You are on page 1of 55

‫ض َوابِطُ التَّيْ ِسري‬

‫َ‬
‫ِفي الْ َفتْ َوى‬

‫تأليف‬

‫حذيفة أمحد عكاش‬

‫‪1‬‬
‫╝‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم عىل رسول اهلل حممد‪ ،‬وعىل آله وصحبه ومن‬
‫وااله‪.‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫فقد انترشت الفتاوى‪ ،‬وعمت شبكة املعلومات والفضائيات‪ ،‬وهذا يدل عىل حرص الناس‬
‫عىل معرفة أحكام دينهم‪ ،‬وهو مظهر من مظاهر الصحوة اإلسالمية املباركة التي ال ينكرها‬
‫منهج ينادي بمالحظة الواقع الذي ستنزل الفتوى‬
‫ٌ‬ ‫إال مكابر‪ ،‬وهنا برز منهجان للفتوى‪،‬‬
‫عليه‪ ،‬والتيسري عىل الناس‪ ،‬ضمن مقاصد الرشيعة اإلسالمية العامة‪.‬‬
‫ومنهج يعتمد الدليل الراجح –عندهم‪ -‬دون مراعاة لواقع الناس – غالبا‪ -‬وكثرت‬
‫الكتابات التي تتكلم عن الفتوى وآداهبا‪ ،‬وكثر اجلدل حول منهج التيسري يف الفتوى‪ ،‬ما بني‬
‫مشجع ومنكر‪ ،‬وعند معاجلة موضوع التيسري تعرتضنا عدة اصطالحات ومفاهيم وأحكام‪،‬‬
‫ال بد من الوقوف عندها حتى نحيط باملوضوع من جوانبه‪.‬‬
‫حيث تتداخل املفاهيم ويقع اخللط يف هذا املوضوع كثريا ‪ ،‬فيختلط مفهوم الرخص‬
‫الرشعية(‪ ،)1‬والرخص الفقهية(‪ )2‬وزالت العلامء(‪.)3‬‬

‫ب أ ْن ت ْؤتى رخصه‬ ‫ِ‬


‫فيقول الذين ينادون بالتيسري‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ قال‪« :‬إن اهلل ‪ُ ‬ي ُّ‬
‫ب أ ْن ت ْؤتى عز ِائمه»(‪ ،)4‬وقال ‪{ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬ ‫ِ‬
‫كام ُي ُّ‬

‫(‪ )1‬وهي التي هلا سبب كالسفر واملرض‪..‬‬


‫(‪ )2‬وهي القول األخف بني مذاهب الفقهاء عند اختالفهم‪.‬‬
‫(‪ )3‬ويسمى‪ :‬األقوال الشاذة‪ ،‬وهي التي ضعف استدالهلا جدا‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ِحبان يف صحيحه برقم‪ ،354:‬وقال حمققه الشيخ شعيب األرنؤوط‪ :‬إسناده صحيح ‪ ،69/2‬سنن البيهقي‬

‫الكربى‪ ،140/3 ،‬املعجم الكبري للطرباين‪ ،‬رقم ‪.323/11 ،11880‬‬

‫‪2‬‬
‫امليِّسة يف ر‬
‫كل‬ ‫ﯞ}[سورة البقرة‪ ،]185 :‬ويقول غريهم‪" :‬من تتبع ُّ‬
‫الرخص ‪-‬أي األقوال ر‬
‫أمر‪ -‬رق دينه" و "إن أخذت برخصة كل عامل اجتمع فيك الرش كله"‪.‬‬
‫كام ر‬
‫ُيذر العلامء من زالت العلامء‪ ،‬ومن التلفيق بني أقوال املجتهدين‪ ،‬وهناك من جييز‬
‫التلفيق(‪ ،)5‬كام أن هناك خالفا بني العلامء هل األ ْوَل األخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟‬
‫هذه األسئلة وغريها سأحاول اإلجابة عليها يف هذا البحث إن شاء اهلل‪ ،‬معتمدا عىل جهود‬
‫العلامء وأبحاثهم هبذا الصدد‪.‬‬
‫أكتم القارئ الكريم أنني تأثرت بم ْن ينادي بالتيسري وعىل رأسهم فضيلة الدكتور‬
‫ُّ‬ ‫وال‬
‫يوسف القرضاوي –حفظه اهلل‪ -‬كام أنني يف الطرف املقابل سمعت نقدا هلذا املنهج‪،‬‬
‫فأحببت أن أبحث يف هذا املوضوع وأحيط به من جوانبه حتى تتضح الرؤية يل أوال‪ ،‬ثم‬
‫أنقلها لغريي ثانيا‪ ،‬فرأ يت من الرضورة امللحة الكتابة حول ضوابط الفتوى بالتيسري‪ ،‬حتى‬
‫ال تكون قاعدة عامة دون ضوابط أو قيود!‬

‫أثرُ نفسيةِ املفيت وشخصيتِه على اختياراتِه الفقهية‪:‬‬


‫ٍ‬
‫أنامط وأنواع‪ ،‬حيث‬ ‫ِ‬
‫وتصنيف شخصيات البرش إَل‬ ‫ِ‬
‫معرفة‬ ‫ثمة علم انترش مؤخرا ي ْعنى ب‬
‫يصنفها املختصون إَل عدة أنامط حسب بعض السلوكيات واألفعال التي يالحظوهنا يف‬
‫الشخص‪ :‬كعقالين أو عاطفي‪ ،‬وتلقائي أو منظم‪ ،‬وقيادي أو تابع‪ ،‬ومبدع أو مق رلد‪ ،‬وواقعي‬
‫أو حامل‪ ،‬واجتامعي أو انطوائي‪ ،‬ومنفتح أو متح رفظ‪ ..‬وغريها من التصنيفات املعروفة لدى‬
‫أهل ذلك الفن‪ ،‬وهذا كله نتيجة استقراء ومالحظة لسلوك الناس ونفسياهتم‪ ،‬ومن‬
‫املعروف أن النتائج أغلبية فهناك العقالين العادي واملتطرف‪ ..‬فالناس متفاوتون يف درجة‬

‫(‪ )5‬اإلتيان بكيفية ال يقول هبا جمتهد؛ وذلك بأن يل رفق يف قضية واحدة بني قولني أو أكثر‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫كل صفة‪ ،‬وهذا ال يعني أن اإلنسان ٍ‬
‫خال من الصفة املقابلة‪ ،‬فالعقالين ‪-‬مثال‪ -‬ال خيلو من‬
‫ب متفاوتة‪ ،‬وهكذا‪..‬‬‫عاطفة‪ ،‬لكن عقله يغلب عاطفته بِنِس ٍ‬

‫والعلامء ال خيرجون عن هذه األنامط فكل عامل له شخصية خمتلفة‪ ،‬ونمط الشخصية يؤثر‬
‫عىل ر‬
‫كل مناحي حياة اإلنسان‪ ،‬ومنها‪ :‬العلم واآلراء واألفكار‪ ،‬فصاحب الشخصية املنفتحة‬
‫ِ‬
‫والفكرية كذلك‪ ،‬واملتح رفظ تنعكس‬ ‫ِ‬
‫والعلمية‬ ‫جتد آراءه منفتحة‪ ،‬واختياراته الفقهية‬
‫شخصيته عىل آرائه واجتهاداته وفتاويه‪..‬‬

‫ولعل من حكمة اهلل تعاَل أن ترك جانبا إنسانيا يف الترشيع يتوَل فيه البرش استنباط احلكم‬
‫ِ‬
‫أنامط‬ ‫وتنزيله عىل الواقع‪ ،‬وجعل الفقهاء خمتلفني‪ ،‬حتى تكون آراؤهم املختلفة تناسب كل‬
‫شخصيات البرش! فم ْن غلب عليه التح ُّفظ ر‬
‫والشدة وجد يف آراء العلامء ما يناسب نمط‬
‫تتسع دائرة الرشع لتشمل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫شخصيته‪ ،‬واملنفتح اليِّس جيد من االجتهادات ما يناسبه‪ ،‬وهكذا ر‬
‫ِ‬
‫وأنواع ِهم‪ ،‬واهلل تعاَل أعلم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أطياف الب ِ‬
‫رش‬ ‫كل‬

‫ُيك ْم أحدٌ ب ْني ا ْثن ْ ِ‬


‫ني وهو غ ْضبان»(‪ ،)6‬قال العالمة ابن‬ ‫واألصل يف ذلك قوله ☺‪«:‬ال ْ‬
‫دقيق العيد ♫‪" :‬فيه النهي عن احلكم حالة الغضب؛ ملا ُيصل بسببه من التغري الذي‬
‫خيتل به النظر‪ ،‬فال ُيصل استيفاء احلكم عىل الوجه‪ ،‬قال‪ :‬وعداه الفقهاء هبذا املعنى إَل كل‬
‫ِ‬
‫وسائر ما يتعلق به‬ ‫ِ‬
‫وغلبة النعاس‬ ‫ما ُيصل به تغري الفكر‪ ،‬كاجلوع والعطش املفرط ْ ِ‬
‫ني‪،‬‬
‫القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر"(‪.)7‬‬

‫وكل ما يكون سببه تعصب الفقهاء لرأي أو مذهب فهو مندرج حتت هذا البند‪ ،‬ألن نفسية‬
‫املتعصب ت ْأطره عىل التقليد‪ ،‬وتطمس بصريته عن معاينة الدليل‪.‬‬
‫ر‬

‫(‪ )6‬مسلم‪ ،‬برقم‪ ،1717:‬كتاب األقضية‪ ،‬باب كراه ِة قض ِ‬


‫اء ا ْلق ِ‬
‫اِض وهو غ ْضبان (‪)1342/3‬‬
‫(‪ )7‬فتح الباري‪ ،‬ابن حجر‪)137/13( ،‬‬
‫‪4‬‬
‫ومن هذا الرضب أن يكون الفقيه مشحونا بفكرة ما فتؤ رثر عىل اختياره و منهجه‪ ،‬ويؤثر عىل‬
‫ترجيح املحدث يف التصحيح والتضعيف‪ ،‬فإذا كان ُيمل حكام م ْسبقا يف مسألة ما أو فكرة‬
‫معينة قبل ولوجه التصحيح والتضعيف‪ ،‬فإن ذلك يؤ رثر عىل مسلكه ومنهجه‪ ،‬وتساهله‬
‫وتشدده يف التصحيح والتضعيف‪.‬‬

‫أثر يف تغري األخالق واملزاج والنفسية‪ ،‬ويف ذلك يقول ابن‬ ‫ٍ‬
‫مرض العضوي ٌ‬ ‫وقد يكون لل‬
‫اجع ْل بدل عجبك هبا شكرا لواهبك إِياها‬ ‫ِ‬
‫خصلة لك فيها‪ ..‬ف ْ‬
‫حزم♫‪" :‬فضائلك ال ْ‬
‫رض وبالفقر وباخلوف وبالغضب‬‫وإشفاقا من زواهلا فقد تتغري ْاأل ْخالق احلميدة بِا ْمل ِ‬

‫وباهلرم‪..‬ولقد أصابتني عل ٌة شديدة ولدت عل ربوا يف الطحال شديدا‪ ،‬فولد ذلك عل ِمن‬
‫الضجر ِ‬
‫وضيق اخللق وقلة الصرب والنز ِق أمرا حاسبت نفيس فيه‪ ،‬إذ أنكرت تبدُّ ل خلقي‪،‬‬
‫واشتد عجبي من مفارقتي لط ْبعي"(‪.)8‬‬

‫وهذا موجو ٌد ومالحظ زمن النبي ☺‪ ،‬فبالنظر لطبيعة الصدر يق ◙ نلحظ غلبة اللني‬
‫والرمحة عىل شخصيته‪ ،‬خالفا للفاروق ◙ فيغلب عليه احلزم والشدة يف احلق‪ ،‬وقد‬
‫ظهر ذلك بجالء يف حادثة أرسى معركة بدر‪.‬‬

‫اس‪ :‬فلام أرسوا ْاألسارى‪ ،‬قال رسول اهللِ ☺ ِأل ِب بك ٍْر‪ ،‬وعمر‪« :‬ما تر ْون ِيف‬ ‫قال ْابن عب ٍ‬

‫هؤال ِء ْاألسارى؟» فقال أبو بك ٍْر‪ :‬يا نبِي اهللِ‪ ،‬ه ْم بنو ا ْلع رم وا ْلع ِشري ِة‪ ،‬أرى أ ْن ت ْأخذ ِمنْه ْم‬
‫ْل ْسال ِم‪ ،‬فقال رسول اهللِ ☺‪« :‬ما‬ ‫ار‪ ،‬فعسى اهلل أ ْن َيْ ِدَي ْم ل ِ ْ ِ‬
‫ِفدْ ية فتكون لنا قوة عىل ا ْلكف ِ‬

‫اب؟» ق ْلت‪ :‬ال واللِ يا رسول اهللِ‪ ،‬ما أرى ال ِذي رأى أبو بك ٍْر‪ ،‬ول ِكنري أرى‬ ‫اخلط ِ‬
‫ترى يا ْابن ْ‬
‫رضب عنقه‪ ،‬وُت ركنري ِم ْن فال ٍن ‪-‬ن ِسيبا‬ ‫رضب أ ْعناقه ْم‪ ،‬فتمكرن علِ ًّيا ِم ْن ع ِق ٍ‬
‫يل في ْ ِ‬ ‫أ ْن ُتكرنا فن ْ ِ‬

‫اديدها‪ ،‬فه ِوي رسول اهللِ ☺ ما قال أبو‬ ‫ْضب عنقه‪ ،‬ف ِإن هؤال ِء أ ِئمة ا ْلك ْف ِر وصن ِ‬‫لِعمر‪ -‬فأ ْ ِ‬

‫(‪ )8‬األخالق والسري يف مداواة النفوس‪ ،‬ابن حزم‪( ،‬دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1399 ،2‬ـه ‪1979 -‬م) ص‪71‬‬
‫‪5‬‬
‫بك ٍْر‪ ،‬ومل َيو ما ق ْلت‪ )9(»..‬ثم نزل الوحي مؤيدا رأي ِ‬
‫سيدنا عمر ◙‪ ،‬إن املتأمل لكال‬ ‫ر‬ ‫ْ ْ‬
‫املوقفني يلحظ أن نفسية كل واحد مل خترج عن اإلطار الرشعي‪ ،‬بل كان الرشع ومصلحة‬
‫املسلمني مهيمنا عىل رأييهام(‪.)10‬‬

‫ُّ‬
‫وحل هذه املعضلة بالنسبة للمجتهد باتباع الدليل‪ ،‬و حتري احلق‪ ،‬والدوران مع األدلة حيثام‬
‫جيرد نفسه قدر املستطاع‪ ،‬وجيتنب اهلوى‬ ‫ٍ‬
‫مسألة ما ْ‬
‫أن ر‬ ‫دارت‪ ،‬فينبغي عىل الباحث يف‬
‫وحظوظ النفس‪.‬‬

‫أما بالنسبة لغري املجتهد‪ :‬فينظر يف أدلة املجتهد ويف استدالالته ويتبع من كانت استدالالته‬
‫راجحة‪ ،‬أما املقلد‪ :‬فليس له إال أن يق رلد م ْن يثق بدينه وعلمه‪ ،‬ممن وثقه العلامء ال رثقات‪.‬‬

‫ميِّسة‪،‬‬ ‫يقول الدكتور يوسف القرضاوي‪" :‬ال بد أن تتبِع الدليل‪ ،‬ولكن املفتي ر‬
‫امليِّس روحه ر‬
‫روحه حممدية خمف رفة‪ ،‬يضع عنهم اآلصار واألغالل التي كانت عليهم‪ ،‬فهو يبحث عن‬
‫التيسري‪ ،‬ويلمح دليل التيسري‪ ،‬وال يلمحه املشدد أبدا"(‪.)11‬‬

‫أيِّس عىل‬
‫ويقول‪" :‬إننا أحوج ما نكون إَل التوسعة عىل الناس‪ ،‬وهذا ما اخرتته لنفيس‪ :‬أن ر‬
‫الناس يف الفروع عىل حني أشدد يف األصول‪.‬‬

‫وليس معنى هذا أن ألوي أعناق النصوص رغام عنها ألستخرج منها –كرها‪ -‬معاين‬
‫وأحكاما تيِّس عىل الناس!‬

‫اد بِا ْملالئِك ِة ِيف غزْ و ِة بدْ ٍر‪ ،‬وإِباح ِة ا ْلغنائِ ِم‪1385/3 ،‬‬
‫اإلمد ِ‬
‫(‪ )9‬مسلم‪ ،‬كتاب اجلهاد‪ ،‬باب ْ ِ ْ‬
‫(‪ )10‬ينظر‪ :‬مقال‪ :‬األثر النفيس عىل ترجيح الفقيه واجتهاد اإلمام وفتوى املفتي‪ ،‬منيب العبايس‪ ،‬مقال منشور عىل امللتقى‬
‫الفقهي للشبكة الفقهية عىل شبكة املعلومات‪.‬‬
‫(‪ )11‬ينظر‪ :‬فقه التيسري يف القرآن والرشيعة‪ ،‬القرضاوي‪ ،‬برنامج الرشيعة واحلياة‪ ،‬تاريخ احللقة‪2010/6/13 :‬م‪ ،‬نص‬
‫احللقة عىل موقع اجلزيرة اإللكرتوين‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫كال‪ ،‬فالتيسري الذي أعنيه‪ :‬هو الذي ال يصادم نصا ثابتا حمكام‪ ،‬وال قاعدة رشعية قاطعة‪ ،‬بل‬
‫يسري مع النصوص والقواعد والروح العامة لْلسالم‪..‬‬

‫وعىل العموم‪ :‬إذا كان هناك رأيان متكافئان‪ ،‬أحدمها أحوط‪ ،‬والثاين أيِّس‪ ،‬فإين أوثر اإلفتاء‬
‫باأليِّس اقتداء بالنبي ☺ الذي «ما خ رري بني أمرين إال اختار أيِّسمها ما مل يكن إثام»(‪ )12‬أما‬
‫األحوط‪ :‬فيمكن أن يأخذ به املفتي يف خاصة نفسه‪ ،‬أو يفتي به أهل العزائم واحلريصني عىل‬
‫االحتياط‪ ،‬ما مل خيش عليهم اجلنوح للغلو"(‪.)13‬‬

‫وما أمجل هذه الكلمة املنهجية التي طاملا سمعناها وقرأناها لفضيلة شيخنا الدكتور يوسف‬

‫القرضاوي حفظه اهلل‪( :‬منهجي يف الفتوى التيسري‪ ،‬ويف الدعوة التبشري) انطالقا من‬

‫احلديث الرشيف‪« :‬ي رِّسوا وال تع رِّسوا‪ ،‬وب ررشوا وال تن رفروا»(‪.)14‬‬

‫بني الورع والتيسري‪:‬‬


‫كثري من العلامء الورعني ينسحب ورعهم عىل فتاوَيم‪ ،‬فيأخذون الناس بام يعتقدونه‬ ‫ٌ‬
‫ويفعلونه ِمن الورع واالحتياط‪ ..‬رغم أن األ ْوَل عدم التعميم فم ْن كان ِم ْن أهل الورع فله‬
‫والرخص‪ ،‬وإن أردنا قاعدة عامة فهي‪ :‬الورع‬
‫األقوال الورعة‪ ،‬وم ْن رق دينه نفتيه بالي ِّْس ُّ‬
‫للن ْفس والي ِّْس للناس‪.‬‬

‫(‪ )12‬البخاري‪ ،6126 ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب قوله ☺((يِّسوا وال تعِّسوا))‪ ،30/8 ،‬ومسلِم‪ ،2327،‬كتاب الفضائل‪،‬‬
‫باب مباعدته ☺ لآلثام‪.1813/4 ،‬‬
‫(‪ )13‬ينظر‪ :‬الفتوى بني االنضباط والتسيب‪ ،‬القرضاوي‪ ،‬ص‪113‬‬
‫(‪ )14‬البخاري‪ ،69،‬كتاب العلم‪ ،‬باب ما كان النبي ☺ يتخوهلم باملوعظة والعلم كي ال ينفروا ‪ ،25/1،‬ومسلِم‪،‬‬
‫‪ ،1734‬كتاب اجلهاد‪ ،‬باب يف األمر بالتيسري وترك التنفري‪1359/3،‬‬
‫‪7‬‬
‫سمعت أكثر من مرة شيخنا الدكتور نور الدين عرت حفظه اهلل‪ ،‬أنه كان ُيرص عىل زيارة‬
‫العالمة املقرئ الشيخ عبد العزيز عيون السود(‪ ♫ )15‬يف مدينة محص‪ ،‬استجابة لوصية‬
‫ِ‬
‫شيخه الشيخ عبد اهلل رسا ج الدين ♫ بزيارته‪ ،‬وكان الدكتور نور الدين ي ْعجب من‬
‫فتاوى الشيخ امليِّسة ‪-‬رغم ورع الشيخ عبد العزيز الشديد‪ -‬ثم يقول لنا الدكتور نور‬
‫ِ‬
‫طالب العلم أن يأخذ نفسه بالورع‪ ،‬ويفتي الناس بالي ِّْس"‪.‬‬ ‫الدين‪" :‬فعىل‬

‫ويقول الشيخ سلامن عودة‪ " :‬بعض الفقهاء يتحدث عن يِّس الرشيعة كمبدأ عام‪ ،‬وقاعدة‬
‫كلية‪ ،‬لكن هذا املعنى يغيب أو يكاد يف التطبيقات العملية‪ ،‬ألنه يغلبهم حينئذ ما يف نفوسهم‬
‫من الورع‪ ،‬واالحتياط وما اعتادوه يف حياهتم من الشدة‪ ،‬وال يتصورون حجم املشقة‬
‫املرتتبة عىل املنع‪ ،‬أو مقدار املفسدة احلاصلة به‪ ،‬فيرتتب عىل ذلك أن كل أمر جديد غري‬
‫مألوف‪ ،‬يدخل يف دائرة املنع واحلظر‪ ،‬وأصبح اإلنسان يعلم أن هذا األمر سوف ي ْؤلف فيام‬
‫لكن ُيتاج الناس إَل سنوات حتى ي ْألفوه‪ ،‬وهنا فرق بني األشياء التي‬
‫بعد‪ ،‬ويصبح مقبوال‪ْ ،‬‬
‫حرمها اهلل وعندنا فيها بينة‪ :‬ﭧ ﭨ {ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬

‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ}[التوبة‪ ]115:‬فالذي حرمه اهلل ▐‬


‫السنة أو بإمجاع األمة‪ ،‬أو ما جرى جمراه‪،‬‬
‫أ ْمره واضح‪ ،‬مما هو حمرم بنص القرآن‪ ،‬أو بنص ُّ‬
‫وثم أشياء إنرام حتريمها بنوع من التأويل واالجتهاد‪ ،‬والنظر الذي قد يتأثر بظروف اإلنسان‬

‫(‪ )15‬الشيخ عبد العزيز عيون السود ♫‪1335-1399( :‬ـه‪1979-1917/‬م) املقرئ‪ ،‬املفِّس‪ ،‬الفقيه‪ ،‬املحدث‪،‬‬
‫اللغوي‪ ،‬أمني اإلفتاء وشيخ القراء يف مدينة محص‪ ،‬ومن تواضعه أنه كان يو رقع عىل رسائله بـ (املبتىل بأمانة اإلفتاء ومشيخة‬
‫القراء عبد العزيز عيون السود)‪ ،‬قرأ عىل شيخ قراء دمشق الشيخ حممد سليم احللواين‪ ،‬وشيخ القراء يف مرص الشيخ عل بن‬
‫حممد الضباع‪ ،‬وشيخ قراء احلجاز الشيخ أمحد بن حامد التيجي‪ ،‬حفظ كتب احلديث الستة وغريها‪ ،‬وحمفوظاته من الشعر‬
‫كثرية تبلغ نحوا من ثالثة عرش ألف بيت يف العلوم املختلفة‪ ،‬كان قليل املزاح‪ ،‬كثري الذكر والتالوة والصالة‪ ،‬مل تفتْه‬
‫اجلامعة مذ بلغ‪ ،‬من مؤلفاته‪ :‬رسالة يف املكاييل واألوزان الرشعية ومقارنتها باملوازين العرصية‪ ،‬الكوائن يف الفتن‬
‫واملالحم ومل يكمله‪[ .‬من ترمجة تلميذه الدكتور أيمن سويد]‬
‫‪8‬‬
‫ونفسيته وثقافته الشخصية وما تربى عليه‪ ،‬فيرتتب عىل ذلك مشكالت عويصة وكبرية‪،‬‬
‫تتطلب من العامل أن يكون ي ِقظا‪ ،‬وليس ُّ‬
‫احلل هنا هو االنطالق من غري زمام وال معرفة‪،‬‬
‫وإنام املقصود التوازن واالعتدال واهلدوء يف النظر‪ ،‬وأال يكون حكم اإلنسان يف األشياء‬
‫ف أو العادة‪ ،‬أو عدم استحسان الذوق لبعض األشياء‪ ،‬وإنام يفرق بني‬‫اإل ْل ِ‬
‫مبن ًّيا عىل عدم ِ‬

‫األشياء املحرمة الرصُية‪ ،‬واألشياء التي ليس فيها حتريم رصيح‪ ،‬وبني األشياء التي فيها‬
‫التحرز منها‪ ،‬مما يسميه األصوليون‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫يشق‬
‫مصالح للناس أو مفاسد‪ ،‬وبني األشياء التي ُّ‬
‫(عموم البلوى)‪ ،‬وبني أشياء يسهل جتنُّبها واخلالص منها‪ ،‬إَل قواعد يعرفها الفقيه‪ ،‬الذي‬
‫اشتهرت ِ‬
‫عن الفقهاء هذه‬ ‫ْ‬ ‫عنده فقه يف نفسه ومعرفته‪ ،‬بحيث يكون يف دائرة االعتدال‪ ،‬وقد‬
‫العبارة‪( :‬هذا القول أرفق بالناس)"(‪.)16‬‬

‫منهج البحث‪:‬‬
‫منهج البحث الذي سأتبعه يف بحثي فهو املنهج االستقرائي التحليل املقارن‪ :‬القائم عىل‬
‫عرض أقوال العلامء القدماء واملعارصين‪ ،‬حم رلال إياها‪ ،‬مبتدئا بمواضع االتفاق ثم أدلتها‪ ،‬ثم‬
‫مواضع االختالف‪ ،‬حيث أقسم األقوال إَل ِفر ٍق بحسب اتفاقهم واختالفهم‪ ،‬ثم أعرض‬
‫أدلة كل فريق‪ ،‬ثم مناقشة األدلة ثم الرتجيح(‪.)17‬‬

‫(‪ )16‬ينظر‪ :‬مقال الدكتور سلامن العودة بعنوان‪( :‬ونيِّسك لليِّسى) منشور عىل موقع (اإلسالم اليوم) وغريه يف شبكة‬
‫املعلومات‪.‬‬
‫(‪ )17‬بعض الفضالء يتحرج من كتابة كلمة‪( :‬تأليف فالن) عىل غالف الكتاب‪ ،‬ويستبدهلا بكلمة‪( :‬بقلم فالن‪ ،‬أو مجع‬
‫وترتيب فالن‪ ،‬أو مجع وتنسيق فالن أو غريها من الكلامت) وذلك تواضعا منهم واعرتافا بفضل غريهم ممن نقلوا عنهم‪،‬‬
‫حيث مل يكن منهم إال اجلمع والتنسيق بني كالم غريهم من الباحثني السابقني والالحقني‪ ،‬وهذا شعور مجيل وتواضع‬
‫حممود‪ ،‬ولكن يل وجهة نظر يف هذا األمر‪ :‬وهي أن معنى كلمة (تأليف)‪ :‬ال يتعدى كونه مجعا وترتيبا‪ ،‬يقول ابن منظور‪:‬‬
‫ض؛ و ِمنْه ْتألِيف ا ْلكت ِ‬
‫ب‪ ،‬وأل ْفت‬ ‫الَّشء ْتألِيفا إِذا وص ْلت ب ْعضه بِب ْع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫"أل ْفت ب ْينه ْم ْتأليفا إذا مج ْعت ب ْينه ْم ب ْعد تف ُّرق‪ ،‬وأل ْفت ْ‬
‫بعض‪ ،‬فالعلوم تنمو وتتكامل بالتدريج‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الَّشء أي وص ْلته"‪[ .‬لسان العرب‪ ،]10/9 ،‬ثم إن املؤلفني يعتمد بعضهم عىل‬
‫ٍ‬
‫باحث له سهم واجتهاد وإضافة‪،‬‬ ‫يأخذ الالحق كالم السابقني ويضيف عليه‪ ،‬وهبذا يتكامل البناء املعريف وينمو‪ُّ ،‬‬
‫فكل‬
‫‪9‬‬
‫* لن أثقل البحث بنقل نصوص أقوال العلامء‪ ،‬بل أذكر خالصة القول ثم األدلة‪ ،‬ثم أذكر‬
‫املراجع يف اهلامش ملن أراد الرجوع إليها‪.‬‬
‫‪ -‬أما ما تدعو احلاجة لذكره بالنص‪ ،‬ألمهية املوضوع وجدليته‪ ،‬أو لكونه ُيتاج إَل مناقشة‬
‫أو حتليل‪ ،‬فأذكره بنصه‪.‬‬
‫* سأعتمد يف الرتجيح عىل النظر يف األدلة أوال‪ ،‬مراعيا األنسب من اآلراء‪ ،‬ملتزما باأليِّس‬
‫يف التطبيق‪ ،‬من دون خروج عىل قواعد الرشيعة ومقاصدها‪.‬‬
‫* سأرجع يف معرفة املواضيع غري الرشعية إَل أهل االختصاص ألن "احلكم عىل الَّشء‬
‫تصو ِره"‪.‬‬
‫فرع عن ُّ‬
‫ٌ‬
‫* سأعتمد عىل األحاديث واآلثار املقبولة عند أهل االختصاص‪ ،‬مقترصا عىل الصحيح‬
‫واحلسن‪ ،‬مكتفيا ِ‬
‫بذك ِْر الشيخ ْ ِ‬
‫ني (البخاري ومسلم) أو أحدمها للحديث يف صحيحيهام‪ ،‬أما‬
‫سواه فسأجتهد يف البحث عن حكْمه (تصحيحا أو حتسينا أو تضعيفا) معتمدا عىل أهل‬
‫الفن يف ذلك(‪.)18‬‬
‫ر‬

‫نصيب" كام يقول علامؤنا‪ ،‬وإن تفاوتوا بكمية اإلضافة ونوعيتها‪ ،‬وهبذا يتفاوت العلامء‪ ،‬وخيتلف ذلك أيضا‬ ‫ٍ‬
‫جمتهد‬ ‫ف ر‬
‫ـ"لكل‬
‫ٌ‬
‫ونظري‪ ،‬فال ض ْري وال حرج من نقل املؤلف عن غريه‪ ،‬بل ال مناص منه‪ ،‬بل جيب ذلك! ويالم‬
‫ٍّ‬ ‫جتريبي‬
‫ٍّ‬ ‫حسب العلوم من‬
‫الباحث ْ‬
‫إن مل يعتمد عىل ما وصل إليه سابقوه‪ ،‬ويبني عليه ويضيف بعدها ما أداه إليه اجتهاده‪ ،‬فاملهم هو األمانة العلمية‪،‬‬
‫وتوثيق املعلومات‪ ،‬ونسبتها ألصحاهبا‪ ،‬هلذا كان من خطوات البحث العلمي التي ي ْلزم هبا الباحثون يف الرسائل العلمية‬
‫ِ‬
‫الكتاب ما‬ ‫فقرة ْضورية هي‪( :‬الدراسات السابقة) يذكرون فيها ما كتبه السابقون‪ ،‬وما الذي سيضيفونه؟ وبالنهاية‪ :‬فقيمة‬
‫بني دفتيه‪ ،‬ال ما كتب عىل الغالف‪.‬‬
‫(‪ )18‬اعتمدت عىل حتقيقات الشيخ األلباين ♫ وشيخنا الشيخ عبد القادر األرنؤوط ♫ والشيخ شعيب‬
‫األرنؤوط‪ ،‬وهذا ال يروق لكثري من الناس‪ ،‬وبخاصة ممن ال ينتمي للمدرسة السلفية‪ ،‬ورغم أنني تربيت عىل كتب العالمة‬
‫الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ♫‪ ،‬وتعلمت مصطلح احلديث من فضيلة شيخنا الدكتور نور الدين عرت حفظه اهلل‪،‬‬
‫ومعلوم اختالف املدرستني! أقصد مدرسة األلباين واألرنؤوط مع مدرسة أبو غدة و العرت‪ ،‬لكنني آثرت منهج االعتدال‪،‬‬
‫ِ‬
‫املدرستني‪.‬‬ ‫واالستفادة من كال‬
‫‪10‬‬
‫خطة البحث‪:‬‬
‫سأبدأ بالكالم عن املشقة ورفع احلرج ثم أذكر أسباب الرخص الرشعية ثم أبني معنى‬
‫الرخصة والعزيمة وأَيام أوَل؟ ثم أبني ضوابط العمل بقاعدة التيسري مبتدئا بالتلفيق‪ ،‬ثم‬
‫حكم اتباع الرخص ومناهج الفتوى بني امليِّسين واملشددين‪ ،‬ثم أختم ببيان ضوابط‬
‫الفتوى بالتيسري‪.‬‬
‫ٍ‬
‫فبتوفيق من اهلل تعاَل‪ ،‬وما فيه من خطأ فمن‬ ‫وما كان يف هذا البحث من صواب‬
‫ٍ‬
‫حسن‪ ،‬إنه أكرم مسؤول‪.‬‬ ‫نفيس(‪ ،)19‬أسال اهلل أن جينبني الزلل‪ ،‬وأن يتقبله منري بقبول‬
‫وقد قسمت الكالم يف ذلك ثالثة مطالب‪:‬‬
‫املطلب األول‪ :‬املشقة وأسباب الرخص‪.‬‬
‫املطلب الثاين‪ :‬الرخصة والعزيمة‪.‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬ضوابط العمل بقاعدة التيسري‪.‬‬

‫يقول العالمة املغرب الدكتور فريد األنصاري رمحه اهلل‪" :‬ال ينبغي للطالب أن تعميه العصبيات املذهبية والطائفية عن‬
‫االستفادة من شيوخ العلم بشتى مشارهبم ومذاهبهم‪ ،‬بل عليه أن جيمع بني االستفادة منهم مجيعا مهام اختلفوا هم فيام‬
‫بينهم‪ ،‬فإنام هو طالب علم وجامع حكمة! يطلبها ‪-‬إن كان عاقال– أنى وجدها‪.‬‬
‫فال ض ْري أن جيمع مثال بني االستفادة من مؤلفات العالمة أب الفيض أمحد بن الصديق الغامري‪ ،‬أو أخيه العالمة عبد اهلل‬
‫بن الصديق؛ ومؤلفات العالمة حممد نارص األلباين‪ ،‬وقد علم أن آل ابن الصديق والشيخ األلباين كانا عىل منهجني‬
‫متناقضني! وقد كانت بينه وبينهم –رمحة اهلل عليهم مجيعا– معارك ومساجالت‪.‬‬
‫ولك أنت –بعد التمكُّن من رشوط العلم واالجتهاد‪ -‬أن تنظر لنفسك وآلخرتك ما تنتحله من املذاهب فقهيا وعقديا‪،‬‬
‫إنام املوفق م ْن وفقه اهلل"‪.‬‬
‫ِ‬
‫انتهى من كتابه املفيد‪ :‬مفهوم العاملِية من الكتاب إَل الربانية‪( ،‬منشورات رسالة القرآن‪ ،‬مكناس‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1427‬ـه‪2006/‬م) ص‪104‬‬
‫(‪ )19‬للتواصل وإبداء املالحظات الربيد اإللكرتوين‪)Huzaifah78@hotmail.com) :‬‬
‫‪11‬‬
‫املطلب األول‪ :‬املشقّة وأسباب الرُّخص الشّرعيَّة‬
‫من مبادئ الرشيعة العامة رفع احلر ِج‪ ،‬واحلرج لغة‪ :‬الضيق‪ ،‬وما ال خمْرج له‪ ،‬قال ابن‬
‫وضيقه(‪ ،)20‬ويف االصطالح‪ :‬احلرج‪:‬‬‫أصل واحد‪ ..‬جتمع الَّشء ِ‬‫فارس‪ :‬احلاء والراء واجليم ٌ‬
‫ُّ‬
‫ما فيه مشقة فوق املعتاد‪.‬‬
‫ورفع احلرج‪ :‬إزالة ما يف التكليف الشاق من املشقة برفع التكليف من أصله‪ ،‬أو‬
‫خمرج(‪.)21‬‬
‫جيعل له ٌ‬ ‫بتخفيفه‪ ،‬أو بالتخيري فيه‪ ،‬أو ْ‬
‫بأن ْ‬
‫فرفع احلر ِج يتمثل يف إزالة ر‬
‫كل ما يؤ ردي إَل مشقة زائدة‪ ،‬يف البدن أو النفس أو املال‪ ،‬يف‬
‫واملآل‪ ،‬وهو أصل من أصول الرشيعة‪ ،‬ثبت بأدلة قطعية ال تقبل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واحلال‬ ‫البدْ ِء و ِ‬
‫اخلتا ِم‪،‬‬
‫احلن ِ‬
‫ْث فيها مع التكفري عنها‪.‬‬ ‫الشك(‪ ،)22‬كرفع احلرج يف اليمني بإباحة ِ‬

‫الرخص فهي فرع‬ ‫كل من أصول الرشيعة‪ ،‬ومقصد من مقاصدها‪ ،‬أما ُّ‬ ‫فرفع احلرج أصل ٌّ‬
‫يندرج ضمن هذا األصل العام‪ ،‬وجزء أ ِخذ من هذا الكل‪ ،‬فرفع احلرج مؤداه يِّس التكاليف‬
‫يف مجيع أطوارها(‪ ،)23‬وقبل بيان أسباب الرخص ال بد من الكالم عن املشقة التي تناط هبا‬
‫الرخص‪.‬‬

‫(‪ )20‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬ابن فارس‪( ،‬ت‪395:‬ـه)‪.50/2 ،‬‬


‫(‪ )21‬املوسوعة الفقهية الكويتية‪.213/14 ،‬‬
‫(‪ )22‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪.168/1 ،‬‬
‫(‪ )23‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪.313/1 ،‬‬
‫‪12‬‬
‫أوالً‪ :‬أنواع املشقّة‪:‬‬
‫األصل يف التكليف من حيث هو تكليف؛ أال خيلو عن قدر من املشقة كام ﭧ ﭨ { ﯟ‬

‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ } [سورة األحزاب‪:‬‬

‫كار ِه»(‪.)24‬‬ ‫‪ ،]72‬وكام قال ☺‪« :‬ح ِجب ِ‬


‫ت اجلنة بامل ِ‬

‫عرف علامء ال ُّلغة (التكليف) بأنه‪ :‬األمر بام ُّ‬


‫يشق عليك (‪.)25‬‬
‫ِ‬
‫االمتحان‬ ‫خطاب الرشع(‪)26‬؛ وألن هذا هو ُّ‬
‫حمك‬ ‫ِ‬ ‫وعرفه علامء األصول بأنه‪ :‬إلزام مقتىض‬
‫ِ‬
‫وضع الرشيعة‪ ،‬هو‬ ‫الشاطبي ؒ‪" :‬املقصد الرشعي ِمن ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫محيص‪ ،‬قال‬ ‫واالبتالء والت‬
‫إخراج املكلف عن داعية هواه‪ ،‬حتى يكون عبدا هلل اختيارا‪ ،‬كام هو عبد اهلل ِ اضطرارا" (‪)27‬‬

‫لكن اهلل ﷻ بلطفه ومن ِره وحكمته وعلمه بضعف عباده‪ ،‬جعل هذا التكليف يف‬
‫ِ‬
‫حدود ما يستطيعه اإلنسان من غري حر ٍج وال ع ْ ٍ‬
‫ِّس‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تكليف بحسبه‪ ،‬و هي متفاوتة‪،‬‬ ‫فال تكليف بدون مشقة‪ ،‬و إن كانت املشقة احلاصلة ر‬
‫بكل‬
‫الرتخص دفعا لكل مشق ٍة‪ ،‬ترتب عىل ذلك إسقاط ٍ‬
‫كثري من التكاليف الرشعية؛‬ ‫ُّ‬ ‫فإذا جاز لنا‬
‫كل مشقوق عليه الرتخيص‪ ،‬ضاع‬ ‫ٍ‬
‫مشغول‪ ،‬و ر‬ ‫قال اإلمام ابن القيم ؒ‪" :‬لو جاز ر‬
‫لكل‬
‫ِ‬
‫الواجب واضمحل بالكلية"(‪،)28‬‬

‫وقد قسم اإلمام السيوطي املشاق إَل قسمني‪:‬‬

‫(‪ )24‬البخاري‪ ،‬برقم‪ ،6487:‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب حجبت النار بالشهوات‪ ،102/8 ،‬ومسلِم‪ ،‬بلفظ‪(( :‬حف ْت)) رقم‪:‬‬
‫‪ ،2823‬كتاب اجلنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬بداية الكتاب‪.2174/4 ،‬‬
‫(‪ )25‬ينظر‪ :‬باب‪( :‬كلف)‪ ،‬القاموس املحيط‪ ،‬الفريوزآبادي‪ ،198/3 ،‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬الزبيدي‪،‬‬

‫(‪ )332/24‬باب‪( :‬كلف)‪.‬‬

‫(‪ )26‬انظر‪ :‬رشح الكوكب املنري‪ ،‬ابن النجار (ت‪972:‬ـه) ‪.483/1‬‬

‫(‪ )27‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪( ،‬ت‪790:‬ـه) ‪.128/2‬‬

‫(‪ )28‬إعالم املوقعني‪ ،‬ابن القيم‪( ،‬ت‪751:‬ـه) ‪.130/2‬‬

‫‪13‬‬
‫القسم األول‪ :‬مشقة ال تنفك عنها العبادة غالبا‪ :‬كمشقة الربد يف الوضوء‪ ،‬ومشقة الصوم‬
‫احلر وطول النهار‪ ،‬ومشقة السفر التي ال انفكاك للحج واجلهاد عنها‪ ،‬ومشقة ألم‬
‫يف شدة ر‬
‫احلدود‪ ،‬والرجم يف الزنا‪ ،‬وقتل اجلناة‪ ،‬فال أثر هلذا يف إسقاط العبادات يف كل األوقات‪.‬‬
‫القسم الثاين‪ :‬املشقة التي تنفك(‪ )29‬عنها العبادات غالبا‪ :‬وهي عىل مراتب‪:‬‬
‫املرتبة األوَل‪ :‬مشقة عظيمة وفادحة‪ :‬كمشقة اخلوف عىل النفوس واألطراف ومنافع‬
‫األعضاء‪ ،‬فهي موجبة للتخفيف والرتخيص قطعا‪.‬‬
‫املرتبة الثانية‪ :‬مشقة خفيفة ال وقع هلا‪ ،‬كأدنى وجع يف إصبع اليد والرجل‪ ،‬وأدنى صداع‬
‫يف الرأس‪ ،‬أو سوء مزاج خفيف‪ ،‬فهذا ال أثر له يف التيسري يف األحكام‪.‬‬
‫املرتبة الثالثة‪ :‬مشقة متوسطة بني هاتني املرتبتني‪ :‬فام دنا وقرب من املرتبة األوَل أوجب‬
‫التخفيف‪ ،‬أو من الثانية مل يوجب التخفيف‪ ،‬وال ضابط هلذه املراتب إال بالتقريب‬
‫واالجتهاد(‪.)30‬‬

‫ثانياً‪ :‬أسباب الرّخص الشّرعيَّة‪:‬‬


‫رشع اإلسالم الرخص عند وجود أسباهبا‪ ،‬فكل سبب أدى إَل احلرج جعله اهلل عذرا يف‬
‫والتحول من التشدد إَل التيسري‪ ،‬ومن العزيمة إَل الرخصة‪ ،‬ومنه القاعدة‬
‫ُّ‬ ‫التخفيف‬
‫الرشعية‪" :‬املشقة جتلب التيسري"‪.‬‬
‫وأهم هذه األعذار التي جعلت سببا للتخفيف‪ :‬املرض‪ ،‬والسفر‪ ،‬واإلكراه‪ ،‬والنسيان‪،‬‬
‫واجلهل‪ ،‬والعِّس وعموم البلوى(‪.)31‬‬

‫(‪ )29‬يف املطبوع‪( :‬ال تنفك) لكن الصواب‪ :‬بدون (ال) واهلل أعلم‪.‬‬

‫(‪ )30‬ينظر‪ :‬األشباه والنظائر يف قواعد فروع فقه الشافعية‪ ،‬جالل الدين عبد الرمحن بن أبو بكر السيوطي‪( ،‬ت‪911:‬ـه)‪،‬‬

‫(دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1403 ،1‬ـه‪1983/‬م) ‪.80/1‬‬

‫(‪ )31‬ينظر‪ :‬األشباه والنظائر‪ ،‬السيوطي‪ ،‬ص‪.77‬‬


‫‪14‬‬
‫ﭧﭨ { ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ } [سورة البقرة‪.]184 :‬‬ ‫‪ -1‬املرض‪:‬‬
‫{ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ} [لنساء‪.]101:‬‬ ‫‪ -2‬السفر‪ :‬لقوله تعاَل‪:‬‬
‫ﭧﭨ{ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ} [سورة البقرة‪.]286:‬‬ ‫‪ -3‬اخلطأ والنسيان‪:‬‬
‫ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ } [ألحزاب‪]5 :‬‬ ‫ولقوله تعاَل‪{ :‬‬

‫ﭧﭨ { ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ } [إلرساء‪.]15 :‬‬ ‫‪ -4‬اجلهل‪:‬‬


‫‪ -5‬اإلكراه‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ ‪« :‬إن اهلل جتاوز عن أمتي اخلطأ والنسيان وما‬
‫استك ِْرهوا عليه»(‪.)32‬‬
‫ْ‬
‫‪ -6‬الع ِّْس وعموم البلوى‪ :‬وأصل ذلك يف قول النبي ﷺ يف اهلرة‪« :‬إهنا ليست بنجس‪،‬‬
‫إهنا من الطوافني عليكم»(‪)33‬؛ فقد علل طهارهتا بكثرة طوافها‪ ،‬أي لعِّس االحرتاز عنها‪،‬‬
‫لكثرة مالبستها لثياب الناس وآنيتهم‪ ،‬مع كوهنا تأكل الفأر وامليتة‪ ،‬وما ورد أن امرأة سأل ْت‬
‫أم سلمة‪ ،‬زوج النبِي ﷺ ‪ ،‬فقال ْت‪ :‬إِ رين امرأ ٌة أطِيل ذي ِل‪ ،‬وأم َِّش ِيف ا ْملك ِ‬
‫ان ا ْلق ِذ ِر؟ قال ْت أ ُّم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫سلمة‪ :‬قال رسول اللِ ﷺ ‪« :‬يط رهره ما ب ْعده»(‪.)34‬‬

‫(‪ )32‬صحيح ابن حبان‪ ،‬برقم‪ ،7219:‬باب ذكر اإلخبار عام وضع اهلل بفضله عن هذه األمة‪ ،‬قال حمققه شعيب‬
‫األرنؤوط‪ :‬إسناده صحيح عىل رشط البخاري (‪ ،)202/16‬وسنن ابن ماجه برقم‪ ،2045:‬كتاب الطالق‪ ،‬باب طالق‬
‫املكره والنايس (‪ ،)659/1‬واحلاكم يف املستدرك‪ ،‬برقم‪ ،2801 :‬وقال حديث صحيح عىل رشط الشيخني ومل خيرجاه‬
‫ووافقه الذهبي‪ )199/2( ،‬وصححه األلباين يف إرواء الغليل (‪)124/1‬‬
‫(‪ )33‬موطأ اإلمام مالك‪ ،‬برقم‪ ،13:‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب الطهور للوضوء‪ ،)23/1( ،‬وأبو داود‪ ،‬برقم‪ ،75:‬كتاب‬
‫الرت ِمذي‪ :‬حديث‬
‫الطهارة‪ ،‬باب سؤر اهلرة‪ ،)19/1( ،‬والرتمذي‪ ،‬برقم ‪ ،92‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب ما جاء يف سؤر اهلرة‪ ،‬قال ر ْ‬
‫حسن صحيح‪ ،‬ووافقه أمحد شاكر (‪ )151/1‬والنسائي‪ ،‬برقم‪ ،68 :‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب سؤر اهلرة‪ ،55/1 ،‬صحيح ابن‬
‫خز ْيمة برقم‪ ،104 :‬باب الرخصة يف الوضوء بسؤر اهلرة‪ ،‬قال حمققه د‪ .‬حممد مصطفى األعظمي‪ :‬إسناده صحيح(‪)54/1‬‬
‫قال الشيخ عبد القادر األرنؤوط يف تعليقه عىل جامع األصول‪ :‬وللحديث طرق وشواهد يرتقي هبا إَل درجة الصحيح‪،‬‬
‫(‪ ،)102/7‬وصححه األلباين يف إرواء الغليل ‪.192/1‬‬
‫(‪ )34‬موطأ مالك‪ ،16 ،‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب ما ال جيِب ِمنْه ا ْلوضوء‪ ،)24/1( ،‬ومسند اإلمام أمحد‪ ،‬برقم‪ ،26488 :‬قال‬
‫اب ِيف ْاألذى ي ِصيب‬
‫حمققه شعيب األرنؤوط‪ :‬حديث صحيح لغريه (‪ ،)90/44‬أبو داود‪ ،‬برقم‪ ،383 :‬كتاب الطهارة‪ ،‬ب ٌ‬
‫‪15‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬إذا أتى أحدكم املسجد فلينظر يف نعليه‪ ،‬فإن وجد فيهام أذى أو قذرا‪،‬‬
‫ر‬
‫وليصل فيهام»(‪.)35‬‬ ‫فليمسحه‬

‫املطلب الثاني‪ :‬الرّخصة والعزمية‬


‫أوّالً‪ :‬الرّخصة‪:‬‬
‫أ‪ -‬تعريف الرّخصة‪:‬‬
‫الرخصة يف اللغة‪ :‬هي اسم من (رخص) تقول‪ :‬رخص له األمر أي‪ :‬أذن له فيه‪ ،‬بعد‬
‫النهي عنه‪ ،‬وتأيت بمعنى ترخيص اهلل للعبد يف أشياء خففها عنه (‪ )36‬فهي بمعنى‪ :‬التيسري‬
‫والتخفيف‪.‬‬
‫ِ‬
‫وخالف‬ ‫يدل عىل ٍ‬
‫لني‪،‬‬ ‫(ت‪( :)395:‬الراء واخلاء والصاد أصل ُّ‬ ‫فارس(‪)37‬‬ ‫يقول ابن‬
‫شدة)(‪.)38‬‬
‫يف االصطالح‪ :‬ما و رسع للمكلف يف فعله‪ ،‬لعذر عجز عنه‪ ،‬مع قيام السبب املحرم (‪.)39‬‬

‫الرت ِمذي‪ ،‬برقم‪ ،143 :‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب ما جاء ِيف الوض ِ‬
‫وء ِمن ا ْمل ْوط ِإ (‪ )209/1‬قال الشيخ عبد‬ ‫الذ ْيل‪ ،)104/1( ،‬و ر ْ‬
‫األلباين يف صحيح أب داود‪ ،‬برقم‪.)234/2( 409:‬‬
‫ُّ‬ ‫القادر األرنؤوط‪ :‬حديث صحيح بشواهده‪ ،‬وصححه‬
‫(‪ )35‬أبو داود‪ ،‬برقم‪ ،650 :‬كتاب الصالة‪ ،‬باب الصالة يف النعل‪ )175/1( ،‬وقال الشيخ شعيب أرنؤوط يف حتقيقه‬
‫جلامع األصول‪ :‬إسناده صحيح‪ ،)445/5( ،‬وصححه األلباين يف إرواء الغليل (‪)314/1‬‬
‫(‪ )36‬لسان العرب‪ ،‬ابن منظور‪.)40/7( ،‬‬
‫(‪ )37‬ابن فارس‪ 395 - 329( :‬ـه = ‪ 1004 - 941‬م) أمحد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي‪ ،‬أبو احلسني‪ ،‬من أئمة‬

‫اللغة واألدب‪ ،‬قرأ عليه البديع اهلمذاين والصاحب ابن عباد وغريمها من أعيان البيان‪ ،‬من تصانيفه‪( :‬مقاييس اللغة)‪،‬‬

‫(جامع التأويل) يف التفسري‪[ .‬ينظر‪ :‬وفيات األعيان‪ ،118/1 ،‬سري أعالم النبالء ‪ ،103/17‬األعالم‪ ،‬الزركل‪]193/1 ،‬‬

‫(‪ )38‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬أبو احلسني أمحد بن فارس بن زكريا‪ ،‬ت‪395:‬ـه‪( ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1420‬ـه‪1999/‬م‪ ،‬ت‪/‬عبد السالم حممد هارون) مادة‪( :‬رخص)‪500/2‬‬
‫(‪ )39‬املستصفى‪ ،‬الغزايل‪.63/1 ،‬‬
‫‪16‬‬
‫السبكي الشافعي(‪( )40‬ت‪)771 :‬؛ بقوله‪:‬‬‫و أوضح منه ما عرفها تاج الدر ين ُّ‬
‫ٍ‬
‫سهولة ويِّس‪ ،‬لعذر اقتىض ذلك‪ ،‬مع قيام سبب‬ ‫عي الذي غري من صعوبة إَل‬ ‫احلكم الرش ُّ‬
‫ف بسيط(‪)42‬‬ ‫احلكم األصل(‪ .)41‬بترص ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ر‬

‫ب‪ -‬أنواع الرّخص‪:‬‬


‫ٍ‬
‫معان وهي‪:‬‬ ‫يطلق لفظ الرخصة عىل عدة‬
‫النوع األول‪ :‬إباحة املحظورات عند الرضورات أو احلاجات‪ :‬فمن أكره عىل التلفظ‬
‫مطمئن باإليامن‪ ..‬ومن اضطره اجلوع‬
‫ٌّ‬ ‫بكلمة الكفر أبيح له ‪-‬ترفيها عنه‪ -‬أن يتلفظ هبا وقلبه‬
‫الشديد أو الظمأ الشديد إَل أكل امليتة‪ ،‬أو رشب اخلمر‪ ،‬أبيح له أكلها ورشهبا‪ :‬ﭧ ﭨ { ﮃ‬

‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ } [سورة النحل‪ ،]106 :‬وقال ‪ { :‬ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬

‫} [سورة‬ ‫ﭢ ﭣ } [سورة األنعام‪ ،]119 :‬وﭧ ﭨ { ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬


‫البقرة‪.]173:‬‬
‫النوع الثاين‪ :‬إباحة ترك الواجب إذا وجد عذر جيعل أداءه شاقا عىل املكلف‪:‬‬
‫ﭧ ﭨ { ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ } [سورة البقرة‪]184 :‬‬

‫وﭧ ﭨ{ ﯽ ﯾ ﯿﰀﰁﰂ ﰃﰄﰅﰆﰇ} [سورة النساء‪.]101 :‬‬

‫(‪ )40‬تاج الدين السبكي‪ 771 - 727( :‬ـهـ = ‪1370 - 1327‬م) عبد الوهاب بن عل بن عبد الكايف السبكي‪ ،‬أبو نرص‪،‬‬

‫قاِض القضاة‪ ،‬الفقيه األصويل املؤرخ‪ ،‬ولد يف القاهرة‪ ،‬وانتقل إَل دمشق وتويف هبا‪ ،‬نسبته إَل سبك (من أعامل املنوفية‬

‫بمرص) امتحن كثريا ‪ ،‬له‪( :‬طبقات الشافعية الكربى)‪( ،‬معيد النعم ومبيد النقم)‪( ،‬مجع اجلوامع)‪[ .‬ينظر‪ :‬الدرر الكامنة‬

‫‪ ،425/2‬األعالم‪ ،‬الزركل‪]184/4 ،‬‬

‫(‪ )41‬ينظر‪ :‬رفع احلاجب عن خمترص ابن احلاجب‪ ،‬تاج الدين عبد الوهاب بن عل السبكي‪( ،‬دار الكتب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1419‬ـه‪1999/‬م‪ ،‬ت‪/‬عل حممد معوض‪ ،‬عادل أمحد عبد املوجود) (‪.)26/2‬‬
‫(‪ )42‬اختاره الشيخ حممد األمني الشنقيطي (ت‪1393 :‬ـه) [ينظر‪ :‬مذكرة الشيخ حممد األمني الشنقيطي يف أصول الفقه‪،‬‬
‫ص(‪.])60‬‬
‫‪17‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬تصحيح بعض العقود االستثنائية‪ :‬التي مل تتوفر فيها الرشوط العامة‬
‫النعقاد العقد وصحته‪ ،‬ولكن جرت هبا معامالت الناس وصارت من حاجاهتم‪ ،‬كعقد‬
‫السلم‪ ،‬فإنه بيع معدوم وقت العقد‪ ،‬ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجاهتم‪،‬‬
‫وكذلك االستصناع واإلجارة وعقد الوصية‪ ،‬فهذه كلها عقود إذا طبقت عليها الرشوط‬
‫العامة النعقاد العقود وصحتها يف العاقد واملعقود عليه ال تصح؛ ولكن الشارع رخص فيها‬
‫وأجازها سدا حلاجة الناس ودفعا للحرج‪.‬‬
‫لكن اإلمام الشاطبي يرى أن هذا النوع ال يسمى رخصة‪ ،‬وإن كان يشرتك معها يف معنى‬
‫السهولة ورفع احلرج‪ ،‬إال أنه خيالفها يف أن احلاجيات مل ترشع للرضورة‪ ،‬بل هي أحكا ٌم‬
‫جزئي رشع للرضورة‪ ،‬وتنتهي بزوال سببها‪ ،‬فالفطر والقرص‬
‫ٌّ‬ ‫حكم‬
‫ٌ‬ ‫الرخصة‬
‫كلية‪ ،‬بينام ُّ‬
‫بسبب السفر‪ ،‬ينتهي العمل هبام بمجرد اإلقامة(‪.)43‬‬
‫النوع الرابع‪ :‬نسخ األحكام التي كانت من التكاليف الشاقة عىل األمم قبلنا‪:‬‬

‫وهي املشار إليها بقوله سبحانه‪ :‬ﭧ ﭨ { ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬

‫ﯵ ﯶ ﯷ } [سورة البقرة‪ ،]286 :‬مثل التكليف بقرض موضع النجاسة من الثوب‪ ،‬وأداء‬
‫ربع املال يف الزكاة‪ ،‬وقتل النفس توبة من املعصية‪ ،‬وعدم جواز الصالة يف غري املساجد‪ ،‬إال‬

‫أن الشيخ (عبد الوهاب خالف)(‪ )44‬يرى يف تسمية هذا النو ِع الرابع رخصة ُّ‬
‫توسعا(‪.)45‬‬

‫(‪ )43‬لذلك سامها احلنفية‪( :‬رخص اإلسقاط) وسامها مؤلفو املوسوعة الفقهية الكويتية‪( :158/22 ،‬رخص جمازية)‬

‫وهناك من خالف هذا الرأي وأطلق عليها رخصة‪ ،‬ينظر‪ :‬املوافقات‪ ،302/1 ،‬كشف األرسا ر‪ ،‬البخاري‪ ،641/1 ،‬هناية‬

‫السول‪ ،‬اإلسنوي‪ ،54/1 ،‬نرش البنود‪ ،56/1 ،‬روضة الناظر‪ ،174/1 ،‬رشح الكوكب املنري‪.480/1 ،‬‬

‫(‪ )44‬عبد الوهاب خالف‪ 1375 - 1305( :‬ـه = ‪1956 - 1888‬م) الفقيه‪ ،‬األصويل‪ ،‬املرصي‪ ،‬كان أستاذ الرشيعة‬

‫اإلسالمية بكلية احلقوق جامعة القاهرة‪ ،‬ومفتشا يف املحاكم الرشعية‪ ،‬وأحد أعضاء جممع اللغة العربية يف القاهرة‪ .‬له‪:‬‬

‫(أحكام الوقف يف الرشيعة االسالمية)‪( ،‬السياسة الرشعية أو نظام الدولة االسالمية يف الشؤون الدستورية واخلارجية‬

‫واملالية)‪( ،‬تاريخ الترشيع اإلسالمي)‪( ،‬االجتهاد والتقليد)‪[ .‬ينظر‪ :‬األعالم للزركل‪]184/4 ،‬‬

‫‪18‬‬
‫النوع اخلامس‪ :‬الرخص الفقهية‪( :‬رخص املذاهب الفقهية)(‪" :)46‬وهي ما جاء من‬
‫االجتهادات املذهبية مبيحا ألمر يف مقابلة اجتهادات أخرى حتظره"(‪ ،)47‬حتى قيل‪:‬‬
‫اس وشدائِد ْاب ِ‬
‫ن عمر" فالرخص الفقهية ال عالقة هلا بالرخص الرشعية(‪)48‬‬ ‫"رخص ِ‬
‫ابن عب ٍ‬

‫التي تقابل العزيمة‪ ،‬ألن الرخص الرشعية ال جدال يف األخذ هبا‪ ،‬ألهنا مرشوعة بالكتاب‬
‫الرخصة‬
‫والسنة‪ ،‬كام يف احلديث‪« :‬إن اهلل ُيب أن تؤتى رخصه»(‪ ،)49‬وإنام املقصود هنا ُّ‬
‫ُّ‬
‫بمدلوهلا ال ُّلغوي(‪ ،)50‬وهي السهولة‪ ،‬وسيأيت معنا حكم تتبع ُّ‬
‫الرخص الفقهية‪.‬‬
‫مما سبق يتبني أن ترخيص الشارع للتخفيف عن املكلفني تارة بإباحة املحرم للرضورة‪،‬‬
‫أو بإباحة ترك الواجب للعذر‪ ،‬وهي ترجع عند التحقيق إَل إباحة املحظور للرضورة أو‬
‫احلاجة ومها النوع األول والثاين‪.‬‬
‫والذي يؤخذ من النصوص أن الرخص كلها رشعت للرتفيه والتخفيف عن املكلف‬
‫ِ‬
‫قائامن‪ ،‬ومعنى الرخصة‪ :‬أنه ال إثم يف فعلها‪،‬‬ ‫بإباحة فعل املحرم‪ ،‬وأن حكم احلظر ودليله‬

‫(‪ )45‬وسامها احلنفية‪( :‬رخص اإلسقاط) وسامها مؤلفو املوسوعة الفقهية الكويتية‪( :‬رخص جمازية) [ينظر‪ :‬علم أصول‬

‫الفقه‪ ،‬عبد الوهاب خالف‪( ،‬ت‪1375:‬ـه) (الدار املتحدة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪1992 ،16‬م) ص‪ ،122‬املوسوعة الفقهية الكويتية‬

‫(‪ ،)158 /22‬كشف األرسا ر‪ ،‬البخاري‪]641/1 ،‬‬

‫(‪ )46‬تبصري النجباء‪ ،‬احلفناوي‪ ،‬ص‪285‬‬


‫(‪ )47‬قرارات وتوصيات جممع الفقه اإلسالمي الدويل‪ ،)160-159( :‬قرار رقم (‪ ،)70‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬وهبة‬
‫الزحيل‪.5213/7 ،‬‬
‫(‪ )48‬الرخص الرشعية هي يف النوعني األول والثاين‪.‬‬
‫(‪ )49‬أمحد‪ ،5873،‬قال حمققوه‪ :‬حديث صحيح‪ ،112/10 ،‬وابن خز ْيمة‪ ،2027 ،‬باب استحباب الفطر يف السفر‪،‬‬
‫‪ ،259/3‬قال حمققه حممد مصطفى األعظمي‪ :‬إسناده حسن‪ ،‬وابن ِحبان‪ ،2742،‬باب املسافر‪،451/6 ،‬قال شعيب‬
‫األرنؤوط‪ :‬إسناده قوي‪ ،‬وحسنه اهليثمي يف جممع الزوائد‪ ،382/3‬وصححه األلباين يف اإلرواء‪.9/3 ،564 ،‬‬
‫(‪ )50‬كثريا ما يطلق العلامء لفظ‪( :‬رخصة) ويقصدون هبا املعنى اللغوي يقول البناين‪" :‬قوله‪( :‬رخصة) أي بمعناها‬
‫اللغوي وهي التسهيل‪ ،‬ال العريف الذي هو‪ :‬تغري احلكم من صعوبة إَل سهولة مع قيام السبب إلخ كام هو واضح"‪.‬‬
‫[حاشية البناين‪ ،‬عىل املحل‪]300/1 ،‬‬
‫‪19‬‬
‫وإَل هذه اإلشارة بقوله تعاَل‪ { :‬ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬

‫ﮒ ﮓ } [سورة املائدة‪ ،]3 :‬فللمكلف أن يتبع الرخصة ختفيفا عن نفسه‪ ،‬وله أن يتبع‬
‫العزيمة حمتمال ما فيها من مشقة‪ ،‬إال إذا كانت املشقة يناله من احتامهلا ْضر‪ ،‬فإنه جيب عليه‬

‫اتقاء الرضر واتباع الرخصة لقوله تعاَل‪{ :‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ } [سورة البقرة‪.]195 :‬‬

‫وقوله‪ { :‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ } [سورة النساء‪ ،]29 :‬واهلل سبحانه‬


‫ُيب أن تتبع رخصه‪ ،‬كام ُيب أن تؤتى عزائمه‪ ،‬ألنه سبحانه ما جعل عىل الناس يف الدين‬
‫(ت‪" :)620:‬فإن قيل‪ :‬فكيف يسمى أكل امليتة‬ ‫املقديس(‪)51‬‬ ‫من حرج‪ ،‬قال ابن قدامة‬
‫رخصة‪ ،‬مع وجوبه يف حال الرضورة؟ قلنا‪ :‬يسمى رخصة من حيث أن فيه سعة؛ إذ مل‬
‫يك رلفه اهلل تعاَل إهالك نفسه‪.)52("..‬‬
‫وقد ذكر مجهور األصوليني الرخصة ضمن األحكام الوضعية‪ ،‬ألن احلكم املرشوع هو‬
‫جعل الرضورة سببا يف إباحة املحظور‪ ،‬أو طروء العذر سببا يف التخفيف‪ ،‬برتك الواجب‬
‫فهو يف احلقيقة وضع أسباب ملسببات(‪.)53‬‬
‫وبعد معرفة الرخصة آن لنا الرشوع بمعنى العزيمة‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬العزمية‪:‬‬
‫تعريف العزيمة‪:‬‬

‫(‪ )51‬ابن قدامة‪ 620 - 541( :‬ـه = ‪ 1223 - 1146‬م) عبد اهلل بن حممد بن قدامة اجلامعيل(مجاعيل من قرى نابلس‬
‫بفلسطني) املقديس ثم الدمشقي احلنبل‪ ،‬أبو حممد‪ ،‬موفق الدين‪ ،‬فقيه حنبل‪ ،‬من مصنفاته‪( :‬املغني) رشح به خمترص‬
‫اخلرقي‪( ،‬روضة الناظر)‪ ،‬يف أصول الفقه [البداية والنهاية‪ ،99/13 ،‬املنهج األمحد‪ ،148/4 ،‬املدخل إَل مذهب أمحد‪،‬‬
‫‪ ،413‬األعالم الزركل‪]67/4 ،‬‬
‫(‪ )52‬روضة الناظر وجنة املناظر‪ ،‬أبو حممد عبد اهلل بن أمحد بن قدامة املقديس ت‪( ،620:‬جامعة اإلمام حممد بن سعود‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬ط‪1399 ،2‬ـه‪ ،‬ت‪/‬د‪.‬عبد العزيز عبد الرمحن السعيد) ‪60/1‬‬
‫(‪ )53‬ينظر‪ :‬علم أصول الفقه‪ ،‬عبد الوهاب خالف‪ ،‬ص‪121‬‬
‫‪20‬‬
‫‪ -1‬لغة‪ :‬العرب تقول‪ :‬عز ْمت األ ْمر‪ ،‬وعز ْمت عليه وعزم عىل الرج ِل لي ْفعلن كذا‪ْ ،‬‬
‫أي‬
‫أ ْقسم عليه‪ِ ،‬‬
‫وقيل‪ :‬أمره أ ْمرا ِجدًّ ا(‪ ،)54‬وعزم ع ِزيمة وع ْزمة‪ :‬اجتهد وجد يف أمره‪ ،‬وع ِزيمة‬
‫اهلل فريضته التي افرتضها واجلمع (عز ِائم)(‪.)55‬‬
‫ٍ‬
‫راجح(‪ .)56‬وال يسمى‬ ‫ٍ‬
‫معارض‬ ‫بدليل رشعي خ ٍ‬
‫ال عن‬ ‫ٍ‬ ‫ثابت‬
‫ٌ‬ ‫حكم‬ ‫‪ -2‬اصطالحا‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫احلكم عزيمة إال إذا قابلته رخصة(‪ ،)57‬فهي ما رشعه اهلل أصالة من األحكام العامة‪ ،‬التي‬
‫ال ختتص بحال دون حال‪ ،‬وال بمكلف دون مكلف (‪.)58‬‬

‫ثالثاً‪ :‬أيّهما أَوْىل األخذُ بالرُّخصة أم بالعزمية؟‬


‫قد يرفع الرشع عن املكلف احلرج يف األخذ بالعزيمة‪ ،‬أو يف األخذ بالرخصة‪ ،‬أي أنه‬
‫يكون خمريا يف بعض احلاالت‪ ،‬بني اإلتيان هبذه أو بتلك؛ ألن ما بينهام صار بمثابة ما بني‬
‫أجزاء الواجب املخري الذي يكتفى فيه باإلتيان بأي نوع من أنواعه‪ ،‬وقد تباينت يف الرتجيح‬
‫بينهام أنظار املجتهدين‪ ،‬حيث اختلفوا بني مرجح لألخذ بالعزيمة ‪-‬يف هذه احلال‪ -‬وبني‬
‫وكل من الفريقني قد علل رأيه بمجموعة من املسو ِ‬
‫غات‬ ‫مرجح لألخذ بالرخصة فيها‪ٌّ ،‬‬
‫ر‬
‫ذكرها الشاطبي يف املوافقات بالتفصيل(‪ ،)59‬وسنذكر هنا أمهها باختصار‪:‬‬

‫(‪ )54‬ينظر‪ :‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬الزبيدي‪)89/33( ،‬‬

‫(‪ )55‬ينظر‪ :‬املصباح املنري يف غريب الرشح الكبري‪ ،‬أمحد بن حممد بن عل املقري الفيومي‪( ،‬املكتبة العلمية‪ ،‬بريوت‪،‬‬

‫مصورة عن املطبعة األمريية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1922 ،5‬م‪ ،‬ت‪/‬محزة فتح اهلل وحممد حسنني الغمراوي) (‪.)408/2‬‬

‫(‪ )56‬رشح الكوكب املنري‪ ،476/1 ،‬خمترص ابن اللحام‪ ،67 ،‬روضة الناظر‪ ،171/1 ،‬أصول البزدوي‪،299/2 ،‬‬

‫التحرير‪ ،229/2 ،‬املنار‪ ،447/1 ،‬أصول الِّسخيس‪.117/1 ،‬‬

‫(‪ )57‬نرش البنود‪.56/1 ،‬‬

‫(‪ )58‬ينظر‪ :‬علم أصول الفقه‪ ،‬عبد الوهاب خالف‪ ،‬ص‪121‬‬

‫(‪ )59‬ينظر‪ :‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪.344 ،333/1 ،‬‬

‫‪21‬‬
‫أن األخذ بالعزمية أَوْىل‪:‬‬
‫أ‪ -‬أدلّة من يعتقد َّ‬
‫الرخصة فمحل اجتهاد‪ ،‬واملقطوع‬
‫‪ -1‬إن العزيمة هي األصل الثابت بالتكليف‪ ،‬وأما ُّ‬
‫أوَل من املظنون‪.‬‬
‫خاص‬
‫ٌّ‬ ‫جزئي‬
‫ٌّ‬ ‫الرخصة فترشيع‬ ‫تكليف ر ٌّ‬
‫كل يشمل مجيع املكلفني يقينا‪ ،‬وأما ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫‪ -2‬العزيمة‬
‫بأصحاب األعذار‪ ،‬وال شك أن ر‬
‫الكل مقد ٌم عىل اجلزئي‪ ،‬والعمل به أ ْحوط‪.‬‬
‫‪ -3‬ورد يف الرشيعة نصوص كثري ٌة ُتدح املتمسكني بالدر ين‪ ،‬رغم ما القوه من ٍ‬
‫عنت‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫احلق سبحانه الصادقني والصابرين من‬ ‫ُّ ٍ‬
‫وجترب من أعداء الدر ين‪ ،‬كأصحاب األخدود‪ ،‬ومدح ُّ‬

‫هذه األمة بقوله تعاَل‪ { :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬

‫ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ } [سورة األحزاب‪.]23 :‬‬

‫ت◙‬ ‫ام ِ‬
‫وثبات الصحابة ‪ ‬ومعاهدهتم النبي ﷺ عىل ذلك‪ ،‬فعن عبادة ب ِن الص ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫قال‪« :‬بايعنا رسول اهللِ ﷺ عىل السم ِع والطاع ِة ِيف املنْش ِ‬
‫ط وا ْمل ْكر ِه‪ ،‬وأال نن ِ‬
‫ازع األ ْمر أ ْهله‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫الئ ٍم»(‪ ،)60‬وغريها كثري مما امتدح‬ ‫احل رق حيثام كنا‪ ،‬ال نخاف ِيف اهللِ لومة ِ‬
‫وأ ْن نقوم أ ْو نقول بِ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫به أهل العزائم‪.‬‬
‫‪ -4‬األخذ بالعزيمة أكثر ثوابا وأعىل منزلة من األخذ بالرخصة(‪.)61‬‬

‫أن األخذ بالرُّخصة أَوْىل‪:‬‬


‫ب‪ -‬أدلّة من يعتقد َّ‬
‫ٍ‬
‫كثرية كذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بنصوص‬ ‫الرخصة كالعزيمة ثابت ٌة‬
‫‪ُّ .1‬‬
‫الرخصة جزئية‪ ،‬فهذا ال يقدح يف قوة داللتها‪ ،‬فهي كاخلاص مع العام‬
‫‪ .2‬إذا كانت ُّ‬
‫واملقيد مع املطلق‪.‬‬
‫سمي الدين بـ (احلنيفية السمحة)‪.‬‬
‫‪ .3‬بلغت عناية الرشيعة باليِّس والسامحة‪ ،‬حتى ر‬

‫(‪ )60‬البخاري‪ ،‬رقم ‪ ،6774‬كتاب األحكام‪ ،‬باب كيف يبايع اإلمام الناس‪.2633/6 ،‬‬

‫(‪ )61‬ينظر‪ :‬نظرية التكليف يف الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬د‪.‬زياد حممد محيدان‪ ،‬البحث منشور يف موقعه اإللكرتوين الرسمي‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ .4‬املشقة واحلرج غري مرادين للشارع احلكيم‪ ،‬وما جيده املكلف من مشقة فهي غري‬
‫ترض باملكلف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مقصودة‪ ،‬وال ُّ‬
‫واحلرج واملشقة منافيان لروح الترشيع‪ ،‬واعترب الرسول ﷺ املتشدر د مشادا هذا الدر ين‪،‬‬
‫وذم املتنطعني‪.‬‬
‫ِّس‪ ،‬ول ْن يشاد الدر ين أحدٌ إِال‬
‫فع ْن أ ِب هر ْيرة ◙ ع ِن النبِ ري ﷺ قال‪« :‬إِن الدر ين ي ْ ٌ‬
‫اربوا وأبْ ِرشوا»(‪.)62‬‬
‫غلبه‪ ،‬فسدر دوا وق ِ‬

‫بالرخصة‪ ،‬عن ابن عباس‬ ‫‪ .5‬كام طلب الرشع االلتزام بالعزيمة‪ ،‬رغب يف األخذ ُّ‬
‫ب أ ْن ت ْؤتى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب أ ْن ت ْؤتى رخصه كام ُي ُّ‬
‫¶‪ :‬أن رسول اهلل ﷺ قال‪« :‬إن اهلل ‪ُ ‬ي ُّ‬
‫عز ِائمه»(‪.)63‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ويف رواية عن ابن عمر ¶ قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِن الل ُي ُّ‬
‫ب أ ْن ت ْؤتى‬
‫رخصه كام يكْره أ ْن ت ْؤتى مع ِ‬
‫صيته»(‪)64‬‬
‫ْ‬

‫ج‪ -‬التّرجيح‪:‬‬
‫ال يمكن إطالق الرأي بالرتجيح املطلق بأفضلية األخذ بالرخصة دائام أو بالعزيمة!‬
‫رش تعرتيه عوامل القوة والضعف‪ ،‬فإن وجد يف نفسه مهة عالية بحسب املراد منه‪،‬‬ ‫فاملكلف ب ٌ‬
‫أخذ بالعزيمة‪ ،‬واحتسب ما جيده من مشق ٍة‪ ،‬فاحلياة بطبيعتها الدينية والدنيوية ال ختلو من‬
‫الرخص‪.‬‬
‫ضعف برش ٌّي‪ ،‬فسيجد يف الدر ين مالذا آمنا عرب ُّ‬
‫ٌ‬ ‫مشقة‪ ،‬وأما إذا اعرتاه‬

‫(‪ )62‬البخاري‪ ،‬رقم ‪ ،39‬كتاب اإليامن‪ ،‬باب الدر ين يِّس‪23/1 ،‬‬

‫(‪ )63‬رواه ابن ِحبان يف صحيحه برقم‪ ،354:‬وقال حمققه الشيخ شعيب األرنؤوط‪ :‬إسناده صحيح ‪ ،69/2‬سنن البيهقي‬

‫الكربى‪ ،140/3 ،‬املعجم الكبري للطرباين‪ ،‬رقم ‪.323/11 ،11880‬‬

‫(‪ )64‬أمحد‪ ،5873 ،‬قال حمققوه‪ :‬حديث صحيح‪ ،112/10 ،‬وابن خز ْيمة‪ ،2027 ،‬باب استحباب الفطر يف السفر‪،‬‬

‫‪ ،259/3‬قال حمققه حممد مصطفى األعظمي‪ :‬إسناده حسن‪ ،‬وابن ِحبان‪ ،2742 ،‬باب املسافر‪ ،451/6 ،‬قال شعيب‬

‫األرنؤوط‪ :‬إسناده قوي‪ ،‬وحسنه اهليثمي يف جممع الزوائد‪ ،382/3‬وصححه األلباين يف اإلرواء‪.9/3 ،564 ،‬‬

‫‪23‬‬
‫الرخص ُيدث بسببه اخلروج عن مقتىض األمر‬
‫الشاطبي‪" :‬كام أن اترباع ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ويف ذلك يقول‬
‫بالرخص ُيدث بسببه اخلروج عن مقتىض‬
‫والنهي‪ ،‬كذلك اتباع التشديدات‪ ،‬وترك األخذ ُّ‬
‫الرخص‬
‫بأوَل من اآلخر‪ ،‬واملتبع لألسباب املرشوعة يف ُّ‬
‫األمر والنهي‪ ،‬وليس أحدمها ْ‬
‫الرخص‪ ،‬وليس أحدمها‬
‫والعزائم سواء‪ ،‬فإن كانت غلبة الظن يف العزائم معتربة كذلك يف ُّ‬
‫أحرى من اآلخر‪ ،‬ومن فرق بينهام فقد خالف اإلمجاع" (‪.)65‬‬
‫ْ‬
‫ثم قال‪" :‬وينبني عليه أن األولوية يف ترك الرتخص‪ ،‬إذا تعني سببه بغلبة ظ ٍّن أو قطعٍ‪،‬‬
‫ظن‪،‬‬
‫وقد يكون الرتخص ْأوَل يف بعض املواضع‪ ،‬وقد يستويان‪ ،‬وأما إذا مل يكن ثمة غلبة ٍّ‬
‫فال إشكال يف منع الرت ُّخص" (‪.)66‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬ضوابط العمل بقاعدة التيسري‬


‫عند الكالم عن التيسري يذكر التلفيق وتتبع رخص العلامء فام حكمهام وما ضوابطهام؟‬
‫سنقسم هذا املطلب إَل‪:‬‬
‫أوال‪ :‬حكم التلفيق وضوابطه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬حكم تتبع الرخص الفقهية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬ضوابط التيسري (األخذ بالرخص الفقهية)‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬حكم التلفيق وضوابطه‪:‬‬


‫سنبني معناه وأحكامه وضوابطه‪ ،‬ونبتدئ بتعريفه‪:‬‬

‫أ‪ -‬تعريف التَّلفيق‪:‬‬

‫(‪ )65‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪529/1 ،‬‬

‫(‪ )66‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪530/1 ،‬‬

‫‪24‬‬
‫اإلتيان بكيفية ال يقول هبا جمتهد؛ وذلك بأن يل رفق يف قضية واحدة بني قولني أو أكثر‪،‬‬
‫يتولد منهام حقيق ٌة مركب ٌة ال يقول هبا أحد األئمة(‪.)67‬‬
‫وذلك بأن جيمع بني تقليد إمامني أو أكثر يف فعل له أركان‪ ،‬أو جزئيات هلا ارتباط‬
‫ببعضها‪ ،‬لكل منهم حكم خاص كان موضع اجتهادهم وتباين آرائهم‪ ،‬فيقلد أحدهم يف‬
‫حكم جزئية‪ ،‬ويقلد آخر يف حكم جزئية أخرى‪ ،‬فيتم الفعل من حيث التقليد ملفقا بني‬
‫مذهبني أو أكثر(‪.)68‬‬

‫ب‪ -‬حكم التَّلفيق‪:‬‬


‫اختلف العلامء يف حكم التلفيق عىل ثالثة أقوال‪ ،‬بناء عىل تصورهم لتطبيقات التلفيق‪،‬‬
‫فمن نظر إَل تطبيقاته املنكرة منعه‪ ،‬ومن نظر إَل اجلائز منها أجازه‪ ،‬ومن نظر للنوعني فصل‬
‫احلكم‪.‬‬

‫القول األوَّل‪ :‬منع التَّلفيق‪:‬‬


‫ألن فيه مفاسد كثرية‪ ،‬وموبقات غزيرة‪ ،‬وهذا باب لو فتح ألفسد الرشيعة الغراء‪،‬‬
‫وألباح جل املحرمات‪ ،‬فهو يبيح الزنا ورشب اخلمر‪ )69( ..‬والقاعدة أن‪ :‬كل ما أدى إَل‬
‫حمظور فهو حمظور‪ ،‬وكل قول يلزم منه إباحة حمر ٍم فهو مردود‪.‬‬
‫املناقشة‪:‬‬

‫(‪ )67‬ينظر‪ :‬عمدة التحقيق يف التقليد والتلفيق‪ ،‬حممد سعيد الباين‪ ،‬ص‪91‬‬
‫(‪ )68‬ينظر‪ :‬تبصري النجباء بحقيقة االجتهاد والتقليد والتلفيق واإلفتاء‪ ،‬د‪.‬حممد إبراهيم احلفناوي‪( ،‬دار احلديث‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪1415 ،1‬ـه‪1985/‬م)‪ ،‬ص‪.262‬‬
‫(‪ )69‬كمن تزوج امرأة بال ويل وال شهود مق رلدا أبا حنيفة يف عدم اشرتاط الوالية‪ ،‬ومق رلدا اإلمام مالكا يف عدم اشرتاط‬
‫الشهادة بذاهتا واالكتفاء بإعالن الزواج‪.‬‬
‫وكالذي قلد أبا حنيفة حيث أباح النبيذ الذي ال يسكر‪ ،‬والشافعي حيث قال‪ :‬النبيذ واخلمر يش ٌء واحدٌ ‪ ،‬فلفق من القولني‬
‫قوال نتيجته إباحة اخلمر!!‬
‫‪25‬‬
‫قوهلم بمنع التلفيق يعارض ما قرره أكثر العلامء؛ وهو أنه ال جيب تقليد إمام معني‪ ،‬أو‬
‫االلتزام بمذهب معني يف مجيع املسائل‪ ،‬بل جيوز له أن يقلد أي جمتهد شاء‪ ،‬ألنه ال واجب‬

‫إال ما أوجبه اهلل ورسوله‪ ،‬فقد أوجب الشارع اتباع أهل العلم‪ ،‬ﭧ ﭨ { ﭚ ﭛ‬

‫[سورة النحل‪.]43 :‬‬ ‫ﭜﭝﭞﭟﭠﭡ}‬

‫فمن مل يكن ملتزما بمذهب معني جاز له التلفيق‪ ،‬وإال أدى إَل بطالن عبادات‬
‫العوام(‪.)70‬‬

‫القول الثاني‪ :‬جيوز التَّلفيق مطلقاً‪:‬‬

‫وذلك ألن الدر ين اإلسالمي مبني عىل اليِّس والسهولة ورفع احلرج‪ ،‬ﭧ ﭨ { ﯗ ﯘ‬

‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ } [سورة البقرة‪ ،]185 :‬وﭧ ﭨ { ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬


‫ﮯ ﮰ } [سورة احلج‪ ،]78 :‬وال يوجد دليل يمنع ذلك(‪.)71‬‬

‫القول الثالث‪ :‬التّفصيل يف حكم التّلفيق‪:‬‬


‫فروع الرشيعة ثالثة أنواع بالنسبة إَل التلفيق‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬ما بني يف الرشيعة عىل اليِّس والتسامح‪ ،‬مع اختالفه باختالف املكلفني‪ :‬فهو‬
‫يِّس‪ ،‬وبخاصة ضعفاء‬
‫يتمثل يف العبادات املحضة‪ ،‬فال ينبغي الغلو فيها‪ ،‬ألن دين اهلل ٌ‬
‫العزيمة‪ ،‬فهذه العبادات جيوز فيها التلفيق للرضورة واحلاجة‪ ،‬أما العبادات املالية ونحوها‬
‫فينبغي التشدد فيها احتياطا‪ ،‬خشية ضياع حقوق الفقراء‪ ،‬واعتياد النفس البخل والشح‪ ،‬فال‬
‫ينبغي للمزكي أن يأخذ بالقول الضعيف‪ ،‬أو يلفق من كل مذهب ما هو أقرب إلضاعة حق‬
‫الفقري‪ ،‬وينبغي للمفتي أيضا أن يفتي باألحوط واألنسب ملصلحة الفقري‪.‬‬

‫(‪ )70‬ينظر‪ :‬عمدة التحقيق‪ ،‬الباين‪ ،‬ص‪.106‬‬


‫(‪ )71‬تبصري النجباء‪ ،‬احلفناوي‪ ،‬ص‪.272‬‬
‫‪26‬‬
‫النوع الثاين‪ :‬ما بني عىل الورع واالحتياط وهو املحظورات‪ :‬التي تبنى عىل االحتياط‬
‫واألخذ بالورع مهام أمكن‪ ،‬فال جيوز التسامح هبا‪ ،‬أو التلفيق فيها‪ ،‬إال عند الرضورة‪ ،‬ألن‬
‫كم‬
‫الرضورات تبيح املحظورات‪ ،‬وكام جاء يف احلديث أن رسول اهلل ﷺ قال‪«:‬إذا هن ْيت ْ‬
‫فاجتنِبوه‪ ،‬وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»(‪ )72‬والتورع يف حقوق العباد‬
‫عن يشء ْ‬
‫آكد من التورع يف حقوق اهلل‪ ،‬ألن حقوق العباد قائمة عىل صيانة احلق ومنع العدوان‬
‫وإحلاق األذى بالغري‪ ،‬فال جيوز التلفيق فيها‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬ما يكون فيه مصلحة العباد وسعادهتم‪ :‬فهو يف املعامالت‪ ،‬واحلدود‪ ،‬ويف‬
‫املناكحات‪ ،‬ألن املناكحات وما يتعلق هبا مبنية عىل سعادة الزوجني‪ ،‬ذلك لتوفري املناخ‬
‫واجلو الطيب والعيشة الراضية للنسل‪ ،‬فكل ما يؤيد هذا األصل ينبغي الرجوع إليه ولو‬
‫أدى إَل بعض التلفيق أحيانا‪ ،‬ولكن ال ينبغي أن يتخذ التلفيق ذريعة للتالعب بقضايا‬
‫الزواج والطالق‪ ،‬ألن األصل يف األبضاع التحريم صيانة للفروج‪.‬‬
‫أما املعامالت و أداء األموال‪ ،‬فإنه ينبغي أن يؤخذ من كل مذهب ما هو أقرب إَل‬
‫مصلحة العباد وسعادهتم‪ ،‬فكل ما يضمن صيانة األصول الكلية اخلمسة (الدر ين‪ ،‬النفس‪،‬‬
‫العقل‪ ،‬النسل‪ ،‬املال) فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يضيعها فهو مفسدة‪ ،‬ودفعه مصلحة‪ ،‬فيجوز‬
‫التلفيق فيها‪ ،‬لدفع املفسدة وحتقيق املصلحة(‪.)73‬‬

‫ج‪ -‬ضوابط األخذ بالتلفيق‪:‬‬


‫بالرخص ملجرد اهلوى‪.‬‬
‫‪ -1‬أن ال يأخذ ُّ‬
‫ِ‬
‫نقض حكم القضاء‪.‬‬ ‫‪ -2‬أن ال يؤدي إَل‬

‫(‪ )72‬البخاري‪ ،7288 ،‬كتاب االعتصام‪ ،‬باب اإلقتداء بسنن رسول اهلل ﷺ ‪)94/9( ،‬‬
‫ومسلِم‪ ،‬برقم‪ ،1337:‬كتاب احلج‪ ،‬باب فرض احلج مرة يف العمر (‪.)975/2‬‬
‫(‪ )73‬تبصري النجباء‪ ،‬احلفناوي ص‪ ،274‬نقال عن عمدة التحقيق‪ ،‬الباين‪ ،‬ص‪ ،127‬ونقل عنه د‪.‬وهبة الزحيل‪ ،‬أصول‬
‫الفقه ‪.1151/2‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ -3‬أن ال يؤدي إَل نقض ما عمل به تقليدا يف واقعة واحدة‪.‬‬
‫‪ -4‬أن ال خيل بأحد ضوابط األخذ بالرخص(‪.)74‬‬
‫‪ -5‬أن ال يؤدي إَل خمالفة اإلمجاع أو ما يستلزمه(‪.)75‬‬
‫واخلالصة‪ :‬ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه؛ أن كل ما أدى إَل خمالفة دعائم الرشيعة‬
‫وحكمتها فهو حمظور‪ ،‬وبخاصة احليل التي يتوصل هبا إَل‬ ‫والقضاء عىل سياستها ِ‬
‫املحظورات‪ ،‬وأن كل ما يؤيد دعائمها‪ ،‬ويصون ما تتطلبه سياستها ِ‬
‫وحكمتها إلسعاد الناس‬
‫مطلوب رشعا(‪.)76‬‬
‫ٌ‬ ‫يف الدارين‪،‬‬
‫بعد أن عرفنا معنى التلفيق وأنواعه وحكمه وضوابطه‪ ،‬نبدأ ببيان حكم تتبع الرخص‪:‬‬

‫ثانياً‪ :‬حكم تتبّع الرّخص الفقهية‪:‬‬


‫أ‪ -‬تعريف تتبّع الرّخص الفقهية‪:‬‬

‫(‪ )74‬وهي‪ :‬ال جيوز األخذ برخص املذاهب الفقهية ملجرد اهلوى‪ ،‬ألن ذلك يؤدي إَل التحلل من التكليف‪ ،‬وإنام جيوز‬
‫األخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية‪:‬‬
‫أ‪ -‬أن تكون أقوال الفقهاء التي يرتخص هبا معتربة رشعا ومل توصف بأهنا من شواذ األقوال‪.‬‬
‫ب‪ -‬أن تقوم احلاجة إَل األخذ بالرخصة‪ ،‬دفعا للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية‪.‬‬
‫ج‪ -‬أن يكون اآلخذ بالرخص ذا قدرة عىل االختيار‪ ،‬أو أن يعتمد عىل من هو ٌ‬
‫أهل لذلك‪.‬‬
‫د‪ -‬أال يرتتب عىل األخذ بالرخص الوقوع يف التلفيق املمنوع‪.‬‬
‫ـه‪ -‬أال يكون األخذ بذلك القول ذريعة للوصول إَل غرض غري مرشوع‪.‬‬
‫و‪ -‬أن تطمئن نفس املرتخص لألخذ بالرخصة‪.‬‬
‫(‪ )75‬من مقررات جممع الفقه اإلسالمي‪ ،‬يف دورته الثامنة يف ‪ 7 -1‬حمرم ‪1414‬ـه املوافق ‪ 27-21‬حزيران (يونيو)‬
‫‪1993‬م‪ ،‬جملة املجمع (العدد الثامن ‪.)41/1‬‬
‫(‪ )76‬ينظر‪ :‬أصول الفقه‪ ،‬الزحيل‪ ،1152/2 ،‬و تبصري النجباء‪ ،‬احلفناوي‪ ،‬ص‪.274‬‬
‫‪28‬‬
‫كل مذهب ما هو األهون عليه(‪ ،)77‬أي‪ :‬أن يأخذ املكلف من ر‬
‫كل‬ ‫اختيار املرء من ر‬
‫مذهب ما هو األيِّس عليه فيام يقع له من املسائل(‪.)78‬‬

‫ب‪ -‬حكم تتبّع الرّخص‪:‬‬


‫اختلف العلامء يف تتبع رخص املذاهب عىل ثالثة أقوال‪ :‬فمنهم املانع ومنهم املجيز‪،‬‬
‫ومنهم املتوسط القائل بالتفصيل‪.‬‬

‫القول األوَّل‪ :‬ال جيوز تتبّع رخص املذاهب‪:‬‬


‫وهذا قول الغزايل وابن السبكي والنووي وابن حزم والشاطبي واحلنابلة واألصح عند‬
‫املالكية(‪.)79‬‬
‫قال الغزايل‪ :‬ليس للعامي أن ينتقي من املذاهب ما يطيب له يف كل مسألة(‪ ،)80‬وقال ابن‬
‫الرخص يف املذاهب(‪ ،)81‬ونقل اإلمام الشوكاين (‪ )82‬عن‬
‫السبكي‪ :‬واألصح أنه يمتنع تت ُّبع ُّ‬
‫اإلمام أمحد أنه قال‪":‬لو أن رجال عمل بقول أهل الكوفة يف النبيذ‪ ،‬وأهل املدينة يف السامع‪،‬‬

‫افعي‪)325/6( ،‬‬
‫ركَّش الش ُّ‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )77‬ينظر‪ :‬البحر املحيط‪ ،‬بدر الدر ين الز‬
‫(‪ )78‬ينظر‪ :‬رشح املحل عىل مجع اجلوامع بحاشية البناين‪)400/2( ،‬‬
‫(‪ )79‬املستصفى ‪ ،204/2‬حاشية البناين عىل املحل‪ ،217/2 ،‬املوافقات‪ ،81/5 ،‬أصول الفقه‪ ،‬الزحيل‪،1153/2 ،‬‬
‫فتاوى عليش ‪ ،58/1‬املدخل إَل مذهب أمحد‪ ،‬ص‪ ،195‬اإلحكام يف ُتييز الفتاوى عن األحكام القرايف‪ ،‬ص ‪ ،79‬تبصري‬
‫النجباء‪ ،‬ص‪.285‬‬
‫(‪ )80‬املستصفى‪ ،‬الغزايل ‪.204/2‬‬
‫(‪ )81‬مجع اجلوامع مع حاشية البناين ‪.217/2‬‬
‫(‪ )82‬الشوكاين‪ 1250-1173( :‬ـه = ‪ 1834 - 1760‬م) حممد بن عل الشوكاين الصنعاين‪ ،‬املجتهد الفقيه األصويل‬

‫املفِّس القاِض من كبار علامء اليمن‪ ،‬من كتبه‪ :‬نيل األوطار‪( ،‬فتح القدير) يف التفسري‪ ،‬إرشاد الفحول‪ ،‬البدر الطالع‬

‫بمحاسن من بعد القرن السابع‪[ .‬البدر الطالع ‪ ،214/2‬األعالم للزركل‪]298/6 ،‬‬

‫‪29‬‬
‫وأهل مكة يف املتعة كان فاسقا(‪ ،)83‬وقال ابن النجار(‪ :)84‬أنه ُيرم عىل العامي تتبع الرخص‬
‫الرخص أحد من علامء املسلمني(‪.)85‬‬
‫ويفسق به‪ ،‬ألنه ال يقول بإباحة مجيع ُّ‬
‫عن إسامعيل القاِض(‪ )86‬قال‪" :‬دخلت عىل املعتضد(‪ )87‬فرفع إيل كتابا ألنظر فيه‪ ،‬وقد‬
‫مجع فيه الرخص من زلل العلامء‪ ،‬وما احتج به ٌّ‬
‫كل منهم‪ ،‬فقلت‪ :‬مصنف هذا زنديق‪ .‬فقال‪:‬‬
‫ألم تصح هذه األحاديث؟‪ .‬قلت‪ :‬بىل‪ ،‬ولكن من أباح املسكر مل ِ‬
‫يبح املتعة‪ ،‬وما من عامل إال‬
‫وله زلة‪ ،‬ومن مجع زلل العلامء ثم أخذ به ذهب دينه‪ .‬فأمر املعتضد بإحراق ذلك‬
‫ُيمل عىل تت ُّبع شواذ العلامء وزالهتم وهو مذموم اترفاقا‪.‬‬
‫الكتاب"(‪ ،)88‬لكن هذا ْ‬

‫(‪ )83‬إرشاد الفحول‪ ،‬الشوكاين‪ ،‬ص‪.454-453‬‬


‫(‪ )84‬ابن النجار‪ 972 - 898( :‬ـه = ‪ 1564 - 1492‬م) حممد بن أمحد بن عبد العزيز الفتوحي‪ ،‬تقي الدين أبو البقاء‪،‬‬

‫الشهري بابن النجار‪ :‬فقيه حنبل مرصي‪ ،‬له‪( :‬منتهى اإلرادات يف مجع املقنع مع التنقيح وزيادات) فقه حنبل‪ ،‬رشح‬

‫الكوكب املنري املسمى بمخترص التحرير‪[ .‬ينظر‪ :‬خمترص طبقات احلنابلة للشطي ‪ ،87‬كشف الظنون ‪ ،1853/2‬األعالم‪،‬‬

‫الزركل‪]6/6 ،‬‬

‫(‪ )85‬ابن النجار‪ :‬رشح الكوكب املنري ‪.577/4‬‬


‫(‪ )86‬إسامعيل القاِض‪199( :‬ـه‪282 -‬ـه) إسامعيل بن إسحاق بن إسامعيل بن حمدث البرصة محاد بن زيد بن درهم‬

‫األزدي‪ ،‬موالهم البرصي‪ ،‬أبو إسحاق‪ ،‬الفقيه املالكي‪ ،‬احلافظ‪ ،‬قاِض بغداد‪ ،‬وصاحب التصانيف‪ ،‬نرش مذهب مالك‬

‫بالعراق‪ ،‬له‪( :‬املسند)‪( ،‬املوطأ)‪( ،‬أحكام القرآن) وألف كتابا يف الرد عىل حممد بن احلسن صاحب أب حنيفة‪ ،‬وألف يف‬

‫علوم القرآن والقراءات‪[ .‬ينظر‪ :‬تاريخ بغداد‪ ،284/6 :‬سري أعالم النبالء‪]339/13 ،‬‬

‫(‪ )87‬املعتضد باهلل‪ 289 - 242( :‬ـه = ‪ 902 - 857‬م) أمحد بن طلحة بن جعفر‪ ،‬أبو العباس املعتضد باهلل بن املوفق‬

‫باهلل بن املتوكل‪ ،‬خليفة عبايس‪ ،‬كان شجاعا‪ ،‬ذا عزم‪ ،‬مهيبا عند أصحابه يتقون سطوته ويك ُّفون عن الظلم خوفا منه‪،‬‬

‫حتى قيل‪" :‬قامت الدولة بـ (أب العباس) وجددت بـ (أب العباس) أي‪ :‬السفاح واملعتضد‪ ،‬كان ُيج ويغزو وجيالس‬

‫املحدر ثني وأهل الفضل والدر ين‪[ .‬ينظر‪ :‬شذرات الذهب‪ ،‬ابن العامد‪ ،197/6 ،‬األعالم للزركل‪]64/2 ،‬‬

‫(‪ )88‬ينظر‪ :‬سري أعالم النبالء‪ ،465/13 ،‬البداية والنهاية‪ ،87/11 ،‬إرشاد الفحول‪ ،‬الشوكاين‪ ،‬ص‪.453‬‬
‫‪30‬‬
‫وعن ابن عبد الرب(‪ :)89‬أنه الجيوز للعامي تتبع الرخص إمجاعا (‪)90‬؛ وحكى ابن حزم‬
‫كل عامل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫برخصة ر‬ ‫اإلمجاع عىل حرمة تتبع الرخص(‪ ،)91‬وقال سليامن التيمي(‪" :)92‬لو أخذت‬
‫الرش ك ُّله"(‪.)93‬‬
‫اجتمع فيك ُّ‬
‫أدلّة املانعني لتتبّع الرّخص‪:‬‬

‫(‪ )89‬ابن عبد الرب‪ 463 - 368( :‬ـه = ‪ 1071 - 978‬م) يوسف بن عبد اهلل بن حممد بن عبد الرب النمري القرطبي‬

‫املالكي‪ ،‬أبو عمر‪ ،‬من كبار حفاظ احلديث‪ ،‬مؤرخ‪ ،‬أديب‪ ،‬حافظ املغرب‪ ،‬من كتبه‪( :‬االستيعاب)‪( ،‬جامع بيان العلم‬

‫وفضله)‪( ،‬التمهيد ملا يف املوطأ من املعاين واألسانيد)‪[ .‬ينظر‪ :‬بغية امللتمس يف تاريخ رجال أهل األندلس‪ ،‬الضبي‪،‬‬

‫‪ ،474‬وفيات األعيان‪ ،348/2 ،‬األعالم‪ ،‬الزركل‪]240/8 ،‬‬

‫(‪ )90‬قال د‪.‬وهبة الزحيل‪ :‬ال نسلم بصحة هذا النقل عنه‪ ،‬ولو سلم فال نسلم بصح ِة اإلمجاع‪[ .‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪،‬‬
‫‪]103/1‬‬
‫(‪ )91‬قال ابن حزم رمحه اهلل‪" :‬واتفقوا أن طلب رخص كل ت ْأ ِويل بِال كتاب وال سنة فسق ال ُيل" [مراتب اإلمجاع‪ ،‬ابن‬
‫لقاض أن ُيكم بِام ي ْشت ِهي ِمما ذكرنا ِيف قص ٍة‪ ،‬وبِام ْ‬
‫اشتهى ِمما‬ ‫ٍ‬ ‫حزم‪ ،‬ص‪ ،]175‬وقال "واتفقوا عىل أنه ال ُيل ٍ‬
‫ملفت وال‬
‫خيالف ذلِك احلكم ِيف أخرى مثلها‪ ،‬وإن كان كال ا ْلق ْول ْ ِ‬
‫ني ِمما قال بِ ِه مجاعة من ا ْلعلامء‪ ،‬ما مل يكن ذلِك لرجوع عن خطأ الح‬
‫له‪ ،‬إَل صواب بان له" [مراتب اإلمجاع‪ ،‬ص‪ ،]51‬قال الباحث‪ :‬مقصوده بالقول ْ ِ‬
‫ني‪ :‬أي اللذين أفتى هبام املفتي أو قىض هبام‬
‫القاِض‪.‬‬
‫(‪ )92‬سليامن التيمي‪( :‬ت‪143 :‬ـه) سليامن بن طرخان التيمي (نزل يف بني تيم‪ ،‬فقيل‪ :‬التيمي) البرصي‪ ،‬أبو املعتمر‪،‬‬

‫عابد أهل البرصة‪ ،‬املحدث‪ ،‬الورع‪ ،‬الصائم القائم‪ ،‬قال شعبة‪" :‬ما رأيت أحدا أصدق من سليامن التيمي كان إذا حدث‬

‫عن النبي ☺ تغري لونه"‪ ،‬وقال محاد بن سلمة‪" :‬ما أتينا سليامن التيمي يف ساعة يطاع اهلل فيها إال وجدناه مطيعا‪ ،‬وكنا‬

‫نرى أنه ال ُيسن يعيص اهلل"‪[ .‬ينظر‪ :‬الوايف بالوفيات‪ ،241/15 ،‬سري أعالم النبالء‪]195/6 ،‬‬

‫(‪ )93‬حلية األولياء وطبقات األصفياء‪ ،‬أبو نعيم األصفهاين‪ ،)32/3( ،‬وجامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ابن عبد‬

‫ربه(‪ ،)122/2‬هتذيب الكامل‪ ،‬يوسف بن عبد الرمحن املزي‪( ،‬املتوىف‪742 :‬ـه)‪ ،)11/12( ،‬سري أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪،‬‬

‫(‪)198/6‬‬

‫‪31‬‬
‫الرخص م ْي ٌل مع أهواء الناس‪ ،‬والشارع هنى عن اتباع اهلوى‪ ،‬ﭧ ﭨ { ﭪ‬
‫‪ -1‬تتبع ُّ‬
‫[سورة‬ ‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ } [سورة النساء‪ ،]135 :‬وﭧ ﭨ { ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ}‬
‫القصص‪]50:‬‬

‫‪ -2‬أمر اهلل تعاَل برد املتنازع فيه إَل الرشيعة ال إَل أهواء النفوس‪ ،‬وﭧ ﭨ { ﰀ‬

‫ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ}‬

‫[سورة النساء‪ ،]59 :‬وتتبع الرخص ذريعة إَل ترك اتباع الدليل‪.‬‬
‫قال الشاطبي‪" :‬إن يف مسائل اخلالف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع اهلوى مجلة‪ ،‬وهو قوله‬

‫تعاَل‪ { :‬ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ} [سورة النساء‪ ،]59 :‬وهذا املق رلد قد تنازع يف‬
‫مسألته جمتهدان؛ فوجب ردها إَل اهلل والرسول‪ ،‬وهو الرجوع إَل األدلة الرشعية‪ ،‬وهو أبعد‬
‫من متابعة اهلوى والشهوة؛ فاختياره أحد املذهبني باهلوى والشهوة مضاد للرجوع إَل اهلل‬
‫والرسول‪ ..‬وأيضا فإن ذلك يفيض إَل تتبع رخص املذاهب من غري استناد إَل دليل رشعي‪،‬‬
‫فسق ال ُيل"(‪.)94‬‬
‫وقد حكى ابن حزم اإلمجاع عىل أن ذلك ٌ‬
‫الرخص يؤدي إَل إسقاط ٍ‬
‫كثري من التكاليف الرشعية يف كل مسألة خمتلف فيها‪،‬‬ ‫‪ -3‬تتبع ُّ‬
‫ٍ‬
‫طريقة(‪ ،)95‬حتى قيل‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫عزيمة شاقة‪ ،‬ويسعى للتحلل منها بأي‬ ‫فم ْن اعتاد الرتخص يرى كل‬
‫الرخص سقط ثلثا دينه"‪.‬‬
‫"من تتبع ُّ‬
‫‪ -4‬عن عائشة ▲ قالت‪« :‬قال رسول اهلل ﷺ‪ :‬ما خ رري عام ٌر بني أمرين إال اختار‬
‫ويف لفظ‪« :‬أرشدمها» فثبت هبذين اللفظني للحديث أن الرشد يف األخذ‬ ‫أشدمها»(‪)96‬‬

‫(‪ )94‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي (‪)81/5‬‬


‫(‪ )95‬نقض دعاوى من استدل بيِّس الرشيعة عىل التيسري يف الفتاوى‪ ،‬د‪.‬أمحد بن عبد الكريم الرشيف‪( ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1423‬ـه‪ )2002/‬ص‪12‬‬
‫الرت ِمذي‪ ،3800 ،‬كتاب املناقب‪ ،‬باب مناقب عامر بن يارس‪ ،‬احلاكم‪ ،5665‬مسند أمحد‬
‫(‪ )96‬بلفظ‪(( :‬أرشدمها)) رواه ر ْ‬
‫‪ ،24820‬وصححه حمققوه (‪ ،)322/41‬احلاكم يف املستدرك‪ ،‬برقم‪ )388/3( ،5665‬وحسنه الشيخ عبد القادر‬
‫‪32‬‬
‫باألشد‪ ،‬ف ِ‬
‫إن استوى املجتهدان عند املستفتي يف الفضيلة‪ ،‬واختلفا عليه يف اجلواب‪ ،‬اختار‬
‫األشد منهام‪ ،‬واأل ْوَل أن يعترب ‪-‬أي املستفتي‪ -‬القولني ساقطني‪ ،‬لتعارضهام‪ ،‬ويرجع إَل‬
‫استفتاء آخر (‪.)97‬‬
‫‪ -5‬التدرج من األيِّس إَل األشد هو الغالب يف النسخ‪ ،‬وال يقال‪ :‬إن أحكام الرشيعة‬
‫تتدرج من األشد إَل األيِّس‪ ،‬وال من األيِّس إَل األشد باضطراد‪ ،‬ألهنا اشتملت عىل‬
‫األمرين معا‪ ،‬وقد جاء الرشع بالتشديد بعد الرتخيص(‪ ،)98‬يف مواضع كثرية(‪.)99‬‬
‫‪ -6‬حرمة التساهل يف الفتوى‪ ،‬وعدم قبول فتوى م ْن عرف به‪ ،‬لئال يقول عىل اهلل ما ال‬
‫علم له به‪ ،‬وُيرم تقليد متساهل يف اإلفتاء(‪ )100‬لعدم الوثوق به(‪.)101‬‬

‫األلباين يف الصحيحة برقم ‪ ،490/2 ،835‬ولفظ‪:‬‬


‫ُّ‬ ‫أرنؤوط يف تعليقه عىل جامع األصول‪ ،46/9 ،‬كام صححه‬
‫((أشدمها)) رواه النسائي يف السنن الكربى‪.)359/7( ،8218 ،‬‬
‫(‪ )97‬املدخل إَل مذهب اإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬ابن بدران الدمشقي‪ ،‬ص ‪.195‬‬
‫حق من يطيقه‪ ،‬و نحو ذلك ما جاء‬
‫الصيام عىل كل مكلف‪ ،‬بعد أن كان عىل التخيري يف ر‬
‫(‪ )98‬منها عىل سبيل املثال‪ :‬إجياب ر‬
‫يف حتريم اخلمر من التدرج من األيِّس إَل األشد‪ ،‬وكذلك احلال يف تشديد حد الزنا من اإليذاء باللسان و اليد‪ ،‬إَل حبس‬
‫الزواين يف البيوت حتى يأتيهن املوت‪ ،‬أو جيعل اهلل هلن سبيال‪ ،‬ثم اجللد للبكر‪ ،‬والرجم للم ْحص ِن‪ ،‬ونحوه ما كان من‬
‫النهي عن اجلهاد يف أول األمر‪ ،‬ثم اإلذن فيه‪ ،‬ثم إجيابه عىل غري ذوي األعذار بعد اهلجرة‪.‬‬
‫(‪ )99‬نقض دعاوى من استدل بيِّس الرشيعة عىل التيسري يف الفتاوى‪ ،‬د‪.‬أمحد بن عبد الكريم الرشيف‪( ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1423‬ـه‪ )2002/‬ص‪.16‬‬
‫(‪ )100‬بني السمعاين والنووي أن التساهل نوعان‪:‬‬
‫والشبه ِ‬
‫واحليل املكروهة واملحرمة‪.‬‬ ‫األول‪ :‬تت ُّبع الرخص ُّ‬
‫والثاين‪ :‬أن يتساهل يف طلب األدلة وطرق األحكام ويأخذ بمبادئ النظر وأوائل الفكر‪ ،‬فهذا مق ررص يف حق االجتهاد‪ ،‬فال‬

‫ُيل له أن يفتي كذلك ما مل تتقدم معرفته باملسئول عنه‪.‬‬

‫(‪ )101‬رشح املنتهى‪ ،457/33 ،‬واملجموع‪ ،‬النووي ‪ ،46/1‬وصفة املفتي‪ ،‬ابن محدان ص‪.31‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ -7‬القواعد الرشعية التي تؤيد األخذ باألحوط وهي‪ :‬فعند اخلالف األ ْوَل االحتياط‪،‬‬
‫من عز عليه دينه تورع‪ ،‬ومن القواعد التي‬
‫باخلروج من اخلالف‪ ،‬بالتزام األشد األقوى‪ ،‬فإن ْ‬
‫ترجح االحتياط‪:‬‬
‫ر‬
‫‪ -‬إذا تعارض احلاظر واملبيح قدر م احلاظر‪.‬‬
‫ِ‬
‫األصلني يؤخذ باأل ْحوط‪.‬‬ ‫‪ -‬عند تعارض‬
‫‪ -‬اخلروج من اخلالف مستحب‪.‬‬
‫‪ -8‬أما ما ورد يف التحذير و التنفري من (التشديد والتعسري واملشاقة والتنطع‪ ،‬والتعمق)‬
‫‪ -‬و ما إَل ذلك ‪ -‬عىل النفس واآلخرين‪ ،‬فهو حممول عىل ما كان فيه جماوز ٌة للمرشوع‪،‬‬
‫كالوصال يف الصيام‪ ،‬فهو مما هني عنه‪ ،‬وإن كان مقدورا عليه بدون مشقة‪ ،‬بخالف الصوم‬
‫املرشوع‪ ،‬فال يسقط عمن وجب عليه‪ ،‬حتى وإن ثبتت مشقته‪ ،‬ما دام مقدورا عليه (‪.)102‬‬
‫قال ابن تيمية ؒ‪" :‬التشديد تارة يكون باختاذ ما ليس بواجب‪ ،‬وال مستحب‪،‬‬
‫بمنزلة الواجب واملستحب يف العبادات‪ ،‬و تارة باختاذ ما ليس بمحرم وال مكروه‪ ،‬بمنزلة‬
‫املحرم واملكروه يف الطيبات" (‪.)103‬‬
‫و قال ابن القيم ؒ‪" :‬هنى النبي ﷺ عن التشديد يف الدر ين‪ ،‬و ذلك بالزيادة عىل‬
‫املرشوع‪ ،‬و أخرب أن تشديد العبد عىل نفسه هو السبب لتشديد اهلل عليه؛ إما بالقدر‪ ،‬و إما‬
‫بالرشع؛ فالتشديد بالرشع كام يشدد عىل نفسه بالنذر الثقيل‪ ،‬فيلزمه الوفاء به‪ ،‬و بالقدر‬
‫ْ‬
‫كفعل أهل الوسواس‪ ،‬فإهنم شددوا عىل أنفسهم‪ ،‬فشدر د عليهم القدر‪ ،‬حتى استحكم ذلك‪،‬‬
‫و صار صفة الزمة هلم"(‪.)104‬‬

‫(‪ )102‬نقض دعاوى من استدل بيِّس الرشيعة عىل التيسري يف الفتاوى‪ ،‬د‪.‬أمحد بن عبد الكريم الرشيف‪( ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1423‬ـه‪ )2002/‬ص‪.14‬‬
‫(‪ )103‬اقتضاء الرصاط املستقيم يف خمالفة الكفار أهل اجلحيم‪ ،‬ابن تيمية‪.103/1 ،‬‬
‫(‪ )104‬إغاثة اللهفان‪ ،‬ابن القيم ‪.132/1‬‬
‫‪34‬‬
‫الرخص فيه مفاسد كثرية‪:‬‬
‫‪ -9‬تتبع ُّ‬
‫أبان الشاطبي يف كالم مسهب مايرتتب عىل مبدأ األخذ باأليِّس من مفاسد منها‪:‬‬
‫الضالل يف الفتوى‪ ،‬بمحاباة القريب أو الصديق‪ ،‬يف تتبع رخص املذاهب اتباعا للغرض‬
‫والشهوة‪ ،‬واالدعاء بأن االختالف حجة عىل اجلواز أو اإلباحة‪ ،‬حتى شاع بني الناس‬
‫االعتامد يف جواز الفعل عىل كونه خمتلفا فيه بني أهل العلم‪ ،‬والتخ ُّلص من األحكام الرشعية‬
‫بأخف القولني‪ ،‬ال بأثقلهام‪ ،‬مع أن التكاليف كلها شاقة‬
‫ر‬ ‫وإسقاطها مجلة‪ ،‬عمال بمبدأ األخذ‬
‫ثقيلة!!‬
‫وكاالنسالخ من الدين برتك اتباع الدليل إَل اتباع اخلالف‪ ،‬وكاالستهانة بالدر ين إذ يصري‬
‫سياال ال ينضبط‪ ،‬وكرتك ماهو معلوم إَل ماليس بمعلوم‪ ،‬للجهل بأحكام املذاهب‬
‫األخرى‪ ،‬وكانخرام قانون السياسة الرشعية‪ ،‬برتك انضباط معيار العدالة بني الناس‪،‬‬
‫وشيوع الفوىض واملظامل‪ ،‬وضياع احلقوق‪ ،‬وتعطيل احلدود‪ ،‬واجرتاء أهل الفساد‪ ،‬وكإفضاء‬
‫ذلك إَل القول بتلفيق املذاهب عىل وجه خيرق إمجاعهم‪ ،‬وغري ذلك من املفاسد‪.‬‬

‫القول الثّاني‪ :‬جيوز تتبُّع رخص املذاهب‪:‬‬


‫وهذا قول بعض املالكية‪ ،‬وأكثر أصحاب الشافعي‪ ،‬والراجح عند احلنفية(‪.)105‬‬
‫أدلّة القائلني جبواز تتبُّع الرّخص‪:‬‬
‫ِ‬
‫رخص املذاهب واإلفتاء باأليِّس‪ ،‬ألنه ال يوجد يف الرشع ما يبطله‬ ‫قالوا‪ :‬جيوز تتبع‬
‫ويمنعه‪ ،‬ودين اهلل يِّس‪،‬‬

‫(‪ )105‬فواتح الرمحوت برشح مسلم الثبوت‪ ،‬عبد العل حممد بن نظام الدين األنصاري (هبامش املستصفى للغزايل‪ ،‬طبعة‬
‫دار األرقم بن أب األرقم‪ ،)655/2 ،‬املستصفى ‪( 204/2‬طبعة دار إحياء الرتاث)‪ ،‬رشح املحىل عىل مجع اجلوامع‬
‫‪ ،217/2‬إرشاد الفحول‪ ،‬ص‪ ،354 -353‬رسم املفتي يف حاشية ابن عابدين‪ ،1/69 :‬الفوائد املكية للسقاف‪ :‬ص‪52‬‬
‫‪35‬‬
‫وقد وقع يف أذهان بعض الناس أن الرشيعة تعني الزجر واملنع والنهي‪ ،‬حتى صاروا‬
‫يظنُّون أن فقه العامل هو يف تشديده عىل الناس‪ ،‬وكثرة التحريم عنده‪ ،‬وأن هذا دليل عىل‬
‫الورع والتقوى!‬
‫وصار آخرون إذا سمعوا مبيحا ملا اعتادوا حتريمه‪ ،‬طالبوه بالدليل واحلجة‪ ،‬وقالوا إنه‬
‫حمرما وافقوه وأقروه‪ ،‬ومل يطالبوه بحجة‪ ،‬وال وصموه‬
‫ليس من أهل االجتهاد‪ ،‬وإذا سمعوا ر‬
‫الرتبة‪ ،‬حتى لو كان عاميا أو حدثا بالسن‪ ،‬وكأن االجتهاد يلزم لْلباحة‬
‫بالتقارص عن ُّ‬
‫حق ر‬
‫لكل أحد‪.‬‬ ‫فحسب‪ ،‬أما التحريم فهو ٌّ‬
‫الرخصة من ثقة‪ ،‬وأما التشديد‬
‫يقول سفيان الثوري(‪" :ؒ )106‬إنام العلم عندنا ُّ‬
‫فيحسنه ُّ‬
‫كل أحد"(‪.)107‬‬
‫وبعض املتفقهني كلام أشكل عليه يشء‪ ،‬أخذ باأل ْحوط وشق عىل الناس‪ ،‬وأن تأخذ‬
‫باألحوط لنفسك فهذا ال بأس به‪ ،‬لكن أن تأخذ الناس باألحوط ؛ فهذا يوقعهم يف ألوان‬
‫من احلرج واملشقة عظيمة‪ ،‬وتكون قد احتطت لنفسك بالتضييق عىل الناس! وال شك أن‬
‫حتليل احلرام كتحريم احلالل‪.‬‬
‫واستدلّوا بعدة أدلّة منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬القرآن الكريم‪ :‬املقصود اآليات القرآنية التي تتحدث عن اليِّس ورف ِع احلرج قال ‪:‬‬

‫{ﯗﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ} [سورة البقرة‪ .]185 :‬يقول ‪ { :‬ﮂ ﮃ ﮄ‬

‫(‪ )106‬س ْفيان الثوري‪ 161 - 97( :‬ـه = ‪ 778 - 716‬م) سفيان بن سعيد بن مِّسوق الثوري‪ ،‬أبو عبد اهلل‪ ،‬كويف‪ ،‬من‬

‫تابعي التابعني‪ ،‬أحد األئمة املجتهدين‪ ،‬أمري املؤمنني يف احلديث‪ ،‬له من الكتب (اجلامع الكبري) و (اجلامع الصغري) كالمها‬

‫يف احلديث‪ ،‬من كالمه‪" :‬ما حفظت شيئا فنسيته"‪[ .‬ينظر‪ :‬طبقات الفقهاء‪ ،‬الشريازي‪ ،84 ،‬األعالم‪ ،‬الزركل‪]185/3 ،‬‬

‫(‪ )107‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬يوسف بن عبد الرب النمري‪( ،‬ت‪463:‬ـه)‪( ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪1398 ،‬ـه)‪،‬‬
‫‪ ،36/2‬آداب الفتوى واملفتي واملستفتي‪ ،‬النووي (ت‪( ،)676:‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪1408 ،1‬ـه‪ ،‬ت‪/‬بسام عبد الوهاب‬
‫اجلاب)‪38/1 ،‬‬
‫‪36‬‬
‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ } [سورة املائدة‪ ]6:‬و ﭧ ﭨ { ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬

‫ﮮ ﮯ ﮰﮱ } [سورة الحج‪ ،]78 :‬وﭧ ﭨ {ﯤ ﯥ ﯦ} [سورة األعىل‪ ،]8 :‬وقال ﭨ‬

‫{ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧﭨ} [سورة النساء‪ ،]28:‬قال‬


‫اختلِف عل ْيك ِيف أ ْمر ْي ِن‪ ،‬فخ ْذ أيِّْسمها‪ ،‬ف ِإن أيِّْسمها أقرهبام ِمن‬
‫الشعبي(‪" :ؒ )108‬إِذا ْ‬

‫{ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ }[سورة البقرة‪:‬‬ ‫ْ‬


‫احل رق؛ألن اهلل ▐ يقول‪:‬‬
‫‪.)109("]185‬‬

‫وُيض‬
‫ُّ‬ ‫الرفق‬
‫السنّة الفعليّة والقوليّة‪ :‬فالنبي ﷺ كان ُيب األخف واأليِّس ويمدح ر‬
‫ب‪ُّ -‬‬
‫عىل التخفيف يف الصالة ويعلم املسلمني اجلدد مقترصا عىل أهم الفرائض‪ ،‬ويكره التشديد‬
‫والتنطع‪:‬‬
‫‪ -1‬قالت عائشة ▲‪« :‬ما خري رسول اهلل ﷺ بني أمرين قط إال اختار أيِّسمها‪ ،‬ما مل‬
‫ب ما خي رفف عنْه ْم »(‪.)111‬‬ ‫ِ‬
‫يكن إثام»(‪ ،)110‬وقالت ▲‪ « :‬وكان ُي ُّ‬

‫(‪ )108‬الشعبي‪ 103 - 19( :‬ـه = ‪ 721 - 640‬م) عامر بن رشاحيل بن عبد ذي كبار‪ ،‬الشعبي احلمريي‪ ،‬أبو عمرو‪،‬‬

‫تابعي من الكوفة‪ ،‬فقيه‪ ،‬شاعر‪ ،‬يرضب املثل بحفظه‪[ .‬ينظر‪ :‬هتذيب التهذيب ‪ ،65/5‬سري أعالم النبالء‪،294/4 ،‬‬

‫األعالم للزركل‪]251/3 ،‬‬

‫(‪ )109‬رشح السنة‪ ،‬البغوي‪ ،391/14 ،‬الفقيه واملتفقه‪ ،‬اخلطيب البغدادي‪ ،‬برقم ‪ ،1219‬باب التوثق باستفتاء اجلامعة‪،‬‬
‫قال حمققه عادل بن يوسف العزازي‪ :‬إسناده صحيح‪431/2 ،‬‬
‫(‪ )110‬البخاري‪ ،6126 ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب قوله ☺((يِّسوا وال تعِّسوا))‪ ،30/8 ،‬ومسلِم‪ ،2327،‬كتاب‬
‫الفضائل‪ ،‬باب مباعدته ☺ لآلثام‪ ،1813/4 ،‬املوطأ‪ ،1603،‬كتاب حسن اخللق‪ ،‬باب ماجاء يف حسن اخللق‪902/2،‬‬
‫ت ون ْح ِوها‪ ،121/1 ،‬ولفظه‪ :‬عن‬ ‫رص ِمن ا ْلفوائِ ِ‬
‫(‪ )111‬البخاري‪ ،590 ،‬كتاب مواقيت الصالة‪ ،‬باب ما يصىل ب ْعد ا ْلع ْ ِ ْ‬
‫عائِشة▲ قال ْت‪ :‬وال ِذي ذهب بِ ِه ما تركهام حتى ل ِقي الل وما ل ِقي الل تعاَل حتى ثقل ع ْن الصال ِة‪ ،‬وكان يص رل كثِريا‬
‫يهام ِيف ا ْمل ْس ِج ِد خمافة أ ْن يث رقل عىل أمتِ ِه وكان‬
‫يهام وال يص رل ِ‬
‫رص وكان النبِ ُّي ﷺ يص رل ِ‬ ‫اعدا ت ْعنِي الركْعت ْ ِ‬
‫ني ب ْعد ا ْلع ْ ِ‬ ‫ِمن صالتِ ِه ق ِ‬
‫ْ‬
‫ب ما خي رفف عنْه ْم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُي ُّ‬
‫‪37‬‬
‫ب إَِل اهللِ؟ قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اس ¶ قال‪ِ :‬قيل لِرس ِ ِ‬
‫ول الل ﷺ‪ :‬أ ُّي ْاأل ْديان أح ُّ‬ ‫ع ِن ْاب ِن عب ٍ‬

‫يفية الس ْمحة»(‪.)112‬‬ ‫«ا ْحلن ِ ِ‬

‫ِّس ول ْن يشاد الدر ين أحدٌ إِال غلبه‬ ‫وع ْن أ ِب هر ْيرة ع ْن النبِ ري ☺ قال «إِن الدر ين ي ْ ٌ‬
‫يش ٍء ِم ْن الدُّ ْجل ِة» (‪.)113‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اربوا وأب ِرشوا و ِ‬
‫استعينوا بِا ْلغدْ وة والر ْوحة و ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫فسدر دوا وق ِ‬

‫ويقول الرسول الكريم ☺‪ « :‬إِن خ ْري ِدينِك ْم أيِّْسه» (‪.)114‬‬


‫وملا بعث ☺ (أبا موسى) و(معاذا) إَل اليمن‪ ،‬أوصامها بقوله‪« :‬ي رِّسا وال تع رِّسا ‪،‬‬
‫وب ررشا وال تن رفرا‪ ،‬وتطاوعا»(‪ ،)115‬وروى عنه أنس أنه ☺ قال‪« :‬ي رِّسوا وال تع رِّسوا‪،‬‬
‫وب ررشوا وال تن رفروا» (‪.)116‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وحديث األعراب الذي بال يف املسجد‪ ،‬قال ☺ يف آخره‪ «:‬فإنام بع ْثت ْم مي رِّسين وملْ‬
‫ت ْبعثوا مع ر ِ‬
‫ِّسين »(‪.)117‬‬

‫(‪ )112‬مسند اإلمام أمحد‪ ،2107 ،‬قال حمققوه‪ :‬صحيح لغريه‪ ،)16/4( ،‬وصحح األلباين يف الصحيحة لفظ‪(( :‬بعثت‬
‫باحلنيفية السمحة)) برقم ‪ ،1022/6 ،2924‬قال السندي‪ :‬احلنيفية‪ :‬أي امللة املنسوبة إَل إبراهيم ♠ يريد دين‬
‫اإلسالم‪ ،‬فإنه يشارك دين إبراهيم يف كثري من الفروع مع االحتاد يف األصول‪ ،‬والسمحة‪ :‬التي تسهل عىل النفوس‪.‬‬
‫يفية الس ْمحة‪.16/1 ،‬‬ ‫ين إَِل اللِ ْ‬
‫احلنِ ِ‬
‫ِّس وق ْول النبِ ري ☺ أح ُّ‬
‫ب الدر ِ‬ ‫(‪ )113‬البخاري‪، 39 ،‬كتاب اإليامن‪ ،‬باب الدر ين ي ْ ٌ‬
‫(‪ )114‬مسند اإلمام أمحد ‪ ،284/25 ،15936 ،‬قال حمققوه‪ :‬إسناده حسن‪ ،‬الطرباين‪ ،‬املعجم الكبري‪،230/18 ،573 ،‬‬
‫قال صاحب جممع الزوائد‪ :‬رواه الطرباين يف الكبري ورجاله رجال الصحيح‪.664/3 ،‬‬
‫ب وعقوب ِة م ْن عَص إِمامه وقال الل‬ ‫ف ِيف ْ‬
‫احل ْر ِ‬ ‫(‪ )115‬البخاري‪ ،3038 ،‬كتاب اجلهاد‪ ،‬باب ما يكْره ِمن التناز ِع و ِاال ْختِال ِ‬
‫ْ‬
‫تعاَل {وال تنازعوا فت ْفشلوا وت ْذهب ِرُيك ْم}‪ ،65/4‬ومسلِم‪ ،1733 ،‬كتاب اجلهاد‪ ،‬باب يف األمر بالتيسري وترك التنفري‪،‬‬
‫‪1359/3‬‬
‫(‪ )116‬البخاري‪ ،69،‬كتاب العلم‪ ،‬باب ماكان النبي ☺ يتخوهلم باملوعظة والعلم كي ال ينفروا ‪ ،25/1،‬ومسلِم‪،‬‬
‫‪ ،1734‬كتاب اجلهاد‪ ،‬باب يف األمر بالتيسري وترك التنفري‪1359/3،‬‬
‫تعِّسوا)) وكان ُيب التخفيف واليِّس عىل‬
‫(‪ )117‬البخاري‪ ،6128 ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب قول النبي ☺‪(( :‬يِّسوا وال ر‬
‫الناس‪.30/8 ،‬‬
‫‪38‬‬
‫الرفق ال يكون يف يشءإِال‬
‫‪ -2‬وقد ندب النبي ☺ إَل الرفق يف أحاديث كثرية منها‪« :‬إِن ر‬
‫زانه‪ ،‬وال ينْزع ِمن يشء إِال شانه » (‪.)118‬‬
‫ب أ ْن ت ْؤتى رخصه كام يكْره أ ْن ت ْؤتى م ْع ِصيته»(‪.)119‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -3‬ويقول ﷺ‪« :‬إِن الل ُي ُّ‬
‫ِ‬
‫‪ -4‬وهذا واضح ُتام الوضوح‪ ،‬يف هدْ ي النبي ☺ يف تعليمه اإلسالم ملن يدخل فيه‪،‬‬
‫فهو ال يك رثر عليه الواجبات‪ ،‬وال يثقله بكثرة األوامر والنواهي‪ ،‬وإذا سأله عام يطلبه‬
‫اإلسالم منه‪ ،‬اكتفى بتعريفه بالفرائض األساسية‪ ،‬ومل يغرقه بالنوافل‪ ،‬فإذا قال له الرجل‪ :‬ال‬
‫أ ِزيد عىل هذا وال أنْقص منه‪ ،‬قال‪« :‬أ ْفلح إِ ْن صدق أ ْو دخل ْ‬
‫اجلنة إِ ْن صدق»(‪.)120‬‬
‫‪ -5‬كام أمر ﷺ األئمة بالتخفيف يف الصالة وعدم تطويل قراءهتا‪ ،‬وهو أمر استحباب‪،‬‬
‫وذلك الختالف أحوال املأمومني؛ ألن فيهم الضعيف‪ ،‬واملريض‪ ،‬والعاجز‪.‬‬
‫بل رأيناه ﷺ يشدر د النكري عىل من يطيل عىل الناس‪ ،‬وال ي ِ‬
‫راعي ظروفهم املختلفة‪ ،‬كام‬
‫فعل مع بعض الصحابة الذين كانوا يؤ ُّمون الناس‪ ،‬ويطيلون يف الصالة‪ ،‬طوال اشتكى منه‬
‫بعض مأموميهم‪ ،‬حتى قال ملعاذ‪« :‬يا معاذ أفت ٌ‬
‫ان أنْت ثالثا»(‪.)121‬‬
‫وعن أب مسعود األنصاري‪ :‬أن رجال قال‪ :‬واهلل يا رسول اهلل‪ ،‬إين ألتأخر عن صالة‬
‫الغداة من أجل فالن‪ ،‬مما يطيل بنا! فام رأيت رسول اهلل ﷺ يف موعظة أشد غضبا منه‬

‫الرفق‪2004/4 ،‬‬ ‫ِ‬


‫(‪ )118‬مسلم‪ ،2594 ،‬كتاب الربوالصلة‪ ،‬باب ر‬
‫(‪ )119‬أمحد‪ ،5873،‬قال حمققوه‪ :‬حديث صحيح‪ ، ،112/10 ،‬وابن خز ْيمة‪ ،2027 ،‬باب استحباب الفطر يف السفر‪،‬‬
‫‪ ،259/3‬قال حمققه حممد مصطفى األعظمي‪ :‬إسناده حسن‪ ،‬وابن ِحبان‪ ،2742،‬باب املسافر‪ ،451/6 ،‬قال شعيب‬
‫األرنؤوط‪ :‬إسناده قوي‪ ،‬وحسنه اهليثمي يف جممع الزوائد‪ ،382/3‬وصححه األلباين يف اإلرواء‪.9/3 ،564 ،‬‬
‫وب ص ْو ِم رمضان وق ْو ِل اللِ تعاَل {يا أ َُّيا ال ِذين آمنوا كتِب عل ْيك ْم‬
‫(‪ )120‬البخاري‪،1891 ،‬كتاب الصوم‪ ،‬باب وج ِ‬

‫الصيام كام كتِب عىل ال ِذين ِم ْن ق ْبلِك ْم لعلك ْم تتقون}‪ ،24/3 ،‬ومسلِم‪ ،11 ،‬كتاب اإليامن‪ ،‬باب بيان الصلوات التي هي‬
‫ر‬
‫أحد أركان اإلسالم‪.40/1 ،‬‬
‫(‪ )121‬البخاري‪،6106 ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب من مل ير إكفار من قال ذلك متأوال أو جاهال‪،26/8 ،‬‬
‫‪39‬‬
‫وج ْز ف ِإن ِف ِيه ْم‬ ‫يومئذ‪ ،‬ثم قال‪« :‬يا أ َُّيا الناس إِن ِمنْك ْم من رف ِرين فأيُّك ْم ما صىل بِالن ِ‬
‫اس ف ْلي ِ‬

‫احلاج ِة»(‪.)122‬‬
‫ا ْلكبِري والض ِعيف وذا ْ‬
‫ف ف ِإن ِمنْه ْم الض ِعيف والس ِقيم وا ْلكبِري وإِذا‬ ‫وقالﷺ «إِذا صىل أحدك ْم لِلن ِ‬
‫اس ف ْليخ رف ْ‬
‫صىل أحدك ْم لِن ْف ِس ِه ف ْليط رو ْل ما شاء»(‪.)123‬‬
‫‪ -6‬وكان النبي ﷺ أشد ما يكون إنكارا للتشديد إذا كون اجتاها‪ ،‬وتبناه مجاعة‪ ،‬ومل يكن‬
‫جمرد نزعة فردية عارضة‪ ،‬وهذا ما نالحظه يف إنكاره عىل الثالثة الذين اختذوا خ ًّطا يف التع ُّبد‬

‫غري خ رطه‪ ،‬وإن كانوا ال يريدون إال اخلري ومزيدا من ا ُّ‬


‫لتقرب إَل اهلل تعاَل (‪.)124‬‬
‫‪ -7‬وعن ابن مسعود ◙ أن النبي ﷺ قال‪« :‬هلك املتن رطعون ‪ -‬قاهلا ثالثا‪-‬‬
‫»(‪.)125‬‬
‫املتن رطعون‪ :‬مجع متن رطع‪ ،‬وهو املبالغ يف األمر قوال وفعال (‪.)126‬‬
‫اب النبِ ري ﷺ أكْثر ِم ْن س ْب ِعني‪ ،‬فام رأيْت ق ْوما‬
‫‪ -8‬قال عم ْ ٌري(‪ :)127‬م ْن أ ْدركْت ِم ْن أ ْصح ِ‬

‫أ ْهون ِسرية وال أقل ت ْش ِديدا ِمنْه ْم"(‪.)128‬‬

‫ومسلِم‪ ،465 ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب القراءة يف العشاء‪.339/1 ،‬‬


‫(‪ )122‬البخاري‪ ، 7159 ،‬كتاب األحكام‪ ،‬باب هل يقيض احلاكم أو يفتي وهو غضبان‪،65/9 ،‬‬
‫ومسلِم‪ ،466 ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب أمر األئمة بتخفيف الصالة يف ُتام‪.340/1 ،‬‬
‫(‪ )123‬البخاري‪ ،703 ،‬كتاب األذان‪ ،‬باب إذا صىل لنفسه فليطول ماشاء‪ ،142/1 ،‬ومسلِم‪ ،467 ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب‬
‫أمر األئمة بتخفيف الصالة ‪.341/1‬‬
‫اح لِقول ِ ِه تعاَل‪{ :‬فان ِْكحوا ما طاب لكم ِمن النرس ِ‬ ‫(‪ )124‬البخاري‪ ،5063 ،‬كِتاب النركاحِ ‪ ،‬باب الرت ِغ ِ ِ‬
‫اء}‪،‬‬ ‫ْ ْ‬ ‫يب يف النرك ِ ْ‬ ‫ْ‬
‫(‪)2/7‬‬
‫(‪ )125‬مسلِم‪ ،2670،‬كتاب العلم‪ ،‬باب هلك املتنطعون‪2055/4 ،‬‬
‫(‪ )126‬رشح النووي عىل مسلِم‪ ،220/16 ،‬هدي الساري مقدمة فتح الباري‪ ،‬ابن حجر‪ ،‬ص ‪196‬‬
‫(‪ )127‬عمري بن إسحاق القريش البرصي‪ ،‬تابعي‪ ،‬أبو حممد‪ ،‬موَل بني هاشم‪ ،‬شيخ عبد اهلل بن عون‪[ ،‬ينظر‪ :‬الكامل يف‬

‫ضعفاء الرجال‪ ،‬ابن عدي (‪])69/5‬‬

‫‪40‬‬
‫ج‪ -‬عمل الصحابة‪ :‬كان الناس يف عهد الصحابة‪ ،‬يسألوهنم ويستفتوهنم وال يلتزمون‬
‫بصحاب دون سواه‪ ،‬كام أن املجتهدين الراسخني‪ ،‬كانوا يكرهون محل الناس عىل مذهبهم‪،‬‬
‫العبايس أبو جعفر املنصور‪ ،‬عىل اإلمام مالك أن ُيمل الناس عىل كتابه‬
‫ُّ‬ ‫فقد عرض اخلليفة‬
‫وهذا من قبيل عدم وجوب تقليد إمام معني‪ ،‬أو االلتزام‬ ‫ذلك(‪)129‬‬ ‫املوطأ‪ ،‬فأبى مالك‬
‫بمذهب ما‪.‬‬
‫‪ -‬ويناقش‪ :‬هذا االستدالل بأنه ال ُّ‬
‫يدل عىل تتبع الرخص‪ ،‬وإنام غاية ما فيه جواز عدم‬
‫التزام ٍ‬
‫مفت واحد يف ر‬
‫كل املسائل‪.‬‬
‫هـ‪ -‬مشروعية احلِيَل الشرعية ائاائزة(‪ :)130‬وما هي سوى االنتقال من حكم صعب إَل‬
‫أيِّس منه‪ ،‬وقد عقد اخلطيب البغدادي(‪ ؒ )131‬بابا يف كتابه (الفقيه واملتفقه) سامه (باب‬
‫التمحل يف الفتوى)‪ ،‬فقال‪" :‬متى وجد املفتي للسائل خمرجا يف مسألته‪ ،‬وطريقا يتخلص به‪،‬‬
‫ُّ‬
‫أرشده إليه ونبهه عليه‪ ،‬كرجل حلف أال ينفق عىل زوجته وال يطعمها شهرا ‪ ،‬أو شبه هذا‪،‬‬
‫فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها‪ ،‬أو د ْين هلا عليه‪ ،‬أو يقرضها ثمن بيوهتا‪ ،‬أو يبيعها سلعة‬

‫(‪ )128‬رشح السنة‪ ،‬البغوي‪ ،)391/14( ،‬شعب اإليامن‪ ،‬أبو بكر أمحد بن احلسني البيهقي (ت‪ ،)458:‬برقم‪( 1049‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1،1410‬ـه‪ ،‬ت‪/‬حممد السعيد بسيوين زغلول)‪ ،20/2 ،‬الطبقات الكربى‪ ،‬حممد بن سعد‪،‬‬
‫(ت‪( ،)230:‬دار صادر‪ ،‬بريوت)‪ ،220/7 ،‬ورواه ابن عدي يف الكامل بلفظ‪ " :‬كان من أدركت من أصحاب النبي ☺‬
‫أكثر ممن فاتني فلم أر قوما أهون سرية وال أقل تشديدا منهم" الكامل يف ضعفاء الرجال‪ ،‬ابن عدي‪69/5 ،‬‬
‫(‪ )129‬ينظر‪ :‬ترتيب املدارك وتقريب املسالك ملعرفة أعالم مذهب مالك‪ ،‬القاِض عياض بن موسى اليحصبي السبتي‬
‫األندليس‪( ،‬ت‪( ،)544:‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪،‬ط‪1418 ،1‬ـه‪1998/‬م‪ ،‬ت‪/‬حممد سامل هاشم) ‪101/1‬‬
‫أفضل تسميتها بـ (احللول الرشعية) وبعضهم يسميها‪( :‬املخارج الرشعية) بدال من ِ‬
‫(احليل) ملا يوحيه‬ ‫(‪ )130‬وإن كنت ر‬
‫(احليل) بمعنى ٍ‬
‫يسء‪.‬‬ ‫لفظ‪ِ :‬‬

‫(‪ )131‬اخلطيب البغدادي‪ 463 - 392( :‬ـه = ‪ 1072 -1002‬م) أمحد بن عل بن ثابت البغدادي‪ ،‬أبو بكر‪ ،‬املعروف‬

‫باخلطيب‪ ،‬أحد احلفاظ املؤرخني‪ ،‬ولوعا باملطالعة والتأليف‪ ،‬من كتبه‪( :‬تاريخ بغداد)‪( ،‬الكفاية يف علم الرواية)‪( ،‬اجلامع‬

‫ألخالق الراوي وآداب السامع)‪( ،‬الفقيه واملتفقه)‪[ .‬ينظر‪ :‬طبقات الشافعية ‪ ،12/3‬سري أعالم النبالء‪،270/18 ،‬‬

‫األعالم‪ ،‬الزركل‪]172/1 ،‬‬

‫‪41‬‬
‫وينوَيا من الثمن‪ ،‬وقد قال اهلل تعاَل أليوب ♠ ملا حلف أن يرضب زوجته مئة‪ ،‬ﭧ‬

‫ﭨ {ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭭ} [ص‪ ،]44 :‬ثم ساق اخلطيب آثارا كثرية يف هذا‬


‫املعنى (‪.)132‬‬
‫‪ -‬ويناقش‪ :‬بأن احليل املرشوعة هي التي خترج من احلرج والضيق الذي يقع فيه املكلف‬
‫يف بعض احلاالت وبعض األوقات‪ ،‬ال التي تسقط الواجبات أو حتل املحرمات! وجواز‬
‫ِ‬
‫بعض احلي ِل ال يعني تتبع ُّ‬
‫الرخص‪.‬‬

‫القول الثّالث‪ :‬جيوز تتبُّع الرُّخص بشروط‪:‬‬


‫والقائلون هبذا القول‪ ،‬نظروا إَل مقصد القائلني باملنع ومقصد القائلني باجلواز‪ ،‬ألن‬
‫القول باملنع سد لذريعة االنحالل من التكاليف‪ ،‬والعبث بالرشيعة‪ ،‬والقول باجلواز مراعاة‬
‫ملقصد الرشيعة يف التيسري‪ ،‬لذلك جاء تفصيلهم تفريقا بني املقبول واملرفوض من تتبع‬
‫الرخص‪ ،‬ووضعوا رشوطا وضوابط لألخذ بالرخصة‪ ،‬لدرء املحظورات التي قد تنجم عن‬
‫الرخص‪.‬‬
‫تت ُّبع ُّ‬
‫فالرشيعة اإلسالمية تتميز بالوسطية واليِّس‪ ،‬قال الشاطبي ؒ‪" :‬ا ْمل ْفتِي ا ْلبالِغ ِذ ْروة‬
‫ور‪ ،‬فال ي ْذهب ِهبِ ْم‬ ‫ود ِفيام يلِيق بِ ْ‬
‫اجل ْمه ِ‬ ‫ط ا ْملعه ِ‬
‫ْ‬
‫الدرج ِة هو ال ِذي ُي ِمل الناس عىل ا ْلوس ِ‬
‫ْ‬
‫الرصاط ا ْمل ْست ِقيم ال ِذي جاء ْت بِ ِه‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫م ْذهب ر ِ‬
‫الشدة‪ ،‬وال يميل ِهبِ ْم إَِل طرف االنْحالل‪ ،‬وهذا هو ر‬
‫خني‪ِ ..‬ألنه‬ ‫ط م ْذموم ِعنْد ا ْلعلام ِء الر ِ‬
‫اس ِ‬ ‫الرشيعة‪ ،‬فال إِ ْفراط وال ت ْف ِريط‪ ،‬وما خرج ع ِن ا ْلوس ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫ْحالل‬ ‫االن ِ‬
‫احلر ِج بغض إِلي ِه الدر ين‪ ،‬وإِذا ذهب بِ ِه م ْذهب ِ‬ ‫تو ْ‬ ‫إِذا ذهب بِا ْملست ْفتِي م ْذهب ا ْلعن ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َّش مع ْاهلوى والش ْهو ِة" (‪.)133‬‬ ‫كان مظِنة ل ِ ْلم ْ ِ‬

‫(‪ )132‬الفقيه واملتفقه‪ ،‬اخلطيب البغدادي‪( ،‬ت‪462:‬ـه)‪411/2 ،‬‬


‫(‪ )133‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪277/5 ،‬‬
‫‪42‬‬
‫ُيرم ت ْقلِيد متسا ِه ٍل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِيف ِ ِ ِ‬ ‫وُيرم تساهل م ْف ٍ‬
‫اإل ْفتاء‪ ،‬لئال يقول عىل اهلل ما ال ع ْلم له بِه‪ ،‬و ْ‬ ‫ْ‬
‫السياس ِة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِيف ِ ِ ِ‬
‫اإل ْفتاء‪ ،‬لعد ِم ا ْلوثوق بِه(‪ ،)134‬لك ْن جيوز ل ْلم ْفتي أ ْن يتشدد يف ا ْلفتْوى عىل سبِيل ر‬
‫ري والت ْس ِهيل‪ ،‬عىل ما ت ْقت ِض ِيه‬ ‫اه ٌل ِفيها‪ ،‬وأ ْن ي ْبحث ع ِن الت ْي ِس ِ‬
‫اِص متس ِ‬ ‫ِملن هو م ْق ِدم عىل ا ْملع ِ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫ري ِه‪ ،‬لِيكون مآل ا ْلفتْوى أ ْن يعود ا ْمل ْست ْفتِي إَِل الط ِر ِيق‬‫األ ِدلة ِمل ْن هو مشدر ٌد عىل ن ْف ِس ِه أ ْو غ ْ ِ‬
‫ا ْلوس ِ‬
‫ط‪.‬‬
‫قال اإلمام النووي ؒ‪" :‬قال الصيمري(‪ :)135‬إذا رأى املفتي املصلحة أن يفتي‬
‫ٌ‬
‫تأويل‪ ،‬جاز ذلك زجرا له‪ ،‬كام روي‬ ‫العامي بام فيه تغليظ‪ ،‬وهو مما ال يعتقد ظاهره وله فيه‬
‫عن ابن عباس ¶‪ ،‬أنه سئل عن توبة القاتل‪ ،‬فقال‪( :‬ال توبة له)‪ ،‬وسأله آخر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(له توب ٌة)‪ ،‬ثم قال‪( :‬أما األول فرأيت يف عينِ ِه إرادة القتل‪ ،‬فمن ْعته‪ ،‬وأما الثاين فجاء مستكينا‬
‫قد قتل فلم أقنر ْطه)"(‪.)136‬‬
‫ُيمل‬
‫فعىل املفتي أن يراعي أحوال السائلني‪ ،‬فمن غلب عليه التحرج والتشدد‪ ،‬وأن ر‬
‫نفسه ما يرهقها‪ ،‬يفتي بام فيه الرتجية والرتغيب والرتخيص‪ ،‬وخيرب بام فيه سعة‪ ،‬وأنه جيزئه‬
‫القليل من العمل إن كان خالصا صوابا‪ ،‬ومن غلب عليه التهاون والتساهل‪ ،‬واالنحالل‬
‫من الدر ين يفتي بام فيه الرتهيب والتخويف والزجر‪ ،‬فعل الطبيب بمن انحرفت به العلة عن‬
‫حال االستواء(‪.)137‬‬

‫(‪ )134‬رشح منتهى اإلرادات‪ ،‬منصور البهويت‪( ،‬ط‪ .‬الرسالة) ‪.458/6‬‬


‫(‪ )135‬الص ْيمري‪( :‬ت‪386:‬ـه) عبد الواحد بن احلسني الصيمري (نسبة إَل هنر يف البرصة)‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬القاِض‪ ،‬فقيه‬

‫شافعي من أصحاب الوجوه‪ ،‬تفقه بأب حامد املروروذي‪ ،‬وتفقه عليه القاِض املاوردي صاحب احلاوي‪ ،‬له‪( :‬اإليضاح‬

‫يف املذهب)‪ ،‬وكتاب يف القياس والعلل‪ ،‬وكتاب صغري يف أدب املفتي واملستفتي‪[ .‬ينظر‪ :‬سري أعالم النبالء‪،14/17 ،‬‬

‫طبقات الشافعية الكربى‪]339/3 ،‬‬

‫(‪ )136‬ينظر‪ :‬املجموع‪ ،‬النووي‪86/1 ،‬‬


‫(‪ )137‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪.168 -166/2 ،‬‬
‫‪43‬‬
‫وكل ذلك من غري أن يبدل املفتي حكام رشعيا من تلقاء نفسه‪ ،‬بل تكون فتواه طبقا‬
‫ملقتىض األدلة الرشعية‪ ،‬وأصول الفتوى‪ ،‬فجوانب التيسري وجماالته التي جاءت هبا الرشيعة‬
‫ٍ‬
‫وجوه جديدة من التيسري‪ ،‬ختالف‬ ‫كافية يف حتصيل مصالح اخللق‪ ،‬فال نحتاج إَل اخرتاع‬
‫النصوص الرشعية‪.‬‬
‫فاألخذ بالرخص ال يعني تتبعها والبحث عنها للتحلل من التكليف‪ ،‬وإنام يعني االنتقال‬
‫من تكليف أشد‪ ،‬إَل تكليف أخف لسبب رشعي‪.‬‬
‫يقول أستاذنا الدكتور وهبة الزحيل‪- :‬وهو ممن رجح جواز تتبع الرخص للحاجة(‪-)138‬‬
‫"واخلالصة‪ :‬إن مبدأ األخذ بالرخص أمر حمبوب‪ ،‬ودين اهلل يِّس‪ ،‬وماجعل عليكم يف‬
‫الدر ين من حرج‪ ،‬واملفروض أن املقلد مل يقصد تتبع الرخص يف كل الوقائع‪ ،‬وإنام يف بعض‬
‫املسائل"(‪.)139‬‬
‫يص‪ ،‬إِ ْن كان‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫اهبِني إَِل ا ْلق ْول (بمنع تتبع الرخص) مل ي ْمنعوا ِ‬ ‫عىل أن الذ ِ‬
‫اإل ْفتاء بِام فيه ت ْرخ ٌ‬ ‫ْ‬
‫يح‪.‬‬ ‫ِ‬
‫له م ْستندٌ صح ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرخص مل ْن أراد ن ْفعه‪ :‬فإن حسن قصد املفتي يف‬ ‫قال ابن القيم ب ْعد أ ْن ذم تت ُّبع ا ْمل ْفتي ُّ‬
‫ِح ْيلة جائزة ال شبهة فيها وال مفسدة‪ ،‬لتخليص املستفتى هبا من حرج؛ جاز ذلك‪ ،‬بل‬
‫احلنْث‪ :‬بأن يأخذ بيده‬‫حب‪ ،‬وقد أرشد اهلل تعاَل نبيه أيوب ♠ إَل التخ ُّلص من ِ‬ ‫است ِ‬

‫ضغثا فيرضب به املرأة ْضبة واحدة‪.‬‬

‫(‪ )138‬لعل السبب يف هذه الرتجيحات‪( :‬عدم وجوب التزام مذهب فقهي‪ ،‬وجواز التلفيق برشوطه‪ ،‬وجواز تتبع‬
‫اجلو الفقهي املتشدد الذي كان يسود الشام‪ ،‬وهو التعصب املذهبي‪،‬‬
‫الرخص للحاجة‪ )..‬التي رجحها الدكتور وهبة‪ُّ :‬‬
‫واألخذ بالورع واألحوط‪ ،‬واالقتصار عىل املعتمد والراجح يف املذهب‪ ،‬فجاء كتابه ردة فعل عىل هذه الروح التي كانت‬
‫اإلسالمي وأدلته‪ ،‬واهلل تعاَل أعلم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫سائدة‪ ،‬كام يظهر من مقدمة كتابه‪ :‬الفقه‬
‫(‪ )139‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬الزحيل‪)103/1( ،‬‬
‫‪44‬‬
‫آخر(‪)140‬‬ ‫النبي ﷺ بالال إَل بيع التمر بدراهم ثم يشرتي بالدراهم ُترا‬ ‫وأرشد‬
‫ُّ‬
‫فيتخلص من الربا‪ ،‬فأحسن املخارج ما خلص من املآثم‪ ،‬وأقبح ِ‬
‫احلي ِل ما أوقع يف املحارم أو‬
‫أسقط ما أوجبه اهلل ورسوله من احلق الالزم(‪.)141‬‬
‫السياس ِة الرشعية‪ ،‬ال ِذي يقوم عىل ا ْلعدال ِة‬ ‫ٍ‬
‫وإِ ْن أ ْفتى كل أحد بِام ي ْشت ِهي انْخرم قانون ر‬
‫اس‪.‬‬ ‫احلق ِ‬
‫وق ب ْني الن ِ‬ ‫والتس ِوية‪ ،‬وهذا يؤدي إَِل ا ْلفوىض وا ْملظ ِ‬
‫املِ وت ْض ِيي ِع ْ‬ ‫ْ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫فالقول بجواز تتبع الرخص‪ ،‬مثل القول بجواز التلفيق‪ ،‬فال يقال بجواز تتبعها مطلقا‪،‬‬
‫ألن ذلك يؤدي إَل حل رباط التكاليف‪ ،‬والعبث بالدر ين(‪ ،)142‬وال يقال أيضا بمنعه مطلقا‪،‬‬
‫ألن الرشيعة اإلسالمية مبنية عىل اليِّس والتخفيف‪ ،‬بل نقول بجواز تتبع الرخص عند‬
‫الرضورة واحلاجة‪ ،‬ولتحقيق املصالح ودفع املفاسد إن وجدت‪ ،‬مع مراعاة رشوط وضوابط‬
‫األخذ بالرخصة‪.‬‬

‫(‪ )140‬احلديث‪ :‬رواه مسلِم يف صحيحه برقم ‪ ،1594‬كتاب املساقاة‪ ،‬باب بيع الطعام مثال بمثل‪ )1215/3( ،‬ولفظه‪:‬‬
‫((م ْن أيْن هذا؟)) فقال بِال ٌل‪ُ " :‬ت ْ ٌر كان ِعنْدنا ر ِدي ٌء‪ ،‬فبِ ْعت ِمنْه صاع ْ ِ‬
‫ني‬ ‫جاء بِال ٌل بِتم ٍر بر ِين‪ ،‬فقال له رسول اهللِ ﷺ‪ِ :‬‬
‫ْ ْ ٍّ‬
‫الربا‪ ،‬ال ت ْفع ْل‪ ،‬ول ِك ْن إِذا أر ْدت أ ْن ت ْش ِرتي الت ْمر فبِ ْعه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِصا ٍع لـِم ْطع ِم النبِ ري ﷺ‪ ،‬فقال رسول اهلل عنْد ذلك‪(( :‬أو ْه ع ْني ر‬
‫اش ِرت بِ ِه))‪.‬‬
‫بِب ْي ٍع آخر‪ ،‬ثم ْ‬
‫(‪ )141‬إعالم املوقعني‪ ،‬ابن القيم‪142/6 ،‬‬
‫(‪ )142‬أهم مواضع اخللل عند تطبيق قاعدة التيسري‪:‬‬
‫‪ -1‬عدم جعل واسطة بني الرتخيص والتشديد‪.‬‬
‫‪ -2‬قرص النظر يف التيسري عىل املصالح الدنيوية‪.‬‬
‫‪ -3‬جعل التيسري مقصد املقاصد‪.‬‬
‫‪ -4‬اخللل يف تقدير املشقة‪.‬‬
‫‪ -5‬إمهال قاعدة املآالت وسد الذرائع‪.‬‬
‫‪ -6‬اخللط بني الثابت واملتغري‪.‬‬
‫‪ -7‬تقديم العقل عىل النقل‪ ،‬واملصلحة عىل النص‪.‬‬
‫‪ -8‬قياس املفتي عىل العامي‪.‬‬
‫‪ -9‬أخذ قواعد التيسري عىل إطالقها من غري نظر إَل القيود والضوابط‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫وحتى ال يكون اتباع الرخص بالتشهي واهلوى ال بد من ضوابط تضبط األخذ‬
‫بالرخص‪:‬‬

‫ثالثاً‪ :‬ضوابط التيسري (األخذ بالرّخص الفقهية)‪:‬‬


‫‪ -1‬عدم تتبع الرخص بالتشهي واهلوى‪ ،‬واالقتصار عىل موضع الرضورة واحلاجة‪:‬‬
‫وذلك بأن توجد الرضورة أو احلاجة الداعية للرت ُّخص دفعا للمشقة غري املعتادة‪ ،‬سواء‬
‫كانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية(‪ )143‬وينبغي أن يقترص عىل مواضع احلاجة‬
‫الرخصة‪ ،‬ألن الرضورة تقدر بقدرها‪ ،‬فاحلكم فيها مؤقت لوجود احلال التي اقتضته‪ ،‬فإذا‬
‫يف ُّ‬
‫زال سبب التيسري والتخفيف‪ ،‬فإنه جيب الرجوع إَل احلكم األصل الراجح‪ ،‬قال القرايف يف‬
‫اإلحكام‪" :‬أما اتباع اهلوى يف احلكم والفتيا فحرام إمجاعا" (‪ ،)144‬وقال ابن القيم‪" :‬ال جيوز‬
‫للمفتي تتبع الرخص ملن أراد نفعه‪ْ ،‬‬
‫فإن تتبع ذلك فسق‪ ،‬وحرم استفتاؤه" (‪.)145‬‬
‫‪ -2‬أن تكون املسألة مما يسوغ فيها االجتهاد واالختالف(‪ ،)146‬وأن يكون االجتهاد من‬
‫أهله ‪-‬ممن يوثق بدينه وعلمه‪ -‬بناء عىل ترجيح‪ ،‬واستنادا عىل دليل‪ ،‬وأن يكون الرأي– إذا‬
‫كان ملن سبق‪ -‬مدونا(‪ ،)147‬وأن يعرف املفتي رشوط من يقلده وقيوده‪ ،‬وأال يكون مما‬
‫يسمى شواذ العلامء(‪ ،)148‬وأن تطمئن ن ْفس املستفتي هلذا القول(‪.)149‬‬

‫(‪ )143‬ينظر‪ :‬مقررات جممع الفقه اإلسالمي الدويل املنعقد يف دورة مؤُتره الثامن ببندر سريي بيجوان‪ ،‬بروناي دار‬
‫السالم من ‪ 7 – 1‬حمرم ‪1414‬ـه املوافق ‪ 27 – 21‬حزيران (يونيو) ‪1993‬م‪.‬‬
‫وترصفات القاِض واإلمام‪ ،‬أمحد بن إدريس القرايف (ت‪684:‬ـه)‪( ،‬دار‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )144‬اإلحكام يف ُتييز الفتاوى عن األحكام‬
‫البشائر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1995/1416 ،2‬بعناية عبد الفتاح أبو غدة ؒ) ص‪.92‬‬
‫(‪ )145‬إعالم املوقعني‪ ،‬ابن القيم‪4/222 ،‬‬
‫(‪ )146‬أي‪ :‬أن يتقيد األخذ باأليِّس يف مسائل الفروع الرشعية االجتهادية الظنية‪ ،‬أي القضايا العملية التي ثبتت أحكامها‬
‫بطريق ظني أغلبي‪ ،‬التي ليس فيها نص قطعي‪ ،‬أو إمجاع أو قياس جل‪.‬‬
‫(‪ )147‬لتتمكن فيه عواقب األنظار‪ ،‬ويتحصل له العلم اليقيني بثبوت املسألة‪ ،‬وقد ذكر رشط التدوين ابن حجر وغريه‬
‫من الشافعية‪ ،‬ضمن رشوط التقليد عموما‪ ،‬وبالتايل تصلح هذه الرشوط لبحثنا‪ ،‬وهو األخذ بأيِّس املذاهب‪[ .‬وهبة‬
‫‪46‬‬
‫الرخصة من غري تتبع‪ ،‬بل عند احلاجة إليها يف‬
‫قال الشيخ عليش(‪ :)150‬أما التقليد يف ُّ‬
‫بعض األحوال خوف فتنة ونحوها‪ ،‬فله ذلك(‪.)151‬‬
‫ِ‬
‫املعارض‪ ،‬فال جيوز اإلفتاء به‬ ‫‪ -3‬أال خيالف اإلمجاع أو النص أو القياس اجلل السامل عن‬
‫وال نقله للناس‪ ،‬بل لو قىض القاِض عىل خالف هذه املسائل الثالث جلاز نقضه‪ ،‬فكام ال‬

‫الزحيل نقال عن الفوائد املكية‪ ،‬فيام ُيتاجه طلبة الشافعية‪ ،‬من املسائل والضوابط والقواعد الكلية‪ ،‬للسيد علوي بن أمحد‬
‫السقاف‪ ،‬طبعة الباب احللبي‪ :‬ص‪]51‬‬
‫ُّ‬
‫وشذوا هبا عن مجهور‬ ‫(‪ )148‬شواذ العلامء‪ :‬هي الرخص التي قال هبا آحاد العلامء‪ ،‬مع ضعف دليلهم أو استدالهلم جدا‪،‬‬
‫العلامء‪ ،‬فهي (زالت العلامء) يف اجتهاداهتم‪ ،‬وتسمى‪( :‬األقوال الشاذة)‪ ،‬وقد نفر من اتباعها العلامء‪ ،‬قال اإلمام الذهبي‪:‬‬
‫"ومن تتبع رخص املذاهب‪ ،‬وزالت املجتهدين‪ ،‬فقد رق دينه‪ ،‬كام قال األوزاعي أو غريه‪ :‬من أخذ بقول املكيني يف املتعة‪،‬‬
‫والكوفيني يف النبيذ‪ ،‬واملدنيني يف الغناء‪ ،‬والشاميني يف عصمة اخللفاء‪ ،‬فقد مجع الرش"‪[ .‬ينظر‪ :‬سري أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪،‬‬
‫‪.] ،90/8‬‬
‫وعرف د‪.‬وهبة الزحيل (القول الشاذ) بقوله‪ :‬هو الذي ضعف مدْ ركه جدا‪[ .‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬الزحيل‪،‬‬
‫(‪])130/1‬‬
‫قال سليامن التيمي‪ :‬إن أخذت برخصة كل عامل اجتمع فيك الرش كله‪.‬‬
‫وقال إبراهيم بن أب علية‪ :‬من تتبع شواذ العلم ضل‪.‬‬
‫وقال األوزاعي‪ :‬من أخذ بنوادر العلامء خرج عن اإلسالم‪.‬‬
‫وقال إبراهيم بن أدهم‪ :‬إذا محلت شاذ العلامء محلت رشا كثريا ‪.‬‬
‫وقال عمر ◙‪ :‬ثالث َيدمن الدر ين؛ زلة العامل‪ ،‬وجدال املنافق بالقرآن‪ ،‬وأئمة مضلون‪.‬‬
‫(‪ )149‬ينظر‪ :‬مقررات جممع الفقه اإلسالمي فقرة (أ‪ -‬ج)‪ ،‬الدورة الثامنة‪ ،‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬وهبة الزحيل‪،‬‬
‫‪5214/7‬‬
‫(‪ )150‬الشيخ علِ ْيش‪ 1299 - 1217( :‬ـه = ‪ 1882 - 1802‬م) حممد بن أمحد بن حممد عليش‪ ،‬أبو عبد اهلل‪ :‬فقيه‬

‫مالكي‪ ،‬من أعيان املالكية‪ ،‬ويل مشيخة املالكية يف األزهر‪ ،‬من تصانيفه‪( :‬فتح العل املالك يف الفتوى عىل مذهب اإلمام‬

‫مالك ) وهي فتاويه‪( ،‬منح اجلليل عىل خمترص خليل)‪[ .‬ينظر‪ :‬إيضاح املكنون ذيل كشف الظنون‪ 271/1 ،‬شجرة النور‬

‫الزكية يف طبقات علامء املالكية‪ ،385 ،‬األعالم للزركل‪]19/6 ،‬‬

‫(‪ )151‬فتاوى الشيخ حممد عليش(ت‪1299:‬ـه)‪ ،‬املسامة‪ :‬فتح العل املالك يف الفتوى عىل مذهب اإلمام مالك‪( ،‬دار‬
‫املعرفة)‪60/1 ،‬‬
‫‪47‬‬
‫يتقرر إذا صدر عن احلكام‪ ،‬كذلك ال يصح التقليد فيه إذا صدر عن املفتي‪ ،‬وُيرم اتباعه‬
‫فيه(‪.)152‬‬
‫‪ -4‬أال يرتتب عىل األخذ باأليِّس معارضة مقاصد الترشيع أو مصادر الرشيعة القطعية‪،‬‬
‫أو أصوهلا ومبادئها العامة‪ ،‬وأال يؤدي إَل مفسدة تفوق املصلحة املتوخاة‪ ،‬وأال يكون‬
‫األخذ بذلك القول ذريعة للوصول إَل غرض غري مرشوع(‪ ،)153‬كتحليل حرام أو حتريم‬
‫حالل‪ ،‬قال ابن القيم‪" :‬الجيوز للمفتي تتبع احليل املحرمة واملكروهة"(‪.)154‬‬
‫‪ -5‬أال يؤدي األخذ باأليِّس إَل التلفيق املمنوع(‪)155‬؛ ومر معنا الكالم عن التلفيق(‪.)156‬‬
‫ِ‬
‫حقوق‬ ‫‪ -6‬أال يكون فيام ينبغي التشديد فيه كأن يكون يف اإلفتاء باأليِّس تعطيل‬
‫اآلخرين‪ ،‬ألن حقوق العباد مبنية عىل املشاحة‪ ،‬وأال يكون املستفتي م ْق ِدما عىل الفعل‬
‫املنهي عنه فعندها ي ْزجر عنه‪ ،‬وال يلتمس له القول األخف!‪ ،‬كام مر عن ابن عباس‬
‫¶‪ ،‬أنه سئل عن توبة القاتل‪ ،‬فقال‪( :‬ال توبة له)‪ ،‬وسأله آخر‪ ،‬فقال‪( :‬له توب ٌة)‪ ،‬ثم‬
‫قال‪( :‬أما األول فرأيت يف عين ِ ِه إرادة القتل‪ ،‬فمن ْعته‪ ،‬وأما الثاين فجاء مستكينا قد قتل فلم‬
‫أقنر ْطه)"(‪ ،)157‬ومثال األخذ باألشد‪ :‬إقامة احلد عىل السارق من بيت املال‪ ،‬وخزينة الدولة‬

‫(‪ )152‬انظر‪ :‬الفروق‪ ،‬القرايف‪( ،‬ت‪684:‬ـه)‪ ،109/2 ،‬نفائس األصول يف رشح املحصول‪ ،‬القرايف‪.8418/9 ،‬‬
‫اإلحكام يف ُتييز الفتاوى عن األحكام‪ ،‬القرايف‪ ،‬ص‪ ،128‬تبرصة احلكام يف أصول األقضية ومناهج األحكام‪ ،‬حممد بن‬
‫فرحون اليعمري املالكي‪70/1 ،‬‬
‫(‪ )153‬ينظر‪ :‬مقررات جممع الفقه اإلسالمي‪ ،‬جملة املجمع‪ ،‬العدد الثامن ‪48/1‬‬
‫(‪ )154‬إعالم املوقعني‪ ،‬ابن القيم‪4/222 ،‬‬
‫(‪ )155‬ذكر هذا الرشط ابن حجر وغريه من الشافعية‪ ،‬ضمن رشوط التقليد عموما‪ ،‬وبالتايل تصلح هذه الرشوط لبحثنا‪،‬‬
‫وهو األخذ بأيِّس املذاهب‪[ .‬وهبة الزحيل نقال عن الفوائد املكية فيام ُيتاجه طلبة الشافعية من املسائل والضوابط‬
‫والقواعد الكلية‪ ،‬للسيد علوي بن أمحد السقاف‪ ،‬طبعة الباب احللبي‪ :‬ص‪ ،51‬وينظر‪ :‬مقررات جممع الفقه اإلسالمي‪ ،‬جملة‬
‫املجمع‪ ،‬العدد الثامن ‪]41/1‬‬
‫(‪ )156‬ينظر‪ :‬الفصل األول‪ ،‬املبحث الثالث‪ ،‬املطلب الثالث‪.‬‬
‫(‪ )157‬ينظر‪ :‬املجموع‪ ،‬النووي‪86/1 ،‬‬
‫‪48‬‬
‫ومال الوقف‪ ،‬أخذا برأي اإلمام مالك‪ ،‬وهو املوافق لالجتاه العام يف التشديد عىل عقوبة من‬
‫يعتدي عىل األموال العامة‪ ،‬ومثل ذلك األخذ بالقول األشد يف وصول عقوبة التعزير إَل‬
‫القتل يف اجلرائم الكربى‪ ،‬كالتجسس واخليانة واملتاجرة باملخدرات‪ ،‬وهو قول أب حنيفة‬
‫ومالك وأيده ابن تيمية رمحهم اهلل(‪.)158‬‬
‫فالواجب أن ينظر املفتي إَل مآالت ونتائج فتواه‪ ،‬وأن تكون الغاية من األخذ باأليِّس‬
‫احلفاظ عىل مقاصد الرشيعة‪ ،‬والتزام سياستها وحكمتها الترشيعية‪ ،‬ورعاية مصلحة الناس‬
‫كافة(‪.)159‬‬

‫أخريا ‪:‬‬
‫جيب عىل املستفتي االحتياط لدينه‪ ،‬ولذلك يرى اإلمام الشاطبي أنه جيب عىل املقلد‬
‫الرتجيح بني أقوال املذاهب باألعلمية وغريها‪ ،‬واتباع الدليل األقوى‪ ،‬ألن أقوال‬
‫املجتهدين بالنسبة إَل املقلدين كاألدلة املتعارضة بالنرسبة إَل املجتهد‪ ،‬فكام جيب عىل‬
‫املجتهد الرتجيح أو التوقف عند تعادل األدلة‪ ،‬كذلك املقلد (‪.)160‬‬
‫أما املفتي فيجب عليه مراعاة الوسطية واالعتدال يف الفتوى‪ ،‬بعيدا عن اإلفراط‬
‫والتفريط‪ ،‬والتشديد والتساهل‪ ،‬مع أن األخذ بالتخفيف والتيسري أوَل من األخذ بالتشديد‬
‫والتعسري يف اإلفتاء‪ ،‬وبخاصة إذا كان هذا التيسري يف حمله‪ ،‬حيث يرى املفتي حاجة الناس‬
‫إليه‪ ،‬نظرا لظروفهم‪ ،‬أما باب الورع واالحتياط‪ ،‬فهو باب واسع يمكن أن يأخذ اإلنسان به‬
‫والسنة عىل أن التيسري‬ ‫ِ‬
‫نفسه دون فرضه عىل اآلخرين‪ ،‬فقد دلت النصوص من الكتاب ُّ‬
‫ب إَل اهلل ‪ ‬وإَل رسوله ﷺ ‪ ،‬لكن مع مراعاة الضوابط الرشعية لذلك‪.‬‬
‫والتخفيف أح ُّ‬
‫******‬

‫التدرج يف الترشيع والتطبيق يف الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬د‪.‬حممد مصطفى الزُّ حيل‪ ،‬ص‪114‬‬
‫(‪ )158‬ينظر‪ُّ :‬‬
‫(‪ )159‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬الزحيل‪)125/1( ،‬‬
‫(‪ )160‬املوافقات‪ ،‬الشاطبي‪155-132/4 ،‬‬
‫‪49‬‬
‫اخلامتة وأهم النتائج والتوصيات‬
‫ويف ختام هذا البحث ُيسن هنا أن أشري إَل مجلة من النتائج والتوصيات‪:‬‬
‫‪ -1‬جيب التمييز بني الرخص الرشعية والرخص الفقهية‪ ،‬فالرخص الرشعية املرتبطة‬
‫بأسباهبا‪ ،‬ال خالف حول األخذ هبا عند وجود أسباهبا‪ ،‬أما الرخص الفقهية فهي حمل بحثنا‪.‬‬
‫‪ -2‬الرخصة الرشعية‪ :‬هي ما رشع من األحكام لعذر‪ ،‬مع قيام السبب املحرم‪ ،‬ولوال العذر‬
‫لثبتت احلرمة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫راجح‪ ،‬واملعارض الراجح هو‬ ‫ٍ‬
‫معارض‬ ‫بدليل رشعي ٍ‬
‫خال عن‬ ‫ٍ‬ ‫ثابت‬
‫حكم ٌ‬ ‫‪ -3‬العزيمة‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫الرخصة‪ ،‬ولذلك ال يسمى احلكم عزيمة إال إذا قابلته رخصة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ -4‬األصل يف التكليف من حيث هو تكليف؛ أال خيلو عن قدر من املشقة‪ ،‬لكن اهلل ‪‬‬
‫ِّس‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حدود ما يستطيعه اإلنسان من غري حر ٍج وال ع ْ ٍ‬ ‫بلطفه بعباده‪ ،‬جعل هذا التكليف يف‬
‫‪ -5‬أقسام املشاق‪ :‬القسم األول‪ :‬مشقة ال تنفك عنها العبادة غالبا‪ ،‬وهذه ال تناط هبا‬
‫الرخص‪.‬‬
‫ُّ‬
‫القسم الثاين‪ :‬املشقة التي تنفك عنها العبادات غالبا‪ :‬وهي عىل مراتب‪:‬‬
‫املرتبة األوَل‪ :‬مشقة عظيمة وفادحة‬
‫املرتبة الثانية‪ :‬مشقة خفيفة ال وقع هلا‬
‫املرتبة الثالثة‪ :‬مشقة متوسطة بني هاتني املرتبتني‪ :‬فام دنا وقرب من املرتبة األوَل أوجب‬
‫التخفيف‪ ،‬أو من الثانية مل يوجب التخفيف‪ ،‬وال ضابط هلذه املراتب إال بالتقريب‬
‫واالجتهاد‬
‫‪ -6‬أسباب الرخص الرشعية‪ :‬كل سبب أدى إَل احلرج جعله اهلل عذرا يف التخفيف‬
‫والتحول من التشدد إَل التيسري‪ ،‬ومن العزيمة إَل الرخصة‪ ،‬وأهم هذه األعذار التي جعلت‬
‫ُّ‬

‫‪50‬‬
‫سببا للتخفيف عن العباد‪ :‬املرض‪ ،‬والسفر‪ ،‬واإلكراه‪ ،‬والنسيان‪ ،‬واجلهل‪ ،‬والعِّس وعموم‬
‫البلوى‪.‬‬
‫‪ -7‬أَيام أوَل األخذ بالرخصة أم العزيمة‪ :‬ال يمكن إطالق الرأي بالرتجيح بأفضلية األخذ‬
‫رش تعرتيه عوامل القوة والضعف‪ ،‬فإن وجد يف نفسه‬ ‫بالرخصة دائام أو بالعزيمة! فاملكلف ب ٌ‬
‫برشي‪ ،‬فسيجد‬
‫ٌّ‬ ‫ضعف‬
‫ٌ‬ ‫مهة عالية أخذ بالعزيمة‪ ،‬واحتسب ما جيده من مشق ٍة‪ ،‬وأما إذا اعرتاه‬
‫الرخص‪.‬‬
‫يف الدر ين مالذا آمنا عرب ُّ‬
‫‪ -8‬التلفيق‪ :‬اإلتيان بكيفية ال يقول هبا جمتهد؛ وذلك بأن يل رفق يف قضية واحدة بني قولني أو‬
‫أكثر‪ ،‬يتولد منهام حقيق ٌة مركب ٌة ال يقول هبا أحد األئمة‪.‬‬
‫‪ -9‬حكم التلفيق‪ :‬اختلف العلامء يف حكم التلفيق عىل ثالثة أقوال‪ ،‬بناء عىل تصورهم‬
‫لتطبيقات التلفيق‪ ،‬فمن نظر إَل تطبيقاته املنكرة منعه‪ ،‬ومن نظر إَل اجلائز منها أجازه‪ ،‬ومن‬
‫نظر للنوعني فصل وهو الراجح‪ ،‬فكل ما أدى إَل خمالفة دعائم الرشيعة والقضاء عىل‬
‫سياستها وحكمتها فهو حمظور‪ ،‬كاحليل التي يتوصل هبا إَل املحظورات‪ ،‬وأن كل ما يصون‬
‫مطلوب رشعا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الناس يف الدارين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫إلسعاد‬ ‫ما تتطلبه سياستها وحكمتها‬
‫ٌ‬
‫الرخصة بمدلوهلا اللغوي‪ ،‬وهي السهولة‪ ،‬واملراد هبا‬
‫‪ -10‬الرخص الفقهية‪ :‬املقصود هبا هنا ُّ‬
‫عىل التحديد (رخص املذاهب الفقهية) أي‪ :‬القول األسهل يف التطبيق من بني أقوال العلامء‬
‫اس وشد ِائد ْاب ِن عمر"‪.‬‬ ‫املختلفة‪ ،‬حتى قيل‪" :‬رخص ِ‬
‫ابن عب ٍ‬

‫‪ -11‬اختلف العلامء يف حكم تتبع رخص املذاهب (القول األيِّس منها) عىل ثالثة أقوال‪:‬‬
‫املنع واجلواز والتوسط (وهو الراجح) حيث نظروا إَل مقصد القائلني باملنع ومقصد‬
‫القائلني باجلواز‪ ،‬ألن القول باملنع سد لذريعة االنحالل من التكاليف‪ ،‬والعبث بالرشيعة‪،‬‬
‫والقول باجلواز مراعاة ملقصد الرشيعة يف التيسري‪ ،‬لذلك جاء تفصيلهم تفريقا بني املقبول‬
‫واملرفوض من تتبع الرخص‪ ،‬ووضعوا رشوطا وضوابط لألخذ بالرخصة‪ ،‬لدرء‬
‫الرخص‪.‬‬
‫املحظورات التي قد تنجم عن تت ُّبع ُّ‬
‫‪51‬‬
‫‪ -12‬ال جيوز تت ُّبع الرخص يف كل الوقائع بالتشهي واهلوى ‪ ،‬وإنام يف بعض املسائل التي فيها‬
‫مشقة غري معتادة‪.‬‬
‫‪ -13‬ال جيوز اتباع زالت العلامء وهي الرخص التي قال هبا آحاد العلامء‪ ،‬وكان دليلهم‬
‫ضعيفا‪ُّ ،‬‬
‫وشذوا هبا عن مجهور العلامء‪.‬‬
‫‪ -14‬جيب مراعاة الوسطية واالعتدال يف الفتوى‪ ،‬بعيدا عن اإلفراط والتفريط‪ ،‬والتشديد‬
‫والتساهل‪ ،‬مع أن األخذ بالتخفيف والتيسري أوَل من األخذ بالتشديد والتعسري يف اإلفتاء‪،‬‬
‫وبخاصة إذا كان هذا التيسري يف حمله‪ ،‬حيث يرى املفتي حاجة الناس إليه‪ ،‬نظرا لظروفهم‪.‬‬
‫‪ -15‬باب الورع واالحتياط‪ ،‬باب واسع يمكن أن يأخذ اإلنسان به نفسه دون فرضه عىل‬
‫اآلخرين‪ ،‬أو يفتي به أهل العزائم واحلريصني عىل االحتياط‪ ،‬ما مل خيش عليهم اجلنوح‬
‫للغلو‪.‬‬
‫ب إَل اهلل ‪ ‬وإَل‬ ‫ِ‬
‫والسنة عىل أن التيسري والتخفيف أح ُّ‬
‫‪ -16‬دلت النصوص من الكتاب ُّ‬
‫رسوله ﷺ ‪ ،‬لكن مع مراعاة الضوابط الرشعية لذلك‪.‬‬
‫‪ -17‬ضوابط التيسري (األخذ بالرخص الفقهية)‪:‬‬
‫ُّ‬
‫للرتخص‬ ‫أ‪ -‬عدم تتبع الرخص بالتشهي واهلوى‪ ،‬بأن توجد الرضورة أو احلاجة الداعية‬
‫دفعا للمشقة غري املعتادة‪.‬‬
‫ب‪ -‬أن تكون املسألة مما يسوغ فيها االجتهاد واالختالف‪ ،‬وأن يكون االجتهاد من أهله ‪-‬‬
‫ممن يوثق بدينه وعلمه‪ -‬بناء عىل ترجيح‪ ،‬واستنادا عىل دليل‪ ،‬وأن يكون الرأي– إذا كان ملن‬
‫سبق‪ -‬مدونا‪ ،‬وأن يعرف املفتي رشوط من يقلده وقيوده‪ ،‬وأال يكون مما يسمى شواذ‬
‫العلامء‪ ،‬وأن تطمئن ن ْفس املستفتي هلذا القول‪.‬‬
‫ج‪ -‬أال خيالف اإلمجاع أو النص أو القياس اجلل السامل عن املعارض‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫د‪ -‬أال يرتتب عىل األخذ باأليِّس معارضة مصادر الرشيعة القطعية‪ ،‬أو أصوهلا ومبادئها‬
‫العامة ومقاصد الترشيع‪ ،‬وأال يؤدي إَل مفسدة تفوق املصلحة املتوخاة‪ ،‬وأال يكون األخذ‬
‫بذلك القول ذريعة للوصول إَل غرض غري مرشوع‪ ،‬كتحليل حرام أو حتريم حالل‪.‬‬
‫ـه‪ -‬أال يؤدي األخذ باأليِّس إَل التلفيق املمنوع‪.‬‬
‫هذا واحلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات وله الشكر واملنة أوال وآخرا ويف كل وقت‬
‫وحني‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪53‬‬
‫الفهرس‬
‫املقدمة‪2.................................................................................‬‬
‫نفسية املفيت وشخصيتِه على اختياراتِه الفقهية‪3...........................................‬‬
‫أثر ِ‬
‫ُ‬
‫بني الورع والتيسري‪7.......................................................................‬‬
‫منهج البحث‪9...........................................................................‬‬
‫خطة البحث‪11..........................................................................‬‬
‫الشرعيَّة‪12...........................................‬‬
‫الرخص ّ‬ ‫املطلب األول‪ :‬املش ّقة وأسباب ُّ‬
‫أولا‪ :‬أنواع املش ّقة‪13.................................................................... :‬‬
‫الشرعيَّة‪14......................................................... :‬‬‫الرخص ّ‬ ‫ثاني ا‪ :‬أسباب ّ‬
‫الرخصة والعزمية‪16..........................................................‬‬ ‫املطلب الثاين‪ّ :‬‬
‫الرخصة‪16.........................................................................:‬‬ ‫ّأولا‪ّ :‬‬
‫الرخصة‪16................................................................... :‬‬ ‫أ‪ -‬تعريف ّ‬
‫الرخص‪17................................................................... :‬‬ ‫ب‪ -‬أنواع ّ‬
‫ثانيا‪ :‬العزمية‪20......................................................................... :‬‬
‫بالرخصة أم بالعزمية؟‪21..............................................‬‬‫ثالثا‪ :‬أيّهما أ ْوىل األخ ُذ ُّ‬
‫أن األخذ بالعزمية أ ْوىل‪22............................................... :‬‬‫أ‪ -‬أدلّة من يعتقد َّ‬
‫بالرخصة أ ْوىل‪22........................................... :‬‬
‫أن األخذ ُّ‬ ‫ب‪ -‬أدلّة من يعتقد َّ‬
‫الّتجيح‪22........................................................................ :‬‬ ‫ج‪ّ -‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬ضوابط العمل بقاعدة التيسري‪24............................................‬‬
‫أولا‪ :‬التلفيق‪24.........................................................................:‬‬
‫أ‪ -‬تعريف التَّلفيق‪24................................................................... :‬‬
‫ب‪ -‬حكم التَّلفيق‪25...................................................................:‬‬
‫األول‪ :‬منع التَّلفيق‪25.............................................................:‬‬ ‫القول َّ‬
‫القول الثاين‪ :‬جيوز التَّلفيق مطلق ا‪25.......................................................:‬‬

‫‪54‬‬
‫القول الثالث‪ :‬التّفصيل يف حكم التّلفيق‪26............................................... :‬‬
‫ج‪ -‬ضوابط األخذ بالتلفيق‪27........................................................... :‬‬
‫الرخص الفقهية‪28............................................................ :‬‬ ‫ثانيا‪ :‬تتبّع ّ‬
‫الرخص الفقهية‪28........................................................ :‬‬ ‫أ‪ -‬تعريف تتبّع ّ‬
‫الرخص‪29.............................................................. :‬‬ ‫ب‪ -‬حكم تتبّع ّ‬
‫األول‪ :‬ل جيوز تتبّع رخص املذاهب‪29.............................................. :‬‬ ‫القول َّ‬
‫القول الثّاين‪ :‬جيوز تتبُّع رخص املذاهب‪35................................................. :‬‬
‫الرخص بشروط‪42............................................... :‬‬ ‫القول الثّالث‪ :‬جيوز تتبُّع ُّ‬
‫بالرخص الفقهية)‪46......................................... :‬‬
‫ثالث ا‪ :‬ضوابط التيسري (األخذ ّ‬

‫‪‬‬

‫‪55‬‬

You might also like