You are on page 1of 16

‫مفهوُم الُبغاِة ‪..

‬بين تحقيق الفقهاء وغرائب المعاصرين‬


‫فرحات ‪-‬عياط‬

‫من املعل وم أَّن املص طلحات حتم ل يف طياهتا محول ًة ثقافي ة تعرِّب عن مض امينها داخ َل احلق ل املع ريف‬
‫الذي ُو لدت فيه‪ ،‬وضمن البيئة الثقافية املنِش ئة هلا‪ ،‬ومن مث فإّن التعامل معها بالتبسيط أو التحوير‬
‫خُي رجها عن داللتها وجيَعلها عرض ًة للتالعب من ك ّل من يبحث حبًث ا غري ج اٍّد‪ ،‬ويروم من خالله‬
‫الوص وَل إىل نت ائج مس َبقة ال تس مح اآللي ات املوض وعية بالوص ول إليه ا‪ ،‬فلم يكن ب ّد من التكّلم‬
‫بلس ان الشرع وبلَغ ة الفق ه؛ لكن يتّم تفس ري املص طلحات على خالف م رِاد واض عيها‪ ،‬أو املطالب ة‬
‫بتمديد صالحياهتا حىت تتداخل مع مفاهيم أخرى ذات استقاللية تاّم ة وداللة خاّص ة‪ ،‬والتع ّد د يف‬
‫استخدام املصطلح يف جماالت خمتلفة يورث الرتاُدف إن اتفقت املعاين‪ ،‬كما يؤّدي إىل االشرتاك يف‬
‫حالة اختالفها‪ ،‬وهو إمجال ال يتناَس ب مع لغة التخاُطب اليت ُيقَص د منها اإلفهاُم والتبيني‪.‬‬

‫ومن املصطلحات اليت سعى البعُض إىل جعلها ذاَت داللة مزدَو جة ليتَّم التلطيخ هبا ومنح الشرعية‬
‫لقطاعات معّينة وسحبها من أخرى مصطلح البغاة والبغي‪.‬‬

‫وقد اهُّت َم الفقهاء يف استخدام املصطلح استخداًم ا متحِّي زا‪ ،‬وهذه هتم ٌة جتَع ل مجي َع فقهاء األّم ة يف‬
‫قفص االهتام حىت َم ن وقف منهم ضَّد احلكام‪ ،‬ومل ير يف وقوفه مناقض ًة للمصطلح‪ ،‬وال حاجة إىل‬
‫إعادة صياغته كما يريد املتحِّم سون للثورات اليت مل تُع د ثورًة على احلكام الَّظَلمة بقدِر ما هي‬
‫ثورٌة يف بعض جتّلياهتا على بعض نصوص الشرع وأحكام ه‪ ،‬وبنفس الطريق ة االنفعالي ة يف اخلروج‬
‫على الق وانني ميارس املفِّك رون اخلروَج على املص طلحات الشرعية وإع ادة ص ياغتها وتع يني دالل ة‬
‫جديدة هلا؛ لكي تتناسب مع كّل فعل ثورّي يقوم به منفعل أو مظلوم يريُد حَّقه‪ ،‬وُيعميه طلُب ه عن‬
‫الوسائل الشرعّية يف اسرتجاِعه‪ ،‬ويرى يف انتظار احلكم الشرعّي تفويًتا للفرصة‪ ،‬فال جيد املفّك ر بًّدا‬
‫من ت دارك ه ذه العجل ة إال بالتعام ل مبح اَذرة ونِّد َّي ة م ع مص طلحات الفقه اء ال يت ال تتواف ق م ع‬
‫متطَّلبات الثورة توافًق ا من كل الوجوه‪.‬‬
‫ومع مرارة الواقع وتشُّتت الكلمة وتناقض األحداث واألهداف ووجوِد شبكة من املصطلحات‬
‫ذات الدالل ة الس ائلة ال ميِكن ملن يري د البحَث اجلاَّد يف الشرع إال أن حيِّر ر املص طلحات الشرعية‬
‫حتري ًر ا تت بني ب ه ح دود اهلل؛ ح ىت ال يتع ّد اها الن اس أو يقربوه ا‪ ،‬ومن احلدود ال يت تكَّلمت عنه ا‬
‫الشريعة ح ُّد البغاة‪ ،‬فل زم أن نع رَف مع ىن البغي مث البغاة مث طريق ة الشريعة ال يت قررهتا النص وص‬
‫الشرعية وفَّس رها العلماء يف التعامل مع البغاة‪.‬‬

‫وأحكام البغاِة متداوَل ة يف كتب الفقه اإلسالمي كِّلها‪ ،‬فك ّل مِن اعتىن باألحكام الشرعية العلمية‬
‫تناوهلا‪ ،‬سواء يف التفسري أو يف احلديث أو يف الفقه أو يف السياسة الشرعية والقضاء‪ ،‬وهي مفَّص لة‬
‫تفصياًل كلًّي ا ومبَّينة الشروط يف الكتب؛ لذلك فاالدعاء فيها من السهل االستدراك عليه؛ ألّنه ما‬
‫من فقيه مشهور أّلف يف الفقه عموما إال وله رأي مسَّج ل فيها‪ ،‬وقد أفردها بالكالم‪.‬‬

‫وق د أفرده ا بعض الب احثني املعاص رين بالت أليف‪ ،‬فمن أوس ع البح وث ال يت أفردهتا بالت أليف رس الة‬
‫ماجس تري مقَّدم ة جبامع ة اإلم ام حمم د بن س عود اإلس المية بعن وان‪“ :‬أحك ام البغاة يف الشريعة‬
‫اإلسالمية” ملؤلفها أمان اهلل حممد صديق‪ ،‬وهذا البحث جّي د‪ ،‬لكنه أِّلف من أجل بيان أحكامها‬
‫وما يرتتب عليها‪ ،‬وليس من أجل الدفاع عن احلكم أو ال رِّد على الدعاوى حوله‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫تن اول كث ًريا من األحك ام الفقهي ة املتعِّلق ة هبا‪ ،‬وحنن يف ه ذه الورق ة العلمي ة ن بني مفه وم البغاِة يف‬
‫االصطالح الفقهّي ‪ ،‬وهل هو حتّيز للسلطان أم متّس ك بالنصوص الشرعية‪ ،‬ونرد على الُّش َبه الواردة‬
‫فيه‪ ،‬ونبدأ ببيان املفهوم‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬مفهوم البغاة لغة وشرعا‪:‬‬

‫يف هذا املبحث نتناول التعريَف اللغوي واالصطالحي هلذا املفهوم‪ ،‬وال ش ّك أن تعُّدده يف اإلطالق‬
‫الشرعي وتنصيص الفقهاء على هذا التعّد د يدّل بوضوح على عدم التحيز‪.‬‬

‫البغي لغ‪--‬ة‪“ :‬التعدي‪ .‬وبغى الرجل على الرجل‪ :‬استطال‪ .‬وبغت السماء‪ :‬اشتَّد مطرها‪ ،‬حكاها‬
‫أب و عبي د‪ .‬وبغى اجلرح‪ :‬ورم وت رامى إىل فس اد‪ .‬وبغى ال وايل ظلم‪ .‬وك ّل جماوزة يف احلّد وإف راط‬
‫على املقدار الذي هو ح ّد الشيء فهو بغٌي ‪ .‬وبرئ جرحه على بغى‪ ،‬وهو أن يربأ وفيه شيء من‬
‫نغل”([‪ .)]1‬وفالن يبغي على الناس إذا َظلمهم وطلب أذاهم‪ .‬والفئة الباغية‪ :‬هي الظاملة اخلارجة‬
‫عن طاعة اإلمام العادل([‪.)]2‬‬

‫والبغي في االصطالح الشرعي‪ :‬مأخوذ من املاّدة اللغوية‪ ،‬وهو مستخدم يف الشرع ملعاٍن ‪:‬‬
‫اِن‬ ‫ِم‬ ‫ِإ‬
‫اإلطالق األول‪ :‬الظلم‪ ،‬ق ال س بحانه‪ْ { :‬ذ َدَخ ُل وا َعَلى َداُو وَد َفَف ِز َع ْنُه ْم َق اُلوا َال َخَتْف َخْص َم‬
‫َبَغى َبْع ُض َنا َعَلى َبْع ٍض َف اْح ُك م َبْيَنَن ا ِب اَحْلِّق َو َال ُتْش ِط ْط َو اْه ِدَنا ِإىَل َس َو اء الِّص َر اِط } [ص‪.]22 :‬‬
‫فك ل من ظلم أو حس د فه و ب اغ‪ ،‬فظلم ال وايل للن اس يس َّم ى بغًي ا‪ .‬ومن إطالق البغي مبع ىن الظلم‬
‫قوله‪َ{ :‬ذِلَك َو َمْن َع اَقَب ِمِبْث ِل َم ا ُع وِقَب ِبِه َّمُث ُبِغَي َعَلْي ِه َلَينُص َر َّنُه الَّل ُه ِإَّن الَّل َه َلَعُفٌّو َغُف وٌر } [احلج‪:‬‬
‫‪ ،]60‬ومن ه قول ه تع اىل‪ِ{ :‬إَمَّنا الَّس ِبيُل َعَلى اَّل ِذيَن َيْظِلُم وَن الَّن اَس َو َيْبُغ وَن يِف اَألْر ِض ِبَغِرْي اَحْلِّق‬
‫ُأْو َلِئ َك ُهَلم َع َذ اٌب َأِليٌم} [الشورى‪ .]42 :‬ق ال ابن عطي ة‪“ :‬املع ىن {ِإَمَّنا الَّس ِبيُل} احلكم واإلمث‬
‫{َعَلى اَّل ِذيَن َيْظِلُم وَن الَّن اَس } أي‪ :‬ال ذين يض عون األش ياء غ ري مواض عها من القت ل وأخ ذ املال‬
‫واألذى باليد وباللسان‪ ،‬والبغي {ِبَغِرْي اَحلِّق } وهو نوع من أنواع الظلم‪ ،‬خصه بالذكر تنبيها على‬
‫شدته وسوء حال صاحبه‪ ،‬مث توعدهم تعاىل بالعذاب األليم يف اآلخرة”([‪.)]3‬‬

‫اإلطالق الث اين‪ :‬الطائف ة املمتنع ة عن الص لح بع د طلِب ه منه ا‪ ،‬وه ذا منط وق قول ه س بحانه‪َ{ :‬و ِإن‬
‫َطاِئَف َت اِن ِم َن اْلُم ْؤ ِمِنَني اْقَتَتُل وا َفَأْص ِلُح وا َبْيَنُه َم ا َف ِإن َبَغْت ِإْح َد اَمُها َعَلى اُألْخ َر ى َفَق اِتُلوا اَّليِت َتْبِغي‬
‫َح ىَّت َتِف يَء ِإىَل َأْم ِر الَّل ِه َف ِإن َف اءْت َفَأْص ِلُح وا َبْيَنُه َم ا ِباْلَع ْد ِل َو َأْقِس ُطوا ِإَّن الَّل َه ِحُي ُّب اْلُم ْق ِس ِط َني }‬
‫[احلج رات‪ .]9 :‬ق ال ابن اجلوزي‪َ{“ :‬ف ِإْن َبَغْت ِإْح َد اَمُها} طلبت م ا ليس هلا ومل ترج ع إىل‬
‫الصلح‪َ{ ،‬فقاِتُلوا اَّليِت َتْبِغي َح ىَّت َتِف يَء} أي‪َ :‬تْر ِج ع {ِإىل َأْم ِر الَّلِه} أي‪ِ :‬إىل طاعته يف الصلح الذي‬
‫أمر به”([‪.)]4‬‬

‫وميكن مالحظُة أم ٍر عند املفّس رين واحملدثني والفقهاء‪ :‬ففي تناوهلم لآلية ال خيّص ون البغي جبماعة‬
‫من الن اس‪ ،‬وإمنا ك ّل خ روج على س لطان الشريعة ه و بغي؛ فل ذلك ق د تقتت ل طائفت ان من الن اس‬
‫وحيّق وص ف البغي هلم ا مجيًع ا‪ ،‬وال خيّص واح دة دون األخ رى؛ ألن م وجب االقتت ال بينهم ا غ ري‬
‫معت رب ش رًعا‪ ،‬فيلزم ان مجيًع ا بالشرع‪ ،‬ق ال القرط يب رمحه اهلل‪“ :‬ق ال العلم اء‪ :‬ال ختل و الفئت ان من‬
‫املسلمني يف اقتتاهلما‪ ،‬إما أن يقتتال على سبيل البغي منهما مجيعا أو ال‪ .‬فإن كان األول فالواجب‬
‫يف ذل ك أن ميَش ى بينهم ا مبا يص لح ذات ال بني وُيثم ر املكاّف ة واملوادع ة‪ .‬ف إن مل تتح اجزا ومل‬
‫تصطلحا وأقامتا على البغي ِص ري إىل مقاتلتهما‪ .‬وأما إن كان الثاين ‪-‬وهو أن تكون إحدامها باغية‬
‫على األخ رى‪ -‬ف الواجب أن تقاَت ل فئ ة البغي إىل أن تك َّف وتت وب‪ ،‬ف إن فعلت أص لح بينه ا وبني‬
‫املبغي عليه ا بالقس ط والع دل‪ .‬ف إن التَح م القت ال بينهم ا لشبهة دخلت عليهم ا وكلتامها عن د‬
‫أنفسهما حمّق ة‪ ،‬فالواجب إزالة الشبهة باحلجة النرية والرباهني القاطعة على مراِش د احلّق ‪ .‬فإن ركبتا‬
‫منت اللجاج ومل تعمال على شاكلة ما هديتا إليه وُنصحتا به من اتباع احلّق بعد وضوحه هلما فقد‬
‫حلقتا بالفئتني الباغيتني”([‪.)]5‬‬

‫اإلطالق الث الث‪ :‬الفئ ة املتأِّو ل ة اخلارج ة عن طاع ة اإلم ام‪ ،‬ويشرتط ألن تك ون باغي ًة أن تك ون‬
‫مجاعة‪ ،‬وأن تكون متأِّو لة تأويال سائغا‪ ،‬قال املت ويِّل ‪“ :‬وإمنا اعُترِب ت ه ذه الصفة؛ ألن َمْن خالف‬
‫من َغرْي تأويل كان معانًد ا‪ ،‬وَمْن متّس ك بالتأويل َيْطُلب احلق على اعتقاده فال يكون معان ًد ا‪ ،‬فيثبت‬
‫له نوع حرم ٍة بُس ُقوط الضمان وغريه‪ ،‬وَم َّث َل التأوي َل احلامل على خمالفة اِإل مام واُخلُر وج عليه مبا‬
‫ِض‬ ‫ِض‬
‫وقع للذين َخ َر جوا َعَلى علّي َر َي اهلل َعْن ُه حيث اعتقدوا َأَّنه َيْع ِر ف قتَل َة عْثَم ان َر َي اُهلل َعْن ُه‬
‫ويقدر علْيِه م‪ ،‬وال يقتُّص منهم لرضاه بقتله‪ ،‬ومواطأته إياهم‪ ،‬ومثل غريه التأويل احلامل على منع‬
‫ِض‬ ‫ِنِع‬
‫احلق مبا وقع لبعض ما ي الَّز َك اة من أيب بْك ٍر َر َي اُهلل َعْنُه حيث قالوا‪ :‬أمرنا ب َد ْفع الزكاة إىل َمْن‬
‫صَالُتُه َس َك ٌن لنا”([‪.)]6‬‬

‫وق ال املالكي ة‪“ :‬وأم ا أه ل العص بية وأه ل اخلالف لس لطاهنم بغي ا بال تأوي ل فيؤخ ذون بالقص اص‬
‫ورد املال قائما كان أو فائتا”([‪.)]7‬‬

‫وأن تكون يف منعة‪ ،‬فيحتاج يف كفهم إىل اجليش‪ ،‬فالواحد واالثنان ال يعَّدان من البغاة؛ ألن املنعة‬
‫منتِف ي ة يف حّق هم ا‪ ،‬ويف حال ة انتفت املنع ة والق وة ص اروا كقط اع الطري ق‪ .‬واش رتاط املنع ة والق وة‬
‫متفق عليه بني الفقهاء([‪.)]8‬‬

‫فحاصل شروط وصفهم بالبغي‪ :‬أن تتوفر فيهم ثالثة شروط‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن يكونوا يف منعة‪ ،‬بأن يكون هلم شوكة بقوة وعدد وُمبطاع فيهم‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬أن خيرجوا عن قبضة اإلمام العادل إما برتك االنقياد له أو مبنع حق توجه عليهم‪ ،‬سواء كان‬
‫احلق ماليا أو غَريه كحد وقصاص‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يكون هلم تأويل سائغ([‪.)]9‬‬

‫ويف التقييد باإلمام العادل دليل على أن غريه ليس كذلك‪ ،‬وهذا ما ينفي هتمة االحنياز‪ ،‬بل الفقهاء‬
‫مصِّر حون بأّن غَري العادل ال يسَّم ى اخلارجون عليه بغاًة‪ ،‬وإذا استعانوا بأهل الذَّم ة ال ينتِق ض عه ُد‬
‫أه ل الذم ة‪ ،‬ق ال املواق من املالكي ة‪“ :‬وإن ك ان الس لطاُن غ َري ع ادل واس تعانوا بأه ل الذم ة فليس‬
‫ذل ك نقًض ا لعهد أه ل الذمة”([‪ .)]10‬وسوف نتن اول قض ية حترمي اخلروج وأن مبناه ا ليس هو‬
‫مبىن حكم البغاة‪.‬‬

‫ويف تقييد البغاة بالطائفة املمتنعة واملتأّو لة ما خيرج نوعني من أنواع املعارضة للحاكم‪:‬‬

‫الن وع األول‪ :‬معارض ُة قوله الباط ل بالقول ورُّده واالمتناع عنه سواء ِم ن ف رد أو مجاعة‪ ،‬فهذا ال‬
‫يعُّد بغًيا‪.‬‬

‫والنوع الثاين‪ :‬معارضُته مع عدم قتاِله‪ ،‬وذلك بالتزام الّص مت وترك التعّر ض أو املعاونة‪ ،‬فهذه أمور‬
‫ال يتناوهلا الفقه يف أحكام البغاة‪ ،‬بل هي داخلة يف الّنصح وعَد م الطاعة يف املعصية اجملَم ع عليه عند‬
‫الفقهاء‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الفرق بين البغاة والخوارج‪:‬‬

‫ال دارس لكتب الفق ه ِجي د أن الفقه اَء يف اس تخدامهم للف ظ البغاة ال حيص رونه يف اخلوارج‪ ،‬فالبغاة‬
‫أعّم من اخلوارج؛ ألّن اخلوارج قد يستحّلون من املسلمني ما ال يستحّله سائر البغاة‪ ،‬وإن كانت‬
‫أحكام البغاة قد تنطبق على اخلوارج‪ ،‬ومن الفروق بينهم‪:‬‬

‫أّن اخلوارج يكّف رون مرتكَب الكبرية‪ ،‬وليس بالضرورة أن يكون البغاة كذلك‪.‬‬

‫أّن اخلوارج يستحّلون دماء املسلمني وسبَيهم‪ ،‬وليس بالضرورة البغاة كذلك‪.‬‬

‫اخلوارج حّث النيب صلى اهلل عليه وسلم على قتلهم وقتاهلم خبالف البغاة‪.‬‬
‫أّن اخلوارج ترتبط عقيدهتم باخلروج على اإلمام وعلى مجاعة املسلمني‪ ،‬بينما البغاة قد ال يكون‬
‫خ روجهم على اإلم ام وامتن اعهم عن طاعت ه إرادًة منهم لعزل ه أو اعرتاًض ا على إمامت ه‪ ،‬ب ل ق د‬
‫ميتنعون عن طاعِته ألسباب أخرى ومطالب ختّص هم([‪.)]11‬‬

‫وه ذا التفري ق من الفقه اء ي دّل على أن مص طلح اخلوارج املس تخَد م من أج ل التلطيخ عن د بعض‬
‫املعاصرين مل يكن مراًدا عند الفقهاء يف هذا الباب؛ ألنه مصطلح عقدّي ‪ ،‬ويراد من خالله تبيني‬
‫خمالفة أهل السنة يف االعتقاد‪ ،‬وليس بالضرورة أن يكون الباغي خمالًف ا ألهل السّنة يف االعتقاد‪ ،‬فال‬
‫ينسب إىل بدَعة مل يفعلها‪ ،‬وإمنا ينسب إىل ما يتبنّي به حكم الشرع فيه‪ ،‬وقد مّر معنا إطالق البغاة‬
‫على من خالف علًّيا رضي اهلل عنه بتأويل سائغ‪ ،‬ومل ينكر إمامته وإمنا امتنع عن طاعته لطلب ح ّق‬
‫يراه متعّينا‪ ،‬وليس خارجيا‪.‬‬

‫تفريق الفقهاء بين البغاة والمحاربين والمشركين‪:‬‬

‫خلص اإلمام القرايف املالكي رمحه اهلل الفروق بينهم‪ ،‬وما نقله القرايف عن ابن بشري رمحهما اهلل نّص‬
‫عليه أهل املذاهب األخرى‪ ،‬وقد اكتفينا بنقل القرايف لالختصار واجلمع قال‪“ :‬قال ابن بشري ميتاز‬
‫قتال البغاة على قتال املشركني بأحد عشر وجًه ا‪ :‬أن يقصد بالقتال ردعهم القهرّي ‪ ،‬ويك ّف عن‬
‫م دِبرهم‪ ،‬وال جيه ز على ج رحيهم‪ ،‬وال يقت ل أس راهم‪ ،‬وال تغنم أم واهلم‪ ،‬وال تس ىب ذراريهم‪ ،‬وال‬
‫يس تعان عليهم مبشرك‪ ،‬وال ي وادعهم على م ال‪ ،‬وال تنص ب عليهم الرع ادات‪ ،‬وال حترق عليهم‬
‫املس اكن‪ ،‬وال يقط ع ش جرهم‪ ،‬وقت ال احملاربني قت ال البغاة إال يف مخس‪ :‬يق اتلون م دبرين‪ ،‬وجيوز‬
‫تعم د قتلهم‪ ،‬ويط البون مبا اس تهلكوا من دم وم ال يف احلرب وغريه ا‪ ،‬وجيوز حبس أس راهم‬
‫الس ترباء ح اهلم‪ ،‬وم ا أخ ذوه من اخلراج والزك وات ال تس قط عمن ك ان علي ه كالغاص ب”([‬
‫‪.)]12‬‬

‫المبحث الث‪--‬الث‪ :‬ش‪--‬روط قت‪--‬ال الفئ‪--‬ة الباغي‪--‬ة بين الحف‪--‬اظ على هيبة الدول‪--‬ة والتح‪--‬رز من دم‪--‬اء‬
‫المسلمين‪:‬‬

‫ال يشّك عاقل أن الّنظم اجلاّد ة ال تسمح باخلروج عليها وال وبنقضها وال مبمارسات داخل حدود‬
‫سلطتها قد تتناقض مع ِقَيمها‪ ،‬ودليل ذلك أن دعاَة النُظم الدميقراطية بعد استقرار النظام بأغلبية‬
‫مرحيٍة لن يسمحوا حلركات متُّر دية حىت ولو رفعت شعار الشريعة أن تعارضه من وجهة نظرها‪،‬‬
‫وتّتخذ الوسائل ملعارضتها له بناء على وجهة نظرها دون أي اعتبار ملا هو متاح هلا قانونيا أم ال‪،‬‬
‫وهم يف ذلك ال يرون أنفَس هم سدنة للنظام وال متحّيزين له على حساب احلرية؛ ألن احلرية مقيدة‬
‫بالقانون وباملبادئ الدستورية‪ ،‬وقد ال ميانعون يف استخدام النظام ألي وسيلة ردع ضد اخلارجني‬
‫عليه مبا يف ذلك القتل؛ ألن يف السماح للمعارضة باستخدام وسائل غري مشروعة وتتناىف مع النظام‬
‫تضييًعا للنظام وتسويغا للفوض ى‪ ،‬والنظام اإلس المّي كأّي نظام جاّد ال ميكن أن يؤّي د على قي ام‬
‫الدول ة ويطلب نص ب اإلم ام من أج ل انتظام أم ر الن اس مث ال حيوي إج راءات ردعّي ة لتف ادي أّي‬
‫خروج عليه بغري حّق ‪ ،‬ومن ّمث شرع قتال الفئة الباغية ‪-‬وهي املمتنعة‪ -‬حىت ترجع إىل احلق مبا فيه‬
‫طاع ة اإلم ام يف املع روف‪ ،‬ومن مث ف إن ه ذه الطائف ة إن ُو ج دت وامتنعت عن طاع ة اإلم ام بع د‬
‫استقرار احلّق له يف اإلمامة بأحد وسائل االنعقاد فإّن االمتناع عن أداء حّق ه يف الطاعة انطالًقا من‬
‫عدم أحّق يته باإلمامة أو عدم االلتزام بقوانني الدولة‪ ،‬فإن القانون والطاعة ال ميكن أن يعَّلقا‪ ،‬فال ب ّد‬
‫من س يٍف ي أطر على احلّق وحج ٍة تبّين ه‪ ،‬واللج وء إىل القت ال مل يُك ن حمَّل إش ادة من الفقه اء م ا مل‬
‫ُتسَتنفذ الشروط املوِج بة له‪ ،‬وتقريرها من طرِف الفقهاء يدّل على أهنا راعت جانبني‪:‬‬

‫اجلانب األول‪ :‬هو حرمة دماء املسلمني‪.‬‬

‫واجلانب الثاين‪ :‬احلفاظ على الدولة وعلى انتظام أمر الناس‪.‬‬

‫وألّن قتال البغاة ال بّد أن يكون بأمر شرعي؛ فإنه ال بّد من توفر الشروط املعَترَب ة شرعا فيه وانتفاء‬
‫املوانع‪ ،‬وهذه الشروط هي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أن يكون اإلمام عادال‪ ،‬ودليل ذلك عدم خروج الفقهاء والعلماء والسلف مع احلجاج‪ ،‬فال‬
‫ُيعان األمري الظامل على القتال‪ ،‬قال مالك رمحه اهلل‪“ :‬إن كان مثَل عمر بن عبد العزيز وجب على‬
‫الناس الذُّب عنه‪ ،‬وأما غريه فال”([‪.)]13‬‬

‫ثاني‪--‬ا‪ :‬تس ليم أه ل الع دل وذوي ال رأي عدال ة اإلم ام‪ ،‬ف إذا مل يس ّلموا ل ه باإلمام ة والعدال ة مل تكن‬
‫الفئة املمتِنعة عن طاعته باغي ًة‪ ،‬قال الدردير‪“ :‬فشرط اإلمام‪ :‬تسليُم العدول ذوي الرأي؛ فال يرد‬
‫قتال اإلمام احلسِني يزيَد بن معاوية؛ ألّن يزيد مل يسِّلم أهل احلجاز إمامته لظلمه”([‪ .)]14‬وقبله‬
‫بدر الدين العيين‪ ،‬فاشرتط عدالة اإلمام([‪ )]15‬وهو مفهوم من اشرتاط العدالة يف الطائفة حىت‬
‫يصّح تسمية الثانية بالباغية عند الفقهاء‪.‬‬

‫الثالث‪--‬ة‪ :‬أن يس تتّب األم ر لإلم ام ويعلم أن ه ميكن ه ردعهم بالقت ال‪ ،‬وإال فال قت ال‪ ،‬ق ال فخ ر ال دين‬
‫الزيلعي احلنفي‪“ :‬واملروّي عن أيب حنيفة من لزوم البيت حممول على عَد م اإلمام‪ ،‬وأّم ا إعانة اإلمام‬
‫من الواجب ات عن د الق درة‪ ،‬وم ا روي عن ابن عم ر م ع مجاع ة من الص حابة من القع ود عن الفتن ة‬
‫حممول على أهنم كانوا عاجزين”([‪.)]16‬‬

‫رابع‪-- -‬ا‪ :‬أن يك ون البغاة خبروجهم مغالبني للس لطة وأن يك ون اخلروج مص حوًبا باملغالب ة أي‪:‬‬
‫باستعمال القوة‪ ،‬فإذا كان غ َري مصحوب بالقوة فليس خروًج ا كأن ميتنعوا عن بيعة اإلمام دون‬
‫قتاله كما وقع لسعد بن عبادة يف رفضه بيعة أيب بكر رضي اهلل عنه ورجوعه عن ذلك من دون‬
‫قتال؛ ألنه مل حيمل سيفا ومل ميتنع من أداء واجب‪ ،‬قال ابن تيمية رمحه اهلل‪“ :‬وإمنا نازع سعد بن‬
‫عبادة واحلباب بن املنذر وطائفة قليلة‪ ،‬مث رجع هؤالء وبايعوا الصديق‪ ،‬ومل يعرف أنه ختّل ف منهم‬
‫إال سعد بن عبادة‪ .‬وسعد وإن كان رجال صاحلا‪ ،‬فليس هو معصوًم ا‪ ،‬بل له ذنوب يغفرها اهلل‪،‬‬
‫وق د ع رف املس لمون بعَض ها‪ ،‬وه و من أه ل اجلن ة الس ابقني األولني من األنص ار‪ ،‬رض ي اهلل عنهم‬
‫وأرضاهم”([‪. )]17‬‬

‫وهك ذا فع ل علي رض ي اهلل عن ه م ع اخلوارج؛ فإن ه مل يق اتلهم يف البداي ة‪ ،‬ب ل بني أن ذل ك من‬
‫حق وقهم فق ال‪“ :‬لكم علين ا ثالث‪ :‬ال مننعكم مس اجد اهلل أن ت ذكروا فيه ا اس م اهلل‪ ،‬وال مننعكم‬
‫الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا‪ ،‬وال نبدؤكم بقتال”‪ ،‬ويف رواية‪“ :‬ال نقاتلكم حىت تقاتلوا”([‬
‫‪.)]18‬‬

‫ويعترب اخلروج بغًيا عند مالك والشافعي وأمحد وأهل الظاهر بشرط استعمال القوة فعاًل ‪ ،‬أما قبل‬
‫استعماهلا فال يعترب اخلروج بغًي ا‪ ،‬وال يعتربون بغاًة‪ ،‬ويعاملون كما يعامل العاِدلون ولو حتّي زوا يف‬
‫مكان وجتّم عوا‪ ،‬وأبو حنيفة يشرتط العزَم على القتال‪ ،‬وهو مصَّر ح به عند بعض احلنابلة([‪.)]19‬‬

‫هذا مع وجوب دعوهتم للّص لح أوال‪ ،‬وعدم مباغتتهم بالقتال‪ ،‬وعدم القصد إلفنائهم‪ ،‬وال جتوز‬
‫االس تعانة عليهم بك افر حمارب‪ ،‬وإج راء أحك ام املس لمني عليهم من إرث وص الة ونف اذ بي ع‬
‫ونك اح‪ ،‬وع دم س يب النس اء والص بيان‪ ،‬وغ ري ذل ك مما ه و معل وم يف كتب الفق ه‪ ،‬فليس ت ك ّل‬
‫معارضة للحاكم بغًيا يف العرف الفقهّي ‪ ،‬بل البغي هو تكييف ألحِدها‪ ،‬وبعضها يكون مباًح ا كما‬
‫قد يكون ِح رابة حسَب املقصد وطبيعة اخلروج عن القانون‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬تحريم الخروج على الحاكم ومنزع الفقهاء فيه‪:‬‬

‫هذه مسألة منفردة عن البغاة وأحكامهم‪ ،‬ويدرُس ها الفقهاء من زاوية خمتلفة متاًم ا عن زاوية أحكام‬
‫البغاة‪ ،‬وهي قضّية اخلروج على احلاكم‪ ،‬فأغلب فقهاء السلف ومن تبعهم من أهل احلديث والفقه‬
‫ال حيّبذون اخلروج على احلاكم بالسيف ولو جار وظلَم ظلما ال يصل معه إىل الكفر‪ ،‬ومبىن هذه‬
‫املسألة عندهم ليس هو االحنياز للحاكم أو حّب ه‪ ،‬بل ينظرون يف املسألة نظرا شرعًّيا يراعي عدة‬
‫أمور منها‪ :‬األدلة الشرعية ومقاصد الشريعة‪ ،‬ووحدة األمة وعدم تفريق كلمتها‪ ،‬واملصلحة والنظر‬
‫فيها نظرا شرعًّيا بعيدا عن العاطفة واألهواء‪ ،‬واخلوف من الفتنة‪.‬‬

‫وإغفال هذه اجلوانب عند الفقهاء مع ظهورها والتنصيص عليها والتصريح هبا واستدعاء عنصر‬
‫خارجّي ‪-‬وهو االحنياز للحاكم احني ازا مطلقا‪ -‬ال يعدو أن يكون حتليال سياس ًّيا ملواقف ش رعية‬
‫وتعامال مع النظر الفقهي بآليات أجنبية عنه‪ ،‬ودونك ‪-‬أيها املبارك‪ -‬األدلة الدالة على ما قلناه‪:‬‬

‫األدلة الشرعية على حرمة الخروج على الحاكم ما لم يغلب شُّر ه خيَر ه‪:‬‬

‫فقد وردت نصوص شرعية حترم اخلروج على احلاكم ونزع اليد من الطاعة‪ ،‬وهي تزيد على املائة‪،‬‬
‫ونقتصر على بعضها من باب التمثيل‪:‬‬

‫من ذلك قوله عليه الصالة والسالم‪« :‬ستكون أمراء فتعرفون وتنك‪--‬رون‪ ،‬فمن ع‪-‬رف ب‪-‬رئ‪ ،‬ومن‬
‫أنكر سلم‪ ،‬ولكن من رضي وتابع»‪ ،‬قالوا‪ :‬أفال نقاتلهم؟ قال‪« :‬ال؛ ما صلوا»([‪.)]20‬‬

‫وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬من كره من أميره شيئا فليصبر‪ ،‬فإنه من خ‪--‬رج من الس‪--‬لطان ش‪--‬برا‬
‫مات ميتة جاهلية»([‪.)]21‬‬

‫وقد سأل سلمة بن يزيد اجلعفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬يا نيب اهلل‪ ،‬أرأيت إن قامت‬
‫علينا أمراء يسألونا حَّقهم ومينعونا حّقنا‪ ،‬فما تأمرنا؟ فأعرض عنه‪ ،‬مث سأله فأعرض عنه‪ ،‬مث سأله‬
‫يف الثانية أو يف الثالثة فجذبه األشعث بن قيس وقال‪« :‬اسمعوا وأطيعوا‪ ،‬فإنم‪--‬ا عليهم م‪--‬ا حمل‪--‬وا‬
‫وعليكم ما حملتم»([‪.)]22‬‬

‫قال أبو عبد اهلل حممد بن علي بن احلسن القلعي الشافعي‪َ“ :‬فَه ِذِه اَأْلَح اِديث تدلك على أنه جيب‬
‫على املرء كراهة ما أحدثوا من بدعة‪ ،‬وترك موافقهم على خمالفة السنة‪ ،‬واالمتناع عن طاعتهم يف‬
‫املعصية‪ ،‬مع االنكفاء عن اخلروج عليهم‪ ،‬ومالزمة مجاعتهم يف الطاعة‪ ،‬وامتثال أوامرهم يف املباح‪،‬‬
‫واالنقياد ألحكامهم يف املعروف‪ ،‬فيستدمي بذلك سالمة دينه وصالح دنياه وحقن دمه وحفظ ماله‬
‫وحياته وعرضه”([‪.)]23‬‬

‫وق ال مجاهري أه ل الس نة من الفقه اء واحملدثني واملتكلمني‪ :‬ال ينع زل بالفس ق والظلم وتعطي ل‬
‫احلقوق‪ ،‬وال خيَل ع‪ ،‬وال جيوز اخلروج عليه بذلك‪ ،‬بل جيب وعظه وختويفه؛ لألحاديث الواردة يف‬
‫ذل ك‪ ،‬ق ال القاض ي‪ :‬وق د ادعى أب و بك ر بن جماه د اإلمجاع يف ه ذا‪ ،‬وق د رد علي ه بعض هم بقي ام‬
‫احلسن وابن الزبري وأهل املدينة على بين أمية‪ ،‬وبقيام مجاعة عظيمة من التابعني والصدر األول على‬
‫احلجاج‪ ،‬وتأول هذا القائل قوله‪“ :‬وأن ال ننازع األمر أهله” يف أئمة العدل‪ ،‬وحّج ة اجلمهور أن‬
‫قي امهم على احلج اج ليس جملّر د الفس ق‪ ،‬ب ل ملا غرّي من الشرع‪ ،‬وظ اهر من الكف ر‪ .‬ق ال القاض ي‪:‬‬
‫وقيل‪ :‬إن هذا اخلالف كان أوال‪ ،‬مث حصل اإلمجاع على منع اخلروج عليهم([‪.)]24‬‬

‫ق ال ابن بط ال‪“ :‬وإن ك ان اإلم ام غ ري ع دل ف الواجب عن د العلم اء من أه ل الس نة ت رك اخلروج‬


‫عليه‪ ،‬وأن يقيموا معه احلدود‪ :‬الصلوات‪ ،‬واحلج‪ ،‬واجلهاد‪ ،‬وتؤّدى إليه الزكوات‪ ،‬فمن قام عليه‬
‫من الناس متأّو ال مبذهب خالف فيه السنة أو جلور أو الختيار إمام غريه ّمسي فاسقا ظاملا غاصبا يف‬
‫خروجه؛ لتفريقه مجاعة املسلمني‪ ،‬وملا يكون يف ذلك من سفك الدماء‪ .‬فإن قاتلهم اإلمام اجلائر مل‬
‫يقاِتُلوا معه‪ ،‬ومل جيز أن يسفكوا دماءهم يف َنصره”([‪.)]25‬‬

‫ومثل هذه النصوص كثريٌة‪ ،‬ولعلك ترى فيها أال يقاَت ل مع احلاكم الظامل‪ ،‬ومع ذلك يص ّر حون‬
‫بعدم اخلروج عليه‪ ،‬ولو استقصيناها خلرجنا عن موضوع الورقة‪.‬‬

‫النظر في المصلحة‪:‬‬
‫كثري من الفقهاء ال يرى اخلروَج على احلاكم الظامل مراعاًة للمصاحل الشرعية‪ ،‬واليت منها وحدة‬
‫األمة واجتماع كلمتها وحفظ شوكتها‪ ،‬والقتال ُيضعفها‪ ،‬فبقاء احلاكم على بعض عالته أوىل من‬
‫الفتن ة بني الن اس واالقتت ال‪ ،‬ق ال الط ربي‪“ :‬والص واُب أن ال واجب على ك ل من رأى منك ًر ا أن‬
‫ينكره إذا مل خيف على نفسه عقوب ًة ال ِقَب ل له هبا؛ لورود األخبار عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالسمع والطاعة لألئمة‪ ،‬وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال ينبغي للمؤمن أن يذل نفس‪-‬ه»‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫وكيف يذل نفسه؟! قال‪« :‬يتع‪--‬رض من البالء م‪--‬ا ال يطي‪--‬ق»([‪ .)]27[(”)]26‬وهذا أبو عمر‬
‫ابن عبد الرب يقول معلقا على أحاديث الطاعة للحكام وتغيري منكرهم‪“ :‬هذا واضح يف أنه ال يلزم‬
‫التغيري إال من القوة والعزة واملنعة‪ ،‬وأنه ال يستحق العقوبة إال من هذه حاله‪ ،‬وأما من ضعف عن‬
‫ذلك فالفرض عليه التغيري بقلبه واإلنكار والكراهة”([‪.)]28‬‬

‫والغزايل رمحه اهلل يض ع النص ال على الّنص ال يف املس ألة فيق ول‪“ :‬ل و تع ّذ ر وج ود ال ورع والعلم‬
‫فيمن يتصّد ى لإلمامة وكان يف صرفه إثارُة فتنة ال ُتطاق حكمنا بانعقاد إمامته؛ ألنا بني أن حنرَك‬
‫فتنة باالستبدال‪ ،‬فما يلقى املسلمون فيه من الضرر يزيد على ما يفوهتم من نقصان هذه الشروط‬
‫اليت أثبتت ملزية املصلحة‪ ،‬فال يهدم أصل املصلحة شغًف ا مبزاياها كالذي يبين قص ًر ا ويهدم مص ًر ا‪،‬‬
‫وبني أن حنكم خبل ّو البالد عن اإلمام وبفساد األقضية وذلك حمال‪ ،‬وحنن نقضي بنفوذ قضاء أهل‬
‫البغي يف بالدهم ملسيس حاجتهم‪ ،‬فكيف ال نقضي بصحة اإلمامة عند احلاجة؟!”([‪.)]29‬‬

‫وقال شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪“ :‬وق ّل من خرج على إمام ذي سلطان إال كان ما توَّل د على فعله‬
‫من الشر أعظم مما توّلد من اخلري‪ ،‬كالذين خرجوا على يزيد باملدينة‪ ،‬وكابن األشعث الذي خرج‬
‫على عب د املل ك ب العراق‪ ،‬وك ابن املهلب ال ذي خ رج على ابن ه خبراس ان‪ ،‬وك أيب مس لم ص احب‬
‫الدعوة الذي خرج عليهم خبراسان أيضا‪ ،‬وكالذين خرجوا على املنصور باملدينة والبصرة‪ ،‬وأمثال‬
‫هؤالء‪ ،‬وغاية هؤالء إما أن يغِلبوا وإما أن يغَلبوا‪ ،‬مث يزول ملكهم فال يكون هلم عاقبة”([‪.)]30‬‬

‫وفَّص ل املس ألة تفص يال يف مع رض رِّده على قض ية ت رك علي واحلس ني للقت ال فق ال‪“ :‬وإذا ق ال‬
‫القائل‪ :‬إن عليا واحلسني إمنا تركا القتال يف آخر األمر للَعجز؛ ألنه مل يكن هلما أنصار‪ ،‬فكان يف‬
‫املقاتل ة قت ل النف وس بال حص ول املص لحة املطلوب ة‪ .‬قي ل ل ه‪ :‬وه ذا بعين ه ه و احلكم ة ال يت راعاه ا‬
‫الشارع صلى اهلل عليه وسلم يف النهي عن اخلروج على األمراء‪ ،‬وندب إىل ترك القتال يف الفتنة‪،‬‬
‫وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬كالذين خرجوا‬
‫باحلرة وبدير اجلماجم على يزيد واحلجاج وغريمها‪ .‬لكن إذا مل يُز ل املنكر إال مبا هو أنكر منه صار‬
‫إزالت ه على ه ذا الوجه منك ًر ا‪ ،‬وإذا مل حيص ل املع روف إال مبنك ر مفسدته أعظم من مص لحة ذلك‬
‫املعروف كان حتصيل ذلك املعروف على هذا الوجه منكرا‪ .‬وهبذا الوجه صارت اخلوارج تستحّل‬
‫السيف على أهل القبلة‪ ،‬حىت قاتلت علّيا وغريه من املسلمني‪ .‬وكذلك من وافقهم يف اخلروج على‬
‫األئمة بالسيف يف اجلملة من املعتزلة والزيدية والفقهاء وغريهم‪ ،‬كالذين خرجوا مع حممد بن عبد‬
‫اهلل بن حسن بن حسني‪ ،‬وأخيه إبراهيم بن عبد اهلل بن حسن بن حسني وغري هؤالء”([‪.)]31‬‬

‫ونقل ابن التني عن الداودي قال‪“ :‬الذي عليه العلماء يف أمراء اجلور أنه إن قدر على خلعه بغري‬
‫فتنة وال ظلم وجب‪ ،‬وإال فالواجب الصرب”([‪.)]32‬‬

‫وألن اخلروج على احلاكم دافُع ه األم ر ب املعروف والنهي عن املنك ر فيل زم أن يك ون يف ذل ك على‬
‫وصف الشارع يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وتغري املنكر له أربع حاالت‪:‬‬

‫األوىل‪ :‬أن يزول وخيلفه ضّد ه‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن مل يزل جبملته‪.‬‬

‫الثالثة‪ :‬أن خيلفه ما هو مثله‪.‬‬

‫الرابعة‪ :‬أن خيلفه ما هو شّر منه‪.‬‬

‫وق د فّص ل اإلم ام ابن القيم رمحه اهلل حكمه ا تفص يال فق ال‪“ :‬فال درجتان األولي ان مشروعتان‪،‬‬
‫والثالثة موض ُع اجتهاد‪ ،‬والرابعة حمرمة؛ فإذا رأيَت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان‬
‫إنك ارك عليهم من ع دم الفق ه والبص رية‪ ،‬إال إذا نقلتهم من ه إىل م ا ه و أحّب إىل اهلل ورس وله”([‬
‫‪.)]33‬‬

‫فإذا تأّك د أن اخلروج ال يأيت خبري‪ ،‬وأنه يؤّدي إىل منكر أعظم منه؛ فإنه ُيَقَّو م عندهم على أنه ش ٌّق‬
‫لعص ا ملس لمني ومحل للس يف على األم ة وقت ال فتن ة‪ ،‬األوىل في ه ال رتك والتعب د هلل س بحانه وتع اىل‬
‫والنجاة من دماء الناس وأمواهلم‪.‬‬
‫وهم حني يق ّر رون ه ذا املع ىن ال خيتلف ون يف وج وب نص ح احلاكم إذا ج ار وظلم؛ وذل ك لألدل ة‬
‫ال واردة يف ذل ك‪ ،‬وإمنا ينك رون خروًج ا ال يتحَّق ق من ه املطل وب‪ ،‬وال ي دفع الشّر ‪ ،‬أم ا النص ُح‬
‫واإلنكاُر فال مينعونه‪ ،‬قال أبو عمر ابن عبد الرب رمحه اهلل‪“ :‬وأما مناصحة والة األمر فلم خيتلف‬
‫العلماء يف وجوهبا إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها”([‪.)]34‬‬

‫وقد قال عليه الصالة والسالم‪« :‬إن اهلل يرض‪--‬ى لكم ثالث‪--‬ا ويس‪--‬خط لكم ثالث‪--‬ا‪ :‬يرض‪--‬ى لكم أن‬
‫تعبدوه وال تش‪-- -‬ركوا ب‪-- -‬ه ش‪-- -‬يئا‪ ،‬وأن تعتص‪---‬موا بحبل اهلل جميع‪-- -‬ا‪ ،‬وأن تناص‪---‬حوا من واله اهلل‬
‫أمركم‪ ،‬ويسخط لكم قيل وقال‪ ،‬وإضاعة المال‪ ،‬وكثرة السؤال»([‪.)]35‬‬

‫ق ال الب اجي‪«“ :‬أن تناص ‪--‬حوا من واله اهلل أم ‪--‬ركم» وه و اإلم ام ونواب ه؛ مبع اونتهم على احلق‪،‬‬
‫وطاعته فيه‪ ،‬وأمرهم به‪ ،‬وتذكريهم برفق ولطف‪ ،‬وإعالمهم مبا غفلوا عنه من حقوق املسلمني‪،‬‬
‫وت رك اخلروج عليهم‪ ،‬وال دعاء عليهم‪ ،‬وبت أُّلف قلوب الن اس لط اعتهم‪ ،‬والص الة خلفهم‪ ،‬واجله اد‬
‫معهم‪ ،‬وأداء الصدقات هلم‪ ،‬وأن ال يطَر وا بالثناء الكاِذب‪ ،‬وأن يدَعى هلم بالصالح”([‪.)]36‬‬

‫وهذا أمر مضت به سنة العلماء‪ ،‬وجرت به أقالمهم يف القدمي واحلديث‪ ،‬وليس مما ميكن املزايدة‬
‫فيه‪.‬‬

‫وختاًم ا‪ ،‬ال بد من التنبيه إىل أن الفقهاء ينطلقون يف موقفهم من احلاكم ومن معارضته من نص وص‬
‫ش رعية‪ ،‬ومن نظرة إص الحية‪ ،‬تعتم د الفق ه وتس تبِعد العاطف ة‪ ،‬وت راعي مقاص د الشرع وم آالت‬
‫األم ور‪ ،‬وه ذا ال ذي ينبغي أن حياَك موا إلي ه‪ ،‬ال أن حياكموا إىل منهجي ة ثوري ة عاطفّي ة ختطب وَّد‬
‫اجلم اهري‪ ،‬وال ت راعي املقاص د‪ .‬وأك رب دلي ل على ذل ك أن م ا أمجع علي ه الفقه اء من أس باب ع زل‬
‫احلاكم ‪-‬وهو الكفر‪ -‬ليس موجًب ا للعزل عند هؤالء ما دام احلاكم يطّب ق الدميقراطي َة‪ ،‬وهذا دليل‬
‫على وجود مقّد سات للفكرة من خارج الوسط الشرعي‪ ،‬وأن ملنتقدي الفقهاء مشارُب ختّص هم‬
‫وخمتربات يعرضون عليها أقواهلم‪ ،‬ال يعنيها كث ٌري مما يراعيه الفقهاء يف نظرهم الفقهي ويف ُبعدهم‬
‫الشرعي‪.‬‬

‫واهلل املوفق‪ ،‬وهو اهلادي إىل سواء السبيل‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(المراجع)‬

‫([‪ )]1‬الصحاح للجوهري (‪.)2281 /6‬‬

‫([‪ )]2‬لسان العرب (‪.)78 /14‬‬

‫([‪ )]3‬تفسري ابن عطية (‪.)150 /6‬‬

‫([‪ )]4‬زاد املسري (‪.)148 /4‬‬

‫([‪ )]5‬تفسري القرطيب (‪.)317 /16‬‬

‫([‪ )]6‬العزيز شرح الوجيز املعروف بالشرح الكبري (‪.)78 /11‬‬

‫([‪ )]7‬التاج واإلكليل ملختصر خليل (‪.)370 /8‬‬

‫([‪ )]8‬ينظر‪ :‬بدائع الصنائع للكاساين (‪ ،)465 /9‬الشرح الكبري للدردير مع حاشية الدسوقي (‬
‫‪ ،)140 /4‬هناية احملتاج (‪ ،)402 /7‬املغين (‪ ،)64 /10‬الفروع (‪.)152 /6‬‬

‫([‪ )]9‬ينظر‪ :‬فتح القريب اجمليب يف شرح ألفاظ التقريب (ص‪.)290 :‬‬

‫([‪ )]10‬التاج واإلكليل (‪.)371 /8‬‬

‫([‪ )]11‬ينظر‪ :‬فتاوى ابن تيمية (‪ ،)58 /35‬وبدائع الصنائع (‪.)466 /9‬‬

‫([‪ )]12‬الذخرية (‪.)9 /12‬‬

‫([‪ )]13‬ينظر‪ :‬التاج واإلكليل شرح خمتصر خليل (‪.)368 /8‬‬

‫([‪ )]14‬الشرح الصغري (‪.)427 /4‬‬

‫([‪ )]15‬ينظر‪ :‬البناية شرح اهلداية (‪.)303 /7‬‬

‫([‪ )]16‬تبيني احلقائق شرح كنز الدقائق (‪.)295 /3‬‬


‫([‪ )]17‬جمموع الفتاوى (‪.)320 /1‬‬

‫([‪ )]18‬السنن الكربى للبيهقي (‪.)16763‬‬

‫([‪ )]19‬ينظر‪ :‬شرح الزرقاين على املوطأ (‪ ،)60 /8‬وهناية احملتاج (‪ ،)367 /7‬الشرح الكبري‬
‫على املقنع (‪.)66 /20‬‬

‫([‪ )]20‬أخرجه مسلم (‪.)1854‬‬

‫([‪ )]21‬أخرجه البخاري (‪.)6645‬‬

‫([‪ )]22‬أخرجه مسلم (‪.)1846‬‬

‫([‪ )]23‬هتذيب الرياسة وترتيب السياسة (ص‪.)118 :‬‬

‫([‪ )]24‬ينظر‪ :‬فتح املنعم شرح صحيح مسلم (‪.)477 /7‬‬

‫([‪ )]25‬شرح صحيح البخاري البن بطال (‪.)128 /5‬‬

‫([‪ )]26‬أخرجه الرتمذي (‪ )2254‬وقال‪“ :‬حسن غريب”‪.‬‬

‫([‪ )]27‬ينظر‪ :‬شرح البخاري البن بطال (‪.)51 /10‬‬

‫([‪ )]28‬االستذكار (‪.)586 /8‬‬

‫([‪ )]29‬إحياء علوم الدين (‪.)115 /1‬‬

‫([‪ )]30‬منهاج السنة النبوية (‪.)528-527 /4‬‬

‫([‪ )]31‬منهاج السنة (‪.)536 /4‬‬

‫([‪ )]32‬فتح الباري (‪.)13 /8‬‬

‫([‪ )]33‬إعالم املوقعني (‪.)3 /13‬‬


‫([‪ )]34‬االستذكار (‪.)579 /8‬‬

‫([‪ )]35‬أخرجه مالك (‪.)1796‬‬

‫([‪ )]36‬املنتقى (‪.)652 /4‬‬

You might also like