫ْ‬
‫احبِ ُكم ِّمن ِجن ٍَّة إِ ْن ُه َو إِلَّا‬ ‫َت ُقوموا لِلَّ ِه م ْث و ُفرادى مُثَّ َتَت َف َّكروا ما بِص ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ ىَن َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫اب ش ِد ٍ‬ ‫ِ‬
‫يد" (سبأ ‪ ،‬آية ‪ )46:‬وأقسم تعاىل‬ ‫نَذ ٌير لَّ ُكم َبنْي َ يَ َد ْي َع َذ ٍ َ‬
‫بكمال هذا الرسول‪ ،‬وعظمة أخالقه وأنه أكمل خملوق قال تعاىل‪ ":‬ن‬
‫ك مِب َجنُ ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫َجًرا َغْيَر‬ ‫ك أَل ْ‬ ‫ون* َوإِ َّن لَ َ‬ ‫َنت بِن ْع َمة َربِّ َ ْ‬
‫َوالْ َقلَ ِم َو َما يَ ْسطُُرو َن* َما أ َ‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ‪.566‬‬
‫‪169‬‬
‫ك لَ َعلى ُخلُ ٍق َع ِظيم"(القلم ‪ ،‬آية ‪1:‬ـ‪ )4‬فهو صلى اهلل عليه‬ ‫مَمْنُ ٍ‬
‫ون* َوإِنَّ َ‬
‫وسلم‪ ،‬أكرب داع لإلميان يف أوصافه احلميدة‪ ،‬ومشائله اجلميلة‪ ،‬وأقواله‬
‫الصادقة النافعة‪ ،‬وأفعاله الرشيدة‪ ،‬فهو اإلمام األعظم والقدوة األكمل‬
‫وقد ذكر اهلل عن أوىل األلباب الذين هم خواص اخللق أهنم قالوا" َّربَّنَا‬
‫إِنَّنَا مَسِ ْعنَا ُمنَ ِاديًا " وهو‪ :‬هذا الرسول الكرمي"ينادي لإلميان" بقوله وخلقه‪،‬‬
‫ِ ِ‬
‫آمنَّا" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫وعمله ودينه ومجيع أحواله" أَ ْن آمنُواْ بَربِّ ُك ْم فَ َ‬
‫‪ )193‬أي‪ :‬إمياناً ال يدخله ريب وملا كان هذا اإلميان من أعظم ما‬
‫يقرب العبد إىل اهلل‪ ،‬ومن أعظم الوسائل اليت حيبها اهلل ـ توسلوا‬
‫بإميناهم‪ :‬أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم املطالب العاليات فقالوا‪َّ ":‬ربَّنَا‬
‫آمنَّا َربَّنَا فَا ْغ ِف ْر لَنَا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫إنَّنَا مَس ْعنَا ُمنَاديًا يُنَادي ل ِإلميَان أَ ْن آمنُواْ بَربِّ ُك ْم فَ َ‬
‫األبَرا ِر" (آل عمران)‪ .‬وهلذا كان‬ ‫ِ‬
‫وبنَا َو َكف ِّْر َعنَّا َسيِّئَاتنَا َوَت َو َّفنَا َم َع ْ‬
‫ذُنُ َ‬
‫الرجل املنصف الذي ليس له إرادة إال أتباع احلق جمرد ما يراه‬
‫ويسمع كالمه‪ ،‬يبادر إىل اإلميان به صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وال يرتاب‬
‫يف رسالته‪ ،‬بل كثري منهم جمرد مايرى وجهه الكرمي‪ ،‬يعرف‪ ،‬أنه ليس‬
‫وجه كذاب ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪4‬ـ التفكر في الكون والنظر في األنفس‪ :‬إن التفكر يف الكون‬


‫ويف خلق السموات واألرض وما فيهن‪ ،‬من املخلوقات املتنوعة والنظر‬
‫يف اإلنسان وما هو عليه من الصفات يقوى اإلميان ملا يف اإلنسان‬
‫وما هو عليه من الصفات يقوى اإلميان ملا يف هذه املوجودات‪ ،‬من‬
‫عظمة اخللق ال ّدال على قدرة خالقها وعظمته‪ ،‬وما فيها من احلسن‬
‫واإلنتظام واإلحكام الذي حيري األلباب‪ ،‬الدال على سعة علم اهلل‪،‬‬
‫ومشول حكمته‪ ،‬وما فيها‪ ،‬من أصناف املنافع والنعم الكثرية اليت ال‬
‫تعد وال حتصى الدالة على سعة رمحة اهلل‪ ،‬وجوده وبره وذلك كله‬
‫يدعو إىل تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره‪ ،‬وإخالص الدين‬
‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ‪.48‬‬
‫‪170‬‬
‫له وهذا هو روح اإلميان وسره ‪ ،‬وكذلك النظر إىل فقر املخلوقات‬ ‫‪1‬‬

‫كلها واضطرارها إىل رهبا من كل الوجوه وأهنا التستغين عنه طرفة‬


‫عني خصوصاً ما تشاهده يف نفسك‪ ،‬من أدلة األفتقار وقوة األضطرار‪،‬‬
‫وذلك يوجب للعبد كمال اخلضوع‪ ،‬وكثرة الدعاء والتضرع إىل اهلل‪،‬‬
‫يف جلب ما حيتاجه من منافع يف دينه ودنياه‪ ،‬ويوجب له قوة التوكل‬
‫على ربه وكمال الثقة بوعده‪ ،‬وشدة الطمع يف بره وإحسانه وهبذا‬
‫يتحقق اإلميان ويقوى التعبد‪ ،‬فإن الدعاء مخ العبادة وخالصها ‪ ،‬وكذلك‬
‫‪2‬‬

‫التفكر يف كثرة نعم اهلل وآالئه العامة واخلاصة‪ ،‬اليت ال خيلو منها‬
‫خملوق طرفة عني‪ ،‬فإن هذا يدعو إىل اإلميان ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫َّها ِر‬ ‫ض و ِ ِ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬إِ َّن يِف خ ْل ِق َّ ِ‬


‫اختالَف اللَّْي ِل َوالن َ‬ ‫الس َم َاوات َواأل َْر ِ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ودا َو َعلَ َى ُجنُوهِبِ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫آليَات أِّل ُْويِل األلْبَاب* الذ َ‬
‫ين يَ ْذ ُكُرو َن اللّهَ قيَ ًاما َو ُقعُ ً‬
‫ض ربَّنَا ما خلَ ْقت هذا ب ِ‬ ‫ويَت َف َّكرو َن يِف خ ْل ِق َّ ِ‬
‫اطالً‬ ‫الس َم َاوات َواأل َْر ِ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫اب النَّا ِر" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪190:‬ـ‪.)191‬‬ ‫ِ‬
‫ك فَقنَا َع َذ َ‬ ‫ُسْب َحانَ َ‬
‫‪5‬ـ اإلكثار من ذكر اهلل في كل وقت‪ :‬ومن الدعاء الذي هو‬
‫مخ العبادة‪ ،‬فإن الذكر هلل يغرس شجرة اإلميان يف القلب‪ ،‬ويغذيها‬
‫وينميها‪ ،‬وكلما ازداد العبد ذكراً هلل‪ ،‬قوي إميانه كما أن اإلميان يدعو‬
‫إىل كثرة الذكر‪ ،‬فمن أحب اهلل أكثر من ذكره‪ ،‬وحمبة اهلل هي‪،‬‬
‫اإلميان‪ ،‬بل هي روحه وللذكر آثار نافعة يف حياة املسلمني الدنيوية‬
‫واألخروية منها‪.‬‬
‫أـ الحياة الطيبة الحقيقية‪ :‬فاحلياة هي حياة الروح املتغذية بالوحي‬
‫اهلل باحلياة‬ ‫وهي اليت وصفها‬ ‫اإلهلي‪ ،‬املتعلق قلب صاحبها بذكر اهلل‬
‫َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن‬ ‫ِّمن ذَ َك ٍر أ َْو أُنثَى‬ ‫صاحِلًا‬ ‫ِ‬
‫الطيبة بقوله سبحانه‪َ ":‬م ْن َعم َل َ‬
‫َي ْع َملُو َن" (النحل‬ ‫َح َس ِن َما َكانُواْ‬ ‫بِأ ْ‬ ‫َجَر ُهم‬ ‫َفلَنُ ْحيَِينَّهُ َحيَا ًة طَيِّبَةً َولَنَ ْج ِز َين ُ‬
‫َّه ْم أ ْ‬
‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ‪.50‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ‪.50‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ‪.50‬‬
‫‪171‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اسَت ْغفُرواْ َربَّ ُك ْم مُثَّ تُوبُواْ إِلَْيه مُيَت ْ‬
‫ِّع ُكم‬ ‫‪ ،‬آية ‪ ،)97:‬وبقوله أيضاً‪َ ":‬وأَن ْ‬
‫ضلَهُ " (هود ‪،‬‬ ‫ض ٍل فَ ْ‬ ‫ت ُك َّل ِذي فَ ْ‬ ‫َّمتَاعا حسنًا إِىَل أَج ٍل ُّمس ًّمى وي ْؤ ِ‬
‫َُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً ََ‬
‫آية ‪ .)3:‬فذكر اهلل تعاىل وحمبته وطاعته واإلقبال عليه ضامن ألطيب‬
‫احلياة يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬واإلعراض عنه ومعصيته كفيل باحلياة املنغصة‬
‫ض َعن ِذ ْك ِري‬ ‫واملعيشة الضنك يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬و َم ْن أ َْعَر َ‬
‫‪1‬‬

‫ضن ًكا َوحَنْ ُشُرهُ َي ْو َم الْ ِقيَ َام ِة أ َْع َمى" (طه ‪ ،‬آية ‪،)124:‬‬ ‫يشةً َ‬‫فَِإ َّن لَهُ َمعِ َ‬
‫وعلى هذا فحياة الروح والقلب هذه‪ ،‬ال حيياها وال يذوق طعمها إال‬
‫الذاكر هلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬كما قال املصطفى‪ :‬مثل الذي يذكر ربه‬
‫وامليت‪ ،2‬فما بني الذاكر والغافل هو‬ ‫َ‬ ‫والذي ال يذكر ربه مثل احلي‬
‫ما بني احلي وامليت وشتان ما بينهما‪ ،3‬فسبحان من أشهد عباده جنته‬
‫قبل لقائه‪ ،‬وفتح هلم أبواهبا يف دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها‬
‫وطيبها حىت قال قائلهم‪ :‬مساكني أهل الدنيا خرجوا منها ومل يذوقوا‬
‫أطيب ما فيها؟ قيل‪ :‬ما أطيب ما فيها؟ قال‪ :‬حمبة اهلل تعاىل‪ ،‬ومعرفته‬
‫وذكره‪ .4‬فالذكر بني الغافلني هو كاحلي بني املوتى حياة متكاملة يف‬
‫َحَيْينَاهُ َو َج َع ْلنَا لَهُ‬
‫البدن والروح والشعور قال تعاىل‪ ":‬أ ََو َمن َكا َن َمْيتًا فَأ ْ‬
‫ِج ِّمْن َها"‬ ‫س خِب َار ٍ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َّاس َكمن َّمَثلُه يِف الظُّلُم ِ‬
‫ات‬ ‫ورا مَيْ ِشي بِِه يِف الن ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫نُ ً‬
‫(األنعام ‪ ،‬آية ‪.)122:‬‬
‫ب ـ القوة في األبدان وأحياء المعاش والجهاد‪:‬‬
‫إن الذكر يعطي الذاكر قوة حىت إنه ليفعل مع الذكر ما مل يظن‬
‫فعله بدونه ‪ ،‬وشاهد ذلك موقف النيب صلى اهلل عليه وسلم مع ابنته‬ ‫‪5‬‬

‫فاطمة وعلي رضي اهلل عنهما‪ ،‬ملا سألته خادماً وشكت إليه ما تقاسيه‬
‫فعلمهما‪ :‬أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا‬
‫من الطحن والسعي واخلدمة َّ‬
‫‪ 1‬مدارج السالكين (‪.)3/259‬‬
‫‪ 2‬البخارى‪،‬ك الدعوات‪ ،‬باب فضل الذكر (‪.)11/212‬‬
‫‪ 3‬ذكر هللا تعالى بين األتبّاع واالبتداع عبد الرحمن خليفه صـ ‪.171‬‬
‫‪ 4‬ذكر هللا تعالى بين األتبّاع واإلبتداع عبد الرحمن خليفة صـ‪.171‬‬
‫‪ 5‬ذكر هللا تعالى صـ‪.172‬‬
‫‪172‬‬
‫مضاجعهما ثالثاً وثالثني‪ ،‬وحيمدا ثالثاً وثالثني‪ ،‬ويكرِّب ا أربعاً وثالثني‪،‬‬
‫وقال هلما‪ :‬فهذا خري لكما من خادم ‪ ،‬فقيل‪ :‬إن من دوام على ذلك‬
‫‪1‬‬

‫وجد قوة يف يومه مغنية عن خادم ‪.‬‬


‫‪2‬‬

‫ج ـ رقة القلب وخشوعه‪:‬‬


‫إن ذكر اهلل يوجب خشوع القلب وصالحه ورقته ويذهب بالغفلة عنه‬
‫ين َآمنُواْ َوتَطْ َمئِ ُّن ُقلُوبُ ُهم بِ ِذ ْك ِر اللّ ِه أَالَ بِ ِذ ْك ِر اللّ ِه‬ ‫َّ ِ‬
‫قال تعاىل‪ ":‬الذ َ‬
‫ِ‬
‫َح َس َن‬ ‫وب" (الرعد ‪ ،‬آية ‪ ،)28:‬وقال تعاىل‪ ":‬اللَّهُ َنَّز َل أ ْ‬ ‫تَطْ َمئ ُّن الْ ُقلُ ُ‬
‫يث كِتابا ُّمتشاهِب ا َّمثايِن َت ْقشعُِّر ِمْنه جلُ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين خَي ْ َش ْو َن َربَّ ُه ْم مُثَّ‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫احْلَد ِ َ ً َ َ ً َ َ َ‬
‫ود ُه ْم َو ُقلُوبُ ُه ْم إِىَل ِذ ْك ِر اللَّ ِه" (الزمر ‪ ،‬آية ‪.)23:‬‬ ‫ِ‬
‫ني ُجلُ ُ‬ ‫تَل ُ‬
‫س ـ النجاة من عذاب اهلل‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ما عمل آدمي عمالً قط‪ ،‬أجنى‬
‫له من عذاب اهلل من ذكر اهلل ‪ ،‬وهذه هناية الغايات وأعظم املطالب‬ ‫‪3‬‬

‫وهي أوىل آثار الذكر ومثاره‪ ،‬وأجل فوائده يف املعاد ‪.‬‬


‫‪4‬‬

‫رـ من السبعة الذين يظلهم اهلل في ظله يوم القيامة‪:‬‬


‫ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم اهلل يف‬
‫ظله يوم ال ظل إال ظله‪ ،‬يقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ورجل‬
‫ذكر اهلل خالياً ففاضت عيناه ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫زـ تكثير الشهود يوم القيامة‪:‬‬


‫فكل معامل األرض تأيت شاهدة للذاكرين يوم حتدث األرض أخبارها‪،‬‬
‫فاجلبال والقفار تتباهى وتستبشر مبن يذكر اهلل عز وجل عليها‪ ،‬قال‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك الدعوات‪ ،‬باب التكبيرـ رقم ‪.6318‬‬


‫‪ 2‬شرح النووي على مسلم (‪.)17/45‬‬
‫‪ 3‬صحيح الجامع لأللباني رقم ‪.5644‬‬
‫‪ 4‬ذكر هللا تعالى صـ‪.175‬‬
‫‪ 5‬البخاري رقم ‪.6479‬‬
‫‪173‬‬
‫ابن مسعود‪ :‬إن اجلبل لينادي اجلبل بإمسه‪ ،‬أمر بك اليوم أحد يذكر اهلل‬
‫عز وجل؟ فإذا قال نعم استبشر ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪6‬ـ معرفة محاسن الدين‪ :‬من األسباب املقوية لإلميان معرفة حماسن‬
‫الدين‪ ،‬فإن الدين اإلسالمي كله حماسن‪ ،‬عقائده أصح العقائد وأصدقها‬
‫وأنفعها‪ ،‬وأخالقه أمحد األخالق وأمجلها‪ ،‬وأعماله وأحكامه أحسن‬
‫األحكام وأعدهلا وهبذا النظر اجلليل يزين اهلل اإلميان يف قلب العبد‪،‬‬
‫ِ‬
‫ب‬‫وحيببه إليه‪ ،‬كما امنت به على خيار خلقه بقوله‪َ ":‬ولَك َّن اللَّهَ َحبَّ َ‬
‫إِلَْي ُك ُم اإْلِ ميَا َن َو َزيَّنَهُ يِف ُقلُوبِ ُك ْم" (احلجرات ‪ ،‬آية ‪ ،)7:‬فيكون اإلميان‬
‫يف القلب أعظم احملبوبات وأمجل األشياء وهبذا يذوق العبد حالوة‬
‫اإلميان وجيدها يف قلبه‪ ،‬فيتجمل الباطن بأصول اإلميان وحقائقه‪ ،‬وتتجمل‬
‫اجلوارح بأعمال اإلميان ويف الدعاء املأثور‪ :‬اللهم زينا بزينة اإلميان‬
‫واجعلنا هداتاً مهتدين ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ومن النماذج الرفيعة يف القدرة على عرض حماسن اإلسالم على‬


‫اآلخرين ما قام به جعفر بن أيب طالب رضي اهلل عنه يف عرض‬
‫حماسن اإلسالم على ملك احلبشة وكان ذلك سبباً يف إسالمه وهدايته‪،‬‬
‫فقد قال جعفر رضي اهلل عنه وكان هو املتكلم عن املسلمني‪ :‬أيها‬
‫امللك كنا قوماً أهل جاهلية‪ ،‬نعبد األصنام‪ ،‬ونأكل امليتة‪ ،‬ونأيت‬
‫الفواحش‪ ،‬ونقطع األرحام‪ ،‬ونسيء اجلوار‪ ،‬ويأكل منا القوي الضعيف‬
‫فكنا على ذلك‪ ،‬حىت بعث اهلل إلينا رسوالً منا‪ ،‬نعرف نسبه وصدقه‬
‫وأمانته وعفافه‪ ،‬فدعانا إىل اهلل لنوحده ونعبده‪ ،‬وخنلع ما كنا نعبد حنن‬
‫وآباؤنا من دونه من احلجارة واألوثان‪ ،‬وأمرنا بصدق احلديث‪ ،‬وأداء‬
‫األمانة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وحسن اجلوار‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وقذف‬
‫احملصنات وأمرنا أن نعبد اهلل وحده ال نشرك به شيَئاً‪ ،‬وأمرنا بالصالة‬

‫‪ 1‬الوابل الصيب صـ‪.106‬‬


‫‪ 2‬رواه النسائي بإسناد جيد‪ ،‬شجرة اإليمان صـ‪.52‬‬
‫‪174‬‬
‫والزكاة والصيام‪ ،‬فعدد عليه أمور اإلسالم‪ ،‬فصدقناه‪ ،‬وآمنا به‪ ،‬واتبعناه‬
‫على ما جاء به من دين اهلل‪ ،‬فعبدنا اهلل وحده فلم نشرك به شيئاً‪،‬‬
‫وحرمنا ما حرم علينا‪ ،‬وأحللنا ما أحل لنا‪ ،‬فعدا علينا قومنا‪ ،‬فعذبونا‪،‬‬
‫وفتنونا عن ديننا‪ ،‬لريدونا إىل عبادة األوثان من عبادة اهلل تعاىل‪ ،‬وأن‬
‫نستحل ما كنا نستحل من اخلبائث‪ ،‬فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا‬
‫علينا‪ ،‬وحالوا بيننا وبني ديننا‪ ،‬خرجنا إىل بالدك‪ ،‬واخرتناك على من‬
‫سواك‪ ،‬ورغبنا يف جوارك‪ ،‬ورجونا أن ال نظلم عندك أيها امللك‪ .‬فقال‬
‫له النجاشي‪ :‬وهل معك مما جاء به من اهلل من شيء؟ فقال له جعفر‪:‬‬
‫ص"‬‫هيع َ‬
‫علي‪ ،‬فقرأه عليه صدراً من" َك َ‬‫نعم فقال له النجاشي‪ :‬فأقرأه َّ‬
‫(سورة مرمي)‪ .‬فبكى واهلل النجاشي حىت اخضلت حليته‪ ،‬وبكت أساقفته‬
‫حىت أخضلوا مصافحهم حني مسعوا ما تال عليهم‪ ،‬مث قال هلم‬
‫النجاشي‪ :‬إن هذا ـ يقصد القرآن الكرمي ـ والذي جاء به عيسى ـ‬
‫يقصد اإلجنيل ـ ليخرج من مشكاة واحدة‪ .‬أي من مصدر وأحد أي‬
‫من عند اهلل تعاىل ـ انطلقا فال واهلل ال أسلمهم إليكما وال يُكادون ـ‬
‫خياطب عمرو بن العاص وعبد اهلل بن ربيعة ـ مندوب قريش إىل‬
‫النجاشي قالت أم سلمة رضي اهلل عنها‪ :‬فخرجا من عنده مقبوحني‬
‫مردوداً عليهما ما جاءوا به وأقمنا عنده خبري دار مع خري جار ‪ ،‬مث‬
‫‪1‬‬

‫أسلم بعد ذلك النجاشي وحسن أسالمه وأسلم معه أساقفه وبطارقه‬
‫‪2‬‬
‫وكثري من النصارى يف تلك الديار ‪.‬‬
‫وقمة املهارة‬ ‫َّ‬
‫كان رد جعفر على أسئلة النجاشي يف غاية الذكاء ّ‬
‫السياسية واإلعالمية والدعوية والعقدية فقد قام بالتايل‪:‬‬

‫‪ 1‬مسند اإلمام أحمد (‪1/202‬ـ‪.)203‬‬


‫‪ 2‬حقيقة الوالء والبراء‪ ،‬سيد سعيد صـ‪.156‬‬
‫‪175‬‬
‫ـ عدد عيوب اجلاهلية‪ ،‬وعرضها بصورة تنفر السامع‪ ،‬وقصد بذلك‬
‫تشويه صورة قريش يف عني امللك‪ ،‬وركز على الصفات الذميمة اليت‬
‫بنبوة‪.‬‬
‫ال تنتزع إال َّ‬
‫ـ عرض شخصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف هذا اجملتمع اآلسن‪،‬‬
‫بالرذائل وكيف كان بعيداً عن النّقائض كلها ومعروفاً بنسبة‬‫املليء ّ‬
‫للرسالة‪.‬‬
‫وصدقة‪ ،‬وأمانته‪ ،‬وعفافه فهو املؤهل ّ‬
‫ـ أبرز جعفر حماسن اإلسالم وأخالقه‪ ،‬اليت تتفق مع أخالقيات دعوات‬
‫األنبياء‪ ،‬كنبذ عبادة األوثان وصدق احلديث وأداء األمانة وصلة الرحم‬
‫وحسن اجلوار‪ ،‬والكف عن احملارم والدِّماء وإقامة الصالة وإيتاء الّزكاة‪،‬‬
‫وكون النجاشي وبطارقته موغلني يف النصرانية‪ ،‬فهم يدركون‪ ،‬أن هذه‬
‫رساالت األنبياء‪ ،‬اليت بعثو هبا من لدن موسى وعيسى عليهما الصالة‬
‫والسالم ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫لقد جنح جعفر رضي اهلل عنه بتوفيق اهلل يف عرض حماسن االسالم‬
‫فأسلم امللك وكسبه إىل جانبه‪.‬‬
‫‪7‬ـ اإلجتهاد في التحقق من مقام اإلحسان‪ :‬يف عبادة اهلل‬
‫واإلحسان إىل خلقه‪ ،‬فيجتهد‪ ،‬أن يعبد اهلل كأنه يشاهده ويراه‪ ،‬فيجتهد‬
‫يف إكمال العمل واتقانه وال يزال العبد جياهد نفسه‪ :‬ليتحقق هبذا املقام‬
‫العايل‪ ،‬حىت يقوم إميانه ويقينه ويصل يف ذلك إىل حق اليقني ـ الذي‬
‫هو أعلى مراتب اليقني‪ ،‬فيذوق حالوة الطاعات‪ ،‬وجيد مثرة املعامالت‪،‬‬
‫وهذا هو اإلميان الكامل وكذلك اإلحسان إىل اخللق ـ بالقول‪ ،‬والفعل‬
‫واملال واجلاه وأنواع املنافع‪ ،‬هو من اإلميان ومن دواعي اإلميان‪ ،‬واجلزاء‬
‫من جنس العمل‪ ،‬فكما أحسن إىل عباد اهلل وأوصل إليه من بره‪،‬‬
‫أحسن اهلل إليه أنواعاً من اإلحسان ومن أفضها‪ :‬أن يقوي إميانه ورغبته‬
‫يف فعل اخلري‪ ،‬والتقرب إىل ربه وإخالص العمل له وبذلك يتحقق‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالبي (‪.)1/361‬‬
‫‪176‬‬
‫العبد بالنصح هلل‪ ،‬ولعباده‪ ،‬فإن الدين النصيحة‪ ،‬ومن وفق لإلحسان يف‬
‫‪1‬‬
‫عبادة ربه‪ ،‬واإلحسان يف معاملة اخللق‪ ،‬فقد حتقق نصحه ‪.‬‬
‫ان َوإِيتَاء ِذي الْ ُق ْرىَب " (النحل‬ ‫ـ قال تعاىل‪ " :‬إِ َّن اللّه يأْمر بِالْع ْد ِل وا ِإلحس ِ‬
‫َ َ ُُ َ َ ْ َ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)90 :‬‬
‫َّاس َواللّهُ حُيِ ُّ‬ ‫ني َع ِن الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ب‬ ‫ـ وقال تعاىل‪َ " :‬والْ َكاظم َ‬
‫ني الْغَْي َظ َوالْ َعاف َ‬
‫ني" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)134‬‬ ‫ِِ‬
‫الْ ُم ْحسن َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (األعراف ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫يب ِّم َن الْ ُم ْحسن َ‬ ‫ت اللّه قَ ِر ٌ‬ ‫ـ وقال تعاىل‪ " :‬إِ َّن َرمْح َ َ‬
‫‪.)56‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ وقال تعاىل‪ " :‬و ْ رِب ِ‬
‫ني" (هود ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َجَر الْ ُم ْحسن َ‬
‫يع أ ْ‬ ‫اص ْ فَإ َّن اللّهَ الَ يُض ُ‬ ‫َ‬
‫‪.)115‬‬
‫ان إِاَّل اإْلِ ْح َسا ُن" (الرمحن ‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬ ‫ـ وقال تعاىل‪ " :‬هل جزاء اإْلِ حس ِ‬
‫َْ‬ ‫َ ْ ََ‬
‫ين ُهم حُّمْ ِسنُو َن" (النحل ‪،‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َّات َقواْ َّوالذ َ‬ ‫ـ وقال تعاىل‪ " :‬إ َّن اللّهَ َم َع الذ َ‬
‫آية ‪.)128 :‬‬
‫فاحملسنون يشعرون مبعية اهلل يا له من شعور عظيم يستحقه احملسنون ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 8‬ـ الدعوة إلى اهلل‪ :‬ومن دواعي اإلميان وأسبابه‪ ،‬والدعوة إىل اهلل‬
‫وإىل دينه والتواصي باحلق والتواصي بالصرب‪ ،‬والدعوة إىل أصل الدين‪،‬‬
‫والدعوة إىل إلتزام شرائعه‪ ،‬يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وأن‬
‫طريق الدعوة إىل اهلل والنصيحة لعباده‪ ،‬من أكرب مقومات اإلميان‪،‬‬
‫وصاحب الدعوة ال بد أن يسعى بنصر هذه الدعوة‪ ،‬ويقيم األدلة‬
‫والرباهيم على حتقيقها‪ ،‬ويأيت باألمور من أبواهبا‪ ،‬ويتوسل إىل األمور‬
‫من طرقها‪ ،‬وهذه األمور من طرق اإلميان وأبوابه‪ ،‬كما أن اجلزاء من‬
‫جنس العمل‪ ،‬فكما سعى إىل تكميل العباد ونصحهم وتوصيتهم باحلق‪،‬‬
‫وصرب على ذلك ال بد أن جيازيه اهلل من جنس عمله‪ ،‬ويؤيده من‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ‪.53‬‬


‫‪ 2‬أخالق عمرو خالد صـ‪.38‬‬
‫‪177‬‬
‫نور منه وروح وقوة وإميان وحسن التوكل عليه‪ ،‬فإن اإلميان وحسن‬
‫التوكل على اهلل حيصل به النصر على األعداء‪ ،‬وشياطني اإلنس‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُواْ‬ ‫س لَهُ ُس ْلطَا ٌن َعلَى الذ َ‬ ‫وشياطن اجلن ‪ ،‬كما قال تعاىل‪ " :‬إنَّهُ لَْي َ‬
‫‪1‬‬

‫ِ‬
‫َح َس ُن‬ ‫َو َعلَى َرهِّب ْم َيَت َو َّكلُو َن" (النحل ‪ ،‬آية ‪ ،)99 :‬وقال تعاىل‪َ " :‬و َم ْن أ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َقواًل مِّمَّن دعا إِىَل اللَّ ِه وع ِمل حِل‬
‫ني * َواَل‬ ‫صا ًا َوقَ َال إِنَّيِن م َن الْ ُم ْسلم َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َو َبْينَهُ‬ ‫َح َس ُن فَِإذَا الَّذي َبْينَ َ‬ ‫السيِّئَةُ ْادفَ ْع بِالَّيِت ه َي أ ْ‬
‫تَ ْستَ ِوي احْلَ َسنَةُ َواَل َّ‬
‫اها إِاَّل‬ ‫ع َداوةٌ َكأَنَّه ويِل ٌّ مَحِ يم * وما يلَ َّقاها إِاَّل الَّ ِ‬
‫صَبُروا َو َما يُلَ َّق َ‬
‫ين َ‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ٌ ََ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ذُو َح ٍّظ َع ِظي ٍم" (فصلت ‪ ،‬آية ‪ 33 :‬ـ ‪.)35‬‬
‫‪9‬ـ توطين النفس على مقاومة ما ينافي اإليمان‪ :‬ومن أهم مواد‬
‫اإلميان ومقوياته‪ ،‬توطني النفس على مقاومة ما ينايف اإلميان‪ ،‬من شعب‬
‫الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فإنه كما أنه ال بد يف اإلميان من فعل‬
‫مجيع األسباب املقوية املنمية له‪ ،‬فال بد مع ذلك من دفع املوانع‬
‫والعوائق‪ ،‬وهي اإلقالع عن املعاصي‪ ،‬والتوبة مما يقع منها‪ ،‬وحفظ‬
‫اجلوارح كلها من احملرمات‪ ،‬ومقاومة فنت الشبهات القادحة يف علوم‬
‫اإلميان املضعفة له والشهوات املضعفة إلرادات اإلميان ‪ ،‬فإن اإليرادات‬
‫‪2‬‬

‫اليت أصلها الرغبة يف اخلري وحمبته والسعي ال ترتك إال برتك إرادات ما‬
‫ينافيها‪ :‬من رغبة النفس يف الشر ومقاومة النفس اإلمارة بالسوء‪ ،‬فمىت‬
‫حفظ العبد من الوقوع يف فنت الشبهات وفنت الشهوات مت إميانه‬
‫َص َاب َها َوابِ ٌل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وقوي يقينه وصار مثل بستان إميانه‪َ " ،‬ك َمثَ ِل َجنَّة بَِر ْب َوة أ َ‬
‫صبها وابِل فَطَلٌّ واللّه مِب َا َتعملُو َن ب ِ‬ ‫ِ ِ ِ مَّل ِ‬
‫صريٌ"‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ت أُ ُكلَ َها ض ْع َفنْي فَإن ْ يُ ْ َ َ ٌ‬
‫فَآتَ ْ‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ¨‪ ،)265‬ومىت كان األمر بالعكس‪ ،‬بأن استولت عليه‬
‫النفس اإلمارة بالسوء‪ ،‬ووقع يف فنت الشبهات أو الشهوات‪ ،‬أو كليهما‬
‫َح ُد ُك ْم أَن تَ ُكو َن لَهُ َجنَّةٌ‬ ‫انطبق عليه هذا املثل وهو قوله تعاىل‪" :‬أ ََي َو ُّد أ َ‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ‪.53‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ‪.60‬‬
‫‪178‬‬
‫اب جَتْ ِري ِمن حَتْتِها األَْنهار لَه فِيها ِمن ُك ِّل الثَّمر ِ‬
‫ات‬ ‫ِّمن خَّنِ ٍيل وأ َْعنَ ٍ‬
‫ََ‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬‫احَتَرقَ ْ‬ ‫َص َاب َها إِ ْع َ‬
‫ص ٌار فيه نَ ٌار فَ ْ‬ ‫ض َع َفاء فَأ َ‬
‫َصابَهُ الْكَبُر َولَهُ ذُِّريَّةٌ ُ‬‫َوأ َ‬
‫ات لَ َعلَّ ُك ْم َتَت َف َّكُرو َن" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)266 :‬‬ ‫ك يبنِّي اللّه لَ ُكم اآلي ِ‬ ‫ِ‬
‫َك َذل َ َُ ُ ُ ُ َ‬
‫فالعبد املؤمن املوفق ال يزال يسعى يف أمرين‪:‬‬
‫ـ إحدامها‪ :‬حتقيق أصول اإلميان وفروعه والتحقق هبا علماً وحاالً‪.‬‬
‫ـ والثاين‪ :‬السعي يف دفع ما ينافيها وينقضها أو ينقصها‪ :‬من الفنت‬
‫الظاهرية والباطنية‪ ،‬ويروي ما قصر فيها من األول وما جترأ عليه من‬
‫ِ َّ ِ‬
‫الثاين‪ ،‬بالتوبة النصوح‪ ،‬وتدارك األمر قبل فواته‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫ان تَ َذ َّكرواْ فَِإ َذا هم ُّمب ِ‬
‫ف ِّمن الشَّيطَ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صُرو َن"‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّات َقواْ إ َذا َم َّس ُه ْم طَائ ٌ َ‬
‫(األعراف ‪ ،‬آية ‪ ،)201 :‬أي‪ :‬مبصرون اخللل الذي وقعوا فيه‪ ،‬والنقص‬
‫الذي أصاهبم من طائف الشيطان‪ ،‬الذي هو أعدى األعداء لإلنسان‪،‬‬
‫فإذا أبصروا‪ ،‬تداركوا هذا اخللل بسده وهذا الفتق برتقه ‪ ،‬فعادوا إىل‬
‫‪1‬‬

‫حاهلم الكاملة وعاد عدوهم حسرياً ذليالً وأخوان الشيطان‪" ،‬مَيُدُّو َن ُه ْم يِف‬
‫الْغَ ِّي مُثَّ‬
‫صُرو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ .)202 :‬الشياطني ال تقصر عن أغوائهم‬ ‫الَ ي ْق ِ‬
‫ُ‬
‫وإيقاعها يف أشراك اهلالك‪ ،‬واملستجينب هلم ال يقصرون عن طاعة‬
‫أعدائهم‪ ،‬واالستجابة لدعوهتم حىت يقعوا يف اهلالك‪ ،‬وحيق عليهم‬
‫اخلسار‪ ،‬ولذلك نكثر من الدعاء‪ ،‬اللهم حبب إلينا اإلميان وزينه يف‬
‫قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين‬
‫‪2‬‬
‫بفضلك ومنتك أنك أنت العليم احلكيم ‪.‬‬
‫‪10‬ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر لآلخرة‪ :‬ومن موقيات‬
‫اإلميان معرفة حقيقة الدنيا وأهنا مهما طالت فهي إىل زوال‪ ،‬وإن‬
‫متاعها مهما عظم‪ ،‬فإنه قليل حقري‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬إِمَّنَا َمثَ ُل احْلَيَ ِاة ُّ‬
‫الد ْنيَا‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ‪.61‬‬


‫‪ 2‬شجرة اإليمان صـ‪.62‬‬
‫‪179‬‬
‫َكماء أَنزلْناه ِمن السماء فَاختلَ َط بِِه نبات األَر ِ مِم‬
‫ض َّا يَأْ ُك ُل الن ُ‬
‫َّاس‬ ‫ََ ُ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ت َوظَ َّن أ َْهلُ َها أَنَّ ُه ْم‬ ‫واألَْنعام حىَّت إِ َذا أ ِ‬
‫ض ُز ْخُر َف َها َو َّازيَّنَ ْ‬ ‫َخ َذت األ َْر ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ ََ‬
‫يدا َكأَن مَّلْ َت ْغ َن‬ ‫صً‬ ‫قَ ِادرو َن علَيهآ أَتَاها أَمرنَا لَيالً أَو َنهارا فَجع ْلنَاها ح ِ‬
‫َ ُْ ْ ْ َ ً َ َ َ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬
‫ات لَِق ْوٍم َيَت َف َّكُرو َن" (يونس ‪ ،‬آية ‪ ،)24 :‬إن‬ ‫صل اآلي ِ‬
‫ك نُ َف ِّ ُ َ‬
‫ِ‬
‫س َك َذل َ‬ ‫بِاأل َْم ِ‬
‫اآلية الكرمية السابقة فيها عشر مجل وقع الرتكيب من جمموعها‪ ،‬حبيث‬
‫لو سقط منها شئ اختل التشبيه‪ ،‬إذ املقصود تشبيه حال الدنيا بسرعة‬
‫تقضيها وانقراض نعيمها‪ ،‬واغرتار الناس هبا‪ ،‬حبال ماء نزل من السماء‪،‬‬
‫وأنبت أنواع العشب‪ ،‬وزين بزخرفه وجه األرض كالعروس إذا أخذت‬
‫الثياب الفاخرة‪ ،‬حىت إذا طمع أهلها فيها‪ ،‬وظنوا أهنا مسلمة من‬
‫اجلوائح‪ ،‬أتاها بأس اهلل فجأة‪ ،‬فكأهنا مل تكن باألمس ‪ ،‬وأخربنا رسول‬
‫‪1‬‬

‫ب هَلُم َّمثَ َل احْلَيَ ِاة‬ ‫اض ِر ْ‬


‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم بقول اهلل تعاىل‪َ " :‬و ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َنزلْنَاهُ ِم َن َّ‬
‫يما‬
‫َصبَ َح َهش ً‬ ‫ض فَأ ْ‬ ‫ات اأْل َْر ِ‬ ‫اخَتلَ َط بِه َنبَ ُ‬ ‫الس َماء فَ ْ‬ ‫الد ْنيَا َك َماء أ َ‬ ‫ُّ‬
‫اح َو َكا َن اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء ُّم ْقتَ ِد ًرا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪)45 :‬‬ ‫الريَ ُ‬
‫تَ ْذ ُروهُ ِّ‬
‫أي‪ :‬واضرب يا حممد للناس ((مثل احلياة الدنيا)) يف زواهلا‪ ،‬وفنائها‬
‫ِ‬ ‫َنزلْنَاهُ ِم َن َّ‬
‫َصبَ َح‬ ‫ض فَأ ْ‬ ‫ات اأْل َْر ِ‬ ‫اخَتلَ َط بِه َنبَ ُ‬ ‫الس َماء فَ ْ‬ ‫وانقضائها " َك َماء أ َ‬
‫فشب‪ ،‬ومنا‪ ،‬وحسن‬ ‫اح" أي‪ :‬ما فيها من احلب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫الريَ ُ‬
‫يما تَ ْذ ُروهُ ِّ‬ ‫َهش ً‬
‫وعاله الزهر‪ ،‬والنضرة‪ ،‬مث بعد هذا كله ((فأصبح هشيماً)) أي‪ :‬يابساً‬
‫تفرقه‪ ،‬وتطرحه ذات اليمني وذات الشمال ((وكان‬ ‫((تذروه الرياح)) أي‪ِّ :‬‬
‫‪2‬‬
‫اهلل على كل شئ مقتدراً)) أي‪ :‬هو قادر على اإلنشاء واإلفناء ‪.‬‬
‫ِ‬
‫اخٌر َبْينَ ُك ْم‬ ‫ب َوهَلٌْو َو ِزينَةٌ َوَت َف ُ‬ ‫الد ْنيَا لَع ٌ‬‫قال تعاىل‪ْ " :‬اعلَ ُموا أَمَّنَا احْلَيَاةُ ُّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َوتَ َكاثٌُر يِف‬
‫ب الْ ُك َّف َار َنبَاتُهُ مُثَّ يَه ُ‬
‫يج‬ ‫اأْل َْم َوال َواأْل َْواَل د َك َمثَ ِل َغْيث أ َْع َج َ‬
‫اب َش ِدي ٌد َو َم ْغ ِفَرةٌ ِّم َن‬ ‫ِ‬
‫ص َفًّرا مُثَّ يَ ُكو ُن ُحطَ ًاما َويِف اآْل خَر ِة َع َذ ٌ‬ ‫َفَتَراهُ ُم ْ‬
‫الد ْنيَا إِاَّل َمتَاعُ الْغُُرو ِر" (احلديد ‪ ،‬آية ‪،)20 :‬‬ ‫ض َوا ٌن َو َما احْلَيَاةُ ُّ‬ ‫اللَّ ِه َو ِر ْ‬

‫‪ 1‬مباحث في إعجاز القرآن صـ‪.216‬‬


‫‪ 2‬تفسير القاسمي (‪.)49 ، 11‬‬
‫‪180‬‬
‫وهنَاً أمر احلياة الدنيا‪ ،‬وحمقراً هلا ((اعلموا أمنا احلياة الدنيا‬ ‫يقول تعاىل ُم ِّ‬
‫لعب)) أي‪ :‬تفريج نفس ((وهلو)) أي‪ :‬باطل ((وزينة)) أي‪ :‬منظر مجيل‬
‫((وتفاخر بينكم)) أي‪ :‬باحلسب والنسب ((وتكاثر يف األموال واألوالد‬
‫كمثل غيث)) أي‪ :‬مطر ((أعجب الكفار)) أي‪ :‬يعجب الزراع ذلك النبات‬
‫فإهنم أحرص الناس عليه‪ ،‬وأميل الناس إليه ((مث يهيج فرتاه مصفراً))‬
‫أي‪ :‬مث جيف بعد خضرته‪ ،‬ونضرته‪ ،‬وتراه مصفراً‪ ،‬أي‪ :‬من اليبس ((مث‬
‫يكون حطاماً)) أي‪ :‬مث يكون بعد ذلك كله حطاماً أي‪ :‬هشيماً منكسراً‪،‬‬
‫وكذلك الدنيا ال تبقى‪ ،‬كما ال يبقى النبات‪ ،‬الذي وصفناه‪ ،‬وملا كان‬
‫هذا املثل داالً على زوال الدنيا‪ ،‬وانقضائها ال حمالة‪ ،‬وأن اآلخرة كائنة‬
‫وآتية ال حمالة‪ ،‬حذرنا اهلل تعاىل من أمرها‪ ،‬ورغبنا فيما فيها من‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوا ٌن"‬ ‫اب َشدي ٌد َو َم ْغفَرةٌ ِّم َن اللَّ ِه َو ِر ْ‬ ‫ِ‬
‫اخلري‪ ،‬فقال تعاىل‪َ " :‬ويِف اآْل خَر ِة َع َذ ٌ‬
‫أي‪ :‬وليس يف اآلخرة اآلتية إال‪ :‬إما هذا وإما هذا‪ ،‬أي‪ :‬إما عذاب‬
‫الد ْنيَا إِاَّل‬
‫شديد‪ ،‬وإما مغفرة من اهلل ورضوان‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ " :‬و َما احْلَيَاةُ ُّ‬
‫َمتَاعُ الْغُُرو ِر" أي‪ :‬هي متاع زائل يغر‪ ،‬وخيدع من يركن إليها‪ ،‬وإىل‬
‫متاعها‪ ،‬فيغرت هبا‪ ،‬وتعجب من يعتقد‪ :‬أنه ال دار سواها‪ ،‬وال معاد‬
‫‪1‬‬
‫ورائها‪ ،‬مع أهنا حقرية‪ ،‬قليلة املتاع بالنسبة إىل ال ّدار اآلخرة ‪.‬‬
‫إن هذه احلقيقة اليت أشارت إليها اآليات الكرمية‪ ،‬هي حقيقة الدنيا‬
‫كل ذلك بالنسبة‬ ‫بكل متاعها‪ ،‬وزينتها‪ ،‬وما تشتهيه النفس منها‪ ،‬وإ ّن ّ‬
‫لنعيم اآلخرة شيء تافه‪ ،‬وقليل وزائل‪ ،‬هكذا فهم املسلمون حقيقة‬
‫يبصرهم ويذكرهم‬ ‫ّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بدورهم‪ ،‬ورسالتهم يف األرض‪ ،‬ومكانتهم عند اهلل‪ ،‬وظل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم معهم على هذه احلال من التبصري والتذكري حىت انقدح يف‬
‫ذهنهم ما هلم عند اهلل وما دورهم وما رسالتهم يف األرض‪ ،‬وتأثراً‬
‫برتبيته احلميدة تولد احلماس‪ ،‬والعزمية يف نفوس أصحابه‪ ،‬فانطلقوا عاملني‬
‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪312 /4‬ـ ‪.)313‬‬
‫‪181‬‬
‫بكل ما يف وسعهم وما يف طاقتهم دون فتور أو توان‪،‬‬ ‫بالليل والنهار ّ‬
‫ودون كسل‪ ،‬أو ملل ودون خوف من أحد إال اهلل‪ ،‬ودون طمع يف‬
‫مغنم أو جاه إال أداء هذا الدور‪ ،‬وهذه الرسالة‪ ،‬لتحقيق هذه العادة‬
‫يف الدنيا‪ ،‬والفوز والنجاة يف اآلخرة ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫سابعاً‪ :‬صفات المؤمنين‪ :‬عرض القرآن الكرمي كثرياً من صفات أهل‬


‫اإلميان‪ ،‬وحتدثت آياته الكرمية عن أمهها وأشهرها ودعت املؤمنني إىل أن‬
‫يتصفوا هبا حىت يعيشوا حياة إميانية مباركة سعيدة وحىت ينالوا جنة اهلل‬
‫وثوابه ونعيمه ولقد كان حديث القرآن الكرمي عن صفات املؤمنني‬
‫شامالً ومتنوعاً‪ ،‬وقد توزعت سور القرآن يف احلديث عن صفات‬
‫املؤمنني يف الفرتة املكية واملدنية وهذا يعطي أمهية لتذكري املسلمني هبا‬
‫حىت ال تنسى وال هُت مل ولكي يرتىب على هذه الصفات واألخالق‬
‫عموم املسلمني ‪ ،‬وال ميكننا حصر صفات املؤمنني يف القرآن الكرمي‬ ‫‪2‬‬

‫ولكن نقدم جمموعة من اآليات الواردة يف بعض السور واليت تضمنت‬


‫جمموعة من الصفات الالزمة ألهل اإلميان‪.‬‬
‫‪1‬ـ سورة المؤمنين‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫هِتِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫صاَل ْم َخاشعُو َن* َوالذ َ‬ ‫ين ُه ْم يِف َ‬ ‫ـ قال تعاىل‪ ":‬قَ ْد أَْفلَ َح الْ ُم ْؤمنُو َن* الذ َ‬
‫اعلُو َن* والَّ ِذين هم لُِفر ِ‬
‫وج ِه ْم‬ ‫هم ع ِن اللَّ ْغ ِو مع ِرضو َن* والَّ ِذين هم لِ َّلز َك ِاة فَ ِ‬
‫َ َ ُْ ُ‬ ‫ُْ ُ َ َ ُ ْ‬ ‫ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت أَمْيَانُ ُه ْم فَِإنَّ ُه ْم َغْيُر َملُوم َ‬
‫ني*‬ ‫َحافظُو َن* إِاَّل َعلَى أ َْز َواج ِه ْم ْأو َما َملَ َك ْ‬
‫ين ُه ْم أِل ََمانَاهِتِ ْم‬ ‫فَم ِن ابتغَى وراء ذَلِك فَأُولَئِك هم الْعادو َن* والَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ ْ َ ُُ َ ُ َ َ‬ ‫َ َْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫هِتِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ك ُه ُم الْ َوا ِرثُو َن*‬ ‫صلَ َوا ْم حُيَافظُو َن* أ ُْولَئِ َ‬ ‫ين ُه ْم َعلَى َ‬ ‫َو َع ْهده ْم َراعُو َن* َوالذ َ‬
‫س ُه ْم فِ َيها َخالِ ُدو َن" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪1 :‬ـ ‪)11‬‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذ َ ِ‬
‫ين يَرثُو َن الْف ْر َد ْو َ‬
‫فمن صفات هؤالء املؤمنني يف هذه اآليات الكرمية‪:‬‬

‫‪ 1‬منهج الرسول صلى هللا عليه وسلم في غرس الروح الجهادية صـ ‪ 19‬إلى ‪.34‬‬
‫‪ 2‬في ظالل اإليمان صـ ‪.80 ،79‬‬
‫‪182‬‬
‫أـ الخشوع في الصالة‪ :‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ما من امرئ‬
‫حتضره صالة مكتوبة‪ ،‬فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إال كانت‬
‫كفارة ملا قبلها من الذنوب مامل يأت كبرية وذلك الدهر كله ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫واخلشوع مطلوب على املرء يف الصالة لوجوه منها‪:‬‬


‫ـ لتذكر اهلل واخلوف من وعيده كما قال عز وجل‪َ ":‬وأَقِ ِم الصَّاَل ةَ‬
‫لِ ِذ ْك ِري" (طه ‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬
‫ـ إن الصالة أركاناً وواجبات وسنناً وروحها النية واإلخالص واخلشوع‬
‫وحضور القلب‪ ،‬فإن الصالة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال‪ ،‬ومع‬
‫عدم حضور القلب ال حيصل املقصود باألذكار واملناجاة‪ ،‬ألن النطق إذا‬
‫مل يعرب عما يف الضمري كان مبنزلة اهلذيان‪ ،‬وكذلك ال حيصل‬
‫املقصود من األفعال‪ ،‬ألنه إذا كان املقصود من القيام اخلدمة‪ ،‬ومن‬
‫الركوع والسجود الذل والتعظيم‪ ،‬ولو مل يكن القلب حاضراً مل حيصل‬
‫املقصود‪ ،‬فإن الفعل مىت خرج عن مقصوده بقي صورة ال اعتبار هبا‪،‬‬
‫وم َها َواَل ِد َم ُاؤ َها َولَ ِكن َينَالُهُ َّ‬
‫الت ْق َوى ِمن ُك ْم"‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬لَن َينَ َال اللَّهَ حُلُ ُ‬
‫(احلج ‪ ،‬آية ‪.)37 :‬‬
‫واملقصود أن الواصل إىل اهلل سبحانه وتعاىل هو الوصف الذي استوىل‬
‫على القلب حىت محل على امتثال األوامر املطلوبة‪ ،‬فالبد من حضور‬
‫القلب يف الصالة‪ ،‬ولكن سامح الشارع يف غفلة تطرأ‪ ،‬ألن حضور‬
‫القلب يف أوهلا ينسحب حكمه على باقيها ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ب ـ اإلعراض عن اللغو‪ :‬واللغو كل كالم ساقط حقه أن يلغى‪،‬‬


‫كالكذب والشتم واهلزل يعين أن هلم من اجلد ما شغلهم عن اهلزل‪،‬‬
‫وملا وصفهم باخلشوع يف الصالة أتبعه الوصف باإلعراض عن اللغو‪،‬‬
‫ليجمع هلم الفعل والرتك الشاقني على األنفس‪ ،‬اللذين مها قاعدتا بناء‬

‫‪ 1‬مسلم ك الطهارة رقم ‪ 228‬شرح النووي (‪.)112 /3‬‬


‫‪ 2‬مختصر منهاجـ القاصدين صـ ‪ ،26‬تفسير المراغي (‪.)6/5‬‬
‫‪183‬‬
‫َّ ِ‬
‫ضو َن" أي‪ :‬عن الباطل‪،‬‬ ‫ين ُه ْم َع ِن اللَّ ْغ ِو ُم ْع ِر ُ‬
‫التكليف ‪ .‬قال تعاىل " َوالذ َ‬
‫‪1‬‬

‫وهو يشتمل عن الشرك‪ ،‬كما قاله بعضهم واملعاصي‪ ،‬كما قاله آخرون‬
‫ـ وما ال فائدة فيه من األقوال واألفعال‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ":‬وإِ َذا َمُّروا‬
‫بِاللَّ ْغ ِو َمُّروا كَِر ًاما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)72 :‬‬
‫ين ُه ْم لِ َّلز َك ِاة‬ ‫َّ ِ‬
‫ج ـ تطهيرهم ألنفسهم بأداء الزكاة‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬والذ َ‬
‫اعلُو َن" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪ ،)4 :‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬الطهور شطر‬ ‫فَ ِ‬
‫اإلميان‪ ،‬واحلمد هلل متأل امليزان‪ ،‬وسبحان اهلل واحلمد هلل متآلن ـ أو متآل‬
‫ـ ما بني السماوات واألرض‪ ،‬والصالة نور‪ ،‬والصدقة برهان‪ ،‬والصرب‬
‫ضياء والقرآن حجة لك أو عليك‪ ،‬كل الناس يغدو فبائع نفسه‬
‫فمعتقها أو موبقها ‪ .‬قوله‪ :‬والصدقة برهان" معناه‪ :‬الصدقة حجة على إميان‬ ‫‪2‬‬

‫فاعلها‪ ،‬فإن املنافق ميتنع منها لكونه ال يعتقده فمن تصدق استدل‬
‫بصدقته على صدق إميانه‪ ،‬فاملؤمنون يف حياهتم الدنيا يصونون بالزكاة‬
‫اجملتمع من اخللل الذي ينشئه الفقر يف جانب والرتف يف جانب‪ ،‬فهي‬
‫تأمني اجتماعي لألفراد مجيعاً وهي ضمان اجتماعي للعاجزين‪ ،‬وهي‬
‫وقاية للجماعة كلها من التفكك واإلحنالل ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وج ِه ْم َحافِظُو َن* إِاَّل‬


‫ح ـ حفظ الفروج‪:‬ـ قال تعاىل‪ ":‬والَّ ِذين هم لُِفر ِ‬
‫َ َ ُْ ُ‬
‫َعلَى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني* فَ َم ِن ْابَتغَى َو َراء‬ ‫ت أَمْيَانُ ُه ْم فَِإنَّ ُه ْم َغْيُر َملُوم َ‬
‫أ َْز َواج ِه ْم ْأو َما َملَ َك ْ‬
‫ِ‬
‫ادو َن والذين هم لفروجهم حافظون" (املؤمنون ‪ ،‬آية‬ ‫ك فَأ ُْولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم الْ َع ُ‬ ‫َذل َ‬
‫‪5 :‬ـ ‪ ،)7‬فاملؤمنون قوم حيبون العفة‪ ،‬وحيافظون على طهارهتم مبعناها‬
‫الشامل وهذه طهارة الروح‪ ،‬ووقاية النفس واألسرة واجملتمع حبفظ‬
‫الفروج من دنس املباشرة يف غري حالل‪ ،‬وحفظ القلوب من التطلع يف‬
‫غري حالل‪ ،‬وحفظ اجملتمع من انطالق الشهوات فيه بغري حساب‪ ،‬ومن‬
‫‪ 1‬تفسير النسفي‪ ،‬تفسير الكشاف (‪.)3/26‬‬
‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك الطهارة‪ ،‬باب فضل الوضوء رقم ‪.223‬‬
‫‪ 3‬الحياة في القرآن الكريم‪ ،‬أ حزمي جزولي ‪.‬‬
‫‪184‬‬
‫فساد البيوت فيها واالنساب ‪ ،‬وحفظ الفرج يشمل جتنب إتيان الزوجة‬ ‫‪1‬‬

‫يف الدبر ويف أثناء احليض ويف أثناء الصيام واإلحرام وحفظ الفرج‬
‫يقتضي سد الذرائع‪ ،‬أي جتنب السبل اليت تفضي إليه وهلذا أمر القرآن‬
‫الكرمي املسلمني بغض البصر وعدم إبداء الزينة‪ ،‬فذلك أزكى هلن‬
‫وأطهر ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ِ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬قُل لِّْلمؤ ِمنِني يغُضُّوا ِمن أَب ِ‬


‫ك‬ ‫وج ُه ْم ذَل َ‬ ‫صا ِره ْم َوحَيْ َفظُوا ُفُر َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ُْ َ َ‬
‫ض َن ِم ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫مِب‬
‫ضْ‬ ‫صَنعُو َن* َوقُل لِّْل ُم ْؤمنَات َي ْغ ُ‬ ‫أ َْز َكى هَلُ ْم إِ َّن اللَّهَ َخبِريٌ َا يَ ْ‬
‫ين ِزينََت ُه َّن إِاَّل َما ظَ َهَر ِمْن َها‬ ‫ِ‬ ‫أَب ِ‬
‫وج ُه َّن َواَل يُْبد َ‬ ‫صا ِره َّن َوحَيْ َفظْ َن ُفُر َ‬‫َْ‬
‫ين ِزينََت ُه َّن إِاَّل لُِبعُولَتِ ِه َّن أ َْو‬ ‫ِ‬ ‫هِبِ‬ ‫خِب ِ‬
‫ض ِربْ َن ُ ُم ِره َّن َعلَى ُجيُو َّن َواَل يُْبد َ‬ ‫َولْيَ ْ‬
‫آبَائِ ِه َّن أ َْو آبَاء بُعُولَتِ ِه َّن أ َْو أ َْبنَائِ ِه َّن أ َْو أ َْبنَاء بُعُولَتِ ِه َّن أ َْو إِ ْخ َواهِنِ َّن أ َْو‬
‫ِ ِ‬ ‫بيِن إِخواهِنِ َّن أَو بيِن أ هِتِ‬
‫ت أَمْيَانُ ُه َّن أَ ِو‬ ‫َخ َوا َّن أ َْو ن َسائ ِه َّن أ َْو َما َملَ َك ْ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ني َغرْيِ أُويِل اإْلِ رب ِة ِمن ِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين مَلْ يَظْ َهُروا َعلَى‬ ‫الر َجال أَ ِو الطِّْف ِل الذ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫التَّابِع َ‬
‫ني ِمن ِزينَتِ ِه َّن َوتُوبُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ِربْ َن بِأ َْر ُجل ِه َّن لُي ْعلَ َم َما خُيْف َ‬ ‫ِّساء َواَل يَ ْ‬‫َع ْو َرات الن َ‬
‫إِىَل اللَّ ِه مَجِ ًيعا أَيُّ َها الْ ُم ْؤ ِمنُو َن لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِ ُحو َن" (النور ‪ ،‬آية‪30 :‬ـ ‪.)31‬‬
‫ولكي مي ّكن اإلسالم من املمارسة الفعلية حلفظ الفرج‪ ،‬والعفة‪ ،‬فإنه‬
‫يراعي اإلمور التالية‪:‬‬
‫ـ إن اإلسالم مل جيعل الزواج أبديا كاملسيحية مثالً‪ ،‬فأباح الطالق إذا‬
‫وقع النفور بني الزوجني‪ ،‬وعند عجز الزوج أو مرضه أو إعساره أو‬
‫غيبته‪.‬‬
‫ـ أباح للزوج الطالق‪ ،‬والتزوج بأكثر من واحدة على أن يعدل بينهن‪.‬‬
‫ـ أمر الذي ال يستطيع مؤن النكاح بالصوم‪ ،‬ليدفع شهوته‪ ،‬وحيفظ‬
‫فرجه وعفته قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬يا معشر الشباب‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)4/2455‬‬


‫‪ 2‬الفضائل الخلقية في اإلسالم ألحمد عبد الرحمن صـ ‪.244‬‬
‫‪185‬‬
‫من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه اغض للبصر وأحصن للفرج‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ومن مل يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ‪.‬‬
‫وهبذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب احلالل‪ ،‬وأغلقت دونه باب‬
‫احلرام ‪ .‬وفضالً عن هذا فإن اجملتمع اإلسالمي احلقيقي خيالف اجملتمعات‬ ‫‪2‬‬

‫القائمة جذرياً لصاحل العفة‪ ،‬فنظمه وقوانينه تعاون الرجال والنساء على‬
‫التعفف ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫ين ُه ْم أِل ََمانَاهِتِ ْم َو َع ْه ِد ِه ْم"‬ ‫َّ ِ‬


‫خ ـ رعاية األمانة والعهد‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬والذ َ‬
‫(املؤمنون ‪ ،‬آية ‪ ،)8 :‬أي‪ :‬إذا اؤمتنوا مل خيونوا‪ ،‬يل يؤدوهنا إىل أهلها‪،‬‬
‫وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك‪ ،‬ال كصفات املنافقني الذين قال‬
‫فيهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬آية املنافق ثالث‪ ،‬إذا حدث‬
‫‪4‬‬
‫كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا أؤمتن خان" ‪.‬‬
‫ات إِىَل أ َْهلِ َها َوإِ َذا َح َك ْمتُم‬ ‫ؤدواْ األَمانَ ِ‬
‫َ‬ ‫قال تعاىل‪" :‬إِ َّن اللّهَ يَأْ ُمُر ُك ْم أَن تُ ُّ‬
‫َّاس أَن حَتْ ُك ُمواْ بِالْ َع ْد ِل إِ َّن اللّهَ نِعِ َّما يَعِظُ ُكم بِِه إِ َّن اللّهَ َكا َن‬
‫َبنْي َ الن ِ‬
‫ص ًريا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)58 :‬‬ ‫مَسِ يعا ب ِ‬
‫ً َ‬
‫عن أيب ذر قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أال تستعملين؟ فضرب بيده على‬
‫منكيب‪ ،‬مث قال‪" :‬يا أبا ذر أنك ضعيف‪ ،‬وأهنا أمانة وأهنا يوم القيامة‬
‫خزي وندامة‪ ،‬إال من أخذها حبقها وأدى الذي عليه فيها "‪ .‬فسمى‬
‫‪5‬‬

‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬الوالية يف هذا احلديث أمانة‪ ،‬ألن تأدية‬
‫حقها بالعدل‪ ،‬وعدم االستغالل الشخصي فيها‪ ،‬واليقظة على مصاحل‬
‫الناس‪ ،‬كل ذلك ال يكون إآل خبلق األمانة ‪ ،‬ما روي عن أيب هريرة‬
‫‪6‬‬

‫قال‪ :‬بينما كان النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حيدث إذا جاء إعرايب‬
‫فقال‪" :‬مىت الساعة؟ قال‪ :‬إذ ضيعت األمانة فانتظر الساعة‪ ،‬قال‪ :‬كيف‬
‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك النكاح‪ ،‬باب استحبابـ النكاح رقم ‪.1400‬‬
‫‪ 2‬التشريع الجنائي اإلسالمي (‪.)1/642‬‬
‫‪ 3‬الفضائل الخلقية في اإلسالم‪ ،‬عبد القادر صـ ‪.245‬‬
‫‪ 4‬مسلم ‪ ،‬ك اإليمان شرح النووي (‪.)46 / 2‬‬
‫‪ 5‬مسلم‪ ،‬ك اإلمارة‪ ،‬باب كراهة رقم ‪.1825‬‬
‫‪ 6‬األخالق اإلسالمية وأسسها (‪.)605 ، 1‬‬
‫‪186‬‬
‫وسد األمر إىل‬ ‫إضاعتها؟ فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إذا َّ‬
‫غري أهله فانتظر الساعة ‪ ،‬وقال تعاىل‪َ " :‬وإِن ُكنتُ ْم َعلَى َس َف ٍر َومَلْ جَتِ ُدواْ‬ ‫‪1‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ضا َف ْلُي َؤ ِّد الَّذي ْاؤمُت َن أ ََما َنتَهُ‬ ‫وضةٌ فَِإ ْن أَم َن َب ْع ُ‬
‫ض ُكم َب ْع ً‬ ‫َكاتبًا فَ ِر َها ٌن َّم ْقبُ َ‬
‫مِث‬
‫َّه َادةَ َو َمن يَ ْكتُ ْم َها فَِإنَّهُ آ ٌ َق ْلبُهُ َواللّهُ‬
‫َولْيَت َِّق اللّهَ َربَّهُ َوالَ تَ ْكتُ ُمواْ الش َ‬
‫يم" (البقرة ‪ ،‬آية ‪."283 :‬‬ ‫ِ‬ ‫مِب‬
‫َا َت ْع َملُو َن َعل ٌ‬
‫صلَ َواهِتِ ْم‬‫ين ُه ْم َعلَى َ‬
‫َّ ِ‬
‫س ـ المحافظة على الصلوات‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬والذ َ‬
‫حُيَافِظُو َن" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪ :)9 :‬الذين على أوقات صالهتم حيافظون‪ ،‬فال‬
‫يضيعوهنا‪ ،‬وال يشتغلون عنها حىت تفوهتم‪ ،‬ولكنهم يراعوهنا حىت يؤدوهنا‬
‫‪2‬‬

‫فيها‪ .‬روي عن عبد اهلل بن مسعود قال‪ :‬سألت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬أي العمل أفضل؟ قال‪ :‬الصالة على وقتها‪ .‬قال‪ :‬قلت" مث أي؟‬
‫قال‪ :‬بر الوالدين‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬مث أي؟ قال‪ :‬اجلهاد يف سبيل اهلل‪ .‬فما تركت‬
‫استزيده إال إرعاء عليه ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ 2‬ـ سورة الفرقان‪:‬‬


‫ض َه ْونًا َوإِ َذا َخاطََب ُه ُم‬ ‫ين مَيْ ُشو َن َعلَى اأْل َْر ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اد الرَّمْح َ ِن الذ َ‬ ‫قال تعاىل‪َ " :‬وعبَ ُ‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اهلُو َن قَالُوا َساَل ًما * والَّ ِذ ِ‬ ‫اجْل ِ‬
‫ين يَبيتُو َن لَرهِّب ْم ُس َّج ًدا َوقيَ ًاما * َوالذ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َّم إِ َّن َع َذ َاب َها َكا َن َغَر ًاما * إِنَّ َها‬ ‫اب َج َهن َ‬‫ف َعنَّا َع َذ َ‬ ‫اص ِر ْ‬ ‫َي ُقولُو َن َربَّنَا ْ‬
‫ين إِذَا أَن َف ُقوا مَلْ يُ ْس ِرفُوا َومَلْ َي ْقُتُروا َو َكا َن‬ ‫ساءت مست َقًّرا وم َقاما * والَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ ْ ُ َْ َ ُ ً َ َ‬
‫ِ‬ ‫ب َذلِك َقواما * والَّ ِ‬
‫آخَر َواَل َي ْقُتلُو َن‬ ‫ين اَل يَ ْدعُو َن َم َع اللَّه إِهَلًا َ‬ ‫ذ‬
‫َ ًَ َ َ‬ ‫َنْي َ‬
‫ِ‬
‫ك َي ْل َق أَثَ ًاما‬ ‫س الَّيِت َحَّر َم اللَّهُ إِاَّل بِاحْلَ ِّق َواَل َي ْزنُو َن َو َمن َي ْف َع ْل َذل َ‬ ‫الن ْف َ‬
‫َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب َو َآم َن‬ ‫اب َي ْو َم الْقيَ َامة َوخَي ْلُ ْد فيه ُم َهانًا * إِاَّل َمن تَ َ‬ ‫ف لَهُ الْ َع َذ ُ‬ ‫اع ْ‬
‫ضَ‬ ‫* يُ َ‬
‫ٍ‬ ‫هِتِ‬ ‫حِل‬
‫ِّل اللَّهُ َسيِّئَا ْم َح َسنَات َو َكا َن اللَّهُ‬ ‫ك يُبَد ُ‬ ‫صا ًا فَأ ُْولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫َو َعم َل َع َماًل َ‬
‫وب إِىَل اللَّ ِه َمتَابًا *‬ ‫َغ ُفورا َّر ِحيما * ومن تَاب وع ِمل حِل‬
‫صا ًا فَِإنَّهُ َيتُ ُ‬ ‫َ ََ َ َ‬ ‫ً ََ‬ ‫ً‬
‫ين إِ َذا‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ور َوإ َذا َمُّروا باللَّ ْغ ِو َمُّروا كَر ًاما * َوالذ َ‬ ‫الز َ‬‫ين اَل يَ ْش َه ُدو َن ُّ‬ ‫َوالذ َ‬
‫‪ 1‬البخاري‪ : ،‬العلم‪ ،‬الحياة في القرآن الكريم (‪.)439 ، 2‬‬
‫‪ 2‬تفسير الطبري (‪.)200 ، 9‬‬
‫‪ 3‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان رقم ‪ ، 137‬شرح النووي (‪)73 ، 2‬؟‬
‫‪187‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َي ُقولُو َن َربَّنَا‬ ‫ص ًّما َوعُ ْميَانًا * َوالذ َ‬ ‫ذُ ِّكُروا بِآيَات َرهِّب ْم مَلْ خَي ُّروا َعلَْي َها ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬‫ني إِ َم ًاما * أ ُْولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب لَنَا م ْن أ َْز َواجنَا َوذُِّريَّاتنَا ُقَّر َة أ َْعنُي ٍ َو ْ‬
‫اج َع ْلنَا ل ْل ُمتَّق َ‬ ‫َه ْ‬
‫ين فِ َيها‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صَبُروا َويُلَ َّق ْو َن ف َيها حَت يَّةً َو َساَل ًما * َخالد َ‬
‫مِب‬
‫جُيَْز ْو َن الْغُْرفَةَ َا َ‬
‫ت ُم ْسَت َقًّرا َو ُم َق ًاما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪ 63 ،‬ـ ‪.)76‬‬ ‫َح ُسنَ ْ‬
‫هذه صفات عباد اهلل املؤمنني يف احلياة الدنيا‪ ،‬الذين استوجبوا املثوبة‬
‫منه‪ ،‬وجازاهم على ذلك اجلزاء العظيم فمن هذه الصفات‪:‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين مَيْ ُشو َن َعلَى‬ ‫اد الرَّمْح َ ِن الذ َ‬ ‫أ ـ السكينة والوقار‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬وعبَ ُ‬
‫ض" "الفرقان ‪ ،‬آية ‪ ."63 :‬أي‪ :‬بالسكينة والوقار غري مستكربين‪ ،‬وال‬ ‫اأْل َْر ِ‬
‫متجربين‪ ،‬وال ساعني فيها بالفساد ومعاصي اهلل ‪ .‬فاملؤمنون قوم ال‬
‫‪1‬‬

‫يريدون يف األرض علواَ‪ ،‬وال يبغون فيها كذلك فساداً قال تعاىل‪" :‬تِْل َ‬
‫ك‬
‫َّار اآْل ِخَرةُ جَنْ َعلُ َها‬
‫الد ُ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫يدو َن عُلًُّوا يِف اأْل َْر ِ‬ ‫ِِ‬
‫ني" "القصص‪،‬‬ ‫ض َواَل فَ َس ًادا َوالْ َعاقبَةُ ل ْل ُمتَّق َ‬ ‫ين اَل يُِر ُ‬‫للَّذ َ‬
‫آية‪."83 :‬‬
‫ويف بيان املعىن الصحيح للسكينة والوقار‪ ،‬ليس املراد أهنم ميشون‬
‫كاملرضى تصنعاً ورياء‪ ،‬فقد كان سيد ولد آدم ـ صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ـ إذا مشى كأمنا ينحط من صبب‪ ،‬وكأمنا األرض تطوى له‪،‬‬
‫وقد كره بعض السلف املشي بتضعف‪ ،‬وتصنع ‪ .‬وتبني أن املؤمنني يف‬
‫‪2‬‬

‫احلياة الدنيا يتميزون عن غريهم بالسكينة والوقار والتواضع‪ ،‬وهم ال‬


‫يستكربون‪ ،‬وال يتجربون‪ ،‬وال يسعون فيها بالفساد‪ ،‬ذلك ألن الكرب له‬
‫خطورته البالغة على احلياة البشرية‪ ،‬فال يبقى يف حالة وجود الكرب‬
‫إحرتام ألحد‪ ،‬وال هيبة ألحد‪ ،‬وال حرمة ألحد‪ ،‬وال أدب ألحد ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َه ْونًا‬ ‫ين مَيْ ُشو َن َعلَى اأْل َْر ِ‬ ‫اد الرَّمْح َ ِن الذ َ‬ ‫ج ـ الحلم‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬وعبَ ُ‬
‫اهلُو َن قَالُوا َساَل ًما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪ :)63 :‬هم حلماء ال‬ ‫وإِ َذا خاطَبهم اجْل ِ‬
‫َ َُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬تفسير الطبري (‪)407 / 9‬‬
‫‪ 2‬تفسير ابن كثير (‪.)279 / 3‬‬
‫‪ 3‬الحياة في القرآن الكريم (‪.)443 / 2‬‬
‫‪188‬‬
‫جيهلون‪ ،‬وإن ُجهل عليهم حلموا وال يسفهوا‪ ،‬هذا هنارهم‪ ،‬فكيف‬
‫ليلهم؟ خري ليل‪ ،‬صفوا أقدامهم‪ ،‬وأجروا دموعهم على خدودهم يطلبون‬
‫من اهلل جل ثناؤه فكاك رقاهبم ‪ ،‬واحللم من اخلصال احملمودة واليت‬ ‫‪1‬‬

‫حيبها اهلل عز وجل‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ألشبح عبد‬
‫القيس‪ :‬أن فيك خصلتني حيبهما اهلل احللم واألناة ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ح ـ إحياء الليل بالصالة‪ :‬من صفات عباد اهلل املؤمنني يف احلياة‬


‫الدنيا إحياؤهم الليل أو أكثره بالصالة والطاعة‪ ،‬وقد ذكر اهلل سبحانه‬
‫ين يَبِيتُو َن‬ ‫َّ ِ‬
‫هذه الصفة للمؤمنني يف آيات كثرية‪ ،‬منها قوله تعاىل‪َ " :‬والذ َ‬
‫لَِرهِّبِ ْم ُس َّج ًدا َوقِيَ ًاما" )الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)64 :‬‬
‫ين إِ َذا ذُ ِّكُروا هِبَا َخُّروا ُس َّج ًدا‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِمَّن‬
‫ـ قال تعاىل‪ " :‬إ َا يُ ْؤم ُن بآيَاتنَا الذ َ‬
‫اج ِع‬‫وسبَّحوا حِب م ِد رهِّبِم وهم اَل يست ْكرِب و َن * َتتجاىَف جنوبهم ع ِن الْمض ِ‬
‫ُُ ُ ُ ْ َ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫َ َ ُ َْ َ ْ َ ُ ْ‬
‫اه ْم يُ ِنف ُقو َن" (السجدة ‪ ،‬آية ‪ 15 :‬ـ‬ ‫مِم‬
‫يَ ْدعُو َن َربَّ ُه ْم َخ ْوفًا َوطَ َم ًعا َو َّا َر َز ْقنَ ُ‬
‫‪.)16‬‬
‫َس َحا ِر ُه ْم‬ ‫ِ‬
‫ـ وقوله سبحانه‪َ " :‬كانُوا قَلياًل ِّم َن اللَّْي ِل َما َي ْه َجعُو َن * َوبِاأْل ْ‬
‫يَ ْسَت ْغ ِفُرو َن" (الذاريات ‪ ،‬آية ‪ 17‬ـ ‪.)18‬‬
‫ـ وهم يف صالهتم وعبادهتم متتلئ قلوهبم بالتقوى واخلوف من عذاب‬
‫جهنم‪ ،‬فهم يتوجهون إىل رهبم تضرعاً وخفية‪ ،‬ليصرف عنهم عذاهبا‪،‬‬
‫َّم إِ َّن َع َذ َاب َها‬ ‫اص ِر ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب َج َهن َ‬
‫ف َعنَّا َع َذ َ‬ ‫ين َي ُقولُو َن َربَّنَا ْ‬ ‫قال تعاىل‪َ :‬والذ َ‬
‫اءت ُم ْسَت َقًّرا َو ُم َق ًاما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪ 65 :‬ـ ‪.)66‬‬ ‫َكا َن َغَر ًاما * إِنَّ َها َس ْ‬
‫َش ُّد َو ْطءًا َوأَْق َو ُم قِياًل " (املزمل ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اشئَةَ اللَّْي ِل ه َي أ َ‬ ‫ـ قال تعاىل ‪" :‬إِ َّن نَ ِ‬
‫آية ‪.)6 :‬‬
‫فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش‪ ،‬بعد كد النهار‪ ،‬أشد وطأَ‬
‫وأجهد للبدن ولكنها إعالن لسيطرة الروح‪ ،‬وإستجابة لدعوة اهلل وإيثار‬

‫‪ 1‬تفسير الطبري (‪.)409 / 9‬‬


‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان‪ ،‬باب األمر باإليمان باهلل رقم ‪.25‬‬
‫‪189‬‬
‫لإلنس به‪ ،‬ومن مث فإهنا أقوم قيالً‪ ،‬ألن للذكر فيها حالوته وللصالة‬
‫فيها خشوعها‪ ،‬وللمناجاة فيها شفافيتها‪ ،‬وأهنا لتكسب يف القلب إنساً‬
‫وراحة وشفافية ونوراً‪ ،‬قد ال جيدها يف صالة النهار وذكره‪ ،‬واهلل‬
‫الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره‪ ،‬ويعلم ما يتسرب إليه‬
‫وما يوقع عليه‪ ،‬وأي األوقات يكون فيها أكثر تفتحاً وإستعداداً وهتيؤاً‪،‬‬
‫وأي األسباب أعلق به وأشد تأثرياً فيه ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ر ـ القصد واالعتدال في اإلنفاق‪ :‬ومن صفات املؤمنني يف احلياة‬


‫الدنيا القصد واالعتدال والتوازن يف اإلنفاق وهم ليسوا مببذرين يف‬
‫إنفاقهم‪ ،‬فال ينفقون فوق احلاجة‪ ،‬وال خبالء على أهليهم‪ ،‬فيقصرون يف‬
‫حقهم وال يكفوهنم‪ ،‬بل عدالً خياراً‪ ،‬وخري األمور أوسطها‪ ،‬ال هذا‬
‫ين إِ َذا أَن َف ُقوا مَلْ يُ ْس ِرفُوا َومَلْ َي ْقُتُروا َو َكا َن‬ ‫َّ ِ‬
‫وال هذا قال تعاىل‪َ " :‬والذ َ‬
‫ك َق َو ًاما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)67 :‬‬ ‫ِ‬
‫َبنْي َ َذل َ‬
‫ز ـ عدم الشرك باهلل والتحرج عن قتل النفس والزنا‪ :‬ومن‬
‫صفات عباد اهلل املؤمنني يف احلياة الدنيا أهنم ال يشركون باهلل‪ ،‬بل‬
‫خيلصون هلل العبادة ويفردونه بالطاعة‪ ،‬وال يقتلون النفس إال باحلق الذي‬
‫يزيل حرمتها وعصمتها‪ ،‬كالكفر باهلل بعد إسالمها‪ ،‬أم الزنا بعد‬
‫‪2‬‬
‫إحصاهنا‪ ،‬أو قتل النفس‪ ،‬وتقتل هبا ‪.‬‬
‫الن ْفس الَّيِت‬ ‫َّ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ق‬
‫ْ‬ ‫ي‬ ‫اَل‬‫و‬ ‫ر‬ ‫آخ‬
‫َ‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫هَل‬‫قال تعاىل‪" :‬والَّ ِذين اَل ي ْدعُو َن مع اللَّ ِه إِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫ف‬‫اع ْ‬‫ضَ‬ ‫ك َي ْل َق أَثَ ًاما * يُ َ‬ ‫َحَّر َم اللَّهُ إِاَّل بِاحْلَ ِّق َواَل َي ْزنُو َن َو َمن َي ْف َع ْل َذل َ‬
‫اب َو َآم َن َو َع ِم َل‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب َي ْو َم الْقيَ َامة َوخَي ْلُ ْد فيه ُم َهانًا * إِاَّل َمن تَ َ‬ ‫لَهُ الْ َع َذ ُ‬
‫ٍ‬ ‫هِتِ‬ ‫حِل‬
‫ِّل اللَّهُ َسيِّئَا ْم َح َسنَات َو َكا َن اللَّهُ َغ ُف ً‬
‫ورا‬ ‫صا ًا فَأ ُْولَئِ َ‬
‫ك يُبَد ُ‬ ‫َع َماًل َ‬
‫وب إِىَل اللَّ ِه َمتَابًا" (الفرقان ‪،‬‬ ‫َّر ِحيما * ومن تَاب وع ِمل حِل‬
‫صا ًا فَِإنَّهُ َيتُ ُ‬ ‫َ ََ َ َ‬ ‫ً ََ‬
‫آية ‪ 68 :‬ـ ‪.)71‬‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآلن (‪.)3746 / 6‬‬


‫‪ 2‬الحياة في القرآن الكريم (‪.)450 / 2‬‬
‫‪190‬‬
‫ور َوإِ َذا‬ ‫َّ ِ‬
‫الز َ‬ ‫ين اَل يَ ْش َه ُدو َن ُّ‬ ‫س ـ عدم شهادة الزور‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬والذ َ‬
‫َمُّروا بِاللَّ ْغ ِو َمُّروا كَِر ًاما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪ ،)72 :‬وشهادة الزور من أكرب‬
‫الكبائر‪ ،‬فقد صرح بذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث قال‬
‫ألصحابه‪" :‬أال أنبئكم بأكرب الكبائر ـ ثالثاً ـ‪ :‬اإلشراك باهلل‪ ،‬وعقوق‬
‫الوالدين‪ ،‬وشهادة الزور ـ أو قول الزور ـ وكان رسول اهلل صلى اهلل‬
‫‪1‬‬
‫عليه وسلم متكئاً فجلس‪ ،‬فما زال يكررها حىت قلنا‪ :‬ليته سكت ‪.‬‬
‫ات َرهِّبِ ْم‬ ‫ش ـ االنتفاع مبوعظة القرآن‪ :‬قال تعاىل‪" :‬والَّ ِذين إِذَا ذُ ِّكروا بِآي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ص ًّما َوعُ ْميَانًا" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)73 :‬‬ ‫ِ‬
‫مَلْ خَي ُّروا َعلَْي َها ُ‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫ك ـ الرغبة يف مضاعفة السالكني يف الدرب إىل اهلل‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬والذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‬ ‫ب لَنَا م ْن أ َْز َواجنَا َوذُِّريَّاتنَا ُقَّر َة أ َْعنُي ٍ َو ْ‬
‫اج َع ْلنَا ل ْل ُمتَّق َ‬ ‫َي ُقولُو َن َربَّنَا َه ْ‬
‫إِ َم ًاما" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)74 :‬‬
‫سئل احلسن البصري عن هذه اآلية‪ ،‬فقال‪ :‬أن يري اهلل العبد املسلم‬
‫من زوجته ومن أخيه ومن محيمه‪ ،‬طاعة اهلل‪ ،‬ال واهلل ال شئ أقر‬
‫لعني املسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو محيماً مطيعاً‬
‫هلل عز وجل ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ني‬ ‫ِ ِ‬
‫اج َع ْلنَا ل ْل ُمتَّق َ‬
‫وقال ابن عباس ـ رضي اهلل عنهما ـ يف قوله تعاىل‪َ " :‬و ْ‬
‫إِ َم ًاما" أئمة هدى يهتدى بنا وال جتعلنا أئمة ضاللة‪ ،‬ألنه قال ألهل‬
‫ات َوإِقَ َام‬ ‫السعادة‪" :‬وجع ْلنَاهم أَئِ َّمةً يه ُدو َن بِأَم ِرنَا وأَوحينَا إِلَي ِهم فِعل اخْل ير ِ‬
‫ْ َ ْ َ ْ ْ ْ ْ َ َْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ََ ُ ْ‬
‫اه ْم أَئِ َّمةً يَ ْدعُو َن‬ ‫ِ‬
‫الصَّاَل ة" (األنبياء ‪ ،‬آية ‪ ،)73 :‬وألهل الشقاوة‪َ " :‬و َج َع ْلنَ ُ‬
‫ِ ِ‬
‫نصُرو َن" (القصص ‪ ،‬آية ‪.)41 :‬‬ ‫إِىَل النَّا ِر َو َي ْو َم الْقيَ َامة اَل يُ َ‬
‫وقال آخرون‪ :‬هداة مهتدين دعاة إىل اخلري‪ ،‬فأحبوا أن تكون عبادهتم‬
‫متصلة بعبادة أوالدهم وذرياهتم‪ ،‬وأن يكون هداهم متعدياً إىل غريهم‬
‫بالنفع وذلك أكثر ثواباً‪ ،‬وأحسن مآبا وهلذا قال رسول اهلل صلى اهلل‬

‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان رقم ‪ ، 147‬شرح النووي (‪.)82 / 2‬‬


‫‪ 2‬الحياة في القرآن الكريم (‪.)457 / 2‬‬
‫‪191‬‬
‫عليه وسلم‪ :‬إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث‪،‬ولد صاحل‬
‫يدعوا له‪ ،‬أو علم ينتفع به من بعده‪ ،‬أو صدقة جارية ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ونكتفي هبذا القدر يف ذكر صفات املؤمنني يف احلياة الدنيا‪ ،‬فال نتوسع‬
‫خشية اإلطالة وإال فصفات املؤمنني كثرية كما ورد ذكرها يف القرآن‬
‫الكرمي‪ ،‬فمنها‪ :‬اإلخالص والصدق‪ ،‬والتوكل وحمبة اهلل واخلوف والرجاء‪،‬‬
‫والشكر‪ ،‬والصرب‪ ،‬والرضا والشجاعة وغريها من الصفات احلميدة ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ثامناً‪ :‬من فوائد اإليمان وثمراته‪:‬‬


‫إن لإلميان الصحيح فوائد ومثرات عاجلة وآجلة يف القلب والبدن‬
‫والراحة واحلياة الطيبة والدنيا واآلخرة‪ ،‬كما أن هلذه الشجرة اإلميانية‬
‫من الثمار اليانعة واجلين اللذيذ واألكل الدائم واخلري املستمر وأمور ال‬
‫حتصى وفوائد ال تستقصى وجمملها‪ ،‬أن خريات الدنيا واآلخرة ودفع‬
‫الشرور كلها من مثرات اإلميان الصحيح وذلك أن شجرة اإلميان‬
‫الصحيح إذا ثبتت وقويت أصوهلا وتفرعت فروعها وزهت أغصاهنا‪،‬‬
‫وأينعت أفناهنا‪ ،‬عادت على صاحبها وعلى غريه‪ ،‬بكل خري عاجل‬
‫وآجل ومن أعظم مثار وفوائد اإلميان‪:‬‬
‫‪1‬ـ االغتباط بوالية اهلل الخاصة‪ :‬اليت هي أعظم ما تنافس فيه‬
‫املتنافسون وأجل ما حصله املوفقون قال تعاىل‪":‬أَال إِ َّن أ َْولِيَاء اللّ ِه الَ‬
‫ين َآمنُواْ َو َكانُواْ َيَّت ُقو َن" (يونس‪ ،‬آية‪:‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َعلَْيه ْم َوالَ ُه ْم حَيَْزنُو َن * الذ َ‬‫َخ ْو ٌ‬
‫‪62‬ـ ‪ .)63‬فكل مؤمن تقي فهو هلل ويل خاصة من مثراهتا ما قاله اهلل‬
‫ُّو ِر" (البقرة‪،‬‬ ‫ُّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ خُيْر ُج ُهم ِّم َن الظلُ َمات إىَل الن ُ‬ ‫عنهم " اللّهُ َويِل ُّ الذ َ‬
‫آية‪ )257 :‬أي‪ :‬خيرجهم من ظلمات الكفر إىل نور اإلميان ومن ظلمات‬
‫اجلهل إىل نور العلم‪ ،‬ومن ظلمات املعاصي إىل نور الطاعات‪ ،‬ومن‬

‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك الوصية رقم ‪ ،1631‬شرح النووي (‪.)11/85‬‬


‫‪ 2‬الحياة في القرآن الكريم (‪.)2/459‬‬
‫‪192‬‬
‫ظلمات الغفلة إىل نور اليقظة والذكر وحاصل ذلك‪ ،‬أنه خيرجهم من‬
‫ظلمات الشرور املتنوعة إىل ما يدفعها من أنوار اخلري العاجل واآلجل‬
‫وإمنا حازوا هذا العطاء اجلزيل‪ ،‬بإمياهنم الصحيح وحتقيقهم هذا اإلميان‬
‫بالتقوى فإن التقوى من متام اإلميان ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫والتقوى من شروط والية اهلل اخلاصة‪ ،‬ومن شروط التمكني هلذه األمة‬
‫َن أَهل الْ ُقرى آمنُواْ و َّات َقواْ لََفتَحنَا علَي ِهم بر َك ٍ‬
‫ات ِّم َن‬ ‫ْ َ ْ ََ‬ ‫َ َ‬ ‫قال تعاىل‪َ ":‬ولَ ْو أ َّ ْ َ َ‬
‫اهم مِب َا َكانُواْ يَ ْك ِسبُو َن" (األعراف‪،‬‬‫َخ ْذنَ ُ‬
‫ِ‬
‫ض َولَـكن َك َّذبُواْ فَأ َ‬
‫الس َماء َواأل َْر ِ‬
‫َّ‬
‫آية‪ ،)96 :‬إن تقوى اهلل جتعل بني العبد وبني ما خيشاه من ربه ومن‬
‫غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك‪ ،‬وهي أن تعمل بطاعة اهلل‬
‫على نور من اهلل ترجو ثواب اهلل وأن ترتك معصية اهلل على نور من‬
‫اهلل ختاف عقاب اهلل وللتقوى مثرات عاجلة وآجلة منها‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ـ المخرج من كل ضيق والرزق من حيث ال يحتسبه العبد‪:‬‬


‫ث اَل‬ ‫قال تعاىل‪َ " :‬و َمن َيت َِّق اللَّهَ جَيْ َعل لَّهُ خَمَْر ًجا *و ََي ْر ُزقْهُ ِم ْن َحْي ُ‬
‫ب" (الطالق‪ ،‬آية‪.)3 ،2 :‬‬ ‫ِ‬
‫حَيْتَس ُ‬
‫ـ السهولة واليسر في كل أمر‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬و َمن َيت َِّق اللَّهَ جَيْ َعل لَّهُ‬
‫ِم ْن أ َْم ِر ِه يُ ْسًرا" (الطالق‪ ،‬آية‪.)4 :‬‬
‫ـ تيسير العلم النافع‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬و َّات ُقواْ اللّهَ َويُ َعلِّ ُم ُك ُم اللّهُ َواللّهُ بِ ُك ِّل‬
‫يم" (البقرة‪ ،‬آية‪.)282 :‬‬ ‫شي ٍء علِ‬
‫َْ َ ٌ‬
‫ـ إطالق نور البصيرة‪ :‬قال تعاىل" إَن َتَّت ُقواْ اللّهَ جَيْ َعل لَّ ُك ْم ُف ْرقَاناً"‬
‫(األنفال ‪ ،‬آية ‪.)29 :‬‬
‫ـ محبة اهلل ومحبة المالئكة والقبول في األرض‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬بلَى‬
‫ني" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َم ْن أ َْوىَف بِ َع ْه ِد ِه َو َّات َقى فَِإ َّن اللّهَ حُيِ ُّ‬
‫ب الْ ُمتَّق َ‬
‫‪.)76‬‬
‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ ‪.64 ،63‬‬
‫‪ 2‬فقه النصر والتمكين للصّ اّل بي صـ ‪.204‬‬
‫‪193‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إذا احب اهلل العبد قال جربيل‪:‬‬
‫قد احببت فالناً فأحبه‪ ،‬فيحبه جربيل عليه السالم‪ ،‬مث ينادي يف أهل‬
‫السماء‪ ،‬إن اهلل قد أحب فالناً فأحبوه‪ ،‬فيحبه أهل السماء مث يوضع‬
‫له القبول يف األرض‪.1‬‬
‫ـ نصرة اهلل عز وجل وتأييده وتسديده‪:‬‬
‫وهي املعية املقصودة بقول اهلل عز وجل‪َ ":‬و َّات ُقواْ اللّهَ َو ْاعلَ ُمواْ أ َّ‬
‫َن اللّهَ‬
‫ني" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ .)194 :‬فهذه املعية هي معية التأييد والنصرة‬ ‫ِ‬
‫َم َع الْ ُمتَّق َ‬
‫والتسديد وهي معية اهلل عز وجل ألنبيائه وأوليائه ومعيته للمتقني‬
‫والصابرين وهي تقتضي التأييد واحلفظ واإلعانة كما قال تعاىل ملوسى‬
‫وهارون‪ ":‬قَ َال اَل خَتَافَا إِنَّيِن َم َع ُك َما أَمْسَ ُع َوأ ََرى" (طه ‪ ،‬آية ‪.)46 :‬‬
‫أما املعية العامة مثل قوله تعاىل‪َ ":‬و ُه َو َم َع ُك ْم أَيْ َن َما ُكنتُ ْم" (احلديد ‪،‬‬
‫آية ‪ ،)4 :‬وقوله‪َ ":‬والَ يَ ْستَ ْخ ُفو َن ِم َن اللّ ِه َو ُه َو َم َع ُه ْم إِ ْذ يَُبيِّتُو َن َما الَ‬
‫ضى ِم َن الْ َق ْو ِل" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)108 :‬‬ ‫َي ْر َ‬
‫واملعية العامة تستوجب من العبد احلذر واخلوف ومراقبة اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ـ الحفظ من كيد األعداء ومكرهم‪:‬‬
‫ضُّر ُك ْم َكْي ُد ُه ْم َشْيئًا إِ َّن اللّهَ مِب َا‬
‫صرِب ُواْ َوَتَّت ُقواْ الَ يَ ُ‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬وإِن تَ ْ‬
‫ط" (آل عمران‪ ،‬آية‪.)120 :‬‬ ‫َي ْع َملُو َن حُمِ ي ٌ‬
‫ـ حفظ الذرية الضعاف بعناية اهلل تعالى‪:‬‬
‫ين لَ ْو َتَر ُكواْ ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم ذُِّريَّةً ِض َعافًا َخافُواْ‬ ‫قال تعاىل‪":‬ولْيخ َّ ِ‬
‫ش ال ذ َ‬ ‫ََْ َ‬
‫يدا" (النساء‪ ،‬آية‪ .)9 :‬ويف اآلية‬ ‫َعلَْي ِه ْم َف ْليََّت ُقوا اللّهَ َولَْي ُقولُواْ َق ْوالً َس ِد ً‬
‫إشارة إىل إرشاد املسلمني الذين خيشون ترك ذرية ضعافاً إىل التقوى‬
‫يف سائر شؤوهنم حىت حتفظ أبناءهم ويدخلوا حتت حفظ اهلل وعنايته‪،‬‬
‫واآلية تشعر بالتهديد بضياع أوالدهم إن فقدوا تقوى اهلل‪ ،‬وإشارة إىل‬

‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك البر والصلة واآلداب (‪ )4/2030‬رقم ‪.2637‬‬


‫‪194‬‬
‫أن تقوى األصول حتفظ الفروع وأن الرجال الصاحلني حيفظون يف‬
‫يمنْي ِ يِف‬‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ذريتهم الضعاف كما يف آية‪َ ":‬وأ ََّما اجْل َد ُار فَ َكا َن لغُاَل َمنْي يَت َ‬
‫صاحِلًا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ِ ِ‬
‫الْ َمدينَة َو َكا َن حَتْتَهُ َك ٌنز هَّلَُما َو َكا َن أَبُومُهَا َ‬
‫‪ .)82‬فإن الغالمني حفظا بربكة أبيهما يف أنفسهما وماهلما‪.1‬‬
‫ـ سبب لقبول األعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا‬
‫واآلخرة‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪ ":‬إِمَّنَا َيَت َقبَّ ُل اللّهُ م َن الْ ُمتَّق َ‬
‫ني" (املائدة‪ ،‬آية‪.)27 :‬‬
‫ـ سبب النجاة من عذاب الدنيا‪:‬‬
‫َخ َذ ْت ُه ْم‬
‫استَ َحبُّوا الْ َع َمى َعلَى اهْلَُدى فَأ َ‬
‫اه ْم فَ ْ‬
‫َف َه َد ْينَ ُ‬ ‫ود‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬وأ ََّما مَثُ ُ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫مِب‬ ‫اب اهْل ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُوا َو َكانُوا‬ ‫َا َكانُوا يَ ْكسبُو َن * َوجَنَّْينَا الذ َ‬ ‫ون‬ ‫صاع َقةُ الْ َع َذ ِ ُ‬ ‫َ‬
‫‪17 :‬ـ ‪18‬‬ ‫َيَّت ُقو َن" (فصلت ‪ ،‬آية‬
‫ـ تكفير السيئات‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬و َمن َيت َِّق اللَّهَ يُ َكف ِّْر َعْنهُ َسيِّئَاته َويُ ْعظ ْم لَهُ أ ْ‬
‫َجًرا" (الطالق ‪،‬‬
‫آية ‪.)5 :‬‬
‫ـ ميراث الجنة‪:‬‬
‫ث ِم ْن ِعبَ ِادنَا َمن َكا َن تَِقيًّا" (مرمي ‪ ،‬آية‬ ‫قال تعاىل‪":‬تِْل َ‬
‫ك اجْلَنَّةُ الَّيِت نُو ِر ُ‬
‫‪ ،)63 :‬فهم الورثة الشرعيون جلنة اهلل عز وجل وهم ال يذهبون إىل‬
‫اجلنة سرياً على أقدامهم بل حيشرون إليها ركباناً مع أن اهلل عز وجل‬
‫يقرب إليهم اجلنة حتية هلم ودفعاً ملشقتهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪ ":‬وأ ُْزلَِف ِ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫يد" (ق ‪ ،‬آية ‪ ،)31 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬ي ْو َم حَنْ ُشُر‬ ‫اجْل نَّةُ لِْلمت َِّقني َغير بعِ ٍ‬
‫ُ َ َْ َ‬ ‫َ‬
‫ني إِىَل الرَّمْح َ ِن َوفْ ًدا" (مرمي ‪ ،‬آية ‪.)85 :‬‬ ‫ِ‬
‫الْ ُمتَّق َ‬
‫ـ تجمع بين المتحابين من أهلها‪:‬‬

‫‪ 1‬محاسن التأويل للقاسمي (‪.)5/47‬‬


‫‪195‬‬
‫ِ‬ ‫ض ُه ْم لَِب ْع ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (الزخرف ‪،‬‬ ‫ض َع ُد ٌّو إِاَّل الْ ُمتَّق َ‬ ‫قال تعاىل‪ ":‬اأْل َخاَّل ء َي ْو َمئذ َب ْع ُ‬
‫آية ‪.)67 :‬‬
‫ومن بركة التقوى أن اهلل عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوهبم من‬
‫الضغائن والغل فتزداد مودهتم وتتم حمبتهم وصحبتهم قال تعاىل‪":‬إِ َّن‬
‫ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وها بِ َسالٍَم آمن َ‬
‫ني * َو َنَز ْعنَا َما يِف‬ ‫ني يِف َجنَّات َوعُيُون * ْاد ُخلُ َ‬ ‫الْ ُمتَّق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (احلجر ‪ ،‬آية ‪ 45 :‬ـ‬ ‫ص ُدو ِرهم ِّم ْن غ ٍّل إِ ْخ َوانًا َعلَى ُسُر ٍر ُّمَت َقابِل َ‬ ‫ُ‬
‫‪.)47‬‬
‫إن هذه الثمار العظيمة عندما متس شغاف قلوب املسلمني تضفي على‬
‫األمة فيضاً ربانياً موصوالً باهلل متصل حلقة الدنيا باآلخرة‪ ،‬كما أن‬
‫احلرص على تقوى اهلل تعاىل يكسب صفوف األمة صفات رفيعة‬
‫وأخالقاً محيدة‪ ،‬ومكارم نفيسة جتعل هذه األمة مؤهلة لقيادة البشرية‬
‫حنو سعادهتا‪.‬‬
‫‪2‬ـ الفوز برضا اهلل تعالى‪ :‬ومن مثرات اإلميان الفوز برضا اهلل‪ ،‬ودار‬
‫كرامته‪:‬‬
‫ض يأْمرو َن بِالْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وف‬ ‫َ ُْ‬ ‫ض ُه ْم أ َْوليَاء َب ْع ٍ َ ُ ُ‬‫ات َب ْع ُ‬
‫قال تعاىل‪َ ":‬والْ ُم ْؤمنُو َن َوالْ ُم ْؤمنَ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصالَةَ َويُ ْؤتُو َن َّ‬
‫الز َكاةَ َويُطيعُو َن اللّهَ‬ ‫يمو َن َّ‬ ‫َو َيْن َه ْو َن َع ِن الْ ُمن َك ِر َويُق ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َر ُسولَهُ أ ُْولَـئِ َ‬
‫ني‬
‫يم َو َع َد اللّهُ الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫ك َسَي ْرمَحُ ُه ُم اللّهُ إ َّن اللّهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫ين فِ َيها َو َم َساكِ َن طَيِّبَةً‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َوالْ ُم ْؤمنَات َجنَّات جَتْ ِري من حَتْت َها األَْن َه ُار َخالد َ‬
‫ِ ِ‬
‫َّات َع ْد ٍن" (التوبة ‪ ،‬آية ‪ )71 :‬فنالوا رضا رهبم ورمحته‪ ،‬والفوز‬ ‫يِف جن ِ‬
‫َ‬
‫هبذه املساكن الطيبة‪ ،‬بإمياهنم الذي كملوا به أنفسهم وكملوا غريهم‬
‫بقيامهم بطاعة اهلل وطاعة رسوله‪ ،‬واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪،‬‬
‫أجل الوسائل‪ ،‬وأفضل الغايات وذلك فضل اهلل‪.1‬‬ ‫فاستولوا على ّ‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ ‪.65‬‬


‫‪196‬‬
‫‪3‬ـ دفاع اهلل عن المؤمنين‪ :‬من مثرات اإلميان‪ ،‬أن اهلل يدفع عن‬
‫املؤمنني مجيع املكاره وينجيهم من الشدائد كما قال تعاىل‪":‬إِ َّن اللَّهَ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُوا" (احلج ‪ ،‬آية ‪ ،)38 :‬أي‪ :‬يدافع عنهم كل‬ ‫يُ َداف ُع َع ِن الذ َ‬
‫مكروه‪ ،‬يدافع عنهم شر شياطني اإلنس وشياطني اجلن‪ ،‬ويدافع عنهم‬
‫األعداء ويدافع عنهم املكاره قبل نزوهلا‪ ،‬ويرفعها أو خيفضها بعد‬
‫نزوهلا‪ ،‬وملا ذكر تعاىل ما وقع فيه يونس ـ عليه الصالة والسالم ـ‬
‫نت ِم َن‬ ‫ِ‬
‫ك إِيِّن ُك ُ‬ ‫َنت ُسْب َحانَ َ‬‫وأنه‪َ ":‬فنَ َادى يِف الظُّلُ َمات أَن اَّل إِلَهَ إِاَّل أ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ني" (األنبياء‬ ‫ك نُنجي الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫استَ َجْبنَا لَهُ َوجَنَّْينَاهُ ِم َن الْغَ ِّم َو َك َذل َ‬
‫ني * فَ ْ‬ ‫الظَّالم َ‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)88 ، 87 :‬إذا وقعوا يف الشدائد‪ ،‬كما اجنينا يونس عليه‬
‫السالم‪ .‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬دعوة أخي يونس ما دعا هبا‬
‫مكروب إال فرج اهلل عنه كربته‪ :‬ال إله إال أنت سبحانك إين كنت‬
‫من الظاملني‪.1‬‬
‫‪4‬ـ الحياة الطيبة‪ :‬ومن مثار اإلميان احلياة الطيبة يف هذه الدار ويف‬
‫صاحِلًا ِّمن ذَ َك ٍر أ َْو أُنثَى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن‬ ‫ِ‬
‫دار القرار قال تعاىل‪َ ":‬م ْن َعم َل َ‬
‫َح َس ِن َما َكانُواْ َي ْع َملُو َن" (النحل‬ ‫َجَر ُهم بِأ ْ‬ ‫َفلَنُ ْحيَِينَّهُ َحيَاةً طَيِّبَةً َولَنَ ْج ِز َين ُ‬
‫َّه ْم أ ْ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)97 :‬‬
‫هذا وعد رباين ملن مجع بني اإلميان والعمل الصاحل‪ ،‬بأن يتفضل اهلل‬
‫عز وجل عليه باحلياة الطيبة‪ ،‬كما أن اهلل سبحانه قد شيد يف موضع‬
‫آخر صرح احلياة الناجحة على أساس اإلميان الصحيح والعمل الصاحل‪،‬‬
‫نسا َن لَِفي ُخ ْس ٍر" (العصر‪ ،‬آية ‪1 :‬ـ ‪.)3‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ":‬والْ َع ْ ِ ِ ِ‬
‫صر * إ َّن اإْل َ‬
‫إن اإلميان أساس احلياة الطيبة‪ ،‬ذلك ألنه جيعل صاحبه ثابتاً عالياً مثمراً‬
‫يف حياته‪ ،‬ثابتاً ال تزعزعه األعاصري وال تعصف به رياح الباطل‪ ،‬وال‬
‫تقوى عليه معاول الطغيان ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 1‬الجامع الصغير (‪.)2/14‬‬


‫‪ 2‬الحياة في القرآن الكريم صـ ‪.493‬‬
‫‪197‬‬
‫‪5‬ـ حصول البشارة بكرامة اهلل‪ :‬واألمن التام من مجيع الوجوه كما‬
‫قال تعاىل‪":‬وبشر املؤمنني" فأطلقها ليعم اخلري العاجل واآلجل وقيدها يف‬
‫َن هَل م جن ٍ‬ ‫مثل قوله تعاىل‪ ":‬وب ِّش ِر الَّ ِذين آمنُواْ وع ِملُواْ َّ حِل ِ‬
‫َّات‬ ‫الصا َات أ َّ ُ ْ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫ََ‬
‫جَتْ ِري ِمن حَتْتِ َها األَْن َه ُار" " (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)25 :‬فلهم البشارة املطلقة‬
‫واملقيدة وهلم األمن املطلق يف يف مثل قوله تعاىل‪" :‬الذين آمنوا ومل‬
‫يلبسوا إمياهنم بظلم أولئك هلم األمن وهم مهتدون" (األنعام ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪.)82‬‬
‫ف‬‫َصلَ َح فَالَ َخ ْو ٌ‬ ‫وهلم األمن املقيد يف مثل قوله تعاىل‪ ":‬فَ َم ْن َآم َن َوأ ْ‬
‫َعلَْي ِه ْم َوالَ ُه ْم حَيَْزنُون" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)48 :‬فنفى عنهم اخلوف ملا‬
‫يستقبلونه واحلزن مما مضى عليهم وبذلك يتم هلم األمن‪ ،‬فاملؤمن له‬
‫األمن التام يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬أمن من سخط اهلل وعقابه وأمن من‬
‫مجيع املكاره والشرور وله البشارة الكاملة بكل خري كما قال تعاىل‪":‬‬
‫اآلخَر ِة" (يونس ‪ ،‬آية ‪.)64 :‬‬ ‫ِ‬ ‫الد ْنيَا َويِف‬
‫ياة ُّ‬ ‫هَل م الْب ْشرى يِف احْل ِ‬
‫َ‬ ‫ُُ ُ َ‬
‫ات إِنَّا‬ ‫الصاحِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ َ‬ ‫ويوضح هذه البشارة قوله تعاىل‪ ":‬إ َّن الذ َ‬
‫َّات َع ْد ٍن جَتْ ِري ِمن‬ ‫ك هَلُ ْم َجن ُ‬ ‫َح َس َن َع َماًل * أ ُْولَئِ َ‬ ‫َجَر َم ْن أ ْ‬‫يع أ ْ‬
‫ِ‬
‫اَل نُض ُ‬
‫ب َو َي ْلبَ ُسو َن ثِيَابًا ُخ ْ‬ ‫َسا ِور ِمن ذَ َه ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ضًرا‬ ‫حَتْته ُم اأْل َْن َه ُار حُيَلَّ ْو َن ف َيها م ْن أ َ َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫َّكئِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ت‬ ‫اب َو َح ُسنَ ْ‬ ‫ني ف َيها َعلَى اأْل ََرائك ن ْع َم الث ََّو ُ‬ ‫ند ٍس َوإِ ْستَْبَرق ُّمت َ‬ ‫ِّمن ُس ُ‬
‫ُم ْرَت َف ًقا إن" (فصلت ‪ ،‬آية ‪30 :‬ـ ‪.)31‬‬
‫ين َآمنُوا َّات ُقوا اللَّهَ َو ِآمنُوا بَِر ُسولِِه يُ ْؤتِ ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫وقال تعاىل‪ " :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ور‬‫ورا مَتْ ُشو َن به َو َي ْغف ْر لَ ُك ْم َواللَّهُ َغ ُف ٌ‬ ‫ك ْفلَنْي من رَّمْح َته َوجَيْ َعل ل ُك ْم نُ ً‬
‫يم" (احلديد ‪ ،‬آية ‪ ،)28 :‬فرتب على اإلميان حصول الثواب‬ ‫ِ‬
‫َّرح ٌ‬
‫املضاعف‪ ،‬وكمال النور الذي ميشي به العبد يف حياته وميشي به يوم‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ور ُهم َبنْي َ‬ ‫ني َوالْ ُم ْؤمنَات يَ ْس َعى نُ ُ‬ ‫القيامة‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬ي ْو َم َتَرى الْ ُم ْؤمن َ‬
‫َّات جَتْ ِري ِمن حَتْتِ َها اأْل َْن َه ُار" (احلديد ‪،‬‬ ‫هِنِ‬ ‫ِ‬
‫أَيْدي ِه ْم َوبِأَمْيَا م بُ ْشَرا ُك ُم الَْي ْو َم َجن ٌ‬
‫‪198‬‬
‫آية ‪ ،)12 :‬فاملؤمن من ميشي يف الدنيا بنور علمه وإميانه‪ ،‬وإذا طفئت‬
‫األنوار يوم القيامة‪ ،‬مشى بنوره على الصراط حىت جيوز به إىل دار‬
‫الكرامة والنعيم وكذلك رتب املغفرة على اإلميان‪ ،‬ومن غفرت سيئاته‪،‬‬
‫سلم من العقاب ونال أعظم الثواب ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪6‬ـ حصول الفالح والهدى‪ :‬ومن مثرات اإلميان حصول الفالح الذي‬
‫هو‪ ،‬إدراك غاية الغايات‪ ،‬فإنه إدراك كل مطلوب والسالمة من كل‬
‫مرهوب‪ ،‬واهلدى الذي هو أشرف الوسائل‪ ،‬كما قال تعاىل‪ ،‬بعد ذكره‬
‫املؤمنني مبا أنزل على حممد صلى اهلل عليه وسلم وما أنزل على من‬
‫قبله واإلميان بالغيب‪ ،‬وإقامة الصالة وإيتاء الزكاة‪ :‬اللتني مها من أعظم‬
‫ك َعلَى ُه ًدى ِّمن َّرهِّبِ ْم َوأ ُْولَـئِ َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫آثار اإلميان قال تعاىل‪":‬أ ُْولَـئِ َ‬
‫الْ ُم ْفلِ ُحو َن" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)5 :‬فال سبيل إىل اهلدى والفالح‪ ،‬اللذين ال‬
‫صالح وال سعادة إال هبما‪ ،‬إال باإلميان التام بكل كتاب أنزله‪ ،‬وبكل‬
‫أجل الوسائل‪ ،‬والفالح أكمل الغايات ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫رسول أرسله اهلل‪ ،‬فاهلدى ّ‬
‫‪7‬ـ االنتفاع بالمواعظ والتذكير‪ :‬ومن مثرات اإلميان االنتفاع باملواعظ‬
‫ني" (الذاريات‬ ‫ِِ‬ ‫والتذكري واآليات قال تعاىل‪":‬وذَ ِّك ْر فَِإ َّن ِّ‬
‫الذ ْكَرى تَن َف ُع الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫َ‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)55 :‬ألن اإلميان حيمل صاحبه على التزام احلق واتباعه‪ ،‬علماً‬
‫وعمالً وكذلك معه اآللة العظيمة واالستعداد لتلقي املواعظ النافعة‬
‫واآليات الدالة على احلق وليس عنده مانع مينعه من قبول احلق‪ ،‬وال‬
‫من العمل به كما أن اإلميان يوجب سالمة الفطرة‪ ،‬وحسن القصد‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫ومن كان كذلك انتفع باآليات ‪.‬‬
‫‪8‬ـ قطع الشكوك التي تضر بالدين‪ :‬ومنها أن اإلميان يقطع‬
‫الشكوك اليت تعرض لكثري من الناس فتضر بدينهم قال تعاىل‪ ":‬إِمَّنَا‬
‫ين َآمنُوا بِاللَّ ِه َو َر ُسولِِه مُثَّ مَلْ َي ْرتَابُوا" (احلجرات ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫الْ ُم ْؤمنُو َن الذ َ‬
‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ ‪79‬‬
‫‪ 2‬شجرة اإليمان صـ ‪.80‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.80‬‬
‫‪199‬‬
‫‪ ،)15‬أي‪ :‬دفع اإلميان الصحيح الذي معهم الريب والشك املوجود‬
‫وأزاله بالكلية‪ ،‬وقاوم الشكوك اليت تلقيها شياطني اإلنس واجلن‪،‬‬
‫األمارة بالسوء‪ ،‬فليس هلذه العلل املهلكة دواء إال حتقيق اإلميان‬ ‫والنفوس ّ‬
‫وهلذا ثبت يف الصحيحني‪ ،‬من حديث أيب هريرة أن النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال‪ :‬ال يزال الناس يتساءلون‪ ،‬حىت يقال هذا‪ :‬اهلل خلق‬
‫اخللق‪ ،‬فمن خلق اهلل؟ فمن وجد ذلك‪ ،‬فليقل آمنت باهلل‪ ،‬ولينته‪،‬‬
‫وليتعوذ باهلل من الشيطان‪.‬‬
‫فذكر صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬هذا الدواء النافع هلذا الداء املهلك‪ ،‬وهو‬
‫ثالثة أشياء‪ :‬االنتهاء عن هذه الوساوس الشيطانية‪ ،‬واالستعاذة من شر‬
‫من ألقاها وشبّه هبا‪ :‬ليضل هبا العباد‪ ،‬واالعتصام بعصمة اإلميان الصحيح‬
‫الذي من اعتصم به‪ ،‬كان من اآلمنني‪ ،‬وذلك ألن الباطل يتضح‬
‫بطالنه بأمور كثرية‪ ،‬أعظمها‪ ،‬العلم أنه مناف للحق‪ ،‬وكل ما ناقض‬
‫احلق فهو باطل " فَ َما َذا َب ْع َد احْلَ ِّق إِالَّ َّ‬
‫الضالَ ُل" (يونس ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪9‬ـ ملجأ المؤمنين‪:‬ـ ومن مثرات اإلميان وفوائده‪ ،‬أن اإلميان ملجأ‬
‫املؤمنني يف كل ما يلم هبم‪ ،‬من سرور وحزن وخوف وأمن‪ ،‬وطاعة‬
‫ومعصية‪ ،‬وغري ذلك من األمور اليت البد لكل أحد منها‪ ،‬فعند احملاب‬
‫والسرور يلجؤون إىل اإلميان‪ ،‬فيحمدون اهلل‪ ،‬ويثنون عليه‪ ،‬ويستعملون‬
‫النعم فيما حيب املنعم‪ ،‬وعند املكاره واألحزان‪ ،‬يلجؤون إىل اإلميان من‬
‫جهات عديدة‪ ،‬يتسلون بإمياهنم وحالوته‪ ،‬ويتسلون مبا يرتتب على ذلك‪،‬‬
‫من الثواب‪ ،‬ويقابلون األحزان والقلق‪ ،‬براحة القلب‪ ،‬والرجوع إىل احلياة‬
‫الطيبة املقاومة لألحزان واألتراح ويلجؤون إىل اإلميان عند اخلوف‬
‫فيطمئنون إليه ويزيدهم إمياناً وثباتاً‪ ،‬وقوة وشجاعة ويضمحل اخلوف‬
‫الذي أصاهبم كما قال تعاىل‪":‬الَّ ِذين قَ َال هَلُم الن ِ‬
‫َّاس قَ ْد مَجَعُواْ‬ ‫َّاس إ َّن الن َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يل* فَان َقلَبُواْ‬‫لَ ُكم فَاخ َشوهم َفزادهم إِميَاناً وقَالُواْ حسبنَا اللّه ونِعم الْوكِ‬
‫ُ َ َْ َ ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ْ ُ ْ َ َُ ْ‬
‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ ‪.84‬‬
‫‪200‬‬
‫ض ٍل" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪ ،)174 ،173 :‬لقد اضمحل‬ ‫بِنِ ْع َم ٍة ِّم َن اللّ ِه َوفَ ْ‬
‫اخلوف من قلوب هؤالء األخيار‪ ،‬وخلفه قوة اإلميان وحالوته وقوة‬
‫التوكل على اهلل والثقة بوعده ويلجؤون إىل اإلميان عند األمن‪ ،‬فال‬
‫يبطرهم وال حيدث هلم الكربياء‪ ،‬بل يتواضعون‪ ،‬ويعلمون أنه من اهلل‪،‬‬
‫ومن فضله وتيسريه فيشكرون الذي أنعم بالسبب واملسبب‪ ،‬األمن‬
‫وعز‪ ،‬أنه حبول اهلل‬ ‫وأسبابه‪ ،‬ويعلمون أنه إذا حصل هلم ظفر باألعداء ِ‬
‫وقوته وفضله ال حبوهلم وال بقوهتم ويلجؤون إىل اإلميان عند الطاعة‬
‫والتوفيق لألعمال الصاحلة‪ ،‬فيعرتضون بنعمة اهلل عليهم هبا‪ ،‬وأن نعمته‬
‫فيها أعظم من نعمة العافية والرزق وحيرصون على تكميلها وعمل كل‬
‫سبب لقبوهلا وعدم ردها أو نقصها‪ ،‬ويسألون الذي تفضل عليهم‬
‫بالتوفيق هلا‪ ،‬أن يتم عليهم نعمته بقبوهلا والذي تفضل عليهم حبصول‬
‫أصلها‪ ،‬أن يتمم هلم منها ما انتقصوه منها ويلجؤون إىل اإلميان إذا‬
‫ابتلوا بشيء من املعاصي باملبادرة إىل التوبة منها‪ ،‬وعمل ما يقدرون‬
‫ين َّات َقواْ إِذَا َم َّس ُه ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫عليه من احلسنات‪ ،‬جلرب نقصها‪ ،‬قال تعاىل‪ِ ":‬إ َّن الذ َ‬
‫صُرو َن" (األعراف‪ ،‬آية ‪.)201 :‬‬ ‫ان تَ َذ َّكرواْ فَِإذَا هم ُّمب ِ‬
‫ف ِّمن الشَّيطَ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫طَائِ‬
‫ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فاملؤمن جيول ما جيول يف الغفلة والتجرئ على بعض اآلثام‪ ،‬مث يعود‬
‫سريعاً إىل اإلميان الذي بىن عليه أموره كلها‪ ،‬فاملؤمنون يف مجيع‬
‫تقلباهتم وتصرفاهتم‪ ،‬ملجؤهم إىل اإلميان ومفزعهم إىل حتقيقه‪ ،‬ودفع ما‬
‫‪1‬‬
‫ومنّه ‪.‬‬
‫ينافيه ويضاده‪ ،‬وذلك من فضل اهلل عليهم َ‬
‫‪10‬ـ المنع من الوقوع في الموبقات المهلكة‪ :‬ومنها أن اإلميان‬
‫الصحيح مينع العبد من الوقوع يف املوبقات املهلكة‪ ،‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ال يزين الزاين ـ حني يزين ـ وهو مؤمن‪ ،‬وال‬
‫يسرق السارق حني يسرق وهو مؤمن‪ ،‬وال يشرب اخلمر حني يشرهبا‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ ‪.87‬‬


‫‪201‬‬
‫وهو مؤمن ‪ .‬ومن وقعت منه‪ ،‬فإنه لضعف إميانه‪ ،‬وذهاب نوره‪ ،‬وزوال‬
‫‪1‬‬

‫احلياء ممن يراه حيث هناه‪ ،‬وهذا معروف مشاهد‪ ،‬واإلميان الصادق‬
‫الصحيح‪ ،‬يصحبه احلياء من اهلل‪ ،‬واحلب له والرجاء القوي لثوابه‬
‫واخلوف من عقابه والنور الذي ينايف الظلمة وهذه األمور اليت هي من‬
‫مكمالت اإلميان ال ريب أهنا تأمر صاحبها بكل خري‪ ،‬وتزجره عن‬
‫كل قبيح‪ ،‬فأخرب أن اإلميان إذا صحبه‪ ،‬عند وجود أسباب هذه‬
‫الفواحش‪ ،‬فإن نور إميانه مينعه من الوقوع فيها‪ ،‬فإن النور الذي‬
‫يصحب اإلميان الصادق ووجود حالوة اإلميان واحلياء من اهلل‪ ،‬الذي‬
‫هو من أعظم شعب اإلميان‪ ،‬بال شك‪ ،‬مينع من مواقعة هذه‬
‫الفواحش ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪11‬ـ الشكر والصبر‪ :‬ومن فوائد ومثرات اإلميان أنه حيمل صاحبه على‬
‫الشكر يف حالة السراء‪ ،‬والصرب يف حالة الضراء وكسب اخلري يف كل‬
‫أوقاته‪ ،‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬عجباً ألمر املؤمن إن أمره كله‬
‫خري‪ ،‬إن أصابته سراء‪ ،‬شكر فكان خرياً له وإن أصابته ضراء صرب‪،‬‬
‫فكان خرياً له‪ ،‬وليس ذلك ألحد إال للمؤمن ‪ ،‬والشكر والصرب مها‬
‫‪3‬‬

‫مجاع كل خري‪ ،‬فاملؤمن مغتنم للخريات يف كل أوقاته رابح يف كل‬


‫حاالته‪ ،‬فيجتمع للمؤمن عند النعم والسراء نعمتان‪ :‬نعمة حصول ذلك‬
‫احملبوب‪ ،‬ونعمة التوفيق للشكر الذي هو أعلى من ذلك وبذلك تتم‬
‫عليه النعمة وجيتمع له عند الضراء‪ ،‬ثالث نعم‪ ،‬نعمة تكفري السيئات‬
‫ونعمة حصول مرتبة الصرب اليت هي أعلى من ذلك‪ ،‬ونعمة سهولة‬
‫الضراء عليه ألنه مىت عرف حصول األجر والثواب والتمرن على الصرب‬
‫هانت عليه وطأة املصيبة وخف عليها محلها ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫‪ 1‬مسلم (‪1/54‬ـ ‪.)56‬‬


‫‪ 2‬شجرة اإليمان صـ ‪.88‬‬
‫‪ 3‬صحيح مسلم (‪.)8/272‬‬
‫‪ 4‬شجرة اإليمان صـ ‪.82‬‬
‫‪202‬‬
‫‪12‬ـ تأثيره على األعمال واألقوال‪ :‬ومن فوائد ومثار اإلميان‪ ،‬أن‬
‫يقوم بقلب‬ ‫مجيع األعمال واألقوال إمنا تصح وتكمل حبسب ما‬
‫الشرط الذي هو‬ ‫صاحبها‪ ،‬من اإلميان واإلخالص وهلذا ذكر اهلل هذا‬
‫الصاحِل ِ‬
‫ات َو ُه َو‬ ‫أساس كل عمل‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪ ":‬فَ َمن َي ْع َم ْل ِم َن‬
‫َّ َ‬
‫ُم ْؤ ِم ٌن فَاَل ُك ْفَرا َن‬
‫لِ َس ْعيِ ِه" (األنبياء ‪ ،‬آية ‪ .)94 :‬والسعي لآلخرة هو العمل بكل ما يقرب‬
‫إليها‪ ،‬ويدين منها‪ ،‬من األعمال اليت شرعها اهلل على لسان نبيه حممد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإذا تأسست على اإلميان وانبنت عليه‪ ،‬كان‬
‫السعي مشكوراً مقبوالً مضاعفاً‪ ،‬ال يضيع منه مثقال ذرة‪ ،‬وأما إذا‬
‫فقد العمل اإلميان‪ ،‬فلوا يستغرق العامل ليله وهناره‪ ،‬فإنه غري مقبول‪،‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ورا" الفرقان‬ ‫قال تعاىل‪َ " :‬وقَد ْمنَا إىَل َما َعملُوا م ْن َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاهُ َهبَاء َّمنثُ ً‬
‫‪ ،‬آية ‪ "23 :‬وذلك ألهنا أسست على غري اإلميان باهلل ورسوله‪ ،‬والذي‬
‫روحه‪ ،‬اإلخالص باملعبود‪ ،‬واملتابعة للرسول‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬قُ ْل َه ْل نُنَبِّئُ ُكم‬
‫ض َّل َس ْعُي ُه ْم يِف احْلَيَ ِاة ُّ‬ ‫َّ ِ‬
‫الد ْنيَا َو ُه ْم حَيْ َسبُو َن‬ ‫ين َ‬
‫ين أ َْع َمااًل * الذ َ‬ ‫بِاأْل ْ‬
‫َخ َس ِر َ‬
‫ِ ِ ِ ِِ‬ ‫أَنَّهم حُي ِسنو َن صْنعا * أُولَئِ َّ ِ‬
‫ت‬‫ين َك َفُروا بِآيَات َرهِّب ْم َول َقائه فَ َحبِطَ ْ‬ ‫ك ال ذ َ‬‫َ‬ ‫ًُ‬ ‫ُْ ْ ُ‬
‫يم هَلُ ْم َي ْو َم الْ ِقيَ َام ِة َو ْزنًا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪ 103 :‬ـ‬ ‫ُ‬
‫أَعماهُل م فَاَل نُِ‬
‫ق‬ ‫ْ َ ُْ‬
‫‪ ،)105‬فهم ملا فقدوا اإلميان وحل حمله الكفر باهلل وآياته‪ ،‬حبطت‬
‫أعماهلم‪ ،‬وقال تعاىل‪ ":‬لَئِ ْن‬
‫ك" (الزمر ‪ ،‬آية ‪ ،)65 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬ولَ ْو أَ ْشَر ُكواْ‬ ‫ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َملُ َ‬ ‫أَ ْشَر ْك َ‬
‫حَلَبِ َط َعْن ُهم َّما َكانُواْ َي ْع َملُو َن" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)88 :‬‬
‫وهلذا كانت الردة عن اإلميان حتبط مجيع األعمال الصاحلة‪ ،‬كما أن‬
‫الدخول يف اإلسالم واإلميان جيب ما قبله‪ ،‬من السيئات وإن عظمت‪،‬‬
‫والتوبة من الذنوب املنافية والقادحة فيه‪ ،‬واملنقصة له جتب ما قبلها ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ ‪.70 ،69‬‬


‫‪203‬‬
‫‪13‬ـ هداية اهلل إلى الصراط المستقيم‪ :‬ومن فوائد ومثرات اإلميان‬
‫أنه يهدي صاحبه إىل الصراط املستقيم‪ ،‬ويهديه يف الصراط املستقيم‪،‬‬
‫يهديه إىل علم احلق وإىل العمل به‪ ،‬وإىل تلقي احملاب واملسار بالشكر‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ‬ ‫وتلقي املكاره واملصائب بالرضا والصرب قال تعاىل‪":‬إ َّن الذ َ‬
‫ات َي ْه ِدي ِه ْم َربُّ ُه ْم بِِإميَاهِنِ ْم" (يونس ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬
‫الصاحِل ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َعملُواْ َّ َ‬
‫صيبَ ٍة إِاَّل بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه َو َمن يُ ْؤ ِمن بِاللَّ ِه َي ْه ِد‬
‫وقال تعاىل‪ ":‬ما أَصاب ِمن ُّم ِ‬
‫َ َ َ‬
‫َق ْلبَهُ" (التغابن ‪ ،‬آية ‪ .)11 :‬هو الرجل تصيبه املصيبة‪ ،‬فيعلم أهنا من‬
‫عند اهلل‪ ،‬فريضى ويسلم ولو مل يكن من مثرات اإلميان‪ ،‬إال أنه يسلى‬
‫صاحبه عن املصائب واملكاره‪ ،‬اليت كل أحد عرضة هلا يف كل وقت‬
‫ومصاحبة اإلميان واليقني أعظم مسل عنها‪ ،‬ومهون هلا وذلك‪ :‬لقوة إميانه‬
‫وقوة توكله‪ ،‬ولقوة رجائه بثواب اهلل ربه‪ ،‬وطمعه يف فضله‪ ،‬فحالوة‬
‫األجر ختفف مرارة الصرب‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬إِن تَ ُكونُواْ تَأْلَ ُمو َن فَِإنَّ ُه ْم يَأْلَ ُمو َن‬
‫َك َما تَأْلَمو َن َوَت ْر ُجو َن ِم َن اللّ ِه َما الَ َي ْر ُجو َن" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)104 :‬‬
‫وهلذا جتد اثنني‪ :‬تصيبهم مصيبة واحدة‪ ،‬أو متقاربة‪ ،‬وأحدمها عنده إميان‬
‫واآلخر فاقد هلا‪ ،‬جتد الفرق العظيم بني حاليهما‪ ،‬وتأثريها يف ظاهرمها‬
‫‪1‬‬
‫وباطنهما‪ ،‬وهذا الفرق راجع إىل اإلميان والعمل مبقتضاه ‪.‬‬
‫‪14‬ـ محبة اهلل والمؤمنين من خلقه‪ :‬ومن مثرات اإلميان ولوازمه من‬
‫الصاحِل ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫األعمال الصاحلة ما ذكره اهلل بقوله‪ " :‬إِ َّن الَّ ِ‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬
‫َسيَ ْج َع ُل هَلُ ُم الرَّمْح َ ُن ُو ًّدا" (مرمي ‪ ،‬آية ‪ .)96 :‬أي‪ :‬بسبب إمياهنم وأعمال‬
‫اإلميان حيبهم اهلل وجيعل هلم احملبة يف قلوب املؤمنني‪ ،‬ومن أحبه اهلل‬
‫وأحبه املؤمنون من عباده‪ ،‬حصلت له السعادة‪ ،‬والفالح والفوائد الكثرية‬
‫من حمبة املؤمنني‪ ،‬من الثناء والدعاء له حياً وميتاً‪ ،‬واالقتداء به‪،‬‬
‫أجل مثرات اإلميان‪ :‬أن جيعل‬ ‫ّ‬ ‫وحصول اإلمامة يف الدين وهذه أيضاً من‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ‪.72‬‬


‫‪204‬‬
‫اهلل للمؤمنني‪ ،‬الذين كملوا إمياهنم بالعلم والعمل‪ ،‬لسان صدق‪ ،‬وجيعلهم‬
‫أئمة يهتدون بأمره‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ":‬و َج َع ْلنَا ِمْن ُه ْم أَئِ َّمةً َي ْه ُدو َن بِأ َْم ِرنَا‬
‫صَبُروا َو َكانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُو َن" (السجدة ‪ ،‬آية ‪ ،)24 :‬فبالصرب‬ ‫لَ َّما َ‬
‫‪1‬‬
‫واليقني‪ ،‬اللذين مها رأس اإلميان وكماهلـا نالوا اإلمامة يف الدين ‪.‬‬
‫‪15‬ـ رفع اهلل لمكانتهم‪ :‬ومن فوائد ومثرات اإلميان رفع مكانة أهله‬
‫ين َآمنُوا ِمن ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫عند اهلل عز وجل وعند خلقه قال‪َ " :‬ي ْرفَ ِع اللَّهُ الذ َ‬
‫ات" (اجملادلة ‪ ،‬آية‪ ،)11 :‬فهم أعلى اخللق درجة‬ ‫والَّ ِذين أُوتُوا الْعِْلم درج ٍ‬
‫َ ََ َ‬ ‫َ َ‬
‫عند اهلل وعند عباده يف الدنيا واآلخرة وإمنا نالوا هذه الرفعة‪ ،‬بإمياهنم‬
‫‪2‬‬
‫الصحيح وعلمهم ويقينهم‪ ،‬والعلم واليقني من أصول اإلميان ‪.‬‬
‫هذه بعض الفوائد والثمار من اإلميان الصحيح‪ ،‬ومما تقدم يتبني لنا أن‬
‫شجرة اإلميان من أبرك األشجار وأنفعها وأدومها وأن عروقها وأصوهلا‬
‫وقواعدها‪ ،‬اإلميان وعلومه ومعارفه‪ ،‬وساقها وأفناهنا شرائع اإلسالم‪،‬‬
‫واألعمال الصاحلة واإلخالق الفاضلة املؤيدة واملقرونة باإلخالص هلل‪،‬‬
‫واملتابعة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأن مثارها وجناها الدائم‬
‫املستمر‪ ،‬السمت احلسن واهلدي الصاحل‪ ،‬واخللق اجلميل‪ ،‬واللهج بذكر‬
‫اهلل وشكره‪ ،‬والثناء عليه والنفع لعباد اهلل حبسب القدرة‪ ،‬نفع العلم‬
‫والنصح‪ ،‬ونفع اجلاه والبدن ونفع املال‪ ،‬ومجيع طرق النفع‪ ،‬وحقيقة‬
‫ذلك كله‪ :‬القيام حبقوق اهلل‪ ،‬وحقوق خلقه‪،‬وأن الفضل يف ذلك كله هلل‬
‫ان إِن‬ ‫وحده واملنّة كلها له سبحانه" ب ِل اللَّه مَيُ ُّن علَي ُكم أَ ْن ه َدا ُكم لِإْلِ ميَ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ني" (احلجر ‪ ،‬آية ‪.)17 :‬‬ ‫ُكنتم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬
‫وتبوءوا منازهلم معرتفني بفضل رهبم‬ ‫وقال أهل اجلنة بعد ما دخلوها ّ‬
‫ي لَ ْوال أَ ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫هِل‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫العظيم" َوقَالُواْ احْلَ ْم ُد للّه الذي َه َدانَا ـَ َذا َو َما ُكنَّا لَن ْهتَد َ‬
‫ودواْ أَن تِْل ُك ُم اجْلَنَّةُ‬‫اءت ُر ُس ُل َر ِّبنَا بِاحْلَ ِّق َونُ ُ‬
‫َه َدانَا اللّهُ لََق ْد َج ْ‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ‪.76‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.76‬‬
‫‪205‬‬
‫وها مِب َا ُكنتُ ْم َت ْع َملُو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ ،)43 :‬فجمع يف هذه‬ ‫أُو ِر ْثتُ ُم َ‬
‫اآلية بني االخبار بإعرتافهم وثناءهم على اهلل بنعمه وفضله‪ ،‬حيث‬
‫وصلوا إىل املنازل العالية‪ ،‬وبني ذكر السبب الذي أوصلهم إىل ذلك‬
‫مبنّة اهلل عليهم به وهو العمل الصاحل الذي هو اإلميان وأعماله ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫إن من شروط التمكني هلذه األمة حتقيق اإلميان بكافة معانية وبكافة‬
‫أركانه وممارسة العمل الصاحل بكل أنواعه واحلرص على كل أنواع اخلري‬
‫وصنوف الرب‪ ،‬وحتقيق العبودية الشاملة وحماربة الشرك بكل أشكاله‬
‫ين َآمنُوا ِمن ُك ْم َو َع ِملُوا‬ ‫َّ ِ‬
‫وأنواعه وخفاياه ‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬و َع َد اللَّهُ الذ َ‬
‫‪2‬‬

‫ين ِمن َقْبلِ ِه ْم‬ ‫ض َكما استخلَ َّ ِ‬


‫ف الذ َ‬ ‫َّهم يِف اأْل َْر ِ َ ْ َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ حِل ِ‬
‫الصا َات لَيَ ْستَ ْخل َفن ُ‬
‫َّهم ِّمن َب ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمنًا‬ ‫ضى هَلُ ْم َولَيُبَ ِّدلَن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َولَيُ َم ِّكنَ َّن هَلُ ْم د َين ُه ُم الَّذي ْارتَ َ‬
‫ِ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫ك فَأ ُْولَئِ َ‬ ‫َي ْعبُ ُدونَيِن اَل يُ ْش ِر ُكو َن يِب َشْيئًا َو َمن َك َفَر َب ْع َد َذل َ‬
‫ول لَ َعلَّ ُك ْم ُت ْرمَحُو َن"‬ ‫الر ُس َ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫الز َكا َة وأ ِ‬‫يموا الصَّاَل َة َوآتُوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫الْ َفاس ُقو َن* َوأَق ُ‬
‫(النور ‪ ،‬آية ‪55 :‬ـ ‪.)56‬‬

‫‪ 1‬شجرة اإليمان صـ ‪.94‬‬


‫‪ 2‬فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم صـ ‪.161‬‬
‫‪206‬‬
‫المبحث السادس‬
‫نواقض التوحيد واإليمان‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬الشرك‪:‬‬
‫إن احلديث عن التوحيد يستلزم احلديث عما يناقضه من الشرك ألنه‬
‫كما قيل بضدها تتميز األشياء‪.‬‬
‫والشرك‪ :‬هو أن جتعل هلل نداً أو شريكاً يف ربوبيته أو ألوهيته أو‬
‫أمسائه وصفاته وهو املبطل لألعمال واملانع لقبوهلا قال تعاىل‪َ ":‬ولَ ْو‬
‫أَ ْشَر ُكواْ حَلَبِ َط َعْن ُهم َّما َكانُواْ َي ْع َملُو َن" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)88 :‬‬
‫وحدُّه‪ ،‬أن يصرف العبد نوعاً من أنواع العبادة لغري اهلل فكل اعتقاد‬
‫أو قول‪ ،‬أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه هلل وحده‬
‫توحيد وإميان وإخالص وصرفه لغريه شرك وكفر ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫فحقيقة الشرك باهلل‪ ،‬أن يعبد املخلوق كما يعبد اهلل أو يعظم كما‬
‫يعظم اهلل أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية واأللوهية‪.‬‬
‫ولقد وردت النصوص الكثرية من الكتاب والسنة يف التحذير من‬
‫الشرك وبيان خطره‪ ،‬وإنه أعظم ذنب عصي اهلل به وإنه ال أضل من‬
‫فاعله وإنه خملد يف النار أبداً ال نصري له وال محيم وال شفيع يطاع‪،‬‬
‫ك لِ َمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪":‬إ َّن اللّهَ الَ َي ْغفُر أَن يُ ْشَر َك بِِه َو َي ْغفُر َما ُدو َن َذل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫يما" ( النساء ‪ ،‬آية ‪.)48 :‬‬ ‫يَ َشاء َو َمن يُ ْش ِر ْك باللّه َف َقد ا ْفَتَرى إمْثًا َعظ ً‬
‫ك لِ َمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال تعاىل‪ ":‬إِ َّن اللّهَ الَ َي ْغفُر أَن يُ ْشَر َك بِِه َو َي ْغفُر َما ُدو َن َذل َ‬
‫يدا" ( النساء ‪ ،‬آية ‪.)116 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬‫ض َّل َ‬
‫ِ‬
‫يَ َشاء َو َمن يُ ْش ِر ْك بِاللّه َف َق ْد َ‬
‫وقال تعاىل‪َ ":‬و َمن يُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َكأَمَّنَا َخَّر ِم َن َّ‬
‫الس َماء َفتَ ْخطَُفهُ الطَّْيُر أ َْو‬
‫ان َس ِح ٍيق" ( احلج ‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬ ‫الريح يِف م َك ٍ‬
‫َ‬
‫ِِ‬
‫َت ْه ِوي به ِّ ُ‬
‫ك وإِىَل الَّ ِذين ِمن َقبلِ َ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت‬‫ك لَئ ْن أَ ْشَر ْك َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ":‬ولََق ْد أُوح َي إلَْي َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين" ( الزمر ‪ ،‬آية ‪.)65 :‬‬ ‫ك َولَتَ ُكونَ َّن م َن اخْلَاس ِر َ‬ ‫لَيَ ْحبَطَ َّن َع َملُ َ‬
‫‪1‬القول السديد في مقاصد التوحيد صـ‪.31‬‬
‫‪207‬‬
‫إن الشرك هو الذنب الوحيد املتميز عن بقية الذنوب بعدم املغفرة‬
‫لصاحبه إذا مات ومل يتب منه‪ ،‬وأما بقيه الذنوب فإن صاحبها إن‬
‫مات ومل يتب منها فإنه حتت مشيئة اهلل إن شاء عذبه‪ ،‬وإن شاء‬
‫غفر له‪.‬‬
‫إن الذنوب اليت دون الشرك جعل اهلل ملغفرهتا أسباباً كثرية كاحلسنات‬
‫املاحية واملصائب املكفرة يف الدنيا والربزخ ويوم القيامة وكدعاء املؤمنني‬
‫بعضهم لبعض وشفاعت الشافعني‪ ،‬ومن دون ذلك كله رمحته اليت‬
‫خص هبا أهل اإلميان والتوحيد وهذا خبالف الشرك فإن الشرك س ّد‬
‫على نفسه أبواب املغفرة‪ ،‬وأغلق دونه أبواب الرمحة فال تنفعه الطاعات‬
‫دون التوحيد‪ ،‬وال تفيده الشدائد‪ ،‬واحملن شيئاً‪.‬‬
‫إن الشرك باهلل متجه الفطر السليمة‪ ،‬ولقد بقي البشر بعد آدم قروناً‬
‫طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد واهلدي‪ ،‬مث أدخلت عليهم‬
‫الشياطني الشرور املتنوعة بطرق كثرية فكان قوم نوح قد مات منهم‬
‫أناس صاحلون فحزنوا عليهم فجاءهم إبليس وأمرهم أن يصوروا متاثيلهم‬
‫ليتذكروا أحواهلم‪ ،‬فكان هذا باب الشر العظيم‪ ،‬فلما مات الذين‬
‫قل فيهم العلم واستفزهم‬ ‫صوروهم هلذا املعىن خلف من بعدهم خلف ّ‬
‫الشيطان وأغواهم حىت أوقعهم يف الشرك مث بعث اهلل فيهم نوحاً عليه‬
‫السالم يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخالقه فقال‪ ":‬لََق ْد أ َْر َس ْلنَا‬
‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وحا إىَل َق ْومه َف َق َال يَا َق ْوم ْاعبُ ُدواْ اللهَ َما لَ ُكم ِّم ْن إلَـه َغْيُرهُ إيِّنَ‬ ‫نُ ً‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظي ٍم" ( األعراف ‪ ،‬آية ‪ )59 :‬إال أهنم‬ ‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫َخ ُ‬ ‫أَ‬
‫عصوه وما آمن معه إال قليل‪ ،‬إن اهلل تعاىل خلق الناس على فطرة‬
‫التوحيد مث استطاعت الشياطني أن متيل بالناس وتنحرف هبم حنو الوثنية‬
‫املظلمة والشرك العظيم‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬كا َن النَّاس أ َُّمةً و ِ‬
‫ث اللّهُ‬ ‫اح َد ًة َفَب َع َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِِ‬ ‫النَّبِيِّ َ‬
‫ين" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ .)213 :‬أي إن الناس كانوا‬ ‫ني ُمبَ ِّش ِر َ‬
‫ين َو ُمنذر َ‬

‫‪208‬‬
‫على ملة آدم عليه السالم حىت عبدوا األصنام فبعث اهلل إليهم نوحاً‬
‫عليه السالم فكان أول رسول بعثه اهلل إىل أهل األرض ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫إن هذه األمة اإلسالمية اليت رضيت باهلل رباً وباإلسالم ديناً ومبحمد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم رسوالً‪ ،‬عليها أن حترص على حتقيق التوحيد‬
‫وحماربة الشرك‪ ،‬ألهنا تعلم علم اليقني أن من شروط التمكني هلا‪،‬‬
‫حتقيق التوحيد وهتذيبه‪ ،‬وتصفيته من الشرك األكرب واألصغر‪ ،‬ومن البدع‬
‫القولية واالعتقادية‪ ،‬والبدع الفعلية والعملية‪ ،‬ومن املعاصي وذلك بكمال‬
‫اإلخالص هلل يف األقوال واالفعال واإلرادات‪ ،‬وبالسالمة من الشرك‬
‫األكرب املناقض ألصل التوحيد‪ ،‬ومن الشرك األصغر املنايف لكماله‬
‫وبالسالمة من البدع‪ ،2‬وعليها أن حتارب شرك القبور‪ ،‬ووكذلك شرك‬
‫القوانني الوضعية املخالفة للشريعة اإلسالمية‪ ،‬وعليها تدعو إىل إفراد‬
‫العبودية هلل وحده يف مجيع شئون احلياة اإلنسانية والن حاهلا ومقاهلا‬
‫ني‬ ‫ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫اي َومَمَايِت لِلّ ِه َر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫قول اهلل تعاىل‪ " :‬قُل إِ َّن َ يِت‬
‫صالَ َونُ ُسكي َوحَمْيَ َ‬ ‫ْ‬
‫يك لَهُ" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ 161 :‬ـ ‪.)162‬‬ ‫* الَ َش ِر َ‬

‫ثانياً‪ :‬أنواع الشرك‪ :‬ينقسم الشرع إلى نوعين‪ :‬أكبر وأصغر‪.‬‬


‫‪1‬ـ الشرك األكبر‪ :‬خيرج صاحبه من ملة اإلسالم‪ ،‬ويوجب له اخللود‬
‫يف جهنم وحيرم عليه اجلنة هذا إذا مات على الشرك‪ ،‬قال تعاىل‪" :‬لََق ْد‬
‫يح يَا بَيِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين قَالُواْ إ َّن اللّهَ ُه َو الْ َمس ُ‬
‫يح ابْ ُن َم ْرمَيَ َوقَ َال الْ َمس ُ‬ ‫َك َفَر الذ َ‬
‫ِ‬ ‫إِسرائِ‬
‫يل ْاعبُ ُدواْ اللّهَ َريِّب َو َربَّ ُك ْم إِنَّهُ َمن يُ ْش ِر ْك بِاللّه َف َق ْد َحَّر َم اللّهُ‬ ‫َْ َ‬
‫َنصا ٍر" (املائدة ‪ ،‬آية ‪،)72 :‬‬ ‫علَ ِيه اجْل نَّةَ ومأْواه النَّار وما لِلظَّالِ ِم ِ‬
‫ني م ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َ ُ ُ ََ‬ ‫َ‬
‫والشرك األكرب أنواع منها‪:‬‬

‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪.)1/250‬‬


‫‪ 2‬الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده‪.‬‬
‫‪209‬‬
‫أ ـ شرك الدعاء‪ :‬وهو اللجوء إىل غري اهلل ودعائه وقصده‪ ،‬قال‬
‫ِِ‬ ‫تعاىل‪ " :‬فَِإ َذا ركِبوا يِف الْ ُف ْل ِ‬
‫اه ْم‬
‫ِّين َفلَ َّما جَنَّ ُ‬ ‫ك َد َع ُوا اللَّهَ خُمْلص َ‬
‫ني لَهُ الد َ‬ ‫َ ُ‬
‫إِىَل الَْبِّر إِ َذا ُه ْم يُ ْش ِر ُكو َن" (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ .)65 :‬فهم يوحدون اهلل‬
‫يف حال الضيق والشدة وإذا جناهم أشركوا ودعوا غريه‪.‬‬
‫ب ـ شرك النية واإلرادة والقصد‪ :‬وهو أن يعمل العمل مما يراد‬
‫به وجه اهلل عز وجل يعمله لغري اهلل ويقصد به مراداً آخر‪ ،‬فهذا‬
‫ف‬‫الد ْنيَا َو ِزينََت َها نُ َو ِّ‬
‫يد احْلَيَاةَ ُّ‬ ‫شرك أكرب‪ ،‬قال عز وجال‪َ " :‬من َكا َن يُِر ُ‬
‫ك الَّ ِذين لَْيس هَلُ ْم يِف‬ ‫َ‬ ‫إِلَي ِهم أ َْعماهَل م فِيها وهم فِيها الَ يبخسو َن * أُولَـئِ‬
‫ْ ْ َ ُْ َ َ ُ ْ َ‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ َ ُ‬
‫اط ٌل َّما َكانُواْ َي ْع َملُو َن" (هود‬ ‫اآلخر ِة إِالَّ النَّار وحبِ َط ما صَنعواْ فِيها وب ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ََ‬ ‫ُ ََ َ َُ‬ ‫َ‬
‫اجلَةَ َع َّج ْلنَا لَهُ فِ َيها‬ ‫يد الْع ِ‬
‫‪ ،‬آية ‪ 15 :‬ـ ‪ .)16‬قال تعاىل‪َّ ":‬من َكا َن يُِر ُ َ‬
‫ورا * َو َم ْن‬‫وما َّم ْد ُح ً‬ ‫الها َم ْذ ُم ً‬ ‫ص َ‬ ‫َّم يَ ْ‬ ‫َما نَ َشاء لِ َمن نُِّر ُ‬
‫يد مُثَّ َج َع ْلنَا لَهُ َج َهن َ‬
‫ورا‬
‫ك َكا َن َس ْعُي ُهم َّم ْش ُك ً‬ ‫اآلخَر َة َو َس َعى هَلَا َس ْعَي َها َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأُولَئِ َ‬
‫أَراد ِ‬
‫ََ‬
‫ورا"‬
‫ك حَمْظُ ً‬ ‫ك َو َما َكا َن َعطَاء َربِّ َ‬ ‫* ُكالًّ مُّنِ ُّد َه ُـؤالء َو َه ُـؤالء ِم ْن َعطَاء َربِّ َ‬
‫(اإلسراء ‪ ،‬آية ‪ 18 :‬ـ ‪.)20‬‬
‫جـ ـ شرك الطاعة‪ :‬وهو طاعة األحبار والرهبان وغريهم من البشر‬
‫والعلماء والسالطني واألمراء يف حترمي ما أحل اهلل أو إباحة ما حرم‬
‫ون اللّ ِه" (التوبة‬
‫اهلل‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬اخَّتَ ُذواْ أَحبارهم ور ْهبا َنهم أَربابا ِّمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ َ ُ ْ َ ُ َ ُ ْ ْ َ ً‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)31 :‬وعن عدي بن حامت ـ رضي اهلل عنه ـ أنه ملا بلغته‬
‫فأسرت أخته‬ ‫دعوة رسول اهلل فر إىل الشام وكان تنصر يف اجلاهلية‪ِ ،‬‬
‫ّ‬
‫من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أخته‬ ‫ومجاعة من قومه مث َّ‬
‫وأعطاها فرجعت إىل أخيها فرغبته يف اإلسالم ويف القدوم على رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم فتقدم عدي إىل املدينة وكان رئيساً يف قومه‬
‫طئ وأبوه حامت الطائي املشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه فدخل‬
‫على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويف عنق عدي صليب من فضة‬
‫‪210‬‬
‫ون اللّ ِه"‬
‫وهو يقرأ هذه اآلية " اخَّتَ ُذواْ أَحبارهم ور ْهبا َنهم أَربابا ِّمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ َ ُ ْ َ ُ َ ُ ْ ْ َ ً‬
‫قال فقلت‪ :‬إهنم مل يعبدوهم فقال‪ :‬بلى‪ ،‬إهنم حرموا عليهم احلالل‬
‫وأحلوا هلم احلرام فأتبعوهم فذلك عبادهتم إياهم‪ ،‬وقال هبا رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقول اهلل أكرب ‪،‬‬
‫فهل تعلم شيئاً أكرب من اهلل؟ ما يضرك أيضرك أن يقال‪ :‬ال إله إال‬
‫اهلل فهل تعلم إهلاً غري اهلل؟ مث دعاه إىل اإلسالم فأسلم وشهد شهادة‬
‫احلق‪.1‬‬
‫لغري اهلل تعاىل مما حيب أن‬‫ح ـ شرك المحبة‪ :‬بأن يصرف احملبة‬
‫ون اللّ ِه‬
‫َّخ ُذ ِمن د ِ‬
‫ُ‬
‫َّاس من يت ِ‬‫يكون هلل‪ ،‬ومن أدلته قوله تعاىل‪َ " :‬وِم َن‬
‫الن ِ َ َ‬
‫َش ُّد ُحبًّا لِّلّ ِه" (البقرة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َنداداً حُيِ بُّو َنهم َكح ِّ ِ َّ ِ‬
‫أَ‬
‫ين َآمنُواْ‬
‫ب اللّه َوالذ َ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫أَ‬
‫‪.)165‬‬
‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬ثالث من كن فيه وجد حالوة اإلميان‪:‬‬
‫أن يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سوامها وأن حيب املرء ال حيبه‬
‫إال هلل‪ ،‬وأن يكره أن يعود إىل الكفر بعد أن أنقذه اهلل منه كما‬
‫يكره أن يقذف يف النار‪ ،‬وقد اهتم القرآن الكرمي بضرب األمثال‬
‫للتنفري من حالة املشرك وهذه بعض األمثال‪:‬‬
‫* مثل المشرك بالساقط من السماء‪:‬‬
‫فَ َكأَمَّنَا َخَّر‬ ‫قال تعاىل‪ُ " :‬حَن َفاء لِلَّ ِه َغْيَر‬
‫َو َمن يُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه‬ ‫بِِه‬ ‫ِ‬
‫ُم ْش ِرك َ‬
‫ني‬
‫َس ِح ٍيق" (احلج‬ ‫الريح يِف م َك ٍ‬
‫ان‬ ‫َ‬ ‫بِِه‬ ‫ِم َن َّ‬
‫الس َماء َفتَ ْخطَُفهُ الطَّْيُر‬
‫ِّ ُ‬ ‫أ َْو َت ْه ِوي‬
‫‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬
‫حيث اهلل سبحانه عباده على إخالص التوحيد وإفراده بالطاعة والعبادة‬
‫دون األوثان ويذكر قبح الشرك وبطالنه بأوضح األمثلة‪ ،‬ألن من‬
‫يشرك باهلل شيئاً من دونه فمثله من بعده عن اهلدى وإصابة احلق‬

‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪.)2/348‬‬


‫‪211‬‬
‫خر من السماء فتخطفه الطري فهلك‪،‬‬
‫وهالكه وذهابه عن ربه مثل من َّ‬
‫أو هوت به العواصف يف مكان بعيد‪ ،‬فهذا مثل ضربه اهلل ملن أشرك‬
‫باهلل يف بعده من اهلدى وهالكه‪.1‬‬
‫* مثل المشرك بالحيران في األرض‪:‬‬
‫ون اللّ ِه َما الَ يَن َفعُنَا َوالَ‬
‫ضُّرنَا َونَُر ُّد َعلَى‬ ‫يَ ُ‬ ‫قال تعاىل‪" :‬قُل أَنَ ْدعو ِمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َحْيَرا َن‬ ‫ني يِف‬
‫األ َْر ِ‬ ‫أ َْع َقابِنَا َب ْع َد إِ ْذ َه َدانَا اللّهُ َكالَّذي ْ‬
‫اسَت ْه َوتْهُ الشَّيَاط ُ‬
‫ى َوأ ُِم ْرنَا‬ ‫اب يَ ْدعُونَهُ إِىَل اهْلَُدى ائْتِنَا قُ ْل إِ َّن ُه َدى اللّ ِه‬
‫ُه َو اهْلَُد َ‬ ‫َص َح ٌ‬ ‫لَهُ أ ْ‬
‫ني" (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)71 :‬‬ ‫ِ‬ ‫لِنُ ْسلِ َم لَِر ِّ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬
‫هذا مثل ضربه اهلل لآلهلة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إىل‬
‫مناد‪ :‬يا فالن ابن فالن‪ ،‬هلم‬ ‫اهلل كمثل رجل ضل الطريق إذ ناداه ٍ‬
‫إىل الطريق‪ ،‬وله أصحاب يدعونه‪ :‬يا فالن‪ ،‬هلم إىل الطريق‪ ،‬فإن اتبع‬
‫الداعي األول انطلق به حىت يلقيه يف اهللكة‪ ،‬وإن أجابه من يدعوه‬
‫إىل اهلدى اهتدى إىل الطريق‪.2‬‬
‫* مثل المشرك بالعبد المملوك لجماعة كثيرين‪:‬‬
‫فِ ِيه ُشَر َكاء ُمتَ َشاكِ ُسو َن َو َر ُجاًل َسلَ ًما‬
‫ب‬‫ضَر َ‬ ‫َمثَاًل َّر ُجاًل‬
‫قال تعاىل‪َ " :‬‬ ‫اللَّهُ‬
‫ان‬ ‫احْلَ ْم ُد لِلَّ ِه‬
‫لِّرج ٍل هل يستَ ِوي ِ‬
‫بَ ْل أَ ْكَثُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُمو َن" (الزمر ‪،‬‬
‫َ ُ َ ْ َْ َ‬ ‫َمثَاًل‬
‫آية ‪.)29 :‬‬
‫هذا مثل ضربه اهلل سبحانه وتعاىل للمشرك واملوحد‪ ،‬فاملشرك مبنزلة عبد‬
‫ميلكه مجاعة متنازعون خمتلفون متشاحنون‪ ،‬والرجل املشاكس الضيق اخللق‬
‫فاملشرك ملا كان يعبد آهلة شىت شبه بعبد ميلكه مجاعة متنافسون يف‬
‫خدمته ال ميكنه أن يبلغ رضاهم أمجعني‪ ،‬واملوحد ملا كان يعبد اهلل‬
‫َّ‬
‫وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف‬
‫الطريق إىل رضاه‪ ،‬فهو يف راحة من تشاحن اخللطاء فيه‪ ،‬بل هو سامل‬

‫‪ 1‬تفسير الطبري (‪ )17/155‬الشرك في القديم والحديث أبو بكر محمد زكريا (‪.)2/1370‬‬
‫‪ 2‬تفسير الطبري (‪.)7/236‬‬
‫‪212‬‬
‫ملالكه من غري تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورمحته له وشفقته عليه‬
‫وإحسانه إليه وتوليه ملصاحله‪ ،‬فهل يستوي هذين العبدين؟ وهذا من‬
‫أبلغ األمثال فإن اخلالص ملالك واحد يستحق من معونته وإحسانه‬
‫والتفاته إليه وقيامه مبصاحله ما ال يستحقه صاحب الشركاء املتشاكسني‪،‬‬
‫احلمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون"‪.1‬‬
‫‪2‬ـ الشرك األصغر‪ :‬وهذا النوع ال خيرج صاحبه من امللة ولكنه‬
‫ينقص من توحيده‪ ،‬وهو وسيلة للشرك األكرب وهو ينقسم إىل نوعني‪:‬‬
‫ظاهر وخفي‪.‬‬
‫أ ـ فالظاهر‪ :‬مكون من ألفاظ قولية وأفعال عملية‪ ،‬فمن األلفاظ‬
‫احللف بغري اهلل‪ ،‬وقول اإلنسان لوال اهلل وأنت أو هذا من اهلل‬
‫ومنك ما شاء اهلل وشئت‪ ،‬فإن هذا يقتضي املساواة بني اهلل وبني‬
‫العبد‪ ،‬وهذا حمال‪ ،‬ولكن الصحيح أال حيلف إال باهلل عز وجل‪،‬‬
‫وأن يقول لوال اهلل مث أنت أو هذا من اهلل مث منك وما شاء‬
‫اهلل مث شئت‪.‬‬
‫ومن األفعال‪ ،‬لبس احللقة واخليط وتعليق التمائم خشية العني‪ ،‬أو‬
‫اجلن فمن فعل ذلك معتقداً أهنا سبب يستدفع هبا البالء وأن‬
‫الدافع للبالء هو اهلل وحده فقد أشرك شركاً أصغر‪ ،‬وإذا فعل‬
‫ذلك معتقداً أن هذه األشياء تدفع البالء بعد نزوله أو متنعه قبل‬
‫حلوله فقد أشرك شركاً أكرب حيث أعتقد شريكاً مع اهلل يف‬
‫اخللق والتدبري‪.2‬‬
‫ب ـ وأما الخفي من الشرك األصغر‪ :‬فهو شرك اإلرادات‪،‬‬
‫واملقاصد والنيات‪ ،‬وذلك مثل الرياء‪ ،‬والسمعة‪ ،‬ومثال ذلك أن يعمل‬
‫املسلم عمالً األصل فيه أنه هلل تعاىل‪ ،‬مث بعد ذلك يدخل فيه شئ‬

‫‪ 1‬إعالم الموقعين (‪.)1/187‬‬


‫‪ 2‬عقيدةى أهل السنة والجماعة للقحطاني صـ‪.142‬‬
‫‪213‬‬
‫من الرياء أو السمعة‪ ،‬فرييد من الناس الثناء عليه‪ ،‬كأن يقرأ مسلم‬
‫القرآن هلل تعاىل وتقرباً له‪ ،‬وعندما يرى الناس تنصت له يُلحن يف‬
‫صوته ابتغاء الثناء عليه‪ ،‬أو يتصدق إنسان مبال لكي مُي َد َح ويثىن عليه‪،‬‬
‫أو حيسن الرجل صالته اليت يتقرب هبا إىل اهلل ملا يرى من نظر‬
‫الناس إليه‪ ،‬وغري ذلك من األعمال والعبادات اليت تصرف هلل تعاىل‪،‬‬
‫وإال لو صرفـ ابتداءً لغري اهلل ألصبح ذلك شركاً أكرب خيرج من امللة‪،‬‬
‫ولكن بعد البدء فيها يدخل عليه حب املدح والثناء على فعله وعبادته‬
‫وعاقبة الرياء الذي خيالط العمل هو إبطال أجر وثواب هذا العمل‪،‬‬
‫صاحِلًا َواَل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪ " :‬فَ َمن ; َكا َن َي ْر ُجو ل َقاء َربِّه َف ْلَي ْع َم ْل َع َماًل َ‬
‫ِِ ِ ِ‬
‫َح ًدا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪ ،)110 :‬وقال رسول اهلل‬ ‫يُ ْش ِر ْك بعبَ َادة َربِّه أ َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أخوف ما أخاف عليكم الشرك األصغر‪ ،‬فسئل‬
‫عنه فقال الرياء‪.1‬‬
‫وقل‬
‫إن الشرك يف اإلرادات والنيات فذلك البحر الذي ال ساحل له‪َّ ،‬‬
‫من ينجو منه‪ ،‬فمن أراد بعمله غري وجه اهلل‪ ،‬ونوى به شيئاً غري‬
‫التقرب إليه وطلب اجلزاء منه فقد أشرك يف نيته وإرادته‪ ،‬واإلخالص‪:‬‬
‫أن خيلص هلل يف أفعاله وأقواله وإرادته ونيته وهذه هي احلنيفية‪ ،‬ملة‬
‫إبراهيم اليت أمر اهلل هبا عباده كلهم وال يقبل من أحد غريها وهي‬
‫حقيقة اإلسالم وهي ملة إبراهيم عليه السالم‪.2‬‬
‫والعبد املؤمن خيشى على نفسه من الرياء وأن تصري أعماله هباءً منثوراً‪،‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فقد قال اهلل تعاىل عن أقوام‪َ " :‬وقَد ْمنَا إِىَل َما َعملُوا م ْن َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاهُ‬
‫ورا" (الفرقان ‪ ،‬آية ‪.)23 :‬‬ ‫َهبَاء َّمنثُ ً‬
‫وقال الفضيل يف هذه اآلية‪َ " :‬وبَ َدا هَلُم ِّم َن اللَّ ِه َما مَلْ يَ ُكونُوا حَيْتَ ِسبُو َن"‬
‫قال‪ :‬عملوا أعماالً وحسبوا أهنا حسنات فإذا هي سيئات‪.3‬‬
‫‪ 1‬مسند اإلمام أحمد (‪.)5/428‬‬
‫‪ 2‬العقيدة الصافية صـ‪.406‬‬
‫‪ 3‬المحجة في سير الدُّلجة البن رجب الحنبلي صـ‪.90‬‬
‫‪214‬‬
‫وقريب من هذا أن يعمل اإلنسان ذنباً حيتقره‪ ،‬ويسته ِون به فيكون هو‬
‫سبب هالكه‪ ،‬كما قال تعاىل‪ " :‬وحَتْسبونَه هِّينًا وهو ِع َ ِ ِ‬
‫ند اللَّه َعظ ٌ‬
‫يم"‬ ‫َ َُ ُ َ َ ُ َ‬
‫( النور ‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬
‫وقال بعض الصحابة‪ ،‬إنكم تعملون أعماالً هي يف أعينكم أدق من‬
‫الشعر‪ ،‬كنا نعدها على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫املبوقات‪.1‬‬
‫وأصعب من هذا من زين له سوء عمله فرآه حسناً قال تعاىل‪ُ" :‬ق ْل‬
‫ض َّل َس ْعُي ُه ْم يِف احْلَيَ ِاة ُّ‬ ‫َّ ِ‬
‫الد ْنيَا َو ُه ْم‬ ‫ين َ‬
‫ين أ َْع َمااًل * الذ َ‬ ‫َه ْل نُنَبِّئُ ُك ْم بِاأْل ْ‬
‫َخ َس ِر َ‬
‫ِ‬
‫صْن ًعا" (الكهف ‪ ،‬آية ‪ 104 :‬ـ ‪.)105‬‬ ‫حَيْ َسبُو َن أَنَّ ُه ْم حُيْسنُو َن ُ‬
‫قال سفيان بن عيينة ملا حضرت حممد بن املنكدر الوفاة جزع فَ َدعوا‬
‫له أبا حازم فجاء فقال له ابن املنكدر‪ :‬إن اهلل يقول‪َ " :‬وبَ َدا هَلُم ِّم َن‬
‫اللَّ ِه َما مَلْ يَ ُكونُوا حَيْتَ ِسبُو َن"‪ ،‬وأخاف أن يبدوا يل من اهلل ما مل أكن‬
‫احتسب‪ ،‬فجعال يبكيان مجيعاً‪ ،‬فقال له أهله‪ :‬دعوناك لتخفِّف عليه فزدته‬
‫فأخربهم مبا قال‪ ،2‬وقال الفضيل بن عياض أُخربت عن سليمان التيمي‬
‫أنه قيل له‪ :‬أنت أنت ومن مثلك؟ فقال‪ :‬مه‪ ،‬ال تقولوا هذا‪ ،‬ال أدري‬
‫ِ‬
‫ما يبدو يل من اهلل‪ ،‬مسعت اهلل يقول‪َ " :‬وبَ َدا هَلُم ِّم َن اللَّه َما مَلْ‬
‫ويل‬
‫ٌ‬ ‫اآلية‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫عند‬ ‫يقول‬ ‫الثوري‬ ‫سفيان‬ ‫وكان‬ ‫‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫يَ ُكونُوا حَيْتَ ِسبُو َن"‬
‫ألهل الرياء من هذه اآلية‪ ،‬وهذا كما يف حديث الثالثة الذين هم‬
‫أول من تسعر هبم النار‪ ،‬العامل‪ ،‬واملتصدِّق‪ ،‬واجملاهد‪.4‬‬
‫وكذلك من عمل أعماالً صاحلة وكانت عليه مظامل فهو يظن أن‬
‫أعماله تنجيه فيبدو له ما مل يكن حيتسب فيقتسم الغرماء أعماله كلها‬
‫مث يفضل هلم فضل فيطرح من سيئاهتم عليه مث يطرح يف النار‪.5‬‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك الرقائق (‪.)7/187‬‬


‫‪ 2‬صفوة الصفوة (‪ )2/167‬ابن الجوزي‪.‬‬
‫‪ 3‬المحجة في سيرة الدلجة البن رجب صـ‪.92‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه صـ‪.93‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه صـ‪.94‬‬
‫‪215‬‬
‫وقد يناقش احلساب فيُطلب منه شكر النعم فتقوم أصغر النعم‬
‫فيعذب‪ ،‬وهلذا‬ ‫فتستوعب أعماله كلها وتبقى بقية النعم فيُطالب بشكرها َّ‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من نوقش احلساب عُ ِّذب أو هلك"‪.1‬‬
‫وقد يكون له سيئات حتبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوى‬
‫التوحيد‪ ،‬فيدخل النار وقد حيبط العمل بآفة من رياء خفي أو عُ ُجب‬
‫به وحنو ذلك وال يشعر به صاحبه‪ .2‬قال ضيغم العابد‪ ،‬إن مل تأت‬
‫اآلخرة املؤمن بالسرور لقد اجتمع عليه األمران‪ ،،‬هم الدنيا وشقاء‬
‫اآلخرة‪ ،‬فقيل له‪ :‬كيف ال تأتيه اآلخرة بالسرور وهو يتعب يف دار‬
‫الدنيا ويدأب؟ فقال‪ :‬كيف بالقبول‪ ،‬كيف بالسالمة؟ مث قال‪ :‬كم من‬
‫رجل يرى أنه قد أصلح عمله جُي مع ذلك كله يوم القيامة مث يضرب‬
‫به وجهه ومن هنا كان بعض الصاحلني يقلقون من هذه اآلية "إِمَّنَا‬
‫ني" (املائدة ‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َيَت َقبَّ ُل اللّهُ م َن الْ ُمتَّق َ‬
‫ولذلك فاملسلم ال يثق بكثرة العمل‪ ،‬ألنه ال يدري يقبل منه أم ال‪،‬‬
‫كفرت عنه أم ال؟ ألن األعمال‬ ‫وال يأمن ذنوبه فإنه ال يدري هل َّ‬
‫ُم َعيَّبة عن العبيد ال يدرون ما اهلل صانع هبم‪.3‬‬
‫ومن تأمل هذا حق التأمل أوجب له اخلوف واخلشية والقلق‪ ،‬فإن ابن‬
‫آدم متعرض ألهوال عظيمة من املوت والقرب وأهوال الربزخ وأهوال‬
‫املوقف‪ ،‬كالصراط وامليزان وأعظم من ذلك الوقوف بني يدي اهلل عز‬
‫وجل ودخول النار‪ ،‬وخيشى على نفسه اخللود فيها بأن يُسلب إميانه‬
‫عند املوت‪ ،‬ومل يأمن املؤمن شيئاً من هذه األمور ‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬فَالَ‬
‫يأْمن م ْكر اللّ ِه إِالَّ الْ َقوم اخْل ِ‬
‫اسُرو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)99 :‬‬‫ُْ َ‬ ‫ََُ َ َ‬
‫قال الشعر‪:‬‬
‫أما واهلل لو علم األنام‬
‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك الرقائق (‪.)7/197‬‬
‫‪ 2‬المحجة في سير الدلجة صـ‪.96‬‬
‫‪ 3‬المحبة في سير الدلجة صـ‪.98‬‬
‫‪216‬‬
‫لِ َما ُخلقوا ملا غفلوا وناموا‬
‫لقد خلقوا ملا لو أبصرته‬
‫عيون قلوهبم تاهوا وهاموا‬
‫ممات مث قرب مث حشر‬
‫وتوبيخ وأهوال عظام‬
‫ليوم احلشر قد عملت رجال‬
‫فصلوا من خمافته وصاموا‬
‫وحنن إذا هنينا أو أمرنا‬
‫‪1‬‬
‫كأهل الكهف أيقاظ نيام‬
‫‪ 3‬ـ الفرق بين الشرك األكبر واألصغر‪:‬‬
‫ـ الشرك األكرب خيرج صاحبه من اإلسالم خبالف الشرك األصغر‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب حيبط مجيع األعمال‪ ،‬أما الشرك األصغر فإنه حيبط‬
‫العمل الذي خالطه فقط‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب يبيح الدم واملال‪ ،‬والشرك األصغر ليس كذلك‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب خيلد صاحبه يف النار‪ ،‬أما الشرك األصغر فال خيلد‬
‫صاحبه يف النار وإن دخلها‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب يوجب املعاداة وقطع املواالة فال جيوز مواالته مهما‬
‫كانت قرابته‪ ،‬أما الشرك األصغر فال يقطع املواالة على اإلطالق‪ ،‬وإمنا‬
‫‪2‬‬
‫يوايل بقدر ما لديه من التوحيد ويعادي حبسب ما فيه من الشرك ‪.‬‬
‫‪4‬ـ آثار الشرك‪:‬‬
‫إن الشرك الذي يقع فيه اإلنسان له آثاره الوبيلة يف دنياه وآخرته‪،‬‬
‫سواء أكان الواقع فيه فرد أم مجاعة فمن تلك اآلثار‪:‬‬
‫ـ إطفاء نور الفطرة‪.‬‬
‫‪ 1‬المحجة في سير الدلجة صـ‪.101‬‬
‫‪ 2‬عقيدة أهل السنة والجماعة صـ ‪.143‬‬
‫‪217‬‬
‫ـ القضاء على منازع النفس الرفيعة‪.‬‬
‫ـ القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في العبودية الذليلة‪.‬‬
‫ـ تمزيق وحدة النفس البشرية‪.‬‬
‫ـ إحباط العمل‪.1‬‬

‫ثانياً‪ :‬الكفر‪ :‬أصل الكفر تغطية الشيء‪ ،‬ومسي الليل كافراً لتغطيته كل‬
‫شيء ‪ ،‬وذكر أهل التفسري أن الكفر يف القرآن على مخسة أوجه‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ين َك َفُرواْ َس َواءٌ َعلَْي ِه ْم‬ ‫ِ َّ ِ‬


‫أحدمها الكفر بالتوحيد ومنه قوله تعاىل‪ ":‬إ َّن الذ َ‬
‫نذ ْر ُه ْم الَ يُ ْؤ ِمنُو َن" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬ ‫أَأَن َذرَتهم أَم مَل تُ ِ‬
‫ْ ُْ ْ ْ‬
‫ون" (البقرة ‪،‬‬ ‫والثاين‪ :‬كفر نعمه ومنه قوله تعاىل‪ ":‬وا ْش ُكرواْ يِل والَ تَ ْك ُفر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫آية ‪.)152 :‬‬
‫ض"‬ ‫ض ُكم بَِب ْع ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫والثالث‪ :‬التربؤ ومنه قوله تعاىل‪ ":‬مُثَّ َي ْو َم الْقيَ َامة يَ ْك ُفُر َب ْع ُ‬
‫(العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ ،)25 :‬أي يتربأ بعضكم من بعض‪.‬‬
‫اءهم َّما َعَرفُواْ َك َفُرواْ بِِه"‬ ‫والرابع اجلحود ومنه قوله تعاىل‪َ ":‬فلَ َّما َج ُ‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪.)89 :‬‬
‫ب الْ ُك َّف َار َنبَاتُهُ" (احلديد ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫واخلامس‪ :‬التغطية ومنه قوله تعاىل‪ ":‬أ َْع َج َ‬
‫‪ .)20‬يريد الزراع الذين يغطون احلب‪.3‬‬
‫وأما الكفر اصطالحاً‪ :‬فهو االنكار املتعمد ملا جاء به حممد صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أو بعض ما جاء به حممد مما علم من دينه بالضرورة ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫والكفر واإلميان ضدان مىت ثبت أحدمها ثبوتاً كامالً انتفى اآلخر ‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫والكفر ليس حقيقة واحدة وال هو شعبة واحدة فليس ينحصر يف‬
‫التكذيب أو االعتقاد القليب‪ ،‬بل هو شعب متعددة ومراتب متفاوتة‪،‬‬
‫‪ 1‬فقه النصر والتمكين صـ ‪.203‬‬
‫‪ 2‬التبيان لعالقة العمل بمسمى اإليمان‪ ،‬علي سوف صـ ‪.249‬‬
‫‪ 3‬نزهة األعين النواظر البن الجوزي (‪.)120 ،2/119‬‬
‫‪ 4‬عقيدة أهل السنة والجماعة صـ ‪.49‬‬
‫‪ 5‬اإلرشاد إلى معرفة األحكام للسعدي صـ ‪.204 ،203‬‬
‫‪218‬‬
‫كما أن ما يقابله وهو اإلميان شعب متعددة كما سبق ذكره‪ ،‬ويقع‬
‫الكفر بالتكذيب وباجلحود وباإلعراض وبالتكرب عن أوامر اهلل ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وكما أن اإلميان ذو شعب دل عليها حديث النيب صلى اهلل عليه‬


‫وسلم املتفق عليه يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اإلميان بضعة وسبعون‬
‫شعبة‪ :‬أعالها شهادة أن ال إله إال اهلل وأن حممداً رسول اهلل وأدناها‬
‫إماطة األذى عن الطريق واحلياء شعبة من اإلميان ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫فكذلك الكفر له شعب أيضاً‪.‬‬


‫أنواع الكفر‪ :‬ينقسم الكفر إىل نوعني‪:‬‬
‫‪1‬ـ كفر أكبر يناقض اإليمان ويوجب اخلروج من امللة واخللود يف‬
‫النار وهو على مخسة أنواع‪:‬‬
‫أـ كفر التكذيب وهو اعتقاد كذب الرسل وهذا قليل جداً ألن اهلل‬
‫أيد رسله باآليات وأعطاهم من املعجزات ما يقوم به دليالً على‬
‫صدقهم وقيام احلجة على أممهم قال تعاىل عن فرعون وقومه‪َ ":‬و َج َح ُدوا‬
‫اسَتْي َقنَْت َها أَن ُف ُس ُه ْم ظُْل ًما َوعُلًُّوا" (النمل ‪ ،‬آية ‪ ،)14 :‬وقال لرسوله‬ ‫هِب‬
‫َا َو ْ‬
‫ك ولَ ِك َّن الظَّالِ ِمني بِآي ِ‬
‫ات اللّ ِه‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ":‬فَإنَّ ُه ْم الَ يُ َك ِّذبُونَ َ َ‬
‫جَيْ َح ُدو َن" (األنعام ‪ ،‬آية ‪ ،)33 :‬وإمنا يلجأ بعض الكفار إىل التكذيب‬
‫بالرسل من ألسنتهم فقط وليس من قلوهبم‪.‬‬
‫ب ـ اإلباء واستكبار واملسمى بالكفر اإلبليسي فإنه إمنا جحد أمر‬
‫اهلل وأنكر عناداً واستكباراً وهذا النوع يقع من معظم الكفار حيث‬
‫َنز َل الرَّمْح ن ِمن َش ْي ٍء إِ ْن أَنتُ ْم إِالَّ‬
‫يقولون‪َ ":‬ما أَنتُ ْم إِالَّ بَ َشٌر ِّم ْثلُنَا َو َما أ َ‬
‫تَ ْك ِذبُو َن" (يس ‪ ،‬آية ‪ ،)15 :‬وكما يقول قوم فرعون‪ ":‬أَنُ ْؤ ِم ُن لِبَ َشَريْ ِن‬
‫ِمثْلِنَا َو َق ْو ُم ُه َما لَنَا َعابِ ُدو َن" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ 1‬التبيان لعالقة العمل بمسمى اإليمان صـ ‪.256‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪ ، 9‬مسلم رقم ‪.35‬‬
‫‪ 3‬مدارج السالكين (‪.)1/346‬‬
‫‪219‬‬
‫ج ـ كفر اإلعراض وذلك بأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ال يصدقه وال يكذبه وال يواليه وال يعاديه وال‬
‫ين َك َفُروا َع َّما‬ ‫َّ ِ‬
‫يصغى له وال إىل ما جاء به البتة‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬والذ َ‬
‫ِ‬
‫أُنذ ُروا ُم ْع ِر ُ‬
‫ضو َن" (األحقاف ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬
‫ح ـ كفر الشك‪ :‬بأن ال جيزم بصدق النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وال يكذبه وإمنا يشك يف ذلك أو يشك يف القيامة ومن هذا الكفر‬
‫كفر صاحب اجلنة والبستان الذي غره ما عنده من الرزق‪ ،‬وفقد‬
‫اإلميان باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬و َد َخ َل َجنَّتَهُ َو ُه َو ظَامِلٌ لَِّن ْف ِس ِه‬
‫اعةَ قَائِ َمةً َولَئِن ُّر ِد ُّ‬
‫دت‬ ‫الس َ‬‫َدا* َو َما أَظُ ُّن َّ‬ ‫يد َه ِذه أب ً‬ ‫قَ َال َما أَظُ ُّن أَن تَبِ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صاحبُهُ َو ُه َو حُيَا ِو ُرهُ أَ َك َف ْر َ‬
‫ت‬ ‫إِىَل َريِّب أَل َج َد َّن َخْيًرا ِّمْن َها ُمن َقلَبًا* قَ َال لَهُ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِمن ُتر ٍ‬ ‫ِ‬
‫اب مُثَّ من نُّطْ َفة مُثَّ َس َّو َاك َر ُجاًل * لَّكنَّا ُه َو اللَّهُ‬ ‫َ‬ ‫بِالَّذي َخلَ َق َ‬
‫ِ‬
‫َح ًدا" ( الكهف ‪ ،‬آية ‪ 35 :‬ـ ‪ )38‬فلقد عرّب عن‬ ‫َريِّب َواَل أُ ْش ِر ُك بَريِّب أ َ‬
‫دت إِىَل َريِّب " هكذا على سبيل‬ ‫عقيدته يف اليوم اآلخر بقوله‪َ ":‬ولَئِن ُّر ِد ُّ‬
‫ت‬‫الشك وعدم اليقني فوقع يف الكفر كما قال له صاحبه " أَ َك َف ْر َ‬
‫ِ‬
‫ك" وهذا هو مصري أصحاب القلوب املريضة والعياذ باهلل‪.‬‬ ‫بِالَّذي َخلَ َق َ‬
‫ر ـ كفر النفاق‪ :‬وهو إظهار اإلميان باللسان وإخفاء الكفر والتكذيب‬
‫يف القلب وهو النفاق األكرب وهذا النوع من أشد أنواع الكفر خطراً‬
‫على اإلسالم واملسلمني وأصحاب هذا النفاق يتغلغلون يف صفوف‬
‫املسلمني وحياولون تفريق الكلمة ومتزيق األمة ودليله قوله تعاىل‪َ ":‬و ِم َن‬
‫ني {‪}8‬خُيَ ِادعُو َن‬ ‫مِب ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َآمنَّا بِاللّه َوبِالَْي ْوم اآلخ ِر َو َما ُهم ُْؤمن َ‬ ‫الن ِ‬
‫َّاس َمن َي ُق ُ‬
‫ين َآمنُوا َو َما خَي ْ َدعُو َن إِالَّ أَن ُف َس ُهم َو َما يَ ْشعُُرو َن"‪ ( 1‬البقرة ‪ ،‬آية‬ ‫َّ ِ‬
‫اللّهَ َوالذ َ‬
‫‪.)9 ، 8 :‬‬

‫‪ 1‬العقيدة الصافية صـ‪.397‬‬


‫‪220‬‬
‫‪2‬ـ كفر أصغر‪ :‬وهذا الينايف أصل اإلميان وال يذهب به بالكلية وإمنا‬
‫ينقص كماله ويصبح املوصوف به مذموماً شرعاً وإن بقيت أحكام‬
‫اإلسالم جتري عليه لبقاء أصل اإلميان به ‪ ،‬وهو كل ذنب ورد تسميته‬
‫‪1‬‬

‫يف الكتاب والسنة كفراً‪ ،‬وهو ال يصل إىل حد الكفر األكرب‪ ،‬وهذا‬
‫النوع يوجب استحقاق الوعيد دون اخللود يف النار‪ ،‬ومثال ذلك قوله‬
‫فإن الكفر هنا‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ":‬سباب املسلم فسوق وقتاله كفر" ‪َّ .‬‬
‫‪2‬‬

‫معناه الكفر األصغر الذي ال خيرج من امللة بدليل قوله تعاىل‪َ ":‬وإِن‬
‫ان ِمن الْمؤ ِمنِني ا ْقتتلُوا فَأ ِ‬
‫ت إِ ْح َدامُهَا َعلَى‬
‫َصل ُحوا َبْيَن ُه َما فَِإن َبغَ ْ‬
‫ْ‬ ‫طَائَِفتَ ِ َ ُ ْ َ ََ‬
‫َصلِ ُحوا‬
‫اءت فَأ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُخَرى َف َقاتلُوا الَّيِت َتْبغي َحىَّت تَفيءَ إِىَل أ َْم ِر اللَّه فَِإن فَ ْ‬ ‫اأْل ْ‬
‫ني" ( احلجرات ‪ ،‬آية ‪)9 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫َبْيَن ُه َما بِالْ َع ْد ِل َوأَقْ ِسطُوا إِ َّن اللَّهَ حُيِ ُّ‬
‫ب الْ ُم ْقسط َ‬
‫‪3‬‬
‫فقد مساهم اهلل مؤمنني مع اقتتاهلم" ‪.‬‬
‫‪3‬ـ إطالق حكم الكفر‪ :‬ليس كل من عمل عمالً أو قال قوالً‬
‫كفرياً يكون كافراً إال إذا وجدت الشروط يف حق ذلك املعني‪،‬‬
‫وانتفت املوانع اليت متنع استحقاقه لذلك احلكم‪ ،‬فقد يقول اإلنسان‬
‫الكفر أو يعمله بإجتهاد أو خطأ وال يكفر به‪ ،‬وذلك ملا يرتتب على‬
‫ذلك من األحكام الشرعية كإهدار دمه وزوال عصمة ماله وأوالده‬
‫وحترمي زوجته عليه وعدم حل ذبيحته وعدم جواز تغسيله والصالة عليه‬
‫ودفنه يف مقابر املسلمني وعدم جواز اإلستغفار له بعد موته ولورود‬
‫الوعيد الشديد على من أطلق كلمة الكفر على مسلم ومل يكن كذلك‬
‫ففي احلديث‪ :‬من قال ألخيه يا كافر فقد باء هبا أحدمها‪.4‬‬
‫‪ 4‬ـ شروط التكفير‪:‬‬

‫‪ 1‬عقيدة أهل السنة والجماعة صـ‪.51‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.6044‬‬
‫‪ 3‬عقيدة أهل السنة والجماعة صـ‪.51‬‬
‫‪ 4‬البخاري رقم ‪.6103‬‬
‫‪221‬‬
‫بني علماء املسلمني بأن الشخص املعني ال يكون كافراً حالل الدم‬
‫واملال إال إذا‪:‬‬
‫*ـ توفرت فيه شروط عدة‪.‬‬
‫*ـ وانتفت عنه موانع‪.‬‬
‫حينئذ جيوز احلكم عليه بالكفر‪ ،‬أما إذا انتفى أي شروط أو وجد أي‬
‫مانع فال جيوز أن حيكم عليه بالكفر‪ ،‬وليس معىن هذا إعفاءه من‬
‫العقوبة متاماً‪ ،‬بل يعاقب على حسب حاله إمنا املمنوع احلكم عليه‬
‫بالكفر ال مطلق العقوبة‪.‬‬
‫ـ شروط التكفير‪ :‬هناك شروط ثالثة البد من اجتماعها ومبن عمل‬
‫عمالً يستحق عليه الوعيد كاللعن والكفر وإذا سقط شرط منها فيمتنع‬
‫لعن الشخص وتكفريه‪.‬‬
‫أ ـ العلم‪ :‬فاهلل سبحانه وتعاىل مل يشرع العقوبة قبل إقامة احلجة‪.‬‬
‫ث َر ُسوالً" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ني َحىَّت َنْب َع َ‬ ‫ـ قال تعاىل‪َ " :‬و َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِ َ‬
‫‪.)1‬‬
‫َّاس َعلَى اللّ ِه ُح َّجةٌ‬ ‫ين لِئَالَّ يَ ُكو َن لِلن ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َو ُمنذر َ‬ ‫ـ قال تعاىل‪ُّ " :‬ر ُسالً ُّمبَ ِّش ِر َ‬
‫ِ‬
‫يما" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)165 :‬‬ ‫الر ُس ِل َو َكا َن اللّهُ َع ِز ًيزا َحك ً‬ ‫َب ْع َد ُّ‬
‫ِ‬
‫ث يِف أ ُِّم َها َر ُسواًل‬ ‫ك الْ ُقَرى َحىَّت َيْب َع َ‬ ‫ك ُم ْهل َ‬‫ـ قال تعاىل‪َ " :‬و َما َكا َن َربُّ َ‬
‫َيْتلُو َعلَْي ِه ْم آيَاتِنَا" (القصص ‪ ،‬آية ‪.)59 :‬‬
‫ـ قال تعاىل‪ُ " :‬كلَّ َما أُلْ ِق َي فِ َيها َف ْو ٌج َسأَهَلُ ْم َخَز َنُت َها أَمَلْ يَأْتِ ُك ْم نَ ِذ ٌير *‬
‫قَالُوا َبلَى قَ ْد َجاءنَا نَ ِذ ٌير فَ َك َّذ ْبنَا َو ُق ْلنَا َما َنَّز َل اللَّهُ ِمن َش ْي ٍء" (امللك‬
‫‪ ،‬آية ‪ 8‬ـ ‪.)9‬‬

‫‪222‬‬
‫اب ِّمن َقْبلِ ِه لََقالُوا َربَّنَا لَ ْواَل‬
‫اهم بِع َذ ٍ‬
‫ـ قال تعاىل‪َ " :‬ولَ ْو‬
‫أَنَّا أ َْهلَ ْكنَ ُ َ‬
‫ك ِمن َقْب ِل أَن نَّ ِذ َّل َوخَن َْزى" (طه ‪ ،‬آية‬ ‫َفنَتَّبِ َع آيَاتِ َ‬
‫ت إِلَْينَا َر ُسواًل‬ ‫أ َْر َس ْل َ‬
‫‪.)134 :‬‬
‫وهذه النصوص الربانية تفيد أن اهلل تعاىل ال يؤاحذ عباده إال بعد قيام‬
‫احلجة عليهم‪ ،‬وعلمهم باحلق والصواب‪ ،1‬وقد ثبت يف نصوص أخرى‬
‫أن اهلل ال يؤاخذ جاهل‪ ،‬ولو كان جهله مبسائل يف العقيدة‪ ،‬فقد قال‬
‫صلى اله عليه وسلم‪" :‬كان رجل يسرف على نفسه‪ ،‬وملا حضره املوت‬
‫قال لبنيه‪ :‬إذا أنا مت فأحرقوين‪ ،‬مث أطحنوين‪ ،‬مث ذروين يف الريح‪،‬‬
‫علي ليعذبين عذاباً ما عذبه أحد‪ ،‬فلما مات فعل به‬‫فواهلل لئن قدر َّ‬
‫ذلك‪ ،‬فأمر األرض فقال‪" :‬أمجعي ما فيك منه‪ ،‬ففعلت‪ ،‬فإذا هو قائم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما محلك على ما صنعت؟ قال‪ :‬يا رب خشيتك‪ ،‬فغفر له‪ ،‬ويف‬
‫رواية‪ :‬خمافتك يا رب‪ ،2‬فهذا الرجل كان قد وقع له الشك واجلهل يف‬
‫قدرة اهلل تعاىل على إعادة ابن آدم‪ ،‬بعدما أحرق وذري وعلى أنه‬
‫يعيد امليت وحيشره إذا فعل ذلك‪ ،‬وهذان أصالن عظيمان‪:‬‬
‫ـ أحدهما متعلق باهلل تعاىل‪ ،‬وهو اإلميان بأن اهلل على كل شئ‬
‫قدير‪.‬‬
‫ـ والثاني متعلق باليوم اآلخر‪ ،‬وهو اإلميان بأن اهلل يعيد هذا امليت‬
‫وجيزيه على أعماله‪.‬‬
‫ومع هذا فلما كان مؤمناً باهلل يف اجلملة‪ ،‬ومؤمناً باليوم اآلخر يف‬
‫اجلملة وهو أن اهلل يثيب ويعاقب بعد املوت قد عمل صاحلاً‪ ،‬وهو‬
‫خوفه من اهلل أن يعاقبه على ذنوبه‪ ،‬غفر اهلل له مبا كان منه من‬
‫اإلميان باهلل‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬والعمل الصاحل‪.3‬‬

‫‪ 1‬ظاهرة الغلو في الدين‪ ،‬محمد عبد الحكيم حامد صـ‪.267‬‬


‫‪ 2‬البخاري (‪,)515 ، 514 / 6‬‬
‫‪ 3‬الفتاوى (‪.)491 / 12‬‬
‫‪223‬‬
‫وكذلك بالل بن رباح رضي اهلل عنه‪ ،‬ملا باع الصاع بالصاعني أمره‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم برده‪ ،‬ومل يرتب على ذلك حكم آكل‬
‫الربا من التفسيق واللعن والتغليظ لعدم علمه بالتحرمي‪.1‬‬
‫ب ـ العمد‪ :‬ال بـد مـن توفر شروط العمد‪ ،‬ألن اهلل تعاىل قد رفع‬
‫اح‬
‫ليس َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬
‫"و َ‬‫اإلمث واملؤاخذة عن املخطئ واملتأول‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ُقلُوبُ ُك ْم" (األحزاب ‪ ،‬آية ‪ ،)5 :‬فقال‬ ‫َخطَأْمُت بِه َولَكن َّما َت َع َّم َد ْ‬
‫يما أ ْ‬
‫فَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخطَأْنَا" (البقرة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫سبحانه وتعاىل‪َ " :‬ربَّنَا الَ ُت َؤاخ ْذنَا إِن نَّسينَا أ َْو أ ْ‬
‫‪ ،)286‬وقد ثبت عن النيب صلى اله عليه وسلم‪ :‬إن اهلل تعاىل قال‬
‫قد فعلت‪ ،‬مما دعا النيب صلى اهلل عليه وسلم واملؤمنون هبذا الدعاء‪.2‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن اهلل جتاوز يل عن أميت اخلطأ النسيان‪.‬‬
‫وذلك يعم اخلطأ يف املسائل اخلربية القولية‪ ،‬واملسائل العملية‪ ،‬وما زال‬
‫السلف يتنازعون يف كثري من هذه املسائل‪ ،‬ومل يشهد أحداً منهم على‬
‫أحد‪ ،‬ال بكفر وال بفسق وال مبعصية‪ .3‬تلك أدلة رفع اإلمث واملؤاخذة‬
‫عن املخطئ واملتأول‪.4‬‬
‫وإذا كان املسلم متأوالً يف القتال أو التكفري مل يكفر بذلك‪ ،‬كما‬
‫قال عمر بن اخلطاب ـ رضي اهلل عنه ـ حلاطب بن أيب بلتعة يا‬
‫رسول اهلل دعين أضرب عنق هذا املنافق‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪" :‬أنه شهد بدراً ما يدريك أن اهلل قد اطلع على أهل بدر‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"‪ ،5‬وكذلك ثبت يف الصحيحني‬
‫عن أسامة بن زيد أنه قتل رجالً بعد ما قال ال إله إال اهلل‪ ،‬وعظم‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم ذلك ملا أخربوه وقال‪ :‬يا أسامة أقتلته بعدما‬
‫قال‪ :‬ال إله إال اهلل؟ كرر ذلك عليه حىت قال أسامة‪ :‬متنيت أين مل‬

‫‪ 1‬الفتاوي (‪.)253 / 20‬‬


‫‪ 2‬تفسير صحيح ابن كثير (‪.)323 / 1‬‬
‫‪ 3‬الفتاوى (‪.)229 / 3‬‬
‫‪ 4‬ظاهرة الغلو في الدين في العصر الحديث صـ‪.271‬‬
‫‪ 5‬البخاري رقم ‪ ،3983‬مسلم رقم ‪.2494‬‬
‫‪224‬‬
‫أكن أسلمت يومئذ‪ ،‬ومل يوجب عليه قوداً وال دية وال كفارة‪ ،‬ألنه‬
‫كان متأوالً‪ ،‬ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أهنا قاهلا تعوذاً‪.1‬‬
‫جـ ـ اإلختيار والقدرة‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬من َك َفَر بِاللّ ِه ِمن َب ْع ِد إميَانِِه إِالَّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َم ْن أُ ْك ِر َه َو َق ْلبُهُ ُمطْ َمئ ٌّن بِا ِإلميَان َولَـكن َّمن َشَر َح بِالْ ُك ْف ِر َ‬
‫ص ْد ًرا َف َعلَْي ِه ْم‬
‫يم" (النحل ‪ ،‬آية ‪ .)106 :‬ففي قوله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫ب ِّم َن اللّه َوهَلُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫ضٌ‬ ‫َغ َ‬
‫ان" فهو إستثناء ممن كفر بلسانه‬ ‫تعاىل‪" :‬إِالَّ من أُ ْك ِره و َق ْلبه مطْمئِ ٌّن بِا ِإلميَ ِ‬
‫َ َ ُُ ُ َ‬ ‫َْ‬
‫ووافق املشركني بلفظهم مكرهاً ملا ناله من ضرب وأذى‪ ،‬وقلبه يأىب‬
‫ما يقول وهو مطمئن باإلميان باهلل ورسوله‪ ،‬وقد نزلت هذه اآلية يف‬
‫عمار بن ياسر‪ ،‬فقد أخذه املشركون فعذبوه حىت قارهبم يف بعض ما‬
‫أرادوا فشكا ذلك إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪" :‬كيف جتد قلبك؟ قال‪ :‬مطمئناً باإلميان‪ ،‬قال النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬إن عادوا فعد" ‪ ،‬وهلذا اتفق العلماء على أن املكره على‬ ‫‪2‬‬

‫الكفر جيوز له أن يوايل إبقاء ملهجته وجيوز له أن يأىب كما كان‬


‫بالل رضي اهلل عنه‪ ،‬يأىب عليهم ذلك واألفضل واألوىل أن يثبت‬
‫املسلم على دينه‪ ،‬ولو أفضى إىل قتله ‪ .‬واهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬أخرب يف‬
‫‪3‬‬

‫ف‬‫غري موضع أنه ال يكلف نفساً إآل وسعها‪ ،‬كقوله تعاىل‪ " :‬الَ يُ َكلِّ ُ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُواْ‬ ‫اللّهُ َن ْف ًسا إالَّ ُو ْس َع َها" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)286 :‬وقوله تعاىل‪َ " :‬والذ َ‬
‫ف َن ْف ًسا إِالَّ ُو ْس َع َها" (األعراف ‪ ،‬آية ‪،)42 :‬‬ ‫وع ِملُواْ َّ حِل ِ‬
‫الصا َات الَ نُ َكلِّ ُ‬ ‫ََ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم" (التغابن ‪،‬‬ ‫وأمر بتقوه بقدر االستطاعة فقال‪ " :‬فَ َّات ُقوا اللَّهَ َما ْ‬
‫آية ‪.)16 :‬‬
‫‪ 5‬ـ موانع التكفير‪:‬‬
‫إن احلكم على الشخص املعني يتوقف على وجود شروط وإنتفاء‬
‫موانع‪ ،‬ومن موانع التكفري‪ ،‬اخلطأ‪ ،‬اجلهل‪ ،‬العجز‪ ،‬واإلكراه‪.‬‬
‫‪ 1‬ظاهرة الغلو في الدين في العصر الحديث صـ‪ ،272‬الحديث صحيح رواه الشيخان‪.‬‬
‫‪ 2‬مستدرك الحاكم (‪ ،)257 / 2‬نصب الراية للزيلمي (‪.)158 / 4‬‬
‫‪ 3‬تفسير ابن كثير (‪.)588 ، 587 / 2‬‬
‫‪225‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخطَأْنَا" (البقرة‬ ‫أ ـ فالخطأ‪ :‬لقوله تعاىل‪َ " :‬ربَّنَا الَ ُت َؤاخ ْذنَا إِن نَّسينَا أ َْو أ ْ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)286 :‬‬
‫َخطَأْمُت بِِه" (األحزاب ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫وقال تعاىل‪" :‬ولَيس علَي ُكم جن ِ‬
‫يما أ ْ‬ ‫اح ف َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ ْ َُ ٌ‬
‫‪ .)5‬ووجود اخلطأ من املسلم أحد موانع تكفري املعني‪ ،‬كما أن اهلل أمر‬
‫الناس أن يطلبوا احلق على قدر وسعه وإمكاهنم‪ ،‬فإن مل يصيبوا احلق‬
‫يف إجتهادهم‪ ،‬فال يكلف اهلل نفساً إال وسعها‪ ،‬والواجب يف حقه أن‬
‫يعبد اهلل حبسب ما توصل إليه إجتهاده‪ ،‬إن كان مؤهالً لإلجتهاد‬
‫وبذل وسعه يف طلب احلق‪.‬‬
‫أن األدلة من الكتاب والسنة متضافرة على أن اجملتهد املخطئ معذور‪،‬‬
‫كما دل اإلمجاع والقياس على ذلك‪.1‬‬
‫ين لِئَالَّ يَ ُكو َن لِلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫ر‬ ‫ب ـ الجهل‪ :‬قال تعاىل‪ُّ " :‬رسالً ُّمب ِّش ِرين وم ِ‬
‫نذ ِ‬
‫ُ َ َ َُ َ‬
‫ِ‬ ‫َعلَى اللّ ِه ُح َّجةٌ َب ْع َد ُّ‬
‫يما" (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫الر ُس ِل َو َكا َن اللّهُ َع ِز ًيزا َحك ً‬
‫ث َر ُسوالً" (اإلسراء ‪،‬‬ ‫ني َحىَّت َنْب َع َ‬ ‫‪ ،)165‬وقال تعاىل‪َ " :‬و َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِ َ‬
‫آية ‪.)15 :‬‬
‫فاجلهل أحد موانع تكفري املعني ألن اإلميان متعلق بالعلم‪ ،‬ووجود العلم‬
‫باملؤمن به شرط من شروط اإلميان به‪.2‬‬
‫ج ـ العجز‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬و َما لَ ُك ْم الَ ُت َقاتِلُو َن يِف َسبِ ِيل اللّ ِه‬
‫َخ ِر ْجنَا‬ ‫الرج ِال والنِّساء والْ ِولْ َد ِان الَّ ِ‬ ‫ضع ِفني ِ‬
‫ين َي ُقولُو َن َربَّنَا أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ن‬
‫َوالْ ُم ْستَ ْ َ َ َ‬
‫م‬
‫اج َعل لَّنَا ِمن‬ ‫ِ‬ ‫مِل‬ ‫ِِ‬
‫نك َوليًّا َو ْ‬ ‫اج َعل لَّنَا ِمن لَّ ُد َ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َهـذه الْ َق ْريَة الظَّا ِ أ َْهلُ َها َو ْ‬
‫ِ‬
‫ص ًريا" (النساء ‪ ،‬آية ‪ .)75 :‬فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة‬ ‫نك نَ ِ‬
‫لَّ ُد َ‬
‫دينهم فقد سقط ما عجزوا عنه‪.3‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫يم ُكنتُ ْم‬ ‫اه ُم الْ َمآلئ َكةُ ظَالمي أَْن ُفسه ْم قَالُواْ ف َ‬ ‫ين َت َوفَّ ُ‬‫وقوله تعاىل‪ ":‬إ َّن الذ َ‬
‫ض اللّ ِه َو ِاس َعةً‬ ‫ني يِف األ َْر ِ‬ ‫قَالُواْ ُكنَّا مست ْ ِ‬
‫ض قَالْ َواْ أَمَلْ تَ ُك ْن أ َْر ُ‬ ‫ض َعف َ‬ ‫ُ َْ‬
‫‪ 1‬منهج ابن تيمية في مسألة التكفير (‪.)257 ، 249 / 1‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)261 / 1‬‬
‫‪ 3‬الفتاوى (‪.)221 ،19/220‬‬
‫‪226‬‬
‫ني‬ ‫صريا* إِالَّ الْمست ْ ِ‬ ‫ك مأْواهم جهنَّم وس ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َعف َ‬ ‫ُ َْ‬ ‫اءت َم ً‬ ‫َفُت َهاجُرواْ ف َيها فَأ ُْولَـئ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ‬
‫ِّساء َوالْ ِولْ َد ِان الَ يَ ْستَ ِطيعُو َن ِحيلَةً َوالَ َي ْهتَ ُدو َن َسبِيالً*‬ ‫ِمن ِّ ِ‬
‫الر َجال َوالن َ‬ ‫َ‬
‫ورا" (النساء ‪،‬‬ ‫ك َع َسى اللّهُ أَن َي ْع ُف َو َعْن ُه ْم َو َكا َن اللّهُ َع ُف ًّوا َغ ُف ً‬ ‫فَأ ُْولَـئِ َ‬
‫آية ‪97 :‬ـ ‪ .)99‬فهذه اآليات يف مجاعة من املؤمنني كانوا يستخفون‬
‫بإمياهنم‪ ،‬وهم عاجزون عن اهلجرة‪ ،‬فعذرهم اهلل تعاىل‪.1‬‬
‫ومثال آخر على موانع التكفري‪ ،‬العجز‪ ،‬أن النجاشي كان ملك‬
‫النصارى يف احلبشة‪ ،‬فلم يطعه قومه يف الدخول يف اإلسالم‪ ،‬ومل‬
‫يدخل معه سوى نفر يسري منهم‪ ،‬فلما مات‪ ،‬صلى عليه النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم باملدينة‪ ،‬خرج باملسلمني إىل املصلى‪ ،‬فصفهم صفوفاً‪،‬‬
‫وصلى عليهم وأخربهم مبوته يوم مات فقال‪ :‬قد تويف اليوم رجل صاحل‬
‫من احلبش فهلموا فصلوا عليه‪ .2‬وكثري من شرائع اإلسالم مل يكن دخل‬
‫فيها لعجزه عن ذلك‪ ،‬فلم يهاجر‪ ،‬ومل جياهد‪ ،‬بل قد روي أنه مل‬
‫يصل الصلوات اخلمس‪ ،‬وال يصوم رمضان‪ ،‬وال يؤدي الزكاة الشرعية‪،‬‬
‫ألن ذلك يظهر عند قومه فينكرون عليه وهو ال ميكنه خمالفتهم ويعلم‬
‫قطعاً أنه مل يكن ميكنه أن حيكم بينهم حبكم القرآن‪ ،‬ألن قومه ال‬
‫يقرونه على ذلك‪ ،‬وهلذا جعل اهلل هؤالء من أهل الكتاب الذين آمنوا‬
‫اب لَ َمن‬ ‫بالنيب صلى اهلل عليه وسلم قال تعاىل‪ ":‬وإِ َّن ِمن أ َْه ِل الْ ِكتَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ني لِلّ ِه الَ يَ ْشَتُرو َن‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يُ ْؤم ُن بِاللّه َو َما أُن ِز َل إِلَْي ُك ْم َو َمآ أُن ِز َل إِلَْي ِه ْم َخاشع َ‬
‫َجر ُهم ِع َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِآي ِ‬
‫ند َرهِّب ْم إ َّن اللّهَ َس ِر ُ‬
‫يع‬ ‫ك هَلُ ْم أ ْ ُ ْ‬ ‫ات اللّ ِه مَثَنًا قَليالً أ ُْولَـئِ َ‬ ‫َ‬
‫اب" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)199 :‬‬ ‫احْلِس ِ‬
‫َ‬
‫وقال بعض العلماء هذه اآلية‪ :‬إهنا نزلت يف النجاشي‪ ،‬ومنهم من قال‪:‬‬
‫فيه ويف أصحابه‪ ،3‬وكذلك ما أخرب به عن حال مؤمن آل فرعون مع‬
‫قوم فرعون‪ ،‬وعن حال إمرأة فرعون‪ ،‬وكما كان يوسف الصديق ـ‬
‫‪ 1‬الفتاوى (‪.)19/220‬‬
‫‪ 2‬مسلم (‪ )3/55‬كتاب العجائز‪.‬‬
‫‪ 3‬فتاوى (‪19/217‬ـ ‪.)219‬‬
‫‪227‬‬
‫عليه السالم ـ مع أهل مصر‪ ،‬فإهنم كانوا كفاراً ومل ميكنه أن يفعل‬
‫معهم كل ما يعرفه من دين اإلسالم‪ ،‬ألنه دعاهم إىل التوحيد واإلميان‬
‫فلم جييبوه‪.1‬‬
‫إن من عجز عن أداء ما شرع اهلل عليه‪ ،‬واتقى اهلل ما أستطاع‪ ،‬فإنه‬
‫معذور‪ ،‬غري مؤاخذ على ما تركه‪.‬‬
‫س ـ اإلكراه‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬من َك َفَر بِاللّ ِه ِمن َب ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن أُ ْك ِر َه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب ِّم َن‬ ‫ضٌ‬ ‫َو َق ْلبُهُ ُمطْ َمئ ٌّن بِا ِإلميَان َولَـكن َّمن َشَر َح بِالْ ُك ْف ِر َ‬
‫ص ْد ًرا َف َعلَْي ِه ْم َغ َ‬
‫يم" (النحل ‪ ،‬آية ‪ .)106 :‬كل ما أدى بشخص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫اللّه َوهَلُ ْم َع َذ ٌ‬
‫لو مل يفعل املأمور به إىل ضرب أو حبس‪ ،‬أو أخذ مال‪ ،‬أو قطع‬
‫رزق يستحقه أو حنو ذلك‪ 2‬وشروطه أربعة‪:‬‬
‫ـ أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به‪ ،‬واملأمور عاجزاً عن‬
‫الدفع‪ ،‬ولو بالفرار‪.‬‬
‫ـ أن يغلب على ظن املكره أنه إذا امتنع أوقع به ما هدده به‪.‬‬
‫ـ أن يكون ما هدده به فورياً‪ ،‬أو بعد زمن قريب جداً‪ ،‬أو جرت‬
‫العادة أنه ال خيلف ما هدده به‪.‬‬
‫ـ أن ال يظهر من املأمور ما يدل على اختياره‪.3‬‬
‫‪6‬ـ ما يمحو الكفر بعد ثبوته على المعين‪:‬‬
‫التوبة‪ :‬هي رجوع العبد إىل اهلل‪ ،‬ومفارقته لصراط املغضوب عليهم‬
‫والضالني‪.4‬‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل يقبل توبة العبد من مجيع الذنوب‪ ،‬الشرك فما‬
‫َسَرفُوا َعلَى أَن ُف ِس ِه ْم اَل‬ ‫دونه‪ ،‬كما قال تعاىل‪ ":‬قُل يا ِعب ِادي الَّ ِ‬
‫ين أ ْ‬
‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫الذنُ َ ِ ِ‬
‫وب مَج ًيعا إنَّهُ ُه َو الْغَ ُف ُ‬
‫ور‬ ‫َت ْقنَطُوا ِمن رَّمْح َِة اللَّ ِه إِ َّن اللَّهَ َي ْغ ِفر ُّ‬
‫ُ‬
‫‪ 1‬تفسير الطبري (‪4/218‬ـ ‪.)219‬‬
‫‪ 2‬مناهج ابن تيمية في مسألة التكفير (‪.)1/266‬‬
‫‪ 3‬فتح الباري (‪.)12/311‬‬
‫‪ 4‬مدارج السالكين (‪.)2/199‬‬
‫‪228‬‬
‫ين قَالُواْ إِ َّن‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم" (الزمر ‪ ،‬آية ‪ .)53 :‬وقال تعالى‪ ":‬ل َق ْد َك َفَر الذ َ‬ ‫الرح ُ‬
‫ث ثَالَثٍَة وما ِمن إِلَ ٍـه إِالَّ إِلَـه و ِ‬
‫اح ٌد َوإِن مَّلْ يَ َنت ُهواْ َع َّما َي ُقولُو َن‬ ‫ِ‬
‫ٌ َ‬ ‫ََ ْ‬ ‫اللّهَ ثَال ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم* أَفَالَ َيتُوبُو َن إِىَل اللّه َويَ ْسَت ْغفُرونَهُ‬
‫اب أَل ٌ‬‫ين َك َفُرواْ مْن ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫لَيَ َم َّس َّن الذ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫يم" (املائدة ‪ ،‬آية ‪ .)74 ،73 :‬وقال تعاىل‪ ":‬قُل للَّذ َ‬
‫ين‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫َواللّهُ َغ ُف ٌ‬
‫ف" (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)38 :‬‬ ‫َك َفُرواْ إِن يَ َنت ُهواْ يُغَ َف ْر هَلُم َّما قَ ْد َسلَ َ‬
‫والتوبة متحو مجيع السيئات وليس شيء يغفر مجيع الذنوب إال التوبة‬
‫ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار احملاربني‪ ،‬وقال‪ :‬هو ساحر‪ ،‬أو‬
‫شاعر أو جمنون‪ ،‬أو معلم‪ ،‬أو مفرت‪ ،‬وتاب‪ ،‬تاب اهلل عليه‪ ،‬وقد كان‬
‫طائفة يسبون النيب صلى اهلل عليه وسلم من أهل احلرب‪ ،‬مث أسلموا‬
‫وحسن إسالمهم وقبل النيب صلى اهلل عليه وسلم منهم‪ ،‬منهم أبو‬
‫سفيان بن احلارث بن بن عبد املطلب ابن عم النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وعبد اهلل ابن أيب السرح‪ ،‬وكان قد ارتد‪ ،‬وكان يكذب على‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم ويقول‪ :‬أنا كنت أعلمه القرآن‪ ،‬مث تاب‪،‬‬
‫وأسلم وبايعه النيب صلى اهلل عليه وسلم على ذلك‪ ،1‬فالتوبة هي األمر‬
‫الوحيد الذي ميحو اهلل به الكفر بعد ثبوته‪ ،‬وقد انعقد اإلمجاع على‬
‫ذلك‪.2‬‬

‫‪ 1‬مجموع الفتاوى (‪.)3/291‬‬


‫‪ 2‬منهج ابن تيمية في مسألة التكفير (‪.)1/273‬‬
‫‪229‬‬
‫ثالثاً‪ :‬األمثال القرآنية للكافرين‪:‬‬
‫َّ ِ‬
‫‪1‬ـ السراب وأعمال الكفار‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬والذ َ‬
‫ين َك َفُروا أ َْع َماهُلُ ْم‬
‫اب بِِق َيع ٍة حَيْ َسبُهُ الظَّ ْمآ ُن َماء َحىَّت إِ َذا َجاءهُ مَلْ جَيِ ْدهُ َشْيئًا َو َو َج َد‬ ‫َكسر ٍ‬
‫ََ‬
‫نده َفوفَّاه ِحسابهُ واللَّهُ س ِريع احْلِس ِ‬ ‫ِ‬
‫اب" (النور ‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫اللَّهَ ع َ ُ َ ُ َ َ َ‬
‫يبني اهلل سبحانه وتعاىل أن مثل أعمال الذين كفروا باهلل مثل سراب‬
‫بأرض منبسطة يرى وسط النهار وحني اشتداد احلر‪ ،‬فيظنه العطشان‬
‫ماء‪ ،‬فإذا أتاه ملتمساً الشراب إلزالة عطشه مل جيد السراب شيئاً‪،‬‬
‫فكذلك الكافرون يف غرور من أعماهلم اليت عملوها وهم حيسبون أهنا‬
‫تنجيهم عند اهلل من اهلالك كما حسب العطشان السراب ماء‪ ،‬فإذا‬
‫صار الكافر إىل اهلل واحتاج لعمله مل ينفعه وجازاه اهلل اجلزاء الذي‬
‫يستحقه‪.1‬‬
‫السراب‪ ،‬مث صورة الظامي‪ ،‬الذي ظنه ماء‪،‬‬ ‫وتالحظ خالل املثل صورة ّ‬
‫يتم رمسها‬ ‫مث خيبته عند وصوله إليه‪ ،‬وحذف ما عدا ذلك ألن اخليال ُّ‬
‫ويف املمثل له مل يُذكر إال عمل الذين كفروا وطُ ِوى ما عدا ذلك‬
‫ألن الفكر قادر على أن يستدعيه وهذا من بالغة القرآن‪.2‬‬
‫ات يِف حَبْ ٍر جُّلِّ ٍّي َي ْغ َشاهُ َم ْو ٌج‬ ‫‪2‬ـ ظلمات الكفر‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬أَو َكظُلُم ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫َخَر َج‬‫ض إِذَا أ ْ‬ ‫ض َها َف ْو َق َب ْع ٍ‬‫ات َب ْع ُ‬‫اب ظُلُ َم ٌ‬‫ِّمن َف ْوقه َم ْو ٌج ِّمن َف ْوقه َس َح ٌ‬
‫ورا فَ َما لَهُ ِمن نُّو ٍر" (النور‬ ‫يَ َدهُ مَلْ يَ َك ْد َيَر َاها َو َمن مَّلْ جَيْ َع ِل اللَّهُ لَهُ نُ ً‬
‫‪ ،‬آية ‪ .)40 :‬هذه اآلية مثل آخر ألعمال الكفار‪ ،‬إال أن املثل األول‬
‫يف اخنداع الكافر بعمله يف الدنيا وغروره به‪ ،‬وهذا املثل ألعمال‬
‫الكفار يف أهنا عملت على خطأ وفساد وضالل وحرية وعلى غري‬
‫هدى‪ ،‬فهي يف ذلك كمثل ظلمات يف حبر عميق جداً كثري املاء‪،‬‬

‫‪ 1‬الشرك في القديم والحديث (‪.)2/1382‬‬


‫‪ 2‬أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع عبد الرحمن حبنكة صـ ‪.133‬‬
‫‪230‬‬
‫وفوق هذا املوج موج آخر‪ ،‬وفوقها سحاب مرتاكم‪ ،‬فاجتمعت عدة‬
‫ظلمات‪ ،‬وهكذا عمل الكافر ظلمات يف ظلمات‪.1‬‬
‫فهذا املثل يصور احلالة النفسية والفكرية والقلبية للذين كفروا بعد أن‬
‫تركوا نور اهلداية الربانية‪ ،‬إهنم يطلبون سعادهتم يف الظلمات‪ ،‬فقلوهبم‬
‫مظلمة بالكفر‪ ،‬ونفوسهم تائهة يف حبر من ظلمات األهواء‬
‫والشهوات‪ ،‬وأفكارهم تسبح يف ظلمات أسباب لذات الدنيا‪ ،‬وإرادهتم‬
‫كل هذه الظلمات‪ ،‬فمثلهم كمن يف ظلمات قاع حبر عميق‪،‬‬ ‫حتت ّ‬
‫فوقه أمواج يف العمق الظلمة‪ ،‬فوقها أمواج يف السطح تُضاعف الظلمة‪،‬‬
‫ظلمات بعضها فوق بعض‪.2‬‬
‫ُ‬ ‫فوقها سحاب يزيد الظالم ظالماً‪،‬‬
‫إن مثل الظلمات يف سورة ((النور)) دل على حقائق علمية تتصل‬
‫بالعلوم الدنيوية املادية التطبيقية أو النظرية‪ ،‬وإن هذه احلقائق تنقسم‬
‫ثالثة أقسام‪:‬‬
‫ـ القسم األول‪ :‬داللة املثل على معجزة علمية للنيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم تتمثل يف اإلخبار بوجود أمواج يف باطن البحار العميقة اللجية‬
‫((احمليطات)) واليت مل تكن معلومة يف ذلك الوقت‪ ،‬بل مل تكن مبقدور‬
‫البشر اكتشافها لكوهنا على عمق ال يصله إال الغواصات أو الغواصون‬
‫املزودون باألكسجني‪.‬‬
‫ـ القسم الثاني‪ :‬اإلخبار عن حقائق علمية يف العلوم املادية الدنيوية مبا‬
‫يطابق ما ثبت عند املتخصصني فيها‪ ،‬وقد اشتمل املثل على فائدتني‬
‫من هذا القسم‪ ،‬مها‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬إفادة املثل أن أعماق البحار العميقة مظلمة ظلمة شديدة مع بيان‬
‫سبب ذلك‪ ،‬وهو وجود ُح ُجب حجبت الضوء هي عبارة عن أوساط‬
‫شفافة متعددة أسهمت جمتمعة يف منع الضوء عن تلك األماكن‬

‫‪ 1‬الشرك في القديم والحديث (‪.)2/1383‬‬


‫‪ 2‬أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع صـ ‪.133‬‬
‫‪231‬‬
‫وتسببت يف ظلمتها واتفاق ذلك مع ما تقرر يف علم البحار‪ ،‬وعلم‬
‫الضوء‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬داللة املثل على التفسري العلمي للرؤية وأنه يشرتط له وصول‬
‫الضوء من مصدر مضيئ إىل اجلسم املرئي‪ ،‬وإذا انعدم الضوء ومل يصل‬
‫منه شيء إىل اجلسم فإنه يظلم وال يُرى واتفاقه مع التفسري الصحيح‬
‫املتقرر عند املتخصصني يف ذلك الشأن‪ ،‬كما تضمن املثل ـ أيضاً ـ‬
‫إبطال التفسري القدمي القائم على أن سبب الرؤية خروج أشعة من‬
‫العني تسقط على األجسام فتحدث رؤيتها‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬إفادة املثل حقائق علمية ثابتة يف نفسها وإن مل تكن‬
‫مسلمةعند كل املشتغلني بتلك العلوم‪ ،‬وذلك يف األمور العقلية اليت‬
‫تبحث عادة فيما يسمى بعلم النفس والسلوك واالجتماع‪.‬‬
‫وقد دل املثل على حقيقتني من هذا القسم‪ ،‬مها‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬حقيقة أن الكفار يتقلبون يف ظلمات حالكة وضالالت ال ينفكون‬
‫عنها‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬حقيقة أن الكفار يف خوف وقلق وحرية دائمة‪.1‬‬
‫ين َك َفُرواْ بَِرهِّبِ ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫‪3‬ـ الرماد وأعمال الكفار‪ :‬قال تعاىل‪َّ ":‬مثَ ُل الذ َ‬
‫ف الَّ َي ْق ِد ُرو َن مِم َّا َك َسبُواْ‬ ‫اص ٍ‬‫الريح يِف يوٍم ع ِ‬
‫َْ َ‬
‫أ َْعماهُل م َكرم ٍاد ا ْشتَد ِِ‬
‫َّت به ِّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُْ َ َ‬
‫ٍ ِ‬
‫يد" (ابراهيم ‪ ،‬آية ‪ ،)18 :‬شبه اهلل‬ ‫الضالَ ُل الْبَعِ ُ‬
‫ك ُه َو َّ‬
‫َعلَى َش ْيء َذل َ‬
‫تعاىل أعمال الكفار يف بطالهنا وعدم االنتفاع هبا برماد مرت عليه‬
‫ريح شديدة يف يوم عاصف‪ ،‬فشبه سبحانه أعماهلم يف حبوطها وذهاهبا‬
‫باطالً كاهلباء املنثور لكوهنا على غري أساس من اإلميان واإلحسان‬
‫وكوهنا لغري اهلل عز وجل وعلى غري أمره‪ ،‬برماد طريته الريح العاصف‬
‫فال يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه‪ ،‬فلذلك قال‬

‫‪ 1‬األمثال القرآنية (‪ )2/755‬د‪ .‬عبد هللا جربوع‪.‬‬


‫‪232‬‬
‫تعاىل‪ ":‬ال َي ْق ِد ُرو َن مِم َّا َك َسبُواْ َعلَى َش ْي ٍء" ال يقدرون يوم القيامة مما‬
‫كسبوا من أعماهلم على شيء فال يرون له أثراً من ثواب وال فائدة‬
‫نافعة‪.‬‬
‫فإن اهلل ال يقبل إال ما كان خالصاً لوجهه موافقاً لشرعه‪ ...‬ويف‬
‫تشبيهه بالرماد سر بديع‪ ،‬وذلك للتشابه الذي بني أعماهلم وبني الرماد‬
‫يف إحراق النار وإذهاهبا ألصل هذا وهذا‪ ،‬فكانت األعمال اليت لغري‬
‫اهلل وعلى غري مراده طعمة للنار وهبا تسعر النار على أصحاهبا‪،‬‬
‫وينشيئ اهلل سبحانه هلم من أعماهلم الباطلة ناراً وعذاباً كما ينشئ‬
‫ألهل األعمال املوافقة ألمره وهنيه اليت هي خالصة لوجهه من أعماهلم‬
‫نعيماً وروحاً‪ ،‬فأثرت النار يف أعمال أولئك حىت جعلتها رماداً‪ ،‬فهم‬
‫وأعماهلم وما يعبدون من دون اهلل وقود النار‪.1‬‬
‫‪4‬ـ نفقة الكفار والريح الشديدة‪ :‬قال تعالى‪َ ":‬مثَل َما يُ ِنف ُقو َن يِف‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الد ْنيا َكمث ِل ِر ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ث َق ْوم ظَلَ ُمواْ‬ ‫ت َحْر َ‬ ‫َصابَ ْ‬
‫يح ف َيها صٌّر أ َ‬ ‫هـذه احْلَيَاة ُّ َ َ َ‬
‫ـك ْن أَن ُف َس ُه ْم يَظْلِ ُمو َن" (آل عمران ‪،‬‬ ‫أَن ُفسهم فَأَهلَ َكْته وما ظَلَمهم اللّه ولَ ِ‬
‫َُ ُ ُ َ‬ ‫َُ ْ ْ ُ ََ‬
‫آية ‪.)117 :‬شبه اهلل سبحانه ما ينفق الكافر ويتصدق به على وجه‬
‫القربة إىل اهلل هو مشرك باهلل وجاحد به ومكذب لرسله وأن ذلك‬
‫غري نافعة وأنه مضمحل عند حاجته إليه ذاهب بعد ما كان يرجو‬
‫نفعه‪ ،‬كشبه ريح فيها برد شديد وحتمل النار فأصابت زرع قوم أملوا‬
‫إدراكه ورجوا ريعه لكنهم كفرة‪ ،‬فأهلكت الريح اليت فيها الصر الزرع‬
‫ومل ينتفع بشيئ منه‪ ،‬وكذلك يفعل اهلل بنفقة الكافر وصدقته ويبطل‬
‫ثواهبا‪ ،‬واملراد باملثل صنيع اهلل بالنفقة‪.2‬‬
‫وهذا مثل ـ أيضاً ـ ضربه اهلل تعاىل ملن أنفق يف غري طاعته ومرضاته‪،‬‬
‫فشبه سبحانه ما ينفقه هؤالء من أمواهلم يف املكارم واملفاخر وكسب‬

‫‪ 1‬إعالم الموقعين (‪.)1/170‬‬


‫‪ 2‬الشرك في القديم والحديث (‪.)2/1386‬‬
‫‪233‬‬
‫الثناء وحسن الذكر وال يبتغون به وجه اهلل‪ ،‬وما ينفقونه ليصدوا به‬
‫عن سبيل اهلل واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه‬
‫وخريه‪ ،‬فأصابته ريح شديدة الربد جداً حيرق بردها ما مير عليه من‬
‫الزرع والثمار‪ ،‬فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته‪.1‬‬
‫ب خَي ُْر ُج َنبَاتُهُ‬‫‪5‬ـ قلب الموحد وقلب الكافر‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬والَْبلَ ُد الطَّيِّ ُ‬
‫ات لَِق ْوٍم‬ ‫ف اآلي ِ‬
‫صِّر ُ َ‬ ‫ك نُ َ‬
‫ِ‬
‫ث الَ خَي ُْر ُج إِالَّ نَ ِك ًدا َك َذل َ‬
‫ِ‬
‫بِِإ ْذ ِن َربِِّه َوالَّذي َخبُ َ‬
‫يَ ْش ُكُرو َن" (األعراف ‪ ،‬آية ‪ .)58 :‬بني سبحانه وتعاىل يف هذا املثل أن‬
‫البلد الطيب تربته العذبة مشاربه خيرج نباته إذا أنزل اهلل الغيث طيباً‬
‫مثره يف حينه ووقته‪ ،‬والبلد الذي خبث فرتبته رديئة‪ ،‬ومشاربه ماحلة‪،‬‬
‫وخيرج نباته بعسر وشدة‪ ،‬فهذا مثل ضربه اهلل للمؤمن والكافر‪ ،‬ألن‬
‫قلب املؤمن ملا دخله القرآن آمن به وثبت اإلميان فيه وفاض باخلري‪،‬‬
‫وقلب الكافر ملا دخله القرآن مل يتعلق منه بشيء ينفعه ومل يثبت فيه‬
‫اإلميان ففاض بالنكد والشر والفساد‪.2‬‬
‫وقد مسى اهلل يف كتابه املؤمن بالطيب والكافر باخلبيث فقال تعاىل‪":‬‬
‫ضهُ َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض َفَي ْر ُك َمهُ‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫يث‬
‫َ‬ ‫ب وجَيْ َعل اخْلَبِ‬ ‫يث ِمن الطَّيِّ ِ‬ ‫َ‬ ‫لِيَ ِم َيز اللّهُ اخْلَبِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك ُه ُم اخْلَاسُرو َن" (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)37 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َّم أ ُْولَـئِ َ‬‫ن‬‫ه‬ ‫ج‬ ‫مَجِ يعاً َفيَ ْج َعلَهُ يِف‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪3‬‬
‫فاخلبيث يف هذه اآلية هم الكفار والطيب هم املؤمنون ‪.‬‬
‫هذه بعض األمثلة القرآنية اليت ضربت للكفار‪ ،‬وهذا على سبيل املثال‬
‫ال احلصر‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬النفاق‪ :‬لفظ إسالمي مل تكن العرب تعرفه قبل اإلسالم هبذا‬
‫املعىن املخصوص‪ ،‬وحاصل عبارات العلماء يف تعريفه ميكن إرجاعها إىل‬
‫أن النفاق هو‪ :‬إظهار اإلميان‪ ،‬وإبطان الكفر‪.4‬‬

‫‪ 1‬إعالم الموقعين (‪.)1/186‬‬


‫‪ 2‬تفسير الطبري (‪ ، )8/211‬تفسير ابن كثير (‪.)2/222‬‬
‫‪ 3‬تفسير القرطبي (‪ ، )7/401‬الشرك في القديم والحديث (‪.)2/1375‬‬
‫‪ 4‬النفاق أثره في حياة األمة د‪ .‬عادل الشدي صـ ‪.20‬‬
‫‪234‬‬
‫‪1‬ـ أنواع النفاق‪ :‬ينقسم النفاق إىل نوعني‪ ،‬نفاق االعتقاد ونفاق‬
‫العمل‪:‬‬
‫أ ـ نفاق االعتقاد‪ :‬وهذا النوع من النفاق األكرب الذي خيرج صاحبه‬
‫من ملة اإلسالم‪ ،‬ويوجب له اخللود يف النار‪ ،‬وحُي ّرم عليه دخول اجلنة‪،‬‬
‫وذلك ألنه أظهر اإلسالم واخلري وأبطن الكفر والشر‪ ،‬وهؤالء هم أشد‬
‫خطراً وبالءً على اإلسالم‪ ،‬واملسلمني‪ ،‬ألنه يؤمن جانبهم ملا ظهر من‬
‫أمور تدل على إمياهنم ويأيت اخلطر كل اخلطر من جانبهم‪ ،‬فهم الذين‬
‫يشيعون الفاحشة يف الذين آمنوا وهم الذين يذبذبون الصف املسلم‪،‬‬
‫وغري ذلك ولكن اهلل كاشف أمرهم‪ ،‬وهو على إذالهلم قدير‪ ،‬قال‬
‫مِب ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعاىل‪َ ":‬وِم َن الن ِ‬
‫ول َآمنَّا بِاللّه َوبِالَْي ْوم اآلخ ِر َو َما ُهم ُْؤمن َ‬
‫ني*‬ ‫َّاس َمن َي ُق ُ‬
‫خُيَ ِادعُو َن اللّهَ َوالَّ ِذين َآمنُوا َو َما خَي ْ َدعُو َن إِالَّ أَن ُفس ُهم َو َما يَ ْشعُرو َن* يِف‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يم مِب َا َكانُوا يَ ْك ِذبُو َن"‬ ‫ِ‬
‫اب أَل ٌ‬‫ض َفَز َاد ُه ُم اللّهُ َمَرضاً َوهَلُم َع َذ ٌ‬
‫هِبِ‬
‫ُقلُو م َّمَر ٌ‬
‫(البقرة ‪ ،‬آية ‪ 8 :‬ـ ‪.)10‬‬
‫ب ـ النفاق العملي‪:‬ـ وهو النفاق الذي ال ينقل صاحبه عن امللة‪ ،‬بل‬
‫يظل معه مسلماً‪ ،‬ويبقى معه إميانه‪ ،‬وهذا النفاق العملي هو االتصاف‬
‫ببعض أعمال املنافقني اليت ال تنقض اإلميان‪ ،‬بل يف املعامالت‪ ،‬وذلك‬
‫مثل الكذب يف احلديث‪ ،‬إخالف الوعد‪ ،‬الغدر عند اخلصام‪ ،‬اخليانة عند‬
‫االئتمان‪ ،‬فإنه قد جيتمع يف العبد بعض خصال اخلري‪ ،‬وبعض خصال‬
‫الشر‪ ،‬ويستحق من الثواب على قدر ما عنده من خصال اخلري‬
‫ويستحق من العذاب على قدر ما عنده من خصال الشر والنفاق‬
‫وكان الصحابة رضوان اهلل عليهم خيافون النفاق وحيذرون الوقوع فيه‬
‫واالقرتاب منه‪ ،1‬قال ابن أيب مليكة رمحه اهلل‪ :‬أدركت ثالثني من‬

‫‪ 1‬العقيدة الصافية صـ ‪.412‬‬


‫‪235‬‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كلهم خياف النفاق على‬
‫نفسه‪.1‬‬
‫إن اهتام بعض الصحابة أنفسهم بالنفاق واخلوف من الوقوع فيه‪ ،‬يدل‬
‫ٍ‬
‫ومعان رفيعة منها‪:‬‬ ‫على أشياء كثرية‬
‫ـ مدى حرص الصحابة ـ رضوان اهلل عليهم ـ على إمياهنم وتوحيدهم‬
‫وحفظ إمياهنم‪ ،‬من أن تشوبه شائبة تع ّكر صفوه أو تنقص كماله‪.‬‬
‫ـ تواضع الصحابة ـ رضوان اهلل عليهم ـ وعدم اغرتارهم بأعماهلم‪.‬‬
‫ـ ما جيب أن يكون عليه العبد من اخلوف والرجاء‪ ،‬فإنه خياف ربه‬
‫وأن يقع فيما يغضبه‪ ،‬ويف نفس الوقت يرجو رمحته‪.2‬‬
‫‪2‬ـ من أبرز صفات المنافقين‪:‬‬
‫أ ـ اإلفساد في األرض بتهدمي شريعة اهلل واهتام املؤمنني بالسفه قال‬
‫ض قَالُواْ إِمَّنَا‬ ‫تعاىل يف وصف املنافقني‪ ":‬إِ َذا قِيل هَلُ ْم الَ ُت ْف ِس ُدواْ يِف األ َْر ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حَن ن م ِ‬
‫صل ُحو َن* أَال إنَّ ُه ْم ُه ُم الْ ُم ْفس ُدو َن َولَـكن الَّ يَ ْشعُُرو َن* َوإ َذا ق َ‬
‫يل‬ ‫ُْ ُ ْ‬
‫الس َف َهاء أَال إِنَّ ُه ْم ُه ُم‬ ‫َّاس قَالُواْ أَنُ ْؤ ِم ُن َك َما َآم َن ُّ‬ ‫ِ‬
‫هَلُ ْم آمنُواْ َك َما َآم َن الن ُ‬
‫ـكن الَّ َي ْعلَ ُمو َن" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ 11 :‬ـ ‪.)13‬‬ ‫الس َفهاء ولَ ِ‬
‫ُّ َ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُواْ قَالُواْ َآمنَّا‬ ‫ب ـ خداع المؤمنين‪ :‬قال تعاىل‪َ ":‬وإ َذا لَ ُقواْ الذ َ‬
‫اطينِ ِه ْم قَالُواْ إِنَّا َم َع ْك ْم إِمَّنَا حَنْ ُن ُم ْسَت ْه ِز ُؤو َن" (البقرة ‪،‬‬ ‫وإِ َذا خلَواْ إِىَل َشي ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫آية ‪.)14 :‬‬
‫ج ـ اإلعراض عن التحاكم إلى شرع اهلل‪ :‬قال تعاىل‪ ":‬أَمَلْ َتَر إِىَل‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يدو َن‬ ‫ك يُِر ُ‬ ‫ك َو َما أُن ِز َل ِمن َقْبل َ‬ ‫ين َي ْزعُ ُمو َن أَنَّ ُه ْم َآمنُواْ مِب َا أُن ِز َل إِلَْي َ‬
‫الذ َ‬
‫يد الشَّْيطَا ُن‬ ‫وت َوقَ ْد أ ُِمُرواْ أَن يَ ْك ُفُرواْ بِِه َويُِر ُ‬ ‫أَن يتَحا َكمواْ إِىَل الطَّاغُ ِ‬
‫َ َ ُ‬
‫ضلَّهم ضالَالً بعِ ً ِ ِ‬
‫َنز َل اللّهُ َوإِىَل‬‫يل هَلُ ْم َت َعالَ ْواْ إِىَل َما أ َ‬‫يدا * َوإ َذا ق َ‬ ‫َ‬ ‫أَن يُ ِ ُ ْ َ‬

‫‪ 1‬العقيدة الصافية صـ ‪.413‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.413‬‬
‫‪236‬‬
‫ودا" (النساء ‪ ،‬آية ‪،60 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫الرس ِ‬
‫ص ُد ً‬
‫نك ُ‬ ‫صدُّو َن َع َ‬ ‫ني يَ ُ‬
‫ت الْ ُمنَافق َ‬ ‫ول َرأَيْ َ‬ ‫َّ ُ‬
‫‪.)61‬‬
‫د ـ األمر بالمنكر والنهي عن المعروف‪:‬ـ قال تعاىل‪ ":‬الْ ُمنَافِ ُقو َن‬
‫ات‬ ‫ِ‬
‫َوالْ ُمنَاف َق ُ‬
‫ِ‬
‫ضو َن‬‫ض يَأْ ُمُرو َن بِالْ ُمن َك ِر َو َيْن َه ْو َن َع ِن الْ َم ْعُروف َو َي ْقبِ ُ‬
‫ض ُهم ِّمن َب ْع ٍ‬ ‫َب ْع ُ‬
‫اس ُقو َن" (التوبة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫أَي ِديهم نَسواْ اللّه َفنَ ِسيهم إِ َّن الْمنَافِ ِقني هم الْ َف ِ‬
‫ُ َ ُُ‬ ‫َُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َُ ْ ُ‬
‫‪.)67‬‬
‫هـ ـ اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين‪ :‬قال اهلل تعاىل‪":‬‬
‫ين أ َْولِيَاء ِمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َيتَّخ ُذو َن الْ َكاف ِر َ‬
‫َّ ِ‬
‫يما *الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ني بِأ َّ‬
‫َن هَلُ ْم َع َذابًا أَل ً‬
‫ِِ‬
‫بَ ِّش ِر الْ ُمنَافق َ‬
‫ند ُه ُم الْعَِّز َة فَِإ َّن العَِّز َة لِلّ ِه مَجِ ًيعا"‪( 1‬النساء ‪ ،‬آية‬
‫ني أ ََيْبَتغُو َن ِع َ‬‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ُدون الْ ُم ْؤمن َ‬
‫‪.)139 ،138 :‬‬
‫هذه أبرز صفات املنافقني وإال اليت ذكرت يف القرآن الكرمي كثرية‪.‬‬
‫الردَّة‪ :‬هي رجوع املسلم العاقل البالغ عن اإلسالم إىل الكفر‪،‬‬
‫خامساً‪ِّ :‬‬
‫خمتاراً غري مكره ويستوي فيه الذكر واألنثى‪.2‬‬
‫‪1‬ـ أنواع الردة‪:‬‬
‫كسب اهلل تعاىل‪ ،‬والنطق بقول يكفر به‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أ ـ االرتداد بالقول‪:‬‬
‫ب ـ االرتداد بالفعل‪ :‬كالسجود لألصنام والكواكب وحنوها‪ ،‬أو إذا‬
‫أتى بفعل صريح‪ ،‬كاالستهزاء بالدين‪ ،‬أو امتهان القرآن‪ ،‬أو وضعه يف‬
‫القاذورات‪.‬‬
‫ج ـ االرتداد باالعتقاد‪ :‬كاعتقاد الشريك هلل سبحانه وتعاىل أو اعتقاد‬
‫ِح ّل شيء من احملرمات اجملمع عليها إمجاعاً قطعياً‪.‬‬

‫‪ 1‬اإليمان للزنداني ومجموعة من العلماء صـ ‪.154 ،153‬‬


‫‪ 2‬العقيدة الصافية صـ ‪.418‬‬
‫‪237‬‬
‫س ـ االرتداد بالشك‪ :‬كما لو شك يف شيء من واجبات الدين‪،‬‬
‫كالصالة أو الصيام‪ ،‬أو الزكاة أو يشك يف حترمي الشرك‪ ،‬أو شيء‬
‫من احملرمات املعلومة من الدين بالضرورة‪ ،‬مثل الزنا واخلمر أو شك‬
‫يف رسالة النيب صلى اهلل عليه وسلم أو غريه من االنبياء أو يف‬
‫صدقه‪ ،‬أو يف دين اإلسالم‪ ،‬أو يف صالحيته هلذا الزمان أو غريه من‬
‫األزمنة‪.1‬‬
‫‪2‬ـ األحكام التي تترتب على االرتداد‪:‬‬
‫أ ـ استتابة املرتد‪ ،‬فإن تاب ورجع إىل اإلسالم يف خالل ثالثة أيام‬
‫قبل منه ذلك‪.‬‬
‫ب ـ إذا أىب أن يتوب وجب على القاضى االمر بقتله‪ ،‬لقول النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬من بدل دينه فأقتلوه‪.2‬‬
‫ج ـ مُي نع من التصرف يف ماله يف مدة استتابته‪ ،‬فإن أسلم فهو له‬
‫وإال صار فيئاً لبيت املال من حني قتله أو موته على الردة‪ ،‬وقيل‪ :‬من‬
‫حني ارتداده يصرف يف مصاحل املسلمني‪.‬‬
‫س ـ انقطاع التوارث بينه وبني أقاربه فال يرثهم وال يرثوه‪.‬‬
‫صلى عليه وال‬ ‫غسل وال يُ َّ‬ ‫ك ـ إذا مات أو قتل على ردته فإنه ال يُ َّ‬
‫يُدفن يف مقابر املسلمني‪ ،‬وإمنا يدفن يف مقابر الكفار أو يوارى يف‬
‫الرتاب يف أماكن غري مقابر املسلمني‪ ،‬هذا يف الدنيا‪ ،‬وأما يف اآلخرة‬
‫فإهنا تستوجب العذاب الشديد واخللود يف النار ‪ ،‬وذلك لقوله تعاىل‪":‬‬
‫‪3‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت أ َْع َماهُلُ ْم‬ ‫ت َو ُه َو َكافٌر فَأ ُْولَـئِ َ‬
‫ك َحبِطَ ْ‬ ‫َو َمن َي ْرتَد ْد من ُك ْم َعن دينه َفيَ ُم ْ‬
‫اب النَّا ِر ُه ْم فِ َيها َخالِ ُدو َن" (البقرة ‪،‬‬ ‫َص َح ُ‬ ‫ك أْ‬ ‫اآلخَر ِة َوأ ُْولَـئِ َ‬
‫الد ْنيا و ِ‬
‫يِف ُّ َ َ‬
‫آية ‪.)217 :‬‬

‫‪ 1‬العقيدة الصافية صـ ‪.418‬‬


‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك الجهاد‪ ،‬باب ال يعذب بعذاب هللا رقم ‪.3017‬‬
‫‪ 3‬العقيدة الصافية صـ ‪.419‬‬
‫‪238‬‬
‫‪3‬ـ األشياء التي يصير بها المسلم مرتداً‪:‬‬
‫ـ الشرك باهلل تعاىل‪ ،‬وهو أن جيعل هلل نداً من خملوقاته يُدعى كما‬
‫يُدعى اهلل‪ ،‬وخياف كما خياف اهلل ويتوكل عليه كما يتوكل على اهلل‬
‫أو يصرف له شيء من العبادات‪ ،‬فإذا فعل ذلك كفر‪ ،‬وخرج من‬
‫ضٌّر َد َعا َربَّهُ ُمنِيبًا إِلَْي ِه مُثَّ إِذَا‬ ‫نسا َن ُ‬ ‫اإلسالم قال تعاىل‪َ ":‬وإِذَا َم َّ ِ‬
‫س اإْل َ‬
‫َخ َّولَهُ نِ ْع َمةً ِّمْنهُ نَ ِس َي َما َكا َن يَ ْدعُو إِلَْي ِه ِمن َقْب ُل َو َج َع َل لِلَّ ِه أ َ‬
‫َند ًادا‬
‫اب النَّا ِر" (الزمر‬ ‫َصح ِ‬ ‫ض َّل عن سبِيلِ ِه قُل مَتَتَّع بِ ُك ْف ِر َك قَلِياًل إِنَّ َ ِ‬ ‫لِّي ِ‬
‫ك م ْن أ ْ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ـ إظهار الطاعة واملوافقة للمشركني على دينهم قال تعاىل‪ ":‬إ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫ْارتَدُّوا َعلَى أ َْدبَا ِر ِهم ِّمن َب ْع ِد َما َتَبنَّي َ هَلُ ُم اهْلَُدى الشَّْيطَا ُن َس َّو َل هَلُ ْم‬
‫ك بِأَنَّ ُه ْم قَالُوا لِلَّ ِذين َك ِر ُهوا َما َنَّز َل اللَّهُ َسنُ ِطيعُ ُك ْم يِف‬ ‫ِ‬
‫َوأ َْملَى هَلُ ْم* َذل َ‬
‫َ‬
‫ض ِربُو َن‬ ‫ف إِ َذا َت َو َّفْت ُه ْم الْ َماَل ئِ َكةُ يَ ْ‬ ‫ض اأْل َْم ِر َواللَّهُ َي ْعلَ ُم إِ ْسَر َار ُه ْم* فَ َكْي َ‬‫َب ْع ِ‬
‫ِ‬
‫ض َوانَهُ‬ ‫َس َخ َط اللَّهَ َو َك ِر ُهوا ِر ْ‬ ‫ك بِأَنَّ ُه ُم اتََّبعُوا َما أ ْ‬ ‫وه ُه ْم َوأ َْدبَ َار ُه ْم* ذَل َ‬
‫ُو ُج َ‬
‫َحبَ َط أ َْع َماهَلُ ْم" (حممد ‪ ،‬آية ‪25 :‬ـ ‪.)28‬‬ ‫فَأ ْ‬
‫َّخ ُذواْ‬ ‫ـ مواالة املشركني والكافرين قال تعاىل‪ ":‬يا أَيُّها الَّ ِذين آمنُواْ الَ َتت ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ض َو َمن َيَت َوهَّلُم ِّمن ُك ْم فَِإنَّهُ‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَاء َب ْع ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّص َارى أ َْوليَاء َب ْع ُ‬ ‫ود َوالن َ‬ ‫الَْي ُه َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني" (املائدة ‪ ،‬آية ‪.)51 :‬‬ ‫مْن ُه ْم إِ َّن اللّهَ الَ َي ْهدي الْ َق ْو َم الظَّالم َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ني َو َمن‬ ‫ين أ َْوليَاء من ُد ْون الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫وقال تعالى‪ ":‬الَّ َيتَّخذ الْ ُم ْؤمنُو َن الْ َكاف ِر َ‬
‫س ِم َن اللّ ِه يِف َش ْي ٍء" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬ ‫ك َفلَْي َ‬
‫ِ‬
‫َي ْف َع ْل َذل َ‬
‫ـ اجللوس عند املشركني يف جمالس شركهم من غري إنكار قال تعاىل‪":‬‬
‫ات اللّ ِه يُ َك َفُر هِبَا‬ ‫اب أَ ْن إِذَا مَسِ عتُم آي ِ‬
‫ْْ َ‬
‫وقَ ْد َنَّز َل َعلَْي ُكم يِف الْ ِكتَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫يث َغرْيِ ِه إِنَّ ُك ْم إِذًا‬ ‫وضواْ يِف ح ِد ٍ‬ ‫هِب‬
‫َ‬ ‫َويُ ْسَت ْهَزأُ َا فَالَ َت ْقعُ ُدواْ َم َع ُه ْم َحىَّت خَيُ ُ‬
‫َّم مَجِ ًيعا" (النساء ‪ ،‬آية‬ ‫ن‬‫ه‬‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ني َوالْ َكافِ ِرين يِف‬
‫َ‬
‫ِّم ْثلُهم إِ َّن اللّه ج ِامع الْمنافِ ِ‬
‫ق‬ ‫َ َ ُ َُ‬ ‫ُْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪.)140 :‬‬
‫‪239‬‬
‫ـ االستهزاء باهلل أو بكتابه أو برسوله قال تعاىل‪ ":‬قُ ْل أَبِاللّ ِه َوآيَاتِِه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َو َر ُسوله ُكنتُ ْم تَ ْسَت ْه ِز ُؤو َن* الَ َت ْعتَذ ُرواْ قَ ْد َك َفْرمُت َب ْع َد إِميَان ُك ْم إِن نَّ ْع ُ‬
‫ف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬
‫ني" (التوبة ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ب طَآئ َفةً بِأَنَّ ُه ْم َكانُواْ جُمْ ِرم َ‬
‫َعن طَآئ َفة ِّمن ُك ْم نُ َع ِّذ ْ‬
‫‪.)66 ،65‬‬
‫ـ ظهور الكراهية والغضب عند الدعوة إىل اهلل وتالوة كتابه واألمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬وإِ َذا ُتْتلَى علَي ِهم آيا ُتنَا بِّينَ ٍ‬
‫ات‬ ‫َْ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ين َيْتلُو َن‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ف يِف‬
‫َت ْع ِر ُ‬
‫ادو َن يَ ْسطُو َن بالذ َ‬ ‫ين َك َفُروا الْ ُمن َكَر يَ َك ُ‬
‫ُو ُجوه الذ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َفُروا‬ ‫َّار َو َع َد َها اللَّهُ الذ َ‬
‫َعلَْيه ْم آيَاتنَا قُ ْل أَفَأَُنبِّئُ ُكم ب َشٍّر ِّمن َذل ُك ُم الن ُ‬
‫صريُ" (احلج ‪ ،‬آية ‪.)72 :‬‬ ‫وبِْئس الْم ِ‬
‫َ َ َ‬
‫ـ كراهية ما أنزل اهلل على رسوله من الكتاب واحلكمة قال تعاىل‪":‬‬
‫ِ‬
‫َحبَ َط أ َْع َماهَلُ ْم" (حممد ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬ ‫َنز َل اللَّهُ فَأ ْ‬ ‫ك بِأَنَّ ُه ْم َك ِر ُهوا َما أ َ‬ ‫َذل َ‬
‫ـ جحد الناس شيئاً من كتاب اهلل ولو آية‪ ،‬أو بعضها أو شيء عن‬
‫ين يَ ْك ُفُرو َن بِاللّ ِه َو ُر ُسلِ ِه‬ ‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬إ َّ َّ ِ‬
‫ِن الذ َ‬
‫ض َونَ ْك ُفُر‬‫يدو َن أَن يُ َفِّرقُواْ َبنْي َ اللّ ِه َو ُر ُسلِ ِه َوي ُقولُو َن نُ ْؤ ِم ُن بَِب ْع ٍ‬ ‫َويُِر ُ‬
‫ك ُه ُم الْ َكافُِرو َن َح ًّقا‬ ‫ك َسبِيالً* أ ُْولَـئِ َ‬
‫ِ‬
‫َّخ ُذواْ َبنْي َ َذل َ‬ ‫يدو َن أَن يت ِ‬
‫َ‬ ‫ض َويُِر ُ‬ ‫بَِب ْع ٍ‬
‫ين َع َذابًا ُّم ِهينًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)151 ،150 :‬‬ ‫ِ ِ‬
‫َوأ َْعتَ ْدنَا ل ْل َكاف ِر َ‬
‫ـ عدم اإلقرار مبا دلت عليه آيات القرآن الكرمي واألحاديث الصحيحة‪،‬‬
‫ين َك َفُروا فَاَل َي ْغُر ْر َك َت َقلُُّب ُه ْم‬ ‫ذ‬‫ات اللَّ ِه إِاَّل الَّ ِ‬‫قال تعاىل‪ ":‬ما جُي ِاد ُل يِف آي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يِف الْبِاَل ِد" (غافر ‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬
‫َّ ِ‬
‫ـ اإلعراض عن تعلم دين اهلل والغفلة عن ذلك‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬والذ َ‬
‫ين‬
‫ِ‬
‫ضو َن" (األحقاف ‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬ ‫َك َفُروا َع َّما أُنذ ُروا ُم ْع ِر ُ‬
‫ع لَ ُكم ِّم َن الدِّي ِن‬ ‫ـ كراهية إقامة الدين واالجتماع عليه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ":‬شَر َ‬
‫وسى‬ ‫صينا بِِه إِبر ِ‬ ‫صى بِِه نُوحا والَّ ِذي أَوحْينَا إِ‬
‫يم َو ُم َ‬ ‫َ َ‬ ‫اه‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ي‬
‫ْ‬‫َ‬‫ل‬ ‫َْ‬ ‫ً َ‬ ‫َما َو َّ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫و ِعيسى أَ ْن أَقِ‬
‫ني َما‬‫ِّين َواَل َتَت َفَّرقُوا فيه َكُبَر َعلَى الْ ُم ْش ِرك َ‬ ‫َ‬ ‫الد‬ ‫وا‬‫يم‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫‪240‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫يب" (الشورى‬ ‫وه ْم إلَْيه اللَّهُ جَيْتَيِب إلَْيه َمن يَ َشاء َو َي ْهدي إلَْيه َمن يُن ُ‬ ‫تَ ْدعُ ُ‬
‫‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬
‫ان ِم ْن‬ ‫ـ السحر‪ ،‬تعلّمه وتعليمه والعمل مبوجبه‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬وما يعلِّم ِ‬
‫َ َ َُ َ‬
‫َح ٍد َحىَّت َي ُقوالَ إِمَّنَا حَنْ ُن فِْتنَةٌ فَالَ تَ ْك ُفرْ" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)102 :‬‬ ‫أَ‬
‫ب َق ْوهُلُ ْم أَئِ َذا ُكنَّا ُتَرابًا‬ ‫ب َف َع َج ٌ‬
‫ِ‬
‫ـ إنكار البعث قال تعاىل‪َ ":‬وإن َت ْع َج ْ‬
‫يد أُولَـئِ َّ ِ‬
‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫ك األَ ْغالَ ُل يِف‬ ‫ين َك َفُرواْ بَِرهِّبِ ْم َوأ ُْولَئِ َ‬ ‫ك ال ذ َ‬ ‫أَئِنَّا لَفي َخ ْل ٍق َجد ْ َ‬
‫اب النَّا ِر ُه ْم فِ َيها َخالِدو َن" (الرعد ‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬ ‫َص َح ُ‬
‫ك أْ‬
‫ِ‬
‫أ َْعنَاق ِه ْم َوأ ُْولَـئِ َ‬
‫اهلِيَّ ِة‬
‫ـ التحاكم إىل غري حكم اهلل عز وجل قال تعاىل‪ ":‬أَفَح ْكم اجْل ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫َح َس ُن ِم َن اللّ ِه ُح ْك ًما لَِّق ْوٍم يُوقِنُو َن" (املائدة ‪ ،‬آية ‪.)50 :‬‬ ‫َيْبغُو َن َو َم ْن أ ْ‬
‫سادساً‪ :‬الفسق‪ :‬هو اخلروج عن طاعة اهلل سواء كان خروجاً كلياً أو‬
‫جزئياً‪.‬‬
‫وينقسم إىل نوعني‪:‬‬
‫‪1‬ـ فسق ينقل عن امللة وهو الكفر‪ ،‬فهو فسق كلي‪ ،‬خرج صاحبه‬
‫عن طاعة اهلل وعبوديته‪ ،‬ولقد مسَّى اهلل تعاىل الكفر املخرج عن امللة‬
‫املوجب لصاحبه النار‪ ،‬مسَّاه فسقاً‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ":‬ف َف َس َق َع ْن أ َْم ِر َربِِّه‬
‫" (الكهف ‪ ،‬آية ‪ ،)50 :‬ومسَّى اهلل تعاىل أصحاب النار فُساقاً‪ ،‬قال‬
‫َّ ِ‬
‫َّار" (السجدة ‪ ،‬آية ‪.)20 :‬‬ ‫ين فَ َس ُقوا فَ َمأْ َو ُاه ُم الن ُ‬
‫تعاىل‪َ ":‬وأ ََّما الذ َ‬
‫‪2‬ـ وهو الفسق الذي ال ينقل من امللة وهو فسق جزئي وهو يطلق‬
‫على بعض املعاصي وعلى بعض العصاة وهو ال خيرج من امللة‬
‫وصاحبه مازال يف حظرية اإلسالم ولقد مسَّى اهلل املؤمنني الذين يرمون‬
‫احملصنات مث مل يأتوا بالشهداء بأهنم فاسقون وهم مازالوا يف حظرية‬
‫اإلسالم يتمتعون بعقيدة املسلمني‪ ،‬قال تعاىل‪ ":‬والَّ ِذين يرمو َن الْمحصنَ ِ‬
‫ات‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ َ َْ ُ‬
‫ني َج ْل َد ًة َواَل َت ْقَبلُوا هَلُ ْم َش َه َاد ًة‬‫ِ‬ ‫مُثَّ مَل يأْتُوا بِأَربع ِة شه َداء فَ ِ‬
‫وه ْم مَثَان َ‬
‫اجل ُد ُ‬
‫ْ‬ ‫ْ ََ ُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫اس ُقو َن" (النور ‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬ ‫ك هم الْ َف ِ‬ ‫ِ‬
‫أَبَ ًدا َوأ ُْولَئ َ ُ ُ‬
‫‪241‬‬
‫سابعاً‪ :‬المعاصي‪ :‬الكبائر والصغائر‪:‬‬
‫‪1‬ـ المعاصي‪ :‬هي ترك املأمورات وفعل احملظورات‪ ،‬أو ترك ما أوجب‬
‫وفرض من كتابه أو على لسان رسوله وارتكاب ما هنى اهلل عنه أو‬
‫رسوله صلى اهلل عليه وسلم من األقوال واألعمال الظاهرة أو الباطنة‪.1‬‬
‫ولفظ املعصية والفسوق والكفر إذا اطلقت املعصية هلل ورسوله دخل‬
‫ِ‬ ‫فيها الكفر والفسوق كقوله‪َ ":‬و َمن َي ْع ِ َّ‬
‫ص اللهَ َو َر ُسولَهُ فَإ َّن لَهُ نَ َار َج َهن َ‬
‫َّم‬
‫خالِ ِد ِ‬
‫اد َج َح ُدواْ‬‫ك َع ٌ‬ ‫ين ف َيها أَبَ ًدا" (اجلن ‪ ،‬آية ‪ .)23 :‬وقال تعاىل‪َ ":‬وتِْل َ‬ ‫َ َ‬
‫يد" (هود ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ات رهِّبِم وعصواْ رسلَه واتَّبعواْ أَمر ُكل جبَّا ٍر عنِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫بآيَ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ِّ َ‬
‫‪ .)59‬فهذه معصية وجلنس الرسل‪.2‬‬
‫وقد جاء معىن العصيان بألفاظ كثرية يف القرآن الكرمي‪:‬‬
‫َخ ْذنَا بِ َذنبِ ِه" (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬ ‫ـ الذنب قال تعاىل‪ ":‬فَ ُكاًّل أ َ‬
‫ِِ‬
‫ني" (يوسف ‪ ،‬آية‬ ‫ـ اخلطيئة قال تعاىل عن اخوة يوسف‪ ":‬إِنَّا ُكنَّا َخاطئ َ‬
‫‪.)97 :‬‬
‫السـيِّئ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ات" (هود ‪ ،‬آية ‪.)114 :‬‬ ‫ـ السيئة قال تعاىل‪ ":‬إِ َّن احْلَ َسنَات يُ ْذهنْب َ َّ َ‬
‫ـ احلُوب قال تعاىل‪ ":‬إِنَّهُ َكا َن ُحوبًا َكبِ ًريا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬
‫ش َما ظَ َهَر ِمْن َها َو َما بَطَ َن‬ ‫ِ‬
‫ـ اإلمث قال تعاىل‪ ":‬قُ ْل إِمَّنَا َحَّر َم َريِّبَ الْ َف َواح َ‬
‫َوا ِإلمْثَ َوالَْب ْغ َي" (اإلعراف ‪ ،‬آية ‪.)33 :‬‬
‫صيَا َن"‬ ‫ِ‬ ‫ـ الفسوق والعصيان قال تعاىل‪َ ":‬و َكَّر َه إِلَْي ُك ُم الْ ُك ْفَر َوالْ ُف ُس َ‬
‫وق َوالْع ْ‬
‫(احلجرات ‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬
‫ين حُيَا ِربُو َن اللّهَ َو َر ُسولَهُ َويَ ْس َع ْو َن‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِمَّن‬
‫جل وعال‪ ":‬إ َا َجَزاء الذ َ‬ ‫ـ الفساد قال ّ‬
‫ض فَ َس ًادا" (املائدة ‪ ،‬آية ‪.)33 :‬‬ ‫يِف األ َْر ِ‬
‫ـ العتو قال تعاىل‪َ ":‬فلَ َّما َعَت ْواْ َعن َّما نُ ُهواْ َعْنهُ ُق ْلنَا هَلُ ْم ُكونُواْ قَِر َدةً‬
‫ني" (اإلعراف ‪ ،‬آية ‪.)166 :‬‬ ‫ِِ‬
‫َخاسئ َ‬
‫‪ 1‬الكبائر والصغائر ‪ ،‬حامد محمد المصلح صـ ‪.19‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.20‬‬
‫‪242‬‬
‫‪2‬ـ أنواع المعاصي‪ :‬تنقسم املعاصي إىل كبائر وصغائر حسب تقسيمها‬
‫يف الكتاب والسنة لألدلة اآلتية‪ ،‬أما يف الكتاب فمنها قوله تعاىل‪ ":‬إِن‬
‫جَتْتَنِبُواْ َكبَآئَِر َما ُتْن َه ْو َن َعْنهُ نُ َكف ِّْر َعن ُك ْم َسيِّئَاتِ ُك ْم" (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪ ،)31‬ففي هذه اآلية بيان أن الذنوب تنقسم إىل كبائر وصغائر‪.1‬‬
‫ش إِاَّل اللَّ َم َم" (النجم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين جَيْتَنبُو َن َكبَائَر اإْلِ مْثِ َوالْ َف َواح َ‬‫جل جالله‪ ":‬الذ َ‬ ‫وقوله ّ‬
‫‪ ،‬آية ‪ ،)32 :‬يف اآلية استثناء منقطع‪ ،‬ألن اللمم من صغائر الذنوب‬
‫وحمقرات األعمال فهو استثناء من عامة الكبائر وقوله تعاىل‪َ ":‬و َكَّر َه‬
‫صيَا َن" (احلجرات‪ ،‬آية ‪ .)7 :‬فجعلها مراتب‬ ‫ِ‬ ‫إِلَْي ُك ُم الْ ُك ْفَر َوالْ ُف ُس َ‬
‫وق َوالْع ْ‬
‫ثالثاً ومسّى أوهلا كفراً‪ ،‬وثانيها فسقاً‪ ،‬وثالثها عصياناً‪.2‬‬
‫اب اَل يغَ ِادر ِ‬ ‫وقوله تعاىل‪ ":‬م ِال َه َذا الْ ِكتَ ِ‬
‫اها"‬
‫صَ‬ ‫َح َ‬‫صغ َري ًة َواَل َكبِ َري ًة إِاَّل أ ْ‬‫ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫(الكهف ‪ ،‬آية ‪ ،)49 :‬وهذا نص صريح يف أن ما يعمل اإلنسان‬
‫يدون عليه صغرياً كان أو كبرياً‪.3‬‬
‫وأما يف السنة فقد جاءت أحاديث كثرية منها‪:‬‬
‫صلى اهلل عليه‬ ‫ـ عن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬سألت رسول اهلل‬
‫وهو خلقك‪،‬‬ ‫وسلم أي الذنب أعظم عند اهلل؟ قال‪ :‬أن جتعل هلل نداً‬
‫تقتل ولدك‬ ‫قال‪ :‬قلت له‪ :‬إن ذلك لعظيم‪ .‬قال قلت‪ :‬مث أي؟ قال‪ :‬أن‬
‫جارك‪.4‬‬ ‫خمافة أن يطعم معك قلت‪ :‬مث أي؟ قال‪ :‬أن تزاين حليلة‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫ـ وعن أيب بكرة‬
‫بأكرب الكبائر؟ ثالثاً‪ :‬اإلشراك باهلل وعقوق الوالدين‬ ‫وسلم‪ :‬أال أنبئكم‬
‫قول الزور‪ ،‬وكان رسول اهلل متكئاً فجلس فمازل‬ ‫وشهادة الزور أو‬
‫ليته سكت‪.5‬‬ ‫يكررها حىت قلنا‬

‫‪ 1‬الكبائر والصغائر صـ ‪.23‬‬


‫‪ 2‬الكبائر والصغائر صـ ‪.23‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.23‬‬
‫‪ 4‬مسلم رقم ‪.86‬‬
‫‪ 5‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان باب الكبائر (‪ )1/91‬رقم ‪.87‬‬
‫‪243‬‬
‫ـ وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬الصلوات اخلمس‪ ،‬واجلمعة إىل‬
‫اجلمعة‪ ،‬ورمضان إىل رمضان مكفرات ملا بينهن إن اجتنبت الكبائر‪.1‬‬
‫فهذه األدلة وغريها كثري تدل داللة صرحية على أن املعاصي منها ما‬
‫هو كبائر بل وأكرب الكبائر‪ ،‬كما جاء يف األحاديث السابقة‪.‬‬
‫‪3‬ـ تعريف الكبيرة‪ :‬كل ذنب ختمه اهلل تعاىل بنار أو غضب‪ ،‬أو‬
‫لعنة أو عذاب‪ ،2‬وقيل‪ :‬كل ما أوجب فيه حد أو ورد فيه توعد‬
‫بالنار أو جاءت فيه لعنة‪ .3‬وقال بعض أهل العلم وغريهم أنه ميكن أن‬
‫تعر ف الكبائر بالعد بدالً من احلد ومنهم من قال عن الكبائر‪ :‬هي‬ ‫َّ‬
‫على السبعني أقرب منها إىل السبع‪ .4‬وذكر اهليثمي عن العالئي أنه‬
‫صنف جزءاً مجع فيه ما نص عليه النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه‬
‫كبرية وهي‪ :‬الشرك‪ ،‬والقتل‪ ،‬والزنا‪ ،‬وأفحشه حبليلة اجلار‪ ،‬والفرار من‬
‫الزحف‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وقذف احملصنات‪ ،‬والسحر‪،‬‬
‫وشهادة الزور‪ ،‬اليمني الغموس‪ ،‬والنميمة‪ ،‬والسرقة‪ ،‬وشرب اخلمر‪،‬‬
‫واستحالل بيت اهلل احلرام‪ ،‬ونكث الصفقة‪ ،‬وترك السنة‪ ،‬والتعرب بعد‬
‫اهلجرة‪ ،‬واليأس من روح اهلل‪ ،‬واألمن من مكر اهلل‪ ،‬ومنع ابن السبيل‬
‫من فضل املاء‪ ،‬وعدم التنزه من البول‪ ،‬وعقوق الوالدين والتسبب إىل‬
‫شتمهما‪ ،‬واإلضرار يف الوصية‪ ،‬فهذه اخلمس والعشرون هي جمموع ما‬
‫جاء يف األحاديث منصوصاً عليه أنه كبرية‪.5‬‬
‫إن ما ذكره صحيح من حيث كوهنا كبرية منصوصاً عليها واألدلة‬
‫عليها يف مظاهنا‪ ،‬ولكن ليس هذا جمموع ما جاء يف األحاديث‬
‫الصحيحة املنصوص عليها بل قد ورد غريها ونذكر منها على سبيل‬
‫املثال ال احلصر اآليت‪:‬‬

‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك الطهارة (‪ )1/209‬رقم ‪.233‬‬


‫‪ 2‬الزواجر البن حجر (‪.)1/9‬‬
‫‪ 3‬الكبائر والصغائر صـ ‪.27‬‬
‫‪ 4‬تفسير الطبري (‪.)1/41‬‬
‫‪ 5‬الكبائر والصغائر صـ ‪.28‬‬
‫‪244‬‬
‫كالكذب وقاتل نفسه واملكثر من اللعان بغري حق‪ ،‬تشبه الرجال بالنساء‬
‫أو العكس‪ ،‬سوء اجلوار‪ ،‬اخليانة‪ ،‬الرشوة‪ ،‬تغيري منار األرض‪...‬اخل‬
‫بعد وال حد منضبط بل إهنا كل‬ ‫اخلالصة‪ ،‬إن الكبائر غري منحصرة ِّ‬
‫معصية دل الدليل على توكيد التحرمي وتغليظه سواء توعد عليها بلعن‬
‫أو غضب أو نار أو عذاب أو حد أو غري ذلك‪ ،‬مما عظم ضررها‬
‫يف الوجود أو اقرتن بارتكاهبا ما تعظم به‪.1‬‬
‫‪4‬ـ تعريف الصغائر‪ :‬الصغرية ما ليس فيها حد يف الدنيا وال وعيد‬
‫يف اآلخرة‪.2‬‬
‫ش إِاَّل اللَّ َم َم" (النجم ‪ ،‬آية‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين جَيْتَنبُو َن َكبَائَر اإْلِ مْثِ َوالْ َف َواح َ‬
‫قال تعاىل‪ ":‬الذ َ‬
‫‪ ،)32 :‬واللمم‪ :‬ما كان بني احلدين مل يبلغ حد الدنيا وال حد‬
‫اآلخرة‪ :‬موجبة قد أوجب اهلل ألهلها النار‪ ،‬أو فاحشة يقام عليها احلد‬
‫يف الدنيا‪ ،3‬والصغرية مع اإلصرار تشكل خطر على صاحبها ورمبا‬
‫هتلكه‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إياكم وحمقرات الذنوب‬
‫فإمنا مثل حمقرات الذنوب‪ ،‬كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود‬
‫وجاء ذا بعود حىت محلوا ما انضجوا به خبزاً‪ ،‬وإن حمقرات الذنوب‬
‫مىت يؤخذ هبا صاحبها هتلكه‪.4‬‬
‫وألن السيئة وإن صغرت جتر أختها حىت توقع فاعلها يف ما هو أكرب‬
‫من الكبائر وهلذا دفع السيئة باحلسنة ال بالسيئة‪ ،‬قال تعاىل‪ْ ":‬ادفَ ْع بِالَّيِت‬
‫السيِّئَةَ" (املؤمنون ‪ ،‬آية ‪ ،)96 :‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬ ‫َح َس ُن َّ‬ ‫ِ‬
‫ه َي أ ْ‬
‫اتق اهلل حيثما كنت واتبع السيئة احلسنة متحها‪.5‬‬
‫فإن العبد إذا وقع يف سيئة عليه أن يعمل حسنة متحو تلك السيئة‬
‫اليت عملها فيبدل مكان السوء إحساناً ومكان السيئة الطاعة‪ ،‬فإنه إذا‬

‫‪ 1‬الكبائر والصغائر صـ ‪ 29‬إلى ‪.33‬‬


‫‪ 2‬أقوال التابعين في مسائل التوحيد واإليمان (‪.)3/1307‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)3/1307‬‬
‫‪ 4‬السلسلة الصحيحة لأللباني رقم ‪.389‬‬
‫‪ 5‬صحيح الجامع لأللباني رقم ‪.96‬‬
‫‪245‬‬
‫ُوفِّق لفعل احلسنات ألفها وأحبها واطمئن قلبه هلا فال يفارقها أبداً‬
‫حىت لو أجرب على سيئة مل يأنس هبا قلبه يؤنبه وإميانه ينهاه عنها فهو‬
‫يزداد كل يوم خرياً وعن الشر بعداً‪.1‬‬
‫‪5‬ـ حكم مرتكب الكبيرة‪ :‬سلك الصحابة والتابعون هلم بإحسان‬
‫منهجاً وسطاً يف شأن مرتكب الكبرية‪ ،‬فلم يكفروه ومل يقولوا بأنه‬
‫كامل اإلميان‪ ،‬بل إنه مؤمن بإميانه فاسق بكبريته أو هو مؤمن ناقص‬
‫اإلميان‪ ،‬أو مؤمن عاص‪ ،‬وهذا احلكم عليه إمنا هو يف الدنيا‪ ،‬أما يف‬
‫اآلخرة فهو حتت مشيئة اهلل تعاىل‪ ،‬إن شاء عذبه وإن شاء غفر له‪،‬‬
‫وهبذا احلكم عليه مجعوا بني النصوص الشرعية اليت تصف أهل اإلميان‬
‫والنصوص اليت مل خترج الفاسق من دائرة اإلسالم‪.2‬‬
‫إن فساق امللة ليسوا خملدين يف النار وليسوا كاملني يف الدين واإلميان‬
‫والطاعة بل هلم حسنات وسيئات‪ ،‬يستحقون هبذا العقاب‪ ،‬وهبذا‬
‫الثواب‪.3‬‬
‫وقد اتفق الصحابة والتابعون هلم بإحسان وسائر أئمة املسلمني على أنه‬
‫ال خيلد يف النار ممن يف قلبه مثقال ذرة من إميان‪ ،‬واتفقوا أيضاً على‬
‫أن نبينا صلى اهلل عليه وسلم يشفع فيمن يأذن اهلل له بالشفاعة فيه‬
‫من أهل الكبائر من أمته‪.4‬‬
‫وقد استدل علماء األمة اإلسالمية على قوهلم يف مرتكب الكبرية‬
‫بالعديد من األدلة من الكتاب والسنة منها‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ ـ قال تعاىل‪ ":‬إِ َّن اللّهَ الَ َي ْغفُر أَن يُ ْشَر َك بِِه َو َي ْغفُر َما ُدو َن َذل َ‬
‫ك‬
‫لِ َمن يَ َشاء" (النساء‪ ،‬آية ‪ ،)48 :‬وقد أبانت هذه اآلية أن كل صاحب‬

‫‪ 1‬الكبائر والصغائر صـ ‪.35‬‬


‫‪ 2‬أقوال التابعين في مسائل التوحيد واإليملن ‪ ،‬عبد العزيز عبد هللا (‪.)3/1315‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪ ،)3/1315‬الفتاوى (‪.)7/679‬‬
‫‪ 4‬اإليمان صـ ‪ 209‬البن تيمية‪.‬‬
‫‪246‬‬
‫كبرية ففي مشيئة اهلل‪ ،‬إن شاء عفا عنه‪ ،‬وإن شاء عاقبه‪ ،‬ما مل تكن‬
‫كبريته شركاً باهلل‪.1‬‬
‫َصلِ ُحوا َبْيَن ُه َما فَِإن‬ ‫ني ا ْقتََتلُوا فَأ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ب ـ قال تعاىل‪َ ":‬وإِن طَائ َفتَان م َن الْ ُم ْؤمن َ‬
‫ُخَرى َف َقاتِلُوا الَّيِت َتْبغِي َحىَّت تَِفيءَ إِىَل أ َْم ِر اللَّ ِه‬ ‫ت إِ ْح َدامُهَا َعلَى اأْل ْ‬ ‫َبغَ ْ‬
‫ني*‬ ‫ِِ‬
‫ب الْ ُم ْقسط َ‬ ‫َصلِ ُحوا َبْيَن ُه َما بِالْ َع ْد ِل َوأَقْ ِسطُوا إِ َّن اللَّهَ حُيِ ُّ‬
‫اءت فَأ ْ‬ ‫فَِإن فَ ْ‬
‫َخ َويْ ُك ْم َو َّات ُقوا اللَّهَ لَ َعلَّ ُك ْم ُت ْرمَحُو َن"‬ ‫إِمَّنَا الْمؤ ِمنو َن إِخوةٌ فَأ ِ‬
‫َصل ُحوا َبنْي َ أ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُْ ُ‬
‫(احلجرات ‪ ،‬آية ‪.)10 ،9 :‬‬
‫رغم أن القتال بني املسلمني من الكبائر مل ينتف عن املتقاتلني اسم‬
‫اإلميان ومل خيرجوا به عن أهله‪ ،2‬وقد استدل كثري من العلماء هبذه‬
‫األية على أن املعصية وإن عظمت ال خترج من اإلميان‪.3‬‬
‫اص يِف الْ َقْتلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ص ُ‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم الْق َ‬ ‫ين َآمنُواْ ُكت َ‬ ‫ج ـ قال تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫احْلُُّر باحْلُِّر َوالْ َعْب ُد بالْ َعْبد َواألُنثَى باألُنثَى فَ َم ْن عُف َي لَهُ م ْن أَخيه َش ْيءٌ‬
‫ان" (البقرة ‪ ،‬آية ‪ ،)178 :‬مع أن‬ ‫وف وأَداء إِلَي ِه بِِإحس ٍ‬ ‫فَاتِّباع بِالْمعر ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ َ ُْ‬
‫اهلل عز وجل أوعد القاتل باخللود يف النار عقوبة له على جرميته قال‬
‫تعاىل‪ ":‬ومن ي ْقتُل م ْؤ ِمنًا ُّمَتع ِّم ًدا فَجز ُآؤه جهنَّم خالِ ًدا فِيها و َغ ِ‬
‫ب اللّهُ‬ ‫ض‬
‫َ َ َ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما" (النساء ‪ ،‬آية ‪ .)93 :‬ومع ذلك مل‬ ‫َع َّد لَهُ َع َذابًا َعظ ً‬ ‫َعلَْيه َولَ َعنَهُ َوأ َ‬
‫ينف عن هذا القاتل العاصي صفة اإلميان فهو أخ ألولياء املقتول وهم‬
‫وف َوأ ََداء إِلَْي ِه‬‫َخ ِيه َشيء فَاتِّباع بِالْمعر ِ‬ ‫مؤمنون‪ ":‬فَمن ع ِفي لَه ِمن أ ِ‬
‫ْ ٌ َ ٌ َ ُْ‬ ‫َْ ُ َ ُ ْ‬
‫ان" واملراد باألخوة إخوة الدين‪ ،4‬والقاتل جزاؤه جهنم‪ ،‬فإن شاء‬ ‫بِِإحس ٍ‬
‫َْ‬
‫‪5‬‬
‫اهلل غفر له ‪.‬‬
‫س ـ ومل ينف القرآن الكرمي صفة اإلميان عمن أكل أموال الناس‬
‫بالباطل‪ ،‬أو أكل الربا مادام غري مستحيل لذلك فيقول تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها‬

‫‪ 1‬تفسير الطبري (‪.)4/129‬‬


‫‪ 2‬دراسة عن الفرق وتاريخ المسلمين د‪ .‬أحمد جلي صـ ‪.127‬‬
‫صاّل بي صـ ‪.383‬‬‫‪ 3‬علي بن أبي طالب لل َّ‬
‫‪ 4‬دراسة عن الفرق وتاريخ المسلمين صـ ‪.127‬‬
‫‪ 5‬سنن البيهقيـ (‪.)8/16‬‬
‫‪247‬‬
‫اط ِل" (النساء ‪ ،‬آية ‪،)29 :‬‬ ‫الَّ ِذين آمنُواْ الَ تَأْ ُكلُواْ أَموالَ ُكم بينَ ُكم بِالْب ِ‬
‫ْ َ ْ َْ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫ين َآمنُواْ َّات ُقواْ اللّهَ َو َذ ُرواْ َما بَِق َي ِم َن ِّ‬
‫الربَا‬ ‫َّ ِ‬
‫وقوله تعاىل‪ ":‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ِِ‬
‫ني" (البقرة ‪ ،‬آية ‪.)278 :‬‬ ‫إِن ُكنتُم ُّم ْؤمن َ‬
‫د ـ وورد أيضاً من األحاديث الصحيحة اليت تنص على أن املعاصي‬
‫ال خترج عن امللة ومن ذلك‪ ،‬عن أيب ذر رضي اهلل عنه قال‪ :‬أتيت‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم وعليه ثوب أبيض‪ ،‬وهو نائم‪ ،‬مث أتيته وقد‬
‫استيقظ‪ ،‬فقال‪ :‬ما من عبد قال‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬مث مات على ذلك‬
‫دخل اجلنة‪ .‬قلت وإن زىن وإن سرق؟ قال‪ :‬وإن زىن وإن سرق‪ ،‬على‬
‫رغم أنف أيب ذر‪ .1‬ففي قوله‪ :‬وإن زىن وإن سرق‪ ،‬دليل على أن‬
‫أصحاب الكبائر ال يقطع هلم بالنار وأهنم إن دخلوها أخرجوا منها‪،‬‬
‫وختم هلم باخللود يف اجلنة‪.2‬‬
‫ـ وعن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه قال‪ :‬كنا مع رسول اهلل يف‬
‫جملس‪ ،‬فقال‪ :‬تبايعوين على أال تشركوا باهلل شيئاً‪ ،‬وال تزنوا وال‬
‫تسرقوا‪ ،‬وال تقتلوا النفس اليت حرم اهلل إال باحلق فمن وىف منكم‬
‫فأجره على اهلل‪ ،‬ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به‪ ،‬فهو كفارة‬
‫له‪ ،‬ومن أصاب شيئاً من ذلك فسرته اهلل عليه‪،‬فأمره إىل اهلل‪ ،‬وإن‬
‫شاء عفا عنه وإن شاء عذبه‪.3‬‬
‫هـ ـ ومما يستدل به‪ :‬امجاع الصحابة رضي اهلل عنهم والتابعني هلم‬
‫بإحسان على أن صاحب الكبرية مؤمن بإميانه‪ ،‬فاسق بكبريته وهوحتت‬
‫مشيئة اهلل تعاىل يف اآلخرة‪.4‬‬

‫‪ 1‬البخاري رقم ‪ ، 5827‬مسلم رقم ‪.94‬‬


‫‪ 2‬شرح صحيح مسلم (‪.)2/97‬‬
‫‪ 3‬البخاري رقم ‪ ، 18‬مسلم رقم ‪.1709‬‬
‫‪ 4‬أقوال التابعين في مسائل التوحيد واإليمان (‪.)3/1318‬‬
‫‪248‬‬
‫الخاتمة‬
‫وبعد‪ :‬فهذا ما يسره اهلل يل من احلديث عن اإلميان باهلل عز وجل يف‬
‫جل جالله"‪ ،‬فما كان فيه من‬ ‫هذا الكتاب‪ ،‬وقد مسيته "اإلميان باهلل ّ‬
‫علي‪ ،‬فله احلمد‪ ،‬واملنة‪ ،‬وما كان فيه من‬ ‫صواب فهو حمض فضل اهلل َّ‬
‫خطأ‪ ،‬فأستغفر اهلل تعاىل‪ ،‬وأتوب إليه‪ ،‬واهلل ورسوله بريء منه‪ ،‬وحسيب‬
‫أين كنت حريصاً أال أقع يف اخلطأ وعسى أال أُحرم من األجر‪.‬‬
‫وأدعو اهلل أن ينفع هبذا الكتاب بين اإلنسان أينما وجد‪ ،‬ويكون سبباً‬
‫يف زيادة إميانه‪ ،‬وهدايته أو تعليمه أو تذكريه‪ ،‬وأن يذكرين من يقرؤه‬
‫من إخواين املسلمني يف دعائه‪ ،‬فإن دعوة األخ ألخيه بظهر الغيب‬
‫مستجابة إن شاء اهلل تعاىل‪ ،‬وأختم هذا الكتاب بقول اهلل تعاىل‪َ " :‬ربَّنَا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ا ْغ ِفر لَنَا وإِلِ خوانِنَا الَّ ِذين سب ُقونَا بِاإْلِ ميَ ِ‬
‫ان َواَل جَتْ َعل يِف‬
‫ُقلُوبِنَا غاًّل لِّلَّذ َ‬
‫ين‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ‬
‫ك ر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم" (احلشر ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬ ‫وف َّرح ٌ‬ ‫َآمنُوا َربَّنَا إنَّ َ َ‬
‫ويقول الشاعر‪:‬‬
‫إهلي ال تعذبين فإين‬
‫مقر بالذي قد كان مين‬
‫ومايل حيلة إال رجائي‬
‫وعفوك إن عفوت وحسن ظين‬
‫فكم من زلة يل يف الربايا‬
‫ومن‬
‫علي ذو فضل ّ‬ ‫وأنت َّ‬
‫إذا ف ّكرت يف ندمي عليها‬
‫عضضت أناملي وقرعت سين‬
‫يظن الناس يب خرياً وإين‬
‫لشر الناس إن مل تعف عين‬ ‫ُّ‬

‫‪249‬‬
‫سبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬أشهد أن ال إله إال أنت استغفرك وأتوب‬
‫إليك‬
‫فهرس الكتاب‬

‫املقدمة‬
‫الفصل األول‪ :‬كلمة الشهادة ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‬
‫املبحث األول‪ :‬معىن ال إله إال اهلل وفضلها وشروطها‬
‫أوالً‪ :‬معىن ال إله إال اهلل‬
‫ثانياً‪ :‬فضل كلمة ال إله إال اهلل‬
‫ثالثاً‪ :‬أفضل الذكر ال إله إال اهلل‬
‫رابعاً‪ :‬أشعة كلمة التوحيد‪ ،‬تبدد ظلمات القلوب‬
‫خامساً‪ :‬التوافق بني ال إله إال اهلل ((وإياك نعبد))‬
‫سادساً‪ :‬شروط ال إله إال اهلل‬
‫‪1‬ـ العلم‬
‫‪2‬ـ اليقني‬
‫‪3‬ـ القبول ملا اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان‬
‫‪4‬ـ االنقياد ملا دلت عليه املنايف لرتك ذلك‬
‫‪5‬ـ الصدق املنايف للكذب‬
‫‪6‬ـ اإلخالص‬
‫‪7‬ـ احملبة‬
‫سابعاً‪ :‬ارتباط ال إله إال اهلل بالوالء والرباء‬
‫ـ اسوة حسنة يف الوالء والرباء من األمم املاضية‬
‫ـ إبراهيم عليه السالم‬
‫ثامناً‪ :‬آثار اإلقرار بـ ((ال إله إال اهلل))‬
‫املبحث الثاين‪ :‬إثبات وجود اخلالق‬
‫‪250‬‬
‫أوالً‪ :‬دليل اخللق‬
‫ثانياً‪ :‬دليل الفطرة والعهد‬
‫ثالثاً‪ :‬دليل اآلفاق‬
‫‪1‬ـ نقص األكسجني يف اإلرتفاعات‬
‫‪2‬ـ حركة النجوم والكواكب يف مداراهتا‬
‫‪3‬ـ دوران األرض واجلبال‬
‫‪4‬ـ حاجز بني حبرين ماحلني‬
‫‪5‬ـ إهتزاز األرض وزيادهتا باملطر‬
‫‪6‬ـ أوهن البيوت‬
‫رابعاً‪ :‬دليل األنفس‬
‫‪1‬ـ اإلحساس واجللد‬
‫‪2‬ـ البصمات وحتديدها هلوية اإلنسان‬
‫خامساً‪ :‬دليل اهلداية‬
‫‪1‬ـ النحل‬
‫‪2‬ـ اهلدهد‬
‫سادساً‪ :‬دليل انتظام الكون وعدم فساده‬
‫سابعاً‪ :‬دليل التقدير‬
‫ثامناً‪ :‬دليل التسوية‬
‫املبحث الثالث‪ :‬توحيد الربوبية‬
‫‪1‬ـ سنن عامة‬
‫‪2‬ـ سنن خاصة‬
‫املبحث الرابع‪ :‬توحيد األمساء والصفات‬
‫أوالً‪ :‬األسس اليت يقوم عليها توحيد األمساء والصفات‬
‫ثانياً‪ :‬أدلة هذا النوع من التوحيد‬

‫‪251‬‬
‫ثالثاً‪ :‬أمساء اهلل احلسىن‬
‫‪1‬ـ أمساء اهلل تبارك وتعاىل كثرية‬
‫‪2‬ـ أمساء اهلل تبارك وتعاىل توقيفية‬
‫‪3‬ـ من أمساء اهلل احلسىن ما خيتص به سبحانه‬
‫‪4‬ـ من أمساء اهلل عز وجل ما جيوز أن يذكره وحده منفرداً‬
‫‪5‬ـ معىن اإلحصاء يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أن هلل تسعة وتسعني‬
‫امساً مائة إال واحداً‬
‫رابعاً‪ :‬الصفات اخلربية‬
‫‪1‬ـ الصفات العقلية‬
‫‪2‬ـ الصفات اخلربية‬
‫‪3‬ـ صفات ذاتية‬
‫أ ـ بعض الصفات الذاتية‬
‫ـ صفة احلياة‬
‫ـ صفة العلم‬
‫ـ صفة القدرة‬
‫ـ إثبات صفة السمع والبصر‬
‫ـ إثبات صفة الكالم‬
‫ـ علو اهلل على خلقه‬
‫ـ إثبات صفة اليدين‬
‫ب ـ بعض الصفات اخلربية‬
‫ـ صفة اجملئ‬
‫ـ صفة الرضا‬
‫ـ صفة السخط‬
‫ـ صفة الكراهة‬

‫‪252‬‬
‫ج ـ بعض الصفات اليت تطلق يف باب املقابلة‬
‫س ـ اهلل ينزه عن كل صفة نقص‬
‫‪4‬ـ صفات اهلل كلها صفات كمال‬
‫‪5‬ـ من لوازم استحقاق اهلل تعاىل لصفات الكمال وحده‬
‫‪6‬ـ نفي معاين أمسائه احلسىن من أعظم اإلحلاد فيه‬
‫‪7‬ـ آثار الصفات اإلهلية يف النفس والكون واحلياة‬
‫خامساً‪ :‬أثر الصفات اإلهلية على األخالق‬
‫‪1‬ـ التخلق بالقدوس ((القدوس))‬
‫‪2‬ـ التخلق بالسالم ((السالم))‬
‫‪3‬ـ التخلق باإلميان ((املؤمن))‬
‫‪4‬ـ التخلق باهليمنة ((املهيمن))‬
‫‪5‬ـ التخلق بالعزة ((العزيز))‬
‫‪6‬ـ التخلق باجلرب ((اجلبار))‬
‫‪7‬ـ التخلق بالتكرب عن الرذائل ((املتكرب))‬
‫‪8‬ـ التخلق باحللم ((احلليم))‬
‫‪9‬ـ التخلق بالصرب ((الصبور))‬
‫‪10‬ـ التخلق باإلعزاز ((املعز))‬
‫‪11‬ـ التخلق باإلذالل ((املذل))‬
‫سادساً‪ :‬وصف اهلل نفسه باملغفرة ال يعين اإلسراف يف املعاصي‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬توحيد األلوهية‬
‫أوالً‪ :‬تعريفه ومكانته خاصة‬
‫ثانياً‪ :‬الطريقة القرآنية يف الدعوة لتوحيد األلوهية‬
‫ثالثاً‪ :‬معىن العبادة وشروط قبوهلا‬
‫الشرط األول‪ :‬اإلخالص‬

‫‪253‬‬
‫الشرط الثاين‪ :‬يف قبول العبادة املوافقة للشرع‬
‫رابعاً‪ :‬حقيقة العبادة‬
‫خامساً‪ :‬أنواع العبادة‬
‫‪1‬ـ الدعاء‬
‫أ ـ التوسل إىل اهلل بأمسائه احلسىن أو صفة من صفاته‬
‫ب ـ التوسل إىل اهلل تعاىل باألعمال الصاحلة‬
‫ج ـ التوسل إىل اهلل تعاىل بدعاء الصاحلني األحياء‬
‫‪2‬ـ النذر‬
‫‪3‬ـ الذبح‬
‫‪4‬ـ التوكل‬
‫‪5‬ـ اإلستعانة‬
‫‪6‬ـ اإلستغاثة‬
‫‪7‬ـ اخلشية‬
‫‪8‬ـ اخلوف‬
‫‪9‬ـ احملبة‬
‫سادساً‪ :‬أفضل العبادات‬
‫سابعاً‪ :‬حتكيم الشريعة وارتباطها بالتوحيد‬
‫‪1‬ـ ربطها بتوحيد العبادة‬
‫‪2‬ـ ربطها بتوحيد الربوبية‬
‫‪3‬ـ ربطها بتوحيد األمساء والصفات‬
‫‪4‬ـ ربطها باإلميان‬
‫‪5‬ـ ربطها باإلسالم‬
‫‪6‬ـ ربطها بالشهادتني‬
‫‪7‬ـ طاعة غري اهلل واإلعراض عنه كفر وشرك‬

‫‪254‬‬
‫ثامناً‪ :‬اآلثار احلسنة للحكم مبا أنزل اهلل‬
‫‪1‬ـ اإلستخالف‬
‫‪2‬ـ األمن واإلستقرار‬
‫‪3‬ـ النصر والفتح‬
‫‪4‬ـ العز والشرف‬
‫‪5‬ـ بركة العيش ورغده‬
‫‪6‬ـ اهلداية والتثبيت‬
‫‪7‬ـ الفالح والفوز‬
‫‪8‬ـ املغفرة وتكفري السيئات‬
‫والص ّدقني‬
‫ّ‬ ‫‪9‬ـ مرافقة النبيني‬
‫تاسعاً‪ :‬اآلثار السيئة للحكم بغري ما أنزل اهلل‬
‫‪1‬ـ قسوة القلب‬
‫‪2‬ـ الضالل‬
‫‪3‬ـ الوقوع يف النفاق‬
‫‪4‬ـ احلرمان من التوبة‬
‫الص ُّد عن سبيل اهلل‬‫‪5‬ـ ّ‬
‫‪6‬ـ غياب األمن وانتشار الفوضى‬
‫‪7‬ـ انتشار العداوة والبغضاء‬
‫‪8‬ـ احلرمان من النصر والتمكني‬
‫‪9‬ـ هول العقاب الذي ينتظر املبدلني لشرعه‬
‫‪10‬ـ اإلهانة عند قبض االرواح‬
‫‪11‬ـ األكل من النار وغضب اجلبار‬
‫‪12‬ـ العذاب املهني‬
‫عاشراً‪ :‬محاية الرسول صلى اهلل عليه وسلم لتوحيد األلوهية‬

‫‪255‬‬
‫‪1‬ـ النهي عن الغلو واإلطراء‬
‫‪2‬ـ زيارة القبور والنهي عن اختاذها مساجد‬
‫‪3‬ـ الرقي والتمائم‬
‫‪4‬ـ االستسقاء باألنواء‬
‫‪5‬ـ السحر‬
‫‪6‬ـ الكهانة‬
‫‪7‬ـ الشفاعة‬
‫املبحث السادس‪ :‬اإلميان‬
‫أوالً‪ :‬اإلميان لغة وشرعاً وزيادة ونقصاناً‬
‫ثانياً‪ :‬اإلسالم واإلميان واإلحسان‬
‫ثالثاً‪ :‬أصل اإلميان‬
‫رابعاً‪ :‬األسس اليت يقوم عليها اإلميان باهلل عز وجل‬
‫‪1‬ـ الكفر بالطاغوت‬
‫‪2‬ـ اإلميان بالغيب‬
‫‪3‬ـ امتثال األوامر واجتناب النواهي‬
‫‪4‬ـ اإلخالص هلل يف العبادة‬
‫‪5‬ـ صدق املتابعة للنيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪6‬ـ العلم‬
‫خامساً‪ :‬شرح بعض اآليات القرآنية حتدثت عن اإلميان‬
‫‪1‬ـ زينة اإلميان‬
‫‪2‬ـ نور اإلميان‬
‫‪3‬ـ روح اإلميان‬
‫سادساً‪ :‬أسباب قوة اإلميان‬
‫‪1‬ـ معرفة أمساء اهلل احلسىن‬

‫‪256‬‬
‫‪2‬ـ تدبر القرآن على وجه العموم‬
‫‪3‬ـ معرفة النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪4‬ـ التفكر يف الكون والنظر يف األنفس‬
‫‪5‬ـ اإلكثار من ذكر اهلل يف كل وقت‬
‫أ ـ احلياة الطيبة احلقيقية‬
‫ب ـ القوة يف األبدان واحياء املعاش واجلهاد‬
‫ج ـ رقة القلب وخشوعه‬
‫س ـ النجاة من العذاب‬
‫ر ـ من السبعة الذين يظلهم اهلل يف ظله يوم القيامة‬
‫ز ـ تكثري الشهود يوم القيامة‬
‫‪6‬ـ معرفة حماسن الدين‬
‫‪7‬ـ اإلجتهاد يف التحقق يف مقام اإلحسان‬
‫‪8‬ـ الدعوة إىل اهلل‬
‫‪9‬ـ توطني النفس على مقاومة ما ينايف اإلميان‬
‫‪10‬ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر لآلخرة‬
‫سابعاً‪ :‬صفات املؤمنني‬
‫‪1‬ـ سورة املؤمنني‬
‫أ ـ اخلشوع يف الصالة‬
‫ب ـ اإلعراض عن اللغو‬
‫ج ـ تطهريهم ألنفسهم بأداء الزكاة‬
‫ح ـ حفظ الفروج‬
‫خ ـ رعاية األمانة والعهد‬
‫س ـ احملافظة على الصلوات‬
‫‪2‬ـ سورة الفرقان‬

‫‪257‬‬
‫أ ـ السكينة والوقار‬
‫ج ـ احللم‬
‫ح ـ إحياء الليل بالصالة‬
‫ر ـ القصد واإلعتدال يف اإلنفاق‬
‫ز ـ عدم الشرك باهلل والتحرج عن قتل النفس والزنا‬
‫س ـ عدم شهادة الزور‬
‫ثامناً‪ :‬من فوائد اإلميان ومثراته‬
‫‪1‬ـ االغتباط بوالية اهلل اخلاصة‬
‫‪2‬ـ الفوز برضا اهلل تعاىل‬
‫‪3‬ـ دفاع اهلل عن املؤمنني‬
‫‪4‬ـ احلياة الطيبة‬
‫‪5‬ـ حصول البشارة بكرامة اهلل‬
‫‪6‬ـ حصول الفالح واهلدى‬
‫‪7‬ـ االنتفاع باملواعظ والتذكري‬
‫‪8‬ـ قطع الشكوك اليت تضر بالدين‬
‫‪9‬ـ ملجأ املؤمنني‬
‫‪10‬ـ املنع من الوقوع يف املوبقات املهلكة‬
‫‪11‬ـ الشكر والصرب‬
‫‪12‬ـ تأثريه على األعمال واألقوال‬
‫‪13‬ـ هداية اهلل إىل الصراط املستقيم‬
‫‪14‬ـ حمبة اهلل واملؤمنني من خلقه‬
‫‪15‬ـ رفع اهلل ملكانتهم‬
‫املبحث السابع‪ :‬نواقض التوحيد واإلميان‬
‫أوالً‪ :‬الشرك‬

‫‪258‬‬
‫ثانياً‪ :‬أنواع الشرك‬
‫‪1‬ـ الشرك األكرب‬
‫أ ـ شرك الدعاء‬
‫ب ـ شرك النية واإلرادة والقصد‬
‫ج ـ شرك الطاعة‬
‫ح ـ شرك احملبة‬
‫ـ مثل املشرك بالساقط من السماء‬
‫ـ مثل املشرك باحلريان يف األرض‬
‫ـ مثل املشرك بالعبد اململوك جبماعة كثريين‬
‫‪2‬ـ الشرك األصغر‬
‫‪3‬ـ الفرق بني الشرك األكرب واألصغر‬
‫‪4‬ـ آثار الشرك‬
‫ثانياً‪ :‬الكفر‬
‫ـ أنواع الكفر‬
‫‪1‬ـ كفر أكرب‬
‫أ ـ كفر التكذيب‬
‫ب ـ اإلباء واستكبار‬
‫ج ـ كفر اإلعراض‬
‫ح ـ كفر الشك‬
‫ر ـ كفر النفاق‬
‫‪2‬ـ كفر أصغر‬
‫‪3‬ـ إطالق حكم الكفر‬
‫‪4‬ـ شروط التكفري‬
‫أ ـ العلم‬

‫‪259‬‬
‫ب ـ العمد‬
‫ج ـ االختيار والقدرة‬
‫‪5‬ـ موانع التكفري‬
‫أ ـ اخلطأ‬
‫ب ـ اجلهل‬
‫ج ـ العجز‬
‫س ـ اإلكراه‬
‫‪6‬ـ ما ميحو الكفر بعد ثبوته على املعني‬
‫ثالثاً‪ :‬األمثال القرآنية للكافرين‬
‫‪1‬ـ السراب وأعمال الكفار‬
‫‪2‬ـ ظلمات الكفر‬
‫‪3‬ـ الرماد وأعمال الكفار‬
‫‪4‬ـ نفقة الكفار والريح الشديدة‬
‫‪5‬ـ قلب املوحد وقلب الكافر‬
‫رابعاً‪ :‬النفاق‬
‫‪1‬ـ أنواع النفاق‬
‫أ ـ نفاق االعتقاد‬
‫ب ـ النفاق العملي‬
‫‪2‬ـ من أبرز صفات املنافقني‬
‫أ ـ اإلفساد يف األرض‬
‫ب ـ خداع املؤمنني‬
‫ج ـ اإلعراض عن التحاكم إىل شرع اهلل‬
‫د ـ األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬
‫هـ ـ اختاذ الكافرين أولياء من دون املؤمنني‬

‫‪260‬‬
‫خامساً‪ :‬الردة‬
‫‪1‬ـ أنواع الردة‬
‫‪2‬ـ األحكام اليت ترتتب على االرتداد‬
‫‪3‬ـ األشياء اليت يصري فيها املسلم مرتداً‬
‫سادساً‪ :‬الفسق‬
‫‪1‬ـ فسق ينقل من امللة‬
‫‪2‬ـ فسق ال ينقل من امللة‬
‫سابعاً‪ :‬املعاصي‪ :‬الكبائر والصغائر‬
‫‪1‬ـ املعاصي‬
‫‪2‬ـ أنواع املعاصي‬
‫‪3‬ـ تعريف الكبرية‬
‫‪4‬ـ تعريف الصغائر‬
‫‪5‬ـ حكم مرتكب الكبرية‬
‫‪6‬ـ اخلامتة‬
‫‪7‬ـ فهرس الكتاب‬
‫‪ 8‬ـ املؤلف يف سطور‬

‫‪261‬‬
‫المؤلف في سطور‬

‫ـ ولد يف مدينة بنغازي بليبيا عام (‪1383‬هـ‪1963/‬م)‪.‬‬


‫ـ حصل على درجة اإلجازة العالية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول‬
‫الدين من جامعة املدينة املنورة بتقدير ممتاز‪ .‬وكان ترتيبه األول على‬
‫دفعته عام (‪1413‬هـ‪1414/‬هـ ـ ‪1992/1993‬م)‪.‬‬
‫ـ نال درجة املاجستري من جامعة أم درمان اإلسالمية يف السودان عام‬
‫‪1996‬م وكانت الرسالة العلمية‪ :‬يف املاجستري‪(( :‬الوسطية يف القرآن‬
‫الكرمي))‪ ،‬وأما الدكتوراه فكانت‪(( :‬فقه النصر والتمكني يف القرآن‬
‫الكرمي)) عام ‪1999‬م‪.‬‬
‫ـ الربيد اإللكرتوين ‪abumohamed2@maktoob.com‬‬

‫كتب صدرت للمؤلف‪:‬‬


‫‪1‬ـ السرية النبوية‪ :‬عرض وقائع وحتليل أحداث‪.‬‬
‫‪2‬ـ سرية اخلليفة األول أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته‬
‫وعصره‪.‬‬
‫‪3‬ـ سرية أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته‬
‫وعصره‪.‬‬
‫‪4‬ـ سرية أمري املؤمنني عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته‬
‫وعصره‪.‬‬
‫‪5‬ـ سرية أمري املؤمنني علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته‬
‫وعصره‪.‬‬
‫‪6‬ـ سرية أمري املؤمنني احلسن بن علي بن أيب طالب‪ .‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪7‬ـ الدولة العثمانية‪ :‬عوامل النهوض والسقوط‪.‬‬
‫‪8‬ـ فقه النصر والتمكني يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫‪262‬‬
‫‪9‬ـ تاريخ احلركة السنوسية يف إفريقيا‪.‬‬
‫‪10‬ـ تاريخ دوليت املرابطني واملوحدين يف الشمال اإلفريقي‪.‬‬
‫‪11‬ـ عقيدة املسلمني يف صفات رب العاملني‪.‬‬
‫‪12‬ـ الوسطية يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫‪13‬ـ الدولة األموية‪ ،‬عوامل اإلزدهار وتداعيات اإلهنيار‪.‬‬
‫‪14‬ـ معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪15‬ـ عمر بن عبد العزيز‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪16‬ـ خالفة عبداهلل بن الزبري‪.‬‬
‫‪17‬ـ عصر الدولة الزنكية‪.‬‬
‫‪18‬ـ عماد الدين زنكي‪.‬‬
‫‪19‬ـ نور الدين زنكي‪.‬‬
‫‪20‬ـ دولة السالجقة‪.‬‬
‫‪21‬ـ اإلمام الغزايل وجهوده يف اإلصالح والتجديد‪.‬‬
‫‪22‬ـ الشيخ عبد القادر اجليالين‪.‬‬
‫‪23‬ـ الشيخ عمر املختار‪.‬‬
‫‪24‬ـ عبد امللك بن مروان بنوه‪.‬‬
‫‪25‬ـ فكر اخلوارج والشيعة يف ميزان أهل السنة واجلماعة‪.‬‬
‫‪26‬ـ حقيقة اخلالف بني الصحابة‪.‬‬
‫‪27‬ـ وسطية القرآن يف العقائد‪.‬‬
‫‪28‬ـ فتنة مقتل عثمان‪.‬‬
‫‪29‬ـ السلطان عبد احلميد الثاين‪.‬‬
‫‪30‬ـ دولة املرابطني‪.‬‬
‫‪31‬ـ دولة املوحدين‪.‬‬
‫‪32‬ـ عصر الدولتني األموية والعباسية وظهور فكر اخلوارج‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫‪33‬ـ الدولة الفاطمية‪.‬‬
‫‪34‬ـ حركة الفتح اإلسالمي يف الشمال األفريقي‪.‬‬
‫‪35‬ـ صالح الدين األيويب وجهوده يف القضاء على الدولة الفاطمية‬
‫وحترير البيت املقدس‪.‬‬
‫‪36‬ـ إسرتاتيجية شاملة ملناصرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم دروس‬
‫مستفادة من احلروب الصليبية‪.‬‬
‫‪37‬ـ الشيخ عز الدين بن عبد السالم سلطان العلماء‪.‬‬
‫‪38‬ـ احلمالت الصليبية (الرابعة واخلامسة والسادسة والسابعة) واأليوبيون‬
‫بعد صالح الدين‪.‬‬
‫‪39‬ـ املشروع املغويل عوامل اإلنتشار وتداعيات اإلنكسار‪.‬‬
‫‪40‬ـ سيف الدين قطز ومعركة عني جالوت يف عهد املماليك‪.‬‬
‫‪ 41‬ـ اإلميان باهلل جل جالله‬

‫‪264‬‬

You might also like