Professional Documents
Culture Documents
إعداد
الجزء األول
العدد العاشر
1419هـ1999 -م.
بسم هللا الرحمن الرحيم
المقدمة
2
احلمد هلل رب العاملني رفع بالعلم درجات العاملني ،ووسع مداركهم رمحة بالعاملني ،وجعل العلم النافع رمحا
بني أهله ،وأرشد إىل إعطاء النظري حكم نظريه وإحلاقه مبثله.
وصالة اهلل وسالمه على إمام املتقني سيد كل سيد ومسود من والد ومولود ،املرسل خبري شريعة إىل خري أمة،
أوس ع الن اس أفق ا وأص حهم قص دا ،وأس دهم رأي ا ،حمم د بن عب د اهلل ،وعلى آل ه الطي بني الط اهرين ،وص حابته
املخلصني ،والتابعني هلم بإحسان إىل يوم الدين ،أما بعد:
ف إن القي اس الش رعي من أدق مب احث علم األص ول وأص عبها مراس ا ،فه و مما خاض ت يف حبوره أس اطني
العلماء فأثبته قوم وأنكره آخرون ،نظرا ملا دخل يف أذهاهنم من التباس من أثر شبه إذا نظر إليها الباحث قبل
الرتيث والتثبت قد يستهويه ما يشريه املنكر للقياس من تلك الشبه فيسري وراءها دون روية.
وقد ينظر بعض الذين ال دراية هلم مبصادر التشريع فيظن عن جهل أنه مل يكن هذا املصدر معروفا يف عصر
رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم وال يف عص ر من بع ده من الص حابة والت ابعني ،فيحكم ب أن القي اس ض رب من
العبث وبدعة حمدثة وكل بدعة ضاللة ،إذ فيه بعد عن الدين ،وضالل مبني وإتباع لغري الطريق املستقيم ،وذلك
يصد الناس عن أدلة الكتاب املبني ،وسنة سيد املرسلني.
وتقابل هؤالء طائفة غلت يف إثبات القياس وجتاوزت به احلد املعقول ،فقدمته على النصوص الثابتة الصرحية،
فكثريا ما قالوا عن بعض النصوص إهنا خمالفة للقياس ،فنتج عن ذلك تعطيل لكثري من األدلة النقلية الثابتة ،وترك
االستدالل هبا.
وتوس ط أق وام بني ه ؤالء وأولئ ك ،فاجته دوا م ا وس عهم االجته اد ،ملتمس ني للقض ايا والوق ائع ال يت مل ت رد
نصوص بأحكامها ،تنظريا وتشبيها مبا وردت النصوص باحلكم فيه مما شرع فيه احلكم بناء على وصف م بني ،أو
علة مضمونة ،فجمعوا بني املتماثالت ،وأعطوا للنظائر حكم نظائرها ،مستنريين مبا أرشدت إليه اآليات القرآنية
وأقره النيب صلى اهلل عليه وسلم وعمل به الصحابة يف اجملاالت املختلفة للقياس.
وقد سئلت اهلل جلت قدرته أن يعينين على أن أقدم لقراء علم األصول والفقه حبثا عنوانه "القياس الشرعي
بني اإلنكار واإلثبات" وقد عىن هذا البحث أوال ببيان معىن كلمة القياس لغة ،مث ببيان تنوع القياس إىل منطقي
وشرعي ،مث اإلشارة إىل أمهية القياس الشرعي ومكانته.
كما عىن بإبراز خمتلف وجهات النظر يف تعريف القياس الشرعي وحتديده ،ومنشأ هذا االختالف.
كما أنين حررت فيه حمل االتف اق وحمل اخلالف بني العلم اء فيما يعترب حجة من األقيس ة ،مث بينت مواق ف
األص وليني والفقه اء من القي اس من خالل م ا نقل ه املؤلف ون عن أص حاب املذاهب املختلف ة مقارن ا تل ك النق ول
عنهم مبا ح رره املنق ول عنهم أنفس هم يف كتبهم األص ولية أو الفقهي ة ،ليق ف الن اظر على م دى االختالف بني
3
الناقل واملنقول عنه ،إذ ليس اخلرب كاملعاينة ،متوسعا بعض الشيء يف االستدالل ملن أثبت القياس من العلماء وملن
أنكره بأبرز األدلة يف املسألة وأمهها ،معرجا على بعض الشبه اليت أوردها نفاه القياس ،والرد عليها ،ذاكرا أهم
الش روط ال يت اش رتطها الق ائلون بالقي اس ،خامتا ه ذا البحث بطريق ة إثب ات األحك ام بالقي اس ،وبعض األمثل ة
التطبيقية منه.
ولقد من اهلل برمحته وفضله أن أعانين على إمتامه ،ذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء ،واهلل ذو الفضل العظيم.
معنى كلمة القياس:
جاء يف خمتار الصحاح وقاس الشيء بغريه ،وعلى غريه فانقاس ،قدره على مثاله (.)1
وجاء يف املختار من صحاح اللغة :قاس الشيء قدره على مثاله ،ويقال بينهما قيس رمح أي قدر رمح (.)2
ويف املعجم الوسيط :قاس الشيء بغريه ،وإليه قيسا وقياسا ،قدره على مثاله (.)3
ويف اللسان :قاس الشيء يقيسه قيسا ،وقياسا ،واقتاسه وقيسه إذا قدره على مثاله (.)4
وجاء يف تاج العروس :قاسه بغريه ،وعليه أي على غريه يقيسه قيسا وقياسا ،األخري بالكسر ،واقتاسه ،وكذا
قيسه إذا قدره على مثاله ،ويقوسه قوسا لغة يف يقسيه (.)5
وجاء يف أساس البالغة :قاسه ،وبه وعليه ،وإليه قيسا وقياسا ،واقتاسه ،ورجل قياس ،وهو مقيس عليه ،قاسه
باملقياس واملقاييس الصحيحة ،وقايست بني شيئني (.)6
إذا فخالصة ما يف كتب اللغة :أنه يقال :قاس الشيء بغريه واليه قيسا وقياسا إذا قدره على مثاله أو ساواه
به ،واألصل يف القياس هو التقدير ،أي معرفة قدر الشيء ،يقال :قست الثوب بالذراع ،واألرض بالقصبة أي
عرفت قدرمها ،والتقدير :نسبة بني شيئني تقضي املساواة بينهما ،وهى الزمة للتقدير ،وقد تكون املساواة حسية
مثل :قست هذا القضيب هبذا القضيب ،أو هذا الكتاب هبذا الكتاب ،وقد تكون معنوية مثل :فالن ال يقاس
بفالن أي ال يساويه قدرا.
(?) مختار الصحاح ،مطبعة دار الكتاب العربي ،بيروت.556 ،555 1
(?) المختار من صحاح اللغة ،تأليف الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي، 2
(?) لسان العرب ،البن منظور محمد بن مكرم اإلفريقي المصري ج 8ص.71 ،70 4
(?) تاج العروس من جواهر القاموس ،لمحمد مرتشي الزبيدي ،منشورات بيروت ،ص،328،327جـ.4 5
(?)أساس البالغة ،ألبي القاسم محمد بن عمر الزمخشري ،جـ 2ص.289،288 6
4
ومما جتدر اإلشارة إليه أن القياس يف اللغة :يتعدى بالباء ،أما املستعمل يف الشرع فإنه يتعدى بعلى لتضمنه
معىن البناء واحلمل ،مثل( :النبيذ مقيس على اخلمر) أي حممول عليه يف احلكم.
والقياس مصدر قايس يقال :قايس ،يقايس قياسا ،وقيل مصدر قاس ،واألول مصدر قياسي والثاين مساعي.
القياس المنطقي:
القياس عند املناطقة :هو قول مؤلف من أقوال مىت سلمت لزم عنه لذاته قول آخر ( ،)1وأرادوا بقيد (لذاته)
إخراج قياس املساواة ،مثل (زيد مساو لعمرو ،وعمرو مساو لبكر) ،والنتيجة هي :زيد مساو لبكر ،فمعرفة
النتيجة هذه مل تكن بطريقة القياس يف حد ذاته ،وإمنا بقاعدة أخرى ،وهي أن مساوي املساوي لش يء مس او
لذلك الشيء.
وهو عندهم قسمان:
-1قياس اقرتاين :وهو الذي يدل على النتيجة بدون أداة االستثناء وهي (لكن) مثل( :كل إنسان حيوان
ناطق ،وكل حيوان جسم) والنتيجة :كل إنسان جسم ،مثل (كل مسكر حرام ،وكل مخر مسكر) والنتيجة:
كل مخر حرام ،واستبعد اإلمام الغزايل أن ينطبق هذا القياس الذي هو تركيبة مقدمتني حيصل منهما نتيجة على
القياس الشرعي ( ،)2فيلزم منه أن مخر حرام ،ومسي اقرتانيا القرتان أجزاءه.
-2قياس استثنائي أو شرطي :وهو الذي يدل على النتيجة بواسطة أداة االستثناء ،وهي (لكن) املعرفة بأداة
االستدراك ،مثل (كلما كانت الشمس طالعة ،فالنهار موجود) ،ومسي استثنائيا الشتماله على حرف االستثناء
لغة ،وهو (لكن).
القياس الشرعي:
إن القي اس الش رعي ه و ال ذي يس تلزم وج ود أم رين ينس ب أح دمها إىل اآلخ ر بن وع من املس اواة ( ،)3وه ذا
القياس يعرف عند املناطقة بالتمثيل ،وسنتحدث يف هذا البحث عن القياس الشرعي.
تعريف القياس:
القياس الذي يبحث فيه األصوليون القياس الشرعي ،وهو القياس يف أحكام احلوادث اليت ال طريق ملعرفتها
سوى الشرع وليس فيها نص ظاهر.
وقد اختلف العلماء يف إمكان حده ،فإمام احلرمني يرى أنه يتعذر حتديده حتديدا حقيقيا ،معلال ذلك بأن
القياس مشتمل على حقائق خمتلفة كاحلكم ،فإنه قدمي ،والفرع واألصل فهما حادثان ،واجلامع بينهما فإنه علة،
وهذه حقائق خمتلفة فال حيد لذلك.
وكذلك منع ابن املنري شارح الربهان حد القياس حدا حقيقيا ،معلال ذلك بكون القياس نسبة وإضافة بني
شيئني وهي عدمية والعدم ال يرتكب من اجلنس والفصل احلقيقيني الوجوديني (.)1
أم ا اجلمه ور ف ريون أن ه ميكن أن حيد القي اس ح دا امسيا ،ألن القي اس من األم ور االص طالحية االعتباري ة ال يت
تكون حقائقها على حسب االصطالح واالعتبار ،فهم يرون حده من حيث االصطالح ال احلقيقة.
وإذا كان كذلك فال ميكن أن حيد حدا حقيقيا ،وعلى هذا فاخلالف بينهم لفظي (.)2
والذين رأوا إمكان تعريف القياس تنوعت عباراهتم يف تعريفاته حسب تصورهم له .وذلك أن منهم من يرى
أن القياس من صنع اجملتهد وهؤالء كاإلمام الغزايل والقاضي البيضاوي ومن حنا حنومها.
ومنهم من يرى أنه دليل مستقل نظر فيه اجملتهد أم مل ينظر ،فليس هو من صنيعه وهؤالء كابن احلاجب ومن
سلك سبيله.
أ -القائلون إن القياس فعل المجتهد وصنعه:
لقد عرف اإلمام الغزايل القياس بأنه (محل معلوم على معلوم يف إثبات حكم هلما أو نفيه عنهما بأمر جامع
(.)3
بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما)
واإلم ام البيض اوي ع رف القي اس يف االص طالح بقول ه( :ه و إثب ات مث ل حكم معل وم يف معل وم آخ ر
الشرتاكهما يف علة احلكم عند املثبت) (.)4
(?)راجع منهاج الوصول إلى علم األصول جـ 3ص 3مع شرح نهاية السول جـ 3ص ،3ومنهاج العقول جـ 3ص 4
وعرفه الشيخ أبو حممد عبد اهلل بن حممد بركة بأنه (رد حكم املسكوت عنه إىل حكم املنطوق به بعلة جتمع
بينهما) ( )1أو هو (تشبيه الشيء بغريه ،واحلكم به هو احلكم للفرع حبكم األصل ،إذا استوت علته وقع احلكم به
من أجله) (.)2
وقال الشيخ الساملي رمحه اهلل يف تعريف القياس( :محل جمهول احلكم على معلوم احلكم جبامع بينهما) (.)3
ب – القائلون إن القياس دليل شرعي مستقل:
لقد عرف ابن احلاجب القياس بقوله (ويف االصطالح :مساواة فرع ألصل يف علة حكمه) (.)4
وقريب منه ما قاله صاحب فواتح الرمحوت إذ قال معرفا للقياس هو اصطالحا (مساواة املسكوت للمنطوق
يف علة احلكم) (.)5
وقد متسك كل من الطرفني بأدلة تثبت وجهة نظره ،فالقائلون بأن القياس فعل اجملتهد استدلوا بأدلة نورد
أمهها فمنها:
-1إن من تتبع استعماالت الصحابة والتابعني ومجيع التفريعات للفقهاء جيدها تنبئ عن أنه فعل اجملتهد.
ومن ذلك قول عمر أليب موسى األشعري :مث الفهم الفهم مبا أدىل إليك مما ليس يف قرآن وال سنة ،مث قايس
األمور عند ذلك ،وأعرف األمثال ،مث اعمد فيما ترى إىل أحبها إىل اهلل وأشبهها باحلق (.)6
ووجه الداللة من هذا فيما يظهر أن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ملا أمر أبا موسى رضي اهلل عنه أن يعرف
األمور اليت مل ينص على حكمها اليت تشبه ما نص على حكمها أراد منه أن يلحق ما مل ينص على حكمه مبا
ورد فيه النص ،إذا وجد وصفا جامعا بينهما صاحلا لبناء حكم ما مل ينص عليه على ما نص عليه ،وهذا كله من
فعل اجملتهد.
-2حديث معاذ حيث جاء فيه :اجتهد رأيي ( ،)7والرأي هنا القياس ،واالجتهاد فعل اجملتهد
(?)وتمام الحديث أن النبي صلى اهلل عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال :أرأيت إن عرض لك قضاء كيف 7
تقضي قال :أقضي بكتاب اهلل ،قال فإن لم يكن في كتاب اهلل ،قال فبسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال فإن لم
يكن في سنة رسول اهلل قال :أجتهد رأيي ،وال آلو ،قال :فضرب صدره ،ثم قال :الحمد هلل الذي وفق رسول
7
-3قوله تعاىلَ " :فاْعَتُرِبوا َيا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " (.)8
واالعتبار اإلحلاق احلاصل بعد النظر يف األدلة ،ألن االعتبار يف اآلية أمر وال أمر إال بفعل.
-4أن فعل اجملتهد هو الذي يرتتب عليه اشتغال ذمة املكلف بالفعل أو الرتك ،وإذا كان كذلك ثبت أن
القياس فعل من أفعال اجملتهد.
-5أن فائدة القياس :وهي معرفة ثبوت حكم األصل يف الفرع إمنا ترتتب على فعل اجملتهد ،ألنه هو الذي
حيكم على ه ذا الفع ل بأن ه ش بيه هلذا الفع ل ،وأن العل ة يف األص ل متحقق ة يف الف رع ،وأهنا غ ري قاص رة ،وأن ه ال
يوجد يف الفرع مانع كما ال يوجد اختصاص األصل هبذه العلة ،فكل هذا يدل على أن القياس هو فعل اجملتهد.
أما القائلون بأن القياس أمر موجود يف ذاته ،ودليل موضوع من قبل الشارع نظر فيه اجملتهد أم مل ينظر فهو
ليس فعال له فقد استدلوا مبا يلي:
أ -قالوا :إن القياس دليل على األحكام ،وداللته على األحكام ثابتة وال حتتاج إىل نظرة اجملتهد كالكتاب
والس نة ،غاي ة األم ر أن اهلل ق د وض ع القي اس ليع رف من ه اجملته د حكم اهلل بواس طة النظ ر في ه ،فعلى ه ذا يك ون
القياس دليال ثابتا يف ذاته ،نظر فيه اجملتهد ،أم مل ينظر فداللته على احلكم ثابتة ولو مل ينظر فيه اجملتهد.
فإن قيل :ال مانع أن يعترب الشارع فعل اجملتهد الذي شأنه أن يصدر عنه دليال ،كما اعترب اإلمجاع الذي
هو فعل اجملتهدين.
قلنا جوابا عنه :إن الفعل يف ذاته ليس دليال ولو سلمنا أنه هو الدليل فأين األمارة اليت استند إليها اجملتهد
حىت قاس ،فق ولكم هو كاإلمجاع قياس مع الف ارق ،ألن اجملتهدين يف إمجاعهم على أمر البد من استنادهم إىل
دليل ،ولو كان غري مصرح به ،وعلى هذا فأين الدليل الذي استند إليه اجملتهد حىت أحلق؟
ب -أن القياس دليل من األدلة من شأهنا أن العلم هبا يؤدي إىل العلم بشيء آخر وليس فعل اجملتهد كذلك،
وأما اإلمجاع فالواقع أن الدليل هو مستنده ،لكنه ملا مل يصرح به جعل هو الدليل ،ولذلك قالوا :يستغىن حبكاية
اإلمجاع عن ذكر مستنده حيث صح نقله.
وباملقارن ة بني الق ولني على ض وء األدل ة ي رتجح الق ول الث اين ،ألن النظ ر يف األدل ة ال يت نص بها الش ارع
مطلوب ملعرفة األحكام والذي يتعلق به النظر إمنا هو األمر املشرتك أي املساواة ،كما أن الذاهبني إىل أن القياس
فعل اجملتهد تراهم يعللون فعله باألمر املشرتك بني األصل والفرع.
رسول اهلل لما يرضي رسول اهلل ،مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ ،5/236رقم الحديث 22114سنن الدارمي جـ
،1/72برقم .168
(?)سورة الحشر اآلية.2 : 8
8
ك ذلك أن ه ذا األم ر املش رتك ه و مس تند فع ل اجملته د ،وهم يع رتفون ب ذلك ،إذ ل وال ه ذا املش رتك ملا أمكن
اإلحلاق.
فإن قيل :إذا كان األمر كذلك فكيف يطلق كثري من األصوليني اسم القياس على فعل اجملتهد؟
فاجلواب :إن فعل اجملتهد ملا كان سبيال إىل معرفة الدليل أيضا :وهو الذي تكون به ذمة املكلف مشغولة
باحلكم ،اعترب الفعل كأنه الدليل.
فإن قيل :إن سلم لكم هذا يكون إطالق اسم القياس على فعل اجملتهد غري حقيقي.
أجيب :بأن هذا كذلك ،لكن صار حقيقة عرفية هلذا الفرق (.)1
ومن هن ا اختل ف العلم اء يف تعري ف القي اس فمن نظ ر إىل أن القي اس ه و مثرة املس اواة ،وه و ظن اجملته د أن
حكم ما ال نص فيه مثل حكم املنصوص عليه الحتادمها يف العلة ،عرب عنه بفعل اجملتهد ،فعرفه بأنه محل فرع على
أصل ،أو محل معلوم على معلوم ،أو بأنه إثبات حكم معلوم ،أو بأنه تعدية حكم معلوم أو محل جمهول احلكم
على معلومه وإحلاقه به يف احلكم الشرتاكهما يف العلة اليت بين عليها احلكم وشرع من أجلها.
ومن نظر إىل أن القياس هو أحد األدلة اليت أقامها الشارع ملعرفة األحكام ،وهو موجود قبل اجتهاد اجملتهد،
عرفه بأنه مساواة فرع األصل (.)2
هذا ويرى بعض الباحثني أن احلكم الوارد يف األصل ليس هو الذي ينقل إىل الفرع وإمنا حيكم يف الفرع مبثل
ما حكم به يف األصل ،وليست العلة املوجودة يف األصل هي بعينها العلة يف الفرع بل مثلها ،ولذا يعرف القياس
بأنه (إبانة مثل حكم األصل مبثل عليته يف الفرع).
أما القياس ففعل القائس ،وهو تبيني وإعالم أن حكم اهلل تعاىل كذا وعلته كذا ،ومها موجودان يف املواضع
املختلف فيها ،معلال ذلك بأن إثبات احلكم وحتصيله وإجياده فعل اهلل تعاىل ،وكل من احلكم والعلة يف األصل
وص فان أص ليان ال ميكن نقلهم ا ،فل ك أيض ا على ه ذا أن تع رف القي اس بأن ه (تب يني مث ل حكم املتف ق علي ه يف
املختلف فيه مبثل علته) (.)3
أركان القياس:
(?)راجع الستخراج ما تقدم ،حاشية العطار مع شرح جمع الجوامع جـ 2ص.218 1
لل ركن من الناحي ة اللغوي ة ع دة مع ان منه ا ،األم ر العظيم ،وم ا يتق وى ب ه من مل ك وجن د أو غ ريه ( ،)1ويف
القرآن " َقاَل َلْو َأَّن يِل ِبُك ْم ُقَّوًة َأْو آِو ي إىَل ُر ْك ٍن َش ِديٍد " (.)2
وأحد اجلوانب اليت يستند إليها الشيء ويقوم هبا ،أو جانبه األقوى ،وجزء من أجزاء حقيقة الشيء فيكون
عينه ( ،)3يقال :ركن الصالة ،وركن الوضوء ،وهذا املعىن األخري مولد (.)4
والركن يف االصطالح كما قال صدر الشريعة هو :ما يقوم به الشيء ( ،)5وهو ال خيتلف عن بعض املعاين
اللغوية له .
والقياس الشرعي له أربعة أركان ،بفقداهنا أو بفقدان أحدها ال يتحقق ،وهي:
-1األصل وهو املقيس عليه هو حمل احلكم املنصوص عليه ،وذلك كاحلنطة إذا قيس عليها األرز ،واخلمر
إذا قيس عليها النبيذ ،وبيع املرأة سلعتها بنفسها إذا قيس عليها تزويج املرأة بنفسها.
-2حكم األصل وهذا احلكم إما أن يثبت بالكتاب أو السنة أو اإلمجاع أما ثبوته بالكتاب ،فذلك يتضح
ِذ
يف قياس الويسكي على اخلمر مثال ،فإن حكم األصل وهو ثابت بقوله تعاىلَ " :يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُن وا إَمَّنا اَخلْم ُر
ِق ِل ِن ِن ِس
واَملْي ُر واَألنَص اُب واَألْز الُم ِر ْج ٌس ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطا َف اْج َت ُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ُح وَن * إَمَّنا ُيِر ي ُد الَّش ْيَطاُن َأن ُيو َع
َبْيَنُك ُم الَعَد اَو َة واْلَبْغَض اَء يِف اَخلْم ِر واْلَم ْيِس ِر وَيُصَّد ُك ْم َعن ِذْك ِر الَّلِه وَعِن الَّص الِة َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " (.)6
وأم ا ثب وت حكم األص ل بالس نة ف ذلك يظه ر يف قي اس األرز على احلنط ة ف إن حترمي بي ع ص اع من احلنط ة
بصاعني منها ثابت منها ثابت بقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم( :الذهب بالذهب مثال مبثل وزنا بوزن يدا بيد
والفضل ربا واحلنطة باحلنطة مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد والفضل ربا والتمر بالتمر مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد
والفضل ربا وامللح بامللح مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد والفضل ربا) (.)7
وأما ثبوت حكم األصل باإلمجاع فيتضح فيما رآه العلماء من قياس الثيب الصغرية على البكر الصغرية يف
والية األب عليها يف الزواج ،فقد انعقد اإلمجاع على ثبوت الوالية لألب يف تزويج ابنته البكر الصغرية ،وحيث
أن الثيب تشرتك مع البكر يف الصغر فتأخذ حكمها يف والية األب عليها يف تزوجيها.
(?)أخرجه مسلم في صحيحة جـ 3ص 1213برقم ،11091اإلمام أحمد في مسنده جـ 5/200برقم .61229 7
10
-3املقيس :الف رع وه و ال ذي مل ينص على حكم ه وي راد تعدي ة حكم األص ل إلي ه أو إثب ات مث ل احلكم
املنص وص علي ه في ه ،ك األرز إذا قيس على احلنط ة ،ووق ف األرض الزراعي ة إذا قيس على بيعه ا ،والويس كي إذا
قيس على اخلم ر ،ووالي ة األب على ال ثيب الص غرية يف ال زواج إذا قيس ت على واليت ه على البك ر الص غرية يف
الزواج.
-4الوصف اجلامع بني األصل والفرع وهو املسمى بالعلة ،كاإلسكار فإنه علة مشرتكة بني األصل الذي
هو اخلمر ،والفرع الذي هو الويسكي مثال إذا قسناه على اخلمر أو غريه من األشربة املسكرة مما يسم مخرا يف
العرف.
ومن ذل ك خ روج العني عن مل ك ص احبها ،ف ذلك عل ة مش رتكة بني بي ع األرض الزراعي ة ووق ف األرض
الزراعية إذا قسنا الثاين على األول.
وما ذكرناه يف حد ركن من أركان القياس األربعة هو الذي اشتهر على ألسنة مجهور األصوليني والفقهاء
(.)1
وذكر اإلمام فخر الدين الرازي يف حمصوله أن كون األصل حمل احلكم املنصوص عليه هو قاله الفقهاء ،وأنه
عن د املتكلمني ه و النص ال دال على احلكم ،وعلى ه ذا فيك ون الف رع م ا يقابلهم ا ،أي م ا يقاب ل حمل احلكم أو
النص ،فالفرع عند الفقهاء على ما ذكره هو حمل اخلالف ،مث أبطل هذين اإلطالقني مقررا فسادمها ،وتوصل بعد
ذلك إىل أن األصل هو احلكم الثابت يف حمل الوفاق ،أو على ذلك احلكم ،مقررا أن احلكم أصل يف حمل الوفاق
فرع يف حمل اخلالف ،وأن العلة فرع يف حمل الوفاق أصل يف حمل اخلالف ،قائال :إن الفرع هو احلكم املطلوب
إثباته معلال ذلك بأن حمل اخلالف غري متفرع على األصل ،بل احلكم املطلوب إثباته فيه هو املتفرع عليه.
مث عاد بعد ذلك ملتمسا لإلطالقني وجها ولو من بعد ،وهو مع ذلك ال يريد اخلروج عن املصطلح املألوف،
ولذا جنده يقول :واعلم أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق ـ نساعد الفقهاء على مصطلحهم ـ وهو :أن األصل حمل
الوفاق ،والفرع حمل اخلالف ،لئال نفتقر إىل تغيري مصطلحهم (.)2
واملقصود مبحل الوفاق هو ما ثبت حكمه بالنص ألنه ال ينازع يف ثبوته منازع.
أما املقصود مبحل اخلالف فهو األمر الذي مل يثبت حكمه بالنص ،ولكنه يقاس على ما ثبت حكمه ،فقد
يظهر له قائس حكما ،معوال على وصف يبىن عليه ذلك احلكم ،بينما يثبت قائس آخر له حكما مغايرا ،معوال
على وصف رآه مالئما ،والسيما يف العلل املستنبطة ،ولذا ساغ إطالق حمل اخلالف على الفرع.
ولكل ركن من هذه األركان شروط جتب مراعاهتا يعرف جمموعها بشروط القياس ،وقبل الكالم على تلك
الش روط واس تيفائها ،جيدر بن ا أن نفص ل الكالم على مواق ف الفقه اء من حجي ة القي اس وأدلتهم لنخلص إىل
أرجح املذاهب يف ذلك مث نتحدث عن الشروط اليت حددها القائلون حبجيته.
حجية القياس:
أصل احلجة الدليل والربهان وكل من الثالثة يراد به ما يراد باآلخر ،فهي ألفاظ متحدة املعىن ( ،)1واحلجة
قي اس م ركب من قض ايا يقيني ة ،ومع ىن حجي ة القي اس أن ه حج ة أي دليل من األدل ة ال يت ع دها الش رع ونص بها
ملعرفة بعض األحكام ،فاملقصود حبجية القياس :أنه أصل من أصول التشريع يف األحكام الشرعية العلمية اليت مل
ينص ومل جيمع عليها ،وهو معىن التعبد بالقياس ،أي هل هو مطلوب شرعا أوال ؟
مواقف األصوليين والفقهاء من حجية القياس:
قب ل أن نفص ل احلديث على مواق ف العلم اء من القي اس الش رعي إثبات ا وإنك ارا جيدر بن ا أن نش ري إىل أمهي ة
القياس ومكانته يف الشريعة اإلسالمية.
أهمية القياس شرعا ومكانته:
أن أي تشريع يف العامل ال ميكن أن حتيط نصوصه جبميع أحكام احلوادث واجلزئيات واملسائل الفرعية ،إذ أن
النصوص متناهية حمدودة ،والقضايا واألحداث ال ميكن حصرها ،وإمنا يقتصر التشريع عادة على ذكر األصول
العام ة الكلي ة والض وابط والش روط عموم ا ،وي رتك أم ر تط بيق األحك ام واإلفت اء إىل القض اة واملف تني ،كم ا أن
اس تنباط تل ك األحك ام مما خيتص ب ه اجملته دون يف ك ل تش ريع ،فه ؤالء هم ال ذين جيته دون يف أحك ام املس ائل
اجلزئية أو اخلاصة وحياولون إحلاق ما مل تتناوله النصوص بالذكر مبا هو منصوص عليه فيعطون النظري حكم نظريه
ويساوونه به ،مجعا بني املتماثالت.
ومبقتضى هذا الواقع املألوف أو املنطق الذي ال حميد عنه ،تكون الشريعة اإلسالمية متعاملة مع الواقع مراعاة
ملقتضى التطور ،ونزوال حتت مقتضيات الظروف وجتدد احلوادث وتشعب القضايا ،بعيدة كل البعد عن اجلمود،
فهي تنص يف مص دريها األص ليني على القواع د العام ة وأحك ام األص ول التش ريعية واملس ائل األساس ية ،تارك ة
التفاص يل جملته دي األم ة وآراء العلم اء ال ذين أش رقت أذه اهنم وتش بعت أرواحهم مبقاص د الش رع ،وأح اطت
مداركهم بدقائق التشريع ،ومن هنا برزت احلاجة إىل االجتهاد بالرأي الصحيح أو مبا يسمونه القياس.
فالقياس فيه تلبية ملتطلبات األمة وحاجاهتا ملعرفة أحكام احلوادث والقضايا اليت ال تناهى هلا وال حصر ،كما
أن فيه توسعة للمدارك واألفهام ،حىت ال تقف حائرة أمام قضية مل يرد نص حبكمها ،وهو من أدق مباحث علم
األصول وأصعبها مراسا فهو مما خاضت يف حبوره أساطني العلماء وأنكره أناس ،نظرا ملا دخل يف أذهاهنم من
التباس.
ومرتب ة القي اس ت أيت بع د الكت اب والس نة واإلمجاع ،إذ ال قي اس م ع النص ،كم ا ال قي اس م ع اإلمجاع ،وال
ينازع يف ذلك إال مكابر.
هذا وأن القياس من حيث إثباته وإنكاره منه ما هو متفق على صحته واعتباره ،ومن ما هو خمتلف فيه.
-1محل االتفاق:
ال خالف بني العلماء من هذه األمة يف أن القياس الصادر عن النيب صلى عليه وسلم حجة جيب العمل به إذ
هو سنة ،كقياسه دين اهلل على العباد يف سقوط القضاء ،إذا أداه عن املدين غريه ،كما يف حديث اخلثعمية (،)1
وكقياسه قبلة الصائم على إدخاله املاء يف الفم مث جمه دون أن يبلع منه شيء كما يف حديث عمر بن اخلطاب
( ،)2كما أنه ال خالف بينهم يف أنه حجة يف األمور الدنيوية كما يف األغذية واألدوية وغري ذلك.
وك ذلك ال خالف بينهم يف رد ك ل قي اس ص ادر عن ه وا ناش ئ عن غ ري دلي ل ،وك ل قي اس مص ادم لنص
ثابت.
ومن مقرراهتم الثابتة ،كل قياس صادم النص فهو فاسد االعتبار .
-2محل االختالف:
اختل ف علم اء هذه األمة يف كون القياس الش رعي املستويف ألركانه واملستكمل لش روطه الص ادر عن نظ ر
واستدالل ،اختلفوا يف كونه حجة شرعية تثبت هبا األحكام الشرعية عند عدم النص أو اإلمجاع ،ولنسق يف هذا
اجملال ما حرره اإلمام اجلويىن يف الربهان من نقل عن أصحاب املذاهب ،مث نتبع ذلك بنظرة سريعة فاحصة ،قال
يف الربه ان( :القي اس ـ فيم ا ذك ره أص حاب املذاهب ـ ينقس م إىل عقلي وش رعي ،مث الن اظرون يف األص ول
واملنك رون تفرق وا على م ذاهب ،ف ذهب بعض هم إىل رد القي اس ،وق ال (الن اقلون) :ه ذا م ذهب منك ري النظ ر:
والقول يف إثباته يتعلق بفن من الكالم ،وقد أهنينا القول فيه هنايته ،وقال قائلون :بالقياس العقلي والسمعي ،وهذا
مذهب األصوليني والقياسيني من الفقهاء ،وذهب ذاهبون إىل القول بالقياس العقلي ،وجحدوا القياس الشرعي،
(?)وحديث الخثعمية ،ما جاء في رواية ابن عباس إن امرأة من خثعم ،قالت للنبي صلى اهلل عليه وسلم (أن فريضة 1
اهلل على العباد أدركت أبي شيخا كبيرا ال يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ،قال :أرأيت لو كان على أبيك
دين فقضيته عنه أكنت قاضية عنه ،قالت :نعم ،قال :فذاك ذاك) انظر مسند اإلمام الربيع بن حبيب جـ 1ص
،151،150ط ،2المطابع العالمية مسقط.
(?)أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمر رضي اهلل عنه ونصه في آخره( :قلت :ال بأس به .قال :ففيم) سبل 2
وه ذا م ذهب النظ ام وطوائ ف من ال روافض ،واألباض ية واألزارق ة ،ومعظم ف رق اخلوارج ،إال النج دات منهم،
فإهنم اعرتفوا بأطراف من القياس ،وصار صائرون إىل النهي عن القياس العقلي ،واألمر بالقياس الشرعي ،وهذا
مذهب أمحد بن حنبل ،واملقتصدين من أتباع ه فليس وا ينكرون إفض اء نظ ر العقل إىل العلم ،ولكنهم ينهون عن
مالبسته واالشتغال به ،وذهب الغالة من احلشوية ،وأصحاب الظاهر إىل رد القياس والشرعي) (.)1
نظرة وتحليل:
إن اإلم ام اجلوي ين على جالل ة ق دره ،وق ع فيم ا وق ع في ه كث ريون من وهم يف النق ل عن أص حاب املذاهب
املختلفة ،وسبب ذلك عدم رجوع الناقلني إىل مصادر من نقلوا عنهم أنفسهم ،واالكتفاء بنقل غري أصحاب
تلك املذاهب عنهم من غري متحيص وال حتقق.
أوال :أن اإلم ام أمحد يس تعمل عن ده القي اس عن د الض رورة ق ال يف كت اب احلالل :س ألت الش افعي عن القي اس
فقال :إمنا يصار إليه عند الضرورة ،ومل يرد عنه ـ أعين اإلمام أمحد ـ ما يفيد أنه خالف ما حصل عليه من
جواب عن اإلمام الشافعي (.)2
ثانيا :وأما نقله عن الروافض ،وهم الغالة من الشيعة ال كلهم فمحتاج إىل شيء من النظر ،فإن حترير مذهب
الشيعة عموما فيما قرره العالمة احليدري ،قال" :أما القياس واالستحسان فإهنما عندنا ـ أي الشيعة ـ ال
يثبتان حكما وال ينفيان ،ألمرين:
أوال :ألن األحكام منوطة بعلل ومصاحل حمجوبة يف الغالب عنا.
ثانيا :لورود النهي يف ذلك عن أئمة أهل البيت عليهم السم مستفيضا" (.)3
على أن القي اس ال ذي أنك ره الش يعة ه و مس تنبط العل ة ،أم ا منص وص العل ة وه و م ا ثبت من الش رع علت ه،
واحنصر وجودها يف الفرع ،فهذا حجة ،ولكن ال يسمى يف اصطالح الشيعة قياسا ،ألنه مما ثبت حكمه بالسنة،
وإن مسي قياسا يف اصطالح اجلمهور (.)4
وقال األستاذ حممد تقي احلكيم" :والشيء الذي ال شك فيه هو أن املنع عن العمل بقسم من أقسام القياس
يعد من ضروريات مذهب الشيعة لتواتر أخبار أهل البيت يف الردع عن العمل به ال أن العقل هو الذي مينع
التعبد به وحييله ،ولذلك احتاجوا إىل بذل جهد يف توجيه ترك العمل به" (.)5
(?)انظر البرهان في أصول الفقه إلمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني جـ 2ص.491، 490 1
ثالثا :وأما اإلباضية فنقل اإلمام اجلويين عنهم إنكار القياس الشرعي على إطالقه فليس بصحيح ،وبيان ذلك
فيما يلي:
أن األباض ية س لفهم وخلفهم إىل يومن ا ه ذا يعت ربون القي اس حج ة تثبت ب ه األحك ام فيم ا ال نص علي ه من
كتاب أو سنة أو إمجاع ،قال اإلمام ابن بركة ،وهو من علماء القرن الرابع اهلجري قال" :إن من شأننا القول
بالقياس ،وقد أوجب اهلل تعاىل يف قتل اخلطأ يف النفس كفارة ،ومن أصل القائسني أن يردوا املسكوت عنه إىل
()2
املنطوق به ( ،")1وقال معرفا القياس هو" :أن يرد حكم املسكوت عنه إىل حكم املنطوق به بعلة جتمع بينهما"
،وعرف ه يف موض ع آخ ر بقول ه" :والقي اس يف نفس ه تش بيه الش يء بغ ريه ،واحلكم ب ه ه و احلكم للف رع حبكم
األصل ،إذا استوت علته وقع احلكم بسببه من أجله" (.)3
غري أن اإلمام املذكور ،وهو من أقطاب املذهب وأئمته وفرسان أصوله وفروعه ،يستشف من بعض عباراته
استنتاج قول مرجوح يف املذهب لبعض علمائه بعدم األخذ بالقياس ،قال يف ذلك فقد نسب إىل الشيخ هاشم
بن غيالن القول بأن من أفطر رمضان متعمدا بغري مجاع ،افعليه قضاء شهره والتوبة إىل اهلل من فعله ،ومل يوجب
عليه كفارة وال غريها ،ولعله كان ممن ال يقول بالقياس وال يراه واجبا يف باب األحكام (.)4
ولئن صح ه ذا الفهم مع أنه ال قياس يف الكف ارات ،ف إن الش يخ أبا غيالن مل يصرح بعدم األخذ بالقياس،
فعلم اء املذهب من أوهلم إىل آخ رهم مطبق ون على األخ ذ ب ه فيم ا ال نص في ه إذا اس توىف أرك ان واس تجمع
شروطه ،كما يعلم ذلك من تتبع آثارهم أصوال وفروعا.
ويق ول اإلم ام الس املي" :اختلف وا يف ثب وت التعب د بالقي اس على م ذاهب ،األص ح منه ا م ا علي ه اجلمه ور من
العلماء من أن القياس الصحيح مثبت للحكم الشرعي فيما مل يرد فيه نص من كتاب أو سنة ،فالقياس على هذا
أحد أدلة الشرع" (.)5
وال ذين عن اهم بق وهلم اختلف وا هم علم اء األم ة اإلس المية من األباض ية وغ ريهم ،وال ذين عن اهم ب اجلمهور
مجهور األمة ال مجهور األباضية.
مث ساق من األحاديث ما ال يدع جماال للشك يف أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أستعمل القياس وأرشد
إلي ه ،وبع د س رد األدل ة وبي ان وج ه االس تدالل ،ق ال" :فه ذه األح اديث كله ا دال ة على ثب وت احلكم بالقي اس
فيكون القياس هبا دليال شرعيا ،على أن اإلمجاع من الصحابة ورد يف ثبوت احلكم بالقياس ،وذلك أن الصحابة
م ا بني ق ائس وس اكت ،والس اكت ال يس كت يف مث ل ه ذا املوض ع إال عن رض ى ،ألن القي اس إذا مل يكن ثابت ا
بالشرع فإحداثه بدعة هبا زيادة حكم شرعي ،والسكوت عن تغيري مثلها من غري تقية حرام قطعا ،وما هنالك
تقية فقطعنا أن السكوت عن اإلنكار رضى فثبت املدعي" (.)1
كما ضرب عدة أمثلة للقياس بعد تعريفه له ،منها ما كان القياس فيه جليا كقياس األمة على العبد يف س ريان
العتق على الشركاء يف امللك إذا أعتق أحدهم ماله من شركة فيه.
ومنها ما كان القياس خفيا كقياس سؤر الفأر فإهنم اختلفوا يف طهارته وجناسته فالقائلون بنجاسته قاسوه
على الس باع ألن س ؤر الس باع عن دهم مفس د ،ق الوا وك ذلك الف أر ،والق ائلون بطهارت ه قاس وه على الوح وش
الطاهر سؤرها (.)2
هذا وأن املتتبع ملا ذكره العلماء من أقوال يف إثبات القياس وإنكاره جيدها ال خترج عن مخسة ( ،)3ويف النهاية
ترجع إىل مذهبني ،وال بأس أن نشري إىل تلك األقوال فنقول:
-1مذهب اجلمهور ( :)4أن التعبد بالقياس جائز عقال ،وجيب العمل به شرعا (.)5
-2مذهب القفال الشافعي وأيب احلسني البصري من املعتزلة :أن العقل مع األدلة النقلية يدل على وجوب
العمل بالقياس ،وأدلتهم ضمن األدلة العقلية اليت استدل هبا أنصار القياس.
-3مذهب القاساين ( )6والنهرواين وداود األصفهاين :أن القياس جيب العمل به يف صورتني ،وفيما عدامها
حيرم العمل به.
األولى :أن تكون علة األصل منصوصة إما بصريح اللفظ أو بإميائه.
(?)انظر في تفاصيل هذه اآلراء ونسبتها إلى قائلها كتاب أصول الفقه للعالمة األستاذ الدكتور محمد أبو النور 3
(?)إال أنه عند اإلمام أحمد يستعمل للضرورة ،قال في كتاب الحالل :سألت الشافعي عن القياس فقال :إنما يصار 5
مثال الصريح :قوله عليه الصالة والسالم بعد أن كان هنى الصحابة عن ادخار حلوم األضاحي( :إمنا هنيتكم ـ عن
ادخار حلوم األضاحي ـ من أجل الدافة) ( )1أي بسبب ورود قوافل األغراب على املدينة ،والدافة :مجاعة
من الناس تنتقل من بلد إىل بلد طلبا للزاد ،هذا تنصيص على العلة يف النهي عن االدخار بقوله (ألجل)
ومثل( :حرمت اخلمر لشدهتا) ( .)2ومثال اإلميان :قوله عليه الصالة والسالم حينما سئل عن سؤر اهلرة ـ
أي الباقي مما شربت منه بعد شرهبا ـ( ،إهنا ليست بنجس ـ أي فال ينجس ما المسته ـ إمنا هي من الطوافني
عليكم والطواف ات) ( ،)3فقول ه( :أهنا من الط وافني )...ي ومئ إىل تعلي ل احلكم مبا ذك ره ،وإن مل يكن
موضوعا للتعليل ،وإال ملا كان لذكره فائدة.
الثانيAAة :أن يك ون الف رع أوىل ب احلكم من األص ل ،مثال ه :قي اس ض رب الوال دين على الت أفيف يف احلرم ة ،لعل ة
جامعة بينهما وهي اإليذاء املنصوص عليه بقوله تعاىل" :فال تقل هلما أف" ( )4فإن الضرب أوىل بالتحرمي
من التأفيف لشدة اإليذاء فيه ،وهذا ما يسمى بداللة النص أو بفحوى اخلطاب (.)5
وقد استبدل اإلمام الغزايل بالصورة الثانية صورة أخرى وهي :األحكام املعلقة باألسباب :أي الواردة على
س بب ،مث ل (زىن م اعز ف رجم ،وقط ع س ارق رداء ص فوان) ( ،)6وه ذا راج ع إىل م ا يع رف بتنقيح من اط احلكم
اآليت بيان ه ،ولك ين أج د أن م ا ذك ره الغ زايل راج ع إىل الص ورة األوىل ،من ن وع العل ة املنص وص عليه ا بطري ق
اإلمياء ،مثل جواب الرسول عليه الصالة والسالم لسائل قال( :واقعت أهلي يف رمضان ،فقال أعتق رقبة) (،)7
فكأنه قال :واقعت فأعتق.
-4مذهب الظاهرية :إن القياس جائز عقال ،ولكن مل يرد يف الشارع ما يدل على وجوب العمل به.
(?)أخرجه أصحاب الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) عن عائشة ـ رضي 1
(?)أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ،وصححه الترمذي والبخاري وابن خزيمة والعقيلي 3
والدارقطني ،من حديث أبي قتادة (سبل السالم )1/23وما بعدها ،نيل األوطار .1/35
(?)سورة اإلسراء اآلية.23 : 4
(?)رواه أصحاب الكتب السبعة (أي مع أحمد) من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :جاء رجل هو سلمة أو 7
سلمان بن صخر البياضي ،فقال هلكت يا رسول اهلل ،قال :وما أهلكك؟ قال :وقعت على امرأتي في رمضان ،
قال :هل نجد ما تعتق رقبة؟ الحديث (سبل السالم .)2/163
17
-5مذهب الشيعة اإلمامية والنظام من املعتزلة يف نقل عنه :أن التعبد بالقياس مستحيل عقال ( ،)1ألنه يرتتب
على اختالف األقسية يف نظر اجملتهدين لزوم اجتماع النقيضني (.)2
وخالصة هذه اآلراء أهنا ترجع إىل مذهبني:
م ذهب اجلمه ور الق ائلني ب أن القي اس حج ة مطلق ا ،وم ذهب الش يعة والنظ ام والظاهري ة ومجاع ة من معتزل ة
بغ داد الق ائلني ب أن القي اس ليس حبج ة ،إال أن بعض ه ؤالء يق ول :إن امتن اع حجيت ه من جه ة العق ل ،وبعض هم
يقول :إن ذلك من جهة الشرع ،والواقع أن ما أنكره هؤالء من قياس يف الشرعيات وحجية ذلك إمنا هو غري
القياس الصادر عن النيب صلى اهلل عليه وسلم.
أدلة نفاه القياس:
استدل نفاه القياس مبا يأيت:
َد ِي الَّل ِه و وِلِه ِذ
َرُس أ ـ القرآن :وذلك يف آيات كثرية ،منها قوله تعاىلَ " :يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُن وا ال ُتَق ِّد ُم وا َبَنْي َي
واَّتُقوا الَّلَه إَّن الَّلَه ِمَس يٌع َعِليٌم " (.)3
فهذه اآلية تنهى عن العمل بغري كتاب اهلل وسنة رسوله ،والعمل بالقياس عمل بغريمها ،ألنه تقدمي بني اهلل
ورسوله ،فكان منهيا عنه.
(?) قال العالمة الحيدري :أما القياس واالستحسان فإنهما عندنا (أي الشيعة) ال يثبتان حكما وال ينفيان ألمرين: 1
الوجود.
والضدان األمران الوجوديان اللذان ال يجتمعان وقد يرتفعان كالبياض والسواد ال يلتقيان في شيء واحد ،وقد يرتفعان
فيحل غيرهما محلهما.
(?)سورة الحجرات اآلية.1 : 3
18
ومنها قوله سبحانه " :وَأن َتُقوُلوا َعَلى الَّلِه َم ا ال َتْع َلُم وَن " ( " )1وال َتْق ُف َم ا َلْيَس َلَك ِبِه ِعْلٌم " ( ،)2فهاتان
اآليت ان تنهي ان عن إتب اع اإلنس ان م ا ليس مفي دا للعلم واليقني ،والقي اس إمنا يفيد الظن ،فك ان اجملتهد منهيا عن
العمل به ،وكون احلكم الثابت بالقياس مظنونا أمر معروف ،ألنه يتوقف على العلم بأمور ال يقطع بوجوهبا،
كالعلم بالعلة يف األصل ووجودها يف الفرع.
قوله عز وجل " :إَّن الَّظَّن ال ُيْغيِن ِم َن اَحلِّق َش ْيئًا " ( )3فالظن ال يفيد يف إفادة احلق ،والقياس مفيد للظن ،فال
يفيد يف إثبات احلكم.
ومنها قوله تعاىل " :وِعن َد ُه َم َف اِتُح الَغْيِب ال َيْع َلُم َه ا إال ُه َو وَيْع َلُم َم ا يِف الَبِّر واْلَبْح ِر وَم ا َتْس ُقُط ِم ن وَر َق ٍة إال
َيْع َلُم َه ا وال َح َّبٍة يِف ُظُلَم اِت اَألْر ِض وال َر ْطٍب وال َياِبٍس إال يِف ِكَتاٍب ُّم ِبٍني " ( )4على قراءة من قرأ اآلية هكذا "
وال َح َّب ٍة يِف ُظُلَم اِت اَألْر ِض وال َر ْطٍب وال َي اِبٍس إال يِف ِكَت اٍب ُّم ِبٍني " ب الرفع على االبت داء وهي من الق راءات
الشاذة ذكرها النحاس يف معاين القرآن ( ،)5أما القراءة املتواترة يف اآلية فهي جبر وما بعدها عطفا على ورقة،
ووجه الداللة أن قراءة الرفع جتعل اجلملة األخرية مستقلة ال تتعلق بقوله تعاىل" :يعلمها" فتدل على املقصود وهو
وجود كل األحكام يف القرآن الكرمي ،وأن املراد بالكتاب هنا :القرآن ،اآلية تفيد أن كتاب اهلل قد اشتمل على
ك ل ش يء ،فال حاج ة حينئ ذ إىل القي اس ،وه و إمنا يك ون حج ة إذا اح تيج إلي ة ،فال جيوز العم ل بالقي اس ،ألن
شرطه فقدان النص ،واآلية بينت أن كل ما حيتاج إليه من األحكام منصوص عليه يف القرآن.
وجياب عن استدالهلم هبذه اآليات:
أما اآلية األوىل :فال متنع العمل بالقياس ،ألن اهلل تعاىل ورسوله أمر كل منهما بالقياس كما سيتضح ذلك
من خالل س رد أدل ة اجلمه ور ،فالعم ل بالقي اس عم ل بكت اب اهلل وس نة رس وله ،فلم يكن تق دميا بني ي دي اهلل
ورسوله.
وأما اآليات الثانية والثالثة والرابعة :فال داللة فيها على املنع ،ألن احلكم الثابت القياس ليس مظنونا ،بل هو
مقطوع به عند اجملتهد ،أي معلوم يقينا أنه حكم اهلل يف املسألة أو أنه على األقل جيب العمل به ،لإلمجاع على
وجوب إتباع ما ظنه اجملتهد.
(?)جـ 2/427وكذلك ذكر هذه القراءة ابن عطية في المحرر الوجيز ،5/222والقطبي جـ.7/8 5
19
وأم وجود الظن فهو يف الطريق املوصل إىل احلكم ،وال مانع من وجود قاعدة ظنية يف أثناء االستدالل ،ألن
العلماء أمجعوا على أن اجملتهد جيب عليه العمل واإلفتاء مبا ظنه صوابا ،واإلمجاع يفيد القطع على الراجح ،وأيض ا
فإن الظن هو الطرف الراجح من االحتماالت ،والعقل يقضي بالعمل بالطرف الراجح.
وجياب عن هذه اآليات أيضا بأهنا واردة يف غري حمل النزاع ،فهي واردة يف النهي عن إتباع الظن يف أحكام
العقائ د ،فهي ال يت يتطلب فيه ا القط ع واليقني ،أم ا األحك ام الش رعية العملي ة ف الظن فيه ا ك اف باالتف اق بني
العلم اء ،وال دليل علي ه أنن ا مكلف ون بالعم ل بأخب ار اآلح اد وظ اهر الكت اب والس نة ،وبقب ول ش هادة ال رجلني
والرجل واملرأتني وحنوها مما ال يفيد إال الظن.
وأما اآلية اخلامسة ،فإن املراد بالكتاب هو علم اهلل أو اللوح احملفوظ ،وعلى تسليم أن يكون املراد به الق رآن،
فال يش تمل الق رآن على مجيع األحكام الش رعية بدون واسطة ،ألن اشتماله خالف الواقع ،فكثري من األحكام
الشرعية قد أخذ من السنة أو اإلمجاع ،وحينئذ يكون املراد من اشتمال القرآن على مجيع األحكام مشوله هلا يف
اجلملة ،سواء أكان بواسطة القياس ،أم بغري واسطة وهو املنصوص عليه ،أي أن كل شيء فرض فهو يف القرآن
مع ىن ،وإن مل يكن في ه لفظ ا ،فحكم املقيس م ذكور في ه مع ىن ،ملش اهبته للمقيس علي ه يف عل ة احلكم ،وق د دل
القرآن على وجوب العمل بالقياس بقوله تعاىلَ " :ف اْعَتُرِبوا َيا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " كما سيأيت بيانه يف أدلة املثبتني،
وحينئ ذ تك ون اآلي ة ال يت احتج وا هبا موجب ة للعم ل بالقي اس ،وليس ت مفي دة لع دم العم ل ب ه ،فيبط ل ق وهلم :إن
القياس غري حمتاج إليه ،بل قد حيتاج إليه يف إظهار احلكم يف املقيس.
ب ـ الس نة :من ذل ك أن الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال" :إن اهلل تع اىل ف رض ف رائض فال تض يعوها ،وح د
()1
حدودا فال تعتدوها ،وحرم أشياء فال تنتهكوها ،وسكت عن أشياء رمحة لكم غري نسيان فال تبحثوا عنها"
فه ذا احلديث ي دل على أن األش ياء إم ا واجب ة ،وإم ا ح رام ،وإم ا مس كوت عنه ا ،فهي يف دائ رة املعف و عن ه أو
املباح ،واملقيس من املسكوت عنه فهو يف دائرة املعفو عنه بال ريب ،فإذا قسنا املسكوت عنه على الواجب مثال
تكون قد أوجبنا ما مل يوجبه اهلل ،وإذا قسناه على احلرام نكون قد حرمنا ما مل حيرمه اهلل.
وي رد عليهم ب أن ه ذا احلكم الث ابت بالقي اس ليس حكم ا من اجملته د ،وإمنا ه و حكم اهلل ،ألن عل ة حكم
األصل اس تلزمت احلكم يف الف رع بطريق ة املعىن ،فك أن اهلل تع اىل ق ال :كلم ا حتققت عل ة ه ذا احلكم يف حمل مل
ينص على حكمه فأعطوه مثل هذا احلكم:
ألن األحكام الشرعية معللة ،والعلة تقتضي ثبوت احلكم أينما وجدت.
وعليه ال يكون اجملتهد قد أوجب أو حرم من تلقاء نفسه ،وإمنا أظهر أن احلكم يف املقيس كاحلكم يف املقيس
عليه لتحقق العلة فيهما مجيعا.
(?)حديث حن رواه الدار قطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي اهلل عنه. 1
20
واس تدلوا أيض ا من الس نة حبديث آخ ر وه و قول ه علي ه الص الة والس الم( :تعم ل ه ذه األم ة بره ة بالكت اب،
وبرهة بالسنة ،وبرهة بالقياس ،فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا) ( ،)1فالنيب صلى اهلل عليه وسلم جعل العمل بالقياس
موجبا للضالل.
وأجيب عنه بأن هذا احلديث معارض باألحاديث اليت تفيد وجوب العمل بالقياس ،مثل حديث معاذ وأيب
موس ى الل ذين س يذكران يف أدل ة إثب ات القي اس ،وي دفع التع رض بينهم ا جبع ل ه ذا احلديث على العم ل بالقي اس
الفاس د ،وح ديث مع اذ على العم ل بالقي اس الص حيح ،مجع ا بني األدل ة ،إض افة إىل أن م دار ه ذا احلديث على
عثمان بن عبد الرمحن الوقاصي وهو متفق على ضعفه ،كما يف جممع الزوائد (.)2
والقياس الفاسد :هو الذي ال يعتمد على دليل ،أو وجد من األدلة ما يعارضه ،ولكن صاحبه عاند فيه ،أو
اعتمد فيه على الظن والتخمني ،ال على مقاصد الشريعة العامة.
والقياس الصحيح :هو الذي ال يتعارض مع الكتاب والسنة ويتمشى معهما ،ومل يكن مبنيا على افرتاضات
أو ختمني ،ب ل على اس تدالل من نص وص الش ريعة أو مقاص دها العام ة ،ك الرأي املق ول بن اء على مب دأ املص احل
املرسلة ،وهي اليت مل يتعرض هلا الشرع ال باالعتبار وال باإللغاء.
ج ـ اإلمجاع :وهو أن بعض الصحابة قد ذم العمل بالقياس أو باالجتهاد بالرأي ،وسكت بقية الصحابة عن
اإلنكار عليه ،فكان إمجاعا ،من ذلك أن أبا بكر سئل عن الكاللة املذكورة يف قوله سبحانه " وإن َك اَن َرُج ٌل
ُيوَر ُث َك الَلًة َأِو اْم َر َأٌة وَلُه َأٌخ َأْو ُأْخٌت " (( )3وهو من مات وال والد له وال ولد) فقال أبو بكر رضي اهلل عنه:
(أي مساء تظلين ،وأي أرض تقلين إذا قلت يف كتاب اهلل برأيي :أي بالقياس) (.)4
ونقل عن عمر رضي اهلل عنه أنه قال( :إياكم وأصحاب الرأي ،فأهنم أعداء السنن ،أعيتهم األحاديث أن
حيفظوها ،فقالوا بالرأي ،فضلوا وأضلوا) وقال أيضا( :إياكم واملكايلة ،قيل ،وما املكايلة؟ قال :املقايسة).
وقال علي كرم اهلل وجهه( :لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان باطن اخلف أوىل باملسح من ظاهر).
وقال ابن عباس رضي اهلل عنه( :يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ،ويتخذ الناس رؤساء جهاال يقيسون األمور
برأيهم).
(?)من رواية عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة ،قال ابن حزم في 1
كتابه (ملخص إبطال القياس والرأي ( : )56عثمان تركوه) ،وانظر (اإلحكام في أصول األحكام له )2/786
رواه يعلي وفيه عثمان متفق على ضعفه (مجمع الزوائد .)1/179
(?)ص .179 2
(?)أخرجه قاسم بن محمد ،وهو منقطع (نصب الراية ، 4/64تلخيص الحبير .)4/195 4
21
وروي عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :إن اهلل تعاىل ال يقبض العلم
انتزاعا ينتزعه من الناس ،ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ،فإذا مل يبق عاملا اختذ الناس رؤساء جهاال ،فسئلوا
فأفتوا بغري علم فضلوا وأضلوا) ( ،)1قالوا :والفتوى بالرأي فتوى بغري علم.
وروي عن ابن مسعود مثل تلك اآلثار ( ،)2فهذه اآلثار عن كبار الصحابة يف إنكار القياس والعمل به ،ومل
يعارضهم أحد فيها ،فكان إمجاعا من الصحابة على أن العمل بالقياس منهي عنه.
وأجيب عنها ب أن ه ذه الرواي ات معارضة بآثار أخرى عن ه ؤالء الصحابة بال ذات ،مقتض اها م دح العمل
بالقياس كما سيعلم يف أدلة اجلمهور ،وحينئذ البد من التوفيق واجلمع بني ما تعارض من ذلك ،وذلك حبمل
الذم على القياس الفاسد الذي مل تتوفر فيه شرائط الصحة كالقياس املخالف للنص أو الصادر عمن ليس أهال
لالجتهاد والنظر ،أو املستعمل فيما ال جيري فيه القياس كتفسري القرآن الكرمي ،أو القياس الناشئ عن هوا.
وحيمل املدح على القياس الصحيح املستكمل لشروط االعتبار والصحة ،وذلك مجعا بني النقلني املتعارضني
إذا ثبتت صحة كل منهما (.)3
د ـ املعقول :وهو أن القياس يؤدي إىل التنازع واالختالف بني اجملتهدين ،كما هو الثابت باالستقراء جلزئيات
االجته اد ،وألن القي اس ينب ين على أم ارات ومق دمات ظني ة ،والظن ون مث ار اختالف اإلفه ام واألنظ ار ،وحينئ ذ
فيكون القياس ممنوعا ،ألن اهلل سبحانه هنى عن التنازع بقوله" :وال َتَناَزُعوا َفَتْف َش ُلوا وَتْذ َه َب ِر ُحيُك ْم " (.)4
واجلواب عن هذا من وجهني :أحدمها جواب إلزامي ،والثاين هدم تفصيلي.
الوج AAه األول :أن ه ذا ال دليل بعين ه جيري يف ك ل دلي ل ي وجب الظن كخ رب الواح د وال دليل الفلس في أو
العقلي ،فيلزم منه أن يكون العمل خبرب الواحد أو الدليل العقلي منهيا عنه ،وهذا ال يقول به أحد.
الوجه الثاني :إن التنازع الذي تنهى عنه الشريعة :هو ما كان يف العقائد وأصول الدين أو يف األمور العامة
كسياسة الدولة وشئون احلرب ،بقرينة قوله سبحانهَ " :فَتْف َش ُلوا وَتْذ َه َب ِر ُحيُك ْم " ( .)5أي قوتكم وقوله تعاىل" :
(?)اإلحكام البن حزم 2/786،780وما بعدها ،ملخص إبطال القياس 55وما بعدها ،أعالم الموقعين -1/53 2
وما بعدها.
(?)سورة األنفال اآلية.46 : 4
وال َتُك وُن وا َك اَّل ِذيَن َتَفَّرُق وا واْخ َتَلُف وا " ( )1فه ذا التح ذير ملا ي رتتب علي ه من خط ورة ،وه و التن ازع يف أص ل
العقائد أو فيما يتصل بكيان األمة أمام العدو اخلارجي ،أما التنازع يف األحكام الشرعية العملية اجلزئية فال مانع
من حصوله ،إذ ال يرتتب عليه مفسدة ،بل قد يكون رمحة وتوسعة من اهلل على عباده ،قيل يف األثر( :اختالف
أميت رمحة) (.)2
ومن األدلة املعقولة اليت استندوا إليها أن القياس نوع من الظن ،والظن ممنوع عقال ،ألنه حيتمل اخلطأ ،واخلطأ
حمظور ،وكل حمظور يوجب العقل التحرز عنه ،فالقياس ال جيوز عقال.
ورد هذا الكالم بأن الظن املمنوع عقال هو الذي ال يغلب جانب الصواب فيه بأن يكون غري صواب أصال،
أو الص واب في ه مرج وح ،أم ا الظن ال ذي يرتجح في ه جانب الص واب فليس حمظ ورا ،بل يرتجح العمل مبوجب ه
مبقتضى العقل ،وال يشرتط دائما أن نتيقن من املنافع وإال لتعطل كثري من املصاحل ،فالزراعة والتجارة والصناعة
كلها مظنونة الربح ،وليست يقينية اإلنتاج.
دليل النظام على إنكار القياس:
اس تدل النظ ام على أن ه يس تحيل التعب د بالقي اس عقال ب أن العق ل ي وجب إعط اء املتم اثالت حكم ا واح دا،
واملختلف ات أحكام ا خمتلف ة ،ولكن الش ارع ق د ف رق بني املتم اثالت يف األحك ام ،ومجع بني املختلف ات وش رع
أحكام ا ال جمال للعق ل فيه ا ،وذل ك كل ه ين ايف مقتض ى القي اس ،ألن م دار القي اس على إب داء العل ة وعلى إحلاق
ص ورة بص ورة أخ رى متاثله ا يف العل ة ،وأيض ا ف إن القي اس يقض ي ب التفريق بني املختلف ات ،وب ه يت بني أال جمال
للقياس يف الشرع لتناقض مضموهنا ،وأن القياس مضاد للشريعة (.)3
أما بيان منهج الشارع يف املخالفة والتفريق بني املتماثالت :فهو أنه قد فرق بني األزمنة يف الشرف والفضل،
ففضل ليلة القدر واألشهر احلرام على غريها.
(?)قال السيوطي في الجامع الصغير :ذكره نصر المقدسي في الحجة ،والبيهقي في الرسالة األشعرية بغير سند، 2
وأورده الحليمي والقاضي حسين وإ مام الحرمين وغيرهم ،ولعله خرج في بعض الكتب الحفاظ التي لم تصل إلينا،
وقال الشيخ محمد ابن السيد درويش الشهير بالحوث البيروتي :زعم كثير من العلماء أنه ال أصل له ،وذكره كثير
من أهل الفقه بدون سند كإمام الحرمين والحليمي ،وأسنده في الفردوس عن ابن عباس مرفوعا بلفظ (اختالف
أصحابي لكم رحمة).
(?)القياس البن تيمية وابن القيم ،54أعالم الموقعين ،2/52شرح اآلسنوي ،3/25اإلبهاج 2/13وما بعدها 3
وف رق الش ارع أيض ا بني الص لوات يف مس ألة القص ر يف الص الة الرباعي ة دون الثنائي ة أو الثالثي ة ،م ع أن
الص لوات متماثل ة ،وك ذلك أوجب قض اء الص وم على احلائض ،ومل ي وجب عليه ا قض اء الص الة ،م ع أن كال
منهما عبادة.
وأما بيان منهج الشارع يف اجلمع واالحتاد بني املتخالفات :فهو أنه جعل الرتاب يف التيمم موجبا للطهارة
للصالة كاملاء متاما عند عدم املاء أو املرض ،مع أن املاء ينظف األعضاء والرتاب يلوثها.
وأما كون الشارع شرع أحكاما ال جمال للعقل فيها ،فهو أنه أباح النظر إىل األمة احلسناء ،وألزمنا بغض
البصر بالنسبة للحرة الشوهاء أو العجوز القبيحة املنظر ،مع أن النفس متيل إيل األويل وتنفر من الثانية ,وأوجب
املشرع قطع اليد يف السرقة القليل ,ومل يوجبه يف غصب الكثري ,وأوجب اجللد علي من قذف غريه بالزىن ,ومل
يوجبه علي من قذف غريه بالكفر ،مع أن الكفر أشد وأعظم ،وشرط يف شهادة الزىن أربعة شهود عدول ،مع
أنه اكتفى يف الشهادة على القتل باثنني فقط ،مع كون القتل وأغلظ من الزىن .وغريها مما ذكر من فروع الفقه.
ويرد هذا الدليل بأن القياس إمنا جيب العمل به عند معرفة العلة اجلامعة بني األصل والفرع ،مع عدم وجود
املع ارض لثب وت احلكم يف الف رع ،وعندئ ذ يص ري األص ل والف رع متم اثلني من ه ذه الناحي ة ويعطي هلم ا حكم
واحد ،والقياس دائما شأنه كذلك ،فال يفرق بني املتماثالت بل جيمع بينها (.)1
أم ا عن د ع دم وج ود العل ة اجلامع ة بني األص ل والف رع أو وج ود املع ارض ،ف إن األص ل والف رع يكون ان
متخالفني من هذه اجلهة ،ويعطي لكل منهما حكم يناسبه ،حىت ولو كانا متماثلني يف الظاهر ،وامتناع القياس
يف صور معدودة ال يفضي إىل امتناعه من أصله.
ويف اجلملة :إن القياس جيمع بني املتماثالت حبسب الواقع ،وإن كانت متخالفة باعتبار الظاهر ،ويفرق بني
املختلفات حبسب الواقع ،وإن كانت متماثلة باعتبار الظاهر.
والشارع اعترب هذا املبدأ يف كل ما شرع ،وأما ما أورده النظام من الصور فهو نادر ،والنادر ال حيكم به
على الكث ري الغ الب ،وس يأيت هلذه الش به ورده ا مزي د من التفص يل قريب ا يف ه ذا البحث ،وإن التفري ق بني
املتماثالت جيوز أن حيصل لعدم وجود العلة اجلامعة بينهما أو لوجود معارض ،وكذلك اجلمع بني املختلفني جيوز
أن حيصل الشرتاكهما يف معىن جامع بينهما.
والخالصة :إن كالم النظام إما مبين على مراعاة الظاهر يف التماثل أو االختالف ،أو على حاالت نادرة ،أو
لعدم وجود العلة اجلامعة بني أمرين ،مع أهنما متماثالن يف احلكم ،فليس كل متماثلني متفقني من كل وجه ،بل
(?)انظر القياس في الشرع اإلسالمي البن قيم 56وما بعدها ،واألحكام لآلمدي ،3/69وشرح اآلسنوي .3/25 1
24
جتوز التفرقة بينهما يف وجه من الوجوه ،وليس اجلمع بني املختلفني واقعا فإن الطهارة يف الرتاب مثال حكيمة،
وليست حسية.
إىل هنا انتهى عرض أدلة املنكرين للقياس ،ومنها يظهر أهنا راجعة إىل مراعاة مبدأ آخر ،وهو التمسك بظاهر
النص وص ،ف إهنم يقص رون بي ان النص وص على العب ارة وح دها ،وال يتجاوزوهنا إىل غريه ا ،أم ا اجلمه ور ف إهنم
أخذوا مببدأ تعليل النصوص ( ،)1ووسعوا معىن دالالهتا فقالوا :إن الداللة على األحكام تكون بألفاظ النصوص،
وبال دالئل العام ة ال يت تبينه ا مقاص د الش ريعة يف مجل ة نصوص ها وعام ة أحواهلا ،فنص آي ة "إَمَّنا اَخلْم ُر " ي دل على
ِب ِف
حترمي اخلمر بالعبارة ،وفيه دالئل تشري إىل أن كل ما فيه ضرر غالب يكون حراما ،بدليل آية " ُقْل يِه َم ا إٌمْث َك ٌري
وَم َن اِفُع ِللَّن اِس وإُمْثُه َم ا َأْك َبُر ِم ن َّنْف ِعِه َم ا" ( )2وحينئ ذ يك ون القي اس يف احلقيق ة إعم اال للنص وليس خروج ا عن
النص كما يدعى منكروه ،فاخلالف راجع إذا إىل مسألة تعليل النصوص وعدم تعليلها.
وق د أحس ن الشهرس تاين يف رده على داود األص فهاين ال ذي أنك ر القي اس ق ائال :إن أول من ق اس إبليس،
وعبارات الشهرستاين هي :لقد ظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنة ،ومل يدر أنه طلب حكم
الشرع من مناهج الشرع ،ومل تنضبط قط شريعة من الشرائع إال باقرتاب االجتهاد هبا ،ألن من ضرورة االنتشار
يف العامل احلكم بان االجتهاد معترب ،وقد رأينا الصحابة رضي اهلل عنهم كيف اجتهدوا ،وكم قاسوا ،خصوصا
يف مسائل املواريث كتوريث اإلخوة مع اجلد ،وكيفية توريث الكاللة ،وذلك مما ال خيفي على املتدبر ألحواهلم
(.)3
قال الشيخ حممد أبو زهرة :ويف احلق أن نفاه القياس قد أخطئوا إذ تركوا تعليل النصوص ،فقد أداهم إمهاهلم
إىل أن قرروا أحكاما تنفيها بدائه العقول ،فقد قرروا أن بول اآلدمي جنس للنص عليه ،وبول اخلنزير طاهر لعدم
النص علي ه ،وأن لع اب الكلب جنس ،وبول ه ط اهر ،ول و اجته وا إىل قلي ل من الفهم لفقه وا النص ،وملا وقع وا يف
مناقضة البدهيات على ذلك النحو (.)4
وسيتضح هذا وضوحا ظاهرا عند سرد أدلة اجلمهور.
شبه لنفاه القياس:
هذا وبعد سرد أدلة املنكرين للقياس يف الشرعيات ،وقبل أن نسوق أدلة املثبتني ،جيدر بنا أن نعرج على شبة
أوردها املنكرون ليتبني بطالهنا وعدم تأثريها على حجة القياس ،فنقول:
لقد أوردها نفاه القياس إىل جانب أدلتهم على إنكاره شبها تشبثوا هبا إلثبات مدعاهم من أن القياس تأباه
الشريعة ،ولو أقرته لكان فيها تفريق بني املتماثالت ومجع بني املختلفات.
وها حنن نورد طرفا منها ،كأمثلة حتتذي ،ونقرن كل شبهة بردها ،ناظرين يف ذلك إىل ما كتبه ابن القيم يف
هذا املوضوع.
1ـ فرض الشارع الغسل من املين ،وأبطل الصوم بإنزاله عمدا وهو طاهر دون البول واملذي وهو جنس.
الرد :إن املين والبول ليسا متساويني كما زعمتم ،بل بينهما فرق أوجب االختالف يف احلكم ،فخروج املين
حيدث فتورا يف اجلسم ،واالغتسال بعده يزيل هذا الفتور ،وينشط اجلسم ،أما البول فهو ما فضل من الطعام
والشراب ،وحاجة اجلسم إىل خروجه ضرورية حبيث لو بقى يف اجلسم ألضره.
وذلك يشهد له احلس ويقره الطب ،فإن املين دم حتول يف اجلسم ،وخروجه يضعف اجلسم كخروج الدم من
اإلنسان ،وإذا ظهر أن بني املين والبول فرقا بطلت شبهتهم املبنية على التساوي بينهما.
أضف إىل ذلك أن هناك فوائد مرتتبة على الغسل من املين منها :أنه أنفع شيء للبدن والقلب والروح ،بل
مجيع األرواح القائمة بالبدن فإهنا تقوى باالغتسال.
ومنها أن الغسل خيلف على البدن ما حتلل منه خبروج املين ،ومنها أن الغسل حيدث نشاطا وخفة يذهبان ما
أحدثته اجلنابة من ثقل وكسل ،مث إن طهارة املين غري متفق عليها ،فكثري من العلماء ذهب إىل أنه جنس.
2ـ أن الشارع أوجب قضاء الصوم على احلائض دون الصالة ،مع أن الصالة أوىل باحملافظة عليها.
الرد :أن احليض ملا كان منافيا للعبادة مل يشرع فيه فعلها ،وكان يف صالهتا أيام الطهر ما يغنيها عن صالته
يف أيام احليض ،فيحصل هلا مصلحة الصالة يف زمن الطهر لتكررها كل يوم ,خبالف الصوم ،فإنه ال يتكرر وهو
شهر واحد يف العام ،فلو سقط عنها فعله باحليض مل يكن هلا سبيل إىل تدارك نظريه ،وفاتت عليها مصلحته،
فوجب عليها أن تصوم شهرا يف طهرها ،لتحصل مصلحة الصوم اليت هي من متام رمحة اهلل بعبده وإحسانه إليه
بشرعه (.)1
3ـ أن الش ارع ح رم النظ ر إىل العج وز الش وهاء القبيح ة املنظ ر إذا ك انت ح رة ،وج وزه إىل األم ة الش ابة
البارعة اجلمال.
ِمِن
ال رد :أن ذل ك ك ذب على الش ارع ،ف أين ح رم اهلل ه ذا وأح ل ذاك؟ واهلل س بحانه إمنا ق الُ " :ق ل ِّلْلُم ْؤ َني
َيُغُّض وا ِم ْن َأْبَص اِر ِه ْم " ( ،)2ومل يطل ق اهلل ورس وله لألعني النظ ر إىل اإلم اء البارع ات اجلم ال ،وإذا خش ي الفتن ة
ب النظر إىل األم ة ح رم علي ه بال ريب ،على أن منش أ تل ك الش بهة ،ه و أن الش ارع ش رع للحرائ ر أن يس رتن
وجوههن عن األجانب ،وأما اإلمياء فلم يوجب عليهن ذلك ،لكن هذا يف إماء االستخدام واالبتذال ،وأما إمياء
التس ري الاليت ج رت الع ادة بص وهنن وحجبهن ف أين أب اح اهلل ورس وله هلن أن يكش فن وج وههن يف األس واق
والطرقات وجمامع الناس وأن للرجال يف التمتع بالنظر إليهن (.)1
4ـ أن الش ريعة أم رت بقط ع سارق ثالثة دراهم خمتلس أل ف دينار أو منتهبها أو غاص بها ،مث جعلت ديتها
مخسمائة دينار فأمرت بقطعها يف ربع دينار ،وجعلت دية هذا القدر الكبري.
ال رد :أن الس ارق خيتل ف عن املختلس واملنتهب والغاص ب ،ذل ك ألن الس ارق ال ميكن االح رتاز من ه إال
بتشديد احلكم عليه ألنه يأخذ أموال الغري خفية من حرزها اليت أحرزت فيه ،وال سبيل إىل زجره واحملافظة على
أموال الناس منه إال بقطع يده ،أما املنتهب فألنه يأخذ مال غريه جهرة ميكن منعه أو الشهادة عليه عند احلكم،
وأما املختلس فإنه ينتهز غفلة الناس ويأخذ أمواهلم ،و ميكن االحتزار منه باليقظة واالنتباه واحلذر ،وأما الغاصب
فهو أوىل بعدم القطع من املنتهب.
وأما قطع اليد يف ربع دينار وجعل ديتها مخسمائة دينار فلمصلحة األموال واألطراف ،فتقطع اليد يف ثالثة دراهم درءا للسرقات حمافظة
على األم وال وض مانا حلص ول األمن ،وإذا قطعت الي د ك انت ديته ا مخس مائة دين ار ،وه ذا مق دار كب ري ي درأ اإلنس ان عن قط ع ي د آخ ر،
فاحملافظة على األموال اقتضت القطع يف املقدار الصغري ،واحملافظة على األيدي اقتضت أن تكون الدية هذا املقدار ،وقد نقل ابن القيم يف هذا
املقام أبياتا اشتملت على السؤال ،وعقبها بذكر أبيات فيها الرد عليها قال :وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال ،وضمنه ببيتني ،فقال:
ونس تجري مبوالن ا من الع ار تن اقض م ا لن ا إال الس كوت ل ه *
فأجابه بعض الفقهاء بأهنا كانت مثينة فلما خانت هانت وضمنه الناظم قوله:
خيان ة املال ،ف أنظر حكم ة الب اري محاي ة ال دم أغاله ا ،وأرخص ها *
5ـ إن الشرع أوجب حد الفرية على من قذف غريه بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه.
ال رد :أن الق اذف غ ريه بالزن ا ال س بيل للن اس إىل العلم بكذب ه ،فجع ل ح د الفري ة تك ذيبا ل ه ،وتربئ ة لع رض
املقذوف ،وتعظيما لشأن هذه الفاحشة اليت جيلد من رمى هبا مسلما ،وأما رمى غريه بالكفر فإن شاهد حال
املسلم واطالع املسلمني عليها كاف يف تكذيبه ،وال يلحقه من العار بكذبه عليه يف ذلك ما يلحقه بكذبه عليه
يف الرمي بالفاحشة ،والسيما إن كان املقذوف امرأة ،فإن العار واملعرة اليت تلحقها بقذفه بني أهلها وتشعب
ظنون الناس وكوهنم بني مصدق ومكذب ال يلحق مثله من رمى بالكفر (.)1
6ـ أن الشرع اكتفى يف القتل بشاهدين دون الزنا والقتل أكرب من الزنا.
الرد :بأن اكتفاء الشرع بشاهدين يف القتل وطلبه أربعة يف الزنا ،فإن ذلك كله على سبيل االحتياط ،فإن
الش ارع احت اط للقص اص وال دماء ،واحت اط حلد الزن ا ،فل و مل يقبل يف القتل إال أربع ة لض اعت ال دماء وت واثب
الع ادون وجترءوا على القت ل ،وأم ا الزن ا فإن ه ب الغ يف س رته كم ا ق در اهلل س رته ،ف اجتمع على س رته ش رع اهلل
وقدره ،فلم يقبل فيه إال أربع يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها االحتمال (.)2
7ـ أن اهلل ح رم أخ ذ م ال الغ ري إال بطيب نفس من ه ،مث س لطه على أخ ذ عق اره وأرض ه بالش فعة ،مث ش رع
الشفعة فيما ميكن التخلص من ضرر الشركة فيه بالقسمة دون ما ال ميكن قسمته كاجلوهرة واحليوان.
الرد :إن هذا السؤال قد أورد على وجهني:
أحدهما :على أصل الشفعة وإن االستحقاق هبا خمالف لتحرمي أخذ مال الغري إال بطيب نفس منه.
والثاني :أنه خص بعض املبيع بالشفعة دون بعض ،مع قيام السبب املوجب للشفعة ،وهو ضرر الشركة.
الرد :أن أخذ مال الغري بدون إذنه حمرم ملا يف ذلك من الضرر الالحق به ،إذ يف ذلك نقص ماله دون مقابل
أما الشفعة فليس فيها أخذ ماله دون مقابل كما أهنا تدفع الضرر الذي يلحق الشفيع وحتقق غرض البائع من
الثمن ،وال فرق بني أن يكون من املشرتي أو من الشفيع.
وقال آخرون :ثبوت الشفعة فيما يقسم وما ال يقسم بناءا على أن الضرر املقصود دفعه هو الضرر احلاصل
بالشركة ،وهذا القدر فيما ال يقسم أوضح منه فيما يقسم ،واحتجوا على ذلك بأدلة كثرية ،منها ما رواه عبد
العزيز بن رفيع عن ابن مليكه عن ابن عباس قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :الشريك شفيع ،والشفعة يف
كل شيء) (.)3
(?)الجامع الصحيح ،سنن الترمذي جـ 3ص 645رقم ،1371سنن البيهقي الكبرى جـ 6ص 109رقم ،11378 3
قالوا :لو كانت األحاديث خمتصة بالعقار والعروض املتقسمة ،فإثبات الشفعة فيها تنبيه على ثبوت الشفعة
فيما ال يقبل القسمة (.)1
8ـ مجعت الشريعة بني املختلفات ،وذلك كاجلمع بني اخلطأ والعمد يف ضمان األموال.
الرد :أن اخلطأ والعمد وإن كانا خمتلفني إال أهنما احتدا يف العلة املقتضية يف احلكم ،وهذه العلة هي اإلتالف
فاحتدا يف عل ة الض مان ،وهي اإلتالف ،واختلف ا يف عل ة اإلمث ،وهي املعص ية املتص ف هبا املتعم د دون املخطئ،
كما بني أن التسوية بينهما تقتضيه مصلحة الناس واحملافظة على أمواهلم ،إذ لو مل يضمن املخطئ التسع األمر
أمام املدعني وقتلوا غريهم ،وادعوا اخلطأ ،ولذا وجب الدية على القاتل خطأ.
9ـ مجعت الشريعة بني اهلرة والفأرة يف الطهارة.
ال رد :أن املعرتض ني ظن وا أن الع داوة بني اهلرة والف أرة تقتض ي التف اوت بينهم ا يف احلكم ،ولكن احلكم
بالطه ارة مبين على عل ة حتققت يف ك ل منهم ا وهي الط واف ب البيوت واتص اهلا باألوعي ة واملالبس وغريه ا ،فل و
ج اءت الش ريعة بنجاس ة أح دمها ك ان يف ه ذا مش قة ،ق ال علي ه الس الم يف اهلرة( :إهنا ليس بنجس ،إهنا من
الطوافني عليكم والطوافات)(.)2
10ـ أن الشريعة مجعت بني امليتة وذبيحة غري الكتايب يف التحرمي ،وميتة الصيد وذبيحة احملرم له ،قالوا
فأي تفاوت يف ذلك؟
الرد :إن السبب يف حترمي امليتة ليس احتقان الدم ،كما أن ما ذحبه احملرم أو الكافر غري الكتايب ليس السبب يف
حترميه منظ ورا في ه إىل احتق ان الدم أو عدم ه ،وإمنا العل ة يف التح رمي للميتة اخلبث ،واهلل ق د حرم علينا اخلب ائث،
واحتق ان الدم يف امليتة س بب ظ اهر ،وحترمي ذبيح ة الك افر غري الكتايب ك ذلك أيض ا س ببه اخلبث ،فخبث نفس ه
أكسبت الذبيحة خبثا أوجب حترميها ،ومثل ذبيحة الكافر ذبيحة تارك التسمية عمدا ،ومن أهل بذبيحته لغري
اهلل ،فخبث هؤالء كان سببا يف التحرمي ،وليس من شرطه أن يظهر كاحتقان الدم ،وال ينكر أن يكون ذكر اسم
األوثان والكواكب واجلن على الذبيحة يسكبها خبثا ،وذكر اسم اهلل يكسبها طيبا ،وبسبب اإلخالل بذكر اسم
اهلل يالبس الش يطان الذبيح ة كم ا البس ذاحبه ا فكالهم مس تويف اخلبث ،والش يطان جيري يف جماري ال دم من
احليوان ،والدم مركبه ومحله ،وهو أخبث اخلبائث ،وبذكر اسم اهلل خيرج الشيطان مع الدم وتطيب الذبيح ة،
(?)مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ 5ص 296رقم ،22581صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان جـ 4ص 114رقم 2
وك ذا إذا ذك ر ع دوا اهلل على الذبيح ة من ش يطان أو وثن ف ذلك يكس بها خبث ا ،والذبيح ة جتري جمرى العب ادة،
كما قرن اهلل بينهما يف قولهَ " :فَص ِّل ِلَر ِّبَك واَحْنْر " (.)1
وإذا ك ان اخلبث موج ودا فيم ا مل ي ذكر اس م اهلل علي ه ،أو ذك ر علي ه اس م ع دوه من ال ذبائح ،وك ان ذل ك
فسقا ،فما ذحبه عدوه الكافر أبلغ يف اخلبث ،فيكون أوىل منه بالتحرمي ،فإن فعل الذابح وقصده وخبثه ال ينكر
أن يؤثر يف املذبوح.
قال ابن القيم :وهذه األمور إمنا يصدق هبا من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها وباشر قلبه بشاشة حكمها،
وما اشتملت عليه من املصاحل يف القلوب واألبدان ،وتلقاها صافية من مشكاة النبوة ،وأحكم العقد بينها وبني
األمساء والصفات اليت مل يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف.
وأما احملرم فإن ما حرم ما ذحبه من الصيد فلكونه منهيا عن قتل الصيد ولكون صيد الرب حمرما عليه بنص
القرآن الكرمي ،ففي حال ذحبه الصيد يكون مرتكبا للحرام خمالفا للنهي.
هذا وما ذكرناه من الشبه واإلجابات عليها إمنا كان ذلك على سبيل التمثيل ال على سبيل احلصر ،وإال فقد
ذك ر ابن القيم اثن تني ومخس ني ش بهة س ردها يف عق د واح د مث أج اب عليه ا بالتفص يل كال على ح ده مبا ينفي
الشك ويزيل الريب ،فمن أراد املزيد فلريجع إىل أعالم املوقعني (.)2
أدلة مثبتي القياس:
استدل اجلمهور على حجية القياس بأدلة نقلية وعقلية.
أم ا دليلهم على أن القي اس ج ائز ال واجب فه و :أن ه ال ي رتتب على اف رتاض التعب د ب ه حمال ،وك ل م ا ك ان
كذلك كان جائزا عقال ،فلو قال الشارع :ال يقضي القاضي وهو غضبان ،ألن الغضب يوجب اضطراب الرأي
والفهم ،فيجوز أن يقاس على الغضب ما كان يف معناه كاجلوع والعطش واإلعياء املفرط.
وأما أدلتهم التفصيلية على الوجوب الشرعي فتتلخص يف أربعة (.)3
1ـ الكتاب :قال تعاىلَ " :فاْعَتُرِبوا َيا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " (.)4
(?)راجع كشف األسرار للبخاري ،2/995التوضيح شرح التنقيح ،2/54أصول السرخسي 1/129وما بعدها، 3
اإلحكام لآلمدي 3/76وما بعدها ،فواتح الرحموت ،2/312مرآة األصول ،2/478شرح األسنوي ،18-3/12
أرشاد الفحول 176وما بعدها ،طلعة الشمس جـ 1ص 20وما بعدها ،محاضرات الزفراف 12وما بعدها.
(?)سورة الحشر اآلية.2 : 4
30
ووجه الداللة من اآلية أن اهلل سبحانه قص علينا يف سورة احلشر ما حل ببين النضري جزاء كفرهم وكيدهم
لرسول اهلل واملؤمنني ،كما يشري إليه أول اآلية " ُه َو اَلِذ ي َأْخ َرَج اَلِذ يَن َك َف ُر وا "...اآلية مث أعقب هذا بقوله" :
َفاْع َتُرِبوا " أي تأملوا فيما نزل هبؤالء من العقاب ،وسبب العقاب ،واحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم ،فتعاقبوا مبثل
عق وبتهم ،فم ا ج رى على املثي ل ،جيري على مثيل ه ،مما ي دل على أن املس ببات تابع ة ألس باهبا ،فحيثم ا وج دت
األسباب ترتب عليها مسبباهتا ،والقياس هبذا املعىن ،فهو ترتيب املسبب على سببه ،أينما وجد السبب.
وبعبارة أخرى ،هي أن اهلل سبحانه وتعاىل أمرنا باالعتبار ،ومعىن االعتبار هو العبور واجملاوزة واالنتقال من
الشيء إىل غريه ،والقياس أيضا جماوزة باحلكم من األصل إىل الفرع فيكون مأمورا به ،واملأمور به جيب العمل
ب ه ،ألن كال من االعتب ار والقي اس يش رتكان يف مع ىن العب ور (أي املرور واجملاوزة) ،فيق ال :ج زت على ك ذا أي
عربت عليه ،وعرب الرؤيا ،جاوزها إىل ما يالزمها.
وقد اعرتض على هذا االستدالل بأن املراد باالعتبار يف "فاعتربوا" االتعاظ ،وليس القياس ،ألن األول متبادر
إىل الفهم عند إطالق اللفظ ،وألنه مرتب على قوله سبحانهُ" :ه َو اَلِذ ي َأْخ َرَج اَلِذ يَن َك َف ُر وا ِم ْن َأْه ِل الِكَتاِب ِم ن
ِدَياِر ِه ْم َألَّو ِل اَحلْش ِر َم ا َظَننُتْم َأن ْخَيُر ُج وا وَظُّنوا َأَّنُه م َّم اِنَعُتُه ْم ُحُصوُنُه م ِّم َن الَّل ِه َفَأَتاُه ُم الَّل ُه ِم ْن َح ْيُث ْمَل ْحَيَتِس ُبوا
وَق َذ َف يِف ُقُل وِهِبُم ال ُّر ْع َب ْخُيِر ُبوَن ُبُي وَتُه م ِبَأْي ِديِه ْم وَأْي ِدي ا ْؤ ِمِنَني َف اْع َتُرِبوا َي ا ُأْو يِل اَألْبَص اِر " ( )1فليس املراد من
ُمل
قول ه "ف اعتربوا" القي اس الش رعي ،إذ أن ه ال يناس ب ص در اآلي ة ،ألن مع ىن اآلي ة يص بح حينئ ذ :خيرب ون بي وهتم
بأيديهم وأيدي املؤمنني ،فقيسوا مثال الذرة على الرب يف حترمي الزيادة الربوية ،ويف هذا غاية الركاكة فيصان كالم
الباري عنه.
قال ابن حزم يف كتابه" :إبطال القياس والرأي واالستحسان والتقليد والتعليل" ( )2فأما قوله تعاىل( :فاعتربوا)
فلم يفهم أحد قط أن معىن (اعتربوا) قيسوا ،واآلية جاءت بعقب قوله :خيربون بيوهتم فلو كان معناه( :قيسوا)
لكان أمرا لنا بأن خنرب بيوتنا كما أخربوا بيوهتم اخل ...وقال يف اإلحكام (" : )3وما علم أحد قط يف اللغة اليت
ن زل هبا الق رآن أن االعتب ار ه و القي اس ،وإمنا أمرن ا اهلل تع اىل أن نتفك ر يف عظيم قدرت ه يف خل ق الس ماوات
واألرض ،وما حل بالعصاة. "..
وأجيب عن ه ذا االع رتاض ب أن املراد من (اعت ربوا) ليس االتع اظ فق ط ،وإمنا مطل ق االعتب ار ال ذي يك ون
القياس الشرعي جزءا من جزئياته وفردا من أفراده ،وهذا املعىن يناسب صدر اآلية وال ركاكة فيه ،إذ يكون
(?).2/947 3
31
معىن اآلية خيربون بيوهتم بأيديهم وأيدي املؤمنني ،فقيسوا األمور بأشباهها يا أوىل األبصار ،فاملقصود من اآلية
إذا هو تقرير سنة عامة من سنن اهلل يف خلقه وهي أن كل ما جرى على النظري جيري على نظريه.
وأما ركاكة التعبري اليت الحظناها يف توجيه االعرتاض فمنشؤها اإلتيان بفرد من أفراد االعتبار ،وهو القياس
خبصوصه ،وهو ال يتأيت عند تقدير الكالم باملعىن األعم أو املطلق لالعتبار ،فإن من سئل عن مسألة فأجاب مبا ال
يتناوهلا فإن جوابه يكون باطال ،أما لو أجاب مبا يتناوهلا ويتناول غريها فإن جوابه يكون حسنا.
ويؤكد داللة هذه اآلية على حجية القياس آيات كثرية تقرن احلكم بعلته ،مما يثبت أن أحكام الشارع معللة
باملصاحل ،مرتبطة باألسباب ،مثل قوله سبحنه يف بيان حكمة القصاص " :وَلُك ْم يِف الِق َص اِص َحَياٌة " ( )1وقول ه يف
ِل ِح
احمليضُ " :قْل ُه َو َأًذى َفاْعَتِز ُلوا الِّنَس اَء يِف اَمل يِض " ،وقوله يف إباحة التيمم " َم ا ُيِر ي ُد الَّل ُه َيْجَع َل َعَلْيُك م ِّم ْن
()2
َح ٍج " ( )3وقوله يف حترمي اخلمر وامليسر" إَمَّنا ُيِر ي ُد الَّش ْيَطاُن َأن ُيوِق َع َبْيَنُك الَع َد اَو َة واْلَبْغَض ا يِف اَخلْم ِر واْلَم ْيِس ِر
َء ُم َر
()4 ِة ِن ِهَّل ِر ِذ
وَيُص ُك ْم َعن ْك ال وَع الَّص ال َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " . َّد
كل هذا وحنوه من تعليل النصوص واألحكام ،يدل على أن احلكم يوجد مع سببه ،وهو معىن القياس حيث
ال يوجد نص ،فيجب أن نقيس ،وإال كانت األوامر كلها تعبدية ،وهذا غري ثابت.
2ـ السAAنة :لق د ورد يف الس نة النبوي ة الش ريفة م ا ي دل على ثب وت العم ل بالقي اس ح ىت وص لت اآلث ار يف
األقيسة إىل التواتر املعنوي ،منها أن النيب صلى اهلل عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إىل اليمن قاضيني ،كل
واح د منهم ا يف ناحي ة ( ،)5فق ال هلم ا :مب تقض يان؟ فق اال :إذا مل جند احلكم يف الس نة ،نقيس األم ر ب األمر ،فم ا
كان أقرب إىل احلق عملنا به ،فقال عليه الصالة والسالم :أصبتما" ( ،)6وهذا حديث يدل على أن الرسول أقر
العمل بالقياس فيجب العمل به.
وكذا روى أن الرسول عليه الصالة والسالم قال ملعاذ" :ما تصنع إن عرض عليك قضاء؟ قال :أقضي مبا يف
كتاب اهلل ،قال :فإن مل جتد يف كتاب اهلل؟ قال فبسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :قال فإن مل يكن يف سنة
رسول اهلل؟ قال :أجتهد رأيي ال آلو ،فضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على صدر معاذ ،وقال احلمد هلل
(?)قال ابن سعد في طبقاته ،3/1403كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال :خالد 5
بن سعيد على صنعاء ،والمهاجر بن أبي أمية على كندة ،وزياد بن لبيد على حضر موت ،ومعاذ بن جبل على
الجند ،وأبي موسى األشعري على زيد وعدن الساحل.
(?)مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ 5/236رقم الحديث .22114 6
32
الذي وفق رسول رسول اهلل ملا يرضي رسول اهلل (")7فهذا يدل على إقرار الرسول العمل بالرأي ،والقياس من
الرأي.
وثبت أيضا أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ق اس يف كثري من األم ور ،منها" :أن رجال من خثعم جاء إىل
الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقال( :إن أيب أدركه اإلسالم ،وهو شيخ كبري ال يستطيع ركوب الراحلة ،واحلج
مكتوب عليه ،أفأحج عنه؟ قال :أنت أكرب ولده؟ قال :نعم ،قال :أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه،
أكان جيزي ذلك عنه؟ قال :نعم ،قال فأحجج عنه) ( )1ويف رواية قال فدين اهلل أحق بالقضاء ويف رواية أخرى
أن السائل امرأة من خثعم واجلواب واحد ،فالرسول قاس هنا دين اهلل على دين العباد يف وجوب القضاء.
وروى أن عمر قال( :صنعت اليوم يا رسول اهلل أمرا عظيما ،قبلت وأنا صائم ،فقال له رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم أرأيت فو متضمضت مباء وأنت صائم؟ فقال :ال بأس بذلك ،فقال رسول اهلل :ففيم ()2؟ أي يف أي
أمر هذا األسف ،فالرسول قاس القبلة اليت هي مقدمة الوقاع على املضمضة اليت هي مقدمة الشرب يف أن كال
منهما وسيلة إىل املقصود ،فال يفسدان الصوم.
وهذا يدل على أن املساواة بني الشيئني تصلح دليل إلثبات حكم األصل يف فرع ،وهناك حوادث كثرية يف
هذا املعىن أفاض اآلمدي يف ذكرها.
وقد اعرتض على قصة معاذ وأيب موسى بأن تصويت النيب عليه السالم كان قبل نزول آية" :الَيْو َم َأْك َم ْلُت
َلُك ْم ِديَنُك ْم وَأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ِنْع َم يِت " ( )3فيك ون القي اس حج ة يف ذل ك الزم ان لك ون النص وص غ ري وافي ة جبمي ع
(?)راجع الحديث في التلخيص الحبير ،4/182جامع األصول ،10/551سنن أبي داود ،2/272نصب الراية 7
،4/63جمع الفوائد ،1/685وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدرامي والبيهقي ،وهو
حديث مرسل إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم قال الدارقطني( :والمرسل أصح) ،وقال البخاري في تاريخه الكبير:
(مرسل إال أن عدم اتصال إسناده ال يمنع صحته ،ألنه مروي عن أصحاب معاذ ،وهم كلهم ثقاة) وقال الشوكاني
في إرشاد الفحول ،227وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض مجموعها للحجة ،كما أوضحنا ذلك في
مجموع مستقل.
(?)أخرجه الشيخان والنسائي عن ابن عباس ،وفيه روايات متعددة منها أن السائل رجل ،ومنها أن السائل امرأة، 1
قال الصنعاني( :ويجوز تعدد القضية) (جمع الفوائد ،1/506سبل السالم ،2/181نصب الراية 3/154وما
بعدها).
(?)أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمر رضي اهلل عنه ونصه في آخره" :قلت :ال بأس به ،قال :ففيم "سبل 2
األحكام ،أما بعد إكمال الدين والتنصيص على األحكام فال يكون القياس حجة ،لعدم احلاجة إليه ،ألن شرط
القياس فقدان النص.
واجلواب عنه :أن اآلية تدل على إكمال أصول الدين فقط ال فروعه ،ألن الواقع أن النصوص مل تتناول مجيع
فروع الشريعة لعدم تناهيها ،فتكون احلاجة ماسة إىل لقياس إلثبات أحكام تلك الفروع.
وأيضا فإن تصويب النيب ملعاذ وأيب موسى يشعر بأن القياس حجة مطلقا دون ختصيص بوقت دون وقت،
فادعاء التخصيص حتكم ،وال دليل عليه ،ألن األصل عدم التخصيص ،وأيضا فإن إكمال الدين يكون بواسطة،
وتلك الواسطة هي القياس.
واعرتض على حديث معاذ بأنه من املراسيل ،ألن الذين رووه عن معاذ جمهولون ،وقد أبرز هذا االعرتاض
ابن حزم يف كتاب ه( :األحك ام ،وإبط ال القي اس ،واالستحس ان) وأجيب عن ه ألن جهال ة ال رواة عن مع اذ ال مينع
صحة اآلخذ به لسببني:
أوال :أن هذا احلديث قد اشتهر وتلقته األمة بالقبول ،وما كان كذاك ال يقدح فيه كونه مرسال ،بل إن جهالة
الرواة عن معاذ وشهرهتم ال ختفى على أحد.
ثاني ا :أن ه ذا احلديث وإن ك ان مرس ال عن ش عبة ،واحلارث بن عم رو مرفوع ا إىل مع اذ ،فإن ه روى مس ندا من
طريق آخر بإسناد عرف كل أصحابه وكلهم ثقات ضابطون ( ،)1مث لو سلم إن هذا احلديث غري صحيح
فغريه مما تثبت به احلجة على املراد قد صح.
واعرتض على حديث اخلثعمي بأن احلكم الثابت مبوجبه ليس بطريق القياس ،وإمنا بالنص على قضاء الدين
يف قوله تعاىلِ " :م ْن َبْع ِد وِص َّيٍة ُيوِص ي َهِبا َأْو َدْيٍن " ( ،)2وأجيب عنه بأنه افرتاض بعيد ،فلو مل يكن إثبات احلكم
بطريق القياس على دين اآلدمي ،ملا كان التعرض لذكره مفيدا ،وإمنا يقتصر يف اجلواب على قوله( :نعم) أي حج
عن أبيك.
واعرتض على حديث عمر يف القبل ة بأن احلكم ثابت فيه من قبل الرسول املعص وم صاحب الرسالة الذي
يقول سبحانه عنه" :إن هو إال وحي يوحى" ( ،)3فليس احلكم ثابتا بالقياس.
(?)رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ،إال أن البخاري قال عنه :ال يصح أي مسندا ،مرسل ،وقال الترمذي: 1
ليس إسناده عندي بمتصل ،وانتصر بعضهم لصحته ،وقد سبق تخرجه.
(?)سورة النساء اآلية.11 : 2
وأجيب عن ه ب ان فع ل الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم حج ة يف حقن ا ،حنن مط البون بالتأس ي ب ه ،وال يتحق ق
التأسي إال بالقياس على فعله ،وهذا هو معىن القياس.
3ـ اإلمجاع :أن الصحابة قد تكرر منهم القول بالقياس ،والعمل به غري إنكار من أحد ،فكان فعلهم إمجاعا
منهم على أن القياس حجة جيب العمل به ،ومن أمثلته ما يأيت:
أن أبا بكر رضي اهلل عنه سئل عن الكالل ة ،فق ال( :أق ول فيها برأيي ،ف إن يكن صوابا فمن اهلل ،وإن يكن
خطأ فمين ومن الشيطان ،الكاللة :ما عدا الوالد والولد).
والرأي هو القياس :ألن الكاللة معناها احلاشية يف الطريق ،فجعل ما عدا الوالد والولد مثل هذه احلاشية،
وق اس الص حابة خالف ة أيب بك ر على تق دمي الرس ول ل ه يف إمام ة الص الة ،وبين وا أس اس القي اس بق وهلم" :رض يه
رسول اهلل لديننا أفال نرضاه لدنيانا؟".
وإن عمر رضي اهلل عنه كتب إىل أيب موسى األشعري حينما واله على البصرة ،يقول فيه :اعرف األشباه
والنظائر وقس األمور برأيك (.)1
وقال عثمان لعمر يف مسألة اجلد مع اإلخوة :إن اتبعت رأيك وهو حجب األخوة باجلد فسديد ،وإن تتبع
رأي من قبلك فنعم الرأي.
(?)أنكر ابن حزم في كتابه (المحلي )1/59وملخص إبطال القياس والرأي )6صحة هذه لرسالة ،فقال (لم يروها 1
إال عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه ،وهو ساقط بال خالف وأبوه أسقط منه ،أو من هو مثله في السقوط،
فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر منها قوله فيها( :والمسلمون عدول بعضهم على بعض إال
مجلودا في حسد ،أو ظنيا في والء أو نسب ،وهم ال يقولون بهذا ،يعني :جميع الحاضرين من أصحاب القياس من
المذاهب األربعة ال يعترفون بهذا الرأي من عمر ،فكيف يحتجون بكالمه في القياس وال يعملون بما بقى من
كالمه..الخ) ونحن نرى أن هذا الكتاب صحيح على عكس ما يدعيه ابن حزم والمستشرقون ،ألن كتب األدب
والفقه تضافرت على روايته ،حتى وإ ن كان في مسنده هذه بعض الطعون الحديثة ،فإن هناك روايات أخرى يقوي
بعضها بعضا ،السيما وقد صح بعضها ،فقد رواه الدراقطني ثم البيهقي سننهما عن أبي المليح الهذلي ،وروى
بعضه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ،وأخرجه الدراقطني من طريق
أحمد عن سعيد بن أبي بردة ،ورواه البيهقي في المعرفة عن أبي العوام المصري ،ونقله ابن الجوزي في سيرة
عمر بن الخطاب وأعتمده ابن القيم في أعالم الموقعين ،1/58وانظر (نصب الراية ألحاديث الهداية ،81-4/63
قال األستاذ أحمد شاكر معلقا على رواية الدراقطني من طريق أحمد بن حنبل( :وخير األسانيد فيما نرى إسناد
سفيان بن عيينه عن إدريس ،وهو إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن األزدي وهو ثقة ـ أن سعيد بن أبي بردة بن أبي
موسى األشعري أراه الكتاب ،وقرأه لديه ،وهذه وجادة جيدة في قوة اإلسناد الصحيح إن لم تكن أقوى منه ،فالقراءة
من الكتاب أوثق من التلقي عن طريق الحفظ).
35
وق ال علي ك رم اهلل وجه ه :أجتم ع رأيي ورأي عم ر يف أمه ات األوالد أن ال يبعن ،وق د رأيت اآلن ،وق ال
أيضا :ويعرف احلق باملقايسة عند ذوي األلباب.
وق اس ابن عب اس رض ي اهلل عنهم ا اجلد على ابن االبن يف حجب األخ وة ،وق ال :إال يتقي اهلل زي د بن ث ابت
جيعل ابن االبن أبنا ،وال جيعل أب األب أبا ،يعىن مع أهنما نظريان يف اإلدالء للميت بواسطة.
فهذه الوقائع وحنوها الصادرة عن أكابر الصحابة اليت ال ينكرها إال معاند مشعرة بأن القياس حجة والعمل
به واجب.
اعرتض على هذا الدليل بأنه متسك بإمجاع هو سكويت ،واإلمجاع السكويت حمل نزاع بني العلماء من حيث
االحتجاج به ،فال يصلح حجة عند املنكرين له.
جياب عنه بأن االختالف يف هذا اإلمجاع هو حيث ال يقوم داللة على أن الكسوت يعترب رضا ،وقد حتققت
الداللة هنا ،إذ تكرر العمل بالقياس يف أوقات خمتلفة ،ومع أشخاص خمتلفني ،ومىت تكرر العمل دل على انتقاء
االحتماالت على أن السكوت ليس إال الرضى.
واعرتض على هذا اإلمجاع بأنه غري ثابت أصال ،فقد أنكر الصحابة العمل بالقياس وذموا األخذ به ،كما
عرفنا يف أدلة نفاه القياس ،مثل ما نقل عن أيب بكر أنه قال( :أي مساء تظلين وأي أرض تقلين إذا قلت يف كتاب
اهلل برأيي) ونقل حنوه عن عمر وعلي وابن عباس وغريهم ،وقد أجيب عن هذا االعرتاض بأن الذين نقل عنهم
إنكار الرأي هم الذين نقل عنهم إنكار الرأي هم الذين نقل عنهم القول به ،فالبد ،فال من التوفيق بني النقلني،
فيحمل ما نقل عنهم من أدلة اجلمهور على القياس الصحيح ،وحيمل النقل املعارض على القياس الفاسد توفيقا
بني النقلني ومجعا بني الروايتني.
4ـ المعقول :وذلك من ثالثة أوجه:
أوال :أن أحكام الشارع معللة معقولة املعىن ،وهلا مقاصد فاهلل سبحانه مل يشرع حكما إال ملصلحة ،ومصاحل
العباد هي الغاية املقصود من تشريع األحكام.
فإذا غلب على ظن اجملتهد أن حكم األصل معلل وحتققت املقاصد والعلل يف غري موضع النص أي يف الفرع،
فإنه يثبت احلكم املقرر يف النص فيما ال نص فيه يف أغلب الظن عند اجملتهد ،والعمل بالظن أمر واجب ( ،)1ألن
من احلكم ة والعدال ة أن تتس اوى الوق ائع يف احلكم عن د تس اويها يف املع ىن ،حتقق ا للمص لحة ال يت هي مقص ود
الشارع من التشريع ،فليس من املعقول أن يقتصر حترمي الربا ـ ربا البيوع ـ على األصناف الستة ،وهي( :الذهب
والفضة والرب والشعري والتمر وامللح) منعا لالستغالل أو التالعب بأمثان األشياء وأقوات الناس ،العلة هي الطعم
أو االقتيات واالدخار أو النقدية أو املالية والكيل أو الوزن كما ذهب إىل كل ذلك فريق من الفقهاء ،فهذه العلة
متحققة يف الذرة واألرز والفول مثال ،فكان البد من حترمي الربا يف هذه األشياء ،كما أن النقدية واملالية تتحققان
يف األوراق النقدية كالذهب والفضة سواء بسواء.
ثانيا :أن الشافعي الذي يعترب أول من تكلم يف القياس ضابطا لقواعده مبينا أسسه ،قرر أن كل ما يكن من
أحداث ونوازل ،فلإلسالم فيه حكم ،ألن الشريعة عامة نعم األحداث مجيعا باحلكم عليها بكوهنا خريا أو شرا،
حمظ ورة أو مباح ة ،وحينئذ البد من أن يك ون الش ارع ق د نب ه إىل حكم احلادثة إم ا بنص أو بإش ارة ،أو بدالل ة
تدل على احلكم ،ومعرفة احلكم بطريق الداللة يكون باالجتهاد واالستنباط وإحلاق األشباه بأشباهها.
مث إن الش ريعة اإلس المية هي خامتة الش رائع وإن نص وص الق رآن والس نة حمدودة متناهي ة بانته اء ال وحي،
وح وادث الن اس وأقض يتهم غ ري حمدودة وال متناهي ة ،واملتن اهي ال حيي ط بغ ري املتن اهي إال إذا فهمت العل ل ال يت
ألجله ا ش رعت األحك ام املنصوص ة ،وطبقت على م ا مياثله ا ،فإن ه جيب الق ول بالقي اس وه ذا ه و معن اه ،ق ال
الشهرستاين( :وباجلملة نعلم قطعا ويقينا أن احلوادث والوقائع يف العبادات والتصرفات مما ال يقبل احلصر والعد،
ونعلم قطعا أيضا أنه مل يرد يف كل حادثة نص ،وال يتصور ذلك أيضا ،والنصوص إذا كانت متناهية ،وما ال
يتناهى ،علم قطعا أن االجتهاد والقياس واجب االعتبار حىت يكون بصدد كل حادثة اجتهاد (.)1
وهبذا الطريق تكون الشريعة اإلسالمية صاحلة للتطبيق يف كل زمان ومكان ،وافية حباجات الناس ومصاحلهم
إىل األبد ،فإنكار القياس يف الشريعة رمى هلا باجلمود وطعن عليها بعدم وفائها حباجات الناس ( ،)2وذلك يتناىف
مع جوهر الشرع وروحه العامة ،ويناقض املقصود من بعثة الرسل عليهم السالم.
ثالثAAا :إن الفط رة الس ليمة وبداه ة العق ول تقتض ي العم ل بالقي اس ،فمن من ع من فع ل ،ألن في ه أكال ألم وال
بالباطل ،أو ألن فيه ظلما لغريه واعتداء على حق اآلخرين ،فإنه يقيس على هذا الفعل كل أمر فيه عدوان أو
ظلم ،والناس يف كل زمن يعرفون أن ما جرى على أحد املثلني جيري على اآلخر حيث ال فرق بينهما ،فاحلكم
باإلعدام على شخص إلخالله بأمن الدولة مثال جيري على أي شخص آخر يرتكب مثل هذه اجلرمية.
واخلالص ة :إن س بب اخلالف يف حجي ة القي اس راج ع إىل مب دأ تعليل النص وص كم ا أوضحنا قريب ا يف هناي ة
الكالم على أدلة منكري القياس يف هذا البحث ،فاجلمهور الذين أثبتوا القياس قرروا أن األحكام معللة معقولة
املعىن ،والعلة باعثة على نقل احلكم من األصل إىل الفرع ،أو إثبات مثل حكم املنصوص عليه يف غري املنصوص
عليه ،ونفاه القياس من الظاهرية وغريهم قرروا أن النصوص غري معللة تعليال من شأنه تعدية احلكم إىل ما وراء
النص (.)3
الترجيح:
إن املرء إذا جترد من امليل ألحد املذهبني ونظر يف القرآن الكرمي ،وتتبع أعمال الرسول صلى اهلل عليه وسلم
والصحابة من بعده ،وجد أدلة كثرية على استعمال القياس ( )1مما يؤدي إىل ضرورة القول حبجيته فيما مل يرد
فيه نص أو إمجاع.
فمن اآليات القرآنية قوله تعاىل " :وَلَق ْد َج اَء آَل ِفْر َع ْو َن الُّن ُذ ُر * َك َّذ ُبوا ِبآَياِتَن ا ُك ِّلَه ا َفَأَخ ْذ َناُه ْم َأْخ َذ َعِز ي ٍز
ُّمْق َت ِدٍر * َأُك َّف اُر ُك ْم َخ ْيٌر ِّم ْن ُأْو الِئُك ْم َأْم َلُك م َبَر اَءٌة يِف الُّز ُب ِر " ( )2فه ذا إن ذار من اهلل س بحانه وتع اىل إىل كف ار
قريش بإنزال العذاب عليهم ،كما عذب آل فرعون ،لتماثلهم يف السبب وهو تكذيب الرسل ،ويف هذا تعدية
للحكم الذي كان لقوم فرعون إىل من جاء بعدهم.
ِلِد ِف ِه ِف ِت ِفِق
ومن قوله عز وجل" :وَعَد الَّلُه اُملَنا َني واْلُم َنا َق ا واْلُك َّفاَر َناَر َجَه َّنَم َخ ا يَن يَه ا َي َحْس ُبُه ْم وَلَعَنُه ُم الَّل ُه
وُهَلْم َعَذ اٌب ُّم ِق يٌم * َك اَّلِذ يَن ِم ن َقْبِلُك ْم َك اُنوا َأَش َّد ِم نُك ْم ُقَّوًة وَأْك َثَر َأْم َو اًال وَأْو الدًا َفاْس َتْم َتُعوا َخِبالِقِه ْم َفاْس َتْم َتْع ُتم
َخِبالِقُك ْم َك َم ا اْس َتْم َتَع اَل ِذ يَن ِم ن َقْبِلُك م َخِبالِقِه ْم وُخ ْض ُتْم َك اَّل ِذي َخ اُض وا ُأْو َلِئ َك َح ِبَطْت َأْع َم اُهُلْم يِف ال ُّد ْنَيا
واآلِخ َر ِة وُأْو َلِئ َك ُه ُم اَخلاِس ُر وَن " ( . )3فهذا وعد للمنافقني بنار جهنم ،كما وعد الذين من قبلهم ،لتماثلهم يف
الس بب ال داعي إىل دخ ول جهنم ،وه و األعم ال الس يئة ال يت ذكره ا احلق تع اىل بقول هَ " :فاْس َتْم َتُعوا َخِبالِقِه ْم "
اآلية ،ومعناه أنه قاس قوما على قوم يف احلكم ،لتماثلهم يف العلة الداعية إليه.
وأما أعمال الرسول عليه الصالة والسالم وصحابته من بعده فقد سبق بيان أمثلة منها ،فال داعي إلعادهتا.
القياس في القرآن الكريم
وأنواع ــه
لقد ورد استعمال القياس يف القرآن الكرمي واالحتجاج به تنبيها للعقول الغافلة بإقامة الربهان الساطع على
وحدانية اهلل وقدرته الباهرة ،وذلك يف مواقف كثرية ،ومل يقتصر وروده على نوع واحد من أنواعه ،فجاء فيه
(?) راجع الموافقات ،4/230كشف األسرار ،2/1013التوضيح ،2/64شرح العضد لمختصر المنتهي 3
.2/238
(?) أعالم الموقعين 1/130وما بعدها ،ومحاضرات الزفزاف 15وما بعدها. 1
قياس العلة ،وقياس الداللة ،كما ورد فيه قياس الشبه حمكيا عن املبطلني حمتجني به على دعواهم فيما يدعون،
وها حنن نورد كل من األنواع الثالثة مقرتنا باألمثلة:
1ـ قياس العلة:
قياس العلة :هو اجلمع بني األصل والفرع الشرتاكهما يف علة احلكم.
وقد ساق ابن القيم هلذا النوع أمثلة كثرية نذكر بعضها ،فمنها:
قوله تعاىل " :إَّن َم َثَل ِعيَس ى ِعنَد الَّلِه َك َم َثِل آَدَم َخ َلَق ُه ِم ن ُتَر اٍب َّمُث َقاَل َلُه ُك ن َفَيُك وُن (.)1
ف أخرب تع اىل أن عيس ى نظ ري آدم يف التك وين جبامع م ا يش رتكان في ه من املع ىن ال ذي تعل ق ب ه وج ود س ائر
املخلوقات ،وهو جميئها طوعا للمشيئة وتكوينه ،فكيف يستنكر وجود عيسى من غري أب من يقر بوجود آدم
من غري أب ،وال أم ؟ ووجود حواء من غري أم ،فآدم وعيسى نظريان جيمعهما املعىن الذي يصح تعليق اإلجياد
واخللق به (.)2
قوله تعاىلَ :قْد َخ َلْت ِم ن َقْبِلُك ْم ُس َنٌن َفِس ُريوا يِف اَألْر ِض َف انُظُر وا َك ْيَف َك اَن َعاِقَب ُة ا َك ِّذ ِبَني ( )3أي قد كان
ُمل
من قبلكم أمم أمث الكم ف انظروا إىل ع واقبهم الس يئة وأعلم وا أن س بب ذل ك م ا ك ان من تك ذيبهم بآي ات اهلل
ورسوله ،وهم األصل ،وأنت الفرع ،والعلة اجلامعة التكذيب واحلكم اهلالك (.)4
ِّك َّل يِف ٍن َّك ِم ِلِه
قول ه تع اىلَ " :أْمَل َيَر ْو ا َك ْم َأْه َلْك َن ا ن َقْب م ِّم ن َقْر َّم َّن اُه ْم اَألْر ِض َم ا ْمَل َمُن ن ُك ْم وَأْر َس ْلَنا الَّس َم اَء
َعَلْيِه م ِّم ْد َر ارًا وَجَعْلَنا اَألْنَه اَر ْجَتِر ي ِم ن ْحَتِتِه ْم َفَأْه َلْك َناُه م ِبُذ ُنوِهِبْم وَأنَش ْأَنا ِم ْن َبْع ِدِه ْم َقْر نًا آَخ ِر يَن " (.)5
فاألصل األمم السابقة ،والفرع املكذبون بالرسول والعلة والتكذيب ،واحلكم اإلهالك.
وهذا القياس هو أصل القياسني اللذين سنتحدث عنهما فيما بعد ،فهما راجعان إليه ،وقد أسلفنا يف هذا
البحث مذاهب الفقهاء واألصوليني يف االحتجاج به من بني مانع وجميز ومتوسع فيه وغري متوسع.
2ـ قياس الداللة:
قياس الداللة" :هو اجلمع بني األصل والفرع بدليل العلة وملزومها".
فاسد ،والتساوي يف قرابة األخوة ليس بعلة للتساوي يف السرقة لو كانت حقا ،وال دليل على التساوي فيها،
فيكون اجلمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها (.)1
ومن أمثلته أيضا ،قوله تعاىل إخبارا عن الكفار أهنم قالواَ " :م ا َنَر اَك إال َبَش رًا ِّم ْثَلَنا " (.)2
فاعتربوا صورة جمرد اآلدمية وشبه اجملانسة فيها ،واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهني حكم اآلخر،
فكما ال نكون حنن رسال فكذلك أنتم ،فإذا تساوينا يف هذا الشبه فأنتم مثلنا ال مزية لكم علينا ،قال :وهذا من
أبطل القياس ،فإن الواقع من التخصيص والتفضيل وجعل بعض هذا النوع شريفا وبعضه أدىن ،وبعضه مرؤوس ا
وبعضه رئيسا ،وبعضه ملكا وبعضه سوقه ،يبطل القياس (.)3
وبعد أن ساق األمثلة الكثرية على قياس الشبه قال :وهذا كله مدحض القياس الشبه اخلالي عن العلة املؤثرة
والوصف املقتضي للحكم ،واهلل أعلم (.)4
هذا وإذا كان املراد بالعلة مطلق املعرف فإن قياس الشبه يدخل يف قياس العلة ،فإن مطلق املعرف يتناول أي
معرف حىت لو كان وصفا شبيها أو طرديا عند من جيوزه.
وقد علل البدخشي تسمية هذا النوع بقياس الشبه فقال" :وإمنا مسي بذلك إما ألنه يشبه الطردي من حيث
أنه عدم مناسبته للحكم بالذات تقتضي ظن عدم العلية ،ومناسبته بالتبع ظن العلية فأشتبه األمر فيه (.)5
وأما اإلمام الفخر الرازي فقد ذكر للشبه تفسريين:
1ـ ما كان الوصف فيه غري مناسب بذاته لكنه مستلزم للمناسب بذاته.
2ـ ما كان الوصف فيه غري مناسب للحكم لذته لكنه عرف بالنص تأثري جنسه القريب يف اجلنس القريب
لذلك احلكم ،معلال تسمية ه ذا النوع بالش به بأنه من حيث ه و غري مناسب يظن أنه غري معترب يف حق ذلك
احلكم.
ومن حيث علم تأثري جنسه القريب يف اجلنس القريب لذلك احلكم ـ مع أن سائر األوصاف ليس كذلك ـ
يكون ظن إسناد احلكم إليه أقوى من ظن إسناده إىل غريه.
مث ذكر الفخر أن اإلمام الشافعي يسمى هذا النوع من األقيسة بغلبة األشباه ،وذلك أن يكون الفرع واقعا
بني أصلني ،فإذا كانت مشاهبته إلحدى الصورتني ـ أقوى من مشاهبته لألخرى ـ احلق ال حمالة ـ باألقوى.
وأخريا فقد ختم اإلمام الرازي ما نقله عن العلماء من خالف يف تسمية هذا النوع قياسا واألخذ به بكلمة
الفصل ،حيث يقول" :واحلق أنه مىت حصلت املشاهبة ـ فيما يظن أنه علة احلكم ،أو مستلزم ملا هو على له :صح
القياس ـ سواء كان ذلك يف الصورة أو يف األحكام (.)1
إن املتأم ل يف كالم ابن القيم عن قي اس الش به وم ا ذك ره اإلم ام ال رازي من أق وال للعلم اء واإلم ام الش افعي
باألخص يف بيان قياس الشبه جيد أن ما يعنيه ابن القيم خارج عن دائرة ذلك القياس الذي ذكره غريه أصال ،فما
حك اه الق رآن الكرمي عن الكفار من أقيس ه يف الص ورة واالسم مبناه ال وهم الباطل واملعتقد الفاسد الناشئ عن
اجلهل باملبدأ املعيد والعناد املتأصل يف قلوهبم.
وعليه فال جيوز تسميته بقياس الشبه حىت ال يظن باألئمة كاإلمام الشافعي وأكابر العلماء كالفخر الرازي
وأيب بكر الباقالين واآلسنوي وغريهم ممن اعتربوا قياس الشبه أهنم يقولون يف القياس يف الشرعيات مبا ال أصل له
وال تأثري ،فينبغي املصري يف تفسري األقيسه وتسميتها إىل ما يقرره كبار األصوليني والفقهاء وأئمة االجتهاد.
القياس طردي أو عكسي:
أن اجلامع بني األصل والفرع يف القياس تارة يكون إثبات أمر يشرتكان فيه ،وتارة يكون نفي أمر كذلك
يشرتكان فيه ،ومن هنا يتضح كون القياس طرديا أو عكسيا فقياس الطرد :هو الذي يقتضي إثبات احلكم يف
الفرع لثبوت علة األصل فيه ،وقياس العكس :هو القياس الذي يقتضي نفي احلكم عن الفرع لنفي علة احلكم
في ه ( ،)2ومسي األول بقي اس الط رد الط راد احلكم م ا تثبت في ه العل ة ،ومسي الث اين بقي اس العكس لتض منه نفي
احلكم لنفي علته وموجبه.
واألمثلة لقياس الطرد كثرية جدا ال تكاد حتصى.
أما قياس العكس فقد ساق ابن القيم له عدة أمثلة ،ولنقتصر منها على مثال من القرآن ومثال من السنة.
ِم ِر ٍء ِد َّل
أ ـ فمن القرآن قوله تعاىلَ" :ض َر َب ال ُه َم َثًال َعْبدًا ْمَّمُلوكًا ال َيْق ُر َعَلى َش ْي وَم ن َّر َز ْقَن اُه َّنا ْز ق ًا َح َس نًا َفُه َو
ُينِف ُق ِم ْنُه ِس رًا وَج ْه رًا َه ْل َيْس َتُو وَن اَحلْم ُد ِلَّل ِه َبْل َأْك َثُر ُه ْم ال َيْع َلُم وَن * وَض َر َب الَّل ُه َم َثًال َّر ُج َلِنْي َأَح ُد َمُها َأْبَك ُم ال
َيْق ِدُر َعَلى َش ْي ٍء وُه َو َك ٌّل َعَلى َم ْو الُه َأْيَنَم ا ُيَو ِّج ه ُّه ال َي ْأِت َخِبٍرْي َه ْل َيْس َتِو ي ُه َو وَم ن َي ْأُم ُر ِباْلَع ْد ِل وُه َو َعَلى
ِص َر اٍط ُّم ْس َتِق يٍم " (.)1
قال ابن القيم :هذان مثالن متضمنان قياس العكس ،فاملثل األول ما ضربه اهلل سبحانه لنفسه ولألوثان ،فاهلل
سبحانه هو املالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبده سرا وجهرا ،وليال وهنارا ،ميينه مألى ال يغيضها نفقه،
سحاء ( )2الليل والنهار ،واألوثان مملوكة عاجزة ال تقدر على شيء ،فكيف جيعلوهنا شركاء يل ويعبدوهنا من
دوين مع هذا التفاوت العظيم والفرق املبني (.)3
ب ـ ومن احلديث الشريف قوله عليه السالم "ويف بضع أحدكم صدقة" ( ،)4قالوا :يا رسول اهلل يأيت أحدنا
شهوته ويكون له فيه أجرا؟ قال :أرأيتم لو وضعها يف حرام أكان يكون عليه وزر؟ قالوا :نعم ،قال :فك ذلك إذا
وضعها يف احلالل يكون له أجر" قال :وهذا من قياس العكس اجللي البني ،وهو إثبات نقيض حكم األصل يف
الفرع لثبوت ضد علته فيه (.)5
شرط القياس:
عرفن ا أن للقي اس أركان ا أربع ة هي األص ل والف رع والعل ة وحكم األص ل وهي تقاب ل يف علم البي ان أرك ان
التشبيه األربعة :وهي املشبه به ،واملشبه ،ووجه الشبه الذي جيمع بينهم ا ،واحلكم يف املشبه الذي يعطي للمشبه،
كما أوضحنا سابقا عند كالمنا على األركان أن املشهور يف عبارات األصوليني والفقهاء أن األصل :هو احملل
الذي ورد فيه احلكم ،والفرع :هو الواقعة اليت يراد معرفة حكمها بالقياس على األصل ،والعل ة :هي األساس
الذي يقوم عليه القياس ،وحكم األصل :هو ما ورد به النص أو اإلمجاع ،وها حنن نذكر يف هذا املوضع أهم ما
يشرتط يف كل ركن:
أ ـ ما يشترط في الركن األول (األصل) :
إن األصل الذي يلحق به الفرع يف القياس إما منصوص عليه أو جممع عليه عند مجهور الفقهاء ،وقد ذكر
األصوليون شروطا لألصل ،هي يف الواقع شروط حلكم األصل ،وال يوجد يف احلقيقة شرط خاص باألصل إال
شرطا واحدا ،وهو إال يكون األصل فرعا ألصل آخر ،أي أن ال يكون ذلك األصل قد ثبت حكمه بالقياس،
ألنه إذا كانت علة األصلني واحدة ،كان ذكر األصل الثاين تطويال بال فائدة مثل قياس السفرجل على التفاح يف
(?)السح :الصب والسيالن من فوق :مختار الصحاح ص ،488ط بيروت ،دار الكتب العلمية . 2
(?)أخرجه مسلم زكاة ،52وأبو داود تطوع 12وأدب ،160وابن حنبل .168 ،176 ،5 4
حترمي ربا الفضل فيهما ،والعلة هنا كون كل منهما مطعوما ،مع أن التفاح مقيس على التمر مثال ،والعلة فيهما
الطعم ،والتمر هو الذي ورد النص على حترمي الربا فيه يف احلديث (الذهب بالذهب والرب بالرب والتمر ...اخل).
وإذا مل تكن العلة متحدة بني األصل واملنصوص عليه ،واألصل الثاين الذي اختذ أساسا ،فإن القياس يكون
فاسدا ،إذ مل يرد النص يف األصل الثاين ،وإمنا ورد فقط يف األصل األول ،وعندئذ فال تكون علة األصل الثاين
مقبولة كي تتخذ أساسا للقياس.
ب ـ ما يشترط في الركن الثاني (حكم األصل):
1ـ أن يكون ثابتا غري منسوخ ألنه لو مل يكن ثابتا بأن كان قد نسخ فقط القياس ركنني من أركانه األوىل،
األول احلكم الذي نسخ ،والثاين العلة اليت بين عليها ذلك احلكم ،وذلك ألن العلة واحلكم ال يفرتقان فبمجرد
زوال احلكم الذي ترتب على العلة يزول اعتبارها ،والشيء ال يبقى بعد زوال ركنه ،فالقياس ال يبقى معتربا فال
يصح.
2ـ أن يكون حكم األصل شرعيا عمليا فالقياس الفقهي لا يكون إال يف األحكام العملية ألن تلك األحكام
موض وع الفق ه ،فالقي اس ال جيوز في ه ،وكم ا ال يص ح القي اس يف االعتق ادات ال يص ح القي اس يف األمساء ألن ه ال
مناسبة بني شيء من األمساء وبني شيء من املسميات فال يصح التعليل فإذا وضع لفظ ملسمى خمصوص باعتبار
معىن يوجد يف غريه فإنه ال يصح إطالق هذا الفظ على ذلك الغري حقيقة ،فال يطلق اسم الزنا على اللواط بأن
يقال الزنا اسم جلماع يقصد به صب ماء حمرم يف حمل مشتهي حمرم ،واللواط مثله يف هذا املعىن فيطلق عليه اسم
الزنا وجيري عليه حكم الزنا فيدخل حتت قوله تعاىل" :الَّز اِنَيُة والَّز ايِن َفاْج ِلُد وا ُك َّل واِح ٍد ِّم ْنُه َم ا ِم اَئَة َج ْلَد ٍة" (.)1
وقال مجاعة من الفقهاء جبواز إثبات األسامى بالقياس الشرعي مث ترتيب األحكام عليها بأن يقال مسي اخلمر
مخرا ألهنا ختمر العقل فيسمى سائر األشربة املسكرة مخرا لتحقق ذلك املعىن فيه قياسا حىت يدخل يف قوله صلى
اهلل عي ه وس لم (ح رمت اخلم ر لعينه ا) ( )2فيح د الش ارب بش رب القلي ل والكث ري من تل ك األش ربة ح ىت ول و مل
يسكر منها القليل كاخلمر.
ويسمى السارق سارقا ألنه يأخذ املال خفيه ،وهذه العلة موجودة يف النباش ،فيثبت له اسم السارق قياسا
فيدخل حتت قوله تعاىل " :والَّس اِر ُق والَّس اِر َقُة َفاْقَطُعوا َأْيِدَيُه َم ا َجَز اًء َمِبا َك َس َبا َنَك اًال ِّم َن الَّلِه " (.)3
وعلى هذا فيثبت على الالئط ما يثبت على الزاين.
(?)شرح معاني اآلثار جـ ،4/221سنن البيهقي الكبرى جـ 10/213رقم الحديث .20736 2
أم ا ثب وت حكم األص ل بالس نة ف ذلك كم ا إذا قلن ا األرز كاحلنط ة يف حرم ة الرب ا فحرم ة الرب ا وهي حكم
األصل الذي ه و احلنطة ثابت بالس نة ق ال صلى اهلل عليه وسلم (احلنطة باحلنطة مثال مبثل كيال بكيل يدا بيد
والفضل ربا) (.)2
ف إن ك ان حكم األص ل ث ابت باإلمجاع ف الراجح أن ه يص ح القي اس علي ه ،ألن اإلمجاع دلي ل على األحك ام
الش رعية كالكتاب والس نة ،فيص ح أن يعدي احلكم الثابت به ،كما يص ح تعدي احلكم الثابت بواحد منهم ا،
وميكن إدراك العلة وإن مل ينص على سند اإلمجاع ،ألن هلا طرقا أخرى تستفاد منها كاملناسبة بني احلكم وأمر
من األمور املوجودة يف احملل ،وذلك بالبحث يف حمل احلكم على معىن يناسبه ويالءم الشريعة ،فإذا وجدنا معىن
من املعاين املناسبة جعلناه علة احلكم مثل ثبوت الوالية لألب يف التزويج بالنسبة البنته البكر الصغرية ،فإنه حكم
ثابت باإلمجاع ومل يذكر الدليل الشرعي هلذا اإلمجاع ،ومع هذا أمكن إدراك العلة ،وهي الصغر بطريق املناسبة
املوج ودة بني الص غر ووالي ة ال تزويج ،وبن اء على ه ذا يص ح أن يق ال ال ثيب الص غرية يزوجه ا أبوه ا كم ا ي زوج
البكر الصغرية جبامع الصغر يف كل ،أما إذا كان حكم األصل ثابتا بالقياس فال يصح تعديته إىل حمل آخر عند
غالب العلماء ،ألن العلة إن أحتدث يف القياسني ،كان القياس الثاين ضائعا ،مثال ذلك إذا قيس األرز على احلنطة
يف حرم ة الرب ا بعل ة الكي ل واجلنس مث أري د قي اس ال ذرة على األرز ،ك ان ذك ر األرز ض ائعا ول زم القي اس على
احلنطة لالحتاد يف العلة ،بني القياسني وإن اختلفت العلة يف القياسني مل يصح القياس النتفاء علة حكم األصل يف
الفرع فإذا قسنا األرز على احلنطة يف حرمة الربا بعلة الكيل مث قسنا التفاح على األرز يف حرمة الربا أيضا ،فإن
العلة يف التفاح الطعم عند الشافعي ،ويف األرز الكيل فلم توجد علة الفرع يف األصل املقيس عليه ويكون هذا
قياسا ألن ركن القياس العلة املشرتكة بني األصل والفرع قد زال ،والشيء ال يبقى بعد زوال ركنه.
4ـ أال يتغري حكم األصل يف الفرع فإذا قلنا ظهار الذمي كظهار املسلم كان هذا قياسا فاسدا ألن حكم
املقيس عليه ،وهو ظهار املسلم يتغري يف املقيس.
(?)الجامع الصحيح المختصر جـ ،2/750رقم الحديث ،2027والجامع الصحيح سنن الترمذي جـ 3/541رقم 2
.1240
45
وبيان ذلك أن حكم ظهار املسلم حرمة الوطء حرمة مؤقتة تنتهي بالكفارة قال تعاىل " :واَّلِذيَن ُيَظاِه ُر وَن
ِم ن ِّنَس اِئِه ْم َّمُث َيُعوُدوَن ِلَم ا َقاُلوا َفَتْح ِر يُر َر َقَبٍة ِّم ن َقْبِل َأن َيَتَم اَّس ا َذِلُك ْم ُتوَعُظوَن ِبِه والَّلُه َمِبا َتْع َم ُلوَن َخ ِبٌري " (.)1
فه ذا احلكم وه و حرم ة ال وطء املؤقت ال يوج د بعين ه يف الف رع ألن حرم ة ال وطء ال تنتهي إال بالكف ارة،
والكافر ليس أهال هلا لكوهنا عبادة ،فحرمة الوطء مؤبدة بالنسبة لظهار الكافر ،وبذلك يتضح أن حكم املقيس
عليه تغري يف املقيس ألن احلكم يف املقيس عليه احلرمة املؤقتة ويف املقيس احلرمة املؤبدة ،وإذا تغري احلكم ال جيوز
القياس ألنه ال يكون احلكم الثابت يف املقيس مثل احلكم الثابت يف املقيس عليه.
5ـ أال يكون دليل حكم املقيس عليه شامال حلكم املقيس ،فإذا قلنا األرز كالذرة جبامع الكيل يف كل فكما
حيرم التفاضل يف الذرة حبديث ال تبيعوا الدرهم بالدرمهني وال الصاع بالصاعني حيرم التفاضل يف األرز.
ف دليل حكم املقيس علي ه وه و احلديث الس ابق ميكن أن ين درج حتت ه حكم املقيس فتثبت حرم ة التفاض ل يف
األرز باحلديث ،فالقياس يف هذه احلالة فاسد ألنه تطويل بال فائدة.
6ـ أال يكون التعليل متضمنا إبطال شيء من ألفاظ النص فيفسد قياس سائر السباع على اخلمس املؤذيات
وهي احلدءة واحلي ة والعق رب والف أرة والكلب العق ور ،يف إباح ة القت ل يف احلل واحلرم ،ألن كال من املقيس
واملقيس علي ه ي ؤذي ،وذل ك ألن إباح ة القت ل يف املقيس علي ه ثبت حبديث (مخس من الفواس ق يقتلن يف احلل
واحلرم احلدءة واحلي ة والعق رب والف أرة والكلب العق ور)( )2فتعلي ل احلكم ال ذي ه و إباح ة القت ل ب األذى ي رتتب
عليه إبطال لفظ اخلمس يف احلديث ألن املقتول سيكون أكثر من مخس.
7ـ إال يكون حكم األصل معدوال به عن سنن القياس كبقاء الصوم مع األكل والشرب ناسيا ،فإن القياس
فساد الصوم :إذ الصوم هو اإلمساك عن شهوة البطن والفرج من طلوع الفجر إىل غروب الشمس ،والشيء ال
يبقى مع منافيه ،فالصوم ال يبقى مع األكل والشرب ،لكن ثبت بقاء الصوم بالنص الشرعي وهو قوله صلى اهلل
علي ه وس لم ملن أك ل أو ش رب ناس يا (أمت ص ومك فإمنا أطعم ك اهلل وس قاك) ( )3فال جيوز يف ه ذه احلال ة قي اس
املخطئ على الناسي ألن الناسي معدول به عن سنن القياس ،فهو جاء على خالف األصل وما جاء على خالف
األصل يقتصر على مورد النص فيه.
وك ذلك ال جيوز قي اس غ ري املض طر على املض طر يف إباح ة أك ل امليت ة إذا دعت احلاج ة إىل األك ل ،ألن غ ري
املضطر ليس فيه معناه فال يقاس عليه ـ كما أن إباحة أكل امليتة للمضطر جاءت على غري األصل وما جاء على
(?)الجامع الصحيح المختصر جـ 2/682رقم الحديث ،1831صحيح مسلم جـ 2/809رقم الحديث .1155 3
46
غري األصل يقتصر على مورد النص فيه فال يتعدى احلكم إىل الغري ،وكذلك ال جيوز القياس على شهادة خزمية
منفردا ،ألن قبول الشهادة مع االنفراد غري معقول املعىن فال ميكن التعدية واحلالة هذه.
وكذلك ال جيوز القياس على إعداد الركعات ومقادير احلدود والكفارات ألن كال منها غري معقول املعىن فال
متكن التعدية.
ج ـ ما يشترط في الفرع المقيس:
قد ذكر األصوليون للفرع شروطا وهي يف حقيقتها راجعة إما إىل حكم األصل وإما إىل العلة ،وعند البحث
والتمحيص ال جتد للف رع ش رطا مس تقبال خاص ا ب ه ،اللهم إال ش رطا واح دا ،وه و :خل و الف رع من النص أو
اإلمجاع عليه
وهو أال يكون يف الفرع وإمجاع يدل على حكم خمالف للقياس ،ألن القياس حينئذ يكون مصادما للنص أو
اإلمجاع ،والقي اس ال ذي يص ادم النص أو اإلمجاع يق ال ل ه :قي اس فاس د االعتب ار ،وه ذا يف احلقيق ة ه و الش رط
الوحيد يف الفرع ،واملثال املناسب له فيما هو مصادم للنص ،قال احلنفية :ال يصح اشرتاط اإلميان يف تعق الرقبة
ِخ
يف كفارة اليمني قياسا على كفارة القتل ،ألن اشرتاطه خيالف إطالق النص ،وهو قوله تعاىل :ال ُيَؤ ا ُذ ُك ُم الَّل ُه
ِل ِع ِط ِة ِك ِم ِك ِخ ِن ِب
الَّلْغِو يِف َأَمْيا ُك ْم وَل ن ُيَؤ ا ُذ ُك م َمِبا َعَّقدُمُّت اَألَمْياَن َفَك َّفاَر ُتُه إْطَعاُم َعَش َر َم َس ا َني ْن َأْو َس َم ا ُتْط ُم وَن َأْه يُك ْم
َأْو ِكْس َو ُتُه ْم َأْو ْحَتِر ي ُر َر َقَب ٍة" ( ،)1فلف ظ "رقب ة" هن ا مطل ق ،مل يش رتط فيه ا أن تك ون مؤمن ة ،خبالف النص يف
كفارة القتل ،وهو قوله تعاىل " :وَم ن َقَتَل ُم ْؤ ِم نًا َخ َطئًا َفَتْح ِر يُر َر َقَبٍة ُّم ْؤ ِم َنٍة " (.)2
فيكون قياس كفارة اليمني على كفارة القتل فاسدا ،ألنه يرتتب عليه تغيري حكم األصل ،وخمالفة مقتضي
النص املتعلق بكفارة اليمني.
ومثال القياس املصادم لإلمجاع على حكم الفرع :ما قاله العلماء من أنه ال يصح قياس جواز ترك الصالة يف
السفر على جواز ترك الصيام جبامع وجود السفر ،ويعترب هذا القياس باطال ،ألن العلماء أمجعوا على أن الصالة
ال حيل تركها من أجل السفر.
تل ك ش روط األص ل وحكم األص ل والف رع ،أم ا م ا يش رتط يف العل ة فس نورده يف أثن اء كالمن ا عليه ا ،ألهنا
تس توجب أن يف رد هلا مبحث خ اص هبا لكوهنا أهم أرك ان القي اس وملا فيه ا من تفاص يل من حيث مس الكها،
ومن حيث التباسها باحلكمة والسبب وغري ذلك مما تدعوا احلاجة إىل بيانه حياهلا.
العلة وشروطها ومسالكها:
ملا كان اجلامع بني األصل املقيس عليه ،والفرع املقيس ـ وهو الذي يسميه األصوليون على القياس ـ من أقوى
أركان القياس وأمهها ،أفردناه بالبحث استيفاء ملاهية العلة ،وشروطها ومسالكها ،فنقول:
العلــة:
تطلق العلة لغة على ما يتغري به حال الشيء حبصوله فيه ،فيقال للمرض علة ،ألن اجلسم يتغري حاله حبصوله
فيه ،ويقال اعتل فالن إذا تغري حالة من الصحة إىل السقم.
وعلى ه ذا ف إن العل ة على م ا س يأيت من تعريفه ا عن د األص وليني فهي م أخوذة من التغ ري ألن الف رع املقيس
حيدث فيه تغيري بإثبات حكم له ،أو هي م أخوذة من العلل بعد النهل ،وهو معاودة الشرب مرة بعد أخرى،
وذل ك ألن اجملته د يع اود النظ ر يف الف رع ليثبت ل ه حكم ا عن دما يتحق ق من وج ود العل ة ال يت ش رع من أجله ا
حكم األصل (.)1
والعلة يف اصطالح األصوليني هي ما بين احلكم عليه يف األصل املقيس عليه وشرع من أجله حتقيقا للمصلحة
أو هي الوصف املعرف للحكم ،والوصف هو املعىن القائم بالغري ،ومغىن كونه معرفا للحكم ،أي كونه عالمة
من غري تأثري فيه ،وال باعث عليه ،فاإلسكار مثال يف اخلمر علة لتحرميه أي هو عالمة على حرمة ما يسكر.
وق الت املعتزل ة( :العل ة هي املؤثر بذات ه يف احلكم) بن اء على قاع دهتم ال يت تق رر أن احلكم يتب ع املص لحة أو
املفسدة (.)2
والعلة تطلق عادة عند األصوليني على ثالثة أمور:
1ـ الوصف الظاهر املنضبط املناسب للحكم ،كالسفر بالنسبة إلباحة الفطر يف رمضان ،فإن السفر وصف
ظاهر وهو ال خيتلف باختالف األفراد واألحوال ،وهو مناسب للحكم ،وذلك الشتماله على املشقة اليت يناسبها
التخفيف ،وإباحة الفطر للمسافر ختفيفا عنه.
2ـ املع ىن ال ذي يناس ب تش ريع احلكم ،فاملش قة حتص ل للمس افر أثن اء س فره مع ىن يناس ب إباح ة الفط ر يف
رمضان ،وقصر الصالة ،فاملشقة علة ،واحتياج الناس إىل تبادل األمالك معىن يناسب شرعية البيع فها االحتياج
يطلق عليه عند األصوليني أنه علة ،وضياع املال الذي يرتتب على السرقة معىن يناسب حترمي السرقة ووجوب
قطع يد السارق فضياع املال يطلق عليه عند األصوليني أنه علة.
(?)انظر فيما تطلق عليه العلة لغة لسان العرب جـ 11ص ،387والنهاية في غريب الحديث البن األثير جـ 3ص 1
.291
(?)انظر في بيان تحديد العلة وتفسيرها في القياس الشرعي المحصول جـ ،184-2/179وطلعة الشمس جـ 2ص 2
.102
48
3ـ األثر الناجم عن تشريع احلكم فتحرمي القتل العدوان ووجوب القصاص من القاتل عمدا ،ينتج عنه حفظ
نفوس البشر فحفظ نفوس البشر يطلق عليه أنه علة عند األصوليني.
وقد غلبت تسمية األمر الثاين والثالث باحلكمة عند األصوليين كما غلب إطالق اسم العلة عندهم على األمر
األول ،فعند اإلطالق ينصرف إليه الشتهاره عرفا.
كما إن إطالق احلكمة عندهم ينصرف على األمر الثاين والثالث ومها املعىن املناسب للحكم واألثر الناتج
عن تشريع احلكم.
فمن خالل تعريف العلة ميكن فهم الشروط اليت جيب توفرها فيما يكون علة لثبوت حكم األصل واحلكم
على الفرع مبثل ما ثبت يف املقيس عليه وملزيد البيان نذكر تلك الشروط موضحة باألمثلة:
أ ـ شروط العلة:
1ـ الوص فية :إن أول ش رط من ش روط العل ة أن تك ون وص فا فال يص ح أن يك ون اس م اجلنس عل ة ،ألن
األحكام تبين على األوصاف ال على الذوات إذ األعيان ال تأثري هلديف بناء األحكام ،أما التعليل بالدم الذي هو
اسم جنس يف قوله صلى اهلل عليه وسلم للمستحاضة :صلي وإن قطر الدم على احلصري ،فإنه دم عرق انفجر)،
فهو تعليل بالدم املوصوف باالنفجار فاحلكم يتعلق باالنفجار وهو وصف ،فيكون تعليال بالوصف.
2ـ يشرتط يف الوصف اجلامع بني األصل والفرع استطاعة العقل إدراكه ألن مبين القياس على وجود علة
حلكم األص ل ،وإدراك العق ل هلذه العل ة ح ىت ميكن أن يع دي احلكم إىل احملل ال ذي يش رتك م ع األص ل يف ه ذه
العل ة ،فتحدي د ع دد الركع ات يف الص لوات اخلمس مثال ال ميكن للعق ل إدراك علت ه فال يك ون للقي اس جمال يف
هذه احلالة ،كتحديد األشواط السبعة لكل من الطواف والسعي.
فإن تسىن للعقل إدراك علة حكم األصل ثبت اجملال للقياس وأمكن تعدية حكم األصل إىل كل ما يشرتك فيه
يف العلة ،وثبت مثل حكمه فيه ،وذلك كحرمة اخلمر فإن علة هذه احلرمة وهي اإلسكار ميكن للعقل أن يهتدي
إليها فيعدي هذا احلكم وهو احلرمة إىل كل مسكر كالنبيذ مثال ،فإن كانت علة احلكم يدركها كل من يفهم
اللغة كعلة حرمة التأفيف بالنسبة للوالدين ،فهذه العلة وهي األذى اليت يدركها كل من يفهم األلفاظ ومعانيها
ال اعتب ار هلا يف جمال القي اس ،إذ ال اعتب ار إلا العل ة ال يت ت درك ب النص عليه ا يف الكت اب أو الس نة أو اإلمجاع أو
باالجتهاد والرأي.
3ـ أن يكون هذا الوصف ظاهرا ،فال جيوز التعليل باخلفي ،وهو الذي ال يدرك حباسة من احلواس الظاهرة
ألن العل ة معرف ة للحكم الش رعي ال ذي ه و خفي فال ب د وأن يك ون املع رف وص فا جلي ا ألن اخلفي ال يع رف
اخلفي.
49
فاإلسكار علة يف حترمي اخلمر ألنه وصف ظاهر يدرك باحلس فيصلح أن يكون علة ،والرتاضي بني املتعاقدين
يف البيع مثال ال يصلح أن يكون علة يف نقل امللكية ألنه وصف خفي ال يدرك باحلس ،والقدر مع احتاد اجلنس
يصلح أن يكون عل ة يف األم وال الربوية ألن العل ة وصف ظاهر يدرك باحلس ،وحص ول نطفة الزوج يف رحم
الزوجة ال يصلح أن يكون علة يف ثبوت النسب ألنه وصف خفي.
وذهب أك ثر األص وليني إىل أن اخلف اء يف العل ة ال يق دح فيه ا ألن العل ة تك ون خفي ة يف نفس ها ،لكن تك ون
جلي ة حبس ب أم ر خ ارج كرض ا املتعاق دين يف ال بيع إذ ه و أم خفي ال ميكن االطالع علي ه لكن ه جلي بالنس بة ملا
يدل عليه من اإلجياب والقبول ،فصلح أن يكون الرضا يف هذه احلالة علة مع كونه وصفا خفيا ألنه جلي باعتب ار
أمر خارجي.
4ـ أن يكون هذا الوصف منضبطا ـ أي يستوي بالنسبة له مجيع األفراد ـ وذلك كالسفر فإنه على يف قصر
الصالة ،والسفر وصف منضبط ألن له حقيقة معنية ال ختتلف باختالف األفراد واألحوال.
وإمنا كان االنضباط ال بد منه يف الوصف ،ألن مبين القياس على التساوي بني األصل والفرع يف علة احلكم،
فإن كانت العلة من األوصاف اليت ختتلف باختالف األفراد واألحوال مل يتأت التساوي الذي ينبين عليه القياس،
وعلى هذا ال يصلح أن تكون املشقة علة يف إباحة الفطر يف رمضان للمسافر ،ألن املشقة من األمور اليت ختتلف
باختالف األفراد واألحوال ،فاملشقة اليت حتصل لألغنياء املوسرين أثناء سفرهم غري املشقة اليت حتصل للفقراء
واملعوزين ،واملشقة اليت حتصل للشيوخ يف السفر غري املشقة اليت حتصل للشباب فيه.
واملشقة اليت حتصل من السفر يف اجلبال غري املشقة اليت حتصل من السفر يف الوديان ،واملشقة اليت حتصل من
السفر على اجلمال غري املشقة اليت حتصل من السفر يف البحر ،واملشقة اليت حتصل من السفر يف البحر غري املشقة
اليت حتصل من السفر يف القطار.
5ـ أن يكون هذا الوصف مناسبا للحكم كالقتل العمد بالنسبة إلجياب القصاص ،فإن القتل العمد
مناس ب إلجياب القص اص ،ألن يف بن اء القص اص علي ه حف ظ حي اة الن اس ،ق ال اهلل تع اىل " :وَلُك ْم يِف الِق َص اِص
َحَياٌة َيا ُأْو يِل اَألْلَباِب َلَعَّلُك ْم َتَّتُقوَن " (.)1
وكالسرقة بالنسبة لقطع يد السارق فإن السرقة وصف يناسب قطع اليد ألن يف بناء قطع اليد عليها حفظ
أموال الناس.
وبن اء على ذل ك فال يص ح التعلي ل باألوص اف ال يت ال مناس بة بينه ا وبني احلكم ،كتعلي ل القص اص يف القت ل
العمد لكون القاتل رجال أو امرأة ،وتعليل قطع اليد يف السرقة لكون السارق أمسر اللون ،ألنه ال مناسبة واحلالة
هذه بني العلة واملعلل.
6ـ الزميه الوصف:
أن يكون هذا الوصف الزما ألن العلة هي الباعثة على احلكم فال جيوز أن تكون وصفا عارضا ألن انفكاكه
يوجب انتفاء احلكم ،أما اجلمهور فيجيزون أن تكون العلة وصفا الزما لألصل املقيس عليه كالثمنية للذهب
والفضة فإهنا الزمة هلما ال تنفك عنهما حبال من األحوال ،وعلى ذلك فيمكن أن يقال جتب الزكاة يف الذهب
والفضة املصوغني كما جتب يف غري املصوغني جبامع الثمنية يف كل ،والثمنية وصف الزم ال يبطل بالصياغة فهي
وصف للمصوغ وغريه.
وكما جيوز أن تكون العلة وصفا الزما عند اجلمهور جيوز أن تكون وصفا عارضا عندهم أيضا كالكيل،
فإذا قلنا األرز كاحلنطة يف حرمة الربا جبامع الكيل يف كل ،كان هذا قياسا صحيحا ،والكيل الذي هو العلة
املش رتكة بني األص ل والف رع وص ف عارض ا غ ري الزم للمقيس علي ه ،ألن ه خيتل ف ب اختالف ع ادات الن اس
وباختالف األماكن واألزمان ،فقد تباع احلبوب يف بعض األزمان وبعض األماكن وزنا كما هو حاصل اآلن يف
أغلب البلدان.
7ـ أن تكون العلة متعدية ومعىن هذا أن تكون العلة اليت علل هبا األصل يف القياس ميكن حتققها يف غري ذلك
األصل ،ف إن ك انت قاص رة ال توجد إال يف احلكم ال ذي ورد ب ه النص فال تص لح واحلال ة ه ذه لتعليل هبا ،إذ ال
فائدة حينئذ ،ألن الفائدة من العلة حتقق القياس وال يتحقق هذا القياس إال حيث توجد علة األصل يف الفرع،
وال يكون ذلك إال حيث تكون العلة متعدية توجد يف غري حمل األصل .فالتعليل بالثمنية يف حترمي الربا يف الذهب
والفضة قاصر ،ألن الثمنية ال توجد إال يف الذهب والفضة.
وإمنا ال تصلح الثمنية علة للتحرمي ألن املقصود من العلة العلم بوجودها يف الفرع ليثبت حكم األصل له فإن
كانت حاصلة يف غري صورة األصل تعدي احلكم وإال فال يتعدى بل يقتصر احلكم على مورد النص وال فائدة
يف العل ة حينئ ذ ،ألن فائ دهتا منحص رة يف إثب ات احلكم هبا وه و منت ف ،لكن إذا تع ورف على جع ل ش يء مثن ا
كاألوراق النقدية اليت جعلت عملة قامت مقام الذهب والفضة فإن الثمنية حينئذ تكون وصفا هلا باعتبار العرف
فيثبت حترمي الربا فيها كما ثبت يف الذهب والفضة بالنص.
ومن ذل ك إباح ة الفط ر يف رمض ان للمس افر العل ة يف ه ذه اإلباح ة الس فر ،وه و عل ة قاص رة على األص ل ال
يتعدى إىل غريه ،فالسفر ال يوجد إال يف املسافر فال يصح واحلالة هذه أن يقاس على املسافر اخلباز الذي يقضي
سحابة هناره أمام وهج النار ،وذلك ألن علة األصل يف القياس وهي السفر غري موجود يف الفرع وهو اخلباز،
51
وال قياس إال حيث توجد علة األصل يف الفرع فالقياس يف هذه احلالة ممنوع ،ألن علة األصل فيه قاصرة ال ميكن
أن تتعدى حمله إىل حمل آخر.
وهذا الشرط مما اختلفت فيه وجهات نظر األصوليني فجمهور احلنفية وبعض الشافعية مينعون التعليل بالعلة
القاصرة ،ومجهور الشافعية وبعض احلنفية كمشايخ مسرقند ال مينعون التعليل بالعلة القاصرة.
واحلق كما قال الكمال بن اهلمام ال يوجد بني العلماء نزاع يف هذا الشرط ما دام املقصود علة القياس اليت
هي ركنه وأساسه ،ألن على القياس البد وأن تكن متعدية حىت يتحقق القياس.
قال الكمال بن اهلمام :وال شك أن اخلالف لفظي ألن التعليل هو القياس باصطالح احلنفية وهو أعلم من
القياس باصطالح الش افعية ،فالنايف جلواز التعليل بالعل ة القاصرة يريد به القياس وه ذا ال خيالف فيه أحد إذ ال
يتحقق القياس عند أحد بدون وجود العلة املتعدية.
واملثبت جلواز التعليل هبا يريد به ما مل يكن قياسا والظاهر أن هذا ال خيالف فيه أحد أيضا ،فلم يتوارد النفي
واإلثبات على حمل واحد ،فال خالف يف املعىن وألن الكالم يف علة القياس ال يف شروطه وأركانه اليت منها العلة،
وال شك أن النايف يف هذا السياق ال يريد علة إال علة القياس ،وال نزاع بني الفريقني يف هذا ،وإال فلهم كثري
مثل ه من إثب ات العل ة القاص رة يف احلج وغري احلج ،كم ا يف الرم ل يف األش واط الثالثة األوىل وك ان س ببه إظهار
اجلل د للمش رتكني حيث ق الوا أض نتهم محى ي ثرب مث بقى احلكم بع د زوال الس بب يف زمن الن يب ص لى اهلل علي ه
وسلم وبعده ،لكن رمبا مسي احلنفية التعليل بالقاصرة إبداء حكمة ،تعليال متييزا بني القاصرة واملتعدية.
8ـ أال تك ون العل ة مثبت ة حكم ا يف الف رع خيالف النص أو اإلمجاع ،ف إن ك انت ك ذلك فال ع ربة هبا وال
التفات إليها ،والقياس الذي أنبىن عليها يعترب قياسا فاسدا ،فإن قلنا أنكاح املرأة نفسها بغري إذن وليها كبيع
سلعتها بغري إذن وليها ،والعلة املشرتكة بني هذا األصل وذلك الفرع ملك التصرف فيه يف كل ،فاملرأة مالكة
لبعضها كما هي مالكة لسلعتها ،فكما يصح البيع منها يصح أن تزوج نفسها ،فهذا احلكم الذي أثبتته العلة
ونتج عن ه ذا القي اس وه و ص حة النك اح بغ ري ويل خيالف النص وه و ق ول عائش ة رض ي اهلل عنه ا (أميا ام رأة
()1
نكحت بغري إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل)
وإذا قلنا صالة املسافر كصيامه جبامع السفر الشاق يف كل ،فكما ال جيب الصوم ،جتب الصالة.
فهذا احلكم الذي أثبت هذه العلة مبقتضى ذلك القياس وهو عدم وجوب صالة املسافر عليه خيالف اإلمجاع
على وجوب أداء صالة املسافر عليه.
(?)سنن أبي داود جـ 2/229رقم ،2083سنن ابن ماجه جـ 1/605رقم .1880 1
52
9ـ يش رتط يف العل ة املس تنبطة أال ترجع على حكم أصل باإلبط ال ف إذا عل ل احلنفية مثال قول ه علي ه الص الة
والسالم (يف كل أربعني شاة شاة) بدفع حجة الفقراء فيمكن أن نقول بناء على ذلك قيمة الشاة كذات الشاة
جبامع دفع احلاجة يف كل ،فكما جازت الزكاة بذات الشاة جتوز الزكاة بقيمة الشاة ،وحينئذ يقتضي هذا التعليل
عدم وجوب الشاة وثبوت التخيري بينها وبني القيمة ،وال شك أن ذلك يرجع على حكم األصل باإلبطال ألن
الشاة بعد أن كانت متعينة خري املكلف بينها وبني قيمتها ،وإبطال حكم األصل إبطال لعلته ألن العلة فرع له.
فالتعلي ل هبذه العل ة ال يص لح ألن ه يع ود على نفس العل ة باإلبط ال ،ألن ه إذا بط ل حكم الش يء بطلت علت ه
ضرورة أن العلة واملعلل مقرتنان وإبطال أحد املقرتنني يبطل اآلخر.
10ـ أال يتأخر ثبوت العلة عن ثبوت حكم األصل ألن العلة لو تأخرت مل يكن احلكم مشروعا من أجلها،
وذلك كتعليل والية األب على الصغري الذي عرض له اجلنون ليتفرع عليه إثبات واليته على البالغ اجملنون ،قياس
عليه ،فإن والية األب على الصغري ثابتة قبل عروض اجلنون له ،وذلك بالصغر.
11ـ يشرتط يف العلة أال تقتضي إلغاء شرط موجود يف األصل فإذا قلنا حلي البالغة كحلي الصغرية جبامع
كون احللي مباحا يف كل ،فكما ال جتب الزكاة يف األصل ال جتب يف الفرع هلذه العلة اليت اقتضت إلغاء شرط
يف األصل وهو الصغر ،ألن احللي ال زكاة فيه إن كان لصغرية ،وبذلك جيب عدم صالحية هذه العلة القتضائها
إلغاء شرط األصل ،وعليه جيب القول بفساد القياس لفساد علته إذ ال بقاء للشيء بعد زوال ركنه ،والتمثيل هبذا
املثال يصلح على رأي من يقول ال زكاة على الصيب يف ماله لعدم تكليفه.
الفرق بين العلة والحكمة والسبب:
أ ـ الفرق بين العلة والحكمة:
العل ة هي الوص ف الظ اهر املنض بط ال ذي ب ين احلكم علي ه ورب ط ب ه وج ودا وع دما ،فيوج د احلكم بوج وده
وينعدم بعدمه.
فالسفر الذي اعتربه الشارع علة يف قصر الصالة الرباعية وصف ظاهر ال خيتلف باختالف األفراد واألحوال
ويلزم من وجوده وجود القصر يف الصالة ومن عدمه عدم القصر.
وبناء القصر على لسفر حيقق احلكمة من تشريع احلكم وهي التخفيف ودفع املشقة ،أما احلكمة فهي الباعث
على تش ريع احلكم والثم رة ال يت ت رتب علي ه ،فحكم ة حترمي القت ل العم د ـ وهي الب اعث على التح رمي ،والثم رة
املرتتبة عليه ـ حفظ النفوس ،قال تعاىل " :وَلُك ْم يِف الِق َص اِص َحَياٌة َيا ُأْو يِل اَألْلَباِب َلَعَّلُك ْم َتَّتُقوَن " (.)1
وحكمة استحقاق الشفعة بالشركة أو اجلوار ـ وهي الباعث على هذا االستحقاق والثمرة املرتبة عليه ـ دفع
الضرر الذي ينال الشريك أو اجلار.
واحلكمة يف حترمي اخلمر ـ وهي الباعث على هذا التحرمي والثمرة املرتبة عليه ـ دفع العداوة والبغضاء بني الناس
ِس ِذ
وجعلهم يقبلون على الطاعات وذكر اهلل ،قال تعاىلَ " :يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُنوا إَمَّنا اَخلْم ُر واَملْي ُر واَألنَص اُب واَألْز الُم
ِر ْج ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطاِن َف اْج َتِنُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن * إَمَّنا ُيِر ي ُد الَّش ْيَطاُن َأن ُيوِق َع َبْيَنُك الَع َد اَو َة واْلَبْغَض ا يِف
َء ُم ٌس
ِة ِه ِذ
اَخلْم ِر واْلَم ْي وَيُص ُك ْم َعن ْك ال وَع الَّص ال َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " .
()1
ِن َّل ِر َّد ِر ِس
واحلكم ة يف حترمي الس رقة ـ وهي الب اعث على ه ذا التح رمي املرتتب ة علي ه ـ حف ظ أم وال الن اس ف إن الن اس إذا
عرفوا أن السارق تقطع يده ورأوا تنفيذ أحكام الشرع يف الذين يسرقون ارتدعوا وخافوا وكفوا أنفسهم عن
السرقة ،وبذلك حيتفظون بأمواهلم.
قال تعاىل " :والَّس اِر ُق والَّس اِر َقُة َفاْقَطُعوا َأْيِدَيُه َم ا َجَز اًء َمِبا َك َس َبا َنَك اًال ِّم َن الَّلِه والَّلُه َعِز يٌز َح ِكيٌم " (.)2
واحلكمة يف وجوب الص وم ـ وهي الباعث على ه ذا الوجوب والثم رة املرتتبة عليه ـ إشعار الغىن مبا يالقيه
الفقري من أمل اجلوع ومرارته فإذا أحس بذلك عطف على الفقري وأعطاه ماله من حق يف ماله قال تعاىل " :ويِف
َأْم َو اِهِلْم َح ٌّق ِّللَّس اِئِل واْلَم ْح ُر وِم " (.)3
واحلكم ة يف إباح ة الفط ر يف رمض ان للمس افر ـ وهي الب اعث على احلكم والثم رة املرتتب ة علي ه ـ دف ع املش قة
واحلرج عن الناس والتخفيف عليهم قال تعاىلَ " :و َم ا َجَعَل َعَلْيُك ْم يِف الِّديِن ِم ْن َح َر ٍج " (.)4
وقال تعاىلُ " :يِر يُد الَّلُه ِبُك ُم الُيْسَر وال ُيِر يُد ِبُك ُم الُعْسَر " (.)5
وحمصل ذلك كله أن احلكمة :هي الباعث على تشريع احلكم ،والغاية املقصودة منه ،وهي املصلحة اليت قصد
الشارع بتشريع احلكم حتقيقها أو تكميلها ،أو املفسدة اليت قصد الشارع بتشريع احلكم درؤها أو التقليل منها.
أما العلة :فهي األمر الظاهر املنضبط املعرف للحكم الذي ينبين عليه احلكم وجودا وعدما.
ب ـ الفرق بين العلة والسبب:
أم ا الف رق بني العل ة والس بب :فه و أهنم ا عن د بعض األص وليني متباين ان ،فالس بب خيتص مبا ليس بين ه وبني
احلكم مناسبة ،وأما العلة :فهي الوصف املناسب لتشريع احلكم ،فالسفر على هذا الرأي علة جلواز الفطر ،وال
يسمى سببا له ،وزوال الشمس سبب لصالة الظهر وال يسمى علة هلا.
وأما عند مجهور األصوليني :فالسبب أعم يف مدلوله من العلة ،فكل على سبب ،وليس كل سبب علة ،فإذا
كانت املناسبة بني الوصف وربط احلكم به مما تدركه عقولنا ،فيسمى الوصف علة وسببا ،أما إذا كانت املناسبة
مما ال تدركه عقولنا فيسمى الوصف سببا فقط ،فمثال عقد البيع الدال على الرضا بنقل امللكية ،يقال به :علة
وسبب ،وزوال الشمس عن وسط السماء ،يقال له سبب وال يقال له علة.
ما الذي تبنى عليه األحكام ويصح التعليل به؟:
ق رر مجه ور األص وليني أن التعلي ل يك ون بالوص ف الظ اهر املنض بط ،س واء أك ان معق وال كالرض ا والس خط
الظاهرين ،أم حمسوسا كالقتل والسرقة ،أم عرفيا كاحلسن والقبح ،فمثل هذه العلة هي مناط احلكم عند الشارع
(.)5
أما احلكمة :فإنه قد يتبادر إىل الذهن أن احلكم مرتبط هبا ،ألهنا الباعث على تشريع احلكم ،ولكن وجد أن
احلكمة قد تكون أمرا خفيا ال تدرك حباسة ظاهرة ،أو أمرا غري منضبط خيتلف باختالف األحوال أو باختالف
الن اس فمثال :إباح ة ال بيوع ،حكمته ا دف ع احلرج عن الن اس بس د ح اجتهم ،واحلاج ة أم ر خفي ،فق د تك ون
املعاوضة بالبيع حلاجة أو لغري حاجة ،وإباحة الفطر يف رمضان ،حكمتها دفع املشقة واملشقة ختتلف باختالف
األحوال والناس ،فاحلكام واألغنياء مثال ال يناهلم من املشقة يف السفر ما ينال الرعية والفقراء ،واملشقة يف زمن
الصيف ختتلف عن املشقة يف زمن الشتاء ،والسفر على الطائرات غري الركوب على اجلمال.
ومشروعية قصر الصالة يف السفر ،حكمتها دفع املفسدة اليت هي املشقة ،غري أن هذه املشقة أمر اعتباري
خيتلف بالنسبة لألشخاص والظروف واألزمان واألماكن ،فال ميكن جعل املشقة مناطا للحكم وهو الرتخيص يف
قصر الصالة ،ولكن ملا كان السفر مظنة هذه املشقة ،وهو أمر ظاهر منضبط ،جعل السفر علة إلباحة القصر
كما هو علة إلباحة الفطر.
وحترمي اخلمر :حكمته دفع الضرر عن الناس ،غري أن الضرر أمر تقديري خيتلف باختالف األشخاص ،فجعل
اإلسكار الذي هو أمر ظاهر منضبط علة للتحرمي حبيث يقاس عليه كل مسكر.
(?)التلويح على التوضيح ،2/63التقرير والتحبير ،3/141مسلم الثبوت ،2/223الموافقات ،1/314 5
وتشريع القصاص من القاتل :حكمته احملافظة على حياة األفراد ،غري أن هذه احلكمة قد ال تتحقق أحيانا
فجعلت العلة القتل العمد العدوان ،باعتباره وسيلة لتحقق احلكمة السابقة.
ونظرا خلفاء حكمة التشريع أحيانا ،وعدم انضباطها أحيانا أخرى قرر مجهور األصوليني منع التعليل باحلكمة
مطلق ا ،سواء أكانت خفية أم ظ اهرة ،منض بطة أم غري منض بطة ،وحينئذ يلتمس للتعليل وصف ظاهر منض بط
بدور مع احلكمة أو يغلب وجودها عنده ،أي أن املطلوب هو أن يكون الوصف مظنة لتضمنه احلكمة ،وعندئذ
ينبين احلكم عليه ويرتبط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه ،وهذا هو معىن قول األصوليني :إن احلكم يدور مع علته
ال مع حكمته وجودا وعدما :أي أن احلكم يوجد حيث توجد علته ،ولو ختلفت حكمته ،وينتفي حيث تنتفي
علته ،ولو وجدت حكمته ،فالسفر يف رمضان مثال علة حتيز الفطر وقصر الصالة كما تبني ،حىت وإن انتفت
احلكم ة ،وهي املش قة ،ب أن ك ان الس فر مرحيا ال مش قة في ه ،أم ا غ ري املس افر أو املريض :فال جيوز ل ه الفط ر أو
القصر ،حىت وإن كان يف عمله مشقة كاخلباز والوقاد وحنومها ،النتفاء علة اجلواز ،وهي السفر أو املرض ،رغم
أن احلكم ة وهي املش قة موج ودة ،وب ه يظه ر أن احلكم الش رعي يرتب ط مبظن ة وج ود العل ة ،وليس باملئن ة أي أن ه
يكفي حصول الظن الغالب بتوفر العلة ،وال يشرتط تيقن وجودها ،فاملظنة أقيمت مقام املئنة.
وهناك من األصوليني من جييز التعليل باحلكمة ،وتكاد تنحصر مذاهب اجلميع يف ذلك يف ثالثة:
1ـ م ذهب مجه ور األص وليني فهم ي رون أن التعلي ل باحلكم ة غ ري ج ائز س واء ك انت العل ة ظ اهرة أم خفي ة
مضطربة أم غري مضطربة.
2ـ مذهب مجاعة من األصوليني وهو اختبار اإلمام الرازي والبيضاوي وابن احلاجب ومقتضاه جواز التعليل
باحلكمة مطلقا.
3ـ مذهب طائفة من األصوليني وهو اختيار اآلمدي فهو يرى أن التعليل باحلكمة جائز إن كانت احلكمة
ظاهرة منضبطة ،أما إن كانت خفية أو مضطربة فال جيوز التعليل هبا كاملشقة فإهنا خفية غري منضبطة ،بدليل أهنا
قد حتصل للحاضر وتنعدم يف حق املسافر ،ولكل رأي دليله ،ومع إجازة من أجاز التعليل باحلكمة جند كلمتهم
متفق ة على أن التعلي ل يف النص وص الش رعية مل يق ع باحلكم ة ب ل ب نيت األحك ام فيه ا على العل ل واألوص اف
الظاهرة املنضبطة.
هذا ما قرره األصوليون يف كتبهم نظريا (.)1
التعليل في النصوص بالحكمة:
(?)راجع اإلبهاج ،ونهاية السول شرحي المناهج ،3/91واإلحكام لآلمدي ،3/12المحصول جـ،397- 2/389 1
واملتتب ع لآلي ات القرآني ة واألح اديث النبوي ة جيد بن اء األحك ام على احلكم وتعليله ا هبا مستفيض ا واض حا
وضوح الشمس يف رابعة النهار ،األمر الذي يدحض ما اتفقت عليه كلمة أكثر األصوليني ،وهذه مناذج من ما
ورد فيه التعليل يف النصوص القرآنية والنبوية على السواء باحلكم ال باألوصاف.
ِن ِن ِس ِذ
1ـ قال تعاىلَ " :يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُنوا إَمَّنا اَخلْم ُر واَملْي ُر واَألنَص اُب واَألْز الُم ِر ْج ٌس ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطا َف اْج َت ُبوُه
َل َّلُك ْف ِل وَن * إَمَّنا ِر يُد الَّش َطاُن َأن وِق َنُك ال َد ا َة واْل ْغ ا يِف ا ِر واْل ِس ِر و َّد ُك ن ِذْك ِر الَّل ِه
َيُص ْم َع ُي َع َبْي ُم َع َو َب َض َء َخلْم َم ْي ْي ُي َع ْم ُت ُح
وَعِن الَّص الِة َفَه ْل َأنُتم ُّم نَتُه وَن " .
()1
أال ترى معي أن اهلل سبحانه وتعاىل قد علل حترمي اخلمر مبا يرتتب على شرهبا من مفاسد دينية ودنيوية من
وقوع العداوة والبغضاء بني الناس والصد عن ذكر اهلل وعن الصالة وإهنا رجس وإهنا من عمل الشيطان ،وهذا
هو التعليل باحلكمة ،ألن ما ذكر هو الباعث على التحرمي والتعليل به نص.
ِع ِئِه ِمِن ِل
2ـ قال تعاىلَ " :فَلَّم ا َقَض ى َز ْيٌد ِّم ْنَه ا وَطرًا َز َّو ْج َناَك َه ا َك ْي ال َيُك وَن َعَلى اُملْؤ َني َح َر ٌج يِف َأْز َو اِج َأْد َي ا ْم
إَذا َقَض ْو ا ِم ْنُه َّن وَطرًا " (.)2
فها حنن جند الشارع احلكيم يعلل أمر زواج النيب صلى اهلل عليه وسلم من زينب اليت كانت زوجا لزيد بن
حارثة ابن الرسول صلى اهلل عليه وسلم بالتبين بعد تطليقه إياها بدفع احلرج عن املؤمنني ،وذلك ما يفصح عنه
قوله تعاىلِ " :لَك ْي ال َيُك وَن َعَلى ا ْؤ ِمِنَني َح َر ٌج يِف َأْز َو اِج َأْد ِعَياِئِه ْم " (.)3
ُمل
فقد جرت عادهتم قبل هذا التشريع على حترمي أزواج أبنائهم الذين ليسوا من أصالهبم كأزواج الذين من
أصالهبم.
وال ش ك أن دف ع احلرج والض يق ه و الثم رة املرتتب ة على إباح ة ال زواج من زوج ة االبن املتب ين فه و تعلي ل
باحلكمة ،ألن احلكمة هي األثر املرتتب على احلكم.
وهذا هو بعينه ما فهمه الصحابة وطبقوه يف بنائهم األحكام على احلكم املرتتبة عليها ،فقد عللوا هني الرسول
صلى اهلل عليه وسلم عن قطع األيدي يف الغزو الوارد يف قوله" :ال تقطع األيدي يف الغزو" ( )4مبا يرتتب على
القطع من الضرر فرمبا سولت نفس املقطوعة يده أن يهرب إىل العدو وال شك أن ذلك تعليل باحلكمة ،وبناء
على ذلك جيوز أن يقال حد الزنا يف دار احلرب كقطع األيدي فيها جبامع ما يرتتب على كل من الضرر ،فكما
ال تقطع األيدي يف دار احلرب ال يقام حد الزنا يف دار احلرب.
(?)الجامع الصحيح سنن الترمذي جـ 4/53رقم الحديث ،1450المجتبي من السنن جـ 8/91رقم الحديث .4979 4
57
3ـ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (ال تنكح املرأة على عمتها وال على خالتها وال على ابنة أخيها وال
على ابنة أختها ،وإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (.)1
فقد علل النيب صلى اهلل عليه وسلم حترمي اجلمع بني ما ذكر من النساء بأن ذلك مؤد إىل قطيعة الرحم ،وال
شك أن تقطيع األرحام هو الباعث يف التحرمي يف احلديث فهو حكمة.
هذا ومما ينبغي التنبه إليه إن احلكم والبواعث اليت تبىن عليها األحكام وترتب عليها هي تلك احلكم املتمشية
م ع روح التش ريع ومساحة ه ذا ال دين ونص اعته ومقاص ده ومقتض ياته ،وليس م ا يظن ه الن اس ال ذين ال دراي ة هلم
مبقاصد التشريع وروحه انه مصاحل مما تولده األهواء ومتيل إليه ويتناسب مع األمزجة والرغبات أو جمرد العادات،
فكل صاحب هوى قد يدعي أن هناك مصلحة فيبين عليها احلكم حىت يتوصل إىل غرضه.
مسالك العلة:
ال يكفي إلجراء عملية القياس جمرد معرفة الوصف اجلامع بني األصل والفرع ،بل البد من دليل يدل على
اعتبار الوصف علة للحكم ،كي يثبت القياس ،ولذا فإن كثريا من األصوليني يضيفون إىل شروط العلة السالفة
الذكر شرطا هو أن يدل دليل على العلة.
واألدلة اليت تدل على اعتبار الوصف علة للحكم هي املعروفة مبسالك العلة ،ومعىن كوهنا مسالك هلا أي هي
طرق ملعرفتها ،ومعرفة ثبوت احلكم هبا ،ومسالك العلة نوعان حسب تنوع العلة ،ذلك أن العلة أما منصوص
على اعتباره ا م ؤثرة أو معرف ة للحكم ب القرآن أو الس نة أو اإلمجاع ،وإم ا أن تك ون ثابت ة باالس تنباط من خالل
تتبع موارد االستعمال وأساليب اقرتان األوصاف باألحكام ،وإليك بيان تلك املسالك على التوايل:
أ ـ مسالك العلة المنصوصة:
المسلك األول /النص :وهو نوعان:
1ـ النص القاطع :وهو أن يرد النص داال على التعليل صراحة دون احتمال لغريه ،أو هو داللة اللفظ الوارد
يف النص على العلية بالوضع بأن يكون اللفظ موضوعا يف اللغة إلفادة العلية.
واأللفاظ املوضوعة إلفادة العلية كثرية منها (كي ،ألجل ،إذا ،لعلة كذا ،لسبب كذا ،ملؤثر كذا ،ملوجب
كذا) وحنوها ،كما يتبني من األمثلة التالية:
(?)الجامع الصحيح المختصر جـ 5/1965رقم ،4819الجامع الصحيح سنن الترمذي جـ 3/425رقم الحديث 1
.1117
58
قال تعاىلَ " :م ا َأَف اَء الَّل ُه َعَلى َرُس وِلِه ِم ْن َأْه ِل الُق َر ى َفِلَّل ِه وِللَّر ُس وِل وِلِذي الُق ْر ىَب واْلَيَت اَم ى واْلَمَس اِكِني واْبِن
الَّس ِبيِل َك ْي ال َيُك وَن ُدوَلًة َبَنْي اَألْغ ِنَياِء ِم نُك ْم " (.)2
ف إن (كي) موض وعة للتعلي ل ،ومل تس تعمل يف غ ريه ،فلم حتتم ل غ ري التعلي ل ،فه ذه عل ة ص رحية قطيع ة
لتخص يص الفيء هبؤالء األوص اف دون غ ريهم يل رأي مجه ور العلم اء ،وهي أال يك ون مت داوال بني األغني اء
فقط ،وحيرم منه الفقراء.
وقال سبحانه ـ بعد أن قص نبأ ولدى أدم ـِ " :م ْن َأْج ِل َذِلَك َك َتْبَن ا َعَلى َبيِن إْس اِئي َأَّنُه َم ن َقَت َنْف س ًا ِبَغِرْي
َل َر َل
َنْف ٍس َأْو َفَس اٍد يِف اَألْر ِض َفَك َأَمَّنا َقَتَل الَّناَس ِمَج يع ًا " ( ،)2وقال عليه الصالة والسالم" :إمنا هنيتكم عن ادخار حلوم
األضاحي ألجل الدافة ،أال فادخرو) ( )3أي ألجل التوسعة على الطائفة اليت قدمت املدينة أيام التشريق ،والدافة:
هي القافلة السائرة من وفود األعراب القادمة من السفر على املدينة ،فهذه على صرحية قطيعة يف أن النهي عن
االدخار كان بسبب طارئ ،فلما زالت العلة زال احلكم ،وهو حترمي االدخار لألضحية املتطوع هبا ،ال املنذورة
فسبيلها الصدقة.
وقال عليه الصالة والسالم يف تعليل منع النظر إىل دار الغري من ثقوب الباب( :أمنا جعل االستئذان من أجل
البصر) ( ،)4فالرسول جعل وجوب االستئذان املقرر يف القرآن الكرمي معلال بالبصر ،أي أنه ال يصح أن يطلع
على أمور الناس ،إذ قد يكون يف النظر اطالع على ما يكره.
وكذلك (إذن) :يف قوله عليه السالم( :فال إذن) جوابا ملن سأله عن بيع الرطب بالتمر ( ،)5وقول النيب صلى
اهلل علي ه وس لم ل ه" :أينقص ال رطب إذا ج ف" ( )6؟ فق ال :نعم ،واملع ىن فال ت بيعوا ال رطب ب التمر ،ألن ال رطب
جيف باليابس ،ملا يف البيع من التفاضل بينهما ،وعدم العلم باملساواة بني املبيع والثمن ،فهو مظنة للربا.
تبني أن يف هذه األلفاظ تصرحيا بكون الوصف علة أو سببا للحكم.
(?)راجع الرسالة لإلمام الشافعي ،236شرح الجامع الصحيح من مسند اإلمام الربيع بن حبيب جـ 3/342برقم 3
.112
(?)رواه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم والترمذي عن سهل بن سعد ،وهو حديث صحيح (الجامع الصغير) . 4
(?)رواه أحمد وأصحاب السنن األربعة عن سعد بن أبي وقاص قال( :سمعت النبي صلى اهلل عليه وسلم يسأل عن 5
اشتراء التمر بالرطب ،فقال لمن حوله :أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا :نعم ،فنهى عن ذلك) والسؤال المذكور
ليس بسبب الجهل بالنقص ألنه كان عليه السالم عالما بأنه ينقص إذا يبس ،بل المراد تنبيه السامع بأن هذا الوصف
الذي وقع االستفهام عنه هو علة النهي (نيل األوطار 5/198وما بعدها) .
(?)منتقى ابن الجارود لعبد اهلل بن علي الجارود ص 165رقم الحديث .657 6
59
أي ليصريوا إىل املوت ،ونظرا ألهنا حتتما هذه املعاين احتماال ال مينع ظهورها للتعليل ،فهو احتمال مرجوح،
فإهنا اعتربت داللتها على التعليل من قبيل الظاهر احملتمل.
ومثال الباء :قوله تعاىلَ " :فِبَم ا َر َمْحٍة ِّم َن الَّلِه ِلنَت ُهَلْم " (.)4
وقوله سبحانهَ " :فِبُظْلٍم ِّم َن اَلِذ يَن َه اُدوا َح َّر ْم َنا َعَلْيِه ْم َطِّيَباٍت ُأِح َّلْت ُهَلْم وِبَص ِّد ِه ْم َعن َس ِبيِل الَّلِه َك ِثريًا " (.)5
ف إن الب اء يف ه ذه اآلي ات مفي دة للتعلي ل ،وهي ص رحية في ه ،ولكنه ا ق د تس تعمل يف اإللص اق ،مث ل :م ررت
بزيد ،أو االستعانة مثل :كتبت بالقلم ،وهلا جعلت من قبيل الظاهر الحتماهلا غري التعليل.
ومث ال أن :قول ه تع اىلَ " :م َّن اٍع ِّلْلَخ ِرْي ُمْع َت ٍد َأِثيٍم * ُعُتٍّل َبْع َد َذِل َك َز ِنيٍم * َأن َك اَن َذا َم اٍل وَبِنَني "( )6أي ألن
كان ذا مال وبنني.
ومثال إن :قوله عليه الصالة والسالم يف طهارة سؤر اهلرة( :إمنا من الطوافني عليكم والطوافات) ( )7وبعض
األصوليني يعترب هذا من قبيل اإلمياء اآليت قريبا.
وإمنا قلن ا إمنا النص هن ا على العلي ة ظ اهر وليس ص رحيا مقطوع ا ب ه ألن ه ذه األلف اظ وردت لغ ري التعلي ل
والسببية ،فالباء كما وردت للسببية والتعليل وردت أيضا للتعدية كقوله تعاىلَ " :ذَه َب الَّل ُه ِبُن وِر ِه ْم " ووردت
أيضا للتعويض كقوله تعاىلُ " :أوَلِئَك اَّلِذ يَن اْش َتَر ُو ا الَّضالَلَة ِباُهْلَد ى " ( )1وغري ذلك من املعاين.
وكما ورد الالم للتعليل مثل قوله تعاىلِ " :لَئال َيُك وَن ِللَّناِس َعَلى الَّلِه ُح َّج ٌة َبْع َد الُّر ُس ِل " (.)2
ورد أيضا لغري التعليل فجاء الالم للتعدية كما يف قوله تعاىل " :إن ُك نُتْم ِللُّر ْءَيا َتْع ُبُر وَن (.)3
وجاءت للملك وشبهه حنوِ :لَّلِه َم ا يِف الَّس َمَو اِت وَم ا يِف اَألْر ِض " (.)4
وكذلك (أن) ودت مقصودا هبا غري التعليل كقوله تعاىلَ " :أُتِر يُد وَن َأن َتْه ُد وا َمْن َأَض َّل الَّلُه " (.)5
إىل غري ذلك.
و (إن) املشددة كما يفهم منها التعليل يفهم منها جمرد التقوية والتأكيد بعيدا عن التعليل كما إذا وقعت يف
أول الكالم كقوله تعاىل " :إَّنا َأْع َطْيَناَك الَك ْو َثَر " (.)6
وقوله " :إَّن الَّلَه َج اِم ُع ا َناِفِق َني واْلَك اِفِر يَن يِف َجَه َّنَم ِمَج يعًا " (.)7
ُمل
ومثال التعليل هبا ورد يف قول الرسول صلى اهلل عليه وسل (ال جتمع املرأة مع عمتها وال مع خالتها) ويف
رواية (ال تنكح املرأة على ابنة أخيها أو أبنت أختها ،إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ( )8كما سبق بيانه.
المسلك الثاني /اإليمان:
وهو :الداللة بالنص على العلية بطريق اإلميان واإلشارة:
(?)مسند اإلمام أحمد بن حنبل جـ 5/269رقم الحديث ،22581صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان جـ4/114 7
رقم .1229
(?)سورة البقرة اآلية.16 : 1
وذلك حبيث يكون اللفظ غري موضوع للعلية أصال ،وضابطة أن يقرر احلكم بوصف على وجه لو مل يكن
علة له لكان الكالم معيبا عند العقالء ،ولذلك صور:
1ـ أن يذكر احلكم عقب وصف بالفاء فيدل على أن ذلك الوصف علة لذلك احلكم حنوُ " :ق ْل ُه َو َأًذى
َفاْعَتِز ُلوا الِّنَس اَء يِف ا ِح يِض " (.)1
َمل
و " والَّس اِر ُق والَّس اِر َقُة َفاْقَطُعوا َأْيِدَيُه َم ا " ويلحق هبذا ما رتبه الراوي بالفاء كقوله :سها النيب صلى اهلل
()2
عليه وسلم فسجد ،ورض اليهودي رأس جارية فأمر عليه الصالة والسالم أن يرض رأسه بني حجرين.
وبعض علماء األصول يقول :أن ما رتبه الراوي الفقيه بالفاء مقدم على ما رتبه هبا الراوي غري الفقيه.
2ـ ترتيب احلكم على الوصف بصيغة اجلزاء يدل على التعليل كقوله تعاىل " :ن ْأِت ِم نُك َّن ِبَف اِح َش ٍة ُّم ِّيَن ٍة
َب َم َي
ُيَض اَعْف َهَلا الَعَذ اُب ِض ْع َف ِنْي وَك اَن َذِلَك َعَلى الَّلِه َيِس ريًا " (.)3
3ـ أن يذكر للنيب صلى اهلل عليه وسلم أمر حادث فيجيب حبكم فيدل على أن ذلك األمر املذكور له صلى
اهلل عليه وسلم علة لذلك احلكم الذي أجاب به كقول األعرايب ،واقعت أهلي يف هنار رمضان ،فقال له صلى
اهلل عليه وسلم" :أعتق رقبة" ( )4فدل على أن الواقع هو علة العتق.
4ـ أن يذكر مع احلكم شيء لو مل يقدر التعليل به لكان لغوا غري مفيد ،وهو قسمان:
أ ـ أن يستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود مث يذكر احلكم عليه كقوله صلى اهلل عليه وسلم ملا سئل
عن بي ع ال رطب ب التمر ،أينقص ال رطب إذا يبس؟ ق الوا :نعم ،ق ال( :فال إذا) ( )5فل و مل يكن نقص ان ال رطب
باليبس علة للمنع لكان االستكشاف عنه لغوا.
ب ـ أن يع دل يف اجلواب إىل نظ ري حمل الس ؤال كم ا روي أن ه س ألته اخلثعمي ة عن احلج عن الوال دين ،فق ال
ص لى اهلل علي ه وس لم( :أرأيت ل و ك ان على أم ك دين فقض يته أك ان ينفعه ا؟ ق الت :نعم ،ق ال ف دين اهلل أح ق
بالقضاء) ( )6ففهم منه التعليل بكونه دينا.
(?) الجامع الصحيح المختصر لمحمد بن إسماعيل جـ 2/684رقم الحديث .1836 4
5ـ أن يذكر يف سياق الكالم شيء لو مل يعلل به صار الكالم غري منتظم كقوله تعاىلَ " :يا َأُّيَه ا اَل ِذ يَن آَم ُن وا
إَذا ُنوِدَي ِللَّص الِة ِم ن َيْو ِم اُجلُم َعِة َفاْسَعْو ا إىَل ِذْك ِر الَّلِه وَذُر وا الَبْيَع " (.)1
ِف ِع
6ـ ذك ر احلكم مقرونا بوص ف مناسب للتعليل ب ه كقول ه تع اىل " :إَّن اَألْبَر اَر َل ي َن يٍم ( )13وإَّن اْلُفَّج اَر
َلِف ي َج ِح يٍم " (.)2
أي لربهم وفجورهم.
وهذه الطرق الثالث إلثبات العلة أعين الداللة على العلية داللة قطعية ،والداللة عليها داللة ظاهرة ،والداللة
عليها بطريق اإلمياء واإلشارة ،كلها تندرج ضمن مسلك واحد وهو إثبات العلية بالنص ،وفهم التعليل يف هذا
املسلك إمنا هو ملقتضي أساليب اللغة (.)3
المسلك الثالث /اإلجماع:
واملراد به إمجاع العلماء على أن وصفا معينا يف حكم شرعي هو علة لذلك احلكم ،مثل أمجاع العلماء على
أن الص غر عل ة يف الوالي ة املالي ة على الص غري ،فقي اس عليه ا الوالي ة يف ال تزويج ،ومث ل إمجاعهم على أن العل ة يف
تق دمي األخ الش قيق على األخ ألب فق ط يف املرياث هي ام تزاج النس بني ،أي اق رتان نس ب األب واألم ،فقي اس
على املرياث تقدمي األخ الشقيق على األخ ألب يف والية التزويج (.)4
ولك ون النص أساس ا لإلمجاع واش رف من ه ،ف إن تق دمي إثب ات العل ة ب النص أوىل من تق دمي إثباهتا باإلمجاع
ألرجحيته من حيث عدم تطرق النسخ إليه.
ب ـ مسالك العلة /المستنبطة:
إن الستنباط عليه الوصف للحكم طرقا متنوعة متفاوتة يف القوة والتأثري واألمهية ،وها حنن نذكر أهم تلك
الطرق وأوضحها وأقواها تأثريا:
المسلك األول /السبر والتقسيم:
(?)المستصفي ،2/76اآلمدي ،3/38شرح العضد على مختصر المنتهي ،2/233شرح المحلي على جمع 3
ه و طري ق من ط رق إثب ات العل ة واعتباره ا ،ولكن ليس ب دليل نقلي من نص أو إمجاع ،وإمنا ذل ك
باالستخراج.
معنى السبر والتقسيم:
الس رب يف اللغ ة :ه و االختب ار والبحث ،ومن هن ا يق ال للمي ل ال ذي خيت رب ب ه اجلرح يف الطب :املس بار ،وأم ا
التقس يم فمعن اه التجزئ ة ،ومسي ه ذا املس لك من مس الك العل ة ب ذلك ،ألن املن اظر يقس م الص فات وخيت رب ك ل
واحدة منها ،هل هي صاحلة للعلية أو ال تصلح؟ فالسرب والتقسيم ،معناه مجع األوصاف اليت يظن كوهنا على يف
األصل ،واختبار كل واحد منها ،والرتديد بينها بأن يقول اجملتهد هل يصلح هذا للعلبة أو ال؟ مثل :أن يقال :علة
الربا يف الرب ،إما الطعم وإما الكيل ،وإما االقتيات.
ومعىن كل منهم يف اصطالح األصوليني :هو أن السرب معناه اختبار الوصاف اليت حيصرها اجملتهد وينظر هل
تصلح علة للحكم أو ال ،مث يلغي ما ال يراه صاحلا للعلية بدليل يدل على عدم الصالحية ،وأما التقسيم فمعناه:
أن حيض ر اجملته د األوص اف ال يت ق د تص لح ألن تك ون عل ة للحكم من بني األوص اف ال يت اش تمل عليه ا أص ل
القياس (.)1
وبه يتبني أن تعريف السرب معا هو :مجع األوصاف اليت يظن كوهنا علة يف األصل ،مث اختبارها بإبطال ماال
يصلح منها للعلية ،فيتعني الباقي للتعليل ( ،)2ومساه البيضاوي ( )3التقسيم احلاصر والتقسيم الذي ليس حباصر.
فاألول هو الذي يدور بني النفي واإلثبات ،كأن يقال :والية اإلجبار على النكاح على غري البالغة ( ،)4إما
أال تعلل أصال ،أو تعلل ،وعلى التقدير الثاين .إما أن تكون العلة هي البكارة أو الصغر أو غريمها ،ال جائز أن
تكون غري معللة أصال ،وال أن تكون معللة بغري البكارة والصغر ،ألن اإلمجاع قائم على أهنا معللة ،وأن العلة
منحصرة يف هذين الوصفني.
وال يصح عند الشافعية أن يكون الصغر هو العلة ،وإال لزم أن تكن الثيب الصغرية جمربة ،وأن الوالية ثابتة
عليها لوج ود الص غر فيه ا ،وه ذا من اف للح ديث وه و( :ال ثيب أحق بنفس ها من وليها والبك ر تس تأذن ،وإذهنا
(?) التقرير والتحبير ،3/195فواتح الرحموت ،2/221مسلم الثبوت ،2/254إرشاد الفحول ،187طلعة 1
الشمس جـ 2/135وما بعدها ،محاضرات الزفزاف 26من بحث القياس ،طلعة الشمس جـ 2/135وما بعدها.
(?) المستصفي ،2/77شرح المحلي على جمع الجوامع ،2/221شرح العضد على مختصر المنتهي ،2/236 2
(?)أما علة والية اإلجبار على مال الصغير فهي الصغر باالتفاق ،وعلى مال المجانين والمعتوهين هي :ضعف 4
اإلدراك والعقل.
64
ص متها) ( )1ولف ظ (ال ثيب) يف احلديث يتن اول الص غرية والكب رية ،فيتعني أن تك ون العل ة يف اإلجب ار هي البك ارة
( ،)2ال الصغر ،مث إن النكاح مما ال يتعلق به دفع حاجة الصغري ،فال يصلح الصغر علة لإلجبار.
أما التقسيم غري احلاصر أو املنتشر :فهو الذي ال يكون دائرا بني النفي واإلثبات ،مثاله :أن يقول الشافعية:
علة حرمة الربا يف الرب ،إما تكون الطعم أو القوت أو الكيل ،وكل من القوت والكيل ال يصح أن يكون علة
لعدم املناسبة أو النقض والتخلف يف بعض احلاالت ،فتعني أن تكون العلة الطعم ،فقياس على الرب :الذرة واألرز
اللذان مل يذكرا يف النص ،ألهنما مطعومان.
وأنت تالح ظ من تعري ف الس رب والتقس يم ومن ه ذه األمثل ة ،أن عملي ة التقس يم وهي حص ر األوص اف ال يت
ميكن أن تص لح للعلي ة مقدم ة عن د اجملته د على الس رب ،فالس رب جييء بعدئ ذ ،ألن ه كم ا ع رف ه و اختب ار ه ذه
األوصاف اليت حصرها اجملتهد لتعرف ما يكون منها صاحلا للعلية بعد قيام الدليل على عدم صالحية سواه ،هلذا
ق ال بعض األص وليني ( ،)3ومن األج در أن يس مى ه ذا الطري ق التقس يم والس رب ،لك ين أرى ذل ك ،ألن األهم
واألدق يف عملية إثبات العلة هو اختيار األوصاف بإلغاء ماال يصلح منها للتعليل ،فيقدم يف اللفظ اعتناء بشأنه،
مثال ه ،أن يق ول اجملته د (حترمي اخلم ر ب النص إم ا لكون ه من العنب ،أو كون ه س ائال ،أو كون ه مس كرا) ،لكن
الوصف األول قاصر ،والثاين طردي غري مناسب ،فبقى الثالث وهو اإلسكار ،فيحكم بأنه علة.
وعملي ة الس رب والتقس يم خيتل ف اجملته دون يف النتيج ة احلاص لة منه ا ،بس بب تف اوت عق وهلم يف إدراك أن
املناسب هذا الوصف أو ذاك ،فمثال احلنفية واملالكية خالفوا الشافعية يف املثال الربا السابق ،فقال احلنفية :العلة
يف حترمي األموال الربوية القدر (الكيل أو الوزن) مع احتاد اجلنس ،وقال املالكية :العلة هي األقتيات واالدخار مع
احتاد اجلنس ،وقال الشافعية :العلة هي الطعم مع احتاد اجلنس ،وقد عرف مسلك الشافعية يف إثبات هذه العلة.
أم ا مس لك احلنفي ة فيق ول اجملته د منهم :عل ة حترمي الرب ا يف الش عري مثال إم ا كون ه مما يض بط (ألن ه يض بط
بالكيل) ،وإما كونه طعاما ،وإما كونه مما يقتات به ويدخر ،لكن كونه طعاما ال يصلح علة ،ألن التحرمي ثابت
يف امللح بامللح وليس قوت ،فتعني أن تكون العلة كونه مقدار ،فيقاس على املنصوص عليه كل املقدرات بالكيل
أو الوزن ،ففي مبادلتها جبنسها حيرم ربا الفضل والنسيئة ،أما مسلك املالكية فقريب من مسلك الشافعية.
(?)رواه مسلم عن ابن عباس رضي اهلل عنهما (سبل السالم . )3/119 1
(?) بدليل أن النبي صلى اهلل عليه وسلم لما قسم النساء قسمين :ثيبا وبكرا ،وأثبت الحق ألحدهما وهي الثيب ،دل 2
على نفيه عن اآلخر وهي البكر ،فيكون وليها أحق منها بها.
(?) راجع محاضرات في أصول الفقه للزفزاف 26من بحث القياس ،وقال اآلسنوي في شرحه على المنهاج 3
للبيضاوي 3/85األولى أن يقدم التقسيم في الفظ ،فيقال :التقسيم والسبر ،لكونه متقدما في الخارج ،أي في الواقع.
65
والخالص AAة :أن اجملته د يبحث يف األوص اف املوج ودة يف أص ل القي اس ،ويس تبعد م ا ال يص لح منه ا عل ة،
ويستبقي ما يصلح على حسب رجحان ظنه ،مراعيا حتقق شروط العلة السابق ذكرها.
طرق حذف الوصف غير الصالح للعلية في هذا المسلك:
ومن اجلدير بالذكر بيان طرق حذف بعض األوصاف اليت ال تصلح للعلية ( ،)1وهي:
أوال /اإللغاء:
وه و أن يبني اجملتهد أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به احلكم يف صورة بدون الوصف احملذوف ،وه ذا
الطريق يس مى باإللغ اء ،وحينئذ ال يك ون للمح ذوف تأثري يف احلكم ،مثال ه :اعتبار احلنفية الص غر سببا لثب وت
والية التزويج بدليل األمر باستئذان البكر البالغة ،وبدليل ثبوت الوالية على املال بالصغر ،فمحل هذا احلكم هو
الصورة اليت ثبت فيها احلكم بالوصف الذي أبقاه اجملتهد (وهو الصغر) دون الذي حذف كالبكارة وغريها ،مما
يدل على أنه حصل بالظن أن ال مدخل للوصف احملذوف يف العلية ،وأن الوصف املستبقي هو على ثبوت احلكم
يف والية التزويج.
ثانيا /الطردية:
وهي أن يكون الوصف الذي حيذفه اجملتهد أمرا طرديا يعين ملغي مل يعتربه الشارع ،وهو نوعان:
أ ـ إما مطلق ا ،أي ملغي عنده رأسا يف األحكام كلها ،وه و أن يكون من جنس ما ألفنا من الش ارع عدم
االلتفات إليه يف إثبات األحكام ،مثل الطول والقصر ،والسواد والبياض وحنوه ،فإن الشارع قد ألغى اعتبار هذه
األوص اف يف أحكام ه مث ل اإلرث والقص اص والكف ارة وحنوه ا ،فال تص لح مث ل ه ذه األوص اف أص ال لتعلي ل
احلكم هبا.
ب ـ أو يف احلكم املبح وث عن ه :مبع ىن أن م ا حذف ه من جنس م ا ألفن ا من الش ارع إلغ اءه يف جنس احلكم
املعلل ،وإن كان قد اعتربه ،مثاله :وصف الذكورة واألنوثة ،فإن الشارع اعتربه يف الشهادات والقضاء ووالية
التزويج واإلرث ،ولكنه ألغاه بالنسبة ألحكام العتق ،ألنه سوى بني الذكر واألنثى يف أحكام العتق ،لقوله تعاىل:
(فتحرير رقبة) وهذا يشمل الذكر واألنثى ،وبناء عليه يكون قوله عليه السالم( :من أعتق شركا من عبد قوم
عليه نصيب شريكه) ( ،)2شامال العبد واألمة يف حكم سراية العتق دون قصره على الذكر فقط.
(?) فواتح الرحموت 2/299وما بعدها ،شرح العضد على مختصر المنتهي 2/237وما بعدها ،والمدخل إلى 1
العبد ،قوم عليه قيمة عدل ،فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ،وإ ال فقد عتق منه ما عتق) سبل السالم
66
ثالثا /أال يظهر ـ في ذهن الناظر ـ للوصف الذي يراد حذفه مناسبة للحكم:
أو م ا ي وهم املناس بة ،أي أال يق وم دلي ل على أن الش ارع أعت رب ه ذا الوص ف بن وع من أن واع االعتب ارات،
ويكفي ملن يريد إثبات عدم مناسبة الوصف حلكم أن يقول حبثت فلم أجد له مناسبة للحكم ،وال يلزمه إقامة
الدليل على عدم ظهور املناسبة ،ألن الفرض أن الباحث جمتهد عدل أهل للنظر والبحث ،فالظاهر صدقة ،وأن
الوصف غري مناسب ،ويلزم منه حذفه ،إذ ال طريق إىل معرفة عدم املناسبة إال إخبار هذا اجملتهد ،ويالحظ أن
الفرق بني الطردية وعدم ظهور املناسبة ،أن الطردية يثبت فيها إلغاء الوصف شرعا ،وأما عدم ظهور املناسبة
فهي جمرد نتيجة تقوم يف نظر الباحث ،ولذا يكفيه أن يقول :حبثت فلم أحد.
المسلك الثاني /المناسبة:
املسلك الثاين من مسالك العلة املستنبطة مسلك املناسبة ،وتسمى اإلخالة ( ،)1واملصلحة واالستدالل ،ورعاية
املقاصد ،وختريج املناط (.)2
املناسبة يف اللغة :املالئمة ،يقال :الثوب األبيض مناسب للصيف أي مالئم له.
فمناسبة الوصف للحكم يف اللغة :مالءمته له.
املناسبة يف االصطالح :واملناسبة يف اصطالح األصوليني هي :أن يكون بني الوصف واحلكم مالئمة ،حبيث
يرتتب على تشريع احلكم عنده حتقيق مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة للناس أو دفع مفسدة عنهم (،)3
مثل :اإلسكار فإنه وصف مالئم لتحرمي اخلمر ،وال يالئمه كون اخلمر سائال أو بلون كذا ،أو بطعم كذا ،وإمنا
اإلسكار هو الوصف املناسب للتحرمي دون غريه.
وقد عرف ابن احلاجب املناسب الذي يصلح أن يكون علة للحكم بقوله( :هو وصف ظاهر منضبط حيصل
عقال من ترتيب احلكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من جلب منفعة أو دفع مضرة) (.)4
فالوصف :هو المعنى القائم بالغير.
.4/139
(?) ألن الحكم بمناسبة الوصف يخال ،أي يظن أن الوصف علة. 1
(?) ألنه إبداء مناط الحكم ،وحاصلة تعيين العلة في األصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من األصل 2
ذاته ال بنص وال بغيره (راجع شرح العضد على مختصر المنتهي )2/239
(?) المستصفي ،2/77التقرير والتحبير ،3/189مسلم الثبوت ،2/256روضة الناظر ،2/268شرح المحلي 3
على جمع الجوامع ،2/223مرآة األصول ،2/318المدخل إلى مذهب أحمد ،154مفتاح الوصول ،106شرح
اآلسنوي ،3/62إرشاد الفحول ،188طلعة الشمس جـ.2/138
(?) مختصر المنتهي مع شرح العضد ،2/239وانظر أيضا األحكام لآلمدي ،3/46غاية الوصول .132 4
67
والظاهر :هو الواضح الذي ال خفاء فيه ،وهو قيد إلخراج الوصف اخلفي كالرضا يف البيع ،فال يعترب مناسبا،
وإمنا املناسب :هو اإلجياب والقبول الشتماهلا على الرضا.
واملنض بط :ه و ال ذي ال خيتل ف اختالف ا كب ريا ب اختالف األش خاص واألزم ان واألمكن ة ،وه و قي د إلخ راج
الوص ف املض طرب كاملش قة ،فال تعت رب وص فا مناس با لقص ر الص الة يف الس فر الختالفه ا ب اختالف األش خاص
واألحوال ،فقد يعد األمر مشقة عند بعض الناس ،وال يعد كذلك عند البعض اآلخر ،فالشخص الرياضي أو
الشاب ال تناله مشقة يف السفر مثلما يتعرض له غري الرياضي أو كبري السن ،وقد يكون الشيء شاقا يف زمن
دون زمن ،فاملش قة يف زمن الص يف أش د منه ا يف زمن الش تاء ،وق د تك ون املش قة حاص لة يف مك ان دون آخ ر،
فالس فر يف الس هول والودي ان أق ل مش قة من ه يف اجلب ال ،هلذا كل ه ن اط الش ارع قص ر الص الة وإباح ة القط ر يف
رمضان بالسفر النضباطه ،ومل ينط الرخصة فيهما باملشقة.
وقوله( :حيصل عقال) قيد إلخراج الوصف الطردي وهو الوصف املقارن للحكم الذي ال مناسبة بينه وبني
احلكم ،ف إن العق ل ال يقض ي بوج ود مص لحة أو دف ع مفس دة يف ش رع احلكم عن ده ،ألن ه مل يؤل ف من الش ارع
االلتفات إليه يف بعض األحكام ،كالتعليل يف مسألة من املسائل بالطول والقصر والسواد والبياض وحنوها.
وقوله( :من ترتيب احلكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا) قيد إلخراج وصف الشبه ،وهو الوصف الذي
مل تظهر مناسبته بعد البحث التام ،ولكن عهد من الشارع االلتفات إليه يف بعض األحكام ،مثاله :قول الشافعي
يف إزالة النجاسة باملاء دون غريه :إن إزالة النجاسة عن الثوب مثال طهارة ،والطهارة ال جتوز بغري املاء كما يف
الطه ارة من احلدث ،فهن ا ال مناس بة بني الطه ارة وبني تعني املاء بذات ه ،ولكن عه د من الش ارع اعتب ار الطه ارة
باملاء يف الوض وء ومس املص حف ،والط واف ،والص الة ،فه ذا ي وهم اش تمال الطه ارة على املناس بة بينه ا وبني
احلكم بوجوب غسل النجاسة باملاء دون غريه.
وقوله( :جلب منفعة أو دفع مضرة) بيان لقوله( :ما يصلح) واملراد منه أن يكون مقصودا للعقالء من شرع
احلم إما جلب املصلحة أو دفع املفسدة ،وجلب املصلحة :يعين سوقها للمكلف وحصوهلا له ،واملصلحة :اللذة
وما يتبعها ،واملضرة ،األمل وما يستتبعه.
مثال املناسب الذي ينطبق عليه تعريف ابن احلاجب( :اإلسكار يف اخلمر) ،فإنه وصف ظاهر ال خفاء فيه،
منضبط ال اضطراب فيه ،حيصل عقال من ترتيب احلكم عليه الذي هو التحرمي مصلحة هي حفظ العقول ،أو
دفع مفسدة وهي زوال العقل.
والزن ا أيض ا وص ف ظ اهر منض بط حيص ل عقال من ش رع احلكم عن ده وه و حترمي الزن ا مص لحة :هي حف ظ
األنساب وعدم ضياعها ،أو دفع مفسدة هي اختالط األنساب وعدم التمييز بني األوالد مما يوجب فساد تربيتهم
وعدم االعتناء بشأهنم.
68
(?) التوضيح ،2/63مرآة األصول ،2/322شرح العضد على مختصر المنتهي ،2/240اإلبهاج ،3/38شرح 2
المحلى على جمع الجوامع ،2/29فواتح الرحموت ،2/300مسلم الثبوت ،2/256شرح اآلسنوي .3/67
(?) التوضيح 2/96وما بعدها ،األحكام لآلمدي ،3/65مسلم الثبوت ،2/214اإلبهاج ،3/44شرح اآلسنوي 3
3/67وما بعدها ،إرشاد الفحول ،190محاضرات في أصول الفقه للزفزاف 28من بحث القياس.
(?) طلعة الشمس جـ.2/142 4
69
اشرتاك االبن والبنت يف كون كل منهما ولدا لألب املتوىف وفرعا من فروعه ،وذلك وصف مناسب لتساويهما
يف اإلرث ،ولكن الش ارع ألغى ه ذا الوص ف يف تش ريع حكم املواريث ،فق د ق ال س بحانهُ " :يوِص يُك الَّل ُه يِف
ُم
َأْو الِدُك ْم ِللَّذ َك ِر ِم ْثُل َح ِّظ اُألنَثَيِنْي " (.)1
ومثال ه أيض ا :أن عق د ال زواج يعت رب وص فا مناس با لتملي ك ك ل من ال زوجني ح ق الطالق ،ألن ه تعاق د بني
الطرفني بالرضا ،وما يثبت ألحد املتعاقدين يثبت لآلخر ،ولكن هذا الوصف ألغاه الشارع بقوله صلى اهلل عليه
وسلم (الطالق ملن أخذ بالساق) (.)2
ومن أمثلته( :إلزام املفطر الغين عمدا يف هنار رمضان بصيام شهرين متتابعني إذا أفسد صيامه باجلماع) ،فهو
وصف مناسب للغين ليتحقق به معىن االنزجار والردع بالنسبة له ،أما عتق الرقبة أو إطعام ستني مسكينا فأمر
ميسور للغين كل اليسر ،غري أن هذا الوصف ألغاه الشارع بإجياب الكفارة مرتبة على النحو اآليت :عتق رقبة،
صيام شهرين متتابعني ،إطعام ستني مسكينا ،دون تفريق بني املكلفني بالنظر إىل كون الشخص قادرا على العتق،
أو ال يتضرر به ،أو يتضرر به فكان الشارع ألغى عدم التضرر من العتق.
وبناء عليه ،فإن قدر الشخص املفطر على العتق أعتق ،وإن عجز عن العتق صام شهرين متتابعني ،وإن عجز
عن الص وم اطعم س تني مس كينا ،ويؤي ده إنك ار العلم اء على حيىي اللي ثي تلمي ذ اإلم ام مال ك فت واه بعض مل وك
الع رب ال ذي ج امع يف هنار رمض ان ،بأن ه جيب علي ه ص وم ش هرين متت ابعني ،ملا في ه من املش قة ال يت يتحق ق هبا
الزجر ،دون العتق لسهولته عليه ،ألنه رأى أن املقصود من الكفارة الردع والزجر ،وامللك ال ينزجر بغري الصوم.
وذلك كله على الرواية الواردة يف شأن املواقع يف رمضان املفيدة للرتتيب.
ونصها :عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال :جاء رجل إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال :إن آخر وقع على
امرأته يف رمضان فقال أجتد ما حترر رقبة قال ال قال فتستطيع أن تصوم شهرين متتابعني قال :ال ،قال :أفتجد ما
تطعم به ستني مسكينا قال :ال ،قال فأتى النيب صلى اهلل عليه وسلم بعرق فيه متر ،وهو الزبيل ،قال أطعم هذا
عنك ،قال على أحوج منا ما بني ال بيتها أهل بيت أحوج منا قال فأطعمه أهلك (.)3
وهناك رواية أخرى تفيد التخيري ،ونصها عن أيب هريرة قال (أفطر رجل على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فأمره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعني أو إطعام ستني مسكينا على
قدر ما يستطيع من ذلك ( ،)4وهبا أخذ كثري من احملققني.
2ـ المناسب المعتبر:
(?) سورة النساء اآلية.11 : 1
(?) سنن البيهقي الكبرى جـ 7/370رقم الحديث ،14956سنن الدراقطني جـ ،4/37رقم الحديث .102 2
(?) الجامع الصحيح المختصر لمحمد بن إسماعيل جـ ،2/684رقم الحديث .1836 3
70
هو كل وصف شهد الشرع باعتباره بأحد فروع األحكام ،أي بأن يورد الفروع على وفقه ومقتضاه ،وليس
املراد باعتباره أن ينص على العلة أو يومي إليها فحينئذ يصح التعليل به باتفاق األصوليني.
وإمنا صح التعليل باملناسبة اليت اعتربها الشارع ،ألنه ثبت باالستقراء والتتبع ألحكام الشارع أن كل حكم ال
خيلو عن مصلحة ترجع إىل العباد ،أو مفسدة تدفع عنهم (.)1
واهلل سبحانه شرع أحكامه لرعاية مصاحل عباده على سبيل التفضل واإلحسان ،كما هو مذهب اجلمهور ،ال
على سبيل احلتم والوجوب كما يقول املعتزلة.
وحينئذ إذا ورد حكم يف صورة من الصور ،وكان هناك وصف مناسب متضمن ملصلحة العبد ،ومل يوجد
غريه من األوصاف الصاحلة للعلية ،غلب على ظن اجملتهد أنه علة ،ألن األصل عدم وجود غريه من األوصاف،
وال ميكننا القول ،أنه ليس للحكم علة ،فيخلوا احلكم من احملكمة واملصلحة ،وهو خالف ما دل عليه االستقراء
الذي ذكرته ،وهو أن مجيع أحكام الشارع معللة باملصاحل.
وإذا حصل الظن ،بأن الوصف املناسب عل للحكم ،كانت املناسبة مفيدة للعلية ظنا ،فتعترب من طرق إثبات
العلية.
واعتبار الشارع للوصف املناسب يكون بأحد أمور أربعة (.)2
1ـ اعتبار عني الوصف يف عني احلكم أو اعتبار نوع الوصف يف نوع احلكم:
أي أن يعترب الشارع نوع املناسبة يف نوع احلكم بنص أو إمياء أو إمجاع ،مثل اعتبار اإلسكار يف التحرمي ،فإن
الشارع ملا شرع التحرمي عند اإلسكار ،علم أن اإلسكار معترب عنده ،فكان علة.
(?) أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قم الحديث ،317أنظر 4
شرح الشيخ السالمي على المسند جـ 2ص 24وهي رواية مالك في الموطأ ،ولفظه فيه :عن أبي هريرة رضي
اهلل عنه أن رجال أفطر في رمضان فأمره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين
متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ،فقال ال أجد فأتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعرق تمر فقال خذ هذا فتصدق
به فقال يا رسول اهلل ما أحد أحوج مني فضحك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال كله)
الموطأ لإلمام مالك ص 297 ،296حديث رقم 28كتاب الصيام باب كفارة من أفطر في رمضان.
(?) اإلبهاج .3/43 1
(?) الموافقات 1/39وما بعدها ،مسلم الثبوت ،2/217اإلحكام لآلمدي ،3/52التلويح على التوضيح ،2/72 2
شرح العضد على مختصر المنتهي ،2/243التقرير والتحبير ،3/147فواتح الرحموت ،2/265روضة الناظر
،2/269حاشية نسمات األسحار ،239شرح المحلي على جمع الجوامع ،2/231اإلبهاج ،3/42شرح
اآلسنوي ،3/68مرآة األصول ،2/323إرشاد الفحول 190وما بعدها.
71
واإلسكار نوع من الوصف ،ألنه يندرج حتته أف راد هي ،إسكار مخر ،وإسكار نبيذ ،والتح رمي نوع من
احلكم ،ألن ه ي دخل حتت ه حترمي مخر ،وحترمي نبي ذ ،وحترمي رب ا ،وحترمي زىن ...اخل م ا ح رم ،وه ذه كله ا أف راد
للتحرمي ،وليست أنواعا له ،ألن التحرمي يف اجلميع واحد ،واالختالف باعتبار املتعلقات فقط.
وابن احلاجب وبعض الشافعية يسمى هذا القيم باملناسب الغريب ،ومسي غريبا لتفرده وعدم وجود ما يشهد
ل ه باالعتب ار من األقس ام األخ رى التالي ة ،كاعتب ار اجلنس يف ن وع أو ن وع يف جنس ،مث ل الطعم ،فإن ه وص ف
مناسب عندهم لتحرمي الربا ،وقد اعتربه الشارع ،ألنه حرم التفاضل يف املطعومات ،ولكن مل ينضم إليه باعتبار
آخر.
ويالح ظ أن األوص اف املنقول ة بنص أو إمجاع هي ب اب م ا اعت رب في ه عني الوص ف يف عني احلكم ،فالص غر
مثال اعتربه الشارع بعينه وصفا يستدعي حكما معينا ،هو الوالية على املال.
ونور الدين الساملي يسمى هذا النوع باملؤثر ،وقد مثل ملا كان اعتبار عني الوصف فيه يف عني احلكم عن
طريق اإلمياء بقوله تعاىلَ " :فاْقُتُلوا ا ْش ِر ِكَني َح ْيُث وَج دُمُّتوُه ْم " (.)1
ُمل
ف إن الش رك على للقت ل ،وه و وص ف مناس ب ل ه ،ألن ه ل و ت رك املش رك وش أنه م ا ظه ر اإلس الم فه و من
الضروريات الديين’ (.)2
2ـ اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم:
أي أن يك ون هن اك وص ف اعت رب الش ارع جنس ه ( )3يف جنس احلكم ،مث ل احليض يف إس قاط الص الة عن
احلائض ،ف إن اجملته د أخ ذ يبحث عن عل ة ه ذا إس قاط ،ف رأى أن الوص ف املناس ب ل ذلك ه و احليض ،نظ را
الشتماله على املشقة اليت تنشأ من التكليف بإعادة الصلوات الكثرية اليت متضي أثناء احليض ،فأقام احليض مقام
هذه املشقة الناشئة عنه ،مث أخذ يبحث عن شاهد يسانده من فروع األحكام الشرعية ،فوجد أنه جعل احليض
والسفر داخل حتت جنس واحد هو املشقة ،وإن كال من إسقاط الصالة يف احليض ،وقصر الصالة ومجعها يف
الس فر داخ ل يف جنس واح د ه و التيس ري ودف ع احلرج ،فحينئ ذ تك ون ش هادة الش ارع باعتب ار الس فر املتض من
للمشقة يف القصر واجلمع ،شهادة باعتبار جنس هذا الوصف وهو (املشقة) جلنس احلكم الذي يبحث اجملتهد عن
علته وهو (التيسري ودفع احلرج).
(?) الجنس :هو الشامل ألشياء مختلفة بأنواعها ،والنوع :الشامل ألشياء مختلفة بأشخاصها ،فكلمة (حيوان) جنس 3
يدخل تحته الحيوان المتوحش واإلنسان وكلمة (إنسان) نوع يدخل تحته أفراد مثل خالد وخديجة وعائشة..الخ.
72
ومثاله أيضا :أن الصحابة أوجبوا حد القذف على شارب اخلمر ،ال ألن شارب اخلمر قذف ،ولكنهم أقاموا
مظنة القذف وهو الشرب ،مقام القذف باعتبار الشرب مظنة الكذب واالفرتاء ،كما قال علي ابن أيب طالب،
(أرى أن ه إذا ش رب ه ذى ،وإذى أف رتى ،فيك ون علي ه ح د املف رتى) أي الق اذف ،مث حبث اجملته د فوج د أن
الشارع اعترب املظنة يف بعض األحكام ،كتحرمي اخللوة باألجنبية ،فإنه مظنة لوقوع احلرام ،وهو الوطء ،فأقيمت
اخللوة باألجنبية مقام الوطء يف التحرمي ،لكون اخللوة مظنة له.
وبه يظهر أن الشارع اعترب مطلق املظنة اليت هي جنس ملظنة الوطء ومظنة الوطء ومظنة القذف يف مطلق
احلكم ال ذي ه و جنس فيج اب ح د الق ذف وحلرم ة ال وطء ،واعتب ار املظن ة يف اخلل وة باألجنبي ة ،ه و أن ه ش رع
التحرمي هلا عند مظنة الوطء ( ,)1فيكون الشارع عندما اعترب التحرمي عند اخللوة كأنه اعترب مطلق احلكم عند
مطل ق املظن ة ،وه و اعتب ار اجلنس يف اجلنس ،واألص وليون من احلنفي ة والغ زايل من الش افعية مسوا ه ذا القس م
باملناسب الغريب.
ومسي نور الدين هذا النوع باملناسب املالئم ممثال له بالتعليل بالقتل العمد العدواين يف محل املثقل على احملدد
يف القص اص ،ف إن جنس اجلناب ة معت رب يف جنس القص اص ك األطراف والعني واألذن ،ف إن الش رع ملا س وى بني
املثقل واحملدد يف األطراف حسن قياس النفوس عليها الشرتاكهما يف جنس العلة اليت هي اجلناية اليت نبه عليها
قوله تعاىل " :الَّنْف َس ِبالَّنْف ِس " وإىل قوله " واُجْلُر وَح ِقَص اٌص " وجعل من هذا النوع ما أثر عني الوصف فيه يف
جنس احلكم ب أن يثبت ت أثريه بنص أو إمجاع ،ممثال ل ه بتعلي ل الص غر يف حكم النك اح على املال يف الوالي ة على
الصغري ،كما جعل من هذا القسم أيضا ما أثر جنس العلة فيه يف عني احلكم كالتعليل باحلرج يف محل احلضر يف
حال املطر على السفر يف رخصة اجلمع ،فإن جنس احلرج معترب يف عني رخصة اجلمع مبا روى أنه كان صلى اهلل
عليه وسلم جيمع يف السفر ،فاألنواع الثالثة عنده مندرجة حتت مسمي املالئم (.)2
3ـ اعتبار عين الوصف أو نوعه في جنس الحكم:
أي أن يكون هناك وصف اعترب الشارع عينه أو نوعه يف جنس احلكم ( ،)3مثال احلالة األولى يظهر فيما إذا
حبث اجملتهد يف العلة اليت ثبتت من أجلها الوالية يف تزويج الصغرية البكر ،كما يقضي احلديث( ،ال يزوج البكر
(?) نص الحديث في هذا (ال يخلون رجل بامرأة إال ومعها محرم وال تسافر المرآة إال مع ذي محرم) رواه 1
الشيخان عن أبن عباس (سبل السالم )2/183وفي لفظ (أال ال يخلون رجل بامرأة ،فإن ثالثهما الشيطان) رواه
أحمد وأبو يعلي والبزار والطبراني ،وفيه ضعيف (مجمع الزوائد )5/223وفي رواية الترمذي عن عبد اهلل بن
عمر (أال ال يخلون رجل بامرأة إال كان ثالثهما الشيطان) جامع األصول .7/427
(?) طلعة الشمس جـ 2ص .142 ،141 2
(?) وبعبارة أخرى :هو الذي لم يعتبره الشارع بعينه علة لحكم المقيس عليه ،وإ ن كان قد اعتبره علة لحكم من 3
جنس هذا الحكم في نص آخر (راجع األصول العامة لألستاذ الحكيم . )312
73
الص غرية إال وليه ا) ( ،)1فت بني ل ه أهنا الص غر ال البك ارة ،مث حبث عن نظ ري ل ذلك يف ف روع الش رع فوج د أن
الش ارع اعت رب الص غر يف ثب وت الوالي ة على املال ،من حيث إن كال من الوالي ة على النفس والوالي ة على املال
جنسه واحد ،وهو الوالية املطلقة ،فإن الشارع يكون قد اعترب الصغر (وهو الوصف الذي توصل إليه اجملتهد) يف
جنس احلكم الذي يبحث اجملتهد عن علته ،وهذا مثال اعتبار عني الوصف ،واألصوليون من احلنفية يسمون هذه
احلالة باملناسب املؤثر (.)2
ومثال اعتبار نوع الوصف ،امتزاج النسبني مع مطلق التقدمي ،فإن امتزاج النسبني (أي اختالطهما وهو
كونه أخا من األبوين) نوع من الوصف ،ألن الذي يندرج حتته هو (امتزاج نسب زيد ،وخالد وعمر ،وتلك
أفراد ومطلق التقدمي جنس ،ألنه يشمل التقدمي يف اإلرث ،والتقدمي يف النكاح والتقدمي يف حتمل الدية ،وكل من
هذه احلاالت نوع ،ألنه يدخل حتته أفراد هي :تقدمي زيد الشقيق ،وبكر وحممد الشقيقني.
مث حبث اجملتهد فوجد أن الشارع قد اعترب امتزاج النسبني يف اإلرث ،حيث قدم األخ الشقيق يف املرياث على
األخ ألب ،فيق اس علي ه التق دمي يف والي ة النك اح والص الة علي ه جن ازة ،وحتم ل الدي ة ،ألن ه ذه األم ور تش ارك
التقدمي يف املرياث يف اجلنسية ،فكل منها داخل حتت مطلق التقدمي ،وهو اجلنس أما يف النوعية ،فإهنما خيتلف ان ،إذ
التقدمي يف والية النكاح نوع مغاير للتقدمي يف اإلرث.
فهنا اعترب الشارع نوع الوصف (وهو امتزاج النسبني) يف جنس احلكم (وهو مطلق التقدمي) إذ أن التقدمي يف
اإلرث حيقق مطلق التقدمي ،ألنه خاص ،واخلاص فيه العام وزيادة وهو خبالف احلالة األوىل ،وهي اعتبار نوع
الوصف يف نوع احلكم ،ألن حترمي اخلمر وحترمي النبيذ كل منهما داخل حتت نوع واحد ،فهما فردان من أفراد
النوع إذ التحرمي فيهما واحد ،ولكن االختالف فقط يف حمل التحرمي وهو ما مسي سابقا مبتعلقات التحرمي.
اعتبار جنس الوصف في عين الحكم أو نوعه:
أي أن يكون هناك وصف اعترب الشارع جنسه يف عني احلكم أو نوعه الذي يبحث عنه اجملتهد ،أما مثال
اعتب ار جنس الوص ف يف عني احلكم فه و املط ر يف ص حة اجلم ع بني الص التني ،ف إن اجملته د أخ ذ يبحث عن
الوصف املناسب للجمع بني الصالتني يف اليوم املطري ،فرأى أن املطر هو املناسب الشتماله على املشقة الناشئة
عنه ،مث حبث اجملتهد عن شاهد لذلك يف فروع الشريعة ،فوجد أن الشارع جعل السفر قائما مقام املشقة الناشئة
عن ه يف كون ه عل ة اجلم ع بني الص التني ،وه و عني احلكم ال ذي يبحث اجملته د عن علت ه ،وك ل من مش قة املط ر
(?)هذا مقتضى حديث (الثيب أحق بنفسها من وليها ،والبكر تستأمر وإ ذنها سكوتها) رواه مسلم عن غبن عباس، 1
وروى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان عنه بلفظ آخر (ليس للولي مع الثيب أمر ،واليتيمة تستأمر) واليتيمة
في الشرع الصغيرة التي ال أب لها (سبل السالم . )3/119
(?) التلويح على التوضيح .2/72 2
74
ومشقة السفر داخل حتت جنس واحد هو املشقة ،وحينئذ يكون الشارع يف اعتباره السفر (الذي هو داخل
حتت جنس املشقة) مرخصا للجمع ،قد اعترب جنس الوصف علة لعني احلكم الذي يبحث عنه اجملتهد.
فاملش قة ومجع الص الة إذا مما اعت رب الش ارع جنس الوص ف في ه يف عني احلكم ،ه ذا مث ال اعتب ار عني احلكم،
وقد مساه األصوليون من احلنفية ،املناسب املالئم.
ومثال اعتبار جنس الوصف يف نوع احلكم ،اعتبار سقوط الصالة عن احلائض ،فإن املشقة جنس ،ألن حتته
ن وعني مها :مش قة الس فر ،ومش قة احليض ،ألن املن درج حتت ك ل من ه ذين الن وعني أف راد ،فمش قة س فر زي د،
وبكر وخالد أفراد ملشقة السفر ،ومشقة زينب وفاطمة وسعاد أفراد ملشقة احليض.
وس قوط الص الة ن وع ين درج حتت ه س قوط الص الة عن زي د وهن د وخال د وثري ا مثال ،وهي أف راد ال أن واع،
والش ارع ق د اعت رب مطل ق املش قة يف س قوط الص الة ،ألن ه ش رع س قوط بعض الص الة (أي قص رها) عن د مش قة
السفر ،ومشقة السفر نوع من مطلق املشقة ،والنوع حمقق للجنس ،ألنه خاص ،واجلنس عام واخلاص فيه العام
وزيادة ،فالشارع باعتباره مشقة السفر يكون قد اعترب مطلق املشقة ،وهو جنس الوصف ،يف نوع احلكم (وهو
س قوط الص الة) وبعب ارة أخ رى :إن ت أثري جنس احلرج أو املش قة يف إس قاط قض اء الص الة عن احلائض كت أثري
مشقة السفر يف إسقاط قضاء الركعتني الساقطتني بالقصر.
فاملشقة وسقوط الصالة ،مما اعترب الشارع جنس الوصف فيه يف نوع احلكم.
وهذا النوع مساه بعض الشافعية باملناسب املؤثر ،ومساه الغزايل واحلنفية باملناسب املالئم.
وقض ية اختالف التس مية املذكورة بني احلنفي ة والش افعية جمرد اص طالح ،فاآلم دي وابن احلاجب ذهب ا إىل
اص طالح آخ ر يف تعري ف املناس ب املؤثر واملناس ب املالئم ،فالناس ب املؤثر عن دمها ،ه و م ا اعت رب نوع ه يف ن وع
احلكم بنص أو إمجاع ،أي أن ه ه و الوص ف املناس ب ال ذي اعت ربه الش ارع بالتنص يص على كون ه عل ة أو بقي ام
اإلمجاع عليه.
واملناس ب املالئم عن د ابن احلاجب ،ه و م ا اعت رب نوع ه يف ن وع احلكم من غ ري نص وال إمجاع ،م ع انض مام
واحد من ثالثة أم ور إليه ،وهي اعتبار اجلنس يف اجلنس ،واجلنس يف النوع والنوع يف اجلنس ،والش وكاين سار
على منهج ابن احلاجب يف املؤثر واملالئم.
واملناس ب املالئم عن د اآلم دي والبيض اوي من الش افعية ،ه و م ا اعت رب في ه جنس الوص ف م ع جنس احلكم،
وانضم إليه اعتبار نوع الوصف يف نوع احلكم مثل القتل العمد العدوان مع وجوب القصاص ،فإن جنسه وهو
اجلناية اعتربه الشارع يف جنس احلكم الذي هو العقوبة ،حيث شرع العقوبة عند اجلناية كذلك نوعه مؤثر يف
75
وجوب القصاص ،فإن الشارع اعترب القتل العمد العدوان خبصومه يف نوع احلكم ،ألنه شرع وجوب القصاص
ضده ،فكل من اجلنس والنوع يف احلكم والوصف معترب ،وهلذا كان القتل العمد العدوان وصفا مالئما.
والخالصة :إن األوصاف غري امللغية اختلف العلماء يف تسميتها حىت جيد املرء يف أحد املذاهب مؤثر ومالئم
وغريب ومرسل.
فمذهب الحنفية (:)1
املؤثر :ما شهد الشارع باعتبار عينه يف عني احلكم ،أو يف جنس احلكم.
واملالئم :ما اعترب الشارع جنسه يف عني احلكم.
والغريب :ما شهد الشارع باعتبار جنسه يف جنس احلكم.
واملرسل :ما مل يشهد الشارع باعتباره وال بإلغائه.
ومذهب الشافعية (:)2
املؤثر :ه و م ا ش هد الش ارع باعتب ار عين ه يف عني احلكم ،وه و رأي اآلم دي وابن احلاجب ( ،)3وه و عن د
الرازي ،ما أثر جنسه يف نوع احلكم (.)4
واملالئم :ما شهد الشارع باعتبار عينه أو جنسه يف جنس احلكم.
والغريب :ما شهد الشارع باعتبار نوعه يف نوع احلكم ومل يؤثر جنسه يف جنسه ،وهو رأي البيضاوي.
واملرسل :ما مل يشهد به أصل من األصول يف الشريعة باعتبار ،وال ظهر إلغاءه يف صورة من الصور ،أي هو
ما مل يعلم عن الشارع اعتباره كما مل يعلم إلغاؤه ،ومنشأ اختالف االصطالح بني احلنفية والشافعية ،أن التأثري
عن د احلنفي ة ه و ب أن يثبت بنص أو إمجاع اعتب ار ن وع الوص ف أو جنس ه يف ن وع احلكم أو جنس ه ،أم ا عن د
الشافعية ،فهو أخص من املعىن السابق وهو أن يثبت بنص أو إمجاع اعتبار عني الوصف يف عني ذلك احلكم.
وللشيخ الساملي ـ رمحه اهلل ـ تقسيم جيد للوصف املناسب ،وقد يكون جامعا لتلك األقسام كلها ،فبعد أن
أورد للوص ف املناس ب تعريف ات نقله ا عن الدبوس ي واآلم دي وابن احلاجب والغ زايل ( )5أخ ذ يف التقس يم
(?) انظر وقارن شرح العضد على مختصر المنتهي ،2/242المدخل إلى مذهب أحمد .155 3
وخالص ته :أن ه قس م الوص ف املناس ب ب النظر إىل اعتب ار الش ارع إي اه إىل أربع ة أقس ام ،م ؤثر ومالئم وغ ريب
ومرسل ،وبني وجه احنصار التقسيم يف األنواع األربعة ،حيث قال :إن الوصف املناسب أما أن يعترب الشرع عينه
يف عني احلكم فه و املؤثر ،وإم ا أن يعت ربه ب رتتيب احلكم على وفق ه حبيث يوج د ه و واحلكم يف حمل واح د فه و
املالئم ،وإما أن ال يعتربه أصال بل ألغه فهو الغريب ،وإن مل يعلم اعتباره وال إلغاؤه فهو املرسل ( ،)1وقد أشرنا
قريبا إىل ما أعتربه مؤثرا ومالئما وغريبا عند املقرنة بني مذاهب األصوليني يف اعتبار تلك األقسام وتسميتها.
المسلك الثالث /تنقيح المناط:
اعت رب بعض األص وليني كالبيض اوي وغ ريه من الش افعية تنقيح املن اط من مس الك العل ة ( ،)2والتنقيح يف اللغ ة
الته ذيب والتخليص والتمي يز ،يق ال :كالم منقح أي ال حش و في ه ،واملن اط يف األص ل مص در ميمى مبع ىن اس م
املكان ،ومنعاه :اسم اإلناطة والتعليق ،وتسمى العلة مناطا احلكم هبا وتعليقه عليها.
وتنقيح مناط العلة ،اختلف يف تعريفه ،ولعل تعريف اآلمدي أقرب ما قيل فيه.
وه و( :أن ه ب ذل اجله د يف تع يني العل ة من بني األوص اف ال يت ن اط الش ارع احلكم هبا إذا ثبت ذل ك بنص أو
إمجاع ،عن طري ق ح ذف م ا ال دخ ل ل ه يف الت أثري واالعتب ار مما اق رتن ب ه األوص اف) ( ،)3ك أن يثبت الش ارع
حكما يف حمل ،ويدل النص على العلية من غري تعيني وصف بعينه علة ،واقرتان به أوصاف ،بعضها ال دخل هلا
يف العلية ،فيجتهد يف تعيني العلة حبذف بعض األوصاف غري املناسبة.
مثاله( :تعليل كفارة الفطر يف رمضان بالوقاع) ،كما ورد يف حديث األعرايب السابق ذكره ،الذي قال فيه:
(واقعت أهلي يف هنار رمضان عامدا) فأمره النيب صلى اهلل عليه وسلم بعتق رقبة ( ،)4هذا احلديث يدل بطريق
اإلمياء على أن عل ة إجياب الكف ارة على األع رايب هي الوق اع ،واجملته د نظ ر يف ه ذه احلادث ة ،فوج د بعض
األوصاف ال تأثري هلا يف احلكم مثل :كون الذي واقع إعرابيا ،ألن تشريع األحكام عام ال خيتص هبا فرد دون
فرد ،ما دام مل يقم دليل على اخلصوصية ،ومثل ،كون املوطوءة أهال وزوجة حيل وطؤها يف ليل رمضان ،وغري
الزوجة ال حيل وطؤها حبال ،ال يف الليل وال يف النهار ،فيكون كل من وصف األعرابية واألهل ملغيا ال تأثري له
يف إجياب الكف ارة ،وإمنا يك ون املؤثر يف إجياهبا ه و اجلم اع عم دا يف هنار رمض ان ،فيك ون ه و العل ة يف وج وب
(?) انظر تلك األقسام وتعريف كل قسم منها طلعة الشمس جـ 2ص .145-139 1
(?) المستصفي ،2/55شرح المحلي جمع الجوامع ،2/239اإلبهاج ،3/65شرح اآلسنوي ،3/88غاية 2
الكفارة ،وهذا مذهب الشافعية واحلنابلة يف تنقيح علة هذا احلكم ،فال جتب الكفارة عندهم على من أفطر عامدا
بغري مجاع.
وأما احلنفية واملالكية فيزيدون على ما سبق إلغاء كون الذي وقع خصوص الوقاع ،فقالوا :إن مثل اجلماع
كل مفطر ،وهذه املماثلة تفهم بالتبادر ،فتجب الكفارة باإلفطار يف رمضان عمدا بغري عذر ،سواء أكان جبماع
أم بأكل أم بشرب وحنوها من املفطرات ،ويكون املؤثر حينئذ يف إجياب الكفارة عند هؤالء هو انتهاك حرمة
رمضان بتناول املفطر عمدا ،فيكون هو العلة يف وجوب الكفارة ،وهذا الرأي هو الذي ذهب إليه األصحاب،
وهو احلق ،إذ املعاقب عليه إمنا هو انتهاك حرمة الصيام لفعل خيل به (.)1
ومما يالحظ أن تنقيح املناط سبيه بالسري والتقسيم ،لكن هناك يف الواقع فرق بينهما ،فإن تنقيح املناط ،يكون
حيث دل نص على مناط احلكم ،ولكنه غري مهذب وال خالص مما ال دخل له يف العلية ،وأما السرب والتقسيم،
فيكون حيث ال يوجد نص أصال على مناط احلكم ،ويراد التوصل به إىل معرفة العلة ال إىل هتذيبها من غريها.
والناظر بتأمل قد ال جيد مسوغا واضحا العتبار تنقيح املناط مسلكا مستقال من مسلك العلة ،إذ أنه يكون
حيث يدل نص على العلية من غري تعيني وصف بعينه علة ،فهو ليس مسلكا للتوصل به إىل تعليل احلكم ،ألن
تعليل احلكم مستفاد من النص ،وإمنا هو مسلك لتهذيب وختليص علة احلكم مما اقرتن هبا من األوصاف اليت ال
تصلح للعلية.
هذا وقد عد بعض األصوليني يف مسالك العلة أيضا حتقيق املناط.
الفرق بين تنقيح المناط ،وتحقيق المناط ،وتخريج المناط:
ه ذه األم ور الثالث ة تتعل ق بالعل ة يف القي اس ،أم ا تنقيح املن اط فق د س بق بيان ه ،وع رف أن ه خ اص بالعل ل
املنصوصة وال يوجد يف العلل املستنبطة ،وأنه هو االجتهاد يف تعيني السبب الذي ناط الشارع احلكم به ،وأضافه
إليه ،ونصه عالمة عليه حبذف غريه من األوصاف عن درجة االعتبار (.)2
أما حتقيق املناط :فهو النظر يف معرفة وجود العلة يف آحاد الصور الفرعية اليت يراد قياسها على أصل ،سواء
أكانت علة األصل منصوصة أم مستنبطة ( ،)3أي حتقيق املناط هو النظر يف حتقق العلة الثابتة بنص أو إمجاع أو
بأي مسلك ،يف جزئية أو واقعة غري اليت ورد فيها النص ،فإقامة الدليل على أن تلك العل ة موجودة يف الف رع
(?) انظر شرح الشيخ السالمي على مسند اإلمام الربيع بن حبيب جـ 2ص .22 1
(?) راجع اإلحكام لآلمدي ،3/63روضة الناظر ،2/232التقرير والتحبير ،3/193اإلبهاج ،3/57شرح 2
كما هي موجودة يف األصل يعترب حتقيقا للمناط ،ومسي كذلك ،ألن املناط وهو الوصف الذي علم أنه مناط،
وبقى النظر يف حتقيق وجوده يف الصورة الفرعي ة املعينة ،مثاله ،النظر يف حتقق اإلسكار الذي هو علة يف حترمي
اخلمر يف أي نبيذ آخر مصنوع من متر أو شعري ،وكتحقيق أن النباش ـ وهو الذي يسرق األكفان من القبور ـ
يعترب سارقا ،إلقامة احلد عليه ،لوجود معىن السرقة منه ،وكتحقيق أن علة اعتزال النساء يف احمليض (هو األذى)
موجودة يف النفاس ،هكذا.
وأما ختريج املناط ،فهو النظر واالجتهاد يف استنباط الوصف املناسب للحكم الذي ورد به النص أو اإلمجاع
ليجعل علة للحكم ( ،)1وذلك بأي طريق من طرق مسالك العلة كاملناسبة أو السرب والتقسيم ،فتخريج املناط
خاص بالعلل املستنبطة ،والتخريج هو االستخراج أو االستنباط.
مثال ه :اس تخراج الطعم أو الف وت أو الكي ل بالنس بة إىل حترمي الرب ا بواس طة ال رب والتقس يم ،ومثال ه أيض ا
االجتهاد يف إثبات كون القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص يف اجلناية باآللة احملددة ،وهذا النوع أدىن
رتبة من النوعني األولني.
المسلك الرابع /الدوران الوجودي والعدمي:
املراد بالدروان هو :عبارة عن وجود وصف من األوصاف مع حكم من األحكام وعدمه مع عدمه أي إذا
وجد ذلك الوصف وجد معه ذلك احلكم.
وإن زال ذل ك الوص ف زال مع ه احلكم ،فالوص ف دائ ر م ع احلكم وج ودا وع دما وه و املس مى عن د ابن
احلاجب ب الطرد والعكس ،ف الطرد عب ارة عن وج ود الوص ف حيث وج د احلكم ،والعكس عب ارة عن زوال
الوصف مع زوال احلكم ،مثاله :حترمي اخلمر مع الشدة فإنه قبل وجودها يكون عصريا ال حرمة فيه ،وبعد زواهلا
خال ال حرمة فيه أيضا ،على املختار من أقواهلم ،فوجود الشدة مع وجود التحرمي ،وعدمها مع عدمه ،فعلم من
ذلك أن الشدة علة للتحرمي مثال ،ومن ذلك رضى املرأة يف صحة التزويج ،فإنه يوجد مع البلوغ وينعدم عند
عدمه ،فالصبية ال يؤثر عدم رضاها يف التزويج ،وإن كانت ثيبا على رأي بعض العلماء ،وللعلماء يف اعتبار هذا
املسلك طريقا للعلة مذاهب.
1ـ إن ه ذا طري ق ش رعي تثبت ب ه العل ة فتقتض ي احلكم حيث وقعت ،ونس ب ه ذا الق ول أليب احلس ني
الكرخي ،وهو قول ابن بركة من األصحاب ،ويقول أبو احلسن هو معتمد القياس ،مث اختلف القائلون بذلك
على قولني فمنهم من ذهب إىل أنه يفيد العلية ظنا ،وهو قول األكثر ومنهم من ذهب إىل أنه يفيدها قطعا.
(?) المستصفي ،2/55روضة الناظر ،2/233التقرير والتحبير ،3/193اإلبهاج ،3/58المدخل إلى مذهب 1
2ـ قال أبو عبد اهلل البصري واختاره العضد أن ذلك ليس بطريق مطلقا ال يف العقليات وال يف الشرعيات.
3ـ قال بعض األصوليني أنه طريق إىل العلية بعد العلم بورود التعبد بالقياس ال قبل ذلك.
4ـ أن ه طري ق إىل معرف ة العل ة بش رط أن يتقدم ه إمجاع على أن احلكم معل ل أو دالل ة على ذل ك ،مث حتص ل
طريقة سرب وهو حصر األوصاف احملتملة وإبطال كل واحد إال الوصف املختار للعلية ،ويف هذا املهذب إبطال
كون الدوران طريقا مستقال.
دليل القول األول:
أن ه إذا حص ل ال دوران وال م انع من العلي ة حص ل العلم أو الظن بأن ه العل ة ملا أق رتن ب ه من احلكم ودار مع ه
وج ودا وع دما ،كم ا إذا دعي إنس ان باس م فغض ب مث ت رك فلم يغض ب وتك رر ذل ك من ه علم إن ندائ ه ب ذلك
االسم سبب لغضبه ،فيكون علة له.
وأجيب بأن ه ل و ال ظه ور انتف اء األس باب من غ ري دعائ ه ب ه مل يظن ،واحتج املانعون من قبول ه مطلق ا ب أن
وج ود الوص ف م ع احلكم وانتف اؤه م ع انتفائ ه ال يل زم من ه ك ون ذل ك الوص ف على للحكم ،جلواز أن يك ون
الوصف مالزما للعلة ال نفسها ،كرائحة املسكر املخصوصة فإهنا دائرة معه وجودا وعدما ،وليست علة.
ورد ب أن مالزم ة الوص ف للعل ة املقتض ى ع دم انفك اك أح دمها عن اآلخ ر يقتض ي وج ود العل ة وإن مل تعلم
عينه ا ،وه ذا ينبغي أن يك ون كافي ا يف املقص ود ،إذ حيث علم وج ود ذل ك الوص ف يف األص ل والف رع ،علم
وجود علة األصل يف الفرع ،فينبغي أن يصح القياس من غري احتياج لتعيني العلة ،فجواز ما ذكر يقتضي خالف
مطلوب هذا القول فكيف يستدل به عليه وباجلملة فإن أريد االستدالل على انتفاء العلة مل يصح أو على تعيينها
مل يفد.
اس تدل أص حاب الق ول الث الث :وهم املثبت ون حلجيت ه بع د العلم بالتعب د بالقي اس ب أن ط رق العل ل الش رعية
كطرق العلل العقلية ،فكما إن دوران احلكم على الوصف نفيا وإثباتا طريق إىل العلة العقلية كذلك نقول يف
العلة الشرعية بعد ورود التعبد بالقياس ،وال خيفي عل املتأمل أن هذا القول راجع إىل القول بثبوت الدوران،
لكن فيه زيادة قيد وهو قوهلم بعد العلم بالتعبد بالقياس ،فظاهره أن من مل يعلم ذلك فال يصح له أن يثبت العلة
هبذا الطريق ،وثبوت ذلك غري متوقف على ما ذكروه ،ألن الغرض من ثبوته بيان أنه طريق ملعرفة العلة ،وكونه
طريقا إىل ذلك غري مستلزم للعلم بالتعبد بالقياس (.)1
خاتمـ ـ ــة
بعد أن قدمنا للقارئ يف هذا البحث ما يشفي ويكفي من بيان املراد بكلمة القياس لغة وتنوع القياس إىل
منطقي وش رعي ،وأمهي ة القي اس ومكانت ه ،وإب راز خمتل ف وجه ات النظ ر يف تعري ف القي اس الش رعي وحتدي ده
اختالفا واتفاقا ،وبيان ما يكون حجة من األقيسة وما ال يكون ،وحترير مواقف األصوليني والفقهاء من القياس
الشرعي إثباتا وإنكارا ،وأهم ما أوردته كل طائفة من األدلة على ما ذهب إليه ،والشبه اليت أوردها املنكرون
للقياس والرد عليها ،وبيان أركان القياس الشرعي وشروطه ،واملسالك اليت يتضح من خالهلا أهم أركان القياس
(العلة).
جيدر بعد ذلك كله أن نشري إىل طريقة إظهار احلكم الشرعي بالقياس ،وضرب بعض األمثلة التطبيقية منه.
أ ـ طريق إظهار الحكم بالقياس:
إذا ك ان مقتض ى القي اس إحلاق أم ر غ ري منص وص على حكم ه الش رعي ب أمر منص وص على حكم ه،
الش رتاكهما يف عل ة احلكم ،وأن املراد من اإلحلاق :ه و الكش ف واإلظه ار للحكم ،وليس املراد إثب ات احلكم
وإنش اؤه ،ألن احلكم ث ابت للمقيس من وقت ثبوت ه للمقيس علي ه ،وإمنا ت أخر ظه وره إىل وقت بي ان اجملته د
بواسطة وجود العلة ،كما هي يف املقيس عليه ،فيكون القياس مظهرا للحكم ال مثبتا له ،والعلة هي أساس احلكم
ومبن اه ،وعم ل اجملته د م ا ه و إال إظه ار حلكم م ا مل ينص علي ه ،بس بب إحتاد عل ة احلكم يف املنص وص وغ ري
املنصوص عليه.
وطريق ة اإلظه ار أو الكش ف ،أن ه إذا ورد نص يف الكت اب أو الس نة على حكم واقع ة ،وع رف اجملته د عل ة
احلكم ،مث الحظ وجود العلة نفسها يف واقعة أخرى مل ينص على احلكم فيها ،وبعبارة أخرى مث الحظ وجود
مثل تلك العلة ،فإنه يغلب على الظن االشرتاك يف احلكم بني الواقعتني ،فيلحق ما مل ينص عليه مبا ورد فيه نص،
ويسمى هذا اإلحلاق ،قياسا.
ب ـ أمثلة تطبيقية للقياس:
ِس ِذ
1ـ إن اهلل سبحانه وتعاىل نص على حترمي اخلمر يف قولهَ " :يا َأُّيَه ا اَل يَن آَم ُن وا إَمَّنا اَخلْم ُر واَملْي ُر واَألنَص اُب
واَألْز الُم ِر ْج ٌس ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطاِن َفاْج َتِنُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن " (.)1
وق د أدرك اجملتهدون أن عل ة التح رمي هي اإلس كار ،كم ا أوضحنا ذلك يف مس الك العل ة ،ألنه يرتتب علي ه
وقوع مفاسد دينية ودنيوية ،من إيقاع العداوة والبغضاء بني الناس والصد عن ذكر اهلل ،وكون ذلك من عمل
الشيطان ،وإحلاق الضرر بالشارب إىل غري ذلك.
وعن د التأم ل ق د جيد اجملته د أن اإلس كار يتحق ق أيض ا بش رب م ا يش به اخلم ر مما ال يس م مخرا من س ائر
األشربة ،فيكون ذلك ملحقا باملنصوص على حترميه وإن مل يسم بامسه يف حرمة تناوله ،فاخلمر أصل ،وما يشاهبه
فرع ،واحلكم التحرمي ،والعلة اجلامعة بينهما :اإلسكار.
2ـ نص الرس ول علي ه الص الة والس الم على أن القت ل مين ع املرياث ،فق ال "ال ي رث القات ل" ( )1والعل ة :هي
استعجال الشيء قبل أوانه فيعاقب املستعجل له حبرمانه ،وهذه العلة متحققة يف قتل املوصي له للموصي ،فتقاس
الوصية على اإلرث حالة القتل ،فيمنع املوصي له القاتل من الوصية ،كما مينع الوارث القاتل من اإلرث.
3ـ حرم الرسول صلى اهلل عليه وسلم اخلطبة على اخلطبة ،كما حرم أن يبتاع أحد على بيع أخيه ،فقال( :ال
ي بيع بعض كم على بي ع بعض ،وال خيطب على خطبت ه) ( ،)2والعل ة هي إي ذاء اخلاطب أو املش رتي األول وإث ارة
حقده وتوريث عداوته ،وهذا املعىن متحقق يف استئجار األخ على استئجار أخيه ،فيحرم قياسا على حترمي اخلطب ة
على اخلطبة ،والبيع على البيع ،فالتسوية بني الواقعتني يف احلكم يتحقق القياس.
واألمثلة على القياس اجللي واخلفي أكثر من أن حتصى ،وهي مبثوثة يف كتب الفقه وأصوله على السواء.
هذا ما تيسر إيراده يف هذا البحث مما يتصل بالقياس الشرعي ،سائلني اهلل سبحانه وتعاىل أن جيعله يف ميزان
احلسنات ،وأن يثيب كل من يعني على إخراجه يف صورة تروق للقارئ ،عونا له على ما يريد اإلحاطة به من
هذا العلم النافع ،وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني ،وصلى اهلل على سيدنا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني.
(?) نص الحديث هو (ليس للقاتل من الميراث شيء) رواه النسائي والدارقطني ،وقواه ابن عبد البر ،وأعله 1
النسائي ،والصواب وقفه على عمرو شعيب عن أبيه عن جده (سبل السالم )3/101ورواه البيهقي عن ابن
عمرو ،وهو حديث حسن.
(?) سنن أبي داود جـ 2/228رقم الحديث ،2081كتاب المجتبي من السنن جـ 6/71رقم الحديث .3231 2