Professional Documents
Culture Documents
مدخل:
تضع المقاربات الفكرية الفلسفة أمام أحكام متباينة ،ومتضاربة ،داخل الممارسة الفلسفية،
وخارجها؛ فإذا كانت قيمة الفلسفة ،وداللتها مح ّل خالف بين طبقات العامة ،فإن االختالف حول وظيفتها
أيضا مستشكل بين المشتغلين بها ،فتقديس العقل ،والدعوة الى تحطيم األصنام الذهنية المعارضة له شكل
من أشكال االنحراف داخل الفلسفة ،ودليلنا في ذلك الخلط المفهومي الواقع بين استتباعات االعتقاد
باللوغوس ،على قاعدة المفارقة الموجودة بينه ،وبين والميتوس ،وبحكم الميل البشري الى التطرف في
االعتقاد ،فإن اإليمان بفكرة أو تصور يستلزم التحطيم ،والهدم للمقابل ،فالميتوس كخيال ،أو أسطورة ال
يقتضي التناقض ،أو التعارض مع العقل ،بل يستمد طاقته ،وقوته منه أصال ،فالتجريد الفلسفي يتعالى
عن المعطيات الحسية بواسطة الخيال ،والصورنة Formalisationالتي تشكل جوهر الفلسفة توضع في
خانة الخيال ،وليس في دائرة العقل ،فالتباعد بين الفلسفة والخيال ليس إال لعبة لغوية أتقنها أنصاف
الفالسفة .يوحي التعاطي األولي مع الفلسفة ،والفقه ،أنهما علمين متباعدين من حيث الحقل المعرفي الذي
يقع فيه ك لل منهما ،على قاعدة التغاير ،والتخار القائم بين الشريعة ،والحكمة؛ فمجال الحكمة التوفيق،
والعمل بالعقل ،وفضاء الشريعة هو األحكام التوقيفية التي ال يملك فيها العقل إال التسليم باألوامر ،والعمل
على تنفيذها ،ولكن التدبر في الحكمة الغائية من الشريعة ،والتي تتصدرها المطالب األخالقية تقرر
بالتقاطع ،أو التالحم الواقع بين الحكمتين.
في البدء ينبغي اإلشارة الى المسار الداللي الذي عايشه لفظ الفقه ،فاألصل المرجعي للداللة بدأ
وتحول عند الجماعات اللغوية الى اصطالل يتقارب تارة ،ويتباعد تارة أخرى،
ّ مع المعرفة ،والفهم،
وأخذت الكلمة دالالت أخرى حسب السياق التي ترد فيه ،فتصبح القواعد عندما تقترن بموضوع معين،
مثل األخالق ،أوالقانون ،أي القواعد الناظمة للحياة القانونية ،أو األخالقية.
واذا حاولنا قراءة الحد :فقه في السياق اللغوي لوجدناه يشير الى الوعي ،والفهم ،جاء في لسان
العرب أن الفقه هو ":العلم بالشيء ،والفهم له... ،قال غيره :والفقه في األصل هو :الفهم .يقال :أوتي
39
ب َما
فالن فقها في الدين أي فهما فيه " "...وتؤ ّكد اآلية الكريمة هذه الداللة ،في قوله تعالى :قَالُوا َيا ُش َع وي ُ
1
ت َعلَوي َنا بف َع فز ٍ
يز. 2 ض فعيفا َولَ ووَال َروهطُ َك لَ َر َج وم َن َ
اك َو َما أ وَن َ ير فم اما تَقُو ُل وفاانا لََنر َ ف
اك ف َينا َ َ َ َن وفقَهُ َكثف ا
وتفقّه في الدين ،أخذ قسطا من المعرفة بالدين ،فتكون الداللة في السياق لكلمة فقه هي العلم،
ون لف َي ون فف ُروا َكافاة َفلَ ووَال َنفَ َر فم ون ُك ِّل فف ورقَ ٍة
ان اول ُم وؤ فمُن َ
والمعرفة بالشيء ،ونلمس الداللة في قوله تعالىَ :و َما َك َ
ا ف فم ونهُ وم طَائففَةٌ لف َيتَفَقاهُوا ففي ِّ
ين َولفُي ونذ ُروا قَ وو َمهُ وم إف َذا َر َج ُعوا إفلَ وي فه وم لَ َعلهُ وم َي وح َذ ُر َ
الد ف
3
ون
أما الفقه في االصطالل الشرعي ،فهو ":العلم باألحكام الشرعية العملية المأخوذة من األدلة
التفصيلية ،ويراد باألحكام الشرعية العملية في هذا التعريف خطابات الشرع الحكيم المتعلقة بأفعال العباد
الحسية من فعل أو ترك والمتضمنة بيان تصرفات الناس من الصحة والفساد والبطالن والوقف والنفاذ
واللزوم"4.
وللعلم أن االصطالل الشرعي للداللة المتفق عليها لكلمة فقه جاءت متأخرة ،على قاعدة الشهود،
والحضور األنطولوجي لألحكام التكليفية في شخص الرسول األكرم ،فلم يعرف الصحابة يومها اجتهاد
في مسألة ،أو في تأصيل حكم ،بل كانت له سلطة التشريع ،وكان كتاب اهلل وسنة رسوله المرجع
األساس للفتوى ،وقل ما اعتمد الرأي واالجتهاد في اإلفتاء ،وكان هؤالء يعرفون بـ ـ (القراء) "..ألنهم كانوا
حفظة القرآن الكريم وقراءه وكذا سنة النبي ،ولم يشع إطالق اسم الفقهاء على المشتغلين باألحكام
الشرعية العملية إال في وسط عهد التابعين وكان ذلك...بداية تأسيس علم الفقه ووضع مناهجه العلمية.
المسيب ومن ذلك الوقت أطلق على المشتغلين بالفقه
ّ وكان فرسان هذه الحلبة جماعة رأسهم سعيد بن
(الفقهاء)".5
ويتّفق الفقهاء ،وعلماء الشريعة على أن العبادات ،والمعامالت هي المجاالت الرئيسة لعلم الفقه،
ويالحظ أن علماء الحديث قد تأثّروا أيضا بهذا المنحى حيث يظهر في تعاطيهم المعرفي ،والمنهجي في
يحدد العالقة بين العبد ،وربه؛ أي خالقه؛ وعبوديته
تبويب مباحثهم المعرفية ،فالعبادات هي الفضاء الذي ّ
هلل تفيد الخضوع ،واالرتباط الكلي باهلل الواحد األحد ،أما المعامالت فمجالها الناس(المجتمع المدني،
األمة) ،فهي ال تخر أن تكون" أعماال تعبدية يتفرغ فيها ألداء العبادات ،فرائض ونوافل ،وأعمال تعيلشية
يتعامل فيها مع الناس ،قياما بمتطلّبات العيش والتعايش".6
1
ابن منظور ،لسان العرب،
2سورة هود ،اآلية94:
3سورة التوبة ،اآلية321 :
نصر فريد محمد واصل ،المدخل الوسيط لدراسة الشريعة اإلسالمية والفقه والتشريع ،المكتبة التوفيقية ،مصر ،ص52: 4
(د.ط.ت)
المصدر نفسه ،ص54: 5
طه عبد الرحمن ،سؤال العمل ،المركز الثقافي العربي ،بيروت ،الطبعة الثانية 5225 ،ص51: 6
41
فالعبادات ليست مفصولة عن المعامالت ،بل هناك تقاطع قوي بينهما ،فالعبادة تكون في الشريعة
مقدمات للفعل ،أو المعامالت ،يقول الغزالي ":العلم بال عمل جنون ،والعمل بغير علم ال
اإلسالمية ّ
1
يكون"
وقد ّبين المف ّكر طه عبد الرحمن االشتراك اللغوي بين العلم والعمل في المجال التداولي العربي
واإلسالمي ،يقول ":اللسان العربي امتاز باشتقاق اللفظين" :العلم" ،و"العمل" من نفس المادة اللغوية[:ع
ل م ] فهما عبارة عن تقليبين مختلفين من التقاليب الستة الممكنة لهذه المادة ،فإذن يجوز أن نعتبر
أحدهما مقلوبا من اآلخر ،تنبيها على أن أحدهما من مقتضى اآلخر ،بحيث يفضي العلم الى العمل كما
2
يفضي العمل الى العلم"
ونجد أن المشكلة في االعتقاد ،وليس في العقائد ،فالدالالت التي يحملها الفقه ال تبتعد عن رول
الفلسفة وغاياتها ،فداللة الفقه في اللغة العربية قائمة على الفهم ،والمعرفة ،والوعي ،وهي أدوات فلسفية
تنبه المفكر العربي طه عبد الرحمن للمسألة ،إذ حاول التأسيس لرؤية تنصهر فيها الحدود
بامتياز ،وقد ّ
المتميزة :فقه الفلسفة حيث يكشف لنا عن الدالالت ،واللطائف
ّ بين الفلسفة ،والفقه ،من خالل سلسلته
المتضمنة في لفظ الفقه ،فتكون المقاصد التي أرادها الفالسفة من بحثهم ،واقعة في دالالت الفقه ،وليس
ّ
في اصطالل العلم ،أو المعرفة.
فـ ـ "...لفظ الفقه يفضل لفظ "العلم" من جهة انه أخص منه بزيادة قيد التأ لمل فيه ،ذلك أن كل
فقه هو علم حاصل بإمعان في النظر ،وهو مقتضى التأمل ..3"..أما العلم فهو حصول المطلوب،
بالحس ،إذا كانت من جنس المسائل ّ واالستغناء عن االجتهاد في الطلب ،و معرفة الظاهرة ،يحصل
الطبيعية ،والوقائع التجريبية ،أما مجال الفقه ،فهو باعتماده على التأمل ،يقوم على الفعالية الذهنية التي
تقوم على الصور ،والمعاني المجردة ،التي تكون بنسبة أقل في البحث العلمي التجريبي.
يتحدد بالغايات
ّ كما يستبطن الفقه داللة أخرى تجعله يتعالى في مرتبة الشرف الفلسفي ،الذي
التي ترمي إليها الفلسفة ،وتنشدها؛ فالفقه كمعرفة ،يختلف عنها في بعض اللطائف اللغوية ،التي
يتضمنها ،يقول طه عبد الرحمن..":اعلم أيضا أن لفظ "الفقه" يفضل أيضا لفظ المعرفة من حيث إن الفقه
أخص من المعرفة بإضافة قيد الكالم فيه؛ أما ترى انك تقول" :فقهت كالمه" ،وال تقول "فقهت ذهابه
ّ
4
ومجيئه" ،في حين يجوز أن تقول "عرفت ذهابه ومجيئه" كما تقول "عرفت كالمه". ".
الغزالي ،أبو حامد ،أيها الولد ،تحقيق علي محي الدين علي القره داغي ،دار البشائر اإلسالمية ،بيروت الطبعة الرابعة، 1
4134هـ ،ص429:
طه عبد الرحمن ،سؤال العمل ،المرجع نفسه ،ص41: 2
3
طه ،عبد الرحمن ،فقه الفلسفة ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة األولى 4992 ،ص ،ص53-51:
4
المرجع نفسه ،ص53:
41
فلفظ الفقه إذن يقترب من المقاصد الفلسفية ،والتي هي النظر ،والـتأمل ،في مقابل المعرفة ،التي
محدد بشكل دقيق ،وال يمكن استثماره في
ارتبطت بالمجرد ،حيث أن المجال االستعمالي للفظ المعرفة ّ
سياقات أخرى مثل السياق التداولي ،الواقعي ،فرسخت في ذهن المتلقي بوعي أو الوعي عن الشرخ
األزلي بين الواقع ،والنظرية.
وفي الظاهر أن التوظيف ،والترجمة ،وراء كثير من اإلشكاليات التي تضمنتها الفلسفة،
خصوصا ،ما نقله العرب من اصطالل يوناني الى اللغة العربية ،حيث لم يحافظ المترجمون على السياق
التداولي للفظ في اللغة العربية ،وقد كان هذا وراء الضعف الفكري عند العرب ،فتاريخ الفلسفة العربية
تاريخ تقليد ،حيث ولدت ميتة في المهد العربي ،والمسئول عن هذا القتل هو فعل الترجمة ،ألنها اقترنت
بالترجمة وجودا وعدما ،يقول.. ":أما ترى أن المتفلسف العربي ال يصوغ من األلفاظ إال ما صاغه غيره،
وال يستعمل من الجمل إال ما استعمله ،وال يضع من النصوص إال ما وضعه .. ،واذا اشتبه أمر هذا
التقليد في القول الفلسفي على بعض المتأخرين الذين ضاقت عليهم سبل القول والفكر ،فإنه لم يشتبه قط
المتقدمين ،ذلك أنهم لم يفتهم الفروق بين قول جار ،على عاداتهم في الكالم واإلفهام وبين قول ال
ّ على
يجري عليها كما فات المتأخرين"1...
ونظ ار للتقدم العلمي ،والتقني لبني اإلنسان نشهد تراجعا للنظرة السلبية الى الفلسفة ،فبدأت الفروع
الجديدة للفلسفة في استنهاض محاوالت معرفية راهنة ،خصوصا في المجال الشرعي عموما ،والفقهي
خصوصا ،ويمكن قراءة الفلسفة من زاويتين :الفلسفة بمعناها المطلق ،والذي يشير الى المجال المعرفي
كالسيكي يجعل من االنطولوجيا ،واالكسيولوجيا ،والغنوسيولوجيا[ ،]Gnoséologieوالفلسفة المضافة،
والتي تضاف الى حقل معرفي معين ،يمكن أن يكون نظريا ،أو واقعيا ،مثل :فلسفة العلم ،وفلسفة
النفس ...وقد تضاف الى عصر ،مثل فلسفة العصور الوسطى ،وفلسفة التنوير أو الى فيلسوف ،كأن
نقول مثال فلسفة أفالطون ،أو فلسفة أرسطو...
وفلسفة الفقه نموذ معرفي جديد ظهر في الحقول الشرعية ألسباب معينة ،منها ما يرتبط ببحث
المتغيرات الثقافية ،ودورها في تغيير الفتوى في المجال الفقهي،
ّ األخالق التطبيقية ،والذي يصدق على
تنبه العلماء األوائل لهذه المسألة ،منهم اإلمام القرافي[151هـ 191هـ] ،والشاطبي ،فالمتغيراتوقد ّ
حقيقة ،وواقع اجتماعي ينبغي مراعاته ،في استنباط الحكم الفقهي ،أو القاعدة القانونية التنظيمية ،ولهذا
نجد في الفقه تأصيل نظري ،وعملي للسلوك البشري ،فالفقه ليس علما شرعيا بالمعنى الضيق الذي
1
طه ،عبد الرحمن ،مرجع سابق ،ص44 :
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العالء إدريس بن عبد الرحمان بن عبد اهلل بن يلين الصنهاجي المصري ،ولد سنة
1
القرافي ،اإلحكام في تمييز الفتاوى عن األحكام ،وتصرفات القاضي واإلمام ،مكتبة المطبوعات اإلسالمية ،حلب ،الطبعة
الثانية 4992 ،ص535 :
2
محمد دحيم ،مقال :هل يمكن فلسفة الفقه؟ جريدة الحياةhttp://www.alhayat.com/m/opinion/438651 :
43
المنطلقات ،والمؤثرات المضمرة في القضايا الفقهية ،والفحص النقدي يفضح األوهام بملكية الحقيقة عند
المجتهد في الفقه ،وامتالك اآلليات النقدية يحيل الفقيه الى الفلسفة بشكل الزم.
كما نجد أن البحث في نجاعة الفقه ،وقدرته على تجاوز الرهانات العلمية والتقنية مسألة تندر
فالتخصص في علم معين ،ال يمنح المشروعية إلصدار األحكامّ ضمن فلسفة الفقه ،وليس في الفقه،
الفقهية ،فالعلم ال يقيِّم نفسه ،بل تكون المراجعة من قبل فقيه متمكن من النقد الفلسفي ،فالواقع أغنى من
النظرية ،وتطبيق الفتوى يكشف عن نجاعة الفتوى وحجيتها ،أو بطالنها.
ومن المسائل الراهنة التي تفرض نفسها على الفقيه ،وتجبره على االنفتال عن التطورات العلمية
المستجدات المتعلّقة بالحياة الفردية في المستوى الطبي ،والتي يصطلح عليها بالبيوتيقا ،أو بالمعنى األدق
األخالق التطبيقية ،والتي تنضوي تحتها مسائل عدة منها المسائل المالية ،والعالقات الدولية ،وكثير من
القضايا الجديدة ،والتي تفرض رؤية جديدة ،ومن زوايا مختلفة حتى يمكن تشريع القاعدة الفقهية المناسبة
للوضعية المستجدة.
التطرق الى عالم فقيه ،هو ابن رشد الجد ،ثم
ل وسنحاول إبراز العالقة بين الفلسفة والفقه من خالل
نعر على الفيلسوف الذي ينتمي الى المدرسة ،وهو القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد ،شارل أرسطو،
وصاحب كتاب بداية المجتهد ،ونهاية المقتصد.
ابن رشد الجد:
عرف ابن رشد الجد باسم عالم الخالفيات ،إضافة الى ضلوعه في علوم الشريعة ،الفقه،
واألصول ،فقد كان أستاذا في الفقه كما ينعته الكثير من الباحثين ابن رشد األستاذ ،الذي قام بتدريس
كما كان شارحا لهذين الكتابين ،بحكم
أمهات الكتب المالكية في الفقه للطلبة ،مثل:المدونة ،و العتبية
ّ
أنهما من أمهات الكتب الفقهية المالكية في األندلس.
والمالمح الفلسفية عند ابن رشد الجد تظهر أيضا في القدرة الكالمية التي كان يتمتع بها ،في
الدفاع عن المذهب المالكي ،أمام المذاهب الفقهية األخرى مثل الحنفية ،والشيعة ،والظاهرية ،فقد كان
تميز بالمنحى اإلبداعي ،والتجديدي،
بحق أستاذا للخالفيات ،أو لعلم الكالم الفقهي إذا جاز التعبير ،كما ّ
فلم يكن مقلِّدا ،ومجرد تابعا في المدرسة المالكية ،بل ّ
وجه انتقادات الى العقيدة األشعرية ،وفي منهجها
االستداللي.
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد اهلل ،بن رشد ولد عام 122ه
المدونة الكبرى :مجموعة من األسئلة في الفقه وردت عن اإلمام مالك بن انس ،رواها عبد السالم بن سعيد التنوخي
بذلك ألنه استخرجها من األسمعة التي رويت عن اإلمام مالك بواسطة تالميذه
44
ومن بين مظاهر هذه التجليات الفكرية العالقة بين المذاهب الفقهية ،ففي بعض المسائل تظهر
حدة الخطاب مع أتباع المذهب الحنفي في بعض المسائل ،ومنها المسألة 411:حيث يثبت ابن رشد
بالتحليل العميق المعاني الحقيقية لالجتهاد ،ووجوب ضبط عملية تأويل النص ،ويتعاطى ابن رشد مع
الشافعية بأسلوب لطيف لدرجة يظهر للقارئ أن الشافعية امتداد للمذهب المالكي
ويعتقد الباحثين أن األصول المعرفية والمنهجية البن رشد الحفيد الفيلسوف موروث معرفي من
الجد ،فكتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من االتصال ،متن يضم األطروحة الرشدية التي
أسسها ،والنص التالي من المسائل يؤكد ذلك":ونحن نقطع أن كل ما أدى إليه البرهان ،وخالفه ظاهر ّ
1
الشرع ،أن ذلك الظاهر يقبل التأويل ،على قانون التأويل العربي "
ونستأنس بنص للمستشرق الفرنسي ارنست رينان ، Joseph Ernest Renanيبسط فيه البعد،
والمنحى الفلسفي عند ابن رشد الجد ،وهذا بغية التأكيد على الرابطة العضوية بين الفقه والفلسفةـ فالفقه
ليس مجاال معرفيا تشريعيا خال من أي محتوى نظري ،بل هو معرفة قائمة على قواعد نظرية فلسفية،
ومناهج استداللية ال تخر عن الدائرة الفلسفية إطالقا ،يقول رينان..":إن المكتبة األهلية بباريس تضم
مجلدا ضخما يحتوي على تلك المسائل الفقهية ،التي كان يستشار فيها ،وقد حوى هذا الكتاب ،فيما حوى،
فكرة جليلة ،ستراها مفصلة ،فيما بعد ،أجمل تفصيل ،لدى حفيده ،وفي محاولة التوفيق بين الدين والعقل،
فكأن الحفيد أخذ على نفسه أن يتوسع فغي عرض آراء جده ،وان يخرجها الى حيز الوجود ،في أروع
2
صورة وأكملها"
يتبين من خالل هذا النص أن الشخصية الفلسفية البن رشد الحفيد امتداد ،واستمرار للرؤية
الفلسفية التي كان يملكها الجد ،فالمشروع الفلسفي عند ابن رشد الجد وجد طريقه الى الحفيد ،فعلى قاعدة
الفوضى القيمية ،والمعرفية التي كانت سائدة آنذاك في قرطبة ،ركز الجد على المسائل الفقهية التي كانت
محل خالف بين الفقهاء نتيجة التعددية المذهبية الفقهية التي نتجت عن خالفات سياسية بحتة في التاريخ
اإلسالمي.
ابن رشد الفيلسوف:
انظر كتاب :مسائل ابن رشد اجلد حتقيق حممد احلبيب التجكاين ،اجمللد األول ،منشورات دار اآلفاق اجلديدة ،املغرب ،الطبعة األوىل 3992
ص302:
1
المصدر نفسه ،ص421:
4995 4953فيسلوف ،ومؤرخ فرنسي من مؤلفاته :ابن رشد والرشدية...
2
ابن رشد ،مسائل ابن رشد الجد ،مرجع سابق ،ص421:
45
بدأ ابن رشد ،رحلته في بيان العالقة بين الفقه والفلسفة من خالل أطروحته الرئيسة التي يبين فيها
أقر بأن ":الحكمة هي صاحبة الشريعة واألخت الرضيعة ،مع ما يقع العالقة بين الحكمة والشريعة ،حيث ّ
بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة ،وهما المصطحبتان بالطبع ،المتحابتان بالجوهر والغريزة"1.
وقد اعتمد ابن رشد هذه الفكرة كمصادرة في بيان العالقات بين الفلسفة والفقه ،ويظهر هذا في
اللغة الفقهية التي استثمرها في إقرار هذه العالقة ،مثل اصطالل الواجب ،والندب ،يقول ..":فبين أن ما
يدل عليه هذا االسم إما واجب بالشرع ،واما مندوب إليه .فأما إن الشرع دعا الى اعتبار الموجودات
بالعقل وتطلب معرفتها ،فذلك بين في غير ما آية من كتاب اهلل ،تبارك وتعالى ،مثل قوله تعالى":
1
ابن رشد ،أبو الوليد ،فصل المقال ،تعليق ألبير نصري نادر ،دار المشرق ،الطبعة الثانية ،بيروت 4919 ،ص29 :
2
سورة الحشر ،اآلية5:
3
المرجع نفسه ،ص59:
4
المرجع نفسه ،ص32:
5
إبراهيم بورشاشن ،الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي ،دار المدار اإلسالمي ،بيروت ،الطبعة األولى 5242ص442 :
46
والنص الذي يعتمده األستاذ بورشاشن ..":وأنا قد أبحث لمن وقع من ذلك على وهم لي أن
يصلحه ،واهلل المعين الموفق "1.يؤكد لنا مستوى الرول العلمية عند ابن رشد ،والتي ترفع من قيمة اإليمان
بالنسبية في البحث الفقهي ،واألصولي ،خصوصا ،وأن العصر الذي كان يعايشه عصر جمود ،وقوقعة
فكرية على المستوى االجتهادي الفقهي ،وهو رسالة الى الفقهاء الذين يعتقدون في امتالكهم الحقيقة
المطلقة.
والملفت في كتاب البداية األشكلة التي يعتمدها ابن رشد في التعامل مع المسائل الفقهية ،فهو
يتناهى في ضبط اإلشكاليات الفرعية التي تستبطنها الظاهرة ،فهو تعبير عن تجاوز للتعامل السطحي مع
الظاهرة ،والتي قد تودي بالباحث الى مجانبة الصواب ،فتفريع األسئلة بناء منهجي ،وصوري لمسائلة
فصلت أكثر ...وبيان مواضع اإلشكال فيه ،وكأن القصدالموضوع ،يقول بورشاشن ":نالحظ أن األسئلة ّ
من ذلك هو أن يحصر ابن رشد أمام الفقيه جملة اإلشكاالت التي يطرحها القول الفقهي ..من أجل تأملها
فهذا هو األهم عنده ،أما األجوبة فليست بذات بال كبير ..إذن هي متروكة الجتهاد الفقهاء ...فالتأمل
هنا أهم من االستظهار والحفظ ،فالتأمل منتج أما االستظهار فعقيم ..فنحن مع ابن رشد أمام دعوة غير
التأمل الفقهي تضاهي دعواته المباشرة الى التأمل"..
مباشرة الى ّ
والمشروع الرشدي في مساره الفقهي ال يقف عند حدود الخصوصية القانونية ،التي تفترض
التسليم ،واإليمان ،واالمتثال للقاعدة الفقهية ،على قاعدة موضوعيتها ،وتعاليها ،فهو يفتح المجال أمام
النقاش ،وأمام الرأي اآلخر ،وهذا ما ورثه عن الجد ،الذي تعرفنا على أخالقه العلمية ،والفلسفية في
التعامل مع المذاهب األخرى ،فهو يناقش أدلة علماء المالكية ،كما يناقش أدلة المذاهب األخرى ،فهو
ينتصر أحيانا لمذهب على آخر ،يقول بورشاشن ..":حيث ند ابن رشد ينتصر لموقف الشافعية الذي
يذهب الى أن النجاسة تزال فقط بالماء...وفي علل الربا ينتصر لعلة األحناف ويعتبر علتهم أولى
2
والمقصد عند ابن رشد تربية الفقيه على التعامل الموضوعي ،مع النص الفقهي ،واجتناب العلل..
القراءة اإليديولوجية للنص الفقهي ،والتاريخ يحمل لنا أدلة ال حصر لها تثبت اقتران النكبات بالقراءات
اإليديولوجية.
كما أن المادة التي يشتغل عليها الفقيه ،ذات طبيعة حركية ومتغيرة؛ ألنها عائدة لجملة أسباب،
المتغيرات ألخالقيات جديدة ،وميالد
ّ وتؤسس هذه
ّ ترتبط بالمكلّف ابتداء ،وبمحيطه الثقافي ،والجغرافي،
مجموعة من القيم تتعارض ،أو توحي بالتغاير بينها وبين الثوابت القيمية المتفق عليها ،فعلى المستوى
الفردي تساهم االنفعاالت الشخصية في إحداث بعض النتائج ،إذا لم تكن في جلّها الوقائع اإلنسانية نتاجا
للمؤثرات االنفعالية ،والتي ِّ
تشكل ثابتا في الشخصية اإلنسانية ،وعليه يصبح الباب مفتوحا أمام الفقيه في
1
ابن رشد ،بداية المجتهد ،ونهاية المقتصد 4 ،مكتبة مصطفى الحلبي ،القاهرة ،الطبعة الثالثة 4912:ص99:
2
إبراهيم بورشاشن ،الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي ،مرجع سابق ،ص .ص452-449:
47
االجتهاد واالستنباط ،وهذا ما نعتبره تقعيدا للعالقة العضوية بين الفقيه والفلسفة؛ فالبحث عن السعادة الذي
ش اكل اللبنة القاعدية للفلسفة الخلقية يوجِّه أيضا الرؤية المستقبلية عند الفقيه ،وتعريف األخالق بأنها علم
السلوك يظهر االرتباط القائم بين الفقه واألخالق ،التي هي مبحث رئيس في الفلسفة ،فاالشتراك في
الموضوع ،وفي الغاية من الدراسة تكشف عن البعد األخالقي في العلمين ،فالفقه يدرس السلوك كفعل ،أي
يقوم بتحديده موضوعيا من خالل بيان العالقة بين الفعل والنتيجة ،أي بدراسة سوابق الفعل ،وعالقاته
باإلرادة والحرية ،وبدراسته أيضا معياريا ،وذلك من خالل عرضه على المقاييس الوجوبية التي يفترض
السير وفقها ،وهي ما تعرف في الفلسفة بالقيم ،والتي تأخذ األخالق فيها المركز الرئيس ،فالفصل بين
الفقيه والفيلسوف ،فصل تعسفي ،كان المقصد فيه هو إبقاء األمة خار التاريخ.
48