Professional Documents
Culture Documents
اسمّالمقياسّ:أصولّالنحوّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّطبيعتهّّ:تطبيقّ
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّاسمّاألستاذّ ّوّلقبهّ:عبدّالوهابّشيبانّّ
و النّحو في االصطالح هو :علم بأصول يُعرف بها أحوال أواخر الكلم العربيّة إعرابا ً وبنا ًء وما يتبع ذلك.
ت كالم العرب ليلحق َم ْن ليس ِم ْن أهل العربية بأهلها في الفصاحة(.»)3 عرفه ابن جنّي بقوله « :هو انتحاء ْ
سم ِ و ّ
صحيح.نحوا ،ألنّه الجهة الّتي يقصدها المتكلّم ليصل إلى كالم العرب الفصيح ال ّلذا س ّمي هذا العلم ً
أ ّما أصول النّحو في االصطالح فهو « :علم يُبحث فيه عن أدلّة النّحو اإلجمالية من حيث هي أدلّته ،و كيفية االستدالل
بها ،و حال المستدلّ بها(.»)4
أن أصول الفقه أد ّلة الفقه
تفرعت منها فروعه و فصوله ،كما ّ ي « :أصول النّحو أدلّة النّحو الّتي ّكما قال ابن األنبار ّ
تنوعت عنها جملته و تفصيله(.»)5الّتي ّ
ي في " االقتراح " « :هو بالنّسبة إلى النّحو ،كأصول الفقه بالنّسبة إلى الفقه(.»)6سيوط ّقال ال ّ
( )1صحيح البخاري :أبو عبد هللا مح ّمد بن إسماعيل البخاري ،دار ابن كثير ،لبنان – بيروت ط 1423 ،1هـ 2002 -م:
صالة :باب إذا صلّى قاعدًا ث ّم ص ّح ) الحديث رقم 1118 :و أطرافه في 1119و 1148و 1161 ص ( 271كتاب تصير ال ّ
و .4837
( )2رواه البخاري.
( )3الخصائص.34/1 :
سيوطي ،تحقيق محمود سليمان ياقوت ،دار المعرفة الجامعية ،القاهرة ،د ط، ( )4االقتراح في علم أصول النحو :جالل الدّين ال ّ
1426هـ 2006 -م :ص .13
( )5اإلغراب في جدل األعراب و لمع األدلة في أصول النحو :أبو البركات بن األنباري ،تحقيق سعيد األفغاني ،مطبعة الجامعة
السورية :1957 ،ص.8
ّ
( )6االقتراح في علم أصول النحو.
1
سماع:
أ – ال ّ
و المحتج به األول :كالم العرب :و يحت ّج منه بما ثبت عن الفصحاء الموثوق بعربيتهم ،حت ّى و لو كانوا كفّارا ً.
الطائيين .و ال يؤخذو يحت ّج بكالم قبائل قلب الجزيرة :قريش و قيس و تميم و أسد و هذيل ،و بعض كنانة ،و بعض ّ
عمن جاور غير العرب لفساد ألسنتهم ،و ال بكالم المولّدين و ال ُمح َدثِيْن.
متواترا ،أو آحادا ً أو شاذا.
ً الث ّاني :هو القرآن :فك ُّل ما ورد أنّه قرئ جاز االحتجاج به في العربية سوا ًء أكان
صحيح االحتجاج به ،و يستد ّل منه بما ثبت عن النبي صلى هللا عليه وسلم نقله على اللّفظ المرو ّ
ي الث ّالث :هو الحديث ال ّ
به ،و سواء فيه المتواتر ،و اآلحاد.
ب -القياس:
و هو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه و يع ّد هو نفسه معظم أدلّة النّحو ،و الت ّعويل عليه في أغلب
المسائل النّحوية .و ال يتح ّقـق إنكاره ألنّه أغلب النّحو ،و إنكاره إنكار للنّحو.
و ينقسم إلى:
-حمل أصل على فرع. -حمل فرع على أصل.
-حمل ض ّد على ض ّد. -حمل نظير على نظير.
ج -اإلجماع:
صرف في الكوفة و البصرة على مسألة أو حكم ،و إجماع العرب ْ
إن وقف عليه ،و هو و هو اتّفاق علماء النّحو و ال ّ
ح ّجة إذا لم يخالف المنصوص و المقيس على المنصوص .و يعمل بالمجمع عليه عند تعارضه مع المختلف فيه.
د -االستصحاب:
و هو استمرار الحكم و بقاء ما كان على ما كان ،و هو من األدلة المعتبرة ،و من أضعفها .و ال يجوز التّمسك به
حال وجداننا لدليل ،و إذا تعارض مع دلي ِل سماع أو قياس فال عبرة به.
أن األصل ما يُبتنى عليه غيره .و يضيف األصوليون :عبارة " منو التّعريف المشترك بين اللّغة و األصول هوّ :
حيث إنّه يُبتنى عليه غيره " و الذي يُبتنى عليه غيره هو الفرع.
صالة واجبة و ّ
الزكاة واجبة ،األصل فيهما قول هللا و األصل في علم أصول الفقه يطلق على الدّليل ،فقولنا :ال ّ
الزكاة ) ،و كذلك الحديث النّبوي ،فالدّليل ْ
إذن هو األصل. تعالى ( :و أقيموا الصّالة و آتوا ّ
2
ي شيء،و هنا ال ب ّد من التّوقف عند رؤية كانت سائدة عند المسلمين و هي نظريّة العلل ،و هي ضرورية لصنع أ ّ
شكلية ،و العلّة المادّية ،و هي نظرية و لهذا جعلوها أربعة أنواع هي :العلّة الفاعلة ،و العلّة الغائية ،و العلّة ال ّ
صوريّة ال ّ
قديمة مقتبسة من ثقافات أخرى.
و العلّة التّي تندرج في هذا التّعريف هي العلّة المادّية فقط ألنّها األصل.
و من معاني األصل كذلك المستصحب ،و هو آخر األدلّة ،فال يقدّم على القياس أو االستحسان ،و ال يعتمد في
القطعيات ،األصل في األشياء اإلباحة...
شرعية العملية الفرعية المكتسب عن أدلّتها التفصيليّة.
أصول الفقه :هو العلم باألحكام ال ّ
كثيرا بعلم أصول الفقه بدليل الت ّشابه بينهما في المصطلحات ،و في تحديد األد ّلة و في ً إ ّن علم أصول ال ّنحو تأث ّـر
كيفية االستدالل ،و في صياغة القواعد األصولية ،ث ّم في قواعد الت ّرجيح عند تعارض األدلّة .و لقد أث ّـر النّحو في علوم
أن كتب الفروع الفقهيّة قد شريعة و منها :الفقه و أصوله كما أنّه تأث ّـر ببعض مصطلحات الفقهاء و مذاهبهم ،كما ّ ال ّ
الطالق و العتق.تأث ّرت بعلم النّحو و السيما في بابي ّ
الجر ،و
ّ بأن أه ّم األبواب الت ّي أث ّـرت في الفقه هي أسلوب ال ّشرط ،و االستثناء ،و عطف النّسق ،و حروف عل ًما ّ
أن النّحو و أصوله قد تفاعال مع الفقه ،و كان بينهما تأثير متبادل. بعض ّ
الظروف ،و بنا ًء على ذلك نستنتج ّ
أن أصول الفقه لكن تقريب أصول النّحو من أصول الفقه وتشبيهها بها فيه إجحاف بأصول ال ّنحو ألمر بسيط .و هو ّ ّ
ي وفكرة النّظام في مستوى ي التّصويت ّ
الحس في مستوى األداء النّطق ّ
ّ نقليّة وأصول النّحو عقليّة الستنادها إلى فكرة
وأول من تبيّن هذا الفارق وأعلن عنه هو ابن جنّي في خصائصه األبنية والعالقات النٌحويّة واألمارات الدّالّة عليهاّ .
أن علل وتحديدا في باب ذكر علل العربيّة أكالميّة هي أم فقهيّة ( وهو باب طويل 48ص) الذي يفتتحه بقوله" :اعلم ّ
النّحويّين ـ أعني بذلك حذّاقهم المتقنين ،ال أفافهم المستضعفين ـ أقرب إلى علل المتكلّمين منها إلى علل المتفقّهين .وذلك
الحس ،ويحت ّجون فيه بثقل الحال أو خفّتها على النّفس ،وليس كذلك حديث علل الفقه .وذلك أنّها ّ أنّهم إنّما يحيلون على
أن ترتيب إنّما هي أعالم وأمارات ،لوقوع األحكام ،ووجوه الحكمة فيها خفيّة عنّا ،غير بادية الصفحة لنا؛ أال ترى ّ
والطالق وغير ذلك ،إنّما يُرجع في وجوبه إلى ورود األمر بعمله .وال تعرف ّ صالة مناسك الح ّج وفرائض ّ
الطهور وال ّ
صلوات في اليوم واللّيلة خمسا دون غيرها من العدد .وال يعلم أيضا حال الحكمة والمصلحة في عدد علّة جعل ال ّ
سبب الركعات .وال في اختالف ما فيها من الت ّسبيح والتّالوات؛ إلى غير ذلك م ّما يطول ذكره وال تحلى النّفس بمعرفة ال ّ ّ
الذي كان من أجله .وليس كذلك علل النّحويْين .وسأذكر طرفا من ذلك لتص ّح الحال به( ".الخصائص .)48/
3
قد فُرغ في أكثر الكتب المص ّنفة فيه منه ،و إ ّنما هذا الكتاب مبن ّ
ي على إثارة معادن المعاني ،و تقرير حال األوضاع
و المبادئ و كيف سرت أحكامها في األحناء و الحواشي» ( نفسه ص .)31
قال ابن جني في الخصائص " :أدلة النحو ثالثة :السماع ،واإلجماع ،والقياس " .
وقال ابن األنباري في أصوله ":أدلة النحو ثالثة :نقل ،وقياس ،واستصحاب حال " .
فزاد االستصحاب و لم يذكر اإلجماع ،فكأنه لم ير االحتجاج به في العربية ،كما هو رأي قوم .
وقد تحصل مما ذكراه أربعة ،وقد عقدت لها أربعة كتب .
وكل من اإلجماع والقياس ال بد له من مستند من السماع كما هما في الفقه كذلك ،ودونها االستقراء واالستحسان ،
وعدم النظير ،وعدم الدليل ،المعقود لها الكتاب الخامس .
القرآن بأنه حجة في النحو ،ألنه أفصح الكالم ،سواء كان متواترا أم آحادا ،و السنة كذلك ،وعن كالم من يوثق
بعربيته كذلك وعن إجماع أهل البلين كذلك ،أي إن كال مما ذكر يجوز االحتجاج به دون غيره ،وعن القياس وما
يجوز من العلل فيه وما ال يجوز .
وبعد أن حررت هذا الحد بفكري وشرحته ،وجدت ابن األنباري قال " :أصول النحو أدلة النحو التي تفرعت
منها فروعه وأصوله ،كما أن أصول الفقه أدلة الفقه التي تنوعت عنها جملته وتفصيله .
وفائدته التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل واالرتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع االطالع على الديل ،
فإن المخلد إلى التقليد ال يعرف وجه الخطأ من الصواب ،والينفك في أكثر األمر عن عوارض الشك واالرتياب
".
للنحو حدود شتى ،وأليقها بهذا الكتاب قول ابن جني ( في الخصائص ) :
4
" هو انتحاء سمت كالم العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية ،والجمع ،والتحقير ،والتكسير ،واإلضافة
،والنسب ،والتركيب ،وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة ،فينطق بها ،وإن لم
يكن منهم ،وإن شد بعضهم عنها رد به إليها .
وهو في األصل مصدر شائع ،أي نحوت نحوا ،كقولك ،قصدت قصدا ثم خص به انتحاء هذا هذا القبيل من العلم
،كما أن الفقه ،في األصل مصدر فقهت الشيء ،أي عرفته ،ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم ...
وقال صاحب ( المستوف ى ) ":النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألف بحسب
استعمالهم لتعرف النسبة بين صيغة النظم وصورة المعنى ،فيتوصل بإحداهما إلى األخرى ".
" النحو علم بأقيسة تغيير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب " .
" النحو صناعة علمية يعرف بها أحوال كالم العرب من جهة ما يصح ويفسد في التأليف ليعرف الصحيح من
الفاسد " .
وقال ابن السراج في ( األصول ) " :النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كالم العرب ".
5
سبع المتواترة
تراجـم أئ ّمة القراءات ال ّ
ِ
-1تعريف القراءات:
و لقد عرف عنهم خالل ذلك منهج االختيار ،فقد كان كثير منهم يصطفي لنفسه من بين مروياته قراءة أو وجهـًا ،و
لكثرة دوامه على قراءته و اإلقراء به أصبحت تنسب إليه ،و هذه النّسبة هي نسبة اختيار في القراءة و ا ّ
لرواية ،و ليس
في وضعها و اختراعها و ابتكارهاّ ،
ألن ذلك أمر يعود إلى الوحي ،و بنا ًء على منهج االختيار في تاريخ القراءات نشأ
سبع أو العشر آو األربع عشرة.
عنه ما عرف بالقراءات ال ّ
و لهذا كان لعلماء القراءات تعريفات متعدّدة منها على سبيل الذّكر ال الحصر هذان التّعريفان:
الزركشي( :ت 794هـ) بأنّها « اختالف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف ،و كيفيتها ،من تخفيف و
عرفها ّ
أّ -
تثقيل و غيرها».
بعزو النّاقلة».
ِ عرفها ابن الجزري (ت 833هـ) بأنّها « علم بكيفية أداء كلمات القرآن و اختالفها
ب -و ّ
إما أن تكون
المعزوة لناقلها ّ
ّ ألن القراءات و تعريف ابن الجزري يشمل القراءات المتواترة و المشهورة وال ّ
شاذة ،ذلك ّ
متواترة أو مشهورة أو شاذة.
القراءة عن عثمان بن عفان و أبي الدّرداء .اشتهر -1عبد هللا بن عامر (ت118هـ) إمام أهل ال ّشام في ّ
القراءة ،و قد اخذ ّ
من رواة قراءته اثنان :هشام ،و ابن ذكوان.
6
صحابي ،و مجاهد بن جبر .و قد اشتهر
سايب ال ّ -2عبد هللا بن كثير الم ّكي (ت120هـ) تابعي ،أخذ ّ
القراءة عن ابن ال ّ
من رواتهّ :
البزي ،و قنبل.
-4أبو عمرو بن العالء (ت 154هـ) :هو من بني مازن ،نشأ بالبصرة .قرأ على ابن كثير ،و مجاهد و سعيد بن جبير.
سوسي و اتصالها به بواسطة تلميذه
و قرأ عليه أبو عبيدة القاسم بن سالم ،و األصمعي .و راوياه هما :الدّوري ،و ال ّ
المباشر :يحيى بن المبارك اليزيدي.
القراءة
صادق ،و األعمش ،و طلحة بن مصرف .و أخذ ّ -5حمزة الزيّات (ت156هـ) :هو كوفي ،قرأ على جعفر ال ّ
عنه :الكسائي ،و سفيان الثوري .و اشتهر من رواته :خلف و خالد ،رويا قراءته بواسطة سليم بن عيسى.
ي بن حمزة الكوفي ال ّنحوي .قرأ على حمزة ،و ا بن أبي ليلى ،و عيسى بن عمر .و
-7الكسائي (ت189هـ) :هو عل ّ
راوياه أبو الحارث اللّيث ،و أبو عمر حفص الدوري.
سبعة أصحاب القراءات ال ّسبع ،كما حدّدهم ابن مجاهد ،و جعل قراءة من عداهم غير متواترة ،و لم هؤالء هم األئمة ال ّ
سبعة و حكموا ّ
بأن ثالثة أئ ّمة يوافق جمهور العلماء ابن مجاهد على حصر القراءات المتواترة في قراءة هؤالء األئ ّمة ال ّ
ضا ،و هو القراءة المتواترة و لذا اعتبروا هذه القراءات الثالث متواترة أي ً آخرين ،تنطبق على قراءاتهم شروط ّ
عشرا ،ال ّسبع التي م ّرت ترجمة أئ ّمتها وً الراجح عند أهل هذا ال ّ
شأن ،و بذلك كانت القراءات المتواترة المعتمد و ّ
المدني
ّ قراءات هؤالء األئم ة الثالثة ،و هم :يعقوب البصري (ت 205هـ) ،و راوياه هما :روح و رويس .و أبو جعفر
(ت130هـ) ،و راوياه :ابن َج هماز ،وعيسى بن وردان .و خلف الكوفي (ت 229هـ) ،و راوياه هما :إدريس و
إسحاق.
7
المدونة اللّغوية
ّ موقف العلماء من
موقف النّحاة القدماء من القراءات القرآنية
النّحااة أو بعضاهم علاى األصا ّح لام يقفاوا ماع بعضاهم موقاف المعارضاة و الار ّد و التّضاعيف كماا وقفاوا حياال القااراءات
القرآنية .فقد وجد منهم في أحيان كثيرة يتصيّدون القراءات نظارة حاذر و حيطاة ،و ال يأخاذون بهاا إالّ نا ً
ادرا ،بينماا نارى
كبيرا.
الكوفيين يعتمدون على القراءات اعتمادًا ً
أن القاراءات آراء و يبدو لي – و هللا أعلم – أن رد بعض النّحاة للقراءات و بخاصة ما أشاكل منهاا كاان بسابب اعتقاادهم ّ
تنبثق من أصحابها و ليست متواترة عن رسول هللا صلى هللا عليه و سالم ،و يؤيّاد هاذا ماا قالاه ابان المنيار تعقيبًاا علاى ر ّد
الزمخشري لقراءة ابن عامر بالفصل بين المتضايفين في قوله تعالى ﴿ :و كذلل زيذن لكثيذر مذن المنذركين قتذل أوالد ذم ّ
جار " شاركائهم " علاى اإلضاافة إذ يقاول – أي ابان المنيار " -فهاذا ّ
ظان نركاؤ م ﴾ [ األنعام .] 138 :برفع " قتال " و ّ
من ّ
الزمخشري ،ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيًا منه " (. )7
أن القراءات آراء تنبثق من أصحاب القراءات – ماا قالاه أو غاانم أحماد بانكما يؤيّده – أي ما ذهب إليه بعض النّحاة من ّ
إن قراءة ابن عامر هذه ال تجوز في العربية و هي زلّاة عاالم"( ( .»)8و هاو بقولاه هاذا ياوحي ّ
باأن ابان عاامر حمدان ّ « :
هااو صااانع هااذه القااراءات إذ لاام تقااف معارضااتهم فقااط عنااد القااراءات المشااكلة أو الشاااذة -فااي نظاارهم -باال تعاادتها إلااى
القراءات المتواترة ( .))9و إلاى جاناب أولئاك النّحااة الاذين عارضاوا القاراءات وضاعّوفها نجاد عاددًا غيار قليال مان النّحااة
كثيارا مان القاراءات فاي مجاالً فإن كان معظم النّحاة البصريين مثالً يرفضون يأخذ بالقراءات و يستد ّل بها على ما يرىْ ،
نحوهم فإ ّننا نجد نحاة الكوفة على عكسهم تما ًما فهم يستشهدون و يؤيّدون ما يرونه في ال ّنحو بالقراءات.
فاإن مانهم مان يقبال القاراءات و يساتد ّل بهاا ،و إذا كاان الغالابو إذا كان من البصريين من يعارض و يرفض القراءات ّ
اإن ماانهم ماان يعارضااها و يردّهااا ،فااإذا كااان ساايبويه مااثالً ياارى ّ
أن علااى نحاااة الكوفااة االعتماااد علااى القااراءات و تأيياادها فا ّ
ِّ
يخطا ي
ي يارفض بعاض القاراءات و ال يتبعهاا ،و إذا كاان الماازني البصار ّ القراءة سا ّنة متّبعاة ( )10فهنااك ّ
الفاراء الكاوف ّ
المبارد ماث ً
ال ينكار علاى ّ قراء ما ،فإنّك تجد الكسائي الكاوفي يحتضان قاراءة أخارى و يبناي عليهاا قواعاده ،و إذا كنّاا نارى ّ
فإن هناك من أيّادها و دافاع عنهاا فإنّناا نارى ابان جنا ّ
ي يار ّد الزمخشري يضعّفها ّ بالجر ،و الز ّجاج و ّ
ّ حمزة قراءة األرحام
شااناعة و الضّاعف علاى ماا رآه فيهااا ،و المبارد إنكااره فيقااول " :ليسات هاذه القاراءة عناادنا مان اإلبعااد و الفحاش و ال ّ
ّ علاى
أ ّما موقف مذاهب النّحو من القراءات فإنّها ال تختلف عان مواقاف األفاراد التاي ذُكار بعضاها آنفًااّ ،
فاإن مان الماذاهب مان
أخذ بالقراءات و استنتج منها و اساتد ّل لهاا ،و منهاا مان وقاف علاى النقايض يارفض القاراءات و يردّهاا و ّ
يؤولهاا ليجعلهاا
موافقااة لقواعااده و آرائااه ( .)15فالبصااريون وضااعوا مقاييسااهم اللّغويااة ماان القاارآن الكااريم بلهجااة قااريش و ماان النّصااوص
العربية الشعرية أو النثرية ،و في ظالل هذه النصوص نمت قواعدهم ال ّنحوية ،و الحقيقة ّ
أن المادّة التاي نساجوا منهاا هاذه
و نصاوص أخارى لام القواعد كانت مادّة قليلة م ّما جعل قواعدهم مضطربة فقد كانت تتعارض مع مقااييس أخارى ،
يطلع عليها البصريون و حكموا عقلهم فلام يساعفهم فاي كثيار مان األماور ،و مان أجال ذلاك تشاددوا عان العارب األقحااح
كااابن عااامر و حماازة و اباان كثياار ،و أبااي عماارو البصااري ،فقااد رفضااوا بعضااها ألنهااا ال تتوافااق و أصااولهم التااي كااان
يعوزها االستقرار و ألجل هذا فإن علماء القراءات عابوا على البصريين هذه األقيساة الناقصاة و لام يلزماوا القاراءات أن
تجري على موازينها ،ألن القراءات المنقولة عن العرب بأسانيد أقوى من أسانيد تلك النصوص التي جمعها البصريون.
قال اإلمام الدّاني « :و أئمة القراءة ال تعمل في شيء من حروف القارآن علاى األفشاى فاي اللّغاة و األقايس فاي العربياة ،
بل على األثبت في األثر ،و أص ّح في النقل ،و إذا ثبتت الرواية لام يردهاا قيااس عربياة ،و ال فشاو لغاة ،الن القاراءة سانة
متبعة يلزم قبولها و المصير إليها (.»)16
و ما أحسب البصريين في صنيعهم هذا و تفضيل أقوال العرب علاى بعاض القاراءات المتاواترة أو غيار المتاواترة – ماا
جوزناا إثباات اللّغاة بشاعر مجهاول فجاواز إثبااتهم باالقرآن
الارازي إذ يقاول « :إذا ّ
أحسبهم إال أنهم المعنيون بعجب اإلمام ّ
كثيرا ما نرى النحويين في تقرير األلفااظ الاواردة فاي القارآن ،فاإذا استشاهدوا فاي تقريرهاا ببيات مجهاول العظيم أولى ،و ً
ْ
فاألن يجعلاوا فرحوا به و أنا شديد التع ّجاب مانهمف فاإنّهم إذا جعلاوا ورود البيات المجهاول علاى وفقهاا دلايالً علاى صا ّحتها
ألن غير القراءات من القرآن لام يتركاه ورود القرآن دليالً على ص ّحتها كان أولى( ،)17و هو هنا يقصد القراءات بالتّأكيدّ ،
بعض النّحاة كما توحي عبارته ،و هاذا ياد ّل داللاة واضاحة علاى اساتنكار العلمااء لصانيع النّحااة و ماوقفهم مان القاراءات،
غير أن هذا الحكم على موقف البصريين من القراءات ال ينبغي تعميمه فليس من المنطاق أن نغفال علاى ناحياة مهماة فاي
-ينظر :تفصيل ذلك عند :مح ّمد سمير اللّبدي :أثر القرآن و القراءات في النحو :ص .326 – 320 14
-ينظر :النشر في القراءات العشر ،11 – 10 / 1 :و اإلتقان في علوم القرآن :السيوطي.237 / 1 : 16
9
القراء المشهورين كاأبي عمارو ابان العاالء البصاري و سسين من كان من عداد ّ أن من نحاة البصرة المؤ ّ هذا األمر و هي ّ
القاراء العشارة ،و عيساى بان عمار ،و هاؤالء الثالثاة قاراء السابعة ،و يعقاوب بان إساحاق الحضارمي و هاو مان ّ هو مان ال ّ
سسااي علاام ال ّنحااو الااذين وضااعوا أسسااه و أركانااه و هاام أساااتذة ألباارز علماااء ال ّنحااو كساايبويه و الخلياال،يعتباارون ماان مؤ ّ
القراء المشاهير و ال ّنحاة و في الوقت نفسه في صفوف البصريين و تتلمذُ نحويي البصرة عليهم ياد ّل داللاة فوجدوا بعض ّ
األول لام يكان نائ ًبااا عان القاراءات و االعتماااد عليهاا ،أو علاى األقا ّل لام يكاان قاطعاة علاى ّ
أن المااذهب البصاري فاي عهااده ّ
موقفهم منهاا كموقاف المتاأ ّخرين مانهم إذ ال يعقال ماثالً أن يأخاذ الكوفياون بقاراءة أباي عمارو البصاري ببنماا تالمذتاه مان
البصريين يتحرزون عنها و يبتعدون.
10
البيلي105 - 87 : مواقف لبعض العلماء من القراءات المتواترة:
لقلة من العلماء المسلمين ،أحكام غير مسلمة ،حول بعض القراءات المتواترة فمنهم من يخط قراءة متواترة ،و
من يكره إحدى القراءات المتواترة ،و من يصنف إحداها بأنها أولى من غيرها و هؤالء جميعا على غير الصواب
فيما ذهبوا إليه .فالقراءات المتواترة جميعها سنة متبعة ،نقلت بالتواتر عن النبي صلى هللا عليه و سلم و لذا فال
يقبل من أحد بالغ ما بلغ من العلم أن يقول عن إحدى القراءات المتواترة :هذه قراءة خطأ و تلك قراءة مكروهة ،و
نحو هاتين من الصفات و أذكر فيما يلي نماذج من أقوال الذين خطأوا و الذين كرهوا ،و اللذين قالوا :هذه أولى من
غيرها.
فهذا ابن جرير الطبري (310 -224هـ) و هو ممن وصفوا باالجتهاد في الفقه ،و له باع طويل في القراءات و
التفسير ،أعطى نفسه حرية واسعة في نقد القراءات .و في كتابه «جامع البيان في تفسير القرآن» نماذج من
تخطئته بعض القراءات ،ووصف بعضها بأنه أولى بالصواب من بعض فمن ذلك تخطئته قراءة قوله تعالىِ « :إاله
اض َرة ً» (البقرة )282 /بنصب «تجارة» و هي قراءة «عاصم» 18و قد اعترض عليها أ َ ْن تَكُونَ ِت َج َ
ارة ً َح ِ
الطبري فقال« :ال أستجيز القراءة بغير الرفع ووصف قراءة النصب بالشذوذ ،19مع أن للنصب توجي ًها إعرابيًا
و هو اسم سلي ًما ،فإن الضمير المستتر في «تكون» يعود على المعاملة التجاري المفهومة من المقام،
«تكون» و خبرها «تجارة» و «حاضرةً» نعت لتجارة .و عندما تعرض لقوله تعالى« :و ما يُ َخ ِدعُونَ إاله
س ُه ْم» (البقرة )9 /و هي قراءة نافع و ابن كثير و أبي عمرو .و فيها قراءة أخرى متواترة ،و هي« :و ما أ َ ْنفُ َ
يَ ْخ َدعون» بفتح الياء و سكون الخاء .قال الطبري :هذه أولى بالصحة من قراءة «و ما يخادعون» و ساق برهانًا
على دعواه قوله« :إن هللا جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون هللا و المؤمنين في أول اآلية ،فمحال أن ينفي
عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ،ألن ذلك تضاد في المعنى .و ذلك غير جائز من هللا جل و عز».20
أقول :ال تضاد في المعنى ،فاهلل تعالى أخبرنا في أول اآلية ،بأن هؤالء المنافقين «يخادعون هللا و الذين
آمنوا» في الدنيا بحسب ما يتوهمون ،ألنهم يتخيلون أن هللا ال يعلم ما يبطنون ،و أخبرنا في آخر اآلية بقوله «و ما
يخادعون إال أنفسهم» في حقيقة األمر ،ألنه تعالى ال تخفى عليه خافية.
و ظنونهم ،و الذي نفاه في فالذي أثبته هللا في أول اآلية مخادعتهم هللا و المؤمنين بحسب أوهامهم
آخرها ،مخادعتهم هللا و المؤمنين بحسب الحقيقة.
11
و في قوله تعالىَ « :و ِإ ْن َيأْتُو ُك ْم أ ُ َ
س َرى ت ُ َفادُو ُه ْم (البقرة )85/بضم الهمزة و فتح السين و بعده ألف .قال
الطبري« :و أولى بالصواب في ذلك من قرأ« :و إن يَأتوكم أَس َْرى» بفتح الهمزة و سكون السين .مع أن القراءة
ضا ،فقد قرأ بها من عدا «حمزة» من األئمة العشرة.21
األولى متواترة أي ً
و من هؤالء المخطئين لبعض القراءات المتواترة ابن خالويه (ت370هـ) و هو من نحاة القرن الرابع ،فقد
خطأ قراءة «حمزة» « َقا َل يئآ َد ُم أ َ ْن ِبئْ ُه ْم بِأَس َْمائِ ِه ْم» (البقرة )33 /على تأويل افترض أن حمزة بني قراءته عليه.
فإن «حمزة» يطرح في القراءة الهمزة الساكنة من «أنبئهم» عند الوقف ،و يبدلها يا ،فيقرأ «أ َ ْنبي ُه ْم» بياء ساكنة
بدل الهمزة ،و بضم الهاء و بكسرها .قال ابن خالويه« :فإذا كان جعله من «أنبي ينبي» غير مهموز ،فَهو لحن ،و
و جعلها ياء و هو يريدها كان وج ًها».22 عن لحن ،و إن كان خفف الهمزة
فإن قوله« :فإن كان جعله من أنبى يبني إلخ» يشعر بأن قارئ القرىن الحجةَ كان يعتمد في قراءته على
معرفة وجه القراءة و مصدرها اللغوي ،و الحق غير ذلك ،فالقارئ المتقن ،إنما كان يعتمد في قراءته على ما
سمعه من الشيوخ الضابطي ن .و ما كان المتلقي للقرآن يسأل معلمه :أهذا الوجه من القراءة من فعل كذا أم من فعل
كذا فف و إنما هي الرواية المتلقاة مشافهة .على أن قراءة «حمزة» هذه جاءت على الكثير المسموع في اللسان
العربي ،من ترك الهمزة الساكنة في الدرج و المتحركة عند الوقف ،فإبدالها ياء من باب أولى.23
و لم يكن «الزمخشري» رحمه هللا (ت538هـ) أقل هجوما ً على بعض القراءات المتواترة من «الطبري»
و «ابن خالويه» فقد اعترض على قراءة «نافع» برواية «ورش» لقوله تعالى «أأنذرتهم» (البقرة )/فإن
و طعن «ورشا» يبدل الهمزة الثانية ألفا ،و يمدها مدًا الزماً ،فتلتقي و هي ساكنة مع النون الساكنة
الزمخشري في قراءة اإلبدال هذه قائال« :ألنه يؤدي إلى التقاء الساكنين على غير َح ّدِة 24و قد تصدى للرد عليه
25
السفاقسي بقوله « :هذه القراءة نفسها أقوى شاهد ،فهي قراءة صحيحة متواترة ،فال تحتاج إلى شاهد آخر»
أما الذين روى عنهم كراهة إحدى القراءات المتواترة ،فمنهم اإلمام أحمد بن حنبل رحمه هللا (ت241هـ)
فقد قال ابن قدامة «:و لم يكره -يعني أحمد بن حنبل -قراءة أحد من العشرة ،إال قراءة « حمزة» و «الكسائي»
لما فيهما من الكسر و اإلدغام و و التكلف و زيادة المد .26.ووصف أبو بكر بن عياش قراءة «حمزة» بأنها بدعة.
و ذهب «بشر بن الحارث» أبعد منه فقال :يعيد المأموم صالته إذا صلى خلف إمام يقرأ بها.27
و هذه األقوال -و غيرها كثير -يجدها القارئ في كتب بعض المفسرين و النحاة ،فتراهم ال يتحرجون من
االعتراض على بعض كلمات في بعض القراءات المتواترة ،اعتمادا ً على قياس اللغة و قواعد النحو تارة ،و على
12
حجة عقلية تارة أخرى .و قد أنصف ابن الحاجب أئمة القراءات الذين ثبتت قراءاتهم بالتواتر بقوله« :إذا اختلف
النحويون و القراء ،كان المصير إلى القراء أولى ،ألنهم ناقلون عمن ثبتت عصمته من الغلط ،و ألن القراءة ثبتت
تواتراً ،و ما نقله النحويون ثبت عن طريق اآلحاد ...و ألن إجماع النحويين ال ينعقد بدون القراء ،ألنهم شاركوهم
في نقل اللغة ،و كثير منهم من النحويين. 28
و قد أعجبني قول أبي جعفر النحاس رحمه هللا«:السالمة عند أهل الدين -إذا صحت القراءتان -أال يقال:
إحداهما أجود ،ألنهما جميعا ً عن النبي صلى هللا عليه و سلم .فيأثم من قال ذلك .و كان رؤساء الصحابة ينكرون
مثل هذا.29
و إني على قول أبي جعفر هذا من الموافقين ،ألن كلتا القراءتين المتواترتين من كالم هللا تعالى ،جاء بهما
جبريل األمين ،و نقلهما الثقات إلينا من النبي صلى هللا عليه و سلم ،فال حجة لمن يقول :هذه أجود من األخرى.
و بالرغم من هذه الهفوات التي ندهت عن بعض العلماء حول بعض القراءات المتواترة ،فإن جمهور علماء
المسلمين ،من قراء و مفسرين و محدثين ،وفقهاء و أصوليين و غيرهم ،مجمعون على أن القراءات المتواترة كلها
في درجة واح دة من الصحة و االحتجاج بها في محيط الدراسات اللغوية ،و األحكام الفقهية ،و أنها وحدها التي
يتلى بها القرآن في الصالة و خارجها.
و لبعض المستشرقين موقف آخر من القراءات القرآنية ،سواء كانت متواترة أو شاذة و هو موقف نقد و
معارضة ،حاولوا فيه التماس بعض الثغرات التي يمكن النفاذ منها إلى إحداث خلل في القرآن أساس اإلسالم ،لكي
ينهار البناء كله ،و ينطفىء النور الذي أراد هللا له أن يظل وها ًجا يهدي الحيارى حتى يطوي هللا بساط الدنيا ،و
يبعث الناس ليوم الحساب ،ثم يدعو بعضهم إلى النعيم المقيم ،و يسوق بعضهم إلى عذاب الجحيم...
إن اليهود و النصارى و المشركين كافة ،مجمعون على بغض اإلسالم و المسلمين و إن اختلفت عقائدهم فيما
بينهم و قد جربوا منازلته في ميادين القتال ،و استشهد اآلالف من دعاته و حماته ،و كان بعد كل حرب يزداد قوة،
و يجذب أفوا ًجا من المؤمنين ،و إذا كانت المعارك القتالية لم تؤد النتيجة المرتجاة ،فلماذا ال يحاول أعداء اإلسالم
حربا ً أخرى ،ميدانها القرآن نفسه ،و سالحهم فيها ،العبث بالنصوص .و تحميلها ما ال تحتمل ،و التدليس فيها،
فلعلهم بعد هذا كله يصلون إلى ما يبتغون ،فيرتد المؤمنون ،و يحجم عن اعتناقه اآلخرون.
فمنذ أن اتجهت الدول االستعمارية ،إلى األقطار اإلسالمية ،غازية و حاكمة ،و مطبقة على الشعوب قوانينها
الوضعية ،ما انفكت كتائب االستشراق ،تشرع أسلحتها الفكرية لهدم الدين اإلسالمي و تقويض أركانه ،و لذا فتحوا
عدة جبهات ،فتعرضوا لسيرة الرسول صلى هللا عليه و سلم ،و هاجموا بعض األنظمة اإلسالمية ،كتعدد
الزوجات ،و إباحة الطالق ،و عقوبتي الزنا و السرقة و نظام الرق و هلم جرا .و من بعض جبهات القتال هذه،
13
نظرا ألنها تتصل بالمصدر اإلسالمي األول ،فقد توقعوا أن ينجحوا في هذه الجبهة إن كانوا
القراءات القرآنية ،و ً
قد فشلوا في الجبهات األخرى .و بذلك يصلون إلى ما يبتغون .و يحققون باألقالم ،ما فشلوا في الجبهات األخرى.
و بذلك يصلون إلى ما يبتغون و يحققون باألقالم ،ما لم يتحقق بالحديد و النار و لذا رحلت كتائب المستشرقين إلى
الشرق اإلسالمي باحثة عن المصادر ما بين مخطوط و مطبوع ،فجمعوا منها اآلالف و ظلوا ينقبون في المصادر
صا يشير إلى حفظ القرآن من التحريف و التبديل تركوه ،و إذا عثروا المتصلة بالقرآن هنا و هناك ،فإذا وجدوا ن ً
على قول يمكن أن يتخذ دليالً على ما يرومونه ،نقلوه و هللوا له و كبروا ألنهم -كما توهموا -وجدوا الضالة التي
ينشدون فقد قال المبشر «جون تاكلي» John Takle
« يجب أن نستخدم كتابهم (القرآن الكريم) و هو أمضى سالح في اإلسالم ضد اإلسالم نفسه ،لنقضي عليه
تما ًما ،يجب أن نري هؤالء الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديداً ،و ان الجديد فيه ليس صحي ًحا»30و لكن مع
ال و أوقاتاً ،فقد رجع المستشرقون على أعقابهم خاسرين ،فها هو ذا اإلسالم
هذه الجهود الضخمة التي كلفتهم أموا ً
يمد كل يوم بساطه على أرض جديدة ،ال في قارتي آسيا و أفريقيا وحدهما ،بل في أروبا موطن معظم المستشرقين
و في األمريكتين و أستراليا ،فمرة يؤمن فيلسوف أوربي كان ماركسيًا ،و مرة يسلم رئيس دولة أفريقية كان
مسيحياً ،و مرة يخلع رداء الكهنوت قسيس أفريقي ،و يقسم أن يدخل في اإلسالم اآلالف التي أدخلها في المسيحية
هللا ِإال أ َ ِن يُتِ هم ن َ
َورهُ هللا بِأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َو يَأبَى ُ
ور ِ من الوثنيين و هكذا و صدق هللا العظيم في قوله« :ي ُِريدُونَ أ َ ْن ي ْ
ُط ِفئُوا نُ َ
َو َل ْو َك ِر َه ْال َكافِ ُرونَ » (التوبة )32 /و سيقف القارئ في الصفحات التالية على مدى اإلخفاق الذي منيوا به على
كثرة ما بذلوا من جهود فكرية و سطروا من أقوال ،و صدق خبر القرآن « ِإ هن ا هلذِينَ َكفَ ُروا يُ ْن ِفقُونَ أ َ ْم َوا َل ُه ْم ِل َي ُ
صدُّوا
علَ ْي ِه ْم َحس َْرةً ،ث ُ هم يُ ْغ َلبُونَ » (االنفال )36/و في الصفحات التالية أورد بعض
سيُ ْن ِفقُونَ َها ث ُ هم تَكُونُ َ
سبِي ِل هللاِ فَ َ
ع ْن َ
َ
افتراءات «كولد صهر» و آثر جفري «حول القراءات ،فرية إثر فرية ذاكرا ً حججهما ،مبط ً
ال لها ،و مظهر
ف بها من سوء الفهم للنص القرىني و كال الرجلين في افتراءتهما لم يفرقا بين القراءات المتواترة
عُوارها ،و ما ُح ه
و القراءات الشاذة ،و لذا فسيجدني القارئ في الصفحات التالية ،أناقش و أدافع عن قراءة متواترة تارة و عن قراءة
شاذة تارة أخرى.
إحدا ا :زعمه بأنه كانت هناك حرية في تعديل النص القرآني ،و استشهد ببعض اآليات ،و فيما يلي
فريته و أدلته عليها .قال « :إنه فيما يتعلق بإقامة النص المقدس في اإلسالم األول كانت تسود حرية مطردة إلى حد
الحرية الفردية كأنما كان سواء لدى الناس أن يرووا النص على وجه ال يتفق بالكلية مع صورته األصلية» .و
ساق أدلة على ذلك :الدليل األول :أن النبي صلى هللا عليه و سلم نفسه قد خالف النص المشهور في قوله تعالى:
سو ٌل ِم ْن أَ ْنفُ ِسكُ ْم» (التوبة )128/بضم الفاء القراءة المقبولة ،ذكرت قراءة بفتح الفاء «من أن َفسكم»
«لَ َق ْد َجا َءكُ ْم َر ُ
14
على أنها قراءة رسول هللا صلى هللا عليه و سلم «و فاطمة و عائشة» 31و جاء في مصادر القراءات و التفسير
عن هذه القراءة ما يلي:
و قرأ ابن عباس ،و أبو العالية ،و الضحاك ،و ابن محيصن ،و محبوب عن أبي عمرو ،و عبد هللا بن
قسيط المكي ،و يعقوب من بعض طرقه« :من أ ْنفَسكم» بفتح الفاء و هي قراءة شاذة ،لم تنقل بالسند المتواتر. 32
لقد وقف القارئ في الفصل األول على معنى الحديث النبوي الصحيح «أنزل القرآن على سبعة أحرف» و
هناك فصلت القول و أوضحت أن اختالف القراءات مأذون به من هللا سبحانه و تعالى فإذا قرأ الرسول صلى هللا
عليه و سلم آية بوجهين أو أكثر ،كانت الوجوه كلها من هللا تعالى ،إ ْذ يستحيل شرعا ً أن يبتدع النبي عليه الصالة و
ط ْعنَا ض ْاألَقَا ِوي ِل َأل َ َخ ْذنَا ِم ْنهُ ِب ْاليَ ِم ِ
ين ث ُ هم َلقَ َ السالم شيئا ً لم ينزل عليه ،و هو يتلو قوله تعالىَ « :و لَ ْو تَقَ هولَ َ
علَ ْينَا بَ ْع َ
ِم ْنهُ ْال َوتِينَ » (الحاقة )46 -44 /و على هذا ،فالقراءتان صحيحتان معنى ،و موافقتان للغة و الرسم ،و كل ما في
األمر أن إحداهما صارت متواترة ،و األخرى لم تكن كذلك و أن القراءتين مكملتان بعضهما ففي القراءة األولى
نص على أن النبي صلى هللا عليه و سلم من جنس البشر ال من المالئكة و ال من الجن ،هذا إذا تأولنا الخطاب في
«جاءكم» للناس كافة .و إذا تأولنا الخطاب للعرب كان المعنى من قومكم و من إحدى قبائلكم ،و أما القراءة الثانية
س» بضم الفاء ،نَفَا َسة،«من أنفسكم» بفتح الفاء ،فداللتها أنه من أشرفكم نسبًا و أعزكم مكانة فاللفظ مشتق من « َنفُ َ
عز ِع هزة و يقال فيه «أنفس» الرباعي و الصفة منه «منفس» و عليه قول الشاعر:33 و المعنى ه
و من الصحابة الذين منحوا أنفسهم حرية التعديل لبعض نصوص القرآن-كما يزعم« -كولد صهر» زيد
بن ثابت و قال عنه :كذلك العضو األساسي الذي قام بتنفيذ الكتابة العثمانية ،و يواجهنا ممثالً لقراءات تختلف عن
النص الذي أثبته بأمر الخليفة «فقد قرأ قوله تعالى «هو الذي ينشركم» بدال من «ه َُو الهذِي يُ َ
س ِّي ُركُ ِم» (يونس /
.)22
لقد اقتصر كولد صهر هنا على الكشاف وحده ( )231 / 2ألن الزمخشري لم يذكر أنها قراءة متواترة و
س ِّي ُركُ ْم ِفي
من القراءات السبع ،و إليك ما قالته المصادر اإلسالمية األخرى ،قال ابن الجزري :و اختلفوا في «يُ َ
البَ ِ ّر َو ْالبَحْ ِر» (يونس ) 22/فقرأ أبو جعفر و ابن عامر (ينشركم) بفتح الياء و نون ساكنة بعدها و شين معجمة
مضمومة من النشر ،و كذلك هي في مصاحف أهل الشام و غيرها .و قرأ الباقون (يسيركم) بضم الياء و سين
مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشددة من التسيير و كذلك هي في مصاحفهم 34و مما يدل على أن كلتا القراءتين
سواء في تواتر السند أنهما م ًعا قرئ بهما في القراءات العشر ،و لما كانت القراءتان مرويتين بالتواتر عن النبي
15
صلى هللا علي ه و سلم ،صح لزيد أن يقرأ بأيهما شاء ،و لما جاء عصر أئمة القراءات العشر اختار اثنان منهم
قراءة «ينشركم» و اختار الباقون قراءة «يسيركم» و المعنيان متقاربان فاهلل تعالى ،ينشر عباده في البر و البحر
و يفرقهم عليهما و يمكنهم من السير في البر بالدواب و نحوها ،و في البحر بالفلك على اختالفهما. 35
قال «إن مرجع االختالف بين القراءات في بعض المواضع يعود إلى طبيعة الخط العربي 37و لم يميز
«كولد صهر» في أقواله بين القراءات المتواترة و القراءات الشاذة ،و لذا تراه يخبط خبط عشواء ،فمرة يحاول
البرهنة على دعواه بما بين القراءات المتواترة من خالف و مرة بما بينها و بين شواذ القراءات من خالف ،فقد
زعم أن االختالف بين القراء في «فتثبتوا» و «فتبينوا» مرجعه طبيعة الخط العربي .38و لم يذكر لنا أن الشرط
األول و األهم في تلقي القراءات هو المشافهة.
و ردًا عليه أقول :إن الفعل الذي استشهد به ورد في ثالثة مواضع من القرآن الكريم اثنان منهما في قوله تعالى:
ضع َر َ سالَ َم لَ ْستُ ُمؤْ ِم ًنا ت َ ْبتَغُونَ َضر ْبت ُ ْم فِي َسبِيل هللاِ فَتَبَ هينُوا َو الَ تَقُولُوا ِل َم ْن أ َ ْلقَى إِلَ ْيكُ ُم ال ه «يَأَيُّها الهذِينَ آ َمنُ ,ا إِذَا َ
يرا»علَ ْي ُك ْم َفتَبَيهنُوا إِ هن هللا َكانَ بِ َما ت َ ْع َملُونَ َخبِ ً ْال َحيَاةِ ال ُّد ْنيَا َف ِع ْن َد هللاِ َمغَانِ ُم َكثِ َ
يرةٌَ ،ك َذلِكَ ُك ْنت ُ ْم ِم ْن َق ْب ُل َف َم هن هللاُ َ
َب ه]نُوا أن تُصيبُوا قَ ْو ًما ِب َج َها َلة (النساء )94/و الثالث في قوله تعالىَ « :يأَيُّ َها الهذِينَ آ َمنُوا ِإ ْن َجا َء ُك ْم فَا ِسق بنَ َبإ فَت َ
ع َلى َما فَ َع ْلت ُ ْم نَاد ِِمينَ » (الحجرات .)6/و القراءتان متواترتان في المواضع الثالثة ،فقد قرأ حمزة و ص ِب ُحوا َ فَت ُ ْ
الكسائي و َخلَف «فتثبتوا» بثاء مثلثة بعدها باء و تاء من «التثبت» ووافقهم الحسن و األعمش و قرأ الباقون
«فتبينوا» بباء موحدة ،و ياء مثناة تحتية و نون ،من «التبين» .39فليست إحدى القراءتين أصالً و األخرى بدلت
16
منها كما توهمه «كولد صهر» و معنى القراءتين واحد فالمتبين من يبذل جهدًا ليصل إلى البينة الواضحة و
المتثبت من يبذل جهدًا ليصل إلى الثبوت الواضح .فالقراءتان دالتان على أن هللا تعالى ،يأمر المؤمنين أن يقفوا
على الحقيقة قبل االقدام على عمل ما.
الفرية الثالثة :ان المالحظات الموضوعية لبعض العلماء كان لها دخل في إيجاد بعض القراءات .و ساق دليالً
ارئِكُ ْم فَا ْقتُلُوا أ َ ْنفُ َ
سكُ ْم ذَ ِلكُ ْم َخي ٌْر لَكُ ْم ِع ْن َد بَارئِكُ ْم سكُ ْم بِا ِت ّخَا ِذكُ ُم ْال ِعجْ َل فَتُوبُوا ِإلَى َب ِ
ظلَ ْمت ُ ْم أ َ ْنفُ َ
على هذا « َيا قَ ْو ُم ِإنَكُ ْم َ
الر ِحي ُم (البقرة.)54/
أب هعلَ ْيكُ ْم ِإنههُ ه َُو الته هو ُ فَت َ
َاب َ
فقد قال «كولد صهر» و ربما كان مفسرون قدماء معتد بهم (ذكر قتادة البصرة المتوفي 117هـ= 735م
أمرا شديد القسوة ،و غير متناسب معحجة على ذلك) قد وجد هذا األمر بقتل أنفسهم ،أو بقتل اآلثمين منهمً ،
الخطيئة ،فآثروا تحلية الحرف الرابع من هيكل الحروف الصامتة «فاقتلوا» بنقطتين من أسفل ،بدل التاء المثناة
قلت :هذه قراءة شاذة لعدم تواتر سندها و لقتادة في هذا الموضع قراءة 40
من أعلى ،فقرأوا «فأقيلوا» «أنفسكم»
شاذة أخرى ،هي «فاقتالو أنفسكم» و مما يدل على أن ما نسب إلى «قتادة» على أنه قراءة ،ما هو إال قول ذكره
على وجه التفسير ،أن في المراد من القتل في هذه اآلية ثالثة أقوال :و أظهرها قتل النفس ،بمعنى إزهاق روحها
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال« :أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم ،و اختبأ الذين عكفوا
على العجل فجلسوا ،و قام الذين لم يعكفوا على العجل ،فأخذوا الخناجر بأيديهم ،و أصابتهم ظلمة شديدة ،فجعل
ضا ،فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل كل من قُتل منهم كانت له توبة ،و كل من بقي كانت يقتل بعضهم بع ً
له توبة».41
و في ضوء هذا فيكون معنى القراءة الشاذة المعزوة لقتادة :أن أنفسكم قد تورطت في عذاب هللا بعبادتكم
العجل ،فأقيلوا عثرتكم هذه بالتوبة و لزوم الطاعة .و أما قراءة «فاقتالو أنفسكم» فالفعل «افتعل» بمعنى
«استفعل» أي :فاستقيلوها ،بمعنى :اطلبوا من هللا أن يقيل عثرتكم و يقبل توبتكم بقتل أنفسكم.42
ضا 43و لكي يبرهن على ذلك استشهد الفرية الرابعة :زعم «كولد صهر» أن بين بعض القراءات تناق ً
غ َل ِب ِه ْم الرو ُم فِي أ َ ْدنَى األ َ َر ِ
ض َوهُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد َ ت ُّباآليات األربع األولى من سورة الروم و هي قوله تعالى« :الم غُ ِل َب ِ
س َي ْغ ِلبُونَ ِفي ِبضْع سنِينَ ( »...الروم.)3-1/
َ
و في هذه اآليات قراءتان ،إحداهما متواترة و األخرى شاذة .أما القراءة المتواترة فهي التي يقرأ فيها:
س َيغلبون »..ببناء الفعل في «غُلبت» للمفعول و في«غُلبت الروم في أدنى األرض و هم من بعد غلبهم َ
17
غلَبتِ الرو ُم في أدنى األرض.
س َيغ ِلبون» للفاعل .و في القراءة الشاذة ،يبني الفعل األول للمفعول ،بحيث تقرأ « َ
« َ
و هم من بعد غلبهم سيُغلبون».44
و قد نسبت هذه القراءة إلى :علي بن أبي طالب ،و عبد هللا بن عمر ،و عبد هللا بن عباس ،و أبي سعيد
الخدري .و هؤالء صحابة و قرأ بها الحسن البصري و كرداب و أهل الشام 45و بعد أن أشار «كولد صهر» إلى
أن في هذا الموضع قراءتين ،عقب عليها بقوله« :و إذا فهما قراءتان و تأويالن لجملة واحدة من كالم هللا
متعارضتان إلى أبعد مدى». 46
و سيتضح للقارئ عدم هذا التعارض أو التناقض المزعوم فإن نص اآليات موضع االختالف كاآلتي:
يحسن بي أن أعطي القارئ فكرة عن سبب نزول هذه اآليات و الوقائع الحربية التي تشير إليها القراءتان.
كان الفرس و الرومان قد دخال في معارك حربية قبل نزول هذه اآليات.
و انتصر الفرس على الروم .و كان ذلك في سنة 616م فسر مشركو العرب لهزيمة الروم ،و طفقوا
يقولون للمسلمين :قد انتصر الفرس -و هم ليسوا بأهل كتاب -على الروم و هم أهل كتاب .مما يجعلنا واثقين من
هزيمتكم على أيدينا و أنتم أهل كتاب و حزن المسلمون لما أصاب الروم .و كانوا يحبون أن ينتصر الروم على
الفرس .فأنزل هللا تعالى تلك اآليات .فسر المسلمون لما في هذه اآليات من بشارة بانتصار الرومان على الفرس
في بضع سنين قادمة.
و قد نشبت الحرب بين الفريقين بعد نزول هذه اآلية بتسع سنوات و انتصر الرومان على الفرس .و كان
ذلك في سنة 625م هذا ما تدل عليه القراءة المتواترة.
18
ي الجزيرة ما كان من خبز الروم و خوفهم من عاقبة قتال«التنوخي» و تناقلت القبائل العربية القاطنة شمال ّ
المسلمين ،فصالح بعضها المسلمين على البقاء على النصرانية و دفع الجزية ،و أسلم بعض الزعماء ثم تتابعت
وفود القبائل العربية على المدينة المنورة تعلن إسالمها أو محالفتها .و لهذا اعتبرت غزوة «تبوك» التي لم يلتحم
نصرا لإلسالم فرح به المؤمنون لآلثار التي ترتبت عليه. 47
ً فيها جيش المسلمين بجيش الرومان،
و في ضوء ما تقدم ،يتضح للقارىء ،أن الرومان لم يكونوا بعد بضع سنين ،غالبين و مغلوبين ألمة
واحدة ،و في وقت واحد ،حتى تكون القراءتان متعارضتين إلى أبعد مدى كما قال «كولد صهر» فقد كان
«الرومان» مغلوبين للفرس في سنة (616م) ثم كانوا غالبين لهم بعد بضع سنوات ،أي في سنة (625م) ثم كانوا
ضا من تاريخ انتصارهم على الفرس ،و ذلك في حرب كادت أن تقع بين مغلوبين للمسلمين بعد بضع سنوات أي ً
المسلمين و الروم في سنة (629م) فأين التناقض بين مدلول القراءتين ف!
لقد غاب عن ذهن «كولد صهر» -و هو تحت وطأة الرغبة الجامحة في مهاجمة القرآن -معنى التناقض
في علم المنطق إذ هو :اختالف القضيتين إيجابًا و سلبًا مع وحدة الزمان و المكان ،بأن تكون إحداهما صادقة و
األخرى كاذبة كأن يقال «الخرطوم» عاصمة السودان في الوقت الحاضر (1404هـ 1984 -م) فنقيض هذه
القضية أن يقال « :الخرطوم ليست عاصمة السودان في الوقت الحاضر».
و عليه فال تناقض بين «الخرطوم عاصمة السودان في الوقت الحاضر» و «الخرطوم لم تكن عاصمة السودان
48
في القرن العاشر الهجري» الختالف الزمان في القضيتين
و ال يوجد تناقض بهذا المعنى بين القراءات المتواترة من جهة و القراءات الشاذة من جهة أخرى ،إنما يوجد
تعدد ،تارة في الصور اللفظية و تارة في وجوه المعاني أو الوقاع التاريخية .و ليس بينها تنافر أو تضاد كما سيراه
القارئ مبسوطا ً في فصل (االختالف اللغوي) و الفصول التالية له.
و قد مضى «جفري» على طريق سلفه «كولد صهر» فافترى عدة مفتريات في المقدمة التي كتبها لـ (كتاب
المصاحف) البن األشعث السجستاني المتوفي سنة 316هـ و قد اخترت أن أعرض على القارئ واحدة من تلك
الفرى .قال« :و كانت هذه المصاحف كلها -يعني مصاحف عثمان التي بعث بها إلى األمصار -خالية من النقط و
الشكل ،فكان على القارئ نفسه أن ينقط و يشكل هذا النص على مقتضى معاني اآليات و مثال ذلك «يعلمه» كان
يقرؤها الواحد «يعلمه» و االخر «نعلمه» أو «تعلمه» أو «بعلمه» إلخ على حسب تأويله لآلية. 49
يدل كالم آرثر هذا على أن التلقي ال دخل له في إقامة النص القرآني ،و قد غفل عن قوله صلى هللا عليه وسلم
عندما اختلف عمر بن الخطاب و هشام بن حكيم و ابن مسعود و صاحبه مثالً ،فقد استقرأ كال منهم السورة
المختلف عليها فلما اطمأن على ه
أن قراءاتهم جمي ًعا متفقة مع الهيئة التي أوحاها هللا إليه ،قال لكل واحد منهم:
- 47سيرة ابن هشام 515/2و ابن األثير :الكامل في التاريخ 274/2و ابن العماد :شذرات الذهب .13/1
- 48أثير الدين األبهري :إيساغوجي ص( 284ضمن مجموعة المتون).
- 49مقدمة «كتاب المصاحف» ص .7
19
«هكذا أنزلت» و قد مر تفصيل هذا في الفصل األول ،و تقدم في الفصل الثاني أن عثمان رضي هللا عنه كان قد
صا على الضبط المروي مشافهةقارا يتلقى الناس منه القرآن ،حر ً
أرسل مع كل مصحف من مصاحف االمصار ً
من النبي صلى هللا عليه و سلم. 50
و لو كان «جفري» ملما ً بأساليب اللغة العربية و قواعد تراكيبها ألدرك أن الهيكل الكتابي الذي مثل به ال يخلو
عا مبدوءاً بالنون أو الياء أو التاء ،و الحالة األخرى أن يكون
أمره من حالتين إحداهما :أن يكون فعالً مضار ً
مجرورا بالباء مضافًا إلى ضمير المفرد الغاب و أول الفعل المضارع يحكمه السياق ،فلو كان قلبه ضمير
ً مصدرا
ً
جماعة المتكلمين «نحن» أو «نا» المسبوق ب « ِإ هن» فسيكون التركيب «إنا أو نحن نعلمه» و إذا سبقه ضمير
الغائب المذكر فسيكون التركيب «هو يعلمه» و لو سبقه ضمير الغائب المؤنث فسيكون التركيب «هي تعلمه» و
هكذا في كل فعل مضارع مسند لجماعة المتكلمين ،أو للمفرد المذكر مخاطبا ً أو غائباً ،أو للمؤنثة الغابة.
و في الفقرة التالية ،أورد الهيكل المرسوم الذي يمكن أن يكون أوله نونا ً أو يا ًء أو تا ًء أو با ًء في القرآن كله ليرى
القارئ بالبرهان االستقرائي فساد ما ذهب إليه آرثر جفري من أن القار في المصاحف العثمانية كان حرا ً في نقط
النص القرآني و شكله حسب تأويله لآلية.
فقد ورد هذا الهيكل الكتابي في تسعة مواضع من القرآن الكريم ،جاء في خمسة منها فعالً مضار ً
عا ،و جاء في
أربعة منها مصدرأ ً مجرورا ً بالباء مضافا ً إلى ضمير المفرد الغائب.
عا فهي كاآلتي :الموضع األول في قوله تعالىَ « :و َما ت َ ْفعَلُوا ِم ْن َخيْر أما المواضع الخمسة التي جاء فيها مضار ً
َّللا يَ ْعلَ ُمهُ» يَ ْعلَ ْمهُ هللاُ» (البقرة )197 /و الموضع الثاني في قوله تعالىَ « :و َما أَ ْنفَ ْقت ُ ْم ِم ْن نَفَقَة أَ ْو نَذَ ْرت ُ ْم ِم ْن نَ ْذر فَإ ِ هن َ
َّللا» (آل ُوركُ ْم أو ت ُ ْبدُوهُ يَ ْعلَ ْمهُ َصد ِ (البقرة )270/و الموضع الثالث في قوله تعالى« :قُ ْل ِإ ْن ت َْخفَ ُوا َما فِي ُ
ةو ْال ِحك َم َة َاب َ ضى أ َ ْم ًرا َفإِ هن َما َيقُو ُل َلهُ ُك ْن َف َي ُكونُ َو يُ َع ِّل ُمهُ ْال ِكت َ
عمران )29/و الموضع الرابع في قوله تعالىِ « :إ َذا َق َ
اإل ْن ِجيلَ » (آل عمران )48 -47/و الموضع الخامس في قوله تعالى« :أ َ َو لَ ْم يَكُ ْن لَ ُه ْم آيَةً أ َ ْن يَ ْعلَ َمهُ و الت ه ْو َراة َ َو ِ
عُلَ َما ُء بَنِي ِإس َْرائِي َل» (الشعراء.)197/
و تأمل األفعال المتصلة بضمير الغيبة في اآليات الثالثة الولى فقد أسند الفعل في ثالثتها إلى هللا تعالى ،فكيف
يتأتى لقارئ أن يؤديه تأويله لمعنى من المعاني ،بحيث ينقط و يشكل هذا الفعل في هذه اآليات كما يشاء ،فإن
المعنى ال يستقيم في المواضع الثالثة األولى إال إذا كان الفعل مبدوءاً بياء المضارعة ،و ال يصلح غيرها من
أحرف المضارعة كما ال تصلح باء الجر .فتأمل كيف سيكون التركيب في المواضع الثالثة األولى إذا كان النص
«نعلمه هللا» أو «تعلمه هللا» أو «بعلمه هللا» ف! إنه ألمر مضحك و لكنه عند بعض المستشرقين برهان قاطع على
أن الحرية كانت سائدة في تعديل نصوص القرآن بحيث استطاع كل قارئ في المصاحف العثمانية أن ينقط النص
و يشكله بحيث يتناسب مع ما يراه من تأويل!! .
أما الموضعان اآلخران فإن اللفظ المتواتر في الموضع الرابع «يعلمه الكتاب» بضم الياء و تشديد الالم
علهم» الرباعي .و اللفظ المتواتر في الموضع الخامس «يعلمه» علماء إلخ.المكسورة من « َ
20
و ال يختلف المعنى في الموضع الرابع إذا قرئت اآلية «و نعلمه الكتاب و الحكمة» بوضع نون مكان الياء .كما
ال يختلف المعنى في الموضع الخامس إذا قرت اآلية «أن تعلمه علماء إلخ» بوضع التاء مكان الياء ،و لكن مع
هذا لم يصل إلينا عن طريق النقل المتواتر إال «يعلمه» في الموضع الرابع «و يعلمه» في الموضع الخامس ،و
هذا يدل على أن المعول عليه في تلقي القرآن المشافهة و السماع و ليست الكتابة إال عامالً مساعدا ً على الحفظ و
المراجعة ،و لهذا قالوا قديما ً «ال تأخذوا القرآن من مصحفي و ال الحديث من صحفي». 51
فالمسلمون -لشدة عنايتهم بحفظ هذين المصدرين :القرآن و السنة -حرصوا على السماع من لفظ الشيخ ثم
العرض عليه ،على نحو ما فصلته في مستهل هذا الفصل.
أما المواضع األربعة التي جاء فيها الهيكل المرسوم مصدرا ً مجرورا ً بالباء و مضافا ً إلى ضمير المفرد الغائب
َّللا َي ْش َه ُد ِب َما أ َ ْنزَ لَ إلَيْكَ أَ ْنزَ لَهُ ِب ِع ْل ِم ِه» (النساء )166/و قوله تعالى:
ففي اآليات اآلتية و هي :قوله تعالى« :لَ ِك هن ه
«بَ ْل َكذهبُوا بِ َما لَ ْم ي ُِحيطُوا بِ ِع ْل ِم ِه» (يونس )39/و قوله تعالىَ « :و َما تَحْ ِم ُل ِم ْن أ ُ ْنثَى َوالَ ت َ َ
ض ُع إِاله بِ ِع ْل ِم ِه»
(فصلت )47/و (فاطر)11/
و في جميع هذه المواضع األربعة ال يصح أن يقرأ هذا الهيكل «بعلمه» إال على أنه مصدر مجرور بالباء .و
ليتأمل القارئ المعنى الذي يؤديه هذا الهيكل لو وضعنا نقطتين فوق الحرف األول منه في اآليتين الثالثة و الرابعة
مث ً
ال ،فإنهما ستقرآن « و ما تحمل من أنثى و ال تضع إال تعلمه» سبحانك هذا بهتان عظيم!!.
و من هنا يدرك القارئ أن «جفري» باستدالله على دعواه بهذا الهيكل الكتابي الذي ذكره ،خبط خبط العشواء ،و
سار في الظلماء ،و لو قد كان «جفري» رجع إلى مضارع علم و مصدره المجرور بالباء في القرآن الكريم
ألدرك فساد برهانه ،و لم يكن في عالم الفكر و البحث من المتخبطين.
21
المدونة اللّغوية
ّ موقف العلماء من
الرسول صلّى هللا عليه وسلم
االستدالل بكالم ّ
نادرا جدا ،إنّما
ي ،و ذلك ً إن كالم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يُـستد ّل منه بما ثبت أنّه قاله على اللّفظ المرو ّ
ّ
و قد تداولتها األعاجم مروي بالمعنى،
ٌّ فإن غالب األحاديثضاّ ، يوجد في األحاديث القصار ،على قلّة أي ً
و قدّموا و أ ّخـروا ،و أبدلوا ألفا ً
ظا والمولدون قبل تدوينها ،فرووها بما أدّت إليه عبارتهم فزادوا و نقصوا،
ُ ّ
صة الواحدة مرويا على أوجه شتى بعبارت مختلفة .و من ث ّم أنكر على بألفاظ ،و لهذا ترى الحديث الواحد في الق ّ
ّ
ابن مالك إثباتُه القواعد النّحوية باأللفاظ الواردة في الحديث .قال أبو حيّان في " شرح التسهيل " « :قد أكثر هذا
المصنّف من االستدالل بما وقع في األحاديث على إثبات القواعد الكلّية في لسان العرب ،و ما رأيت أحدًا من
المتقدّمين و المتأ ّخرين سلك هذه الطريقة غيره(.»)52
األولين لعلم ال ّنحو ،المستقرئين لألحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العالء ،و عيسى بن أن الواضعين ّ على ّ
ضريري بن المبارك األحمر ،و هشام ال ّ والفراء ،و عل ّ
ّ ي،
عمر ،و الخليل ،و سيبويه من أئ ّمة البصريّين ،و الكسائ ّ
ّ
المتأخرون من الفريقين و غيرهم من نحاة األقاليم كنحاة من أئمة الكوفيين ،لم يفعلوا ذلك ،و تبعهم على هذا المسلك
بغداد ،و أهل األندلس.
المتأخرين األذكياء ،فقال « :إ ّنما ترك العلماء ذلك ،لعدم وثوقهم ّ
أن ذلك لفظ ّ و قد جرى الكالم في ذلك مع بعض
ّ
الرسول صلى هللا عليه وسلم ،إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية .و إنّما كان ذلك ّ
صة واحدة جرت في زمانه صلى هللا عليه وسلم لم تقل بتلك جوزا ال ّنقل بالمعنى ،فتجد ق ّ
الرواة ّ
أن ّألمرين :أحد ماّ :
األلفاظ جميعها ،نحو ما روي من قوله « :زوجتكها بما معك من القرآن» ،و « ملكتكها بما معك » ،و « خذها بما
معك (.»)53
صة ،فتعلم يقينًا أنّه صلى هللا عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه األلفاظ ،بل و غير ذلك من األلفاظ الواردة في هذه الق ّ
ً ً
ال تجزم بأنّه قال بعضها ،إذ يحتمل أنّه قال لفظا مرادفا لهذه األلفاظ غيرها ،فأتت ّ
الرواة بالمرادف و لم تأت بلفظه،
سماع ،وعدم ضبطه بالكتابة ،و االتكال على الحفظ و الضّابط منهم من إذ المعنى هو المطلوب و السيما مع تقادم ال ّ
ّ
ضبط المعنى ،و أ ّما من ضبط اللّفظ فبعيد جدا ،السيما في األحاديث الطوال.
و ال يعلمون الرواة كانوا غير عرب، كثيرا من ّ
ً كثيرا فيما روي من الحديثّ ،
ألن ً األمر الثّاني :أ ّنه وقع اللّحن
لسان العرب لصناعة النّحو ،فوقع اللّحن في كالمهم ،و هم ال يعلمون ذلك ،و قد وقع في كالمهم و روايتهم ُ
غير
أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان أفصح النّاس ،فلم يكن ليتكلّم إال الفصيح من لسان العرب ،غير شكّ ّ ،
بأفصح اللّغات و أحسن التّراكيب و أشهرها و أجزلها ،و إذا تكلّم بلغة غير لغته فإنّما يتكلّم بذلك مع أهل تلك اللّغة
على طريق اإلعجاز و تعليم هللا ذلك له من غير معلم .و المصنّف قد أكثر من االستدالل بما ورد في األثر متعقّبًا
بزعمه على النّحويين و ما أمعن النّظر في ذلك و ال صحب من له التّمييز ،و قد قال لنا قاضي القضاة بدر ال ّدين
بن جماعة ( ت 733هـ ) و كان م ّمن أخذ عن ابن مالك « :قلت له :يا سيّدي هذا الحديث رواية األعاجم ،و وقع
الرسول فلم يجب بشيء». فيه من روايتهم ما يعلم أنّه ليس من لفظ ّ
قال أبو حيّان « :و إنّما أمعنتُ الكالم في هذه المسألة لئال يقول مبتدئ :ما بال النّحويين يستدلّون بقول العرب ،و
فيهم المسلم و الكافر ،و ال يستدلّون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ( ت 256هـ ) ،و مسلم ( ت
سبب الذي ألجله لم يستدلّ النّحاة بالحديث».
261هـ ) و أضرابهماف فمن طالع ما ذكرناه أدرك ال ّ
( )52االقتراح في علم أصول النّحو :جالل الديّن السيوطي :تحقيق محمود سليمان ياقوت 1426 ،هـ 2006 -م ،دار المعرفة
الجامعية ،القاهرة ،مصر :ص .90 ،89
( )53االقتراح في علم أصول النّحو :ص .92
22
سبب عندي في الرواية بالمعنى هو ال ّ
و قال أبو الحسن بن الضّائع ( ت 680هـ ) في ( شرح الجمل ) « :تجويز ّ
ترك األئ ّمة ،كسيبويه و غيره ،االستشهاد على إثبات ال ّلغة بالحديث و اعتمدوا في ذلك على القرآن و صريح النّقل
ي صلى هللاعن العرب ،و لوال تصريح العلماء بجواز النّقل بالمعنى لكان األولى في إثبات فصيح اللّغة كالم ال ّنب ّ
عليه وسلم ،ألنّه أفصح العرب».
و التبرك كثيرا ،فإن كان على وجه االستظهار
ً و قال « :و ابن خروف ( ت 609هـ ) يستشهد بالحديث
أن من قبله أغفل شيئًا وجب عليه استدراكه ،فليس كما رأى ».
()54 ي فحسن ،و إن كان يرى ّ
بالمرو ّ
و م ّما يد ّل على ص ّحة ما ذهب إليه ابن الضّائع ّ
أن ابن مالك استشهد على لغة " أكلوني البراغيث " بحديث
صحيحين « :يتعاقبون فيكم مالئكة باللّيل و مالئكة بال ّنهار » .و أكثر من ذلك حتّى صار ّ
يسميها " لغة يتعاقبون ) 55(
ال ّ
(.")56
إن الواو فيه عالمة إضمار ،ألنّه حديث مختصر سهيلي ( ت 581هـ ) ث ّم قال « :لكنّني أقولّ :
و قد استدلّ به ال ّ
إن هلل مالئكة يتعاقبون فيكم ،مالئكة باللّيل و
مجردًا فقال فيهّ :
ّ مطوالً
ّ رواه [ أبو بكر ] ّ
البزاز ( ت 292هـ )
مالئكة بالنّهار(.»)57
كفرا) فإنّه وقال ابن األنباري في " اإلنصاف " في منع ( ّ
أن ) في خبر كاد « :و أ ّما حديث ( :كاد الفقر أن يكون ً
()58
الرواة ألنه أفصح من نطق بالضّاد ».
من تغييرات ّ
=======================
( )1ما يتفق في االحتجاج به من األحاديث
من األحاديث ما ال ينبغي االختالف في االحتجاج به في اللغة ،وهو ستة أنواع:
أحدها :ما يروى بقصد االستدالل على كمال فصاحته عليه الصالة والسالم ،كقوله :حمي الوطيس ،وقوله :مات حتف أنفه،
وقوله :الظلم ظلمات يوم القيامة ...إلى نحو هذا من األحاديث القصار المشتملة على شيء من محاسن البيان كقوله:مأزورات
غير مأجورات ،وقوله :إن هللا ال يمل حتى تملوا.
ثانيها :ما يروى من األقوال التي كان يتعبد بها أو أمر بالتعبد بها ،كألفاظ القنوت والتحيات وكثير من األذكار واألدعية التي
كان يدعو بها في أوقات خاصة.
ثالثها :ما يروى شاهدًا على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم.
ومما و ظا ر أن الرواة يقصدون في له األنواع الثالثة رواية الحديث بلفظه.
رابعها :األحاديث التي وردت من طرق متعددة واتحدت ألفاظها؛ فإن اتحاد األلفاظ مع تعدد الطرق دليل على أن الرواة لم
يتصرفوا في ألفاظها.
والمراد أن تتعدد طرقها إلى النبي أو إلى الصحابة أو التابعين الذين ينطقون الكالم العربي فصي ًحا.
خامسها :األحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة كمالك بن أنس ،وعبد الملك بن جريج ،واإلمام
الشافعي.
سادسها :ما عرف من حال رواته أنهم ال يجيزون رواية الحديث بالمعنى مثل ابن سيرين ،والقاسم بن محمد ،ورجاء بن
حيوة ،وعلي بن المديني.
23
( -)2ما ال يختلف في عدم االحتجاج به
ومن األحاديث ما ال ينبغي االختالف في عدم االحتجاج به ،وهي األحاديث التي لم تدون في الصدر األول ،وإنما تروى في
ً
متصال؛ أما مقطوعة السند فوجه عدم عا أم
بعض كتب المتأخرين .وال يحتج بهذا النوع من األحاديث سواء أكان سندها مقطو ً
االحت جاج بها واضح ،وأما متصلة السند فلبعد مدونها عن الطبقة التي يحتج بأقوالها .وإذا أضيفت كثرة المولدين في رجال سند
الحديث إلى احتمال أن يكون بعضهم قد رواه بالمعنى أصبح احتمال أن تكون ألفاظه ألفاظ النبي عليه الصالة والسالم ،أو ألفاظ
قاصرا عن درجة الظن الكافي إلثبات األلفاظ اللغوية أو وجوه استعمالها.
ً راويه الذي يحتج بكالمه-
24
ال ّنقــــــــــــل ( ال ّ
سماع )
األول من حيث حجيته وأهميته عند النحاة وهو األساس في االستدالل على أحكامسماع وهو األصل ّ يس ّميه بعضهم ال ّ
النحو فال يص ّح حكم نحوي بدون دليل أو مستند من السماع أو النقل حتى ولو كان مقبوال في القياس وفي ذلك يقرر
النحاة أن السماع يبطل القياس فقولك مثال " :استحاذ " جار على القياس مثله مثل استقام واستعاد واستدان تقلب فيه
عين الفعل ألفا قياسا فتقول :استقام بدل استقوم ولكن العرب لم تنطق هذا الفعل أي "استحوذ" إال على هذه الصورة أي
صحيح العين ومن ثم فإن السماع يوجب استعماله هكذا حتى ولو كان مخالفا للقياس هذا وقد فضل ابن االنباري تسمية
هذا االصل بالنقل بدال من السماع ألنه أعم من السماع إذ يشمل المسموع من العرب مباشرة والمنقول عن طريق
الرواية مشافهة" فالنقل أهم بهذا المعنى وأشمل إذ يشمل السماع المباشر وغير المباشر".
" النقل " ما ثبت في كالم من يوثق بفصاحته فشمل كالم هللا تعالى وهو القرآن ،وكالم نبيّه ص ّلى هللا عليه وسلم،
وكالم العرب قبل بعثته وفي زمنه الى زمن فسدت األلسنة بكثرة المولدين نظما ونثرا عن مسلم وكافر"...
ويشترط فيه:
الفصاحة :وليست إال صفة من ترتضى عربيته ويوثق بها ويؤخذ بها اللغويون والنحويون وال يحصل ذلك إال بتوفر
السالمة اللغوية في الفصيح أي خلو كالمه مما ليس من لغتهم من اللحن والخطأ – و وضوحه بالنسبة ألفراد المجتمع
الفصيح – و أن يكون اكتسب اللغة بالسليقة ال بالتلقين وبصناعة النحو ،اي تكون لغته األولى التي تعلمها بالسمع من
بيئته حيث الفصاحة وعدم انتشار اللحن ولذلك لم يؤخذ عن المولدين ألنهم عاشوا في زمان انتشر فيه اللحن بالحواضر.
وذهب ابن األنباري الى تقييد صحة النقل اشتراط بما هو مشروط في نقل الحديث -من اتصال السند وعدم النقل من
مجهول أو فاسق -ألن بها معرفة تفسيره وتأويله .يقول " :ويشترط في نقل اللغة ما يشترط في نقل الحديث عن الرسول
صلى هللا عليه وسلم "..ويقول فإن كان ناقل اللغة فاسقا لم يقبل نقله" ولذلك يعرف النقل في االصطالح فيقول "هو
الكالم العربي الفصيح المنقول بالنقل الصحيح الخارج عن حد القلة الى حد الكثرة ".
فهل يشترط في نقل اللغة ما يشترط في نقل الحديث كما ذهب إلى ذلك ابن األنباريف
يقول الدكتور الحاج الصالح في هذا الصدد :المبادئ العلمية لسماع علماء العرب لمعطيات اللغة وتوثيقها خاصة
مغايرة للمبادئ التي بنى عليها تدوين الحديث الشريف (من جرح وتعديل...)..وذلك الختالف الظروف واختالف
الزمان فسيبويه والنحاة الذين جاءوا من قبله عاشوا كلهم في زمان الفصاحة السليقية وعلى هذا فالسماع من فصحاء
العرب وحدهم إذا تحقق العلماء من فصاحتهم كافيا كحجة أي كمرجع علمي ويكفي أن ينسب العلماء –وهمم معروفون-
ما سمعوه إلى هؤالء لتثبت الرواية ويكون الثبوت مطلقا إذا أجمع العلماء على ذلك ،و أصل األصول هنا هو ثبوت
فصاحة المنقول بثبوت فصاحة المنقول منه أو الناقل من العرب الفصحاء ولم يحتج النحوي منهم في ذلك الزمان الى
إسناد ألنه هو أو شيخه المصدر األول لما سمعه فإذا روى عن شيخه فيكون له إسناد الى عالم واحد فقط بينه وبين
إن ما نقله النحاة من شعر أو نثر كانالعرب فهم بالنسبة لكالم العرب كالصحابة أو التابعين بالنسبة للحديث الشريف ثم ّ
في زمن الفصاحة وكان معروفا متداوال بين الناس والخطأ فيه أو الغلط ال يخفى عليهم و لم يعترض على صحة نقلوه
ما معترض ولذلك لم يعن سيبويه كثيرا بذكر اسم الشاعر وهو يحتج بشعره ،كما احتج أحيانا بروايتين مختلفتين ألن
الرواة المختلفين إنما أخذوا من أفواه العرب الذين ي حفظون األشعار فالتغيير في االنشاد واقع من جهتهم والشواهد في
كل رواية صحيحة .ألن العربي الذي غيّر الشعر و أنشده على وجه دون وجه قوله ح ّجة .ولو كان الشعر له لكان يحت ّج
25
به أال ترى أن الحطيئة رواية زهير ،وكثّير رواية جميل ،و الراوي والمروي عنه كالهما ح ّجة ولكن من النحويين بعد
سيبويه كالمبرد وابن النحاس من منع االحتجاج ببيت يجهل قائله ،كذلك صرح بهذا أبو البركات االنباري في
اإلنصاف .ويجاري في ذلك السيوطي ويقول وكأن علّة ذلك خوف أن يكون لمولّد أو من ال يوثق بفصاحته ،ومن هذا
يعلم أنه يحتاج الى معرفة أسماء شعراء العرب وطبقاتهم فال يجوز عنده في المجهول ولكنّه في " همع الهوامع " ً
كثيرا
ما يتغاضى فيستشهد ببيت وال يذكر اسم قائله...
أن االحتجاج بكالم المجهول ليس مطعنة في منهج النحاة األوائل اذ كانوا في بيئة تسودها الفصاحة إذ سمعوا ّ
والحق ّ
عن عرب يوثق بعربيتهم ولم يحتاجوا إلى ذكر أسمائهم لتثبتهم من فصاحتهم.
أما معنى قول األنباري أن يكون المنقول خارجا عن ح ّد القلة الى ح ّد الكثرة هو استبعاد الشواذ وهي كثيرة يقول
سيبويه " والشواذ في كالمهم كثيرة" فهو ينظر إلى المنقول من جهة القياس عليه باعتباره ركنا من أركان القياس ،إذ ّ
إن
الشاذ ال يصلح للقياس عليه ،وفاته بذلك أن الشواذ الكثيرة الموجودة في اللغة العربية جزء من واقع هذه اللغة ال يمكن
التغافل عنه وهو جزء هام من المنقول " ألن كل ما ص ّح وروده عن العرب سواء أكان مطردا أم ال فهو من نقلهم
وكالمهم".
مصادر النقل:
-1القرآن الكريم:
يكاد النحاة يتفقون جميعا على أن القرآن الكريم هو االصل االول في االستشهاد في النحو ولذلك جعله السيوطي في
مقدمة المصادر في التعريف السالف الذكر لتواتره وقوة حجته .فالنحاة مجمعون على االحتجاج به على اختالف
مآخذهم عن القراءات المخالفة لمجاري العربية وقياسها فمنهم من منع االحتجاج بها ومنهم من أجاز .فالقراءات
تختلف في درجة الصحة والتواتر ولذلك وضع علماء األداء ضوابطا للقراءة الصحيحة التي يوثق بها وهي:
فقد مال بعض النحاة الى التشدّد في موافقة القراءة لمجاري العربية وقياسها فهذا الشرط األول عند أكثرهم لقبولها
واالستشهاد بها وإذا لم تكن على أي وجه من القياس ضعفوها أو خطأوا صاحبها وتحاملوا عليه أو حكموا عليها
بالشذوذ ولم يقيسوا عليها مع اعتدادهم بالشرطين اآلخرين وهذه أمثلة عنهم:
يقول المازني :فأما قراءة من قرأ من أهل المدينة (معائش ) بالهزة فهي خطأ فال يلتفت إليها وإنما أخذت عن نافع ابن
يخط قراءة تواترت عنّ نعيم ولم يكن يدري ما العربية وله أحرف يقرأها لحنا نحوا من ذلك" فها أنت ترى المازني
نافع المدني وابن عامر الدمشقي وهما من الق ّراء الثقات في قوله تعالى ( :وجعلنا لكم فيها معائش ) على غير قراءة
الجمهور" معايش " والقياس عند النحاة يقتضي أن يقلب الحرف الثالث الزائد همزة في الجمع كما في صحيفة
صحائف ،عجوز عجائز غنيمة غنائم أما الياء في معيشة فهي أصلية وال تقلب همزة في الجمع فكانت هذه القراءة
خطأ عنده و لح ًنا من ّ
القراء.
القراء ملتزما في ذلك الصمت عند مصادفتها و ربما تحاشى وفي المقابل نجد بعض النحاة من يتحرج في الطعن على ّ
ذكرها وإنما يعارضها ال مصرحا بتلك المعارضة الحترامه البالغ لها ،ومنهم سيبويه الذي يصرح بأن القراءة القرآنية
26
سنة تتبع وال تصح مخالفتها ،من ذلك أنه لم يتعرض لقراءة ابن عامر لقوله تعالى ( :وكلل ُز ّين للمنركين قت ُل
أوال َد م نركائهم ) لعدم الفصل بين المتضايفين إالّ في الضرورة الشعرية.
غير أن المتأخرين شديدو التمسك باالحتجاج بالقراءة ولو خالفت مجاري العربية " ألن قراءاتهم ثابتة باألسانيد المتواترة
التي ال مطعن فيها و ثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية وقد رد المتأخرون منهم ابن مالك على من عاب عليهم ذلك
بأبلغ ر ّد و اختاروا جواز ما وردت ب ه قراءاتهم في العربية وإن منعه األكثرون من ذلك احتجاجه على جواز
واألرحام )
ِ العطف على ضمير المجرور من غير إعادة بقراءة حمزة الزيات لقوله تعالى ( واتقوا هللا اللي تساءلون به
بجر األرحام عطفا على الضمير المتصل بالباء " وهذا مخالف للقياس الذي يقتضي عدم عطف االسم الظاهر على
الضمير المجرور إال بإعادة المجرور وتكراره -وقد ذكر سيبويه هذه القاعدة القياسية ولكنه لم يتعرض لتلك القراءة بل
تحاشى ذكرها لما يكـنّه من احترام لهذه القراءة المنقولة عن الثقات -ومن ذلك جواز الفصل بين المتضايفين يقول فيه
ابن مالك :وأقوى األدلة على ذلك قراءة ابن عامر :وكلل ُزين للمنركين قت ُل أوال َد م نركائهم ،ألنها ثابتة بالتواتر،
ومعزوة الى موثوق بعربيته"...
وقد كان أبو حيان األندلسي ينقد بشدة على من يعترض على القراءة المخالفة لمقاييس العربية ومن ذلك رده على
الزمخشري حين زعم أن تخفيف الهمزة الثانية في قوله تعالى " أأنذرتهم " لحن و ليس من كالم العرب قال أبو حيان:
" ...وقراءة ورش صحيحة النقل ال تدفع ،ولكن عاد ة هذا الرجل إساءة األدب على أهل األداء ونقلة القرآن .وقد دعا
محمد الخضر حسين الى استغالل حتى القراءات المخالفة للعربية والقياس عليها إلثراء اللغة وتوسيع استعماالتها إال أن
ذلك سيفضي إلى توسع في االستعمال تنكسر معه األصول وتضرب قواعد اللغة ،وربما كان السبب في ذلك أنه تركيب
يحتاج إلى جهد وتعمل ليمكن فهمه فضال عن أن يتذوق ويؤلف ،ولذلك لم يستعمل في أبواب الفصيح على اختالف
العصور ،والموقف السليم للغويين والنحاة من مث ل هذه القراءات أن يسلموا صحتها ويفسروا خروجها عن المعتاد كما
عومل الشاذ من كالم العرب فإنه لم يُخرج من دائرة العربية بل سُلّم بعربيته لصدوره ممن يوثق بعربيته ولم يقس عليه
بل فسر خروجه من أصل بابه وبهذه الكيفية نفسها يحسن التعامل مع القراءات المخالفة لمجاري العربية.
فلما لجأ النحاة األولون الى االستشهاد بالحديث النبوي الشريف ويكفيك أن تتصفح كتاب سيبويه فعلى قلة ألحاديث
الذي ساقها فإنه ينسبها الى كالم العرب فيقول مثال " وأما قولهم كل مولود يولد على الفطرة "...ونهجهم هذا كان
لسببين اثنين:
.1العتقادهم أن غالب األحاديث مروية بالمعنى وعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى هللا عليه وسلم إذ لو وثقوا
بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية.
.2أن هذه األحاديث قفد تداولتها األعاجم والمولدون فرووها بما أدت إليه عباراتهم فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا
و أبدلوا ألفاظ بألفاظ ولهذا نرى الواحد في القصة مرويا على أوجه شتى بعبارت مختلفة.
فالحديث النبوي الذي يصح االحتجاج به إنما الحديث الذي نقل عن الرسول صلى هللا عليه وسلما وروي بلفظه ومعناه
وهذا نادر جدا ألن غالب االحاديث مروية بالمعنى ولفظها غير لفظها وإن لم تغير معانيها وسبب ذلك أنهم جوز النقل
بالمعنى لعنايتهم بما تضمنته من احكام وآداب ومعان سامية وحرصوا على نقلها حتى و لو كانت بألفاظ غير ألفاظ
27
الرسول صلى هللا عليه وسلم وألن الحديث النبوي الشريف لم يدون في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم بل عني
بتدوينه كل للماء ومنهم علماء ال حديث في بداية القرن الثاني للهجرة فكان بعد الزمن عنه هو أيضا من دواعي رواية
الحديث بالمعنى ألن انتقال رواية قد يترتب عنه مثل عذا التغيير وألن تذكر اللفظ بحذافره إذا طال قد يتوعر أحيانا
على الذاكرة ،أما المعنى فال يسرع اليه النسيان كما يسرع الى اللفظ وليس أدل على ذلك من قول أحد الرواة وهو
سفيان الثوري إن قلت لكم إني أحدثكم باللفظ فال تصدقوني ،وإنما هو بالمعنى أضف إلى ذلك وقوع اللحن كثيرا-على
حد قول أبي حيان األندلسي -فيما روي من الحديث ألن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ،وال يعلمون اللسان
العربي بصناعة النحو فوقع اللحن في كالمهم وهم ال يعلمون بذلك...
وحجتهم في ذلك إجماع العلماء على أن الرسول صلى هللا عليه وسلم كان أفصح العرب وأن علماء الحديث اهتموا
بصحة إسناد الحديث أكثر من عنايتهم بالشعر ،ثم إن كثيرا من األحاديث التي نسب اليها اللحن قد ظهر لها وجه من
االستعمال في العربية الفصيحة أما ما قيل عن رواية الحديث أن ينقل بلفظه ومعناه فهو كذلك نُقل غالبا كما سُمع فإن
كثيرا من المحدثين شددوا في روايته بلفظه ومعناه ،كما أن غلبة الظن بصحة روايته لفظا ومعنى كافية لالستشهاد به
أضف إلى ذلك أن تدوين الحديث الشريف وقع في الصدر األول قبل أن تفسد األلسنة فإذا وقع تبديل اللفظ من فصحاء
يوثق بعربيتهم فهم حجة أيضا لثبوت فصاحتهم ومن هؤالء الزمخشري ابن مالك ابن هشام السهيلي والرضي
األستراباذي...
وظهر فريق من المتأخرين توسطوا في هذا الشأن فلم يمنعوا االستشهاد بالحديث كما لم يجوزوه مطالقا دون قيد وشرط
ومنهم الشاطبي فقد رأى أن الحديث قسمان قسم يعتني ناقله بمعناه دون لفظه فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان ،وقسم
عرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص كاألحاديث التي قصد بها بيان فصاحته صلى هللا عليه سلم ككتابه لهمدان وكتابه
لوائل بن حجر واألمثال النبوية فهذا يص ّح االستشهاد به في العربية وابن مالك لم يفصل هذا التفصيل الضروري الذي ال
ب ّد منه...
وقد عمق الشيخ محمد الخضر حسين هذا المنهج في كتابه دراسات العربية وتاريخها وذكر ستة أنواع رأى أنّها ال
ينبغي االختالف في االحتجاج بها:
-1ما يروى بقصد االستدالل على كمال فصاحته صلى هللا عليه وسلم كقوله "حمي الوطيس"
وقوله " مات حتف أنفه " وقوله الظلم ظلمات يوم القيامة الى نحو هذا من األحاديث القصار المشتملة على شيء من
محاسن البيان كقوله" :ان هللا ال يمل حتى تملوا"
-2ما روي من امره مما كان يتعبد به او امر بالتعبد به كألفاظ القنوت والتحيات وكثير من األذكار واألدعية التي كان
يدعو بها في اوقات خاصة.
-3ما يروى شاهدا على انه كان يخاطب كل قوم من بلغتهم ذلك الن الرواة قصدوا هذه االحاديث بالذات روايتها بالفظ ال
بالمعنى
-4األحاديث التي رويت من طرق متعددة ولفظها واحد فاتحادها في اللفظ مه تعدد طرقها دليل على صحتها لفظا ومعنى
-5األحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم تنتشر فيها اللحن وفساد اللغة كمالك بن أنس واالمام الشافعي
28
-6ما روي عن رواة عرف عنهم أنهم ال يجيزون رواية الحديث بالمعنى مثل :ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن
حيوة.
-3كالم العرب:
ال يشترط في الفصيح الذي تؤخذ عليه العربية أن يكون عربيا أصيال قُحا كما ذهب إليه األستاذ حلمي خليل في كتابه
مقدمة لدراسة علم اللغة بل كانت نشأته األولى وهو طفل في أول عمره في بيئة عربية وذكر منهم المنتجع بن نبهان وهو
ي صغيرا وكبر في وسط فصيح من بني تميم ولم يشترطوا فيه البلوغ وال السن بل تؤخذ عن الصبي سندي األصل سُ ِب َ
والمرأة والشيخ.
وممن عرفوا بتحرياتهم الواسعة في جمع المادة اللغوية أبو عمرو بن العالء والمفضل واألصمعي وأبو يزيد األنصاري
وأبو عبيدة والخليل بن أحمد الفراهيدي.
" وكان ابو عمرو بن العالء اول من ابتدع طريق السماع للغوي الميداني وقد تجول في البادية قرابة أربعين سنة
ومن طرقهم في التحري إلثبات الفصاحة أنهم كانوا يلجأون إلى مقاييس لغوية محظة السيما بعد ان اخذ اللحن يتسلل الى
العربية بفعل االختالط باألعاجم في الحواضر وقد استقرت لهم االصول والقواعد المطردة بعد استقائهم للمسموع كرفع
الفاعل والمبتدأ والخبر وجر المضاف اليه ونصب المفعول وصياغة اسم الفاعل ونحو ذلك فكانوا يختبرون العربي حتى
يثبتوا من فصاحته قبل أن ينقلوا عنه شيئا من ال مسموع فقد يطلبون منه ان ينشدهم شيئا من الشعر ليوروا مدى مطابقة
انشاده لتلك االصول والقواعد التي عرفوها مما اطرد من كالم العرب الفصحاء فإذا خالف بعض تلك األصول شككوا في
فصاحته و عزفوا عن أخذ اللغة منه ،وقد يحاولون أن يلقنوه بعض العبارات الملحونة فإذا فهمها ولم يعترض عليها
طعنوا في فصاحته وأعرضوا عنه.
ويعد أقدم شعر نقله اللغويون ورواه سيبويه عن شيوخه يعود الى ثالثة قرون ونصف القرن قبل الهجرة كشعر جذيمة
األبرش ،والزباء أعصر بن سعد ولكن ما وصل الى اللّغويين من هذا العهد شيء قليل جدا ألنهم لم يقصدوا القصائد وإنما
كانت لهم أبيات يقولونها في حاجتهم.
وأما من قصد القصائد فأمثال المهلهل ،وزهير بن جناب ،وعبيد األبرص وسعد بن مالك وأقدمهم يسبق الهجرة النبوية
بقرنين على االكثر وامتد الشعر الذي نقله النحويون و استشهدوا به الى اواخر القرن الثاني للهجرة وكان شعر ابن هرمة (
ت 176هـ) آخر ما احتجوا به وقد وقفوا عنده لتفشي اللحن بعد ذلك في الحواضر.
أما بالنسبة للبادية فظلت فصيحة لعزلتها وسالمتها من االختالط باألعاجم إلى أن أخذ اللحن ينتشر بها بحلول القرن الرابع
و ما كاد هذا القرن ينقضي حتى خرجت الفصاحة من البادية ايضا فأعرض الن حويون عن االستشهاد بكالمهم هم أيضا.
-1طبقة الجاهليين :وهم الذين سبقوا ظهور االسالم كامرئ القيس واألعشى وطرفة بن العبد
-2طبقة المخضرمين :وهم الذين عاصروا الجاهلية واالسالم كحسان بن ثابت ولبيد وكعب بن زهير
-3طبقة االسالميين كجرير واألخطل والفرزدق وتنتهي بابن هرمة (توفي 176هـ)
29
وامتنع النحويون عن االحتجاج بـالطبقة الرابعة لتفشي اللحن فيها وهي طبقة المولدين أو المحدثين وهم من جاء بعدهم إلى
زماننا هذا كبشار وأبي نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي وغيرهم.
30
القيـــــــــــاس
مفهوم القياس:
يراد به التقدير ورد في لسان العرب أن قاس الشيء يقيسه قيسا قياسا واقتاسه وقيسه إذا قدره على أمثاله وجاء في المعجم
الوسيط أن القياس في اللغة هو رد الشيء الى نظيره.
و القياس أيضا هو التسوية بين شيئين ألن تقدير الشيء بمثاله تسوية بينهما يقال فالن يقاس بفالن بمعنى يساويه.
أ ّما في االصطالح:
هو حمل الشيء على الشيء بجامع وهو إلحاق الفرع باألصل بجامع ،وهو إجراء حكم االصل على الفرع لجامع.
سـ ّم فاعله على الفاعل بجامع االسناد اذ ان كال منهما اسند الى الفعل فرفع نائب الفاعل قياسا على
ومثل ذلك حمل ما لم يُ َ
الفاعل بجامع االسناد ،ويسمى هذا الجامع علة فالقياس جرى بحمل المقيس أو الفرع وهو نائب الفاعل على المقيس عليه أو
األصل وهو الفاعل في حكم االعراب وهو الرفع بجامع أو بعلة مشتركة هي اإلسناد.
إذن البد من توفر أربعة أركان في القياس المقيس عليه (األصل) والمقيس ( الفرع) والحكم ،والجامع أو العلّة.
المقيس عليه:
وشرط في المقيس عليه أن يكون االكثر في بابه ألن القياس يقتضي الحمل على األكثر ولهذا فإنه ال يصح الحمل على النادر
والشاذ والمراد بالشاذ ما فارق القياس الذي عليه بابه يقول ابن جني :فجعل اهل علم العرب ما استمر من الكالم في االعراب
وغيره من مواضع الصناعة مطردا ،وجعلوا ما فارق ما عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذا.
والكثرة هاهنا غير مرتبطة بنسبة عددية فقد يكون القليل كثيرا في بابه وقد يكون الكثير قليال في بابه فال يقاس عليه من ذلك
قوله في النسبة ال ى شنوءة شنئي فلك أن تقول في ركوبة ركبي وفي حلوبة حلبي قياسا على شنئي وذلك أنهم أجروا (فعولة)
مجرى (فعيلة) لمشابهتها إياها من أوجه أن كال منها ثالثي وأن ثالثه حرف لين وأن آخره حرف تأنيث وأن "فعوال"
و"فعيال" يتوردان نحو أثيم وأثوم ورحيم ورحوم ،فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا االستمرار جرت واو شنوءة مجرى
ياء حنيفة فكما قالوا حنفي قالو شنئي ويرد األخفش على من يعترض على هذا القياس بأن شنئي هو العنصر الوحيد الذي جاء
في بابه على هذه الصورة من فعولة ثالثه واو وليس ياء فكيف يقاس على باب ليس يتكون اال من عنصر واحد قال
األخفش مجيبا " فإنه جميع ما جاء في بابه وقد استحسن ابن جني هذا القياس قائال ما ألطف هذا الجواب :ومعناه أن الذي
جاء في " فعولة " هو هذا الحرف والقياس قابله ،ولم يأت فيه شيء بنقضه ( أي من السماع) فإذا قاس االنسان على جميع
ما جاء وكان أيضا صحيحا في القياس مقبوال فال لوم.
المقيس:
وهو المحمول على كالم العرب وعلى سمته فقد يكون المقيس لفظا غير منقول وغير مستعمل عند المتكلم فيستحدثه
بحمله على ما يستعمله و يعرفه من نظائره من المنقول فهو لم يستعمل كل حال وال كل فاعل وال كل مفعول وال كل اسم
31
آلة يقول من الفعل صفا مصفاة قياس على نظائره مم ا هو مستعمل ومختزن في ذاكرته نحو مقالة ومكواة ومرآة وان لم
ينطق بها من قبل.
وهناك ضرب من المقيس يكون حكمه معلوما ثابتا بالنص وبدليل السماع ولكنه ال يستحق هذا الحكم باألصالة كحمل " ما
" الحجازية على " ليس " في العمل وأصلها أن ال تعمل ألنها غير مختصة بفعل أو باسم ،وذلك لعلّة اشتراكها مع ليس
في معنى النفي فالنحوي يرى أن هذا القياس هو قياس المتكلم وليس قياسه هو ولذلك ينسبه الى المتكلم إذ ليس له فيه إال
فضل االكتشاف وفي ذلك يقول سيبويه " أ ّما أهل الحجاز فيشبهونها بليس إذا كان معناها كمعناها ".
ومما سبق نتبين أن شرط المقيس أن يربطه بالمقيس عليه جامع يسمى علة حتى يلحق المقيس بالمقيس عليه في الحكم
وهذا الجامع يرد على وجوه فقد يكون علة أوجبت حكما واحدا في المقيس والمقيس عليه وقد يكون ضربًا من الشبه
أوجب للمقيس حكم المقيس عليه...
أقسام القياس:
سماه بعض المحدثينإذا نطرنا الى األقيسة التي يجريها سيبويه في كتابه فإننا نستطيع ردّها الى قياسين :قياس أصلي و ّ
وسماه أخرون القياس االستعمالي ،كما س ّماه غيرهم قياس األنماط .و قياس تعليلي وقد س ّماه بعضهم
ّ القياس االستقرائي،
قياس األحكام وس ّماه غيرهم القياس ال ّ
شكلي.
32
قضية االحتجاج في اللغة للمطالعة:
د .سيد مصطفى أبو طالب
قام العلماء بتقسيم هذا التراث إلى :القرآن الكريم ،والحديث الشريف ،والشعر ،والنثر ،وسأتناول كل واحد منها على
حدة.
وقال ابن جني في الشاذ من القراءات :وضربًا تعدى ذلك[ ،]2فسماه أهل زماننا شاذا؛ أي خار ًجا عن قراءة القراء
السبعة المقدم ذكرها ،إال أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه ،محفوف بالروايات من أمامه وورائه ...لكن
س ْمت العربية مهلة
بجرانه ،آخذ من َ
غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى اآلن شاذا ،وأنه ضارب في صحة الرواية ِ
ميدانه[.]3
وما ذكرته من االحتجاج بالقراءة الشاذة ال أعلم فيه خالفًا بين النحاة ،وإن اختلف في االحتجاج بها في الفقه ،ومن ثَم
احتج على جواز إدخال الم األمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة( :فَبِذَلِكَ فَ ْلت َ ْف َر ُحوا) [يونس ،]58 :كما
طايَاكُ ْم ﴾ [العنكبوت.]12 : احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترةَ ﴿ :و ْلنَحْ ِم ْل َخ َ
يجوزون االستشهاد بنصوص األحاديث في مسائل اللغة ،فحجتهم أنه إذا جاز اللحن في رواية الحديث، أما القلة ممن ّ ِ
ع الديني يساعد على تذكرفكذلك يقال في رواية األشعار ،بل إن احتمال اللحن في رواية األشعار أكثر؛ وذلك ألن الواز َ
نصوص األحاديث ،ويعمل على صيانتها من أي انحراف[.]6
ع ِني بنقل ألفاظها.
فجوزوا االحتجاج باألحاديث التي ُ
على أنه توجد طائفة من العلماء قد توسطوا في ذلك ،ه
أجالف
ِ قال الشاطبي :لم نجد أحدًا من النهحْ ويين استشهد بحديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وهم يستشهدون بكالم
العرب وسفهائهم الذين يبولون على أعقابهم وأشعارهم التي فيها الفُحش والخَنا ،ويتركون األحاديث الصحيحة؛ ألنها
تنقل بالمعنى[.]7
33
جوزون على األمرين فقالوا: وقد رد ال ُم ّ ِ
• إن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر األول قبل تدوينه في الكتب وهم م همن يُحتج بهم؛ ألنهم في عصور االحتجاج،
وغايته تبديل لفظ بلفظ ،وهذا يص ُّح االحتجاج به.
• وأنه ال يلزم من عدم استدالل المتقدمين بالحديث عد ُم صحة االستدالل به.
ً
معتدال ،فنقسم األحاديث قسمين :قسم يستشهد بنصوصه ،وقسم ويرى بعض الدارسين المح َدثين أننا يجب أن نقف موقفًا
ال يحتج به في مسائل اللغة.
متأخرا أو التي غُمزت في صحتها أو األحاديث التي شذهت روايتُها ،فال يحتج بها[.]11
ً أما التي د ّ ُِونت
مداره على راو متأخر ال يستشهد بكالمه في اللغة ،فإن كان محفو ً
ظا عنه ،وصح اإلسنا ُد منه إلى النبي ،أو َمن ُ وإن كان
دونه ممن يحتج بكالمه في اللغة ،وليس رواتُه ممن ُر ِمي باللحن في حديثه ،ولم يظهر من خالل دراسته وقوعُ الخطأ
"أي التصحيف" في روايتِه -فإنه يصح أن يُستش َهد به.
سن البصري وعبدهللا بن شبرمة يُل ِ ّحنون الفرزدق وال ُكميت وذا
وقد كان أبو عمرو بن العالء وعبدهللا بن إسحاق والح َ
ظاهرا ،وكانوا يعُدونهم من المولهدين؛ ألنهم كانوا في عصرهم، ً الرمة وأضرابهم في عدة أبيات أُخذت عليهم
والمعاصرة حجاب[.]14
34
قال ابن رشيق :كلُّ قديم من الشعراء فهو ُمح َدث في زمانه باإلضافة إلى َمن كان قبله .وكان أبو عمرو يقول :لقد أحسن
جريرا والفرزدق -فجعله مولهدًا باإلضافة إلى
ً هذا المولهد ،حتى لقد هممتُ أن آمر صبياننا برواية شعره -يعني بذلك
والمخضرمين ،وكان ال يعُ ُّد الشعر إال من المتقدمين ،قال األصمعي :جلستُ إليه عشر ِح َجج فما سمعتُه
َ ِشعر الجاهلية
يحت ُّج ببيت إسالمي[.]15
وأما الطبقة الرابعة فالصحيح أنه ال يستشهد بكالمها مطلقًا ،وقد يُستشهد بكالم َمن يوثق به منهم ،واختاره الزمخشري؛
فإنه استشهد بشعر أبي تمام في عدة مواضع ،وقال :وهو وإن كان مح َدثًا ال يُستش َهد بشعره في اللغة ،فهو ِمن علماء
العربية ،فأجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ،أال ترى إلى قول العلماء :الدلي ُل عليه بيت الحماسة ،فيقتنعون بذلك بروايتِه
وإتقانه[.]16
يصرح بثقته في شعر أبي ت همام وأضرابه؛ ولذا فهو يستشهد به -فهناك من اللُّغويين َمن استشهد
ِّ وإذا كان الزمخشري
في استخفاء بشعرا َء ِمن هذه الطبقة.
ومن هؤالء :الخليل بن أحمد ،الذي استشهد في كتابه العين بحفص األموي ،وبشار بن بُرد[.]17
واستش َهد سيبوي ِه في كتابه ببيت لبشار بعد أن توعهده بالهجاء ،وأصحاب بشار يروون له هذا البيت[:]18
ب
نصحه بلبي ِ
َ وما ك ُّل ذي لبّ بمؤتيكَ نُص َحه ♦♦♦ وما ك ُّل ُمؤْ ت
نصف هذا البيت اآلخر ،وهو في باب اإلدغام ،لم يسم قائله[.]19
ُ وفي الكتاب
وفي االقتراح للسيوطي :أو ُل الشعراء المح َدثين بشار بن برد ،وقد احتج سيبويه في كتابه ببعض شعره تقربًا إليه؛ ألنه
كان هجاه لتركه االحتجا َج ب ِشعره[.]20
بعض النصوص التي لها داللتها في هذا الصدد.
َ إن ِمن اإلنصاف أن نورد
ص ِر هللاُ العلم والشعر والبالغة على زمن دون زمن ،وال خص به قو ًما دون قوم ،بل جعل ذلك
قال ابن قتيبة :ولم يق ُ
ً
مشتر ًكا مقسو ًما بين عباده في كل دهر ،وجعل ك هل قديم حديثا في عصره[.]21
وقال الجرجاني :إن الشعر عل ٌم من علوم العرب ،يشترك فيه الطب ُع والرواية والذكاء ،ثم تكون الدربة مادةً له ،وقوة لكل
واحد من أسبابه؛ ف َمن اجتمعت له هذه الخصا ُل فهو المح ِسن المبرز ،وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من اإلحسان،
ضل في هذه القضية بين القديم والمح َدث ،والجاهلي وال ُمخضرم ،واألعرابي والمولهد[.]23 ولست أف ِ ّ
المراجع:
[ ]1معاني القرآن للفراء .14 /1
يقصد القراءات المتواترة.
[ِ ]2
[ ]3المحتسب .33 ،32 /1
[ ]4االقتراح للسيوطي ص .68 ،67
[ ]5خزانة األدب للبغدادي .9 /1
[ ]6في اللهجات العربية إلبرا يم أنيس ص.50
[ ]7خزانة األدب .12 /1
[ ]8المسند .340 /26
[ ]9المسند .298 /3
35
[ ]10االحتجاج بالنعر في اللغة د /محمد حسن جبل ص .74
[ ]11في اللهجات العربية ص ،51ومجلة مجمع اللغة العربية بالقا رة .197 /3
[ ]12مواقف النحاة من االستنهاد بالحديث؛ د /ياسر بن عبدهلل الطريفي؛ نبكة األلوكة.
[ ]13ينظر :العمدة في محاسن النعر ص.113
[ ]14خزانة األدب .6 /1
[ ]15العمدة ص.90
[ ]16خزانة األدب ،7 /1والكناف .208 ،207 /1
[ ]17ينظر :العين ، 68 /5 ،25 /4 ،96 /2 ،236 /1البحث اللغوي عند العرب د /أحمد مختار عمر
وتطورا د /حسين نصار ص.265 ً ص ،49والمعجم العربي ننأة
[ ]18ديوان بنار ،23 /4في الملحقات.
[ ]19ينظر :الكتاب لسيبويه .441 /4
[ ]20االقتراح ص ، 122وينظر :بحوث ومقاالت في اللغة د /رمضان عبدالتواب ص.99 ،98
[ ]21النعر والنعراء البن قتيبة .64 /1
[ ]22السابق نفسه.
[ ]23الوساطة بين المتنبي وخصومه ص.15
36
االحتجاج في العربية
المصدر :مجلة العرب ،العدد ،5السنة ،23ص ،355-342د .محمود فجال.
سليقة ،وإنما
ي فصيح سليم ال ّ
االحتجاج و إثبات صحة قاعدة ،أو استعمال كلمة أو تركيب بدليل ص ّح سنده إلى عرب ّ
احتاج القوم إلى االحتجاج ل ّما خافوا على سالمة اللغة العربية بعد أن اختلط أ لها باألعاجم ،إثر الفتوح وسكنوا بالد م
وعاينو م ،ننأ عن لل أخل وعطاء في اللغة ،و إلى التفريط في صيانة الدين من جهة ثانية ،إل كانت سالمة إحكامه
موقوفة على حسن فهم المستنبط لنصوص من القرآن الكريم والحديث النريف وكان في ضعف اللغة تضييع لهلا
الفهم .
-و يعد اللحن الباعث األول على تدوين اللغة وجمعها وعلى استنباط قواعد النحو وتصنيفها فقد كانت حوادثه المتتابعة
ب على صوته أولو الغيرة على العربية و اإلسالم.
نلير الخطر اللي ّ
مصدر من مصادر االحتجاج به في اللغة والنحو والصرف بعد كتاب هللا – تعالى – وحديث ٌ كالم العرب شعرا ً ونثراً
رسو ِله ومصطفاه صلى هللا عليه وسلم.
وجمي ُع العرب ول ُد إسماعيل – عليه الصالة والسالم – فقد أنطقه هللا – عزوجل – بالعربية ال ُمبِينَ ِة على غير التلقين
والتمرين ،وعلى غير التدريب والتدريج.
َ
ففي ((طبقات فحول الشعراء)) – ( :– 9 :1قال يونس بن حبيب :أ هو ُل من تكلم بالعربية ،ونسي لسانَ أبيه إسماعيل بن
إبراهيم – صلوات هللا عليهما –).
ويستثنى من ذلك قبائ ُل ِح ْميَ ِر ،وبقايا ُج ْره َُم.
و في ((طبقات فحول الشعراء)) – ( – 11 :1قال أبو عمرو بن العالء :ما لسانُ حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا،
وال عربيتهم بعربيتنا ،فكيف بما على عهد عاد وثمو َد مع تداعيه ووهبه).
وكان العرب – قديما ً – يقطنون اليمن والحجاز وما جاورهما ،ثم انتشروا في سائر البالد.
و في ((فقه اللسان)) – ( :– 3 :1قال يوسف داود الموصلي في كتابه في ((نحو العربية)) :إن اللغة التي ت ُ ْست َ ْع َمل في
معظم الغربية الجنوبية من آسيا ،وفي مصر ،وسائر البالد الشمالية من إفريقية ،وفي غير ذلك من األمصار ،تسمى اللغة
العربية نسبة إلى العرب الذين هم في األصل سكانُ اليمن والحجاز ،وسائر ما يجاورها من البالد المعروفة بجزيرة
العرب ،وسكان صحارى الشام ،والجزيرة والعراق.
وكانت اللغة العربية على أنحاء شتى بسبب اختالف قبائل العرب وتوالدهم كما يختلف اآلن لسان البلد الواحد عن لسان
البلد اآلخر من بالد العرب أنفسهم).
والعربي يحسن اختيار اللفظ للداللة على المعنى المقصود ،في موضعه المنشود ،وله عناية فائقة في النثر والشعر.
قال الشافعي – رحمه هللا – في ((الرسالة)) – ( – 42لسانُ العرب أوس ُع األلسنة مذهباً ،وأكثرها ألفاظاً ،وال نعلمه
يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ،ولكنه ال يذهب منه شيء على عامتها حتى ال يكون موجودا ً فيها من يعرفه).
وهذا كالم حري أن يكون صحيحاً ،ولم َيدهعِ أحد ممن مضى حفظ اللغة ك ِلّها.
والمراد بكالم العرب المستشهد به كال ُم القبائل العربية الموثوق بفصاحتها ،وصفاء لغتها في الجاهلية واإلسالم إلى أن
فسدت األلسنةُ باالختالط مع األعاجم ،وفنشو اللحن.
وأفصح العرب قبيلة قريش ،ولهذا نزل القرآن الكريم بلغتها.
قال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بـ((األلفاظ والحروف))( :كانت قريش أجود العرب انتقادا ً لألفصح من
األلفاظ ،وأسهلها على اللسان عند النطق بها ،وأحسنها مسموعا ً ،وأبينها إبانةً ع هما في النفس ،والذين عنهم نقلت اللغة
العربية ،وبهم اقتدي ،وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم :قيس ،وتميم ،وأسد ،فإن هاؤالء هم الذين عنهم
أكثر ما أخذ ومعظمه ،وعليهم اتكل في الغريب ،وفي اإلعراب والتصريف ،ثم هُذَيْل ،وبعض كنانة ،وبعض الطائِيِّينَ ،
ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم).
37
وقال أحمد بن فارس في ((الصاحبي)) – ...( – 34 – 33أجمع علماؤنا بكالم العرب ،والرواة ألشعارهم ،والعلماء
بلغاتهم وأيامهم ومحا ِلّهم :أن قريشا ً أفصح العرب ألسنةً ،وأصفاهم لغة ،وذلك أن هللا – جل ثناؤه – اختارهم من جميع
ي الرحمة محمدا ً صلى هللا عليه وسلم. العرب واصطفاهم ،واختار منهم نب ه
ووالتَهُ .فكانت وفود العرب من ُح هجاجها وغيرهم ي ِفدون إلى مكة للحج، طانَ حرمه ،وجيران بيته الحرامُ ، فجعل قريشا ً قُ ه
ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم .وكانت قريش تعلهمهم منا ِس َكهم ،وتحكم بينهم...
ورقه ِة ألسنتها – إذا أتتهم الوفود من العرب ،تخيهروا من كالمهم وكانت قريش – مع فصاحتها ،وحسن لغاتهاِ .
سال ِئ ِق ِه ْم التي طبعوا عليها، َ وأشعارهم احسنَ لغاتهم ،وأصفى كالمهم ،فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحا ِئ ِز ِه ْم و َ
فصاروا بذلك أفصح العرب.
َ
سة ربيعة ،وال الكس َْر الذي َ َ َ َ ْ َ
جْرفِيهة قيس ،وال كشكشَة أسد ،وال ك ْسك َ َ ع َ َ
عنعَنَة تميم ،وال َ ْ أال ترى أنك ال تجد في كالمهم َ
تسمعه من أسد ،وقيس مثل :يِ ْعلَ ُمون ونِ ْعلم ،ومثلِ :شعير وبِعيرف).
َ
والنحاة اعتمدوا في تقعيد القواعد ،وتثبيتها على لغات هذه القبائل ،فاعتمدوا على لغة قريش ،وسموها :اللغة الحجازية،
ويأتي بعدها في الفصاحة لغةُ تميم ،وت ُ ْق َرنُ بكتب النحو والصرف بلغة الحجاز.
سد ،وبلغة طيء. وللنُّحاة عانية بذكر لغة قيس ،وقد تقرن بلغة الحجاز ،وبلغة تميم ،كما يعتنون بلغة بني أ َ َ
العرب المأخوذَ
َ وفي مقدمة ((فقه اللسان)) – :– 4 – 3 :1قال الشيخ يحيى في رسالته المسماة ((ارتقاء السيادة)) :إن
وبعض الطائيين .اهـ. ُ ي ،الموثوقَ بعربيتهم هم :بنو قيس ،وتميم ،وأسد وهُذَيْل، عنهم اللسانُ العرب ُّ
فكانت لغةُ هذه القبائل المذكورة أفص َح لغات العرب ،وعليها المعتمد ،وإليها المرجع ،ومن هذه القبائل :بنو قريش ،وهم
بطون مضر ولد إسماعيل ولغتهم مفضلة على غيرهم؛ ألنه فيها نَزَ ل ((القرآن)).
أنساب قريش وقيس وهُذَيْل وغيرهم. ُ ومضر هو ابن نزار بن معد بن عدنان وإليه تنتهي
ب – – 97 :6من ُ
ي في ((صحيحه)) في ((كتاب فضائل القرآن)) – باب نَزَ َل القرآن بلسان ق َريْش والعَ َر ِ أخرج البخار ُّ
حديث أنس بن مالك قال( :فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبدهللا بن الزبير وعبدالرحمن بن الحارث بن
هشام أن ينسخوها في المصاحف ،وقال لهم :إذا اختلفتم أنتم ،وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان
قريش ،فإن القرآن أنزل بلسانهم ففعلوا).
ي :معنى قول عثمان :نزل القرآنُ بلسان قريش ،أي: وفي ((فتح الباري)) – :9 :9قال القاضي أبو بكر بن الباقالن ُّ
ع َربِيا} أنه ْ
أن جمي َعه بلسان قريش ،فإن ظاهر قوله – تعالى – { ِإنها َج َعلنَاهُ قُ ْرآنًا َ معظ ُمه ،وأنه لم تقم داللة قاطعةُ على ه
نزل بجميع ألسنة العرب ،ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة ،أو هما دون اليمن ،أو قريشا ً دون غيره فعليه البيان ،ألن
اسم العرب يتناول الجميع تناوالً واحداً.
َ
وقال أبو شامة :يحتمل أن يكون قولُه :نزل بلسان قريش أي :ابتداء نزوله ،ثم أبيح أن يُ ْق َرأ بلغة غيرهم .اهـ.
األحرف السبعة ،ثم نزل باألحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيالً ِ وتكملته أن يقال :إنه نزل أوالً بلسان قريش أح ُد
َ
أن الحرف الذي نزل القرآن هأوالً بلسانه أ ْولَى األحرف ،فحمل وتيسيراً .فلما جمع عثمانُ الناس على حرف واحد رأى ه
األو ِليهة المذكورة.)...
الناس عليه؛ لكونه لسان النبي صلى هللا عليه وسلم ،ول ِل َما له من ه
و((القرآن الكريم)) هو في أعلى مستويات الفصاحة باإلجماع.
القرآن فهي أفص ُح مما في غير ِ قال ابن خالويه في ((شرح الفصيح))( :قد أجمع الناس جميعا ً أن اللغة إذا َو َر َدت في
خالف في ذلك). َ القرآن ،ال
س هكان البراري ي قط ،وال عن ُ ض ِر ّ
ي في ((األلفاظ والحروف)) ..( :وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن ح َ قال أبو نصر الفاراب ُّ
ممن كان يسكن أطراف بالدهم التي تجاور سا ِئ َر األمم الذين حولهم؛ فإنه لم يُؤْ َخ ْذ ال من لَ ْخم ،وال من ُجذَام؛ لمجاورتهم
سان ،وال من إياد؛ لمجاورتهم أهل الشام ،وأكثرهم نصارى يقرأون في أهل مصر وال ِقبْط ،وال من قضاعة ،وال من غ ه
صالتهم بالعبرانية ،وال من النه ِم ِر ،فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية ،وال من بكر لمجاورتهم للنه َب ِط والفرس ،وال
أز ِد عمان ،لمخالطتهم للهند والفرس ،وال من أهل اليمن أصالً ،لمخالطتهم للهند والحبشة ،ولوالدة الحبشة فيهم ،وال من ْ
من بني حنيفة ،وسكان اليمامة ،وال من ثقيف ،وسكان الطائف ،لمخالطتهم ت ُ هجار األمم المقيمين عندهم ،وال من حاضرة
الحجاز؛ ألن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من األمم ،وفسدت ألسنتهم.
والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤالء ،وأثبتها في كتاب ،وصيهرها علما ً وصناعة ،هم أهل الكوفة والبصرة فقط،
من بين أمصار العرب.
38
ونقل ذلك أبو حيان في ((شرح التسهيل)) معترضا ً به على ابن مالك حيث عني في كتبه بنقل لغة لَ ْخم وخزاعة
وقضاعة ،وغيرهم ،وقال :ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن.
َت دواوينُ عن العرب ا ْل َع ْر ِ
باء ثم االعتماد على ما رواه الثقاتُ عنهم باألسانيد المعتبرة من نثرهم ،ونظمهم وقد د ّ ُِون ْ
والط ِر هماح وزهير وجرير والفرزدق وغيرهم. ِّ كثيرة مشهورة ،كـ((ديوان امريء القيس))
هذه موارد الشواهد النحوية والصرفية عند البصريين الذين كانوا يتشددون في األخذ والتحمل ،وال يقبلون كالم من
اختلط بالحواضر.
ٌ ُ
ففي ((طبقات فحول الشعراء)) – ( :– 12 :1كان ألهل البصرة في العربية ق ْد َمة ،وبالنحو ولغات ال َع َرب والغريب
عناية) .انتهى.
أما الكوفيون فقد اعتمدوا على القبائل التي اعتمد عليها البصريون واعتمدوا على لغات أخرى أبى البصريون االستشهاد
ط البصريون لغتهم ولَ هحنُوها ،واتهموا غله َ
بها ،وهي لهجات سكان األرياف الذين وثقوا بهم ،كأعراب الحطمية الذين َ
ُ
الكسائي بأنه أفسد النحو ،أو بأنه أفسد ما كان أخذ بالبصرة ،إذ وثق بهم ،وأخذ عنهم .واحْ ت هج على سيبويه في المناظرة
التي جرت بينهما بلغاتهم.
ُ
أما الشعر من كالم العرب فكان النحاة ُ عامة ينظرون إليه بدقة وحذر وال يعتمدون إال على ما ثبت عندهم صحة نسبته
إلى قائله ،وفصاحته ،وصدق راويه ،والوثوق فيه ،وخلوه من الضرورات ،لذلك اشتدت عنايتهم بالرواية وأنواعها
وطرقها ،وبصفات الراوي ،وما يجب عليه من األمانة والصدق ،ونحوها.
ويعتمد في تقرير أحكام اللفظ على أشعار الجاهلية ،وهم قبل اإلسالم كأمريء القيس وزهير واألعشى.
والمخضرمين ،وهم الذين أدركوا الجاهلية واإلسالم ،كحسان ولبيد واإلسالميين ،وهم الذين نشأوا في صدر اإلسالم،
كالفرزدق وذي الرمة.
وأما المولهدون ،ويقال لهم :ال ُمحْ َدثون وهم من بعدهم إلى زماننا ،وتبتديء طبقتهم ببشار بن برد المتوفى سنة 167هـ،
ُ
وأبي نواس ،الحسن بن هان المتوفى سنة 198هـ ،فال يحت ُّج بشيء من أشعارهم في أحكام اللسان.
األولَ َيان يستشهد بشعرهما إجماعاً ،وأما الثالثة فالصحيح صحة االستشهاد بكالمها. فالطبقتان ْ
ليكف عنه.ه وكان بشار قد هجا األخفش ،فأورد األخفش في كتبه شيئا ً من شعره،
شعر بشار؛ تَقَ ُّربا ً إليه ،ألنه كان قد هجاه؛ لتركه االحتجاج بشعره. وكذلك سيبويه استشهد بشيء من ِ
واستشهد أبو علي الفارسي في ((اإليضاح)) ،102 :ببيت أبي تمام الطائي ،المتوفى سنة 231هـ ،وهو قوله:
ال
ألن أبا تمام يستشهد بشعره. ض َد الدولة كان يحبُّ هذا البيت ،وينشده كثيراً ،ال ه ع ُ ه
ألن َ
َ
وذهب بعض علماء العربية إلى صحة االستشهاد بكالم من يوثق به من ال ُمحْ َدثين.
ي ،فقد استشهد ببيت ألبي تمام في أوائل سورة البقرة من ((الكشاف)) ( ،)43:1وقال: و َجنَ َح إلى هذا المذهب الزمخشر ُّ
َ
وهو وإن كان ُمحْ َدثا ً ال يستشهد بشعره في اللغة ،فهو من علماء العربية ،فأجْ عَ ُل ما يقولهُ بمنزلة ما يرويه ،أال ترى إلى
قول العلماء :الدليل عليه بيتُ الحماسة ،فيقتنعون بذلك؛ لوثوقهم بروايته وإتقانه.
ي ،فقد استشهد بشعر أبي ت همام في عدة مواع من شرحه لـ((كافية ابن الحاجب)). الرض ُّ
ونحا هذا النحو ه
ي فقال في ((شرح درة الغواص)) :أجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه. الشهاب الخفاج ُّ
ُ وجرى على هذا المذهب
ارها على ُ
المذهب من ناحية أن الرواية تعتمد على الضبط والعدالة .أما الثقة بصحة الكالم ،أو فصاحتِه فمد ُ ُ ف هذا ض ِعّ َ
و ُ
َم ْن يتكلم بالعربية بمقتضى النشأة والفطرة.
وكيف يُحْ ت َ ُّج بأقوال هاؤالء الموله ِديْنَ وقد وقعوا في أغالط كثيرة ،ال يستطيع أح ٌد تخريجها على وجه مقبول.
ت أقوالهم على سبيل االستئناس به ،ولم تجعل دليالً فال بأس به. فإن ذُ ِك َر ْ
باب االحتجاج بأقوال الموله ِديْنَ ؛ كيال يلزم االستدالل بكل ما وقع في كالم المحدثين ،كالحريري وأضرابه، وال يُ ْفت َ ُح ُ
خطأوا المتنبي وأبا تمام والبحتري في أشياء كثيرة ،كما هو مسطور في شرح تلك والحجة فيما رووه ،ال فيما رأوه ،وقد ه
الدواوين ،ويرى ذلك بوضوح في كتب النحو والصرف.
39
ص ِ ّح َح بعض ال َك ِل ِم أو األساليب ،استنادا ً على استعماالت العلماء في مصنفاتهم إن وردت مخالفة وليس بسديد أن ت ُ َ
ألساليب العرب في عصور االحتجاج ،فلكل َج َواد َكب َْوةٌ ،ولكل صارم نَب َْوةٌ.
فما يلفظ به رواة الشعر وعلما ُء العربية ال حجة فيه ،إاله أن تذ َكره على وجه االستئناس ،وأنت َماليء يدك بما هو حجة،
منتظر ألن تظفر بالحجة. ٌ أو
ت الفتو ُح اإلسالمية العرب بالعجم. َ
صل ِ ْ
أبناء العرب ،و َمن نشأ في بيئتهم منذ َو َ والفساد في اللغة أسرع إلى ألسنة ِ
وقد ظهر اللحن بجالء في أواخر عهد الدولة األموية ،وكان انقراضها سنة 132هـ.
أما سكان الجزيرة فإنهم ما برحوا على فصاحة اللغة إلى أواسط القرن الرابع.
وأما الخاصة من سكان المدن فبقوا على فصاحة اللهجة إلى أوائل عهد الدولة العباسية.
ي ِ أنه قالُ :ختم الشعر بإبراهيم بن ه َْرمة ،وهو آخر َم ْن يُحْ ت ُّج بشعرهم .وقد توفي في خالفة ونقل ثعلب عن األصمع ّ
الرشيد سنة .176
َ ً
ينتشر فيها فسا ُد اللغة انتشارا يرفع الثقة بفصاحة لهجتها ،يُوث ُق بأقوالهم ،ولو كانوا في ْ والذين نشأوا في بيئة عربية لم
القرن الثالث.
ُ ه َ ُ
قال ابن جني في ((الخصائص)) – ( – 5 :2باب في ترك األخذ عن أهل ال َم َد ِر كما أ ِخذ عن أهل ال َو َب ِر) ِعلة امتناع
طل. ت الحاضرةِ وأهل ال َم َد ِر من االختالل والفساد وال َخ َ ض للغا ِ ع َر َ ذلك ما َ
ي ٌء من الفساد للغتهم ،لوجب األخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل ش ْ يعترض َ
ْ ولو عُ ِل َم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ،ولم
الوبر.
قاض عادةِ الفصاحة وكذلك أيضا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل ال َم َد ِر من اضطراب األلسنة وخبالها ،وانت ِ ً
وانتشارها ،لوجب رفض لغتها ،وترك تل ِقّي ما ت َِرد عنها .وعلى ذلك العم ُل في وقتنا هذا؛ ألنا ال نكاد نرى بَ َد ِويا فصيحاً.
ض عنه. وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كالمه ،لم نكد نع َدم ما يُ ْف ِس ُد ذلك ويقدح فيه ،وينال ويَغُ ُّ
ي المتوفى سنة 204هـ ،نشأ في بيئة عربية ،وهي مكة المكرمة وهو حجة في كالمه وعباراته ،يصح والشافع ُّ
االستشهاد بما يستعمله من األلفاظ؛ ألنه يكتب ويتكلم بلغته على سجيته ،ويتخير من لغات العرب ما شاء.
ولقد كان الشافعي فصي َح اللسان ،ناص َع البيان ،في الذروة العليا من البالغة ،تأدب بأدب البادية ،وأخذ العلوم والمعارف
عن أهل الحضر.
ٌ
ي ِ حجة في اللغة). قال أحمد( :كال ُم الشافع ّ
ي))( :ألفاظ اإلمام الشافعي عربية محضة ،ومن عجمة ُ ي في ((إيضاح ما استشكل من مختصر ال ُمزَ نِ ّ وقال األزهر ُّ
المولدين مصونة).
وقال المازني( :كالم الشافعي عندنا حجة في النحو).
ي لحن قط). وأخرج الحاكم عن الزعفراني قال( :ما رأيت الشافع ه
ٌ
كالم مالك – رضي هللا عنه – المتوفى سنة 179هـ حجة ثبتُ به القواعد النحوية. َ وقالوا :إن
وإنني أعجب كل العجب من بعض النحاة الذين ت َ َبنهوا الص هد عن االحتجاج بكالم سيد الخلق محمد صلى هللا عليه وسلم،
أن الدواعي متوفرة لنقل كالمه صلى هللا عليه وسلم ،واالعتناء به أكثر من تعلالً بالرواية بالمعنى ،ورواية العجم ،مع ه
جميع الخلق.
وليت شعريَ ،م ْن أ َ ْولَى من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم باالحتجاج بكالمهف!
و َم ِن الشافعي و َم ْن مالكٌ – رحمهما هللا – بالنسبة لحامل لواء الرسالة للعالَ ِمينف!
فمهالً مهالً يا م ْفتُون.
وال يجوز االحتجاج بشعر أو نثر ال يُ ْعرف قائله ،وعلة ذلك :الخوف من أن يكون لمولهد ،أو َم ْن ال يوثق بفصاحته .فإن
شعر ُه لآلخر ،فيرويه عنه كما َ ضهمي ينطق بالعربيهة بمقتضى السليقة فيحت ُّج به ،وكان العرب ينشُد بع ُ روى الش ْعر عرب ٌّ
سمعه ،أو يتصرف فيه على مقتضى لغته ،ولهذا تكث ُ ُر الرواياتُ في بعض األبيات ،ويكون ك ٌل منها صالحا ً لالحتجاج،
ف قا ِئلُهُ .وقد تلقهى علما ُء كما يُحْ ت َ ُّج بالشعر الذي يرويه من يوثق به في اللغة ،واشتهر بالضبط واإلتقان وإن لم يُ ْع َر ْ
العربية شواهد كتاب ((سيبويه)) بالقبول ،وفيها شواهد كثيرة ٌ لم يعرف أسماء قائليها ،فإنما يكون الر ُّد وجيها ً إذا روى
الشعر من لم يكن عربيا ً فصيحاً ،ولم يشتهر بالضبط واإلتقان فيما يسوقه من الشعر على أنه عربي فصيح.
خاص بما يُ ْست َ ْش َه ُد به في النحو والصرف واللغة. ٌّ موارد العربية
ِ أن ما نحنُ بصدده من وال َيغِبْ عنك ه
40
أما ما يتعلق بالشواهد في المعاني والبيان والبديع فإنه يُ ْست َ ْش َه ُد عليها بكالم الشعراء جميعاً ،سواء أكانوا في عصر
االحتجاج أم في غيره.
ي في ((شرح بديعية ابن جابر))( :علوم األدب ستة :اللغة ،والصرف ،والنحو ،والمعاني ،والبيان، وإليك ما قاله األندلس ُّ
والبديع ،والثالثة األ ُ َو ُل ال يُستشهد عليها إال بكالم العرب ،دون الثالثة األخيرة ،فإنه يُستشهد فيها بكالم غيرهم من
المولدين؛ ألنها راجعة إلى المعاني ،وال فرق في ذلك بين العرب وغيرهم؛ إذ هو أمر راجع إلى العقل ،ولذلك قُ ِب َل من
أهل هذا الفن االستشهاد بكالم البحتري وأبي تمام وأبي الطيب وهلُ هم جرا).
ويقول ابن ُجني في ((الخصائص)) – – 24 :1وقد استشهد ببيت للمتنبي" :وال تستنكر ذكر هذا الرجل – وإن كان
فإن المعاني يتناهبها المولهدون كما
متسربه(ف) ،ه
ه مولهدا ً – في أثناء ما نحن عليه من هذا الموضع وغموضه ،ولطف
يتناهبها المتقدمون .وقد كان أبو العباس – وهو الكثير التعقب لجله ِة الناس – احت هج بشيء من شعر حبيب بن أوس الطائي
في كتابه في االشت َقاقَ ،لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه".
ضعفت نحيزته ،وركت ْ ويقول أيضا ً في ((المحتسب)) – – 231 :1وقد استشهد ببيت للمتنبي" :وال تقل ما يقوله من
ث ،وباألمس كان معنا ،فكيف يجوز أن يحتج به في كتاب هللا – جل وعز – ف فإن المعاني ال طريقته :هذا شاعر ُمحْ َد ٌ
يرفعها تق ُّد ٌم ،وال ي ُْزري بها تأ ُّخ ٌر .فأما األلفاظ فلعمري أني هذا الموضع معتبر فيها ،وأما المعاني ففائتة بأنفسها إلى
مغرسها ،وإذا جاز ألبي العباس أن يحتج بأبي تمام في اللغة كان االحتجاج في المعاني بالمولهد اآلخر أشبه".
41
دعوة الموحدين اللين كان ابن مضاء يميل إليها ي دعوة إلى األخل بمل ب الظا ر في الفقه
دعوة الموحدين الذين كان ابن مضاء يميل إليها هي دعوة إلى األخذ بمذهب الظاهر في الفقه ،هذا المذهب كان ّأول من
مقاما األصبهاني أصالً ،ولد سنة 200هـ .درس على تالميذ الشافعي وكاني بن خلف البغدادي ً نادى به داود بن عل ّ
يعجب به و بمذهبه أشد اإلعجاب ،ثم خرج عنه .قال :إن المصادر الشرعية هي النصوص وحدها .وال علم في االسالم إالّ
في النص و أبطل القياس و لم يأخذ به ،فقيل له :كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعيف فقال :أخذت أدلة الشافعي في
إبطال االستحسان فوجدتها تبطل القياس .وكان بإجماع العلماء أول من أوجد القول بالظاهر.
ي في بالد المشرق في القرنين 3و 4هـ حتى ع ّد رابع مذهب ،بعد أن
انتشر المذهب الظاهري الذي جاء به داود بن عل ّ
لكن حملة العلماء اشتدّت عليه في ق 5هـ فأضعفته .و جاء ابن أبي يعلى (ت458هـ) فاق مذهب ابن حنبل في االنتشارّ ،
فجعل للمذهب الحنفي مكانة زحزحت المذهب الظاهري و حلّت محله .و في الوقت الذي خبا فيه ضوء المذهب الظاهري
في المشرق كان يحيا حياة قوية في األندلس على يد ابن حزم الذي جعل من الظاهرية مذهبا له أصوله ،و كان مذهبه فيه
يقوم على األخذ بظاهر النصوص.
أبطل ابن حزم القياس والقول بالعلل في جميع أحكام الدين .و لم يجز الحكم البتة في شيء من األشياء كلها إالّ بكالم
ي (صلى هللا عليه وسلّم) أو بما ص ّح عنه من فعل أو إقرار ،أو أجماع من جميع علماء األمة كلها، هللا تعالى أو بكالم النب ّ
دون مخا لفة من أحد منهم ،أو بدليل من النص أو من االجماع المذكور الذي ال يحتمل إالّ وجها واحدا .و قال :ال يح ّل
بأن هذا سبب الحكم إالّ أن يأتي به ّ
نص فقط. تعليل في الدّين ،و ال القول ّ
شردّ .
لكن مذهبه لم يمت ،فقد ازدهر في لقي ابن حزم األذى في سبيل مذهبه هذا ،فأحرقت كتبه ،و نفي و سجن و ّ
سابع الهجري ،و ع ّم العمل به في شمالي إفريقية و بالد األندلس كلها ،حيث اعتنقهأواخر القرن السادس و أوائل القرن ال ّ
حكام األندلس منهم :يوسف بن عبد المؤمن (ت 580هـ) و ابنه يعقوب (ت 585هـ) الذي أمر برفض فروع الفقه
كلها ،كما أمر بأن ال يفتوا إالّ بالكتاب و السنّة و ال يقلدوا أحدا من األئمة المجتهدين القدماء ،وأمر بحرق كتب المذاهب،
حتى قيل إنّه كان يؤتى باألحمال منها فتوضع وتطلق فيها النار .يريد أن ير ّد فقه المشرق إلى المشرق ،وجاء ابن مضاء
فألف كتاب ( الرد على النحاة ) ،يريد به أن ير ّد نحو المشرق على المشرق .بعبارة أخرى يريد أن ير ّد بعض أصول هذا
النحو و يخ ّلصه من كثرة الفروع فيه وكثرة التأويل مست ّنا في ذلك بسنّة أميره يعقوب ،إذ كان يعجب مثله بمذهب
الظاهرية ،فحاول تطبيقه على النحو ،وقد بدأ فرفض نظرية العامل التي جعلت النحاة يكثرون من التقدير ،و ّ
ألن هذا يؤدي
إلى عدم التمسك بحرفية آي الذكر الحكيم تلك الحرفية التي كان يعت ّد بها أصحاب مذهب الظاهر ،يضاف إلى هذا فقد أخذ
عنهم ما يذهبون إليه من رفض التعليل والقياس في الفقه و نادى بتعميم ذلك في النحو ،حتى نتخلّص من كل ما يعوق
جريانه في العقول.
42
الخصائص / /باب لكر الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة
43
جني
ّ التّعليل النّحوي عند ابن
أ .فاطمة دوحاجي
المركز الجامعي النعامة (الجزائر)
ألن آفاق الحياة العلميةالرابع الهجري أزهر عصور االبتكار في تأليف اللغة و ال ّنحو ،ذلك ّ يع ّد القرن ّ
كثيرا ،ونشطت الدّراسات اللغوية نشاطا ال نظير له بالعاصمة بغداد قاعدة الدولة اإلسالمية ،وفي هذا ً اتّسعت
اهتموا بهذه المسألة
ّ العصر وصل التعليل النحوي إلى أو ّج مراحل ازدهاره ،ونضوجه ،ومن بين العلماء الذين
العالم الفذ أبو الفتح عثمان بن جني .ونحن في هذا البحث سنحاول أن نتناول بعض القضايا المهمة المرتبطة
بالتعليل عنده ،نحو قضية تصنيفه للعلل النّحوية ،وبيان موقفه من العلل الثواني،مستهلّين هذا البحث بالحديث عن
تعريف التعليل.
أي م ِرض ،فهو ّ
مرة بعد أخرى ،والعلة المرض ،علّ واعتلّ ْ ي الثمرة ّ ي بعد سقي ،وجن ّ التعليل في اللغة :سق ّ
كأن العلّة صارت شغالّ ثانيا منعه شغله األول .
1 عليل ،والعلّة الحدث :يشغل صاحبه عن حاجته ّ
أ ّما في االصطالح" :فالعلّة النحويّة هي الوصف الذي يكون مظنّة وجه الحكمة في اتخاذ االلحكم ،أو بعبارة
أن العرب الحظته حين اختارت في كالمها وجها معي ًنا من التعبير أوضح هي األمر الذي يزعم النحويّون ّ
والصياغة".2
والتعليل في النحو في نظر الدكتور حسن خميس الملخ هو تفسير اقتراني لركنين :العلة والمعلول ،فالعلّة
سرة.3دليل يقترن بالمعلول لتفسيره نحويًا ،ويس ّميها بعض النحاة سببًا ،والمعلول مدلول عليه بالعلة المفَ ّ
ظاهرا بأمر التعليل النحوي ،وأظهر حماسة ال نظير لها في الدفاع عنه ،فقد ً أ ّما ابن جني فقد اهتم اهتما ًما
وقف أمام علل النحو وقفة طويلة يدرس ويصف ،ويحلل ويصنّف فأتى من ذلك بما لم يسبق له من قبل وما لم
يلحق فيه من بعد ،هو ذروة القياس وفلسفته ،وأعلي علماء العربيّة كعبًا ،في جميع عصورها ،وأغوصهم عامة
على أسرار العربيّة ،لقد كان ابن جنّي يعطي كل موضوع حقه من البحث والجهد ،فقد أعطى موضوع التعليل
النحوي من كتاب (الخصائص) ،ومن اهتمامه قسطا وافرا وحظا كبيرا فله من ذلك ما يقرب من عشرين بابا
تحت هذا العنوان ،فمنها:
باب ذكر علل العربيّة أكالميّة هي أم فقهيّةف -
باب في تخصيص العلّة. -
باب في تعارض العلل. -
ان العلل إذا لم تتع ّد لم تص ّح. بابا في ّ -
باب في إدراج العلّة واختصارها. -
باب في َدور االعتالل. -
الحس اللّغوي والشعور ،ويستلهم الفطرة والذوق ،غير ّ واعتمد ابن جنّي في تصنيفه العلل النحوية على
محتاج إلى الدّليل والبرهان.
ي على إشارات متناثرة وقد انتهج ابن جني منهج الفقهاء في استنباط العلل ،إذ وقع في استقرائه النّحو العرب ّ
أوتي دقّة النظر النحوي وثقافة كالميّة فقهيّة ،إذ قال عقب تحريره َ في كتب النّحاة جمع بعضها إلى بعض بما
أن المواضيع التي ضممتها وعقدت العلّة على مجموعها ،فقد أرادها أصحابنا أبواب العلّة النحويّة ":واعلم ّ
نووا..فهذا الذي يرجعون إليه فيما بعد وعنَوها ،وإن لم يكونوا جاءوا بها مقدّمة محروسة فإنهم لها أرادوا ،وإيّاها َ
متَفَ ّرقا قدّمناه نحن مجتمعًا".4
44
أن علل النحويين وقد بحث ابن ج ّني عن مكان لعلل النحويين بين علل المتكلمين وعلل الفقهاء ،ورأى ّ
هي علل خاصة بالنحو العربي ،أو علل أقرب إلى علل المتكلمين الذين يرتكزون على العقل في تبرير قضاياهم،
فال هي نفسها علل المتكلمين ،وال هي نفسها علل الفقهاء ،ألنها علل تخضع إلى منطق اللغة العربية ،واللغة
العربية تجنح نحو الخفة ،وتجنب الثقل ،وهو مبتغى اللسان العربي.
فعلل الفقهاء هي أمارات لوقوع األحكام الشرعية ،وقد تكون الحكمة من الحكم الشرعي خفية ،ال يمكن
تبريرها عقال ،فالصلوات الخمس ،وعدد ركعاتها وسجداتها ال نعلم حكمتها ،فالشرع يدعونا إلى اإليمان بها
وتطبيقها من غير حاجة إلى السؤال عن كنهها.
فالنحويون يعللون ياء "ميزان" وياء "ميعاد" بأنهما منقلبتان عن واو ساكنة لثقاللواو الساكنة بعد
الكسرة ،وكذلك قلب الياء في "موسر" و"موقن" واوا ً لسكونها وانضمام ما قبلها،وال توقف في ثقل الياء الساكنة
بعد الضمة ،ألن حالها في ذلك حااللواو الساكنة بعد الكسرة وهذا أمر يدعو الحس إليه وتطلبهخفة اللسان.
وهذا الذي نذكره عن علل النحو يصوره ابن جني في النص اآلتي« :باب ذكر علل العربية أكالمية هي أم
فقهية:5اعلم أن علل النحويين -وأعني بذلك حذاقهم ال ُمتْ ِقنِينَ ،ال ألفافهمالمستضعفين -أقرب إلى علل المتكلمين
منها إلى علل المتفقهين.وذلك أنهم إنما يحيلون على الحس ،ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتهاعلى النفس ،وليس
كذلك حديث علل الفقه،وذلك أنها إنما هي أعالم وأمارات لوقوع األحكام ،ووجوه الحكمة فيهاخفية عنا ،غير
بادية الصفحة لنا ،أال ترى أن ترتيب مناسك الحج وفرائض الطهور والصالةوالطالق وغير ذلك ،إنما يرجع في
وجوبه إلى ورود األمر بعمله ،وال تعرف علة جعاللصلوات في اليوم والليلة خمسا ً دون غيرها من العدد ،وال
يعلم أيضا ً حال الحكمةوالمصلحة في عدد الركعات ،وال في اختالف ما فيها من التسبيح والتالوات ،إلى غير
ذلكمما يطول ذكره ،وال تحلى النفس بمعرفة السبب الذي كان له ومن أجله ،وليس كذلك علاللنحويين".6
ثم يواصل مستدركا فيقول « :فأول ذلك أنا لسنا ندعي أن علل أهل العربية في سمت العلل الكالميةالبتة
بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية ،وإذا َح هك ْمنا بديهة العقل ،وترافعناإلى الطبيعة والحس ،فقد وفهيْنا
أن علل النحو على ضربين: ور َبأْنا بها أفرع مشارفها".7وقد رأى ابن جنّي ّ
الصنعة حقهاَ ،
وج َبة والعلة ال ُم َج ّ ِوزة،
العلل الموجبة والعلل المجوزة :يفرق ابن جني في باب من "الخصائص" بين العلة ال ُم ِ
والعلة الموجبة عنده أنها هي التي تلزم الحكم ،وال خيار لك في أن تأخذ بهذا ،أو بغيره ،فالفاعل على سبيل
تجوز الوجهين ،كأن تحتمل الرفع ،أو النصب، جوزة ُ فهي ّ ِ
النصب ،وأما العلة ال ُم ّ ِ
َ المثال مرفوع ،وليس لك فيه
وهذا األمر واضح في نصه«:اعلم أن أكثر العلل عندنا مبناها على اإليجاب بها ،كنصب الفضلة ،أو ماشابه في
ورفع المبتدأ ،والخبر ،والفاعل ،و َج ِ ّر المضاف إليه ،وغير ذلك.فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها ِ اللفظ الفضلةَ،
غير مقتصر بها على تجويزها ،وعلىهذا َمقَا ُد كالم العرب.وضرب آخر يسمى علة ،وإنما هو في الحقيقة سبب
ب.من ذلك األسباب الستة الداعية إلى اإلمالة هي علة الجواز ،ال علةالوجوب ،أال ترى أنه ليس يُ َج ّ ِو ُز ،وال ي ِ
ُوج ُ
في الدنيا أمر يوجب اإلمالة ال بد منها ،وأن كل ُم َمال لعلة منتلك األسباب الستة لك أن تترك إمالته مع وجودها
فيه.فهذه إذا ً علةُ الجواز ،ال علة الوجوب.ومن ذلك أن يقال لك :ما علة قلب واو "أ ُ ِقّتَت" همزة فتقول:علة ذلك أن
َت".فهذه علة الجواز ،إذا ً ال "و ِقّت ْ
"الواو" انضمت ضما ً الزما ً.وأنت مع هذا تجيز ظهورها واوا ً غير مبدلة فتقولُ :
علة الوجوب.وهذا وإن كان في ظاهر ما تراه فإنه معنى صحيح ،وذلك أن الجواز معنىتعقله النفس ،كما أن
الوجوب كذلك ،فكما أن هنا علة للوجوب ،فكذلك هنا علة للجواز.
هذا ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التي يتم الكالم بهاوتلك النكرة هي المعرفة في المعنى
فتكون حينئذ مخيرا ً في جعلك تلك النكرة -إن شئت -حاالً و -إن شئت – بدالً ،فتقول على هذا" :مررت بزيد
ال صالحاً" ،على الحال.أفال ترى كيف كان وقوع رجل صالح" ،على البدل ،وإن شئتقلت" :مررت بزيد رج ً
النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علة لجوازكل واحد من األمرين ،العلة لوجوبه.وكذلك كل ما جاز لك
45
فيه من المسائل الجوابان ،والثالثة ،وأكثر من ذلكعلى هذا الحد فوقوعه عليه علة لجواز ما جاز منه ،ال علة
لوجوبه ،فال تستنكر هذا الموضع".8
السراج تقسيمه للعلل على :األوائل ،والثواني ،والثوالث ،وع ّد الثواني ّ أنكر ابن جنّي على أبي بكر بن
والثوالث متممة للعلل األول ،وشرحا لها ،فما هو المعروف عند بعض الدارسين بالعلة التعليمية ،والعلة القياسية،
والعلة الجدلية النظرية ،فما سمي بالعلة فقط فهي العلة التعليمية ،وما سمي بعلة العلة فهي العلة القياسية ،وما
سمي بعلة العلة فهي العلة الجدلية النظرية ،يقول ابن جني" :ذكر أبو بكر في أول أصوله هذا ومثل منه برفع
الفاعل.قال :فإذا سئلنا عن علة رفعه قلنا :ارتفع بفعله فإذا قيل :ولمصار الفاعل مرفوعا ً فهذا سؤال عن علة
العلة.وهذا موضع ينبغي أن تعلم منه أن هذا الذي سماه علة العلة إنما هوتجوز في اللفظ فأما في الحقيقة فإنه
شرح وتفسير وتتميم للعلة أال ترى أنه إذا قيلله :فلم ارتفع الفاعل قال :إلسناد الفعل إليه ولو شاء البتدأ هذا فقال
في جوابرفع زيد من قولنا" :قام زيد" إنما ارتفع إلسناد الفعل إليه ،فكان مغنيا ً عن قوله:إنما ارتفع بفعله حتى
تسأله فيما بعد عن العلة التي ارتفع لها الفاعل،وهذا هو الذي أراده المجيب بقوله :ارتفع بفعله ،أي بإسناد
الفعإلليه.نعم ولو شاء لماطله فقال له :ولم صار المسند إليه الفعل مرفوعاف فكان جوابه أن يقول :إن صاحب
الحديث أقوى األسماء ،والضمة أقوى الحركات ،فجعالألقوى لألقوى،وكان يجب على ما رتهبَه "أبو بكر" أن
تكون هنا علة ،وعلة العلة ،وعلة علةالعلة.وأيضا ً فقد كان له أن يتجاوز هذا الموضع إلى ما وراءه فيقول :
وهالعكسوا األمر فأعطوا االسم األقوى الحركة الضعيفة لئال يجمعوا بين ثقيلين ،فإن تكلف متكلف جوابا ً عن
هذا تصاعدت عدة العلل ،وأدى ذاك إلى هجنةالقول ،وضعفة القائل به".9
يتّضح من كالم ابن جنّي أنّه من األوائل النحاة الذين أنكروا هذا اإلسفاف في التعليل واإللحاح في تتبّع
ألن ذلك يؤدي إلى الضعف وبهذا هو سابق على ابن مضاء القرطبي (ت 593ه) الذي انكر العلل الثواني العلّل؛ ّ
والثوالث.
قد يختلف النحويون في تعليل الحكم اإلعرابي الواحد ،فمنهم من يعلله بعلة ،ومنهم من يرى فيه عل ًة
أخرى ،ولكل منهما وجهة نظر ،فابن جني يرى في عامل المبتدأ االبتداء ،وهذا رأي يراه البصريون ،بينما يرى
الكوفيون أن المبتدأ يرفعه الخبر ،وقد نجد اللفظ الواحد يأخذ حكمين مختلفين ،كإعمال أهل الحجاز "ما النافية"
للحال ،وترك بني تميم إعمالها وإجرائهمإياها مجرى "هل" ونحوها ،مما ال يعمل .وهو ما يوضحه ابن جني في
كتابه الخصائص" :الكالم في هذا المعنى من موضعين :أحدهما الحكم الواحد تتجاذب كونهالعلتان ،أو أكثر
منهما ،واآلخر :الحكمان في الشيء الواحد المختلفان ،دعت إليهما علتانمختلفتان.
األول :منهما كرفع المبتدأ فإننا نحن نعتل لرفعه باالبتداء على ما قدبيناه وأوضحناه من شرحه وتلخيص
معناه.والكوفيون يرفعونه إما بالجزء الثاني الذي هو مرافعه عندهم ،وإما بمايعود عليه من ذكره على حسب
ب، ب ما انتَ َ
ص َ ص ُ
مواقعه،وكذلك رفع الخبر ،ورفع الفاعل ،ورفع ما أقيم مقامه ،ورفع خبر إنوأخواتها،وكذلك ن ْ
وجز ُم ما انجزَ َم ،مما يتجاذب الخالففي علله.فكل واحد من هذه األشياء له حكم واحد تتنازعه ْ و َج ُّر ما ا ْن َج هر،
أن نُ ِري هنا ُج َملَهُ ،ال أن َ
نشر َحهُ ،وال أن نتكلم على العلل ،على ما هو مشروحمن حاله في أماكنه.وإنما غرضنا ْ
تقوية ماقوي منه ،وإضعاف ما ضعف منه.
الثاني منهما :الحكمان في الشيء الواحد المختلفان ،دعت إليهما علتانمختلفتان ،وذلك كإعمال أهل الحجاز "ما
النافية" للحال ،وترك بني تميم إعمالها وإجرائهمإياها مجرى "هل" ونحوها ،مما ال يعمل ،فكأن أهل الحجاز لما
رأوها داخلة علىالمبتدأ والخبر دخول "ليس" عليهما ،ونافية للحال نفيها إياها أجروها في الرفع والنصبمجراها،
إذا اجتمع فيها الشبهان بها.وكأن بني تميم ل هما رأوها حرفا ً داخالً بمعناه على الجملة المستقلةبنفسها ومباشرة لكل
واحد من جزأيها كقولك" :ما زيد أخوك" ،و"ما قام زيد" ،أجروها مجرى"هل" ،أال تراها داخلة على الجملة
لمعنى النفي دخول "هل" عليها لالستفهام ،ولذلك كانت عند "سيبويه" لغة التميميين أقوى قياسا ً من لغة
الحجازيين".
46
الهوامش واالحاالت:
-1ينظر :لسان العرب.467 /11 ،
-2المبارك :مازن ،النحو العربي ،ص.90:
-3الملخ :حسن خميس ،التعليل النحوي ،ص.29 :
-4ابن جني :الخصائص.161 /1،
-5ابن جني :الخصائص48/1 ،
-6المصدر نفسه.48/1 ،
-7ابن جني :الخصائص.53 /1 ،
-8ابن جني :الخصائص.164/1 ،
-9ابن جني :الخصائص.173/1 ،
-10ابن جني :الخصائص.166/1 ،
مصادر ومراجع البحث:
.1ابن جنّي ،أبو الفتح عثمان ،الخصائص ،د.ط ،القاهرة ،دار الحديث.
.2حسن خميس الملخ ،نظرية التعليل النحوي ،دار الشروق ،عمان.2000 ،
.3ابن منظور د،ت ،لسان العرب ،دار صادرـ بيروت ،دط ،دت.
.4مازن المبارك ،النحو العربي ،دار الفكر اإلسالمي الحديث.1981،
47