You are on page 1of 17

‫المصالح المرسلة‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫ت بني للتأم ل يف مس الك العل ة يف حبث الي اس‪ :‬أن املناس بة وهي املاءم ة بني الوص ف واحلكم مس لك مفي د للعلي ة (أي‬
‫كون الوصف صاحلا لعلة احلكم بطريق الياس) وذلك إذا اعتربها الشارع‪ ,‬واعتبار الشارع للمناسبة يكون باعتبار‬
‫الوصف املناسب‪ .‬واعتباره إما باإللغاء أي أن يلغيه الشارع بإيراد فروع على عكسه‪ ,‬أو باإلقرار أي بإيراد فروع‬
‫‪1‬‬
‫على وفقه بغري نص أو إمياء‪ .‬وبناء عليه فإن الوصف املناسب ينقسم من حيث اعتبار الشارع له إىل ثالثة أقسام‪.‬‬

‫المناسب المعتبر‪ :‬هو ما شهد الشارع باعتباره بأن وضع من األحكام التفصيلية ما يوصل إليه‪ ,‬مثل مجيع‬ ‫‪)1‬‬
‫األحكام الشرعية املوضوعة للمحافظة على مقاصد الشرع الكلية اخلمسة أو غايات األحكام االيت مل تبح يف ملة‬
‫من امللل‪ :2‬وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب أو العرض واملال‪ .3‬فاجلهاد وقتل املرتد شرعا للمحافظة‬
‫على مبدأ الدين أو التوحيد ‪ ،‬والقصاص شرع للحفاظ على النفوس والدماء ‪ ,‬ألن القصاص مقرر للحياة اليت ‪.‬‬
‫أج ل املن افع هي وحترمي املس كرات وإقام ة احلد على ش ارهبا مش روع لصيـانـة العق ول‪ .‬وحترمي الس رقة وقط ع يد‬
‫السارق ومشروعية الضمان عند أخـذ املـال بـالـبـاطـل هي مقررة للمحـافظـة على األموال‪ .‬وحترمي الزىن وجلـد‬
‫الـزاين من أجـل صـيـانـة األنس اب واألع راض‪ .‬ورخص ة الفط ر يف رمض ان للمس افر واملريض ‪ ،‬وقص ر الص الة‬
‫ومجعه ا للمس افر ‪ :‬موض وعة ل دفع احلرج واملش قة عن الن اس ‪ .‬ه ذا الوص ف ال خالف يف ج واز التعلي ل ب ه‬
‫لالستقراء بأن أحكام الشرع كانت جللب املصلحة أو دفع املفـسدة‪.‬‬
‫المناسب الملغي ‪ :‬هو ما شهد الشرع بإلغائه بأن وضع أحكامـا تـدل على عدم االعتداد به كاجياب صوم‬ ‫‪)2‬‬
‫ش هرين يف كف ارة اجلم اع يف هنار رمض ان عن الغ ين‪ ،‬فإن ه وإن ك ان أبل غ يف الزج ر وال ردع من العن ق‪ ،‬لكن‬
‫الشارع ألغـاه بـا جيـابـه اإلعتـاق أوًال‪ ،‬فال جيوز اعتباره ملخالفته النص املذكور يف السنة ‪( :‬أعتـق رقبة أو لقصره‬
‫مع ىن الكف ارة على الزج ر دون مراع اة مص لحة أخ رى وهي س رت ال ذئب على املخ الف‪ ،‬ومثال ه ‪ :‬املبالغ ة يف‬
‫الت دين‪ ،‬ف إن العق ل ق د ي درك أن ش دة الت دين منفع ة كم ا ظن بعض الص حابة حينم ا امتن ع بعض هم عن األك ل‬
‫وواظب على احليـام‪ ،‬وامتنع بعضهم عن الرواج‪ ،‬وبعضهم عن الـوم يف الليـل من أجـل الصالة‪ ،‬ولكن الشارع‬
‫ألغاه لقول الرسول ﷺ ‪( :‬ال رهبـانيـة يف اإلسالم‪ ،‬وقوله هلؤالء)‪( : 4‬أما واهلل إين ألخشاكم اهلل وأتقاكم‬
‫لـه ‪ ،‬لكين أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنيت فليس مين‪ 5).‬واألمثلة كثرية مثل‬

‫‪ 1‬راجع املستصفى ‪ ، ۱۳۹/۱‬شرح اإلسنـوي ‪ ،٣\٦٧‬املـدخـل إىل مذهب أمحـد ‪ ، ١٣٦‬اإلهنـاج للسبكي ‪ ، ١١١ ، ٣\٤٣‬روضة الناظر ‪٤١٢/١‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 2‬املوافقات ‪.۲۸/۱‬‬
‫‪ 3‬يرتب املالكية والشافعيـة هـذه األصول أو الضروريات اخلمس على النحـوااليت الدين ‪ ،‬والنفس ‪ ،‬والعقل ‪ ،‬والنـل ‪ ،‬واملال ‪ .‬ويرتبها احلنفية على‬
‫النحو التايل ‪ :‬الدين ‪ ،‬مث النفس‪.‬‬
‫‪ 4‬قال ابن حجر مل أره هبذا اللفظ ‪ ،‬لكن يف حديث سعد بن أيب وقاص عند البيهقي ‪ « :‬إن اهلل أيدلنا بالرهبانية احلنيفية السمحة ‪ ..‬ويف حديث‬
‫آخر ‪ « :‬تزوجوا فإين مكاثر بكم األمم ‪ ،‬وال تكونوا كرهبـانيـة النصارى ‪ ،‬رواء البيهقي عن أيب أمامة ‪ ،‬قال السيوطي ‪ :‬ضعيف ( اجلامع الصغري ‪،‬‬
‫كشف اخلفا)‪.‬‬
‫‪ 5‬أخرجه الشيخان وللنسائي حنوه عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه ( رياض الصاحلني ‪ ، ٧٥‬مجع الفوائد ‪.)۳۲/۱‬‬
‫التعامل بالربا‪ ،‬وجعل الطالق بيد القاضي أو بيـد املرأة‪ ،‬وقتل املريض اليائس من الشفاء نفسه‪ ،‬فإن كل هذا‬
‫مصادم لنص الشارع‪ .‬وهذا الوصف ال خالف أيضًا يف عدم جواز التعليل به كما قلنا‪.‬‬
‫المناس ب المرس ل ‪ :‬ه و الوص ف ال ذي مل يعلم من الش رع إلغ اؤه وال اعتبـاره ال بنص وال بإمجاع‪ ،6‬أي مل‬ ‫‪)3‬‬
‫يوجد يف األحكام الشرعية ما يوافقه أو خيالفه‪.‬‬

‫وه ذا ال ذي اختل ف العلم اء يف ج واز التعلي ل ب ه‪ ،‬وق د مساه املالكي ة ‪ :‬باملص احل املرس لة‪ ،‬والغ زايل ‪ :‬باالستص الح‬
‫ومتكلم و األص وليني باملنـاسب املرس ل املالئم‪ ،‬وبعض هم ‪ :‬باالس تدالل املرس ل‪ ،‬وإم ام احلرمني وابن الس معاين ‪:‬‬
‫باالستدالل ‪ ،‬وإين سأحبث املصاحل املرسلة وفق اآليت ‪:‬‬

‫أنواع املصاحل ‪ ،‬تعريف املصلحة املرسلة‪ ،‬حجيـة املصاحل املرسلة‪ ،‬شروط العمل هبا‪ ،‬رأي جنم الدين الطويف يف إلغاء‬
‫النص باملصلحة‪.‬‬

‫أنواع المصالح ‪:‬‬

‫التقسيم الذي ذكر للمصلحة أو الوصف املناسب هو من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره كما قلت‪ .‬وتنقسم‬
‫املصلحة اليت مل يشهـد هلـا الشارع ببطالن وال باعتبار معني تقسيا آخر من حيث قوهتا يف ذاهتا إىل ثالثة أقسام ‪:7‬‬

‫الضروريات ‪ :‬هي اليت يتوقف عليها حياة النـاس الـديـنـيـة والـدنيـويـة حبيث إذا فقدت اختلت احلياة يف الدنيا‪ ،‬وضاع‬
‫النعيم وح ل العق اب يف اآلخ رة‪ ،‬وهي مخس ‪ :‬حفـظ الـدين والنفس والعقـل والنس ب ( أو النسـل أو الع رض )‬
‫واملمال‪.‬‬

‫الحاجيات ‪ :‬وهي اليت حيتاج الناس إليها لرفع احلرج عنهم فقط‪ ،‬حبيث إذا فقدت وقـع النـاس يف الض يق واحلرج‪،‬‬
‫دون أن ختتـل احليـاة‪ ،‬وقـد شرع الشارع هلا أصناف املعامالت من بيع وشراء وإجارة واستئجار وأنواع الرخص من‬
‫قصر الصالة ومجعها للمسافر‪ ،‬وإيـاحـة الفطر يف رمضـان للـحـامـل واملرضع واملريض‪ ،‬وسقوط الصالة عن احلائض‬
‫والنفساء‪ ،‬واملسح على اخلفني حضرًا أو سفرًا‪ ،‬وتسليط الويل على نكاح الصغرية حلاجة اختيار الكفء وحنوها‪.‬‬

‫التحس ينيات ‪ :‬وهي املص احل ال يت يقص د هبا ومك ارم األخالق‪ ،‬مث ل الطه ارات بالنس بة للصلوات‪ ،‬وأخـذ الزينة من‬
‫اللباس وحماسن اهليئـات والطيب‪ ،‬وحترمي اخلبائث من املطعـومـات‪ ،‬والرفق واإلحسان‪ ،‬وصيانة املرأة من مباشرة عقد‬
‫نكاحها بإقامة الويل مباشرا له‪ ،‬وما أشبه‪.‬‬

‫هذه األنواع الثالثة من املصاحل هي نقطة انطالق مبدأ املصاحل املرسلة‪ .‬فإن من القضايا اليت صارت يف حيز البدهيات‬
‫أن الشارع راعي مصاحل الناس يف تشريع األحكام الدنيوية تفضًال منه وإحسانا‪ ،‬ال حتما وإلزامًا كما يقول املعتزلة ‪:‬‬
‫هلذا ق ال كث ري من العلم اء باملص لحة املرس لة‪ ،‬ووافقهم الش افعية ومنهم الغ زايل يف املص احل الض رورية‪ .‬وأم ا املص احل‬

‫‪ 6‬شرح العضد على خمتصر املنتهى ‪ ، ٢٨٩ ، ٢٤٢/٢‬املدخل إىل مذهب أمحد ‪.١٢٨‬‬
‫‪ 7‬راج ع املوافق ات للش اطيب ‪ ، ۱۲ - ۸/۲‬روض ة الن اظر ‪ ، ١\٤١٤‬ش رح العض د على خمتص ر املنتهى ‪ ، ٢٤٠/٢‬فـواتـح الرمحـوت ‪ ٢٦٢/٢‬ومـا‬
‫بعـدهـا ‪ ،‬املستصفى ‪ ، ۱۳۹/۱‬شرح اإلســوي ‪ ، ٦٣/٣‬التقرير والتحبري ‪ ، ١٤٤/٣‬اإلهباج شرح املنهاج ‪ ، ٢٨/٣‬املدخل إىل مذهب اإلمام أمحد‬
‫‪ ، ١٣٧‬أصول الفقه للخضري ‪ ،٣٠٣‬وأليب زهرة ‪.٣٥٦‬‬
‫احلاجية والتحسينية فلم جييزوا احلكم مبجردها إن مل تعتضـد بشهـادة أصل من األصـول الشرعيـة إال أن يكون احلكم‬
‫جـاريـًا جمرى الضرورات‪ ،‬والضرورات تبيح احملظورات‪ ،‬كما سيأيت تفصيلـه يف مطلب حجيـة املصاحل املرسلة‪.‬‬

‫تعريف المصالح المرسلة ‪:‬‬

‫قال الغزايل رمحه اهلل تعاىل ‪ :‬املصلحة هي عبارة يف األصل عن جلب منفعة‪ ،‬أو دفع مضرة‪ ،‬ولسنا نعين به ذلك‪،‬‬
‫فإن جلب املنفعة ودفع املضرة مقـاصـد اخللق‪ ،‬وصالح اخللق يف حتصيل مقاصدهم‪ ،‬لكنا نعين باملصلحة ‪ :‬احملافظة‬
‫على مقص ود الش رع ‪ ،‬ومقص ود الش رع من اخللـق مخس ة ‪ :‬وهـو أن حيفـظ عليهم دينهم ‪ ،‬ونفس هم ‪ ،‬وعقلهم ‪،‬‬
‫ونسلهم ‪ ،‬وماهلم ‪ ،‬فكل ما يتضمن حفظ هذه األصول اخلمسة فهو مصلحة ‪ ،‬وكل ما يفوت هذه األصول ‪ ،‬فهو‬
‫مفس دة ‪ ،‬ودفعه ا مص لحة‪ .8‬هذا م ا ق رره الغ زايل يف بيـان مـعـيـار املص احل ‪ ،‬وهو على ح ق ‪:‬ألن النـاس خيتلف ون يف‬
‫تقدير املصلحة حبسب ما حيقق لكل منهم نفعه الذايت دون التفات إىل مصلحة اجملموع ‪ ،‬فكان ال بد من تشريع‬
‫الش ارع احلكيم ليك ون احلكم الع دل بني الن اس يف موازن ة املص احل وتوزي ع املن افع ‪ .‬ومن هن ا ب رزت احلـاجـة إىل أن‬
‫تقـدر املصلحة مبعيار الشرع دون أن جيوز تركها ألهواء األفراد وعقوهلم اخلاصة ‪ ،‬فاملراد باملصاحل واملفاسـد ‪ :‬هي ما‬
‫كانت كذلك يف نظر الشرع ‪ ،‬ال ما كان مالئمًا أو منافرًا للطبع ‪ ،9‬وهذا ما يدعو إىل تبيان حقيقة املصلحة املرسلة‬
‫يف اصطالح األصوليني‪.‬‬

‫قال اخلوارزمي ‪ :‬املراد باملصلحة ‪ :‬احملافظة على مقصود الشارع بدفع املفاسـد عن اخللق ‪.‬‬

‫وقال الغزايل ‪ :‬هي أن يوجد معىن يشعر باحلكم مناسب عقًال وال يوجـد أصل متفق عليه ‪ .‬وقال ابن برهان ‪ :‬هي‬
‫ماال تستند إىل أصل كلي وال جزئي ‪.‬‬

‫هذه التع اريف متقاربة يف املعىن ‪ ،‬غري أين أختـار تعريف ًا آخر أوضح للمص احل املرسلة ‪ :‬وهي األوصاف اليت تالئم‬
‫تصرفات الشارع ومقاصده ‪ ،‬ولكن مل يشهد هلا دليل معني من الشرع باالعتبار أو اإللغاء ‪ ،‬وحيصل من ربط احلكم‬
‫هبا جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن النـاس‪ . 10‬وهبذا يتبني أنه إذا وجـد للواقعة نظري يف الشرع من كتاب أو سنة‬
‫أو إمجاع ‪ ،‬جلأ اجملتهد إىل القياس ‪ ،‬أما إذا مل يوجد للوصف املناسب الذي يصلح بناء احلكم عليه نظري منصوص‬
‫عليه ‪ ،‬عمل اجملتهد باملصاحل املرسلة أو االستصالح ‪ ،‬فما هو موقف العلماء فيها‪.‬‬

‫حجية المصالح المرسلة‪:‬‬

‫ال ن زاع يف أن الش ريعة اإلس المية ش ريعة اإلس المية شريعة ديني ه ودنيوي ة‪ .‬ويف جمال الدين أحك ام تعبدية كأوضاع‬
‫الص الة والص يام مل تتمكن عقولن ا من إدراك مع ىن معني ق اطع هلا‪ ,‬فه ذه األحك ام ال جمال للقي اس عليه ا فض ال عن‬
‫القول باملصلحة املرسلة فيها‪ :‬ألهنا مقصورة على الوحي السماوي الذي يسن لنا طريقة العبادة املرضية عز وجل ‪،‬‬
‫حبيث تكون ذات صفة دائمة موحـدة بالنسبة جلميع األجيال ‪ ،‬من الصفات اللصيقة بشخص املسلم املالزمة له على‬

‫‪ 8‬ملستصفی ‪١٤٠ - ۱۳۹/۱‬‬


‫‪ 9‬املوافقات للشاطيب ‪)١(٢٤٣/١‬‬
‫‪ 10‬راجع املوافقات للشاطيب‪ ، ١\٣٩‬ومذكرات أستاذنا الشيخ حممد الزفزاف ‪ ٧‬من األدلة املختلف (‪ )۱‬فيها‬
‫كر الدهور واألعوام ‪ ،‬حاجة إىل القياس فيها وال منفذ لالبتداع والتجديد واالبتكار يف شأهنا ‪ ،‬وإال بنا األمر إىل‬
‫الضالل واالحنراف‪.‬‬

‫وأما األحوال املدنية أو املعامالت ‪ :‬فهي امليدان املقبول لالجتهاد فيها عن طـريـق القياس واملصـالـح املرسلة وحنـوهـا ‪،‬‬
‫إال أن العلماء اختلفوا يف األخـذ باملصلحة املرسلة بوصفهـا دليًال مستقًال يف تشريع األحكام ‪ ،‬على ثالثـة مـذاهب‬
‫ذكرها اإلسنوي والشوكاين وغريمها‪ ،11‬إال أن الشوكاين أضـاف مـذهـبـًا رابع ًا هو األخذ باملصاحل إن كانت مالئمة‬
‫ألصل شرعي كلي أو جزئي ‪ ،‬وهـذا يف رأيي من باب القياس ‪ ،‬فال أذكره‪.‬‬

‫قال الجمهور ( وهذا محل نظر كما سنعرف ) ‪:‬‬ ‫‪.1‬‬


‫ال يؤخ ذ باملص لحة املرس لة مطلق ًا ‪ ،‬ق ال ابن احلاجب ‪ :‬وه و املخت ار ‪ ،‬وق ال اآلم دي ‪ :‬إن ه احلق ال ذي‬
‫‪12‬‬

‫اتفق عليه الفقهاء‪ 13‬أما بالنسبة للشيعة فاتفق فقهاؤهم على منع الفتوى هبا‪.14‬‬

‫وقال األستاذ حممد تقي احلكيم ‪ :‬الشيعة ال يقولون باملصـالـح املرسلة إال ما رجع منها إىل العقل على سبيل اجلزم ‪،‬‬
‫وما عداه فهو ليس حبجة‪.‬‬

‫قال اإلمام مالك ‪ :‬واختاره إمام الحرمين‪:15‬‬ ‫‪.2‬‬

‫املناس ب املرس ل حج ة مطلق ًا ‪ ،‬روي عن مالـك أنـه قـال ‪ :‬جيوز قت ل الثلث من اخلل ق الستص الح الثل ثني‪ .16‬ويع د‬
‫اإلمـام مـالـك رائد العمل باملصلحة ‪ ،‬املصلحة يف رأيه إما أن تؤخذ من النص أو من عموم ما ورد من النصوص ‪،‬‬
‫مثل قوله تعاىل ‪ ( :‬وما جعل عليكم يف الدين حرج ) وقوله ﷺ ‪( :‬ال ضرر وال ضرار) وتسمى املصلحـة اليت‬
‫ليس هلـا يف ش رع اهلل أم ر أو هني( مصلحـة مرس لة) ‪ ،‬وهي ال يت يك ون نفعه ا أك ثر من ضررهـا ‪ .‬وقـد أخـذ اإلمـام‬
‫أمحـد باملصلحة املرسلة ‪ ،‬فهي من أصول مذهبه ‪ ،‬وأخذ هبا يف السياسة الشرعيـة بنحو عام ‪ ،‬وهي ما ينهجه اإلمام‬
‫إلصالح الناس ‪ ،‬ومحلهم على ما فيه مصلحة ‪ ،‬وإبعادهم عما فيه مفسدة ‪.‬‬

‫قال الغزالي ‪:‬‬ ‫‪.3‬‬

‫املناسب املرسل يعترب إن كانت املصلحة ضرورية قطعية كلية ‪ ،‬وإال فال ‪ ،‬فالضرورية ‪ :‬هي اليت تكون من إحـدى‬
‫الضروريات اخلمس بالرتتيب اآليت ‪ :‬وهي حفـظ الـدين والنفس والعقل والنسب واملـال ‪ .‬وأمـا القطعية ‪ :‬فهي اليت‬
‫جيزم حبصول املصلحة فيها ‪ .‬والكلية ‪ :‬هي اليت تكون موجبة لفائدة عامة للمسلمني‪.17‬‬

‫‪ 11‬راجع شرح اإلسنوي ـ هنـايـة الـول شرح منهاج الوصول إىل علم األصول للبيضاوي ‪ ،٣\١٦٤‬إرشاد الفحول ‪ ، ٢١٢‬املدخل إىل مذهب أمحد‬
‫‪١٣٨‬‬
‫‪ 12‬اإلحكام يف أصول األحكام ‪١٣٨/٣‬‬
‫‪ 13‬املتصفى ‪١٤٢٣ ، ١٤١/١‬‬
‫‪ 14‬املبادىء العامة للفقه اجلعفري ‪ ، ٣٠٤‬أصول االستنباط للحيدري ‪٢٦٥‬‬
‫‪ 15‬املنخول للغزايل ‪ ، ٣٥٤‬األصول العامة ‪٤٠٤‬‬
‫‪ 16‬يالحظ أن هذا الذي نقله الغزايل عن اإلمام مالك ال أصل له يف مذهبه وإمنا هي شهرة متناقلة بني الناس دون أي مستند أو دليل يثبت صحة‬
‫نسبة هذه الفتوى إليه ‪ .‬كذلك مل يثبت عن اإلمام مالك أنه أجاز القتل يف التعزير ‪ ،‬أو أجاز ضرب املتهم للتوصل إلقراره ‪ ،‬أو أجاز مصادرة أموال‬
‫األغنياء عند املصلحة‬
‫‪ 17‬املستصفى ‪١٤٢ - ١٤٠/١‬‬
‫ومثال ه ‪ :‬م ا إذا ص ال الكف ار علينا مترتس ني بأس ارى املس لمني ‪ ،‬وقطعن ا بـأنـا ل و امتنعن ا عن قت ل ال رتس لص دمونا ‪،‬‬
‫واستولوا على ديار املسلمني وقتلوا املسلمني كافة ‪ ،‬ولو رمينا الرتس لقتلنا مسلمًا معصومًا من غري ذنب صدر منه ‪،‬‬
‫فإن قتل الرتس ‪ ،‬واحلالة هذه مصلحة مرسلة ‪ ،‬لكونه مل يعهد يف الشرع جواز قتل مسلم بال ذنب‪.‬‬

‫وال دليل أيض ًا على عدم جواز قتل املسلم يف سبيل حتقيق مصلحة للمسلمني ‪ ،‬بل إن التحقيق يؤدي إىل أن هذا‬
‫األسري مقتول بكل حال ‪ ،‬فحفظ مجاعة املسلمني أقرب إىل مقصود الشرع من حفظ مسلم واحد ؛ ألن مقصود‬
‫الشرع تقليل القتل ‪،‬كما يقصد حسم سبيله عند اإلمكان ‪ ،‬فإن مل نقدر على احلسم قدرنا على التقليل ‪.‬‬

‫ويالحظ أن مثال الرتس تطبيق ملبدأ العمل بالضرورات ‪ .‬وتوظيف اخلراج داخـل حتت مضمـون قـواعـد الشرع الكليـة‬
‫املعرتف هبا عنـد مجيع املسلمني مثـل (خيتار أهون الشرين) وهذا يدل على أن يف املصلحة املرسلة مذهبني فقط مها‬
‫مانع وجميز ‪ ،‬فمن مها؟‬

‫أما المانع ‪ :‬فهم الظاهرية والشيعة والشاف وابن احلاجب من املالكية ‪.‬‬

‫أما المجيز ‪ :‬فهم املالكية واحلنابلة‪.18‬‬

‫أمـا الحنفيـة فـقـد ذكر األمـدي أنهم كالشافعيـة في امتنـاع التمـك باالستصالح ‪ :‬وتابعه عليه اإلسنوي وبعض‬
‫الكاتبني احملدثني يف علم األصول ‪.‬‬

‫لكن احلنفية يأخذون باملصاحل املرسلة من طريق االستحسان الذي برع فيه اإلمام أبو حنيفة ؛ ألن أكثر ما يعتمد‬
‫عليه االستحسان هو املصلحة املرسلة كما قلنا سابقًا ‪ .‬وهبذا يظهر أن اجلمهور هم القائلون باملصلحة املرس لة ‪ ،‬على‬
‫عكس ما قاله اإلسنوي والشوكاين عند عرض مذاهب العلماء يف هذا الشأن ‪ ،‬وقد توصلت إىل هذه النتيجة خالل‬
‫تتبع استنباطات الفقهاء يف فروعهم املذهبية ‪ ،‬وإن كانوا يف الظاهر ينفون القول باملصاحل املرسلة ‪.‬‬

‫األدلة ‪:‬‬

‫أدلة النفاة ‪ :‬استدل نفاة املصاحل املرسلة بأدلة‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ إن األخـذ هبـا يـؤدي إىل إهـدار قـدسيـة أحكام الشريعة بتصرف ذوي األهواء فيها ‪ ،‬وفق ًا ألغراضهم ومآرهبم‬
‫حتت ستار املصلحة املرسلة بناء على تغري وجه املصلحة بتطور الزمان واملكان ‪ ،‬فيكون القول باملصلحة من باب‬
‫التلذذ والتشهي ‪ ،‬قال ابن حزم ‪( :‬وهذا باطل ؛ ألنه اتباع اهلوى وقول بال برهان‪ )19‬ويناقش هذا الدليل بأن األخذ‬
‫باملصلحة املرسلة ليس من قبيل التشريع باهلوى ؛ ألن من شروط العمل هبا كما سأبني ‪ :‬وجـود املالءمة بني املصلحة‬
‫وبني مقـاصـد الشرع ‪ .‬هذا فضًال عن أن إنكار العمل باملصلحة يؤدي إىل سد باب من أبواب الرمحة باملخلوقات ‪،‬‬
‫وأن القائل باملصلحة من أهل االجتهاد واالستنباط‪.‬‬

‫‪ .2‬إن األخ ذ باملص احل املرس لة ي ؤدي إىل الني ل من وح دة التش ريع وعموم ه فتختل ف األحك ام ب اختالف األزم ان‬
‫واألحوال واألشخاص ‪ ،‬نظرًا لتبـدل املصاحل على مر األيام ‪.‬‬

‫‪ 18‬راجع ( ابن حنبل ) ألستاذنا الشيخ حممد أبو زهرة ‪٢٩٨‬‬


‫‪ 19‬ملخص إبطال القياس ‪٥‬‬
‫وجياب عنه بأن جمال العمل باملصلحة املرسلة ‪ :‬هوحيث ال نص على اعتبـار املصلحة أو إلغائها ‪ ،‬فال يتناىف مع مبـدأ‬
‫وحـدة التشريع وعمومه ‪ ،‬وإمنا يكون األمر على العكس ‪ ،‬وهو جعل الشريعة صاحلة لكل زمان ومكان ‪ ،‬مبا يتفق‬
‫مع املصلحة العامة ‪ ،‬ويدفع احلرج والضرر عن اجلماعة‪.‬‬

‫أدلة المثبتين ‪ :‬استدل اجلمهور القائلون حبجية املصاحل املرسلة بأدلة أخرى ‪.‬‬

‫‪ ۱‬ـ ثبت باالس تقراء أن أحك ام الش رع روعي فيهـا األخـذ مبص احل الن اس ‪ ،‬واعتب ار جنس املص احل يف مجل ة األحك ام‬
‫يوجب ظن اعتبار هذه املصلحة يف تعليل األحكام‪ .20‬ألن العمل بالظن واجب ‪ .‬والدليل على اعتبار املصاحل قوله‬
‫تعاىل ‪( :‬وما أرسلناك إال رمحة للعاملني)‪ ، 21‬ومقتضى الرمحة حتقيق مصاحل الناس‪.‬‬

‫( اليسر وال يريد بكم العسر ) ‪ ،‬وقوله تعاىل يف إباحة حلم امليتة للمضطر ‪ ( :‬فمن اضطر يف خممصة غري متجـانف‬
‫إلمث ‪ ،‬ف إن اهلل غف ور رحيم ) ‪ .‬وقول ه ع ز وج ل ‪( :‬ي ا أيه ا الن اس ق د ج اءتكم موعظ ة من ربكم وش فاء ملا يف‬
‫‪22‬‬
‫الصدور ‪ ،‬وهدى ورمحة للمؤمنني ) ‪ .‬وقوله(ص) ‪ ( :‬ال ضرر وال ضرار )‪.‬‬

‫‪ ٢‬ـ إن احلياة يف تطور مستمر ‪ ،‬وأساليب الناس للوصول إىل مصاحلهم تتغري يف كل زمن وبيئة ‪ ،‬ويف أثناء التطور‬
‫تتجـدد مص احل الن اس ‪ ،‬فل و اقتص رنا على األحك ام املبني ة على مص احل نص الش رع على اعتباره ا ‪ ،‬لتعط ل كث ري من‬
‫مصاحل الناس ‪ ،‬ومجـد التشريع ووقف عن مسايرة الزمن ‪ ،‬ويف ذلك إضرار هبم كبري ال يتفق مع قصد التشريع من‬
‫حتقيق املصاحل ودفع املفاسد ‪ ،‬وحينئذ ال بد من إصدار أحكام جديدة تتالءم مع مقاصد الشريعة العامـة وأهـدافـهـا‬
‫الكليـة ‪ ،‬حىت يتحقق خلود الشريعة وصالحيتها الدائمة‪.‬‬

‫مناقشة وترجيح ‪:‬‬

‫يتبني من أدلة املنكرين حلجية املصـالـح املرسلة أهنم كشأهنم يف قـاعـدة االستحسان مل يلتقوا على حمل واحد للنزاع ‪،‬‬
‫مع القائلني حبجية املصاحل املرسلة ؛ إذ ليس يف األخـذ باملصلحة املرسلة تشريع باهلوى ‪ ،‬وإمنا هو مقيـد ضمن قيود‬
‫وضوابط معينة ستعرف يف شروط العمل باملصلحة املرسلة ‪ .‬ولكن كل ما يف األمر هو أن الشافعيـة مع اعرتافهم بأن‬
‫املصلحـة معتربة يف أحكام الفقه اإلسالمي يتشددون يف األخذ هبذا املبدأ ‪ ،‬ويوجبون إحلاق الوصف املناسب بقياس‬
‫ذي علـة منضبطة ؛ أو أهنم يـأخـذون مبقتضى إرسال املصلحة على أساس تطبيق قـاعـدة شرعيـة كلية ‪ ،‬أو مبـدأ عـام‬
‫شـهـد بـه الشرع ‪ ،‬كما يتبني املراد من فروع األحكام الفقهية اليت سردها الغزايل يف كتابه ( املستصفى )‪ 23‬مثل قتل‬
‫مجاعة من األسرى املسلمني الذين ترتس هبم الكفار ‪ ،‬وقتل الزنديق املتسرت إذا تاب يف الظاهر ‪ ،‬وقـتـل الـساعي يف‬
‫األرض بـالـفـاد لتعريض أمـوال املسلمني ودمائهم للهالك ‪ .‬وتوظيف الضرائب على األغنياء مبقدار كفاية اجليش حني‬
‫خلو بيت املال ‪ .‬فهذه األمثلة تدل على اعتبار املصاحل املرسلة بدليل قول الغزايل يف تسويقها اجتهادًا‪:‬‬

‫‪ 20‬أعالم املوقعني ‪ ٣\١٤‬شرح اإلستوي ‪٣\١٦٥‬‬


‫‪ 21‬قال العضد شارح خمتصر ابن احلاجب ‪ ، ۲۳۸/۲‬وظاهر اآلية التعميم ‪ ،‬أي يفهم منه مراعـاة مصاحلهم فيها شرع هلم من األحكام كلها ؛ إذ لو‬
‫أرسل حبكم ال مصلحة هلم فيه ‪ ،‬لكان إرساًال‬
‫‪ 22‬حديث حسن رواه ابن ماجه‪ ,‬والدارقطين وغريمها مسندا‪ ,‬ورواه مالك يف املوطأ مرسال عن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه (األربعني النبوية)‬
‫‪ 23‬راجع ‪١٤٤ - ١٤١/١‬‬
‫إننا رددنا املصلحة إىل حفظ مقـاصـد الشرع ‪ ،‬ومقاصد الشرع تعرف بـالـكـتـاب والسنة واإلمجاع ‪ ،‬فكل مصلحة ال‬
‫ترج ع إىل حف ظ مقص وده فهم من الكت اب والسنـة واإلمجاع ‪ ،‬وك انت من املص احل الغريب ة ال يت ال تالئم تص رفات‬
‫الشرع ‪ ،‬فهي باطلة مطرحة ‪ ،‬ومن صـار إليهـا فقـد شرع ‪ ،‬كما أن من استحسن فقد شرع ‪ ،‬وكل مصلحة رجعت‬
‫إىل حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودًا بـالـكـتـاب والـنـة واإلمجاع ‪ ،‬فليس خارج ًا من هذه األصول ‪ ،‬لكنه ال‬
‫يسمى قياسًا ‪ ،‬بل مصلحة مرسلة ‪ ،‬إذ القياس أصل معني ‪ ،‬وكون هذه املعاين مقصودة عرفت ال بـدليـل واحـد ‪ ،‬بل‬
‫بأدلة كثرية ال حصر هلا من الكتاب والسنة ‪ ،‬وقرائن األحوال ‪ ،‬وتفاريق األمارات ‪ ،‬تسمى لذلك مصلحة مرسلة ‪،‬‬
‫‪24‬‬
‫وإذا فسرنا املصلحة باحملافظة على مقصود الشرع ‪ ،‬فال وجه للخالف يف اتباعها ‪ ،‬بل جيب القطع بكوهنا حجة‪.‬‬
‫فهذا اعرتاف ‪ .‬صريح باألخـذ باملصلحة املرسلة ‪ ،‬إذ أن القائلني هبا يشرتطون مالءمتها ملقاصد الشارع‪.‬‬

‫فالذي ينكره الشافعيـة إذن ليس هو االعتداد باملصاحل مطلق ًا ‪ ،‬بل هو االعتداد باملصاحل اليت مل يعتربها الشارع ولو‬
‫يف اجلملة ‪ ،‬وهذا ليس من املصاحل املرسلة عند التحقيق ‪.‬‬

‫إال أن دائرة العمل باملص احل املرسلة عند الش افعية أضيق منهـا عنـد غريهم ‪ ،‬وأهنا ليست أص ًال قائم ًا بذاته ‪ .‬وهبذا‬
‫يتبني أن العلماء كلهم متفقون يف األصل على األخذ مببدأ املصلحة املرسلة ‪ ،‬كما يظهر من كالم ابن دقيق العيـد ‪،‬‬
‫إذ قـال‪ « : 25‬لست أنكر على من اعترب أصل املصاحل ‪ ،‬لكن االسرتسال فيها وحتقيقها حمتـاج إىل نظر سديد ‪ ،‬ورمبا‬
‫خيرج عن احلد ‪ ،‬وقال أيضًا ‪( :‬الذي ال شك فيه أن ملالك ترجيحًا على غريه من الفقهاء يف هذا النوع ‪ ،‬ويليـه أمحد‬
‫بن حنبل ‪ ،‬وال يكاد خيلو غريمها عن اعتباره يف اجلملة ‪ ،‬ولكن هلذين ترجيح يف االستعمال هلـا على غريمها) ‪ .‬وقال‬
‫الق رايف املالكي ‪( :‬هي عن د التحقي ق يف مجي ع املذاهب ألهنم يقيس ون ويفرق ون باملناس بات ‪ ،‬وال يطلب ون ش اهدا‬
‫باالعتبار ‪ ،‬وال نعين باملصاحل املرسلة إال ذلك) وقال الشاطيب ‪ ( :‬االستدالل املرسل اعتـده مـالـك والشافعي ‪ ،‬فإنه‬
‫‪26‬‬
‫وإن مل يشهد للفرع أصل معني فقد شهد له أصل كلي)‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ :‬إن العلماء يتفاوتون يف مقدار األخذ هبا ‪ ،‬فأكثرهم أخـنا هبا اإلمام مالك ويليه أمحد ‪ ،‬مث يليه احلنفية ‪ ،‬مث‬
‫الشافعي ‪ ،‬ومع هذا فإننا نؤيد الغزايل وابن دقيق العيـد يف ضرورة االحتياط يف األخـذ هذا البـدأ ؛ ألن االسرتسال فيه‬
‫‪27‬‬
‫حرج ‪ ،‬وحيتاج إىل دقة يف الفهم ‪ ،‬وعمق يف االستنباط‪.‬‬

‫أدلة اعتبار الشافعي المصالح المرسلة ‪:‬‬

‫االس تدالل باملص لحة ‪ :‬ه و اس تنباط احلكم من معق ول مجل ة نص وص ش رعية ‪ .‬تش هد اجلنس املص لحة باالعتب ار ‪،‬‬
‫واملصلحة املرسلة ‪ :‬هي املصلحة اليت تدخل حتت جنس اعتربه الشارع يف اجلملة بغري دليل معني ‪ ،‬أو هي الصلحـة‬
‫‪28‬‬
‫املـالثـة اجلنس تصرفات الشارع‪.‬‬

‫‪ 24‬املستصفى ‪ ١\١٤٣‬وما بعدها‬


‫‪ 25‬إرشاد الفحول ‪۲۱۳ ، ۲۱۲‬‬
‫‪ 26‬إ املوافقات ‪۳۹/۱‬‬
‫‪ 27‬انظر االعتصام للشاطيب ‪ ،٣\٣٠٧‬املوافقـات ‪ ، ١\٣٩‬وابن حنبل لألستـاذ الشيخ حممد أبو زهرة ‪٣٠٢‬‬
‫‪ 28‬الرسالة ‪۱۲۲ /40‬‬
‫وقد ثبت أن الشافعي يأخذ باملصاحل املرسلة هبذا املعىن ‪ .‬لكنـه يـدخـلهـا يف القياس ‪ ،‬عنده ‪ :‬هو طلب الدالئل على‬
‫موافقة اخلرب املتقدم ‪ ،‬من الكتاب والسنة ؛ ألهنا علم احلق املفرتض طلبه ‪ .‬فهذه املوافقة للخرب تتحقق أيضا باملصلحة‬
‫املالئمة‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫واألدلة على ذلك هي ما يأيت‪:‬‬

‫اعتبار الشافعية الوصف الذي شهد الشارع اجلنسه من باب القياس ‪ ،‬مثل إعطاء الشارب حد القاذف ‪ ،‬قياس ًا‬ ‫‪.1‬‬
‫على اخلل وة باألجنبي ة ‪ ،‬جيامع أن يف ك ل من االص ل والف رع إقـامـة مـنـة الش يء مقـام الش يء ‪ ،‬وإعط اء املظن ة‬
‫حكم املظنون‪ .30‬لكن هذا الرأي هو املرجوح عندهم‪.‬‬
‫ويالح ظ أن املص احل املرس لة هي الص احل املالث ة ‪ ،‬واملالءم ة ‪ :‬هي ال دخول حتت جنس اعت ربه الش ارع يف‬
‫اجلملة بغري دليل معني‪.‬‬
‫نسبة احلنفية للشافعي القول عالئم املرسل ‪ ،‬أو املصلحة املالثة‪.31‬‬ ‫‪.2‬‬
‫تصريح املالكية باعتاد الشافعي االستدالل املرسل‪.32‬‬ ‫‪.3‬‬

‫نظرية المصلحة عند الغزالي ‪:‬‬

‫حبث الغزايل مبدأ االستصالح أو املصلحة املرسلة يف كتبه األصولية ‪ :‬املنخول واملستصفى وشفاء العليل ‪ ،‬فعرف‬
‫املص احلة يف املتصفى‪ 33‬بقوله ‪ :‬هي عبارة يف األصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ‪ .‬ولسنا نعين به ذلك ‪ ،‬جلب‬
‫املنفعة ‪ ،‬ودفع املضرة مقاصد اخللق ‪ ،‬وصالح اخللق يف حتصيل مقاصده ‪ .‬لكنا نعي باملصلحة ‪ :‬احملافظة على مقصود‬
‫الشرع ‪ .‬ومقصود الشرع من اخللق مخسة ‪ :‬وهو أن حيفظ عليهم دينهم ‪ ،‬ونفسهم ‪ ،‬وعقلهم ‪ ،‬ونسلهم ‪ ،‬وماهلم ‪.‬‬
‫فكل مـا يتضمن حفظ هذه األصول اخلمسة فهو مصلحة ‪ ،‬وكل ما يفوت هذه األصول ‪ ،‬فهو مفسدة‪ .‬ودفعها‬
‫مصلحة‪.‬‬

‫وذكر أقسام المصلحة ‪:‬‬

‫أقسام المصلحة باإلضافة إلى شهادة الشرع‪:34‬‬

‫قسم الغزايل املصلحة هبذا االعتبار ثالثة أقسام ‪:‬‬

‫‪ 29‬مقاصد الشريعة ‪ ،‬املرجع السابق ‪۳۷۰ - ٢٢٦/٢ ،‬‬


‫‪ 30‬انظر اإلحكام لألمـدي ‪ ، ٥٣/٣‬هناية الـؤل‪ ٧١. ٣\٦٩‬ومـا بعـدهـا ‪ ،‬املستصفى ‪. ۷۷/۲‬املنخول ‪١٣٦٨‬‬
‫‪ 31‬التقرير والتحبري ‪ ، ١٤٧/٣‬مسلم الثبوت ‪ ، ٢١٥/٢‬ط الكردي ‪.‬‬
‫‪ 32‬املوافقات ‪ . ۳۹/۱‬قال ‪ :‬االستدالل املرسل الذي اعتمده مالك والشافعي ‪ ،‬فإنه وإن مل يشهد للفرع أصل معني فقد شهد له أصل كلى‬
‫‪ 33‬اتبع الشافعي يف رسالته االستدالل املرسل يف الت دليل على القواعد األص ولية اليت يعت د هبا الفقيه ‪ ،‬ف رتاه يقرر القاعدة العمال ة أو األصل الكلي‬
‫ال ذي يق رع على أساس ه ‪ ،‬ويقيـد نفـه بـه يف االس تنباط ‪ ،‬مث يس تدل على ه ذا األص ل بأدل ة ت ؤدي يف جمموعه ا ال مبفرده ا إىل ص حة األص ل مث ل‬
‫استدالله على حجية القياس باألصل الكلي الذي اعتربه الشرع وفرع الفروع على وفقه ‪ .‬وسار على أساسه يف التشريع ‪ ،‬وهو أن على املكلف‬
‫إصابة عني املكلف به إن أمكنه ‪ ،‬وسلوك طريق االجتهاد للوصول إىل املطلوب إن تعذر عليه إصابة عينه‪.‬‬
‫‪ 34‬املرجع واملكان السابق‬
‫ما شهد الشرع العتبارها ‪ :‬وهي حجة ‪ ،‬ويرجع حاصلها إىل القيـاس‪ : 35‬وهو اقتباس احلكم من معقول النص‬ ‫‪.1‬‬
‫واإلمجاع ‪ .‬ومثال ه ‪ :‬حكمن ا أن ك ل مـا أس كر من مش روب أو م أكول ‪ ،‬فيح رم قـيـاسـًا على اخلم ر ؛ ألهنا‬
‫حرمت حلفظ العقل الذي هو مناط التكليف ‪ .‬فتحرمي الشرع احلمر دليل على مالحظة هذه املصلحة‪.‬‬
‫م ا ش هد الش رع لبطالهنا ‪ :‬مثال ه ق ول بعض العلم اء لبعض املل وك ملا ج امع يف هنار رمضـان ‪ :‬إن عليـك ص وم‬ ‫‪.2‬‬
‫ش هرين متت ابعني ‪ .‬فلم ا أنك ر علي ه ‪ ،‬حيث مل ي أمره بإعت اق رقبـة ‪ ،‬م ع اتس اع مـالـه ‪ ،‬ق ال ‪ :‬ل و أمرتـه بـذلـك‬
‫لسهل عليـه ‪ .‬واستحقر إعتاق رقبة ‪ ،‬يف جنب قضاء شهوته ‪ ،‬فكانت املصلحة يف إجياب الصوم لينزجر به‪.‬‬
‫فه ذا ق ول باط ل ‪ ،‬وخمالف لنص الكت اب باملص لحة ‪ ،‬وفتح ه ذا الب اب ي ؤدي إىل تغي ري مجي ع ح دود الش رائع‬
‫ونصوصها بسبب تغري األحوال ‪ .‬مث إذا عرف ذلك من صنيع العلماء مل حتصل الثقة امللوك بفتواهم ‪ ،‬وظنوا أن‬
‫كل ما يفتون به ‪ ،‬فهو حتريف من جهتهم بالرأي ‪.‬‬
‫ما مل يشهد له من الشرع بالبطالن وال باالعتبار نص معني ‪ :‬وهذا حمل النظر‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫وخالصة هذا التقسيم أن املصلحة املرسلة هي ما مل يرد فيها نص معني ال باالعتبار وال بااللغاء ‪ ،‬ويستفاد‬
‫من وال باالعتبار‪.‬‬

‫أقسام المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها ‪:‬‬

‫املص لحة املرس لة ( ال املعت ربة بنص معني ‪ ،‬وهي الـداخلة يف ب اب القيـاس ‪ .‬وال امللغ اة ال يت ش هد النص يالغائه ا )‬
‫تنقسم إىل رتب ثالثة ‪:‬‬

‫ما هي يف رتبة الضرورات ‪ .‬وما هي يف رتبة احلاجات ‪ .‬وما يتعلق بالتحسينات والتزيينات ‪ .‬ويتعلق بكل قسم من‬
‫األقسام ‪ :‬ما حريب منها جمرى التكملة والتتمة هلا‪.36‬‬

‫الض رورات ‪ ،‬وهي الرتب ة األوىل وأقـوى املراتب يف املصـالـح ‪ ،‬وعي احملافظ ة على األص ول اخلمس ة ‪ :‬ال دين ‪،‬‬ ‫‪.1‬‬
‫والنفس‪ ،‬والعق ل ‪ ،‬والسـل ‪ ،‬واملال مث ال حف ظ ال دين ‪ :‬قض اء الش رع بقت ل الك افر املص ل ‪ .‬وعفوي ة املبت دع‬
‫الداعي ال بدعته‪ ،‬فإن هذا يفوت على احللق دينهم ومثال حفظ قص الشرع باجياب القصاص ‪ ،‬إذ به حفظ‬
‫النفوس‪.‬‬
‫ومثال حفظ العقل ‪ :‬إجيـاب حـد الشرب ‪ ،‬إذ به حفظ العقول اليت هي مالك التكليف‪.‬‬
‫ومثال حفظ النسل ‪ :‬إجياب ‪ .‬حد الزنا ‪ ،‬إذ به حفظ النسل واألنساب ‪.‬‬
‫ومثال حفظ املال ‪ :‬إجياب زجر الغصاب والسراق ‪ .‬اذ به حصل حفظ األموال اليت هي معاش اخللق ‪ ،‬وهم‬
‫مضطرون إليها‪.‬‬
‫ومكم ل الض روريات مث ل ‪ :‬اعتب ار املاثل ة مرعي ة يف اس تيفاء القص اص ؛ ألن ه مش روع للزج ر والتش في ‪ ،‬وال‬
‫حيصل ذلك إال باملثل ‪ .‬ومثل ‪ :‬حترمي القليل من اخلمر ؛ ألنه يدعو إىل شرب الكثري ‪ ،‬فيقاس عليه النبيذ‪.‬‬

‫‪ 35‬الفرق الدقيق بني القياس واملصلحة املرسلة ‪ :‬هو أن القياس يعتمد على عني الوصف املناسب بواسطـة النص علي ه كما يف الوصف املؤثر ‪ ،‬أو‬
‫بواسطة جريان حكم الشارع على وقفه كما يف الوصف املالئم ‪ .‬أما املصلحة املرسلة فال بد من استنادها إىل دليل ما ‪ ،‬قد اعتربه الشارع ‪ ،‬غري أنه‬
‫ال يتناول أعيان هذه املصاحل خبصوصها ‪ ،‬وإمنا يتناول اجلنس البعيد هلا ‪ ،‬كجنس حفظ األرواح والعقول والنفوس واألنـاب واألموال ‪ ( .‬ضوابط‬
‫املصلحة للدكتور حممد سعيد رمضان ‪۲۱۷‬‬
‫‪ 36‬املستصفی ‪١٤٠ - ۱۳۹/۱‬‬
‫احلـاجـات ‪ :‬من املصاحل واملناسبات ‪ ،‬كتســليـط الـويل على تزويج الصغرية والصغري ‪ ،‬فذلك ال ضرورة إليه ‪،‬‬ ‫‪.2‬‬
‫لكنه حمتاج إليه يف اجتناء املصاحل‪.‬‬
‫ومكم ل احلاج ات ‪ :‬مث ل ال ت زوج الص غرية إال من كف ؤ ومبه ر املث ل ‪ ،‬فإن ه أيض ًا مناس ب ‪ ،‬ولكن ه دون أص ل‬
‫احلاجة إىل النكاح‪.‬‬
‫التحس ينات والتزيين ات للمزايـا واملـزائـد ورعـايـة أحس ن املن اهج يف الع ادات واملع امالت ‪ .‬كاش رتاط الـويل‬ ‫‪.3‬‬
‫والشهادة يف عقـد الـزواج ؛ ألن األليـق مبحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقـد ؛ ألن ذلك يشعر‬
‫بتوقـان نفس ها إىل الرجال ‪ ،‬وال يليق ذلك ب املروءة ‪ ،‬ففوض الش رع العقـد إىل الويل محًال للناس على أحسن‬
‫املناهج ‪ .‬وألن الشهادة لتفخيم أمر النكاح ‪ ،‬ومتييزه عن السفاح باإلعالن واإلظهار‪.‬‬
‫واملصاحل الضرورية يقضى هبا ‪ ،‬وإن مل يشهد هلا أصل معني ‪ ،‬مثل قتـل مجاعة من أسارى املسلمني ‪ ،‬ترتس هبم‬
‫الكفار ‪ ،‬حلفظ مجيع املسلمني من القتل‪.‬‬

‫وأم ا املص احل احلاجي ة أو التحس ينية فال حيكم مبجردهـا ‪ ،‬إن مل تعتضـد بشهـادة أص ل‪ ،37‬ويؤخ ذ من ه ذا التقس يم‬
‫اشرتاط الشرط الثاين للعمل باملصلحة املرسلة عنـد الغزايل ‪ :‬وهو أن تكون املصلحة واقعة يف رتبة الضرورات ‪ ،‬أو ما‬
‫جيري جمرى الضرورات‪.‬‬

‫أقسام المصلحة من حيث المالءمة والعموم أو الشمول ‪:‬‬

‫املصلحة املرسلة ‪ :‬إما مصلحة مالئمة جلنس تصرفات الشرع ‪ ،‬أو مصلحة غريبة سكتت شواهد الشرع وأدلته عنها‬
‫‪ ،‬فال يناقضها نص ‪ ،‬وال يشهـد جلنـهـا شرع ‪ .‬ويؤخذ هذا التقسيم من كالم الغزايل إذ يقول يف املستصفى‪:38‬‬

‫فك ل مصلحـة ال ترج ع إىل حف ظ مقصـود فهم من الكتـاب والـنـة واإلمجاع ‪ ،‬وك انت من املص احل الغريب ة ال يت ال‬
‫تالئم تصرفات الشرع ‪ ،‬فهي باطلة مطرحة ‪ .‬ومن صـار إليهـا فقـد شرع ‪ ،‬كما أن من استحسن فقـد شرع ‪ .‬وكل‬
‫مص لحة رجعت إىل حفظ مقصود شرعي علم كـونـه مقصودًا بالكتاب والسنـة واإلمجاع ‪ ،‬فليس خارج ًا من هذه‬
‫األصول ‪ ،‬لكنه ال يسمى قياسًا ‪ ،‬بل مصلحة مرسلة ‪ ،‬إذ القياس أصل معني ‪ ،‬وكون هذه املعاين مقصودة عرفت ال‬
‫بـدلـيـل واحـد ‪ ،‬بـل بـأدلة كثرية ال حصر هلا من الكتاب والسنـة وقرائن األحوال ‪ ،‬وتفاريق األمارات ‪ ،‬تسمى لذلك‬
‫مصلحة مرسلة ‪ .‬وإذا فسرنا املصلحة باحملـافظـة على مقصود الشرع ‪ ،‬فال وجه للخالف يف اتباعهـا ‪ ،‬بل جيب القطـع‬
‫يـكـونـهـا حجة ‪.‬‬

‫ويفهم تقسيم املصلحة من حيث الشمول أو العمـوم إىل مصلحـة عـامـة ‪ ،‬وخاصة ‪ ،‬مما ذكره الغزايل يف املستصفى‬
‫‪39‬‬

‫بع د مث ال ال رتس للض روريات ‪ ،‬فق ال ‪ :‬فهذا مثال مصلحة غري م أخوذة بطريق القياس على أص ل معني ‪ ،‬وانق دح‬
‫اعتبارها باعتبار ثالثة أوصاف ‪ :‬أهنا ضرورة قطعية كلية‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ :‬إن الغزايل يشرتط شروطًا ثالثة فقط للعمل باملصلحة املرسلة وهي‪:‬‬

‫‪ 37‬املرجع السابق ‪١٤١‬‬


‫‪ 38‬املستصفى ‪١٤٣\١‬‬
‫‪ 39‬املرجع نفسه ‪١٤١\١‬‬
‫أوًال‪ :‬مالءمة املصلحة جلنس تصرفات الشرع ‪ .‬فهي املقياس يف قبـول أو رفض األخذ باملصلحة ‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬عدم مصادمة املصلحة لنص شرعي ‪ .‬وهو يف احلقيقة شرط يف كون املصلحة مرسلة‬

‫ثالثًا‪ :‬أن تكون املصلحة ضرورية ولو يف حق شخص واحـد ‪ ،‬أو حـاجـة عامة لكافة اخللق‪.‬‬

‫أما شرط الكلية أو العموم ‪ ،‬فال يطلب ‪ .‬وإمنا اشرتطه يف مثال الرتس ‪ :‬ألنه رط الزم العتبار املصلحة مالئمة جلنس‬
‫تصرفات الشرع‪.40‬‬

‫وأما شرط القطعية فال يطلب باملعىن املتبادر منه وهو اليقني ‪ ،‬وإمنا هو الظن الغالب ‪ ،‬أو القريب من القطع‪.41‬‬

‫وعلى هذا ال يؤخذ باملصاحة إذا عارضت النص عند الغزايل ؛ ألنه أكد أن املصلحة املرسلة ال تناقض النص ‪ ،‬فإذا‬
‫ناقضته كانت مصلحة ملغاة ال جيوز االستماك هبا ‪ ،‬وال تشريع حكم بناء عليها‪.‬‬

‫وهذا إذا كان النص ال حيتمل التأويل ‪ :‬ألن العمل باملصلحة يف مقـابلـة هـذا النص هدم النص‪.‬‬

‫أما النص الذي حيتمل التأويل أو ما يسمى الظاهر عند الشافعيـة ‪ ،‬فإن املصلحة تصلح لتخصيصه ‪ ،‬أو بيان املراد منه‬
‫‪،‬وترجيح أحد معانيه احملتملة ‪ ،‬إذ العام عند مجهور األصوليني ومنهم الغزايل من قبيل الطاهر احملتمل ‪ ،‬وختصيصه‬
‫بیان ایراد به و من مسحا له عندهم‪.42‬‬

‫واملصلحة املرسلة عنـد الغزايل ليست أص ًال مستقًال عن النصوص الشرعيـة ‪ ،‬وإمنا هي حمافظة على مقـاصـد الشرع‬
‫اليت تعرف بالكتاب والسنة واإلمجاع ‪ ،‬فيكون املخصص للنص اجلزئي هو تلك النصوص الشاهدة جلنس املصلحة‪.‬‬

‫وتعترب املصلحة املرسلة عند الغزايل داخلة يف باب القياس عند غريه ‪ ،‬إذ القياس عنده هو تعدية حكم بعينه من حمل‬
‫النص إىل غري حمل النص ‪ ،‬بعلـة هي املوجبة يف حمل النص ‪ .‬ومبا أن القياس يصلح خمصصًا للنص عند اجلمهور ومنهم‬
‫الغزايل ‪ ،‬فاملخصص للنص يف احلقيقة ليس هو املصلحة اجملردة‪.43‬‬

‫شروط العمل بالمصالح المرسلة ‪:‬‬

‫اشرتط املالكية واحلنابلة شروطًا ثالثة للعمل باملصاحل املرسلة‪:‬‬

‫أن تكون املصلحـة مـالئـمـة ملقـاصـد الشارع حبيث ال تنايف أصًال من أصوله ‪ ،‬وال تعارض نص ًا أو دليًال من أدلتـه‬ ‫‪.1‬‬
‫القطعية ‪ ،‬بـل تكـون متفقة مع املصاحل اليت قصد الشارع إىل حتصيلها ‪ ،‬وبأن تكون من جنسها ‪ ،‬وليس غريبـة‬
‫عنها ‪ ،‬وإن مل يشهد هلا دليل خاص هبا ‪ ،‬مثل املناسبات الغريبة اليت ذكرت يف مبدأ الكالم ويف حبث القياس‪.‬‬
‫أن تكون معقولة يف ذاهتا ‪ ،‬جرت على األوصاف املنـاسبـة املعقولة اليت يتقبلها العاقل ‪ ،‬حبيث يكون مقطوع ًا‬ ‫‪.2‬‬
‫ت رتب املص لحة على احلكم ‪ ،‬وليس مظنون ًا وال متـوهـا ‪ ،‬أي أن يتحق ق من تش ريع احلكم جلب نف ع أو دف ع‬
‫ضرر ‪ ،‬فمثًال تسجيل العقود يف دائرة السجالت يقلل حتا من شهادة الزور ‪ ،‬وحيقق استقرارًا يف املعامالت ‪،‬‬
‫‪ 40‬مقاصد الشريعة‪ ,‬حامد ‪٤٥٦\٢‬‬
‫‪ 41‬املرجع السابق ‪٤٥٧‬‬
‫‪ 42‬املصدر السابق ‪٤٦۲\۲‬‬
‫‪ 43‬املرجع السابق ‪ ٤٦۲‬وما بعدها‬
‫فال مانع من احلكم به شرعًا ‪ ،‬أما سلب الزوج حق الطالق وجعله بيد القاضي مثًال ‪ ،‬فهذا ال جيوز ملخالفته‬
‫للنص ‪ ،‬وألنه ال يأيت بنفع حمقق ‪ .‬وتسعري السلع عند احلاجة يأيت بفائدة حمققة منع ًا للغني الزائد يف األمثان ‪،‬‬
‫ودفع ًا للح رج عن النـاس ‪ .‬وأمـا هني الن يب ت ان من التس عري‪ 44‬فك ان خـاصـا ببعض األح وال ال يت مل يظه ر فيه ا‬
‫الغش ‪ ،‬وك ان يل تزم فيهـا جـانب ال ورع والتقـوى ‪ ،‬مث ارتف ع الس عر إم ا لقل ة الش يء أو لك ثرة الن اس ‪ ،‬فأج از‬
‫اإلمام مـالـك التسعري ولو يف القوتني ( قوت الناس وقوت البهائم ) واستحسن األئمة املتأخرون تسعري مـا عـدا‬
‫القوتني كاللحم والسمن ‪ ،‬رعاية ملصلحة الناس ودفع الضرر عنهم ‪.‬‬
‫أن تكون املصلحة اليت يوضع احلكم بسببها عامة للناس ‪ ،‬وليس ملصلحة فردية أو طائفة معينة ؛ ألن أحكام‬ ‫‪.3‬‬
‫الشريعة موضوعة لتطبق على الناس مجيع ًا ‪ ،‬فمثال تشريع األحكام لصاحل أمري أو رئيس أو حلاشيته وأسرته ال‬
‫يصح األخذ به شرعًا ‪ .‬ومثله ‪ :‬قتل مسلم ترتس به الكفار يف قلعة ال يصح جتويزه ‪ ،‬مىت أمكن حصارهم وال‬
‫خيشى منهم التسلط على بالد املسلمني‪.‬‬

‫هذه شروط العمل باملصلحة املرسلة ‪ :‬أن تكون مصلحة حقيقية ال ومهية حبيث جيلب هبا نفع أو يدفع هبا ضرر ‪،‬‬
‫وأال يعارض العمل هبذه املصلحة حكم ًا أو مبـدءًا ثبت بالنص أو اإلمجاع ‪ ،‬وأن تكون مصلحة عامة ‪ ،‬حبيث جتلب‬
‫النفع ألكرب عدد من الناس‪.‬‬

‫تعارض المصالح مع النصوص ‪:‬‬

‫ينبغي يف تقديري أال يثور التساؤل يف هذا املوضوع ‪ ،‬فيقدم النص يف كل احلاالت على ما تقتضيه املصلحة ‪ ،‬إذ أن‬
‫العلم اء ش رطوا يف العم ل باملص احل املرس لة أن تك ون مالئم ة ملقاص د الش ارع غ ري مص ادمة لنص ل ه ‪ ،‬وأن املع روف‬
‫باالس تقراء أن النص ال ب د من أن يك ون متض منا رعاي ة املص لحة ‪ ،‬مما ي دل على أن م ا يعارض ه مب ين على مص لحة‬
‫موهومة أو خاصة ‪ ،‬ومع هذا فقـد وجـد خالف للعلماء يف هذا املوضوع ‪ ،‬وذلك فيا إذا كان النص غري قطعي يف‬
‫داللته وثبـوتـه ‪ ،‬أما إذا كان النص قطعي الداللة والثبوت ‪ ،‬فإهنم متفقون على عدم جواز األخذ باملصلحة يف مقابلة‬
‫النص ‪ ،‬إال يف ش ذوذ الط وقي ال ذي س أبني رأي ه بالتفص يل ‪ ،‬ومثـالـه ‪ :‬حترمي الري ا ‪ ،‬فإن ه ث ابت بنص قطعي الثب وت‬
‫والـداللـة وه و قول ه تع اىل ‪ ( :‬وأح ل اهلل ال بيع وح رم الريـا ) وقـولـه سـحـانـه ‪ ( :‬وإن تبتم فلكم رؤوس أم والكم ال‬
‫تظاملون ‪ ،‬وال تظلمون » ‪ ،‬وعليه فال جيوز ختصيصه بإباحـة الفـائـدة احملددة مقدار معني مثل ‪.%7‬‬

‫وآراء العلماء يف تعارض املصلحة مع النص ثالثة‪:45‬‬

‫طائفة ال ترى مطلقًا األخذ باملصلحة يف مقابلة النص ؛ ألن الشريعة إمنا تؤخذ من نص أو إمجاع أو قياس عليها‬ ‫‪.1‬‬
‫‪ ،‬ف إذا تص ادمت مص لحة م ع نص فال يعت د هبا أص ًال ‪ ،‬وه ؤالء هم ‪ :‬الش افعية ‪ ،‬وي واللهم احلــابلـة ‪ ،‬ف إهنم‬
‫يـأخـذون باملصلحة املرسلة بعد النص ‪ ،‬أو فتوى الصحايب ‪ ،‬وقد اعرتض عليهم بفتـاوى الصحابة على خالف‬
‫النص مثل ‪ :‬حماربة أيب بكر ملانعي الزكاة حىت ال يتجرأ أحد على تقويض أركان اإلسالم ‪ ،‬فهذا معادم املوله‬
‫‪ 44‬رواه أصحاب السنن إال النسائي ‪ ،‬وصححه ابن حبان ‪ ،‬وأخرجه أمحد والبزار وأبو يعلى يف مسانيدهم ‪ ،‬وابن ماجه والدارمي يف سننيها ‪ ،‬من‬
‫ح ديث أنس بن مال ك بلف ظ غال الس عر يف املدين ة على عه د رس ول اهلل ﷺ ‪ ،‬فقال الن اس ‪ :‬ي ا رس ول اهلل ‪ ،‬غال الس عر ‪ ،‬فس عر لن ا ‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل ﷺ ‪ :‬إن اهلل هو املسعر القابض ‪ ،‬الباسط الرازق ‪ ،‬إين ألرجو أن ألقى اهلل وليس أحد منكم يطلبين مبظلمة يف دم وال مال ‪ ،‬وأما‬
‫لفظ ال تشعروا ‪ ،‬فلم يرد ( نيل األوطار ‪ ٢١٩/٥‬وكشف احلقا للعجلوين واملقاصد احلسنة للسخاوي ) ‪.‬‬
‫‪ 45‬ابن حنبل لألستاذ الشيخ أيب زهرة ‪ ٣٠٣‬وما بعدها‪.‬‬
‫(ص) (أمرت أن أقاتل الناس حق يقولوا ‪ :‬ال إله إال اهلل ‪ ،‬فإذا قـالـوهـا عصوا مين دماءهم وأمواهلم إال حبقها ‪،‬‬
‫رحساهبم على اهلل)‪.46‬‬

‫ومثل إسقاط عمر سهم املؤلفة قلوهبم من بني مستحقي الزكاة لعدم احلـاجـة إليهم بعد أن عز اإلسالم ‪ ،‬مع أنه ثابت‬
‫يف قول ه تع اىل ‪ ( :‬إمنا الص دقات للفق راء واملس اكني والع املني عليه ا واملؤلف ة قل وهبم ) اآلي ة ‪ ،‬وأوق ع عم ر الطالق‬
‫الثالث بكلم ة واح دة زج رًا للن اس عن ك ثرة اس تعماله ‪ ،‬م ع أن ه ك ان يق ع واحـدة يف عص ر الرس ول علي ه الص الة‬
‫والسالم‪.47‬‬

‫واتفق الصحابة على تضمني الصناع مع أهنم أمناء منعًا لتهاوهنم كما عرفنا ‪.‬‬

‫ويرد عليه بأن قتال مانعي الزكاة داخل يف مضمون النص وهو قوله ﷺ ‪ :‬ه إال حبقها » ‪ ،‬وإسقاط سهم‬
‫املؤلفة قلوهبم اجتهاد يف تطبيق النص وفهمه ‪ ،‬فاحلكم معلل بالتأليف إلعزاز اإلسالم ‪ ،‬فلما عز اإلسالم انتفت العلـة‬
‫‪ ،‬فينتفي احلكم ‪ ،‬فال خروج عن النص حينئذ ‪ ،‬وإمضاء الطالق الثالث كان من بـاب التعزير والـسـيـاسـة الشرعيـة ‪،‬‬
‫وهو حق لويل األمر ‪ .‬وتضمني الصناع كان يسبب هتاوهنم ‪ ،‬وعندما هتاونوا مل يبقوا أمناء‬

‫طائفة تقدم املصلحة على النص ‪ ،‬وهؤالء فريقان ‪:‬‬ ‫‪.2‬‬


‫الفري ق األول كم ا ذك ر بعض الكت اب احملدثني ‪ :‬فري ق املالكي ة ومثلهم احلنفي ة عن د التحقي ق ‪ :‬يعت دون‬
‫باملصلحة يف مقـابلـة النص ‪ ،‬وخيصصون هبا النص الطنيفي داللته أو يف ثبوته إذا كانت الصلحـة قطعية ومن‬
‫جنس املص احل ال يت أقرهتا الش ريعة ‪ ،‬وبن اء علي ه ف إهنم خيصص ون ع ام الق رآن إذا ك ان غني ا باملص لحة ‪،‬‬
‫وي ردون خ رب اآلح اد إذا م ارض املصلحـة القطعي ة ؛ ألن ه إذا تع ارض ظ ين وقطعي ‪ ،‬فيق دم القطعي ‪.‬‬
‫وسأحقق رأي هذا الفريق‪.‬‬
‫وفريق آخر تـرم لـواء‪ ،‬جنم الدين الطريق من علماء القرن الثامن‪ .48‬وسأوضح رأيه ‪ ،‬وهو من غالة الشيعة‬
‫كما قرر ابن رجب يف طبقات احلنابلة ‪ ،‬وهو يرى تقدمي املصلحة على النص واإلمجاع يف املعامالت‪،49‬‬
‫س واء أك ان النص قطعي ًا أم ظني ا‪ ،50‬بطري ق التخص يص والبي ان هلا ‪ ،‬ال بطري ق التعطي ل هلا‪ .‬ودليل ه يف‬

‫‪ 46‬حديث متواتر رواه أصحاب الكتب الستة عن أيب هريرة ( النظم املتناثر ‪. ) ٢٩‬‬
‫‪47‬رواه أمحد ومسلم عن ابن عباس قال ‪ « :‬كان الطالق على عهد رسول الل ہ ﷺ طالق الثالث واحدة ‪ ،‬فقال عمر بن اخلطاب ‪ :‬إن الناس‬
‫قد استعجلوا يف أمر كانت هلم فيـه أنـاة ‪ ،‬فلو أمضيناه عليهم ‪ ،‬فأمضاه عليهم ‪ ،‬ويف رواية أليب داود ‪ . :‬على عهد رسول اهلل ﷺ وأيب بكر ‪،‬‬
‫وصدرًا من إمارة عمر » ( نيل األوطار ‪. ) ٢٣٠/٦‬‬
‫‪ 48‬هو أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكرمي الطـويف مث البغدادي ‪ ،‬ولد سنة يضع وسبعني وستمائة بقرية طوىف على فرسخني من بغداد ‪،‬‬
‫قرأ على أيب حيان إمام العربية الشهري ‪ ،‬وجالس أئمة دمشق ومنهم ابن تيمية ‪ ،‬تويف يف بلد اخلليل يف رجب سنة ‪ ٧١٦‬هـ ‪ ،‬وأنكر العاملي كونه من‬
‫الشيعة اإلمامية ‪.‬‬
‫‪ 49‬العاملي كونه من الشيعة اإلمامية ‪ .‬أما العبادات فقال عنها ‪ :‬هي حق للشرع خاص به وال ميكن معرفة حقه كا وكيف ًا وزمانا ومكان ًا إال من‬
‫جهته فيأيت به العبد على ما رسم له ‪ ،‬وألن عالم أحدنا ال يعد مطيعًا خادمًا له إال إذا امتثل ما رسم له سيده ‪ ،‬وفعل ما يعلم أنه يرضيه ‪ ،‬فكذلك‬
‫ههنا ‪ ،‬وهلذا ملا تعبدت الفالسفة بعقوهلم ورفضوا الشرائع أسخطوا اهلل عز وجل وصلوا وأضلوا ‪ ،‬وهذا خبالف حقوق املكلفني ‪ ،‬فإن أحكامهـا‬
‫سيـاسيـة شرعية ‪ ،‬وضعت املصاحلهم ‪ ،‬وكانت هي املعتربة ‪ ،‬وعلى حتصيلها املعول ( راجع رسالته يف أصول املالكية ‪. ) ٦٧‬‬
‫‪ 50‬قال بعضهم ‪ :‬إن الطويب ال يقدم رعاية املصلحة على نص خاص ‪ ،‬أو يقول هبا يف مقابلة النص القطعي يف سنده وداللته بل إن النص واإلمجاع‬
‫إن خالفـاهـا أي املصلحة ‪ ،‬وجب تقدمي رعاية املصلحة عليها ‪ ،‬بطريق التخصيص والبيان هلا ال بطريق االنتشـات عليها ‪ ،‬والتعطيل هلا ( املصلحة يف‬
‫التشريع اإلسالمي للدكتور مصطفی زید ‪) ۲۰۹‬‬
‫اجلمل ة ‪ :‬أن الش ارع جع ل الصلحـة أص ال من أص ول التش ريع ‪ ،‬فتق دم يف ك ل األحي ان ‪ ،‬واس تدل أيض ا‬
‫بعمومات النصوص‪ ،‬مثل قوله تعاىل ‪ ( :‬يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء ملا يف صدور‬
‫وهدى ورمحة للمؤمنني ‪ ،‬قل بفضل اهلل وبرمحته فبذلك فليفرحوا هو خري مما جيمعون) ‪ ،‬وقوله سبحانه ‪:‬‬
‫(ولكم يف القصاص حياة يا أويل األلباب)‪ ،‬وقولـه عليـه الصالة والسالم ‪( :‬ال ضرر وال ضرار)‪.‬‬
‫ي رى الغ زايل واآلم دي أن ه حيكم مبقتض ى املص لحة يف مقابل ة النص إذا ك انت هن اك ض رورة قطعي ة كلي ة ‪ ،‬أي‬ ‫‪.3‬‬
‫ليست جمرد حـاجـة ‪ ،‬وال مظنونـة أو متومهة ‪ ،‬وال خاصة بطائفة من الناس ‪ ،‬ومثل هلا كما عرفنا حبالة األسارى‬
‫املس لمني ال ذين ت رتس هبم الكف ار ‪ ،‬فيج وز قتلهم ملص لحة عام ة ‪ :‬وهي احملافظ ة على مجاع ة املس لمني ودي ار‬
‫اإلسالم ‪ ،‬وذلك يف مقابلة النص الذي ينهى عن قتل املسلم بدون جرمية وال ذنب‪.‬‬
‫والواقع أن الغزايل أورد أمثلة أخرى ختفف من شدة القيود السابقة ‪ ،‬فأجـار األخذ باملصلحة إذا كانت من‬
‫مرتبة احلاجي ات ‪ ،‬ولكن على أساس قـاعـدة شرعيـة هي أن ه ‪ :‬إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع‬
‫دفع أشـد الضررين وأعظم الشرين ‪ ،‬مثل فرض الضرائب على األغنياء ملصلحة اجليش ‪ ،‬إذا خلت األيدي‬
‫من األموال ‪ ،‬وخيف انصراف اجلند إىل الكسب الذي قد يؤدي إىل تسلط الكفار على بالد املسلمني أو‬
‫ثوران الفتنة يف داخل البالد‪.51‬‬

‫تحقيق مذهب المالكية في تعارض المصالح مع النصوص ‪:‬‬

‫لوح ظ مما ع رض يف ه ذا البحث أن املالكي ة واحلنفي ة ‪ -‬ت أثرًا ببعض الكتاب ات القدمية واحلديث ة ‪ -‬خيصص ون النص‬
‫باملص لحة ‪ ،‬وي ردون خ رب الواحـد بـاملصلحة وجيدر التحق ق من ه ذا يف الن احيتني ‪ ،‬ملعرف ة حقيق ة أساس ية هي أن‬
‫االس تدالل املرس ل ليس اس تدالًال مبص لحة جمردة يراه ا العق ل ‪ ،‬وإمنا ه و طريق ة من ط رق االس تدالل بالنص وص‬
‫الش رعية مض موهنا أن الف رع ( أو الواقع ة ) وإن مل يشهـد لـه نص معني ‪ ،‬فق د شهد ل ه أص ل كلي ‪ ،‬علمت مالمته‬
‫التصرفات الشرع من جمموع نصوصه‪.‬‬

‫تخصيص النص بالمصلحة ‪:‬‬

‫إن أهم املصاحل الكلية اليت اعتربها اإلمام مالك يف االجتهاد هي ما يأيت‪:52‬‬

‫وجوب تقديم المصلحة العامة على الخاصة ‪:‬‬ ‫‪.1‬‬


‫هذا أصل شرعي بدليل هني النيب ﷺ عن بيع احلاضر للبـادي ‪ ،‬وعن تلقي الركبان‪ 53‬رعـايـة ملصلحة أهل‬ ‫‪.2‬‬
‫احلضر ‪ ،‬وأهل السوق ‪ .‬وحترمي االحتكار رعاية ملصلحة اجلماعة ‪ ،‬وجواز احلجر على السفيه حفاظ ًا على مال‬
‫اجلماعة ‪ ،‬ومنع أيب بكر من االجتار بعد اخلالفة ليتفرغ للنظر يف مصاحل املسلمني‪.‬‬

‫ويطبق هذا املبدأ عند املالكية على تضمني الصناع ما يتلف بأيديهم وجواز ضرب املتهم الستخالص األموال من‬
‫أيدي السراق والغصاب ‪ ،‬أو النتزاع اإلقرار حال وجود قرينة على التهمة ‪.‬‬

‫‪ 51‬املستصفى ‪ ،١٤١\١‬اإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي‪١٣٨\٣‬‬


‫‪ 52‬مقاصد الشريعة للدكتور حسني حامد ‪٦٩\١‬‬
‫‪ 53‬رواه اجلماعة ( أمحـد وأصحاب الكتب الستة ) إال الرتمذي عن ابن عباس بلفظ ‪ :‬ال تلقوا الركبان ‪ ،‬وال يبيع حاضر لباد » ( نيل األوطار ‪\٥‬‬
‫‪. ) ١٦٤‬‬
‫وجوب دفع أشد الضررين ‪:‬‬ ‫‪.3‬‬

‫هو أصل شرعي مقرر بدليل تشريع اجلهاد ‪ ،‬وإن كان فيه إتالف النفوس ‪ ،‬فيه دفع ضرر عدوان املعتدين ومحاية‬
‫الدين والبالد ‪ .‬وبدليل تشريع القصاص واحلدود حلماية األرواح واألموال واألعراض ‪ .‬وقتل البغاة ومانعي الزكاة‬
‫للقضاء على الفتنة العارمة ‪ .‬واألمر باملعروف والنهي عن املنكر محاية ملصلحة اجملتمع ‪.‬‬

‫وعلى أس اس ه ذا املب دأ ‪ ،‬أج از الش اطيب توظي ف اخلراج ( الض رائب ) إذا خال بيت املال عم ا يفي حباج ة اجلنـد ‪،‬‬
‫واحتاج اإلمام إىل تكثري اجلنود لسد الثغور ومحاية البالد ‪.‬‬

‫وأجاز الشاطيب أيضـا بنـاء عليـه بيعـة املفضول مع وجود األفضل ‪ ،‬وتوليـة إمام غري جمتهد يف علوم الشريعة ة إذا عن‬
‫جمتهد‪.‬‬

‫وجوب المحافظة على النفس ‪:‬‬ ‫‪.4‬‬

‫هو أصل شرعي كلي بـدلـيـل النهي عن قتـل النفس وإجياب القصاص على القاتل ‪ ،‬ووجوب تناول الطعام والشراب‬
‫ملن ع اهلالك ‪ ،‬ووج وب الزك اة واملواس اة للمحت اجني ‪ .‬وإقام ة احلك ام والقض اة ‪ ،‬وت رتيب األجن اد وتنظيم اجلي وش ‪.‬‬
‫ويطب ق على ه ذا األص ل حكم قت ل اجلمـاعـة بـالـواحـد‪ ،‬وأن ه إذا أطب ق احلرام األرض ‪ ،‬ج از أك ل مق دار احلاج ة من‬
‫احلرام‪.‬‬

‫فهل يقدم اإلمام مالك المصلحة على النص؟‬

‫احلقيقة أن اإلمام مالك ال يقدم املصلحة على النص أو خيصص عموم النص باملصلحة ‪ ،‬فليس يف الفتاوى املنـوبـة إليـه‬
‫فتوى سنـدهـا املصلحـة املقـدمـة على النص ‪ ،‬وعلى فرض خمالفة واقعة الفتوى لعموم النص ‪ ،‬فإن الذي خيصص هذا‬
‫العموم ليس هو املصلحة اجملردة ‪ ،‬وإمنا هو النصوص الكثرية اليت تشهد جلنس هذه املصلحة باالعتبار ‪ .‬وقد علمنا أن‬
‫كل مصلحة يأخذ هبا مال ك يف التشريع مصلحة مالئمة جلنس تص رفات الش ارع ‪ .‬وتتحقق هذه املالءمة بدخول‬
‫املصلحة حتت أصل شرعي شهدت له النصوص يف اجلملة‪.54‬‬

‫تفصيل رأي الطوفي في المصلحة ‪:‬‬

‫أشرت إمجاًال إىل أدلة الطويف يف تقدمي املصلحة على النص واإلمجاع ‪ ،‬وبينت أوجه الضعف فيها ‪ ،‬وسأوضح هنا‬
‫أسس رأيه وشبهاته املزيفة ‪.‬‬

‫‪ 54‬مقاصد الشريعةو املرجع السابع ‪١١٥\١‬‬


‫أسس نظرية الطوفي ‪:‬‬

‫تقوم نظرية الطويف يف املصلحة على أسس أربعة‪.55‬‬

‫األساس األول ‪ :‬استقالل العقول بإدراك المصالح والمفاسد ‪:‬‬

‫يرى الطـويف أن العقل البشري يستقـل بـإدراك املصـالـح واملفاسد يف نطـاق املعامالت والعادات ‪ .‬وهذا خمالف لرأي‬
‫اجلماعة اإلسالميـة الـذين يعتربون املصاحل واملفـاسـد بـاالهـتـداء بـالنصوص الشرعيـة اليت تشهـد لـنـوع املصلحـة أو جلنـهـا‬
‫باالعتبار ‪.‬‬

‫األساس الثاني ‪ :‬المصلحة دليل شرعي مستقل عن النصوص‪:‬‬

‫ومعىن ذلك أن املصلحة ال تعتمد يف حجيتها على شهادة التصوص لنوعهـا أو جلنسها باالعتبار ‪ ،‬وإمنا تعتمد على‬
‫حكم العقل وحده ‪ ،‬فاملصلحة عنـد الطريف ‪ :‬هي ما حيكم العقل بأنه مصلحة ‪ ،‬غري مهتد يف هذا احلكم بنصوص‬
‫الشريعة ‪ ،‬وإمنا بالعادات والتجارب وحدها ‪ ،‬وهي لذلك عنده أقوى األدلة الشرعية ‪.‬‬

‫وقد لوحظ من دراسة املصلحة أن كل القائلني هبا صرحوا بأن املصلحة تعتمد يف داللتها على النصوص الشرعية ‪،‬‬
‫وال يؤخذ هبا إال إذا كانت مالئمة لتصرفات الشارع ‪ .‬وفسروا املالءمة بالدخول حتت جنس شهدت له النصوص‬
‫يف اجلملة ‪ .‬فاالستدالل باملصلحة عندهم ‪ :‬هو استدالل مبعقول النصوص الشـاهـدة جلنس املصلحـة بـاالعتبـار ‪ ،‬أي‬
‫أن املصلحة اليت حيتجـون هبا هي املصلحة اليت تستمد حجيتها من النص‪.‬‬

‫األساس الثالث ‪ :‬مجال العمل بالمصلحة هو المعامالت دون العبادات ‪:‬‬

‫ي رى الط ويف أن املصلحـة يـؤخـذ هبا بصفـة كـونـهـا دلـيـاله مرعيـًا يف جمال املعـامـالت والع ادات ‪ .‬أم ا العب ادات‬
‫واملقدرات ‪ ،‬فإن املصلحة ال تصلح دليًال فيها ‪ .‬ومنشأ التفرقة بني العبادات واملعامالت يف زعمه ‪ :‬هو أن الشارع‬
‫قد قصد العبادات حلق نفسه ‪ ،‬وقصد املعامالت لنفع العباد ‪ ،‬فهو أدرى حبقه يف العبادات ‪ ،‬مما يوجب علينا اتباع‬
‫النص وص فيهـا ‪ .‬وأم ا املع امالت فـالـعبـاد أدرى مبص احلهم ‪ ،‬فك ان هلم حتص يل ه ذه املص احل ‪ ،‬وإن خ الفت نص وص‬
‫الشارع ‪ .‬وأكـد الشاطيب أن نطـاق العمل باملصاحل املرسلة ‪ :‬هو العادات واملعامالت دون العبادات ‪ .‬فتوافق الطـويف‬
‫مع املالكية يف هذه الناحية‪.‬‬

‫األساس الرابع ‪ :‬المصلحة أقوى أدلة الشرع ‪:‬‬

‫أن املصلحة أقوى األدلة الشرعية على اإلطالق ‪ .‬وعليـه قـلـيـت املصلحة حجة عنده فقط إذا فقد النص أو اإلمجاع‬
‫على حكم مسألة ما ‪ ،‬وإمنا هي مقدمة على النص واإلمجاع عند وجود التعارض معها ‪ ،‬بطريق التخصيص والبيان ‪،‬‬
‫ال بطريق التعطيل واالفتئات ‪ ،‬كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان ‪ ،‬إذ أن املصلحة مستفادة من قوله عليه‬

‫‪ 55‬املرجع السابق ‪ ,١٨۲-١١٦‬االعتصام للشاطيب ‪١١٥\۲‬وما بعدها‪.‬‬


‫السالم ‪( :‬ال ضرر وال ضرار) ‪ .‬وتقدم املصلحة على النص ‪ ،‬سواء أكان قطعيا يف سنده ومتنه ‪ ،‬أم طلبا فيها ‪ .‬یری‬
‫الطويف بينت‪.‬‬

‫وي رى بعض هم ‪56‬ـ ب الرغم من ع دم تفرقـة الطـويف بني النص القـاطـع وغ ري الق اطع ـ أن احتم ال وج ود التع ارض بني‬
‫النص واملص لحة يف تق دير الط ويف ‪ :‬ه و بني النص الظ ين واملص لحة ‪ ،‬أم ا النص القطعي فيمن ع الط ويف ختالف ه ‪ .‬وال‬
‫تقدم املصلحة عليه حينئذ ‪.‬‬

‫ويالحظ أن املصلحة اليت يرى املالكية وغريهم تقدميها على النص الظين ‪ ،‬على فرض قوهلم بذلك‪ : .‬هي املصلحة‬
‫املالئمة جلنس تصرفات الشرع ‪ ،‬واليت تـدخـل حتت أصـل قطعي شهـدت لـه النصـوص يف اجلملة ‪ .‬فاملقـدم على النص‬
‫الظين ‪ ،‬واملخصص له يف الواقع هـو النصوص الشرعيـة الشـاهـدة جلنس املصلحة باالعتبار ‪ ،‬وليست مصلحة غريبة‬
‫حيكم هبا العقل ‪ ،‬كما عرفنا ؛ ألن هذه املصلحة قد صرح املالكية وغريهم أهنا ال تصلح دليًال يف التشريع ‪ ،‬فض ًال‬
‫عن أن تقدم على النصوص الشرعية‪.‬‬

‫أما املصلحة اليت يزعم الطويف أهنا حجة ‪ ،‬فهي املصلحة اليت تعتمد على حكم العقل ‪ ،‬وال تشهد هلا النصوص بأي ‪،‬‬
‫فهي املصلحة اليت تقابل النص ‪ ،‬ال اليت تعتمد عليه ‪ ،‬وقد أوضحت أهنا ليست حجة على اإلطالق‪.‬‬

‫‪ 56‬مقاصد الشريعة للدكتور حسني حامد ‪ ، ٥٣٨/٢‬مصطفى زيد يف املرجع السابق ‪.‬‬

You might also like