You are on page 1of 51

‫سلسلة المباحث األصولية‬

‫زبدة التحقيق‬
‫في التقليد و التلفيق‬

‫الدكتور ‪ :‬عمر محمد جبه جي‬


‫دكتوراه في أصول الفقه ومقاصد الشريعة‬

‫‪1‬‬
‫المقدمة ‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫الحمد هلل رب العالمين وأفضل الصالة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث‬
‫هادياً ومعلماً ورحم ًة وكاف ًة للناس أجمعين وبعد ‪:‬‬

‫جديد من سلسلة المباحث األصولية المقاصدية ‪ ،‬والتي نهدف من‬


‫بحث ٌ‬‫فهذا ٌ‬
‫خاللها إلى تأصيل المنهج األصولي المقاصد وتعيزي ونرر ‪ ،‬هذا النهج الذ‬
‫يمثل روح الررزعة الغراء ‪ ،‬فهو المنهج الوسط بين الغلو والتفرزط ‪.‬‬

‫وفي هذا البحث الذين بين أيدينا نتحدث عن موضوع مهم جداً وهو موضوع‬
‫كبير جداً في القديم والحديث بين‬
‫جدل ٌ‬‫التقليد والتلفيق ‪ ،‬وموضوع التقليد ثار حوله ٌ‬
‫مؤزد ومعارض ‪ ،‬وحال لبعضهم أن يقسم أهل السنة والجماعة إلى مذهبية و ال‬
‫مذهبية ‪ ،‬بل أبعد آخرون من هواة التفرزق بين المسلمين فذهب إلى أن أتباع‬
‫المذاهب من الفرق الضالة الخارجة عن أهل السنة والجماعة ‪.‬‬
‫في المقابل ظهر من ينافح عن تقليد المذاهب ويعتبر الخروج عنها من أخطر‬
‫البدع التي تهدد الررزعة اإلسالمية ‪.‬‬
‫وبعيداً عن الضوضاء التي أحدثها هؤالء أو هؤالء ارتأيت أن أضع القضية في‬
‫مييان علم األصول ‪ ،‬وأعتمد على آراء الفحول من األصوليين من كل المذاهب‬
‫المؤزدة لهذا الموضوع أو المحاربة له ‪ ،‬و أن أعرض آراء كل فرزق بموضوعية ‪،‬‬
‫ثم أقوم بالمقارنة والترجيح العلمي بعيداً عن التعصب ألحد ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫متأخر ‪ ،‬اختلف فيه‬
‫ٌ‬ ‫أما بالنسبة للتلفيق بين المذاهب اإلسالمية فهو موضوعٌ‬
‫المتأخرون بين مبيح وحاظر ‪ ،‬والصحيح أن التلفيق ٌ‬
‫جائي بضوابط سنذكرها في‬
‫هذا البحث ‪.‬‬
‫ومن الكتب المميية التي ناقرت الموضوع كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق‬
‫للعالمة محمد سعيد الباني رحمه هللا ‪ ،‬وقد استفدت منه كثي اًر في هذا البحث ‪،‬‬
‫كما استفدت من إعالم الموقعين البن القيم و القول المفيد في أدلة االجتهاد‬
‫والتقليد للروكاني وهما من خصوم التقليد ‪ ،‬وعلى الجانب اآلخر رجعت إلى‬
‫الكثير من كتب األصول األمهات كالمستصفى للغيالي واإلحكام لآلمد والبحر‬
‫المحيط لليركري وغيرها ‪ ،‬ومن الكتب الحديثة كتاب أصول الفقه اإلسالمي‬
‫للدكتور وهبة اليحيلي ‪ ،‬وأصول الفقه للعالمة أبو يهرة ‪ ،‬والمهذب من علم أصول‬

‫الفقه المقارن للدكتور عبد الكرزم النملة وغيرها ٌ‬


‫كثير ‪ ،‬وكلها فصلت القول في‬
‫التقليد وبينت المحمود منه والمذموم ووضعت الضوابط لكل نوع ‪.‬‬
‫إن المذاهب اإلسالمية هي مدارس فقهية لتفسير نصوص الررزعة واستنباط‬
‫األحكام منها ‪ ،‬فهي مناهج علمية في االستنباط والتعرف على األحكام ‪ ،‬فهي‬
‫ليست ررعاً جديداً ‪ ،‬وال ريئاً آخر غير اإلسالم ‪ ،‬فالررزعة اإلسالمية أكبر و‬
‫أوسع من أ مذهب ‪ ،‬و الررزعة اإلسالمية حجة على كل المذاهب ‪ ،‬وليس أ‬
‫مذهب حجة عليها فإذا ظهر أن المذهب أخطأ في مسألة معينة وأن الصواب في‬
‫مذهب آخر وجب التحول في هذ المسألة إلى المذهب الثاني ‪.‬‬
‫كما يجوي لمتبع مذهب معين أن يتبع غير في بعض المسائل إذ ال ريء يليمه‬
‫باتباع جميع اجتهادات المذهب ‪ ،‬على أن يكون ذلك عن دليل ‪.‬‬
‫علينا أال نضيق ذرعاً أبداً باختالف المذاهب ‪ ،‬ألن االختالف في الفهم واالستنباط‬
‫أمر بديهي ‪ ،‬بل نعتي بهذا االختالف العلمي الفقهي الذ خلف لنا ثروة فقهية‬
‫ٌ‬
‫ٌ‬

‫‪3‬‬
‫عظيمة ‪ ،‬ونعتبر من دالئل نمو الفقه وحياته ‪ ،‬و دليل على سعة أفق علمائنا‬
‫العظام ‪ ،‬وتفانيهم في خدمة الررزعة الغراء ‪.‬‬
‫كما أن على المقلد أن يطهر نفسه من التعصب الذميم للمذهب ‪ ،‬فليست المذاهب‬
‫تجيئ ًة لإلسالم ‪ ،‬وليست أدياناً ناسخ ًة له ‪ ،‬وانما هي وجو في تفسير الررزعة‬
‫وفهمها ‪ ،‬كما أن علينا احترام وتبجيل علماء المذاهب وتنيلهم منايلهم ونتأدب‬
‫معهم ‪ ،‬وندعو لهم ونعتقد أنهم مأجورون أخطؤوا أم أصابوا ‪.‬‬
‫هذا وقد قسمت البحث الذ بين أيدينا إلى مبحثين ‪:‬‬

‫في المبحث األول ‪ :‬تحدثت عن تعرزف التقليد واالتباع ‪ ،‬وعن تارزخ التقليد‬
‫ومتى ظهر ‪ ،‬و عن مجال التقليد ‪ ،‬ثم تحدثت عن مذاهب العلماء جواي التقليد‬
‫من عدمه ‪ ،‬كما تعرضت ألدلة خصوم التقليد ومؤزديه ‪ ،‬وخلصت إلى ترجيح‬
‫التفصيل في القضية ‪ ،‬ثم ذكرت أنواع التقليد ‪ ،‬و رروط المفتي المقَلد ‪.‬‬

‫وفي المبحث الثاني ‪ :‬تحدثت عن التلفيق تعرزفه وتارزخه ومجاله وأدلة المجويزن‬
‫له ‪ ،‬ثم عرجت لضوابط جواي التلفيق وضوابط األخذ بأيسر المذاهب ‪.‬‬

‫وفي الخاتمة ذكرت ملخصاً لما تم عرضه خالل هذا البحث ‪.‬‬

‫هذا وأسأل هللا تعالى أن يعينني ويسدد خطا في هذا البحث ‪ ،‬وأن يجنبي اليلل‬
‫في القول والعمل ‪ ،‬إنه ولي ذلك والقادر عليه ‪.‬‬

‫الدكتور ‪ :‬عمر محمد جبه جي‬

‫اإلمارات – العين‬

‫‪4‬‬
‫املبحث األول ‪ :‬تعريف التقليد واترخيه وجماله وحكمه وأنواعه‬
‫‪ ،‬ومذاهب العلماء فيه‪.‬‬
‫املطلب األول‪ :‬تعريف التقليد واالتباع ‪.‬‬
‫أو ًال ‪ :‬تعريف التقليد ‪.‬‬

‫للتقليد العديد من التعرزفات نذكر منها ما يلي ‪:‬‬

‫‪ -1‬التقليد‪ :‬هو أخذ قول الغير من غير معرفة دليله‪.1‬‬

‫‪ -2‬أو هو ‪ :‬قبول قول الغير دون حجته‪. 2‬‬

‫‪ -3‬أو هو قبول قول القائل من غير معرفة من أين قاله من كتاب أو سنة أو‬
‫قياس‪. 3‬‬
‫‪ -4‬قال أبو عبد هللا بن خواي منداد المالكي ‪ ( :‬التقليد معنا في الررع الرجوع‬
‫إلى قول ال حجة لقائله عليه ‪ ،‬وذلك ممنوعٌ منه في الررزعة ‪ ،‬واالتباع ‪ :‬ماثبت‬
‫عليه حجة) ‪.4‬‬

‫‪ -1‬ينظر ‪ :‬المستصفى من علم األصول ‪ :‬اإلمام الغزالي ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 462‬مؤسسة الرسالة ‪ ،‬ط‪1997 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪-2‬ينظر ‪ :‬إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول ‪ :‬محمد بن علي الشوكاني ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص‪،1082‬دار الفضيلة ‪،‬‬
‫‪2000‬م ‪.‬‬
‫‪-3‬البحر المحيط في أصول الفقه ‪ :‬بدر الدين الزركشي ‪ ،‬ج‪ ، 6‬ص ‪ ، 270‬وزارة األوقاف ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬ط‪1992 ، 2‬م‪.‬‬
‫‪-4‬ينظر ‪ :‬إعالم الموقعين عن رب العالمين ‪ :‬محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية‪ ،‬تحقيق مشهور آل سلمان ‪ ،‬ج‪، 3‬‬
‫ص ‪ ، 464‬دار ابن الجوزي ‪ ،‬ط‪1423 ، 1‬هـ ‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫وقال في موضع آخر ‪ ( :‬كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل‬
‫يوجب ذلك فأنت مقلد ‪ ،‬والتقليد في دين هللا غير صحيح ‪ ،‬وكل ما أوجب الدليل‬
‫عليك اتباع قوله فأنت متبعه ‪ ،‬واالتباع في دين هللا مسوغٌ ‪ ،‬والتقليد ممنوعٌ )‪. 5‬‬

‫و يقول اإلمام الغيالي رحمه هللا ‪ ( :‬وليس ذلك طرزقاً إلى العلم ال في األصول وال‬
‫في الفروع )‪. 6‬‬
‫مما سبق يمكننا أن نعرف التقليد كما يلي ‪ ( :‬التقليد هو أخذ قول القائل من‬
‫بناء على المصلحة‬
‫قياس أو ً‬
‫ٍ‬ ‫كتاب أو سن ٍة أو‬
‫غير معرفة من أين قاله من ٍ‬
‫المرسلة أو سداً للذريعة أو استصحاباً لألصل أو‪.....‬إلى غير ذلك من أدلة‬
‫األحكام ) ‪.‬‬

‫من التعرزف السابق نستنتج أن األمور التالية تخرج عن حقيقة التقليد وهي‪:7‬‬
‫عمل مبني على الحجة‪ ،‬وهي األدلة الدالة‬
‫‪ -1‬العمل بقول هللا تعالى؛ ألنه ٌ‬
‫ٌ‬
‫على وجوب اإليمان به وبمالئكته وكتبه ورسله‪.‬‬
‫‪ -2‬العمل بقول الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬؛ فإنه مبني على الحجة‬
‫ٌ‬
‫القاطعة‪ ،‬وهي أمر هللا باتباع رسوله والعمل بما جاء به‪.‬‬
‫قائم على الحجة‪ ،‬وهي داللة كتاب‬
‫عمل ٌ‬‫‪ -3‬العمل بقول أهل اإلجماع؛ فإنه ٌ‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وسنة رسوله ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬على وجوب العمل بقولهم‪.‬‬
‫‪ -4‬عمل القاضي برهادة الرهود والحكم بها؛ فإنه مبني على ما ورد في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬ودل عليه اإلجماع‪ ،‬من وجوب الحكم بها إذا وقعت مستوفية‬
‫ألركانها ورروطها‪.‬‬

‫‪-6‬ينظر ‪ :‬إعالم الموقعين ‪ :‬ج‪ ، 3‬ص ‪.464‬‬


‫‪-6‬المستصفى ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.462‬‬
‫‪-7‬ينظر ‪:‬إرشاد الفحول ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص‪ ، 1082‬و التقليد واإلفتاء واالستفتاء ‪ :‬عبد العزيز الراجحي ‪ ،‬ص ‪. 6‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -5‬عمل العامي بقول المفتي؛ فإنه مبني على حجة‪ ،‬وهي داللة اإلجماع‬
‫ٌ‬
‫على وجوب رجوع العامي إلى المفتي فيما يحتاج إليه والعمل بما يفتيه به‪.‬‬
‫‪ -6‬العمل برواية الراو ؛ ألن العمل بها مبني على حجة ‪ ،‬وهي األدلة الدالة‬
‫ٌ‬
‫على وجوب العمل بالرواية الصحيحة‪ ،‬كحديث‪ :‬بلغوا عني ولو آية وحديث‪ :‬ليبلغ‬
‫الغائب ‪.‬‬
‫َ‬ ‫الراهد‬
‫ُ‬
‫‪ -7‬العمل بقول الصحابي‪ ،‬إذا لم يخالفه غير ؛ ألن قوله حجة على الراجح ‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬تعريف االتباع ‪.‬‬

‫عرفنا قبل قليل أن التقليد هو قبول قول الغير من غير حجة ‪،‬‬

‫أما االتباع ‪ :‬فهو سلوك التابع طرزق المتبوع وأخذ الحكم من الدليل‬

‫بالطرزق التي أخذ بها متبوعه‪ ، 8‬فاالتباع‪ :‬هو أن تأخذ أو تعمل بقول أو عمل‬

‫أوجبه الدليل عليك‪ ،‬وذلك كأن تأخذ بما جاء في القرآن الكرزم‪ ،‬أو عن النبي‬

‫صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وكأن يأخذ القاضي بقول الرهود العدول؛ فإن الدليل‬

‫أوجب العمل واألخذ بذلك ‪ ،‬فالتقليد واالتباع يتفقان في أن كل منهما أخذ وعمل‬

‫‪-8‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬د وهبة الزحيلي ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1121‬دار الفكر ‪ ،‬ط‪1986 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫وعمل بغير حجة و دليل‪ ،‬واالتباع أخذ‬
‫ٌ‬ ‫بقول الغير‪ ،‬ويفترقان في أن التقليد أخ ٌذ‬

‫وعمل بالحجة والدليل (‪.)9‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬اتريخ التقليد ‪.‬‬


‫في منتصف القرن الرابع الهجر َّ‬
‫دب الضعف في الدولة اإلسالمية‪ ،‬فتفككت‬
‫األندلس‪ ،‬و العبيديون رمال‬
‫َ‬ ‫عراها‪ ،‬حتى اقتطع األموزون من الدولة العباسية‬
‫أفرزقيا‪ ،‬واقتطع اإلخريديون مصر واستقلوا بها‪ ،‬وضعفت العراق التي بها بغداد‬
‫عاصمة الدولة العباسية‪ ،‬حتى جاء التتار بغاراتهم الهوجاء فقضوا عليها‪.‬‬
‫وتبع هذا االنحالل السياسي جمود الفقهاء على ما تركه أسالفهم من ثروة‬
‫مدونة متداولة‪ ،‬فكان ُج ّل همهم البحث عن علل‬
‫فقهية هائلة‪ ،‬والتي أصبحت ّ‬
‫األحكام التي قررها أئمتهم‪ ،‬وانحصرت بحوثهم في الدائرة المذهبية‪ ،‬وترجيح بعض‬
‫األحكام على بعض واالستدالل ألقوال أئمتهم‪ ،‬واالنتصار لها‪ ،‬ومحاولة إبطال‬
‫أر مخالفهم‪ ،‬مما كان لهذا العمل أثر السيئ فيما بعد من وجود التعصب دون‬
‫نظر في الدليل ‪ ،‬وقد امتد هذا العصر حتى أواخر القرن الماضي‪ ،‬ورخصيات‬
‫فقهاء هذا العصر قد ذابت في رخصيات أئمتهم في الجملة‪ ،‬وان كان قد وجد‬
‫فيهم فقهاء ال يقلون عن سابقيهم في حسن االستنباط‪ ،‬وعمق الفكرة‪ ،‬وجمع اآلثار‪،‬‬
‫والترجيح بين الروايات‪ ،‬واستنباط علل األحكام‪ ،‬واإلفتاء في مسائل جديدة لم يسبق‬
‫ألئمتهم النظر فيها (‪.)10‬‬

‫‪ - 9‬ينظر ‪:‬إعالم الموقعين ‪ :‬ج‪ ، 3‬ص ‪ ،464‬و القول المفيد في أدلة االجتهاد و التقليد ‪ :‬محمد بن علي الشوكاني‪،‬‬
‫تحقيق محمد سعيد البدري ‪ ،‬ص ‪ ،33‬دار الكتاب اللبناني ‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 1991 ، 1‬م ‪ ،‬والتقليد واإلفتاء واالستفتاء ‪:‬‬
‫ص ‪.12‬‬
‫‪ - 10‬ينظر‪ :‬مدخل لدراسة الفقه اإلسالمي للدكتور محمد سالم مدكور ص ‪ ، 56‬والتقليد واإلفتاء واالستفتاء ‪ :‬ص‬
‫‪.75‬‬
‫‪8‬‬
‫قال اإلمام الشوكاني رحمه هللا ‪ :‬إن التقليد لم يحدث إال بعد انقراض خير القرون‬
‫ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ‪،‬وان حدوث التمذهب بمذاهب األئمة األربعة إنما‬
‫كان بعد انقراض عصر األئمة األربعة إذ أنهم كانوا على نمط من تقدمهم من‬
‫السلف في هجر التقليد وعدم االعتداد به ‪ ،‬وان هذ المذاهب إنما أحدثها عوام‬
‫المقلدة ألنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من األئمة المجتهدين‪.11‬‬
‫على أنه لم يكن ترك االجتهاد من الفقهاء في هذا العصر والركون إلى التقليد‬
‫طفرة واحدة‪ ،‬بل كان على سبيل التدرزج ‪ ،‬فقد اتجه الفقهاء في الفترة األولى من‬
‫هذا العصر إلى التقليد؛ لقربهم من العهد األول‪ ،‬الذ ايدهر فيه الفقه اإلسالمي‪،‬‬
‫واتصالهم به ولم تَ ِج َّد لهم حوادث‪ ،‬ولم تتغير العادات ‪-‬في الغالب‪ -‬عما هي عليه‬
‫في العصر السابق‪ ،‬ومما رجع على الوقوف من العلماء عند هذ المذاهب‬
‫المعروفة تعيين القضاة والمفتين من قبل الدولة في المذهب الحنفي في الررق‪،‬‬
‫والمذهب المالكي في األندلس وبالد المغرب‪ ،‬كما أن العلماء أصدروا فتواهم بسد‬
‫باب االجتهاد؛ ليضعوا حدا لفوضى اإلفتاء‪ ،‬إثر فقدان الدولة سيطرتها‪ ،‬حتى على‬
‫الرؤون الدينية؛ لمنع الدخالء على اإلفتاء الذين َّ‬
‫تصد ْوا له ‪ ،‬وفي الفترة الثانية‬
‫من هذا العصر‪ ،‬من وقت سقوط بغداد بأيد التتار‪ُ ،‬س ِّمي الفقهاء بالمتأخرزن‪،‬‬
‫َ‬
‫وانتقلت حركة الثقافة ومراكي العلم من بغداد وبخارى ونيسابور إلى أماكن نـيح‬
‫إليها كثير من العلماء بسبب اضطهاد المغول لهم‪ ،‬كمصر والرام والهند وغيرها‪،‬‬
‫واهتم الفقهاء في هذا العصر بتمييي األقوال الضعيفة من القوية في المذهب‪،‬‬
‫حد األلغاي‪ ،‬ثم َّ‬
‫علقوا على ررحها‪ ،‬ثم‬ ‫وتصنيف المختصرات التي وصلوا فيها إلى ّ‬
‫أيضا إلى جمع الفتاوى وتبوزبها‬
‫ررح الرروح التي وضعت عليها‪ ،‬كما اتجهوا ً‬
‫وترتيبها حسب أبواب الفقه ‪ ،‬وركون الفقهاء إلى التقليد في هذا العصر‪ُ ،‬‬
‫وعيوفهم‬

‫‪ -11‬ينظر ‪ :‬القول المفيد في أدلة االجتهاد والتقليد ‪ :‬الشوكاني ‪ ،‬ص ‪.38‬‬


‫‪9‬‬
‫فريئا‪ ،‬كما أنه أثر‬
‫ريئا ً‬
‫عن االجتهاد المطلق‪ ،‬جعل الفقيه يبعد عن واقع الحياة ً‬
‫على الناس مما أوجد مجاال للتالعب وتسخير القواعد والنظم الررعية لألهواء(‪.)12‬‬
‫تخ ُل هذ القرون في هذ الدور التقليد من فقهاء متحررزن‪ ،‬حاربوا‬‫ومع هذا لم ْ‬
‫التقليد‪ ،‬ونادوا بالرجوع إلى الكتاب والسنة‪ ،‬من أبريهم‪:‬اإلمام الميني صاحب‬
‫الرافعي ‪ ،‬واإلمام القرافي المالكي ‪ ،‬والعالمة ابن عبد البر المالكي ‪ ،‬واإلمام أبو‬
‫يزد الدبوسي الحنفي ‪ ،‬و اإلمام ابن حيم األندلسي الظاهر ‪ ،‬و ريخ اإلسالم‬
‫أحمد بن تيمية‪ ،‬وتلميذ العالمة ابن القيم ‪ ،‬واإلمام السيوطي ‪ ،‬واإلمام الروكاني‬
‫رحمهم هللا جميعاً ‪.‬‬
‫املطلب الثالث‪:‬جمال التقليد ومذاهب العلماء فيه ‪.‬‬
‫أو ًال ‪ :‬مجال التقليد ‪.‬‬
‫العقائد األصلية واألخالق ال مساغ لالجتهاد والتقليد فيها ‪ ،‬ألن العقائد هي‬
‫اإليمان باهلل تعالى ورسوله ‪ ،‬وجميع ما قطع به العقل أو ثبت بالنقل ‪ ،‬و األخالق‬
‫من المعلومات البديهية ‪ ،‬ألن حسن الفضيلة وقبح الرذيلة معلومان ررعاً وعقالً‬
‫وطبعاً ‪ ،‬وكذلك كل ما علم من الدين بالضرورة من جميع التكاليف الررعية من‬
‫عبادات ومعامالت أو عقوبات ومحرمات ‪ ،‬كوجوب الصالة وعدد ركعاتها ‪،‬‬
‫والصيام واليكاة ‪ ،‬وحرمة الربا والينا ‪ ،‬واباحة البيع والنكاح وغير ذلك ‪.‬‬
‫أما ما لم يثبت بهذا الوجه ‪ ،‬بأن كان ظني الثبوت ظني الداللة ‪ ،‬أو قطعي‬
‫الثبوت ظني الداللة أو العكس ‪ ،‬فهو الذ فيه مساغ االجتهاد والتقليد ‪ ،‬كالكثير‬
‫من األحكام العملية ‪ ،‬التي ال يكفر جاحدها من رروط وأركان لكونها مجتهداً فيها‬
‫كثير من السنن والمكروهات والمحظورات المختلف فيها‪. 13‬‬
‫‪ ،‬ونحوها ٌ‬

‫‪ - 12‬ينظر ‪ :‬مدخل لدراسة الفقه اإلسالمي للدكتور محمد سالم مدكور ص ‪ ، 58‬والتقليد واإلفتاء واالستفتاء ‪ :‬ص‬
‫‪. 76‬‬
‫‪ -13‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ‪:‬محمد سعيد عبد الرحمن الباني ‪ ،‬ص ‪ ، 121-120‬دار القادري ‪،‬‬
‫‪1997‬م ‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫ثاني ًا ‪ :‬مذاهب العلماء في التقليد في المسائل الفقهية الفرعية ‪.‬‬
‫هناك ثالثة مذاهب في جواي التقليد في المسائل الفقهية الفرعية وهي‪: 14‬‬
‫‪ .1‬مذهب الحشوية والتعليمية (اإلسماعيلية) ‪ :‬ذهب هؤالء إلى أن النظر‬
‫اجب بعد يمن األئمة المجتهدين ‪ ،‬وهذا‬
‫واالجتهاد غير جائي وأن التقليد و ٌ‬
‫باطل أبطله العلماء وناقروا حججه كما فعل الغيالي في المستصفى‬
‫ٌ‬ ‫المذهب‬
‫وغير ‪ ،‬ولن نطيل الكالم في بيان بطالن هذا المذهب ‪.‬‬
‫‪ .2‬ذهب الظاهرية على رأسهم ابن حزم ومعتزلة بغداد ‪ ،‬وعدد من علماء‬
‫المذاهب األربعة كالمزني الشافعي ‪ ،‬والقرافي وابن عبد البر وابن خواز‬
‫منداد المالكيين ‪ ،‬وأبو زيد الدبوسي الحنفي ‪ ،‬وابن تيمية وتلميذه ابن القيم‬
‫الحنبليان ‪ ،‬والشوكاني وصديق حسن خان ‪ ،‬وكثير من السلفية المعاصرين‬
‫إلى أن االجتهاد فيها اليم والتقليد غير جائي‪ ،‬فعلى كل مكلف أن يجتهد‬
‫لنفسه في أمور دينه ويعمل لما أدا إليه اجتهاد ‪ ،‬ونقلوا أقواالً كثيرًة عن‬
‫السلف الصالح واألئمة األربعة في إبطال التقليد ‪.‬‬
‫كثير من أتباع األئمة األربعة إلى أن االجتهاد ليس ممنوعاً وأن‬
‫‪ .3‬ذهب ٌ‬
‫التقليد يحرم على المجتهد‪ ،‬وزجب التقليد على العامي الذ لم تتوافر لديه‬
‫أهلية االجتهاد ‪ ،‬قال اإلمام الزركشي رحمه هللا ‪( :‬وهو الحق ‪ ،‬وعليه‬
‫األئمة األربعة وغيرهم يجب على العامي ‪ ،‬ويحرم على المجتهد ‪ ،‬وقول‬
‫الرافعي وغير ‪ :‬ال يحل تقليد أحد ‪ ،‬مرادهم على المجتهد ‪ ،‬قال عبد هللا‬
‫بن أحمد ‪ :‬سألت أبي ‪ :‬الرجل يكون عند الكتب المصنفة ‪ ،‬فيها قول‬
‫الرسول واختالف الصحابة والتابعين ‪ ،‬وليس له بصيرة بالحديث الضعيف‬
‫‪ ،‬أو المتروك وال اإلسناد القو من الضعيف ‪ ،‬هل يجوي له أن يعمل بما‬

‫‪-14‬ينظر ‪:‬المستصفى ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ 462‬وما بعدها ‪ ،‬و إرشاد الفحول ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1089‬و أصول الفقه اإلسالمي ‪:‬‬
‫ج‪ ، 2‬ص ‪1122‬‬
‫‪11‬‬
‫راء ويفتي به ؟ قال ‪ :‬ال يعمل حتى يسأل أهل العلم عما يؤخذ به منها ‪،‬‬
‫قال القاضي أبو يعلى ‪ :‬هذا أن فرضه التقليد والسؤال إذا لم يكن له معرفة‬
‫بالكتاب والسنة)‪. 15‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬أدلة جواز التقليد ‪.‬‬
‫استدل العلماء القائلون بجواي التقليد بالعديد األدلة سأذكرها و أعقبها بتعليقات‬
‫خصوم التقليد عليها لنتوصل في النهاية إلى ال أر الراجح في هذ المسألة ‪ ،‬وهذ‬
‫األدلة هي على النحو التالي ‪:‬‬
‫َهل ِّ‬
‫الذ ْك ِّر ِّإن ُك ُ‬
‫نت ْم الَ َت ْعَل ُمو َن﴾‬ ‫اسأَُلوْا أ ْ َ‬
‫‪-1‬من القرآن الكرزم قوله تعالى‪َ ﴿:‬ف ْ‬
‫(النحل‪ ، )43:‬فأمر سبحانه وتعالى من ال علم له أن يسأل من هو أعلم منه ‪،‬‬
‫وأجيب عن هذا االستدالل ‪ :‬بأن هذ اآلية الررزفة واردة في سؤال خاص حيث‬
‫أنها نيلت على رد المرركين لما أنكروا الرسول بر ار ‪ ،‬وعلى فرض أن المراد‬
‫السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر والذكر هو كتاب هللا وسنة رسوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم ال غيرهما ‪ ،‬واذا كان المأمور بسؤالهم هم أهل القرآن فليس‬
‫المراد السؤال عن أقوال الرجال من دون سؤال عن الدليل‪. 16‬‬
‫يقول اإلمام الشوكاني رحمه هللا ‪ ( :‬السؤال الذ ررع هللا هو السؤال عن الحجة‬
‫الررعية وطلبها من العالم فيكون راوياً وهذا السائل مستروياً والمقلد يقر على نفسه‬
‫بأنه يقبل قول العالم وال يطالبه بالحجة ‪ ،‬فاآلية هي دليل االتباع ال دليل التقليد‬
‫وقد أوضحنا الفرق بينهما فيما سلف هذا على فرض أن المراد بها السؤال‬
‫العام)‪.17‬‬
‫‪ .2‬قوله تعالى ‪ ( :‬ولو ردوه إلى الرسول والى أولي األمر منهم لعلمه الذين‬
‫يستنبطونه منهم ) ( النساء ‪ ، )83 :‬وجه الداللة ‪:‬أن هذا دل على أنه يرد‬

‫‪ -15‬ينظر ‪ :‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ ، 6‬ص ‪.281‬‬


‫‪.‬‬ ‫‪ -16‬ينظر ‪ :‬القول المفيد في أدلة االجتهاد والتقليد ‪ :‬ص ‪20‬‬
‫‪ -17‬القول المفيد ‪ :‬ص ‪. 69‬‬
‫‪12‬‬
‫‪ ،‬وقد يرد عليهم بأن من واجب‬ ‫‪18‬‬
‫الحكم إلى أهل االستنباط وهم المجتهدون‬
‫المجتهدين بيان حكم هللا للناس الذ التبس عليهم واررادهم إلى أدلة هذا الحكم‬
‫من الكتاب أو السنة ‪ ،‬وليس مجرد تقديم الحكم للناس بال دليل ‪.‬‬
‫‪ .3‬ومن جملة ما استدلوا به قوله تعالى ‪ ( :‬وأطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي‬
‫األمر منكم ) ( النساء ‪ ، )59 :‬وقالوا ‪ :‬وأولوا األمر هم العلماء وطاعتهم تقليدهم‬
‫فيما يفتون به‪.‬‬
‫وأجيب ‪ :‬بأن أولي األمر نوعان ‪ :‬علماء وأمراء ‪ ،‬و طاعة العلماء تكون فيما‬
‫يدلون عليه من أدلة الكتاب والسنة و ليس في تقليد آرائهم الخاصة ‪ ،‬ومن جملة‬
‫ما تحب فيه طاعة أولي األمر تدبير الحروب التي تدهم الناس واالنتفاع بآرائهم‬
‫فيها وفي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية‬
‫وال يبعد أن تكون هذ الطاعة في هذ األمور التي ليست من الررزعة في‬
‫المرادة باألمر بطاعتهم ألنه لو كان المراد طاعتهم في األمور التي ررعها هللا‬
‫ورسوله لكان ذلك داخال تحت طاعة هللا وطاعة الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫‪ ،‬وال يبعد أيضا أن تكون الطاعة لهم في األمور الررعية في مثل الواجبات‬
‫المخيرة وواجبات الكفاية ‪ ،‬أو أليموا بعض األرخاص بالدخول في واجبات‬
‫أمر ررعي وجبت فيه الطاعة وبالجملة فهذ الطاعة ألولي‬
‫الكفاية ليم ذلك فهذا ٌ‬
‫األمر المذكورة في اآلية هذ هي الطاعة التي تثبت في األحاديث المتواترة في‬
‫طاعة األم ارء ما لم يأمروا بمعصية هللا ‪ ،‬أو يرى المأمور كف ار بواحا ‪.19‬‬
‫‪ .4‬ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال في حديث‬
‫صاحب الرجة أال سألوا إذ لم يعلموا إنما رفاء العي السؤال‪. 20‬‬

‫‪-18‬المهذب في علم أصول الفقه المقارن ‪ :‬د عبد الكريم النملة ‪ ،‬ج‪ ، 5‬ص ‪ ، 2393‬مكتبة الرشد ‪ ،‬الرياض ‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -19‬ينظر ‪ :‬القول المفيد ‪ :‬ص ‪ 30‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪- . 20‬سنن أبي داود ‪ :‬كتاب الطهارة ‪ ،‬باب في المجروح يتيمم ‪ ،‬رقم الحديث ‪ ، 336‬بيت األفكار الدولية ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫والجواب‪ :‬أنه لم يرردهم صلى هللا عليه وسلم في حديث صاحب الرجة إلى السؤال‬
‫عن آراء الرجال بل أرردهم إلى السؤال عن الحكم الررعي الثابت عن هللا ورسوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم ولهذا دعا عليهم لما أفتوا بغير علم ‪ ،‬فقال صلى هللا عليه‬
‫وسلم قتلو قتلهم هللا مع أنهم قد أفتوا بآرائهم ‪.21‬‬
‫‪ .5‬ومن األدلة أيضاً أن الصحابة والتابعين كانوا يفتون العوام الذين يسألونهم‬
‫عن حكم حادثة من الحوادث دون نكير منهم على ذلك وال نهياً لهم عن‬
‫السؤال وال أمر لهم بتحصيل رتبة االجتهاد‪ ،‬وهذا أمر معلوم ومتواتر بين‬
‫العلماء والعوام‪.22‬‬
‫وقد يجاب على ذلك بأن الصحابة كانوا يرردون المستفتين إلى أجوبة‬
‫أسئلتهم من الكتاب والسنة وادلة الررع ‪ ،‬ولم يكونوا يأمروهم بتقليد أقوالهم من‬
‫غير دليل ‪ ،‬بل ثبت عن السلف خالف ذلك ‪.‬‬
‫‪.6‬وقالوا ‪ :‬االجتهاد ملك ٌة ال تحصل إال لنفر قليل من الناس فإذا َّ‬
‫كلف بها جميع‬
‫الناس كان تكليفاً بما ال يطاق وهو ممنوعٌ ررع ًا‪ ، 23‬فإن الطباع البررزة متفاوتة‬
‫قاصر عن ذلك ‪ ،‬وهو‬
‫ٌ‬ ‫قابل للعلوم االجتهادية ‪ ،‬ومنها ما هو‬
‫فمنها ما هو ٌ‬
‫غالب الطباع ‪ ،‬وعلى فرض إنها قابلة له جميعها فوجوب تحصيله على كل فرد‬
‫يؤد إلى تبطيل المعايش التي ال يتم بقاء النوع بدونها ‪ ،‬فإنه ال يظفر برتبة‬
‫االجتهاد إال من جرد نفسه للعلم في جميع أوقاته على وجه ال يرتغل بغير‬
‫فحينئذ يرتغل الحراث واليراع والنساج والعمار ونحوهم بالعلم ‪ ،‬وتبقى هذ‬
‫األعمال راغرة معطلة فتبطل المعايش بأسرها ويفضي ذلك إلى إنحيام نظام‬

‫‪ -21‬ينظر ‪ :‬القول المفيد ‪ :‬ص ‪. 18‬‬


‫‪ -22‬ينظر ‪ :‬المستصفى ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪. 466‬‬
‫‪-23‬ينظر ‪ :‬المستصفى ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪. 467‬‬
‫‪14‬‬
‫الحياة وذهاب نوع اإلنسان وفي هذا من الضرر والمرقة ومخالفة مقصود الرارع‬
‫ما ال يخفى على أحد‪. 24‬‬
‫وزجاب‪ :‬عن هذا التركيك بأنا ال نطلب من كل فرد من أفراد العباد أن يبلغ رتبة‬
‫االجتهاد بل المطلوب هو أمر دون التقليد ‪ ،‬وذلك بأن يكون القائمون بهذ‬
‫المعايش والقاصرون إدراكاً وفهما كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة‬
‫والتابعين وتابعيهم وهم خير القرون الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقد علم كل عالم‬
‫أنهم لم يكونوا مقلدين وال منتسبين إلى فرد من أفراد العلماء بل كان الجاهل يسأل‬
‫العالم عن الحكم الررعي الثابت في كتاب هللا أو بسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم‬
‫فيفتيه به وزرويه له لفظاً أو معنى ‪ ،‬فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية ال بال أر‬
‫وهذا أسهل من التقليد ‪.25‬‬
‫‪.7‬وقالوا أيضاً ‪ :‬إنه ال خطر وال محذور في تقليد العامي للمجتهد في الفروع ‪،‬‬
‫ألن المجتهد لو أخطأ فال إثم عليه ‪ ،‬بل له أجر ‪ ،‬إذن ال خطر على المقلد في‬
‫هذا ‪ ،‬خالفاً للعقائد ‪ ،‬فإن المجتهد إذا أخطأ أثم ‪ ،‬لذلك جوينا التقليد في الفروع‬
‫دون األصول‪. 26‬‬
‫هذ جملة ما استدل به القائلون بالتقليد ‪ ،‬وما رد عليهم خصوم التقليد ‪.‬‬
‫أما إذا انتقلنا إلى الجانب اآلخر وهو أدلة خصوم التقليد فنجدها كثيرةٌ جداً فقد‬
‫خصص اإلمام ابن حزم قسماً كبي اًر في كتاب اإلحكام في أصول األحكام إلبطال‬
‫التقليد‪ ،‬كما تبنى اإلمام ابن القيم في الرد على أنصار التقليد في كتاب إعالم‬
‫الموقعين حيث ذكر ‪ 81‬وجهاً في إبطال التقليد‪ ،‬كما ألف اإلمام الشوكاني كتاباً‬
‫حرد فيه الكثير من األدلة إلبطال التقليد ‪ ،‬وسأذكر فيما يلي بعض أدلتهم وذلك‬
‫على النحو التالي‪:‬‬

‫‪-24‬ينظر ‪ :‬المستصفى ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 467‬والقول المفيد ‪ :‬ص ‪.33‬‬


‫‪ -25‬ينظر ‪ :‬القول المفيد ‪ :‬ص ‪. 34‬‬
‫‪-26‬ينظر ‪ :‬المهذب في علم أصول الفقه المقارن ‪ :‬ج‪ ، 5‬ص ‪.2393‬‬
‫‪15‬‬
‫‪-1‬من القرآن الكرزم قوله تعالى ‪ ( :‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون هللا‬
‫)(التوبة ‪. ) 31 :‬‬
‫ووجه الداللة ‪ :‬أن هللا ذم هؤالء المقلدين في اتباعهم لعلمائهم الذين أحلوا لهم‬
‫الحرام وحللوا لهم الحرام بغير حجة من الرارع ‪ ،‬وزجاب ‪ :‬عن هذا االستدالل بأنه‬
‫بعيد جداً ‪ ،‬حيث أن أولئك الرهبان حرفوا دين هللا وبدلو ‪ ،‬أما العلماء الذين‬
‫ٌ‬
‫يسألهم المقلد عن حكم الررع فهم يفتونه بما توصلوا إليه بعد نظر معمق في أدلة‬
‫الررع ‪ ،‬فهو يقلد حكمهم الذ استنبطو من الررع وقواعد وليس رأيهم الخاص‬
‫المناقض للررع ‪.‬‬
‫‪-2‬كما استدلوا بالكثير من اآليات التي تنها عن تقليد اآلباء واألسياد ‪ ،‬والحقيقة‬
‫أن تلك اآليات تنعى على الرعاع الهمل الذين يقلدون آباءهم وأسيادهم في العقائد‬
‫الباطلة ‪.‬‬
‫معرض التباع خطأ‬ ‫ٌ‬ ‫‪-3‬كما استدلوا بأن العلماء يخطؤون ويصيبون ‪ ،‬والمقلد‬
‫مقلد ‪ ،‬وزنقلون في ذلك أقوال لألئمة في النهي عن التقليد خرية تقليد ال أر‬
‫برر أخطئ وأصيب ‪ ،‬فانظروا‬
‫الخطأ من ذلك قول اإلمام مالك رحمه هللا ‪( :‬أنا ٌ‬
‫مالك‬
‫رأيي ‪ ،‬فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ‪ ،‬وما لم يوافق فاتركو ) ‪ ،‬فهذا ٌ‬
‫ينهى عن التقليد ‪ ،‬وكذلك الرافعي وأبو حنيفة ‪ ،‬وقد ذكر الرافعي عن النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم حديثاً ‪ ،‬فقال بعض جلسائه ‪ :‬يا أبا عبد هللا ‪ ،‬أتأخذ به ؟‬
‫‪27‬‬
‫فقال له ‪ :‬أرأيت علي ينا اًر ؟ أرأيتني خارجاً من كنيسة ؟‬
‫‪-4‬ادعى ابن حيم اإلجماع على منع التقليد ‪ ،‬قال الروكاني رحمه هللا ‪ (:‬اختلفوا‬
‫في المسائل الررعية الفرعية ‪ :‬هل يجوي التقليد فيها أم ال ؟ فذهب جماع ٌة من‬
‫أهل العلم إلى أنه ال يجوي مطلقاً ‪ ،‬قال القرافي ‪ :‬مذهب مال وجمهور العلماء‬

‫‪-27‬ينظر ‪ :‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ ، 6‬ص ‪.280‬‬


‫‪16‬‬
‫وجوب االجتهاد وابطال التقليد ‪ ،‬وادعى ابن حيم اإلجماع على النهي عن التقليد‬
‫‪..... ،‬وبهذا تعلم أن المنع إن لم يكن إجماعاً فهو مذهب الجمهور)‪. 28‬‬

‫محمول عند األكثرزن على تقليد من‬


‫ٌ‬ ‫يقول الريخ الباني رحمه هللا ‪ ( :‬لكن هذا‬
‫فمعذور بتقليد ‪ ،‬و اإلجماعان اللذان نقلهما غير‬
‫ٌ‬ ‫كان أهالً لالجتهاد ‪ ،‬أما العامي‬
‫مجمع على كونهما إجماعين )‪. 29‬‬
‫‪-5‬كما استدلوا بأن العوام يمن السلف الصالح كانوا يسألون عن الدليل والحجة‬
‫وليس عن أر الرجال ‪ ،‬وفي ذلك يقول أبو زيد الدبوسي الحنفي ‪ ( :‬وكان‬
‫الناس في الصدر األول – أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان هللا عليهم‬
‫أجمعين –يبنون أمرهم على الحجة ‪ ،‬فكانوا يأخذون بالكتاب ‪ ،‬ثم بالسنة ‪ ،‬ثم‬
‫بأقوال من بعد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما يصح بالحجة ‪ ،‬فكان الرجل‬
‫يأخذ بقول عمر رضي هللا عنه في مسألة ‪ ،‬ثم يخالفه بقول علي رضي هللا عنه‬
‫في مسألة أخرى ‪ ،‬وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رحمهم هللا أنهم وافقو مرًة ‪،‬‬
‫وخالفو أخرى ‪ ،‬على حسب ما تتضح لهم الحجة ‪ ،‬ولم يكن المذهب في الررزعة‬
‫عمرزاً وال علوياً ‪ ،‬بل النسبة كانت إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فقد كانوا‬
‫قروناً أثنى عليهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالخير ‪ ،‬فكانوا يرون الحجة ‪،‬‬
‫ال علماءهم وال نفوسهم ‪ ،‬فلما ذهبت التقوى من عامة القرن الرابع ‪ ،‬وكسلوا في‬
‫طلب الحجج ‪ ،‬جعلوا علماءهم حج ًة واتبعوهم ‪ ،‬فصار بعضهم حنفياً ‪ ،‬وبعضهم‬
‫مالكياً ‪ ،‬وبعضهم رافعياً ‪ ،‬ينصرون الحجة بالرجال ‪ ،‬ويعتقدون الصحة بالميالد‬
‫على ذلك المذهب ‪ ،‬ثم كل قرن بعدهم اتبع عالمه كيف ما أصابه بال تمييي ‪،‬‬
‫حتى تبدلت بالسنن البدع ‪ ،‬فضل الحق بين الهوى ) ‪.30‬‬

‫‪.‬‬ ‫‪ -28‬إرشاد الفحول ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪1090‬‬


‫‪ -29‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪.124‬‬
‫‪ -30‬تقويم األدلة في أصول الفقه ‪ :‬أبو زيد الدبوسي ‪ ،‬ص‪ ، 400‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬ط‪2001 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫‪-6‬كما استدلوا بأن األئمة األربعة وغيرهم من السلف نهوا عن التقليد واألمر‬
‫باتباع الدليل ‪ ،‬وزنقلون في ذلك الكثير من األقوال منها ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الربيع قال سمعت الرافعي يقول‪ :‬كل مسألة يصح فيها الخبر عن‬
‫اجع عنها‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عند أهل النقل بخالف ما قلت فأنا ر ٌ‬
‫في حياتي وبعد مماتي‪. 31‬‬
‫‪-‬وقال حرملة بن يحيى ‪ :‬قال الرافعي ‪ :‬ما قلت وكان النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم قد قال بخالف قولي فما صح من حديث النبي صلى هللا عليه وسلم أولى‬
‫وال تقلدوني‪. 32‬‬
‫رجل الرافعي عن مسألة فأفتا وقال‪ :‬قال النبي صلى‬ ‫‪-‬وقال الحميد ‪ :‬سأل ٌ‬
‫هللا عليه وسلم كذا وكذا ‪ ،‬فقال الرجل ‪ :‬أتقول بهذا يا أبا عبد هللا ؟ فقال‬
‫الرافعي‪ :‬أرأيت في وسطي ينا اًر ؟! أتراني خرجت من الكنيسة؟! أقول‪ :‬قال‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وتقول لي ‪ :‬أتقول بهذا ؟ أأرو عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم وال أقول به‪.33‬‬
‫‪-‬وقال أيضاً ‪( :‬مثل الذ يطلب العلم بال حجة كمثل حاطب ليل يحمل حيمة‬
‫حطب وفيها أفعى تلدغه وهو اليدر ) ‪.34‬‬
‫‪-‬وقال اإلمام أبو يوسف رحمه هللا ‪( :‬ال يحل ألحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من‬
‫أين قلناها) ‪.35‬‬
‫‪ -‬وأما اإلمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرةٌ ‪ ،‬قال أبو داود‬
‫‪ :‬قلت ألحمد ‪ :‬األوياعي أتبع أم مالك ؟ فقال‪ :‬ال تقلد دينك أحداً من هؤالء ما‬
‫جاء عن النبي صلى هللا عليه وسلم وأصحابه فخذ به ‪ ،‬وقال أبو داود‪ :‬سمعته ‪-‬‬

‫‪ -31‬ينظر ‪ :‬القول المفيد ‪ :‬ص ‪.45‬‬


‫‪ -32‬ينظر ‪ :‬القول المفيد ‪ :‬ص‪. 45‬‬
‫‪ -33‬ينظر ‪ :‬القول المفيد ‪ :‬ص ‪. 45‬‬
‫‪-34‬ينظر ‪ :‬أعالم الموقعين ‪ :‬ج‪ ،3‬ص ‪. 469‬‬
‫‪-35‬ينظر ‪ :‬أعالم الموقعين ‪:‬ج‪ ،3‬ص‪. 470‬‬
‫‪18‬‬
‫يعني أحمد بن حنبل‪ -‬يقول‪ :‬االتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم وأصحابه من هو من التابعين بخير‪. 36‬‬
‫‪-‬وقال أيضاً ‪ :‬وقال لي أحمد‪ :‬ال تقلدني وال مالكا وال الرافعي وال األوياعي وال‬
‫الثور وخذ من حيث أخذوا ‪ ،‬وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال ‪.37‬‬
‫يقول ابن قيم الجويزة ‪ ( :‬فانظر كيف فرق بين التقليد واإلتباع ‪ .... ، ،‬وألجل‬
‫هذا لم يؤلف اإلمام أحمد كتاباً في الفقه وانما دون أصحابه مذهبه من أقواله‬
‫وأفعاله وأجوبته وغير ذلك)‪.38‬‬
‫‪ -‬وقال القرافي رحمه هللا ‪ :‬مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب االجتهاد وابطال‬
‫التقليد‪. 39‬‬
‫‪ -‬وقال اإلمام السيوطي رحمه هللا ‪( :‬مايال السلف والخلف يأمرون باالجتهاد‬
‫ويحضون عليه وزنهون عن التقليد وزذمونه ويكرهونه وقد صنف جماعة ال‬
‫يحصون في ذم التقليد ‪.........‬كالمزني؛ وابن حزم؛ وابن عبد البر وأبي شامة‬
‫وابن قيم الجوزية وصاحب القاموس المحيط)‪.40‬‬
‫‪ -‬و ذكر ابن عبد البر رحمه هللا أنه ال خالف بين أئمة أهل األعصار في فساد‬
‫التقليد وأورد فصالً طويالً في محاججه من قال بالتقليد‪ ،‬واليامه بطالن ما ييعمه‬
‫من جواي ‪ ،‬فقال ‪ ( :‬يقال لمن قال بالتقليد‪ :‬لم قلت به وخالفت السلف في ذلك‬
‫به فإنهم لم يقلدوا ؟ فإن قلت‪ :‬قلدت ألن كتاب هللا تعالى ال علم لي بتأوزله ‪،‬‬
‫وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لم أحصها ‪ ،‬والذ قد قلدته قد علم ذلك‬
‫فقلدت من هو أعلم مني‪ ،‬قيل له ‪ :‬أما العلماء إذا أجمعوا على ريء من تأوزل‬
‫كتاب هللا أو حكاية لسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على‬
‫‪ -36‬ينظر ‪ :‬القول المفيد ‪ :‬ص‪. 46‬‬
‫‪ -37‬ينظر ‪ :‬إعالم الموقعين ‪ :‬ج‪ ، 3‬ص ‪. 469‬‬
‫‪ -38‬ينظر ‪ :‬إعالم الموقعين ‪ :‬ج‪ ، 3‬ص ‪. 469‬‬
‫‪-39‬إرشاد الفحول ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص‪. 1089‬‬
‫عصر فرض‪ :‬جالل الدين السيوطي ‪ ،‬ص‪ 42‬بتصرف ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-40‬الرد على من أخلد إلى األرض وجهل أن االجتهاد في كل‬
‫مكتبة الثقافة الدينية ‪ ،‬بورسعيد ‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫ريء فهو الحق ال رك فيه ‪ ،‬ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض‬

‫‪ ،‬فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم ٌ‬


‫عالم ؟ ولعل الذ رغبت عن‬
‫اب ‪،‬‬
‫قوله أعلم من الذ ذهبت إلى مذهبه ‪ ،‬فإن قال ‪ :‬قلدته ألني علمت أنه صو ٌ‬
‫قلت له ‪ :‬علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ؟ فإن قال‪ :‬نعم ‪ ،‬فقد‬
‫أبطل التقليد ‪ ،‬وطولب بما ادعا من الدليل‪ ،‬وان قال‪ :‬قلدته ألنه أعلم مني ‪،‬‬
‫قيل له‪ :‬فقلدت كل من هو أعلم منك ؟ فإنك تجد من ذلك خلقا كثي ار وال تخص‬
‫من قلدته إذ علمك فيه أنه أعلم منك ‪ ،‬فإن قال ‪ :‬قلدته ألنه أعلم الناس ‪ ،‬قيل‬
‫له‪ :‬فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقوله مثل هذا قبحاً) ‪.41‬‬
‫املطلب اخلامس‪:‬الرأي الراجح يف حكم التقليد ‪.‬‬
‫عرضت في المطلب السابق أدلة أنصار التقليد وخصومه بريء من التفصيل ‪،‬‬
‫وفي هذا المطلب أبين ال أر الراجح في حكم التقليد ‪ ،‬وقبل بيان حكم التقليد البد‬
‫من بيان أنواع الناس بالنسبة للتقليد وحكم كل نوع منهم‪.‬‬
‫يقسم اإلمام الزركشي رحمه هللا الناس إلى ‪:‬مجتهد ‪ ،‬وعامي ‪ ،‬وعالم لم يبلغ‬
‫رتبة االجتهاد‪.42‬‬
‫‪-1‬العامي الصرف ‪ :‬والجمهور على أنه يجوي له االستفتاء ‪ ،‬وزجب‬
‫عليه التقليد في فروع الررزعة وجميعها ‪ ،‬ولم يختلف العلماء أن العامة‬
‫عليها تقليد علمائها ‪ ،‬وأنهم المرادون بقوله ‪ ( :‬فاسألوا أهل الذكر إن‬
‫كنتم ال تعلمون ) ( النحل ‪. ) 43 :‬‬
‫‪ -2‬العالم الذي حصل بعض العلوم المعتبرة ولم يبلغ رتبة االجتهاد ‪:‬‬
‫اختار ابن الحاجب أنه كالعامي الصرف لعجي عن االجتهاد ‪ ،‬وقال‬
‫قوم ‪ :‬يجب عليه معرفه الحكم بطرزقه ‪ ،‬ويميل اليركري إلى هذا ال أر‬
‫ٌ‬
‫‪ -41‬جامع لبيان العلم وفضله‪ :‬يوسف بن عبد البر ‪ ،‬تحقيق أبي األشبال الزهيري ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 994‬دار ابن الجوزي‬
‫‪ ،‬الرياض ‪ ،‬ط‪ 1994 ، 1‬م ‪. .‬‬
‫‪-42‬ينظر ‪ :‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ 483 ، 6‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫‪ ،‬وزنقل عن ابن المنير قوله ‪ :‬والمختار أنهم مجتهدون ملتيمون أال‬
‫يحدثوا مذهباً ‪ ،‬ألن إحداث مذهب يكون له أصول مغايرة ألصول‬
‫المتقدمين متعذر الحصول ‪ ،‬وهؤالء ال يمتنع عليهم تقليد إمام في قاعدة‬
‫‪ ،‬واذا ظهر لهم صحة مذهب غير إمامهم في مسألة لم يجي لهم تقليد‬
‫إمامهم فيها ‪.‬‬
‫‪-3‬العالم الذي بلغ مرتبة االجتهاد ‪ ،‬فال يجوي له تقليد غير من‬
‫المجتهدين ‪.‬‬
‫كما قسم العالمة سعيد الباني رحمه هللا الناس عدا أرباب االجتهاد المطلق إلى‬
‫‪43‬‬
‫‪:‬‬ ‫ثالث طبقات وهي‬
‫‪ -1‬طبقة الفقهاء ‪ :‬وهم أرباب االجتهاد أو الترجيح في المذهب ‪ ،‬وكذك‬
‫من كان اجتهادهم جيئياً ‪ ،‬فهؤالء ال يليمون بالتقليد ‪.‬‬
‫‪ -2‬المتفقهة ‪ :‬وهم الذين يحفظون فروع المذهب بدون معرفة الدليل ‪،‬‬
‫وليس لديهم مقدرة على االستدالل والترجيح ‪ ،‬وهؤالء ال يوجد ما يجبرهم‬
‫على التيام مذهب معين ‪.‬‬
‫‪ -3‬طبقة العوام فهؤالء يجب أن يتحروا من يستفتيهم وزجب أن يغلب على‬
‫ظنهم أنه من أهل الورع والتقوى والعلم ‪.‬‬
‫مما سبق يتبين لنا أن العوام البد لهم من تقليد علمائهم ألنهم ال يهتدون إلى‬
‫األدلة الررعية بأنفسهم فوجب أن يسترردوا بالعلماء الذين ينيرون لهم طرزق‬
‫المعرفة ‪ ،‬وزبينوا لهم أحكام هللا تعالى وفي ذلك يقول ابن عبد البر في كتابه "‬
‫جامع بيان العلم وفضله‪ ( :‬العامة ال بد لها من تقليد علمائها عند النايلة تنـيل‬
‫بها؛ ألنها ال تتبين موقع الحجة‪ ،‬وال تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك؛ ألن العلم‬
‫درجات ال سبيل منها إلى أعالها إال بنيل أسفلها‪ ،‬وهذا هو الحائل بين العامة‬
‫ٌ‬

‫‪-43‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪.170-168‬‬


‫‪21‬‬
‫وبين طلب الحجة) ‪ ،‬ثم قال‪ ( :‬ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها‪،‬‬
‫وأنهم المرادون بقوله تعالى ‪ ( :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون ) ( النحل ‪:‬‬
‫(‪)44‬‬
‫‪ ،‬وقال اإلمام الغزالي في المستصفى‪( :‬العامي يجب عليه االستفتاء‬ ‫‪) 43‬‬
‫(‪)45‬‬
‫‪ ،‬وقال ابن قدامة في روضة الناظر‪ ( :‬وأما التقليد في الفروع‬ ‫واتباع العلماء)‬
‫إجماعا ‪ ،‬ثم قال‪ :‬فلهذا جاي التقليد فيها‪ ،‬بل وجب على العامي‬
‫ً‬ ‫جائي‬
‫فهو ٌ‬
‫ذلك)( ) ‪ ،‬وقال اآلمدي في اإلحكام‪ ( :‬العامي ومن ليس له أهلية االجتهاد ‪-‬وان‬ ‫‪46‬‬

‫كان محصال لبعض العلوم المعتبرة في االجتهاد‪ -‬يليمه اتباع قول المجتهدين‪،‬‬
‫واألخذ بفتوا عند المحققين من األصوليين) (‪.)47‬‬
‫ويقول العالمة الباني في عمدة التحقيق ‪ ( :‬والمعتمد الذ عليه أكثر العلماء هو‬
‫التفصيل ‪ :‬وهو أنه يحرم على المجتهد وزجب على العامي ‪ ،‬كما صرح بذلك‬
‫علماء مذاهب األئمة في كتب األصول ‪ ،‬حيث قالوا بأنه يجب على العامي‬
‫الرجوع إلى العلماء واستفتائهم لقوله تعالى ‪ ( :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال‬
‫تعلمون ) ( النحل ‪ ، )43 :‬وإلجماع الصحابة رضي هللا عنهم على هذا ‪ ،‬فإنهم‬
‫معلوم بالضرورة‬
‫ٌ‬ ‫كانوا يفتون العوام ‪ ،‬وال يأمرونهم بنيل رتبة االجتهاد ‪ ،‬وذلك‬
‫مكلف باألحكام الررعية ‪ ،‬وتكليفه السعي وراء رتبة‬
‫ٌ‬ ‫والتواتر‪ .... ،‬كما أن العامي‬
‫ضرب من المحال ‪ ،‬ألنه يؤد إلى انقطاع الحرث والنسل ‪ ،‬وتعطيل‬
‫ٌ‬ ‫االجتهاد‬
‫الحرف والصنائع ‪ ،‬وجميع أنواع الكسب ‪ ،‬وهذا يؤد بالضرورة إلى خراب‬

‫‪ - 44‬ينظر ‪ :‬جامع لبيان العلم وفضله‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪. 989‬‬


‫‪ - 45‬ينظر ‪ :‬المستصفى‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 466‬‬
‫‪- 46‬ينظر ‪:‬إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر وجنة المناظر ‪ :‬ابن قدامة المقدسي ‪ ،‬بشرح الدكتور عبد‬
‫الكريم النملة ‪ ،‬ج‪، 8‬ص‪، 178‬دار العاصمة ‪ ،‬ط‪1996 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪ - 47‬ينظر اإلحكام في أصول األحكام ‪ :‬سيف الدين اآلمدي ‪ ،‬تحقيق عبد الرزاق عفيفي ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪، 278‬دار‬
‫الصميعي‪،‬ط‪2003 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫المجتمع البرر فيما إذا تصدى جميع الناس إلى إحراي هذ الرتبة ‪ ،‬واذا استحال‬
‫‪48‬‬
‫‪.‬‬ ‫هذا لم يبق إال سؤال العلماء واستفتاؤهم)‬

‫أما بالنسبة للمجتهد فيحرم عليه التقليد إذا كان قاد اًر على االجتهاد في المسائل‬
‫المعروضة عليه ‪ ،‬أما إذا عجي عن االجتهاد لضيق الوقت أو عدم ظهور الدليل‬
‫له فله التقليد ‪ ،‬وفي ذلك يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه هللا‪ ( :-‬فأما‬
‫القادر على االجتهاد فهل يجوي له التقليد ؟ ‪ ،‬هذا فيه خالف‪ ،‬والصحيح أنه‬
‫يجوي حيث عجي عن االجتهاد‪ ،‬إما لتكافؤ األدلة‪ ،‬واما لضيق الوقت عن‬
‫االجتهاد‪ ،‬واما لعدم ظهور دليل له‪ ،‬فإنه حيث عجي سقط عنه وجوب ما عجي‬
‫عنه‪ ،‬وانتقل إلى بدله‪ ،‬وهو التقليد كما لو عجي عن الطهارة بالماء)(‪.)49‬‬

‫أيضا في موضع آخر‪ ( :‬متى أمكن في الحوادث المركلة معرفة ما دل‬


‫وقال ً‬
‫عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب‪ ،‬وان لم يكن لضيق الوقت‪ ،‬أو عجي‬
‫الطالب‪ ،‬أو تكافؤ األدلة عند ‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه‪،‬‬
‫هذا أقوى األقوال)(‪.)50‬‬
‫و قال اإلمام الغيالي رحمه هللا ‪ ( :‬وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من االجتهاد ‪،‬‬
‫وغلب على ظنه حكم ‪ ،‬فال يجوي له أن يقلد مخالفه ‪ ،‬ويعمل بنظر غير ‪ ،‬وزترك‬
‫نظر نفسه ) ‪.51‬‬
‫ويقول العالمة الباني رحمه هللا ‪( :‬أما المجتهد فقد اتفقت كلمة الجمهور على أنه‬
‫يحرم عليه التقليد ‪ ،‬وحمل األكثرون جميع ما ورد عن األئمة األربعة وغيرهم من‬

‫‪-48‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ 125‬وما بعدها ‪.‬‬


‫‪ - 49‬ينظر ‪ :‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ‪ :‬أحمد بن عبد الحليم ‪ ،‬عبد الرحمن بن القاسم ‪ ،‬ج ‪ ، 20‬ص ‪204‬‬
‫‪،‬السعودية ‪.‬‬
‫‪ - 50‬ينظر ‪ :‬مجموع الفتاوى ‪ :‬ج‪ ، 28‬ص ‪. 388‬‬
‫‪-51‬المستصفى ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪. 457‬‬
‫‪23‬‬
‫النهي عن تقليدهم على من كان عالماً متهيئاً لالجتهاد ‪ ،‬فهذا هو الذ يحرم‬
‫‪52‬‬
‫‪.‬‬ ‫عليه التقليد لتهاونه في دينه)‬
‫أما إذا كان العالم يعرف بعد األدلة دون بعض ‪ ،‬فله أن يجتهد فيما عرف دليله‬
‫بناء على تجيؤ االجتهاد ‪ ،‬ويقلد بعض األئمة فيما لم يعرف دليله ‪ ،‬وذلك ألن‬
‫ً‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم كانوا مجتهدين فيما عرفوا دليله ‪ ،‬ومقلدين بعضهم فيما‬
‫لم يعرفو ‪ ،‬وتابعهم على ذلك من تبعهم بإحسان ‪ ،‬وهذا ما أوصى به كل من‬
‫المجتهدين أصحابه بأن يتركوا قوله ويأخذوا بالحديث فيما إذا ثبتت صحته‬
‫عندهم‪. 53‬‬
‫وزتحصل من أقوال العلماء قضيتان مسلمتان عند الجمهور‪: 54‬‬
‫معذور بتقليد لعجي ‪ ،‬وهو بالحقيقة غير مقلد ألحد من‬
‫ٌ‬ ‫األولى ‪ :‬أن العامي‬
‫المجتهدين بعينه ‪ ،‬بل مذهبه مذهب من يفتيه ‪ ،‬لكونه ال يعلم على سبيل القطع‬
‫أن هذا القول ليزد أو عمرو من فقهاء المسلمين ‪ ،‬سوى استناد إلى مفتيه ‪،‬‬
‫تقليد في التقليد أيضاً ‪ ،‬حسبما يسمع من أبويه‬
‫وادعاؤ أنه حنفي أو رافعي هو ٌ‬
‫وبيئته ‪.‬‬
‫القضية الثانية ‪ :‬أن بالغ رتبة االجتهاد إذا قلد ولم يجتهد كان مأيو اًر لتقصير‬
‫وتهاونه مع توفر األهلية ‪.‬‬
‫اجب مطلقاً ‪ ،‬وأن المعتمد‬
‫وخالصة ما تقدم ‪ :‬أن التقليد ممنوعٌ مطلق ًا أو و ٌ‬
‫معذور بجهله ‪ ،‬ومحظور على العالم‬
‫ٌ‬ ‫التفصيل ‪ ،‬وهو وجوبه على العامي ألنه‬
‫الواقف على جميع األدلة ‪ ،‬وأن من كان واقفاً على بعضها دون بعض يجب‬

‫‪-52‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ 125‬وما بعدها ‪.‬‬


‫‪-53‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪. 137‬‬
‫‪-54‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪.151‬‬
‫‪24‬‬
‫اجتهاد فيما عرفه ‪ ،‬وتقليد فيما لم يعرفه ‪ ،‬فيكون مفتياً من وجه ومستفتياً من‬
‫وجه‪. 55‬‬
‫املطلب السادس‪:‬أنواع التقليد ‪.‬‬
‫قسم العلماء التقليد إلى قسمين وهما التقليد المذموم والتقليد المحمود‪:56‬‬
‫أوالً‪ :‬التقليد المذموم ‪.‬‬
‫ويكون في الحاالت التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬ماتضمن اإلعراض عما أنيل هللا وماجاء به رسول هللا‪.‬‬
‫‪ .2‬تقليد من ال يعلم المقّلِد أنه من أهل العلم الذين يؤخذ عنهم‪.‬‬
‫الحجة وقيام الدليل عند الرخص على خالف قول َّ‬
‫المقلد‪،‬‬ ‫‪ .3‬التقليد بعد ظهور َّ‬
‫وفي ذلك يقول اإلمام العز بن عبد السالم‪( :‬ومن العجب العجيب أن الفقهاء‬
‫المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه اليجد لضعفه مدفعاً ومع ذلك‬
‫يقلد فيه وزترك من رهد له الكتاب والسنة الصحيحة لمذهبهم جموداً على‬
‫تقليد إمامه بل يتمايل بدفع ظواهر الكتاب والسنة وزتأولها بالتأويالت البعيدة‬
‫‪57‬‬
‫‪ ،‬ويقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه هللا‪-‬‬ ‫الباطلة نضاالً عن مقلد )‬
‫‪( :‬قد ذم هللا ‪-‬تعالى‪ -‬في القرآن من َع َدل عن اتباع الرسول إلى ما نرأ عليه‬
‫من دين آبائه‪ ،‬وهذا هو التقليد الذ حرمه هللا ورسوله وهو أن يتبع غير‬
‫الرسول فيما خالف فيه الرسول‪ ،‬وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد‪،‬‬
‫فإنه ال طاعة لمخلوق في معصية الخالق)( )‪.‬‬
‫‪58‬‬

‫‪-55‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪. 139-138‬‬


‫‪-56‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص‪.1130‬‬
‫‪ -57‬قواعد األحكام في مصالح األنام ‪ :‬العز بن عبد السالم ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 135‬دار المعرفة ‪ ،‬بيروت ‪.‬‬
‫‪ - 58‬ينظر ‪ :‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ :‬ج‪ ، 20‬ص ‪. 16-15‬‬
‫‪25‬‬
‫ثانياً‪:‬التقليد المحمود‪.‬‬
‫وهو تقليد العامي العاجي عن االجتهاد الغير قادر على التوصل إلى الحكم‬
‫الررعي بنفسه ‪ ،‬هذا اإلنسان ليس أمامه إال إتباع من يررد من أهل النظر‬
‫واالجتهاد يدله على مايجب عليه من التكاليف‪.59‬‬
‫قال الدكتور اليحيلي رحمه هللا ‪( :‬اليحكم بجواي التقليد مطلقاً كما اليصح تناسي‬
‫مقتضيات الواقع فإنه العامي المحض اليسعه إال تقليد العالم لعجي عن النظر‬
‫واالجتهاد فيجب عليه التقليد‪........‬أما العلماء ولو لم يكونوا أهالً لالجتهاد فال‬
‫يليمون بجميع ماجاءت به المذاهب وعليهم أن ينظروا في كل حكم من أحكام‬
‫الفقه على حدة‪ ،‬فيقبلون مايؤزد الدليل وزرفضون ماعدا دون تعصب لمذهب من‬
‫المذاهب وليكن رائدهم الحق فإن الحق واحد قديم ودين هللا واحد اليتعدد كما ذكر‬
‫ابن القيم والشاطبي)‪ ، 60‬و يقول الدكتور عبد الكرزم يزدان رحمه هللا ‪ ( :‬الواجب‬
‫إذن على كل مكلف بال استثناء طاعة هللا ورسوله ‪ ،‬وهذا الواجب يستليم حتماً‬
‫معرفة ما ررعه هللا جل جالله في القرآن أو على لسان رسوله الكرزم صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ومعرفة ما ررعه هللا إنما تكون بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة‬
‫واسفادة األحكام منها بعد فهما ومعرفة المراد منها ‪ ،‬فإن لم يجد المكلف الحكم‬
‫صرزحاً في هذ النصوص تحول إلى االجتهاد كما أمر الررع ‪ ،‬فيجتهد في نطاق‬
‫الررزعة و في ضوء مبادئها العامة ‪ ،‬وفي ظل مقاصدها ‪..... ،‬فإذا عجي‬
‫المكلف عن معرفة األحكام بهذا الطرزق فإن عليه أن يعمل كما أمر هللا ‪ ،‬فيسأل‬
‫أهل العلم عن حكم هللا في الواقعة التي يرزد معرفة حكمها ‪...... ،‬وال يليمه أن‬
‫‪61‬‬
‫‪.‬‬ ‫يسأل عالماً معيناً ‪... ،‬وانما عليه أن يتخير األعلم األفضل األعدل األورع )‬

‫‪ -59‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1129‬‬


‫‪-60‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1135‬‬
‫‪-61‬الوجيز في أصول الفقه ‪ :‬د عبد الكريم زيدان ‪ ،‬ص ‪ ، 411‬مؤسسة قرطبة ‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫مبذهب مع ٍ‬
‫ني ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫املطلب السابع‪ :‬التزام املقلد‬
‫إن طرزق العامي وغير المتأهل لالجتهاد هو التقليد لمعرفة األحكام الررعية كما‬
‫قرر جمهور العلماء‪ ،‬فهل يجب عليه التيام مذهب معين في كل واقعة ‪62‬؟‬
‫‪ .1‬قال البعض يجب التيام مذهب معين ألنه اعتقد أنه الحق فيجب العمل‬
‫بمقتضى اعتقاد ‪.‬‬
‫‪ .2‬وقال آخرون اليجب تقليد إمام معين في كل المسائل والحوادث بل يجوي‬
‫أن يقّلِد أ مجتهد راء ‪ ،‬فلو التيم مذهب الرافعي اليليم االستمرار عليه بل‬
‫يجوي له االنتقال كلياً منه إلى مذهب آخر ولو بعد العمل إذ أنه ال واجب‬
‫إال ما أوجبه هللا ورسوله ولم يوجب اتباع مذهب معين‪.‬‬
‫كما أن التيامه للمذهب ليس نذ اًر عليه حتى يجب الوفاء به ‪،‬كما أن هللا‬
‫أوجب إتباع العلماء من غير تخصيص بعالم دون آخر‪.‬‬
‫كما أن المستفتين في عصر الصحابة والتابعين لم يكونوا ملتيمين مذهباً معيناً ‪،‬‬
‫بل كان المرؤ وقتئذ يستفتي هذا تارًة ويستفتي غير تارًة أخرى ‪ ،‬وقد تواتر ذلك‬
‫بدون إنكار ‪ ،‬واذا التيم مذهباً معيناً اليليمه االستمرار عليه إذ ال واجب إال ما‬
‫أوجبه الررع ‪ ،‬ولم يوجب هللا ورسوله على أحد أن يتمذهب بمذهب إنسان معين ‪،‬‬
‫وهو المتبادر إلى األذهان ررعاً وعقالً ‪ .63‬كما أن االلتيام بمذهب واحد قد يؤد‬
‫إلى الحرج والضيق مع أن المذاهب نعمة وفضلة ورحمة لألمة وهذا القول الراجح‬
‫‪64‬‬
‫‪ ،‬يقول الدكتور اليحيلي رحمه هللا ‪( :‬رخصان ال يليمان بمذهب ‪:‬‬ ‫عند العلماء‬
‫العامي الصرف مذهبه في كل واقعة هو مذهب من أفتا بها‪ ،‬وكذلك من له نوع‬
‫بصر بالمذاهب وتأهل للنظر واالستدالل فال يليمه مذهب معين)‪.65‬‬

‫‪-62‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ 1137‬وما بعدها ‪.‬‬


‫‪-63‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪.166‬‬
‫‪-64‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1138‬‬
‫‪-65‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1138‬‬
‫‪27‬‬
‫وعلى كل حال علينا أن نستحضر في أذهاننا ما يلي‪: 66‬‬
‫‪ -1‬إن المذاهب اإلسالمية هي مدارس فقهية لتفسير نصوص الررزعة واستنباط‬
‫األحكام منها ‪ ،‬فهي مناهج علمية في االستنباط والتعرف على األحكام ‪ ،‬فهي‬
‫ليست ررعاً جديداً ‪ ،‬وال ريئاً آخر غير اإلسالم ‪.‬‬
‫‪ -2‬إن الررزعة اإلسالمية أكبر و أوسع من أ مذهب ‪ ،‬وليس أ مذهب أكبر‬
‫وال أوسع منها ‪.‬‬
‫‪-3‬إن الررزعة اإلسالمية حجة على كل المذاهب ‪ ،‬وليس أ مذهب حجة عليها‬
‫‪-4‬إن اتباع المذاهب هو ألنه مظنة تعرزف متبعيها بأحكام الررزعة ‪ ،‬فإذا ظهر‬
‫أن المذهب أخطأ في مسألة معينة وأن الصواب في مذهب آخر وجب التحول في‬
‫هذ المسألة إلى المذهب الثاني ‪.‬‬
‫‪-5‬يجوي لمتبع مذهب معين أن يتبع غير في بعض المسائل إذ ال ريء يليمه‬
‫باتباع جميع اجتهادات المذهب ‪ ،‬على أن يكون ذلك عن دليل ‪.‬‬
‫‪ -6‬على المقلد أن يطهر نفسه من التعصب الذميم للمذهب ‪ ،‬فليست المذاهب‬
‫تجيئ ًة لإلسالم ‪ ،‬وليست أدياناً ناسخ ًة لإلسالم ‪ ،‬وانما هي وجو في تفسير‬
‫الررزعة وفهمها ‪.‬‬
‫أمر‬
‫‪ -7‬ال نضيق أبداً باختالف المذاهب ‪ ،‬ألن االختالف في الفهم واالستنباط ٌ‬
‫بديهي ‪ ،‬بل نعتي بهذا االختالف العلمي الفقهي الذ خلف لنا ثروة فقهية عظيمة‬
‫ٌ‬
‫‪ ،‬ونعتبر من دالئل نمو الفقه وحياته ‪ ،‬و دليل على سعة أفق علمائنا العظام ‪،‬‬
‫وتفانيهم في خدمة الررزعة الغراء ‪.‬‬
‫‪ -8‬علينا احترام وتبجيل علماء المذاهب وننيلهم منايلهم ونتأدب معهم ‪ ،‬وندعو‬
‫لهم ونعتقد أنهم مأجورون أخطؤوا أم أصابوا ‪.‬‬

‫‪ -66‬ينظر ‪ :‬الوجيز في أصول الفقه ‪ :‬ص ‪. 413-412‬‬


‫‪28‬‬
‫املطلب السابع ‪:‬حكم تقليد غري األئمة ‪.‬‬
‫والمقصود بذلك مذاهب أعيان الصحابة كمذهب عائرة وابن عباس وابن عمر و‬
‫مذهب الظاهرزة ومذهب الليث أو األوياعي أو ابن جرزر الطبر ‪،‬و سيفان الثور‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫منحصر في األئمة الذين دونت مذاهبهم‬
‫ٌ‬ ‫‪ .1‬ذهب أكثر المتأخرزن إلى التقليد‬
‫منحصر في األئمة األربعة‬
‫ٌ‬ ‫ولهم أتباعٌ ‪ ،‬وزذكر اليركري أن التقليد‬
‫واألوياعي وسفيان الثور ‪ ،‬واسحاق بن راهوية ‪،‬ألن هؤالء هم ذوو األتباع‬
‫‪ ،‬وألبي ثور وابن جرزر أتباعٌ قليل ٌة جداً ‪.67‬‬
‫وقالوا ‪ :‬بعدم جواي تقليد غيرهم ألن مذاهبهم غير مدونة وال مضبوطة مما يجعل‬
‫المقتد بها عرض ًة للخطأ والتأوزل فيها بخالف مذاهب األئمة األربعة‪ ،‬فإنها‬
‫منقح ٌة معروف ٌة ومضبوط ٌة وقد نالت عناية كبيرة جداً وهذا مارجحه إمام الحرمين‬
‫و ابن الصالح والغزالي في المنخول‪.68‬‬
‫قال إمام الحرمين رحمه هللا ‪ ( :‬أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن‬
‫يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي هللا عنهم ‪ ،‬بل عليهم ألن يتبعوا مذاهب‬
‫األئمة الذين سبروا ‪ ،‬فنظروا ‪ ،‬وبوبوا األبواب ‪ ،‬وذكروا أوضاع المسائل ‪،‬‬
‫ألنهم أوضحوا طرق النظر ‪ ،‬وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها ) ‪.69‬‬
‫وقال ابن الصالح رحمه هللا ‪ ( :‬يتعين تقليد األئمة األربعة دون غيرهم ‪ ،‬ألن‬
‫مذاهب األربعة قد انتررت وعلم تقييد مطلقها وتخصيص عامها ‪ ،‬ونررعت‬
‫فروعها ‪ ،‬بخالف مذاهب غيرهم ) ‪.70‬‬

‫‪-67‬ينظر ‪ :‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ ، 6‬ص ‪.290‬‬


‫‪-68‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1139‬والمنخول من تعليقات األصول ‪ :‬أبو حامد الغزالي ‪ ،‬تحقيق‬
‫محمد حسن هيتو ‪ ،‬ص‪. 495‬‬
‫‪-69‬البرهان في أصول الفقه ‪ :‬عبد الملك الجويني ‪،‬تحقيق د عبد العظيم الديب ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1146‬ط‪،1‬قطر ‪،‬‬
‫‪1399‬هـ‬
‫‪-70‬شرح البدخشي ( منهاج العقول ) ‪ :‬محمد بن الحسن البدخشي ‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص ‪ ، 218‬مطبعة محمد علي صبيح‬
‫بمصر ‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫قال اليركري في حجة من منع تقليد الصحابة ‪ ( :‬مذهبهم لم يثبت حق‬
‫الثبوت كما ثبتت مذاهب األئمة الذين هم أتباع قد طبقوا األرض ‪ ،‬وألنهم لم‬
‫يعتنوا بتهذيب مسائل االجتهاد ‪ ،‬ولم يقرروا ألنفسهم أصوالً تفي بأحكام‬
‫الحوادث كلها ‪ ،‬بخالف من بعدهم ‪ ،‬فإنهم كفوا النظر في ذلك وسبروا ونظروا‬
‫و أكثروا أوضاع المسائل ) ‪.71‬‬
‫وذكر اليركري عدة احتماالت واردة على قول الصحابي منها‪: 72‬‬
‫‪-‬قوة عبارتهم واستصعابها على أفهام العامة ‪.‬‬
‫‪-‬احتمال رجوع الصحاب عن ذلك المذهب ‪ ،‬كما وقع لعلي وابن عباس‬
‫وغيرهما ‪.‬‬
‫‪-‬احتمال أن يكون االجماع قد انعقد على قول آخر بعد ذلك القول ‪.‬‬
‫‪-‬أال يصح سند الرواية عن الصحابة ‪.‬‬
‫وذهب ابن الصالح إلى عدم تقليد الصحابة وال التابعين وال العلماء الذين لم‬
‫تدون مذاهبهم ‪ ،‬وانما تقلد المذاهب التي دونت وانتررت وظهر تقييد مطلقها‬
‫وتخصيص عامها ‪ ،‬بخالف غيرهم فإنهم نقلت عنهم الفتاوى مجردة ‪ ،‬فلعل لها‬
‫مكمالً أو مقيداً او مخصصاً ‪.73‬‬
‫‪ .2‬وأجاي بعض العلماء تقليد غير األربعة في غير اإلفتاء أو القضاء‪.‬‬
‫زق من العلماء إلى أن الصحابة يقلدون ألنهم قد نالوا رتبة‬
‫‪ .3‬وذهب فر ٌ‬
‫االجتهاد ‪ ،‬وهم بالصحبة ييدادون رفع ًة ‪ ،‬يقول اليركري رحمه هللا ‪ ( :‬وهذا‬
‫هو الصحيح إن علم دليله ‪ ،‬وقد ذكر الريخ عي الدين بن عبد السالم أنه‬
‫مذهب في حكم من األحكام لم تجي مخالفته‬
‫ٌ‬ ‫إذا صح عن بعض الصحابة‬

‫‪-71‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ ، 6‬ص ‪. 289-288‬‬


‫‪-72‬ينظر ‪ :‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ ، 6‬ص ‪. 289‬‬
‫‪-73‬ينظر ‪ :‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ ، 6‬ص ‪.290‬‬
‫‪30‬‬
‫‪74‬‬
‫‪ ،‬وهذا ال أر رجحه الدكتور وهبة الزحيلي‬ ‫إال بدليل أوضح من دليله)‬
‫في كتابه أصول الفقه اإلسالمي ‪.75‬‬
‫‪ .4‬وذهب العالمة سعيد الباني إلى أن العامي ال مجال له في قضية تقّليد‬
‫غير األربعة‪ ،‬ألن مذهبه مذهب مفتيه ‪ ،‬إنما المجال لمن كان من أهل‬
‫الترجيح والنظر ‪ ،‬فهؤالء إذا ظفروا بقول ألحد األئمة غير األربعة عرضو‬
‫على أدلة الررزعة فإذا وجدوا دليلهم من الكتاب والسنة الصحيحة أقوى من‬
‫دليل غير ينبغي أن يذهبوا إليه وزرجحو بتحكيم قواعد االستنباط والتعارض‬
‫والترجيح المعتبرة في علم األصول ‪.‬‬
‫يقول العالمة الباني رحمه هللا ‪ ( :‬ال فرق بين األخذ بقول أحد من األئمة‬
‫األربعة ‪ ،‬وبين األخذ بقول غيرهم من بقية األئمة المجتهدين مادامت الرواية‬
‫صحيح ًة ‪ ... ،‬والحقيقة أن العامي ال مجال له في هذ القضية ألن مذهبه‬
‫مذهب مفتيه ‪ ،‬وكذلك المجتهد المطلق ال عالقة له بهذ المسألة ألنه ال يقلد‬
‫غير ‪ ،‬بقي هنا من كان من أهل االجتهاد والترجيح ‪ ،‬أو أصحاب االجتهاد‬
‫الجيئي أو المجتهد في المذهب ‪ ،‬فهؤالء إذا عرض لهم أحد أقوال غير‬
‫األئمة األربعة عرضو على األدلة الررعية فإذا وجدوا دليله من الكتاب‬
‫‪76‬‬
‫‪،‬‬ ‫والسنة أقوى من دليل غير ‪ ،‬فينبغي أن يأخذوا به ويقدمو على غير )‬
‫وهذا الرأي هو الراجح ‪.‬‬
‫وزذكر العالمة الباني رحمه هللا تفصيالً رائعاً لألحكام الررعية االجتهادية‬
‫المأخوذة من األئمة رضي هللا عنهم و التي يراد تنيزلها على المكلفين ‪،‬‬
‫وذلك على النحو التالي ‪:77‬‬

‫‪ -74‬ينظر ‪ :‬البحر المحيط ‪ :‬ج‪ ، 6‬ص ‪.290‬‬


‫‪-75‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1140‬‬
‫‪ -76‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ 174‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪ -77‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪.178-175‬‬
‫‪31‬‬
‫‪-‬ما كان من قبيل العبادات ‪ ،‬وكان قول المجتهد عيزم ًة فيأخذ بها احتياطاً من‬
‫اء أكان العامي المستفتي أم المجتهد المرجح ‪.‬‬‫كان من أصحاب الورع والكد سو ٌ‬
‫‪-‬أما إذا كان القول رخص ًة ‪ ،‬فيفتي به المفتي أرباب الرخص الضعفاء من العمال‬
‫والفالحين واألجراء وأصحاب الحرف والجنود وأهل البواد خرية تهاونهم‬
‫يسر ‪.‬‬
‫بالتكاليف الررعية فدين هللا ٌ‬
‫اء‬
‫‪-‬أما إذا كان القول في المحظورات فيأخذ المرجح ب أر الحاظر احتياطاً سو ً‬
‫بالنسبة لنفسه أو بالنسبة لمستفتيه ‪ ،‬إال إذا وجدت مصلحة في جانب اإلباحة‬
‫اقتضتها السياسة الررعية أو الضرورة ‪ ،‬وال سيما عند تغير اليمان وفساد األحوال‬
‫‪ -‬و ما كان من قبيل المعامالت والعقوبات واألحوال الرخصية ‪ ،‬وما يدخل تحت‬
‫اختصاص القضاة ‪ ،‬فهنا ينظر أهل االجتهاد من أهل الحل والعقد الذين يعهد‬
‫إليهم ولي األمر بالنظر في ذلك ‪ ،‬فإذا اعتمدوا قوالً من غير أقوال المذاهب‬
‫األربعة ‪ ،‬اقتضته المصلحة العامة أو العرف أو التجدد ونحو ذلك من مقتضيات‬
‫العمران وروح اليمان ‪ ،‬التي تقتضيها السياسة الررعية المبنية على الحكمة‬
‫والمصالح ‪.‬‬
‫‪ -‬وأما األقوال الراذة التي ال تؤزدها النصوص الررعية وزرفضها جمهور العلماء‬
‫‪ ،‬فال يسوغ للمرء األخذ بها في حق نفسه فضالً عن اإلفتاء بها ‪.‬‬
‫املطلب الثامن‪:‬يف شروط املفيت امل َقلَد ‪.‬‬
‫المفتي هو المجتهد أو الفقيه الذ انتصب لإلجابة عن أسئلة الناس‬
‫واستفساراتهم‪ ، 78‬واإلفتاء أخص من االجتهاد ‪ ،‬فإن االجتهاد استنباط األحكام‬
‫ال في موضوعها أم لم يكن‪ ،‬أما اإلفتاء فإنه اليكون إال إذا كانت‬
‫سواء أكان سؤ ٌ‬

‫‪-78‬ينظر ‪ :‬إرشاد الفحول ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1082‬وأصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1156‬‬
‫‪32‬‬
‫واقعة وقعت وزتعرف الفقيه حكمها‪ ،79‬ويشترط في الفتوى عدا توافر رروط‬
‫االجتهاد ما يلي‪:80‬‬
‫‪ .1‬معرفة واقعة االستفتاء‪.‬‬
‫‪ .2‬دراسة نفسية المستفتي والجماعة التي يعيش فيها ليعرف مدى أثر‬
‫الفتوى سلباً أو إيجاباً‪.‬‬
‫إال أن لفظ المفتي أصبح أخي اًر يطلق على متفقة المذاهب الذين يقتصر‬
‫عملهم على نقل نصوص كتب الفقه واطالق لفظ المفتي عليهم هو من باب‬
‫المجاي أو الحقيقة العرفية لعرف العوام واصطالح الحكومات‪.‬‬
‫هذا وقد ارترط العلماء في المفتي الذ يجوي تقليد العقل والبلوغ والحرزة والعدالة‬
‫والعلم والحياة‪ ،‬باإلضافة إلى الررطين السابقين ‪ ،‬وهذ الرروط منها ماهو موضع‬
‫منحصر في (الحياة؛األعلمية؛‬
‫ٌ‬ ‫اتفاق ومنها ماهو موضع خالف‪ ،‬والخالف‬
‫العدالة)‪.‬‬
‫أو ًال ‪ :‬اشتراط الحياة في المفتي َّ‬
‫المقلد ‪.81‬‬
‫ذهب أكثر العلماء من المتأخرزن جواي تقليد الميت مطلقاً ‪ ،‬وذلك لبقاء‬
‫أقواله ‪ ،‬وذلك بررط صحة النقل عنه ‪ ،‬ألن المذاهب ال تموت بموت‬
‫أصحابها ‪ ،‬وحياة المذاهب بقيام الدليل الذ دل عليها ‪.‬‬
‫وقال آخرون بعدم الجواي مطلقاُ وهو قول الرازي ألنه ال بقاء لقول الميت ‪ ،‬بدليل‬
‫انعقاد اإلجماع بعد موت المخالف ‪ ،‬أما تصنيف الكتب في المذاهب بعد موت‬
‫أصحابها فالستفادة طرزق االجتهاد من تصرفهم في الحوادث ‪ ،‬وكيفية بناء‬
‫بعضها على بعض ‪ ،‬وهو يرى عدم خلو الدهر من مجتهد ‪.‬‬

‫‪-79‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1156‬‬


‫‪-80‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1156‬‬
‫‪-81‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ،1156‬وعمدة التحقيق ‪ :‬ص‪. 165‬‬
‫‪33‬‬
‫مجتهد في مذهبه ‪ ،‬ألنه‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬وفصل بعضهم فقالوا ‪ :‬يجوي تقليد الميت إن نقل قوله‬
‫أعلم بما استمر عليه إمامه مما لم يستمر عليه ‪ ،‬وهذا القول يرى عدم خلو الدهر‬
‫من مجتهد مذهب وان خال من مجتهد مطلق ‪.‬‬
‫ورجح الدكتور الزحيلي‪(:‬جواي تقليد الميت بررط صحة النقل عنه ومعرفة‬
‫دليله الذ اعتمد عليه في بيان الحكم فإذا لوحظ مايوجب تغير الحكم‬
‫لمصلحة أو مراعاة عرف كان المجال أمامنا متسع للتغيير لوجود دليل‬
‫المجتهد بين أيدينا)‪.82‬‬
‫ثانياً ‪ :‬األعلمية في المفتي (المقَلد)‪.‬‬
‫إذا لم يوجد في بلد إال مفت واحد فعلى العامي سؤاله والرجوع إليه ‪ ،‬فإن‬
‫‪83‬‬
‫كان هناك جماع ٌة من المفتين والعلماء فمن الذ يستفتى منهم؟‬
‫أ‪ .‬قال جماعة من العلماء‪ :‬يجب على العامة استفتاء األفضل في العلم‬
‫والورع والدين فإن استووا تخيروا بينهم‪ ،‬وهذا مذهب أحمد وابن سريج‬
‫والقفال من الشافعية واإلسفراييني والكياالهراسي والغزالي ‪.‬‬
‫وقال األكثرون من األصوليين والفقهاء ومنهم الحنفية والمالكية‬ ‫ب‪.‬‬
‫وأكثر الحنابلة والشافعية‪ ،‬يخير العامي في سؤال من راء من العلماء‬
‫سواء أتساووا أم تفاضلوا وذكروا لذلك قاعدة‪" :‬جواز تقليد المفضول مع‬
‫وجود األفضل في العلم"‪.‬‬
‫و الراجح أن األفضل هو اتباع األعلم ألنه أهدى إلى أسرار الررع ‪ ،‬ولكن‬
‫مع هذا ال يمكن تجاهل حالة العوام الذين ال يفرقون بين المتضلع في العلم‬
‫واألقل منه علماً‪ ،‬لذلك يجب قسمة غير المجتهدين في يماننا إلى مثقفين‬

‫‪-82‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1161‬‬


‫‪-83‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1162‬وأصول الفقه ‪ :‬محمد الخضري ‪ :‬ص ‪ ، 439‬دار الحديث ‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫وعوام صرف ‪ ،‬فالمثقفون يليمهم الرجوع إلى األعلم واألدين واألورع ‪ ،‬والعوام‬
‫يرخص لهم باتباع من يثقون بدينه مع إلمامه بالعلم‪.84‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬عدالة المفتي (المقلد)‪.‬‬
‫عرف اإلمام الغيالي العدالة بأنها ‪ :‬عبارةٌ عن استقامة السيرة والدين ‪،‬‬
‫وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ماليمة التقوى والمروءة‬
‫جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر‬
‫وبعض الصغائر وبعض المباحات‪.85‬‬
‫والعدالة من أهم رروط المفتي عند جماهير العلماء ‪ ،‬ومن مقتضى العدالة‬
‫أن يالحظ في المفتي إذا اختار رأياً بين المذاهب ما يلي‪:86‬‬
‫‪-1‬أن يتبع القول لدليله فاليختار من المذاهب أضعفها دليالً بل أقواها‬
‫دليالً‪.‬‬
‫‪-2‬أن يجتهد ما أمكن االجتهاد في أال يترك األمر المجمع عليه إلى‬
‫المختلف فيه‪.‬‬
‫‪-3‬أال يتبع أهواء الناس بل يتبع المصلحة والدليل والمصلحة المعتبرة هي‬
‫مصلحة الكاّفـة‪.‬‬

‫‪-84‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1166‬‬


‫‪-85‬المستصفى ‪ :‬ج‪ ، 1‬ص ‪. 294‬‬
‫‪ -87‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1168‬وأصول الفقه ‪ :‬محمد أبو زهرة ‪ ،‬ص ‪ ، 403‬دار الفكر‬
‫العربي ‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫املبحث الثاين ‪ :‬التلفيق بني املذاهب ‪.‬‬
‫املطلب األول‪ :‬تعريف التلفيق‪.‬‬
‫تهد ‪ ،‬وذلك بأن يلفق في قضية‬ ‫التلفيق ‪ :‬هو اإلتيان بكيفية ال يقول بها مج ٌ‬
‫واحدة بين أكثر من قول من أقوال العلماء ‪ ،‬فتتكون حقيق ٌة مركب ٌة لم يقل بها ٌ‬
‫أحد‬
‫من العلماء‪.87‬‬
‫و من أمثلة ذلك ما يلي ‪:88‬‬
‫‪-‬توضأ رخص فمسح بعض رعر رأسه مقّلِداً الرافعي ‪ ،‬وبعد ذلك مس أجنبية‬
‫ثم صلى مقلداً أبا حنيفة في عدم نقض الوضوء بالمس ‪ ،‬إن وضوء هذا الرخص‬
‫جاء على هيئة مركبة لم يقل بها كال اإلمامين‪.‬‬
‫رجل امرأة بال ولي مقلداً أبا حنيفة ‪ ،‬وبال رهود مقلداً مالك ‪ ،‬وبال‬
‫‪-‬تيوج ٌ‬
‫صداق مقلداً من يقول بعدم ارتراط الصداق ‪ ،‬هذا التلفيق ممنوعٌ ألن فيه إباحة‬
‫الينا‪.‬‬
‫املطلب الثاين‪ :‬اتريخ التلفيق‪.‬‬
‫كان من أثر انترار فكرة التقليد لدى المسلمين أن أكثر المتأخرزن من العلماء بعد‬
‫انتهاء القرن العارر ررطوا لجواي تقليد مذهب الغير أال يؤد إلى التلفيق بين‬
‫المذاهب‪ ،‬فحكموا ببطالن العبادة المركبة من أحكام متغايرة بين األئمة حتى أن‬
‫بعض الحنفية حكى في ذلك إجماع المسلمين‪ ،‬والتيمه الشافعية حكماً مقر اًر في‬
‫مسائل الفقه ‪ ،‬ولم يتكلم في التلفيق قبل القرن السابع الهجري وهؤالء جميعاً‬
‫تنقصهم الحجة والدليل على مايعموا‪.89‬‬

‫‪-88‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ ، 183 :‬و أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 1142‬وتحفة الرأي السديد ‪ :‬أحمد‬
‫الحسيني ‪ ،‬ص ‪ ، 79 ، 5‬مطبعة كردستان العلمية بمصر ‪1326 ،‬هـ ‪.‬‬
‫‪-88‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ ، 183‬وأصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1143‬‬
‫‪-89‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1142‬‬
‫‪36‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬جمال التلفيق‪.‬‬
‫مجال التلفيق هو المسائل االجتهادية الظنية ‪ ،‬أما ما علم من الدين بالضرورة‬
‫من متعلقات الحكم الررعي وهو ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحد ‪ ،‬فال‬
‫يصح فيه التقليد فضالً عن القول بالتلفيق وعليه فال يجوي التلفيق المؤد إلى‬
‫إباحة المحرم كالنبيذ والينا مثالً ‪.90‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬حكم التلفيق‪.‬‬
‫افترق العلماء المتأخرون في حكم التلفيق إلى فرزقين‪:91‬‬
‫عدد من الفقهاء المتأخرزن هؤالء ذهبوا إلى عدم جواي‬
‫الفريق األول‪ :‬ويمثله ٌ‬
‫التلفيق واستدلوا بما يلي‪:‬‬
‫أ‪ .‬التلفيق من المسائل المحدثة التي لم تكن معهودة عند السلف ليقروا أحكامها‬
‫كما أن األئمة وأصحابهم لم يدرجو في مدوناتهم وأمهات كتبهم‪ ،‬بل قد وقع‬
‫االختالف بين الصحابة وتعددت آراءهم في المسائل االجتهادية ولم ينقل عنهم‬
‫أنهم قالوا بالتلفيق مع تباين اجتهاداتهم‪.‬‬
‫من الثابت عند علماء األصول في اإلجماع منع إحداث قول ثالث إذا‬ ‫ب‪.‬‬
‫افترق العلماء فرقتين في حكم المسألة إذا كان هذا القول ينقض ماكان محل‬
‫اتفاق والتلفيق من هذا الباب‪.‬‬
‫ت‪ .‬اتفاق العالمين َّ‬
‫المقلدين الملفق بين مذهبيهما على بطالن الصورة التي جاء‬
‫بها الملفق‪.‬‬
‫أجمع العلماء على منع التلفيق كما نقل بعض متأخرو الحنفية وابن حجر‬ ‫ث‪.‬‬
‫الهيثمي وغيرهم‪.‬‬

‫‪-90‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ ، 233‬وأصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1144‬‬
‫‪ ،‬وعمدة‬ ‫‪-91‬ينظر ‪ :‬التلفيق في الفتوى ‪ :‬د سعد العنزي ‪ ،‬مجلة الشريعة والدراسات اإلسالمية جامعة الكويت‬
‫التحقيق ‪ :‬ص ‪. 183‬‬
‫‪37‬‬
‫الفريق الثاني‪ :‬وهو قول طائفة كبيرة من المتأخرزن مثل العالمة‬
‫الطرسوسيالحنفي وابن عابدين وشيخ اإلسالم أبو السعود في فتاويه وابن نجيم‬
‫والباجي والكمال بن الهمام وابن أمير حاجهؤالء جميعاً ذهبوا إلى جواي التلفيق ‪.‬‬
‫موجود في كل المذاهب اإلسالمية‬
‫ٌ‬ ‫يقول الدكتور سعد العني ‪( :‬إن جواي التلفيق‬
‫وما ادعا البعض من قيام اإلجماع على منع التلفيق فهو إما باعتبار اتفاق أهل‬
‫المذهب أو باعتبار األكثر والغالب أو باعتبار السماع أو بالنسبة للظن)‪.92‬‬
‫وهذا القول هو الصحيح الراجح ررط عدم تتبع الرخص المؤدية إلى محظور ‪،‬‬
‫مارجحه الدكتور الزحيلي والدكتور القرضاوي والعلماء الذين قاموا بكتابة‬
‫ّ‬ ‫وهو‬
‫قوانين األحوال الرخصية في كثير البالد اإلسالمية ومن أدلتهم ما يلي‪:93‬‬
‫رجحنا أن التقليد‬
‫أ‪ .‬إن من منع التلفيق أراد من ذلك أال تذهب فائدة التقّليد وقد َّ‬
‫غير مليم وأن العوام مذهبهم مذهب من يفتيهم وأن المتخصص مذهبه ما‬
‫ترجح عند من األدلة‪.‬‬‫ّ‬
‫ب‪ .‬القول بأن اإلمامين اتفقا على بطالن عمل الملفق غير صحيح ألن المقلد‬
‫لم يقلد كالً منهما في مجموع عمله وانما َّقلد كالً منهما في مسألة معينة غير‬
‫التي َّقلد فيها غير وال حرج عليه في هذا‪.‬‬
‫ت‪ .‬إن دين هللا يسر ال عسر والقول بجواي التلفيق من باب التيسير على‬
‫الناس‪.‬‬
‫ث‪ .‬إن يعم اإلجماع غير صحيح فقد يكون المقصود اتفاق أهل المذهب أو‬
‫باعتبار الظن وهذا ال يسمى إجماعاً ‪ ،‬كما أنه نقل فيه الخالف عن العلماء‬

‫‪-92‬ينظر ‪ :‬التلفيق في الفتوى ‪ :‬سعد العنزي ‪ ،‬مجلة الشريعة والدراسات اإلسالمية ‪.‬‬
‫‪-93‬ينظر ‪ :‬التلفيق في الفتوى ‪ :‬سعد العنزي ‪ ،‬وأصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪1146‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫ج‪ .‬إن التلفيق كان موجوداً بداهة ذلك أن المستفتي يأخذ بقول الصحابي في‬
‫مسألة ويأخذ بقول اآلخر في مسألة أخرى فينتج عند حقيقة مركبة من رأيين‬
‫وهذا عين التلفيق‪.‬‬
‫ح‪ .‬لم ينقل عن أحد من األئمة المنع من العمل بمذهب غير وهذا يدل على أن‬
‫المستفتي يأخذ بأقوال العلماء في مسألتين أو أكثر واليقال إنه وصل إلى‬
‫حقيقة لم يقل بها المفتون وانما بعد هذا من تداخل أقوال المفتين‪.‬‬
‫يقول العالمة الباني ‪( :‬في عصر الصحابة والتابعين رضي هللا عنهم ‪... ،‬كان‬
‫المرء يستفتي بعضهم في مسألة ‪ ،‬ثم يستفتي غير في غيرها ‪ ،‬وهلم ج ار ‪ ،‬و لم‬
‫ينقل عن أحد منهم مع ردة ورعهم ‪ ،‬وعلمهم بأسرار الررزعة ‪ ،‬وكثرة ترعب‬
‫مذاهبهم أنه قال لمستفتيه ‪ :‬يجب عليك مراعاة أحكام مذهب من قلدته ‪ ،‬لئال تلفق‬
‫عبادتك مثالً بين مذهبين فأكثر ‪ ،‬بل كل من سئل منهم عن مسألة أفتى السائل‬
‫بما ي ار من كتاب أو سنة ‪ ،‬مجي اًي له العمل من غير فحص وال تفصيل ‪،‬‬
‫‪.....‬كما أن ذلك لم يؤثر عن األئمة األربعة وغيرهم من المجتهدين ‪ ،‬بل نقل‬
‫عنهم ما يرير إلى خالف ذلك )‪. 94‬‬
‫وزذكر في ذلك عدة أمثلة منها ‪:95‬‬
‫‪-‬من ذلك أن اإلمام أحمد كان يرى الوضوء من الفصد والرعاف ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إن‬
‫حصل ذلك لإلمام وصلى ولم يتوضأ فهل تصلي خلفه ‪ ،‬فقال ‪ :‬كيف ال أصلي‬
‫خلف اإلمام مالك وسعيد بن المسيب ‪.‬‬
‫‪-‬و كان اإلمام مالك أفتى الرريد بأنه ال وضوء عليه من الحجامة ‪ ،‬وصلى خلفه‬
‫أبو يوسف ولم يعد صالته ‪.‬‬

‫‪ -94‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪. 184‬‬


‫‪-95‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪184‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫‪-‬واغتسل أبو يوسف في الحمام ‪ ،‬وبعد صالة الجمعة أخبر أنه كان في البئر فأرة‬
‫ميتة ‪ ،‬فلم يعد الظهر ‪ ،‬وقال ‪ :‬نأخذ بقول إخواننا أهل المدينة ‪ :‬إذا بلغ الماء‬
‫قلتين لم يحمل خبثاً ‪.‬‬
‫‪-‬و لم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أو األئمة –أبو حنيفة و مالك‬
‫والرافعي وأحمد‪ -‬أنه امتنع عن االقتداء بغير مع كونه مخالفاً له في االجتهاد ‪،‬‬
‫فإن كان ثمة ما يقال له تلفيق لم يمتنع أحدهم من االقتداء باآلخر ‪.‬‬
‫يقول الريخ الباني ‪ ( :‬و روح القضية أن السلف و جميع األئمة المجتهدين إذا‬
‫اعتقدوا بأحد أنه خالف مقطوعاً به في الررزعة لم يجييوا ألحد اتباعه أو الصالة‬
‫خلفه ‪ ،‬واذا اعتقدوا أنه لم يخالف المقطوع به ‪ ،‬بل خالف غير فيما هو من‬
‫أحد من اتباعه ‪ ،‬كما ال يمتنعون عن الصالة خلفه ‪ ،‬فظهر‬
‫الظنيات ‪ ،‬ال يمنع ٌ‬
‫من هذا أن أخذ المستفتي في عهد السلف بقول أحد علماء الصحابة في مسألة ‪،‬‬
‫وأخذ بقول غير من الصحابة أو التابعين في مسألة ثانية ال يقال له تلفيق ‪ ،‬ولو‬
‫أدى إلى تركب حقيقة لم يقل بها المفتيان ‪ ،‬بل هو من قبيل تداخل أقوال المفتين‬
‫بعضها في بعض بالنسبة إلى هذا المستفتي تداخالً طبيعياً غير ملحوظ وال‬
‫تلفيق في الفقه لم يكن معهوداً‬
‫ٌ‬ ‫مقصود ‪........‬خالصة القول ‪ :‬إن ما يقال له‬
‫عند السلف ليقرروا أحكامه ‪ ،‬كما أن األئمة وأصحابه لم يدرجو في مدوناتهم‬
‫وأمهات كتبهم ‪ ،‬وانما هو من مخترعات الخلف ومحدثاتهم ) ‪.96‬‬
‫يقول الكمال ابن الهمام في كتاب القضاء من فتح القدير ‪ ( :‬المقلد له أن يقلد من‬
‫راء ‪ ،‬وأن أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه ‪ ،‬ال أدر ما يمنعه‬
‫من النقل أو العقل ‪ ،‬يكون اإلنسان يتتبع ما هو األخف عليه من قول مجتهد‬

‫‪ -96‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪. 187-185‬‬


‫‪40‬‬
‫مسوغ له االجتهاد ما علمت من الررع ذمه عليه ‪ ،‬وكان صلى هللا عليه وسلم‬
‫يحب ما يخفف عن أمته ) ‪.97‬‬
‫املطلب اخلامس‪ :‬ضوابط التلفيق‪.‬‬
‫إن القائلين بجواي التلفيق لم يتركوا األمر على اإلطالق وانما جعلوا له ضوابط‬
‫وهي‪:98‬‬
‫‪ .1‬أال يكون فيه تتبع الرخص عمداً بقصد الترهي من غير عذر والضرورة‬
‫ألن هذا محظور سداً لذرائع الفساد واالنحالل من التكاليف الررعية‪.‬‬
‫مثال ذلك أن يتيوج امرأة بال ولي وال صداق وال رهود مقلداً في كل جيئية‬
‫مذهباً ليستبيح بتلفيقه الينا ‪.‬‬
‫‪ .2‬أال يؤد التلفيق إلى اإلتيان بمحظور‪.‬‬
‫يعم أبو نواس أن أبا حنيفة أباح النبيذ وأن الشافعي قال الخمر والنبيذ ريء‬
‫واحد فلفق بين القولين إباحة الخمر‪.‬‬
‫‪ .3‬أال يستليم التلفيق نقض حكم الحاكم ألن حكمه يرفع الخالف درءاً‬
‫للفوضى‪.‬‬
‫‪ .4‬أال يكون في التلفيق رجوعاً عما عمل به تقليداً أو عن أمر فجمع عليه اليم‬
‫رجل أبا حنيفة في النكاح بال ولي فنكاحه‬ ‫َّ‬
‫ألمر قلد ‪ ،‬مثال ذلك أن يقلد ٌ‬
‫صحيح ويستليم صحة إيقاع الطالق ‪ ،‬فلو طلق يوجته ثالثاً ثم أراد تقليد‬
‫ٌ‬
‫الشافعي في عدم وقوع الطالق لكون النكاح بال ولي‪ ،‬فليس له ذلك لكونه‬
‫رجوعاً عن التقليد في أمر اليم إجماعاً‪.‬‬
‫‪ .5‬يرى بعض الفقهاء جواي التلفيق عند الضرورة فقط‪.‬‬

‫‪ -97‬فتح القدير ‪ :‬الكمال بن الهمام ‪ ،‬ج‪ ، 7‬ص ‪. 258‬‬


‫‪-99‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ 224‬وما بعدها ‪ ،‬وأصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ 1148‬وما بعدها ‪ ،‬و التلفيق‬
‫‪.‬‬ ‫في الفتوى ‪ :‬سعد العنزي‬
‫‪41‬‬
‫و الخالصة ‪ :‬إن ضابط جواي التلفيق وعدم جواي هو أن كل ما أفضى إلى‬
‫تقويض دعائم الررزعة والقضاء على سياستها وحكمها فهو محظور وخصوصاً‬
‫الحيل ‪ ،‬وأن كل ما يؤزد دعائم الررزعة وما ترمي إليه حكمتها وسياستها إلسعاد‬
‫الناس في الدارزن بتيسير العبادات عليهم وصيانة مصالحهم في المعامالت فهو‬
‫جائي مطلوب ‪.99‬‬
‫والتلفيق الجائي يكون عند الحاجة و الضرورة وليس من أجل العبث أو تتبع‬
‫األيسر واألسهل عمداً بدون مصلحة ررعية ‪ ،‬وهو مقصور على بعض أحكام‬
‫العبادات والمعامالت االجتهادية ال القطعية‪.100‬‬
‫املطلب السادس‪ :‬أنواع الفروع الفقهية اليت جيوز فيها التلفيق‪.‬‬
‫فصل العلماء أنواع الفروع الررعية من حيث جواي التلفيق فيها من عدمه على‬
‫‪101‬‬
‫‪:‬‬ ‫النحو التالي‬
‫‪ .1‬مابني في الررزعة على اليسر والتسامح مع اختالفه باختالف المكلفين‬
‫كالعبادات المحضة‪ ،‬فهذ يجوي فيها التلفيق للحاجة ألن مناطها امتثال أمر‬
‫هللا تعالى والخضوع له مع عدم الحرج فينبغي عدم الغلو بها ألن التنطع‬
‫يؤد إلى الهالك‪.‬‬
‫‪ .2‬ما بني على الورع واالحتياط كالعبادات المالية كاليكاة فإنه يجب التردد‬
‫بها احتياطاً خرية ضياع حقوق الفقراء فينبغي على الميكي أال يأخذ بالقول‬
‫الضعيف أو يلفق بين المذاهب حتى اليضيع حق الفقير وعلى المفتي أن‬
‫يفتي باألحوط واألنسب‪.‬‬

‫‪ -99‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪. 250‬‬


‫‪-100‬ينظر ‪ :‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪.1153‬‬
‫‪-101‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪233‬وما بعدها ‪ ،‬وأصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬ج‪ ، 2‬ص ‪ 1151‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫وزدخل في هذا القسم أيضاً المحظورات فهي مبنية على الورع واالحتياط‬
‫لحديث‪( :‬من اتقى الربهات فقد استب أر لدينه وعرضه ومن وقع في الربهات‬
‫وقع في الحرام)‪.‬‬
‫ومنع التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق العباد آكد‪ ،‬ألن حقوقهم قائمة‬
‫على أساس الصيانة ومنع اإليذاء والعدوان ومنع االحتيال لالعتداء على‬
‫الحق واضرار العباد‪.‬‬
‫‪ .3‬ما يكون مناط مصلحة العباد وسعادتهم كالمعامالت والحدود المقررة‬
‫وصيانة الدماء والتكاليف المراعى فيها المصالح البشرية والمرافق الحيوية‬
‫فهذ يجب أن يؤخذ فيها من كل مذهب ماهو أقرب إلى مصلحة العباد‬
‫وسعادتهم ولو ليم منه التلفيق لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي‬
‫يقصدها الرارع‪ ،‬وألن مصالح العباد تتغير بتغير اليمان والعرف وتطور‬
‫الحضارة والعمران ومعيار المصلحة هو كل مايضمن صيانة األصول الكلية‬
‫الخمسة (الدين؛ النفس؛ العقل النسل؛ المال) وصيانة كل مصلحة مقصودة‬
‫ررعاً في القرآن والسنة واإلجماع‪.‬‬
‫املطلب السابع‪ :‬درجات الناس من حيث عالقتهم ابلتلفيق‪.‬‬
‫ينقسم المكلفون إلى مفتين ومستفتين ‪ ،‬وزنقسم المفتون إلى‪:102‬‬
‫‪-‬أصحاب االجتهاد المطلق ‪ ،‬وال كالم لنا عنهم ألنهم ليسوا من أهل التقليد ‪.‬‬
‫‪-‬المجتهدون فيما علموا دليله والمقلدون فيما لم يعلموا دليله ‪ ،‬وهؤالء يفتون‬
‫فيما علموا دليله ‪ ،‬وزلتحق بهم أهل الترجيح واالستنباط ‪.‬‬
‫أما المستفتون فهم أنواعٌ ‪:103‬‬

‫‪-102‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ 229‬وما بعدها ‪.‬‬


‫‪-103‬ينظر ‪ :‬عمدة التحقيق ‪ :‬ص ‪ 231‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫طبقات ‪ :‬أعالها حملة فروع المذهب مع االطالع على‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬متفقهة المذاهب وهم‬
‫فروع المذاهب األخرى ‪ ،‬وزليها حملة فروع المذهب أو أغلبها ويطلق عليهم‬
‫اسم المفتين من باب المجاي واصطالح الحكومات ‪ ،‬وزليهم طبقة العوام‬
‫المطلعين على بعض األحكام الفقهية وبعض األدلة ‪ ،‬وزليهم العوام من‬
‫أصحاب الجهل من العمال والفعلة والفالحين وغيرهم من البعيدين عن الفقهاء‬
‫والعلماء ‪.‬‬
‫تعلق بموضوع‬
‫وهذ الطبقات جميعها غير أرباب االجتهاد المطلق لهم ٌ‬
‫التلفيق ‪.‬‬
‫املطلب الثامن‪ :‬الضوابط الشرعية لألخذ أبيسر املذاهب‪.‬‬
‫وفي آخر هذا البحث أذكر أهم الضوابط التي وضعها العلماء لجواي األخذ‬
‫بأيسر المذاهب تتميماً للفائدة وهي على النحو التالي‪:104‬‬
‫‪ )1‬أن يكون األخذ باأليسر ضمن حدود المسائل الفرعية الررعية االجتهادية‬
‫الظنية ‪ ،‬فال اجتهاد في مسائل االعتقاد وأصول األخالق‪.‬‬
‫‪ )2‬أن ال يترتب على األخذ باأليسر معارضة مصادر الررزعة القطعية أو‬
‫أصولها أو مبادئها العامة‪.‬‬
‫مثال‪ :‬إجاية الوصية لوارث أو إقرار القليل من الربا أو التسوية في الميراث ‪.‬‬
‫‪ )3‬أال يؤد األخذ باأليسر إلى إحالل المحرمات كالخمر والينى أو يؤد إلى‬
‫نقض حكم القاضي‪.‬‬
‫‪ )4‬أن تكون الغاية من األخذ باأليسر الحفاظ على مقاصد الررزعة والتيام‬
‫سياستها وحكمتها التررزعية ورعاية مصالح الناس كافة في المعامالت‬
‫والعقوبات ال المصلحة الخاصة وعدم إهدار مصلحة مما دونها واتقاء‬

‫‪-104‬ينظر ‪ :‬التلفيق في الفتوى‪ :‬مجلة الشريعة والدراسات اإلسالمية ‪.‬‬


‫‪44‬‬
‫المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى وأن تكون الررع هو معيار تحقيق‬
‫المصلحة ودرء المفسدة‪.‬‬
‫مثال‪ :1‬التهرب من اليكاة بيراعة محاصيل ال توجب اليكاة عند بعض‬
‫المذاهب هذا الفعل يعارض مقصد الررزعة في القضاء على الفقر واجتثاث‬
‫أصوله‪.‬‬
‫مثال‪ :2‬بعض الناس قد يرق عليهم أداء العبادات على صورة معينة فيفتى‬
‫لهم بأيسر المذاهب تيسي اًر للعبادة عليهم‪.‬‬
‫مثال‪ :3‬األخذ بما ذهب إليه القانون من إيقاع الطالق الثالث بلفظ واحد‬
‫وذلك حفاظاً على األسرة إذا الحفاظ على وحدة األسرة وتماسكها مقصد من‬
‫مقاصد الررزعة‪.‬‬
‫‪ )5‬أن تكون هناك ضرورة أو حاجة لألخذ باأليسر فال يكون األخذ باأليسر‬
‫يقصد التلهي والترهي أو الفرار من ربقة التكليف‪.‬‬
‫‪ )6‬أن يتقيد األخذ باأليسر بمبدأ الترجيح أ أن يكون الهدف العام هو العمل‬
‫بال أر األقوى واألرجح ألن األخذ باأليسر نوع من االجتهاد (اجتهاد انتقائي)‬
‫والمجتهد مليم بإتباع الدليل الراجح المؤد إلى الصواب وبالتالي يجب أن ال‬
‫يكون في المسألة االجتهادية دليل راجح واال وجب األخذ به‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الخاتمة ( وتتضمن أهم نتائج البحث )‬
‫الحمد هلل الذ بنعمته تتم الصالحات ‪ ،‬هاقد وصلنا إلى نهاية هذا البحث الريق ‪،‬‬
‫وفي ختامه يطيب لي أن أذكر أهم ما توصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل إليه البحث من نتائج وهي على‬
‫الركل التالي ‪:‬‬
‫‪-1‬التقليد هو ‪ :‬أخذ قول القائل من غير معرفة من أين قاله من كتاب أو سنة‬
‫بناء على المصلحة المرسلة أو سداً للذرزعة أو استصحاباً لألصل‬
‫أو قياس أو ً‬
‫أو‪.....‬إلى غير ذلك من أدلة األحكام ‪.‬‬

‫‪-2‬االتباع ‪ :‬فهو سلوك التابع طرزق المتبوع وأخذ الحكم من الدليل‪.‬‬

‫‪-3‬إن التقليد لم يحدث إال بعد انقراض خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين‬
‫يلونهم ‪ ،‬وان حدوث التمذهب بمذاهب األئمة األربعة إنما كان بعد انقراض‬
‫عصر األئمة األربعة إذا أنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر‬
‫التقليد وعدم االعتداد به ‪.‬‬

‫‪ -4‬العقائد األصلية واألخالق و األمور القطعية المعلومة من الدين بالضرورة ال‬


‫مساغ لالجتهاد والتقليد فيها ‪،‬أما ما لم يثبت بهذا الوجه ‪ ،‬بأن كان ظني الثبوت‬
‫ظني الداللة ‪ ،‬أو قطعي الثبوت ظني الداللة أو العكس ‪ ،‬فهو الذ فيه مساغ‬
‫االجتهاد والتقليد ‪ ،‬كالكثير من األحكام العملية ‪ ،‬التي ال يكفر جاحدها من رروط‬
‫كثير من السنن والمكروهات والمحظورات‬
‫وأركان لكونها مجتهداً فيها ‪ ،‬ونحوها ٌ‬
‫المختلف فيها‪.‬‬

‫‪ -5‬العوام البد لهم من تقليد علمائهم ألنهم ال يهتدون إلى األدلة الررعية بأنفسهم‬
‫فوجب أن يسترردوا بالعلماء الذين ينيرون لهم طرزق المعرفة ‪ ،‬وزبينوا لهم أحكام‬

‫‪46‬‬
‫هللا تعالى ‪ ،‬أما بالنسبة للمجتهد فيحرم عليه التقليد إذا كان قاد اًر على االجتهاد‬
‫في المسائل المعروضة عليه ‪ ،‬أما إذا عجي عن االجتهاد لضيق الوقت أو عدم‬
‫ظهور الدليل له فله التقليد ‪ ،‬أما إذا كان العالم يعرف بعد األدلة دون بعض ‪ ،‬فله‬
‫بناء على تجيؤ االجتهاد ‪ ،‬ويقلد بعض األئمة فيما لم‬
‫أن يجتهد فيما عرف دليله ً‬
‫يعرف دليله ‪.‬‬

‫‪ -6‬قسم العلماء التقليد إلى قسمين وهما التقليد المذموم والتقليد المحمود ‪ ،‬والتقليد‬
‫المذموم هو تقليد اآلباء واألسياد فيما يخالف ررع هللا ‪ ،‬و تقليد من لم يكن من‬
‫أهل العلم ‪ ،‬والتقليد بعد ظهور الحجة على خالف قول المقَلد ‪.‬‬

‫أما التقليد المحمود فهو تقليد العامي العاجي عن االجتهاد الغير قادر على‬
‫التوصل إلى الحكم الررعي بنفسه ‪ ،‬للعلماء المجتهدين ‪.‬‬

‫‪ -7‬رخصان اليليمان بمذهب ‪ :‬العامي الصرف مذهبه في كل واقعة هو مذهب‬


‫من أفتا بها‪ ،‬وكذلك من له نوع بصر بالمذاهب وتأهل للنظر واالستدالل فال‬
‫يليمه مذهب معين ‪.‬‬

‫‪ -8‬ال فرق بين األخذ بقول أحد من األئمة األربعة ‪ ،‬وبين األخذ بقول غيرهم من‬
‫بقية األئمة المجتهدين مادامت الرواية صحيح ًة ‪.‬‬

‫‪ -9‬ارترط العلماء في المفتي الذ يجوي تقليد العقل والبلوغ والحرزة والعدالة ‪،‬‬
‫ومعرفة واقعة االستفتاء ‪ ،‬ودراسة نفسية المستفتي والجماعة التي يعيش فيها‬
‫ليعرف مدى أثر الفتوى سلباً أو إيجاباً ‪ ،‬واختلفوا في تقليد المجتهد الميت والراجح‬
‫جواي تقليد ألن المذاهب ال تموت بموت أصحابها ‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫مجتهد ‪ ،‬وذلك بأن يلفق في‬ ‫ٌ‬ ‫‪ -10‬التلفيق ‪ :‬هو اإلتيان بكيفية ال يقول بها‬
‫قضية واحدة بين أكثر من قول من أقوال العلماء ‪ ،‬فتتكون حقيق ٌة مركب ٌة لم يقل‬
‫أحد من العلماء‪.‬‬
‫بها ٌ‬
‫‪-11‬ظهرت مسألة التلفيق بعد فرو التقليد ‪ ،‬ولم يتكلم فيها غيما نعلم قبل القرن‬
‫السابع الهجر ‪.‬‬
‫‪ -12‬مجال التلفيق هو المسائل االجتهادية الظنية ‪ ،‬أما ما علم من الدين‬
‫بالضرورة من متعلقات الحكم الررعي وهو ما أجمع عليه المسلمون ويكفر‬
‫جاحد ‪ ،‬فال يصح فيه التقليد فضالً عن القول بالتلفيق‪.‬‬
‫‪-13‬لجواز التلفيق ضوابط ‪:‬‬
‫‪ -‬أال يكون فيه تتبع الرخص عمداً بقصد الترهي من غير عذر والضرورة ألن‬
‫هذا محظور سداً لذرائع الفساد واالنحالل من التكاليف الررعية‪.‬‬
‫‪ -‬أال يؤد التلفيق إلى اإلتيان بمحظور‪.‬‬
‫‪ -‬أال يستليم التلفيق نقض حكم الحاكم ألن حكمه يرفع الخالف درءاً للفوضى‪.‬‬
‫‪ -14‬والتلفيق الجائي يكون عند الحاجة و الضرورة وليس من أجل العبث أو تتبع‬
‫األيسر واألسهل عمداً بدون مصلحة ررعية ‪.‬‬
‫هذ أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث أرجو هللا أن يتقبل منا هذا‬
‫مجيب ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫زب‬
‫سميع قر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫العمل وزجعله في مييان حسناتنا إنه‬

‫الدكتور ‪ :‬عمر محمد جبه جي‬

‫اإلمارات – العين‬

‫‪48‬‬
‫المصادر والمراجع ‪.‬‬
‫‪-1‬القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم ‪.‬‬
‫‪-2‬إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر وجنة المناظر ‪ :‬ابن قدامة‬
‫المقدسي ‪ ،‬بشرح الدكتور عبد الكريم النملة ‪، ،‬دار العاصمة ‪ ،‬ط‪، 1‬‬
‫‪1996‬م ‪.‬‬
‫‪-3‬اإلحكام في أصول األحكام ‪ :‬سيف الدين اآلمدي ‪ ،‬تحقيق عبد الرزاق‬
‫عفيفي ‪،‬دار الصميعي‪،‬ط‪2003 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪-4‬إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول ‪ :‬محمد بن علي الشوكاني‬
‫‪،‬دار الفضيلة ‪2000 ،‬م ‪.‬‬
‫‪-5‬أصول الفقه اإلسالمي ‪ :‬د وهبة الزحيلي ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬ط‪1986 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪-6‬أصول الفقه ‪ :‬محمد الخضري ‪ ،‬دار الحديث ‪.‬‬
‫‪-7‬أصول الفقه ‪ :‬محمد أبو زهرة ‪ ،‬دار الفكر العربي ‪.‬‬
‫‪-8‬إعالم الموقعين عن رب العالمين ‪ :‬محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية‪،‬‬
‫تحقيق مشهور آل سلمان ‪ ،‬دار ابن الجوزي ‪ ،‬ط‪1423 ، 1‬هـ ‪.‬‬
‫‪-9‬البرهان في أصول الفقه ‪ :‬عبد الملك الجويني ‪ ،‬د عبد العظيم الديب ‪ ،‬قطر‬
‫‪ ،‬ط‪1399 ، 1‬هـ ‪.‬‬
‫‪-10‬البحر المحيط في أصول الفقه ‪ :‬بدر الدين الزركشي ‪ ،‬وزارة األوقاف ‪،‬‬
‫الكويت ‪ ،‬ط‪1992 ، 2‬م‪.‬‬
‫‪-11‬تحفة الرأي السديد ‪ :‬أحمد الحسيني ‪ ،‬مطبعة كردستان العلمية بمصر ‪،‬‬
‫‪1326‬هـ ‪.‬‬
‫‪-12‬التقليد واإلفتاء واالستفتاء ‪ :‬عبد العزيز الراجحي ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫‪-13‬تقويم األدلة في أصول الفقه ‪ :‬أبو زيد الدبوسي ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪،‬‬
‫ط‪2001 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪-14‬التلفيق في الفتوى ‪ :‬د سعد العنزي ‪،‬مجلة الشريعة والدراسات اإلسالمية ‪،‬‬
‫جامعة الكويت ‪.‬‬
‫‪-15‬جامع لبيان العلم وفضله‪ :‬يوسف بن عبد البر ‪ ،‬تحقيق أبي األشبال‬
‫الزهيري ‪ ،‬دار ابن الجوزي ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬ط‪ 1994 ، 1‬م ‪.‬‬
‫عصر فرض‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-16‬الرد على من أخلد إلى األرض وجهل أن االجتهاد في كل‬
‫جالل الدين السيوطي ‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية ‪ ،‬بورسعيد ‪.‬‬
‫‪-17‬سنن أبي داود ‪ :‬اإلمام أبو داود السجستاني ‪ ،‬بيت األفكار الدولية ‪.‬‬
‫‪-18‬شرح البدخشي ( منهاج العقول ) ‪ :‬محمد بن الحسن البدخشي ‪ ،‬مطبعة‬
‫محمد علي صبيح بمصر ‪.‬‬
‫‪-19‬عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ‪:‬محمد سعيد عبد الرحمن الباني ‪ ،‬دار‬
‫القادري ‪1997 ،‬م ‪.‬‬
‫‪-20‬فتح القدير ‪ :‬الكمال بن الهمام الحنفي ‪.‬‬
‫‪-21‬قواعد األحكام في مصالح األنام ‪ :‬العز بن عبد السالم ‪ ،‬دار المعرفة ‪،‬‬
‫بيروت ‪.‬‬
‫‪-22‬القول المفيد في أدلة االجتهاد و التقليد ‪ :‬محمد بن علي الشوكاني‪،‬‬
‫تحقيق محمد سعيد البدري ‪ ،‬دار الكتاب اللبناني ‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ 1991 ، 1‬م ‪.‬‬
‫‪-23‬مدخل لدراسة الفقه اإلسالمي للدكتور محمد سالم مدكور‬
‫‪-24‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ‪ :‬أحمد بن عبد الحليم ‪ ،‬عبد الرحمن بن‬
‫القاسم ‪،‬السعودية ‪.‬‬
‫‪-25‬المستصفى من علم األصول ‪ :‬اإلمام الغزالي ‪ ،‬مؤسسة الرسالة ‪ ،‬ط‪، 1‬‬
‫‪1997‬م ‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫‪ -26‬المنخول من تعليقات األصول ‪ :‬أبو حامد الغزالي ‪ ،‬تحقيق محمد حسن‬
‫‪.‬‬ ‫هيتو‬
‫‪-27‬المهذب في علم أصول الفقه المقارن ‪ :‬د عبد الكريم النملة ‪ ،‬مكتبة‬
‫الرشد ‪ ،‬الرياض ‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪-28‬الوجيز في أصول الفقه ‪ :‬د عبد الكريم زيدان ‪ ،‬مؤسسة قرطبة ‪.‬‬

‫‪51‬‬

You might also like