You are on page 1of 198

‫خالصة علم اصول الفقه علي‬

‫املذاهب االربعة‬

‫الدكتور رفاقت رشيد‬

‫‪0‬‬
‫التمهيد‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫التمهيد‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وأفضل الصالة وأمت التسليم على سيدان حممد خامت األنبياء واملرسلني‪ ،‬وعلى آله وأصحابه أمجعني‪،‬‬
‫والتابعني‪ ،‬من تبع هداهم إبحسان إىل يوم الدين‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫فإن علم أصول الفقه من أجل العلوم اإلسالمية‪ ،‬وهو من العلوم اليت متيز هبا التشريع اإلسالمي الذي مل يسبقه إىل مثله‬
‫تشريع آخر‪ ،‬إن لعلم أصول الفقه مكانة عظيمة بني العلوم الشرعية‪ ،‬فهو العلم الذي تعرف به مدارك ألحكام‪ ،‬وكيفية‬
‫االستنباط‪ ،‬فكان خري زاد لطالب العلم حىت ينفع نفسه ودينه وأمته‬
‫فعندما كثرت الفتوحات اإلسالمية واتسعت رقعة اإلسالم أدى ذلك إىل اختالط األمة العربية بغريها من األمم فدخل يف‬
‫اللغة العربية الكثري من املفردات غري العربية فكثر تبعا لذلك االشتباه واالحتمال يف فهم النصوص ‪ ,‬كما أدت كثرة الفتوحات‬
‫إىل وجود الكثري من احلوادث اليت مل تكن موجودة من قبل واليت مل يرد ما يبني حكمها ‪ ,‬فكان ذلك سببا يف وضع هذا العلم‬
‫وقد صنف العلماء السابقون فيه مصنفاات قيمة ‪ ،‬وقد برز يف التصنيف فيه مذهبان األول مسي مبذهب الشافعية أو مذهب‬
‫املتكلمني ‪ ،‬والثاين مبذهب احلنفية أو الفقهاء‪ ،‬ومها توأمان متقارابن‪ ،‬والفارق بينهما أن املذهب االول فيقوم ابفرتاض القواعد‬
‫األصولية أوال‪ ،‬مث يبحث عن الفروع الفقهية اليت تتسق معها و أما مذهب احلنفية يؤصل القواعد األصولية منطلقا من‬
‫األحكام الفروعية اليت تنضوي حتتها‪.‬‬
‫أن هذا العلم هو من أصعب العلوم‪ ،‬العتماده على التصور العقلي اجملرد وأما طالب العلم‪ ،‬فيحتاج إىل علم أصول الفقه؛‬
‫ليفهم مصطلحات األئمة ومآخذهم‪ ،‬وأسباب االجتماع أو االختالف‪ ،‬وليساعده على فهم الشريعة‪ ،‬وليظهر له ما خفي‬
‫عليه من خالل االطالع على دالالت األلفاظ واملصطلحات‪ ،‬فيكون علم أصول الفقه كقانون يفهم مبقاييسه أمور الشريعة‬
‫احملمدية الغراء‪ ،‬ويكون ذلك ابلتقيد ابلوحي املعصوم‪ ،‬الذي ال أيتيه الباطل ِمن بني يديه وال ِم ْن خلفه فا ّن هذه اجملموعة يف‬
‫املسمي بـ (خالصة اصول الفقه علي املذاهب االربعة) تعطي الطالب ملخصا وافيا لتفاصيل هذا العلم حىت‬ ‫اصول الفقه ّ‬
‫ِ‬
‫يتمكنوا من فهم مجيع الكتب واسعة يف هذه العلم الضخم واستخدامها لصاحل األمة ان شاء هللا تعايل‬

‫وقد ضم كتايب هذا خالصة جمموعة حبوث من حبوث هذا العلم‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ – 1‬مقدمة عن تعريف علم أصول الفقه‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وطرقه‪ ،‬وأسباب اختالف الفقهاء‪.‬‬
‫‪ - 2‬املصادر التشريعية األصلية والتبعية‪.‬‬
‫‪ - 3‬ومباحث احلكم الشرعي‪.‬‬

‫وقد اختذت بعض املواد من خمتلف املؤلفني حبيث ميكن للطالب االستفادة من كل موضوع ابلتفصيل‬

‫وقد عملت يف هذه املذكرة على‪:‬‬


‫التمهيد‬

‫التعريفات املهمة‬ ‫‪1‬‬


‫موضوع علم أصول الفقـ ـ ـ ــه‬ ‫‪2‬‬
‫الفائدة من دراسة علم أصول الفقه‬ ‫‪3‬‬
‫استمدادات علم أصول الفقه ومصادره‬ ‫‪4‬‬
‫الفروق بني القواعد األصولية والقواعد الفقهية‬ ‫‪5‬‬
‫هل يقدم تعلم أصول الفقه أم تعلم الفقه ؟‬ ‫‪6‬‬
‫نشأة علم أصول الفقه وتطوره و التأليفه‬ ‫‪7‬‬
‫األدلة الشرعية‬ ‫‪8‬‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬ ‫‪9‬‬
‫‪ 11‬أبواب أصول الفقه‬
‫‪ 12‬األدلة الشرعية‬
‫‪ 13‬األحكام الشرعية‬
‫‪ 14‬القواعد األصولية اللغوية‬
‫‪ 15‬القواعد األصولية التشريعية‬
‫‪ 16‬اخلامتة‬

‫كما أسأله سبحانه وتعاىل أن ينفع بكتايب طالب العلم خاصة هؤالء يف جامعة خامت النبيني و أولئك الذين يدرسون يف‬
‫اماكن اخري‪ ،‬وأن جيعله خالصا لوجهه الكرمي‪ ،‬وأن يعفو عما يكون قد زل به القلم أو أخطأه الفكر‪ ،‬مث أشكر من علّمين‬
‫من أساتذيت خالصة الفضيلة الشيخ مفيت سيف اإلسالم حفظ هللا (رئيس جامعة خامت النبيني) و نسأل هللا أن يتقبلها و‬
‫جيعلها يف موازين حسنايت وهللا تعاىل من وراء القصد‪ ،‬وهو أجل وأعلم‪.‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫الدكتور رفاقت رشيد‬


‫أستاذ جامعة خامت النبيني‬
‫املقدمة‬

‫التعريفات املهمة‬
‫تعريف علم أصول الفقه ‪:‬‬
‫ينظر علماء أصول الفقه إىل تعريف هذا العلم من زاويتني اثنتني مها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أنه مركب إضايف يتألف من كلمتني مها أصول‪ ،‬وفقه ‪.‬‬
‫ب‪ -‬أنه علم مستقل له أحباث قائمة بذاهتا (يعين تعريف اللقيب)‬

‫وعلى ذلك يكون لعلم أصول الفقه تعريفان لدى العلماء‪،‬‬

‫علم أصول الفقه‬

‫إنه لقب لعلم قائم بذاته‪.‬‬ ‫إنه تركيب إضايف‬

‫عند مجهور الفقهاء‬ ‫عند شافعية‬ ‫اصطالحا‬ ‫لغة‬

‫وال بد من شرح هذين التعريفني للوقوف على حقيقة هذا العلم ومعرفة كنهه ‪.‬‬
‫ونبدأ بشرح التعريف اإلضايف ‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫اصول الفقه‬

‫التعريف اإلضايف‪ 1‬لعلم أصول الفقه‬


‫حنن يف حتليلنا هلذا التعريف أمام كلمات ثالث البد من حتليلها كل على حده‪ ،‬وهي‪ :‬علم‪ ،‬وأصول‪ ،‬وفقه‪ ،‬فإن من‬
‫جمموع معانيها يتضح معىن هذا العلـم‪.‬‬

‫يف اللغة‪: 2‬‬ ‫معىن العلم‬


‫العلم يف اللغة يقع على أحد معان ثالثة‪ ،‬هـي ‪:‬‬
‫‪ -1‬املعرفة مطلقا‪ ،‬ومنه قول زهري بن أيب سلمى ‪ :‬وأعلم علم اليوم واألمس قبله ولكنين عن علم ما يف غد عـم‬
‫واملعرفة هذه تشمل اليقني والظن والشك والوهم ‪.3‬‬
‫اعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلَهَ إِال‬
‫‪ -2‬اليقني‪ ،‬وهو القطع الذي ليس فيه احتمال للنقيض مطلقا ومنه قوله تعاىل‪( :‬فَ ْ‬
‫اَّللُ)(حممد‪ ،)19:‬وعلى ذلك خيرج عنه الظن وما كان أدىن منه ‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪ -3‬الشعور‪ ،‬ومنه قوهلم‪ :‬علمته وعلمت به‪ ،‬أي شعرت بوجوده أو دخوله ‪.‬‬
‫يف االصطالح‪:‬‬
‫يطلق العلم يف االصطالح الشرعي على أحد معان ثالثة أيضا‪ ،‬هي ‪:‬‬
‫‪ -1‬معرفة املسائل واألحكام والقضااي اليت يبحث فيها العامل‪ ،‬سواء أكانت هذه املعرفة قاطعة أو مظنونة ‪.‬‬
‫‪ -2‬املسائل والقضااي اليت يبحث فيها العامل نفسها‪ ،‬وعلى ذلك يقال‪ :‬هذه البحوث من علم كذا‪ ،‬وتلك ليست‬

‫‪ 1‬والفرق بني اإلضايف واللقيب من وجهني (انظر‪ :‬أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص(‪ ،)9‬أصول الفقه‪:‬‬
‫اخلضري‪ ،‬ص(‪ ،)13‬الوجيز يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬عبد الكرمي زيدان‪ ،‬ص(‪ )7‬وما بعدها)‬
‫‪-‬أحدمها‪ :‬أن اللقيب هو العلم‪ ،‬واإلضايف موصل إىل العلم ‪.‬‬
‫‪-‬والثاين‪ :‬أن اللقيب ال بد فيه من ثالثة أشياء ‪:‬‬
‫معرفة الدالئل ‪.‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫كيفية االستفادة من هذه الدالئل ‪.‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫حال املستفيد وهو اجملتهد‪.‬‬ ‫ج‪-‬‬
‫أيضا‬
‫انظر املصباح املنري يف غريب الشرح الكبري ‪ ،‬أمحد بن حممد بن علي الفيومي املقرئ مادة (علم)‪.‬ص ‪ ,162‬ويعرف ً‬
‫‪2‬‬

‫أبنه "االعتقاد اجلازم املطابق للواقع وحصول صورة الشيء يف العقل"‪ [.‬اجلرجاين (‪740-816‬هـ)‪ :‬كتاب التعريفات‪،‬‬
‫جازما" [حممد‬ ‫ِ‬
‫ص‪ ]155.‬وعندما نقول أن "العلم هو مبدأ املعرفة‪ ،‬وعكسه اجلَهـْ ُل" أو "إدراك الشيء على ما هو عليه إدرا ًكا ً‬
‫بن صاحل العثيمني (‪1347-1421‬هـ)‪ :‬كتاب العلم يف املوسوعة الشاملة]‬
‫‪ 3‬فاملراد (ابملعرفة) هي العلم والظن الن إدراك األشياء إما أن تكون ‪ :‬ـ ـ‬
‫العلم ‪ :‬وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً‪.‬‬
‫الظن ‪ :‬وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح‪.‬‬
‫الشك ‪ :‬وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مساو‪.‬‬
‫الوهم ‪ :‬وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح‬
‫اجلهل البسيط ‪ :‬وهو عدم اإلدراك ابلكلية‪.‬‬
‫اجلهل املركب ‪ :‬هو إدراك الشيء على وجه خيالف ما هو عليه يف الواقع‬
‫اصول الفقه‬

‫من علم كذا‪ ،‬أي من ابب إطالق املصدر وإرادة املفعول‪ ،‬وهو (املعلوم)‬
‫‪ -3‬القدرة العقلية املستفادة للعامل بنتيجة ممارسته قضااي العلم ومسائله ‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬فالن صاحب علم‪ ،‬أي له ملكة يستطيع هبا تفهم القضااي املعينة‪.‬‬
‫لغــة‪:4‬‬ ‫معىن األصول‬
‫األصول يف اللغة مجع أصل‪ ،‬وهو أسفل الشيء وأساسه‪ ،‬يقال‪ :‬أصل احلائط ويقصد به اجلزء األسفل منه‪ ،‬مث أطلق بعد‬
‫ذلك على كل ما يستند ذلك الشيء إليه حسا أو معىن‪ ،‬فقيل أصل االبن أبوه‪ ،‬وأصل احلكم آية كذا أو حديث كذا‪،‬‬
‫واملراد ما يستند إليه‪.‬‬
‫يف االصطالح الشرعي‪:‬‬
‫ويطلق األصول يف االصطالح على معان عدة‪ ،‬أمههــا ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ص ْمهُ َوَم ْن َكا َن َم ِريضاً أ َْو‬ ‫‪ -1‬الدليل الشرعي‪ ،‬فيقال أصل وجوب الصوم قوله تعاىل‪( :‬فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر فَـلْيَ ُ‬
‫ِ ِ‬
‫ُخَر) (البقرة‪ .)185:‬أي دليله‪.‬‬ ‫َعلَى َس َف ٍر فَع َّدةٌ م ْن أ ََّايٍم أ َ‬
‫‪ -2‬الراجح‪ ،‬كقوهلم‪ :‬القرآن والسنة أصل للقياس واإلمجاع‪ ،‬أي راجحان عليهما ‪.‬‬
‫‪ -3‬القاعدة‪ ،‬كقولنا‪( :‬الضرر يزال) أصل من أصول الشريعة‪ ،‬أي قاعدة من قواعدها ‪.‬‬
‫‪ -4‬احلال املستصحب‪ ،‬كأن يقال‪ :‬األصل يف األشياء الطهارة‪ ،‬أي احلال املستصحب فيها كذلك ‪.‬‬
‫‪ -5‬املسألة الفقهية املقيس عليها‪ ،‬كأن يقال‪ :‬اخلمر أصل لكل مسكر غريه‪ .‬أي أن كل املسكرات فروع تقاس‬
‫على اخلمر ‪.‬‬
‫واملعىن املراد لألصوليني من إطالق كلمة أصل هو املعىن األول‪ ،‬وهو الدليل‪ ،‬وعلى ذلك فإن معىن أصول الفقه هو أدلة‬
‫الفقه‪ ،‬وقد قصره األصوليني على األدلة اإلمجالية دون األدلة التفصيلية اليت تدخل يف تعريف الفقه‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬وسوف‬
‫نبني الفرق بني الدليل اإلمجايل والدليل التفصيلي قريبا إبذن هللا تعاىل ‪.‬‬
‫لغــة‪:‬‬ ‫معىن الفقه‬
‫ِ‬
‫الفقه يف اللغة الفهم مطلقا‪ ،‬وهو من ابب تعب‪ ،‬وأييت ابلكسر والضم ابملعىن نفسه‪ ،‬فيقال‪ :‬ف ُقه وفقه‪ ،‬وقيل أييت ابلفتح‬
‫مبعىن الفهم وابلضم مبعىن االعتياد على الفهم‪ ،‬فيقال‪ِ :‬فقه إذا فهم‪ ،‬وف ُقه إذا أصبح الفهم سجية له ‪.‬‬
‫وقيل الفقه هو الفهم العميق الناتج عن التفكر والتأمل‪ ،‬ال مطلق الفهم‪ ،‬ويشهد له قوله تعاىل على لسان موسى عليه‬
‫احلُ ْل ُع ْق َد ًة ِم ْن لِ َس ِاين يَـ ْف َق ُهوا قَـ ْوِيل) (طـه‪ ،)28-27:‬مع أن مطلق الفهم متيسر هلم بدون ذلك‪ ،‬مما دل على‬
‫(و ْ‬
‫السالم‪َ :‬‬
‫أن الفقه هو الفهم العميق ال مطلق الفهم ‪.‬‬
‫يف االصطالح الشرعي‪:‬‬
‫‪5‬‬
‫معرفة النفس ماهلا وما عليها‬ ‫عرف أبو حنيفة الفقه أبنه ‪:‬‬
‫ولكن هذا التعريف يدخل األحكام االعتقادية فيه‪ ،‬وهي ليست من الفقه عند مجهور الفقهاء‪ ،‬ولذلك زاد احلنفية على هذا‬
‫التعريف كلمة‪( :‬عمال) إلخراج األحكام االعتقادية‪ ،‬وأبو حنيفة يف تعريفه السابق للفقه‪ ،‬قصد إىل إدراج األحكام‬

‫انظر املصباح املنري‪ ،‬مادة (علم)‪ .‬ص ‪162‬‬ ‫‪4‬‬

‫مـرآة األصـول شـرح مـرقـاة الـوصـول لـ مـال خـسـرو ‪ ،‬مـحـمـد بن فـرامـرز التوقي ‪ 885‬هـ (عامل بفقه احلنفية واألصول)‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫ص‪ ،1/44‬التوضيح ملنت التنقيح يف أصول الفقه اإلمام القاضي صدر الشريعة عبد هللا بن مسعود احملبويب البخاري احلنفي‬
‫التوقي ‪ 747‬هـ‪1/ 10 :‬‬
‫اصول الفقه‬

‫االعتقادية يف الفقه‪ ،‬وكان يعده كذلك‪ ،‬حىت إنه ألف كتااب يف التوحيد مساه (الفقه األكرب) إال أن املتأخرين من الفقهاء رأوا‬
‫مشاحة يف‬
‫َّ‬ ‫قصر الفقه على األحكام العملية دون االعتقادية تيسريا على الدارسني‪ ،‬وذلك دون شك اصطالح‪ ،‬وال‬
‫االصطالح ‪.‬‬
‫العلم ابألحكام الشرعية العملية املكتسبة من أدلتها التفصيلية‬ ‫وعرف الشافعية الفقه أبنه‪:‬‬
‫وقد درج األصوليون على اختيار تعريف الشافعية للفقه ملا فيه من زايدة تفصيلية وتوضيحية ملعىن الفقه تتناوله ابلتحليل‪ ،‬مع‬
‫اإلشارة إىل أنه مطابق لتعريف احلنفية للفقه وال خيالفه‪ ،‬إال يف أنه ينص على ضرورة استخراج احلكم من الدليل‪ ،‬فال تسمى‬
‫معرفة احلكم فقها إال إذا كانت هذه املعرفة تصل بني احلكم ودليله‪ ،‬وهي نقطة هامة حرية ابالعتبار‪ ،‬وإال دخل كثري من‬
‫العوام يف زمرة الفقهاء‪ ،‬وهذا املعىن ملحوظ أيضا يف تعريف احلنفية للفقه وإن مل ينص عليه لفظا ‪ .‬هذا وقد أطلق الفقه‬
‫أخريا على األحكام نفسها بعد أن كان َعلَما على العلم هبذه– األحكام‪ ،‬ومنه قوهلم‪ :‬هذا كتاب فقه‪ ،‬أي يضم أحكاما‬
‫فقهية‪ ،‬وذلك من ابب إطالق املصدر وإرادة اسم املفعول و هو (احملكوم)‬
‫معىن األحكام ‪ :‬مجع حكم‪ ،‬وهو يف اللغة املنع والقضاء معا‪ ،‬يقال حكمت عليه كذا إذا منعته من خالفه‪،‬‬ ‫•‬
‫وحكمت بني القوم فصلت بينهـم ‪.‬‬
‫واحلكم يف اصطالح األصوليني هو‪( :‬خطاب هللا تعاىل املتعلق أبفعال املكلفني اقتضاء أو ختيريا أو وضعا)‪،‬‬ ‫•‬
‫ويطلقه احلنفية على أثر اخلطاب ال على اخلطاب نفسه‬
‫وعلى ذلك يكون احلكم يف معناه العام لدى احلنفية (الوصف الشرعي املتعلق ابلفعل)‪ ،‬فيخرج بذلك الذوات‬ ‫•‬
‫واجلمادات وغريها ‪.‬‬
‫معىن الشرعي ــة ‪ :‬ما كانت من قبل الشارع احلكيم‪ ،‬وهو هللا تعاىل‪ ،‬فيدخل يف ذلك األحكام الواردة عن‬ ‫•‬
‫ِ‬
‫(وَما يَـنْط ُق‬
‫طريق القرآن الكرمي‪ ،‬ألنه كالم هللا تعاىل‪ ،‬وكذلك عن طريق السنة الشريفة الشريفة‪ ،‬لقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫َع ِن ا ْهلََوى) (النجم‪ ،)3:‬وكذلك ما كان منها عن طريق اإلمجاع والقياس وغريه من أدلة الشريعة‪ ،‬لثبوت حجية‬
‫هذه األدلة ابلقرآن الكرمي أو السنة الشريفة املطهرة كما هو معروف يف اببه ‪.‬‬
‫وخيرج هبذا القيد األحكام اللغوية‪ ،‬كقولنا‪ :‬الفاعل مرفوع‪ ،‬فإنه حكم لغوي وكذلك‪ – ،‬األحكام العقلية‬ ‫•‬
‫والطبيعية وغريها ‪.‬‬
‫معىن العملي ــة ‪ :‬معناه ما يتعلق من األحكام أبفعال العباد‪ ،‬فيخرج به ما يتعلق ابعتقادهم‪ ،‬كالبحوث املتعلقة‬ ‫•‬
‫بوجود هللا تعاىل وصفاته واملالئكة والكتب السماوية وغري ذلك من األمور االعتقادية اليت أفرد الفقهاء هلا‬
‫علما مستقال هبا عرف بعلم الكالم أو علم التوحيد ‪.‬‬
‫معىن املكتسبة من األدل ــة ‪ :‬أي املأخوذة من األدلة‪ ،‬فيخرج بذلك علم العوام فال يعترب من الفقه اصطالحا‪،‬‬ ‫•‬
‫خللوه عن معرفة الدليل ‪.‬‬
‫ت َعلَى‬ ‫معىن التفصيلي ــة‪ :‬هي األدلة اجلزئية املتعلقة ابملسائل الفرعية‪ ،‬كقولنا‪ :‬قوله تعاىل‪( :‬إِ َّن َّ‬
‫الصال َة َكانَ ْ‬ ‫•‬
‫ني كِتَاابً َم ْوقُواتً) (النساء‪ .)103:‬دليل تفصيلي لوجوب الصالة‪ ،‬وخيرج هبذا الوصف األدلة اإلمجالية‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫ال ُْم ْؤمن َ‬
‫كالقرآن الكرمي والسنة الشريفة جبملتها‪ ،‬فإهنما مصدر لألحكام‪ ،‬ولكنهما مصدر عام غري متعلق مبسائل‬
‫فرعية معينة ‪.‬‬
‫اصول الفقه‬

‫الفقــه‪:‬‬ ‫التعريف اللقيب لعلم أصول‬

‫عرف الشافعية علم أصول الفقه ابملفهوم اللقيب له بقوهلم‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫هو معرفة دالئل الفقه إمجاال‪ ،‬وكيفية االستفادة منها‪ ،‬وحال املستفيد‬
‫املعرف ــة‪ :‬معناها يف اللغة العلم ابلشيء بعد سبق اجلهل به‪ ،‬وال تكون إال كذلك‪ ،‬خبالف العلم‪ ،‬فإنه قد يكون كذلك فيكون‬ ‫•‬
‫مرادفا هلا‪ ،‬وقد يكون أتكيدا لعلم سابق‪ ،‬أي إن بينهما عموما وخصوصا مطلقا‪ ،‬وقد ذكر الشافعية املعرفة هنا دون العلم‬
‫لالحرتاز عن علم هللا تعاىل القدمي الذي مل يسبقه جهل أبدا ‪.‬‬
‫دالئل الفق ــه‪ :‬هي أدلته‪ ،‬وفيه احرتاز عن معرفة دالئل غري الفقه‪ ،‬كالنحو وغريه‪ ،‬وعن معرفة غري األدلة‪ ،‬كمعرفة الفقه وغريه‪،‬‬ ‫•‬
‫واملراد ابألدلة الفقهية إمجاال هنا العلم مبصادر الفقه اإلسالمي األصولية منها والتبعية ‪.‬‬
‫إمجـ ــاال ‪ :‬فيه احرتاز عن األدلة التفصيلية‪ ،‬فهي ليست من علم األصول‪ ،‬والفرق بني األدلة اإلمجالية واألدلة التفصيلية أن‬ ‫•‬
‫األوىل غري متعلقة مبسائل فرعية حمددة‪ ،‬خبالف الثانية‪ .‬فقولنا (األمر للوجوب) دليل إمجايل‪ ،‬ألنه غري متعلق مبسائل فرعية‬
‫حمددة‪ ،‬خبالف الثانية‪ .‬فقولنا‪( :‬األمر للوجوب) غري متعلق مبسألة معينة‪ ،‬فهو دليل على وجوب الصالة من قوله تعاىل‪:‬‬
‫(وأقيموا الصالة) وهو دليل على وجوب الزكاة من قوله تعاىل‪( :‬آتوا الزكاة)‪ ،‬وهكذا‪ ،‬أما األدلة التفصيلية فهي متعلقة أبحكام‬
‫فرعية حمددة بذاهتا‪ ،‬كقوله تعاىل‪( :‬أقيموا الصالة)‪ ،‬فإنه دليل على وجوب الصالة دون غريها ‪.‬‬
‫وكيفية االستفادة منه ــا‪ :‬أي كيفية استخراج األحكام من أدلتها التفصيلية‪ ،‬فيدخل يف ذلك كل أنواع األصول تقريبا‪ ،‬ألهنا‬ ‫•‬
‫ضوابط تبني كيفية استخراج احلكم الشرعي من دليله تفصيلي ‪.‬‬
‫وحال املســتفيد ‪ :‬يدخل يف شروط من يصح تصديه الستنباط األحكام‪ ،‬وهي شروط االجتهاد‪ ،‬ويفرق فيه بني اجملتهد‬ ‫•‬
‫واملقلد وأحكام كل‬

‫وعرف مجهور الفقهاء ‪-‬وفيهم احلنفية واملالكية واحلنبلية‪ -‬أصول الفقه أبنه‪:‬‬

‫العلم ابلقواعد الكلية اليت يتوصل هبا إىل استنباط األحكام الشرعية العملية من أدلته التفصيلية‬
‫العلم ‪ :‬املراد به هنا املعرفة احلاصلة بطريق اليقني أو الظن‪ ،‬ألن بعض القواعد تكون اثبتة بطريق اليقني لقطعية الدليل ثبوات‬ ‫•‬
‫وداللة‪ ،‬وبعضها قد يثبت بطريق الظن نظرا لظنيه الدليل املثبت هلا ثبوات أو داللة ‪.‬‬
‫ابلقواعد‪ :‬هي مجع قاعدة‪ ،‬وهي يف اللغة األساس‪ ،‬ويف االصطالح (األمر الكلي املنضبط على مجيع جزئياته) مثل قوهلم‪:‬‬ ‫•‬
‫(األمر للوجوب)‪ ،‬فإنه ضابط كلي غري مقتصر على حكم جزئي بعينه‪ ،‬بل تشمل كل أمر ورد عن الشارع‪ ،‬فعن طريقها عرفنا‬
‫الزَكاةَ وارَكعوا مع َّ ِ ِ‬ ‫فرضية الصالة والزكاة من قوله تعاىل‪ِ :‬‬
‫ني) (البقرة‪ ،)43:‬وعن طريقها عرفنا إلزامية‬
‫الراكع َ‬ ‫الصالةَ َوآتُوا َّ َ ْ ُ َ َ‬ ‫يموا َّ‬ ‫(وأَق ُ‬
‫َ‬
‫ود (املائدة‪ ،)1:‬وهكذا كل أوامر الشارع‪ ،‬فإهنا منضبطة هبذه القاعدة‬ ‫العقد من قوله تعاىل‪( :‬اي أَيـُّها الَّ ِذين آمنُوا أَوفُوا ِابلْع ُق ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫األصولية ‪ .‬وينبغي االنتباه هنا إىل أن معىن العلم ابلقواعد إمنا هو معرفتها من مصادرها‪ ،‬أي استنباطها من أدلتها وليس‬

‫‪ 6‬منهاج الوصول اىل علم االصول ‪ /‬اتليف قاضي القضاة عبد هللا بن عمر البيضاوي (أحد علماء أهل السنة واجلماعة‪ ،‬وهو‬
‫فقيه وأصويل شافعي‪ ،‬ومتكلم وحمدث ومفسر وحنوي) مات بتربيز يف سنة ‪ 685‬هـ وقيل‪ :‬سنة ‪ 691‬هـ‪ :‬ص ‪16‬‬
‫اصول الفقه‬

‫تطبيقاً على جزئياهتا‪ ،‬فإن تطبيقها من مهمة الفقيه وليس من مهمة األصويل ‪.‬‬
‫الصالةَ َوآتُوا‬
‫يموا َّ‬‫الكلية‪ :‬يف هذا احرتاز عن األدلة الفقهية التفصيلية‪ ،‬فإهنا ليست من علم األصول‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪ِ :‬‬ ‫•‬
‫(وأَق ُ‬
‫َ‬
‫الزَكاةَ وارَكعوا مع َّ ِ ِ‬
‫ني) (البقرة‪ ،)43:‬فهو قاعدة جزئية تثبت وجوب الصالة وليس قاعدة كلية‪ ،‬وذلك الرتباطه حبكم‬ ‫الراكع َ‬ ‫َّ َ ْ ُ َ َ‬
‫معني‪ ،‬خبالف القواعد الكلية مثل قوهلم‪ :‬املطلق يبقى على إطالقه حىت يظهر دليل التقييد‪ ،‬فإهنا ال عالقة هلا حبكم فرعي‬
‫بعينه ‪.‬‬
‫اليت يتوصل هبا إىل استنباط األحكام ‪ :‬خيرج هبذا القيد القواعد العقلية ألهنا ال عالقة هلا ابألحكام‪ ،‬وكذلك القواعد‬ ‫•‬
‫الفقهية التفصيلية اليت ال تؤدي إىل استنباط األحكام كقوهلم‪( :‬الضرر يزال شرعاً) فإهنا تضبط بضعة أحكام ولكنها ال تؤدي‬
‫إىل استنباطها ‪.‬‬
‫واألحكام‪ :‬مجع حكم‪ ،‬وهو يف اللغة القضاء‪ ،‬وأصله املنع‪ ،‬يقال حكمت عليه بكذا منعته من خالفه‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪( :‬فَ َّ‬
‫اَّللُ‬ ‫•‬
‫يما َكانُوا فِ ِيه خيَْتَلِ ُفو َن) (البقرة‪ ،)113:‬أي يقضي‪ ،‬وهو يف االصطالح األصويل‪( :‬خطاب هللا تعاىل‬‫ِ ِِ‬
‫ََْي ُك ُم بَـْيـنَـ ُه ْم يَـ ْوَم الْقيَ َامة ف َ‬
‫املتعلق أبفعال املكلفني اقتضاء أو ختيرياً أو وضعاً)‪ ،‬أما يف اصطالح الفقهاء فهو‪( :‬أثر خطاب هللا تعاىل ‪ )..‬دون اخلطاب‬
‫نفسه‪ ،‬فقوله تعاىل‪( :‬وأقيموا الصالة) هو احلكم عند األصوليني‪ ،‬أما الفقهاء فال يعتربون ذلك هو احلكم‪ ،‬إمنا احلكم عندهم‬
‫هو الوجوب الناتج من هذا اخلطاب ‪.‬‬
‫الشرعية ‪ :‬خيرج به كل األحكام غري الشرعية‪ ،‬كاألحكام اللغوية والعقلية وغريها‪ ،‬فقولنا الفاعل مرفوع حكم‪ ،‬ولكنه لغوي‪،‬‬ ‫•‬
‫ولذلك ال يدخل يف علم األصول ‪.‬‬
‫من أدلته التفصيلية ‪ :‬فيه احرتاز عن األدلة اإلمجالية‪ ،‬فاألدلة اإلمجالية هي املصادر اليت تستنبط منها األحكام‪ ،‬كالقرآن‬ ‫•‬
‫والسنة ‪ ..‬أما األدلة التفصيلية فهي جزئيات هذه املصادر‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪( :‬وأقيموا الصالة) فإنه دليل تفصيلي حلكم شرعي‬
‫هو وجوب الصالة ‪.‬‬

‫الفرق بني علم الفقه وعلم أصول الفقه‪:‬‬

‫علم أصول الفقه‬ ‫علم الفقه‬


‫يبحث يف األدلة اإلمجالية واستنباط األحكام الشرعية منها‬ ‫يبحث يف األدلة التفصيلية وأفعال املكلفني‬
‫األصويل يبحث عن القواعد الكلية ‪ ,‬والنظر يف األدلة اإلمجالية من‬ ‫أما الفقيه فهو يبحث يف أدلة الفقه اجلزئية ليصل من خالل ذلك‬
‫حيث داللتها على احلكم فهو ينظر يف كيفيات هذه األدلة وأحواهلا‬ ‫إىل معرفة حكم من األحكام الشرعية العملية‪.‬‬
‫من حيث كوهنا عامة أو خاصة ‪ ,‬مطلقة أو مقيدة ‪ ,‬أمراً أو هنياً ‪,‬‬ ‫فإذا ما أراد مثالً معرفة حكم الصالة ‪ ,‬فإنه يبحث يف األدلة‬
‫ويضع القواعد اليت تبني احلكم لكل منها ‪ ,‬فيبحث مثالً يف األوامر‬ ‫التفصيلية املتعلقة ابلصالة فيجد قول هللا تعاىل{ وأقيموا‬
‫فيجد قاعدة كلية وهى (كل أمر إذا جترد من قرينة يفيد الوجوب)‬ ‫الصالة}سورة البقرة‪ :‬اآلية ‪ , 43‬فينظر يف هذا الدليل اجلزئي‬
‫وهكذا النواهي جيد ( كل هنى إذا جترد من قرينة يفيد التحرمي ) ‪,‬‬ ‫فيجد فيه األمر ابلصالة‬
‫ويبحث يف العام فيجد أن ( العام يتناول أفراده قطعاً )‬
‫موضوع علم أصول الفقـ ـ ـ ــه‬

‫موضوع علم أصول الفقـ ـ ـ ــه وفقا لالصولني خمتلفة ولقد اختلف على مذهبني ‪:‬‬

‫املذهب الثاين‬ ‫املذهب األول‬


‫أن موضوع علم أصول الفقه هو ‪ :‬األدلة‬ ‫أن موضوع أصول الفقه هو ‪ :‬األدلة اإلمجالية‬
‫واألحكام معاً‬
‫وذهب إىل ذلك بعض العلماء كصدر الشريعة ‪ ،‬وسعد الدين‬ ‫وهو مذهب اجلمهور‬
‫التفتازاين ‪ ،‬وبعض العلماء ‪ -‬وذهب اإلمام سعد الدين‬ ‫ذهب اآلمدي‪ 7‬من األصوليني إىل أن موضوع علم أصول الفقه‬
‫التفتازاين‪ 8‬على أن موضوعه األدلة من حيث إثباهتا لألحكام‬ ‫هو األدلة اإلمجالية األربعة (اي القران و السنة و االمجاع و‬
‫واألحكام من حيث ثبوهتا ابألدلة‪ ،‬فيكون بذلك كل من‬ ‫القياس)‪ ،‬من حيث إثباهتا لألحكام الشرعية‪ ،‬فال يبحث فيه عن‬
‫األحكام واألدلة أساسا من أسس هذا العلم‪ .‬وهذا هو املذهب‬ ‫هذه األحكام إال بطريق العرض ليتمكن من نفيها أو إثباهتا‬
‫الذي ارتضاه أكثر األصوليني‬
‫وقالوا ‪ :‬إنه يبحث فيه عن العوارض الذاتية لألدلة الشرعية ‪،‬‬ ‫أي ‪ :‬أن موضوع علم أصول الفقه هو ‪:‬‬
‫وهي ‪ :‬إثباهتا لألحكام ‪ ،‬وعن العوارض الذاتية لألحكام وهي ‪:‬‬ ‫األدلة املوصلة إىل األحكام الشرعية العملية ‪ ،‬وأقسامها ‪،‬‬
‫ثبوهتا بتلك األدلة ‪ ،‬وعلَّلوا قوهلم هذا ‪ :‬أبنه ملا كانت بعض‬ ‫واختالف مراتبها ‪ ،‬وكيفية استثمار األحكام الشرعية منها على‬
‫مباحث األصول انشئة عن األدلة كالعموم واخلصوص واالشرتاك‬ ‫وجه كلي ‪ ،‬ألن األحكام الشرعية مثرة األدلة ومثرة الشىء اتبعة‬
‫‪ ،‬وبعضها انشئاً عن األحكام ككون احلكم متعلقاً بفعل هو‬ ‫له‪ .‬فاألصويل يبحث يف حجية األدلة اإلمجالية ‪ ،‬مث يبحث عن‬
‫عبادة أو معاملة ‪،‬ال رجحان ألحدمها على اآلخر ‪ ،‬فاحلكم على‬ ‫العوارض الالحقة هلذه األدلة من كوهنا عامة ‪ ،‬أو خاصة ‪ ،‬أو‬
‫أحدمها أبنه موضوع ‪ ،‬وعلى اآلخر أبنه اتبع حتبهم وهو ابطل‪.‬‬ ‫مطلقة أو مقيدة ‪ ،‬أو جمملة ‪ ،‬أو مبينة ‪ ،‬أو ظاهرة ‪ ،‬أو نصاً ‪،‬‬
‫أو منطوقاً ‪ ،‬أو مفهوماً ‪ ،‬وكون اللفظ أمراً ‪ ،‬أو هنياً ‪ ،‬ومعرفة‬
‫‪9‬‬
‫هذه األمور هي مسائل أصول الفقه‪.‬‬

‫هو سيف الدين أبو احلسن علي بن أيب علي بن حممد بن سامل بن حممد العالمة اآلمدي التغليب احلنبلي مث الشافعي فقيه‬ ‫‪7‬‬

‫أصويل وابحث (‪ 551‬هـ ‪ 631 -‬هـ) كتاب اإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي‬
‫‪ 8‬اإلمام سعد الدين التفتازاين (‪722‬هـ ‪792 -‬هـ)‪ ،‬عامل مسلم‪ ،‬وفقيه متكلم‪ ،‬وأصويل حنوي‪ .‬التلويح إىل كشف حقائق‬
‫التنقيح‪ .‬وهو حاشية على كتاب التوضيح شرح منت التنقيح وكال الشرح واملنت لصدر الشريعة عبد هللا بن مسعود احملبويب‬
‫(ت‪747:‬هـ)‬
‫‪ 9‬والفقيه أيخذ الدليل اإلمجايل ‪ ،‬أو القاعدة الكلية اليت توصل إليها األصويل ‪ ،‬فيجعلها مقدمة كربى ‪ ،‬بعد أن يقدم هلا مبقدمة‬
‫صغرى موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة ‪ ،‬ودليل تفصيل يعرفه الفقيه ‪ ،‬كاألمر ابلصالة يف قوله تعاىل ‪( :‬أقيموا‬
‫الصالة) فيكون عندان مقدمتان ونتيجة ‪ :‬املقدمة الصغرى ‪ :‬الصالة مأمور هبا يف قوله تعاىل ‪( :‬وأقيموا الصالة) ‪ ،‬وهذا دليل‬

‫‪9‬‬
‫اصول الفقه‬

‫‪،‬يبحث األصويل هذه األمور وما تفيده ‪ ،‬فبعد حبثه ومتحيصه‬


‫يتوصل إىل أن األمر يفيد الفور أو التكرار ‪ ،‬ويتوصل إىل أن‬
‫النهي يفيد التحرمي ‪ ،‬وأن العام يدل داللة ظنية ‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫فهذه كلها وجوه االستدالل ابلكتاب ‪ ،‬والدليل واحد ‪ ،‬وهو‬
‫نفس الكتاب‪.‬‬

‫تنبيهات‪:‬‬
‫أدلة الفقه نوعان‪:10‬‬
‫كلي‪ ،‬هو الوجوب أو التحرمي‪ .‬وكالكتاب‪،‬‬
‫حكم ٌّ‬
‫‪ -1‬أدلة كلية أو إمجالية‪ ،‬كاألمر والنهي‪ ،‬فإنه ينتج عنه ٌ‬
‫والسنة‪ ،‬واإلمجاع‪ ،‬والقياس …‪ ..‬اخل‪.‬‬
‫‪ -2‬وأدلة جزئية تفصيلية‪ :‬وهي اليت تدل على احلكم يف مسألة بذاهتا‪ ،‬كاألمر ابلصالة يدل على وجوهبا‪،‬‬
‫وقياس األرز على الرب يف كونه ربوايً يفيد التحرمي لوجود علة الراب‪.‬‬
‫وداللة الدليل األصويل على األحكام إما قطعية أو ظنية‪ ،11‬واألصويل يبحث عن األدلة الكلية‪.‬‬
‫أما األدلة اجلزئية أو التفصيلية فهي موضوع حبث الفقيه‪ .‬وحينئذ تكون أصول الفقه هي أدلة الفقه الكلية‪.‬‬

‫تفصيلي‪ .‬املقدمة الكربى ‪ :‬وكل مأمور به ‪ -‬إذا جترد عن القرائن – فهو واجب ‪ ،‬وهذه قاعدة أصولية ‪ ،‬أو دليل كلي إمجايل‪.‬‬
‫فتكون النتيجة ‪ :‬الصالة واجبة‪.‬‬
‫انظر‪ :‬حاشية البناين‪ ،)25/1( :‬الوسيط يف أصول الفقه‪ :‬الزحيلي ص(‪.)16 ،15‬‬ ‫‪10‬‬

‫سنذكر قطعية و ظنية ابلتفصيل بعد ان شاء هللا تعايل‬ ‫‪11‬‬


‫الفائدة من دراسة علم أصول الفقه‬

‫البد لكل علم من مثرة وفائدة يقطفها اإلنسان من وراء نصبه وتعبه يف تتبع نظرايت هذا العلم‪ ،‬وإذا كانت الفائدة‬
‫من دراسة الفقه هي تصحيح األعمال واألقوال وفق حكم هللا تعاىل‪ ،‬فما هي إذا الفائدة من دراسة علم أصول‬
‫الفقه ‪.12‬‬

‫إنه يُبني املناهج واألسس والطرق اليت يستطيع الفقيه عن طريقها استنباط األحكام الفقهية للحوادث املتجددة ‪،‬‬ ‫الفائدة األوىل‬
‫يستطيع إجياد حكم ألي حادثة‬
‫َ‬ ‫فإن اجملتهد إذا كان عاملاً بتلك الطرق ‪ -‬من أدلة إمجالية وقواعد أصولية ‪ -‬فإنه‬
‫حتدث‪ .‬وهذا موضوع أصول الفقه‬
‫إن طالب العلم الذي مل يبلغ درجة االجتهاد ‪ ،‬يستفيد من دراسة أصول الفقه ‪ ،‬حيث جيعله على بينة مما فعله‬ ‫الفائدة الثانية‬
‫إمامه عند استنباطه لألحكام ‪ ،‬فمىت ما وقف ذلك الطالب للعلم على طرق األئمة ‪ ،‬وأصوهلم ‪ ،‬وما ذهب إليه كل‬
‫منهم من إثبات تلك القاعدة ‪ ،‬أو نفيها ‪ ،‬فإنه تطمأن نفسه إىل مدرك ذلك اإلمام الذي قلَّده يف عني ذلك احلكم‬
‫أو ذاك ‪ ،‬فهذا جيعله ميتثل عن اقتناع ‪ ،‬وهذا يفضي إىل أن يكون عنده القدرة اليت متكنه من الدفاع عن وجهة نظر‬
‫إمامه‪.‬‬
‫أن العارف أبصل هذا اإلمام يف هذا احلكم أعظم أجراً من الشخص الذي أييت ابلعبادة لفتوى إمامه أهنا واجبة أو‬ ‫الفائدة الثالثة‬
‫ُسنَّة ‪ ،‬وال يعرف األصل الذي اعتمد عليه يف هذه الفتوى‬
‫أن العارف ابلقواعد األصولية يستطيع أن ُخيِّرج املسائل والفروع غري املنصوص عليها على قواعد إمامه‬ ‫الفائدة الرابعة‬
‫أن العارف بتلك القواعد األصولية يستطيع أن يدعو إىل هللا تعاىل وإىل دينه ‪ ،‬بناء على أسس ومناهج وطرق‬ ‫الفائدة اخلامسة‬
‫يستطيع هبا أن يقنع اخلصم مبا يريد أن يدعوه إليه‬
‫أن العارف بتلك القواعد يستطيع أن يُ ِّبني ألعداء اإلسالم أن اإلسالم صاحل لكل زمان ومكان ‪ ،‬وأنه موجد لكل‬ ‫الفائدة‬
‫حادثة حكماً شرعياً ‪ ،‬وأنه ال ميكن أن توجد حادثة إال وهلا حكم شرعي يف اإلسالم ‪ ،‬بعكس ما كان يصوره‬ ‫السادسة‬
‫أعداء اإلسالم من أن اإلسالم قاصر عن حل القضااي املتجددة‪.‬‬
‫أن أهل اللغة يستفيدون من تعلم علم أصول الفقه " حيث إن أهل اللغة يبحثون عن اشتقاقات الكلمة ‪ ،‬وهل هي‬ ‫الفائدة السابعة‬
‫نقلية أو قياسية ‪ ،‬أما أهل األصول فإهنم يبحثون عن معاين تلك األلفاظ ‪ ،‬لذلك جتد األصوليني قد توصلوا إىل‬
‫نتائج مل يتوصل إليها اللغويون وذلك بسبب مجعهم بني معرفة اللغة ومعرفة الشريعة‪ ، .‬لذلك جتد أكثر أهل اللغة‬
‫هلم إملام يف علم أصول الفقه‬
‫أن املتخصص بعلم التفسري وعلم احلديث حمتاج إىل دراسة علم أصول الفقه ‪ ،‬حيث إنه يبني دالالت األلفاظ ‪،‬‬ ‫الفائدة الثامنة‬
‫وكيف تدل على احلكم ابملنطوق أو ابملفهوم ‪ ،‬أو بعبارة النص ‪ ،‬أو إبشارته ‪،‬أو بداللته ‪ ،‬أو ابقتضائه ‪ ،‬وحنو ذلك‬
‫‪ ،‬لذلك جتد أكثر املفسرين والشارحني لألحاديث هم من األصوليني‪.‬‬

‫‪ 12‬املهذب يف علم أصول الفقه املقارن حترير ملسائله ودراستها دراسة نظرية تطبيقية‪ -‬عبد الكرمي بن علي بن حممد النملة ج‪1‬‬
‫ص ‪42‬‬

‫‪11‬‬
‫اصول الفقه‬

‫أي حبث من البحوث العلمية حمتاج إىل معرفة علم أصول الفقه ‪ ،‬ذلك ألن علم أصول‬ ‫أن كل شخص يريد كتابة َّ‬ ‫الفائدة التاسعة‬
‫الفقه قد مجع بني النقل والعقل ‪ ،‬ومن تعمق فيه عرف طريقة إيراد املسألة ‪ ،‬وتصويرها واالستدالل عليها ‪،‬‬
‫واالعرتاض على بعض األدلة ‪ ،‬واجلواب عن تلك االعرتاضات أبسلوب مبين على أسس ومناهج وطرق يندر أن‬
‫جتدها يف غري هذا العلم‬
‫شخص يريد أن يتخصص ابإلعالم حمتاج إىل معرفة أصول الفقه ‪ ،‬وذلك ألن علم أصول الفقه قد اعتىن‬ ‫ٍ‬ ‫أن كل‬ ‫الفائدة العاشرة‬
‫عناية فائقة ومميزة يف األخبار ‪ ،‬وكيف أهنا تنقسم إىل متواتر ‪ ،‬وآحاد ‪ ،‬ومشهور ‪ ،‬وكيف العمل عند تعارض تلك‬
‫األخبار ‪ ،‬وطريقة الرتجيح فيما بينها ‪ ،‬واعتىن ‪ -‬أيضاً ‪ -‬يف بيان أنه عند إعالن األخبار ال بد من مراعاة مصاحل‬
‫الناس وأعرافهم‬

‫إذ هنالك فوائد أخرى كثرية أتيت تبعاً لتلك الفائدة الرئيسة‪ ،‬وأهم هذه الفوائد هـي ‪:‬‬

‫‪ -1‬الفائدة التارخيية‪ ،‬وهي اطالع املتعلم على تلك القواعد الدقيقة اليت استنبط الفقهاء بواسطتها األحكام‪ ،‬ليزداد وثوقه‬
‫بدقة األحكام وأصالتها‪ ،‬مما يثري العزة يف نفوس املؤمنني والرضا الكامل عما قدمه اجملتهدون هلم من علم الفقه الذي‬
‫َيتكمون إليه يف كل عالقاهتم ومعامالهتـم ‪.‬‬
‫‪ -2‬اكتساب امللكة الفقهية اليت متكن الطالب من الفهم الصحيح واإلدراك الكامل لألحكام الفقهية‪ ،‬واإلطالع على طرق‬
‫االستنباط الدقيق لالستفادة منها والقياس عليها إذا ما دعت احلاجة‪ ،‬وهي البد داعية إىل ذلك‪ ،‬فإن النصوص‬
‫التشريعية والقواعد الفقهية حمدودة ومشاكل الناس ومسائلهم ال حدود هلا‪ ،‬ومن املنطقي أن ال يصلح احملدود حال لغري‬
‫احملدود‪ ،‬مما يضطر الفقيه عند تعرضه لبعض الوقائع اليت ال نص عليها لدى الفقهاء من إعمال فكره واالستفادة من‬
‫امللكة الفقهية اليت احتواها يف استنباط أحكام هذه املسألة على النسق الذي استنبط اجملتهدون به مسائلهم وأحكامهم ‪.‬‬
‫‪ -3‬املوازنة واملقارنة بني املذاهب واآلراء الفقهية لبيان األرجح واألصح واألوىل ابلقبول منها‪ ،‬استناداً إىل الدليل الذي صدر‬
‫عن قائلها‪ ،‬فإن لكل قول من أقوال الفقهاء معياراً أصولياً خاصاً استند إليه‪ ،‬والبد يف الرتجيح من مجع هذه املعايري‬
‫واملوازنة بينها على أسس علم أصول الفقه وقواعده‪ ،‬للوصول إىل الرأي أو املذهب الذي يشهد له الدليل األقوى‬
‫واألصح ‪.‬‬
‫استمدادات علم أصول الفقه ومصادره‬

‫البد لكل علم من مصادر يستمد منها قواعده وأحكامه‪ .‬فالفقه مستمده املصادر التشريعية‪ ،‬وعلم النحو والقواعد‬
‫مستمده لغة العرب يف جاهليتهم‪ ،‬ابإلضافة إىل القرآن الكرمي واحلديث النبوي الشريف‪ ،‬فما هي مصادر أصول‬
‫الفقه؟ ‪.‬‬
‫علم أصل الفقه مستمد من عدة علوم ال من علم واحد‪ ،‬فهو علوم يف علم‪ ،‬وهو حبق كما يسميه بعض العلماء‬
‫مفتاح العلوم‪ ،‬وهو ابجلملة مستمد من العلوم التالية ‪:‬‬

‫وذلك لتوقف األدلة الشرعية على معرفة هللا تعاىل املشرع األوحد‪ ،‬ورسله الذين ينقلون شرعه إىل‬ ‫علم الكالم (اصول الدين)‬ ‫‪1‬‬
‫أنبيائه‪ ،‬ومها من موضوع علم الكالم‪ .‬فإن علم أصول الفقه قد استمد منه ‪ :‬مسائل ‪ ،‬من أمهها ‪:‬‬ ‫أو علم التوحيد‬
‫مسألة احلاكم ‪ ،‬والتحسني والتقبيح العقليني ‪ ،‬والتكليف مبا ال يطاق ‪ ،‬وتكليف املعدوم ‪،‬‬
‫وحكم األشياء قبل البعثة ‪ ،‬واجملتهد خيطئ ويصيب ‪ ،‬وخلو الزمان من جمتهد ‪ ،‬وشكر املنعم ‪،‬‬
‫وبعض مسائل النسخ ‪ ،‬وشرط اإلرادة يف األمر ‪ ،‬وحنو ذلك‪ .‬وسبب استمداده من أصول الدين‬
‫وهو علم الكالم‬
‫وذلك ألن املصادر األصلية للفقه وأصوله إمنا هي الكتاب والسنة ومها عربيان‪ ،‬والبد يف فهم‬ ‫اللغة العربية بكل ما تضمنه‬ ‫‪2‬‬
‫نصوصهما والوقوف على دقائق معانيهما من التمرس أبساليب اللغة العربية وعلومها‪ ،‬حىت إن‬ ‫من علوم لغوية و حنوية و‬
‫بعض الفقهاء ذهب إىل أن معىن حصر الرسول صلي هللا عليه و سلم اخلالفة يف قريش إمنا هو‬ ‫بالغية أو غريها‪،‬‬
‫سعة اطالعهم أكثر من غريهم على أساليب اللغة العربية واللهجة القرشية اليت هبا نزل القرآن‬
‫خاصة‪ ،‬كما روى عن عثمان رضي هللا تعاىل عنه أنه شكل جلنة من كبار الصحابة جلمع القرآن‬
‫‪13‬‬
‫بقوله‪( :‬إذا اختلفتم يف شيء فاكتبوه بلغة قريش فإنه بلغتهم نزل)‬
‫فإهنا املعني األصيل هلذا العلم‪ ،‬بل هي املعني األول له‪ ،‬ويدخل يف األحكام الشرعية مصادرها‪،‬‬ ‫األحكام الشرعية‬
‫فيكون بذلك الكتاب والسنة املعني األول الرافد هلذا العلم‪.‬‬

‫يبحث علم األصول يف أربعة أمور‬

‫احلكم ويشمل مباحث األحكام التكليفية والوضعية‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫الدليل ويشمل مجيع األدلة‪ ،‬كالقرآن‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلمجاع‪ ،‬والقياس وغريها‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫االستدالل ويشمل مجيع مباحث األلفاظ كالعموم واخلصوص ‪ ،‬واحلقيقة واجملاز ‪ ،‬والنص والظاهر‪ ،‬واملنطوق‬ ‫‪3‬‬
‫واملفهوم‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫املستدل ويشمل مباحث االجتهاد والتقليد‬ ‫‪4‬‬

‫جمموع فتاوى ابن تيمية لتقي الدين ابن تيمية‪ :‬فصل ما تضمنته سورة احلج ‪:‬ج (‪ )25‬ص (‪)252‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪13‬‬
‫الفروق بني القواعد األصولية والقواعد الفقهية‬

‫أنه قد ختتلط القواعد األصولية ابلقواعد الفقهية عند بعض طالب العلم ‪ -‬حيث إن لكل منهما قواعد تندرج حتتها‬
‫ذكرت هذه الفروق بينهما وهي ‪:‬‬
‫جزئيات ‪ُ -‬‬

‫القواعد الفقهية‬ ‫القواعد األصولية‬


‫أما القواعد الفقهية ‪ :‬فهي عبارة عن املسائل اليت تندرج حتتها أحكام‬ ‫أن القواعد األصولية ‪ :‬فهي عبارة عن‬ ‫الفرق األول‬
‫الفقه ‪ ،‬ليصل اجملتهد إليها بناء على تلك القضااي املبينة يف أصول الفقه‬ ‫املسائل اليت تشملها أنواع من األدلة‬
‫‪ ،‬ويلجأ الفقيه إىل تلك القواعد الفقهية تيسرياً له يف عرض األحكام ‪،‬‬ ‫التفصيلية ميكن استنباط التشريع منها‬
‫فهو ‪ -‬مثالً ‪ -‬إذا قال ‪ " :‬إن العربة يف العقود ابملقاصد واملعاين "‬
‫أغناه عن أن يقول يف كل جزئية ‪ " :‬البيع منعقد بلفظ كذا " ‪ ،‬وأن‬
‫يقول ‪ " :‬اإلجارة تنعقد بلفظ كذا "‪.‬‬

‫أما القواعد الفقهية فإهنا أغلبية ‪ ،‬يكون احلكم فيها على أغلب‬ ‫أن القواعد األصولية كلية تنطبق على مجيع‬ ‫الفرق الثاين‬
‫اجلزئيات‪.‬‬ ‫جزئياهتا وموضوعاهتا ‪ ،‬فكل هني مطلق ‪-‬‬
‫مثالً ‪ -‬للتحرمي ‪ ،‬وكل‬

‫أما القواعد الفقهية فهي جمموعة من األحكام املتشاهبة اليت ترجع‬ ‫أن القواعد األصولية وسيلة الستنباط‬ ‫الفرق الثالث‬
‫إىل ِعلَّة واحدة جتمعها ‪ ،‬أو ضابط فقهي َييط هبا ‪ ،‬والغرض من‬ ‫األحكام الشرعية العملية‪.‬‬
‫ذلك هو ‪ :‬تسهيل املسائل الفقهية وتقريبها‪.‬‬

‫خبالف القواعد الفقهية‬ ‫أن القواعد األصولية ضابط وميزان‬ ‫الفرق الرابع‬
‫الستنباط األحكام الفقهية ‪ ،‬ويُبني‬
‫االستنباط الصحيح من غريه ‪ ،‬فهو‬
‫ابلنسبة لعلم الفقه كعلم املنطق يضبط‬
‫سائر العلوم الفلسفية ‪ ،‬وكعلم النحو‬
‫يضبط النطق والكتابة‬
‫أما القواعد الفقهية فإهنا قد وجدت بعد وجود الفروع‪.‬‬ ‫أن القواعد األصولية قد وجدت قبل‬ ‫الفرق اخلامس‬
‫الفروع‬
‫حيث إهنا القيود اليت أخذ الفقيه نفسه هبا‬
‫عند االستنباط‬

‫‪14‬‬
‫اصول الفقه‬

‫هل يُقدم تعلُّم أصول الفقه أم تعلُّم الفقه ؟‬

‫لقد اختلف يف ذلك على مذهبني ‪:‬‬

‫املذهب الثاين‬ ‫املذهب األول‬


‫أن تعلُّم الفقه والفروع يُقدم على تعلُّم األصول‪.‬‬ ‫أن تعلُّم أصول الفقه يقدم على تعلم الفقه‬

‫ذهب إىل ذلك أبو يعلى يف " العدة " ‪ ،‬وبعض العلماء‬ ‫ذهب إىل ذلك أبو إسحاق الشريازي يف " شرح اللمع " ‪ ،‬وابن‬
‫برهان يف " الوصول " ‪ ،‬وابن عقيل يف " الواضح " ‪ ،‬وأبو بكر‬
‫القفال الشاشي ‪ ،‬وغريهم‪.‬‬

‫إن من مل يعتد طرق الفروع والتصرف فيها ال ميكنه الوقوف على ما‬ ‫وذلك ليكون املتعلم على ثقة مما يدخل فيه ‪ ،‬ويكون قادراً على‬
‫يبتغى هبذه األصول من االستدالل ‪ ،‬والتصرف يف وجوه القياس‪.‬‬ ‫فهم مرامي جزئيات الفقه ‪ ،‬فالفروع ال تدرك إال أبصوهلا ‪،‬‬
‫أنه بتعلُّم الفروع حتصل الدربة وامللكة اليت جتعله يستفيد من تلك‬ ‫والنتائج ال تعرف حقائقها إال بعد حتصيل العلم مبقدماهتا ‪،‬‬
‫األصول والقواعد استفادة صحيحة‬ ‫وعلى هذا ‪ :‬ينبغي أن حتفظ األدلة ‪ ،‬وحتكم األصول ‪ ،‬مث حينئذِ‬
‫تبىن عليها الفروع ‪ ،‬لذلك جتد بعض الفقهاء من املالكية‬
‫وغريهم َجيعلون القواعد األصولية كمقدمة لكتبهم الفقهية‪.‬‬
‫أصول الفقه‬

‫نشأة علم أصول الفقه وتطوره و التأليفه‬

‫‪14‬‬
‫ويف هذا املبحث نعرض لتاريخ ِعلم أصول الفقه من خالل املطالب التالية‪:‬‬

‫يف عصر الرسول صلى هللا عليه وسلم‬ ‫املرحلة األويل‬ ‫نشأة علم أصول الفقه‬ ‫املطلب األول‪:‬‬
‫يف عصر الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم‬ ‫املرحلة الثانية‬
‫يف عصر التابعني‬ ‫املرحلة الثالثة‬
‫يف عصر األئمة اجملتهدين‬ ‫املرحلة الرابعة‬
‫تدوين علم أصول الفقه‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫طريقة الشافعيَّة و املتكلمني‬ ‫االجتاه األول‬ ‫طرق التأليف والبحث يف أصول‬ ‫املطلب الثالث‪:‬‬
‫طريقة احلنفية‬ ‫االجتاه الثاين‬ ‫الفقه‬
‫طريقة املتأخرين‬ ‫اجتاه الثالث‬
‫طريقة جديدة‬ ‫اجتاه الرابع‬
‫الكتب اليت ألفت على طريقة احلنفية ( الفقهاء )‬ ‫الفرع األول‬ ‫أهم الكتب اليت ألفت يف هذا الفن‬ ‫املطلب الرابع‪:‬‬
‫أهم الكتب اليت ألفت على طريقة املتكلمني و الشافعية‬ ‫الفرع الثاين‬
‫الكتب اليت ألفت على الطريقتني‬ ‫الفرع الثالث‬
‫اهتمت مبقاصد الشريعة ونظرايت األحكام‬
‫الكتب َّ‬ ‫الفرع الرابع‬
‫الكتب احلديثة‬ ‫الفرع اخلامس‬

‫انظر‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬حممد عبد الرمحن‪ ،‬ص(‪ ،)323‬اتريخ التشريع‪ :‬اخلضري بك‪ ،‬ص(‪ 114‬وما بعدها)‪ ،‬أصول‬ ‫‪14‬‬

‫الفقه‪ :‬د‪ .‬أبو العينني‪ ،‬ص(‪ ،)13‬أصول الفقه اإلسالمي‪ :‬د‪ .‬حممد مدكور‪ ،‬ص(‪ ،)17‬الوجيز يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬عبد الكرمي‬
‫زيدان‪ ،‬ص(‪ ،)13‬أصول الفقه اإلسالمي‪ :‬د‪ .‬حممود الشافعي‪ ،‬ص(‪.)10‬‬
‫أصول الفقه‬

‫املطلب األول‪ :‬نشأة علم أصول الفقه‪:‬‬

‫علم أصول الفقه قدمي قدم الفقه نفسه‪ ،‬فال يعقل أن يوجد فقه دون أصول علمية تنظم استنباط هذا الفقه من‬
‫لنتعرف كيف نشأ علم األصول‬
‫مصادره‪ ،‬ولكن اتريخ التشريع اإلسالمي مر مبراحل َيسن بنا أ ْن نراجعها سر ًيعا؛ َّ‬
‫منذ فجر التشريع‪.‬‬

‫يف عصر الرسول صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫املرحلة األويل‪:‬‬


‫وقد كانت األحكام يف زمن الرسول صلى هللا عليه وسلم تؤخذ عنه مبا يوحى إليه من القرآن الكرمي‪ ،‬وما بينه يف‬
‫سنته الشريفة‪ ،‬إال أنه كانت هناك إشارة يف عهد رسول صلى هللا عليه وسلم إىل االجتهاد متمثلة يف حديث معاذ‬
‫بن جبل‪ ،‬ملا أرسله رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إىل اليمن فقال له‪ِِ( :‬بَ تقضي إذا ُعرض لك قضاء؟)‪ ،‬قال‬
‫بسنَّة رسول هللا‪ ،‬قال‪( :‬فإن مل جتد؟)‪ ،‬قال‪ :‬أجتهد‬
‫معاذ‪ :‬أقضي بكتاب هللا‪ ،‬قال‪( :‬فإن مل جتد؟)‪ ،‬قال‪ :‬أقضي ُ‬
‫العصر وإن كانت‬ ‫رأيي وال آلو‪ ،‬قال‪( :‬احلمد هلل الذي وفَّق َ ِ‬
‫رسول رسول هللا ملا يرضي هللا ورسوله) ‪ ،‬فهذا ُ‬
‫‪15‬‬

‫أقر االجتهاد فيما ليس‬‫أن هذا العصر َّ‬‫األحكام فيه هي أحكام هللا وأحكام رسوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬إال َّ‬
‫نص من كتاب وال ُسنَّة‪.‬‬
‫فيه ٌّ‬

‫يف عصر الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم‪:‬‬ ‫املرحلة الثانية‪:‬‬

‫وسنَّة رسوله‬
‫جاء عصر الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم ‪ -‬وبني أيديهم جمموعة األحكام املثْـبَتة يف كتاب هللا ‪ -‬تعاىل ‪ُ -‬‬
‫‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ولكنَّه حدث يف عصرهم من األقضية واملشكالت ما مل يوجد يف عصر النيب ‪ -‬صلى هللا‬
‫أع َملُوا الرأي‪ ،‬فكانوا‬
‫َّت يف عصرهم‪ ،‬ف ْ‬‫عليه وسلم ‪ -‬فكان ال بد هلم أن جيتهدوا يف القضااي والوقائع اليت َجد ْ‬
‫شبيها‪ ،‬كانوا يبذلون اجلُهد؛ لتشريع احلكم‬‫يلحقون الشبيهَ بشبيهه‪ ،‬ويُسوون بينهما يف األحكام‪ ،‬فإن مل جيدوا ً‬
‫املناسب‪ ،‬مراعني املصلحة الداعية إىل ذلك‪.‬‬

‫خصهم هللا ‪ -‬تعاىل ‪ -‬به من توقُّد األذهان‪ ،‬وفصاحة‬ ‫أقل تكلًُّفا؛ ملا َّ‬
‫لما‪ ،‬و َّ‬ ‫ِ‬
‫قلواب‪ ،‬وأعمق ع ً‬
‫أبر ً‬‫لقد كان الصحابة " َّ‬
‫ِ‬
‫وحسن القصد‪ ،‬وتقوى ِّ‬
‫الرب‬ ‫وحسن اإلدراك وسرعته‪ ،‬وقلَّة املعارض أو عدمه‪ُ ،‬‬ ‫اللسان‪ ،‬وسعة العلم وسهولة األخذ‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫‪ -‬تبارك وتعاىل ‪ -‬فالعربية طبيعتهم وسليقتهم‪ ،‬واملعاين الصحيحة مركوزة يف فطَرهم وعقوهلم‪ ،‬وال حاجة هبم إىل‬
‫وعلل احلديث واجلَرح والتعديل‪ ،‬وال إىل النظر يف قواعد األصول وأوضاع‬ ‫النظر يف اإلسناد وأحوال الرواة‪ِ ،‬‬
‫األصوليني‪ ،‬بل قد غنوا عن ذلك كله؛ فليس يف ح ِّقهم إال أمران‪ :‬أحدمها‪ :‬قال هللا كذا‪ ،‬وقال رسولُه كذا‪ ،‬الثاين‪:‬‬

‫صححه ابن‬
‫ضعفه اإلمام ابن حزم من السابقني‪ ، ،‬وممن ّ‬
‫هذا احلديث اختلف يف تصحيحه أهل العلم قدميا وحديثا‪ ،‬وممن ّ‬
‫‪15‬‬

‫تيمية‪ ،‬وابن القيم‪ ،‬وهو حديث تلقته األُمة ابلقبول‪ ،‬وأمجع عليه عامة أهل األصول‪ ،‬أخرجه أبو داود‪.‬‬
‫أصول الفقه‬

‫صوا‬‫أسعد الناس هباتني املقدمتني‪ ،‬وأحظى األمة هبما؛ فقواهم جمتمعة عليهما‪ ،‬هذا إىل ما ُخ ُّ‬‫معناه كذا وكذا‪ ،‬وهم ُ‬
‫به ِمن قُـ َوى األذهان‪ ،‬وصفائها‪ ،‬وصحتها وقوة إدراكها‪ ،‬وقُرب العهد بنور النبوة‪ ،‬والتل ِّقي من امل ْشكاة النبوية" ‪.‬‬
‫‪16‬‬

‫كم‪ ،‬نظر يف كتاب هللا ‪ -‬تعاىل ‪ -‬فإ ْن وجد‬‫وعلى هذا كان أبو بكر الصديق ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬إذا ورد عليه ُح ٌ‬
‫فيه ما يقضي به قضى به‪ ،‬وإن مل جيد يف كتاب هللا ‪ -‬تعاىل ‪ -‬نظر يف ُسنَّة رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬‬
‫فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به‪ ،‬فإن أعياه ذلك سأل الناس‪ :‬هل علمتم َّ‬
‫أن رسول هللا قضى فيه بقضاء؟ فرمبَّا‬
‫قام إليه القوم فيقولون له‪ :‬قضى فيه بكذا وكذا‪ ،‬فإن مل جيد ُسنَّةً َسنَّها النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬مجع رؤساء‬
‫شيء‪ ،‬قضى به‪ ،‬ومن بعد أيب بكر كان عمر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬يفعل‬ ‫الناس فاستشارهم‪ ،‬فإذا اجتمع رأيهم على ٍ‬
‫ُ‬
‫السنَّة‪ ،‬سأل‪ :‬هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإ ْن‬‫ُّ‬ ‫و‬ ‫الكتاب‬ ‫يف‬ ‫ذلك‬ ‫جيد‬
‫مثلما فعل أبو بكر‪ ،‬فإذا أعياه أ ْن َ‬
‫كان أليب بكر قضاء قضى به‪ ،‬وإال مجع علماء الناس واستشارهم‪ ،‬فإذا اجتمع رأْيهم على ٍ‬
‫شيء‪ ،‬قضى به‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬

‫يتبني يف كتاب هللا‬ ‫وكان عمر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬يوصي عُ َّماله هبذا النهج‪ ،‬وأيمرهم أ ْن جيتهدوا رأْيهم يف ِّ‬
‫كل ما مل َّ‬
‫‪ -‬تعاىل ‪ -‬أو ُسنَّة الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وهكذا اجتهد الصحابة‪ ،‬ووضعوا من خالل اجتهادهم‬
‫اعد األُوىل الستنباط األحكام من مصادرها الشرعيَّة‪.‬‬
‫القو َ‬

‫ونورد هنا بعض القواعد اليت جتلَّت يف اجتهادات الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم‪:‬‬
‫السنَّة على ما سوامها من الرأي يف استنباط األحكام‪ ،‬وعدم املصري إىل‬ ‫تقدمي القرآن و ُّ‬ ‫القاعدة األوىل‪:‬‬
‫حكم القضية أو املسألة‪ ،‬وهذا‬
‫جيد فيهما َ‬ ‫اجملتهد أ ْن َ‬
‫َ‬ ‫االجتهاد ابلرأي‪ ،‬إال بعد أ ْن يُعيي‬
‫اضح من فِعل أيب بكر الصديق الذي كان يبدأ ببحث املسألة يف كتاب هللا ‪ -‬تعاىل ‪ -‬مث‬ ‫و ٌ‬
‫بسنَّة مأثورة عن النيب ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫يف ُسنَّة النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬مث استشارة َمن له علْم ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يف املسألة حمل البحث‪ ،‬مث االجتهاد ابلرأي اجلماعي فيما يُشبه‬
‫اجملامع الفقهيَّة يف عصران اليوم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اضح من فعل أيب بكر‬‫ط منها األحكام‪ ،‬وهذا و ٌ‬ ‫ظهور اإلمجاع كدليل من األدلة اليت تُستنب ُ‬ ‫القاعدة الثانية‪:‬‬
‫ٍ‬
‫يف مجع رؤساء الناس ‪ -‬وكذلك ِمن فِعل عمر ‪ -‬واستشارهتم‪ ،‬فإذا أمجعوا على شيء قضى‬
‫به‪.‬‬
‫موضوع و ٍ‬
‫احد‪ ،‬وتعارضا‬ ‫املتأخر يف النزول ينسخ املتق ِّدم يف النزول‪ ،‬إذا كان الن َّ‬
‫َّصان يف‬ ‫َّ ِ‬
‫ٍ‬ ‫أن ّ‬ ‫القاعدة الثالثة‪:‬‬
‫َّصني يف العمل ما أمكن ذلك؛ وذلك ألن‬ ‫وعلِم التاريخ‪ ،‬فإذا مل يـُ ْعلَم التاريخ ُْجي َمع بني الن َّ‬
‫ُ‬
‫أحدمها ليس أب َْوَىل يف العمل ما داما يف مرتبة واحدة‪ ،‬ومنثِّل لذلك ابستدالل عبدهللا بن‬
‫مسعود يف مسألة ِعدَّة املتوىف عنها زوجها وهي حامل‪.‬‬

‫لقيت مالك بن عامر‪ ،‬أو مالك بن عوف‪ ،‬قلت‪ :‬كيف كان‬‫عن حممد بن سريين‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫قول ابن مسعود يف املتوىف عنها زوجها وهي حامل؟ فقال‪ :‬قال ابن مسعود‪ :‬أجتعلون عليها‬

‫"إعالم املوقعني"؛ ابن القيم‪ ،‬ج (‪ ،)4‬ص‪)150 -148( :‬‬ ‫‪16‬‬


‫أصول الفقه‬

‫لت سورة النساء القصرى بعد الطوىل"‪.17‬‬


‫التغليظ‪ ،‬وال جتعلون هلا الرخصة؟ أنز ْ‬

‫ض ْع َن‬ ‫َجلُ ُه َّن أَ ْن يَ َ‬ ‫ت ْاأل ْ ِ‬ ‫واستدالل ابن مسعود يَعين َّ‬


‫َمحَال أ َ‬ ‫ُوال ُ‬
‫أن قول هللا ‪ -‬تعاىل ‪َ ﴿ :-‬وأ َ‬
‫محَْلَ ُه َّن ﴾ [الطالق‪ ،]4 :‬يف سورة الطالق ‪ -‬سورة النساء القصرى كما مسَّاها ابن مسعود‬
‫ص َن ِأبَنْـ ُف ِس ِه َّن أ َْربـَ َعةَ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يـُتَـ َوفَّـ ْو َن منْ ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أ َْزَو ً‬
‫اجا يَََرتبَّ ْ‬ ‫‪ -‬انسخ لقوله ‪ -‬تعاىل ‪َ ﴿ :-‬والذ َ‬
‫ألن آية‬ ‫أَ ْش ُه ٍر َو َع ْشًرا ﴾ [البقرة‪ ،]234 :‬يف سورة البقرة ‪ -‬سورة النساء الطوىل ‪ -‬وذلك َّ‬
‫البقرة تفيد أ ْن ِعدة املتوىف عنها زوجها هي أربعة أشهر وعشرة أايم؛ سواء كانت حامالً أم‬
‫احلم ِل؛ سواء كان متوىف عنها‬ ‫تعتد بوضع ْ‬ ‫أن احلامل ُّ‬ ‫غري حامل‪ ،‬وتفيد آيةُ سورة الطالق َّ‬
‫زوجها أم ال‪.‬‬
‫َجلني‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ومن الصحابة َمن مجع بني اآليتني‪ ،‬فجعل عدة املتوىف عنها زوجها أببعد األ َ‬

‫إحلاق النظري بنظريه عند تساويهما يف العِلَّة؛ ِمن ذلك ما ُروي عن علي ‪ -‬رضي هللا عنه ‪-‬‬ ‫القاعدة الرابعة‪:‬‬
‫أنه قال ُلعمر‪" :‬إن الرجل إذا شرب َس ِكر‪ ،‬وإذا َس ِكر َه َذى‪ ،‬وإذا َه َذى افرتى؛ فحدُّه ُّ‬
‫حد‬
‫املفرتي مثانون جلدة"‪ ،18‬قال ذلك عندما شاوره عمر بن اخلطاب ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬يف‬
‫ح ِّد الشارب‪ ،‬وكان عمر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬يرى َّ‬
‫أن الناس قد حتاقروا العقوبة‪ ،‬وهو قياس‬
‫بت العِلَّة اليت بُِين عليها احلكم‪ ،‬فهو من القياس‪.‬‬
‫يـُثْ ُ‬

‫نص؛ فقد قال علي ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬يف تضمني الصناع؛ أي‪:‬‬ ‫اعتبار املصلحة حيث ال َّ‬ ‫القاعدة اخلامسة‪:‬‬
‫َدفْعهم قيمة ما أتلفوه‪" :‬ال يصلح الناس إال ذاك" ‪.‬‬
‫‪19‬‬

‫النص ومل يلغها‪.‬‬


‫املرسلة اليت مل يثبتها ُّ‬
‫فهذا تصريح ابعتبار املصلحة َ‬
‫مدونة‪ ،‬ولكن‬ ‫وهكذا انقضى عصر الصحابة‪ ،‬وهناك قواعد لالستنباط‪ ،‬وإن كانت غري َّ‬
‫الذي يُراجع أقضية الصحابة يَلحظ من ثنااي استدالالهتم وفتاواهم هذه القواعد‪.‬‬
‫الفضل‬
‫َ‬ ‫ولقد َعلِ َم اجملتهدون من بعد الصحابة من التابعني واتبعيهم واألئمة اجملتهدين ‪ -‬هذا‬
‫هلم‪ ،‬يقول اإلمام الشافعي‪" :‬وقد أثىن هللا ‪ -‬تبارك وتعاىل ‪ -‬على أصحاب رسول هللا ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يف القرآن‪ ،‬والتوراة‪ ،‬واإلجنيل‪ ،‬وسبق هلم على لسان رسول هللا ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬من الفضل ما ليس ألحد بعدهم‪ ،‬فرمحهم هللا وهيَّأهم مبا آاتهم من‬
‫نن رسول هللا ‪ -‬صلى‬ ‫ِ‬
‫ذلك ببلوغ أعلى منازل الص ّديقني والشُّهداء والصاحلني‪َّ ،‬أدوا إلينا ُس َ‬
‫ينزل عليه‪ ،‬فعلموا ما أراد رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه‬ ‫هللا عليه وسلم ‪ -‬وشاهدوه والوحي ُ‬
‫ِ‬
‫وجهلْنا‪ ،‬وهم فوقنا يف ِّ‬
‫كل‬ ‫وعَرفوا من ُسنَّته ما عرفنا َ‬
‫وإرشادا‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫وعزما‬
‫وخاصا‪ً ،‬‬
‫ًّ‬ ‫عاما‬
‫وسلم ‪ًّ -‬‬
‫علم واستنبط به‪ ،‬وآراؤهم لنا أمحد وأ َْوَىل بنَا َمن‬‫استدرك به ٌ‬ ‫وعقل وأم ٍر ْ‬
‫عل ٍم واجتهاد وورٍع ٍ‬

‫رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪" 18‬موطأ مالك"‬


‫‪" 19‬تنقيح الفصول وشرحه"؛ للقرايف‪ ،‬ص (‪)199 - 198‬‬
‫أصول الفقه‬

‫ومن أدركنا ممن يرضى‪ ،‬أو حكي لنا عنه ببلدان‪ ،‬صاروا إىل قوهلم إن‬
‫رأينا عند أنفسنا‪َ ،‬‬
‫أحدهم‬
‫تفرقوا‪ ،‬وهكذا نقول ومل خنرج عن أقاويلهم‪ ،‬وإن قال ُ‬‫اجتمعوا‪ ،‬أو قول بعضهم إ ْن َّ‬
‫ومل خيالفه غريه‪ ،‬أخذان بقوله"‪.20‬‬

‫‪ :‬يف عصر التابعني‬ ‫املرحلة الثالثة‬


‫مث جاء عصر التابعني فنهجوا هنج َمن سبقوهم من الصحابة‪ ،‬وصار بني أيديهم ثالث جمموعات من األحكام‪،‬‬
‫هي‪:‬‬
‫‪ -1‬أحكام هللا ‪ -‬تعاىل ‪ -‬يف كتابه‪.‬‬
‫‪ -2‬أحكام رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يف ُسنَّته‪.‬‬
‫‪ -3‬أحكام الصحابة وفتاواهم وأَقضيتهم‪،‬‬

‫فإذا انتقلنا إىل عصر التابعني‪ ،‬وقد اتسعت رقعة الدولة اإلسالمية‪ ،‬وكثر الناس الذين دخلوا يف اإلسالم سـواء أكـانوا‬
‫مــن العــرب‪ ،‬أو العجــم‪ ،‬واســتجدت بعــض احلـوادث الــيت مل يكــن هلــا أحكــام ونصــوص تشـريعية‪ .‬ونظـران إىل مصــادر‬
‫التشـريع‪ ،‬يف عصــرهم وجــدان املصـادر املتقدمــة‪ ،‬إضــافة إىل ذلـك فتــاوى وأقـوال الصـحابة‪ ،‬فكثــر االجتهــاد‪ ،‬وتشــعبت‬
‫طرق املفتني‪.‬‬
‫ولكــن مــن املالحــظ يف هــذه الفــرتة أن التــابعني مــنهم مــن كــان ينحــو حنــو التمســك بظـواهر النصــوص وال أيخــذون ابلقيــاس إال اندراً‪،‬‬
‫وكــانوا يعرفــون أبهــل احلــديث ابحلجــاز‪ ،‬وعلــى رأســهم مــن الصــحابة عبــد هللا بــن عمــر ‪ ‬فقــد كــان أبعــد النــاس عــن األخــذ ابلـرأي‬
‫إال حلاجــة ملحــة‪ ،‬وخلفــه مــن التــابعني ســعيد بــن املســيب ‪ ‬فقــد كــان أمجــع النــاس حلــديث رســول هللا ‪ ‬وفتــاوى أيب بكــر‪ ،‬وعمــر‪،‬‬
‫وعثمان‪.‬‬

‫وكان من أهم األسباب اليت محلت أهل احلجاز على الوقوف عند ظواهر النصوص ما يلي‪-:‬‬
‫‪ -1‬أتثرهم بطريقة شيخهم عبد هللا بن عمر رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ -2‬كثرة ما عنـدهم مـن اآلاثر عـن الرسـول صـلى هللا عليـه وسـلم ‪ ،‬وعـن الصـحابة رضـي هللا عـنهم‪ ،‬ووجـودهم يف‬
‫مكان نزول الوحي‪ ،‬حيث نزل القرآن الكرمي ورويت األحاديث واآلاثر النبوية‪.‬‬
‫‪ -3‬قلة ما يعرض هلم من احلوادث لبساطة حياهتم‪.21‬‬

‫"إعالم املوقعني"؛ ابن القيم‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪80‬‬ ‫‪20‬‬

‫انظر‪ :‬اتريخ التشريع اإلسالمي‪ :‬اخلضري‪ ،‬ص‪ ،132‬أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫‪21‬‬
‫أصول الفقه‬

‫ويف املقابل كـان الفقهـاء يف العـراق‪ ،‬الـذين كـانوا يـرون أن أكثـر األحكـام الشـرعية معقولـة املعـىن‪ ،‬وأن مجيـع األحكـام‬
‫شرعت ملصاحل العباد‪ ،‬فكانوا يبحثون عن علل تلك األحكام‪ ،‬وجيرون عليها األحكام وجوداً وعدماً‪.‬‬
‫وكانوا كثرياً ما يردون األحاديث إن خالفت تلك الضوابط‪ ،‬وال سيما إن وجدوا هلا معارضاً أو قادحاً‪ ،‬و القوادح يف‬
‫الرواية عندهم كانت كثرية لبعدهم عن موطن الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وكان على رأس هذه املدرسة من‬
‫الصحابة عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه تلميذ سيدان عمر بن اخلطاب‪ ،‬وحامل لواء طريقته‪ ،‬مث من التابعني‬
‫علقمة النخعى تلميذ ابن مسعود‪ ،‬مث إبراهيم النخعي وعليه خترج علماء العراق‬

‫ومن أهم أسباب أخذهم ابلرأي ما يلي‪:‬‬


‫‪ -1‬أتثرهم بطريقة شيوخهم املذكورين‪.‬‬
‫‪ -2‬أن العـراق كانــت أســعد األمصــار بســكىن كثــري مــن الصــحابة الــذين عرفـوا ابلفقــه والفتـوى‪ ،‬كــابن مســعود‪ ،‬وســعد‬
‫بن أيب وقاص‪ ،‬وأيب موسى األشعري‪ ،‬وأنس بن مالك‪ ،‬فاكتفوا ابلرواية عنهم‪ ،‬ومل يطلبوا احلديث عن غريهم‪.‬‬
‫‪ -3‬كثــرة الوقــائع واحل ـوادث املســتحدثة‪ ،‬فــإن مــن ضــرورات املدنيــة كثــرة املســتجدات واملتغ ـريات‪ ،‬فكــان البــد وأن‬
‫يتعرفوا أحكام تلك احلوادث‪.22‬‬
‫كل هذه العوامل وغريها جعلت بضاعتهم من احلديث قليلة بعكـس أهـل احلجـاز‪ ،‬فاألخـذ ابلـرأي عنـد أهـل العـراق‬
‫كــان أكثــر مــن أهــل احلجــاز وال يعــىن ذلــك إغفــال جانــب احلــديث فــإن هــذا ممــا ال يليــق أن يتطــرق إىل فهــم عاقــل‬
‫فضالً عن مسلم‪.‬‬
‫كما كان أهل احلجاز أيخذون ابلرأي وإن كان قليالً ابلنسبة إىل أهل العراق‪.23‬‬

‫يف عصر األئمة اجملتهدين‪:‬‬ ‫املرحلة الرابعة‪:‬‬


‫وبعد عصر التابعني واتبعي التابعني جاء عصر األئمة اجملتهدين؛ من أمثال اإلمام مالك‪ ،‬واإلمام الشافعي‪ ،‬ويف هذا‬
‫وصل إلينا هو " ُموطَّأ مالك بن أنس"‬ ‫ِ‬
‫مدوانت يف الفقه‪ ،‬ومن أول ما ُد ّون يف هذا العصر فيما َ‬
‫العصر بدأ ظهور َّ‬
‫جامعا يف حقيقته بني الفقه‬
‫كتااب ً‬
‫الذي مجع فيه بني تدوين احلديث‪ ،‬وأقوال الصحابة‪ ،‬وفقه التابعني وأقواهلم‪ ،‬فكان ً‬
‫واحلديث‪ ،‬وقد مجعه اإلمام مالك؛ بناءً على طلب من اخلليفة املنصور‪.‬‬

‫انظ ــر‪ :‬اتري ــخ التش ـريع اإلس ــالمي‪ :‬عب ــد اللطي ــف الس ــبكي وآخ ـرين‪ ،‬ص(‪ ،)217‬املــذاهب اإلس ــالمية‪ :‬أبــو زه ــرة‪،)17/2( ،‬‬ ‫‪22‬‬

‫أصول الفقه اإلسالمي اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص(‪.)23‬‬


‫انظر‪ :‬املذاهب اإلسالمية‪ :‬أبو زهرة‪.)35/2( ،‬‬ ‫‪23‬‬
‫أصول الفقه‬

‫أثر العلم األُصويل بني العلماء‪ ،‬مثلما دار بني الليث بن سعد‬ ‫املتبادلة بني العلماء يف هذه الفرتة يظهر ُ‬ ‫ويف الرسائل َ‬
‫الف ْقهي األصويل يف‬ ‫فقيه مصر الكبري‪ ،‬واإلمام مالك بن أنس يناقشه يف بعض املسائل‪ ،‬فيظهر أثر االستدالل ِ‬
‫ُ‬
‫عبارات الرسالة‪ ،‬وهاك طرفًا منها‪:‬‬
‫اخلوف على نفسي؛ العتماد َمن‬ ‫علي‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫"وأنه بلغك أين أُفْيت أبشياءَ خمالفة ملا عليه مجاعة الناس عندكم‪ ،‬وأين ََي ُّق َّ‬
‫كتبت‬
‫أن الناس تَـبَ ٌع ألهل املدينة؛ إليها كانت اهلجرة‪ ،‬وهبا نزل القرآن‪ ،‬وقد أصبت ابلذي َ‬ ‫قبلي على ما أفتيتم به‪ ،‬و َّ‬
‫أحدا قد يُنسب إليه العلم أكره لشواذ‬ ‫أعد ً‬ ‫حتب‪ ،‬وما ُّ‬ ‫مين ابملوقع الذي ُّ‬ ‫به من ذلك إن شاء هللا ‪ -‬تعاىل ‪ -‬ووقع ِّ‬
‫مين‪ ،‬واحلمد هلل ِّ‬
‫رب‬ ‫أشد تفضيالً لعلماء أهل املدينة الذين مضوا‪ ،‬وال آخذ ل َفتَاواهم فيما اتفقوا عليه ‪ِّ -‬‬ ‫ال ُفْتـيَا‪ ،‬وال َّ‬
‫ذكرت من مقام رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وآله وسلم ‪ -‬ابملدينة‪ ،‬ونزول القرآن هبا‬ ‫العاملني ال شريك له‪ ،‬وأما ما َ‬
‫ذكرت من قول‬ ‫ذكرت‪ ،‬وأما ما َ‬ ‫تبعا هلم فيه‪ ،‬فكما َ‬ ‫عليه بني ظَ ْهَراين أصحابه‪ ،‬وما علَّمهم هللا منه‪ ،‬وأن الناس صاروا ً‬
‫اج ِرين و ْاألَنْصا ِر والَّ ِذين اتَّـبـعوهم إبِِحس ٍ‬
‫ان َر ِض َي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هللا ‪ -‬تعاىل ‪ ﴿ :-‬و َّ ِ‬
‫ضوا َعْنهُ‬ ‫اَّللُ َعْنـ ُه ْم َوَر ُ‬ ‫الساب ُقو َن ْاأل ََّولُو َن م َن ال ُْم َه َ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ ْ َ‬ ‫َ‬
‫كثريا من أولئك‬ ‫فإن‬ ‫‪،‬‬ ‫]‬ ‫‪100‬‬ ‫‪:‬‬ ‫التوبة‬ ‫[‬ ‫﴾‬ ‫يم‬ ‫ك الْ َفوز الْع ِ‬
‫ظ‬ ‫َّات َْجت ِري َْحتتـها ْاأل َْهنَار خالِ ِدين فِيها أَب ًدا َذلِ‬
‫وأَع َّد َهلم جن ٍ‬
‫ً‬ ‫َ ُْ َ ُ‬ ‫ُ َ َ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ ُْ َ‬
‫السابقني األولني خرجوا إىل اجلهاد يف سبيل هللا؛ ابتغاءَ مرضاة هللا فجنَّدوا األجناد‪ ،‬واجتمع إليهم الناس فأظهروا‬
‫كتاب هللا‬ ‫ِ‬ ‫بني ظهرانيهم كتاب هللا وسنَّة نبيِه‪ ،‬ومل يكتموهم شيئا علِموه‪ ،‬وكان يف ِ ٍ‬
‫كل ُجنْد منهم طائفة يُعلّمون هلل َ‬ ‫ّ‬ ‫ً َُ‬ ‫ُ ّ‬
‫ٍ‬
‫السنَّة‪ ،‬ويـُ َق ّوُمهم عليه أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان الذين‬ ‫ِ‬ ‫يفسره هلم القرآن و ُّ‬ ‫وسنَّة نبيِه‪ ،‬وجيتهدون برأْيهم فيما مل ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ ّ‬
‫اختارهم املسلمون ألنفسهم مل يكن أولئك الثالثة ُمضيِّعني ألجناد املسلمني وال غافلني عنهم‪ ،‬بل كانوا يكتبون‬
‫فسره القرآن أو‬ ‫أمرا َّ‬ ‫ألجنادهم يف األمر اليسري؛ إلقامة الدين واحلذر من االختالف بكتاب هللا ُ ِ‬
‫وسنَّة نبيّه‪ ،‬فلم يرتكوا ً‬
‫وهم به‪.‬‬
‫أعلَ ُم ُ‬
‫ائتمُروا فيه بعده‪ ،‬إال ْ‬ ‫عمل به النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أو َ‬
‫أمر‪ ،‬عمل فيه أصحاب رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬مبصر‪ ،‬والشام‪ ،‬والعراق‪ ،‬على عهد أيب بكر‬ ‫فإذا جاء ٌ‬
‫أمرا مل‬
‫وعمر وعثمان‪ ،‬ومل يزالوا عليه حىت قُبضوا مل أيمروهم بغريه ‪ -‬فال نراه جيوز ألجناد املسلمني أن َُيدثوا اليوم ً‬
‫يعمل به سل ُفهم من أصحاب رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬والتابعني هلم‪ ،‬مع أن أصحاب رسول هللا ‪-‬‬
‫لكتبت هبا‬
‫ُ‬ ‫فت أ ْن قد َعلِمتَها‬‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قد اختلفوا بعده يف ال ُفتْيا يف أشياء كثرية‪ ،‬ولوال أين قد عر ُ‬
‫إليك‪ ،‬مث اختلف التابعون يف أشياء بعد أصحاب رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬سعيد بن املسيب ونظراؤه‬
‫َس ُهم يومئذ ابن شهاب‪ ،‬وربيعة بن‬ ‫ورأ َ‬
‫أشد االختالف‪ ،‬مث اختلف الذين كانوا بعدهم‪ ،‬فحضرُهتم ابملدينة وغريها‪َ ،‬‬
‫أيب عبدالرمحن‪.‬‬
‫ومسعت قولك فيه‪ ،‬وقول ذوي الرأي من أهل‬ ‫ُ‬ ‫وحضرت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فت‬‫فكان من خالف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عر ُ‬
‫كرهت من‬ ‫أسن منه‪ ،‬حىت اضطرك ما َ‬ ‫املدينة‪َ :‬يىي بن سعيد‪ ،‬وعبيدهللا بن عمر‪ ،‬وَكثِري بن فَـ ْرقَد‪ ،‬وغري كثري ممن هو ُّ‬
‫ذلك إىل فراق َْجملِسه‪.‬‬
‫أنكرت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نعيب على ربيعة من ذلك‪ ،‬فكنتما من املوافقني فيما‬ ‫أنت وعبدالعزيز بن عبدهللا بعض ما ُ‬ ‫وذاكرتك َ‬
‫تكرهان منه ما أكرهه‪ ،‬ومع ذلك ‪ -‬حبمد هللا ‪ -‬عند ربيعة خري كثري‪ ،‬وعقل أصيل‪ ،‬ولسان بليغ‪ ،‬وفضل مستبني‪،‬‬
‫وطريقة َحسنة يف اإلسالم‪ ،‬ومودة صادقة إلخوانه عامة‪ ،‬ولنا خاصة‪ ،‬رمحة هللا عليه‪ ،‬وغفر له‪ ،‬وجزاه أبحسن من‬
‫عمله"‪.24‬‬

‫اتريخ دمشق"؛ ابن عساكر‪ ،‬ج (‪ ،)64‬ص (‪)249‬‬ ‫‪24‬‬


‫أصول الفقه‬

‫َخذ يف مدارك األحكام بعمل أهل‬ ‫من الواضح يف هذه الرسالة َّ‬
‫أن اإلمام الليث يناقش اإلمام مالك يف مشروعيَّة األ ْ‬
‫املدينة‪ ،‬كما يناقشه يف اختالف صحابة رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بعد عصر أيب بكر وعمر وعثمان يف‬
‫الفتاوى واألحكام؛ مما يفتح جماالً ملشروعية االختالف يف الفتوى يف املسائل اليت جيوز فيه االختالف‪ ،‬وأن التابعني‬
‫موجودا من قبل‪ ،‬مث نرى بعد ذلك مذهب‬ ‫ً‬ ‫توس ًعا مل يكن‬
‫توسع اخلالف الفقهي على أيديهم ُّ‬
‫من بعد الصحابة َّ‬
‫قاشا فقهيًّا‬‫ِ‬
‫اإلمام مالك على أيدي أتباعه‪ ،‬وهو يعتمد عمل أهل املدينة كأحد مصادر التشريع‪ ،‬األمر الذي أاثر ن ً‬
‫ورد عليه اإلمام الليث يف رسالته اليت أوردان هنا‬
‫بني أهل األصول منذ بعث اإلمام مالك رسالته إىل اإلمام الليث‪َّ ،‬‬
‫طرفًا منها‪.‬‬
‫أيضا يف هذا العصر ُكتب ظاهر الرواية الستة وهي‪:‬‬
‫دون اإلمام حممد بن احلسن الشيباين ً‬
‫مث َّ‬
‫‪" -1‬املبسوط"‬
‫‪ -2‬والزايدات"‪،‬‬
‫‪ -3‬و"اجلامع الكبري"‪،‬‬
‫‪ -4‬و"اجلامع الصغري"‪،‬‬
‫‪ -5‬و"السري الكبري"‪،‬‬
‫‪ -6‬و"السري الصغري"‪،‬‬
‫ِ‬
‫يت ب ُكتب ظاهر الرواية؛ ألهنا رويت عن الثّقات من تالميذه‪ ،‬فهي اثبتة عنه إما ابلتواتر أو ابلشهرة‪ ،‬ويف هذا‬ ‫ِ‬
‫ومسُّ ْ‬
‫العصر بدأ علم أصول الفقه تتسع رقعته يف خترجيات الفقهاء‪ ،‬واستدالالهتم واستنباطاهتم ومناقشاهتم‪.‬‬
‫تبني شكل املناقشات الفقهيَّة يف ذلك العصر‪ِّ ،‬‬
‫وتبني البذور األُوىل‬ ‫ونورد هنا مناقشة بني أيب حنيفة واإلمام الباقر ِّ‬
‫للتفكري ِ‬
‫الف ْقهي األصويل هلذا العصر‪:‬‬
‫دين ج ِّدي وأحاديثه إىل القياس؟‬ ‫لت َ‬‫حو َ‬‫أنت الذي َّ‬
‫قال الباقر‪َ :‬‬
‫َيق يل؛ فإن لك ُح ْرمة كحرمة ج ِّدك ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬يف حياته على‬ ‫اجلِس مكانَك كما ُّ‬ ‫قال أبو حنيفة‪ْ :‬‬
‫أضعف أم‬ ‫فأجب ِين‪ ،‬الرجل‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫أصحابه‪ ،‬فجلس‪ ،‬مث َجثَا أبو حنيفة بني يديه‪ ،‬مث قال‪ :‬إين أسألك عن ثالث كلمات ْ‬
‫املرأة؟‬
‫سهم‪ ،‬قال‬
‫قال الباقر‪ :‬املرأة أضعف‪ ،‬قال أبو حنيفة‪ :‬كم سهم املرأة يف املرياث؟ قال الباقر‪ :‬للرجل سهمان‪ ،‬وللمرأة ٌ‬
‫سهم‪ ،‬وللمرأة سهمان؛‬ ‫ِ‬ ‫أبو حنيفة‪ :‬هذا علم ج ِّدك‪ ،‬ولو َّ‬
‫دين ج ّدك‪ ،‬لكان ينبغي القياس أن يكو َن للرجل ٌ‬ ‫حولت َ‬
‫ألن املرأة أضعف من الرجل‪ ،‬مث الصالة أفضل أم الصوم؟ قال الباقر‪ :‬الصالة أفضل‪ ،‬قال أبو حنيفة‪ :‬هذا قول‬
‫ت من احليض أمرُهتا أن تقضي الصالة‪ ،‬وال تقضي الصوم‪.‬‬ ‫دين ج ِّدك‪ ،‬لكان َّ‬
‫أن املرأة إذا طَ ُهَر ْ‬ ‫حولت َ‬‫ج ِّدك‪ ،‬ولو َّ‬
‫دين ج ِّدك ابلقياس‪،‬‬
‫لت َ‬‫حو ُ‬ ‫أجنس أم النُّطَْفة؟ قال اإلمام الباقر‪ :‬البول أجنس‪ ،‬قال أبو حنيفة‪ :‬لو ُ‬
‫كنت َّ‬ ‫مث البول ُ‬
‫ِ‬ ‫لكن معاذ هللا أن ِّ‬
‫دين ج ّدك ابلقياس‪ ،‬فقام اإلمام‬ ‫أحوَل َ‬ ‫غتسل من البول‪ ،‬ويُتوضَّأ من النُّطَْفة‪ ،‬و ْ‬
‫أمرت أن يُ َ‬
‫لكنت ُ‬‫ُ‬
‫‪25‬‬
‫الباقر‪ ،‬وعانقه‪ ،‬وقبَّل وجهه"‬

‫وتوسع يف‬ ‫ففي هذا احلوار بني اإلمام الباقر واإلمام أيب حنيفة يظهر مصطلح القياس‪ ،‬و َّ‬
‫أن أول َمن ا ْشتُهر به َّ‬
‫ِ‬
‫استخدامه هو اإلمام أبو حنيفة‪ ،‬ونرى كيف َي ّدد اإلمام أبو حنيفة جمال القياس‪ ،‬وهو أنه يكون عند عدم ِّ‬
‫النص‪،‬‬

‫اإلمام الصادق"؛ أبو زهرة‪ ،‬ص (‪)23‬‬ ‫‪25‬‬


‫أصول الفقه‬

‫وهي قاعدة قال هبا األصوليون فيما بعد عندما ضبطوا القياس وبيَّنوا أركانه وشروطه‪ ،‬وملا وقع اخلالف بني أهل‬
‫َّ‬
‫ماسة إىل‬
‫يتأهل له‪ ،‬وخلطوا يف استدالالهتم‪ ،‬ظهرت احلاجة َّ‬ ‫الرأي‪ ،‬وأهل احلديث‪ ،‬وادَّعى االجتهاد ن َفٌر ممن مل َّ‬
‫ضع قواعد لالجتهاد‪ ،‬وقد كان لإلمام الشافعي‪ :‬حممد بن إدريس الفضل يف إخراج أول َمصنَّف يف علم أصول‬ ‫َو ْ‬
‫وضمنه َم ْذ َهبه اجلديد‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الفقه؛ حيث رسالته األصولية مقدمة لكتاب "األم" الذي ألفه الشافعي يف الفقه‪َّ ،‬‬
‫أصول الفقه‬

‫املطلب الثاين‪ :‬تدوين أصول الفقه‪:‬‬

‫اختلف املؤرخون فيما بينهم على أول واضع لعلم أصول الفقه‬
‫أن اإلمام حممد بن إدريس الشافعي هو أول من وضع علم أصول الفقه‪ ،‬وألف فيه كتابه املسمى "الرسالة" فإليه‬ ‫فذهب األكثرون‬
‫يرجع الفضل يف إرساء حجر األساس هلذا العلم‬ ‫إىل‬
‫أن اإلمام جعفر الصادق هو واضع هذا العلم؛ أي‪:‬‬ ‫‪ ،‬فقد اختلف الباحثون يف بَدء هذا التاريخ‪ ،‬فمنهم من يرى َّ‬
‫دون فيه‪،‬‬
‫أول من َّ‬
‫يصل إلينا شيءٌ من‬
‫دون يف أصول الفقه هو أبو يوسف صاحب أيب حنيفة‪ ،‬ولكن مل ْ‬ ‫أن أول من َّ‬‫ومن قائل يرى َّ‬
‫ُكتُبِه‪ .‬أن احلنفية هم أول من وضع قواعد هذا العلم‪ ،‬وأن اإلمام أاب حنيفة ألف فيه كتاابً مساه "الرأي" ضمنه‬
‫قواعد االستدالل‪ ،‬وأن اإلمامني أاب يوسف وحممدا ألفا كتابني يف هذا العلم أيضاً‪ ،‬ولكن هذه الكتب مل تصل‬
‫إلينا إال ملامات عنها يف بطون الكتب‪،‬‬
‫كما أن اإلمام مالكاً أيضاً أشار يف كتابه "املوطأ" إىل بعض هذه القواعد‪ ،‬وهذه الكتب كلها كانت قبل‬
‫الشافعي‬
‫واحلق أن علم األصول نشأ مع نشأة الفقه نفسه‪ ،‬ألن استنباط األحكام متوقف عليه‪ ،‬هذا إذا عنينا املعىن العام هلذا العلم‪ ،‬ولكننا إذا‬
‫قصدان ذلك الرتتيب والتقعيد املخطوط الذي وصل إلينا عن هذا العلم كما نراه اآلن بني أيدينا‪ ،‬فال بد لنا من أن نعرتف لإلمام‬
‫الشافعي بقصب السبق يف ذلك‪ ،‬فقد كان كتابه "الرسالة" فتحا جديداً يف هذا الفن‪ ،‬وكل ما روي من أن احلنفية سبقوا الشافعي يف‬
‫ذلك فما هو إال رواايت مل يدعمها الواقع‪ ،‬ألنه مل يصل إلينا من ذلك شيء رغم وصول كل كتبهم تقريباً ويف طليعتها كتب ظاهر الرواية‬
‫لإلمام حممد‪ ،‬هذا مع اإلشارة إىل أن كتاب الرسالة لإلمام الشافعي مل يستوف كل أبواب األصول وقواعده‪ ،‬ولكنه أرسى املبادئ‬
‫األساسية اليت كانت يف مستقبل األايم منطلق األصوليني ومستمسكهم يف مؤلفاهتم ومطوالهتم‬

‫مؤهالت الشافعي‪:‬‬
‫ظهر فيه َمدرستان يف الفقه‪:‬‬
‫عاش الشافعي يف وقت َ‬
‫موطن الصحابة‬ ‫املدرسة األوىل‪ :‬مدرسة احلديث والرواية‪ ،‬وكانت ابملدينة‪ُ ،‬‬
‫وشيخها اإلمام مالك بن أنس‪ ،‬لكون املدينة َ‬ ‫‪-‬‬
‫ومكان الوحي‪.‬‬
‫وشيوخها أصحاب أيب حنيفة؛ وذلك لعدم توافُر أسباب الرواية َلديهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫املدرسة الثانية‪ :‬مدرسة الرأي‪ ،‬وكانت ابلعراق‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫لكثرة الفنت‪.‬‬
‫ألف الشافعي رسالت ِ‬
‫ني ‪:‬‬ ‫َ‬
‫وقته ِ‬
‫عبد الرمح ِن ب ِن مهدي رمحهُ هللاُ‪.‬‬ ‫احلديث فيها يف ِ‬ ‫ِ‬ ‫لطلب إِ ِ‬
‫بغداد تلبيةً ِ‬
‫مام‬ ‫األُوىل يف َ‬ ‫•‬
‫هي الرسالةُ األخريةُ واليت‬ ‫بعد ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫•‬
‫وصلت إلينا َ‬‫ْ‬ ‫جيل حىت‬ ‫مصر ‪:‬واليت تناقلَها العلماءُ جيالً َ‬ ‫بعد استقراره يف َ‬
‫والثانيةُ َ‬
‫ابإلهتمام و ِ‬
‫العناية قراء ًة وتدريساً وشرحاً ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وهي رسالةٌ أصوليةٌ ُسنـَّيِّةٌ سلفيةٌ جديرةٌ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ‬
‫اشتهرت ابسم ( الرسالة ) ‪َ ،‬‬
‫أصول الفقه‬

‫الفقه ِمْنها ‪:‬‬


‫أصول ِ‬‫ألف كتباً أُخرى يف مسائل ِمن ِ‬
‫َ ْ‬
‫ِ‬
‫الشافعي رمحهُ هللاُ على الرسالة بل َ‬
‫ُّ‬ ‫يقتصر‬
‫ْ‬ ‫و ملْ‬
‫ـماع العل ِم ‪.‬‬
‫كتاب ج ِ‬ ‫ُ‬ ‫•‬
‫ِ‬
‫احلديث ‪.‬‬ ‫اختالف‬
‫ُ‬ ‫• و‬
‫َّيب صلَّى هللا ِ‬
‫عليه وسلَّ َم ‪.‬‬ ‫•‬
‫ُ‬ ‫وصفةُ َهن ِّي الن ِّ‬
‫ِ‬
‫اإلستحسان ‪.‬‬ ‫وإبطال‬
‫ُ‬ ‫•‬

‫فاستطاع الشافعي اجلمع بني املدرستَني والفوز مبحاسنهما؛ حيث تلقى العلم على اإلمام مالك‪ ،‬وكذا على حممد بن احلسن‬
‫مجعه فقه أهل الشام ومصر؛ حيث أخذ عن فُقهائهما‬ ‫الشيباين صاحب أيب حنيفة‪ ،‬يُضاف إىل ذلك ُ‬
‫حيث ألف الشافعي فيه رسالته املشهورة اليت كتبها إىل اإلمام احلافظ عبد الرمحن بن مهدى املتوىف سنة (‪198‬هـ)‪ ،‬وهو أحد‬
‫أئمة احلديث يف احلجاز بعد أن أرسل إليه أن يضع له كتاابً فيه معاين القرآن‪ ،‬وجيمع قبول األخبار فيه‪ ،‬وحجة اإلمجاع‪ ،‬وبيان‬
‫الناسخ واملنسوخ من القرآن‪ ،‬والسنة فوضع له كتاب (الرسالة)‪ ،‬ومما جتدر اإلشارة إليه أن اإلمام الشافعي مل يسم كتابه بـ (الرسالة‬
‫) وإمنا كان يطلق عليه لفظ (الكتاب)‪ ،‬أو يقول (كتايب)‪ ،‬أو (كتابنا) وإمنا أُطلِ َق عليه اسم الرسالة بسبب إرساهلا إىل اإلمام‬
‫عبد الرمحن ابن مهدى‪ ،‬وقد بني اإلمام الشافعي يف هذه الرسالة املنهج الذي جيب أن يسري عليه كل جمتهد‪ ،‬ومجع بني منهجي‬
‫أهل السنة‪ ،‬والرأي‪ ،‬مبيناً الناسخ واملنسوخ‪ ،‬يف الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬والعام واخلاص‪ ،‬واملطلق واملقيد‪ ،‬واجململ واملبني‪ ،‬والعام الذي‬
‫أريد به ظاهره‪ ،‬والعام الذي أريد به غري ظاهره‪ ،‬وحجية خرب اآلحاد‪ ،‬وبني منزلة السنة ومكانتها‪ ،‬وتكلم على القياس‪ ،‬واإلمجاع‪،‬‬
‫واالجتهاد‪ ،‬وشروط املفيت‪ ،‬وغري ذلك من املباحث النفيسة‪.‬‬

‫ومل يقتصر األمر على ذلك بل ألف الشافعي كتباً أخرى تعترب حجة وقانوانً يرجع إليها عند االختالف‪.‬‬
‫ولقد تلقى العلماء ما وصل إليه اإلمام الشافعي يف حترير أصوله ابلدراسة والبحث‪ ،‬ولكنهم اختلفوا من بعده على اجتاهني‪:26‬‬
‫‪ -1‬فمنهم من اجته لشرح أصول الشافعي مبيناً ما أمجل فيها وخمرجاً عليها‪.‬‬
‫‪ -2‬ومنهم من أخذ مبا قرره الشافعي‪ ،‬وخالفه يف بعض التفصيالت وزاد بعض األصول األخرى‪ ،‬ومن هؤالء احلنفية‪ ،‬فقد‬
‫أخذوا مبا قال به اإلمام الشافعي وزادوا عليه بعض األصول كاالستحسان‪ ،‬والعرف‪ ،‬وكذلك املالكية وزادوا عليه بعض األصول‬
‫كإمجاع أهل املدينة الذي أخذوه عن اإلمام مالك‪ ،‬واالستحسان‪ ،‬واملصاحل املرسلة‪ ،‬وسد الذرائع‪ ،‬وما إىل ذلك من األدلة‬
‫املختلف فيها بني العلماء‬
‫جمهودا ملن بعده‪ ،‬بل إنَّه جاء من بعده َمن زاد‬
‫يبق ً‬ ‫إن الشافعي قد أتى ابلعلم كامالً على ِّ‬
‫كل الوجوه؛ حبيث أنه مل َ‬ ‫وال نقول‪َّ :‬‬
‫مسائل كثرية يف هذا العلم"‬ ‫وَمنَّى َّ‬
‫وحرر‬
‫‪27‬‬
‫َ‬
‫بعد أن صنَّف اإلمام الشافعي (‪204‬هـ) كتاب الرسالة يف أصول الفقهـ اقتصرت معظم جهود األصوليني بعده؛ كابن سريج‬
‫(‪306‬هـ) والصرييف (‪330‬هـ) وابن القطان (‪359‬هـ) على شرح الرسالة أو االقتباس منها أو الردعلى املخالفني إىل أن جاء‬
‫القاضيان‪ :‬القاضي الباقالين (‪403‬هـ) والقاضي عبد اجلبار (‪415‬هـ) فكان هلذين العلمني األثر الكبري يف املؤلفات األصولية‬
‫فيما بعد ‪.‬‬

‫انظر‪ :‬التمهيد‪ :‬اإلسنوي‪ ،‬ص(‪ ،)3-4‬أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص(‪ ،)30‬أصول الفقه اإلسالمي‪:‬‬ ‫‪26‬‬

‫د‪ .‬حممود الشافعي‪ ،‬ص(‪.)113‬‬


‫‪" 27‬أصول الفقه"؛ أبو زهرة‪ ،‬ص (‪)13‬‬
‫أصول الفقه‬

‫املطلب الثالث‪ :‬طرق التأليف والبحث يف أصول الفقه‪:‬‬

‫ابب املذاهب الفقهيَّة اتَّفقوا مع الشافعي يف أغلب ما‬ ‫استمر التدوين والبحث يف أصول الشافعي‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن أر َ‬ ‫لقد َّ‬
‫األخ ِذ ابالستحسان الذي كتب فيه‬
‫اختلف معه يف بعضها‪ ،‬فاحلنفيَّة مثالً خالفوه يف ْ‬
‫َ‬ ‫َّقرره يف الرسالة‪ ،‬ومنهم َمن‬
‫بعمل أهل املدينة كمصدر من مصادر‬ ‫ِ‬
‫األخذ ِ‬ ‫الشافعي يف الرسالة كتاب إبطال االستحسان‪ ،‬واملالكية خالفوه يف ْ‬
‫املرسلة‪.‬‬ ‫فق ِههم‪ ،‬كما خالفوه يف ْ‬
‫األخذ ابلذرائع‪ ،‬واملصاحل َ‬

‫توسعت البحوث يف علم أصول الفقه‪ ،‬وكان هناك تيَّاران أو اجتاهان يف التأليف‪:‬‬
‫ومن هنا فَق ْد َّ‬

‫طريقة الشافعيَّة و املتكلمني‪:‬‬ ‫االجتاه األول‬


‫يبحث يف علم أصول الفقه على طريقة الشافعي؛ من خالل تقرير القواعد‪ ،‬واستنباطها وحبثِها حبثًا نظرًّاي‬ ‫ُ‬ ‫هذا االجتاه‬
‫ِ‬
‫ويقررها‪ ،‬وينظر فيها؛ سواء خالفت الفروع الفقهيَّة املستنبطة من قَـْبل‬ ‫ِ‬
‫يبحث القاعدةَ ّ‬
‫ُ‬ ‫غري متقيِّ ٍد ابلفروع الفقهيَّة‪ ،‬بل‬
‫أو وافقتها‪.‬‬
‫كثريا من الباحثني‬ ‫ِ‬
‫سميها الباحثون يف علم األصول‪ :‬طريقة الشافعيَّة أو طريقة املتكلّمني‪ ،‬وذلك َّ‬ ‫ِ‬
‫أن ً‬ ‫وهذه الطريقة يُ ّ‬
‫أصول الفقه عن طريق البحث النظري‬ ‫واملؤلِّفني يف هذه الطريقة كانوا من علماء الكالم الذين تناولوا ابلبحث والتأليف َ‬
‫مسائل ِعلْم األصول مع مسائل الكالم‪ ،‬وأاثروا حبوًاث نظرية‪ ،‬مثل‪ :‬كالمهم يف التحسني‬ ‫ُ‬ ‫اجملرد‪ ،‬واختلطت يف حبوثِهم‬ ‫َّ‬
‫املعىن‪.‬‬
‫َ َ َ‬ ‫ة‬ ‫ل‬‫و‬‫عق‬ ‫م‬ ‫لة‪،‬‬‫َّ‬
‫ل‬ ‫ع‬‫م‬‫ُ‬ ‫العبادات‬ ‫غري‬ ‫يف‬ ‫األحكام‬ ‫َّ‬
‫أن‬ ‫على‬ ‫اتفاقهم‬ ‫مع‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫التقبيح‬ ‫و‬ ‫لي‬ ‫ق‬
‫الع ْ‬
‫تسن‬ ‫ِ‬
‫ئل نظرية كثرية ال ينبين عليها َع َم ٌل وال تدخل يف ع ْلم أصول الفقه ومباحثه وقضاايه‪ ،‬وال ّ‬ ‫وهكذا خيتلفون يف مسا َ‬
‫طري ًقا لالستنباط‪ ،‬ومن ذلك خالفهم يف جواز تكليف املعدوم‪ ،‬بل إهنم حبثوا مسائل وقضااي هي من صميم علم‬
‫الكالم‪ ،‬ومنثِّل هنا بكتاب "املستصفى"؛ للغزايل؛ حيث قدَّم للكتاب مبقدمة يف املنطق والربهان العقلي‪ ،‬زادت على‬
‫يقرر يف‬‫صلب مباحث أصول الفقه‪ ،‬وهو نفسه ِّ‬ ‫مسائل ال تدخل يف ُ‬ ‫الصفحات اخلمسني‪ ،‬مث تناول يف ثنااي الكتاب‬
‫َ‬
‫لكل العلوم‪ ،‬ويف هذا االجتاه كان البحث يعتمد‬ ‫هذه املقدمة أهنا ليست من علم األصول‪ ،‬ولكنه يراها مقدمة ضروريَّة ِّ‬
‫ب َم ْذهيب‪ ،‬وال يتَّجه البحث فيه إلخضاع األصول النظرية‪ ،‬وقواعد االستنباط للفروع الفقهية‪ ،‬بل كانت‬ ‫تعص ٍ‬
‫على ُّ‬
‫تدرس على َّأهنا حاكمة على الفروع‪ ،‬وعلى أهنا دعامة الفقه‪ ،‬وطريقة االستنباط‪ ،‬ونستطيع أن نلخص َ‬
‫أبرز‬ ‫القواعد ُ‬
‫خصائص هذا االجتاه فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬عدم االلتفات إىل موافقة فروع املذهب أو خمالفتها للقواعد األصولية‪ ،‬وإمنا التعويل الكامل على األدلة النقليَّة‬
‫والعقلية‪.‬‬
‫يتوصل إليه من قواعد‪ ،‬و اإلكثار من االستدالالت العقلية والرباهني النظريَّة‪.‬‬
‫‪ -2‬عدم االلتزام ابملذهب فيما َّ‬
‫أن القواعد األصولية يف طريقة البحث يف هذا‬ ‫‪ -3‬قِلَّة إيراد الفروع الفقهية‪ ،‬إال يف مقام التمثيل والتوضيح‪ ،‬كما َّ‬
‫التوسع يف حترير القواعد‪ ،‬ومتحيص اخلالفات‪ ،‬وحتقيق‬
‫االجتاه َُيكم هبا على فروع املذهب دون العكس‪ ،‬وكذلك ُّ‬
‫املسائل‪.‬‬
‫‪ -4‬اشتمال املؤلَّفات على هذه الطريقة على ُمجلة من املسائل العقلية والكالمية اليت ليست من علم األصول‪،‬‬
‫أصول الفقه‬

‫مسائل خالفيَّة ال يرتتَّب على اخلالف فيها مثرة‪ ،‬وهو مما أ ُِخ َذ على هذا االجتاه‪.‬‬
‫َ‬ ‫وكذلك اشتمال تلك املؤلَّفات على‬
‫مجهور العلماء الشافعية‪ ،‬واملالكية‪ ،‬واحلنابلة؛ فلذا يُطلق عليها طريقة اجلمهور‪.‬‬
‫وقد التزم هبذه الطريقة ُ‬

‫طريقة احلنفية و الفقهاء‪:‬‬ ‫االجتاه الثاين‬


‫‪28‬‬
‫وهذا االجتاه يبحث يف علم األصول بدراسة فروع املذهب ‪ ،‬واستنباط القواعد األصولية اليت بََىن عليها فقهاءُ‬
‫مدونة لالستنباط‬
‫اعد َّ‬
‫ت هذه الطريقة هبم مل يرتكوا قو َ‬ ‫أن فقهاء املذهب احلنفي الذي ُع ِرفَ ْ‬‫املذهب استدالالهتم‪ ،‬وذلك َّ‬
‫نظر يف فروعهم‪ ،‬وجادلوا‬ ‫عدهم َمن َ‬ ‫كام ِل التدوين‪ ،‬ومن هنا جاء بَ َ‬‫عصر تَ ُ‬
‫عصرهم مل يكن بَـ ْع ُد َ‬
‫واالستدالل؛ ألن َ‬
‫عنها‪ ،‬ويف ثنااي البحث واملناظرة واحلِجاج كانوا يستخرجون ما يف الفروع من القواعد اليت بُين عليها االستنباط‬
‫دفاعا عن فروعهم‪ ،‬واستدالالً ملذهبهم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫األخذ هبذه الطريقة؛ ً‬ ‫توسعت املذاهب املختلفة يف ْ‬ ‫واالستدالل‪ ،‬مث َّ‬

‫إن هؤالء العلماء وضـعوا القواعـد الـيت رأوا أن أئمـتهم الحظوهـا يف اجتهـاداهتم واسـتنباطهم لألحكـام علـى ضـوء مـا ورد‬
‫عنهم من فروع فقهية‪ .‬حىت أهنم إذا وجـدوا قاعـدة تتعـارض مـع بعـض الفـروع املقـررة يف املـذهب عمـدوا إىل تعـديلها مبـا‬
‫يتفق والفروع الفقهية‪ .‬لذا مسيت هذه الطريقة بطريقة الفقهاء‪ ،‬وعلى ذلك احلنفية‬

‫(‪ )1‬الفرق بني طريقة املتكلمني وطريقة احلنفية‬

‫وإليضاح الفرق بني طريقة املتكلمني‪ ،‬وطريقة احلنفية نذكر هذين املثالني‪:29‬‬

‫أحدمها‪-:‬‬
‫لبي ــان طريق ــة املتكلم ــني واحلنفي ــة يف تقري ــر القواع ــد األصـ ـولية‪ ،‬وكي ــف ك ــان األول ــون يعتم ــدون يف تقريره ــا عل ــى األدل ــة‬
‫الشرعية‪ ،‬بينما اآلخرون يعتمدون على الفروع اليت نقلت عن أئمة املذهب‪.‬‬

‫اثنيهما‪-:‬‬
‫لبيان أن احلنفية كانوا بعد تقرير القاعدة يعدلوهنا على الوجه الذي تتفق به مع الفروع الفقهية املختلفة‪.‬‬

‫ما قالوه يف سببية الوقت لوجوب الصالة‪.30‬‬ ‫املثال األول‪:‬‬


‫‪ -‬فقد اتفق العلماء على أن وقت كل صالة من الصلوات اخلمس سبب لوجوهبا واشتغال ذمة‬
‫املكلــف هبــا‪ ،‬وشــرط لصــحة أدائهــا‪ ،‬فــال جتــب قبــل دخولــه‪ ،‬وال يصــح التعجيــل هبــا قبلــه‪ ،‬وال‬
‫جيوز أتخري أدائها عنه‪.‬‬
‫‪ -‬وكما اتفقوا على جواز فعلها يف أية ساعة من الوقت الذي جعل هلا‪.‬‬

‫‪ 28‬فإهنا تتميز أبمرين ‪ :‬أوهلما ‪ :‬أهنا تقرر القواعد األصولية على مقتضى ما نقل من الفروع عن أئمتهم‪ .‬اثنيهما ‪ :‬أهنا تغوص‬
‫على النكت الفقهية‪ .‬ومسيت هذه الطريقة بطريقة " الفقهاء " ؛ ألهنا أمس ابلفقه ‪ ،‬وأليق ابلفروع‬
‫انظر‪ :‬أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص(‪.)20‬‬ ‫‪29‬‬

‫أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص(‪ 31‬وما بعدها)‪.‬‬ ‫‪30‬‬
‫أصول الفقه‬

‫ولكنهم اختلفـوا يف جـزء الوقـت الـذي يكـون سـبباً لإلجيـاب‪ ،‬أي عالمـة علـى توجـه اخلطـاب‬ ‫‪-‬‬
‫من الشارع للمكلف‪.‬‬

‫هل هو أول أجزاء الوقت‪ ،‬أو هو اجلزء الذي يتصل به األداء؟‬


‫‪ -‬فقد ذهب اجلمهور ( مدرسة املتكلمني ) إىل أن السبب هو‪ :‬أول أجزاء الوقـت‪ ،‬فمـىت ابتـدأ‬
‫صار املكلف مطالباً أبداء الصالة احملدد هلا ذلك الوقت‪ ،‬على أن يكـون لـه اخليـار يف أدائهـا‬
‫يف أي ســاعة شــاء‪ ،‬وهــذا مــىت كــان أهــال للتكليــف أول الوقــت‪ ،‬فــإن مل يكــن أهــال للتكليــف‬
‫أول الوقت‪ ،‬كان السبب اجلزء الذي فيه املانع‪ ،‬فإذا استغرق املانع مجيع الوقت مل يتوجـه إليـه‬
‫خطاب‪ ،‬ومل يكن وجوب‪.‬‬
‫‪ -‬وذهــب احلنفي ــة‪ :‬إىل أن الس ــبب لوجــوب الص ــالة ه ــو اجل ــزء الــذي يتص ــل ب ــه األداء‪ .‬ف ــإن‬
‫أديت الصالة يف اجلزء الذي يليه كان هـو السـبب وهكـذا‪ ،‬فـإن مل تـؤد حـىت بقـى مـن الوقـت‬
‫جزء ال يسع غريها تعني هذا اجلزء للسببية‪.‬‬
‫فإن خرج الوقت ومل تؤد فيه كان السبب هو الوقت كله‪.‬‬

‫األدلة‪-:‬‬
‫الصــال َة لِـ ُـدلُ ِ‬
‫وك‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ـ‬ ‫ِ‬
‫َق‬‫أ‬‫‪‬‬ ‫ـاىل‪:‬‬
‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫هللا‬ ‫ـول‬‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـو‬‫ـ‬ ‫ه‬‫و‬ ‫ـرعي‪،‬‬
‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ال‬ ‫ـدليل‬‫ـ‬ ‫ل‬‫اب‬ ‫ـه‬‫ـ‬ ‫ي‬ ‫إل‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ذه‬ ‫ـا‬‫ـ‬ ‫مل‬ ‫ـور‬‫ـ‬ ‫ه‬ ‫اجلم‬ ‫ـتدل‬‫‪ -‬اسـ‬
‫س إِ َىل َغ َس ِق اللَّْيل‪.31‬‬ ‫َّم ِ‬
‫الش ْ‬
‫وال ــدلوك ه ــو‪ :‬زوال الش ــمس وميله ــا ع ــن وس ــط الس ــماء إىل جه ــة الغ ــرب‪ ،‬وغس ــق اللي ــل ظلمت ــه‬

‫الشــديدة‪ ،‬والصــالة الــيت أمــر هللا تعــاىل إبقامتهــا مــن الــدلوك إىل غســق الليــل هــي‪ :‬الظهــر‪ ،‬والعصــر‪،‬‬
‫واملغرب‪ ،‬والعشاء‪ ،‬أما صالة الصبح‪ ،‬فقـد أمـر هللا تعـاىل هبـا يف قولـه‪َ  :‬وقُـ ْـرآ َن الْ َف ْجـر‪ 32 ‬ألن معنـاه‬
‫وأقم قراءة الفجر‪ ،‬واملراد هبا صالة الفجر‪ ،‬وأطلق عليها اسم القرآن ألنه جزء وركن هلا‪.‬‬

‫ف ــاهلل س ــبحانه وتع ــاىل جع ــل ال ــدلوك س ــبباً لوج ــوب الص ــالة‪ ،‬وتوج ــه اخلط ــاب إىل املكل ــف‪ ،‬يف قول ــه‬

‫سـبحانه وتعــاىل‪ :‬أَقِـ ِم َّ‬


‫الصــال َة‪ ‬وملـا بينــت الســنة أوائــل األوقـات‪ ،‬وأواخرهــا‪ ،‬دل ذلــك علـى التوســيع علــى‬
‫املكلف يف أداء الصلوات‪.‬‬

‫‪ -‬وينبين علـى هـذا األصـل أن املكلـف مـىت صـادفه جـزء مـن الوقـت خـال فيـه مـن موانـع التكليـف‪،‬‬
‫اســتقر الواجــب يف ذمتــه‪ ،‬ووجــب عليــه أداؤه‪ ،‬وإذا مل يصــادفه جــزء مــن الوقــت خاليـاً مــن املوانــع‬
‫الشرعية ال جيب عليه شيء‪.‬‬

‫‪ -‬أما احلنفية فقد استدلوا ملا ذهبوا إليه ابلفروع الفقهية املنقولة عن أئمة املذهب‪ ،‬ومل يعتمدوا على‬

‫سورة اإلسراء‪ :‬من اآلية (‪.)78‬‬ ‫‪31‬‬

‫سورة اإلسراء‪ :‬من اآلية (‪.)78‬‬ ‫‪32‬‬


‫أصول الفقه‬

‫دليل من الكتاب‪ ،‬أو السنة‪ ،‬وذلك أهنم نظروا يف هذه الفروع فوجدوا هذا الفرع وهو‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الشــخص إذا كــان مكلف ـاً يف أول الوقــت‪ ،‬مث ط ـرأ مــانع مــن التكليــف‪ ،‬واســتمر هــذا املــانع‬
‫حىت خرج الوقت‪ ،‬مل جتب عليه الصالة املفروضة يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫‪ -2‬ففهمـوا مــن هــذا الفــرع أن اجلــزء األول مــن الوقــت لــيس ســبباً؛ لوجــوب الصــالة‪ ،‬ألنــه لــو كــان‬
‫ســبباً الس ــتقر الواج ــب يف ذمــة املكل ــف مبج ــرد وج ــوده‪ ،‬وال ت ـربأ الذم ــة بع ــد ش ــغلها إال أبداء‬
‫الواجب أو قضائه‪.‬‬

‫‪ -3‬ووجـدوا أيضـا أن املكلــف إذا أدى الصـالة يف أول الوقــت‪ ،‬كانـت صــالته صـحيحة‪ ،‬فأخــذوا‬
‫من ذلك أن اجلزء األخري ليس هو السبب يف وجـوب الصـالة؛ ألنـه لـو كـان سـبباً ملـا صـحت‬
‫الصالة أول الوقت‪ ،‬ألهنا تعتـرب صـالة أديـت قبـل وجـود سـببها وشـرط صـحتها‪ ،‬وهـو الوقـت‪،‬‬
‫والصالة ال تصح قبل وجود سببها‪ ،‬وحتقق شرط صحتها‪.‬‬

‫‪ -4‬ووجــدوا كــذلك‪ :‬أن املكلــف إذا مل يــؤد صــالة العصــر حــىت دخــل الوقــت النــاقص‪ ،‬وهــو الوقــت‬
‫الذي يتغري فيه لون الشمس إىل االصفرار‪ ،‬مث صالها يف الوقت الناقص كانت صالته صحيحة‬
‫مع الكراهة‪ .‬فأخذوا من هذا الفرع أن الواجب إذا مل يؤد إال يف آخر الوقـت‪ ،‬كـان آخـر الوقـت‬
‫هـو الســبب لوجــوب الصــالة‪ ،‬ألن صــحة أداء الصــالة يف الوقــت النــاقص دليــل علــى أهنــا أديــت‬
‫كما وجبت‪.‬‬
‫‪ -5‬كما وجدوا من هـذه الفـروع‪ :‬أن املكلـف إذا مل يصـل العصـر حـىت خـرج وقتهـا‪ ،‬مث صـالها يف‬
‫اليـوم التـايل مـثالً يف الوقـت النـاقص‪ ،‬مل تصـح صـالته‪ ،‬فأخـذوا مـن هـذا أن الواجـب إذا مل يــؤد‬
‫يف الوقت‪ ،‬كـان السـبب لوجوبـه هـو كـل الوقـت‪ ،‬ولـيس اجلـزء األخـري منـه‪ ،‬ألنـه لـو كـان اجلـزء‬
‫األخــري هــو الســبب بعــد انتهــاء الوقــت لكــان هنــاك مــانع مــن صــحة قضــاء الصــالة يف الوقــت‬
‫الناقص؛ ألن الواجب حينئذ يكون قد وجب انقصاً لنقصان سببه فال جيوز قضاؤه يف الوقـت‬
‫الناقص‪.‬‬
‫فمراعاة هلذه الفروع‪ ،‬وليكن األصل منطبقاً عليها‪ ،‬قال فقهاء احلنفية‪ :‬أن السبب يف وجوب الصـالة‬
‫هو اجلزء األول إن اتصل به األداء‪ ،‬فإن مل يتصل به األداء انتقلـت السـببية إىل اجلـزء الـذي يليـه …‬
‫وهكذا حىت إذا بقى من الوقت جزء ال يسع إال الصالة املفروضة تعني هذا اجلزء للسببية‪ ،‬فإن خـرج‬
‫الوقت ومل يؤد املكلف الصالة أضيفت السببية إىل الوقت كله‪.‬‬
‫قرر احلنفية يف أصوهلم قاعدة (أن املشرتك ال يعم)‪.33‬‬ ‫املثال الثاين‪:‬‬
‫املشــرتك‪ :‬هــو اللفــظ الــذي وضــع ملعــىن‪ ،‬مث وضــع لغــريه واحــداً أو أكثــر‪ ،‬كلفــظ العــني وضــع للــذهب‪،‬‬
‫والعني الباصرة‪ ،‬واجلاسوس‪.......‬‬
‫فمثــل هــذا اللفــظ ال يصــح كمــا تــنص القاعــدة أن يســتعمل يف عبــارة واحــدة إال يف معــىن واحــد مــن‬

‫‪ 33‬أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل ص(‪ ،)34-35‬أصول الفقه اإلسالمي‪ :‬د‪ .‬زكي الدين شعبان‪ ،‬ص(‪-18‬‬
‫‪.)22‬‬
‫أصول الفقه‬

‫معانيه؟‬
‫فال يصح أن تقول‪ :‬رأيت عيناً وتريد أنك رأيت جاسوساً‪ ،‬وذهباً‪ ،‬وعيناً ابصرة‪ ،‬ومل يرد عن إمام مـن‬
‫أئمة املذهب أنه صـرح هبـذه القاعـدة‪ ،‬وإمنـا أخـذها علمـاء احلنفيـة مـن بعـض الفـروع الفقهيـة‪ ،‬كقـوهلم‬
‫يف الوصــية‪( :‬لــو أوصــى شــخص ملواليــه‪ ،‬وكــان للموصــي مـوال أعلــون و أســفلون‪ ،‬ومــات املوصــي قبــل‬
‫البيان‪ ،‬بطلت الوصية‪ ،‬فإن هـذا الـبطالن إمنـا جـاء نتيجـة جلهالـة املوصـى لـه‪ ،‬وهـذه اجلهالـة أتتـى مـن‬
‫انحيــة أن لفــظ املـوايل مشــرتك بــني املعتقــني ( بكســر التــاء )‪ ،‬ويقــال هلــم م ـوال أعلــون‪ ،‬وبــني املعتقــني‬
‫(بفتح التاء)‪ ،‬ويقال هلـم مـوال أسـفلون‪ ،‬ومل َيمـل علـى النـوعني مجيعـاً يف هـذه املسـألة‪ ،‬بـل املـراد منـه‬
‫أحــدمها فقــط وهــو غــري معلــوم‪ ،‬ففهــم العلمــاء مــن ذلــك (أن املشــرتك ال يعــم) وجعلوهــا قاعــدة مــن‬
‫قواعدهم األصولية)‪.‬‬
‫وعندما رأى بعض علماء احلنفية أن القاعدة هبذا الشكل ال تتالئم مع بعض الفروع الفقهية األخرى‬
‫املقررة يف املذهب‪ ،‬كقوهلم يف مسألة اليمني (لو قال وهللا ال أكلم موالك‪ ،‬وكان للمخاطب موال‬
‫أعلون وأسفلون‪ ،‬فكلم واحداً منهم َحنِث )‪ .‬فإن احلكم ابحلِنْث بكالم أي واحد من املوايل ال‬
‫جييء إال إذا كان لفظ املوايل مستعمالً يف هذه الصورة يف معنييه معاً‪ ،‬وهذا خمالف للقاعدة املقررة (‬
‫املشرتك ال يعم ) إال إذا كان بعد النفي فيعم‪ ،‬وال شك أن لفظ املوىل يف هذا الفرع واقع بعد النفي‪،‬‬
‫فلهذا صح أن يراد منه معنياه مجيعاً يف عبارة واحدة‪ ،‬من أجل هذا أكثر احلنفية من ذكر الفروع‬
‫الفقهية يف كتبهم األصولية‪ ،‬ألهنا يف احلقيقة هي األصول لتلك القواعد وإن كانوا يذكروهنا على‬
‫جهة التفريع والبناء على القواعد األصولية‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفرق بني طريقة أصول احلنفية عن أصول الشافعية‪ ،‬واجلمهور‬

‫منهاجا لالستنباط‪ ،‬وكانت‬


‫ً‬ ‫أن أصول الشافعية كانت‬ ‫وهبذا ختتلف أصول احلنفية عن أصول الشافعية‪ ،‬واجلمهور يف َّ‬
‫حاكمة عليه‪ ،‬أما طريقة احلنفية فقد كانت غري حاكمة على الفروع بعد أن ُد ِّو ْ‬
‫نت؛ أي‪ :‬إهنم استنبطوا القواعد اليت‬
‫مقررة ال مقاييس حاكمة‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫تبني مذهبهم وتؤيده؛ فهي إذًا مقاييس َّ‬

‫ونستطيع أن نلخص أبرز خصائص هذا االجتاه فيما يلي‪:‬‬


‫ِ‬
‫‪ -1‬هي طريقة الستنباط أصول االجتهاد الذي وقع ابلفعل‪ ،‬وهي قواعد مستقلّة ميكن املوازنة بينها وبني غريها من‬
‫القواعد‪.‬‬
‫جمردة‪ ،‬إمنا هي حبوث ُكليَّة وقضااي عامة‪ ،‬فتستفيد ال ُكليَّات‬ ‫‪ - 2‬هي طريقة مطبَّقة يف الفروع؛ فهي ليست حبوًاث نظرية َّ‬
‫من تلك الدراسة‪.‬‬
‫يتوصل إليه من قواعد‪ ،‬حىت ولو ِصيغتِ‬ ‫‪ -3‬استنباط القواعد األصولية من الفروع الفقهيَّة‪ ،‬وااللتزام ابملذهب فيما َّ‬
‫القاعدة بطريقة متكلفة لتتوافق مع الفروع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -4‬كثرة الفروع واألمثلة والشواهد‪ ،‬وقلة املسائل االفرتاضيَّة والنظرية‪ ،‬واملسائل اليت ال يَـنْـبَِين عليها ٌ‬
‫أثر فقهي‪.‬‬
‫مكنت هذه الطريقة من كثرة التخريج يف املذاهب وتفريع الفروع بناءً على القواعد املستنبطة‪.‬‬ ‫‪َّ -5‬‬
‫أصول الفقه‬

‫طريقة املتأخرين‪:‬‬ ‫اجتاه الثالث‬


‫ِ‬
‫املتأخرين من األصوليني الذين مجعوا بني الطريقتني‪،‬‬ ‫أن اس ِ‬ ‫ِ‬
‫ظهرت طريقة ّ‬ ‫ْ‬ ‫كل يف منهاجها‪،‬‬
‫تقامت الطريقتان ٌّ‬ ‫بعد ْ‬
‫البحث النظري ِ‬
‫مقرًرا‬ ‫ُ‬ ‫اجملرد‪ ،‬ويستشهدون عليها ابلفروع‪ ،‬فال يكون‬
‫اعد من خالل البحث النظري َّ‬ ‫فكانوا ِ‬
‫يقررون القو َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ظهرت هذه الطريقة يف حدود القرن‬‫ْ‬ ‫يتم استنباطه من القواعد‪ ،‬وقد‬ ‫للقواعد واألصول‪ ،‬وال تصبح الفروع هي ِ‬
‫املقررة ملا ُّ‬
‫ّ‬
‫السابع اهلجري‪.‬‬

‫ومن خصائص البحث والدراسة َوفق هذا املنهج‪:‬‬


‫‪ -1‬اجلمع بني األدلة العقلية والنقلية‪ ،‬وبني الفروع الفقهيَّة يف دراسة القواعد األصولية‪ ،‬وعدم االقتصار على أحدمها‪.‬‬
‫‪ -2‬اجلمع بني فائدتني؛ فائدة تعود على الفقه‪ ،‬وذلك بذ ْكر الفروع الفقهيَّة‪ ،‬وفائدة تعود على القواعد األصولية‪،‬‬
‫وذلك بتمحيص أدلتها ومناقشتها‪.‬‬
‫‪ -3‬استيعاب ما أُلِّف على طريقيت املتكلّمني والفقهاء‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪ِ -4‬مسَة االختصار يف أغلب املؤلَّفات على هذه الطريقة‪.‬‬
‫وبيان األصول اليت قامـت عليهـا تلـك الفـروع‪ ،‬وتطبيـق القواعـد عليهـا‪ ،‬وربطهـا هبـا‪ ،‬وجعلهـا خادمـة هلـا‪ ،‬وقـد اتبـع هـذه‬
‫الطريقة علماء من خمتلف املذاهب كالشافعية‪ ،‬واملالكية‪ ،‬واحلنابلة‪ ،‬واحلنفية‪.‬‬
‫وكان ذلك يف القرن السابع اهلجري‪ ،‬وأول من قام هبذه املهمة العامل اجلليل مظفر الدين أمحد بن على الساعايت احلنفي‬
‫املتوىف سنة ‪694‬هـ يف كتابه املسمى ( بديع النظام اجلامع بني أصول البز دوي واألحكام )‪.‬‬

‫طريقة جديدة‪:‬‬ ‫اجتاه الرابع‬


‫ِ‬
‫هنجا متميًّزا يف البحث والتأليف يف علم األصول‪ ،‬هذا‬ ‫غايرا‪ ،‬وهنج ً‬
‫وهناك من علماء األصول َمن سلك مسل ًكا ُم ً‬
‫املسلك يقوم على تناول مقاصد الشريعة العامة ومصاحلها ال ُكليَّة‪ ،‬هذه املقاصد وتلك املصاحل إمنا جاءت الشريعة‬
‫ومن هؤالء اإلمام أبو‬‫حلمايتها ومراعاهتا‪ ،‬وقد كانت حبوث أصول الفقه السابقة ال تُـعىن هبذا اجلانب وال تتناوله‪ِ ،‬‬
‫َْ‬
‫إسحاق الشاطيب املالكي املتوىف سنة ‪ 780‬هـ؛ فقد اجته اإلمام الشاطيب إىل العناية أبسرار التشريع‪ ،‬وتوضيح مقاصد‬
‫عد بَدءًا ملنهج جديد من األصول يغاير املناهج القائمة من‬ ‫ب يف األصول‪ ،‬كما يُ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫الشارع‪ ،‬ويُ ُّ‬
‫عد كتابه من أعظم ما ُكت َ‬
‫قبل‪.‬‬
‫أصول الفقه‬

‫املطلب الرابع‪ :‬أهم الكتب اليت ألفت يف هذا الفن‪:‬‬

‫الكتب اليت ألفت على طريقة احلنفية ( الفقهاء )‪:34‬‬ ‫الفرع األول‬
‫‪35‬‬
‫ما الطريقة األوىل ‪ -‬وهي‪ :‬طريقة احلنفية ‪ -‬فإهنا تتميز أبمرين‪:‬‬
‫أوهلما‪ :‬أهنا تقرر القواعد األصولية على مقتضى ما نقل من الفروع عن أئمتهم‪.‬‬
‫اثنيهما‪ :‬أهنا تغوص على النكت الفقهية‪.‬‬
‫ومسيت هذه الطريقة بطريقة " الفقهاء "؛ ألهنا أمس ابلفقه‪ ،‬وأليق ابلفروع‪ ،‬وسبب ذلك‪ :‬أن تلك القواعد قد أخذت‬
‫من الفروع؛ ذلك ألن احلنفية املتأخرين الحظوا واستقرأوا وتتبعوا الفتاوى الصادرة عن أئمتهم املتقدمني‪ ،‬فعمدوا إىل تلك‬
‫الفتاوى والفروع واستخلصوا منها القواعد والضوابط‪ ،‬وجعلوها أصوال ملذهبهم لتكون هلم سالحا يف مقام اجلدل‬
‫واملناظرة‪ .‬وقد ألِّف على هذه الطريقة كتب كثرية‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫ابو منصور ماتريدي املتوىف سنة (‪ 330‬ه ) ملاتريدي كتاابن يف أصول الفقه األول‬ ‫ماخذ الشرائع و‬ ‫‪1‬‬
‫مأخذ الشرائع والثاين اجلدل ذكرمها عامة الذين ترمجوا له وقال عالء الدين البخاري‬ ‫اجلدل‬
‫مبينًا قدر هذين الكتابني وتصانيف أصحابنا (يف أصول الفقه) قسمان قسم وقع يف‬
‫غاية اإلحكام واإلتقان لصدوره ممن مجع األصول والفروع مثل (مأخذ الشرائع) وكتاب‬
‫(اجلدل) للماتريدي وحنومها وقسم وقع يف هناية التحقيق يف املعاين وحسن الرتتيب‬
‫لصدوره ممن تصدى الستخراج الفروع من ظواهر املسموع غري أهنم ملا مل يتمهروا دقائق‬
‫األصول وقضااي العقول أفضى رأيهم إىل رأي املخالفني يف بعض الفصول مث هجر‬
‫القسم األول إما لتوحش األلفاظ واملعاين وإما لقصور اهلمم والتواين‪ .‬وهذان الكتاابن مل‬
‫يعثر على أي نسخة منهما ومها يف عداد املفقودات‬
‫لإلمام أيب احلسن الكرخي مفيت العراق البغدادي املتوىف سنة (‪340‬هـ) وهي أول‬ ‫رسالة األصول‬ ‫‪2‬‬
‫رسالة وضعت يف أصول احلنفية‪.‬‬ ‫(اصول الكرخي)‬
‫لإلمام أيب بكر الرازي املعروف ابجلصاص البغدادي املتوىف سنة (‪270‬هـ)‪ ،‬وقد أكثر‬ ‫الفصول يف االصول‬ ‫‪3‬‬
‫فيه من التفصيل والتبويب‪.‬‬ ‫(اصول اجلصاص)‬
‫ومؤلفه هو ‪ :‬أبو علي الشاشي ‪ :‬أمحد بن حممد بن إسحاق ‪ ،‬نظام الدين ‪ ،‬الفقيه‬ ‫أصول الشاشي‬ ‫‪4‬‬
‫احلنفي ‪ ،‬املتويف سنة ‪344‬هـ وهو من تالميذ أيب احلسن الكرخي ‪ -‬أصول الشاشي‬
‫من املتون املعتمدة يف أصول الفقه احلنفي‪ ،‬بل من أهم املختصرات فيه‪ ،‬تلقاه العلماء‬
‫ابلقبول‪ ،‬وتناولوه ابلدراسة والشرح‪ ،‬ال سيما يف بالد اهلند وابكستان‪ ،‬وافغانستان‪،‬‬

‫انظر‪ :‬أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص(‪ ،)36 ،35‬أصول الفقه اإلسالمي‪ :‬د‪ .‬حممود الشافعي‬ ‫‪34‬‬

‫ص(‪ ،)19‬الوجيز يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬عبد الكرمي زيدان‪ ،‬ص(‪.)18‬‬


‫‪ 35‬املهذب يف علم أصول الفقه املقارن (‪)1:59‬‬
‫أصول الفقه‬

‫وآسيا الوسطى‪ ،‬وما جاورها من البلدان‪ ،‬فما من معهد اسالمي هناك إال والكتاب‬
‫‪36‬‬
‫مقرر فيه تدريسه‬
‫ابو زيد الدبوسي املتوىف سنة (‪ 430‬ه) ويعترب هذا الكتاب أول تدوين ألصول‬ ‫تقومي االدلة‬ ‫‪5‬‬
‫مدرسة مسرقند احلنفية‪ ،‬مقارنة مبدرسة العراقيني من احلنفية‪ .‬كما يعد الكتاب األول من‬
‫حيث التميز يف األسلوب واملنهج‪ ،‬إضافة إىل تدوين الكثري من األقوال للسابقني‪.‬‬
‫والناظر يف هذا الكتاب يرى أنه كتاب اجتهاد يف األصول‪ ،‬بني فيه اإلمام الدبوسي‬
‫آرائه واجتاهه يف أسلوب سديد‪ ،‬وأتليف حمكم‪ ،‬وهو بني الكتب احلنفية األصولية يف‬
‫طليعتها‪.‬‬
‫رسالة عبيد هللا بن عمر أبو زيد الدبوسي نسبته إىل دبوسية (بني خبارى ومسرقند)‬ ‫أتسيس النظر‬ ‫‪6‬‬
‫املتوىف سنة (‪430‬هـ)‪ ،‬وفيها إشارة موجزة إىل األصول اليت اتفق فيها أئمة املذهب‬
‫احلنفي مع غريهم‪ ،‬أو اختلفوا فيها‪.‬‬
‫اَّلل الصيمري‪ .‬املتوىف (‪ 436‬هـ) كتاب اندر جدا ومهم جدا يف أصول‬ ‫أليب عبد َّ‬ ‫مسائل اخلالف‬ ‫‪7‬‬
‫الفقه احلنفي هذا الكتاب استفاد مؤلفه من أصول اجلصاص كأنه اختصره منه‬
‫ومع هذا له أمهية ذاتية أيضا ألن مؤلفه من حذاق احلنفية‬
‫وألن مؤلفه معاصر أيب زيد الدبوسي صاحب تقومي األدلة يف أصول الفقه الذي هو‬
‫صاحب أتثري مطلق على كتب أصول الفقه احلنفي بعده‪ ،‬وهو من علماء ما وراء‬
‫النهر‪ ،‬فالصيمري من علماء العراق‪ ،‬ولذا يستحقان املقارنة بينهما‬
‫فخر اإلسالم على بن حممد البزدوى املتوىف سنة (‪482‬هـ) مسرقند‬ ‫كنز الوصول إىل‬ ‫‪8‬‬
‫وعليه شرح نفيس لعبد العزيز بن أمحد البخاري املتوىف سنة (‪730‬هـ)‪:.‬‬ ‫معرفة األصول‬
‫كشف االسرار‬ ‫(أصول البزدوى)‬
‫أبو بكر حممد بن أمحد السرخسي املتوىف سنة (‪490‬هـ) خبرسان ‪ ، ،‬وهو كتاب‬ ‫أصول السرخسي‬ ‫‪9‬‬
‫مفصل موسع‪.‬‬
‫أليب بكر السمرقندي‪( .‬ت ‪ 450‬هـ)‬ ‫‪ 10‬ميزان األصول‬
‫اَّلل النسفي (ت ‪710‬هـ)‬
‫أليب الربكات عبد َّ‬ ‫‪ 11‬املمنار‬
‫جاء من بعد هذه الكتب خمتصرات ومطوالت أخرى‪ ،‬مثل كتاب املمنار للنسفي‪ ،37‬وغري ذلك من الكتب‪.38‬‬

‫يُنظر‪ :‬مقدمة احملقق ألصول الشاشي‪ :‬حممد أكرم الندوي ص(‪)6‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪ 37‬عبدهللا بن أمحد بن حممود النسفي‪ ،‬أبو الربكات‪ ،‬حافظ الدين‪ :‬فقيه حنفي‪ ،‬مفسر‪ ،‬من أهل إيذج (من كور أصبهان)‬
‫ووفاته فيها ‪ 710‬هـ‪ .‬نسبته إىل " نسف " ببالد السند‪ ،‬بني جيحون ومسرقند‬
‫كشف األسرار شرح املصنف على املنار أتليف الشيخ العالمة حافظ الدين ايب الربكات عبد هللا بن أمحد النسفي احلنفي‬ ‫‪38‬‬

‫‪/‬ت ‪710‬هـ ; ومعه كتاب‪ :‬نور األنوار شرح على املنار أتليف الشيخ أمحد ابن أىب سعيد بن عبد هللا بن عبد الرازق احلنفى‬
‫املكى اللكنوى املعروف بشيخ جيون أو مبال جيون صاحب الشمس البازغة ‪/‬ت ‪ 1130‬هـ‬
‫أصول الفقه‬

‫‪39‬‬
‫أهم الكتب اليت ألفت على طريقة املتكلمني و الشافعية‬ ‫الفرع الثاين‬
‫ما الطريقة الثانية ‪ -‬وهي طريقة اجلمهور ‪ -‬فإهنا تتميز مبا يلي‪:‬‬
‫أوالا‪ :‬أهنا اهتمت بتحرير املسائل‪ ،‬وتقرير القواعد على املبادئ املنطقية‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬امليل الشديد إىل االستدالل العقلي‪.‬‬
‫اثلث ا‪ :‬البسط يف اجلدل واملناظرات‪.‬‬
‫رابع ا‪ :‬جتريد املسائل األصولية عن الفروع الفقهية‪ ،‬وقد أشبهت بذلك طريقة أهل الكالم‪ ،‬لذلك مسيت طريقتهم بطرايقة‬
‫املتكلمني‪ .‬وهذه الطريقة قد سار عليها علماء الشافعية‪ ،‬واملالكية‪ ،‬واحلنابلة‪ ،‬والظاهرية‪ ،‬واملعتزلة‪ ،‬وذلك من حيث‬
‫الرتتيب والتنظيم‪ .‬وإليك ذكر بعض الكتب اليت أُلِّفت على هذه الطريقة‪ ،‬ولقد رتبت ذلك على املذاهب‪:‬‬
‫بعض الكتب املؤلَّفة على املذهب املالكي على حسب مذهب املؤلف‪:‬‬
‫للقاضي أيب بكرالباقالين‪ .‬املتوىف سنة (‪ 403‬ه )‬ ‫التقريب واإلرشاد يف‬ ‫‪1‬‬
‫ترتيب طرق االجتهاد‬
‫كلها أليب الوليد الباجي (ت ‪ 474‬هـ)‬ ‫إحكام الفصول يف أحكام‬ ‫‪2‬‬
‫األصول‪ ،‬واإلشارة‪،‬‬
‫واحلدود‬
‫البن احلاجب وقد اختصر هذا الكتاب بكتاب مسَّاه‪ " :‬خمتصر املنتهى‬ ‫منتهى السول واألمل يف‬ ‫‪3‬‬
‫"‪ .‬وشرح هذا املختصر كثري من العلماء‪ ،‬ومنهم‪:‬‬ ‫علمي األصول واجلدل‬
‫عضد الدين اإلجيي‪( ،‬ت ‪ 756‬هـ)‬ ‫شرح املختصر‬
‫ابن السبكي اتج الدين (ت ‪756‬هـ)‬ ‫رفع احلاجب عن‬
‫خمتصر ابن احلاجب‬
‫مشس الدين األصفهاين (ت ‪ 749‬هـ)‬ ‫بيان املختصر‬
‫حللولو املالكي‪ ،‬حققته وطبع بعض اجمللدات منه‬ ‫الضياء الالمع شرح مجع‬ ‫‪4‬‬
‫اجلوامع‬
‫لشهاب الدين القرايف‪( .‬ت ‪ 684‬للهجرة)‬ ‫شرح تنقيح الفصول‬ ‫‪5‬‬
‫للقرايف‪ ،‬وقد قمت بتحقيق‬ ‫نفائس األصول شرح‬ ‫‪6‬‬
‫جزء منه‪ ،‬ومل يطبع‪.‬‬ ‫احملصول‬

‫‪ 39‬انظر‪ :‬أصول الفقه اترخيه ورجاله‪ :‬د‪ .‬شعبان إمساعيل‪ ،‬ص(‪ ،)36 ،35‬أصول الفقه اإلسالمي‪ :‬د‪ .‬حممود الشافعي‬
‫ص(‪ ،)19‬الوجيز يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬عبد الكرمي زيدان‪ ،‬ص(‪.)18‬‬
‫أصول الفقه‬

‫للمازري (ت‪536‬ه)‬ ‫شرح الربهان‬ ‫‪7‬‬


‫بعض الكتب املؤلَّفة على املذهب الشافعي على حسب مذهب املؤلف‪:‬‬
‫لإلمام الشافعي‬ ‫الرسالة‬ ‫‪8‬‬
‫ابو اسحاق شريازي شافعي املتوىف سنة (‪ 473‬ه )‬ ‫اللمع‬ ‫‪9‬‬
‫ابو اسحاق شريازي شافعي املتوىف سنة (‪ 473‬ه )‬ ‫شرح اللمع‬ ‫‪10‬‬
‫ابو اسحاق شريازي شافعي املتوىف سنة (‪ 473‬ه )‬ ‫التبصرة يف اصول الفقه‬ ‫‪11‬‬
‫إلمام احلرمني عبد امللك بن يوسف اجلويىن املتوىف سنة (‪478‬هـ)‪،‬‬ ‫الربهان‬ ‫‪12‬‬
‫وهو من أعظم الكتب اليت ألفت على طريقة املتكلمني‪ ،‬وعليه شروح‬
‫وهي‪:‬‬
‫إيضاح احملصول من برهان األصول ‪:‬شرح اإلمام أيب عبد هللا‬ ‫•‬
‫املازري املالكي املتوىف سنة (‪536‬هـ)‪ ،‬وهو خمطوط‪.‬‬
‫كما شرحه الشريف أبو َيىي زكراي احلسين املغريب وهو خمطوط‬ ‫•‬
‫أيضاً‬
‫أبو املعايل اجلويين‪ ،‬امللقب بـ "إمام احلرمني"‪( ،‬ت ‪478‬هـ)‬ ‫التلخيص‬ ‫‪13‬‬
‫إلمام احلرمني‬ ‫الورقات‬ ‫‪14‬‬
‫املتوىف سنة‬ ‫البن السمعاين ؟؟ امحد متيمي حنفي مث شافعي‬ ‫قواطع األدلة‬ ‫‪15‬‬
‫(‪ 450‬ه )‬
‫حلجة اإلسالم أيب حامد حممد بن حممد الغزايل املتوىف سنة (‪505‬هـ)‪.‬‬ ‫املستصفى‬ ‫‪16‬‬
‫امام الغزايل‬ ‫شفاء الغليل يف بيان‬ ‫‪17‬‬
‫مسالك التعليل‬
‫امام الغزايل‬ ‫املنخول يف تعليقات‬ ‫‪18‬‬
‫االصول‬
‫للزركشي (ت ‪794‬هـ)‬ ‫البحر احمليط‬ ‫‪19‬‬
‫البن برهان‪( .‬ت ‪518‬هـ)‬ ‫الوصول إىل األصول‬ ‫‪20‬‬
‫قاضي الطربي شافعي املتوىف سنة (‪ 450‬ه )‬ ‫شرح الكفاية‬ ‫‪21‬‬
‫ابو نصر الصباغ شافغي املتوىف سنة (‪ 477‬ه )‬ ‫تذكرة العامل و الطريق‬ ‫‪22‬‬
‫السامل‬
‫فكانت هذه الكتب مبثابة القواعد واألركان هلذا العلم عند العلماء‪ ،‬مث جاء بعد ذلك عاملان جليالن اطلعا على‬
‫هذه الكتب فلخصها كل احد منهما يف كتاب مستقل ‪ )1( :‬احملصول ‪ )2( ,‬اإلحكام يف أصول األحكام‬
‫اإلمام فخر الدين حممد بن عمر بن احلسني الرازى املتوىف سنة (‪606‬هـ)‪،‬‬ ‫احملصول‬ ‫‪23‬‬
‫وقد شرحه ‪:‬‬
‫الكاشف عن احملصول ‪ :‬ومشس الدين األصفهاين (ت ‪ 688‬هـ)‬
‫أصول الفقه‬

‫احلاصل من احملصول‪ -‬فقد اختصره اتج الدين األرموى املتوىف سنة (‪656‬هـ)‬
‫التحصيل من احملصول ‪ -‬سراج الدين حممود بن أيب بكر األرموى املتوىف سنة (‪682‬هـ)‬
‫تنقيح الفصول يف اختصار احملصول يف األصول‪ -‬وكذلك اختصر كتاب احملصول‪ ،‬اإلمام‬
‫شهاب الدين أبو العباس أمحد بن إدريس القرايف املتوىف سنة (‪684‬هـ)‬
‫نفائس األصول ‪ :‬القرايف‬

‫تلخيص احملصول‪ :‬النقشواين‬

‫تنقيح احملصول‪ :‬التربيزي‬

‫منهاج الوصول‪ -‬اإلمام البيضاوي انصر الدين عبد هللا بن عمر املتوىف سنة (‪685‬هـ)‪،‬‬
‫حيث مجع زبدة ما يف هذه الكتب يف كتابه وهو كتاب نفيس اهتم به العلماء ووضعوا عليه‬
‫الشروح واحلواشي املتعددة‬
‫ومن أعظم هذه الشروح‪ ،‬شرح اإلمام مجال الدين عبد الرحيم اإلسنوى‪ :‬هناية السول ‪،‬‬
‫وعليه شرح لألستاذ الشيخ حممد خبيت املطيعى املسمى "سلم الوصول لشرح هناية‬
‫السول"‪ ،‬وشرح آخر امسه هتذيب شرح اإلسنوى للدكتور شعبان حممد إمساعيل‪.‬‬
‫ابن السبكي شرحه يف كتاب مسَّاه‪ :‬اإلهباج يف شرح املنهاج‬
‫البدخشي شرحه يف كتاب مسَّاه‪ :‬مناهج العقول‬
‫اإلمام سيف الدين على بن أيب حممد اآلمدى املتوىف سنة (‪631‬هـ)‬ ‫اإلحكام يف‬ ‫‪24‬‬
‫املختصر الكبري‪ :‬فقد خلصه اإلمام عثمان بن عمر بن احلاجب املتوىف سنة(‪646‬هـ) مث‬ ‫أصول األحكام‬
‫اختصره يف كتاب آخر مساه "خمتصر املنتهى"‪ ،‬وعليه شروح وحواشي عديدة منها‪:‬‬
‫ا‪ -‬شرح القاضي صدر الشريعة عبيد هللا بن مسعود املتوىف سنة(‪747‬هـ) واملسمى‬
‫"التوضيح شرح التنقيح"‪.‬‬
‫ب‪ -‬شرح اإلمام سعد الدين التفتازاين املتوىف سنة(‪791‬هـ) املسمى "شرح التلويح‬
‫‪40‬‬
‫على التوضيح"‪.‬‬
‫ج‪ -‬حاشية السيد الشريف اجلرجاين املتوىف سنة(‪816‬هـ)‪.‬‬
‫د‪ -‬حاشية الشيخ حسن اهلروي على حاشية اجلرجاين‬

‫بعض الكتب املؤلَّفة على املذهب احلنبلي ‪ -‬على حسب مذهب املؤلف‪:‬‬
‫فاضي أليب يعلى الفراء البغدادي حنبلي املتوىف سنة (‪ 458‬ه ) املعروف ابن أيب‬ ‫العده يف اصول‬ ‫‪1‬‬
‫الفراء‪ .‬مؤرخ وفقيه من فقهاء احلنابلة ‪.‬‬
‫يعلى‪ ،‬ويقال له ابن ّ‬ ‫الفقه‬

‫وقد وضعنا التنقيح يف أعلى الصفحات والتوضيح يف الوسط والتلويح يف أسفلها وهذه طبعة مضبوطة وخمرجة اآلايت‬ ‫‪40‬‬

‫واألحاديث‪ -‬وهذا الكتاب هو مقرر الدراسة النصية يف أصول الفقه للطلبة األحناف يف أقسام الشريعة جبامعة األزهر و دار‬
‫العلوم يف اهلند و غريه خاصة للتخصص يف اصول الفقه‬
‫أصول الفقه‬

‫أليب اخلطاب (ت ‪ 510‬هـ)‬ ‫التمهيد‬ ‫‪2‬‬

‫البن عقيل (ت ‪513‬هـ)‬ ‫الواضح‬ ‫‪3‬‬

‫امحد بن قدامة مقدسي شافعي املتوىف سنة (‪620‬هـ)‪،‬‬ ‫روضة الناظر و‬ ‫‪4‬‬
‫جنة املناظر‬
‫البن النجار (ت ‪ 972‬هـ)‬ ‫شرح الكوكب‬ ‫‪5‬‬
‫املنري‬
‫الكتب املؤلفة على املذهب الظاهري‬

‫البن حزم‪( .‬ت ‪ 456‬هـ)‬ ‫اإلحكام يف‬ ‫‪1‬‬


‫أصول األحكام‬
‫البن حزم‬ ‫النبذ‬ ‫‪2‬‬

‫الكتب املؤلفة على املذهب املعتزيل‪:‬‬

‫قاضي عبد اجلبار معتزيل املتوىف سنة (‪ 415‬ه ) وعليه شرح وهو‪ :‬شرح العمد‬ ‫العمد‬ ‫‪1‬‬
‫أليب احلسني البصري‪.‬‬
‫أليب احلسني البصري حممد بن على الطيب املتوىف سنة (‪436‬هـ)‪ ،‬وهو أحد أئمة‬ ‫املعتمد يف اصول‬ ‫‪2‬‬
‫املعتزلة‬ ‫الفقه‬

‫‪41‬‬
‫الكتب اليت ألفت على الطريقتني‬ ‫الفرع الثالث‬
‫فقد حقق من مجع بني الطريقتني القواعد األصولية ‪ ،‬وأثبتها ابألدلة النقلية والعقلية ‪ ،‬وطبقوها يف الفروع الفقهية ‪،‬‬
‫فجاءت مؤلفاهتم مفيدة يف خدمة الفقه ‪ ،‬ومتحيص األدلة ‪ ،‬وكتب يف هذه الطريقة مجع من علماء اجلمهور ‪ ،‬وعلماء‬
‫احلنفية ‪ ،‬ومن أهم كتبهم ما يلي ‪:‬‬
‫اجلليل مظفر الدين أمحد بن علي الساعايت احلنفي املتوىف سنة (‪694‬هـ) أول من‬ ‫بديع النظام اجلامع‬ ‫‪1‬‬
‫ألف على هذه الطريقة‬ ‫بني أصول البزدوى‬
‫واألحكام للساعايت‬
‫‪2‬‬
‫وشرحه التوضيح لصدر الشريعة عبيد هللا بن مسعود احلنفي املتوىف سنة (‪747‬هـ)‪،‬‬ ‫تنقيح األصول الفقه‬
‫وقد شرحه يف كتاب ووضعت على هذا الكتاب احلواشي والتقريرات‪ ،‬كحاشية السعد‬ ‫التوضيح‬ ‫‪3‬‬
‫التفتازاين املتوىف سنة (‪792‬هـ)‪ ،‬واملعروفة ابسم "التلويح على التوضيح"‪.‬‬

‫‪ 41‬انظـ ــر‪ :‬أصـ ــول الفقـ ــه اترخيـ ــه ورجالـ ــه‪ :‬د‪ .‬شـ ــعبان إمساعيـ ــل‪ ،‬ص(‪ ،)36 ،35‬أصـ ــول الفقـ ــه اإلسـ ــالمي‪ :‬د‪ .‬حممـ ــود الشـ ــافعي‬
‫ص(‪ ،)19‬الوجيز يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬عبد الكرمي زيدان‪ ،‬ص(‪.)18‬‬
‫أصول الفقه‬

‫وجاء من بعد هؤالء اتج الدين عبد الوهاب بن على السبكى الشافعي املتوىف سنة‬ ‫مجع اجلوامع‬ ‫‪4‬‬
‫(‪771‬هـ)‪ ، ،‬وقال يف أوله‪" :‬أنه مجعه من زهاء مائة مصنف"‪ ،‬وقد وضعت عليه‬
‫الشروح واحلواشي املتعددة منها‪:‬‬
‫االول ‪ -‬شرح العالمة مشس الدين حممد بن أمحد احمللي مسَّاه‪ :‬شرح مجع‬
‫اجلوامع وعليه حاشيتان‪:‬‬
‫(‪ )1‬للعالمة البناين وهبامشها تقرير شيخ اإلسالم عبد الرمحن الشربيين‬
‫(‪ )2‬حاشية الشيخ العطار‪ ،‬وهبامشها تقريران أحدمها للشيخ عبد الرمحن الشربيين‪،‬‬
‫والثاين ‪ -‬للشيخ حممد علي بن حسني املالكي‪.‬‬
‫والثاين ‪ -‬الزركشي شرحه بكتاب مسَّاه‪ " :‬تشنيف املسامع "‪.‬‬
‫والثالث ‪ -‬حلولو املالكي شرحه بكتاب مسَّاه‪ " :‬الضياء الالمع "‬
‫وكذلك فعل اإلمام حممد بن عبد الواحد الشهري بكمال الدين ابن اهلمام احلنفي‪،‬‬ ‫التحرير اجلامع بني‬ ‫‪5‬‬
‫املتوىف سنة (‪861‬هـ)‬ ‫اصطالحي احلنفية‬
‫وقد شرحه تلميذه حممد بن حممد أمري احلاج احلليب املتوىف سنة (‪878‬هـ) بشرح مساه‬ ‫والشافعية‬
‫"التقرير والتحبري"‪،‬‬
‫كما أن عليه شرحاً آخر يسمى "تيسري التحرير" للعالمة حممد أمني املعروف "أبمري‬
‫ابد شاه" احلنفي املذهب‪.‬‬
‫حملب الدين بن عبد الشكور احلنفي‪،‬‬ ‫مسلم الثبوت‬ ‫‪6‬‬
‫وقد شرحه األنصاري يف كتاب مسَّاه‪ " :‬فواتح الرمحوت‬

‫طريقة ختريج الفروع على األصول‬ ‫الفرع الرابع‬


‫فهي تتميز بذكر خالف األصوليني يف املسألة‪ ،‬مع اإلشارة إىل بعض أدلة ِ‬
‫الفَرق املختلفة‪ ،‬مث ذكر عدد من املسائل‬
‫الفقهية املتأثرة هبذا اخلالف‪ ،‬والغاية منها هو‪ :‬ربط الفروع ابألصول‪ ،‬وال يذكر يف الكتب املؤلَّفة على هذه الطريقة إال‬
‫املسائل الىت اختلف العلماء فيها‪ ،‬واخلالف فيها معنوي له مثرة‪ ،‬أما إذا كان اخلالف لفظيا فال يرد فيها‬
‫وقد أُلِّف على هذه الطريقة مؤلفات كثرية‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫للزجناين " شافعي "‪( .‬توىف‪656 :‬ه)‬ ‫ختريج الفروع على األصول‬ ‫‪1‬‬
‫للتلمساين "مالكي "‪( .‬ت ‪ 771‬هـ)‬ ‫مفتاح الوصول إىل بناء‬ ‫‪2‬‬
‫الفروع على األصول‬
‫لإلسنوي "شافعي "‪( .‬ت ‪ 772‬هـ)‬ ‫التمهيد يف ختريج الفروع‬ ‫‪3‬‬
‫على األصول‬
‫البن اللحام " حنبلي "‪( .‬ت ‪ 803‬هـ)‬ ‫القواعد والفوائد األصولية‬ ‫‪4‬‬
‫أصول الفقه‬

‫اهتمت مبقاصد الشريعة ونظرايت األحكام‬


‫الكتب َّ‬ ‫الفرع‬
‫مقاصد الشريعة أو مقاصد الشارع أو املقاصد الشرعية يف علم أصول الفقه هي ما قصده الشارع من الضرورايت‬ ‫اخلامس‬
‫واحلاجيات والتحسينات ومن أهم كتبهم ما يلي ‪:‬‬
‫للشاطيب املالكي‪ ،‬املتوىف (‪790‬هـ)‪.‬‬ ‫املوافقات يف أصول‬ ‫‪1‬‬
‫الشريعة‬
‫لتاج الدين السبكي‪ ،‬املتوىف (‪772‬هـ)‪.‬‬ ‫األشباه والنظائر‬ ‫‪2‬‬

‫لعز الدين بن عبدالسالم‪ ،‬املتوىف (‪660‬هـ)‪.‬‬ ‫قواعد األحكام‬ ‫‪3‬‬

‫البن رجب احلنبلي‪ ،‬املتوىف (‪795‬هـ)‪.‬‬ ‫القواعد الفقهية‬ ‫‪4‬‬

‫لبدر الدين الزركشي‪ ،‬املتوىف (‪794‬هـ)‪.‬‬ ‫منثور القواعد‬ ‫‪5‬‬

‫جلالل الدين السيوطي‪ ،‬املتوىف (‪911‬هـ)‪.‬‬ ‫األشباه والنظائر‬ ‫‪6‬‬

‫لشهاب الدين ال َقرايف املالكي‪ ،‬املتوىف (‪.)684‬‬ ‫الفروق‬ ‫‪7‬‬

‫وإليك أهم كتب القواعد الفقهية على املذاهب األربعة ‪:‬‬ ‫الفرع‬
‫لدراسة القواعد الفقهية وحفظها والعناية هبا فوائد مجة للفقيه اجملتهد والقاضي واإلمام واملفيت‪ ..‬من هذه الفوائد‪:‬‬ ‫السادس‬
‫‪ -1‬هلذه القواعد أمهية فقهية ومكانة كربى يف أصول التشريع‪ ،‬ألهنا مجعت الفروع اجلزئية املشتتة‪ ،‬اليت قد تتعارض‬
‫ظواهرها‪ ،‬حتت رابط واحد يسهل الرجوع إليها وجيعلها قريبة املتناول‪.‬‬
‫‪ -2‬إن دراسة هذه القواعد تسهل على العلماء غري املختصني ابلفقه االطالع على الفقه اإلسالمي‪ ،‬ومدى استيعابه‬
‫لألحكام ومراعاته للحقوق والواجبات‬
‫البن السبكي اتج الدين (ت ‪ 771‬هـ)‪":‬املذهب الشافعي "‪.‬‬ ‫األشباه والنظائر‬ ‫‪1‬‬
‫البن الوكيل (ت ‪ 716‬هـ) ‪ " :‬املذهب الشافعي "‪.‬‬ ‫األشباه والنظائر‬ ‫‪2‬‬

‫للسيوطى (ت ‪ 911‬هـ) ‪ " :‬املذهب املالكي‬ ‫األشباه والنظائر‬ ‫‪3‬‬

‫البن امللقن (ت ‪ 804‬هـ) ‪ " :‬املذهب الشافعي "‪.‬‬ ‫األشباه والنظائر‬ ‫‪4‬‬

‫البن جنيم (ت ‪ 970‬هـ) ‪ " :‬املذهب احلنفي "‪.‬‬ ‫األشباه والنظائر‬ ‫‪5‬‬

‫(ت ‪ 43‬هـ) ‪ " :‬املذهب احلنفي "‪.‬‬


‫أليب زيد الدبوسي ْ‬ ‫أتسيس النظر‬ ‫‪6‬‬

‫ألمحد الزرقاء ‪ " :‬املذهب احلنفي "‪.‬‬ ‫شرح القواعد‬ ‫‪7‬‬


‫الفقهية‬
‫أصول الفقه‬

‫البن محزة (ت‪ 1305‬هـ) ‪ " :‬املذهب احلنفي "‪.‬‬ ‫الفرائد البهية يف‬ ‫‪8‬‬
‫القواعد والفوائد‬
‫الفقهية‬
‫للقرايف (ت ‪ 682‬هـ) ‪ " :‬املذهب املالكي "‪.‬‬ ‫الفروق‬ ‫‪9‬‬

‫البن رجب (ت ‪ 795‬هـ) ‪ " :‬املذهب احلنبلي "‪.‬‬ ‫‪ 10‬القواعد‬

‫للمقَّري (ت ‪ 758‬هـ) ‪ " :‬املذهب املالكي "‪.‬‬ ‫‪ 11‬القواعد‬

‫البن تيمية (ت ‪ 728‬هـ) ‪" :‬املذهب احلنبلي "‪.‬‬ ‫‪ 12‬القواعد النورانية‬


‫الفقهية‬
‫ألمحد القاري (ت ‪ 1358 -‬هـ)‪.‬‬ ‫‪ 13‬قواعد جملة األحكام‬
‫الشرعية على‬
‫مذهب اإلمام أمحد‬
‫للعالئي (ت ‪ 761‬هـ)‪.‬‬ ‫‪ 14‬اجملموع املذهب يف‬
‫قواعد املذهب‬
‫للزركشي (ت ‪ 794‬هـ)‪.‬‬ ‫‪ 15‬املنثور يف القواعد‬

‫الكتب احلديثة‪:‬‬ ‫الفرع السابع‬


‫ومع النهضة احلديثة اليت دبَّت يف العامل اإلسالمي بعد عصور اجلمود والتقليد‪ ،‬ومع بزوغ النهضة الفقهيَّة من جديد‪،‬‬
‫ِ‬
‫وتيسر على الطالب َد ْر َسه‪ ،‬وهذه الكتب احلديثة متتاز‬ ‫عدد من املؤلَّفات احلديثة يف أصول الفقه ِّ‬
‫تقرب مسائله‪ّ ،‬‬ ‫ظهر ٌ‬
‫ابلوضوح املنهجي‪ ،‬وسهولة العبارة‪ ،‬وقُـ ْرب املأخذ‪ ،‬ومراعاة قضااي العصر‪ ،‬ومشكالته وروحه‪ .‬ومن أشهر هذه املؤلَّفات‬
‫عبد احلميد بن ابديس اجلزائري‬ ‫مبادئ أصول الفقه‬ ‫‪1‬‬
‫للشيخ حممد اخلضري‪ ،‬املتوىف (‪1345‬هـ)‪.‬‬ ‫أصول الفقه‬ ‫‪2‬‬
‫للشيخ عبدالوهاب خالف‪ ،‬املتوىف (‪1955‬م)‪.‬‬ ‫علم أصول الفقه‬ ‫‪3‬‬

‫لألستاذ الشيخ حممد أيب زهرة‬ ‫أصول الفقه‬ ‫‪4‬‬

‫حممد أبو النور زهري‬ ‫أصول الفقه‬ ‫‪5‬‬

‫حممد جلي زادة‬ ‫املصقول من علم األصول‬ ‫‪6‬‬

‫ابن سعدي‬ ‫رسالة لطيفة يف أصول الفقه‬ ‫‪7‬‬


‫أصول الفقه‬

‫منظومة للحكمي‬ ‫احلصول اىل مهمات االصول‬ ‫‪8‬‬

‫البن العثيمني‬ ‫االصول من علم االصول‬ ‫‪9‬‬

‫حلافظ ثناء هللا الزاهدي‬ ‫‪ 10‬تلخيص االصول‬

‫لعبد الكرمي زيدان العراقي‬ ‫‪ 11‬الوجيز يف أصول الفقه‬

‫لوهبة الزحيلي‬ ‫‪ 12‬الوجيز يف أصول الفقه‬

‫حملمد حسن هيتو‪.‬‬ ‫‪ 13‬الوجيز يف اصول التشريع االسالمي‬

‫د حممد عبيد الكبيسي‬ ‫‪ 14‬اصول االحكام وطرق االستنباط يف‬


‫التشريع االسالمي‬
‫للدكتور عبد الكرمي النملة‬ ‫‪ 15‬املهذب يف أصول الفقه املقارن‬

‫للدكتور عبد الكرمي النملة‬ ‫‪ 16‬اجلامع يف أصول الفقه على املذهب‬


‫الراجح‬
‫حملمد بن حسني اجليزاين‬ ‫‪ 17‬معامل أصول الفقه عند أهل السنة‬
‫واجلماعة‬
‫حملمد سليمان األشقر‬ ‫‪ 18‬الواضح يف أصول الفقه‬

‫لعبد اخلالق‬ ‫‪ 19‬البيان املأمول يف علم األصول‬

‫لكاملة الكواري‬ ‫‪ 20‬اخلالصة يف أصول الفقه‬

‫علي حسب هللا‬ ‫‪ 21‬أصول التشريع اإلسالمي‬

‫بدران ابو العينني‬ ‫‪ 22‬أصول الفقه‬

‫زكي شعبان‬ ‫‪ 23‬أصول الفقه االسالمي‬


‫األدلة الشرعية‬

‫األدلة الشرعية‬
‫قبل أن ابدأ يف سرد األدلة الشرعية املتفق عليها‪ 42‬أتى بثالثة مباحث مهمة ‪:‬‬
‫األدلة الشرعية من حيث األصل واملصدر‪.‬‬ ‫املبحث االول‪:‬‬
‫األدلة الشرعية من حيث القطع والظن‪.‬‬ ‫املبحث الثاين‪:‬‬
‫األدلة الشرعية من حيث النقل والعقل‪.‬‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬

‫املبحث االول ‪ :‬األدلة الشرعية من حيث أصلها ومصدرها‬


‫اتفق أهل السنة على أن األدلة املعتربة شرعا (قران – سنة – قياس – إمجاع ) واتفقوا على أن هذه األدلة األربعة‬
‫ترجع إىل القرآن والسنة واتفقوا على أن األربعة متفقة ال ختتلف إذ يوافق بعضها بعضا – ويصدق بعضها بعضا إذن‬
‫مصدر هذه األدلة – القران وميكن أن يقال أن مصدر هذه األدلة هو النيب صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وبعد أن عرفنا أن األصل هو القران وإن املصدر هو القران والرسول (صلى هللا عليه وسلم ) أي‬ ‫أصل األدلة – القرآن‬
‫السنة علينا أن نبني بعض أهم خصائص هذا األصل الذي قد يسمى ابلنقل أو الوحي أو السمع أو‬
‫الشرع أو النص أو اخلرب أو األثر ويقابله العقل أو الرأي أو االجتهاد أو النظر أو االستنباط‬
‫بعض أهم خصائص أصل األدلة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(وَما يَـنْط ُق َع ِن ا ْهلََوى إ ْن ُه َو إالَّ َو ْح ٌي يُ َ‬
‫وحى )‬ ‫أنه وحى ‪ ،‬فالقران كالم هللا والسنة النبوية بيانه ووحيه إىل النيب لقوله تعاىل َ‬
‫‪1‬‬

‫هذا األصل بلغنا عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ألنه ال مساع لنا من هللا وال من جربيل‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫أن هللا تكفل حبفظ هذا األصل (إِ َّان َْحن ُن نَـَّزلْنَا ال ِّذ ْكَر َوإِ َّان لَهُ َحلَافِظُو َن)‬ ‫‪3‬‬

‫أن هذا األصل هو طريق التحليل والتحرمي ومعرفة أحكام هللا وشرعه لذا وجب إتباع هذا األصل ولزم التمسك به‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وجوب التسليم التام هلذا األصل – ومعرفة أن مفارقته قادح يف اإلميان‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫هذا األصل هو اإلمام املقدم – وال يوجد معه اجتهاد وأن إمجاع املسلمني ال ينعقد على خالفه أبدا‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫أن هذا األصل ال يعارض العقل بل إن صريح العقل موافـق لصـحيح النقـل دائمـا – عنـد بعـض هـو يقـدم علـى العقـل دائمـا‬ ‫‪7‬‬

‫إن وجد بينهما تعارض يف الظاهر و عند بعض اآلخر العقل يقدم على النقل إن وجد بينهما تعارض يف الظاهر‬
‫هذا األصل َيصل به العلم واليقني خالفا عن كل األدلة السمعية ال َيصل وال تفيد إال الظن‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫هذا األصل ضروري لصالح العباد يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫هذا األصل ترجع إليه مجيع األدلة – املتفق عليها واملختلف فيها‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪42‬‬
‫قسمني‪:‬‬
‫تنقسم األدلة الشرعية إىل َ‬
‫األول‪ :‬املتَّفق عليها‪ :‬وهي ِ‬
‫الكتاب والسنَّة واإلمجاع والقياس؛‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رسلة"‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬املختلف فيها‪ :‬وهي‪" :‬االستِصحاب‪ ،‬وقول الصحايب‪َ ،‬‬
‫وشرع َمن قبلَنا‪ ،‬واالستحسان‪ ،‬واملصالح املُ َ‬
‫األدلة الشرعية‬

‫املبحث الثاين‪ :‬األدلة الشرعية من حيث القطع والظن‬

‫وقــد كــان موفقــا أميــا توفيــق يف هــذه املباحــث الســيما املبحــث الثــاين والثالــث – فقــد بــني فيهمــا مــنهج أهــل الســنة‬
‫واجلماعة من حيث إثبات القول أبن نصوص القران والسنة تفيد القطع‪.‬‬

‫معىن القطع‪ :‬اجلزم – العلم – اليقني … مبعىن أنه ال ميكن إال أن يكون هكذا‪.‬‬ ‫القطع‬
‫معىن الظـن ‪ :‬خـالف اليقـني وهـى االعتقـاد الـراجح مـع احتمـال النقـيض وقـد أييت مبعـىن اليقـني كمـا يف قولـه تعـاىل‬ ‫الظن‬
‫(وظن أنه الفراق) أى أيقن أنه سيموت‬

‫العمل ابلظن‪:‬‬
‫قد يكون مذموما ‪ :‬وهو إتباع الظن اجملرد اخلايل عن العلم قال تعـاىل (مـا هلـم بـه مـن علـم إال إتبـاع الظـن) النسـاء‬
‫‪.157‬‬
‫(وما يتبع أكثرهم إال ظنا إن الظن ال يغىن من احلق شيئا) يونس ‪.36‬‬

‫وقد يكون حممودا‪ :‬وهو املستند إىل علم إذن إتباع الظن املستند إىل علم هو إتباع للعلم ال للظن‪.‬‬
‫قاعدة مهمة جدا‪:‬‬
‫إذا كان أحد الدليلني هو الراجح فإتباعه هو اإلحسان وهذا معلوم‬
‫(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الزمر ‪.18‬‬
‫(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) الزمر ‪55‬‬

‫فهذا البحث يتناوله علماء األصول عند كالمهم على مراتب األدلة‪ ،‬فمن األدلة الشرعية ما هو‪:‬‬
‫كالقرآن والسنة املتواترة‬ ‫وهو ما قطعنا بنسبته إىل الشارع‬ ‫قطعي الثبوت‬
‫كأحاديث اآلحاد‬ ‫اليت مل جتمع األمة على تلقيها ابلقبول‬ ‫ظين الثبوت‬
‫هو ما كان نصا يف املراد منه ال َيتمل غري معناه‬ ‫قطعي الداللة‬
‫ما كان حمتمال ألكثر من وجه فحمله على املعىن املعني مظنون‬ ‫ظين الداللة‬
‫فأعلى النصوص رتبة ما كان قطعي الثبوت والداللة‪،‬‬
‫اع أَربـعةٌ‪ :‬قَطْعِي الثـُّبوتِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات الدََّالئ ِل فَإِ َّن ْاألَدلَّةَ َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّح ِق ِيق أ َّ‬
‫ُّ ُ‬ ‫الس ْمعيَّةَ أَنْـ َو ٌ َْ َ‬ ‫ت َد َر َج ُ‬ ‫ك التَّـ َف ُاو َ‬
‫َن ذَل َ‬ ‫ب َإىل الت ْ‬‫قال يف شرح أصول البزدوي‪َ :‬و ْاألَقْـَر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخبَا ِر ْاآل َحاد الَِّيت َم ْف ُه ُ‬
‫وم َها‬ ‫ين الثـُّبُوت قَطْع ُّي الدََّاللَة َكأ ْ‬ ‫ين الدََّاللَة َك ْاآل َايت ال ُْم َؤَّولَة‪َ ،‬وظَُِّّ‬ ‫وص ال ُْمتَـ َواتَرةِ‪َ ،‬وقَطْع ُّي الثـُّبُوت ظَُِّّ‬
‫ُّص ِ‬
‫َوالدََّاللَة َكالن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬ ‫ين الثـُّبُوت َوالدََّاللَة َكأَ ْخبَا ِر ْاآل َحاد الَِّيت َم ْف ُه ُ‬
‫وم َها ظٌَِّّ‬ ‫قَطْع ٌّي َوظَُِّّ‬
‫وقال الشيخ مناع القطان ـ رمحه هللا ـ‪ :‬إذا قاران بني القرآن والسنة من حيث القطعية والظنية تبني لنا أن القرآن كله قطعي الثبوت‪ ،‬ومنه‬
‫ما هو قطعي الداللة‪ ،‬ومنه ما هو ظين الداللة‪ .‬أما السنة فمنها ما هو قطعي الثبوت‪ ،‬ومنها ما هو ظين الثبوت‪ ،‬وكل واحد منهما قد‬
‫يكون قطعي الداللة وقد يكون ظين الداللة‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫مثل حتقيق معين القرء الوارد يف قوله تعايل ‪ ":‬والْمطَلَّ َقات يرتبَّصن ِأبَنْـ ُف ِس ِه َّن ثََالثَةَ قُـر ٍ‬
‫وء "‪ 43‬فاآلية‬ ‫ما كان من النصوص قطعي‬
‫ُ‬ ‫ُ َََ ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫داللتها ظنية يف معين القرء‪ .‬فقد ‪1‬هب احلنفية ايل أن املقصود من القرء احليض‪ ,‬و ذهب‬ ‫الثبوت ظين الداللة‬
‫املالكية و الشافعية ايل أن املقصود هو الطهر‪ ,‬ألن لفظ قرء هو من قبيل املشرتك اللفظي‬
‫كقوله النيب صلي هللا عليه و سلم يف احلديث الذي روته أم املؤمنني عائشة رضي هللا عنها‪:‬‬ ‫ما كان من النصوص ظين الثبوت‬
‫ِ ‪44‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قطعي الداللة‬
‫السارق يف ُربُ ِع دينَا ٍر فَ َ‬
‫صاع ًدا)‬ ‫(تـُ ْقطَ ُع يَ ُد ّ‬
‫فاحلديث خرب آحاد و هو ظين من حيث الثبوت ‪ ,‬و قطعي من حيث داللته ‪ ,‬و هنا توجد‬
‫مساحة للمجتهد لكي يبحث عن سند الدلبل الظين ‪ ,‬و حماكمته من خالل حبثه ايل ثبوته عمل‬
‫‪45‬‬
‫به ‪ ,‬و اال تركه و مل يعمل به ‪ .‬و هذه املسألة ختتلف فيها مناهج العلماء و موازينهم‪.‬‬
‫كما يف حديث " ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب"‪ 46‬فمجال‬ ‫فهو جمال اجتهاد‬ ‫ما كان من النصوص ظين الثبوت‬
‫االجتهاد هنا يتناول ثبوت احلديث من حيث صحة السند ‪ ,‬و الوقوف‬ ‫العلماء‬ ‫و ظين الداللة‬
‫علي حال الرواة ‪ ,‬و هكذا‪ ,...‬و يتناول أيضا داللة احلديث ألهنا ظنية و‬
‫ليست قطعية ‪ ,‬فقد َيتمل أن يكون نفي الصحة ‪ ,‬و َيتمل معين نفي‬
‫‪47‬‬
‫الكمال‬
‫قال عبد الوهاب خالف يف كتابه يف أصول الفقه‪ :‬فإن كانت الواقعة اليت يراد معرفة حكمها قد دل على احلكم الشرعي فيها دليل‬
‫صريح قطعي الورود والداللة فال جمال لالجتهاد فيها‪ ،‬والواجب أن ينفذ فيها ما دل عليه النص؛ ألنه ما دام قطعي الورود فليس ثبوته‬
‫وصدوره عن هللا أو رسوله موضع حبث وبذل جهد‪ ،‬وما دام قطعي الداللة فليست داللته على معناه واستفادة احلكم منه موضع حبث‬
‫واجتهاد‪ ....‬أما إذا كانت الواقعة اليت يراد معرفة حكمها قد ورد فيها نص ظين الورود والداللة أو أحدمها ظين فقط ففيهما لالجتهاد‬
‫جمال‪ .‬انتهى‬

‫الدليل القطعي‪ :‬قطعي السند والثبوت – وقطعي الداللة‬


‫حكمه ‪ -‬وجوب اعتقاد العمل به والعلم به وال جيوز فيه االختالف قال الشافعي (ما كان نصا مـن كتـاب أو سـنة – جممـع عليـه فالعـذر‬
‫فيه مقطوع – ومن امتنع عن قبوله استتيب) الرسالة‪.‬‬
‫لكن اخلالف بني العلماء فيما سبق يكون فيه هل هو قطعي السند أو ليس بقطعى وهل هو قطعي الداللة أو ليس بقطعي‪.‬‬
‫الدليل الظين ‪ :‬ما كانت داللته ظاهرة وغري قطعية أو كان ثبوته غري قطعي‪.‬‬
‫حكمــه‪ :‬وجــوب العمــل بــه يف األحكــام الشــرعية – أمــا إن تضــمن حكمــا علميــا عقــداي فعنــد مــذهب الســلف أنــه ال فــرق بــني األمــور‬
‫العلمية والعمليـة وإن العقائـد تثبـت ابألدلـة الظنيـة (قـال بـن تيميـه – ذهـب األكثـرون مـن الفقهـاء وعامـة السـلف إىل أن هـذه األحاديـث‬

‫سورة البقرة‪ :‬جزء من آية ‪228‬‬ ‫‪43‬‬

‫رواه ابو داود (احلدود‪ ,‬ابب ما يقطع فيه السارق‪ ,‬ح رقم ‪ , )4386‬ابن ماجه (كتاب احلدود ‪ ,‬ابب حد السارق‪ ,‬ح رقم‬ ‫‪44‬‬

‫‪ , )2586‬ابن حبان يف صحيحه (كتاب احلدود ‪ ,‬ابب حد السارقة ‪ ,‬ح رقم ‪)4455‬‬
‫‪ 45‬انظر‪ :‬بدران ‪ :‬اصول الفقه ( ص ‪)474-473‬‬
‫رواه ابن ماجه (كتاب اقامة الصالة‪ ,‬ابب القراءة خلف االمام‪ ,‬رقم ‪)837‬‬ ‫‪46‬‬

‫انظر‪ :‬بدران ‪ :‬اصول الفقه ( ص ‪)474-473‬‬ ‫‪47‬‬


‫األدلة الشرعية‬

‫حجه يف مجيع ما تضمنته من الوعيد)‪.‬‬


‫لذا كان السلف يسهلون يف أسانيد أحاديث الرتغيب والرتهيب وال يسهلون يف أسانيد أحاديث األحكام‬
‫فالعمل به ألنه استند إىل دليـل أفـاد هكذا أدلة األحكـام إذا تعـارض خـربان قـدم األقـوى وميكـن أن يكـون املرجـوح هـو احلـق‬ ‫‪1‬‬
‫– اجملتهد مل يعلم – اجملتهد إذن عمل بعلم فهو ليس ممن ال يتبع إال الظن‪.‬‬ ‫ترجيحه‪.‬‬

‫أم ــا الظ ــن ال ــذي ال يعل ــم رجحان ــه ك ــون الش ــيء قطعي ــا أو ظني ــا أم ــر إض ــايف – اإلنس ــان ق ــد يقط ــع أبش ــياء ق ــد عمله ــا‬ ‫‪2‬‬
‫ابلضرورة أو النقل املعلوم صدقه عنده ‪ -‬وغريه ال يعرف ذلك ال قطعا وال ظنا‪.‬‬ ‫فال جيوز إتباعه‪.‬‬
‫وقد َيصل القطع إلنسان وَيصل لغريه الظن فسـبب اخـتالف النـاس بسـبب اخـتالفهم‬
‫يف اإلطالع على األدلة والقدرة على االستدالل وتفـاوهتم يف الـذكاء – وقـوة الـذهن –‬
‫وسـرعة اإلدراك قـال بـن تيميـه (اجملتهــدون مجيعـا إمنـا قـالوا بعلــم وليسـوا ممـن يتبعـون الظــن‬
‫لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عنـد األخـر إمـا أبن مسـع مـامل يسـمع اآلخـر وإمـا‬
‫أبن فهم مامل يفهم األخـر ) قـال هللا (وداود وسـليمان إذ َيكمـان يف احلـرث إذ نفشـت‬
‫فيــه غــنم القــوم وكنــا حلكمهــم شــاهدين – ففهمناهــا ســليمان وكــال أتينــا حكمــا وعلمــا )‬
‫األنبياء ‪79 – 78‬‬
‫وقول النيب صلى هللا عليه وسلم (إايكم والظن فإن الظن أكذب احلديث ) متفق عليه‬
‫وهو الظن الذي المستند له وال يستند إىل دليل‬
‫األدلة الشرعية‬

‫تقسيم آخر للقطع عند احلنفية‪:‬‬


‫(‪ )1‬عدم قبوله لالحتمال أصال‬ ‫أما احلنقية فقد جعلوا القطع نوعان ابعتبار‬
‫ذاته من حيث‬
‫(‪ )2‬قبوله لالحتمال الناشيء عن دليل‪.‬‬

‫علي ذلك فالقطع عند احلنفية نوعان‪:48‬‬

‫كاحملكم و املتواتر‬ ‫و هو ما يقطع االحتمال أصال ‪,‬‬ ‫علم اليقني‬


‫كالظاهر و النص و اخلرب املشهور‬ ‫وهو مايقطع االحتمال الناشي عن دليل‬ ‫علي الطمأنينة‬
‫و الفرق بينهما أن علم اليقني هو يف أعلي مراتب القطع ‪,‬‬
‫(‪ )1‬و يكون رده كفرا ‪,‬‬
‫(‪ )2‬أما علم الطمأنينة فهو دونه و يكون رده بدعة‪.49‬‬

‫و يرجع السبب يف هذا التقسيم عند احلنفية‬


‫أهنم جعلوا احلديث املشهور يف رتبة احلديث املتواتر ‪ ,‬رغم أهنم يقروا أبن املشهور دون املتواتر يف القوة ‪ ,‬و لكنه يعمل‬ ‫‪1‬‬
‫عمله يف ختصيص العام و تقييد املطلق و هكذا‬
‫أهنم يعتربون النص و الظاهر فد يفيد القطع و هو االصل و لكن جيوز أن يدخله الظن‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫قال التفتزاين (رمحه هللا)‪" :‬و احلق أن كال منهما (الظاهر و النص) قد يفيد القطع و هو االصل و قد يفيد الظن و هو‬
‫‪50‬‬
‫ما اذا كان احتمال غري املراد مما يعضده دليل"‪.‬‬

‫‪ 48‬ابن أمري حاج‪ :‬التقرير يف علم االصول (‪, )54:1‬عبيد هللا بن مسعود احملبويب البخاري احلنفي "التوضيح يف حل غوامض‬
‫التنقيح (‪)242:1‬‬
‫أبو علي الشاشي‪ :‬اصول الشاشي (‪)272:1‬‬ ‫‪49‬‬

‫شرح التلويح علي التوضيح‬ ‫‪50‬‬


‫األدلة الشرعية‬

‫املبحث الثالث‪ :‬األدلة الشرعية من حيث النقل والعقل‬

‫قبل أن ابدأ يف سرد األدلة الشرعية من حيث النقل والعقل أتى بتعريف العقل لغة واصطالحاً‬

‫ويراد به ع ّدة معان‪ ،‬منها‪ :‬التثبت يف األمور واالمساك واالمتناع والش ّد واحلبس‪ ،‬يقال‪:‬‬ ‫يطلق «العقل» يف اللغة‬
‫كف نفسه‬
‫عقل (بفتح الالم) الرجل إذا ّ‬‫عقلت الناقة; إذا منعت من السري‪ ،‬ويقال‪َ :‬‬
‫ويردها عن هواها‪.‬‬‫وش ّدها عن املعاصي‪ ،‬وقيل‪ :‬العاقل‪ :‬الذي َيبس نفسه ّ‬
‫هذه هي املعاين اللغوية الرئيسية اليت تكاد جتمع عليها كتب اللغة حول العقل‪ ،‬وتندرج‬
‫حتتها ‪ -‬تقريباً ‪ -‬مجيع املعاين األخري اليت ذكرت هلذا املفهوم‬
‫وورد أيضاً يف هذا اخلصوص‪ :‬أ ّن العقل ُمسي عقال‪ ،‬ألنّه يعقل ‪ -‬أي َيبس ‪ -‬صاحبه‬
‫التورط يف املهالك‪ .‬فالعقل ‪ -‬اذن ‪ -‬قيد َيول دون انطالق اإلنسان فيما يشينه أو‬
‫عن ّ‬
‫التصرف العشوائي الناتج من‬
‫يضر به أو ما ال يليق به‪ ،‬أي أنّه بطبيعته يعقل النفس عن ّ‬
‫ّ‬
‫مقتضي الطبع‬
‫فإهنا تلتقي مجيعاً أمام نقطة‬
‫فمهما اختلفت وتضاربت أو تداخلت التعاريف حوله‪ّ ،‬‬ ‫وأما «العقل» يف املعين االصطالحي‬
‫مشرتكة هي اعتبار العقل هو العنصر االساسي يف الفعل املعريف البشري‪ ،‬وهو القاعدة‬
‫األويل اليت ينطلق منها اإلنسان متأمال وانظراً ومستنبطاً ومدركاً حلقائق األشياء‪ ،‬وهو‬
‫الوسيلة الوحيدة لالهتداء إيل الصواب‪ ،‬ولكن بشرط أن يعمل بعيداً عن املؤثرات‬
‫السلبية اليت سوف نشري إليها الحقاً‪.‬‬
‫العقل من الضرورات اخلمس اليت جاء اإلسالم بكل الوسائل حلفظها‬

‫األدلة الشرعية ‪ .51.‬تنقسم إىل عقلية ونقليه الدليل إما شرعي أو غري شرعي‬

‫هو ما أمر به الشرع‪ ،‬أو دل عليه‪ ،‬أو أذن فيه‪.‬‬ ‫‪(53‬‬‫الدليل‪ 52‬الشرعي‬
‫وبذلك يعلم أن الدليل الشرعي على أقسام ثالثة ‪:‬‬
‫ما أثبته الشرع وجاء به مما ال يعلم إال بطريق السمع والنقل‪ ،‬وال يعلم بطريق العقل‪ ،‬فهذا دليل‬ ‫األول‬
‫شرعي مسعي‬
‫وذلك كاخلرب عن املالئكة والعرش‪ ،‬وتفاصيل أمور العقيدة‪ ،‬وتفاصيل األوامر والنواهي‪ ،‬فهذا ال سبيل إىل معرفته‬
‫بغري خرب األنبياء عليهم الصالة والسالم ‪.‬‬
‫ما دل عليه الشرع ونبه عليه‪ ،‬وأرشد فيه إىل األدلة العقلية واألمثلة املضروبة‪ ،‬فهذا دليل شرعي‬ ‫الثاين‬

‫انظر‪" :‬درء التعارض" (‪.)310 ،309/3 ،200 – 199 ،48 – 46/1‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪ 52‬الدليل هنا مبعىن املدلول‪.‬‬


‫‪ 53‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪ ،)199 ،198/1‬و"جمموع الفتاوى" (‪.)234 – 228/19‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫عقلي‬
‫وذلك مثل إثبات التوحيد ونفي الشرك‪ ،‬وإثبات النبوة‪ ،‬والبعث‪ ،‬ومن األدلة قوله تعاىل (ولقد ضربنا للناس ىف‬
‫هذا القران من كل مثل ) ]الروم ‪ [ 58‬وسيأيت بيان األمثلة على ذلك‬
‫ما أابحه الشرع وأذن فيه‪ ،‬فيدخل حتت هذا ما أخرب به الصادق ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬وما دل‬ ‫الثالث‬
‫عليه القرآن ونبه عليه‪ ،‬وما دلت عليه املوجودات وعرف ابلتجربة؛ وهذا مثل األمور الدنيوية‪،‬‬
‫كالطب واحلساب‪ ،‬والفالحة والتجارة‬
‫إذا علم ذلك فإن الدليل الشرعي يتصف ابآليت‪: 54‬‬
‫أنه ال يكون إال ح ًقا‪ ،‬إذ كونه شرعيًا صفة مدح‬ ‫‪1‬‬
‫أنه يقدم على غريه‪ ،‬فالدليل الشرعي ال جيوز أن يعارضه دليل غري شرعي‪ ،‬فإن شرعة هللا مقدمة على غري‬ ‫‪2‬‬
‫شرعته ‪.‬‬
‫أن الدليل الشرعي قد يكون مسعيًا‪ ،‬وقد يكون عقليًا ‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫أن الدليل الشرعي يقابله الدليل غري الشرعي‪ ،‬أو الدليل البدعي‪ ،‬وكونه بدعيًا صفة ذم‪ ،‬وال يقابل الدليل‬ ‫‪4‬‬
‫الشرعي بكونه عقليًا‬
‫وإذا علم ذلك فالواجب معرفة األدلة الشرعية ما يدخل فيها وما ال يدخل‪ ،‬فبعض الناس يدخل يف األدلة الشرعية ما ليس منها‪ ،‬وبعضهم‬
‫‪55‬‬
‫خيرج منها ما هو داخل فيها‬
‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫مرجوحا اترة أخرى‪ ،‬وقد يكون دليالً‬
‫ً‬ ‫اجحا اترة‪ ،‬وقد يكون‬
‫هوخالف الدليل الشرعي‪ .‬وهو قد يكون ر ً‬ ‫الدليل غري الشرعي‬
‫اترة‪ ،‬ويكون شبهة فاسدة اترة أخرى‪ ،‬كما أنه قد يكون عقليًا أو مسعيًا‪ .‬فمن األدلة غري الشرعية ما جاء يف‬
‫الكتاب والسنة النهي عنه‪ ،‬مثل القول على هللا بال علم‪" :‬وال تقف ما ليس لك به علم" [اإلسراء‪ ]36 :‬واجلدل‬
‫يف احلق بعد ظهوره‪" :‬جيادلونك يف احلق بعدما تبني" [األنفال‪]6 :‬‬

‫السمع أصل جلميع األدلة‪:‬‬

‫الواجب أن جيعل ما قاله هللا ورسوله ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬هو األصل‪ ،‬ويتدبر معناه ويعقله‪ ،‬ويعرف برهانه ودليله العقلي واخلربي‬
‫السمعي‪ ،‬ويعرف داللته على هذا وهذا‬

‫إذ هو الفرقان بني احلق والباطل واهلدى والضالل‪ ،‬وهو طريق السعادة والنجاة‪ ،‬فهو احلق الذي جيب اتباعه ‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫وما سواه من كالم الناس يعرض عليه‪ ،‬فإن وافقه فهو حق‪ ،‬وإن خالفه فهو ابطل‬
‫ذلك أن لفظ العقل والسمع صار من األلفاظ اجململة‪ ،‬فكل من وضع شيئًا برأيه مساه عقليات‪ ،‬واآلخر يبني خطأه فيما قاله ويدعي أنه‬
‫أيضا خطأً ‪.‬‬
‫العقل‪ ،‬ويذكر أشياء أخرى تكون ً‬
‫وهذا نظري من َيتج يف السمع أبحاديث ضعيفة‪ ،‬أو موضوعة‪ ،‬أو اثبتة لكن ال تدل على مطلوبه‪ ،‬فال بد إذن من معرفة صريح العقل‬

‫‪ 54‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪.)200 ،198/1‬‬


‫‪ 55‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪.)200/1‬‬
‫‪ 56‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪ ،)136 ،135/13‬و"شرح العقيدة الطحاوية" (‪.)225 ،224‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫وصحيح النقل ‪.‬‬


‫‪) 57‬‬

‫بيان موافقة املعقول للمنقول‪:‬‬

‫وذلك من وجوه ‪:‬‬

‫أن الدليل العقلي ال ميكن أن يستدل به على ابطل أب ادا ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫وبيان ذلك أن احلجج السمعية مطابقة للمعقول‪ ،‬والسمع الصحيح ال ينفك عن العقل الصريح؛ بل مها أخوان نصريان وصل هللا‬
‫بينهما وقرن أحدمها بصاحبه‪ ،‬وأقام هبما حجته على عباده‪ ،‬فال ينفك أحدمها عن صاحبه أصالً ‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫فالكتاب املنزل والعقل املدرك؛ حجة هللا على خلقه‬
‫وهلذا ال يوجد يف كالم أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس‪ ،‬وال قال أحد منهم‪ :‬قد تعارض يف هذا العقل‬
‫‪59‬‬
‫والنقل‪ ،‬فضالً عن أن يقول‪ :‬فيجب تقدمي العقل على النقل‬

‫مجيعا على‪: 60‬‬


‫فاملقصود أن السلف كانوا متفقني ً‬
‫‪-‬أن العقل الصريح ال يناقض النقل الصحيح‬ ‫‪1‬‬

‫‪-‬أن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫‪-‬أن العقل املعارض للنقل الصحيح ابطل وال يكون‬ ‫‪3‬‬
‫‪) 61‬‬
‫أن العلوم ثالثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫منها ما ال يعلم إال ابألدلة العقلية‪ ،‬وذلك كثبوت النبوة وصدق اخلرب‪ ،‬وأحسن هذه األدلة ما بينه القرآن وأرشد إليه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ومنها ما ال يعلم إال ابألدلة السمعية‪ ،‬وذلك كتفاصيل األمور اإلهلية وتفاصيل العبادات‪ ،‬وذلك إمنا يكون بطريق خرب األنبياء‬ ‫‪2‬‬
‫‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ -‬اجملرد ‪.‬‬

‫ومنها ما يعلم ابلسمع والعقل‪ ،‬وذلك مثل كون رؤية هللا ممكنة أو ممتنعة ‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪) 62‬‬
‫أن ما جاء به السمع ال خيلو من أمرين ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 57‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪.)470 ،469/16‬‬


‫‪ 58‬انظر‪" :‬الصواعق املرسلة" (‪.)458 ،457/2‬‬
‫‪ 59‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪.)30 ،29 ،28/13‬‬
‫‪ 60‬انظر املصدر السابق (‪ ،)463/16‬و"الصواعق املرسلة" (‪.)992/3‬‬
‫‪ 61‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪.)139 – 137/13‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫إما أن يدركه العقل‪ ،‬فال بد واحلالة كذلك أن َيكم جبوازه وصحته‬ ‫‪1‬‬

‫حائرا‪ ،‬والواجب عليه واحلالة كذلك التسليم ملا‬


‫وإما أال يدركه العقل فيعجز عن احلكم عليه بنفي أو إثبات‪ ،‬فيبقى العقل ً‬ ‫‪2‬‬
‫جاء به السمع ‪.‬‬
‫‪) 63‬‬
‫أن ما يدركه العقل ال خيلو من أمرين ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫إما أن يثبته السمع ويدل عليه‬ ‫‪1‬‬

‫أبدا ‪.‬‬
‫وإما أن أيذن فيه ويسكت عنه‪ ،‬وبذلك يعلم أن السمع والعقل ال يتعارضان ً‬ ‫‪2‬‬

‫مكانة العقل عند أهل السنة ‪:‬‬

‫للعقل عند أهل السنة مكانته الالئقة به‪ ،‬وهم يف ذلك وسط بني طرفني ‪.‬‬
‫‪) 64‬‬

‫من جعل العقل أصالً كليًا أوليًا‪ ،‬يستغين بنفسه عن الشرع ‪.‬‬ ‫الطرف األول‬

‫من أعرض عن العقل‪ ،‬وذمه وعابه‪ ،‬وخالف صرَيه‪ ،‬وقدح يف الدالئل العقلية مطل ًقا ‪.‬‬ ‫الطرف الثاين‬

‫أن العقل شرط يف معرفة العلوم‪ ،‬وكمال وصالح األعمال‪ ،‬لذلك كان سالمة العقل شرطًا يف التكليف‬ ‫‪1‬‬ ‫والوسط بني‬
‫فاألحوال احلاصلة مع عدم العقل انقصة‪ ،‬واألقوال املخالفة للعقل ابطلة‪ ،‬وقد أمر هللا ابستماع القرآن وتدبره‬ ‫الطرفني‬
‫ابلعقول "أَفَال يَـتَ َدبـَُّرو َن الْ ُق ْرآ َن" [النساء‪ ،]82 :‬و[حممد‪" ،]24 :‬أَفَـلَ ْم يَ َّدبـَُّروا الْ َق ْوَل" [املؤمنون‪ .]68 :‬فالعقل‬
‫‪(65‬‬
‫هو املدرك حلجة هللا على خلقه‬

‫أن العقل ال يستقل بنفسه‪ ،‬بل هو حمتاج إىل الشرع الذي عرفناه ما مل يكن لعقولنا سبيل إىل استقالهلا‬ ‫‪2‬‬
‫أبدا‪ ،‬إذ العقل غريزة يف النفس وقوة فيها مبنزلة قوة البصر اليت يف العني‪ ،‬فإن اتصل به نور اإلميان‬
‫إبدراكه ً‬
‫والقرآن كان كنور العني إذا اتصل به نور الشمس والنار ‪.‬وإن انفرد بنفسه مل يبصر األمور اليت يعجز وحده‬
‫‪66‬‬
‫عن دركها‬

‫أن العقل مصدق للشرع يف كل ما أخرب به دال على صدق الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬داللة عامة‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 62‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪.)147/1‬‬


‫‪ 63‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪.)199 ،198/1‬‬
‫‪ 64‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪.)338/3‬‬
‫‪ 65‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪ ،)339 ،338/3‬و"الصواعق املرسلة" (‪.)458/2‬‬
‫‪ 66‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪ ،)339/3‬و"الصواعق املرسلة" (‪.)459 ،458/2‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫مطلقة‪ ،‬فالعقل مع الشرع كالعامي مع املفيت‪ ،‬فإن العامي إذا علم عني املفيت ودل غريه عليه وبني له أنه عامل‬
‫ٍ‬
‫مفت‪ ،‬مث اختلف العامي الدال واملفيت‪ ،‬وجب على املستفيت أن يقدم قول املفيت‪ ،‬فإذا قال له العامي‪ :‬أان‬
‫مفت فإذا قدمت قوله على قويل عند التعارض‪ ،‬قدحت يف األصل الذي به علمت أنه‬ ‫األصل يف علمك أبنه ٍ‬
‫مفت ودللت على ذلك‪ ،‬شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك‪،‬‬ ‫مفت‪ ،‬قال له املستفيت‪ :‬أنت ملا شهدت أبنه ٍ‬‫ٍ‬
‫مفت‪ ،‬ال يستلزم أن أوافقك يف مجيع أقوالك‪ ،‬وخطؤك فيما خالفت فيه املفيت الذي‬ ‫وموافقيت لك يف قولك إنه ٍ‬
‫هو أعلم منك‪ ،‬ال يستلزم خطأك يف علمك أبنه ٍ‬
‫مفت ‪.‬‬
‫هذا مع أن املفيت جيوز عليه اخلطأ‪ ،‬أما الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فإنه معصوم يف خربه عن هللا تعاىل ال‬
‫جيوز عليه اخلطأ‪ ،‬فتقدمي قول املعصوم على ما خيالفه من استدالل عقلي‪ ،‬أوىل من تقدمي العامي قول املفيت‬
‫على قول الذي خيالفه ‪ .‬وإذا كان األمر كذلك فإذا علم اإلنسان ابلعقل أن هذا رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،-‬وعلم أنه أخرب بشيء ووجد يف عقله ما ينازعه يف خربه‪ ،‬كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع‬
‫‪67‬‬
‫إىل من هو أعلم به منه‬

‫أن الشرع دل على األدلة العقلية وبينها ونبه عليها‪). 68‬وذلك كاألمثال املضروبة اليت يذكرها هللا يف كتابه‪،‬‬ ‫‪4‬‬
‫آن ِم ْن ُك ِّل َمثَ ٍل" [الروم‪ ،]58 :‬فإن األمثال املضروبة هي‬ ‫َّاس ِيف ه َذا الْ ُقر ِ‬ ‫ِ‬
‫ضَربْـنَا للن ِ َ ْ‬ ‫"ولََق ْد َ‬
‫اليت قال فيها‪َ :‬‬
‫ين ِم ْن ُدونِِه"‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫"ه َذا َخلْ ُق هللا فَأ َُروين َما َذا َخلَ َق الذ َ‬ ‫األقيسة العقلية‪ ،‬فمن ذلك إثبات التوحيد بقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ت فِي ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫[لقمان‪ ،]11 :‬وإثبات النبوة بقوله تعاىل‪" :‬قُ ْل لَ ْو َشاءَ هللاُ َما تَـلَ ْوتُهُ َعلَيْ ُك ْم َوال أ َْد َرا ُك ْم بِه فَـ َق ْد لَبِثْ ُ‬
‫عُ ُمًرا ِم ْن قَـبْلِ ِه أَفَال تَـ ْع ِقلُو َن" [يونس‪ ،]16 :‬وإثبات البعث بقوله تعاىل‪" :‬قُ ْل َُيْيِ َيها الَّ ِذي أَنْ َشأ ََها أ ََّوَل َمَّرةٍ"‬
‫[يس‪]. 79 :‬‬

‫والناس يف األدلة العقلية اليت بينها القرآن وأرشد إليها الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬على طرفني ‪:‬‬
‫‪) 69‬‬

‫فمنهم من يذهل عن هذه األدلة ويقدح يف األدلة العقلية مطل ًقا؛ ألنه قد صار يف ذهنه أهنا هي‬ ‫‪1‬‬
‫الكالم املبتدع الذي أحدثه املتكلمون ‪.‬‬

‫ومنهم من يعرض عن تدبر القرآن وطلب الدالئل اليقينية العقلية منه؛ ألنه قد صار يف ذهنه أن‬ ‫‪2‬‬
‫القرآن إمنا يدل بطريق اخلرب فقط ‪.‬‬

‫والذي عليه أهل العلم واإلميان ‪:‬‬ ‫‪) 70‬‬

‫أن األدلة العقلية اليت بينها هللا ورسوله ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أجل األدلة العقلية وأكملها وأفضلها ‪.‬‬

‫انظر‪" :‬درء التعارض" (‪ ،)141 ،139 ،138/1‬و"الصواعق املرسلة" (‪ ،)809 ،808/3‬و"شرح العقيدة الطحاوية"‬ ‫‪67‬‬

‫(‪.)219‬‬
‫‪ 68‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪ ،)29 ،28/1‬و"الصواعق املرسلة" (‪.)497 – 460/2‬‬
‫‪ 69‬انظر‪" :‬جمموع الفتاوى" (‪.)138 ،137/13‬‬
‫‪ 70‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪ ،)28/1‬و"جمموع الفتاوى" (‪.)137/13‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫أن العقل ال ميكن أن يعارض الكتاب والسنة‪ ،‬فالعقل الصريح ال خيالف النقل الصحيح ً‬
‫أبدا‪ ،‬فال يصح أن‬ ‫‪5‬‬
‫يقال‪:‬‬
‫‪) 71‬‬
‫إن العقل خيالف النقل‪ ،‬ومن ادعى ذلك فال خيلو من أمور ‪:‬‬

‫أن ما ظنه معقوالً ليس معقوالً‪ ،‬بل هو شبهات توهم أنه عقل صريح وليس كذلك ‪.‬‬ ‫أوهلا‬

‫صحيحا مقبوالً‪ ،‬إما لعدم صحة نسبته‪ ،‬أو لعدم فهم املراد منه على الوجه‬
‫ً‬ ‫مسعا‬
‫مسعا ليس ً‬
‫اثنيها أن ما ظنه ً‬
‫الصحيح‬

‫اثلثها أنه مل يفرق بني ما َييله العقل وما ال يدركه‪ ،‬فإن الشرع أييت مبا يعجز العقل عن إدراكه‪ ،‬لكنه ال‬
‫أييت مبا يعلم العقل امتناعه‬

‫املناقشات –‬
‫قال ابن تيمية – الرسل ال خيربون مبحاالت العقول بل مبحاراة العقول (حتار فيه لكنه ليس مبحال)‬
‫‪ -‬يف كتابه درء تعارض العقل والنقل – يرد على األشاعرة الذين يوجبون تقدمي العقل على النقل إذا تعارضا وصار‬
‫قانوان كليا عندهم (الرازي – الغزايل – اجلويىن – بن العريب)‪.‬‬
‫ابن قيم اجلوزية ‪ :‬تقدمي العقل على النقل من الطواغيت األربعة اليت تعمل على هدم الدين وهى‪:‬‬
‫‪-1‬القول أن أدلة القرآن والسنة لفظية ال تفيد التيقن‪.‬‬
‫‪-2‬تقدمي العقل على النقل إذا تعارضا‬
‫‪-3‬اجملاز (والصحيح محل األمساء والصفات على احلقيقة) واجملاز هو نقل اللفظ‬
‫‪72‬‬
‫‪-4‬التأويل ‪ :‬صرف اللفظ إىل معىن أخر ملناسبة بينها‬
‫أثبت أنه عند التعارض إذا حدث فهذا دليل على قدح ىف العقل الدال على النقل‪.‬‬
‫‪-‬وهبذا القول (التعارض) فتحوا ابب شر على األمة فدخلوا يف التأويل‪.‬‬
‫قال أبو إسحاق الشريازي من أراد أن يستدل ابلعقل فعليه ‪.‬‬
‫‪-1‬يضع كامل األدلة أمامه ويعرف ترتيبها‪.‬‬
‫‪-2‬أن ينظر يف دليل ال يف شبهة‪.‬‬
‫‪-3‬أن يستوىف الدليل بشروطه – فإذا سقط شرط فيكون قد تعلق بطرف الدليل ال الدليل مسألة التحسني والتقبيح‬
‫العقليني‪.‬‬
‫يقول الشاطىب ‪ -‬إذا تعاضد النقل والعقل على املسائل الشرعية‪.‬‬
‫فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ويتأخر العقل فيكون اتبعا‪.‬‬
‫وإذا نظر العقل ىف الدليل فلتحقيق املناط ال ألمر مستقل ابلداللة – العقل ليس بشارع‬
‫والعقل عنده ال يدرك الصاحل والفاسد إبنفراده إمنا هو أداة لفهم ما جاء به الشرع وتصديقه لتطمئن إليه النفس‬

‫‪ 71‬انظر‪" :‬درء التعارض" (‪ ،)194 ،78/1‬و"جمموع الفتاوى" (‪،)339/3‬‬


‫‪ 72‬ونعود إىل كتاب درء العقل والنقل – بن تيمية‪:‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫ويقول العز بن عبد السالم ‪ /‬معظم مصاحل الدنيا ومفاسدها معروف ابلعقل أما مصاحل اآلخرة فال تعرف إال‬
‫ابلنقل‬
‫ويقول بن رشد ‪ /‬الميكن فصل االثنني عن بعضهما‬
‫ويقول الغزايل ‪ /‬الداعي إىل حمض التقليد مع عزل العقل ابلكلية جاهل واملكتفى ابلعقل عن أنوار القران والسنة مغرور‬
‫أما بعض املتكلمني فكان يرى أن الوحي مصدر للمعرفة‪ ،‬كما أن العقل مصدر للمعرفة‪ ،‬فإذا تعارضا فإنه يُق ِّدم العقل‬
‫ابعتباره أصالً للنقل؛ ألن اإلنسان آمن بعقله أوالً‪ ،‬مث اتبع الوحي بعد ذلك‪.‬‬

‫الفخر الرازي يقول‪" :‬اعلم أ ّن الدالئل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء‪ ،‬مث وجدان أدلة ثقيلة يشعر ظاهرها‬
‫خبالف ذلك‪ ،‬فهناك ال خيلو احلال من أحد أمور أربعة‪:‬‬

‫إما أن يَصدق مقتضى العقل والنقل؛ فيلزم تصديق النقيضني وهو ُحمال‪.‬‬ ‫‪.1‬‬

‫وإما أن نبطلهما‪ ،‬فيلزم تكذيب النقيضني‪ ،‬وهو ُحمال‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫وإما أن تكذب الظواهر النقلية‪ ،‬وتصدق الظواهر العقلية‪.‬‬ ‫‪.3‬‬

‫وإما أن تصدق الظواهر النقليـّة وتكذب الظواهر العقلية‪ ،‬وذلك ابطل‪.‬‬ ‫‪.4‬‬

‫ألنه ال ميكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية‪ ،‬إال إذا عرفنا ابلدالئل العقلية‪ :‬إثبات الصانع‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وكيفية داللة‬
‫املعجزة على صدق الرسول صلى هللا عليه وسلم وظهور املعجزات على يد حممد صلى هللا عليه وسلم ولو صار القدح‬
‫متهما‪ ،‬غري مقبول القول‪ ،‬ولو كان كذلك خلرج عن أن يكون مقبول القول يف هذه‬ ‫يف الدالئل العقلية‪ ،‬صار العقل ًّ‬
‫األصول‪.‬‬

‫وإذا مل تثبت هذه األصول خرجت الدالئل النقلية عن كوهنا مفيدة‪ .‬فثبت أن القدح يف العقل لتصحيح النقل يـُ ْفضي‬
‫معا‪ ،‬وأنّه ابطل‪ .‬وملا بطلت األقسام األربعة مل يَـْب َق إال أن يقطع مبقتضى الدالئل العقلية‬
‫إىل القدح يف العقل والنقل ً‬
‫ّ‬
‫القاطعة أبن هذه الدالئل النقلية‪ ،‬إما أن يُقال‪ :‬إهنا غري صحيحة‪ ،‬أو يُقال‪ّ :‬إهنا صحيحة‪ ،‬إال أ ّن املراد منها غري‬
‫جوزان التأويل اشتغلنا على سبيل التربع بذكر تلك التأويالت على التفصيل‪ .‬وإن مل ُجنَ ِّوز التأويل فوضنا‬
‫ظواهرها‪ .‬مث إن َّ‬
‫‪73‬‬
‫العلم هبا إىل هللا تعاىل‪ ،‬فهذا هو القانون الكلي املرجوع إليه يف مجيع املتشاهبات‪ ،‬وابهلل التوفيق"‬

‫وقد قيل يف تعليقات على كتاب درء التعارض البن تيمية زعيم هؤالء اجملسمة ذوي األصول الكرامية الدارمية‪ ،‬كالماً‬
‫هو خالصة هذه املسألة نذكره هنا ملا فيه من فائدة‪:‬‬

‫واحلاصل من كالم الرازي أن العقل القطعي والنقل القطعي ال يتعارضان قطعاً‪ ،‬وال ميكن تصور ثبوت التعارض‪ ،‬وكل‬
‫دليل عقلي‬

‫‪ .1‬إما أن يكون دليالً برهانياً‪ ،‬أي قطعياً‪،‬‬

‫الس ّقا‪ .‬ط ‪1406‬هـ ‪1986 /‬م‪ ،‬مكتبة الكليات‬


‫انظر‪ :‬أساس التقديس‪ ،‬ص‪ ،]220-221[ :‬حتقيق د‪ .‬أمحد حجازي ّ‬
‫‪73‬‬

‫األزهرية – القاهرة‬
‫األدلة الشرعية‬

‫‪ .2‬أو غري قطعي أي ظنياً‪،‬‬

‫وكذا الدليل النقلي‬

‫‪ .1‬إما أن يكون قطعياً ونقصد هنا القطعية يف الداللة والثبوت معاً‪،‬‬


‫‪ .2‬أو ظنياً يف أحدمها أو كليهما‪،‬‬

‫فالتعارض غري متصور بني العقلي والنقلي القطعي‪ ،‬ومتصور يف غري هذا‪ ،‬فإذا وقع تعارض فاملقدم هو القطعي مطلقاً‬
‫سواء كان النقلي أم العقلي‪ ،‬فوجه الرتجيح والتقدمي ليس هو كون الدليل عقلياً أو نقلياً‪ ،‬بل كونه قطعياً أو ال‪ ،‬وإذا‬
‫تعارض ظنيان كان املقدم هو األقوى‪.‬‬

‫هذا هو خالصة معىن كالم الرازي كما هو ظاهر‪ ،‬وقد خصص الكالم على حالة واحدة هي إذا كان التعارض واقعاً‬
‫بني قطعي عقلي وظين نقلي‪ ،‬فالصحيح إنه جيب تقدمي القطعي العقلي أيضاً‪ ،‬وعدم تسليم ما ينسب إىل النص‬
‫النقلي‪ ،‬أي عدم التسليم أبن املعىن الفالين هو الظاهر‪ ،‬بل هو غري ظاهر ألنه قام الدليل على استحالة كونه مقصوداً‪،‬‬
‫‪74‬‬
‫أو يقال ابلتفويض‪.‬‬

‫وخالصة القول‪:‬‬
‫أن السلف رضي هللا تعاىل عنهم من منهجهم أهنم إذا جاءوا إىل النصوص الشرعية ال يقتصرون على جزء من النص‪،‬‬
‫بل أيخذون النصوص الشرعية بصورةٍ كاملة‪ .‬فإذا جاءوا إىل اآلايت أو األحاديث ال أيخذون جزءًا منها ويُع ِرضون عن‬
‫اجلزء اآلخر‪ ،‬بل أيخذون النص كامالً‪ ،‬مع حماولة إعمال العقل يف فَـ ْهم النص الشرعي‪ .‬والذي خنلُص إليه العقل‬
‫السلفي جيعل النص الشرعي هو املقدَّم‪ .‬أما النص العقلي فهذا أمر غري مقبول إذا كان هناك تعارض ومهي‪ ،‬واألصل‬
‫أنه ال تعارض بني نقل صحيح وعقل صريح‪.‬‬
‫هذا ما يالحظه أي منصف يف فهم جدلية العقل والنقل‪ ،‬وهذا ما انتهى إليه فهمي القاصر وهللا املستعان‪.‬‬
‫هذا؛ والبد أن أُشري إىل مشكلة العقل والنقل يف الفكر اإلسالمي قد غ ّذهتا املوجات االستشراقية اليت كان هدفها‬
‫اهلجوم على العقل اإلسالمي والعريب‪.‬‬
‫وم ْن سار على َد ْربِِه‪ -‬استخدام أساليب متعددة يف الطعن على كتاب هللا تعاىل‪ ،‬زاعمني‬ ‫بل لقد حاول حممد أركون ‪َ -‬‬
‫محل لواء التجديد يف التفسري وال َف ْهم لكتاب هللا تعاىل‪ ،‬من خالل مناهج جديدة ‪-‬زعموا‪ -‬يف التفسري والتأويل مل‬
‫يصل إليها أحد من قبلهم‪ ،‬انقمني على مناهج املستشرقني‪ ،‬ويف حقيقة أمرهم مل خيرجوا عن منهج املستشرقني‬
‫الطاعنني يف كتاب هللا تعاىل قيد أُْمنُلة‪ ،‬وإمنا يُ ِرددون ما مسعوه وتلقَّوه عنهم‪.‬‬
‫وقد كان من أثر شيوع الفكر العلماين ‪-‬املتأثر ابالستشراق‪ -‬يف عاملنا اإلسالمي املعاصر إنزال تراثنا اإلسالمي من‬
‫الرايدة إىل قفص االهتام والتشويه‪ ،‬بدعوى حماولة جتديد اخلطاب الديين العقلي‪ ،‬وانتشال العقل من وهدة البعثرة‪ ،‬حىت‬

‫أقسام احلكم العقلي‪ ،‬وبيان معناها والعالقة بني العقل وبني النقل لألستاذ سعيد فودة‪ -‬ص ‪17‬‬ ‫‪74‬‬
‫األدلة الشرعية‬

‫أصبح البعض ينظر إىل الرتاث اإلسالمي خبجل!‬


‫‪75‬‬
‫آمل أن يستفيق هؤالء من غفوهتم؛ فاحلضارة الغربية املادية تتهاوى بعدما استغنت ابلعقل عن الوحي‪.‬‬

‫‪ 75‬مشكلة العقل والنقل؛ بني الرتاث اإلسالمي والفكر الغريب الدكتور ايسر منري عدد الزايرات‪ 3,759 :‬آخر حتديث‪ 4 :‬ربيع‬
‫اآلخر ‪1436‬‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫اِنه من املفيد جدا أن أتعرض ألسباب االختالف بني الفقهاء‪ ،‬فإن من اجلاهلني واملغرضني من‬
‫يشككون يف صالحية الشريعة اإلسالمية للبقاء واخللود‪ ،‬ويتهموهنا ابلتناقض وعدم االتساق‪ ،‬ويستدلون على ذلك‬
‫ابخلالفات الفقهية‪ ،‬ويعتربون هذه اخلالفات مظهرا من مظاهر االختالل‪ ،‬وحنن من أجل أن نرد على تلك االهتامات‬
‫ونثبت أن هذه االختالفات بني الفقهاء يف فروع الشريعة إمنا هي ظاهرة صحية‪ ،‬وكنز تشريعي مثني نعتز به ونفرح له‪،‬‬
‫وهي ليست حبال من مظاهر التناقض‪ .‬من أجل ذلك سوف نتعرض ألسباب االختالف بني الفقهاء‪ ،‬ونتبع ذلك‬
‫ابلرد على من اهتم هذه الشريعة ابلتناقض واالختالل لذلك‪.‬‬
‫ال بـد مـن اإلشـارة قبـل البـدء يف بيـان أســباب اخـتالف الفقهـاء إىل أن األحكـام الشـرعية إمنـا وردتنـا عــن‬
‫الشارع احلكيم بطرق ووسائل معينـة‪ ،‬فـإرادة الشـارع هـي املصـدر األصـلي لألحكـام‪ ،‬ولكننـا ال نسـتطيع الوقـوف علـى‬
‫إرادة الشارع احلكيم بشكل مباشر‪ ،‬ألنه أمر مستحيل‪ ،‬ولذلك كان ال بد من التعرف عليها من طرق متعددة‪ ،‬وهذه‬
‫الطرق هي ما يسمى ابملصادر التشريعية‪.‬‬
‫وهذه املصادر منها ما هو قطعي الداللة علـى إرادة الشـارع‪ ،‬ومنهـا مـا هـو ظـين الداللـة‪ ،‬مبعـىن أن داللتـه‬
‫علــى إرادة الشــارع منــه حمتملــة للعكــس‪ ،‬ولــو كــان هــذا االحتمــال مغلــواب‪ ،‬مث إن ثبــوت هــذه األدلــة وصــحة نقلهــا إىل‬
‫الشارع احلكيم قد يكون مقطوعا به وقد يكون مظنوان أيضا‪ ،‬فالقرآن الكرمي قطعي الثبوت ال شك يف ذلـك يف مجلتـه‬
‫وتفصــيله‪ ،‬ألنــه ورد إلينــا بطريــق الت ـواتر‪ ،‬وكــذلك الســنة الش ـريفة النبويــة‪ ،‬فهــي يف مجلتهــا قطعيــة الثبــوت‪ ،‬ولكنه ـا يف‬
‫مفرداهتا ليست كذلك كلها‪ ،‬فإن منها ما هو متواتر قطعي الثبوت‪ ،‬ومنها ما هو خرب آحـاد‪ ،‬وهـو ال يكـون مقطوعـا‬
‫به حبال‪ ،‬بل هو ظين الثبوت‪.‬‬
‫فاحلكم املقطوع به ثبوات وداللة ال حمل للنظر فيه‪ ،‬وابلتايل ال مكان لالخـتالف فيـه‪ ،‬أمـا احلكـم املظنـون‬
‫إن ثبــوات أو داللــة‪ ،‬فهـو ميــدان للنظــر واالجتهــاد والتقــدير‪ ،‬وهلــذا فإننــا نــرى أن األحكــام الــيت تثبــت أدلتهــا ابلقطــع مل‬
‫خيتلف فيها أحد من الفقهاء‪ ،‬ومن ذلك أكثر الفرائض والواجبـات وكـل األحكـام املتعلقـة ابهلل سـبحانه وتعـاىل‪ ،‬أمـا‬
‫األحكــام الــيت ثبتــت أبدلــة مظنونــة‪ ،‬فهــي الــيت كانــت مثــار خــالف وتقــدير لــدى الفقهــاء‪ ،‬ومعلــوم أن أكثــر أحكــام‬
‫الشريعة إمنا كان ظين الثبوت أو الداللة‪ ،‬وذلك حلكمة كبرية قضت هبـا إرادة الشـارع‪ ،‬وهـي التوسـعة علـى النـاس ورفـع‬
‫احلرج عنهم‪ ،‬كما سوف نوضحه يف حمله‪.‬‬
‫واآلن سوف نستعرض أسباب االختالف بني الفقهاء‪ ،‬مث نعلق عليها مبا يرد شبهات اخلصوم‪.‬‬

‫أهم أسباب االختالف بني الفقهاء ميكن إدراجها فيما يلي من النقاط‪:‬‬
‫اخــتالف أســاليب اللغــة فإن اللغة العربية دون شك هي أوسـع لغـات العـامل يف املفـردات وأدقهـا يف التعبـري‪ ،‬ولكنهـا مـع ذلـك –‬ ‫‪1‬‬
‫العربيــة ودالل ــة ألفاظه ــا شأهنا شـأن سـائر لغـات العـامل – تتعـدد فيهـا وختتلـف معـاين األلفـاظ‪ ،‬غرابـة واشـرتاكا‪ ،‬كمـا تـرتاوح بـني‬
‫احلقيقــة واجملــاز‪ ،‬والعمــوم واخلصــوص‪ ،‬إىل غــري ذلــك ممــا هــو معــروف يف كتــب اللغــة وأصــول الفقــه مــن‬ ‫على املعاين‬
‫ط ــرف دالل ــة اللف ــظ عل ــى املع ــىن‪ ،‬وحي ــال ه ــذا الع ــدد واالخ ــتالف الب ــد أن تتع ــدد األفه ــام وختتل ــف‬
‫صـ َـن ِأبَنْـ ُف ِس ـ ِه َّن‬ ‫(وال ُْمطَلَّ َقـ ُ‬
‫ـات يَََرتبَّ ْ‬ ‫االســتنباطات‪ ،‬فتختلــف بــذلك األحكــام‪ ،‬مــن ذلــك مــثال قولــه تعــاىل‪َ :‬‬
‫وء)(البقـرة‪ ،)228:‬فقـد اختلـف الفقهـاء يف هـذه اآليـة علـى معـىن (القـرء) إذ هـو يف اللغـة اســم‬ ‫ثَالثَـة قُـر ٍ‬
‫َ ُ‬

‫‪0‬‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫للحـيض والطهـر معـا‪ ،‬فـذهب احلنفيـة إىل أن املـراد بــه يف هـذه اآليـة احلـيض‪ ،‬واسـتدلوا علـى ذلـك أبدلــة‬
‫وقرائن كثرية أيضا‪ ،‬ومناط اختالفهم األصلي يف هـذه املسـألة إمنـا هـو الوضـع اللغـوي لكلمـة قـرء‪ ،‬وإهنـا‬
‫مشرتكة بني الطهر واحليض معا على التساوي‪.‬‬
‫ومـن ذلــك أيضـا اخــتالفهم يف حكـم ملــس يــد الرجـل املـرأة هـل يــنقض الوضـوء أو ال‪ ،‬فــذهب الشــافعية‬
‫إىل أنه ينقض الوضوء‪ ،‬وذهب احلنفية إىل أنه ال ينقضه‪ ،‬ومناط اختالفهم هـو معـىن املـس الـذي ورد يف‬
‫ـوه ُك ْم َوأَيْ ِـدي ُك ْم إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ‬
‫قوله تعاىل‪( :‬أَو المستم النِّساء فَـلَم َِجت ُدوا ماء فَـتـي َّمموا صعِيداً طَيِباً فَامسحوا بِوج ِ‬
‫ّ ْ َ ُ ُُ‬ ‫َ ً ََ ُ َ‬ ‫ْ َ ْ ُُ َ َ ْ‬
‫َكـا َن َع ُفـ ّـواً َغ ُفــوراً) (النســاء‪ ،)43:‬فقــد ذهــب الشــافعية إىل أن املـراد بــذلك هــو حقيقــة املــس لغــة‪ ،‬وهــو‬
‫حاصــل مبجــرد اتصــال بشــرة الرجــل ببشــرة امل ـرأة‪ ،‬ألن أصــل الوضــع اللغــوي هلــذا اللفــظ هــو ذلــك‪ ،‬وال‬
‫يعدل عن هذا األصل إال بدليل‪ ،‬وال دليل هنا يقتضي العدول‪ ،‬وذهـب احلنفيـة إىل أن املـراد ابملـس هنـا‬
‫ليس هو حقيقته اللغوية‪ ،‬بل املراد به املباشرة الفاحشة‪ ،‬وهي متاس الفرجني مع االنتشار‪ ،‬وذلك بداللة‬
‫وقـرائن كثــرية مفصــلة يف كتــب املــذهب كافيــة يف نظــرهم لنقــل هــذا اللفــظ مــن الوضــع اللغــوي إىل وضــع‬
‫شرعي خاص به‪ ،‬فمثار اخلالف إمنا هو احتمال اللغة هلذا وذلك‪.‬‬
‫فالسنة املطهرة هي املصدر الثاين هلذه الشريعة بعد القرآن الكرمي‪ ،‬والسنة وردت إلينا منقولة يف صدور‬ ‫اختالف األئمة يف‬ ‫‪2‬‬
‫الرجال‪ ،‬وهؤالء الرجال بشر يصدقون ويكذبون‪ ،‬كما أهنم َيفظون وينسون‪ ،‬وال ميكن رفعهم فوق‬ ‫صحة الرواية يف‬
‫هذه املرتبة‪ ،‬كما أن العلماء الذين اقتفوا أثرهم ودرسوا حياهتم وسلوكهم رجال أيضاً‪ ،‬ختتلف أنظارهم‬ ‫احلديث‬
‫يف الراوي‪ ،‬فمنهم من يراه موثوقاً به‪ ،‬ومنهم من يراه غري ذلك‪ ،‬ولذلك كان طبعياً أن خيتلف الفقهاء‬
‫يف االحتجاج ببعض األحاديث دون األحاديث األخرى‪ ،‬وطبعي أيضاً أن يذهب إمام إىل ترجيح‬
‫رواية راو على رواية آخر لوثوقه به أكثر‪ ،‬ويذهب فقيه آخر لرتجيح خمالف هلذا الرتجيح‪ ،‬اعتماداً منه‬
‫على وثوقه ابلراوي اآلخر‪.‬‬
‫وهذا االختالف أدى بطبيعة األمر إىل االختالف يف كثري من األحكام الفرعية تبعاً‬
‫لالختالف يف مدى الوثوق ابلراوي‪ ،‬كما أن اختالف الفقهاء فيما بينهم على طرق ترجيح الرواايت‬
‫إذا ما تعارضت‪ ،‬ومدى أخذهم ببعض أنواع احلديث أو اعتذارهم عنه كان له أثر كبري يف اختالفهم يف‬
‫األحكام الفرعية‪ ،‬من ذلك مثالً احلديث املرسل‪ ،‬أيخذ به احلنفية ويفضلونه على احلديث املتصل‬
‫أحياانً‪ ،‬خالفاً للشافعية الذين يرفضون االحتجاج ابملرسل مطلقاً‪ ،‬إال مراسيل سعيد بن املسيب اليت‬
‫ثبت بتتبعها أهنا كلها متصلة‪.‬‬
‫كما أن اختالف الفقهاء يف األخذ بقول الصحايب وعمله وعدم األخذ هبما كان له أثر كبري يف‬
‫االختالف‪ ،‬فاحلنفية ال جييزون اخلروج على قول الصحابة إىل قول غريهم‪ ،‬ويعتربون قول الصحايب‬
‫حجة‪ ،‬أما الشافعية فيجيزون اخلروج على قوهلم يف كثري من املواضع‪.‬‬
‫من ذلك مثالً أن احلنفية يذهبون إىل أن العام قطعي الداللة قبل التخصيص‪ ،‬فإذا دخله التخصيص‬ ‫اختالف الفقهاء فيما‬ ‫‪3‬‬
‫نزل إىل مرتبة الظنية‪ ،‬أما الشافعية فيعتربون العام ظنياً قبل التخصيص وبعده‪ ،‬وعلى ذلك فإهنم جييزون‬ ‫بينهم على قوة‬
‫ختصيص العام ابلدليل الظين دون احلنفية الذين مل جييزوا ختصيصه للمرة األوىل إال بدليل قطعي‪.‬‬ ‫االحتجاج ببعض‬
‫ومن ذلك أيضاً اختالفهم يف محل املطلق على املقيد‪ ،‬فقد توسع الشافعية يف محل‬ ‫املبادئ والقواعد‬
‫املطلق على املقيد فقيدوا بذلك الرقبة الواردة يف كفارة اإلميان ابملؤمنة جرايً على تقييدها يف كفارة القتل‬ ‫األصولية‬
‫بذلك‪ ،‬خالفاً للحنفية الذين ال يقيدوهنا بذلك‪.‬‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫ومنه أيضاً اختالفهم على االحتجاج مبفهوم املخالفة‪ ،‬فقد ذهب إىل االحتجاج به‬
‫الشافعية يف أكثر املواضع خالفاً للحنفية الذين رفضوا التعويل عليه يف أكثر املواضع‪.‬‬
‫ومنه أيضاً اختالفهم على جواز نسخ القرآن الكرمي ابلسنة الشريفة والسنة ابلقرآن‪ ،‬فقد‬
‫أجازه احلنفية واجلمهور ومنعه الشافعية‪.‬‬
‫ومثل هذا كثري يعرف يف كتب األصول‪.‬‬
‫‪-1‬‬
‫وهذا االختالف يعترب صدى الختالفهم يف النسخ وقواعده وشروطه‪ ،‬والتخصيص وطرقه وشروطه‬ ‫اختالفهم على كثري من‬ ‫‪4‬‬
‫وضوابطه‪ ،‬إىل غري ذلك من القواعد األصولية اخلاصة ابلرتجيح بني األدلة اليت ظاهرها التعارض‪ ،‬وهو‬ ‫قواعد التعارض‬
‫مبسوط يف كتب األصول أيضاً‪.‬‬ ‫والرتجيح بني األدلة‬
‫اليت ظاهرها التعارض‬
‫والتناقض‬
‫فالفقهاء مع اتفاقهم على االحتجاج ابلقياس واالستدالل به ـ عدا الظاهرية ـ خيتلفون يف شروط القياس‬ ‫اختالفهم يف القياس‬ ‫‪5‬‬
‫وشروط العلة اليت يصح القياس هبا ومسالكها ومناطاهتا‪ ،‬وترجيح علَّة على أخرى عند تعارضها وطرق‬ ‫وضوابطه‬
‫ثبوت العلة وغري ذلك من االختالفات املشروحة يف كتب أصول الفقه‪ .‬حىت أنك ال تكاد ترى أصالً‬
‫واحدا اتفقوا على القول حبجيته يف القياس‪.‬‬
‫كاالستحسان الذي ذهب احلنفية إىل االحتجاج به‪ ،‬وذهب الشافعية إىل عدم االحتجاج به‪ ،‬حىت‬ ‫اختالفهم يف صحة‬ ‫‪6‬‬
‫نقل عن الشافعي قوله (من استحسن فقد شرع)‪ ،‬واالستصالح الذي ذهب إىل االحتجاج به املالكية‬ ‫االعتماد على الكثري‬
‫ومل يعتربه احلنفية أصالً من أصوهلم وإن كانوا أيخذون به ضمناً‪ ،‬وقول الصحايب الذي تقدم بيان‬ ‫من األدلة اإلمجالية‬
‫اختالفهم فيه‪ ،‬وعمل أهل املدينة الذي ذهب إىل اعتباره املالكية دون غريهم‪ ،‬حىت إهنم قدموه على‬
‫القياس‪ ،‬وغري ذلك من األصول الكثرية اليت اختلفوا على االحتجاج هبا أو شروط ذلك االحتجاج‬
‫وحدوده‪.‬‬
‫فقد كان لذلك أثر كبري يف اختالفهم يف كثري من األحكام والفروع‪ ،‬حىت إن الفقيه الواحد كان يرجع‬ ‫اختالف بيئات الفقهاء‬ ‫‪7‬‬
‫عن كثري من أقواله إىل أقوال أخرى إذا تعرض لبيئة جديدة ختالف البيئة اليت كان فيها‪ ،‬ومن ذلك ما‬ ‫وعصورهم‬
‫حدث لإلمام الشافعي بعد مغادرته بغداد إىل مصر‪ ،‬فقد عدل عن كثري من آراءه املاضية اليت استقر‬
‫عليها مذهبه يف بغداد‪ ،‬وقد كثر هذا العدول حىت عد ذلك مذهباً جديداً له‪ ،‬ومنها عدول اإلمام أيب‬
‫حنيفة رضي هللا عنه عن كثري من اآلراء الفقهية نتيجة احتكاكه ابلناس ومعرفته أبحواهلم‪ ،‬ومنها خمالفة‬
‫الصاحبني أيب يوسف وحممد أليب حنيفة يف كثري من املسائل الفقهية خمالفة قائمة على أساس تغري‬
‫الزمان‪ ،‬حىت إهنما نصا يف كثري منها على أن اإلمام لو كان معهما يف عصرمها لرجع عن قوله إىل‬
‫قوهلما‪ ،‬من ذلك مثالً خيار الرؤية‪ ،‬فقد ذهب اإلمام إىل أن رؤية املشرتي لظاهر غرف الدار كاف‬
‫إلسقاط خيار الرؤية الثابت له فيها‪ ،‬وذهب الصاحبان إىل أن خيار الرؤية ال يسقط بتلك الرؤية‬
‫الظاهرة‪ ،‬ومناط االختالف بينهم أن الدور كانت يف عهد اإلمام تسري على نسق واحد تقريباً‪ ،‬فكانت‬
‫رؤية الغرف من الظاهر دالة غالباً على معرفة ما يف داخلها‪ ،‬ولكن األمر تغري يف عهد الصاحبني‪ ،‬وبدأ‬
‫الناس يتفنون يف التنسيق فكان ذلك مناطا لسقوط خيار الرؤية‪ ،‬فلما كان العلم مبا يف داخل الدار‬
‫متوفراً ابلرؤية الظاهرية يف زمن أيب حنيفة سقط هبا خيار الرؤية عنده‪ ،‬وملا مل يعد كذلك يف زمن‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫الصاحبني أفتيا بعدم سقوطه هبا‪.‬‬


‫ومن ذلك أيضاً اختالف الفقهاء يف الشروط املعتربة يف الكفاءة يف الزواج‪ ،‬فقد ذهب‬
‫أبو حنيفة إىل أن الكفاءة معتربة يف مخس صفات هي‪ :‬احلرية‪ ،‬والنسب‪ ،‬واملال‪ ،‬والدين‪ ،‬وإسالم‬
‫اآلابء‪ ،‬وذهب حممد إىل أن الكفاءة يف الدين والتقوى ليست شرطاً‪ ،‬وذهب أبو يوسف إىل أن‬
‫الكفاءة معتربة يف كل تلك الصفات ويضاف إليها احلرفة‪.‬‬
‫وذهب الشافعية إىل أن الكفاءة معتربة يف مخس صفات‪ ،‬هي‪ :‬السالمة من العيوب‪،‬‬
‫واحلرية‪ ،‬والنسب‪ ،‬والعفة‪ ،‬وهي‪ :‬التدين والصالح والبعد عما ال َيل‪ ،‬واحلرفة‪.‬‬
‫وذهب احلنبلية إىل أن الصفات املعتربة يف الكفاءة مخس‪ ،‬هي‪ :‬الدين‪ ،‬والنسب‪ ،‬واحلرية‪،‬‬
‫والصناعة‪ ،‬واليسار‪ ،‬ويف رواية اثنتان فقط مها‪ :‬الدين والنسب ال غري‪،‬‬
‫أما املالكية‪ ،‬فلم يعتربوا من الكفاءة إال الدين‪ ،‬والسالمة من العيوب‪ ،‬واحلرية يف قول‪.‬‬
‫وهذا االختالف راجع إىل اختالف العصور والبيئات اليت عاشوا فيها‪ ،‬وهو عالمة‬
‫صحيَّة على مرونة نصوص التشريع اإلسالمي‪ ،‬وأخذها مببدأ قابلية تغري األحكام بتغري األزمان‪.‬‬‫ِ‬
‫ّ‬
‫ولكن ليس معىن هذا التحلل من كل النصوص الشرعية وفقاً هلذه القاعدة‪ ،‬فان هلذه‬
‫القاعدة ضوابط كثرية توفر هلا احلماية من النزول إىل مستوى العبث والتالعب ابألحكام‪ ،‬وقد نص‬
‫الفقهاء على هذه القواعد بدقة ابلغة‪ ،‬وأحاطوها بسياج منيع من القيود والشروط‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫هذه هي أهم أساليب االختالف بني الفقهاء أوجزهتا يف سبع نقاط‪ ،‬وضربت بعض األمثلة هلا لتزيدها وضوحاً وجالء‪ ،‬وليطلع الدارس من‬
‫خالهلا على مناط االختالف بني الفقهاء يف فروع هذه الشريعة‪ ،‬وأصالته ودقته‬

‫قدمنا يف أول البحث أن كثرياً من الناس اهتم الشريعة اإلسالمية ابلتناقض والتخلخل وعدم الصالحية‬
‫للخلود والبقاء‪ ،‬استناداً إىل ما ابتنيت عليه من اخلالفات املذهبية الكثرية‪ ،‬حىت إنك ال تكاد جتد حكما واحدا متفقاً‬
‫عليه بينهم ـ على حد قوهلم ـ‪.‬‬
‫واآلن بعــد أن استعرضــنا م ـواطن االخــتالف بــني الفقهــاء وأســبابه‪ ،‬نتعــرض لتحليــل هــذه الشــبهات والــرد‬
‫عليها‪،‬‬

‫ونقدم لذلك نبذة نلقي فيها الضوء على طبيعة أسباب االختالف املتقدمة‪ ،‬فهي‪:‬‬
‫وهـذا مــاال دخــل للفقهــاء الــذين أقــاموا صــرح فقــه هــذه الشـريعة فيــه أبــداً‪ ،‬إذ إن اللغــة العربيــة نفســها‬ ‫أسباب ترجع إىل طبيعة‬ ‫‪1‬‬
‫حتت ــوي ه ــذه اخلالف ــات الفقهي ــة وحتتمله ــا‪ ،‬ف ــان يف اللغ ــة الع ــام واخل ــاص‪ ،‬واملطل ــق واملقي ــد‪ ،‬واجملم ــل‬ ‫اللغة العربية وأساليبها‪،‬‬
‫واملش ــرتك واملتش ــابه‪ ،‬وفيه ــا احلقيق ــة واجمل ــاز وغ ــري ذل ــك‪ ،‬ولك ــل قس ــم ون ــوع م ــن ه ــذه األن ـواع وه ــذه‬ ‫وطرق داللة اللفظ فيها‬
‫األسـاليب داللـة خاصـة علـى املعــىن املـراد مـن لفظـه‪ ،‬فبعضـها تعتــرب داللتـه علـى معنـاه قطعيـة ال مثــار‬ ‫على املعىن‬
‫فيهــا للخالفــات‪ ،‬وهــو مــا اتفقــت األنظــار الفقهيــة فيــه مــن غــري خــالف‪ ،‬وبعضــها ظــين الداللــة علــى‬
‫معناه‪ ،‬مبعىن أنه َيتمل املعىن املتبادر منه وَيتمل معان أخرى إىل جانب هذا املعىن‪ ،‬وقد تكـون هـذه‬
‫املعاين متساوية يف قـوة داللـة اللفـظ فيهـا علـى املعـىن أو تفاوتـه‪ ،‬وطبعـي أمـام هـذه االحتمـاالت كلهـا‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫أن ختتلـف األنظـار الفقهيـة وتتعـدد األفهـام البشـرية‪ ،‬ويكفينـا دلـيال علـى صـدق نيـتهم يف بـذل اجلهـد‬
‫كــامال يف فهــم هــذه النصــوص أهنــم اتفق ـوا فيمــا يعتــرب قطعــي الداللــة ومل خيتلف ـوا فيــه‪ ،‬فهــذه أصــول‬
‫العقائد وأصول العبادات تثبت عن طريق القطع فلم خيتلف فيها أحد مـن الفقهـاء‪ ،‬مـن ذلـك فرضـية‬
‫الصالة والزكاة واحلـج‪ ، ،‬ومـن ذلـك أيضـاً صـفات هللا تعـاىل ومالئكتـه وكتبـه ورسـله‪ ،‬وغـري ذلـك مـن‬
‫األحك ــام الكث ــرية ال ــيت ثبت ــت بط ــرق قاطع ــة‪ ،‬وإذا ك ــان األم ــر ك ــذلك فاللغ ــة العربي ــة هن ــا ه ــي مش ــار‬
‫االختالف وال دخل للفقهاء فيه‪ ،‬وال عيب فيهم إذا ما اختلفـوا يف بعـض األحكـام تبعـاً لـذلك‪ ،‬بـل‬
‫العيب فيهم لو مل خيتلفوا‪ ،‬وال عيب يف اللغة العربية إن كانت مثاراً هلذا االختالف أيضاً‪ ،‬ألن شأهنا‬
‫يف ذلك شأن لغات العامل كله‪ ،‬فان هذا التعدد يف قوة داللة اللفـظ علـى املعـىن موجـود يف كـل لغـات‬
‫العامل دون استثناء‪ ،‬هذا إذا مل تكن اللغة العربية أدق تلك اللغات كلها وأصدقها يف التعبـري والداللـة‪،‬‬
‫بــل هــو الصــحيح بشــهادة الكتــاب األجانــب أنفســهم وصــدق مــن قــال‪( :‬والفضــل مــا شــهدت بــه‬
‫األعداء)‪.‬‬

‫م ــن ذل ــك م ــثال اخ ــتالفهم عل ــى قب ــول رواي ــة بع ــض ال ــرواة أو ع ــدم قب ـوهلم‪ ،‬ف ــإن ذل ــك أم ــر ال دخ ــل‬ ‫أسباب ترجع إىل طبيعة‬ ‫‪2‬‬
‫للنزعات الشخصية فيه أبداً‪ ،‬بل هو أمر واقعي يفرض نفسه‪ ،‬فإن السنة الشـريفة الشـريفة كلهـا أو‬ ‫النفس البشرية‬
‫جلها رويت لنا مشافهة عن النيب ‪ ‬عن طريق الرجال‪ ،‬وطبعي أن ختتلـف األنظـار يف تـوثيقهم عدالـة‬
‫وجرحـا ونســياانً وحفظـاً وغــري ذلــك مـن طــرق اجلــرح والتعــديل‪ ،‬فيكــون الـراوي الفــالين ثقــة عنــد فــالن‬
‫قليل الثقة يف نظـر غـريه‪ ،‬فـإن الـنفس البشـرية هـذا ميزاهنـا وذلـك هـو جـل طاقتهـا‪ ،‬وحسـب الفقيـه إن‬
‫يبــذل اجلهــد كــامالً يف الوصــول إىل احلــق يف التج ـريح والتعــديل خملص ـاً هلل قصــده‪ ،‬وإننــا مــن تقصــي‬
‫اتريخ هؤالء العلماء نسـتدل علـى صـدقهم وحسـن نيـتهم يف التجـريح والتعـديل‪ ،‬وهـذه كتـب التـاريخ‬
‫خري شاهد على ذلك‪.‬‬

‫اخ ـ ــتالف أفه ـ ــامهم وتغـ ـ ــاير ف ــإن هللا تع ــاىل خل ــق ه ــذه النف ــوس م ــن ج ــنس واح ــد ه ــو ال ـرتاب‪ ،‬ولكن ــه فاض ــل بينهم ــا يف العق ــول‬ ‫‪3‬‬
‫نظـراهتم لومــور يف حــدود مــا واألفهـام‪ ،‬وهــذا أمــر ال ينكـره أحــد‪ ،‬وإن كــان هلـذا التفــاوت يف األفهــام حـدود جيــب أن يقــف عنــدها‬
‫فطرت عليه النفس البشرية فال يتعداها إىل غريها وإال اعترب شـذوذاً وخروجـا عمـا حتتملـه الـنفس اإلنسـانية أو تسـيغه‪ ،‬فالنـاس يف‬
‫احلدود العامة اليت تسيغها وحتتملها هذه النفس خيتلفون‪ ،‬وال جيوز أن يعتـرب اخـتالفهم هـذا مطعنـا يف‬
‫إنســانيتهم أو أداة للنيــل مــن مــدى الوثــوق هبــم‪ ،‬ألنــه فطــرة هللا الــيت فطــر النــاس عليهــا‪ ،‬قــال تعــاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ـك َحنْ ُـن قَ َس ْـمنَا بَـيْ ـنَـ ُه ْم َمعِ َ‬ ‫ِ‬
‫يشـتَـ ُه ْم ِيف ا ْحلَيَـاة ال ُّـدنْـيَا َوَرفَـ ْعنَـا بَـ ْع َ‬
‫ض ُـه ْم فَـ ْـو َق بَـ ْع ٍ‬
‫ـض‬ ‫ـت َربِّ َ‬
‫(أ َُه ْم يَـ ْقس ُمو َن َر ْمحَ َ‬
‫ـك َخ ْـريٌ ِممَّـا َجيْ َم ُعـو َن) (الزخـرف‪ ،)32:‬أي إن سـنن‬ ‫ـت َربِّ َ‬
‫ـخ ِرّايً َوَر ْمحَ ُ‬ ‫ض ُه ْم بَـ ْعضـاً ُس ْ‬
‫ٍ ِ ِ‬
‫َد َر َجات ليَـتَّخ َذ بَـ ْع ُ‬
‫الكون تتطلب هذا االختالف وتفرضـه‪ ،‬ولـو رجعنـا إىل مـا تغـايرت فيـه أفهـام الفقهـاء ملـا وجـدان فيهـا‬
‫خروجاً عن احلد الذي تقضي به وتفرضه الطبيعة اإلنسانية‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬وملا كانت تلك هي حدود النفس اإلنسانية وطاقاهتا وال ميكـن أن ترقـى إىل مـا‬
‫هو أعلى منه‪ ،‬فإنه يكفي الفقهاء فخرا أهنـم منـاذج إنسـانية مـن الطـراز األول يف صـدقهم وإخالصـهم‬
‫للحق وقوة فهمهم وعلو مداركهم ودقة نظرهتم‪ ،‬والتاريخ شاهد حق على كل ذلك‪.‬‬
‫ألن الش ـرائع إمنــا وجــدت حلمايــة مصــاحل البش ـرية‪ ،‬وهــذه املصــاحل ال بــد متطــورة ومتغــرية‪ ،‬فمــا يعتــرب‬ ‫مرونة بعض األحكام‪ ،‬حبيث‬ ‫‪4‬‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫مصــلحة يف زمــن قــد ال يعــد كــذلك يف زمــن آخــر‪ ،‬ومــا يعتــرب حســنا يف أمــة قــد يعتــرب ســيئاً يف أمــة‬ ‫تكون قابلة للتغري بتغري‬
‫أخرى‪ ،‬وملا كانت الشريعة اإلسالمية شريعة البشرية من يوم أرسل هللا هبـا ‪ ‬إىل يـوم يـرث هللا األرض‬ ‫العصور واألزمان‬
‫ومن عليها‪ ،‬كان البد هلا ـ لتتضمن وتؤمن مصاحل البشـر دائمـاً ـ مـن أن تكـون نصوصـها مرنـة حتتمـل‬
‫هــذا التطــور وتواكبــه‪ ،‬ولكــن لــيس معــىن هــذا أن عليهــا أن تواكــب كــل حتــول وتوافــق كــل تغــري‪ ،‬فقــد‬
‫يكــون التغــري إىل أدىن‪ ،‬وقــد يكــون التغــري يف غــري اخلــط الــذي رمستــه هــذه الشـريعة ممــا أيابه هللا تعــاىل‪،‬‬
‫ولذلك كانت هذه النصوص مرنة يف حدود ال ميكن أن تتعداها‪ ،‬وحمتملة ولكن للمصاحل الـيت رضـي‬
‫هللا عنها‪ ،‬مث إن هنالك من املصاحل ما يعترب اثبتاً غري قابل للتغري‪ ،‬أو أن الشريعة اإلسالمية ال ترضـى‬
‫بتغريه‪ ،‬وهذا هو األهم من أحكام الشريعة‪ ،‬من ذلك مـثالً الكبـائر والفـرائض‪ ،‬فإهنـا أحكـام ال تقبـل‬
‫التغــري‪ ،‬ولــذلك كانــت النصــوص فيهــا قاطعــة واضــحة ال حتتمــل التبــديل والتغــري يف هــذه األحكــام‪،‬‬
‫كحرمة الزىن والسرقة‪ ،‬فإهنمـا مـن الكبـائر الـيت سـتبقى وجيـب أن تبقـى كـذلك يف كـل العصـور‪ ،‬ومـن‬
‫ذلك فرضـية الصـالة والزكـاة واحلـج والصـوم وغريهـا‪ ،‬فإهنـا مـن الفـرائض الـيت ال تقبـل التغيـري والتبـديل‪،‬‬
‫وال جيــوز أن تقبلــه حبــال‪ ،‬أمــا األمــور الــيت حتتمــل ذلــك التغــري بتغــري الزمــان واملكــان‪ ،‬فإمنــا هــي تلــك‬
‫األحكام اليت بنيت على العرف أو اسـتندت يف حتديـدها وتقييـدها إىل العـرف‪ ،‬فإهنـا هـي الـيت تتبـدل‬
‫بتبدل الزمـان‪ ،‬ومـن ذلـك كثـري مـن األحكـام املدنيـة واملاليـة‪ ،‬كالشـروط العقديـة‪ ،‬والكفـاءة يف الـزواج‪،‬‬
‫وغري ذلك مما هو مبني يف كتـب الفقـه وأصـوله‪ ،‬وطبيعـي أمـام هـذا االحتمـال لتطـور األحكـام الـذي‬
‫تتطلبه طبيعـة خلـود هـذه الشـريعة أن ختتلـف أفهـام الفقهـاء وأنظـارهم تبعـاً الخـتالف بيئـاهتم وأزمـاهنم‬
‫كما تقدم‪.‬‬
‫مـن هــذا التحليــل السـريع ألســباب اخــتالف الفقهـاء نالحــظ أنــه ال يوجـد ســبب واحــد‬
‫منــه يرجــع إىل شــهوة فقيــه أو ميولــه اخلاصــة أو مصــلحته الشخصــية‪ ،‬وأهنــا كلهــا أســباب موضــوعية‬
‫تقوم وتنشأ أصالً على أسس سليمة وقواعد قوية‪ ،‬وال ميكن إال أن يكون األمر كذلك‪.‬‬

‫ولرد شبهات املغرضني املتقدمة ميكن أن نقول إبجياز‪:‬‬


‫حىت تكون مطعناً من املطاعن كما تقدم‪.‬‬ ‫إن هذه اخلالفات ليست‬ ‫‪1‬‬
‫شخصية‬
‫وليس مظهراً من مظاهر التخلخل‪ ،‬ألن هذه اخلالفات قائمة على أسس قومية موضوعية كمـا تقـدم‪،‬‬ ‫إن بعض هذه اخلالفات كان‬ ‫‪2‬‬
‫وم ــا ك ــان ك ــذلك ال يك ــون ختلخ ـالً بطبيع ــة احل ــال‪ ،‬ب ــل ه ــو حب ــق ث ــروة تشـ ـريعية تع ــض عليه ــا األم ــة‬ ‫نتيجة تلبية الشريعة لداعي‬
‫اإلســالمية ابلن ـواجز‪ ،‬وتعــدها كن ـزاً تبــاهي بــه األمــم كلهــا‪ ،‬ال ســيما أن هــذه اخلالفــات إمنــا كانــت يف‬ ‫التطور االجتماعي وأتمني‬
‫فـروع الشـريعة ال يف أصـوهلا‪ ،‬ألن األصـول العامـة التعبديـة منهـا واالعتقاديـة والتشـريعية واحـدة يف كــل‬ ‫احلق لكل البشر‬
‫املذاهب اإلسالمية املعتمدة‪ ،‬وال خالف فيها يف شيء‪ ،‬وما تلك االختالفات إال يف ميـدان التطبيـق‬
‫والتفريع علـى هـذه األصـول‪ ،‬ممـا سـهل علـى األمـة التمسـك بـدينها والعمـل مبنهـاج رهبـا سـبحانه‪ ،‬إذ‬
‫أابح أن تســلك أي الطــرق الــيت اســتنبطها األئمــة اجملتهــدون‪ ،‬وأن أتخــذ أبي األق ـوال الــيت قالوهــا ال‬
‫حــرج علــيهم أن يــدعوا قــول فــالن إىل قــول فــالن‪ ،‬مــا دام كــل منهمــا يســري يف اجتهــاده علــى مــنهج‬
‫واضح وأسس مشروعة‪ ،‬فقد ثبت عن النـيب ‪ ‬أنـه قـال‪( :‬أصـحايب كـالنجوم أبيهـم اقتـديتم اهتـديتم)‪،‬‬
‫كما روي عن عمر بن عبد العزيز ‪ ‬قوله‪( :‬ما أحب أن أصحاب حممد ‪ ‬ال خيتلفون‪ ،‬ألنه لـو كـان‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫قوال واحدا لكان الناس يف ضيق‪ ،‬وإهنـم أئمـة يقتـدى هبـم‪ ،‬فلـو أخـذ رجـل بقـول أحـدهم لكـان سـنة)‬
‫وقد علق اإلمام الشاطيب على هذا القول بقوله‪( :‬ومعىن هذا أهنم فتحوا للناس ابب االجتهـاد وجـواز‬
‫االختالف فيه‪ ،‬ألهنم لو مل يفتحوه لكان اجملتهدون يف ضيق‪ ،‬فوسع هللا علـى األمـة بوجـود اخلـالف‬
‫الفروعي فيهم‪ ،‬فكان فتح ابب للدخول يف هذه الرمحة)‪ ،‬كما أن األستاذ الشيخ حممد أاب زهرة يعلـق‬
‫على قول الشاطيب هذا بقوله‪( :‬ولقد كان اختالف الصحابة يف الفروع رائده اإلخالص‪ ،‬لذا مل يكـن‬
‫بينهم تنازع يف الفقه وال تعصب‪ ،‬بل طلب للحقيقة وحبـث عـن الصـواب مـن أي انحيـة أخـذ‪ ،‬ومـن‬
‫أي جهــة اســتبان‪ ،‬وأن ذلــك االخــتالف كــان فيــه شــحذ لألذهــان واســتخراج لألحكــام مــن القــرآن‬
‫واســتنباط قــانون ش ــرعي عــام وإن مل يك ــن مســطورا ‪ ،..‬وحن ــن ال نــرى اخل ــالف يف الفــروع إال مث ـرات‬
‫انضـجة ملــا بثــه القــرآن الكــرمي والسـنة النبويــة يف نفــوس النــاس مــن احلـث علــى البحــث بعقـوهلم وتــدبري‬
‫شؤوهنم ابلشورى ومبادلة الرأي‪ ،‬مستضيئني بسنة النيب ‪ ‬ومستظلني أبحكام القرآن)‪.‬‬
‫هــذا وال بــد بعــد ذكــر مــا تقــدم مــن أق ـوال أئمــة الش ـريعة اإلســالمية مــن االنتبــاه إىل أن‬
‫الكثـريين مـن علمــاء القـانون واحلقــوق الوضـعية يف العصــر احلـديث يتبــاهون ويفخـرون مبــا احنـدر إلــيهم‬
‫مـن تـراث تشـريعي ضـخم عــن الرومــان يضــم كثـريا مــن اآلراء والنظـرايت املختلفـة الــيت نظمهــا الفقهــاء‬
‫والشراح يف العهد الروماين‪ ،‬وال يعـدون حبـال تلـك اآلراء املختلفـة والنظـرايت املتباينـة املتناقضـة أحيـاان‬
‫من النواقص اليت يتمنون أن ال تكون يف مرياثهم القانوين‪ ،‬وال مظهرا من مظاهر التناقض أو التخلـف‬
‫أو عدم الصالحية للبقاء واخللود ‪ ،‬مع أن الفقه الروماين على سعته هذه اليت يفخـرون هبـا ال يعـد إال‬
‫نذرا يسريا إذا مـا قـارانه مبـا َيتويـه فقهنـا العظـيم مـن نظـرايت تشـريعية‪ ،‬وآراء ومـذاهب فقهيـة‪ ،‬وفـروع‬
‫متعددة‪ ،‬وثروة تشريعية ضخمة‪.‬‬
‫ألن هذا فوق طاقتنا‪ ،‬وفيـه حـرج كبـري علينـا‪ ،‬واحلـرج مرفـوع يف الشـريعة اإلسـالمية بنصـوص تشـريعية‬ ‫إن هللا تعاىل – فضال منه‬ ‫‪3‬‬
‫كثــرية‪ ،‬ولكــن املفــروض علينــا هــو بــذل اجلهــد الكامــل للوصــول إىل احلــق‪ ،‬ولــذلك وردت النصــوص‬ ‫وكرما – مل حيتم علينا‬
‫كلهــا تــدل علــى أن اجملتهــد إذا أصــاب كــان لــه أج ـران‪ ،‬وإذا أخطــأ كــان لــه أج ـرا واحــدا‪ ،‬وطبعــي أن‬ ‫الوصول إىل احلق ومعرفة‬
‫اجملته ــد املخط ــئ مل يص ــب حك ــم هللا األص ــلي‪ ،‬ألن احل ــق ال يتع ــدد كم ــا ي ــذهب إىل ذل ــك مجه ــور‬ ‫حكمه األصلي يف كل‬
‫الفقهاء‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك لزم أن يكـون املصـيب مـن اجملتهـدين واحـدا‪ ،‬والبـاقون الـذين خيالفونـه‬ ‫مسألة من املسائل اليت‬
‫خمطئني‪ ،‬ولكن هذا اخلطأ مرفوع يف الشريعة‪ ،‬وأن ما توصلوا إليه من أحكـام جـائز تقليـده والعمـل بـه‬ ‫شرعها لنا‬
‫رخصـة مــن الشــارع‪ ،‬وذلـك ضــرورة أننــا مل نســتطيع أن جنـزم ابحلــق الــذي قضـى بــه هللا تعــاىل يف ســابق‬
‫علمه وإرادته‪ ،‬وبذلك يكون ذلك االختالف مأذوان به مـن الشـارع ومرضـيا عنـه منـه‪ ،‬وال جيـوز حبـال‬
‫أن يعـد مظهـرا مــن مظـاهر التخلخــل‪ ،‬بــل هــو حبـق مظهــر مــن مظـاهر الواقعيــة واالعـرتاف ابلقــدرات‬
‫البشرية احملدودة اليت تقرها السلطة اإلهلية وتباركهـا‪ ،‬فتجعـل للمخطـئ مـن اجملتهـدين أجـرا رغـم خطئـه‬
‫وعــدم قدرتــه علــى الوصــول إىل احلــق‪ ،‬فحســبه يف ذلــك أنــه بــذل جهــده الــذي مـ َّـن هللا تعــاىل بــه عليــه‬
‫كامال‪ ،‬وال ميكن أن يقال‪ :‬إن معىن ذلك أن كل إنسان جاهل يعمل رأيه يف فهم النصوص مث يقـول‬
‫هـذا جهـدي وأان مـأجور عليــه فيـأيت مـن األحكــام مبـا مل تقـره شـريعة وال عقــل‪ ،‬إذ اجلـواب علـى ذلــك‬
‫وبني ال لبس فيه‪ ،‬وهو أن هللا أمران ببذل اجلهد كامال‪ ،‬وأدار الثواب والعقـاب عليـه‪ ،‬وال يعـد‬ ‫واضح ِّ‬
‫اجلهد مبذوال كامال إال إذا حصل اإلنسان اآللة اليت هبا يستطيع فهم األحكام مـن النصـوص‪ ،‬واآللـة‬
‫هذه هي ما يسـميه الفقهـاء واألصـوليون مبلكـة االجتهـاد وشـروطه‪ ،‬فمـا مل َيصـل اإلنسـان هـذه اآللـة‬
‫أسباب اختالف الفقهـ ــاء‬

‫فهو مقصر ومل يبذل اجلهد‪ ،‬وبذلك ال يدخل يف زمرة املأجورين‪.‬‬


‫ومــا تتضــمنه مــن احتمــاالت ومرونــة تقتضــيها طبيعــة التش ـريع‪ ،‬فإنــه إن كــان مــن األفضــل أن تكــون‬ ‫إن االختالف يف فهم‬ ‫‪4‬‬
‫األحكام التفصيلية والقواعد اجلزئية واضحة وحمددة املعىن بصورة ال تقبل االخـتالف يف فهمهـا‪ ،‬فإنـه‬ ‫النصوص التشريعية ال بد‬
‫مـن األفضـل – دون شـك – يف النصــوص التشـريعية الدسـتورية أن تكـون مرنــة حمتملـة لعـدة معــان يف‬ ‫منه نظرا لطبيعة تلك‬
‫حــدود مــا تقضــي بــه احلاجــة والضــرورة‪ ،‬لــيمكن أن تصــاغ منهــا تلــك امل ـواد اجلزئيــة وتلــك األحكــام‬ ‫النصوص‬
‫الفرعيــة علــى وفــق احلاجــة املتغــرية مــن زمــن إىل زمــن ومــن بيئــة إىل بيئــة‪ ،‬ولــو كانــت تلــك النصــوص‬
‫حمــددة حبيــث ال تقبــل االخــتالف وال حتتملــه‪ ،‬لكــان النــاس يف عســر شــديد ويف ضــيق‪ ،‬وملــا أمكــن‬
‫اخللود ملثل هذه القواعد واألسس‬
‫بعد ذلك العرض املوجز ال بد أن ننتهي إىل أن ذلك االختالف بني الفقهاء يف فهم النصوص وتفصيل األحكام إمنا هو َمعلم مـن معـامل خلـود‬
‫هــذه الشـريعة وصــالحيتها لكــل زمــان ومكــان‪ ،‬ولــيس عيبــا فيهــا مطلقــا‪ ،‬بــل العيــب فيهــا أن ال تكــون كــذلك‪ ،‬ألن هــذه املرونــة الــيت تتمتــع هبــا‬
‫نصوص التشريع اإلسالمي اليت هي السبب األول الختالف الفقهاء ضرورة حتمية لكل تشريع أريد له أن يدوم ويعـيش يف كـل عصـر ومصـر‪،‬‬
‫يؤمن العدالة واحلق واليسر بني الناس مجيعا على أسس موضـوعية بعيـدة عـن النـزوات والشـهوات‪ ،‬وال مكـان مطلقـا ملـا يطلقـه بعـض املغرضـني‬
‫أو اجلاهلني بطبيعة التشريع اإلسالمي وخصائصه من هتم الشريعة منها براء‪ ،‬وملَ ال‪ ،‬فهي تنزيل من حكيم محيد يعلم السر وأخفـى‪ ،‬خلـق هـذه‬
‫البشرية وأنزل هلا من األحكام ما يُصلح شأهنا ويقيم العدل يف أرجائها‪ ،‬ويؤمن مصاحلها على أحسن وجه وأكمل نظام‪ ،‬رمحة هبا وحبـا فيهـا‬
‫وختفيفا عنها‪ ،‬لتكون حبق خري أمة أخرجت للناس‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫علم أصول الفقه عبارة عن جمموع طرق الفقه وكيفية االستدالل هبا وكيفية حال املستدل هبا‪ ،‬وأبواب أصول الفقه أو‬
‫موضوعاته اليت يتناوهلا البحث فيه تشمل على مباحثه األربعة‪:‬‬

‫األدلة اليت تستمد منها األحكام الشرعية ويف هذا القسم تتجلى سعة املصادر التشريعية يف‬ ‫األدلة الشرعية‬ ‫املبحث األول‬
‫الشريعة اإلسالمية ومرونتها وخصوبتها وصالحيتها للتقنني يف كل عصر ولكل أمة‪.‬‬
‫مباحث األحكام الشرعية األربعة ويف هذا القسم تظهر أنواع ما شرع يف اإلسالم من‬ ‫األحكام الشرعية‬ ‫املبحث الثاين‬
‫األحكام‪ ،‬ويتجلى عدل هللا ورمحته يف رفع احلرج عن املكلفني وإرادة اليسر هبم‪.‬‬
‫القواعد األصولية اللغوية اليت تطبق يف فهم األحكام من نصوصها ويف هذا القسم تظهر دقة‬ ‫القواعد األصولية‬ ‫املبحث الثالث‬
‫اللغة العربية يف داللتها على املعاين ومهارة علماء التشريع اإلسالمي يف استثمارهم األحكام من‬ ‫اللغوية‬
‫النصوص‪ ،‬وسبلهم القومية يف إزالة خفائها ويف تفسريها وأتويلها‪.‬‬
‫القواعد األصولية التشريعية اليت تطبق يف فهم األحكام من نصوصها ويف االستنباط فيما ال‬ ‫القواعد األصولية‬ ‫املبحث الرابع‬
‫نص فيه‪ ،‬وهذا هو لب العلم وروحه‪ ،‬وفيه يتجلى مقصد الشارع العام من تشريع األحكام ‪،‬‬ ‫التشريعية‬
‫وما أنعم هللا به على عباده من رعاية مصاحلهم‪.‬‬

‫ابواب اصول الفقه‬


‫القواعد‬ ‫القواعد‬ ‫األحكام الشرعية‬ ‫االدلة الشرعية‬
‫األصولية‬ ‫األصولية‬ ‫احلاكم‬ ‫احملكوم‬ ‫احملكوم‬ ‫احلكم‬ ‫املختلف‬ ‫املتفق‬
‫التشريعية‬ ‫اللغوية‬ ‫عليه‬ ‫فيه‬ ‫الوضعي‬ ‫التكليفي‬ ‫فيها‬ ‫عليها‬
‫املقصد العام من‬ ‫طرق‬ ‫اخلالف‬ ‫ويشرتط يف‬ ‫شرط صحة‬ ‫السبب‬ ‫اإلجياب‬ ‫االستحسان‬ ‫القرآن‬
‫التشريع‬ ‫االستدالل‬ ‫فيما‬ ‫املكلف‬ ‫التكليف‬
‫فيما هو حق هللا‪،‬‬ ‫من النص‬ ‫يعرف به‬ ‫لصحة‬ ‫ابلفعل‬ ‫الشرط‬ ‫الندب‬ ‫املصلحة‬ ‫السنة‬
‫عند اجلمهور‬ ‫حكم هللا‬ ‫تكليفه‬ ‫املرسلة‬
‫االجتهاد‬ ‫طرق‬ ‫شرعا‬ ‫املانع‬ ‫التحرمي‬ ‫العرف‬ ‫االمجاع‬
‫نسخ احلكم‬ ‫االستدالل‬ ‫الرخصة‬ ‫الكراهة‬ ‫شرح من قبلنا‬ ‫القياس‬
‫التعارض والرتجيح‬ ‫من النص‬ ‫العزمية‬ ‫اإلابحة‬ ‫قول الصحايب‬
‫عند احلنفية‬ ‫الصحيح‬ ‫سد الذرائع‬
‫الباطل‬ ‫االستصحاب‬
‫االداء‬
‫القضاء‬

‫‪0‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املبحث األول ‪ :‬االدلة الشرعية‬

‫األصول اليت يبىن عليها الفقه هي األدلة اإلمجالية للفقه أو هي‪ :‬أدلة األحكام الشرعية‬

‫اهلادي إىل أي شيء حسي أو معنوي‪ ،‬خري أو شر‪ ،‬وأما معناه يف اصطالح األصوليني‬ ‫الدليل معناه يف اللغة العربية‬ ‫تعريف‬
‫فهو‪ :‬ما يستدل ابلنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو‬ ‫الدليل‬
‫الظن‪ .‬وأدلة األحكام‪ ،‬وأصول األحكام‪ ،‬واملصادر التشريعية لألحكام‪ ،‬ألفاظ مرتادفة‬
‫معناها واحد‪.‬‬
‫عرف الدليل أبنه‪ :‬ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل‬ ‫وبعض األصوليني ّ‬
‫القطع‪ ،‬وأما ما يستفاد منه حم شرعي على سبيل الظن‪ ،‬فهو أمارة ال دليل‪.‬‬
‫الدليل هو ما يستفاد منه حكم شرعي عملي مطلقا‪ ،‬أي سواء أكان على سبيل القطع‬ ‫يف اصطالح األصوليني‬
‫قسموا الدليل إىل قطعي الداللة‪ ،‬وإىل ظين الداللة‪.‬‬
‫أم علي سبيل الظن‪ ،‬وهلذا ّ‬

‫هي األدلة أو املصادر الشرعية ملعرفة حكم الشرع اإلسالمي يف أمر معني‪ ،‬أو مسألة بعينها‪.‬‬

‫قسمان‪ ،‬مها‪:‬‬
‫وهي مصادر التشريع اإلسالمي ْ‬ ‫واألدلة‬
‫‪ -1‬مصادر متفق عليها‪.‬‬
‫‪ -2‬مصادر خمتلف فيها‪.‬‬

‫َّضح ذلك ِم ْن خالل الشكل التايل‪ -‬األدلة ‪ -‬مصادر التشريع اإلسالمي ‪:-‬‬
‫ويت ِ‬

‫خمتلف فيها‬ ‫متفق عليها‬


‫االستحسان‬ ‫‪1‬‬ ‫الكتاب‬ ‫‪1‬‬
‫املصلحة املرسلة‬ ‫‪2‬‬ ‫السنة‬ ‫‪2‬‬
‫العرف‬ ‫‪3‬‬ ‫االمجاع‬ ‫‪3‬‬
‫شرح من قبلنا‬ ‫‪4‬‬ ‫القياس‬ ‫‪4‬‬
‫قول الصحايب‬ ‫‪5‬‬
‫سد الذرائع‬ ‫‪6‬‬
‫االستصحاب‬ ‫‪7‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫‪ -1‬هو أن الدليل إما وحي‪ ،‬أو غري وحي‬ ‫والضابط‬


‫‪ -1‬إما متلو فهو القرآن‬ ‫والوحي‬ ‫احلاصر‬
‫‪ -2‬غري متلو فهو السنة‬ ‫لودلة‪:‬‬
‫‪ -1‬فإن كان رأي اجملتهدين من األمة فهو اإلمجاع‬ ‫غري وحي‬
‫‪ -2‬وإن كان إحلاق أمر آبخر يف حكم إلشرتاكهما يف العلة فهو القياس‬
‫‪ -3‬وإن مل يكن شيئاً من ذلك فهو اإلسـتدالل‪:‬‬
‫وهو متنوع إىل أنواع‪ ،‬واتفق العلماء على أن مرتبة االستدالل ابألدلة املتفق عليها‪ ،‬تبدأ ابلقرآن‪ ،‬فالسنة‬
‫فاإلمجاع‪ ،‬فالقياس‪ ،‬والدليل على ذلك‪ :‬حديث معاذ بن جبل رضي هللا عنه الذي بعثه رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم قاضياً ابإلسالم إىل اليمن فقال له الرسول‪( :‬كيف تقضي اي معاذ إذا عرض لك قضاء‬
‫؟ قال‪ :‬أقضي بكتاب هللا‪ :‬قال‪ :‬فإن مل جتد يف كتاب هللا ؟ قال‪ :‬فبسنة رسول هللا ؛ قال‪ :‬فإن مل جتد‬
‫يف سنة رسول هللا ؟ قال‪ :‬أجتهد برأيي وال آلو – أي ال أقصر يف االجتهاد – فضرب رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم على صدره‪ ،‬وقال‪ :‬احلمد هلل الذي وفق رسول رسول هللا ملا يرضي هللا‬
‫ورسوله)(‪.)76‬‬
‫وكان أبو بكر الصديق رضي هللا عنه " إذا ورد عليه اخلصوم نظر يف كتاب هللا‪ ،‬فإن وجد فيه‬
‫ما يقضي به قضى به‪ ،‬وإن مل يكن يف الكتاب وعلم عن رسول هللا يف ذلك األمر سنة قضى هبا‪ ،‬فإن‬
‫أعياه أن جيد يف سنة رسول هللا مجع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم‪ ،‬فإن أمجع رأيهم على أمر قضى‬
‫به"‪ ،‬وكذلك كان يفعل عمر‪ ،‬وبقية الصحابة و أقرهم على هذه اخلطة املسلمون‪.‬‬

‫‪ -2‬إما نقلية أو عقلية‬


‫هي الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلمجاع والعرف‪ ،‬وشرع من قبلنا‪ ،‬ومذهب الصحايب‬ ‫فاألدلة النقلية‪:‬‬
‫وهي القياس واملصاحل املرسلة‪ ،‬واالستحسان‪ ،‬واالستصحاب‪ ،‬والذرائع‪ ،‬وكل نوع منها مفتقر إىل‬ ‫فاألدلة العقلية‪:‬‬
‫اآلخر‬
‫فإن االجتهاد ال يقبل بدون ارتكاز على أساس األدلة النقلية‪ ،‬واألدلة العقلية ال بد فيها من التعقل والتدبر والنظر الصحيح‪.‬‬
‫‪ -3‬ويالحظ أن هذه األدلة‪ :‬إما أن تكون أصالا مستقالا بنفسه يف التشريع أو ليست أصالا مستقالا بنفسه‬
‫أن تكون أصالا مستقالا بنفسه وهو القرآن‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلمجاع‪ ،‬وما يتعلق هبا كاالستحسان‪ ،‬والعرف‪ ،‬ومذهب‬
‫الصحايب‬ ‫يف التشريع‬
‫وهو القياس‬ ‫ليست أصالا مستقالا بنفسه‬
‫ومعىن كون الدليل أصالً مستقالً بنفسه يف التشريع‪ :‬هو أنه ال َيتاج فيه إثبات احلكم به إىل شيء آخر‪ .‬وأما القياس‬
‫فإنه َيتاج يف إثبات احلكم به إىل أصل وارد يف الكتاب‪ ،‬أو السنة‪ ،‬أو اإلمجاع‪ ،‬وَيتاج أيضاً إىل معرفة علة حكم‬
‫األصل‪ .‬واحتياج اإلمجاع إىل مستند ال جيعله أصالً غري مستقل بنفسه؛ ألن ذلك مطلوب فقط عند تكوين اإلمجاع‬
‫وانعقاده‪ ،‬ال عند االستدالل‪ ،‬خبالف القياس‪ ،‬فإنه عند االستدالل به على احلكم َيتاج إىل معرفة األصل والعلة‬

‫‪ 76‬سبق ختريج هذا احلديث ص (‪.)33‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫أوالا‪ :‬األدلة املتفق عليها‪:‬‬

‫الكتاب‬
‫وهو القرآن الكرمي الذي نزل على النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬عن طريق أمني الوحي ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬وجاءان‬
‫منجما‬
‫خمرجا من ملة اإلسالم‪ ،‬وقد نزل هذا القرآ ُن الكرمي ً‬
‫كفرا ً‬‫العشر‪ ،‬فمن أنكر منه حرفًا فقد َك َفر ً‬
‫ابلتواتر بقراءاته َ‬
‫مكي‪ ،‬وهو ما نزل قبل اهلجرة‪ ،‬ومنه مدينٌّ‪ ،‬وهو‬
‫يف مدى ثالث وعشرين سنة‪ ،‬وهي سنوات الرسالة احملمدية‪ ،‬ومنه ٌّ‬
‫ما نزل بعد اهلجرة‪ ،‬وعدد ُس َوره ( ‪ )114‬سورة‪ ،‬وعدد أجزائه (‪ )30‬جزءًا‪،‬‬

‫حقيقة القرآن الكرمي‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫خصائص القرآن الكرمي‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫من وجوه اإلعجاز يف القرآن الكرمي‬ ‫املطلب الثالث‪:‬‬
‫األحكام اليت جاء هبا القرآن الكرمي‬ ‫املطلب الرابع‪:‬‬
‫مرتبة القرآن الكرمي وحجيته‬ ‫املطلب اخلامس‪:‬‬
‫داللة القرآن على األحكام‬ ‫املطلب السادس‪:‬‬
‫أسلوب القرآن الكرمي يف عرض األحكام‬ ‫املطلب السابع‪:‬‬
‫بعض القوائد االصولية املتعلقة ابلقرآن‬ ‫املطلب الثامن‪:‬‬
‫بعض األمور اليت جيب مراعاهتا لالنتفاع بكتاب هللا تعاىل‬ ‫املطلب التاسع‪:‬‬

‫املطلب األول‪ :‬حقيقة القرآن الكرمي‬


‫ِ‬
‫مصدر قرأ‪ ،‬كالغفران مصدر غفر‪ ،‬يقال قرأ قراءة وقرآانً ومنه قوله تعاىل‪ :‬ال ُحتَِّرْك بِِه ل َسانَ َ‬
‫ك‬ ‫الفرع األول‪ :‬القرآن يف اللغة (‪:)77‬‬
‫لِتَـ ْع َج َل بِِه * إِ َّن َعلَْيـنَا مجَْ َعهُ َوقُـ ْرآنَهُ * فَِإذَا قَـَرأ َْانهُ فَاتَّبِ ْع قُـ ْرآنَهُ * ُمثَّ إِ َّن َعلَْيـنَا بَـيَانَهُ‪.78‬‬
‫عرف األصوليون القرآن الكرمي أبنه‪:‬‬ ‫الفرع الثاين‪ :‬يف االصطالح(‪:)79‬‬
‫"كالم هللا تعاىل املنزل على الرسول حممد صلي هللا عليه و سلم‪ ،‬ابللسان العريب‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫لإلعجاز أبقصر سورة منه‪ ،‬املكتوب يف املصاحف‪ ،‬املنقول إلينا ابلتواتر‪ ،‬املتعبد‬
‫بتالوته‪ ،‬املبدوء بسورة الفاحتة‪ ،‬املختوم بسورة الناس"‬

‫‪ 77‬لسان العرب‪ :‬ابن منظور‪ )333/13( ،‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ 78‬سورة القيامة‪ :‬اآلايت (‪.)19 – 16‬‬
‫‪ 79‬اإلحكام يف أصول األحكام‪ :‬اآلمدي‪ ،)82 /1( ،‬التقرير والتحبري‪ :‬ابن أمري احلاج (‪.)213 /2‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫"الكالم املعجز املنزل على النيب حممد صلي هللا عليه و سلم املكتوب يف املصاحف‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫املنقول ابلتواتر‪ ،‬املتعبد بتالوته"‪.‬‬
‫"اللفظ املنزل على النيب حممد صلي هللا عليه و سلم من أول الفاحتة إىل آخر سورة‬ ‫‪3‬‬
‫الناس"‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬خصائص القرآن الكرمي(‪:)80‬‬


‫يتبني من التعاريف السابقة أهم خواص القرآن الكرمي و مميزاته اليت تتمثل فيما يلي‪-:‬‬

‫والدليل على ذلك هو إعجازه‪.‬‬ ‫القرآن الكرمي كالم هللا تعاىل‪ ،‬بلفظه‬ ‫‪1‬‬

‫واإلعجاز هو‪ :‬ارتفاؤه يف البالغة إىل حد خارج عن طوق البشر‪،‬‬ ‫ومعناه‪ ،‬وليس كالم أي خلق من‬
‫وهلذا عجز العرب عن معارضته عند حتديهم له‪ ،‬ويتحقق اإلعجاز بثالثة أمور‬ ‫خلقه‪.‬‬
‫هي‪:‬‬

‫ا‪ -‬التحدي‪ :‬وهو طلب املباراة واملنازلة‪.‬‬


‫ب‪ -‬وجود املقتضى إىل مدافعة املتحدي ‪.‬‬
‫ج‪ -‬عدم وجود مانع من املباراة‪.‬‬

‫َّاس ِاب ْحلَ ِّق فَ َم ِن ْاهتَ َدى فَلِنَـ ْف ِسه‪.81‬‬


‫اب لِلن ِ‬ ‫قال تعاىل‪ :‬إِ َّان أَنْـزلْنَا علَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫إنه كالم هللا تعاىل املنزل على رسوله‬ ‫‪2‬‬

‫َّاس بَ ِشرياً َونَ ِذيراً َولَ ِك َّن أَ ْكثَـَر الن ِ‬


‫َّاس ال‬ ‫اك إِالَّ َكافَّةً لِلن ِ‬
‫وقال تعاىل‪َ  :‬وَما أ َْر َس ْلنَ َ‬ ‫حممد صلي هللا عليه و سلم‬
‫‪82‬‬
‫يَـ ْعلَ ُمو َن‪‬‬ ‫والرسول صلي هللا عليه و سلم مل‬
‫يكن إال مبلغا واتليا له‪.‬‬

‫يقول هللا تعاىل‪ :‬إِ َّان أَنْـَزلْنَاهُ قُـ ْرآانً َعَربِيّاً لَ َعلَّ ُك ْم تَـ ْع ِقلُو َن‪.83‬‬ ‫إنه نزل ابلعربية‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 80‬املستص ــفى‪ :‬الغـ ـزايل‪ ،)86 /1( ،‬روض ــة الن ــاظر‪ :‬اب ــن ب ــدران‪ ،)184 /1( ،‬كش ــف األسـ ـرار‪ :‬البخ ــاري‪ ،)24 /1( ،‬التقري ــر‬
‫والتحبري‪ :‬ابن أمري احلاج‪ ،)213 /2( ،‬فواتح الرمحوت شرح مسلم الثبوت‪ :‬ابن نظام الدين‪.)9 /2( ،‬‬
‫‪ 81‬سورة الزمر‪ :‬من اآلية (‪.)41‬‬
‫‪ 82‬سورة سـبأ‪ :‬اآلية (‪.)28‬‬
‫‪ 83‬سورة يوسف‪ :‬اآلية (‪.)2‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وقال تعاىل‪ :‬قُـ ْرآانً َعَربِيّاً َغ ْ َري ِذي ِع َو ٍج لَ َعلَّ ُه ْم يَـتَّـ ُقو َن‪.84‬‬

‫وقال تعاىل‪َ  :‬ولََق ْد نـَ ْعلَ ُم أ ََّهنُْم يَـ ُقولُو َن إَِّمنَا يـُ َعلِّ ُمهُ بَ َشٌر لِ َسا ُن الَّ ِذي يـُلْ ِح ُدو َن إِلَيْ ِه‬

‫أَ ْع َج ِم ٌّي َوَه َذا لِ َسا ٌن َعَرِ ٌّ‬


‫يب ُمبِ ٌ‬
‫ني‪.85‬‬
‫مث إن كتاب كل نيب كان بلسان قومه وأما غري العرب فعليهم أن يتعلموا‬
‫العربية‪.‬‬
‫فاحلديث القدسي‪ :‬هو الذي يقوله النيب صلي هللا عليه و سلم ويسنده إىل هللا‬ ‫إنه خيتلف عن األحاديث القدسية والنبوية‬ ‫‪4‬‬
‫تعاىل‪ ،‬ولكن ال يقصد به اإلعجاز‪ ،‬وال التعبد بتالوته‪ ،‬وال جتوز الصالة به وإن‬
‫كان اللفظ واملعىن من هللا تعاىل‬
‫واحلديث النبوي‪ :‬هو الذي يقوله النيب صلي هللا عليه و سلم ‪ ،‬وال يقصد به‬
‫اإلعجاز‪ ،‬وال التعبد بتالوته‪ ،‬وإن كان املعىن من هللا تعاىل واللفظ من عند النيب‬
‫صلي هللا عليه و سلم‪.‬‬
‫وال تصح هبا الصالة‪ ،‬وال يشرتط لقراءهتا الطهارة‪ ،‬وال تنسحب عليها‬ ‫ترمجة القرآن الكرمي ال تعترب قرآانا‬ ‫‪5‬‬

‫أحكام القرآن الكرمي‪.‬‬


‫وإمنا ال تعترب الرتمجة قرآانً ألن القرآن لفظه ومعناه من عند هللا تعاىل‪ ،‬وابلرتمجة‬
‫يفقد كون لفظه من عند هللا تعاىل‪ ،‬فالرتمجة تفسري‪.‬‬
‫أي أن ينقله مجع عن مجع يؤمن تواطؤهم على الكذب‪ ،‬فما نقل بطريق اآلحاد‬ ‫يشرتط فيه التواتر‪:‬‬ ‫‪6‬‬
‫ال يعترب قرآانً‪ .‬وهذه خاصية إنفرد هبا القرآن الكرمي على غريه من الكتب‬
‫السماوية‪.‬‬

‫أنه يصعب فهمه أو حفظه أو استنباط بل هو ميسر رغم إعجازه‪ ،‬قال‬ ‫ليس معىن كون القرآن معجزا األحكام منه‬ ‫‪7‬‬

‫تعاىل‪َ  :‬ولََق ْد يَ َّس ْرَان الْ ُق ْرآ َن لِل ِّذ ْك ِر فَـ َه ْل ِم ْن ُم َّدكِ ٍر‪.86‬‬
‫ِ‬
‫وقال عز وجل‪ :‬فَِإَّمنَا يَ َّس ْرَانهُ بِل َسانِ َ‬
‫ك لَ َعلَّ ُه ْم يَـتَ َذ َّكُرو َن‪.87‬‬
‫الذي تكفل هللا تعاىل حبفظه من كل تبديل أو تغيري‪ .‬قال تعاىل‪ :‬إِ َّان َْحن ُن نـََّزلْنَا‬ ‫هو الكتاب الوحيد‬ ‫‪8‬‬
‫ال ِّذ ْكَر َوإِ َّان لَهُ َحلَافِظُو َن‪.88‬‬

‫‪ 84‬سورة الزمر‪ :‬اآلية (‪.)28‬‬


‫‪ 85‬سورة النحل‪ :‬اآلية (‪.)103‬‬
‫‪ 86‬سورة القمر‪ :‬اآلية (‪.)22‬‬
‫‪ 87‬سورة الدخان‪ :‬اآلية (‪.)58‬‬
‫‪ 88‬سورة احلجر‪ :‬اآلية (‪.)9‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املطلب الثالث‪ :‬من وجوه اإلعجاز يف القرآن الكرمي‪:89‬‬


‫أما وجوه إعجازه فكثرية منها‪:‬‬
‫فصاحة األلفاظ وبالغة التعبري وقوة التأثري‬ ‫‪1‬‬
‫ض َوُه ْم ِم ْن بَـ ْع ِد‬
‫وم * ِيف أ َْد َىن األ َْر ِ‬
‫الر ُ‬
‫ت ُّ‬‫إخباره بوقائع حتدث يف املستقبل وقد حدثت فعالً من ذلك قول تعاىل‪ :‬امل * ُغلِب ِ‬
‫َ‬ ‫‪2‬‬
‫ني‪.90‬‬ ‫َغلَبِ ِهم سيـ ْغلِبو َن * ِيف بِ ْ ِ ِ‬
‫ض ِع سن َ‬ ‫ْ ََ ُ‬
‫إخباره بوقائع األمم السابقة اجملهولة أخبارها عند العرب جهالً اتماً لعدم وجود ما يدل عليها من آاثر ومعامل‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫‪3‬‬
‫ك ِم ْن قَـْب ِل َه َذا‪.91‬‬
‫ت َوال قَـ ْوُم َ‬
‫ت تَـ ْعلَ ُم َها أَنْ َ‬ ‫وح َيها إِلَْي َ‬
‫ك َما ُكْن َ‬ ‫ك ِم ْن أَنْـبَ ِاء الْغَيْ ِ‬
‫ب نُ ِ‬ ‫‪‬تِْل َ‬
‫إشارته إىل بعض احلقائق الكونية اليت أثبتها العلم احلديث وذلك ابنطباق آي القرآن على ما يكتشفه العلم اليقيين‪ .‬قال‬ ‫‪4‬‬
‫امهَا َو َج َعلْنَا ِم َن ال َْم ِاء ُك َّل َش ْي ٍء َح ٍّي أَفَال يـُ ْؤِمنُو َن‪،92‬‬
‫ض َكانـَتَا َرتْقاً فَـ َفتَـ ْقنَ ُ‬ ‫َن َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َواأل َْر َ‬ ‫ين َك َفُروا أ َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫تعاىل‪:‬أ ََوَملْ يَـَر الذ َ‬
‫الرَاي َح لََواقِ َح‪.93‬‬
‫ومن ذلك قوله تعاىل‪َ  :‬وأ َْر َسلْنَا ِّ‬

‫ويشري إىل هذا اإلعجاز وصف النيب صلي هللا عليه و سلم للقرآن الكرمي بقوله‪( :‬حبل هللا املتني والنور املبني والشفاء النافع عصمة‬
‫ملن متسك به وجناة ملن تبعه‪ ،‬ال يعوج فيقوم وال يزيع فيستعتب وال تنقضي عجائبه وال تفىن غرائبه وال خيلق على كثرة الرد)‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود‪( :‬إذا أردمت العلم فأثريوا القرآن فإن فيه علم األولني واألخرين)‪.‬‬
‫وقال عنه الوليد بن املغرية يف وقت كان فيه ألد أعداء الرسول صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إن له حلالوة وإن عليه لطالوة وإن أعاله ملثمر وإن‬
‫أسفله ملغدق وإنه يعلو وال يعلى وما هو بقول بشر )‪.‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬األحكام اليت جاء هبا القرآن الكرمي(‪:)94‬‬


‫األحكام العامة اليت جاء هبا القرآن الكرمي هي‪ :‬األحكام االعتقادية واخللقية والعملية‪.‬‬

‫هي اليت تتعلق مبا جيب على املكلف إعتقاده من مباين اإلميان كاإلميان ابهلل‪ ،‬ومالئكتة‪،‬‬ ‫األحكام االعتقادية‬ ‫الفرع األول‬
‫وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬والقضاء والقدر خريه وشره‪ ،‬والبعث واحلساب …… اخل‬
‫وهي اليت تتعلق مبا جيب على املكلف أن يتحلى به من الفضائل ويتخلى عنه من الرذائل‪.‬‬ ‫األحكام الوجدانية‬ ‫الفرع الثاين‬
‫أو اخللقية‪:‬‬

‫‪ 89‬أصول الفقه‪ :‬عبد الوهاب خالف‪ ،‬ص(‪ ،)28‬الوسيط يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬الزحيلي‪ ،‬ص(‪.)224‬‬
‫‪ 90‬سورة الروم‪ :‬اآلايت (‪.)1-3‬‬
‫‪ 91‬سورة هود‪ :‬من اآلية (‪.)49‬‬
‫‪ 92‬سورة األنبياء‪ :‬اآلية (‪.)30‬‬
‫‪ 93‬سورة احلجر‪ :‬من اآلية (‪.)22‬‬
‫‪ 94‬أصول الفقه‪ :‬عبد الوهاب خالف‪ ،‬ص(‪ ،)33‬الوسيط يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬الزحيلي‪ ،‬ص(‪.)228‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وهي اليت تتعلق مبا يصدر عن املكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات وهذا النوع هو‬ ‫أما األحكام العملية‬ ‫الفرع الثالث‬
‫فقه القرآن الكرمي‪ .‬وينقسم إىل قسمني‪:‬‬
‫البند األول‪ :‬أحكام العبادات‪ :‬وهي ما يقصد هبا تنظيم العالقة بني اإلنسان وربه سبحانه وتعاىل من صالة‪ ،‬وصيام‪،‬‬
‫وميني …‪ ..‬وحنو ذلك‪.‬‬ ‫وزكاة‪ ،‬وحج‪ ،‬وجهاد‪ ،‬ونذر‪،‬‬

‫البند الثاين‪ :‬أحكام املعامالت‪ :‬من عقود‪ ،‬وتصرفات‪ ،‬وعقوابت وجناايت‪ ،‬وغريها مما يقصد به تنظيم عالقات‬
‫الناس بعضهم ببعض سواء أكانوا أفراداً أم مجاعات‪.‬‬
‫وهذه األحكام تتفرع إىل ما يلي‪:‬‬
‫أحكام األحوال الشخصية ‪ :‬وتتعلق ابألسرة من بدء تكوينها ويقصد هبا عالقة الزوجني واألقارب بعضهم‬ ‫‪-1‬‬
‫ببعض‪.‬‬
‫األحكام املدنية‪ :‬وهي اليت تتعلق مبعامالت األفراد ومبادالهتم‪ ،‬من بيع وإجارة ……‪.‬اخل‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫األحكام اجلنائية‪ :‬وهي اليت تتعلق مبا يصدر من املكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة‪ ،‬ويقصد‬ ‫‪-3‬‬
‫هبا حفظ حياة الناس‪ ،‬وأمواهلم‪ ،‬وأعراضهم‪ ،‬وحقوقهم‪ ،‬وحتديد عالقة اجملين عليه ابجلاين واألمة‪.‬‬
‫أحكام املرافعات واإلجراءات املدنية أو اجلنائية‪ :‬وهي اليت تتعلق ابلقضاء‪ ،‬والشهادة‪ ،‬واليمني‪ ،‬ويقصد هبا‬ ‫‪-4‬‬
‫تنظيم اإلجراءات إلقامة ميزان العدالة بني الناس‪.‬‬
‫األحكام الدستورية ‪ :‬وهي اليت تتعلق بنظام احلكم وأصوله‪ ،‬ويقصد به حتديد عالقة احلاكم ابحملكوم‪ ،‬وتقرير‬ ‫‪-5‬‬
‫ما لألفراد واجلماعات من حقوق‪.‬‬
‫األحكام الدولية‪ :‬وهي اليت تتعلق مبعاملة الدولة اإلسالمية مع غريها من الدول وهي القانون الدويل العام‪،‬‬ ‫‪-6‬‬
‫ومبعاملة الدولة اإلسالمية غري املسلمني من املواطنني يف الدولة اإلسالمية وهي القانون الدويل اخلاص‪.‬‬
‫األحكام اإلقتصادية واملالية ‪ :‬وهي اليت تتعلق حبقوق األفراد املالية والتزاماهتم يف نظام املال‪ ،‬وحقوق الدولة‬ ‫‪-7‬‬
‫وواجباهتا‪ ،‬وتنظيم موارد اخلزينة ونفقاهتا‪.‬‬

‫املطلب اخلامس‪ :‬مرتبة القرآن الكرمي وحجيته‬


‫أمجع املسلمون على أن القرآن الكرمي املنقول إلينا تواتراً أييت يف املرتبة األوىل من بني مصادر التشريع‪ ،‬وأنه حجة علينا؛ ألنه ثبت بطريق‬
‫قطعي ال ريب فيه وأنه من عند هللا تعاىل‪ ،‬بدليل إعجازه الناس أن أيتوا بسورة من مثله مع التحدي الشديد‪ ،‬وال يسع أحداً من‬
‫املسلمني إنكاره أو عدم العمل مبا جاء فيه‪.‬‬

‫املطلب السادس‪ :‬داللة القرآن على األحكام(‪:)95‬‬

‫‪ 95‬أصــول الفقــه‪ :‬عبــد الوهــاب خــالف‪ ،‬ص(‪ ،)370‬أصــول الفقــه‪ :‬د‪ .‬زكــي الــدين شــعبان‪ ،‬ص(‪ ،)43‬الوســيط يف أصــول الفقــه‪:‬‬
‫د‪ .‬الزحيلي‪ ،‬ص(‪.)231‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫القرآن الكرمي من انحية ثبوته عن هللا تعاىل ونقله عن الرسول صلى هللا عليه وسلم قطعي الورود‪ ،‬إال أن داللة نصوصه على األحكام قد تكون‬
‫قطعية الداللة أو ظنية الداللة‪.‬‬
‫هو ما دل على معىن واحد ال َيتمل غريه وال سبيل إىل فهم غريه بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫النص القطعي‬ ‫الفرع األول‬
‫الداللة‬
‫اجتَنِبُوهُ‪.)96(‬‬ ‫ِ‬ ‫وذلك كقوله تعاىل‪ :‬إَِّمنَا ا ْخلَمر والْمي ِسر واألَنْصاب واأل َْزالم ِرج ِ‬
‫س م ْن َع َم ِل الشَّْيطَان فَ ْ‬
‫ُْ َ َْ ُ َ َ ُ َ ُ ْ ٌ‬
‫فإنه نص قطعي على حرمة اخلمر وامليسر وما بعدمها‪ ،‬فال يقبل محل األمر على االستحباب‪ ،‬أي استحباب الرتك؛‬
‫بل على حتتمه‪.‬‬
‫ِ‬
‫اص يف الْ َقْتـلَى‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫فإنه نص قاطع على وجوب القصاص‬ ‫ص ُ‬‫ب َعلَيْ ُك ُم الْق َ‬ ‫وكقوله تعاىل‪َ  :‬اي أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُوا ُكت َ‬
‫(‪)97‬‬

‫فال يقبل محله على اإلرشاد‪.‬‬


‫فهو ما َيتمل أكثر من معىن وفيه جمال لرتجيح بعض املعاين على بعض‬ ‫النص الظين الداللة‬ ‫الفرع الثاين‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ص َن ِأبَنْـ ُفس ِه َّن ثَالثَةَ قُـُروء‪. ‬‬ ‫كقوله تعاىل‪َ  :‬وال ُْمطَلَّ َق ُ‬
‫ات يَََرتبَّ ْ‬
‫(‪)98‬‬

‫وهلذا اختلف الفقهاء يف عدة املطلقة أهي ثالثة أطهار‪ ،‬أم ثالث حيضات وكل منهم رجح رأيه بوجوه من‬
‫الرتجيح‪ ،‬والراحج احليض‪.‬‬
‫وس ُك ْم‪ )99(‬يدل داللة قطعية على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء‬‫وكقوله تعاىل يف آية الوضوء‪ :‬وامسحوا بِرُؤ ِ‬
‫َْ َ ُ ُ‬
‫وهذا ال خالف يف شأنه‪.‬‬
‫ولكن ملا كانت " الباء " يف اللغة العربية تستعمل ألكثر من معىن فهي تستعمل للتأكيد وللتبعيض‪ ،‬ومن هنا‬
‫اختلف الفقهاء يف املقدار الذي جيب مسحه‪.‬‬
‫فقال بعض الفقهاء إنه جيب مسح مجيع الرأس‪ ،‬ألن الباء مؤكدة زائدة واملعىن رؤوسكم‪ ،‬وقال البعض اآلخر إنه‬
‫يكفي ألداء الفريضة مسح جزء من الرأس ألن الباء للتبعيض واملعىن ببعض رؤوسكم‪ ،‬وهذا أرجح‪.‬‬
‫فالداللة الظنية هنا ترجع إىل استعمال الباء‪.‬‬
‫فإن لفظ قروء مجع لقرء‪ ،‬والقرء يف اللغة العربية يطلق على معنيني‪ :‬يطلق على احليض‪ ،‬ويطلق على الطهارة‪.‬‬
‫أن الكمال يف القرآن الكرمي يتحقق ابألمور الثالثة التالية‪:‬‬
‫اليت جاءت يف القرآن الكرمي كاملواريث واللعان والعقيدة‪.‬‬ ‫‪ - 1‬النصوص التفصيلية‬
‫ال ــيت وردت يف الق ــرآن الك ــرمي وتض ــمنت القواع ــد العام ــة واملب ــادئ الكلي ــة والض ـوابط الش ــرعية‪ ،‬وترك ــت‬ ‫‪ - 2‬النصوص اجململة‬
‫تفصيل ذلك إىل علماء األمة يضعون التفاصيل اليت حتقق أغراض الشـريعة وأهـدافها العامـة‪ ،‬وتتفـق مـع‬
‫مصاحل الناس وتطور األزمان واختالف البيئات‪.‬‬

‫‪ 96‬سورة املائدة‪ :‬من اآلية (‪.)90‬‬


‫‪ 97‬سورة البقرة‪ :‬من اآلية (‪.)178‬‬
‫‪ 98‬سورة البقرة‪ :‬من اآلية (‪.)228‬‬
‫‪ 99‬سورة املائدة‪ :‬من اآلية (‪.)6‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اليت تعترب جزءًا من الشريعة‪ ،‬مثل السنة واإلمجاع والقياس وغري ذلك من املصادر اليت أمر هبا‪ ،‬أو أشار‬ ‫‪ - 3‬اإلحالة بنص القرآن الكرمي إىل‬
‫إليها‪ ،‬القرآن الكرمي‪.‬‬ ‫املصادر األخرى‬
‫إمجاال وإما ابإلحالة إىل غريه‪ ،‬ويكون الكتاب‬
‫تفصيال وإما ً‬
‫ً‬ ‫وبذلك يكون القرآن الكرمي قد تناول مجيع األحكام ونظم احلقوق والواجبات إما‬
‫‪100‬‬
‫كامال ومستوفيًا جلميع األشياء‬
‫الكرمي ‪-‬حبق‪ً -‬‬
‫املطلب السابع‪ :‬أسلوب القرآن الكرمي يف عرض األحكام‪:‬‬
‫سبق الكالم عن إعجاز القرآن الكـرمي‪ ،‬وأن مـن وجـوه إعجـازه فصـاحته وبالغتـه‪ ،‬وتقضـي البالغـة أن ختتلـف األسـاليب يف عـرض األحكـام‪ ،‬وأن‬
‫تتنوع األلفاظ للداللة على مقصـوده‪ ،‬سـواء أكـان املوضـوع يف العقيـدة أم يف أخبـار املغيبـات أم يف قصـص األنبيـاء أم يف آايت األحكـام‪ ،‬ولـذلك‬
‫مثال بلفظ جيب فقط‪ ،‬وال على التحرمي بلفـظ حـرم‪ ،‬بـل‬
‫كثرت األساليب اليت تدل على معىن واحد‪ ،‬حىت ال متله النفوس‪ ،‬فلم يعرب عن الوجوب ً‬
‫يعرب عن الوجوب والتحرمي بعدة صيغ وأساليب ‪-‬كما سنبني ذلك يف مباحث الواجب واحلرام ‪..‬‬
‫وبناء على ذلك فعلى املتأمل يف كتاب هللا تعاىل الستنباط األحكام الشرعية من القرآن الكرمي أن يستعني مبدلوالت األلفاظ وما جيري عليهـا مـن‬
‫العرف استعماهلا‪ ،‬وما يقرتن هبا من وعد أو وعيد‪ ،‬ومن مدح أو ذم‪ ،‬ومن ترغيب أو ترهيب‪.‬‬
‫وميكن إمجال األساليب اليت تدل على طلب الفعل أو طلب الرتك أو التخيري فيه مبا يلي‪:101‬‬
‫كل فعل عظمـه هللا تعـاىل يف كتابـه الكـرمي‪ ،‬أو مدحـه أو أثـىن علـى فاعلـه أو أحبـه أو أقسـم بـه أو أقسـم بفاعلـه‪ ،‬أو قـرب فاعلـه أو وصـفه‬ ‫‪1‬‬
‫ابالستقامة أو الربكة‪ ،‬فهـو مطلـوب فعلـه‪ ،‬ويكـون حكمـه بـني اإلجيـاب وبـني النـدب حبسـب صـيغة طلبـه مـن الشـارع وترتـب العقوبـة علـى‬
‫تركه أو عدم ترتبها‬
‫كل فعل طلب الشارع تركه أو ذمه‪ ،‬أو ذم فاعله أو لعنه أو شبه فاعله ابلبهائم أو أنه من فعل الشيطان أو أنه يرضـي الشـيطان‪ ،‬أو يـزين‬ ‫‪2‬‬
‫له‪ ،‬أو جعله سببًا لعقوبة يف الـدنيا أو عـذاب يف اآلخـرة‪ ،‬أو وصـفه خببـث أو رجـس أو جنـس أو أنـه يـؤدي إىل الفسـق أو يوقـع يف العـداوة‬
‫والبغضاء‪ ،‬فهو دليل على منع الفعل‪ ،‬ويكون حكمه إما التحرمي وإما الكراهة حبسب الصيغة يف طلب الرتك أو ترتُّب العقوبة علـى فاعلـه‬
‫أو عدم ترتبها‪.‬‬
‫أما إذا جاء النص يدل على جمرد اجلواز واإلحالل أو بنفـي احلـرج أو اجلنـاح أو اإلمث علـى فاعلـه فيكـون حكمـه اإلابحـة‪ ،‬وسـيأيت تفصـيل‬ ‫‪3‬‬
‫ذلك يف فصل احلكم التكليفي‪.‬‬
‫هذه نظرة عامة يف أحكام القرآن الكرمي من حيث الظاهر والشكل‪ ،‬أما كيفية استنباط األحكام من القرآن الكرمي وكيفية داللة آايت الكتاب‬

‫‪ 100‬انظر خصائص التشريع القرآين وهي اإلمجال والعموم وقلة التكاليف وعدم احلرج والتدرج يف التشريع والواقعية يف كتاب‬
‫(مصادر التشريع ا ِإلسالمي ص ‪ ،75‬اتريخ التشريع ا ِإلسالمي‪ ،‬السبكي والسايس والرببري‪ :‬ص ‪ ،49‬واملوافقات‪ 3 :‬ص‬
‫‪.)244‬‬
‫‪ 101‬اتريخ التشريع ا ِإلسالمي‪ ،‬السبكي والسايس والرببري‪ :‬ص ‪ ،57‬أصول الفقه ا ِإلسالمي‪ ،‬شعبان‪ :‬ص ‪ ،52‬الوسيط يف‬
‫أصول الفقه‪ ،232 :‬أصول الفقه‪ ،‬أبو زهرة‪ :‬ص ‪ ،88‬وانظر‪ :‬اإلكليل يف استنباط التنزيل‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬ت عبد القادر‪ ،‬طبع دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪ 2‬سنة ‪ 1405‬هـ ‪ / 1985‬م ص ‪.23 - 22‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫على األحكام الفقهية يف كل مسألة فذلك منوط يف مباحث الدالالت‪ ،‬أو يف مباحث الكتاب والسنة‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫املطلب الثامن ‪ :‬بعض القوائد االصولية املتعلقة ابلقرآن‪:‬‬
‫و مرجعها األول و أساسها الذي تعود اليه كل االدلة األخري ‪ ,‬و السنة مث كالم السلف طريق لبيانه ‪ ,‬و‬ ‫‪ -1‬القرآن هو االصل‬
‫ميكن لصاحب العقل الناضج أن يفهم اآلايت مبقتضي الذوق العريب‬ ‫الشريعة‬
‫اذ أنه نزل منجماً حسب الوقائع و املناسبات‬ ‫‪ -2‬ال بد من معرقة أسباب‬
‫النزول آايت القرآن ‪,‬‬
‫اذ أن عدم معرفتها يوقع يف االشتباه‪ ,‬و يوتضع هذا ابملثال قال تعايل (و أمتوا احلجو العمرة هلل) هذا األمر‬ ‫‪ -3‬ال بد من معرفة عادات‬
‫فيغري االسالم بعد الشعائر ‪ ,‬و‬
‫ابالمتام دون االمر ابصل احلج‪ :‬ألن العرب قبل االسالم كانوا َيجون ‪ّ ,‬‬ ‫العرب و اعرافهم يف‬
‫أضاف بعضا مثل الوقوف بعرفة مما يدل علي اجياب احلج و العمرة أيضاً‬ ‫االقوال و االفعال و‬
‫صيغ االستعمال حال‬
‫التنزيل‬
‫و السباق فهو دليل قاطع علي بطالهنا‪ :‬مثل قوله تعايل ‪ (:‬اذ قالوا ما أنزل هللا علي بشر من شيء) أعقبها‬ ‫‪ -4‬كل حكاية وردت يف‬
‫بقوله (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسي نورا و هدي للناس) و مثل ( أال ساء ما َيكمون) اذ أن‬ ‫القرآن و ذكر فيه ما‬
‫القرآن ال يذكر فيه اال ما هو حق و هدي‪.‬‬ ‫يردها يف السياق‬
‫هو أن أساس األحكام عموما و هو مراعاة الضرورايت و احلاجات و التحسينيات و مكمالهتا مبني يف‬ ‫‪ -5‬الدليل علي أن القرآن‬
‫القرآن دون أي نقص أو قصور ‪ .‬و به يتبني أن القرآن جامع لألحكام أي لألمور الكلية العامة اليت‬ ‫تضمن كل شيء رغم‬
‫يستلزمها أي تشريع يف الوجود فكان لذلك تعريف القرآن ابألحكام أمثره كلي ال جزئ كما ثبت‬ ‫اختصاره‬
‫ابالستقراء و السنة هي اليت تفصل تلك الكليات و توضح جممالت الكتاب‬

‫املطلب التاسع ‪ :‬بعض األمور اليت جيب مراعاهتا لالنتفاع بكتاب هللا تعاىل‪ ،‬منهد الطريق هبا إىل مبحث السنة‪.‬‬

‫اصول الفقه وهبة زهيلي‬ ‫‪102‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫وإنه املرجع األول يف كل ذلك‪ ،‬وإنه احملتكم إليه عند االختالف فيها‪.‬وإن القرآن الكرمي هو أساس سر‬ ‫‪ - 1‬إن القرآن الكرمي هو أساس‬
‫وعمال‪ ،‬وأنه جيب أن يكون‬
‫وعلما ً‬ ‫ِ‬ ‫الشريعة وأصلها ومعتمدها يف‬
‫وتدبرا ً‬
‫بقاء اإلسالم‪ ،‬وهذا يقتضي وجوب العناية به حفظًا وتالوة ً‬
‫قرين املؤمن يف كل وقت‪ ،‬وأن يكون أنيسه يف حله وترحاله‪ ،‬وأن يكون حميي نظره يف تفكريه‪ ،‬وأن يتدبر‬ ‫العقيدة والعبادة واألخالق‬
‫آايته‪ ،‬وأن يتعظ هبا‪ ،‬وأن يعمل مبا فيه‪ ،‬وأن يسعى لنشره وتوزيعه إىل بيت كل مسلم‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬إِ َّن‬ ‫والتشريع‪،‬‬
‫َجًرا َكبِ ًريا (‪})9‬‬ ‫ات أ َّ‬ ‫ه َذا الْ ُقرآ َن يـه ِدي لِلَِّيت ِهي أَقْـوم ويـب ِّشر الْمؤِمنِني الَّ ِذين يـعملُو َن َّ ِ‬
‫احل ِ‬
‫َن َهلُْم أ ْ‬ ‫الص َ‬ ‫َ َ ُ َ َُ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫[اإلسراء‪ ]9 :‬ويقول رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪" :-‬بلغوا عين ولو آية"‪.103‬‬
‫منجمـا خـالل‬
‫ألهنا تعني على الفهم‪ ،‬وتساعد على بيان املراد من كـالم هللا تعـاىل؛ ألن القـرآن الكـرمي نـزل ً‬ ‫‪ - 2‬جيب معرفة أسباب النزول‬
‫الشــبه واإلشــكال يف‬
‫فــرتة طويلــة‪ ،‬وكــان ينــزل حســب الوقــائع واملناســبات‪ ،‬وإن اجلهــل أبســباب التنزيــل يثــري ُّ‬
‫فهم املراد من النصوص العامة اجململة الواردة يف القرآن الكرمي‪.104‬‬
‫ألن القرآن الكرمي نزل يف جمتمعهم‪ ،‬فأقر احلسن منها‪ ،‬وأبطل القبيح‪،‬‬ ‫‪ - 3‬أن يعرف املسلم عادات‬
‫وخــاطبهم مبــا تدركــه عق ـوهلم مــن املعــاين واأللفــاظ‪ ،‬ومحلهــم الرســالة‪ ،‬وأمــرهم ابلتبليــغ والــدعوة‪.‬وال يقتصــر‬ ‫العرب يف أقواهلا وأفعاهلا‬
‫الباحــث علــى بيــان احملاســن والعــادات احلميــدة بــل ال بــد مــن معرفــة املفاســد والتقاليــد اجلاهليــة الــيت كانــت‬ ‫وتقاليدها‪،‬‬
‫ســائدة بيــنهم‪ ،‬ملعرفــة معاجلــة القــرآن الكــرمي هلــا‪ ،‬سـواء يف العقيــدة أم يف األحكــام‪ ،‬وقــد تكــون هــذه األمــور‬
‫سببًا من أسباب النزول اليت تلقي الضوء على النص وفهمه‪.‬‬
‫ألن فهــم القــرآن الكــرمي واالنتفــاع منــه واالســتدالل بــه يتوقــف علــى معرفــة اللغــة‪ ،‬ومــا يتعلــق هبــا مــن املعــاين‬ ‫‪ - 4‬وجوب معرفة اللغة العربية‬
‫والعبارات والصيغ والقواعد اليت حبثها األصوليون‪ ،‬وأصبحت جزءًا من علم أصول الفقه‪.105‬‬ ‫ودراستها؛‬
‫قال ا ِإلمام الشافعي رمحه هللا تعاىل‪ :‬ألنه ال يعلم من إيضاح مجل الكتاب أحـد جهـل سـعة لسـان العـرب‪،‬‬
‫وكثــرة وجوهــه‪ ،‬ومجــاع معانيــه‪ ،‬وتفرقهــا‪ ،‬ومــن علمــه انتفــت عنــه الشــبه الــيت دخلــت علــى مــن جهــل لســاهنا‬
‫‪106‬‬

‫وقد ظهر لنا هذا يف أوجه الكمال يف القرآن الكرمي‪ ،‬وأنه ال ميكن فهم القرآن الكرمي وتطبيقه إال بعد‬ ‫‪ - 5‬االعتماد على السنة يف‬
‫‪107‬‬
‫معرفة السنة‪ ،‬وأن العمل ابلسنة هو عمل ابلكتاب‪ ،‬كما سيأيت‪ ،‬وأن السنة هي بيان للقرآن الكرمي‬ ‫فهم كتاب هللا‪،‬‬

‫هذا طرف من حديث رواه البخاري والرتمذي وأمحد والدارمي‪( ،‬انظر‪ :‬صحيح البخاري‪ 2 :‬ص ‪ ،167‬حتفة األحوذي‪:‬‬ ‫‪103‬‬

‫‪ 7‬ص ‪ ،431‬مسند أمحد‪ 2 :‬ص ‪ ،1959‬سنن الدارمي‪ 1 :‬ص ‪.)136‬‬


‫‪ 104‬قال الشاطيب‪" :‬معرفة أسباب النزول الزمة ملن أراد علم القرآن" املوافقات‪225 /3 :‬‬
‫‪ 105‬أصول الفقه ا ِإلسالمي‪ ،‬شاكر احلنبلي‪ :‬ص ‪ ،48‬مصادر التشريع ا ِإلسالمي‪ ،‬ص ‪ ،60‬أصول الفقه‪ ،‬اخلضري‪ :‬ص‬
‫‪ ،231‬أصول التشريع ا ِإلسالمي‪ :‬ص ‪ ،28‬املوافقات‪ 3 :‬ص ‪ ،243 ،229 ،225‬منهاج الوصول‪ ،‬البيضاوي‪ :‬ص ‪،16‬‬
‫الرسالة‪ :‬ص ‪ ،42‬هناية السول‪ 1 :‬ص ‪ ،204‬أصول الفقه‪ ،‬أبو النور‪ 1 :‬ص ‪ ،195‬املوافقات‪ 2 :‬ص ‪ 3 ،45‬ص ‪226‬‬
‫‪ 106‬الرسالة‪ :‬ص ‪.50‬‬
‫‪ 107‬الرسالة‪ :‬ص ‪ ،32 ،31‬املوافقات‪ 3 :‬ص ‪.25‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اثنيا‪ :‬األدلة املتفق عليها‪:‬‬

‫السنة‬
‫وهي أقو ُال النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أو أفعاله أو تقريراته؛ ألنه ال يقر على ابطل‪.‬‬
‫والسنة مكملة للقرآن الكرمي‪ ،‬وموضحة له‪ ،‬ومبيِّنة له‪ ،‬وقاضية عليه يف إيضاح املراد مما فيه دالالت‪.‬‬

‫حقيقة السنة‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫أقسام السنة من حيث السند‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫حجية ومرتبة السنة النبوية‬ ‫املطلب الثالث‪:‬‬
‫وظيفة السنة ومكانتها من انحية ما ورد فيها من أحكام‬ ‫املطلب الرابع‪:‬‬
‫ويظهر ذلك ِم ْن خالل استِقراء ُسنَّة الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‬ ‫املطلب اخلامس‪:‬‬

‫املطلب األول‪ :‬حقيقة السنة‪:‬‬

‫السنة يف اللغة‪ :‬يف أصل اللغة معناها الطريقة املتبعة سواء أكانت حسنة أم سيئة‪.108‬‬ ‫الفرع األول‪:‬‬
‫وتطلق السنة يف االصطالح على عدة ٍ‬
‫معان ‪. :‬‬ ‫الفرع الثاين‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تطلق على ما يقابل القرآن ‪ ،‬ومن ذلك قول الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬يـؤم القـوم أقـرؤهم لكتـاب‬
‫هللا فإن كانوا يف القراءة سواء فأعلمهم ابلسنة ‪.‬‬
‫‪ - 2‬وتطلق على ما يقابل البدعة ‪ ،‬فيقال ‪ :‬أهل السنة وأهل البدعة ‪.‬‬
‫‪ - 3‬وتطلق عند ِ‬
‫احملدثني على ما أضيف إىل النـيب صـلى هللا عليـه وسـلم مـن قـول أو فعـل أو تقريـر أو صـفة‬
‫ُخلُقية أو َخلْقية وما يتصل ابلرسالة ‪ ،‬من أحواله الشريفة قبل البعثة وحنو ذلك ‪.‬‬
‫‪ - 4‬وتطلـق عنـد الفقهـاء علــى مـا يقابـل الفـرض وغـريه مــن األحكـام اخلمسـة " الفـرض ‪ ،‬السـنة ‪ ،‬احلـرام ‪،‬‬
‫املكروه ‪ ،‬املباح " ‪.‬ورمبا ال يراد هبا إال ما يقابل الفـرض ‪ ،‬كقـواان ‪ :‬فـروض الوضـوء وسـننه ‪ ،‬فإنـه ال يقابـل هبـا‬
‫احلرام واملكروه " يف هذا املوطن ‪.‬‬
‫‪ - 5‬ووسع احلنفية دائرة السنة يف االصـطالح الشـرعي فـأدخلوا فيهـا سـنة الصـحابة بعـد رسـول هللا صـلى‬
‫هللا عليه وسـلم واسـتدلوا علـى ذلـك بقـول النـيب ‪ :‬فعلـيكم بسـنيت وسـنة اخللفـاء الراشـدين املهـديني مـن بعـدي‬
‫ضوا عليها ابلنواجذ‬
‫َع ُّ‬
‫‪ -6‬وتطلق عند األصوليني على ما صدر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم غري القرآن من قول أو فعـل‬

‫‪ 108‬لسان العرب‪ :‬ابن منظور‪.)47/2( ،‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫أو تقرير ‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫‪ :‬هي األحاديث اليت قاهلا الرسول صلي هللا عليه و سلم يف خمتلف األغراض‬ ‫البند األول‪:‬‬
‫واملناسبات مثل صلي هللا عليه و سلم‪ ( :‬إمنا األعمال ابلنيات )‪ ، 110‬وقوله صلي هللا‬ ‫السنة القولية‬
‫عليه و سلم‪( :‬املسلم أخو املسلم …‪. ).‬‬
‫‪111‬‬

‫هي األعمال اليت قام هبا النيب صلي هللا عليه و سلم مثل أداء الصلوات اخلمس‬ ‫االبند الثاين‪:‬‬
‫وشعائر احلج‪.‬‬ ‫السنة الفعلية‪:‬‬
‫هي‪ :‬أن يعلم الرسول صلي هللا عليه و سلم بقول أو فعل وال ينكره‪ ،‬ألنه بعث لبيان‬ ‫البند الثالث‪:‬‬
‫الشريعة اإلسالمية وإبطال ما خيالفها‪ ،‬فإذا صدر من بعض الناس قول أو فعل وعلم به‬ ‫السنة التقريرية‬
‫وسكت عن إنكاره كان ذلك تقريراً منه لذلك القول أو الفعل وأنه مشروع وجائز‪.‬‬
‫وهذا النوع من السنة اترة يكون بسكوته صلي هللا عليه و سلم وعدم إنكاره من غري أن يبدو منه ما يدل‬
‫على استحسان القول أو الفعل أو الرضا به‪ ،‬واترة يكون بعدم اإلنكار مع االستبشار وظهور ما يدل على‬
‫االستحسان والرضا‪ .‬وذلك مثل أكل الضب على مائدته صلي هللا عليه و سلم ‪ ،‬ومثل اقراره ملعاذ بن جبل‬
‫يف كيفية احلكم وقضائه يف اليمن‪ ،‬مع احلمدلة اليت تدل على الرضا‪.‬‬

‫واحلديث‪ :‬منت وسند (إسناد)‪ ،‬ويتضح من الشكل ما التايل‪:‬‬

‫ِ‬
‫املوصلة إىل املنت‪.‬‬
‫أما السند‪ ،‬فسلسلة الرجال ّ‬

‫الصحايب‬
‫الصحابة لغة‪ :‬مصدر صحب‪ ،‬مبعىن "الصحبة "‪ ،‬ومنه صحايب ‪ -‬طبقة‪" .‬الصحايب" و"الصاحب"‪ ،‬وجيمع على‬ ‫لغة‪:‬‬
‫أصحاب وصحب‪ ،‬وكثر استعمال "الصحابة" مبعىن األصحاب اتبعي ‪-‬طبقة‪.‬‬
‫مسلما‪ ،‬ومات على ذلك (اإلسالم)‪ ،‬ولو ختللت ذلك ردة على‬
‫من لقي النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ً -‬‬ ‫اصطالحا‬
‫ا‬
‫األصح‪ .‬اتبعي طبقة‪.‬‬
‫التابعي‬
‫التابعون مجع اتبعي أو اتبع‪ ،‬والتابع اسم فاعل‪ ،‬شيخ شيخ املصنف طبقة من "تبعه" مبعىن مشى خلفه‬ ‫لغة‪.:‬‬

‫‪ 109‬انظــر‪ :‬اإلحكــام يف أصــول األحكــام‪ :‬اآلمــدي‪ ،)87 /1( ،‬خمتصــر املنتهــى‪ :‬ابــن احلاجــب‪ ،)22 /2( ،‬التقريــر والتحبــري‪ :‬ابــن‬
‫أمري احلاج‪ ،)223 /2( :‬فـواتح الرمحـوت شـرح مسـلم الثبـوت‪ :‬ابـن نظـام الـدين‪ ،)97 /2( ،‬هنايـة السـول‪ :‬اإلسـنوي‪/2( ،‬‬
‫ص(‪.)240 ،239‬‬ ‫‪ ،)270‬إرشاد الفحول‪ :‬الشوكاين ص(‪ ،)33‬الوسيط يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬الزحيلي‪،‬‬
‫‪ 110‬صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري‪ ،‬كتاب اإلميان‪ ،‬ابب ما جاء يف أن األعمال ابلنية‪.)135/1( ،‬‬
‫‪ 111‬مسند اإلمام أمحد بن حنبل‪.)34/5( ،)689/2( ،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫مسلما‪ ،‬ومات على اإلسالم‪ ،‬وقيل‪ :‬هو من صحب الصحايب‪ ،‬شيخ املصنف "اإلمام‬
‫من لقي صحابيًّا ا‬ ‫اصطالحا‬
‫ا‬
‫الرتمذي مثالا"‪ .‬طبقة‪.‬‬
‫منت (نص احلديث) ‪ +‬سند (إسناد)‪ ،‬وهو سلسلة الرجال املوصلة إىل املنت‪.‬‬ ‫احلديث‬
‫ملحوظات‪:‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫إذا صح احلديث ‪ -‬بشروطه كما سيأيت ‪ -‬من املصنف "اإلمام الرتمذي مثالً إىل هـ‪ ،‬ورفعه هـ إىل النيب ‪ -‬صلى هللا عليه‬ ‫‪.1‬‬
‫وسلم ‪ -‬بقول أو بفعل أو بصفة أو بتقرير‪ ،‬فهو صحيح مرفوع‬
‫إذا صح احلديث إىل (هـ) ومل يرفعه؛ بل ُحكي عنه‪ ،‬صحيح مم ْوقُوف‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫إذا صح احلديث إىل (د)‪ ،‬ورفعه إىل النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬فهو ُم ْر مسل‬ ‫‪3‬‬
‫إذا سقط را ٍو مثل (ب) أو (جـ) أو (د)‪ ،‬فهو ُم ْنـ مق ِطع "ضعيف"‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫ضل "ضعيف"‪.‬‬
‫إذا سقط راواين متتاليان؛ مثل‪( :‬ب) و(جـ) أو (جـ) و(د)‪ ،‬فهو ُم ْع م‬ ‫‪5‬‬
‫إذا قال املصنف مثالً‪ :‬قال ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ ،))...(( :-‬أبن َيذف كل السند‪ ،‬فهو ُم معلَّق ضعيف‪ ،‬أو َيذف‬ ‫‪6‬‬
‫(أ)‪ ،‬أو (أ) و(ب) (جـ)‪ ،‬فهو ُم معلَّق "ضعيف"‪.‬‬
‫(فائدة)‪ :‬معلقات الصحيحني َيكم بصحتها‪ ،‬وذلك إن كانت بصيغة اجلزم كـ "قال"‪ ،‬و"ذَكر" و"حكى" فهو َُيكم بصحته عن املضاف‬
‫و"حكي"‪ ،‬ففيه الصحيح واحلسن والضعيف‪.‬‬ ‫إليه‪ .‬أما ما ذُكر بصيغة التمريض‪ ،‬كـ‪" :‬قيل"‪ ،‬و"ذُكر"‪ُ ،‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬أقسام السنة من حيث السند‪:112‬‬


‫وآحادا‪.‬‬
‫ا‬ ‫والسنة من حيث جميئُها إلينا تنقسم قسمني‪ :‬متواترة‬
‫فهو اسم فاعل مشتق من التواتر؛ أي‪ :‬التتابع‪ ،‬تقول‪ :‬تواتر املطر؛ أي‪ :‬تتابع‪.‬‬ ‫‪ :‬لغة‬ ‫الفرع األول التواتر‬
‫اصطالحا ما رواه عدد كثري حتيل العادةُ تواطؤهم (اتفاقهم) على الكذب‪.‬‬
‫ا‬
‫هي‪ :‬ما رواها عن رسول هللا صلي هللا عليه و سلم مجع من الصحابة ميتنع اتفاقهم على الكذب عادة‪ ،‬مث‬
‫رواها عن هذا اجلمع مجع من التابعني ميتنع اتفاقهم على الكذب عادة‪ ،‬مث رواها عن هذا اجلمع مجع من‬
‫اتبعي التابعني ميتنع اتفاقهم على الكذب عادة‪ .‬فاملعترب يف التواتر هو حتقق اجلمع الذي ميتنع اتفاقهم على‬
‫الكذب عادة يف كل عصر من هذه العصور الثالثة‪ ،‬وهي عصر الصحابة‪ ،‬والتابعني‪ ،‬واتبعي التابعني‪ .‬وهذه‬
‫السنة تفيد القطع وجيب العمل مبا جاء فيها‪.‬‬
‫واملتواتر قسمان‪.‬‬
‫ب َعلَ َّي فَـلْيَـتَـبَـ َّوأْ‬
‫((م ْن َك َذ َ‬
‫كحديث الشيخني‪ :‬أن رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قال‪َ :‬‬ ‫لفظي‬
‫َم ْق َع َدهُ ِم َن النَّا ِر))‪،‬‬
‫ت ذلك عن رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قرابة مائة‬ ‫كرفْع اليدين يف الدعاء؛ حيث ثـَبَ َ‬ ‫ومعنوي‬
‫موضع‪ ،‬واملتواتر كله مقبول ال يُبحث يف إسناده؛ إذ جميئه ابلتواتر؛ أي‪ :‬مقطوع بصحته‬
‫هي ما رواها عن الرسول صلي هللا عليه و سلم عدد ال يبلغ حد التواتر‪ ،‬مث رواها عن هذا العدد عدد ال يبلغ‬ ‫الفرع الثاين‪ :‬سنة‬
‫حد التواتر من التابعني‪ ،‬مث عن هؤالء عدد ال يبلغ حد التواتر من اتبعي التابعني‪.‬‬

‫‪ 112‬انظــر‪ :‬هنايــة الســول‪ :‬اإلســنوي‪ ،)186 /2( ،‬إرشــاد الفحــول‪ :‬الشــوكاين‪ ،‬ص(‪ ،)41‬اإلحكـام يف أصــول األحكــام‪ :‬اآلمــدي‪،‬‬
‫(‪ ،)151 /1‬الوسيط يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬الزحيلي‪ ،‬ص(‪.)245 – 241‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫يقسمون األخبار هبذا االعتبار إىل ‪ :‬متواتر ‪ ،‬وآحاد‬ ‫فجمهور األصوليني‬ ‫اآلحاد‪:‬‬
‫وتنقسم ـ سنة اآلحاد عند اجلمهور ـ إىل غريب وعزيز ومشهور‬
‫فقسمتهم هبذا االعتبار ثالثية ‪ ،‬وهي ‪ :‬متواتر ‪ ،‬ومشهور ‪،‬وآحاد‬ ‫وأما احلنفية‬
‫تعريف املشهور اصطالحا ‪:‬‬
‫‪ -1‬عرفه مجهور األصوليني بتعريفات منها ‪ :‬ما نقله مجاعة تزيد على الثالثة واألربعة ‪ -‬ومنهم من قال (ما‬
‫زاد على الثالثة يف كل طبقاته) ومنهم من قال ‪( :‬اقله اثنان) ومن خالل تعريفاهتم جند أهنم قد اعتربوا‬
‫عدد الرواة يف تعريفه ‪ ،‬ولكنهم اختلفوا يف العدد‪.‬‬
‫تعريفه عند احلنفية ‪ :‬عرفه ابن اهلمام بقوله ‪( :‬ما كان آحادا "يف األصول متواتر" يف القرن الثاين‬ ‫‪-2‬‬
‫والثالث‬

‫مرتبة املشهور‪:‬‬
‫عند مجهور األصوليني‪ :‬احلديث املشهور قسما من أخبار اآلحاد فكل خرب اليبلغ التواتر‪ ،‬فهو خرب آحاد‬
‫وهو يفيد الظن هبذا االعتبار‪.‬‬
‫أما احلنفية ‪ :‬فاعتربوا اخلرب املشهور قسما بني املتواتر واآلحاد وهو يفيد الطمأنينة وسكون النفس إىل صحة‬
‫صدوره من قائله‬
‫يف حني خالف (اجلصاص) من احلنفية يف رتبة املشهور فجعله قسما من املتواتر‪ ،‬ويفيد عنده (العلم النظري)‬
‫يف حني يفيد التواتر عنده (العلم الضروري)‬

‫وما اليت ال تبلغ حد التواتر فهي ال تفيد اليقني وإمنا تفيد الظن‪ ،‬وال يعمل هبا يف األحكام االعتقادية وإمنا‬
‫يعمل هبا يف األحكام العملية إذا حتققت الشروط املعتربة فيها‪.‬‬
‫شروط األخذ خبرب اآلحاد عند احلنفية‪ .‬وضع احلنفية شروطا لوخذ خبرب اآلحاد وهي‪: 113‬‬
‫والسبب يف رد خرب اآلحاد فيما تعم به البلوى عند احلنفية‪ ،‬ألنه يكثر السؤال عنه‪ ،‬وما كثر السؤال عنه كثر‬ ‫أوال ‪ :‬أن ال يكون اخلرب‬
‫اجلواب عنه و اذا كثر اجلواب عنه كثر نقله فإذا رأينا أن النقل قد قل‪ ،‬ومل يروه إال الواحد أو العدد اليسري تبني‬ ‫فيما (تعم به البلوى)‬
‫لنا انه غري صحيح‪ ،‬ولذلك ردوا حديث (مس الذكر) ألنه مما تعم به البلوى وتقتضي العادة تواتره‬
‫وبنوا على ذلك أيضا عدم عملهم حبديث خيار اجمللس‪:‬‬
‫فقد روى ابن عمر (رضي اهلل عنهما) أن الرسول صلي هللا عليه و سلم قال ‪( :‬إذا تبايع‬
‫الرجالن فكل واحد منهما ابخليار ‪ ،‬ما ـ مل يتفرقا وكاان مجيعا‪ ،‬أو خيري احدمها اآلخر ‪ ،‬فان خري احدمها اآلخر‬
‫فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع‪ ،‬وان تفرقا بعد أن ( تبايعا ومل يرتك واحد منهما البيع فقد وجب البيع‬
‫قالوا (إن هذا اخلرب واحد فيما تعم به البلوى ‪ ،‬وكل خرب كذلك غري مقبول فهذا غري مقبول‬

‫‪ 113‬احلقيقة أن هذا الشرط هو رأي عيسي بن أابن و اتبعه عليه متأخرو احلنفية ‪ ,‬و املعتمد عندهم تقدمي اخلرب مطلقا‪ -‬التقرير‬
‫و التحبري (ج‪2‬ص‪)298‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الن خمالفة عمل الراوي ليس إال ألنه عثر على دليل قطعي انسخ ملا رواه أو علم بوجود علة متنع العمل به‬ ‫اثنيا ‪ :‬أن ال يعمل‬
‫فإذا ما خالفه فعمل أو أفىت خبالفه ‪ ،‬رد اخلرب ‪ ،‬وكان العمل على عمل الصحايب أو فتواه‬ ‫الراوي خبالف ما رواه ‪،‬‬
‫لذلك ردوا حديث الغسل سبعا من ولوغ الكلب ‪ ،‬فقد روي أن أاب هريرة (رضي اهلل عنه) قال رسول اهلل (‬
‫صلي هللا عليه و سلم ) طهور إانء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أوالهن ابلرتاب‬
‫‪ .‬إن احلديث دل على وجوب سبع غسالت لإلانء وهو واضح ‪ ،‬ومن قال ال جتب السبع بل ولوغ الكلب‬
‫كغريه من النجاسات والتسبيع ندب ‪ ،‬استدل على ذلك ابن راوي احلديث وهو أبو هريرة قال ‪ :‬يغسل من‬
‫ولوغه ثالث مرات‬

‫فإذا خالفت رواية هؤالء القياس ‪ ،‬ردت ‪ ،‬وقدم القياس عليها‪ ،‬وان كان الراوي معروفا ابلفقه واالجتهاد‬ ‫اثلثا ‪ :‬أن يوافق القياس‬
‫فروايته مقدمة على القياس‬ ‫فيما إذا كان راويه غري‬
‫‪ .‬فقالوا ‪ :‬الراوي أما معروف ابلرواية‪ ،‬أو جمهول أي مل يعرف إال حبديث أو حديثني‬ ‫معروف يف الفقه‬
‫‪ .‬وعللوا ذلك ابن الراوي إذا مل يكن فقيها فانه ال أيمن أن يذهب شيء من املعىن الذي يبتين عليه احلكم ‪،‬‬ ‫واالجتهاد أو كان‬
‫وقد رد األحناف بذلك حديث (املصراة) الن هذا اخلرب يف نظرهم قد خالف أصل (اخلراج ابلضمان)‬ ‫جمهوال ‪ ،‬ويعنون‬
‫فقد ثبت يف الصحيحني وغريمها أن رسول اهلل صلي هللا عليه و سلم قال ( ال تصروا) اإلبل والغنم‪ ،‬فمن‬ ‫ابجملهول من مل تطل‬
‫ابتاعها بعد ذلك فهو (خبري النظرين)‬ ‫صحبته لرسول اهلل‬
‫بعد أن َيلبها إن رضيها امسكها وان سخطها ردها وصاعا من متر‬ ‫صلي هللا عليه و سلم‬
‫‪ .‬فقال احلنفية يف تربير عملهم هبذا احلديث (انه خمالف للقران وللحديث املشهور ولإلمجاع والقياس‬
‫واملعقول‬

‫‪114‬‬
‫شروط األخذ خبرب اآلحاد عند املالكية‬
‫اشرتط املالكية للعمل خبرب االحاد‪:‬‬ ‫اوال‪ :‬ان ال يكون اخلرب‬
‫‪ :‬فعمل اهل املدينة عند املالكية مبنزلة روايتهم عنه‪ ،‬ورواية مجاعة عن مجاعة أحق ان يعمل هبا من رواية فرد‬ ‫خمالفا لعمل اهل املدينة‬
‫عن فرد‪.‬‬
‫فاهل املدينة ادرى الناس ابخر االمرين عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حيث اقامته عندهم‪ ،‬فقد عاشوا‬
‫معه وشاهدوا افعاله ومسعوا اقواله واتبعوه فيها‪ ،‬ونقل ذلك عنهم طبقة عن طبقة‪.‬‬
‫لذلك رد املالكية حديث خيار اجمللس‪ ":‬البيعان ابخليار مامل يتفرقا‪ ،‬فان صدقا وبّينا بورك هلما يف بيعهما‪،‬وان‬
‫كذاب وكتما حمقت بركة بيعهما‪ ".‬الن عمل اهل املدينة كان خبالفة‪.‬‬
‫وردوا ايضا ‪ ":‬ال تنكح االمي حىت تستأمر‪ ،‬وال تنكح البكر حىت تستأذن‪ ،‬واذهنا صماهتا( ‪ ".)18‬لذا جيوز‬
‫للويل عند املالكية إجبار ابنته البكر على الزواج دون إذهنا‪ ،‬قال مالك رمحه هللا‪ ":‬هذا هو األمر عندي يف‬
‫زواج األبكار‪ .‬وقد بلغين أن القاسم بن حممد‪ ،‬وسامل بن عبد هللا بن عمر كاان يزوجان بناهتما األبكار وال‬
‫يستأذانهنن(‪ ".) 19‬وأيضا ردهم خلرب أن النيب صلى هللا عليه وسلم كان إذا أراد اخلروج من الصالة سلّم‬
‫سالمني احدمها عن ميينه واألخر عن يساره( ‪)20‬؛ الن عمل أهل املدينة كان بسالم واحد‪.‬‬

‫‪ 114‬مجع اجلوامع ‪ ، 135/ 2 :‬رفع احلاجب ‪ / 1 :‬ق ‪ – 281‬أ ‪.‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫لذلك خالف املالكية احلنفية واحلنبلية يف ثبوت املهر ملن مات عنها زوجها قبل الدخول ومل يسم هلا مهرا‪،‬‬ ‫اثنيا‪ :‬أن ال يكون اخلرب‬
‫حيث قال اإلمام مالك‪ :‬هذا عوض ومل يقبض ولذا ال جيب‪ .‬قال معقل بن يسار ‪ :‬قضى رسول هللا صلى هللا‬ ‫خمالفا للقياس واألصول‬
‫عليه وسلم مبهر املثل ‪.‬‬ ‫القطعية‪:‬‬
‫ورد املالكية حديث الوضوء من حلم اإلبل‪ ،‬ملخالفته للقياس الذي يقضي بعدم الوضوء‪.‬‬

‫شروط األخذ خبرب اآلحاد عند الشافعية‬


‫مل يشرتط الشافعية لقبول أحاديث اآلحاد مثل ما اشرتطه احلنفية واملالكية‪ ،‬وإمنا اشرتط لألخذ به صحة السند‬
‫واالتصال‪ :‬لذلك اشرتطوا‪:‬‬
‫ان يكون الراوي ثقة يف دينه صادقا يف حديثه‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫أن يكون فامها واعيا يستطيع أداء احلديث بنصه حبروفه كما مسعه أو أبلفاظ مساوية دون أي‬ ‫‪-2‬‬
‫إخالل ابملعىن‪.‬‬
‫أن يكون ضابطا ملا يرويه‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫آن ال يكون احلديث خمالفا حلديث أهل العلم ابحلديث إن شاركهم يف موضوعه‪ ،‬يقول الشافعي‬ ‫‪-4‬‬
‫‪:‬‬
‫" إذا اتصل احلديث وصح به اإلسناد فهو املنتهى‪ ،‬وليس املنقطع عندان بشيء عدا منقطع ابن املسيب"‪.‬‬
‫فإذا صح السند واتصل احلديث عمل به خالف عمل أهل املدينة آو ال‪ ،‬اشتهر أو ال‪ ،‬فان عارض احلديث‬
‫غريه من األحاديث حبث عن الناسخ فان وجد عمل به وترك املنسوخ‪ ،‬واذا مل جنده إن أمكن اجلمع بينهما‬
‫مجع‪ ،‬أو ّأول بعضها حىت يزول التعارض بينهما‪.‬‬
‫ومن هنا فالعمل ابألحاديث املرسلة (مقطوعة السند) عند الشافعية غري موجود‪ ،‬إال مراسيل سعيد بن املسيب‬
‫حيث تتبعها الشافعي فوجدها مروية من طرق أخرى متصلة‪.‬‬
‫لذا‪ :‬رد الشافعية حديث ‪ :‬أن النيب صلى هللا عليه وسلم دخل على عائشة وحفصة فقالتا‪ :‬اهدينا طعاما وحنن‬
‫‪115‬‬
‫صائمتني‪ ،‬فقال ‪ :‬صوما يوما آخر" ؛ وذلك ألنه من رواية الزهري عن عائشة‪ ،‬والزهري مل يلق عائشة‪.‬‬
‫ورد الشافعية حديث إعادة الوضوء والصالة معا ملن ضحك قهقهة يف الصالة ‪ ،116‬فال ينتقض الوضوء‬
‫عندهم ابلقهقهة‪ ،‬خبالف احلنفية‪.‬‬
‫وكذا حديث أن النيب صلى هللا عليه وسلم قبّل بعض أزواجه مث قام وصلى ومل يتوضأ ألنه مرسل‪ ،‬واخذ به‬
‫‪117‬‬

‫احلنفية‪.‬‬
‫وهذا يدل على مدى اخذ احلنفية للخرب مىت صح عندهم فيقدم على القياس‪.‬‬

‫شروط األخذ خبرب اآلحاد عند احلنبلية‬

‫‪ 115‬رواه ماللك يف املوطأ وابو داود وغريه‬


‫‪ 116‬رواه الرتمذي وهو حديث ضعيف مل يثبت‬
‫‪ 117‬رواه ابن ايب شيبة وامحد وغريهم وهو ضعيف‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فهم أيخذون ابخلرب ولو كان مرسال أو ضعيفا شريطة أن ال يكون فيه متهم أو كذاب‪ ،‬لذا فهم أكثر املذاهب‬
‫توسعا يف األخذ خبرب اآلحاد‪.‬‬
‫لذا روي عن اإلمام امحد ‪ ":‬احلديث الضعيف أحب إيل من رأي أيب حنيفة احلسن"‪.‬‬
‫فقد كان إذا وجد احلديث مرفوعا أفىت مبوجبه دون االلتفات إىل ما خيالفه أو من خيالفه‪ ،‬لذا مل يلتفت إىل‬
‫خمالفة عمر يف املبتوتة حلديث فاطمة بنت قيس‪ ":‬بت زوجي طالقي فلم جيعل يل رسول هللا نفقة وال سكنا"‪،‬‬
‫فعمر مل يقبل به وقال‪ ":‬ال ندع كالم ربنا لقول امرأة ال ندري أحفظت أم نسيت" ‪ ،‬أما اإلمام امحد فقد اخذ‬
‫ابحلديث ومل يلتفت لقول عمر‪ ،‬وذلك الن اآلية اليت عناها عمر " اسكنوهنن من حيث سكنتم من‬
‫وجدكم"‪ 118‬تتكلم عن املطلقة رجعيا‪.‬‬
‫فاحلنبلية قد اعتمدوا على النصوص كثريا‪ ،‬وكان اإلمام امحد ال يستعمل الرأي إال بعد عدم وجود حديث ولو‬
‫ضعيف‪ ،‬أو قول صحايب‪ ،‬فقد كان يكره اإلفتاء فيما ليس فيه اثر‪.‬‬
‫وجند احلنبلية أيضا قد أفتوا بطهارة بول اإلبل وروثها‪ ،119‬وكذلك روث ما يؤكل حلمه‪ ،‬إضافة إىل القول‬
‫ابلوضوء من األكل من حلم اجلزور‪.120‬‬
‫لذا جند أن بعض العلماء عدوا اإلمام امحد من احملدثني ومل يعدوه من الفقهاء‪ ،‬فنجد اإلمام الطربي واإلمام‬
‫ابن عبد الرب يف حديثهما عن مناقب األئمة مل يتعرضوا لذكر اإلمام امحد كونه حمداث عندهم‪.‬‬
‫يتبني لنا أن األئمة األربعة متفقون على األخذ خبرب اآلحاد إذا صح‪ ،‬ومل يوجد معارض له من النصوص الشرعية‪ ،‬أما اختالفهم يف الشروط‬
‫اليت اشرتطها كل منهم لألخذ أبخبار اآلحاد إمنا جاء نتيجة الحتياط كل واحد منهم مبا يراه مفيدا للطمأنينة لصحة احلديث عنده‪ ،‬ومل‬
‫يكن ذلك هتاوان منهم يف العمل ابلسنة النبوية؛ وذلك ملا اشران إليه إن مكان إقامة اإلمام هلا دور كبري يف التشدد ابألخذ ابخلرب وخاصة‬
‫اآلحاد أو عدم التشدد بذلك‪ ،‬فنجد احلنفية أكثر من تشدد يف االحتياط نظرا لوجودهم يف العراق حيث كانت تعترب حينذاك بالد الفنت‬
‫والدس والوضع‪ ،‬خبالف اإلمام امحد حيث كان موجودا يف اجلزيرة العربية منبع النور واهلدى‪ ،‬فتقل نسبة الفنت بل تنعدم‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬منزلة السنة من القرآن من حيث الرتبة (أي من حيث االحتجاج هبا والرجوع إليها)‪:121‬‬

‫أتيت من انحية االحتجاج هبا يف املرتبة الثانية بعد القرآن الكرمي‪ ،‬فهي املصدر الثاين من مصادر التشريع اإلسالمي‪ ،‬وذلك ألن القرآن‬
‫الكرمي قطعي الثبوت‪ ،‬وأما السنة فهي ظنية الثبوت‪ ،‬والقطعي بدون شك مقدم على الظين‪.‬‬
‫اختلف العلماء يف هذه املسألة على رأيني ‪:‬‬
‫إن السنة والقرآن يف املرتبة سواء ‪ ،‬وإذا تعارض خرب من األخبار يف الظاهر مع آية من القرآن كان املتأخر انسخا للمتقدم ‪.‬‬ ‫األول ‪:‬‬
‫وهــذا مــذهب احلنفيــة ‪ ،‬واملالكيــة ‪ ،‬وابــن حــزم الظــاهري ‪ ،‬إال أن احلنفيــة واملالكيــة يشــرتطون أن يكــون احلــديث متـواترا حــىت‬

‫سورة الطالق اية ‪.6‬‬ ‫‪118‬‬

‫‪ 119‬ورد أدلة كثرية تدل على طهارة روث ما يؤكل حلمه وكذا بول اإلبل‪ .‬انظر حديث العرنني يف صحيح البخاري‪.‬‬
‫‪ 120‬ما رواه اإلمام مسلم يف صحيحه‬
‫‪ 121‬انظــر‪ :‬الوســيط يف أصــول الفقــه‪ :‬د‪ .‬الزحيلــي‪ ،‬ص(‪ )245‬ومــا بعــدها‪ ،‬األصــول العامــة للفقــه املقــارن‪ :‬د‪ .‬حممــد تقــي احلكــيم‪،‬‬
‫ص(‪ ،)128‬املدخل إىل مذهب اإلمام أمحد ابن بدران‪ ،‬ص(‪.)90‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ينسخ القرآن خبالف ابن حزم ‪ ،‬فإن خرب اآلحاد واملتواتر عنده سواء يف جواز نسخ الكتاب ‪.‬‬
‫إن السنة يف املرتبة التالية للقرآن ‪ ،‬أي أن السنة ال تنسخ القرآن ‪ ،‬وإذا حصل تعارض ظاهري بني القـرآن والسـنة ‪ ،‬ومل نسـتطع‬ ‫الثاين ‪:‬‬
‫اجلمع بينهما فال يتعدى األمر أحد االحتماالت األربعة التالية ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن تكون اآلية منسوخة آبية أخرى ‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن تكون السنة منسوخة ‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن يكون احلديث ضعيفا ال َيتج به ‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون وجه االستدالل يف اآلية أو احلديث ضعيفا ‪.‬‬
‫وإىل هذا الرأي ذهب الشافعي وأمحد بن حنبل ‪.‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬وظيفة السنة ومكانتها من انحية ما ورد فيها من أحكام‪.122‬‬


‫تتحدد عالقة السنة من انحية ماورد فيها من أحكام أبحكام القرآن الكرمي من خالل عدة وجوه فهي‪:‬‬
‫‪ 1‬إما أن تكون مقررة ومؤكدة وبذلك يكون احلكم له مصدران أو دليالن‪ ،‬مثل األمر إبقام الصالة وإيتاء الزكاة‬
‫…‪ ..‬اخل‪.‬‬ ‫حكم ا جاء به القرآن الكرمي‪،‬‬
‫إما أن تكون مبينة وشارحة وهذا على عدة وجوه‪:‬‬ ‫‪2‬‬
‫للقرآن الكرمي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ‪ -‬أهنا ِ‬
‫تبني ُم ْبـ مه ممهُ‪ ،‬وتفصل جمُْ مملمهُ‪ ،‬وختصص عمومه‪ِ ،‬‬
‫وتبني انسخه من منسوخه‪.‬‬
‫تبني جممل القرآن الكرمي فالصالة جاء األمر هبا جممل وبينها الرسول صلي هللا عليه و سلم بقوله‪( :‬صلوا كما‬
‫رأيتموين أصلي )(‪.)123‬‬
‫ختصيص عام القرآن الكرمي‪ .‬كما يف قول الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ( :‬القاتل ال يرث )(‪ )124‬خمصص ألايت‬ ‫ب‪-‬‬
‫ظ األُنْـثَـيَ ْني‪ )125(‬وكما يف ختصيص احملرمات من‬ ‫الد ُكمْ لِ َّ‬
‫لذ َكرِ ِمثْ ُل َح ِّ‬ ‫اَّلل ِيف أَو ِ‬ ‫ِ‬
‫املواريث يف قوله تعاىل‪ :‬يُوصي ُك ُم َُّ ْ‬
‫النساء يف قول الرسول صلي هللا عليه و سلم‪( :‬التنكح املرأة على عمتها وال على خالتها وال املرأة على ابنة أخيها وال‬
‫على ابنة أختها)(‪ .)126‬فإنه خمصص لقول هللا تعاىل بعد ذكر احملرمات من النساء‪َ  :‬وأ ُِح َّل لَ ُك ْم َما َوَراءَ ذَلِ ُك ْم‪.)127(‬‬

‫(‪ ،)684 /1‬الوســيط يف أصــول‬ ‫‪ 122‬انظــر‪ :‬الرســالة‪ :‬اإلمــام الشــافعي‪ ،‬ص(‪ )247‬ومــا بعــدها‪ ،‬كشــف األسـرار‪ :‬البخــاري‪،‬‬
‫الفقه‪ :‬د‪ .‬الزحيلي‪( ،‬ص‪ )251‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 123‬الس ــنن الك ــربى‪ :‬البيهق ــي‪ ،‬كت ــاب الص ــالة‪ ،‬ابب م ــن س ــها ف ــرتك ركنـ ـاً ع ــاد إىل م ــا ت ــرك ح ــىت أييت ابلص ــالة عل ــى الرتتي ــب‪،‬‬
‫(‪.)345/2‬‬
‫‪ 124‬السنن الكربى‪ :‬البيهقي‪ ،‬كتاب قتال أهل البغي‪ ،‬ابب العادل يقتل الباغي أو الباغي يقتل العادل مل يرثه‪.)187( ،‬‬
‫‪ 125‬سورة النساء‪ :‬من اآلية (‪.)11‬‬
‫‪ 126‬مسند اإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬كتاب ابقي مسند املكثرين حديث رقم (‪.)14016‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫السا ِرقَةُ فَاقْطَ ُعوا‬


‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫تقييد مطلق القرآن الكرمي ‪ :‬وذلك كبيان مكان قطع يد السارق يف السرقة يف قوله تعاىل‪َ  :‬و َّ‬ ‫ج‪-‬‬
‫أَيْ ِديَـ ُه َما‪ ،)128(‬حيث بَـيّنت أن القطع يكون من املعصم فال يقطع إال الكف‪.‬‬
‫مكملة هلذه األصول‪ ،‬ومثاله‪:‬‬ ‫أهنا تزيد على فرائض ثبتت أصوهلا يف القرآن الكرمي ابلنص‪ ،‬أبن أتيت أبحكام زائدةٍ ِ‬ ‫د‪-‬‬
‫ّ‬
‫بياان كامالً‪ ،‬والسنة قررت الفصل بني الزوجني على التأبيد‪ ،‬وحكمة ذلك هو أن‬ ‫موضوع اللعان‪ ،‬فقد بيَّنه القرآن الكرمي ً‬
‫فقدت بينهما‪.‬‬
‫ْ‬ ‫الثقة ‪ -‬اليت هي أساس احلياة الزوجية ‪ -‬قد‬
‫نص عليه‪ ،‬وليس هو زايدة على نص قرآين‪ ،‬ومثاله‪ :‬حترمي أكل احلُمر األهلية‪،‬‬
‫أهنا أتيت حبُكم ليس يف القرآن الكرمي ٌّ‬ ‫ه‪-‬‬
‫وحلم السباع‪ ،‬وأحكام الدايت‬
‫و‪-‬‬
‫كما يف قوله صلي هللا عليه و سلم‪( :‬ال وصية لوارث)(‪ )129‬نسخت الوصية للوارث‬ ‫يستدل ابلسنة على انسخ‬ ‫‪3‬‬
‫ت إِ ْن تَـَرَك َخ ْرياً ال َْو ِصيَّةُ‬ ‫ِ‬
‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬
‫ضَر أ َ‬ ‫ب َعلَْي ُك ْم إِذَا َح َ‬‫الواردة يف قوله تعاىل‪ُ  :‬كت َ‬ ‫القرآن ومنسوخه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ني‪ ،)130(‬حيث نسخت آبايت‬ ‫ني ِابل َْم ْعُروف َح ّقاً َعلَى ال ُْمتَّق َ‬ ‫للْ َوال َديْ ِن َواألَقْـَربِ َ‬
‫املواريث‪ ،‬واحلديث دليل مؤكد‬
‫كما يف حترمي لبس الذهب واحلرير للرجال‪ ،‬ومثل صدقة الفطر‪ ،‬وحترمي حلوم احلمر‬ ‫تكون السنة مثبتة ومنشئة‬ ‫‪4‬‬
‫األهلية قال صلي هللا عليه و سلم‪( :‬ال تلبسوا احلرير وال الديباج وال تشربوا يف‬ ‫حلكم سكت عنه القرآن‬
‫آنية الذهب والفضة وال أتكلوا يف صحافها فإهنا هلم يف الدنيا ولنا يف‬ ‫الكرمي‪.‬‬
‫‪.‬‬‫(‪)131‬‬
‫اآلخرة)‬

‫أتت به السنة إال ُوِج َد لَهُ دليل قرآين‪ ،‬قريبًا كان أو ً‬


‫بعيدا‪ ،‬ذلك أن السنة‬ ‫وعلى كل حال‪ ،‬ال يكاد يوجد مثال حلكم ْ‬
‫راجعة يف معناها إىل القرآن الكرمي‪.‬‬

‫أفعال الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ليست كلها لالتباع‪:‬‬

‫املطلب اخلامس‪ :‬ويظهر ذلك ِم ْن خالل استِقراء ُسنَّة الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وسريته؛‬
‫قسم العلماء أفعال الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬إىل ثالثة أقسام‪ ،‬هي‪:‬‬
‫حيث َّ‬
‫ِ‬
‫ع جيب اتّباعه والتقيُّد‬
‫األول‪ :‬أعمال تتصل ببيان الشريعة؛ كصالته ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وصومه وبيعه وحجه‪ ،‬فإن هذا النوع َش ْر ٌ‬

‫‪ 127‬سورة النساء‪ :‬من اآلية (‪.)24‬‬


‫‪ 128‬سورة املائدة‪ :‬من اآلية (‪.)38‬‬
‫‪ 129‬سنن أيب داود‪ ،‬كتاب الوصااي‪ ،‬ابب ما جاء يف الوصية للوارث‪ ،‬ص(‪.)445‬‬
‫‪ 130‬سورة البقرة‪.)180( :‬‬
‫‪131‬صحيح مسلم‪ ،‬بشرح النووي‪ ،‬كتاب اللباس والزينة‪ ،‬ابب حترمي الذهب واحلرير على الرجال‪ ،‬وإابحته للنساء‪.)37/14( ،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫به‪.‬‬
‫تزوجه ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أبكثر من‬ ‫ابلرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ِ -‬‬
‫وم ْن ذلك ُّ‬ ‫خاصة َّ‬
‫الدليل على أهنا َّ‬ ‫أفعال قام‬ ‫الثاين‪:‬‬
‫ُ‬
‫أربع زوجات‪ ،‬ووصال الصوم‪.‬‬
‫أعمال يعملها مبُقتضى اجلِبِلَّة البشرية‪ ،‬أو مبقتضى العادات اجلارية يف بالد العرب؛ كثيابه‪ ،‬وأكله‬ ‫الثالث‪:‬‬
‫‪.‬‬
‫ِِ‬
‫"فإن فعله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬هلا ‪ -‬أي‪ :‬األعمال اجلبِلّيَّة ‪ -‬ال ي ْقتضي أكثر من إابحتها اتفاقًا‪ ،‬وأما غريها فإن ثـَبَ َ‬
‫ت‬ ‫وعلى هذا؛ َّ‬
‫الصوم‪ ،‬وإن‬ ‫ومواصلة َّ‬ ‫مهر‪ُ ،‬‬ ‫كانت خاصة به‪ ،‬وليست أ َُّمتُهُ فيها مثله؛ كزواجه أكثر من أربع‪ ،‬وجواز النكاح من غري ْ‬ ‫خصوصيته هبا بدليل‪ْ ،‬‬
‫ْم ما‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫تبني أهنا بيان مل ْج َم ٍل من الكتاب‪ ،‬أو تقييد ل ُمطْلَق‪ ،‬أو ختصيص لعام‪،‬‬
‫ْمها ُحك َ‬ ‫بياان به‪ ،‬وكان ُحك ُ‬ ‫التحقت ً‬
‫ْ‬
‫ُ‬
‫َمل تكن خمتصة به‪ ،‬فإن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُصلّى))؛ رواه البخاري‪ ،‬ويف احلج‪(( :‬لتَأْ ُخ ُذوا َمنَاس َك ُك ْم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بياان ٍ‬‫تـُبَِّني‪ ،‬ويُعرف كوهنا ً‬
‫((صلوا َك َما رأيتموين أ َ‬
‫بدليل قويل؛ كقوله يف الصالة‪َ :‬‬
‫َح ُّج بَـ ْع َد حجيت َه ِذهِ))؛ رواه مسلم‪ ،‬أو بقرينة حال؛ كصدوره عند احلاجة إىل بيان لفظ جممل الفعل صاحل لبيانه؛‬ ‫ِ‬
‫فإين الَ أ َْد ِرى لَ َعلّى الَ أ ُ‬
‫خاصا أو مبيَّـنًا‪ ،‬فإن‬
‫كالقطع من الكوع يف السرقة‪ ،‬وكالتيمم إىل املرفقني‪ ،‬فهو بيان آليتهما ‪ -‬عند من يُثبت إمجاهلما ‪ -‬فإن مل يظهر كونه ًّ‬
‫ُعرفت صفته من وجوب أو ندب أو إابحة‪ ،‬فإن َّأمته يف ذلك مثله ‪ -‬صلَّى هللا عليه وسلم"‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اثلثا‪ :‬األدلة املتفق عليها‪:‬‬

‫اإلمجاع‬

‫وهو الدليل الثالث الذي يلي النصوص يف القوة واالحتجاج‪ ،‬وهو يَعتَ ِم ُد عليها‪ ،‬وهو ال يَـْن َسخ وال يـُْن َسخ‪ ،‬وهو‬
‫اتِّفاق اجملتهدين من األمة اإلسالمية يف عصر من العصور بعد النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬على حكم شرعي يف‬
‫من األ ُُمور العمليَّة‪ ،‬كما قال شيخ اإلسالم ابن تيميَّة‪" :‬واإلمجاع هو األصل الثالث الذي يعتمد عليه يف العلم‬ ‫ٍ‬
‫أمر َ‬
‫والدين‪.‬‬
‫وهم ‪ -‬أي‪ :‬أهل السنة واجلماعة ‪ -‬يزنون هبذه األصول الثالثة ‪ -‬الكتاب والسنة واإلمجاع ‪ -‬مجيع ما عليه الناس من‬
‫أقو ٍال وأعمال‪ ،‬ابطنة أو ظاهرة‪ ،‬مما له تعلق ابلدين‪ ،‬واإلمجاع الذي ينضبط‪ :‬هو ما كان عليه السلَف الصاحل؛ إذ‬
‫األمة"؛ انتهى‪.‬‬
‫بعدهم كثر االختالف‪ ،‬وانتشرت َّ‬

‫يقول أبو إسحاق اإلسفراييين‪" :‬حنن نعلم أن مسائل اإلمجاع أكثر من عشرين ألف مسألة‪ ،‬فهل هذا االدعاء صحيح‬
‫وهل هو اإلمجاع الذي يعترب مصدراً اثلثاً من مصادر التشريع اإلسالمي والذي ميتاز عن غريه من األجاميع يف العلوم‬
‫األخرى أبنه مصون عن األخطاء‪ ،‬وكيف يتفق كالم الفقهاء هذا مع ما قرره مجهور األصوليني أبن اإلمجاع حجة‬
‫قطعية يكفر جاحده(‪)132‬؟‪.‬‬

‫هذا يتطلب معرفة اإلمجاع وشروطه وأركانه وأقسامه وحجيته‪.‬‬

‫حقيقة اإلمجاع‪:‬‬ ‫املطلب األول‬


‫أركان اإلمجاع‬ ‫املطلب الثاين‬
‫مستند االمجاع‬ ‫املطلب الثالث‬
‫أقسام اإلمجاع‬ ‫املطلب الرابع‬
‫ومرتبة اإلمجاع وحجيته‬ ‫املطلب اخلامس‬

‫‪ 132‬انظر‪ :‬فواتح الرمحوت شرح مسلم الثبوت‪ :‬ابن نظام الدين‪.)212 /2( ،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املطلب األول‪ :‬حقيقة اإلمجاع‬


‫الفرع األول‪ :‬اإلمجاع يف اللغة‪:133‬يطلق على معنيني‪:‬‬
‫يقال أمجع فالن على األمر أي عزم عليه‪ .‬ومنه قول الرسول‬ ‫العزم على الشيء والتصميم عليه‪.‬‬ ‫األول‬
‫صلي هللا عليه وسلم‪( :‬ال صيام ملن مل ُْجي ِم ْع الصيام من‬
‫أي يعزم‪.‬‬ ‫(‪)134‬‬
‫الليل)‬

‫والفرق بني املعىن األول والثاين أن األول يطلق على عزم‬ ‫االتفاق يقال أمجع القوم على كذا أي‬ ‫الثاين‬
‫الواحد‪ ،‬والثاين ال بد فيه من متعدد‪.‬‬ ‫اتفقوا عليه‪.‬‬

‫الفرع الثاين ‪:‬يف االصطالح‪:135‬‬


‫هو‪ :‬اتفاق اجملتهدين من أمة حممد صلي هللا عليه وسلم بعد وفاته يف أي عصر من العصور على حكم شرعي‪.‬‬
‫أو هو‪ :‬اتفاق اجملتهدين من املسلمني يف أي عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلي هللا عليه وسلم على حكم شرعي يف قضية مل‬
‫يرد حبكمها نص‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬أركان اإلمجاع‪:136‬‬


‫ومعناه أن يكون رأي كل واحد على وفق رأي اآلخر‪.‬‬ ‫صدور االتفاق‬ ‫‪1‬‬

‫إذ ال عربة بوجود غريهم‪.‬‬ ‫اجملتهدون‪:‬‬ ‫‪2‬‬


‫واجملتهد هو الذي حصلت له ملكة يقتدر هبا على استنباط األحكام من مصادرها‪ .‬ويشرتط يف اجملتهد عدة شروط‬
‫منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬العلم ابلقرآن والسنة ومسائل اإلمجاع‪.‬‬
‫ب‪ -‬أن يكون عاملاً أبصول الفقه‪.‬‬
‫ج‪ -‬أن يكون ملماً بعلوم اللغة العربية‪.‬‬

‫يشرتط أن يكون أهل اإلمجاع الذي نعنيه من املسلمني‪ ،‬وهم كل من أجاب دعوة‬ ‫أن يكون اجملمعون من أمة‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 133‬لسان العرب‪ :‬ابن منظور‪ )53 /8( ،‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪134‬سنن النسائي‪ ،‬كتاب الصيام‪ ،‬ابب ذكر اختالف الناقلني خلرب حفصة يف ذلك‪.)196/4( ،‬‬
‫(‪ ،)80 /3‬فـواتح الرمحـوت شـرح مسـلم‬ ‫‪ 135‬انظر‪ :‬املستصفى‪ :‬الغزايل‪ ،)110 /1( ،‬التقرير والتحبري‪ :‬ابن أمـري احلـاج‪،‬‬
‫الثبـوت‪ :‬ابــن نظـام الــدين‪ ،)211 /2( ،‬اإلحكــام يف أصـول األحكــام‪ :‬اآلمــدي‪ ،)101 /1( ،‬إرشـاد الفحــول‪ :‬الشــوكاين‪،‬‬
‫ص(‪.)107‬‬
‫‪ 136‬انظـر‪ :‬كشـف األسـرار‪ :‬البخــاري‪ ،)947 /2( ،‬اإلحكـام يف أصـول األحكـام‪ :‬اآلمــدي‪ ،)137 /1( ،‬فـواتح الرمحـوت شــرح‬
‫مسلم الثبوت‪ :‬ابن نظام الدين‪.)235 /2( ،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫رسول هللا صلي هللا عليه وسلم وآمن مبا جاء به‪ .‬وقد اتفق العلماء على أنه ال عربة‬ ‫حممد صلي هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫ابلكافر يف هذا املوضوع وال عربة أيضاً ابتفاق األمم السابقة‪.‬‬

‫فال عربة يف االتفاق احلاصل يف عصره ألنه إذا وافق قول اجملمعني قول الرسول صلي‬ ‫اتفاق اجملتهدين بعد وفاة‬ ‫‪4‬‬
‫هللا عليه وسلم فاحلجة هي قوله صلي هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫الرسول صلي هللا عليه‬
‫مبعىن أن الواقعة اليت َيصل اإلمجاع عليها جيب أن تكون بعد وفاة النيب صلي هللا عليه‬ ‫وسلم‬
‫وسلم حبيث مل يرد فيها نص من قرآن أو سنة‪.‬‬
‫واملقصود هنا اتفاق من هم أهل لالتفاق‪.‬‬ ‫اتفاق اجملتهدين يف‬ ‫‪5‬‬
‫واملراد ابلعصر هو عصر من كان من أهل االجتهاد يف الوقت الذي حدثت فيه‬ ‫عصر من العصور‪:‬‬
‫املسائل اجلديدة اليت تتطلب حكماً شرعياً فيها‪.‬‬
‫وعلى ذلك فال يعقد اإلمجاع مبن صار جمتهداً بعد حدوث تلك املسألة حىت ولو كان‬
‫اجملتهدون الذين أصدروا حكماً فيها ما زالوا أحياء‪.‬‬

‫فاملقصود ابإلمجاع الذي نعنيه هنا هو ما خيتص ابحلكم الشرعي كحل البيع وحرمة‬ ‫االتفاق على حكم شرعي‪:‬‬ ‫‪6‬‬
‫اخلمر‪ ،‬وليس ما يتعلق ابللغة والعلوم وآراء الناس يف احلرب‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬مستند االمجاع‬


‫مستند االمجاع هو الدليل الذي يعتمد عليه اجملتهدين فيما أمجعوا عليه و اختلفوا يف ضرورة االعتماد علي املستند‪ . 137‬هل جيب أن ينعقد‬
‫اإلمجاع عن مستند أم ال ؟ ذهب بعض األصوليني ‪ -‬كما حكى اآلمدي وغريه ‪ -‬إىل أنه اليشرتط املستند‪ ،‬بل جيوز صدوره عن توفيق‬
‫أبن يوفقهم هللا تعاىل الختيار الصواب‬
‫ورَّد أبن فائدته سقوط البحث‬
‫لو كان له سن ٌد لكان ذلك السند هو احلجة‪ ،‬واستغنينا عن اإلمجاع‪ُ .‬‬ ‫واحتجوا أبدلة منها‪:‬‬
‫‪138‬‬
‫عن الدليل وحرمة املخالفة اجلائزة قبل انعقاده‬

‫على أن اإلمجاع الينعقد إالعن مستند‪ ،‬ألن الفتوى بدون املستند خطأ‪ ،‬لكونه قوالً يف الدين بغري علم‪،‬‬ ‫واجلمهور‬
‫‪139‬‬
‫واألمة معصومة عن اخلطأ‪.‬‬
‫مث هذا املستند إما‬
‫وهو األغلب أي الكتاب و السنة املتواترة‬ ‫دليل قطعي‬
‫‪140‬‬
‫وهو خرب الواحد أوالقياس‪ .‬واختلفوا يف جواز انعقاد اإلمجاع مستنداً إىل قياس واجلمهور على جواز‬ ‫ظين‬

‫أالحكام لآلمدي ج‪1‬ص‪ ,133‬كشف األسرار (ج‪ 3‬ص‪)983‬‬ ‫‪137‬‬

‫‪ 138‬اخلضري (ص ‪ )282‬و راجع أيضا‪ :‬أصول البزدوي ‪ 247/1‬والبخاري ‪ ،‬كشف األسرار‪208/6‬‬


‫‪ 139‬راجع‪ :‬ابن أمري احلاج ‪ ،‬التقرير والتحبري‪125 /5‬؛و اخلضري ص ‪282‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املطلب الرابع‪ :‬أقسام اإلمجاع‪ :141‬ينقسم اإلمجاع إىل قسمني‪ :‬إمجاع صريح وآخر سكويت‪:‬‬
‫هو ما اتفق فيه مجيع جمتهدي أي عصر على حكم واقعة إببداء كل واحد منهم رأيه‬ ‫اإلمجاع الصريح‬ ‫الفرع األول‪:‬‬
‫صراحة بفتوى أو قضاء‪ .‬وهذا النوع من اإلمجاع حجة قاطعة ال َيكم يف واقعة خبالفه‬
‫وجيب العمل به مثل اإلمجاع على حد شارب اخلمر مثانني جلدة‬
‫هو ما يراه بعض اجملتهدين يف عصر حول حادثة أو واقعة معينة بفتوى أو قضاء فيسكت‬ ‫اإلمجاع السكويت‬ ‫الفرع الثاين‬
‫اآلخرون دون عذر مينعهم من املوافقة أو املخالفة‪.‬‬
‫وهذا النوع من اإلمجاع خمتلف فيه لعدم اجلزم مبوافقة الساكت‪ .‬مثل اإلمجاع على حترمي‬
‫بيع املطعومات قبل قبضها‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫و فيه للعلماء آراء أمها اثنان‪:‬‬
‫• اجتاه للمالكية و الشافعية ‪ :‬ال يكون امجاعا و ال حجة‬
‫اجتاه للحنفية و احلنابلة ‪ :‬يعد امجاعا و حجة قطعية‬ ‫•‬

‫املطلب اخلامس‪ :‬ومرتبة اإلمجاع وحجيته‪:143‬‬


‫أييت اإلمجاع يف املرتبة الثالثة من بني مصادر التشريع اإلسالمي‪ ،‬فإذا توافرت فيه الشروط املطلوبة شرعاً فإنه يثبت املراد به‬
‫على سبيل اليقني أبن يكون موجباً للحكم قطعاً كالكتاب والسنة‪.‬‬
‫وهذا هو قول عامة املسلمني ومجهور العلماء‪.‬‬
‫اذا نقل الينا بطريق األحاد أو كان امجاعا سكوتيا فانه ال يفيد اال الظن ابحلكم دون القطع به‬
‫‪144‬‬ ‫ت لِلن ِ‬
‫َّاس‪...... .‬‬ ‫ُخ ِر َج ْ‬
‫ٍ‬
‫ويدلل لذلك قول هللا تعاىل‪ُ  :‬كْنـتُ ْم َخ ْ َري أ َُّمة أ ْ‬
‫ك َج َعلْنَا ُك ْم أ َُّمةً َو َسطاً لِتَ ُكونُوا ُش َه َداءَ َعلَى الن ِ‬
‫َّاس‪.145‬‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل‪َ  :‬وَك َذل َ‬
‫مجيعاً َوال تَـ َفَّرقُوا‪.)146(‬‬ ‫صموا ِحبب ِل َِّ‬
‫اَّلل َِ‬ ‫ِ‬
‫إضافة إىل قوله تعاىل‪َ  :‬و ْاعتَ ُ َْ‬

‫‪ 140‬راجع‪ :‬ابن جنيم ‪ ،‬فتح الغفار بشرح املنار ‪6/3‬؛واجلويين ‪ ،‬التلخيص يف أصول الفقه ‪47/3‬؛و اخلضري ص ‪.282‬‬
‫؛ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص ‪188‬‬
‫‪ 141‬انظ ــر‪ :‬امل ــدخل إىل م ــذهب اإلم ــام أمح ــد‪ :‬اب ــن ب ــدران‪ ،‬ص(‪ ،)133‬املستص ــفى‪ :‬الغـ ـزايل‪ ،)121 /1( ،‬اإلحك ــام يف أص ــول‬
‫األحكام‪ :‬اآلمدي‪ ،)129 /1( ،‬أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬زكي الدين شعبان‪ ،‬ص(‪.)45‬‬
‫املستصفي (ج‪1‬ص‪ ,)121‬كشف األسرار (ج‪2‬ص‪)948‬‬ ‫‪142‬‬

‫‪ 143‬انظر‪ :‬املستصفى‪ :‬الغـزايل‪ ،)124 /1( ،‬املـدخل إىل مـذهب اإلمـام أمحـد‪ :‬ابـن بـدران‪ ،‬ص(‪ ،)129‬هنايـة السـول‪ :‬اإلسـنوي‪،‬‬
‫(‪ ،)343 /2‬الوسيط يف أصول الفقه‪ :‬د‪ .‬الزحيلي‪ ،‬ص(‪ )324‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 144‬سورة آل عمران‪ :‬من اآلية (‪.)110‬‬
‫‪ 145‬سورة البقرة‪ :‬من اآلية (‪.)143‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ُويل األ َْم ِر ِمْن ُك ْم‪.147‬‬


‫ول َوأ ِ‬ ‫اَّلل وأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الر ُس َ‬
‫َط ُيعوا َّ‬ ‫وجيمع ذلك قول هللا تعاىل‪َ  :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُوا أَط ُيعوا ََّ َ‬
‫ودل على ذلك أيضاً سنة احلبيب املصطفى صلي هللا عليه وسلم يف قوله‪( :‬ال جتتمع أميت على اخلطأ)‪ 148‬ويف رواية على (‬
‫ضاللة )‪.‬‬
‫وقوله صلي هللا عليه وسلم‪( :‬سألت هللا تعاىل أن ال جتتمع أميت على ضاللة فأعطانيها) ‪.‬‬
‫‪149‬‬

‫مراتب اإلمجاع ثالثة‪:‬‬


‫وهو الذي اتفق مجهور الفقهاء على حجيته‪ ،‬وهو أن يصرح كل‬ ‫اإلمجاع الصريح‬ ‫املرتبة األوىل‬
‫واحد من اجملتهدين بقبول ذلك الرأي املنعقد عليه‪.‬‬
‫وهو أن يذهب واحد من أهل االجتهاد إىل رأي‪ ،‬ويعرف يف عصره‪،‬‬ ‫اإلمجاع السكويت‬ ‫املرتبة الثانية‬
‫وال ينكر عليه منكر‪ ،‬وهو حجة‪ ،‬ولكن دون اإلمجاع الصريح يف‬
‫القوة‬
‫مجيعا‪ ،‬إذا كان هناك‬
‫فال يصح أن أييت شخص برأي يناقض آراءهم ً‬ ‫وهي أن خيتلف الفقهاء يف‬ ‫املرتبة الثالثة‬
‫مع االختالف اتفاق على أصل‬ ‫عصر من العصور على مجلة‬
‫آراء‬
‫ومثاله‪ :‬مسألة مرياث اجلد مع اإلخوة‪ ،‬فحكمه كما يلي‪:‬‬
‫يُعطى مثل اإلخوة‪ ،‬على أال يقل عن الثلُث‪.‬‬
‫يُعطى مثل اإلخوة‪ ،‬على أال يقل ع ِن ُ‬
‫السدس‪.‬‬
‫يرث ويسقط مرياث اإلخوة بوجوده‪.‬‬
‫فمع اختالفهم يف كيفية القسمة له‪ ،‬لكن اتفقوا على أنه ال بد وأن يرث‪ ،‬فال يصح أن جييء فقيه فيقرر‬
‫أنه ال يرث؛ ألنه يكون بذلك خمال ًفا لإلمجاع‪ ،‬وخمالفة اإلمجاع ضاللة وشذوذ عن مجاعة أهل السنة‪.‬‬
‫عد بعض العلماء ذلك اإلمجاع ضمن اإلمجاع السكويت؛ كاحلنفيَّة‪.‬‬ ‫وقد َّ‬
‫(تنبيه)‪:‬‬
‫يتكون إال من اجملتهدين ممن ال ي ْدعون إىل بدعهم؛ كالروافض‪ ،‬واخلوارج‪ ،‬خبالف َم ْن نسب إليهم الكالم واخلوض يف القدر أو‬
‫اإلمجاع ال َّ‬
‫ْ‬
‫نُسبوا إىل اإلرجاء‪ ،‬فإن هذا ال خيرج هبم عن صفوف أهل اإلمجاع‪.‬‬
‫واجملتهد املعترب‪ :‬هو العارف مبسائل الفقه وأدلتها‬

‫‪ 146‬سورة آل عمران‪ :‬من اآلية (‪.)103‬‬


‫‪ 147‬سورة النساء‪ :‬من اآلية (‪.)59‬‬
‫‪ 148‬سنن ابن ماجة‪ ،‬كتاب الفنت‪ ،‬ابب السواد األعظم‪.)1303/2( ،‬‬
‫‪ 149‬املصدر السابق‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫رابعا‪ :‬األدلة املتفق عليها‪:‬‬

‫القياس‬

‫تكمن أمهية القياس كمصدر من مصادر التشريع يف أنه يتجاوب مع املستجدات واحلوادث والتطورارت اليت تلحق‬
‫ابملسائل الفقهية وذلك أن أي تشريع من التشريعات ال تفي نصوصه العامة بكل جزئيات وفرعيات املسائل اليت‬
‫تتعلق ابملكلفني‪ .‬لذلك أفسح اجملال أمام العلماء أن يتعاملوا مع أحكام املسائل اجلزئية واخلاصة يف حماولة إلحلاق‬
‫حكم حبكم آخر منصوص عليه وذلك طريقه القياس‪.‬‬

‫حقيقة القياس‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫أركان القياس‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫حجية القياس‬ ‫املطلب الثالث‬
‫أقسام القياس‬ ‫املطلب الرابع‬
‫القياس و احلكمة‬ ‫املطلب اخلامس‬
‫القياس و مسالك العلة‬ ‫املطلب السادس‬

‫املطلب األول‪ :‬حقيقة القياس‪:‬‬

‫القياس يف اللغة‪:150‬‬ ‫الفرع األول‬


‫تقدير شيء على مثال شيء آخر‪ ،‬وتسويته به‪ ،‬ولذلك مسى املكيال مقياساً ويقال فالن ال يقاس بفالن أي ال يساويه‪ ،‬وقيل هو‬
‫مصدر قست الشيء إذا اعتربته‪ ،‬أقيس قيساً وقياساً‪.‬‬
‫ومن ذلك يتضح لنا أن القياس له استعماالت ثالثة يف اللغة‪.‬‬
‫للتقدير احلسي‪ :‬يقال قست الثوب ابلذراع إذا قدرته به‪ .‬وقست األرض ابملرت‪.‬‬ ‫األول‬
‫للتسوية وهو مفهوم معنوي على أغلب استعماالته‪ .‬كما قالوا‪ :‬فالن يساوي فالانً فضالً وشرفاً ومكانة‪.‬‬ ‫الثاين‬
‫صا ِر‪ 151‬مبعىن قيسوا حالكم على حاهلم‪.‬‬ ‫اعتَِربُوا َاي أ ِ‬
‫ُويل األَبْ َ‬ ‫لالعتبار والنظر ومنه قول هللا تعاىل‪ :‬فَ ْ‬ ‫الثالث‬
‫القياس يف االصطالح‪:152‬‬ ‫الفرع الثاين‬
‫احلاق أمر غري منصوص على حكمه الشرعي أبمر منصوص على حكمه الشرتاكهما يف علة احلكم‪.‬‬

‫‪ 150‬لسان العرب‪ :‬ابن منظور‪.)71 ،70/8( ،‬‬


‫‪ 151‬سورة احلشر‪ :‬من اآلية (‪.)2‬‬
‫‪ 152‬خمتصـ ــر املنتهـ ــى‪ :‬ابـ ــن احلاجـ ــب‪ ،)205/2( ،‬اإلحكـ ــام يف أصـ ــول األحكـ ــام‪ :‬اآلمـ ــدي‪ ،)187/3( ،‬املستصـ ــفى‪ :‬الغـ ـزايل‪،‬‬
‫(‪.)54/2‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫أو هو‪ :‬احلاق واقعة مل يرد نص شرعي على حكمها بواقعة ورد نص شرعي حبكمها الشرتاك الواقعتني يف علة‬
‫هذا احلكم‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬أركان القياس(‪:)153‬‬


‫أركان القياس أربعة وهي أصل وفرع وحكم األصل والعلة‪.‬‬
‫األصل‪ :‬هو ما ورد حبكمه نص ويسمى أيضاً املقيس عليه‪.‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫ب‪ -‬الفرع‪ :‬وهو الشيء الذي مل يرد حبكمه نص ويراد تسويته ابألصل يف حكمه ويسمى أيضاً ابملقيس‪.‬‬
‫ج‪ -‬حكم األصل‪ :‬وهو احلكم الشرعي الذي ورد به النص يف األصل ويراد أن يكون مثله يف الفرع‪.‬‬
‫د‪ -‬العلة‪ :‬وهي الوصف أو السبب الذي بين عليه حكم األصل لوجوده يف الفرع‪.‬‬

‫مثال القياس‪:‬‬
‫‪ -1‬األصل‪ :‬اخلمر‪.‬‬
‫حكمها (التحرمي)‪.‬‬
‫العلة (اإلسكار وذهاب العقل)‪.‬‬
‫الفرع‪ :‬احلشيشة وسائر امل َخ ِّدرات‪.‬‬
‫ُ‬
‫حكمها (التحرمي)‪.‬‬
‫العلة (اإلسكار وذهاب العقل)‪.‬‬
‫فهنا تلحق احلشيشة وسائر املخدرات حبكم اخلمر من التحرمي؛ التِّفاقهما يف علة ذهاب العقل‪.‬‬
‫‪ -2‬قال رسول هللا صلي هللا عليه و سلم‪( :‬ال يرث القاتل )‪.154‬‬
‫فالقتل مينع املرياث إذا حصل من الوارث‪.‬‬
‫العلة يف ذلك هو استعجال الشيء قبل أوانه فيعاقب حبرمانه‪.‬‬
‫وقيس عليه املوصى له إذا قتل املوصي‪.‬‬
‫فاألصل حكمه منع املرياث وملا حتققت نفس العلة املذكورة يف الفرع املوصى له أخذ نفس احلكم‪.‬‬

‫‪ 153‬اإلحك ــام يف أص ــول األحك ــام‪ :‬اآلم ــدي‪ ،)193/3( ،‬إرشــاد الفح ــول‪ :‬الشــوكاين‪ ،‬ص(‪ ،)204‬كش ــف األس ـرار‪ :‬البخ ــاري‪،‬‬
‫(‪ ،)300/3‬املستصفى‪ :‬الغزايل‪.)82/1( ،‬‬
‫‪ 154‬سبق خترجيه ص(‪.)215‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املطلب الثالث‪ :‬حجية القياس‪:155‬‬


‫اتفق العلماء على حجية القياس مصدراً من مصادر التشريع يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬جيب العمل به‪ ،‬واالمتثال للحكم الثابت به وأييت‬
‫يف املرتبة الرابعة من بني مصادر التشريع‪.‬‬
‫ودل على حجيته القرآن الكرمي والسنة النبوية‪.‬‬
‫اَّللِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُويل األ َْم ِر مْن ُك ْم فَِإ ْن تَـنَ َاز ْعتُ ْم ِيف َش ْيء فَـُردُّوهُ إِ َىل َّ‬
‫ول َوأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الر ُس َ‬
‫اَّللَ َوأَط ُيعوا َّ‬
‫ين َآمنُوا أَط ُيعوا َّ‬‫قال تعاىل‪َ  :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ول‪.156‬‬ ‫الرس ِ‬
‫َو َّ ُ‬
‫ِ ‪157‬‬
‫صار‪. ‬‬ ‫اعتَِربُوا َاي أ ِ‬
‫ُويل األَبْ َ‬ ‫وقال سبحانه‪ :‬فَ ْ‬
‫وأما السنة فحديث معاذ بن جبل – رضي هللا عنه ‪ :-‬املعروف ملا أرسله الرسول صلي هللا عليه و سلم قاضياً إىل‬
‫اليمن‪.‬‬

‫هذا ومما ينبه إليه أن هذه املصادر األربعة اليت حتدثنا عنها (القرآن الكرمي‪ ،‬والسنة النبوية‪ ،‬واإلمجاع‪ ،‬والقياس) هي املصادر املتفق عليها بني‬
‫مجهور العلماء‪ .‬على أنه توجد مصادر أخرى خمتلف فيها بني العلماء مثل االستحسان واملصاحل املرسلة والعرف وشرع من قبلنا ومذهب‬
‫الصحايب واالستصحاب وسد الذرائع‪.‬‬

‫املطلب الرابع ‪ :‬أقسام القياس‬


‫َّ‬
‫أن القياس اختلف العلماء ‪ -‬رمحهم هللا ‪ -‬يف مورد التقسيم فيه‬
‫وخفي‪ ،‬وطرد وعكس‪.‬‬ ‫جلي ٌّ‬ ‫وج ٍه ‪ ،‬فقال‪ :‬القياس نوعان‪ٌّ :‬‬ ‫‪ 1‬ومنهم من قسمه على ْ‬
‫هو الواضح الذي ثبتت علتُه ابلنص‪ ،‬أو مبا ال جمال ِّ‬
‫للشك فيه‬ ‫القياس اجللي‬
‫مثاله‪ :‬ما رواه البخاري ومسلم يف صحيحيهما‪ ،‬عن عبدهللا بن عمر ‪ -‬رضي هللا عنهما ‪ -‬قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪(( :-‬إذا كنتم ثالثة فال يتناجى اثنان دون اآلخر حىت ختتلطوا ابلناس؛ فإن ذلك‬
‫النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬على أن علة النص هي إحزان األخ الثالث‪ ،‬فإذا وجد‬‫نص ُّ‬ ‫َيزنه))‪ ،‬فهنا َّ‬
‫إحزان ألخيك يف غري التناجي ثبت النهي؛ لوجود علة اإلحزان‪ ،‬فكأن الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬‬
‫قال‪ :‬كل ما َيزن أخاك فهو حرام‪ ،‬وهذا قياس جلي‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬ما رواه البخاري ومسلم ‪ -‬رمحهما هللا عز وجل ‪ -‬عن حذيفة بن اليمان ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬قال‪:‬‬
‫رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬إذا قام من الليل يشوص فاه ابلسواك‪ ،‬ففي هذا احلديث رأى‬
‫كان ُ‬
‫أيضا عند االنتباه‬
‫حذيفة النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬عند االنتباه من نوم الليل‪ ،‬وال مينع أن يكون ذلك ً‬

‫‪ 155‬انظـ ــر‪ :‬خمتصـ ــر املنتهـ ــى وحواشـ ــيه‪ :‬ابـ ــن احلاجـ ــب‪ )248 /2( ،‬ومـ ــا بعـ ــدها‪ ،‬املستصـ ــفى‪ :‬الغ ـ ـزايل‪،)70 ،69 ،56 /2( ،‬‬
‫اإلحكــام يف أصــول األحكــام‪ :‬اآلمــدي‪ ،)64 /3( ،‬كشــف األس ـرار‪ :‬البخــاري‪ ،)990 /2( ،‬التقريــر والتحبــري‪ :‬ابــن أمــري‬
‫احلاج‪ ،)242 /3( ،‬إرشاد الفحول‪ :‬الشوكاين‪ ،‬ص(‪.)228 ،178 ،174‬‬
‫‪ 156‬سورة النساء‪ :‬من اآلية (‪.)59‬‬
‫‪ 157‬سورة احلشر‪ :‬من اآلية (‪.)2‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫يتأكد السواك عند االنتباه مطل ًقا‪ ،‬كما هو‬ ‫ألن العلَّة واحدة‪ ،‬وهي ُّ‬
‫تغري الفم ابلنوم‪ ،‬فعلى هذا َّ‬ ‫من نوم النهار؛ َّ‬
‫مذهب احلنابلة ‪ -‬رمحهم هللا ‪ -‬ابلدليل يف نوم الليل‪ ،‬وابلقياس يف نوم النهار‪.‬‬

‫واعلم أن القياس الواضح اجللي يعرب عنه بعض أهل العلم ‪ -‬كشيخ اإلسالم ابن تيميَّة ‪ -‬رمحه هللا ‪ -‬ابلعموم‬
‫املعنوي[‪]54‬؛ ألن العموم يكون ابأللفاظ‪ ،‬وقد يكون ابملعاين‪ ،‬مبعىن أننا إذا تيقنَّا أو غلب على ظننا أن هذا‬
‫املعىن الذي جاء به النص‪ ،‬يشمل هذا املعىن الذي مل يدخل يف النص لفظًا‪ ،‬فإننا نقول‪ :‬دخل فيه العموم‬
‫املعنوي‪.‬‬

‫فهو ذو العلة اخلفيَّة‪ ،‬ولذلك خيتلف العلماء يف حتديدها‬ ‫اخلفي‬


‫القياس ُّ‬
‫الرِّز على ُِّ‬
‫الرب يف ثبوت الراب‪.‬‬ ‫مثاله‪ :‬قياس ُّ‬

‫الرُّز َمل ينص عليه النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬فهل يقاس على ُِّ‬
‫الرب؛ ألهنما يف املطعوم‪ ،‬أو ال يقاس؛ ألن‬ ‫ُّ‬
‫عني كما يف الصحيحني؟‬
‫الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪َّ -‬‬
‫قياسا خفيًّا‪.‬‬
‫اجلواب‪ :‬فيه احتمال‪ ،‬وهلذا نُسمي مثل هذا القياس ً‬
‫فهو أن يُقاس النظري على نظريه‬ ‫قياس الطرد‬
‫ث } فهذا احلديث يدل داللة واضحة على أن الوارث‬ ‫ومثال ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم { الْ َقاتِ ُل َال يَِر ُ‬
‫إذا قتل موروثه ظلمـاً وعدواانً فإنه ال يرثه ولذلك إذا قتل املوصي له املوصي فإنه مينع من أخذ الوصية لوجود‬
‫العلة وهى (( القتل غري املشروع )) ‪.‬‬
‫أن يقاس الشيء على ضده‪.‬‬ ‫وقياس العكس‬
‫ومثاله‪ :‬ما رواه أمحد ومسلم والنَّسائي ‪ -‬رمحهم هللا ‪ -‬عن أيب ذر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬أن النيب ‪ -‬صلى هللا‬
‫ضع أحدكم صدقة))‪ ،‬قالوا‪ :‬اي رسول هللا‪ ،‬أأييت أحدان شهوته‪ ،‬ويكون له فيها‬‫عليه وسلم ‪ -‬قال‪(( :‬ويف بُ ْ‬
‫أجر؟ قال‪(( :‬أرأيتم لو وضعها يف حرام‪ ،‬أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها يف احلالل كان له فيها‬
‫أجر))‪.‬‬
‫أقسام آخر‪ :‬قياس العلة و قياس الداللة و قياس الشبه‬ ‫‪2‬‬
‫فهذه ثالثة أنواع للقياس‪ ،‬أقواها قياس العلة‪ ،‬مث قياس الداللة‪ ،‬مث قياس الشبه‬
‫وهو ما كانت العلة فيه موجبة للحكم؛ أي‪ :‬مقتضية له‪ ،‬أبن يكون امل ِقيس (الفرع) أوىل ابحلكم من امل ِقيس‬ ‫قياس العلة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عليه (األصل)؛‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ُف ﴾ [االسراء‪.]23 :‬‬ ‫مثاله‪ :‬قال ‪ -‬تعاىل ‪ -‬يف الوالدين‪ ﴿ :‬فَال تَـ ُق ْل َهلَُما أ ٍّ‬
‫ُف ﴾‪ :‬اسم فعل مضارع مبعىن أتضجر‪ ،‬فال تتضجر حىت وإن أثقال عليك‪ ،‬اصرب واحتسب‪ ،‬وال تنهرمها‬ ‫﴿أ ّ‬
‫السائِ َل فَ َال تَـنْـ َه ْر ﴾ [الضحى‪.]10 :‬‬
‫ابللسان إذا سأالك شيئًا؛ قال ‪ -‬تعاىل ‪َ ﴿ :-‬وأ ََّما َّ‬
‫وقال ‪ -‬تعاىل ‪َ ﴿ :-‬وال تَـنْـ َه ْرُمهَا َوقُ ْل َهلَُما قَـ ْوًال َك ِرميًا ﴾ [اإلسراء‪]23 :‬؛ أي‪ :‬قوالً حسنًا حسب ما يقتضيه‬
‫حق هللا ورسوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬فإذا جاء إنسان‪ ،‬وأمره‬ ‫احلال؛ ألن حق الوالدين أعظم احلقوق بعد ِّ‬
‫أبوه بشيء‪ ،‬أو ُّأمه ففعل‪ ،‬مث أمره اثنية ففعل‪ ،‬مث أمره اثلثة‪ ،‬فقال‪ :‬أف‪ ،‬فهذا حرام‪ ،‬فأمره الرابعة فضربه‪ ،‬فهذا‬
‫النهي عنه يف اآلية‪ ،‬ولكن إذا حرم التأفف‪ ،‬حرم الضرب من‬ ‫موجودا ُ‬ ‫ً‬ ‫أشد من التحرمي‪ ،‬مع أن الضرب ليس‬
‫ومعىن؛ أي‪ :‬آذيت اجلسد والقلب‪ ،‬وإذا‬ ‫حسا ً‬ ‫ابب أوىل؛ ألن العلة اإليذاء‪ ،‬وأنت إذا ضربت الوالدين آذيتهما ًّ‬
‫قلت‪ :‬أف‪ ،‬آذيت القلب فقط‪ ،‬فما َيصل به إيذاء القلب والبدن‪ ،‬أعظم مما َيصل به إيذاء القلب فقط‪.‬‬

‫أيضا قياس األ َْوىل‪ ،‬فكل قياس أوىل‪ ،‬فهو‬


‫إ ًذا هذا قياس علة؛ ألن الفرع ْأوىل ابحلكم من األصل‪ ،‬وهذا يُ َس َّمى ً‬
‫قياس علة‪.‬‬

‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْم َو َال الْيَـتَ َامى ظُلْ ًما ﴾ [النساء‪ ،]10 :‬فجاء إنسان فقال‪:‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫مثال آخر‪ :‬قال ‪ -‬تعاىل ‪ ﴿ :-‬إ َّن الذ َ‬
‫هنى هللا عن األكل‪ ،‬وأان لن آكلها‪ ،‬ولكين سأحرقها‪ ،‬نقول‪ :‬إحراقها أشد حترميًا من أكلها؛ َّ‬
‫ألن أكلها ليس‬
‫فيه إضاعة مال‪ ،‬وإحراقها فيه إضاعة للمال وإفساد له‪ ،‬ومع ذلك فيه أكل ملال اليتامى‪ ،‬فيكون حترمي اإلحراق‬
‫من ابب أوىل‪ ،‬ويكون هذا قياس علَّة‪.‬‬

‫مثال اثلث‪ :‬امرأة بِكْر قيل هلا‪ :‬أتريدين أن تتزوجي ً‬


‫فالان؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬ففي هذه احلالة نزوجها هذا الرجل‪،‬‬
‫ونقول‪ :‬قال النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يف البكر‪(( :‬إذهنا أن تسكت))؛ رواه البخاري ومسلم‪ ،‬فإذا‬
‫تكلمت ابملوافقة‪ ،‬وهذا هو قياس العلة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫تزوج إذا سكتت‪ ،‬فمن ابب أوىل إذا‬ ‫كانت َّ‬

‫مثال رابع‪ :‬روى مسلم ‪ -‬رمحه هللا ‪ -‬عن عبدهللا بن عمر ‪ -‬رضي هللا عنهما ‪ -‬قال‪ :‬قال رسول هللا ‪ -‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪(( :-‬إذا كنتم ثالثة فال يتناجى اثنان دون الثالث‪ ،‬حىت ختتلطوا ابلناس؛ فإن ذلك َيزنه))‪.‬‬

‫يتناجى اثنان دون الثالث؛ من أجل‬


‫ففي هذا احلديث هنى ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬القوم إذا كانوا ثالثة أن َ‬
‫شك أن هذا أشد إحز ًاان له؛‬
‫إحزانه‪ ،‬فإذا تكلم رجالن ومعهما اثلث‪ ،‬وصار يشتمان هذا الثالث علنًا‪ ،‬فال َّ‬
‫يف أو ِيف غريي‪.‬‬
‫ألنَّه يف حالة التناجي يقول‪ :‬رمبا كاان يتكلمان َّ‬

‫إذًا رفع الصوت بسبِّه وشتمه حرام؛ ألنه أشد إحز ًاان له‪ ،‬فصار الضابط يف قياس العلة أنه ما كان املقيس أوىل‬
‫ابحلكم من املقيس عليه‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫نظري احلكم يف املقيس عليه‪ ،‬يعين‪ :‬مها سواء‪ ،‬فيستدل هبذا على‬
‫فقياس الداللة هو أن يكو َن احلكم يف املقيس َ‬
‫ُ‬ ‫قياس الداللة‪.‬‬
‫للحكم‪.‬‬
‫ٌ ُ‬ ‫ة‬ ‫موجب‬ ‫العلة‬ ‫قياس‬ ‫يف‬ ‫ة‬‫َّ‬
‫ل‬ ‫الع‬ ‫َّ‬
‫ألن‬ ‫العلة؛‬ ‫قياس‬ ‫من‬ ‫أضعف‬ ‫الداللة‬ ‫قياس‬ ‫فيكون‬ ‫ليه‬ ‫وع‬
‫َ‬ ‫نظريه‪،‬‬

‫أما قياس الداللة‪َّ ،‬‬


‫فإن الدَّليل جموز للحكم‪ ،‬أي‪ :‬جموز لنقل احلكم من املقيس عليه إىل املقيس؛ ألنه نظري‬
‫بنظريه‪ ،‬وليس كداللة العلة؛ إذ من اجلائز أن يكون هلذا النظري معىن خاص مينع اإلحلاق‪ ،‬وهو غري معلوم لنا‪.‬‬

‫لف ‪ -‬رمحه هللا تعاىل ‪:-‬‬ ‫ومثاله‪ :‬قول املؤ ُ‬


‫يب تَـلَْزُم‬
‫الص ِّ‬ ‫َك َقولِنَا َم ُ‬
‫ال َِّ‬
‫ُّمو‬ ‫َزكاتُه َكبالِ ٍغ ِ‬
‫أي للن ُ‬
‫ُ َ ْ‬
‫اختلف أهل العلم ‪ -‬رمحهم هللا ‪ -‬يف حكم الزكاة يف مال الصيب‪ ،‬هل جتب أو ال؟ أما الزكاة يف مال البالغ‪،‬‬
‫فواجبة ابالتفاق‪.‬‬

‫فإذا قال قائل بقياس مال الصيب يف وجوب الزكاة على مال البالغ يف وجوب الزكاة‪ ،‬والعلة النمو‪ ،‬فكل منهما‬
‫كانت لبالغ‪ ،‬فتجب زكاهتا إذا كانت‬ ‫مال ٍ‬
‫انم‪ ،‬فالثمار والغنم واإلبل والبقر وعروض التجارة‪ ،‬جتب زكاهتا إذا ْ‬ ‫ٌ‬
‫النمو‪.‬‬
‫لصيب‪ ،‬والعلة ُ‬
‫أما إذا قلنا‪ :‬إهنا اثبتة ابلنص ‪ -‬وهو الصحيح ‪ -‬فال حاجة للقياس‪.‬‬

‫والزكاة يف مال الصيب واجبة ابلنص؛ ألن الزكاة حق املال‪ ،‬كما ورد ذلك يف الكتاب‪ ،‬قال ‪ -‬تعاىل ‪ُ ﴿ :-‬خ ْذ‬
‫يقل‪ :‬خذ منهم‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ص َدقَةً ﴾ [التوبة‪ ،]103 :‬وَمل ْ‬
‫م ْن أَْم َواهل ْم َ‬

‫أيضا وردت السنة‪ ،‬ففي حديث معاذ املتفق عليه‪ ،‬قال له النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬حني أرسله‬‫وبذلك ً‬
‫((أعلمهم أن هللا فرض عليهم صدقة يف أمواهلم‪ ،‬تؤخذ من أغنيائهم‪ ،‬فرتد يف فقرائهم))‪.‬‬
‫إىل اليمن‪ْ :‬‬

‫وقال أبو بكر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬كما يف صحيح مسلم يف حديث الردة‪" :‬وهللا ألقاتلن من َّفرق بني الصالة‬
‫والزكاة؛ َّ‬
‫فإن الزكاة حق املال"‪ ،‬فوجوب الزكاة يف مال الصيب واجملنون ابلنص‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬فإنه يقول‪ :‬أوجب‬


‫أحدا ترك االستدالل ابلنص‪ ،‬وقال‪ :‬أان أريد أن أثبت ذلك ابلقياس ً‬
‫لكن لو أن ً‬
‫قياسا على وجوب الزكاة يف مال البالغ‪ ،‬جبامع وجود النمو يف ٍّ‬
‫كل منهما‪.‬‬ ‫الزكاة يف مال الصيب ً‬

‫مثال آخر على قياس الداللة‪:‬‬


‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين َأيْ ُكلُو َن أ َْم َو َال الْيَـتَ َامى ظُلْ ًما إَِّمنَا َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهن ْم َان ًرا َو َسيَ ْ‬
‫صلَ ْو َن َسع ًريا ﴾‬ ‫قال ‪ -‬تعاىل ‪ ﴿ :-‬إ َّن الذ َ‬
‫أيضا َيرم‪ ،‬وإن كانت اآلية‬ ‫ظلما‪ ،‬فهذا ً‬ ‫[النساء‪ ،]10 :‬فجاء إنسان وشرب من ماء اليتيم‪ ،‬أو اكتسى بثوبه ً‬
‫فالشرب مثله‪ ،‬واللباس مثله‪ ،‬وهذا قياس داللة؛ ألنه استدالل ابلنظري على نظريه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يف األكل‪،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫شبها‪.‬‬
‫وقياس الشبه هو تردُّد الفرع بني أصلَ ْني خمتلفني يف احلكم‪ ،‬فيلحق أبكثرمها ً‬ ‫قياس َّ‬
‫الشبمه‬
‫وضرب املؤلف ‪ -‬رمحه هللا ‪ -‬مثاالً بقوله‪:‬‬
‫الرقِيق ِيف ا ِإلتْ ِ‬
‫الف‬ ‫فَـلْيَـلْ َح ِق َّ ُ‬
‫ِابمل ِال الَ ِابحل ِر ِيف األَوص ِ‬
‫اف‬ ‫َْ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫فالرقيق يشبه احلر يف حقوق هللا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فالتوحيد والشهادة للرسول ابلرسالة وإقامة الصالة والصيام‪،‬‬
‫واجبات عليه‪ ،‬أما الزكاة واحلج فال؛ ألنه ليس له مال‪.‬‬

‫وكذلك يشبه الرقيق البهيمة يف كونه يباع ويشرتى‪ ،‬ويرهن ويوهب‪ ،‬ويوقف‪.‬‬

‫قياسا على البهيمة؟‬


‫قياسا على احلر؟ أو ابلقيمة ً‬‫فإذا أتلف ‪ -‬يعين‪ :‬قتل رجالً خطأ ‪ -‬فهل يضمن ابلدية ً‬
‫شبها ابلبهيمة؛ ألن احلر ال ميكن أن يباع‪ ،‬وال‬
‫نقول‪ :‬يف ذلك تفصيل‪ ،‬ففي ابب املعاوضات جند أنه أكثر ً‬
‫يرهن‪ ،‬وال يوقف‪ ،‬ويف ابب العبادات أشبه ابحلر‪.‬‬

‫ليست مسألة عبادات‪ ،‬ولكنها مسألة ضمان ومعاوضات‪ ،‬فإذا أتلف العبد‪ ،‬وقارَّان بني احلر وبني‬
‫واملسألة ْ‬
‫البهيمة وجدان أنه أقرب إىل البهيمة يف ابب اإلتالف‪ ،‬وعلى هذا فيضمن ابلقيمة‪ ،‬فتكون ديته قيمته‪ ،‬سواء‬
‫كانت مثل دية احلر‪ ،‬أو أقل‪ ،‬أو أكثر‪.‬‬

‫عاجزا أصم أبكم عالة على‬


‫كبريا ً‬
‫وشيخا ً‬
‫قواي‪ ،‬ذا علم وعقل ومروءة‪ً ،‬‬ ‫شااب ًّ‬
‫وعلى هذا‪ ،‬فلو كان العبد املقتول ًّ‬
‫عظيما‪ ،‬فدية الشاب قد تكون مليون رايل‪ ،‬ودية الشيخ العاجز قد ال‬ ‫الغري‪ ،‬فالدية ستختلف بينهما اختالفًا ً‬
‫تتعدى عشرة رايالت‪ ،‬ولو كان هذا بني ُحَّريْ ِن مل ختتلف الدية‪ ،‬كالمها مائة من اإلبل‪.‬‬

‫ويقول الشيخ حممد أبو مز ْه مرة‪ :‬يقسم القياس من حيث مراتبه إىل أقسام ثالثة‪ :‬قياس األوىل و الثاين و الثالث‬
‫وهو أن يكون املعىن الذي شرع ألجله ‪ -‬وهو العلة ‪ -‬يف الفرع أقوى من األصل؛ مثل‪ :‬قول النيب ‪ -‬صلى هللا‬ ‫قياس األوىل‬
‫ماج ْه إبسناد حسن‪.‬‬
‫خريا))‪ ،‬رواه ابن َ‬
‫حرم من املؤمن دمه‪ ،‬وأن يظن به إال ً‬
‫عليه وسلم ‪(( :-‬إن هللا َّ‬

‫خريا‪ ،‬فأوىل أال‬


‫فإن هذا يفهم منه حكم قول املكلف يف املؤمن غري اخلري‪ ،‬فإنه إذا كان ال يظن ابملؤمن إال ً‬
‫خريا‪ ،‬وهذا يسمى قياس األوىل‪ ،‬وقد علمنا أنه يعد من داللة النص‪ ،‬وأشار الشافعي يف‬
‫يقال فيه إال ً‬
‫"الرسالة"إىل أن بعض العلماء ال يعده من القياس‪.‬‬

‫أن يكون الوصف الذي اعتُرب علةً للحكم متحق ًقا يف الفرع بقدر ما يتحقق يف األصل‪ ،‬وذلك مثل قياس‬ ‫الثاين‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫العبد على األمة يف تنصيف العقوبة‪ ،‬فإذا قال ‪ -‬تعاىل ‪ ﴿ :-‬فَِإ َذا أ ِ‬
‫ف َما‬
‫ص ُ‬ ‫ني بَِفاح َشة فَـ َعلَْي ِه َّن ن ْ‬
‫ُحص َّن فَِإ ْن أَتَ ْ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫اب ﴾ [النساء‪ ،]25 :‬فالقياس يثبت التنصيف على العبد‪ ،‬وأكثر العلماء على أن‬ ‫ات ِمن الْع َذ ِ‬
‫علَى الْمحصنَ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ِ‬
‫ذلك من داللة النص؛ بل من داللة العبارة نفسها؛ ولذلك أقر هذا َمن نـَ َف ُوا القياس‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن هذا من قَبيل‬
‫املساواة بني الرجل واملرأة يف التكليفات الشرعية‪ ،‬إال ما قام الدليل فيه على وجوب التفاوت بنص‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وضوحا من حتققها يف األصل؛ كاإلسكار يف بعض األنبذة‪ ،‬فإنه ليس كقوة‬


‫ً‬ ‫أقل‬
‫أن يكون حتقق العلة يف الفرع َّ‬ ‫الثالث‬
‫دائما يكون أوضح يف الداللة‬
‫اإلسكار يف اخلمر‪ ،‬ولكن ذلك ال مينع استقامة التعليل؛ ألن املنصوص عليه ً‬
‫على العلة‪ ،‬وهذا يوجب أن يكون حتققها فيه أوضح‪.‬‬
‫ويقسم الشافعي القياس من انحية أخرى‪ ،‬وهي من حيث ما يلتحق به الفرع من األصل‪ ،‬فيذكر أن القياس نوعان‪ :‬قياس‬
‫املعىن‪ ،‬وقياس الشبه‬
‫احدا؛ وذلك ألن الفرع يف معىن األصل من حيث األمر الذي شرع‬ ‫أن يكون األصل الذي يرجع إليه الفرع و ً‬ ‫قياس املعىن‬
‫من أجله احلكم؛ كاألقسام اليت ذكرانها‪ ،‬فإن املعىن يف الفرع هو ذات املعىن الذي من أجله ثبت احلكم يف‬
‫األصل‪ ،‬فاالشرتاك واضح بَِّني‪.‬‬

‫أن يكون الفرع الذي يُعرف حكمه ابلرجوع إىل األصول املنصوص عليها‪ ،‬له يف هذه األصول أشباه‪ ،‬فريد‬ ‫قياس َّ‬
‫الشبمه‬
‫شبها به‪ ،‬ويكون فيه حتقيق مقاصد الشارع‪ ،‬ومثال ذلك‪ :‬شراب عصري‬ ‫اجملتهد الفرع إىل أقرب هذه األصول ً‬
‫القصب‪ ،‬فإننا إذا أردان حكمه من النصوص وردَّه إىل أصل من أصول األحكام‪ ،‬ترددان أنلحقه ابخلمر؛ ألنه‬
‫أحياان؟ أم نلحقه ابلشراب املباح‪ ،‬ابعتبار أن السكر فيه ليس من طبيعته؟ فيقرر الفقيه أن يلحقه‬‫يسكر ً‬
‫فإن اإلسكار يكون من شأنه‪ ،‬ويلحقه ابلشراب املباح إن مل يتخمر‪ ،‬ويقول الشافعي يف هذا‬ ‫ختمر‪َّ ،‬‬ ‫ابخلمر إن َّ‬
‫شبها فيه‪ ،‬وقد خيتلف‬
‫القسم‪" :‬يكون الشيء له يف األصول أشباه خمتلفة‪ ،‬فذلك يلحق أبوالها به وأكثرها ً‬
‫القايسون يف هذا"‬
‫أن رسول هللا ‪-‬‬‫ُصول؛ منها َّ‬
‫الشافعي ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬أمثلةً لقياس الشبه الذي تتنازعه عدة أ ُ‬
‫ُّ‬ ‫وقد ضرب‬
‫ٍ‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قضى يف عبد دلس للمبتاع بعيب‪ ،‬فظهر عليه بعدما استغله‪ ،‬أبن للمبتاع ردَّه ابلعيب‪،‬‬
‫دامت قد حدثت يف ضمان املشرتي‪ ،‬ومل يكن هلا‬ ‫وله حبس الغلة لضمان العني‪ ،‬فاحلديث قضى أبن الغلة ما ْ‬
‫جزء مقابل من الثمن‪ ،‬فهي ملك للمشرتي‪ ،‬فقاس الشافعي هذه الزايدة املتولدة على ِّ‬
‫كل زايدة متولدة‪ ،‬فثمر‬
‫النخل‪ ،‬ولنب املاشية‪ ،‬وصوفها ونتاجها‪ ،‬كل هذا يكون مل ًكا للمشرتي‪ ،‬إذا حدث بعد البيع‪ ،‬وقبل الفسخ‬
‫خبيار العيب؛ ألنه حدث يف ضمانه‪.‬‬
‫لكن آخرين مل يلحقوا الزايدة املتولدة ابلكسب والغلة؛ ألهنا ملحقة ابلعني‪ ،‬فال ينطبق‬
‫هذا ما َّقرره الشافعي‪ ،‬و َّ‬
‫عليها األصل املقرر "اخلراج ابلضمان"‪.‬‬
‫واخلالصة أن الزايدة املتولدة يتنازعها قياسان‪ :‬قياسها على الكسب و القياس الثاين‬

‫حدثت يف ملكه‪ ،‬فالزايدة يف امللكيَّة هي علة‬


‫ْ‬ ‫فال ترد؛ للمشاهبة التامة بني الزايدتني‪ ،‬من حيث َّ‬
‫إن كلتيهما‬ ‫قياسها على‬
‫استحقاقها‬ ‫الكسب‬
‫أن تقاس املتولدة على العني؛ ألهنا مشتقة من ذاهتا‪ ،‬ومبا أن العني ردت فريد ما هو مثلها‪.‬‬ ‫القياس الثاين‬

‫املطلب اخلامس ‪ :‬القياس و احلكمة‬


‫الفرق بني العلَّة واحلكمة هو أن (العلة)‪ :‬وصف ظاهر منضبط حمدود‪ ،‬أقامه الشارع أمارة على احلكم‪ ،‬أما (احلكمة) فهي‪ْ :‬‬
‫وصف‬ ‫ْ‬ ‫‪1‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫مناسب للحكم يتحقَّق يف أكثر األحوال‪ ،‬وهو غري منضبط‪ ،‬وغري حمدود‪.‬‬

‫ومجهور الفقهاء على أن األحكام تُناط ابلعلة ال ابحلكمة‪ ،‬ولكن جرى على أقالم بعض الكتاب التعليل ابحلكمة‪ ،‬واعتبار احلكمة‬ ‫‪2‬‬
‫مناطًا لألقيسة املختلفة‪ ،‬وقد جرى ذلك يف عبارات بعض كتب الفقه احلنفي‪ ،‬وجرى ذلك يف غريه من املذاهب‪ ،‬ولكن الذين أكثروا‬
‫من ذلك فقهاء املذهب احلنبلي‪ ،‬وقد تصدى لبيان هذا النوع من القياس ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيم‪.‬‬

‫ولذلك اعتربوا أن الوصف املناسب يكون علة للقياس‪ ،‬من غري نظر إىل كونه منضبطًا أو غري منضبط‪ ،‬وقرروا أنه ال ُميكن أن يكون‬ ‫‪3‬‬
‫نص قرآين أو نبوي إال وله حكمة واضحة‪ ،‬ومصلحة مشروعة‪ ،‬وهبا تُناط األحكام‪ ،‬وهذه املصلحة املشروعة هي اليت تربط هبا‬
‫األشباه والنظائر‬
‫وقد بىن كالمه ذلك على أساس أن النصوص تعلل ابملصاحل اليت تطوى يف ثناايها؛ سواء أكانت منضبطة‪ ،‬أو غري منضبطة‪ ،‬وإذا‬ ‫‪4‬‬
‫يقم دليل من الشارع على اعتبار‬
‫كانت املصلحة أصالً يُقاس عليه‪ ،‬فإهنم يثبتون كل شيء يف مصلحة معتربة‪ ،‬وتكون معتربة ما دام َمل ْ‬
‫ابطل‪ ،‬وأنه نزعة هوى‪.‬‬
‫هذه املصلحة؛ إذ إن إلغاء الشارع هلا دليل على أن اعتبارها مصلحة ٌ‬

‫املطلب السادس ‪ :‬القياس و مسالك العلة‬


‫املراد مبسالك العلة‪ :‬الطرق اليت يتوصل هبا إىل معرفتها‪ ،‬وأشهر هذه املسالك ثالثة‪:‬‬
‫فإذا دل نص القرآن أو السنة على أن علة احلكم هي هذا الوصل كان هذا الوصف علة‬ ‫النص‬ ‫‪1‬‬
‫ابلنص ويسمى العلة املنصوص عليها وكان القياس بناء عليه هو يف احلقيقة تطبيق للنص‪.‬‬
‫وداللة النص على أن الوصف علة قد تكون صراحة وقد تكون إمياء أي إشارة وتلوَيا ال‬
‫تصرَيا‪.‬‬
‫فالداللة صراحة هي‪ :‬داللة لفظ يف النص على العلية بوضعه اللغوي مثل ما إذا ورد يف النص‬
‫لعلة كذا‪ ،‬أو لسبب كذا‪ ،‬أو ألجل كذا‪ ،‬وإذا كان اللفظ الدال على العلية يف النص‪ ،‬ال‬
‫َيتمل غري الداللة على العلية‪ ،‬فداللة النص على علية الوصف صرَية قطعية كقوله تعاىل يف‬
‫َّاس علَى ِ‬ ‫ِ‬ ‫نذ ِر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين لئَالَّ يَ ُكو َن للن ِ َ ّ‬
‫اَّلل ُح َّجةٌ بـَ ْع َد‬ ‫ين َوُم َ‬ ‫تعليله بعثه الرسل{ ‪ُّ :‬ر ُسالً ُّمبَ ّش ِر َ‬
‫الر ُس ِل[ }النساء‪ ،]165 :‬وقوله يف إجياب أخذ مخس الفيء للفقراء واملساكني{ ‪َ :‬ك ْي َال‬ ‫ُّ‬
‫ني ْاألَ ْغنِيَاء ِمن ُك ْم[}احلشر‪ ،]7 :‬وكقول الرسول صلى هللا عليه وسلم« ‪:‬إمنا‬ ‫يَ ُكو َن ُدولَةً بَْ َ‬
‫هنيتكم عن ادخار حلوم األضاحي ألجل الدافة‪ ،‬فكلوا وادخروا‪».‬‬
‫وإذا كان اللفظ الدال على العلية يف النص َيتمل الداللة على غري العلية‪ ،‬فداللة النص على‬
‫س[ }اإلسراء‪،]78 :‬‬ ‫َّم ِ‬ ‫عليه الوصف صرَية ظنية‪ ،‬مثل قوله تعاىل{ ‪:‬أَقِِم َّ ِ ِ‬
‫الصالَةَ ل ُدلُوك الش ْ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ ٍ ِ َّ ِ‬
‫ت َهلُْم[ }النساء‪]160 :‬‬ ‫ادواْ َحَّرْمنَا َعلَْي ِه ْم طَيِّبَات أُحلَّ ْ‬‫ين َه ُ‬ ‫وقوله{ ‪:‬فَبظُْلم ّم َن الذ َ‬
‫يض[ }البقرة‪:‬‬ ‫اعتَ ِزلُواْ النِّ َساء ِيف الْ َم ِح ِ‬ ‫ك َع ِن الْ َم ِح ِ‬
‫يض قُ ْل ُه َو أَذًى فَ ْ‬ ‫وقوله{ ‪َ :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫‪ ،]2222‬وقول الرسول يف طهارة سؤر اهلرة« ‪:‬إهنا من الطوافني عليكم والطوافات»‪ ،‬وإمنا‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫كانت داللة النص على العلية ظنية يف هذا األمثلة ألن األلفاظ الدالة عليها فيها‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الالم‪ ،‬والباء‪ ،‬والفاء‪ ،‬وإن كما تستعمل يف التعليل يف غريه‪ ،‬وإن كان التعليل هو الظاهر من‬
‫معانيها يف هذه النصوص‪.‬‬
‫وأما داللة النص على العلية إمياء أي إشارة وتنبيها‪ :‬فهي مثل الداللة املستفادة من ترتيب‬
‫احلكم من الوصف واقرتانه به‪ ،‬حبيث يتبادر من هذا االقرتان فهم عليه الوصف للحكم وإال مل‬
‫يكن لالقرتان وجه‪ ،‬وذلك مثل قوله صلى هللا عليه وسلم« ‪:‬ال يقضي القاضي وهو غضبان»‪،‬‬
‫وقوله« ‪:‬ال يرث القاتل»‪ ،‬وقوله« ‪:‬للراجل سهم وللفارس سهمان»‪ ،‬وقوله لألعرايب‪ -‬ملا قال‬
‫له‪ :‬واقعت أهلي يف هنار رمضان عمدا« ‪:‬ك ِّفر »وكون الداللة صراحة أو إمياء‪ ،‬قطعية أو‬
‫ظنية‪ ،‬مدارها على وضع اللغة وسياق النص‪.‬‬

‫فإذا اتفق اجملتهدون يف عصر من العصور على علية وصف لكم شرعي ثبتت عليه هذا‬ ‫اإلمجاع‬ ‫‪2‬‬
‫الوصف للحكم ابإلمجاع‪ ،‬ومثال هذا إمجاعهم على أن علة الوالية املالية على الصغرية الصغر‪،‬‬
‫ويف ع ّد هذا مسلكاً نظر‪ ،‬ألن نفاة القياس ال يقيسون وال يعللون فكيف ينعقد بدوهنم إمجاع‪.‬‬

‫السرب معناه االختبار‪ ،‬ومنه املسبار‪ .‬والتقسيم هو حصر األوصاف الصاحلة ألن تكون علة يف‬ ‫السرب والتقسيم‬ ‫‪3‬‬
‫األصل‪ ،‬وترديد العلة بينها أبن يقال العلة إما هذا الوصف أو هذا الوصف‪ .‬فإذا ورد نص‬
‫حبكم شرعي يف واقعة ومل يدل نص وال إمجاع على علة هذا احلكم‪ ،‬سلك اجملتهد للتوصل إىل‬
‫معرفة علة هذا احلكم مسلك السرب والتقسيم‪ :‬أبن يصر األوصاف اليت توجد يف واقعة احلكم‪،‬‬
‫وتصلح ألن تكون العلة وصفا منها‪ ،‬وخيتربها وصفا وصفاً على ضوء الشروط الواجب توافرها‬
‫يف العلة‪ ،‬وأنواع االعتبار الذي تعترب به‪ ،‬بواسطة هذا االختبار يستبعد األوصاف اليت ال‬
‫تصلح أن تكون علة‪ ،‬ويستبقي ما يصلح أن يكون علة‪ ،‬وهبذا االستبعاد وهذا االستبقاء‬
‫يتوصل إىل احلكم أبن هذا الوصف علة‪.‬‬
‫‪ -1‬مثال‪ :‬ورد النص بتحرمي راب الفضل والنسيئة يف مبادلة الشعري ابلشعري‪:‬‬
‫ومل يدل نص وال إمجاع على علة هذا احلكم‪ ،‬فاجملتهد يسلك ملعرفة علة هذا احلكم مسلك‬
‫السرب والتقسيم أبن يقول‪ :‬علة هذا احلكم إما كون الشعري مما يضبط قدره ألنه يضبط‬
‫ابلكيل‪ ،‬وإما كونه طعاما‪ ،‬وإما كونه مما يقتات به ويدخر؛ لكن كون طعاما ال يصلح علة‪،‬‬
‫ألن التحرمي اثبت يف الذهب ابلذهب وليس الذهب طعاما‪ ،‬وكونه قوات ال يصلح أيضا ألن‬
‫التحرمي اثبت يف امللح ابمللح‪ ،‬وليس قوات‪ ،‬فيتعني أن تكون العلة كونه مقدرا‪ .‬وبناء على هذا؛‬
‫يقاس على ما ورد يف النص كل املقدرات ابلكيل أو الوزن‪ ،‬ففي مبادلتها جبنسها َيرم راب‬
‫الفضل والنسيئة‪.‬‬
‫‪ -2‬كذا ورد النص بتزويج األب بنته البكر الصغرية‪ ،‬ومل يدل نص وال إمجاع على علة ثبوت‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫هذه الوالية‪ ،‬فاجملتهد يردد العلية بني كوانه بكرا وكوهنا صغرية‪ ،‬ويستبعد البكارة ألن الشارع ما‬
‫اعتربها للتعليل بنوع من أنواع االعتبار‪ ،‬ويستبقى الصغر ألن الشارع اعتربه علة للوالية على‬
‫املال‪ ،‬وهي والوالية على التزويج من جنس واحد‪ ،‬فيحكم أبن العلة الصغر ويقيس على البكر‬
‫الصغرية الثيب الصغرية جبامع الصغر‪.‬‬
‫‪ -3‬وكذا ورد النص بتحرمي شرب اخلمر ومل يدل نص على علة احلكم‪ ،‬فاجملتهد يردد العلية‬
‫بني كونه من العنب أو كونه سائال أو كونه مسكرا‪ ،‬ويستبعد الوصف األول ألنه قاصر‪،‬‬
‫والثاين ألنه طردي غري مناسب‪ ،‬ويستبقي الثالث فيحكم أبنه علة‪.‬‬

‫وخالصة هذا املسلك‪ :‬أن اجملتهد عليه أن يبحث يف األوصاف املوجودة يف األصل‪ ،‬ويستبعد ما ال يصلح أن يكون علة‬
‫منها‪ ،‬ويستبقي ما هو علة حسب رجحان ظنه‪ ،‬وهاديه يف االستبعاد واالستبقاء حتقق شروط العلة‪ ،‬حبيث ال يستبقي إال‬
‫وصفا ظاهرا منضبطا متعداي مناسبا معتربا بنوع من أنواع االعتبار‪ .‬ويف هذا تتفاوت عقول اجملتهدين‪ ،‬ألن منهم من يرى‬
‫املناسب هذا الوصف‪ ،‬ومنهم من يرى تفاوت عقول اجملتهدين‪ ،‬ألن منهم من يرى املناسب هذا الوصف‪ ،‬ومنهم من يرى‬
‫املناسب وصفا آخر‪ .‬فاحلنفية رأوا املناسب يف تعليل التحرمي يف األموال الربوية القدر مع احتاد اجلنس‪ ،‬والشافعية رأوه‬
‫الطعم مع احتاد اجلنس‪ ،‬واملالكية رأوه القوت واالدخار مع احتاد اجلنس‪ .‬واحلنفية رأوا املناسب يف تعليل ثبوت الوالية على‬
‫البكر الصغرية الصغر‪ ،‬والشافعية رأوه البكارة‪.‬‬
‫وبعض علماء األصول عد من مسالك العلة تنقيح املناط‪ ،‬واملراد بتنقيح املناط‪ ،‬هو هتذيب ما نيط به احلكم وبين عليه‬
‫وهو علته‪ .‬واحلق أن تنقيح املناط إمنا يكون حيث دل النص على العلية من غري تعيني وصف بعينه علة‪ ،‬فهو ليس مسلكا‬
‫للتواصل به إىل تعليل احلكم‪ ،‬ألن تعليل احلكم مستفاد من النص‪ ،‬وإمنا هو مسلك لتهذيب وختليص علة احلكم مما اقرتن‬
‫هبا من األوصاف اليت ال مدخل هلا يف العلية‪.‬‬
‫ومثال هذا‪ :‬ما ورد يف السنة أن أعرابيا جاء إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقال له‪ :‬هلكت‪ ،‬فقال له الرسول« ‪:‬ما‬
‫صنعت؟ »فقال‪ :‬واقعت أهلي يف هنار رمضان عمدا‪ ،‬فقال له الرسول« ‪:‬ك ِّفر »‪...‬احلديث‪ ،‬فهذا النص دل ابإلمياء‬
‫على أن علة إجياب التكفري على األعرايب ما وقع منه‪ ،‬ولكن هذا الذي وقع منه فيه ما ال مدخل له يف العلية إلجياب‬
‫التكفري مثل كونه أعرابيا‪ ،‬وكونه واقع خصوص زوجته‪ ،‬وكونه واقع يف هنار رمضان من تلك السنة بعينها‪.‬‬
‫فاجملتهد يستبعد هذه األوصاف ألهنا ال مدخل هلا يف العلية‪ ،‬ويستخلص علة الوقاع عمدا يف هنار رمضان‪ ،‬وعلى هذا‬
‫جتب الكفارة على من أفطر عامدا يف هنار رمضان ابجلماع خاصة‪ ،‬وهذا مذهب الشافعي‪ .‬وأما احلنفية فقالوا‪ :‬إن مثل‬
‫اجلماع كل مفطر‪ ،‬وهذه املماثلة تفهم ابلتبادر فتجب الكفارة على كل من أفطر عمدا يف هنار رمضان جبماع أو أبكل أو‬
‫بشرب أو غريها فيكون املناط إلجياب الكفارة عندهم بعد هتذيبه املفسد للصوم عمدا‪ ،‬فتهذيب العلة مما اقرتن هبا ومما ال‬
‫مدخل له يف العلية وهو تنقيح املناط‪.‬‬
‫ومن هذا يتبني أن تنقيح املناط غري السرب والتقسيم؛ ألن تنقيح املناط يكون حيث دل نص على مناط احلكم‪ ،‬ولكنه غري‬
‫مهذب وال خالص من اقرتان ما ال دخل له يف العلية به‪.‬‬
‫وأما السرب والتقسيم فيكوانن حيث ال جيود نص أصال على مناط احلكم‪ ،‬ويراد التوصل هبما إىل معرفة العلة ال إىل هتذيبها‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫من غريها‪.‬‬
‫وأما النظر يف استخراج العلة غري املنصوص عليها‪ ،‬وال اجملمع عليها بواسطة السرب والتقسيم‪ ،‬أو أبي مسلك من مسالك‬
‫العلة فيسمى ختريج املناط‪ .‬فهو استنباط علة حلكم شرعي ورد به النص ومل يرد نص بعلته ومل ينعقد إمجاع على علته‪.‬‬
‫وأما حتقيق املناط فهو النظر يف حتقق العلة اليت تثبت ابلنص أو ابإلمجاع أو أبي مسلك يف جزئية أو واقعة غري اليت ورد‬
‫فيها النص‪ ،‬كما إذا ورد النص أبن علة اعتزال النساء يف احمليط هي األذى فينظر يف حتقيق األذى يف النفاس‪ .‬وكما إذا‬
‫ثبت أن علة حترمي شرب اخلمر اإلسكار فينظر يف حتقيق اإلسكار يف نبيذ آخر‪.‬‬

‫ويسمى هذا تنقيح املناط‪ ،‬وهناك فرق بينه وبني ختريج املناط‪ ،‬وحتقيق املناط‪.‬‬
‫أن يكون هناك علة للحكم قد تُستفاد من جمموع ما اشتمل عليه‪ ،‬فيتعرف الوصف الذي يصلح علة‬ ‫تنقيح املناط‬ ‫‪1‬‬
‫من بني هذه األوصاف‪ ،‬ويستبعد الوصف الذي يكون غري مناسب‪ ،‬حىت ينتهي اجملتهد إىل الوصف‬
‫املناسب الذي يصلح علة‪.‬‬
‫واليكم هذا املثال الذي يبني هذا ‪-:‬‬
‫قصة األعرايب الذي جاء فزعاً إىل النيب صلى هللا عليه وسلم واخربه أبنه جامع زوجته يف هنار رمضان‬
‫عمداً فأوجب عليه النيب صلى هللا عليه وسلم الكفارة ‪.‬‬
‫فإجياب الكفارة حكم شرعي على األعرايب ‪ ,‬والذي وقع فيه األعرايب أمور متعددة هي ‪-:‬‬
‫(‪ -)1‬الوقاع ‪ -)2( .‬كونه من األعراب ‪ -)3( .‬كونه يف زوجته ‪ -)4( .‬كونه يف رمضان معني ‪.‬‬
‫(‪ -)5‬كونه يف هنار رمضان متعمداً ‪.‬‬
‫فلكي يصل اجملتهد إىل معرفة العلة اليت أنيط هبا هذا احلكم عليه أن ينقح هذه األوصاف وخيلصها من‬
‫كل ماال يصلح ألن يكون علة ‪.‬‬
‫وابلبحث يتضح له أنه ال يصح واحد من تلك األوصاف أن تكون علة لوجوب الكفارة سوى واحد‬
‫‪ ,‬وهى الوقاع يف هنار رمضان عمداً ‪ ,‬وبذلك يتعني أن يكون هذا الوصف هو مناط احلكم الذي هو‬
‫إجياب الكفارة ‪ ,‬غري أن الفقهاء اختلفوا يف أن علة إجياب الوقاع عمداً يف هنار رمضان للكفارة ‪ ,‬هل‬
‫هو خلصوصية فيه فال جيب يف غريه ابألكل وحنوه عمداً ؟ أم إنه إمنا كان علة ملا فيه من انتهاك حرمة‬
‫الشهر وعليه فإن الكفارة جتب يف ما وجد االنتهاك ؟‬

‫فهو تعرف الوصف الذي يصلح علة‪ ،‬إذا مل يكن هناك بيان للعلة من النصوص ابلعبارة أو اإلشارة أو‬ ‫ختْريج املناط‬ ‫‪2‬‬
‫اإلمياء‪ ،‬ومل يكن إمجاع على علة؛ كاستنباط أن القتل املوجب للقصاص هو القتل املقصود ٍ‬
‫آبلة من‬
‫شأهنا أن تقتل عادة‪ ،‬فيثبت احلكم يف كل قتل أبية آلة هلا هذا الشأن؛ سواء كانت مستعملة يف عصر‬
‫التنْزيل أم ال‬
‫واليكم هذا املثال الذي يبني هذا ‪-:‬‬
‫إذا ورد نص بتحرمي اخلمر ‪ ,‬ومل تثبت علته بنص وال إمجاع ‪ ,‬فإن اجملتهد سيبحث عن علة التحرمي ‪,‬‬
‫وهذا البحث يسمى ختريج املناط ‪.‬‬
‫فتخريج املناط إذاً هو استنباط علة حلكم شرعي ورد به النص ومل يكن هناك نص وال إمجاع يثبت علته‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فهو النظر يف معرفة وجوده يف آحاد الصور اليت ينطبق عليها وتدخل يف عمومها‪ ،‬بعد أن تكون العلة‬ ‫حتقيق املناط‬ ‫‪3‬‬
‫نفسها قد عرفت بطرق املعرفة املختلفة؛ كالعدالة‪ ،‬فإهنا مناط اإللزام يف الشهادة‬
‫واليكم هذه األمثلة‪-:‬‬
‫ك َع ْن‬‫املثال األول ‪ -‬ورد النص ابن علة اعتزال النساء يف احمليض هو األذى بقوله تعاىل { َويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫وه َّن َح َّىت يَطْ ُه ْر َن } ‪ ,‬فينظر اجملتهد يف‬ ‫اعتَ ِزلُوا النِّ َساءَ ِيف ال َْم ِح ِ‬
‫يض َوَال تَـ ْقَربُ ُ‬ ‫ال َْم ِح ِ‬
‫يض قُ ْل ُه َو أَذًى فَ ْ‬
‫حتقيق األذى يف النفاس ‪ ,‬فإذا ما حتقق ثبت احلكم املنصوص عليه ‪.‬‬
‫املثال الثاين ‪ -‬ثبت أن علة حترمي اخلمر هي اإلسكار ‪ ,‬فإذا ما أرد اجملتهد أن يعرف حكم شرب النبيذ‬
‫‪ ,‬فعليه أن يثبت أنه مسكر ‪ ,‬فمىت ما اثبت هذه العلة ظهر احلكم ‪.‬‬
‫فهما عمي ًقا‪،‬‬
‫وحترى فهمها ً‬
‫واحلق أن تعرف العلل واستخراجها من النصوص واألحكام‪ ،‬هو عمل الفقيه احلاذق‪ ،‬الذي عاجل النصوص‪َّ ،‬‬
‫وعرف مقاصد الشريعة يف عمومها ويف خصوصها‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اوالا‪ :‬األدلة املختلف فيها‪:‬‬

‫االستحسان‬

‫‪ .‬االستحسان أداة الستنباط األحكام الشرعية عند غياب النصوص وعجز ما يسبقها من أدوات وقد توسع فيه‬
‫األحناف وغريهم وعدوه مصدراً من مصادر التشريع بعد الوحيني والقياس واإلمجاع‪ .‬واالستحسان جاءت من‬
‫احلسن‪ ،‬وبذلك فإن الفقيه الذي يرى يف االستحسان مصدراً يعول على حسن وقبح املسألة فيحكم حبرمتها أو‬
‫كراهتها‪ .‬ومن عارض االستحسان من األصوليني والفقهاء كثر ورمبا كانوا أكثر من مؤيديه‪ ،‬وحجتهم أن‬
‫االستحسان من أعمال العقل ورمبا خضع للهوى وكان نسبياً‪ ،‬فما يعده البعض قبيحاً عده آخرون غري قبيح‪: .‬‬
‫‪158‬‬

‫تعريف االستحسان‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫أنواع االستحسان‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫حجيت االستحسان‪.‬‬ ‫املطلب الثالث‬
‫شب االستحسان من ال حيتجون به‪.‬‬ ‫املطلب الرابع‬

‫املطلب األول‪ :‬تعريف االستحسان‬


‫عد الشيء حسنا‬ ‫االستحسان يف اللغة‬
‫هو عند علماء األصول عدول اجملتهد عن مقتضى قياس جلي إىل مقتضى قياس خفي ‪ ،‬أو عن حكم كلي‬ ‫ويف اصطالح األصوليني‬
‫إىل حكم استثنائي لدليل انقدح يف عقله رجح لديه هذا العدول‬

‫فإذا عرضت واقعة ومل يرد نص حبكمها‪ ،‬وللنظر فيها وجهتان خمتلفان إحدامها ظاهرة تقتضي حكما‬
‫واألخرى خفية تقتضي حكما آخر‪ ،‬وقام بنفس اجملتهد دليل رجح وجهة النظر اخلفية‪ ،‬فعدل عن وجهة‬
‫النظر الظاهرة فهذا يسمى شرعا‪ :‬االستحسان‪ .‬وكذلك إذا كان احلكم كليا‪ ،‬وقام بنفس اجملتهد دليل‬
‫يقتضي استثناء جزئية من هذا احلكم الكلي واحلكم عليها حبكم آخر فهذا أيضا يسمى شرعا االستحسان‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬أنواع االستحسان‬


‫من تعريف االستحسان شرعا يتبني أنه نوعان‪:‬‬
‫‪ -1‬نص فقهاء احلنفية على أن الواقف إذا وقف أرضا زراعية يدل حق املسيل وحق الشرب‬ ‫ترجيح قياس خفي على‬ ‫أحدمها‪:‬‬
‫وحق املرور يف الوقف تبعا بدون ذكرها استحساان‪ ،‬والقياس أهنا ال تدخل إال ابلنص عليها‬ ‫قياس جلي بدليل‬

‫‪ 158‬البحر احمليط ‪ -‬بدر الدين بن حممد هبادر الزركشي (ج‪ 8‬ص‪)95‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫كالبيع‪ .‬ووجه االستحسان‪ :‬أن املقصود من الوقف انتفاع املوقوف عليهم‪ ،‬وال يكون‬
‫االنتفاع ابألرض الزراعية إال ابلشرب واملسيل والطريق‪ ،‬فتدخل يف الوقف بدون ذكرها ألن‬
‫املقصود ال يتحقق إال هبا كاإلجارة‪.‬‬
‫فالقياس الظاهر إحلاق الوقف يف هذا البيع‪ ،‬ألن كال منهما إخراج ملك من مالكه‪.‬‬
‫والقياس اخلفي‪ :‬إحلاق الوقف يف هذا ابإلجارة ألن كال منهما مقصود به االنتفاع‪ ،‬فكما‬
‫يدخل املسيل والشرب والطريق يف إجارة األطيان بدون ذكرها تدخل يف وقف األطيان‬
‫بدون ذكرها‪.‬‬
‫‪ -2‬نص فقهاء احلنفية على أنه إذا اختلف البائع واملشرتي يف مقدار الثمن قبل قبض‬
‫املبيع‪ ،‬فادعى البائع أن الثمن مائة جنيه وادعى املشرتي أنه تسعون يتحالفان استحساان‪،‬‬
‫والقياس أن ال َيلف البائع‪ ،‬ألن البائع يدعي الزايدة وهي عشرة واملشرتي ينكرها‪ ،‬والبينة‬
‫على من أدعى‪ ،‬واليمني على من أنكر‪ ،‬فال ميني على البائع‪ .‬ووجه االستحسان‪ :‬أن البائع‬
‫مدع ظاهرا ابلنسبة إىل الزايدة ومنكر حق املشرتي يف تسليم املبيع بعد دفع التسعني‪،‬‬
‫ٍ‬
‫واملشرتي منكر ظاهرا الزايدة اليت ادعاها البائع وهي العشرة ومدع حق تسلمه املبيع بعد دفع‬
‫التسعني‪ ،‬فكل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من جهة أخرى فيتحالفان‪.‬‬
‫فالقياس الظاهر‪ :‬إحلاق هذه الواقعة بكل واقعة بني مدع ومنكر‪ ،‬فالبينة على من ادعى‬
‫واليمن على من أنكر‪.‬‬
‫والقياس اخلفي‪ :‬إحلاق الواقعة بكل واقعة بني متداعيني‪ ،‬كل واحد منهما يعترب يف آن واحد‬
‫مدعيا ومنكرا فيتحالفان‪.‬‬
‫‪ -3‬نص فقهاء احلنفية على أن سؤر سباع الطري كالنسر والغراب والصقر والبازي واحلدأة‬
‫والعقاب طاهر استحساان جنس قياسا‪ .‬وجه القياس‪ :‬أنه سؤر حيوان حمرم حلمه كسؤر سباع‬
‫البهائم كالفهد والنمر والسبع والذئب‪ ،‬وحكم سؤر احليوان اتبع حلكم حلمه‪ .‬ووجه‬
‫االستحسان‪ :‬أن سباع الطري وإن كان حمرماً حلمها إال أن لعاهبا املتولد من حلمها ال خيتلط‬
‫بسؤرها‪ ،‬ألهنا تشرب مبنقارها وهو عظيم طاهر‪ ،‬وأما سباع البهائم فتشرب بلساهنا املختلط‬
‫بلعاهبا فلهذا ينجس سؤرها‪.‬‬
‫ففي كل مثال من هذه األمثلة‪ ،‬تعارض يف الواقعة قياسان أحدمها جلي متبادر فهمة‪،‬‬
‫واآلخر خفي دقيق فهمه‪ ،‬وقام للمجتهد دليل رجح القياس اخلفي فعدل عن القياس اجللي‬
‫فهذا العدول هو االستحسان والدليل الذي بين عليه هو وجه االستحسان‪.‬‬

‫هنى الشارع عن بيع املعدوم والتعاقد على املعدوم‪ ،‬ورخص استحسان يف السلم واإلجارة‬ ‫‪ :‬استثناء جزئية من حكم‬ ‫اثنيهما‬
‫واملزارعة واملساقاة واالستصناع وهي كلها عقود‪ ،‬املعقود عليه فيها معدوم وقت التعاقد‪،‬‬ ‫كلي بدليل‬
‫ووجه االستحسان حاجة الناس وتعارفهم‪.‬‬
‫ونص الفقهاء على أن األمني يضمن مبوته جمهالً ألن التجهل نوع من التعدي‪ ،‬واستثين‬
‫استحساان موت األب أو اجلد أو الوصي جمهالً‪ .‬ووجه االستحسان‪ :‬أن األب واجلد‬
‫والوصي لكل منهم أن ينفق على الصغري ويصر ما َيتاج إليه فلعل ما جهله كان قد صرفه‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫يف وجهه‪.‬‬
‫ونصوا على أن األمني ال يضمن إال ابلتعدي أو التقصري يف احلفظ‪ ،‬واستثىن استحساان‬
‫األجري املشرتك‪ ،‬فإنه يضمن إال إذا كان هالك ما عنده بقوة قاهرة؛ ووجه االستحسان‪:‬‬
‫أتمني املستأجرين‪.‬‬
‫ونصوا على أن احملجور عليه للسفه ال تصح تربعاته‪ ،‬واستثين استحساان وقفه على نفسه‬
‫مدة حياته‪ ،‬ووجه االستحسان‪ :‬أن وقفه على نفسه فيه أتمني عقاراته من الضياع‪ ،‬وهذا‬
‫يتفق والغرض من احلجر عليه‪.‬‬
‫ففي كل مثال من هذه األمثلة استثنيت جزئية من حكم كلي بدليل‪ ،‬وهذا هو الذي يسمى‬
‫اصطالحا االستحسان‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬حجية االستحسان‬
‫مصدرا من مصادر التشريع على قولني‪:‬‬
‫ً‬ ‫اختلف األئمة يف حجية االستحسان واعتباره‬
‫من أدلة الشرع‪ ،‬وأن استنباط األحكام ابالستحسان هوى وتلذذ وتعسف‪ ،‬وأنه من‬ ‫أن االستحسان ليس‬ ‫القول االول‬
‫استحسن فقد شرع من عند نفسه‪ ،160‬وعرفه الغزايل فقال‪ :‬هو ما يستحسنه اجملتهد‬ ‫حجة شرعية و ال مصدرا‬
‫مثال لذلك كمن يتجه‬
‫بعقله ‪ ،161‬وهو مذهب الشافعية واملالكية ‪ ،162‬وضرب الشافعي ً‬ ‫و ال دليال‬
‫يف الصالة إىل جهة يستحسن أهنا الكعبة‪ ،‬بغري دليل‪.‬‬
‫يقول الشافعي رمحه هللا‪ :‬فإن القول مبا استحسن شيء َيدثه ال على مثال سابق ‪،‬‬
‫‪163‬‬

‫أي من الكتاب والسنة‪ ،‬واستدل الشافعي على ذلك أبن االستحسان إن كان مع وجود‬
‫نص فهو معارض للنص‪ ،‬وإن مل يكن نص يف املسألة فهو تعطيل للقياس‪ ،‬وكذا األمرين‬
‫غري جائز‪ ،‬فاحلكم الشرعي يكون بنص أو إمجاع أو اجتهاد‪ ،‬واالجتهاد هو القياس‪ ،‬وإذا‬
‫تعطل القياس جاز ألهل العقول أن يشرعوا من عندهم مبا تستحسنه عقوهلم‪ ،‬قال‬

‫‪ 159‬الوجيز يف أصول الفقه اإلسالمي األستاذ الدكتور حممد مصطفى الزحيلي (ج‪ 1‬ص‪)251-249‬‬
‫‪ 160‬اشتهرت هذه العبارة عن اإلمام الشافعي وكررها الناس عنه‪ ،‬ومل تثبت يف كتبه‪ ،‬لكن قال يف "األم"‪" :‬من قال ابالستحسان‬
‫عظيما ووضع نفسه يف رأيه واستحسانه على غري كتاب وال سنة فوضعها يف أن يتبع رأيه" (العطار على مجع‬
‫قوال ً‬
‫فقد قال ً‬
‫اجلوامع ‪.)365 /2‬‬
‫‪ 161‬املستصفى‪ 1 :‬ص ‪.274‬‬
‫‪ 162‬الرسالة‪ :‬ص ‪ ،517 ،505 ،25‬مجع اجلوامع‪ 2 :‬ص ‪ ،394‬احلدود يف األصول‪ ،‬الباجي‪ :‬ص ‪ ،65‬تنقيح الفصول‪ :‬ص‬
‫‪ ،148‬اإلحكام‪ ،‬البن حزم‪ 2 :‬ص ‪ ،757‬أثر األدلة املختلف فيها‪ :‬ص ‪ ،130‬بينما نقل ا ِإلمام مالك أنه قال‪" :‬تسعة‬
‫أعشار العلم االستحسان‪ ،‬املوافقات‪.137 /4 :‬‬
‫‪ 163‬الرسالة‪ :‬ص ‪25‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الشافعي‪ :‬ومل جيعل هللا ألحد بعد رسول هللا أن يقول إال من جهة علم مضى قبله‪ ،‬وجهة‬
‫‪164‬‬
‫العلم بعده الكتاب والسنة واإلمجاع واآلاثر وما وصفت من القياس عليها‬

‫{واتَّبِ ُعوا‬
‫ذهب إىل ذلك احلنفية‪ ،‬وينسب إىل احلنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بقوله تعاىل‪َ :‬‬ ‫أنه حجة شرعية و مصدر‬ ‫القول الثاين‬
‫ين يَ ْستَ ِم ُعو َن الْ َق ْوَل‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫َح َس َن َما أُنْزَل إلَْي ُك ْم م ْن َربّ ُك ْم} [الزمر‪ ]55 :‬وقوله تعاىل‪{ :‬الذ َ‬ ‫أْ‬ ‫من مصادر التشريع‬
‫َح َسنَهُ} [الزمر‪ ]18 :‬فاآليتان تبينان أن املؤمن يتبع األحسن‪ ،‬أي‪ :‬يتبع ما‬ ‫فَـيَـتَّبِ ُعو َن أ ْ‬
‫يستحسنه‪ ،‬وقال ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪" :-‬ما رآه املسلمون حسنًا فهو عند هللا‬
‫حسن" أي‪ :‬ما يستحسنه املسلمون فهو حسن ومقبول عند هللا تعاىل"‪.165‬‬
‫استحسان ثبت ابلنص (( القران أو السنة )) ‪-:‬‬
‫مثال ما ثبت ابلقرآن ‪-:‬‬
‫عقد اإلجارة ‪ -:‬فإن مقتضى القياس الظاهر أن هذا العقد ال جيوز ألن املعقود عليه غري‬
‫موجود ‪ ,‬والعقد على املعدوم يؤدى إىل الغور فيكون ابطالً ‪ ,‬ولكن جاز استحساانً‬
‫ِ‬
‫{علَى أَ ْن َأتْ ُجَرِين مثََانيَةَ‬ ‫وسند هذا االستحسان النص القرآين الكرمي وذلك يف قوله تعاىل َ‬
‫ِح َج ٍج } ‪.‬‬
‫مثال ما ثبت ابلسنة ‪-:‬‬
‫األكل والشرب نسياانً يف هنار رمضان ‪ -:‬فإن ظاهر القياس يقتضي فساد الصوم ‪ ,‬ألن‬
‫اإلمساك عن املفطرات من أركان الصوم ‪ ,‬ولكن صح الصوم استحساانً وسند هذا‬
‫اَّلل علَي ِه وسلَّم { من أَ َكل َان ِسيا وهو ِ ِ‬
‫ص ْوَمهُ‬‫صائ ٌم فَـ ْليُت َّم َ‬‫صلَّى َُّ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ً َ ُ َ َ‬ ‫ِ‬
‫َّيب َ‬
‫االستحسان قول الن ِّ‬
‫اَّللُ َو َس َقاهُ} البخاري ‪ ,‬فقد عدل الفقهاء عن ظاهر القياس إىل النص وهذا‬ ‫فَِإَّمنَا أَطْ َع َمهُ َّ‬
‫العدول يسمى استحسان ‪ ,‬والنص املعدول إليه هو وجه االستحسان ودليله ‪.‬‬
‫‪ -)2‬استحسان ثبت ابإلمجاع ‪.‬ومثال ذلك ‪ -:‬لو اتفق شخص مع آخر على أن يصنع‬
‫له شيئاً ما فإن مقتضى القياس اجللي أن هذا العقد ابطالً ألنه عقد على شيء غري‬
‫موجود ‪ ,‬وقد عدل عن مقتضى هذا القياس إىل القول جبوازه استحساانً ‪ ,‬فقد جرى‬
‫التعامل به يف مجيع األعصار واألمصار دون أن ينكر أحد ‪.‬‬
‫‪ -)3‬استحسان ثبت ابلعرف ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ -:‬لو حلف شخص أن ال أيكل حلماً واكل مسكاً ‪ ,‬فان مقتضى اللفظ انه‬
‫َينث الن القران مسى السمك حلماً قال تعاىل { َوُه َو الَّ ِذي َس َّخَر الْبَ ْحَر لِتَأْ ُكلُوا ِمْنهُ َحلْ ًما‬
‫طَ ِرًّاي } ‪ ,‬ولكن الفقهاء نصوا على أنه ال َينث (( إذا كان عرف أهل البلد ال يسمي‬
‫السمك حلماً )) ‪ ,‬فالعدول إىل عدم احلنث هو االستحسان ودليله العرف ‪.‬‬

‫‪ 164‬الرسالة‪ :‬ص ‪ ،508‬األم‪ 7 :‬ص ‪ ،271‬املستصفى‪ 1 :‬ص ‪ ،275‬مجع اجلوامع‪ 2 :‬ص ‪ ،395‬وقد كتب اإلمام الشافعي‬
‫كتااب مساه إبطال االستحسان مع كتابه األم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 165‬املستصفى ‪ 1‬ص ‪ ،276‬املدخل إىل مذهب أمحد ص ‪ ،136‬أصول السرخسي ‪ 2‬ص ‪ ،204‬التوضيح ‪ 2‬ص ‪،2‬‬
‫املسودة ص ‪ ،453‬اإلحكام‪ ،‬اآلمدي ‪ 4‬ص ‪ ،139 ،136‬وسبق ختريج احلديث يف اإلمجاع‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اح ُك ْم بَـْيـنَـ ُه ْم‬ ‫‪ ،‬وأن إمجاع األمة أنه ليس للعامل أن َيكم هبواه وشهوته من غري نظر يف داللة األدلة‪ ،‬وأن هللا تعاىل خاطب نبيه فقال‪ِ :‬‬
‫{وأَن ْ‬
‫َ‬
‫ِمبَا أَنْـَزَل َّ‬
‫اَّللُ َوَال تَـتَّبِ ْع أ َْه َواءَ ُه ْم} [املائدة‪.]49 :‬‬
‫والواقع أن احلنفية نظروا إىل االستحسان من وجهة نظر معينة ختتلف عن وجهة نظر الشافعية‪ ،‬وأن اختالفهم يف حتديد معناه أدى إىل‬
‫اختالفهم يف حجيته‪ ،‬وأن الشافعية واملالكية‪ ،‬ال ينكرون وجهة نظر احلنفية يف مراعاة القياس القوي وتقدميه عند حتقق املصلحة‪ ،‬ويؤيدون‬
‫ترجيح قياس على قياس لعلة أو سبب‪ ،‬وكذلك احلنفية يوافقون الشافعية يف إنكار االستحسان املوسوم ابلتشهي وإعمال العقل والتحكّم‬
‫واهلوى يف األحكام الشرعية‪ ،‬ولو نظر كل طرف يف املعىن الذي حدده اآلخر لوافقه عليه‪ ،‬فاالختالف بينهم هو اختالف لفظي كما يقول‬
‫علماء األصول‪ ،‬وأهنم متفقون على استعمال لفظه وحقيقته يف األحكام العملية يف مسائل كثرية ‪ ،166‬من ذلك استحسان املصلحة‪،‬‬
‫واالستصناع للمصلحة‪ ،‬وأقر املالكية االستصالح‪ ،‬وهو مصلحة‪.167‬‬

‫‪ 166‬طلق احلنفية قاعدة االستحسان السابقة على النصوص الشرعية يف الكتاب والسنة وعلى اإلمجاع فإذا ورد حكم شرعي‬
‫خاص مستثىن من القاعدة العامة أو األصل فإهنم يسمونه استحسان النص‪ ،‬أي استحسان املشرع‪ ،‬وإذا أمجع املسلمون على‬
‫استحساان‪ ،‬واحلقيقة أن هذا اإلطالق توسع يف االستحسان‪ ،‬وأنه حماولة لزايدة‬
‫ً‬ ‫حكم خاص‪ ،‬خيالف قاعدة عامة‪ ،‬مسوا االمجاع‬
‫االستدالل على حجية االستحسان وأنه وارد يف النصوص واإلمجاع‪ ،‬ولكن ال يصح أن يطلق عليه هذا االصطالح‪ ،‬ألنه‬
‫علما أبن استحسان النص أو اإلمجاع أو الضرورة متفق عليه‪ ،‬وإمنا اخلالف يف استحسان‬
‫اصطالح متأخر‪ ،‬له مدلول خاص‪ً ،‬‬
‫الرأي أي يف القياس اخلفي فقط‪ ،‬انظر‪ :‬كشف األسرار‪ 4 :‬ص ‪ ،125‬تسهيل الوصول‪ :‬ص ‪ ،234‬املدخل الفقهي العام‪1 :‬‬
‫ص ‪ ،57‬اإلحكام‪ ،‬اآلمدي‪ 4 :‬ص ‪ ،136‬التلويح‪ 3 :‬ص ‪ ،2‬أصول السرخسي‪ 2 :‬ص ‪.202‬‬
‫‪ 167‬قال الشريازي بعد حترير اخلالف‪" :‬فيسقط اخلالف يف املسألة" اللمع ص ‪334‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اثنيا‪ :‬األدلة املختلف فيها‪:‬‬

‫املصاحل املرسلة‬

‫أقسام مطلق املصلحة‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫أنواع املصلحة املرسلة حسب قوهتا‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫األدلة على اعتبار املصلحة املرسلة‬ ‫املطلب الثالث‬
‫شروط العمل ابملصلحة املرسلة‬ ‫املطلب الرابع‬

‫املطلب األول‪ :‬أقسام مطلق املصلحة‬

‫تتنوع املصلحة من حيث اعتبار الشارع هلا وعدم اعتباره إىل ثالثة أنواع هي ‪-:‬‬

‫وهي اليت ورد دليل شرعي من الكتاب أو السنة أو اإلمجاع يفيد أن الشارع قد رعاها ‪,‬‬ ‫املصلحة املعتربة‬ ‫النوع األوىل‬
‫فشرع من األحكام ما َيقق تلك املصلحة‬

‫وهذا النوع يدخل يف عموم القياس ‪ ,‬ولذلك يتفق مجيع القائلني حبجية القياس على جواز التعليل به وبناء احلكم‬
‫عليه ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ -:‬ما يسمى ابلضرورايت اخلمس وهى ‪-:‬‬
‫‪ -)1‬حفظ الديـن ‪.‬‬
‫‪ -)2‬حفظ النفس ‪.‬‬
‫‪ -)3‬حفظ العقل ‪.‬‬
‫‪ -)4‬حفظ النسب ‪.‬‬
‫‪ -)5‬حفظ املـال ‪.‬‬
‫فمن أجل مثالً حفظ املال ومحايته حرمت السرقة ‪ ,‬وشرع حد قطع يد السارق ‪.‬‬
‫ومن أجل حفظ النفس شرع القصاص ‪ ,‬وحرم االعتداء عليها ‪.‬‬
‫ومن أجل حفظ العقول حرم شرب اخلمر وغريها من املسكرات وواجب احلد على شارهبا ‪.‬‬
‫إىل غري ذلك من املصاحل اليت اعتربها الشارع وشرعت األحكام لتحقيقها ‪.‬‬
‫هي املصلحة اليت يرها العبد (( بنظرة القاصر )) مصلحة ولكن الشرع ألغاها و أهدرها‬ ‫املصلحة امللغاة‬ ‫النوع الثاين‬
‫ومل يلتفت إليها ‪ ,‬بل جاءت األدلة الشرعية مبنعها والنهي عنها من الكتاب أو السنة‬
‫أو اإلمجاع أو القياس ‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وإليكم هذه األمثلة‪-:‬‬


‫‪ -)1‬االستسالم للعدو ‪ -:‬فقد يظهر ألول مرة أن فيه مصلحة وهى حفظ النفس من القتل ‪ ,‬ولكن هذه املصلحة‬
‫مل يعتربها الشارع ‪ ,‬ألن هناك مصلحة أرجح منها ‪ ,‬وهي احتفاظ األمة اإلسالمية ابلعزة والكرامة فشرع هللا القتال‬
‫لتحقيق هذه املصلحة العظيمة ودفعاً للمفاسد املرتتبة على اخلضوع واالستسالم للعدو ‪.‬‬
‫‪ -)2‬تعدد الزوجات ‪ -:‬قد يبدو ألول وهلة أن يف منع تعدد الزوجات مصلحة وهي تاليف ما َيدث بني الضرائر‬
‫من منازعات وخصومات قد تؤدى إىل حل الروابط بني أفراد األسرة الواحدة ‪ ,‬ولكن الشارع احلكيم مل يعترب هذه‬
‫اب‬ ‫ِ‬
‫املصلحة ومل يعتد هبا حيث أابح التعدد ‪ ,‬واكتفى ابشرتاط العدل بني الزوجات فقال تعاىل { فَانك ُحوا َما طَ َ‬
‫اح َد ًة } ‪ ,‬وذلك ملا يرتتب على التعدد من املصاحل اليت‬ ‫ث ورابع فَِإ ْن ِخ ْفتم أََّال تَـع ِدلُوا فَـو ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬ ‫لَ ُك ْم م َن النّ َساء َمثْ َىن َوثَُال َ َ ُ َ َ‬
‫ال تكاد حتصى واليت من أمهها ‪-:‬‬
‫‪ -)1‬كثرة النسل والتوالد الذي هو املقصود األول من تشريع الزواج‬
‫‪ -)2‬صون أصحاب الشهوات احلادة من الوقوع يف رذيلة الزان واختاذ اخلليالت ‪.‬‬
‫‪ - )3‬عالجاً اجتماعياً عندما يعرض لألمة نقص يف رجاهلا وخباصة يف أعقاب احلروب ‪.‬‬
‫وهبذا يدرك أن الشارع مل يلغ أية مصلحة من املصاحل إال إذا ترتب على اعتبارها ضياع مصلحة ارجح منها‬

‫وهى املصلحة آتى مل يرد من الشارع ما يفيد اعتبارها وال إلغاءها ‪.‬‬ ‫‪ :‬املصلحة املسكوت‬ ‫النوع الثالث‬
‫وتسمى املصلحة املرسلة ‪ ,‬فلمصلحة املرسلة إذ هي اليت مل يشرع حكم لتحقيقها ومل‬ ‫عنها‬
‫يشهد هلا أصل خاص ابالعتبار أو اإللغاء ‪.‬‬

‫فإن شهد هلا اصل خاص ابعتبار دخلت يف عموم القياس ‪ ,‬وأن شهد هلا بعدم االعتبار كانت ابطلة ‪.‬‬
‫وإليكم هذا املثال ‪-:‬‬
‫قتل اجلماعة ابلواحد ‪ -:‬فلم يرد دليل خاص ابعتباره وال إبلغائه ‪ ,‬ولكن يف قتلهم من املصلحة ما هو واضح ‪ ,‬إذ‬
‫لو مل يقتل اجلماعة ابلواحد عند اشرتاكهم يف القتل ألدى ذلك إىل إهدار الدماء ‪ ,‬وفيه من املفاسد ما ال خيفى ‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬أنواع املصلحة املرسلة حسب قوهتا‬


‫(( درء املفاسد )) ‪ -:‬وهي ما كانت املصلحة فيها يف حمل الضرورة حبيث يرتتب على تفويت‬ ‫املصلحة الضرورية‬ ‫‪1‬‬
‫هذه املصلحة تفويت شيء من الضرورايت أو كلها ‪ ,‬وهذه أعلى املصاحل ‪.‬‬
‫(( جلب املصاحل )) ‪ -:‬وهى ما كانت املصلحة فيها يف حمل احلاجة ال الضرورة فيحصل‬ ‫املصلحة احلاجية‬ ‫‪2‬‬
‫بتحقيق هذه املصلحة التسهيل وحتصيل املنافع ‪ ,‬وال يرتتب على فواهتا فوات شيء من‬
‫الضرورايت‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫(( التتميمات )) ‪ -:‬وهي ما ليس ضروراي وال حاجيا ‪ ,‬ولكن من ابب اجلري على مكارم‬ ‫املصلحة التحسينية‬ ‫‪3‬‬
‫األخالق واتباع أحسن املناهج‬

‫املطلب الثالث‪ :‬األدلة على اعتبار املصلحة املرسلة‬


‫من األدلة على اعتبار املصلحة املرسلة ‪ -:‬عمل الصحابة رضي هللا عنهم هبا يف وقائع كثرية مشهورة مثل ‪-:‬‬
‫استخالف أيب بكر رضي هللا عنه لعمر رضي هللا عنه بعد أن أحس بدنو أجله ‪ ,‬فال يوجد يف القرآن وال يف السنة ما يفيد‬ ‫‪1‬‬
‫ذلك ‪ ,‬ولكن أاب بكر رضي هللا عنه راعى يف هذا االستخالف مصلحة الناس املتمثلة يف حفظ كلمتهم من التفرق‬
‫واختالفهم يف اختيار اخلليفة‬
‫مجع القرآن يف مصحف واحد يف عهد أيب بكر رضي هللا عنه ‪ ,‬وليس يف القرآن وال يف السنة ما يدل على ذلك ‪ ,‬وإمنا هو‬ ‫‪2‬‬
‫عمل مبين على املصلحة ‪ ,‬وهي حملافظة على القرآن من الضياع‬
‫كان عمر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬يشاطر الوالة الذين يتهمهم يف أمواهلم‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫إراقة عمر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬اللنب املغشوش ابملاء‬ ‫‪4‬‬

‫ما َّقرره الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم ‪ -‬من قتل اجلماعة ابلواحد إذا اشرتكوا يف قتله‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫العهد من أيب بكر ُلعمر ‪ -‬رضي هللا عنهما‬


‫والية ْ‬ ‫‪6‬‬

‫التـ َّْو ِسعة يف مسجد النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬شروط العمل ابملصلحة املرسلة‬


‫إن العمل ابملصلحة املرسلة أمر جيب فيه من التحفظ واحلذر حىت يتحقق صحة املصلحة ‪ ,‬ومن شروط العمل ابملصلحة املرسلة مايلي‬
‫أال تكون املصلحة مصادمة لنص أو إمجاع ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫أن تعود على مقاصد ابحلفظ والصيانة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫أال تكون املصلحة يف األحكام اليت ال تتغري كوجوب الواجبات وحترمي احملرمات واحلدود واملقدرات الشرعية ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫أال تعارضها مصلحة ارجح منها أو مساوية هلا ‪ ,‬وأال يستلزم من العمل هبا مفسدة أرجح منها أو مساوية هلا‬ ‫‪4‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اثلث ا‪ :‬األدلة املختلف فيها‪:‬‬

‫العرف‬

‫أصل أخذ به احلنفية واملالكية يف غري موضع النص‪.‬‬


‫أيضا ٌ‬
‫و هو لفهم الشريعة ال للتشريع املستقل‪ ،‬فهذا ً‬

‫تعريف العرف‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫أنواع العرف‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫يعترب العرف حجة‬ ‫املطلب الثالث‬
‫شروط العمل ابلعرف‬ ‫املطلب الرابع‬

‫املطلب األول‪:‬تعريف العرف‬


‫يطلق على كل ما تعرفه النفس من اخلري وتطمئن إليه ‪ ,‬ويطلق أيضا على املعروف ‪ ,‬وهو اخلري والرفق‬ ‫العرف لغة‬
‫واإلحسان ‪.‬‬
‫فهو ما اعتاد مجهور الناس وألفوه من فعل شاع بينهم أو لفظ تعارفوا إطالقه على معىن خاص ‪ ,‬حبيث ال‬ ‫أما اصطالح ا‬
‫يتبادر غريه عند مساعه‬
‫ذهب بعض الفقهاء إىل أنه ال فرق بني العادة والعرف ‪ ,‬فهما لفظان مرتادفان ‪ ,‬وذهب احملققون منهم إىل‬ ‫الفرق بني العرف والعادة‬
‫أن العادة أعم من العرف ألهنا تكون من الفرد ومن اجلماعة ‪ ,‬أما العرف فال يكون إال من مجيع الناس أو‬
‫أغلبهم ‪.‬‬

‫قد يتبادر إىل الذهن أن العرف واإلمجاع شئ واحد ‪ ,‬ألن كالً منهما يتمثل يف قول أو فعل طائفة من‬ ‫الفرق بني العرف‬
‫الناس ‪ ,‬ولكن بشيء من التأمل يف حقيقة كل واحد منهما ونوع احلكم املرتتب عليه ومدى صالحيته‬ ‫واإلمجاع‬
‫يتضح أن بينهما عدة فروق سواء من حيث املاهية أو من حيث قوة احلكم الثابت هبما ‪ ,‬أو من حيث‬
‫بقاء ذلك احلكم واستمراره ‪.‬‬
‫ومن هذه الفروق ما يلي ‪-:‬‬

‫‪ 1‬إن العرف يتحقق ابتفاق أغلب الناس على قول أو فعل بغض النظر عن صفتهم ‪ ,‬فهو يتحقق ابتفاق اجملتهدين وابتفاق غريهم من‬
‫األميني والعوام ‪.‬‬
‫أما اإلمجاع فال يتحقق إال ابتفاق اجملتهدين خاصة على حكم شرعي عملي ‪ ,‬والعتداد ابتفاق من سواهم‬

‫‪ 2‬إن العرف يتحقق ابتفاق أغلب الناس وال يتأثر مبخالفة بعضهم له ‪.‬‬
‫أما اإلمجاع فال يتحقق إال ابتفاق مجيع اجملتهدين ‪ ,‬فإذا خالف جمتهد واحد يف املسألة فإنه ال ينعقد ‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫‪ 3‬إن احلكم الثابت ابإلمجاع الصريح يكون كاحلكم الثابت ابلنص ‪ ,‬فال جمال فيه لالجتهاد ‪ ,‬وال يقبل التغيري حبال ‪.‬‬
‫أما احلكم الثابت ابلعرف فهو على خالف ذلك ‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪:‬أنواع العرف‬


‫ميكن تقسيم العرف إىل ثالثة أنواع بثالثة اعتبارات وهى‬
‫النوع األول القويل والعملي‬
‫وهو أن يتعارف مجهور الناس على إطالق لفظ معني خاص حبيث إذا أطلق هذا اللفظ انصرف‬ ‫العرف القويل‬
‫الذهن إىل ذلك املعىن املتعارف عليه دون حاجة إىل قرينة ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪-:‬‬
‫أ]‪ -‬إطالق لفظ الولد على الذكر دون األنثى مع إنه يف اللغة يشملهما معاً قال هللا تعاىل {‬
‫ني } ‪.‬‬ ‫ظ ْاألُنثَـيَ ْ ِ‬ ‫اَّلل ِيف أ َْوَال ِد ُكم لِ َّ‬
‫لذ َك ِر ِمثْ ُل َح ِّ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫يُوصي ُك ْم َُّ‬
‫ب]‪ -‬إطالق لفظ اللحم على ما عدا السمك مع إنه يسمى يف اللغة حلماً يشهد لذلك قوله‬
‫تعاىل { َوُه َو الَّ ِذي َس َّخَر الْبَ ْحَر لِتَأْ ُكلُوا ِمنْهُ َحلْ ًما طَ ِرًّاي } ‪ ,‬فقد مساه حلماً ‪.‬‬
‫وهو ما اعتاده مجهور الناس يف تصرفاهتم ‪ ,‬وساروا عليه يف معامالهتم ‪.‬‬ ‫العرف العملي‬
‫مثال ذلك ‪-:‬‬
‫تعارفهم على البيع ابلتعاطي من غري صيغة لفظية ابإلجياب و القبول ‪ ,‬وذلك أبن يدفع املشرتى‬
‫الثمن للبائع يف السلع املعلومة الثمن ‪ ,‬وأيخذ السلعة دون أن يقع منهما صيغة لفظية ‪.‬‬

‫النوع الثاين العام واخلاص‬


‫وهو الذي يتعارفه أهل البالد مجيعاً يف زمن من األزمنة ‪.‬‬ ‫العرف العام‬
‫ومثال ذلك ‪ -:‬تعارفهم على أن أجرة دخول احلمام ال تتعلق مبدة املكث فيه ‪ ,‬وال مقدار املاء‬
‫املستهلك ‪.‬‬

‫وهو ما كان سارايً يف بعض البلدان دون ابقيها ‪ ,‬أو طائفة دون غريها من الطوائف ‪.‬‬ ‫العرف اخلاص‬
‫ومثال ذلك ‪-:‬‬
‫تعارف أهل العراق على إطالق لفظ الدابة على الفرس فقط‬
‫النوع الثالث الصحيح والفاسد‬
‫العرف الصحيح وهو ما تعارف عليه الناس ‪ ,‬وليس فيه خملفة لنص وال تفويت ملصلحة ‪ ,‬وال جلب ملفسدة ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪-:‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫تعارف الناس على أن ما يقدمه اخلاطب إىل خطيبته من مالبس وحنوها إمنا هو هدية فقط وليس‬
‫له عالقة ابملهر ‪.‬‬
‫وهو ما خالف نصاً شرعياً أو فوت مصلحة أو جلب مفسدة ‪.‬‬ ‫العرف الفاسد‬
‫مثال ذلك ‪-:‬‬
‫تعارف الناس على بعض العقود الربوية ‪ ,‬وعلى بعض العادات املستنكرة اليت تفعل يف األفراح‬
‫واملآمت ‪ ,‬وال شك إن هذا النوع من العرف ال يلتفت إليه وال يعول عليه ‪ ,‬بل جيب حماربته‬
‫والقضاء عليه‬

‫املطلب الثالث ‪ :‬يعترب العرف حجة‬


‫ال خالف بني الفقهاء يف أن العرف إذا كان خمالفاً ألدلة الشرع مناقضاً حلكمة وأهدافه ‪ ,‬ال يعتد به بل جيب إلغاؤه ‪ ,‬ألنه يف‬ ‫‪1‬‬
‫بقائه من املفاسد ما يعلمها إال هللا ‪ ,‬ولذلك فإن الشرع احلكيم قد ألغى مجيع األعراف الفاسدة املوجودة عند العرب قبل اإلسالم‬
‫مثل الطواف ابلبيت عراة ‪ ,‬ودفن البنات أحياءً ‪ ,‬وحرمان النساء من املرياث ‪ ,‬ونكاح الرهط ‪ ,‬وحنو ذلك من األعراف اليت كانت‬
‫قبل جميء اإلسالم ‪.‬‬
‫وال خالف أيضا بينهم يف أن العرف إذا كان صحيحاً أبن كان ال خيالف دليالً من األدلة الشرعية وال قاعدة من قواعد الدين فإنه‬ ‫‪2‬‬
‫جيب االعتداد به واعتباره ‪.‬‬
‫أما إذا كان خاصاً فإنه حمل خالف بينهم ‪ ,‬فقد ذهب فريق منهم إىل عدم االعتداد به ‪ ,‬وذهب فريق آخر إىل القول بوجوب‬ ‫‪.3‬‬
‫االعتماد عليه ‪ ,‬وهذا هو القول الراجح الذي يدل عليه فعل النيب صلى هللا عليه وسلم وفعل أصحابه من بعده‬

‫املطلب الرابع ‪ :‬شروط العمل ابلعرف‬


‫للعمل ابلعرف شروط ا ثالث جيب مراعاهتا وهى ‪-:‬‬
‫‪ ,‬فإذا حصل نزاع بني شخصني مثالً يف أي تصرف من التصرفات فإن العرف الذي‬ ‫أن يكون سابق ا أو مقروانا إلنشاء‬ ‫‪1‬‬
‫َيكم به يف هذا النزاع هو املوجود وقت النزاع ‪ ,‬وبناءً على ذلك فال يعتد أبي عرف‬ ‫التصرف‬
‫طرأ بعد النزاع‬
‫مثال ذلك ‪-:‬‬
‫لو حلف شخص أن ال أيكل حلماً وكان عرف أهل البلد أن اللحم كل حلماً سوى السمك ‪ ,‬فإذا ما تغري هذا العرف يف هذه‬
‫البلدة بعد ذلك واصبح يطلق على السمك حلماً ‪ ,‬فإن هذا العرف املتغري ال يؤثر على هذا الشخص ألن اليمني سبق هذا العرف‬
‫‪ ,‬وإمنا يؤثر فيما َيدث بعده ‪.‬‬
‫‪ ,‬فإذا خالف العرف شرطاً صرَياً ال يعمل به‬ ‫أن ال يكون خمالف ا لشرط صريح‬ ‫‪2‬‬
‫مثال ذلك ‪-:‬‬
‫إذا كان عرف أهل البلد تعجيل نصف الصداق وأتجيل النصف اآلخر ‪ ,‬واشرتطت الزوجة على الزوج تعجيله كله وقبل هو هذا‬
‫الشرط وجب عليه تعجيله كله ‪ ,‬وال يلتفت إىل العرف يف هذه احلالة ‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فإذا كان هناك نص مينع من فعل الشيء املتعارف عليه فإنه ال يعمل هبذا العرف‬ ‫أن ال يكون معطالا لنص وال مناقض ا‬ ‫‪3‬‬
‫ألصل شرعي‬
‫مالحظة ‪ -:‬إن السيمة املميزة لألحكام املستندة إىل العرف إهنا غري اثبتة بل إهنا تتغري بتغري العرف ‪ ,‬وعلى هذا قد يتغري رأى الفقيه يف‬
‫القضية الواحدة بتغري العرف ويعرب الفقهاء عن هذا االختالف أبنه (( اختالف عصر وزمان ال اختالف حجة وبرهان )) ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪-:‬‬
‫ما فعله اإلمام الشافعي رمحة هللا حينما جاء إىل مصر فإنه قد غري رأيه يف كثري من األحكام اليت بناها على عرف أهل بغداد ‪ ,‬وكان هذا‬
‫التغري نتيجة حتمية العتبار عرف أهل مصر املخالف لعرف أهل بغداد ‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫رابعا‪ :‬األدلة املختلف فيها‪:‬‬

‫شرع ممن قبلنا‬

‫املراد بشرع من قبلنا‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫هل يعترب شرع من قبلنا شرع ا لنا أم ال ؟‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫ضوابط شرعية للعمل بـ" مش ْرع مم ْن قبلنا"‬ ‫املطلب الثالث‬

‫املطلب األول‪ :‬املراد بشرع من قبلنا‬


‫املراد بشرع من قبلنا تلك األحكام اليت شرعها هللا تعاىل لألمم السابقة على لسان األنبياء الذين أرسلهم هللا إىل تلك األمم ‪ ,‬مثل سيدان نوح‬
‫وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم وعلى نبينا افضل الصالة والتسليم ‪.‬‬

‫مالحظة ‪ -:‬إن املقصود من األحكام الواردة فيما سبق هي تلك األحكام اليت قصها علينا القرآن الكرمي أو جاءت على لسان‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ,‬أما ماعدا ذلك من أحكام الشرائع السابقة فاإلمجاع منعقد على عدم العمل هبا ‪ ,‬ولذلك فال يعمل‬
‫حبكم ثبت ابلتوراة أو اإلجنيل ومل يرد ذكره يف الكتاب وال يف السنة ألن كالً من التوراة واإلجنيل قد تعرضا للتحريف والتغيري ‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬هل يعترب شرع من قبلنا شرع ا لنا أم ال ؟‬


‫لإلجابة على هذا السؤال نقول إن أحكام من قبلنا تتنوع إىل ثالثة أنواع ‪-:‬‬
‫أحكام ورد يف القرآن الكرمي أو يف السنة النبوية الشريفة ما يفيد إهنا منسوخة ابلنسبة ألمة حممد صلى هللا عليه وسلم وهذه‬ ‫النوع األول‬
‫ال تعترب شرعاً لنا ابتفاق العلماء‬
‫وسى‬
‫ال ُم َ‬‫ومثال ذلك ‪ -:‬كان العاصي يف شريعة موسى عليه السالم ال يكفر ذنبه إال أن يقتل نفسه قال تعاىل { َوإِ ْذ قَ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫ل َق ْومه َايقَـ ْوم إِنَّ ُك ْم ظَلَ ْمتُ ْم أَن ُف َس ُك ْم ِاب ّختَاذ ُك ْم الْع ْج َل فَـتُوبُوا إِ َىل َاب ِرئ ُك ْم فَاقْـتُـلُوا أَن ُف َس ُك ْم ذَل ُك ْم َخ ْريٌ لَ ُك ْم عنْ َد َاب ِرئ ُك ْم فَـتَ َ‬
‫اب‬
‫الرِح ُيم } ‪ ,‬أما العاصي من أمة حممد صلى هللا عليه وسلم فتكفيه التوبة الصادقة إىل هللا تعاىل ليكفر‬ ‫اب َّ‬ ‫َعلَيْ ُك ْم إِنَّهُ ُه َو التـ ََّّو ُ‬
‫عن ذنبه ‪.‬‬

‫أحكام أقرهتا الشريعة اإلسالمية ‪ ,‬ووافقت فيها الشرائع السابقة وإن اختلفت معها أحياان يف الشكل والكيفية ‪ ,‬وقد اتفق‬ ‫النوع الثاين‬
‫العلماء على إهنا شرعاً لنا ‪.‬‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫مثل الصيام فإنه كان واجباً يف الشرائع السابقة وقد أبقت الشريعة اإلسالمية على هذا احلكم ‪,‬قال تعاىل { َايأَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين ِم ْن قَـبْلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَـتَّـ ُقو َن } ‪ ,‬وال شك إن كيفية أداة هذا احلكم ختتلف يف‬ ‫َّ ِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصيَ ُام َك َما ُكت َ‬
‫ب َعلَيْ ُك ْم ّ‬
‫ِ‬
‫َآمنُوا ُكت َ‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الشريعة اإلسالمية عن الشرائع السابقة ‪.‬‬


‫ومثال آخر وهو األضحية فقد كانت مشروعة يف ملة إبراهيم عليه السالم وقد أقرها اإلسالم ‪.‬‬

‫أحكام قصها هللا علينا يف كتابه العزيز أو جاءت على لسان نبيه حممد صلى هللا عليه وسلم ومل يوجد يف سياق النص أو يف‬ ‫النوع الثالث‬
‫نص آخر ما يفيد أهنا منسوخة عنا وال ما يفيد أهنا مقررة علينا ‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف االحتجاج هبا ‪ ,‬فذهب األكثر إىل أهنا شرعاً لنا وهذا هو القول الراجح ‪.‬‬

‫املطلب الثالث ‪ :‬ضوابط شرعية للعمل بـ" مش ْرع مم ْن قبلنا"‪:‬‬


‫حيث َّبني العلماء أن األمر ال يؤخذ مباشرة دون ضوابط حمدَّدة‪ ،‬فأشهر الضوابط ما يلي‪:‬‬

‫أن يكون اثبتًا يف الكتاب العزيز أو يف صحيح السنة‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫شرعنا ما خيالفه‬
‫أال يرد يف ْ‬ ‫‪2‬‬
‫ِ‬
‫األمر حمَْكيًّا عنهم‪ ،‬أو م ْن روايتهم دون التثبُّت‬
‫أال يكون ُ‬ ‫‪3‬‬
‫أال يؤخذ ِم ْن ُكتُبهم مباشرة‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫شرعنا حكم خاص ُخيالفه‪ ،‬سواء كان ابملوافقة أم ابملخالفة‬ ‫أال يكون يف ْ‬ ‫‪5‬‬
‫أن يكون ذلك عن طريق املوافقة ال املتابعة‬ ‫‪6‬‬
‫مجعا بني األدلة؛ ذلك أن شريعتنا ال جتمع بني املفرتقني‪ ،‬وال‬
‫وبذلك يتضح أن القول جبواز االستدالل بشرع من قبلنا مل يكن على إطالقه؛ ً‬
‫تفرق بني اجملتمعني‪ ،‬وهبذا تعتضد األدلة وتتشابَك‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫خامسا‪ :‬األدلة املختلف فيها‪:‬‬

‫قول الصحايب‬

‫تعريف الصحايب‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫هل قول الصحايب حجة ؟‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫ما هو القول الراجح يف حجية قول الصحايب ؟‬ ‫املطلب الثالث‬

‫املطلب األول‪ :‬تعريف الصحايب‬


‫‪168‬‬
‫مسلما ومات على ذلك‪ ،‬وإن مل يره؛ كابن أم مكتوم ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬ولو‬ ‫والصحايب‪ :‬هو َم ْن لقي النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ً -‬‬
‫ختلَّل ذلك ردَّة ‪ -‬والعياذ ابهلل تعاىل‪.‬‬
‫والصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم ‪ :-‬هم الذين شاهدوا النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ونقلوا عنه ِّ‬
‫الرسالة احملمديَّة الغراء‪ ،‬وهم الذين مسعوا منه‬
‫بيان الشريعة‪ ،‬ولذلك َّقرر ُمجهور الفقهاء أن أقواهلم حجة بعد النصوص‪ ،‬وفتوى الصحايب ال خترج عن ستة وجوه‪:169‬‬
‫أن يكون مسعها من النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫أن يكون مسعها ممن مسعها‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫فهما خفي علينا‪.‬‬
‫أن يكون فهمها من آية يف كتاب هللا ‪ -‬تعاىل ‪ً -‬‬ ‫‪3‬‬
‫أن يكون قد اتفق عليه ملؤهم‪ ،‬ومل ينقل إلينا إال قول املفيت وحده‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫أن يكون رأيه لكمال علمه ابللغة وداللة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا‪ ،‬أو لقرائن اقرتنت ابخلطاب‪ ،‬أو جملموع أمور فهمها‬ ‫‪5‬‬
‫على طول الزمان لصحبته النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وشهوده التنزيل‪ ،‬فيكون فهم ما ال نفهمه‪.‬‬
‫وعلى هذه التقادير اخلمسة تكون فتواه حجة علينا‬
‫أن يكو َن فهم ما َمل يروه عن النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وأخطأ يف فهمه‪ ،‬وعلى هذا التقدير ال يكون قوله حجة‪.‬‬ ‫‪6‬‬
‫قطعا أن وقوع احتمال من مخسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معني‪ ،‬هذا ما ال يشك فيه عاقل؛ ولذلك يفيد ظنًّا غالبًا‬ ‫ومعلوم ً‬
‫قواي على الصواب يف قوله‪ ،‬وليس املطلوب إال الظن الغالب‪ ،‬والعمل به متعني ويكفي العارف هذا الوجه‪.‬‬
‫ًّ‬

‫مبصرا‪ ،‬وهو‬
‫هناك صحايب واحد فقط انل شرف الصحبة مع أنه مل يلتق ابلنيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ومل يره مع كونه ً‬
‫‪168‬‬

‫َص َح َمة ملك احلبشة ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬كما َّبني ذلك اإلمام الذهيب‬
‫واتبعا من وجه‪ ،‬وهو النجاشي ‪ -‬أ ْ‬
‫يعد صاحبًا من وجه‪ً ،‬‬
‫ُّ‬
‫حسن إسالمه ومل يهاجر‪،‬‬
‫يف "سري أعالم النبالء"‪ ،‬جـ ‪ 1‬ص‪ 428‬بقوله‪" :‬معدود يف الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم ‪ -‬وكان ممن ُ‬
‫وال له رؤية‪ ،‬فهو اتبعي من وجه‪ ،‬صاحب من وجه‪ ،‬وقد ِّ‬
‫تويف يف حياة النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬فصلَّى عليه ابلناس صالة‬
‫الغائب؛ رواه البخاري والنَّسائي"؛ انتهى‪.‬‬
‫اختصارا لكالم اإلمام ابن القيم يف "إعالم املوقعني"‪ ،‬ج‬
‫ً‬ ‫‪ 169‬ذكرها العالمة الشيخ حممد أبو َزْهَرة يف "أصول الفقه"‪ ،‬ص ‪200‬‬
‫‪ ،1‬ص ‪.248‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املطلب الثاين‪ :‬هل قول الصحايب حجة ؟‬


‫اتفق العلماء على أن ‪-:‬‬
‫قول الصحاىب (( الذى مل يعرف ابألخذ عن أهل الكتاب )) قوالً ال جمال لالجتهاد فيه وال يتعلق ببيان لغةأو شرح‬ ‫‪1‬‬
‫غريب‪.‬‬
‫فعل الصحاىب إذ مل يكن من قبيل الرأي ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫له حكم الرفع إىل النيب صلى هللا عليه وسلم ويعترب من السنة الىت جيب اتباعها ‪.‬‬
‫واختلفوا يف قول الصحايب الذي ليس له حكم الرفع إىل النيب صلى هللا عليه وسلم هل هو حجة أم ال على قولني‪:‬‬
‫فمنهم من قال إنه حجة وعلل ذلك أبن الصحابة أقرب إىل الصواب ‪ ,‬لكوهنم شاهدوا النيب صلى هللا عليه وسلم وعرفوا‬ ‫‪1‬‬
‫من أقواله وأفعاله وأحواله ما مل يعرفه أحد ‪ ,‬وألهنم أخلص هلل نية وأبعد عن اهلوى ‪ ,‬وألهنم خري هذه األمة بشهادة النيب‬
‫َّاس قَـرِين ُمثَّ الَّ ِذين يـلُ َ َّ ِ‬
‫وهنُْم } البخاري ‪ .‬وألهنم مقدمون على غريهم يف‬ ‫ين يَـلُ َ‬‫وهنُْم ُمثَّ الذ َ‬ ‫ََ‬ ‫{خ ْريُ الن ِ ْ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم لقوله َ‬
‫ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم إب ْح َسان } ‪ ,‬وهذا يدل على‬ ‫ين اتَّـبَـ ُع ُ‬
‫َنصار َوالذ َ‬ ‫ين َو ْاأل َ‬ ‫الساب ُقو َن ْاأل ََّولُو َن م ْن الْ ُم َهاجر َ‬
‫كتاب هللا تعاىل قال تعاىل{ َو َّ‬
‫أن هلم قوالً متبوعاً ‪ ,‬فهذه الوجوه تدل على أن قول الصحابة حجة ‪.‬‬
‫اَّللِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال البعض إنه ال حجة إال فيما قاله هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم ألن هللا تعاىل قال {ألََّال يَ ُكو َن للن ِ‬
‫َّاس َعلَى َّ‬ ‫‪2‬‬
‫اك َعلَْي ِه ْم َح ِفيظًا } ‪ ,‬وقال تعاىل‬ ‫اَّللَ َوَم ْن تَـ َوَّىل فَ َما أ َْر َسلْنَ َ‬
‫اع َّ‬‫ول فَـ َق ْد أَطَ َ‬ ‫{م ْن يُ ِط ْع َّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫الر ُس ِل } ‪ ,‬وقال تعاىل َ‬ ‫ُح َّجةٌ بَـ ْع َد ُّ‬
‫ول فَ ُخ ُذوهُ َوَما َهنَا ُك ْم َعْنهُ فَانْـتَـ ُهوا } ‪ ,‬ومعلوم أننا لو اتبعاً الصحابة لكنا أطعنا غري الرسول صلى هللا‬ ‫الر ُس ُ‬
‫آات ُك ْم َّ‬
‫{ َوَما َ‬
‫عليه وسلم ‪ ,‬أخذان بغري ما قال الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ,‬وهذا الدليل على وجوبه ‪ ,‬وما ذكر من األوصاف‬
‫السابقة يف الصحابة فنحن نؤمن هبا لكن هذا ال يقتضي أن يكون ما قالوه مما مل يرد به نص حجة جيب اتباعها ‪.‬‬

‫املطلب الثالث ‪ :‬ما هو القول الراجح يف حجية قول الصحايب ؟‬


‫ميكن تقسيم حجية أقوال الصحابة إىل ثالثة أقسام حسب اختالف أحواهلم ‪-:‬‬

‫من نص الشرع على أن أقواهلم حجة فهذا واضح يف أن قوهلم حجة بنص الشرع ‪.‬‬ ‫القسم األول‬
‫ومثل ذلك ‪-:‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫اَّللُ َعلَْيه َو َسل َم { اقْـتَ ُدوا ابلل َذيْ ِن م ْن بَـ ْعدي أَِيب بَ ْكر َو ُع َمَر } ‪.‬فهذا نص يف أن قوهلما حجة ألنه قال‬ ‫َّ‬
‫صلى َّ‬ ‫• قوله َ‬
‫اقْـتَ ُدوا ِابللَّ َذيْ ِن ِم ْن بَـ ْع ِدي ‪ ,‬وهذا اليعين أن االقتداء هبما فيما فعاله من سنته صلى هللا عليه وسلم ‪ ,‬إذ لو كان‬
‫هذا هو املعىن لكان احلديث عدمي الفائدة ‪ ,‬ألن االقتداء مبن أخذ بسنة الرسول صلى هللا عليه وسلم أمر مأمور‬
‫به ولو كان الذي اقتدى به من القرن السابع أو العاشر ‪.‬‬
‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم {َ إِ ْن يُ ِط ُيعوا أ ََاب بَ ْك ٍر َوعُ َمَر يَـ ْر ُش ُدوا } البخاري ‪.‬وهذا احلديث صريح يف االقتداء هبما‬
‫صلَّى َّ‬
‫وقوله َ‬ ‫•‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ني َعضُّوا َعلَْيـ َها ِابلنـ ََّو ِاج ِذ} ‪ ,‬فهذا‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل علَي ِه وسلَّم { فَـعلَي ُكم بِسن َِّيت وسن َِّة ا ْخللََف ِاء َّ ِ ِ‬
‫ين ال َْم ْهديِّ َ‬
‫الراشد َ‬ ‫صلَّى َُّ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ ُ َ َ ُ‬ ‫وقوله َ‬ ‫•‬
‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم واتباع سنة اخللفاء الراشدين من بعده ‪.‬‬ ‫صلَّى َّ‬ ‫احلديث يدل على اتباع سنة الرسول َ‬

‫من عرفوا ابإلمامة يف الدين والفقه يف العلم ‪ ,‬فهؤالء أيضا يعترب قوهلم حجة ولكن ليس مثل من نص الشرع على‬ ‫القسم الثاين‬
‫االقتداء هبم‪.‬‬
‫من مل يتصفوا هبذه األوصاف السابقة (( القسم األول والثاين )) ‪ .‬فقول هذا القسم من الصحابة ليس حبجة على القول‬ ‫القسم الثالث‬
‫الراجح‬
‫وقول الصحايب الذي ذهب األئمة إىل االحتجاج به ال يكون خمالفاً للنص ‪ ,‬فإذا خالف النص أخذ ابلنص وترك قول الصحايب ‪.‬‬
‫وهذا املثال يوضح ذلك ‪ -:‬كان على بن أىب طالب (( من القسم األول )) ‪ ,‬وابن عباس (( من القسم الثاين )) رضى هللا عنهما يراين أن‬
‫املرأة احلامل إذا توىف عنها زوجها اعتدت أبطول األجلني (( األشهر أو وضع احلمل )) فيقوالن ‪ :‬إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشرة أايم‬
‫انتظرت حىت تتم أربعة أشهر وعشرة أايم ‪ ,‬إن مت هلا أربعة أشهر وعشرة أايم ومل تضع انتظرت حىت تضع‪ .‬وقد خالف قوهلما هذا النص وهو ‪:‬‬
‫{إن سبيعة األسلمية نفست بعد موت زوجها بليال ‪ ,‬فأذن هلا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن تتزوج}‬
‫أما إذا خالف قول الصحايب قول صحايب آخر أنخذ ابلراجح منهما والراجح هو األقرب إىل النص ‪.‬‬
‫وقد علَّق الشيخ حممد أبو َزْهَرة على ذلك بقوله‪:‬‬
‫"هذا‪ ،‬وإن املأثور عن األئمة األربعة أهنم يتبعون أقوال الصحابة وال خيرجون عنها"‪170‬؛ انتهى‪.‬‬

‫الشيخ حممد أبو َزْهَرة‪ ،‬أصول الفقه‪ ،‬ص ‪.201‬‬ ‫‪170‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫سادسا‪ :‬األدلة املختلف فيها‪:‬‬

‫سد الذرائع‬

‫سد الذرائع أصل من أصول السادة املالكية‪ ،‬فلقد أكثروا من العمل هبذا األصل‪ ،‬حىت نُسب إىل املذهب املالكي أنه‬
‫ك َرِمحَهُ َّ‬
‫اَّللُ‬
‫اصا ِمبَالِ ٍ‬
‫الذ َرائِ ِع َخ ًّ‬
‫املذهب الوحيد الذي قال ابلذرائع‪ ،‬واألمر خالف ذلك كما زعم القرايف‪" :‬فَـلَيْس َس ُّد َّ‬
‫َ‬
‫ص ُل َس ِّد َها ُْجم َم ٌع َعلَْيه"‪.171‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بل قَ َ ِ‬
‫ال هبَا ُه َو وأَ ْكثَـُر م ْن َغ ِْريه‪َ ،‬وأَ ْ‬ ‫َْ‬

‫وقاعدة سد الذرائع تقوم على املقاصد واملصاحل‪ ،‬فهي تقوم على أساس أن الشارع ما شرع أحكامه إال لتحقيق‬
‫مقاصدها من جلب املصاحل ودرء املفاسد‪ ،‬فإذا أصبحت أحكامه تستعمل ذريعة لغري ما شرعت له‪ ،‬ويتوسل هبا إىل‬
‫قر إفساد أحكامه وتعطيل مقاصده‪.‬‬
‫خالف مقاصدها احلقيقية‪ ،‬فإن الشرع ال يُ ُّ‬

‫تعريف الذريعة‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫أقسام الذرائع‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬

‫اصطالحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫َيسن بنا اإلشارةُ إىل معناها لغةً و‬
‫وقبل احلديث عن الذريعة‪ُ ،‬‬

‫املطلب األول‪ :‬تعريف الذريعة‬


‫إليك؛ أَي‪ :‬سبَيب‬ ‫ٍ‬
‫السبَب إىل شيء‪ ،‬يُقال‪ :‬فال ٌن ذَر َيعيت َ‬
‫"الوسيلَة و َّ‬
‫ابلرجوع إىل املعاجم اللغوية جند أن الذريعةَ يف اللغة تفيد َ‬ ‫الذريعة لغةا‬
‫إليك"‪.172‬‬
‫ب به َ‬ ‫صلَيت الذي أَتَ َسبَّ ُ‬
‫وو ْ‬
‫ُ‬

‫الس ِاملُ َع ْن ال َْم ْف َس َدةِ َو ِسيلَةً لِلْ َم ْف َس َدةِ منعنا من ذلك الفعل"‪ ،173‬ونقل‬
‫"ح ْس ُم َمادَّةِ َو َسائِ ِل الْ َف َس ِاد َدفْـ ًعا َهلَا‪ ،‬فَ َم َىت َكا َن ال ِْف ْع ُل َّ‬
‫َ‬ ‫الذريعة‬
‫ابن حزم عن أيب حممد علي بن أمحد رمحه هللا قوله‪" :‬ذهب قوم إىل حترمي أشياء من طريق االحتياط‪ ،‬وخوف أن يتذرع منها‬ ‫ُ‬ ‫واصطالحا‪:‬‬
‫ا‬
‫‪174‬‬
‫إىل احلرام البحت" ‪.‬‬
‫فعماد التعريف يف الذريعة أهنا هي كل مسألة ظاهرها اإلابحة ويتوصل هبا إىل فعل حمظور‪ ،‬وبيان ذلك أن الوسيلة إذا أفضت‬
‫إىل مفسدة كانت فاسدة‪ ،‬فوجب قطع الذريعة ملا ينجم عنها من مفاسد‪ ،‬والوسائل إذا كانت مؤدية إىل مصلحة كانت‬
‫صاحلة‪ ،‬فتكون الذريعة عندئذ غري ممنوعة‪.‬‬
‫قال القرايف‪" :‬الوسيلة إىل أفضل املقاصد أفضل الوسائل‪ ،‬وإىل أقبح املقاصد أقبح الوسائل‪ ،‬وإىل ما هو متوسط‬

‫‪ 171‬أنوار الربوق يف أنواع الفروق‪.)46 /3( ،‬‬


‫‪ 172‬لسان العرب ‪ /‬اتج العروس (ذرع)‪.‬‬
‫‪ 173‬أنوار الربوق‪.)45 /3( ،‬‬
‫‪ 174‬األحكام البن حزم‪.)745 /6( ،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫متوسطة"‪.175‬‬
‫أقره أبو زهرة فقال‪:‬‬
‫فحسب اإلمام القرايف أن األمور ليست حبسب مآل نية الفاعل‪ ،‬وإمنا حبسب نتائجها وغاايهتا‪ ،‬و هذا ما َّ‬
‫"إن أصل س ِّد الذرائع ال يعترب النية فيه على أهنا األمر اجلوهري يف اإلذن أو املنع‪ ،‬وإمنا النظر به إىل النتائج والثمرات" ‪،‬‬
‫‪176‬‬

‫فلما كان املقصد األساس للشريعة اإلسالمية هو إقامة املصاحل ودفع املفاسد‪ ،‬فكل ما يؤدي إىل ذلك من ذرائع وأسباب‬
‫يكون له حكم ذلك املقصد األصلي‪.‬‬

‫ومن أتمل مصادر الشريعة ومواردها‪ ،‬علِم أن الشارع احلكيم َّ‬


‫سد الذرائع املفضية إىل احملارم أبن حرمها وهنى عنها‪،‬‬
‫وهذا سنلحظه من خالل القسم األول من أقسام الذرائع‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬أقسام الذرائع‬


‫وقد قسم علماء أصول الفقه الذرائع مخسة أقسام‪:‬‬
‫ابن القيم عن هذا القسم‬ ‫ما أدى إىل مفسدة مقطوع هبا‪ ،‬وهذا القسم أمجعت األمة على س ِّده ومنعه وحسمه‪ ،‬وقد َّ‬
‫عرب ُ‬ ‫القسم األول‬
‫‪177‬‬
‫جائزا" ‪.‬‬ ‫بقوله‪" :‬ال جيوز اإلتيا ُن بفعل يكون وسيلة إىل حرام وإن كان ً‬
‫ومن أمثلة هذا القسم ‪ -‬على سبيل املثال ‪ -‬ما يلي‪:‬‬
‫اَّللَ َع ْد ًوا بِغَ ِْري ِع ْل ٍم ﴾ [األنعام‪َّ ،]108 :‬‬
‫فحرم هللا تعاىل‬ ‫ون َِّ‬
‫اَّلل فَـيَ ُسبُّوا َّ‬ ‫‪ - 1‬قوله تعاىل‪ ﴿ :‬وَال تَسبُّوا الَّ ِذين ي ْدعو َن ِمن د ِ‬
‫ََ ُ ْ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫سب هللا عز وجل فكانت مصلحة ترك‬ ‫ِ‬
‫سب آهلة املشركني ‪ -‬مع كون السب محيةً هلل وإهانةً آلهلتهم ‪ -‬لكونه ذريعةً إىل ّ‬ ‫َّ‬
‫سب آهلتهم‪ ،‬وجاء التصريح على املنع لئال يكون سببًا يف فعل احلرام‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مسبته تعاىل أوىل من مصلحة ّ‬

‫اب أَلِ ٌيم ﴾ [البقرة‪،]104 :‬‬ ‫اعنَا وقُولُوا انْظُرَان و ْ ِ ِ‬


‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫امسَ ُعوا َوللْ َكاف ِر َ‬
‫ين َع َذ ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫ين آَ َمنُوا َال تَـ ُقولُوا َر َ‬
‫‪ - 2‬ويقول تعاىل‪َ ﴿ :‬اي أَيـُّ َها الذ َ‬
‫مسعك‪ ،‬وفرغ مسعك لكالمنا‪ ،‬وكانت هذه‬ ‫ِ‬
‫"وذلك أن املسلمني كانوا يقولون‪ :‬راعنا اي رسول هللا‪ ،‬من املراعاة؛ أي‪ :‬أ َْرعنا َ‬
‫قبيحا بلغة اليهود‪ ،‬وقيل‪ :‬كان معناها عندهم‪ :‬امسع ال مسعت‪ ،‬و قيل‪ :‬هي من الرعونة"‪.178‬‬ ‫اللفظة شيئًا ً‬
‫"فنهى تعاىل املسلمني عن قوهلا؛ سدًّا لذريعة املشاهبة‪ ،‬ولئال يكون ذلك ذريعةً إىل أن يقوهلا اليهود للنيب تشبُّـ ًها ابملسلمني‪،‬‬
‫فاسدا"‪.179‬‬
‫معىن ً‬
‫غري ما يقصده املسلمون‪ ،‬ولئال خياطب بلفظ َيتمل ً‬
‫يقصدون هبا َ‬

‫يب على ال ُْم ْح ِرِم؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء‪ ،‬فتحرميه من ابب س ِّد الذرائع‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪ - 3‬وحرم الشارع الطّ َ‬

‫يفرق بني األوالد يف املضاجع‪ ،‬فال ينام الذكر مع األنثى يف فراش واحد؛ ألن ذلك قد يكون اب ًاب‬
‫‪ - 4‬وأمر عليه السالم أن َّ‬

‫‪ 175‬التنقيح‪ ،‬القرايف‪( ،‬ص‪.)449 :‬‬


‫‪ 176‬مالك‪ ،‬أبو زهرة‪( ،‬ص‪.)343 :‬‬
‫‪ 177‬أعالم املوقعني‪ ،‬ابن القيم‪.)118 /3( ،‬‬
‫‪ 178‬معامل التنزيل‪ ،‬البغوي‪.)132 /1( ،‬‬
‫‪ 179‬أعالم املوقعني‪.)119 /3( ،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ني‪،‬‬‫ِِ‬ ‫من تلبيس إبليس عليهما‪ ،‬فيتحد الفراش ومها ال يشعران؛ قال عليه السالم‪" :‬مروا أَوَال َد ُكم ِاب َّ ِ‬
‫لص َالة َوُه ْم أَبْـنَاءُ َسْب ِع سن َ‬ ‫ُُ ْ ْ‬
‫اض ِربوهم علَيـها وهم أَبـنَاء ع ْش ٍر‪ ،‬وفَـ ِرقُوا بـيـنَـهم ِيف الْمض ِ‬
‫اج ِع"‪.180‬‬ ‫َو ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ْ ُ َ َ ّ َْ ُ ْ َ َ‬

‫قطعا لذريعة الطمع فيها والفجور هبا‪.‬‬


‫‪ - 5‬وهنى املرأة عن السفر بغري حمرم؛ ً‬

‫إمجاعا‪ ،‬ألن مفسدته اندرةُ الوقوع؛ لذلك أمجعت األمة على عدم منعه‪ ،‬وأنه ذريعة ال تُسد ووسيلة ال ُحتسم‪ ،‬كاملنع‬
‫ملغًى ً‬ ‫القسم الثاين‬
‫من زراعة العنب خشيةَ اخلمر‪ ،‬فإنه مل يقل به أحد‪ ،‬ومنه كذلك املنع من اجملاورة يف البيوت خشية الزان‪.‬‬
‫خمتلف فيه بني الس ِّد والرتك‪ ،‬وذلك كبيوع اآلجال‪ ،‬ومثاله "كمن ابع سلعة بعشرة دراهم إىل شهر‪ ،‬مث اشرتاها خبمسة قبل‬ ‫القسم‬
‫الشهر‪ ،‬فاإلمام مالك يقول‪ :‬إنه أخرج من يده مخسةً اآلن‪ ،‬وأخذ عشرةً آخر الشهر‪ ،‬فهذه وسيلة لسلف مخسة بعشرة إىل‬ ‫الثالث‬
‫جوز ذلك‪ ،‬وهذه‬ ‫أجل توسالً إبظهار صورة البيع لذلك‪ ،‬والشافعي يقول‪ :‬ينظر إىل صورة البيع وَيمل األمر على ظاهره‪ ،‬فيُ ِّ‬ ‫ٍ‬
‫البيوع يقال‪ :‬إهنا تصل إىل ألف مسألة‪ ،‬اختص هبا مالك وخالفه فيها الشافعي‪ .‬وكذلك اختلف يف تضمني الصناع؛ ألهنم‬
‫يؤثرون يف السلع بصنعتهم‪ ،‬فتتغري السلع فال يعرفها رُّهبا إذا بيعت‪ ،‬فيضمنون سدًّا لذريعة األخذ‪ ،‬أم ال يضمنون ألهنم‬
‫ُجَراء‪ ،‬وأصل اإلجارة على األمانة قوالن‪.‬‬
‫أَ‬

‫متتد أيديهم إليه‪ ،‬وهو كثري يف املسائل‪ ،‬فنحن قلنا بس ِّد هذه الذرائع‪ ،‬ومل يقل هبا‬
‫وكذلك تضمني محلة الطعام لئال َّ‬
‫الشافعي"‪.181‬‬
‫الذرائع والوسائل املشروعة املفضية إىل البدعة‪ ،‬وإليه أشار اإلمام الشاطيب يف "االعتصام" بقوله‪ " :‬قد يكون أصل العمل‬ ‫القسم الرابع‬
‫‪182‬‬
‫‪ ،‬فضرب أمثلة لذلك منها‪:‬‬ ‫مشروعا‪ ،‬لكنه يصري جارًاي جمرى البدعة من ابب الذرائع"‬
‫ً‬
‫أحدمها أسهل واآلخر صعب‪ ،‬فيأخذ ابلطريق األصعب ويرتك األسهل‬ ‫ُ‬ ‫لآلخرة‪،‬‬ ‫كه‬
‫سلو‬ ‫يف‬ ‫يقان‬
‫ر‬ ‫ط‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫للمك‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫‪-1‬‬
‫الشاق استعماله‪ ،‬بدليل إسباغ‬ ‫البارد َّ‬ ‫فيتحرى َ‬ ‫وابردا‪َّ ،‬‬
‫بناء على التشديد على النفس‪ ،‬كالذي جيد للطهارة ماءين‪ ،‬ساخنًا ً‬
‫يما ﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫دليل رفع احلرج؛ ﴿ َوَال تَـ ْقتُـلُوا أَنْـ ُف َس ُك ْم إ َّن َّ‬ ‫ِ‬
‫اَّللَ َكا َن ب ُك ْم َرح ً‬ ‫النفس حقَّها‪ ،‬وخالف َ‬‫الوضوء على املكاره‪ ،‬فهذا مل يعط َ‬
‫[النساء‪.]29 :‬‬
‫االقتصار على البشع يف املأكل‪ ،‬واخلشن يف امللبس من غري ضرورة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ - 2‬ومن ذلك‬

‫‪ - 3‬ومنه أن عمر بن اخلطاب ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬أمر بقطع الشجرة اليت بويع حتتها النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ألن‬
‫الناس كانوا يذهبون إليها‪ ،‬فيصلون حتتها‪ ،‬فخاف عليهم الفتنة‪.‬‬

‫"فهذه األمور جائزة أو مندوب إليها‪ ،‬ولكن العلماء كرهوا فعلَها؛ خوفًا من البدعة‪ ،‬ألن اختاذها سنة‪ ،‬إمنا هو أبن يواظب‬
‫الناس عليها مظهرين هلا‪ ،‬وهذا شأن السنة‪ ،‬وإذا جرت َجمرى السنن‪ ،‬صارت من البدع بال شك"‪.183‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬ابب مىت يؤمر الغالم ابلصالة‪ ،‬مسند اإلمام أمحد‪ ،‬مسند عبدهللا بن عمرو‪.‬‬ ‫‪180‬‬

‫‪ 181‬أنوار الربوق‪.)45 /3( ،‬‬


‫‪ 182‬االعتصام‪ ،‬الشاطيب‪( ،‬ص‪.)253 :‬‬
‫‪ 183‬املرجع السابق‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫هاما‪َّ ،‬بني فيه األمهية القصوى ملبدأ س ِّد الذرائع‪ ،‬وانتهى فيه‬ ‫جتويز احليل‪ 184‬يناقض َّ‬
‫سد الذرائع‪ ،‬فقد كتَب ابن القيم فصالً ًّ‬ ‫القسم‬
‫معتربا إايها رافعةً للتحرمي ومسقطة للوجوب‬ ‫إىل أن َّ‬
‫سد الذرائع هو أحد أرابع الدين‪ ،‬مث بىن عليه حبثًا يف حترمي احليلة‪ً ،‬‬ ‫اخلامس‬
‫‪185‬‬
‫‪.‬‬ ‫"‬

‫ومن أمثلة احليل املفضية إىل فتح الذرائع احملرمة‪:‬‬


‫قبل حلول احلول‪ ،‬مث اسرتداده بعد ذلك‪ ،‬وهذه حيلة‬
‫‪ - 1‬إبطال حيلة إسقاط الزكاة‪ ،‬وذلك ببيع ما يف اليد من النصاب َ‬
‫حمرمة ابطلة‪.‬‬

‫احلر السقف‪ ،‬مث يدخل عبده‪ ،‬فيخرج املتاع من السقف‪.‬‬ ‫‪ - 2‬ومن احليل الباطلة إلسقاط ح ِّد السرقة‪ :‬أن َيفر ُّ‬
‫ظهرا لبطن‪ ،‬ونقض ُعرى‬ ‫اإلسالم ً‬ ‫َ‬ ‫َيل ملسلم أن يفيت هبا يف دين هللا‪" ،‬ومن أفىت هبا فقد قلب‬ ‫فهذه احليل وأمثاهلا ال ُّ‬
‫ت أَ ْن َختْتَلِ َع ِم ْن َزْوِج َها‪ ،‬فَأ ََىب َزْو ُج َها َعلَْيـ َها‪،‬‬ ‫اهنَا ِمبَْرَو‪ ،‬أ ََر َاد ْ‬
‫ت ْامَرأَةٌ َه ُ‬ ‫َمحَ ُد بْ ُن ُزَه ِْري بْ ِن َم ْرَوا َن‪َ :‬كانَ ْ‬ ‫ال أ ْ‬
‫اإلسالم عروةً عروةً‪ ،‬قَ َ‬
‫اب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّلل بْ ِن ال ُْمبَ َارك‪ ،‬فَـ َق َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَِقيل َهلا‪ :‬لَو ارتَ َد ْد ِ‬
‫ض َع َه َذا الْكتَ َ‬ ‫ال‪َ :‬م ْن َو َ‬ ‫ك ل َعْبد َّ‬ ‫ت َع ْن اإل ْس َالم لَبنْت منْهُ‪ ،‬فَـ َف َعلْت‪ ،‬فَ َذ َك ْرت ذَل َ‬ ‫َ َ ْ ْ‬
‫ورةٍ فَـ ُه َو َكافٌِر‪َ ،‬وَم ْن َكا َن ِعنْ َدهُ فَـَر ِض َي بِِه فَـ ُه َو َكافٌِر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫إىل‬‫َ‬ ‫فَـ ُهو َكافِر‪ ،‬وَم ْن َِمس َع بِِه ور ِضي بِِه فَـ ُهو َكافِر‪ ،‬وَم ْن َمحَلَهُ ِم ْن ُكورةٍ‬
‫َ‬ ‫َ ٌ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ ٌ َ‬
‫ت ِابِال ْرتِ َد ِاد‪،‬‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫ُم‬‫أ‬ ‫ث‬
‫َْ َ ْ ُ َ ْ‬ ‫ي‬‫ح‬ ‫‪،‬‬ ‫ح‬‫ٍ‬ ‫و‬‫ر‬ ‫ِ‬
‫َيب‬
‫أ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫ص‬
‫َّ‬ ‫ال ِيف قِ‬ ‫َ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ار‬ ‫ب‬‫ْم‬‫ل‬
‫ْ َ َُ َ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫اب‬ ‫َّ‬
‫إن‬ ‫‪:‬‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫اق بن راهوي ِه‪ ،‬عن َش ِق ِيق ب ِن عب ِدالْملِ‬
‫ْ َْ َ‬ ‫ال إ ْس َح ْ ُ َ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫وقَ َ ِ‬
‫َ‬
‫َح َدثُوا ِيف اإلسالِم‪َ ،‬وَم ْن َكا َن أ ََمَر ِهبَ َذا فَـ ُه َو َكافٌِر‪،‬‬ ‫أ‬ ‫‪:‬‬ ‫ب‬ ‫ض‬ ‫غ‬ ‫م‬
‫ْ ُ َُ َ َ ُ َ ُ ْ َ ٌ ْ‬‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ار‬ ‫ب‬‫ْم‬‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫اب‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫مث‬
‫َّ‬‫ُ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ئ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬‫ش‬ ‫ر‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ذ‬
‫َ‬
‫َّ َ َ َ َ ْ ً‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ن‬‫ا‬ ‫س‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫َيب‬ ‫أ‬ ‫م‬‫ِ‬‫َاي‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫يف‬‫ِ‬ ‫ك‬
‫َ َ‬
‫ِ‬
‫ل‬ ‫ذ‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ال ابْ ُن ال ُْمبَ َارِك‪َ :‬ما أُرى الشَّْيطَا َن َكا َن‬ ‫اب ِعْن َدهُ‪ ،‬أ َْو ِيف بَـْيتِ ِه لِيَأْ ُمَر بِِه‪ ،‬أ َْو َه ِويَهُ َوَملْ َأيُْم ْر بِِه فَـ ُه َو َكافٌِر‪ُ ،‬مثَّ قَ َ‬‫ُ‬
‫ومن َكا َن ه َذا ال َِ‬
‫ت‬ ‫ْك‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫ضيها فِي ِهم ح َّىت جاء هؤ ِ‬
‫الء‪.‬‬ ‫َشاعها ِحينَئِ ٍذ‪ ،‬أَو َكا َن َُي ِسنُـها وَمل َِجي ْد من ميُْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ َ َ َُ‬ ‫ْ َ َْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َُْي ُ ْ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ‬
‫أ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ـ‬‫ن‬‫م‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫اد‬ ‫ف‬‫أ‬ ‫ف‬ ‫الء‬ ‫ؤ‬ ‫ه‬ ‫اء‬ ‫ج‬ ‫ىت‬‫َّ‬ ‫ح‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ذ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ث‬‫م‬ ‫ن‬ ‫س‬

‫ال‪َ :‬م ْن ُخيَ ِاد ِع َّ‬


‫اَّللَ‬ ‫اب ا ْحلِيَ ِل‪ ،‬فَـ َق َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يك ‪ -‬يـع ِين‪ :‬ابن عب ِد َِّ ِ‬
‫اَّلل قَاضي الْ ُكوفَة ‪َ -‬وذُكَر لَهُ كتَ ُ‬ ‫ال َش ِر ٌ َ ْ ْ َ َ ْ‬ ‫الرا ِز ّ‬
‫ي‪ :‬قَ َ‬ ‫ال أَبُو َح ٍِ‬
‫امت َّ‬ ‫َوقَ َ‬
‫‪186‬‬
‫خيَْ َد ْعهُ" ‪.‬‬

‫خملصا شرعيًّا‪ ،‬فيسقط واجبًا أو َيل‬


‫احليل‪ :‬مجع حيلة‪ ،‬وهي احلذق وجودة النظر‪ ،‬واملراد هبا هنا ما يكون ً‬
‫‪184‬‬

‫‪ 185‬أعالم املوقعني‪.)159 - 135 /3( ،‬‬


‫املرجع السابق‪.)152 /3( ،‬‬ ‫‪186‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫سابعا‪ :‬األدلة املختلف فيها‪:‬‬

‫االستصحاب‬
‫األصل يف األحكام الشرعية الثابتة أبدلتها أن تبقى قائمة مستمرة ومستتبعة آلاثرها إىل أن يرد من الشارع‬
‫يغريها‪ ،‬أو يقطع استمرارها‪ ،‬واالستصحاب أصولياً‪ ،‬ال خيرج عن هذا املعىن‪ ،‬إذ مفاده‪ :‬استدامة حكم سابق ـ‬ ‫ما ّ‬
‫سليب أو إجيايب ـ ثبت بدليله فيما مضى‪ ،‬وعده قائماً يف احلال‪ ،‬واالستقبال‪ ،‬مستتبعاً لنتائجه‪ ،‬حىت يطرأ دليل آخر‬
‫يغريه‪ ،‬أو يزيله‪.‬‬
‫ّ‬

‫تعريف االستصحاب‬ ‫املطلب األول‪:‬‬


‫أنواع االستصحاب عند األصوليني‬ ‫املطلب الثاين‪:‬‬
‫حجة االستصحاب‬ ‫املطلب الثالث‬

‫املطلب األول‪ :‬تعريف االستصحاب‬

‫فاالستصحاب طلب املصاحبة‪ ،‬ملحوظاً فيه معىن «اللزوم واملرافقة» ومن هنا قيل‪ :‬استصحبت احلال‪ ،‬إذا‬ ‫االستصحاب لغةا‬
‫متسكت مبا كان قائماً يف املاضي‪ ،‬كأنك جعلت تلك احلال مصاحبة غري مفارقة‪.‬‬

‫يظن عدمه‪،‬‬
‫كل ما كان يف املاضي‪ ،‬ومل َّ‬
‫فمؤاده أن‪ :‬ما ثبت يف الزمن املاضي‪ ،‬فاألصل بقاؤه يف الزمن اآليت‪ ،‬و ُّ‬ ‫االستصحاب‬
‫فهو مظنون البقاء‪.‬‬ ‫اصطالح ا‬

‫وعلى هذا‪ ،‬فاالستصحاب ليس دليالً جديداً مستقالً‪ ،‬وال أصالً من أصول االستنباط‪ ،‬وإمنا هو تقرير حلكم اثبت بدليله يف املاضي ‪،‬‬
‫يلجأ إليه اجملتهد‪ ،‬حني ال يظفر بدليل جديد مغري للحكم السابق‪ ،‬بعد البحث والنظر يف املصادر التشريعية املعروفة‪ ،‬فيحصل له ظن بقاء‬
‫احلكم السابق بدليله‪ ،‬وهو ما أشار إليه اخلوارزمي يف كتابه الكايف‪ ،‬فيما نقله الشوكاين إذ يقول‪«:‬فإن املفيت إذا سئل عن حادثة‪ ،‬يطلب‬
‫حكمها يف الكتاب‪ ،‬مث يف السنة‪ ،‬مث يف اإلمجاع‪ ،‬مث يف القياس‪ ،‬فإن مل جيده‪ ،‬فيأخذ حكمها من استصحاب احلال‪ ،‬يف النفي واإلثبات»‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬أنواع االستصحاب عند األصوليني‬

‫االستصحاب من حيث احلكم السابق الثابت بدليله‪ ،‬أربعة أنواع‪ ،‬غري أن بعضها ال يتحقق فيه معىن االستصحاب الذي ذكر‬

‫والواقع أن هذا حكم عقلي صرف‪ ،‬إذ ال تكليف قبل الشرع‬ ‫العدم األصلي‪ ،‬أو الرباءة األصلية الثابتة قبل‬ ‫النوع األول‬
‫عقالً‪ ،‬وبراءة الذمة مستمرة حىت يرد من الشرع ما يشغلها‪،‬‬ ‫الشرع‬
‫فيستمر هذا احلكم بقيام دليله‪ ،‬وهو العقل‪ ،‬وال حاجة إىل‬
‫االستصحاب‪ ،‬وإن كان الشرع يؤيد العقل‪ ،‬يقول‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الغزايل‪«:‬فاستندت الرباءة األصلية إىل الدليل العقلي»‪.‬‬

‫كعقد الزواج‪ ،‬سبب لقيام الزوجية‪ ،‬فتُع ّد قائمة ابلعقد شرعاً‪،‬‬ ‫ما دل الشرع على ثبوته‪ ،‬واستمراره‪ ،‬لقيامه‬ ‫النوع الثاين‬
‫والعقد نفسه يقتضي استمرارها أيضاً‪ ،‬حىت يطرأ دليل جديد على‬ ‫على سبب يقتضيه‬
‫إهنائها‪ ،‬وقطع استمرارها ابلطالق‪ ،‬وكذلك امللك الثابت بعقد‬
‫البيع الذي أنشاه‪ ،‬يقتضي استمراره أيضاً‪ ،‬وال حمل لالستصحاب‬
‫يف هذا النوع‪ ،‬إذ ال حاجة إليه‪ ،‬والدليل على أن العقد يقتضي‬
‫االستمرار والبقاء‪ ،‬أن التوقيت يفسده‪.‬‬

‫اإلابحة األصلية يف األشياء شرعاً‪ ،‬لقوله تعاىل‪ ) :‬هو الذي خلق لكم ما يف األرض مجيعاً ( (البقرة ‪ )29‬ولقوله‬ ‫النوع الثالث‬
‫وسخر لكم ما يف السموات و ما يف األرض ( (اجلاثية ‪ ، )13‬وال يدرك معىن هلذا اخلَلق‪ ،‬والتسخري‪ ،‬امتناانً‪،‬‬
‫سبحانه‪َّ ) :‬‬
‫وحل التصرف‪ ،‬ابستثناء ما يوجبه العقل ابلضرورة ‪ ،‬أو مينعه لغلبة الضرر‪ .‬وهذا متفق عليه لدى‬
‫سوى إابحة االنتفاع ّ‬
‫مجهور األصوليني‪.‬‬

‫استصحاب حكم الشرع السابق الذي استوجبه وصف مظنون البقاء‪ ،‬ومل يظن عدمه‪ ،‬بعد البحث والنظر‪ ،‬ومثاله املفقود‬ ‫النوع الرابع‬
‫الذي ال يدري أحي هو أم ميت‪ ،‬وكان قبل فقده حياً بيقني‪.‬‬

‫املطلب الثالث ‪ :‬حجة االستصحاب‬

‫ولقد اختلف األصوليون يف مدى قوة هذا النوع من االستصحاب وهم على مذاهب ثالثة رئيسة‪:‬‬

‫ألنه تقرير حلكم سابق‪ ،‬يف الزمن احلاضر‪ ،‬وهو مذهب الشافعية‪ ،‬فيستتبع آاثره كافةً‪ ،‬حىت يرد‬ ‫أنه حجة مطلق ا‬ ‫األول‬
‫املغري‪ ،‬فيصلح دليالً على دفع دعوى املدعي طلب إرثه من املفقود‪ ،‬حفاظاً على حقوق‬
‫الدليل ّ‬
‫املفقود‪ ،‬وال تطلق زوجته‪ ،‬الستصحاب حياته‪ ،‬وكذلك يثبت حقه يف إرثه من غريه‬

‫مبعىن أنه يدفع دعوى اخلصم‪ ،‬صيانة حلقوق املفقود‪ ،‬ولكن ال يصلح إلثبات حقوق جديدة‬ ‫أنه حجة يف الدفع ال‬ ‫الثاين‬
‫للمفقود مل تكن اثبتة له من قبل ‪ .‬وهو مذهب كثري احلنفية فال يرث‪ ،‬وال يورث‪ ،‬ومنشأ اخلالف‬ ‫يف اإلثبات‬
‫«هل سبق الوجود مع عدم ظن االنتفاء‪ ،‬هو دليل البقاء‪ ،‬أو ال؟»‪ ،‬أجاب احلنفية ابلنفي‪،‬‬
‫والشافعية ابإلجياب‬

‫ال يف احلكم الوجودي وال العدمي‪ ،‬وال يصلح حجة دافعة‪ ،‬وال مثبتة ألن دليل الوجود ال يستلزم‬ ‫أنه ليس حجة مطلق ا‬ ‫الثالث‬
‫البقاء‪ ،‬ألن الوجود والبقاء أمران متغايران‪ ،‬فكان االستصحاب استدالالً بال دليل‪ ،‬وهو ابطل‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املبحث الثاين ‪ :‬األحكام الشرعية‬

‫منقسم مباحث األحكام الشرعية يف علم أصول الفقه أربعة أقسام‪:‬‬

‫وهو من صدر عنه احلكم‬ ‫احلاكم‬ ‫القسم االول‬


‫وهو ما صدر من احلاكم داال على إرادته يف فعل املكلف‬ ‫احلكم‬ ‫القسم الثاين‬
‫وهو فعل املكلف الذي تعلق احلكم به‬ ‫احملكوم فيه‬ ‫القسم الثالث‬
‫وهو املكلف الذي تعلق احلكم بفعله‬ ‫احملكوم عليه‬ ‫القسم الرابع‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫القسم االول‪ :‬احلاكم‬

‫ال خالف بني علماء املسلمني‪ ،‬يف أن مصدر األحكام الشرعية جلميع أفعال املكلفني هو هللا سبحانه‪ ،‬سواء أظهر‬
‫حكمه يف فعل املكلف مباشرة من النصوص اليت أوحي هبا إىل رسوله‪ ،‬أم اهتدى اجملتهدون إىل حكمه يف فعل‬
‫املكلف‪ ،‬بواسطة الدالئل واألمارات اليت شرعها الستنباط أحكامه‪ ،‬وهلذا اتفقت كلمتهم على تعريف احلكم الشرعي‬
‫أبنه‪ :‬خطاب هللا املتعلق أبفعال املكلفني طلبا أو ختيريا أو وضعا‪ ،‬واشتهر من أصوهلم "ال حكم إال هلل"‪ ،‬وهذا‬
‫مصداق قوله سبحانه‪ { :‬إن احلكم إال هلل يقص احلق وهو خري الفاصلني } [األنعام‪.]57 :‬‬
‫وإمنا اختلف علماء املسلمني يف أن أحكام هللا يف أفعال املكلفني‪ ،‬هل ميكن للعقل أن يعرفها بنفسه من غري وساطة‬
‫رسل هللا وكتبه‪ ،‬حبيث أن من مل تبلغه دعوة رسول يستطيع أن يعرف حكم هللا يف أفعاله بعقله أم ال ميكن للعقل أن‬
‫‪187‬‬
‫يعرف حكم هللا يف أفعال املكلفني بنفسه من غري وساطة رسل هللا وكتبه؟‬

‫فال خالف يف أن احلاكم هو هللا ‪ ،‬وإمنا اخلالف فيما يعرف به حكم هللا‪.‬‬

‫ولعلماء املسلمني يف هذا اخلالف مذاهب ثالثة‪:‬‬


‫مذهب األشاعرة‪:‬‬ ‫‪1‬‬
‫أتباع أيب احلسن األشعري‪ :‬وهو أنه‪ :‬ال ميكن للعقل أن يعرف حكم هللا يف أفعال املكلفني إال بواسطة رسله وكتبه؛ ألن العقول‬
‫ختتلف اختالفا بيّنا يف األفعال‪ ،‬فبعض العقول يستحسن بعض األفعال‪ ،‬وبعضها يستقبحها‪ ،‬بل عقل الشخص الواحد خيتلف يف‬
‫الفعل الواحد‪ ،‬وكثريا ما يغلب اهلوى على العقل فيكون التحسني أو التقبيح بناء على اهلوى‪ ،‬فعلى هذا ال ميكن أن يقال ما رآه‬
‫العقل حسنا فهو حسن عند هللا‪ ،‬ومطلوب هلل فعله‪ ،‬ويثاب عليه من هللا فاعله‪ ،‬وما رآه العقل قبيحا فهو عند هللا‪ ،‬ومطلوب هلل‬
‫تركه‪ ،‬ويعاقب من هللا فاعله‪.‬‬

‫وأساس هذا املذهب‪ :‬أن احلسن من أفعال املكلفني هو ما دل الشارع على أنه حسن إبابحته أو طلب فعله‪ ،‬والقبح هو ما دل‬
‫الشارع على أنه قبيح يطلبه تركه‪ ،‬وليس احلسن ما رآه العقل حسنا وال القبيح ما رآه العقل قبيحا‪ ،‬فمقياس احلسن والقبح يف هذا‬
‫املذهب هو الشرع ال العقل‪ ،‬وهذا يتفق وما ذهب إليه بعض علماء األخالق من أن مقياس اخلري والشر هو القانون‪ ،‬فما أوجبه‬
‫القانون أو أابحه فهو خري‪ ،‬وما حظره فهو شر‪.‬‬
‫وعلى هذا املذهب ال يكون اإلنسان مكلفا من هللا بفعل شيء ‪ ،‬أو ترك شيء إال إذا بلغته دعوة الرسول وما شرعه هللا‪ ،‬وال يثاب‬
‫أحد على فعل شيء وال يعاقب على ترك أو فعل‪ ،‬إال إذا علم من طريق رسل هللا ما جيب عليه فعله وما جيب عليه تركه‪ .‬فمن‬
‫عاش يف عزلة اتمة حبيث مل تبلغه دعوة رسول وال شرعه فه غري مكلف من هللا بشيء وال يستحق ثوااب وال عقااب‪ .‬وأهل الفرتة‪-‬‬
‫وهم من عاشوا من بعد موت رسول وقبل مبعث رسول‪ -‬غري مكلفني بشيء وال يستحقون ثوااب وال عقااب‪ .‬ويؤيد هذا املذهب‬
‫ِ‬
‫ث َر ُسوالً } "اإلسراء ‪."15 :‬‬ ‫قوله سبحانه‪َ { :‬وَما ُكنَّا ُم َع ّذبِ َ‬
‫ني َح َّىت نـَبْـ َع َ‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪98-93‬‬ ‫‪187‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫مذهب املعتزلة‬ ‫‪2‬‬


‫أتباع واصل بن عطاء‪ :‬وهو أنه ميكن أن يعرف حكم هللا يف أفعال املكلفني بنفسه من غري وساطة رسله وكتبه‪ ،‬ألن كل فعل من‬
‫أفعال املكلفني فيه صفات وله آاثر جتعله ضارا أو انفعا‪ ،‬فيستطيع العقل بناء على صفات الفعل‪ ،‬وما يرتتب عليه من نفع أو ضرر‬
‫أن َيكم أبنه حسن أو قبيح‪ ،‬وحكم هللا سبحانه على األفعال هو على حسب ما تدركه العقول مبن نفعها أو ضررها‪ ،‬فهو سبحانه‬
‫يطالب املكلفني بفعل ما فيه نفعهم حسب إدراك عقوهلم؛ وبرتك ما فيه ضررهم حسب إدراك عقوهلم‪ ،‬فما رآه العقل حسنا فهو‬
‫مطلوب هلل ويثاب من هللا فاعله‪ ،‬وما رآه العقل قبيحا فهو مطلوب هلل تركه ويعاقب من هللا فاعله‪.‬‬

‫وأساس هذا املذهب‪ :‬أن احلسن من األفعال ما رآه العقل حسنا ملا فيه من نفع‪ ،‬والقبيح من األفعال ما رآه العقل قبيحا ملا فيه من‬
‫ضرر‪ ،‬وأن أحكام هللا يف أفعال املكلفني هي على وفق ما تدركه عقوهلم فيها من حسن أو قبح‪ .‬وهذا املذهب يتفق وما ذهب إليه‬
‫أكثر علماء األخالق من أن مقياس اخلري والشر هو ما يدرك يف الفعل من نفع أو ضرر ألكرب جمموعة من الناس يصل إليهم أثر‬
‫الفعل‪.‬‬
‫وعلى هذا املذهب؛ فمن مل تبلغهم دعوة الرسل وال شرائعهم فهم مكلفون من هللا بفعل ما يهديهم عقلهم إىل أنه حسن ويثابون‬
‫من هللا على فعله‪ ،‬وبرتك ما يهديهم عقلهم إىل أنه قبيح ويعاقبون من هللا على فعله‪ .‬وأصحاب هذا املذهب يؤيدونه أبنه ال‬
‫يستطيع عاقل أن ينكر أن كل فعل فيه خواص وله آاثر جتعله حسنا أو قبيحا‪ ،‬ومن الذي ال يدرك بعقله أن الشرك على النعمة‬
‫والصدق والوفاء واألمانة كل منها حسن‪ ،‬وأن ضد كل منها قبيح‪ .‬وال يستطيع عاقل أن ينكر أن هللا ما شرع أحكامه يف أفعال‬
‫املكلفني إال بناء على ما فيها من نفع أو ضرر‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن من بلغتهم شرائع هللا مكلفون من هللا مبا تقضي به هذه الشرائع ومن‬
‫مل تبلغهم شرائع هللا مكلفون من هللا مبا هتديهم إليه عقوهلم‪ ،‬فعليهم أن يفعلوا ما تستحسنه عقوهلم‪ ،‬وأن يرتكوا ما تستقبحه عقوهلم‪.‬‬
‫مذهب املاتريدية‬ ‫‪3‬‬
‫أتباع أيب منصور املاتريدي‪ ،‬وهذا املذهب وسط معتدل ‪ ،‬وهو الراجح يف رأيي؛ وخالصته أن أفعال املكلفني فيها خواص وهلا آاثر‬
‫تقتضي حسنها أو قبحها‪ ،‬وأن العقل بناء على هذه اخلواص واآلاثر يستطيع احلكم أبن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح‪ ،‬وما‬
‫رآه العقل السليم حسنا فهو حسن ‪ ،‬وما رآه العقل السليم قبيحا فهو قبيح‪ .‬ولكن اليلزم أن تكون أحكام هللا يف أفعال املكلفني‬
‫على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح‪ ،‬ألن العقول مهما نضجت قد ختطئ‪ ،‬وألن بعض األفعال مما تشتبه فيه العقول‪،‬‬
‫فال تالزم بني أحكام هللا وما تدركه العقول‪ ،‬وعلى هذا ال سبيل إىل معرفة حكم هللا إال بواسطة رسله‪.‬‬
‫فهؤالء وافقوا املعتزلة يف أن حسن األفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما تدركه من نفعها أو ضررها‪ ،‬وخالفوهم يف أن حكم‬
‫هللا البد أن يكون على وفق حكم العقل‪ ،‬ويف أن ما أدرك العقل حسنة فهو مطلوب هلل فعله‪ ،‬وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب‬
‫هلل تركه‪.‬‬
‫ووافقوا األشاعرة يف أنه ال يعرف حكم هللا إال بواسطة رسله وكتبه‪ ،‬وخالفوهم يف أن احلسن والقبح لألفعال شرعيان ال عقليان‪ ،‬ويف‬
‫أن الفعل ال يكون حسنا إال بطلب هللا فعله‪ ،‬وال يكون قبيحا إال بطلب هللا تركه‪ .‬ألن هذا ظاهر البطالن‪ ،‬فإن أمهات الفضائل‬
‫يدرك العقل حسنها ملا فيها من نفع‪ ،‬وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها ملا فيها من ضرر و ولو مل يرد هبذا شرع‪.‬‬

‫وهذا اخلالف ال يرتتب عليه اثر إال ابلنسبة ملن مل تبلغهم شرائع الرسل‪ ،‬وأما من بلغتهم شرائع الرسل فمقياس احلسن والقبح لألفعال‬
‫ابلنسبة هلم ما ورد يف شريعتهم ال ما تدركه عقوهلم ابالتفاق‪ ،‬فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله‪ ،‬وما هنى عنه‬
‫الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫القسم الثاين ‪ :‬احلكم‬

‫تعريفه‬ ‫‪1‬‬
‫أنواعه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫أقسام كل نوع‬ ‫‪3‬‬

‫تعريفه‬
‫اإلمام الغزايل‪( 188‬ت ‪ 505‬هـ)‪ ،‬فإن مثرة‬
‫فمعرفة احلكم الشرعي هي مثرة علم الفقه واألصول؛ كما َّقرر ذلك ُ‬
‫تعرفه‬ ‫هذين العلمني هي تعريف حكم الشرع فيما يتعلَّق أبفعال املكلفني؛ بَـْي َد َّ‬
‫أن األصول تنظر إىل مناهج ُّ‬
‫ومصادره‪ ،‬والفقه ينظر يف استنباطه ابلفعل يف دائرة ما يرمسه علْ ُم األصول‪.‬‬
‫ع ملا يتعلَّق أبفعال املكلفني‪ ،‬كأن يقال‪ :‬إنه حرام‪ ،‬أو‬ ‫الوصف الذي يعطيه الشار ُ‬‫واملراد من خطاب الشارع‪ْ :‬‬
‫مكروه‪ ،‬أو مطلوب‪ ،‬أو مباح‪ ،‬أو صحيح‪ ،‬أو ابطل‪ ،‬أو هو شرط‪ ،‬أو سبب‪ ،‬أو مانع‪ ...‬إىل آخر العبارات‬
‫املتعلقة هبذا العلم‪.‬‬
‫ومعىن كلمة اقتضاء‪ :‬أي‪ :‬طلب‪ ،‬سواء كان طلب فعل‪ ،‬أو طلب منع‪ ،‬فاحلرام فيه طلب منْع الزم‪ ،‬والوجوب‬
‫فيه طلب فعل الزم‪ ،‬والتخيري هو أن الشارع أجاز للمكلف أن يفعل أ َْو ال يفعل؛ مثل‪ :‬األكل يف وقت معني أو‬
‫النوم‪ ،‬من أفعال اإلنسان املعتادة اليت ال يتعني عليه فيه نوع واحد منها‪ ،‬وإن كانت مجلتها مطلوبة‪.‬‬
‫ومعىن الوضع‪ :‬أن يكون الشارع قد ربط بني َ‬
‫أمريْن مما يتعلق ابملكلفني‪ ،‬كأن يربط بني الوراثة ووفاة شخص‪،‬‬
‫فتكون وفاته سببًا لوراثة آخر‪ ،‬أو يربط بني أمرين حبيث يكون أحدمها شرطًا شرعيًّا لتحقق اآلخر وترتيب آاثره؛‬
‫كاشرتاط الوضوء للصالة‪ ،‬وكاشرتاط الشهود للنكاح‪.‬‬

‫حكما‬
‫سمى ً‬
‫كما تكليفيًّا‪ ،‬وإذا كان فيه ربط بني أمرين يُ َّ‬
‫ختيري ُح ً‬
‫الشرعي إذا كان فيه اقتضاءٌ أو ٌ‬
‫ُّ‬ ‫احلكم‬
‫سمى ُ‬ ‫ويُ َّ‬
‫وضعيًّا‪.‬‬

‫وم ْستَـثْ ِمر‪ ،‬وطريق يف‬


‫ص َفى" ص ‪ ،7‬بقوله‪" :‬فإن األحكام مثرات‪ ،‬وكل مثرة هلا صفة وحقيقة يف نفسها‪ ،‬وهلا ُمثْمر ُ‬
‫يف "املُ ْسَت ْ‬
‫‪188‬‬

‫االستثمار‪.‬‬
‫األحكام؛ أعين‪ :‬الوجوب واحلظر والندب والكراهة واإلابحة‪ ،‬واحلسن وال ُقبح‪ ،‬والقضاء واألداء‪ ،‬والصحة والفساد‪،‬‬
‫والثمرة‪ :‬هي ْ‬
‫وغريها‪.‬‬
‫واملثْ ِمر‪ :‬هي األدلة‪ ،‬وهي ثالثة‪ :‬الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلمجاع فقط‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫بفحواها‬
‫تدل على الشيء بصيغتها ومْنظومها‪ ،‬أو ْ‬‫وطرق االستثمار هي‪ :‬وجوه داللة األدلة‪ ،‬وهي أربعة؛ إذ األقوال‪ :‬إما أ ْن َّ‬
‫مبع ُقوهلا ومعناها املستْنبط منها‪ ،‬واملستثْمر هو اجملتهد‪"...‬؛ انتهى‪.‬‬
‫وم ْفهومها‪ ،‬وابقتضائها وضرورهتا‪ ،‬أو ْ‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫هو خطاب الشارع املتعلق أبفعال املكلفني‪ ،‬طلباً أو ختيرياً‪ ،‬أو وضعاً‪.‬‬ ‫احلكم الشرعي يف‬
‫ود } [املائدة‪ ،]1 :‬هذا خطاب من الشارع متعلق ابإليفاء ابلعقود طلبا لفعله ‪ .‬وقوله‬ ‫فقوله تعاىل‪ { :‬أَوفُواْ ِابلْع ُق ِ‬ ‫اصطالح‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وم ّمن قَـ ْوم } [احلجرات‪ ،]11 :‬هذا خطاب من الشارع متعلق ابلسخرية طلبا لرتكها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل‪َ { :‬ال يَ ْس َخ ْر قَ ٌ‬ ‫األصوليني‬
‫ت به } [البقرة‪ ،]229 :‬هذا‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما افْـتَ َد ْ‬
‫اح َعلَيْه َما ف َ‬
‫اَّلل فَالَ ُجنَ َ‬
‫ود ّ‬ ‫يما ُح ُد َ‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬فَإ ْن خ ْفتُ ْم أَال يُق َ‬
‫خطاب من الشارع متعلق أبخذ الزوج بدال من زوجته نظري تطليقها ختيريا فيه‪ .‬وقول الرسول‪" :‬ال يرث القاتل"‬
‫هذا خطاب من الشارع متعلق ابلقتل وضعا له مانعا من اإلرث‪.‬‬
‫فنفس النص الصادر من الشارع الدال على طلب أو ختيري أو وضع هو احلكم الشرعي يف اصطالح األصوليني‪،‬‬
‫وهذا يوافق اصطالح القضائيني اآلن؛ فهم يريدون ابحلكم نفس النص الذي يصدر من القاضي؛ وهلذا يقولون‪:‬‬
‫منطق احلكم كذا يقولون‪ :‬أجلت القضية للنطق ابحلكم‪.‬‬

‫فهو األثر الذي يقتضيه خطاب الشارع يف الفعل ‪ ،‬كالوجوب واحلرمة واإلابحة‪.‬‬ ‫احلكم الشرعي يف‬
‫فقوله تعاىل‪ { :‬أَوفُواْ ِابلْع ُق ِ‬
‫ود } [املائدة‪ ،]1 :‬يقتضى وجوب اإليفاء ابلعقود‪.‬‬ ‫اصطالح الفقهاء‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫فالنص نفسه هو احلكم يف اصطالح األصوليني‪ ،‬ووجوب اإليفاء هو احلكم يف اصطالح الفقهاء‪ .‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫الز َىن } [اإلسراء‪ ،]32 :‬هو احلكم يف اصطالح األصوليني‪ ،‬وحرمة قرابن الزان هو احلكم يف‬ ‫{ َوالَ تَـ ْقربُواْ ِّ‬
‫َ‬
‫اصطالح الفقهاء‪.‬‬
‫متوهم من تعريف احلكم الشرعي يف اصطالح األصوليني‪ ،‬أبنه خطاب الشارع املتعلق أبفعال املكلفني‪،‬‬ ‫يتوهم ّ‬ ‫وال ّ‬
‫أبن احلكم الشرعي خاص ابلنصوص ألهنا هي اخلطاب من الشارع وأنه ال يشمل األدلة الشرعية األخرى من‬
‫إمجاع أو قياس أو غريها ألن سائر األدلة الشرعية غري النصوص عند التحقيق تعود إىل النصوص‪ ،‬فهو يف احلقيقة‬
‫خطاب من الشارع ولكنه غري مباشر‪ ،‬فكل دليل شرعي تعلق بفعل من أفعال املكلفني‪ ،‬طلبا أو ختيريا أو وضعا‬
‫فهو حكم شرعي يف اصطالح األصوليني‪.‬‬

‫من تعريف احلكم الشرعي يف اصطالح األصوليني يؤخذ أنه ليس نوعا واحدا‪ ،‬ألنه إما أن يتعلق بفعل املكلف‬ ‫أنواعه‬
‫على جهة الطلب‪ ،‬أو على جهة التخيري أو على جهة الوضع‪ .‬وقد اصطلح علماء األصول على تسمية احلكم‬
‫املتعلق بفعل املكلف على جهة الطلب أو التخيري ابحلكم التكليفي‪ ،‬وعلى تسمية احلكم املتعلق بفعل املكلف‬
‫على جهة الوضع ابحلكم الوضعي‪ ،‬وهلذا قرروا أن احلكم الشرعي ينقسم إىل قسمني‪:‬‬

‫(‪ )1‬حكم تكليفي‪،‬‬


‫حكم وضعي‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫هو ما اقتضى طلب فعل من املكلف‪ ،‬أو كفه عن فعله أو ختيريه بني فعل والكف‬ ‫حكم تكليفي‬
‫عنه‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ص َدقَةً } [التوبة‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫فمثال ما اقتضى طلب فعل من املكلف قوله تعاىل‪ُ { :‬خ ْذ م ْن أ َْم َواهل ْم َ‬
‫ت } [آل عمران ‪ ]97‬وقوله‪َ { :‬اي أَيُّـ َها‬ ‫َّاس ِح ُّج الْبـي ِ‬ ‫‪ ،]103‬وقوله ‪ { :‬وِ ِ‬
‫َّلل َعلَى الن ِ‬
‫َْ‬ ‫َّ‬
‫ين َآمنُواْ أ َْوفُواْ ِابلْعُ ُقود } [ املائدة‪ ،]1 :‬وغري ذلك من النصوص اليت تطلب من‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫املكلف أفعاال‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وم ّمن قَـ ْوم }‬
‫ومثال ما اقتضى طلب الكف عن فعل‪ ،‬قوله تعاىل‪َ { :‬ال يَ ْس َخ ْر قَ ٌ‬
‫ت‬ ‫الز َىن } [اإلسراء‪ ،]32 :‬وقوله ‪ُ { :‬حِّرَم ْ‬ ‫[احلجرات‪ ،]11 :‬وقوله ‪َ { :‬والَ تَـ ْقربُواْ ِّ‬
‫َ‬
‫َّم َو َحلْ ُم ا ْخلِنْ ِزي ِر } [املائدة‪ ،]3 :‬وغري ذلك من النصوص اليت تطلب من‬ ‫َعلَْي ُك ُم ال َْمْيـتَةُ َوالْد ُ‬
‫املكلف الكف عن أفعال‪.‬‬

‫ادواْ‬ ‫ومثال ما اقتضى ختيري املكلف بني فعل والكف عنه‪ ،‬قوله تعاىل‪َ { :‬وإِ َذا َحلَْلتُ ْم فَ ْ‬
‫اصطَ ُ‬
‫ض } [اجلمعة‪،]10 :‬‬ ‫الص َالةُ فَانتَ ِشُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ت َّ‬ ‫ضي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫} [ املائدة‪ .،]3:‬وقوله ‪ :‬فَإ َذا قُ َ‬
‫الصالَةِ } [النساء‪:‬‬ ‫صُرواْ ِم َن َّ‬ ‫اح أَن تَـ ْق ُ‬
‫س َعلَيْ ُك ْم ُجنَ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫وقوله‪َ { :‬وإِذَا َ ِ‬
‫ضَربْـتُ ْم يف األ َْرض فَـلَيْ َ‬
‫‪ ،]101‬وغري ذلك من النصوص اليت تقتضي ختيري املكلف بني فعل الشيء والكف‬
‫عنه‪.‬‬

‫وإمنا مسي هذا النوع احلكم التكليفي ألنه يتضمن تكليف املكلف بفعل أو كف عن فعل‬
‫أو ختيريه بني فعل والكف عنه‪ .‬ووجه التسمية ظاهر فيما طلب به من املكلف فعل أو‬
‫الكف عنه‪ .‬وأما ما خري به املكلف بني فعل والكف عنه فوجه تسميته تكليفياً غري‬
‫ظاهر‪ ،‬ألنه ال تكليف فيه وهلذا قالوا ‪ :‬إن إطالق احلكم التكليفي عليه من ابب‬
‫التغليب‪.‬‬

‫فهو ما اقتضى وضع شيء سببا لشيء‪ ،‬أو شرطا له ‪ ،‬أو مانعا منه‪.‬‬ ‫احلكم الوضعي‬
‫ين َآمنُواْ إِ َذا قُ ْمتُ ْم إِ َىل‬ ‫َّ ِ‬
‫فمثال ما اقتضى وضع شيء سببا لشيء قوله تعاىل ‪َ { :‬اي أَيـُّ َها الذ َ‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِديَ ُك ْم إِ َىل ال َْمَرافِ ِق } [املائدة‪ ،]6 :‬اقتضى وضع إرادة إقامة‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الصالة فا ْغسلُواْ ُو ُج َ‬
‫السا ِرقَةُ فَاقْطَ ُعواْ أَيْ ِديَـ ُه َما } [املائدة‪:‬‬ ‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫الصالة سببا يف إجياب الوضوء‪ .‬وقوله‪َ { :‬و َّ‬
‫‪ ،]38‬اقتضى وضع السرقة سببا يف إجياب قطع يد السارق‪ .‬وقول الرسول ‪ -‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪" : -‬من قتل قتيال فله سلبه" ‪ ،‬اقتضى وضع قتل القتيل سببا يف استحقاق‬
‫سلبه‪ ،‬وغري ذلك من النصوص اليت اقتضت وضع أسباب ملسببات‪.‬‬

‫ت‬ ‫َْ‬ ‫ومثال ما اقتضى وضع شيء شرطا لشيء ‪ ،‬قوله تعاىل‪َ { :‬وَِّّللِ َعلَى الن ِ‬
‫َّاس ِح ُّج الْبـي ِ‬
‫اع إِلَْي ِه َسبِيالً } [آل عمران‪ ،]97 :‬اقتضى أن استطاعة السبيل إىل البيت‬ ‫َم ِن ْ‬
‫استَطَ َ‬
‫شرط إلجياب حجه‪ .‬وقوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪" : -‬ال نكاح إال بشاهدين" ‪،‬‬
‫اقتضى أن حضور الشاهدين شرط لصحة الزواج‪ .‬وقوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪" : -‬ال‬
‫مهر أقل من عشرة دراهم"‪ ،‬اقتضى أن شرط تقدير املهر تقديرا صحيحا شرعا أن ال يقل‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫عن عشرة دراهم‪ .‬وغري ذلك من النصوص اليت دلت على اشرتاط شروط إلجياب الفعل‪،‬‬
‫أو لصحة العقد أو ألي مشروط‪.‬‬

‫ومثال ما اقتضى جعل شيء مانعا من شيء‪ ،‬قوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪" : -‬ليس‬
‫للقاتل مرياث" اقتضى جعل قتل الوارث مورثه مانعا من إرثه‪.‬‬

‫وإمنا مسي احلكم الوضعي‪ ،‬ألن مقتضاه وضع أسباب ملسببات‪ ،‬أو شروط ملشروطات‪ ،‬أو‬
‫موانع من أحكام‪.‬‬

‫ويؤخذ مما تقدم أن الفرق بني احلكم التكليفي واحلكم الوضعي من وجهني‪:‬‬

‫(‪ )1‬أحدمها‪ :‬أن احلكم التكليفي مقصود به طلب فعل من املكلف أو كفه عن فعل‪ ،‬أو ختيريه بني فعل‬
‫شيء والكف عنه‪ ،‬وأما احلكم الوضعي فليس مقصودا به تكليف أو ختيرياً‪ ،‬وإمنا املقصود به بيان‬
‫أن هذا الشيء سبب هلذا املسبب‪ ،‬أو أن هذا شرط هلذا املشروط‪ ،‬أو أن هذا مانع من هذا احلكم‪.‬‬
‫(‪ )2‬واثنيهما‪ :‬أن ما طلب فعله أو الكف عنه‪ ،‬أو خري بني فعله وتركه مبقتضى احلكم التكليفي البد أن‬
‫يكون مقدورا للمكلف‪ ،‬ويف استطاعته أن يفعله وأن يكف عنه ال تكليف إال مبقدور ‪ ،‬وال ختيري‬
‫إال بني مقدور ومقدور‪.‬‬

‫أقسام احلكم التكليفي‬


‫ينقسم احلكم التكليفي إىل مخسة أقسام‪ :‬اإلجياب ‪ ،‬والندب‪ ،‬والتحرمي ‪ ،‬والكراهة ‪ ،‬واإلابحة‪.‬‬
‫*وذلك ألنه إذا اقتضى طلب فعل‪ ،‬فإن كل اقتضاؤه له على وجه التحتيم واإللزام فهو اإلجياب‪ ،‬وأثر الوجوب‪ ،‬واملطلوب فعله هو‬
‫الواجب‪.‬‬
‫*وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم واإللزام فهو الندب؛ وأثره الندب‪ ،‬واملطلوب فعله هو املندوب‪.‬‬
‫*وإذا اقتضى طلب كف عن فعل فإن كان اقتضاؤه على وجه التحتيم واإللزام فهو التحرمي وأثر احلرمة‪ ،‬واملطلوب الكف عن فعله هو‬
‫احملرم‪.‬‬
‫*وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم واإللزام فهو الكراهة‪ ،‬وأثره الكراهة‪ ،‬واملطلوب الكف عن فعله فهو املكروه‪.‬‬
‫*وإذا اقتضى ختيري املكلف بني فعل شيء وتركه فهو اإلابحة‪ ،‬وأثره اإلابحة‪ ،‬والفعل الذي خري بني فعله وتركه هو املباح‪.‬‬
‫فاملطلوب فعله قسمان‪ :‬الواجب واملكروه‪.‬‬
‫واملطلوب الكف عن فعله قسمان‪ :‬احملرم واملكروه‪.‬‬
‫واملخري بني فعله قسمان‪ :‬احملرم واملكروه‪.‬‬
‫واملخري بني فعله وتركه هو القسم اخلامس وهو املباح‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وسنفرد كل قسم من هذه األقسام اخلمسة ببيان‪.‬‬

‫الواجب شرعا‪ :‬هو ما طلب الشارع فعله من املكلف طلبا حتما أبن اقرتان طلبه مبا يدل على حتتيم فعله‪ ،‬كما إذا‬ ‫‪ 1‬الواجب‬
‫كانت صيغة الطلب نفسها تدل على التحتيم‪ ،‬أو دل على حتتيم فعله ترتيب العقوبة على تركه‪ ،‬أو آية قرينة شرعية‬
‫أخرى ‪.‬‬
‫الصيَ ُام } [البقرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َعلَْي ُك ُم ّ‬ ‫فالصيام واجب ألن الصيغة اليت طلب هبا دلت حتتيمه‪ ،‬إذ قال سبحانه‪ُ { :‬كت َ‬
‫ِِ‬
‫ورُه َّن فَ ِر َ‬
‫يضةً }‬ ‫ُج َ‬ ‫استَ ْمتَـ ْعتُم بِه مْنـ ُه َّن فَآتُ ُ‬
‫وه َّن أ ُ‬ ‫‪ ،]183‬وإيتاء الزوجات مهورهن واجب‪ ،‬إذ قال سبحانه‪ { :‬فَ َما ْ‬
‫[النساء‪ ]24 :‬وإقامة الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة وحج البيت‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬وغري ذلك من املأمورات اليت وردت صيغة‬
‫األمر هبا مطلقة‪ ،‬ودل على حتتيم فعلها ما ورد يف عدة نصوص من استحقاق املكلف العقاب برتكها‪ .‬فمىت طلب‬
‫الشارع الفعل ودلت القرينة على أن طلبة على وجه التحتيم كان الفعل واجباً‪ ،‬سواء أكانت القرينة صيغة الطلب‬
‫نفسها أم أمرا خارجيا‪.‬‬

‫أقسامه‪:‬‬
‫ينقسم الواجب إىل أربع تقسيمات ابعتبارات خمتلفة‪:‬‬

‫التقسيم األول‪ :‬الواجب من جهة وقت أدائه؛ إما مؤقت وإما مطلق عن التوقيت‪:‬‬ ‫•‬
‫الواجب املؤقت هو ما طلب الشارع فعله حتما يف وقت معني كالصلوات اخلمس؛ حدد‬ ‫‪o‬‬
‫أخ رها عنه بغري‬
‫ألداء كل صالة منها وقتاً معيناً حبيث ال جتب قبله‪ ،‬وأيمث املكلف إن ّ‬
‫عذر‪ .‬وكصوم رمضان ال جيب قبل الشهر وال يؤدي بعده‪ .‬وكذلك كل واجب عني‬
‫الشارع وقتا لفعله‪.‬‬
‫والواجب املطلق عن التوقيت‪ :‬هو ما طلب الشارع فعله حتما ومل يعني وقتا ألدائه‪،‬‬ ‫‪o‬‬
‫كالكفارة الواجبة على من حلف مييناً وحنث‪ ،‬فليس لفعل هذا وقت معني‪ ،‬فإن شاء‬
‫احلانث كفر بعد احلنث مباشرة وإن شاء ك ّفر بعد ذلك ‪ .‬وكاحلج‪ :‬واجب على من‬
‫استطاع‪ ،‬وليس ألداء هذا الواجب عام معني‪.‬‬

‫أداء ‪-‬والواجب املؤقت إذا فعله يف وقته كامال مستوفيا أركانه وشرائطه‬ ‫•‬
‫إعادة ‪-‬وإذا فعله يف وقته غري كامل مث أعاده يف الوقت كامال ‪،‬‬ ‫•‬
‫قضاء ومن صالة بعد وقته‪.‬‬ ‫•‬

‫موسعاً‬
‫والواجب املؤقت إذا كان وقته الذي وقته الشارع به يسعه وحده ويسع غريه من جنسه مسي هذا الوقت َّ‬
‫وظرفاً‪ .‬وإن كان وقته الذي وقته الشارع به يسعه وال يسع غريه من جنسه مسي هذا الوقت مضيَّقاً ومعياراً‪ .‬فاألول‬
‫كوقت صالة الظهر مثال‪ ،‬فهو وقت موسع يسع أداء الظهر وأداء أي صالة أخرى‪ ،‬وللمكلف أن يؤدي الظهر يف‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫أي جزء منه‪ ،‬والثاين كشهر رمضان فهو مضيق ال يسع إال صوم رمضان‪.‬‬
‫وإذا كان وقته ال يسع غريه من جهة ويسعه من جهة أخرى مسي الوقت ذا الشبهني كاحلج‪ ،‬ال يسع وقته وهو‬
‫أشهر احلج غريه من جهة أن املكلف ال يؤدي يف العام إال حجا واحدا‪ ،‬ويسع غريه من جهة أن مناسك احلج ال‬
‫تستغرق كل أشهره‪.‬‬

‫ومما يتفرع على تقسيم الواجب املؤقت إىل واجب موسع وقته‪ ،‬وواجب مضيق وقته‪ ،‬وواجب وقته ذو شبهني‪:‬‬

‫أن الواجب املوسع وقته جيب على املكلف أن يعينه ابلنية حني أدائه يف وقته‪ ،‬ألنه إذا مل ينوه‬ ‫•‬
‫ابلتعيني ال يتعني أنه أدى الواجب املعني إذا الوقت يسعه وغريه‪ ،‬فإذا صلى يف وقت الظهر أربع‬
‫ركعات فإنه نوى هبا أداء واجب الظهر كان أداء له‪ ،‬وإذا مل ينو هبا أداء واجب الظهر مل تكن صالته‬
‫أداء له‪ ،‬ولو نوى التطوع كانت صالته تطوعا‪.‬‬
‫الواجب املضيق وقته فال جيب على املكلف أن يعيّنه ابلنية حني أدائه يف وقته‪ ،‬آلن الوقت معيار له‬ ‫•‬
‫ال يسع غريه من جنسه فبمجرد النية ينصرف ما نواه إىل الواجب‪ ،‬فإذا نوى يف شهر رمضان الصيام‬
‫مطلقا ومل يعني ابلنية الصيام املفروض انصرف صيامه إىل الصيام املفروض‪ ،‬ولو نوى التطوع مل يكن‬
‫صومه تطوعا بل كان املفروض‪ ،‬ألن الشهر ال يسع صوما غريه‪.‬‬
‫الواجب املؤقت بوقت ذي شبهني‪ ،‬فإذا أطلق املكلف النية انصرف إىل الواجب‪ ،‬ألن الظاهر من‬ ‫•‬
‫حال املكلف أنه يبدأ مبا جيب عليه قبل أن يتطوع‪ ،‬فهو يف هذا كاملضيق‪ ،‬وإذا نوى التطوع كان‬
‫تطوعا ألنه صرح بنية ما يسعه الوقت‪ ،‬ومبا خيالف الظاهر من حاله وهو يف هذا كاملوسع‪.‬‬

‫ومما يتفرع عن تقسيم الواجب إىل موقت ومطلق عن التوقيت‪،‬‬


‫• أن الواجب املعني وقته أيمث املكلف بتأخريه عن وقته بغري عذر ألن الواجب املؤقت يف احلقيقة واجبان‬
‫فعل الواجب وفعله يف وقته‪ .‬فمن فعل الواجب بعد وقته فقد فعل أحد الواجبني وهو الفعل املطلوب‪،‬‬
‫وترك الواجب اآلخر وهو فعله يف وقته‪ ،‬فيأمث برتك هذا الواجب بغري عذر‪.‬‬
‫الواجب املطلق عن التوقيت فليس له وقت معني لفعله‪ ،‬وللمكلف أن يفعله يف أي وقت شاء وال إمث‬ ‫•‬
‫عليه يف أي وقت‪.‬‬

‫التقسيم الثاين‪ :‬ينقسم الواجب من جهة املطالب أبدائه إىل واجب عيين وواجب كفائي‪.‬‬ ‫•‬
‫فالواجب العيين‪ :‬هو ما طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد املكلفني‪ ،‬وال جيزئ‬ ‫‪o‬‬
‫قيام مكلف به عن آخر كالصالة والزكاة واحلج والوفاء ابلعقود واجتناب اخلمر وامليسر‪.‬‬
‫والواجب الكفائي‪ :‬هو ما طلب الشارع فعله من جمموع املكلفني‪ ،‬ال من كل فرد منهم‪،‬‬ ‫‪o‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫حبيث إذا قام به بعض املكلفني فقد أدى الواجب وسقط اإلمث واحلرج عن الباقني وإذا مل‬
‫يقم به أي فرد من أفراد املكلفني أمثوا مجيعا إبمهال هذا الواجب‪ ،‬كاألمر ابملعروف‬
‫والنهي عن املنكر‪ ،‬والصالة على املوتى‪ ،‬وبناء املستشفيات‪ ،‬وإنقاذ الغريق‪ ،‬وإطفاء‬
‫احلريق‪ ،‬والطب‪ ،‬والصناعات اليت َيتاج إليها الناس‪ ،‬والقضاء واإلفتاء‪ ،‬ورد السالم‪،‬‬
‫وأداء الشهادة‪.‬‬

‫فهذه الواجبات مطلوب للشارع أن توجد يف األمة ّأايًكان من يفعلها‪ ،‬وليس املطلوب للشارع أن يقوم كل فرد أو‬
‫فرد معني بفعلها؛ ألن املصلحة تتحقق بوجودها يف بعض املكلفني وال تتوقف على قيام كل مكلف هبا‪.‬‬

‫فالواجبات الكفائية املطالب هبا جمموع أفراد األمة‪ ،‬حبيث إن األمة مبجموعها عليها أن تعمل على أن يؤدي‬
‫الواجب الكفائي فيها‪ ،‬فالقادر بنفسه وماله على أداء الواجب الكفائي؛ عليه أن يقوم به‪ ،‬وغري القادر على أدائه‬
‫بنفسه عليه أن َيث القادر وَيمله على القيام به؛ فإذا أدى الواجب سقط اإلمث عنهم مجيعا‪ ،‬وإذا أمهل أمثوا مجيعاً‪:‬‬
‫أمث القادر إلمهاله واجباً قدر على أدائه‪ ،‬وأمث غريه إلمهاله حيث القادر ومحله على فعل الواجب املقدور له‪ ،‬وهذا‬
‫مقتضى التضامن يف أداء الواجب‪ ،‬فلو رأى مجاعة غريقا يستغيث‪ ،‬وفيهم من َيسنون السباحة ويقدرون على‬
‫إنقاذه‪ ،‬وفيهم من ال َيسنون السباحة وال يقدرون على إنقاذه‪ ،‬فالواجب على من َيسنون السباحة أن يبذل‬
‫بعضهم جهده يف إنقاذه‪ ،‬وإذا مل يبادر من تلقاء نفسه إىل القيام ابلواجب‪ ،‬فعلى اآلخرين حثه ومحله على أداء‬
‫واجبه‪ ،‬فإذا أدى الواجب فال إمث على أحد‪ ،‬وإذا مل يؤد الواجب أمثوا مجيعا‪.‬‬
‫تعني فرد ألداء الواجب الكفائي كان واجبا عينيا عليه‪ ،‬فلو شهد الغريق الذي يستغيث شخص واحد َيسن‬ ‫وإذا ّ‬
‫السباحة‪ ،‬ولو مل يرد احلادثة إال واحد ودعي للشهادة‪ ،‬ولو مل يوجد يف البلد إال طبيب واحد وتعني لإلسعاف؛‬
‫فهؤالء الذين تعينوا ألداء الواجب الكفائي‪ ،‬يكون الواجب ابلنسبة إليهم عينا‪.‬‬

‫التقسيم الثالث‪ :‬ينقسم الواجب من جهة املقدار املطلوب منه إىل حمدد وغري حمدد‪.‬‬ ‫•‬
‫فالواجب احملدد‪ :‬هو ما عني له الشارع مقدارا معلوما‪ ،‬حبيث ال تربأ ذمة املكلف من‬ ‫‪o‬‬
‫هذا الواجب إال إذا أداه على ما عني الشارع؛ كالصلوات اخلمس والزكاة والديون املالية‪،‬‬
‫فكل فريضة من الصلوات اخلمس مشغولة هبا ذمة املكلف حىت تؤدي بعدد ركعاهتا‬
‫وأركاهنا وشروطها‪ ،‬وزكاة كل مال واجبة فيه الزكاة مشغولة هبا ذمة املكلف حىت تؤدي‬
‫مبقدارها يف مصرفها‪ .‬وكذلك مثن املشرتى وأجر املستأجر وكل واجب جيب مقدارا‬
‫معلوما حبدود معينة‪ ،‬ومن نذر أن يتربع مببلغ معني ملشروع خريي فالواجب عليه ابلنذر‬
‫واجب حمدد‪.‬‬
‫والواجب غري احملدد‪ :‬هو ما مل يعني الشارع مقداره بل طلبه من املكلف بغري حتديد‪،‬‬ ‫‪o‬‬
‫كاإلنفاق يف سبيل هللا‪ ،‬والتعاون على الرب‪ ،‬والتصدق على الفقراء إذا وجب ابلنذر‪،‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وإطعام اجلائع وإغاثة امللهوف وغري ذلك من الواجبات اليت مل َيددها الشارع‪ ،‬ألن‬
‫املقصود هبا سد احلاجة‪ ،‬ومقدار ما تسد به احلاجة خيتلف ابختالف احلاجات‬
‫واحملتاجني واألحوال‪.‬‬

‫ومما يتفرع على هذا التقسيم‪ :‬أن الواجب احملدد جيب ديناً يف الذمة‪ ،‬وجتوز املقاضاة به‪ ،‬وأن الواجب غري احملدد ال‬
‫جيب ديناً يف الذمة وال جتوز املقاضاة به‪ ،‬ألن الذمة ال تشغل غال مبعني واملقاضاة ال تكون إال مبعني‪.‬‬
‫وهلذا من رأى أن نفقة الزوجة الواجبة على زوجها‪ ،‬ونفقة القريب الواجبة على قريبه واجب غري حمدد‪ ،‬ألنه ال‬
‫يعرف مقداره‪ ،‬قال ‪ :‬إن ذمة الزوج أو القريب غري مشغولة به قبل القضاء أو الرضاء ‪ ،‬وليس للزوجة أو القريب أن‬
‫يطالب به إال بعد القضاء أو الرضاء‪ ،‬وليس للزوجة أو القريب أن يطالب به إال بعد القضاء أو الرضاء‪ ،‬وصحت‬
‫املطالبة به‪.‬‬
‫ومن رأى أهنا من الواجب احملدد املقدر حبال الزوج أو مبا يكفي للقريب‪ ،‬قال إهنما واجب حمدد يف الذمة فتصح‬
‫املطالب به عن مدة قبل القضاء أو الرضاء ألن القضاء أظهر مقدار الواجب ومل َيدده‪.‬‬

‫التقسيم الرابع‪ :‬ينقسم الواجب إىل واجب معني‪ ،‬واجب خمري‪.‬‬ ‫•‬
‫فالواجب املعني‪ :‬ما طلبه الشارع بعينه كالصالة والصيام‪ ،‬ومثن املشرتي‪ ،‬وأجر‬ ‫‪o‬‬
‫املستأجر‪ ،‬ورد املغصوب‪ ،‬وال تربأ ذمة املكلف إال أبدائه بعينه‪.‬‬
‫والواجب املخري‪ :‬ما طلبه الشارع واحدا من أمور معينة‪ ،‬كأحد خصال الكفارة فإن هللا‬ ‫‪o‬‬
‫أوجب على من حنث يف ميينه أن يطعم عشرة مساكني‪ ،‬أو يكسوهم‪ ،‬أو يعتق رقبة‬
‫فالواجب أي واحد من هذه األمور الثالثة‪ ،‬واخليار للمكلف يف ختصيص واحد ابلفعل‪،‬‬
‫وتربأ ذمته من الواجب أبداء أي واحد‪.‬‬

‫املندوب هو ما طلب فعله من املكلف طلبا غري حتم‪،‬‬ ‫‪ 2‬املندوب‬


‫أبن كانت صيغة طلبه نفسها ال تدل على حتتيمه‪ ،‬أو اقرتنت بطلبه قرائن تدل على عدم التحتيم‪ ،‬فإذا طلب‬
‫الشارع الفعل بصيغة‪" :‬يسن كذا أو يندب كذا" كان املطلوب هبذه الصيغة مندواب‪ ،‬وإذا طلبه بصيغة األمر ودلت‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ إِذَا تَ َدايَنتُم ب َديْ ٍن إِ َىل أ َ‬
‫َج ٍل‬ ‫القرينة على أن األمر للندب كان املطلوب مندوابً‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ { :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ُّم َس ًّمى فَا ْكتُـبُوهُ } [البقرة‪ ،]282 :‬فإن األمر بكتابة الدين للندب ال لإلجياب بدليل القرينة اليت يف اآلية نفسها‪،‬‬
‫ض ُكم بَـ ْعضاً فَـلْيُـ َؤِّد الَّ ِذي ْاؤُمتِ َن أ ََمانَـتَهُ } [البقرة‪ ،]283 :‬فإهنا تشري إىل أن الدائن‬ ‫ِ‬
‫وهي قوله تعاىل ‪ { :‬فَِإ ْن أَم َن بَـ ْع ُ‬
‫وه ْم إِ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْرياً } [النور‪:‬‬ ‫ِ‬
‫له أن يثق مبدينة وأيمتنه من غري كتابة الدين عليه‪ ،‬وكقوله تعاىل ‪ { :‬فَ َكاتبُ ُ‬
‫‪ ،]32‬فمكاتبة املالك عبده مندوبة بقرينة أن املالك حر التصرف يف ملكه‪.‬‬
‫فاملطلوب فعله إن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه حتم والزم‪ ،‬فهو الواجب مثل ‪ :‬كتب عليكم ‪ ،‬وقضى‬
‫ربك ‪ ،‬وإن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه غري حتم فهو املندوب‪ ،‬مثل‪ :‬ندب لكم‪ ،‬سن لكم‪ ،‬وإن كانت‬
‫صيغة طلبه نفسها ال تدل على طلب حتم أو غري حتم‪ ،‬استدل ابلقرائن على أن املطلوب واجب أو مندوب‪ .‬وقد‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫تكون القرينة نصا‪ ،‬وقد تكون ما يؤخذ من مبادئ الشريعة العامة وقواعدها الكلية‪ ،‬وقد تكون ترتيب العقوبة على‬
‫ترك الفعل وعدم ترتيبها‪.‬‬
‫وهلذا اشتهر تعريف الواجب أبنه ما استحق اتركه العقوبة‪ ،‬وتعريف املندوب أبنه ما ال يستحق اتركه العقوبة وقد‬
‫يستحق العتاب‪.‬‬

‫املندوب ينقسم إىل ثالثة أقسام‪:‬‬


‫مندوب مطلوب فعله على وجه التأكيد وهو ال يستحق اتركه العقاب‪ ،‬ولكن يستحق اللوم‬ ‫•‬
‫والعتاب‪ .‬ومن هذا السنن واملندوابت اليت تعد شرعاً مكملة للواجبات كاألذان وأداء الصلوات‬
‫اخلمس مجاعة‪ .‬ومنه كل ما واظب عليه الرسول يف شؤونه الدينية ومل يرتكه إال مرة أو مرتني ليدل على‬
‫عدم حتتيمه كاملضمضة يف الوضوء‪ ،‬وقراءة سورة أو آية بعد الفاحتة يف الصالة‪.‬ويسمى هذا القسم‬
‫السنة املؤكدة أو سنة اهلدي‪:‬‬
‫ومندوب مشروع فعله‪ :‬وفاعله يثاب واتركه ال يستحق عقااب وال لوماً‪ ،‬ومن هذا ما مل يواظب‬ ‫•‬
‫الرسول على فعله بل فعله مرة أو أكثر وتركه‪ .‬ومنه مجيع التطوعات كالتصديق على الفقري أو صيام‬
‫يوم اخلميس من كل أسبوع أو صالة ركعات زايدة عن الفرد وعن السنة املؤكدة‪.‬‬

‫ويسمى هذا القسم السنة الزائدة أو النافلة‪.‬‬


‫ومندوب زائد أي يعد من الكماليات للمكلف‪ ،‬ومن هذا اإلقتداء ابلرسول يف أموره العادية‬ ‫•‬
‫اليت تصدر عنه بصفته إنساان كأن أيكل ويشرب وميشي وينام ويلبس على الصفة اليت كان‬
‫يسري عليها الرسول‪ ،‬فإن االقتداء يف هذه األمور وأمثاهلا كمايل‪ ،‬ويعد من حماسن املكلف ألنه‬
‫يدل على حبه للرسول وفرط تعلقه به‪ .‬ولكن من مل يتقد ابلرسول يف مثل هذه األمور ال يعد‬
‫مسيئا‪ ،‬ألن هذا ليست من تشريعه? ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪. -‬ويسمى هذا القسم مستحبا‬
‫وأدابً وفضيلة‪.‬‬

‫احملرم هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما‬ ‫‪ 3‬املُحرم‬


‫أبن تكون صيغة طلب الكف نفسها دالة على أنه حتم كقوله تعاىل‪ { :‬حرمت عليكم امليتة والدم وحلم اخلنزير }‬
‫[املائدة‪ ،]3 :‬وقوله‪ { :‬قل تعالو أتل ما حرم ربكم عليكم } [األنعام‪ ،]151 :‬وقوله‪ { :‬ال َيل لكم }‬
‫[النساء‪ ،]19 :‬أو يكون النهي عن الفعل مقرتان مبا يدل على أنه حتم مثل‪ { :‬وال تقربوا الزىن إنه كان فاحشة }‬
‫[ اإلسراء‪ ]32 :‬أو يكن األمر ابالجتناب مقرتان بذلك حنو‪ { :‬إمنا اخلمر وامليسر واألنصاب واألزالم رجس من‬
‫عمل الشيطان فاجتنبوه } [املائدة‪ ،]90 :‬أو أن يرتتب على الفعل عقوبة مثل‪ { :‬والذين يرمون احملصنات مث مل‬
‫أيتوا أبربعة شهداء فاجلدوهم مثانني جلدة } [النور‪ ،]4 :‬فقد يستفاد التحرمي من صيغة خربية تدل عليه‪ ،‬أو من‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫صيغة طلبية هي هني‪ ،‬أومن صيغة طلبية هي أمر ابالجتناب‪ ،‬فالقرينة ِّ‬
‫تعني أن الطلب للتحرمي ‪.‬‬
‫أقسامه‪:‬‬
‫احملرم قسمان‪:‬‬
‫حمرم لذاته)‪ :‬أي أنه فعل حكمه الشرعي التحرمي من االبتداء‪ ،‬كالزان‬
‫حمرم أصالة لذاته ( َّ‬ ‫•‬
‫والسرقة والصالة بغري طهارة‪ ،‬وزواج إحدى احملارم مع العلم ابحلرمة‪ ،‬وبيع امليتة‪ ،‬وغري ذلك مما‬
‫حرم حترميا ذاتيا ملا فيه من مفاسد ومضار‪ ،‬فالتحرمي وارد ابتداء على ذات الفعل‪.‬‬
‫حمرم لعارض (حمرم لغريه)‪ :‬أي أنه فعل حكمه الشرعي ابتداء الوجوب أو الندب أو اإلابحة‬ ‫•‬
‫ولكن اقرتن به عارض جعله حمرما كالصالة يف ثوب مغصوب‪ ،‬والبيع الذي فيه غش‪ ،‬والزواج‬
‫املقصود به جمرد حتليل الزوجة ملطلقها ثالاث‪ ،‬وصوم الوصال‪ ،‬والطالق البدعي‪ ،‬وغري ذلك ملا‬
‫عرض له التحرمي لعارض‪ .‬فليس التحرمي لذات الفعل ولكن ألمر خارجي‪ ،‬أي أن ذات الفعل‬
‫ال مفسدة فيه وال مضرة‪ ،‬ولكن عرض له واقرتن به ما جعل فيه مفسدة أو مضرة‪.‬‬

‫ومما يبين على هذا التقسيم أن احملرم أصالة غري مشروع أصالً‪ ،‬فال يصلح سببا شرعيا وال ترتتب أحكام شرعية عليه‬
‫بل يكون ابطال‪ ،‬وهلذا كانت الصالة بغري طهارة ابطلة‪ ،‬وزواج إحدى احملارم مع العلم ابحلرمة ابطال‪ ،‬وبيع امليتة‬
‫ابطال‪ ،‬والباطل شرعا ال يرتتب عليه حكم‪.‬‬
‫احملرم لعارض فهو يف ذاته مشروع فيصلح سبباً شرعياً وترتتب عليه آاثره‪ ،‬ألن التحرمي عارض له وليس ذاتيا‪.‬‬ ‫وأما ّ‬
‫وهلذا كانت الصالة يف ثوب مغصوب صحيحة وجمزئة وهو آمث للغصب‪ .‬والبيع الذي فيه غش صحيح‪ ،‬والطالق‬
‫البدعي واقع‪ ،‬والعلة يف هذا أن التحرمي لعارض ال يقع به خلل يف أصل السبب ال يف وصفه ما دامت أركانه‬
‫وشروطه مستوفاة‪.‬‬
‫وأما التحرمي الذايت فهو جيعل اخللل يف أصل السبب ووصفه بفقد ركن أن شرط من أركانه وشروطه فيخرج عن‬
‫كونه مشروعا‪.‬‬

‫املكروه هو ما مطلب الشارع من املكلف الكف عن فعله طلبا غري حتم‬ ‫‪ 4‬املكروه‬
‫أبن تكون الصيغة نفسها دالة على ذلك‪ ،‬كما إذا ورد أن هللا كره لكم كذا‪ ،‬أو كان منهيا عنه‪ ،‬واقرتن النهي مبا‬
‫ين َآمنُواْ الَ تَ ْسأَلُواْ َع ْن أَ ْشيَاء إِن تُـْب َد لَ ُك ْم تَ ُس ْؤُك ْم }‬ ‫َّ ِ‬
‫يدل على أن النهي لكراهة ال للتحرمي‪ ،‬مثل‪َ { :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫[املائدة‪ ،]101:‬أو كان مأمورا ابجتنابه ودلت القرينة على ذلك‪ ،‬مثل‪َ { :‬و َذ ُروا الْبَـْي َع } [اجلمعة‪]9 :‬‬
‫فاملطلوب الكف عن فعله؛ إن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه طلب حتم فهو احملرم‪ ،‬مثل‪ :‬حرم عليكم‬
‫كذا‪.‬‬
‫وإن كانت الصيغة نفسها تدل على أن طلب غري حتم فهو املكروه‪ ،‬مثل‪ :‬كره لكم كذا ‪.‬‬
‫وإن كانت الصيغة هنيا مطلقا‪ ،‬أو أمرا االجتناب مطلقا‪ ،‬استدل ابلقرائن على أن طلب حتم أو غري حتم‪.‬‬
‫عرف بعض األصوليني احملرم أبنه ما استحق فاعله‬ ‫ومن القرائن ترتيب العقوبة على الفعل وعدم ترتيبها‪ ،‬وهلذا َّ‬
‫العقوبة‪ ،‬واملكروه أبنه ما ال يستحق فاعله العقوبة‪ ،‬وقد يستحق اللوم‬
‫ع املكلَّف بني فعله وتركه‪،‬‬
‫خري الشار ُ‬
‫املباح هو ما َّ‬ ‫‪ 5‬املباح‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فلم يطلب الشارع أن يفعل املكلف هذا الفعل و مل يطلب أن يكف عنه‪.‬‬
‫• واترة تثبت إابحة الفعل ابلنص الشرعي على إابحته‪ ،‬كما نص الشارع على أنه ال إمث يف الفعل‪،‬‬
‫ت‬ ‫ِ ِ‬ ‫فيدل هبذا على إابحته كقوله تعاىل‪ { :‬فَِإ ْن ِخ ْفتم أَالَّ ي ِقيما ح ُدود ِ‬
‫يما افْـتَ َد ْ‬
‫اح َعلَْيه َما ف َ‬ ‫اَّلل فَالَ ُجنَ َ‬‫ُْ ُ َ ُ َ ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضتُم به م ْن خطْبَة النّ َساء }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يما َعَّر ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اح َعلَْي ُك ْم ف َ‬
‫به } [البقرة‪ ،]229 :‬وكقوله سبحانه‪َ { :‬والَ ُجنَ َ‬
‫[البقرة‪ ،]235 :‬وكما إذا أمر الشارع بفعل ودلت القرائن على أن األمر لإلابحة كقوله تعاىل‪َ { :‬وإِذَا‬
‫ض}‬ ‫الص َالةُ فَانتَ ِشُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ت َّ‬ ‫ضي ِ‬‫ِ‬
‫ادواْ } [املائدة‪ ،]2 :‬وكقوله سبحانه‪ { :‬فَِإ َذا قُ َ‬ ‫اصطَ ُ‬
‫َحلَْلتُ ْم فَ ْ‬
‫[اجلمعة‪ ،]10 :‬وكقوله‪ { :‬وكلوا واشربوا } [البقرة‪.]187 :‬‬
‫واترة تثبت إابحة الفعل ابإلابحة األصلية‪ ،‬فإذا مل يرد من الشارع نصل على حكم العقد أو التصرف‬ ‫•‬
‫أو أي فعل‪ ،‬ومل يقم دليل شرعي آخر على حكم فيه‪ :‬كان هذا العقد أو التصرف أو الفعل مباحا‬
‫ابلرباءة األصلية ألن األصل يف األشياء املباحة‪.‬‬

‫هذه هي أقسام احلكم التكليفي اخلمسة على ما ذهب إليه مجهور األصوليني‪:‬‬
‫وأما علماء احلنفية فقد قسموه إىل سبعة أقسام ال إىل مخسة‪ ،‬وذلك أهنم قالوا‪ " :‬إن ما طلب الشارع فعله طلبا حتما إذا كان دليل طلبه‬
‫الفرض‪ ،‬وإن كان دليل طلبه ظنيا أبن كان حديثا غري متواترا أو قياسا فهو الواجب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫قطعيا أبن كان آية قرآنية أو حديثا متواترا فهو‬
‫فإقامة الصالة فرض ألهنا طلبت طلبا حتما بدليل قطعي هو قوله تعاىل‪:‬‬
‫الصالََة } [البقرة‪ ،]43 :‬وقراءة الفاحتة يف الصالة واجبة ألهنا طلبت طلبا حتما‪ ،‬بدليل ظين هو قوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‬ ‫يمواْ َّ‬‫ِ‬
‫{ َوأَق ُ‬
‫‪" : -‬ال صالة إال بفاحتة الكتاب"‪ ،‬وأما ما طلب فعله طلبا غري حتم فهو املندوب‪ ،‬وكذلك ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما‬
‫إن كان دليله قطعيا كآية أو سنة متواترة فهو احملرم‪ ،‬وإن كان دليله ظنيا كسنة غريمتواترة فهو املكروه حترميا‪.‬‬
‫فالزان حمرم ألنه طلب الكف عنه طلبا حتما بديل لقطعي هو قوله تعاىل‪َ { :‬والَ تَـ ْقربُواْ ِّ‬
‫الز َىن } [اإلسراء‪ .]32 :‬ولبس الرجال احلرير‬ ‫َ‬
‫وختتمهم ابلذهب مكروهان حترميا‪ ،‬ألنه طلب الكف عنهما طلبا حتما‪ ،‬بدليل ظين ‪ ،‬هو قوله صلى هللا عليه وسلم ‪" :‬هذان حرام على‬
‫رجال أميت حالل لنسائهم" ‪ ،‬وأما ما طلب الكف عنه طلبا غري حتم فهو املكروه تنزيها‪.‬‬

‫فإهنم يـُ َق ِّسمون احلكم التكليفي إىل سبعة أقسام‪ ،‬وهي‪:‬‬


‫َّ‬
‫الفرض‪ :‬ثبت اللزوم فيه ٍ‬
‫بدليل قطعي ال شبهة فيه‪.‬‬ ‫‪ْ -1‬‬
‫‪ - 2‬الواجب‪ :‬ثبت اللزوم فيه بدليل ظين فيه شبهة‪.‬‬
‫‪ - 3‬املندوب‪.‬‬
‫‪ - 4‬احلرام‪ :‬ثبت طلب الكف عنه بدليل قطعي ال شبهة فيه‪.‬‬
‫‪ - 5‬املكروه كراهة حترمي (هو يقابل الواجب عندهم)‪ ،‬وهو ما ثبت طلب الكف الالزم فيه بدليل ظين فيه شبهة‪ ،‬وعندهم يذم فاعله‪،‬‬
‫ويُثاب اتركه‪.‬‬
‫‪ - 6‬املكروه كراهة تنزيه (وهو يقابل املندوب عندهم)‪ ،‬وتعريفه عندهم كتعريف اجلمهور‪.‬‬
‫‪ -7‬املباح‪ :‬وتعريفه عندهم كتعريف اجلمهور‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ِ‬
‫الفرض‪ ،‬والواجب‪ ،‬واملندوب‪ .‬واملطلوب الكف عنه ثالثة أقسام‪ :‬احملرم‪ ،‬واملكروه حترميا‪،‬‬ ‫فعند علماء احلنفية املطلوب فعله ثالثة أقسام‪:‬‬
‫واملكروه حترميا‪ ،‬واملكروه تنزيها‪.‬‬
‫وقد قدمنا أن نصوص القرآن كلها قطعية الورود وهلذا يثبت هبا عند احلنفية الفرض والتحرمي والندب والكراهة‪ ،‬وأما‬ ‫املباح‪.‬‬
‫السنة فما كان قطعي الورود منها وهو املتواتر ويف حكمه املشهور‪ ،‬فيثبت به أيضا ما يثبت ابلقرآن‪.‬‬
‫والفعل الواحد قد تعرتيه هذه األحكام كلها أو بعضها حبسب ما يالبسه‪ ،‬فمثال‪ :‬الزواج قد يكون فرضا على‬
‫املسلم إذا قدر على املهر والنفقة وسائر واجبات الزوجية‪ ،‬وتيقن من حال نفسه أنه إذا مل يتزوج زىن‪ ،‬ويكون واجبا‬
‫إذا قدر على ما ذكر وخاف أنه إذا مل يتزوج زىن‪ ،‬ويكون مندواب إذا كان قادرا على واجبات الزوجية وكان يف حال‬
‫اعتدال ال خياف أن يزين إذا مل يتزوج‪ ،‬ويكون حمرما إذا تيقن أنه إذا تزوج يظلم زوجته وال يقوم حبقوق الزوجية‪،‬‬
‫ويكون مكروها حترميا إذا خاف ظلمها‪.‬‬

‫أقسام احلكم الوضعي‬


‫ينقسم احلكم الوضعي إىل مخسة أقسام‪:‬‬
‫ألنه ثبت ابالستقراء أنه إما أن يقتضي جعل شيء سببا لشيء‪ ،‬أو شرطاً ‪ ،‬أو مانعاً‪ ،‬أو مسوغا الرخصة بدل العزمية‪ ،‬أو صحيحاً‪ ،‬أو‬
‫غري صحيح‬
‫هو ما جعله الشارع عالمة على مسببه وربط وجود املسبب بوجوده وعدمه‪ .‬فيلزم من وجود السبب وجود‬ ‫السبب‬ ‫‪1‬‬
‫املسبب‪ ،‬ومن عدمه عدمه‪ ،‬فهو أمر ظاهر منضبط‪ ،‬جعله الشارع عالمة على حكم شرعي هو مسببه‪ ،‬ويلزم من‬
‫وجوده وجود املسبب‪ ،‬ومن عدمه عدمه‪.‬‬
‫وقد قدمنا يف مبحث العلة يف القياس أن كل علة للحكم تسمى سببه‪ ،‬وليس كل سبب للحكم يسمى علته‪ ،‬وبينا‬
‫الفرق بينهما أو أمثلتهما‪.‬‬
‫أنواعه‪:‬‬
‫• قد يكون السبب سببا حلكم تكليفي؛ كالوقت جعله الشارع سببا إلجياب إقامة الصالة لقوله تعاىل‬
‫س } [اإلسراء‪ ،]78 :‬وكشهود رمضان جعله الشارع سبا إلجياب صومه‬ ‫َّم ِ‬ ‫{ أَقِِم َّ ِ ِ‬
‫الصالَةَ ل ُدلُوك الش ْ‬
‫ِ‬
‫ص ْمهُ } [البقرة‪ ،]185 :‬وملك النصاب النامي مبن‬ ‫بقوله تعاىل‪ { :‬فَ َمن َش ِه َد من ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر فَـلْيَ ُ‬
‫مالك الزكاة جعل سببا إلجياب إيتاء الزكاة‪ ،‬والسرقة جعلت سببا إلجياب قطع يعد السارق‪ ،‬وشرك‬
‫املشركة جعل سببا لتحرمي زواج املسلم هبا‪ ،‬واملرض جعل سببا إلابحة الفطر يف رمضان‪ ،‬وأمثال ذلك‪.‬‬
‫وقد يكون السبب سببا إلثبات ملك أو حل أو إزالتهما‪ ،‬كالبيع إلثبات امللك وإزالته‪ ،‬والعتق والوقف‬ ‫•‬
‫إلسقاطه‪ ،‬وعقد الزواج إلثبات احلل‪ ،‬والطالق إلزالته‪ ،‬والقرابة واملصاهرة والوالء الستحقاق اإلرث‪،‬‬
‫وإتالف مال الغري الستحقاق الضمان على املتلف‪ ،‬والشركة أو امللك الستحقاق الشفعة‪.‬‬
‫وقد يكون السبب فعال للمكلف مقدورا له كقتله العمد سبب لوجوب القصاص منه‪ ،‬وعقدة البيع‬ ‫•‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫أو الزواج أو اإلجارة أو غريها أو أسباب ألحكامها‪ ،‬وملكه مقدار النصاب لوجوب الزكاة عليه ‪،‬‬
‫وقد يكون أمرا غري مقدور للمكلف وليس من أفعاله‪ ،‬كدخول الوقت إلجياب الصالة والقرابة لإلرث‬
‫والوالية‪ ،‬والصغر لثبوت الوالية على الصغري‪.‬‬

‫وإذا وجد السبب سواء أكان من فعل املكلف أم ال‪ ،‬وتوافرت شروطه وانتفت موانعه‪ ،‬ترتب عليه مسببه حتما‪،‬‬
‫سواء أكان مسببه حكما تكليفياً‪ ،‬أم إثبات ملك أو حل‪ ،‬أم إزالتهما‪ ،‬ألن املسبب ال يتخلف عن سببه شرعا‪،‬‬
‫سواء أقصد من ابشر السبب ترتب املسبب عليه أم مل يقصده‪ ،‬بل يرتتب ولو قصد عدم ترتبه‪ ،‬فمن سافر يف‬
‫رمضان أبيح له الفطر‪ ،‬سواء أقصد إىل اإلابحة أم مل يقصد إليها‪ ،‬ومن طلق زوته رجعيا ثبت له حق مراجعتها ولو‬
‫قال ال رجعة يل‪ ،‬ومن تزوج وجب عليه املهر ونفقة زوجته ولو تزوجها على أن ال مهر عليه وال نفقة‪ .‬ألن الشارع‬
‫إذا وضع العقد أو التصرف سببا حلكم‪ ،‬ترتب احلكم على العقد حبكم الشرع‪ ،‬وال يتوقف ترتبه على قصد‬
‫املكلف؛ وليس للمكلف أن َيل هذا االرتباط الذي ربط به الشارع املسببات أبسباهبا‪.‬‬
‫هو ما يتوقف وجود احلكم على وجوده ويلزم من عدمه عدم احلكم‪ .‬واملراد وجوده الشرعي الذي يرتتب عليه أثره‪.‬‬ ‫الشرط‬ ‫‪2‬‬
‫فالشرط أمر خارج عن حقيقة املشروط يلزم من عدمه عدم املشروط‪ ،‬وال يلزم من وجوده وجوده‪.‬‬
‫فالزوجية شرط إليقاع الطالق‪ ،‬فإذا مل تود زوجية مل يوجد طالق‪ ،‬وال يلزم من وجود الزوجية وجود الطالق‪.‬‬
‫والوضوء شرط لصحة إقامة الصالة‪ ،‬فإذا مل يوجد وضوء ال تصح إقامة الصالة‪ ،‬وال يلزم من وجود الوضوء إقامة‬
‫الصالة‪.‬‬
‫ووجود الزواج الشرعي الذي ترتتب عليه أحكامه يتوقف على حضور الشاهدين وقت عقده‪ ،‬ووجود البيع الشرعي‬
‫الذي ترتتب عليه أحكامه يتوقف على العلم ابلبدلني‪ ،‬وهكذا كل ما شرط الشارع له شرطا ال يتحقق وجوده‬
‫الشرعي إال إذا وجدت شروطه‪ ،‬ويعترب شرعا معدوما إذا فقدت شروطه ولكن ال يلزم من وجود الشرط وجود‬
‫املشروط‪.‬‬
‫والشروط الشرعية هي اليت تكمل السبب وجتعل أثره يرتتب عليه‪ ،‬فالقتل سبب إلجياب القصاص ولكن بشرط أن‬
‫يكون قتال عمدا وعدواان‪ ،‬وعقد الزواج سبب مللك املتعة‪ ،‬ولكن بشرط أن َيضره شاهدان‪ ،‬وهكذا كل عقد أو‬
‫تصرف ال يرتتب عليه أثره إال إذا توافرت شروطه‪.‬‬
‫والفرق بني ركن الشيء وشرطه‪ ،‬مع أن كال منهما يتوقف وجود احلكم على وجوده‪ :‬أن الركن جزء من حقيقة‬
‫الشيء‪ ،‬وأما الشرط فهو أمر خار عن حقيقته وليس من أجزائه‪ .‬فالركوع ركن الصالة ألنه جزء من حقيقتها‪،‬‬
‫والطهارة شرط الصالة ألهنا أمر خارج عن حقيقتها‪ ،‬وصيغة العقد والعاقدان وحمل العقد أركان العقد ألهنا أجزاؤه‪،‬‬
‫وحضور الشاهدين يف الزواج‪ ،‬وتعيني البدلني يف البيع‪ ،‬وتسليم املوهوب يف اهلبة‪ ،‬شروط ال أركان‪ ،‬ألهنا ليست من‬
‫أجزاء العقد‪ ،‬ومن أجل هذا كان للوقف أركان وشروط‪ ،‬وكذا للبيع وسائر العقود والتصرفات‪ ،‬وإذا حصل خلل يف‬
‫ركن من األركان كان خلال يف نفس العقد و التصرف‪ ،‬وإذا حصل خلل يف شرط من الشروط كان خلال يف وصفه‬
‫أي يف أمر خارج عن حقيقته‪.‬‬

‫الشرط الشرعي ‪ -‬اشرتاط الشرط حبكم الشارع‪ ،‬مجيع الشروط اليت اشرتطها الشارع يف الزواج والبيع‬ ‫•‬
‫واهلبة والوصية‪ ،‬واليت اشرتطها إلجياب الصلوات اخلمس والزكاة والصيام واحلج‪ ،‬واليت اشرتطها إلقامة‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫احلدود ولغري ذلك‪.‬‬


‫الشرط اجلعلي‪ -.‬اشرتاط الشرط بتصرف املكلف‪ ,‬الشروط اليت يشرتطها الزوج ليقع الطالق على‬ ‫•‬
‫زوجته‪ ،‬واليت يشرتطها املالك لعتق عبده‪ ،‬فإن تعليق الطالق أو العتق على وجود شرط مقتضاه أنه‬
‫يتوقف وجود الطالق أو العتق على وجود الشرط ويلزم من عدمه عدمه‪ ،‬فصيغة الطالق سبب يرتتب‬
‫عليه الطالق‪ ،‬ولكن إذا توافر الشرط‪.‬‬

‫وليس للمكلف أن يعلق أي عقد أو تصرف على أي شرط يريدهن بل البد أن يكون الشرط غري مناف حكم‬
‫العقد أو التصرف‪ .‬وأما إذا كان الشرط منافيا حكم العقد فيبطل العقد‪ ،‬ألن الشرط مكمل للسبب فإذا انىف‬
‫حكمه أبطل سببيته‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬العقود اليت تفيد امللك التام أو احلل التام‪ ،‬كعقد البيع ‪ ،‬وعقد الزواج حكمها الشرعي أن األثر املرتتب‬
‫على كل واحد مها ال يرتاخى عن صيغته‪ ،‬فإذا عقد املكلف بيعاً أو زواجاً‪ ،‬وعلق واحدا منهما على أن يوجد يف‬
‫املستقبل شرط شرطه‪ ،‬فإن مقتضى هذا االشرتاط أن ال يوجد أثر العقد إال إذا وجد الشرط‪ ،‬وهذا ينايف مقتضى‬
‫العقد‪ ،‬وهو أن حكمه ال يرتاخى عنه‪ ،‬وهلذا بطل البيع املعلق على شرط‪ ،‬وكذلك الزواج املعلق على شرط‪،‬‬
‫فالشرط اجلعلي إذا اعتربه الشارع صار كالشرط الشرعي‪.‬‬

‫املانع‪ :‬هو ما يلزم من وجوده عدم احلكم‪ ،‬أو بطالن السبب‪ ،‬فقد يتحقق السبب الشرعي وتتوافر مجيع شروطه‬ ‫املانع‬ ‫‪3‬‬
‫ولكن يوجد مانع مينع ترتب احلكم عليه‪ ،‬كما إذا وجدت الزوجية الصحيحة أو القرابة ولكن منع ترتب اإلرث‬
‫على أحدمها كاختالف الوارث مع املورث دينا‪ ،‬أو قتل الوارث مورثه‪ ،‬وكما إذا وجد القتل العمد العدوان ولكن‬
‫منع من إجياب القصاص به أن القاتل أبو املقتول‪.‬‬

‫فاملانع يف اصطالح األصوليني‪ :‬هو أمر يوجد مع حتقق السبب وتوافر شروطه‪ ،‬ومينع من ترتب املسبب على‬
‫سببه‪ ،‬فقد الشرط ال يسمى مانعا يف اصطالحهم ‪ ،‬وإن كان مينع من ترتب املسبب على السبب‪.‬‬
‫وقد يكون املانع مانعا من حتقق السبب الشرعي ال من ترتب حكمه عليه كالدين ملن ملك نصااب من أموال‬
‫الزكاة‪ ،‬فإن دينه مانع من حتقق السبب إلجياب الزكاة عليه ‪ ،‬ألن مال املدين كأنه ليس مملوكا له ملكا اتما ‪ ،‬نظرا‬
‫حلقوق دائنيه‪ ،‬وألن ختليص ذمته مما عليه من الدين أوىل من مواساته الفقراء واملساكني ابلزكاة‪ ،‬وهذا يف احلقيقة‬
‫خمل مبا يشرتط توافره يف السبب الشرعي فهو من ابب عدم توافر الشرط‪ ،‬ال من قبيل وجود املانع‪.‬‬
‫الرخصة ‪:‬هي ما شرعه هللا من األحكام ختفيفا على املكلف يف حاالت خاصة تقتضي هذا التخفيف‪ ،‬أو هي ما‬ ‫الرخصة‬ ‫‪4‬‬
‫شرع لعذر شاق يف حاالت خاصة ‪ ،‬أو هي استباحة احملظور بدليل مع قيام دليل احلظر‪.‬‬ ‫والعزمية‬

‫العزمية ‪ :‬فهي ما شرعه هللا أصالة من األحكام العامة اليت ال ختتص حبال دون حال وال مبكلف دون مكلف‪.‬‬

‫أنواع الرخص‪:‬‬
‫من الرخص إابحة احملظورات عند الضرورات أو احلاجات‪ ،‬فمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر‬ ‫•‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫أبيح له ترفيهاً عنه أن يتلفظ هبا وقبله مطمئن ابإلميان‪ .‬وكذا من أكره على أن يفطر يف رمضان أو‬
‫يتلف مال غريه‪ ،‬أبيح له احملظور الذي أكره عليه ترفيهاً عنه‪ .‬ومن اضطره اجلوع الشديد أو الظمأ‬

‫الشديد إىل أكل امليتة أو شرب اخلمر أبيح له أكلها وشرهبا‪ :‬قال تعاىل‪ { :‬إِالَّ َم ْن أُ ْك ِرَه َوقَـلْبُهُ‬
‫ص َل لَ ُكم َّما َحَّرَم َعلَيْ ُك ْم إِالَّ َما ْ‬
‫اضطُِرْرُْمت‬ ‫ان } [النحل‪ ،]106 :‬وقال سبحانه‪َ { :‬وقَ ْد فَ َّ‬ ‫مطْمئِ ٌّن ِاب ِإلميَ ِ‬
‫ُ َ‬
‫ٍ‬
‫اضطَُّر َغ ْ َري َاب ٍغ َوالَ َعاد فَال إِ ْمثَ َعلَْي ِه }‬
‫إِلَْي ِه } [األنعام‪ ،]119 :‬وقال تعاىل‪ { :‬فَ َم ِن ْ‬
‫[البقرة‪.]173:‬‬
‫ومن الرخص إابحة ترك الواجب إذا وجد عذر جيعل أداءه شاقا على املكلف‪ ،‬فمن كان يف‬ ‫•‬
‫رمضان مريضا أو على سفر أبيح له أن يفطر ‪ ،‬ومن كان مسافرا أبيح له قصر الصلة الرابعية أي‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُخَر }‬ ‫أداؤها ركعتني بدل أربع ‪ :‬قال تعاىل‪ { :‬فَ َمن َكا َن من ُكم َّم ِريضاً أ َْو َعلَى َس َف ٍر فَع َّدةٌ ّم ْن أ ََّايٍم أ َ‬
‫الصالَةِ }‬
‫صُرواْ ِم َن َّ‬ ‫اح أَن تَـ ْق ُ‬ ‫س َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫[البقر‪ ،]184 :‬وقال تعاىل‪َ { :‬وإِذَا َ ِ‬
‫ضَربْـتُ ْم يف األ َْرض فَـلَْي َ‬
‫[النساء‪]101 :‬‬
‫ومن الرخص‪ :‬تصحيح بعض العقود االستثنائية‪ ،‬اليت مل تتوافر فيها الشروط العامة إلنعقاد العقد‬ ‫•‬
‫وصحته‪ ،‬ولكن جرت هبا معامالت الناس وصارت من حاجاهتم‪ ،‬كعقد السلم فإنه بيع معدوم وقت‬
‫العقد‪ ،‬ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجياهتم‪ ،‬ولذا جاء يف احلديث‪" :‬هني رسول هللا عن‬
‫بيع اإلنسان ما ليس عنده ‪ ،‬ورخص يف السلم"‪ ،‬وكذلك االستصناع واإلجارة وعقد الوصية‪ ،‬فهذه‬
‫كلها عقود إذا طبقت عليها الشروط العامة النعقاد العقود وصحتها يف العاقد واملعقود عليه ال‬
‫تصح؛ ولكن الشارع رخص فيها وأجازها سدا حلاجة الناس ودفعا للحرج‪.‬‬
‫ومن الرخص‪ :‬نسخ األحكام اليت رفعها هللا عنها وكانت من التكاليف الشاقة على األمم قبلنا‪:‬‬ ‫•‬
‫ين ِمن قَـْبلِنَا }‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫وهي املشار إليها بقوله سبحانه‪َ { :‬ربـَّنَا َوالَ َْحتم ْل َعلَْيـنَا إِ ْ‬
‫صراً َك َما َمحَلْتَهُ َعلَى الذ َ‬
‫[البقرة‪ ،]286 :‬مثل التكليف بقرض موضع النجاسة من الثوب‪ ،‬وأداء ربع املال يف الزكاة‪ ،‬وقتل‬
‫النفس توبة من املعصية‪ ،‬وعدم وجواز الصالة يف غري املساجد‪ -‬وتسمية هذه رخصاً فيها توسع‪-‬‬
‫ومن هذه األنواع يتبني أن ترخيص الشارع للتخفيف عن املكلفني اترة إبابحة احملرم للضرورة‪ ،‬أو‬
‫إبابحة ترك الواجب للعذر‪ ،‬أو ابستثناء بعض العقود من األحكام الكلية للحاجة ‪ ،‬كلها ترجع عند‬
‫التحقيق إىل إابحة احملظور للضرورة أو احلاجة‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وعلماء احلنفية قسموا الرخصة إىل قسمني‪:‬‬


‫‪ .1‬رخصة ترفيه‪ - ،‬بكون حكم العزمية معها ابقيا ودليله قائما ولكن رخص يف تركه ختفيفا وترفيها عن‬
‫الكف‪ ،‬ومثلوا هلذا مبن أكره على التلفظ بكلمة الكفر‪ ،‬على إتالف مال غريه‪ ،‬أو على الفطر‬
‫برمضان‪ .‬وقالوا إن النص املرخص مل يسقط حرمة التلفظ بكلمة الكفر عمن أكره عليه‪ ،‬ولكن استثىن‬
‫من أكره من غضب هللا عليه واستحقاقه العذاب‪ ،‬قال تعاىل { َمن َك َفَر ِاب َّّللِ ِمن بَـ ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن‬
‫ان ولَ ِكن َّمن َشرح ِابلْ ُك ْف ِر ص ْدراً فَـعلَي ِهم َغضب ِمن ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫اَّلل } [النحل‪]106 :‬‬ ‫َ َْ ْ َ ٌ َّ ّ‬ ‫ََ‬ ‫أُ ْك ِرَه َوقَـ ْلبُهُ ُمطْ َمئ ٌّن ابإلميَ َ‬
‫ور َّرِح ٌيم }‬ ‫اَّللَ َغ ُف ٌ‬
‫اضطَُّر ِيف خمَْمص ٍة َغ ْري متَجانِ ٍ‬
‫ف ِِّإل ٍْمث فَِإ َّن ّ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫ولكن يالحظ أن هللا قال‪ { :‬فَ َم ِن ْ‬
‫اضطَُّر َغ ْ َري َاب ٍغ َوالَ َع ٍاد فَال إِ ْمثَ َعلَْي ِه } [البقرة‪ ]173 :‬فقد استثىن املضطر‬ ‫[املائدة‪ ،]3:‬وقال‪ :‬فَ َم ِن ْ‬
‫من اإلمث‪ ،‬كما استثىن املكره على التلفظ من اإلمث واستحقاق العذاب‪ .‬بل إن قوله سبحانه‪ { :‬فَِإ َّن‬
‫ور َّرِح ٌيم } [املائدة‪ ،]3:‬يشعر أبنه فعل حمرماً ولكن هللا مل يعاقبه عليه رمحة منه‪ .‬وقالوا كذلك‪:‬‬
‫اَّللَ َغ ُف ٌ‬
‫ّ‬
‫مل يسقط اإلكراه حرمة إتالف مال الغري وال حرمة الفطر يف رمضان‪ ،‬بل احلرمة مع اإلكراه اثبتة‪ ،‬وإمنا‬
‫املقصود ابإلابحة الرتفيه عن املكلف‪ .‬ولبقاء هذه احلرمة قالوا‪ :‬إن العمل ابلعزمية أوىل وإن من متسك‬
‫ابلعزمية واحتمل ما كره عليه حىت مات‪ ،‬مات شهيدا‪.‬‬
‫‪ .2‬رخصة إسقاط‪ - ،‬فال يكون حكم العزمية معها ابقيا‪ ،‬بل إن احلال اليت استوجبت الرتخيص أسقطت‬
‫حكم العزمية‪ ،‬وجعلت احلكم املشروع فيها هو الرخصة ومثلوا هلذا إبابحة أكل امليتة أو شرب اخلمر‬
‫عند اجلوع والظمأ‪ ،‬وقصر الصالة يف السفر‪ .‬فاملضطر إىل أكل امليتة أو شرب اخلمر سقطت‬
‫اضطَُّر ِيف‬
‫حرمتهما عنه يف حال اضطراره‪ ،‬ألن هللا سبحانه بعد ان بني هذه احملرمات قال‪ { :‬فَ َم ِن ْ‬
‫ور َّرِح ٌيم } [املائدة‪ ،]3:‬وهذا يقتضي رفع التحرمي ولو مل أيكل‬ ‫خمَْمص ٍة َغ ْري متَجانِ ٍ‬
‫ف ِِّإل ٍْمث فَِإ َّن ّ‬
‫اَّللَ َغ ُف ٌ‬ ‫َ َ َُ َ‬
‫أو يشرب أمث‪ .‬واملسافر سقطت عنه األربع ولو صلى أربعا كانت الركعتان األخرياتن انفلة وتطوعا ال‬
‫من املفروض‪.‬‬

‫واحلق أن النصوص اليت شرعت الرخص ال يدخل ظاهرها على هذا التفريق‪ ،‬فإن هللا سبحانه قال‪َ { :‬وَما لَ ُك ْم أَالَّ‬
‫اضطُِرْرُْمت إِلَْي ِه } [األنعام‪ ،]119 :‬فكل حمرم‬ ‫اَّللِ َعلَْي ِه َوقَ ْد فَ َّ‬
‫ص َل لَ ُكم َّما َحَّرَم َعلَْي ُك ْم إِالَّ َما ْ‬ ‫ِ ِ‬
‫اس ُم ّ‬‫َأتْ ُكلُواْ ممَّا ذُكَر ْ‬
‫عند الضرورة يباح بال تفريق بني حمرم وحمرم‪.‬‬
‫والقول أبنه عند اإلكراه على إفطار رمضان يكون حكم العزمية‪ ،‬وهو فرض الصيام ابقياً‪ ،‬وعند االضطرار إىل أكل‬
‫امليتة‪ ،‬أو شرب اخلمر‪ ،‬ال يكون حكم العزمية‪ .‬وهو حترميها ابقيا‪ ،‬تفريق ال يظهر له وجه‪ ،‬ألن اإلكراه نوع من‬
‫ان }‬ ‫االضطرار؛ ويف احلالتني أبيح احملظور للضرورة‪ ،‬وكما قال سبحانه‪ { :‬إِالَّ من أُ ْك ِره وقَـلْبه مطْمئِ ٌّن ِاب ِإلميَ ِ‬
‫َ ْ َ َ ُُ ُ َ‬
‫ور َّرِح ٌيم } [املائدة‪ ،]3 :‬وصريح‬ ‫اَّللَ َغ ُف ٌ‬
‫اضطَُّر ِيف خمَْمص ٍة َغ ْري متَجانِ ٍ‬
‫ف ِِّإل ٍْمث فَِإ َّن ّ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫[النحل‪ ،]106 :‬قال‪ { :‬فَ َم ِن ْ‬
‫الصالَة } [النساء‪ ،]101 :‬أن القصر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صُرواْ م َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫قوله سبحانه‪ { :‬وإِذَا َ ِ‬
‫اح أَن تَـ ْق ُ‬‫س َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬
‫ضَربْـتُ ْم يف األ َْرض فَـلَْي َ‬ ‫َ‬
‫مباح ومقتضى أنه مباح أن األخذ ابلعزمية وهو إمتام الصالة أربعا مباح أيضا‪ ،‬فكيف يقال إن حكم العزمية هنا غري‬
‫قائم‪ ،‬وإن الرخصة يف هذا رخصة إسقاط؟‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فالذي يؤخذ من النصوص أن الرخص كلها شرعت للرتفيه والتخفيف عن املكلف إبابحة فعل احملرم‪ ،‬وأن حكم‬
‫احلظر ودليله قائمان‪.‬ومعىن إابحة احملظور ترخيصا أنه ال إمث يف فعله‪ .‬وإىل هذه اإلشارة بقوله تعاىل‪ { :‬فَِإ َّن ّ‬
‫اَّللَ‬
‫ور َّرِح ٌيم } [املائدة‪ ،]3 :‬فللمكلف أن يتبع الرخصة ختفيفا عن نفسه‪ ،‬وله أن يتبع العزمية حمتمال ما فيها من‬ ‫َغ ُف ٌ‬
‫مشقة‪ ،‬إال إذا كانت املشقة يناله من احتماهلا ضرر‪ ،‬فإنه جيب عليه اتقاء الضرر وإتباع الرخصة لقوله تعاىل‪َ { :‬والَ‬
‫َّهلُ َك ِة } ["البقرة‪ ،]195 :‬وقوله‪َ { :‬والَ تَـ ْقتُـلُواْ أَن ُف َس ُك ْم } [النساء‪ ،]29 :‬وهللا سبحانه‬ ‫ِ‬
‫تـُلْ ُقواْ ِأبَيْدي ُك ْم إِ َىل التـ ْ‬
‫َيب أن تتبع رخصة‪ ،‬كما جيب أن تؤتى عزائمه‪ ،‬ألنه سبحانه ما جعل على الناس يف الدين من حرج‪.‬‬
‫ومما قدمناه يف تعريف الرخصة وبيان أنواعها يظهر الوجه يف عدها من أقسام احلكم الوضعي ‪ ،‬ألن احلكم املشروع‬
‫هو جعل الضرورة سببا يف إابحة احملظور أو طروء العذر سبا يف التخفيف برتك الواجب‪ ،‬أو دفع احلرج عن الناس‬
‫سبا يف تصحيح بعض عقود املعامالت بينهم‪ ،‬فهو يف احلقيقة وضع أسباب ملسببات‪.‬‬
‫ما طلبه الشارع من املكلفني من أفعال ‪ ،‬وما شرعه هلم من أسباب وشروط‪ ،‬إذا ابشرها املكلف قد َيكم الشارع‬ ‫الصحة‬ ‫‪5‬‬
‫بصحتها‪ ،‬وقد َيكم بعدم صحتها‪.‬‬ ‫والبطالن‬
‫فإذا وجدت على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه‪ ،‬أبن حتققت أركاهنا وتوافرت شرائطها الشرعية‪ ،‬حكم الشارع‬
‫بصحتها‪ ،‬وإن مل توجد على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه‪ ،‬أبن اختل ركن من أركاهنا أو شرط من شروطها حكم‬
‫الشارع بعدم صحتها‪.‬‬

‫ومعىن صحتها شرعا‪ :‬ترتب آاثرها الشرعية عليها‪.‬‬

‫فإن كان الذي ابشره املكلف فعال واجبا عليه‪ ،‬كالصالة والصيام والزكاة واحلق وأداء املكلف مستكمال أركانه‬
‫وشروطه سقط عنه الواجب‪ ،‬وبرئت ذمته منه‪ ،‬ومل يستحق تعزيزا يف الدنيا واستحق املثوبة يف اآلخرة‪.‬‬
‫وإن كان الذي ابشره املكلف سببا شرعيا كالزواج والطالق والبيع واهلبة وسائر العقود والتصرفات‪ ،‬واستوىف املكلف‬
‫أركانه وشرائطه الشرعية‪ ،‬وترتب على كل سبب أثره الشرعي الذي رتبه الشارع عليه من إثبات احلل أو إزالته‪ ،‬أو‬
‫تبادل ملك البدلني أو امللك بغري عوض‪ ،‬أوغري ذلك من اآلاثر واحلقوق اليت ترتتب على األسباب الشرعية‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫وإن كان الذي ابشره شرطا كالطهارة للصالة‪ ،‬واستوىف املكلف شروطها وأركاهنا‪ ،‬أمكن حتقيق املشروط صحيحا‪.‬‬

‫ومعىن عدم صحتها عدم ترتب آاثرها الشرعية عليها‪.‬‬

‫فإن كان الذي ابشره واجبا ال يسقط عنه وال تربأ ذمته منه‪.‬وإن كان سببا شرعيا ال يرتتب عليه حكمه‪.‬وإن كان‬
‫شرطا ال يوجد املشروط‪.‬وذلك ألن الشارع إمنا رتب اآلاثر على أفعال وأسباب وشروط تتحقق كما طلبها‬
‫وشرعها‪ ،‬فإذا مل تكن كذلك فال اعتبار هلا شرعا‪.‬‬
‫ومن هذا البيان يؤخذ أن ما صدر عن املكلف من أفعال أو أسباب أو شروط ومل يتفق وما طلبه الشارع أو ما‬
‫شرعه يكون غري صحيح شرعا‪ ،‬وال يرتتب عليه أثره‪ ،‬سواء كان عدم صحته الختالل ركن من أركانه أو لفقد‬
‫شرط من شروطه‪ ،‬وسواء أكان عبادة أو عقداً أو تصرفاً‪ .‬وعلى هذا ال فرق بني ابطل وفاسد‪ ،‬ال يف العبادات وال‬
‫يف املعامالت‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فالصالة الباطلة ال تسقط الواجب عن املكلف وال تربئ ذمته‪.‬‬

‫والزواج الباطل كالزواج الفاسد ال يفيد ملك املتعة وال يرتتب عليه أثره‪.‬‬
‫والبيع الباطل كالبيع الفاسد ال يفيد نقل املكل يف البدلني وال يرتتب عليه حكم شرعي‪.‬‬
‫وتكون القسمة ثنائية‪ ،‬أي أن الفعل أو العقد أو التصرف إما صحيح ترتتب عليه آاثره‪ ،‬وإما غري صحيح ال يرتتب‬
‫عليه أثر شرعي‪ ،‬وهذا هو رأي اجلمهور‪.‬‬

‫وقال علماء احلنفية‪ :‬إن القسمة ثنائية يف العبادات ‪ ،‬فهي إما صحيحة وإما غري صحيحة‪ ،‬وال فرق بني ابطل‬
‫الصيام مثالً وفاسده يف أنه ال يرتتب عليه أثره وال يسقط الواجب‪ ،‬وعلى املكلف قضاؤه‪ .‬وأما يف العقود‬
‫والتصرفات فالقسمة ثالثية‪ ،‬ألن العقد غري الصحيح ينقسم إىل ابطل وفاسد؛ فإن كان اخللل يف أصل العقد أي‬
‫يف ركن من أركانه أبن كان يف الصيغة أو العاقدين أو املعقود عليه‪ ،‬كان العقد ابطال ال يرتتب عليه أثر شرعي‪،‬‬
‫وإن كان اخللل يف وصف من أوصاف العقد أبن كان يف شرط خارج عن ماهيته وأركانه‪ ،‬كان العقد فاسدا‪،‬‬
‫وترتبت عليه بعض آاثره‪.‬‬
‫وعلى هذا قالوا‪ :‬إن بيع اجملنون أوغري املميز أو بيع املعدوم ابطل وأما البيع بثمن غري معلوم فهو فاسد‪ .‬وإن زاوج‬
‫غري املميز أو زواج إحدى احملرمات مع العلم ابحلرمة ابطل‪ ،‬وأما الزواج بغري شهود فهود فاسد‪ .‬ومل يرتبوا على‬
‫الباطل أثرا‪ ،‬ورتبوا على الفاسد املهر والعدة وأثبتوا النسب‪ ،‬ويف البيع الفاسد إذا رفع سب الفساد يف اجمللس أبن‬
‫عني الثمن أو األجل ترتبت على العقد آاثره‪ ،‬وهو يفيد امللك ابلقبض‪.‬‬ ‫َّ‬

‫ومما قدمنا بيانه من معىن الصحة ومعىن البطالن‪ :‬يظهر الوجه يف عدمها من احلكم الوضعي؛ ألن الصحة هي‬
‫ترتب اآلاثر الشرعية على األفعال واألسباب أو الشروط اليت ابشرها املكلف‪ ،‬والبطالن عدم ترتب شيء من‬
‫تكلك اآلاثر ‪ ،‬فاحلكم بصحة البعض حكم بسببيته شرعا ألحكامه‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫القسم الثالث ‪ :‬احملكوم فيه‬

‫احملكوم فيه‬
‫هو فعل املكلف الذي تعلق به حكم الشارع‪.‬‬
‫ود } [املائدة‪ ،]1 :‬اإلجياب املستفاد من هذا اخلطاب تعلق بفعل من أفعال‬ ‫فقوله تعاىل ‪ { :‬اي أَيُّـها الَّ ِذين آمنُواْ أَوفُواْ ِابلْع ُق ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫املكلفني هو‪ :‬اإليفاد ابلعقود فجعله واجبا‪.‬‬
‫َج ٍل ُّم َس ًّمى فَا ْكتُـبُوهُ } [البقرة‪ ،]282 :‬الندب املستفاد من هذا اخلطاب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُواْ إذَا تَ َدايَنتُم ب َديْن إ َىل أ َ‬ ‫وقوله تعاىل‪َ { :‬اي أَيـُّ َها الذ َ‬
‫تعلقت بفعل من أفعال املكلفني هو كتاب الدين‪ ،‬فجعله مندوابً‪.‬‬
‫س } [األنعام‪،]151:‬التحرمي املستفاد من هذا اخلطاب تعلّق بفعل من أفعال املكلفني هو قتل‬ ‫وقوله تعاىل‪َ { :‬والَ تَـ ْقتُـلُواْ النَّـ ْف َ‬
‫حمرماً‪.‬‬‫النفس‪ ،‬فجعله ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يث مْنهُ تُنف ُقو َن } [البقرة‪،]267:‬الكراهة املستفادة من هذا اخلطاب تعلقت بفعل من أفعال‬ ‫وقوله تعاىل‪َ { :‬والَ تَـيَ َّم ُمواْ ا ْخلَبِ َ‬
‫املكلفني هو إنفاق املال اخلبيث فجعلته مكروهاً‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُخَر } [البقرة‪ ،]184 :‬اخلطاب تعلق ابملرض والسفر فجعل‬ ‫وقوله تعاىل‪ { :‬فَ َمن َكا َن من ُكم َّم ِريضاً أ َْو َعلَى َس َف ٍر فَع َّدةٌ ّم ْن أ ََّايٍم أ َ‬
‫كال منهما مبيحا للفطر‪.‬‬
‫فكل حكم من أحكام الشارع فهو البد متعلق بفعل من أفعال املكلفني على جهة الطلب‪ ،‬أو التخيري‪ ،‬أو الوضع‪.‬‬
‫ومن املقرر أنه ال تكليف إال بفعل‪ ،‬أي أن حكم الشارع التكليفي ال يتعلق إال بفعل املكلف‪.‬‬
‫فإذا كان حكم الشارع إجيااب أو نداب فاألمر واضح‪ ،‬ألن متعلق اإلجياب فعل الواجب على سبيل احلتم‪ ،‬ومتعلق الندب فعل‬
‫املندوب ال على سبيل احلتم واإللزام‪ ،‬فالتكليف يف احلالتني بفعل‪ .‬وإذا كان الشارع حترميا أو كراهة فاملكلف به يف احلالتني هو فعل‬
‫أيضا‪ ،‬ألنه هو كف النفس عن فعل احملرم أو املكروه‪ ،‬فمعىن قوهلم‪" :‬ال تكليف إال بفعل"‪ ،‬أن الفعل يشمل الكف‪ ،‬أي املنع‬
‫للنفس عن فعل‪ .‬وهبذا تكون مجيع األوامر والنواهي متعلقة أبفعال املكلفني‪ ،‬ففي األوامر‪ :‬املكلف به‪ :‬فعل املأمور به‪ ،‬ويف النواهي‪:‬‬
‫‪189‬‬
‫هو الكف عن املنهي عنه‪.‬‬

‫شرط صحة التكليف ابلفعل‪ :‬يشرتط يف الفعل الذي يصح شرعا التكليف به ثالثة شروط‪:‬‬
‫أن يكون معلوما للمكلف علما اتما حىت يستطيع املكلف القيام به كما طلب منه‪ ،‬وعلى هذا فنصوص القرآن‬ ‫أوهلا‬
‫اجململة؛ أي اليت مل يبني املراد منها‪ ،‬ال يصح تكليف املكلف هبا إال بعد أن يلحق هبا بيان الرسول عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫الصالََة } [البقرة‪ ،]43 :‬مل يبني النص القرآين أركان الصالة وشروطها وكيفية أدائها‪ ،‬فكيف‬ ‫يمواْ َّ‬ ‫ِ‬
‫فقوله تعاىل‪َ { :‬وأَق ُ‬
‫يكلف ابلصالة من ال يعرف أركاهنا وشروطها وكيفية أدائها؟ لذلك بني الرسول عليه الصالة والسالم هذا اجململ وقال‪:‬‬
‫"صلوا كما رأيتموين أصلي"‪.‬‬
‫وكذلك احلج والصوم والزكاة وكل فعل تعلق به خطاب من الشارع جممع ال يعلم مراد الشارع به‪ ،‬ال يصح التكليف به‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫وال مطالبة املكلفني ابمتثاله إال بعد بيانه‪ .‬وهلذا أعطى هللا ورسوله سلطة التبيني بقوله‪ { :‬وأَنزلْنَا إِلَي ِ ِ‬
‫ك ال ّذ ْكَر لتُـبَِّ َ‬
‫ََ َْ‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪127‬‬ ‫‪189‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫َما نـُِّزَل إِلَْي ِه ْم } [النحل‪ّ ،]44 :‬‬


‫وبني الرسول بسننه القولية والفعلية ما أمجل يف القرآن‪ ،‬واتفق العلماء على أنه ال يسوغ‬
‫أتخري البيان عن وقت احلاجة إليه‪.‬‬
‫أن يكون معلوما أن التكليف به صادر ممن له سلطان التكليف‪ ،‬وممن جيب على املكلف اتباع أحكامه ألنه هبذا‬ ‫اثنيها‬
‫العلم تتجه إرادته إىل امتثاله‪ ،‬وهذا هو السبب يف أن أول حبث يف أي دليل شرعي هو حجيته على املكلفني‪ ،‬أي أن‬
‫األحكام اليت يدل عليها أحكام واجب على املكلفني تنفيذها‪ .‬وهو السبب أيضا يف أن كل قانون وضعي يتوجب‬
‫ابلديباجة اخلاصة اليت تدل على أن احلاكم أصدر القانون بناء على عرض جملس الوزراء وموافقة الربملان‪ ،‬ليعلم املكلفون‬
‫أن القانون صادر ممن هلم سلطان التشريع‪ ،‬وممن جيب عليهم امتثال تكاليفهم؛ فيتجهوا للتنفيذ‪.‬‬
‫ويالحظ أن املراد بعلم املكلف مبا كلف به إمكان علمه به‪ ،‬ال علمه به فعال‪ ،‬فمىت بلغ اإلنسان عاقال قادرا على أن‬
‫يعرف األحكام الشرعية بنفسه أو بسؤال أهل الذكر عنها‪ ،‬اعترب عاملا مبا كلف به‪ ،‬ونفذت عليه األحكام وألزم آباثرها‬
‫وال يقبل منه االعتذار جبهلها‪ .‬وهلذا قال الفقهاء‪ :‬ال يقبل يف دار اإلسالم عذر اجلهل ابحلكم الشرعي‪ ،‬ألنه لو شرط‬
‫لصحة التكلف علم املكلف فعال مبا كلف به ما استقام التكليف‪ ،‬واتسع اجملال لالعتذار جبهل األحكام‪.‬‬
‫وعلى هذا التقنني الوعي‪ ،‬فالناس يعتربون عاملني ابلقانون بتيسري إمكان علمهم به‪ ،‬وذلك بنشره ابلطريق القانوين بعد‬
‫إصداره‪ .‬وال اعتبار ألن كل فرد من املكلفني علم به فعال أو ال‪ ،‬ولذا جاء يف مادة (‪ )22‬من الئحة ترتيب احملاكم‬
‫األهلية‪" :‬ال يقبل من أحد أن يدعي جبهله القانون"‪ .‬وكذلك املراد بعلم املكلف أبن تكليفه مبا كلف به صادر ممن جيب‬
‫عليه امتثال أحكامه‪ ،‬وإمكان علمه هبذا ال علمه به فعال‪.‬‬
‫فكل حكم شرعي ميكن للمكلف أن يعرف دليله‪ ،‬وأن يعرف أن دليله حجة شرعية‪ ،‬على املكلفني إتباع ما يستمد منه‪،‬‬
‫‪190‬‬
‫سواء أكان هذا بنفسه أم بواسطة سؤال أهل الذكر عنه‪.‬‬

‫أن يكون الفعل املكلف به ممكنا‪ ،‬أو أن يكون يف قدره املكلف أن يفعله أو أن يكف عنه‪ .‬وتفرع عن هذا الشرط‬ ‫اثلثها‬
‫أمران‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬أنه ال يصح شرعيا التكليف ابملستحيل‪ ،‬سواء أكان مستحيال لذاته أم مستحيال لغريه‪.‬‬ ‫•‬
‫فاملستحيل لذاته أي املستحيل عقال هو ما ال يتصور العقل وجوده‪ ،‬كاجلمع بني الضدين‪ ،‬مثل إجياب‬
‫الفعل وحترميه يف وقت واحد‪ ،‬على شخص واحد؛ أو اجلمع بني النقيضني كالنوم واليقظة يف وقت واحد‪.‬‬
‫واملستحيل لغريه‪ ،‬أو العادي‪ ،‬وما يتصور العقل وجوده ولكن ما جرت سنن الكون وال العادة املطردة‬
‫بوجود‪ ،‬كطري اإلنسان يف اهلواء بغري طائرة ووجود زرع بغري بذرة‪ ،‬ألن ما ال يتصور وجوده عقال أو عادة ال‬
‫ميكن للمكلف فعله‪ ،‬وهو ليس يف وسعه‪ ،‬وهللا ال يكلف نفسها إال وسعها‪ ،‬وهو حكيم منزه عن العبث‬
‫وعن التكليف بفعل ما ال سبيل إىل فعله‪ .‬وعن هذا تفرع قول األصوليني‪" :‬الشخص الواحد يف الوقت‬
‫الواحد ابلشيء الواحد ال يؤمر وينهي" ‪ ،‬ألن هذا تكليف ابجلمع بني النقيضني‪ ،‬ومها فعل الشيء وتركه يف‬
‫وقت واحد من مكلف واحد‪.‬‬
‫واثنيهما‪ :‬أنه ال يصح شرعا تكليف املكلف أبن يفعل غريه فعال أو يكف غريه عن فعل‪ ،‬ألن فعل غريه‬ ‫•‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪129‬‬ ‫‪190‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫أو كف غريه ليس ممكنا لو هو‪ ،‬وعلى هذا ال يكلف إنسان أبن يزكي أبوه أو يصلي أخوه أو يكف جاره‬
‫عن السرقة‪ .‬وكل ما يكلف به اإلنسان مما خيص غريه هو النصح‪ ،‬واألمر ابملعروف‪ ،‬والنهي عن املنكر‪،‬‬
‫وهذا من فعله املقدور له‪.‬‬

‫وكذلك ال يصح شرعا أن يكلف اإلنسان أبمر من األمور اجلبلية لإلنسان اليت هي مسببات ألسباب طبيعية وال كسب‬
‫لإلنسان فيها وال اختيار‪ ،‬كاالنفعال عند الغضب‪ ،‬واحلمرة عند اخلجل‪ ،‬واحلب والبغض‪ ،‬واحلزن والفرح‪ ،‬واخلوف حني‬
‫وجود أسباهبا‪ ،‬واهلضم والتنفس‪ ،‬والطول والقصر‪ ،‬والسواد والبياض‪ ،‬وغري ذلك من الغرائز اليت فطر عليها الناس‪،‬‬
‫ووجودها وعدمها خاضع لقوانني خلقية‪ ،‬وليس خاضعا إلدارة املكلف واختياره‪ ،‬فهي خارجة عن قدرته‪ ،‬وليست من‬
‫املمكنات له ‪.‬‬

‫وإذا ورد يف بعض النصوص ما يدل ظاهره على أن فيه تكليفا مبا ليس مقدورا لإلنسان من هذه األمور‪ ،‬فهو ليس على ظاهره‪،‬‬
‫وبتحقيق النظر فيه يتبني أنه تكليف مبا هو مقدور‪.‬‬
‫مثال قوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪" : -‬ال تغضب" ظاهرة التكليف ابلكف عن أمر طبيعي غري كسيب وهو الغضب عند وجود‬
‫داعيته‪ ،‬ولكن حقيقته التكليف ابلكف عما يعقب الغضب‪ ،‬ويلحق الغضوب من ثورة نفسه ومظاهر انتقامه‪ ،‬فاملراد‪ :‬أضبط‬
‫نفسك حني الغضب وكفها عن آاثره السيئة‪.‬‬
‫وقوله عليه السالم‪" :‬كن عبدهللا املقتول‪ ،‬وال تكن عبدهللا القاتل" ظاهرة التكليف أبن يقتله غريه‪ ،‬ولكن حقيقته التكليف أبن ال‬
‫يظلم وال يبدأ بعدوان‪ ،‬فاملراد‪ :‬ال تظلم‪.‬‬
‫وقوله عليه السالم‪" :‬أحبوا هللا ملا أسدي عليكم من نعمه" ظاهره التكليف ابحلب‪ ،‬ولكن حقيقته التكليف ابلنظر يف النعم اليت‬
‫أسداها هللا إليك حىت تكونوا دائما ذاكرين شاكرين‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪َ { :‬والَ متَُوتُ َّن إِالَّ َوأَنتُم ُّم ْسلِ ُمو َن } [آل عمران‪ ،]102 :‬ظاهرة تكليفهم اآلن أبن يكونوا يسريوا يف طريق يثبت إمياهنم‬
‫ويقوي عقائدهم حىت يؤدي هبم هذا إىل أن ميوتوا على دينهم‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬لِ َكْي َال َأتْ َس ْوا َعلَى َما فَاتَ ُك ْم َوَال تَـ ْفَر ُحوا ِمبَا َ‬
‫آات ُك ْم } [احلديد‪ ]23 :‬ظاهره التكليف أبن ال َيزن اإلنسان على شيء‬
‫فاته ‪ ،‬وال يفرح بشيء أاته‪ ،‬وهذا غري مقدور له لكن حقيقته التكليف ابلكف عما يعقب االسرتسال يف احلزن من السخط‪ ،‬وما‬
‫يعقب االسرتسال يف الفرح من البطر والزهو‪ .‬وهكذا كل ما ورد من أمثال هذه النصوص فهو مؤول أبن التكليف فيه إما ورد على‬
‫ما يلحق األمر الطبيعي ويرتتب عليه من آاثر‪ ،‬أو على ما يسبقه من بواعث ودوافع‪ ،‬وهذه اللواحق والسوابق أمور كسبية لإلنسان‬
‫‪191‬‬
‫ويف مقدوره‪.‬‬

‫وال يتبادر إىل الذهن من اشرتاط أن يكون الفعل مقدورا للمكلف لصحة التكليف به شرعا أن هذا يستلزم أن تكون يف الفعل أية‬
‫مشقة على املكلف‪ ،‬ألنه ال منافاة بني كون الفعل مقدورا أو كونه شاقا‪ .‬وكل ما يكلف به اإلنسان ال خيلوا من نوع مشقة‪ ،‬ألن‬
‫التكليف هو اإللزام مبا فيه كلفة ونوع مشقة‪.‬‬
‫غري أن املشقة نوعان‪:‬‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪131‬‬ ‫‪191‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫النوع األول‪ :‬مشقة جرت عادة الناس أن حيتملوها وهي يف حدود طاقتهم‪ ،‬ولو داوموا على احتماهلا ال يلحقهم‬ ‫•‬
‫أذى وال ضرر ال يف نفس وال يف مال وال يف أي شأن من شؤوهنم‪ ،‬كاملشقات اليت َيتملها الناس يف املداومة على‬
‫طرق السعي للرزق من زرع وحرث واجتار وغريها‪ ،‬واملشقات اليت َيتملها املوظفون يف أداء واجباهتم‪ ،‬وكل عامل يف‬
‫أداء عمله‪ .‬والتكاليف الشرعية ال ختلو من مشقات من هذا النوع فيها صعوبة ولكنها حمتملة‪ ،‬واملداومة عليها ال‬
‫تلحق مبن دوام عليها ضرراً وال أذى ‪ .‬والشارع ما قصد ابلتكاليف هذه املشقات اليت تالبسها وإمنا قصد هبا املصاحل‬
‫املرتتبة عليها‪ ،‬وإلزام املكلف أن َيتمل مشقة يف حدود طاقته يف سبيل ما يرتتب له من مصاحل؛ كالطبيب الذي لزم‬
‫املريض أن يتناول الدواء املر ملا يرتتب علي تناوله من شفائه‪ ،‬فهو َيمله مرارته يف سبيل السالمة من أمراضه‪ .‬فالصالة‬
‫والزكاة والصيام وسائر ما أمر به املكلف وما هنى عنه‪ :‬يف القيام هبا نوع مشقة وصعوبة على نفس املكلف‪ ،‬ولكنها‬
‫صعوبة حمتملة ويف حدود الطاقة‪ ،‬وهي وسيلة إىل غاية ومصاحل البد لإلنسان منها الستقامة حياته‪ .‬والشارع ما أراد‬
‫إيالم املكلف وحتميله املشقات‪ ،‬وإمنا أراد إصالح حاله ‪ ،‬كما أن الطبيب ما أراد إيالم املريض مبرارة الدواء وإمنا أرد‬
‫شفاءه‪.‬‬

‫النوع الثاين‪ :‬مشقة خارجة عن معتاد الناس وال ميكن أن يداوموا على احتماهلا ‪ ،‬ألهنم إذا داوموا عليها انبتوا‬ ‫•‬
‫وانقطعوا وانهلم الضرر واألذى يف أنفسهم قيام الليل‪ ،‬والرتهب ‪ ،‬والصيام قائماً يف الشمس‪ ،‬واحلج ماشيا‪ ،‬والتزام‬
‫العزمية يف حال الرتخيص برتكها مهما حلق من ضرر‪ .‬فهذه املشقة ال يكلف الشارع بتكاليف تالبسها‪ ،‬وال يلزم‬
‫املكلف ابحتماهلا‪ ،‬ألن املقصد األول رفع الضرر عن الناس‪ ،‬ويف التكليف مبا فيه من هذا النوع من املشقة إضرار‬
‫ابلناس وتكليفهم مبا ليس يف وسعهم‪ ،‬وقد شعر هللا أحاكم الرخص عند طروء األعذار دفعا هلذا النوع من املشقة‪ ،‬فما‬
‫أابح هللا الفطر يف رمضان ملن كان مريضا أو على سفر‪ ،‬وما أابح التيمم عند عدم املاء‪ ،‬أو حال املرض‪ ،‬وما أابح‬
‫احملظورات عند الضرورات أو احلجات‪ ،‬إال لدفع هذه املش ّقات‪ ،‬فال يصح أن يكلف املكلف أبحكام فيها مشقات‬
‫قد قصد الشارع دفعها‪.‬‬

‫فاملشقة اليت من هذا النوع إذا كان جيلبها نفس العمل املكلف به فقد دفعها هللا بتشريع الرخص‪ ،‬وإذا كان جيلبها املكلف على‬
‫نفسه إبرادته فقد هناه هللا عن ذلك وحرمه عليه‪ ،‬وهلذا هنى الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬عن صوم الوصال‪ ،‬وعن قيام الليل‬
‫كله وعن الرتهيب‪ ،‬وقال‪" :‬أما وهللا إين ألخشاكم هلل وأتقاكم؛ ولكين أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن‬
‫سنيت فليس مين"‪ .‬وقال مل ن نذر أن يصوم قائما يف الشمس‪" :‬أمت صومك وال تقم يف الشمس" ‪ .‬وقال "خذوا من األعمال ما‬
‫تطيقون"‪ ،‬و "القصد القصد تبلغوا" ‪" ،‬هلك املتنطعون" ‪" ،‬إن هذا الدين متني فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحدا إال غلبه" ‪،‬‬
‫"إن املنبت ال أرضاً قطع وال ظهرا أبقى" ‪ .‬وحكم إبمث من ترك الرخص واستمسك ابلعزمية حمتمال ما فيها من ضرر وقال ‪" :‬ليس‬
‫‪192‬‬
‫من الرب الصيام يف السفر"‪ ،‬وقال‪" :‬إن هللا َيب أن تؤتى رخصه كما َيب أن تؤتى عزائمه"‪.‬‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪133‬‬ ‫‪192‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫القسم الرابع‪ :‬احملكوم عليه‬

‫احملكوم عليه‬
‫هو املكلف الذي تعلق حكم الشارع بفعله‬
‫ويشرتط يف املكلف لصحة تكليفه شرعا شرطان‪:‬‬
‫أن يكون قادرا على فهم دليل التكليف‪،‬‬ ‫أحدمها‬
‫أبن يكون يف استطاعته أن يفهم النصوص القانونية اليت يكلف هبا من القرآن والسنة بنفسه أو ابلواسطة‪ ،‬ألن من مل‬
‫يستطيع فهم دليل التكليف ال ميكنه أن ميتثل ما كلف به وال يتجه قصده إليه والقدرة على فهم أدلة التكليف إمنا‬
‫تتحقق ابلعقل وبكون النصوص اليت يكلف هبا العقالء يف متناول عقوهلم فهمها‪ ،‬ألن العقل هو أداة الفهم واإلدراك‪،‬‬
‫وبه تتوجه اإلرادة إىل االمتثال‪ .‬وملا كان العقل أمرا خفيا ال يدرك ابحلس الظاهر‪ ،‬ربط الشارع التكليف أبمر ظاهر‬
‫يدرك ابحلس هو مظنة للعقل وهو البلوغ‪ ،‬فمن بلغ احللم من غري أن تظهر عليه أعراض خلل بقواه العقلية فقد‬
‫توافرت فيه القدرة على أن يكلف‪.‬‬
‫وعلى هذا ال يكلف اجملنون وال الصيب لعدم وجود العقل الذي هو وسيلة فهم دليل التكليف‪ ،‬وال يكلف الغافل‬
‫والنائم والسكران ألهنم يف حال الغفلة أو النوم أو السكر ليس يف استطاعتهم الفهم‪ .‬وهلذا قال رسول هللا ‪ -‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪" -‬رفع القلم عن ثالثة‪ :‬النائم حىت يستيقظ‪ ،‬وعن الصيب حىت َيتلم‪ ،‬وعن اجملنون حىت يعقل"‪ ،‬وقال عليه‬
‫السالم‪" :‬من انم عن صالة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها"‪.‬‬
‫وأما إجياب الزكاة والنفقة والضمان على الصيب واجملنون فليس تكليفا هلما‪ ،‬وإمنا هو تكليف الويل عليهما أبداء احلق‬
‫املايل املستحق يف ماهلما‪ ،‬كأداء ضريبة أطياهنما وأمالكهما‪.‬‬
‫ىت تَـ ْعلَ ُمواْ َما تَـ ُقولُو َن } [النساء‪ ،]43 :‬فليس‬ ‫َّ ِ‬
‫الصالََة َوأَنتُ ْم ُس َك َارى َح ََّ‬
‫ين َآمنُواْ الَ تَـ ْقَربُواْ َّ‬
‫وأما قوله تعاىل‪َ { :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫تكليفا للسكارى حىت سكرهم أبن ال يقربوا الصالة‪ ،‬وإمنا هو تكليفا للسكارى حني سكرهم أبن ال يقربوا الصالة‪،‬‬
‫وإمنا هو تكليف للمسلمني يف حال صحوهم أن ال يشربوا اخلمر إذا دان وقت الصالة حىت ال يقربوا الصالة وهم‬
‫سكارى‪ ،‬فكأنه سبحانه قال‪ :‬إذا دان وقت الصالة فال تشربوا اخلمر‪ ،‬وأما إيقاع طالق السكران على مذهب احلنفية‬
‫هو عقاب له على سكره‪ ،‬وهلذا شرطوا أن يكون جانياً بسكره أبن شرب حمرما طائعا‪.‬‬

‫وأما من ال يعرفون اللغة العربية وال يستطيعون فهم أدلة التكليف الشرعية من القرآن والسنة‪ ،‬كالياابنيني واهلنود‬
‫واجلاويني وغريهم فهؤالء ال يصح تكليفهم شرعاً إال إذا تعلموا اللغة العربية واستطاعوا أن يفهموا نصوصا‪ ،‬أو ترمجت‬
‫أدلة التكليف الشرعية إىل لغتهم‪ ،‬حبيث يستطيعون أن جيدوا كتااب دينيا بلغتهم يبني هلم ما يكلفهم به اإلسالم‪ ،‬أو‬
‫قامت طائفة بتعلم لغات هذه األمم اليت ال تعرف اللغة العربية ونشرت بينهم تعاليم اإلسالم وأدلته التكليفية خماطبة‬
‫هلم بلغتهم‪ ،‬وهذا الطريق الثالث هو الطريق القومي؛ ألن الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يف خطبته يوم حجة الوداع‬
‫أشهد هللا أنه بلغ رسالته‪ ،‬وأمر املسلمني أن يبلغ منهم الشاهد الغائب؛ والشاهد يشمل كل من اهتدى إىل اإلسالم‬
‫وعرف أحكامه‪ ،‬والغائب يشمل كل من مل يعرف لغة القرآن ومل يستطع فهم آايته‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فأما إذا ترك هذا الغائب على حالة ال يعرف لغة القرآن وال يستطيع أن يفهم دالئله‪ ،‬وال ترمجت آايته إىل لغته‪ ،‬وال‬
‫قام أحد يعرف لغة القرآن بتعليمه ما يكلف به ابللغة اليت يفهمها؛ فهو شرعا غري مكلف‪ ،‬ألن هللا ال يكلف نفسها‬
‫إال وسعها‪ ،‬وهلذا قال هللا تعاىل يف سورة إبراهيم‪ { :‬وما أَرسلْنَا ِمن َّرس ٍ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ول إِالَّ بِل َسان قَـ ْومه ليُـبَِّ َ‬
‫ني َهلُْم } [إبراهيم ‪]4:‬‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ َ‬

‫أن يكون أهال ملا كلف به‪.‬‬ ‫اثنيهما‬


‫واألهلية معنا ها يف اللغة‪ :‬الصالحية‪ ،‬يقال فالن أهل للنظر على الوقف أي صاحل له‪.‬‬
‫وأما يف اصطالح األصوليني فاألهلية تنقسم إىل قسمني‪ :‬أهلية وجوب‪ ،‬وأهلية أداء‪.‬‬

‫فأهلية الوجوب‪ :‬هي صالحية اإلنسان ألن تثبت له حقوق وجتب عليه واجبات‪ ،‬وأساسها اخلاصة اليت‬ ‫•‬
‫خلق هللا عليها اإلنسان واختصه هبا من بني أنواع احليوان‪ ،‬وهبا صلح ألن تثبت له حقوق وجتب عليه‬
‫واجبات‪ ،‬وهذه اخلاصة هي اليت مساها الفقهاء الذمة‪ ،‬فالذمة هي الصفة الفطرية اإلنسانية اليت به ثبتت‬
‫لإلنسان حقوق قبل غريه‪ ،‬ووجبت عليه واجبات لغريه‪.‬‬
‫أهلية األداء‪ :‬فهي صالحية املكلف ألن تعترب شرعا أقواله وأفعاله‪ ،‬حبيث إذا صدر منه عقد أو تصرف‬ ‫•‬
‫كان معتربا شرعا وترتبت عليه أحكامه‪ ،‬وإذا صلى أو صام أو حج أو فعل أي واجب كان معتربا شرعا‬
‫ومسقطا عنه الواجب ‪ ،‬وإذا جىن على غريه يف نفس أو مال أو عرض أخذ جبنايته وعوقب عليها بدنيا‬
‫ومالياً فأهلية األداء هي املسئولية وأساسها يف اإلنسان التمييز ابلعقل‪.‬‬

‫حاالت اإلنسان ابلنسبة ألهلية الوجوب‪:‬‬


‫اإلنسان ابلنسبة ألهلية الوجوب له حالتان اثنتان فقط‪:‬‬

‫‪ .1‬فقد تكون له أهلية وجوب انقصة‬

‫إذا صلح ألن تثبت له حقوق‪ ،‬ال ألن جتب عليه واجبات‪ ،‬أو العكس‪ ،‬ومثلوا لألول ابجلنني يف بطن أمه فإنه‬
‫تثبت له حقوق ألنه يرث ويوصى له ويستحق يف ربع الوقف ولكن ال جتب عليه لغريه واجبات‪ ،‬فأهلية‬
‫الوجوب الثابتة له انقصة‪ ،‬ومثلوا للثاين ابمليت‪ ،‬إذا مات مدنيا فإنه تبقى عليه حقوق دائنيه‪ ،‬بل إن بعض‬
‫الفقهاء اعترب للميت بعد موته أهلية وجوب كاملة‪ ،‬إذا مات دائنا ومدنيا فتكون له حقوق على مدينيه‪ ،‬وعليه‬
‫حقوق لدائنيه‪ ،‬وهذا كالم ال وجه له ‪ ،‬واحلق أن املوت قضى على خاصة اإلنسان‪ ،‬فليست له ذمة أو أهلية‬
‫وجوب كاملة وال انقصة‪ ،‬وأما مطالبة مدينيه مبا عليهم من الديون فألهنا صارت حقا للورثة‪ ،‬والورثة خلفوا‬
‫مورثهم فيما كان له‪ ،‬وفيما كان عليه يف حدود ما تركه‪ ،‬وبعبارة أخرى ورثوا ماله من ديون على غريه ن وآلت‬
‫إليهم تركته مشغولة بديون لغريه‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫‪ .2‬وقد تكون له أهلية وجوب كاملة‬

‫إذا صلح ألن تثبت له حقوق وجتب عليه واجبات‪ ،‬وهذه تثبت لكل إنسان من حني والدته‪ ،‬فهو يف طفولته‬
‫ويف سن متييزه وبعد بلوغه‪ ،‬على أية حال كان يف أي طور من أطوار حياته له أهلية وجوب كاملة‪ .‬وكما قدمنا‬
‫‪193‬‬
‫ال يوجد إنسان عدمي أهلية الوجوب‪.‬‬

‫حاالت اإلنسان ابلنسبة ألهلية األداء‪:‬‬


‫اإلنسان ابلنسبة ألهلية األداء له حاالت ثالث‪:‬‬

‫قد يكون عدمي األهلية لوداء أصال‪ ،‬أو فاقدها أصال‪.‬‬ ‫•‬

‫وهذا هو الطفل يف زمن طفولته ‪ ،‬واجملنون يف أي سن كان‪ .‬فكل منهما لكون ال عقل له ال أهلية أداء‬
‫له‪ ،‬ولك منهما ال ترتتب عليه آاثر شرعية على أقواله وال على أفعاله‪ ،‬فعقوده وتصرفاته ابطلة‪ ،‬غاية‬
‫األمر إذا جىن أحدمها على نفس أو مال يؤاخذ ماليا ال بدنيا‪ ،‬فإن قتل الطفل أو اجملنون أو أتلف مال‬
‫غريه ضمن دية القتيل أو ما أتلفه‪ ،‬ولكنه ال يقتص منه‪ ،‬وهذا معىن قول الفقهاء‪" :‬عمد الطفل أو اجملنون‬
‫خطأ"‪ ،‬ألنه مادام ال يوجد العقل ال يوجد القصد فال يوجد العمد‪.‬‬

‫وقد يكون انقص األهلية لوداء‪:‬‬ ‫•‬

‫وهو املميز الذي مل يبلغ احللم‪ ،‬وهذا يصدق على الصيب يف دور التمييز قبل البلوغ‪ ،‬ويصدق على املعتوه‪،‬‬
‫فإن املعتوه ليس خمتل العقل وال فاقده ولكنه ضعيف العقل انقصة‪ ،‬فحكمه حكم الصيب املميز‪ .‬وكل‬
‫منهما لوجود وثوب أصل أهلية األداء له ابلتمييز تصح تصرفاته النافعة له نفعا حمضا‪ ،‬كقبوله اهلبات‬
‫والصدقات بدون إذن وليه‪.‬‬
‫وأما تصرفاته الضارة له ضررا حمضا‪ ،‬كتربعاته‪ ،‬وإسقاطاته‪ ،‬فال تصح أصال ولو أجارها وليه‪ ،‬فهبته‪،‬‬
‫ووصيته ووقفه وطالقه وإعتاقه كل هذه ابطلة وال تلحقها إجازة وليه‪ .‬وأما تصرفاته الدائرة بني النفع له‬
‫والضرر به‪ ،‬فتصح منه ولكنها تكون موقوفة على إذن وليه هبا‪ ،‬فإن جاز وليه العقد أو التصرف نفذ‪،‬‬
‫وإن مل جيزه بطل‪.‬‬
‫فصحة أصل هذه العقود والتصرفات من املميز أو املعتوه مبينة على ثبوت أصل أهلية األداء له‪ ،‬وعلها‬
‫موقوفة على إذن أويل مبىن على نقص هذه األهلية‪ ،‬فإذا انضم إذن الويل أو إجازته إىل التصرف جرب‬
‫هذا النقص فاعترب العقد أو التصرف من ذي أهلية كاملة‪.‬‬

‫وقد يكون كامل األهلية لوداء‪:‬‬ ‫•‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪132‬‬ ‫‪193‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫وهو من بلغ احللم عاقال‪ .‬فأهلية األداء الكاملة تتحقق ببلوغ اإلنسان عقاال‪ .‬واألصل أن أهلية األداء‬
‫ابلعقل ولكنها ربطت ابلبلوغ ألن البلوغ مظنة العقل‪ ،‬واألحكام تربط بعلل ظاهرة منضبطة‪ ،‬فالبالغ سواء‬
‫كان بلوغه ابلسن أو ابلعالمات يعترب عاقال وأهال لألداء كامل األهلية ما مل يوجد ما يدل على اختالل‬
‫عقله أو أنقصه‪.‬‬

‫عوارض األهلية‪:‬‬

‫ق ّدمنا أن أهلية الوجوب تثبت لإلنسان‪ ،‬وأنه وهو جنني يف بطن أمه تثبت له أهلية وجوب انقصة‪ ،‬وبعد والدته تثبت‬
‫له أهلية وجوب كاملة يف طفولته ويف سن متييزه وبعد بلوغه ويف نومه ويقظته ويف جنونه وإفاقته‪ ،‬ويف رشده وسفهه‪،‬‬
‫وما دام حيا ال يعرض هلذه األهلية ما يزيلها أو ينقصان‪.‬‬

‫وأما أهلية األداء فقد قدمنا أهنا ال تثبت لإلنسان وهو جنني قبل أن يولد‪ ،‬وال هو طفل مل يبلغ السابعة‪ ،‬وأنه من سن‬
‫التمييز أي بعد السابعة إىل سن البلوغ أي مخس عشرة سنة تثبت له أهلية أداء انقصة ‪ ،‬وهلذا تصح بعض تصرفاته‬
‫وال يصح بعضها‪ ،‬ويتوقف بعضها على إذن الويل أو إجازته‪ .‬وإنه من سن بلوغه احللم تثبت له أهلية أداء كاملة غري‬
‫أن هذه األهلية قد تعرض هلا عوارض‪ ،‬منها ما هو عارض مساوي ال كسب لإلنسان فيه وال اختيار‪ ،‬كاجلنون والعته‬
‫والنسيان‪ ،‬ومنها ما هون عارض كسيب يقع بكسب اإلنسان واختياره كالسكر والسفه والدين‪.‬‬

‫وهذه العوارض اليت تعرض ألهلية األداء‪:‬‬


‫• منها ما يعرض لإلنسان فيزيل أهليته لألداء أصال كاجلنون والنوم واإلغماء‪ ،‬فاجملنون والنائم واملغمي‬
‫عليه ليس لواحد منهم أهلية أداء أصال‪ ،‬وال ترتتب على تصرفاته آاثرها الشرعية‪ ،‬وما وجب على‬
‫اجملنون مبقتضى أهليته للوجوب من واجبات مالية يؤديها عنه وليه ‪ ،‬وما وجب على النائم واملغمى‬
‫عليه مبقتضى أهليتهما للوجوب من واجبات بدنية أو مالية يؤديها كل منهما بعد يقظته أو إفاقته‪.‬‬
‫منها ما يعرض لإلنسان فيقض أهليته لألداء وال يزيلها كالعته‪ ،‬وهلذا صحت بعض تصرفات املعتوه‬ ‫•‬
‫دون بعضها كالصيب املميز‬
‫ومنها ما يعرض لإلنسان فال يؤثّر يف أهليته ال إبزالتها وال بنقصها‪ ،‬ولكن يغري بعض أحكامه‬ ‫•‬
‫العتبارات ومصاحل قضت هبذا التغيري‪ ،‬ال لفقد أهلية أو نقصها كالسفه‪ ،‬والغفلة‪ ،‬والدين‪ ،‬فكل‬
‫من السفيه وذي الغفلة ابلغ عاقل له أهلية أداء كاملة‪ ،‬ولكن حمافظة على مال كل منهما من‬
‫الضياع‪ ،‬ومنعا من أن يكون كل منهما عالة على غريه حجر عليهما يف التصرفات املالية فال تصح‬
‫معاوضة مالية‬
‫منهما‪ ،‬وال تربعات مالية‪ ،‬ال لفقد أهليتهما‪ ،‬أو نقصها‪ ،‬ولكن حمافظة على ماهلما‪.‬‬ ‫•‬

‫وكذلك املدين ابلغ عاقل له أهلية أداء كاملة‪ ،‬ولكن حمافظة على دائنيه حجر عليه أن يتصرف يف ماله مبا يضر حبقوق‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الدائنني كالتربعات‪.‬‬

‫فأهلية األداء أساسها التمييز ابلعقل‪ ،‬وأمارة العقل البلوغ‪ ،‬فمن بلغ عاقال فأهليته لألداء كاملة‪.‬‬
‫وإذا طرأ عليه طارئ ذهب بعقله كاجلنون‪ ،‬أو أضعفه كالعته‪ ،‬أو حال دون فهمه كالنوم واإلغماء‪ ،‬فهذا الطارئ‬
‫عارض له أتثري يف أهلية األداء إبزالتها أو بنقصها‪.‬‬
‫وإذا طرأ على اإلنسان طارئ مل يذهب بعقله ومل يضعفه ومل َيل دون فهمه‪ ،‬فهذا الطارئ ال أتثري له يف أهلية األداء ال‬
‫إبزالة وال بنقص‪ ،‬وإن كان يقضي بتغري بعض األحكام ملصاحل اقتضت هذا التغري‪ ،‬كالسفه والغفلة والدين‪ .‬وهلذا ال‬
‫يرى اإلمام أبو حنيفة احلجر بواحد من هذه الثالثة‪ ،‬ألنه ال أتثري لواحد منها يف أهلية اإلنسان‪ ،‬ويرى أن املصاحل اليت‬
‫‪194‬‬
‫ترتتب على احلجر هبا ال توازن ابلضرر الذي يلحق اإلنسان من احلجر عليه واعتباره غري أهل‪.‬‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪139-132‬‬ ‫‪194‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫املبحث الثالث ‪ :‬القواعد األصولية اللغوية‬

‫االستنباط من النصوص‬

‫االستنباط من النصوص‪:‬‬
‫ويكون االستنباط من نصوص الكتاب الكرمي‪ ،‬ومن نصوص السنة النبوية املطهرة؛ ذلك َّ‬
‫أن األدلة الشرعية قسمان‪:‬‬
‫املطهرة‪.‬‬
‫نصوص‪ :‬كالكتاب الكرمي‪ ،‬والسنة النبوية َّ‬ ‫‪1‬‬
‫غري نصوص‪ :‬كالقياس واالستحسان؛ ألهنا ذاهتا ُمستنبطة من النصوص‪ ،‬ومشتقة منها‪ ،‬ومعتمدة عليها‬ ‫‪2‬‬
‫الطرق قسمان‪:‬‬
‫بطرق االستنباط من النصوص‪ ،‬وجيمع تلك َ‬‫وال بد للفقيه من معرفة ُ‬
‫ِ‬
‫وهي االستدالل من غري النُّصوص؛ كالقياس‪ ،‬واالستحسان‪ ،‬واملصاحل‪ ،‬والذرائع‪ ،‬وغري‬ ‫طرق معنوية‪:‬‬ ‫األول‪:‬‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وقواعد معرفة معاين ألفاظ النصوص‪ ،‬وما تدل عليه يف عمومها وخصوصها‪ ،‬وطريق الداللة‬ ‫طرق لفظيَّة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الثاين‬
‫ابملنطوق اللفظي للنص‪ ،‬أم هي من طريق املفهوم الذي يؤخذ من فحوى الكالم‪ ،‬ومعرفة‬
‫اشتملت عليها العبارات‪ ،‬مث ما يفهم من األلفاظ أهو ابلعبارة‪ ،‬أم هو ابإلشارة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫القيود اليت‬
‫تصدت له طرق االستنباط اللفظي‪ ،‬ويتضح ذلك من خالل ما يلي‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫إىل غري ذلك مما‬
‫املباحث اللفظيَّة‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليما ابللّسان العريب‪ ،‬ومدرًكا ملرامي‬
‫إن النصوص اإلسالمية هي نصوص عربية‪ ،‬فال بد لفهمها واالستنباط منها أن يكو َن املستنبط ً‬
‫أحياان‪ ،‬وتعبري ابجملاز يف أخرى‪ ،‬ومدى الداللة يف كل طريق من طرق األداء؛ َّ‬
‫ألن هذه‬ ‫العبارات فيه‪ ،‬وطرق األداء؛ من تعبري ابحلقيقة ً‬
‫املعرفة هلا مداها يف فهم النُّصوص‪ ،‬وتبيني األحكام منها‪.‬‬
‫والقواعد اليت من خالهلا تُفهم النصوص وتُستنبط األحكام التكليفية منها‪ ،‬قسمان‪:‬‬
‫املطهرة‪.‬‬
‫السنَّة والنبويَّة َّ‬
‫والفهم العريب هلذه النصوص ابلنسبة للقرآن الكرمي‪ ،‬و ُّ‬ ‫املدلوالت اللغوية‬ ‫أ‬
‫ِ‬
‫املطهرة م ْن أحكام النُّصوص‬
‫السنَّة النبوية َّ‬
‫يف بيان أحكام القرآن الكرمي‪ ،‬وجمموع ما تُبينه ُّ‬ ‫ما هنجه الرسول ‪-‬‬ ‫ب‬
‫صلى هللا عليه وسلم‬
‫والقواعد اللغويَّة تتَّجه يف أربع نو ٍاح‪:‬‬
‫األلفاظ ِم ْن انحية وضوحها وقوة داللتها يف املقصود منها‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫طرق هذه الداللة‪ ،‬أهي بصريح العبارة أم ابإلشارة ولوازم املعىن؟ أم هي ابملنطوق أم ابملفهوم؟‬ ‫حيث ُ‬
‫من ُ‬ ‫‪2‬‬
‫من حيث ما تشتمل عليه األلفاظ‪ ،‬ومدى ما تدل عليه من عموم أو خصوص‪ِ ،‬‬
‫وم ْن تقييد أو إطالق‬ ‫‪3‬‬
‫من انحية صيغ التكاليف‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فطريقة االستنباط من النص ‪ ،‬أوالا برتتيب اجلمهور واثنيا برتتيب احلنفية‪:‬‬


‫طرق االستنباط من النص عند اجلمهور‪.‬‬ ‫الفصل األول‪:‬‬
‫طرق االستنباط من النص عند احلنفية‬ ‫الفصل الثاين‪:‬‬

‫الفصل األول‪ :‬طرق االستدالل من النص عند اجلمهور‪:‬‬

‫تقسيم اجلمهور‬

‫املفهوم‬ ‫املنطوق‬

‫املخالفة‬ ‫املوافقة‬ ‫غري صريح‬ ‫صريح‬

‫الصفة‬ ‫مفهوم مساوي‬ ‫مفهوم أولوي‬ ‫نص‬


‫داللة إقتضاء‬

‫الشرط‬ ‫ظاهر‬
‫(حلن خلطاب)‬ ‫(فحوى خلطاب)‬
‫داللة إمياء‬
‫جممل‬
‫العدد‬
‫داللة إشارة‬
‫التقسيم‬ ‫مؤول‬

‫القصر‬
‫ﺍ‬
‫ﺍ‬
‫الغاية‬
‫ﺍ‬
‫العلة‬

‫اللقلب‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫للجمهور يف االستدالل من النص طريقتان ومها‪:‬‬


‫االستدالل ابملنطوق‪.‬‬ ‫املبحث األول‬
‫االستدالل ابملفهوم‬ ‫املبحث الثاين‬

‫والبحث يف املنطوق على وجهني‪ :‬إفرادا ‪ ،‬وتركيبا‪.‬‬ ‫املبحث األول ‪ :‬االستدالل‬


‫ابملنطوق‬
‫واملراد به داللة الكلمات املفردة من األمساء واألفعال وحروف املعاين اليت يتألف منها الكالم‬ ‫داللة املنطوق إفرادا‬
‫فالكلمة املفردة ‪ -‬امساً وفعالً وحرفاً ‪ -‬ابعتبار نوعية داللتها على معناها على أنواع عند‬
‫اجلمهور وهي‪:‬‬
‫تعريفه ‪ :‬هو اللفظ الذي ليس له إال معىن واحد معلوم حبيث أن ال يكون للفظه غري هذا‬ ‫املتباين‬ ‫(‪)1‬‬
‫املعىن ‪ ،‬وال ملعناه غري هذا اللفظ ؛ احرتازاً عن الرتادف واالشرتاك واجملاز‪.‬‬
‫ِ‬
‫اها بِ َع ْش ٍر فَـتَ َّم مْيـ َق ُ‬
‫ات‬ ‫مثاله ‪ :‬من االسم كلمة " عشر " و " أربعني " يف قوله تعاىل ‪َ :‬وأ َْمتَ ْمنَ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ني لَْيـلَةً ? (األعراف‪)142/‬‬ ‫َربِّه أ َْربَع ْ َ‬
‫ت"‬
‫ت َوَرتَـ َع ْ‬‫ت َوَابلَ ْ‬ ‫س فَـثَـلَطَ ْ‬ ‫َّم ِ‬ ‫ني الش ْ‬
‫ت َع ْ َ‬ ‫استَـ ْقبَـلَ ْ‬
‫ومن الفعل ‪ :‬كلمة "ثلطت" يف حديث ‪ْ " :‬‬
‫البخاري [‪1396‬‬
‫ط ِ ِ‬ ‫ك " يف قوله تعاىل‪َ :‬ويْ َكأ َّ‬
‫الرْز َق ل َمن يَّ َشاءُ‬ ‫َن هللاَ يَـْب ُس ُ ّ‬ ‫ومن احلرف كلمة " َو ْي " أو " َويْ َ‬
‫ف بِنَا َويْ َكأَنَّهُ الَ يـُ ْفلِ ُح الْ َكافُِرْو َن (القصص‪)82/‬‬ ‫ِ‬
‫َويَـ ْقد ُر لَ ْو الَ أَن َّم َّن هللاُ َعلَيْـنَا َخلَ َس َ‬
‫ازدج ْر عن فعلك‪.‬‬ ‫وهي كلمة تقال للرجوع عن املكروه واحملذور ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬تَـنَـبَّه ‪ ,‬و ِ‬
‫ْ‬
‫داللته ‪ :‬داللته قطعية على معناه إن خال عن الغرابة‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬والرتادف أن يتعدد اللفظ ملعىن واحد ابعتبار واحد‪.‬‬ ‫املرتادف‬ ‫(‪)2‬‬
‫مثاله ‪ :‬من االسم كلمة " الرب" يف حديث ‪ " :‬ال ُُّ ِ‬
‫ْرب ِرابً إالَّ َهاءَ َوَهاءَ "البخاري[‪]2062‬‬ ‫ْرب ابل ُِّ‬
‫فإهنا ترادف القمح واحلنطة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ومن الفعل كلمتا البعث واإلرسال يف قوله تعاىل ‪َ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا يف ُك ِّل أ َُّمة َّر ُس ْوالً أَن ْاعبُ ُدوا هللاَ‬
‫ِ‬
‫ك (الرعد‪.)38/‬‬ ‫(النحل‪ ، )36/‬و? َولََق ْد أ َْر َسلْنَا ُر ُسالً ِّم ْن قَـْبل َ‬
‫ومن احلرف " الباء " فإهنا ترادف " الالم " يف إفادة معىن السببية والتعليل ‪ ،‬حنو ‪َ :‬والَّ ِذيْ َن‬
‫س‬ ‫َك َّذبـوا ِآبايتِنَا ميََ ُّسهم الْع َذاب ِمبَا َكانُوا يـ ْفس ُقو َن (األنعام‪ ، )49/‬و وما خلَ ْق ِ‬
‫ت ا ْجل َّن َواإلنْ َ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫ُُ َ ُ‬ ‫ُْ َ‬
‫إالَّ لِيَـ ْعبُ ُد ْو ِن (الذارايت‪)56/‬‬
‫داللته ‪ :‬داللته قطعية على معناه إن خال عن الغرابة‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬جيوز إطالق كل واحد من املرتادفني على اآلخر إن مل يكن هناك مانع‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬هو اللفظ الذي وضع أبوضاع متعددة ملعان متعددة ومتضادة ‪ ،‬واستمر مستعمالً يف‬ ‫املشرتك‬ ‫(‪)3‬‬
‫مجيع معانيه على السواء حقيقةً ‪ ,‬حبيث ال يرتجح أحدها لدى السامع عند اإلطالق يف‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫عموم األحوال‪.‬‬
‫ص َن ِأبنْـ ُف ِس ِه َّن ثَالَثَةَ قُـُرْوٍء‬ ‫ات يَََرتبَّ ْ‬ ‫مثاله ‪:‬من االسم لفظ " القرء " يف قوله تعاىل‪َ :‬وال ُْمطَلَّ َق ُ‬
‫(البقرة‪ )228/‬فإنه مشرتك بني الطهر واحليض‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ومن الفعل لفظ " يظنون " فإنه يف قوله تعاىل‪ :‬الذيْ َن يَظُنـ ُّْو َن أهنُم ُّمالَقُـ ْوا َرّهب ْم (البقرة‪)46/‬‬
‫ك ِم ْن ِعلْ ٍم إ ْن ُه ْم إالَّ يَظُنـ ُّْو َن (اجلاثية‪ )24/‬مبعىن‬ ‫ِ‬
‫مبعىن اليقني ‪ ،‬ويف قوله تعاىل ‪َ :‬وَما َهلُْم بِ َذل َ‬
‫الوهم والتخمني‪.‬‬
‫الصيَ َام إِىل اللَّْي ِل (البقرة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومن احلرف حرف (إىل) فإهنا النتهاء الغاية الزمانية حنو ‪ُ :‬مثَّ أَمتُّْوا ّ‬
‫‪)187/‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أسرى بِ َعْبده لَْيالً ِّم َن ال َْم ْسجد ا ْحلََرِام إىل ال َْم ْسجد األقْصى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واملكانية حنو ‪ُ :‬سْب َحا َن الَّذ ْي ْ‬
‫(اإلسراء‪)1/‬‬
‫ْف أ َْو يَِزيْ ُد ْو َن (الصافات‪)147/‬‬ ‫والعددية حنو ‪ :‬وأرس ْلنَاه إِىل ِمائَِة أَل ٍ‬
‫ََْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّه َادة فَـيُـنَـبّئُ ُك ْم مبَا ُكنْـتُ ْم تَـ ْع َملُ ْو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ولغاية االسرتداد حنو ‪ُ :‬مثَّ تـَُرد ُّْو َن إىل َعامل الْغَْيب َوالش َ‬
‫(التوبة‪)94/‬‬
‫ولغاية الرجوع حنو‪ :‬أالَ إىل هللا تَص ْ ُري األ ُُم ْوُر (الشورى‪ )53/‬ولغاية اإليصال ‪ ،‬وهي أن يكون‬ ‫ِ‬
‫املقصود هبا إيصال شيء ما إىل شيء ما حبيث يكون الثاين هو الغاية ومنتهى الوصول لألول‬
‫ت َعلَيْ ِه َعاكِفاً (طه‪ )97/‬أي أوصل نظرك إىل إهلك حىت‬ ‫حنو ‪ :‬وانْظُر إىل إهلِ ِ‬
‫ك الَّذ ْي ظَلْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫يكون هو املنتهى لوصول نظرك لالتعاظ‪.‬‬
‫س ِمبَا َكانـُ ْوا يَـ ْف َعلُ ْو َن‬ ‫ِ‬ ‫وحنو ‪َ :‬وأ ُْو ِح َي إىل نُـ ْو ٍح أَنَّهُ لَن يـُ ْؤِم َن ِم ْن قَـ ْوِم َ‬
‫ك إالَّ َم ْن قَ ْد َآم َن فَالَ تَـْبـتَئ ْ‬
‫اظَرةُ ِِبَ يَـ ْرِج ُع ال ُْم ْر َسلُ ْو َن (النمل‪)35/‬‬ ‫(هود‪ )36/‬و وإِِين مرِسلَةٌ إِلَي ِهم ِهب ِديٍَّة فَـنَ ِ‬
‫ْ ْ َ‬ ‫َ ّْ ُ ْ‬
‫فـ" إىل " مشرتكة ابلنظر إىل نوعيات خمتلفة للغاية كاختالف نوعيات " السجدة " يف قوله‬
‫َن هللا يسج ُد لَه من ِيف َّ ِ‬
‫ُّج ْوُم‬
‫س َوالْ َق َمُر َوالن ُ‬ ‫َّم ُ‬ ‫ض َوالش ْ‬ ‫يف األ َْر ِ‬ ‫السموت َوَم ْن ِ ْ‬ ‫تعاىل ‪ :‬أ َملْ تَـَر أ َّ َ ْ ُ ُ َ ْ ْ‬
‫َّاس (احلج‪)18/‬‬ ‫آب َوَكثِ ْريٌ ِّم َن الن ِ‬ ‫َّو ُّ‬
‫َّجُر َوالد َ‬
‫ال َوالش َ‬ ‫َوا ْجلِبَ ُ‬
‫داللته ‪ :‬داللته إمجالية يف أحوال كثرية‬
‫حكمه ‪ :‬التوقف إن خال الكالم عن قرينة البيان وعدم جواز إرادة مجيع معانيه يف نص واحد‬
‫‪ ،‬والعمل به يف حالة البيان‪.‬‬
‫تعريفه ‪ :‬هو اللفظ الذي وضع يف اللغة ألجل اإلحاطة والشمول يف مرة واحدة جلميع األفراد‬ ‫العام‬ ‫(‪)4‬‬
‫اليت يصدق عليها معناه من غري حصر يف عدد أو كمية معينة‪.‬‬
‫ِصيَـغُهُ ‪ :‬صيغ العموم كثرية فنذكر بعضاً منها‪:‬‬

‫أوالا ‪ :‬من االسم‪:‬‬


‫ِ‬
‫َّر َوا ْخلَِْري فْتـنَةً َوإِلَْيـنَا تُـ ْر َج ُع ْو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ذَائ َقةُ ال َْم ْوت َونَـْبـلُ ْوُك ْم ِابلشِّ‬
‫(‪ )1‬كل ‪ ،‬حنو قوله تعاىل‪ُ :‬ك ُّل نَـ ْف ٍ‬
‫(األنبياء‪)35/‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضُرْو َن‬‫صْي َحةً َّواح َد ًة فَإ َذا ُه ْم َمجْي ُع لَّ َديْـنَا ُْحم َ‬ ‫ت إالَّ َ‬ ‫(‪ )2‬مجيع ‪ ،‬حنو قوله تعاىل? ‪ :‬إِ ْن َكانَ ْ‬
‫(يس‪.)53/‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الس ْل ِم َكافٍَّة والَ تَـتَّبِعوا خطُو ِ‬


‫ات‬ ‫(‪ )3‬كافة ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪ :‬اي أَيُّـها الَّ ِذين آمنُـوا ْادخلُوا ِ ِ‬
‫َ ُْ ُ َ‬ ‫يف ّ‬ ‫َ َ َْ َ ْ ُ ْ ْ‬
‫ان (البقرة‪)208/‬‬ ‫الشَّيطَ ِ‬
‫ْ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم أ ْن تَـنْـ ُف ُذ ْوا ِم ْن أَقْطَارِ‬
‫ْ‬
‫س إنِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )4‬معشر ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪َ :‬اي َم ْع َشَر ا ْجل ّن َواإلنْ‬
‫ٍ‬
‫ض فَانْـ ُف ُذ ْوا الَ تَـنْـ ُف ُذ ْو َن إالَّ بِ ُسلْطَان (الرمحن‪)33/‬‬‫األر ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫السموت َو ْ‬
‫ض َها َعلَى َرأ ِْس ِه ‪ُ ،‬مثَّ‬ ‫(‪ )5‬سائر‪ ،‬حنو حديث جابر ‪َ " :‬كا َن النَِّيب أيخ ُذ ثَالَثَةَ أَ ُك ٍ ِ‬
‫ف ‪َ ،‬ويُفْي ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ َ ُ‬
‫ض َعلى َسائِِر َج َس ِدهِ" البخاري [‪] .253‬‬ ‫يُفْي ُ‬
‫ِ‬
‫(‪َ )6‬م ْن الشرطية ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن يُّـ ْؤِم ْن ِابهللِ يَـ ْه ِد قَـلْبَهُ (التغابن‪ , )11/‬واملوصولة‬
‫ض (األنبياء‪ , )19/‬واالستفهامية حنوقوله تعاىل ‪:‬‬ ‫الس ِ‬
‫موت َواأل َْر ِ‬ ‫حنو قوله تعاىل ‪َ :‬ولَهُ َم ْن ِيف َّ‬
‫ط ِمن َّر ْمحَِة َربِِّه إالَّ الضَّآلُّ ْو َن (احلجر‪)56/‬‬‫َوَم ْن يَّـ ْقنَ ُ‬
‫ك َهلَا (فاطر‪، )2/‬‬ ‫َّاس ِمن َّر ْمحٍَة فَالَ ممُْ ِس َ‬‫(‪ )7‬ما الشرطية ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪َ :‬ما يَـ ْفتَ ِح هللا لِلن ِ‬
‫ك َاي ُم ْوسى (طه‪ ، )27/‬واملوصولة حنوقوله تعاىل‬ ‫ك بِيَ ِمْينِ َ‬
‫واالستفهامية حنوقوله تعاىل ‪َ :‬وَما تِْل َ‬
‫ض (النحل‪)49/‬‬ ‫الس ِ‬
‫موت َواأل َْر ِ‬ ‫‪َ :‬و ¨ يَ ْس ُج ُد َما ِيف َّ‬

‫اثني ا ‪ :‬من احلروف‪:‬‬


‫حرف " أل " وهي على نوعني‪:‬‬
‫(‪ )1‬التعريف العهد ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬أن يكون عند السامع علم بشيء قد جرى ذكره ‪ ،‬أو هو‬
‫معلوم عنده ؛ فيعرفه ب " أل " داللةً على معلوميته‪.‬‬
‫اج ٍة ُّ‬ ‫حنوقوله تعاىل ‪َ :‬ك ِم ْش َكاةٍ فِيـها ِمصب ِ‬
‫ي‬ ‫اجةُ َكأ ََّهنَا َك ْوَك ٌ‬
‫ب ُد ِّر ٌّ‬ ‫الز َج َ‬ ‫اح ِيف ُز َج َ‬
‫صبَ ُ‬
‫اح الْم ْ‬
‫ْ َ َْ ٌ‬
‫(النور‪)35/‬‬
‫وهذا النوع ال يفيد العموم واالستغراق‪.‬‬
‫(‪ )2‬التعريف اجلنس وهي اليت يكون املقصود هبا إحاطة أفراد اجلنس ‪ ،‬وهي من صيغ‬
‫العموم ؛ فيصح أن خيلفها لفظ " كل " إلفادة معىن العموم ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪َ :‬و ُخلِ َق اإلنْ َسا ُن‬
‫ِ‬
‫إن ا ِإلنْ َسا َن لَِف ْي ُخ ْس ٍر (العصر‪)2/‬‬
‫ضعِْيفاً (النساء‪ )28/‬و َّ‬
‫َ‬

‫اثلثا ‪ :‬العموم املستفاد من األساليب وهي‪:‬‬


‫إله إالَّ هللا (آل عمران‪ ، )62 /‬وحنو‬ ‫(‪ )1‬النكرة يف سياق النفي ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪ :‬وما ِمن ٍ‬
‫ََ ْ‬
‫اب " البخاري[‪] .723‬‬ ‫قوله ‪ " :‬الَ صالََة لِمن َّمل يـ ْقرأْ بَِف ِاحت ِة ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫َ َ ََْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت م ْن بَـ ْعل َها نُ ُش ْوزاً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )2‬النكرة يف سياق الشرط حنوقوله تعاىل ‪َ :‬وإن ْامَرأَةٌ َخافَ ْ‬
‫آخَر (‬
‫(النساء‪ )3() .128/‬النكرة يف سياق النهي ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪َ :‬والَ تَ ْدعُ َم َع هللا إهلاً َ‬
‫القصص‪) .88/‬‬
‫ِ‬
‫(‪ )4‬النكرة يف سياق االستفهام اإلنكاري ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪َ :‬ه ْل تَـ ْعلَ ُم لَهُ َمسيًّا (مرمي‪)65/‬‬
‫ص ْوَها (ابرهيم‪ )34/‬و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املعرف إبضافة معنوية ‪ ،‬حنوقوله تعاىل‪َ :‬وإ ْن تَـ ُعد ُّْوا ن ْع َمةَ هللا الَ ُْحت ُ‬ ‫(‪َّ )5‬‬
‫يل ذَنِْ ْيب ُكلَّهُ " مسلم[‪] .483‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫قوله ‪ " :‬الل ُه َّم ا ْغف ْر ِ ْ‬
‫داللته ‪ :‬داللة العام اتبعة لقوة أداة العموم يف إفادة العموم‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫العموم‬
‫َ‬ ‫ّأوالً ‪ ،‬وصالحية قبول احملل‬
‫اثنياً ؛ فتكون قطعيةً وظنيةً ‪ ،‬وال َيكم عليها حبكم مطلق‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬جيب االعتبار ابلعموم من العام ‪ ،‬وال يصار إىل ختصيصه إال بدليل‪.‬‬
‫ختصيصه ‪ :‬والتخصيص قصر العام على بعض أفراده‪.‬‬
‫وهو جائز ابالتفاق إن اقتضى الدليل ‪ ،‬ويكون مبخصص متصل ومنفصل‪.‬‬
‫واملخصص املتصل ‪ :‬هو الكالم الذي يشتمل على معىن التخصيص إال أنه مرتبط ابلكالم‬
‫الدال على العموم ارتباطاً لو فصلناه عنه مل يستقل إبفادة معناه‪.‬‬

‫وله أربعة أنواع‪:‬‬


‫ك (األنبياء‪)87/‬‬ ‫ت ُسْب َحانَ َ‬ ‫‪ .1‬االستثناء ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪ :‬الَ إلهَ إالَّ أنْ َ‬
‫اج ُك ْم إ ْن َّملْ يَ ُك ْن َّهلُ َّن َولَ ٌد (النساء‪)12/‬‬ ‫ِ‬
‫ف َماتَـَرَك ْأزَو ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫‪ .2‬الشرط ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪َ :‬ولَ ُك ْم ن ْ‬
‫ات الْم ْؤِمنَ ِ‬
‫ات فَ ِم ْن‬ ‫‪ .3‬الصفة ‪ ،‬حنوقوله تعاىل‪ :‬ومن َّمل يستَ ِطع ِمنْ ُكم طَوالً أ ْن يـَّنْ ِكح الْمحصنَ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ََ ْ ْ َ ْ ْ ْ ْ‬
‫ات (النساء‪)25/‬‬ ‫َّما ملَ َكت أ َْميَانُ ُكم ِمن فَـتَـياتِ ُكم الْم ْؤِمنَ ِ‬
‫ْ ّْ َ ُ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫‪ .4‬الغاية ‪ ،‬حنوقوله تعاىل ‪ :‬فَإ ْن طَل َق َها فَالَ َحت ُّل لَهُ م ْن بَـ ْع ُد َح َّىت تَـنْك َح َزْوجاً َغ ْ َريهُ‬
‫(البقرة‪)230/‬‬
‫واملخصص املنفصل ‪ :‬هو الكالم الذي يشتمل على معىن التخصيص إال أنه مستقل‬
‫ومنفصل عن الكالم الذي يشتمل على العموم‪.‬‬
‫كتخصيص آية آبية أخرى ‪ ،‬أو ختصيص آية حبديث أو ختصيص حديث آبية ‪ ،‬أو‬
‫التخصيص ابلعقل ‪ ،‬أو القياس ‪ ،‬وحنوها‪.‬‬
‫املخرج من العام مبخصص متصل أو منفصل‪.‬‬ ‫تعريفه ‪ :‬واملراد ابخلاص عند اجلمهور هو َ‬ ‫اخلاص‬ ‫(‪)5‬‬
‫مثاله ‪ :‬ما خص من عموم قوله تعاىل ‪ :‬والْمطَلَّقات يرتبَّصن ِأبَنْـف ِس ِه َّن ثَالَثَة قُـروءٍ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ ُ َ ُ َََ ْ َ ُ‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه َّن (الطالق‪)4/‬‬ ‫َجلُ ُه َّن أَ ْن يَّ َ‬ ‫ت األ ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬ ‫(البقرة‪ )228/‬و بقوله تعاىل ‪َ :‬وأ ُْوالَ ُ‬
‫الرحْي ُم (البقرة‪)162/‬‬ ‫ِ‬ ‫الر ْمح ُن َّ‬ ‫ِ‬
‫وما خص يف قوله تعاىل ‪َ :‬وإِهلُ ُك ْم إلهٌ َواح ٌد الَ إِلهَ إالَّ ُه َو َّ‬
‫حكمه ‪ :‬جيب األخذ به إذا صح دليل التخصيص‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬اإلطالق أن يذكر الشيء ابمسه ‪ ،‬وال يذكر معه ما يتعلق به من صفة ‪ ،‬أو شرط ‪،‬‬ ‫املطلق‬ ‫(‪)6‬‬
‫أو عدد ‪ ،‬أو زمان ‪ ،‬أو مكان أو ما يشبه ذلك ‪ ،‬ال إثبااتً وال نفياً‪.‬‬
‫واملطلق هو الشيء الذي ذكر جمرداً عما ذكرانه‪.‬‬
‫َّم (البقرة‪ ، )173/‬وكلمة "‬ ‫مثاله ‪ :‬كلمة " الدم " يف قوله تعاىل ‪ :‬إَِّمنَا َحَّرَم َعلَْي ُك ُم ال َْمْيـتَةَ َوالد َ‬
‫اسا (اجملادلة‪ ، )4/‬وكلمة "بقرة" يف قوله‬ ‫رقبة " يف قوله تعاىل‪ :‬فَـتَ ْح ِريْـُر َرقَـبَ ٍة ِّم ْن قَـْب ِل أَ ْن يـَّتَ َم َّ‬
‫تعاىل ‪ :‬إِ َّن هللا َأي ُمُرُك ْم أَ ْن تَ ْذ َحبُ ْوا بَـ َقَرًة (البقرة‪)67/‬‬
‫داللته ‪ :‬املطلق إذا خال عن االشرتاك والغرابة املوجبني لإلمجال أفاد القطع‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬األصل يف املطلق االعتبار إبطالقه ‪ ،‬وال يصار إىل تقييده إال بدليل موجب لذلك ؛‬
‫ألنه خالف األصل‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫تعريفه ‪ :‬هو الشيء الذي ذكر ابمسه مقروانً بشيء من صفاته أو متعلقاته‪ ،‬إما إبثباهتا له أو‬ ‫املقيَّد‬ ‫(‪)7‬‬
‫نفيها عنه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل ُحمََّرماً َعلى طَاع ٍم يَّطْ َع ُمهُ‬
‫يف َما أ ُْوح َي إ َّ‬ ‫مثاله ‪ :‬كلمة " الدم " يف قوله تعاىل ‪ :‬قُ ْل الَّ أَج ُد ِ ْ‬
‫إِالَّ أَ ْن يَّ ُك ْو َن َمْيـتَةً أَْو َدماً َّم ْس ُف ْوحاً (األنعام‪ )145/‬حيث وردت مطلقة يف آية البقرة(‪173‬‬
‫‪.‬‬
‫وكلمة " رقبة " يف قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن قَـتَ َل ُم ْؤِمناً َخطَئاً فَـتَ ْح ِريْـُر َرقَـبَ ٍة ُّم ْؤِمنَ ٍة (النساء‪)92/‬‬
‫حيث وردت مطلقة يف آية(‪ )4‬من سورة اجملادلة‪.‬‬
‫َّاظ ِريْ َن (البقرة‪ )69/‬حيث‬ ‫وكلمة " بقرة " يف قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّهنَا بـ َقرةٌ ص ْفراء فَاقِع لَّوُهنَا تَسُّرالن ِ‬
‫ََ ََُ ُ ْ ُ‬
‫وردت مطلقة يف آية (‪ )67‬من سورة البقرة‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬جيب العمل ابلقيد إال إذا قام دليل على إلغائه‬
‫تعريفه ‪ :‬احلقيقة اسم لكل لفظ استعمل فيما وضع له من املعىن يف اصطالح التخاطب‪.‬‬ ‫احلقيقة‬ ‫(‪)8‬‬
‫أنواعها ‪ :‬هلا ثالثة أنواع‪:‬‬
‫‪ .1‬احلقيقة اللغوية ‪ :‬وهو اللفظ املستعمل يف معناه املوضوع له يف اللغة ‪ ،‬فال يعرف حدُّه‬
‫اف َعلَْي ِهم ِآبنِي ٍة ِمن فِض ٍَّة وأَ ْكو ٍ‬
‫اب‬ ‫ومعناه إال ابلرجوع إىل لسان العرب حنو قوله تعاىل ‪َ :‬ويُطَ ُ‬
‫َ َ‬ ‫ْ َ ّْ‬
‫اج َها َزْجنَبِْيالً ?‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬
‫ت قَـ َوا ِريْـَراْ قَـ َوا ِريْـَراْ م ْن فضَّة قَد ُ‬
‫َّرْوَها تَـ ْقديْراً َويُ ْس َق ْو َن فْيـ َها َكأساً َكا َن مَز ُ‬ ‫َكانَ ْ‬
‫(االنسان‪)17 -15/‬‬
‫فأمساء ‪ :‬آنية ‪ ،‬وفضة ‪ ،‬وأكواب ‪ ،‬وقوارير ‪ ،‬وكأس ‪ ،‬وزجنبيل‪:‬‬
‫وأفعال ‪ :‬يطاف ‪ ،‬وقدروا ‪ ،‬ويسقون‪:‬‬
‫وحروف ‪ :‬على ‪ ،‬والبا ‪ ،‬ومن ‪ ،‬كلها على حقائقها اللغوية ال خيتلف منها شيء عن اللغة‬
‫‪ .2‬احلقيقة الشرعية ‪ :‬وهو اللفظ املستعمل يف املعىن الذي أراده الشارع من ذلك اللفظ ؛ فال‬
‫ِ‬
‫اس ُج ُدوا‬ ‫يعرف حده إال ابلرجوع إىل الشرع حنو قوله تعاىل ‪َ :‬اي أَيـُّ َها الَّذيْ َن َآمنُـ ْوا ْارَك ُعوا َو ْ‬
‫َو ْاعبُ ُدوا َربَّ ُك ْم َوافْـ َعلُوا ا ْخلَْ َري لَ َعلَّ ُك ْم تُـ ْفلِ ُح ْو َن (احلج‪)77/‬‬
‫فاإلميان ‪ ،‬والركوع ‪ ،‬والسجود ‪ ،‬وعبادة هللا ‪ ،‬وفعل اخلري كلها كلمات شرعية حتتاج لبيان‬
‫معانيها الشرعية الرجوع إىل الشرع‪.‬‬
‫‪ .3‬احلقيقة العرفية ‪ :‬وهي نوعني‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب أَن يـُّ َؤ ّخَر الع َشاءَ ال ِ ْيت تَ ْدعُ ْوَهنَا‬ ‫ِ‬
‫األول ‪ :‬عرف العوام ‪ ،‬كما يف حديث ‪َ " :‬وَكا َن يَ ْستَح ُّ‬
‫العتَ َمةَ " البخاري [‪ ، ]522‬فالعتمة اسم لصالة العشاء يف عرف العامة‪.‬‬ ‫َ‬
‫الثاين ‪ :‬عرف اخلواص ‪ :‬واملراد به املصطلحات الفنية كالعام واخلاص عند األصوليني ‪،‬‬
‫واملنصرف واملبين عند النحاة ‪ ،‬واملرسل واملعضل عند احملدثني ‪ ،‬وحجامة ‪ ،‬وشقيقة وسعوط ‪،‬‬
‫ولدود عند األطباء‪.‬‬
‫ت بِِه "‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َن رسوَل هللا احتَجم وهو ُْحم ِرم ِ ِ ِ ِ‬
‫يف َرأْسه م ْن َشقْيـ َقة َكانَ ْ‬ ‫ْ َ َ َ َُ ٌ ْ‬ ‫ومنه حديث ‪ " :‬أ َّ َ ُ ْ‬
‫البخاري[‪] .5374‬‬
‫حكمها ‪ :‬جيب محل اللفظ على حقيقته يف األقسام الثالثة املذكورة ‪ ،‬وال يصرف عنها إال‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫بدليل‬
‫تعريفه ‪ :‬هو استعمال اللفظ يف غري ما وضع له لعالقة بينهما ‪ ،‬ومع قرينة صارفة عن إرادة‬ ‫اجملاز‬ ‫(‪)9‬‬
‫املعىن احلقيقي‪.‬‬
‫أنواعه ‪ :‬هو على نوعني‪:‬‬
‫‪ .1‬اجملاز اللغوي ‪ :‬وهو الذي يكون التجوز فيه ابستعمال األلفاظ يف غري معانيها اللغوية‬
‫لعالقة وقرينة ‪ ،‬كقول الشاعر يف مدح الرسول ‪ " :‬طلع البدر علينا من ثنية الوداع‪" .‬‬
‫‪ .2‬اجملاز العقلي ‪ :‬وهو الذي يكون يف اإلسناد بني املسند واملسند إليه حيث يسند الفعل إىل‬
‫غري فاعله حنو‪ " :‬بىن األمري القصر " فإن الذي يبين حقيقةً هو العامل ال األمري‪.‬‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪ :‬فَ َما َرِحبَت ِّجتَ َارُهتُْم (البقرة‪ )16/‬فإن الذي يربح حقيقةً هو التاجر ‪،‬‬
‫الالتجارة‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬ال جيوز أن يصار إىل املعىن اجملازي إال عند تعذر محل اللفظ على معناه احلقيقي‪.‬‬
‫وإذا ثبتت إرادة املعىن اجملازي للفظ تعلق احلكم به‪.‬‬
‫وال جيوز االعتماد عليه مطلقاً يف أتويل أمساء هللا تعاىل وصفاته ملانع وهو قوله تعاىل ‪ :‬فَالَ‬
‫س َك ِمثْلِ ِه َش ْيءٌ (الشورى‪)11/‬‬
‫ال (النحل‪ ، )74/‬وقوله تعاىل ‪ :‬لَْي َ‬ ‫ض ِربـُ ْوا ¨ األ َْمثَ َ‬
‫تَ ْ‬
‫وله قسمان ‪ :‬صريح ‪ ،‬وغري صريح‬ ‫داللة املنطوق تركيبا‬

‫هو املعىن الذي قصده املتكلم من اللفظ ذاته ‪ ،‬أو كل معىن دل عليه اللفظ لغة أو شرعاً أو‬ ‫املنطوق الصريح‪:‬‬
‫عرفاً‪.‬‬
‫وهو من حيث قوة الداللة على املعىن أربعة أقسام وهي ‪ :‬النص والظاهر ‪ ،‬واملؤول ‪ ،‬واجململ‪.‬‬
‫ووجه احلصر أن الكالم إما أن َيتمل معنيني فأكثر ‪ ،‬أو ال َيتمل إال واحداً ‪ ،‬فإن مل َيتمل‬
‫ابلوضع إال واحداً فهو "النص‪" .‬‬
‫وإن احتمل معنيني فإما أن يكون راجحاً يف أحدمها أوال يكون ‪ ،‬فإن مل يكن راجحاً يف أحد‬
‫املعنيني فهو " اجململ‪" .‬‬
‫وإن كان راجحاً يف أحد املعنيني فإما أن يكون رجحانه من جهة اللفظ أو من جهة دليل‬
‫منفصل ‪ ،‬فإن كان من جهة اللفظ فهو " الظاهر " وإن كان من جهة دليل منفصل فهو "‬
‫املؤول‪" .‬‬
‫َّ‬

‫تعريفه ‪ :‬هو الكالم الذي ال َيتمل إال معىن واحداً‪.‬‬ ‫النص‬ ‫(‪)1‬‬
‫ِ‬
‫إما أبصل الوضع كأمساء األعداد ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪ :‬فَِإ َّهنَا ُحمََّرَمةٌ َعلَْي ِه ْم أ َْربَع ْ َ‬
‫ني َسنَةً (املائدة‪/‬‬
‫‪)26‬‬
‫ني (األنعام‪)85/‬‬ ‫واألعالم حنو قوله تعاىل ‪ :‬وَزَك ِرَّاي وََيىي و ِعيسى وإلْياس ُك ٌّل ِمن َّ ِِ‬
‫الصاحل ْ َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ‬
‫واألجناس حنو قوله تعاىل ‪ُ :‬ك ُّل الطَّع ِام َكا َن ِحالًّ لِّب ِين إِسرآئِيل إالَّ ما حَّرم إِسرآئِيل على نـَ ْف ِسهِ‬
‫َ ْ َْ ْ َ َ َ َ َْ ْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫(آل عمران‪)93/‬‬
‫وكذلك األلفاظ املتباينة واملرتادفة‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وإما مبوجب القرائن كأن يكون اللفظ حمتمالً ملعان متعددة ولكنه ورد من الشارع ما يعني‬
‫أحد معانيه وينفي غريه مثل قوله ‪ " :‬من َكا َن يـ ْؤِمن ِابهللِ والْيـوِم ِ‬
‫اآلخ ِر فَالَ يُـ ْؤِذ َج َارهُ َوَم ْن َكا َن‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َْ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ضيْـ َفهُ " البخاري [‪] .5672‬‬ ‫يـُ ْؤم ُن ِابهلل َوالْيَـ ْوم اآلخ ِر فَـلْيُ ْك ِرْم َ‬
‫فالنهي حقيقة يف التحرمي واألمر يف الوجوب عند اجلمهور وَيتمالن غريمها ولكن الوعيد دل‬
‫على أهنما على احلقيقة يف احلديث املذكور؛ فصار احلديث بذلك نصاً يف مسألة الباب‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬يفيد احلكم قطعاً ‪ ،‬فال َيتمل التأويل‬
‫تعريفه ‪ :‬ما احتمل معنيني أو أكثر وهو يف أحدها أظهر وأقوى‪.‬‬ ‫الظاهر‬ ‫(‪)2‬‬
‫صعِْيداً طَيِّباً (النساء‪)43/‬‬ ‫إما من جهة اللغة مثل كلمة " صعيد " يف قوله تعاىل ‪ :‬فَـتَـيَ َّم ُم ْوا َ‬
‫فإهنا ظاهرة يف كل ما صعد على وجه األرض‬
‫وإما من جهة الشرع مثل كلمة "النكاح" يف قول الرسول " الَ يَـنْ ِك ُح ال ُْم ْح ِرُم َوالَ يـُنْ َك ُح "‬
‫مسلم [‪ ]1409‬فإنه ظاهر يف العقد‪.‬‬
‫ِ‬
‫وإما من جهة العرف مثل كلمة " اليتيم " يف قوله تعاىل ‪َ :‬وابْـتَـلُ ْوا الْيَـتَامى َح َّىت إذَا بَـلَغُ ْوا‬
‫اح (سورة النساء‪ )6/‬فإنه ظاهر يف من ال أب له‪.‬‬ ‫ِ‬
‫النّ َك َ‬
‫حكمه ‪ :‬األصل فيه أن َيمل على ظاهره ؛ فال يصرف عنه إال بقرينة قوية أو نص صريح‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬هو ما محل فيه ظاهر اللفظ على معىن حمتمل مرجوح مبقتضى الدليل‪.‬‬ ‫املؤول‬ ‫(‪)3‬‬
‫لىما‬
‫َّاس َع َ‬ ‫ويكون حبمل العام على اخلصوص مثل كلمة الناس يف قوله تعاىل‪ :‬أ َْم ََْي ُس ُد ْو َن الن َ‬
‫ضلِ ِه (النساء‪ )54/‬فإن املراد به الرسول‪.‬‬ ‫آهتُُم هللا ِم ْن فَ ْ‬
‫ت َعلَْي ُك ُم‬ ‫وحبمل املطلق على املقيد مثل كلمة " الدم " الواردة مطلقاً يف قوله تعاىل ‪ُ :‬حِّرَم ْ‬
‫َّم (املائدة‪ )3/‬فإهنا مقيدة بقوله تعاىل ‪ :‬أ َْو َدماً َّم ْس ُف ْوحاً (األنعام‪)145/‬‬ ‫ال َْمْيـتَةُ َوالد ُ‬
‫اش " البخاري [‪ ]2105‬حيث أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الولَ ُد للْفَر ِ‬‫وحبمل احلقيقة على اجملاز حنو قول الرسول ‪َ " :‬‬
‫املولود ال ينسب إىل الفراش وإمنا ينسب إىل من ولد على فراشه‪.‬‬
‫ِ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يف ُك ِّل َكبد َرطْبَة ٌ‬
‫أجر‬ ‫َجراً قال ‪ْ ِ :‬‬ ‫وكذلك حديث ‪ " :‬قَالُْوا َاي َر ُس ْوَل هللا ! َوإ َّن لَنَا ِ ْ‬
‫يف الْبَـ َهائ ِم أ ْ‬
‫" البخاري [‪] .2234‬‬
‫حكمه ‪ :‬ال يصار إىل التأويل إال بدليل يقتضيه‪.‬‬
‫مث التأويل ال جيري يف أمساء هللا تعاىل وصفاته مبقتضى قول هللا عزوجل ‪ :‬لَي ِ ِ ِ‬
‫س َكمثْله َش ْيءٌ‬ ‫ْ َ‬
‫ال (النحل‪)74/‬‬ ‫ض ِربـُ ْوا ¨ األ َْمثَ َ‬
‫(الشورى‪ )11/‬و فَالَ تَ ْ‬

‫تعريفه ‪ :‬ما احتمل معنيني أو احتمالني فأكثر على السواء أي من غري ترجيح أحدمها على‬ ‫اجململ‬ ‫(‪)4‬‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫ص َن‬ ‫ويكون غالباً ألجل االشرتاك مثل كلمة " القرء " يف قوله تعاىل ‪َ :‬وال ُْمطَلَّ َق ُ‬
‫ات يَََرتبَّ ْ‬
‫ِأبَنْـ ُف ِس ِه َّن ثَالَ ثَةَ قُـُرْوٍء (البقرة ‪ )228/‬فإهنا مشرتكة بني الطهر واحليض‪.‬‬
‫وبسبب غرابة اللفظ ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن ا ِإلنْ َسا َن ُخلِ َق َهلُ ْوعاً إذَا َم َّسهُ الشَُّر َجُزْوعاً‬
‫(املعارج‪)20-19/‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫حكمه ‪ :‬التو قف إىل أن يرد البيان‬


‫وهو ما مل يوضع اللفظ له ‪ ،‬بل يلزم مما وضع له ‪ ،‬وهو على ثالثة أقسام‪:‬‬ ‫املنطوق غري الصريح‪:‬‬

‫تعريفه ‪ :‬داللة النص على شيء مسكوت عنه يتوقف صدق الكالم أو صحته أو استقامته‬ ‫داللة االقتضاء‬ ‫(‪)1‬‬
‫على ذلك املسكوت املقدر يف الكالم‪.‬‬
‫استُ ْك ِرُه ْوا َعلَْي ِه " التلخيص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مثاله ‪ :‬حديث ‪ُ " :‬رف َع َع ْن أ َُّم ِ ْيت ا ْخلَطَأ َوالنّ ْسيَا ُن َوَما ْ‬
‫احلبري(‪ )511/1‬تقديره‪ :‬إمث اخلطأ والنسيان‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪َ :‬و ْسئَ ِل الْ َق ْريَةَ الَِّ ْيت ُكنَّا فِْيـ َها (يوسف ‪ )82/‬تقديره ‪ :‬أهل القرية‬
‫تعريفه ‪ :‬واملراد هبا املعىن الذي مل يدل عليه اللفظ مباشرةً بل هو من لوازم ما دل عليه اللفظ‬ ‫داللة اإلشارة‬ ‫(‪)2‬‬
‫مثاله ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬فَ ْسئَـلُ ْوا أ َْه َل ال ِّذ ْك ِر إِ ْن ُكْنـتُ ْم الَ تَـ ْعلَ ُم ْو َن (النحل‪ )43/‬فاملعىن العباري هلذه‬
‫اآلية وجوب السؤال من أهل العلم ‪ ،‬ولكنه يلزمه وجوب إعداد العلماء ؛ ألن ما ال يتم‬
‫الواجب إال به فهو واجب‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬وهو أن يذكر احلكم مقروانً بوصف لومل جنعله سبباً ملشروعيته لذهب لغواً وعبثاً‪.‬‬ ‫اإلمياء والتنبيه‬ ‫(‪)3‬‬
‫س " ابن ماجه [‪ ]2264‬ملن سأله عن حكم‬ ‫الرطَ ِ ِ‬
‫ب إذَا يَب َ‬
‫ص ُّ ُ‬
‫مثاله ‪ :‬قول الرسول ‪ " :‬أَيَـْنـ ُق ُ‬
‫بيع الرطب ابلتمر فأجابه بنعم ؛ فنهى رسول هللا عن ذلك‪.‬‬
‫وعبث‬
‫لغو السوال ‪ُ ،‬‬ ‫فإن مل جنعل نقصان وزن الرطب بعد اليبس علة ملنع هذا البيع ‪ ،‬لزم منه ُ‬
‫ترتيب احلكم عليه‪.‬‬

‫والبحث يف املفهوم مأخوذ من الفهم ‪ ،‬وهو جودة استعداد الذهن لالستنباط‪ .‬واصطالحاً ‪ :‬ما‬ ‫البحث الثاين ‪ :‬االستدالل‬
‫فهم من اللفظ يف غري حمل النطق‪.‬‬
‫ابملفهوم‬
‫وهو على قسمني ‪ :‬موافق ‪ ،‬وخمالف‬
‫تعريفه ‪ :‬هو ما يكون مدلول اللفظ يف حمل السكوت موافقاً ملدلوله يف حمل النطق‪.‬‬ ‫مفهوم املوافقة‬
‫أنواعه ‪ :‬هو على نوعني‪:‬‬

‫ال َذ َّرةٍ َخ ْرياً‬ ‫وهو ما كان املسكوت عنه أوىل حبكم املنطوق به ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪ :‬فَ َم ْن يَّـ ْع َم ْل ِمثْـ َق َ‬ ‫املفهوم األولوي‬ ‫(‪)1‬‬
‫يـََرهُ (الزلزلة‪ )7/‬فما فوق الذرة من أعمال اخلري هو أوىل لألجر والثواب‪.‬‬
‫ِ‬
‫وهو ما كان املسكوت عنه مساوايً حلكم املنطوق به حنو قوله تعاىل ‪ :‬إِ َّن الذيْ َن َأي ُكلُ ْو َن أ َْم َو َال‬
‫َّ‬ ‫املفهوم املساوي‬ ‫(‪)2‬‬
‫يف بُطُْوهنِِ ْم َانراً (النساء‪ )10/‬فتضييع مال اليتيم ابألكل يساوي‬ ‫ِ‬
‫الْيَـتَامى? ظُلْماً إَّمنَا َأي ُكلُ ْو َن ِ ْ‬
‫تضييعه حكماً يف أي صورة أخرى‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬حجة عند اجلمهور ‪ ،‬قطعاً يف صور ‪ ،‬وظناً يف صور أخرى‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬هو ما يكون مدلول اللفظ يف حمل السكوت خمالفاً ملدلوله يف حمل النطق‪.‬‬ ‫مفهوم املخالفة‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫أقسامه ‪ :‬له عدة أقسام أشهرها‪:‬‬


‫تعريفه ‪ :‬هو داللة النص الذي قيد فيه احلكم بصفة على انتفاء احلكم عما انتفت عنه هذه‬ ‫مفهوم الصفة‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الصفة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واملراد ابلصفة الصفة النحوية مثل قوله تعاىل‪ :‬إ ْن َجاءَ ُك ْم فَاس ٌق بنَـبَإ فَـتَـبَـيَّـنُـ ْوا (احلجرات‪ )6/‬فإنه‬
‫دل مبنطوقه على وجوب التبني يف خرب الفاسق ‪ ،‬ومبفهومه على عدم الوجوب يف خرب العدل‪.‬‬
‫كارى (النساء ‪)43/‬‬ ‫الصالََة َوأَنْـتُ ْم ُس َ‬
‫واحلال ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪ :‬الَ تَـ ْقَربـُ ْوا َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اشُرْوُه َّن َوأَنْـتُ ْم َعاكِ ُف ْو َن ِ ْيف ال َْم َساجد (البقرة‪)187/‬‬ ‫والظرف ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪ :‬والَ تُـب ِ‬
‫َ َ‬
‫واجلار واجملرور‪ ،‬حنو قوله تعاىل‪ :‬والَ تُص ِل على أَح ٍد ِمْنـهم َّمات أَبداً والَ تَـ ُقم على قَ ِربهِ‬
‫َ َّ َ َ ّ ُ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫(التوبة‪)84/‬‬

‫تعريفه ‪ :‬هو داللة النص الذي علق فيه احلكم على شيء أبداة من أدوات الشرط على نفي‬ ‫مفهوم الشرط‬ ‫(‪)2‬‬
‫احلكم عند انتفاء الشرط‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه َّن (الطالق‪ )6/‬و َوآتُـ ْوا‬ ‫مثاله ‪ :‬قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ُك َّن أ ُْوالَت محَْ ٍل فَأَنْف ُق ْوا َعلَْي ِه َّن َح َّىت يَ َ‬
‫نب لَ ُك ْم َع ْن َش ْي ٍء ِّمْنهُ نَـ ْفساً فَ ُكلُ ْوهُ َهنِْيئاً َم ِريْئاً (النساء‪)4/‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُدقَاهت َّن ْحنلَةً فَِإ ْن ط ْ َ‬
‫النّ َساءَ َ‬

‫تعريفه ‪ :‬هو داللة النص الذي قيد فيه احلكم بغاية على انتفاء احلكم بعد هذه الغاية‪.‬‬ ‫مفهوم الغاية‬ ‫(‪)3‬‬
‫ض َوالَ تَـ ْقَربـُ ْوُه َّن َح َّىت يَطْ ُه ْر َن (البقرة‪)222/‬‬‫يف ال َْم ِحيْ ِ‬ ‫ِ‬
‫اعتَ ِزلُْوا النّ َساءَ ِ ْ‬ ‫مثاله ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َس َود م َن الْ َف ْج ِر ُمثَّ أَمتُّْوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض م َن ا ْخلَْيط األ ْ‬
‫ط األَبْـيَ ُ‬
‫ني لَ ُك ُم ا ْخلَْي ُ‬
‫وقوله تعاىل ‪َ :‬وُكلُ ْوا َوا ْشَربـُ ْوا َح َّىت يَـتَـبَ َّ َ‬
‫الصيَ َام إىل اللَّْي ِل (البقرة‪)187/‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬

‫تعريفه ‪ :‬هو داللة النص الذي قيد فيه احلكم مبا يدل على الذات على انتفائه عند انتفاء اللقب‬ ‫مفهوم اللقب‬ ‫(‪)4‬‬
‫ض‬ ‫ِ‬
‫ت لَنَا األ َْر ُ‬
‫واملقصود ابللقب هنا االسم الذي عرب به عن ذات من الذوات حنو قوله ‪ُ " :‬جعلَ ْ‬
‫ت تـُ ْربَـتُـ َها لَنَا طَ ُه ْوراً إِذَا َملْ َِجن ِد ال َْماءَ " مسلم [‪ ]522‬فإن مفهومه أن غري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُكلُّ َها َم ْسجداً َو ُجعلَ ْ‬
‫الرتاب ال يكون طهوراً ؛ فال يتيمم به‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬هو داللة النص الذي قيد فيه احلكم بعدد معني على انتفاء احلكم عند انتفاء العدد‪.‬‬ ‫مفهوم العدد‬ ‫(‪)5‬‬
‫ني َشا ًة َشاةٌ إىل ِع ْش ِريْ َن َوِمئَ ٍة " الرتمذي [‪] .621‬‬ ‫ِ‬
‫مثاله ‪ :‬قوله ‪ْ ِ " :‬‬
‫يف ُك ِّل أ َْربَع ْ َ‬
‫ومفهومه يف ما حتت العدد املذكور‪.‬‬
‫ض ُه َّن هللا َعَّزَو َج َّل " أبوداوود [‪ ]425‬ومفهومه يف ما فوق العدد‬ ‫ٍ‬
‫صلَوت افََْرت َ‬ ‫س َ‬‫وقوله ‪" :‬مخَْ ُ‬
‫املذكور‪.‬‬
‫حكم مفهوم املخالفة ‪ :‬حكمه االعتبار به بشرط أن يكون مجيع القيود اليت ذكرانها لالحرتاز ‪،‬‬
‫وإن مل تكن له ال يكون هلا مفهوم‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الفصل الثاين‪:‬طرق االستدالل من النص عند احلنفية‬

‫وفيه مخسة مباحث‪:‬‬


‫وله هبذا االعتبار أربعة أقسام عندهم وهي‪ :‬اخلاص‪،‬‬ ‫تقسيم اللفظ ابعتبار وضعه للمعىن‬ ‫املبحث األول‬
‫والعام‪ ،‬واملشرتك ‪ ،‬املؤول ‪.‬‬
‫وهو هبذا االعتبار أربعة أقسام وهي ‪ :‬الظاهر‪،‬‬ ‫تقسيم الكالم من حيث ظهور معناه ‪،‬‬ ‫املبحث الثاين‬
‫والنص‪ ،‬واملفسر‪ ،‬واحملكم‬
‫وهو هبذا االعتبار على أربعة أقسام وهي‪ :‬اخلفي ‪،‬‬ ‫تقسيم الكالم من حيث خفاء املعىن‪،‬‬ ‫املبحث الثالث‬
‫واملشكل ‪ ،‬واجململ واملتشابه ‪.‬‬
‫وهو هبذا االعتبار على أربعة أقسام وهي ‪ :‬احلقيقة ‪،‬‬ ‫تقسيم اللفظ ابعتبار استعماله يف املعىن‬ ‫املبحث الرابع‬
‫واجملاز ‪ ،‬والصريح ‪ ،‬والكناية‬ ‫‪.،‬‬
‫وله أربعة أقسام ‪ :‬عبارة النص ‪ ،‬وإشارة النص ‪،‬‬ ‫تقسيم الكالم ابعتبار طريقة الوقوف‬ ‫املبحث اخلامس‬
‫وداللة النص ‪ ،‬واقتضاء النص‬ ‫على املراد منه‪،‬‬

‫‪ ،‬وله هبذا االعتبار أربعة أقسام عندهم وهي ‪ :‬اخلاص‪ ،‬والعام‪ ،‬واملشرتك ‪ ،‬املؤول‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف تقسيم اللفظ‬
‫ابعتبار وضعه للمعىن‬
‫تعريفه ‪ :‬هو كل لفظ وضع ملعىن معلوم على االنفراد‪.‬‬ ‫اخلاص‬ ‫‪1‬‬
‫وجيب أن يزاد يف تعريفه " وبقي على انفراده " وإال فيشمل التعريف كل األنواع ؛ ألنه ما من لفظ إال ويوضع يف‬
‫أول وضعه ملعىن معلوم على االنفراد ‪ ،‬مث يدخل يف داللته معان أخرى اشرتاكاً أو جمازاً‪.‬‬
‫أنواعه ‪ :‬له أربعة أنواع عندهم ‪ ،‬إثنان ابعتبار صيغته ومها‪:‬‬
‫اصطَِ ْرب َعلَْيـ َها (طه ‪)132/‬‬ ‫‪ .1‬األمر ‪ ،‬حنو قوله تعاىل‪ :‬وأْمر أَهلَك ِاب َّ ِ‬
‫لصالَة َو ْ‬ ‫َ ُْ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َو ْعده ُر ُسلَهُ (ابراهيم‪)47/‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ .2‬النهي ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪َ :‬والَ َْحت َس َ َّ‬
‫نب هللا خمُْل َ‬
‫وليسا خباصني ألنه دخل يف مدلوهلما معان أخرى جديدة وكثرية غري الوجوب والتحرمي‪.‬‬
‫واثنان ابعتبار حالته ومها‪:‬‬
‫‪ .1‬املطلق ‪ :‬وهو ما تعرض للذات من غري أن يكون له داللة على إحدى صفات الذات نفياً أو إثبااتً حنو قوله‬
‫تعاىل‪ :‬فَـتَ ْح ِريْـُر َرقَـبَ ٍة ِّم ْن قَـبْ ِل أَ ْن يـَّتَ َم َّ‬
‫اسا (اجملادلة‪)4/‬‬
‫‪ .2‬املقيد ‪ :‬وهو ما تعرض للذات مع إحدى الصفات ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪َ :‬وَم ْن قَـتَ َل ُم ْؤِمناً َخطَئاً فَـتَ ْح ِريْـُر َرقَـبَ ٍة‬
‫ُّم ْؤِمنَ ٍة َوِديَةٌ ُّم َسلَّ َمةٌ إِىل أ َْهلِ ِه (النساء‪)92/‬‬
‫وليس املطلق واملقيد خاصني مبعىن أن مدلوهلما قطعي يف مجيع األحوال وال َيتمل البيان ؛ جلواز اجملاز واالشرتاك‬
‫والغرابة فيهما‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬قالوا ‪ :‬يفيد القطع ‪ ،‬وال َيتمل البيان‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫تعريفه ‪ :‬ما تناول أفراداً متفقة احلدود على سبيل الشمول‪.‬‬ ‫العام‬ ‫‪2‬‬
‫ٍ‬
‫وهذا التعريف يصدق على بعض أنواع العام وال يصدق على كثري منها حنو قوله تعاىل ‪ُ :‬ك ُّل َش ْيء َهالِ ٌ‬
‫ك إالَّ َو ْج َههُ‬
‫(القصص ‪ )88/‬فداللة " شيء " ال تنحصر يف أفراد متفقة احلدود‪.‬‬
‫صيغه ‪ :‬مضت يف الفصل السابق‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬قطعي الداللة عند احلنفية قبل التخصيص ‪ ،‬وظين بعده‪.‬‬

‫تعريفه‪ :‬ما تناول أفراداً خمتلفة احلدود على سبيل البدل‪.‬‬ ‫املشرتك‬ ‫‪3‬‬
‫…كلفظ " القرء " فإنه للحيض والطهر‪.‬‬
‫وشرطه أن يكون موضوعاً لكل معىن وضعاً مستقالً حقيقة مع داللته على مجيع معانيه املختلفة على السواء‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬التوقف فيه إىل أن يظهر املراد منه مع االعتقاد بكونه حقاً‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬وقد سبق يف مبحث اجلمهور أيضاً ‪ ،‬والفرق بني مؤول اجلمهور ومؤول احلنفية هو أن اجلمهور يسمون كل‬ ‫املؤول‬ ‫‪4‬‬
‫كالم محل بدليل على خالف أصله مؤوالً ‪ ،‬واحلنفية خيصونه ابملشرتك إذا رجح بعض معانيه أبدلة ظنية ؛ ولذلك‬
‫عرفوه بلفظ ‪ " :‬ما ترجح من املشرتك بعض معانيه بدليل ظين‪" .‬‬
‫مثاله ‪ :‬محل احلنفية كلمة " القرء " يف آية الرتبص على احليض وأدلتهم كلها ظنية‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬وجوب العمل مبا جاء يف أتويل اجملتهد مع احتمال كونه غلطاً إن كان ابلرأي‪.‬‬

‫وهو هبذا االعتبار أربعة أقسام وهي ‪ :‬الظاهر‪ ،‬والنص‪ ،‬واملفسر‪ ،‬واحملكم‪.‬‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬تقسيم الكالم من‬
‫حيث ظهور معناه ‪،‬‬
‫تعريفه ‪ :‬هو اسم لكل كالم ظهر املراد به للسامع بصيغته‪.‬‬ ‫الظاهر‬ ‫‪1‬‬
‫الرَاب (البقرة‪ )275/‬فإنه يدل على أمرين‪:‬‬ ‫َح َّل هللا الْبَـْي َع َو َحَّرَم ِّ‬
‫أي بداللته اللفظية كقوله تعاىل ‪َ :‬وأ َ‬
‫األول ‪ :‬كون البيع حالالً والراب حراماً ‪ ،‬وهذا يدل عليه اآلية بظاهر ألفاظها داللة لغوية‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬التفرقة بني البيع والراب حيث أن اجلملة وقعت جواابً ملن قال ‪ :‬إَِّمنَا الْبَـيْ ُع ِمثْل ِّ‬
‫الرَاب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فاألول داللة لفظية إال أهنا غري مقصودة بسوق الكالم أصالة فإنه " ظاهر " ‪ ،‬والثاين داللة لفظية مقصودة ابلسوق‬
‫فهو " نص‪" .‬‬
‫حكمه ‪ :‬جيب العمل به مع احتماله التأويل والتخصيص والنسخ‪.‬‬
‫تعريفه‪ :‬ما ازداد وضوحاً على الظاهر لكونه مقصوداً ابلسوق كما قد سبق يف تعريف الظاهر ومثاله‪.‬‬ ‫النص‬ ‫‪2‬‬
‫حكمه ‪ :‬وجوب العمل به قطعاً مع احتماله التأويل أو التخصيص أو النسخ‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬ما ازداد وضوحاً على النص على وجه ال يبقى معه احتمال التأويل والتخصيص‬ ‫املفسر‬ ‫‪3‬‬
‫مثاله ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬فَ َس َج َد ال َْمآلئِ َكةُ ُكلُّ ُه ْم أ ْ‬
‫َمجَ ُع ْو َن (ص‪ )73/‬حيث إن كلمة " املالئكة " تفيد العموم ‪ ،‬والعام‬
‫َيتمل التخصيص فكلمة " كلهم أمجعون " أبطل احتمال التخصيص والتأويل ؛ فصار الكالم مفسراً‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫حكمه ‪ :‬وجوب العمل به قطعاً على احتمال النسخ‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬ما أحكم املراد به عن احتمال النسخ‪.‬‬ ‫احملكم‬ ‫‪4‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاءٌ للنَّاظ ِريْ َن (الشعراء‪ )33-32/‬فإنه‬
‫ع يَ َدهُ فَإذَا ه َي بَـْي َ‬ ‫صاهُ فَِإذَا ه َي ثـُ ْعبَا ٌن ُّمبِ ٌْ‬
‫ني َونـََز َ‬ ‫مثاله ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬فَأَلْ َقى َع َ‬
‫حمكم ألنه خرب واألخبار ال حتتمل النسخ‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬وجوب العمل به على أنه ال َيتمل التأويل والتخصيص والنسخ‬

‫وهو هبذا االعتبار على أربعة أقسام وهي‪ :‬اخلفي ‪ ،‬واملشكل ‪ ،‬واجململ واملتشابه‪.‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬تقسيم الكالم من حيث‬
‫خفاء املعىن‪،‬‬
‫تعريفه ‪ :‬ما خفي مراده بعارض نشأ من غري الصيغة والصيغة واضحة الداللة على معناه لغةً‪.‬‬ ‫اخلفي‬
‫السا ِرقَةُ فَاقْطَ ُع ْوا أَيْ ِديَـ ُه َما (املائدة‪ )38/‬فالسرقة ال خفاء يف داللته وال يف ترتيب‬
‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫مثاله ‪ :‬قوله تعاىل ‪َ :‬و َّ‬
‫الطرار والنبَّاش حيث إن معىن السرقة موجود فيهما ولكنهما ملا مسيا ابسم غري‬ ‫حكم القطع عليه ‪ ،‬وإمنا اخلفاء يف َّ‬
‫السرقة نشأ بسبب ذلك اخلفاء يف ترتيب احلكم عليهما ؛ ألن التغاير يف األمساء يوجب التغاير يف األحكام يف‬
‫أحيان كثرية‪.‬‬
‫حكمه ‪ :‬وجوب النظر يف العارض ليعلم أن خفائه للزايدة يف املعىن كمعىن السرقة يف الطرار فيلحق به ‪ ،‬أو للنقص‬
‫كمعىن السرقة يف النباش فال يلحق به‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬اسم لكالم َيتمل املعاين املتعددة ‪ ،‬واملراد منها واحد ‪ ،‬إال أنه بسبب الكثرة صار حمتاجاً إىل الطلب‬ ‫املشكل‬
‫والتأمل كاملشرتك‪.‬‬
‫مثاله ‪ :‬قوله تعاىل ‪َ :‬وإِ ْن ُكْنـتُ ْم ُجنُباً فَاطَّ َّهُرْوا (املائدة‪ )6/‬فهو مشكل يف حق داخل األنف والفم ألن ظاهر البشرة‬
‫جيب غسله وابطنها ال ‪ ،‬وداخل الفم واألنف له شبه بظاهر البشرة لوجوب املضمضة واالستنشاق ‪ ،‬وبباطنها جلواز‬
‫ابتالع الصائم بزاقه وخناعه‪.‬‬
‫حكمه‪ :‬االعتقاد بكونه حقاً يف ما أريد منه ‪ ،‬مث اإلقبال على طلب الدليل إلظهار املراد منه‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬ما اجتمعت فيه املعاين فاشتبه املراد من النص اشتباهاً ال يدرك إال ببيان من اجململ‪.‬‬ ‫اجململ‬
‫الرَاب (البقرة‪ )275/‬فإهنا بقيت جمملة املراد حىت بيَّنها‬ ‫َح َّل هللا الْبَـْي َع َو َحَّرَم ِّ‬
‫مثاله ‪ :‬كلمة " الراب " يف قوله تعاىل ‪َ :‬وأ َ‬
‫ب َوال ِْفض َِّة ِابل ِْفض َِّة‬
‫ب ِاب َّلذ َه ِ‬
‫الذ َه ِ‬
‫ت َر ُس ْوَل هللا يَـْنـ َهى َع ْن بَـْي ِع َّ‬ ‫الرسول كما رواه عبادة بن الصامت يف حديث ‪َِ :‬‬
‫"مس ْع ُ‬
‫ني " مسلم [‪] .1587‬‬ ‫ْرب والشَّعِ ِْري ِابلشَّعِ ِْري والت َّْم ِر ِابلت َّْم ِر وال ِْم ْل ِح ِابل ِْم ْل ِح إِالَّ َسواء بِسو ٍاء َعْيناً َبع ْ ٍ‬
‫وال ُِّ ِ ِ‬
‫َ ً ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْرب ابل ُّ َ‬ ‫َ‬
‫حكمه ‪ :‬التوقف إىل أن يتبني ببيان من اجململ‪.‬‬

‫تعريفه ‪ :‬هو اسم لكالم انقطع رجاءُ معرفة املراد به كاحلروف املتقطعة‪.‬‬ ‫املتشابه‬
‫حكمه ‪ :‬ترك الطلب واالشتغال للوقوف على املراد مع االعتقاد أبنه حق وله معىن اثبت يف علم هللا تعاىل وال‬
‫نعلمه‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وهو هبذا االعتبار على أربعة أقسام وهي ‪ :‬احلقيقة ‪ ،‬واجملاز ‪ ،‬والصريح ‪ ،‬والكناية‪.‬‬ ‫املبحث الرابع‪ :‬تقسيم اللفظ‬
‫ابعتبار استعماله يف املعىن ‪،‬‬
‫وقد مضى تفصيل كل منهما يف الفصل األول‪.‬‬ ‫احلقيقة‬
‫اجملاز‬
‫تعريفه ‪ :‬ما ظهر املراد منه ظهوراً بيناً بكثرة االستعمال حقيقةً كان أو جمازاًكالبيع ‪ ،‬والشراء ‪ ،‬والسفر ‪ ،‬والنوم ‪،‬‬ ‫الصريح‬
‫واألكل ‪ ،‬والشرب وحنوها من الكلمات‪ ،‬فإهنا صرَية الداللة مبوجب كثرة االستعمال‪.‬‬
‫حكمه‪ :‬تعلق احلكم مبعناه نواه املتكلم أو مل ينوه‪.‬‬

‫تعريفها ‪ :‬هو اللفظ الذي استرت املراد منه بسبب االستعمال وال يفهم إال بقرينة حنو ‪ " :‬قالت التاسعة ‪ :‬زوجي‬ ‫الكناية‬
‫رفيع العماد ‪ ،‬طويل النجاد ‪ ،‬عظيم الرماد ‪ ،‬قريب البيت من الناد " البخاري[‪] .4893‬‬
‫فرفيع العماد كناية عن الرفعة والشرف ‪ ،‬وطويل النجاد كناية عن طول قامته ‪ ،‬وعظيم الرماد كناية عن كثرة‬
‫الضيوف وقريب البيت من الناد كناية عن الكرم والسؤدد‪.‬‬
‫حكمها‪ :‬وجوب العمل هبا ابلنية أو بداللة احلال‪.‬‬

‫وله أربعة أقسام ‪ :‬عبارة النص ‪ ،‬وإشارة النص ‪ ،‬وداللة النص ‪ ،‬واقتضاء النص‬ ‫املبحث اخلامس‪ :‬تقسيم الكالم‬
‫ابعتبار طريقة الوقوف على املراد منه‪،‬‬
‫تعريفها ‪ :‬هي داللة النص على املعىن املقصود ابلسوق أصالةً أوتبعاً‪.‬‬ ‫عبارة النص‬
‫ِ‬
‫ع (النساء‪ )3/‬فإنه يدل على معنيني‬ ‫ث َوُرَاب َ‬ ‫اب لَ ُك ْم ِّم َن النِّ َساء َمثْ َىن َوثُالَ َ‬ ‫ِ‬
‫مثاهلا ‪ :‬قوله تعاىل ‪ :‬فَأنْك ُح ْوا َما طَ َ‬
‫‪:‬‬
‫األول ‪ :‬جواز النكاح‪.‬‬
‫والثاين ‪ :‬حتديد أقصى عدد الزوجات أبربع‪.‬‬
‫فاألول مقصود بسوق النص تبعاً ‪ ،‬والثاين أصالة ‪ ،‬وداللة النص على كليهما داللة العبارة ‪ ،‬أو أنه عبارة‬
‫النص‪.‬‬
‫حكمها ‪ :‬تفيد القطع عند جتردها عن العوارض ‪ ،‬وترجح على إشارة النص عند التعارض‪.‬‬

‫سبق الكالم فيه من أقسام املنطوق غري الصريح‪.‬‬ ‫إشارة النص‬

‫هي مفهوم املوافقة وقد سبق مفصال‬ ‫داللة النص‬


‫سبق يف أقسام املنطوق غري الصريح من فصل اجلمهور‬ ‫اقتضاء النص‬
‫وداللة العبارة مقدمة على داللة اإلشارة ‪ ،‬واإلشارة مقدمة على الداللة ‪ ،‬وداللة النص مقدمة على االقتضاء عند احلنفية‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫املبحث الرابع ‪ :‬القواعد األصولية التشريعية‬

‫يف هذه القواعد التشريعية استمدها علماء أصول الفقه اإلسالمي من استقراء األحكام الشرعية‪ ،‬ومن استقراء عللها‬
‫أصول تشريعية كلية‪ ،‬وكما جتب مراعاهتا يف‬
‫وحكمها التشريعية‪ ،‬ومن النصوص اليت قررت مبادئ تشريعية عامة و ً‬
‫استنباط األحكام من النصوص جتب مراعاهتا يف استنباط األحكام فيما ال نص فيه‪ ،‬ليكون التشريع حمققاً ما قصد‬
‫‪195‬‬
‫به موصالً إىل حتقيق مصاحل الناس والعدل بينهم‪:‬‬

‫يف املقصد العام من التشريع‬ ‫القاعدة األوىل‬


‫فيما هو حق هللا‪ ،‬وما هو حق املكلف‬ ‫القاعدة الثانية‬
‫فيما يسوغ االجتهاد فيه‬ ‫القاعدة الثالثة‬
‫يف نسخ احلكم‬ ‫القاعدة الرابعة‬
‫يف التعارض والرتجيح‬ ‫القاعدة اخلامسة‬

‫القاعدة األوىل ‪ :‬يف املقصد العام من التشريع‬

‫واملقصد العام للشارع من تشريعه األحكام هو حتقيق مصاحل الناس بكفالة ضرورايهتم‪ ،‬وتوفري حاجياهتم وحتسينياهتم‪.‬‬
‫فكل حكم شرعي ما قصد به إال واحد من هذه الثالثة اليت تتكون منها مصاحل الناس‪.‬‬
‫وال يراعى حتسيين إذا كان يف مراعاته إخالل حباجي‪ ،‬وال يراعى حاجي وحتسيين إذا كان يف مراعاة أحدمها إخالل بضروري‬
‫هذه القاعدة األوىل بيَّنت املقصد العام للشارع من تشريع األحكام الشرعية‪ ،‬سواء أكانت تكليفية أم وضعية‪ ،‬وبينت مراتب‬
‫األحكام ابعتبار مقاصدها‪ ،‬ومعرفة املقصد العام للشارع من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها‪،‬‬
‫وتطبيقها على الوقائع واستنباط احلكم فيما ال نص فيه‪.‬‬
‫ألن داللة األلفاظ والعبارات على املعاين‪ ،‬قد حتتمل عدة وجوه‪ ،‬والذي يرجح واحداً من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد‬
‫الشارع‪ ،‬ألن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها‪ ،‬والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على‬
‫مقصد الشارع‪ .‬ألن كثرياً من الوقائع اليت حتدث رمبا ال تتناوهلا عبارات النصوص‪ ،‬ومتس احلاجة إىل معرفة أحكامها أبي دليل‬
‫من األدلة الشرعية بنصوصه وروحه ومعقوله‪.‬‬
‫وكذلك نصوص األحكام التشريعية ال تفهم على وجهها الصحيح إال إذا عرف املقصد العام للشارع من تشريع األحكام‪،‬‬
‫وعرفت الوقائع اجلزئية اليت من أجلها نزلت األحكام القرآنية‪ ،‬أو وردت السنة القولية أو الفعلية‪.‬‬
‫فاملقصد العام للشارع من التشريع هو املبني يف هذه القاعدة األصولية األوىل وأما الوقائع اجلزئية اليت شرعت هلا األحكام فهي‬

‫‪ 195‬علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪197‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫مبينة يف كتب التفسري وأسباب النزول وصحاح السنة‪.‬‬


‫ومنطوق هذه القاعدة‪:‬‬
‫أن املقصد العام للشارع من تشريع األحكام هو حتقيق مصاحل الناس يف هذه احلياة‪ ،‬جبلب النفع هلم ودفع الضرر‬
‫عنهم‪ ،‬ألن مصاحل الناس يف هذه احلياة تتكون من أمور ضرورية هلم‪ ،‬وأمور حاجية وأمور حتسينية‪ ،‬فإذا توافرت هلم ضرورايهتم‬
‫وحاجياهتم وحتسيناهتم فقد حتققت مصاحلهم‪ .‬والشارع اإلسالمي شرع أحكاماً يف خمتلف أبواب أعمال اإلنسان لتحقيق أمهات‬
‫الضرورايت واحلاجيات والتحسينات لألفراد واجلماعات‪ ،‬وما أمهل ضروراي وال حاجيا وال حتسينيا من غري أن يشرع حكماً‬
‫لتحقيقه وحفظه‪،‬‬
‫وما شرع حكماً إال إلجياد وحفظ واحد من هذه الثالثة‪ ،‬فهو ما شرع حكماً إال لتحقيق مصاحل الناس وما أمهل مصلحة‬
‫اقتضاها حال الناس مل يشرع هلا حكماً‪.‬‬
‫أما الربهان على أن مصاحل الناس ال تعدو هذه األنواع الثالثة‪ :‬فهو احلس واملشاهدة‪ ،‬ألن كل فرد أو جمتمع تتكون مصلحته من‬
‫أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية‪ ،‬مثالً‪:‬‬

‫‪ .1‬الضروري لسكىن اإلنسان مأوى يقيه حر الشمس وزمهرير الربد ولو مغارة يف جبل‪،‬‬
‫‪ .2‬واحلاجي أن يكون املسكن مما تسهل فيه السكىن أبن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب احلاجة‪،‬‬
‫‪ .3‬والتحسيين أن جيمل ويؤثث وتوفر فيه وسائل الراحة‪ ،‬فإذا توافر له ذلك فقد حتققت مصلحته يف سكناه‪ ،‬وهكذا‬
‫طعام اإلنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته‪،‬‬

‫تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه األنواع الثالثة له‪ .‬ومثل الفرد واجملتمع‪ ،‬فإذا توافر ألفراده ما يكفل إجياد وحفظ ضرورايهتم‬
‫وحاجيتهم وحتسيناهتم‪ ،‬فقد حتقق هلم ما يكفل مصاحلهم‪.‬‬
‫أما الربهان على أن كل حكم يف اإلسالم إمنا شرع إلجياد واحد من هذه األمور الثالثة وحفظه فهو‪ :‬استقراء األحكام الشرعية‬
‫الكلية واجلزئية يف خمتلف الوقائع واألبواب‪ ،‬واستقراء العلل واحلكم التشريعية اليت قرهنا الشارع بكثري من األحكام‪.‬‬

‫وقبل أن نعرض أمثلة من هذا االستقراء نبني املراد شرعاً ابلضروري واحلاجي والتحسيين‪.‬‬
‫فهو ما تقوم عليه حياة الناس والبد منه الستقامة مصاحلهم‪ ،‬وإذا فقد اختل نظام حياهتم‪ ،‬ومل‬ ‫فأما الضروري‪:‬‬
‫تستقم مصاحلهم‪ ،‬وعمت فيهم الفوضى‪ ،‬واملفاسد‪.‬‬
‫واألمور الضرورية للناس هبذا املعىن ترجع إىل حفظ مخسة أشياء‪:‬‬
‫‪ .1‬الدين‬
‫‪ .2‬والنفس‪،‬‬
‫‪ .3‬والعقل‪،‬‬
‫‪ .4‬والعرض‪،‬‬
‫‪ .5‬واملال‪،‬‬

‫فحظ كل واحد منهما ضروري للناس‪.‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫فهو ما حتتاج إليه الناس لليسر والسعة‪ ،‬واحتمال مشتاق التكليف‪ ،‬وأعباء احلياة‪ ،‬وإذا فقد ال خيتل‬ ‫وأما األمر احلاجي‪:‬‬
‫نظام حياهتم وال تعم فيهم الفوضى‪ ،‬كما إذا فقد الضروري‪ ،‬ولكن يناهلم احلرج والضيق‪.‬‬
‫واألمور احلاجية للناس هبذا املعىن ترجع إىل رفع احلرج عنهم‪ ،‬والتخفيف عليهم ليحتملوا مشاق‬
‫التكليف‪ ،‬وتيسر هلم طرق التعامل والتبادل وسبل العيش‪.‬‬

‫فهو ما تقتضيه املروءة واآلداب وسري األمور على أقدام منهاج‪ ،‬وإذا فقد ال ختتل حياة الناس كما‬ ‫وأما التحسيين‪:‬‬
‫إذا فقد األمر الضروري‪ ،‬وال يناهلم حرج‪ ،‬كما إذا فقد هذا األمر احلاجي‪ ،‬ولكن تكون حياهتم‬
‫مستنكرة يف تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة‪.‬‬
‫واألمور التحسينية للناس هبذا املعىن ترجع إىل مكارم األخالق وحماسن العادات وكل ما يقصد به‬
‫سري الناس يف حياهتم على أحسن منهاج‪.‬‬

‫ما الذي شرعه اإلسالم لومور الضرورية للناس؟‬


‫األمور الضرورية للناس كما قدمنا ترجع إىل مخسة أشاء‪ :‬الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والعرض‪،‬واملال‪ ،‬وقد شرع اإلسالم لكل واحد‬
‫من هذه اخلمسة أحكاماً تكفل إجياده وتكوينه‪ ،‬وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته‪ ،‬وهبذين النوعني من األحكام حقق للناس‬
‫ضرورايهتم‪.‬‬
‫فالدين هو جموع العقائد والعبادات واألحكام والقوانني اليت شرعها هللا سبحانه لتنظيم عالقة الناس برهبم‪ ،‬وعالقاهتم بعضهم‬
‫ببعض‪ .‬وقد شرع اإلسالم إلجياده وإقامته‪ :‬إجياب اإلميان وأحكام القواعد اخلمس اليت بين عليها اإلسالم‪ ،‬وهي‪ :‬شهادة أن ال‬
‫اله إال هللا‪ ،‬وأن حممداً رسول هللا‪ ،‬وإيقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وحج البيت‪ ،‬وسائر العقائد‪ ،‬وأصول العبادات‪،‬‬
‫اليت قصد الشارع بتشريعها‪ ،‬إقامة الدين و وتثبيته يف القلوب ابتباع األحكام اليت ال يصلح الناس إال هبا‪ ،‬وأوجب الدعوة إليه‪،‬‬
‫وأتمني الدعوة إليه من االعتداء عليها وعلى القائمني هبا‪ ،‬ومن وضع عقبات يف سبيلها‪.‬‬
‫وشرع حلفظه وكفالة بقائه ومحايته من العدوان عليه‪ :‬أحكام اجلهاد‪ ،‬حملاربة من يقف عقبة يف سبيل الدعوة غليه‪ ،‬ومن يفنت‬
‫متديناً لريجع عن دينه‪ ،‬وعقوبة من يرتد عن دينه‪ ،‬وعقوبة من يبتدع و َيدث يف الدين ما ليس منه‪ ،‬أو َيرف أحكامه عن‬
‫مواضعها‪ ،‬واحلجر على املفيت املاجن الذي َيل احملرم‪.‬‬
‫النفس‪:‬‬
‫شرع اإلسالم إلجيادها الزواج للتوالد والتناسل‪ ،‬وبقاء النوع على أكمل وجوه البقاء‪.‬‬
‫وشرع حلفظها وكفالة حياهتا‪ ،‬إجياب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن‪ ،‬وإجياب القصاص والدية‬
‫والكفارة على من يعتدي عليها‪ ،‬وحترمي اإللقاء هبا إىل التهلكة‪ ،‬وإجياب دفع الضرر عنها‪.‬‬
‫وشرع حلفظ العقل حترمي اخلمر وكل مسكر‪ ،‬وعقاب من يشرتيها أو يتناول أي خمدر‪.‬‬
‫وشرع حلفظ العرض حد الزاين والزانية وحد القاذف‪.‬‬
‫شرع اإلسالم لتحصيله وكسبه‪ :‬إجياب السعي للرزق وإابحة املعامالت واملبادالت والتجارة واملضاربة‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وشرع حلفظه ومحايته‪ :‬حترمي السرقة‪ ،‬وحد السارق والسارقة‪ ،‬وحترمي الغش واخليانة وأكل أموال الناس ابلباطل‪ ،‬وإتالف مال الغري‪،‬‬
‫وتضمني من يتلف مال غريه‪ ،‬واحلجر على السفيه وذي الغفلة‪ ،‬ودفع الضرر وحترمي الراب‪.‬‬
‫وكفل حفظ الضرورايت كلها أبن أابح احملظورات للضرورات‪.‬‬
‫فمن هذا يتبني أن اإلسالم شرع أحكاماً يف خمتلف أبواب العبادات واملعامالت والعقوابت تقصد إىل كفالة ما هو ضروري‬
‫للناس إبجياده وحبفظه ومحايته‪.‬‬
‫وه ْم‬ ‫ِ‬
‫وقد دل على هذا القصد مبا قرنه ببعض هذه األحكام من العلل واحلكم التشريعية‪ ،‬كقوله تعاىل يف إجياب اجلهاد‪َ { :‬وقَاتلُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ح َّىت الَ تَ ُكو َن فِْتـنَةٌ وي ُكو َن ال ِّد ِ ِ‬
‫اص َحيَاةٌ}[البقرة‪،]179:‬‬ ‫ص ِ‬ ‫ين َّّلل}[البقرة‪ ،]193:‬وقوله يف إجياب القصاص‪َ { :‬ولَ ُك ْم ِيف الْق َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫َّاس ِاب ِإل ِْمث}[البقرة‪ ،]188:‬وقول الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يف تعليل النهي‬ ‫وقوله سبحانه‪ { :‬لِتَأْ ُكلُواْ فَ ِريقاً ِّم ْن أ َْم َو ِال الن ِ‬
‫عن بيع التمر قبل أن يبدو صالحه‪(( :‬أرأيت إذا منع هللا الثمر ِب أيخذ أحدكم مال أخيه))‪ ،‬إىل غري ذلك من العلل اليت تدل‬
‫على قصد الشارع محاية الدين واألنفس واألموال وكل ما هو ضروري للناس‪.‬‬

‫ما الذي شرعه اإلسالم لومور احلاجية للناس؟‬


‫األمور احلاجية للناس‪ ،‬كما قدمنا ترجع إىل ما يرفع احلرج عنهم‪ ،‬وخيفف عليهم أعباء التكليف‪ ،‬وييسر هلم طرق‬
‫املعامالت واملبادالت‪ ،‬وقد شرع اإلسالم يف خمتلف أبواب العبادات واملعامالت والعقوابت مجلة أحكام املقصود هبا رفع احلرج‪،‬‬
‫واليسر ابلناس‪.‬‬
‫ففي العبادات‪ ،‬شرع الرخص ترفيهاً وختفيفاً عن املكلفني إذا كان يف العزمية مشقة عليهم‪ ،‬فأابح الفطر يف رمضان‬
‫ملن كان مريضاً أو على سفر‪ ،‬وقصر الصالة الرابعية للمسافر‪ ،‬ولصالة قاعداً ملن عجز عن القيام‪ ،‬وأابح التيمم ملن مل جيد املاء‪،‬‬
‫والصالة يف السفينة ولو كان االجتاه لغري القبلة‪ ،‬وغري ذلك من الرخص اليت شرعت لرفع احلرج عن الناس يف عباداهتم‪.‬‬
‫ويف املعامالت‪ ،‬شرع كثرياً من أنواع العقود والتصرفات اليت تقتضيها حاجات الناس‪ ،‬كأنواع البيوع واإلجيارات‬
‫والشركات واملضارابت ورخص يف عقود ال تنطبق على القياس‪ ،‬وعلى القواعد العامة يف العقود‪ ،‬كالسلم وبيع الوفاء واالستصناع‪،‬‬
‫واملزارعة‪ ،‬واملساقاة‪ ،‬وغري ذلك مما جرى عليه عرف الناس ودعت إليه حاجتهم‪ .‬وشرع الطالق للخالص من الزوجية عند‬
‫احلاجة‪ ،‬وأحل الصيد وميتة البحر والطيبات من الرزق‪ ،‬وجعل احلاجات مثل الضرورايت يف إابحة احملظورات‪.‬‬
‫ويف العقوابت جعل الدية على العاقلة ختفيضاً عن القاتل خطأ‪ ،‬ودرأ احلدود ابلشبهات‪ ،‬وجعل لويل املقتول حق العفو عن‬
‫القصاص من القاتل‪.‬‬
‫وقد دل على ما قصده هبذه األحكام من التخفيف ورفع احلرج مبا قرنه ببعضها من العلل واحلكم التشريعية‪ ،‬وكقوله تعاىل‪َ { :‬ما‬
‫اَّللُ لِيَ ْج َع َل َعلَْي ُكم ِّم ْن َحَرٍج}[املائدة‪ ،]6:‬وقوله سبحانه‪َ { :‬وَما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِيف ال ِّدي ِن ِم ْن َحَرٍج}[احلج‪ ،]78:‬وقوله‬ ‫يُِر ُ‬
‫يد ّ‬
‫نسا ُن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يد بِ ُك ُم ال ُْع ْسَر}[البقرة‪ ،]185:‬وقوله‪ { :‬يُِر ُ‬
‫اَّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْسَر َوالَ يُِر ُ‬ ‫تعاىل‪ { :‬يُِر ُ‬
‫ف َعن ُك ْم َو ُخل َق اإل َ‬
‫اَّللُ أَن ُخيَّف َ‬
‫يد ّ‬ ‫يد ّ‬
‫ضعِيفاً}[النساء‪ ،]28:‬وقول الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪(( : -‬بعثت ابحلنيفة السمحة))‪.‬‬ ‫َ‬

‫ما الذي شرعه اإلسالم لومور التحسينية للناس؟‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫األمور التحسينية للناس ـ كما قدمنا ـ ترجع إىل كل ما َيمل حاهلم وجيعلها على وفاق ما تقتضيه املروءة ومكارم األخالق‪ .‬وقد‬
‫شرع اإلسالم يف خمتلف أبواب العبادات واملعامالت والعقوابت أحكاماً تقصد إىل هذا التحسني والتجميل وتعود الناس أحسن‬
‫العادات‪ ،‬وترشدهم إىل أحسن املناهج وأقومها‪.‬‬
‫ففي العبادات شرع الطهارة للبدن‪ ،‬والثوب‪ ،‬واملكان‪ ،‬وسرت العورة‪ ،‬واالحرتاز عن النجاسات‪ ،‬واالستنزاه من البول‪ .‬وندب إىل‬
‫أخذ الزينة عند كل مسجد‪ ،‬وإىل التطوع ابلصدقة والصالة والصيام‪ ،‬ويف كل عبادة شرع مع أركاهنا وشروطها آداابً هلا‪ ،‬ترجع إىل‬
‫تعويد الناس أحسن العادات‪.‬‬
‫ويف املعامالت حرم الغش والتدليس والتغرير واإلسراف والتقتري‪ ،‬وحرم التعامل يف كل جنس وضار‪ ،‬وهنى عن بيع اإلنسان على‬
‫بيع أخيه‪ ،‬وعن تلقي الركبان‪ ،‬وعن التسعري‪ ،‬وغري ذلك مما جيعل معامالت الناس على أحسن منهاج‪.‬‬
‫ويف العقوابت‪َ ،‬يرم يف اجلهاد قتل الرهبان والصبيان والنساء‪ ،‬وهنى عن املثلة والغدر‪ ،‬وقتل األعزل‪ ،‬وإحراق ميت أو حي‪.‬‬
‫ويف أبواب األخالق وأمهات الفضائل‪ ،‬قرر اإلسالم ما يهذب الفرد واجملتمع ويسري ابلناس يف أقوم السبل‪ .‬وقد دل سبحانه على‬
‫ِِ ِ‬ ‫قصده هذا التحسني والتجميل ابلعلل واحلكم اليت قرهنا ببعض أحكامه‪ ،‬كقوله تعاىل‪ َ{ :‬لَ ِكن ي ِر ُ ِ‬
‫يد ليُطَ َّهَرُك ْم َوليُت َّم ن ْع َمتَهُ‬ ‫ُ‬
‫َعلَيْ ُك ْم}[املائدة‪ ،]6:‬وقول لرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪(( : -‬وإمنا بعثت ألمتم مكارم األخالق))‪ ،‬وقوله عليه الصالة‬
‫والسالم‪(( :‬إن هللا طيب ال قبل إال طيبا))‪.‬‬

‫فاستقراء األحكام الشرعية والعلل واحلكم الشرعية يف خمتلف األبواب والوقائع ينتج أن الشارع اإلسالمي ما قصد من تشريعه‬
‫األحكام إال حفظ ضرورايت الناس وحاجيتهم وحتسينياهتم‪ ،‬وهذه هي مصاحلهم‬
‫وقد أفاض اإلمام أبو إسحاق الشاطيب يف أول اجلزء الثاين من كتاب((املوافقات)) يف إثبات هذا مبا ال مزيد عليه‪ ،‬وبعد أن أتى‬
‫أبمثلة عديدة من أحكام الشريعة وحكم تشريعها تدل على أن كل حكم شرعي‪ ،‬إمنا قصد بتشريعه حفظ واحد من هذه الثالثة‬
‫اليت تتكون منها مصاحل الناس‪ ،‬قال ما نصه‪(( :‬إن الظواهر‪ ،‬والعمومات‪ ،‬واملطلقات‪ ،‬واملقيدات‪ ،‬واجلزئيات اخلاصة يف أعيان‬
‫خمتلفة ووقائع خمتلفة يف كل ابب من كل أبواب الفقه وكل نوع من أنواعه‪ ،‬ويؤخذ منها أن التشريع دائر حول حفظ هذه الثالث‬
‫اليت هي أسس مصاحل الناس))‪.‬‬
‫وقد اقتضت حكمة الشارع اإلسالمي وما أراده من حفظ هذه األنواع الثالثة على أمت وجه‪ ،‬أن شرع مع األحكام اليت حتفظ كل‬
‫نوع منها أحكاماً تعترب مكملة هلا يف حتقيق هذه املقاصد‪.‬‬

‫ملا شرع إجياب الصالة حلفظ الدين‪ ،‬شرع أداءها مجاعة وإعالهنا ابألذان‪ ،‬لتكون إقامة الدين‬ ‫ففي الضرورايت‬ ‫‪1‬‬
‫وحفظه أمت إبظهار شعائره واالجتماع عليها‪.‬‬
‫وملا أوجب القصاص حلفظ النفوس‪ ،‬شرع التماثل فيه ليؤدي إىل الغرض منه من غري أن يثري‬
‫العداوة والبغضاء‪ ،‬ألن قتل القاتل بصورة أفظع مما قد يؤدي على سفك الدماء وإىل نقيض‬
‫املقصود من القصاص‪.‬‬
‫وملا حرم الزان حلفظ العرض حرم اخللوة ابألجنبية سداً للذريعة‪.‬‬
‫وملا حرم اخلمر حفظاً للعقل حرم القليل منه ولو مل يسكر‪.‬‬
‫وجعل كل ما ال يتم الواجب إال به واجباً‪ ،‬وكل ما يؤدي إىل احملظور وحمظوراً‪ ،‬وحذر من كثري‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫من املباحات وقيد كثرياً من املطلقات‪ ،‬وخصص كثرياً من املطلقات‪ ،‬وخصص كثري من‬
‫العمومات سداً للذرائع ‪ .‬وملا شرع الزواج للتوالد والتناسل‪ ،‬اشرتط الكفاءة بني الزوجني تكميالً‬
‫للوفاق وحسن املعاشرة‪ ،‬فاألحكام اليت شرعها حلفظ الضرورايت كملها بتشريع أحكام حتقق‬
‫هذا املقصد على أكمل وجوهه‪.‬‬

‫ملا شرع أنواع املعامالت من بيوع وإجيارات وشركات ومضارابت‪ ،‬كملها ابلنهي عن الغرر‬ ‫ويف احلاجيات‬ ‫‪2‬‬
‫واجلهالة وبيع املعدوم‪ ،‬وبيان ما يصح اقرتان العقد به من شروط و ما ال يصح‪ ،‬وغري ذلك مما‬
‫يقصد به أن تكون املعامالت فيها سر حاجة الناس من غري أن تثري اخلصومات واألحقاد‪.‬‬

‫ملا شرط ندب فيها عدة أشياء تكلمها‪ ،‬وملا ندب إىل التطوع جعل الشروع فيه موجباً له‪ ،‬حىي‬ ‫ويف التحسينيات‬ ‫‪3‬‬
‫ال يعتاد املكلف إبطال عمله الذي شرع فيه قبل أن يتمه‪ ،‬وملا ندب إىل اإلنفاق ندب أن‬
‫يكون اإلنفاق من طيب الكسب‪.‬‬
‫فمن حقق النظر يف أحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬يتبني أن املقصود من كل حكم شرع فيها‪:‬‬
‫حفظ ضروري للناس‪ ،‬أو حاجي هلم‪ ،‬أو حتسيين‪ ،‬أو مكمل ملا َيفظ واحداً منها‪.‬‬
‫ترتيب األحكام الشرعية حبسب املقصود منها‪:‬‬

‫مما قدمنا يف بيان املراد من الضروري واحلاجي والتحسيين يتبني أن الضرورايت أهم هذه املقاصد ألهنا على فقدها‬
‫اختالل نظام احلياة‪ ،‬وشيوع الفوضى بني الناس و ضياع مصاحلهم‪ .‬وتليها احلاجيات‪ ،‬ألنه يرتتب على فقدها وقوع الناس يف‬
‫احلرج والعسر‪ ،‬واحتمال املشقات اليت قد تنوء هبم‪ ،‬وتليها التحسينيات‪ ،‬ألنه ال يرتتب على فقدها اختالل نظام احلياة وال وقوع‬
‫الناس يف احلرج‪ ،‬ولكن يرتتب على فقدها خروج الناس على مقتضى الكمال اإلنساين واملروءة وما تستحسنه العقول السليمة‪.‬‬
‫وعلى هذا‪ :‬فاألحكام الشرعية اليت شرعت حلفظ الضرورايت أهم األحكام وأحقها ابملراعاة‪ ،‬وتليها األحكام اليت شرعت لتوفري‬
‫احلاجيات‪ ،‬مث األحكام اليت شرعت للتحسني والتجميل‪ ،‬وتعترب األحكام اليت شرعت للتحسينيات كاملكملة اليت شرعت‬
‫للحاجيات‪ .‬وتعترب األحكام اليت شرعت للحاجيات كاملكملة لليت شرعت حلفظ الضرورايت‪.‬‬
‫فال يراعى حكم حتسيين إذا كان يف مراعاته إخالل حبكم ضروري أو حاجي‪ ،‬ألن املكمل ال يراعى إذا كان يف مراعاته 'خالل مبا‬
‫هو مكمل له‪ ،‬ولذا أبيح كشف العورة إذا اقتضى هذا عالج أو عملية جراحية‪ ،‬ألن سرت العورة حتسيين‪ ،‬والعالج ضروري‪ .‬وأبيح‬
‫تناول النجس إذا كان دواء أو اضطر إليه‪ ،‬ألن االحرتاز عن النجاسات حتسيين‪ ،‬واملداواة ودفع الضرورايت ضروري‪ .‬وكذلك‬
‫أبيح بيع املعدوم يف السلم واالستصناع‪ ،‬واغتفرت اجلهالة يف املزرعة واملساقاة وبيع الغائب‪ ،‬ألن حاجة الناس قضت أبن تراعى‬
‫هذه التحسينات‪.‬‬
‫وال يراعى حكم حاجي إذا كان يف مراعاته إخالل حبكم ضروري‪ ،‬وهلذا جتب الفرائض والواجبات على املكلفني الذين ليسوا يف‬
‫حال تبيح الرخصة وإن شق عليهم ما كلفوا به‪ ،‬وإذ كل تكليف فيه إلزام مبا فيه كلفة ومشقة‪ ،‬فلو روعي أن ال تنال املكلف أية‬
‫مشقة ألمهلت عدة من األحكام الضرورية من عبادات وعقوابت وغريها‪ ،‬لن كل ما أمر به املكلف أو هنى عنه حلفظ‬
‫الضرورايت ال خيلو امتثاله من مشقة عليه‪ ،‬ولكن احتملت هذه املشقة يف سبيل حفظ الضرورايت للمكلفني‪.‬‬
‫وأما األحكام الضرورية فتجب مراعاهتا‪ ،‬وال جيوز اإلخالل حبكم منها إال إذا كانت مراعاة ضروري تؤدي إىل اإلخالل بضروري‬
‫أهم منه‪ .‬وهلذا أوجب اجلهاد حفظاً للدين وإن كان فيه تضحية النفس‪ ،‬ألن حفظ الدين أهم من حفظ النفس‪ ،‬وأبيح شرب‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫اخلمر إذا أكره على شرهبا إبتالف نفسه أو عضو منه أو اضطر إليها يف ظمأ شديد‪ ،‬ألن حفظ النفس أهم من حفظ العقل‪.‬‬
‫وإذا أكره على إتالف مال غريه‪ ،‬أبيح له أن يقي نفسه اهلالك إبتالف مال غريه‪ .‬فهذه األحكام فيها إمهال حكم ضروري‬
‫مراعاة حلكم ضروري أهم منه‪.‬‬
‫فقد ثبت ابلربهان أن مقاصد الشارع مما شرعه من األحكام‪ ،‬ال تعدو حفظ واحد من الثالثة أو ما يكمله‪ ،‬وأن هذه املقاصد‬
‫مرتبة يف مراعاهتا حسب أمهيتها‪ ،‬وعلى ترتيبها رتبت األحكام اليت شرعت لتحقيقها‪.‬‬
‫وعلى هذه القاعدة األصولية التشريعية األوىل‪ ،‬وضعت املبادئ الشرعية اخلاصة بدفع الضرر‪ ،‬واملبادئ الشرعية اخلاصة برفع‬
‫احلرج‪ ،‬وعن كل مبدأ من هذه املبادئ تفرغت عدة فروع واستنبطت مجلة أحكام‪.‬‬

‫وهذه بيان املبادئ اخلاصة بدفع الضرر‪ ،‬وأمثلة مما تفرع عن كل مبدأ منها‪:‬‬

‫من فروعه‪ :‬ثبوت حق الشفعة للشريك أو اجلار‪ ،‬وثبوت اخليار للمشرتي يف رد املبيع ابلعيب‬ ‫الضر يزال شرعا‪:‬‬
‫وسائر أنواع اخليارات‪ ،‬واجلرب على القسمة إذا امتنع الشريك‪ ،‬ووجوب الوقاية والتداوي من‬
‫األمراض‪ ،‬وقتل الضار من احليوان‪ ،‬وتشريع العقوابت على اجلرائم من حدود وتعازير وكفارات‪.‬‬

‫من فروعه ‪ :‬ال جيوز لإلنسان أن يدفع الغرق عن أرضه إبغراق أرض غريه‪ ،‬وال أن َيفظ ماله‬ ‫الضرر ال يزال ابلضرر‪:‬‬
‫إبتالف مال غريه‪ ،‬وال جيوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر‪.‬‬
‫من فروعه‪ :‬يقتل القاتل لتأمني الناس على نفوسهم‪ ،‬وتقطع يد السارق لتأمني الناس على‬ ‫يتحمل الضرر اخلاص لدفع‬
‫أمواهلم‪ ،‬ويهدم اجلدار اآليل للسقوط يف الطريق العام‪ ،‬وَيجر على املفيت املاجن‪ ،‬والطبيب‬ ‫الضرر العام‬
‫اجلاهل‪ ،‬واملكاري املفلس‪ ،‬يباع مال املدين جرباً عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه‪ ،‬تسعري أمثان‬
‫احلاجيات إذا غال أرابهبا يف أمثاهنا‪ ،‬يباع الطعام جرباً على مالكه إذا احتكر واحتاج الناس إليه‬
‫وامتنع عن بيعه‪ ،‬مينع اختاذ حانوت حداد بني جتار األقمشة‪.‬‬
‫من فروعه‪َ :‬يبس الزوج إذا ماطل يف القيام بنفقة زوجته‪ ،‬وَيبس القريب إذا امتنع عن اإلنفاق‬ ‫يرتكب أخف الضررين اتقاء‬
‫على قريبه‪ ،‬تطلق الزوجة للضرر ولإلعسار‪ ،‬إذا اضطر املريض إىل تناول امليتة أو مال الغري‬ ‫ألرشدمها‬
‫تناوله‪ ،‬إذا عجز مريد الصالة عن التطهري أو استقبال القبلة صلى كما قدر‪ ،‬ألن ترك هذه‬
‫الشروط أخف من ترك الصالة‪.‬‬
‫ولذا جاء يف احلديث‪(( :‬ما هنيتكم عنه فاجتنبوه‪ ،‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم))‪ ،‬ومن‬ ‫دفع املضار مقدم على‬
‫فروعه‪ :‬مينع أن يتصرف املالك يف ملكه إذا كان تصرفه يضر بغريه‪ ،‬ويكره للصائم أن يبالغ يف‬ ‫جلب املنافع‬
‫املضمضة أو االستنشاق‪.‬‬

‫من فروعه‪ :‬من اضطر إىل خممصة إىل ميتة أو دم أو أي حمرم فال إمث عليه يف تناوله‪ ،‬من مل‬ ‫الضرورات تبيح احملظورات‬
‫يستطيع الدفاع عن نفسه إال ابإلضرار بغريه فال إمث عليه يف الدفاع به‪ ،‬من امتنع من أداء دينه‬
‫يؤخذ الدين من ماله بغري إذنه‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫من فروعه‪ :‬ليس للمضطر أن يتناول من احملرم إال قدر ما يسد الرمق‪ ،‬وال يعفى من النجاسة‬ ‫الضرورات تقدر بقدرها‬
‫إال القدر الذي ال ميكن االحرتاز منه‪ ،‬وأحكام الرخص تبطل إذا زالت أسباهبا‪ ،‬فالتيمم يبطل‬
‫إذا تيسر التطهري ابملاء‪ ،‬والفطر َيرم يف رمضان إذا أقام املسافر الصحيح‪ ،‬وكل ما جاز لعذر‬
‫يبطل زواله‪.‬‬
‫وهذا بيان املبادئ اخلاصة برفع احلرج وأمثلة مما يتفرع عنها‪:‬‬

‫من فروعها‪ :‬مجيع الرخص اليت شرعها هللا ترفيهاً وختفيفاً عنة املكلف لسبب من األسباب اليت‬ ‫املشقة جتلب التيسري‬
‫تقتضي هذا التخفيف‪.‬‬

‫وهذه األسباب ابالستقراء سبعة‪:‬‬


‫السفر‪ :‬ومن أجله أبيح الفطر يف رمضان‪ ،‬وقصر الصالة الرابعية‪ ،‬وسقوط اجلمعة‪ ،‬واجلماعة‪،‬‬
‫والتيمم‪.‬‬
‫املرض‪ :‬ومن أجله أبيح الفطر يف رمضان‪ ،‬التيمم‪ ،‬والصالة قاعداً‪ ،‬وتناول احملرم للعالج‪.‬‬
‫اإلكراه‪ :‬ومن أجله أبيح للمكره التلفظ بكلمة الكفر‪ ،‬وترك الواجب‪ ،‬وإتالف مال الغري‪،‬‬
‫وأكل امليتة‪ ،‬وشرب اخلمر‪.‬‬
‫النسيان‪ :‬ومن أجله رفع اإلمث عمن ارتكب معصية انسياً‪ ،‬ومل يبطل صوم من أكل يف هنار‬
‫رمضان أو شرب انساً‪ ،‬ومل حترم ذبيحة من ترك التسمية عليها عند ذحبها انسياً‪.‬‬
‫اجلهل‪ :‬ومن أجله ساغ رد املبيع ابلعيب ملن اشرتاه جاهالً بعيبه‪ ،‬و ساغ فسخ الزواج ابلعيب‬
‫ملن تزوج جاهالً به‪ ،‬واغتفر التناقض يف دعوى النسب للجهل‪ ،‬وكذلك اغتفر التناقض للوراث‬
‫والوصي وانظر الوقف للجهل‪.‬‬
‫عموم البلوى‪ :‬ومن أجله عفي عن رشاش النجاسات من طني الشوارع وغريه مما ال ميكن‬
‫االحرتاز عنه‪ ،‬وعفي عن الغنب اليسري يف املعاوضات‪.‬‬
‫النقص‪ :‬ومن فروعه‪ :‬رفع التكليف عن فاقد األهلية كالطفل واجملنون‪ ،‬ورفع بعض الواجبات‬
‫عن األرقاء وعن النساء‪ ،‬ولذا ال جتب عليهن اجلمعة وال اجلماعة‪ ،‬وال اجلهاد‪.‬‬

‫من فروعه‪ :‬فبول شهادة النساء وحدهن فيما ال يطلع عليه الرجال من عيوب النساء وشؤوهنن‪،‬‬ ‫احلرج شرع ا مرفوع‬
‫واالكتفاء بغلبة الظن دون التزام اجلزم والقطع يف استقبال القبلة وطهارة املكان واملاء والقضاء‬
‫والشهادة‪ ،‬ومن فروعه‪ :‬ما قرروه من انه إذا ضاق األمر اتسع‪.‬‬

‫ومن فروعه‪ :‬الرتخيص يف السلم‪ ،‬وبيع الوفاء‪ ،‬واالستصناع‪ ،‬وضمان الدرك‪ ،‬وجواز االستقراض‬ ‫احلاجات تنزل منزله‬
‫ابلربح للمحتاج‪ ،‬وغري ذلك مما فيه العقد أو التصرف على جمهول أو معدوم‪ ،‬ولكن قضت به‬ ‫الضرورات يف إابحة‬
‫حاجة الناس‪.‬‬ ‫احملظورات‬
‫ومما يتفرع على هذا املبدأ حكم كثري من عقود املعامالت وضروب الشركات اليت حتدث بني‬
‫الناس وتقتضيها جتارهتم‪ ،‬فإنه إذا قام الربهان الصحيح‪ ،‬ودل االستقراء التام على أن نوعاً من‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫هذه العقود والتصرفات صار حاجياً للناس حبيث يناهلم احلرج والضيق إذا حرم عليهم هذا النوع‬
‫من التعامل‪ ،‬أبيح هلم قدر ما يرفع احلرج منه ولو كان حمظوراً ملا فيه من الراب أو شبهته‪ ،‬بناء‬
‫على أن احلاجيات تبيح احملظورات كالضرورات‪ ،‬وتقدر بقدرها كالضرورات‪.‬‬
‫قال صاحب األشباه والنظائر‪(( :‬ومن ذلك اإلفتاء بصحة بيع الوفاء حني كثر الدين على أهل‬
‫خبارى‪ ،‬وهكذا مصر‪ ،‬وقد مسوه بيع األمانة ‪ 000‬ويف القنية والبغية‪ :‬جيوز للمحتاج االستقراض‬
‫ابلربح))‪.‬‬

‫القاعدة الثانية ‪ :‬فيما هو حق هللا‪ ،‬وما هو حق املكلف‬

‫أفعال املكلفني اليت تعلقت هبا األحكام الشرعية‪ ،‬إن كان املقصود هبا مصلحة اجملتمع عامة فحكمها حق خالص هلل وليس للمكلف فيه‬
‫خيار‪ ،‬وتنفيذه لويل األمر‪ .‬وإن كان املقصود هبا مصلحة املكلف خاصة‪ ،‬فحكمها حق خالص للمكلف وله يف تنفيذه اخليار‪ .‬وإن كان‬
‫املقصود هبا مصلحة اجملتمع واملكلف معاً‪ ،‬ومصلحة اجملتمع فيها أظهر‪ ،‬فحق هللا فيها الغالب‪ ،‬وحكمها كحكم ما هو حق خالص هلل‪،‬‬
‫وإن كانت مصلحة املكلف فيها أظهر‪ ،‬فحق املكلف فيها الغالب‪ ،‬وحكمها كحكم ما هو خالص للمكلف‬
‫القاعدة التشريعية األوىل تضمنت أن أحكام اإلسالم بوجه عام إمنا قصد هبا حتقيق مصاحل الناس‪ ،‬وهذه القاعدة التشريعية الثانية‬
‫تضمنت أن املصلحة اليت قصد بتشريع احلكم حتقيقها قد تكون مصلحة عامة للمجتمع‪ ،‬وقد تكون مصلحة خاصة للفرد‪ ،‬وقد تكون‬
‫‪196‬‬
‫مصلحة هلما معاً‪.‬‬

‫املراد مبا هو حق هللا ما هو حق اجملتمع وشرع حكمه للمصلحة العامة ال ملصلحة فرد خاص‪ ،‬فلكونه من‬ ‫حق هللا‬ ‫‪1‬‬
‫النظام العام‪ ،‬ومل يقصد به نفع فرد خبصوصه نسب إىل رب الناس مجيعهم‪ ،‬ومسي حق هللا‪.‬‬

‫املراد مبا هو حق املكلف ما هو حق الفرد‪ ،‬وشرع حكمه ملصلحته خاصة‪ ،‬وقد ثبت ابالستقراء أن أفعال‬ ‫حق املكلف‬ ‫‪2‬‬
‫املكلفني اليت تعلقت هبا األحكام الشرعية‪ ،‬منها ما هو حق خالص هلل‪ ،‬ومنها ما هو حق خالص للمكلف‪،‬‬
‫ومنها ما اجتمع فيه احلقان‪ ،‬حق هللا غالب‪ ،‬ومنها ما اجتمع فيه احل ّقان‪ ،‬وحق املكلف غالب‪.‬‬
‫فأما ما هو حق خالص هلل فهو منحصر ابالستقراء فيما أييت‪:‬‬
‫‪ -1‬العبادات احملضة كالصالة والصيام والزكاة واحلج‪ ،‬وما بنيت عليه هذه العبادات من اإلميان واإلسالم‪ ،‬فأن‬
‫هذه العبادات وأسسها مقصود هبا إقامة الدين وهو ضروري لنظام اجملتمع‪ ،‬وحكمة تشريع كل عبادة منها على أهنا ملصلحة‬
‫عامة ى ملصلحة املكلف وحده‪.‬‬

‫‪ -2‬العبادات اليت فيها معىن املؤونة كصدقة الفطر‪ ،‬فإهنا عبادة من جهة أهنا تقرب إىل هللا ابلصدقة للفقراء‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪216-211‬‬ ‫‪196‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫واملساكني‪ ،‬ولكنها ليست عبادة حمضة بل فيها معىن الضريبة على النفس‪ ،‬لبقائها وحفظها‪ ،‬وهذا مرادهم أبن فيها معىن املؤونة‪،‬‬
‫وهلذا ال جتب على اإلنسان عن نفسه فقط‪ ،‬بل جتب عليه عن نفسه‬

‫وعمن يعوهلم منن هم يف واليته‪ ،‬كابنه الصغري وخادمه‪ .‬ولو كانت عبادة حمضة ما وجبت على اإلنسان إال على نفسه‪ ،‬وكان‬
‫ينبغي أن تعد الزكاة من هذا النوع من األول وهو العبادات احملضة‪ ،‬ألن الزكاة عبادة فيها معىن الضريبة على املال لبقائه وحفظه‪،‬‬
‫وهلذا جتب على رأي مجهور اجملتهدين يف مال فاقد األهلية كالصيب‪ ،‬واجملنون‪ ،‬ولو كانت عبادة حمضة ما وجبت إال على البالغ‬
‫العاقل‪.‬‬
‫‪ -3‬الضرائب اليت فرضت على األرض الزراعية‪ ،‬سواء أكانت عشرية أم خراجية‪ ،‬وسواء أكان املفروض على‬
‫األرض العشرية العشر أم نصف العشر‪ ،‬واملفروض على األرض اخلراجية خراج وظيفة أم خراج مقامسة‪ ،‬فإن املقصود من هذه‬
‫الضرائب صرفها يف املصاحل العامة اليت يقتضيها بقاء األرض يف يد أرابهبا واستثمارها كإصالح طرق الري والصرف‪ ،‬وإقامة‬
‫اجلسور‪ ،‬ومتهيد الطرق ومحايتها من العدوان عليها‪ ،‬ومعونة الفقراء‪ ،‬واملساكني‪ ،‬وغري ذلك مما تستوجبه املصلحة العامة والتأمني‬
‫االجتماعي‪.‬‬
‫وقد أطلق األصوليني على ضريبة األرض العشرية أهنا مؤونة فيها معىن العبادة‪ ،‬وعلى ضريبة األرض اخلراجية أهنا مؤونة فيها معىن‬
‫العقوبة‪ .‬أما العلة يف أن كالً منهما مؤونة فظاهرة‪ ،‬لن مؤونة الشئ ما به بقاؤه‪ ،‬وهذه الضريبة هبا األرض يف أيدي أهلها مستثمرة‬
‫غري معتدى عليها‪ .‬وأما العلة يف أن ضريبة األرض العشرية فيها معىن العبادة فظاهرة أيضاً‪ ،‬ألن زكاة اخلارج من األرض تصرف‬
‫مصارف الزكاة‪ .‬وأما العلة يف أن ضريبة األرض اخلراجية فيها معىن العقوبة فغري ظاهرة‪ ،‬ألن اخلراج ضريبة وضعها عمر بن‬
‫اخلطاب على األرض الزراعية اليت استبقيت يف أيدي غري املسلمني ليصرفها يف املصاحل العامة نظري الضريبة اليت فرضها هللا على‬
‫األرض اليت يف أيدي املسلمني لصرفها يف املصاحل العامة‪ .‬واآلراء اليت تبودلت بني عمر وكبار الصحابة يف وضع هذه الضريبة ال‬
‫يؤخذ منها أن فيها معىن العقوبة‪.‬‬

‫‪ -4‬الضرائب اليت فرضت فيما يغنم ابجلهاد‪ ،‬وفيما يوجد يف ابطن األرض من الكنوز واملعادن‪ ،‬فإن الشارع‬
‫جعل أربعة أمخاس الغنيمة للغامنني ومخسها ملصاحل عامة بينها هللا يف القرآن بقوله‪ { :‬واعلَمواْ أََّمنَا َغنِمتم ِمن َشي ٍء فَأ َّ ِ ِ‬
‫َن َّّلل مخُُ َسهُ‬ ‫ُْ ّ ْ‬ ‫َُْ‬
‫السبِ ِيل}[األنفال‪ ،]41:‬وجعل أربعة أمخاس ما يوجد من املعادن والكنوز‬ ‫ول ولِ ِذي الْ ُق ْرَىب والْيَـتَ َامى والْمساكِ ِ‬
‫ني َوابْ ِن َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬ ‫َول َّلر ُس َ‬
‫للواجد‪ ،‬ومخسة ملصاحل عامة بينها‪.‬‬

‫‪ -5‬أنواع من العقوابت الكاملة وهي‪ ،‬حد الزان‪ ،‬وحد السرقة‪ ،‬وحد البغاة الذين َياربون هللا ورسوله‪ ،‬ويسعون يف‬
‫األرض فساداً فهي ملصلحة اجملتمع كله‪.‬‬

‫‪ -6‬نوع من العقوابت القاصرة‪ ،‬وهو حرمان القاتل من اإلرث فهو عقوبة قاصرة‪ ،‬ألنه عقوبة سلبية مل يلحق‬
‫القاتل هبا تعذيب بدين‪ ،‬أو غرم مايل‪ ،‬وهو حق هللا ألنه ليس فيه نفع للمقتول‪.‬‬

‫‪ -7‬وعقوابت فيها معىن العبادة‪ ،‬كالكفارة ملن حنث يف ميينه‪ ،‬والكفارة ملن أفطر يف رمضان عمداً‪ ،‬والكفارة ملن‬
‫قتل خطأ أو ظاهر زوجته‪ ،‬فهي عقوبة ألهنا وجبت جزاء على معصية‪ ،‬وهلذا مسيت كفارة‪ ،‬أي ستارة لإلمث‪ ،‬وفيها معىن العبادة‬
‫ألهنا تؤدي مبا هو عبادة من صوم‪ ،‬أو صدقة‪ ،‬أو حترير رقبة‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫فهذه األنواع كلها حق خالص هلل‪ ،‬وتشريعها لتحقيق مصاحل الناس العامة‪ ،‬وليس للمكلف اخلرية فيها‪ ،‬وليس له إسقاطها‪ ،‬ألن‬
‫املكلف ال ميلك أن يسقط إال حق نفسه‪ ،‬وال ميلك أن يسقط صالة أو صوماً أو حجاً أو زكاة أو صدقة واجبة‪ ،‬أو ضريبة‬
‫مفروضة‪ ،‬أو عقوبة من هذه العقوابت ألهنا ليست حقه‪.‬‬

‫وأما ما هو حق خالص للمكلف فمثاله‪:‬‬


‫تضمني من أتلف املال مبثله أو قيمته‪ ،‬هو حق خالص لصاحب املال عن شاء ضمن وإن شاء ترك‪ ،‬وحبس العني املرهونة حق‬
‫خالص للمرهتن‪ ،‬واقتضاء الدين حق خالص للدائن‪ .‬فالشارع أثبت هذه احلقوق ألرابهبا‪ ،‬وهم هلم اخلرية إن شاءوا استوفوا‬
‫حقوقهم‪ ،‬وإن شاءوا أسقطوها‪ ،‬ونزلوا عنها‪ ،‬ألن لكل مكلف احلق يف أن يتصرف يف حق نفسه‪ ،‬وهذه ليست من املصاحل‬
‫العامة‪.‬‬

‫وأما ما اجتمع فيه احلقان وحق هللا فيه غالب‪:‬‬


‫فهو حد القذف‪ ،‬ألنه من جهة أنه صيانة ألغراض الناس‪ ،‬ومنع من التعادي والتقاتل َيقق مصلحة عامة‪ ،‬فيكون من حق هللا‪،‬‬
‫ومن جهة أنه دفع للعار عن احملصنة اليت قذفت وإعالن لشرفها وحصانتها َيقق مصلحة خاصة هبا فيكون من حق الفرد‪ ،‬ولكن‬
‫اجلهة األوىل أظهر يف العقوبة‪ ،‬فلهذا كان حق هللا غالباً فيها‪ ،‬فليس للمقذوفة أن تسقط احلد عن قاذفها ألهنا ال متلك إسقاط‬
‫حد غلب حق هللا فيه‪ ،‬وليس هلا أن تقيم احلد بنفسها ألن احلدود اليت هي حق خالص هلل أو يغلب فيها حق هللا ال يقيمها إال‬
‫احلكومة‪ ،‬وليس للمجين عليه أن يقيمها بنفسه‪.‬‬

‫وأما ما اجتمع فيه احلقان‪ ،‬وحق املكلف فيه غالب‪:‬‬


‫فهو القصاص من القاتل العامد‪ ،‬فإن القصاص من جهة أن فيه حياة الناس بتأمينهم على أنفسهم َيقق مصلحة عامة‪ ،‬ومن‬
‫جهة أن فيه شفاء صدور أولياء املقتول‪ ،‬وإطفاء انر غضبهم وحقدهم على القاتل َيقق مصلحة خاصة‪ ،‬ولكن اجلهة الثانية‬
‫غلبت‪ ،‬وهلذا كان حق املكلف غالباً معه‪ ،‬ولو جاز لويل املقتول أن يعفو فال يقتص منه‪ ،‬وال يقتص من القاتل أال بناء على‬
‫طلب ويل املقتول‪.‬‬
‫ومن هذا يؤخذ أن العقوابت املقدرة يف القرآن وهي احلدود الشرعية اخلمسة‪ ،‬منها ما هو حق خالص هلل‪ ،‬وهي حد الزان‪ ،‬وحد‬
‫السرقة‪ ،‬وحد السعي يف األرض فساداً ابخلروج على اجلماعة‪ ،‬ومنها ما اجتمع فيه احلقان وحق هللا غالب فيه‪ ،‬وهو حد قذف‬
‫احملصنات‪ .‬ويف هذين ال ميلك اجملين عليه العفو عن اجلاين‪ ،‬وال ميلك أن يتوىل عقابه بنفسه‪ ،‬ألن حق هللا خالصاً أو غالباً ال‬
‫ميلك املكلف إسقاطه‪ ،‬واملنوط ابستيفائه اإلمام العام((احلكومة))‪ .‬ومنها ما اجتمع فيه احلقان وحق املكلف غالب فيه‪ ،‬وهو‬
‫القصاص‪ ،‬فللمجين عليه أن يعفوا عن القاتل‪ ،‬وإذا حكم على القاتل ابلقصاص كان له أن يتوىل تنفيذ احلكم‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬اي‬
‫أَيـُّها الَّ ِذين آمنُواْ ُكتِب علَي ُكم ال ِْقصاص ِيف الْ َقتْـلَى ا ْحلُّر ِاب ْحل ِر والْعب ُد ِابلْعب ِد واألُنثَى ِابألُنثَى فَمن ع ِفي لَه ِمن أ ِ‬
‫َخ ِيه َش ْيءٌ فَاتِّبَاعٌ‬ ‫َْ ُ َ ُ ْ‬ ‫ُ ُّ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َْ ُ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِابل َْم ْعُروف َوأ ََداء إلَيْه إب ْح َسان}[البقرة‪.]178:‬‬
‫ومما تقدم يتبني أمران‪:‬‬
‫‪ -1‬أوهلما‪ :‬أن كل ح ّد من احلدود الشرعية فيه حق هلل‪ ،‬أي للمجتمع‪ ،‬ولكن هذا احلق قد يكون خالصاً‪،‬‬
‫وقد يكون معه حق للفرد‪ ،‬إما راجحاً وأما مرجوحاً‪.‬‬
‫‪ -2‬واثنيهما‪ :‬أن الشريعة اإلسالمية تفرتق والنظرية اجلنائية يف قوانيننا الوضعية يف عقوبة القصاص من‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫القاتل العامد‪ ،‬ويف عقوبة الزوجة اليت ثبت زانها‪.‬‬


‫ففي عقوبة القصاص من القاتل العامد‪:‬‬ ‫•‬

‫الشريعة اإلسالمية جعلت هذه العقوبة فيها حق للمجين عليه وهو ويل املقتول‪ ،‬وفيها حق هللا أي اجملتمع‪ ،‬وجعلت‬
‫حق اجملين عليه أرجح‪ ،‬ورتبت على أن فيها حقاً راجحاً للمجين عليه أهنا جعلت احلق له يف رفع الدعوى بطلب احلكم‬
‫ابلقصاص‪ ،‬وجعلت له احلق إذا حكم ابلقصاص أن يعفو‪ ،‬وأن يتوىل التنفيذ‪ .‬ورتبت على أن فيها حقاً هلل وأن للحكومة يف‬
‫حال عفو اجملين عليه أن تعاقب اجلاين مبا تراه رادعاً له ولغريه‪ ،‬ألن نزول أحد صاحيب احلق عن حقه ال يسقط حق اآلخر‪.‬‬
‫وأما القوانني الوضعية فقد جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً للمجتمع‪ ،‬وجعلت رفع الدعوى على القاتل من‬
‫اختصاص النيابة العمومية‪ ،‬وال ميلك اجملين عليه عفواً وال مباشرة تنفيذ‪ ،‬وحق العفو ومباشرة التنفيذ هو لويل األمر العام‪.‬‬

‫ويف عقوبة الزوجة اليت ثبت زانها‪:‬‬ ‫•‬

‫الشريعة اإلسالمية جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً هلل أي للمجتمع‪ ،‬وجعلت رفع الدعوى على الزانية من‬
‫اختصاص النيابة العمومية‪ ،‬وتنفيذ احلكم من اختصاص السلطة التنفيذية‪ ،‬وال ميلك زوجها وال أي فرد غريه وقف إجراءات‬
‫الدعوى عليها‪ ،‬وال وقف تنفيذ احلكم عليها بعد صدوره‪.‬‬
‫وأما يف القوانني الوضعية‪ ،‬فال ترفع الدعوى إال بشكوى من زوجها‪ ،‬وله أن يوقف إجراءات الدعوى عليها‪ ،‬وإذا حكم عليها‪،‬‬
‫فله أن يوقف تنفيذ احلكم برضاه مبعاشرهتا‪.‬‬

‫القاعدة الثالثة ‪ :‬فيما يسوغ االجتهاد فيه‬

‫غ لالجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي‬


‫ال مسا م‬
‫‪197‬‬
‫هو بذل اجلهد للوصول إىل احلكم الشرعي من دليل تفصيلي من األدلة الشرعية‪.‬‬ ‫االجتهاد يف اصطالح‬
‫األصوليني‪:‬‬
‫‪ .1‬فإن كانت الواقعة اليت يراد معرفة حكمها قد دل على احلكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الورود والداللة فال جمال لالجتهاد‬
‫فيها‪ ،‬والواجب ألن ينفذ فيها ما دل عليه النص‪ ،‬ألنه ما دام قطعي الورود فليس ثبوته وصدوره عن هللا أو رسوله موضع حبث‬
‫وبذل جهد‪ .‬وما دام قطعي الداللة فليست داللته على معناه واستفادة احلكم منه موضع حبث واجتهاد‪ .‬وعلى هذا فآايت‬
‫األحكام املفسرة اليت تدل على املراد منها داللة واضحة‪ ،‬وحتتمل أتويالً جيب تطبيقها‪ ،‬وال جمال لالجتهاد يف الوقائع اليت تطبق‬
‫اح ٍد ِّمْنـ ُه َما ِمئَةَ َجلْ َدةٍ}[النور‪ ،]2:‬ال جمال لالجتهاد يف عدد اجللدات‪.‬‬
‫الزِاين فَاجلِ ُدوا ُك َّل و ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫فيها‪ ،‬ففي قوله تعاىل‪َّ { :‬‬
‫الصالَةَ َوآتُواْ َّ‬
‫الزَكاةَ}[البقرة‪ ،]43:‬بعد أن فسرت السنة العلمية‬ ‫يمواْ َّ‬‫ِ‬
‫وكذلك يف كل عقوبة أو كفارة مقدرة‪ .‬ويف قوله تعاىل‪َ { :‬وأَق ُ‬
‫املراد من الصالة أو الزكاة‪ ،‬ال جمال لالجتهاد يف تعرف املراد من أحدمها‪ .‬فما دام النص صرَياً مفسراً بصيغة أو مبا أحلقه الشارع‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪221-215‬‬ ‫‪197‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫به من تفسري وبيان‪ ،‬فال مساغ لالجتهاد فيما ورد فيه‪ .‬ومثل هذه اآلايت القرآنية املفسرة السنن املتواترة املفسرة‪ ،‬كحديث األموال‬
‫الواجبة فيها الزكاة ومقدار النصاب من كل مال منها ومقدار الواجب فيه‪.‬‬
‫‪ .2‬أما إذا كانت الواقعة اليت يراد معرفة حكمها قد ورد فيها نص ظين الورود والداللة أو أحدمها ظين فقط ففيهما لالجتهاد جمال‪،‬‬
‫ألن اجملتهد عليه أن يبحث يف الدليل الظين الورود من حيث سنده‪ ،‬وطريق وصوله إلينا عن الرسول‪ ،‬ودرجة رواته من العدالة‬
‫والضبط والثقة والصدق‪ ،‬ويف هذا خيتلف تقدير اجملتهدين للدليل‪ .‬فمنهم من يطمئن إىل روايته وأيخذ به‪ ،‬ومنهم من ال يطمئن‬
‫إىل روايته وال أيخذ به‪ .‬وهذا ابب من األبواب اليت اختلف من أجلها اجملتهدون يف كثري من األحكام العلمية‪.‬‬

‫فإن أداة اجتهاده يف سند الدليل إىل االطمئنان لروايته‪ ،‬وصدق رواته‪ ،‬واجتهد يف معرفة ما يدل عليه الدليل من األحكام‬
‫وما يطبق فيه من الوقائع‪ ،‬ألن الدليل قد يدل ظاهره على معىن‪ ،‬ولكنه ليس هو املراد‪ .‬وقد يكون عاماً‪ ،‬وقد يكون مطلقاً‪ ،‬وقد يكون‬
‫على صيغة األمر والنهي‪ ،‬فاجملتهد يصل ابجتهاده إىل معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول‪ ،‬وأن العام ابق على عمومه أو هو‬
‫خمصص‪ ،‬وكذلك املطلق على إطالقه أو هو مقيد‪ ،‬واألمر لإلجياب أو لغريه‪ ،‬والنهي للتحرمي أو لغريه‪ .‬وهاديه يف اجتهاده القواعد‬
‫األصولية اللغوية‪ ،‬ومقاصد الشارع ومبادئه العامة‪ ،‬وسائر نصوصه اليت بينت أحكاماً‪ ،‬وهبذا يصل إىل أن النص يطبق يف هذه الواقعة أو‬
‫ال يطبق‪.‬‬

‫وكذلك إذا كانت الواقعة ال نص على حكمها أصالً ففيها جمال متسع لالجتهاد‪ ،‬ألن اجملتهد يبحث ليصل إىل معرفة‬
‫حكمها بواسطة القياس‪ ،‬أو االستحسان أو االستصحاب أو مراعاة العرف أو املصاحل املرسلة‪.‬‬
‫فاخلالصة‪ :‬أن جمال االجتهاد أمران‪:‬‬
‫(‪ )1‬ما ال نص فيه أصالً‪،‬‬
‫(‪ )2‬وما فيه نص غري قطعي‪،‬‬
‫(‪ )3‬وال جمال لالجتهاد فيما فيه نص قطعي‪.‬‬

‫وعلى هذا أصول التيقني الوضعي‪ ،‬فقد جاء كتاب أصول القوانني‪ :‬األصل‪ ،‬أنه ما دام القانون صرَياً فال جيوز أتويله وتغيري‬
‫نصوصه‪ ،‬لبناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيري‪ ،‬حىت لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غري عادل‪ ،‬ألن مرجع ذلك إىل‬
‫املشرع نفسه‪ ،‬ومأمورية القاضي قاصرة على احلكم مبقتضى القانون ال احلكم على القانون‪.‬‬

‫بعد أن بينا ما فيه جمال لالجتهاد‪ ،‬وما ليس فيه جمال نبني من يكون أهالً لالجتهاد‪.‬‬ ‫األهلية لالجتهاد‪:‬‬
‫يشرتط لتحقيق األهلية لالجتهاد شروط أربعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون اإلنسان على علم ابللغة العربية وطرق داللة عباراهتا ومفرداهتا‪ ،‬وله ذوق يف‬
‫فهم أساليبها كسبه من احلذق يف علومها وفنوهنا‪ ،‬وسعة االطالع على آلداهبا وآاثر فصاحتها من‬
‫شعر ونثر غريمها‪ ،‬ألن أول وجهة للمجتهد هي النصوص يف القرآن والسنة وفهمها العريب الذي‬
‫وردت هذه النصوص بلغته‪ ،‬وتطبيق القواعد األصولية اللغوية يف استفادة املعاين من العبارات‬
‫واملفردات‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫الثاين‪ :‬أن يكون على علم ابلقرآن‪ ،‬واملراد أن يكون عليماً ابألحكام الشرعية اليت جاء هبا القرآن‪،‬‬
‫وابآلايت اليت نصت على هذه األحكام‪ ،‬وبطرق استثمار هذه األحكام من آايهتا‪ ،‬حبيث إذا‬
‫عرضت له واقعة كان ميسوراً له أن يستحضر كل ما ورد يف موضوع هذه الواقعة من آايت‬
‫األحكام يف القرآن‪ ،‬وما صح من أسباب نزول كل آية منها‪ ،‬وما ورد يف تفسريها وأتويلها من‬
‫آاثر‪ ،‬وعلى ضوء هذا يستنبط حكم الواقعة‪.‬‬
‫وآايت األحكام يف القرآن ليست كثرية‪ ،‬وقد خصها بعض املفسرين بتفسري خاص‪ .‬ومن املمكن‬
‫أن جتمع اآلايت املرتبطة مبوضوع واحد بعضها مع بعض‪ ،‬حبيث يتيسر لإلنسان أن يرجع يف‬
‫جمموعة واحدة إىل كل اآلايت القرآنية اليت تضمنت أحكاماً يف الطالق‪ ،‬وكل اآلايت اليت‬
‫تضمنت أحكاماً يف الزواج‪ ،‬ويف اإلرث‪ ،‬ويف العقوابت‪ ،‬ويف املعامالت‪ ،‬ويف غري ذلك من أنواع‬
‫أحكام القرآن‪ .‬ومن امليسور أن يذكر مع كل آية ما ورد يف الصحاح من سبب نزوهلا‪ ،‬وما ورد‬
‫من األحاديث اليت فيها تبيني جململها‪ ،‬وما ورد من اآلاثر يف تفسريها‪ ،‬وهبذا تكون اجملموعة‬
‫القانونية يف القرآن ميسوراً الرجوع إليها عند احلاجة‪ ،‬وميسوراً مقارنة مواد املوضوع الواحد بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وفهم كل مادة على ضوء سائر مواد موضوعها ألن القرآن يفسر بعضه بعضاً‪ ،‬ومن اخلطأ‬
‫أن تفهم آية منه على أهنا وحدة مستقلة‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن يكون على علم ابلسنة كذلك‪ ،‬أبن يكون عليما ابألحكام الشرعية اليت وردت‬
‫هبا السنة حبيث يستطيع يف كل ابب من أبواب أعمال املكلفني أن يستحضر ما ورد يف السنة‬
‫من أحكام هذا الباب‪ ،‬ويعرف درجة سند هذه السنة من الصحة أو الضعف يف الرواية‪ .‬ولقد‬
‫أدى العلماء للسنة النبوية خدمات جليلة‪ ،‬وعنوا بفحص أسانيدها ورواة كل حديث منها‪ ،‬حىي‬
‫كفوا من جاء بعدهم مؤونة البحث يف األسانيد‪ ،‬وصار معروفاً يف كل حديث أنه متواتر‪ ،‬أو‬
‫مشهور‪ ،‬أو صحيح‪ ،‬أو حسن‪ ،‬أو ضعيف‪.‬‬
‫وكذلك عين العلماء جبمع أحاديث األحكام‪ ،‬وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال‬
‫املكلفني‪ ،‬حبيث يتيسر لإلنسان أن يرجع إىل ما ورد يف السنة الصحيحة من أعمال البيع أو‬
‫الطالق أو الزواج أو العقوابت أو غريها‪ ،‬ويستطيع أن يرجع إىل اآلايت واألحاديث اليت وردت‬
‫يف موضوع واحد من موضوعات األحكام‪ ،‬وعلى ضوئها يفهم احلكم الشرعي‪ .‬ومن خري الكتب‬
‫اليت يرجع إليها يف هذا ((كتاب نيل األوطار)) لإلمام الشوكاين‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن يعرف وجوه القياس‪ ،‬وذلك أبن يعرف العلل واحلكم التشريعية اليت شرعت من‬
‫أجلها األحكام‪ ،‬ويعرف املسالك اليت مهدها الشارع ملعرفة علل أحكامه‪ ،‬ويكون خبرياً بوقائع‬
‫أحوال الناس ومعامالهتم‪ ،‬حىت يعرف ما تتحقق فيه علة احلكم من الوقائع اليت ال نص فيها‪،‬‬
‫ويكون خبرياً أيضاً مبصاحل الناس وعرفهم‪ ،‬وما يكون ذريعة إىل اخلري والشر فيهم‪ ،‬حىت إذا مل جيد‬
‫يف القياس سبيالً إىل معرفة حكم الواقعة‪ ،‬سلك سبيالً أخرى من السبل اليت مهدهتا الشريعة‬
‫للوصول إىل استنباط احلكم فيما ال نص فيه‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ومما ينبغي التنبيه إليه أمور ثالثة‪:‬‬

‫(‪ )1‬أحدمها‪ :‬أن االجتهاد ال يتجزأ‪:‬‬

‫أي انه ال يتصور أن يكون العامل جمتهداً يف أحكام الطالق وغري جمتهد يف أحكام‬
‫البيع‪ ،‬أو جمتهد يف أحكام العقوابت‪ ،‬وغري جمتهد يف أحكام العبادات‪ ،‬ألن االجتهاد كما يؤخذ‬
‫مما قدمناه أهلية وملكة يقتدر هبا اجملتهد على فهم النصوص واستثمار األحكام الشرعية منها‪،‬‬
‫واستنباط احلكم فيما ال نص فيه‪ .‬فمن توافرت فيه شروط االجتهاد وتكونت له هذه امللكة ال‬
‫يتصور املدينات دون العقوابت أو يف العقوابت دون املدنيات‪ ،‬ولكن ال يتصور أن يكون قادراً‬
‫على االجتهاد يف هذا املوضوع من األحكام دون هذا‪ .‬وألن عماد اجملتهد يف اجتهاده فهم‬
‫املبادئ العامة وروح التشريع اليت بثها الشارع يف خمتلف أحكامه وبين عليه تشريعه‪ .‬وهذه الروح‬
‫التشريعية واملبادئ العامة ال ختص ابابً دون ابب من أبواب األحكام‪ ،‬وفهمها حق فهمها ال يتم‬
‫غال أبقصى ما يستطاع من استقراء األحكام الشرعية وحكمها يف خمتلف األبواب‪ .‬وقد يكون‬
‫هادي اجملتهد يف أحكام الزواج مبدأ أو تعليالً تقرر يف أحكام البيع‪ .‬فال يكون جمتهداً إال إذا كان‬
‫على علم اتم أبحكام القرآن والسنة حىت يصل من مقارنة بعضها ببعض‪ ،‬ومن مبادئها العامة إىل‬
‫االستنباط الصحيح‪.‬‬

‫(‪ )2‬واثنيها‪ :‬أن اجملتهد مأجور‪ ،‬إن أصاب فله أجران‪:‬‬

‫أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الصواب‪ ،‬وإن أخطأ فله أجر واحد على‬
‫اجتهاده‪ ،‬ألننا قدمنا أن هللا سبحانه ما ترك الناس سدى‪ ،‬بل شرع لكل فعل من أفعال املكلفني‬
‫حكماً‪ ،‬ونصب لكل حكم دليل يدل عليه‪ ،‬وطلب من أهل النظر يف هذه األدلة أن ينظروا فيها‬
‫ليهتدوا إىل حكمه‪ ،‬فمن توافرت فيه أهلية النظر فيها‪ ،‬واجتهد حىت وصل إىل احلكم الذي أداه‬
‫إليه اجتهاده‪،‬فهو مأجور على هذا االجتهاد وواجب عليه ان يعمل ىف قضائه وافتائه مبا أداه اليه‬
‫اجتهاده ألنه حكم هللا حسب ظنه الراجح‪ ،‬والظن الراجح كما قدمنا‪ ،‬كاف يف وجوب العمل‪.‬‬
‫وال جيب على غريه أن يقلده يف العمل مبا وصل إليه اجتهاده‪ ،‬ألن قول أي إنسان بعد الرسول‬
‫املعصوم ليس حجة واجباً أتباعه على أي مسلم‪ ،‬وإمنا جيوز للعامة الذين ليست هلم ملكة‬
‫االجتهاد واستثمار األحكام من نصوصها‪ ،‬أن يتبعوا اجملتهدين ويقلدهم مصداق قوله تعاىل‪{ :‬‬
‫اسأَلُواْ أ َْه َل ال ِّذ ْك ِر إِن ُكنتُ ْم الَ تَـ ْعلَ ُمو َن}[األنبياء‪]7:‬‬
‫فَ ْ‬

‫(‪ )3‬اثلثها‪ :‬أن االجتهاد ال ينقض مبثله‪:‬‬

‫فلو جمتهد يف واقعة وحكم فيها ابحلكم الذي أداه إليه اجتهاده‪ ،‬مث عرضت عليه‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫صورة من هذه الواقعة فأداه اجتهاده إىل حكم آخر‪ ،‬فإنه ال جيوز له نقض حكمه السابق‪ ،‬كما‬
‫ال جيوز جملتهد آخر خالف يف اجتهاده أن ينقض حكمه‪ ،‬ألنه ليس االجتهاد الثاين أبرجح من‬
‫األول‪ ،‬وال اجتهاد أحد اجملتهدين أحق أن يتبع من اجتهاد اآلخر‪ ،‬ألن نقض االجتهاد‬
‫ابالجتهاد يؤدي إىل أن ال يستقر حكم وإىل أن ال تكون للشئ احملكوم به قوة‪ ،‬ويف هذا مشقة‬
‫وحرج‪.‬‬

‫وقد ورد أن عمر بن اخلطاب قضى يف حادثة بقضاء‪ ،‬مث تغري اجتهاده فلم ينقض ما قضى به‬
‫أوالً‪ ،‬بل قضى يف مثل هذه احلادثة ابحلكم اآلخر الذي أداه غليه اجتهاده الثاين‪ ،‬وقال‪ :‬ذلك‬
‫على ما قضينا وهذا على ما نقضي‪ .‬وقد قضى أبو بكر يف مسائل وخالفه بعده عمر فيها ومل‬
‫ينقض حكمه‪ ،‬وعلى هذا املعىن ينبغي أن يفهم قول عمر بن اخلطاب يف عهده ليب موسى‬
‫األشعري حني واله القضاء‪(( :‬ال مينعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك‪ ،‬وهديت فيه‬
‫لرشدك أن ترجع إىل احلق‪ ،‬فإن مراجعة احلق خري من التمادي يف الباطل))‪.‬‬

‫القاعدة الرابعة ‪ :‬يف نسخ احلكم‬

‫ال نسخ حلكم شرعي يف القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ . -‬وأما يف حياته‪ ،‬فقد اقتضت سنة التدرج‬
‫ابلتشريع‪ ،‬ومسايرته املصاحل نسخ بعض األحكام اليت وردت فيهما ببعض نصوصها نسخاً كليا‪ ،‬أو نسخاً جزئيا‬
‫هو إبطال العمل ابحلكم الشرعي بدليل مرتاخ عنه‪ ،‬يدل على إبطاله صراحة أو ضمناً‪ ،‬إبطاالً كلياً أو إبطاالً جزئياً‬ ‫النسخ يف‬
‫ملصلحة اقتضيته‪ ،‬أو إظهار دليل الحق نسخ ضمناً العمل بدليل سابق‪.‬‬ ‫اصطالح‬
‫األصوليني‪:‬‬
‫وهذا النسخ وقع يف التشريع اإلهلي‪ ،‬ويقع يف كل تشريع وضعي‪ ،‬ألن املقصود من كل تشريع سواء أكان إهليا أم‬ ‫حكمته‪:‬‬
‫وضعيا حتقيق مصاحل الناس‪ .‬ومصاحل الناس قد تتغري بتغري أحواهلم‪ .‬واحلكم قد يشرع لتحقيق مصاحل اقتضتها أسباب‪،‬‬
‫فإذا زالت هذه األسباب فال مصلحة يف بقاء احلكم‪ .‬كما ورد أن وفوداً من املسلمني وفدوا على املدينة يف أايم عيد‬
‫األضحى‪ ،‬فأراد الرسول أن يقيموا بني أخواهنم يف سعة‪ ،‬فنهى املسلمني عن ادخار حلوم األضاحي حىت جتد الوفود‬
‫فيها توسعة عليهم‪ ،‬فلما رحلوا أابح للمسلمني االدخار‪ ،‬وقال عليه السالم‪(( :‬إمنا هنيتكم عن ادخار حلوم األضاحي‬
‫ألجل الدافة أال فادخروا))‪ ،‬وألن عدالة التشريع تقتضي التدرج وعدم مفاجأة من يشرع هلم مبا يشق عليهم فعله‪ ،‬أو‬
‫ما يشق عليهم تركه‪ ،‬وهذا التدرج يقتضي التعديل والتبديل‪.‬‬
‫كما وقع يف حكم اخلمر‪ ،‬فإن هللا سبحانه وتعاىل مل يشرع حترميها يف ابتداء التشريع‪ ،‬ولكن بني سبحانه‬
‫أن فيها إمثاً كبرياً‪ ،‬ومنافع للناس‪ ،‬وأن أمثها أكرب من نفعها‪ ،‬وكان هذا هتيئة ومتهيداً إىل حترميها‪ ،‬لن الذي ضرره أكرب‬
‫من نفعه جيدر ابلعقل أن جيتنبه‪ ،‬مث أمر املسلمني أن ال يقربوا الصالة وهم سكارى‪ ،‬فكان هذا متهيداً اثنياً لتحرميها‬
‫واجتناهبا‪ ،‬ألن أوقات الصالة متعددة ومتفرقة‪ ،‬فال أيمن املسلمون إذا شربوها أن يدخل عليهم وقت الصالة وهم‬
‫سكارى‪ .‬مث بعد ذلك جاء النص الصريح على أهنا رجس من عمل الشيطان‪ ،‬واألمر ابجتناهبا‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫وكذلك نظام التوريث‪ ،‬بقي فرتة يف بدء اإلسالم على ما كان عليه عند العرب يف جاهليتهم‪ ،‬مث أخذ‬
‫اإلسالم يف تعديله ابلتدريج‪ ،‬فنسخ أوالً اإلرث ابلتبين‪ ،‬مث نسخ اإلرث ابلتحالف والتآخي‪ ،‬مث شرعت للتوريث أحكام‬
‫مفصلة‪ ،‬هدمت األسس اجلائزة اليت كان عليها أهل اجلاهلية يف نظام توريثهم‪.‬‬

‫قد يكون النسخ صرَياً‪ ،‬وقد يكون ضمنياً‪.‬‬ ‫أنواعه‪:‬‬


‫فالنسخ الصريح أن ينص الشارع صراحة يف تشريعه الالحق على إبطال‬ ‫(‪)1‬‬
‫ني َعلَى ال ِْقتَ ِال إِن يَ ُكن ِّمن ُك ْم‬ ‫تشريعه السابق‪ ،‬ومثال ذلك قوله تعاىل‪ { :‬اي أَيـُّها النَِّيب ح ِر ِ ِ ِ‬
‫ض ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫َ َ ُّ َ ّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َفُرواْ أبَهنُْم قَـ ْوٌم ال يَـ ْف َق ُهو َن * اآل َن‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِع ْشرو َن ِ‬
‫صابُرو َن يَـغْلبُواْ مئَـتَ ْني َوإن يَ ُكن ّمن ُكم ّمئَةٌ يَـغْلبُواْ أَلْفاً ّم َن الذ َ‬‫ُ َ‬
‫ْف‬ ‫ل‬‫َ‬
‫أ‬ ‫م‬‫ك‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ك‬‫ي‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫إ‬‫و‬ ‫ِ‬
‫ني‬ ‫ت‬‫ـ‬ ‫ئ‬‫م‬‫ِ‬ ‫ا‬‫و‬‫ب‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫غ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ة‬‫ر‬‫ِ‬‫ب‬‫ا‬ ‫ص‬ ‫ة‬ ‫ئ‬‫م‬‫ِ‬ ‫م‬‫ك‬‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫إ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ف‬‫ع‬ ‫ض‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬‫ِ‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫َن‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫ُ ْ َ ْ ً َ َ ُ ّ ُ ّ َ ٌ َ ٌَ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ ّ ُ ْ ٌ‬ ‫اَّللُ َ ُ ْ َ َ َ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫ع‬ ‫َّف ّ‬ ‫َخف َ‬
‫اَّلل مع َّ ِ‬ ‫ني إبِِ ْذ ِن ِ‬ ‫يَـ ْغلِبُواْ أَلْ َف ْ ِ‬
‫ين}[األنفال‪ .]66،65:‬وقول الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪: -‬‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫اَّلل َو ُّ َ َ‬
‫ّ‬
‫((كنت هنيتكم عن زايرة القبور أال فزوروها فإهنا تذكركم احلياة اآلخرة))‪ ،‬وقوله عليه السالم‪(( :‬إمنا‬
‫هنيتكم عن ادخار حلوم األضاحي جلل الدفة أال فادخروا))‪ .‬وهذا النسخ الصريح هو الكثري يف التشريع‬
‫الوضعي فإن القوانني اليت تصدر معدلة لقوانني سابقة‪ ،‬ينص فيها صراحة على النصوص امللغاة يف تلك‬
‫القوانني السابقة أو على إلغاء كل حكم يف قانون سابق خمالف ما نص عليه يف هذا القانون‪ ،‬كما نص‬
‫األمر امللكي بدستور سنة ‪ 1930‬صراحة على إلغاء دستور سنة ‪ ،1923‬وكما نص قانون التسجيل‬
‫صراحة على إلغاء نصوص القانون املدين‪.‬‬

‫وأما النسخ الضمين فهو أن ال ينص الشارع صراحة يف تشريعه الالحق على‬ ‫(‪)2‬‬
‫إبطال تشريعه السابق‪ ،‬ولكن يشرع حكماً معارضاً حكمه السابق‪ ،‬وال ميكن التوفيق بني احلكمني غال‬
‫إبلغاء أحدمها‪ ،‬فيعترب الالحق انسخاً للسابق ضمناً‪ .‬وهذا النسخ الضمين هو الكثري يف التشريع اإلهلي‪،‬‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت إِن تَـَرَك َخ ْرياً ال َْوصيَّةُ للْ َوال َديْ ِن َواألقْـَربِ َ‬
‫ني‬ ‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫ب َعلَْي ُك ْم إِ َذا َح َ‬
‫ضَر أ َ‬ ‫فقوله تعاىل‪ُ { :‬كت َ‬
‫وف}[البقرة‪ ،]180:‬يدل على ذلك أن املالك إذا حضرته الوفاة عليه أن يوصي لوالديه وأقاربه‬ ‫ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬
‫ظ األُنثَـيَ ْنيِ‬‫لذ َك ِر ِمثْل ح ِّ‬ ‫َّ‬ ‫وصي ُكم اَّلل ِيف أَوالَ ِد ُكم لِ‬ ‫من تركته ابملعروف‪ .‬وقوله تعاىل يف آية التوريث‪{ :‬ي ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ ُّ ْ ْ‬ ‫ُ‬
‫‪[}000‬النساء‪ ،]11:‬يدل على أن هللا قسم تركة كل مالك بني ورثته حسبما اقتضت حكمته‪ ،‬ومل يعد‬
‫التقسيم حقاً للمورث نفسهن وهذا احلكم يعارض األول‪ ،‬فهو انسخ له على رأي اجلمهور‪ ،‬ولذا قال‬
‫الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بعد ما نزلت آية املواريث‪(( :‬إن هللا أعطى لكل ذي حق حقه‪ ،‬فال‬
‫وصية لوارث))‪.‬‬

‫ومثاله يف التشريع الوضعي‪ :‬األمر امللكي الصادر بدستور سنة ‪ 1923‬فإنه تضمن أحكاماً كثرية ختالف‬
‫احلكام الدستورية السابقة عليه‪ ،‬ومل ينص صراحة على إلغائها فاعترب انسخاً هلا ضمناً‪ ،‬وقانون العقوابت اجلديد مل‬
‫ينص صراحة على إلغاء ما خالف أحكامه من قوانني العقوابت السابقة‪ ،‬فاعترب انسخاً هلا ضمناً‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ويرى بعض رجال التشريع االكتفاء هبذا النسخ الضمين‪ ،‬واالستغناء عن التصريح ابلنسخ‪ ،‬ألنه أتكيد يف‬
‫مقام ال يقتضي التأكيد‪ ،‬فإن تشريع الشارع حكماً معارضاً حلكم شرعه من قبل وال ميكن اجلمع بينهما هو عدول من‬
‫الشارع عن حكمه السابق‪ ،‬وإبطال له من غري حاجة إىل التصريح أبنه عدل عنه أو أبطله‪,‬‬

‫وقد يكون النسخ كليا‪ ،‬وقد يكون جزئيا‪:‬‬

‫(‪ )1‬فالنسخ الكلي أن يبطل الشارع حكماً شرعه من قبل إبطاالً كلياً ابلنسبة إىل‬
‫كل فرد من أفراد املكلفني‪ ،‬كما أبطل إجياب الوصية للوالدين واألقربني بتشريع أحكام التوريث‬
‫ومنع الوصية للوارث‪ ،‬وكما أبطل اعتداد املتوىف عنها زوجها حوالً ابعتدادها أربعة أشهر وعشراً‪،‬‬
‫ين يـُتَـ َوفَّـ ْو َن ِمن ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أ َْزَواجاً َو ِصيَّةً ِّأل َْزَو ِاج ِهم َّمتَاعاً إِ َىل ا ْحلَْوِل َغ ْ َري‬ ‫َّ ِ‬
‫فقد قال تعاىل‪َ { :‬والذ َ‬
‫ص َن ِأبَن ُف ِس ِه َّن‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين يـُتَـ َوفَّـ ْو َن من ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أ َْزَواجاً يَََرتبَّ ْ‬
‫إ ْخَر ٍاج}[البقرة‪ ،]240:‬مث قال سبحانه‪َ { :‬والذ َ‬
‫أ َْربَـ َعةَ أَ ْش ُه ٍر َو َع ْشراً}[البقرة‪.]234:‬‬

‫(‪ )2‬والنسخ اجلزئي أن يشرع احلكم عاماً شامالً كل فرد من أفراد املكلفني‪ ،‬مث‬
‫يلغى هذا احلكم ابلنسبة لبعض األفراد‪ ،‬أو يشرع احلكم مطلقاً مث يلغى ابلنسبة لبعض احلاالت‪.‬‬
‫فالنص الناسخ ال يبطل العمل ابحلكم األول أصالً‪ ،‬ولكن يبطله ابلنسبة لبعض األفراد أو بعض‬
‫وه ْم‬ ‫ات ُمثَّ َمل أيْتُوا ِأبَربـع ِة ُشه َداء فَ ِ‬ ‫احلاالت‪ .‬مثال ذلك قوله تعاىل‪ { :‬والَّ ِذين يـرمو َن الْمحصنَ ِ‬
‫اجل ُد ُ‬‫ْ‬ ‫ْ َ َْ َ َ‬ ‫َ َ َْ ُ ُ ْ َ‬
‫ني َج ْل َد ًة}[النور‪ ،]4:‬يدل على أن قاذف احملصنة الذي مل يقم بينة على ما قذف به جيلد‬ ‫ِ‬
‫مثََان َ‬
‫اج ُه ْم َوَملْ يَ ُكن َّهلُْم ُش َه َداء‬ ‫مثانني جلدة‪ ،‬سواء كان زوجها أم غريه‪ .‬وقوله تعاىل‪ِ َّ :‬‬
‫ين يَـ ْرُمو َن أ َْزَو َ‬‫{والذ َ‬ ‫َ‬
‫ني *‪[}000‬النور‪،]6:‬يدل على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِاب ََّّللِ إِنَّهُ لَ ِم َن َّ‬
‫إَِّال أَن ُفسهم فَ َشهادةُ أَح ِد ِهم أَربع َشهاد ٍ‬
‫الصادق َ‬ ‫ُ ُ ْ َ َ َ ْ َْ ُ َ َ‬
‫أن القذف إذا كان الزوج ال جيلد بل يتالعن وزوجته‪ .‬فالنص الثاين نسخ حكم جلد القذف‬
‫ابلنسبة على األزواج فقط‪ .‬وإمنا يكون نسخاً جزئياً إذا شرع أوالً حكم العام على عمومه‪ ،‬أو‬
‫املطلق على إطالقه‪ ،‬مث بعد ذلك بفرتة حكم لبعض أفراده‪ ،‬أو بقيد‪ .‬وأما إذا ورد العام يف القانون‬
‫وورد يف القانون نفسه ختصيص بعض أفراده حبكم يكون هذا التخصيص بياانً للمراد من العام ال‬
‫نسخاً‪ ،‬وكذلك يكون التقييد بياانً للمراد من املطلق ال نسخاً‪ .‬وهذا معىن قول األصوليني إخراج‬
‫بعض أفراد العام من حكمه‪ ،‬أو تقييد املطلق بقيد إذا كان بدليل مقارن تشريع حكم العام أو‬
‫املطلق‪ ،‬ويعترب بياانً للمراد العام أو املطلق مبنزلة االستثناء وال يعترب نسخاً‪.‬‬

‫واحلكام الشرعية وغن كانت شرعت تدرجيياً يف اثنني وعشرين سنة وشهور‪ ،‬ولكن بعد وفاة الرسول‬
‫واستقرار التشريع‪ ،‬صارت يف حق املسلمني قانوانً واحداَ‪ ،‬فاخلاص منه بيان للعام‪ ،‬واملقيد بيان للمطلق‪ ،‬من غري نظر‬
‫إىل أن هذه اآلية بعد هذه اآلية يف التالوة‪ ،‬أو يف سورة بعد السورة اليت فيها اآلية‪ ،‬إال ما نص عليه من انسخ‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ومنسوخ‪.‬‬
‫وقد يكون النسخ بتشريع حكم بدل حكم‬
‫كما نسخ إجياب الوصية للوالدين واألقربني‪ ،‬بتقسيم اإلرث‪ ،‬وكما نسخ االجتاه على بيت املقدس يف‬
‫الصالة ابالجتاه إىل الكعبة‪ ،‬وكما نسخ اعتداد املتوىف عنها زوجها ابلرتبص حوالً‪ ،‬ابعتدادها ابلرتبص أربعة شهور‬
‫وعشرة أايم‪ ،‬وقد يكون النسخ مبجرد إلغاء احلكم كنسخ زواج املتعة‪.‬‬
‫وكما جيوز أن يكون احلكم الذي شرع مساوايً احلكم الذي نسخ‪ ،‬أو أخف منه على املكلفني‪ ،‬وجيوز أن‬
‫يكون اشق منه عليهم‪ ،‬ألن هذا اإللغاء والتبديل إمنا قضت به مصاحل املكلفني‪ ،‬وقد تقضي مصلحتهم حكماً اشق‬
‫نس ْخ‬
‫{ما نَ َ‬
‫عليهم من املنسوخ‪ ،‬فتحرمي اخلمر وامليسر اشق عليهم من إابحتهما‪ ،‬ولكن قصد به املصلحة‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ت ِخبٍَْري ِّمْنـ َها أ َْو ِمثْلِ َها }[البقرة‪ ،]106:‬املراد ابخلري ما يكون أصلح للمكلفني‪ ،‬سواء كان أشق‬
‫نسها َأنْ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫م ْن آيَة أ َْو نُ َ‬
‫عليهم أم مساوايً أم أخف‪ ،‬هذا إذا كان املراد آايت القرآن يف قوله تعاىل‪{ :‬ما ننسخ من آية}[البقرة‪.]106:‬‬

‫ما يقبل النسخ وما ال يقبله‪:‬‬


‫ليس كل نص ورد يف القرآن أو السنة‪ ،‬يقبل يف عهد الرسول أن ينسخه نص الحق‪ ،‬بل من النصوص‬
‫نصوص حمكمات ال تقبل النسخ أصالً وهي‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬النصوص اليت تضمنت أحكاما أساسية ال ختتلف ابختالف أحوال الناس وال ختتلف حسنا‬
‫وقبحا ابختالف التقدير‪ ،‬كالنصوص اليت تضمنت إجياب اإلميان ابهلل‪ ،‬ورسله وكتبه واليوم اآلخر‪ ،‬وسائر أصول‬
‫العقائد والعبادات‪ ،‬كالنصوص اليت قررت أمهات الفضائل من بر الوالدين‪ ،‬والصدق‪ ،‬والعدل‪ ،‬وأداء األماانت إىل‬
‫أهلها‪ ،‬وغري ذلك مما ال يتصور أن يكون قبيحاً يف أية حال وعلى أي تقدير‪ ،‬كالنصوص اليت دلت على أسس الرذائل‬
‫من الشرك ابهلل‪ ،‬وقتل النفس بغري حق‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬والكذب والظلم‪ ،‬وغري ذلك مما ال يتصور أن يكون حسناً‬
‫يف أي حال‪ .‬ومن أمثلة هذا النوع يف القوانني الوضعية‪ :‬املاداتن ‪ 158،156‬من الدستور‪ ،‬فهما ال تقبالن النسخ‪.‬‬

‫اثنيا‪ :‬النصوص اليت تضمنت أحكاما‪ ،‬ودلت بصيغتها على أتيدها‪ ،‬ألن أتييدها يقتضي عدم‬
‫نسخها‪ ،‬كقوله تعاىل يف بيان حكم قاذيف احملصنات‪َ { :‬وَال تَـ ْقبَـلُوا َهلُْم َش َه َاد ًة أَبَداً}[النور‪ ،]4:‬فإن لفظ أبداً يدل‬
‫على أن هذا حكم دائم ال يزول‪ ،‬وكقوله الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪(( -‬اجلهاد ماض إىل يوم القيامة))‪ ،‬فإنه‬
‫كونه ماضياً إىل يوم القيامة يدل على أنه ابق ما بقيت الدنيا‪.‬‬

‫واثلث ا‪ :‬النصوص اليت دلت على وقائع وقعت وأخربت عن حاداثت كانت‪ ،‬كقوله تعاىل‪ { :‬فَأ ََّما مثَُ ُ‬
‫ود‬
‫ص ٍر َعاتِيَ ٍة}[احلاقة‪ ،]6،5:‬وكقول الرسول‪(( :‬نصرت ابلرعب مسرية‬‫ص ْر َ‬ ‫اد فَأ ُْهلِ ُكوا بِ ِر ٍ‬
‫يح َ‬
‫فَأُهلِ ُكوا ِابلطَّ ِ‬
‫اغيَ ِة * َوأ ََّما َع ٌ‬ ‫ْ‬
‫شهر))‪ ،‬ألن نسخ النص اخلربي تكذيب ملن أخرب به والكذب حمال على الشارع‪.‬‬

‫فهذه األنواع الثالثة من النصوص اليت ال تقبل النسخ‪ ،‬وما عاداها يقبله يف بدء التشريع‪ ،‬أي يف حياة الرسول ال فيما‬
‫بعده‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫ما يكون به نسخ‪:‬‬


‫األصل العام أن النص ال ينسخه إال نص يف قوته أو أقوى منه‪.‬‬
‫وعلى هذا فنصوص القرآن قد ينسخ بعضها بعضاً‪ ،‬وقد تنسخ ابلسنة املتواترة ألهنا كلها قطعية ويف قوة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫ونصوص السنة غري املتواترة قد ينسخ بعضها بعضاً ألهنا يف قوة واحدة‪ ،‬وقد تنسخ بنصوص القرآن‬
‫والسنة املتواترة ألهنا أقوى منها‪.‬‬
‫فالنص القرآين الذي دل على اعتداد التويف عنها زوجها حبول‪ ،‬نسخ ابلنص القرآين الذي دل على‬
‫اعتدادها أبربعة أشهر وعشرة أايم‪.‬‬
‫والنص القرآين الذي دل على حترمي كل ميتة‪ ،‬خصص ابلسنة العلمية املتواترة اليت دلت على إابحة ميتة‬
‫البحر واليت أكدها الرسول بقوله‪(( :‬هو الطهور ماؤه‪ ،‬احلل ميتته))‪.‬‬
‫والنص القرآين الذي دل على وجوب تنفيذ أية وصية‪ ،‬قيد ابلسنة العلمية اليت منعت نفاذ الوصية أبكثر‬
‫من الثلث وأكدها الرسول بقوله يف حديث معاذ‪(( :‬الثلث والثلث كثري))‪.‬‬

‫ويف السنة النهي عن زايرة القبور مث إابحتها‪ ،‬والنهي عن ادخار حلوم األضاحي مث إابحته‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫وعلى هذا ال ينسخ نص قرآين أو سنة متواترة بسنة غري متواترة أو بقياس‪ ،‬لن األقوى ال ينسخ مبا هو‬
‫أقل منه قوة‪ ،‬ومن أجل هذا تقرر انه ال نسخ حلكم شرعي يف القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول‪ ،‬ألنه بعد وفاة الرسول‬
‫انقطع ورود النصوص واستقراء األحكام‪ ،‬فال ميكن أن ينسخ النص بقياس أو اجتهاد‪.‬‬
‫وما يكون به النسخ يف القوانني الوضعية هو على هذا األصل‪ ،‬فال ينسخ النص القانوين إال نص قانوين‬
‫يف قوته أو أقوى منه‪.‬‬
‫فنصوص القانون الدستوري ال ينسخها إال نصوص قانون دستوري‪.‬‬
‫ونصوص القوانني التشريعية الرئيسية تنسخها قوانني السلطة التشريعية الرئيسية‪ ،‬ألهنا يف قوهتا‪ ،‬وتنسخها‬
‫نصوص القانون الدستوري ألهنا أقوى منها‪.‬‬
‫ونصوص القوانني التشريعية الفرعية تنسخها قوانني السلطات التشريعية الرئيسية‪ ،‬ونصوص القانون‬
‫الدستوري‪.‬‬
‫ويؤخذ مما قدمناه أن‪:‬النص ال ينسخه إال نص‪ ،‬وأن النص ال يتصور أن ينسخه اإلمجاع‪ ،‬ألن النص إذا‬
‫كان قطعياً ال ميكن أن ينعقد إمجاع على خالفة أصالً‪ ،‬وإن كان ظنياً ال ميكن أن ينعقد إمجاع على خالفته إال‬
‫مستنداً إىل نص‪ ،‬فيكون النص الذي استند إليه اإلمجاع هو الناسخ‪.‬‬
‫واحلكم الثابت ابلقياس ال ينسخ مبثله‪ ،‬ألن اجملتهد إذا استنبط حكماً يف واقعة بطريق القياس مث استنبط‬
‫ابلقياس هو أو جمتهد آخر يف مثل هذه الواقعة حكماً خيالف األول‪ ،‬فإن هذا ليس نسخاً للحكم األول‪ ،‬وإمنا هو‬
‫إظهار لبطالن‬
‫الدليل األول أي خلطأ القياس السابق‪.‬‬
‫والقياس ال ينسخ حكماً شرعياً اثبتاً ابلنص أو اإلمجاع‪ ،‬ألنه ليس يف مرتبتهما‪ ،‬فالقياس ال ينسخ حكمه‬
‫وال ينسخ حكماً‪.‬‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫القاعدة اخلامسة ‪ :‬يف التعارض والرتجيح‬


‫‪198‬‬

‫إذا تعارض النصان ظاهراً وجب البحث واالجتهاد يف اجلمع والتوفيق بينهما بطريق صحيح من طرق اجلمع والتوفيق‪ ،‬فإن مل ميكن وجب‬
‫البحث واالجتهاد يف ترجيح أحدمها بطريق من طرق الرتجيح‪ ،‬فإن مل ميكن هذا وال ذاك وعلم اتريخ ورودمها كان الالحق منهما انسخاً‬
‫للسابق‪ ،‬وإن مل يعلم اتريخ ورودمها توقف عن العمل هبما‪.‬‬
‫وإذا تعارض قياسان أو دليالن من غري النصوص ومل ميكن ترجيح احدمها‪ ،‬عدل عن االستدالل هبما‬

‫اعرتاض كل واحد منها اآلخر‪.‬‬ ‫التعارض بني األمرين معناه يف اللغة العربية‪:‬‬
‫اقتضاء كل واحد منهما يف وقت واحد حكماً يف الواقعة خيالف ما يقتضيه الدليل‬ ‫والتعارض بني الدليلني الشرعيني معناه يف‬
‫اآلخر فيها‪.‬‬ ‫اصطالح األصوليني‪:‬‬

‫ص َن ِأبَن ُف ِس ِه َّن أ َْربَـ َعةَ أَ ْش ُه ٍر َو َع ْشراً}[البقرة‪،]234:‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫ين يـُتَـ َوفَّـ ْو َن من ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أ َْزَواجاً يَََرتبَّ ْ‬
‫مثالً‪ :‬قوله تعاىل‪َ { :‬والذ َ‬
‫هذا النص يقتضي بعمومه‪ ،‬أن كل من توىف عنها زوجها تنقضي عدهتا أبربعة أشهر وعشرة أايم‪ ،‬سواء أكانت حامالً أم غري‬
‫حامل‪.‬‬

‫ض ْع َن محَْلَ ُه َّن} [الطالق‪ ،]4:‬هذا النص يقتضي بعمومه أن كل حامل‬


‫َجلُ ُه َّن أَن يَ َ‬ ‫ت ْاأل ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬ ‫وقوله تعاىل‪َ { :‬وأ ُْوَال ُ‬
‫تنقضي عدهتا بوضع محلها‪ ،‬سواء كانت متوىف عنها زوجها أم مطلقة‪.‬‬
‫فمن توىف عنها زوجها وهي حامل‪ ،‬واقعة يقتضي النص األول أن تنقضي عدهتا برتبص أربعة أشهر وعشرة أايم‪،‬‬
‫ويقتضي النص الثاين أن تنقضي عدهتا بوضع محلها‪ ،‬فالنصان متعارضان يف هذه الواقعة‪.‬‬

‫وال يتحقق التعارض بني دليلني شرعيني إال إذا كاان يف قوة واحدة‪ ،‬أما إذا كان احد الدليلني أقوى من اآلخر‪ ،‬فإنه يتبع احلكم‬
‫الذي يقتضيه الدليل األقوى وال يتلف خلالفه الذي يقتضيه الدليل اآلخر‪ .‬وعلى هذا يتحقق التعارض بني نص قطعي وبني نص‬
‫ظين‪ ،‬وال يتحقق التعارض بني نص وبني إمجاع أو قياس‪ ،‬وال بني إمجاع وبني قياس‪ .‬وميكن بني آيتني أو حدثني متواترين أو بني‬
‫آية وحديث متواتر‪ ،‬أو حدثني غري متواترين أو بني قياسني‪.‬‬

‫ومما ينبغي التنبيه له‪:‬‬


‫انه ال يوجد تعارض حقيقي بني آيتني أو بني حديثني صحيحني أو بني آية وحديث صحيح‪ ،‬وإذا‬ ‫(‪)1‬‬
‫بدا تعارض بني نصني من هذه النصوص فإمنا هو تعارض ظاهري فقط حبسب ما يبدو لعقولنا‪ ،‬وليس بتعارض حقيقي‪ ،‬ألن‬
‫الشارع الواحد احلكيم ال ميكن أن يصدر عنه نفسه دليل آخر يقتضي يف الواقعة نفسها حكماً خالفة يف الوقت الواحد‪.‬‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪228-222‬‬ ‫‪198‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫فإن وجد نصان ظاهرمها التعارض وجب االجتهاد يف صرفهما عن هذا الظاهر‪ ،‬والوقوف على حقيقة‬ ‫(‪)2‬‬
‫املراد منهما تنزيهاً للشارع العليم احلكيم عن التناقض يف تشريعه‪ ،‬فإن أمكن إزالة التعارض الظاهري بني النصني ابجلمع والتوفيق‬
‫بينهما‪ ،‬مجع بينهما وعمل هبما‪ ،‬وكان هذا بياانً ألنه ال تعارض يف احلقيقة بينهما‪.‬‬

‫ت إِن تَـَرَك َخ ْرياً ال َْو ِصيَّةُ لِلْ َوالِ َديْ ِن‬ ‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫ب َعلَْي ُك ْم إِ َذا َح َ‬
‫ضَر أ َ‬
‫ِ‬
‫مثال‪ :1‬قوله تعاىل يف سورة البقرة‪ُ { :‬كت َ‬
‫وف} [البقرة‪.]180:‬‬ ‫واألقْـربِني ِابلْمعر ِ‬
‫َ َ َ َ ُْ‬
‫ني ‪[}00‬النساء‪ ،]11:‬على آخر‬ ‫ظ األُنثَـيَ ْ ِ‬ ‫لذ َك ِر ِمثْل ح ِّ‬ ‫َّ‬ ‫وصي ُكم اَّلل ِيف أَوالَ ِد ُكم لِ‬
‫وقوله تعاىل يف سورة النساء‪ { :‬ي ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ ُّ ْ ْ‬ ‫ُ‬
‫آية املواريث‪.‬‬
‫اآلية األوىل توجب على املورث إذا قارب املوت أن يوصي من تركته لوالديه وأقاربه ابملعروف‪ ،‬واآلية الثانية توجب‬
‫لكل واحد من الوالدين واألوالد واألقربني حقاً من الرتكة بوصية هللا ال بوصية املورث‪ .‬فهما متعارضان ظاهراً‪.‬وميكن التوفيق‬
‫بينهما أبن يراد يف آية سورة البقرة الوالدان واألقربون الذين منع من إرثهم مانع كاختالف الدين‪.‬‬

‫ص َن ِأبَن ُف ِس ِه َّن أ َْربَـ َعةَ أَ ْش ُه ٍر َو َع ْشراً‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫ين يـُتَـ َوفَّـ ْو َن من ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أ َْزَواجاً يَََرتبَّ ْ‬
‫مثال ‪ :2‬قوله تعاىل‪َ { :‬والذ َ‬
‫}[البقرة‪.]234:‬‬
‫ض ْع َن محَْلَ ُه َّن }[الطالق‪.]4:‬‬ ‫َجلُ ُه َّن أَن يَ َ‬ ‫ت ْاأل ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬ ‫وقوله تعاىل‪َ { :‬وأ ُْوَال ُ‬
‫وميكن التوفيق بينهما ابن احلامل املتوىف عنها زوجها تعتد أببعد األجلني‪ ،‬فإن وضعت محلها قبل أربعة أشهر‬
‫وعشرة أايم من اتريخ الوفاة‪ ،‬تربصت حىت تتم أربعة أشهر وعشرة أايم‪ ،‬وإن أمضت أربعة أشهر وعشرة أايم قبل أن تضع محلها‬
‫تربصت حىت تضع محلها‪.‬‬

‫ومن طرق اجلمع والتوفيق‪ :‬أتويل أحد النصني أي صرفه عن ظاهره‪ ،‬وهبذا ال يعارض النص اآلخر‪.‬‬
‫ومن طرق اجلمع والتوفيق‪ :‬اعتبار أحد النصني خمصصاً لعموم اآلخر‪ ،‬أو مقيداً إلطالقه‪ ،‬فيعمل ابخلاص يف موضعه‬
‫وابلعام فيما عداه‪ ،‬ويعمل ابملقيد يف موضعه وابملطلق فيما عداه‪.‬‬

‫وأن مل ميكن اجلمع والتوفيق بني النصني املتعارضني‪ ،‬نظر يف ترجيح أحدمها على اآلخر بطريق من طرق الرتجيح‪،‬‬
‫فإذا أظهر البحث رجحان أحدمها على اآلخر عمل مبا اقتضاه الدليل األرجح‪ ،‬وكان هذا تبييناً‪ ،‬ألن النصني غري متساويني يف‬
‫املرتبة‪ .‬وقد يكون الرتجيح من جهة الداللة فريجح املدلول عليه بعبارة النص على املدلول عليه إبشارة النص‪ .‬ويرجح املفسر على‬
‫الظاهر أو النص‪ ،‬وتقدمت عدة أمثلة هلذا التعارض والرتجيح‪.‬‬
‫وإن مل ميكن اجلمع والتوفيق بني النصني‪ ،‬ومل ميكن ترجيح أحدمها على اآلخر بطريق الرتجيح‪ ،‬نظر يف اتريخ‬
‫صدورمها عن الشارع‪ ،‬فإذا علم أن أحدمها سابق كان املتأخر منهما انسخ للسابق فيعمل به‪ ،‬ويعلم هذا من الرجوع على أسباب‬
‫نزول اآلايت‪ ،‬وورود األحاديث‪ ،‬ومجع األمثلة اليت قدمناها يف نسخ بعض اآلايت ألحكام بعض آايت أخرى‪ ،‬اثبت فيها أن‬
‫الناسخ الحق يف وروده للمنسوخ‪.‬وإن مل ميكن اجلمع والتوفيق بني النصني وال ترجيح أحدمها على اآلخر‪ ،‬ومل يعلم اتريخ ورودها‪،‬‬
‫نوقف عن االستدالل هبما‪ ،‬ونظر يف االستدالل على حكم الواقعة اليت فيها التعارض بدليل غريمها كأهنا واقعة ال نص فيها‪.‬‬
‫وهذه صورة فرضية ال وجود هلا‪.‬‬
‫وإن كان التعارض بني دليلني شرعيني ليسا نصني‪ ،‬كالتعارض بني قياسني‪ ،‬فهذا قد يكون تعارضاً حقيقياً‪ ،‬ألنه قد‬
‫أبواب أصول الفقه‬

‫يكون أحد القياسني خطأ‪ ،‬فإن أمكن ترجيح أحد القياسني على اآلخر عمل به‪.‬‬
‫ومن طرق ترجيح أحد القياسني على اآلخر أن تكون علة أحدمها منصوصاً عليها‪ ،‬وعلة اآلخر مستنبطة‪ ،‬أو تكون‬
‫علة أحدمها مستنبطة بطريق إشارة النص‪ ،‬وعلة اآلخر مستنبطة بطريق املناسبة‪.‬‬

‫وجمال األصوليني يف طرق التوفيق أو الرتجيح بني النصوص واألقيسة املتعارضة ذو سعة‪ ،‬ومن طرق الرتجيح طرق موضوعية‬
‫‪199‬‬
‫قرروا فيها مبادئ ترجيحية عامة‪ ،‬مثل قوهلم‪ :‬إذا تعارض احملرم واملبيح‪ ،‬رجح احملرم‪ .‬وقوهلم‪ :‬إذا تعارض املانع واملقتضى‪ ،‬قدم املانع‪.‬‬

‫علم أصول الفقه‪ ,‬عبد الوهاب خالف ص‪232-231‬‬ ‫‪199‬‬


‫أبواب أصول الفقه‬

‫اخلامتة‬

‫حبمد هللا وتوفيقه فقد مت يل مجع هذا امللخص يف أصول الفقه اليت ركزت فيها على أبرز موضوعات علم‬
‫أصول الفقه متحاشياً التطويل اتركاً لالختصار الزائد حىت يتسىن لطالبنا يف الدراسات اإلسالمية االستفادة‬
‫من التخليص الذي عملت على مجعه من بطون الكتب سائال هللا التوفيق والسداد‪ ،‬كما أسأله أن ينفع به‬
‫اجلميع ‪.‬‬

‫وصلي اللهم وسلم وابرك على عبدك ونبيك ورسولك حممد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫د‪ .‬رفاقت رشيد‬

You might also like