You are on page 1of 10

‫الفقه والفلسفة مقاربة فلسفية‬

‫الدين بن دوبه‬ ‫شري‬


‫طالب دكتوراِ‪ ،‬جامعة محمد بن أحمد وهران ‪2‬‬
‫تحت ِش ار ‪ :‬اد برياح مختار‬

‫مدخل‪:‬‬
‫تضع المقاربات الفكرية الفلسفة أمام أحكام متباينة‪ ،‬ومتضاربة‪ ،‬داخل الممارسة الفلسفية‪،‬‬
‫وخارجها؛ فإذا كانت قيمة الفلسفة‪ ،‬وداللتها مح ّل خالف بين طبقات العامة‪ ،‬فإن االختالف حول وظيفتها‬
‫أيضا مستشكل بين المشتغلين بها‪ ،‬فتقديس العقل‪ ،‬والدعوة الى تحطيم األصنام الذهنية المعارضة له شكل‬
‫من أشكال االنحراف داخل الفلسفة‪ ،‬ودليلنا في ذلك الخلط المفهومي الواقع بين استتباعات االعتقاد‬
‫باللوغوس‪ ،‬على قاعدة المفارقة الموجودة بينه‪ ،‬وبين والميتوس‪ ،‬وبحكم الميل البشري الى التطرف في‬
‫االعتقاد‪ ،‬فإن اإليمان بفكرة أو تصور يستلزم التحطيم‪ ،‬والهدم للمقابل‪ ،‬فالميتوس كخيال‪ ،‬أو أسطورة ال‬
‫يقتضي التناقض‪ ،‬أو التعارض مع العقل‪ ،‬بل يستمد طاقته‪ ،‬وقوته منه أصال‪ ،‬فالتجريد الفلسفي يتعالى‬
‫عن المعطيات الحسية بواسطة الخيال‪ ،‬والصورنة ‪ Formalisation‬التي تشكل جوهر الفلسفة توضع في‬
‫خانة الخيال‪ ،‬وليس في دائرة العقل‪ ،‬فالتباعد بين الفلسفة والخيال ليس إال لعبة لغوية أتقنها أنصاف‬
‫الفالسفة‪ .‬يوحي التعاطي األولي مع الفلسفة‪ ،‬والفقه‪ ،‬أنهما علمين متباعدين من حيث الحقل المعرفي الذي‬
‫يقع فيه ك لل منهما‪ ،‬على قاعدة التغاير‪ ،‬والتخار القائم بين الشريعة‪ ،‬والحكمة؛ فمجال الحكمة التوفيق‪،‬‬
‫والعمل بالعقل‪ ،‬وفضاء الشريعة هو األحكام التوقيفية التي ال يملك فيها العقل إال التسليم باألوامر‪ ،‬والعمل‬
‫على تنفيذها‪ ،‬ولكن التدبر في الحكمة الغائية من الشريعة‪ ،‬والتي تتصدرها المطالب األخالقية تقرر‬
‫بالتقاطع‪ ،‬أو التالحم الواقع بين الحكمتين‪.‬‬
‫في البدء ينبغي اإلشارة الى المسار الداللي الذي عايشه لفظ الفقه‪ ،‬فاألصل المرجعي للداللة بدأ‬
‫وتحول عند الجماعات اللغوية الى اصطالل يتقارب تارة‪ ،‬ويتباعد تارة أخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مع المعرفة‪ ،‬والفهم‪،‬‬
‫وأخذت الكلمة دالالت أخرى حسب السياق التي ترد فيه‪ ،‬فتصبح القواعد عندما تقترن بموضوع معين‪،‬‬
‫مثل األخالق‪ ،‬أوالقانون‪ ،‬أي القواعد الناظمة للحياة القانونية‪ ،‬أو األخالقية‪.‬‬
‫واذا حاولنا قراءة الحد‪ :‬فقه في السياق اللغوي لوجدناه يشير الى الوعي‪ ،‬والفهم‪ ،‬جاء في لسان‬
‫العرب أن الفقه هو ‪":‬العلم بالشيء‪ ،‬والفهم له‪... ،‬قال غيره‪ :‬والفقه في األصل هو‪ :‬الفهم‪ .‬يقال ‪ :‬أوتي‬

‫‪39‬‬
‫ب َما‬
‫فالن فقها في الدين أي فهما فيه‪ " "...‬وتؤ ّكد اآلية الكريمة هذه الداللة‪ ،‬في قوله تعالى‪ :‬قَالُوا َيا ُش َع وي ُ‬
‫‪1‬‬

‫ت َعلَوي َنا بف َع فز ٍ‬
‫يز‪. 2‬‬ ‫ض فعيفا َولَ ووَال َروهطُ َك لَ َر َج وم َن َ‬
‫اك َو َما أ وَن َ‬ ‫ير فم اما تَقُو ُل وفاانا لََنر َ ف‬
‫اك ف َينا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َن وفقَهُ َكثف ا‬
‫وتفقّه في الدين‪ ،‬أخذ قسطا من المعرفة بالدين‪ ،‬فتكون الداللة في السياق لكلمة فقه هي العلم‪،‬‬
‫ون لف َي ون فف ُروا َكافاة َفلَ ووَال َنفَ َر فم ون ُك ِّل فف ورقَ ٍة‬
‫ان اول ُم وؤ فمُن َ‬
‫والمعرفة بالشيء‪ ،‬ونلمس الداللة في قوله تعالى‪َ :‬و َما َك َ‬
‫ا‬ ‫ف‬ ‫فم ونهُ وم طَائففَةٌ لف َيتَفَقاهُوا ففي ِّ‬
‫ين َولفُي ونذ ُروا قَ وو َمهُ وم إف َذا َر َج ُعوا إفلَ وي فه وم لَ َعلهُ وم َي وح َذ ُر َ‬
‫الد ف‬
‫‪3‬‬
‫ون‪‬‬
‫أما الفقه في االصطالل الشرعي‪ ،‬فهو‪ ":‬العلم باألحكام الشرعية العملية المأخوذة من األدلة‬
‫التفصيلية‪ ،‬ويراد باألحكام الشرعية العملية في هذا التعريف خطابات الشرع الحكيم المتعلقة بأفعال العباد‬
‫الحسية من فعل أو ترك والمتضمنة بيان تصرفات الناس من الصحة والفساد والبطالن والوقف والنفاذ‬
‫واللزوم‪"4.‬‬
‫وللعلم أن االصطالل الشرعي للداللة المتفق عليها لكلمة فقه جاءت متأخرة‪ ،‬على قاعدة الشهود‪،‬‬
‫والحضور األنطولوجي لألحكام التكليفية في شخص الرسول األكرم ‪ ،‬فلم يعرف الصحابة يومها اجتهاد‬
‫في مسألة‪ ،‬أو في تأصيل حكم‪ ،‬بل كانت له سلطة التشريع ‪ ،‬وكان كتاب اهلل وسنة رسوله ‪ ‬المرجع‬
‫األساس للفتوى‪ ،‬وقل ما اعتمد الرأي واالجتهاد في اإلفتاء‪ ،‬وكان هؤالء يعرفون بـ ـ (القراء) "‪..‬ألنهم كانوا‬
‫حفظة القرآن الكريم وقراءه وكذا سنة النبي ‪ ،‬ولم يشع إطالق اسم الفقهاء على المشتغلين باألحكام‬
‫الشرعية العملية إال في وسط عهد التابعين وكان ذلك‪...‬بداية تأسيس علم الفقه ووضع مناهجه العلمية‪.‬‬
‫المسيب ومن ذلك الوقت أطلق على المشتغلين بالفقه‬
‫ّ‬ ‫وكان فرسان هذه الحلبة جماعة رأسهم سعيد بن‬
‫(الفقهاء)"‪.5‬‬
‫ويتّفق الفقهاء‪ ،‬وعلماء الشريعة على أن العبادات‪ ،‬والمعامالت هي المجاالت الرئيسة لعلم الفقه‪،‬‬
‫ويالحظ أن علماء الحديث قد تأثّروا أيضا بهذا المنحى حيث يظهر في تعاطيهم المعرفي‪ ،‬والمنهجي في‬
‫يحدد العالقة بين العبد‪ ،‬وربه؛ أي خالقه؛ وعبوديته‬
‫تبويب مباحثهم المعرفية‪ ،‬فالعبادات هي الفضاء الذي ّ‬
‫هلل تفيد الخضوع‪ ،‬واالرتباط الكلي باهلل الواحد األحد‪ ،‬أما المعامالت فمجالها الناس(المجتمع المدني‪،‬‬
‫األمة)‪ ،‬فهي ال تخر أن تكون" أعماال تعبدية يتفرغ فيها ألداء العبادات‪ ،‬فرائض ونوافل‪ ،‬وأعمال تعيلشية‬
‫يتعامل فيها مع الناس‪ ،‬قياما بمتطلّبات العيش والتعايش"‪.6‬‬

‫‪1‬‬
‫ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪،‬‬
‫‪ 2‬سورة هود‪ ،‬اآلية‪94:‬‬
‫‪ 3‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية‪321 :‬‬
‫نصر فريد محمد واصل‪ ،‬المدخل الوسيط لدراسة الشريعة اإلسالمية والفقه والتشريع‪ ،‬المكتبة التوفيقية‪ ،‬مصر‪ ،‬ص‪52:‬‬ ‫‪4‬‬

‫(د‪.‬ط‪.‬ت)‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪54:‬‬ ‫‪5‬‬

‫طه عبد الرحمن‪ ،‬سؤال العمل‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 5225 ،‬ص‪51:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪41‬‬
‫فالعبادات ليست مفصولة عن المعامالت‪ ،‬بل هناك تقاطع قوي بينهما‪ ،‬فالعبادة تكون في الشريعة‬
‫مقدمات للفعل‪ ،‬أو المعامالت‪ ،‬يقول الغزالي‪ ":‬العلم بال عمل جنون‪ ،‬والعمل بغير علم ال‬
‫اإلسالمية ّ‬
‫‪1‬‬
‫يكون"‬
‫وقد ّبين المف ّكر طه عبد الرحمن االشتراك اللغوي بين العلم والعمل في المجال التداولي العربي‬
‫واإلسالمي‪ ،‬يقول‪ ":‬اللسان العربي امتاز باشتقاق اللفظين‪" :‬العلم"‪ ،‬و"العمل" من نفس المادة اللغوية‪[:‬ع‬
‫ل م ] فهما عبارة عن تقليبين مختلفين من التقاليب الستة الممكنة لهذه المادة‪ ،‬فإذن يجوز أن نعتبر‬
‫أحدهما مقلوبا من اآلخر‪ ،‬تنبيها على أن أحدهما من مقتضى اآلخر‪ ،‬بحيث يفضي العلم الى العمل كما‬
‫‪2‬‬
‫يفضي العمل الى العلم"‬
‫ونجد أن المشكلة في االعتقاد‪ ،‬وليس في العقائد‪ ،‬فالدالالت التي يحملها الفقه ال تبتعد عن رول‬
‫الفلسفة وغاياتها‪ ،‬فداللة الفقه في اللغة العربية قائمة على الفهم‪ ،‬والمعرفة‪ ،‬والوعي‪ ،‬وهي أدوات فلسفية‬
‫تنبه المفكر العربي طه عبد الرحمن للمسألة‪ ،‬إذ حاول التأسيس لرؤية تنصهر فيها الحدود‬
‫بامتياز‪ ،‬وقد ّ‬
‫المتميزة‪ :‬فقه الفلسفة حيث يكشف لنا عن الدالالت‪ ،‬واللطائف‬
‫ّ‬ ‫بين الفلسفة‪ ،‬والفقه‪ ،‬من خالل سلسلته‬
‫المتضمنة في لفظ الفقه‪ ،‬فتكون المقاصد التي أرادها الفالسفة من بحثهم‪ ،‬واقعة في دالالت الفقه‪ ،‬وليس‬
‫ّ‬
‫في اصطالل العلم‪ ،‬أو المعرفة‪.‬‬
‫فـ ـ "‪...‬لفظ الفقه يفضل لفظ "العلم" من جهة انه أخص منه بزيادة قيد التأ لمل فيه‪ ،‬ذلك أن كل‬
‫فقه هو علم حاصل بإمعان في النظر‪ ،‬وهو مقتضى التأمل‪ ..3"..‬أما العلم فهو حصول المطلوب‪،‬‬
‫بالحس‪ ،‬إذا كانت من جنس المسائل‬ ‫ّ‬ ‫واالستغناء عن االجتهاد في الطلب‪ ،‬و معرفة الظاهرة‪ ،‬يحصل‬
‫الطبيعية‪ ،‬والوقائع التجريبية‪ ،‬أما مجال الفقه‪ ،‬فهو باعتماده على التأمل‪ ،‬يقوم على الفعالية الذهنية التي‬
‫تقوم على الصور‪ ،‬والمعاني المجردة‪ ،‬التي تكون بنسبة أقل في البحث العلمي التجريبي‪.‬‬
‫يتحدد بالغايات‬
‫ّ‬ ‫كما يستبطن الفقه داللة أخرى تجعله يتعالى في مرتبة الشرف الفلسفي‪ ،‬الذي‬
‫التي ترمي إليها الفلسفة‪ ،‬وتنشدها؛ فالفقه كمعرفة‪ ،‬يختلف عنها في بعض اللطائف اللغوية‪ ،‬التي‬
‫يتضمنها‪ ،‬يقول طه عبد الرحمن‪..":‬اعلم أيضا أن لفظ "الفقه" يفضل أيضا لفظ المعرفة من حيث إن الفقه‬
‫أخص من المعرفة بإضافة قيد الكالم فيه؛ أما ترى انك تقول‪" :‬فقهت كالمه"‪ ،‬وال تقول "فقهت ذهابه‬
‫ّ‬
‫‪4‬‬
‫ومجيئه"‪ ،‬في حين يجوز أن تقول "عرفت ذهابه ومجيئه" كما تقول "عرفت كالمه"‪. ".‬‬

‫الغزالي‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬أيها الولد‪ ،‬تحقيق علي محي الدين علي القره داغي‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية‪ ،‬بيروت الطبعة الرابعة‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 4134‬هـ‪ ،‬ص‪429:‬‬
‫طه عبد الرحمن‪ ،‬سؤال العمل‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪41:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫طه‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬فقه الفلسفة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪ 4992 ،‬ص‪ ،‬ص‪53-51:‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪53:‬‬
‫‪41‬‬
‫فلفظ الفقه إذن يقترب من المقاصد الفلسفية‪ ،‬والتي هي النظر‪ ،‬والـتأمل‪ ،‬في مقابل المعرفة‪ ،‬التي‬
‫محدد بشكل دقيق‪ ،‬وال يمكن استثماره في‬
‫ارتبطت بالمجرد‪ ،‬حيث أن المجال االستعمالي للفظ المعرفة ّ‬
‫سياقات أخرى مثل السياق التداولي‪ ،‬الواقعي‪ ،‬فرسخت في ذهن المتلقي بوعي أو الوعي عن الشرخ‬
‫األزلي بين الواقع‪ ،‬والنظرية‪.‬‬
‫وفي الظاهر أن التوظيف‪ ،‬والترجمة‪ ،‬وراء كثير من اإلشكاليات التي تضمنتها الفلسفة‪،‬‬
‫خصوصا‪ ،‬ما نقله العرب من اصطالل يوناني الى اللغة العربية‪ ،‬حيث لم يحافظ المترجمون على السياق‬
‫التداولي للفظ في اللغة العربية‪ ،‬وقد كان هذا وراء الضعف الفكري عند العرب‪ ،‬فتاريخ الفلسفة العربية‬
‫تاريخ تقليد‪ ،‬حيث ولدت ميتة في المهد العربي‪ ،‬والمسئول عن هذا القتل هو فعل الترجمة‪ ،‬ألنها اقترنت‬
‫بالترجمة وجودا وعدما‪ ،‬يقول‪.. ":‬أما ترى أن المتفلسف العربي ال يصوغ من األلفاظ إال ما صاغه غيره‪،‬‬
‫وال يستعمل من الجمل إال ما استعمله‪ ،‬وال يضع من النصوص إال ما وضعه‪ .. ،‬واذا اشتبه أمر هذا‬
‫التقليد في القول الفلسفي على بعض المتأخرين الذين ضاقت عليهم سبل القول والفكر‪ ،‬فإنه لم يشتبه قط‬
‫المتقدمين‪ ،‬ذلك أنهم لم يفتهم الفروق بين قول جار‪ ،‬على عاداتهم في الكالم واإلفهام وبين قول ال‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫يجري عليها كما فات المتأخرين‪"1...‬‬
‫ونظ ار للتقدم العلمي‪ ،‬والتقني لبني اإلنسان نشهد تراجعا للنظرة السلبية الى الفلسفة‪ ،‬فبدأت الفروع‬
‫الجديدة للفلسفة في استنهاض محاوالت معرفية راهنة‪ ،‬خصوصا في المجال الشرعي عموما‪ ،‬والفقهي‬
‫خصوصا‪ ،‬ويمكن قراءة الفلسفة من زاويتين‪ :‬الفلسفة بمعناها المطلق‪ ،‬والذي يشير الى المجال المعرفي‬
‫كالسيكي يجعل من االنطولوجيا‪ ،‬واالكسيولوجيا‪ ،‬والغنوسيولوجيا[ ‪ ،]Gnoséologie‬والفلسفة المضافة‪،‬‬
‫والتي تضاف الى حقل معرفي معين‪ ،‬يمكن أن يكون نظريا‪ ،‬أو واقعيا‪ ،‬مثل‪ :‬فلسفة العلم‪ ،‬وفلسفة‬
‫النفس‪ ...‬وقد تضاف الى عصر‪ ،‬مثل فلسفة العصور الوسطى‪ ،‬وفلسفة التنوير أو الى فيلسوف‪ ،‬كأن‬
‫نقول مثال فلسفة أفالطون‪ ،‬أو فلسفة أرسطو‪...‬‬
‫وفلسفة الفقه نموذ معرفي جديد ظهر في الحقول الشرعية ألسباب معينة‪ ،‬منها ما يرتبط ببحث‬
‫المتغيرات الثقافية‪ ،‬ودورها في تغيير الفتوى في المجال الفقهي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األخالق التطبيقية‪ ،‬والذي يصدق على‬
‫تنبه العلماء األوائل لهذه المسألة‪ ،‬منهم اإلمام القرافي[‪151‬هـ ‪ 191‬هـ]‪ ،‬والشاطبي‪ ،‬فالمتغيرات‬‫وقد ّ‬
‫حقيقة‪ ،‬وواقع اجتماعي ينبغي مراعاته‪ ،‬في استنباط الحكم الفقهي‪ ،‬أو القاعدة القانونية التنظيمية‪ ،‬ولهذا‬
‫نجد في الفقه تأصيل نظري‪ ،‬وعملي للسلوك البشري‪ ،‬فالفقه ليس علما شرعيا بالمعنى الضيق الذي‬

‫‪1‬‬
‫طه‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪44 :‬‬
‫شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العالء إدريس بن عبد الرحمان بن عبد اهلل بن يلين الصنهاجي المصري‪ ،‬ولد سنة‬ ‫‪‬‬

‫‪ 151‬للهجرة‪ .‬المتوفى سنة ‪ 191‬للهجرة‬


‫إبراهيم بن موسى بن محمد أبو إسحاق اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي‪ ،‬وكنيته التي عرف بها أبو إسحاق‪ ،‬من‬ ‫‪‬‬

‫مؤلفاته‪ :‬الموافقات‪ ،‬واالعتصام‪...‬‬


‫‪42‬‬
‫تعارف عليه العامة‪ ،‬والدهماء‪ ،‬والبعض من الشرائح المثقفة‪ ،‬والنص التالي من كتاب القرافي‪ ،‬الفقيه‬
‫المالكي يكشف عن خطورة المتغيرات في التأسيس‪ ،‬يقول القرافي‪ ":‬ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت‪ ،‬ال‬
‫يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا‪ :‬أن ال يفتيه بما عادتُه ُيفتي حتى يسأله عن بلده‪،‬‬
‫عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم ال؟ وان كان اللفظ عرفيا فهل عرف ذلك البلد‬
‫ٌ‬ ‫وهل حدث لهم‬
‫‪1‬‬
‫موافق لهذا البلد في عرفه أم ال؟‪"...‬‬
‫وهذا يفضي بنا الى مراجعة شخصية الفقيه‪ ،‬فالفقيه التقليدي الذي يؤلِّف المتون‪ ،‬ويضع‬
‫الحواشي‪ ،‬لم تعد يملك تلك المكانة التقليدية‪ ،‬والهالة المقدسة التي أضفاها عليه أبناء الجماعة‪ ،‬فهي‬
‫شخصية كما يقول محمد دحيم‪ ":‬ال تفي بمقام الفقيه في الناس والحياة‪ ،‬أما شخصية الفقيه الفيلسوف فهي‬
‫ومستجداته‪ ،‬فهو يقترل داللة النص‪ ،‬ويفتح آفاقه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الواعية والمتناغمة مع معطيات العصر وتقنياته‬
‫‪2‬‬
‫ويتجاوز ألجل الحقيقة كل التراكمات العائقة‪ ،‬ومن خالله تصبح الشريعة صالحة لكل زمان ومكان"‪.‬‬
‫التحوالت االجتماعية حقيقة واقعية المناص‬
‫المتغيرات العلمية‪ ،‬والتقنية‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫والعالقة المنطقية بين‬
‫المتغيرات تقتضي اجتهادا‪ ،‬وقدرة فكرية عالية لدى‬
‫ّ‬ ‫منها‪ ،‬وعليه فإن البحث عن ضوابط شرعية ثابتة أمام‬
‫المجتهد الفقيه‪ ،‬فاستتباعات الفتوى ترتبط بوجود سلطة تقديرية‪ ،‬وتشخيصية يستحيل على الفقيه‬
‫باالصطالل التقليدي بلوغها‪ ،‬وهذه االستتباعات الجانبية للفتوى تستدعي ظهور فرع جديد ضمن الدائرة‬
‫الفقهية‪ ،‬وهو فلسفة الفقه‪ ،‬والتي تقوم بدور يقترب من الوظيفة التي تقوم بها فلسفة العلوم‪ ،‬والتي تبدأ‬
‫بالمتابعة التاريخية للمسائل‪ ،‬واألحكام الفقهية‪ ،‬فالتغيلر في الفتوى‪ ،‬ليس إال تغيلر في سلّم القيم األخالقية‪،‬‬
‫إذ نجدها تعكس بشكل صريح نسبية القيم في الواقع الحالي‪ ،‬فاألخالق الجديدة تعبير‪ ،‬واصطالل جديد‬
‫تضمنها الت ارث الفقهي‪ ،‬فالنوازل‪ ،‬والمستحدثات في لغة الفقهاء ليست إال إشارات تفيد‬
‫ّ‬ ‫فقط لمسائل قديمة‪،‬‬
‫ما وجدت من أجله األخالق التطبيقية‪ ،‬أو الفلسفة األخالقية المعاصرة‪.‬‬
‫ولهذا نجد أن راهنية الحضور الفلسفي في الفقه مسألة واجبة‪ ،‬ألن الفقيه‪ ،‬غير قادر على إدراك‬
‫ذاته‪ ،‬من خالل ذاته‪ ،‬فأي علم يقتضي قراءة خارجية له‪ ،‬فالفلسفة الفقهية‪ ،‬أو فلسفة الفقه تق أر الفقه كعلم‪،‬‬
‫ومستجداته بعين خارجية‪ ،‬وموضوعية‪ ،‬ومتعالية‪ ،‬فاالنتماء المذهبي مثال قد يعيق الفقيه في إصدار‪ ،‬أو‬
‫ّ‬
‫استنباط الحكم الفقهي‪ ،‬والتي تنطبق على سائر المذاهب الفقهية‪ ،‬فالمدرسة المالكية لها مبادئها‪،‬‬
‫ومسلماتها‪ ،‬وأدواتها المفاهيمية‪ ،‬يقتضي التسليم بها‪ ،‬بلوغ نتائج الزمة‪ ،‬وضرورية‪ ،‬ونفس الحال ينطبق‬
‫على المنتمين الى المدارس األخرى‪ ،‬لهذا وجب على الحقل الفقهي استثمار أدوات خارجة عن سياقاته في‬
‫فهم مسلماته‪ ،‬ونتائجه‪ ،‬ففقه الفلسفة ينهج األسلوب النقدي في التعاطي مع المسائل‪ ،‬من أجل بيان‬

‫‪1‬‬
‫القرافي‪ ،‬اإلحكام في تمييز الفتاوى عن األحكام‪ ،‬وتصرفات القاضي واإلمام‪ ،‬مكتبة المطبوعات اإلسالمية‪ ،‬حلب‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪ 4992 ،‬ص‪535 :‬‬
‫‪2‬‬
‫محمد دحيم‪ ،‬مقال ‪ :‬هل يمكن فلسفة الفقه؟ جريدة الحياة‪http://www.alhayat.com/m/opinion/438651 :‬‬
‫‪43‬‬
‫المنطلقات‪ ،‬والمؤثرات المضمرة في القضايا الفقهية‪ ،‬والفحص النقدي يفضح األوهام بملكية الحقيقة عند‬
‫المجتهد في الفقه‪ ،‬وامتالك اآلليات النقدية يحيل الفقيه الى الفلسفة بشكل الزم‪.‬‬
‫كما نجد أن البحث في نجاعة الفقه‪ ،‬وقدرته على تجاوز الرهانات العلمية والتقنية مسألة تندر‬
‫فالتخصص في علم معين‪ ،‬ال يمنح المشروعية إلصدار األحكام‬‫ّ‬ ‫ضمن فلسفة الفقه‪ ،‬وليس في الفقه‪،‬‬
‫الفقهية‪ ،‬فالعلم ال يقيِّم نفسه‪ ،‬بل تكون المراجعة من قبل فقيه متمكن من النقد الفلسفي‪ ،‬فالواقع أغنى من‬
‫النظرية‪ ،‬وتطبيق الفتوى يكشف عن نجاعة الفتوى وحجيتها‪ ،‬أو بطالنها‪.‬‬
‫ومن المسائل الراهنة التي تفرض نفسها على الفقيه‪ ،‬وتجبره على االنفتال عن التطورات العلمية‬
‫المستجدات المتعلّقة بالحياة الفردية في المستوى الطبي‪ ،‬والتي يصطلح عليها بالبيوتيقا‪ ،‬أو بالمعنى األدق‬
‫األخالق التطبيقية‪ ،‬والتي تنضوي تحتها مسائل عدة منها المسائل المالية‪ ،‬والعالقات الدولية‪ ،‬وكثير من‬
‫القضايا الجديدة‪ ،‬والتي تفرض رؤية جديدة‪ ،‬ومن زوايا مختلفة حتى يمكن تشريع القاعدة الفقهية المناسبة‬
‫للوضعية المستجدة‪.‬‬
‫التطرق الى عالم فقيه‪ ،‬هو ابن رشد الجد‪ ،‬ثم‬
‫ل‬ ‫وسنحاول إبراز العالقة بين الفلسفة والفقه من خالل‬
‫نعر على الفيلسوف الذي ينتمي الى المدرسة‪ ،‬وهو القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد‪ ،‬شارل أرسطو‪،‬‬
‫وصاحب كتاب بداية المجتهد‪ ،‬ونهاية المقتصد‪.‬‬
‫ابن رشد الجد‪:‬‬
‫عرف ابن رشد الجد باسم عالم الخالفيات‪ ،‬إضافة الى ضلوعه في علوم الشريعة‪ ،‬الفقه‪،‬‬
‫واألصول‪ ،‬فقد كان أستاذا في الفقه كما ينعته الكثير من الباحثين ابن رشد األستاذ‪ ،‬الذي قام بتدريس‬
‫كما كان شارحا لهذين الكتابين‪ ،‬بحكم‬ ‫‪‬‬
‫أمهات الكتب المالكية في الفقه للطلبة‪ ،‬مثل‪:‬المدونة‪ ،‬و العتبية‬
‫ّ‬
‫أنهما من أمهات الكتب الفقهية المالكية في األندلس‪.‬‬
‫والمالمح الفلسفية عند ابن رشد الجد تظهر أيضا في القدرة الكالمية التي كان يتمتع بها‪ ،‬في‬
‫الدفاع عن المذهب المالكي‪ ،‬أمام المذاهب الفقهية األخرى مثل الحنفية‪ ،‬والشيعة‪ ،‬والظاهرية‪ ،‬فقد كان‬
‫تميز بالمنحى اإلبداعي‪ ،‬والتجديدي‪،‬‬
‫بحق أستاذا للخالفيات‪ ،‬أو لعلم الكالم الفقهي إذا جاز التعبير‪ ،‬كما ّ‬
‫فلم يكن مقلِّدا‪ ،‬ومجرد تابعا في المدرسة المالكية‪ ،‬بل ّ‬
‫وجه انتقادات الى العقيدة األشعرية‪ ،‬وفي منهجها‬
‫االستداللي‪.‬‬

‫محمد بن أحمد بن محمد بن عبد اهلل‪ ،‬بن رشد ولد عام ‪ 122‬ه‬ ‫‪‬‬

‫المدونة الكبرى ‪ :‬مجموعة من األسئلة في الفقه وردت عن اإلمام مالك بن انس‪ ،‬رواها عبد السالم بن سعيد التنوخي‬ ‫‪‬‬

‫الملقب بسحنون‪ ،‬وتعرف باسم‪ :‬مدونة سحنون‪.‬‬


‫المستخرَجة‪ ،‬سميت‬
‫العتبية‪ ،‬عرفت باسم صاحبها محمد العتبي بن احمد بن عبد العزيز األموي (‪ 512‬ه) وتسمى أيضا ُ‬
‫‪‬‬

‫بذلك ألنه استخرجها من األسمعة التي رويت عن اإلمام مالك بواسطة تالميذه‬
‫‪44‬‬
‫ومن بين مظاهر هذه التجليات الفكرية العالقة بين المذاهب الفقهية‪ ،‬ففي بعض المسائل تظهر‬
‫حدة الخطاب مع أتباع المذهب الحنفي في بعض المسائل‪ ،‬ومنها المسألة‪ 411:‬حيث يثبت ابن رشد‬
‫بالتحليل العميق المعاني الحقيقية لالجتهاد‪ ،‬ووجوب ضبط عملية تأويل النص‪ ،‬ويتعاطى ابن رشد مع‬
‫‪‬‬
‫الشافعية بأسلوب لطيف لدرجة يظهر للقارئ أن الشافعية امتداد للمذهب المالكي‬
‫ويعتقد الباحثين أن األصول المعرفية والمنهجية البن رشد الحفيد الفيلسوف موروث معرفي من‬
‫الجد‪ ،‬فكتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من االتصال‪ ،‬متن يضم األطروحة الرشدية التي‬
‫أسسها‪ ،‬والنص التالي من المسائل يؤكد ذلك‪":‬ونحن نقطع أن كل ما أدى إليه البرهان‪ ،‬وخالفه ظاهر‬ ‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫الشرع‪ ،‬أن ذلك الظاهر يقبل التأويل‪ ،‬على قانون التأويل العربي "‬
‫ونستأنس بنص للمستشرق الفرنسي ارنست رينان‪ ، Joseph Ernest Renan‬يبسط فيه البعد‪،‬‬
‫والمنحى الفلسفي عند ابن رشد الجد‪ ،‬وهذا بغية التأكيد على الرابطة العضوية بين الفقه والفلسفةـ فالفقه‬
‫ليس مجاال معرفيا تشريعيا خال من أي محتوى نظري‪ ،‬بل هو معرفة قائمة على قواعد نظرية فلسفية‪،‬‬
‫ومناهج استداللية ال تخر عن الدائرة الفلسفية إطالقا‪ ،‬يقول رينان‪..":‬إن المكتبة األهلية بباريس تضم‬
‫مجلدا ضخما يحتوي على تلك المسائل الفقهية‪ ،‬التي كان يستشار فيها‪ ،‬وقد حوى هذا الكتاب‪ ،‬فيما حوى‪،‬‬
‫فكرة جليلة‪ ،‬ستراها مفصلة‪ ،‬فيما بعد ‪ ،‬أجمل تفصيل‪ ،‬لدى حفيده‪ ،‬وفي محاولة التوفيق بين الدين والعقل‪،‬‬
‫فكأن الحفيد أخذ على نفسه أن يتوسع فغي عرض آراء جده‪ ،‬وان يخرجها الى حيز الوجود‪ ،‬في أروع‬
‫‪2‬‬
‫صورة وأكملها"‬
‫يتبين من خالل هذا النص أن الشخصية الفلسفية البن رشد الحفيد امتداد‪ ،‬واستمرار للرؤية‬
‫الفلسفية التي كان يملكها الجد‪ ،‬فالمشروع الفلسفي عند ابن رشد الجد وجد طريقه الى الحفيد‪ ،‬فعلى قاعدة‬
‫الفوضى القيمية‪ ،‬والمعرفية التي كانت سائدة آنذاك في قرطبة‪ ،‬ركز الجد على المسائل الفقهية التي كانت‬
‫محل خالف بين الفقهاء نتيجة التعددية المذهبية الفقهية التي نتجت عن خالفات سياسية بحتة في التاريخ‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ابن رشد الفيلسوف‪:‬‬

‫‪ ‬انظر كتاب‪ :‬مسائل ابن رشد اجلد حتقيق حممد احلبيب التجكاين‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬منشورات دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬املغرب‪ ،‬الطبعة األوىل ‪3992‬‬
‫ص‪302:‬‬
‫‪1‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪421:‬‬
‫‪ 4995 4953‬فيسلوف‪ ،‬ومؤرخ فرنسي من مؤلفاته‪ :‬ابن رشد والرشدية‪...‬‬ ‫‪‬‬

‫‪2‬‬
‫ابن رشد‪ ،‬مسائل ابن رشد الجد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪421:‬‬
‫‪45‬‬
‫بدأ ابن رشد‪ ،‬رحلته في بيان العالقة بين الفقه والفلسفة من خالل أطروحته الرئيسة التي يبين فيها‬
‫أقر بأن‪ ":‬الحكمة هي صاحبة الشريعة واألخت الرضيعة‪ ،‬مع ما يقع‬ ‫العالقة بين الحكمة والشريعة‪ ،‬حيث ّ‬
‫بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة‪ ،‬وهما المصطحبتان بالطبع‪ ،‬المتحابتان بالجوهر والغريزة‪"1.‬‬
‫وقد اعتمد ابن رشد هذه الفكرة كمصادرة في بيان العالقات بين الفلسفة والفقه‪ ،‬ويظهر هذا في‬
‫اللغة الفقهية التي استثمرها في إقرار هذه العالقة‪ ،‬مثل اصطالل الواجب‪ ،‬والندب‪ ،‬يقول‪ ..":‬فبين أن ما‬
‫يدل عليه هذا االسم إما واجب بالشرع‪ ،‬واما مندوب إليه‪ .‬فأما إن الشرع دعا الى اعتبار الموجودات‬
‫بالعقل وتطلب معرفتها‪ ،‬فذلك بين في غير ما آية من كتاب اهلل‪ ،‬تبارك وتعالى‪ ،‬مثل قوله تعالى‪":‬‬

‫اعتَبفُروا َيا أُولفي واأل وَب َ‬


‫ص فار‪..."2‬وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي‪ ،‬أو العقلي والشرعي معا‪".‬‬
‫‪3‬‬
‫فَ و‬
‫فالجمع بين القياس العقلي الذي يستمد فضاءه المعرفي‪ ،‬والمنهجي من المنطق والفلسفة‪ ،‬والقياس‬
‫الشرعي المعتمد من قبل الفقهاء‪ ،‬واألصوليين‪ ،‬ظاهر في الطرل الرشدي‪ ،‬فال فرق بين الفلسفة والفقه إال‬
‫في االصطالل‪ ،‬فالنص الفقهي‪ ،‬قائم على قواعد أصولية‪ ،‬وهذه األخيرة صورتها االستداللية الفلسفية‬
‫واضحة للعيان‪ ،‬يقول ابن رشد‪ ..":‬كما أن الفقيه يستنبط من األمر بالتفقه في األحكام وجوب معرفة‬
‫المقاييس الفقهية على أنواعها‪ ،‬وما منها قياس وما منها ليس بقياس‪ ،‬كذلكم يجب على العارف أن يستنبط‬
‫‪4‬‬
‫من األمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬بل هو أحرى بذلك‪"..‬‬
‫ولم تقف المقاربة الرشدية بين الفلسفة والشريعة عند حدود التقريب القيمي بين الحكمة والشرع بل‬
‫تعدته الى التأصيل الفلسفي للفقه‪ ،‬وهذا ما كشف عنه الباحث المغربي إبراهيم بورشاشن‪ ،‬في كتابه الفقه‬
‫والفلسفة في الخطاب الرشدي‪ ،‬حيث يبين لنا الكاتب اإلشارات‪ ،‬والدالالت التي كان ابن رشد يرنو الى‬
‫إرسالها للمفكر العربي‪ ،‬ومنها الدالالت التي كان يستبطنها عنوان كتابه‪":‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد"‪.‬‬
‫ومن أهم الكلمات التي تستدعينا الى الوقوف كلمة البداية التي تمثل المفتال األول لعنوان الكتاب‬
‫قيده ابن رشد في كتابه ليس حقائق دوجمائية مطلقة‪ ،‬بل هي مجرد‬ ‫الفقهي‪ ،‬فالبداية تعني المدخل‪ ،‬فما ّ‬
‫محاوالت معرفية قد تصيب الهدف‪ ،‬وقد تجانبه بنسبة ما‪ ،‬وهو ما يعكس مبدأ النسبية في الرول الفلسفية‪،‬‬
‫فاالعتقاد بإمكانية النقد‪ ،‬تسليم بالرأي اآلخر‪ ،‬وامكانية امتالكه الحقيقة‪ ،‬وهو ما تقوم عليه الرول الفلسفية‪،‬‬
‫فهو حسب الكاتب دعوة للتأمل‪ ..":‬البداية أراده صاحبه كتابا مفتوحا وليس كتابا مغلقا‪ ،‬فهو كتاب مفتول‬
‫للتصحيح كما يعبر ابن رشد عن ذلك في آخر كتاب الطهارة‪ ،‬حيث يطلب من الفقهاء الذين يقعون في‬
‫‪5‬‬
‫كتابه هذا على وهم أن يصححوه‪"..‬‬

‫‪1‬‬
‫ابن رشد‪ ،‬أبو الوليد‪ ،‬فصل المقال‪ ،‬تعليق ألبير نصري نادر‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بيروت‪ 4919 ،‬ص‪29 :‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة الحشر‪ ،‬اآلية‪5:‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪59:‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪32:‬‬
‫‪5‬‬
‫إبراهيم بورشاشن‪ ،‬الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي‪ ،‬دار المدار اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪ 5242‬ص‪442 :‬‬
‫‪46‬‬
‫والنص الذي يعتمده األستاذ بورشاشن‪ ..":‬وأنا قد أبحث لمن وقع من ذلك على وهم لي أن‬
‫يصلحه‪ ،‬واهلل المعين الموفق‪ "1.‬يؤكد لنا مستوى الرول العلمية عند ابن رشد‪ ،‬والتي ترفع من قيمة اإليمان‬
‫بالنسبية في البحث الفقهي‪ ،‬واألصولي‪ ،‬خصوصا‪ ،‬وأن العصر الذي كان يعايشه عصر جمود‪ ،‬وقوقعة‬
‫فكرية على المستوى االجتهادي الفقهي‪ ،‬وهو رسالة الى الفقهاء الذين يعتقدون في امتالكهم الحقيقة‬
‫المطلقة‪.‬‬
‫والملفت في كتاب البداية األشكلة التي يعتمدها ابن رشد في التعامل مع المسائل الفقهية‪ ،‬فهو‬
‫يتناهى في ضبط اإلشكاليات الفرعية التي تستبطنها الظاهرة‪ ،‬فهو تعبير عن تجاوز للتعامل السطحي مع‬
‫الظاهرة‪ ،‬والتي قد تودي بالباحث الى مجانبة الصواب‪ ،‬فتفريع األسئلة بناء منهجي‪ ،‬وصوري لمسائلة‬
‫فصلت أكثر ‪ ...‬وبيان مواضع اإلشكال فيه‪ ،‬وكأن القصد‬‫الموضوع‪ ،‬يقول بورشاشن‪ ":‬نالحظ أن األسئلة ّ‬
‫من ذلك هو أن يحصر ابن رشد أمام الفقيه جملة اإلشكاالت التي يطرحها القول الفقهي‪ ..‬من أجل تأملها‬
‫فهذا هو األهم عنده‪ ،‬أما األجوبة فليست بذات بال كبير‪ ..‬إذن هي متروكة الجتهاد الفقهاء ‪ ...‬فالتأمل‬
‫هنا أهم من االستظهار والحفظ‪ ،‬فالتأمل منتج أما االستظهار فعقيم‪ ..‬فنحن مع ابن رشد أمام دعوة غير‬
‫التأمل الفقهي تضاهي دعواته المباشرة الى التأمل‪"..‬‬
‫مباشرة الى ّ‬
‫والمشروع الرشدي في مساره الفقهي ال يقف عند حدود الخصوصية القانونية‪ ،‬التي تفترض‬
‫التسليم‪ ،‬واإليمان‪ ،‬واالمتثال للقاعدة الفقهية‪ ،‬على قاعدة موضوعيتها‪ ،‬وتعاليها‪ ،‬فهو يفتح المجال أمام‬
‫النقاش‪ ،‬وأمام الرأي اآلخر‪ ،‬وهذا ما ورثه عن الجد‪ ،‬الذي تعرفنا على أخالقه العلمية‪ ،‬والفلسفية في‬
‫التعامل مع المذاهب األخرى‪ ،‬فهو يناقش أدلة علماء المالكية‪ ،‬كما يناقش أدلة المذاهب األخرى‪ ،‬فهو‬
‫ينتصر أحيانا لمذهب على آخر‪ ،‬يقول بورشاشن‪ ..":‬حيث ند ابن رشد ينتصر لموقف الشافعية الذي‬
‫يذهب الى أن النجاسة تزال فقط بالماء‪...‬وفي علل الربا ينتصر لعلة األحناف ويعتبر علتهم أولى‬
‫‪2‬‬
‫والمقصد عند ابن رشد تربية الفقيه على التعامل الموضوعي‪ ،‬مع النص الفقهي‪ ،‬واجتناب‬ ‫العلل‪..‬‬
‫القراءة اإليديولوجية للنص الفقهي‪ ،‬والتاريخ يحمل لنا أدلة ال حصر لها تثبت اقتران النكبات بالقراءات‬
‫اإليديولوجية‪.‬‬
‫كما أن المادة التي يشتغل عليها الفقيه‪ ،‬ذات طبيعة حركية ومتغيرة؛ ألنها عائدة لجملة أسباب‪،‬‬
‫المتغيرات ألخالقيات جديدة‪ ،‬وميالد‬
‫ّ‬ ‫وتؤسس هذه‬
‫ّ‬ ‫ترتبط بالمكلّف ابتداء‪ ،‬وبمحيطه الثقافي‪ ،‬والجغرافي‪،‬‬
‫مجموعة من القيم تتعارض‪ ،‬أو توحي بالتغاير بينها وبين الثوابت القيمية المتفق عليها‪ ،‬فعلى المستوى‬
‫الفردي تساهم االنفعاالت الشخصية في إحداث بعض النتائج‪ ،‬إذا لم تكن في جلّها الوقائع اإلنسانية نتاجا‬
‫للمؤثرات االنفعالية‪ ،‬والتي ِّ‬
‫تشكل ثابتا في الشخصية اإلنسانية‪ ،‬وعليه يصبح الباب مفتوحا أمام الفقيه في‬

‫‪1‬‬
‫ابن رشد‪ ،‬بداية المجتهد‪ ،‬ونهاية المقتصد‪ 4 ،‬مكتبة مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 4912:‬ص‪99:‬‬
‫‪2‬‬
‫إبراهيم بورشاشن‪ ،‬الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .‬ص‪452-449:‬‬
‫‪47‬‬
‫االجتهاد واالستنباط‪ ،‬وهذا ما نعتبره تقعيدا للعالقة العضوية بين الفقيه والفلسفة؛ فالبحث عن السعادة الذي‬
‫ش اكل اللبنة القاعدية للفلسفة الخلقية يوجِّه أيضا الرؤية المستقبلية عند الفقيه‪ ،‬وتعريف األخالق بأنها علم‬
‫السلوك يظهر االرتباط القائم بين الفقه واألخالق‪ ،‬التي هي مبحث رئيس في الفلسفة‪ ،‬فاالشتراك في‬
‫الموضوع‪ ،‬وفي الغاية من الدراسة تكشف عن البعد األخالقي في العلمين‪ ،‬فالفقه يدرس السلوك كفعل‪ ،‬أي‬
‫يقوم بتحديده موضوعيا من خالل بيان العالقة بين الفعل والنتيجة‪ ،‬أي بدراسة سوابق الفعل‪ ،‬وعالقاته‬
‫باإلرادة والحرية‪ ،‬وبدراسته أيضا معياريا‪ ،‬وذلك من خالل عرضه على المقاييس الوجوبية التي يفترض‬
‫السير وفقها‪ ،‬وهي ما تعرف في الفلسفة بالقيم‪ ،‬والتي تأخذ األخالق فيها المركز الرئيس‪ ،‬فالفصل بين‬
‫الفقيه والفيلسوف‪ ،‬فصل تعسفي‪ ،‬كان المقصد فيه هو إبقاء األمة خار التاريخ‪.‬‬

‫‪48‬‬

You might also like