Professional Documents
Culture Documents
0
مقدمة
اغبمد هلل رب العاؼبُت والصبلة والسبلـ على أشرؼ اؼبرسلُت وعلى آلو الطيبُت الطاىرين ،ورضي اهلل
على أصحابو آّتبُت ،وبعد:
فهذه مذكرة يف مقياس مدخل إىل علم أصوؿ الفقو ،الذي أسند إيل تدريسو ،موجهة إىل طلبة السنة
األوىل ليسانس علوـ إسبلمية.
ومن اؼبعلوـ أف مقاييس مداخل العلوـ عادة ما تدرس لطلبة اعبذع اؼبشًتؾ ،الذي تتفرع منو
التخصصات اؼبختلفة لذلك الفرع من العلوـ ،بغرض تعريفهم بتلك التخصصات العلمية اؼبتفرعة من اعبذع
اؼبشًتؾ ،حىت يكوف اختيارىم ؽبا عن بينّة وقصد ،ويكوف ؽبم إؼباـ عاـ بعلوـ ذلك الفرع.
معُت ىو مادة علمية يتم من خبلؽبا التعريف بذلك العلم وموضوعو ،وفائدتو والغاية منو، ومدخل علم ّ
ومناىجو ،ومصادره ،وتاريخ نشأتو وتطوره ،وعبلقتو بالعلوـ األخرى ،وىي ما يسميو البعض مبادئ العلم.
ومدخل علم أصوؿ الفقو مل يشذ عن باقي العلوـ يف ىذا األمر ،لذلك فإف مفردات ىذا اؼبقياس ال
زبرج عن تلك النقاط أو اؼببادئ اليت ذكرهتا ،باإلضافة إىل مبحث اغبكم الشرعي الذي استحوذ على أغلب
وسع فيو علماء األصوؿ وتناولوه بشيء من التفصيل يف اؼبدخل؛ ألنو عبارة عن صفحات ىذه اؼبذكرة ،إذ ّ
الغاية اؼبهمة اليت يسعى علم أصوؿ الفقو الوصوؿ إليها ،فكانت قواعده عبارة عن الضوابط اليت تضبط عملية
االجتهاد وتوجو النظر للوصوؿ إىل اغبكم الشرعي بشكل سليم.
قسمت ىذه اؼبذكرة إىل ثبلثة فصوؿ؛ األوؿ تناولت فيو مبادئ علم أصوؿ الفقو من التعريف ىذا وقد ّ
إىل مناىج وطرائق التأليف ،وتناولت يف اعبزء الثاين اغبكم الشرعي وأقسامو ،وخصصت اعبزء الثالث لباقي
أركاف نظرية اغبكم الشرعي الثبلثة :اغباكم واحملكوـ فيو واحملكوـ عليو.
وقد اعتمدت يف إعداد مادة ىذه اؼبذكرة لغة سهلة تناسب مستوى الطلبة ،وذبنبت قدر اإلمكاف
اػبوض يف اختبلفات العلماء ،إال فيما دعت إليو الضرورة ،مكتفيا بذكر أقواؽبم وأرائهم دوف التعرض ألدلتهم
تفاديا للحشو واإلكثار على الطلبة.
كما اعتمدت ؾبموعة من اؼبراجع اؼبعاصرة ،اليت تناولت اؼبوضوع بأسلوب بسيط ولغة سهلة يتناسباف
ولغة العصر ،ذبدىا مدونة يف قائمة اؼبصادر واؼبراجع يف آخر اؼبذكرة.
أخَتا أرجو أف هبد طلبتنا يف ىذه اؼبذكرة غايتهم وما ينفعهم يف دينهم ودنياىم ،وأقوؿ ىذا جهد
اؼبقل ،فما كاف فيو من صواب فمن اهلل وحده ،وما كاف فيو من تقصَت وعثرات فمن نفسي األمارة بالسوء،
وأستغفر اهلل منو ،وآخر دعوانا أف اغبمد هلل رب العاؼبُت وصلى اهلل على سيدنا ؿبمد وآلو.
1
الفصل األول
في مبادئ علم أصول الفقو
2
المبحث األول :تعريف علم أصول الفقو
قبل التعرض لتعريف علم أصوؿ الفقو ،نشَت إىل أف تعريفو جاء متأخرا عن تدوينو ،حيث أف رسالة
ىم اإلماـ َّ
اإلماـ الشافعي (ت 204ىػ)؛ أوؿ مؤلف وصل إلينا يف ىذا العلم ،كانت ُخ ًلوا من تعريفو؛ ألف ّ
الشافعي يف ىذه الرسالة كاف منصرفا إىل بياف اؼبوضوعات اليت كتب إليو عبد الرضبن بن مهدي (ت 198ىػ)
وحجية اإلصباع ،وبياف الناسخ واؼبنسوخ من القرآف يسألو الكتابة فيها ،وىي :معاين القرآف ،وقبوؿ األخبارّ ،
والسنّة ،وىي اؼبوضوعات اليت كانت مثار االختبلؼ يف ذلك الزماف.
والناظر يف تعريفات أصوؿ الفقو ،اليت جاءت بعد الشافعي ،هبد أهنا تنتظم يف اذباىُت أساسُت نبا:
أحدىما :ينظر إليو على أنو علم مستقل ،وأف ىذا االسم لقب لو ،وأصبح حقيقة عرفية دوف النظر إىل
علما أو لقبًا إلنساف.
أجزائو اؼبركب منها ،مثل عبد اهلل وقبم الدين ،وأبو بكر إذا ُجعل كل منها ً
فيعرفو من خبلؿ تعريف ٍ
كل وثانيهما :ينظر إليو على أنو مركب إضايف مكوف من ثبلث كلماتَّ ،
منها على حده.
المطلب األول :تعريف علم أصول الفقو باعتباره مركبا إضافيا
عرؼ الكثَت من األصوليُت علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبًا إضافيِّا ،مؤلف من ثبلث كلمات ،ىي: ّ
علم ،وأصوؿ ،وفقو .ولفهم اؼبعٌت العاـ لعلم أصوؿ الفقو ،وإدراؾ مضمونو وحدوده ال بد من تعريف وفهم
معٌت كل من اؼبضاؼ واؼبضاؼ إليو؛ أي تعريف العلم كمضاؼ لؤلصوؿ ،وتعريف األصوؿ كمضاؼ إليو
بالنسبة للعلم وكمضاؼ للفقو ،وتعريف الفقو كمضاؼ إليو بالنسبة للفقو.
أوال ـ تعريف العلم
العلم يف اللغة :ىو اؼبعرفة واليقُت والشعور.
أما يف االصطبلح فيطلق العلماء لفظ العلم على أحد اؼبعاين األربعة التالية:
- 1العلم :ىو إدراؾ الشيء ومعرفتو ،يقينا أو ظنا ،فهو عملية ذىنية يف تصور األشياء ،أو تصور اؼبعلوـ.
- 2العلم :ىو األشياء اؼبدركة نفسها ،فعلم الفقو مثبل ىو مسائل الفقو ،أو ىو ؾبموعة األحكاـ الشرعية
العملية ،وعلم الطب ىو ؾبموعة التعليمات واؼبعارؼ اليت سبيز بُت الذات الصحيحة واؼبريضة ،وعلم األصوؿ
ىو مسائلو ومباحثو.
- 3العلم :ىو اؼبلكة والقدرة العقلية اليت يكتسبها العامل من دراسة العلم ومسائلو ،فيقاؿ مثبل :فبلف عنده
علم.
- 4العلم :ىو االعتقاد اعبازـ اؼبطابق للواقع عن دليل ،مثل :النار ؿبرقة ،والعامل حادث ،وذلك إذا وصل
البحث إىل اؼبعرفة الكاملة اؼبطابقة للحقيقة والواقع ،فإنو يسمى علما ،وإال فإنو يكوف فرضية أو ظنِّا أو ِّ
شكا ً
أو ونبًا وزبمينًا ورصبًا بالغيب ،فالعلم أعلى درجات اؼبعرفة.
وأقرب اؼبعاين اليت تتصل بعلم األصوؿ نبا اؼبعنياف األوؿ والثاين ،فعلم أصوؿ الفقو ىو إدراؾ األصوؿ
ومعرفتها ،أو ىو نفس األصوؿ اليت تؤخذ منها األحكاـ.
3
ثانيًا ـ تعريف األصول
األصوؿ :صبع أصل ،وىو في اللغة أساس الشيء ،أو ما يبٌت عليو غَته ،سواء كاف االبتناء حسيِّا،
كاألساس الذي يشيد عليو البناء ،فهو أصل لو ،أـ كاف االبتناء عقليِّا ،كابتناء األحكاـ اعبزئية على القواعد
الكلية.
أما في االصطالح :فقد استعمل العلماء كلمة أصل يف معاف كثَتة أنبها:
- 1األصل :ىو ما يقابل الفرع؛ أي الصورة اؼبقيس عليها كما يف باب القياس ،ومثالو :قوؿ علماء أصوؿ
الفقو يف قياس حكم النبيذ على اػبمر :اػبمر أصل والنبيذ فرع .أو األصل الذي يتفرع عنو غَته ،كقوؿ الفقهاء
األب أصل واالبن فرع.
- 2األصل :دبعٌت اؼبستصحب ،مثل :األصل الطهارة ،ؼبن كاف متيقنًا منها ،ويشك يف اغبدث؛ أي
تستصحب الطهارة حىت يثبت عكسها ،ومثل :األصل براءة الذمة؛ أي استصحاب براءة الذمة حىت يثبت ما
يشغلها .ومثل األصل يف الكبلـ اغبقيقة ،واألصل يف األشياء اإلباحة وغَتىا...
- 3األصل :دبعٌت القاعدة اليت تبٌت عليها اؼبسائل ،مثل :األمور دبقاصدىا ،واؼبشقة ذبلب التيسَت ،واألمر
اؼبطلق يفيد الوجوب...
- 4األصل :دبعٌت الدليل ،وىو ما تعارؼ عليو الفقهاء وعلماء األصوؿ ،مثل قوؽبم :أصل ىذا اغبكم من
الكتاب آية كذا ،ومن السنة حديث كذا ،وأصل قاعدة اغبرج مرفوع الكتاب...
واؼبعنياف الثالث والرابع نبا اؼبقصوداف يف تسمية ىذا العلم بأصوؿ الفقو؛ أي أدلة الفقو وقواعده اليت
يعتمد عليها يف االستنباط .واألدلة إما أف تكوف إصبالية؛ أي كلية ؾبردة ال تتعلق حبكم معُت ،وتدرس يف
أصوؿ الفقو ،وىي مصادر التشريع وقواعد االستنباط منها ،وإما أف تكوف جزئية أو تفصيلية ،وىي ما يتفرع أو
تنتجو تلك القواعد الكلية ،وىبتص ّٔا علم الفقو واػببلؼ.
ثالثًا ـ تعريف الفقو
احلُ ْل عُ ْق َد ًة ِم ْن لِ َس ِاين يَػ ْف َق ُهوا ِ
الفقو لغة :الفهم وإدراؾ مراد اؼبخاطب من الكبلـ ،ومنو قولو تعاىلَ :و ْ
ِ
خَتا يُف ّقهو يف الدّْين".قَػ ْوِيل[طو ،]28 - 27:وقولو عليو الصبلة والسبلـَ " :م ْن يُرد اهللُ بو ً
عرفو أصحاب الشافعي بأنو " العلم باألحكاـ الشرعية العملية اؼبكتسب من أدلتها وفي االصطالحّ ،
التفصيلية".
وبناء على ما سبق يكوف علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبا ىو العلم بأدلة ىذه األحكاـ ،ومعرفة وجوه
داللتها عليها من حيث اعبملة.
ويظهر لنا أف ميداف عامل األصوؿ :ىو األدلة الكلية كالكتاب والسنة ،واإلصباع ...وغايتو :إثبات
حجية ىذه األدلة ،ووضع قواعد كلية تساعد آّتهد على استنباط األحكاـ الشرعية من األدلة التفصيلية.
أما ميداف الفقيو :فهو األدلة التفصيلية اعبزئية اػباصة ،وغايتو :الوصوؿ إىل اغبكم اعبزئي لكل فعل من
أفعاؿ اؼبكلفُت.
4
وعلَما
المطلب الثاني :تعريف أصول الفقو باعتباره لقبًا َ
يف ىذا االذباه نعرض تعريفُت؛ أحدنبا للجمهور والثاين للشافعية.
أوال ـ تعريف الجمهور
عرؼ اغبنفية واؼبالكية واغبنابلة أصوؿ الفقو بقوؽبم" :ىو العلم بالقواعد الكلية اليت يتوصل ّٔا إىل استنباط ّ
األحكاـ الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية".
وىو تعريف وظيفي اعتُ ِمد يف بيانو على وظيفة أصوؿ الفقو ،اليت ىي أساسا وضع قواعد وضوابط كلية
يعتمد عليها آّتهد ويستهدي ّٔا يف عملية االجتهاد واستنباط األحكاـ ألفعاؿ اؼبكلفُت.
شرح التعريف
1ػ العلم سبق تعريفو يف تعريف علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبا.
2ػ وأما القاعدة الكلية فهي اؼببدأ العاـ أو القضية الكلية اليت تدخل ربتها جزئيات كثَتة ،مثل األمر
اؼبطلق آّرد من القرائن يفيد الوجوب ،واغبرج مرفوع ،وغَتىا من القواعد اليت تدخل ربت ىذه القواعد الكلية،
كأنواع اغبرج الكثَتة اليت تدخل يف مسمى اغبرج ،وىكذا.
يتم التخاطب والتفاىم بُت الناطقُت وىذه القواعد قد تكوف لغوية؛ أي األصوؿ الذىنية اليت على أساسها ّ
باللساف العريب ،مثل اؼبطلق يبقى على إطبلقو إىل أف يقيّد ،وقد تكوف شرعية؛ أي أهنا مستمدة من استقراء
نصوص الشرع وروحو ،كقاعدة اغبرج مرفوع.
3ػ ومعٌت أهنا يتوصل ّٔا إىل استنباط األحكاـ؛ أهنا الضوابط اليت يلتزـ ّٔا آّتهد يف عملية استنباط
األحكاـ.
4ػ واألحكاـ صبع حكم ،وىو خطاب اهلل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت؛ أي مراده من اؼبكلفُت ،كوجوب
الصبلة والصياـ ،وربرمي الزنا والسرقة...
5ػ ووصف األحكاـ بأهنا شرعية ،معناه أهنا تتوقف على الشرع؛ أي تثبت بأدلة من الشارع اغبكيم ،فهو
مصدرىا ،وذلك مثل قوؿ آّتهد أو الفقيو وبرـ اعبمع بُت اؼبرأة وعمتها أو خالتها يف الزواج ،فهذا حكم
(التحرمي) ثبت بدليل شرعي ،وىو قولو ،صلى اهلل عليو وسلم(( :ال تنكح اؼبرأة على عمتها وال خالتها)).
وىذا التقييد أيضا؛ أي كوف األحكاـ شرعية ىبرج منها األحكاـ اغبسية والعقلية ،كاغبكم بأف النار ؿبرقة،
فهو حكم أدرؾ باغبس ،واغبكم بأف الكل أكرب من اعبزء ،فهو حكم أدرؾ بالعقل..
6ػ ومعٌت كوف األحكاـ عملية أهنا تتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت العملية ،سواء تعلقت باعبوارح كالسرقة
والغش ،..أو بالقلب كالنية ،أو باللساف كشهادة الزور ،..ؤّذا زبرج األحكاـ اليت ال تتعلق بعمل ،كاألحكاـ
االعتقادية اؼبقصود منها التصديق ،كالصديق بوحدانية اهلل عز وجل ،والتصديق بنبوة ؿبمد ،صلى اهلل عليو
وسلم ،والتصديق بالبعث واعبنة والنار .كما زبرج األحكاـ األخبلقية كالوفاء والكرـ.
7ػ من أدلتها :األدلة صبع دليل ،وىو يف اللغة اؼبرشد إىل الشيء واؽبادي إليو ،سواء كاف ىذا اؼبرشد
حسيا ،كالدليل السياحي ،وىو الرجل الذي يقوـ بإرشاد الناس يف األماكن السياحية ،أو كاف معنويا ،كالدليل
5
العقلي الذي يرشد إىل الصواب ،كاؼبهتدي بعقلو إىل جهة القبلة من خبلؿ اسًتشاده بعقلو جبهة شروؽ
الشمس.
والدليل يف اصطبلح األصوليُت ىو" :ما يبكن بصحيح النظر فيو التوصل إىل إدراؾ حكم شرعي" ،أو
ىو" :ما يستفاد منو حكم شرعي مطلقا ،سواء كاف على سبيل القطع أو على سبيل الظن".
8ػ وكوف األدلة تفصيلية؛ معٌت أهنا جزئية تتعلق جبزئيات األفعاؿ ،كالصبلة والصوـ واغبج والسرقة والزنا
والغش ،والبيع ،والربا وغَتىا..
وخبلصة التعريف أف علم أصوؿ الفقو ىو العلم بالقواعد والضوابط الكلية اليت يستطيع آّتهد بوساطتها
أف يعرؼ األحكاـ الشرعية اعبزئية ،ويستخرجها من اآليات واألحاديث وغَتىا من مصادر التشريع.
ويبلحظ على تعريف اعبمهور ،باؼبقارنة مع تعريف أصوؿ الفقو باعتباره مركبا إضافيا ،أنو تعريف غَت
جامع بسبب إنبالو لعنصر مهم ال يبكن ذباىلو يف التعريف ،وىو األدلة الكلية أو مصادر التشريع اليت يشتغل
عليها أيضا األصويل ،لذلك ننتقل إىل تعريف الشافعية ،لعلو يكوف أصبع وأمشل ؼبوضوعات أصوؿ الفقو.
ثانيا ـ تعريف الشافعية
وىو تعريف موضوعي يعتمد على بياف اؼبوضوعات واؼبسائل اليت يدرسها علم أصوؿ الفقو .لبتار من
التعريفات تعريف البيضاوي الشافعي اؼبذىب ،لشمولو وعمومو فيما يتصل دبسائل وقضايا ومباحث ىذا العلم،
عرفو بأنو" :معرفة دالئل الفقو إصباال ،وكيفية االستفادة منها ،وحاؿ اؼبستفيد". حيث ّ
شرح التعريف
- 1اؼبعرفة :ىي العلم والتصديق بأدلة الفقو اإلصبالية ،سواء أكاف التصديق على سبيل القطع ،أـ على سبيل
الظن ،ومن ىذا يظهر السبب يف اختيار لفظة اؼبعرفة ،دوف لفظة العلم؛ ألف البيضاوي وبصر معٌت العلم
بالتصديق على سبيل القطع .وىبرج من التعريف علم اهلل تعاىل باألدلة ،ألف علمو تعاىل قطعي ،وليس ظنيِّا.
- 2دالئل :صبع دليل ،والدليل يف اللغة :اؼبرشد إىل الشيء ،والكاشف عن حقيقتو.
ويف االصطبلح :ىو ما يبكن بصحيح النظر فيو التوصل إىل إدراؾ حكم شرعي على سبيل العلم أو الظن،
ِ ِ ِ َّ ِ
الصبل َة[يونس،]87: يموا َّ مثل قولو تعاىل :يَا أَيػُّ َها الذ َ
ين َآمنُوا أ َْوفُوا بالْعُ ُقود[اؼبائدة ،]1:وقولو تعاىلَ :وأَق ُ
ين يػُ َقاتِلُونَ ُك ْم[البقرة.]190: ِ ِ ِ ِ َّ ِ
وقولو تعاىلَ :وقَاتلُوا يف َسب ِيل اللَّو الذ َ
فهذه اآليات الكريبة أدلة عند األصوليُت؛ ألهنم ينظروف إليها بأهنا أوامر شرعية ،ويتوصلوف منها إىل إدراؾ
األحكاـ الشرعية بوجوب الوفاء بالعقد ،وإقامة الصبلة ،واعبهاد يف سبيل اهلل.
حكما
والصحيح عند صبهور األصوليُت أف الدليل إما أف تكوف داللتو على اغبكم قطعية بأف ينتج ً
قصر بعض األصوليُت الدليل على ما يتوصل منو إىل حكما ظنيِّا ،بينما ّ قطعيِّا ،وإما أف تكوف ظنية بأف ينتج ً
إدراؾ حكم شرعي قطعي ،أما ما يتوصل منو إىل إدراؾ حكم شرعي ظٍت فهو أمارة.
حكما كليِّا ،ىو الوجوب واغبرمة ،ويندرج والدليل إما أف يكوف ؾبمبل ،كمطلق األمر والنهي ،الذي ينتج ً
ربتو أدلة جزئية ،وإما أف يكوف دليبل جزئيِّا تفصيليِّا يدؿ على اغبكم يف مسألة بذاهتا ،ويندرج ربت دليل كلي،
كاألمر بإقامة الصبلة ،الذي يدؿ على وجؤّا ،وىذه من مباحث الفقو ،وتذكر استطر ًادا يف األصوؿ.
6
واؼبراد دبعرفة األدلة أف يعرؼ أف الكتاب والسنة واإلصباع والقياس أدلة وبتج ّٔا ،وأف األمر مثبل للوجوب،
وال يقصد حفظ األدلة.
وىبرج من التعريف معرفة غَت األدلة ،كمعرفة أحكاـ الفقو ،وقواعد النحو ،ومبادئ الببلغة ،وأسباب
اػببلؼ؛ فإهنا ليست أدلة.
اصطبلحا :ىو العلم باألحكاـ الشرعية العملية اؼبكتسب من أدلتها التفصيلية.
ً - 3الفقو :لغةً الفهم ،و
وإف إضافة الدالئل للفقو تفيد العموـ؛ ألنو صبع مضاؼ ،فيعم صبيع األدلة سواء كانت متف ًقا عليها أو ـبتل ًفا
فيها.
وىبرج من التعريف دالئل غَت الفقو ،كالنحو والقانوف ،فبل تدخل يف موضوعنا.
- 4إصباال :حاؿ من الدالئل ،أي دالئل الفقو اإلصبالية الكلية غَت اؼبعينة ،اليت يدخل ربتها جزئيات كثَتة،
مثل كوف اإلصباع حجة ،وأف شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد ما يؤيده بشريعتنا ،وأف النهي يفيد التحرمي..
فبل يدخل يف علم أصوؿ الفقو الدليل التفصيلي لؤلحكاـ اعبزئية يف علم الفقو وعلم اػببلؼ ،مثل قولو ،عليو
الصبلة والسبلـ" :ال وصية لوارث" فهو دليل تفصيلي على نسخ الوصية للوارث.
- 5كيفية االستفادة منها :أي معرفة قواعد تفسَت النصوص وكيفية داللة ىذه األخَتة على األحكاـ ،ومعرفة
ما يبيز الدليل الصحيح من الدليل الباطل ،والدليل القوي من الدليل الضعيف ،وذلك أف أدلة الفقو التفصيلية
ظنية من جهة داللتها على األحكاـ الشرعية ،أو من جهة ثبوهتا عن النيب ،صلى اهلل عليو وسلم ،أو من
معا ،وقد يتعارض الدليل الظٍت مع دليل آخر فيحتاج الفقيو إىل معرفة تعارض األدلة ،ومعرفة األسباب اعبهتُت ً
يرجح ّٔا بعض األدلة على بعض ،وىذا ما يدرسو األصويل يف باب التعارض والًتجيح الذي يعُِت آّتهد، اليت ّ
ويستفيد منو لبياف الدليل الصحيح اؼبثبت لؤلمر أو النهي.
- 6وحاؿ اؼبستفيد :أي معرفة صفتو .وألف اؼبستفيد قد يكوف ؾبتهدا أو مقلدا ،فقد حبث األصوليوف صفات
وشروط كل منهما .وذلك أف استنباط األحكاـ من أدلتها ،وترجيح الدليل على غَته عند التعارض ،ال يتسٌت
لكل الناس ،ولذا يشًتط يف آّتهد أف تتوفر فيو صفات وشروط كثَتة حىت يستطيع القياـ ّٔذا العمل اػبطَت،
وىي شروط آّتهد ،وقد حبثها األصوليوف يف باب شرائط االجتهاد ،وأنبها:
العلم بكتاب اهلل تعاىل وسنة رسولو ،صلى اهلل عليو وسلم ،ومقاصدنبا ،واإلصباع والقياس ،وإتقاف اللغة
العربية ،ومعرفة الناسخ واؼبنسوخ ،واغبقيقة وآّاز ،واؼبطلق واؼبقيد ،وصحيح السنة وسقيمها ،ومتواترىا
وآحادىا ،ومسندىا ومنقطعها ،ومعرفة شروط القياس وطرؽ العلة وغَت ذلك.
وكما أف االجتهاد ال يستطيعو كل الناس ،فإف التقليد أيضا غَت جائز لبعضهم ،كمن تتوفر فيو ملكة
االجتهاد ويبتلك أدواتو ،لذا تناوؿ األصوليوف التقليد وحددوا صفات اؼبقلد وشروطو.
وؼبا كانت معرفة كل من األدلة اإلصبالية وكيفية االستفادة منها وحاؿ اؼبستفيد الغرض منها وشبرهتا
الوصوؿ لؤلحكاـ الشرعية ،صارت ىذه األخَتة (األحكاـ الشرعية) من مباحث علم األصوؿ أيضا. النهائية ّ
ولبلص من ىذا التعريف اعبامع إىل أف علم أصوؿ الفقو ىو العلم الذي يكسبنا معرفة دبصادر التشريع
ويبُت لنا الدليل الصحيح اؼبرشد إىل حكم اهلل تعاىل ،وسبب ترجيحو على غَته ،وكيفية استنباط اإلسبلميّ ،
7
األحكاـ الشرعية من اؼبصادر ،ويرشدنا إىل شرائط االجتهاد ،والطريق الذي يسلكو آّتهد يف االستنباط ضمن
اغبدود الشرعية.
المبحث الثاني :موضوع علم أصول الفقو ومصادره
المطلب األول :موضوع علم أصول الفقو
لكل علم من العلوـ موضوعا أو موضوعات خاصة يشتغل عليها ،وىي عبارة عن ؾبموعة من اؼبسائل
واؼبباحث الكلية اليت يدور فيها وحوؽبا البحث.
ويظهر من التعريفات السابقة ألصوؿ الفقو ،وخاصة تعريف البيضاوي ،أف موضوعو يتكوف من طبسة
أنواع من اؼبباحث ،وىي:
- 1مباحث األدلة اليت تستنبط منها ؤّا األحكاـ الشرعية ،وىي مصادر التشريع اإلسبلمي اليت يستقي منها
اؼبسلم حكم اهلل تعاىل ،وىذه األدلة قسماف :قسم متفق عليو بُت أىل السنة واعبماعة ،وقسم ـبتلف فيو
يعتمد عليو بعض األئمة دوف بعض.
- 2مباحث اغبكم الشرعي.
– 3مباحث دالالت األلفاظ وكيفية اقتباس األحكاـ من األدلة؛ أي وجوه داللة األدلة بالصيغة والنظم ،أو
بالفحوى واؼبفهوـ ،أو باالقتضاء والضرورة ،أو باؼبعقوؿ وغَت ذلك من اؼبباحث اليت تدرس يف قواعد تفسَت
النصوص.
- 4مباحث التعارض والًتجيح.
- 5مباحث االجتهاد وشروط آّتهد وصفاتو ،والتقليد وشروطو.
ومن ىنا ىبتلف موضوع علم أصوؿ الفقو عن موضوع علم الفقو؛ ألف الفقيو يبحث يف فعل اؼبكلف
من حيث ما يثبت لو من أحكاـ شرعية يف عباداتو وتصرفاتو وأخبلقو ،وىل ىي واجبة عليو أـ مندوبة لو أـ
مباحة أـ مكروىة أـ ؿبرمة؟ من خبلؿ أدلتها اعبزئية التفصيلية.
أما األصويل فيبحث يف الدليل الكلي والقواعد الكلية ،اليت تضبط عملية االجتهاد اؼبوصلة إىل األحكاـ
اعبزئية الفرعية.
المطلب الثاني :العلوم التي يستند إليها ويستمد منها علم أصول الفقو
يستند ىذا العلم ويستمد مادتو من ثبلثة علوـ أساسية ،ىي :علم الكبلـ واؼبنطق ،وعلم اللغة ،واألحكاـ
الشرعية اؼبستقرة؛ أي علم الفقو.
أما علم الكبلـ واؼبنطق فقد استفاد منو األصوليوف يف إثبات القضايا العقدية اليت تتوقف عليها صحة
األدلة وصدقها ،كإثبات وجود اهلل سبحانو وتعاىل وصفاتو ،واثبات اغباكمية لو ،وصدؽ رسولو صلى اهلل عليو
وسلم ،وصدؽ ما أخرب بو يف القرآف الكرمي والسنة الشريفة وحجيتهما يف االستدالؿ ،وغَت ذلك من القضايا.
كما استفادوا من اؼبقاييس والتعريفات والبيانات اؼبنطقية يف وضع اؼبصطلحات والتعريفات للحقائق
الشرعية ،والتطبيقات القياسية واالستقرائية ،وإجراء اؼبقارانات واؼبوازنات والتنسيق بُت األدلة والتعارضات
واؼبتشأّات وغَتىا.
8
وأما علم اللغة وكيفية داللة األلفاظ على اؼبعاين فقد اعترب أحد اؼبكونات األساسية لعلم األصوؿ ،ذلك
أف األحكاـ الشرعية يف القرآف والسنة ،واليت ىي غاية ومدار علم األصوؿ ،قد نزلت ألفاظها بلغة ولساف
العرب ،األمر الذي وبتم معرفة قواعد تلك اللغة وفهم صيغ دالالهتا على ما وضعت لو ،واالطبلع على
أساليب ذلك اللساف وكيفية استعماؽبأّ ،دؼ التعرؼ على معاين األلفاظ ومراد الشارع من النصوص
والوصوؿ إىل اغبقائق واألحكاـ الشرعية .لذلك اىتم علماء األصوؿ باؼبباحث اللغوية وجاءت كتبهم حافلة
ّٔا ،ودرسوىا دراسة معمقة تفوؽ أحيانا دراسة اللغويُت أنفسهم.
،وألهنا أسبق من تدوين أصوؿ الفقو ،فقد استند إليها ىذا العلم يف وأما األحكاـ ا لشرعية اؼبستقرة
بناء قواعده من خبلؿ استقراء األحكاـ اؼببثوثة يف الكتاب وبياهنا عن طريق استقصاء تصرفات الرسوؿ صلى
اهلل عليو وسلم وتتبع ما صدر عنو من أقواؿ وأفعاؿ وتقريرات ،وإدراؾ أسرار ومقاصد خطابو ،وكيف تعامل
معها جيل صحابتو رضواف اهلل تعاىل عليهم .كما اعتمد علماء اغبنفية خاصة على األحكاـ والفتاوى اليت
قررىا فقهائهم يف الفروع يف بناء قواعدىم األصولية.
المبحث الثالث :غاية علم أصول الفقو وأىميتو وفائدتو
المطلب األول :غاية علم أصول الفقو
نفعا ،وال تظهر فائدتو إال بعد بيافقدرا ،وأكثرىا ً
إف علم أصوؿ الفقو من أشرؼ العلوـ ،وأعظمها ً
الغاية منو.
والغاية من علم أصوؿ الفقو ىي الوصوؿ إىل معرفة األحكاـ الشرعية ،أي أحكاـ اهلل تعاىل يف أفعاؿ
اعتقادا بالقلب ،أـ نط ًقا باللساف ،أـ عمبل باألعضاء ،وسواء أكانت يف العقيدة أـ ً العباد ،سواء أكانت
العبادات ،أـ اؼبعامبلت ،أـ األخبلؽ ،أـ العقوبات ،وذلك ليلتزـ اؼبكلف حدود اهلل تعاىل ،ويبتغي مرضاتو،
ويؤدي واجباتو ،وينتهي عن احملارـ ،وباختصار ليمتثل دبا أمره اهلل بو ،ويتجنب معاصيو وما هناه عنو ،وتكوف
إرادتو موافقة إلرادة الشارع اغبكيم.
وبناء على ذلك فإف علم أصوؿ الفقو ليس غاية يف ذاتو ،وإمبا ىو طريق ووسيلة إىل معرفة حكم اهلل
تعاىل يف الوقائع ،وإف دراسة القواعد واألدلة ،ومعرفة طرؽ االستنباط ليست مقصودة بذاهتا ،وإمبا تقصد ؼبا
وراءىا ،وال هبوز حباؿ من األحواؿ أف يغيب ذلك عن ذىن الطالب والعامل وآّتهد الذين يدرسوف األصوؿ
ويدركوف فائدتو وأنبيتو ومكانتو الرفيعة بُت العلوـ ،وأنو ال يقصد منو اغبفظ والتلقي ،وإمبا يقصد منو أف يكوف
سديدا يف يد الباحث.
ومفتاحا ً
ً منهجا ضابطا يف البحث والتفكَت،
وبعد ىذه اؼبقدمة نذكر أىم فوائد علم األصوؿ:
المطلب الثاني :فوائد وأىمية علم أصول الفقو
اضحا
منهجا و ً - 1إف علم األصوؿ يرسم للمجتهد الطريق القومي اؼبوصل إىل استنباط األحكاـ ،ويضع أمامو ً
ومستقيما يف كيفية االستنباط ،فبل ينحرؼ وال ىببط خبط عشواء ،وال يزؿ بو العقل واؽبوى عند أخذ ً
األحكاـ من األدلة ،فيضع عامل األصوؿ القواعد الكلية ؼبعرفة كيفية استنباط األحكاـ الشرعية من األدلة
والنصوص.
9
- 2كاف علم األصوؿ الوسيلة الناجحة غبفظ الدين من التحريف والتضليل ،فصاف أدلة الشريعة ،وحفظ
وعرؼ الناس دبصادر التشريع األصلية اليت هبب االلتزاـ ّٔا والرجوع إليها ،كما ّبُت اؼبصادر حجج األحكاـّ ،
الفرعية والتبعية اليت كانت آّاؿ الرحب التساع الشريعة ،وتلبية حاجات آّتمع واألمة فيما يعًتيها من وقائع
الدس يف
وأحداث ،وكاف علم األصوؿ العقبة الكأداء يف وجو اؼبنحرفُت واؼبضللُت واؼبشعوذين الذين حاولوا ّ
األحكاـ ،وتشويو مقاصد التشريع واؼبراوغة يف التضليل والدعوة ،وإطبلؽ العناف للهوى يف التأويل ،كمن ينفي
حجية خرب اآلحاد ،أو ينكر السنة ،أو ينفي حجية اإلصباع والقياس ،ومن يدعي أنو ال داللة يف ألفاظ القرآف
على شيء ،ومن يدعي أف يف القرآف ألفاظًا مبهمة ،ومن يتبلعب باألحكاـ ،وأف اػبمر مثبل ليست ؿبرمة
لعدـ النص على التحرمي بلفظ وبرـ.
ونصوا على قوة
وقد حدد علماء األصوؿ مصادر التشريع وبيّنوا دالالت األلفاظ وتفسَت النصوصّ ،
وضحوا لنا طرؽ األدلة القطعية والظنية ،والعبلقة بُت النص السابق والبلحق يف التخصيص والنسخ ،كما ّ
ويرد ِ
سبلحا ذا ح ّدين يُعُت اؼبخلصُت على معرفة أحكاـ اهللّ ، ً االجتهاد وشروط آّتهد ،فكاف علم األصوؿ
كيد الكائدين يف كبورىم.
يبُت لؤلمة عامة ،وألتباع آّتهد ،ودارسي الفقو خاصة ،اؼبنهج الذي سلكو اإلماـ - 3إف علم األصوؿ ّ
آّتهد ،ويرسم أمامهم معامل الطريق الذي سار عليو يف االستنباط واالجتهاد لتطمئن قلؤّم لعلمو ،وتزداد
ثقتهم باغبكم الذي وصل إليو ،وتستقر نفوسهم إىل مسلك اإلماـ وأساس االختبلؼ ،وأف آّتهد يقصد وجو
اهلل تعاىل ويبغي مرضاتو يف عملو ،دوف أف يدفعو لذلك اؽبوى اعبامح ،أو اؼبصلحة الشخصية ،أو القصد
اؼبادي ،أو التطلع إىل منصب أو جاه.
وأتباع كل مذىب ػ وإف مل يصلوا إىل درجة االجتهاد ،ومل ينزلوا إىل درجة العواـ ػ يرغبوف بطبيعة اغباؿ
يف معرفة أساس االجتهاد عند األئمة ،وكيف وصلوا إىل استنباطها ،وال يتمكنوف من ذلك إال بدراسة علم
أصوؿ الفقو ،وإف فعلوا ذلك فقد نفوا عن أنفسهم وصمة التقليد األعمى لئلماـ.
والعلماء ػ إف عرفوا مناط األحكاـ وسبل االجتهاد وأساس التشريع ػ إف ورد أمامهم رأياف استطاعوا أف
ىبتاروا الرأي األقرب إىل قواعد اؼبذىب ،وإف اعًتضتهم جزئية صغَتة استطاعوا زبرهبها على أصوؿ آّتهد.
يكوف عند الطالب والدارس والباحث ملكة عقلية وفقهية تصحح تفكَته ،وتعبّد - 4إف علم أصوؿ الفقو ّْ
الطريق أمامو لبلجتهاد واالستنباط واإلدراؾ الصحيح والفهم التاـ للحكم على األشياء ،ليكوف يف اؼبستقبل
قادرا على
القريب من علماء األمة ورجاؿ الغد ،وضبلة الرسالة السماوية واألمانة اإلؽبية يف التشريع ،ويصبح ً
استنباط األحكاـ من األدلة.
- 5يرسم علم أصوؿ الفقو الطريق للعلماء ،يف كل عصر ؼبعرفة حكم اهلل تعاىل يف اؼبسائل اؼبستجدة،
ينص عليها األئمة يف كتبهم ،فيخوض العامل غمار ىذه والوقائع اغبادثة اليت مل يرد فيها دليل شرعي ،ومل ّ
األحداث فيعرؼ ما يتفق منها مع حكم اهلل تعاىل ،وما وبقق شريعتو ،ووبفظ مقاصده األصلية ،فيبقى التشريع
مسايرا لتطورات الزمن ،وال شك أف اغباجة ملحة للتشريع الدائم ،واالجتهاد اؼبستمر ،ألف التشريع نفسو وليد ً
اغباجة ،وإذا كاف من الًتؼ الفكري والعقلي وجود الفقو االفًتاضي ،فإنو من اػبطأ الفادح ،والتقصَت اآلمث
10
صبود الفقو والتشريع عن ؾباراة العصر وبياف كل ما يقع فيو من جديد؛ ألف اإلسبلـ صاحل لكل زماف ومكاف،
ومن ذلك طفل األنابيب ،وموانع اغبمل ،والتأمُت على اغبياة ،والتعامل مع اؼبصارؼ ،ونقل األعضاء ،وموت
الدماغ ،والتجارة الدولية ،وحوادث السَت ،ونظاـ اؼبرور ،واالتصاالت اغبديثة ،واألعماؿ اؼبصرفية ،واؼبواصبلت
الدولية ،وغَتىا كثَت.
يعرفنا على األحكاـ الشرعية يف كل حادث وطارئ ،فقد قاؿ علماء وإف علم أصوؿ الفقو ىو الذي ّ
يبُت السبب يف غلق باب االجتهاد حكما هلل تعاىل ،وإف كل ؾبتهد مأجور ،وىذا ّ األصوؿ :إف لكل واقعة ً
ويدسوا يف
اعبهاؿ والدجالُت ،وأنصاؼ اؼبتعلمُت ،خشية أف يتولوا كرسي االجتهادُّ ، الذي أوصده العلماء أماـ ّ
الدّْين ما ليس فيو ،فيَضلوا ويُضلوا ،كغلق اؼبدرسة إذا مل يتوفر طبلب أو أساتذة ،وغلق معمل إذا مل يتوفر فيو
مهندس أو اختصاصي ،أو مواد أولية.
وعلى الرغم من القوؿ بقفل باب االجتهاد يف فًتة زمنية ،فلم تتوقف دراسة أصوؿ الفقو ،ومل َوبرـ
علما شرعيِّا يتبوأ
االطبلع عليو ،ومل يُلغ من حلقات الدرس ،بل بقي ىذا العلم على مر األزماف والعصور ً
الدرجة العليا يف الدراسة والتدريس والتأليف ،وما ذلك إال ألف ىذا العلم يؤكد صبلحية ىذه الشريعة لكل
زماف ومكاف ،ويظهر مرونة التشريع اإلسبلمي ومسايرتو ؼبصاحل الناس ،وإف الشريعة الغراء تليب حاجات آّتمع
كيفما كاف.
ويبُت أسباب التباين بينها، - 6إف علم أصوؿ الفقو يضبط الفروع الفقهية بأصوؽبا ،وهبمع اؼببادئ اؼبشًتكةّ ،
ويظهر أساس االختبلؼ.
مثاؿ ذلك القاعدة األصولية " األمر للوجوب" ،فإهنا تشمل صبيع النصوص يف القرآف الكرمي والسنة
الشريفة اليت جاءت بصيغة األمر ،فإهنا تفيد الوجوب ،ما مل يوجد قرينة تصرؼ األمر عن الوجوب إىل الندب
أو اإلباحة ،وإف القاعدة األصولية " ال اجتهاد يف مورد النص" قاعدة أساسية تعترب شعار آّتهد واؼبتبع واؼبقلد
والباحث واؼبناظر ،فحيثما ورد النص يف القرآف والسنة فبل ؾباؿ إلعماؿ الرأي واالجتهاد واالستنباط.
- 7إف علم أصوؿ الفقو ىو الدعامة الرئيسية والركيزة األساسية لدراسة اؼبذاىب اؼبختلفة واؼبقارنة بينها،
وخاصة يف عصرنا اغباضر الذي شاع فيو البحث اؼبقارف ،وانتشرت الدراسات اؼبقارنة لبياف ما يتفق مع الدليل
الراجح ،وما يوافق مقاصد الشريعة ،ووبقق مصاحل الناس ،ويؤكد ىذه األنبية أف القوانُت والفتاوى واالجتهادات
والدراسات تتجو لؤلخذ من ـبتلف اؼبذاىب ،باعتبار أف الشريعة اإلسبلمية دبذاىبها اؼبتعددة مصدر للتشريع
معُت ،بل تبحث يف اؼبذاىب ،وتطوؼ بُت األدلة واألحكاـ وأخذ األحكاـ ،ومل تعد تقتصر على مذىب ّ
الختيار ما يؤيده الدليل القوي ،وما يصلح لؤلمة.
ويأيت علم أصوؿ الفقو يف قمة الوسائل اليت يستخدمها الباحث يف اؼبقارنة واؼبوازنة بُت اآلراء عند
فيتعرؼ على الدليل ،ومنهج االستنباط ،ومسلك االجتهاد ،مث ىبتار األحكاـ اليت يرجحها على االختبلؼ؛ ّ
غَتىا.
آّرد ،واؼبطّلع
- 8إف علم أصوؿ الفقو يعطي الدليل اعبازـ لعظمة الثروة الفقهية من جهة ،ويؤكد للباحث ّ
اغبيادي أف أسباب االختبلؼ بُت األئمة ىي أسباب موضوعية علمية ،وليست أسبابًا شخصية أو عشوائية.
11
ىذه الفوائد -وغَتىا كثَت -تثبت أنبية أصوؿ الفقو ،وضرورة دراستو وتعلّمو ،واالطبلع عليو ،والتزود
بقواعده ،والتمرس بأسلوبو ،واالىتداء بو يف معرفة تراث األمة السابق ،واستنباط األحكاـ للوقائع يف اغباضر،
وتوضيح الرؤية ؼبستقبل اؼبسلمُت الذين يأملوف يف تطبيق شريعة رّٔم والرجوع إىل كتابو وسنة رسولو دبشيئة اهلل
تعاىل.
المبحث الرابع :نشأة وتطور علم أصول الفقو
ترجع نشأة أصوؿ الفقو إىل تاريخ مشروعية االجتهاد؛ ألف االجتهاد ال يقوـ إال على أصوؿ وقواعد
تضبطو .وال خبلؼ أف حاالت من االجتهاد قد وقعت يف زمن النيب صلى اهلل عليو وسلم ،رغم عدـ التصريح
باألصوؿ والقواعد اليت قاـ عليها .وال يعٍت ىذا أف علم أصوؿ الفقو ولد مكتمبل وبرزت قواعده إىل الواقع
فجأة ،بل مر دبراحل وعوامل ساعدت على تكوينو وظهوره التدرهبي ،شأنو يف ذلك شأف سائر العلوـ.
وقد مرت األصوؿ والقواعد اليت تضبط عملية استنباط أحكاـ الفقو دبراحل متميزة نوجزىا فيما يلي:
المطلب األول :األصول في عهد الرسول صلى اهلل عليو وسلم.
يف ىذا العهد كاف الرسوؿ صلى اهلل عليو وسلم ىو أصل األحكاـ ومصدرىا دبا يوحي إليو ربو عز
وجل من تعليمات وتوجيهات ،ودبا يُ َلهم بو من السنن .فقد أ ّكدت آيات كثَتة من القرآف الكرمي على مصدرية
الرسوؿ يف التشريع بالقرآف أو السنة وح ّذرت من اػبروج عن طاعتو .من ذلك قولو تعاىل :من يطع الرسوؿ
فقد أطاع اهلل[النساء ،]80،وقولو :وما أتاكم الرسوؿ فخذوه وما هناكم عنو فانتهوا واتقوا اهلل إف اهلل شديد
العقاب[اغبشر ،]7،وقولو عز وجل :وما كاف ؼبؤمن وال مؤمنة إذا قضى اهلل ورسولو أمرا أف تكوف ؽبم اػبَتة
من أمرىم ومن يعص اهلل ورسوؿ فقد ضل ضبلال مبينا [األحزاب ،]36،وقولو عز من قائل :فبل وربك ال
يؤمنوف حىت وب ّكموؾ فيما شجر بينهم مثّ ال هبدوا يف أنفسهم حرجا فبا قضيت ويسلموا
تسليما[النساء.]65،
ومن خبلؿ ىذه التوجيهات والتحذيرات القرآنية عرؼ الصحابة منزلة الرسوؿ صلى اهلل عليو وسلم يف
التشريع؛ فكانوا كلما احتاجوا إىل بياف سألوه ،وكلما رغبوا يف معرفة حكم غبادثة وقعت ؽبم رجعوا إليو
يستفتونو ،وإذا وقعت بينهم خصومة رباكموا إليو .فكاف صلى اهلل عليو وسلم هبيبهم دبا نزؿ عليو سلفا أو دبا
سينزؿ عليو من القرآف أو دبا أُؽبِم بو من السنة .وقد شهدت ؽبذا األمر آيات وأحاديث كثَتة ،نذكر على سبيل
اؼبثاؿ قولو تعاىل :يسألونك عن الشهر اغبراـ قتاؿ فيو[ ..البقرة ،]217،وقولو :يسألونك ماذا أحل
ؽبم[..اؼبائدة ،]4،وعن جرير بن عبد اهلل ،سألت رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم عن نظر الفجأة ،فقاؿ:
((أصرؼ بصرؾ))(روا أبو داود) ،وجاء رجل إىل رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم فقاؿ :يا رسوؿ اهلل إنا نركب
البحر وكبمل معنا القليل من اؼباء فإف توضأنا بو عطشنا ،أفنتوضأ بو؟ فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم:
((ىو الطهور ماؤه اغبل ميتتو))(رواه مالك وأصحاب السنن).
ومل تكن اغباجة يف ىذا العهد إىل أصوؿ وقواعد يتوصل ّٔا إىل استنباط األحكاـ؛ ألف الصحابة كانوا
يتعرفوف على األحكاـ من النصوص اليت يفهموهنا بسليقتهم العربية السليمة ،ووقوفهم على أسباب نزوؿ ّ
اآليات وورود اغبديث ،وإدراكهم ؼبقاصد التشريع من خبلؿ صحبتهم للنيب صلى اهلل عليو وسلم.
12
وال يعٍت ما سبق من كبلـ أف االجتهاد مل يقع يف ىذا العهد إطبلقا ،بل وقع االجتهاد منو صلى اهلل
عليو وسلم ،كما وقع من صحابتو رضواف اهلل تعاىل عليهم وشجعهم النيب على ذلك ،وكاف الغرض منو تعليم
الصحابة وتدريبهم عليو ،وربضَتىم ؼبا بعد وفاتو صلى اهلل عليو وسلم ،وإال فإف األمر يؤوؿ يف النهاية إىل
الوحي ،الذي يؤيد ما توصل االجتهاد إليو أو يصححو ،أو يؤوؿ إىل السنة بعد إقرار النيب صلى اهلل عليو وسلم
عليو .ومن أمثلة ذلك اجتهاد النيب صلى اهلل عليو وسلم يف أخذ الفدية من أسرى بدر ،وإذنو ؼبن زبلف عن
غزوة تبوؾ ،..ومن أمثلة اجتهاد الصحابة والتشجيع عليو ،أمره عمر بن العاص أف يقضي بُت خصمُت حضرا
لديو ،وإقراره اجتهاد الرجلُت الذين حضرت الصبلة ومل يكن معهما ماء ،فتيمما وصليا ،مث وجدا اؼباء يف
الوقت ،فأعاد أحدنبا الوضوء والصبلة ومل يُعِد اآلخر ،وؼبا جاءا إىل النيب وأخرباه ،قاؿ للذي مل يعد(( :أصبت
السنة وأجزأتك صبلتك)) ،وقاؿ للثاين(( :لك األجر مرتُت))( .واغبديث رواه أبو داود).
ومن القواعد األصولية اليت ظهرت يف ىذا العهد:
ػ قاعدة ترتيب مصادر التشريع عند البحث عن اغبكم الشرعي ،وىي مستفادة من حديث معاذ عندما
أراد النيب صلى اهلل عليو وسلم بعثو إىل اليمن وسألو دبا يقضي إذا عرض لو قضاء؟ فقاؿ لو أنو يقضي بكتاب
اهلل ،فإف مل هبد فبالسنة ،فإف مل هبد فيجتهد برأيو ،فوافقو النيب على ذلك (واغبديث رواه أبو داود).
ػ قاعدة قياس األوىل ،وىي مستفادة من حديث اؼبرأة اليت أتت النيب صلى اهلل عليو وسلم فقالت :إف
أمي ماتت وعليها صوـ شهر؟ فقاؿ(( :أريت لو كاف عليها دين أكنت قاضيتو؟)) ،فقالت نعم ،فقاؿ:
((فدين اهلل أحق بالقضاء))(رواه مسلم).
ػ ومنها قاعدة قياس اؼبماثلة ،وىي مستفادة من حديث الرجل الذي ساورتو الوساوس عندما ولد لو
غبلـ أسود اللوف فأنكر نسبو ،فسألو عن لوف إبلو ،فقاؿ الرجل أهنا ضبر ،فسألو ىل فيها من أورؽ ،فأجاب
الرجل بنعم ،فسأؿ عن علة ذلك ،فقاؿ الرجل لعلو نزعو عرؽ ،فقاؿ النيب صلى اهلل عليو وسلم(( :فلعل ابنك
ىذا نزعو)) (رواه البخاري) ،يقصد شابو أحد أجداده قياسا على اإلبل.
ػ قاعدة قياس العكس ،وىي مستفادة من اغبديث الذي قاؿ فيو النيب صلى اهلل عليو وسلم :ويف بضع
أحدكم صدقة)) ،قالوا :يا رسوؿ اهلل أيقضي أحدنا شهوتو ويكوف لو فيها أجر؟ قاؿ :أرأيتم لو وضعها يف حراـ
أيكوف عليو وزر؟ فكذلك إذا وضعها يف حبلؿ كاف لو أجر)) (رواه مسلم).
المطلب الثاني :األصول في زمن الصحابة
بعد وفاة النيب صلى اهلل عليو وسلم ظهرت وقائع وأحداث جديدة ،بسبب اتساع دائرة اإلسبلـ وتطور
اغبياة بسبب االحتكاؾ مع الشعوب آّاورة ودخوؿ الناس يف دين اهلل أفواجا ،فكاف البد من مواجهة ىذه
اؼبستجدات باالجتهاد واستنباط أحكامها من الكتاب والسنة أو القياس .وقد ساعدىم يف ذلك خصائص
سبيزوا ّٔا ،منها امتبلكهم للفطرة النقية الداعية للتسليم والسليقة العربية السليمة ،ومعرفتهم بأساليب اللغة العربية
ووجوه دالالت ألفاظها وعباراهتا على اؼبعاين ،كما ساعدىم خربهتم يف إدراؾ مقاصد التشريع وأسراره اليت
اكتسبوىا من مبلزمتهم للنيب صلى اهلل عليو وسلم وعلمهم بأسباب نزوؿ القرآف وورود اغبديث.
13
ومن أمثلة االجتهادات اليت وقعت يف ىذا العهد اجتهاد عبد اهلل بن مسعود ،رضي اهلل عنو ،يف مسألة
اؼبفوضة ،وىي اليت تزوجها رجل ومل يفرض ؽبا صداقا ومل يدخل ّٔا حىت مات ،بأف ؽبا صداؽ اؼبثل وعليها
العدة وؽبا اؼبَتاث .ومن أمثلة ذلك أيضا أف عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنو أرسل عكرمة رضي اهلل عنو إىل
زيد بن ثابت رضي اهلل عنو يسألو عن زوج وأبوين ،فأجاب بأف للزوج النصف ولؤلـ الثلث فبا بقي ولؤلب بقية
اؼباؿ .وكذلك اختبلؼ علي وعمر ،رضي اهلل عنهما ،يف من دخل باؼبعتدة ،حيث يرى عمر ،رضي اهلل عنو،
التفريق بينهما مع التحرمي اؼبؤبد ،ويرى علي كرـ اهلل وجهو التفريق وبداية العدة من جديد وال ربرـ بعد ذلك.
وقد ظهرت يف اؼبرحلة ؾبموعة من القواعد األصولية ،أنبها:
ػ قاعدة اإلصباع ،اؼبستفادة من أصباع الصحابة على خبلفة أيب بكر ،رضي اهلل عنو ،وإصباعهم على
صبع القرآف يف مصحف واحد ،وصباعهم على قتاؿ مانعي الزكاة.
األمة .وقياسهم
ػ قاعدة القياس ،حيث جعلوا العبد على النصف من اغبر يف النكاح واغبد ،قياسا على َ
حد اػبمر على حد القذؼ ،وقياس اإلمامة العظمى على إمامة الصبلة ،وتوريث اعبدة ألب قياسا على اعبدة
ألـ من باب أوىل.
ػ قاعدة االستصبلح؛ أي بناء األحكاـ على اؼبصاحل اليت شهدت ؽبا عموـ النصوص باالعتبار ،كما يف
صبع اؼبصحف الشريف يف زمٍت أيب بكر وعثماف ،رضي اهلل عنهما ،وتدوين الدواوين يف زمن عمر ،رضي اهلل
عنو ،وجعل الشورى بُت الستة لتولية اػبليفة الثالث.
المطلب الثالث :األصول في عصر التابعين
إذا كاف الصحابة قد تربوا على يدي رسوؿ اهلل ،صلى اهلل عليو وسلم ،وساروا على هنجو ،فإف التابعُت
قد تربوا على أيدي الصحابة الذين نقلوا إليهم تعاليم اإلسبلـ وأحكامو وعرفوىم دبنهجو يف العلم والفقو
والفتيا ،حُت تفرؽ ىؤالء األصحاب يف األمصار يعلموف الناس أمور دينهم ،فأنشؤوا حركة علمية يف كل مصر
نزلوا بو.
وكاف من الطبيعي أف يكوف ؽبؤالء الصحابة أتباع وتبلميذ تأثروا بشخصياهتم ومناىجهم يف استنباط
األحكاـ .وبذلك بدأت تتبلور مبلمح مدارس فقهية تتميز دبناىجو وقواعدىا اػباصة ،كتلك اليت يقودىا سعيد
بن اؼبسيب (ت 94ىػ) وأصحابو الذين كانوا يروف أف علماء اغبرمُت الشريفُت أثبت الناس يف اغبديث والفقو.
لذلك صبع فتاوى اػبلفاء األربع وعائشة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت ،رضي اهلل عنهم ،وأعتمد قضيا
قضاة اؼبدينة وحفظ منها الكثَت .فما كاف ؾبمعا عليو بُت علماء اؼبدينة عض سبسك بو ىو وأصحابو ال
هباوزونو.
95ىػ) وأصحابو الذين يروف أف عبد اهلل بن وكاف يف اعبانب اآلخر يف العراؽ إبراىيم النخعي (ت
مسعود ،رضي الو عنو ،أثبت يف الفقو ،يعتمدوف فتاوى علي ،كرـ اهلل وجهو ورضي عنو ،وأحكامو مدة خبلفتو
بالكوفة ،وفتاوى أيب موسى األشعري وسعد بن أيب وقاص،رضي اهلل عنهما ،وقضايا القاضي شريح ،إذ كاف
يستشَت فيها عمر وعثماف ،رضي اهلل عنهما .فعمل إبراىيم النخعي يف آثار ىؤالء ،مثلما فعل سعيد بن
وخرج على فقههم بالقياس واالستنباط فيما مل ينصوا فيو ،وازبذ قضاياىم أصبل اؼبسيَّب يف آثار أىل اؼبدينةّ ،
14
لو ،فكاف الواضع األوؿ ألسس مذىب العراقيُت (مدرسة الرأي) ،كما كاف ابن اؼبسيّب الواضع األوؿ ألسس
مدرسة اغبديث.
وقد ظهر إىل جانب ىؤالء فقهاء آخروف اشتهروا بالفقو واالجتهاد ،كعطاء بن رباح يف مكة ،وطاووس
يف اليمن ،ووبي بن أيب كثَت يف اليمامة ،واغبسن البصري يف البصرة ،ومكحوؿ يف الشاـ ،والفقهاء السبعة يف
اؼبدينة.
وقد تطور ىذا التنوع يف الرأي واالختبلؼ يف النظر إىل مصادر األحكاـ ومواردىا ليتحوؿ إىل نزاع
ظاىر بُت اعبانبُت يف مسألة األخذ بالرأي.
وقد كاف من العوامل اليت ساعدت على بروز مبلمح اؼبدرستُت؛ مدرة اغبديث يف اؼبدينة ومدرسة الرأي
يف العراؽ ،ما يلي:
بالنسبة ؼبدرسة اغبديث يف اؼبدينة:
ػ تأثرىم باؼبنهج الذي التزمو علماؤىم من الصحابة ،وخاصة عبد اهلل بن عمر ،رضي اهلل عنو ،يف
حرصهم على اغبديث واآلثار ،وذبنب األخذ بالرأي وإعماؿ القياس إال للضرورة.
ػ ما لديهم من ثروة حديثية ورثوىا عن الصحابة الذين استوطن غالبيتهم منطقة اغبجاز.
ػ قلة اؼبسائل اؼبستجدة بسبب يسر اغبياة ورتابتها يف منطقة اغبجاز ،وبطء تطور مدهنم.
ػ وقد سبيزت ىذه اؼبدرسة بالوقوؼ عند ظواىر النصوص من غَت نظر إىل عللها ،وقلة التفريع وكراىية
السؤاؿ عن اؼبسائل االفًتاضية.
بالنسبة ؼبدرسة الرأي يف العراؽ:
ػ تأثرىم بالصحايب اعبليل عبد اهلل بن مسعود ،رضي اهلل عنو ،أستاذ الكوفة الذي كاف يأخذ بالرأي
والقياس.
ػ قلة اغبديث إذا ما قيس دبنطقة اغبجاز.
ػ شيوع الوضع يف اغبديث بسبب اػببلفات السياسية ،ما دفعهم إىل التحرز من الرجوع إليو.
ػ كثرة اؼبشكبلت واؼبسائل اؼبستجدة بسبب االحتكاؾ باغبضارة الفارسية.
وقد سبيزت ىذه اؼبدرسة بكثرة التفريع لكثرة ما يعرض ؽبم من حوادث ،وسرعة التطور حىت افًتضوا
اؼبسائل ،كما سبيزت بقلة رواية اغبديث.
القواعد األصولية يف ىذا العهد:
ظهرت قواعد أصولية جديدة بظهور ىذه اؼبدارس ،باإلضافة إىل القواعد السابقة اليت ظهرت يف عهد
الصحابة؛ فظهر إصباع فقهاء اؼبدينة عند مدرسة اغبديث باؼبدينة ،واعتمادىم اؼبصلحة يف االستنباط .وظهر
القياس كمصدر لؤلحكاـ يف العراؽ ،واعتمادىم أقواؿ الصحابة يف االحتجاج والفتوى..
وىكذا قبد أف لفقهاء كل بلد مناىج وطرؽ يف االستنباط ،تنمو وتزداد وضوحا كلما تقدـ الزمن .وىذا
بدوره يراكم اؼبادة العلمية ألصوؿ الفقو ويعمق الفكر األصويل ويساعد على بروزه يف قواعد ودالئل يتبناىا
علماء كل مصر.
15
المطلب الرابع :األصول في عهد األئمة المجتهدين
نقل علماء التابعُت النصوص الشرعية وما ورثوه من علم الصحابة إىل تبلميذىم وأتباعهم ،كما نقلوا
منهاج ىؤالء يف استنباط األحكاـ الشرعية اليت بدأت يف التمايز على أيديهم وطوروىا ،وكاف من الطبيعي جدا
أف تتمايز ىذه اؼبناىج أكثر على أيدي تبلميذ التابعُت ،فبا أدى إىل ظهور واضح ؼبدارس فقهية عدة ،أنبها
مدرسة الرأي بالعراؽ اليت وضع أسسها األوىل إبراىيم النخعي ،ومدرسة اغبديث باغبجاز اليت وضع أسسها
األوىل سعيد بن اؼبسيّب كما رأينا سابقا.
مث اشتد النزاع واػببلؼ بُت ىاتُت اؼبدرستُت خبلؿ ىذه اؼبرحلة واستفحل أثره ،وظهر اؼبتعصبوف من
كبل الطرفُت ،وأخذ كل طرؼ أو أىل مدرسة باالحتجاج لرأيو وإبراز األصل الذي اعتمد عليو ،وىكذا حىت
نضجت القواعد وتشكلت اؼبدارس الفقهية اؼبعروفة ،وسبازيت مناىجها اؼبتبعة يف االستنباط واالستدالؿ،
وأصبح لكل مدرسة أصوؿ وقواعد تضبط االجتهاد ،وتظهر يف الدروس واؼبناقشات واؼبناظرات على ألسنة
العلماء والفقهاء ،وخاصة فيما اختلفوا فيو.
وكاف من بُت األصوؿ والقواعد اليت دار حوؽبا النقاش ومل تكن ؿبل اتفاؽ بُت العلماء ،االستدالؿ
ببعض أنواع السنة ،كاغبديث اؼبرسل ،وخرب والواحد الذي خالف عمل أىل اؼبدينة أو خالف ما تعم بو
البلوى ،واالستدالؿ بالقياس واالستحساف ،وقوؿ الصحايب ،وغَتىا.
17
ثانيا ـ منهج وطريقة الفقهاء
وتسمى أيضا بطريقة اغبنفية؛ ألهنم ىم الذين ألَّفوا يف أصوؿ الفقو على هنجها .وقد هنج علماء ىذه
الطريقة مسلك تقرير القواعد األصولية على مقتضى ما نقل عن فقهائهم من فروع فقهية؛ أي أف ىؤالء العلماء
وضعوا القواعد اليت افًتضوا أف أئمتهم الحظوىا يف اجتهاداهتم واستنباطهم لؤلحكاـ يف ضوء ما ورد عنهم من
أحكاـ جزئية يف الفروع .ولذلك سبتاز ىذه الطريقة بكثرة إيراد الفروع وقرّٔا من الفقو.
والذي دعا أصويل اغبنفية إىل ىذه الطريقة أف علماءىم األوائل مل يًتكوا كتبا يف األصوؿ والقواعد اليت
اعتمدوىا يف االستنباط ،أو ّأهنم مل يعثروا على تلك الكتب إف وجدت ،فبحثوا عن تلك األصوؿ والقواعد يف
ثنايا الفروع ،باعتبار أهنا البد أف تكوف قائمة على أساس.
صنّْفت وفق ىذا اؼبنهج أو الطريقة ،ما يلي:ومن أىم الكتب اليت ُ
1ػ "مآخذ الشرائع" ،لئلماـ أيب منصور اؼباتريدي (ت 330ىػ).
2ػ "األصوؿ" ،لئلماـ الكرخي (ت 340ىػ).
3ػ "األصوؿ" ،لئلماـ أيب بكر اعبصاص (ت 370ىػ).
4ػ "تأسيس النظر وتقومي األدلة" ،لئلماـ أيب زيد الدبوسي (ت 430ىػ).
5ػ "األصوؿ" ،لفخر اإلسبلـ البزدوي (ت 482ىػ).
6ػ "األصوؿ" ،لشمس األئمة السرخسي (ت 490ىػ).
7ػ "كشف األسرار" ،لعبد العزيز البخاري (ت 730ىػ).
8ػ "اؼبنار" وشرحو "كشف األسرار" ،غبافظ الدين النسفي (ت 790ىػ).
ثالثا ـ منهج وطريقة المتأخرين
تقوـ ىذه الطريقة على اؼبزج بُت الطريقتُت السابقتُت ،والظفر دبزايا كل منهما .فتعٌت بتقرير القواعد
األصولية آّردة مدعومة باألدلة والرباىُت ،وتطبيقها على الفروع الفقهية وربطها ّٔا ،وجعلها خادمة ؽبا.
وقد ظبيت بطريقة اؼبتأخرين؛ ألف أغلب من صنف يف علم األصوؿ بعد ظهور ىذه الطريقة ،يف أواخر
القرف السابع اؽبجري ،قد التزـ ّٔا.
ومن أبرز الكتب اليت ألفت وفق ىذه الطريقة أو اؼبنهج ،العناوين التالية:
1ػ "بديع النظاـ اعبامع بُت أصوؿ البزدوي واإلحكاـ" ،ؼبظفر الدين الساعايت اغبنفي (ت694ىػ).
2ػ "تنقيح األصوؿ" وشرحو "التوضيح" ،لصدر الشريعة اغبنفي (ت 747ىػ).
3ػ "صبع اعبوامع" ،لتاج الدين السبكي الشافعي (ت 771ىػ).
4ػ "البحر احمليط يف أصوؿ الفقو" ،لبدر الدين الزركشي الشافعي (ت 794ىػ).
5ػ "التحرير" ،لكماؿ الدين بن اؽبماـ اغبنفي (ت 861ىػ).
6ػ "مسلم الثبوت" ،حملب اهلل بن عبد الشكور اغبنفي (ت 1119ىػ).
7ػ "إرشاد الفحوؿ إىل ربقيق اغبق من علم األصوؿ" ،لئلماـ الشوكاين (ت 1255ىػ).
18
ىذه أىم الطرؽ اليت صنّف ّٔا العلماء يف أصوؿ الفقو .ولكن ذبدر اإلشارة أنو يف القرف الثامن
اؽبجري سلك اإلماـ الشاطيب (ت 790ىػ) منهجا ـبتلفا يف دراسة أصوؿ الفقو يف كتابو القيّم اؼبوسوـ بػ
"اؼبوافقات يف أصوؿ الشريعة".
ىذا الكتاب الذي تفرد يف طريقة تأليفو ،يتكوف من أربعة أجزاء .التقى الشاطيب مع علماء األصوؿ يف
القضايا اليت عرضها يف األجزاء األوؿ والثالث والرابع ،ولكنو تفرد يف اعبزء الثاين حبديث مل يسبق إليو تناوؿ فيو
مقاصد التشريع .وىو جانب كاف حظو من العناية يف اؼبؤلفات األصولية ضئيبل وال يتناسب مع عظيم أنبيتو يف
عملية استنباط األحكاـ ،حيث كانت ىذه اؼبقاصد ت ِرد يف كتب األصوليُت عادة يف فصل قصَت ال يتجاوز
بضع صفحات يذكروف فيها ما يقاؿ عن االستدالؿ اؼبرسل ألجل األخذ باؼبصلحة ،وىي عند الشاطيب تستقل
بربع الكتاب ،كما ي ِرد اغبديث عنها يف األجزاء الثبلثة األخرى للكتاب ،وكأمبا اؼبقاصد سبثل غبمة الكتاب
وسداه للربط بُت ـبتلف قضاياه .فالكتاب بكل أجزائو إذف إمبا ىو تعبَت عن اؼبقاصد الشرعية بأسلوب مباشر
حينا وغَت مباشر حينا آخر .وىو بذلك أوؿ كتاب تدور كل مباحثو حوؿ مقاصد الشريعة ومنهج استنباط
األحكاـ وفقا ؽبذه اؼبقاصد.
19
الفصل الثاني
في الحكم الشرعي
20
الحكم الشرعي
رأينا فيما سبق أف غاية علم أصوؿ الفقو وشبرتو ىي الوصوؿ إىل معرفة األحكاـ الشرعية اؼبتعلقة بأفعاؿ
اؼبكلفُت بغية االلتزاـ ّٔا يف واقع اغبياة وحصوؿ اؼبصاحل اؼبقصودة منها ،لذلك اىتم علماء األصوؿ باغبكم
الشرعي ،وقدـ كثَت منهم حبثو على حبث األدلة باعتباره جزءا من اؼبدخل إىل ىذا العلم ،يف حُت أخره بعضهم
على مبحث األدلة ألنو يبٌت عليها.
ويراد دببحث اغبكم الشرعي عند األصوليُت الكبلـ عن األركاف التالية:
ُصدر اغبكم يف حقو، أوال :اغباكم ،وىو الذي لو حق إصدار اغبكم ،وثانيا :احملكوـ عليو ،وىو اؼبكلف الذي أ ِ
ً
أيضا باحملكوـ بو،
ويعرب عنو ً
وثالثًا :احملكوـ فيو ،وىو فعل وتصرؼ اؼبكلف الذي يكوف اغبكم وص ًفا لوّ ،
ليبُت صفة فعلو.
ابعا :اغبكم الذي صدر من اغباكم على احملكوـ عليو ّ ور ً
فمبحث اغبكم الشرعي ينتظم األركاف األربعة اؼبكونة لنظريتو وىي :اغبكم واغباكم واحملكوـ فيو
واحملكوـ عليو ،واليت ال يبكن التعرؼ على اغبكم الشرعي بشكل جيد إال من خبلؿ التعرؼ على ؾبموعها.
وسوؼ نتناوؿ كبل من ىذه األركاف على حده إف شاء اللَّو تعاىل ،نبدأىا باغبكم.
الحكم
المبحث األول :تعريف الحكم الشرعي وأنواعو
المطلب األول :تعريف الحكم الشرعي
أوال ـ الحكم لغة :ىو القضاء واؼبنع ،يقاؿ حكمت عليو بكذا إذا منعتو من خبلفو ،وحكمت بُت الناس
قضيت بينهم وفصلت.
إطالقات الحكم :يطلق لفظ اغبكم ويراد منو أحد اؼبعاين التالية:
يشرع ما يريد من
األوؿ :التشريع :ومنو قولو سبحانو وتعاىل :إف اهلل وبكم ما يريد [اؼبائدة]1،؛ أي ّ
األحكاـ.
الثاين :السلطة ،ومنو قولو تعاىل :ما كاف لبشر أف يُؤتيو اهلل الكتاب واغبكم والنبوة مث يقوؿ للناس
كونوا عبادا يل من دوف اهلل [..البقرة.]113،
الثالث :القضاء؛ ومنو قولو تعاىل :إنا أنزلنا إليك الكتاب باغبق لتحكم بُت الناس دبا أراؾ
اهلل[..النساء.]105،
الرابع :اؼبنع؛ ومنو حكمت على الشخص بفعل شيء؛ دبعٌت منعتو من غَته .ومنو اغبكمة؛ ألهنا سبنع
صاحبها من اؼبفاسد ورذائل األخبلؽ.
وأحكمت الشيء أتقنتو؛ ومنو قولو تعاىل :أليس اهلل بأحكم اغباكمُت[التُت.]8،
ثانيا ـ تعريف الحكم في اصطالح األصوليين
وضعا. عرؼ صبهور علماء األصوؿ اغبكم بأنو :خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت اقتضاء أو ً
زبيَتا أو ً
21
شرح التعريف
اؼبقصود خبطاب اهلل كبلمو مباشرة وىو القرآف ،أو كبلمو بالواسطة ،وىو ما يرجع إىل كبلمو من سنة
وإصباع ،وسائر األدلة اليت نصبها ؼبعرفة حكمو.
وإضافة اػبطاب إىل لفظ اعببللة قيد أوؿ ىبرج من التعريف خطاب اؼببلئكة وخطاب الناس وخطاب
اعبن وخطاب الرسوؿ ،صلى اهلل عليو وسلم ،يف األقواؿ واألفعاؿ اعببلية اليت ال تدخل يف السنة.
وفهم بعض األصوليُت أف خطاب اللَّو ؿبصور يف القرآف الكرمي ،فقاؿ :إف التعريف غَت جامع ،لعدـ
دخوؿ السنة واإلصباع والقياس فيو ،فعرؼ اغبكم بقولو" :ىو خطاب الشارع".
َورَّد اعبمهور عليهم بأف القرآف الكرمي أشار إىل ىذه األدلة فتكوف داخلة يف التعريف بلفظ "خطاب
معرفة غبكم اللَّو ،ووسائل كاشفة عنو وموصلة اللَّو" وأف ىذه اؼبصادر ليست مشرعة بذاهتا ،وإمبا ىي أمارات ّْ
إىل خطاب اللَّو تعاىل.
وخطاب اللَّو تعاىل يشمل كبلمو اؼبوجو يف أمور العقيدة واألخبلؽ والعبادات واؼبعامبلت ، ...ويشمل
كبلمو تعاىل اؼبتعلق بذاتو وصفاتو ،..وكبلـ اللَّو تعاىل اؼبتعلق باػبلق واإلهباد ،واؼبتعلق بذات اؼبكلفُت.
لذلك جاء اػبطاب يف التعريف مقيدا بالتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت ليخرج منو اػبطاب اؼبرتبط بغَت األفعاؿ
وـ [البقرة،]255: كاػبطاب اؼبتعلق بذات اللَّو تعاىل وصفاتو ،مثل قولو تعاىل :اللَّوُ ال إِلَوَ إال ُى َو ْ
اغبَ ُّي الْ َقيُّ ُ
ِ ِ ِ ِ
ُخَرى [طو،]55: وما يتعلق بذات اؼبكلفُت ،كقولو تعاىل :مْنػ َها َخلَ ْقنَا ُك ْم َوف َيها نُعي ُد ُك ْم َومْنػ َها ُلبْ ِر ُج ُك ْم تَ َارًة أ ْ
ض بَا ِرَزةً [الكهف ،]47:فهذه وما يتعلق بأعياف اعبمادات ،كقولو تعاىل :ويػوـ نُسيّْػر ِْ
األر َ
اعببَ َاؿ َوتَػَرى ْ ََْ َ َ ُ
أحكاما مع أهنا خطاب اللَّو تعاىل وكبلمو يف القرآف الكرمي. ً األمور الثبلثة ليست
واألفعاؿ :صبع فعل ،ومعناه العريف ما يقابل القوؿ واالعتقاد والنية ،أما معناه ىنا يف التعريف فهو كل
ما يصدر عن اؼبكلف وتتعلق بو قدرتو من قوؿ أو فعل أو اعتقاد أو تقرير ،مثل الضرب باليد ،واؼبشي بالرجل،
والكبلـ باللساف ،والنية واالعتقاد بالقلب.
واؼبكلفُت :صبع مكلّف ،وىو اإلنساف البالغ العاقل الذي بلغتو الدعوة ،وإف طرأ عليو عارض بنفي
كاإلكراه والنسياف ،ولفظ اؼبكلفُت صبع واؼبراد منو اؼبفرد ،وىو من إطبلؽ العاـ وإرادة اػباص أي اؼبكلف
الواحد.
ويدخل يف التعريف األحكاـ اػباصة دبكلف واحد ،مثل خصوصيات الرسوؿ ،صلى اهلل عليو وسلم،
وخصوصية أحد الصحابة كخزيبة وأيب بردة.
واختار بعض األصوليُت يف التعريف "فعل اؼبكلف" باؼبفرد ،ليتناوؿ اػبصوصيات؛ ألف اعبمع ال يشمل
األحكاـ اػباصة ،ويُ َّرد عليهم دبا سبق ،وأنو ال فرؽ بُت اعبمع احمللى ببلـ االستغراؽ واؼبفرد احمللى ّٔا يف
العموـ.
أحكاما كثَتة
ً وىبرج من التعريف اإلنساف غَت اؼبكلف كالصيب وآّنوف ،مع أف الشريعة الغراء ذكرت
تتعلق بالصغار وآّانُت ،مثل إقامة الصبلة وإيتاء الزكاة ،واالستئذاف يف الدخوؿ ،وىذا ما دفع بعض علماء
22
األصوؿ الستبداؿ لفظ "اؼبكلفُت" بلفظ "العباد" ،ليشمل الصغار وآّانُت ،فقاؿ" :ىو خطاب اللَّو تعاىل
اؼبتعلق بأفعاؿ العباد".
ردوا ىذا البدؿ؛ ألف األحكاـ اؼبتعلقة بالصغار وآّانُت ال ينطبق عليها خواص ولكن صبهور العلماء ّ
اغبكم الشرعي ،وإمبا شرعت ؽبم من أجل التعويد والًتبية ،وأف اؼبخاطب باغبكم ىو الويل والوصي والقيّم،
يطهر
ليعود ولده على الصبلة ،وأف يربيو على االستئذاف يف الدخوؿ ،وأف ّ فاللَّو سبحانو وتعاىل خاطب األب ّ
مالو بالزكاة ،وأف ثبوت الثواب من اللَّو تعاىل على صبلة الصيب ىو فضل من اللَّو تعاىل ومنَّة وكرـ؛ ألف الثواب
ليس من لوازـ التكليف بل من فضلو تعاىل.
واؼبقصود باالقتضاء الطّلب ،والطلب إما أف يكوف طلب فعل أو طلب ترؾ ،وكل منهما إما أف يكوف
جازما أو غَت جازـ ،فأنواع الطلب أربعة ،وىي:
طلبو ً
األوؿ :طلب الفعل بشكل جازـ وىو اإلهباب.
الثاين :طلب الفعل بشكل غَت جازـ وىو الندب.
الثالث :طلب الًتؾ بشكل جازـ وىو التحرمي.
الرابع :طلب الًتؾ بشكل غَت جازـ وىو الكراىة.
اؼببُت لئلهباب والندب والتحرمي والكراىة. فاالقتضاء يشمل خطاب اللَّو تعاىل ّ
وأما التخيَت فهو زبيَت اؼبكلف باػبطاب بُت الفعل والًتؾ ،دوف ترجيح ألحد اعبانبُت على اآلخر،
ويسمى إباحة ،وحرؼ "أو" ليس للتشكيك بل للتنويع.
واؼبقصود بالوضع اعبَ ْعل ،وخطاب اللَّو تعاىل بالوضع ىو خطابو اؼبتعلق جبعل الشيء سببًا لفعل اؼبكلف
فاسدا أو عزيبة أو رخصة ،وسوؼ نرى تعريف كل منها مع صحيحا أو ً
ً مانعا منو ،أو بكونو
أو شرطًا لو ،أو ً
األمثلة يف فرع مستقل.
وألفاظ االقتضاء والتخيَت والوضع قيود زبرج من التعريف خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت
للعربة والعظة واالعتبار واإلعبلـ ،مثل قولو تعاىلَ :واللَّوُ َخلَ َق ُك ْم َوَما تَػ ْع َملُو َف [الصافا ،]96،فتعلق اػبطاب
بفعل اؼبكلف ليس لبلقتضاء أو التخيَت أو الوضع ،بل للعربة.
وخبلصة تعريف اغبكم أنو كبلـ اللَّو تعاىل الذي ارتبط بتصرفات اؼبكلف يف بياف حاؽبا من اإلهباب
والندب والتحرمي والكراىة واإلباحة ،وما يتعلق ّٔا من أسباب وموانع وشروط وصحة وفساد وعزيبة ورخصة.
واعًتض بعض األصوليُت على التعريف عبمعو بُت االقتضاء والتخيَت وبُت الوضع ،وأف الوضع ليس
حكما من جهة ،أو يدخل ربت االقتضاء من جهة أخرى. ً
ولكن صباىَت العلماء صبعوا بينهما يف التعريف ،وأف اغبكم يشمل األمرين ،قاؿ الكماؿ بن اؽبماـ:
األوجو دخوؿ الوضع يف اعبنس ،وىو اػبطاب اؼبتعلق بفعل اؼبكلف. و َ
ولتقريب معٌت اغبكم الشرعي ،الذي ىو الوصف الذي أثبتو الشارع اغبكيم لفعل اؼبكلف وتصرفو،
نسوؽ األمثلة التالية:
23
ػ البيع فعل يقوـ بو البائع واؼبشًتي ،وىذا الفعل قد وصفو اهلل تعاىل بأنو حبلؿ ومباح من خبلؿ قولو:
وأحل اهلل البيع[ ..البقرة .]275،فإثبات ىذا الوصف (إباحة البيع) ىو نفسو اغبكم الذي حكم بو
الشارع على فعل البيع ،وىو فعل للمكلف.
ػ الزنا فعل بشري ،لكنو فعل فبقوت ومذموـ يستنكره الناس ويعاقب عليو القانوف ،وتأباه النفس السوية
حرمو وهنى عن سيء العواقب والنتائج ،لذلك ّ
وتعافو الفطرة السليمة .وقد وصفو اهلل تعاىل بأنو فاحشة وأنو ّ
االقًتاب منو يف قولو تعاىل :وال تقربوا الزنا إنو كاف فاحشة وساء سبيبل [ اإلسراء .]32 ،فإثبات ىذا
الوصف (ربرمي الزنا) ىو نفسو اغبكم الذي أصدره الشارع على فعل الزنا ،وىو تصرؼ للمكلف.
ػ صبلة الظهر فعل يقوـ بو اؼبسلم ،وىو فعل ؿبمود أمر اهلل تعاىل بو وربطو بزواؿ الشمس عن كبد
السماء بقولو تعايل :أقم الصبلة لدلوؾ الشمس[ ..اإلسراء .]78،فإثبات وصف اإلهباب للصبلة ،
اؼبستفاد من األمر بإقامتها ،ىو نفسو اغبكم الذي حكم بو اهلل على فعل الصبلة ،وىو فعل للمكلف .كما
أف إثبات وصف سببية دلوؾ الشمس إلهباب صبلة الظهر ،ىو نفسو اغبكم الذي وضعو الشارع عبلمة على
طلب فعل الصبلة ،اليت ىي فعل للمكلف.
اغبكم الشرعي بُت األصوليُت والفقهاء
يتبُت أف اغبكم الشرعي عند األصوليُت ىو خطاب اهللمن خبلؿ التعريف السابق للحكم وشرحو ّ
نفسو؛ أي ذات الدليل اؼبتضمن االقتضاء أو التخيَت أو الوضع.
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [اؼبائدة ]1،خطاب متعلق بالوفاء بالعقود طلبا لفعلو، فقولو تعاىل:
وقولو تعاىل :يا أيها الذين آمنوا ال يسخر قوـ من قوـ[ ...اغبجرات ]11،خطاب متعلق بالسخرية طلبا
لًتكها.
وقولو سبحانو وتعاىل :فإف خفتم أال يقيما حدود اهلل فبل جناح عليهما فيما افتدت
يو[البقرة ]229،خطاب متعلق بفدية الزوجة نفسها دباؿ تعطيو لزوجها مقابل تسروبها (اػبلع) زبيَتا فيو.
وقولو صلى اهلل عليو وسلم(( :القاتل ال يرث)) ،خطاب متعلق بالقتل بوضعو وجعلو مانعا من اإلرث.
وقولو تعاىل :فمن شهد منكم الشهر فليصمو [البقرة ]185،خطاب تعلق بفعل الصوـ جبعل رؤية
اؽببلؿ سببا لو ،وىكذا لسائر األنواع األخرى.
فكل نص من ىذه النصوص السابقة ىو اغبكم الشرعي عند األصوليُت .أما عند الفقهاء فإف النص
ليس ىو اغبكم ،وإمبا ىو دليل اغبكم ،واغبكم ىو األثر اؼبًتتب عن اػبطاب ،أو الفائدة اؼبتعلقة بفعل اؼبكلف
واليت يتضمنها النص.
فإذا كاف قولو تعاىل :فمن شهد منكم الشهر فليصمو [البقرة ]185،ىو نفسو اغبكم عند
األصوليُت ،فإف األثر اؼبًتتب عن النص وىو وجوب الصوـ عند رؤية اؽببلؿ ىو اغبكم عند الفقهاء.
والسبب يف اختبلؼ االصطبلح بُت األصوليُت والفقهاء ،أف كل فريق أطلق اغبكم حبسب نظره
للمسألة .فاألصوليوف نظروا إىل اغبكم من جهة مصدره ،وىو اهلل عز وجل ،واغبكم صفة لو ،قاؿ تعاىل:
واهلل وبكم ال معقب غبكمو[الرعد .]41،والفقهاء نظروا للحكم من ناحية متعلقو وىو فعل اؼبكلف.
24
وقد عرب بعض األصوليُت عن معاين اغبكم االقتضائي بالوجوب واغبرمة ،وىذا خطأ؛ ألف اػبطاب
يصدؽ على اإلهباب والتحرمي ،أما الوجوب واغبرمة فإهنما من أثر اػبطاب ،ولكن شاع واشتهر بُت األصوليُت
أف اإلهباب والوجوب أو التحرمي واغبرمة شيء واحد بالذات واغبقيقة ،وأهنما ـبتلفاف يف االعتبار ،فالذات
واحدة وىي اػبطاب اإلؽبي ،ولكن إف اعتربناه يف جانب اللَّو تعاىل كاف إهبابًا وربريبًا ،وإف اعتربناه يف جانب
ضْيػَر من استعماؿ اللفظُت ،أما الندب والكراىة واإلباحة فاللفظ واحد يف اؼبكلف كاف وجوبًا وحرمة ،فبل َ
اغبالُت.
وىذه األحكاـ اػبمسة اإلهباب والتحرمي والندب والكراىة واإلباحة إذا تعلقت باألفعاؿ أُطلق عليها
لفظ الواجب واحملرـ واؼبندوب واؼبكروه واؼبباح ،ويوصف الفعل ّٔا.
وباختصار فاإلهباب ىو نفس خطاب الشارع ،والوجوب ىو األثر اؼبًتتب على ذلك اػبطاب،
والواجب ىو وصف لفعل اؼبكلف الذي طلبو الشارع ،مثل ذلك التحرمي واغبرمة واغبراـ ،وأما الندب واإلباحة
والكراىة فلها صيغتاف فقط ندب ومندوب ،وإباحة ومباح ،وكراىة ومكروه ،ومتعلقات األحكاـ ىي :الواجب،
واؼبندوب ،واحملرـ أو اغبراـ ،واؼبكروه ،واؼبباح؛ ألف اػبطاب يتعلق بالفعل فيجعلو واجبًا أو مندوبا أو مباحا أو
مكروىا أو حراما...
ثالثا ـ أثر اختالف األصوليين والفقهاء في تعريف الحكم الشرعي
يبدو يف الظاىر أف ىذا االختبلؼ لفظي ال يًتتب عليو شبرة عملية؛ ألف اػبطاب وما يًتتب عليو
متبلزماف ،واغبق أف اػببلؼ بُت الفريقُت جوىري يًتتب على اعبهل بو خلط بُت اؼبفاىيم الشرعية ،وىذه أىم
الفروؽ بُت التعريفُت:
1ػ من جهة االنتساب إىل الشرع :اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل تصدؽ نسبتو إىل الشرع أصالة؛
ألنو خطاب الشارع .أما اغبكم الشرعي باؼبفهوـ الفقهي فتصدؽ نسبتو إىل الشارع تبعا ال أصالة؛ ألنو األثر
الذي فهمو آّتهد من خطاب الشارع ،وىو عمل بشري .وآّتهدوف متفاوتوف يف الفهم واإلدراؾ ،وىم غَت
معصومُت ،لذلك قد يصيب بعضهم وىبطئ بعضهم ،كما قد يصيب آّتهد نفسو وقد ىبطئ .وخطاب
الشارع معصوـ فبل يبكن أف ننسب إليو إال ما كاف صوابا.
2ػ من جهة اؼبقتضى :اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل يقتضي االعتقاد؛ ألنو ؾبرد خطاب .أما
اغبكم باؼبفهوـ الفقهي فيقتضي االمتثاؿ؛ ألنو األثر اؼبًتتب على اػبطاب وفقا لفهم آّتهد ،أما أثر ىذا
اػبطاب يف علم اهلل فليس ألحد أف يصل إليو إال عن طريق الوحي ،وقد انقطع.
3ػ من جهة نطاؽ اؼبعنِيُّت :اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل يقتصر البحث فيو على آّتهدين؛ ألهنم
أىل إدراؾ اػبطاب .أما اغبكم باؼبفهوـ الفقهي فيبحث عنو عامة اؼبكلفُت ؼببلبستهم الواقع.
4ػ من جهة الثبات والدواـ :اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل يتّسم بالثبات والدواـ الكتماؿ الشريعة
بانقطاع الوحي .أما اغبكم الشرعي باؼبفهوـ الفقهي فقد يتّسم بالتجديد وعدـ الثبات الختبلؼ أنظار
آّتهدين وآرائهم باختبلؼ األوضاع والفهم.
25
يعم صبيع اؼبكلفُت من جانب 5ػ من جهة عموـ اغبكم :اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل ذبريدي ّ
ويعم صبيع األحواؿ من جانب الوضع .أما اغبكم الشرعي باؼبفهوـ الفقهي فهو تشخيصي؛ فمن التكليفّ ،
جانب التكليف يقوؿ آّتهد ػ مثبل :الصبلة واجبة على ىذا أو ىؤالء ،ومن جانب الوضع يقوؿ :رب ّقق السبب
يف ىذه اغباؿ دوف تلك ،وكذلك بالنسبة للشرط واؼبانع.
وال هبوز إغفاؿ ىذه الفروؽ اعبوىرية حىت ال يتّهم اهلل ورسولو يف تنزيل األحكاـ على النّاس والوقائع،
ذلك ما نستش ّفو من حديث النيب ،صلى اهلل عليو وسلم ،فيما رواه بريدة ،رضي اهلل عنو ،قاؿ :كاف رسوؿ
خاصتو بتقوى اهلل ومن معو من اؼبسلمُت اهلل ،صلى اهلل عليو وسلم ،إذا ّأمر أمَتا على جيش أو سريّة أوصاه يف ّ
خَتا مث قاؿ « :اغزوا باسم اهلل ىف سبيل اهلل ،قاتلوا من كفر باهلل ،اغزوا و ال تغلوا وال تغدروا وال سبثلوا وال تقتلوا
فأيتهن ما أجابوؾ فاقبل منهم ّ وليدا ،وإذا لقيت عدوؾ من اؼبشركُت فادعهم إىل ثبلث خصاؿ -أو خبلؿ -
وذمة نبيّو فبل ِ
ذمة اهلل ّ وكف عنهم » ...إىل أف يقوؿ ... « :وإذا حاصرت أىل حصن فأرادوؾ أف ذبعل ؽبم ّ
وذمة أصحابك فإنّكم أف زبفروا ذفبكم وذمم ذمتك ّ ذمة نبيّو ،ولكن اجعل ؽبم ّ ذمة اهلل وال ّ ذبعل ؽبم ّ
وذمة رسولو .وإذا حاصرت أىل حصن فأرادوؾ أف تنزؽبم على حكم ذمة اهلل ّ أصحابكم أىوف من أف زبفروا ّ
اهلل فبل تنزؽبم على حكم اهلل ولكن أنزؽبم على حكمك فإنك ال تدرى أتصيب حكم اهلل فيهم أـ ال »
اغبديث رواه مسلم.
المطلب الثاني :أنواع الحكم الشرعي في أصول الفقو
قسم صبهور علماء األصوؿ اغبكم الشرعي إىل نوعُت: ّ
أوال ـ الحكم التكليفي
زبيَتا" ،ويشمل األحكاـ اػبمسة ،وىي "وىو خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بفعل اؼبكلف اقتضاء أو ً
الزَكا َة [البقرة،]110: الصبل َة َوآتُوا َّ
يموا َّ ِ
اإلهباب والندب واإلباحة والكراىة والتحرمي .مثل قولو تعاىلَ :وأَق ُ
ِ ِ ِ َّ ِ
َج ٍل ُم َس ِّمى فَا ْكتُبُوهُ [البقرة ،]282:وقولو تعاىل: ين َآمنُوا إ َذا تَ َدايَػْنتُ ْم ب َديْ ٍن إ َىل أ َوقولو تعاىل :يَا أَيػُّ َها الذ َ
ين َآمنُوا ال تَ ْسأَلُوا َع ْن أَ ْشيَاءَ إِ ْف تُػْب َد لَ ُك ْم َّ ِ
َ وُكلُوا َوا ْشَربُوا َوال تُ ْس ِرفُوا[األعراؼ ،]31:وقولو تعاىل :يَا أَيػُّ َها الذ َ
س الَِّيت َحَّرَـ اللَّوُ[اإلسراء.]33: تَ ُس ْؤُك ْم[اؼبائدة ،]101:وقولو تعاىلَ :وال تَػ ْقتُػلُوا النَّػ ْف َ
وىذا مثاؿ آخر هبمع بُت طلب الفعل وطلب الًتؾ على سبيل اعبزـ يف قولو تعاىلَ :وتَػ َع َاونُوا َعلَى الِْ ّْرب
اإلمث َوالْعُ ْد َو ِاف [اؼبائدة .]5 :كما اجتمع طلب الفعل وطلب الًتؾ بدوف جزـ يف َوالتَّػ ْقوى َوال تَػ َع َاونُوا َعلَى ِْ
َ
آد َـ ُخ ُذوا ِزينَتَ ُك ْم ِعْن َد ُك ّْل َم ْس ِج ٍد َوُكلُوا َوا ْشَربُوا َوال تُ ْس ِرفُوا[األعراؼ.]31: ََ ٍَتِ اب ي : تعاىل قولو
ثانيا ـ الحكم الوضعي
وىو خطاب اللَّو تعاىل الذي اقتضى جعل أمر عبلمة غبكم تكليفي وجعلو مرتبطًا بو بكونو :سببًا لو
س ،فالدلوؾ سبب إلهباب الصبلة ،أو شرطًا لو مثل قولو تعاىل: َّم ِ مثل قولو تعاىل :أَقِ ِم َّ ِ ِ
الصبل َة ل ُدلُوؾ الش ْ
ِ
مانعا لو كقولو ،صلى اهلل عليو وسلم: ص ْموُ ،فرؤية اؽببلؿ شرط للصياـ ،أو ً فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ
َّهَر فَػ ْليَ ُ
فسادا أو عزيبة أو ُبوة سبنع القصاص مع االبن ،أو صحة أو ً «ليس للقاتل مَتاث » ،فالقتل يبنع اإلرث ،واأل ّ
رخصة.
26
وىناؾ من األصوليُت من قسم اغبكم الشرعي إىل ثبلثة أنواع :اغبكم التكليفي أو االقتضائي ،ويشمل
اإلهباب والندب والتحرمي والكراىة ،واغبكم التخيَتي ويشمل اإلباحة ،واغبكم الوضعي وىو اػبطاب الذي
فسادا أو رخصة أو عزيبة.
مانعا أو شرطًا أو صحة أو ً وضعو الشارع سببًا غبكم تكليفي أو ً
فقد أخرج ىذا التقسيم ،خبلفا للتقسيم األوؿ ،اإلباحة من اغبكم التكليفي؛ ألف التكليف يستلزـ
فرعا لو .إال أف أغلب العلماء مع التقسيم األوؿ وجود كلفة ومشقة من اؼبكلف ،واؼبباح ال كلفة فيو ،فبل يعترب ً
وبرروا ذلك بأف اؼبباح مباح باعبزء ولكن تعًتيو األحكاـ األربعة السابقة بالنسبة إىل الكل ،كما سنرى تفصيل
ذلك يف فرع اؼبباح ،وأف أغلب األحكاـ اؼبباحة جاءت بصيغة الطلب ،وألف االشتغاؿ باؼبباح يستلزـ ترؾ
اغبراـ ،وترؾ اغبراـ واجب فكاف اؼبباح مطلوبًا ،وكذلك من حيث وجوب االعتقاد باإلباحة ال بالنظر إىل الفعل
اؼبتعلق بو اغبكم .وبذلك يكوف اغبكم الشرعي نوعُت ،حكم تكليفي وحكم وضعي ،ولكل منهما صفات
وخصائص وميزات زبتلف عن اآلخر كما يظهر من اؼبوازنة بينهما.
ثالثا ـ موازنة بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
- 1اغبكم التكليفي فيو طلب الفعل أو طلب الًتؾ أو التخيَت بُت الفعل والًتؾ ،أما اغبكم الوضعي فليس
مانعا أو شرطًا لو.
فيو طلب أو زبيَت ،وإمبا يفيد االرتباط بُت أمرين ليكوف أحدنبا سببًا لآلخر أو ً
- 2اغبكم التكليفي مقصود بذاتو يف اػبطاب ،ليقوـ اؼبكلف بالفعل أو الًتؾ أو التخيَت ،أما اغبكم الوضعي
فبل يقصد من اؼبكلف مباشرة ،وإمبا وضعو اؼبشرع لَتتب عليو األحكاـ التكليفية ،مثل ملك النصاب سبب
للزكاة ،وحوالف اغبوؿ شرط ؽبا ،والقتل مانع من اؼبَتاث.
- 3إف اغبكم التكليفي يتعلق باؼبكلف وىو البالغ العاقل الذي يتوجو إليو اػبطاب ،ويقع عليو التكليف ،أما
اغبكم الوضعي فإنو يتعلق باإلنساف سواء أكاف مكل ًفا أـ ال ،كالصيب وآّنوف ،وقد يكوف اغبكم متعل ًقا بفعل
اؼبكلف كالطهارة للصبلة ،وقد ال يتعلق بفعل اؼبكلف ،وإمبا يتعلق دبا ارتبط بو فعل اؼبكلف كالدلوؾ.
- 4اغبكم التكليفي يكوف يف مقدور اؼبكلف فعلو أو تركو ،مثل العبادات وصيغ العقود والتصرفات واعبرائم،
أما اغبكم الوضعي فقد يكوف يف مقدور اؼبكلف مثل صيغة العقد وإحضار الشاىدين يف النكاح ،وقد ال
يكوف يف مقدور اؼبكلف مثل دلوؾ الشمس وحوالف اغبوؿ وبلوغ اغبُلُم.
ونبُت ما يندرج ربتو منلنعرفو ّ
وبعد ىذا البياف اؼبوجز للحكم وأنواعو ،نتناوؿ كل نوع يف مطلب خاص ّ
أحكاـ.
المبحث الثاني :الحكم التكليفي
زبيَتا ،وسبق شرح ىذا التعريف ،وماتعريفو :ىو خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت اقتضاء أو ً
يدخل فيو وما ىبرج منو مع األمثلة ،واختلف العلماء يف تقسيم اغبكم التكليفي إىل فريقُت ،اعبمهور واغبنفية.
المطلب األول :أقسام الحكم التكليفي وثمرة االختالف في التقسيم
أوال ـ أقسام الحكم التكليفي
قسم جمهور األصوليين اغبكم التكليفي إىل طبسة أقساـ ،وىي:
27
جازما ،ويكوف أثره الوجوب ،والفعل اؼبطلوب ىو 1ػ اإلهباب :وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا ً
الواجب ،والفرض والواجب دبعٌت واحد عند اعبمهور.
2ػ الندب :ىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا غَت جازـ ،وأثره النّدب ،والفعل اؼبطلوب ىو اؼبندوب.
3ػ اإلباحة :وىو التخيَت بُت الفعل والًتؾ دوف ترجيح لطرؼ على آخر ،وأثره اإلباحة والفعل اؼبخَت
بُت فعلو وتركو ىو اؼبباح.
الكف عنو ىو
4ػ الكراىة :ىو ما طلب الشارع تركو طلبًا غَت جازـ ،وأثره الكراىة ،والفعل اؼبطلوب َّ
اؼبكروه.
جازما ،وأثره اغبرمة ،والفعل اؼبطلوب تركو ىو اغبراـ.
5ػ التحرمي :وىو ما طلب الشارع تركو طلبًا ً
وقسم الحنفية اغبكم التكليفي إىل سبعة أقساـ ،حيث قسموا ما يقابل اإلهباب عند اعبمهور إىل
قسمُت ،وقسموا ما يقابل التحرمي عند اعبمهور أيضا إىل قسمُت ،لتصبح أقساـ اغبكم التكليفي عندىم كما
يلي:
جازما بدليل قطعي الثبوت والداللة ،كالصبلة والزكاة
- 1االفًتاض :وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا ً
واعبهاد .وحكمو وجوب فِعلِو ،وأ ّف منكره كافر ،وتاركو ببل عذر فاسق.
جازما بدليل ظٍت الثبوت أو ظٍت الداللة ،مثل صدقة - 2اإلهباب :وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا ً
الفطر واألضحية وقراءة الفاربة وصبلة الوتر ومسح ربع الرأس .وحكمو وجوب إقامتو كالفرض ،ولكنو ال يُكفَّر
جاحده ،وي ّفسق تاركو إذا تركو استخفافًا.
- 3الندب :وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا غَت جازـ ،كاعبمهور.
- 4اإلباحة :وىي التخيَت بُت الفعل والًتؾ دوف ترجيح أي طرؼ ،كاعبمهور
- 5الكراىة التنزيهية :وىي ما طلب الشارع تركو طلبًا غَت جازـ ،مثل لطم الوجو باؼباء يف الوضوء،
وصوـ يوـ اعبمعة فقط .وىي تقابل الكراىة عند اعبمهور.
جازما ولكن بدليل ظٍت الثبوت أو ظٍت
- 6الكراىة التحريبية :وىي ما طلب الشارع تركو طلبًا ً
الداللة ،ويشًتؾ مع اغبراـ باستحقاؽ العقاب للفاعل ،مثل البيع وقت صبلة اعبمعة ،والبيع على بيع األوؿ.
وإذا أطلق اؼبكروه عند اغبنفية فهو اؼبكروه ربريبًا .وىي تدخل يف التحرمي عند اعبمهور.
جازما بدليل قطعي الثبوت قطعي الداللة ،مثل قتل - 7التحرمي :وىو ما طلب الشارع تركو طلبًا ً
النفس والزنا.
ثانيا ـ ثمرة االختالف في التقسيم
وتظهر شبرة االختبلؼ بُت اغبنفية واعبمهور يف عدة حاالت ،أنبها:
متأوال؛ ألف الفرض واغبراـ ثبتا
فرضا أو حر ًاما فهو كافر ولو كاف ّ - 1قاؿ اغبنفية :إذا أنكر اؼبكلف ً
بدليل قطعي الداللة وال ؾباؿ فيو للتأويل ،أما إذا أنكر واجبًا فبل يك ّفر ،مع لزوـ العمل للفرض والواجب.
وقاؿ اعبمهور :الفرض والواجب مًتادفاف ،ويدالف على حكم واحد ،ونبا سياف يف حالة اإلنكار ولزوـ
العمل ،ومن أنكر الفرض أو الواجب فهو كافر.
28
- 2إذا ترؾ اؼبكلّف الفرض بطل عملو ،عند اغبنفية ،كما لو ترؾ اؼبصلي الركوع أو السجود ،وال تربأ
ذمتو ِ
ذمتو إال باإلعادة ،أما إذا ترؾ الواجب فإف عملو صحيح ولكنو ناقص ،وعليو اإلعادة ،فإف مل يُعد برئت ّ ّ
فرضا أو واجبًا.
ً اؼبكلف ترؾ اء
و س العمل يبطل اعبمهور وعند الصبلة، يف الفاربة اءة
ر ق ترؾ مثل اإلمث، مع
- 3إف اؼبكروه ربريبًا يعاقب فاعلو ،وال يك ّفر منكره ،أما اؼبكروه تنز ًيها فإف فاعلو ال يستحق عتابًا وال
ذنبًا وال إشبًا ،لكنو فعل غَت األوىل ،وقاؿ اعبمهور :اؼبكروه نوع واحد ،وفاعلو ال يستحق عقابًا لكنو يعاتب،
وإف اؼبكروه ربريبًا يدخل يف اغبراـ.
ولكن عند التحقيق قبد أف االختبلؼ بُت اعبمهور واغبنفية لفظي واصطبلحي ،وال مشاحة يف
احمللّْي :وىو ؛أي اػببلؼ ،لفظي ،أي عائد إىل االصطبلح ،قاؿ اآلمدي :وباعبملة فاؼبسألة لفظية ،وقاؿ َ
اللفظ والتسمية ،وجاء يف شرح العضد" :والنزاع لفظي" ،وقاؿ الشيخ أبو النور زىَت :وبذلك يكوف غَت اغبنفية
قد رتبوا على القطع والظن ما رتبو اغبنفية على كل منهما ،فبل خبلؼ بينهم يف اؼبعٌت.
ؽبذه األسباب فإننا لبتار تقسيم اعبمهور ونسَت عليو ،ونتكلم عن كل قسم من أقساـ اغبكم التكليفي
يف فرع مستقل ،ونبُت يف كل قسم ما ينطوي ربتو من أحكاـ ودرجات.
متعلَّق اغبكم وىو فعل اؼبكلف ،فإف تعلق اغبكم باإلهباب والكبلـ عن اغبكم التكليفي يدور على َ
فالفعل واجب ،وإف تعلق بالندب فهو مندوب ،وإف تعلق باإلباحة فهو مباح ،وإف تعلق بالكراىة فهو مكروه،
وإف تعلق بالتحرمي فهو ؿبرـ ،وىذا ما نفصلو يف الفروع اػبمسة القادمة.
الفرع األول :الواجب
أوال ـ تعريف الواجب
ب دبعٌت ثبت أو سقط أو رجف ،يقاؿ :وجب البيع واغبق :ثبت ولزـ ،ووجب الواجب لغة :من َو َج َ
اغبائط سقط ،ووجب القلب رجف.
ويف االصطبلح :عرفو علماء األصوؿ تعريفات كثَتة ،لبتار منها تعريفُت ،األوؿ :من حيث طلب
الفعل وعدـ الًتؾ ،والثاين :من حيث الثواب والعقاب.
التعريف األول :الواجب :ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما .أو بعبارة أخرى :ىو ما طلب
الشارع من اؼبكلف فعلو على سبيل اغبتم واإللزاـ.
وحرؼ "ما" يف التعريف دبعٌت الذي ،وىي صفة الفعل ،ألف اإلهباب إذا تعلق بفعل اؼبكلف فيكوف
الفعل واجبًا ،والفعل يشمل األحكاـ اػبمسة.
وعبارة "طلب الشارع من الكلف فعلو" :دبعٌت طلب القياـ بو وأداءه .فيدخل يف التعريف الواجب
واؼبندوب ،ألف الشارع طلب فعلهما ،وىبرج من التعريف اؼبباح ،ألف الشارع مل يطلب فعلو وال تركو ،وىبرج
اؼبكروه واحملرـ؛ ألف الشارع مل يطلب فعلهما بل طلب تركهما.
الزما من اؼبكلف؛ حبيث ال يسوغ تركو .والتقييد ّٔذه العبارة وأما عبارة "طلبًا جازما" :تعٍت طلبًا حتما ً
ىبرج من التعريف اؼبندوب؛ ألف الشارع طلبو بدوف حتم ،والطلب البلزـ يكوف بصيغة تدؿ عليو ،كما سنرى
بعد قليل.
29
جازما من اؼبكلف. فالواجب ىو الفعل الذي طلب الشارع القياـ بو طلبًا ً
التعريف الثاني :الواجب ىو ما يثاب فاعلو ويعاقب تاركو .وإليك شرح ىذا التعريف:
-ما يثاب فاعلو" :ما" اسم موصوؿ دبعٌت الذي وىي صفة الفعل الواجب ،والثواب من اللَّو تعاىل
للعبد على تنفيذ أوامره والتزاـ أحكامو ،وتطبيق شريعتو ،فاعلو :أي فاعل الواجب ،ويدخل يف التعريف الواجب
واؼبندوب ،فإف الفاعل يستحق الثواب عليهما ،وىبرج اؼبباح واؼبكروه؛ ألف فاعلهما ال يستحق ثوابًا ،وىبرج
احملرـ؛ ألف فاعلو يستحق عقوبة ال ثوابًا.
-ويعاقب تاركو :العقوبة من اللَّو تعاىل على اؼبكلف ؼبخالفة أمره ،وارتكاب ؿبارمو ،وعصياف شريعتو،
فاؼبكلف الذي يًتؾ الواجب الثابت خبطاب اللَّو تعاىل يستحق العقاب الذي يثبت عن طريق الشرع فقط،
وىذا احًتاز عن اغبراـ ،فإف تاركو ال يعاقب بل يثاب تاركو ويعاقب فاعلو ،وقلنا :ما يستحق تاركو العقاب،
كرما منو وفضبل. دبعٌت أنو لو عاقبو اللَّو تعاىل لكاف مستح ًقا لو ،الحتماؿ أف يعفو اللَّو عنو ً
والتعريف األوؿ يتفق مع التعريفات السابقة لئلهباب والندب والكراىة واإلباحة والتحرمي من حيث
اغبقيقة واؼباىية ،والتعريف الثاين من حيث العوارض والصفات اليت سبيزه عن غَته ،وتظهر بو حقيقتو.
وحكم الواجب -كما سبق بيانو -أنو هبب القياـ بو ،ويكفر منكره إذا ثبت بدليل شرعي ،وأف فاعلو
يستحق الثواب وتاركو يستحق العقاب.
ثانيا ـ األساليب التي تفيد الوجوب
يثبت الواجب خبطاب اللَّو تعاىل باالتفاؽ ،ولكن الشارع الكرمي استعمل عدة أساليب ،يدؿ كل منها
على الطلب اغبتمي الذي يفيد اإلهباب ( ،)1وذلك لبياف إعجاز القرآف باختبلؼ الصيغ ،حىت ال يكثر تكرار
اللفظ الواحد عدة مرات؛ ألف النفوس تسأـ التكرار ،واألساليب اليت تدؿ على الواجب بعضها حقيقة،
وبعضها ؾباز ،وأنبها ىي:
استَ ْمتَػ ْعتُ ْم الصبل َة َوآتُوا َّ ِ
الزَكا َة [البقرة ،]110:وقولو تعاىل :فَ َما ْ يموا َّ
- 1فعل األمر ،مثل قولو تعاىلَ :وأَق ُ
ِِ
يضةً[النساء.]24: ُج َورُى َّن فَ ِر َ بِو مْنػ ُه َّن فَآتُ ُ
وى َّن أ ُ
اب [ؿبمد ،]4:فلفظ الرقَ ِ
ب ّْ ِ ِ َّ ِ
ض ْر َ
ين َك َف ُروا فَ َ
- 2اؼبصدر النائب عن الفعل ،مثل قولو تعاىل :فَإ َذا لَقيتُ ُم الذ َ
ضرب مصدر ناب عن فعل الضرب.
- 3الفعل اؼبضارع اؼبقًتف ببلـ األمر ،مثل قولو تعاىل :لِيُػْن ِف ْق ذُو َس َع ٍة ِم ْن َس َعتِ ِو[الطبلؽ.]7:
- 4اسم الفعل ،مثل َم ْو وعليكم ،مثل قولو تعاىلَ :علَْي ُك ْم أَنْػ ُف َس ُك ْم [اؼبائدة ،]105:أي الزموا أنفسكم،
وقولو -صلى اهلل عليو وسلمَ (( :م ْو ،عليكم من األعماؿ ما تطيقوف ،فإف اللَّو ال يبل حىت سبلوا))(الطرباين).
اف[النحل ،]90:وقولو تعاىل :إِ َّف - 5التصريح بلفظ األمر ،مثل قولو تعاىل :إِ َّف اللَّو يأْمر بِالْع ْد ِؿ واإلحس ِ
َ َ ُُ َ َ ْ َ
ات إِ َىل أ َْىلِ َها[النساء.]58:
اللَّو يأْمرُكم أَ ْف تُػؤُّدوا األمانَ ِ
َ َ َ ُُ ْ َ
ؾبازا ،مثل قولو تعاىل :يَا أَيػُّ َها - 6أساليب اللغة العربية األخرى اليت تستعمل للداللة على الطلب اعبازـ ً
ت [آؿ َْ الصيَ ُاـ [البقرة ،]183:وقولو تعاىلَ :ولِلَّ ِو َعلَى الن ِ
َّاس ِح ُّج الْبػي ِ ب َعلَْي ُك ُم ّْ ِ
ين َآمنُوا ُكت َ
َّ ِ
الذ َ
عمراف.]97:
30
- 7ترتيب العقوبة من اللَّو على تارؾ الفعل ،أو التهديد ّٔا أو الوعيد الشديد على تاركو ،سواء كانت العقوبة
وجد َس َعةً ومل يضح فبل
يف الدنيا أو يف اآلخرة ،أو يف الدنيا واآلخرة ،مثل قولو ،صلى اهلل عليو وسلم(( :من َ
يقرب مسجدنا))(اغباكم) ،فهذا الوعيد ال يكوف إال بًتؾ الواجب ،فاألضحية واجبة عند البعض كاغبنفية.
- 8التصريح بلفظ وجب وهبب ،وفرض ،مثل قولو ،صلى اهلل عليو وسلم ،عن رمضاف" :إف اللَّو فرض عليكم
صيامو".
فاإلهباب إما أف يكوف بفعل األمر أو طلب األمر ،وإما أف يكوف بصيغة الطلب اليت تدؿ على
التحتيم ،وإما أف يكوف بالعقوبة أو بالتهديد ّٔا على التارؾ ،ويكوف فعل اؼبكلف يف ىذه اغباالت واجبًا عليو.
ثالثا ـ أقسام الواجب
ينقسم الواجب أربعة تقسيمات باعتبارات ـبتلفة ،فينقسم باعتبار الوقت إىل واجب مؤقت وواجب
مطلق ،وينقسم باعتبار اؼبقدار اؼبطلوب إىل واجب ؿبدد وواجب غَت ؿبدد ،وينقسم باعتبار اؼبكلف إىل واجب
معُت وواجب ـبَت ،وقد ينقسم القسم الواحد عيٍت وواجب كفائي ،وينقسم باعتبار الفعل اؼبأمور بو إىل واجب ّ
إىل عدة أنواع ،وإليك التفصيل:
التقسيم األول باعتبار الوقت
ينقسم الواجب من جهة وقت أدائو إىل قسمُت واجب مؤقت وواجب مطلق غَت مقيد بالوقت.
معُت ،كالصبلة وصوـ ـ الواجب المؤقت :وىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما يف وقت ّ
رمضاف واغبج.
فالوقت جزء من الواجب ،وال يلتزـ اؼبكلف بالواجب إال بعد دخوؿ الوقت ،وال يصح أداؤه غالبًا إال
أخره عن وقتو بدوف عذر أمث،يف وقتو احملدد لو ،بدوف تقدمي وال تأخَت ،فإف ق ّدمو عن الوقت فإنو باطل ،وإف ّ
ولذا قاؿ العلماء :الواجب يف الصبلة واجباف ،وللمؤدي أجراف ،واجب األداء وواجب الوقت ،لقولو تعاىل:
ُت كِتَابًا َم ْوقُوتًا [النساء ،]103:وكذا الصياـ فمن صاـ يف رمضاف فلو أجراف ِِ
ت َعلَى الْ ُم ْؤمن َ إِ َّف َّ
الصبل َة َكانَ ْ
أجر الصياـ وأجر فضيلة الشهر اؼببارؾ ،ومن فعل الواجب يف غَت وقتو فقد قاـ بأحد الواجبُت وترؾ الواجب
اآلخر ،ولو أجر يف األوؿ ويستحق اإلمث على ترؾ الثاين إذا كاف بغَت عذر.
ـ الواجب المطلق عن الوقت :وىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما مطل ًقا عن الوقت،
مثل الكفارة الواجبة والنذور اؼبطلقة ،فمن حلف يبينًا وحنث ،أو نذر ومل يقيّد نَ ْذره بوقت ،فليس لفعلو وقت
أخره إىل الوقت الذي يريده ،وكذا اغبج يف العمر عند فورا ،وإف شاء ّ
معُت ،فإف شاء كفَّر عن يبينو وأدى نذره ً ّ
الشافعية ،وقضاء رمضاف عند اغبنفية.
الذمة ،فإذا انقضى الوقت ومل يقم اؼبكلف بو ثبت يف
والفائدة من ىذا التقسيم أف األوؿ يثبت يف ّ
الذمة ،ألنو غَت مؤقت فلم يبض وقتو.الذمة مشغولة بو حىت يقضى ،أما الثاين فبل يثبت يف ّ ذمتو ،وصارت ّ ّ
ويتفرع عن ىذا التقسيم كبلـ طويل عن الواجب اؼبؤقت ،ونذكر ناحيتُت فقط ،األوىل :من ناحية ّ
اتساع الوقت لو ،والثانية :من ناحية أدائو يف وقتو أو خارجو.
31
تقسيم الواجب المؤقت
ينقسم الواجب اؼبؤقت باعتبارين ـبتلفُت:
بػ -باعتبار فعلو واإلتياف بو. أ -باعتبار ارتباطو بالوقت،
األول :ارتباط الواجب المؤقت بالوقت
ينقسم الواجب اؼبؤقت حبسب ارتباطو بالوقت إىل ثبلثة أنواع :واجب مضيق ،وواجب موسع ،وواجب
ذي شبهُت.
الواجب المؤقت بوقت مضيق
ىو الواجب اؼبؤقت الذي يستغرؽ فعلو صبيع الوقت احملدد لو ،والوقت معيار لو ،فبل يسع واجبًا آخر
معو من جنسو ،مثل الصياـ يف شهر رمضاف ،فالصياـ يستغرؽ صبيع الشهر ،وال يستطيع اؼبكلف أف يصوـ يف
نذرا أو قضاء؛ ألف الوقت بقدر الواجب فبل يزيد عنو وال ينقص ،ووقتو سبب لوجوبو، تطوعا أو ً شهر رمضاف ً
ِ
ص ْموُ[البقرة.]185: لقولو تعاىل :فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ
َّهَر فَػ ْليَ ُ
الواجب المؤقت بوقت موسع
وىو الواجب اؼبؤقت الذي يتسع وقتو ألدائو وألداء غَته من جنسو ،فالوقت أوسع من الواجب ،مثل
كل منها يتسع ألداء الفرض وأداء غَته من الصلوات الصلوات الواجبة اؼبؤقتة بأوقات معيّنة ،فإف وقت ٍ
األخرى ،ويستطيع اؼبكلف أف يصلي يف وقت الظهر فرض الظهر وسننو ونوافلو وما يرغب من التطوع ،وأف
فرضا آخر عليو. يقضي ً
واتفق العلماء يف الواجب اؼبوسع على أف وقتو سبب لوجوبو ،فوقت دلوؾ الشمس سبب لوجوب
س إِ َىل َغ َس ِق اللَّْي ِل َوقُػ ْرآ َف
َّم ِ الظهر ،وال ذبب الصبلة قبل دخوؿ وقتو ،لقولو تعاىل :أَقِ ِم َّ ِ ِ
الصبلةَ ل ُدلُوؾ الش ْ
ودا[اإلسراء.]78: الْ َف ْج ِر إِ َّف قُػ ْرآ َف الْ َف ْج ِر َكا َف َم ْش ُه ً
ـبَت يف األداء يف أي جزء وذىب صبهور األصوليُت إىل أف صبيع وقت الظهر وقت ألدائو ،واؼبكلف ّ
وسعو على اؼبكلف ،خبلفًا للحنفية الذين يروف أف الوقت ىو اعبزء اؼبتصل باألداء لعدـ منو ،وأف الشارع ّ
إمكاف جعل الوقت كلو سببًا لؤلداء ،وعدـ إمكاف تعيُت جزء خاص منو ،فربط الواجب بوقت األداء ،فإف مل
يؤده اؼبكلف اكبصر الواجب يف اعبزء األخَت من الوقت.
اؼبوسع ينقلب إىل واجب مضيق إذا غلب على ظن اؼبكلف العجز عن أداء الواجب طواؿ والواجب ّ
اؼبوسع ،فيصبح وقتو ،كمن ظن اؼبوت باإلعداـ بعد فًتة من دخوؿ الوقت ،وأنو لن يعيش إىل آخر الوقت ّ
فورا ،ومثل إذا اعتادت اؼبرأة أف ترى اغبيض بعد دخوؿ الوقت بفًتة تستطيع اؼبوسع مضيّػ ًقا عليو وهبب أداؤه ً
فورا ،وإف أخرت فهي آشبة. فيها الصبلة فيجب عليها األداء ً
عد ْـ ،أو مل يأت اغبيض ،مث أدى الواجب ،فاختلف يصل اؼبكلف يف مثل ىذه اغبالة ومل يُ َ فإف مل ّْ
العلماء فيو ،فقاؿ أكثرىم :يعترب آمث يف التأخَت؛ لغلبة الظن بضيق الوقت.
32
الواجب المؤقت ذو الشبهين
وىو الواجب الذي ال يسع غَته من جنسو ،ولكن ال يستغرؽ فعلو كل الوقت احملدد لو ،مثل اغبج،
حجا آخر يف نفس العاـ ،ولكن أعماؿ اغبج ال تستغرؽ صبيع فإف أشهر اغبج تسع فريضة اغبج ،وال تسع ِّ
أشهر اغبج ،فالوقت يسع الواجب وزيادة من جهة ،وال يسع غَته من جنسو من جهة أخرى ،ولذا ظبي ذا
الشبهُت.
ويرى بعض العلماء أف اغبج واجب غَت مؤقت فهو واجب مطلق؛ ألنو هبب على اؼبكلف على
الًتاخي طواؿ العمر ،ولكن إذا أراد اؼبكلف أداءه يف سنة معينة فهو ؿبدد بأشهر معينة ،ومن ىنا فاغبج واجب
ذو شبهُت ،فهو يشبو الواجب اؼبقيد من جهة ،ويشبو الواجب اؼبطلق من جهة أخرى.
فائدة تقسيم الواجب اؼبؤقت إىل مضيق وموسع وذي شبهُت
ويًتتب عن ىذا التقسيم عدة نتائج ،أنبها حكم تعيُت النية يف العبادات ،واعتبار الوقت سببًا أو شرطًا
يف الواجب اؼبؤقت واؼبوسع ،ونقتصر على مسألة النية.
يعُت الواجب اؼبوسع بالنية حُت أدائو ،وإذا مل يعيّنو فبل يسقط
اتفق العلماء على أف اؼبكلف هبب أف ّ
اؼبوسع؛ ألف الوقت يسعو ويسع غَته من جنسو فبل يقع األداء عن الواجب إال بالنية كمن صلى عنو الواجب ّ
ذمتو من الواجب ،وإف نوى فريضة يعُت فريضة الظهر ،فتقع نفبل ،وال تربأ ّ
أربع ركعات يف وقت الظهر ،ومل ّ
تطوعا.
تطوعا وقعت ًالظهر صح أداؤه ،وإف نوى ً
يعُت ،كمن عُت أـ مل ّ
أما الواجب اؼبضيّق فقد اتفق صبهور العلماء على صحة أدائو بالنية مطل ًقا سواء ّ
نوى مطلق الصوـ يف شهر رمضاف فيصح صومو ويقع عن رمضاف ،وأف النية تنصرؼ إىل الواجب؛ ألف الوقت
ؿبدد لو وال يسع غَته.
ولكن العلماء اختلفوا يف حالة النيّة اؼبخالفة كمن نوى التطوع أو النذر يف رمضاف ،فقاؿ اغبنفية يقع
الصوـ عن رمضاف بالنية اؼببايِنة ،وال عربة لتعيينو اؼبخالف؛ ألف وقت الواجب اؼبضيق ّ
متعُت لو ،وال يسع غَته
من جنسو ،فينصرؼ الفعل إليو عند اإلطبلؽ ،وأف النيّة اؼبخالفة باطلة؛ ألهنا زبالف تعيُت الشارع ،فيقع الفعل
أيضا عن الواجب اؼبضيق.
ً
وقاؿ صبهور العلماء واحملققوف من اغبنفية :ال تصح النيّة اؼبخالفة ،وال يقع الصوـ عن رمضاف؛ ألف
اؼبكلف قصد صياـ النّفل ،وصرح ّٔذه النيّة ،وجاىر بعدـ رغبتو يف صوـ رمضاف ،فإف صحت النية فتقع عن
النّفل ،وإف بطلت وقع الفعل بدوف نيّة فبل قيمة لو؛ ألف النية شرط أساسي يف العبادات ،لقولو ،صلى اهلل عليو
وسلم(( :إمبا األعماؿ بالنيات ،وإمبا لكل امرئ ما نوى))(البخاري ومسلم) ،وأف الفعل إف كاف عن رمضاف
جربا على اؼبكلف ،وىذا ينايف صحة األداء.مع نيّة غَته فيكوف الصوـ ً
صحيحا دبطلق النية كالواجب اؼبضيّق ،كمن نوى اغبج مطل ًقاً أما الواجب اؼبؤقت ذو الشبهُت فإنو يقع
يبُت أنو الفريضة .أما النفل فإنو يقع عن الواجب؛ ألف الغالب أف يبدأ اإلنساف دبا هبب عليو ،وإف نوى ومل ّ
اؼبوسع ،وقاؿ الشافعية:
تطوعا حسب نيّتو عند اغبنفية كالواجب ّ التطوع وقصد خبلؼ الواجب فإف فعلو يقع ً
33
ينصرؼ إىل الفرض ،حىت قاؿ النووي ،رضبو اللَّو تعاىل" :لو تكلف غَت اؼبستطيع اغبج وقع عن فرض اإلسبلـ،
ولو نوى غَته وقع عنو".
الثاني :أداء الواجب المؤقت
معُت ،وإف الوقت قلنا :إف الواجب اؼبؤقت ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما يف وقت ّ
اؼبعُت من قبل الشارع كاف فعلو
فيو واجب ،ويتفرع عن ىذا أف اؼبكلف إف قاـ بالواجب يف وقتو احملدد لو و ّ
أداء ،وإف قاـ بو بعد خروج الوقت كاف فعلو قضاء ،وإف أداه يف وقتو غَت كامل ،مث أعاده مرة ثانية يف نفس
الوقت كاف فعلو إعادة ،وىذا تقسيم للواجب اؼبؤقت باعتبار فعلو واإلتياف بو ،فما ىو األداء والقضاء
واإلعادة؟.
1ـ األداء
شرعا أوال" .وإليك شرح التعريف:عرؼ ابن اغباجب األداء بأنو" :فعل الواجب يف وقتو اؼبقدَّر لو ً
ػ فعل الواجب :أي تنفيذه وإيقاعو ،ويدخل فيو صبيع الواجبات سواء أكانت مؤقتة أـ ال.
اجب
وذىب بعض األصوليُت إىل استبداؿ لفظ الواجب ،بلفظ العبادة أو اؼبأمور ،ليشمل األداءُ الو َ
واؼبندوب.
ػ يف وقتو :قيد ّأوؿ ىبرج الواجب اؼبطلق الذي ليس لو وقت كالنذور والعمرة والكفارات ،فإف فعلها
يعترب أداء يف صبيع األوقات ،أو ال يوصف بأداء وال قضاء.
َّد وقتها غَتُ الشارع فبل ٍ
شرعا :قيد ثاف؛ أي الوقت احملدد للواجب من الشارع ،أما إذا حد َ ػ اؼبقدَّر لو ً
يعترب ،كما إذا حدد اإلماـ وقتًا للزكاة ،فبل ينطبق ىذا التعريف عليو ،ويسمى فعل اؼبكلف أداء سواء دفع الزكاة
يف الوقت أـ خارجو.
صحيحا ألوؿ مرة ،فإف أداه مرة ثانية فيعترب إعادة ،وإف
ً ػ أوال :أي ألوؿ مرة ،بأف يؤدي الواجب أداء
ذمتو منو ،وهبب إعادتو.
ناقصا ،فبل يعترب وال تربأ ّ
فعلو ً
2ـ اإلعادة
شرعا ثانيًا" وعرفو ابن اغباجب بأنو "ما فعل يف وقت األداء ثانيًا
وىو "فعل الواجب يف وقتو احملدد لو ً
ػبلل ،وقيل لعذر".
شرعا ،فإذا أراد جرب ىذا النقص
ناقصا عن الوجو اؼبطلوب ً وفائدة اإلعادة أف اؼبكلف أدى الواجب ً
ومستفيدا من األجر والثواب يف الزيادة ،وتقع اإلعادة لعذر ولغَت
ً فيؤدي الواجب مرة ثانية مستكمبل نقصو،
منفردا ،أو يف صباعة ثانية.
عذر ،لتحصيل فضيلة مطل ًقا زيادة يف الثواب ،كاعبماعة يف الصبلة بعد األداء ً
واإلعادة ليست مرتبطة بالواجب اؼبؤقت ،فإف بعض الواجبات اؼبؤقتة ال يبكن فيها اإلعادة كالواجب اؼبؤقت
اؼبضيق ،فبل هبري فيو تعجيل وال إعادة ،ألف وقتو ال يتسع إال لؤلداء ،فإف فات الوقت فهو قضاء ،كما أف
ؿبرما،
نذرا مطل ًقا أو صاـ للكفارة ،وارتكب فيو ً اإلعادة قد تتحقق يف الواجب اؼبطلق عن الوقت ،كمن صاـ ً
أو أطعم عشرة مساكُت يف الكفارة وشك يف إشباعهم ،فأراد اإلعادة لبلحتياط فيكوف فعلو إعادة لتدارؾ اػبلل
يف أداء الواجب اؼبطلق ،كما يرى بعض العلماء صحة إعادة اؼبندوب.
34
3ـ القضاء
عرفو ابن اغباجب بقولو" :ىو فعل الواجب بعد وقت األداء استدرا ًكا ؼبا سبق لو وجوب مطل ًقا". ّ
عمدا أـ
أخره ً الذمة ،وهبب على اؼبكلف قضاؤه ،سواء ّ فمىت مضى الوقت احملدد للواجب فقد ثبت يف ّ
شرعا
سهوا ،وسواء أكاف متمكنًا من فعلو كاؼبسافر واؼبريض اللذين يفطراف يف رمضاف ،أـ غَت متمكن ً ً
كاغبائض يف رمضاف ،أـ غَت متمكن عقبل كالنائم عن الصبلة ،ويدخل يف القضاء من مات فحج عنو وليو
فإنو يكوف قضاء؛ ألف اغبج واجب يف العمر ،وقد فات العمر .ىذا على فرض صحة القضاء عن اؼبيت كما
يقوؿ الشافعية واغبنابلة.
شرعا ،كالصبلةاتفق الفقهاء على وجوب قضاء الواجبات اليت مل يؤدىا اؼبكلف يف وقتها احملدد ؽبا ً
والصياـ ،سواء أكاف عدـ األداء لعذر أـ لغَت عذر ،مث اختلفوا يف دليل قضاء الواجب ،فذىب صبهور
األصوليُت إىل أف القضاء يثبت بدليل جديد غَت دليل الواجب؛ ألف الواجب اؼبؤقت ،كما سبق ،واجباف،
واجب الفعل وواجب الوقت ،وطلب فعلو يشمل األمرين؛ أي أداء الواجب يف الوقت احملدد ،فإذا فات الوقت
فبل بد من دليل جديد لئلهباب؛ ألف الدليل األوؿ ال يتضمن القضاء ،بينما ذىب اغبنفية واغبنابلة إىل وجوب
الذمة بو ،وأنو ال تربأ الذمة إال باألداء أو القضاء ،فشملها الدليل،القضاء بالدليل الذي أوجب األداء لشغل ّ
وتقييده بالوقت للمصلحة يف الثواب واألجر يف شرؼ الوقت.
التقسيم الثاني للواجب باعتبار المقدار
معُت أو عدـ تقديره من الشارع إىل قسمُت: ينقسم الواجب من حيث تقديره دبقدار ّ
والصبلة واغبدود ـ واجب محدد :وىو الواجب الذي حدد الشارع لو ً
مقدارا معينًا ،مثل الزكاة
والكفارات ،فقد َّبُت الشارع مقدار الزكاة يف كل نوع ،وذكر عدد الصلوات وركعاهتا ،ونص على مقدار الكفارة
يف اليمُت والظهار ،وغَت ذلك فبا حدده الشارع اغبكيم ،فبل هبوز تغيَته.
ـ واجب غير محدد :وىو الواجب الذي مل وبدد الشارع مقداره بل طلبو من اؼبكلف بغَت ربديد،
وترؾ ذلك ألىل الذكر من العلماء وأىل اغبل والعقد من ىذه األمة ،مثل مقدار التعزير على اعبرائم اليت هنى
الشارع عنها ،ومل وبدد مقدار العقوبة ؽبا؛ ألف القصد ربقيق العدالة ،وىذا ىبتلف حبسب األشخاص واألزماف
واألماكن والظروؼ ،مثل مقدار النفقة الواجبة للزوجة واألقارب ،ومثل اإلنفاؽ يف سبيل اللَّو وإطعاـ اعبائع
والدفع باليت ىي أحسن ،والدعوة يف سبيل اللَّو ،واألمر باؼبعروؼ والنهي عن اؼبنكر؛ ألف اؼبقصود فيها سد
أيضا باختبلؼ األشخاص واألحواؿ واألماكن. اغباجة وربقيق اؽبدؼ منها ،وىذا ىبتلف ً
الذمة ،وهبب أداؤه يف وقتو ،أو قضاؤه بعد ويًتتب على ىذا التقسيم أف الواجب احملدد يثبت دينًا يف ّ
الذمة إال بعد تعيينو من اؼبكلف أو من السلطة اؼبنوط ّٔا وقتو ،أما الواجب غَت احملدد فبل يثبت دينًا يف ّ
التعيُت .ومثاؿ ذلك النفقة الواجبة للزوجة واألقارب ،قاؿ اغبنفية :إهنا واجب غَت ؿبدد ،وبالتايل فبل تشغل
الذمة ّٔا إال بعد تعيينها من القضاء أو بالًتاضي ،وال وبق للزوجة أو القريب أف يطالب ّٔا عن الفًتة اليت ّ
سبقت القضاء أو الًتاضي.
35
وعسرا ،ودبا يكفي لسد اغباجة ،ولذا فإهنا يسرا ً وقاؿ اعبمهور :إهنا واجب ؿبدد حباؿ الزوج والقريب ً
تثبت يف الذمة ،وتصح اؼبطالبة ّٔا قبل القضاء أو الًتاضي؛ ألف القضاء أظهر مقدارىا فقط.
مبوذجا من النماذج اليت تدؿ على صبلحية الشريعة لكل زماف واغبكمة من ىذا التقسيم أنو يعطي ً
نظرا ألنبيتها ،ألهنا أمور جوىرية يف اغبياة ال يصح التنازع ومكاف ،وأف اؼبشرع اغبكيم حدد بعض الواجبات ً
فيها وال االختبلؼ عليها؛ ألهنا سبس كياف األمة يف دينها ودنياىا ،أو ألف العقل البشري يعجز عن بياف اؼبقدار
آّدي فيها كعدد الصلوات ومقدار الزكاة واغبدود ،بينما ترؾ الشارع اغبكيم ربديد بعض الواجبات األخرى،
وخوؿ أىل الذكر ّٔا ،ليكوف مقدارىا متناسبًا مع الظروؼ والناس واألحواؿ اليت زبتلف وتتطور حسب البيئات ّ
واألفراد.
التقسيم الثالث :الواجب باعتبار المطالب أو المكلف بو
ينقسم الواجب ّٔذا االعتبار إىل قسمُت :واجب عيٍت وواجب كفائي.
ـ الواجب العيني :وىو ما طلب الشارع فعلو من كل فرد من أفراد اؼبكلفُت ،كالصبلة والزكاة واغبج
والوفاء بالعقود واجتناب اػبمر واؼبيسر .وظبي واجبًا عينيًا؛ ألف خطاب الشارع يتوجو إىل كل مكلف بعينو ،وال
تربأ ذمة اؼبكلف منو إال بأدائو بنفسو ،وال هبزئو قياـ غَته بو .وحكمو إف قاـ بو فلو األجر والثواب ،وإف تركو
فهو آمث وعليو العقاب.
فاؼبقصود من ىذا الواجب أمرين :القياـ بالواجب من جهة ،والتزاـ كل فرد بعينو بو من جهة أخرى.
ـ الواجب الكفائي :وىو ما طلب الشارع فعلو من ؾبموع اؼبكلفُت ،ال من كل فرد بعينو ،فإف قاـ بو
بعض اؼبكلفُت فقد تأدى الواجب وسقط اإلمث عن الباقُت ،كاألمر باؼبعروؼ والنهي عن اؼبنكر ورد السبلـ،
واعبهاد واكتساب أنواع العلوـ اؼبختلفة وأنواع الصنائع وصبلة اعبنازة ...وظبي واجبًا كفائيًا؛ ألف قياـ بعض
اؼبكلفُت بو يكفي للوصوؿ إىل مقصد الشارع.
وحكمو أنو يتعلق بكل اؼبكلفُت عند اعبمهور ،فالقادر عليو يقوـ بو بنفسو ،وغَت القادر وبث غَته
على القياـ بو؛ ألف اػبطاب موجو لكل مكلف ،كقولو ،صلى اهلل عليو وسلم(( :طلب العلم فريضة على كل
ين يَػلُونَ ُك ْم ِم َن الْ ُكفَّا ِر َولْيَ ِج ُدوا فِي ُك ْم ِغ ْلظَةً ِ َّ ِ َّ ِ
مسلم))(ابن ماجة) ،وقولو تعاىل :يَا أَيػُّ َها الذ َ
ين َآمنُوا قَاتلُوا الذ َ
ِ
ُت [التوبة ،]123:فإذا قاـ بو بعضهم بالوجو الذي يضمن الكفاية العددية والنوعية َف اللَّوَ َم َع الْ ُمتَّق َ
َو ْاعلَ ُموا أ َّ
فقد برئت ذمة اعبميع ،وإف مل يؤده أحد ،أو أدي بوجو مل تضمن فيو الكفاية العددية أو النوعية ،أو كبلنبا
معا أمث اعبميع؛ ألف القادر مل يؤده ،وغَت القادر مل وبث عليو .وىذا القسم لو بعد عمراين؛ ألف حصوؿ
اؼبصلحة العامة ىي اؼبقصودة منو ،كما يعطي صورة من صور التضامن يف آّتمع اؼبسلم.
ويقصد الشارع من الواجب الكفائي القياـ بو فقط دوف اعتبار للقائم بو ،ويتحقق مقصد اؼبشرع مىت
قاـ بو بعض اؼبكلفُت بدوف تعيُت ،فاؼبقصود من الواجب الكفائي وجود الفعل ،وليس تكليف األفراد بو .فإذا
وجدت الواجبات الكفائية يف األمة فقد ربققت اؼبصلحة اؼبقصودة من تشريعها،
والواجب الكفائي قد ينقلب يف بعض اغباالت إىل واجب عيٍت ،كما إذا تعرضت األمة للغزو
واالعتداء ،فاعبهاد يصبح واجبا عينيا بأي وسيلة إذا مل وبصل اؼبقصود دبن تعُت عليهم .وكما إذا اكبصر
36
الواجب الكفائي بشخص واحد ،مثل وجود عامل واحد للفتوى ،وشاىد واحد يف القضية ،وطبيب واحد يف
تعُت الواجب على كل منهم ،وصار الواجب الكفائي واجبًا البلدة ،وسباح واحد أماـ الغريق ،ففي ىذه األمثلة ّ
عينيًا عليهم.
التقسيم الرابع باعتبار الفعل المأمور بو
ينقسم الواجب من حيث نوع وتعيُت الفعل اؼبطلوب القياـ بو إىل قسمُت:
حتما بعينو ،أي :إف الفعل مطلوب بعينو ،كالصبلة والصياـ ـ واجب معيّن :وىو ما طلب الشارع فعلو ً
وشبن اؼببيع ورد اؼبغصوب.
ذمة اؼبكلف ال تربأ إال بأدائو ،وإف األمر متعلق بعُت وحكمو وجوب أداء ىذا الفعل بعينو ،وإف ّ
اؼبعُت.
الواجب ّ
حتما من أمور معينة ،كأحد خصاؿ الكفارة وحكم ـ واجب غير معيّن :وىو ما طلب الشارع فعلو ً
َّارتُوُ إِطْ َع ُاـ اخ ُذ ُكم اللَّو بِاللَّ ْغ ِو ِيف أَْيبَانِ ُكم ولَ ِكن يػؤ ِ
اخ ُذ ُك ْم ِدبَا َع َّق ْد ُُتُ ْ ِ
األيبَا َف فَ َكف َ ْ َ ْ َُ األسرى ،قاؿ تعاىل :ال يػُ َؤ ُ ُ
صيَ ُاـ ثَبلثَِةع َشرةِ مساكُِت ِمن أَوس ِط ما تُطْعِمو َف أ َْىلِي ُكم أَو كِسوتُػهم أَو َْرب ِرير رقَػب ٍة فَمن َمل َِهب ْد فَ ِ
ْ ْ َْ ُ ْ ْ ُ َ َ َ ْ ْ ُ َ َ ََ َ ْ َْ َ
خَت اغبالف بُت اإلطعاـ أو الكساء أو ربرير الرقبة ،ومثل قولو تعاىل: أَيَّ ٍاـ[اؼبائدة ،]89:فاللَّو سبحانو وتعاىل ّ
ِ
خَتت اإلماـ بُت اؼبن على اؽ فَِإ َّما َمنِّا بَػ ْع ُد َوإِ َّما ف َداءً [ؿبمد ،]4:فاآلية ّ َ ح َّىت إِ َذا أَثْ َخْنتُ ُم ُ
وى ْم فَ ُش ُّدوا الْ َوثَ َ
األسرى أو أخذ الفداء منهم وأضافت السنة :القتل واالسًتقاؽ.
اؼبخَت فيها بالفعل ،وتربأ احدا من األمور ّ اؼبخَت أف اؼبكلف باػبيار يف أف ىبصص و ً وحكم الواجب ّ
ذمتو من الواجب بأداء أي واحد. ّ
مقدمة الواجب
ولبتم الكبلـ على الواجب دبسألة أصولية ىامة يطلق عليها األصوليوف اصطبلح مقدمة الواجب ،أو
سبهيدا ؽبا يف بياف يعربوف عنها بعبارة "ما ال يتم الواجب إال بو ىل ىو واجب" ،وقبل بياف ىذه اؼبسألة نقدـ ً
أقسامها.
أوال :أقسام مقدمة الواجب
الذمة بو،اؼبقدمة إما أف تكوف مقدمة وجوب وىي اليت يتعلق ّٔا التكليف بالواجب؛ أي شغل ّ
كدخوؿ الوقت بالنسبة للصبلة ،فهو مقدمة لوجوب الواجب يف ذمة اؼبكلف ،وكاالستطاعة لوجوب اغبج،
وحوالف اغبوؿ لوجوب الزكاة.
وإما أف تكوف مقدمة وجود وىي اليت يتوقف عليها وجود الواجب بشكل صحيح ،أي صحة تفريغ
الذمة من الواجب ،إما من جهة الشرع ،كالوضوء بالنسبة للصبلة ،فبل توجد الصبلة الصحيحة إال بوجود ّ
الوضوء ،والعدد بالنسبة لصبلة اعبمعة ،وإما من جهة العقل ،كالسَت وقطع اؼبسافة للحج.
كما تكوف اؼبقدمة إما سببًا للواجب ،كالبلوغ ودخوؿ الوقت للصبلة والصوـ ،والصيغة للعتق الواجب
بنذر أو كفارة ،واالعتداء والقتل للضماف والقصاص ،وإما أف تكوف شرطًا للواجب كالعقل للتكليف بالواجب،
والقدرة للحج ،والطهارة للصبلة.
37
ثانيًا :حكم مقدمة الواجب
اتفق العلماء على أف مقدمة الوجوب ليست واجبة على اؼبكلف؛ ألهنا ليست يف مقدوره ،مثل دخوؿ
الوقت واالستطاعة وحوالف اغبوؿ.
أما مقدمة الوجود فهي نوعاف ،نوع ال يقدر اؼبكلف على فعلو فبل هبب عليو ،كحضور العدد يف صبلة
صحيحا،
ً اعبمعة ،ونوع يقدر اؼبكلف على فعلو ،مثل صياـ جزء من الليل حىت يكوف صوـ النهار الواجب
صحيحا ،فهذا النوع واجب باتفاؽً ومثل غسل جزء من الرأس ،حىت يكوف غسل الوجو الواجب يف الوضوء
العلماء ،وىو اؼبقصود من مقدمة الواجب ،وقاعدة "ما ال يتم الواجب إال بو فهو واجب".
لكنهم اختلفوا يف دليل اإلهباب ،ىل ىو نفس دليل الواجب األصلي ،أـ ىو بدليل جديد؟ أي ىل
إهباب الواجب يدؿ على إهباب مقدمتو أـ ال يدؿ عليها ،وال بد من إهباب جديد؟ اختلفوا على عدة مذاىب
نذكر اثنُت منها:
األوؿ :مذىب اعبمهور وىو أف دليل الواجب يدؿ على وجوب اؼبقدمة ،سواء أكانت سببًا أـ شرطًا،
ألف التكليف بالواجب بدوف التكليف دبقدمتو يؤدي إىل التكليف باحملاؿ ،وىو فبنوع ،وأف السعي إىل ربصيل
أسباب الواجب واجب ،وأف السعي يف ربصيل أسباب اغبراـ حراـ ،باتفاؽ ،فكاف دليل الواجب دليبل
للمقدمة.
الثاين :وىو عكس األوؿ ،وىو أف مقدمة الواجب ال ذبب بإهباب الواجب ،وإمبا ربتاج إىل إهباب
جديد ،ألنو لو وجبت اؼبقدمة بدليل الواجب األوؿ لوجب التصريح ّٔا ،مع أف اؼبقدمة ال يصرح ّٔا ،أو
كثَتا ما يغفل عنها ،فإثبات إهباب اؼبقدمة لشيء ال يقتضيو اػبطاب لكانت واردة يف ذىن اؼبخاطب مع أنو ً
فيكوف باطبل.
وىناؾ آراء أخرى تفرؽ بُت السبب والشرط ،وبُت الشرط الشرعي والشرط العقلي وغَته.
فائدة :يقوؿ القرايف رضبو اللَّو تعاىل" :الوسيلة إىل أفضل اؼبقاصد أفضل الوسائل ،وإىل أقبح اؼبقاصد أقبح
الوسائل ،وإىل ما ىو متوسط متوسطة".
الفرع الثاني في المندوب
أوال ـ تعريف المندوب
اؼبندوب أصلو اؼبندوب إليو ،وحذؼ اعبار وآّرور زبفي ًفا وتسهيبل ،واؼبندوب يف اللغة :اؼبدعو إليو
واؼبستحب ،والندب :الدعاء إىل أمر مهم ،ومنو قوؿ الشاعر:
ال يسألوف أخاىم حُت يندّٔم ...يف النائبات على ما قاؿ برىانا
ويف االصطبلح :نذكر تعريفُت لو -كما فعلنا يف الواجب -أحدنبا :يتعلق باؼباىية يف دليل اغبكم،
والثاين :يتعلق يف أثر اػبطاب باؼبدح والذـ أو بالثواب والعقاب.
التعريف األول :اؼبندوب" :ىو ما طلب الشارع من الكلف فعلو طلبًا غَت جازـ".
فهو من حيث أنو خطاب الشارع اؼبتعلق بطلب الفعل من اؼبكلف مثل الواجب( ،لذلك تراجع قيود
التعريف يف شرح تعريف الواجب) ،إال أف عبارة "طلبا غَت جازـ" قيد أخرج من تعريف اؼبندوب الواجب
38
بأنواعو؛ ألنو مطلوب على وجو اغبتم واإللزاـ .أما اؼبندوب فهو مطلوب ال على وجو اغبتم واإللزاـ ،وإمبا على
سبيل ترجيح الفعل وأولويتو على الًتؾ ،لذلك جاء تعريفو من حيث ما يًتتب عليو من اؼبدح والثواب أو الذـ
والعقاب بأنو:
التعريف الثاني" :ما وبمد ويثاب فاعلو وال يذـ وال يعاقب تاركو".
فاؼبندوب من جانب الفعل كالواجب يبدح فاعلو ويناؿ الثواب من اهلل عز وجل ،عكس احملرـ واؼبكروه،
وىبالف الواجب من جانب الًتؾ؛ ألف الواجب يعاقب على تركو يف حُت أف اؼبندوب ال عقاب على تركو.
حكم اؼبندوب
ويظهر حكم اؼبندوب من التعريف الثاين ،وىو أف فاعلو يستحق الثواب واألجر من اللَّو تعاىل ،وتاركو
ال يستحق العقاب.
ويطلق العلماء على اؼبندوب أظباء أخرى ،كالسنة والنافلة واؼبرغب فيو واؼبستحب واإلحساف ،قاؿ ابن
السبكي :واؼبندوب واؼبستحب والتطوع والسنة مًتادفة ،وخص بعض العلماء لفظ السنة دبا واظب عليو رسوؿ
اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم ،كالوتر ،واؼبستحب دبا مل يواظب عليو ،والتطوع باختيار بعض األفعاؿ اقتداء برسوؿ
اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم ،كاللبس واألوراد.
ثانيا ـ األساليب التي تفيد الندب
األساليب اليت تدؿ على الندب كثَتة ،وأنبها ىي:
- 1التعبَت الصريح بلفظ يندب أو يسن ،مثل قولو ،صلى اهلل عليو وسلم ،يف رمضاف" :سننت لكم قيامو".
- 2الطلب غَت اعبازـ ،وذلك بأسلوب األمر السابق اؼبقًتف بقرينة لفظية تصرؼ األمر عن الوجوب إىل
ِ ِ ِ َّ ِ
ين َآمنُوا إ َذا تَ َدايَػْنتُ ْم ب َديْ ٍن إ َىل أ َ
َج ٍل الندب ،وقد تكوف القرينة قاعدة شرعية عامة ،مثل قولو تعاىل :يَا أَيػُّ َها الذ َ
ُم َس ِّمى فَا ْكتُبُوهُ فلفظ اكتبوه أمر يقتضي الوجوب ،وصرؼ من الوجوب إىل الندب بقرينة الحقة يف اآلية
ضا فَػ ْليُػ َؤّْد الَّ ِذي ْاؤُسبِ َن أ ََمانَػتَوُ [البقرة ،]283:فكتابة الدَّيْن مندوب ،ألف ِ
بقولو تعاىل :فَِإ ْف أَم َن بَػ ْع ُ
ض ُك ْم بَػ ْع ً
ت الدائن إف وثق دبدينو فبل حاجة لكتابة الدين عليو ،ومثل قولو تعاىل :والَّ ِذين يػبتػغو َف الْ ِكت ِ
اب فبَّا َملَ َك ْ
َ َ َ َ ََْ ُ
حرا فيما بعد، وى ْم إِ ْف َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخْيػًرا [النور ،]33:فلفظ كاتبوىم أمر دبكاتبة العبد ليصبح ِّ ِ
أَْيبَانُ ُك ْم فَ َكاتبُ ُ
ولكن ىذا األمر يفيد الندب للنص على القرينة بعده إِ ْف َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخْيػًرا فعلق الكتابة على علم اؼبالك
بأف الكتابة خَت للعبد ،ولوجود قرينة أخرى وىي قاعدة عامة يف الشريعة أف اؼبالك لو حرية التصرؼ يف ملكو،
ت أَْيبَانُ ُك ْم فبا يدؿ على أف األمر مصروؼ من اإلهباب إىل ِ
وأوؿ اآلية نصت على ثبوت اؼبلك لو فبَّا َملَ َك ْ
الندب.
- 3عدـ ترتيب العقوبة على ترؾ الفعل ،مع طلبو من الشارع ،كقولو ،صلى اهلل عليو وسلم" :إف اللَّو وبب أف
تؤتى رخصو كما وبب أف تؤتى عزائمو" ،فاغبديث مل يرتب عقوبة على ترؾ الرخصة.
- 4مواظبة الرسوؿ ،صلى اهلل عليو وسلم ،على الفعل يف معظم األحياف ،وتركو يف حالة أو يف بعض
األحياف ،ليدؿ على عدـ العقاب على الًتؾ ،كالسنن اؼبؤكدة قبل صبلة الفرض أو بعدىا.
39
- 5األساليب العربية األخرى اليت تدؿ على عدـ اإللزاـ وعدـ التحتيم ،مثل قولو ،صلى اهلل عليو وسلم" :من
ونعمت ،ومن اغتسل فالغسل أفضل" ومثل قولو" :إف اللَّو وبب أف يرى أثر نعمتو على توضأ يوـ اعبمعة فبها ّ
عبده" ،وقولو" :إف اللَّو صبيل وبب اعبماؿ".
فهذه األحاديث تدؿ على طلب الفعل ،ولكن بدوف إلزاـ وال ربتيم ،وبدوف ترتيب العقوبة على التارؾ،
وإمبا اقتصر الطلب على التحبيب وبياف الفضل والًتغيب يف الفعل.
ثالثا ـ أقسام المندوب :يقسم العلماء اؼبندوب إىل ثبلثة أقساـ:
ـ السنة المؤكدة :وىي ما يثاب فاعلها وال يعاقب تاركها ،ولكنو يستحق اللوـ والعتاب ،فالفعل
مندوب على وجو التأكيد ،ويشمل السنن اؼبكتوبة قبل الفرائض أو بعدىا ،كركعيت الفجر وسنة الظهر وسنة
اؼبغرب وسنة العشاء ،ومثل اؼبضمضة واالستنشاؽ يف الوضوء.
ليبُت جواز
نادرا ّ
والضابط ؽبذا القسم أنو ما واظب عليو النيب ،صلى اهلل عليو وسلم ،ومل يًتكو إال ً
الًتؾ ،وأنو ليس واجبًا ،ويسمى سنة اؽبدى.
وحكم السن اؼبؤكدة أف صاحبها يستحق الثواب واألجر من اللَّو تعاىل ،وأف تاركها ال يعاقب ،ولكنو
يعاتب ويبلـ ،ألف تركها معاندة لسنة رسوؿ اللَّو ،وأف ما يتعلق من ىذا القسم بالشعائر الدينية كاألذاف
واعبماعة إذا اتفق أىل بلد على تركو وجب قتاؽبم الستهانتهم بالسنة.
ـ السنة غير المؤكدة :وىي ما يثاب فاعلها وال يعاقب تاركها ،وال يستحق اللوـ والعتاب ،فالفعل
مندوب بدوف تأكيد ،كالصدقة غَت اؼبكتوبة ،وصبلة الضحى ،وصياـ االثنُت واػبميس من كل أسبوع.
والضابط ؽبذا القسم أنو ما مل يواظب عليو النيب ،صلى اهلل عليو وسلم ،وإمبا كاف يفعلو النيب يف بعض
األحياف ،ويسمى ىذا القسم مستحبًا ،كما يسمى نافلة.
وحكم السنة غَت اؼبؤكدة أف فاعلها يستحق الثواب ،وتاركها ال يستحق اللوـ والعتاب أو العقاب.
ـ السنة الزائدة :وىي ما يثاب فاعلها إف نوى ّٔا متابعة رسوؿ اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم ،والتأسي بو،
وال شيء على تاركها مطل ًقا ،وىي أفعاؿ الرسوؿ ،عليو الصبلة والسبلـ ،اعببلية اليت يفعلها حبكم صفتو البشرية
القسم ال يعترب من اغبكم فبا ال يتعلق باألحكاـ الشرعية كالنوـ واؼبشي ولبس البياض من الثياب ،فهذا
التكليفي إال بنية متابعة الرسوؿ ،صلى اهلل عليو وسلم ،اليت تدؿ على شدة التعلق واالقتداء بو.
والفرؽ بُت السنة غَت اؼبؤكدة والسنة الزائدة أف األوىل يستحق صاحبها الثواب دبجرد نية الفعل ،والثانية
ال يستحق صاحبها الثواب دبجرد نية الفعل ،وال بد من نية االقتداء والتأسي.
رابعا ـ حكم الشروع في المندوب
ـبَت
سبق يف التعريف أف اؼبندوب ما يستحق فاعلو الثواب ،وتاركو ال يستحق العقاب؛ أي إف اؼبسلم ّ
بُت الفعل لكسب الثواب ،وبُت الًتؾ وعدـ األجر ،أو إف اؼبكلّف إف أراد الثواب واألجر فعل اؼبندوب ،وإال
تركو بدوف عقاب ،أما إذا شرع باؼبندوب فهل يبقى حكمو بعد الشروع بو على حالو السابقة قبل الشروع أـ
يتحوؿ إىل الوجوب؟
اختلف علماء األصوؿ يف ىذه اؼبسألة على قولُت:
40
القول األول :أف اؼبندوب يبقى على حالو بعد الشروع فيو ،وال هبب إسبامو ،وإف تركو الفاعل فبل إمث عليو وال
هبب عليو قضاؤه ،وىو مذىب الشافعية.
الزما بالشروع ،وأف اؼبكلف إذا شرع باؼبندوب وجب القول الثاني :أف اؼبندوب ينقلب إىل واجب ،ويصبح ً
عليو إكمالو ،لكن هبوز تركو استثناء ببل إمث للنص عليو ،وإف تركو وجب عليو قضاؤه ،وىو مذىب اغبنفية.
وفصل اإلماـ مالك وأبو ثور فقاال :يلزـ اإلسباـ ،فإف خرج ببل عذر لزمو القضاء ،وإف خرج بعذر فبل
قضاء ،وىو ما نقلو النووي يف آّموع.
مالحظة :ونتبع الكبلـ عن اؼبندوب دبسألتُت ىامتُت نبو عليهما اإلماـ الشاطيب ،وتبعو يف ذلك كل من تعرض
للكبلـ عن اؼبندوب.
أوال :المندوب خادم الواجب
خادما للواجب ،ألنو إما
اعتبارا أعم من االعتبار اؼبتقدـ وجدتو ً قاؿ الشاطيب :اؼبندوب إذا اعتربتو ً
مقدمة لو أو تكميل لو ،أو تذكار بو ،سواء كاف من جنس الواجب أو ال ،فالذي من جنسو كنوافل الصلوات
مع فرائضها ،ونوافل الصياـ والصدقة واغبج ،والذي من غَت جنسو كطهارة اػببث يف اعبسد والثوب واؼبصلى،
والسواؾ وأخذ الزينة وغَت ذلك مع الصبلة ،وكتعجيل اإلفطار وتأخَت السحور وكف اللساف عما ال يعٍت مع
الصياـ ،فإف كاف ذلك فهو الحق بقسم الواجب بالكل ،وقلما يشذ عنو مندوب يكوف مندوبًا بالكل واعبزء.
ذكر بأساس مشروعية اؼبندوب والسنن ،وأهنا خادمة للواجب ،وأف السنة ذبرب النقص وىذا كبلـ حق ،يُ ّْ
الذي يقع يف الواجبات كاػبشوع يف الصبلة والتدبر يف القراءة فيها ،والشرود عند الوقوؼ بُت يدي اللَّو ،وما
تقع عليو العُت يف الصوـ ،وما ينطق بو اللساف يف هنار رمضاف ،وغَت ذلك ،باإلضافة إىل زيادة األجر والثواب
يف اؼبندوب ،وأنو يذكر بالواجبات لبلستعداد ؽبا نفسيِّا وروحيِّا.
ثانيًا :المندوب واجب بالكل
قاؿ الشاطيب" :إذا كاف الفعل مندوبًا باعبزء كاف واجبًا بالكل ،كاألذاف يف اؼبساجد واعبوامع أو غَتىا،
وصبلة اعبماعة وصبلة العيدين وصدقة التطوع والنكاح والوتر والفجر والعمرة وسائر النوافل الرواتب ،فإهنا
مندوب إليها باعبزء ،ولو فرض تركها صبلة عبرح التارؾ ؽبا" ،مث يبُت ذلك فيقوؿ:
"يستحق أىل اؼبصر القتاؿ إذا تركوه (األذاف) ..وقد توعد الرسوؿ ،عليو الصبلة والسبلـ ،من داوـ
على ترؾ اعبماعة منهم أف وبرؽ عليهم بيوهتم ...والنكاح ال ىبفى ما فيو فبا ىو مقصود للشارع من تكثَت
دائما ،أما إذا كاف
النسل وبقاء النوع اإلنساين ،وما أشبو ذلك ،فالًتؾ ؽبا صبلة ،مؤثر يف أوضاع الدين إذا كاف ً
يف بعض األوقات فبل تأثَت لو ،فبل ؿبظور يف الًتؾ".
ويبُت حكمة إخرى من حكم مشروعية وىذا كبلـ صحيح ال غبار عليو ،وال ىبالفو أحد من العلماءّ ،
اؼبندوب ،وأنو يتعلق بأمور ىامة يف الواجبات الدينية واؼبصاحل الدنيوية اليت أصبع العلماء على اعتبارىا من
اؼبقاصد العامة يف الشريعة ،وجاءت األحكاـ الشرعية لتحقيقها سواء كانت واجبة أـ مندوبة.
41
الفرع الثالث في الحرام
أوال ـ تعريف الحرام
وظبع :أحرمتو دبعٌت حرمتو ،واؼبمنوع يسمى اغبراـ لغة :اؼبمتنع فعلو ،من حرـ من بايب قرب وتعبُِ ،
حر ًاما تسمية باؼبصدر.
ويف االصطبلح نذكر تعريفُت لو ،أحدنبا :باغبد وبياف اؼباىية ،والثاين :بالرسم وبياف الصفات.
التعريف األول " :اغبراـ ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف تركو على وجو اغبتم واإللزاـ" .فيكوف تاركو مأجورا
مطيعا ،وفاعلو آشبا عاصيا ،سواء كاف دليلو قطعيا كحرمة ا لزنا ،أـ ظنيا كاحملرمات بالسنة اآلحادية.
ويطلق على اغبراـ أو احملرـ أظباء ـبتلفة ،منو :احملظور ،واؼبمنوع ،واؼبعصية ،واؼبزجور عنو...،
واؼبقصود بعبارة "طلب الشارع تركو" يف التعريف االبتعاد عن الفعل وعدـ القياـ بو ،ويدخل فيو اغبراـ
واؼبكروه؛ ألف الشارع طلب تركهما ،وىبرج من التعريف اؼبباح واؼبندوب والواجب لعدـ طلب تركها من الشارع.
وأما عبارة "على وجو اغبتم واإللزاـ" فتعٍت اعبزـ وتأكيد طلب الًتؾ ،وىي قيد ىبرج من التعريف
اؼبكروه؛ ألف طلب تركو ليس على وجو اغبتم واإللزاـ.
ويُعرؼ طلب الكف والًتؾ اغبتمي بالصيغة اليت تدؿ عليو عن طريق األساليب الكثَتة اؼبفيدة للتحرمي.
شرعا فاعلو". التعريف الثاني" :ىو ما وبمد ويثاب تاركو ،ويذـ ويعاقب ً
فعبارة "وبمد ويثاب تاركو" تفيد األجر الذي ينالو تارؾ الفعل واحملرـ وأخرجت من التعريف الواجب واؼبندوب
شرعا فاعلو" :قي ٌد يف التعريف ،ىبرج أيضا الواجب؛ ألف الذـ فيو على الًتؾ، واؼبباح ،أما عبارة "يذـ ويعاقب ً
وىبرج اؼبندوب واؼبكروه واؼبباح؛ ألنو ال ذـ فيو أصبل ،ال على الفعل وال على الًتؾ ،ويبقى احملرـ فقط .والذـ ال
يكوف إال من الشرع ،وفعل اغبراـ يشمل كل ما يصدر عن اؼبكلف من قوؿ ؿبرـ كالغيبة والقذؼ ،أو فعل
كالسرقة والقتل ،أو من عمل القلب كاغبقد واغبسد ،والذـ ىو اللوـ واالستنقاص الذي يصل إىل درجة
العقاب.
ثانيا ـ األساليب التي تفيد التحريم
األساليب اليت تفيد التحرمي يف الكتاب الكرمي والسنة الشريفة كثَتة ،أنبها:
ت َعلَْي ُك ْم ُ حّْرَم ْ - 1أف يرد اػبطاب صروبًا بلفظ التحرمي ،وما يشتق منو ،مثل قولو تعاىل:
الربَا [البقرة ،]275:وقولو تعاىلَ :و ُحّْرَـ َح َّل اللَّوُ الْبَػْي َع َو َحَّرَـ ّْ
أ َُّم َهاتُ ُك ْم[النساء ،]23:وقولو تعاىلَ :وأ َ
يل ُؿبَّرما علَى طَ ِ ِ ِ
اع ٍم صْي ُد الْبَػّْر َما ُد ْمتُ ْم ُح ُرًما [اؼبائدة ،]96:وقولو تعاىل :قُ ْل ال أَج ُد ِيف َما أُوح َي إِ ََّ َ ً َ َعلَْي ُك ْم َ
كل اؼبسلم وحا [األنعاـ ،]145:ومثل قولو -صلى اهلل عليو وسلمُّ " : يَطْ َع ُموُ إال أَ ْف يَ ُكو َف َمْيتَةً أ َْو َد ًما َم ْس ُف ً
دمو ومالو وعرضو". على اؼبسلم حراـُ :
- 2صيغة النهي ،ألف النهي يفيد التحرمي ،مثل قولو تعاىل :ومن ذلك ما ورد بلفظ النهي مثل قولو تعاىل:
اف َوإِيتَ ِاء ِذي الْ ُق ْرَ َويَػْنػ َهى َع ِن الْ َف ْح َش ِاء َوالْ ُمْن َك ِر َوالْبَػ ْغ ِي [النحل ،]90:وىذا اإلحس ِ ِ ِ ِ ِ َّ
إ َّف اللوَ يَأْ ُم ُر بالْ َع ْدؿ َو ْ ْ َ
استعماال للداللة على التحرمي. ً القسم أكثر األساليب
42
س ج
ْ الـ ِ
ر ُ األز
ْ و اب
ُ صَ ن
ْ األو ر ساػبمر والْمي ِ
ْ ْ َْ اَ - 3طلب اجتناب الفعل ،مثل قولو تعاىل :يَا أَيػُّ َها الَّ ِذين َآمنُوا إَِّ
مب
ٌ َ َ ُ َ َ ُ َ
اجتَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُػ ْفلِ ُحو َف [اؼبائدة ،]90:وقولو -صلى اهلل عليو وسلم" :اجتنبوا السبع ِ
م ْن َع َم ِل الشَّْيطَاف فَ ْ
ِ
اؼبوبقات".
وىذا أمر يفيد وجوب الًتؾ من حيث اللفظ ،ويفيد ربرمي الفعل من حيث اؼبعٌت.
فَِإ ْف طَلَّ َق َها فَبل َِرب ُّل لَوُ ِم ْن بَػ ْع ُد َح َّىت تَػْن ِك َح َزْو ًجا - 4استعماؿ لفظ "ال وبل" ،مثل قولو تعاىل:
ِ ِ َّ ِ
ّْساءَ َك ْرًىا [النساء ،]19:وقولو ين َآمنُوا ال َوب ُّل لَ ُك ْم أَ ْف تَرثُوا الن َ َغْيػَرهُ[البقرة ،]230:وقولو تعاىل:يَا أَيػُّ َها الذ َ
-صلى اهلل عليو وسلم" :ال وبل ماؿ امرئ مسلم إال بطيب نفسو".
ين يَػ ْرُمو َف َّ ِ - 5ترتيب العقوبة على ِ
الفعل سواء كانت يف الدنيا أـ يف اآلخرة أـ فيهما ،مثل قولو تعاىل َ والذ َ
ات ُمثَّ َمل يأْتُوا بِأَربػع ِة شه َداء فَ ِ الْمحصنَ ِ
ك ُى ُم ُت َج ْل َدةً َوال تَػ ْقبَػلُوا َؽبُ ْم َش َه َادةً أَبَ ًدا َوأُولَئِ َ ِ
وى ْم َشبَان َ
اجل ُد ُ
ْ َ َْ َ ُ َ َ ْ ُْ َ
ِ ِ
الْ َفاس ُقو َف[النور ،]4:فالقذؼ حراـ لًتتب عقوبة اعبلد عليو ،وقولو تعاىلَ :وَم ْن يَػ ْقتُ ْل ُم ْؤمنًا ُمتَػ َع ّْم ًدا فَ َجَز ُاؤهُ
ِ إِ َّف الَّ ِذ ِ َّم َخالِ ًدا [النساء ،]93:فالقتل حراـ لتوعد فاعلو بالنار .وقولو تعاىل:
ين ُوببُّو َف أَ ْف تَش َ
يع َ َج َهن ُ
اآلخَرةِ [النور ،]19:وقولو -صلى اهلل عليو وسلم" :من الدنْػيا و ِ اب أَلِ ٌ ِ ِ ِ َّ ِ
يم يف ُّ َ َ ين َآمنُوا َؽبُ ْم َع َذ ٌ الْ َفاح َشةُ يف الذ َ
ِِ ِ َّ ِ
ين يَأْ ُكلُو َف أ َْم َو َاؿ الْيَتَ َامى ظُْل ًما إَِّمبَا يَأْ ُكلُو َف ِيف بُطُوهن ْم نَ ًارا َو َسيَ ْ
صلَ ْو َف بدؿ دينو فاقتلوه" ،وقولو تعاىل :إ َّف الذ َ
َسعِ ًَتا [ النساء ،]10:فأكل ماؿ اليتيم حراـ لتشبيهو بأكل النار وهتديده بالعذاب يوـ القيامة.
- 6كل لفظ يدؿ على إنكار الفعل بصيغة مشددة ،مثل غضب اللَّو ،حرب اللَّو ،لعن اللَّو ،والتحذير من
الفعل ،مثل" :إياكم واعبلوس على الطرقات" ،وكذا وصف الفاعل بالنفاؽ أو الكفر أو الفسق ،مثل قولو
ك ُى ُم الْ َكافُِرو َف [اؼبائدة .. ]44:الظَّالِ ُمو َف[اؼبائدة... ]45: تعاىلَ :وَم ْن َملْ َْوب ُك ْم ِدبَا أَنْػَزَؿ اللَّوُ فَأُولَئِ َ
اس ُقو َف[اؼبائدة ]47:ومثل نفي اإليباف عنو ،كقولو -صلى اهلل عليو وسلم" :واهلل ال يؤمن -ثبلثًا -الذي الْ َف ِ
ال يأمن جاره بوائقو".
حكم الحرام
من التعريف السابق وبياف األساليب اليت تفيد التحرمي يظهر أف حكم اغبراـ وجوب الًتؾ على
اؼبكلف ،فإف فعلو فإنو يستحق العقاب والذـ من اللَّو تعاىل ،وأف اللَّو تعاىل وصف اؼبؤمنُت بأهنم الذين هبتنبوف
ش إال اللَّ َم َم [النجم ،]32:وأف ىذه احملرمات ليست ِ ما حرـ اللَّو عليهم الَّ ِذين َْهبتَنِبُو َف َكبَائِر ِْ
اإلمث َوالْ َف َواح َ َ َ
فحرـ اللو تعاىل فعلها ،وطلب من اؼبكلفُت تركها َّ إال فواحش ومنكرات ومضار ومفاسد تضر بالفرد وآّتمعّ ،
لتحقيق السعادة ؽبم يف الدنيا واآلخرة.
ثالثا ـ أقسام الحرام
سبق الكبلـ أف التشريع جاء لتحقيق العدالة اإلؽبية ورعاية مصاحل البشر يف الدنيا واآلخرة ،فما أوجب
أمرا إال لرجحاف ضرره اغبقيقي حكما إال بسبب فوائده ومنافعو الراجحة يف ربقيق اؼبصاحل ،وما حرـ ً اللَّو ً
شرعا فقبيح ،وإال فحسن كالواجب واؼبندوب واؼبباح. وثبوت فساده ،قاؿ البيضاوي :ما هني عنو ً
واؼبفسدة إما أف تكوف راجعة إىل ذات الفعل ويسمى حر ًاما لذاتو ،وإما أف تكوف اؼبفسدة راجعة ألمر يتعلق
باحملرـ ،ويسمى حر ًاما لغَته.
43
أوال :المحرم لذاتو :وىو ما حرمو الشارع ابتداء وأصالة ،مثل أكل اؼبيتة والدـ واػبنزير ولعب اؼبيسر وشرب
اػبمر والزنا وقتل النفس وأكل أمواؿ الناس بالباطل وزواج احملارـ.
ويكوف احملرـ لذاتو غَت مشروع أصبل ،ألف منشأ اغبرمة فيو عُت احملل أو ذات الفعل ،وأنو يشتمل على
مفسدة ومضرة راجعة إىل الذات.
ويًتتب على ذلك أف التعاقد على اغبراـ باطل ،وال يًتتب عليو أثر يًتتب عليو حكم.
مشروعا يف أصلو ،ولكن اقًتف بو أمر آخر يفضي إىل االعتداء على حقوؽ ً ثانيًا :المحرم لغيره :وىو ما كاف
اهلل تعاىل أو حقوؽ العباد ،فحرمو الشارع ؽبذا السبب ،مثل البيع وقت النداء لصبلة اعبمعة ،وصوـ يوـ العيد
والصبلة بدوف طهارة ،والصبلة يف ثوب مغصوب ،وزواج احمللّْل؛ فإف البيع مشروع ومباح ،ولكن ؼبا اقًتف بو
ؿبرما ،والصبلة يف األوؿ مشروعة وواجبة على اؼبكلف ،ولكن ؼباّ منكر وىو االنشغاؿ عن صبلة اعبمعة صار ً
ؿبرمة بسببو ،ومثلو الصوـ يوـ العيد ،وزواج احمللّْل،
اقًتف ّٔا اؼبنكر ،وىو االنتفاع بالثوب اؼبغصوب ،أصبحت َّ
وصوـ الوصاؿ ،والغش يف البيع.
وينتج عن تقسيم اغبراـ إىل حراـ لذاتو وحراـ لغَته ،باإلضافة إىل االختبلؼ يف الفساد والبطبلف ،كما
سنرى فيما يأيت ،ينتج أمر آخر ،وىو جواز استباحة احملرـ يف بعض اغباالت ،فاحملرـ لذاتو يباح ّٔدؼ اغبفاظ
على الضروريات وىي حفظ الدين واؼباؿ والنفس والعقل والعرض ،فيباح اػبمر للحفاظ على اغبياة عند
ظاىرا للحفاظ على النفس عند اإلكراه بالقتل ،أما احملرـ لغَته فإنو يباح من أجلالتهلكة ،ويرخص بالكفر ً
اغبفاظ على الضروريات السابقة ،ومن أجل اغبفاظ على اغباجيات ،وىي اليت يؤدي تركها إىل مشقة بالغة
على اؼبكلف؛ مثل كشف العورة ،فتباح للحفاظ على اغبياة أحيانًا ،وتباح للطبيب من أجل االستشفاء من
األمراض ،وزبفيف األمل عن اؼبريض .ولكن بشرط عدـ إسقاط حق الغَت إذا تسببت استباحة احملرـ لغَته يف
ضرر لو.
ثالثا :المحرم المعيَّن والمخيَّر
ينقسم الواجب باعتبار اؼبطلوب فعلو إىل واجب معُت كالصبلة وواجب ـبَت كأحد خصاؿ الكفارة،
وكذلك احملرـ ينقسم إىل قسمُت ،ؿبرـ معُت ،وىو صبيع احملرمات تقريبًا اليت هنى عنها الشارع ،ورتب على
فاعلها العقوبة ،كتحرمي قتل النفس وعقوؽ الوالدين والعبودية لغَت اللَّو ،وؿبرـ ـبَت وىو أف وبرـ الشارع أحد
احدا منها ،وىذا ؿبرما ،وأف اؼبكلف لو أف يفعل عدة أشياء إال و ً األمرين فقط ،فإذا فعل أحدنبا أصبح اآلخر ً
القسم ؿبصور وقليل جدِّا ،ولو عدة أمثلة:
- 1أف يقوؿ رجل لزوجاتو :إحداكن طالق ،فتحرـ واحدة منهن ،فإذا عاشر الزوج ثبلثًا فالرابعة ؿبرمة ،كما
أيضا.
يعُت إحداىن للطبلؽ ً هبوز أف ّ
- 2النهي عن اعبمع بُت األختُت يف وقت واحد ،فالشريعة أجازت الزواج بكل منهما ،لكن إذا تزوج إحدى
األختُت حرمت عليو األخرى ،ما مل يطلق األوىل أو سبوت ،وكذلك اعبمع بُت اؼبرأة وخالتها واؼبرأة وعمتها.
- 3نص القرآف الكرمي والسنة الشريفة على التخيَت يف التحرمي بُت األـ وبنتها ،فكل منهما هبوز الزواج منها،
ولكن إذا تزوج من إحدانبا حرمت عليو األخرى ،وىذا خَت مثاؿ للحراـ اؼبخَت.
44
- 4كاف العرب يعددوف الزوجات بدوف حد ،وجاء اإلسبلـ وبعضهم عنده عشر زوجات ،فقاؿ رسوؿ اللَّو،
صلى اهلل عليو وسلم ،لبعض أصحابو" :أمسك أر ًبعا وطلق سائرىن" ،فتعدد الزوجات زيادة على األربع
زوجات حراـ ،ولكن مل يعُت الشارع احملرمة منهن ،وترؾ اػبيار للزوج.
الفرع الرابع في المكروه
أوال ـ تعريف المكروه
اؼبكروه لغة :القبيح ،من كره األمر مثل قبح ،وزنًا ومعٌت ،وىو ضد احملبوب ،والكريهة اغبرب ،أو الشدة
يف اغبرب.
ويف االصطبلح نذكر تعريفُت لو ،األوؿ :يتعلق بالذات واؼباىية ،والثاين :يتعلق بالرسم والصفة.
التعريف األول" :اؼبكروه ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف تركو طلبًا غَت جازـ".
والتعريف واضح بعد ما سبق بيانو يف شرح تعريف اغبراـ ،فاؼبكروه ىو الفعل الذي طلب الشارع تركو
وعدـ القياـ بو ،وكاف ىذا الطلب بدوف حتم وال إلزاـ ،فبا يدؿ على كراىة الفعل ،ورغبة اؼبشرع يف االبتعاد
عنو.
التعريف الثاني" :ىو ما يبدح ويثاب تاركو وال يذـ وال يعاقب فاعلو".
فاؼبكروه ىو ما يستحق تاركو اؼبدح والثناء واألجر والثواب من اللَّو تعاىل ،أما فاعلو فبل يستحق العقاب
والذـ ،وقد يستحق اللوـ والعتاب ،ومثاؿ اؼبكروه أكل غبم اػبيل ،وشرب لبنها عند اغبنفية ،وترؾ السنن
اؼبؤكدة ،والصبلة يف األوقات اؼبكروىة.
واؼبكروه يقابل اؼبندوب ،ولذا يطلق على ترؾ اؼبندوب ،ويطلق على ترؾ كل مصلحة راجحة ،وقد يطلق اؼبكروه
على اغبراـ ،مثل قوؽبم :يكره التوضؤ بآنية الذىب والفضة ،أي :وبرـ ،وقد يطلق على ترؾ األوىل.
حكم اؼبكروه
إف الفعل اؼبكروه يشتمل على بعض اؼبفاسد ،ولذا ترجح طلب تركو على طلب فعلو ،ولكنو مل يصل
إىل درجة اغبراـ ،وإف فاعلو ال يستحق العذاب والعقاب يف الدنيا واآلخرة ،وقد يستحق اللوـ والعتاب على
فعلو ،لقولو -صلى اهلل عليو وسلم" :فمن رغب عن سنيت فليس مٍت" ،وتارؾ اؼبكروه يبدح ويثاب إذا نوى بو
التقرب إىل اللَّو تعاىل.
ثانيا ـ األساليب التي تدل على الكراىة
- 1اللفظ الصريح بالكراىة ،وما أشبهها من األلفاظ اليت تصرح بعدـ االستحساف ،مثل قولو ،صلى اهلل عليو
وسلم" :إف اللَّو كره لكم قيل وقاؿ ،وكثرة السؤاؿ ،وإضاعة اؼباؿ" ،وقولو ،صلى اهلل عليو وسلم" :أبغض اغببلؿ
إىل اللَّو الطبلؽ".
- 2أف ينهى الشارع عنو هنيًا مقًتنًا دبا يدؿ على صرفو إىل الكراىة ،مثل قولو تعاىل يف كراىة السؤاؿ عن
اؼبباح خشية أف وبرـ على اؼبؤمنُت :ال تَ ْسأَلُوا َع ْن أَ ْشيَاءَ إِ ْف تُػْب َد لَ ُك ْم تَ ُس ْؤُك ْم [اؼبائدة ،]101:والقرينة اليت
ِ
صرفت النهي عن التحرمي إىل الكراىة ىي قولو تعاىلَ :وإِ ْف تَ ْسأَلُوا َعْنػ َها ح َ
ُت يػُنَػَّزُؿ الْ ُق ْرآ ُف تُػْب َد لَ ُك ْم َع َفا اللَّوُ
َعْنػ َها[اؼبائدة.]101:
45
- 3أف يطلب الشارع اجتنابو وتركو مع القرينة اليت تدؿ على الكراىة دوف التحرمي ،مثل قولو تعاىل يف كراىة
اس َع ْوا إِ َىل ِذ ْك ِر اللَّ ِو لصبلةِ ِمن يػوِـ ْ ِ
ي لِ َّ ِ ِ َّ ِ
اعبُ ُم َعة فَ ْ ْ َْ البيع وقت النداء لصبلة اعبمعة :يَا أَيػُّ َها الذ َ
ين َآمنُوا إ َذا نُود َ
َو َذ ُروا الْبَػْي َع[اعبمعة ]9:قاؿ اغبنفية :القرينة على صرؼ الطلب من التحرمي إىل الكراىة أف البيع مشروع ومباح
يف أصلو ،وإمبا كره ألنو يشغل عن الصبلة.
ونبلحظ أف األساليب اليت تفيد التحرمي والكراىة واحدة تقريبًا وتشًتؾ فيما بينها ،فإف طلب الشارع
عاما ،أو طلب االجتناب مطل ًقا ،كاف الفعل حر ًاما ،وإف وجدت القرينة اليت الكف عن أمر ،أو جاء النهي ِّ
مكروىا ،ومن القرائن اللفظية والنصية ترتيب العقوبة على الفعل أو عدـ ترتيبها. ً تصرفو عن اغبرمة كاف
ثالثا ـ أقسام المكروه
– 1قد سبقت اإلشارة أف اغبنفية يقسموف اؼبكروه إىل قسمُت ،مكروه ربريبي ومكروه تنزيهي ،واؼبكروه
جازما بدليل ظٍت مثل لبس اغبرير والذىب على الرجاؿ الثابت حبديث التحريبي ىو ما طلب الشارع تركو طلبًا ً
رسوؿ اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم " :ىذاف حراـ على رجاؿ أميت حلّّ إلناثهم" ،والبيع على بيع اآلخر ،واػبطبة
على خطبة غَته ،وحكمو أنو إىل اغبراـ أقرب ،وىو قسم من اغبراـ عند اإلماـ أيب حنيفة واإلماـ أيب يوسف،
وإف أطلق عليو لفظ اؼبكروه ،ويأخذ أحكاـ اغبراـ تقريبًا من ربرمي الفعل وطلب الًتؾ واستحقاؽ العقاب على
الفعل ،ولكن ال يكفر جاحده.
واؼبكروه التنزيهي ىو ما طلب الشارع تركو طلبًا غَت جازـ ،وحكمو مثل حكم اؼبكروه اؼبذكور عند
اعبمهور ساب ًقا ،وأف فاعلو ىبالف األوىل يف اؼبكروه ،مثل الوضوء من سؤر سباع الطَت ،وأكل غبوـ اػبيل.
ـبصوصا
ً - 2قسم بعض الشافعية اؼبكروه إىل قسمُت ،حبسب الدليل يف النهي ،فإف كاف النهي غَت اعبازـ
بأمر معُت فهو مكروه ،مثل قولو ،صلى اهلل عليو وسلم" :إذا دخل أحدكم اؼبسجد فبل هبلس حىت يصلي
ركعتُت" ،ومثل النهي عن الصبلة يف أعطاف اإلبل ،فإهنا خلقت للشياطُت ،وإف كاف النهي غَت اعبازـ غَت
ـبصوص بأمر معُت فيكوف فعلو خبلؼ األوىل ،كالنهي عن ترؾ اؼبندوبات وإفطار اؼبسافر يف رمضاف.
الفرع الخامس في المباح
أوال ـ تعريف المباح
اؼبباح لغة :اؼبأذوف واؼبعلن ،من باح الشيء ظهر ،وأباحو أظهره ،واإلباحة دبعٌت اإلظهار ودبعٌت اإلطبلؽ
واإلذف ،وأباح لك مالو :أذف يف األخذ والًتؾ ،وجعلو مطلق الطرفُت ،وأباح الشيء أحلو لك.
ويف االصطبلح نذكر تعريفُت للمباح -كما أسلفنا يف غَته -مع البياف أف اؼبعٌت االصطبلحي ال ىبرج
عن اؼبعٌت اللغوي.
خَت الشارع اؼبكلف بُت فعلو وتركو". التعريف األول" :اؼبباح ىو ما ّ
فالشارع مل يطلب فعل اؼبباح ومل يطلب تركو واجتنابو ،فهو مستوي الطرفُت ،ويعًتض على ىذا التعريف
ىبَت اؼبرء بُت فعلها وتركها ،ويدخل فيو الواجب اؼبخَت ،فإف كل خصلة منو ّ بأنو غَت مانع ،فيدخل فيو الواجب ّ
ـبَت بُت الصبلة يف أوؿ الوقت أو يف تركها. اؼبوسع؛ ألف اؼبكلف ّ
46
خَت اؼبكلف يف ويرد على ىذا االعًتاض بأف الواجب اؼبوسع أو اؼبخَت مطلوب من الشارع ،وبعد طلبو ّ
أجزائو أو يف وقتو ،أما اؼبباح فليس مطلوبًا أصبل.
التعريف الثاني :عرؼ الشوكاين اؼبباح بأنو" :ما ال يبدح على فعلو وال على تركو".
فالشارع الكرمي قصد زبيَت اؼبكلف يف الفعل والًتؾ ،فما فعلو اؼبكلف فهو قصد الشارع ،وذلك
لتساوي اؼبفاسد واؼبصاحل يف اؼبباح ،أو لتساوي النفع والضرر فيو ،أو ألف الطبيعة البشرية والفطرة اإلنسانية
والعقل السليم الذي خلقو اللَّو تعاىل يتجو كبوه ،كإباحة األكل والشرب وأنواع اللباس واؼبشي يف الطرقات
والتمتع باؽبواء والوقوؼ يف الشمس ،ولذا فإف فاعلو ال يستحق اؼبدح وتاركو ال يستحق اؼبدح.
وصبع الغزايل وغَته بُت التعريفُت السابقُت فقالوا :اؼبباح ما ورد اإلذف من اللَّو تعاىل بفعلو وتركو ،غَت
مقروف بذـ فاعلو ومدحو ،وال بذـ تاركو ومدحو.
ويرادؼ اؼبباح اغببلؿ واعبائز واؼبطلق.
حكم المباح
يظهر حكم اؼبباح من تعريفو ،أف فاعلو أو تاركو ال يستحق العقوبة وال الذـ وال العتاب ،وال يستحق
الثواب واألجر واؼبدح ،وأف الشارع مل يطلب فعلو ومل يطلب اجتنابو .ويتعلق حبكم اؼبباح أمراف:
ص َد ّٔا اؼبكلف وجو اللَّو تعاىل ،وابتغى مرضاتو ،وأنو يقوـ ّٔا بقصد الطاعة فإهنا األوؿ :أف اؼبباحات إذا قَ َ
تنقلب إىل طاعة وعبادة ،كاألكل للتقوي على الطاعة والعبادة والعلم واعبهاد ،ومثل التمتع بأشعة الشمس
صحيحا وببو اللَّو ورسولو" :اؼبؤمن القوي خَت وأحب إىل اللَّو من اؼبؤمن ً بقصد تنشيط اعبسم ليصبح قويِّا
الضعيف ويف كل خَت".
وىذا اؼبوضوع ميزة من ميزات وخصائص اإلسبلـ يف توسيع معٌت العبادة ،وأف كل أمر قصد بو اؼبكلف
وجو اللَّو تعاىل أصبح عبادة يستحق بو صاحبو األجر والثواب.
الثاين :أف اؼبباح خادـ للواجب واؼبندوب ،وأف اؼبباح مباح باعبزء مطلوب الفعل أو مطلوب الًتؾ بالكل ،وىذا
ما انفرد بو الشاطيب ،وسوؼ نعرضو بالتفصيل يف هناية البحث.
ثانيا ـ األساليب التي تفيد اإلباحة
- 1النص الصريح على إباحة الفعل أو التخيَت فيو ،مثل :افعلوا إف شئتم ،أو اتركوا إف شئتم ،كقولو ،صلى
اهلل عليو وسلم ،يف الصوـ يف السفر" :إف شئت فصم وإف شئت فأفطر".
- 2النص على عدـ اإلمث على الفعل أو ما يف معناه ،كعدـ اعبناح ونفي اغبرج ،قاؿ تعاىل يف إباحة اػبلع
ت بِِو [البقرة،]229: ِ ِ على ماؿ بُت زوجُت :فَِإ ْف ِخ ْفتُم أَال ي ِقيما ح ُد ِ
يما افْػتَ َد ْ
اح َعلَْيه َما ف َود اللَّو فَبل ُجنَ َ
ْ ُ َ ُ َ
ضتُم بِوِ ِ
يما َعَّر ْ ْ اح َعلَْي ُك ْم ف َ
وقاؿ تعاىل يف إباحة التعريض باػبطبة للمتوىف عنها زوجها يف أثناء العدةَ :وال ُجنَ َ
ّْس ِاء [البقرة ،]235:وقاؿ تعاىل يف إباحة ترؾ اعبهاد على األعمى وإباحة األكل من بيت اؼبرء ِ ِ ِ
م ْن خطْبَة الن َ
يض َحَر ٌج َوال َعلَى أَنْػ ُف ِس ُك ْم أَ ْف األعَرِج َحَر ٌج َوال َعلَى الْ َم ِر ِ
األع َمى َحَر ٌج َوال َعلَى ْ
س َعلَى ْ َ وبيت أبيو وأمو :لَْي
وت آبائِ ُكم أَو بػي ِ
وت أ َُّم َهاتِ ُك ْم[النور.]61: ِ ِ ِ
تَأْ ُكلُوا م ْن بػُيُوت ُك ْم أ َْو بػُيُ َ ْ ْ ُُ
47
- 3األمر بالفعل مع القرينة الدالة على أف األمر لئلباحة وليس للوجوب أو الندب ،مثل قولو تعاىلَ :وُكلُوا
ِ ضي ِ ِ ِ
ض[اعبمعة.]10: الصبلةُ فَانْػتَش ُروا ِيف ْ
األر ِ ت َّ َوا ْشَربُوا[األعراؼ .]31:وقولو تعاىل فَإ َذا قُ َ
- 4األمر بالفعل بعد حظره ،فإنو يفيد اإلباحة ،مثل قولو تعاىل يف إباحة الصيد بعد التحلل من اغبجَ :وإِ َذا
الصْي ِد َوأَنْػتُ ْم
َ غْيػَر ُِؿبلّْي َّ ؿبرما يف أثناء اغبج بقولو تعاىل: ادوا [اؼبائدة ،]2:وكاف ً اصطَ ُ َحلَْلتُ ْم فَ ْ
ُح ُرٌـ[اؼبائدة ،]1:ومثل قولو -صلى اهلل عليو وسلم" :كنت هنيتكم عن زيارة القبور أال فزوروىا ،فإهنا تذكركم
اآلخرة".
وىذا األسلوب الرابع يرجع إىل ما قبلو ،وأف األمر بالفعل بعد حظره قرينة على صرؼ األمر لئلباحة.
- 5النص على حل الفعل ،مثل قولو تعاىل يف إباحة الطعاـ وغَته من الطيبات وإباحة طعاـ أىل الكتاب:
اب ِحلّّ لَ ُك ْم [اؼبائدة ،]5:ومثل قولو تعاىل يف إباحة الزواج ِ َّ ِ ِ
ين أُوتُوا الْكتَ َ ات َوطَ َع ُاـ الذ َ الْيَػ ْوَـ أُح َّل لَ ُك ُم الطَّيّْبَ ُ
ِِ ِِ ِ ِ ِ
ُت [النساء ،]24:وقاؿ ُت َغْيػَر ُم َسافح َ من غَت احملارـَ :وأُح َّل لَ ُك ْم َما َوَراءَ َذل ُك ْم أَ ْف تَػْبتَػغُوا بِأ َْم َوال ُك ْم ُْؿبصن َ
ث إِ َىل نِ َسائِ ُك ْم[البقرة.]187: الصيَ ِاـ َّ
الرفَ ُ ُح َّل لَ ُك ْم لَْيػلَةَ ّْ تعاىل يف إباحة معاشرة الزوجة يف ليايل رمضاف :أ ِ
- 6اإلباحة األصلية للفعل عند عدـ األمر بو أو النهي عنو ،ألف اؼبقرر يف الشريعة الغراء أف األصل يف
األشياء اإلباحة ،فإف مل يرد نص شرعي يف مسألة ما فيكوف حكمها اإلباحة الستصحاب األصل فيها.
- 7االستثناء من أشياء ؿبرمة ،كقولو تعاىل( :حرمت عليكم ...إال ....
ثالثا ـ أقسام المباح
ينقسم اؼبباح من حيث تعلقو بالنفع والضرر إىل ثبلثة أقساـ:
- 1قسم ال ضرر على اؼبكلف يف فعلو وتركو ،كاألكل والشرب واللباس والصيد وصبغ الثياب والتنزه يف اؽبواء
الطلق وغَت ذلك فبا سبق شرحو.
- 2وقسم ال ضرر على اؼبكلف يف فعلو مع فساده وثبوت ضرره وربرمي أصلو ،وىو ما أباح الشارع فعلو من
احملرمات للضرورة أو لئلكراه ،وما أباح الشارع تركو من الواجبات يف حاالت خاصة ،أو ال ضرر على اؼبكلف
بًتكو مع وجوب أصلو كاإلفطار للحامل اؼبرضع واؼبسافر ،وترؾ القياـ يف الصبلة للعاجز ،وسوؼ ندرس ىذا
القسم يف الرخصة والعزيبة ،وما أباح الشارع فعلو بعد ربريبو لسبب طارئ مثل دـ اؼبرتد يباح ،وال ضرر على
إراقتو ،وقد كاف دمو حر ًاما فلما ارتد زالت حرمة دمو ،بل ينقلب إىل وجوب قتلو على اغباكم ،وكذلك أخذ
استِْب َد َاؿ َزْو ٍج َم َكا َف َزْو ٍج َوآتَػْيتُ ْم إِ ْح َد ُاى َّن قِْنطَ ًارا فَبل
جزء من مهر اؼبرأة فإنو حراـ لقولو تعاىلَ :وإِ ْف أ ََرْد ُُتُ ْ
تَأْ ُخ ُذوا ِمْنوُ َشْيئًا أَتَأْ ُخ ُذونَوُ بػُ ْهتَانًا َوإِْشبًا ُمبِينًا[النساء ،]20:أما إذا استمر الشقاؽ بُت الزوجُت فيباح للرجل أف
ود اللَّ ِو ِ ِ ِ
يما ُح ُد َ يأخذ من ماؿ زوجتو ما تفتدي بو نفسها يف اػبلع كما سبق ،لقولو تعاىل :فَإ ْف خ ْفتُ ْم أَال يُق َ
ت بِِو[البقرة.]229: ِ ِ
يما افْػتَ َد ْ
اح َعلَْيه َما ف َ فَبل ُجنَ َ
مباحا ،فبل يذـ على تركو وال - 3قسم ثبت فساده وضرره ،ولكن اللَّو تعاىل عفا عن صاحبو ،فصار فعلو ً
يثاب على فعلو ،ويعرؼ عند الفقهاء دبرتبة العفو.
واألمثلة على ذلك كثَتة ،كارتكاب احملرمات قبل اإلسبلـ ،مثل الزواج من احملارـ ،والزواج من زوجة
اآلباء ،واعبمع بُت األختُت ،التعارض وعدـ إمكاف اعبمع ،وما سكت الشارع عنو.
48
ويبكن أف تدخل ىذه األمور ربت حكم اؼبباح الذي ال يؤاخذ اللَّو سبحانو وتعاىل فاعلو ،ويعفو عنو،
ؼبا ورد فيها من العفو وعدـ اؼبؤاخذة ،وأف الفاعل ال يثاب وال يعاقب على الفعل ،وإف كاف ضرره أكثر من
نفعو ،ولكن قد ربيط بو ظروؼ وقرائن وحاالت ذبعل الضرر متساويًا مع النفع ،أو ذبعل النفع أكثر من الضرر
صة وشرب اػبمر عند خوؼ اؽببلؾ. كأكل غبم اؼبيتة يف اؼبَ ْخ َم َ
اؼبباح من حيث اعبزء والكل
ولبتم الكبلـ عن اؼبباح دبسألة لطيفة ذكرىا الشاطيب يف اؼبباح ،وسبق لو مثلها يف اؼبندوب ،وأف
اؼبندوب خادـ للواجب ،وأف اؼبندوب واجب بالكل ،وقد قسم الشاطيب اؼبباح حبسب الكلية واعبزئية إىل أربعة
أقساـ ،وىي:
أوال :اؼبباح باعبزء اؼبطلوب بالكل من جهة الوجوب ،كالتمتع بالطيبات من اؼبأكل واؼبشرب واؼبركب واؼبلبس،
فإف ىذه األمور مباحة باعبزء ،ويكوف اؼبكلف باػبيار يف فعلها أو تركها يف بعض األوقات أو األحواؿ ،أو إذا
قاـ ّٔا غَته من الناس ،أما من حيث اعبملة فإف األكل والشرب هبب فعلهما ،وإف ترؾ اؼبكلف األكل
والشرب بشكل كلي حىت أصابو اؽببلؾ واؼبوت أو اؼبرض فهو آمث ،ويكوف تركو حر ًاما ،فيجب عليو األكل
والشرب ،ومثلو البيع والشراء ووطء الزوجات وفبارسة وسائل االكتساب.
ثانيًا :اؼبباح باعبزء اؼبطلوب بالكل على جهة الندب ،كالتمتع باألكل والشرب دبا فوؽ اغباجة ،فهذه األشياء
مباحة باعبزء ،وىبَت اؼبكلف بُت فعلها وتركها يف بعض األحواؿ أو األزماف ،لكنها مندوبة بالكل حبيث لو
مكروىا ؼبخالفة طلب الشارع ؽبا طلبًا غَت جازـ ،مثل قولو ،صلى اهلل عليو وسلم: ً تركها اؼبكلف لكاف تركو
"أال إذا أوسع اللَّو عليكم فأوسعوا على أنفسكم ،إف اللَّو وبب أف يرى نعمتو على عبده" ،وقولو ،صلى اهلل
ات ِم َنعليو وسلم" :إف اللَّو صبيل وبب اعبماؿ" ،وقولو تعاىل :قُل من حَّرـ ِزينَةَ اللَّ ِو الَِّيت أَخرج لِعِب ِادهِ والطَّيّْب ِ
َْ َ َ َ َ ْ َْ َ َ
صةً يَػ ْوَـ الْ ِقيَ َام ِة[األعراؼ.]32: ِ اغبَيَاةِ ُّ
الدنْػيَا َخال َ ين َآمنُوا ِيف ْ ّْ ِ ِ ِ ِ
الرْزؽ قُ ْل ى َي للَّذ َ
ثالثًا :اؼبباح باعبزء احملرـ بالكل ،كاؼبباحات اليت تقدح اؼبداومة عليها يف العدالة ،كالتمتع باللذائذ ،وآّازفة يف
الكبلـ ،واعتياد اغبلف ،وشتم األوالد ،فإهنا مباحة يف األصل ،ولكن اإلكثار منها واالعتياد عليها يصبح
حر ًاما ،ومثلو األكل فوؽ الشبع فبا يؤدي إىل التخمة واؼبرض.
ابعا :اؼبباح باعبزء اؼبكروه بالكل ،كالتنزه يف البساتُت وظباع تغريد اغبماـ واللعب بو والغناء اؼبباح ،فإهنا مباحة رً
باعبزء يف أصلها إذا فعلها اؼبكلف مرة أو مرتُت يف يوـ ما ،ولكن االستمرار عليها وقضاء األوقات فيها وجعلها
عادة للمرء يًتتب عليها بعض الضرر دبخالفة ؿباسن العادات ،فتصبح مكروىة.
قاؿ الشاطيب :إف اؼبباح حبسب الكلية واعبزئية يتجاذّٔا األحكاـ باؼبطلوب بالكل.
خاتمة في الحكم التكليفي
وإىل ىنا ننتهي من اغبكم التكليفي وأنو يقسم عند اعبمهور إىل طبسة أقساـ وىي :الواجب واؼبندوب
واؼبباح واغبراـ واؼبكروه ،وزاد اغبنفية قسمُت :ونبا :الفرض ،واؼبكروه ربريبًا ،فصار آّموع عندىم سبعة أقساـ.
وىذه األحكاـ التكليفية تتعلق بأفعاؿ اؼبكلف ،فقد يكوف الفعل واجبًا كالصبلة ،وقد يكوف مندوبًا
ؿبرما كالقتل.مكروىا مثل كثرة الكبلـ ،وقد يكوف ً ً مباحا كالبيع واألكل ،وقد يكوف كالنوافل ،وقد يكوف ً
49
وقد تتعلق ىذه األحكاـ بفعل واحد ،وتعًتيو األحكاـ اػبمسة كلها أو بعضها حبسب الظروؼ
واألحواؿ اليت ربيط بو ،كالزواج يكوف واجبًا على اؼبكلف إذا استطاع تكاليف الزواج وتأكد من نفسو الوقوع
ؿبرما إذا تأكد من
يف اغبراـ إذا مل يتزوج ،ويكوف مندوبًا يف األحواؿ العادية مع القدرة على الباءة ،ويكوف ً
مباحا إذا تساوت احملاسنمكروىا إذا خاؼ ذلك ،ويكوف ً ً نفسو ظلم زوجتو وعدـ قيامو حبقوقها ،ويكوف
واؼبفاسد ،ومثل الزواج كثَت من أفعاؿ اؼبكلفُت اليت تعًتيها األحكاـ اػبمسة أو بعضها حبسب القرائن احمليطة
ّٔا ،كما أف األحكاـ زبتلف من حيث اعبزئية والكلية ،وسبق بياف ذلك يف اؼبندوب واؼبباح ،قاؿ الشاطيب :إف
األفعاؿ كلها زبتلف أحكامها بالكلية واعبزئية عن غَت اتفاؽ ،وؼبدع أف يدعي اتفاؽ أحكامها ،وإف اختلفت
بالكلية واعبزئية.
وبعد االنتهاء من الكبلـ عن اغبكم التكليفي ننتقل للقسم الثاين من اغبكم الشرعي ،وىو اغبكم الوضعي.
المبحث الثالث ـ الحكم الوضعي
المطلب األول ـ تعريف الحكم الوضعي
الوضع يف اللغة :اإلسقاط والًتؾ واالفًتاء والوالدة وغَت ذلك ،من وضع عنو دينو أسقطو ،ووضعت
الشيء بُت يديو تركتو ىناؾ ،ووضع الرجل اغبديث افًتاه وكذبو ،ووضعت اغبامل ولدىا أي ولدتو.
واغبكم الوضعي يف االصطبلح" :ىو خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق جبعل الشيء سببًا لفعل اؼبكلف ،أو
فاسدا ،أو رخصة ،أو عزيبة" .فالوضع جعل الشيء مرتبطًا بشيء آخر. صحيحا ،أو ً
ً مانعا ،أو
شرطًا لو ،أو ً
مانعا أو
فاغبكم الوضعي ىو الوصف اؼبتعلق باغبكم التكليفي ،وىذا الوصف إما أف يكوف سببًا أو ً
فاسدا أو رخصة أو عزيبة.
صحيحا أو ًً شرطًا أو
ويطلق اغبكم الوضعي على الوصف بالسببية والشرطية واؼبانعية والصحة والفساد والرخصة والعزيبة،
أثرا للحكم التكليفي وىذا الوصف إما أف يسبق اغبكم التكليفي كاألنواع الثبلثة األوىل ،وإما أف يكوف الح ًقا و ً
كالنوعُت األخَتين ،وعلى كبل اغبالُت فاغبكم الوضعي عبلمة للحكم التكليفي ومرتبط بو ،فاللَّو سبحانو كلف
الناس بأحكاـ ،ولكنو ربط ىذا التكليف بأمور أخرى.
المطلب الثاني ـ أقسام الحكم الوضعي
ينقسم اغبكم الوضعي حبسب طبيعة ارتباط اغبكم التكليفي بو إىل طبسة أقساـ ،وىي :السبب،
والشرط ،واؼبانع ،والصحيح ويقابلو الفاسد أو الباطل ،والعزيبة ويقابلها الرخصة .وذلك أف الشيء يقتضي أف
صحيحا ،أو غَت صحيح، ً مانعا ،أو مسو ًغا لرخصة بدؿ العزيبة ،أو
يكوف سببًا لشيء آخر ،أو شرطًا لو ،أو ً
فكل منها حكم ثبت خبطاب الوضع.
ولبصص كل قسم يف مطلب خاص ،فنبُت تعريفو وحكمو واختبلؼ العلماء فيو إف وجد ،وما يتعلق بو
من حبوث.
الفرع األول في السبب
أوال ـ تعريف السبب
السبب يف اللغة:عبارة عما يبكن التوصل بو إىل مقصود ما ،ومنو ظبي الطريق سببًا ،وظبي اغببل سببًا.
50
ويف االصطبلح :عرفو اآلمدي بأنو :الوصف الظاىر اؼبنضبط الذي دؿ الدليل السمعي على كونو معرفًا
غبكم شرعي.
فالوصف ىو اؼبعٌت ،والظاىر ىو اؼبعلوـ ضد اػبفي ،واؼبنضبط ىو احملدد بأف ال ىبتلف باختبلؼ
األشخاص أو األحواؿ ،خببلؼ اغبكمة وىي الباعث على شرع األحكاـ ؼبصلحة العباد ،من جلب نفع أو
دفع ضرر ،والدليل السمعي ىو ما كاف يف الكتاب والسنة ،وكونو معرفًا غبكم شرعي أي عبلمة على اغبكم
الشرعي من غَت تأثَت فيو.
فالسبب ىو اؼبعٌت الظاىر اؼبعلوـ احملدد الذي ثبت بالكتاب والسنة أنو عبلمة على وجود اغبكم ،أو
وعدما.
وجودا ً ىو ما ارتبط بو غَته ً
وحقيقة السبب أف الشارع جعل وجوده عبلمة على وجود مسببو وىو اغبكم ،وجعل زبلفو وانتفاءه
عبلمة على زبلف وانتفاء ذلك اغبكم؛ أي إف الشارع ربط وجود اؼبسبب بوجود السبب ،وعدمو بعدمو ،ويلزـ
من وجود السبب وجود اؼبسبب ،ومن عدـ السبب عدـ اؼبسبب.
مثالو :جعل الزنا سببًا لوجوب اغبد؛ ألف الزنا ال يوجب اغبد بذاتو ،وإمبا جبعل الشارع لو ،وزواؿ
الشمس سبب يف وجوب الظهر ،وغروب الشمس سبب يف وجوب اؼبغرب ،وطلوع الفجر سبب يف وجوب
الصبح.
ويعرؼ السبب بإضافة اغبكم إليو كحد الزنا ،فاغبد حكم شرعي أضيف إىل الزنا ،فعرفنا أف الزنا ىو
السبب ،مثل صبلة اؼبغرب ،فالصبلة حكم شرعي أضيف إىل اؼبغرب ،فعرفنا أف الغروب ىو السبب.
ويبدو من التعريف السابق أف السبب ال يكوف سببًا إال جبعل الشارع لو سببًا ،ألنو سبب غبكم
تكليفي ،والتكليف من اللَّو تعاىل الذي يكلف اؼبرء باغبكم ،ويضع السبب الذي يرتبط بو اغبكم ،وىذه
األسباب ليست مؤثرة بذاهتا يف وجود األحكاـ ،بل ىي عبلمة وأمارة لظهورىا ووجودىا ومعرفة ؽبا عند صبهور
العلماء ،فالسبب وسيلة وصلة ،كاغببل يف إخراج اؼباء من البئر ،ولذا عرؼ اإلماـ الغزايل السبب فقاؿ :ىو ما
وبصل الشيء عنده ال بو ،ويقوؿ الشاطيب رضبو اللَّو :إف السبب غَت فاعل بنفسو ،وإمبا وقع اؼبسبب عنده ال
بو ،قاؿ تعاىلَ :واللَّوُ َخلَ َق ُك ْم َوَما تَػ ْع َملُو َف[الصافات ،]96:وقاؿ تعاىل :اللَّوُ َخالِ ُق ُك ّْل َش ْي ٍء َوُى َو َعلَى ُك ّْل
س يل[الزمر ،]62:وقاؿ تعاىلَ :وَما تَ َشاءُو َف إال أَ ْف يَ َشاءَ اللَّوُ [اإلنساف ،]30:وقاؿ تعاىلَ :ونَػ ْف ٍ ٍ ِ
َش ْيء َوك ٌ
َوَما َس َّو َاىا فَأَ ْؽبََم َها فُ ُج َورَىا َوتَػ ْق َو َاىا[الشمس7:ػ .]8
ثانيا ـ حكم السبب
تبُت أف حقيقة السبب ىي أنو يلزـ من وجود السبب وجود اؼبسبب ،ومن عدمو عدـ اغبكم ،فإذا
وجد السبب سواء قاـ بو اؼبكلف وكاف من فعلو ،أو كاف من غَت فعلو ،وتوافرت الشروط اؼبوضوعة للسبب
حكما تكليفيِّا ،أو كاف حتما ،سواء أكاف اؼبسبب ً واؼبسبب ،وانتفت موانع اغبكم ،ترتب على السبب مسببو ً
إثبات ملك أو حل أو إزالتهما ،وسواء أقصد اؼبكلف ترتب اؼبسبب على فعلو أـ مل يُِرد ،وسواء قصد إىل
اؼبسبب أـ مل يقصد؛ ألف ترتب اؼبسبب على السبب من وضع الشارع وال دخل للمكلف بو ،وال عربة
بقصده ،وألف السبب ال يؤثر بنفسو يف اؼبسبب ،كما سبق عند صبهور العلماء ،بل يًتتب اؼبسبب على
51
السبب ،ولو قصد اؼبكلف مثبل عدـ ترتبو عليو ،واألمثلة توضح ذلك ،فمن اشًتى سلعة ثبت لو اؼبلك
واالنتفاع ،ومن سافر يف رمضاف أبيح لو الفطر سواء أقصد ذلك أـ مل يقصد ،واؼبوت والقرابة سبباف للمَتاث
جربا عنو ،وال وبق لو أف يرفض الًتكة أو أف ولو مل يرض الوارث أو اؼبتوىف ذلك ،وتدخل الًتكة يف ملك الوارث ً
يبتنع عن قبوؿ اؼبَتاث ،ومن تزوج وجب عليو اؼبهر ونفقة الزوجة ،ولو تزوجها على أف ال مهر عليو وال نفقة،
وىكذا.
ثالثا ـ أنواع السبب
ينقسم السبب عدة تقسيمات باعتبارات ـبتلفة ،أنبها:
أنواع السبب من حيث موضوعو
ينقسم السبب باعتبار موضوعو إىل قسمُت:
- 1السبب الوقتي :وىو ما ال يعرؼ لو حكمة باعثة يف تعريفو للحكم ،كالزواؿ سبب وقيت لوجوب الظهر،
س [اإلسراء ،]78:فإف الوقت سبب ؿبض وعبلمة على وجوب َّم ِ لقولو تعاىل :أَقِ ِم َّ ِ ِ
الصبل َة ل ُدلُوؾ الش ْ
ِ
فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ
َّهَر الصبلة ،ورؤية ىبلؿ رمضاف سبب وقيت لوجوب الصياـ ،لقولو تعاىل:
ص ْموُ[البقرة.]185:
فَػ ْليَ ُ
- 2السبب المعنوي :وىو ما يعرؼ لو حكمة باعثة يف تعريفو للحكم الشرعي ،كاإلسكار سبب معنوي
لتحرمي اػبمر ،لقولو ،صلى اهلل عليو وسلم(( :كل مسكر حراـ))(مسلم) ،وملك النصاب سبب معنوي
لوجوب الزكاة ،وكذا السرقة والزنا وقطع الطريق والقتل أسباب للعقوبات.
وتظهر فائدة التقسيم يف جواز القياس يف القسم الثاين ،وعدـ جوازه يف القسم األوؿ.
أنواع السبب باعتبار عالقتو بالمكلف
ينقسم السبب باعتبار قدرة اؼبكلف على القياـ بو ،وعدـ قدرتو إىل قسمُت:
- 1السبب الذي ىو من فعل المكلف ومقدور لو :كالبيع ،فهو سبب ؼبلك اؼببيع والثمن ،والقتل العمد
سبب لوجوب القصاص ،وعقد الزواج سبب إلباحة االستمتاع بُت الزوجُت ،وعقد اإلجارة سبب غبل االنتفاع
بالعُت ،وىذا النوع ينقسم إىل ثبلثة أقساـ ،ىي:
شرعا :وهبب على اؼبكلف فعلو ،أو يندب لو القياـ بو ،كالنكاح ،فهو سبب للتوارث، أ -سبب مأمور بو ً
ومأمور بو.
ب -سبب منهي عنو :كالسرقة سبب للحد ،والسرقة منهي عنها.
جػ -سبب مأذوف بو ومباح فعلو للمكلف ،كجعل الذبح سببًا غبل اغبيواف اؼبذبوح ،والذبح مباح.
قادرا عليو لو صفتاف ،صفة التكليف ،ألنو مقدور عليو والسبب الذي يكوف من فعل اؼبكلف ويكوف ً
ومطلوب من الشارع فعلو عبلب اؼبنافع ودفع اؼبضار ،ويدخل يف اغبكم التكليفي ،وصفة الوضع؛ ألف الشارع
أحكاما أخرى ،ويدخل يف اغبكم الوضعي ،كالنكاح سبب للتوارث وحل االستمتاع من جهة، ً رتب عليو
ومندوب إليو من جهة أخرى ،وذبح اغبيواف سبب غبل االنتفاع ،وىو مباح ،والقتل سبب للقصاص ،وىو
حراـ ،والزنا سبب للحد ،وىو حراـ.
52
- 2السبب الذي ليس من فعل المكلف ،وال يقدر عليو ،كالزواؿ فهو سبب لوجوب صبلة الظهر،
والقرابة سبب لئلرث والوالية ،واؼبوت سبب لنقل ملكية الًتكة إىل الوارث ،وىذه األسباب ليست من فعل
اؼبكلف ،وال يقدر عليها.
وىذا النوع قد يكوف سببًا غبكم تكليفي كالزواؿ ،وقد يكوف سببًا غبكم وضعي كاؼبوت ،فهو سبب
لنقل اؼبلك إىل الورثة.
وإف الشارع الذي وضع السبب قصد منو اؼبسبب؛ ألف األسباب ليست مقصودة لذاهتا ،وإمبا شرعت
ؼبا ينشأ عنها من مسببات ،وألف األحكاـ الشرعية إمبا شرعت عبلب اؼبصاحل أو درء اؼبفاسد ،فتصبح األحكاـ
كذلك أسبابًا ؽبذه النتائج وىذه اؼبسببات.
أنواع السبب باعتبار المشروعية
ينقسم السبب باعتبار اؼبشروعية وعدمها إىل نوعُت:
- 1السبب المشروع :وىو كل ما أدى إىل مصلحة يف نظر الشارع ،وإف اقًتف بو أو تضمن مفسدة حبسب
الظاىر ،كاعبهاد سبب لنشر الدعوة وضباية العقيدة وتبليغ الرسالة ،وإف أدى إىل مفسدة كإتبلؼ اؼباؿ وتعريض
األنفس للقتل.
وإذا ظهر أحيانًا ،أو نتج عن السبب اؼبشروع بعض اؼبفاسد فإهنا ليست ناشئة عن السبب اؼبشروع،
وإمبا تنتج عن أمر آخر مرافق لو.
- 2السبب غير المشروع :وىو ما يؤدي إىل اؼبفسدة يف نظر الشارع ،وإف اقًتف بو أو تضمن مصلحة
حبسب الظاىر ،كالنكاح الفاسد والتبٍت ،فإهنا أسباب غَت مشروعة؛ ألهنا تؤدي إىل مفاسد كثَتة تضر بالفرد
فورا فإف العاقل اؼبتبصر يدرؾ خطرىا يف اؼبستقبل.
وآّتمع ،وإف مل تظهر ً
وإف ما يظهر للمرء أحيانًا من مصاحل ،أو ما ينتج من منافع عن السبب الفاسد ،فبل يكوف من ذات
السبب اؼبمنوع ،وإمبا ىو من أمر آخر.
يقوؿ الشاطيب :واؼبقصود أف األسباب اؼبشروعة ال تكوف أسبابًا للمفاسد ،واألسباب اؼبمنوعة ال تكوف
أسبابًا للمصاحل ،إذ ال يصح ذلك حباؿ.
أنواع السبب باعتبار تأثيره في الحكم
ينقسم السبب باعتبار تأثَته يف اغبكم وعدمو إىل نوعُت:
- 1السبب المؤثر في الحكم ،ويسمى علة ،وىو ما يكوف بينو وبُت اغبكم مناسبة يدركها العقل ،وحكمة
باعثة لتشريعو ،كاإلسكار فهو سبب مؤثر يف اغبكم ،وىو علة التحرمي ،والسفر سبب عبواز اإلفطار ،وىو علة
اإلفطار يف رمضاف ،والعلة ىي الوصف اؼبنضبط الذي جعل مناطًا غبكم يناسبو.
- 2السبب غير المؤثر في الحكم :وىو الذي ال يكوف بينو وبُت اغبكم مناسبة ،وال يستلزـ وجود مناسبة
وحكمة بينو وبُت اغبكم ،مثل الوقت سبب لوجوب الصبلة ،وىذا يتطلب منا بياف الصلة بُت العلة والسبب.
العالقة بين العلة والسبب
53
العلة أو السبب أمارة على وجود اغبكم ،كاإلسكار يف اػبمر أمارة على التحرمي ،والسفر يف رمضاف
أمارة على جواز اإلفطار ،ولذا قاؿ بعض علماء األصوؿ :إهنما دبعٌت واحد ،وقاؿ آخروف :إهنما متغايراف،
وخصوا العلة باألمارة اؼبؤثرة اليت تظهر فيها اؼبناسبة بينها وبُت اغبكم ،وخصوا السبب باألمارة غَت اؼبؤثرة يف
اغبكم.
وقاؿ أكثر العلماء :إف السبب أعم من العلة مطل ًقا ،فكل علة سبب وال عكس ،وإف السبب يشمل
األسباب اليت يف اؼبعامبلت والعقوبات ،ويشمل العلة اليت تدرس يف القياس ،والفرؽ بينهما أف الصفة اليت يرتبط
ّٔا اغبكم إف كانت ال يدرؾ تأثَتىا يف اغبكم بالعقل ،وال تكوف من صنع اؼبكلف ،كالوقت للصبلة اؼبكتوبة،
أيضا ،فالسببفتسمى باسم السبب ،أما إذا أدرؾ العقل تأثَت الوصف باغبكم فيسمى علة ويسمى سببًا ً
يشمل القسمُت ،وىو أعم من العلة كما قدمنا.
أنواع السبب باعتبار نوع المسبب
ينقسم السبب باعتبار نوع اؼبسبب الذي يدؿ عليو واختبلؼ أثره عليو إىل قسمُت.
- 1السبب لحكم تكليفي ،كالوقت الذي جعلو الشارع سببًا إلهباب الصبلة يف قولو تعاىل :أَقِ ِم َّ
الصبل َة
س [اإلسراء ،]78:وظهور اؽببلؿ سبب إلهباب الصوـ يف قولو ،صلى اهلل عليو وسلم(( :صوموا َّم ِ ِ ِ
ل ُدلُوؾ الش ْ
لرؤيتو))(البخاري ومسلم).
– 2سبب لحكم وضعي ؛ أي إلثبات ملك أو حل أو إزالة اؼبلك واغبل ،كالبيع سبب إلثبات اؼبلك ،والعتق
سبب إلزالة اؼبلك ،وعقد الزواج سبب غبل اؼبتعة بُت الزوجُت ،والطبلؽ سبب إلزالة حل اؼبتعة ،وىكذا.
أنواع السبب باعتبار مصدر العالقة بينو وبين المسبب
ينقسم السبب باعتبار مصدر الرابطة والعبلقة بينو وبُت اؼبسبب إىل ثبلثة أنواع:
- 1السبب الشرعي :وىو السبب الذي تكوف العبلقة والرابطة بينو وبُت اؼبسبب ناذبة عن حكم شرعي،
كالوقت بالنسبة لوجوب الصبلة ،فإنو سبب لو حبكم الشرع.
- 2السبب العقلي :وىو السبب الذي تكوف العبلقة والرابطة بينو وبُت اؼبسبب ناذبة عن حكم العقل ،ومل
تثبت عن طريق شرعي ،كالنظر بالنسبة للعلم ،فإنو سبب الكتساب العلم ،وىذا يعرفو العقل ،ووجود النقيض
سبب يف انعداـ نقيضو ،فالعقل يدرؾ ذلك.
- 3السبب العادي :وىو السبب الذي تكوف العبلقة والرابطة بينو وبُت اؼبسبب ناذبة عن حكم العادة
والعرؼ ،مثل حز الرقبة بالنسبة للقتل أو الذبح ،والسفر للحج.
وفائدة ىذا التقسيم إلخراج السبب العقلي والعادي من اغبكم الوضعي ،وأنو يقتصر على السبب
الشرعي.
الفرع الثاني في الشرط
أوال ـ تعريف الشرط
الشََّرط لغة بفتحتُت :العبلمة ،واعبمع أشراط ،والش َّْرط بفتحة وسكوف صبع شروط ،قاؿ الفَتوزابادي:
الشرط :إلزاـ الشيء والتزامو يف البيع وكبوه.
54
خارجا عن حقيقتو،وجودا شرعيِّا على وجوده ،ويكوف ً ويف االصطبلح :ىو ما يتوقف وجود اغبكم ً
ويلزـ من عدمو عدـ اغبكم.
فالشرط وصف يتوقف عليو وجود اغبكم ،وحقيقتو أف عدمو يستلزـ عدـ اغبكم ،وال يلزـ من وجوده
وجود وال عدـ ،وال يتحقق اغبكم بشكل شرعي إال بوجود الشرط الذي وضعو الشارع لو ،كالوضوء شرط
للصبلة ،فبل توجد الصبلة بشكل شرعي إال إذا وجد الوضوء ،والوضوء ليس جزءًا يف الصبلة ،وإذا عدـ
الوضوء عدمت الصبلة ،ولكن إذا وجد الوضوء فبل يلزـ منو وجود الصبلة ،ومثل اغبوؿ شرط يف وجوب الزكاة،
فإذا عدـ اغبوؿ لزـ عدـ وجوب الزكاة ،ووجود اغبوؿ ال يلزـ منو وجود ووجوب الزكاة .ومثل حضور الشاىدين
يف عقد الزواج ،فالشهادة شرط يف الزواج ،وال يصح الزواج إال بالشهادة ،والشهادة ليست جزءًا يف الزواج ،وإذا
فقدت الشهادة فسد الزواج ،ولكن ال يلزـ من وجود الشاىدين وجود الزواج ،ومثل القدرة على تسليم اؼببيع
شرط يف صحة البيع ،واإلحصاف شرط يف سببية الزنا للرجم.
وشرح التعريف وبياف حقيقتو يقودنا لبياف العبلقة بُت الركن والشرط ،وبُت الشرط والسبب.
العالقة بين الركن والشرط
الركن ىو ما يتوقف عليو وجود اغبكم ،ويكوف جزءًا يف ماىيتو ،أما الشرط فهو ما يتوقف عليو وجود
خارجا عن حقيقتو وماىيتو ،ويظهر من ىذا أف الركن والشرط يتفقاف بأف كبل منهما يتوقف اغبكم ،ويكوف ً
عليو وجود اغبكم ،وإذا نقص الركن أو الشرط بطل أو فسد اغبكم .وىبتلفاف بأف الركن جزء من اؼباىية،
والشرط ليس جزءًا من اؼباىية.
فالركوع ركن يتوقف عليو وجود الصبلة ،وىو جزء منها ،وكذا السجود والقراءة والقياـ ،والصيغة يف
العقد ركن ،وإذا اختل الركن بطلت الصبلة أو العقد.
والوضوء شرط يتوقف عليو وجود الصبلة ،ولكنو خارج عن الصبلة ،ألنو يسبقها ،وكذا طهارة الثوب
واؼبكاف واعبسد ،ومثلو الشهود يف عقد الزواج شرط فيو وخارج عن الزواج ،وإذا فقد الشرط فقدت الصبلة
وعقد الزواج.
وإذا حصل خلل يف الركن كاف اػبلل يف نفس التصرؼ أو العقد ،وال يتحقق وجود اؼبسبب واؼباىية،
وكاف حكمو البطبلف باتفاؽ العلماء ،أما إذا حصل خلل يف شرط من الشروط كاف اػبلل يف وصف خارج عن
اغبقيقة وتكوف اغبقيقة واؼباىية موجودة ،ولكن ال يًتتب عليها أثرىا الشرعي النتفاء الشرط فيها ،وحكمها
البطبلف عند صبهور العلماء كالركن ،خبلفًا للحنفية الذين وصفوىا بالفساد الذي يًتتب عليو بعض اآلثار.
ولكن اغبنفية يفرقوف يف أثر الفساد بُت العبادات واؼبعامبلت ،فالعبادات الفاسدة ال أثر ؽبا عندىم ،وال
الذمة ،كالباطلة ،ويتفقوف بذلك مع اعبمهور فيها ،أما اؼبعامبلت الفاسدةتسقط عن اؼبكلف ،وال تربأ منها ّ
فإهنا يًتتب عليها بعض اآلثار عندىم ،خببلؼ اؼبعامبلت الباطلة فإنو ال يًتتب عليها أثر شرعي.
العالقة بين السبب والشرط
إف الشروط الشرعية تكمل السبب ،وذبعل أثره يًتتب عليو ،وىو اؼبسبب ،وإذا وجد السبب ومل يتوفر
الشرط فبل يوجد اؼبسبب ،فالسبب يلزـ منو وجود اؼبسبب عند ربقق الشرط وانتفاء اؼبانع ،وإذا مل يتحقق
55
الشرط فبل أثر لو ،مثل القتل سبب إلهباب القصاص ،إذا ربقق شرطو وىو العمد والعدواف ،وعقد الزواج سبب
غبل االستمتاع عند ربقق الشرط وىو حضور الشاىدين ،والنصاب سبب لوجوب الزكاة عند ربقق الشرط،
وىو َح َوالف اغبوؿ.
ويتفرع عن ىذا األصل خبلؼ فقهي بُت اؼبذاىب ،وىو ىل يوجد اغبكم بوجود سببو مع عدـ الشرط
أو تأخره ،أـ ال؟ ،وذلك أف اغبكم يتوقف على وجود السبب وربقق الشرط ،فإف وجد السبب فقط فهل يصح
أف يقع اغبكم بدوف الشرط أـ ال يصح؟
ذىب بعض الفقهاء إىل مراعاة السبب ووقوع اؼبسبب عليو دوف توقفو على الشرط ،وذىب آخروف إىل
توقف اغبكم على ربقق الشرط ،مراعاة ألثر الشرط ،وإ ّف اختفاء الشرط مانع للسبب من تأثَته يف وجود
اؼبسبب ،وتطبيق القواعد يرجح القوؿ الثاين ،والقوؿ األوؿ يعتمد على النصوص يف اغبديث ،فجعلوا ذلك
استثناء من القاعدة العامة .واألمثلة الفقهية توضح ذلك ،مثل االختبلؼ يف جواز تعجيل الزكاة عند اغبنفية
والشافعية ،فالنصاب سبب يف وجوب الزكاة ،واغبوؿ شرط لو ،فعلى القوؿ األوؿ هبوز تعجيل الزكاة قبل ربقق
الشرط ،وعلى القوؿ الثاين ال هبوز تعجيل الزكاة إال بعد حوالف اغبوؿ على النصاب ،ومثل تعجيل الكفارة قبل
اغبنث عند الشافعية ،كمن حلف يبينًا على إمث مثبل ،فاليمُت سبب الكفارة ،واغبنث شرطها ،فعلى القوؿ
األوؿ هبوز تقدمي الكفارة مث اغبنث يف اليمُت ،واستدلوا دبا رواه مسلم عن رسوؿ اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم،
أنو قاؿ(( :واللَّو ،إف شاء اللَّو ،ال أحلف على يبُت مث أرى ً
خَتا منها إال كفرت عن يبيٍت وأتيت الذي ىو
خَت))(مسلم) ،وعلى القوؿ الثاين ال هبوز ،ومثل العفو عن القاتل من القتيل؛ ألف الضرب اؼبؤدي إىل اؼبوت
سبب يف القصاص أو ال ّدية ،والزىوؽ شرط ،وهبوز العفو من القتيل قبل زىوؽ روحو باتفاؽ.
ويتفق الشرط والسبب يف حالة العدـ ،فإذا عدـ السبب عدـ اؼبسبب ،وإذا عدـ الشرط عدـ اؼبشروط،
وىبتلفاف يف حالة الوجود ،فإذا وجد الشرط فبل يلزـ منو وجود اغبكم ،كالوضوء ال يلزـ من وجوده وجوب
إقامة الصبلة ،وال يلزـ من وجود الشاىدين وجود النكاح ،أما السبب فيلزـ من وجوده وجود اغبكم ،فإذا وجد
الوقت وجبت الصبلة ووجب الصياـ.
ثانيا ـ أقسام الشرط
ينقسم الشرط عدة تقسيمات باعتبارات ـبتلفة ،وىي:
تقسيم الشرط باعتبار ارتباطو بالسبب أو المسبب
ينقسم الشرط باعتبار ارتباطو بالسبب أو اؼبسبب إىل نوعُت:
يكمل السبب حىت ينتج أثره يف اغبكم ،وىو اؼبسبب ،مثل حوالف المكمل للسبب :وىو الذي ّْ ِّ - 1الشرط
اغبوؿ يف وجوب الزكاة يف النصاب ،فالنصاب سبب لوجوب الزكاة ،وال يتحقق وجود النصاب الداؿ على الغٌت
مكمل للنصاب .والعمد والعدواف شرطاف يف القتل اؼبوجب للقصاص، إال بشرط حوالف اغبوؿ ،فاغبوؿ شرط ّ
فالقتل سبب ،والقصاص مسبب ،وال يرتبط السبب واؼبسبب إال إذا ربقق شرطا العمد والعدواف .والقدرة على
تسليم اؼببيع شرط لصحة البيع الذي ىو سبب ثبوت اؼبلك ،واإلحصاف شرط يف سببية الزنا للرجم ،وىكذا،
وعدـ ىذه الشروط يفيد عدـ األسباب.
56
المكمل للمسبب :وىو الذي يكمل اؼبسبب وىو اغبكم ،فالطهارة وسًت العورة شرطاف يكمبلف ِّ - 2الشرط
الصبلة؛ ألف عدـ الشرط يستلزـ عدـ اغبكم.
تقسيم الشرط باعتبار جهة اشتراطو
ينقسم الشرط من حيث جهة اشًتاطو إىل قسمُت:
- 1الشرط الشرعي :وىو ما اشًتطو الشارع لؤلحكاـ والتصرفات ،مثل الشروط اليت وردت يف العبادات
واؼبعامبلت وإقامة اغبدود.
الج ْعلي :وىو ما اشًتطو اؼبكلف ،كما لو اشًتطت اؼبرأة تقدمي معجل اؼبهر كلو ،وكما لو اشًتط - 2الشرط َ
اؼبشًتي نقل اؼببيع أو استبلمو يف مكاف معُت.
وال بد أف يكوف الشرط اعبعلي مواف ًقا غبكم الشرع ،ومتف ًقا مع مقتضى العقد أو التصرؼ ،فإف كاف
منافيًا لو بطل التصرؼ ،كما لو اشًتطت اؼبرأة يف عقد الزواج عدـ اؼبعاشرة ،أو اشًتط البائع تقييد ملكية
اؼبشًتي ،ولذا تتفاوت درجات الشرط اعبعلي.
مكمبل غبكمة الشرع ومتف ًقا مع مقتضى العقد ،وؿبق ًقا للغاية منو كاشًتاط الكفالة أو فإما أف يكوف ّ
الرىن يف الدَّيْن اؼبؤجل ،وىذا القسم متفق على صحتو.
ومتعارضا معو ،وغَت مبلئم ؼبقصود اؼبشروط فيو وال
ً وإما أف يكوف الشرط اعبعلي ـبال ًفا ؼبقتضى العقد
مكمل غبكمتو ،كأف يشًتط الزوج عدـ اإلنفاؽ على زوجتو ،أو أف يشًتط البائع عدـ انتفاع اؼبشًتي بالعُت، ّ
وىذا القسم متفق على بطبلنو وإلغائو.
ائدا على مقتضى العقد ،وىو الذي يقًتف فيزيد من التزامات أحد الطرفُت ،أو وإما أف يكوف شرطًا ز ً
اسعا ،فقد أجاز ىذا االشًتاطيقوي ىذه االلتزامات ،وحكم ىذا النوع ـبتلف فيو بُت اؼبذاىب اختبلفًا و ً
وتوسع بو اؼبذىب اغبنبلي واؼبالكي ،وضيق فيو اؼبذىب اغبنفي والشافعي.
تقسيم الشرط باعتبار إدراك الرابطة مع المشروط
ينقسم الشرط من جهة إدراؾ الرابطة والعبلقة بينو وبُت اؼبشروط إىل أربعة أنواع:
- 1الشرط الشرعي :وىو الشرط الذي تكوف العبلقة فيو بُت الشرط واؼبشروط ناذبة عن حكم الشرع،
كالوضوء للصبلة.
- 2الشرط العقلي :وىو الشرط الذي تكوف العبلقة فيو بُت الشرط واؼبشروط ناذبة عن حكم العقل ،مثل
ترؾ ضد الواجب غبصولو ،كًتؾ األكل شرط لصحة الصبلة ،ومثل اشًتاط اغبياة للعلم ،فإذا انتفت اغبياة
انتفى العلم ،وال يلزـ من وجود اغبياة وجود العلم ،ومثل الفهم يف التكليف.
- 3الشرط العادي :وىو ما تكوف العبلقة بينو وبُت مشروطو ناذبة عن حكم العادة والعرؼ ،كغسل جزء من
الرأس إلسباـ غسل الوجو ،ومثل الغذاء للحيواف أي غبياتو ،ومبلصقة النار للجسم يف اإلحراؽ ،ومقابلة الرائي
للمرئي.
- 4الشرط اللغوي :وذلك يف صيغ التعليق ،مثل :إهنا طالق إف خرجت من البيت ،وىذا النوع لو حكم
السبب.
57
ىل يصح التكليف باغبكم مع فقداف شرطو؟
يبحث علماء األصوؿ ىذه اؼبسألة ،ويعربوف عنها بأىم مثاؿ ؽبا ،وىو "ىل الكافر ـباطب بفروع الشريعة"؟
وصورهتا أف الشارع اعترب اإليباف شرطًا لصحة الصبلة وغَتىا من العبادات ،فهل يصح التكليف
بالصبلة وإهبأّا على اإلنساف الكافر مع عدـ حصوؿ الشرط ،وىو اإليباف؟
إصباعا ،وأهنم ـباطبوف باؼبعامبلت ،وأهنا تطبق عليهم ما
اتفق العلماء على أف الكفار ـباطبوف باإليباف ً
داموا قائمُت على أرض الدولة اإلسبلمية ،واختلف الفقهاء يف تطبيق العقوبات الشرعية عليهم ،كما اختلفوا يف
تكليفهم بالعبادات ،وىو موضوع حبثنا ،على قولُت:
القوؿ األوؿ :يصح التكليف مع عدـ حصوؿ الشرط ،والكافر مكلف بالصبلة مع عدـ اإليباف؛ وذلك ألف
مانعا من التكليف ،فالكافر يتمكن من إزالة اؼبانع وىو الكفر، الكفر مانع من إقامة الصبلة ،ولكنو ال يعترب ً
ويستطيع الدخوؿ يف اإليباف مث يقيم الصبلة ،وىو رأي اعبمهور من الشافعية واؼبالكية واغبنابلة وأكثر العراقيُت
من اغبنفية.
القوؿ الثاين :ال يصح التكليف قبل حصوؿ الشرط الشرعي ،وإف اإليباف شرط يف التكليف ،والكافر غَت
مكلف بالعبادات ،وىو رأي الرازي واإلسفراييٍت من الشافعية ،والسرخسي وصبهور اغبنفية ،ورواية عن اإلماـ
أضبد.
الفرع الثالث في المانع
أوال ـ تعريف المانع
اؼبانع لغة :اغبائل بُت شيئُت ،وىو اسم فاعل من منع ،واالمتناع ىو الكف عن الشيء.
واؼبانع يف االصطبلح :ىو وصف ظاىر منضبط يستلزـ وجوده عدـ اغبكم أو عدـ السبب.
فاؼبانع معٌت معلوـ ؿبدد يبنع وجود اغبكم ،أو يبنع ربقق السبب ،وذلك أنو إذا وجد السبب الشرعي،
وربقق شرطو ،فبل يًتتب اؼبسبب عليو إال إذا انتفى اؼبانع؛ ألف اؼبانع يبنع ترتب اغبكم على السبب.
وحقيقتو أنو يلزـ من وجوده العدـ ،وال يلزـ من عدمو وجود وال عدـ.
مثالو :اختبلؼ الدين والقتل يف اؼبَتاث ،فإذا وجدت الزوجية أو القرابة ،ونبا سبباف لئلرث ،فبل يتم
اؼبَتاث إال إذا انتفى اؼبانع ،وىو اختبلؼ الدّْين أو القتل ،واألبوة مانع من القصاص ،فإذا وجد القتل وىو
سبب للقصاص ،وربقق الشرط وىو العمد والعدواف ،فبل ينفذ القصاص إال إذا انتفى اؼبانع ،فإف وجد فبل
قصاص.
العالقة بين السبب والشرط والمانع
من التعريف والشرح تظهر العبلقة بُت السبب والشرط من جهة وبُت اؼبانع من جهة أخرى ،فاؼبانع
يوجد مع وجود السبب وتوفر الشرط ،ويبنع ترتب اؼبسبب على سببو ،فالشارع أخربنا بوجوب األحكاـ عند
وجود السبب والشرط وانتفاء اؼبانع ،وعدـ وجوب األحكاـ أو عدـ وجودىا عند انتفاء السبب والشرط أو
وجود اؼبانع.
58
فاؼبانع عكس الشرط؛ ألنو يلزـ من وجوده العدـ ،وال يلزـ من عدمو وجود وال عدـ ،والشرط يلزـ من
أيضا؛ ألنو يلزـ من وجود السبب وجود عدمو العدـ ،وال يلزـ من وجوده وجود وال عدـ ،واؼبانع عكس السبب ً
اؼبسبب ،ومن عدمو عدمو ،أما اؼبانع فيلزـ من وجوده العدـ ،وال يلزـ من عدمو وجود وال عدـ.
ثانيا ـ أقسام المانع
ينقسم اؼبانع عدة أقساـ باعتبارات ـبتلفة.
أنواع المانع باعتبار تأثيره على الحكم والسبب
ينقسم اؼبانع يف األصوؿ من حيث تأثَته على اغبكم والسبب إىل نوعُت:
- 1مانع للحكم لحكمة تقتضي نقيض الحكم ،كاألبوة يف القصاص ،فإهنا منعت القصاص مع وجود
السبب وىو القتل ،وربقق الشرط وىو العمد والعدواف ،ولكن وجد مانع األبوة فيمنع القصاص ،واغبكمة أف
األب سبب وجود االبن ،وىذا يقتضي أال يصَت االبن سببًا إلعداـ األب ،ومثل ذلك القتل يبنع اإلرث،
واغبيض اؼبانع من الصبلة والصوـ ،واعبنوف..
- 2المانع للسبب لحكمة تخل بحكمة السبب ،كالدَّيْن يف الزكاة ،فهو مانع أبطل سبب وجوب الزكاة،
الذمة
وىو ملك النصاب؛ ألف ماؿ اؼبدين أصبح كأنو ليس ملكو ،لوجود حق الدائنُت ،وألف دفع الدَّين وإبراء ّ
أوىل من مساعدة الفقراء واؼبساكُت ،وىذا عند اغبنفية واعبمهور ،خبلفًا للشافعية يف اعبديد.
أنواع المانع باعتبار مصدره
ينقسم اؼبانع ّٔذا االعتبار إىل :مانع سماوي كاعبنوف والعتو والنوـ ،و مانع مكتسب ،كالسكر فإنو
مانع للتكليف ،والقتل فإنو مانع من اإلرث.
أنواع المانع باعتبار تأثيره في الحكم
ينقسم اؼبانع باعتبار تأثَته يف اغبكم إىل ثبلثة أنواع:
- 1ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره ،كالرضاع ،يبنع ابتداء النكاح ،ويبنع استمراره إذا طرأ عليو.
- 2ما يمنع ابتداء الحكم فقط ،كالعدة سبنع ابتداء النكاح ،وال تبطل استمراره إذا طرأت يف أثناء الزواج،
كالزوجة اليت وطئت غصبًا ،أو بشبهة من غَت زوجها ،فعليها عدة تسمى استرباءً ،وال يبطل زواجها.
- 3ما اختلف فيو ،كاإلحراـ يبنع ابتداء الصيد ،واختلف الفقهاء يف أثره إذا طرأ يف أثناء اإلحراـ ،ىل ذبب
إزالة اليد عنو أـ ال؟ ومثل وجود اؼباء يبنع ابتداء التيمم ،فإف طرأ يف أثناء الصبلة ،فهل يبطلها فيو قوالف
واختبلؼ؟
الفرع الرابع في الصحيح وغير الصحيح (الفاسد والباطل)
أوال ـ تعريف الصحيح
الصحة لغة :حالة طبيعية يف البدف ذبري أفعالو معها على آّرى الطبيعي ،واستعَتت للمعاين ،وصح
القوؿ إذا طابق الواقع.
شرعا عليو ،فإذا حصل السبب، واغبكم الصحيح يف االصطبلح األصويل :ىو ترتب شبرتو اؼبطلوبة منو ً
وتوفر الشرط ،وانتفى اؼبانع ،ترتبت اآلثار الشرعية على الفعل ،كما إذا أدى اؼبكلف فعبل من األفعاؿ،
59
مستكمبل أركانو وشروطو ترتب األثر الذي وضعو الشارع عليو ،كسقوط الواجب وإبراء الذمة يف العبادات،
وترتب اؼبسبب على السبب ،وإقامة اؼبشروط على الشرط ،وربقق اآلثار يف اؼبعامبلت والعقود.
وغير الصحيح :ىو الذي ال يًتتب على فعلو اآلثار الشرعية ،فإف كاف واجبًا فبل يسقط عنو ،وال تربأ
ذمتو ،وإف كاف سببًا فبل يًتتب حكمو ،وإف كاف شرطًا فبل يوجد اؼبشروط.
ومثاؿ ذلك :صبلة الظهر الصحيحة ،وىي اليت دخل وقتها واستوفت أركاهنا وشروطها ،وتسقط عن
اؼبكلف وتربأ ذمتو ،ويكسب ّٔا األجر والثواب ،وإال فهي غَت صحيحة ،وهبب إعادهتا .وعقد البيع الصحيح
ىو ما استكمل أركانو وشروطو وترتبت عليو آثاره من نقل اؼبلكية ،وإال فهو غَت صحيح ،وال تنتقل اؼبلكية بو،
والوضوء الصحيح ىو ما يصح بو أداء الصبلة ،وإال فهو غَت صحيح ،وهبب إعادتو.
وعرؼ البيضاوي الصحة :بأهنا استتباع الغاية؛ أي طلب الفعل بأف تتبعو غايتو ،والغاية ىي األثر
مباحا
انتفاعا ً اؼبقصود من الفعل ،واتفق العلماء على أف الغاية من اؼبعامبلت ىي االنتفاع بكل من العوضُتً ،
ال حرمة فيو ،واختلفوا يف الغاية من العبادات ،فقاؿ علماء األصوؿ :ىي موافقة الفعل أمر الشارع ،ولو ظنِّا،
الذمة أماـ اللَّو تعاىل ،فبل وباسب عليو.
وقاؿ الفقهاء :إف غاية العبادة ىي سقوط القضاء ،أي براءة ّ
وبناء على ىذا اؼبعٌت للصحة وعدـ الصحة ينقسم اغبكم باعتبار اجتماع األركاف والشروط اؼبعتربة يف
الفعل وعدـ اجتماعها فيو ،أو حبسب ربقق الغاية منو ،وترتيبها عليو ،أو عدـ ربققها ،إىل حكم صحيح،
وحكم غَت صحيح ،وىو الفاسد والباطل.
ىل الصحة والفساد والبطالن من الحكم الوضعي؟
انقسم العلماء يف وصف الصحة والفساد والبطبلف ،وىل تدخل يف اغبكم الوضعي أـ يف اغبكم
التكليفي؟ على أربعة أقواؿ:
- 1قاؿ ابن اغباجب :إف الصحة والبطبلف أو اغبكم ّٔما أمر عقلي ،فالفعل إما أف يكوف مسقطًا للقضاء،
أو يكوف مواف ًقا أمر الشارع ،فالفعل صحيح حبكم العقل ،وإما أف ال يسقط القضاء ،أو ال يوافق أمر الشرع
فهو باطل وفاسد حبكم العقل.
- 2وقاؿ بعض العلماء :إف الصحة أو الفساد صفة للفعل وليس للحكم ،وتدخل يف احملكوـ فيو ،وليس يف
اغبكم ،وإهنا أوصاؼ ترد على األحكاـ الشرعية سواء كانت تكليفية أو كانت وضعية.
- 3وقاؿ صباعة :الصحة والفساد من اغبكم التكليفي ،فالصحيح ىو اؼبباح ،والباطل والفاسد ىو احملرـ.
ائدا على التعلق - 4وقاؿ أكثر العلماء :إهنما من خطاب الوضع ،دبعٌت أنو حكم بتعلق شيء بشيء تعل ًقا ز ً
الذي ال بد منو يف كل حكم ،فالشارع حكم بتعلق الصحة ّٔذا الفعل ،وحكم بتعلق الفساد أو البطبلف
بذلك.
والراجح أف الصحة والفساد من خطاب الوضع ،وأف الصحة والفساد يف اؼبعامبلت من أحكاـ الوضع
باتفاؽ ،ألف اؼبعامبلت ال تستتبع شبراهتا اؼبطلوبة إال بتوقيف من الشارع ،وأف ترتب اؼبقصود من العقد يدؿ على
أنو صحيح ،وعدـ ترتبو عليو يدؿ على الفساد ،فالصحة موافقة الفعل ألمر الشارع على وجو ،والفساد عدـ
موافقة الفعل ألمر الشارع.
60
وينحصر اػببلؼ يف الصحة والفساد اؼبتعلقُت بالعبادات الختبلؼ الغاية منها كما سبق ،يقوؿ
الكماؿ بن اؽبماـ :إف ترتب األمر على الفعل حكم وضعي ،ويعٍت معرفة كوف العبادة مسقطة للقضاء أـ ال.
الصحة وعدم الصحة في العبادات
اتفق العلماء على أف العبادات الصحيحة ىي اليت استوفت أركاهنا وشروطها ،وترتبت عليها اآلثار
الشرعية من براءة الذمة باألداء.
وأف العبادات غَت الصحيحة ىي اليت فقدت ركنًا أو شرطًا أو أكثر ،ويًتتب عليها عدـ براءة الذمة،
وال فرؽ فيها بُت الفساد والبطبلف ،باتفاؽ.
الصحة وعدم الصحة في المعامالت
أيضا على أف العقود الصحيحة ىي اليت أقرىا الشارع ورتب عليها آثارىا ،بعد أف اتفق العلماء ً
تستكمل أركاهنا وتستويف شروطها ،وأف العقد غَت الصحيح ىو الذي مل يستوؼ أركانو وشروطو ،ولكنهم
اختلفوا يف وصف العقد غَت الصحيح وتقسيمو على قولُت:
القوؿ األوؿ :أف العقد غَت الصحيح قسم واحد ،وىو الفاسد أو الباطل ،وال فرؽ بُت الفساد والبطبلف يف
اؼبعامبلت كالعبادات ،سواء كاف اػبلل يف الركن أو يف الشرط والوصف ،والفساد والبطبلف مًتادفاف ،وىو قوؿ
اعبمهور من اؼبالكية والشافعية واغبنابلة.
القوؿ الثاين :العقد غَت الصحيح قسماف ،فاسد وباطل ،فإف حدث خلل يف الركن فهو باطل ،وال يًتتب عليو
أثر ،وإف حدث اػبلل يف الشرط أو الوصف فيكوف العقد قد انعقد بأركانو وترتبت عليو بعض اآلثار ،ولكنو
فاسد ،وىو قوؿ اغبنفية.
ويكوف البطبلف والفساد عند اغبنفية متغايرين ،فالباطل ىو الذي مل يشرع بأصلو وال بوصفو كالبيع من
الصيب الصغَت وآّنوف فهو باطل؛ ألنو اختل ركن من أركانو وىو الصيغة واألىلية فيكوف باطبل وال تًتتب عليو
آثاره الشرعية ،والفاسد ىو ما شرع بأصلو ال بوصفو ،كبيع الدراىم بالدراىم مع التفاضل وىو الربا ،والبيع
بثمن ؾبهوؿ ،والزواج بغَت شهود ،فكل منها فاسد لوجود اػبلل الذي يرجع إىل شرط من الشروط أو لورود
النهي عن صفة فيو.
ثانيا ـ تعريف الباطل والفاسد
الباطل لغة :من بطل الشيء إذا فسد وسقط حكمو ،ويتعدى باؽبمزة فيقاؿ :أبطلو ،وبطل :ذىب
ضياعا وخسرانًا.
ً
وعرؼ األستاذ الزرقا الباطل يف االصطبلح بأنو :ذبرد التصرؼ الشرعي عن اعتباره وآثاره يف نظر الشرع.
وىذا اؼبعٌت متفق عليو بُت العلماء.
والفاسد لغة :تغَت الشيء عن اغباؿ السليمة ،واؼبفسدة ضد اؼبصلحة ،ويتعدى باؽبمزة والتضعيف.
أما يف االصطبلح فقد اختلف العلماء يف معٌت الفساد على قولُت ،كما سبق يف اختبلفهم يف غَت
الصحيح ،فقاؿ صبهور العلماء :إف الفساد دبعٌت البطبلف ،وقاؿ اغبنفية :الفساد يغاير البطبلف ،والفاسد قسيم
صحيحا أو غَت صحيح ،وغَت الصحيح إما أف يكوف باطبل ،وإما أف يكوف ً للباطل ،فاغبكم إما أف يكوف
61
فاسدا ،وعرفوا الفساد بأنو مرتبة بُت الصحة والبطبلف ،ىبتل فيها العقد يف بعض نواحيو الفرعية ،وأنو مشروع ً
صحيحا
ً مشروعا بأصلو ووصفو ،فالعقد إما أف يكوف ً بأصلو ال بوصفو كبيع ماؿ الربا ،أما الباطل فهو ما ليس
فاسدا أو باطبل. أو ً
أساس االختالف في الفساد والبطالن
يرجع االختبلؼ يف اغبكم غَت الصحيح وتقسيمو إىل فاسد وباطل ،وظهور مرتبة الفساد والبطبلف عند
اغبنفية خبلفًا للجمهور ،لسببُت رئيسُت:
األوؿ :مقتضى النهي :فقاؿ اعبمهور :النهي يقتضي البطبلف والفساد ،سواء ورد على ذات األمر وحقيقتو أو
ورد علي وصف فيو ،كما سبق الكبلـ عنو يف أنواع اغبراـ ،وقاؿ اغبنفية :إذا ورد هني الشارع على ذات الشيء
وحقيقتو فهو باطل ،وإف ورد النهي على وصف يف الشيء مع مشروعية األصل فالنهي يفيد الفساد ،ولذا عرفوا
الفاسد بأنو مشروع بأصلو ال بوصفو ،فالربا بيع مع زيادة ومنفعة ألحد العاقدين ،والبيع مشروع ،والنهي ورد
فاسدا ال باطبل.
على الوصف الزائد ،فكاف البيع مع الربا ً
الثاين :الفرؽ بُت الركن والشرط :سبق الكبلـ عن الفرؽ بُت الركن والشرط ،وأف الركن والشرط يتوقف عليهما
الشيء ،ولكن الركن داخل يف اؼباىية ،والشرط خارج عن اؼباىية ،فإذا اختل الركن فالعقد باطل باتفاؽ العلماء،
وإف اختل الشرط فقاؿ اعبمهور :العقد باطل وفاسد دبعٌت واحد ،وقاؿ اغبنفية :العقد فاسد لكوف اػبلل يف
وصف خارج عن الشيء.
الفرع الخامس في العزيمة والرخصة
ىذا ىو القسم اػبامس للحكم الوضعي ،وقد ُت اعتباره داخبل يف اغبكم الوضعي ،عند كثَت من
العلماء ،بسبب أف األصل يف صبيع األحكاـ أف تكوف عزيبة ،وال تنتقل من العزيبة إىل الرخصة إال لسبب ،وىو
الضرورة يف إباحة احملظور ،أو طروء العذر كسبب للتخفيف بًتؾ الواجب ،أو دفع اغبرج عن الناس كسبب
صحيح يف بعض عقود اؼبعامبلت بينهم ،فارتبطت العزيبة بفقداف السبب الشرعي اؼببيح ،وارتبطت الرخصة
بوجود السبب اؼببيح ؽبا ،فالرخصة يف اغبقيقة عبارة عن وضع الشارع وص ًفا من األوصاؼ سببًا يف التخفيف،
والعزيبة عبارة عن اعتبار ؾباري العادات سببًا للجري على األحكاـ األصلية ،فكانت الرخصة من أقساـ اغبكم
الوضعي.
أوال ـ العزيمة
تعريف العزيمة
ت فَػتَػ َوَّك ْل َعلَى اللَّ ِو [آؿ عمراف ،]159 :وقاؿ
العزـ لغة :ىو القصد اؼبؤكد ،قاؿ تعاىل :فَِإذَا َعَزْم َ
وتصميما .وعزـ على الشيء ج ّد واجتهد يف أمره ،وعزـ حزما ِ ِ
ً تعاىل :فَػنَس َي َوَملْ َقب ْد لَوُ َع ْزًما[طو ]115:أي ً
على الشيء عقد ضمَته على فعلو ،وعزائم اللَّو فرائضو.
ويف االصطبلح :ىي ما شرعو اللَّو لعامة عباده من األحكاـ ابتداء.
62
"ما شرعو اللَّو" :أي األحكاـ اليت شرعها اللَّو تعاىل ،ولفظ "عامة عباده" قيد ىبرج األحكاـ اػباصة
ببعض اؼبكلفُت ،وأف العزيبة عامة عبميع العباد وعبميع األحواؿ ،وزبرج اػبصوصية ،ولفظ "ابتداء" أي مل تسبق
يف شريعتنا بأحكاـ أخرى ،وأف العباد مكلفوف ّٔا من أوؿ األمر.
وعرؼ البيضاوي العزيبة بأهنا "اغبكم الثابت ال على خبلؼ الدليل القائم لعذر" ،وىذا التعريف
للمقابلة مع تعريف الرخصة اآليت بعد قليل ،فكل حكم مل ىبالف الدليل أصبل كاألكل والشرب ،أو خالف
الدليل ولكن ليس بسبب العذر بل بسبب االختبار مثبل كالتكاليف ،أو خالف الدليل ؼبانع كإفطار اغبائض
وترؾ الصبلة ،فهذه كلها عزائم.
ومن التعريفُت السابقُت قبد أنو ال واسطة بُت العزيبة والرخصة ،فكل حكم ثبت بالشرع فهو عزيبة ،إال
إذا ورد ما ىبالفو لعذر فهو رخصة ،وظبيت األحكاـ األصلية عزيبة؛ ألهنا مشروعة ابتداء حقِّا لصاحب الشرع
الذي يستحق الطاعة وتنفيذ األوامر.
والعزيبة تشمل األحكاـ اػبمسة التكليفية عند اعبمهور ،فكل حكم منها ىو عزيبة ،ألهنا من األحكاـ
اليت شرعت ابتداء يف الشريعة من غَت نظر إىل األعذار ،وتبقى عزيبة ما مل يرد دليل ـبالف ؽبا لعذر ،سواء كاف
اغبكم اإلهباب أو الندب أو اإلباحة أو الكراىة أو التحرمي.
ثانيًا ـ الرخصة
تعريف الرخصة
الرخصة يف اللغة :التيسَت والتسهيل ،أو اليسر والسهولة ،والرخص ض ّد الغبلء ،وفبلف يًتخص يف األمر
إذا مل يستقص ،ويتعدى باؽبمزة والتضعيف.
ويف االصطبلح عرفها البيضاوي بأهنا" :اغبكم الثابت على خبلؼ الدليل لعذر".
فاغبكم الشرعي الذي يثبت للرخصة يكوف بدليل ألجل العذر الطارئ ،ويكوف على خبلؼ دليل
اغبكم األصلي وىو العزيبة.
وعرفها بعضهم بأهنا :ما شرع من األحكاـ استثناء من أصل عاـ لعذر يقتضي العدوؿ عنو إىل حكم
آخر ،مع االقتصار على موضع اغباجة فيو.
ومن خبلؿ ىذا التعريف يظهر أف الرخصة حكم جزئي شرع على خبلؼ ما يقتضيو اغبكم العاـ
الكلي ،يطبق يف شأف بعض اؼبكلفُت يف ظروؼ خاصة .كما أف العمل ّٔذا اغبكم اعبزئي شرطو دائما أف
يكوف العذر معتربا شرعا.
والرخصة اليت تثبت على خبلؼ الدليل لعذر تشمل األحكاـ الشرعية األربعة ،وىي :اإلهباب والندب
والكراىة واإلباحة ،وبتعبَت آخر تشمل أفعاؿ اؼبكلف اليت تتعلق ّٔا األحكاـ ،ونضرب مثاال لكل منها:
- 1الواجب :مثل أكل اؼبيتة للمضطر ،فهو واجب عند صبهور الفقهاء.
- 2اؼبندوب :مثل القصر للمسافر عند اعبمهور خبلفًا للحنفية ،فإهنم يعتربوف القصر عزيبة وليس رخصة.
- 3اؼبباح :مثل رؤية الطبيب لعورة اؼبرأة أو الرجل ،فالنظر يف األصل ؿبرـ ،ولكنو أبيح لرفع اغبرج عن الناس،
السلم ،فإهنا رخصة ؾبازية؛ ألهنا عدوؿ عن القياس لعذر ،وىو اغباجة إليها ،ومثل ومثل اإلجارة واؼبساقاة و َّ
63
اعبمع بُت الصبلتُت يف غَت مزدلفة وعرفة؛ فإنو رخصة عند اعبمهور ،خبلفًا للحنفية الذين يبنعوف اعبمع إال يف
مزدلفة وعرفة.
- 4اؼبكروه :مثل النطق بكلمة الكفر مع اطمئناف القلب باإليباف ،فالنطق بالكفر حراـ ،وعند اإلكراه هبوز
النطق ّٔا ،مع الكراىة ،وإف صرب فأوىل ،ومثل قصر الصبلة ألقل من ثبلث مراحل عند الشافعية ،ومثل
وموا َخْيػٌر لَ ُك ْم[البقرة.]184: صُ اإلفطار يف رمضاف ،فإنو خبلؼ األوىل ،لقولو تعاىلَ :وأَ ْف تَ ُ
وال ىبطر على الباؿ أف يرخص اللَّو تعاىل يف أمر وتكوف الرخصة حر ًاما ،فإف اللَّو تعاىل ال يشرع اغبراـ؛
صو ،كما وبب أف تؤتى عزائمو)) وألف رسوؿ اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم ،قاؿ(( :إف اللَّو وبب أف تُؤتى ُر َخ ُ
(أضبد) ،وقاؿ لعمار بن ياسر(( :إف عادوا فَػعُ ْد))(البيهقي).
ثالثا ـ أنواع الرخصة
الرخصة مبنية على أعذار العباد ،وؼبا كانت أعذارىم ـبتلفة فلذلك اختلفت الرخص وتنوعت إىل أربعة
ؾبازا ،وىذه األنواع أنواع ،األوؿ والثاين متفق عليهما ،والثالث والرابع نص عليهما اغبنفية واعتربونبا رخصة ً
ىي:
- 1الرخصة في فعل المحظورات ،وىي اليت ذبعل الفعل يف حكم اؼبباح ،فتسقط اؼبؤاخذة عنو ،مع بقاء
حكم اغبراـ فيو ،مثل الًتخص بكلمة الكفر عند اإلكراه على النفس بالقتل أو على قطع عضو من اعبسد،
مأجورا ،وإف نطق ّٔا فبل يؤاخذ لوجود اإلكراه ً واالمتناع عن النطق بكلمة الكفر عزيبة ،فإف صرب حىت قتل كاف
مع ثبوت اإليباف والتصديق بالقلب ،ومثلو الًتخيص لئلفطار يف رمضاف لئلكراه ،والًتخيص بإتبلؼ ماؿ غَته،
ومن اضطره اعبوع الشديد والظمأ الشديد إىل أكل اؼبيتة أو شرب اػبمر فيباح لو أكلها وشرّٔا.
وحكم ىذا النوع -ما عدا الكفر مع اإلكراه -ترجيح األخذ بالرخصة على العزيبة لقولو تعاىل :فَ َم ِن
ص َل لَ ُك ْم َما َحَّرَـ َعلَْي ُك ْم إال َمااضطَُّر َغْيػَر بَ ٍاغ َوال َع ٍاد فَبل إِ ْمثَ َعلَْي ِو [البقرة ،]173:وقولو تعاىلَ :وقَ ْد فَ َّْ
اضطُِرْرُُْت إلَْيو [األنعاـ]119:؛ وألف يف الرخصة حفظًا للنفس والستيفاء حق اللَّو فيها ،ولو أصر على العزيبة ِ ِ ْ
وامتنع عن شرب اػبمر وأكل اؼبيتة عند االضطرار واإلكراه حىت مات بسببهما أمث بإلقاء نفسو إىل التهلكة.
أما اإلكراه على الكفر فاألخذ بالعزيبة أوىل وأفضل لبقاء احملرـ واغبرمة ،ولو ربمل اؼبكره اإلكراه ،وامتنع
شهيدا؛ ألنو بذؿ نفسو إلقامة حق اللَّو تعاىل. عن الرخصة ،وقتل ،كاف ً
- 2الرخصة في ترك الواجباب :وىي الرخصة اليت ذبعل الفعل يف حكم اؼبباح مع قياـ السبب اؼبوجب
غبكمو ،ولكن اغبكم مًت ٍاخ عن السبب حىت يزوؿ العذر ،فهذا العذر اتصل بالسبب ،ومنعو من العمل ،مثل
إفطار اؼبسافر واؼبريض يف رمضاف ،فهذا رخصة مع قياـ السبب وىو شهود الشهر الثابت ،وتراخي اغبكم ،وىو
وجوب الصوـ وحرمة اإلفطار يف أياـ أخر ،ودبا أف السبب قائم فيجوز ؽبما الصوـ ،ودبا أنو هبب الصوـ عليهما
على الًتاخي إىل أياـ أخر ،فبل هبب عليهما الفدية إذا ماتا قبل وجوب األياـ األخر.
يضا أ َْو َعلَى َس َف ٍر فَعِ َّدةٌ ِ
وحكم ىذا النوع جواز اإلفطار يف رمضاف ،لقولو تعاىل :فَ َم ْن َكا َف مْن ُك ْم َم ِر ً
ِ
ُخَر[البقرة ،]184 :ولكن األخذ بالعزيبة أوىل إذا مل يضعفو الصوـ ،فالصوـ يف السفر واؼبرض أفضل م ْن أَيَّ ٍاـ أ َ
64
وموا َخْيػٌر لَ ُك ْم [البقرة ]184:إال إذا أضره الصوـ وأضعفو،صُمن اإلفطار ،لقولو تعاىل يف نفس اآليةَ :وأَ ْف تَ ُ
أو منعو عن أمر أىم كاعبهاد ،فيكوف اإلفطار أفضل ،وإف خاؼ اؽببلؾ هبب اإلفطار.
- 3نسخ األحكام في الشرائع السابقة :وىي األحكاـ اليت سقطت عنا ،ومل تشرع يف حقنا ،وكانت يف
الشرائع السابقة ،كاشًتاط قتل النفس وقطع األعضاء يف التوبة ،وقص موضع النجاسة يف الثوب ،ودفع ربع
اؼباؿ يف الزكاة ،وغَت ذلك فبا خففو اللَّو عنا ،ومل يشرع علينا ،وجاءت مقابلو أحكاـ ميسرة وسهلة ،وىذا النوع
قطعا.
رخصة ؾبازية ،ألف األصل مل يرد يف شريعتنا أصبل ،وال هبوز القياـ بو وال العمل دبوجبو ً
– 4ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطل ًقا دون توقف على عذر ،وىو ما يقاؿ لو إنو مشروع على
خبلؼ القياس ،كالسلم واإلجارة والقرض واؼبساقاة واالستصناع ،فالقياس يبنع ووبرـ ىذه العقود ،وشرعت
استحسانًا ،ويطلق عليها العلماء أهنا رخصة ،ؼبا تتضمن يف مشروعيتها من تسهيل وترخيص وتيسَت ورفع
للحرج عن الناس ،وؼبا جاء يف اغبديث" :هنى رسوؿ اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم ،عن بيع اإلنساف ما ليس
عنده ،ورخص يف السلم" (مسلم).
فالنوعاف األوؿ والثاين رخصة حقيقية لثبوت العزيبة اؼبقابلة ؽبا ،والعمل فيها ،وتسمى عند اغبنفية
رخصة ترفيو ،وأما النوعُت الثالث والرابع فهما ؾبازياف للرخصة.
ىل األفضل األخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟
اختلف العلماء يف ترجيح األخذ بالرخصة أـ بالعزيبة ،وكاف اختبلفهم غالبًا يف كل جزئية على حدة،
وجاء الشاطيب وتناوؿ ىذا اؼبوضوع بشكل عاـ ،ووازف بُت الرخصة والعزيبة ،وذكر األدلة اليت ترجح األخذ
بالعزيبة ،مث أتبعها باألدلة اليت ترجح األخذ بالرخصة ،ولكن مل يرجح بينهما ،ولعل ذلك بسب أف اؼبوضوع
يرجع إىل تقدير اؼبشقة واغبرج الذي وبصل للمكلف ،وإىل اجتهاده الشخصي وطاقتو اػباصة وإيبانو وورعو
وتقواه.
قاؿ الشيخ اػبضري رضبو اللَّو :إف كل مكلف فقيو نفسو يف األخذ ّٔا ،ما مل هبد فيها حدِّا شرعيِّا
فيقف عنده ،وبياف ذلك أف سبب الرخصة اؼبشقة ،واؼبشقة زبتلف حبسب قوة العزائم وضعفها وحبسب
األفعاؿ ،وليس كل الناس يف اؼبشاؽ وربملها على حد سواء ،وإذا كاف كذلك فليس للمشقات اؼبعتربة يف
التخفيف ضابط ـبصوص ،وال حد ؿبدود يَطَّ ُرد يف صبيع الناس ،ولذلك أقاـ الشارع يف صبلة منها اؼبظنة مقاـ
اغبكمة ،فاعترب السفر؛ ألنو أقرب مظاف اؼبشقة ،وترؾ صبلة منها إىل االجتهاد كاؼبرض.
أما تتبع الرخص عند األئمة آّتهدين بقصد التشهي والتخفيف والتهرب من التكليف فغَت جائز ،قاؿ
ابن حزـ :وطبقة أخرى وىم قوـ بلغت ّٔم رقة الدّْين وقلة التقوى إىل طلب ما وافق أىواءىم يف قوؿ كل قائل،
فهم يأخذوف ما كاف رخصة من قوؿ كل عامل مقلدين لو ،غَت طالبُت ما أوجبو النص عن اللَّو تعاىل وعن
رسولو ،صلى اهلل عليو وسلم.
65
الفصل الثالث
في الحاكم والمحكوم فيو والمحكوم عليو
66
المبحث األول :الحاكم
أوال ـ الحاكم ىو اهلل
رأينا يف تعريف اغبكم أنو "خطاب اهلل تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت ،اقتضاء أو زبيَتا أو وضعا" ومن
خبللو يتنب أف اغباكم ىو اللَّو تبارؾ وتعاىل ،اػبالق البارئ اؼبصور ،اؼبشرع لؤلحكاـ ،اؼبنشئ ؽبا ،وىو اؼبصدر
الوحيد لؤلحكاـ الشرعية عبميع اؼبكلفُت ،فبل شرع يف اإلسبلـ إال من اللَّو تعاىل ،وال حكم إال ما حكم بو،
وعلى ىذا دؿ القرآف كما يف قولو تعاىل :إف اغبكم إال هلل [األنعاـ ،57،يوسف ]40 ،وقولو :أال لو
اغبكم[األنعاـ ،]62،وأصبع اؼبسلموف قاطبة ،مل ىبالف بذلك أحد منهم يؤمن باللَّو ربّا ،ودبحمد نبيِّا،
دستورا ،وباإلسبلـ دينًا.
ً وبالقرآف
وجل ،سواء أظهر ىذا اغبكم بالنص الذي أوحى بو إىل عز َّ فمصدر األحكاـ كلها حقيقة ىو اللَّو َّ
ؿبمد ،صلى اهلل عليو وسلم ،أـ فيما يتوصل إليو آّتهد بالقياس والدالئل واألمارات اليت شرعها اللَّو الستنباط
أحكامو ،وليست السنة واإلصباع والقياس وبقية اؼبصادر إال مبيّْنة وكاشفة عن حكم اللَّو تعاىل ،وال تعترب حجة
وال دليبل إال لثبوت حجيتها من قبل اللَّو تعاىل ،فهي سبل ومناىج ؼبعرفة حكم اللَّو الواحد األحد.
فاللَّو ىو اؼبشرع لؤلحكاـ ،وىو اؼبوجب ؽبا باتفاؽ ،ولذا وضع علماء األصوؿ القاعدة اؼبشهورة " ال
حكم إال للَّو".
ثانيا ـ بما يعرف حكم اهلل
وإذا كاف اإلصباع منعقد على أف اغباكم ىو اهلل تعاىل ،فإف العلماء اختلفوا يف مسألتُت ،نبا:
1ػ ىل أحكاـ اهلل ال تعرؼ إال برسلو ،أـ يبكن للعقل أف يستقل بإدراكها ،وعلى أي أساس يكوف
ذلك؟
2ػ وإذا أمكن للعقل أف يدرؾ حكم اهلل دوف وساطة الرسوؿ ،فهل يكوف ىذا اإلدراؾ مناط التكليف
وما يتبعو من ثواب وعقاب يف اآلجل ،ومدح وذـ يف العاجل؟
اختلفت أراء العلماء يف ذلك على ثبلثة مذاىب ،يرجع أساس االختبلؼ بينها إىل اختبلفهم يف
مسألة اغبسن والقبح العقليُت ،وما يشتمل عليو الفعل من مصلحة ومفسدة ،وإليك ىذه اؼبذاىب فيما يلي:
مذىب األشاعرة :وىو أف العقل ال يعرؼ حكم اللَّو تعاىل يف أفعاؿ اؼبكلفُت إال بواسطة رسلو وكتبو،
ظاىرا يف اغبكم على األفعاؿ ،فبعض العقوؿ تستحسن فعبل معينًا ،بينما تستقبحو ألف العقوؿ زبتلف اختبلفًا ً
قبيحا يف وقت بعض العقوؿ ،وأف عقل الشخص الواحد ىبتلف يف الفعل الواحد ،فَتاه حسنًا يف وقت ،ويراه ً
وقائما على اؽبوى.
آخر ،وألنو قد يغلب اؽبوى والتشهي على العقل ،فيكوف التحسُت والتقبيح واىيًا وضعي ًفا ً
وأساس ىذا اؼبذىب أف اغبسن والقبح لؤلفعاؿ شرعياف ،وأف اغبسن من أفعاؿ العباد ىو ما رآه الشارع
حسنًا فأباحو وطلب فعلو كاإليباف والصوـ والصبلة وغَتىا ،وأف القبيح من أفعاؿ الناس ىو ما رآه الشارع
قبيحا وطلب تركو ،مثل الكفر والزنا وشرب اػبمر وغَتىا ،وليس اغبسن ما رآه العقل حسنًا ،وال القبيح ما رآه ً
قبيحا؛ أي إف مقياس اغبسن والقبح ىو الشرع ال العقل. العقل ً
وينتج عن ىذا اؼبذىب ما يلي:
67
- 1أف أىل الفًتة الذين عاشوا بعد موت رسوؿ وقبل مبعث رسوؿ ،ومن عاش يف عزلة تامة فلم
تبلغو دعوة النيب ،فبل يكلف من اللَّو تعاىل بفعل شيء وال بًتؾ شيء ،وال يثاب على فعل اغبسن ،وال يعاقب
على كفر ،وال هبب عليو اإليباف والشكر للمنعم ،وال وبرـ عليو غَته ،ألف الثناء والشكر والتكليف واجب
بالشرع ال بالعقل ،فبل يأمث اإلنساف إال إذا بلغتو دعوة نيب ،فالواجب ما أوجبو اللَّو تعاىل ومنح الثواب عليو،
واغبراـ ما حرمو اللَّو تعاىل ،وتوعد بالعقاب على فاعلو ،وأما قبل البعثة فبل وبرـ كفر وال هبب إيباف ،والعربة
ألوامر الشارع اغبكيم ،وأنو ال طريق إىل معرفة األحكاـ إال بالشرع.
- 2ال هبب على اللَّو تعاىل أف وبكم حبسن ما رآه العقل حسنًا ،وأف يطلب فعلو من الناس ،ويوجبو
قبيحا ،وأف يطلب من الناس تركو؛ ألف إرادة اللَّو مطلقة،
عليهم ،وال هبب عليو أف وبكم بقبح ما رآه العقل ً
وىو خالق اغبسن والقبيح ،فلو أف يشرع ما شاء على من شاء ،من غَت منفعة أصبل ،ولكن ثبت باالستقراء أف
اللَّو تعاىل شرع أحكامو لتحقيق مصاحل العباد تفضبل منو وإحسانًا ،فإف مراعاة النفع والضرر واؼبصلحة
واؼبفسدة ىي تفضل وكرـ من اللَّو سبحانو وتعاىل ،وإذا مل تظهر لنا اؼبنفعة واؼبصلحة فيكوف الوجوب الشرعي
قطعا.
لفائدة يف اآلخرة ً
مذىب المعتزلة :يرى اؼبعتزلة أف العقل نفسو يعرؼ حكم اللَّو تعاىل يف أفعاؿ اؼبكلفُت قبل البعثة،
بدوف واسطة الرسل واألنبياء والكتب ،ألف كل فعل من أفعاؿ العباد فيو من الصفات ،ولو من اآلثار ما هبعلو
ضارا ،فالفعل حسن بذاتو أو قبيح بذاتو ،وإف العقل بناء على صفات الفعل وآثاره يستطيع أف وبكم نافعا أو ِّ
ً
بأنو حسن أو قبيح.
وأساس ىذا اؼبذىب أف اغبسن والقبح أمراف عقلياف ،وليسا شرعيُت ،وأف اغبسن من األفعاؿ :ما رآه
قبيحا ؼبا فيو من ضرر ،ألف العقل إذا مل يعلمالعقل حسنًا ؼبا فيو من نفع ،والقبيح من األفعاؿ ما رآه العقل ً
حسن األفعاؿ وقبحها قبل الشرع ،الستحاؿ عليو أف يعلم ذلك بعد الشرع ،وكاف مكل ًفا دبا ال يستطيع وىو
ؿباؿ.
وينتج عن ىذا اؼبذىب ما يلي:
- 1أف من مل تبلغهم دعوة الرسل والشرائع مكلفوف من اللَّو تعاىل بفعل ما يهديهم عقلهم إىل
حسنو ،ويثابوف من اللَّو تعاىل على فعلو ،وأهنم مكلفوف بًتؾ ما يهديهم عقلهم إىل قبحو ،ويعاقبوف من اللَّو
قبيحا ،فيمكن إدراؾ تلك تعاىل على فعلو ،ألف العاقل يقر بأف كل فعل فيو خواص ولو آثار ذبعلو حسنًا أو ً
األحكاـ قبل أف ترد الشرائع فيها.
- 2أف حكم اللَّو تعاىل على األفعاؿ يكوف حبسب ما تدركو العقوؿ من النفع أو الضرر ،فيطلب اللَّو
تعاىل من اؼبكلفُت فعل ما فيو النفع حبسب ما يدركو العقل ،ويطلب ترؾ ما فيو ضررىم حسب ما يدركو
العقل ،وال يبكن أف يأمر بأمر قبيح ذاتيِّا ،وال ينهى عن شيء حسن ذاتيِّا ،العتقاد اؼبعتزلة وجوب مراعاة
اؼبصاحل واؼبفاسد ،وأف الشرائع مؤكدة غبكم العقل فيما يعلمو.
68
شرعا فعلو ،ويثاب من اللَّو فاعلو ،وما رآه
ومبدأ اؼبعتزلة أف ما رآه العقل حسنًا فهو حسن ،ومطلوب ً
شرعا تركو ،ويعاقب من اللَّو فاعلو ،فالشرع تابع للعقل ،ويقولوف :إف الشرع قبيحا فهو قبيح ،ومطلوب ً العقل ً
مؤكد وكاشف غبكم العقل فيما أدركو من حسن األشياء وقبحها.
مذىب الماتريدية :وىذا اؼبذىب وسط بُت اؼبذىبُت السابقُت ،وخبلصتو أف لؤلفعاؿ حسنا وقبحا
يستطيع العقل إدراكهما يف معظم األفعاؿ ،بناء على ما يف الفعل من خواص ذاتية وما يًتتب عليو من مصاحل
ومفاسد ،كما قاؿ اؼبعتزلة ،لكن ال يلزـ من كوف الفعل حسنا حسب إدراؾ العقل أف يأمر بو الشرع ،وال يلزـ
من كوف الفعل قبيحا أف ينهى عنو الشرع ،كما قاؿ األشاعرة.
وعلى ىذا غاية ما يبكن أف يقاؿ :ىو أف ما يف الفعل من حسن يدرؾ العقل هبعل الفعل صاغبا أف
يأمر بو الشارع ،وأف ما يف الفعل من قبح يدركو العقل هبعلو صاغبا ألف ينهى عنو الشرع ،وال يقاؿ :إف اغبسن
والقبح موجباف غبكم اهلل باألمر والنهي.
وترتب على قوؿ ىذا اؼبذىب أف حكم اهلل ال يدرؾ بدوف وساطة رسوؿ تبليغو ،ومن مث ال حكم هلل يف
أفعاؿ العباد قبل بعثة الرسل أو قبل بلوغ الدعوة .وحيث ال حكم فبل تكليف ،وحيث ال تكليف فبل عقاب.
ثمرة االختالف:
- 1يظهر فبا سبق أف صبيع اؼبسلمُت متفقوف على أف اغبسن ما حسنو الشرع ،وأف القبيح ما قبحو
الشرع بعد البعثة ونزوؿ الكتاب ،فبل يًتتب على االختبلؼ السابق أثر بالنسبة للمكلفُت الذين بلغتهم
الدعوة ،سواء آمنوا ّٔا أـ كفروا ،فكل فعل أمر بو الشارع فهو حسن ومطلوب فعلو ويثاب فاعلو ،وكل فعل
هنى عنو الشارع فهو قبيح ،ومطلوب تركو ويعاقب فاعلو ،وإف الدراسة السابقة يف موضوع اغباكم واالختبلؼ
يف اغبسن والقبح دراسة تارىبية نظرية ال جدوى منها وال طائل ربتها ،وال تًتتب عليها األحكاـ الشرعية إال يف
األمور التالية األخرى.
- 2يظهر أثر االختبلؼ وشبرتو بالنسبة ؼبن مل تبلغهم شرائع الرسل يف زماننا مثبل ،أو قبل البعثة الذين
يطلق عليهم اسم أىل الفًتة ،فقاؿ األشاعرة :إهنم ناجوف ،وال يثابوف على فعل وال يعاقبوف على غَته ،وأف
شرا فشر ،وقاؿ اؼباتريدية: أمرىم راجع إىل اللَّو تعاىل ،وقاؿ اؼبعتزلة :إهنم مكلفوف وؿباسبوف إف ً
خَتا فخَت وإف ِّ
إهنم مكلفوف باإليباف باللَّو تعاىل فقط ،وال وباسبوف وال يعاقبوف على غَته.
مصدرا من
ً أيضا يف مكانة العقل بُت مصادر التشريع ،وىل يعترب العقل - 3تظهر شبرة االختبلؼ ً
نصا يف كتاب أو سنة؟اؼبصادر التشريعية اليت يرجع إليها آّتهد إذا مل هبد ِّ
مصدرا وال دليبل وال حجة ،وإمبا
ً قاؿ أىل السنة واعبماعة من األشاعرة واؼباتريدية :إف العقل ليس
تنحصر اؼبصادر يف األمور اليت سبق ذكرىا وىي القرآف والسنة مث االجتهاد واالستدالؿ واالستنباط بالقياس
واالستحساف واالستصبلح واالستصحاب وغَت ذلك ،وإف العقل يعمل فيها حيث أباح الشارع لو العمل بناء
على ىذه اؼبصادر.
69
المبحث الثاني :المحكوم فيو
أوال ـ تعريفو
ىو فعل اؼبكلف الذي تعلق بو خطاب الشارع .وذلك أف كل حكم من أحكاـ الشارع يتعلق بفعل
وضعا .وقد سبق يف تعريف اغبكم بأنو خطاب اللَّو زبيَتا أو ً
من أفعاؿ اؼبكلفُت سواء كاف اغبكم اقتضاء أو ً
اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت ،فاػبطاب لو ؿبل ،وىذا احملل ىو فعل اؼبكلف .وعلى ىذا فاغبكم ال يكوف إال متعلقا
بفعل ،فإف كاف اغبكم تكليفيا فبل يكوف إال فعبل ،أما اغبكم الوضعي فقد يكوف فعبل للمكلف كما الوضوء
ويف العقود واعبرائم ،وقد ال يكوف فعبل لو ولكن يرجع إىل فعلو كغروب الشمس الذي جعلو الشارع سببا
لصبلة اؼبغرب وىي فعل للمكلف.
مانعا
مباحا ،وإما أف يكوف سببًا أو ً مكروىا أو حر ًاما أو ً
ً وىذا الفعل إما أف يكوف واجبًا أو مندوبًا أو
أو شرطًا ،أو صحة أو فسادا أو رخصة أو عزيبة ،فالوجوب والندب والتحرمي والكراىة واإلباحة والصحة
والفساد والرخصة والعزيبة كلها أوصاؼ لفعل اؼبكلف ،وكذلك السب والشرط واؼبانع ،غَت أف ىذه األخَت قد
تكوف فعبل للمكلف أو تتعلق بفعلو.
وعلى ىذا األساس وضع علماء األصوؿ قاعدة" :ال تكليف إال بفعل" .ولكن الفعل الذي يكلف بو
ليس على اإلطبلؽ ،بل البد أف تتوفر فيو شروط ،ىي:
ثانيا ـ شروط المحكوم فيو
يشًتط علماء األصوؿ بالفعل احملكوـ فيو لصحة التكليف بو أربعة شروط ،وىي:
تاما حىت يتجو قصده للقياـ بو ويستطيع فعلو ،فما مل علما ِّ
معلوما للمكلف ً أوال -أف يكوف الفعل ً
فاؼبكلف ال يطالب بالصبلة يتصور اؼبكلف الفعل ومل يعلم حكم اهلل فيو ال يبكن أف تتجو إرادتو لفعلو.
والزكاة واغبج واعبهاد واإلنفاؽ وترؾ اػبمر والزنا والسرقة وفحش القوؿ إال بعد أف تكوف معلومة عنده تصورا
وحكما وإال فبل يتعلق اػبطاب بفعلو ،وال يطالب بالفعل أو بالًتؾ ،وال يستحق الثواب وال العقاب.
تاما بو ،فيعلم أركاف الفعل وشروطو وكيفية وإف علم اؼبكلف بالفعل ال يكفي ،بل ال بد أف يكوف العلم ِّ َّ
القياـ بو ،وعلى ىذا فإف النص آّمل يف القرآف الكرمي ال يكفي يف تكليف اؼبكلف بو إال بعد بيانو من رسوؿ
ِ
الصبل َة أمر بفعل الصبلة على اؼبكلف ،ومع ذلك ال اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم ،فقولو تعاىل :أَق ُ
يموا َّ
يكلف بالصبلة ،ألنو مل يعرؼ أركاهنا وشروطها وكيفية أدائها ،فجاء رسوؿ اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلمَّ ،
وبُت
كل ذلك وقاؿ " :صلوا كما رأيتموين أصلي" ،وىكذا بقية التكاليف بالصوـ والزكاة واغبج واعبهاد والدعوة
والبيع والربا ،وكل فعل تعلق بو خطاب ؾبمل من الشارع ال يصح التكليف بو إال بعد بيانو يف القرآف الكرمي
بنص آخر أو بالسنة اؼببينة.
ثانيًا -أف يعلم اؼبكلف مصدر التكليف بالفعل ،بأنو من اللَّو تعاىل ،لكي يكوف التنفيذ طاعة وامتثاال
ألمر اللَّو تعاىل ،ولكي يتجو قصد اؼبكلف ؼبوافقة طلب اللَّو تعاىل يف التزاـ أحكامو دبا هبب فيو قصد الطاعة
حكما إال إذا عرؼ دليلو الشرعي. والتقرب ،وؽبذا السبب ال يقبل اؼبسلم ً
70
واؼبراد بعلم اؼبكلف بالفعل ودبصدر التكليف إمكاف علمو بو ،بأف تتوفر فيو القدرة والعقل والتمكن من
قادرا على معرفة األحكاـ بنفسو أو بسؤاؿ أىل العلم عنها العلم إذا قصده واذبو إليو ،بأف يكوف بالغًا عاقبل ً
عند قيامو يف دار اإلسبلـ اليت يتوفر فيها العلم والعلماء ،وعندئذ يتحقق الشرط بالعلم دبا كلف بو ،فيتعلق
التكليف بو ،وهبب عليو تنفيذه وااللتزاـ بآثاره ،فإف قصر فبل يقبل منو االعتذار جبهلها.
ثالثًا -أف يكوف الفعل اؼبكلف بو فبكنًا ،بأف يكوف يف قدرة اؼبكلف أف يفعلو أو أف يًتكو؛ ألف
اؼبقصود من التكليف االمتثاؿ ،فإذا خرج الفعل عن قدرة اؼبكلف وطاقتو ،مل يتصور االمتثاؿ ،ويكوف التكليف
عبثا ينزه عنو الشارع اغبكيم .ويًتتب على ىذا الشرط ثبلثة أمور ،وىي:
شرعا التكليف باؼبستحيل ،سواء كاف مستحيبل لذاتو أو مستحيبل لغَته. - 1أنو ال يصح ً
وؿبرما
واؼبستحيل لذاتو ىو ما ال يتصور العقل وجوده ،كاعبمع بُت الضدين ،كأف يكوف الفعل واجبًا ً
يف نفس الوقت على شخص واحد ،واعبمع بُت النقيضُت كالنوـ واليقظة ،فبل يصح التكليف باؼبستحيل لذاتو
عند اعبمهور؛ ألف اؼبستحيل لذاتو ال يبكن تصوره ،واغبكم على الشيء فرع عن تصوره ،وطلب الفعل
والتكليف فيو فرع عن تصور وقوعو ،واؼبستحيل ال يبكن تصوره.
أما اؼبستحيل لغَته ،وىو ما يتصور العقل وجوده ،ولكن مل ذبر العادة بوقوعو ،كاؼبشي من اؼبريض
اؼبقعد ،والطَتاف من اإلنساف بدوف أداة ،واؼبشي على اؼباء ،وىكذا ،فبل يصح التكليف باؼبستحيل لغَته عند
أيضا.
اعبمهور ً
2ػ ال يصح شرعا التكليف دبا ال يدخل ربت إرادة اؼبكلف ،كتكليفو أف يفعل غَته فعبل معينا؛ ألف
ىذا ال يدخل يف إرادتو وقدرتو ،وكل ما يستطيعو أف يأمر باؼبعروؼ أو يأمر الغَت بفعل معُت.
تس ِدبَا َك َسبَ ْوؽبذا فبل يُسأؿ اإلنساف عن فعل غَته ،وال يعاقب مكانو ،لقولو تعاىلُ :ك ُّل نَػ ْف ٍ
ِ ِ
ُخَرى س إال َعلَْيػ َها َوال تَ ِزُر َوا ِزَرةٌ ِوْزَر أ ْب ُك ُّل نَػ ْف ٍ
َرىينَةٌ[اؼبدثر ،]38،وقولو تعاىلَ :وال تَكْس ُ
[األنعاـ ،]164،فاإلنساف مسؤوؿ عن نفسو فقط ،وال يكوف مسؤوال عن غَته هنائيِّا إال دبا أنيط بو بنفسو من
رعاية وتربية ونصح ووعظ وإرشاد للزوجة واألوالد والطبلب والناس من حولو.
ويلحق ّٔذا عدـ صحة التكليف باألمور الفطرية والوجدانية اليت تستويل على النفس وال يبلك اؼبكلف
جلبها أو دفعها ،كاالنفعاؿ عند الغضب ،واغبمرة عند اػبجل ،واػبوؼ عند الظبلـ ،واغبزف والفزع والطوؿ
والقصر والسواد والبياض ،والشهية عند رؤية الطعاـ والشراب ،واغبب والكره ،وغَت ذلك من الغرائز اليت خلقها
اللَّو تعاىل يف اإلنساف ،وال زبضع إلرادة اؼبكلف ،وبالتايل فهي خارجة عن قدرتو وإمكانيتو ،فبل يكلف ّٔا،
ألهنا تكليف دبا ال يطاؽ.
اردا
وكل نص يدؿ ظاىره على التكليف بأحد ىذه األمور فبل يقصد منو ظاىره ،ويكوف التكليف فيو و ً
على سببو أو نتيجتو وشبرتو ،مثل قولو تعاىلَ :وال َسبُوتُ َّن إال َوأَنْػتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َف[آؿ عمراف ،]102،فالظاىر أف
اآلية تنهى اإلنساف عن اؼبوت إال وىو مسلم ،واؼبوت ليس بيد اإلنساف ،فتصرؼ اآلية عن ظاىرىا ،ويكوف
التكليف يف اآلية حقيقة ىو األمر بالدخوؿ يف اإلسبلـ ،وازباذ األسباب والطرؽ اليت تُثبت اإليباف ،وتقوي
مسلما حىت اؼبوت.
العقيدة ،ليبقى اإلنساف ً
71
3ػ حصوؿ الشرط الشرعي ،وىو الذي ال يصح عمل اؼبكلف إال بو ،كالطهارة بالنسبة للصبلة،
واإليباف بالنسبة للعبادات.
واختلف العلماء يف صحة تكليف اإلنساف بفعل قبل حصوؿ الشرط ،ويتجلى ىذا الشرط يف مسألة
أصولية مشهورة ،وىي تكليف الكفار بفروع الشريعة بعد االتفاؽ على تكليفهم باإليباف وأصوؿ الدينَّ ،
وإف
اب والْم ْش ِركِ َ ِ ِ
ِ ِ ِ ِ َّ ِ
َّم
ُت يف نَار َج َهن َ ين َك َف ُروا م ْن أ َْى ِل الْكتَ َ ُ
تركهم لو يوجب زبليدىم يف النار ،لقولو تعاىل :إ َّف الذ َ
ك ُى ْم َشُّر الَِْربيَِّة[البينة ،]6،وفيما وراء ذلك قاؿ اعبمهور بعدـ اشًتاط الشرط الشرعي خالِ ِد ِ
ين ف َيها أُولَئِ َ
َ َ
صبيعا ،فيدخل فيها للتكليف ،وأف الكفار ـباطبوف بفروع الشريعة ،ألف آيات التكليف عامة زباطب الناس ً
اؼبؤمن والكافر ،وأف اآليات اليت تتحدث عن عقاب اآلخرة تصرح دبسؤولية الكافر وعقوبتو على ترؾ الصبلة
والزكاة مثبل ،وأف العقل ال يبنع ذلك.
وقاؿ أكثر اغبنفية يشًتط حصوؿ الشرط الشرعي أوال لصحة التكليف ،فإف فقد الشرط فبل يكلف
العبد ّٔا ،وإف الكفار غَت مكلفُت بفروع الشريعة.
ثالثا ـ المشقة في األفعال
قلنا يف الشرط الثالث أف الفعل يشًتط فيو أف يكوف مقدورا عليو ،ولكن ىل يشًتط فيو أف ال يكوف
شاقا؟
الواقع أف أي فعل يقوـ بو اإلنساف ال ىبلو من مشقة ولو يف طعامو وشرابو .لكن اؼبشقة درجات،
فمنها ما ىو معتاد يتحملو الناس ومنها ما ىو زائد عن اؼبعتاد يدخل عليهم اغبرج .لذلك قسم العلماء اؼبشقة
إىل نوعُت:
1ـ مشقة معتادة :وىي اؼبشقة اليت جرت عادة الناس على احتماؽبا واالستمرار عليها ،وتدخل يف
حدود طاقة اؼبكلف .وىذا النوع مشروع وموجود يف التكاليف الشرعية؛ ألف التكليف نفسو ىو اإللزاـ دبا فيو
كلفة ومشقة .وكل تكليف فيو مشقة ؿبتملة ،لًتويض النفس على اؼبباحات وإبعادىا عن احملرمات ،وذلك فيو
َّت النار بالشهوات" ،فالوضوء والصبلة واغبج َّت اعبنةُ باؼبكاره ،وحف ِ مشقة ،قاؿ ،صلى اهلل عليو وسلم " :حف ِ
ُ ُ
فيها مشقات على اؼبكلف ،ولكنو يتحملها وال يلحقو ضرر إذا داوـ عليها.
وىذه اؼبشقة اؼبوجودة يف التكاليف ليست مقصودة من الشارع ،وإمبا القصد منها ربقيق اؼبصاحل اؼبًتتبة
عليها ،ودرء اؼبفاسد اؼبتوقعة منها ،للحفاظ على مقاصد الشريعة الضرورية واغباجية والتحسينية ،فيلزـ اؼبكلف
أف يتحمل ىذه اؼبشقة لتحقيق ىذه اؼبصاحل ،كما يتحمل اؼبريض الدواء اؼبر من أجل الشفاء ،فاؼبقصود يف
الصوـ مثبل هتذيب النفس وتربية الروح ،وتعويد اؼبرء على الصرب ،وليس اؼبقصود إيبلـ النفس باعبوع والعطش.
وهبب على اؼبكلف أف يتحرى مقاصد الشريعة يف التكليف ،وأف ال يقصد ؾبرد اؼبشقات اليت فيها،
ومن فعل ذلك ظانِّا زيادة األجر والتقرب فقد أخطأ ،وال أجر لو ،ولكن لو أف يقصد العمل الذي يعظم أجره
وتعظم مشقتو.
72
2ـ مشقة غير معتادة :وىي اؼبشقة اػبارجة عن معتاد الناس ،وال يبكن أف يداوموا على ربملها ،وأف
اؼبداومة على ىذه اؼبشقة يرىق اؼبكلف ويقطعو عن التكليف ،وينالو الضرر واألذى يف النفس واؼباؿ ،وىذا
يتناىف مع مقاصد الشريعة.
وىذا النوع مل يرد يف التكاليف الشرعية إال استثناء لضرورة القياـ بفروض كفائية يف ظروؼ خاصة .وإذا
حصلت مثل ىذه اؼبشقة ،لعارض ما يف غَت ىذه الظروؼ اػباصة ،فقد شرع سبحانو وتعاىل الرخصة ورغب
يف ترؾ العزيبة وهنى عن قصد تلك اؼبشقة؛ ألف اهلل مل يقصد تعذيب النفوس ،فيجب أف ال ىبالف قصد
اؼبكلف قصد الشارع .قاؿ ،صلى اهلل عليو وسلم" :إف اللَّو وبب أف تؤتى رخصو ،كما وبب أف تؤتى عزائمو"،
مثاؿ ذلك اؼبشقة يف الصياـ للمريض واغبامل والعاجز واؼبرضع ،فرخص اللَّو تعاىل ؽبم يف اإلفطار ،ومثل اؼبشقة
والضرر يف استعماؿ اؼباء للطهارة فرخص الشارع يف التيمم ،وغَت ذلك من الرخص اليت سبق الكبلـ عنها يف
مطلب الرخصة والعزيبة ،ووضع العلماء قاعدة "اؼبشقة ذبلب التيسَت" اؼبشهورة يف ىذا الشأف.
رابعا ـ أقسام المحكوم فيو
ـ أقسام المحكوم فيو باعتبار ماىيتو:
احملكوـ فيو لو وجود حسي؛ ألنو فعل من أفعاؿ اؼبكلفُت يُدرؾ بأحد اغبواس ،وبعد ذلك إما أف يكوف
لو وجود واعتبار شرعي ،بأف يشًتط الشارع لوجوده أركانًا وشروطًا معينة ،وإما أف ال يكوف لو اعتبار شرعي،
وكل قسم منهما إما أف يًتتب عليو حكم شرعي ،وإما أف ال يًتتب عليو حكم شرعي ،فاحملكوـ فيو أربعة
أقساـ:
- 1الفعل الذي لو وجود حسي وليس لو وجود شرعي ،وال يعترب سببًا غبكم شرعي ،كاألكل والشرب.
- 2الفعل الذي لو وجود حسي وليس لو وجود شرعي ،وىو سبب غبكم شرعي ،كالزنا والسرقة والقتل ،فإهنا
أسباب للحكم الشرعي يف اغبدود والقصاص.
- 3الفعل الذي لو وجود يف اغبس ويف الشرع وال يًتتب عليو حكم شرعي ،كالصبلة بدوف وضوء أو بدوف
شرعا إال بتحقق األركاف والشروط اليت وضعها الشارع.تكبَتة اإلحراـ مثبل ،فإف أفعاؿ الصبلة ال تعترب ً
- 4الفعل الذي لو وجود يف اغبس ويف الشرع ويًتتب عليو حكم شرعي آخر ،كالنكاح واإلجارة والبيع،
فكل منها لو ماىية شرعية ،ال تتحقق إال بأركاف وشروط معينة ،وكل منها يًتتب عليو حكم شرعي ،مثل حل
االستمتاع ووجوب اؼبهر والنفقة يف النكاح ،ومثل سبلك اؼبنفعة واألجرة يف اإلجارة ،ومثل انتقاؿ اؼبلكية يف
البيع.
ـ أقسام المحكوم فيو بحسب ما يضاف إليو
قسم اغبنفية احملكوـ فيو ،وىو فعل اؼبكلف الذي تعلق بو خطاب اللَّو تعاىل إىل أربعة أقساـ:
1ػ ما كاف حقا خالصا هلل تعاىل :وىو فعل اؼبكلف الذي ىو حق خالص للَّو تعاىل ،وىذا القسم ال
وبق لئلنساف أف يتنازؿ عنو أو يصاحل عنو ،وال وبتاج يف إثباتو إىل دعوى ،وال يقبل العفو واإلسقاط ،ويسقط
بالشبهة عند إثبات اغبدود.
73
ويدخل يف حق اللَّو اػبالص العبادات اؼبعروفة وما يتعلق بو النفع العاـ ،وىو يشمل اؼبصلحة العامة
الدنيوية واؼبصلحة األخروية ،وال ىبتص بأحد ،ويكوف فيو دفع االعتداء عن آّتمع كاعبهاد مثبل .ونسب إىل
اللَّو تعاىل للتعظيم والتشريف لكثرة نفعو وعظيم خطره ليس إال؛ ألنو تعاىل تنزه عن االنتفاع بشيء ،وذلك مثل
حرمة الزنا فإنو يتعلق بو عموـ النفع من سبلمة النسب من االشتباه ،وصيانة األوالد عن الضياع.
2ػ ما كاف حقا خالصا للعبد :وىو فعل اؼبكلف الذي يتعلق بو اغبق اػبالص للعباد ،وحق العبد ما
تتعلق بو مصلحة خاصة دنيوية كحرمة مالو ،ويستباح بإباحة صاحبو ،ويشًتط يف خصومتو وإثباتو رفع
الدعوى ،وهبوز لصاحبو أف يتنازؿ عنو وأف يصاحل عنو ،وأف يسقط حقو ،وأف يعفو عن غريبو ،وال تؤثر فيو
الشبهة.
واؼبقصود من اغبق اػبالص للعباد ىو اغبفاظ على مصاحل العباد اػباصة ،مثل بدؿ اؼبتلفات ،وملك
اؼببيع والثمن ،وحق الشفعة ،وحبس العُت اؼبرىونة للمرهتن ،وغَت ذلك من اغبقوؽ اؼبالية.
3ػ ما اجتمع فيو اغبقاف ،وحق اللَّو غالب فيو :وىو فعل اؼبكلف الذي اجتمع فيو حق اللَّو تعاىل وحق
العبد ،ولكن حق اللَّو غالب فيو ،مثل حد القذؼ عند اغبنفية ،فقد شرعو اللَّو تعاىل لرفع عار الزنا عن
اؼبقذوؼ ،وللزجر للقاذؼ ،وىذا حق العبد ،كما شرعو اللَّو تعاىل لصيانة أعراض الناس ،وإبعاد الفساد عن
آّتمع ،وحفظ اللساف واألخبلؽ االجتماعية ،وىذا حق اللَّو تعاىل ،ويرى الشافية واغبنابلة واؼبشهور عند
اؼبالكية أف حد القذؼ حق خالص لآلدمي اؼبقذوؼ ،كالقصاص.
4ػ ما اجتمع فيو اغبقاف ،وحق العبد غالب ،وىو فعل اؼبكلف الذي اجتمع فيو حق اللَّو تعاىل وحق
قصاصا أـ ديات ،فإف فيها
ً العبد ،ولكن حق العبد فيو غالب ،كالقصاص وعقوبات الدماء كلها ،سواء كانت
حق اللَّو تعاىل ،يف صيانة الدماء وحفظ آّتمع ،وفيها حق العبد؛ ألف القصاص وبقق مصلحة أولياء القتيل،
ويبنع االنتقاـ واغبقد من قلؤّم ،فكاف حق العبد غالبًا.
ويرى اإلماـ الشاطيب ،رضبو اهلل ،أف كل قسم من أقساـ احملكوـ فيو باعتبار اإلضافة ال ىبلو من حق
اهلل وحق العبد؛ فكل حكم شرعي هبمع بُت حق اللَّو وىو جهة التعبد ،وحق العبد وىو جهة اؼبصلحة اؼبالية
أو اؼبنفعة الشخصية ،ويرى أنو ال يوجد حق خالص للَّو تعاىل ،كما ال يوجد حق خالص للعبد ،وكل حق
يبدو أنو خالص للَّو تعاىل فإنو وبقق منافع ظاىرة وملموسة للعبد من ناحية اؼبصلحة لو يف الدنيا ،والثواب
واألجر والدرجات العليا يف اآلخرة ،وكل حكم يبدو عليو أنو حق خالص للعبد ،فإف اللَّو تعاىل لو حق فيو،
بأف تطبق أحكاـ اللَّو تعاىل فيو وتنفذ شريعتو ،ويلتزـ اؼبرء فيو حدود اللَّو تعاىل ،ويرتع يف حظَتتو ،وألف حق
العبد إمبا يثبت كونو حقِّا لو بإثبات الشرع ذلك لو ،وليس بكونو مستح ًقا لذلك حبكم األصل.
المبحث الثالث :المحكوم عليو
أوال ـ تعريفو
احملكوـ عليو ىو اؼبكلف الذي تعلق حكم الشارع بفعلو.
ىو الشخص الذي توجو إليو اػبطاب ،ووبكم على أفعالو بالقبوؿ أو الرد ،أو أف أفعالو واؼبكلف
تدخل يف قسم اؼبأمور بو ،أو اؼبنهي عنو أو ال تدخل فيهما ،وقد سبق الكبلـ أف اغبكم ىو خطاب اللَّو
74
وضعا ،وأف اػبطاب ىو توجيو الكبلـ إىل شخص ،وليس اؼبقصود زبيَتا أو ًاؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت اقتضاء أو ً
الشخص بذاتو ،وإمبا اؼبقصود أفعالو اليت يرتبط ّٔا اػبطاب.
ثانيا ـ شروط المحكوم عليو
يشًتط لصحة التكليف أف يتوفر فيو شرطاف:
قادرا على فهم دليل التكليف :بأف يفهم بنفسو خطاب الشارع يف القرآف والسنة ،أو 1ـ أن يكون ً
بواسطة غَته بالسؤاؿ والتعلم؛ ألف طاعة اللَّو تعاىل وامتثاؿ أوامره ،واالبتعاد عن نواىيو ،يتوقف على فهم
ف بو ،وأف يبتثل األحكاـ لتفهم اػبطاب فبل يبكنو أف ينفذ ما ُكلّْ َ اػبطاب .أما العاجز الذي ال يبلك قدرة ّ
وأف يتجو قصده إليها ،فبل يقاؿ ؼبن ال يفهم :افهم ،وال يقاؿ ؼبن ال يسمع :اظبع ،وال ؼبن ال يبصر :أبصر.
والقدرة على فهم اػبطاب تتحقق بوجود العقل من جهة ،وبكوف النصوص اليت يكلف ّٔا العاقل يف
متناوؿ عقلو لفهمها من جهة أخرى؛ ألف العقل أداة فهم النصوص وإدراكها ،قاؿ اآلمدي :اتفق العقبلء على
أف شرط اؼبكلف أف يكوف عاقبل ،فانبًا ،ألف التكليف خطاب ،وخطاب من ال عقل لو وال فهم ؿباؿ.
ودبا أف العقل خفي ال يدرؾ باغبس ،وأنو يتفاوت من شخص إىل آخر ،وأنو يتطور وينمو ويتدرج من
العدـ إىل الكماؿ يف الشخص الواحد ،لذا ربط الشارع التكليف بأمر ظاىر منضبط يدرؾ باغبس ،ويدؿ على
ربقق اؼبستوى العقلي اؼبطلوب للقدرة على فهم اػبطاب ،وىو البلوغ ما مل تظهر عبلمات اإلعاقة الذىنية،
إقامةً للسبب الظاىر مقاـ حكمو.
والبلوغ يكوف بتحقق العبلمات الطبيعية على جسم الشاب والفتاة ،كاالحتبلـ واغبيض ،لقولو تعاىل:
َّ ِ استَأْ َذ َف الَّ ِذ ِ ِ ِ ِ اؿ ِمْن ُك ُم ْ
َ وإِ َذا بَػلَ َغ ْاألَطْ َف ُ
ين
ين م ْن قَػْبله ْم[النور ،]59،ولقولو تعاىلَ :والذ َ
َ اغبُلُ َم فَػ ْليَ ْستَأْذنُوا َك َما ْ
اغبُلُ َم[النور ،]58،ولقولو ،صلى اهلل عليو وسلم " :،رفع القلم عن ثبلث :عن النائم حىت يستيقظ، َملْ يَػْبػلُغُوا ْ
وعن الصيب حىت وبتلم ،وعن آّنوف حىت يعقل" ،فقد علقت اآليتاف واغبديث األحكاـ على بلوغ اغبلم
واالحتبلـ ،فبا يدؿ على أف التكليف يرتبط باالحتبلـ ،وىذا عند الشاب ،ويقابلو اغبيض عند الفتاة ،لقولو،
صلى اهلل عليو وسلم " :ال يقبل اللَّو صبلة حائض إال خبمار"؛ أي ال تقبل صبلة اؼبرأة البالغة اليت وصلت إىل
سن اغبيض إال بسًت الشعر ،فعلق اغبكم على بلوغها سن احمليض.
فإف مل تظهر عبلمات البلوغ الطبيعية باالحتبلـ أو اغبيض فيقدر البلوغ بالسن ،والتقدير بالسن ـبتلف
فيو ،فذىب اعبمهور من اؼبالكية والشافعية واغبنابلة ،والصاحباف من اغبنفية ،واؼبتأخروف يف اؼبذىب ،إىل أف
سن البلوغ طبس عشرة سنة للصيب والفتاة ،بينما قدره اإلماـ أبو حنيفة بسبع عشرة سنة لؤلنثى وشباين عشرة
سنة للصيب.
فمىت بلغ اإلنساف اغبلم فقد ربقق شرط التكليف ،وسبكن العبد من معرفة خطاب الشارع ،وإدراؾ
معناه ،وتوجيو القدرة واإلرادة إىل تنفيذه وااللتزاـ بو.
وعلى ىذا فبل تكليف على من فقد القدرة على فهم اػبطاب ،كآّنوف والصيب لعدـ وجود العقل
الذي ىو وسيلة فهم دليل التكليف ،وال يكلف الغافل وال النائم وال السكراف يف ىذه اغباالت؛ ألنو ليس
باستطاعتهم الفهم.
75
ويتفرع عن ىذا الشرط ثبلثة أمور ،لبتصرىا كما يلي:
- 1إف اؼبراد من فهم اػبطاب التصور وإمكاف الفهم ،وليس التصديق باػبطاب واالقتناع بو ،فمن
ومعتقدا بو أـ ال ،وبالتايل ً أمكنو فهم اػبطاب ،وتصور الدليل ،فهو مكلف من اللَّو تعاىل ،سواء كاف مصدقًا
فإف الكفار ـباطبوف باألحكاـ الشرعية كلها على الرغم من عدـ تصديقهم ؽبا ،لتوفر إمكاف الفهم والتصور
للخطاب ،وىذا يتفق مع مذىب اعبمهور الذي قدمناه عن تكليف الكفار بفروع الشريعة.
– 2أنو إذا كاف ظاىر اػبطاب متوجو إىل من ليس لو قدرة على فهم اػبطاب ،كإهباب الزكاة والنفقة
والضماف يف ماؿ الصيب أو آّنوف ،أو هني السكراف عن االقًتاب من الصبلة حاؿ السكر ،فإف اػبطاب موجو
يف اغبقيقة إىل الويل اؼبكلف يف حالة الصيب وآّنوف ،وإىل السكراف قبل سكره ،ومن ىذا يكوف اػبطاب يف
مثل ىذه اغباالت من باب خطاب الوضع الذي يكوف سببا أو شرطا أو مانعا.
شرعا إال بعد تعلمهم 3ػ ألف خطاب التكليف جاء بلساف العرب فإف غَت العرب ال يصح تكليفهم ً
اللغة العربية ،أو بعد ترصبة أدلة التكليف إىل لغاهتم ،أو بعد قياـ طائفة من العرب اؼبسلمُت بتعلم اللغات
األخرى ،ونشر أحكاـ الشريعة وأدلتها بُت أصحاب اللغات ،أو أف يرسل كل قوـ طائفة منهم يتعلموف أحكاـ
الشريعة وينذروف قومهم ّٔا ،وقد سبت ىذه الوسائل كلها يف زمن الرسوؿ ،صلى اهلل عليو وسلم ،فطلب من
زيد بن ثابت أف يتعلم اللغة العربية ،وأرسل الرسل إىل اغبكاـ واؼبلوؾ يف دولة الروـ والفرس واغببشة ،وأعلن أف
وؼ َويَػْنػ َه ْو َف َع ِن اػب َِت ويأْمرو َف بِالْمعر ِ ِ ِ
ُ َْ ُ يبلغ الشاىد الغائب ،وقاؿ تعاىلَ :ولْتَ ُك ْن مْن ُك ْم أ َُّمةٌ يَ ْدعُو َف إ َىل َْْ َ َ ُ
َّهوا ِيف الدّْي ِن َولِيُػْن ِذ ُروا ِ ِ ِ ٍِ ِ
الْ ُمْن َك ِر[آؿ عمراف ،]104،وقاؿ تعاىل :فَػلَ ْوال نَػ َفَر م ْن ُك ّْل ف ْرقَة مْنػ ُه ْم طَائ َفةٌ ليَتَػ َفق ُ
قَػ ْوَم ُه ْم إِذَا َر َجعُوا إِلَْي ِه ْم لَ َعلَّ ُه ْم َْوب َذ ُرو َف[التوبة.]122،
2ـ أن يكون المكلف أىال لما كلف بو
واألىلية يف اللغة الصبلحية واالستحقاؽ .وأما يف االصطبلح فهي صبلحية اإلنساف ألف يكوف أىبل
الستحقاؽ اغبقوؽ وأداء والواجبات واإللتزامات ،أو بعبارة أخرى ىي :صبلحية الشخص لئللزاـ وااللتزاـ؛ أي
أف يكوف الشخص صاغبًا ألف يَػ ْلَزـ لو حقوؽ على غَته ،ويَػ ْلَزُمو حقوؽ لغَته ،وأف يكوف صاغبًا ألف يلتزـ ّٔذه
األمور بنفسو.
واإلنساف ال يكوف ـباطبا بالشرع وأحكامو إال إذا حصلت لو األىلية والصبلحية ،وىذا الذي عرب عنو
يف الشرط بأف يكوف أىبل ؼبا كلف بو.
وقد قسم علماء األصوؿ األىلية إىل قسمُت :أىلية وجوب وأىلية أداء.
وىذا يقودنا إىل الكبلـ عن حاالت األىلية ،مث عن عوارضها.
حاالت األىلية
تنقسم األىلية إىل قسمُت :أىلية الوجوب ،وأىلية األداء ،ولكل منهما حاالت.
ـ أىلية الوجوب :ىي صبلحية اإلنساف ألف تثبت لو حقوؽ وذبب عليو واجبات ،وتتعلق أىلية
الوجوب باإلنساف دبجرد إنسانيتو ،فهي مبلزمة غبياة اإلنساف منذ بدء حياتو حىت انتهائو منها ،مهما كانت
76
طفبل أـ بالغًا ،عاقبل أـ ؾبنونًا ،ويًتتب على أىلية الوجوبذكرا أـ أنثى ،جنينا أـ ً صفتو وأحوالو ،سواء أكاف ً
الذمة.
وصف معنوي مبلزـ ؽبا ىو ّ
وأىلية الوجوب قسماف :ناقصة ،وكاملة ،وكل منهما زبتص ببعض األحكاـ:
- 1أىلية الوجوب الناقصة :وىي صبلحية اإلنساف ألف تثبت لو حقوؽ دوف أف ذبب عليو واجبات،
وأىلية الوجوب الناقصة زبتص باعبنُت قبل الوالدة ،فلو بعض اغبقوؽ بشرط والدتو حيِّا ،فيثبت لو حق اإلرث
والوصية والنسب والوقف..
- 2أىلية الوجوب الكاملة :وىي صبلحية اإلنساف ألف تثبت لو حقوؽ وذبب عليو واجبات ،وتتوفر
ىذه األىلية يف كل إنساف منذ والدتو حىت وفاتو ،فتثبت لو صبيع اغبقوؽ ،وذبب عليو بعض الواجبات قبل
البلوغ كالضماف والنفقة والزكاة ،وذبب عليو صبيع الواجبات بعد البلوغ ،ولكن أىلية الوجوب الكاملة قبل
البلوغ ال زبوؿ اإلنساف صبلحية التعامل ،وال تكفي العتبار أقوالو وأفعالو ما مل تتحقق فيو أىلية األداء.
ـ أىلية األداء :ىي صبلحية اؼبكلف ألف تعترب أقوالو وأفعالو ،سواء أكانت يف العقيدة أـ يف العبادات
أـ يف اؼبعامبلت أـ يف العقوبات ،وىذه األىلية تساوي اؼبسؤولية ،وأساسها البلوغ مع العقل.
ويبر اإلنساف يف أىلية األداء عند اعبمهور بثبلث مراحل ،وىي:
- 1اإلنساف عدمي أىلية األداء أصبل :وىو الطفل من والدتو حىت سن التمييز ،كذا آّنوف طواؿ
جنونو ،فالطفل وآّنوف ال عقل ؽبما ،وبالتايل ليس ؽبما أىلية أداء ،وال تعترب التصرفات اليت تصدر منهما ،وال
يًتتب عليها أثر شرعي ،فاإليباف غَت معترب ،والصبلة ال أثر ؽبا ،والعقود والتصرفات باطلة ،أما اعبنايات فيتعلق
ّٔا الضماف اؼبايل ،وال يقتص من الطفل وآّنوف بدنيِّا.
- 2اإلنساف ناقص أىلية األداء :وىو الصيب اؼبميز الذي بدأ يدرؾ بعض األشياء ،ويبر يف مرحلة
التطور والنماء العقلي الذي يكتمل باغبلم والبلوغ ،ويلحق بو اؼبعتوه ضعيف العقل.
ؿبضا،
نفعا ً
فالتصرفات اليت تصدر عن اؼبميز أو اؼبعتوه يف اؼبعامبلت ينظر فيها :فإف كانت نافعة لو ً
ؿبضا كالتربع وإسقاط حقو ضررا ً
كقبوؿ اؽبدية والصدقة ،فهي صحيحة بدوف إذف وليو ،وإف كانت ضارة بو ً
فهي باطلة ،وال تصح إجازهتا من الويل ،وإف كانت تصرفاتو دائرة بُت النفع والضرر ،كالبيع والشراء ،فهي
صحيحة ،ولكنها موقوفة على إجازة وليو ،فإف أجازىا الويل نفذت ،وإف مل هبزىا بطلت ،وىذا عند اعبمهور
خبلفًا للشافعية.
وإف الصيب اؼبميز ،وإف كاف عنده عقل وفهم وسبييز ،ولكنو ليس كامبل ،فبل تتعلق بو بالتايل أحكاـ
ف اللَّوُ نَػ ْف ًسا إال ُو ْس َع َها[البقرة ،]286،وقد اختلف العلماء يف اعتبار
التكليف؛ ألف اللَّو تعاىل قاؿ :ال يُ َكلّْ ُ
أقوالو وأفعالو يف اإليباف والعبادة ،أما يف اعبنايات فيعامل معاملة الصيب غَت اؼبميز يف الضماف اؼبايل دوف
البدين..
- 3اإلنساف كامل أىلية األداء :وىو كل من بلغ عاقبل ،وىذه األىلية تعتمد على العقل وترتبط
بالبلوغ؛ ألنو مظنة العقل كما رأينا.
77
ويف ىذه اغبالة تكوف صبيع تصرفات اإلنساف معتربة ،وتًتتب عليها اغبقوؽ والواجبات ،ويكوف اإلنساف
شرعا ،ويكوف ـباطبًا جبميع التكاليف الشرعية يف العقيدة صاغبًا لصدور التصرؼ منو على وجو يعتد بو ً
رشيدا وتأكد الويل أو القاضي والعبادات واألخبلؽ واؼبعامبلت والعقوبات ،ولكن ال تسلم لو أموالو إال إذا بلغ ً
اح فَِإ ْف آنَ ْستُ ْم ِمْنػ ُه ْم ُر ْش ًدا فَ ْادفَػعُوا إِلَْي ِه ْم ِ
من رشده ،لقولو تعاىلَ :وابْػتَػلُوا الْيَتَ َامى َح َّىت إذَا بَػلَغُوا النّْ َك َ
أ َْم َوا َؽبُ ْم[النساء.]6،
عوارض األىلية
دبا أف أىلية األداء تساوي اؼبسؤولية اليت تقوـ على العقل ،ودبا أف أحواؿ اإلنساف وقدراتو العقلية
معرضة لطوارئ ونقص وتغيَت ،فإف قدرتو على الفهم وصبلحيتو لبللتزامات تتغَت أيضا ،وبالتايل فإف أىلية
التكليف زبتلف حبسب الطوارئ .وأطلق العلماء على ىذه العوامل اليت تؤثر يف أىلية األداء اسم عوارض
األىلية؛ ألهنا سبنع األحكاـ اليت تتعلق بأىلية األداء ،عن الثبوت ،لنقص يف العقل أو فقدانو.
وىذه العوارض إما أف تكوف ظباوية ،وىي اليت تثبت من قبل الشارع ،وال كسب لئلنساف فيها ،وال
اختيار لو يف وقوعها ،وأنبها اعبنوف والعتو والنسياف والنوـ واإلغماء ،وإما أف تكوف عوارض كسبية تقع بفعل
اإلنساف وكسبو واختياره ،وأنبها اعبهل والسكر والسفو واػبطأ واإلكراه.
وتتأثر األىلية ّٔذه العوارض ،ولكن تأثَتىا ىبتلف من حالة إىل أخرى ،فبعضها يزيل األىلية هنائيا،
وبعضها ينقصها ،وبعضها يغَت يف األحكاـ فقط ،ولذا تنقسم العوارض إىل ثبلثة أقساـ:
- 1العوارض اليت تعرض ألىلية األداء فتزيلها أصبل ،كاعبنوف والنوـ واإلغماء واإلكراه ،ويصبح
سباما ،وال يًتتب على تصرفاتو أثر شرعي ،وتنعدـ عنو التكاليف ،قاؿ اإلنساف يف ىذه اغباالت عدمي األىلية ً
رسوؿ اللَّو ،صلى اهلل عليو وسلم" :رفع عن أميت اػبطأ والنسياف وما استكرىوا عليو" ،واؼبراد رفع اؼبؤاخذة ،وىذا
يستلزـ رفع التكليف.
- 2العوارض اليت تنقص أىلية األداء كالعتو ،فإذا أصاب البالغ العاقل حجر أو عتو فبل تزوؿ عنو
أىلية األداء بل تنقص ،وتصح منو التصرفات النافعة دوف غَتىا كالصيب اؼبميز.
- 3العوارض اليت تغَت بعض األحكاـ ،كالسفو والغفلة والدَّيْن ،فإذا أصاب اؼبكلف سفو أو غفلة أو
دين فبل يؤثر ذلك على أىليتو ،فبل تزوؿ وال تنقص ،ولكن تتغَت بعض األحكاـ الناشئة عن تصرفاتو ،كاغبجر
عن تصرفاتو اؼبالية باؼبعاوضة والتربع للمحافظة على مالو حىت ال يبقى عالة على غَته ،أو للمحافظة على
حقوؽ الدائنُت الذين يتضرروف بتصرفو.
وقد توسع علماء األصوؿ يف اؼبذىب اغبنفي يف بياف األىلية وأقسامها وفروعها ،وما يتعلق ّٔا من
أيضا بالتفصيل ،وتابعهم على ذلك أكثر ال ُكتَّاب احملدثُت يف علم األصوؿ، أحكاـ ،وخصوا عوارض األىلية ً
وقد اقتصرت على اػببلصة السابقة خشية اإلطالة من جهة ،ولتجنب التكرار يف الدراسة من جهة أخرى ،فإف
حبث األىلية يدرس بتوسع يف مادة اؼبدخل الفقهي العاـ ،ويف مادة األحواؿ الشخصية ،ويف مادة القانوف
اؼبدين ،ومن أراد التوسع فلَتجع إىل الكتب اؼبعتمدة يف األصوؿ.
78
قائمة المصادر والمراجع المعتمة في إعداد المذكرة
79
فهرس المحتويات
مقدمة
01 الفصل األول :في مبادئ علم أصول الفقو
02 اؼببحث األوؿ :تعريف علم أصوؿ الفقو
02 اؼبطلب األوؿ :تعريف علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبا إضافيا
04 اؼبطلب الثاين :تعريف أصوؿ الفقو باعتباره لقبا وعلما
07 اؼببحث الثاين :موضوع علم أصوؿ الفقو ومصادره
07 اؼبطلب األوؿ :موضوع علم أصوؿ الفقو
07 اؼبطلب الثاين :العلوـ اليت يستند إليها ويستمد منها علم أصوؿ الفقو
08 اؼببحث الثالث :غاية علم أصوؿ الفقو وأنبيتو وفائدتو
08 اؼبطلب األوؿ :غاية علم أصوؿ الفقو
09 اؼبطلب الثاين :فوائد وأنبية علم أصوؿ الفقو
11 اؼببحث الرابع :نشأة وتطور علم أصوؿ الفقو
11 اؼبطلب األوؿ :األصوؿ يف عهد الرسوؿ ،صلى اهلل عليو وسلم
13 اؼبطلب الثاين :األصوؿ يف زمن الصحابة
13 اؼبطلب الثالث :األصوؿ يف عصر التابعُت
15 اؼبطلب الرابع :األصوؿ يف عهد األئمة آّتهدين
16 اؼببحث اػبامس :تدوين أصوؿ الفقو ومناىج التأليف فيو
16 اؼبطلب األوؿ :تدوين أصوؿ الفقو
16 اؼبطلب الثاين :مناىج أصوؿ الفقو وطرائق التأليف فيو
19 الفصل الثاني :في الحكم الشرعي
20 اؼببحث األوؿ :تعريف اغبكم الشرعي وأنواعو
20 اؼبطلب األوؿ :تعريف اغبكم الشرعي
25 اؼبطلب الثاين :أنواع اغبكم الشرعي يف أصوؿ الفقو
27 اؼببحث الثاين :اغبكم التكليفي
27 اؼبطلب األوؿ :أقساـ اغبكم التكليفي وشبرة االختبلؼ يف التقسيم
28 اؼبطلب الثاين :تفريعات اغبكم التكليفي
50 اؼببحث الثالث :اغبكم الوضعي
50 اؼبطلب األوؿ :تعريف اغبكم الوضعي
51 اؼبطلب الثاين :أقساـ اغبكم الوضعي
67 الفصل الثالث :في الحاكم والمحكوم فيو والمحكوم عليو
68 اؼببحث األوؿ :اغباكم
71 اؼببحث الثاين :احملكوـ فيو
76 اؼببحث الثالث :احملكوـ عليو
81 قائمة اؼبصادر واؼبراجع
80