Professional Documents
Culture Documents
الرة الختصة
السل ِم د
ين ِ
ِ ال ن
ِ اس
ِ م فِ
يخ:
ت ِألف الش ِ
ص السع ِد دي
عب ِد الرح ِن ب ِن نا ِ ِ
( 1307ـه– 1376ـه)
()2 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
ومنها :أن معرفة النعم والتحدث هبا قد أمر هللا به ورسوله ،وهو من أكرب األعمال
الصاحلة ،وال شك أن البحث يف هذا اعرتاف وحتدث وتفكر يف أجل نعمه -سبحانه -على
عباده :وهو الدين اإلسالمي الذي ال يقبل هللا من أحد دينا سواه .فيكون هذا التحدث
شكرا هلل ،واستدعاء للمزيد من هذه النعمة.
ومنها :أن الناس يتفاوتون يف اإلميان وكماله تفاوت عظيما ،وكلما كان العبد أعرف هبذا
الدين وأشد تعظيما له وسرورا به وابتهاجا كان أكمل إميان وأصح يقينا ،فإنه برهان على
مجيع أصول اإلميان وقواعده.
ومنها :أن من أكرب الدعوة إىل دين اإلسالم شرح ما احتوى عليه من احملاسن اليت يقبلها
ويتقبلها كل صاحب عقل وفطرة سليمة .فلو تصدى للدعوة إىل هذا الدين رجال يشرحون
حقائقه ويبينون للخلق مصاحله ،لكان ذلك كافيا كفاية تمة يف جذب اخللق إليه؛ ملا يرون
من موافقته للمصاحل الدينية والدنيوية ،ولصالح الظاهر والباطن من غي حاجة إىل التعرض
لدفع شبه املعارضني والطعن يف أداين املخالفني ،فإنه يف نفسه يدفع كل شبهة تعارضه؛ ألنه
حق مقرون ابلبيان الواضح ،والرباهني املوصلة إىل اليقني ،فإذا كشف عن بعض حقائق هذا
الدين صار أكرب داع إىل قبوله ورجحانه على غيه.
واعلم أن حماسن الدين اإلسالمي عامة يف مجيع مسائله ودالئله ،ويف أصوله وفروعه،
وفيما دل عليه من علوم الشرع واألحكام ،وما دل عليه من علوم الكون واالجتماع .وليس
القصد هنا استيعاب ذلك وتتبعه ،فإنه يستدعي بسطا كثيا ،وإمنا الغرض ذكر أمثلة نفعة
يستدل هبا على سواها ،وينفتح هبا الباب ملن أراد الدخول ،وهي أمثلة منتشرة يف األصول
والفروع والعبادات واملعامالت.
فنقول مستعينني ابهلل ،راجني منه أن يهدينا ويعلمنا ،ويفتح لنا من خزائن جوده وكرمه
ما تصلح به أحوالنا وتستقيم به أقوالنا وأفعالنا:
()4 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
املثال األول
{ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ مبن على أصول اإلميان املذكورة يف قوله تعاىل:
دين اإلسالم ي
ﱗﱘﱙﱚﱛﱜﱝﱞﱟﱠﱡﱢﱣﱤ
ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ} [سورة
البقرة.]136:
فهذه األصول العظيمة اليت أمر هللا عباده هبا هي األصول اليت اتفق عليها األنبياء
واملرسلون ،وهي حمتوية على أجل املعارف واالعتقادات ،من اإلميان بكل ما وصف هللا به
نفسه على ألسنة رسله ،وعلى بذل اجلهد يف سلوك مرضاته.
فدين أصله اإلميان ابهلل ومثرته السعي يف كل ما حيبه ويرضاه ،وإخالص ذلك هلل ،هل
يتصور أن يكون دين أحسن منه وأجل وأفضل؟
ودين أمر ابإلميان بكل ما أوتيه األنبياء ،والتصديق برساالهتم ،واالعرتاف ابحلق الذي
جاءوا به من عند رهبم ،وعدم التفريق بينهم ،وأهنم كلهم رسل هللا الصادقون ،وأمناؤه
املخلصون ،يستحيل أن يتوجه إليه أي اعرتاض وقدح.
فهو أيمر بكل حق ،ويعرتف بكل صدق ،ويقرر احلقائق الدينية املستندة إىل وحي هللا
لرسله ،وجيري مع احلقائق العقلية الفطرية النافعة ،وال يرد حقا بوجه من الوجوه ،وال يصدق
بكذب ،وال يروج عليه الباطل ،فهو مهيمن على سائر األداين.
أيمر مبحاسن األعمال ومكارم األخالق ومصاحل العباد ،وحيث على العدل والفضل
والرمحة واخلي ،ويزجر عن الظلم والبغي ومساوئ األخالق ،ما من خصلة كمال قررها األنبياء
واملرسلون إال وقررها وأثبتها ،وما من مصلحة دينية ودنيوية دعت إليها الشرائع إال حث
عليها ،وال مفسدة إال هنى عنها وأمر مبجانبتها.
()5 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
واملقصود :أن عقائد هذا الدين هي اليت تزكو هبا القلوب ،وتصلح األرواح ،وتتأصل هبا
مكارم األخالق وحماسن األعمال.
املثال الثان
ش رائع اإلس الم الكبار بعد اإلميان :هي إقام الص الة ،وإيتاء الزكاة ،وص وم رمض ان،
وحج البيت احلرام.
أتمل هذه الشرائع العظيمة ،وجليل منافعها ،وما توجبه من السعي يف مرضاة هللا والفو
بثوابه العاجل واآلجل.
وأتمل ما يف الص الة من اإلخالص هلل واإلقبال التام عليه ،والثناء والدعاء واخلض وع،
وأهنا من ش جرة اإلميان مبنزلة املالحظة والس قي للبس تان .فلوال تكرر الص الة يف اليوم والليلة
ليبست شجرة اإلميان وذوى عوده ،ولكنها تنمو وتتجدد بعبودايت الصالة.
وانظر إىل ما حتتوي عليه الص الة من االش تغال بذكر هللا الذي هو أكرب من كل ش يء،
وأهنا تنهى عن الفحشاء واملنكر.
وانظر إىل حكم الزكاة وما فيها من التخلق أبخالق الكرام ،من الس خاء واجلود والبعد
عن أخالق اللئام ،والش كر هلل على ما أواله من اإلنعام ،وحفا املال من املنغص ات احلس ية
واملعنوية ،وما فيها من اإلحسان إىل اخللق ومواساة احملتاجني ،وسداد مصاحل احملتاج إليها.
فإن يف الزكاة دفع حاجة املض طرين احملتاجني ،وفيها االس تعانة على اجلهاد واملص احل
الكلية اليت ال يستغن عنها املسلمون ،وفيها دفع صولة الفقر والفقراء ،وفيها الثقة لف هللا
والرجاء لثوابه وتصديق موعوده.
()6 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
ويف الص وم من لرين النفوس على ترك حمبوهبا الذي ألفته؛ حبا هلل وتقراب إليه ،وتعويد
النفوس ولرينها على قوة العزمية والص رب ،وفيه تقوية داعي اإلخالص وحتقيق حمبته على حمبة
النفس ،ولذلك كان الصوم هلل ،اختصه لنفسه من بني سائر األعمال.
وأما ما يف احلج من بذل األموال وحتمل املش قات والتعرض لألخطار والص عوابت طلبا
لرض ى هللا ،والوفادة على هللا ،والتملق له يف بيته ويف عرص اته ،والتنوع يف عبودايت هللا يف
تلك املشاعر اليت هي موائد مدها هللا لعباده ووفود بيته.
وما فيها من التعظيم واخلض وع التام هلل ،والتذكر ألحوال األنبياء واملرس لني واألص فياء
واملخلص ني ،وتقوية اإلميان هبم ،وش دة التعلق مبحبتهم ،وما فيه من التعارف بني املس لمني
والس عي يف مجع كلمتهم واتفاقهم على مص احلهم اخلاص ة والعامة ،ا ال ميكن تعداده ،فإنه
من أعظم حماسن الدين وأجل الفوائد احلاصلة للمؤمنني.
وهذا على وجه التنبيه واالختصار.
املثال الثالث
ما أمر به الشارع وحث عليه من وجوب االجتماع واالئتالف ،وهنيه وحتذيره عن التفرق
واالختالف.
على هذا األصل الكبي من نصوص الكتاب والسنة شيء كثي.
وقد علم كل من له أدىن معقول منفعة هذا األمر ،وما يرتتب عليه من املص احل الدينية
والدنيوية ،وما يندفع به من املض ار واملفاس د .وال خيفى أيض ا أن القوة املعنوية املبنية على
احلق ،هذا أصلها الذي تدور عليه.
()7 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
كما أنه قد علم ما كان عليه املس لمون يف ص در اإلس الم من اس تقامة الدين وص الح
األحوال والعزة اليت مل يص ل إليها أحد س واهم ،إذ كانوا مس تمس كني هبذا األص ل قائمني به
حق القيام ،موقنني أشد اليقني أنه روح دينهم.
يزيد هذا بيان وإيضاحا:
املثال الرابع
إن دين اإلسالم دين رمحة وبركة وإحسان ،وحث على منفعة نوع اإلنسان.
فما اش تمل عليه هذا الدين من الرمحة وحس ن املعاملة والدعوة إىل اإلحس ان ،والنهي
عن كل ما يض اد ذلك هو الذي ص يه نورا وض ياء بني ظلمات الظلم والبغي وس وء املعاملة
وانتهاك احلرمات ،وهو الذي جذب قلوب من كانوا قبل معرفته ألد أعدائه حا اس تظلوا
بظله الظليل ،وهو الذي عطف وحنا على أهله ،حا ص ارت الرمحة والعفو واإلحس ان
يتدفق من قلوهبم على أقواهلم وأعماهلم ،وختطاهم إىل أعدائه ،حا ص اروا من أعظم أوليائه.
فمنهم من دخل فيه حبس ن بص ية وقوة وجدان ،ومنهم من خض ع له ورغب يف أحكامه
وفضلها على أحكام أهل دينه ،ملا فيها من العدل والرمحة.
املثال اخلامس
دين اإلسالم هو دين احلكمة ،ودين الفطرة ،ودين العقل والصالح والفالح.
يوض ح هذا األص ل :ما هو حمتو عليه من األحكام األص ولية والفروعية ،اليت تقبلها
الفطر والعقول ،وتنق اد هل ا بوا ع احلق والص واب ،وم ا هي علي ه من اإلحك ام وحس ن
االنتظام ،وأهنا صاحلة لكل مان ومكان.
()8 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
فأخباره كلها حق وص دق ،مل أيت -ويس تحيل أن أييت -علم س ابق أو الحق مبا
ينقضها أو يكذهبا ،وإمنا العلوم احلقة كلها تؤا رها وتؤيدها ،وهي أعظم برهان على صدقها.
وقد حقق احملققون املنصفون أن كل علم نفع دين أو دنيوي أو سياسي ،فقد دل عليه
القرآن داللة ال ريب فيها ،فليس يف ش ريعة اإلس الم ما حتيله العقول ،وإمنا فيه ما تش هد
العقول الزكية بصدقه ونفعه وصالحه.
أو وكذلك أوامره ونواهيه كلها عدل ال ظلم فيها ،فما أمر بش يء إال وهو خي خال
راجح ،وما هنى إال عن الشر اخلال أو الذي مفسدته تزيد على مصلحته.
وكلما تدبر اللبيب أحكامه ا داد إميان هبذا األصل ،وعلم أنه تنزيل من حكيم محيد.
املثال السادس
ما جاء به هذا الدين من اجلهاد ،واألمر بكل معروف ،والنهي عن كل منكر.
فإن اجلهاد الذي جاء به مقص ود به دفع عدوان املعتدين على حقوق هذا الدين وعلى
رد دعوته ،وهو أفضل أنواع اجلهاد ،مل يقصد به جشع وال طمع وال أغراض نفسية.
ومن نظر إىل أدلة هذا األص ل ،وس ية الن ﷺ وأص حابه مع أعدائهم ،عرف بال ش ك
أن اجلهاد يدخل يف الضرورايت ودفع عادية املعتدين.
وكذلك األمر ابملعروف والنهي عن املنكر ،ملا كان ال يس تقيم هذا الدين إال ابس تقامة
أهله على أص وله وش رائعه ،وامتثال أوامره اليت هي الغاية يف الص الح ،واجتناب نواهيه اليت
هي ش ر وفس اد ،وكان أهله ملتزمني هلذه األمور ،ولكيال تزين لبعض هم نفوس هم الظاملة
التجرؤ على بعض احملرمات والتقص ي عن أداء املقدور عليه من الواجبات ،وكان ذلك ال
يتم إال أبمر وهني حبس ب ذلك :كان ذلك من أجل حماس ن الدين ومن أعظم الض رورايت
()9 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
لقيامه ،كما أن يف ذلك تقوي املعوجني من أهله وهتذيبهم وقمعهم عن رذائل األمور ومحلهم
على معاليها.
وأما إطالق احلرية هلم -وهم قد التزموه ودخلوا حتت حكمه وتقي دوا بش رائعه -فمن
أعظم الظلم والض رر عليهم وعلى ا تمع ،خص وص ا احلقوق الواجبة املطلوبة ش رعا وعقال
وعرفا.
املثال السابع
ما جاءت به الش ريعة من إابحة البيوع واإلجارات والش ركات وأنواع املعامالت اليت
تتبادل فيها املعاوضات بني الناس يف األعيان والديون واملنافع وغيها.
فقد جاءت الش ريعة الكاملة حبل هذا النوع وإطالقه للعباد؛ الش تماله على املص احل يف
الض رورايت واحلاجيات والكماليات ،وفس حت للعباد فس حا ص لحت به أمورهم وأحواهلم
واستقامت معايشهم.
وش رطت الش ريعة يف حل هذه األش ياء الرض ا من الطرفني ،واش تمال العقود على العلم،
ومعرفة املعقود عليه وموض وع العقد ،ومعرفة ما يرتتب عليه من الش روم .ومنعت من كل
ما فيه ضرر وظلم من أقسام امليسر والراب واجلهالة.
فمن أتمل املعامالت الش رعية رأى ارتباطها بص الح الدين والدنيا ،وش هد هلل بس عة
الرمحة ولام احلكمة ،حيث أابح س بحانه لعباده مجيع الطيبات ،من مكاس ب ومطاعم
ومشارب ،وطرق املنافع املنظمة احملكمة.
املثال الثامن
ما جاءت به الشريعة من إابحة الطيبات من املطاعم واملشارب واملالبس واملناكح وغيها.
()10 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
فكل طيب نفع فقد أابحه الشارع من أصناف احلبوب والثمار وحلوم احليوانت البحرية
مطلقا واحليوانت الربية ،ومل مينع من هذا إال كل خبيث ضار على الدين أو العقل أو البدن
أو املال.
فما أابحه فإنه من إحسانه سبحانه وحماسن دينه ،وما منعه فإنه من إحسانه ،حيث
منعهم ،ا يضرهم ،ومن حماسن دينه ،حيث إن احلسن تبع للحكمة واملصلحة ومراعاة املضار.
وكذلك ما أابحه من األنكحة ،وأن للعبد أن ينكح ما طاب له من النساء مثىن وثالث
ورابع؛ ملا يف ذلك من مصلحة الطرفني ودفع ضرر اجلانبني.
ومل يبح للعبد اجلمع بني أكثر من أربع حرائر ملا يرتتب على ذلك من الظلم وترك العدل،
مع أنه حثه عند خوف الظلم وعدم القدرة على إقامة حدود هللا يف الزوجية على االقتصار
على واحدة ،حرصا على نيل هذا املقصود.
وكما أن الزواج من أكرب النعم ومن الضرورايت ،فإابحة الطالق كذلك؛ خشية عيشة
{ﱻ اإلنسان مع من ال تالئمه وال توافقه ،واضطراره للبقاء يف ضنك احلال وشدة العسر،
ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ} [سورة النساء.]130:
املثال التاسع
ما ش رعه هللا ورس وله بني اخللق من احلقوق اليت هي ص الح وخي وإحس ان وعدل
وقسط وترك للظلم.
وذل ك ك احلقوق اليت أوجبه ا وش رعه ا للوال دين ،واألوالد ،واألق ارب ،واجليان،
واألص حاب ،واملعاملني ،ولكل واحد من الزوجني على اآلخر ،وكلها حقوق ض رورايت
وكماليات ،تس تحس نها الفطر والعقول الزاكية ،وتتم هبا املخالطة ،وتتبادل فيها املص احل
واملنافع ،حبسب حال صاحب احلق ومرتبته.
()11 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
وكلما تفكرت فيها رأيت فيها من اخلي و وال الش ر ،ووجدت فيها من املنافع العامة
واخلاصة واأللفة ولام العشرة ما يشهدك أن هذه الشريعة كفيلة بسعادة الدارين.
وترى فيه ا ه ذه احلقوق مري مع الزم ان واملك ان واألحوال والعرف ،وتراه ا حمص ل ة
للمصاحل ،حاصال فيها التعاون التام على أمور الدين والدنيا ،جالبة للخواطر ،مزيلة للبغضاء
والشحناء.
وهذه اجلمل تعرف ابالستقراء والتتبع هلا يف مصادرها ومواردها.
املثال العاشر
ما جاءت به الشريعة من انتقال املال والرتكات بعد املوت ،وكيفية تو يع املال على الورثة.
{ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ} [سورة وقد أشار تعاىل إىل حكمة ذلك بقوله:
النساء ،]11:فوضعها هللا بنفسه حبسب ما يعلمه من قرب النفع ،وما حيب العبد عادة أن
يصل إليه ماله ،وما هو أوىل بربه وفضله ،مرتبا ذلك ترتيبا تشهد العقول الصحيحة حبسنه،
وأنه لو وكل األمر إىل آراء الناس وأهوائهم وإراداهتم حلصل بسبب ذلك من اخللل واالختالل
و وال االنتظام وسوء االختيار ما يشبه الفوضى.
وجعل الشارع للعبد أن يوصي يف جهات الرب والتقوى بشيء من ماله فيما ينفعه آلخرته،
وقيد ذلك ابلثلث فأقل لغي وارث ،لئال تصي األمور اليت جعلها هللا قياما للناس ملعبة
يتالعب هبا قاصرو العقول والداينة عند انتقاهلم من الدنيا ،أما حاهلم يف حالة صحة األجسام
والعقول ،فيما خيشونه من الفقر واإلفالس مانع هلم من صرفه فيما يضرهم غالبا.
وه ذا ألن اجلرائم والتع دي على حقوق هللا وحقوق عب اده من أعظم الظلم ال ذي خي ل
ابلنظ ام ،وخيت ل ب ه ال دين وال دني ا ،فوض ع الش ارع للجرائم والتجرؤات ح دودا تردع عن
مواقعته ا ،وختفف من وط أهت ا ،من القت ل والقطع واجلل د وأنواع التعزيرات .وكله ا فيه ا من
املنافع واملص احل اخلاص ة والعامة ما يعرف به العاقل حس ن الش ريعة ،وأن الش رور ال ميكن أن
ت قاوم وتدفع دفعا كامال إال ابحلدود الش رعية اليت رتبها الش ارع حبس ب اجلرائم قلة وكثرة
وشدة وضعفا.
وذلك كالش هادة اليت تس توىف هبا احلقوق ،ولنع التجاحد ،ويزول هبا االرتياب .وكالرهن
والضمان والكفالة اليت إذا ت عذر االستيفاء ،ن عليه احلق رجع صاحب احلق إىل الوثيقة اليت
يستوىف منها.
وال خيفى ما يف ذلك من املنافع املتنوعة ،وحفا احلقوق ،وتوسيع املعامالت ،وردها إىل
القس ط والعدل ،وص الح األحوال ،واس تقامة املعامالت ،فلوال الواثئق لتعطل القس م األكرب
من املعامالت ،فإهنا نفعة للمتوثق ،ونفعة ملن عليه احلق من وجوه متعددة معروفة.
فإهنا أص ول مبنية على العدل والربهان ،واطراد العرف ،وموافقة الفطر ،فإنه جعل البينة
على كل من ادعى ش يئا أو حقا من احلقوق ،فإذا أتى ابلبينة اليت ترجح جانبه وتقويه ث بت
ل ه احلق ال ذي ادعى ب ه ،وما مل أيت إال مبجرد ال دعوى حلف امل دعى علي ه على نفي
الدعوى ومل يتوجه للمدعى عليه حق.
وجعل الش ارع البينات حبس ب مراتب األش ياء ،وجعل القرائن املبينة والعرف املطرد بني
الناس من البينات ،فالبينة :اسم جامع لكل ما يبني احلق ويدل عليه.
وجعل عند االش تباه وتس اوي اخلص مني طريق الص لح العادل املناس ب لكل قض ية طريقا
إىل حل املشاكل واملنا عات.
فكل طريق ال ظلم فيه وال يدخل العباد يف معص ية هللا ،وهو نفع هلم ،فقد حث عليه
إذا كان وسيلة إىل فصل اخلصومات وقطع املشاجرات.
وس اوى يف هذا بني القوي والض عيف ،والرئيس واملرؤوس يف مجيع احلقوق ،وأرض ى
اخلصوم بسلوك طرق العدل ،وعدم احليف.
وهذا األص ل الكبي قد أمجع العقالء على اس تحس انه ،وعلى أنه هو الس بب الوحيد يف
س لوك أص لح األحوال ،وأحس ن الوس ائل حلص ول املقاص د وإص ابة الص واب ،وس لوك طرق
العدل ،وأنه أرقى لألمم العاملة عليه يف حتص يل كل خي وص الح .وكلما ا دادت معارف
الناس واتسعت أفكارهم عرفوا شدة احلاجة هلذا ومقداره.
()15 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
وملا كان املسلمون قد طبقوا هذا األصل يف صدر اإلسالم على أمورهم الدينية والدنيوية
كانت األمور مس تقيمة ،واألحوال يف رقي وا دايد ،فلما احنرفوا عن هذا األص ل ما الوا يف
احنطام يف دينهم ودنياهم ،حا وص لت هبم احلال إىل ما ترى ،فلو راجعوا دينهم يف هذا
األصل وغيه ألفلحوا وجنحوا.
فالعلم وال دين يقوم الوالايت ،وتنبن علي ه الس لط ة واألحك ام ،والوالايت كله ا مقي دة
ابلعلم والدين ،الذي هو احلكمة ،وهو الصرام املستقيم ،وهو الصالح والفالح والنجاح.
فحيث كان الدين والس لطة مقرتنني متس اعدين فإن األمور تص لح ،كما أن األحوال
تس تقيم ،وحيث فص ل أحدمها عن اآلخر اختل النظام ،وفقد الص الح واإلص الح ،ووقعت
الفرقة ،وتباعدت القلوب ،وأخذ أمر الناس يف االحنطام.
يؤي د ه ذا :أن العلوم مهم ا اتس ع ت ،واملع ارف مهم ا تنوع ت ،واالخرتاع ات مهم ا
عظمت وكثرت ،فإنه مل يرد منها ش يء ينايف ما دل عليه القرآن ،وال يناقض ما جاءت به
الش ريعة ،فالش رع ال أييت مبا حتيله العقول وإمنا أييت مبا تش هد العقول الص حيحة حبس نه ،أو
مبا ال يهتدي العقل إىل معرفته مجلة أو تفصيال .وهذا ينبغي أن يكون مثاال آخر ،وهو:
املثال العشرون
نظرة ملة يف فتوحات اإلس الم املتس عة اخلارقة للعوائد ،مث لبقائه حمرتما مع تكالب
األعداء ومقاوماهتم العنيفة ومواقفهم املعروفة معه.
()17 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
وذل ك أن من نظر إىل منبع ه ذا ال دين ،وكيف ألف جزيرة العرب على افرتاق قلوهب ا
وكثرة ض غائنها وتعاديها ،وكيف ألفهم ومجع قاص يهم لدانيهم ،وأ ال تلك العداوات ،وأحل
األخوة اإلمي اني ة حمله ا ،مث ان دفعوا يف أقط ار األرض يفتحوهن ا قطرا قطرا ،ويف مق دم ة ه ذه
األقط ار أم ة ف ارس والروم أقوى األمم وأعظمه ا ملك ا وأش ده ا قوة وأكثره ا ع ددا وع دة،
ففتحومها وما وراءمها بفض ل دينهم وقوة إمياهنم ونص ر هللا ومعونته هلم ،حا وص ل اإلس الم
إىل مش ارق األرض ومغارهبا ،فص ار هذا ي عد من آايت هللا ،وبراهني دينه ،ومعجزات نبيه،
وهبذا دخل اخللق فيه أفواجا ببصية وطمأنينة ال بقهر وال إ عاج.
فمن نظر نظرة إمج الي ة إىل ه ذا األمر عرف أن ه ذا هو احلق ال ذي ال يقوم ل ه الب اط ل
مهما عظمت قوته وتعاظمت س طوته ،وهذا يعرف ببداهة العقول ،وال يرتب فيه منص ف،
وهو من الض رورايت ،الف ما يقوله طائفة من كتاب هذا العص ر الذين دفعهم الرض وخ
مبن
الفكري إىل مش اي عة أعداء اإلس الم ،فزعموا أن انتش ار اإلس الم وفتوحه اخلارقة للعادة ي
على أمور مادية حمض ة ،حللوها مبزاعمهم اخلاطئة ،ويرجع حتليلها إىل ض عف دولة األكاس رة
ودولة الرومان وقوة املادة يف العرب.
وهذا رد تص وره كاف يف إبطاله ،فأي قوة يف العرب تؤهلهم ملقاومة أدىن حكومة من
احلكومات الص غية يف ذلك الوقت؟ فض ال عن احلكومات الكبية الض خمة ،فض ال عن
مقاومة أض خم األمم يف وقتها على اإلطالق وأقواها وأعظمها عددا وعدة يف وقت واحد،
حا مزقوا اجلميع ك ل ،زق ،وحل ت حم ل أحك ام هؤالء امللوك اجلب ابرة أحك ام القرآن وال دين
العادلة ،اليت قبلها وتلقاها ابلقبول كل منص ف مريد للحق ،فهل ميكن تفس ي هذا الفتح
املنتشر املتسع األرجاء بتفوق العرب يف األمور املادية احملضة؟
وإمنا يتكلم هبذا من يريد القدح يف الدين اإلسالمي أو من راج عليهم كالم األعداء من
غي معرفة للحقائق.
()18 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
مث بقاء هذا الدين على تواا النكبات وتكالب األعداء على حمقه وإبطاله ابلكلية من
آايت هذا الدين ،وأنه دين هللا احلق ،فلو س اعدته قوة كافية ترد عنه عادية العادين وطغيان
الطاغني مل يبق على وجه األرض دين س واه ولقبله اخللق من غي إكراه وال إلزام؛ ألنه دين
احلق ،ودين الفطرة ،ودين الص الح واإلص الح ،لكن تقص ي أهله وض عفهم وتفرقهم وض غط
أعدائهم عليهم هو الذي أوقف سيه ،فال حول وال قوة إال ابهلل.
فهرس احملتوايت
الصفحة العنوان
املقدمة 2 ..................................................................................
املثال األول4 ..............................................................................
املثال الثاين 5 ..............................................................................
املثال الثالث 6 .............................................................................
املثال الرابع 7 ..............................................................................
املثال اخلامس 7 ............................................................................
املثال السادس 8 ...........................................................................
املثال السابع9 .............................................................................
املثال الثامن 9 .............................................................................
املثال التاسع 10 ...........................................................................
املثال العاشر11 ...........................................................................
املثال احلادي عشر 11 .....................................................................
املثال الثاين عشر 12 .......................................................................
املثال الثالث عشر12 ......................................................................
املثال الرابع عشر 13 .......................................................................
املثال اخلامس عشر 13 ....................................................................
املثال السادس عشر 14 ....................................................................
()20 الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي
الصفحة العنوان
املثال السابع عشر 15 .....................................................................
املثال الثامن عشر 15 ......................................................................
املثال التاسع عشر16 ......................................................................
املثال العشرون 16 .........................................................................
املثال احلادي والعشرون اجلامع لكل ما سبق 18 ..............................................