You are on page 1of 50

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫طرق أخرى لالستدالل المقاصدي‬

‫الشيخ أحمد بيبني الشنقيطي‬

‫لقد دأب السلف وحافظ الخلف ‪ ،‬عندما يتناولوا موضوعا معينا أن يكون تعريفه واستمداده‬
‫وحجيته من أولويات المطالب لمقاربة ذاك الموضوع ‪ .‬فكانت أصول الفقه األربعة تستفتح‬
‫ب الكالم عن تعريفه ا وحجيته ا ومكانته ا داخ ل ال دائرة األص ولية ‪ .‬والمقاص د الش رعية‬
‫وأخيته ا المص الح ال تنش زان عن ه ذه القاع دة بم ا أنهم ا من حيثي ات المعرف ة األص ولية‬
‫وبعض مكتسباتها المهمة‪ .‬فقد انصب اهتمام العلماء ‪ ،‬وإ ن بأنصباء متفاوتة ‪ ،‬باالستددالل‬
‫عليهما واستلهام األدلة على حجيتهما ‪ .‬وتاتي هذه الوريقة المتواضعة لمواصلة هذا المسار‬
‫بمقارب ة جدي دة ونظ ر ق ديم وح ديث في آن‪ .‬مس تهدفا العض على المقاص د والمص الح‬
‫بالنواج ذ وذل ك بالكش ف وإ ض افة حجج وأدل ة دامغ ة لتأكي دهما وتأك دهما وأص التهما‬
‫وراهنيتهما ‪ .‬وجاء ذلك في مبحثين األول عن االستدالل عليهما قديما ونواقصه ‪ ،‬واق تراح‬
‫مقاربة جديدة لالستدالل عليهما‪ .‬والثاني يتعلق بأنواع االستدالل الجديدة ‪ ،‬كما يتصورها‬
‫البحث ‪ ،‬ويتض من ع دة مط الب ‪ ،‬ك ل منه ا يمث ل دليال على المقاص د ك دليل رف ع الح رج‬
‫ودليل االستخالف ودليل الوسطية واالعتدال ودليل التسخير والتذليل إلى آخر قائمة تلك‬
‫المط الب ‪ .‬ونبتغي من وراء البحث من جه ة الرف ع من مس توى االس تدالل على المقاص د‬
‫كم ا وكيف ا واالنتق ال ب ذلك من بس اطة المالحظ ة إلى تركيبه ا ومن ض يق الرؤي ة التعليلي ة‬
‫الس ابقة إلى رحاب ة النص وص وس عتها ‪ ،‬ونبتغى من جه ة ثاني ة الخ روج ببعض النت ائج‬
‫والمكتس بات توس ع المعرف ة عن المقاص د والمص الح وتقيم جس را متواص ال بيبنه ا وبين‬
‫النصوص الشرعية ‪ ،‬في نظرية ترى أنهما وجهين لعملة واحدة ‪ ،‬ولم ال؟‬
‫المبحث األول ‪ :‬االستدالل عليهما قديما والمالحظات عليه‬

‫ولعل ما يلفت االنتباه أنه رغم التأكيد المؤكد واألكيد عند علمائنا على أهمية بيان حجية‬
‫الدليل واألصل واستمدادهما ‪ ،‬فإن الكثير من األصول والمفاهيم المؤسسة في أصول الفقه‬
‫والمقاص د تنب ني على أدل ة قليل ة ج دا وربم ا ك ان االس تدالل على األص ل الكلي ب دليل نقلي‬
‫واح د وش اهد مف رد كم ا س نرى الحق ا‪ .‬ك انت لتل ك المنهجي ة نت ائج س لبية منه ا الق راءة‬
‫التجزيئي ة للنص وص واتخاذه ا عض ين ‪ ،‬مم ا ت رتب عن ه إهم ال نص وص وأدل ة له ا دور‬
‫وأهمي ة في فهم ومقارب ة الموض وع دورا وأهمي ة ال يتقاع دان عن م ا لألدل ة الم ذكورة ‪.‬‬
‫ومن النتائج السلبية أيضا عدم قراءة الموضوع بحذافيره وروافده من األدلة والنصوص ‪.‬‬
‫ومنها أخيرا وليس آخرا أن تبقى الرؤية للموضوع ضيقة واختزالية وغير مبينة‪.‬‬

‫ويمكن اختصار سلبيات تلك الطريقة فيما يلي ‪:‬‬

‫أوال عدم مالءمة األدلة لنفس األمر ولألصل الذي يراد إثباته ‪ .‬في هذا الصدد يالحظ أن‬
‫الق الب أض يق من المقلب والنت ائج أك بر من المق دمات وكأن ه التمت إح داهما إلى األخ رى‬
‫بأية صلة ‪ ،‬وسيكون لذلك أثر سلبي على عملية االستدالل ومشواره إن عاجال أو آجل ‪.‬‬
‫يالح ظ ذل ك أوال في المص الح المرس لة م ع الغ زالي حيث انطل ق من وهميته ا وبأنه ا م ا لم‬
‫يشهد له من الشرع شاهد ال باإللغاء وال باالعتبار ‪ ،‬في حين أنه سيبني على هذا األصل‬
‫نظرية المقاصد الخمسة والمصالح العامة التي تتميز بالكلية والضرورية ‪ .‬كما يظهر ذلك‬
‫في االستدالل على أصلي اإلجماع والقياس فإن اآلية المعتمدة على إثبات اإلجماع ليست‬
‫ص ريحة في ه ‪ ،‬على األق ل ليس ت ص ريحة في اإلجم اع المع رف « بأنه إجماع أمة محمد‬
‫"تراط‬
‫"ل باش"‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم على أمر من األمور الدينية»‪ 1‬أو بالمنظور األخر القائ"‬
‫"ه‬
‫"لى اهلل علي"‬
‫انقراض هو ‪ « :‬عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد ص"‬
‫وسلم في عصر من األعصار على حكم واقعة من الوقائع»‪ 2‬أق ول ب أن االس تدالل به ذه‬

‫ـ المستصفي‪ ،‬للغزالي ص‪173 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫ـ اإلحكام لآلمدى‪ ،‬ص ‪168:‬‬ ‫‪2‬‬


‫اآلية قابل لالعتراض والدليل إذا كثرت االعتراضات عليه ضعف ذلك من داللته على ما‬
‫سيق بأنه دليل عليه ‪ .‬فقال الطوفي بعد ما ذكر االية حول اإلجماع ‪ :‬واالعتراض عليه‬
‫بوجوه كثيرة أقواها ستة أحدها أن الوعيد في اآلية على شيئين مشاقة الرسول واتباع سبيل‬
‫غير المؤمنين فهما جميعا واجبان وال يلزم من وجوب الشيئ مع غيره وجوبه منفردا ‪،‬‬
‫لج واز أن يك ون اآلخ ر ش رطا في ه أوركن ا ل ه ‪ .‬الث اني أن الالم في المؤم نين يحتم ل العه د‬
‫واالس تغراق وبتق دير كونه ا للعه د ال يتم ال دليل الحتم ال إرادة جماع ة من المؤم نين‬
‫مخصوص ة كالص حابة أو بعض هم كم ا ذهب إلي ه الظاهري ة من أن الحج ة في إجم اع‬
‫‪3‬‬
‫الصحابة ال غير ألن الخطاب لهم وفي عصرهم فيختص بهم‬

‫ثاني ا بس اطة االس تدالل ومعل وم أن العلم ال يق وم على المالحظ ة البس يطة ‪ ،‬وكم ا يق ول‬
‫باشالر فقد ولى زمن الفرضيات البسيطة فاسحا المجال أمام الفرضيات المركبة ‪ .‬في هذا‬
‫الص دد نج د أن االس تدالل على المقاص د والمص الح يق وم على مب ادئ علمي ة في منتهى‬
‫البساطة واألوالنية ‪ ،‬فيكفي لالستدالل على المقاصد والمصالح أن تكون الشريعة معللة ‪،‬‬
‫وأن تك ون الش ريعة معلل ة يكفي في ه أن ت رد آي ات وأح اديث فيه ا التعلي ل بح روف التعلي ل‬
‫كف اء التعقيب والم التعلي ل وب اء التس بيب ونح و ذل ك وبه ذا يك ون االس تدالل على المقاص د‬
‫والمصالح قد بلغ الغاية والهدف ‪.‬‬

‫ولبي ان م ا س بق أش ير أوال إلى أن الغ زالي على س بيل المث ال في اس تدالله على‬

‫المص الح المرس لة ‪ ،‬يجع ل دليال واح دا نص ب عيني ه واهتم ام ـأصغريه ‪ .‬فق ال ب أن ال دليل‬

‫عليها هو نتيجة النقاش الذي جرى بين الصحابة رضوان اهلل عليهم حول عقوبة الشارب‬

‫يقول الغزالي‪ « :‬ويشهد على جنس ذلك أمر كلي وهو مثال منقول عن الصحابة‪ ،‬اشتهر‬

‫الطوفي التعيين على األربعين ‪246‬‬ ‫‪3‬‬


‫بين أئمتهم‪ ،‬و تط ابقوا علي ه ‪ .‬وذل ك م ا روي أن الن اس لم ا تت ابعوا في ش رب الخم ر‬

‫واستحقروا الحد المشرع فيه ‪ ،‬جمع عمر رضي اهلل عنه الصحابة واستشارهم ‪ ،‬فضربوا‬

‫في ه س هام ال رأي‪ .‬ح تى ق ال علي رض ي اهلل عن ه‪ :‬من ش رب س كر ومن س كر ه ذى ومن‬

‫هذى افترى فأري عليه حد المفتري ‪ .‬فأخذوا بقوله واستصوبوه‪ ،‬واستمروا عليه‪ ،‬وهذه‬

‫هي المص لحة المرس لة ال تي يج وز اتب اع مثله ا»‪ 4‬وق د انطل ق الغ زالي من ه ذا الح ديث‬

‫لمقارب ة المص لحة اس تدالال وتأص يال وتم ثيال‪ .‬وق د ك ان ه ذا في أحس ن األح وال ‪ .‬ألن ه من‬

‫المع روف كالم الغ زالي في المستص فى حيث جع ل المص الح هي أول األدل ة األربع ة‬

‫الوهمي ة وال تي ال تس تند على أص ل معين ‪ ،‬فق ال‪ :‬األص ل الراب ع من األص ول الموهوم ة‬

‫االستصالح وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة‪ .‬وال بد من كشف معنى‬

‫المص لحة وأقس امها فنق ول المص لحة باإلض افة إلى ش هادة الش رع ثالث ة أقس ام قس م ش هد‬

‫الشرع العتبارها‪ ،‬وقسم شهد لبطالنها‪ ،‬وقسم لم يشهد الشرع ال لبطالنها وال العتباره ا‪...‬‬

‫إلى أن يقول ‪ :‬القسم الثالث ما لم يشهد له من الشرع بالبطالن وال باالعتبار نص معين‪.‬‬

‫وهذا في محل النظر فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر‪ .‬وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في‬

‫الغزالي شفاء الغليل ص ‪212‬‬ ‫‪4‬‬


‫ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات وإ لى ما هي في رتبة الحاجات وإ لى ما يتعلق‬

‫‪5‬‬
‫بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات‬

‫كم ا أن الط وفي اتك آ على ح ديث الض رر لالس تدالل على المص الح ‪ .‬فانطالق ا من ه ذا‬
‫الح ديث ب نى الط وفي نظري ة متماس كة ومنهجي ة عن المص لحة وأدلته ا وط رق إثباته ا‬
‫وعالقتها باألدلة األخرى كما في قوله أكثر من مرة ‪ « :‬وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا‬
‫الحديث على جميع أدلة الشرع وتخصيصها به في نفي الضرر‪ ،‬وتحصيل المصلحة‪ ،‬ألنا‬
‫لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع تضمن ضررا فإن نفيناه بهذا الحديث كان عمال بالدليلين‪،‬‬
‫وإ ن لم ننفيه به كان تعطيال ألحدهما وهو هذا الحديث‪ ،‬وال شك أن الجمع بين النصوص‬
‫‪6‬‬
‫في العمل بها أولى من تعطيل بعضهما »‬

‫واألم ر نفس ه نج ده م ع الع ز ابن عب د الس الم فق د تن اول المقاص د من جه ة أنه ا عب ارة عن‬
‫ِإ َّ‬
‫تحص يل المص الح ودف ع المفاس د مؤص ال ذل ك ومس تدال علي ه بقول ه تع الى‪َّ ( :‬ن اللهَ َي ُ‬
‫ْأم ُر‬
‫اء َواْل ُم ْن َك ِر َواْلَب ْغ ِي َي ِعظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫اء ِذي اْلقُ ربى وي ْنهى ع ِن اْلفَ ْح َش ِ‬
‫ْ َ ََ َ َ‬
‫ان وِإ يتَ ِ‬ ‫ِ ِإْل‬
‫باْل َع ْدل َوا ْح َس ِ َ‬
‫ِ‬

‫ون) النحل ‪ 90‬فقد جعل هذه اآلية قطب الرحى في المص الح والمفاسد‪ .‬فقال الشيخ‬ ‫تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ابن عاشور في تفسير هذه اآلية بأن صاحب السيرة الحلبية قال بأن الشيخ عز الدين ابن‬
‫عب د الس الم أل ف كتاب ا س ماه الش جرة‪ ،‬بين في ه أن ه ذه اآلي ة اش تملت على جمي ع األحك ام‬
‫الشرعية في سائر األبواب الفقهية‪ .‬وعلق الريسوني على هذا فقال‪ « :‬فالمفروض إذن أن‬
‫ابن عبد السالم قد عمل في هذا الكتاب على ربط األحكام الشرعية بأصولها و مقاصدها‬
‫المجموعة في هذه اآلية‪ ،‬وهذا عمل جليل وفريد من نوعه» [‪]7‬‬

‫الغزالي المستصفى ‪164‬‬ ‫‪5‬‬

‫الطوفي التعيين‪ $‬على أألربعين ص ‪237‬‬ ‫‪6‬‬

‫الريسوني‪ ،‬نظرية المقاصد عند الشاطبي‪ ،‬ص‪66 :‬‬ ‫‪7‬‬


‫وق د ح دث ه ذا قبال في مس ائل األص ول خصوص ا في االس تدالل على اإلجم اع وعلى‬
‫القي اس‪ .‬ف رغم أهمي ة اإلجم اع في المدون ة األص ولية والفقهي ة وحاكميت ه على األص لين‬
‫الم وحى بهم ا ‪ ،‬فق ال الغ زالي إن اإلجم اع يحكم على كت اب اهلل تع الى وعلى الس نة‬
‫المت واترة‪ ،8‬وس وى في موق ع آخ ر بين من ينك ره وينك ر النب وة وأص ول ال دين‪ .‬وق د نق ل‬
‫األص فهاني أن ه ذا ه و الق ول المش هور‪« :‬وه و ال ذي قط ع ب ه الص يرفي وابن بره ان من‬
‫وج وه الش افعية‪ ،‬وج زم ب ه الدبوس ي من الحنفي ة‪ ،‬وأن ه يق دم اإلجم اع على األدل ة كله ا وال‬
‫يعارضه دليل أصال‪ ،‬وقال الرازي واآلمدى إنه ال يفيد إال الظن‪ ،‬وقال جماعة بالتفصيل‬
‫بين ما اتفق عليه المعتبرون فيكون حجة قطعية‪ ،‬وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي وما قل‬
‫مخالفه فيكون حجة ظنية‪ »9‬رغم هذه األهمية فإن مستنده األساسي عند الشافعي ومن لحقه‬
‫ِ‬ ‫الرس َ ِ‬ ‫من األصوليين هو آية واحدة وهي قوله تعالى‪( :‬و َم ْن ُي َش ِاق ِ‬
‫ول م ْن َبعْد َم ا تََبَّي َن لَ هُ‬ ‫ق َّ ُ‬ ‫َ‬
‫تم ِ‬ ‫يل اْلم ِمنِين ُنولِّ ِه ما تَولَّى وُن ِ ِ‬
‫اْلهُ َدى َوَيتَّبِ ْع َغ ْي َر َسبِ ِ ُ ْؤ َ َ َ َ َ ْ‬
‫‪10‬‬
‫ص ًيرا)‬ ‫صله َجهََّن َم َو َس َ‬
‫اء ْ َ‬

‫ك ذلك نج د أن القي اس كراب ع أص ول الش ريعة أو ه و أص ل أص ولها كم ا يفهم من كالم‬


‫الجوي ني عنم دا ق ال عن القي اس ‪ :‬القس م الث اني قي اس العل ة وه و اس تنباط المع اني المخيل ة‬
‫المناسبة من األحكام الثابتة في مواقع النصوص واإلجماع‪ ,‬وهو على التحقيق بحر الفقه‬
‫ومجموعه‪ ،‬وفيه تنافس النظار وأكثر القول في هذا الكتاب يتعلق ببيان صحيحه و فاسده‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫ف رغم أهمي ة القي اس ‪ ،‬نج ده يس تقى داللت ه من الح ديث أن الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال‬
‫لمعاذ‪ { :‬بم تحكم؟ فقال بكتاب اهلل ‪ ،‬قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وس لم‪ ،‬ق ال ف إن لم تج د ؟ ق ال اجته د رأيى} فه ذا الح ديث ق د تقبلت ه األم ة ب القبول‪ ،‬وجعلت ه‬
‫مستندا ألصل القياس ‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ المستصفي للغزالي ـ ص ‪176:‬‬


‫‪ 9‬ـ إرشاد الفحول للشوكاني ـ ص‪120-119:‬‬
‫‪ 10‬النساء ‪115‬‬
‫‪ 11‬الجويني‪ ،‬البرهان ص‪459 :‬‬
‫واألدهى من ذلك أن بعض الخبراء في أصول الفقه والمقاصد الشرعية صرحوا بعدم‬
‫ضرورة االستدالل على المقاصد وإ قامة األدلة عليها ‪ ،‬كما قال الغزالي أو أن الدليل‬
‫عليه ا متع ذر خصوص ا من ج انب األدل ة القطعي ة من الق رآن والس نة واإلجم اع كم ا‬
‫صرح بذلك الشاطبي‪.‬‬

‫ف نرى الغ زالي عن دما تع رض للمص الج القطعي ة والمقاص د الض رورية ي رى أن مث ل ه ذه‬
‫المس ائل ال يحت اج إلى اس تدالل فق ال ‪ « :‬ونحن نعلم أن الش رع ي ؤثر حف ظ الكلي على‬
‫الج زئي ف إن حف ظ أه ل اإلس الم ‪ ،‬عن اص طالم الكف ار أهم في مقص ود الش رع من حف ظ‬
‫مسلم ‪ ،‬فهذا مقطوع به من مقصود الشرع والمقطوع به ال يحتاج إلى شهادة األصل»‪.12‬‬

‫ويقول في مسألة التوظيف على المال‪ ،‬وأنه بتعطيله يهلك عالم اإلسالم‪ :‬وهذا ما يعلم قطعا‬
‫من كلي مقص ود الش رع في حماي ة ال دين وال دنيا قب ل أن تلتفت إلى الش واهد المعين ة من‬
‫أص ول الش رع» ويق ول أيض ا ‪« :‬ثم خاص ية مث ل ه ذه المص الح القطعي ة أنه ا ال تع دم ق ط‬
‫شواهد من شواهد الشرع كثيرة‪.»13‬‬

‫والشاطبي الذي اهتم باالستدالل على المقاصد في المسالة السابعة خرج بنتيجة مفادها عدم‬
‫التص ريح به ا من خالل األدل ة القطعي ة وإ ن ك ان االس تدالل عليه ا س يأتي فيم ا أس ماه‬
‫باالس تقراء ‪ .‬ولع ل الش اطبي ت أثر بكالم الغ زالي الس ابق وه و أن ال دليل القطعي اليمكن‬
‫بن اؤه على ال دليل الج زئي ال ذي تمثل ه النص وص أحس ن تمثي ل فق ال‪ :‬ك ون الش ارع قاص دا‬
‫للمحافظة على القواعد الثالث الضرورية والحاجية والتحسينية ال بد عليه من دليل يستند‬
‫إليه والمستند إليه فى ذلك إما أن يكون دليال ظنيا أو قطعيا وكونه ظنيا باطل مع أنه أص ل‬
‫من أصول الشريعة بل هو أصل أصولها وأصول الشريعة قطعية حسبما تبين فى موضعه‬
‫فأص ول أص ولها أولى أن تك ون قطعي ة ول و ج از إثباته ا ب الظن لك انت الش ريعة مظنون ة‬

‫الغزالي شفاء الغليل‪ ،‬ص‪.495 :‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪ 237 :‬و‪.238‬‬ ‫‪13‬‬


‫أصال وفرعا وهذا باطل فال بد أن تكون قطعية فأدلتها قطعية بال بد فإذا ثبت هذا فكون‬
‫هذا األصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه فال يخلو أن يكون عقليا أو نقليا فالعقلي‬
‫ال موقع له هنا ألن ذلك راجع إلى تحكيم العقول فى األحكام الشرعية وهو غير صحيح‬
‫فال بد أن يكون نقليا واألدلة النقلية إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند ال يحتمل‬
‫متنها التأويل على حال أوال فإن لم تكن نصوصا أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر فال يص ح‬
‫استناد مثل هذا إليها ألن ما هذه صفته ال يفيد القطع وإ فادة القطع هوالمطلوب وإ ن كانت‬
‫نصوصا ال تحتمل التأويل ومتواترة السند فهذا مفيد للقطع إال أنه متنازع فى وجوده بين‬
‫العلماء والقائل بوجوده مقر بأنه ال يوجد فى كل مسألة تفرض فى الشريعة بل يوجد فى‬
‫بعض المواض ع دون بعض ولم يتعين أن مس ألتنا من المواض ع ال تي ج اء فيه ا دلي ل‬
‫قطعي ‪ ...‬بقي دليل واحد وهو آخر ملج إ من مالجئ األدلة القطعية وهو اإلجماع ومعه‬
‫أيض ا ال يحص ل الح ل ق ال الش اطبي ‪ :‬وال يق ال إن اإلجم اع ك اف وه و دلي ل قطعي ألن ا‬
‫نقول هذا أوال مفتقر إلى نقل اإلجماع على اعتبار تلك القواعد الثالث شرعا نقال متواترا‬
‫عن جميع أهل اإلجماع وهذا يعسر إثباته ولعلك ال تجده ثم نقول ثانيا إن فرض وجوده‬
‫فال بد من دليل قطعي يكون مستندهم ويجتمعون على أنه قطعي فقد يجتمعون على دليل‬
‫ظ ني فتك ون المس ألة ظني ة ال قطعي ة فال تفي د اليقين ألن اإلجم اع إنم ا يك ون قطعي ا على‬
‫ف رض اجتم اعهم على مس ألة قطعي ة له ا مس تند قطعي ف إن اجتمع وا على مس تند ظ ني فمن‬
‫الناس من خالف في كون هذا اإلجماع حجة فإثبات المسألة باإلجم اع ال يتخلص وعند‬
‫ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي‬
‫إلى أن يقول‪« :‬وإ نما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة‪ :‬وذلك أن‬
‫ه ذه القواع د الثالث ال يرت اب في ثبوته ا ش رعا أح د ممن ينتمي إلى االجته اد من أه ل‬
‫الش رع‪ ،‬وأن اعتباره ا مقص ود للش ارع‪ .‬ودلي ل ذل ك اس تقراء الش ريعة والنظ ر في أدلته ا‬
‫الكلي ة والجزئي ة‪ ،‬وم ا انط وت علي ه من ه ذه األم ور العام ة على ح د االس تقراء المعن وي‪،‬‬
‫الذي ال يثبت بدليل خاص بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة األغراض‪ ،‬بحيث‬
‫ينتظم من مجموعه ا أم ر واح د تجتم ع علي ه تل ك األدل ة‪ ،‬على ح د م ا ثبت عن د العام ة من‬
‫جود حاتم وشجاعة علي رضي اهلل عنه» [‪]14‬‬

‫إن عدم االهتمام باألدلة وتنويعها يعتبر أحد المعوقات التي تعترض األصول ومقاصدها ‪.‬‬
‫ذلك أن هذه األصول تنكشف وتتكشف من خالل تلك األدلة وتكون مفهومة ومؤصلة بقدر‬
‫األدل ة ال تي تكش ف عنه ا ‪ .‬كم ا يق ال في العل وم بالطبيعي ة ب أن الحقيق ة تتح دد من الناحي ة‬
‫الكمية دون الناحية الكيفية ‪ ،‬وكما يقول المثل بأن العرب إذا زادت األلفاظ زادت المعاني‬
‫كذلك يمكن القول نفسه فيما يتعلق بالحديث عن أدلة المقاصد والمصالح‪ .‬وما نصبو إليه‬
‫من ه ذا الكالم ه و تنوي ع األدل ة على المقاص د والمص الح ذل ك ان الوق وف فيه ا على دلي ل‬
‫معين سيبقيها في دائرة ذلك الدليل وما يقال هنا يقال عن االستدالل في مواضيع األصول‬
‫األخرى ‪ ..‬والدليل على ذلك ما يقرره ابن حزم في إحدى مبادئه الميكانيكية في قوله بان‬
‫القض ية أو اللفظ ة التعطى إال نفس ها ‪ .‬مث ال ذل ك أن االس تدالل على القي اس مثال بح ديث‬
‫مع اذ ه و بعض االس تدالل على القي اس واالجته اد ال عليهم ا كلهم ا ‪ .‬فه و يق دم دليال على‬
‫ش رعية االجته اد لكن ه ليس دليال على ب اقي المس ائل في االجته اد والقي اس فه ذا يتطلب‬
‫اس تثارة أدل ة أخ رى للمقاص د األخ رى المتعلق ة باالجته اد وبالقي اس‪ .‬وبعب ارة أخ رى ف إن‬
‫حديث معاذ يجعل كل محاولة لنفي الراي واالجتهاد باطلة ولكنه في نفس الوقت إنما يؤكد‬
‫على االجته اد وال رأي من حيث هما اجته اد ورأي ولكن ه ال ي برر ك ل اجته اد وك ل رأي ‪.‬‬
‫وه ذا ه و مكمن اإلش كال في االس تدالل الش رعي حيث يتج اوز بال دليل مقاص ده وثقالت ه‬
‫اللفظية في جانب ‪ ،‬وفي جانب آخر يضن به عنهما وكال الموقفين خطأ ‪.‬‬

‫ولعل أهمية متابعة النصوص وتثويرها هو ما جعل الشاطبي يتفرد بدعوته إلى االعتماد‬
‫على االستقراء كدليل يتتبع المعاني من جملة نصوص كثيرة ‪ ،‬وهذه المعاني ليست معنى‬

‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪ 35/2 :‬وما قبلها‬ ‫‪14‬‬


‫واحدا وإ نما هي معاني كثيرة من أجل هذا األصل أو ذاك وخصوصا عند من يقول بعدم‬
‫وجود الترادف وأن كل دليل يطالع بمعنى جديد يجب استكشافه واستخراجه ‪.‬‬

‫نخ رج به ذه الكلم ات من مالحظ ة أساس ية وهي ض رورة االنفت اح على النص وص الكث يرة‬
‫التي لها رابطة تجمع بينها وكلما كان ذلك االنفتاح كبيرا كانت معرفتنا بالموضوع أكثر‬
‫شمولية وجدوائية‪ .‬ومن هذه الجهة ذكرت في الصفحات الالحقة بعض مظاهر األدلة عن‬
‫المقاص د والمص الح باعتب ار ذل ك ال غ يره ه و الطري ق األنج ع لمعرفتهم ا ‪ ،‬واالس تدالل‬
‫عليهما وبهما‪.‬‬

‫المبحث الثاني األدلة الجديدة على المقاصد والمصالح‬

‫المطلب األول‪ :‬دليل رفع الحرج‬

‫رف ع الح رج ه و واح د من األدل ة على المص الح والمقاص د الش رعية‪ .‬ومظه ر من‬
‫مظاهرها ‪ ،‬ألن الشريعة جاءت للمصالح ال للمفاسد ولرفع الحرج ال للعنت والتضييق‪.‬‬

‫ورا‬ ‫َّ‬ ‫بِه َولَ ِك ْن َم ا تَ َع َّم َد ْ‬


‫ط ْأتُم ِ‬ ‫ق ال تع الى‪ :‬ولَْيس علَْي ُكم جَن ٌ ِ‬
‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫وب ُك ْم َو َك َ‬
‫ت ُقلُ ُ‬ ‫َأخ َ ْ‬ ‫يم ا ْ‬ ‫اح ف َ‬ ‫َ َ َ ْ ُ‬
‫ط َْأن ا ـ قال قد فعلت ـ َرَّبَن ا‬ ‫خ ْذَنا ِإ ْن َن ِس َينا َْأو ْ‬
‫َأخ َ‬ ‫يم ا األحزاب ‪ 5‬وقال تعالى‪َ :‬رَّبَن ا اَل تَُؤ ا ِ‬ ‫ِ‬
‫َرح ً‬
‫ين ِم ْن َقْبِلَنا ـ قال قد فعلت ـ َرَّبَن ا َواَل تُ َح ِّمْلَن ا َم ا اَل‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ص ًرا َك َما َح َمْلتَهُ َعلَى الذ َ‬ ‫َواَل تَ ْحم ْل َعلَْيَنا ِإ ْ‬
‫طاقَةَ لََنا بِ ِه البقرة ‪286‬‬ ‫َ‬

‫طهَِّر ُك ْم المائدة ‪ 6‬وقال عز وجل‪:‬‬ ‫يد اللَّهُ ِلَي ْج َع َل َعلَْي ُك ْم ِم ْن َح َر ٍج َولَ ِك ْن ُي ِر ُ‬


‫يد ِلُي َ‬ ‫وقال‪َ :‬ما ُي ِر ُ‬
‫اض طَُّر ِفي‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫يم ‪ 115‬النح ل وقول ه فَ َم ِن ْ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫اغ َواَل َع اد فَ ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬ ‫ْر َب ٍ‬ ‫اض طَُّر َغي َ‬ ‫فَ َم ِن ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ٍ ٍ‬ ‫م ْخم ٍ‬
‫ض‬‫اَأْلر ِ‬‫ض َر ْبتُ ْم في ْ‬ ‫يم المائد ‪ 3‬وقوله َوِإ َذا َ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ْر ُمتَ َج انف ِإِل ثْم فَ ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬ ‫ص ة َغي َ‬ ‫َ َ َ‬
‫الص اَل ِة ‪ 101‬النساء اآلية وقوله م ْن َكفَ ر بِاللَّ ِه ِم ْن بع ِ‬
‫ْد‬ ‫ص ُروا ِم َن َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َأن تَ ْق ُ‬
‫اح ْ‬ ‫َفلَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬
‫اح َعلَْي ُك ْم ِإ ْن‬ ‫يم ِ‬ ‫ْرهَ و َقْلُب هُ م ْ ِئ ِ ِإْل‬ ‫ِإيم ِ‬
‫انِه ِإاَّل‬
‫ان النم ل ‪ 106‬وقول ه تع الى اَل ُجَن َ‬ ‫ط َم ٌّن با َ‬ ‫ُ‬ ‫َم ْن ُأك ِ َ‬ ‫َ‬
‫َأن‬
‫اح ْ‬ ‫ض وا لَهُ َّن فَ ِر َ‬
‫يض ةً البق رة ‪ 236‬لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬ ‫وه َّن َْأو تَ ْف ِر ُ‬
‫اء َم ا لَ ْم تَ َم ُّس ُ‬
‫الن َس َ‬ ‫طلَّ ْقتُُم ِّ‬
‫َ‬
‫النس ِ‬ ‫ِه ِم ْن ِخ ْ ِ‬
‫ض تُم ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫تَْبتَ ُغوا فَ ْ ِ‬
‫اء البقرة‬ ‫طَب ة ِّ َ‬ ‫يما َع َّر ْ ْ‬ ‫ضاًل م ْن َرِّب ُك ْم البقرة ‪َ 98‬واَل ُجَن َ‬
‫اح َعلَْي ُك ْم ف َ‬
‫‪235‬‬

‫وق ال الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم عن أبي س عيد بن مال ك بن س نان الخ دري رض ي اهلل‬
‫‪15‬‬
‫عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه و سلم قال‪ ( :‬ال ضرر وال ضرار )‬

‫قال الطوفي ‪ :‬والضرر إلحاق مفسدة بالغير مطلقا والضرار إلحاق مفسدة به على جهة‬
‫‪16‬‬
‫المقابلة أي كل منهما يقصد ضرر صاحبه‪.‬‬

‫فقد جاءت الشريعة لرفع الضرر ويقول الشاطبي « ومنه أيضا قوله عليه الصالة والسالم‬
‫ال ضرر وال ضرار‪ ،‬فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار‬

‫مبث وث منع ه في الش ريعة كله ا في وق ائع جزئي ات وقواع د كلي ات‪ .‬كقول ه تع الى ‪َ ( :‬واَل‬
‫وه َّن)‪» 18‬‬
‫ض ُّار ُ‬
‫( َواَل تُ َ‬
‫‪17‬‬
‫ض َر ًارا ِلتَ ْعتَ ُدوا)‬
‫وه َّن ِ‬
‫تُ ْم ِس ُك ُ‬

‫وبعض الناس يحاول اثبات المشقة بوقائع جزئية ال يساعد سياقها ومساقها على ما يريد‬
‫من اثباته ا ‪ .‬ومن ذل ك الرج وع إلى م ا ج اء في الح ديث الش ريف ال ذي رواه مس لم عن‬
‫‪19‬‬
‫وهو ما عبر‬ ‫عائشة أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم قال لها‪:‬أجرك على قدر نصبك‬
‫عنه السيوطي في األشباه والنظائر ( ما كان أكثر فعال كان أكثر فضال)‬

‫وقد اعتنى الشاطبي بهذا األصل قائال بأنه من الأصول المنسية فقال ‪ :‬وهذا القسم‬
‫يستدعى كالما يكون فيه مد بعض نفس فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه مع تأكده فى‬
‫أص ول الش ريعة‪ ..‬ف اعلم أن الح رج مرف وع عن المكل ف ل وجهين أح دهما الخ وف من‬
‫االنقطاع من الطريق وبغض العبادة وكراهة التكليف وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من‬

‫مالك الموطا ‪ 746 /2‬الدارقطني ‪ 228 / 4‬ابن ماجة ‪2341‬‬ ‫‪15‬‬

‫الطوفي التعيين على األربعين ص ‪236‬‬ ‫‪16‬‬

‫ـ البقرة ‪231‬‬ ‫‪17‬‬

‫الطالق ‪6‬‬ ‫‪18‬‬

‫البخاري ‪1695‬‬ ‫‪19‬‬


‫إدخال الفساد عليه فى جسمه أو عقله أو ماله أو حاله والثانى خوف التقصير عند مزاحمة‬
‫الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة األنواع مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي‬
‫فى الطري ق فربم ا ك ان التوغ ل فى بعض األعم ال ش اغال عنه ا وقاطع ا ب المكلف دونه ا‬
‫وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة فى االستقصاء فانقطع عنهما فأما األول فإن اهلل‬
‫وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة حفظ فيها على الخلق قلوبهم وحبها لهم‬
‫بذلك فلو عملوا على خالف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما ال تخلص به‬
‫ثِير ِم َن‬
‫يع ُك ْم ِفي َك ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫اعلَم وا َّ ِ‬
‫َأن في ُك ْم َر ُس و َل الله لَ ْو ُيط ُ‬ ‫أعم الهم‪ ،‬أال ت رى إلى قول ه تع الى َو ْ ُ‬
‫ِإ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإْل‬ ‫ْر لَ َعنِتُّم ولَ ِك َّن اللَّهَ َحَّب َ ِإ‬
‫اَأْلم ِ‬
‫وق‬ ‫ان َو َزَّيَن هُ في ُقلُ وب ُك ْم َو َك َّرهَ لَْي ُك ُم اْل ُك َ‬
‫فْر َواْلفُ ُس َ‬ ‫يم َ‬
‫ب لَْي ُك ُم ا َ‬ ‫ْ َ‬
‫ان الحج رات ‪ 8‬إلى آخره ا فق د أخ برت اآلي ة أن اهلل حبب إلين ا اإليم ان بتيس يره‬ ‫ِ‬
‫ص َي َ‬ ‫َواْلع ْ‬
‫وتس هيله وزين ه فى قلوبن ا ب ذلك وبالوع د الص ادق ب الجزاء علي ه وفى الح ديث عليكم من‬
‫‪2120‬‬
‫األعمال ما تطيقون فإن اهلل ال يمل حتى تملوا‬

‫وق ال الش اطبي‪ :‬إلى غ ير ذل ك من اآلي ات المص رحة بمج رد رف ع الجن اح وبج واز اإلق دام‬

‫يض ا َْأو َعلَى َس فَ ٍر َفعِ َّدةٌ ِم ْن ََّأي ٍام َ‬


‫ُأخ َر البق رة ‪ 185‬وفي‬ ‫ان َم ِر ً‬
‫خاص ة وق ال تع الى َو َم ْن َك َ‬
‫الحديث كنا نسافر مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فمنا المقصر ومنا المتم وال يعيب‬
‫‪23‬‬
‫بعضنا على بعض‪ 22‬والشواهد على ذلك كثيرة‬

‫وفي مقاب ل ذل ك نج د النهي عن التش دد والعس رة والتنط ع كم ا في قول ه تع الى ‪ُ (:‬ق ْل َم ا‬


‫ين) ص ‪ 86‬وقول ه ( َواَل ُي ِري ُد بِ ُك ُم اْل ُع ْس ر)َالبق رة‬ ‫ِِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َأس َألُ ُك ْم َعلَيْه م ْن َأجْ ٍر َو َم ا ََأن ا م َن اْل ُمتَ َكلف َ‬
‫ْ‬
‫‪ 185‬وفى التزام المشاق تكليف وعسر وفيها ما روى عن ابن عباس فى قصة بقرة بني‬

‫سنن أبي داوود ‪ 1368‬دار الفكر ‪ 1415‬هـ ‪ 1995‬م‬ ‫‪20‬‬

‫االشاطبي الموافقات ‪ 135 /2‬ـ ‪136‬‬ ‫‪21‬‬

‫البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين كتاب السنن الكبرى ‪ 5308‬دار المعرفة‬ ‫‪22‬‬

‫الشاطبي الموافقات ‪308 /1‬‬ ‫‪23‬‬


‫إس رائيل ل و ذبج وا بق رة م ا ألج زأتهم ولكن ش ددوا فش دد اهلل عليهم وفى الح ديث هل ك‬
‫المتنطعون ‪.24‬‬

‫وت‬‫ْط ِإلَى بي ِ‬ ‫وفيه من من رغب عن سنتي فليس منيفعن أنس بن مالك قال‪ :‬ج اء ثَالَثَ ةُ ره ٍ‬
‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ْه َو َس لَّ َم‪َ ،‬فلَ َّما‬
‫النبِ ِّي ص لَّى اهلل علَي ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫اد ِة َّ‬
‫ون َع ْن ِعَب َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫النبِ ِّي َّ‬
‫ص لى اهللُ َعلَيْه َو َس ل َم‪َ ،‬ي ْس َألُ َ‬‫َ‬ ‫اج َّ‬
‫َْأز َو ِ‬
‫صلَّى اهللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم؟ َق ْد ُغ ِف َر لَهُ َم ا تَقَ َّد َم‬ ‫وها‪ ،‬فَقَالُوا‪َ :‬و َْأي َن َن ْح ُن ِم َن َّ‬
‫النبِ ِّي َ‬
‫ُّ‬
‫ُأخبِ ُروا َك ََّأنهُ ْم تَقَال َ‬
‫ْ‬
‫وم َّ‬
‫الد ْه َر‬ ‫َأص ُ‬‫آخ ُر‪ََ :‬أن ا ُ‬ ‫ُأصلِّي اللَّيْ َل ََأب ًدا‪َ ،‬وقَ ا َل َ‬
‫َأما ََأنا فَِإ ِّني َ‬
‫َأح ُد ُه ْم‪َّ :‬‬ ‫ِم ْن َذ ْنبِ ِه و َما تَ َّ‬
‫َأخ َر‪ ،‬قَا َل َ‬ ‫َ‬
‫النس اء فَالَ َأتَ َز َّوج َأب ًدا‪ ،‬فَج اء رس و ُل اللَّ ِه ص لَّى اهلل علَي ِ‬
‫ْه‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َأعتَ ِز ُل ِّ َ َ‬ ‫آخ ُر‪ََ :‬أن ا ْ‬
‫ال َ‬ ‫ط ُر‪َ ،‬وقَ َ‬ ‫َوالَ ُأ ْف ِ‬
‫َأَلخ َش ا ُك ْم ِللَّ ِه َوَأتْقَ ا ُك ْم لَ هُ‪ ،‬لَ ِكِّني‬
‫َأم ا َواللَّ ِه ِإِّني ْ‬
‫ين ُقْلتُ ْم َك َذا َو َك َذا‪َ ،‬‬
‫ال‪َِّ ْ :‬‬
‫«َأنتُُم الذ َ‬ ‫َو َس لَّ َم ِإلَْي ِه ْم‪ ،‬فَقَ َ‬
‫ب َع ْن ُس َّنتِي َفلَْي َس ِمِّني» ‪.. 25‬‬ ‫اء‪ ،‬فَ َم ْن َر ِغ َ‬ ‫ُأص لِّي َو َْأرقُ ُد‪َ ،‬وَأتَ َز َّو ُج ِّ‬
‫الن َس َ‬ ‫وم َوُأ ْفطِ ُر‪َ ،‬و َ‬ ‫َأص ُ‬ ‫ُ‬
‫إلى أن واع الش دة ال تي ك انت فى األمم فخففه ا اهلل علهيم بقول ه { ويض ع عنهم إص رهم‬
‫واألغالل التي كانت عليهم }‬

‫وقال‪ :‬خذوا من العمل ما تطيقون فإن اهلل لن يمل حتى تملوا ‪ .‬ونهى عن الوصال فلما لم‬
‫‪26‬‬
‫ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوأ الهالل فقال لو تأخر الشهر لزدتكم كالتنكيل بهم‬
‫كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا وقال لو مد لنا فى الشهر لواصلت وصاال يعد المتعمقون‬
‫تعمقهم وقد قال عبد اهلل بن عمرو بن العاص حين كبر يا ليتنى قبلت رخصة رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬وفى الحديث هذه الخوالء بنت تويت زعموا أنها ال تنام الليل فقال‬
‫عليه الصالة والسالم ال تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون وحديث إمامة معاذ حين قال‬
‫‪27‬‬
‫رواه الخمسة اال الترمذي ‪ .‬وقال رجل‬ ‫له النبى صلى اهلل عليه وسلم أفتان أنت يا معاذ‬
‫واهلل ي ا رس ول اهلل إني ألت أخر عن ص الة الغ داة من أج ل فالن مم ا يطي ل بن ا ‪ ،‬ق ال فم ا‬

‫مسلم ‪2670‬‬ ‫‪24‬‬

‫البخاري ‪5063‬‬ ‫‪25‬‬

‫البخاري ‪1864‬‬ ‫‪26‬‬

‫مسلم ‪465‬‬ ‫‪27‬‬


‫رأيت رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم في موعظ ة أش د غض با من ه يومئ ذ ثم ق ال إن منكم‬
‫منفرين‪ 28‬وحديث الحبل المربوط بين ساريتين سأل عنه عليه الصالة والسالم قالوا حبل‬
‫لزينب تصلى فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال حلوه ليصل أحدكم نشاطه‪ .29‬وقال ليس‬
‫من البر الصيام فى السفر‪ 30‬وما خير عليه الصالة والسالم بين أمرين إال إختار أيسرهما‬
‫ما لم يكن إثما‪ .31‬وقال إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق وال تبغضوا إلى أنفسكم عبادة‬
‫اهلل فإن المنبت ال أرضا قطع وال ظهرا أبقى ‪.‬‬

‫وق ال الش اطبي‪ :‬وثبت فى األص ول الفقهي ة امتن اع التكلي ف بم ا ال يط اق وألح ق ب ه امتن اع‬
‫‪32‬‬
‫وروى في الح ديث رف ع عن أم تي الخط أ‬ ‫التكلي ف بم ا في ه ح رج خ ارج عن المعت اد‬
‫والنسيان وما استكرهوا عليه ‪33‬وقال عليه السالم‪ :‬رفع القلم عن ثالث فذكر الصبي حتى‬
‫يحتلم والمغمى عليه حتى يفيق ‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫وقال الشاطبي اإلجماع على أن تكليف ما ال يطاق غير واقع في الشريعة‬

‫ومن رف ع الح رج رف ع التك اليف الغليظ ة ق ال الش اطبي‪ :‬وق د يطل ق لف ظ الرخص ة على م ا‬
‫وضع عن هذه األمة من التكاليف الغليظة واألعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى َرَّبَنا‬
‫ِل علَْيَن ا ِإص را َكم ا حمْلتَ ه علَى الَِّذ ِ ِ‬
‫ض عُ‬
‫ين م ْن قَْبلَن ا البق رة ‪ 286‬وقول ه تع الى َوَي َ‬
‫َ‬ ‫ْ ً َ ََ ُ َ‬ ‫َواَل تَ ْحم ْ َ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم األعراف ‪ .... 157‬فكان ما جاء في هذه الملة‬ ‫اَأْلغاَل َل الَّتِي َك َان ْ‬ ‫َع ْنهُ ْم ِإ ْ‬
‫ص َر ُه ْم َو ْ‬
‫الس محة من المس امحة واللين رخص ة بالنس بة إلى م ا حمل ه األمم الس الفة من الع زائم‬
‫الشاقة‪. 35‬‬

‫مسلم ‪466‬‬ ‫‪28‬‬

‫البخاري ‪1099‬‬ ‫‪29‬‬

‫البخاري ‪1844‬‬ ‫‪30‬‬

‫مسلم‪2327‬‬ ‫‪31‬‬

‫الشاطبي المواقفات ‪99 //1‬‬ ‫‪32‬‬

‫النووي األربعون ‪39‬‬ ‫‪33‬‬

‫الشاطبي الموافقات ‪150 /1‬‬ ‫‪34‬‬

‫الشاطبي الموافقات ‪ 304 /1‬ـ ‪305‬‬ ‫‪35‬‬


‫وقال الشاطبي‪ :‬األدلة على رفع الحرج فى هذه األمة بلغت مبلغ القطع كقوله تعالى { وما‬
‫جع ل عليكم في ال دين من ح رج } وس ائر م ا ي دل على ه ذا المع نى كقول ه { يري د اهلل بكم‬
‫اليسر وال يريد بكم العسر } { يريد اهلل أن يخفف عنكم وخلق اإلنسان ضعيفا } { ما كان‬
‫على الن بي من ح رج فيم ا ف رض اهلل ل ه } { ويض ع عنهم إص رهم واألغالل ال تي ك انت‬
‫‪36‬‬
‫عليهم وقد سمى هذا الدين الحنيفية السمحة لما فيها من التسهيل والتيسير‬

‫وق ال الش اطبي في ه ذا المع نى ‪ :‬ك ل أم ر ش اق جع ل الش ارع في ه للمكل ف مخرج ا فقص د‬
‫الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء كما جاء فى الرخص شرعية المخرج من‬
‫المش اق فإذا توخى المكل ف الخ روج من ذلك على الوجه ال ذي شرع ل ه كان ممتثال ألمر‬
‫الش ارع آخ ذا ب الحزم فى أم ره وإ ن لم يفع ل ذل ك وق ع فى محظ ورين ‪ ،‬أح دهما مخالفت ه‬
‫لقصد الشارع كانت تلك المخالفة فى واجب أو مندوب أو مباح والثاني سد أبواب التيسير‬
‫‪37‬‬
‫عليه وفقد المخرج عن ذلك األمر الشاق الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له‬

‫وقال الشاطبي فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق واإلعنات فيه والدليل على ذلك‬
‫اَأْلغاَل َل‬ ‫ض عُ َع ْنهُ ْم ِإ ْ‬
‫ص َر ُه ْم َو ْ‬ ‫أم ور ‪ ،‬أح دها النص وص الدال ة على ذل ك ‪ ,‬كقول ه تع الى َوَي َ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم االعراف ‪ 157‬وقوله { ربنا وال تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين‬ ‫الَّتِي َك َان ْ‬
‫من قبلنا اآلية وفى الحديث قال اهلل تعالى قد فعلت وجاء { ال يكلف اهلل نفسا إال وس عها } {‬
‫يريد اهلل بكم اليسر وال يريد بكم العسر } { وما جعل عليكم في الدين من حرج } { يريد‬
‫اهلل أن يخف ف عنكم وخل ق اإلنس ان ض عيفا } { م ا يري د اهلل ليجع ل عليكم من ح رج ولكن‬
‫‪38‬‬
‫وم ا خ ير بين ش يئين إال‬ ‫يري د ليطه ركم } اآلي ة وفى الح ديث بعثت بالحنيفي ة الس محة‬
‫اختار أيسرهما ما لم يكن إثما‪ 39‬وإ نما قال ما لم يكن إثما ألن ترك اإلثم ال مشقة فيه من‬

‫الشاطبي الموافقات ‪340 /1‬‬ ‫‪36‬‬

‫الشاطبي الموافقات‪346 /1‬‬ ‫‪37‬‬

‫اإلمام أحمد مسند اإلمام أحمد ‪266 / 5‬‬ ‫‪38‬‬

‫مسلم ‪4785‬‬ ‫‪39‬‬


‫حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما فى هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان‬
‫مريدا لليسر وال للتخفيف ولكان مريدا للحرج والعسر وذلك باطل والثانى ما ثبت أيضا‬
‫من مش روعية ال رخص وه و أم ر مقط وع ب ه ومم ا علم من دين األم ة ض رورة ك رخص‬
‫القص ر والفط ر والجم ع وتن اول المحرم ات فى االض طرار ف إن ه ذا النم ط ي دل قطع ا على‬
‫مطل ق رف ع الح رج والمش قة وك ذلك م ا ج اء من النهى عن التعم ق والتكلي ف والتس بب فى‬
‫االنقط اع عن دوام األعم ال ول و ك ان الش ارع قاص دا للمش قة فى التكلي ف لم ا ك ان ثم‬
‫ترخيص وال تخفيف والثالث اإلجماع على عدم وقوعه وجودا فى التكليف وهو يدل على‬
‫عدم قصد الشارع إليه ولو كان واقعا لحصل فى الشريعة التناقض واالختالف وذلك منفى‬
‫عنها فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد اإلعنات والمشقة وقد ثبت أنها موضوعة على‬
‫‪40‬‬
‫قصد الرفق والتيسير كان الجمع بينهما تناقضا واختالفا وهى منزهة عن ذلك‬

‫كما رد الشاطبي بعض الوقائع في شرعية المشقة باعتبارها ظنيات أو أنها لم تحمل على‬
‫حقيقته ا فق ال‪ :‬أوال إن ه ذه أخب ار آح اد في قض ية واح دة ال ينتظم منه ا اس تقراء قطعي‬
‫والظني ات ال تع ارض القطعي ات ف إن م ا نحن في ه من قبي ل القطعي ات ‪ ،‬وثاني ا إن ه ذه‬
‫األح اديث ال دلي ل فيه ا على قص د نفس المش قة فالح ديث األول ق د ج اء في البخ اري م ا‬
‫‪41‬‬
‫يفسره فإنه زاد فيه وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك لئال تخلو ناحيتهم من حراستها‬

‫وقال العز بن عبد السالم ال يصح التقرب بالمشاق ألن القرب كلها تعظيم للرب تعالى ‪،‬‬
‫وليس عين المش اق تعظيم ا وتوق يرا ‪ ،‬وي دل على ذل ك أن من تحم ل المش قة في خدم ة‬
‫إنس ان فإن ه ال ي رى ذل ك ألج ل كون ه ش ق علي ه وإ نم ا ي راه ل ه بس بب تحم ل مش قة الخدم ة‬
‫ألجله وذلك كاالغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى االغتسال في شدة برد الشتاء فإن‬

‫‪ 40‬الشاطبي الموافقات ‪122 //2‬‬


‫ت ْال ِب َقا ُع َح ْو َل ْال َمسْ ِج ِد ‪َ ،‬فَأ َرا َد َب ُنو َسلِ َم َة ‪َ ،‬أنْ َي ْن َتقِلُوا ِإلَى‬ ‫ْن َع ْب ِد هَّللا ِ ‪َ ،‬قا َل ‪َ :‬خلَ ِ‬ ‫ونص الحديث في مسلم َعنْ َج ِاب ِر ب ِ‬
‫‪41‬‬

‫ب ْال َمسْ ِج ِد ؟ َقالُوا‬ ‫َأ‬


‫ون نْ َت ْن َتقِلُوا قُرْ َ‬ ‫َأ‬
‫صلَّى هَّللا ُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم ‪َ ،‬ف َقا َل لَ ُه ْم ‪ِ :‬إ َّن ُه َبلَ َغنِي َّن ُك ْم ُت ِري ُد َ‬
‫ك َرسُو َل هَّللا ِ َ‬ ‫ب ْال َمسْ ِج ِد ‪َ ،‬ف َبلَ َغ َذلِ َ‬
‫قُرْ ِ‬
‫ُ‬
‫ارك ْم تكتبْ آثا ُرك ْم الحديث ‪1074‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ارك ْم تكتبْ آثا ُرك ْم ‪ِ ،‬د َي َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك ‪ ،‬فقا َل ‪َ :‬يا َبنِي َسلِ َمة ‪ِ " ،‬د َي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َأ‬ ‫هَّللا‬
‫‪َ :‬ن َع ْم َيا َرسُو َل ِ ‪ ،‬قد َردنا ذلِ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫أجرهم ا س واء لتس اويهما في الش رائط والس نن واألرك ان ويزي د أج ر االغتس ال في الش تاء‬
‫‪42‬‬
‫ألجل تحمل مشقة الفرد‬

‫وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى ولو شاء اهلل ألعنتكم‪ :‬ألحرجكم فض يق عليكم ‪ ،‬ولكنه‬
‫‪43‬‬
‫وسع ويسر‬

‫ق ال الط بري وقول ه وم ا جع ل عليكم في ال دين من ح رج يق ول تع الى ذك ره ‪ :‬وم ا جع ل‬


‫عليكم ربكم في ال دين ال ذي تعب دكم ب ه من ض يق ‪ ،‬ال مخ رج لكم مم ا ابتليتم ب ه في ه ‪ ،‬ب ل‬
‫وس ع عليكم‪ ،‬فجع ل التوب ة من بعض مخرج ا ‪ ،‬والكف ارة من بعض ‪ ،‬والقص اص من‬
‫بعض ‪ ،‬فال ذنب ي ذنب الم ؤمن إال ول ه من ه في دين اإلس الم مخ رج‪ ...‬عن ابن‬
‫عباس قوله‪:.‬وما جعل عليكم في الدين من حرج ) يقول ‪ :‬ما جعل عليكم في اإلسالم من‬
‫ضيق هو واسع ‪ ،‬وهو مثل قوله في األنعام فمن يرد اهلل أن يهديه يشرح صدره لإلسالم‬
‫ومن ي رد أن يض له يجع ل ص دره ض يقا حرج ا د يق ول ‪ :‬من أراد أن يض له يض يق علي ه‬
‫‪44‬‬
‫صدره حتى يجعل عليه اإلسالم ضيقا ‪ ،‬واإلسالم واسع‬

‫وقال الشنقيطي‪ :‬قوله تعالى ‪ :‬وما جعل عليكم في الدين من حرج ‪ ،‬الحرج ‪ :‬الضيق كما‬
‫أوض حناه في أول س ورة األع راف وق د بين تع الى في ه ذه اآلي ة الكريم ة أن ه ذه الحنيفي ة‬
‫الس محة ال تي ج اء به ا س يدنا محم د ‪ -‬ص لى اهلل علي ه وس لم ‪ -‬أنه ا مبني ة على التخفي ف‬
‫والتيسير ‪ ،‬ال على الضيق والحرج ‪ ،‬وقد رفع اهلل فيها اآلصار واألغالل التي كانت على‬
‫من قبلنا ‪ ،‬وهذا المعنى الذي تضمنته هذه اآلية الكريمة ذكره ‪ -‬جل وعال ‪ -‬في غير هذا‬
‫الموضع كقوله تعالى ‪ :‬يريد اهلل بكم اليسر وال يريد بكم العسر وقوله ‪ :‬يريد اهلل أن يخفف‬
‫عنكم وخل ق اإلنس ان ض عيفا وق د ثبت في ص حيح مس لم من ح ديث أبي هري رة ‪ ،‬وابن‬

‫ابن عبد السالم قواعد األحكام ‪31 /1‬‬ ‫‪42‬‬

‫القرطبي تفسير القرطبي ‪395‬‬ ‫‪43‬‬

‫الطبري تفسير الطبري ‪698‬‬ ‫‪44‬‬


‫عباس أن النبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬لما قرأ خواتم سورة البقرة ‪ :‬ربنا ال تؤاخذنا إن‬
‫نسينا أو أخطأنا قال اهلل ‪ " :‬قد فعلت " في رواية ابن عباس ‪ ،‬وفي رواية أبي هريرة قال‬
‫‪ :‬نعم ‪ .‬ومن رفع الحرج في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصالة في السفر واإلفطار‬
‫في رمضان فيه ‪ ،‬وصالة العاجز عن القيام قاعدا وإ باحة المحظور للضرورة ; كما قال‬
‫تعالى ‪ :‬وقد فصل لكم ما حرم عليكم إال ما اضطررتم إليه اآلية إلى غير ذلك من أنواع‬
‫التخفي ف والتيس ير ‪ ،‬وم ا تض منته ه ذه اآلي ة الكريم ة واآلي ات ال تي ذكرن ا معه ا من رف ع‬
‫الح رج ‪ ،‬والتخفي ف في ش ريعة نبين ا ‪ -‬ص لى اهلل علي ه وس لم ه و إح دى القواع د الخمس ‪،‬‬
‫ال تي ب ني عليه ا الفق ه اإلس المي وهي ه ذه الخمس األولى ‪ :‬الض رر ي زال ومن أدلته ا‬
‫ح ديث ‪ :‬ال ض رر وال ض رار الثاني ة ‪ :‬المش قة تجلب التيس ير ‪ :‬وهي ال تي دل عليه ا قول ه‬
‫هن ا وم ا جع ل عليكم في ال دين من ح رج وم ا ذكرن ا في معناه ا من اآلي ات ‪ .‬الثالث ة ‪ :‬ال‬
‫يرف ع يقين بش ك ‪ ،‬ومن أدلته ا ح ديث من أحس بش يء في دب ره في الص الة وأن ه ال يقط ع‬
‫الص الة ح تى يس مع ص وتا أو يش م ريح ا ألن تل ك الطه ارة المحقق ة لم تنقض بتل ك ال ريح‬
‫المش كوك فيه ا الرابع ة ‪ :‬تحكيم ع رف الن اس المتع ارف عن دهم في ص يغ عق ودهم‬
‫ومع امالتهم ‪ ،‬ونح و ذل ك ‪ .‬واس تدل له ذه بعض هم بقول ه وأم ر ب العرف اآلي ة الخامس ة ‪:‬‬
‫األمور تبع المقاصد ‪.45‬‬

‫الشنقيطي أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن دار الفكر ‪ 1995‬م ‪ 1515‬هـ ‪301 /5‬‬ ‫‪45‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬الوسطية واالعتدال‪:‬‬

‫تعت بر الوس طية واالعت دال من أهم مم يزات الش ريعة اإلس المية وبالت الي فهم ا مظه ر من‬

‫طا ِلتَ ُك ُ‬
‫ون وا‬ ‫ُأمةً َو َس ً‬ ‫مظاهر المقاصد والمصالح فيها فقد قال اهلل عز وجل ‪َ :‬و َك َذِل َ‬
‫ك َج َعْلَن ا ُك ْم َّ‬
‫يدا البقرة ‪ 143‬ويقول محمد الحبر يوسف ‪:‬‬ ‫الر ُس و ُل َعلَْي ُك ْم َش ِه ً‬
‫ون َّ‬ ‫الن ِ‬
‫اس َوَي ُك َ‬ ‫اء َعلَى َّ‬
‫ُش هَ َد َ‬
‫والحق أن الوسطية في مفهوم اإلسالم منهج أصيل ووصف جميل‪ ،‬ومفهوم جامع لمعاني‬
‫العدل والخير واالستقامة ‪ ،‬فهي حق بين باطلين واعتدال بين تطرفين وعدل بين ظلمين‪.‬‬

‫ويق ول ال دكتور محم د عم ارة ‪ :‬الوس طية ال تي تجم ع بين عناص ر الح ق والع دل من‬
‫األقط اب المتقابل ة فتك ّون موقف ا جدي دا مغ ايرا للقط بين المختلفين ولكن المغ ايرة ليس ت‬
‫تام ة ‪،‬فالعقالني ة اإلسالمية تجم ع بين العقل والنق ل‪ ،‬واإليم ان اإلسالمي يجم ع بين اإليمان‬
‫بع الم الغيب واإليم ان بع الم الش هادة ‪،‬والوس طية اإلس المية تع ني ض رورة وض وح الرؤي ة‬
‫باعتب ار ذل ك خصيص ة مهم ة من خص ائص األم ة اإلس المية والفك ر اإلس المي ‪،‬ب ل هي‬
‫منظ ار للرؤي ة وبدون ه ال يمكن أن نبص ر حقيق ة اإلس الم‪ ،‬وكأنه ا العدس ة الالمع ة للنظ ام‬
‫اإلسالمي والفكرية اإلسالمية‪ .‬والفقه اإلسالمي وتطبيقاته فقه وسطي يجمع بين الشرعية‬
‫الثابتة والواقع المتغير أو يجمع بين فقه األحكام وبين فقه الواقع ‪،‬ومن هنا فإن اهلل جعل‬
‫الر ُس و ُل‬
‫ون َّ‬ ‫الن ِ‬
‫اس َوَي ُك َ‬ ‫اء َعلَى َّ‬ ‫طا ِلتَ ُك ُ‬
‫ون وا ُش هَ َد َ‬ ‫ُأمةً َو َس ً‬ ‫وسطيتنا جعال إلهيا ( َ َك َذِل َ‬
‫ك َج َعْلَن ا ُك ْم َّ‬
‫يد)ا البق رة ‪ 143‬وفي الح ديث أن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم م ا خ ير بين‬ ‫َعلَْي ُك ْم َش ِه ً‬
‫أمرين إال اختار أوسطهما‬

‫وقال الطاهر ابن عاشور ووصفت األمة بوسط بصيغة المذكر ألنه اسم جامد فهو لجموده‬
‫يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود واإلشعار بالوصفية بخالف‬
‫نحو ‪ :‬رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم داللته على صفة بل هو إشارة‬
‫محضة ال تشعر بصلة في الذات ‪ .‬وضمير المخاطبين هنا مراد به جمع المسلمين لترتبه‬
‫على االهت داء الس تقبال الكعبة فيعم ك ل من ص لى له ا ‪ ،‬وألن قوله لتكون وا ش هداء ق د فسر‬
‫في الح ديث الص حيح بأنه ا ش هادة األم ة كله ا على األمم فال يختص الض مير ب الموجودين‬
‫يوم نزول اآلية ‪.‬‬

‫واآلي ة ثن اء على المس لمين ألن اهلل ق د ادخ ر لهم الفض ل وجعلهم وس طا بم ا هي أ لهم من‬
‫أس بابه في بي ان الش ريعة بيان ا جع ل أذه ان أتباعه ا س المة من أن ت روج عليهم الض الالت‬
‫التي راجت على األمم ‪ ،‬قال فخر الدين ‪ :‬يجوز أن يكونوا وسطا بمعنى أنهم متوسطون‬
‫ا‬ ‫وا كم‬ ‫ر ألنهم لم يغل‬ ‫الي والمقص‬ ‫رط والغ‬ ‫رط والمف‬ ‫دين بين المف‬ ‫في ال‬
‫غلت النص ارى فجعل وا المس يح ابن اهلل ‪ ،‬ولم يقص روا كم ا قص رت اليه ود فب دلوا الكتب‬
‫‪46‬‬
‫واستخفوا بالرسل ‪.‬‬

‫وق دم بن القيم مظ اهر وس طية الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم فق ال‪ :‬في زاد المع اد وه و‬
‫يتح دث عن ه دي الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم في الكالم ‪ ( :‬وك ان إذا تكلم ‪ ،‬تكلم بكالم‬
‫مفصل مبين يعده العاد ليس بهذر مسرع ال يحفظ ‪ ،‬وال متقطع تتخلله السكتات بين أفراد‬
‫الكالم ‪ ،‬بل هديه فيه أكمل الهدي ‪ ،‬فعن عائشة أنها قالت ‪ " :‬ما كان رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يسرد سردكم هذا " أي الكالم ‪ ،‬وإ نما يتكلم بجوامع الكلم ‪ ،‬فصل ال فضول وال‬
‫تقص ير‪ ..‬وفي مج ال آخ ر وه و هدي ه ص لى اهلل علي ه وس لم في مج ال اللب اس ‪ ،‬ي ذكر ابن‬
‫أقوام ا ي رون أن‬
‫ً‬ ‫كالم ا البن س يرين ثم يعل ق علي ه ق ائالً ‪ ( :‬ومقص ود ابن س يرين أن‬
‫القيم ً‬
‫دائما أفضل من غيره ‪ ،‬فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره وكذلك يتحرون‬
‫لبس الصوف ً‬
‫اعا وهيئ ات ي رون الخ روج عنه ا منك راً‬
‫وما وأوض ً‬
‫زي ا واح ًدا من المالبس ويتح رون رس ً‬
‫ً‬
‫وليس المنك ر إال التقي د به ا ‪ ،‬والمحافظ ة عليه ا وت رك الخ روج عنه ا ) ‪ .‬أي التم ترس في‬
‫موق ع واح د ‪ ،‬وذل ك ه و التط رف ال ذي يكرهه اإلس الم ‪ ،‬ثم يق ول ابن القيم ‪ ( :‬فال ذين‬
‫يمتنع ون عم ا أب اح اهلل من المالبس والمط اعم والمن اكح تزه ًدا وتعب ًدا ب إزائهم طائف ة‬

‫ابن عاشور التحرير والتنوير ‪ 16 /2‬دار سحنون‬ ‫‪46‬‬


‫قابلوهم فال يلبسون إال أشرف الثياب وال يأكلون إال ألين الطعام ‪ ،‬فال يرون لبس الخشن‬
‫وتجبرا ‪ ،‬وكال الطائفتين هديها مخالف لهدي النبي صلى اهلل عليه وسلم ) ‪.‬‬
‫ً‬ ‫تكبرا‬
‫وال أكله ً‬
‫ثم زاد ابن القيم بقول ه ‪ ( :‬ق ال بعض الس لف ك انوا يكره ون الش هرتين من الثي اب الع الي‬
‫والمنخفض وه ذا كالم ال يحت اج إلى تعلي ق وه و يؤك د اختي ار الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم‬
‫للوسطية واالعتدال في هديه كله حتى في ملبسه ‪.‬ثم يتكلم ابن القيم عن هدي النبي صلى‬
‫اهلل علي ه وس لم في نوم ه فيق ول ‪ :‬وك ان نوم ه أع دل الن وم واألطب اء يقول ون ه و ثلث اللي ل‬
‫والنهار ثماني ساعات ‪.‬أما عن هدي النبي صلى اهلل عليه وسلم في مشيه فيقول ابن القيم ‪:‬‬
‫( وهي مش ية أولي الع زم والهم ة والش جاعة وهي أع دل المش يات وأروحه ا لألعض اء‬
‫وأبعدها من مشية الهرج والمهانة والتماوت ؛ فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي‬
‫قطع ة واح دة كأن ه خش بة محمول ة وهي مش ية مذموم ة قبيح ة وإ م ا أن يمش ي بانزع اج‬
‫أيض ا دالة على خفة عقل صاحبها ‪...‬‬
‫واضطراب مثل الجمل األهوج وهي مشية مذمومة ً‬
‫هونا ‪ ،‬وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه ‪ ،‬فقال ‪ " :‬وعب اد‬
‫وإ ما أن يمشي ً‬
‫هون ا " ‪ ،‬قال غير واحد من السلف بسكينة ووقار من‬
‫الرحمن الذين يمشون على األرض ً‬
‫غير تكبر وال تماوت‬

‫فاإلسالم هو دين العدل واالعتدال يتوخي الحقيقة بين الغلو واإلهمال فهو يجمع بين الدين‬
‫والدنيا وقد جاء ما يدل على ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى‪ :‬و ْابتَ ِغ ِفيم ا َآتَ َ َّ‬
‫اك اللهُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اد ِفي‬‫ْغ اْلفَ َس َ‬ ‫َأح َس َن اللَّهُ ِإلَي َ‬
‫ْك َواَل تَب ِ‬ ‫َأح ِس ْن َك َم ا ْ‬
‫ك ِم َن ال ُّد ْنَيا َو ْ‬
‫ص َيب َ‬‫ال َّدار اَآْلخِرةَ واَل تَْنس َن ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ين القص ص ‪ 77‬وق ال‪ :‬رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ض ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ‬
‫ب اْل ُم ْفس د َ‬ ‫اَأْلر ِ‬
‫ْ‬
‫{ إن لبدنك عليك حقا ‪ ،‬وإ ن لنفسك عليك حقا ‪ ،‬وإ ن ألهلك عليك حقا ‪ ،‬وإ ن لربك عليك‬
‫‪47‬‬
‫حقا ‪ ،‬فأعط كل ذي حق حقه }‬

‫البخاري ‪697‬‬ ‫‪47‬‬


‫وقال الشاطبي‪ :‬الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط األعدل اآلخذ‬
‫من الطرفين بقسط ال ميل فيه الداخل تحب كسب العبد من غير مشقة عليه وال انحالل بل‬
‫هو تكليف جار على موازنة تقتضى في جميع المكلفين غاية اإلعتدال ‪ .‬كتكاليف الصالة‬
‫والصيام والحج والجهاد والزكاة وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى‬
‫ذلك أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل كقوله تعالى { ويسألونك ماذا ينفقون }‬
‫{ يسألونك عن الخمر والميسر } وأشباه ذلك فإن كان التشريع ألجل انحراف المكلف أو‬
‫وج ود مظن ة انحراف ه عن الوس ط إلى أح د الط رفين ك ان التش ريع رادا إلى الوس ط األع دل‬
‫لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب اآلخر ليحصل اإلعتدال فيه فعل الطبيب الرفيق يحم ل‬
‫المريض على ما فيه صالحه بحسب حاله وعادته وقوة مرضه وضعفه حتى إذا استقلت‬
‫صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا الئقا به فى جميع أحواله‬

‫وقد حصر الدكتور يوسف القرضاوي مظاهر الوسطية في النقاط التالية‬

‫المالئمة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر‪.‬‬

‫فهم النصوص الجزئية للقرآن والسنة في ضوء مقاصدها الكلية‪.‬‬

‫التيسير في الفتوى‪ ،‬والتبشير في الدعوة‪.‬‬

‫التشديد في األصول والكليات‪ ،‬والتيسير في الفروع والجزئيات‪.‬‬

‫الثبات في األهداف‪ ،‬والمرونة في الوسائل‪.‬‬

‫الحرص على الجوهر قبل الشكل‪ ،‬وعلى الباطن قبل الظاهر‪ ،‬وعلى أعمال القلوب قبل‬
‫أعمال الجوارح‪.‬‬

‫الفهم التكاملي لإلسالم بوصفه‪ :‬عقيدة وشريعة‪ ،‬دنيا ودين‪ ،‬ودعوة ودولة‪.‬‬
‫دعوة المسلمين بالحكمة‪ ،‬وحوار اآلخرين بالحسنى‪.‬‬

‫الجمع بين الوالء للمؤمنين‪ ،‬والتسامح مع المخالفين‪.‬‬

‫الجهاد واإلعداد للمعتدين‪ ،‬والمسالمة لمن جنحوا للسلم‪.‬‬

‫التعاون بين الفئات اإلسالمية في المتفق عليه‪ ،‬والتسامح في المختلف فيه‪.‬‬

‫مالحظة تغير أثر الزمان والمكان واإلنسان في الفتوى والدعوة والتعليم والقضاء‪.‬‬

‫اتخاذ منهج التدرج الحكيم في الدعوة والتعليم واإلفتاء والتغيير‪.‬‬

‫لجم ع بين العلم واإليم ان‪ ،‬وبين اإلب داع الم ادي والس مو ال روحي‪ ،‬وبين الق وة‬
‫االقتصادية‪ ،‬والقوة األخالقية‪.‬‬

‫التركيز على المبادئ والقيم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬كالعدل والشورى والحرية وحقوق‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫تحرير المرأة من رواسب عصور التخلف‪ ،‬ومن آثار الغزو الحضاري الغربي‪.‬‬

‫الدعوة إلى تجديد الدين من داخله‪ ،‬وإ حياء فريضة االجتهاد من أهله في محله‪.‬‬

‫الحرص على البناء ال الهدم‪ ،‬وعلى الجمع ال التفريق‪ ،‬وعلى القرب ال المباعدة‪.‬‬

‫االس تفادة بأفض ل م ا في تراثن ا كل ه‪ :‬من عقالني ة المتكلمين‪ ،‬وروحاني ة المتص وفين‪،‬‬
‫واتباع األثريين‪ ،‬وانضباط الفقهاء واألصوليين‪.‬‬

‫الجمع بين استلهام الماضي‪ ،‬ومعايشة الحاضر‪ ،‬واستشراف المستقبل ‪.‬‬


‫ق ال ابن الع ربي إذا ك ان الح رج فى نازل ة عام ة فى الن اس فإن ه يس قط وإ ذا ك ان خاص ا لم‬
‫يعتبر عندنا‪.‬‬

‫المطلب الثالث ‪ :‬دليل العفو واإلباحة‬

‫يع ني دلي ل اإلباح ة أن الح رام محص ور وم اوراءه مطل ق مب اح وه و األك ثر‪ .‬وه ذا المب دإ‬
‫اعتمد عليه ابن حزم كثيرا ليستعيض به عن القياس فقال « لما أنزل اهلل الشرائع فما أمر‬
‫به فهو واجب‪ ،‬وما نهي عنه فهو حرام‪ ،‬وما لم يأمر به‪ ،‬وال نهي عنه فهو مباح مطلق‬
‫حالل كم ا كان‪ »48‬واس تدل على ذل ك بقول ه تع الى‪" :‬وسخر لكم م ا في الس ماوات وم ا في‬
‫االرض جميع ا منه‪ "49‬وقول ه تع الي‪ " :‬وه و ال ذي س خر البح ر لت اكلوا من ه لحم ا طريا‪"50‬‬
‫وقول ه تع الي‪ " :‬ي ا أيه ا الن اس كل وا مم ا في األرض حالال طيب ا"‪ ... 51‬إلي غ ير ذل ك من‬
‫اآلي ات في ه ذا المع ني وهي كث يرة ج دا‪ .‬فمفه وم المب اح عن د ابن ح زم يتن اول ك ل م ا ه و‬
‫موجود من الثروات الطبيعية ومنافع األرض مما سخره اهلل لعباده ‪ .‬وأطنب الشاطبي في‬
‫ذكر المباحات فذكر منها‪ :‬الطبيات من المأكل والمشرب والملبس ووطأ الزوجات‪ ،‬والبيع‬
‫والشراء‪ ،‬ووجوه االكتسابات‪ ،‬والتتره في البساتين‪ ،‬وسماع تغريد الحمام‪ ،‬والغناء المباح‪،‬‬
‫واللعب المب اح‪ ،‬وتن اول الحل واء والعس ل وأك ل اللحم وال زبيب والتم ر المنقعين‪ ،‬والم اء‬
‫المس تعذب‪ ،‬والتطيب بالمس ك‪ ،‬وحب النس اء وم داعبتهن أي الزوج ات‪ ،‬والت داوي‪ ،‬والترف ه‬
‫في المطعم والمركب والمسكن ‪.‬‬

‫َأْلن ِام ِفيه ا فَ ِ‬


‫اكهَ ةٌ َو َّ‬
‫الن ْخ ُل‬ ‫ض َعهَا ِل َ‬
‫َ‬ ‫ض َو َ‬
‫واَأْلر َ‬
‫ْ‬ ‫ويشير إلى اتساع دائرة المباح قوله تعالى‪:‬‬
‫ان الرحمن ‪10‬ـ ‪ 11‬ـ ‪ 13‬وقوله َو ُه َو الَِّذي َس َّخ َر‬ ‫الر ْي َح ُ‬
‫ب ُذو اْلعص ِ‬
‫ف َو َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ات اَأْل ْك َم ِام َواْل َح ُّ‬
‫َذ ُ‬

‫ـ ابن حزم ‪ ،‬اإلحكام ـ ص‪.2/515 :‬‬ ‫‪48‬‬

‫ـ الجاثية‪13 ،‬‬ ‫‪49‬‬

‫ـ النحل‪13 ،‬‬ ‫‪50‬‬

‫ـ البقرة‪ ،‬من اآلية ‪167‬‬ ‫‪51‬‬


‫اخ َر ِفي ِه‬
‫ك مو ِ‬
‫ونهَا َوتَ َرى اْل ُفلْ َ َ َ‬ ‫ط ِرًّيا َوتَ ْس تَ ْخ ِر ُجوا ِمنْهُ ِحْلَي ةً تَْلَب ُس َ‬
‫اْلَبحْ َر ِلتَ ْأ ُكلُوا ِمنْهُ لَ ْح ًم ا َ‬
‫ون النح ل ‪ 14‬وقول ه ع ز وج ل‪َ :‬و َس َّخ َر لَ ُك ْم َم ا ِفي‬ ‫وِلتَْبتَ ُغ وا ِمن فَ ْ ِ ِ َّ‬
‫ض له َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫يع ا ِمنْهُ ِإ َّن ِفي َذل َ‬ ‫ات وم ا ِفي اَأْلر ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون الجاثية ‪ 13‬وعلق‬ ‫ِك َآَلَي ات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬ ‫ض َجم ً‬ ‫ْ‬ ‫الس َم َاو َ َ‬ ‫َّ‬
‫الشاطبي بقوله‪ :‬إلى غير ذلك من اآليات التي نص فيها على اإلمتنان بالنعم وذلك يشعر‬
‫بالقصد إلى التناول واإلنتفاع ثم الشكر عليها‬

‫اش ُك ُروا ِللَّ ِه ِإ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫طيِّب ِ‬


‫ات َم ا َر َز ْقَن ا ُك ْم َو ْ‬ ‫ِ‬
‫َآمُن وا ُكلُ وا م ْن َ َ‬
‫َِّ‬
‫وق ال اهلل ع ز وج ل َي ا َُّأيهَ ا الذ َ‬
‫ين َ‬
‫َأح َّل اللَّهُ لَ ُك ْم َواَل تَ ْعتَ ُدوا ِإ َّن‬ ‫ونالبقرة ‪ 172‬يا َُّأيها الَِّذين َآمُنوا اَل تُح ِّرموا َ ِ‬
‫طيَِّب ات َم ا َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ِإَّياهُ تَ ْعُب ُد َ‬
‫ب اْل ُم ْس ِر ِف َ‬
‫ين‬ ‫اش َرُبوا َواَل تُ ْس ِرفُوا ِإَّنهُ اَل ُي ِح ُّ‬
‫ين المائ دة ‪َ 87‬و ُكلُ وا َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ‬
‫ب اْل ُم ْعتَ د َ‬
‫االعراف ‪31‬‬

‫ين‬ ‫ِ َِِّ‬ ‫َأخْ رج ِل ِعب ِاد ِه والطَّيِّب ِ‬


‫ات ِم َن ال ِّر ْز ِ‬ ‫وق ال تع الى ُق ْل َم ْن َح َّر َم ِز َين ةَ اللَّ ِه الَّتِي‬
‫ق ُق ْل ه َي للذ َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬
‫األعراف ‪32‬‬ ‫ام ِة‬ ‫ِ‬
‫صةً َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫ِ‬ ‫َآمُنوا ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا َخال َ‬ ‫َ‬

‫اَأْلن َع ِام المائدة ‪1‬‬


‫يمةُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُأحلَّ ْ‬
‫ت لَ ُك ْم َبه َ‬
‫طعامه المائدة ‪ 96‬وقال‪ِ :‬‬
‫ص ْي ُد اْلَب ْح ِر َو َ َ ُ ُ‬ ‫ِ َّ‬
‫وقال‪ُ :‬أحل لَ ُك ْم َ‬

‫ذل ك أن اهلل اب اح لإلنس ان أن يأك ل ويش رب ويلبس ويس افر وذل ك ليس اقتص ارا على ح د‬
‫الضرورة وحسب‪ ،‬بل على جهة التوسع أيضا‪.‬‬

‫ض‬‫اَأْلر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قال الشاطبي‪ :‬بأن اهلل أمر بالتمتع بالطيبات كقوله تعالى َيا َُّأيهَا َّ‬
‫اس ُكلُوا م َّما في ْ‬ ‫الن ُ‬
‫َِّ‬ ‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫طِ‬ ‫ات َّ‬ ‫طيِّبا واَل تَتَّبِعوا ُخطُو ِ‬
‫ين البقرة ‪ 168‬وقوله َي ا َُّأيهَ ا الذ َ‬
‫ين‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َحاَل اًل َ ً َ‬
‫َِّ ِ‬ ‫طيِّب ِ‬ ‫ِ‬
‫ون البقرة ‪ 172‬وقوله َي ا‬ ‫اش ُك ُروا لله ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإَّياهُ تَ ْعُب ُد َ‬‫ات َم ا َر َز ْقَن ا ُك ْم َو ْ‬ ‫َآمُن وا ُكلُ وا م ْن َ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرس ُل ُكلُ وا ِمن الطَّيِّب ِ‬
‫يم المرؤمن ون ‪ 51‬إلى‬ ‫ص ال ًحا ِإِّني بِ َم ا تَ ْع َملُ َ‬
‫ون َعل ٌ‬ ‫اع َملُ وا َ‬ ‫ات َو ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُّأيهَ ا ُّ ُ‬
‫أشباه ذلك مما دل االمر به على قصد اإلستعمال وأيضا فإن النعم المبسوطة في األرض‬
‫لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها وقررت عليهم فهم منها القصد إلى التنعم بها لكن بقي د‬
‫الشكر عليها‪(....‬و) أنكر على من حرم شيئا مما بث في األرض من الطيبات وجعل ذلك‬
‫ات ِم َن‬ ‫من أن واع ض اللهم فق ال تع الى ُق ْل م ْن ح َّرم ِز َين ةَ اللَّ ِه الَّتِي َأخْ رج ِل ِعب ِاد ِه والطَّيِّب ِ‬
‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ات ِلقَ ْوٍم‬
‫ص ُل اَآْلي ِ‬ ‫ام ِة َك َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِِّ‬
‫َ‬ ‫ك ُنفَ ِّ‬ ‫َآمُن وا في اْل َحَي اة ال ُّد ْنَيا َخال َ‬
‫ص ةً َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫ين َ‬‫ق ُق ْل ه َي للذ َ‬‫ال ِّر ْز ِ‬
‫ون األعراف ‪ 32‬أي خلقت ألجلهم { خالصة يوم القيامة } ال تباعة فيها وال إثم فهذا‬ ‫َي ْعلَ ُم َ‬
‫ظ اهر في القص د إلى اس تعمالها دون تركه ا‪ .‬ومنه ا أن ه ذه النعم ه دايا من اهلل للعب د وه ل‬
‫يلي ق بالعب د ع دم قب ول هدي ة الس يد ه ذا غ ير الئ ق في محاس ن الع ادات وال في مج اري‬
‫الش رع ب ل قص د المه دي أن تقب ل هديت ه وهدي ة اهلل إلى العب د م ا أنعم ب ه علي ه فليقب ل ثم‬
‫‪52‬‬
‫ليشكر له عليها‬

‫وق ال الش اطبي في ه ذا المع نى ‪ :‬وق د وس ع اهلل تع الى على العب اد فى ش هواتهم وأح والهم‬
‫وتنعماتهم على وجه ال يفضى إلى مفسدة وال يحصل بها المكلف على مشقة وال ينقطع بها‬
‫عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له فلذلك شرع له ابتداء رخصة السلم والقراض‬
‫والمساقاة وغير ذلك مما هو توسعة عليه وإ ن كان فيه مانع فى قاعدة أخرى وأحل له من‬
‫‪53‬‬
‫متاع الدنيا أشياء كثيرة‬

‫وق د جاء عن س يد المرسلين صلى اهلل علي ه وسلم أنه ك ان يحب الطيب والنس اء والحلواء‬
‫والعسل وكان تعجبه الذراع ويستعذب له الماء وأشباه ذلك ‪.‬‬

‫ويقول الشاطبي في تعريف العفو‪ :‬يصح أن يقع بين الحالل والحرام مرتب ة العف و فال يحكم‬
‫عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ومن الدليل على ذلك أوجه أحدها‬
‫ما تقدم من أن األحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل وأما دون‬
‫ذل ك فال وإ ذا لم يتعل ق به ا حكم منه ا م ع وجدان ه ممن ش أنه أن تتعل ق ب ه فهو مع نى العفو‬
‫المتكلم فيه أي ال مؤآخذة به والثانى ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص‬
‫فق د روى عن الن بى ص لى اهلل علي ه وس لم أن ه ق ال إن اهلل ف رض ف رائض فال تض يعوها ‪،‬‬
‫وقال ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى اهلل عليه وسلم ما سألوه إال‬

‫الشاطبي الموافقات ‪ 126‬ج ‪1‬‬ ‫‪52‬‬

‫الشاطبي الموافقات ‪367‬‬ ‫‪53‬‬


‫عن ثالث عشرة مسألة حتى قبض صلى اهلل عليه وسلم كلها فى القرآن { ويسألونك عن‬
‫المحيض } و { ويسألونك عن اليتامى } و { يسألونك عن الشهر الحرام } ما كانوا يسألون‬
‫إال عم ا ينفعهم يع نى أن ه ذا ك ان الغ الب عليهم وعن ابن عب اس رض ي اهلل عن ه أن ه ق ال‬
‫م الم ي ذكر فى الق رآن فه و مم ا عف ا اهلل عن ه وك ان يس أل عن الش ىء لم يح رم فيق ول عف و‬
‫وقيل له ما تقول فى أموال أهل الذمة فقال العفو يعنى ال تؤخذ منهم زكاة وقال عبيد ابن‬
‫عمير أحل اهلل حالال وحرم حراما فما أحل فهو حالل وما حرم فهو حرام وما سكت عنه‬
‫فهو عفو والثالث ما يدل على هذا المعنى فى الجملة كقوله تعالى { عفا اهلل عنك لم أذنت‬
‫لهم } اآلية فإنه موضع اجتهاد فى اإلذن عند عدم النص وقد ثبت فى الشريعة العفو عن‬
‫الخط أ فى االجته اد حس بما بس طه األص وليون ومن ه قول ه تع الى { ل وال كت اب من اهلل سبق‬
‫لمس كم فيم ا أخ ذتم ع ذاب عظيم } وق د ك ان الن بي علي ه الس الم يك ره ك ثرة الس ؤال فيم ا لم‬
‫ي نزل في ه حكم بن اء على حكم ال براءة األص لية إذ هى راجع ة إلى ه ذا المع نى ومعناه ا أن‬
‫األفع ال معه ا معف و عنه ا وق د ق ال ص لى اهلل علي ه وس لم إن أعظم المس لمين فى المس لمين‬
‫جرم ا من س أل عن ش ىء لم يح رم عليهم فح رم عليهم من أج ل مس ألته وق ال ذروني م ا‬
‫ت ركتكم فإنم ا هل ك من قبلكم بك ثرة س ؤالهم واختالفهم على انبي اءهم م ا نهيتكم عن ه ف انتهوا‬
‫وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقرأ عليه السالم قوله تعالى { وهلل على الناس حج‬
‫ال بيت } اآلي ة فق ال رج ل ي ا رس ول اهلل أك ل ع ام ف أعرض ثم ق ال ي ا رس ول اهلل أك ل ع ام‬
‫فأعرض ثم قال يا رسول اهلل أكل عام فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والذى نفسى‬
‫بيده لو قلتها لو جبت ولو جبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم فذروني ما تركتكم ثم‬
‫ذكر معنى ما تقدم وفى مثل هذا نزلت { يا أيها الذين آمنوا ال تسألوا عن أشياء إن تب د لكم‬
‫تسؤكم } اآلية ثم قال عفا اهلل عنها أى عن تلك األشياء فهى إذا عفو وقد كره عليه السالم‬
‫المس ائل وعابه ا ونهى عن ك ثرة الس ؤال وق ام يوم ا وه و يع رف فى وجه ه الغض ب ف ذكر‬
‫الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسأل عن شىء فليسأل عنه فواهلل ال‬
‫تسألوني عن شىء إال أخبرتكم به ما دامت في مقامى هذا قال أنس فأكثر الناس من البكاء‬
‫حين س معوا ذل ك وأك ثر رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم أن يق ول س لوني فق ام عبداهلل بن‬
‫حذاف ة الس همي فق ال من أبي ق ال أب وك حذاف ة فلم ا أك ثر أن يق ول س لوني ب رك عم ر بن‬
‫الخط اب على ركبتي ه فق ال ي ا رس ول اهلل رض ينا باهلل رب ا وباإلس الم دين ا وبمحم د نبي ا ق ال‬
‫فسكت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حين قال عمر ذلك فنزلت اآلية وقال أوال والذي‬
‫نفسي بيدي لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر‬
‫كاليوم في الخير والشر وظاهر من هذا المساق أن قوله سلوني في معرض الغضب تنكيل‬
‫بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال وألجل ذلك جاء قوله تعالى { إن تبد لكم تسؤكم }‬
‫وق د ظه ر من ه ذه الجمل ة م ا يعفى عن ه وه و م ا نهى عن الس ؤال عن ه فك ون الحج هلل هو‬
‫مقتضى اآلية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا فلما سكت عن التكرار كان الذي‬
‫ينبغي الحمل على أخف محتمالته وإ ن فرض أن اإلحتمال اآلخر مراد فهو مما يعفى عنه‬
‫ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاؤا‬
‫شدد عليهم حتى ذبحوها { وما كادوا يفعلون } فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين‬
‫‪54‬‬
‫ما ال يحسن السؤال عنه وعن حكمه ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه‬

‫المطلب الرابع‪ :‬دليل التسخير والتذليل‬

‫ومن ال دليل على مراع اة المص الح في الش ريعة تس خير م ا في الطبيع ة لإلنس ان‬
‫وتذليلها له سواء كانت أنعاما للركوب أو موادا جامدة ‪ .‬فقد ذللت هذه المواد أنواعا كثيرة‬
‫ض‬ ‫َِّ‬
‫اَأْلر َ‬
‫من الت ذليل ليس تفيد به ا اإلنس ان ويس تغلها ‪ .‬ق ال اهلل ع ز وج ل ُه َو الذي َج َع َل لَ ُك ُم ْ‬
‫ِه وِإ لَي ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ور المل ك ‪ 15‬وق ال ع ز وج ل ‪ََ :‬أولَ ْم‬ ‫ْه ُّ‬
‫الن ُش ُ‬ ‫ام ُش وا في َمَناكبهَ ا َو ُكلُ وا م ْن ِر ْزق َ‬ ‫َذلُ واًل فَ ْ‬
‫وبهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫يروا ََّأنا َخلَ ْقَنا لَهم ِم َّما ع ِملَ ْ ِ‬
‫اه ا لَهُ ْم فَم ْنهَ ا َر ُك ُ‬
‫ون (‪َ )71‬و َذلْلَن َ‬ ‫اما َفهُ ْم لَهَا َمال ُك َ‬ ‫ت َْأيد َينا َْأن َع ً‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ََ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )73‬ق ال ال رازي في قول ه‬ ‫ب َأفَاَل َي ْش ُك ُر َ‬‫ون (‪َ )72‬ولَهُ ْم فيهَ ا َمَن افعُ َو َم َش ِار ُ‬ ‫َو ِم ْنهَ ا َي ْأ ُكلُ َ‬
‫يع ا ِمنْهُ الجاثية ‪ 14‬والمعنى لوال‬ ‫ات وم ا ِفي اَأْلر ِ ِ‬
‫ض َجم ً‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫الس َم َاو َ َ‬ ‫تعالى‪َ :‬و َس َّخ َر لَ ُك ْم َم ا ِفي َّ‬
‫أن اهلل تعالى أوقف أجرام السماوات واألرض في مقارها وأحيازها لما حصل االنتفاع ‪،‬‬
‫ألن بتقدير كون األرض هابطة أو صاعدة لم يحصل االنتفاع بها ‪ ،‬وبتقدير كون األرض‬
‫من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل االنتفاع ‪ ،‬وكل ذلك قد بيناه ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬ما معنى‬
‫منه ) في قوله ‪ ( :‬جميعا منه ؟ قلنا ‪ :‬معناه ‪ :‬أنها واقعة موقع الحال ‪ ،‬والمعنى أنه سخر‬
‫هذه األشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجدها بقدرته وحكمته‬
‫الشاطبي الموافقات ‪160‬‬ ‫‪54‬‬
‫‪55‬‬
‫ق ال القرط بي في اآلي ة جميع ا من ه يق ول ‪ -‬تع الى ذك ره ‪ :‬وس خر‬ ‫ثم مس خرها لخلق ه‬
‫لكم ما في السماوات ) من شمس وقمر ونجوم ( وما في األرض ) من دابة وشجر وجبل‬
‫‪56‬‬
‫وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم ( جميعا منه ‪.‬‬

‫وقال الطاهر في هذه اآلية‪ :‬وسخر لكم ما في السماوات وما في األرض جميعا منه هذا‬
‫تعميم بع د تخص يص اقتض اه االهتم ام أوال ثم التعميم ثاني ا ‪ .‬وم ا في الس ماوات وم ا في‬
‫األرض عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده ‪ :‬كالشمس للضياء ‪ ،‬والمطر‬
‫للشراب ‪ ،‬أو من بعض أحواله ‪ :‬كالكواكب لالهتداء بها في ظلمات البر والبحر ‪ ،‬والشجر‬
‫لالستظالل ‪ ،‬واألنعام للركوب والحرث ونحو ذلك ‪ .‬وأما ما في السماوات واألرض مما‬
‫ال يفي د الن اس فغ ير م راد مث ل المالئك ة في الس ماء واألهوي ة المنحبس ة في ب اطن األرض‬
‫التي يأتي منها الزلزال ‪57 .‬قال الشاطبي‪ :‬ما وضع البتالء النفوس وهو العالم كله أيضا‬
‫من حيث ه و موص ل إلى العب اد المن افع والمض ار ومن حيث ه و مس خر لهم ومنق اد لم ا‬
‫يريدون فيه لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر ولتجرى أعمالهم تحت حكم الشرع‬
‫ليسعد بها من سعد ويشقى من شقى وليظهر مقتضى العلم السابق والقضاء المحتم الذى ال‬
‫م رد ل ه ف إن اهلل غ ني عن الع المين وم نزه عن اإلفتق ار فى ص نع م ا يص نع إلى األس باب‬
‫والوسائط لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها واألدلة على هذا المعنى كثيرة كقوله سبحانه‪:‬‬
‫اء ِلَيْبلُ َو ُك ْم َُّأي ُك ْم‬
‫اْلم ِ‬
‫َ‬ ‫ان َع ْر ُش هُ َعلَى‬ ‫ات واَأْلر َ ِ ِ ِ ٍ‬
‫ض في س تَّة ََّأيام َو َك َ‬
‫ِ‬
‫الس َم َاو َ ْ‬ ‫ق َّ‬‫َو ُه َو الَِّذي َخلَ َ‬
‫الملك ‪ِ 2‬إَّنا َج َعْلَن ا‬ ‫ت َواْل َحَي اةَ ِلَيْبلُ َو ُك ْم َُّأي ُك ْم ْ‬
‫َأح َس ُن َع َماًل‬ ‫َأح َس ُن َع َماًل هود ‪ 7‬الَِّذي َخلَ َ‬
‫ق اْل َم ْو َ‬ ‫ْ‬
‫ف ِفي‬
‫َأح َس ُن َع َماًل لكه ف ‪ 7‬ثَُّم َج َعْلَن ا ُك ْم َخاَل ِئ َ‬
‫ض ِز َين ةً لَهَ ا ِلَنْبلُ َو ُه ْم َُّأيهُ ْم ْ‬ ‫اَأْلر ِ‬ ‫َم ا َعلَى ْ‬
‫ون يونس ‪14‬‬ ‫ف تَ ْع َملُ َ‬ ‫ض ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم ِلَن ْنظَُر َك ْي َ‬
‫اَأْلر ِ‬
‫ْ‬

‫الرازي الشر الكبير دار الكتب العليمية ‪ 2004‬م ‪ 1426‬هـ بيروت لبنان ص ‪226‬‬ ‫‪55‬‬

‫القرطبي ممد ابن جرير تفسير القرطبي ‪66 /23‬‬ ‫‪56‬‬

‫الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير ‪327‬‬ ‫‪57‬‬


‫ومن مقتض يات التس خير اط راد الق وانين وج اءت الش ريعة بحس ب ذل ك االط راد‪ .‬ق ال‬
‫الشاطبي‪ :‬لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين‪ ،،‬وجب أن ينظر فى حكام‬
‫العوائ د لم ا ينب ني عليه ا بالنس بة إلى دخ ول الملك ف تحت حكم التكلي ف ‪ .‬فمن ذل ك أن‬
‫مج ارى الع ادات فى الوج ود أم ر معل وم ال مظن ون وأع نى فى الكلي ات ال فى خص وص‬
‫الجزئي ات والدليل على ذلك أمور أح دها‪ :‬أن الشرائع باالس تقراء إنما جىء بها على ذلك‬
‫ولنعتبر بشريعتنا فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على‬
‫وزان واحد وعلى مقدار واحد وعلى ترتيب واحد ال اختالف فيه بحسب متقدم وال متأخر‬
‫وذل ك واض ح فى الدالل ة على أن موض وعات التك اليف وهى أفع ال المكلفين ك ذلك وأفع ال‬
‫المكلفين إنما تجرى على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتببه ولو اختلفت العوائد فى‬
‫الموجودات القتضى ذلك اختالف التشريع واختالف الترتيب واختالف الخطاب فال تكون‬
‫الشريعة على ما هى عليه وذلك باطل‪ .‬والثانى أن اإلخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا‬
‫الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة كاالخبار عن السموات واألرض وما‬
‫بينهما وما فيهما من المنافع والتصاريف واألحوال وأن سنة اهلل ال تبديل لها وأن ال تبديل‬
‫لخل ق اهلل كم ا ج اء ب إلزام الش رائع على ذل ك ال وزان أيض ا والخ بر من الص ادق ال يك ون‬
‫بخالف مخبره بحال فإن الخالف بينهما محال‪.‬‬

‫والث الث أن ه ل وال أن اط راد الع ادات معل وم لم ا ع رف ال دين من أص له فض ال عن تع رف‬


‫فروع ه ألن ال دين ال يع رف إال عن د اإلع تراف ب النبوة وال س بيل إلى اإلع تراف به ا إال‬
‫بواس طة المعج زة وال مع نى للمعج زة إال أنه ا فع ل خ ارق للع ادة وال يحص ل فع ل خ ارق‬
‫للعادة إال بعد تقرير اطراد العادة فى الحال واالستقبال كما اطردت فى الماضى وال معنى‬
‫للع ادة إال أن الفع ل المف روض ل و ق در وقوع ه غ ير مق ارن للتح دى لم يق ع إال على الوج ه‬
‫المعل وم فى أمثال ه ف إذا وق ع مقترن ا بال دعوة خارق ا للع ادة علم أن ه لم يق ع ك ذلك مخالف ا لم ا‬
‫اطرد إال والداعي صادق فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقة اضطرارا‬
‫ألن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدى لكن العلم حاصل‬
‫‪58‬‬
‫فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا وهو المطلوب‬

‫وق د م يز الش اطبي بين ن وعين من الق وانين ق وانين أبدي ة وق ووانين ظرفي ة العوائ د أيض ا‬
‫ض ربان بالنس بة إلى وقوعه ا فى الوج ود أح دهما العوائ د العام ة ال تى ال تختل ف بحس ب‬
‫األعص ار واألمص ار واألح وال كاألك ل والش رب والف رح والح زن والن وم واليقظ ة والمي ل‬
‫إلى المالئم والنفور عن المنافر وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المولمات والخبائث‬
‫وما أشبه ذلك والثانى العوائد التى تختلف بإختالف األعصار واألمصار واألحوال كهيآت‬
‫اللب اس والمس كن واللين فى الش دة والش دة في ه والبطء والس رعة فى األم ور واألن اة‬
‫واالس تعجال وم ا ك ان نح و ذل ك‪ .‬فأم ا األول فيقتض ى ب ه على أه ل األعص ار الخالي ة‬
‫والقرون الماضية للقطع بأن مجاري سنة اهلل تعالى فى خلقه على هذا السبيل وعلى سننه‬
‫ال تختل ف عموم ا كم ا تق دم فيك ون م ا ج رى منه ا فى الزم ان الحاض ر محكوم ا ب ه على‬
‫الزمان الماضى والمستقبل مطلقا كانت العادة وجودية أو شرعية وأما الثانى فال يصح أن‬
‫يقضى به عل ما تقدم ألبتة حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج فإذ ذاك يكون قضاء‬
‫على ما مضى بذلك الدليل ال بمجرى العادة وكذلك فى المستقبل ويستوي فى ذلك أيضا‬
‫العادة الوجودية والشرعية‬

‫وإ نم ا قلن ا ذل ك ألن الض رب األول راج ع إلى ع ادة كلي ة أبدي ة وض عت عليه ا ال دنيا وبه ا‬
‫ق امت مص الحها فى الخل ق حس بما بين ذل ك اإلس تقراء وعلى وف اق ذل ك ج اءت الش ريعة‬
‫أيض ا ف ذلك الحكم الكلي ب اق إلى أن ي رث اهلل األرض ومن عليه ا وهى الع ادة ال تى تق دم‬
‫ال دليل على أنه ا معلوم ة ال مظنون ة وأم ا الض رب الث انى فراج ع إلى ع ادة جزئي ة داخل ة‬

‫الشاطبي الموافقات ‪281 / 280 /2‬‬ ‫‪58‬‬


‫تحت الع ادة الكلي ة وهى ال تى يتعل ق به ا الظن ال العلم ف إذا ك ان ك ذلك لم يص ح أن يحكم‬
‫‪59‬‬
‫بالثانية على من مضى إلحتمال التبدل والتخلف بخالف األولى‬

‫وهذا المعنى من اطراد القوانين دقيق جدا ومهم جدا ألن القوانين مطردة مما يهيء‬
‫لقيام العلم الطبيعي المتعلق بمعرفة قوانين الطبيعة التي تؤدي إلى التحكم فيها وتسخيرها‬
‫لص الح اإلنس ان وه و م ا ن راه الي وم من تط ور في العل وم والمع ارف والوس ائل واألدوات‪.‬‬
‫وق د س بق البن ح زم أن ألمح إلى ثب ات الق وانين واطراده ا باعتب ار أمن ذل ك ش رط لقي ام‬
‫العقل كآلية لمعرفة هذا الوضع الطبيعي كما هو « وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمي يز‬
‫األش ياء المدرك ة ب الحواس وب الفهم‪ ،‬ومعرف ة ص فاتها ال تي هي عليه ا جاري ة‪ ،‬على م ا هي‬
‫عليه فقط » [‪ .] 60‬وقال‪«:‬و أما كل ما هو نوع محض‪ ،‬وهي األنواع التي تلي األشخاص‪،‬‬
‫وهي ال تي قلن ا فيه ا أنه ا تس مى أن واع األن واع‪ ،‬فإنه ا مح دودة في الطبيع ة غ ير مح دودة‬
‫عن دنا‪ ،‬نع ني ب ذلك أن ع دد ه ذه األن واع من الحي وان والش جر والنب ات واألحج ار متن اه في‬
‫ذلك عند الباري عز وجل‪ ،‬بعدد ال يزيد أبدا وال ينقص‪ .‬فنحن على يقين من أنه ال يحدث‬
‫بع د مث ل ذي أرب ع من الجم ال يط ير‪ ،‬وال أن الخي ل تف ني ح تى ال يوج د في الع الم ف رس‪،‬‬
‫وكذلك سائر األنواع‪ .‬وأما األشخاص فليست محصورة ال عندنا وال في الطبيعة‪»61‬‬
‫وثبات قوانين الطبيعة هو الذي نبة عليه ابن خلدون بطبائع العمران واستقرار العادة فقال‪:‬‬
‫ومن األسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع األحوال في‬
‫العمران فإن كل حادث من الحوادث ذات اً كان أو فعالً ال بد له من طبيعة تخصه في ذاته‬
‫وفيما يعرض له من أحواله‪.‬‬

‫الشاطبي الموافقات ‪297 /2‬‬ ‫‪59‬‬

‫ابن حزم ‪ ،‬اإلحكام‪ ،‬ص‪6 / 29 :‬‬ ‫‪60‬‬

‫ـ ابن حزم ‪ :‬التقريب ص ‪56‬‬ ‫‪61‬‬


‫المطلب الخامس ‪ :‬دليل االستخالف‬

‫من ال دالئل على مراع اة المص لحة ه و االس تخالف بك ل معاني ه‪ .‬فاهلل ع ز وج ل‬
‫اس تخلف اإلنس ان في األرض ومن مقتض يات ذل ك أن يص لحها ويعمره ا ال أن يفس دها‬
‫ويخل بالنظام فيها كما أنه جعلها أمانة في عنقه ومن شأن األمانة أن تحفظ باليد الحافظة‬
‫ك ِلْل َماَل ِئ َك ِة ِإِّني َجاعِ ٌل ِفي‬
‫ال َرُّب َ‬
‫والعين الكالئ ة ‪ .‬ودلي ل االس تخالف قول ه تع الى‪َ :‬وِإ ْذ قَ َ‬
‫ض َخِليفَ ةً البق رة البق رة ‪ 30‬ويفس ر مع نى االس تخالف اآلي ات ال تي تض منت ذك ره في‬ ‫اَأْلر ِ‬
‫ْ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫اح ُك ْم َب ْي َن َّ‬
‫ض فَ ْ‬ ‫اَأْلر ِ‬ ‫ود ِإَّنا جعْلَن ا َ ِ ِ‬
‫ك َخليفَ ةً في ْ‬ ‫ََ‬ ‫مواض يع أخ رى مث ل قول ه تع الى َي ا َد ُاو ُ‬
‫َأص ِل ْح َواَل‬ ‫يه َه ارون ْ ِ ِ‬
‫اخلُ ْفني في قَ ْو ِمي َو ْ‬ ‫ُ َ‬
‫َأِلخ ِ‬
‫ِع اْله وى ص ‪ 27‬وقَ ا َل موس ى ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫بِاْل َح ِّ‬
‫ق َواَل تَتب ِ َ َ‬
‫َآمُن وا بِاللَّ ِه َو َر ُس وِل ِه َو َْأن ِفقُ وا ِم َّما‬
‫تَتَّبِع س بِي َل اْلم ْف ِس ِدين االع راف ‪ 142‬وق ال عن الم ال ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫جعلَ ُكم مس تَ ْخلَِفين ِف ِ‬
‫يه الحديد ‪ 7‬فكل اآليات التي جاء فيها االستخالف تؤدي إلى اإلصلح‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ ُ ْ‬
‫والحكم بالقسط والعدالة وإ نفاق المال على مستحقيه وما إلى ذلك‪ .‬وفي هذا المعنى جاءت‬
‫َأش فَ ْق َن ِم ْنهَ ا‬
‫َأن َي ْح ِمْلَنهَ ا َو ْ‬ ‫ض واْل ِجَب ِ‬
‫ال فَ ََأب ْي َن ْ‬ ‫ات و ْ ِ‬
‫اَأْلر َ‬
‫ِ‬
‫الس َم َاو َ‬
‫اَأْلم َان ةَ َعلَى َّ‬
‫ضَنا َ‬ ‫اآلية ِإَّنا َع َر ْ‬
‫وما َجهُواًل األحزاب ‪72‬‬
‫ظلُ ً‬
‫ان َ‬‫ان ِإَّنهُ َك َ‬
‫َو َح َملَهَا اِإْل ْن َس ُ‬
‫اع ومس ؤو ٌل ع ْن ر ِعَّي ِ‬ ‫ِ ِ ِإل‬ ‫وج اء في الح ديث ُكلُّ ُكم ر ٍ ُّ‬
‫تِه‪،‬‬ ‫َ َ‬ ‫ام َر ٍ َ َ ْ‬ ‫اع َو ُكل ُك ْم َم ْس ؤول َع ْن َرعَّيتِه‪ ،‬ا َم ُ‬ ‫ْ َ‬
‫اعَي ةٌ ِفي َب ْي ِت َز ْو ِجهَ ا َو َم ْس ؤولَةٌ‬
‫ِه‪ ،‬واْلم رَأةُ ر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َأهلِه َو ُه َو َم ْس ؤو ٌل َع ْن َرعَّيت َ َ ْ َ‬
‫اع ِفي ْ ِ‬ ‫الر ُج ُل َر ٍ‬
‫َو َّ‬
‫َأن َق ْد قَ ا َل‪:‬‬
‫ت ْ‬ ‫ِه‪- ،‬قَ ا َل‪َ :‬و َح ِس ْب ُ‬
‫ال س ي ِِّد ِه ومس ؤو ٌل ع ْن ر ِعَّيت ِ‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ِ‬
‫اع في َم َ‬
‫ع ْن ر ِعَّيتِها‪ ،‬واْل َخ ِادم ر ٍ ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫يه َو َم ْسؤو ٌل َع ْن َر ِعَّيتِ ِه‪َ -‬و ُكلُّ ُك ْم َر ٍ‬
‫ِ ِ ‪62‬‬ ‫ال َأبِ ِ‬
‫اع َو َم ْسؤو ٌل َع ْن َر ِعَّيته‬ ‫اع ِفي م ِ‬‫الر ُج ُل َر ٍ‬
‫َو َّ‬
‫َ‬

‫ض َخِليفَ ةً وليس الم راد هاهن ا‬ ‫ِ‬


‫وي ذكر المفس رون في قول ه تع الى ِإِّني َجاعِ ٌل في ْ‬
‫اَأْلر ِ‬
‫بالخليف ة آدم ‪ -‬علي ه الس الم ‪ -‬فق ط ‪ ،‬كم ا يقول ه طائف ة من المفس رين ‪،‬‬
‫وع زاه القرط بي إلى ابن مس عود وابن عب اس وجمي ع أه ل التأوي ل ‪ ،‬وفي ذل ك نظ ر ‪ ،‬ب ل‬

‫‪ 62‬البخاتري ‪ 4828‬و‪ 5200‬وغير ذلك‬


‫الخالف في ذل ك كث ير ‪ ،‬حك اه فخ ر ال دين ال رازي في تفس يره وغ يره ‪ ،‬والظ اهر أن ه لم‬
‫يرد آدم عينا إذ لو كان كذلك لما حسن قول المالئكة ‪ :‬أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك‬
‫ال دماء ) ف إنهم إنم ا أرادوا أن من ه ذا الجنس من يفع ل ذل ك ‪ ،‬وك أنهم علم وا ذل ك بعلم‬
‫‪63‬‬
‫خاص ‪ ،‬أو بما فهموه من الطبيعة البشرية‬

‫ك ِلْل َماَل ِئ َك ِة ِإِّني َجا ِع ٌل ِفي‬


‫وقال ‪ :‬وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى ‪ِ :‬إ ْذ قَ ا َل َرُّب َ‬
‫ك‬ ‫ِّح بِ َح ْم ِد َ‬
‫ك َوُنقَ ِّد ُس لَ َ‬ ‫اء َوَن ْح ُن ُن َسب ُ‬
‫الد َم َ‬‫ك ِّ‬‫ض َخِليفَةً قَالُوا َأتَ ْج َع ُل ِفيهَا َم ْن ُي ْف ِس ُد ِفيهَا َوَي ْس ِف ُ‬
‫اَأْلر ِ‬
‫ْ‬
‫َأعلَ ُم َم ا اَل تَ ْعلَ ُم ون البق رة ‪ 30‬يق ول ‪ :‬س اكنا وع امرا يس كنها ويعمره ا خلف ا ليس‬ ‫قَ ا َل ِإِّني ْ‬
‫‪64‬‬
‫منكم ‪.‬‬

‫المطلب السادس‪ :‬دليل العمل‬

‫من ال دليل على المص الح م ا ج اء في الش ريعة الس محة من التش جيع على العم ل ورفض‬
‫االتكالية وسنت األحكام لتدبير العمل والمدافعة عن حقوق العامل ‪ .‬وجاء أيض ا الحث على‬
‫تحسين العمل وتشجيع العمال‪ .‬كما جاءت أدلة كثيرة من القرآن والسنة تحثان على العمل‬
‫واإلنتاج وتنهى عن االتكالية واالكتساب بالطرق المحرمة أو الملتوية ‪.‬‬

‫ون ِإلَى َع ِالِم‬ ‫َّ‬ ‫قال اهلل عن العمل َو ُق ِل ْ‬


‫اع َملُوا َف َسَي َرى اللهُ َع َملَ ُك ْم َو َر ُسولُهُ َواْل ُمْؤ ِمُن َ‬
‫ون َو َستَُر ُّد َ‬
‫الش ه َ ِ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون التوبة ‪ 105‬وقال بأن األنبياء عليهم السالم كانوا‬ ‫ادة فَُيَنِّبُئ ُك ْم بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬ ‫اْل َغ ْيب َو َ‬
‫ْه َمٌأَل ِم ْن‬‫ك و ُكلَّم ا م َّر علَي ِ‬
‫ص َنعُ اْل ُفلْ َ َ َ َ َ‬ ‫يقتاتون من عرق جبينهم فقال عن نوح عليه السالم َوَي ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون ه ود ‪ 38‬وق ال عن‬ ‫قَ ْومِه َس خ ُروا منْهُ قَ ا َل ِإ ْن تَ ْس َخ ُروا مَّنا َفِإ َّنا َن ْس َخ ُر م ْن ُك ْم َك َم ا تَ ْس َخ ُر َ‬
‫ْر َوَألََّنا لَ هُ اْل َح ِد َ‬ ‫َّ‬
‫يد (‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض اًل َي ا جَب ا ُل َِّأوبي َم َع هُ َوالطي َ‬ ‫ود ِمَّنا فَ ْ‬ ‫داوود عليه السالم َولَقَ ْد َآتَْيَن ا َد ُاو َ‬
‫ص ٌير س بأ ‪11‬‬ ‫اعملُ وا ص ِالحا ِإِّني بِم ا تَعملُ ون ب ِ‬ ‫ات وقَ ِّد ْر ِفي َّ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫‪ِ )10‬‬
‫َ َْ َ َ‬ ‫َ ً‬ ‫الس ْرد َو ْ َ‬ ‫اع َم ْل َس اب َغ َ‬ ‫َأن ْ‬
‫َآمُن وا َو َع ِملُ وا‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َوم ا َي ْس تَِوي ْ‬
‫ين َ‬‫اَأْلع َمى َواْلَبص ُير َوالذ َ‬ ‫وخ اطب اهلل المؤم نين بقول ه تع الى َ‬

‫ابن كثير دار طيبة ‪ 2002 1422‬م ح ‪ 1‬ص ‪216‬‬ ‫‪63‬‬

‫المرجع السابق ص ‪218‬‬ ‫‪64‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ون غ افر ‪ 58‬وج اء الحث على العم ل بالص الحات‬ ‫يء َقلياًل َم ا تَتَ َذ َّك ُر َ‬
‫الص ال َحات َواَل اْل ُمس ُ‬
‫اَأْلر ِ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َي ِت َّ‬
‫فيم ا يرب و على خمس ين م رة وق ال ع ز وج ل ‪ :‬فَ ِإ َذا قُ ِ‬
‫الص اَل ةُ فَ ْانتَش ُروا في ْ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫و ْابتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ َّ ِ‬
‫ون الجمعة ‪10‬‬ ‫ض ِل الله َوا ْذ ُك ُروا اللهَ َكث ًيرا لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ‬ ‫َ‬
‫ونج د الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم يحث الص حابة على العم ل فعن المق داد رض ى اهلل‬
‫تعالى عنه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن‬
‫‪65‬‬
‫وروي عن أبي‬ ‫يأكل من عمل يده وإ ن نبي اهلل داود عليه السالم كان يأكل من عمل يده‬
‫هريرة رضى اهلل تعالى عنه قال قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألن يحتطب أحدكم‬
‫‪66‬‬
‫ونجد الصحابة يسعون إلى‬ ‫حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه‬
‫العمل ويرفضون االتكالية على اآلخرين ففي الصحيح عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن‬
‫جده قال قال عبد الرحمن بن عوف رضى اهلل تعالى عنه لما قدمنا المدينة آخى رس ول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع إني أكثر األنصار ماال‬
‫فأقس م لك نص ف م الي وانظ ر أي زوج تي ه ويت ن زلت لك عنه ا ف إذا حلت تزوجته ا ق ال‬
‫فقال عبد الرحمن ال حاجة لي في ذلك هل من سوق فيه تجارة قال سوق قينقاع قال فغدا‬
‫إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن قال ثم تابع الغدو فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه‬
‫أثر صفرة فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تزوجت قال نعم قال ومن قال امرأة من‬
‫األنص ار ق ال كم س قت ق ال زن ة ن واة من ذهب أو ن واة من ذهب فق ال ل ه الن بي ص لى اهلل‬
‫‪67‬‬
‫وعن عائشة رضى اهلل تعالى عنها قالت لما استخلف أبو بكر‬ ‫عليه وسلم أولم ولو بشاة‬
‫الص ديق ق ال لق د علم ق ومي أن حرف تي لم تكن تعج ز عن مؤون ة أهلي وش غلت ب أمر‬
‫المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين فيه فهنا أبو بكر يتحدث‬
‫عن عملين قام بهما أحدهما العمل الحر والثاني العمل لمصالح المسلمين فهو يكتسب به‬

‫البخاري ‪1966‬‬ ‫‪65‬‬

‫البخاري ‪1968‬‬ ‫‪66‬‬

‫البخاري ‪1943‬‬ ‫‪67‬‬


‫مكان عمله السابق وعن عائشة رضى اهلل تعالى عنها كان أصحاب رسول اهلل صلى اهلل‬
‫‪68‬‬
‫عليه وسلم عمال أنفسهم‬

‫كما حرم الطرق الملتوية لجمع المال فإنها عمل سيئ ال يؤدي إلى ثمرة على أرض الواقع‬
‫الرَب ا البقرة ‪ 275‬فإن الربا هو نوع من البطالة‬
‫ْع َو َح َّر َم ِّ‬ ‫فقال ع ز وجل ‪ :‬و َّ َّ‬
‫َأح ل اللهُ اْلَبي َ‬
‫َ َ‬
‫المقنع ة فب دل أن يح اول ص احبه تنميت ه بالعم ل يح اول التنمي ة بطريق ة اس تغالل اآلخ رين‬
‫فيعملون ويترك هو العمل اتكاال على عمل اآلخرين له‪ .‬وعن أبي هريرة رضى اهلل تعالى‬
‫عن ه أن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال ال تلق وا الركب ان وال يب ع بعض كم على بي ع‬
‫بعض وال تناجشوا وال يبع حاضر لباد وال تصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين‬
‫‪69‬‬
‫بعد أن يحتلبها إن رضيها أمسكها وإ ن سخطها ردها وصاعا من تمر‬

‫وعن تشجيع العمل ورد الحديث بأن يؤدى العامل أجره قبل أن يجف عرقه ‪ ،‬وعن أنس‬
‫بن مالك رضى اهلل تعالى عنه قال حجم أبو طيبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأمر له‬
‫‪70‬‬
‫بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا من خراجه‬

‫وحض اإلسالم على تقسيم العمل حتى تتوفر الحاجيات بسهولة وال يأخذ الناس دربا واحدا‬
‫في األنتاج كأن يذهبوا للجهاد وحده أو إلى الزراعة وحدها فإن ذلك يؤدي للضرر وفساد‬
‫الحياة ‪ .‬كما وقع لبعض المستعمرات األمريكية القديمة التي اشتغلت بالذهب ففاتهم زمن‬
‫ِروا َكافَّةً َفلَ ْواَل َنفَ َر ِم ْن ُك ِّل‬ ‫الزراعة وهلكوا جوعا قال اهلل عز وجل وما َكان اْلم ِمُن ِ‬
‫ون لَي ْنف ُ‬
‫َ َ َ ُ ْؤ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫طاِئفَ ةٌ ِلَيتَفَقَّهُ وا ِفي ِّ‬
‫ِف ْرقَ ٍة ِم ْنهُ ْم َ‬
‫ون التوبة‬ ‫ين َوِلُينْذ ُروا قَ ْو َمهُ ْم ِإ َذا َر َج ُع وا ِإلَْي ِه ْم لَ َعلهُ ْم َي ْح َذ ُر َ‬
‫الد ِ‬
‫‪122‬‬

‫البخاري ‪1965‬‬ ‫‪68‬‬

‫البخاري ‪2043‬‬ ‫‪69‬‬

‫البخاري ‪1996‬‬ ‫‪70‬‬


‫وفي ه ذا الس ياق تح دث الفقه اء واألص وليون عن ال واجب الكف ائي وه و عب ارة عن تقس يم‬
‫العمل باالصطالح المعاصر‪ .‬وهو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين وإ ذا لم يقم به‬
‫البعض ص ار واجب ا عيني ا وذل ك مث ل دفن الجن ازة وض يافة ع ابر الس بيل وفي الحقيق ة أن ه‬
‫يتسع ليشمل األحكام كلها ‪ .‬وقد أورد الشاطبي مالحظات دقيقة عن الواجب الكفائي فقال‪:‬‬
‫في مسالة الواجب الكفائي طلب الكفاية يقول العلماء باألصول أنه متوجه على الجمي ع لكن‬
‫إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وم ا قالوه ص حيح من جهة كلى الطلب وأم ا من جهة‬
‫جزئية ففيه تفصيل وينقسم أقساما وربما تشعب تشعبا طويال ولكن الضابط للجملة من ذلك‬
‫أن الطلب وارد على البعض وال على البعض كي ف ك ان ولكن على من في ه أهلي ة القي ام‬
‫بذلك الفعل المطلوب ال على الجميع عموما والدليل على ذلك أمور أحدها النصوص الدالة‬
‫على ذلك كقوله تعالى { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلوال نفر من كل فرقة منهم طائفة‬
‫} اآلي ة ف ورد التحض يض على طائف ة ال على الجمي ع وقول ه { ولتكن منكم أم ة ي دعون إلى‬
‫الخير ويأمرون بالمعروف } اآلية وقوله تعالى ‪ { :‬وإ ذا كنت فيهم فأقمت لهم الصالة فلتقم‬
‫طائف ة منهم } اآلي ة إلى آخره ا وفي الق رآن من ه ذا النح و أش ياء كث يرة ورد الطلب فيه ا‬
‫نص ا على البعض ال على الجمي ع والث اني م ا ثبت من القواع د الش رعية القطعي ة في ه ذ‬
‫‪71‬‬
‫المعنى كاإلمامة الكبرى أو الصغرى فإنها إنما تتعين على من فيه أهلية‪.‬‬

‫وقال ابن تيمية عن اهمية التعاون وهو فرض الكفاية قال ‪ :‬وكذلك ما شرعه الشارع من‬
‫الوفاء بالعهود وصلة األرحام وحقوق المماليك والجيران وحقوق المسلمين بعضهم على‬
‫بعض وغير ذلك من انواع ما امر به او نهى عنه حفظا لآلصول السنية وتهذيب اآلخالق‬
‫‪72‬‬
‫ويتبين ان هذا جزء من اجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح‬

‫وق ال ابن تيمي ة المص الح ليس ت في العقوب ات ق ال ودف ع المض ار بحف ظ النف وس واآلم وال‬
‫واألعراض والعقول واآلديان التي حصر فيها بعض الناس المصالح ومن قصر المصالح‬
‫الشاطبي الموافقات ص ‪ 176‬إإلى ‪181‬‬ ‫‪71‬‬

‫ابن تيمية مجموع الفتاوي ‪32.234‬السعودية ‪1381‬‬ ‫‪72‬‬


‫على العقوبات التي فيها وقع الفساد عن تلك األحوال ليحفظ الجسم فقد اخطا‪ 73‬ويقول في‬
‫التع اون إذ ال يق وم العي ني إال بالكف ائى وذل ك أن الكف ائى قي ام بمص الح عام ة لجمي ع الخل ق‬
‫فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما ال يعود عليه من جهته تخصيص ألنه لم يؤمر إذ‬
‫ذاك بخاصة نفسه فقط وإ الصار عينيا بل بإقامة الوجود وحقيقته أنه خليفة اهلل فى عباده‬
‫على حس ب قدرت ه وم ا هيء ل ه من ذل ك ف إن الواح د ال يق در على إص الح نفس ه والقي ام‬
‫بجمي ع أهل ه فض ال عن أن يق وم بقبل ة فض ال عن أن يق وم بمص الح أه ل األرض فجع ل اهلل‬
‫‪74‬‬
‫الخلق خالئف فى إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك فى األرض‬

‫المطلب السابع دليل‪ :‬العلم‬

‫العلم أحد األدلة على المصالح الشرعية فهو من األمور المهمة في اإلسالم ألن المصالح‬
‫ال تعرف بدونه لذلك جاء في الحديث من يرد اهلل به خيرا يفقهه في الدين ‪.75‬‬

‫وقد اعتنى اإلسالم بالعلم ونشر المعرفة التي كانت مكدسة بين جماعات قليلة من الناس‬
‫كالرهب ان والفالس فة واآلخ رون ممنوع ون منه ا وهم غالبي ة المجتمع ات فنق ل اإلس الم‬
‫البش رية من األمي ة إلى المعرف ة ومن الجه ل إلى العلم فك انت أول آي ة ن زلت على س يدنا‬
‫اقْرْأ‬
‫ق (‪َ )2‬‬ ‫ان ِم ْن َعلَ ٍ‬
‫ق اِإْل ْن َس َ‬ ‫ِّك الَِّذي َخلَ َ‬
‫ق (‪َ )1‬خلَ َ‬ ‫اس ِم َرب َ‬‫اقْرْأ بِ ْ‬
‫محم د هي قول ه تع الى َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ان َم ا لَ ْم َي ْعلَ ْم (‪ )5‬العل ق فخمس آي ات‬ ‫ْر ُم (‪ )3‬الذي َعل َم بِاْل َقلَم (‪َ )4‬عل َم اِإْل ْن َس َ‬ ‫َو َرُّب َ‬
‫ك اَأْلك َ‬
‫ب‬‫نزلت هي األولى من القرآن كانت تدعو إلى الى القراءة والتعلم وقال عز وجل َو ُق ْل َر ِّ‬
‫ِز ْدنِي ِعْل ًم ا ط ه ‪ 114‬الزم ر ‪ 9‬وق ال ع ز وج ل مخاطب ا رس وله الك ريم وامتنان ه علي ه‬
‫ض ُل اللَّ ِه‬
‫ان فَ ْ‬ ‫اب َواْل ِح ْك َم ةَ َو َعلَّ َم َ‬
‫ك َم ا لَ ْم تَ ُك ْن تَ ْعلَ ُم َو َك َ‬
‫ْز َل اللَّه علَي َ ِ‬
‫ْك اْلكتَ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫بفض ل العلم ‪َ:‬وَأن َ‬

‫ابن تيمية مجموع الفتاوي ‪11.343‬‬ ‫‪73‬‬

‫الشاطبي الموافقات ‪177 . 2‬‬ ‫‪74‬‬

‫البخاري ‪71‬‬ ‫‪75‬‬


‫يما النساء ‪َ 113‬ش ِه َد اللَّهُ ََّأنهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُه َو َواْل َماَل ِئ َكةُ َوُأولُو اْل ِعْلِم قَاِئ ًما بِاْل ِق ْس ِط اَل‬ ‫علَْي َ ِ‬
‫ك َعظ ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِإلَهَ ِإاَّل‬
‫يم (‪ 18‬آل عمران ‪18‬‬ ‫ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫وحث الق رآن على التفك ير والنظ ر والبحث في الطبيع ة لمعرف ة الموج ودات ولتعمي ق‬
‫ق‬ ‫اَأْلر ِ‬
‫ض َو َما َخلَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫اإليمان به عز وجل ‪ .‬قال اهلل تعالى ََأولَ ْم َي ْنظُُروا في َملَ ُكوت الس َ‬
‫اللَّهُ ِم ْن َش ْي ٍء واالعراف ‪ 185‬قال الشاطبي معلقا على هذه اآلية‪ :‬يشمل كل علم ظهر في‬
‫الوجود من معقول أو منقول مكتسب أو موهوب‪.‬‬

‫وقال النبي صلى اهلل عليه وسلم من يرد اهلل به خيرا يفقهه وإ نما العلم بالتعلم‪ 76‬وعن عبد‬
‫اهلل بن مسعود قال قال النبي صلى اهلل عليه وسلم ال حسد إال في اثنتين رجل آتاه اهلل ماال‬
‫‪77‬‬
‫فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه اهلل الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها‬

‫والعلم كله مطلوب في اإلسالم وقد كان المسلمون في بادئ األمر ال يميزون بين علم ديني‬
‫وعلم دنيوي فالجميع كان مطلوبا عندهم على نحو سواء‪ .‬ويؤكد لنا ذلك كناب الفهرست‬
‫البن الن ديم حيث يق دم بيبلوغرافي ا للعلم اء والكت اب ال ذين تع رض لهم فنج د اهتمام ا بعل وم‬
‫ال وحي إلى ج انب علم الطبيع ة على نح و س واء ‪ .‬فالعلم اء في عص ر الت دوين كتب وا في‬
‫ال وحي والطبيع ة مع ا وإ نم ا ح دث االنقالب بع د ذل ك واس تبدت عل وم ال وحي على عل وم‬
‫الطبيعة وصار الفقه هو السائد دون العلوم األخرى اللهم إال الحساب فكان ال بد منه في‬
‫الفرائض‪.‬‬

‫ومن أمث ال العلم اء ال ذين ذك رهم النض ر بن ش ميل (ت ‪ ) 204‬ق ال ابن الن ديم ومن كتب ه‬
‫كت اب الص فات الج زء األألول يحت وي على خل ق اإلنس ان والج ود والك رم وص فات النس اء‬
‫والج زء الث اني يحت وي على األخبي ة وال بيوت وص فة الجب ال والس حاب واألمتع ة الج زء‬
‫الثالث لإلبل فقط الجزء الرابع يحتوي على الغنم والطير والشمس والقمر والليل والنهار‬

‫البخاري باب العلم قبل القول والعمل‬ ‫‪76‬‬

‫البخاري ‪73‬‬ ‫‪77‬‬


‫واألبان الكماة واآلبار والحياض واألرشية الدالصفة والخمر الجزء الخامس يحتوي على‬
‫‪78‬‬
‫الزرع والكرم و العنب وأسماء البقول واألشجار والرياح‬

‫وأبو عبيدة (ت ‪ )210‬قال ابن النديم له من الكتب كتاب مجاز القرآن كتاب غريب القرآن‬
‫كت اب مع اني الق رآن كت اب غ ريب الح ديث كت اب ال ديباج كت اب جف وة خال د كت اب الحي وان‬
‫كت اب األمث ال ‪ ..‬كت اب الق وارير كت اب الب ازي كت اب الحم ام كت اب الحي ات كت اب الن وائح‬
‫كت اب العق ارب كت اب الخي ل كت اب اإلب ل كت اب األس نان كت اب المج ان كت اب ال زرع كت اب‬
‫‪79‬‬
‫الرحل كتاب الدلو كتاب البكرة كتاب السرج كتاب اللجام كتاب القوس‬

‫وكتب بعضهم بحوثا حول العلوم المنسية في ت ارخ اإلسالم فقال‪ :‬إن فى تراث المسلمين‬
‫علوم اً لم يوله ا الب احثون اهتمام اً كافي اً ‪،‬إم ا لن درة مص ادرها ‪،‬أو لتف رق موض وعاتها فى‬
‫مراجع تراثية شتى يتعذر الحصول على أغلبها ‪،‬أو لصعوبة مصطلحاتها التى تبدو لغير‬
‫المتخصصين غربية عما هو شائع فى لغة العلوم المعاصرة ‪،‬أو لغياب المنهجية السليمة‬
‫فى التعام ل م ع ال تراث بص ورة عام ة ‪ ،‬أو لك ل ه ذه األس باب مجتمع ة ‪ ،‬وربم ا ألس باب‬
‫أخرى غيرها ‪.‬‬

‫ومن هذه العلوم علم الحيل الهندسية الذي يمثل الجانب التقنى المتقدم فى علوم الحضارة‬
‫اإلسالمية ‪ .‬حيث كان المهندسون والتقنيون يقومون بتطبيق معارفهم النظرية لإلفادة منها‬
‫تقني اً فى كل ما يخدم الدين ويحقق مظاهر المدينة واإلعمار ‪،‬وقد ظهر هذا التوجه على‬
‫أي دى نف ر من العلم اء األعالم ‪،‬لع ل أش هرهم أبن اء موس ى بن ش اكر أص حاب الكت اب القيم‬
‫المع روف باس م "حي ل ب نى موسى ‪ ...‬ومنه ا علم الص وتيات حيث ي دين بنش أته وإ رس اء‬
‫أصوله المنهجية والمعرفية السليمة لعلماء المسلمين األوائل فى عصر الحضارة اإلسالمية‬
‫الزاهرة ‪ ..‬ومن ثم فإننا ال نستطيع أن نبدأ الحديث عن نظرية الصوت وتطبيقاتها إال من‬

‫لبن النديم الفهرست ‪30‬‬ ‫‪78‬‬

‫ابن النديم الفهرست ص ‪31‬‬ ‫‪79‬‬


‫حيث ب دأ علم اء الحض ارة اإلس المية فى تناوله ا ب البحث والتحلي ل ‪ ،‬فق د أجمع وا من حيث‬
‫المبدأ على أن هناك شيئين ضروريين النبعاث الصوت وانتشاره ‪ :‬أما الشيء األول فالبد‬
‫من وجود جسم يهتز إلحداث موجات الصوت التضاغية ‪،‬على نحو ما نجد فى وتر العود‬
‫أو الكم ان ‪ ،‬أو فى األوت ار الص وتية عن د اإلنس ان ‪ .‬وأم ا الش يء الث انى فالب د من وج ود‬
‫وسط مادى ‪،‬كالهواء أو الماء ‪،‬تنتقل خالله هذه الموجات الصوتية إلى أن تصل إلى األذن‬
‫ويحدث اإلحساس بالسمع ومن تلك العلوم وعلم التربة وطبيعة األراضي وعلم البئة وعلم‬
‫‪80‬‬
‫البيطرة إلى آخر قائمة تلك العلوم‬

‫ونرى في عصرنا الدكتور طه جابر العلواني يدعو إلى منهجية جديدة لقراءة الوحي عبر‬
‫عنها بإسالمية المعرفة أي إسالمية المعرفة كلها بما في ذلك العلوم الطبيعية وكل التجارب‬
‫البشرية ويدعو إلى قراءتين جاءتا في القرآن إحداهما قراءة الوحي والثانية قراءة الكون‪،‬‬
‫فيجب أن النعتم د في فهم الق رآن على مقارب ات الق دماء وإ نم ا نس تعين بعل وم العص ر‬
‫واستكش افاته لمقارب ة الق رآن وفهم ه‪ .‬وق راءة الك ون ه ذه ال تفتق د تأكي دات وأدل ة قرآني ة‬
‫ان ِم ْن‬
‫ق اِإْل ْن َس َ‬ ‫ِّك الَِّذي َخلَ َ‬
‫ق ‪َ ،‬خلَ َ‬ ‫اس ِم َرب َ‬
‫ْرْأ بِ ْ‬ ‫ملموسة وصريحة يقول بأن قوله تعالى ‪( :‬اق َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ان َم ا لَ ْم َي ْعلَ ْم) العلق اآليات ‪ 1‬إلى‬ ‫ْر ُم ‪ ،‬الذي َعل َم بِاْل َقلَم ‪َ ،‬عل َم اِإْل ْن َس َ‬ ‫ْرْأ َو َرُّب َ‬
‫ك اَأْلك َ‬ ‫َعلَ ٍ‬
‫ق ‪ ،‬اق َ‬
‫‪ 5‬هو تنبيه إلى قراءتين ال بد منهما ليتكامل فهم القرآن ومعرفة مقاصد الخطاب ففي اآلي ة‬
‫األولى دع وة الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم إلى ق راءة الق رآن‪ ،‬أم ا األم ر الث اني ب القراءة‬
‫فيتعلق بقراءة الوجود المسخر‪ .‬يقول العلواني‪ :‬القراءة الثانية أال وهي قراءة الكون والنظر‬
‫في الخلق ومعرفة ما دونته البشرية من فهم له وتجارب وتجارب فيه بأقالمها فهذه القراءة‬
‫هي التي صاغ القرآن المجيد بحسبها دليل الخلق ودليل اإلبداع والتكليف بالنظر العقلي في‬
‫الوجود والنظر في آثار األمم السالفة ومعرفة ما حدث لها فبذلك تكون القراءة المأمور به ا‬
‫قراءتين قراءة في الكون المخلوق وكل ما يتعلق به من عالم الخلق والتشيؤ بما في ذلك‬

‫د‪ ,‬أحمد فؤاد باشا علوم منسية في تراث المسلمين مجلة المسلم المعاصرالعدد ‪ 81‬لسنة ‪ 1966‬بيروت لبنان‬ ‫‪80‬‬
‫تراث األمم الذي دونته وآثارها فبالقوانين تدرك الفروق بين األمم التي استفادت بالوحي‬
‫واتبعته واستنارت به وبين األمم التي تجاهلته وتعاملت مع الطبيعة أو الكون وحده دون‬
‫‪81‬‬
‫وتقول زينب جهود العلماء‬ ‫استشارة بهداية الوحي أو أهملت الكون والتجارب البشرية‬
‫في المقاص د ش ملت ال دعوة إلى الترك يز على تط وير الدراس ات القرآني ة وب ذل الجه د في‬
‫تطوير مناهج منضبطة في فهم النص القرآني الكريم والسنة النبوية في محاوالت لتوظيف‬
‫ال دالالت اللغوي ة والس ياقات االجتماعي ة والتاريخي ة واالس تفادة من عل وم اللس انيات‬
‫المعاص رة والعل وم االجتماعي ة واإلنس انية وغيره ا ك أدوات ووس ائل منهجي ة في االس تنباط‬
‫مع الحفاظ على مرجعية النص واستخالص كلياته بالرجوع المستمر إليه وفقا لتوجيهات‬
‫الش ارع‪ 82‬كم ا ن رى جم ال ال دين عطي ة يعم ق من مفه وم العلم المطل وب ش رعا فق ال‪ :‬إن‬
‫رب ط العل وم ال واجب تعلمه ا ب أمور العب ادات إنم ا منش ؤه تل ك النظ رة الض يقة لل دين ال تي‬
‫تحص ره في العب ادات أم ا إذا فهمن ا ال دين في ش موله فس يكون طبيعي ا أن نض ع األم ر في‬
‫مكانه الطبيعي ضمن نظام تعليمي متكامل تكون مرحلته األولى شاملة ـ إلى جانب دراسة‬
‫العقي دة والعب ادات ـ للغ ة العربي ة (بعلومه ا األساس ية) والرياض يات ( الحس اب والج بر‬
‫والهندس ة) وال تريخ والجغرافي ا واالفيزي اء والس نة والس يرة والفقه ه بص ورة بس يطة ش املة‬
‫ومبادئ اللغة اإلنتجليزية والحاسوب اآللي‬

‫ه ذه المرحل ة األولى تمث ل الق در الض روري من المعرف ة ال واجب تعميم ه في عص رنا‬
‫الحاضر فرضا عينا على الجميع رجال ونساء و أطفاال‬

‫وعلى المس توى الح اجي يق وم ب دعم ه ذه المرحل ة نظ ام ثق افي متكام ل من المكتب ات‬
‫المدرس ية والعام ة ووس ائل اإلالم المس موعة والمرئي ة وال دوريات المتخصص ة والمراج ع‬
‫العامة والخاصة والنوادي والجمعيات‬

‫العلواني‪ ،‬طه جابر الجمع بين القراءتين‪ ،‬ص‪13 :‬‬ ‫‪81‬‬

‫العلواني‪ ،‬زينب مراجعات‪ ،‬ص‪4 :‬‬ ‫‪82‬‬


‫ويختص المس توى التحس يني بالعناي ة ب المتفوقين والمب دعين الين يتم اكتش فافهم من خالل‬
‫‪83‬‬
‫المستويين الضروري والحاجي وتقوم الدولة بإعطائهم عناية خاصة‬

‫والعلم مربوط بالعمل لتكون له نتائج محسوسة قال الشاطبي بعد مسألة كل دليل شرعي‬
‫قال العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعى وإ نما هو وسيلة‬
‫إلى العمل وكل ما ورد فى فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل‬
‫‪84‬‬
‫به‬

‫ومن مقاصد العلم أيضا تحقق الخشية هلل ‪ .‬قال الشاطبي‪ :‬ويتصدى النظر هنا في تحقيق‬
‫هذه المرتبة وما هي والقول في ذلك على اإلختصار أنها أمر باطن وهو الذي عبر عنه‬
‫بالخشية في حديث ابن مسعود وهو راجع إلى معنى اآلية وعنه عبر في الحديث في أول‬
‫‪85‬‬
‫ما يرفع من العلم الخشوع‬

‫ـومن مقاصد العلم ترشيد الجهد وذلك ان ال نطلب العلة فيما هو غير معلل قال الشاطبي‬
‫أح دها الحكم المس تخرجة لم ا ال يعق ل معن اه على الخص وص في التعب دات كإختص اص‬
‫الوض وء باألعض اء المخصوص ة والص الة بتل ك الهيئ ة من رف ع الي دين والقي ام والرك وع‬
‫والس جود وكونه ا على بعض الهيئ ات دون بعض واختص اص الص يام بالنه ار دون اللي ل‬
‫وتع يين أوق ات الص لوات في تل ك األحي ان المعين ة دون م ا س واها من أحي ان اللي ل والنه ار‬
‫واختص اص الحج باألعم ال المعلوم ه وفي األم اكن المعروف ة وإ لى مس جد مخص وص إلى‬
‫أشباه ذلك مما ال تهتدي العقول إليه بوجه وال تطور نحوه فيأتي بعض الناس فيطرق إليه‬
‫حكما يزعم أنها مقصود الشارع من تلك األوضاع وجميعها مبني على ظن وتخمين غير‬
‫مطرد في بابه وال مبني عليه عمل بل كالتعليل بعد السماع لألمور الشواذ وربما كان من‬

‫عطية تفعيل المقاصد ص ‪ 86‬و ‪87‬‬ ‫‪83‬‬

‫الشاطبي المو افقات ‪65 /1‬‬ ‫‪84‬‬

‫الشاطبي الموافقات ص ‪79 /1‬‬ ‫‪85‬‬


‫هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى ما ليس لنا به علم وال‬
‫دليل لنا عليه والعلم يعتبر بمقاصده ولذلك فهو غير مطلوب لذاته وإ نما لما يحقق من نتائج‬
‫‪86‬‬
‫حتى أنه يصير مذموما‬

‫المراجع‬

‫ـ القرآن الكريم‬

‫ـ محمد بن احمد األنصاري القرطبي تفسير القرطبي دار الفكر (د‪ ،‬ت) بيروت لبنان‬

‫ـ الشنقيطي أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن دار الفكر ‪ 1995‬م ‪ 1415‬هـ‬

‫ـ الرازي الشرح الكبير دار الكتب العليمية ‪ 2004‬م ‪ 1426‬هـ بيروت لبنان‬

‫ـ البخاري‪ ،‬أبو عبد اهلل محمد بن إسماعيل‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬دار الكتب العلمية ( د ت )‬

‫بيروت لبنان‬

‫ـ مس لم أب و الحس ين مس لم بن الحج اج‪ ،‬ص حيح بش رح الن ووي‪ :‬دار الكتب العملي ة‬

‫الطبعةاألولي‪1995 ،‬م بيروت لبنان‬

‫ـ البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين كتاب السنن الكبرى ‪ 5308‬دار المعرفة‬

‫الشاطبي الموافقات ‪84 /1‬‬ ‫‪86‬‬


‫ـ سنن أبي داوود ‪ 1368‬دار الفكر ‪ 1415‬هـ ‪ 1995‬م‬

‫ـ أحم د ابن علي ابن حج ر العس قالني فتح الب اري ش رح ص حيح ابلخ اري دار الري ان دار‬
‫الريان للتراث ‪ 1407‬هـ ‪ 1986‬م‬
‫ـ السيوطي جالل الدين عبد الرحمن تنوير الحوالك شرح موطأ مالك دار الفكر ‪ 1414‬هـ‬

‫‪ 194‬م بيروت لبنان‬

‫ـ النووي‪ :‬صحيح مسلم بشرح النووي ص ‪34‬مؤسسة قرطبة ‪ 1414‬هـ ‪ 1994‬م الطبعة‬

‫الثانية‬

‫ـ محم د ابن عب د الب اقي الزرق اني‪ ،‬ش رح الزرق اني على الموط أ ‪ ،‬مكتب ة الثقاف ة الديني ة‬

‫‪ 1424‬هـ ‪ 2003‬م‬

‫ـ الجوي ني‪ ،‬أب و المع الي عب د المل ك بن عب د اهلل‪ ،‬البره ان في أص ول الفق ه‪ :‬تحقي ق عب د اهلل‬

‫النبالى وبشير أحمد العمري دار البشائر اإلسالمية ‪1996‬م بيروت لبنان‬

‫ـ ابن تيمية ‪ ،‬تقي الدين أحمد‪ ،‬مجموع فتاوى مجمع الملك فهد ‪1416‬هجرية – ‪1996‬م‬
‫ـ ع ز ال دين عب د العزي ز بن عب د الس الم القواع د الك برى الموس وم ب قواع د األحك ام في‬

‫إص الح األن ام تحقي ق د‪ /‬نزي ه كم ال حم اد و د‪ /‬عثم ان جمع ة ض ميرية الطبع ة األولى‬

‫‪ 1421‬هـ ‪2000‬م‬

‫ـ عز الدين ابن عبد السالم الفوائد في اختصار المقاصد‬


‫ـ عز الدين ابن عبد السالم شجرة المعارف واألحوال وصالح األقوال واألعمال دار الكتب‬
‫العلمية ‪ 1424‬هـ ‪ 2002‬م بيروت لبنان‬
‫ـ اآلمدي‪ ،‬سيف الدين أبو الحسين علي ابن أبي علي اآلمدي‪ ،‬اإلحكام في أصول األحكام‪:‬‬

‫دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت لبنان‬

‫ـ الش وكاني‪ ،‬محم د بن علي إرش اد الفح ول إلى تحقي ق الح ق من علم األص ول تحقي ق أب و‬

‫حفص سامي بن العربي االشتري وقدم له الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن السعد ود‪ .‬سعد‬

‫بن ناص ر المش تري الطبع ة األولى ‪ 1424‬هـ ‪2000‬م دار الفض يلة للنش ر والتوزي ع‬

‫الرياض المملكة العربية السعودية‬

‫ـ د ‪ .‬أحمد فؤاد باشا علوم منسية في تراث المسلمين مجلة المسلم المعاصرالعدد ‪ 81‬لسنة‬

‫‪ 1966‬بيروت لبنان‬
‫ـ الشافعي‪ ،‬محمد بن إدريس الرسالة تحقيق أحمد شاكر دار الكتب العلمية‬

‫ـ الغزالي أبو حامد محمد بن محمد بن محمد‪ ،‬شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك‬

‫التعليل تحقيق حمد الكبيسي ‪ 1390‬هـ ‪ 1971‬م مطبعة االرشاد بغداد‬

‫ـ الغزالي‪ ،‬المستصفي في أصول الفقه‪ ،‬الطبعة الثانية‪1983 :‬م دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‬

‫لبنان‬

‫ـ الرازي‪ ،‬فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين‪ ،‬المحصول في علم أصول الفقه دراسة‬

‫وتحقيق د‪ .‬طه جابر فياض العلواني مؤسسة الرسالة‬

‫ـ ابن ح زم‪ ،‬اإلحك ام في أص ول األحك ام‪ ،‬تحقي ق أحم د ش اكر‪ ،‬مطبع ة العاص مة ‪ ،‬الق اهرة‬

‫مصر‬

‫ـ أبو إسحاق ابراهيم بن موسي الشاطبي‪ ،‬الموافقات في أصول األحكام‪ :‬دار الفكر للطباعة‬

‫والنشر‬

‫ـ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة اإلسالمية تحقيق و دراسة محمد الطاهر‬

‫العيساوي دار النفائس للنشر والتوزيع األردن الطبعة الثانية ‪ 1421‬هـ ‪ 2001‬م‬
‫ـ نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي اإلشارات اإللهية إلى‬

‫المب احث األص ولية أع داد أب و عاص م حس ن بن عب اس بن قطب الف اروق الحديث ة للطباع ة‬

‫والنشر الطبعة األولى ‪ 1423‬هـ ‪ 2002‬م‬

‫ـ نجم ال دين الط وفي كت اب التع يين في ش رح األربعين تحقي ق أحم د ح اج محم د عثم ان‬

‫مؤسسة الريان ‪ 1419‬هـ ‪ 1998‬م بيروت‬

‫ـ الريسوني نظرية المقاصد عند اإلمام الشاطبي المعهد العالي للفكر اإلسالمي ‪ 1416‬هـ‬

‫‪ 1995‬م‬

‫ـ د ‪ .‬طه جابر العلواني‪ ،‬الجمع بين القراءتين الوحي والكون دار الشروق القاهرة ‪2005‬‬

‫م‬

‫ـ د‪ .‬طه جابر العلواني مدخل إلى المقاصد الشرعية الطبعة األولى ‪ 1421‬هـ ‪ 2001‬م دار‬

‫الهادي بيروت لبنان‬

You might also like