You are on page 1of 81

‫القياس الشرعي بين اإلثبات واإلنكار‬

‫إعداد‬

‫الدكتور‪ /‬إبراهيم بن أحمد بن سليمان الكندي‬

‫األستاذ المشارك بقسم العلوم اإلسالمية‬

‫بكلية التربية والعلوم اإلسالمية‬

‫جامعة السلطان قابوس‬

‫بحث منشور في المجلة العلمية‬

‫لكية الشريعة والقانون بطنطا‬

‫الجزء األول‬

‫العدد العاشر‬

‫‪1419‬هـ‪1999 -‬م‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫المقدمة‬
‫‪2‬‬

‫احلمد هلل رب العاملني رفع بالعلم درجات العاملني‪ ،‬ووسع مداركهم رمحة بالعاملني‪ ،‬وجعل العلم النافع رمحا‬
‫بني أهله‪ ،‬وأرشد إىل إعطاء النظري حكم نظريه وإحلاقه مبثله‪.‬‬
‫وصالة اهلل وسالمه على إمام املتقني سيد كل سيد ومسود من والد ومولود‪ ،‬املرسل خبري شريعة إىل خري أمة‪،‬‬
‫أوس ع الن اس أفق ا وأص حهم قص دا‪ ،‬وأس دهم رأي ا‪ ،‬حمم د بن عب د اهلل‪ ،‬وعلى آل ه الطي بني الط اهرين‪ ،‬وص حابته‬
‫املخلصني‪ ،‬والتابعني هلم بإحسان إىل يوم الدين‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫ف إن القي اس الش رعي من أدق مب احث علم األص ول وأص عبها مراس ا‪ ،‬فه و مما خاض ت يف حبوره أس اطني‬
‫العلماء فأثبته قوم وأنكره آخرون‪ ،‬نظرا ملا دخل يف أذهاهنم من التباس من أثر شبه إذا نظر إليها الباحث قبل‬
‫الرتيث والتثبت قد يستهويه ما يشريه املنكر للقياس من تلك الشبه فيسري وراءها دون روية‪.‬‬
‫وقد ينظر بعض الذين ال دراية هلم مبصادر التشريع فيظن عن جهل أنه مل يكن هذا املصدر معروفا يف عصر‬
‫رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم وال يف عص ر من بع ده من الص حابة والت ابعني‪ ،‬فيحكم ب أن القي اس ض رب من‬
‫العبث وبدعة حمدثة وكل بدعة ضاللة‪ ،‬إذ فيه بعد عن الدين‪ ،‬وضالل مبني وإتباع لغري الطريق املستقيم‪ ،‬وذلك‬
‫يصد الناس عن أدلة الكتاب املبني‪ ،‬وسنة سيد املرسلني‪.‬‬
‫وتقابل هؤالء طائفة غلت يف إثبات القياس وجتاوزت به احلد املعقول‪ ،‬فقدمته على النصوص الثابتة الصرحية‪،‬‬
‫فكثريا ما قالوا عن بعض النصوص إهنا خمالفة للقياس‪ ،‬فنتج عن ذلك تعطيل لكثري من األدلة النقلية الثابتة‪ ،‬وترك‬
‫االستدالل هبا‪.‬‬
‫وتوس ط أق وام بني ه ؤالء وأولئ ك‪ ،‬فاجته دوا م ا وس عهم االجته اد‪ ،‬ملتمس ني للقض ايا والوق ائع ال يت مل ت رد‬
‫نصوص بأحكامها‪ ،‬تنظريا وتشبيها مبا وردت النصوص باحلكم فيه مما شرع فيه احلكم بناء على وصف م بني‪ ،‬أو‬
‫علة مضمونة‪ ،‬فجمعوا بني املتماثالت‪ ،‬وأعطوا للنظائر حكم نظائرها‪ ،‬مستنريين مبا أرشدت إليه اآليات القرآنية‬
‫وأقره النيب صلى اهلل عليه وسلم وعمل به الصحابة يف اجملاالت املختلفة للقياس‪.‬‬
‫وقد سئلت اهلل جلت قدرته أن يعينين على أن أقدم لقراء علم األصول والفقه حبثا عنوانه "القياس الشرعي‬
‫بني اإلنكار واإلثبات" وقد عىن هذا البحث أوال ببيان معىن كلمة القياس لغة‪ ،‬مث ببيان تنوع القياس إىل منطقي‬
‫وشرعي‪ ،‬مث اإلشارة إىل أمهية القياس الشرعي ومكانته‪.‬‬
‫كما عىن بإبراز خمتلف وجهات النظر يف تعريف القياس الشرعي وحتديده‪ ،‬ومنشأ هذا االختالف‪.‬‬
‫كما أنين حررت فيه حمل االتف اق وحمل اخلالف بني العلم اء فيما يعترب حجة من األقيس ة‪ ،‬مث بينت مواق ف‬
‫األص وليني والفقه اء من القي اس من خالل م ا نقل ه املؤلف ون عن أص حاب املذاهب املختلف ة مقارن ا تل ك النق ول‬
‫عنهم مبا ح رره املنق ول عنهم أنفس هم يف كتبهم األص ولية أو الفقهي ة‪ ،‬ليق ف الن اظر على م دى االختالف بني‬
‫‪3‬‬

‫الناقل واملنقول عنه‪ ،‬إذ ليس اخلرب كاملعاينة‪ ،‬متوسعا بعض الشيء يف االستدالل ملن أثبت القياس من العلماء وملن‬
‫أنكره بأبرز األدلة يف املسألة وأمهها‪ ،‬معرجا على بعض الشبه اليت أوردها نفاه القياس‪ ،‬والرد عليها‪ ،‬ذاكرا أهم‬
‫الش روط ال يت اش رتطها الق ائلون بالقي اس‪ ،‬خامتا ه ذا البحث بطريق ة إثب ات األحك ام بالقي اس‪ ،‬وبعض األمثل ة‬
‫التطبيقية منه‪.‬‬
‫ولقد من اهلل برمحته وفضله أن أعانين على إمتامه‪ ،‬ذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء‪ ،‬واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫معنى كلمة القياس‪:‬‬
‫جاء يف خمتار الصحاح وقاس الشيء بغريه‪ ،‬وعلى غريه فانقاس‪ ،‬قدره على مثاله (‪.)1‬‬
‫وجاء يف املختار من صحاح اللغة‪ :‬قاس الشيء قدره على مثاله‪ ،‬ويقال بينهما قيس رمح أي قدر رمح (‪.)2‬‬
‫ويف املعجم الوسيط‪ :‬قاس الشيء بغريه‪ ،‬وإليه قيسا وقياسا‪ ،‬قدره على مثاله (‪.)3‬‬
‫ويف اللسان‪ :‬قاس الشيء يقيسه قيسا‪ ،‬وقياسا‪ ،‬واقتاسه وقيسه إذا قدره على مثاله (‪.)4‬‬
‫وجاء يف تاج العروس‪ :‬قاسه بغريه‪ ،‬وعليه أي على غريه يقيسه قيسا وقياسا‪ ،‬األخري بالكسر‪ ،‬واقتاسه‪ ،‬وكذا‬
‫قيسه إذا قدره على مثاله‪ ،‬ويقوسه قوسا لغة يف يقسيه (‪.)5‬‬
‫وجاء يف أساس البالغة‪ :‬قاسه‪ ،‬وبه وعليه‪ ،‬وإليه قيسا وقياسا‪ ،‬واقتاسه‪ ،‬ورجل قياس‪ ،‬وهو مقيس عليه‪ ،‬قاسه‬
‫باملقياس واملقاييس الصحيحة‪ ،‬وقايست بني شيئني (‪.)6‬‬
‫إذا فخالصة ما يف كتب اللغة‪ :‬أنه يقال‪ :‬قاس الشيء بغريه واليه قيسا وقياسا إذا قدره على مثاله أو ساواه‬
‫به‪ ،‬واألصل يف القياس هو التقدير‪ ،‬أي معرفة قدر الشيء‪ ،‬يقال‪ :‬قست الثوب بالذراع‪ ،‬واألرض بالقصبة أي‬
‫عرفت قدرمها‪ ،‬والتقدير‪ :‬نسبة بني شيئني تقضي املساواة بينهما‪ ،‬وهى الزمة للتقدير‪ ،‬وقد تكون املساواة حسية‬
‫مثل‪ :‬قست هذا القضيب هبذا القضيب‪ ،‬أو هذا الكتاب هبذا الكتاب‪ ،‬وقد تكون معنوية مثل‪ :‬فالن ال يقاس‬
‫بفالن أي ال يساويه قدرا‪.‬‬

‫(?) مختار الصحاح‪ ،‬مطبعة دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪.556 ،555‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) المختار من صحاح اللغة‪ ،‬تأليف الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫المكتبة التجارية الكبرى بمصر‪ ،‬ص‪.441‬‬


‫(?)المعجم الوسيط جـ‪ 2‬ص‪ ،77‬دار الفكر‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?) لسان العرب‪ ،‬البن منظور محمد بن مكرم اإلفريقي المصري ج‪ 8‬ص‪.71 ،70‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?) تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬لمحمد مرتشي الزبيدي‪ ،‬منشورات بيروت‪ ،‬ص‪،328،327‬جـ‪.4‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?)أساس البالغة‪ ،‬ألبي القاسم محمد بن عمر الزمخشري‪ ،‬جـ‪ 2‬ص‪.289،288‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪4‬‬

‫ومما جتدر اإلشارة إليه أن القياس يف اللغة‪ :‬يتعدى بالباء‪ ،‬أما املستعمل يف الشرع فإنه يتعدى بعلى لتضمنه‬
‫معىن البناء واحلمل‪ ،‬مثل‪( :‬النبيذ مقيس على اخلمر) أي حممول عليه يف احلكم‪.‬‬
‫والقياس مصدر قايس يقال‪ :‬قايس‪ ،‬يقايس قياسا‪ ،‬وقيل مصدر قاس‪ ،‬واألول مصدر قياسي والثاين مساعي‪.‬‬
‫القياس المنطقي‪:‬‬
‫القياس عند املناطقة‪ :‬هو قول مؤلف من أقوال مىت سلمت لزم عنه لذاته قول آخر (‪ ،)1‬وأرادوا بقيد (لذاته)‬
‫إخراج قياس املساواة‪ ،‬مثل (زيد مساو لعمرو‪ ،‬وعمرو مساو لبكر)‪ ،‬والنتيجة هي‪ :‬زيد مساو لبكر‪ ،‬فمعرفة‬
‫النتيجة هذه مل تكن بطريقة القياس يف حد ذاته‪ ،‬وإمنا بقاعدة أخرى‪ ،‬وهي أن مساوي املساوي لش يء مس او‬
‫لذلك الشيء‪.‬‬
‫وهو عندهم قسمان‪:‬‬
‫‪ -1‬قياس اقرتاين‪ :‬وهو الذي يدل على النتيجة بدون أداة االستثناء وهي (لكن) مثل‪( :‬كل إنسان حيوان‬
‫ناطق‪ ،‬وكل حيوان جسم) والنتيجة‪ :‬كل إنسان جسم‪ ،‬مثل (كل مسكر حرام‪ ،‬وكل مخر مسكر) والنتيجة‪:‬‬
‫كل مخر حرام‪ ،‬واستبعد اإلمام الغزايل أن ينطبق هذا القياس الذي هو تركيبة مقدمتني حيصل منهما نتيجة على‬
‫القياس الشرعي (‪ ،)2‬فيلزم منه أن مخر حرام‪ ،‬ومسي اقرتانيا القرتان أجزاءه‪.‬‬
‫‪ -2‬قياس استثنائي أو شرطي‪ :‬وهو الذي يدل على النتيجة بواسطة أداة االستثناء‪ ،‬وهي (لكن) املعرفة بأداة‬
‫االستدراك‪ ،‬مثل (كلما كانت الشمس طالعة‪ ،‬فالنهار موجود)‪ ،‬ومسي استثنائيا الشتماله على حرف االستثناء‬
‫لغة‪ ،‬وهو (لكن)‪.‬‬
‫القياس الشرعي‪:‬‬
‫إن القي اس الش رعي ه و ال ذي يس تلزم وج ود أم رين ينس ب أح دمها إىل اآلخ ر بن وع من املس اواة (‪ ،)3‬وه ذا‬
‫القياس يعرف عند املناطقة بالتمثيل‪ ،‬وسنتحدث يف هذا البحث عن القياس الشرعي‪.‬‬
‫تعريف القياس‪:‬‬
‫القياس الذي يبحث فيه األصوليون القياس الشرعي‪ ،‬وهو القياس يف أحكام احلوادث اليت ال طريق ملعرفتها‬
‫سوى الشرع وليس فيها نص ظاهر‪.‬‬

‫(?)المحصول في علم أصول الفقه جـ‪.2/23‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)المستصفى لإلمام الغزالي جـ‪ 2‬ص‪.229‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)المستصفى لإلمام الغزالي جـ‪ 2‬ص‪.229‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪5‬‬

‫وقد اختلف العلماء يف إمكان حده‪ ،‬فإمام احلرمني يرى أنه يتعذر حتديده حتديدا حقيقيا‪ ،‬معلال ذلك بأن‬
‫القياس مشتمل على حقائق خمتلفة كاحلكم‪ ،‬فإنه قدمي‪ ،‬والفرع واألصل فهما حادثان‪ ،‬واجلامع بينهما فإنه علة‪،‬‬
‫وهذه حقائق خمتلفة فال حيد لذلك‪.‬‬
‫وكذلك منع ابن املنري شارح الربهان حد القياس حدا حقيقيا‪ ،‬معلال ذلك بكون القياس نسبة وإضافة بني‬
‫شيئني وهي عدمية والعدم ال يرتكب من اجلنس والفصل احلقيقيني الوجوديني (‪.)1‬‬
‫أم ا اجلمه ور ف ريون أن ه ميكن أن حيد القي اس ح دا امسيا‪ ،‬ألن القي اس من األم ور االص طالحية االعتباري ة ال يت‬
‫تكون حقائقها على حسب االصطالح واالعتبار‪ ،‬فهم يرون حده من حيث االصطالح ال احلقيقة‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك فال ميكن أن حيد حدا حقيقيا‪ ،‬وعلى هذا فاخلالف بينهم لفظي (‪.)2‬‬
‫والذين رأوا إمكان تعريف القياس تنوعت عباراهتم يف تعريفاته حسب تصورهم له‪ .‬وذلك أن منهم من يرى‬
‫أن القياس من صنع اجملتهد وهؤالء كاإلمام الغزايل والقاضي البيضاوي ومن حنا حنومها‪.‬‬
‫ومنهم من يرى أنه دليل مستقل نظر فيه اجملتهد أم مل ينظر‪ ،‬فليس هو من صنيعه وهؤالء كابن احلاجب ومن‬
‫سلك سبيله‪.‬‬
‫أ‪ -‬القائلون إن القياس فعل المجتهد وصنعه‪:‬‬
‫لقد عرف اإلمام الغزايل القياس بأنه (محل معلوم على معلوم يف إثبات حكم هلما أو نفيه عنهما بأمر جامع‬
‫(‪.)3‬‬
‫بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما)‬
‫واإلم ام البيض اوي ع رف القي اس يف االص طالح بقول ه‪( :‬ه و إثب ات مث ل حكم معل وم يف معل وم آخ ر‬
‫الشرتاكهما يف علة احلكم عند املثبت) (‪.)4‬‬

‫(?)راجع البرهان جـ‪ 2‬ص‪ .748‬وإ رشاد الفحول ص‪.198‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)إرشاد الفحول ص‪.198‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)المستصفي جـ‪ 2‬ص‪.228‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)راجع منهاج الوصول إلى علم األصول جـ‪ 3‬ص‪ 3‬مع شرح نهاية السول جـ‪ 3‬ص‪ ،3‬ومنهاج العقول جـ‪ 3‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫‪ 3‬واإلبهاج جـ‪ 3‬ص‪.2‬‬


‫‪6‬‬

‫وعرفه الشيخ أبو حممد عبد اهلل بن حممد بركة بأنه (رد حكم املسكوت عنه إىل حكم املنطوق به بعلة جتمع‬
‫بينهما) (‪ )1‬أو هو (تشبيه الشيء بغريه‪ ،‬واحلكم به هو احلكم للفرع حبكم األصل‪ ،‬إذا استوت علته وقع احلكم به‬
‫من أجله) (‪.)2‬‬
‫وقال الشيخ الساملي رمحه اهلل يف تعريف القياس‪( :‬محل جمهول احلكم على معلوم احلكم جبامع بينهما) (‪.)3‬‬
‫ب – القائلون إن القياس دليل شرعي مستقل‪:‬‬
‫لقد عرف ابن احلاجب القياس بقوله (ويف االصطالح‪ :‬مساواة فرع ألصل يف علة حكمه) (‪.)4‬‬
‫وقريب منه ما قاله صاحب فواتح الرمحوت إذ قال معرفا للقياس هو اصطالحا (مساواة املسكوت للمنطوق‬
‫يف علة احلكم) (‪.)5‬‬
‫وقد متسك كل من الطرفني بأدلة تثبت وجهة نظره‪ ،‬فالقائلون بأن القياس فعل اجملتهد استدلوا بأدلة نورد‬
‫أمهها فمنها‪:‬‬
‫‪ -1‬إن من تتبع استعماالت الصحابة والتابعني ومجيع التفريعات للفقهاء جيدها تنبئ عن أنه فعل اجملتهد‪.‬‬
‫ومن ذلك قول عمر أليب موسى األشعري‪ :‬مث الفهم الفهم مبا أدىل إليك مما ليس يف قرآن وال سنة‪ ،‬مث قايس‬
‫األمور عند ذلك‪ ،‬وأعرف األمثال‪ ،‬مث اعمد فيما ترى إىل أحبها إىل اهلل وأشبهها باحلق (‪.)6‬‬
‫ووجه الداللة من هذا فيما يظهر أن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ملا أمر أبا موسى رضي اهلل عنه أن يعرف‬
‫األمور اليت مل ينص على حكمها اليت تشبه ما نص على حكمها أراد منه أن يلحق ما مل ينص على حكمه مبا‬
‫ورد فيه النص‪ ،‬إذا وجد وصفا جامعا بينهما صاحلا لبناء حكم ما مل ينص عليه على ما نص عليه‪ ،‬وهذا كله من‬
‫فعل اجملتهد‪.‬‬
‫‪ -2‬حديث معاذ حيث جاء فيه‪ :‬اجتهد رأيي (‪ ،)7‬والرأي هنا القياس‪ ،‬واالجتهاد فعل اجملتهد‬

‫(?)جامع ابن بركة جـ‪ 1‬ص‪.140‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)المصدر السابق جـ‪ 1‬ص‪.155‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)طلعة الشمس جـ‪ 2‬ص‪.91‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)راجع مختصر المنتهي األصولي جـ‪ 2‬ص‪.204‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)راجع فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ‪ 2‬ص‪.247،246‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪86 ،85‬‬ ‫‪6‬‬

‫(?)وتمام الحديث أن النبي صلى اهلل عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال‪ :‬أرأيت إن عرض لك قضاء كيف‬ ‫‪7‬‬

‫تقضي قال‪ :‬أقضي بكتاب اهلل‪ ،‬قال فإن لم يكن في كتاب اهلل‪ ،‬قال فبسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال فإن لم‬
‫يكن في سنة رسول اهلل قال‪ :‬أجتهد رأيي‪ ،‬وال آلو‪ ،‬قال‪ :‬فضرب صدره‪ ،‬ثم قال‪ :‬الحمد هلل الذي وفق رسول‬
‫‪7‬‬

‫‪ -3‬قوله تعاىل‪َ " :‬فاْعَتُرِبوا َيا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " (‪.)8‬‬
‫واالعتبار اإلحلاق احلاصل بعد النظر يف األدلة‪ ،‬ألن االعتبار يف اآلية أمر وال أمر إال بفعل‪.‬‬
‫‪ -4‬أن فعل اجملتهد هو الذي يرتتب عليه اشتغال ذمة املكلف بالفعل أو الرتك‪ ،‬وإذا كان كذلك ثبت أن‬
‫القياس فعل من أفعال اجملتهد‪.‬‬
‫‪ -5‬أن فائدة القياس‪ :‬وهي معرفة ثبوت حكم األصل يف الفرع إمنا ترتتب على فعل اجملتهد‪ ،‬ألنه هو الذي‬
‫حيكم على ه ذا الفع ل بأن ه ش بيه هلذا الفع ل‪ ،‬وأن العل ة يف األص ل متحقق ة يف الف رع‪ ،‬وأهنا غ ري قاص رة‪ ،‬وأن ه ال‬
‫يوجد يف الفرع مانع كما ال يوجد اختصاص األصل هبذه العلة‪ ،‬فكل هذا يدل على أن القياس هو فعل اجملتهد‪.‬‬
‫أما القائلون بأن القياس أمر موجود يف ذاته‪ ،‬ودليل موضوع من قبل الشارع نظر فيه اجملتهد أم مل ينظر فهو‬
‫ليس فعال له فقد استدلوا مبا يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬قالوا‪ :‬إن القياس دليل على األحكام‪ ،‬وداللته على األحكام ثابتة وال حتتاج إىل نظرة اجملتهد كالكتاب‬
‫والس نة‪ ،‬غاي ة األم ر أن اهلل ق د وض ع القي اس ليع رف من ه اجملته د حكم اهلل بواس طة النظ ر في ه‪ ،‬فعلى ه ذا يك ون‬
‫القياس دليال ثابتا يف ذاته‪ ،‬نظر فيه اجملتهد‪ ،‬أم مل ينظر فداللته على احلكم ثابتة ولو مل ينظر فيه اجملتهد‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬ال مانع أن يعترب الشارع فعل اجملتهد الذي شأنه أن يصدر عنه دليال‪ ،‬كما اعترب اإلمجاع الذي‬
‫هو فعل اجملتهدين‪.‬‬
‫قلنا جوابا عنه‪ :‬إن الفعل يف ذاته ليس دليال ولو سلمنا أنه هو الدليل فأين األمارة اليت استند إليها اجملتهد‬
‫حىت قاس‪ ،‬فق ولكم هو كاإلمجاع قياس مع الف ارق‪ ،‬ألن اجملتهدين يف إمجاعهم على أمر البد من استنادهم إىل‬
‫دليل‪ ،‬ولو كان غري مصرح به‪ ،‬وعلى هذا فأين الدليل الذي استند إليه اجملتهد حىت أحلق؟‬
‫ب‪ -‬أن القياس دليل من األدلة من شأهنا أن العلم هبا يؤدي إىل العلم بشيء آخر وليس فعل اجملتهد كذلك‪،‬‬
‫وأما اإلمجاع فالواقع أن الدليل هو مستنده‪ ،‬لكنه ملا مل يصرح به جعل هو الدليل‪ ،‬ولذلك قالوا‪ :‬يستغىن حبكاية‬
‫اإلمجاع عن ذكر مستنده حيث صح نقله‪.‬‬
‫وباملقارن ة بني الق ولني على ض وء األدل ة ي رتجح الق ول الث اين‪ ،‬ألن النظ ر يف األدل ة ال يت نص بها الش ارع‬
‫مطلوب ملعرفة األحكام والذي يتعلق به النظر إمنا هو األمر املشرتك أي املساواة‪ ،‬كما أن الذاهبني إىل أن القياس‬
‫فعل اجملتهد تراهم يعللون فعله باألمر املشرتك بني األصل والفرع‪.‬‬

‫رسول اهلل لما يرضي رسول اهلل‪ ،‬مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ‪ ،5/236‬رقم الحديث ‪ 22114‬سنن الدارمي جـ‬
‫‪ ،1/72‬برقم ‪.168‬‬
‫(?)سورة الحشر اآلية‪.2 :‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪8‬‬

‫ك ذلك أن ه ذا األم ر املش رتك ه و مس تند فع ل اجملته د‪ ،‬وهم يع رتفون ب ذلك‪ ،‬إذ ل وال ه ذا املش رتك ملا أمكن‬
‫اإلحلاق‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إذا كان األمر كذلك فكيف يطلق كثري من األصوليني اسم القياس على فعل اجملتهد؟‬
‫فاجلواب‪ :‬إن فعل اجملتهد ملا كان سبيال إىل معرفة الدليل أيضا‪ :‬وهو الذي تكون به ذمة املكلف مشغولة‬
‫باحلكم‪ ،‬اعترب الفعل كأنه الدليل‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إن سلم لكم هذا يكون إطالق اسم القياس على فعل اجملتهد غري حقيقي‪.‬‬
‫أجيب‪ :‬بأن هذا كذلك‪ ،‬لكن صار حقيقة عرفية هلذا الفرق (‪.)1‬‬
‫ومن هن ا اختل ف العلم اء يف تعري ف القي اس فمن نظ ر إىل أن القي اس ه و مثرة املس اواة‪ ،‬وه و ظن اجملته د أن‬
‫حكم ما ال نص فيه مثل حكم املنصوص عليه الحتادمها يف العلة‪ ،‬عرب عنه بفعل اجملتهد‪ ،‬فعرفه بأنه محل فرع على‬
‫أصل‪ ،‬أو محل معلوم على معلوم‪ ،‬أو بأنه إثبات حكم معلوم‪ ،‬أو بأنه تعدية حكم معلوم أو محل جمهول احلكم‬
‫على معلومه وإحلاقه به يف احلكم الشرتاكهما يف العلة اليت بين عليها احلكم وشرع من أجلها‪.‬‬
‫ومن نظر إىل أن القياس هو أحد األدلة اليت أقامها الشارع ملعرفة األحكام‪ ،‬وهو موجود قبل اجتهاد اجملتهد‪،‬‬
‫عرفه بأنه مساواة فرع األصل (‪.)2‬‬
‫هذا ويرى بعض الباحثني أن احلكم الوارد يف األصل ليس هو الذي ينقل إىل الفرع وإمنا حيكم يف الفرع مبثل‬
‫ما حكم به يف األصل‪ ،‬وليست العلة املوجودة يف األصل هي بعينها العلة يف الفرع بل مثلها‪ ،‬ولذا يعرف القياس‬
‫بأنه (إبانة مثل حكم األصل مبثل عليته يف الفرع)‪.‬‬
‫أما القياس ففعل القائس‪ ،‬وهو تبيني وإعالم أن حكم اهلل تعاىل كذا وعلته كذا‪ ،‬ومها موجودان يف املواضع‬
‫املختلف فيها‪ ،‬معلال ذلك بأن إثبات احلكم وحتصيله وإجياده فعل اهلل تعاىل‪ ،‬وكل من احلكم والعلة يف األصل‬
‫وص فان أص ليان ال ميكن نقلهم ا‪ ،‬فل ك أيض ا على ه ذا أن تع رف القي اس بأن ه (تب يني مث ل حكم املتف ق علي ه يف‬
‫املختلف فيه مبثل علته) (‪.)3‬‬
‫أركان القياس‪:‬‬

‫(?)راجع الستخراج ما تقدم‪ ،‬حاشية العطار مع شرح جمع الجوامع جـ‪ 2‬ص‪.218‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)نزهة المشتاق شرح اللمع‪ ،‬ألبي إسحاق ص‪.631‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)تقنين أصول الفقه ص‪.68‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪9‬‬

‫لل ركن من الناحي ة اللغوي ة ع دة مع ان منه ا‪ ،‬األم ر العظيم‪ ،‬وم ا يتق وى ب ه من مل ك وجن د أو غ ريه (‪ ،)1‬ويف‬
‫القرآن " َقاَل َلْو َأَّن يِل ِبُك ْم ُقَّوًة َأْو آِو ي إىَل ُر ْك ٍن َش ِديٍد " (‪.)2‬‬
‫وأحد اجلوانب اليت يستند إليها الشيء ويقوم هبا‪ ،‬أو جانبه األقوى‪ ،‬وجزء من أجزاء حقيقة الشيء فيكون‬
‫عينه (‪ ،)3‬يقال‪ :‬ركن الصالة‪ ،‬وركن الوضوء‪ ،‬وهذا املعىن األخري مولد (‪.)4‬‬
‫والركن يف االصطالح كما قال صدر الشريعة هو‪ :‬ما يقوم به الشيء (‪ ،)5‬وهو ال خيتلف عن بعض املعاين‬
‫اللغوية له ‪.‬‬
‫والقياس الشرعي له أربعة أركان‪ ،‬بفقداهنا أو بفقدان أحدها ال يتحقق‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬األصل وهو املقيس عليه هو حمل احلكم املنصوص عليه‪ ،‬وذلك كاحلنطة إذا قيس عليها األرز‪ ،‬واخلمر‬
‫إذا قيس عليها النبيذ‪ ،‬وبيع املرأة سلعتها بنفسها إذا قيس عليها تزويج املرأة بنفسها‪.‬‬
‫‪ -2‬حكم األصل وهذا احلكم إما أن يثبت بالكتاب أو السنة أو اإلمجاع أما ثبوته بالكتاب‪ ،‬فذلك يتضح‬
‫ِذ‬
‫يف قياس الويسكي على اخلمر مثال‪ ،‬فإن حكم األصل وهو ثابت بقوله تعاىل‪َ " :‬يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُن وا إَمَّنا اَخلْم ُر‬
‫ِق‬ ‫ِل‬ ‫ِن‬ ‫ِن‬ ‫ِس‬
‫واَملْي ُر واَألنَص اُب واَألْز الُم ِر ْج ٌس ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطا َف اْج َت ُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ُح وَن * إَمَّنا ُيِر ي ُد الَّش ْيَطاُن َأن ُيو َع‬
‫َبْيَنُك ُم الَعَد اَو َة واْلَبْغَض اَء يِف اَخلْم ِر واْلَم ْيِس ِر وَيُصَّد ُك ْم َعن ِذْك ِر الَّلِه وَعِن الَّص الِة َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " (‪.)6‬‬
‫وأم ا ثب وت حكم األص ل بالس نة ف ذلك يظه ر يف قي اس األرز على احلنط ة ف إن حترمي بي ع ص اع من احلنط ة‬
‫بصاعني منها ثابت منها ثابت بقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬الذهب بالذهب مثال مبثل وزنا بوزن يدا بيد‬
‫والفضل ربا واحلنطة باحلنطة مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد والفضل ربا والتمر بالتمر مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد‬
‫والفضل ربا وامللح بامللح مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد والفضل ربا) (‪.)7‬‬
‫وأما ثبوت حكم األصل باإلمجاع فيتضح فيما رآه العلماء من قياس الثيب الصغرية على البكر الصغرية يف‬
‫والية األب عليها يف الزواج‪ ،‬فقد انعقد اإلمجاع على ثبوت الوالية لألب يف تزويج ابنته البكر الصغرية‪ ،‬وحيث‬
‫أن الثيب تشرتك مع البكر يف الصغر فتأخذ حكمها يف والية األب عليها يف تزوجيها‪.‬‬

‫(?)القاموس المحيط ‪.4/229‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة هود اآلية‪.80 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)التعريفات للجرجاني ص‪.99‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)المولد هو اللفظ الذي استعمل بعد عصر الرواية‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة ‪.2/131‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?)سورة المائدة اآليتان‪.91،90 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫(?)أخرجه مسلم في صحيحة جـ‪ 3‬ص‪ 1213‬برقم ‪ ،11091‬اإلمام أحمد في مسنده جـ‪ 5/200‬برقم ‪.61229‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪10‬‬

‫‪ -3‬املقيس‪ :‬الف رع وه و ال ذي مل ينص على حكم ه وي راد تعدي ة حكم األص ل إلي ه أو إثب ات مث ل احلكم‬
‫املنص وص علي ه في ه‪ ،‬ك األرز إذا قيس على احلنط ة‪ ،‬ووق ف األرض الزراعي ة إذا قيس على بيعه ا‪ ،‬والويس كي إذا‬
‫قيس على اخلم ر‪ ،‬ووالي ة األب على ال ثيب الص غرية يف ال زواج إذا قيس ت على واليت ه على البك ر الص غرية يف‬
‫الزواج‪.‬‬
‫‪ -4‬الوصف اجلامع بني األصل والفرع وهو املسمى بالعلة‪ ،‬كاإلسكار فإنه علة مشرتكة بني األصل الذي‬
‫هو اخلمر‪ ،‬والفرع الذي هو الويسكي مثال إذا قسناه على اخلمر أو غريه من األشربة املسكرة مما يسم مخرا يف‬
‫العرف‪.‬‬
‫ومن ذل ك خ روج العني عن مل ك ص احبها‪ ،‬ف ذلك عل ة مش رتكة بني بي ع األرض الزراعي ة ووق ف األرض‬
‫الزراعية إذا قسنا الثاين على األول‪.‬‬
‫وما ذكرناه يف حد ركن من أركان القياس األربعة هو الذي اشتهر على ألسنة مجهور األصوليني والفقهاء‬
‫(‪.)1‬‬
‫وذكر اإلمام فخر الدين الرازي يف حمصوله أن كون األصل حمل احلكم املنصوص عليه هو قاله الفقهاء‪ ،‬وأنه‬
‫عن د املتكلمني ه و النص ال دال على احلكم‪ ،‬وعلى ه ذا فيك ون الف رع م ا يقابلهم ا‪ ،‬أي م ا يقاب ل حمل احلكم أو‬
‫النص‪ ،‬فالفرع عند الفقهاء على ما ذكره هو حمل اخلالف‪ ،‬مث أبطل هذين اإلطالقني مقررا فسادمها‪ ،‬وتوصل بعد‬
‫ذلك إىل أن األصل هو احلكم الثابت يف حمل الوفاق‪ ،‬أو على ذلك احلكم‪ ،‬مقررا أن احلكم أصل يف حمل الوفاق‬
‫فرع يف حمل اخلالف‪ ،‬وأن العلة فرع يف حمل الوفاق أصل يف حمل اخلالف‪ ،‬قائال‪ :‬إن الفرع هو احلكم املطلوب‬
‫إثباته معلال ذلك بأن حمل اخلالف غري متفرع على األصل‪ ،‬بل احلكم املطلوب إثباته فيه هو املتفرع عليه‪.‬‬
‫مث عاد بعد ذلك ملتمسا لإلطالقني وجها ولو من بعد‪ ،‬وهو مع ذلك ال يريد اخلروج عن املصطلح املألوف‪،‬‬
‫ولذا جنده يقول‪ :‬واعلم أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق ـ نساعد الفقهاء على مصطلحهم ـ وهو‪ :‬أن األصل حمل‬
‫الوفاق‪ ،‬والفرع حمل اخلالف‪ ،‬لئال نفتقر إىل تغيري مصطلحهم (‪.)2‬‬
‫واملقصود مبحل الوفاق هو ما ثبت حكمه بالنص ألنه ال ينازع يف ثبوته منازع‪.‬‬
‫أما املقصود مبحل اخلالف فهو األمر الذي مل يثبت حكمه بالنص‪ ،‬ولكنه يقاس على ما ثبت حكمه‪ ،‬فقد‬
‫يظهر له قائس حكما‪ ،‬معوال على وصف يبىن عليه ذلك احلكم‪ ،‬بينما يثبت قائس آخر له حكما مغايرا‪ ،‬معوال‬
‫على وصف رآه مالئما‪ ،‬والسيما يف العلل املستنبطة‪ ،‬ولذا ساغ إطالق حمل اخلالف على الفرع‪.‬‬

‫(?)انظر طلعة الشمس للشيخ السالمي ص‪.93-91‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)راجع المحصول جـ‪ 2‬ص‪28- 24‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪11‬‬

‫ولكل ركن من هذه األركان شروط جتب مراعاهتا يعرف جمموعها بشروط القياس‪ ،‬وقبل الكالم على تلك‬
‫الش روط واس تيفائها‪ ،‬جيدر بن ا أن نفص ل الكالم على مواق ف الفقه اء من حجي ة القي اس وأدلتهم لنخلص إىل‬
‫أرجح املذاهب يف ذلك مث نتحدث عن الشروط اليت حددها القائلون حبجيته‪.‬‬
‫حجية القياس‪:‬‬
‫أصل احلجة الدليل والربهان وكل من الثالثة يراد به ما يراد باآلخر‪ ،‬فهي ألفاظ متحدة املعىن (‪ ،)1‬واحلجة‬
‫قي اس م ركب من قض ايا يقيني ة‪ ،‬ومع ىن حجي ة القي اس أن ه حج ة أي دليل من األدل ة ال يت ع دها الش رع ونص بها‬
‫ملعرفة بعض األحكام‪ ،‬فاملقصود حبجية القياس‪ :‬أنه أصل من أصول التشريع يف األحكام الشرعية العلمية اليت مل‬
‫ينص ومل جيمع عليها‪ ،‬وهو معىن التعبد بالقياس‪ ،‬أي هل هو مطلوب شرعا أوال ؟‬
‫مواقف األصوليين والفقهاء من حجية القياس‪:‬‬
‫قب ل أن نفص ل احلديث على مواق ف العلم اء من القي اس الش رعي إثبات ا وإنك ارا جيدر بن ا أن نش ري إىل أمهي ة‬
‫القياس ومكانته يف الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫أهمية القياس شرعا ومكانته‪:‬‬
‫أن أي تشريع يف العامل ال ميكن أن حتيط نصوصه جبميع أحكام احلوادث واجلزئيات واملسائل الفرعية‪ ،‬إذ أن‬
‫النصوص متناهية حمدودة‪ ،‬والقضايا واألحداث ال ميكن حصرها‪ ،‬وإمنا يقتصر التشريع عادة على ذكر األصول‬
‫العام ة الكلي ة والض وابط والش روط عموم ا‪ ،‬وي رتك أم ر تط بيق األحك ام واإلفت اء إىل القض اة واملف تني‪ ،‬كم ا أن‬
‫اس تنباط تل ك األحك ام مما خيتص ب ه اجملته دون يف ك ل تش ريع‪ ،‬فه ؤالء هم ال ذين جيته دون يف أحك ام املس ائل‬
‫اجلزئية أو اخلاصة وحياولون إحلاق ما مل تتناوله النصوص بالذكر مبا هو منصوص عليه فيعطون النظري حكم نظريه‬
‫ويساوونه به‪ ،‬مجعا بني املتماثالت‪.‬‬
‫ومبقتضى هذا الواقع املألوف أو املنطق الذي ال حميد عنه‪ ،‬تكون الشريعة اإلسالمية متعاملة مع الواقع مراعاة‬
‫ملقتضى التطور‪ ،‬ونزوال حتت مقتضيات الظروف وجتدد احلوادث وتشعب القضايا‪ ،‬بعيدة كل البعد عن اجلمود‪،‬‬
‫فهي تنص يف مص دريها األص ليني على القواع د العام ة وأحك ام األص ول التش ريعية واملس ائل األساس ية‪ ،‬تارك ة‬
‫التفاص يل جملته دي األم ة وآراء العلم اء ال ذين أش رقت أذه اهنم وتش بعت أرواحهم مبقاص د الش رع‪ ،‬وأح اطت‬
‫مداركهم بدقائق التشريع‪ ،‬ومن هنا برزت احلاجة إىل االجتهاد بالرأي الصحيح أو مبا يسمونه القياس‪.‬‬
‫فالقياس فيه تلبية ملتطلبات األمة وحاجاهتا ملعرفة أحكام احلوادث والقضايا اليت ال تناهى هلا وال حصر‪ ،‬كما‬
‫أن فيه توسعة للمدارك واألفهام‪ ،‬حىت ال تقف حائرة أمام قضية مل يرد نص حبكمها‪ ،‬وهو من أدق مباحث علم‬

‫(?)بهجة األنوار للشيخ السالمي ص‪.11‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪12‬‬

‫األصول وأصعبها مراسا فهو مما خاضت يف حبوره أساطني العلماء وأنكره أناس‪ ،‬نظرا ملا دخل يف أذهاهنم من‬
‫التباس‪.‬‬
‫ومرتب ة القي اس ت أيت بع د الكت اب والس نة واإلمجاع‪ ،‬إذ ال قي اس م ع النص‪ ،‬كم ا ال قي اس م ع اإلمجاع‪ ،‬وال‬
‫ينازع يف ذلك إال مكابر‪.‬‬
‫هذا وأن القياس من حيث إثباته وإنكاره منه ما هو متفق على صحته واعتباره‪ ،‬ومن ما هو خمتلف فيه‪.‬‬
‫‪ -1‬محل االتفاق‪:‬‬
‫ال خالف بني العلماء من هذه األمة يف أن القياس الصادر عن النيب صلى عليه وسلم حجة جيب العمل به إذ‬
‫هو سنة‪ ،‬كقياسه دين اهلل على العباد يف سقوط القضاء‪ ،‬إذا أداه عن املدين غريه‪ ،‬كما يف حديث اخلثعمية (‪،)1‬‬
‫وكقياسه قبلة الصائم على إدخاله املاء يف الفم مث جمه دون أن يبلع منه شيء كما يف حديث عمر بن اخلطاب‬
‫(‪ ،)2‬كما أنه ال خالف بينهم يف أنه حجة يف األمور الدنيوية كما يف األغذية واألدوية وغري ذلك‪.‬‬
‫وك ذلك ال خالف بينهم يف رد ك ل قي اس ص ادر عن ه وا ناش ئ عن غ ري دلي ل‪ ،‬وك ل قي اس مص ادم لنص‬
‫ثابت‪.‬‬
‫ومن مقرراهتم الثابتة‪ ،‬كل قياس صادم النص فهو فاسد االعتبار ‪.‬‬
‫‪ -2‬محل االختالف‪:‬‬
‫اختل ف علم اء هذه األمة يف كون القياس الش رعي املستويف ألركانه واملستكمل لش روطه الص ادر عن نظ ر‬
‫واستدالل‪ ،‬اختلفوا يف كونه حجة شرعية تثبت هبا األحكام الشرعية عند عدم النص أو اإلمجاع‪ ،‬ولنسق يف هذا‬
‫اجملال ما حرره اإلمام اجلويىن يف الربهان من نقل عن أصحاب املذاهب‪ ،‬مث نتبع ذلك بنظرة سريعة فاحصة‪ ،‬قال‬
‫يف الربه ان‪( :‬القي اس ـ فيم ا ذك ره أص حاب املذاهب ـ ينقس م إىل عقلي وش رعي‪ ،‬مث الن اظرون يف األص ول‬
‫واملنك رون تفرق وا على م ذاهب‪ ،‬ف ذهب بعض هم إىل رد القي اس‪ ،‬وق ال (الن اقلون)‪ :‬ه ذا م ذهب منك ري النظ ر‪:‬‬
‫والقول يف إثباته يتعلق بفن من الكالم‪ ،‬وقد أهنينا القول فيه هنايته‪ ،‬وقال قائلون‪ :‬بالقياس العقلي والسمعي‪ ،‬وهذا‬
‫مذهب األصوليني والقياسيني من الفقهاء‪ ،‬وذهب ذاهبون إىل القول بالقياس العقلي‪ ،‬وجحدوا القياس الشرعي‪،‬‬

‫(?)وحديث الخثعمية‪ ،‬ما جاء في رواية ابن عباس إن امرأة من خثعم‪ ،‬قالت للنبي صلى اهلل عليه وسلم (أن فريضة‬ ‫‪1‬‬

‫اهلل على العباد أدركت أبي شيخا كبيرا ال يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه‪ ،‬قال‪ :‬أرأيت لو كان على أبيك‬
‫دين فقضيته عنه أكنت قاضية عنه‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فذاك ذاك) انظر مسند اإلمام الربيع بن حبيب جـ‪ 1‬ص‬
‫‪ ،151،150‬ط ‪ ،2‬المطابع العالمية مسقط‪.‬‬
‫(?)أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمر رضي اهلل عنه ونصه في آخره‪( :‬قلت‪ :‬ال بأس به‪ .‬قال‪ :‬ففيم) سبل‬ ‫‪2‬‬

‫السالم ‪ ،2/158‬جمع الفوائد ‪ ،1/414‬جامع األصول ‪.7/196‬‬


‫‪13‬‬

‫وه ذا م ذهب النظ ام وطوائ ف من ال روافض‪ ،‬واألباض ية واألزارق ة‪ ،‬ومعظم ف رق اخلوارج‪ ،‬إال النج دات منهم‪،‬‬
‫فإهنم اعرتفوا بأطراف من القياس‪ ،‬وصار صائرون إىل النهي عن القياس العقلي‪ ،‬واألمر بالقياس الشرعي‪ ،‬وهذا‬
‫مذهب أمحد بن حنبل‪ ،‬واملقتصدين من أتباع ه فليس وا ينكرون إفض اء نظ ر العقل إىل العلم‪ ،‬ولكنهم ينهون عن‬
‫مالبسته واالشتغال به‪ ،‬وذهب الغالة من احلشوية‪ ،‬وأصحاب الظاهر إىل رد القياس والشرعي) (‪.)1‬‬
‫نظرة وتحليل‪:‬‬
‫إن اإلم ام اجلوي ين على جالل ة ق دره‪ ،‬وق ع فيم ا وق ع في ه كث ريون من وهم يف النق ل عن أص حاب املذاهب‬
‫املختلفة‪ ،‬وسبب ذلك عدم رجوع الناقلني إىل مصادر من نقلوا عنهم أنفسهم‪ ،‬واالكتفاء بنقل غري أصحاب‬
‫تلك املذاهب عنهم من غري متحيص وال حتقق‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أن اإلم ام أمحد يس تعمل عن ده القي اس عن د الض رورة ق ال يف كت اب احلالل‪ :‬س ألت الش افعي عن القي اس‬
‫فقال‪ :‬إمنا يصار إليه عند الضرورة‪ ،‬ومل يرد عنه ـ أعين اإلمام أمحد ـ ما يفيد أنه خالف ما حصل عليه من‬
‫جواب عن اإلمام الشافعي (‪.)2‬‬
‫ثانيا‪ :‬وأما نقله عن الروافض‪ ،‬وهم الغالة من الشيعة ال كلهم فمحتاج إىل شيء من النظر‪ ،‬فإن حترير مذهب‬
‫الشيعة عموما فيما قرره العالمة احليدري‪ ،‬قال‪" :‬أما القياس واالستحسان فإهنما عندنا ـ أي الشيعة ـ ال‬
‫يثبتان حكما وال ينفيان‪ ،‬ألمرين‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ألن األحكام منوطة بعلل ومصاحل حمجوبة يف الغالب عنا‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬لورود النهي يف ذلك عن أئمة أهل البيت عليهم السم مستفيضا" (‪.)3‬‬
‫على أن القي اس ال ذي أنك ره الش يعة ه و مس تنبط العل ة‪ ،‬أم ا منص وص العل ة وه و م ا ثبت من الش رع علت ه‪،‬‬
‫واحنصر وجودها يف الفرع‪ ،‬فهذا حجة‪ ،‬ولكن ال يسمى يف اصطالح الشيعة قياسا‪ ،‬ألنه مما ثبت حكمه بالسنة‪،‬‬
‫وإن مسي قياسا يف اصطالح اجلمهور (‪.)4‬‬
‫وقال األستاذ حممد تقي احلكيم‪" :‬والشيء الذي ال شك فيه هو أن املنع عن العمل بقسم من أقسام القياس‬
‫يعد من ضروريات مذهب الشيعة لتواتر أخبار أهل البيت يف الردع عن العمل به ال أن العقل هو الذي مينع‬
‫التعبد به وحييله‪ ،‬ولذلك احتاجوا إىل بذل جهد يف توجيه ترك العمل به" (‪.)5‬‬
‫(?)انظر البرهان في أصول الفقه إلمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني جـ‪ 2‬ص‪.491، 490‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)راجع أعالم الموقعين ‪ ،1/22‬الرسالة لإلمام الشافعي ‪.599‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)راجع أصول االستنباط له ‪.259،15‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)المرجع السابق ‪ ،273‬المبادئ العامة للفقه الجعفري ص ‪.290‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)راجع األصول العامة ‪.322‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪14‬‬

‫ثالثا‪ :‬وأما اإلباضية فنقل اإلمام اجلويين عنهم إنكار القياس الشرعي على إطالقه فليس بصحيح‪ ،‬وبيان ذلك‬
‫فيما يلي‪:‬‬
‫أن األباض ية س لفهم وخلفهم إىل يومن ا ه ذا يعت ربون القي اس حج ة تثبت ب ه األحك ام فيم ا ال نص علي ه من‬
‫كتاب أو سنة أو إمجاع‪ ،‬قال اإلمام ابن بركة‪ ،‬وهو من علماء القرن الرابع اهلجري قال‪" :‬إن من شأننا القول‬
‫بالقياس‪ ،‬وقد أوجب اهلل تعاىل يف قتل اخلطأ يف النفس كفارة‪ ،‬ومن أصل القائسني أن يردوا املسكوت عنه إىل‬
‫(‪)2‬‬
‫املنطوق به (‪ ،")1‬وقال معرفا القياس هو‪" :‬أن يرد حكم املسكوت عنه إىل حكم املنطوق به بعلة جتمع بينهما"‬
‫‪ ،‬وعرف ه يف موض ع آخ ر بقول ه‪" :‬والقي اس يف نفس ه تش بيه الش يء بغ ريه‪ ،‬واحلكم ب ه ه و احلكم للف رع حبكم‬
‫األصل‪ ،‬إذا استوت علته وقع احلكم بسببه من أجله" (‪.)3‬‬
‫غري أن اإلمام املذكور‪ ،‬وهو من أقطاب املذهب وأئمته وفرسان أصوله وفروعه‪ ،‬يستشف من بعض عباراته‬
‫استنتاج قول مرجوح يف املذهب لبعض علمائه بعدم األخذ بالقياس‪ ،‬قال يف ذلك فقد نسب إىل الشيخ هاشم‬
‫بن غيالن القول بأن من أفطر رمضان متعمدا بغري مجاع‪ ،‬افعليه قضاء شهره والتوبة إىل اهلل من فعله‪ ،‬ومل يوجب‬
‫عليه كفارة وال غريها‪ ،‬ولعله كان ممن ال يقول بالقياس وال يراه واجبا يف باب األحكام (‪.)4‬‬
‫ولئن صح ه ذا الفهم مع أنه ال قياس يف الكف ارات‪ ،‬ف إن الش يخ أبا غيالن مل يصرح بعدم األخذ بالقياس‪،‬‬
‫فعلم اء املذهب من أوهلم إىل آخ رهم مطبق ون على األخ ذ ب ه فيم ا ال نص في ه إذا اس توىف أرك ان واس تجمع‬
‫شروطه‪ ،‬كما يعلم ذلك من تتبع آثارهم أصوال وفروعا‪.‬‬
‫ويق ول اإلم ام الس املي‪" :‬اختلف وا يف ثب وت التعب د بالقي اس على م ذاهب‪ ،‬األص ح منه ا م ا علي ه اجلمه ور من‬
‫العلماء من أن القياس الصحيح مثبت للحكم الشرعي فيما مل يرد فيه نص من كتاب أو سنة‪ ،‬فالقياس على هذا‬
‫أحد أدلة الشرع" (‪.)5‬‬
‫وال ذين عن اهم بق وهلم اختلف وا هم علم اء األم ة اإلس المية من األباض ية وغ ريهم‪ ،‬وال ذين عن اهم ب اجلمهور‬
‫مجهور األمة ال مجهور األباضية‪.‬‬
‫مث ساق من األحاديث ما ال يدع جماال للشك يف أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أستعمل القياس وأرشد‬
‫إلي ه‪ ،‬وبع د س رد األدل ة وبي ان وج ه االس تدالل‪ ،‬ق ال‪" :‬فه ذه األح اديث كله ا دال ة على ثب وت احلكم بالقي اس‬

‫(?)جامع ابن بركة جـ‪.2/62‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)المصدر السابق جـ‪.1/140‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)المصدر السابق نفسه جـ‪.1/155‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)المصدر السابق نفسه جـ‪.2/27‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)المصدر السابق نفسه جـ‪.2/27‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪15‬‬

‫فيكون القياس هبا دليال شرعيا‪ ،‬على أن اإلمجاع من الصحابة ورد يف ثبوت احلكم بالقياس‪ ،‬وذلك أن الصحابة‬
‫م ا بني ق ائس وس اكت‪ ،‬والس اكت ال يس كت يف مث ل ه ذا املوض ع إال عن رض ى‪ ،‬ألن القي اس إذا مل يكن ثابت ا‬
‫بالشرع فإحداثه بدعة هبا زيادة حكم شرعي‪ ،‬والسكوت عن تغيري مثلها من غري تقية حرام قطعا‪ ،‬وما هنالك‬
‫تقية فقطعنا أن السكوت عن اإلنكار رضى فثبت املدعي" (‪.)1‬‬
‫كما ضرب عدة أمثلة للقياس بعد تعريفه له‪ ،‬منها ما كان القياس فيه جليا كقياس األمة على العبد يف س ريان‬
‫العتق على الشركاء يف امللك إذا أعتق أحدهم ماله من شركة فيه‪.‬‬
‫ومنها ما كان القياس خفيا كقياس سؤر الفأر فإهنم اختلفوا يف طهارته وجناسته فالقائلون بنجاسته قاسوه‬
‫على الس باع ألن س ؤر الس باع عن دهم مفس د‪ ،‬ق الوا وك ذلك الف أر‪ ،‬والق ائلون بطهارت ه قاس وه على الوح وش‬
‫الطاهر سؤرها (‪.)2‬‬
‫هذا وأن املتتبع ملا ذكره العلماء من أقوال يف إثبات القياس وإنكاره جيدها ال خترج عن مخسة (‪ ،)3‬ويف النهاية‬
‫ترجع إىل مذهبني‪ ،‬وال بأس أن نشري إىل تلك األقوال فنقول‪:‬‬
‫‪ -1‬مذهب اجلمهور (‪ :)4‬أن التعبد بالقياس جائز عقال‪ ،‬وجيب العمل به شرعا (‪.)5‬‬
‫‪ -2‬مذهب القفال الشافعي وأيب احلسني البصري من املعتزلة‪ :‬أن العقل مع األدلة النقلية يدل على وجوب‬
‫العمل بالقياس‪ ،‬وأدلتهم ضمن األدلة العقلية اليت استدل هبا أنصار القياس‪.‬‬
‫‪ -3‬مذهب القاساين (‪ )6‬والنهرواين وداود األصفهاين‪ :‬أن القياس جيب العمل به يف صورتني‪ ،‬وفيما عدامها‬
‫حيرم العمل به‪.‬‬
‫األولى‪ :‬أن تكون علة األصل منصوصة إما بصريح اللفظ أو بإميائه‪.‬‬

‫(?)طلعة الشمس جـ‪ 1‬ص‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)المصدر السابق ص‪.21‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)انظر في تفاصيل هذه اآلراء ونسبتها إلى قائلها كتاب أصول الفقه للعالمة األستاذ الدكتور محمد أبو النور‬ ‫‪3‬‬

‫زهير‪ .‬المسألة األولى من ص‪.28-15‬‬


‫(?)طلعة الشمس جـ‪ 1‬ص‪.19‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)إال أنه عند اإلمام أحمد يستعمل للضرورة‪ ،‬قال في كتاب الحالل‪ :‬سألت الشافعي عن القياس فقال‪ :‬إنما يصار‬ ‫‪5‬‬

‫إليه عند الضرورة (الرسالة للشافعي ‪ ،599‬أعالم الموقعين ‪.)1/22‬‬


‫(?)نسبة إلى قاسان بلدة بتركستان‪ ،‬وأكثر األصوليين يكتبونها (القاشاني)‪.‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪16‬‬

‫مثال الصريح‪ :‬قوله عليه الصالة والسالم بعد أن كان هنى الصحابة عن ادخار حلوم األضاحي‪( :‬إمنا هنيتكم ـ عن‬
‫ادخار حلوم األضاحي ـ من أجل الدافة) (‪ )1‬أي بسبب ورود قوافل األغراب على املدينة‪ ،‬والدافة‪ :‬مجاعة‬
‫من الناس تنتقل من بلد إىل بلد طلبا للزاد‪ ،‬هذا تنصيص على العلة يف النهي عن االدخار بقوله (ألجل)‬
‫ومثل‪( :‬حرمت اخلمر لشدهتا) (‪ .)2‬ومثال اإلميان‪ :‬قوله عليه الصالة والسالم حينما سئل عن سؤر اهلرة ـ‬
‫أي الباقي مما شربت منه بعد شرهبا ـ‪( ،‬إهنا ليست بنجس ـ أي فال ينجس ما المسته ـ إمنا هي من الطوافني‬
‫عليكم والطواف ات) (‪ ،)3‬فقول ه‪( :‬أهنا من الط وافني‪ )...‬ي ومئ إىل تعلي ل احلكم مبا ذك ره‪ ،‬وإن مل يكن‬
‫موضوعا للتعليل‪ ،‬وإال ملا كان لذكره فائدة‪.‬‬
‫الثاني‪AA‬ة‪ :‬أن يك ون الف رع أوىل ب احلكم من األص ل‪ ،‬مثال ه‪ :‬قي اس ض رب الوال دين على الت أفيف يف احلرم ة‪ ،‬لعل ة‬
‫جامعة بينهما وهي اإليذاء املنصوص عليه بقوله تعاىل‪" :‬فال تقل هلما أف" (‪ )4‬فإن الضرب أوىل بالتحرمي‬
‫من التأفيف لشدة اإليذاء فيه‪ ،‬وهذا ما يسمى بداللة النص أو بفحوى اخلطاب (‪.)5‬‬
‫وقد استبدل اإلمام الغزايل بالصورة الثانية صورة أخرى وهي‪ :‬األحكام املعلقة باألسباب‪ :‬أي الواردة على‬
‫س بب‪ ،‬مث ل (زىن م اعز ف رجم‪ ،‬وقط ع س ارق رداء ص فوان) (‪ ،)6‬وه ذا راج ع إىل م ا يع رف بتنقيح من اط احلكم‬
‫اآليت بيان ه‪ ،‬ولك ين أج د أن م ا ذك ره الغ زايل راج ع إىل الص ورة األوىل‪ ،‬من ن وع العل ة املنص وص عليه ا بطري ق‬
‫اإلمياء‪ ،‬مثل جواب الرسول عليه الصالة والسالم لسائل قال‪( :‬واقعت أهلي يف رمضان‪ ،‬فقال أعتق رقبة) (‪،)7‬‬
‫فكأنه قال‪ :‬واقعت فأعتق‪.‬‬
‫‪ -4‬مذهب الظاهرية‪ :‬إن القياس جائز عقال‪ ،‬ولكن مل يرد يف الشارع ما يدل على وجوب العمل به‪.‬‬

‫(?)أخرجه أصحاب الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) عن عائشة ـ رضي‬ ‫‪1‬‬

‫اهلل عنها‪ ،‬وهو متفق على صحته‪.‬‬


‫(?)الجامع الصحيح المختصر جـ‪ 5/2120‬رقم الحديث ‪ ،5257‬صحصح مسلم جـ‪.3/1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه‪ ،‬وصححه الترمذي والبخاري وابن خزيمة والعقيلي‬ ‫‪3‬‬

‫والدارقطني‪ ،‬من حديث أبي قتادة (سبل السالم ‪ )1/23‬وما بعدها‪ ،‬نيل األوطار ‪.1/35‬‬
‫(?)سورة اإلسراء اآلية‪.23 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)المستصفي جـ‪ 2‬ص‪.274‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?)المرجع السابق جـ‪ 2‬ص‪.274‬‬ ‫‪6‬‬

‫(?)رواه أصحاب الكتب السبعة (أي مع أحمد) من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬جاء رجل هو سلمة أو‬ ‫‪7‬‬

‫سلمان بن صخر البياضي‪ ،‬فقال هلكت يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬وما أهلكك؟ قال‪ :‬وقعت على امرأتي في رمضان ‪،‬‬
‫قال‪ :‬هل نجد ما تعتق رقبة؟ الحديث (سبل السالم ‪.)2/163‬‬
‫‪17‬‬

‫‪ -5‬مذهب الشيعة اإلمامية والنظام من املعتزلة يف نقل عنه‪ :‬أن التعبد بالقياس مستحيل عقال (‪ ،)1‬ألنه يرتتب‬
‫على اختالف األقسية يف نظر اجملتهدين لزوم اجتماع النقيضني (‪.)2‬‬
‫وخالصة هذه اآلراء أهنا ترجع إىل مذهبني‪:‬‬
‫م ذهب اجلمه ور الق ائلني ب أن القي اس حج ة مطلق ا‪ ،‬وم ذهب الش يعة والنظ ام والظاهري ة ومجاع ة من معتزل ة‬
‫بغ داد الق ائلني ب أن القي اس ليس حبج ة‪ ،‬إال أن بعض ه ؤالء يق ول‪ :‬إن امتن اع حجيت ه من جه ة العق ل‪ ،‬وبعض هم‬
‫يقول‪ :‬إن ذلك من جهة الشرع‪ ،‬والواقع أن ما أنكره هؤالء من قياس يف الشرعيات وحجية ذلك إمنا هو غري‬
‫القياس الصادر عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫أدلة نفاه القياس‪:‬‬
‫استدل نفاه القياس مبا يأيت‪:‬‬
‫َد ِي الَّل ِه و وِلِه‬ ‫ِذ‬
‫َرُس‬ ‫أ ـ القرآن‪ :‬وذلك يف آيات كثرية‪ ،‬منها قوله تعاىل‪َ " :‬يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُن وا ال ُتَق ِّد ُم وا َبَنْي َي‬
‫واَّتُقوا الَّلَه إَّن الَّلَه ِمَس يٌع َعِليٌم " (‪.)3‬‬
‫فهذه اآلية تنهى عن العمل بغري كتاب اهلل وسنة رسوله‪ ،‬والعمل بالقياس عمل بغريمها‪ ،‬ألنه تقدمي بني اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬فكان منهيا عنه‪.‬‬

‫(?) قال العالمة الحيدري‪ :‬أما القياس واالستحسان فإنهما عندنا (أي الشيعة) ال يثبتان حكما وال ينفيان ألمرين‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫أوال‪ :‬ألن األحكام منوطة بعلل ومصالح محجوبة في الغالب عنا‪.‬‬


‫ثانيا‪ :‬لورود النهي في ذلك عن أئمة أهل البيت عليهم السالم مستفيضا (راجع أصول االستنباط له ‪.)259 ،15‬‬
‫والقياس الذي أنكره الشيعة هو مستنبط العلة‪ ،‬أما منصوص العلة وهو ما ثبتت من الشرع علته‪ ،‬وأنحصر وجودها في‬
‫الفرع‪ ،‬فهذا حجة ولكن ال يسمى في اصطالحهم‪ ،‬ألنه مما ثبت حكمه بالسنة‪ ،‬وإ ن سمي قياسا في اصطالح‬
‫الجمهور (المرجع السابق ‪ ،273‬المبادئ العامة للفقه الجعفري ‪ )290‬وما بعدها األصول العامة للفقه لتقي الحكيم‬
‫‪ 357‬قال األستاذ محمد تقي الحكيم‪ :‬والشيء الذي ال شك فيه هو أن المنع عن العمل بقسم من أقسام القياس يعد‬
‫من ضروريات مذهب الشيعة لتواتر أخبار أهل البيت في الردع عن العمل به‪ ،‬ال أن العقل هو الذي يمنع التعبد به‬
‫ويحيله‪ ،‬ولذلك احتاجوا إلى بذل جهد في توجيه ترك العمل به (راجع األصول العامة ‪.)322‬‬
‫(?)النقيضان‪ :‬هما األمران اللذان أحدهما وجودي واآلخر عدمي‪ ،‬فال يجتمعان وال يرتفعان كالوجودي وعدم‬ ‫‪2‬‬

‫الوجود‪.‬‬
‫والضدان األمران الوجوديان اللذان ال يجتمعان وقد يرتفعان كالبياض والسواد ال يلتقيان في شيء واحد‪ ،‬وقد يرتفعان‬
‫فيحل غيرهما محلهما‪.‬‬
‫(?)سورة الحجرات اآلية‪.1 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪18‬‬

‫ومنها قوله سبحانه‪ " :‬وَأن َتُقوُلوا َعَلى الَّلِه َم ا ال َتْع َلُم وَن " (‪ " )1‬وال َتْق ُف َم ا َلْيَس َلَك ِبِه ِعْلٌم " (‪ ،)2‬فهاتان‬
‫اآليت ان تنهي ان عن إتب اع اإلنس ان م ا ليس مفي دا للعلم واليقني‪ ،‬والقي اس إمنا يفيد الظن‪ ،‬فك ان اجملتهد منهيا عن‬
‫العمل به‪ ،‬وكون احلكم الثابت بالقياس مظنونا أمر معروف‪ ،‬ألنه يتوقف على العلم بأمور ال يقطع بوجوهبا‪،‬‬
‫كالعلم بالعلة يف األصل ووجودها يف الفرع‪.‬‬
‫قوله عز وجل‪ " :‬إَّن الَّظَّن ال ُيْغيِن ِم َن اَحلِّق َش ْيئًا " (‪ )3‬فالظن ال يفيد يف إفادة احلق‪ ،‬والقياس مفيد للظن‪ ،‬فال‬
‫يفيد يف إثبات احلكم‪.‬‬
‫ومنها قوله تعاىل‪ " :‬وِعن َد ُه َم َف اِتُح الَغْيِب ال َيْع َلُم َه ا إال ُه َو وَيْع َلُم َم ا يِف الَبِّر واْلَبْح ِر وَم ا َتْس ُقُط ِم ن وَر َق ٍة إال‬
‫َيْع َلُم َه ا وال َح َّبٍة يِف ُظُلَم اِت اَألْر ِض وال َر ْطٍب وال َياِبٍس إال يِف ِكَتاٍب ُّم ِبٍني " (‪ )4‬على قراءة من قرأ اآلية هكذا "‬
‫وال َح َّب ٍة يِف ُظُلَم اِت اَألْر ِض وال َر ْطٍب وال َي اِبٍس إال يِف ِكَت اٍب ُّم ِبٍني " ب الرفع على االبت داء وهي من الق راءات‬
‫الشاذة ذكرها النحاس يف معاين القرآن (‪ ،)5‬أما القراءة املتواترة يف اآلية فهي جبر وما بعدها عطفا على ورقة‪،‬‬
‫ووجه الداللة أن قراءة الرفع جتعل اجلملة األخرية مستقلة ال تتعلق بقوله تعاىل‪" :‬يعلمها" فتدل على املقصود وهو‬
‫وجود كل األحكام يف القرآن الكرمي‪ ،‬وأن املراد بالكتاب هنا‪ :‬القرآن‪ ،‬اآلية تفيد أن كتاب اهلل قد اشتمل على‬
‫ك ل ش يء‪ ،‬فال حاج ة حينئ ذ إىل القي اس‪ ،‬وه و إمنا يك ون حج ة إذا اح تيج إلي ة‪ ،‬فال جيوز العم ل بالقي اس‪ ،‬ألن‬
‫شرطه فقدان النص‪ ،‬واآلية بينت أن كل ما حيتاج إليه من األحكام منصوص عليه يف القرآن‪.‬‬
‫وجياب عن استدالهلم هبذه اآليات‪:‬‬
‫أما اآلية األوىل‪ :‬فال متنع العمل بالقياس‪ ،‬ألن اهلل تعاىل ورسوله أمر كل منهما بالقياس كما سيتضح ذلك‬
‫من خالل س رد أدل ة اجلمه ور‪ ،‬فالعم ل بالقي اس عم ل بكت اب اهلل وس نة رس وله‪ ،‬فلم يكن تق دميا بني ي دي اهلل‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫وأما اآليات الثانية والثالثة والرابعة‪ :‬فال داللة فيها على املنع‪ ،‬ألن احلكم الثابت القياس ليس مظنونا‪ ،‬بل هو‬
‫مقطوع به عند اجملتهد‪ ،‬أي معلوم يقينا أنه حكم اهلل يف املسألة أو أنه على األقل جيب العمل به‪ ،‬لإلمجاع على‬
‫وجوب إتباع ما ظنه اجملتهد‪.‬‬

‫(?)سورة األعراف اآلية‪.33 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة اإلسراء اآلية‪.36 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة يونس اآلية‪36 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)سورة األنعام اآلية‪.59 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)جـ‪ 2/427‬وكذلك ذكر هذه القراءة ابن عطية في المحرر الوجيز ‪ ،5/222‬والقطبي جـ‪.7/8‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪19‬‬

‫وأم وجود الظن فهو يف الطريق املوصل إىل احلكم‪ ،‬وال مانع من وجود قاعدة ظنية يف أثناء االستدالل‪ ،‬ألن‬
‫العلماء أمجعوا على أن اجملتهد جيب عليه العمل واإلفتاء مبا ظنه صوابا‪ ،‬واإلمجاع يفيد القطع على الراجح‪ ،‬وأيض ا‬
‫فإن الظن هو الطرف الراجح من االحتماالت‪ ،‬والعقل يقضي بالعمل بالطرف الراجح‪.‬‬
‫وجياب عن هذه اآليات أيضا بأهنا واردة يف غري حمل النزاع‪ ،‬فهي واردة يف النهي عن إتباع الظن يف أحكام‬
‫العقائ د‪ ،‬فهي ال يت يتطلب فيه ا القط ع واليقني‪ ،‬أم ا األحك ام الش رعية العملي ة ف الظن فيه ا ك اف باالتف اق بني‬
‫العلم اء‪ ،‬وال دليل علي ه أنن ا مكلف ون بالعم ل بأخب ار اآلح اد وظ اهر الكت اب والس نة‪ ،‬وبقب ول ش هادة ال رجلني‬
‫والرجل واملرأتني وحنوها مما ال يفيد إال الظن‪.‬‬
‫وأما اآلية اخلامسة‪ ،‬فإن املراد بالكتاب هو علم اهلل أو اللوح احملفوظ‪ ،‬وعلى تسليم أن يكون املراد به الق رآن‪،‬‬
‫فال يش تمل الق رآن على مجيع األحكام الش رعية بدون واسطة‪ ،‬ألن اشتماله خالف الواقع‪ ،‬فكثري من األحكام‬
‫الشرعية قد أخذ من السنة أو اإلمجاع‪ ،‬وحينئذ يكون املراد من اشتمال القرآن على مجيع األحكام مشوله هلا يف‬
‫اجلملة‪ ،‬سواء أكان بواسطة القياس‪ ،‬أم بغري واسطة وهو املنصوص عليه‪ ،‬أي أن كل شيء فرض فهو يف القرآن‬
‫مع ىن‪ ،‬وإن مل يكن في ه لفظ ا‪ ،‬فحكم املقيس م ذكور في ه مع ىن‪ ،‬ملش اهبته للمقيس علي ه يف عل ة احلكم‪ ،‬وق د دل‬
‫القرآن على وجوب العمل بالقياس بقوله تعاىل‪َ " :‬ف اْعَتُرِبوا َيا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " كما سيأيت بيانه يف أدلة املثبتني‪،‬‬
‫وحينئ ذ تك ون اآلي ة ال يت احتج وا هبا موجب ة للعم ل بالقي اس‪ ،‬وليس ت مفي دة لع دم العم ل ب ه‪ ،‬فيبط ل ق وهلم‪ :‬إن‬
‫القياس غري حمتاج إليه‪ ،‬بل قد حيتاج إليه يف إظهار احلكم يف املقيس‪.‬‬
‫ب ـ الس نة‪ :‬من ذل ك أن الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال‪" :‬إن اهلل تع اىل ف رض ف رائض فال تض يعوها‪ ،‬وح د‬
‫(‪)1‬‬
‫حدودا فال تعتدوها‪ ،‬وحرم أشياء فال تنتهكوها‪ ،‬وسكت عن أشياء رمحة لكم غري نسيان فال تبحثوا عنها"‬
‫فه ذا احلديث ي دل على أن األش ياء إم ا واجب ة‪ ،‬وإم ا ح رام‪ ،‬وإم ا مس كوت عنه ا‪ ،‬فهي يف دائ رة املعف و عن ه أو‬
‫املباح‪ ،‬واملقيس من املسكوت عنه فهو يف دائرة املعفو عنه بال ريب‪ ،‬فإذا قسنا املسكوت عنه على الواجب مثال‬
‫تكون قد أوجبنا ما مل يوجبه اهلل‪ ،‬وإذا قسناه على احلرام نكون قد حرمنا ما مل حيرمه اهلل‪.‬‬
‫وي رد عليهم ب أن ه ذا احلكم الث ابت بالقي اس ليس حكم ا من اجملته د‪ ،‬وإمنا ه و حكم اهلل‪ ،‬ألن عل ة حكم‬
‫األصل اس تلزمت احلكم يف الف رع بطريق ة املعىن‪ ،‬فك أن اهلل تع اىل ق ال‪ :‬كلم ا حتققت عل ة ه ذا احلكم يف حمل مل‬
‫ينص على حكمه فأعطوه مثل هذا احلكم‪:‬‬
‫ألن األحكام الشرعية معللة‪ ،‬والعلة تقتضي ثبوت احلكم أينما وجدت‪.‬‬
‫وعليه ال يكون اجملتهد قد أوجب أو حرم من تلقاء نفسه‪ ،‬وإمنا أظهر أن احلكم يف املقيس كاحلكم يف املقيس‬
‫عليه لتحقق العلة فيهما مجيعا‪.‬‬

‫(?)حديث حن رواه الدار قطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪20‬‬

‫واس تدلوا أيض ا من الس نة حبديث آخ ر وه و قول ه علي ه الص الة والس الم‪( :‬تعم ل ه ذه األم ة بره ة بالكت اب‪،‬‬
‫وبرهة بالسنة‪ ،‬وبرهة بالقياس‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا) (‪ ،)1‬فالنيب صلى اهلل عليه وسلم جعل العمل بالقياس‬
‫موجبا للضالل‪.‬‬
‫وأجيب عنه بأن هذا احلديث معارض باألحاديث اليت تفيد وجوب العمل بالقياس‪ ،‬مثل حديث معاذ وأيب‬
‫موس ى الل ذين س يذكران يف أدل ة إثب ات القي اس‪ ،‬وي دفع التع رض بينهم ا جبع ل ه ذا احلديث على العم ل بالقي اس‬
‫الفاس د‪ ،‬وح ديث مع اذ على العم ل بالقي اس الص حيح‪ ،‬مجع ا بني األدل ة‪ ،‬إض افة إىل أن م دار ه ذا احلديث على‬
‫عثمان بن عبد الرمحن الوقاصي وهو متفق على ضعفه‪ ،‬كما يف جممع الزوائد (‪.)2‬‬
‫والقياس الفاسد‪ :‬هو الذي ال يعتمد على دليل‪ ،‬أو وجد من األدلة ما يعارضه‪ ،‬ولكن صاحبه عاند فيه‪ ،‬أو‬
‫اعتمد فيه على الظن والتخمني‪ ،‬ال على مقاصد الشريعة العامة‪.‬‬
‫والقياس الصحيح‪ :‬هو الذي ال يتعارض مع الكتاب والسنة ويتمشى معهما‪ ،‬ومل يكن مبنيا على افرتاضات‬
‫أو ختمني‪ ،‬ب ل على اس تدالل من نص وص الش ريعة أو مقاص دها العام ة‪ ،‬ك الرأي املق ول بن اء على مب دأ املص احل‬
‫املرسلة‪ ،‬وهي اليت مل يتعرض هلا الشرع ال باالعتبار وال باإللغاء‪.‬‬
‫ج ـ اإلمجاع‪ :‬وهو أن بعض الصحابة قد ذم العمل بالقياس أو باالجتهاد بالرأي‪ ،‬وسكت بقية الصحابة عن‬
‫اإلنكار عليه‪ ،‬فكان إمجاعا‪ ،‬من ذلك أن أبا بكر سئل عن الكاللة املذكورة يف قوله سبحانه " وإن َك اَن َرُج ٌل‬
‫ُيوَر ُث َك الَلًة َأِو اْم َر َأٌة وَلُه َأٌخ َأْو ُأْخٌت " (‪( )3‬وهو من مات وال والد له وال ولد) فقال أبو بكر رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫(أي مساء تظلين‪ ،‬وأي أرض تقلين إذا قلت يف كتاب اهلل برأيي‪ :‬أي بالقياس) (‪.)4‬‬
‫ونقل عن عمر رضي اهلل عنه أنه قال‪( :‬إياكم وأصحاب الرأي‪ ،‬فأهنم أعداء السنن‪ ،‬أعيتهم األحاديث أن‬
‫حيفظوها‪ ،‬فقالوا بالرأي‪ ،‬فضلوا وأضلوا) وقال أيضا‪( :‬إياكم واملكايلة‪ ،‬قيل‪ ،‬وما املكايلة؟ قال‪ :‬املقايسة)‪.‬‬
‫وقال علي كرم اهلل وجهه‪( :‬لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان باطن اخلف أوىل باملسح من ظاهر)‪.‬‬
‫وقال ابن عباس رضي اهلل عنه‪( :‬يذهب قراؤكم وصلحاؤكم‪ ،‬ويتخذ الناس رؤساء جهاال يقيسون األمور‬
‫برأيهم)‪.‬‬

‫(?)من رواية عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة‪ ،‬قال ابن حزم في‬ ‫‪1‬‬

‫كتابه (ملخص إبطال القياس والرأي ‪( : )56‬عثمان تركوه)‪ ،‬وانظر (اإلحكام في أصول األحكام له ‪)2/786‬‬
‫رواه يعلي وفيه عثمان متفق على ضعفه (مجمع الزوائد ‪.)1/179‬‬
‫(?)ص ‪.179‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة النساء اآلية‪.12 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)أخرجه قاسم بن محمد‪ ،‬وهو منقطع (نصب الراية ‪، 4/64‬تلخيص الحبير ‪.)4/195‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪21‬‬

‫وروي عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬إن اهلل تعاىل ال يقبض العلم‬
‫انتزاعا ينتزعه من الناس‪ ،‬ولكن يقبض العلم بقبض العلماء‪ ،‬فإذا مل يبق عاملا اختذ الناس رؤساء جهاال‪ ،‬فسئلوا‬
‫فأفتوا بغري علم فضلوا وأضلوا) (‪ ،)1‬قالوا‪ :‬والفتوى بالرأي فتوى بغري علم‪.‬‬
‫وروي عن ابن مسعود مثل تلك اآلثار (‪ ،)2‬فهذه اآلثار عن كبار الصحابة يف إنكار القياس والعمل به‪ ،‬ومل‬
‫يعارضهم أحد فيها‪ ،‬فكان إمجاعا من الصحابة على أن العمل بالقياس منهي عنه‪.‬‬
‫وأجيب عنها ب أن ه ذه الرواي ات معارضة بآثار أخرى عن ه ؤالء الصحابة بال ذات‪ ،‬مقتض اها م دح العمل‬
‫بالقياس كما سيعلم يف أدلة اجلمهور‪ ،‬وحينئذ البد من التوفيق واجلمع بني ما تعارض من ذلك‪ ،‬وذلك حبمل‬
‫الذم على القياس الفاسد الذي مل تتوفر فيه شرائط الصحة كالقياس املخالف للنص أو الصادر عمن ليس أهال‬
‫لالجتهاد والنظر‪ ،‬أو املستعمل فيما ال جيري فيه القياس كتفسري القرآن الكرمي‪ ،‬أو القياس الناشئ عن هوا‪.‬‬
‫وحيمل املدح على القياس الصحيح املستكمل لشروط االعتبار والصحة‪ ،‬وذلك مجعا بني النقلني املتعارضني‬
‫إذا ثبتت صحة كل منهما (‪.)3‬‬
‫د ـ املعقول‪ :‬وهو أن القياس يؤدي إىل التنازع واالختالف بني اجملتهدين‪ ،‬كما هو الثابت باالستقراء جلزئيات‬
‫االجته اد‪ ،‬وألن القي اس ينب ين على أم ارات ومق دمات ظني ة‪ ،‬والظن ون مث ار اختالف اإلفه ام واألنظ ار‪ ،‬وحينئ ذ‬
‫فيكون القياس ممنوعا‪ ،‬ألن اهلل سبحانه هنى عن التنازع بقوله‪" :‬وال َتَناَزُعوا َفَتْف َش ُلوا وَتْذ َه َب ِر ُحيُك ْم " (‪.)4‬‬
‫واجلواب عن هذا من وجهني‪ :‬أحدمها جواب إلزامي‪ ،‬والثاين هدم تفصيلي‪.‬‬
‫الوج ‪AA‬ه األول‪ :‬أن ه ذا ال دليل بعين ه جيري يف ك ل دلي ل ي وجب الظن كخ رب الواح د وال دليل الفلس في أو‬
‫العقلي‪ ،‬فيلزم منه أن يكون العمل خبرب الواحد أو الدليل العقلي منهيا عنه‪ ،‬وهذا ال يقول به أحد‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬إن التنازع الذي تنهى عنه الشريعة‪ :‬هو ما كان يف العقائد وأصول الدين أو يف األمور العامة‬
‫كسياسة الدولة وشئون احلرب‪ ،‬بقرينة قوله سبحانه‪َ " :‬فَتْف َش ُلوا وَتْذ َه َب ِر ُحيُك ْم " (‪ .)5‬أي قوتكم وقوله تعاىل‪" :‬‬

‫(?)رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن ابن عمرو‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)اإلحكام البن حزم ‪ 2/786،780‬وما بعدها‪ ،‬ملخص إبطال القياس ‪ 55‬وما بعدها‪ ،‬أعالم الموقعين ‪-1/53‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ،60‬روضة الناظر ‪ 2/240‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الزوائد ‪ 1/180،179‬تلخيص الحبير ‪.4/195‬‬


‫(?)راجع الموفقات للشاطبي ‪ 3/421‬وما بعدها‪ ،‬وأعالم الموقعين ‪ 1/66‬وما بعدها‪ ،‬وأصول السرخسي ‪2/132‬‬ ‫‪3‬‬

‫وما بعدها‪.‬‬
‫(?)سورة األنفال اآلية‪.46 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)سورة األنفال اآلية‪.46 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪22‬‬

‫وال َتُك وُن وا َك اَّل ِذيَن َتَفَّرُق وا واْخ َتَلُف وا " (‪ )1‬فه ذا التح ذير ملا ي رتتب علي ه من خط ورة‪ ،‬وه و التن ازع يف أص ل‬
‫العقائد أو فيما يتصل بكيان األمة أمام العدو اخلارجي‪ ،‬أما التنازع يف األحكام الشرعية العملية اجلزئية فال مانع‬
‫من حصوله‪ ،‬إذ ال يرتتب عليه مفسدة‪ ،‬بل قد يكون رمحة وتوسعة من اهلل على عباده‪ ،‬قيل يف األثر‪( :‬اختالف‬
‫أميت رمحة) (‪.)2‬‬
‫ومن األدلة املعقولة اليت استندوا إليها أن القياس نوع من الظن‪ ،‬والظن ممنوع عقال‪ ،‬ألنه حيتمل اخلطأ‪ ،‬واخلطأ‬
‫حمظور‪ ،‬وكل حمظور يوجب العقل التحرز عنه‪ ،‬فالقياس ال جيوز عقال‪.‬‬
‫ورد هذا الكالم بأن الظن املمنوع عقال هو الذي ال يغلب جانب الصواب فيه بأن يكون غري صواب أصال‪،‬‬
‫أو الص واب في ه مرج وح‪ ،‬أم ا الظن ال ذي يرتجح في ه جانب الص واب فليس حمظ ورا‪ ،‬بل يرتجح العمل مبوجب ه‬
‫مبقتضى العقل‪ ،‬وال يشرتط دائما أن نتيقن من املنافع وإال لتعطل كثري من املصاحل‪ ،‬فالزراعة والتجارة والصناعة‬
‫كلها مظنونة الربح‪ ،‬وليست يقينية اإلنتاج‪.‬‬
‫دليل النظام على إنكار القياس‪:‬‬
‫اس تدل النظ ام على أن ه يس تحيل التعب د بالقي اس عقال ب أن العق ل ي وجب إعط اء املتم اثالت حكم ا واح دا‪،‬‬
‫واملختلف ات أحكام ا خمتلف ة‪ ،‬ولكن الش ارع ق د ف رق بني املتم اثالت يف األحك ام‪ ،‬ومجع بني املختلف ات وش رع‬
‫أحكام ا ال جمال للعق ل فيه ا‪ ،‬وذل ك كل ه ين ايف مقتض ى القي اس‪ ،‬ألن م دار القي اس على إب داء العل ة وعلى إحلاق‬
‫ص ورة بص ورة أخ رى متاثله ا يف العل ة‪ ،‬وأيض ا ف إن القي اس يقض ي ب التفريق بني املختلف ات‪ ،‬وب ه يت بني أال جمال‬
‫للقياس يف الشرع لتناقض مضموهنا‪ ،‬وأن القياس مضاد للشريعة (‪.)3‬‬
‫أما بيان منهج الشارع يف املخالفة والتفريق بني املتماثالت‪ :‬فهو أنه قد فرق بني األزمنة يف الشرف والفضل‪،‬‬
‫ففضل ليلة القدر واألشهر احلرام على غريها‪.‬‬

‫(?)سورة آل عمران اآلية‪.105 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)قال السيوطي في الجامع الصغير‪ :‬ذكره نصر المقدسي في الحجة‪ ،‬والبيهقي في الرسالة األشعرية بغير سند‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫وأورده الحليمي والقاضي حسين وإ مام الحرمين وغيرهم‪ ،‬ولعله خرج في بعض الكتب الحفاظ التي لم تصل إلينا‪،‬‬
‫وقال الشيخ محمد ابن السيد درويش الشهير بالحوث البيروتي‪ :‬زعم كثير من العلماء أنه ال أصل له‪ ،‬وذكره كثير‬
‫من أهل الفقه بدون سند كإمام الحرمين والحليمي‪ ،‬وأسنده في الفردوس عن ابن عباس مرفوعا بلفظ (اختالف‬
‫أصحابي لكم رحمة)‪.‬‬
‫(?)القياس البن تيمية وابن القيم ‪ ،54‬أعالم الموقعين ‪ ،2/52‬شرح اآلسنوي ‪ ،3/25‬اإلبهاج ‪ 2/13‬وما بعدها‬ ‫‪3‬‬

‫شرح العضد على مختصر المنتهى ‪.2/249‬‬


‫‪23‬‬

‫وف رق الش ارع أيض ا بني الص لوات يف مس ألة القص ر يف الص الة الرباعي ة دون الثنائي ة أو الثالثي ة‪ ،‬م ع أن‬
‫الص لوات متماثل ة‪ ،‬وك ذلك أوجب قض اء الص وم على احلائض‪ ،‬ومل ي وجب عليه ا قض اء الص الة‪ ،‬م ع أن كال‬
‫منهما عبادة‪.‬‬
‫وأما بيان منهج الشارع يف اجلمع واالحتاد بني املتخالفات‪ :‬فهو أنه جعل الرتاب يف التيمم موجبا للطهارة‬
‫للصالة كاملاء متاما عند عدم املاء أو املرض‪ ،‬مع أن املاء ينظف األعضاء والرتاب يلوثها‪.‬‬
‫وأما كون الشارع شرع أحكاما ال جمال للعقل فيها‪ ،‬فهو أنه أباح النظر إىل األمة احلسناء‪ ،‬وألزمنا بغض‬
‫البصر بالنسبة للحرة الشوهاء أو العجوز القبيحة املنظر‪ ،‬مع أن النفس متيل إيل األويل وتنفر من الثانية‪ ,‬وأوجب‬
‫املشرع قطع اليد يف السرقة القليل‪ ,‬ومل يوجبه يف غصب الكثري‪ ,‬وأوجب اجللد علي من قذف غريه بالزىن‪ ,‬ومل‬
‫يوجبه علي من قذف غريه بالكفر‪ ،‬مع أن الكفر أشد وأعظم‪ ،‬وشرط يف شهادة الزىن أربعة شهود عدول‪ ،‬مع‬
‫أنه اكتفى يف الشهادة على القتل باثنني فقط‪ ،‬مع كون القتل وأغلظ من الزىن‪ .‬وغريها مما ذكر من فروع الفقه‪.‬‬
‫ويرد هذا الدليل بأن القياس إمنا جيب العمل به عند معرفة العلة اجلامعة بني األصل والفرع‪ ،‬مع عدم وجود‬
‫املع ارض لثب وت احلكم يف الف رع‪ ،‬وعندئ ذ يص ري األص ل والف رع متم اثلني من ه ذه الناحي ة ويعطي هلم ا حكم‬
‫واحد‪ ،‬والقياس دائما شأنه كذلك‪ ،‬فال يفرق بني املتماثالت بل جيمع بينها (‪.)1‬‬
‫أم ا عن د ع دم وج ود العل ة اجلامع ة بني األص ل والف رع أو وج ود املع ارض‪ ،‬ف إن األص ل والف رع يكون ان‬
‫متخالفني من هذه اجلهة‪ ،‬ويعطي لكل منهما حكم يناسبه‪ ،‬حىت ولو كانا متماثلني يف الظاهر‪ ،‬وامتناع القياس‬
‫يف صور معدودة ال يفضي إىل امتناعه من أصله‪.‬‬
‫ويف اجلملة‪ :‬إن القياس جيمع بني املتماثالت حبسب الواقع‪ ،‬وإن كانت متخالفة باعتبار الظاهر‪ ،‬ويفرق بني‬
‫املختلفات حبسب الواقع‪ ،‬وإن كانت متماثلة باعتبار الظاهر‪.‬‬
‫والشارع اعترب هذا املبدأ يف كل ما شرع‪ ،‬وأما ما أورده النظام من الصور فهو نادر‪ ،‬والنادر ال حيكم به‬
‫على الكث ري الغ الب‪ ،‬وس يأيت هلذه الش به ورده ا مزي د من التفص يل قريب ا يف ه ذا البحث‪ ،‬وإن التفري ق بني‬
‫املتماثالت جيوز أن حيصل لعدم وجود العلة اجلامعة بينهما أو لوجود معارض‪ ،‬وكذلك اجلمع بني املختلفني جيوز‬
‫أن حيصل الشرتاكهما يف معىن جامع بينهما‪.‬‬
‫والخالصة‪ :‬إن كالم النظام إما مبين على مراعاة الظاهر يف التماثل أو االختالف‪ ،‬أو على حاالت نادرة‪ ،‬أو‬
‫لعدم وجود العلة اجلامعة بني أمرين‪ ،‬مع أهنما متماثالن يف احلكم‪ ،‬فليس كل متماثلني متفقني من كل وجه‪ ،‬بل‬

‫(?)انظر القياس في الشرع اإلسالمي البن قيم ‪ 56‬وما بعدها‪ ،‬واألحكام لآلمدي ‪ ،3/69‬وشرح اآلسنوي ‪.3/25‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪24‬‬

‫جتوز التفرقة بينهما يف وجه من الوجوه‪ ،‬وليس اجلمع بني املختلفني واقعا فإن الطهارة يف الرتاب مثال حكيمة‪،‬‬
‫وليست حسية‪.‬‬
‫إىل هنا انتهى عرض أدلة املنكرين للقياس‪ ،‬ومنها يظهر أهنا راجعة إىل مراعاة مبدأ آخر‪ ،‬وهو التمسك بظاهر‬
‫النص وص‪ ،‬ف إهنم يقص رون بي ان النص وص على العب ارة وح دها‪ ،‬وال يتجاوزوهنا إىل غريه ا‪ ،‬أم ا اجلمه ور ف إهنم‬
‫أخذوا مببدأ تعليل النصوص (‪ ،)1‬ووسعوا معىن دالالهتا فقالوا‪ :‬إن الداللة على األحكام تكون بألفاظ النصوص‪،‬‬
‫وبال دالئل العام ة ال يت تبينه ا مقاص د الش ريعة يف مجل ة نصوص ها وعام ة أحواهلا‪ ،‬فنص آي ة "إَمَّنا اَخلْم ُر " ي دل على‬
‫ِب‬ ‫ِف‬
‫حترمي اخلمر بالعبارة‪ ،‬وفيه دالئل تشري إىل أن كل ما فيه ضرر غالب يكون حراما‪ ،‬بدليل آية " ُقْل يِه َم ا إٌمْث َك ٌري‬
‫وَم َن اِفُع ِللَّن اِس وإُمْثُه َم ا َأْك َبُر ِم ن َّنْف ِعِه َم ا" (‪ )2‬وحينئ ذ يك ون القي اس يف احلقيق ة إعم اال للنص وليس خروج ا عن‬
‫النص كما يدعى منكروه‪ ،‬فاخلالف راجع إذا إىل مسألة تعليل النصوص وعدم تعليلها‪.‬‬
‫وق د أحس ن الشهرس تاين يف رده على داود األص فهاين ال ذي أنك ر القي اس ق ائال‪ :‬إن أول من ق اس إبليس‪،‬‬
‫وعبارات الشهرستاين هي‪ :‬لقد ظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنة‪ ،‬ومل يدر أنه طلب حكم‬
‫الشرع من مناهج الشرع‪ ،‬ومل تنضبط قط شريعة من الشرائع إال باقرتاب االجتهاد هبا‪ ،‬ألن من ضرورة االنتشار‬
‫يف العامل احلكم بان االجتهاد معترب‪ ،‬وقد رأينا الصحابة رضي اهلل عنهم كيف اجتهدوا‪ ،‬وكم قاسوا‪ ،‬خصوصا‬
‫يف مسائل املواريث كتوريث اإلخوة مع اجلد‪ ،‬وكيفية توريث الكاللة‪ ،‬وذلك مما ال خيفي على املتدبر ألحواهلم‬
‫(‪.)3‬‬
‫قال الشيخ حممد أبو زهرة‪ :‬ويف احلق أن نفاه القياس قد أخطئوا إذ تركوا تعليل النصوص‪ ،‬فقد أداهم إمهاهلم‬
‫إىل أن قرروا أحكاما تنفيها بدائه العقول‪ ،‬فقد قرروا أن بول اآلدمي جنس للنص عليه‪ ،‬وبول اخلنزير طاهر لعدم‬
‫النص علي ه‪ ،‬وأن لع اب الكلب جنس‪ ،‬وبول ه ط اهر‪ ،‬ول و اجته وا إىل قلي ل من الفهم لفقه وا النص‪ ،‬وملا وقع وا يف‬
‫مناقضة البدهيات على ذلك النحو (‪.)4‬‬
‫وسيتضح هذا وضوحا ظاهرا عند سرد أدلة اجلمهور‪.‬‬
‫شبه لنفاه القياس‪:‬‬
‫هذا وبعد سرد أدلة املنكرين للقياس يف الشرعيات‪ ،‬وقبل أن نسوق أدلة املثبتني‪ ،‬جيدر بنا أن نعرج على شبة‬
‫أوردها املنكرون ليتبني بطالهنا وعدم تأثريها على حجة القياس‪ ،‬فنقول‪:‬‬

‫(?)فواتح الرحموت ‪ 2/293‬وما بعدها‪ ،‬أصول السرخسي ‪ 2/144‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة البقرة اآلية‪.219 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)الملل والنحل ‪.1/206‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة ‪.217‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪25‬‬

‫لقد أوردها نفاه القياس إىل جانب أدلتهم على إنكاره شبها تشبثوا هبا إلثبات مدعاهم من أن القياس تأباه‬
‫الشريعة‪ ،‬ولو أقرته لكان فيها تفريق بني املتماثالت ومجع بني املختلفات‪.‬‬
‫وها حنن نورد طرفا منها‪ ،‬كأمثلة حتتذي‪ ،‬ونقرن كل شبهة بردها‪ ،‬ناظرين يف ذلك إىل ما كتبه ابن القيم يف‬
‫هذا املوضوع‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ فرض الشارع الغسل من املين‪ ،‬وأبطل الصوم بإنزاله عمدا وهو طاهر دون البول واملذي وهو جنس‪.‬‬
‫الرد‪ :‬إن املين والبول ليسا متساويني كما زعمتم‪ ،‬بل بينهما فرق أوجب االختالف يف احلكم‪ ،‬فخروج املين‬
‫حيدث فتورا يف اجلسم‪ ،‬واالغتسال بعده يزيل هذا الفتور‪ ،‬وينشط اجلسم‪ ،‬أما البول فهو ما فضل من الطعام‬
‫والشراب‪ ،‬وحاجة اجلسم إىل خروجه ضرورية حبيث لو بقى يف اجلسم ألضره‪.‬‬
‫وذلك يشهد له احلس ويقره الطب‪ ،‬فإن املين دم حتول يف اجلسم‪ ،‬وخروجه يضعف اجلسم كخروج الدم من‬
‫اإلنسان‪ ،‬وإذا ظهر أن بني املين والبول فرقا بطلت شبهتهم املبنية على التساوي بينهما‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن هناك فوائد مرتتبة على الغسل من املين منها‪ :‬أنه أنفع شيء للبدن والقلب والروح‪ ،‬بل‬
‫مجيع األرواح القائمة بالبدن فإهنا تقوى باالغتسال‪.‬‬
‫ومنها أن الغسل خيلف على البدن ما حتلل منه خبروج املين‪ ،‬ومنها أن الغسل حيدث نشاطا وخفة يذهبان ما‬
‫أحدثته اجلنابة من ثقل وكسل‪ ،‬مث إن طهارة املين غري متفق عليها‪ ،‬فكثري من العلماء ذهب إىل أنه جنس‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الشارع أوجب قضاء الصوم على احلائض دون الصالة‪ ،‬مع أن الصالة أوىل باحملافظة عليها‪.‬‬
‫الرد‪ :‬أن احليض ملا كان منافيا للعبادة مل يشرع فيه فعلها‪ ،‬وكان يف صالهتا أيام الطهر ما يغنيها عن صالته‬
‫يف أيام احليض‪ ،‬فيحصل هلا مصلحة الصالة يف زمن الطهر لتكررها كل يوم‪ ,‬خبالف الصوم‪ ،‬فإنه ال يتكرر وهو‬
‫شهر واحد يف العام‪ ،‬فلو سقط عنها فعله باحليض مل يكن هلا سبيل إىل تدارك نظريه‪ ،‬وفاتت عليها مصلحته‪،‬‬
‫فوجب عليها أن تصوم شهرا يف طهرها‪ ،‬لتحصل مصلحة الصوم اليت هي من متام رمحة اهلل بعبده وإحسانه إليه‬
‫بشرعه (‪.)1‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الش ارع ح رم النظ ر إىل العج وز الش وهاء القبيح ة املنظ ر إذا ك انت ح رة‪ ،‬وج وزه إىل األم ة الش ابة‬
‫البارعة اجلمال‪.‬‬
‫ِمِن‬
‫ال رد‪ :‬أن ذل ك ك ذب على الش ارع‪ ،‬ف أين ح رم اهلل ه ذا وأح ل ذاك؟ واهلل س بحانه إمنا ق ال‪ُ " :‬ق ل ِّلْلُم ْؤ َني‬
‫َيُغُّض وا ِم ْن َأْبَص اِر ِه ْم " (‪ ،)2‬ومل يطل ق اهلل ورس وله لألعني النظ ر إىل اإلم اء البارع ات اجلم ال‪ ،‬وإذا خش ي الفتن ة‬

‫(?) أعالم الموقعين جـ‪ 2‬ص‪.78،77‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) سورة النور اآلية‪.3 :‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪26‬‬

‫ب النظر إىل األم ة ح رم علي ه بال ريب‪ ،‬على أن منش أ تل ك الش بهة‪ ،‬ه و أن الش ارع ش رع للحرائ ر أن يس رتن‬
‫وجوههن عن األجانب‪ ،‬وأما اإلمياء فلم يوجب عليهن ذلك‪ ،‬لكن هذا يف إماء االستخدام واالبتذال‪ ،‬وأما إمياء‬
‫التس ري الاليت ج رت الع ادة بص وهنن وحجبهن ف أين أب اح اهلل ورس وله هلن أن يكش فن وج وههن يف األس واق‬
‫والطرقات وجمامع الناس وأن للرجال يف التمتع بالنظر إليهن (‪.)1‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الش ريعة أم رت بقط ع سارق ثالثة دراهم خمتلس أل ف دينار أو منتهبها أو غاص بها‪ ،‬مث جعلت ديتها‬
‫مخسمائة دينار فأمرت بقطعها يف ربع دينار‪ ،‬وجعلت دية هذا القدر الكبري‪.‬‬
‫ال رد‪ :‬أن الس ارق خيتل ف عن املختلس واملنتهب والغاص ب‪ ،‬ذل ك ألن الس ارق ال ميكن االح رتاز من ه إال‬
‫بتشديد احلكم عليه ألنه يأخذ أموال الغري خفية من حرزها اليت أحرزت فيه‪ ،‬وال سبيل إىل زجره واحملافظة على‬
‫أموال الناس منه إال بقطع يده‪ ،‬أما املنتهب فألنه يأخذ مال غريه جهرة ميكن منعه أو الشهادة عليه عند احلكم‪،‬‬
‫وأما املختلس فإنه ينتهز غفلة الناس ويأخذ أمواهلم‪ ،‬و ميكن االحتزار منه باليقظة واالنتباه واحلذر‪ ،‬وأما الغاصب‬
‫فهو أوىل بعدم القطع من املنتهب‪.‬‬
‫وأما قطع اليد يف ربع دينار وجعل ديتها مخسمائة دينار فلمصلحة األموال واألطراف‪ ،‬فتقطع اليد يف ثالثة دراهم درءا للسرقات حمافظة‬
‫على األم وال وض مانا حلص ول األمن‪ ،‬وإذا قطعت الي د ك انت ديته ا مخس مائة دين ار‪ ،‬وه ذا مق دار كب ري ي درأ اإلنس ان عن قط ع ي د آخ ر‪،‬‬
‫فاحملافظة على األموال اقتضت القطع يف املقدار الصغري‪ ،‬واحملافظة على األيدي اقتضت أن تكون الدية هذا املقدار‪ ،‬وقد نقل ابن القيم يف هذا‬
‫املقام أبياتا اشتملت على السؤال‪ ،‬وعقبها بذكر أبيات فيها الرد عليها قال‪ :‬وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال‪ ،‬وضمنه ببيتني‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫م ا باهلا قطعت يف رب ع دين ار‬ ‫ي د خبمس م ئني عس جد وديت *‬

‫ونس تجري مبوالن ا من الع ار‬ ‫تن اقض م ا لن ا إال الس كوت ل ه *‬

‫فأجابه بعض الفقهاء بأهنا كانت مثينة فلما خانت هانت وضمنه الناظم قوله‪:‬‬

‫لكنه ا قطعت يف رب ع دين ار‬ ‫ي د خبمس م ئني عس جد وديت *‬

‫خيان ة املال‪ ،‬ف أنظر حكم ة الب اري‬ ‫محاي ة ال دم أغاله ا‪ ،‬وأرخص ها *‬

‫‪ 5‬ـ إن الشرع أوجب حد الفرية على من قذف غريه بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه‪.‬‬
‫ال رد‪ :‬أن الق اذف غ ريه بالزن ا ال س بيل للن اس إىل العلم بكذب ه‪ ،‬فجع ل ح د الفري ة تك ذيبا ل ه‪ ،‬وتربئ ة لع رض‬
‫املقذوف‪ ،‬وتعظيما لشأن هذه الفاحشة اليت جيلد من رمى هبا مسلما‪ ،‬وأما رمى غريه بالكفر فإن شاهد حال‬

‫(?) أعالم الموقعين جـ‪ 2‬ص‪.80‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪27‬‬

‫املسلم واطالع املسلمني عليها كاف يف تكذيبه‪ ،‬وال يلحقه من العار بكذبه عليه يف ذلك ما يلحقه بكذبه عليه‬
‫يف الرمي بالفاحشة‪ ،‬والسيما إن كان املقذوف امرأة‪ ،‬فإن العار واملعرة اليت تلحقها بقذفه بني أهلها وتشعب‬
‫ظنون الناس وكوهنم بني مصدق ومكذب ال يلحق مثله من رمى بالكفر (‪.)1‬‬
‫‪ 6‬ـ أن الشرع اكتفى يف القتل بشاهدين دون الزنا والقتل أكرب من الزنا‪.‬‬
‫الرد‪ :‬بأن اكتفاء الشرع بشاهدين يف القتل وطلبه أربعة يف الزنا‪ ،‬فإن ذلك كله على سبيل االحتياط‪ ،‬فإن‬
‫الش ارع احت اط للقص اص وال دماء‪ ،‬واحت اط حلد الزن ا‪ ،‬فل و مل يقبل يف القتل إال أربع ة لض اعت ال دماء وت واثب‬
‫الع ادون وجترءوا على القت ل‪ ،‬وأم ا الزن ا فإن ه ب الغ يف س رته كم ا ق در اهلل س رته‪ ،‬ف اجتمع على س رته ش رع اهلل‬
‫وقدره‪ ،‬فلم يقبل فيه إال أربع يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها االحتمال (‪.)2‬‬
‫‪ 7‬ـ أن اهلل ح رم أخ ذ م ال الغ ري إال بطيب نفس من ه‪ ،‬مث س لطه على أخ ذ عق اره وأرض ه بالش فعة‪ ،‬مث ش رع‬
‫الشفعة فيما ميكن التخلص من ضرر الشركة فيه بالقسمة دون ما ال ميكن قسمته كاجلوهرة واحليوان‪.‬‬
‫الرد‪ :‬إن هذا السؤال قد أورد على وجهني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬على أصل الشفعة وإن االستحقاق هبا خمالف لتحرمي أخذ مال الغري إال بطيب نفس منه‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنه خص بعض املبيع بالشفعة دون بعض‪ ،‬مع قيام السبب املوجب للشفعة‪ ،‬وهو ضرر الشركة‪.‬‬
‫الرد‪ :‬أن أخذ مال الغري بدون إذنه حمرم ملا يف ذلك من الضرر الالحق به‪ ،‬إذ يف ذلك نقص ماله دون مقابل‬
‫أما الشفعة فليس فيها أخذ ماله دون مقابل كما أهنا تدفع الضرر الذي يلحق الشفيع وحتقق غرض البائع من‬
‫الثمن‪ ،‬وال فرق بني أن يكون من املشرتي أو من الشفيع‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬ثبوت الشفعة فيما يقسم وما ال يقسم بناءا على أن الضرر املقصود دفعه هو الضرر احلاصل‬
‫بالشركة‪ ،‬وهذا القدر فيما ال يقسم أوضح منه فيما يقسم‪ ،‬واحتجوا على ذلك بأدلة كثرية‪ ،‬منها ما رواه عبد‬
‫العزيز بن رفيع عن ابن مليكه عن ابن عباس قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬الشريك شفيع‪ ،‬والشفعة يف‬
‫كل شيء) (‪.)3‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 2‬ص‪.84،83‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)المرجع السابق جـ‪ 2‬ص‪.84‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)الجامع الصحيح‪ ،‬سنن الترمذي جـ‪ 3‬ص‪ 645‬رقم ‪ ،1371‬سنن البيهقي الكبرى جـ‪ 6‬ص‪ 109‬رقم ‪،11378‬‬ ‫‪3‬‬

‫سنن الدارقطني جـ‪ 4‬ص‪ 222‬برقم ‪.69‬‬


‫‪28‬‬

‫قالوا‪ :‬لو كانت األحاديث خمتصة بالعقار والعروض املتقسمة‪ ،‬فإثبات الشفعة فيها تنبيه على ثبوت الشفعة‬
‫فيما ال يقبل القسمة (‪.)1‬‬
‫‪ 8‬ـ مجعت الشريعة بني املختلفات‪ ،‬وذلك كاجلمع بني اخلطأ والعمد يف ضمان األموال‪.‬‬
‫الرد‪ :‬أن اخلطأ والعمد وإن كانا خمتلفني إال أهنما احتدا يف العلة املقتضية يف احلكم‪ ،‬وهذه العلة هي اإلتالف‬
‫فاحتدا يف عل ة الض مان‪ ،‬وهي اإلتالف ‪ ،‬واختلف ا يف عل ة اإلمث‪ ،‬وهي املعص ية املتص ف هبا املتعم د دون املخطئ‪،‬‬
‫كما بني أن التسوية بينهما تقتضيه مصلحة الناس واحملافظة على أمواهلم‪ ،‬إذ لو مل يضمن املخطئ التسع األمر‬
‫أمام املدعني وقتلوا غريهم‪ ،‬وادعوا اخلطأ‪ ،‬ولذا وجب الدية على القاتل خطأ‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ مجعت الشريعة بني اهلرة والفأرة يف الطهارة‪.‬‬
‫ال رد‪ :‬أن املعرتض ني ظن وا أن الع داوة بني اهلرة والف أرة تقتض ي التف اوت بينهم ا يف احلكم‪ ،‬ولكن احلكم‬
‫بالطه ارة مبين على عل ة حتققت يف ك ل منهم ا وهي الط واف ب البيوت واتص اهلا باألوعي ة واملالبس وغريه ا‪ ،‬فل و‬
‫ج اءت الش ريعة بنجاس ة أح دمها ك ان يف ه ذا مش قة‪ ،‬ق ال علي ه الس الم يف اهلرة‪( :‬إهنا ليس بنجس‪ ،‬إهنا من‬
‫الطوافني عليكم والطوافات)(‪.)2‬‬
‫‪ 10‬ـ أن الشريعة مجعت بني امليتة وذبيحة غري الكتايب يف التحرمي‪ ،‬وميتة الصيد وذبيحة احملرم له‪ ،‬قالوا‬
‫فأي تفاوت يف ذلك؟‬
‫الرد‪ :‬إن السبب يف حترمي امليتة ليس احتقان الدم‪ ،‬كما أن ما ذحبه احملرم أو الكافر غري الكتايب ليس السبب يف‬
‫حترميه منظ ورا في ه إىل احتق ان الدم أو عدم ه‪ ،‬وإمنا العل ة يف التح رمي للميتة اخلبث‪ ،‬واهلل ق د حرم علينا اخلب ائث‪،‬‬
‫واحتق ان الدم يف امليتة س بب ظ اهر‪ ،‬وحترمي ذبيح ة الك افر غري الكتايب ك ذلك أيض ا س ببه اخلبث‪ ،‬فخبث نفس ه‬
‫أكسبت الذبيحة خبثا أوجب حترميها‪ ،‬ومثل ذبيحة الكافر ذبيحة تارك التسمية عمدا‪ ،‬ومن أهل بذبيحته لغري‬
‫اهلل‪ ،‬فخبث هؤالء كان سببا يف التحرمي‪ ،‬وليس من شرطه أن يظهر كاحتقان الدم‪ ،‬وال ينكر أن يكون ذكر اسم‬
‫األوثان والكواكب واجلن على الذبيحة يسكبها خبثا‪ ،‬وذكر اسم اهلل يكسبها طيبا‪ ،‬وبسبب اإلخالل بذكر اسم‬
‫اهلل يالبس الش يطان الذبيح ة كم ا البس ذاحبه ا فكالهم مس تويف اخلبث‪ ،‬والش يطان جيري يف جماري ال دم من‬
‫احليوان‪ ،‬والدم مركبه ومحله‪ ،‬وهو أخبث اخلبائث‪ ،‬وبذكر اسم اهلل خيرج الشيطان مع الدم وتطيب الذبيح ة‪،‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 2‬ص‪ 138‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ‪ 5‬ص‪ 296‬رقم ‪ ،22581‬صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان جـ‪ 4‬ص‪ 114‬رقم‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ،1299‬سنن البيهقي الكبرى جـ‪ 1‬ص‪ 245‬برقم ‪.1094‬‬


‫‪29‬‬

‫وك ذا إذا ذك ر ع دوا اهلل على الذبيح ة من ش يطان أو وثن ف ذلك يكس بها خبث ا‪ ،‬والذبيح ة جتري جمرى العب ادة‪،‬‬
‫كما قرن اهلل بينهما يف قوله‪َ " :‬فَص ِّل ِلَر ِّبَك واَحْنْر " (‪.)1‬‬
‫وإذا ك ان اخلبث موج ودا فيم ا مل ي ذكر اس م اهلل علي ه‪ ،‬أو ذك ر علي ه اس م ع دوه من ال ذبائح‪ ،‬وك ان ذل ك‬
‫فسقا‪ ،‬فما ذحبه عدوه الكافر أبلغ يف اخلبث‪ ،‬فيكون أوىل منه بالتحرمي‪ ،‬فإن فعل الذابح وقصده وخبثه ال ينكر‬
‫أن يؤثر يف املذبوح‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ :‬وهذه األمور إمنا يصدق هبا من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها وباشر قلبه بشاشة حكمها‪،‬‬
‫وما اشتملت عليه من املصاحل يف القلوب واألبدان‪ ،‬وتلقاها صافية من مشكاة النبوة‪ ،‬وأحكم العقد بينها وبني‬
‫األمساء والصفات اليت مل يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف‪.‬‬
‫وأما احملرم فإن ما حرم ما ذحبه من الصيد فلكونه منهيا عن قتل الصيد ولكون صيد الرب حمرما عليه بنص‬
‫القرآن الكرمي‪ ،‬ففي حال ذحبه الصيد يكون مرتكبا للحرام خمالفا للنهي‪.‬‬
‫هذا وما ذكرناه من الشبه واإلجابات عليها إمنا كان ذلك على سبيل التمثيل ال على سبيل احلصر‪ ،‬وإال فقد‬
‫ذك ر ابن القيم اثن تني ومخس ني ش بهة س ردها يف عق د واح د مث أج اب عليه ا بالتفص يل كال على ح ده مبا ينفي‬
‫الشك ويزيل الريب‪ ،‬فمن أراد املزيد فلريجع إىل أعالم املوقعني (‪.)2‬‬
‫أدلة مثبتي القياس‪:‬‬
‫استدل اجلمهور على حجية القياس بأدلة نقلية وعقلية‪.‬‬
‫أم ا دليلهم على أن القي اس ج ائز ال واجب فه و‪ :‬أن ه ال ي رتتب على اف رتاض التعب د ب ه حمال‪ ،‬وك ل م ا ك ان‬
‫كذلك كان جائزا عقال‪ ،‬فلو قال الشارع‪ :‬ال يقضي القاضي وهو غضبان‪ ،‬ألن الغضب يوجب اضطراب الرأي‬
‫والفهم‪ ،‬فيجوز أن يقاس على الغضب ما كان يف معناه كاجلوع والعطش واإلعياء املفرط‪.‬‬
‫وأما أدلتهم التفصيلية على الوجوب الشرعي فتتلخص يف أربعة (‪.)3‬‬
‫‪ 1‬ـ الكتاب‪ :‬قال تعاىل‪َ " :‬فاْعَتُرِبوا َيا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " (‪.)4‬‬

‫(?)سورة الكوثر اآلية‪.2 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 3‬ص‪ 71‬إلى ص ‪.175‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)راجع كشف األسرار للبخاري ‪ ،2/995‬التوضيح شرح التنقيح ‪ ،2/54‬أصول السرخسي ‪ 1/129‬وما بعدها‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫اإلحكام لآلمدي ‪ 3/76‬وما بعدها‪ ،‬فواتح الرحموت ‪ ،2/312‬مرآة األصول ‪ ،2/478‬شرح األسنوي ‪،18-3/12‬‬
‫أرشاد الفحول ‪ 176‬وما بعدها‪ ،‬طلعة الشمس جـ‪ 1‬ص‪ 20‬وما بعدها‪ ،‬محاضرات الزفراف ‪ 12‬وما بعدها‪.‬‬
‫(?)سورة الحشر اآلية‪.2 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪30‬‬

‫ووجه الداللة من اآلية أن اهلل سبحانه قص علينا يف سورة احلشر ما حل ببين النضري جزاء كفرهم وكيدهم‬
‫لرسول اهلل واملؤمنني‪ ،‬كما يشري إليه أول اآلية " ُه َو اَلِذ ي َأْخ َرَج اَلِذ يَن َك َف ُر وا‪ "...‬اآلية مث أعقب هذا بقوله‪" :‬‬
‫َفاْع َتُرِبوا " أي تأملوا فيما نزل هبؤالء من العقاب‪ ،‬وسبب العقاب‪ ،‬واحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم‪ ،‬فتعاقبوا مبثل‬
‫عق وبتهم‪ ،‬فم ا ج رى على املثي ل‪ ،‬جيري على مثيل ه‪ ،‬مما ي دل على أن املس ببات تابع ة ألس باهبا‪ ،‬فحيثم ا وج دت‬
‫األسباب ترتب عليها مسبباهتا‪ ،‬والقياس هبذا املعىن‪ ،‬فهو ترتيب املسبب على سببه‪ ،‬أينما وجد السبب‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬هي أن اهلل سبحانه وتعاىل أمرنا باالعتبار‪ ،‬ومعىن االعتبار هو العبور واجملاوزة واالنتقال من‬
‫الشيء إىل غريه‪ ،‬والقياس أيضا جماوزة باحلكم من األصل إىل الفرع فيكون مأمورا به‪ ،‬واملأمور به جيب العمل‬
‫ب ه‪ ،‬ألن كال من االعتب ار والقي اس يش رتكان يف مع ىن العب ور (أي املرور واجملاوزة)‪ ،‬فيق ال‪ :‬ج زت على ك ذا أي‬
‫عربت عليه‪ ،‬وعرب الرؤيا‪ ،‬جاوزها إىل ما يالزمها‪.‬‬
‫وقد اعرتض على هذا االستدالل بأن املراد باالعتبار يف "فاعتربوا" االتعاظ‪ ،‬وليس القياس‪ ،‬ألن األول متبادر‬
‫إىل الفهم عند إطالق اللفظ‪ ،‬وألنه مرتب على قوله سبحانه‪ُ" :‬ه َو اَلِذ ي َأْخ َرَج اَلِذ يَن َك َف ُر وا ِم ْن َأْه ِل الِكَتاِب ِم ن‬
‫ِدَياِر ِه ْم َألَّو ِل اَحلْش ِر َم ا َظَننُتْم َأن ْخَيُر ُج وا وَظُّنوا َأَّنُه م َّم اِنَعُتُه ْم ُحُصوُنُه م ِّم َن الَّل ِه َفَأَتاُه ُم الَّل ُه ِم ْن َح ْيُث ْمَل ْحَيَتِس ُبوا‬
‫وَق َذ َف يِف ُقُل وِهِبُم ال ُّر ْع َب ْخُيِر ُبوَن ُبُي وَتُه م ِبَأْي ِديِه ْم وَأْي ِدي ا ْؤ ِمِنَني َف اْع َتُرِبوا َي ا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " (‪ )1‬فليس املراد من‬
‫ُمل‬
‫قول ه "ف اعتربوا" القي اس الش رعي‪ ،‬إذ أن ه ال يناس ب ص در اآلي ة‪ ،‬ألن مع ىن اآلي ة يص بح حينئ ذ‪ :‬خيرب ون بي وهتم‬
‫بأيديهم وأيدي املؤمنني‪ ،‬فقيسوا مثال الذرة على الرب يف حترمي الزيادة الربوية‪ ،‬ويف هذا غاية الركاكة فيصان كالم‬
‫الباري عنه‪.‬‬
‫قال ابن حزم يف كتابه‪" :‬إبطال القياس والرأي واالستحسان والتقليد والتعليل" (‪ )2‬فأما قوله تعاىل‪( :‬فاعتربوا)‬
‫فلم يفهم أحد قط أن معىن (اعتربوا) قيسوا‪ ،‬واآلية جاءت بعقب قوله‪ :‬خيربون بيوهتم فلو كان معناه‪( :‬قيسوا)‬
‫لكان أمرا لنا بأن خنرب بيوتنا كما أخربوا بيوهتم اخل‪ ...‬وقال يف اإلحكام (‪" : )3‬وما علم أحد قط يف اللغة اليت‬
‫ن زل هبا الق رآن أن االعتب ار ه و القي اس‪ ،‬وإمنا أمرن ا اهلل تع اىل أن نتفك ر يف عظيم قدرت ه يف خل ق الس ماوات‬
‫واألرض‪ ،‬وما حل بالعصاة‪. "..‬‬
‫وأجيب عن ه ذا االع رتاض ب أن املراد من (اعت ربوا) ليس االتع اظ فق ط‪ ،‬وإمنا مطل ق االعتب ار ال ذي يك ون‬
‫القياس الشرعي جزءا من جزئياته وفردا من أفراده‪ ،‬وهذا املعىن يناسب صدر اآلية وال ركاكة فيه‪ ،‬إذ يكون‬

‫(‪)1‬سورة الحشر اآلية‪.2 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)ص ‪.27‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)‪.2/947‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪31‬‬

‫معىن اآلية خيربون بيوهتم بأيديهم وأيدي املؤمنني‪ ،‬فقيسوا األمور بأشباهها يا أوىل األبصار‪ ،‬فاملقصود من اآلية‬
‫إذا هو تقرير سنة عامة من سنن اهلل يف خلقه وهي أن كل ما جرى على النظري جيري على نظريه‪.‬‬
‫وأما ركاكة التعبري اليت الحظناها يف توجيه االعرتاض فمنشؤها اإلتيان بفرد من أفراد االعتبار‪ ،‬وهو القياس‬
‫خبصوصه‪ ،‬وهو ال يتأيت عند تقدير الكالم باملعىن األعم أو املطلق لالعتبار‪ ،‬فإن من سئل عن مسألة فأجاب مبا ال‬
‫يتناوهلا فإن جوابه يكون باطال‪ ،‬أما لو أجاب مبا يتناوهلا ويتناول غريها فإن جوابه يكون حسنا‪.‬‬
‫ويؤكد داللة هذه اآلية على حجية القياس آيات كثرية تقرن احلكم بعلته‪ ،‬مما يثبت أن أحكام الشارع معللة‬
‫باملصاحل‪ ،‬مرتبطة باألسباب‪ ،‬مثل قوله سبحنه يف بيان حكمة القصاص‪ " :‬وَلُك ْم يِف الِق َص اِص َحَياٌة " (‪ )1‬وقول ه يف‬
‫ِل‬ ‫ِح‬
‫احمليض‪ُ " :‬قْل ُه َو َأًذى َفاْعَتِز ُلوا الِّنَس اَء يِف اَمل يِض " ‪ ،‬وقوله يف إباحة التيمم " َم ا ُيِر ي ُد الَّل ُه َيْجَع َل َعَلْيُك م ِّم ْن‬
‫(‪)2‬‬

‫َح ٍج " (‪ )3‬وقوله يف حترمي اخلمر وامليسر" إَمَّنا ُيِر ي ُد الَّش ْيَطاُن َأن ُيوِق َع َبْيَنُك الَع َد اَو َة واْلَبْغَض ا يِف اَخلْم ِر واْلَم ْيِس ِر‬
‫َء‬ ‫ُم‬ ‫َر‬
‫(‪)4‬‬ ‫ِة‬ ‫ِن‬ ‫ِه‬‫َّل‬ ‫ِر‬ ‫ِذ‬
‫وَيُص ُك ْم َعن ْك ال وَع الَّص ال َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " ‪.‬‬ ‫َّد‬

‫كل هذا وحنوه من تعليل النصوص واألحكام‪ ،‬يدل على أن احلكم يوجد مع سببه‪ ،‬وهو معىن القياس حيث‬
‫ال يوجد نص‪ ،‬فيجب أن نقيس‪ ،‬وإال كانت األوامر كلها تعبدية‪ ،‬وهذا غري ثابت‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الس‪AA‬نة‪ :‬لق د ورد يف الس نة النبوي ة الش ريفة م ا ي دل على ثب وت العم ل بالقي اس ح ىت وص لت اآلث ار يف‬
‫األقيسة إىل التواتر املعنوي‪ ،‬منها أن النيب صلى اهلل عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إىل اليمن قاضيني‪ ،‬كل‬
‫واح د منهم ا يف ناحي ة (‪ ،)5‬فق ال هلم ا‪ :‬مب تقض يان؟ فق اال‪ :‬إذا مل جند احلكم يف الس نة‪ ،‬نقيس األم ر ب األمر‪ ،‬فم ا‬
‫كان أقرب إىل احلق عملنا به‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪ :‬أصبتما" (‪ ،)6‬وهذا حديث يدل على أن الرسول أقر‬
‫العمل بالقياس فيجب العمل به‪.‬‬
‫وكذا روى أن الرسول عليه الصالة والسالم قال ملعاذ‪" :‬ما تصنع إن عرض عليك قضاء؟ قال‪ :‬أقضي مبا يف‬
‫كتاب اهلل‪ ،‬قال‪ :‬فإن مل جتد يف كتاب اهلل؟ قال فبسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬قال فإن مل يكن يف سنة‬
‫رسول اهلل؟ قال‪ :‬أجتهد رأيي ال آلو‪ ،‬فضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على صدر معاذ‪ ،‬وقال احلمد هلل‬

‫(?)سورة البقرة اآلية‪.179 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة البقرة اآلية‪.222 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة المائدة اآلية‪.6 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)سورة المائدة اآلية‪.91 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)قال ابن سعد في طبقاته ‪ ،3/1403‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال‪ :‬خالد‬ ‫‪5‬‬

‫بن سعيد على صنعاء‪ ،‬والمهاجر بن أبي أمية على كندة‪ ،‬وزياد بن لبيد على حضر موت‪ ،‬ومعاذ بن جبل على‬
‫الجند‪ ،‬وأبي موسى األشعري على زيد وعدن الساحل‪.‬‬
‫(?)مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ‪ 5/236‬رقم الحديث ‪.22114‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪32‬‬

‫الذي وفق رسول رسول اهلل ملا يرضي رسول اهلل (‪")7‬فهذا يدل على إقرار الرسول العمل بالرأي‪ ،‬والقياس من‬
‫الرأي‪.‬‬
‫وثبت أيضا أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ق اس يف كثري من األم ور‪ ،‬منها‪" :‬أن رجال من خثعم جاء إىل‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقال‪( :‬إن أيب أدركه اإلسالم‪ ،‬وهو شيخ كبري ال يستطيع ركوب الراحلة‪ ،‬واحلج‬
‫مكتوب عليه‪ ،‬أفأحج عنه؟ قال‪ :‬أنت أكرب ولده؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه‪،‬‬
‫أكان جيزي ذلك عنه؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال فأحجج عنه) (‪ )1‬ويف رواية قال فدين اهلل أحق بالقضاء ويف رواية أخرى‬
‫أن السائل امرأة من خثعم واجلواب واحد‪ ،‬فالرسول قاس هنا دين اهلل على دين العباد يف وجوب القضاء‪.‬‬
‫وروى أن عمر قال‪( :‬صنعت اليوم يا رسول اهلل أمرا عظيما‪ ،‬قبلت وأنا صائم‪ ،‬فقال له رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أرأيت فو متضمضت مباء وأنت صائم؟ فقال‪ :‬ال بأس بذلك‪ ،‬فقال رسول اهلل‪ :‬ففيم (‪)2‬؟ أي يف أي‬
‫أمر هذا األسف‪ ،‬فالرسول قاس القبلة اليت هي مقدمة الوقاع على املضمضة اليت هي مقدمة الشرب يف أن كال‬
‫منهما وسيلة إىل املقصود‪ ،‬فال يفسدان الصوم‪.‬‬
‫وهذا يدل على أن املساواة بني الشيئني تصلح دليل إلثبات حكم األصل يف فرع‪ ،‬وهناك حوادث كثرية يف‬
‫هذا املعىن أفاض اآلمدي يف ذكرها‪.‬‬

‫وقد اعرتض على قصة معاذ وأيب موسى بأن تصويت النيب عليه السالم كان قبل نزول آية‪" :‬الَيْو َم َأْك َم ْلُت‬
‫َلُك ْم ِديَنُك ْم وَأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ِنْع َم يِت " (‪ )3‬فيك ون القي اس حج ة يف ذل ك الزم ان لك ون النص وص غ ري وافي ة جبمي ع‬

‫(?)راجع الحديث في التلخيص الحبير ‪ ،4/182‬جامع األصول ‪ ،10/551‬سنن أبي داود ‪ ،2/272‬نصب الراية‬ ‫‪7‬‬

‫‪ ،4/63‬جمع الفوائد ‪ ،1/685‬وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدرامي والبيهقي‪ ،‬وهو‬
‫حديث مرسل إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم قال الدارقطني‪( :‬والمرسل أصح)‪ ،‬وقال البخاري في تاريخه الكبير‪:‬‬
‫(مرسل إال أن عدم اتصال إسناده ال يمنع صحته‪ ،‬ألنه مروي عن أصحاب معاذ‪ ،‬وهم كلهم ثقاة) وقال الشوكاني‬
‫في إرشاد الفحول ‪ ،227‬وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض مجموعها للحجة‪ ،‬كما أوضحنا ذلك في‬
‫مجموع مستقل‪.‬‬
‫(?)أخرجه الشيخان والنسائي عن ابن عباس‪ ،‬وفيه روايات متعددة منها أن السائل رجل‪ ،‬ومنها أن السائل امرأة‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫قال الصنعاني‪( :‬ويجوز تعدد القضية) (جمع الفوائد ‪ ،1/506‬سبل السالم ‪ ،2/181‬نصب الراية ‪ 3/154‬وما‬
‫بعدها)‪.‬‬
‫(?)أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمر رضي اهلل عنه ونصه في آخره‪" :‬قلت‪ :‬ال بأس به‪ ،‬قال‪ :‬ففيم "سبل‬ ‫‪2‬‬

‫السالم ‪ ،2/158‬جمع الفوائد ‪ ،1/414‬جامع األصول ‪."7/196‬‬


‫(?)سورة المائدة اآلية‪.3 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪33‬‬

‫األحكام‪ ،‬أما بعد إكمال الدين والتنصيص على األحكام فال يكون القياس حجة‪ ،‬لعدم احلاجة إليه‪ ،‬ألن شرط‬
‫القياس فقدان النص‪.‬‬
‫واجلواب عنه‪ :‬أن اآلية تدل على إكمال أصول الدين فقط ال فروعه‪ ،‬ألن الواقع أن النصوص مل تتناول مجيع‬
‫فروع الشريعة لعدم تناهيها‪ ،‬فتكون احلاجة ماسة إىل لقياس إلثبات أحكام تلك الفروع‪.‬‬
‫وأيضا فإن تصويب النيب ملعاذ وأيب موسى يشعر بأن القياس حجة مطلقا دون ختصيص بوقت دون وقت‪،‬‬
‫فادعاء التخصيص حتكم‪ ،‬وال دليل عليه‪ ،‬ألن األصل عدم التخصيص‪ ،‬وأيضا فإن إكمال الدين يكون بواسطة‪،‬‬
‫وتلك الواسطة هي القياس‪.‬‬
‫واعرتض على حديث معاذ بأنه من املراسيل‪ ،‬ألن الذين رووه عن معاذ جمهولون‪ ،‬وقد أبرز هذا االعرتاض‬
‫ابن حزم يف كتاب ه‪( :‬األحك ام‪ ،‬وإبط ال القي اس‪ ،‬واالستحس ان) وأجيب عن ه ألن جهال ة ال رواة عن مع اذ ال مينع‬
‫صحة اآلخذ به لسببني‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أن هذا احلديث قد اشتهر وتلقته األمة بالقبول‪ ،‬وما كان كذاك ال يقدح فيه كونه مرسال‪ ،‬بل إن جهالة‬
‫الرواة عن معاذ وشهرهتم ال ختفى على أحد‪.‬‬
‫ثاني ا‪ :‬أن ه ذا احلديث وإن ك ان مرس ال عن ش عبة‪ ،‬واحلارث بن عم رو مرفوع ا إىل مع اذ‪ ،‬فإن ه روى مس ندا من‬
‫طريق آخر بإسناد عرف كل أصحابه وكلهم ثقات ضابطون (‪ ،)1‬مث لو سلم إن هذا احلديث غري صحيح‬
‫فغريه مما تثبت به احلجة على املراد قد صح‪.‬‬
‫واعرتض على حديث اخلثعمي بأن احلكم الثابت مبوجبه ليس بطريق القياس‪ ،‬وإمنا بالنص على قضاء الدين‬
‫يف قوله تعاىل‪ِ " :‬م ْن َبْع ِد وِص َّيٍة ُيوِص ي َهِبا َأْو َدْيٍن " (‪ ،)2‬وأجيب عنه بأنه افرتاض بعيد‪ ،‬فلو مل يكن إثبات احلكم‬
‫بطريق القياس على دين اآلدمي‪ ،‬ملا كان التعرض لذكره مفيدا‪ ،‬وإمنا يقتصر يف اجلواب على قوله‪( :‬نعم) أي حج‬
‫عن أبيك‪.‬‬
‫واعرتض على حديث عمر يف القبل ة بأن احلكم ثابت فيه من قبل الرسول املعص وم صاحب الرسالة الذي‬
‫يقول سبحانه عنه‪" :‬إن هو إال وحي يوحى" (‪ ،)3‬فليس احلكم ثابتا بالقياس‪.‬‬

‫(?)رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم‪ ،‬إال أن البخاري قال عنه‪ :‬ال يصح أي مسندا‪ ،‬مرسل‪ ،‬وقال الترمذي‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ليس إسناده عندي بمتصل‪ ،‬وانتصر بعضهم لصحته‪ ،‬وقد سبق تخرجه‪.‬‬
‫(?)سورة النساء اآلية‪.11 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة النجم اآلية‪.4 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪34‬‬

‫وأجيب عن ه ب ان فع ل الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم حج ة يف حقن ا‪ ،‬حنن مط البون بالتأس ي ب ه‪ ،‬وال يتحق ق‬
‫التأسي إال بالقياس على فعله‪ ،‬وهذا هو معىن القياس‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اإلمجاع‪ :‬أن الصحابة قد تكرر منهم القول بالقياس‪ ،‬والعمل به غري إنكار من أحد‪ ،‬فكان فعلهم إمجاعا‬
‫منهم على أن القياس حجة جيب العمل به‪ ،‬ومن أمثلته ما يأيت‪:‬‬
‫أن أبا بكر رضي اهلل عنه سئل عن الكالل ة‪ ،‬فق ال‪( :‬أق ول فيها برأيي‪ ،‬ف إن يكن صوابا فمن اهلل‪ ،‬وإن يكن‬
‫خطأ فمين ومن الشيطان‪ ،‬الكاللة‪ :‬ما عدا الوالد والولد)‪.‬‬
‫والرأي هو القياس‪ :‬ألن الكاللة معناها احلاشية يف الطريق‪ ،‬فجعل ما عدا الوالد والولد مثل هذه احلاشية‪،‬‬
‫وق اس الص حابة خالف ة أيب بك ر على تق دمي الرس ول ل ه يف إمام ة الص الة‪ ،‬وبين وا أس اس القي اس بق وهلم‪" :‬رض يه‬
‫رسول اهلل لديننا أفال نرضاه لدنيانا؟"‪.‬‬
‫وإن عمر رضي اهلل عنه كتب إىل أيب موسى األشعري حينما واله على البصرة‪ ،‬يقول فيه‪ :‬اعرف األشباه‬
‫والنظائر وقس األمور برأيك (‪.)1‬‬
‫وقال عثمان لعمر يف مسألة اجلد مع اإلخوة‪ :‬إن اتبعت رأيك وهو حجب األخوة باجلد فسديد‪ ،‬وإن تتبع‬
‫رأي من قبلك فنعم الرأي‪.‬‬

‫(?)أنكر ابن حزم في كتابه (المحلي ‪ )1/59‬وملخص إبطال القياس والرأي ‪ )6‬صحة هذه لرسالة‪ ،‬فقال (لم يروها‬ ‫‪1‬‬

‫إال عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه‪ ،‬وهو ساقط بال خالف وأبوه أسقط منه‪ ،‬أو من هو مثله في السقوط‪،‬‬
‫فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر منها قوله فيها‪( :‬والمسلمون عدول بعضهم على بعض إال‬
‫مجلودا في حسد‪ ،‬أو ظنيا في والء أو نسب‪ ،‬وهم ال يقولون بهذا‪ ،‬يعني‪ :‬جميع الحاضرين من أصحاب القياس من‬
‫المذاهب األربعة ال يعترفون بهذا الرأي من عمر‪ ،‬فكيف يحتجون بكالمه في القياس وال يعملون بما بقى من‬
‫كالمه‪..‬الخ) ونحن نرى أن هذا الكتاب صحيح على عكس ما يدعيه ابن حزم والمستشرقون‪ ،‬ألن كتب األدب‬
‫والفقه تضافرت على روايته‪ ،‬حتى وإ ن كان في مسنده هذه بعض الطعون الحديثة‪ ،‬فإن هناك روايات أخرى يقوي‬
‫بعضها بعضا‪ ،‬السيما وقد صح بعضها‪ ،‬فقد رواه الدراقطني ثم البيهقي سننهما عن أبي المليح الهذلي‪ ،‬وروى‬
‫بعضه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ ،‬وأخرجه الدراقطني من طريق‬
‫أحمد عن سعيد بن أبي بردة‪ ،‬ورواه البيهقي في المعرفة عن أبي العوام المصري‪ ،‬ونقله ابن الجوزي في سيرة‬
‫عمر بن الخطاب وأعتمده ابن القيم في أعالم الموقعين ‪ ،1/58‬وانظر (نصب الراية ألحاديث الهداية ‪،81-4/63‬‬
‫قال األستاذ أحمد شاكر معلقا على رواية الدراقطني من طريق أحمد بن حنبل‪( :‬وخير األسانيد فيما نرى إسناد‬
‫سفيان بن عيينه عن إدريس‪ ،‬وهو إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن األزدي وهو ثقة ـ أن سعيد بن أبي بردة بن أبي‬
‫موسى األشعري أراه الكتاب‪ ،‬وقرأه لديه‪ ،‬وهذه وجادة جيدة في قوة اإلسناد الصحيح إن لم تكن أقوى منه‪ ،‬فالقراءة‬
‫من الكتاب أوثق من التلقي عن طريق الحفظ)‪.‬‬
‫‪35‬‬

‫وق ال علي ك رم اهلل وجه ه‪ :‬أجتم ع رأيي ورأي عم ر يف أمه ات األوالد أن ال يبعن‪ ،‬وق د رأيت اآلن‪ ،‬وق ال‬
‫أيضا‪ :‬ويعرف احلق باملقايسة عند ذوي األلباب‪.‬‬
‫وق اس ابن عب اس رض ي اهلل عنهم ا اجلد على ابن االبن يف حجب األخ وة‪ ،‬وق ال‪ :‬إال يتقي اهلل زي د بن ث ابت‬
‫جيعل ابن االبن أبنا‪ ،‬وال جيعل أب األب أبا‪ ،‬يعىن مع أهنما نظريان يف اإلدالء للميت بواسطة‪.‬‬
‫فهذه الوقائع وحنوها الصادرة عن أكابر الصحابة اليت ال ينكرها إال معاند مشعرة بأن القياس حجة والعمل‬
‫به واجب‪.‬‬
‫اعرتض على هذا الدليل بأنه متسك بإمجاع هو سكويت‪ ،‬واإلمجاع السكويت حمل نزاع بني العلماء من حيث‬
‫االحتجاج به‪ ،‬فال يصلح حجة عند املنكرين له‪.‬‬
‫جياب عنه بأن االختالف يف هذا اإلمجاع هو حيث ال يقوم داللة على أن الكسوت يعترب رضا‪ ،‬وقد حتققت‬
‫الداللة هنا‪ ،‬إذ تكرر العمل بالقياس يف أوقات خمتلفة‪ ،‬ومع أشخاص خمتلفني‪ ،‬ومىت تكرر العمل دل على انتقاء‬
‫االحتماالت على أن السكوت ليس إال الرضى‪.‬‬
‫واعرتض على هذا اإلمجاع بأنه غري ثابت أصال‪ ،‬فقد أنكر الصحابة العمل بالقياس وذموا األخذ به‪ ،‬كما‬
‫عرفنا يف أدلة نفاه القياس‪ ،‬مثل ما نقل عن أيب بكر أنه قال‪( :‬أي مساء تظلين وأي أرض تقلين إذا قلت يف كتاب‬
‫اهلل برأيي) ونقل حنوه عن عمر وعلي وابن عباس وغريهم‪ ،‬وقد أجيب عن هذا االعرتاض بأن الذين نقل عنهم‬
‫إنكار الرأي هم الذين نقل عنهم إنكار الرأي هم الذين نقل عنهم القول به‪ ،‬فالبد‪ ،‬فال من التوفيق بني النقلني‪،‬‬
‫فيحمل ما نقل عنهم من أدلة اجلمهور على القياس الصحيح‪ ،‬وحيمل النقل املعارض على القياس الفاسد توفيقا‬
‫بني النقلني ومجعا بني الروايتني‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ المعقول‪ :‬وذلك من ثالثة أوجه‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أن أحكام الشارع معللة معقولة املعىن‪ ،‬وهلا مقاصد فاهلل سبحانه مل يشرع حكما إال ملصلحة‪ ،‬ومصاحل‬
‫العباد هي الغاية املقصود من تشريع األحكام‪.‬‬
‫فإذا غلب على ظن اجملتهد أن حكم األصل معلل وحتققت املقاصد والعلل يف غري موضع النص أي يف الفرع‪،‬‬
‫فإنه يثبت احلكم املقرر يف النص فيما ال نص فيه يف أغلب الظن عند اجملتهد‪ ،‬والعمل بالظن أمر واجب (‪ ،)1‬ألن‬
‫من احلكم ة والعدال ة أن تتس اوى الوق ائع يف احلكم عن د تس اويها يف املع ىن‪ ،‬حتقق ا للمص لحة ال يت هي مقص ود‬
‫الشارع من التشريع‪ ،‬فليس من املعقول أن يقتصر حترمي الربا ـ ربا البيوع ـ على األصناف الستة‪ ،‬وهي‪( :‬الذهب‬
‫والفضة والرب والشعري والتمر وامللح) منعا لالستغالل أو التالعب بأمثان األشياء وأقوات الناس‪ ،‬العلة هي الطعم‬

‫(?)شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ‪.2/238‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪36‬‬

‫أو االقتيات واالدخار أو النقدية أو املالية والكيل أو الوزن كما ذهب إىل كل ذلك فريق من الفقهاء‪ ،‬فهذه العلة‬
‫متحققة يف الذرة واألرز والفول مثال‪ ،‬فكان البد من حترمي الربا يف هذه األشياء‪ ،‬كما أن النقدية واملالية تتحققان‬
‫يف األوراق النقدية كالذهب والفضة سواء بسواء‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن الشافعي الذي يعترب أول من تكلم يف القياس ضابطا لقواعده مبينا أسسه‪ ،‬قرر أن كل ما يكن من‬
‫أحداث ونوازل‪ ،‬فلإلسالم فيه حكم‪ ،‬ألن الشريعة عامة نعم األحداث مجيعا باحلكم عليها بكوهنا خريا أو شرا‪،‬‬
‫حمظ ورة أو مباح ة‪ ،‬وحينئذ البد من أن يك ون الش ارع ق د نب ه إىل حكم احلادثة إم ا بنص أو بإش ارة‪ ،‬أو بدالل ة‬
‫تدل على احلكم‪ ،‬ومعرفة احلكم بطريق الداللة يكون باالجتهاد واالستنباط وإحلاق األشباه بأشباهها‪.‬‬
‫مث إن الش ريعة اإلس المية هي خامتة الش رائع وإن نص وص الق رآن والس نة حمدودة متناهي ة بانته اء ال وحي‪،‬‬
‫وح وادث الن اس وأقض يتهم غ ري حمدودة وال متناهي ة‪ ،‬واملتن اهي ال حيي ط بغ ري املتن اهي إال إذا فهمت العل ل ال يت‬
‫ألجله ا ش رعت األحك ام املنصوص ة‪ ،‬وطبقت على م ا مياثله ا‪ ،‬فإن ه جيب الق ول بالقي اس وه ذا ه و معن اه‪ ،‬ق ال‬
‫الشهرستاين‪( :‬وباجلملة نعلم قطعا ويقينا أن احلوادث والوقائع يف العبادات والتصرفات مما ال يقبل احلصر والعد‪،‬‬
‫ونعلم قطعا أيضا أنه مل يرد يف كل حادثة نص‪ ،‬وال يتصور ذلك أيضا‪ ،‬والنصوص إذا كانت متناهية‪ ،‬وما ال‬
‫يتناهى‪ ،‬علم قطعا أن االجتهاد والقياس واجب االعتبار حىت يكون بصدد كل حادثة اجتهاد (‪.)1‬‬
‫وهبذا الطريق تكون الشريعة اإلسالمية صاحلة للتطبيق يف كل زمان ومكان‪ ،‬وافية حباجات الناس ومصاحلهم‬
‫إىل األبد‪ ،‬فإنكار القياس يف الشريعة رمى هلا باجلمود وطعن عليها بعدم وفائها حباجات الناس (‪ ،)2‬وذلك يتناىف‬
‫مع جوهر الشرع وروحه العامة‪ ،‬ويناقض املقصود من بعثة الرسل عليهم السالم‪.‬‬
‫ثالث‪AA‬ا‪ :‬إن الفط رة الس ليمة وبداه ة العق ول تقتض ي العم ل بالقي اس‪ ،‬فمن من ع من فع ل‪ ،‬ألن في ه أكال ألم وال‬
‫بالباطل‪ ،‬أو ألن فيه ظلما لغريه واعتداء على حق اآلخرين‪ ،‬فإنه يقيس على هذا الفعل كل أمر فيه عدوان أو‬
‫ظلم‪ ،‬والناس يف كل زمن يعرفون أن ما جرى على أحد املثلني جيري على اآلخر حيث ال فرق بينهما‪ ،‬فاحلكم‬
‫باإلعدام على شخص إلخالله بأمن الدولة مثال جيري على أي شخص آخر يرتكب مثل هذه اجلرمية‪.‬‬
‫واخلالص ة‪ :‬إن س بب اخلالف يف حجي ة القي اس راج ع إىل مب دأ تعليل النص وص كم ا أوضحنا قريب ا يف هناي ة‬
‫الكالم على أدلة منكري القياس يف هذا البحث‪ ،‬فاجلمهور الذين أثبتوا القياس قرروا أن األحكام معللة معقولة‬
‫املعىن‪ ،‬والعلة باعثة على نقل احلكم من األصل إىل الفرع‪ ،‬أو إثبات مثل حكم املنصوص عليه يف غري املنصوص‬

‫(?)الملل والنحل ‪.1/199‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)أصول الفقه للشيخ‪ /‬زكي الدين شعبان ‪.66‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪37‬‬

‫عليه‪ ،‬ونفاه القياس من الظاهرية وغريهم قرروا أن النصوص غري معللة تعليال من شأنه تعدية احلكم إىل ما وراء‬
‫النص (‪.)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫إن املرء إذا جترد من امليل ألحد املذهبني ونظر يف القرآن الكرمي‪ ،‬وتتبع أعمال الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫والصحابة من بعده‪ ،‬وجد أدلة كثرية على استعمال القياس (‪ )1‬مما يؤدي إىل ضرورة القول حبجيته فيما مل يرد‬
‫فيه نص أو إمجاع‪.‬‬
‫فمن اآليات القرآنية قوله تعاىل‪ " :‬وَلَق ْد َج اَء آَل ِفْر َع ْو َن الُّن ُذ ُر * َك َّذ ُبوا ِبآَياِتَن ا ُك ِّلَه ا َفَأَخ ْذ َناُه ْم َأْخ َذ َعِز ي ٍز‬
‫ُّمْق َت ِدٍر * َأُك َّف اُر ُك ْم َخ ْيٌر ِّم ْن ُأْو الِئُك ْم َأْم َلُك م َبَر اَءٌة يِف الُّز ُب ِر " (‪ )2‬فه ذا إن ذار من اهلل س بحانه وتع اىل إىل كف ار‬
‫قريش بإنزال العذاب عليهم‪ ،‬كما عذب آل فرعون‪ ،‬لتماثلهم يف السبب وهو تكذيب الرسل‪ ،‬ويف هذا تعدية‬
‫للحكم الذي كان لقوم فرعون إىل من جاء بعدهم‪.‬‬
‫ِلِد ِف ِه‬ ‫ِف ِت‬ ‫ِفِق‬
‫ومن قوله عز وجل‪" :‬وَعَد الَّلُه اُملَنا َني واْلُم َنا َق ا واْلُك َّفاَر َناَر َجَه َّنَم َخ ا يَن يَه ا َي َحْس ُبُه ْم وَلَعَنُه ُم الَّل ُه‬
‫وُهَلْم َعَذ اٌب ُّم ِق يٌم * َك اَّلِذ يَن ِم ن َقْبِلُك ْم َك اُنوا َأَش َّد ِم نُك ْم ُقَّوًة وَأْك َثَر َأْم َو اًال وَأْو الدًا َفاْس َتْم َتُعوا َخِبالِقِه ْم َفاْس َتْم َتْع ُتم‬
‫َخِبالِقُك ْم َك َم ا اْس َتْم َتَع اَل ِذ يَن ِم ن َقْبِلُك م َخِبالِقِه ْم وُخ ْض ُتْم َك اَّل ِذي َخ اُض وا ُأْو َلِئ َك َح ِبَطْت َأْع َم اُهُلْم يِف ال ُّد ْنَيا‬
‫واآلِخ َر ِة وُأْو َلِئ َك ُه ُم اَخلاِس ُر وَن " (‪ . )3‬فهذا وعد للمنافقني بنار جهنم‪ ،‬كما وعد الذين من قبلهم‪ ،‬لتماثلهم يف‬
‫الس بب ال داعي إىل دخ ول جهنم‪ ،‬وه و األعم ال الس يئة ال يت ذكره ا احلق تع اىل بقول ه‪َ " :‬فاْس َتْم َتُعوا َخِبالِقِه ْم "‬
‫اآلية‪ ،‬ومعناه أنه قاس قوما على قوم يف احلكم‪ ،‬لتماثلهم يف العلة الداعية إليه‪.‬‬
‫وأما أعمال الرسول عليه الصالة والسالم وصحابته من بعده فقد سبق بيان أمثلة منها‪ ،‬فال داعي إلعادهتا‪.‬‬
‫القياس في القرآن الكريم‬
‫وأنواع ــه‬
‫لقد ورد استعمال القياس يف القرآن الكرمي واالحتجاج به تنبيها للعقول الغافلة بإقامة الربهان الساطع على‬
‫وحدانية اهلل وقدرته الباهرة‪ ،‬وذلك يف مواقف كثرية‪ ،‬ومل يقتصر وروده على نوع واحد من أنواعه‪ ،‬فجاء فيه‬

‫(?) راجع الموافقات ‪ ،4/230‬كشف األسرار ‪ ،2/1013‬التوضيح ‪ ،2/64‬شرح العضد لمختصر المنتهي‬ ‫‪3‬‬

‫‪.2/238‬‬
‫(?) أعالم الموقعين ‪ 1/130‬وما بعدها‪ ،‬ومحاضرات الزفزاف ‪ 15‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) سورة القمر اآليات‪.43- 41 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) سورة التوبة اآليتان‪.69 ،68 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪38‬‬

‫قياس العلة‪ ،‬وقياس الداللة‪ ،‬كما ورد فيه قياس الشبه حمكيا عن املبطلني حمتجني به على دعواهم فيما يدعون‪،‬‬
‫وها حنن نورد كل من األنواع الثالثة مقرتنا باألمثلة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قياس العلة‪:‬‬
‫قياس العلة‪ :‬هو اجلمع بني األصل والفرع الشرتاكهما يف علة احلكم‪.‬‬
‫وقد ساق ابن القيم هلذا النوع أمثلة كثرية نذكر بعضها‪ ،‬فمنها‪:‬‬
‫قوله تعاىل‪ " :‬إَّن َم َثَل ِعيَس ى ِعنَد الَّلِه َك َم َثِل آَدَم َخ َلَق ُه ِم ن ُتَر اٍب َّمُث َقاَل َلُه ُك ن َفَيُك وُن (‪.)1‬‬
‫ف أخرب تع اىل أن عيس ى نظ ري آدم يف التك وين جبامع م ا يش رتكان في ه من املع ىن ال ذي تعل ق ب ه وج ود س ائر‬
‫املخلوقات‪ ،‬وهو جميئها طوعا للمشيئة وتكوينه‪ ،‬فكيف يستنكر وجود عيسى من غري أب من يقر بوجود آدم‬
‫من غري أب‪ ،‬وال أم ؟ ووجود حواء من غري أم‪ ،‬فآدم وعيسى نظريان جيمعهما املعىن الذي يصح تعليق اإلجياد‬
‫واخللق به (‪.)2‬‬
‫قوله تعاىل‪َ :‬قْد َخ َلْت ِم ن َقْبِلُك ْم ُس َنٌن َفِس ُريوا يِف اَألْر ِض َف انُظُر وا َك ْيَف َك اَن َعاِقَب ُة ا َك ِّذ ِبَني (‪ )3‬أي قد كان‬
‫ُمل‬
‫من قبلكم أمم أمث الكم ف انظروا إىل ع واقبهم الس يئة وأعلم وا أن س بب ذل ك م ا ك ان من تك ذيبهم بآي ات اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬وهم األصل‪ ،‬وأنت الفرع‪ ،‬والعلة اجلامعة التكذيب واحلكم اهلالك (‪.)4‬‬
‫ِّك َّل‬ ‫يِف‬ ‫ٍن َّك‬ ‫ِم ِلِه‬
‫قول ه تع اىل‪َ " :‬أْمَل َيَر ْو ا َك ْم َأْه َلْك َن ا ن َقْب م ِّم ن َقْر َّم َّن اُه ْم اَألْر ِض َم ا ْمَل َمُن ن ُك ْم وَأْر َس ْلَنا الَّس َم اَء‬
‫َعَلْيِه م ِّم ْد َر ارًا وَجَعْلَنا اَألْنَه اَر ْجَتِر ي ِم ن ْحَتِتِه ْم َفَأْه َلْك َناُه م ِبُذ ُنوِهِبْم وَأنَش ْأَنا ِم ْن َبْع ِدِه ْم َقْر نًا آَخ ِر يَن " (‪.)5‬‬
‫فاألصل األمم السابقة‪ ،‬والفرع املكذبون بالرسول والعلة والتكذيب‪ ،‬واحلكم اإلهالك‪.‬‬
‫وهذا القياس هو أصل القياسني اللذين سنتحدث عنهما فيما بعد‪ ،‬فهما راجعان إليه‪ ،‬وقد أسلفنا يف هذا‬
‫البحث مذاهب الفقهاء واألصوليني يف االحتجاج به من بني مانع وجميز ومتوسع فيه وغري متوسع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قياس الداللة‪:‬‬
‫قياس الداللة‪" :‬هو اجلمع بني األصل والفرع بدليل العلة وملزومها"‪.‬‬

‫(?)سورة آل عمران اآلية‪.59 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪.134‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة آل عمران اآلية‪.137 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪.134‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)سورة األنعام اآلية‪.6 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪39‬‬

‫ِش‬ ‫ِم ِتِه‬


‫ومن أمثلة هذا النوع‪ ،‬قوله تعاىل‪" :‬و ْن آَيا َأَّنَك َتَر ى اَألْر َض َخ ا َعًة َف إَذا َأنَز ْلَن ا َعَلْيَه ا ا اَء اْه َتَّز ْت وَرَبْت‬
‫َمل‬
‫إَّن اَل ِذ ي َأْحَياَه ا َلُم ْح ِيي ا وَتى إَّن ُه َعَلى ُك ِّل َش ْي ٍء َق ِديٌر " (‪ .)1‬ف دل س بحانه عب اده مبا أراهم من األحي اء ال ذي‬
‫ُمل‬
‫حتقق وه وش اهدوه على اإلحي اء ال ذي اس تبعدوه‪ ،‬وذل ك قي اس إحي اء على إحي اء‪ ،‬واعتب ار الش يء بنظ ريه والعل ة‬
‫املوجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته وإحياء األرض دليل العلة (‪.)2‬‬
‫ِل‬
‫ومنه ا قول ه تع اىل‪ْ " :‬خُيِر ُج اَحلَّي ِم َن ا ِّيِت َو ْخُيِر ُج ا ِّيَت ِم َن اَحلِّي َو ْحُيِيي اَألْر َض َبْع َد َمْو َهِتا َو َك َذ َك‬
‫َمل‬ ‫َمل‬
‫ْخُتَر ُج وَن "(‪ .)3‬ف دل النظ ري على النظ ري‪ ،‬وق رب أح دمها من اآلخ ر ج دا بلف ظ اإلخ راج‪ ،‬أي خيرج ون من األرض‬
‫أحياء كما خيرج احلي من امليت وخيرج امليت من احلي (‪.)4‬‬
‫وقياس الداللة يف التحقيق يرجع إىل قياس العلة ذلك أنه وإن مل يصرح هبا فيه بل كان اجلمع مبا تضمنها‬
‫اكتفاءا به‪ ،‬وقد عرفت مذاهب العلماء يف االحتجاج بالقياس وعدم االحتجاج به‪.‬‬
‫(‪ )3‬قياس الشبه‪:‬‬
‫قياس الشبه‪" :‬هو اجلمع بني األمرين للمشاهبة بينهما يف الصورة وإن اختلفا حقيقة"‪.‬‬
‫ق ال اآلس نوي‪ :‬وعرف ه بعض هم بأن ه الوص ف ال ذي ال تظه ر فيه ا املناس بة بع د البحث الت ام‪ ،‬ولكن أل ف من‬
‫الشارع االلتفات إليه يف بعض األحكام فهو دون املناسب وفوق الطردي‪ ،‬قال‪ :‬وألجل شبهه بكل منهما مسي‬
‫الشبه (‪.)5‬‬
‫ق ال ابن القيم‪" :‬وأم ا قي اس الش به فلم حيكي ه اهلل س بحانه إال عن املبطلني‪ ،‬فمن ه قول ه تع اىل إخب ارا عن أخ وة‬
‫يوسف أهنم قالوا ملا وجدوا الصواع يف رحل أخيهم‪ " :‬إن َيْس ِر ْق َفَقْد َس َر َق َأٌخ َّلُه ِم ن َقْبُل " (‪.)6‬‬
‫فلم جيمع وا بني األص ل والف رع بعل ة وال دليه ا وإمنا أحلق وا أح دمها ب اآلخر من غ ري دلي ل ج امع س وى جمرد‬
‫الش به اجلامع بين ه وبني يوس ف فق الوا‪ :‬ه ذا مقيس على أخي ه‪ ،‬بينهم ا ش به من وج وه عدي دة وذاك ق د س رق‬
‫فكذلك هذا‪ ،‬وهذا هو اجلمع بالشبه الفارغ‪ ،‬والقياس بالصورة اجملردة عن العلة املقتضية للتساوي‪ ،‬وهو قياس‬

‫(?)سورة فصلت اآلية‪.39 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪.139‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة الروم اآلية‪.9 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪.139‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)راجع نهاية السول جـ‪ 2‬ص ‪.63‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?)سورة يوسف اآلية‪.77 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪40‬‬

‫فاسد‪ ،‬والتساوي يف قرابة األخوة ليس بعلة للتساوي يف السرقة لو كانت حقا‪ ،‬وال دليل على التساوي فيها‪،‬‬
‫فيكون اجلمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها (‪.)1‬‬
‫ومن أمثلته أيضا‪ ،‬قوله تعاىل إخبارا عن الكفار أهنم قالوا‪َ " :‬م ا َنَر اَك إال َبَش رًا ِّم ْثَلَنا " (‪.)2‬‬
‫فاعتربوا صورة جمرد اآلدمية وشبه اجملانسة فيها‪ ،‬واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهني حكم اآلخر‪،‬‬
‫فكما ال نكون حنن رسال فكذلك أنتم‪ ،‬فإذا تساوينا يف هذا الشبه فأنتم مثلنا ال مزية لكم علينا‪ ،‬قال‪ :‬وهذا من‬
‫أبطل القياس‪ ،‬فإن الواقع من التخصيص والتفضيل وجعل بعض هذا النوع شريفا وبعضه أدىن‪ ،‬وبعضه مرؤوس ا‬
‫وبعضه رئيسا‪ ،‬وبعضه ملكا وبعضه سوقه‪ ،‬يبطل القياس (‪.)3‬‬
‫وبعد أن ساق األمثلة الكثرية على قياس الشبه قال‪ :‬وهذا كله مدحض القياس الشبه اخلالي عن العلة املؤثرة‬
‫والوصف املقتضي للحكم‪ ،‬واهلل أعلم (‪.)4‬‬
‫هذا وإذا كان املراد بالعلة مطلق املعرف فإن قياس الشبه يدخل يف قياس العلة‪ ،‬فإن مطلق املعرف يتناول أي‬
‫معرف حىت لو كان وصفا شبيها أو طرديا عند من جيوزه‪.‬‬
‫وقد علل البدخشي تسمية هذا النوع بقياس الشبه فقال‪" :‬وإمنا مسي بذلك إما ألنه يشبه الطردي من حيث‬
‫أنه عدم مناسبته للحكم بالذات تقتضي ظن عدم العلية‪ ،‬ومناسبته بالتبع ظن العلية فأشتبه األمر فيه (‪.)5‬‬
‫وأما اإلمام الفخر الرازي فقد ذكر للشبه تفسريين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما كان الوصف فيه غري مناسب بذاته لكنه مستلزم للمناسب بذاته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ما كان الوصف فيه غري مناسب للحكم لذته لكنه عرف بالنص تأثري جنسه القريب يف اجلنس القريب‬
‫لذلك احلكم‪ ،‬معلال تسمية ه ذا النوع بالش به بأنه من حيث ه و غري مناسب يظن أنه غري معترب يف حق ذلك‬
‫احلكم‪.‬‬
‫ومن حيث علم تأثري جنسه القريب يف اجلنس القريب لذلك احلكم ـ مع أن سائر األوصاف ليس كذلك ـ‬
‫يكون ظن إسناد احلكم إليه أقوى من ظن إسناده إىل غريه‪.‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪.148‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة هود اآلية‪.27 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)المصدر السابق جـ‪ 1‬ص ‪.149‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)المصدر السابق نفسه جـ‪ 1‬ص ‪.150‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)راجع منهاج العقول جـ‪ 3‬ص ‪.62‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪41‬‬

‫مث ذكر الفخر أن اإلمام الشافعي يسمى هذا النوع من األقيسة بغلبة األشباه‪ ،‬وذلك أن يكون الفرع واقعا‬
‫بني أصلني‪ ،‬فإذا كانت مشاهبته إلحدى الصورتني ـ أقوى من مشاهبته لألخرى ـ احلق ال حمالة ـ باألقوى‪.‬‬
‫وأخريا فقد ختم اإلمام الرازي ما نقله عن العلماء من خالف يف تسمية هذا النوع قياسا واألخذ به بكلمة‬
‫الفصل‪ ،‬حيث يقول‪" :‬واحلق أنه مىت حصلت املشاهبة ـ فيما يظن أنه علة احلكم‪ ،‬أو مستلزم ملا هو على له‪ :‬صح‬
‫القياس ـ سواء كان ذلك يف الصورة أو يف األحكام (‪.)1‬‬
‫إن املتأم ل يف كالم ابن القيم عن قي اس الش به وم ا ذك ره اإلم ام ال رازي من أق وال للعلم اء واإلم ام الش افعي‬
‫باألخص يف بيان قياس الشبه جيد أن ما يعنيه ابن القيم خارج عن دائرة ذلك القياس الذي ذكره غريه أصال‪ ،‬فما‬
‫حك اه الق رآن الكرمي عن الكفار من أقيس ه يف الص ورة واالسم مبناه ال وهم الباطل واملعتقد الفاسد الناشئ عن‬
‫اجلهل باملبدأ املعيد والعناد املتأصل يف قلوهبم‪.‬‬
‫وعليه فال جيوز تسميته بقياس الشبه حىت ال يظن باألئمة كاإلمام الشافعي وأكابر العلماء كالفخر الرازي‬
‫وأيب بكر الباقالين واآلسنوي وغريهم ممن اعتربوا قياس الشبه أهنم يقولون يف القياس يف الشرعيات مبا ال أصل له‬
‫وال تأثري‪ ،‬فينبغي املصري يف تفسري األقيسه وتسميتها إىل ما يقرره كبار األصوليني والفقهاء وأئمة االجتهاد‪.‬‬
‫القياس طردي أو عكسي‪:‬‬
‫أن اجلامع بني األصل والفرع يف القياس تارة يكون إثبات أمر يشرتكان فيه‪ ،‬وتارة يكون نفي أمر كذلك‬
‫يشرتكان فيه‪ ،‬ومن هنا يتضح كون القياس طرديا أو عكسيا فقياس الطرد‪ :‬هو الذي يقتضي إثبات احلكم يف‬
‫الفرع لثبوت علة األصل فيه‪ ،‬وقياس العكس‪ :‬هو القياس الذي يقتضي نفي احلكم عن الفرع لنفي علة احلكم‬
‫في ه (‪ ،)2‬ومسي األول بقي اس الط رد الط راد احلكم م ا تثبت في ه العل ة‪ ،‬ومسي الث اين بقي اس العكس لتض منه نفي‬
‫احلكم لنفي علته وموجبه‪.‬‬
‫واألمثلة لقياس الطرد كثرية جدا ال تكاد حتصى‪.‬‬
‫أما قياس العكس فقد ساق ابن القيم له عدة أمثلة‪ ،‬ولنقتصر منها على مثال من القرآن ومثال من السنة‪.‬‬
‫ِم ِر‬ ‫ٍء‬ ‫ِد‬ ‫َّل‬
‫أ ـ فمن القرآن قوله تعاىل‪َ" :‬ض َر َب ال ُه َم َثًال َعْبدًا ْمَّمُلوكًا ال َيْق ُر َعَلى َش ْي وَم ن َّر َز ْقَن اُه َّنا ْز ق ًا َح َس نًا َفُه َو‬
‫ُينِف ُق ِم ْنُه ِس رًا وَج ْه رًا َه ْل َيْس َتُو وَن اَحلْم ُد ِلَّل ِه َبْل َأْك َثُر ُه ْم ال َيْع َلُم وَن * وَض َر َب الَّل ُه َم َثًال َّر ُج َلِنْي َأَح ُد َمُها َأْبَك ُم ال‬

‫(?)المحصول جـ‪ 2‬ص‪.279-277‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)راجع مناهج العقول جـ‪ 3‬ص ‪.62‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪42‬‬

‫َيْق ِدُر َعَلى َش ْي ٍء وُه َو َك ٌّل َعَلى َم ْو الُه َأْيَنَم ا ُيَو ِّج ه ُّه ال َي ْأِت َخِبٍرْي َه ْل َيْس َتِو ي ُه َو وَم ن َي ْأُم ُر ِباْلَع ْد ِل وُه َو َعَلى‬
‫ِص َر اٍط ُّم ْس َتِق يٍم " (‪.)1‬‬
‫قال ابن القيم‪ :‬هذان مثالن متضمنان قياس العكس‪ ،‬فاملثل األول ما ضربه اهلل سبحانه لنفسه ولألوثان‪ ،‬فاهلل‬
‫سبحانه هو املالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبده سرا وجهرا‪ ،‬وليال وهنارا‪ ،‬ميينه مألى ال يغيضها نفقه‪،‬‬
‫سحاء (‪ )2‬الليل والنهار‪ ،‬واألوثان مملوكة عاجزة ال تقدر على شيء‪ ،‬فكيف جيعلوهنا شركاء يل ويعبدوهنا من‬
‫دوين مع هذا التفاوت العظيم والفرق املبني (‪.)3‬‬
‫ب ـ ومن احلديث الشريف قوله عليه السالم "ويف بضع أحدكم صدقة" (‪ ،)4‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل يأيت أحدنا‬
‫شهوته ويكون له فيه أجرا؟ قال‪ :‬أرأيتم لو وضعها يف حرام أكان يكون عليه وزر؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فك ذلك إذا‬
‫وضعها يف احلالل يكون له أجر" قال‪ :‬وهذا من قياس العكس اجللي البني‪ ،‬وهو إثبات نقيض حكم األصل يف‬
‫الفرع لثبوت ضد علته فيه (‪.)5‬‬
‫شرط القياس‪:‬‬
‫عرفن ا أن للقي اس أركان ا أربع ة هي األص ل والف رع والعل ة وحكم األص ل وهي تقاب ل يف علم البي ان أرك ان‬
‫التشبيه األربعة‪ :‬وهي املشبه به‪ ،‬واملشبه‪ ،‬ووجه الشبه الذي جيمع بينهم ا‪ ،‬واحلكم يف املشبه الذي يعطي للمشبه‪،‬‬
‫كما أوضحنا سابقا عند كالمنا على األركان أن املشهور يف عبارات األصوليني والفقهاء أن األصل‪ :‬هو احملل‬
‫الذي ورد فيه احلكم‪ ،‬والفرع‪ :‬هو الواقعة اليت يراد معرفة حكمها بالقياس على األصل‪ ،‬والعل ة‪ :‬هي األساس‬
‫الذي يقوم عليه القياس‪ ،‬وحكم األصل‪ :‬هو ما ورد به النص أو اإلمجاع‪ ،‬وها حنن نذكر يف هذا املوضع أهم ما‬
‫يشرتط يف كل ركن‪:‬‬
‫أ ـ ما يشترط في الركن األول (األصل) ‪:‬‬
‫إن األصل الذي يلحق به الفرع يف القياس إما منصوص عليه أو جممع عليه عند مجهور الفقهاء‪ ،‬وقد ذكر‬
‫األصوليون شروطا لألصل‪ ،‬هي يف الواقع شروط حلكم األصل‪ ،‬وال يوجد يف احلقيقة شرط خاص باألصل إال‬
‫شرطا واحدا‪ ،‬وهو إال يكون األصل فرعا ألصل آخر‪ ،‬أي أن ال يكون ذلك األصل قد ثبت حكمه بالقياس‪،‬‬
‫ألنه إذا كانت علة األصلني واحدة‪ ،‬كان ذكر األصل الثاين تطويال بال فائدة مثل قياس السفرجل على التفاح يف‬

‫(?)سورة النحل اآليتان‪.76،75 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)السح‪ :‬الصب والسيالن من فوق‪ :‬مختار الصحاح ص ‪ ،488‬ط بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪.160‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)أخرجه مسلم زكاة ‪ ،52‬وأبو داود تطوع ‪ 12‬وأدب ‪ ،160‬وابن حنبل ‪.168 ،176 ،5‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)أعالم الموقعين جـ‪ 1‬ص ‪.161 ،160‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪43‬‬

‫حترمي ربا الفضل فيهما‪ ،‬والعلة هنا كون كل منهما مطعوما‪ ،‬مع أن التفاح مقيس على التمر مثال‪ ،‬والعلة فيهما‬
‫الطعم‪ ،‬والتمر هو الذي ورد النص على حترمي الربا فيه يف احلديث (الذهب بالذهب والرب بالرب والتمر‪ ...‬اخل)‪.‬‬
‫وإذا مل تكن العلة متحدة بني األصل واملنصوص عليه‪ ،‬واألصل الثاين الذي اختذ أساسا‪ ،‬فإن القياس يكون‬
‫فاسدا‪ ،‬إذ مل يرد النص يف األصل الثاين‪ ،‬وإمنا ورد فقط يف األصل األول‪ ،‬وعندئذ فال تكون علة األصل الثاين‬
‫مقبولة كي تتخذ أساسا للقياس‪.‬‬
‫ب ـ ما يشترط في الركن الثاني (حكم األصل)‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يكون ثابتا غري منسوخ ألنه لو مل يكن ثابتا بأن كان قد نسخ فقط القياس ركنني من أركانه األوىل‪،‬‬
‫األول احلكم الذي نسخ‪ ،‬والثاين العلة اليت بين عليها ذلك احلكم‪ ،‬وذلك ألن العلة واحلكم ال يفرتقان فبمجرد‬
‫زوال احلكم الذي ترتب على العلة يزول اعتبارها‪ ،‬والشيء ال يبقى بعد زوال ركنه‪ ،‬فالقياس ال يبقى معتربا فال‬
‫يصح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يكون حكم األصل شرعيا عمليا فالقياس الفقهي لا يكون إال يف األحكام العملية ألن تلك األحكام‬
‫موض وع الفق ه‪ ،‬فالقي اس ال جيوز في ه‪ ،‬وكم ا ال يص ح القي اس يف االعتق ادات ال يص ح القي اس يف األمساء ألن ه ال‬
‫مناسبة بني شيء من األمساء وبني شيء من املسميات فال يصح التعليل فإذا وضع لفظ ملسمى خمصوص باعتبار‬
‫معىن يوجد يف غريه فإنه ال يصح إطالق هذا الفظ على ذلك الغري حقيقة‪ ،‬فال يطلق اسم الزنا على اللواط بأن‬
‫يقال الزنا اسم جلماع يقصد به صب ماء حمرم يف حمل مشتهي حمرم‪ ،‬واللواط مثله يف هذا املعىن فيطلق عليه اسم‬
‫الزنا وجيري عليه حكم الزنا فيدخل حتت قوله تعاىل‪" :‬الَّز اِنَيُة والَّز ايِن َفاْج ِلُد وا ُك َّل واِح ٍد ِّم ْنُه َم ا ِم اَئَة َج ْلَد ٍة" (‪.)1‬‬
‫وقال مجاعة من الفقهاء جبواز إثبات األسامى بالقياس الشرعي مث ترتيب األحكام عليها بأن يقال مسي اخلمر‬
‫مخرا ألهنا ختمر العقل فيسمى سائر األشربة املسكرة مخرا لتحقق ذلك املعىن فيه قياسا حىت يدخل يف قوله صلى‬
‫اهلل عي ه وس لم (ح رمت اخلم ر لعينه ا) (‪ )2‬فيح د الش ارب بش رب القلي ل والكث ري من تل ك األش ربة ح ىت ول و مل‬
‫يسكر منها القليل كاخلمر‪.‬‬
‫ويسمى السارق سارقا ألنه يأخذ املال خفيه‪ ،‬وهذه العلة موجودة يف النباش‪ ،‬فيثبت له اسم السارق قياسا‬
‫فيدخل حتت قوله تعاىل‪ " :‬والَّس اِر ُق والَّس اِر َقُة َفاْقَطُعوا َأْيِدَيُه َم ا َجَز اًء َمِبا َك َس َبا َنَك اًال ِّم َن الَّلِه " (‪.)3‬‬
‫وعلى هذا فيثبت على الالئط ما يثبت على الزاين‪.‬‬

‫(?)سورة النور اآلية‪.2 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)شرح معاني اآلثار جـ‪ ،4/221‬سنن البيهقي الكبرى جـ‪ 10/213‬رقم الحديث ‪.20736‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة المائدة اآلية‪.38 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪44‬‬

‫‪ 3‬ـ أن يكون ثابتا بالكتاب أو السنة أو اإلمجاع‪:‬‬


‫أم ا ثب وت حكم األص ل بالكت اب ف ذلك كم ا إذا قلن ا النبي ذ ك اخلمر يف االس كار فيح رم كحرمته ا‪ ،‬فحكم‬
‫ِس‬ ‫ِذ‬
‫األصل وهو اخلمر ثابت بالكتاب وهو قوله تعاىل‪َ " :‬يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُن وا إَمَّنا اَخلْم ُر واَملْي ُر واَألنَص اُب واَألْز الُم‬
‫ِر ْج ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطاِن َف اْج َتِنُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن * إَمَّنا ُيِر ي ُد الَّش ْيَطاُن َأن ُيوِق َع َبْيَنُك الَع َد اَو َة واْلَبْغَض ا يِف‬
‫َء‬ ‫ُم‬ ‫ٌس‬
‫ِة‬ ‫ِه‬ ‫ِذ‬ ‫ِس‬
‫اَخلْم ِر واْلَم ْي ِر وَيُصَّد ُك ْم َعن ْك ِر الَّل وَعِن الَّص ال َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫أم ا ثب وت حكم األص ل بالس نة ف ذلك كم ا إذا قلن ا األرز كاحلنط ة يف حرم ة الرب ا فحرم ة الرب ا وهي حكم‬
‫األصل الذي ه و احلنطة ثابت بالس نة ق ال صلى اهلل عليه وسلم (احلنطة باحلنطة مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد‬
‫والفضل ربا) (‪.)2‬‬
‫ف إن ك ان حكم األص ل ث ابت باإلمجاع ف الراجح أن ه يص ح القي اس علي ه‪ ،‬ألن اإلمجاع دلي ل على األحك ام‬
‫الش رعية كالكتاب والس نة‪ ،‬فيص ح أن يعدي احلكم الثابت به‪ ،‬كما يص ح تعدي احلكم الثابت بواحد منهم ا‪،‬‬
‫وميكن إدراك العلة وإن مل ينص على سند اإلمجاع‪ ،‬ألن هلا طرقا أخرى تستفاد منها كاملناسبة بني احلكم وأمر‬
‫من األمور املوجودة يف احملل‪ ،‬وذلك بالبحث يف حمل احلكم على معىن يناسبه ويالءم الشريعة‪ ،‬فإذا وجدنا معىن‬
‫من املعاين املناسبة جعلناه علة احلكم مثل ثبوت الوالية لألب يف التزويج بالنسبة البنته البكر الصغرية‪ ،‬فإنه حكم‬
‫ثابت باإلمجاع ومل يذكر الدليل الشرعي هلذا اإلمجاع‪ ،‬ومع هذا أمكن إدراك العلة‪ ،‬وهي الصغر بطريق املناسبة‬
‫املوج ودة بني الص غر ووالي ة ال تزويج‪ ،‬وبن اء على ه ذا يص ح أن يق ال ال ثيب الص غرية يزوجه ا أبوه ا كم ا ي زوج‬
‫البكر الصغرية جبامع الصغر يف كل‪ ،‬أما إذا كان حكم األصل ثابتا بالقياس فال يصح تعديته إىل حمل آخر عند‬
‫غالب العلماء‪ ،‬ألن العلة إن أحتدث يف القياسني‪ ،‬كان القياس الثاين ضائعا‪ ،‬مثال ذلك إذا قيس األرز على احلنطة‬
‫يف حرم ة الرب ا بعل ة الكي ل واجلنس مث أري د قي اس ال ذرة على األرز‪ ،‬ك ان ذك ر األرز ض ائعا ول زم القي اس على‬
‫احلنطة لالحتاد يف العلة‪ ،‬بني القياسني وإن اختلفت العلة يف القياسني مل يصح القياس النتفاء علة حكم األصل يف‬
‫الفرع فإذا قسنا األرز على احلنطة يف حرمة الربا بعلة الكيل مث قسنا التفاح على األرز يف حرمة الربا أيضا‪ ،‬فإن‬
‫العلة يف التفاح الطعم عند الشافعي‪ ،‬ويف األرز الكيل فلم توجد علة الفرع يف األصل املقيس عليه ويكون هذا‬
‫قياسا ألن ركن القياس العلة املشرتكة بني األصل والفرع قد زال‪ ،‬والشيء ال يبقى بعد زوال ركنه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أال يتغري حكم األصل يف الفرع فإذا قلنا ظهار الذمي كظهار املسلم كان هذا قياسا فاسدا ألن حكم‬
‫املقيس عليه‪ ،‬وهو ظهار املسلم يتغري يف املقيس‪.‬‬

‫(?)سورة المائدة اآليتان‪.91،90 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)الجامع الصحيح المختصر جـ‪ ،2/750‬رقم الحديث ‪ ،2027‬والجامع الصحيح سنن الترمذي جـ‪ 3/541‬رقم‬ ‫‪2‬‬

‫‪.1240‬‬
‫‪45‬‬

‫وبيان ذلك أن حكم ظهار املسلم حرمة الوطء حرمة مؤقتة تنتهي بالكفارة قال تعاىل‪ " :‬واَّلِذيَن ُيَظاِه ُر وَن‬
‫ِم ن ِّنَس اِئِه ْم َّمُث َيُعوُدوَن ِلَم ا َقاُلوا َفَتْح ِر يُر َر َقَبٍة ِّم ن َقْبِل َأن َيَتَم اَّس ا َذِلُك ْم ُتوَعُظوَن ِبِه والَّلُه َمِبا َتْع َم ُلوَن َخ ِبٌري " (‪.)1‬‬
‫فه ذا احلكم وه و حرم ة ال وطء املؤقت ال يوج د بعين ه يف الف رع ألن حرم ة ال وطء ال تنتهي إال بالكف ارة‪،‬‬
‫والكافر ليس أهال هلا لكوهنا عبادة‪ ،‬فحرمة الوطء مؤبدة بالنسبة لظهار الكافر‪ ،‬وبذلك يتضح أن حكم املقيس‬
‫عليه تغري يف املقيس ألن احلكم يف املقيس عليه احلرمة املؤقتة ويف املقيس احلرمة املؤبدة‪ ،‬وإذا تغري احلكم ال جيوز‬
‫القياس ألنه ال يكون احلكم الثابت يف املقيس مثل احلكم الثابت يف املقيس عليه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أال يكون دليل حكم املقيس عليه شامال حلكم املقيس‪ ،‬فإذا قلنا األرز كالذرة جبامع الكيل يف كل فكما‬
‫حيرم التفاضل يف الذرة حبديث ال تبيعوا الدرهم بالدرمهني وال الصاع بالصاعني حيرم التفاضل يف األرز‪.‬‬
‫ف دليل حكم املقيس علي ه وه و احلديث الس ابق ميكن أن ين درج حتت ه حكم املقيس فتثبت حرم ة التفاض ل يف‬
‫األرز باحلديث‪ ،‬فالقياس يف هذه احلالة فاسد ألنه تطويل بال فائدة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أال يكون التعليل متضمنا إبطال شيء من ألفاظ النص فيفسد قياس سائر السباع على اخلمس املؤذيات‬
‫وهي احلدءة واحلي ة والعق رب والف أرة والكلب العق ور‪ ،‬يف إباح ة القت ل يف احلل واحلرم‪ ،‬ألن كال من املقيس‬
‫واملقيس علي ه ي ؤذي‪ ،‬وذل ك ألن إباح ة القت ل يف املقيس علي ه ثبت حبديث (مخس من الفواس ق يقتلن يف احلل‬
‫واحلرم احلدءة واحلي ة والعق رب والف أرة والكلب العق ور)(‪ )2‬فتعلي ل احلكم ال ذي ه و إباح ة القت ل ب األذى ي رتتب‬
‫عليه إبطال لفظ اخلمس يف احلديث ألن املقتول سيكون أكثر من مخس‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ إال يكون حكم األصل معدوال به عن سنن القياس كبقاء الصوم مع األكل والشرب ناسيا‪ ،‬فإن القياس‬
‫فساد الصوم‪ :‬إذ الصوم هو اإلمساك عن شهوة البطن والفرج من طلوع الفجر إىل غروب الشمس‪ ،‬والشيء ال‬
‫يبقى مع منافيه‪ ،‬فالصوم ال يبقى مع األكل والشرب‪ ،‬لكن ثبت بقاء الصوم بالنص الشرعي وهو قوله صلى اهلل‬
‫علي ه وس لم ملن أك ل أو ش رب ناس يا (أمت ص ومك فإمنا أطعم ك اهلل وس قاك) (‪ )3‬فال جيوز يف ه ذه احلال ة قي اس‬
‫املخطئ على الناسي ألن الناسي معدول به عن سنن القياس‪ ،‬فهو جاء على خالف األصل وما جاء على خالف‬
‫األصل يقتصر على مورد النص فيه‪.‬‬
‫وك ذلك ال جيوز قي اس غ ري املض طر على املض طر يف إباح ة أك ل امليت ة إذا دعت احلاج ة إىل األك ل‪ ،‬ألن غ ري‬
‫املضطر ليس فيه معناه فال يقاس عليه ـ كما أن إباحة أكل امليتة للمضطر جاءت على غري األصل وما جاء على‬

‫(?)سورة المجادلة اآلية‪.3 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)صحيح مسلم جـ‪ 2/857‬رقم الحديث ‪.1198‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)الجامع الصحيح المختصر جـ‪ 2/682‬رقم الحديث ‪ ،1831‬صحيح مسلم جـ‪ 2/809‬رقم الحديث ‪.1155‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪46‬‬

‫غري األصل يقتصر على مورد النص فيه فال يتعدى احلكم إىل الغري‪ ،‬وكذلك ال جيوز القياس على شهادة خزمية‬
‫منفردا‪ ،‬ألن قبول الشهادة مع االنفراد غري معقول املعىن فال ميكن التعدية واحلالة هذه‪.‬‬
‫وكذلك ال جيوز القياس على إعداد الركعات ومقادير احلدود والكفارات ألن كال منها غري معقول املعىن فال‬
‫متكن التعدية‪.‬‬
‫ج ـ ما يشترط في الفرع المقيس‪:‬‬
‫قد ذكر األصوليون للفرع شروطا وهي يف حقيقتها راجعة إما إىل حكم األصل وإما إىل العلة‪ ،‬وعند البحث‬
‫والتمحيص ال جتد للف رع ش رطا مس تقبال خاص ا ب ه‪ ،‬اللهم إال ش رطا واح دا‪ ،‬وه و‪ :‬خل و الف رع من النص أو‬
‫اإلمجاع عليه‬
‫وهو أال يكون يف الفرع وإمجاع يدل على حكم خمالف للقياس‪ ،‬ألن القياس حينئذ يكون مصادما للنص أو‬
‫اإلمجاع‪ ،‬والقي اس ال ذي يص ادم النص أو اإلمجاع يق ال ل ه‪ :‬قي اس فاس د االعتب ار‪ ،‬وه ذا يف احلقيق ة ه و الش رط‬
‫الوحيد يف الفرع‪ ،‬واملثال املناسب له فيما هو مصادم للنص‪ ،‬قال احلنفية‪ :‬ال يصح اشرتاط اإلميان يف تعق الرقبة‬
‫ِخ‬
‫يف كفارة اليمني قياسا على كفارة القتل‪ ،‬ألن اشرتاطه خيالف إطالق النص‪ ،‬وهو قوله تعاىل‪ :‬ال ُيَؤ ا ُذ ُك ُم الَّل ُه‬
‫ِل‬ ‫ِع‬ ‫ِط‬ ‫ِة ِك ِم‬ ‫ِك ِخ‬ ‫ِن‬ ‫ِب‬
‫الَّلْغِو يِف َأَمْيا ُك ْم وَل ن ُيَؤ ا ُذ ُك م َمِبا َعَّقدُمُّت اَألَمْياَن َفَك َّفاَر ُتُه إْطَعاُم َعَش َر َم َس ا َني ْن َأْو َس َم ا ُتْط ُم وَن َأْه يُك ْم‬
‫َأْو ِكْس َو ُتُه ْم َأْو ْحَتِر ي ُر َر َقَب ٍة" (‪ ،)1‬فلف ظ "رقب ة" هن ا مطل ق‪ ،‬مل يش رتط فيه ا أن تك ون مؤمن ة‪ ،‬خبالف النص يف‬
‫كفارة القتل‪ ،‬وهو قوله تعاىل‪ " :‬وَم ن َقَتَل ُم ْؤ ِم نًا َخ َطئًا َفَتْح ِر يُر َر َقَبٍة ُّم ْؤ ِم َنٍة " (‪.)2‬‬
‫فيكون قياس كفارة اليمني على كفارة القتل فاسدا‪ ،‬ألنه يرتتب عليه تغيري حكم األصل‪ ،‬وخمالفة مقتضي‬
‫النص املتعلق بكفارة اليمني‪.‬‬
‫ومثال القياس املصادم لإلمجاع على حكم الفرع‪ :‬ما قاله العلماء من أنه ال يصح قياس جواز ترك الصالة يف‬
‫السفر على جواز ترك الصيام جبامع وجود السفر‪ ،‬ويعترب هذا القياس باطال‪ ،‬ألن العلماء أمجعوا على أن الصالة‬
‫ال حيل تركها من أجل السفر‪.‬‬
‫تل ك ش روط األص ل وحكم األص ل والف رع‪ ،‬أم ا م ا يش رتط يف العل ة فس نورده يف أثن اء كالمن ا عليه ا‪ ،‬ألهنا‬
‫تس توجب أن يف رد هلا مبحث خ اص هبا لكوهنا أهم أرك ان القي اس وملا فيه ا من تفاص يل من حيث مس الكها‪،‬‬
‫ومن حيث التباسها باحلكمة والسبب وغري ذلك مما تدعوا احلاجة إىل بيانه حياهلا‪.‬‬
‫العلة وشروطها ومسالكها‪:‬‬

‫(?)سورة المائدة اآلية‪.89 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة النساء اآلية ‪.92‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪47‬‬

‫ملا كان اجلامع بني األصل املقيس عليه‪ ،‬والفرع املقيس ـ وهو الذي يسميه األصوليون على القياس ـ من أقوى‬
‫أركان القياس وأمهها‪ ،‬أفردناه بالبحث استيفاء ملاهية العلة‪ ،‬وشروطها ومسالكها‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫العلــة‪:‬‬
‫تطلق العلة لغة على ما يتغري به حال الشيء حبصوله فيه‪ ،‬فيقال للمرض علة‪ ،‬ألن اجلسم يتغري حاله حبصوله‬
‫فيه‪ ،‬ويقال اعتل فالن إذا تغري حالة من الصحة إىل السقم‪.‬‬
‫وعلى ه ذا ف إن العل ة على م ا س يأيت من تعريفه ا عن د األص وليني فهي م أخوذة من التغ ري ألن الف رع املقيس‬
‫حيدث فيه تغيري بإثبات حكم له‪ ،‬أو هي م أخوذة من العلل بعد النهل‪ ،‬وهو معاودة الشرب مرة بعد أخرى‪،‬‬
‫وذل ك ألن اجملته د يع اود النظ ر يف الف رع ليثبت ل ه حكم ا عن دما يتحق ق من وج ود العل ة ال يت ش رع من أجله ا‬
‫حكم األصل (‪.)1‬‬
‫والعلة يف اصطالح األصوليني هي ما بين احلكم عليه يف األصل املقيس عليه وشرع من أجله حتقيقا للمصلحة‬
‫أو هي الوصف املعرف للحكم‪ ،‬والوصف هو املعىن القائم بالغري‪ ،‬ومغىن كونه معرفا للحكم‪ ،‬أي كونه عالمة‬
‫من غري تأثري فيه‪ ،‬وال باعث عليه‪ ،‬فاإلسكار مثال يف اخلمر علة لتحرميه أي هو عالمة على حرمة ما يسكر‪.‬‬
‫وق الت املعتزل ة‪( :‬العل ة هي املؤثر بذات ه يف احلكم) بن اء على قاع دهتم ال يت تق رر أن احلكم يتب ع املص لحة أو‬
‫املفسدة (‪.)2‬‬
‫والعلة تطلق عادة عند األصوليني على ثالثة أمور‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الوصف الظاهر املنضبط املناسب للحكم‪ ،‬كالسفر بالنسبة إلباحة الفطر يف رمضان‪ ،‬فإن السفر وصف‬
‫ظاهر وهو ال خيتلف باختالف األفراد واألحوال‪ ،‬وهو مناسب للحكم‪ ،‬وذلك الشتماله على املشقة اليت يناسبها‬
‫التخفيف‪ ،‬وإباحة الفطر للمسافر ختفيفا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ املع ىن ال ذي يناس ب تش ريع احلكم‪ ،‬فاملش قة حتص ل للمس افر أثن اء س فره مع ىن يناس ب إباح ة الفط ر يف‬
‫رمضان‪ ،‬وقصر الصالة‪ ،‬فاملشقة علة‪ ،‬واحتياج الناس إىل تبادل األمالك معىن يناسب شرعية البيع فها االحتياج‬
‫يطلق عليه عند األصوليني أنه علة‪ ،‬وضياع املال الذي يرتتب على السرقة معىن يناسب حترمي السرقة ووجوب‬
‫قطع يد السارق فضياع املال يطلق عليه عند األصوليني أنه علة‪.‬‬

‫(?)انظر فيما تطلق عليه العلة لغة لسان العرب جـ‪ 11‬ص ‪ ،387‬والنهاية في غريب الحديث البن األثير جـ‪ 3‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪.291‬‬
‫(?)انظر في بيان تحديد العلة وتفسيرها في القياس الشرعي المحصول جـ‪ ،184-2/179‬وطلعة الشمس جـ‪ 2‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.102‬‬
‫‪48‬‬

‫‪ 3‬ـ األثر الناجم عن تشريع احلكم فتحرمي القتل العدوان ووجوب القصاص من القاتل عمدا‪ ،‬ينتج عنه حفظ‬
‫نفوس البشر فحفظ نفوس البشر يطلق عليه أنه علة عند األصوليني‪.‬‬
‫وقد غلبت تسمية األمر الثاين والثالث باحلكمة عند األصوليين كما غلب إطالق اسم العلة عندهم على األمر‬
‫األول‪ ،‬فعند اإلطالق ينصرف إليه الشتهاره عرفا‪.‬‬
‫كما إن إطالق احلكمة عندهم ينصرف على األمر الثاين والثالث ومها املعىن املناسب للحكم واألثر الناتج‬
‫عن تشريع احلكم‪.‬‬
‫فمن خالل تعريف العلة ميكن فهم الشروط اليت جيب توفرها فيما يكون علة لثبوت حكم األصل واحلكم‬
‫على الفرع مبثل ما ثبت يف املقيس عليه وملزيد البيان نذكر تلك الشروط موضحة باألمثلة‪:‬‬
‫أ ـ شروط العلة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الوص فية‪ :‬إن أول ش رط من ش روط العل ة أن تك ون وص فا فال يص ح أن يك ون اس م اجلنس عل ة‪ ،‬ألن‬
‫األحكام تبين على األوصاف ال على الذوات إذ األعيان ال تأثري هلديف بناء األحكام‪ ،‬أما التعليل بالدم الذي هو‬
‫اسم جنس يف قوله صلى اهلل عليه وسلم للمستحاضة‪ :‬صلي وإن قطر الدم على احلصري‪ ،‬فإنه دم عرق انفجر)‪،‬‬
‫فهو تعليل بالدم املوصوف باالنفجار فاحلكم يتعلق باالنفجار وهو وصف‪ ،‬فيكون تعليال بالوصف‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ يشرتط يف الوصف اجلامع بني األصل والفرع استطاعة العقل إدراكه ألن مبين القياس على وجود علة‬
‫حلكم األص ل‪ ،‬وإدراك العق ل هلذه العل ة ح ىت ميكن أن يع دي احلكم إىل احملل ال ذي يش رتك م ع األص ل يف ه ذه‬
‫العل ة‪ ،‬فتحدي د ع دد الركع ات يف الص لوات اخلمس مثال ال ميكن للعق ل إدراك علت ه فال يك ون للقي اس جمال يف‬
‫هذه احلالة‪ ،‬كتحديد األشواط السبعة لكل من الطواف والسعي‪.‬‬
‫فإن تسىن للعقل إدراك علة حكم األصل ثبت اجملال للقياس وأمكن تعدية حكم األصل إىل كل ما يشرتك فيه‬
‫يف العلة‪ ،‬وثبت مثل حكمه فيه‪ ،‬وذلك كحرمة اخلمر فإن علة هذه احلرمة وهي اإلسكار ميكن للعقل أن يهتدي‬
‫إليها فيعدي هذا احلكم وهو احلرمة إىل كل مسكر كالنبيذ مثال‪ ،‬فإن كانت علة احلكم يدركها كل من يفهم‬
‫اللغة كعلة حرمة التأفيف بالنسبة للوالدين‪ ،‬فهذه العلة وهي األذى اليت يدركها كل من يفهم األلفاظ ومعانيها‬
‫ال اعتب ار هلا يف جمال القي اس‪ ،‬إذ ال اعتب ار إلا العل ة ال يت ت درك ب النص عليه ا يف الكت اب أو الس نة أو اإلمجاع أو‬
‫باالجتهاد والرأي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يكون هذا الوصف ظاهرا‪ ،‬فال جيوز التعليل باخلفي‪ ،‬وهو الذي ال يدرك حباسة من احلواس الظاهرة‬
‫ألن العل ة معرف ة للحكم الش رعي ال ذي ه و خفي فال ب د وأن يك ون املع رف وص فا جلي ا ألن اخلفي ال يع رف‬
‫اخلفي‪.‬‬
‫‪49‬‬

‫فاإلسكار علة يف حترمي اخلمر ألنه وصف ظاهر يدرك باحلس فيصلح أن يكون علة‪ ،‬والرتاضي بني املتعاقدين‬
‫يف البيع مثال ال يصلح أن يكون علة يف نقل امللكية ألنه وصف خفي ال يدرك باحلس‪ ،‬والقدر مع احتاد اجلنس‬
‫يصلح أن يكون عل ة يف األم وال الربوية ألن العل ة وصف ظاهر يدرك باحلس‪ ،‬وحص ول نطفة الزوج يف رحم‬
‫الزوجة ال يصلح أن يكون علة يف ثبوت النسب ألنه وصف خفي‪.‬‬
‫وذهب أك ثر األص وليني إىل أن اخلف اء يف العل ة ال يق دح فيه ا ألن العل ة تك ون خفي ة يف نفس ها‪ ،‬لكن تك ون‬
‫جلي ة حبس ب أم ر خ ارج كرض ا املتعاق دين يف ال بيع إذ ه و أم خفي ال ميكن االطالع علي ه لكن ه جلي بالنس بة ملا‬
‫يدل عليه من اإلجياب والقبول‪ ،‬فصلح أن يكون الرضا يف هذه احلالة علة مع كونه وصفا خفيا ألنه جلي باعتب ار‬
‫أمر خارجي‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن يكون هذا الوصف منضبطا ـ أي يستوي بالنسبة له مجيع األفراد ـ وذلك كالسفر فإنه على يف قصر‬
‫الصالة‪ ،‬والسفر وصف منضبط ألن له حقيقة معنية ال ختتلف باختالف األفراد واألحوال‪.‬‬
‫وإمنا كان االنضباط ال بد منه يف الوصف‪ ،‬ألن مبين القياس على التساوي بني األصل والفرع يف علة احلكم‪،‬‬
‫فإن كانت العلة من األوصاف اليت ختتلف باختالف األفراد واألحوال مل يتأت التساوي الذي ينبين عليه القياس‪،‬‬
‫وعلى هذا ال يصلح أن تكون املشقة علة يف إباحة الفطر يف رمضان للمسافر‪ ،‬ألن املشقة من األمور اليت ختتلف‬
‫باختالف األفراد واألحوال‪ ،‬فاملشقة اليت حتصل لألغنياء املوسرين أثناء سفرهم غري املشقة اليت حتصل للفقراء‬
‫واملعوزين‪ ،‬واملشقة اليت حتصل للشيوخ يف السفر غري املشقة اليت حتصل للشباب فيه‪.‬‬
‫واملشقة اليت حتصل من السفر يف اجلبال غري املشقة اليت حتصل من السفر يف الوديان‪ ،‬واملشقة اليت حتصل من‬
‫السفر على اجلمال غري املشقة اليت حتصل من السفر يف البحر‪ ،‬واملشقة اليت حتصل من السفر يف البحر غري املشقة‬
‫اليت حتصل من السفر يف القطار‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن يكون هذا الوصف مناسبا للحكم كالقتل العمد بالنسبة إلجياب القصاص‪ ،‬فإن القتل العمد‬
‫مناس ب إلجياب القص اص‪ ،‬ألن يف بن اء القص اص علي ه حف ظ حي اة الن اس‪ ،‬ق ال اهلل تع اىل‪ " :‬وَلُك ْم يِف الِق َص اِص‬
‫َحَياٌة َيا ُأْو يِل اَألْلَباِب َلَعَّلُك ْم َتَّتُقوَن " (‪.)1‬‬
‫وكالسرقة بالنسبة لقطع يد السارق فإن السرقة وصف يناسب قطع اليد ألن يف بناء قطع اليد عليها حفظ‬
‫أموال الناس‪.‬‬

‫(?)سورة البقرة اآلية‪.179 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪50‬‬

‫وبن اء على ذل ك فال يص ح التعلي ل باألوص اف ال يت ال مناس بة بينه ا وبني احلكم‪ ،‬كتعلي ل القص اص يف القت ل‬
‫العمد لكون القاتل رجال أو امرأة‪ ،‬وتعليل قطع اليد يف السرقة لكون السارق أمسر اللون‪ ،‬ألنه ال مناسبة واحلالة‬
‫هذه بني العلة واملعلل‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ الزميه الوصف‪:‬‬
‫أن يكون هذا الوصف الزما ألن العلة هي الباعثة على احلكم فال جيوز أن تكون وصفا عارضا ألن انفكاكه‬
‫يوجب انتفاء احلكم‪ ،‬أما اجلمهور فيجيزون أن تكون العلة وصفا الزما لألصل املقيس عليه كالثمنية للذهب‬
‫والفضة فإهنا الزمة هلما ال تنفك عنهما حبال من األحوال‪ ،‬وعلى ذلك فيمكن أن يقال جتب الزكاة يف الذهب‬
‫والفضة املصوغني كما جتب يف غري املصوغني جبامع الثمنية يف كل ‪ ،‬والثمنية وصف الزم ال يبطل بالصياغة فهي‬
‫وصف للمصوغ وغريه‪.‬‬
‫وكما جيوز أن تكون العلة وصفا الزما عند اجلمهور جيوز أن تكون وصفا عارضا عندهم أيضا كالكيل‪،‬‬
‫فإذا قلنا األرز كاحلنطة يف حرمة الربا جبامع الكيل يف كل‪ ،‬كان هذا قياسا صحيحا‪ ،‬والكيل الذي هو العلة‬
‫املش رتكة بني األص ل والف رع وص ف عارض ا غ ري الزم للمقيس علي ه‪ ،‬ألن ه خيتل ف ب اختالف ع ادات الن اس‬
‫وباختالف األماكن واألزمان‪ ،‬فقد تباع احلبوب يف بعض األزمان وبعض األماكن وزنا كما هو حاصل اآلن يف‬
‫أغلب البلدان‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن تكون العلة متعدية ومعىن هذا أن تكون العلة اليت علل هبا األصل يف القياس ميكن حتققها يف غري ذلك‬
‫األصل‪ ،‬ف إن ك انت قاص رة ال توجد إال يف احلكم ال ذي ورد ب ه النص فال تص لح واحلال ة ه ذه لتعليل هبا‪ ،‬إذ ال‬
‫فائدة حينئذ‪ ،‬ألن الفائدة من العلة حتقق القياس وال يتحقق هذا القياس إال حيث توجد علة األصل يف الفرع‪،‬‬
‫وال يكون ذلك إال حيث تكون العلة متعدية توجد يف غري حمل األصل‪ .‬فالتعليل بالثمنية يف حترمي الربا يف الذهب‬
‫والفضة قاصر‪ ،‬ألن الثمنية ال توجد إال يف الذهب والفضة‪.‬‬
‫وإمنا ال تصلح الثمنية علة للتحرمي ألن املقصود من العلة العلم بوجودها يف الفرع ليثبت حكم األصل له فإن‬
‫كانت حاصلة يف غري صورة األصل تعدي احلكم وإال فال يتعدى بل يقتصر احلكم على مورد النص وال فائدة‬
‫يف العل ة حينئ ذ‪ ،‬ألن فائ دهتا منحص رة يف إثب ات احلكم هبا وه و منت ف‪ ،‬لكن إذا تع ورف على جع ل ش يء مثن ا‬
‫كاألوراق النقدية اليت جعلت عملة قامت مقام الذهب والفضة فإن الثمنية حينئذ تكون وصفا هلا باعتبار العرف‬
‫فيثبت حترمي الربا فيها كما ثبت يف الذهب والفضة بالنص‪.‬‬
‫ومن ذل ك إباح ة الفط ر يف رمض ان للمس افر العل ة يف ه ذه اإلباح ة الس فر‪ ،‬وه و عل ة قاص رة على األص ل ال‬
‫يتعدى إىل غريه‪ ،‬فالسفر ال يوجد إال يف املسافر فال يصح واحلالة هذه أن يقاس على املسافر اخلباز الذي يقضي‬
‫سحابة هناره أمام وهج النار‪ ،‬وذلك ألن علة األصل يف القياس وهي السفر غري موجود يف الفرع وهو اخلباز‪،‬‬
‫‪51‬‬

‫وال قياس إال حيث توجد علة األصل يف الفرع فالقياس يف هذه احلالة ممنوع‪ ،‬ألن علة األصل فيه قاصرة ال ميكن‬
‫أن تتعدى حمله إىل حمل آخر‪.‬‬
‫وهذا الشرط مما اختلفت فيه وجهات نظر األصوليني فجمهور احلنفية وبعض الشافعية مينعون التعليل بالعلة‬
‫القاصرة‪ ،‬ومجهور الشافعية وبعض احلنفية كمشايخ مسرقند ال مينعون التعليل بالعلة القاصرة‪.‬‬
‫واحلق كما قال الكمال بن اهلمام ال يوجد بني العلماء نزاع يف هذا الشرط ما دام املقصود علة القياس اليت‬
‫هي ركنه وأساسه‪ ،‬ألن على القياس البد وأن تكن متعدية حىت يتحقق القياس‪.‬‬
‫قال الكمال بن اهلمام‪ :‬وال شك أن اخلالف لفظي ألن التعليل هو القياس باصطالح احلنفية وهو أعلم من‬
‫القياس باصطالح الش افعية‪ ،‬فالنايف جلواز التعليل بالعل ة القاصرة يريد به القياس وه ذا ال خيالف فيه أحد إذ ال‬
‫يتحقق القياس عند أحد بدون وجود العلة املتعدية‪.‬‬
‫واملثبت جلواز التعليل هبا يريد به ما مل يكن قياسا والظاهر أن هذا ال خيالف فيه أحد أيضا‪ ،‬فلم يتوارد النفي‬
‫واإلثبات على حمل واحد‪ ،‬فال خالف يف املعىن وألن الكالم يف علة القياس ال يف شروطه وأركانه اليت منها العلة‪،‬‬
‫وال شك أن النايف يف هذا السياق ال يريد علة إال علة القياس‪ ،‬وال نزاع بني الفريقني يف هذا‪ ،‬وإال فلهم كثري‬
‫مثل ه من إثب ات العل ة القاص رة يف احلج وغري احلج‪ ،‬كم ا يف الرم ل يف األش واط الثالثة األوىل وك ان س ببه إظهار‬
‫اجلل د للمش رتكني حيث ق الوا أض نتهم محى ي ثرب مث بقى احلكم بع د زوال الس بب يف زمن الن يب ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم وبعده‪ ،‬لكن رمبا مسي احلنفية التعليل بالقاصرة إبداء حكمة‪ ،‬تعليال متييزا بني القاصرة واملتعدية‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أال تك ون العل ة مثبت ة حكم ا يف الف رع خيالف النص أو اإلمجاع‪ ،‬ف إن ك انت ك ذلك فال ع ربة هبا وال‬
‫التفات إليها‪ ،‬والقياس الذي أنبىن عليها يعترب قياسا فاسدا‪ ،‬فإن قلنا أنكاح املرأة نفسها بغري إذن وليها كبيع‬
‫سلعتها بغري إذن وليها‪ ،‬والعلة املشرتكة بني هذا األصل وذلك الفرع ملك التصرف فيه يف كل‪ ،‬فاملرأة مالكة‬
‫لبعضها كما هي مالكة لسلعتها‪ ،‬فكما يصح البيع منها يصح أن تزوج نفسها‪ ،‬فهذا احلكم الذي أثبتته العلة‬
‫ونتج عن ه ذا القي اس وه و ص حة النك اح بغ ري ويل خيالف النص وه و ق ول عائش ة رض ي اهلل عنه ا (أميا ام رأة‬
‫(‪)1‬‬
‫نكحت بغري إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل)‬
‫وإذا قلنا صالة املسافر كصيامه جبامع السفر الشاق يف كل‪ ،‬فكما ال جيب الصوم‪ ،‬جتب الصالة‪.‬‬
‫فهذا احلكم الذي أثبت هذه العلة مبقتضى ذلك القياس وهو عدم وجوب صالة املسافر عليه خيالف اإلمجاع‬
‫على وجوب أداء صالة املسافر عليه‪.‬‬

‫(?)سنن أبي داود جـ‪ 2/229‬رقم ‪ ،2083‬سنن ابن ماجه جـ‪ 1/605‬رقم ‪.1880‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪52‬‬

‫‪ 9‬ـ يش رتط يف العل ة املس تنبطة أال ترجع على حكم أصل باإلبط ال ف إذا عل ل احلنفية مثال قول ه علي ه الص الة‬
‫والسالم (يف كل أربعني شاة شاة) بدفع حجة الفقراء فيمكن أن نقول بناء على ذلك قيمة الشاة كذات الشاة‬
‫جبامع دفع احلاجة يف كل‪ ،‬فكما جازت الزكاة بذات الشاة جتوز الزكاة بقيمة الشاة‪ ،‬وحينئذ يقتضي هذا التعليل‬
‫عدم وجوب الشاة وثبوت التخيري بينها وبني القيمة‪ ،‬وال شك أن ذلك يرجع على حكم األصل باإلبطال ألن‬
‫الشاة بعد أن كانت متعينة خري املكلف بينها وبني قيمتها‪ ،‬وإبطال حكم األصل إبطال لعلته ألن العلة فرع له‪.‬‬
‫فالتعلي ل هبذه العل ة ال يص لح ألن ه يع ود على نفس العل ة باإلبط ال‪ ،‬ألن ه إذا بط ل حكم الش يء بطلت علت ه‬
‫ضرورة أن العلة واملعلل مقرتنان وإبطال أحد املقرتنني يبطل اآلخر‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ أال يتأخر ثبوت العلة عن ثبوت حكم األصل ألن العلة لو تأخرت مل يكن احلكم مشروعا من أجلها‪،‬‬
‫وذلك كتعليل والية األب على الصغري الذي عرض له اجلنون ليتفرع عليه إثبات واليته على البالغ اجملنون‪ ،‬قياس‬
‫عليه‪ ،‬فإن والية األب على الصغري ثابتة قبل عروض اجلنون له‪ ،‬وذلك بالصغر‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ يشرتط يف العلة أال تقتضي إلغاء شرط موجود يف األصل فإذا قلنا حلي البالغة كحلي الصغرية جبامع‬
‫كون احللي مباحا يف كل‪ ،‬فكما ال جتب الزكاة يف األصل ال جتب يف الفرع هلذه العلة اليت اقتضت إلغاء شرط‬
‫يف األصل وهو الصغر‪ ،‬ألن احللي ال زكاة فيه إن كان لصغرية‪ ،‬وبذلك جيب عدم صالحية هذه العلة القتضائها‬
‫إلغاء شرط األصل‪ ،‬وعليه جيب القول بفساد القياس لفساد علته إذ ال بقاء للشيء بعد زوال ركنه‪ ،‬والتمثيل هبذا‬
‫املثال يصلح على رأي من يقول ال زكاة على الصيب يف ماله لعدم تكليفه‪.‬‬
‫الفرق بين العلة والحكمة والسبب‪:‬‬
‫أ ـ الفرق بين العلة والحكمة‪:‬‬
‫العل ة هي الوص ف الظ اهر املنض بط ال ذي ب ين احلكم علي ه ورب ط ب ه وج ودا وع دما‪ ،‬فيوج د احلكم بوج وده‬
‫وينعدم بعدمه‪.‬‬
‫فالسفر الذي اعتربه الشارع علة يف قصر الصالة الرباعية وصف ظاهر ال خيتلف باختالف األفراد واألحوال‬
‫ويلزم من وجوده وجود القصر يف الصالة ومن عدمه عدم القصر‪.‬‬
‫وبناء القصر على لسفر حيقق احلكمة من تشريع احلكم وهي التخفيف ودفع املشقة‪ ،‬أما احلكمة فهي الباعث‬
‫على تش ريع احلكم والثم رة ال يت ت رتب علي ه‪ ،‬فحكم ة حترمي القت ل العم د ـ وهي الب اعث على التح رمي‪ ،‬والثم رة‬
‫املرتتبة عليه ـ حفظ النفوس‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬وَلُك ْم يِف الِق َص اِص َحَياٌة َيا ُأْو يِل اَألْلَباِب َلَعَّلُك ْم َتَّتُقوَن " (‪.)1‬‬

‫(?)سورة البقرة اآلية‪.179 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪53‬‬

‫وحكمة استحقاق الشفعة بالشركة أو اجلوار ـ وهي الباعث على هذا االستحقاق والثمرة املرتبة عليه ـ دفع‬
‫الضرر الذي ينال الشريك أو اجلار‪.‬‬
‫واحلكمة يف حترمي اخلمر ـ وهي الباعث على هذا التحرمي والثمرة املرتبة عليه ـ دفع العداوة والبغضاء بني الناس‬
‫ِس‬ ‫ِذ‬
‫وجعلهم يقبلون على الطاعات وذكر اهلل‪ ،‬قال تعاىل‪َ " :‬يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُنوا إَمَّنا اَخلْم ُر واَملْي ُر واَألنَص اُب واَألْز الُم‬
‫ِر ْج ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطاِن َف اْج َتِنُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن * إَمَّنا ُيِر ي ُد الَّش ْيَطاُن َأن ُيوِق َع َبْيَنُك الَع َد اَو َة واْلَبْغَض ا يِف‬
‫َء‬ ‫ُم‬ ‫ٌس‬
‫ِة‬ ‫ِه‬ ‫ِذ‬
‫اَخلْم ِر واْلَم ْي وَيُص ُك ْم َعن ْك ال وَع الَّص ال َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ِن‬ ‫َّل‬ ‫ِر‬ ‫َّد‬ ‫ِر‬ ‫ِس‬

‫واحلكم ة يف حترمي الس رقة ـ وهي الب اعث على ه ذا التح رمي املرتتب ة علي ه ـ حف ظ أم وال الن اس ف إن الن اس إذا‬
‫عرفوا أن السارق تقطع يده ورأوا تنفيذ أحكام الشرع يف الذين يسرقون ارتدعوا وخافوا وكفوا أنفسهم عن‬
‫السرقة‪ ،‬وبذلك حيتفظون بأمواهلم‪.‬‬
‫قال تعاىل‪ " :‬والَّس اِر ُق والَّس اِر َقُة َفاْقَطُعوا َأْيِدَيُه َم ا َجَز اًء َمِبا َك َس َبا َنَك اًال ِّم َن الَّلِه والَّلُه َعِز يٌز َح ِكيٌم " (‪.)2‬‬
‫واحلكمة يف وجوب الص وم ـ وهي الباعث على ه ذا الوجوب والثم رة املرتتبة عليه ـ إشعار الغىن مبا يالقيه‬
‫الفقري من أمل اجلوع ومرارته فإذا أحس بذلك عطف على الفقري وأعطاه ماله من حق يف ماله قال تعاىل‪ " :‬ويِف‬
‫َأْم َو اِهِلْم َح ٌّق ِّللَّس اِئِل واْلَم ْح ُر وِم " (‪.)3‬‬
‫واحلكم ة يف إباح ة الفط ر يف رمض ان للمس افر ـ وهي الب اعث على احلكم والثم رة املرتتب ة علي ه ـ دف ع املش قة‬
‫واحلرج عن الناس والتخفيف عليهم قال تعاىل‪َ " :‬و َم ا َجَعَل َعَلْيُك ْم يِف الِّديِن ِم ْن َح َر ٍج " (‪.)4‬‬
‫وقال تعاىل‪ُ " :‬يِر يُد الَّلُه ِبُك ُم الُيْسَر وال ُيِر يُد ِبُك ُم الُعْسَر " (‪.)5‬‬
‫وحمصل ذلك كله أن احلكمة‪ :‬هي الباعث على تشريع احلكم‪ ،‬والغاية املقصودة منه‪ ،‬وهي املصلحة اليت قصد‬
‫الشارع بتشريع احلكم حتقيقها أو تكميلها‪ ،‬أو املفسدة اليت قصد الشارع بتشريع احلكم درؤها أو التقليل منها‪.‬‬
‫أما العلة‪ :‬فهي األمر الظاهر املنضبط املعرف للحكم الذي ينبين عليه احلكم وجودا وعدما‪.‬‬
‫ب ـ الفرق بين العلة والسبب‪:‬‬

‫(?)سورة المائدة اآليتان‪.91،90 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة المائدة اآلية‪.38 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة الذاريات اآلية‪.19 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)سورة الحج اآلية‪.78 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)سورة البقرة اآلية‪.185 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪54‬‬

‫أم ا الف رق بني العل ة والس بب‪ :‬فه و أهنم ا عن د بعض األص وليني متباين ان‪ ،‬فالس بب خيتص مبا ليس بين ه وبني‬
‫احلكم مناسبة‪ ،‬وأما العلة‪ :‬فهي الوصف املناسب لتشريع احلكم‪ ،‬فالسفر على هذا الرأي علة جلواز الفطر‪ ،‬وال‬
‫يسمى سببا له‪ ،‬وزوال الشمس سبب لصالة الظهر وال يسمى علة هلا‪.‬‬
‫وأما عند مجهور األصوليني‪ :‬فالسبب أعم يف مدلوله من العلة‪ ،‬فكل على سبب‪ ،‬وليس كل سبب علة‪ ،‬فإذا‬
‫كانت املناسبة بني الوصف وربط احلكم به مما تدركه عقولنا‪ ،‬فيسمى الوصف علة وسببا‪ ،‬أما إذا كانت املناسبة‬
‫مما ال تدركه عقولنا فيسمى الوصف سببا فقط‪ ،‬فمثال عقد البيع الدال على الرضا بنقل امللكية‪ ،‬يقال به‪ :‬علة‬
‫وسبب‪ ،‬وزوال الشمس عن وسط السماء‪ ،‬يقال له سبب وال يقال له علة‪.‬‬
‫ما الذي تبنى عليه األحكام ويصح التعليل به؟‪:‬‬
‫ق رر مجه ور األص وليني أن التعلي ل يك ون بالوص ف الظ اهر املنض بط‪ ،‬س واء أك ان معق وال كالرض ا والس خط‬
‫الظاهرين‪ ،‬أم حمسوسا كالقتل والسرقة‪ ،‬أم عرفيا كاحلسن والقبح‪ ،‬فمثل هذه العلة هي مناط احلكم عند الشارع‬
‫(‪.)5‬‬
‫أما احلكمة‪ :‬فإنه قد يتبادر إىل الذهن أن احلكم مرتبط هبا‪ ،‬ألهنا الباعث على تشريع احلكم‪ ،‬ولكن وجد أن‬
‫احلكمة قد تكون أمرا خفيا ال تدرك حباسة ظاهرة‪ ،‬أو أمرا غري منضبط خيتلف باختالف األحوال أو باختالف‬
‫الن اس فمثال‪ :‬إباح ة ال بيوع‪ ،‬حكمته ا دف ع احلرج عن الن اس بس د ح اجتهم‪ ،‬واحلاج ة أم ر خفي‪ ،‬فق د تك ون‬
‫املعاوضة بالبيع حلاجة أو لغري حاجة‪ ،‬وإباحة الفطر يف رمضان‪ ،‬حكمتها دفع املشقة واملشقة ختتلف باختالف‬
‫األحوال والناس‪ ،‬فاحلكام واألغنياء مثال ال يناهلم من املشقة يف السفر ما ينال الرعية والفقراء‪ ،‬واملشقة يف زمن‬
‫الصيف ختتلف عن املشقة يف زمن الشتاء‪ ،‬والسفر على الطائرات غري الركوب على اجلمال‪.‬‬
‫ومشروعية قصر الصالة يف السفر‪ ،‬حكمتها دفع املفسدة اليت هي املشقة‪ ،‬غري أن هذه املشقة أمر اعتباري‬
‫خيتلف بالنسبة لألشخاص والظروف واألزمان واألماكن‪ ،‬فال ميكن جعل املشقة مناطا للحكم وهو الرتخيص يف‬
‫قصر الصالة‪ ،‬ولكن ملا كان السفر مظنة هذه املشقة‪ ،‬وهو أمر ظاهر منضبط‪ ،‬جعل السفر علة إلباحة القصر‬
‫كما هو علة إلباحة الفطر‪.‬‬
‫وحترمي اخلمر‪ :‬حكمته دفع الضرر عن الناس‪ ،‬غري أن الضرر أمر تقديري خيتلف باختالف األشخاص‪ ،‬فجعل‬
‫اإلسكار الذي هو أمر ظاهر منضبط علة للتحرمي حبيث يقاس عليه كل مسكر‪.‬‬

‫(?)التلويح على التوضيح ‪ ،2/63‬التقرير والتحبير ‪ ،3/141‬مسلم الثبوت ‪ ،2/223‬الموافقات ‪،1/314‬‬ ‫‪5‬‬

‫محاضرات الزفزاف ‪ 20‬من بحث القياس‪.‬‬


‫‪55‬‬

‫وتشريع القصاص من القاتل‪ :‬حكمته احملافظة على حياة األفراد‪ ،‬غري أن هذه احلكمة قد ال تتحقق أحيانا‬
‫فجعلت العلة القتل العمد العدوان‪ ،‬باعتباره وسيلة لتحقق احلكمة السابقة‪.‬‬
‫ونظرا خلفاء حكمة التشريع أحيانا‪ ،‬وعدم انضباطها أحيانا أخرى قرر مجهور األصوليني منع التعليل باحلكمة‬
‫مطلق ا‪ ،‬سواء أكانت خفية أم ظ اهرة‪ ،‬منض بطة أم غري منض بطة‪ ،‬وحينئذ يلتمس للتعليل وصف ظاهر منض بط‬
‫بدور مع احلكمة أو يغلب وجودها عنده‪ ،‬أي أن املطلوب هو أن يكون الوصف مظنة لتضمنه احلكمة‪ ،‬وعندئذ‬
‫ينبين احلكم عليه ويرتبط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه‪ ،‬وهذا هو معىن قول األصوليني‪ :‬إن احلكم يدور مع علته‬
‫ال مع حكمته وجودا وعدما‪ :‬أي أن احلكم يوجد حيث توجد علته‪ ،‬ولو ختلفت حكمته‪ ،‬وينتفي حيث تنتفي‬
‫علته‪ ،‬ولو وجدت حكمته‪ ،‬فالسفر يف رمضان مثال علة حتيز الفطر وقصر الصالة كما تبني‪ ،‬حىت وإن انتفت‬
‫احلكم ة‪ ،‬وهي املش قة‪ ،‬ب أن ك ان الس فر مرحيا ال مش قة في ه‪ ،‬أم ا غ ري املس افر أو املريض‪ :‬فال جيوز ل ه الفط ر أو‬
‫القصر‪ ،‬حىت وإن كان يف عمله مشقة كاخلباز والوقاد وحنومها‪ ،‬النتفاء علة اجلواز‪ ،‬وهي السفر أو املرض‪ ،‬رغم‬
‫أن احلكم ة وهي املش قة موج ودة‪ ،‬وب ه يظه ر أن احلكم الش رعي يرتب ط مبظن ة وج ود العل ة‪ ،‬وليس باملئن ة أي أن ه‬
‫يكفي حصول الظن الغالب بتوفر العلة‪ ،‬وال يشرتط تيقن وجودها‪ ،‬فاملظنة أقيمت مقام املئنة‪.‬‬
‫وهناك من األصوليني من جييز التعليل باحلكمة‪ ،‬وتكاد تنحصر مذاهب اجلميع يف ذلك يف ثالثة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ م ذهب مجه ور األص وليني فهم ي رون أن التعلي ل باحلكم ة غ ري ج ائز س واء ك انت العل ة ظ اهرة أم خفي ة‬
‫مضطربة أم غري مضطربة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ مذهب مجاعة من األصوليني وهو اختبار اإلمام الرازي والبيضاوي وابن احلاجب ومقتضاه جواز التعليل‬
‫باحلكمة مطلقا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ مذهب طائفة من األصوليني وهو اختيار اآلمدي فهو يرى أن التعليل باحلكمة جائز إن كانت احلكمة‬
‫ظاهرة منضبطة‪ ،‬أما إن كانت خفية أو مضطربة فال جيوز التعليل هبا كاملشقة فإهنا خفية غري منضبطة‪ ،‬بدليل أهنا‬
‫قد حتصل للحاضر وتنعدم يف حق املسافر‪ ،‬ولكل رأي دليله‪ ،‬ومع إجازة من أجاز التعليل باحلكمة جند كلمتهم‬
‫متفق ة على أن التعلي ل يف النص وص الش رعية مل يق ع باحلكم ة ب ل ب نيت األحك ام فيه ا على العل ل واألوص اف‬
‫الظاهرة املنضبطة‪.‬‬
‫هذا ما قرره األصوليون يف كتبهم نظريا (‪.)1‬‬
‫التعليل في النصوص بالحكمة‪:‬‬

‫(?)راجع اإلبهاج‪ ،‬ونهاية السول شرحي المناهج ‪ ،3/91‬واإلحكام لآلمدي ‪ ،3/12‬المحصول جـ‪،397- 2/389‬‬ ‫‪1‬‬

‫أبو النور زهير جـ‪.4/59‬‬


‫‪56‬‬

‫واملتتب ع لآلي ات القرآني ة واألح اديث النبوي ة جيد بن اء األحك ام على احلكم وتعليله ا هبا مستفيض ا واض حا‬
‫وضوح الشمس يف رابعة النهار‪ ،‬األمر الذي يدحض ما اتفقت عليه كلمة أكثر األصوليني‪ ،‬وهذه مناذج من ما‬
‫ورد فيه التعليل يف النصوص القرآنية والنبوية على السواء باحلكم ال باألوصاف‪.‬‬
‫ِن‬ ‫ِن‬ ‫ِس‬ ‫ِذ‬
‫‪ 1‬ـ قال تعاىل‪َ " :‬يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُنوا إَمَّنا اَخلْم ُر واَملْي ُر واَألنَص اُب واَألْز الُم ِر ْج ٌس ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطا َف اْج َت ُبوُه‬
‫َل َّلُك ْف ِل وَن * إَمَّنا ِر يُد الَّش َطاُن َأن وِق َنُك ال َد ا َة واْل ْغ ا يِف ا ِر واْل ِس ِر و َّد ُك ن ِذْك ِر الَّل ِه‬
‫َيُص ْم َع‬ ‫ُي َع َبْي ُم َع َو َب َض َء َخلْم َم ْي‬ ‫ْي‬ ‫ُي‬ ‫َع ْم ُت ُح‬
‫وَعِن الَّص الِة َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫أال ترى معي أن اهلل سبحانه وتعاىل قد علل حترمي اخلمر مبا يرتتب على شرهبا من مفاسد دينية ودنيوية من‬
‫وقوع العداوة والبغضاء بني الناس والصد عن ذكر اهلل وعن الصالة وإهنا رجس وإهنا من عمل الشيطان‪ ،‬وهذا‬
‫هو التعليل باحلكمة‪ ،‬ألن ما ذكر هو الباعث على التحرمي والتعليل به نص‪.‬‬
‫ِع ِئِه‬ ‫ِمِن‬ ‫ِل‬
‫‪ 2‬ـ قال تعاىل‪َ " :‬فَلَّم ا َقَض ى َز ْيٌد ِّم ْنَه ا وَطرًا َز َّو ْج َناَك َه ا َك ْي ال َيُك وَن َعَلى اُملْؤ َني َح َر ٌج يِف َأْز َو اِج َأْد َي ا ْم‬
‫إَذا َقَض ْو ا ِم ْنُه َّن وَطرًا " (‪.)2‬‬
‫فها حنن جند الشارع احلكيم يعلل أمر زواج النيب صلى اهلل عليه وسلم من زينب اليت كانت زوجا لزيد بن‬
‫حارثة ابن الرسول صلى اهلل عليه وسلم بالتبين بعد تطليقه إياها بدفع احلرج عن املؤمنني‪ ،‬وذلك ما يفصح عنه‬
‫قوله تعاىل‪ِ " :‬لَك ْي ال َيُك وَن َعَلى ا ْؤ ِمِنَني َح َر ٌج يِف َأْز َو اِج َأْد ِعَياِئِه ْم " (‪.)3‬‬
‫ُمل‬
‫فقد جرت عادهتم قبل هذا التشريع على حترمي أزواج أبنائهم الذين ليسوا من أصالهبم كأزواج الذين من‬
‫أصالهبم‪.‬‬
‫وال ش ك أن دف ع احلرج والض يق ه و الثم رة املرتتب ة على إباح ة ال زواج من زوج ة االبن املتب ين فه و تعلي ل‬
‫باحلكمة‪ ،‬ألن احلكمة هي األثر املرتتب على احلكم‪.‬‬
‫وهذا هو بعينه ما فهمه الصحابة وطبقوه يف بنائهم األحكام على احلكم املرتتبة عليها‪ ،‬فقد عللوا هني الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم عن قطع األيدي يف الغزو الوارد يف قوله‪" :‬ال تقطع األيدي يف الغزو" (‪ )4‬مبا يرتتب على‬
‫القطع من الضرر فرمبا سولت نفس املقطوعة يده أن يهرب إىل العدو وال شك أن ذلك تعليل باحلكمة‪ ،‬وبناء‬
‫على ذلك جيوز أن يقال حد الزنا يف دار احلرب كقطع األيدي فيها جبامع ما يرتتب على كل من الضرر‪ ،‬فكما‬
‫ال تقطع األيدي يف دار احلرب ال يقام حد الزنا يف دار احلرب‪.‬‬

‫(?)سورة المائدة اآليتان‪.91 ،90 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة األحزاب اآلية‪.37 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة األحزاب اآلية‪.37 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)الجامع الصحيح سنن الترمذي جـ‪ 4/53‬رقم الحديث ‪ ،1450‬المجتبي من السنن جـ‪ 8/91‬رقم الحديث ‪.4979‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪57‬‬

‫‪ 3‬ـ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (ال تنكح املرأة على عمتها وال على خالتها وال على ابنة أخيها وال‬
‫على ابنة أختها‪ ،‬وإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (‪.)1‬‬
‫فقد علل النيب صلى اهلل عليه وسلم حترمي اجلمع بني ما ذكر من النساء بأن ذلك مؤد إىل قطيعة الرحم‪ ،‬وال‬
‫شك أن تقطيع األرحام هو الباعث يف التحرمي يف احلديث فهو حكمة‪.‬‬
‫هذا ومما ينبغي التنبه إليه إن احلكم والبواعث اليت تبىن عليها األحكام وترتب عليها هي تلك احلكم املتمشية‬
‫م ع روح التش ريع ومساحة ه ذا ال دين ونص اعته ومقاص ده ومقتض ياته‪ ،‬وليس م ا يظن ه الن اس ال ذين ال دراي ة هلم‬
‫مبقاصد التشريع وروحه انه مصاحل مما تولده األهواء ومتيل إليه ويتناسب مع األمزجة والرغبات أو جمرد العادات‪،‬‬
‫فكل صاحب هوى قد يدعي أن هناك مصلحة فيبين عليها احلكم حىت يتوصل إىل غرضه‪.‬‬
‫مسالك العلة‪:‬‬
‫ال يكفي إلجراء عملية القياس جمرد معرفة الوصف اجلامع بني األصل والفرع‪ ،‬بل البد من دليل يدل على‬
‫اعتبار الوصف علة للحكم‪ ،‬كي يثبت القياس‪ ،‬ولذا فإن كثريا من األصوليني يضيفون إىل شروط العلة السالفة‬
‫الذكر شرطا هو أن يدل دليل على العلة‪.‬‬
‫واألدلة اليت تدل على اعتبار الوصف علة للحكم هي املعروفة مبسالك العلة‪ ،‬ومعىن كوهنا مسالك هلا أي هي‬
‫طرق ملعرفتها‪ ،‬ومعرفة ثبوت احلكم هبا‪ ،‬ومسالك العلة نوعان حسب تنوع العلة‪ ،‬ذلك أن العلة أما منصوص‬
‫على اعتباره ا م ؤثرة أو معرف ة للحكم ب القرآن أو الس نة أو اإلمجاع‪ ،‬وإم ا أن تك ون ثابت ة باالس تنباط من خالل‬
‫تتبع موارد االستعمال وأساليب اقرتان األوصاف باألحكام‪ ،‬وإليك بيان تلك املسالك على التوايل‪:‬‬
‫أ ـ مسالك العلة المنصوصة‪:‬‬
‫المسلك األول ‪ /‬النص‪ :‬وهو نوعان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ النص القاطع‪ :‬وهو أن يرد النص داال على التعليل صراحة دون احتمال لغريه‪ ،‬أو هو داللة اللفظ الوارد‬
‫يف النص على العلية بالوضع بأن يكون اللفظ موضوعا يف اللغة إلفادة العلية‪.‬‬
‫واأللفاظ املوضوعة إلفادة العلية كثرية منها (كي‪ ،‬ألجل‪ ،‬إذا‪ ،‬لعلة كذا‪ ،‬لسبب كذا‪ ،‬ملؤثر كذا‪ ،‬ملوجب‬
‫كذا) وحنوها‪ ،‬كما يتبني من األمثلة التالية‪:‬‬

‫(?)الجامع الصحيح المختصر جـ‪ 5/1965‬رقم ‪ ،4819‬الجامع الصحيح سنن الترمذي جـ‪ 3/425‬رقم الحديث‬ ‫‪1‬‬

‫‪.1117‬‬
‫‪58‬‬

‫قال تعاىل‪َ " :‬م ا َأَف اَء الَّل ُه َعَلى َرُس وِلِه ِم ْن َأْه ِل الُق َر ى َفِلَّل ِه وِللَّر ُس وِل وِلِذي الُق ْر ىَب واْلَيَت اَم ى واْلَمَس اِكِني واْبِن‬
‫الَّس ِبيِل َك ْي ال َيُك وَن ُدوَلًة َبَنْي اَألْغ ِنَياِء ِم نُك ْم " (‪.)2‬‬
‫ف إن (كي) موض وعة للتعلي ل‪ ،‬ومل تس تعمل يف غ ريه‪ ،‬فلم حتتم ل غ ري التعلي ل‪ ،‬فه ذه عل ة ص رحية قطيع ة‬
‫لتخص يص الفيء هبؤالء األوص اف دون غ ريهم يل رأي مجه ور العلم اء‪ ،‬وهي أال يك ون مت داوال بني األغني اء‬
‫فقط‪ ،‬وحيرم منه الفقراء‪.‬‬
‫وقال سبحانه ـ بعد أن قص نبأ ولدى أدم ـ‪ِ " :‬م ْن َأْج ِل َذِلَك َك َتْبَن ا َعَلى َبيِن إْس اِئي َأَّنُه َم ن َقَت َنْف س ًا ِبَغِرْي‬
‫َل‬ ‫َر َل‬
‫َنْف ٍس َأْو َفَس اٍد يِف اَألْر ِض َفَك َأَمَّنا َقَتَل الَّناَس ِمَج يع ًا " (‪ ،)2‬وقال عليه الصالة والسالم‪" :‬إمنا هنيتكم عن ادخار حلوم‬
‫األضاحي ألجل الدافة‪ ،‬أال فادخرو) (‪ )3‬أي ألجل التوسعة على الطائفة اليت قدمت املدينة أيام التشريق‪ ،‬والدافة‪:‬‬
‫هي القافلة السائرة من وفود األعراب القادمة من السفر على املدينة‪ ،‬فهذه على صرحية قطيعة يف أن النهي عن‬
‫االدخار كان بسبب طارئ‪ ،‬فلما زالت العلة زال احلكم‪ ،‬وهو حترمي االدخار لألضحية املتطوع هبا‪ ،‬ال املنذورة‬
‫فسبيلها الصدقة‪.‬‬
‫وقال عليه الصالة والسالم يف تعليل منع النظر إىل دار الغري من ثقوب الباب‪( :‬أمنا جعل االستئذان من أجل‬
‫البصر) (‪ ،)4‬فالرسول جعل وجوب االستئذان املقرر يف القرآن الكرمي معلال بالبصر‪ ،‬أي أنه ال يصح أن يطلع‬
‫على أمور الناس‪ ،‬إذ قد يكون يف النظر اطالع على ما يكره‪.‬‬
‫وكذلك (إذن)‪ :‬يف قوله عليه السالم‪( :‬فال إذن) جوابا ملن سأله عن بيع الرطب بالتمر (‪ ،)5‬وقول النيب صلى‬
‫اهلل علي ه وس لم ل ه‪" :‬أينقص ال رطب إذا ج ف" (‪ )6‬؟ فق ال‪ :‬نعم‪ ،‬واملع ىن فال ت بيعوا ال رطب ب التمر‪ ،‬ألن ال رطب‬
‫جيف باليابس‪ ،‬ملا يف البيع من التفاضل بينهما‪ ،‬وعدم العلم باملساواة بني املبيع والثمن‪ ،‬فهو مظنة للربا‪.‬‬
‫تبني أن يف هذه األلفاظ تصرحيا بكون الوصف علة أو سببا للحكم‪.‬‬

‫(?)سورة الحشر اآلية‪.7 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة المائدة اآلية‪.32 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)راجع الرسالة لإلمام الشافعي ‪ ،236‬شرح الجامع الصحيح من مسند اإلمام الربيع بن حبيب جـ‪ 3/342‬برقم‬ ‫‪3‬‬

‫‪.112‬‬
‫(?)رواه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم والترمذي عن سهل بن سعد‪ ،‬وهو حديث صحيح (الجامع الصغير) ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)رواه أحمد وأصحاب السنن األربعة عن سعد بن أبي وقاص قال‪( :‬سمعت النبي صلى اهلل عليه وسلم يسأل عن‬ ‫‪5‬‬

‫اشتراء التمر بالرطب‪ ،‬فقال لمن حوله‪ :‬أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فنهى عن ذلك) والسؤال المذكور‬
‫ليس بسبب الجهل بالنقص ألنه كان عليه السالم عالما بأنه ينقص إذا يبس‪ ،‬بل المراد تنبيه السامع بأن هذا الوصف‬
‫الذي وقع االستفهام عنه هو علة النهي (نيل األوطار ‪ 5/198‬وما بعدها) ‪.‬‬
‫(?)منتقى ابن الجارود لعبد اهلل بن علي الجارود ص ‪ 165‬رقم الحديث ‪.657‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪59‬‬

‫‪ 2‬ـ النص الظاهر‪:‬‬


‫فهو ما دل على العلية مع احتمال غريها احتماال مرجوحا‪ ،‬وله نوعان‪:‬‬
‫األول‪ :‬ألفاظ معينة وهي حروف التعليل‪ :‬كالالم‪ ،‬والباء‪ ،‬و(أن املفتوحة املخففة)‪ ،‬و(أن املكسورة الساكنة‪،‬‬
‫أو املكسورة املشددة) ‪.‬‬
‫مثال الالم‪ :‬قوله تعاىل‪ " :‬وَم ا َخ َلْق ُت اِجلَّن واإلنَس إال ِلَيْع ُبُد وِن " (‪.)1‬‬
‫وقال سبحانه‪َ " :‬أِقِم الَّص الَة ِلُد ُلوِك الَّش ْم ِس " ‪" ،‬وأقم الصلوة لذكري" (‪.)2‬‬
‫فالالم موضوعة للتعليل‪ ،‬ولكنها غري قطيعة فيه‪ ،‬إذ قد تستعمل يف معان أخرى كامللك‪ ،‬مثل‪( :‬أنت ومالك‬
‫ألبيك) ‪ ،‬أو االختصاص مثل‪ :‬اللجام للفرس‪ ،‬أو العاقبة مثل‪"َ :‬اْلَتَق َطُه آُل ِفْر َع ْو َن ِلَيُك وَن ُهَلْم َع ُد وًا وَحَز ن ًا" أي‬
‫(‪)3‬‬

‫ليصري هلم عدوا‪ ،‬مثل‪:‬‬


‫اب‬ ‫وا إىل تب‬ ‫فكلكم يؤول‬ ‫*‬ ‫ل دوا للم وت وابن وا للخ راب‬

‫أي ليصريوا إىل املوت‪ ،‬ونظرا ألهنا حتتما هذه املعاين احتماال ال مينع ظهورها للتعليل‪ ،‬فهو احتمال مرجوح‪،‬‬
‫فإهنا اعتربت داللتها على التعليل من قبيل الظاهر احملتمل‪.‬‬
‫ومثال الباء‪ :‬قوله تعاىل‪َ " :‬فِبَم ا َر َمْحٍة ِّم َن الَّلِه ِلنَت ُهَلْم " (‪.)4‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ " :‬فِبُظْلٍم ِّم َن اَلِذ يَن َه اُدوا َح َّر ْم َنا َعَلْيِه ْم َطِّيَباٍت ُأِح َّلْت ُهَلْم وِبَص ِّد ِه ْم َعن َس ِبيِل الَّلِه َك ِثريًا " (‪.)5‬‬
‫ف إن الب اء يف ه ذه اآلي ات مفي دة للتعلي ل‪ ،‬وهي ص رحية في ه‪ ،‬ولكنه ا ق د تس تعمل يف اإللص اق‪ ،‬مث ل‪ :‬م ررت‬
‫بزيد‪ ،‬أو االستعانة مثل‪ :‬كتبت بالقلم‪ ،‬وهلا جعلت من قبيل الظاهر الحتماهلا غري التعليل‪.‬‬
‫ومث ال أن‪ :‬قول ه تع اىل‪َ " :‬م َّن اٍع ِّلْلَخ ِرْي ُمْع َت ٍد َأِثيٍم * ُعُتٍّل َبْع َد َذِل َك َز ِنيٍم * َأن َك اَن َذا َم اٍل وَبِنَني "(‪ )6‬أي ألن‬
‫كان ذا مال وبنني‪.‬‬
‫ومثال إن‪ :‬قوله عليه الصالة والسالم يف طهارة سؤر اهلرة‪( :‬إمنا من الطوافني عليكم والطوافات) (‪ )7‬وبعض‬
‫األصوليني يعترب هذا من قبيل اإلمياء اآليت قريبا‪.‬‬

‫(?)سورة الذاريات اآلية‪.56 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة اإلسراء اآلية‪.78 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة القصص اآلية‪.8 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)سورة آل عمران اآلية‪.8 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?)سورة النساء اآلية‪.160 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?)سورة القلم اآليات‪.14 ،13 ،12 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪60‬‬

‫وإمنا قلن ا إمنا النص هن ا على العلي ة ظ اهر وليس ص رحيا مقطوع ا ب ه ألن ه ذه األلف اظ وردت لغ ري التعلي ل‬
‫والسببية‪ ،‬فالباء كما وردت للسببية والتعليل وردت أيضا للتعدية كقوله تعاىل‪َ " :‬ذَه َب الَّل ُه ِبُن وِر ِه ْم " ووردت‬
‫أيضا للتعويض كقوله تعاىل‪ُ " :‬أوَلِئَك اَّلِذ يَن اْش َتَر ُو ا الَّضالَلَة ِباُهْلَد ى " (‪ )1‬وغري ذلك من املعاين‪.‬‬
‫وكما ورد الالم للتعليل مثل قوله تعاىل‪ِ " :‬لَئال َيُك وَن ِللَّناِس َعَلى الَّلِه ُح َّج ٌة َبْع َد الُّر ُس ِل " (‪.)2‬‬
‫ورد أيضا لغري التعليل فجاء الالم للتعدية كما يف قوله تعاىل‪ " :‬إن ُك نُتْم ِللُّر ْءَيا َتْع ُبُر وَن (‪.)3‬‬
‫وجاءت للملك وشبهه حنو‪ِ :‬لَّلِه َم ا يِف الَّس َمَو اِت وَم ا يِف اَألْر ِض " (‪.)4‬‬
‫وكذلك (أن) ودت مقصودا هبا غري التعليل كقوله تعاىل‪َ " :‬أُتِر يُد وَن َأن َتْه ُد وا َمْن َأَض َّل الَّلُه " (‪.)5‬‬
‫إىل غري ذلك‪.‬‬
‫و (إن) املشددة كما يفهم منها التعليل يفهم منها جمرد التقوية والتأكيد بعيدا عن التعليل كما إذا وقعت يف‬
‫أول الكالم كقوله تعاىل‪ " :‬إَّنا َأْع َطْيَناَك الَك ْو َثَر " (‪.)6‬‬
‫وقوله‪ " :‬إَّن الَّلَه َج اِم ُع ا َناِفِق َني واْلَك اِفِر يَن يِف َجَه َّنَم ِمَج يعًا " (‪.)7‬‬
‫ُمل‬
‫ومثال التعليل هبا ورد يف قول الرسول صلى اهلل عليه وسل (ال جتمع املرأة مع عمتها وال مع خالتها) ويف‬
‫رواية (ال تنكح املرأة على ابنة أخيها أو أبنت أختها‪ ،‬إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) (‪ )8‬كما سبق بيانه‪.‬‬
‫المسلك الثاني ‪ /‬اإليمان‪:‬‬
‫وهو‪ :‬الداللة بالنص على العلية بطريق اإلميان واإلشارة‪:‬‬

‫(?)مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ‪ 5/269‬رقم الحديث ‪ ،22581‬صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان جـ‪4/114‬‬ ‫‪7‬‬

‫رقم ‪.1229‬‬
‫(?)سورة البقرة اآلية‪.16 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?)سورة النساء اآلية‪.165 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)سورة يوسف اآلية‪.43 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)سورة البقرة اآلية‪.284 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?) سورة النساء اآلية‪.88 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?) سورة الكوثر اآلية‪.1 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫(?) سورة النساء اآلية‪.140 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫(?) سبق تخريج الحديث‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫‪61‬‬

‫وذلك حبيث يكون اللفظ غري موضوع للعلية أصال‪ ،‬وضابطة أن يقرر احلكم بوصف على وجه لو مل يكن‬
‫علة له لكان الكالم معيبا عند العقالء‪ ،‬ولذلك صور‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يذكر احلكم عقب وصف بالفاء فيدل على أن ذلك الوصف علة لذلك احلكم حنو‪ُ " :‬ق ْل ُه َو َأًذى‬
‫َفاْعَتِز ُلوا الِّنَس اَء يِف ا ِح يِض " (‪.)1‬‬
‫َمل‬
‫و " والَّس اِر ُق والَّس اِر َقُة َفاْقَطُعوا َأْيِدَيُه َم ا " ويلحق هبذا ما رتبه الراوي بالفاء كقوله‪ :‬سها النيب صلى اهلل‬
‫(‪)2‬‬

‫عليه وسلم فسجد‪ ،‬ورض اليهودي رأس جارية فأمر عليه الصالة والسالم أن يرض رأسه بني حجرين‪.‬‬
‫وبعض علماء األصول يقول‪ :‬أن ما رتبه الراوي الفقيه بالفاء مقدم على ما رتبه هبا الراوي غري الفقيه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ترتيب احلكم على الوصف بصيغة اجلزاء يدل على التعليل كقوله تعاىل‪ " :‬ن ْأِت ِم نُك َّن ِبَف اِح َش ٍة ُّم ِّيَن ٍة‬
‫َب‬ ‫َم َي‬
‫ُيَض اَعْف َهَلا الَعَذ اُب ِض ْع َف ِنْي وَك اَن َذِلَك َعَلى الَّلِه َيِس ريًا " (‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يذكر للنيب صلى اهلل عليه وسلم أمر حادث فيجيب حبكم فيدل على أن ذلك األمر املذكور له صلى‬
‫اهلل عليه وسلم علة لذلك احلكم الذي أجاب به كقول األعرايب‪ ،‬واقعت أهلي يف هنار رمضان‪ ،‬فقال له صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪" :‬أعتق رقبة" (‪ )4‬فدل على أن الواقع هو علة العتق‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن يذكر مع احلكم شيء لو مل يقدر التعليل به لكان لغوا غري مفيد‪ ،‬وهو قسمان‪:‬‬
‫أ ـ أن يستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود مث يذكر احلكم عليه كقوله صلى اهلل عليه وسلم ملا سئل‬
‫عن بي ع ال رطب ب التمر‪ ،‬أينقص ال رطب إذا يبس؟ ق الوا‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال‪( :‬فال إذا) (‪ )5‬فل و مل يكن نقص ان ال رطب‬
‫باليبس علة للمنع لكان االستكشاف عنه لغوا‪.‬‬
‫ب ـ أن يع دل يف اجلواب إىل نظ ري حمل الس ؤال كم ا روي أن ه س ألته اخلثعمي ة عن احلج عن الوال دين‪ ،‬فق ال‬
‫ص لى اهلل علي ه وس لم‪( :‬أرأيت ل و ك ان على أم ك دين فقض يته أك ان ينفعه ا؟ ق الت‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال ف دين اهلل أح ق‬
‫بالقضاء) (‪ )6‬ففهم منه التعليل بكونه دينا‪.‬‬

‫(?) سورة البقرة اآلية‪.222 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) سورة المائدة اآلية‪.38 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) سورة األحزاب اآلية‪.30 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?) الجامع الصحيح المختصر لمحمد بن إسماعيل جـ‪ 2/684‬رقم الحديث ‪.1836‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?) سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫(?) سبق تخرجه‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪62‬‬

‫‪ 5‬ـ أن يذكر يف سياق الكالم شيء لو مل يعلل به صار الكالم غري منتظم كقوله تعاىل‪َ " :‬يا َأُّيَه ا اَل ِذ يَن آَم ُن وا‬
‫إَذا ُنوِدَي ِللَّص الِة ِم ن َيْو ِم اُجلُم َعِة َفاْسَعْو ا إىَل ِذْك ِر الَّلِه وَذُر وا الَبْيَع " (‪.)1‬‬
‫ِف ِع‬
‫‪ 6‬ـ ذك ر احلكم مقرونا بوص ف مناسب للتعليل ب ه كقول ه تع اىل‪ " :‬إَّن اَألْبَر اَر َل ي َن يٍم (‪ )13‬وإَّن اْلُفَّج اَر‬
‫َلِف ي َج ِح يٍم " (‪.)2‬‬
‫أي لربهم وفجورهم‪.‬‬
‫وهذه الطرق الثالث إلثبات العلة أعين الداللة على العلية داللة قطعية‪ ،‬والداللة عليها داللة ظاهرة‪ ،‬والداللة‬
‫عليها بطريق اإلمياء واإلشارة‪ ،‬كلها تندرج ضمن مسلك واحد وهو إثبات العلية بالنص‪ ،‬وفهم التعليل يف هذا‬
‫املسلك إمنا هو ملقتضي أساليب اللغة (‪.)3‬‬
‫المسلك الثالث‪ /‬اإلجماع‪:‬‬
‫واملراد به إمجاع العلماء على أن وصفا معينا يف حكم شرعي هو علة لذلك احلكم‪ ،‬مثل أمجاع العلماء على‬
‫أن الص غر عل ة يف الوالي ة املالي ة على الص غري‪ ،‬فقي اس عليه ا الوالي ة يف ال تزويج‪ ،‬ومث ل إمجاعهم على أن العل ة يف‬
‫تق دمي األخ الش قيق على األخ ألب فق ط يف املرياث هي ام تزاج النس بني‪ ،‬أي اق رتان نس ب األب واألم‪ ،‬فقي اس‬
‫على املرياث تقدمي األخ الشقيق على األخ ألب يف والية التزويج (‪.)4‬‬
‫ولك ون النص أساس ا لإلمجاع واش رف من ه‪ ،‬ف إن تق دمي إثب ات العل ة ب النص أوىل من تق دمي إثباهتا باإلمجاع‬
‫ألرجحيته من حيث عدم تطرق النسخ إليه‪.‬‬
‫ب ـ مسالك العلة‪ /‬المستنبطة‪:‬‬
‫إن الستنباط عليه الوصف للحكم طرقا متنوعة متفاوتة يف القوة والتأثري واألمهية‪ ،‬وها حنن نذكر أهم تلك‬
‫الطرق وأوضحها وأقواها تأثريا‪:‬‬
‫المسلك األول‪ /‬السبر والتقسيم‪:‬‬

‫(?) سورة الجمعة اآلية‪.9 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) سورة االنفطار اآليتان‪.14 ،13 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?)المستصفي ‪ ،2/76‬اآلمدي ‪ ،3/38‬شرح العضد على مختصر المنتهي ‪ ،2/233‬شرح المحلي على جمع‬ ‫‪3‬‬

‫الجوامع ‪ ،2/215‬التقرير والتحبير ‪ ،3/189‬فواتح الرحموت ‪ ،2/295‬اإلبهاج ‪ ،3/38‬روضة الناظر ‪،2/265‬‬


‫مفتاح الوصول ‪ ،106‬شرح اآلسنوي ‪ ،3/62‬مرآة األصول ‪ ،2/314‬إرشاد الفحول ‪ ،184‬طلعة الشمس جـ‬
‫‪.2/133‬‬
‫(?)المراجعة السابق الذكر‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪63‬‬

‫ه و طري ق من ط رق إثب ات العل ة واعتباره ا‪ ،‬ولكن ليس ب دليل نقلي من نص أو إمجاع‪ ،‬وإمنا ذل ك‬
‫باالستخراج‪.‬‬
‫معنى السبر والتقسيم‪:‬‬
‫الس رب يف اللغ ة‪ :‬ه و االختب ار والبحث‪ ،‬ومن هن ا يق ال للمي ل ال ذي خيت رب ب ه اجلرح يف الطب‪ :‬املس بار‪ ،‬وأم ا‬
‫التقس يم فمعن اه التجزئ ة‪ ،‬ومسي ه ذا املس لك من مس الك العل ة ب ذلك‪ ،‬ألن املن اظر يقس م الص فات وخيت رب ك ل‬
‫واحدة منها‪ ،‬هل هي صاحلة للعلية أو ال تصلح؟ فالسرب والتقسيم‪ ،‬معناه مجع األوصاف اليت يظن كوهنا على يف‬
‫األصل‪ ،‬واختبار كل واحد منها‪ ،‬والرتديد بينها بأن يقول اجملتهد هل يصلح هذا للعلبة أو ال؟ مثل‪ :‬أن يقال‪ :‬علة‬
‫الربا يف الرب‪ ،‬إما الطعم وإما الكيل‪ ،‬وإما االقتيات‪.‬‬
‫ومعىن كل منهم يف اصطالح األصوليني‪ :‬هو أن السرب معناه اختبار الوصاف اليت حيصرها اجملتهد وينظر هل‬
‫تصلح علة للحكم أو ال‪ ،‬مث يلغي ما ال يراه صاحلا للعلية بدليل يدل على عدم الصالحية‪ ،‬وأما التقسيم فمعناه‪:‬‬
‫أن حيض ر اجملته د األوص اف ال يت ق د تص لح ألن تك ون عل ة للحكم من بني األوص اف ال يت اش تمل عليه ا أص ل‬
‫القياس (‪.)1‬‬
‫وبه يتبني أن تعريف السرب معا هو‪ :‬مجع األوصاف اليت يظن كوهنا علة يف األصل‪ ،‬مث اختبارها بإبطال ماال‬
‫يصلح منها للعلية‪ ،‬فيتعني الباقي للتعليل (‪ ،)2‬ومساه البيضاوي (‪ )3‬التقسيم احلاصر والتقسيم الذي ليس حباصر‪.‬‬
‫فاألول هو الذي يدور بني النفي واإلثبات‪ ،‬كأن يقال‪ :‬والية اإلجبار على النكاح على غري البالغة (‪ ،)4‬إما‬
‫أال تعلل أصال‪ ،‬أو تعلل‪ ،‬وعلى التقدير الثاين‪ .‬إما أن تكون العلة هي البكارة أو الصغر أو غريمها‪ ،‬ال جائز أن‬
‫تكون غري معللة أصال‪ ،‬وال أن تكون معللة بغري البكارة والصغر‪ ،‬ألن اإلمجاع قائم على أهنا معللة‪ ،‬وأن العلة‬
‫منحصرة يف هذين الوصفني‪.‬‬
‫وال يصح عند الشافعية أن يكون الصغر هو العلة‪ ،‬وإال لزم أن تكن الثيب الصغرية جمربة‪ ،‬وأن الوالية ثابتة‬
‫عليها لوج ود الص غر فيه ا‪ ،‬وه ذا من اف للح ديث وه و‪( :‬ال ثيب أحق بنفس ها من وليها والبك ر تس تأذن‪ ،‬وإذهنا‬

‫(?) التقرير والتحبير ‪ ،3/195‬فواتح الرحموت ‪ ،2/221‬مسلم الثبوت ‪ ،2/254‬إرشاد الفحول ‪ ،187‬طلعة‬ ‫‪1‬‬

‫الشمس جـ‪ 2/135‬وما بعدها‪ ،‬محاضرات الزفزاف ‪ 26‬من بحث القياس‪ ،‬طلعة الشمس جـ‪ 2/135‬وما بعدها‪.‬‬
‫(?) المستصفي ‪ ،2/77‬شرح المحلي على جمع الجوامع ‪ ،2/221‬شرح العضد على مختصر المنتهي ‪،2/236‬‬ ‫‪2‬‬

‫روضة الناظر ‪ ،2/281‬المدخل إلى مذهب أحمد ‪.156‬‬


‫(?) راجع اإلبهاج شرح اإلبهاج شرح المناهج ‪ ،2/54‬شرح اآلسنوي ‪.2/85‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?)أما علة والية اإلجبار على مال الصغير فهي الصغر باالتفاق‪ ،‬وعلى مال المجانين والمعتوهين هي‪ :‬ضعف‬ ‫‪4‬‬

‫اإلدراك والعقل‪.‬‬
‫‪64‬‬

‫ص متها) (‪ )1‬ولف ظ (ال ثيب) يف احلديث يتن اول الص غرية والكب رية‪ ،‬فيتعني أن تك ون العل ة يف اإلجب ار هي البك ارة‬
‫(‪ ،)2‬ال الصغر‪ ،‬مث إن النكاح مما ال يتعلق به دفع حاجة الصغري‪ ،‬فال يصلح الصغر علة لإلجبار‪.‬‬
‫أما التقسيم غري احلاصر أو املنتشر‪ :‬فهو الذي ال يكون دائرا بني النفي واإلثبات‪ ،‬مثاله‪ :‬أن يقول الشافعية‪:‬‬
‫علة حرمة الربا يف الرب‪ ،‬إما تكون الطعم أو القوت أو الكيل‪ ،‬وكل من القوت والكيل ال يصح أن يكون علة‬
‫لعدم املناسبة أو النقض والتخلف يف بعض احلاالت‪ ،‬فتعني أن تكون العلة الطعم‪ ،‬فقياس على الرب‪ :‬الذرة واألرز‬
‫اللذان مل يذكرا يف النص‪ ،‬ألهنما مطعومان‪.‬‬
‫وأنت تالح ظ من تعري ف الس رب والتقس يم ومن ه ذه األمثل ة‪ ،‬أن عملي ة التقس يم وهي حص ر األوص اف ال يت‬
‫ميكن أن تص لح للعلي ة مقدم ة عن د اجملته د على الس رب‪ ،‬فالس رب جييء بعدئ ذ‪ ،‬ألن ه كم ا ع رف ه و اختب ار ه ذه‬
‫األوصاف اليت حصرها اجملتهد لتعرف ما يكون منها صاحلا للعلية بعد قيام الدليل على عدم صالحية سواه‪ ،‬هلذا‬
‫ق ال بعض األص وليني (‪ ،)3‬ومن األج در أن يس مى ه ذا الطري ق التقس يم والس رب‪ ،‬لك ين أرى ذل ك‪ ،‬ألن األهم‬
‫واألدق يف عملية إثبات العلة هو اختيار األوصاف بإلغاء ماال يصلح منها للتعليل‪ ،‬فيقدم يف اللفظ اعتناء بشأنه‪،‬‬
‫مثال ه‪ ،‬أن يق ول اجملته د (حترمي اخلم ر ب النص إم ا لكون ه من العنب‪ ،‬أو كون ه س ائال‪ ،‬أو كون ه مس كرا) ‪ ،‬لكن‬
‫الوصف األول قاصر‪ ،‬والثاين طردي غري مناسب‪ ،‬فبقى الثالث وهو اإلسكار‪ ،‬فيحكم بأنه علة‪.‬‬
‫وعملي ة الس رب والتقس يم خيتل ف اجملته دون يف النتيج ة احلاص لة منه ا‪ ،‬بس بب تف اوت عق وهلم يف إدراك أن‬
‫املناسب هذا الوصف أو ذاك‪ ،‬فمثال احلنفية واملالكية خالفوا الشافعية يف املثال الربا السابق‪ ،‬فقال احلنفية‪ :‬العلة‬
‫يف حترمي األموال الربوية القدر (الكيل أو الوزن) مع احتاد اجلنس‪ ،‬وقال املالكية‪ :‬العلة هي األقتيات واالدخار مع‬
‫احتاد اجلنس‪ ،‬وقال الشافعية‪ :‬العلة هي الطعم مع احتاد اجلنس‪ ،‬وقد عرف مسلك الشافعية يف إثبات هذه العلة‪.‬‬
‫أم ا مس لك احلنفي ة فيق ول اجملته د منهم‪ :‬عل ة حترمي الرب ا يف الش عري مثال إم ا كون ه مما يض بط (ألن ه يض بط‬
‫بالكيل)‪ ،‬وإما كونه طعاما‪ ،‬وإما كونه مما يقتات به ويدخر‪ ،‬لكن كونه طعاما ال يصلح علة‪ ،‬ألن التحرمي ثابت‬
‫يف امللح بامللح وليس قوت‪ ،‬فتعني أن تكون العلة كونه مقدار‪ ،‬فيقاس على املنصوص عليه كل املقدرات بالكيل‬
‫أو الوزن‪ ،‬ففي مبادلتها جبنسها حيرم ربا الفضل والنسيئة‪ ،‬أما مسلك املالكية فقريب من مسلك الشافعية‪.‬‬

‫(?)رواه مسلم عن ابن عباس رضي اهلل عنهما (سبل السالم ‪. )3/119‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) بدليل أن النبي صلى اهلل عليه وسلم لما قسم النساء قسمين‪ :‬ثيبا وبكرا‪ ،‬وأثبت الحق ألحدهما وهي الثيب‪ ،‬دل‬ ‫‪2‬‬

‫على نفيه عن اآلخر وهي البكر‪ ،‬فيكون وليها أحق منها بها‪.‬‬
‫(?) راجع محاضرات في أصول الفقه للزفزاف ‪ 26‬من بحث القياس‪ ،‬وقال اآلسنوي في شرحه على المنهاج‬ ‫‪3‬‬

‫للبيضاوي ‪ 3/85‬األولى أن يقدم التقسيم في الفظ‪ ،‬فيقال‪ :‬التقسيم والسبر‪ ،‬لكونه متقدما في الخارج‪ ،‬أي في الواقع‪.‬‬
‫‪65‬‬

‫والخالص ‪AA‬ة‪ :‬أن اجملته د يبحث يف األوص اف املوج ودة يف أص ل القي اس‪ ،‬ويس تبعد م ا ال يص لح منه ا عل ة‪،‬‬
‫ويستبقي ما يصلح على حسب رجحان ظنه‪ ،‬مراعيا حتقق شروط العلة السابق ذكرها‪.‬‬
‫طرق حذف الوصف غير الصالح للعلية في هذا المسلك‪:‬‬
‫ومن اجلدير بالذكر بيان طرق حذف بعض األوصاف اليت ال تصلح للعلية (‪ ،)1‬وهي‪:‬‬
‫أوال ‪/‬اإللغاء‪:‬‬
‫وه و أن يبني اجملتهد أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به احلكم يف صورة بدون الوصف احملذوف‪ ،‬وه ذا‬
‫الطريق يس مى باإللغ اء‪ ،‬وحينئذ ال يك ون للمح ذوف تأثري يف احلكم‪ ،‬مثال ه‪ :‬اعتبار احلنفية الص غر سببا لثب وت‬
‫والية التزويج بدليل األمر باستئذان البكر البالغة‪ ،‬وبدليل ثبوت الوالية على املال بالصغر‪ ،‬فمحل هذا احلكم هو‬
‫الصورة اليت ثبت فيها احلكم بالوصف الذي أبقاه اجملتهد (وهو الصغر) دون الذي حذف كالبكارة وغريها‪ ،‬مما‬
‫يدل على أنه حصل بالظن أن ال مدخل للوصف احملذوف يف العلية‪ ،‬وأن الوصف املستبقي هو على ثبوت احلكم‬
‫يف والية التزويج‪.‬‬
‫ثانيا ‪ /‬الطردية‪:‬‬
‫وهي أن يكون الوصف الذي حيذفه اجملتهد أمرا طرديا يعين ملغي مل يعتربه الشارع‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫أ ـ إما مطلق ا‪ ،‬أي ملغي عنده رأسا يف األحكام كلها‪ ،‬وه و أن يكون من جنس ما ألفنا من الش ارع عدم‬
‫االلتفات إليه يف إثبات األحكام‪ ،‬مثل الطول والقصر‪ ،‬والسواد والبياض وحنوه‪ ،‬فإن الشارع قد ألغى اعتبار هذه‬
‫األوص اف يف أحكام ه مث ل اإلرث والقص اص والكف ارة وحنوه ا‪ ،‬فال تص لح مث ل ه ذه األوص اف أص ال لتعلي ل‬
‫احلكم هبا‪.‬‬
‫ب ـ أو يف احلكم املبح وث عن ه‪ :‬مبع ىن أن م ا حذف ه من جنس م ا ألفن ا من الش ارع إلغ اءه يف جنس احلكم‬
‫املعلل‪ ،‬وإن كان قد اعتربه‪ ،‬مثاله‪ :‬وصف الذكورة واألنوثة‪ ،‬فإن الشارع اعتربه يف الشهادات والقضاء ووالية‬
‫التزويج واإلرث‪ ،‬ولكنه ألغاه بالنسبة ألحكام العتق‪ ،‬ألنه سوى بني الذكر واألنثى يف أحكام العتق‪ ،‬لقوله تعاىل‪:‬‬
‫(فتحرير رقبة) وهذا يشمل الذكر واألنثى‪ ،‬وبناء عليه يكون قوله عليه السالم‪( :‬من أعتق شركا من عبد قوم‬
‫عليه نصيب شريكه) (‪ ،)2‬شامال العبد واألمة يف حكم سراية العتق دون قصره على الذكر فقط‪.‬‬

‫(?) فواتح الرحموت ‪ 2/299‬وما بعدها‪ ،‬شرح العضد على مختصر المنتهي ‪ 2/237‬وما بعدها‪ ،‬والمدخل إلى‬ ‫‪1‬‬

‫مذهب أحمد ‪ 170‬وما بعدها‪ ،‬مسلم الثبوت ‪ ،2/255‬طلعة الشمس جـ‪.2/136‬‬


‫(?) متفق عليه بين البخاري ومسلم من حديث ابن عمر بلفظ (من أعتق شركا له في عبد) فكان له مال يبلغ ثمن‬ ‫‪2‬‬

‫العبد‪ ،‬قوم عليه قيمة عدل‪ ،‬فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد‪ ،‬وإ ال فقد عتق منه ما عتق) سبل السالم‬
‫‪66‬‬

‫ثالثا ‪ /‬أال يظهر ـ في ذهن الناظر ـ للوصف الذي يراد حذفه مناسبة للحكم‪:‬‬
‫أو م ا ي وهم املناس بة‪ ،‬أي أال يق وم دلي ل على أن الش ارع أعت رب ه ذا الوص ف بن وع من أن واع االعتب ارات‪،‬‬
‫ويكفي ملن يريد إثبات عدم مناسبة الوصف حلكم أن يقول حبثت فلم أجد له مناسبة للحكم‪ ،‬وال يلزمه إقامة‬
‫الدليل على عدم ظهور املناسبة‪ ،‬ألن الفرض أن الباحث جمتهد عدل أهل للنظر والبحث‪ ،‬فالظاهر صدقة‪ ،‬وأن‬
‫الوصف غري مناسب‪ ،‬ويلزم منه حذفه‪ ،‬إذ ال طريق إىل معرفة عدم املناسبة إال إخبار هذا اجملتهد‪ ،‬ويالحظ أن‬
‫الفرق بني الطردية وعدم ظهور املناسبة‪ ،‬أن الطردية يثبت فيها إلغاء الوصف شرعا‪ ،‬وأما عدم ظهور املناسبة‬
‫فهي جمرد نتيجة تقوم يف نظر الباحث‪ ،‬ولذا يكفيه أن يقول‪ :‬حبثت فلم أحد‪.‬‬
‫المسلك الثاني ‪ /‬المناسبة‪:‬‬
‫املسلك الثاين من مسالك العلة املستنبطة مسلك املناسبة‪ ،‬وتسمى اإلخالة (‪ ،)1‬واملصلحة واالستدالل‪ ،‬ورعاية‬
‫املقاصد‪ ،‬وختريج املناط (‪.)2‬‬
‫املناسبة يف اللغة‪ :‬املالئمة‪ ،‬يقال‪ :‬الثوب األبيض مناسب للصيف أي مالئم له‪.‬‬
‫فمناسبة الوصف للحكم يف اللغة‪ :‬مالءمته له‪.‬‬
‫املناسبة يف االصطالح‪ :‬واملناسبة يف اصطالح األصوليني هي‪ :‬أن يكون بني الوصف واحلكم مالئمة‪ ،‬حبيث‬
‫يرتتب على تشريع احلكم عنده حتقيق مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة للناس أو دفع مفسدة عنهم (‪،)3‬‬
‫مثل‪ :‬اإلسكار فإنه وصف مالئم لتحرمي اخلمر‪ ،‬وال يالئمه كون اخلمر سائال أو بلون كذا‪ ،‬أو بطعم كذا‪ ،‬وإمنا‬
‫اإلسكار هو الوصف املناسب للتحرمي دون غريه‪.‬‬
‫وقد عرف ابن احلاجب املناسب الذي يصلح أن يكون علة للحكم بقوله‪( :‬هو وصف ظاهر منضبط حيصل‬
‫عقال من ترتيب احلكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من جلب منفعة أو دفع مضرة) (‪.)4‬‬
‫فالوصف‪ :‬هو المعنى القائم بالغير‪.‬‬

‫‪.4/139‬‬
‫(?) ألن الحكم بمناسبة الوصف يخال‪ ،‬أي يظن أن الوصف علة‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) ألنه إبداء مناط الحكم‪ ،‬وحاصلة تعيين العلة في األصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من األصل‬ ‫‪2‬‬

‫ذاته ال بنص وال بغيره (راجع شرح العضد على مختصر المنتهي ‪)2/239‬‬
‫(?) المستصفي ‪ ،2/77‬التقرير والتحبير ‪ ،3/189‬مسلم الثبوت ‪ ،2/256‬روضة الناظر ‪ ،2/268‬شرح المحلي‬ ‫‪3‬‬

‫على جمع الجوامع ‪ ،2/223‬مرآة األصول ‪ ،2/318‬المدخل إلى مذهب أحمد ‪ ،154‬مفتاح الوصول ‪ ،106‬شرح‬
‫اآلسنوي ‪ ،3/62‬إرشاد الفحول ‪ ،188‬طلعة الشمس جـ‪.2/138‬‬
‫(?) مختصر المنتهي مع شرح العضد ‪ ،2/239‬وانظر أيضا األحكام لآلمدي ‪ ،3/46‬غاية الوصول ‪.132‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪67‬‬

‫والظاهر‪ :‬هو الواضح الذي ال خفاء فيه‪ ،‬وهو قيد إلخراج الوصف اخلفي كالرضا يف البيع‪ ،‬فال يعترب مناسبا‪،‬‬
‫وإمنا املناسب‪ :‬هو اإلجياب والقبول الشتماهلا على الرضا‪.‬‬
‫واملنض بط‪ :‬ه و ال ذي ال خيتل ف اختالف ا كب ريا ب اختالف األش خاص واألزم ان واألمكن ة‪ ،‬وه و قي د إلخ راج‬
‫الوص ف املض طرب كاملش قة‪ ،‬فال تعت رب وص فا مناس با لقص ر الص الة يف الس فر الختالفه ا ب اختالف األش خاص‬
‫واألحوال‪ ،‬فقد يعد األمر مشقة عند بعض الناس‪ ،‬وال يعد كذلك عند البعض اآلخر‪ ،‬فالشخص الرياضي أو‬
‫الشاب ال تناله مشقة يف السفر مثلما يتعرض له غري الرياضي أو كبري السن‪ ،‬وقد يكون الشيء شاقا يف زمن‬
‫دون زمن‪ ،‬فاملش قة يف زمن الص يف أش د منه ا يف زمن الش تاء‪ ،‬وق د تك ون املش قة حاص لة يف مك ان دون آخ ر‪،‬‬
‫فالس فر يف الس هول والودي ان أق ل مش قة من ه يف اجلب ال‪ ،‬هلذا كل ه ن اط الش ارع قص ر الص الة وإباح ة القط ر يف‬
‫رمضان بالسفر النضباطه‪ ،‬ومل ينط الرخصة فيهما باملشقة‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬حيصل عقال) قيد إلخراج الوصف الطردي وهو الوصف املقارن للحكم الذي ال مناسبة بينه وبني‬
‫احلكم‪ ،‬ف إن العق ل ال يقض ي بوج ود مص لحة أو دف ع مفس دة يف ش رع احلكم عن ده‪ ،‬ألن ه مل يؤل ف من الش ارع‬
‫االلتفات إليه يف بعض األحكام‪ ،‬كالتعليل يف مسألة من املسائل بالطول والقصر والسواد والبياض وحنوها‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬من ترتيب احلكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا) قيد إلخراج وصف الشبه‪ ،‬وهو الوصف الذي‬
‫مل تظهر مناسبته بعد البحث التام‪ ،‬ولكن عهد من الشارع االلتفات إليه يف بعض األحكام‪ ،‬مثاله‪ :‬قول الشافعي‬
‫يف إزالة النجاسة باملاء دون غريه‪ :‬إن إزالة النجاسة عن الثوب مثال طهارة‪ ،‬والطهارة ال جتوز بغري املاء كما يف‬
‫الطه ارة من احلدث‪ ،‬فهن ا ال مناس بة بني الطه ارة وبني تعني املاء بذات ه‪ ،‬ولكن عه د من الش ارع اعتب ار الطه ارة‬
‫باملاء يف الوض وء ومس املص حف‪ ،‬والط واف‪ ،‬والص الة‪ ،‬فه ذا ي وهم اش تمال الطه ارة على املناس بة بينه ا وبني‬
‫احلكم بوجوب غسل النجاسة باملاء دون غريه‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬جلب منفعة أو دفع مضرة) بيان لقوله‪( :‬ما يصلح) واملراد منه أن يكون مقصودا للعقالء من شرع‬
‫احلم إما جلب املصلحة أو دفع املفسدة‪ ،‬وجلب املصلحة‪ :‬يعين سوقها للمكلف وحصوهلا له‪ ،‬واملصلحة‪ :‬اللذة‬
‫وما يتبعها‪ ،‬واملضرة‪ ،‬األمل وما يستتبعه‪.‬‬
‫مثال املناسب الذي ينطبق عليه تعريف ابن احلاجب‪( :‬اإلسكار يف اخلمر)‪ ،‬فإنه وصف ظاهر ال خفاء فيه‪،‬‬
‫منضبط ال اضطراب فيه‪ ،‬حيصل عقال من ترتيب احلكم عليه الذي هو التحرمي مصلحة هي حفظ العقول‪ ،‬أو‬
‫دفع مفسدة وهي زوال العقل‪.‬‬
‫والزن ا أيض ا وص ف ظ اهر منض بط حيص ل عقال من ش رع احلكم عن ده وه و حترمي الزن ا مص لحة‪ :‬هي حف ظ‬
‫األنساب وعدم ضياعها‪ ،‬أو دفع مفسدة هي اختالط األنساب وعدم التمييز بني األوالد مما يوجب فساد تربيتهم‬
‫وعدم االعتناء بشأهنم‪.‬‬
‫‪68‬‬

‫هل املناسبة بذاهتا مفيدة للعلية؟‬


‫ق ال احلنفية والش افعية‪ :‬إن املناسبة تكون مفيدة للعلية إذا اعتربها الش ارع بنص أو إمجاع‪ ،‬كاملناسبات اليت‬
‫اعتربها الشارع حلفظ املقاصد الكلية الضرورية اخلمسة (‪ ،)1‬وهي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬حفظ الدين‪ ،‬فإن الشارع شرع ألجله القتل بالردة وجهاد الكفار‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬حفظ النفس وقد شرع الشارع من أجله القصاص‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬حفظ العقل الذي شرع من أجله حترمي املسكرات واملخدرات واحلد على شرهبا وتناوهلا‪.‬‬
‫رابع ا‪ :‬حف ظ املال ال ذي أوجب الش ارع من أجل ه ح د الس رقة وح د ق اطع الطري ق وإجياب الض مان على‬
‫املعتدي‪.‬‬
‫خامس ا‪ :‬حف ظ النس ل أو الع رض‪ ،‬ف إن الش ارع ص انه بتش ريع حترمي الزن ا وإجياب احلد على مرتكب ه (‪،)2‬‬
‫واملناسبة لتشريع هذه األحكام اعتربها الشارع فتكون صاحلة للتعليل هبا‪.‬‬
‫وقال قوم كاملالكية واحلنابلة‪ ،‬ال يشرتط اعتبار الشارع املناسبة بنص أو إمجاع حىت تكون مفيدة للعلية‪ ،‬وإمنا‬
‫يكفي جمرد إبداء املناسبة بني احلكم والوصف جمردا عن الدليل الذي يثبت هذه املناسبة‪ ،‬فكل ما يكون جالبا‬
‫للمنفعة أو دافعا للمضرة يصلح علة للحكم‪ ،‬ألن ظن العلية قد حصل‪ ،‬وحتقق الظن كاف يف وجوب العمل‪.‬‬
‫وه ذا اخلالف اس تلزم تقس يم الوص ف املناس ب إىل ثالث ة أقس ام حبس ب اعتب ار الش ارع ل ه أو ع دم اعتب اره‪،‬‬
‫وهذه األقسام هي‪ ،‬املناسب امللغي‪ ،‬واملناسب املعترب‪ ،‬واملناسب املرسل (‪.)3‬‬
‫واألصوليون اتفقوا على صحة التعليل باملناسب املعترب‪ ،‬وعلى عدم صحة التعليل باملناسب امللغي‪ ،‬واختلفوا‬
‫يف صحة التعليل باملناسب املرسل‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ المناسب الملغي‪:‬‬
‫هو الوصف الذي يظهر للمجتهد أنه حمقق ملصلحة‪ ،‬ولكن ورد من الشارع من أحكام الفروع ما يدل على‬
‫عدم اعتباره‪ ،‬وهذا ال يصح التعليل به باتفاق األصوليني‪ ،‬ومسي نور الدين الساملي هذا النوع بالغريب (‪ ،)4‬مثاله‪،‬‬

‫(?) مسلم الثبوت ‪ ،2/210‬المستصفى ‪.1/140‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) التوضيح ‪ ،2/63‬مرآة األصول ‪ ،2/322‬شرح العضد على مختصر المنتهي ‪ ،2/240‬اإلبهاج ‪ ،3/38‬شرح‬ ‫‪2‬‬

‫المحلى على جمع الجوامع ‪ ،2/29‬فواتح الرحموت ‪ ،2/300‬مسلم الثبوت ‪ ،2/256‬شرح اآلسنوي ‪.3/67‬‬
‫(?) التوضيح ‪ 2/96‬وما بعدها‪ ،‬األحكام لآلمدي ‪ ،3/65‬مسلم الثبوت ‪ ،2/214‬اإلبهاج ‪ ،3/44‬شرح اآلسنوي‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 3/67‬وما بعدها‪ ،‬إرشاد الفحول ‪ ،190‬محاضرات في أصول الفقه للزفزاف ‪ 28‬من بحث القياس‪.‬‬
‫(?) طلعة الشمس جـ‪.2/142‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪69‬‬

‫اشرتاك االبن والبنت يف كون كل منهما ولدا لألب املتوىف وفرعا من فروعه‪ ،‬وذلك وصف مناسب لتساويهما‬
‫يف اإلرث‪ ،‬ولكن الش ارع ألغى ه ذا الوص ف يف تش ريع حكم املواريث‪ ،‬فق د ق ال س بحانه‪ُ " :‬يوِص يُك الَّل ُه يِف‬
‫ُم‬
‫َأْو الِدُك ْم ِللَّذ َك ِر ِم ْثُل َح ِّظ اُألنَثَيِنْي " (‪.)1‬‬
‫ومثال ه أيض ا‪ :‬أن عق د ال زواج يعت رب وص فا مناس با لتملي ك ك ل من ال زوجني ح ق الطالق‪ ،‬ألن ه تعاق د بني‬
‫الطرفني بالرضا‪ ،‬وما يثبت ألحد املتعاقدين يثبت لآلخر‪ ،‬ولكن هذا الوصف ألغاه الشارع بقوله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم (الطالق ملن أخذ بالساق) (‪.)2‬‬
‫ومن أمثلته‪( :‬إلزام املفطر الغين عمدا يف هنار رمضان بصيام شهرين متتابعني إذا أفسد صيامه باجلماع)‪ ،‬فهو‬
‫وصف مناسب للغين ليتحقق به معىن االنزجار والردع بالنسبة له‪ ،‬أما عتق الرقبة أو إطعام ستني مسكينا فأمر‬
‫ميسور للغين كل اليسر‪ ،‬غري أن هذا الوصف ألغاه الشارع بإجياب الكفارة مرتبة على النحو اآليت‪ :‬عتق رقبة‪،‬‬
‫صيام شهرين متتابعني‪ ،‬إطعام ستني مسكينا‪ ،‬دون تفريق بني املكلفني بالنظر إىل كون الشخص قادرا على العتق‪،‬‬
‫أو ال يتضرر به‪ ،‬أو يتضرر به فكان الشارع ألغى عدم التضرر من العتق‪.‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬فإن قدر الشخص املفطر على العتق أعتق‪ ،‬وإن عجز عن العتق صام شهرين متتابعني‪ ،‬وإن عجز‬
‫عن الص وم اطعم س تني مس كينا‪ ،‬ويؤي ده إنك ار العلم اء على حيىي اللي ثي تلمي ذ اإلم ام مال ك فت واه بعض مل وك‬
‫الع رب ال ذي ج امع يف هنار رمض ان‪ ،‬بأن ه جيب علي ه ص وم ش هرين متت ابعني‪ ،‬ملا في ه من املش قة ال يت يتحق ق هبا‬
‫الزجر‪ ،‬دون العتق لسهولته عليه‪ ،‬ألنه رأى أن املقصود من الكفارة الردع والزجر‪ ،‬وامللك ال ينزجر بغري الصوم‪.‬‬
‫وذلك كله على الرواية الواردة يف شأن املواقع يف رمضان املفيدة للرتتيب‪.‬‬
‫ونصها‪ :‬عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬جاء رجل إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬إن آخر وقع على‬
‫امرأته يف رمضان فقال أجتد ما حترر رقبة قال ال قال فتستطيع أن تصوم شهرين متتابعني قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬أفتجد ما‬
‫تطعم به ستني مسكينا قال‪ :‬ال‪ ،‬قال فأتى النيب صلى اهلل عليه وسلم بعرق فيه متر‪ ،‬وهو الزبيل‪ ،‬قال أطعم هذا‬
‫عنك‪ ،‬قال على أحوج منا ما بني ال بيتها أهل بيت أحوج منا قال فأطعمه أهلك (‪.)3‬‬
‫وهناك رواية أخرى تفيد التخيري‪ ،‬ونصها عن أيب هريرة قال (أفطر رجل على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فأمره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعني أو إطعام ستني مسكينا على‬
‫قدر ما يستطيع من ذلك (‪ ،)4‬وهبا أخذ كثري من احملققني‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ المناسب المعتبر‪:‬‬
‫(?) سورة النساء اآلية‪.11 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) سنن البيهقي الكبرى جـ‪ 7/370‬رقم الحديث ‪ ،14956‬سنن الدراقطني جـ‪ ،4/37‬رقم الحديث ‪.102‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) الجامع الصحيح المختصر لمحمد بن إسماعيل جـ‪ ،2/684‬رقم الحديث ‪.1836‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪70‬‬

‫هو كل وصف شهد الشرع باعتباره بأحد فروع األحكام‪ ،‬أي بأن يورد الفروع على وفقه ومقتضاه‪ ،‬وليس‬
‫املراد باعتباره أن ينص على العلة أو يومي إليها فحينئذ يصح التعليل به باتفاق األصوليني‪.‬‬
‫وإمنا صح التعليل باملناسبة اليت اعتربها الشارع‪ ،‬ألنه ثبت باالستقراء والتتبع ألحكام الشارع أن كل حكم ال‬
‫خيلو عن مصلحة ترجع إىل العباد‪ ،‬أو مفسدة تدفع عنهم (‪.)1‬‬
‫واهلل سبحانه شرع أحكامه لرعاية مصاحل عباده على سبيل التفضل واإلحسان‪ ،‬كما هو مذهب اجلمهور‪ ،‬ال‬
‫على سبيل احلتم والوجوب كما يقول املعتزلة‪.‬‬
‫وحينئذ إذا ورد حكم يف صورة من الصور‪ ،‬وكان هناك وصف مناسب متضمن ملصلحة العبد‪ ،‬ومل يوجد‬
‫غريه من األوصاف الصاحلة للعلية‪ ،‬غلب على ظن اجملتهد أنه علة‪ ،‬ألن األصل عدم وجود غريه من األوصاف‪،‬‬
‫وال ميكننا القول‪ ،‬أنه ليس للحكم علة‪ ،‬فيخلوا احلكم من احملكمة واملصلحة‪ ،‬وهو خالف ما دل عليه االستقراء‬
‫الذي ذكرته‪ ،‬وهو أن مجيع أحكام الشارع معللة باملصاحل‪.‬‬
‫وإذا حصل الظن‪ ،‬بأن الوصف املناسب عل للحكم‪ ،‬كانت املناسبة مفيدة للعلية ظنا‪ ،‬فتعترب من طرق إثبات‬
‫العلية‪.‬‬
‫واعتبار الشارع للوصف املناسب يكون بأحد أمور أربعة (‪.)2‬‬
‫‪ 1‬ـ اعتبار عني الوصف يف عني احلكم أو اعتبار نوع الوصف يف نوع احلكم‪:‬‬
‫أي أن يعترب الشارع نوع املناسبة يف نوع احلكم بنص أو إمياء أو إمجاع‪ ،‬مثل اعتبار اإلسكار يف التحرمي‪ ،‬فإن‬
‫الشارع ملا شرع التحرمي عند اإلسكار‪ ،‬علم أن اإلسكار معترب عنده‪ ،‬فكان علة‪.‬‬

‫(?) أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قم الحديث ‪ ،317‬أنظر‬ ‫‪4‬‬

‫شرح الشيخ السالمي على المسند جـ‪ 2‬ص ‪ 24‬وهي رواية مالك في الموطأ‪ ،‬ولفظه فيه‪ :‬عن أبي هريرة رضي‬
‫اهلل عنه أن رجال أفطر في رمضان فأمره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين‬
‫متتابعين أو إطعام ستين مسكينا‪ ،‬فقال ال أجد فأتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعرق تمر فقال خذ هذا فتصدق‬
‫به فقال يا رسول اهلل ما أحد أحوج مني فضحك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال كله)‬
‫الموطأ لإلمام مالك ص ‪ 297 ،296‬حديث رقم ‪ 28‬كتاب الصيام باب كفارة من أفطر في رمضان‪.‬‬
‫(?) اإلبهاج ‪.3/43‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) الموافقات ‪ 1/39‬وما بعدها‪ ،‬مسلم الثبوت ‪ ،2/217‬اإلحكام لآلمدي ‪ ،3/52‬التلويح على التوضيح ‪،2/72‬‬ ‫‪2‬‬

‫شرح العضد على مختصر المنتهي ‪ ،2/243‬التقرير والتحبير ‪ ،3/147‬فواتح الرحموت ‪ ،2/265‬روضة الناظر‬
‫‪ ،2/269‬حاشية نسمات األسحار ‪ ،239‬شرح المحلي على جمع الجوامع ‪ ،2/231‬اإلبهاج ‪ ،3/42‬شرح‬
‫اآلسنوي ‪ ،3/68‬مرآة األصول ‪ ،2/323‬إرشاد الفحول ‪ 190‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪71‬‬

‫واإلسكار نوع من الوصف‪ ،‬ألنه يندرج حتته أف راد هي‪ ،‬إسكار مخر‪ ،‬وإسكار نبيذ‪ ،‬والتح رمي نوع من‬
‫احلكم‪ ،‬ألن ه ي دخل حتت ه حترمي مخر‪ ،‬وحترمي نبي ذ‪ ،‬وحترمي رب ا‪ ،‬وحترمي زىن‪ ...‬اخل م ا ح رم‪ ،‬وه ذه كله ا أف راد‬
‫للتحرمي‪ ،‬وليست أنواعا له‪ ،‬ألن التحرمي يف اجلميع واحد‪ ،‬واالختالف باعتبار املتعلقات فقط‪.‬‬
‫وابن احلاجب وبعض الشافعية يسمى هذا القيم باملناسب الغريب‪ ،‬ومسي غريبا لتفرده وعدم وجود ما يشهد‬
‫ل ه باالعتب ار من األقس ام األخ رى التالي ة‪ ،‬كاعتب ار اجلنس يف ن وع أو ن وع يف جنس‪ ،‬مث ل الطعم‪ ،‬فإن ه وص ف‬
‫مناسب عندهم لتحرمي الربا‪ ،‬وقد اعتربه الشارع‪ ،‬ألنه حرم التفاضل يف املطعومات‪ ،‬ولكن مل ينضم إليه باعتبار‬
‫آخر‪.‬‬
‫ويالح ظ أن األوص اف املنقول ة بنص أو إمجاع هي ب اب م ا اعت رب في ه عني الوص ف يف عني احلكم‪ ،‬فالص غر‬
‫مثال اعتربه الشارع بعينه وصفا يستدعي حكما معينا‪ ،‬هو الوالية على املال‪.‬‬
‫ونور الدين الساملي يسمى هذا النوع باملؤثر‪ ،‬وقد مثل ملا كان اعتبار عني الوصف فيه يف عني احلكم عن‬
‫طريق اإلمياء بقوله تعاىل‪َ " :‬فاْقُتُلوا ا ْش ِر ِكَني َح ْيُث وَج دُمُّتوُه ْم " (‪.)1‬‬
‫ُمل‬
‫ف إن الش رك على للقت ل‪ ،‬وه و وص ف مناس ب ل ه‪ ،‬ألن ه ل و ت رك املش رك وش أنه م ا ظه ر اإلس الم فه و من‬
‫الضروريات الديين’ (‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم‪:‬‬
‫أي أن يك ون هن اك وص ف اعت رب الش ارع جنس ه (‪ )3‬يف جنس احلكم‪ ،‬مث ل احليض يف إس قاط الص الة عن‬
‫احلائض‪ ،‬ف إن اجملته د أخ ذ يبحث عن عل ة ه ذا إس قاط‪ ،‬ف رأى أن الوص ف املناس ب ل ذلك ه و احليض‪ ،‬نظ را‬
‫الشتماله على املشقة اليت تنشأ من التكليف بإعادة الصلوات الكثرية اليت متضي أثناء احليض‪ ،‬فأقام احليض مقام‬
‫هذه املشقة الناشئة عنه‪ ،‬مث أخذ يبحث عن شاهد يسانده من فروع األحكام الشرعية‪ ،‬فوجد أنه جعل احليض‬
‫والسفر داخل حتت جنس واحد هو املشقة‪ ،‬وإن كال من إسقاط الصالة يف احليض‪ ،‬وقصر الصالة ومجعها يف‬
‫الس فر داخ ل يف جنس واح د ه و التيس ري ودف ع احلرج‪ ،‬فحينئ ذ تك ون ش هادة الش ارع باعتب ار الس فر املتض من‬
‫للمشقة يف القصر واجلمع‪ ،‬شهادة باعتبار جنس هذا الوصف وهو (املشقة) جلنس احلكم الذي يبحث اجملتهد عن‬
‫علته وهو (التيسري ودفع احلرج)‪.‬‬

‫(?) سورة التوبة اآلية‪.5 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) طلعة الشمس جـ‪ 2‬ص ‪.140‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) الجنس‪ :‬هو الشامل ألشياء مختلفة بأنواعها‪ ،‬والنوع‪ :‬الشامل ألشياء مختلفة بأشخاصها‪ ،‬فكلمة (حيوان) جنس‬ ‫‪3‬‬

‫يدخل تحته الحيوان المتوحش واإلنسان وكلمة (إنسان) نوع يدخل تحته أفراد مثل خالد وخديجة وعائشة‪..‬الخ‪.‬‬
‫‪72‬‬

‫ومثاله أيضا‪ :‬أن الصحابة أوجبوا حد القذف على شارب اخلمر‪ ،‬ال ألن شارب اخلمر قذف‪ ،‬ولكنهم أقاموا‬
‫مظنة القذف وهو الشرب‪ ،‬مقام القذف باعتبار الشرب مظنة الكذب واالفرتاء‪ ،‬كما قال علي ابن أيب طالب‪،‬‬
‫(أرى أن ه إذا ش رب ه ذى ‪ ،‬وإذى أف رتى‪ ،‬فيك ون علي ه ح د املف رتى) أي الق اذف‪ ،‬مث حبث اجملته د فوج د أن‬
‫الشارع اعترب املظنة يف بعض األحكام‪ ،‬كتحرمي اخللوة باألجنبية‪ ،‬فإنه مظنة لوقوع احلرام‪ ،‬وهو الوطء‪ ،‬فأقيمت‬
‫اخللوة باألجنبية مقام الوطء يف التحرمي‪ ،‬لكون اخللوة مظنة له‪.‬‬
‫وبه يظهر أن الشارع اعترب مطلق املظنة اليت هي جنس ملظنة الوطء ومظنة الوطء ومظنة القذف يف مطلق‬
‫احلكم ال ذي ه و جنس فيج اب ح د الق ذف وحلرم ة ال وطء‪ ،‬واعتب ار املظن ة يف اخلل وة باألجنبي ة‪ ،‬ه و أن ه ش رع‬
‫التحرمي هلا عند مظنة الوطء (‪ ,)1‬فيكون الشارع عندما اعترب التحرمي عند اخللوة كأنه اعترب مطلق احلكم عند‬
‫مطل ق املظن ة‪ ،‬وه و اعتب ار اجلنس يف اجلنس‪ ،‬واألص وليون من احلنفي ة والغ زايل من الش افعية مسوا ه ذا القس م‬
‫باملناسب الغريب‪.‬‬
‫ومسي نور الدين هذا النوع باملناسب املالئم ممثال له بالتعليل بالقتل العمد العدواين يف محل املثقل على احملدد‬
‫يف القص اص‪ ،‬ف إن جنس اجلناب ة معت رب يف جنس القص اص ك األطراف والعني واألذن‪ ،‬ف إن الش رع ملا س وى بني‬
‫املثقل واحملدد يف األطراف حسن قياس النفوس عليها الشرتاكهما يف جنس العلة اليت هي اجلناية اليت نبه عليها‬
‫قوله تعاىل‪ " :‬الَّنْف َس ِبالَّنْف ِس " وإىل قوله " واُجْلُر وَح ِقَص اٌص " وجعل من هذا النوع ما أثر عني الوصف فيه يف‬
‫جنس احلكم ب أن يثبت ت أثريه بنص أو إمجاع‪ ،‬ممثال ل ه بتعلي ل الص غر يف حكم النك اح على املال يف الوالي ة على‬
‫الصغري‪ ،‬كما جعل من هذا القسم أيضا ما أثر جنس العلة فيه يف عني احلكم كالتعليل باحلرج يف محل احلضر يف‬
‫حال املطر على السفر يف رخصة اجلمع‪ ،‬فإن جنس احلرج معترب يف عني رخصة اجلمع مبا روى أنه كان صلى اهلل‬
‫عليه وسلم جيمع يف السفر‪ ،‬فاألنواع الثالثة عنده مندرجة حتت مسمي املالئم (‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ اعتبار عين الوصف أو نوعه في جنس الحكم‪:‬‬
‫أي أن يكون هناك وصف اعترب الشارع عينه أو نوعه يف جنس احلكم (‪ ،)3‬مثال احلالة األولى يظهر فيما إذا‬
‫حبث اجملتهد يف العلة اليت ثبتت من أجلها الوالية يف تزويج الصغرية البكر‪ ،‬كما يقضي احلديث‪( ،‬ال يزوج البكر‬

‫(?) نص الحديث في هذا (ال يخلون رجل بامرأة إال ومعها محرم وال تسافر المرآة إال مع ذي محرم) رواه‬ ‫‪1‬‬

‫الشيخان عن أبن عباس (سبل السالم ‪ )2/183‬وفي لفظ (أال ال يخلون رجل بامرأة‪ ،‬فإن ثالثهما الشيطان) رواه‬
‫أحمد وأبو يعلي والبزار والطبراني‪ ،‬وفيه ضعيف (مجمع الزوائد ‪ )5/223‬وفي رواية الترمذي عن عبد اهلل بن‬
‫عمر (أال ال يخلون رجل بامرأة إال كان ثالثهما الشيطان) جامع األصول ‪.7/427‬‬
‫(?) طلعة الشمس جـ‪ 2‬ص ‪.142 ،141‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) وبعبارة أخرى‪ :‬هو الذي لم يعتبره الشارع بعينه علة لحكم المقيس عليه‪ ،‬وإ ن كان قد اعتبره علة لحكم من‬ ‫‪3‬‬

‫جنس هذا الحكم في نص آخر (راجع األصول العامة لألستاذ الحكيم ‪. )312‬‬
‫‪73‬‬

‫الص غرية إال وليه ا) (‪ ،)1‬فت بني ل ه أهنا الص غر ال البك ارة‪ ،‬مث حبث عن نظ ري ل ذلك يف ف روع الش رع فوج د أن‬
‫الش ارع اعت رب الص غر يف ثب وت الوالي ة على املال‪ ،‬من حيث إن كال من الوالي ة على النفس والوالي ة على املال‬
‫جنسه واحد‪ ،‬وهو الوالية املطلقة‪ ،‬فإن الشارع يكون قد اعترب الصغر (وهو الوصف الذي توصل إليه اجملتهد) يف‬
‫جنس احلكم الذي يبحث اجملتهد عن علته‪ ،‬وهذا مثال اعتبار عني الوصف‪ ،‬واألصوليون من احلنفية يسمون هذه‬
‫احلالة باملناسب املؤثر (‪.)2‬‬
‫ومثال اعتبار نوع الوصف‪ ،‬امتزاج النسبني مع مطلق التقدمي‪ ،‬فإن امتزاج النسبني (أي اختالطهما وهو‬
‫كونه أخا من األبوين) نوع من الوصف‪ ،‬ألن الذي يندرج حتته هو (امتزاج نسب زيد‪ ،‬وخالد وعمر‪ ،‬وتلك‬
‫أفراد ومطلق التقدمي جنس‪ ،‬ألنه يشمل التقدمي يف اإلرث‪ ،‬والتقدمي يف النكاح والتقدمي يف حتمل الدية‪ ،‬وكل من‬
‫هذه احلاالت نوع‪ ،‬ألنه يدخل حتته أفراد هي‪ :‬تقدمي زيد الشقيق‪ ،‬وبكر وحممد الشقيقني‪.‬‬
‫مث حبث اجملتهد فوجد أن الشارع قد اعترب امتزاج النسبني يف اإلرث‪ ،‬حيث قدم األخ الشقيق يف املرياث على‬
‫األخ ألب‪ ،‬فيق اس علي ه التق دمي يف والي ة النك اح والص الة علي ه جن ازة‪ ،‬وحتم ل الدي ة‪ ،‬ألن ه ذه األم ور تش ارك‬
‫التقدمي يف املرياث يف اجلنسية‪ ،‬فكل منها داخل حتت مطلق التقدمي‪ ،‬وهو اجلنس أما يف النوعية‪ ،‬فإهنما خيتلف ان‪ ،‬إذ‬
‫التقدمي يف والية النكاح نوع مغاير للتقدمي يف اإلرث‪.‬‬
‫فهنا اعترب الشارع نوع الوصف (وهو امتزاج النسبني) يف جنس احلكم (وهو مطلق التقدمي) إذ أن التقدمي يف‬
‫اإلرث حيقق مطلق التقدمي‪ ،‬ألنه خاص‪ ،‬واخلاص فيه العام وزيادة وهو خبالف احلالة األوىل‪ ،‬وهي اعتبار نوع‬
‫الوصف يف نوع احلكم‪ ،‬ألن حترمي اخلمر وحترمي النبيذ كل منهما داخل حتت نوع واحد‪ ،‬فهما فردان من أفراد‬
‫النوع إذ التحرمي فيهما واحد‪ ،‬ولكن االختالف فقط يف حمل التحرمي وهو ما مسي سابقا مبتعلقات التحرمي‪.‬‬
‫اعتبار جنس الوصف في عين الحكم أو نوعه‪:‬‬
‫أي أن يكون هناك وصف اعترب الشارع جنسه يف عني احلكم أو نوعه الذي يبحث عنه اجملتهد‪ ،‬أما مثال‬
‫اعتب ار جنس الوص ف يف عني احلكم فه و املط ر يف ص حة اجلم ع بني الص التني‪ ،‬ف إن اجملته د أخ ذ يبحث عن‬
‫الوصف املناسب للجمع بني الصالتني يف اليوم املطري‪ ،‬فرأى أن املطر هو املناسب الشتماله على املشقة الناشئة‬
‫عنه‪ ،‬مث حبث اجملتهد عن شاهد لذلك يف فروع الشريعة‪ ،‬فوجد أن الشارع جعل السفر قائما مقام املشقة الناشئة‬
‫عن ه يف كون ه عل ة اجلم ع بني الص التني‪ ،‬وه و عني احلكم ال ذي يبحث اجملته د عن علت ه‪ ،‬وك ل من مش قة املط ر‬

‫(?)هذا مقتضى حديث (الثيب أحق بنفسها من وليها‪ ،‬والبكر تستأمر وإ ذنها سكوتها) رواه مسلم عن غبن عباس‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وروى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان عنه بلفظ آخر (ليس للولي مع الثيب أمر‪ ،‬واليتيمة تستأمر) واليتيمة‬
‫في الشرع الصغيرة التي ال أب لها (سبل السالم ‪. )3/119‬‬
‫(?) التلويح على التوضيح ‪.2/72‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪74‬‬

‫ومشقة السفر داخل حتت جنس واحد هو املشقة‪ ،‬وحينئذ يكون الشارع يف اعتباره السفر (الذي هو داخل‬
‫حتت جنس املشقة) مرخصا للجمع‪ ،‬قد اعترب جنس الوصف علة لعني احلكم الذي يبحث عنه اجملتهد‪.‬‬
‫فاملش قة ومجع الص الة إذا مما اعت رب الش ارع جنس الوص ف في ه يف عني احلكم‪ ،‬ه ذا مث ال اعتب ار عني احلكم‪،‬‬
‫وقد مساه األصوليون من احلنفية‪ ،‬املناسب املالئم‪.‬‬
‫ومثال اعتبار جنس الوصف يف نوع احلكم‪ ،‬اعتبار سقوط الصالة عن احلائض‪ ،‬فإن املشقة جنس‪ ،‬ألن حتته‬
‫ن وعني مها‪ :‬مش قة الس فر‪ ،‬ومش قة احليض‪ ،‬ألن املن درج حتت ك ل من ه ذين الن وعني أف راد‪ ،‬فمش قة س فر زي د‪،‬‬
‫وبكر وخالد أفراد ملشقة السفر‪ ،‬ومشقة زينب وفاطمة وسعاد أفراد ملشقة احليض‪.‬‬
‫وس قوط الص الة ن وع ين درج حتت ه س قوط الص الة عن زي د وهن د وخال د وثري ا مثال‪ ،‬وهي أف راد ال أن واع‪،‬‬
‫والش ارع ق د اعت رب مطل ق املش قة يف س قوط الص الة‪ ،‬ألن ه ش رع س قوط بعض الص الة (أي قص رها) عن د مش قة‬
‫السفر‪ ،‬ومشقة السفر نوع من مطلق املشقة‪ ،‬والنوع حمقق للجنس‪ ،‬ألنه خاص‪ ،‬واجلنس عام واخلاص فيه العام‬
‫وزيادة‪ ،‬فالشارع باعتباره مشقة السفر يكون قد اعترب مطلق املشقة‪ ،‬وهو جنس الوصف‪ ،‬يف نوع احلكم (وهو‬
‫س قوط الص الة) وبعب ارة أخ رى‪ :‬إن ت أثري جنس احلرج أو املش قة يف إس قاط قض اء الص الة عن احلائض كت أثري‬
‫مشقة السفر يف إسقاط قضاء الركعتني الساقطتني بالقصر‪.‬‬
‫فاملشقة وسقوط الصالة‪ ،‬مما اعترب الشارع جنس الوصف فيه يف نوع احلكم‪.‬‬
‫وهذا النوع مساه بعض الشافعية باملناسب املؤثر‪ ،‬ومساه الغزايل واحلنفية باملناسب املالئم‪.‬‬
‫وقض ية اختالف التس مية املذكورة بني احلنفي ة والش افعية جمرد اص طالح‪ ،‬فاآلم دي وابن احلاجب ذهب ا إىل‬
‫اص طالح آخ ر يف تعري ف املناس ب املؤثر واملناس ب املالئم‪ ،‬فالناس ب املؤثر عن دمها‪ ،‬ه و م ا اعت رب نوع ه يف ن وع‬
‫احلكم بنص أو إمجاع‪ ،‬أي أن ه ه و الوص ف املناس ب ال ذي اعت ربه الش ارع بالتنص يص على كون ه عل ة أو بقي ام‬
‫اإلمجاع عليه‪.‬‬
‫واملناس ب املالئم عن د ابن احلاجب‪ ،‬ه و م ا اعت رب نوع ه يف ن وع احلكم من غ ري نص وال إمجاع‪ ،‬م ع انض مام‬
‫واحد من ثالثة أم ور إليه‪ ،‬وهي اعتبار اجلنس يف اجلنس‪ ،‬واجلنس يف النوع والنوع يف اجلنس‪ ،‬والش وكاين سار‬
‫على منهج ابن احلاجب يف املؤثر واملالئم‪.‬‬
‫واملناس ب املالئم عن د اآلم دي والبيض اوي من الش افعية‪ ،‬ه و م ا اعت رب في ه جنس الوص ف م ع جنس احلكم‪،‬‬
‫وانضم إليه اعتبار نوع الوصف يف نوع احلكم مثل القتل العمد العدوان مع وجوب القصاص‪ ،‬فإن جنسه وهو‬
‫اجلناية اعتربه الشارع يف جنس احلكم الذي هو العقوبة‪ ،‬حيث شرع العقوبة عند اجلناية كذلك نوعه مؤثر يف‬
‫‪75‬‬

‫وجوب القصاص‪ ،‬فإن الشارع اعترب القتل العمد العدوان خبصومه يف نوع احلكم‪ ،‬ألنه شرع وجوب القصاص‬
‫ضده‪ ،‬فكل من اجلنس والنوع يف احلكم والوصف معترب‪ ،‬وهلذا كان القتل العمد العدوان وصفا مالئما‪.‬‬
‫والخالصة‪ :‬إن األوصاف غري امللغية اختلف العلماء يف تسميتها حىت جيد املرء يف أحد املذاهب مؤثر ومالئم‬
‫وغريب ومرسل‪.‬‬
‫فمذهب الحنفية (‪:)1‬‬
‫املؤثر‪ :‬ما شهد الشارع باعتبار عينه يف عني احلكم‪ ،‬أو يف جنس احلكم‪.‬‬
‫واملالئم‪ :‬ما اعترب الشارع جنسه يف عني احلكم‪.‬‬
‫والغريب‪ :‬ما شهد الشارع باعتبار جنسه يف جنس احلكم‪.‬‬
‫واملرسل‪ :‬ما مل يشهد الشارع باعتباره وال بإلغائه‪.‬‬
‫ومذهب الشافعية (‪:)2‬‬
‫املؤثر‪ :‬ه و م ا ش هد الش ارع باعتب ار عين ه يف عني احلكم‪ ،‬وه و رأي اآلم دي وابن احلاجب (‪ ،)3‬وه و عن د‬
‫الرازي‪ ،‬ما أثر جنسه يف نوع احلكم (‪.)4‬‬
‫واملالئم‪ :‬ما شهد الشارع باعتبار عينه أو جنسه يف جنس احلكم‪.‬‬
‫والغريب‪ :‬ما شهد الشارع باعتبار نوعه يف نوع احلكم ومل يؤثر جنسه يف جنسه‪ ،‬وهو رأي البيضاوي‪.‬‬
‫واملرسل‪ :‬ما مل يشهد به أصل من األصول يف الشريعة باعتبار‪ ،‬وال ظهر إلغاءه يف صورة من الصور‪ ،‬أي هو‬
‫ما مل يعلم عن الشارع اعتباره كما مل يعلم إلغاؤه‪ ،‬ومنشأ اختالف االصطالح بني احلنفية والشافعية‪ ،‬أن التأثري‬
‫عن د احلنفي ة ه و ب أن يثبت بنص أو إمجاع اعتب ار ن وع الوص ف أو جنس ه يف ن وع احلكم أو جنس ه‪ ،‬أم ا عن د‬
‫الشافعية‪ ،‬فهو أخص من املعىن السابق وهو أن يثبت بنص أو إمجاع اعتبار عني الوصف يف عني ذلك احلكم‪.‬‬
‫وللشيخ الساملي ـ رمحه اهلل ـ تقسيم جيد للوصف املناسب‪ ،‬وقد يكون جامعا لتلك األقسام كلها‪ ،‬فبعد أن‬
‫أورد للوص ف املناس ب تعريف ات نقله ا عن الدبوس ي واآلم دي وابن احلاجب والغ زايل (‪ )5‬أخ ذ يف التقس يم‬

‫(?) مسلم الثبوت ‪ 2/214‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) راجع المستصفي ‪ ،2/77‬شرح اآلسنوي ‪ 2/71‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) انظر وقارن شرح العضد على مختصر المنتهي ‪ ،2/242‬المدخل إلى مذهب أحمد ‪.155‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?) راجع فواتح الرحموت ‪.2/267‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?) طلعة الشمس جـ‪ 2‬ص ‪.139 ،138‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪76‬‬

‫وخالص ته‪ :‬أن ه قس م الوص ف املناس ب ب النظر إىل اعتب ار الش ارع إي اه إىل أربع ة أقس ام‪ ،‬م ؤثر ومالئم وغ ريب‬
‫ومرسل‪ ،‬وبني وجه احنصار التقسيم يف األنواع األربعة‪ ،‬حيث قال‪ :‬إن الوصف املناسب أما أن يعترب الشرع عينه‬
‫يف عني احلكم فه و املؤثر‪ ،‬وإم ا أن يعت ربه ب رتتيب احلكم على وفق ه حبيث يوج د ه و واحلكم يف حمل واح د فه و‬
‫املالئم‪ ،‬وإما أن ال يعتربه أصال بل ألغه فهو الغريب‪ ،‬وإن مل يعلم اعتباره وال إلغاؤه فهو املرسل (‪ ،)1‬وقد أشرنا‬
‫قريبا إىل ما أعتربه مؤثرا ومالئما وغريبا عند املقرنة بني مذاهب األصوليني يف اعتبار تلك األقسام وتسميتها‪.‬‬
‫المسلك الثالث ‪ /‬تنقيح المناط‪:‬‬
‫اعت رب بعض األص وليني كالبيض اوي وغ ريه من الش افعية تنقيح املن اط من مس الك العل ة (‪ ،)2‬والتنقيح يف اللغ ة‬
‫الته ذيب والتخليص والتمي يز‪ ،‬يق ال‪ :‬كالم منقح أي ال حش و في ه‪ ،‬واملن اط يف األص ل مص در ميمى مبع ىن اس م‬
‫املكان‪ ،‬ومنعاه‪ :‬اسم اإلناطة والتعليق‪ ،‬وتسمى العلة مناطا احلكم هبا وتعليقه عليها‪.‬‬
‫وتنقيح مناط العلة‪ ،‬اختلف يف تعريفه‪ ،‬ولعل تعريف اآلمدي أقرب ما قيل فيه‪.‬‬
‫وه و‪( :‬أن ه ب ذل اجله د يف تع يني العل ة من بني األوص اف ال يت ن اط الش ارع احلكم هبا إذا ثبت ذل ك بنص أو‬
‫إمجاع‪ ،‬عن طري ق ح ذف م ا ال دخ ل ل ه يف الت أثري واالعتب ار مما اق رتن ب ه األوص اف) (‪ ،)3‬ك أن يثبت الش ارع‬
‫حكما يف حمل‪ ،‬ويدل النص على العلية من غري تعيني وصف بعينه علة‪ ،‬واقرتان به أوصاف‪ ،‬بعضها ال دخل هلا‬
‫يف العلية‪ ،‬فيجتهد يف تعيني العلة حبذف بعض األوصاف غري املناسبة‪.‬‬
‫مثاله‪( :‬تعليل كفارة الفطر يف رمضان بالوقاع)‪ ،‬كما ورد يف حديث األعرايب السابق ذكره‪ ،‬الذي قال فيه‪:‬‬
‫(واقعت أهلي يف هنار رمضان عامدا) فأمره النيب صلى اهلل عليه وسلم بعتق رقبة (‪ ،)4‬هذا احلديث يدل بطريق‬
‫اإلمياء على أن عل ة إجياب الكف ارة على األع رايب هي الوق اع‪ ،‬واجملته د نظ ر يف ه ذه احلادث ة‪ ،‬فوج د بعض‬
‫األوصاف ال تأثري هلا يف احلكم مثل‪ :‬كون الذي واقع إعرابيا‪ ،‬ألن تشريع األحكام عام ال خيتص هبا فرد دون‬
‫فرد‪ ،‬ما دام مل يقم دليل على اخلصوصية‪ ،‬ومثل‪ ،‬كون املوطوءة أهال وزوجة حيل وطؤها يف ليل رمضان‪ ،‬وغري‬
‫الزوجة ال حيل وطؤها حبال‪ ،‬ال يف الليل وال يف النهار‪ ،‬فيكون كل من وصف األعرابية واألهل ملغيا ال تأثري له‬
‫يف إجياب الكف ارة‪ ،‬وإمنا يك ون املؤثر يف إجياهبا ه و اجلم اع عم دا يف هنار رمض ان‪ ،‬فيك ون ه و العل ة يف وج وب‬

‫(?) انظر تلك األقسام وتعريف كل قسم منها طلعة الشمس جـ‪ 2‬ص ‪.145-139‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) المستصفي ‪ ،2/55‬شرح المحلي جمع الجوامع ‪ ،2/239‬اإلبهاج ‪ ،3/65‬شرح اآلسنوي ‪ ،3/88‬غاية‬ ‫‪2‬‬

‫الوصول ‪ ،126‬إرشاد الفحول ‪ ،194‬المدخل إلى مذهب أحمد ‪.142‬‬


‫(?) األحكام لآلمدي ‪.3/62‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?) سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪77‬‬

‫الكفارة‪ ،‬وهذا مذهب الشافعية واحلنابلة يف تنقيح علة هذا احلكم‪ ،‬فال جتب الكفارة عندهم على من أفطر عامدا‬
‫بغري مجاع‪.‬‬
‫وأما احلنفية واملالكية فيزيدون على ما سبق إلغاء كون الذي وقع خصوص الوقاع‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن مثل اجلماع‬
‫كل مفطر‪ ،‬وهذه املماثلة تفهم بالتبادر‪ ،‬فتجب الكفارة باإلفطار يف رمضان عمدا بغري عذر‪ ،‬سواء أكان جبماع‬
‫أم بأكل أم بشرب وحنوها من املفطرات‪ ،‬ويكون املؤثر حينئذ يف إجياب الكفارة عند هؤالء هو انتهاك حرمة‬
‫رمضان بتناول املفطر عمدا‪ ،‬فيكون هو العلة يف وجوب الكفارة‪ ،‬وهذا الرأي هو الذي ذهب إليه األصحاب‪،‬‬
‫وهو احلق‪ ،‬إذ املعاقب عليه إمنا هو انتهاك حرمة الصيام لفعل خيل به (‪.)1‬‬
‫ومما يالحظ أن تنقيح املناط سبيه بالسري والتقسيم‪ ،‬لكن هناك يف الواقع فرق بينهما‪ ،‬فإن تنقيح املناط‪ ،‬يكون‬
‫حيث دل نص على مناط احلكم‪ ،‬ولكنه غري مهذب وال خالص مما ال دخل له يف العلية‪ ،‬وأما السرب والتقسيم‪،‬‬
‫فيكون حيث ال يوجد نص أصال على مناط احلكم‪ ،‬ويراد التوصل به إىل معرفة العلة ال إىل هتذيبها من غريها‪.‬‬
‫والناظر بتأمل قد ال جيد مسوغا واضحا العتبار تنقيح املناط مسلكا مستقال من مسلك العلة‪ ،‬إذ أنه يكون‬
‫حيث يدل نص على العلية من غري تعيني وصف بعينه علة‪ ،‬فهو ليس مسلكا للتوصل به إىل تعليل احلكم‪ ،‬ألن‬
‫تعليل احلكم مستفاد من النص‪ ،‬وإمنا هو مسلك لتهذيب وختليص علة احلكم مما اقرتن هبا من األوصاف اليت ال‬
‫تصلح للعلية‪.‬‬
‫هذا وقد عد بعض األصوليني يف مسالك العلة أيضا حتقيق املناط‪.‬‬
‫الفرق بين تنقيح المناط‪ ،‬وتحقيق المناط‪ ،‬وتخريج المناط‪:‬‬
‫ه ذه األم ور الثالث ة تتعل ق بالعل ة يف القي اس‪ ،‬أم ا تنقيح املن اط فق د س بق بيان ه‪ ،‬وع رف أن ه خ اص بالعل ل‬
‫املنصوصة وال يوجد يف العلل املستنبطة‪ ،‬وأنه هو االجتهاد يف تعيني السبب الذي ناط الشارع احلكم به‪ ،‬وأضافه‬
‫إليه‪ ،‬ونصه عالمة عليه حبذف غريه من األوصاف عن درجة االعتبار (‪.)2‬‬
‫أما حتقيق املناط‪ :‬فهو النظر يف معرفة وجود العلة يف آحاد الصور الفرعية اليت يراد قياسها على أصل‪ ،‬سواء‬
‫أكانت علة األصل منصوصة أم مستنبطة (‪ ،)3‬أي حتقيق املناط هو النظر يف حتقق العلة الثابتة بنص أو إمجاع أو‬
‫بأي مسلك‪ ،‬يف جزئية أو واقعة غري اليت ورد فيها النص‪ ،‬فإقامة الدليل على أن تلك العل ة موجودة يف الف رع‬

‫(?) انظر شرح الشيخ السالمي على مسند اإلمام الربيع بن حبيب جـ‪ 2‬ص ‪.22‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) راجع اإلحكام لآلمدي ‪ ،3/63‬روضة الناظر ‪ ،2/232‬التقرير والتحبير ‪ ،3/193‬اإلبهاج ‪ ،3/57‬شرح‬ ‫‪2‬‬

‫اآلسنوي ‪ ،3/89‬مذكرة في أصول الفقه للشيخ زهير جـ‪.119-4/117‬‬


‫(?) المستصفي ‪ ،2/54‬اإلحكام لآلمدي ‪ ،3/63‬التقرير والتحبير ‪ ،3/192‬روضة الناظر ‪ ،2/229‬اإلبهاج‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ،3/57‬شرح اآلسنوي ‪ ،3/89‬المدخل إلى مذهب أحمد ‪ ،142‬إرشاد الفحول ‪.195‬‬


‫‪78‬‬

‫كما هي موجودة يف األصل يعترب حتقيقا للمناط‪ ،‬ومسي كذلك‪ ،‬ألن املناط وهو الوصف الذي علم أنه مناط‪،‬‬
‫وبقى النظر يف حتقيق وجوده يف الصورة الفرعي ة املعينة‪ ،‬مثاله‪ ،‬النظر يف حتقق اإلسكار الذي هو علة يف حترمي‬
‫اخلمر يف أي نبيذ آخر مصنوع من متر أو شعري‪ ،‬وكتحقيق أن النباش ـ وهو الذي يسرق األكفان من القبور ـ‬
‫يعترب سارقا‪ ،‬إلقامة احلد عليه‪ ،‬لوجود معىن السرقة منه‪ ،‬وكتحقيق أن علة اعتزال النساء يف احمليض (هو األذى)‬
‫موجودة يف النفاس‪ ،‬هكذا‪.‬‬
‫وأما ختريج املناط‪ ،‬فهو النظر واالجتهاد يف استنباط الوصف املناسب للحكم الذي ورد به النص أو اإلمجاع‬
‫ليجعل علة للحكم (‪ ،)1‬وذلك بأي طريق من طرق مسالك العلة كاملناسبة أو السرب والتقسيم‪ ،‬فتخريج املناط‬
‫خاص بالعلل املستنبطة‪ ،‬والتخريج هو االستخراج أو االستنباط‪.‬‬
‫مثال ه‪ :‬اس تخراج الطعم أو الف وت أو الكي ل بالنس بة إىل حترمي الرب ا بواس طة ال رب والتقس يم‪ ،‬ومثال ه أيض ا‬
‫االجتهاد يف إثبات كون القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص يف اجلناية باآللة احملددة‪ ،‬وهذا النوع أدىن‬
‫رتبة من النوعني األولني‪.‬‬
‫المسلك الرابع ‪ /‬الدوران الوجودي والعدمي‪:‬‬
‫املراد بالدروان هو‪ :‬عبارة عن وجود وصف من األوصاف مع حكم من األحكام وعدمه مع عدمه أي إذا‬
‫وجد ذلك الوصف وجد معه ذلك احلكم‪.‬‬
‫وإن زال ذل ك الوص ف زال مع ه احلكم‪ ،‬فالوص ف دائ ر م ع احلكم وج ودا وع دما وه و املس مى عن د ابن‬
‫احلاجب ب الطرد والعكس‪ ،‬ف الطرد عب ارة عن وج ود الوص ف حيث وج د احلكم‪ ،‬والعكس عب ارة عن زوال‬
‫الوصف مع زوال احلكم‪ ،‬مثاله‪ :‬حترمي اخلمر مع الشدة فإنه قبل وجودها يكون عصريا ال حرمة فيه‪ ،‬وبعد زواهلا‬
‫خال ال حرمة فيه أيضا‪ ،‬على املختار من أقواهلم‪ ،‬فوجود الشدة مع وجود التحرمي‪ ،‬وعدمها مع عدمه‪ ،‬فعلم من‬
‫ذلك أن الشدة علة للتحرمي مثال‪ ،‬ومن ذلك رضى املرأة يف صحة التزويج‪ ،‬فإنه يوجد مع البلوغ وينعدم عند‬
‫عدمه‪ ،‬فالصبية ال يؤثر عدم رضاها يف التزويج‪ ،‬وإن كانت ثيبا على رأي بعض العلماء‪ ،‬وللعلماء يف اعتبار هذا‬
‫املسلك طريقا للعلة مذاهب‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ إن ه ذا طري ق ش رعي تثبت ب ه العل ة فتقتض ي احلكم حيث وقعت‪ ،‬ونس ب ه ذا الق ول أليب احلس ني‬
‫الكرخي‪ ،‬وهو قول ابن بركة من األصحاب‪ ،‬ويقول أبو احلسن هو معتمد القياس‪ ،‬مث اختلف القائلون بذلك‬
‫على قولني فمنهم من ذهب إىل أنه يفيد العلية ظنا‪ ،‬وهو قول األكثر ومنهم من ذهب إىل أنه يفيدها قطعا‪.‬‬

‫(?) المستصفي ‪ ،2/55‬روضة الناظر ‪ ،2/233‬التقرير والتحبير ‪ ،3/193‬اإلبهاج ‪ ،3/58‬المدخل إلى مذهب‬ ‫‪1‬‬

‫أحمد ‪ ،143‬شرح اآلسنوي ‪.3/89‬‬


‫‪79‬‬

‫‪ 2‬ـ قال أبو عبد اهلل البصري واختاره العضد أن ذلك ليس بطريق مطلقا ال يف العقليات وال يف الشرعيات‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قال بعض األصوليني أنه طريق إىل العلية بعد العلم بورود التعبد بالقياس ال قبل ذلك‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ه طري ق إىل معرف ة العل ة بش رط أن يتقدم ه إمجاع على أن احلكم معل ل أو دالل ة على ذل ك‪ ،‬مث حتص ل‬
‫طريقة سرب وهو حصر األوصاف احملتملة وإبطال كل واحد إال الوصف املختار للعلية‪ ،‬ويف هذا املهذب إبطال‬
‫كون الدوران طريقا مستقال‪.‬‬
‫دليل القول األول‪:‬‬
‫أن ه إذا حص ل ال دوران وال م انع من العلي ة حص ل العلم أو الظن بأن ه العل ة ملا أق رتن ب ه من احلكم ودار مع ه‬
‫وج ودا وع دما‪ ،‬كم ا إذا دعي إنس ان باس م فغض ب مث ت رك فلم يغض ب وتك رر ذل ك من ه علم إن ندائ ه ب ذلك‬
‫االسم سبب لغضبه‪ ،‬فيكون علة له‪.‬‬
‫وأجيب بأن ه ل و ال ظه ور انتف اء األس باب من غ ري دعائ ه ب ه مل يظن‪ ،‬واحتج املانعون من قبول ه مطلق ا ب أن‬
‫وج ود الوص ف م ع احلكم وانتف اؤه م ع انتفائ ه ال يل زم من ه ك ون ذل ك الوص ف على للحكم‪ ،‬جلواز أن يك ون‬
‫الوصف مالزما للعلة ال نفسها‪ ،‬كرائحة املسكر املخصوصة فإهنا دائرة معه وجودا وعدما‪ ،‬وليست علة‪.‬‬
‫ورد ب أن مالزم ة الوص ف للعل ة املقتض ى ع دم انفك اك أح دمها عن اآلخ ر يقتض ي وج ود العل ة وإن مل تعلم‬
‫عينه ا‪ ،‬وه ذا ينبغي أن يك ون كافي ا يف املقص ود‪ ،‬إذ حيث علم وج ود ذل ك الوص ف يف األص ل والف رع‪ ،‬علم‬
‫وجود علة األصل يف الفرع‪ ،‬فينبغي أن يصح القياس من غري احتياج لتعيني العلة‪ ،‬فجواز ما ذكر يقتضي خالف‬
‫مطلوب هذا القول فكيف يستدل به عليه وباجلملة فإن أريد االستدالل على انتفاء العلة مل يصح أو على تعيينها‬
‫مل يفد‪.‬‬
‫اس تدل أص حاب الق ول الث الث‪ :‬وهم املثبت ون حلجيت ه بع د العلم بالتعب د بالقي اس ب أن ط رق العل ل الش رعية‬
‫كطرق العلل العقلية‪ ،‬فكما إن دوران احلكم على الوصف نفيا وإثباتا طريق إىل العلة العقلية كذلك نقول يف‬
‫العلة الشرعية بعد ورود التعبد بالقياس‪ ،‬وال خيفي عل املتأمل أن هذا القول راجع إىل القول بثبوت الدوران‪،‬‬
‫لكن فيه زيادة قيد وهو قوهلم بعد العلم بالتعبد بالقياس‪ ،‬فظاهره أن من مل يعلم ذلك فال يصح له أن يثبت العلة‬
‫هبذا الطريق‪ ،‬وثبوت ذلك غري متوقف على ما ذكروه‪ ،‬ألن الغرض من ثبوته بيان أنه طريق ملعرفة العلة‪ ،‬وكونه‬
‫طريقا إىل ذلك غري مستلزم للعلم بالتعبد بالقياس (‪.)1‬‬
‫خاتمـ ـ ــة‬

‫(?) طلعة الشمس جـ‪ 2‬ص ‪.150‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪80‬‬

‫بعد أن قدمنا للقارئ يف هذا البحث ما يشفي ويكفي من بيان املراد بكلمة القياس لغة وتنوع القياس إىل‬
‫منطقي وش رعي‪ ،‬وأمهي ة القي اس ومكانت ه‪ ،‬وإب راز خمتل ف وجه ات النظ ر يف تعري ف القي اس الش رعي وحتدي ده‬
‫اختالفا واتفاقا‪ ،‬وبيان ما يكون حجة من األقيسة وما ال يكون‪ ،‬وحترير مواقف األصوليني والفقهاء من القياس‬
‫الشرعي إثباتا وإنكارا‪ ،‬وأهم ما أوردته كل طائفة من األدلة على ما ذهب إليه‪ ،‬والشبه اليت أوردها املنكرون‬
‫للقياس والرد عليها‪ ،‬وبيان أركان القياس الشرعي وشروطه‪ ،‬واملسالك اليت يتضح من خالهلا أهم أركان القياس‬
‫(العلة)‪.‬‬
‫جيدر بعد ذلك كله أن نشري إىل طريقة إظهار احلكم الشرعي بالقياس‪ ،‬وضرب بعض األمثلة التطبيقية منه‪.‬‬
‫أ ـ طريق إظهار الحكم بالقياس‪:‬‬
‫إذا ك ان مقتض ى القي اس إحلاق أم ر غ ري منص وص على حكم ه الش رعي ب أمر منص وص على حكم ه‪،‬‬
‫الش رتاكهما يف عل ة احلكم‪ ،‬وأن املراد من اإلحلاق‪ :‬ه و الكش ف واإلظه ار للحكم‪ ،‬وليس املراد إثب ات احلكم‬
‫وإنش اؤه‪ ،‬ألن احلكم ث ابت للمقيس من وقت ثبوت ه للمقيس علي ه‪ ،‬وإمنا ت أخر ظه وره إىل وقت بي ان اجملته د‬
‫بواسطة وجود العلة‪ ،‬كما هي يف املقيس عليه‪ ،‬فيكون القياس مظهرا للحكم ال مثبتا له‪ ،‬والعلة هي أساس احلكم‬
‫ومبن اه‪ ،‬وعم ل اجملته د م ا ه و إال إظه ار حلكم م ا مل ينص علي ه‪ ،‬بس بب إحتاد عل ة احلكم يف املنص وص وغ ري‬
‫املنصوص عليه‪.‬‬
‫وطريق ة اإلظه ار أو الكش ف‪ ،‬أن ه إذا ورد نص يف الكت اب أو الس نة على حكم واقع ة‪ ،‬وع رف اجملته د عل ة‬
‫احلكم‪ ،‬مث الحظ وجود العلة نفسها يف واقعة أخرى مل ينص على احلكم فيها‪ ،‬وبعبارة أخرى مث الحظ وجود‬
‫مثل تلك العلة‪ ،‬فإنه يغلب على الظن االشرتاك يف احلكم بني الواقعتني‪ ،‬فيلحق ما مل ينص عليه مبا ورد فيه نص‪،‬‬
‫ويسمى هذا اإلحلاق‪ ،‬قياسا‪.‬‬
‫ب ـ أمثلة تطبيقية للقياس‪:‬‬
‫ِس‬ ‫ِذ‬
‫‪ 1‬ـ إن اهلل سبحانه وتعاىل نص على حترمي اخلمر يف قوله‪َ " :‬يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُن وا إَمَّنا اَخلْم ُر واَملْي ُر واَألنَص اُب‬
‫واَألْز الُم ِر ْج ٌس ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطاِن َفاْج َتِنُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن " (‪.)1‬‬
‫وق د أدرك اجملتهدون أن عل ة التح رمي هي اإلس كار‪ ،‬كم ا أوضحنا ذلك يف مس الك العل ة‪ ،‬ألنه يرتتب علي ه‬
‫وقوع مفاسد دينية ودنيوية‪ ،‬من إيقاع العداوة والبغضاء بني الناس والصد عن ذكر اهلل‪ ،‬وكون ذلك من عمل‬
‫الشيطان‪ ،‬وإحلاق الضرر بالشارب إىل غري ذلك‪.‬‬

‫(?) سورة المائدة اآلية‪.90 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪81‬‬

‫وعن د التأم ل ق د جيد اجملته د أن اإلس كار يتحق ق أيض ا بش رب م ا يش به اخلم ر مما ال يس م مخرا من س ائر‬
‫األشربة‪ ،‬فيكون ذلك ملحقا باملنصوص على حترميه وإن مل يسم بامسه يف حرمة تناوله‪ ،‬فاخلمر أصل‪ ،‬وما يشاهبه‬
‫فرع‪ ،‬واحلكم التحرمي‪ ،‬والعلة اجلامعة بينهما‪ :‬اإلسكار‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ نص الرس ول علي ه الص الة والس الم على أن القت ل مين ع املرياث‪ ،‬فق ال "ال ي رث القات ل" (‪ )1‬والعل ة‪ :‬هي‬
‫استعجال الشيء قبل أوانه فيعاقب املستعجل له حبرمانه‪ ،‬وهذه العلة متحققة يف قتل املوصي له للموصي‪ ،‬فتقاس‬
‫الوصية على اإلرث حالة القتل‪ ،‬فيمنع املوصي له القاتل من الوصية‪ ،‬كما مينع الوارث القاتل من اإلرث‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ حرم الرسول صلى اهلل عليه وسلم اخلطبة على اخلطبة‪ ،‬كما حرم أن يبتاع أحد على بيع أخيه‪ ،‬فقال‪( :‬ال‬
‫ي بيع بعض كم على بي ع بعض‪ ،‬وال خيطب على خطبت ه) (‪ ،)2‬والعل ة هي إي ذاء اخلاطب أو املش رتي األول وإث ارة‬
‫حقده وتوريث عداوته‪ ،‬وهذا املعىن متحقق يف استئجار األخ على استئجار أخيه‪ ،‬فيحرم قياسا على حترمي اخلطب ة‬
‫على اخلطبة‪ ،‬والبيع على البيع‪ ،‬فالتسوية بني الواقعتني يف احلكم يتحقق القياس‪.‬‬
‫واألمثلة على القياس اجللي واخلفي أكثر من أن حتصى‪ ،‬وهي مبثوثة يف كتب الفقه وأصوله على السواء‪.‬‬
‫هذا ما تيسر إيراده يف هذا البحث مما يتصل بالقياس الشرعي‪ ،‬سائلني اهلل سبحانه وتعاىل أن جيعله يف ميزان‬
‫احلسنات‪ ،‬وأن يثيب كل من يعني على إخراجه يف صورة تروق للقارئ‪ ،‬عونا له على ما يريد اإلحاطة به من‬
‫هذا العلم النافع‪ ،‬وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وصلى اهلل على سيدنا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫(?) نص الحديث هو (ليس للقاتل من الميراث شيء) رواه النسائي والدارقطني‪ ،‬وقواه ابن عبد البر‪ ،‬وأعله‬ ‫‪1‬‬

‫النسائي‪ ،‬والصواب وقفه على عمرو شعيب عن أبيه عن جده (سبل السالم ‪ )3/101‬ورواه البيهقي عن ابن‬
‫عمرو‪ ،‬وهو حديث حسن‪.‬‬
‫(?) سنن أبي داود جـ‪ 2/228‬رقم الحديث ‪ ،2081‬كتاب المجتبي من السنن جـ‪ 6/71‬رقم الحديث ‪.3231‬‬ ‫‪2‬‬

You might also like