You are on page 1of 40

‫مذكرة‬

‫أصول الفقه‬
‫اجلزء الثاني‬

‫المادة المقررة للمستوى الخامس‬

‫إعداد‪:‬‬

‫إرشاد رافع‬
‫غفر اهلل له ولوالديه ولمشايخه وألساتذته‬

‫‪irsyadrafi@stiba.ac.id‬‬
‫التمهيد‬

‫احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني ‪.‬‬
‫وبعد ‪:‬‬
‫فهذه مذكرة ملادة أصول الفقه املقررة يف املستوى الثاين ابملعهد العايل للدراسات اإلسالمية واللغة العربية‬
‫مكسر‪ .‬وهي تشمل مقدمة خمتصرة بتعريف علم أصول الفقه وذكر مباحثه‪ ,‬وذلك من ابب التذكري واملراجعة ملا‬
‫هو مسبوق دراستها يف املستوايت املاضية حىت يتم التسلسل العلمي يف دراسة هذا العلم‪ .‬ويليها دراسة ملباحث‬
‫بقية األدلة املتفق عليها (منها ‪ :‬السنة مث اإلمجاع مث االستصحاب)‪ ,‬ويليها األدلة املختلف فيها ( منها ‪ :‬شرع من‬
‫قبلنا مث قول الصحايب مث االستحسان مث املصاحل املرسلة مث سد الذرائع مث العرف)‪.‬‬
‫هذه املذكرة مرتبة على حسب ما يف الكتاب املقرر "روضة الناظر وجنة املناظر" ملوفق الدين عبد هللا بن‬
‫أمحد بن قدامة املقدسي احلنبلي (‪ 620‬هـ)‪.‬‬
‫سائال املوىل جل جالله أن يوفقنا ملا حيبه ويرضاه‪ .‬أخوكم " إرشاد حممد رافع " غفر هللا له ولوالديه‪.‬‬

‫المقدمة‬
‫تعريف أصول الفقه‬
‫هو معرفة أدلة الفقه إمجاالا‪ ,‬وكيفية االستفادة منها‪ ,‬وحال املستفيد ‪.‬‬
‫وقد اشتمل هذا التعريف على املباحث الثالثة من مباحث علم أصول الفقه األربعة‪ ,‬وهي كما يلي ‪:‬‬
‫❖ المبحث االول ‪ :‬معرفة أدلة الفقه إمجاال‬
‫أي معرفة أدلة األحكام الشرعية من حيث اإلمجال‪ ,‬أي من حيث ثبوت حجيتها ومعرفة أقسامها وما يصح أن‬
‫يكون دليال منها‪ .‬كمعرفة القرآن وثبوت حجيته ؛ ومعرفة السنة وأقسامها وما هو احلجة منها ؛ ومعرفة اإلمجاع‬
‫وأقسامه ومىت يكون حجة ؛ ومعرفة القياس وأقسامه وحجيته ‪ ,‬وحنو ذلك ‪.‬‬
‫واألدلة الشرعية أقسام ‪:‬‬
‫‪ .1‬من حيث أصلها ومصدرها ‪:‬‬
‫‪ .1‬األدلة املتفق عليها ؛ وهي القرآن‪ ,‬والسنة‪ ,‬واإلمجاع ‪ ,‬مث القياس‪.‬‬
‫‪ .2‬األدلة املختلف فيها ؛ كاالستصحاب واالستحسان وشرع من قبلنا وقول الصحايب وعمل أهل املدينة‬
‫واملصاحل املرسلة وغري ذلك‬
‫‪ .2‬من حيث القطع والظن ‪:‬‬
‫‪ .1‬الدليل القطعي ؛ هو ما كان قطعي السند‪ ,‬وقطعي الداللة أيضا‪ .‬وحكم هذا النوع من األدلة وجوب‬
‫اعتقاد موجبه علما وعمال‪ ,‬وأنه ال يسوغ فيه االختالف‪ ,‬وهذا مما ال خالف فيه بني العلماء يف اجلملة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ .2‬الدليل الظين ؛ هو ما كانت داللته ظاهرة غري قطعية‪ ,‬أو كان ثبوته غري قطعي ‪ .‬وحكم هذا النوع‬
‫من األدلة وجوب العمل به يف األحكام الشرعية ابتفاق العلماء‪ ,‬أما إن تضمن حكما علميا عقداي‪,‬‬
‫فمذهب السلف أنه ال فرق بني األمور العلمية والعملية وأن العقائد تثبت ابألدلة الظنية‪.‬‬
‫‪ .3‬من حيث النقل والعقل ‪:‬‬
‫‪ .1‬الدليل النقلي ؛ ما أثبته الشرع وجاء به مما ال يُعلم إال بطريق السمع والنقل‪ ,‬وال يعلم بطريق العقل‪,‬‬
‫فهذا دليل شرعي مسعي‪.‬‬
‫‪ .2‬الدليل العقلي ؛ ما دل عليه الشرع ونبه عليه‪ ,‬وأرشد فيه إىل األدلة العقلية واألمثلة املضروبة‪ ,‬فهذا‬
‫دليل شرعي عقلي‪.‬‬
‫❖ المبحث الثاني ‪ :‬معرفة كيفية االستفادة منها‬
‫أي معرفة طرق استنباط األحكام من األدلة الشرعية ؛ وطرق الرتجيح بني هذه األدلة عند تعارضها‪.‬‬
‫‪ .1‬طرق استنباط األحكام من األدلة الشرعية (داللة األلفاظ) ‪:‬‬
‫داللة اللفظ على احلكم الشرعي تنقسم إىل ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫‪ .1‬داللة المنطوق ‪ :‬أي أن يدل اللفظ على احلكم الشرعي بصيغته ومنطوقه ‪:‬‬
‫مهنا ‪ :‬النص ‪ /‬الظاهر واملؤول ‪ /‬اجململ واملبني ‪ /‬ا ألمر والهني ‪ /‬العام واخلاص ‪ /‬املطلق واملقيد‪.‬‬
‫‪ .2‬داللة المفهوم ‪ :‬أي أن يدل اللفظ على احلكم الشرعي بفحواه وإشارته ‪:‬‬
‫مهنا ‪ :‬الاقتضاء ‪ /‬الإشارة ‪ /‬الإمياء ‪ /‬التنبيه (ويسمى مفهوم املوافقة) ‪ /‬دليل اخلطاب (ويسمى مفهوم اخملالفة)‪.‬‬
‫‪ .3‬داللة المعقول ‪ :‬أي أن يدل اللفظ على احلكم الشرعي مبعناه ومعقوله ‪ :‬وهو القياس‪.‬‬
‫‪ .2‬الترجيح عند التعارض‬
‫‪ .3‬ترتيب األدلة‬
‫❖ المبحث الثالث ‪:‬معرفة حال املستفيد‬
‫املستفيد هو طالب احلكم من الدليل‪ ,‬وهو اجملتهد‪ .‬فالبد أن يكون له علم ابالجتهاد وشروطه واألحكام املتعلقة‬
‫به‪ ,‬ويتبع ذلك معرفة املقلد وأحكام التقليد‪.‬‬
‫❖ المبحث الرابع ‪ :‬األحكام بقسميها (التكليفية والوضعية)‬
‫وهذا املبحث ال يدخل يف هذا التعريف ابعتبار أن موضوع أصول الفقه هو األدلة‪ ,‬فتكون األحكام هبذا االعتبار‬
‫مقدمة من مقدمات علم أصول الفقه غري داخلة يف موضوعه ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫السنة‬
‫التعريف‬
‫لغة ‪ :‬السرية والطريقة والعادة‪ ,‬سواء كانت حسنة أو سيئة‪.‬‬
‫خيص األحكام التشريعية‪ .‬هذا‬
‫واصطالحا ‪ :‬ما صدر عن النيب ﷺ غري القرآن من قول‪ ،‬أو فعل‪ ،‬أو تقرير‪ ،‬مما ُّ‬
‫التعريف عند األصوليني‪.‬‬
‫وعند احملدثني ‪ :‬السنة هي ما نقل عن النيب ﷺ من قول‪ ،‬أو فعل‪ ،‬أو تقرير‪ ،‬أو وصف‪ .‬بزايدة (الوصف) ويريدون‬
‫به ما ورد عن الصحابة من وصف الرسول سواء كان َخلقيا أو ُخلقيا‪.‬‬
‫واألصوليون مل يدخلوا هذا النوع يف السنة‪ ,‬ألهنم يتكلمون عن السنة اليت هي دليل يستدل به ويتأسى ابلرسول فيه‪,‬‬
‫وال شك أن صفات الرسول اليت ليست من فعله ال ميكن أن تكون دليال على الوجوب واالستحباب‪ ,‬إذ ال يتعلق‬
‫هبا حكم‪.‬‬
‫وتطلق السنة يف كالم العلماء إطالقات أخرى‪ ,‬فهي تطلق على املستحب واملندوب‪ ,‬وتطلق يف مقابل البدعة‪ ,‬وهلا‬
‫إطالقات أخرى‪.‬‬
‫تقسيم السنة‬
‫تنقسم السنة من حيث ذاتها ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫‪ .1‬السنة القولية ‪ :‬وهي ما صدر عن النيب ﷺ من القول غري القرآن‪ .‬وسيأيت الكالم به مفصال يف ابب‬
‫دالالت األلفاظ‪.‬‬
‫‪ .2‬السنة الفعلية ‪ :‬وهي ما صدر عن النيب ﷺ من فعل‪ .‬مثل ما نقل من صفة وضوئه وصفة صالته‪ ,‬ويدخل‬
‫ما تركه ﷺ مع قيام الداعي مبثابة الفعل (ويسمى ابلسنة الرتكية)‪.‬‬
‫‪ .3‬السنة التقريرية ‪ :‬وهي ما نقل من سكوت النيب ﷺ عن قول قيل أو فعل فعل يف حضرته‪ ,‬أو علم به ومل‬
‫ينكره‪ .‬ومن أمثلة ذلك ما رواه الشيخان ‪ :‬من أكل الضب على مائدته من غري إنكار‪.‬‬
‫بعض العلماء املتأخرين يقسمون السنة من حيث ورودها إلينا إىل ‪ :‬متواترة وآحادية‪ ,‬أو متواترة ومشهورة‬
‫وآحادية‪ .‬وهذا ليس تقسيما للسنة وإمنا هو تقسيم للخرب الناقل لسنة الرسول ﷺ‪ .‬فالسنة ال تنقسم إىل هذه‬
‫األقسام‪ ,‬بل هذه أقسام اخلرب سواء كان انقال لسنة الرسول ﷺ أم لغريها‪.‬‬
‫وكذلك تقسيمهم السنة إىل صحيحة وحسنة وضعيفة ال يرجع إىل ذات السنة بل راجع إىل اخلرب الذي نقل لنا‬
‫السنة‪ .‬فلو تيقنا أهنا سنة الرسول ﷺ ملا مسعناها ضعيفة‪ ,‬بل الضعف يف السند الناقل هلا‪.‬‬
‫وهلذا جند املتقدمني جيعلون هذين التقسيمني للخرب أو للحديث‪ ,‬والسنة أخص منهما‪.‬‬
‫الخبر وأقسامه‬
‫‪ :‬النبأ‪ ,‬ومجعه أخبار‬ ‫لغة‬
‫اصطالحا ‪ :‬هو الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫وضابط اخلرب هو ما ميكن أن يقال لقائله ‪ :‬صدقت أو كذبت‪ ,‬وما ال ميكن فيه ذلك فهو اإلنشاء‪ ,‬كاألمر والنهي‪.‬‬
‫ينقسم اخلرب عند اجلمهور إىل قسمني ‪ :‬املتواتر واآلحاد‪ .‬وعند احلنفية ثالثة أقسام ‪ :‬املتواتر واملشهور واآلحاد‪.‬‬
‫المتواتر‬
‫لغة ‪ :‬من كلمة تواتر وهو ‪ :‬جميء الواحد بعد الواحد بفرتة بينهما‪ ,‬ومن ذلك قوله تعاىل ‪ " :‬مث أرسلنا رسلنا ترتى"‪.‬‬
‫اصطالحا ‪ :‬هو ما رواه مجاعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وأسندوه إىل حس‪.‬‬
‫شروط املتواتر هي ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يروي مجع غري حمصور‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون اخبارهم عن أمر حمسوس أي مدرك إبحدى احلواس كقوهلم‪ ( :‬رأينا‪ ,‬ومسعنا )‪.‬‬
‫‪ .3‬أن يكون العدد ابلغا حدا يستحيل معه التواطؤ على الكذب عادة‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يكون العدد املذكور يف كل طبقة من طبقات السند من أوله إىل آخره‪.‬‬
‫املتواتر نوعان ‪:‬‬
‫‪ .1‬املتواتر اللفظي ‪ :‬وهو ما اتفق الرواة على لفظه ومعناه‪ ،‬مثل حديث ‪( :‬من كذب علي متعمدا فليتبوأ‬
‫مقعده من النار) فقد روى هذا احلديث عن النيب ﷺ أكثر من ستني صحابيا‪ .‬وقد اعتىن مجاعة من‬
‫العلماء جبمع األحاديث اليت رأوا أهنا بلغت حد التوتر‪ .‬وهي قليلة إذا قيست مبا جعلوه من اآلحاد‪.‬‬
‫‪ .2‬املتواتر املعنوي ‪ :‬وهو ما اتفق الرواة على معناه دون لفظه حىت أصبح املعىن مقطوعا به وإن كان اللفظ‬
‫مل يبلغ درجه القطع‪ .‬ومثاله األحاديث الواردة يف املسح على اخلفني؛ فإن معناها املشرتك بينها وهو‬
‫(مشروعية املسح على اخلفني) متواتر‪ ،‬وإن كانت ألفاظها غري متواترة‪.‬‬
‫اآلحاد‬
‫لغة ‪ :‬اآلحاد مجع أحد مبعىن واحد‬
‫اصطالحا ‪ :‬وهو ما رواه واحد أو أكثر ومل يبلغوا حد التواتر‪ .‬وأغلب األحاديث من هذا القسم‪.‬‬
‫المشهور عند احلنفية ‪ :‬هو ما رواه عن النيب ﷺ واحد أو اثنان مث تواتر يف عصر التابعني أو اتبعي التابعني‪.‬‬
‫ومثلوه حبديث عمر بن اخلطاب ـ رضي هللا عنه ـ أن النيب ﷺ قال ‪( :‬إمنا األعمال ابلنيات وإمنا لكل امرئ ما نوى)‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫وتقسيم اخلرب إىل متواتر وآحاد‪ ،‬أو إىل متواتر ومشهور وآحاد‪ ،‬يكاد جيمع عليه علماء األصول وعلماء احلديث‪،‬‬
‫ولكنهم مل يتفقوا على حتديد دقيق للعدد الذين تعد روايتهم تواترا والذين تعد روايتهم آحادا‪ ،‬فكل ما ذكروه من‬
‫حتديد مل يقم عليه دليل صحيح‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬هل يشترط في المتواتر عدد محصور ؟ فيها أقوال ‪:‬‬
‫فقيل أقله اثنان‪ ,‬وقيل أقله أربعة‪ ,‬وقيل مخسة ‪,‬وقيل عشرون‪ ,‬وقيل ثالثون‪ ,‬وقيل سبعون ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫والصحيح أنه ال يشرتط يف املتواتر عدد حمصور ‪ :‬بل مىت ما حصل العلم خبرب املخربين اجملرد عن القرائن فإان نعلم‬
‫أن اخلرب قد بلغ التواتر ‪ ،‬كاخلبز نقطع أبنه يشبع واملاء نقطع أبنه يروي مع عدم حتديد احلد الذي يقع به الشبع‬
‫والري منهما‪.‬‬
‫والبعض عرفوا املتواتر أبنه ‪ :‬ما أفاد العلم واليقني‪ ،‬واآلحاد ما أفاد الظن‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬هل الخبر المتواتر يفيد العلم ؟‬
‫ال خالف بني املسلمني يف أن التواتر يفيد العلم اليقيين؛ ألننا جند أنفسنا عاملة علما يقينيا مبا أخربان به عن‬
‫طريق التواتر‪ ،‬كإخباران ابألنبياء والعلماء والسالطني‪ ،‬والبالد النائية كاهلند والصني وحنو ذلك‪ ،‬كما جند أنفسنا عاملة‬
‫حنس به‪.‬‬
‫مبا نشاهده وما ُّ‬
‫ومن أنكر ذلك كالسمنية )منسوبون إىل صنم يسمى مسن أو بلد يسمى مسوانت( فقد أنكروا ما قطع به ‪ ،‬وهذا‬
‫عتد بقوله ‪.‬‬
‫ال يُ ُ‬
‫والناس خيتلفون يف العدد الذي يفيد اليقني ‪ :‬فمنهم من يقطع مبا رواه له عدد يسري‪ ،‬ومنهم من يشك وال يتيقن‬
‫ابخلرب وإن رواه عدد كثري‪ ،‬ومنهم املطلع أبحوال الرواة اخلبري أبلفاظ النبوة الذي رمبا قطع بصحة احلديث الذي رواه‬
‫اثنان أو ثالثة‪ ،‬ومنهم من ليس كذلك‪.‬‬
‫ومع اختالف الناس يف ذلك‪ ،‬لكنهم ال خيتلفون فيما رواه عدد كثري يفوق احلصر أنه متواتر‪ ،‬ولكن مثل هذا ال‬
‫وجود له يف األحاديث النبوية‪ ،‬وهلذا جندهم ميثلون له ابخلرب بوجود مكة واملدينة وحنو ذلك مما ال يتصور فيه‬
‫اخلالف‪.‬‬
‫عرفوه أبنه ما أفاد القطع‪ ،‬ال بد أن يعرتفوا أن اخلرب قد يتواتر عند شخص وال يتواتر عند غريه‪ ،‬فقد يقطع‬
‫والذين ّ‬
‫شخص بصدقه وال يقطع اآلخر‪ ،‬وحينئذ ال ميكن أن نرتب على هذا التقسيم تكفري املخالف للخرب إذا قال إن‬
‫احلديث مل يتواتر عندي ومل أقطع بصحته عن الرسول ﷺ‪.‬‬
‫وهذا قد دعا بعض العلماء إىل إنكار التقسيم من أساسه‪ ،‬وعدم التعويل عليه‪ ،‬وعدم التفريق بني ما مساه احملدثون‬
‫متواترا وما مسوه آحادا مىت صح سنده‪ ،‬وقالوا ‪ :‬العربة بصحة اخلرب‪ ،‬فمىت صح وجب العمل به قطعا‪.‬‬
‫وينقسم الخبر من حيث صحته إىل ثالثة أقسام ‪ :‬صحيح‪ ،‬وحسن‪ ،‬وضعيف ‪:‬‬
‫‪ .1‬الصحيح ‪:‬‬
‫وسلِم من الشذوذ والعلة القادحة‪.‬‬
‫وهو ما رواه عدل اتم الضبط عن مثله إىل رسول هللا ﷺ ‪َ ،‬‬
‫ومعىن قوهلم ‪( :‬عدل)‪ ،‬أي ‪ :‬مرضي يف دينه وخلقه‪ ،‬وهو املواظب على الواجبات اجملتنب للكبائر وما خيل‬
‫ابملروءة من الصغائر‪.‬‬
‫وقوهلم ‪( :‬اتم الضبط)‪ ،‬أي ‪ :‬أنه يغلب عليه حفظ ما مسعه من احلديث وعدم خمالفة الثقات يف ذلك‪.‬‬
‫وقوهلم ‪( :‬عن مثله)‪ ،‬أي ‪ :‬أن رجال السند ال بد أن يكونوا كذلك من لدن الراوي الذي نقل لنا احلديث إىل‬
‫رسول هللا ﷺ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وقوهلم ‪( :‬وسلم من الشذوذ والعلة القادحة) ‪:‬‬
‫الشذوذ ‪ :‬هو خمالفة الراوي للثقات األثبات‪ .‬والعلة القادحة ‪ :‬وصف خفي يوجب رد احلديث‪.‬‬
‫وهذا مل يضبطه احملدثون بضابط حمدد‪ ،‬وإمنا ذكروا أمثلة لألحاديث املعللة كما فعل الرتمذي يف علل احلديث‪،‬‬
‫وفعله غريه من علماء احلديث‪.‬‬
‫ويصرح كبار النقاد من احملدثني أبن نقد احلديث صناعة ال يتقنها إال أهلها‪ ،‬ويدل على ذلك القصة املنقولة‬
‫عن أيب حامت الرازي حني أعل بعض األحاديث‪ ،‬فقال له السائل ‪ :‬تدعي علم الغيب؟ قال ‪ :‬ما هذا ادعاء‬
‫علم الغيب‪ ،‬قال ‪ :‬فما الدليل على ما تقول؟ قال ‪ :‬سل عما قلت من حيسن مثل ما أحسن‪ ،‬فإن اتفقنا‬
‫علمت أان مل جنازف ومل نَـ ُقله إال بفهم‪ ،‬فذهب السائل إىل أيب زرعة فسأله فوجد جوابه مطابقا جلواب أيب‬
‫حامت‪ ،‬مث رجع إىل أيب حامت وقال ‪ :‬ما أعجب هذا! تتفقان من غري مواطأة فيما بينكما‪.‬‬
‫هذا عند احملدثني‪.‬‬
‫وأما األصوليون فقد ذكروا صفات يـَُرّد هلا خرب اآلحاد عند بعض العلماء‪ ،‬وهذا من قبيل إعالل احلديث بعلة‬
‫قادحة عند من رد احلديث ألجلها‪ .‬ومن ذلك‪ ,‬إذا انفرد الراوي برواية ما تعم به البلوى‪ ,‬هل يقبل حديثه أو ال ؟‬
‫املسألة كاآليت ‪:‬‬
‫مسألة ‪ :‬خبر الواحد فيما تعم به البلوى‬
‫اختلف اهل العلم يف قبول خرب الواحد فيما تعم به البلوى " كرفع اليدين يف الصالة ونقض الوضوء من مس الذكر"‬
‫على قولني ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬قبوله واالحتجاج به (قول اجلمهور وهو الراجح ) واستدلوا بـ‪:‬‬
‫‪ .1‬اإلمجاع الصحابة السكويت على قبوله ‪ ،‬فقد قبلوا خرب عائشة رضي هللا عنها وهو ‪" :‬إذا التقى اخلتاانن‬
‫فقد وجب الغسل" ‪ ،‬وقبلوا خرب رافع رضي هللا عنه ‪ :‬أن النيب ﷺ هنى عن املخابرة دون نكري من أحد‪،‬‬
‫فكان إمجاعا‪.‬‬
‫‪ .2‬وألن الرواي هلذا اخلرب فيما تعم به البلوى عدل ثقة قد جزم بتلك الرواية فغلب على ظننا صدقه‪ ،‬وإذا كان‬
‫كذلك فيجب قبول ما رواه‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬عدم قبوله ( احلنفية ) ؛ لتوافر الدواعي على نقله فكيف خيتص بروايته اآلحاد‪.‬‬
‫فاحلنفية رد خرب اآلحاد هبذا التعليل‪ ,‬وهو من العلة القادحة يف احلديث‪ .‬وقالوا هم وغريهم إذا انفرد مبا تتوافر‬
‫الدواعي على نقله من العدد الكثري ال تقبل روايته‪ ،‬ومثلوا مبا حيتج به الشيعة على أن الرسول ﷺ عهد لعلي بن‬
‫أيب طالب رضي هللا عنه ابخلالفة بعده‪.‬‬
‫المسألة ‪ :‬إذا خالف خبر اآلحاد النص الصريح من القرآن‬
‫وإذا خالف خرب اآلحاد النص الصريح من القرآن ال يقبل‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫مثاله ‪ :‬مبا رواه عمر وابنه رضي هللا عنهما أن النيب ﷺ قال‪( :‬إن امليت ليعذب ببكاء أهله عليه) متفق عليه‪ .‬فإن‬
‫ُخَرى} [فاطر‪ ،]18‬وقالت ‪ :‬يغفر‬ ‫{وَال تَ ِزُر َوا ِزَرةٌ ِوْزَر أ ْ‬
‫عائشة رضي هللا عنها ردت احلديث ملعارضته لقوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫هللا أليب عبد الرمحن (يعين ‪ :‬ابن عمر)‪ ،‬أما إنه مل يكذب ولكنه نسي أو أخطأ‪ ،‬إمنا َمّر رسول هللا ﷺ على يهودية‬
‫يُبكى عليها‪ ،‬فقال ‪( :‬إهنم ليبكون عليها وإهنا لتعذب يف قربها) (أخرجه مسلم‪ ،‬وحنوه يف البخاري)‪ .‬ومجهور العلماء‬
‫مل يرتكوا احلديث بل أتولوه مبا ال يتعارض مع اآلية‪ ،‬وهو مراد عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫‪ .2‬احلسن ‪:‬‬
‫وقد اختلف احملدثون يف تعريفه‪ ،‬فأدخله بعضهم يف الصحيح‪ ،‬ومن أوضح ما قيل يف تعريفه أنه ‪ :‬ما نقله عدل‬
‫خفيف الضبط بسند متصل من غري شذوذ وال علة قادحة‪ .‬فيكون الفرق بينه وبني الصحيح يف قوة الضبط‬
‫وخفته‪.‬‬
‫‪ .3‬الضعيف ‪:‬‬
‫وهو ما مل جيمع صفات الصحيح أو احلسن‪.‬‬
‫وهناك تقسيمات أخرى عند احملدثني ال نطيل بذكرها‪.‬‬
‫شروط الراوي الذي تقبل روايته‬
‫يشرتط يف الراوي عدة شروط بعضها حمل وفاق وبعضها حمل خالف‪ ،‬وأمهها ما يلي ‪:‬‬
‫‪ .1‬اإلسالم ‪:‬‬
‫{اي أَيُّـ َها‬
‫والدليل على اشرتاطه أن هللا أوجب التوقف يف خرب الفاسق فالكافر أوىل بذلك‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ني}‬ ‫ين َآمنُوا إِ ْن َجاءَ ُك ْم فَاس ٌق بِنَـبٍَإ فَـتَـبَـيَّـنُوا أَ ْن تُصيبُوا قَـ ْواما جبَ َهالَة فَـتُ ْ‬
‫صبِ ُحوا َعلَى َما فَـ َع ْلتُ ْم َاندم َ‬ ‫الذ َ‬
‫[احلجرات‪ .]6‬كما أن الكافر متهم ابإلضرار ابلدين والكذب عليه فال يقبل قوله فيه‪.‬‬
‫وهذا الشرط حمل وفاق‪ ،‬ولكن املراد اشرتاط هذا الشرط عند األداء ال عند التحمل‪ ،‬أي أن الكافر لو‬
‫مسع حديثا من الرسول صلى هللا عليه وسلم حال كفره مث رواه بعد إسالمه قبل منه‪.‬‬
‫‪ .2‬البلوغ ‪:‬‬
‫والدليل على اشرتاطه أن الصيب مرفوع عنه التكليف وهو آمن من العقوبة على الكذب فال يبعد أن يكذب‬
‫على الرسول ﷺ‪.‬‬
‫‪ .3‬العدالة ‪:‬‬
‫وهي صفة راسخة يف النفس حتمل املتصف هبا على مالزمة التقوى وترك الكبائر‪ ،‬وما خيل ابملروءة من‬
‫الصغائر‪ ،‬ويعنون مبا خيل ابملروءة األعمال اخلسيسة اليت ال تناسب مكارم األخالق‪ ،‬كالغش يف التوافه‪.‬‬
‫والدليل على اشرتاطها قوله تعاىل‪{ :‬اي أَيـُّها الَّ ِذين آمنُوا إِ ْن جاء ُكم فَ ِ‬
‫اس ٌق بِنَـبٍَإ فَـتَـبَـيَّـنُوا} [احلجرات‪]6‬؛‬ ‫ََ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫حيث أوجب التوقف يف خرب الفاسق وعدم احلكم به حىت يروى من طريق آخر رواته عدول‪ .‬وألن الفاسق‬
‫متهم ابلكذب فال يقبل قوله‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ .4‬الضبط ‪:‬‬
‫وهو احلفظ ملا يسمعه أو يراه‪ ،‬وقلة اخلطأ فيه‪ .‬والدليل على اشرتاطه أن من كثر منه الغلط فيما ينقله‬
‫ويرويه ال يغلب على الظن صدقه‪ ،‬ومن ال يغلب على الظن صدقه ال يقبل خربه يف الدين‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬هل يقبل خبر مجهول الحال في اإلسالم والتكليف والضبط ؟‬
‫ال يقبل خربه إمجاعا ‪ ،‬أي ‪ :‬أنه إذا روى لنا خربا وحنن ال نعرف أنه مسلم ‪ ،‬أو كافر ‪ ،‬أو ال نعرف أنه مكلف‬
‫أم ال ‪ ،‬أم ال نعرف أنه ضابط أم ال‪ ،‬فإن هذا ال يقبل خربه ‪ ،‬وال نعمل به؛ ألن اإلسالم والتكليف والضبط من‬
‫شروط قبول الرواية ‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬هل يقبل خبر مجهول الحال في العدالة ؟‬
‫القول األول ‪ :‬أنه ال يقبل خربه؛ لدليلني ‪:‬‬
‫‪ .1‬قياس جمهول احلال يف العدالة على جمهول احلال يف اإلسالم ‪ ،‬والتكليف والضبط‪.‬‬
‫‪ .2‬قياس جمهول العدالة يف الرواية على جمهول العدالة يف الفتوى ‪ ،‬بيانه ‪ :‬أن املفيت إذا بلغ درجة االجتهاد‬
‫وشك يف عدالته فإن فتواه ال تُقبل‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أن خرب جمهول احلال يف العدالة يقبل ( أكثر احلنفية‪ ،‬وبعض الشافعية ) لآليت ‪:‬‬
‫‪ .1‬أنه قبل شهادة هذا األعرايب يف رؤية هالل شهر رمضان‪ ،‬وهو ال يعرف عنه إال كونه مسلما‪ ،‬ومل يعلم منه‬
‫عدالة وال فسقا‪ ،‬فإذا قبل شهادته فمن ابب أوىل أن يقبل خربه؟‬
‫وأجيب عنه ‪ :‬أبن الصحابة كلهم عدول تثبت عدالتهم وتزكيتهم ابلنص ‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الصحابة كانوا يقبلون رواية األعراب والعبيد والنساء ألهنم مل يعرفوهم بفسق ‪.‬‬
‫وأجيب عنه ‪ :‬أبن الصحابة ما كانوا يقبلون رواية أحد من غري الصحابة من العبيد والنساء إال من عرفوا صدقه‬
‫وعدالته‪.‬‬
‫‪ .3‬أن من أسلم من الكفار مث روى فور إسالمه فروايته مقبولة‪ .‬والقول بردها بعيد وال مستند لقبوهلا اال إسالمه‬
‫وعدم العلم بفسقه بعد إسالمه‪.‬‬
‫حجية السنة‬
‫السنة هي املصدر الثاين من مصادر التشريع اإلسالمي‪ ،‬وال خيتلف املسلمون يف حجية السنة الثابتة عن الرسول‬
‫ﷺ‪ ،‬وهلذا فاألخبار املتواترة عن الرسول ﷺ حجة ابتفاق املسلمني‪.‬‬
‫وأما أخبار اآلحاد فقد خالف فيها بعض املتكلمني‪ ،‬فقال بعضهم إهنا ليست حجة‪ ،‬وقال بعضهم يشرتط يف‬
‫حجية خرب اآلحاد أن يرويه عن النيب ﷺ اثنان ويرويه عن كل واحد منهما اثنان حىت يصل إلينا‪ .‬وهذه املذاهب‬
‫مل يعتنقها ـ واحلمد هلل ـ أحد من األئمة املتبوعني‪ ،‬بل مجيعهم اعتدوا أبخبار اآلحاد إذا صحت واحتجوا هبا‪ .‬وهذه‬
‫هي تفصيل املسألة ‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫المسألة ‪ :‬حجية أخبار اآلحاد (هل يجوز التعبد بخبر الواحد والعمل به)‬
‫القول األول ‪ :‬خرب الواحد حجة يتعبد ويعمل به (قال به مجهور العلماء)‬
‫القول الثاين ‪ :‬خرب الواحد ليس حبجة وال جيوز التعبد والعمل به (قال به أكثر القدرية)‬
‫القول الثالث ‪ :‬أنه يشرتط لقبول اخلرب أن يرويه عدالن عن النيب مث يرويه عن كل واحد منهما اثنان عدالن (‬
‫أبو علي اجلبائي )‬
‫أدلة القول األول ‪:‬‬
‫مما استدلوا به على حجية أخبار اآلحاد ما يلي ‪:‬‬
‫َّهوا ِيف ال ِّدي ِن َولِيُـْن ِذ ُروا قَـ ْوَم ُه ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَْي ِه ْم لَ َعلَّ ُه ْم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .1‬قوله تعاىل‪{ :‬فَـلَ ْوَال نَـ َفَر م ْن ُك ِّل ف ْرقَة مْنـ ُه ْم طَائ َفةٌ ليَـتَـ َفق ُ‬
‫َْحي َذ ُرو َن} [التوبة‪.]122‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬أن الطائفة يف اللغة تطلق على الواحد وعلى العدد القليل والكثري‪ ،‬وقد أوجب هللا عليهم‬
‫أن ينذروا قومهم‪ ،‬ولوال أن نذارهتم مقبولة ملا كان إلجياب النذراة عليهم فائدة‪.‬‬
‫‪ .2‬أن النيب ﷺكان يرسل رسله وأمراءه وقضاته وسعاته املأمورين جبمع الزكاة‪ ،‬وهم آحاد فلو مل جيب قبول‬
‫خربهم عنه ملا أرسلهم‪ ،‬وملا حصل املقصود إبرساهلم‪.‬‬
‫‪ .3‬إمجاع الصحابة على قبول خرب الواحد والعمل به‪ ،‬ويدل على إمجاعهم قضااي ووقائع ال ميكن تكذيبها‬
‫جمتمعة‪ ،‬ومن ذلك ‪:‬‬
‫‪ -‬أن أاب بكر رضي هللا عنه ورث اجلدة السدس بعد أن ردها‪ ،‬وقال‪ :‬ما علمت لك يف كتاب هللا حقا‪،‬‬
‫وال مسعت عن رسول هللا ﷺ فيه شيئا فارجعي حىت أسأل الناس‪ ،‬فسأل الصحابة فشهد املغرية بن‬
‫شعبة أن رسول هللا ﷺ أعطاها السدس‪ ،‬وشهد معه حممد بن مسلمة فأعطاها أبو بكر السدس‬
‫(أخرجه أمحد وأصحاب السنن‪ ،‬وقال احلاكم‪ :‬صحيح على شرط الشيخني ومل خيرجاه)‪.‬‬
‫‪ -‬وعمر رضي هللا عنه ورث املرأة من دية زوجها ملا روي له أن النيب ﷺ ورث امرأة أشيم الضبايب من‬
‫دية زوجها (رواه الرتمذي وصححه)‪ ،‬وكان ال يرى ذلك قبل مساع احلديث‪.‬‬
‫‪ -‬ومن ذل ك ما روي عن عمر رضي هللا عنه من استدالله ابحلديث الذي رواه عبد الرمحن بن عوف‬
‫يف دخول البلد الذي وقع فيها الطاعون (أخرجه مسلم)‪ ،‬وغري ذلك مما ال حيصى كثري‪.‬‬
‫‪ .4‬إمجاع العلماء على أن املستفيت مأمور بقبول قول املفيت وهو واحد‪ ،‬وإمجاعهم على أن القاضي جيب عليه‬
‫القضاء بشهادة عدلني مع أن خربمها حيتمل الكذب‪.‬‬
‫أدلة القول الثالث ‪:‬‬
‫الذين اشرتطوا لقبول خرب اآلحاد أن يرويه اثنان عن النيب ﷺ ويرويه عن كل واحد منهما اثنان إىل أن يصل إلينا‬
‫احتجوا مبا يلي ‪:‬‬
‫‪ .1‬قياس الرواية على الشهادة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ .2‬ما روي عن عمر رضي هللا عنه أنه طالب أاب موسى األشعري رضي هللا عنه مبن يشهد معه حينما روى‬
‫له حديث االستئذان ومل يقبله حىت شهد له أبو سعيد اخلدري (متفق عليه)‪ ،‬وأبو بكر مل يقبل خرب املغرية‬
‫يف مرياث اجلدة حىت شهد معه حممد بن مسلمة كما تقدم‪.‬‬
‫واجلواب عن أدلة املشرتطني للقبول رواية اثنني كما يلي ‪:‬‬
‫‪ .1‬قياسهم الرواية على الشهادة ال يصح؛ ألنه قياس مع الفارق‪ ،‬فالرواية خرب عام يف الدين والشهادة إلزام‬
‫لشخص بعينه فيتهم الشاهد الواحد بقصد اإلضرار ابلشخص املعني وال يتهم الراوي املسلم العدل ابإلضرار‬
‫ابألمة عموما‪.‬‬
‫وشهادة العبد مردودة عند اجلمهور وروايته مقبولة ابتفاق‪ .‬وشهادة املرأة مردودة يف بعض الوقائع وروايتها‬
‫مقبولة ابتفاق‪.‬‬
‫‪ .2‬وأما استدالهلم مبا روي عن بعض الصحابة من طلب من يشهد للراوي الواحد فيجاب عنه أبهنم طلبوا‬
‫ذلك لزايدة التثبت وإلشعار الناس بعظم الرواية عن النيب ﷺ حىت ال يتجرأ عليها كل أحد‪ .‬ويف هذا يقول‬
‫عمر رضي هللا عنه أليب موسى‪« :‬أما أين مل أهتمك ولكن احلديث عن رسول هللا ﷺ شديد» (أخرجه أبو‬
‫داود)‪ ،‬وأبو بكر رضي هللا عنه قد يكون طلب من يشهد للمغرية ألن هللا مل يذكر للجدة شيئا حني ذكر‬
‫أصحاب الفروض فال بد من زايدة التثبت لتوريثها‪.‬‬
‫ومما يدل على أهنم مل يردوا خرب الواحد أهنم قبلوا أخبار اآلحاد من غري أن تكون من رواية اثنني فأكثر‪،‬‬
‫فقبل أبو بكر خرب ‪« :‬إ ّان معاشر األنبياء ال نورث» (أخرجه النسائي هبذا اللفظ ومعناه يف الصحيحني)‪،‬‬
‫وقبل عمر حديث عبد الرمحن بن عوف يف اجملوس‪« :‬سنوا هبم سنة أهل الكتاب» (رواه مالك والشافعي‬
‫والبيهقي‪ ،‬وهو معلول‪ ،‬ولكن قال البيهقي‪ :‬إمجاع أكثر املسلمني عليه يؤكده) وقبل خرب توريث امرأة أشيم‬
‫الضبايب من دية زوجها‪ ،‬وخربه يف احلكم إذا نزل الطاعون أبرض‪ ،‬وخرب دية اجلنني (أخرجه مسلم)‪ ،‬وحنو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫مث إن خرب االثنني كخرب الواحد ال يرتقي إىل درجة التواتر ابتفاق املقسمني للخرب‪.‬‬
‫أدلة القول الثاين ‪:‬‬
‫الذين أنكروا االحتجاج مبا ليس مبتواتر فأهم ما احتجوا به ما يلي ‪:‬‬
‫ك بِِه ِع ْل ٌم} [اإلسراء‪ .]36‬قالوا ‪ :‬خرب اآلحاد ال يفيد العلم فال جيوز‬
‫س لَ َ‬
‫ف َما لَْي َ‬
‫{وَال تَـ ْق ُ‬
‫‪ .1‬قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫اتباعه‪.‬‬
‫‪ .2‬ما روي عن بعض الصحابة من ردهم لبعض األخبار كرد عائشة خلرب عمر وابنه يف تعذيب امليت ببكاء‬
‫أهله عليه‪ ،‬ورد ابن عباس خرب أيب هريرة يف امليت‪« :‬من محله فليتوضأ» (أخرجه أمحد والنسائي والرتمذي‬
‫وحسنه) وقال‪ :‬ال يلزمنا الوضوء من محل عيدان ايبسة‪.‬‬
‫فيجاب عن أدلتهم كما يلي ‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ .1‬اآلية دلت على النهي عن اقتفاء ما ال نعلم وجوب اتباعه؛ وخرب اآلحاد قد أمجع الصحابة والتابعون على‬
‫وجوب اتباعه‪ ،‬فالعلم بوجوب العمل به حاصل‪.‬‬
‫أو يقال إن العلم املذكور يف اآلية ليس املراد به العلم اليقيين الذي ال حيتمل النقيض‪ ،‬بل هو ما يغلب‬
‫على الظن‪ ،‬وهذا املعىن هو الذي يقصد ابلعلم يف القرآن كما قال تعاىل‪ :‬فإن علمتموهن مؤمنات فال‬
‫ترجعوهن إىل الكفار‪ ،‬فإن العلم يف هذه اآلية ال ميكن أن حيمل على ما ال حيتمل النقيض‪.‬‬
‫‪ .2‬وأما ما ذكروه عن بعض الصحابة من رد ألخبار اآلحاد‪ ،‬فالثابت منه مل يكن الرد فيه لكونه خرب آحاد‪،‬‬
‫بل لكونه معارضا ألدلة قطعية أقوى منه‪ ،‬فعائشة ردت خرب تعذيب امليت آبية ‪{ :‬أََّال تَ ِزُر َوا ِزَرةٌ ِوْزَر‬
‫ُخَرى} [النجم‪ .]38‬وهلذا فإن الذين قبلوه أتولوه على معىن ال خيالف هذه اآلية‪ .‬وكذلك ما روي عن‬ ‫أْ‬
‫ابن عباس رضي هللا عنه من رده خلرب أيب هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬له فيه عذر آخر غري كونه خرب آحاد‪ ،‬ولذا‬
‫مل حيتج يف رده بكونه خرب واحد‪ ،‬والذين قبلوا خرب أيب هريرة يف األمر ابلوضوء من محل اجلنازة‪ ،‬منهم من‬
‫محله على االستحباب‪ ،‬ومنهم من محله على الوضوء قبل محله حىت يكون على طهارة عند الصالة عليه‪،‬‬
‫وهذا معىن لطيف‪ ،‬واحلديث حيتمله‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬هل خبر الواحد يفيد العلم؟‬
‫القول األول ‪ :‬أن خرب الواحد اجملرد يفيد الظن ‪ ،‬وال يفيد العلم (قول مجهور األصوليني ) ل ــآليت ‪:‬‬
‫‪ .1‬ألنه لو كان خرب الواحد يفيد العلم؛ لكان العلم حاصالا خبرب األنبياء إذا أخربوا ببعثهم من غري حاجة إىل‬
‫إظهار املعجزات واألدلة على صدقهم ‪.‬‬
‫‪ .2‬ولوجب على القاضي أن يصدق املدَّعي من غري بينة ‪.‬‬
‫‪ .3‬وملا احتيج إىل عدد من الشهود‪.‬‬
‫‪ .4‬وجلاز أن ينسخ خرب الواحد القرآن والسنة املتواترة ‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أنه يفيد اليقني إن كان الرواة عدوالا ضابطني ( الظاهرية وبعص العلماء )؛ ألن العمل خبرب اآلحاد‬
‫واجب‪ ,‬والظن ليس من العلم حىت جيب العمل به؛ ألن هللا تعاىل يقول ‪ ( :‬إن الظن ال يغين من احلق شيئا)‪ .‬والنيب‬
‫ﷺ يقول ‪( :‬إايكم والظن فإن الظن أكذب احلديث) ‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬التفصيل ‪ :‬إن احتفت به قرائن دالة على صدقة أفاد اليقني واال أفاد الظن‪ ( .‬بعض العلماء كاجلويين‬
‫وابن تيمية ) ‪.‬‬
‫ومثال ما احتفت به القرائن ‪ :‬إخبار رجل مبوت ولده املشرف على املوت مع قرينة البكاء واحضار الكفن والنعش‪.‬‬
‫ومن أمثلته أيضا أحاديث الشيخني؛ ألن القرائن دالة على صدقها جلاللتها يف هذا الشأن‪ ,‬وتقدميهما يف متييز‬
‫الصحيح على غريمها‪ ,‬وتلقي العلماء لكتاهبما ابلقول‪ ,‬وهذا التلقي وحده أقوى يف إفادة العلم من جمرد كثرة الطرق‪.‬‬
‫الراجح (عند الشنقيطي) ‪ :‬والتحقيق يف هذه املسألة وهللا أعلم ان خرب اآلحاد أي الذي مل يبلغ حد التواتر ينظر‬
‫اليه من جهتني ‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫احدامها‪ :‬أنه قطعي من حيث أن العمل به واجب؛ ألن العمل ابلبينات مثالا قطعي منصوص يف الكتاب والسنة‪,‬‬
‫وقد أمجع عليه املسلمون وهي أخبار آحاد‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬أنه ظين من انحية أخرى وهي هل ما أخربوا به مطابق للواقع يف نفس األمر‪ ,‬ويوضحه أيضا قول علماء‬
‫احلديث يف تعريف الصحيح أن املراد صحته يف ظاهر األمر ‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬خبر الواحد فيما يخالف القياس أيهما يقدم ؟‬
‫القول األول ‪ :‬يقدم خرب الواحد (قول اجلمهور ) لآليت‪:‬‬
‫‪ .1‬حلديث معاذ ملا بعثه رسول هللا إىل اليمن ( فقدم الكتاب والسنة على االجتهاد )‪.‬‬
‫‪ .2‬وإمجاع الصحابة‪ ,‬فهم مل يكونوا مييزون بني املتواتر واآلحاد ‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أنه يقدم القياس (قول مالك) ألن القياس يعضد أبصله فيرتجح على خرب الواحد املعارض ؛ألنه‬
‫تلحق شبهة الكذب هلذه املعارضة ‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬إذا كان الراوي فقيها " كاخللفاء الراشدين وعائشة والعبادلة " يقدم خرب الواحد على القياس‪.‬‬
‫وإن مل يكن فقيها وخالف اخلرب مجيع األقيسة فإنه يقدم القياس عليه؛ ألن الراوي إذا مل يكن فقيها مل يؤمن أن‬
‫يذهب شيء من معانيه فتدخله شبهة زائدة خيلو عنها القياس ( احلنفية )‪.‬‬
‫مثال اخلرب املعارض جلميع األقيسة‪ :‬قوله ‪":‬ال تصروا اإلبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو خبري النظرين بعد أن حيلبها‬
‫‪ :‬إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من متر" فرد اللنب خمالف جلميع األقيسة الثابتة ابلكتاب والسنة واالمجاع‬
‫ابنعقاد وجوب املثل او القيمة عند فقد العني وليس اللنب مثل التمر وال قيمته‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬خبر الواحد في الحدود‬
‫القول األول ‪ :‬قبول خرب الواحد الوارد إبثبات حد أو ما جيري جمراه ( اجلمهور وهو الراجح ) لآليت‪:‬‬
‫‪ .1‬قياسا على غريه من األخبار ؛ جبامع ‪ :‬أن الراوي فيهما عدل ثقة جازم يف الرواية ‪ ،‬ومل يعارضه مثله ‪ ،‬وألن‬
‫األدلة املثبتة حلجية خرب الواحد مل تفرق بني ما ورد إبثبات حد أو بغري ذلك‪.‬‬
‫‪ .2‬وقياسا على الشهادة يف ثبوت احلدود هبا‪.‬‬
‫القول الثاين ‪:‬أنه ال يقبل ( الكرخي )؛ ألنه مظنون ويلحقه االشتباه واحلديث " ادرأوا احلدود ابلشبهات"‬
‫مسألة ‪ :‬رواية الحديث بالمعنى‬
‫حترير حمل النزاع ‪:‬‬
‫اتفقوا على أنه ال جتوز الرواية ابملعىن فيما يتعبد بلفظه كاألذان وفيما هو من جوامع الكلم‪.‬‬
‫أما ما عدا ذلك ففيه تفصيل‪ ,‬وهو أن الراوي له حاالن ‪:‬‬
‫‪ .1‬إذا كان غري عامل مبقتضيات األلفاظ‪ ،‬والفرق بينها من جهة اإلطالق والتقييد‪ ،‬والعموم واخلصوص؛ فال‬
‫جيوز له الرواية ابملعىن؛ ألنه قد يبدل لفظا بلفظ يساويه ‪-‬يف ظنه‪ -‬وهو ليس كذلك‪ ،‬فيرتتب على ذلك‬
‫خلل يف املعىن‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ .2‬أما إن كان عاملا مبا تقدم‪ ،‬فإن املعىن له حاالن ‪:‬‬
‫‪ .1‬إن كان املعىن غري متطابق فال جيوز اتفاقا‪.‬‬
‫‪ .2‬وإن كان مطابقا ‪ :‬ففيه قوالن ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬جتوز الرواية ابملعىن (قول مجهور العلماء )‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬املنع مطلقا (حممد بن سريين وبعض السلف من أهل احلديث )؛ لقول النيب ﷺ ‪" :‬نضر هللا امرأ‬
‫مسع مقاليت فأداها كما مسعها فرب مبلغ أوعى من سامع " وهو واضح الداللة‪.‬‬
‫أدلة اجلمهور ( الراجح ) ‪:‬‬
‫‪ .1‬اإلمجاع على جواز شرح الشرع للعجم بلساهنم‪ ،‬فإذا جاز إبدال كلمة عربية أبعجمية ترادفها‪ ،‬فبعربية أوىل‪.‬‬
‫‪ .2‬كان سفراء النيب ﷺ يبلغوهنم أوامره بلغتهم‪.‬‬
‫‪ .3‬معلوم أنه ال يعتد ابللفظ‪ ،‬وإمنا املقصود فهم املعىن‪ ،‬وإيصاله إىل اخللق‪ ,‬ويدل على ذلك‪ :‬أن اخلطب‬
‫املتحدة والوقائع‪ ،‬رواها الصحابة أبلفاظ خمتلفة ‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬شرط اجلمهور شروطا جلواز نقل احلديث ابملعىن كما يلي ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون الناقل عاملا ابللسان العريب ال ختفى عليه النكت الدقيقة اليت حيصل هبا الفرق بني معاين األلفاظ‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون جازما مبعىن احلديث‪ ،‬وليس عن طريق االستنباط أو االستدالل مبختلف فيه‪.‬‬
‫‪ .3‬أن ال يكون اللفظ الذي نقل به الراوي معىن احلديث أخفى من لفظ النيب ‪.‬‬
‫قال القرايف‪" :‬جيوز بثالثة شروط‪ :‬أن ال يزيد الرتمجة‪ ،‬وال ينقص‪ ،‬وال يكون أخفى من لفظ الشارع"‬
‫ألفاظ الرواية في نقل األخبار‬
‫(مراتب رواية الصحابي عن النبي ﷺ)‬
‫املرتبة األوىل (أقواها) ‪ :‬وهي ما كان اللفظ فيه صرحيا يف السماع من النيب حنو ‪ (:‬مسعته يقول أو حدثين أو أخربين‬
‫أو شافهين ) وهذا هو األصل يف الرواية ألنه ال يتطرق إليها االحتمال ‪.‬‬
‫املرتبة الثانية ‪ :‬هي ما كان اللفظ فيه ظاهرا يف السماع منه كقوله ( قال رسول هللا‪ ,‬أو عن رسول هللا‪ ,‬وحنو ذلك‬
‫) وامنا كانت هذه املرتبة دون اليت قبلها ألهنا ليست صرحية يف السماع إلمكان أن يكون مسعه من غري النيب ‪.‬‬
‫املرتبة الثالثة ‪ :‬أن يقول الصحايب أمر رسول هللا بكذا أو هنى عن كذا ويتطرق إليها احتماالن ‪:‬‬
‫• عدم السماع مباشرة ‪.‬‬
‫• وأنه قد يظن ما ليس أبمر أمرا هكذا قيل وهذا بعيد؛ إذ عدالة الصحايب متنعه من أن ينقل األمر فيما‬
‫ليس أبمر ولذا فهي يف منزلة اليت املرتبة الثانية لضعف االحتمال املذكور ‪.‬‬
‫املرتبة الرابعة ‪ :‬أن يقول أمران أو هناان وال يذكر الفاعل وهذه يتطرق إليها ثالث احتماالت ‪:‬‬
‫• عدم السماع مباشرة‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫• وأنه قد يظن ما ليس أبمر أمرا هكذا قيل وهذا بعيد؛ إذ عدالة الصحايب متنعه من أن ينقل عن النيب مل‬
‫األمر فيما ليس أبمر‪.‬‬
‫• أن يكون اآلمر غري النيب من األئمة والعلماء‪ .‬وأكثر أهل األصول على أنه ال حيمل اال على أمر هللا‬
‫ورسوله خالفا ملن أبطل هذه املرتبة هلذا االحتمال‪ .‬ومثله قول من السنة كذا والسنة جائزة بكذا‬
‫املرتبة اخلامسة ‪ :‬أن يقول ‪ :‬كنا نفعل كذا على عهد رسول هللا أو كانوا يفعلون كذا على عهده كقول جابر‪:‬‬
‫"كنا نعزل والوحي ينزل " ‪.‬‬
‫وأما اذا مل يذكر زمن النيب بل قال ‪ ( :‬كانوا يفعلون كذا مثالا ) ففيه قوالن ‪:‬‬
‫• ( أبو اخلطاب ) قال ‪ :‬يكون نقالا لإلمجاع ‪.‬‬
‫• (بعض أصحاب الشافعي) قالوا ال يكون نقالا لإلمجاع مامل يصرح بنقله عن أهل االمجاع ‪.‬‬
‫(مراتب رواية غير الصحابي عن شيخه)‬
‫ألفاظ الراوي غري الصحايب من نقل اخلرب ختتلف ابختالف موقف الشيخ املروي عنه من هذا الراوي والعكس مما‬
‫سيتبني على التفصيل اآليت ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬قراءة الشيخ على الراوي وهو يسمع‪ ,‬جتوز الرواية عنه والعمل به سواء قرأ إمالء من حفظه أو من‬
‫مكتوب فتجوز الرواية عنه مع العمل بذلك ابالتفاق‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬إذا قصد الشيخ إمساع الراوي فقط فإن الراوي يقول ‪" :‬حدثين فالن"‪ ،‬أو "أخربين فالن" ‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬إذا قصد الشيخ إمساع الراوي مع غريه فإن الراوي يقول ‪" :‬حدثنا فالن" ‪ ،‬أو "أخربان فالن" ‪.‬‬
‫رابعاً ‪ :‬إذا مل يقصد الشيخ إمساع الراوي منفردا وال مع مجاعة فإنه يقول ‪" :‬مسعته يقول كذا" ‪ ،‬أو يقول ‪" :‬مسعته‬
‫خيرب بكذا"‪.‬‬
‫خامساً ‪ :‬قراءة الشيخ احلديث على الراوي وقراءة الراوي على الشيخ أيهما أقوى ؟ لقد اختلف العلماء يف ذلك‬
‫على مذاهب ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬قراءة الشيخ احلديث على الراوي أقوى من قراءة الراوي على الشيخ ( اجلمهور ) لآليت‪:‬‬
‫• ألنه هو طريق النيب ‪.‬‬
‫• وألن ذلك أبعد عن اخلطأ والسهو والغلط ‪.‬‬
‫• لكون الشيخ يقرأ ما حتقق منه فيكون أحق فيما هو املقصود ‪ ،‬وهو حتمل األمانة بصفة اتمة ‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أن قراءة الراوي على الشيخ أقوى ( أبو حنيفة ) ‪.‬‬
‫ألن عناية الطلب أشد عادة؛ ألنه إذا قرأ الراوي على الشيخ كانت احملافظة من الطرفني‪ ،‬وإذا قرأ الشيخ ال تكون‬
‫احملافظة إال منه ‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬مها سواء ( اإلمام مالك )؛ ألن الذي يقرأ كتااب ويسهو ال فرق فيه بني القارئ والسامع؛ نظرا‬
‫ملساواة من يتكلم أو يستمع فيستفهم فيقول‪ :‬نعم ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫سادساً ‪ :‬قراءة الراوي على الشيخ وهو يسمع ‪ ،‬وقول الشيخ بعد ذلك ‪" :‬مسعت ذلك " ‪ ،‬أو قوله ‪" :‬األمر‬
‫كما قرئ علي" ‪ ،‬جتوز الرواية عنه مع العمل بذلك ‪.‬‬
‫سابعاً ‪ :‬إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو يسمع ‪ ،‬مث قال الراوي ‪ :‬هل مسعت أيها الشيخ ؟ فسكت الشيخ ‪ ،‬ففيها‬
‫قوالن ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬جتوز الرواية عنه ‪ ،‬وجيب العمل بذلك بشرط‪ " :‬أن ال توجد لدى الشيخ أي مانع من اإلنكار إذا‬
‫أخطأ الراوي يف القراءة كغفلة أو قلة مباالة ‪ ،‬أو نوم ‪ ،‬أو إكراه على السكوت ‪ .‬وهو الراجح‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ ( :‬بعض الظاهرية ) قالوا ‪ :‬ال جتوز الرواية عنه ‪ ،‬وال العمل به؛ ألن الساكت ال ينسب إليه قول‬
‫عندهم واستدالله أيضا بظاهر قوله تعاىل‪ ( :‬قال أأقررمت وأخذمت على ذلك أصري ) ‪.‬‬
‫ثامناً ‪ :‬إذا قرأ الراوي على الشيخ ‪ ،‬وأراد الراوي أن ُحيدث مبا قرأه على الشيخ فإنه يقول ‪" :‬أخربان أو أنبأان أو‬
‫حدثنا فالن قراءة عليه" ‪ ،‬فال جيوز أن يقول ‪" :‬حدثنا أو أخربان" مطلقا بدون ذكر لفظ "قراءة عليه" ؛ ألن هذا‬
‫يوهم ‪ :‬أن الشيخ هو الذي قرأ على الراوي ‪.‬‬
‫تاسعاً ‪ :‬إذا قال الشيخ ‪" :‬حدثنا" ‪ ،‬جيوز للراوي أن يبدهلا بقوله ‪" :‬أخربان" أو العكس ‪ ،‬وال مانع من ذلك ؛‬
‫ألن معىن "حدثنا" و"أخربان" واحد يف اللغة ؛ الشتقاقه من اخلرب واحلديث ‪ ،‬فهما لفظان ملعىن واحد ‪.‬‬
‫صح عندك من مسموعايت" ‪ ،‬فإن ذلك‬ ‫عاشراً ‪ :‬إذا قال الشيخ للراوي عنه ‪" :‬أجزت لك أن تروي عين ما َّ‬
‫سمى ‪" :‬إجازة" البد أن يقول ‪" :‬حدثين فالن إجازة" ‪.‬‬ ‫يُ َّ‬
‫حادي عشر ‪ :‬إذا قال الشيخ للراوي عنه ‪" :‬خذ هذا الكتاب فأروه عين" ‪ .‬أو قال ‪" :‬خذ هذا وح ّدث به عين‬
‫فقد مسعته من فالن" ‪ ،‬فإن هذا يسمى "مناولة" فيقول الراوي ‪" :‬حدثين فالن إجازة أو مناولة"‪.‬‬
‫ثاني عشر ‪ :‬إذا قال الشيخ ‪" :‬خذ الكتاب وهو مسموعي" ومل يقل ‪" :‬اروه عين" ‪ ،‬فإنه ال جتوز الرواية عنه‬
‫مطلقا ؛ ألن عالمة اإلذن يف الرواية هي عبارة ‪" :‬اروه عين" ‪ ،‬وهي مل توجد هنا‬
‫ثالث عشر ‪" :‬الوجادة" إذا وجد الراوي شيئا من األحاديث مكتوابا خبط الشيخ الذي يعرفه ويثق أبنه خطه وال‬
‫جتوز الرواية يف الوجادة ‪ ،‬فال جيوز أن يقول ‪" :‬حدثين فالن أو أخربين فالن إجازة" ‪ ،‬وال غريها إال إبذن صاحبها‪.‬‬
‫رابع عشر ‪ :‬إذا رأى الراوي مساعه يف كتاب ووجده ‪ ،‬ومل يذكر مساعه وال قراءته ‪ ،‬لكن غلب على ظنه مساعه‬
‫كما يراه من خطه الذي توثّق منه ‪ ،‬فإنه جيوز له روايته والعمل به ؛ ألن الرواية قد بُين أمرها على حسن الظن‬
‫وغلبته ‪ ،‬واملساحمة ‪ ،‬ومراعاة الظاهر من احلال ‪.‬‬
‫خامس عشر ‪ :‬إذا روى الراوي كتاابا عن بعض احملدثني فيه مائة حديث ‪ ،‬ولكنه شك يف مساع حديث واحد‬
‫منها ‪ ،‬ومل يستطع تعيني ذلك احلديث املشكوك فيه ‪ ،‬فإنه ال جيوز له أن يروي شيئا من مجيع تلك األحاديث املائة‬
‫؛ ألن الرواية تعترب شهادة ‪ ،‬والشهادة ال جتوز مع الشك والرتدد ؛ حيث إنه ما من حديث إال وميكن أن يكون‬
‫هو الذي مل يسمعه من شيخه ‪ ،‬فلذلك يرتكها مجيعها احتياطا ‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬جحد الشيخ لمرويه ‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫• إذا روى الراوي حديثا عن شيخ ‪ ،‬ولكن الشيخ قد أنكر إنكارا صرحيا وقال ‪" :‬كذب علي" أو "ما رويت له‬
‫قط" ‪ ،‬فال يقبل هذا احلديث ‪.‬‬
‫• وأما إذا أنكر الشيخ احلديث الذي رواه عنه الراوي إنكارا غري صريح ؛ حيث يقول ‪" :‬لست أذكر ذلك‬
‫احلديث" ‪ ،‬فإنه ال يقدح يف احلديث ‪ ،‬بل يُقبل ويُعمل به ‪ ،‬ألن الراوي العدل الثقة قد جزم هبذه الرواية عن‬
‫ذلك الشيخ يف حني أن الشيخ مل يكذبه ‪ ،‬ومل ينكر حديثه على وجه اجلزم ‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬زيادة الثقة في الحديث‬
‫انفراد الثقة ابلزايدة له ثالث حاالت ‪:‬‬
‫• أن تكون الزايدة معارضة ملا رواه سائر الثقات ‪ ,‬فرتد الزايدة لرتجيح رواية الثقات‪.‬‬
‫• أن تكون الزايدة ال ختالف ما رواه الثقات أصال فتقبل تلك الزايدة مطلقا ‪ ,‬أي ‪ :‬سواء كان يف اللفظ فقط‬
‫كزايدة الواو يف ‪ " :‬ربنا ولك احلمد " أم يف املعىن حنو ‪" :‬إذا اختلف املتبايعان والسلعة قائمة حتالفا وترادا "‬
‫بزايدة والسلعة قائمة‪.‬‬
‫سواء علم احتاد اجمللس أم ال؟ أو كثر الساكتون عنها أم ال ؟؛ ألن هذا الثقة إذا انفرد حبديث اتم لقبل فكذلك‬
‫إذا انفرد جبزء حديث‪.‬‬
‫‪ -‬ولو قيل ‪ :‬كيف ينفرد ابجلزء دون سائر رواة احلديث ؟‬
‫اجلواب ‪ :‬أنه ال ميتنع أن يذكر النيب الزايدة يف جملس ‪ ،‬ويرتكها يف جملس آخر ‪ ،‬فيكون راوي الزايدة قد حضر‬
‫اجمللس الذي ذكرت فيه تلك الزايدة ‪ ،‬أما اآلخر فلم حيضر ذلك اجمللس ‪.‬‬
‫• أن تكون الزايدة ظاهرها التعارض مع إمكان اجلمع كحديث ‪" :‬وجعلت يل األرض مسجدا وطهورا " فقد‬
‫تفرد أبو مالك األشجعي عن سائر الرواة بزايدة ‪ " :‬وجعلت تربتها طهورا " فهذا ظاهره التعارض وميكن اجلمع‬
‫بينهما ‪ ,‬أبن املراد من الرتبة األرض وهي الصعيد الطيب ‪ ,‬أو أن املراد ابألرض الرتبة وهو الصحيح ‪.‬‬
‫عدالة الصحابة‬
‫الذي عليه سلف االمة ومجهور اخللف (ومنهم األئمة األربعة) ‪ " :‬أن الصحابة رضي هللا عنهم كلهم عدول "‪ ,‬ال‬
‫حاجة إىل البحث عن عدالتهم‪ ,‬فجهالة الصحايب ال يضر‪.‬‬
‫والدليل على ذلك ‪:‬‬
‫َنصا ِر‬ ‫ٱأل‬
‫أ‬
‫و‬ ‫ين‬‫ِ‬
‫ر‬ ‫ج‬‫ٱلسبِ ُقو َن أٱأل ََّولُو َن ِمن أٱلم َّٰه ِ‬ ‫• أن هللا عدهلم وأثىن عليهم من فوق سبع مسوات‪ ,‬فقال تعاىل ‪َ :‬و ََّّٰ‬
‫َ أ َُ َ َ َ‬
‫ۚ‬
‫ين فِ َيهآ أَبَدا‬ ‫ٱَّلل ع أنـه أم ورضواْ ع أنه وأَع َّد َهل أم ج َّٰنَّت َ أجت ِري َ أحتتـها أٱألَهنََّٰر َّٰخلِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫َوٱلَّ ِذ‬
‫د‬
‫ُ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫وهم إبِِح ََّٰسن َّرض َي َُّ َ ُ َ َ ُ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫ين ٱتـَّبَـعُ ُ‬
‫أ‬ ‫َ‬
‫َّٰ ِ أ‬
‫ك ٱل َف أوُز ٱل َع ِظ ُيم [سورة التوبة ‪]100:‬‬ ‫َذل َ‬
‫أ‬ ‫ۖۡ‬ ‫أ‬
‫ين َم َعٓهُۥ أ َِش َّدآءُ َعلَى ٱل ُكفَّا ِر ُر َمحَآءُ بَـ أيـنَـ ُه أم تَـَرَّٰىـ ُه أم ُرَّكعا ُس َّجدا يَـ أبـتَـغُو َن فَضال ِّم َن‬
‫َ‬
‫ول َّ ِۚ‬
‫ٱَّلل َوٱلَّ ِذ‬ ‫وقال ‪ُّ :‬حمَ َّمد َّر ُس ُ‬
‫أ‬ ‫ٱَّلل وِر أض َّٰو ۖۡان ِسيماه أم ِيف وج ِ‬
‫ك َمثَـلُ ُه أم ِيف ٱلتَّـ أورَّٰى ِۚة وَمثَـلُ ُه أم ِيف ِ‬
‫ٱإل ِجن ِيل َكَز أرٍع أ أَخَر َج‬ ‫َ‬
‫ود ََّٰذلِ‬‫ٱلسج ِۚ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫َ‬‫ث‬‫َ‬‫أ‬ ‫ن‬‫وه ِهم ِم أ‬
‫ّ‬ ‫ُُ‬ ‫َّ َ َ َ ُ‬
‫ِ‬
‫َ َ‬

‫‪16‬‬
‫ٱَّلل ٱلَّ ِ‬ ‫ٱستـوى على سوقِ ِهۦ يـ أع ِجب ٱلزراع لِيغِيظ هبِِم أٱلكف َۗ‬ ‫ش أطَهۥ َفازرهۥ ف أ‬
‫ٱستـ أغلظ ف أ‬
‫ين ءَ َامنُواْ َو َع ِملُواْ‬
‫ُ َ‬‫ذ‬ ‫َّ‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ََ‬‫َّار‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫َّٰ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّٰ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ ََُ َ‬
‫َۢ‬ ‫أ‬ ‫َّٰ ِ ِ أ‬
‫ت ِمنـ ُهم َّمغ ِفَرة َوأ أَجارا َع ِظ َيما [سورة الفتح‪]2٩:‬‬ ‫ٱلصل ََّٰح‬
‫َّ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫ٱلس ِكينَ َة َعَل أي ِه أم‬ ‫ِِ أ‬ ‫ِ‬
‫َّجَرِة فَـ َعل َم َما ِيف قُـلُوهبم فَأ َ‬
‫َنزَل َّ‬ ‫ت ٱلش َ‬ ‫ني إِذ يـُبَايِعُونَ َ‬
‫ك َحت َ‬
‫ِِ‬
‫ٱَّللُ َع ِن ٱل ُمؤمن َ‬ ‫وقال ‪:‬لََّقد َر ِض َي َّ‬
‫أ‬
‫َوأَثََّٰبَـ ُه أم فَـتحا قَ ِريبا [سورة الفتح‪]18:‬‬
‫• وأثىن عليه النيب ﷺ‪ ,‬فقال ‪( :‬خري الناس قرين) رواه البخاري ومسلم‪ .‬وقال ﷺ ‪( :‬ال تسبوا أصحايب‪,‬‬
‫فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدكم وال نصيفه)‪.‬‬
‫فأي تعديل أصح من تعديل عالم الغيوب‪ ,‬وتعديل الرسول ﷺ ؟؟؟‬
‫وهذا التعديل للصحابة رضي هللا عنهم‪ ,‬يتناول كل من يقع عليه اسم الصحايب‪ .‬وذلك حيصل بصحبة النيب ﷺ‬
‫ولو ساعة ورؤيته ﷺ مع اإلميان به‪.‬‬
‫وال يشرتط لثبوت الصحبة طول املدة‪ ,‬ألن الصاحب مشتق من الصحبة‪ ,‬والصحبة تعم القليل والكثري‪ .‬تقول‬
‫‪":‬صحبته ساعة ويوما وشهرا وأكثر من ذلك"‪ .‬ومما يؤيد ذلك ما حكي عن جرير بن عبد هللا البجلي رضي هللا‬
‫عنه أنه قال ‪( :‬أسلمت قبل موت النيب ﷺ أبربعني يوما) وهو صحايب ابالتفاق‪ .‬وأيضا فقد أطبق العلماء على‬
‫قبول رواية وائل بن حجر ومالك بن احلويرث وعثمان بن أيب العاص الثقفي وغريهم ممن اشتهرت صحبتهم وروايتهم‬
‫عنه ﷺ مع أهنم وفدوا إليه واجتمعوا به ﷺ ورجعوا إىل أهليهم ومل يالزموه‪.‬‬
‫تنبيه ‪:‬‬
‫وليس املراد بعدالة الصحابة هو ثبوت العصمة هلم‪ ,‬واستحالة املعصية‪ ,‬وإمنا املراد قبول رواايهتم من غري تكلف حبث‬
‫عن أسباب العدالة وطلب التزكية‪.‬‬
‫الحديث المرسل‬
‫لغة ‪ :‬املطلق ‪ ,‬ضد املقيد‬
‫في اصطالح األصوليين ‪ :‬هو اخلرب الذي سقط را ٍو من إسناده‪ ,‬سواء من أول السند أو من وسطه‬
‫أو من آخره ‪ .‬وهو ينقسم إىل قسمني ‪:‬‬
‫•مرسل الصحايب ‪ :‬وهو أن يروي الصحايب حديثا عن النيب وهو مل يسمعه منه شفاها‪ ،‬بل مسعه من صحايب‬
‫آخر‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬مقبول مطلقا؛ إلمجاع الصحابة على ذلك‪ ,‬حيث كان بعضهم يرسلون األحاديث فيقبل اآلخرون ذلك‬
‫بدون نكري من أحد‪ ،‬وأكثر رواايت الصحابة عن النيب مل يسمعوها من النيب مباشرة ‪ ،‬بل بواسطة صحايب آخر‬
‫" كابن عباس فهو مل يرو عن النيب إال أربعة أحاديث "‬
‫مثاله ‪ :‬ما رواه ابن عباس أن النيب مل يزل يليب حىت رمى مجرة العقبة‪ ،‬فلما سئل عنه أسنده إىل الفضل بن عباس‬
‫‪.‬وهو الراجح ‪.‬‬
‫وشذ قوم ‪ :‬فقالوا ‪ :‬ال يقبل مرسل الصحايب إال إذا عرف أنه ال يروي إال عن صحايب‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫•مرسل غري الصحايب ‪ :‬وهو أن يقول الثقة الذي مل ير النيب ‪ :‬قال رسول هللا ‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬يف قوالن ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬أنه مقبول مطلقا ( أبو حنيفة ومالك وأمحد يف املشهور )؛ ألن من عادة الراوي العدل أن ال يرسل‬
‫احلديث إال إذا تيقن من ثبوت هذا احلديث أو غلب على ظنه ذلك‪ ،‬أما إن شك فيه فإنه ال يرسله‪ ،‬بل يذكر‬
‫الشيخ الذي ح ّدثه به؛ لتكون العهدة على ذلك الشيخ ‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬ال حيتج مبرسل غري الصحايب سوى سعيد بن املسيب فإنه حيتج هبا؛ إذ إهنا فتش عنها فوجدت كلها‬
‫مسانيد قد رواها عن الصحابة ( الشافعي ورواية عن أمحد ) ‪.‬‬
‫أما غريه فليست مراسيله حبجة؛ الحتمال أن يكون الساقط جمروحا‪ ,‬وقياسا على أن الراوي إذا ذكر شيخه ومل‬
‫يعدله مل يقبل فكيف إذا مل يذكره‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫اإلجماع‬
‫التعريف‬
‫لغة ‪ :‬يطلق على معنيني ‪:‬‬
‫• االتفاق‪ ,‬يقال ‪ :‬أمجع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه‪.‬‬
‫• العزم املصمم‪ ,‬ومنه قوله تعاىل ‪{ :‬فأمجعوا أمركم‪ }...‬وقوله (من مل جيمع الصيام قبل الفجر فال صيام له)‬
‫اصطالحا ‪ :‬هو اتفاق مجيع جمتهدي العصر من أمة حممد ﷺ بعد وفاته على حكم شرعي‪.‬‬
‫شرح التعريف ‪:‬‬
‫قولنا ‪( :‬اتفاق) جنس يف التعريف واملراد به‪ :‬االحتاد واالشرتاك يف األقوال واألفعال‪ ،‬والسكوت‪ ،‬والتقرير‪.‬‬
‫قولنا ‪( :‬جمتهدي العصر) اجملتهد هو ‪ :‬كل من توفرت فيه شروط االجتهاد‪ ,‬فخرج بذلك العوام‪ ،‬وطالب العلم‬
‫الذين مل يبلغوا درجة االجتهاد‪.‬‬
‫وعربان بذلك؛ ليشمل مجيع اجملتهدين يف عصر واحد‪ ،‬فلو ختلف واحد من اجملتهدين؛ ال يسمى ذلك إمجاعا‪ .‬أما‬
‫من بلغ درجة االجتهاد بعد حدوث احلادثة‪ ،‬واحلكم عليها‪ ،‬فال يعترب من أهل ذلك العصر‪.‬‬
‫قولنا (العصر) ‪ :‬املقصود به هو يف أي عصر من العصور‪ .‬فمن هذا‪ ,‬يؤخذ اآليت ‪:‬‬
‫• دفع التوهم من أن املراد ابجملتهدين من سيوجد إىل يوم القيامة؛ ألن املراد ابلعصر هو الزمان الذي وقعت فيه‬
‫احلادثة‪.‬‬
‫• أن االمجاع ال خيتص بعصر دون عصر‪.‬‬
‫• أنه ال يشرتط فيه انقراض العصر بل مىت حصل‪ ,‬فقد انعقد االمجاع‪.‬‬
‫قولنا ‪( :‬من أمة حممد ﷺ) أخرج اتفاق اجملتهدين من أتباع الشرائع السابقة كاليهود والنصارى وغريهم‪ ،‬فال يعتد‬
‫إبمجاعهم وال خالفهم‪ .‬وهذا خبرب النيب ﷺ ‪( :‬ال جتتمع أميت على ضاللة)‪.‬‬
‫قولنا ‪( :‬بعد وفاته) أخرج اتفاق اجملتهدين يف حياة النيب ﷺ فإن هذا ال يسمى إمجاعا؛ ألنه ال إمجاع إال بعد‬
‫اجتهاد‪ ،‬وال اجتهاد يف حياة النيب ﷺ‪.‬‬
‫قولنا ‪( :‬على حكم شرعي) لبيان أن اإلمجاع الشرعي يشرتط أن يكون متعلقا حبكم شرعي يهم املكلف‪ .‬وخرج‬
‫بذلك اتفاق اجملتهدين على أمر ليس من أمور الدين كاالتفاق على بعض مسائل اللغة‪ ،‬أو احلساب‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬تصور وقوع اإلجماع (هل اإلجماع ممكن ؟)‬
‫اختلف العلماء يف إمكان حصول اإلمجاع على ثالثة أقوال ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬أنه ممكن الوقوع مطلقا يف عهد الصحابة وبعدهم‪ ،‬وهو مذهب اجلمهور‪.‬‬
‫وحجتهم ‪ :‬أنه ليس مبحال يف ذاته وال يرتتب على فرض وقوعه حمال‪ ،‬وهذا حد املمكن‪ ،‬وزادوا على ذلك أنه ال‬
‫يشرتط أن يتكلم اجلميع ابحلكم الشرعي بل يكفي أن يتكلم به بعضهم ويسكت الباقون وهذا غري ممتنع‪ .‬مث زادوا‬
‫على ذلك بضرب أمثلة لإلمجاع كإمجاع الصحابة على مجع القرآن يف مصحف واحد‪ ،‬والوقوع دليل اإلمكان وزايدة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬وقال بعض العلماء أنه غري ممكن؛ ألن بالد اإلسالم واسعة وعلماء الشريعة متباعدون يف األمصار‪،‬‬
‫وهم إىل جانب ذلك خمتلفون يف الطباع والقرائح والفهوم‪ ،‬فالعادة تقضي ابمتناع إمجاعهم كما تقضي ابمتناع اتفاق‬
‫الناس يف ساعة معينة على أكل طعام واحد‪ .‬وهذا تلخيص شبههم يف ثالث شبهات ‪:‬‬
‫األوىل ‪ :‬تعذر عرض مسألة واحدة على الكافة‪.‬‬
‫والثانية ‪ :‬عسر اتفاقهم واحلكم مظنون‪.‬‬
‫والثالثة ‪ :‬تعذر النقل تواترا عنهم‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬وقال بعض العلماء هو ممكن يف عصر الصحابة دون من بعدهم من العصور؛ ألن العلماء بعد‬
‫عصر الصحابة تفرقوا يف األمصار تفرقا شديدا يصعب معه معرفة أقواهلم يف املسألة‪.‬‬
‫القول الراجح ‪ :‬التفصيل على النحو التايل ‪ :‬إن كانت املسألة من ضرورايت الدين ووجدت الدواعي للنظر فيها‬
‫فاإلمجاع عليها ممكن وإال فال‪ ،‬وهو اختيار إمام احلرمني يف الربهان‪.‬‬
‫والذي يظهر أن مراد الفريق األول وهم اجلمهور الرد على من أنكر إمكان اإلمجاع مطلقا فيكفي فيه التسليم إبمكانه‬
‫ولو مع القيود اليت ذكرها إمام احلرمني‪.‬‬
‫ويف العصر احلاضر ال ميتنع أن جيتمع اجملتهدون من علماء املسلمني ويتفقوا على حكم واحد وإن مل يكن يف املسألة‬
‫دليل قاطع‪ ،‬وذلك لتوافر وسائل االتصال‪.‬‬
‫أنواع اإلجماع‬
‫ينقسم اإلمجاع ابعتبارات متعددة أمهها ‪:‬‬
‫أ‪ .‬تقسيم اإلجماع من جهة تصريح المجتهدين بالحكم‬
‫وله من هذه اجلهة ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫‪ .1‬اإلمجاع الصريح ‪ :‬وهو ما صرح فيه أهل اإلمجاع ابحلكم‪ ،‬وهذا اندر الوجود بل لو قيل ابنعدامه لكان‬
‫أوىل‪ ،‬لكن ال خيرج عن اإلمكان وال يقال ابمتناعه‪.‬‬
‫‪ .2‬اإلمجاع السكويت ‪ :‬وهو أن يصرح بعض اجملتهدين ابحلكم ويشتهر قوله ويسكت الباقون عن إنكاره‪.‬‬
‫‪ .3‬اإلمجاع الضمين ‪ :‬وهو املستنتج من اختالف أهل العصر على قولني أو أكثر‪ ،‬فيدل ذلك على اتفاقهم‬
‫على أن ما خرج عن تلك األقوال ابطل‪.‬‬
‫ب‪ .‬تقسيم اإلجماع من حيث قوة داللته‬
‫وله هبذا االعتبار قسمان ‪:‬‬
‫‪ .1‬قطعي‪ ،‬وهو ما حتقق فيه شرطان ومها ‪ :‬التصريح ابحلكم من أهل اإلمجاع‪ ،‬ونقله إلينا بطريق قطعي‪.‬‬
‫‪ .2‬ظين‪ ،‬وهو ما اختل فيه أحد هذين الشرطني‪.‬‬
‫حجية اإلجماع‬
‫مسألة ‪ :‬هل االجماع حجة شرعية يجب العمل بها ؟‬

‫‪20‬‬
‫القول األول ‪ :‬ذهب مجاهري العلماء إىل أن اإلمجاع حجة مطلقا‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك أبدلة منها ‪:‬‬
‫صلِ ِه‬ ‫ول ِمن بـع ِد ما تَـب َّني لَه ا ْهل َدى ويـتَّبِع َغري سبِ ِيل الْم ْؤِمنِ ِِ‬
‫ني نـَُولّه َما تَـ َوَّىل َونُ ْ‬
‫ُ َ‬ ‫الر ُس َ ْ َ ْ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ َْ َ‬ ‫{وَم ْن يُ َشاقِ ِق َّ‬
‫أ‪ .‬قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ص اريا} [النساء‪.]115‬‬ ‫تمِ‬
‫َج َهن ََّم َو َساءَ ْ َ‬
‫وجه االستدالل ‪ :‬أن هللا توعد من خالف سبيل املؤمنني جبهنم‪ ،‬وال يتوعد هبا إال على فعل حمرم‪ ،‬فدل‬
‫ذلك على أن ترك سبيل املؤمنني حمرم واتباعه واجب‪.‬‬
‫ول} [النساء‪.]5٩‬‬ ‫الرس ِ‬ ‫ب‪ .‬قوله تعاىل‪{ :‬فَِإ ْن تَـنَازعتم ِيف َشي ٍء فَـرُّدوه إِ َىل َِّ‬
‫اَّلل َو َّ ُ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫َ ُْ ْ‬
‫وجه االستدالل ‪ :‬أن اآلية تدل بطريق مفهوم املخالفة على أن ما اتفقوا عليه ومل يتنازعوا فيه حق؛ ألهنا‬
‫نصت على رد املتنازع فيه إىل هللا والرسول‪ ،‬ففهم من ذلك أن املتفق عليه حق‪.‬‬
‫ت‪ .‬قوله ﷺ ‪« :‬سألت ريب أن ال جتتمع أميت على ضاللة فأعطانيها» ويف لفظ‪« :‬إن هللا ال جيمع هذه األمة‬
‫على ضاللة أبدا‪ ،‬وإن يد هللا مع اجلماعة فاتبعوا السواد األعظم فإنه من شذ شذ يف النار» (أخرجه‬
‫الرتمذي وأمحد وابن ماجه والطرباين أبلفاظ خمتلفة‪ ،‬وهو مشهور املنت وله شواهد كثرية)‪.‬‬
‫وجه االستدالل ‪ :‬أن هللا عصم األمة إذا اجتمعت من اخلطأ والضاللة‪ ،‬فثبت أن ما اجتمعت عليه األمة‬
‫صواب‪ ،‬واملعترب قوله يف أمور الشرع هم العلماء اجملتهدون دون غريهم فيكون إمجاعهم معصوما من اخلطأ‪،‬‬
‫وهذا شرف عظيم هلذه األمة ليس لغريها من األمم‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬وذهب بعض العلماء إىل أن احلجة يف إمجاع الصحابة وحدهم وهو رواية عن اإلمام أمحد‪ ،‬ومذهب‬
‫الظاهرية‪.‬‬
‫واحتجوا أبن ما حيكى من إمجاعات بعد عهد الصحابة غري صحيح؛ إذ ال ميكن مجع آرائهم يف مسألة واحدة مع‬
‫تفرقهم يف األمصار‪ ،‬ولذا نقل عن اإلمام أمحد أنه قال‪( :‬من ادعى اإلمجاع فقد كذب‪ ،‬لعل الناس قد اختلفوا)‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬وذهب النظام وطوائف من الرافضة إىل أن اإلمجاع ليس حبجة‪.‬‬
‫فأما النظام فحجته عدم تصور وقوعه‪ ،‬ولو تصور مل يتصور نقله إلينا بطريق صحيح متواتر‪ ،‬واآلحاد ال يعترب عنده‪.‬‬
‫وأما الروافض فألن احلجة عندهم يف قول اإلمام املعصوم دون غريه‪ .‬فإن كان يف عصر األئمة املعروفني مل يعترب قول‬
‫غريه‪ ،‬وبعدهم ال حجة يف قول أحد حىت أييت اإلمام املعصوم الذي يزعمون أنه اختفى يف سرداب وأنه اإلمام‬
‫املنتظر‪.‬‬
‫فأما قول منكري احلجية مطلقا فظاهر البطالن؛ ألهنم اعتمدوا على عدم إمكانه‪ .‬وقد بينا أنه ممكن يف القدمي‬
‫واحلديث‪ ،‬واحتجوا بعدم إمكان نقله متواترا‪ ،‬وعند اجلمهور ال يشرتط التواتر لنقله بل يكفي فيه خرب اآلحاد‪.‬‬
‫مث لو اشرتط فهو ممكن كما تواتر نقل اتفاق النصارى على صلب املسيح وهو ابطل فكيف ال ميكن نقل االتفاق‬
‫على احلق‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫حقيقة اإلجماعات المنقولة‬
‫إذا نظران إىل واقع اإلمجاعات املنقولة يف كتب أهل العلم جند أن أكثرها غري صحيح‪ ,‬ملاذا ؟‬
‫‪ .1‬إمنا اعتمد انقله على عدم وجود املخالف يف هذه املسألة‬
‫‪ .2‬أو اكتفى ابملنقول عن األئمة األربعة‪،‬‬
‫‪ .3‬أو اكتفى بنقل واحد مل ينقل عن معاصريه بل عمن مل يعاصرهم‪ ،‬مما يدل على أنه معتمد على الشهرة بني‬
‫أهل العلم‪،‬‬
‫‪ .4‬ورمبا اعتمد يف نقل اإلمجاع على قيام الدليل القاطع الذي ال ميكن أن خيالفه أحد من العلماء‪ .‬وال شك‬
‫أن هذا الطريق يف نقل اإلمجاع ال يورث القطع بل غايته الظن بعدم وجود خمالف‪.‬‬
‫وأما من اعتمد يف نقل اإلمجاع على قيام الدليل القاطع‪ ,‬فإن احلجة حينئذ تكون يف الدليل القاطع‪ ،‬واإلمجاع‬
‫فائدته دفع ما يتوهم من التأويل‪ .‬وال يقال بناء على هذا تكون فائدة اإلمجاع ضعيفة؛ ألننا نقول بل اإلمجاع‬
‫دليل مهم‪ .‬فكثري من آايت القرآن وأحاديث الرسول ﷺ لو جردان النظر إليها عما فهمه منها الصحابة والتابعون‬
‫ملا قطعنا مبقتضاها‪ ،‬وألمكن محلها على احتماالت كثرية‪ ،‬ولكن ملا عرفنا اتفاق الصحابة والتابعني ومن بعدهم على‬
‫تفسريها مل جيز لنا أن نتأوهلا على خالفه‪.‬‬
‫{وإِ ْن‬
‫فهذه األدلة لو خلت عن اإلمجاع لكانت ظنية‪ ،‬لكنها معه صارت قطعية‪ .‬مثال ذلك ‪ :‬أن قوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫س} [النساء‪ .]12‬لو مل يتفق الصحابة‬ ‫الس ُد ُ‬ ‫ت فَلِ ُك ِّل َو ِاح ٍد ِمْنـ ُه َما ُّ‬ ‫ُخ ٌ‬
‫َخ أ َْو أ ْ‬‫ث َك َاللَ اة أَ ِو ْامَرأَةٌ َولَهُ أ ٌ‬
‫ور ُ‬
‫َكا َن َر ُج ٌل يُ َ‬
‫اَّللُ يـُ ْفتِي ُك ْم ِيف الْ َك َاللَِة إِ ِن ْام ُرٌؤ‬
‫ك قُ ِل َّ‬
‫على أن املراد ابألخ واألخت هنا اإلخوة ألم لكانت معارضة آلية‪{ :‬يَ ْستَـ ْفتُونَ َ‬
‫ان ِممَّا‬
‫ني فَـلَهما الثـُّلُثَ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َما تَـَرَك َو ُه َو يَِرثـُ َها إ ْن َملْ يَ ُك ْن َهلَا َولَ ٌد فَإ ْن َكانَـتَا اثْـنَـتَ ْ ُ َ‬ ‫ص ُ‬
‫ِ‬
‫ت فَـلَ َها ن ْ‬‫ُخ ٌ‬ ‫س لَهُ َولَ ٌد َولَهُ أ ْ‬
‫ك لَْي َ‬ ‫َهلَ َ‬
‫ني} [النساء‪.]176‬‬ ‫ظ ْاألُنْـثَـيَ ْ ِ‬ ‫تَـرَك وإِ ْن َكانُوا إِ ْخواة ِر َج ااال ونِساء فَلِ َّ‬
‫لذ َك ِر ِمثْ ُل َح ِّ‬ ‫َ َا‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫وهذه فائدة عظيمة‪.‬‬
‫ومن فوائده ‪ :‬قطع النزاع يف املسائل املستجدة‪ ،‬فإذا اتفق علماء العصر على حكمها مل يكن ألحد خالفهم‪ ،‬ولكن‬
‫ينبغي أن ال ترتك األدلة الصحيحة لدعوى اإلمجاع‪ ،‬وأن ال تقبل دعوى اإلمجاع إال ممن له إحاطة أبقوال العلماء‬
‫واطالع على صحيحها وضعيفها‪ ،‬ومشهورها وشاذها‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬حجية اإلجماع السكوتي‬
‫اختلف العلماء يف اإلمجاع السكويت الذي عرف بتصريح بعض العلماء وسكوت الباقني‪ ،‬هل يعد حجة؟‬
‫القول األول ‪ :‬ذهب اجلمهور إىل حجيته‪ ،‬واستدلوا مبا يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬أن سكوت العامل عن فتوى غريه يدل على موافقته إايه؛ إذ لو كان يعتقد بطالن تلك الفتوى ملا سكت‬
‫عن اإلنكار؛ ألن السكوت عن إنكار الباطل حمرم ال يقدم عليه العلماء اجملتهدون‪.‬‬
‫‪ .2‬ما ثبت عن النيب ﷺ من قوله‪« :‬ال تزال طائفة من أميت على احلق ظاهرين ال يضرهم من خذهلم»‪.‬‬
‫فاحلديث يدل على أنه ال ميكن أن ختلو األمة من قائم هلل ابحلجة وتكون بني خمطئ للحق وساكت عن‬

‫‪22‬‬
‫اإلنكار؛ إذ لو كانوا كذلك مل يتحقق ما يف احلديث من الوعد ببقاء طائفة من األمة ظاهرة على احلق؛‬
‫ألن ظهورها يقتضي إظهار ما هي عليه من احلق‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬ذهب اإلمام الشافعي إىل أنه ال ميكن أن ينعقد إمجاع مع سكوت بعض العلماء‪ ،‬بل ال بد من‬
‫تصريح الكل‪ .‬واستدل على ذلك أبنه ال ينسب إىل ساكت قول‪ ،‬وأبن العامل قد يسكت مع عدم موافقته ألسباب‬
‫كثرية منها ‪:‬‬
‫أ‪ .‬أن يغلب على ظنه أن غريه قد كفاه مؤنة اإلنكار على الفتوى‪.‬‬
‫ب‪ .‬أن يسكت خوفا من سلطان أو حنوه‪.‬‬
‫ت‪ .‬أن يسكت لكونه مل ينظر يف املسألة بعد‪ ،‬أو لتعارض األدلة عنده‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬ذهب بعضهم إىل أنه يعد حجة ولكن ليس إبمجاع‪ .‬وهذا القول راجع إىل القول ابحلجية؛ إذ إن‬
‫مراد هذا القائل وهللا أعلم أن اإلمجاع السكويت حجة ظنية خبالف اإلمجاع الصريح فهو حجة قطعية‪ ،‬ولذلك ال‬
‫ينبغي أن يعد هذا قوال جديدا يف املسألة‪.‬‬
‫القول الرابع ‪ :‬ذهب بعضهم إىل أنه إن كان الذي تكلم يف حكم املسألة حاكما فال يكون سكوت الباقني دليال‬
‫على اتفاقهم‪ ،‬وإال كان دليال‪ ،‬وهو رأي ابن أيب هريرة من الشافعية‪ ،‬واستدل أبن العادة جارية بعدم االعرتاض على‬
‫حكم احلاكم وإن كان غريه من العلماء ال يوافقونه‪ ،‬وأنه من عادة العلماء حضور جمالس احلكم وعدم االعرتاض‬
‫على حكم القاضي وإن كان على خالف مذهب احلاضرين‪ ،‬وهذه العادة مل تعهد يف الفتاوى واآلراء الصادرة من‬
‫غري القضاة فوجب التفريق بينها على النحو السابق‪.‬‬
‫الراجح ‪ :‬أن اإلمجاع السكويت حجة‪ ،‬ولكنه حجة ظنية ليست يف درجة اإلمجاع الصريح‪.‬‬
‫وما استدل به اإلمام الشافعي من أنه «ال ينسب إىل ساكت قول» جياب عنه أبن السكوت يف معرض احلاجة إىل‬
‫البيان بيان‪ ،‬والعامل يلزمه أن ينكر املنكر‪ ،‬فإذا سكت عن اإلنكار دل سكوته على موافقته على الفتوى‪.‬‬
‫وما ذكر من االحتماالت اليت ميكن أن حيمل عليها سكوته كلها احتماالت ضعيفة؛ إذ لو حتقق بعضها لقامت‬
‫عليه قرائن تدل عليه‪ ،‬وملا سكت عن اإلنكار إىل وفاته‪ ،‬مث إن عادة العلماء اجلهر ابحلق وعدم اخلوف من سلطان‬
‫أو غريه‪ ،‬وإذا سكت العامل عن اإلنكار عالنية فلن يسكت عن بيان احلق لطالبه وخاصته وانقلي فقهه‪ ،‬وأما سكوته‬
‫لعدم نظره يف املسألة فال ينايف اإلمجاع؛ ألنه حينئذ ال قول له يف املسألة‪.‬‬
‫وينبغي أن نعلم أننا لو اشرتطنا تصريح كل عامل ابملوافقة على احلكم ملا أمكن أن جند مسألة نقل إلينا فيها قول‬
‫مجيع اجملتهدين‪ ،‬وكل ما نقله العلماء الذين ينقلون اإلمجاع هو من قبيل اإلمجاع السكويت‪ ،‬فليتأمل‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬حجية اإلجماع الضمني‬
‫فقد اختلفوا فيه على ثالثة أقوال ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬أنه حجة‪ ،‬وهو مذهب أكثر األصوليني‪ ،‬واستدلوا على ذلك أبن إحداث قول اثلث ال خيلو من‬
‫أمرين ‪:‬‬

‫‪23‬‬
‫أحدمها أن يكون هذا القول احملدث خطأ وحينئذ ال يعتد به‪.‬‬
‫والثاين أن يكون هذا القول صوااب فيكون القوالن أو األقوال اليت ذهب إليها أهل العصر السابق كلها خطأ فتخلو‬
‫األمة يف عصرهم عن قائم هلل ابحلجة‪ ،‬وهذا مستحيل دل على استحالته أدلة حجية اإلمجاع‪.‬‬
‫فتبني أن كال االحتمالني ابطل فيكون إحداث قول جديد ابطال‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أنه ليس حبجة وال إمجاع‪ ،‬واستدلوا على ذلك أبن ‪:‬‬
‫‪ .1‬اإلمجاع ال ميكن أن يؤخذ من اخلالف‪ ،‬وأصحاب العصر السابق قد اختلفوا فكيف يستدل ابختالفهم‬
‫على اإلمجاع‪.‬‬
‫‪ .2‬وأيضا فإن أصحاب القرن السابق قد اختلفوا يف املسألة‪ ،‬فيستدل ابختالفهم على أن املسألة خالفية‪ ،‬وأن‬
‫اخلالف فيها سائغ‪ ،‬وإذا ساغ اخلالف فيها فال مانع من إحداث قول جديد‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬التفصيل ‪:‬‬
‫احلالة األوىل ‪ :‬فإن كانت أقوال املختلفني بينها قدر مشرتك والقول احملدث يرفع ما اتفقت عليه فهو ابطل‪،‬‬
‫احلالة الثانية ‪ :‬وإن مل يرفع ما اتفقت عليه األقوال فهو اجتهاد سائغ‪.‬‬
‫ومثلوا للقول الذي يرفع ما اتفقت عليه األقوال السابقة أبن الصحابة اختلفوا يف مرياث اجلد واإلخوة فقال بعضهم‪:‬‬
‫يشّرك بينهم‪ ،‬وقال اآلخرون املرياث للجد‪ ،‬واإلخوة حمجوبون‪ ،‬والقدر املشرتك بني القولني أن اجلد ال ميكن أن حيرم‬
‫َ‬
‫من اإلرث حينئذ‪ ،‬فلو قال املتأخر‪ :‬املرياث لإلخوة واجلد حيجب هبم لكان قوله ابطال خمالفا لإلمجاع‪.‬‬
‫ومثلوا للقول احملدث الذي ال يرفع ما اتفق عليه القوالن السابقان مبا إذا اختلف املتقدمون يف العيوب هل يفسخ‬
‫هبا النكاح‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬ال يفسخ النكاح ابلعيوب‪ ،‬وقال بعضهم يفسخ هبا‪ ،‬فلو ذهب ذاهب بعد عصرهم إىل‬
‫أن بعض العيوب يفسخ هبا دون بعض ملا كان قوله خمالفا لإلمجاع‪.‬‬
‫والذي يظهر أن قول القائلني إن اختالفهم على قولني إمجاع على املنع من إحداث قول اثلث ليس أبوىل من قول‬
‫اآلخرين ‪ :‬اختالفهم على قولني تسويغ للخالف يف املسألة وإقرار لكوهنا اجتهادية ال قطعية‪ ،‬وهلذا فال يعد اختالفهم‬
‫على قولني إمجاعا على املنع من إحداث قول جديد‪ ،‬واملسائل اليت اختلف فيها السابقون على قولني وفصل فيها‬
‫املتأخرون أكثر من أن حتصى‪ .‬والعصمة إمنا ثبتت لألمة بشرط االتفاق‪ ،‬أما مع االختالف فلم تثبت هلم العصمة‪،‬‬
‫بل رمبا أخطأ كل منهم يف بعض ما قال وأصاب يف بعضه اآلخر فال ميتنع أن يكون القول ابلتفصيل هو الصواب‪.‬‬
‫أهل اإلجماع (الذين ينعقد بهم اإلجماع)‬
‫يعتد يف اإلمجاع ابلعلماء اجملتهدين بغض النظر عن سنهم وطبقتهم وبالدهم‪ ،‬فال ينعقد اإلمجاع إال ابتفاق علماء‬
‫العصر اجملتهدين وقت النظر يف النازلة‪.‬‬
‫والدليل على ذلك ‪ :‬أن اآلية اليت هي مستند اإلمجاع تدل على أن اللوم حيصل برتك سبيل املؤمنني‪ ،‬وإذا اختلف‬
‫املؤمنون مل يصح أن يسمى ما قاله األكثر سبيل املؤمنني‪ ،‬بل سبيل بعض املؤمنني‪ .‬ولو أخذ بظاهر اآلية العتد‬

‫‪24‬‬
‫اسأَلُوا أ َْه َل ال ِّذ ْك ِر إِ ْن ُكْنـتُ ْم َال تَـ ْعلَ ُمو َن}‬
‫ابلعوام‪ ،‬ولكن ملا كان العوام مأمورين ابتباع العلماء لقوله تعاىل‪{ :‬فَ ْ‬
‫[النحل‪ .]43‬أصبح املعتد بقوهلم العلماء اجملتهدين‪.‬‬
‫وينبين على ما تقدم أن التابعي إذا بلغ درجة االجتهاد يف حياة الصحابة‪ ،‬يعتد بقوله يف املسائل اليت مل يقم عليها‬
‫إمجاع قبل بلوغه درجة االجتهاد‪ ،‬فلو خالف التابعي املعاصرين له من الصحابة مل يعد خمالفا لإلمجاع إذ ال إمجاع‬
‫حينئذ‪.‬‬
‫حصل بعض العلوم اليت ال بد منها لبلوغ درجة االجتهاد دون بعضها ال يعتد بقوله‪،‬‬
‫وينبين على ذلك أيضا أن من َّ‬
‫فاحملدث الذي ال يعرف أصول الفقه وقواعده‪ ،‬والفقيه احلافظ للفروع الذي ال يعرف أحاديث األحكام‪ ،‬واألصويل‬
‫الذي ال يعرف أدلة األحكام ال يعتد بقوهلم يف اإلمجاع‪ ،‬لكن األصويل القادر على االستنباط إذا عرف أدلة املسألة‬
‫وأحاط أبكثرها اعتد بقوله فيها‪ ،‬واحملدث إذا عرف اللغة وأصول الفقه اعتد بقوله‪ ،‬والفقيه إذا عرف أصول الفقه‬
‫واللغة وأدلة املسألة موضع البحث اعتد بقوله فيها‪ .‬وهذا مبين على أن االجتهاد يتجزأ فيكون العامل جمتهدا يف بعض‬
‫أبواب الفقه ومسائله دون غريها‪ .‬كما سيأيت يف ابب االجتهاد‪.‬‬
‫وهذا جيعلنا جنهل أهل االجتهاد يف كل مسألة‪ ،‬فال جنزم حبصول اإلمجاع فيها‪ ،‬مع وجود خمالف وإن مل نره من أهل‬
‫االجتهاد‪ ،‬فاإلمجاع مع وجود خمالف ال ميكن االحتجاج به على الغري؛ ألن اخلصم رمبا عد املخالف من أهل‬
‫االجتهاد فال يتحقق اإلمجاع عنده‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬هل يشترط انقراض العصر في صحة اإلجماع ؟‬
‫املراد ابنقراض العصر ‪ :‬موت العلماء اجملمعني على حكم الواقعة قبل رجوعهم عن رأيهم‪ .‬وليس املراد موت مجيع‬
‫علماء العصر‪ ،‬بل موت الذين أفتوا يف املسألة‪.‬‬
‫واختلف العلماء يف اشرتاطه على أقوال ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬أنه ال يشرتط لصحة اإلمجاع مطلقا (اجلمهور منهم األربعة إال امحد يف رواية ) ‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أنه يشرتط لصحة انعقاد اإلمجاع مطلقا (ظاهر رواية لإلمام أمحد‪ ،‬والرازي وبعض احلنابلة )‬
‫هذا األمر اشرتطه بعض العل ماء واحتجوا عليه أبن العامل ال ميكن منعه من الرجوع عن رأي رآه مث تبني له خطؤه‪،‬‬
‫وأبن علي بن أيب طالب رضي هللا عنه قال‪« :‬اجتمع رأيي ورأي عمر يف أمهات األوالد أن ال يبعن‪ ،‬وأان اآلن أرى‬
‫بيعهن» (أخرجه عبد الرزاق وابن أيب شيبة والبيهقي بسند صحيح) فرجع عن رأي اتفق عليه‪.‬‬
‫والصحيح أن انقراض العصر ليس شرطا (القول األول)؛ ألن األمة إذا اتفقت على حكم فهي معصومة من اخلطأ؛‬
‫حلديث‪« :‬ال جتتمع أميت على ضاللة» وما جاء يف معناه من األحاديث‪ ،‬فإذا حصل اإلمجاع وجب أن يكون على‬
‫صواب وإذا كان صوااب فما عداه خطأ؛ ألن الصواب ال يتعدد‪.‬‬
‫اجلواب مبا استدل به القول الثاين ‪:‬‬
‫جواز رجوع العامل إمنا هو يف املسائل اليت مل حيصل فيها إمجاع‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وما روي عن علي رضي هللا عنه ال دليل فيه؛ ألنه حكى اتفاقه مع عمر وحده ومل حيك اتفاق املسلمني مجيعا‪،‬‬
‫ومع هذا فقد أنكر عليه جابر بن زيد‪ ،‬وقال‪ :‬رأيك يف اجلماعة أحب إلينا من رأيك وحدك‪ ،‬أو قال‪ :‬من رأيك يف‬
‫الفرقة‪.‬‬
‫التنبيه ‪:‬‬
‫ومما يؤيد القول بعدم اشرتاط انقراض العصر(القول األول) أنه لو اشرتط هذا الشرط ملا حتقق إمجاع أبدا؛ ألنه قبل‬
‫أن ينقرض أهل العصر يبلغ درجة االجتهاد علماء آخرون من الطبقة اليت تليهم ومن حقهم أن يفتوا يف تلك املسألة‬
‫خبالف ما اتفق عليه من سبقهم إذ مل ينعقد اإلمجاع بعد‪ ،‬فإن أفتوا مبوافقتهم من قبلهم أصبحوا من أهل اإلمجاع‬
‫فال ينعقد حىت ميوتوا مث أييت يف عصرهم علماء من الطبقة الثالثة فيجوز هلم أن خيالفوا يف تلك املسألة أو يوافقوا‪،‬‬
‫وهكذا فال يتحقق اإلمجاع أبدا‪.‬‬
‫واملشرتطون لالنقراض(القول الثاين) يقولون إنه ممكن؛ ألن العربة مبوت اجملمعني من الطبقة األوىل قبل وجود املخالف‬
‫من الطبقة الثانية أو الثالثة‪ ،‬وال يشرتط موت من حلق هبم من الطبقة الثانية أو الثالثة‪ .‬وهذا ال دليل عليه إذ كيف‬
‫جيعل موت فالن من الناس دليال على التحرمي أو اإلابحة أو غريمها من األحكام؟‪.‬‬
‫اإلجماعات الخاصة‬
‫يذكر األصوليون خالفا يف االحتجاج إبمجاع طائفة معينة من العلماء كإمجاع أهل البيت الذي حيتج به الرافضة‪،‬‬
‫وإمجاع اخللفاء األربعة‪ ،‬وإمجاع أيب بكر وعمر‪ ،‬وإمجاع أهل املدينة‪ ،‬وإمجاع أهل البصرة‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫والراجح عند اجلمهور أن هذه اإلمجاعات ال حجة فيها؛ ألن األدلة الدالة على حجية اإلمجاع إمنا دلت على حجية‬
‫إمجاع األمة إذا اتفقت‪ ،‬وأتولوا األحاديث الواردة يف األمر ابتباع اخللفاء الراشدين واتباع أيب بكر وعمر على أهنا‬
‫تدل على لزوم طريقتهم يف سياسة الدولة وتصريف شؤوهنا‪ ،‬أو لزوم طريقتهم يف االستدالل ابلكتاب والسنة وما دال‬
‫عليه‪.‬‬
‫وأشهر ما وقع فيه اخلالف من تلك اإلمجاعات إمجاع أهل املدينة أو عمل أهل املدينة‪ ،‬وكالم أكثر األصوليني عنه‬
‫جممل حيتاج إىل تفصيل وبيان‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫عمل أهل المدينة‬
‫عمل أهل املدينة ليس املقصود به عملهم يف مجيع األعصار‪ ،‬بل يف عصر الصحابة والتابعني واتبعي التابعني‬
‫فحسب‪ ،‬وقد جعله القاضي عبد الوهاب بن نصر املالكي على ضربني ‪ :‬نقلي واستداليل‪.‬‬
‫‪ .1‬النقلي كنقلهم الصاع واملد واألذان واألوقات وترك أخذ الزكاة من اخلضروات‪ ،‬وهذا حجة عند مجهور‬
‫العلماء‪ ،‬وقال أبو العباس القرطيب إنه ال ينبغي اخلالف فيه‬
‫‪ .2‬وأما االستداليل فهو ما ذهبوا إليه بطريق االجتهاد‪،‬‬
‫وهذا هو حمل اخلالف بني املالكية وغريهم‪ ،‬بل قال القاضي عبد الوهاب إن املالكية خمتلفون فيه على ثالثة أوجه‬
‫هي ‪:‬‬

‫‪26‬‬
‫‪ .1‬أنه ليس حبجة وال مرجح‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه مرجح عند التعارض وال يستدل به منفردا‪.‬‬
‫‪ .3‬أنه حجة‪.‬‬
‫والذين رأوا حجيته من املالكية ونسبوه إلمامهم‪ ،‬أخذوه مما عرف عن اإلمام مالك أنه كان يروي اخلرب مث يرتك‬
‫العمل به ويقول‪« :‬وليس على هذا العمل عندان» يعين يف املدينة كما فعل يف خيار اجمللس‪.‬‬
‫وأظهر ما يستدل به للقول حبجية إمجاع أهل املدينة ‪ :‬أن املدينة قد ضمت صحابة رسول هللا ﷺ وأبناءهم وأبناء‬
‫أبنائهم‪ ،‬وأن ما اتفقوا عليه ال بد أن يكون ظاهرا معلوما يف عهد رسول هللا ﷺ فيكون حجة‪ .‬وكذلك ما تركوه مع‬
‫قيام الداعي إليه ال يرتكونه إال حبجة عن رسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫وأما االستدالل ابألحاديث الواردة يف فضل املدينة وفضل األنصار ودعاء الرسول ﷺ ألهلها فال داللة فيها على‬
‫حجية إمجاعهم أو عملهم‪.‬‬
‫واستدل اجلمهور على عدم احلجية أبن أدلة اإلمجاع ما خصت أهل املدينة بل عمت األمة‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬انعقاد اإلجماع بعد الخالف‬
‫الحالة األولى ‪ :‬إذا اختلف أهل العصر الواحد يف مسألة على قولني فأكثر‪ ،‬مث رجع بعضهم عن قوله واتفقوا‪،‬‬
‫هل يعد هذا إمجاعا ؟‬
‫الصحيح عند األكثر أنه إمجاع‪ ،‬وقال ابن الباقالين والقاضي عبد الوهاب املالكي ال يكون إمجاعا؛ ألن اختالفهم‬
‫أوال إمجاع على تسويغ اخلالف‪ ،‬فال ينقضه رجوع بعضهم عن رأيه‪.‬‬
‫وقال اجلويين ‪ :‬إن قرب العهد كان اتفاقهم بعد االختالف إمجاعا‪ ،‬وأما إن متادى الزمان واستقر اخلالف فليس‬
‫اتفاقهم بعد ذلك إمجاعا‪.‬‬
‫والصحيح ‪ :‬أنه يعد إمجاعا؛ ألنه قول كل اجملتهدين يف هذا العصر‪ ،‬والقول الذي رجع عنه صاحبه ال عربة به‪.‬‬
‫الحالة الثانية ‪ :‬إذا اختلف أهل العصر السابق على قولني مث اتفق الذين بعدهم على قول من القولني كما لو‬
‫اختلف الصحابة على قولني مث اتفق التابعون على أحدمها‪ ،‬فاختلف العلماء يف ذلك هل يعد إمجاعا ؟‬
‫فذهب بعضهم إىل أنه إمجاع؛ ألنه قول كل أهل العصر الثاين‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل أنه ليس إمجاعا؛ ألن املذاهب ال متوت مبوت أصحاهبا فيبقى جواز تقليدهم فيها بعد موهتم‪.‬‬
‫والصحيح ‪ :‬أن هذا ال يعد إمجاعا؛ ألن متبع القول الذي مات قائله ال يصدق عليه أنه اتبع غري سبيل املؤمنني‪،‬‬
‫واملعتمد يف االستدالل هو اآلية املذكورة سابقا‪ ،‬وألن األمة مل جتتمع على حكم واحد يف تلك املسألة بل اختلفوا‬
‫فال يصدق على هذه الصورة حديث‪( :‬ال جتتمع أميت على ضاللة)‬
‫مسألة ‪ :‬مخالفة الواحد واالثنين هل تنقض اإلجماع ؟‬
‫القول األول ‪ :‬اجلمهور على أن اإلمجاع ال يتحقق إال ابتفاق كل اجملتهدين من أهل العصر‪ ،‬وأن خمالفة واحد أو‬
‫أكثر خترم اإلمجاع؛ ألن األدلة الدالة على احلجية وعصمة األمة تدل على ذلك‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬قال ابن جرير الطربي ‪ :‬إن خمالفة الواحد واالثنني ال خترم اإلمجاع؛ حلديث ‪( :‬عليكم ابلسواد‬
‫األعظم)‪.‬‬
‫وما ذهب إليه اجلمهور هو الصحيح‪ ،‬ولكن ذلك ال مينع أن يكون قول األكثر من املرجحات عند تعادل األدلة‬
‫يف نظر اجملتهد‪ ،‬كما أنه من املرجحات عند العامي ومن يلحق به من صغار طالب العلم‪ ،‬وهلذا فال يستنكر على‬
‫العامل هتيبه من خمالفة مذهب مجاهري العلماء إال إذا وجد نصا صرحيا واضحا على خالف قوهلم‪ ،‬ومن النادر جدا‬
‫أن يوجد دليل صحيح صريح خيالفه مجهور العلماء‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬حكم المخالف لإلجماع‬
‫يكثر يف كالم العلماء تكفري خمالف اإلمجاع أو تفسيقه‪ ،‬ولكن ذلك إمنا حيمل على اإلمجاع الصريح املنقول بطريق‬
‫التواتر والقطع‪ ،‬وقد قلنا فيما مضى إن هذا النوع من اإلمجاع غري موجود إال على مسائل دلت عليها نصوص‬
‫قطعية‪ ،‬وحينئذ يكون تكفري املخالف أو تفسيقه ملخالفة تلك النصوص ال ملخالفة اإلمجاع وحده‪.‬‬
‫وأما ما عدا ذلك من اإلمجاعات فهي ال تعدو أن تكون أدلة ظنية ال ميكن دعوى تكفري املخالف هلا أو تفسيقه‪،‬‬
‫وخباصة حني يكون معه دليل من عموم كتاب أو سنة‪.‬‬
‫والتكفري والتفسيق من األمور اليت جيب أن ال يتعجل فيها املفيت؛ إذ ال يستحقها إال من أنكر ما علم من الدين‬
‫ابلضرورة‪ ،‬وقامت عليه احلجة‪ ،‬وانقطع عذره‪ ،‬كما هو معلوم يف موضعه‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫االستصحاب‬
‫التعريف‬
‫االستصحاب هو ‪ :‬احلكم بثبوت أمر يف الزمن الثاين بناء على ثبوته يف الزمن األول ؛ لفقدان ما يصلح للتغيري‪.‬‬
‫أو تقول ‪ :‬هو بقاء ما كان على ما كان نفيا وإثبااتا حىت يثبت بدليل يغري احلالة‪.‬‬
‫أنواع االستصحاب‬
‫• استصحاب العدم األصلي أو استصحاب دليل العقل أو استصحاب الرباءة األصلية كرباءة الذمة من‬
‫التكاليف حىت يقوم الدليل على التكليف أبمر من األمور‪ ,‬فإذا مل يقم دليل بقي ما كان على ما كان‪.‬‬
‫مثاله ‪ :‬نفي وجوب الصالة السادسة؛ ألن الشرع أوجب على املكلفني مخس صلوات فقط‪ ,‬وقد طلب الدليل‬
‫فلم يوجد‪ ،‬فعدم وجود الدليل على الوجوب دليل على عدم الوجوب‪.‬‬
‫• استصحاب احلكم الذي دل الدليل على ثبوته واستمراره لوجود سببه حىت يثبت خالفه‪.‬‬
‫مثاله ‪ :‬الطهارة بسبب الوضوء‪ ،‬فإن هذه الطهارة تستمر ويستصحب حىت يوجد ما يزيلها مثل احلدث‪.‬‬
‫• استصحاب دليل الشرع‪ ,‬فهو نوعان ‪:‬‬
‫‪ .1‬استصحاب العمل ابلنص حىت يرد الناسخ‪.‬‬
‫‪ .2‬واستصحاب العموم حىت يرد التخصيص‪.‬‬
‫• استصحاب احلكم الثابت ابإلمجاع يف حمل اخلالف‪ .‬وذلك إذا وقع خالف فيما مت اإلمجاع عليه ‪.‬‬
‫مثاله ‪ :‬أن يقال يف املتيمم(الذي تيمم لعدم املاء مث رآه بعد دخوله يف الصالة) أمجع العلماء على صحة ابتداء‬
‫الصالة وذلك قبل رؤية املاء‪ .‬فيستصحب هذا اإلمجاع وينقل إىل موضع اخلالف وهو رؤية املاء يف أثناء‬
‫الصالة‪ .‬فيحكم بصحة صالته يف ابتدائها إمجاعا‪ ,‬ويف استمرارها وبقائها استصحااب هلذا اإلمجاع‪.‬‬
‫التنبيه ‪:‬‬
‫‪ .1‬يفهم من كالم ابن قدامة يف (الروضة) أن األنواع الثالثة األوىل قد اتفق على أهنا حجة‪ ,‬وأما النوع الرابع‬
‫فإنه خمتلف فيه‪ .‬والصحيح ‪ :‬أن مجيع أنواع االستصحاب قد اختلف فيها إال النوع الثالث‪ .‬وهذا النوع‬
‫من االستصحاب مع كونه اتفق على صحة العمل به إال أنه وقع اخلالف يف تسميته استصحااب‪.‬‬
‫‪ .2‬قد يرد سؤال (ملاذا جعل ابن قدامة االستصحاب من األدلة املتفق عليها ؟ مع أن مجهور األصوليني قالوا‬
‫أبن األدلة املتفق عليها أربعة وهي الكتاب والسنة واإلمجاع والقياس)‬
‫اجلواب ‪ :‬إن ابن قدامة رأى أنه ال خالف بني العلماء يف صحة العمل ابالستصحاب‪ .‬وأيضا فإنه ذهب‬
‫إىل أن القياس ليس دليال مستقال‪ ,‬فإمنا القياس من فعل اجملتهد يف فهم األدلة‪ .‬خالفا فيما يراه مجهور‬
‫األصوليني‪ ,‬ورأي اجلمهور هو الصحيح‪ .‬وأما االستصحاب‪ ,‬فقد ثبت أنه دليل خمتلف فيه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫شرع من قبلنا‬
‫المراد بشرع من قبلنا هو ‪ :‬ما نقل إلينا بطريق صحيح من الشرائع السماوية السابقة‪.‬‬
‫والطريق الصحيح ملعرفة شرع من قبلنا هو نقل القرآن والسنة النبوية الثابتة‪ ,‬وال عربة مبا يف الكتب اليت يف أيدي‬
‫اليهود والنصارى اليوم‪ ,‬ألهنا قد طرأ عليها التحريف والتبديل‪.‬‬
‫وما حكي يف القرآن والسنة من الشرائع السابقة‪ ,‬ميكن تقسيمه إىل األقسام التالية ‪:‬‬
‫❖ ما قام الدليل عندان على أنه كان خاصا هبم‪ ،‬وأن اإلسالم قد نسخه‪ ،‬فهذا ال خالف بني العلماء يف أننا غري‬
‫مكلفني به‪ ،‬مثل قوله تعاىل ‪( :‬وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ‪)...‬‬
‫❖ أحكام كانت اثبتة يف الشرائع السابقة‪ ،‬وجاء اإلسالم فقررها‪ ،‬سواء أكانت يف الكتاب أم يف السنة‪ ،‬وهذا‬
‫النوع ال خالف يف أننا مكلفون هبا ابلنصوص اليت يف شريعتنا‪ ،‬ال نقال عن الشرائع السابقة‪ ،‬مثل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(اي أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)‬
‫❖ ما ورد يف شريعتنا عن األمم السابقة ومل يقرتن به ما يدل على أنه كان خاصا هبم‪ ،‬كما مل يقرتن به ما يدل‬
‫على أننا مكلفون به‪ ،‬فهذا هو حمل اخلالف‪.‬‬
‫فاختلفوا فيها على قولني ‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬أنه شرع لنا‪( .‬احلنفية واملالكية ورواية عن أمحد والشافعي وهو الراجح )‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أنه ليس بشرع لنا‪ ( .‬أمحد والشافعي يف رواية )‪.‬‬
‫أدلة القول األول (الراجح) ‪:‬‬
‫• قوله تعاىل ‪( :‬أولئك الذين هدى هللا فبهداهم اقتده)‪ ،‬حيث إن هللا تعاىل قد أمر نبيه إبتباع مجيع األنبياء‬
‫السابقني ‪ ،‬فيكون متعبدا بشرع من قبله‪.‬‬
‫• قوله تعاىل ‪( :‬شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا)‪ ،‬حيث إن هذا يدل على أن شرع نبينا حممد مثل شرع‬
‫غريه من األنبياء كنوح ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬وموسى ‪ ،‬وعيسى ‪ ،‬وال فرق بينهم يف اخذ األحكام من مجيع الشرائع‬
‫السابقة‪.‬‬
‫• قوله تعاىل ‪( :‬ومن مل حيكم مبا أنزل هللا فأولئك هم الكافرون)‪ ،‬حيث إن هللا تعاىل قد بني أن من مل حيكم مبا‬
‫أنزل فقد خرج عن امللة ‪ ،‬واألحكام اليت عمل هبا النبيون السابقون هي مما أنزل هللا ‪ ،‬فيجب العمل هبا ‪.‬‬
‫أدلة القول الثاين ‪:‬‬
‫• قوله تعاىل ‪( :‬لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) فدل على أن كل نيب اختص بشريعة مل يشاركه فيها غريه‪.‬‬
‫وأجيب عنه ‪ :‬أبنه ال يدل على عدم املشاركة؛ فاملشاركة ال متنع من نسبتها إىل املبعوث هبا‪.‬‬
‫• قوله (بعثت إىل األمحر واألسود‪ ،‬وكل نيب بعث إىل قومه)‬
‫• أن النيب رأى يوما بيد "عمر" قطعة من التوراة فغضب وقال ‪( :‬ما هذا أمل آت هبا بيضاء نقية ؟ لو أدركين‬
‫موسى حيا ما وسعه إال اتباعي)‬

‫‪30‬‬
‫وأجيب عنه ‪ :‬أبنه غضب ألهنا كانت حمرفة ومل تثبت بطريق موثوق‪ ,‬واما ما يثبت عندان بطريق موثوق ومل‬
‫ينسخ فنعمل به‪.‬‬
‫• أن النيب ملا بعث معاذا إىل اليمن قال ‪( :‬مب حتكم ؟) فذكر الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واالجتهاد ومل يذكر شرع من‬
‫قبلنا‪ ،‬وصوبه النيب ولو كانت من مدارك األحكام مل جيز العدول إىل االجتهاد‪ ،‬إال بعد العجز عنها‪.‬‬
‫واجيب عنه ‪ :‬أبننا ال نعترب من شرائعهم إال ما ثبت بطريق موثوق كأن يوجد يف القرآن أو السنة ومها مرجع‬
‫معاذ فال حجة هلم فيه‪.‬‬
‫• لو كان النيب متعبدا هبا للزمه مراجعتها والبحث عنها‪ ،‬ولكان ال ينتظر الوحي‪ ،‬وال يتوقف يف الظهار واملواريث‬
‫وحنوها ‪.‬‬
‫• إطباق األمة على أن هذه الشريعة ‪ :‬شريعة رسول هللا جبملتها‪ ،‬ولو تعبد بشرع غريه‪ ،‬كان خمربا ال شارعا ‪.‬‬
‫واخلالف يف هذه املسألة مبين على مسألة أخرى‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫مسألة ‪ :‬هل الرسول كان متعبدا قبل البعثة بشرع أحد من األنبياء السابقين أو ال؟‬
‫فيه أربعة مذاهب ‪:‬‬
‫املذهب األول ‪ :‬أنه كان متعبدا بشرع من قبله من األنبياء واملرسلني ( مجهور احلنفية واملالكية والشافعية‪ ،‬ورواية‬
‫أمحد )‪.‬‬
‫املذهب الثاين ‪ :‬أنه مل يكن متعبدا بشرع أحد ممن قبله ( األشاعرة‪ ،‬واملعتزلة‪ ،‬ورواية عن أمحد‪ ،‬واختاره اآلمدي )‪.‬‬
‫املذهب الثالث ‪ :‬أنه جائز عقالا‪ ،‬ولكنه ممتنع شرعا‪ ( ،‬اختيار اإلمام فخر الدين الرازي واتباعه )‪.‬‬
‫املذهب الرابع ‪ :‬التوقف وعدم اجلزم برأي معني‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫قول الصحابي‬
‫املراد بقول الصحايب ‪ :‬ما نقل إلينا عن أحد أصحاب رسول هللا ﷺ من فتوى‪ ،‬أو قضاء‪ ،‬أو عمل‪ ،‬أو رأي‪ ،‬أو‬
‫مذهب يف حادثة مل يرد حكمها يف نص‪ ،‬ومل حيصل عليها إمجاع‪.‬‬
‫ينقسم قول الصحابي إلى أربعة أقسام ‪:‬‬
‫‪ .1‬قول الصحايب فيما ال جمال للرأي فيه‪ ،‬كالعبادات والتقديرات وحنوها‪.‬‬
‫وهذا القسم حجة عند األئمة األربعة ألنه البد أن يكون مسعه الصحايب من النيب ﷺ؛ إذ ال اجتهاد يف األمور‬
‫اليت ال تعرف إال بتوقيف‪ ،‬ولكن األئمة خيتلفون يف مدى االحتجاج به قلة وكثرة لعدم االتفاق على ضابط‬
‫معني حيدد ما ال جمال للرأي فيه‪ .‬فقد يرى بعضهم أن هذه املسألة مما ال جمال للرأي فيها فيعمل بقول الصحايب‬
‫فيها‪ ،‬ويرى اآلخر أهنا مما يدخله االجتهاد فال يعمل بقول الصحايب فيها‪.‬‬
‫‪ .2‬قول الصحايب الذي اشتهر ومل خيالفه غريه فيه‪ ،‬وهذا هو املسمى ابإلمجاع السكويت وقد تقدم الكالم فيه‪.‬‬
‫والشهرة قد يستدل عليها بكثرة خوض الصحابة يف املسألة‪ ،‬وقد يستدل عليها بكون الصحايب من اخللفاء‬
‫األربعة واملسألة مما تعم به البلوى ويقع لكثري من الناس‪ .‬مثل جعل عمر رضي هللا عنه طالق الثالث بلفظ‬
‫واحد ثالاث توجب البينونة الكربى‪.‬‬
‫‪ .3‬قول الصحايب الذي خالفه فيه غريه من الصحابة‪ ،‬فإنه ليس حبجة‪ ،‬ولكن ال خيرج الفقيه عن أقواهلم إىل قول‬
‫آخر‪ ،‬بل يتخري من أقواهلم ماهو أقرب للدليل‪.‬‬
‫هكذا قال كثري من األصوليني‪ ،‬والذي يظهر من صنيع الفقهاء أن منهم من يستدل بقول الصحايب ولو خالفه‬
‫غريه إذا رأى رجحانه بقياس أو غريه‪.‬‬
‫‪ .4‬قول الصحايب فيما للرأي فيه جمال ومل ينتشر ومل يعرف له خمالف من الصحابة‪ ،‬وهذا هو حمل النزاع‪.‬‬
‫القول األول ‪ :‬إنه حجة‪ ،‬وهو قول أيب حنيفة ومالك وأمحد وقول الشافعي القدمي‪.‬‬
‫القول الثاين ‪ :‬أنه ليس حبجة‪ ،‬وإىل هذا ذهب الشافعي يف قوله اجلديد‪ ،‬ومجاعة من أتباع املذاهب األخرى‪.‬‬
‫أدلة القول األول ‪:‬‬
‫أ‪ .‬قول الرسول ﷺ ‪« :‬خري الناس قرين‪ ،‬مث الذين يلوهنم‪ ،‬مث الذين يلوهنم» (أخرجه البخاري ومسلم)‪.‬‬
‫فهذه شهادة هلم ابلفضل على من سواهم‪ ،‬وهي تقتضي تقدمي اجتهادهم على اجتهاد غريهم‪.‬‬
‫ب‪ .‬أن قول الصحايب الذي مل يعلم له خمالف حيتمل أن يكون نقال عن رسول هللا ﷺ فيقدم على الرأي احملض‪.‬‬
‫ت‪ .‬أن الصحابة شاهدوا الرسول ﷺ وحضروا نزول الوحي وهم أعرف الناس بكتاب هللا وسنة رسوله ﷺ‪،‬‬
‫فال بد أن يكون قوهلم مقدما على قول غريهم‪.‬‬
‫أدلة القول الثاين ‪:‬‬
‫أ‪ .‬أن الصحابة غري معصومني من اخلطأ إذا مل جيمعوا‪ ،‬وقول من مل تثبت عصمته ال يكون حجة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫ب‪ .‬أن التابعني قد أثر عنهم خمالفة آحاد الصحابة‪ ،‬ولو كان قول الصحايب حجة ملا صحت خمالفته من‬
‫التابعي‪ ،‬وألنكر الصحايب على من خالفه من التابعني‪ ،‬وإذا جاز للتابعي خمالفة الصحايب جاز لغريه ذلك‪.‬‬
‫والراجح ‪ :‬أن مذهب الصحايب وحده ال يعد حجة إال إذا غلب على الظن اشتهاره بني الصحابة وعدم إنكاره‪،‬‬
‫كأن يكون من اخللفاء الراشدين الذين هم يف موضع القدوة لغريهم‪ ،‬أو كانت املسألة مما يكثر وقوعه وتعم به‬
‫البلوى‪.‬‬
‫وأما إذا اختلف الصحابة على أقوال فاخلروج عن أقاويلهم يقتضي ختطئتهم مجيعا‪ ،‬وهي بعيدة‪ ،‬فالواجب أن خيتار‬
‫من أقواهلم ما يسنده النظر والدليل‪.‬‬
‫واالستدالل حبديث ‪« :‬خري الناس قرين» ال يكفي؛ ألن اخلريية ال توجب حجية قول كل واحد إذا انفرد‪ ،‬بدليل‬
‫أن التابعني أيضا مشهود هلم ابخلريية يف احلديث‪ ،‬ومل يقل أحد إن رأي التابعي حجة يرتك هلا القياس الصحيح‪.‬‬
‫وكذلك االستدالل ابحتمال كون ما قاله رواية ال يدل على احلجية؛ ألن الدليل إذا تطرق إليه االحتمال سقط به‬
‫االستدالل‪.‬‬
‫وأما مشاهدهتم الرسول صلى هللا عليه وسلم ونزول الوحي بلغتهم فال شك أهنا ميزة هلم ولكنها ال تكفي ألن يعد‬
‫قول الواحد منهم دليال‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫االستحسان‬
‫االستحسان له عدة معان‪ ,‬بعضها صحيح اتفاقا‪ ,‬وبعضها ابطل اتفاقا ‪:‬‬
‫• فاملعىن الصحيح ‪ :‬العدول حبكم املسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة‪ .‬يعين ‪ :‬ترجيح دليل‬
‫على دليل‪ ,‬أو هو العمل ابلدليل األقوى أو األحسن‪.‬‬
‫• أما املعىن الباطل ‪:‬‬
‫‪ .1‬أنه دليل ينقدح يف نفس اجملتهد ال يقدر على التعبري عنه‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه ما يستحسنه اجملتهد بعقله‪ .‬يعين ‪ :‬هبواه وعقله اجملرد دون استناد إىل شيئ من أدلة الشريعة املعتربة‪.‬‬
‫إذا تبين أن لالستحسان معنيين متقابلين أحدهما صحيح واآلخر باطل‪ ,‬فال بد‬
‫من التنبيه على ما يلي ‪:‬‬
‫❖ أن لفظ االستحسان من األلفاظ اجململة‪ ,‬فال يصح إطالق احلكم عليه ابلصحة أو البطالن‪.‬‬
‫❖ أن من أثبت االستحسان من أهل العلم وأخذ به‪ ,‬فإمنا أراد املعىن الصحيح قطعا‪.‬‬
‫❖ أن من أنكر االستحسان من أهل العلم وشنع على من قال به‪ ,‬فإمنا أراد املعىن الباطل قطعا‪ .‬ومن ذلك‬
‫مشرعا‪ .‬والظاهر أن الشافعي ال‬
‫اإلمام الشافعي حيث قال ‪( :‬من استحسن فقد شرع) أي ‪ :‬جعل نفسه ّ‬
‫ينكر االستحسان مبعناه الصحيح‪ ،‬بل ينكر االستحسان مبجرد اهلوى من غري دليل‪ ،‬أو ينكر االستحسان‬
‫الذي مستنده غري القرآن والسنة واالمجاع‪.‬‬
‫❖ أن العمل ابالستحسان ابملعىن الصحيح أمر متفق على صحته‪ ,‬إذ ال خالف يف وجوب العمل ابلدليل‬
‫الراجح‪ ,‬وإمنا اختلف يف تسمية ذلك استحساان‪.‬‬
‫❖ أن العمل ابالستحسان ابملعىن الباطل أمر متفق على حترميه‪ ,‬إذ األمة جممعة عل حترمي القول على هللا بدون‬
‫دليل ‪ ,‬وال شك أن ما يستحسنه اجملتهد بعقله وهواه من قبيل القول على هللا بدون دليل فيكون حمرما‪.‬‬
‫األمثلة يف العمل ابالستحسان (يف املعىن الصحيح)‬
‫‪ .1‬استحسان سنده النص ‪:‬‬
‫وهو ترك احلكم الذي يقتضيه القياس أو النص العام‪ ،‬والعمل مبقتضى نص خاص‪.‬‬
‫مثاله ‪ :‬أن األصل أن ال يبيع اإلنسان ما ليس عنده‪ ،‬هذا مقتضى النص والقياس‪ ،‬أما النص فقوله ﷺ‬
‫حلكيم بن حزام رضي هللا عنه‪« :‬ال تبع ما ليس عندك» (رواه اخلمسة وحسنه الرتمذي وصححه ابن حزم‬
‫واأللباين يف إرواء الغليل)‪.‬‬
‫وأما القياس فألن بيع ما ليس عنده مثل بيع حبل احلبلة أي ‪ :‬ولد احلمل الذي مل يولد بعد‪ ،‬ألن كال‬
‫منهما غري معلوم الوصف للبائع واملشرتي‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ولكن ورد الدليل إبابحة السلم‪ ،‬وهو عقد على موصوف يف الذمة مؤجل بثمن مقبوض مبجلس العقد‪،‬‬
‫مثل أن يبيع املزارع مائة صاع من التمر املوصوف تسلم بعد شهر أو شهرين مبائيت رايل مدفوعة حاال يف‬
‫جملس العقد‪ ،‬فينتفع املزارع ابلنقد فإذا حل األجل دفع التمر للمشرتي‪.‬‬
‫فهذا النوع من البيوع يسمى السلم‪ ،‬وقد رخص فيه النيب ﷺ فقال‪« :‬من أسلف يف متر فليسلف يف كيل‬
‫معلوم ووزن معلوم إىل أجل معلوم» (أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس‪ ،‬واللفظ ملسلم‪ ،‬ولفظ‬
‫البخاري‪ :‬من أسلف يف شيء ففي كيل معلوم ‪.)....‬‬
‫وتسمية هذا النوع استحساان غري مسلمة عند من ينكر العمل ابالستحسان؛ ألن هذا عمل ابلنص‬
‫اخلاص‪ ،‬وترك ملقتضى العموم‪ ،‬فهو ترك نص لنص أقوى منه‪.‬‬
‫‪ .2‬استحسان سنده اإلمجاع ‪:‬‬
‫وهو ترك مقتضى القياس أو العموم يف مسألة جزئية ألجل اإلمجاع‪.‬‬
‫مثاله ‪ :‬اإلمجاع على جواز عقد االستصناع‪ ،‬وجواز شرب املاء من أيدي السقاة من غري حتديد قيمته‪،‬‬
‫ودخول احلمام من غري حتديد مدة البقاء فيه وال مقدار املاء املستعمل وال األجرة‪ ،‬فاإلمجاع منعقد على‬
‫جوازه مع أن القياس يقتضي عدم جوازه‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫المصالح المرسلة " االستصالح "‬
‫االستصالح هو بناء األحكام على املصلحة املرسلة‪.‬‬
‫املصلحة يعين املنفعة‪ ,‬سواء كانت دنيوية أم أخروية‪ ,‬جبلب نفع أو بدفع ضرر‪.‬‬
‫والعلماء متفقون على أن الشرع جاء حبفظ املصاحل وتكميلها ودرء املفاسد وتقليلها‪ ،‬وأن هللا جل وعال قد راعى‬
‫يف أحكامه مصاحل العباد‪.‬‬
‫والمصلحة من حيث اعتبار الشرع لها وبناء األحكام عليها وعدمه تنقسم ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫✓ املصاحل املعتربة ‪ ،‬وهي املصاحل اليت اعتربها الشارع وأثبتها وأقام دليالا على رعايتها‪ ،‬فهذه املصاحل حجة ال‬
‫إشكال يف صحتها وال خالف يف إعماهلا‪ ,‬ويرجع حاصلها إىل القياس‪ .‬ومثاهلا ‪ :‬مصلحة حفظ العقل اليت‬
‫تضمنها حترمي اخلمر‪ ،‬فيقاس على اخلمر كل ما يذهب العقل من املخدرات واحلشيش وحنو ذلك‪.‬‬
‫✓ املصاحل امللغاة‪ ,‬وهي ‪ :‬املصاحل اليت ألغاها الشارع ومل يعتربها وهي ليست حبجة ابالتفاق‪.‬‬
‫مثاله ‪ :‬أن امللك عبدالرمحن بن احلكم قد جامع جارية يف هنار رمضان‪ ,‬وكرر ذلك يف عدد من األايم‪ ،‬وكان‬
‫يكرر اإلعتاق مستدال حبديث األعرايب‪ ،‬ولكن جاء الفقيه ‪ :‬حيىي بن حيىي الليثي املالكي فأفتاه أبن يصوم‬
‫ستني يوما كفارة له‪ ،‬وعلل ذلك أبن الكفارة قد وضعت للزجر‪ ،‬فلو أوجبنا عليه العتق لسهل عليه اجلماع يف‬
‫هنار رمضان مرة بعد األخرى؛ نظرا لكثرة ماله‪ ،‬لذلك نوجب عليه الصيام زجرا له‪ ،‬وظن هذا الفقيه أن يف‬
‫ذلك مصلحة‪ ،‬ولكن هذه املصلحة ملغاة؛ ألهنا معارضة للنص الشرعي‪ ،‬وهو ‪ :‬حديث األعرايب‪.‬‬
‫مثال آخر ‪ :‬التسوية بني الذكور واإلانث يف املرياث‪ ,‬قال به من ال علم له‪ ,‬ملصلحة قد تومهها‪ .‬ولكن هذه‬
‫املصلحة ملغاة ملعارضتها للنص حيث قال تعاىل (يوصيكم هللا يف أوالدكم للذكر مثل حظ األنثيني)‪.‬‬
‫✓ املصاحل املرسلة وهي ‪ :‬املصاحل اليت مل يقم دليل من الشارع على اعتبارها‪ ,‬وال على إلغائها‪ .‬ومسي مرسلة يعىن‬
‫مطلقة‪ ,‬وهي اليت مل يقيدها الشارع ابعتبار‪ ،‬وال إبلغاء‪.‬‬
‫فالمصلحة المرسلة هي كل منفعة داخلية يف مقاصد الشارع اخلمسة وهي ‪ :‬حفظ الدين ‪ ،‬والنفس ‪ ،‬والعقل‬
‫‪ ،‬واملال ‪ ،‬والنسل دون أن يكون هلا شاهد شرعي ابالعتبار أو اإللغاء‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ :‬املصلحة الناشئة من مجع القرآن يف مصحف واحد‪ ،‬فهذا العمل فيه مصلحة حفظ الدين‪ ،‬ولكن مل‬
‫جند نصا يدل على حفظ الدين هبذه الطريقة خبصوصها‪ ،‬وال بشيء يشبهها شبها ميكن معه قياسها عليه‪.‬‬
‫مثال آخر ‪ :‬املصلحة الناشئة عن وضع إشارات املرور يف الشوارع العامة‪ ،‬ومعاقبة من ال يراعيها‪ ،‬فإن هذا العمل‬
‫فيه مصلحة ظاهرة للناس؛ حيث إن االلتزام هبذه اإلشارات حيفظ أرواح الناس وأمواهلم‪ ،‬وعدمه يؤدي إىل التصادم‬
‫وتعطيل احلركة وهالك األنفس واألموال‪ ،‬فهذه املصلحة من حيث جنسها قد جاء هبا الشرع‪ ،‬وال يشك مسلم يف‬
‫أن اإلسالم يدعو إىل حفظ األنفس واألموال‪ ،‬ولكن ال جند نصا خاصا يدل على حفظها هبذه الطريقة (أي ‪:‬‬
‫بوضع إشارات املرور) وال بطريقة تشبهها شبها بينا ميكن قياسها عليها‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وهذه املصلحة هي اليت تسمى املصلحة املرسلة‪ ،‬وهي اليت اختلف يف حكم االحتجاج هبا على إثبات األحكام‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫وتنقسم إىل ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫القسم األول ‪ :‬الضروريات ‪ ،‬وهي ‪ :‬املصاحل اليت البد منها يف قيام مصاحل الدين والدنيا‪ ،‬وصيانة‬
‫مقاصد الشريعة‪ ،‬حبيث إذا فقدت أو فقد بعضها؛ فإن احلياة ختتل أو تفسد‪ ،‬وللمحافظة على املصاحل الضرورية‬
‫شرع هللا حفظ الدين ‪ ،‬والنفس ‪ ،‬والعقل ‪ ،‬والنسب ‪ ،‬واملال ‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬الحاجيات وهي‪ :‬املصاحل واألعمال والتصرفات اليت ال تتوقف عليها احلياة واستمرارها‪،‬‬
‫بل إن احلياة تستمر بدوهنا ولكن مع الضيق واحلرج واملشقة‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪ :‬التحسينيات‪ ،‬وهي ‪ :‬املصاحل واألعمال والتصرفات اليت ال تتوقف احلياة عليها‪ ،‬وال‬
‫تفسد وال ختتل‪ ،‬فهي من قبيل التزيني والتجميل‪ ،‬ورعاية أحسن املناهج وأحسن الطرق للحياة ‪.‬‬
‫المصالح المرسلة حجة بشروط‪ ,‬هي كما يلي ‪:‬‬
‫➢ أن تكون املصلحة املرسلة ضرورية‪ ،‬وهي ما يكون من الضرورايت اخلمس ‪.‬‬
‫➢ أن تكون املصلحة عامة كلية؛ لتعم الفائدة مجيع املسلمني ‪.‬‬
‫➢ أن تالءم تلك املصلحة مقاصد الشرع يف اجلملة فال تكون غريبة ‪.‬‬
‫➢ أن تكون املصلحة قطعية‪ ،‬أو يغلب على الظن وجودها ومل خيتلف يف ذلك ‪.‬‬
‫ودل على حجيتها ‪ :‬إمجاع الصحابة ؛ حيث أهنم كانوا يراعون املصاحل ‪ ،‬وينظرون إىل املعاين اليت علموا أن القصد‬
‫من الشريعة رعايتها ‪ ،‬دون نكري من أحد ‪ ،‬فكان إمجاعا ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ :‬لو مل جنعل املصلحة املرسلة دليالا من األدلة ‪ ،‬للزم من ذلك خلو كثري من احلوادث من أحكام ‪ ،‬ولضاقت‬
‫الشريعة عن مصاحل الناس ‪ ,‬وألن النصوص قليلة ‪ ،‬واحلوادث كثرية ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫سد الذرائع‬
‫الذرائع ‪ :‬مجع ذريعة ‪ ،‬وهي ‪ :‬كل وسيلة مباحة قصد هبا التوصل هبا إىل املفسدة‪ ،‬أو مل يقصد هبا التوصل إىل‬
‫املفسدة ‪ ،‬لكنها مفضية إليها غالبا‪ ،‬ومفسدهتا أرجح من مصلحتها‪.‬‬
‫ُّ‬
‫فسد الذرائع هو ‪ :‬منع الوسائل املفضية إىل املفاسد‪.‬‬
‫واألقوال واألفعال المؤدية إلى المفسدة أربعة أقسام ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬وسيلة موضوعة لإلفضاء إىل املفسدة قطعا‪ ،‬كشرب اخلمر املفضي إىل مفسدة السكر‪ ،‬والزىن املفضي إىل‬
‫مفسدة اختالط األنساب وثلم األعراض‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬وسيلة موضوعة لإلفضاء إىل املباح‪ ،‬ولكن قصد هبا التوسل إىل املفسدة‪ ،‬مثل عقد النكاح بقصد حتليل‬
‫الزوجة لزوجها األول الذي طلقها ثالاث‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬وسيلة موضوعة لإلفضاء إىل املباح‪ ،‬ومل يقصد هبا التوسل إىل املفسدة‪ ،‬ولكنها تؤدي إليها غالبا‪ ،‬ومفسدهتا‬
‫أرجح من مصلحتها‪ ،‬مثل ‪ :‬سب آهلة الكفار علنا إذا كان يفضي إىل سب هللا جل وعال‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬وسيلة موضوعة لإلفضاء إىل املباح‪ ،‬وقد تفضي إىل املفسدة‪ ،‬ومصلحتها أرجح من مفسدهتا‪ ،‬مثل النظر‬
‫إىل املخطوبة‪ ،‬واملشهود عليها‪ ،‬واجلهر بكلمة احلق عند سلطان جائر‪.‬‬
‫فالقسم األول قد جاءت الشريعة مبنعه‪ ،‬إما على سبيل التحرمي أو الكراهة‪ ،‬وذلك حبسب درجته يف املفسدة وال‬
‫خالف فيه‪.‬‬
‫والقسم الرابع قد جاءت الشريعة مبشروعيته إما على سبيل الوجوب أو االستحباب؛ حبسب درجته يف املصلحة‪،‬‬
‫وال خالف فيه‪.‬‬
‫والقسمان الثاين والثالث مها موضع النزاع‪ ،‬هل جاءت الشريعة مبنعهما ؟‬
‫حجية سد الذرائع ‪:‬‬
‫سد الذرائع حجة يُعمل به‪ ،‬ويُستدل به على إثبات بعض األحكام الشرعية‪ ،‬أو نفيها لآليت ‪:‬‬
‫• لقوله تعاىل‪( :‬وال تسبوا الذين يدعون من دون هللا فيسبوا هللا عدوا بغري علم) فاهلل سبحانه هنا قد َّ‬
‫حرم‬
‫سب األصنام اليت يعبدها املشركون‪ ،‬لكون هذا السبب ذريعة إىل أن يسبوا هللا تعاىل‪ ،‬وهذا هو سد الذرائع‪.‬‬
‫َّ‬
‫• وألن النيب ﷺ مل يقتل من ظهر نفاقه قال ﷺ ‪( :‬أخاف أن يقول الناس ‪ :‬إن حممدا يقتل أصحابه) وذلك‬
‫سدا للذرائع‪.‬‬
‫• واألخذ بدليل سد الذرائع راجع إىل األخذ بدليل املصلحة‪.‬‬
‫وبناء على حجية سد الذرائع ‪ :‬فإن الشخص لو مات وعليه زكاة مل يؤدها ‪ :‬فإنه ال يلزم الورثة إخراجها عن من‬
‫تركته؛ ألنه لو ألزمنا الورثة بذلك ألدى ذلك أبن يرتك اإلنسان أداء َزكاته طول عمره اعتمادا على أن الورثة‬
‫سيخرجوهنا بعد موته ‪ ،‬ورمبا يتخذ ذلك ذريعة لإلضرار هبم‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫العرف‬
‫العُرف هو ‪ :‬ما يتعارفه أكثر الناس‪ ،‬وجيري بينهم من وسائل التعبري‪ ،‬وأساليب اخلطاب والكالم‪ ،‬وما يتواضعون‬
‫عليه من األعمال‪ ،‬ويعتادونه من شؤون املعامالت مما مل يوجد يف نفيه وال إثباته دليل شرعي‪.‬‬
‫العرف من حيث مصدره ثالثة أقسام هي ‪:‬‬
‫• العُرف العام ‪ ،‬وهو ‪ :‬ما تعارف عليه أكثر الناس يف مجيع البلدان ‪ ،‬مثل ‪:‬‬
‫• العرف اخلاص ‪ ،‬وهو‪ :‬ما تعارف عليه أكثر الناس يف بعض البلدان مثل‪ :‬إطالق لفظ الدابة على الفرس عند‬
‫أهل العراق‪ ،‬بينما ذلك خيتلف يف مصر‪.‬‬
‫• العُرف الشرعي‪ ،‬وهو ‪ :‬اللفظ الذي استعمله الشارع مريدا منه معىن خاصا مثل‪" :‬الصالة" فإهنا يف األصل ‪:‬‬
‫الدعاء ‪ ،‬ولكن الشارع أراد هبا شيئا خمصوصا‪.‬‬
‫العرف من حيث سببه ومتعلقه قسمان هما ‪:‬‬
‫• العرف القويل واللفظي‪ ,‬وهو ‪ :‬أن يتعارف أكثر الناس على إطالق لفظ على معىن ليس موضوعا له‪ ،‬حبيث‬
‫يدب‬
‫يتبادر إىل الذهن عند مساعه بدون قرينة وال عالقة عقلية‪ ،‬كلفظ "الدابة"‪ ،‬فإنه لغة يطلق على كل ما ُّ‬
‫خصصوه ابحلمار ‪.‬‬‫خصصه بعضهم ابلفرس ‪ ،‬وآخرون َّ‬‫على األرض ‪ ،‬وقد َّ‬
‫• العرف الفعلي ‪ ،‬وهو ‪ :‬ما كان موضوعه بعض األعمال اليت اعتادها الناس يف أفعاهلم العادية ‪ ،‬أو معامالهتم‬
‫‪ ،‬كبيع املعاطاة وهي ‪ :‬أن يقول ‪ :‬أعطين هبذا الرايل خبزا فيعطيه ما يرضيه‪ ،‬أو أن يدفع الثمن وأيخذ السلعة‬
‫بدون لفظ عن تراض بينهما‪ ،‬فهذا بيع صحيح ثبت عن طريق العرف ‪.‬‬
‫حجة ودليل شرعي تثبت به األحكام الشرعية بشروط هي ‪:‬‬ ‫العرف‬
‫أن يكون العرف عاما أو غالبا‪.‬‬ ‫•‬
‫أن يكون العرف مطردا أو أكثرايا‪.‬‬ ‫•‬
‫أن يكون العرف موجودا عند إنشاء التصرف ‪.‬‬ ‫•‬
‫• أن يكون العرف ملزما ؛ أي ‪ :‬يتحتم العمل مبقتضاه يف نظر الناس‪.‬‬
‫• أن يكون العرف غري خمالف لدليل معتمد ‪.‬‬
‫• أن يكون العرف غري معارض بعُرف آخر يف نفس البلد ‪.‬‬
‫فإذا توفرت هذه الشروط فإن العرف حجة‪ ،‬دل على ذلك ‪ :‬االستقراء‬
‫وبناء عليه ‪ :‬فإنه يعطى األجري الصانع أجرة املثل‪ ،‬وإن مل تذكر األجرة قبل العمل إذا كان منتصبا للعمل‪.‬‬

‫‪39‬‬

You might also like