You are on page 1of 81

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫كلية العلوم اإلسالمية‬ ‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬


‫قسم التعليم األساسي‬ ‫جامعة باتنة ‪1‬‬

‫مذكرة مدخل إلى علم أصول الفقو‬


‫موجهة إلى طلبة السنة األولى جذع مشترك‪ ،‬ليسانس علوم إسالمية‬
‫المجموعة األولى‬

‫إعداد األستاذ‪ :‬جمعي بوقفة‬

‫‪0‬‬
‫مقدمة‬
‫اغبمد هلل رب العاؼبُت والصبلة والسبلـ على أشرؼ اؼبرسلُت وعلى آلو الطيبُت الطاىرين‪ ،‬ورضي اهلل‬
‫على أصحابو آّتبُت‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫فهذه مذكرة يف مقياس مدخل إىل علم أصوؿ الفقو‪ ،‬الذي أسند إيل تدريسو‪ ،‬موجهة إىل طلبة السنة‬
‫األوىل ليسانس علوـ إسبلمية‪.‬‬
‫ومن اؼبعلوـ أف مقاييس مداخل العلوـ عادة ما تدرس لطلبة اعبذع اؼبشًتؾ‪ ،‬الذي تتفرع منو‬
‫التخصصات اؼبختلفة لذلك الفرع من العلوـ‪ ،‬بغرض تعريفهم بتلك التخصصات العلمية اؼبتفرعة من اعبذع‬
‫اؼبشًتؾ‪ ،‬حىت يكوف اختيارىم ؽبا عن بينّة وقصد‪ ،‬ويكوف ؽبم إؼباـ عاـ بعلوـ ذلك الفرع‪.‬‬
‫معُت ىو مادة علمية يتم من خبلؽبا التعريف بذلك العلم وموضوعو‪ ،‬وفائدتو والغاية منو‪،‬‬ ‫ومدخل علم ّ‬
‫ومناىجو‪ ،‬ومصادره‪ ،‬وتاريخ نشأتو وتطوره‪ ،‬وعبلقتو بالعلوـ األخرى‪ ،‬وىي ما يسميو البعض مبادئ العلم‪.‬‬
‫ومدخل علم أصوؿ الفقو مل يشذ عن باقي العلوـ يف ىذا األمر‪ ،‬لذلك فإف مفردات ىذا اؼبقياس ال‬
‫زبرج عن تلك النقاط أو اؼببادئ اليت ذكرهتا‪ ،‬باإلضافة إىل مبحث اغبكم الشرعي الذي استحوذ على أغلب‬
‫وسع فيو علماء األصوؿ وتناولوه بشيء من التفصيل يف اؼبدخل؛ ألنو عبارة عن‬ ‫صفحات ىذه اؼبذكرة‪ ،‬إذ ّ‬
‫الغاية اؼبهمة اليت يسعى علم أصوؿ الفقو الوصوؿ إليها‪ ،‬فكانت قواعده عبارة عن الضوابط اليت تضبط عملية‬
‫االجتهاد وتوجو النظر للوصوؿ إىل اغبكم الشرعي بشكل سليم‪.‬‬
‫قسمت ىذه اؼبذكرة إىل ثبلثة فصوؿ؛ األوؿ تناولت فيو مبادئ علم أصوؿ الفقو من التعريف‬ ‫ىذا وقد ّ‬
‫إىل مناىج وطرائق التأليف‪ ،‬وتناولت يف اعبزء الثاين اغبكم الشرعي وأقسامو‪ ،‬وخصصت اعبزء الثالث لباقي‬
‫أركاف نظرية اغبكم الشرعي الثبلثة‪ :‬اغباكم واحملكوـ فيو واحملكوـ عليو‪.‬‬
‫وقد اعتمدت يف إعداد مادة ىذه اؼبذكرة لغة سهلة تناسب مستوى الطلبة‪ ،‬وذبنبت قدر اإلمكاف‬
‫اػبوض يف اختبلفات العلماء‪ ،‬إال فيما دعت إليو الضرورة‪ ،‬مكتفيا بذكر أقواؽبم وأرائهم دوف التعرض ألدلتهم‬
‫تفاديا للحشو واإلكثار على الطلبة‪.‬‬
‫كما اعتمدت ؾبموعة من اؼبراجع اؼبعاصرة‪ ،‬اليت تناولت اؼبوضوع بأسلوب بسيط ولغة سهلة يتناسباف‬
‫ولغة العصر‪ ،‬ذبدىا مدونة يف قائمة اؼبصادر واؼبراجع يف آخر اؼبذكرة‪.‬‬
‫أخَتا أرجو أف هبد طلبتنا يف ىذه اؼبذكرة غايتهم وما ينفعهم يف دينهم ودنياىم‪ ،‬وأقوؿ ىذا جهد‬
‫اؼبقل‪ ،‬فما كاف فيو من صواب فمن اهلل وحده‪ ،‬وما كاف فيو من تقصَت وعثرات فمن نفسي األمارة بالسوء‪،‬‬
‫وأستغفر اهلل منو‪ ،‬وآخر دعوانا أف اغبمد هلل رب العاؼبُت وصلى اهلل على سيدنا ؿبمد وآلو‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الفصل األول‬
‫في مبادئ علم أصول الفقو‬

‫ويحتوي على خمسة مباحث‪:‬‬


‫ـ المبحث األول‪ :‬تعريف علم أصول الفقو‬
‫ـ المبحث الثاني‪ :‬موضوع علم أصول الفقو ومصادره‬
‫ـ المبحث الثالث‪ :‬غاية علم أصول الفقو وأىميتو وفائدتو‬
‫ـ المبحث الرابع‪ :‬نشأة وتطور علم أصول الفقو‬
‫ـ المبحث الخامس‪ :‬تدوين أصول الفقو ومناىج التأليف فيو‬

‫‪2‬‬
‫المبحث األول‪ :‬تعريف علم أصول الفقو‬
‫قبل التعرض لتعريف علم أصوؿ الفقو‪ ،‬نشَت إىل أف تعريفو جاء متأخرا عن تدوينو‪ ،‬حيث أف رسالة‬
‫ىم اإلماـ‬ ‫َّ‬
‫اإلماـ الشافعي (ت ‪204‬ىػ)؛ أوؿ مؤلف وصل إلينا يف ىذا العلم‪ ،‬كانت ُخ ًلوا من تعريفو؛ ألف ّ‬
‫الشافعي يف ىذه الرسالة كاف منصرفا إىل بياف اؼبوضوعات اليت كتب إليو عبد الرضبن بن مهدي (ت ‪198‬ىػ)‬
‫وحجية اإلصباع‪ ،‬وبياف الناسخ واؼبنسوخ من القرآف‬ ‫يسألو الكتابة فيها‪ ،‬وىي‪ :‬معاين القرآف‪ ،‬وقبوؿ األخبار‪ّ ،‬‬
‫والسنّة‪ ،‬وىي اؼبوضوعات اليت كانت مثار االختبلؼ يف ذلك الزماف‪.‬‬
‫والناظر يف تعريفات أصوؿ الفقو‪ ،‬اليت جاءت بعد الشافعي‪ ،‬هبد أهنا تنتظم يف اذباىُت أساسُت نبا‪:‬‬
‫أحدىما‪ :‬ينظر إليو على أنو علم مستقل‪ ،‬وأف ىذا االسم لقب لو‪ ،‬وأصبح حقيقة عرفية دوف النظر إىل‬
‫علما أو لقبًا إلنساف‪.‬‬
‫أجزائو اؼبركب منها‪ ،‬مثل عبد اهلل وقبم الدين‪ ،‬وأبو بكر إذا ُجعل كل منها ً‬
‫فيعرفو من خبلؿ تعريف ٍ‬
‫كل‬ ‫وثانيهما‪ :‬ينظر إليو على أنو مركب إضايف مكوف من ثبلث كلمات‪َّ ،‬‬
‫منها على حده‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬تعريف علم أصول الفقو باعتباره مركبا إضافيا‬
‫عرؼ الكثَت من األصوليُت علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبًا إضافيِّا‪ ،‬مؤلف من ثبلث كلمات‪ ،‬ىي‪:‬‬ ‫ّ‬
‫علم‪ ،‬وأصوؿ‪ ،‬وفقو‪ .‬ولفهم اؼبعٌت العاـ لعلم أصوؿ الفقو‪ ،‬وإدراؾ مضمونو وحدوده ال بد من تعريف وفهم‬
‫معٌت كل من اؼبضاؼ واؼبضاؼ إليو؛ أي تعريف العلم كمضاؼ لؤلصوؿ‪ ،‬وتعريف األصوؿ كمضاؼ إليو‬
‫بالنسبة للعلم وكمضاؼ للفقو‪ ،‬وتعريف الفقو كمضاؼ إليو بالنسبة للفقو‪.‬‬
‫أوال ـ تعريف العلم‬
‫العلم يف اللغة‪ :‬ىو اؼبعرفة واليقُت والشعور‪.‬‬
‫أما يف االصطبلح فيطلق العلماء لفظ العلم على أحد اؼبعاين األربعة التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬العلم‪ :‬ىو إدراؾ الشيء ومعرفتو‪ ،‬يقينا أو ظنا‪ ،‬فهو عملية ذىنية يف تصور األشياء‪ ،‬أو تصور اؼبعلوـ‪.‬‬
‫‪ - 2‬العلم‪ :‬ىو األشياء اؼبدركة نفسها‪ ،‬فعلم الفقو مثبل ىو مسائل الفقو‪ ،‬أو ىو ؾبموعة األحكاـ الشرعية‬
‫العملية‪ ،‬وعلم الطب ىو ؾبموعة التعليمات واؼبعارؼ اليت سبيز بُت الذات الصحيحة واؼبريضة‪ ،‬وعلم األصوؿ‬
‫ىو مسائلو ومباحثو‪.‬‬
‫‪ - 3‬العلم‪ :‬ىو اؼبلكة والقدرة العقلية اليت يكتسبها العامل من دراسة العلم ومسائلو‪ ،‬فيقاؿ مثبل‪ :‬فبلف عنده‬
‫علم‪.‬‬
‫‪ - 4‬العلم‪ :‬ىو االعتقاد اعبازـ اؼبطابق للواقع عن دليل‪ ،‬مثل‪ :‬النار ؿبرقة‪ ،‬والعامل حادث‪ ،‬وذلك إذا وصل‬
‫البحث إىل اؼبعرفة الكاملة اؼبطابقة للحقيقة والواقع‪ ،‬فإنو يسمى علما‪ ،‬وإال فإنو يكوف فرضية أو ظنِّا أو ِّ‬
‫شكا‬ ‫ً‬
‫أو ونبًا وزبمينًا ورصبًا بالغيب‪ ،‬فالعلم أعلى درجات اؼبعرفة‪.‬‬
‫وأقرب اؼبعاين اليت تتصل بعلم األصوؿ نبا اؼبعنياف األوؿ والثاين‪ ،‬فعلم أصوؿ الفقو ىو إدراؾ األصوؿ‬
‫ومعرفتها‪ ،‬أو ىو نفس األصوؿ اليت تؤخذ منها األحكاـ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ثانيًا ـ تعريف األصول‬
‫األصوؿ‪ :‬صبع أصل‪ ،‬وىو في اللغة أساس الشيء‪ ،‬أو ما يبٌت عليو غَته‪ ،‬سواء كاف االبتناء حسيِّا‪،‬‬
‫كاألساس الذي يشيد عليو البناء‪ ،‬فهو أصل لو‪ ،‬أـ كاف االبتناء عقليِّا‪ ،‬كابتناء األحكاـ اعبزئية على القواعد‬
‫الكلية‪.‬‬
‫أما في االصطالح‪ :‬فقد استعمل العلماء كلمة أصل يف معاف كثَتة أنبها‪:‬‬
‫‪ - 1‬األصل‪ :‬ىو ما يقابل الفرع؛ أي الصورة اؼبقيس عليها كما يف باب القياس‪ ،‬ومثالو‪ :‬قوؿ علماء أصوؿ‬
‫الفقو يف قياس حكم النبيذ على اػبمر‪ :‬اػبمر أصل والنبيذ فرع‪ .‬أو األصل الذي يتفرع عنو غَته‪ ،‬كقوؿ الفقهاء‬
‫األب أصل واالبن فرع‪.‬‬
‫‪ - 2‬األصل‪ :‬دبعٌت اؼبستصحب‪ ،‬مثل‪ :‬األصل الطهارة‪ ،‬ؼبن كاف متيقنًا منها‪ ،‬ويشك يف اغبدث؛ أي‬
‫تستصحب الطهارة حىت يثبت عكسها‪ ،‬ومثل‪ :‬األصل براءة الذمة؛ أي استصحاب براءة الذمة حىت يثبت ما‬
‫يشغلها‪ .‬ومثل األصل يف الكبلـ اغبقيقة‪ ،‬واألصل يف األشياء اإلباحة وغَتىا‪...‬‬
‫‪ - 3‬األصل‪ :‬دبعٌت القاعدة اليت تبٌت عليها اؼبسائل‪ ،‬مثل‪ :‬األمور دبقاصدىا‪ ،‬واؼبشقة ذبلب التيسَت‪ ،‬واألمر‬
‫اؼبطلق يفيد الوجوب‪...‬‬
‫‪ - 4‬األصل‪ :‬دبعٌت الدليل‪ ،‬وىو ما تعارؼ عليو الفقهاء وعلماء األصوؿ‪ ،‬مثل قوؽبم‪ :‬أصل ىذا اغبكم من‬
‫الكتاب آية كذا‪ ،‬ومن السنة حديث كذا‪ ،‬وأصل قاعدة اغبرج مرفوع الكتاب‪...‬‬
‫واؼبعنياف الثالث والرابع نبا اؼبقصوداف يف تسمية ىذا العلم بأصوؿ الفقو؛ أي أدلة الفقو وقواعده اليت‬
‫يعتمد عليها يف االستنباط‪ .‬واألدلة إما أف تكوف إصبالية؛ أي كلية ؾبردة ال تتعلق حبكم معُت‪ ،‬وتدرس يف‬
‫أصوؿ الفقو‪ ،‬وىي مصادر التشريع وقواعد االستنباط منها‪ ،‬وإما أف تكوف جزئية أو تفصيلية‪ ،‬وىي ما يتفرع أو‬
‫تنتجو تلك القواعد الكلية‪ ،‬وىبتص ّٔا علم الفقو واػببلؼ‪.‬‬
‫ثالثًا ـ تعريف الفقو‬
‫احلُ ْل عُ ْق َد ًة ِم ْن لِ َس ِاين يَػ ْف َق ُهوا‬ ‫ِ‬
‫الفقو لغة‪ :‬الفهم وإدراؾ مراد اؼبخاطب من الكبلـ‪ ،‬ومنو قولو تعاىل‪َ  :‬و ْ‬
‫ِ‬
‫خَتا يُف ّقهو يف الدّْين"‪.‬‬‫قَػ ْوِيل‪[‬طو‪ ،]28 - 27:‬وقولو عليو الصبلة والسبلـ‪َ " :‬م ْن يُرد اهللُ بو ً‬
‫عرفو أصحاب الشافعي بأنو " العلم باألحكاـ الشرعية العملية اؼبكتسب من أدلتها‬ ‫وفي االصطالح‪ّ ،‬‬
‫التفصيلية"‪.‬‬
‫وبناء على ما سبق يكوف علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبا ىو العلم بأدلة ىذه األحكاـ‪ ،‬ومعرفة وجوه‬
‫داللتها عليها من حيث اعبملة‪.‬‬
‫ويظهر لنا أف ميداف عامل األصوؿ‪ :‬ىو األدلة الكلية كالكتاب والسنة‪ ،‬واإلصباع‪ ...‬وغايتو‪ :‬إثبات‬
‫حجية ىذه األدلة‪ ،‬ووضع قواعد كلية تساعد آّتهد على استنباط األحكاـ الشرعية من األدلة التفصيلية‪.‬‬
‫أما ميداف الفقيو‪ :‬فهو األدلة التفصيلية اعبزئية اػباصة‪ ،‬وغايتو‪ :‬الوصوؿ إىل اغبكم اعبزئي لكل فعل من‬
‫أفعاؿ اؼبكلفُت‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وعلَما‬
‫المطلب الثاني‪ :‬تعريف أصول الفقو باعتباره لقبًا َ‬
‫يف ىذا االذباه نعرض تعريفُت؛ أحدنبا للجمهور والثاين للشافعية‪.‬‬
‫أوال ـ تعريف الجمهور‬
‫عرؼ اغبنفية واؼبالكية واغبنابلة أصوؿ الفقو بقوؽبم‪" :‬ىو العلم بالقواعد الكلية اليت يتوصل ّٔا إىل استنباط‬ ‫ّ‬
‫األحكاـ الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية"‪.‬‬
‫وىو تعريف وظيفي اعتُ ِمد يف بيانو على وظيفة أصوؿ الفقو‪ ،‬اليت ىي أساسا وضع قواعد وضوابط كلية‬
‫يعتمد عليها آّتهد ويستهدي ّٔا يف عملية االجتهاد واستنباط األحكاـ ألفعاؿ اؼبكلفُت‪.‬‬
‫شرح التعريف‬
‫‪ 1‬ػ العلم سبق تعريفو يف تعريف علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبا‪.‬‬
‫‪ 2‬ػ وأما القاعدة الكلية فهي اؼببدأ العاـ أو القضية الكلية اليت تدخل ربتها جزئيات كثَتة‪ ،‬مثل األمر‬
‫اؼبطلق آّرد من القرائن يفيد الوجوب‪ ،‬واغبرج مرفوع‪ ،‬وغَتىا من القواعد اليت تدخل ربت ىذه القواعد الكلية‪،‬‬
‫كأنواع اغبرج الكثَتة اليت تدخل يف مسمى اغبرج‪ ،‬وىكذا‪.‬‬
‫يتم التخاطب والتفاىم بُت الناطقُت‬ ‫وىذه القواعد قد تكوف لغوية؛ أي األصوؿ الذىنية اليت على أساسها ّ‬
‫باللساف العريب‪ ،‬مثل اؼبطلق يبقى على إطبلقو إىل أف يقيّد‪ ،‬وقد تكوف شرعية؛ أي أهنا مستمدة من استقراء‬
‫نصوص الشرع وروحو‪ ،‬كقاعدة اغبرج مرفوع‪.‬‬
‫‪ 3‬ػ ومعٌت أهنا يتوصل ّٔا إىل استنباط األحكاـ؛ أهنا الضوابط اليت يلتزـ ّٔا آّتهد يف عملية استنباط‬
‫األحكاـ‪.‬‬
‫‪ 4‬ػ واألحكاـ صبع حكم‪ ،‬وىو خطاب اهلل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت؛ أي مراده من اؼبكلفُت‪ ،‬كوجوب‬
‫الصبلة والصياـ‪ ،‬وربرمي الزنا والسرقة‪...‬‬
‫‪ 5‬ػ ووصف األحكاـ بأهنا شرعية‪ ،‬معناه أهنا تتوقف على الشرع؛ أي تثبت بأدلة من الشارع اغبكيم‪ ،‬فهو‬
‫مصدرىا‪ ،‬وذلك مثل قوؿ آّتهد أو الفقيو وبرـ اعبمع بُت اؼبرأة وعمتها أو خالتها يف الزواج‪ ،‬فهذا حكم‬
‫(التحرمي) ثبت بدليل شرعي‪ ،‬وىو قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪(( :‬ال تنكح اؼبرأة على عمتها وال خالتها))‪.‬‬
‫وىذا التقييد أيضا؛ أي كوف األحكاـ شرعية ىبرج منها األحكاـ اغبسية والعقلية‪ ،‬كاغبكم بأف النار ؿبرقة‪،‬‬
‫فهو حكم أدرؾ باغبس‪ ،‬واغبكم بأف الكل أكرب من اعبزء‪ ،‬فهو حكم أدرؾ بالعقل‪..‬‬
‫‪ 6‬ػ ومعٌت كوف األحكاـ عملية أهنا تتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت العملية‪ ،‬سواء تعلقت باعبوارح كالسرقة‬
‫والغش‪ ،..‬أو بالقلب كالنية‪ ،‬أو باللساف كشهادة الزور‪ ،..‬ؤّذا زبرج األحكاـ اليت ال تتعلق بعمل‪ ،‬كاألحكاـ‬
‫االعتقادية اؼبقصود منها التصديق‪ ،‬كالصديق بوحدانية اهلل عز وجل‪ ،‬والتصديق بنبوة ؿبمد‪ ،‬صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪ ،‬والتصديق بالبعث واعبنة والنار‪ .‬كما زبرج األحكاـ األخبلقية كالوفاء والكرـ‪.‬‬
‫‪ 7‬ػ من أدلتها‪ :‬األدلة صبع دليل‪ ،‬وىو يف اللغة اؼبرشد إىل الشيء واؽبادي إليو‪ ،‬سواء كاف ىذا اؼبرشد‬
‫حسيا‪ ،‬كالدليل السياحي‪ ،‬وىو الرجل الذي يقوـ بإرشاد الناس يف األماكن السياحية‪ ،‬أو كاف معنويا‪ ،‬كالدليل‬

‫‪5‬‬
‫العقلي الذي يرشد إىل الصواب‪ ،‬كاؼبهتدي بعقلو إىل جهة القبلة من خبلؿ اسًتشاده بعقلو جبهة شروؽ‬
‫الشمس‪.‬‬
‫والدليل يف اصطبلح األصوليُت ىو‪" :‬ما يبكن بصحيح النظر فيو التوصل إىل إدراؾ حكم شرعي"‪ ،‬أو‬
‫ىو‪" :‬ما يستفاد منو حكم شرعي مطلقا‪ ،‬سواء كاف على سبيل القطع أو على سبيل الظن"‪.‬‬
‫‪ 8‬ػ وكوف األدلة تفصيلية؛ معٌت أهنا جزئية تتعلق جبزئيات األفعاؿ‪ ،‬كالصبلة والصوـ واغبج والسرقة والزنا‬
‫والغش‪ ،‬والبيع‪ ،‬والربا وغَتىا‪..‬‬
‫وخبلصة التعريف أف علم أصوؿ الفقو ىو العلم بالقواعد والضوابط الكلية اليت يستطيع آّتهد بوساطتها‬
‫أف يعرؼ األحكاـ الشرعية اعبزئية‪ ،‬ويستخرجها من اآليات واألحاديث وغَتىا من مصادر التشريع‪.‬‬
‫ويبلحظ على تعريف اعبمهور‪ ،‬باؼبقارنة مع تعريف أصوؿ الفقو باعتباره مركبا إضافيا‪ ،‬أنو تعريف غَت‬
‫جامع بسبب إنبالو لعنصر مهم ال يبكن ذباىلو يف التعريف‪ ،‬وىو األدلة الكلية أو مصادر التشريع اليت يشتغل‬
‫عليها أيضا األصويل‪ ،‬لذلك ننتقل إىل تعريف الشافعية‪ ،‬لعلو يكوف أصبع وأمشل ؼبوضوعات أصوؿ الفقو‪.‬‬
‫ثانيا ـ تعريف الشافعية‬
‫وىو تعريف موضوعي يعتمد على بياف اؼبوضوعات واؼبسائل اليت يدرسها علم أصوؿ الفقو‪ .‬لبتار من‬
‫التعريفات تعريف البيضاوي الشافعي اؼبذىب‪ ،‬لشمولو وعمومو فيما يتصل دبسائل وقضايا ومباحث ىذا العلم‪،‬‬
‫عرفو بأنو‪" :‬معرفة دالئل الفقو إصباال‪ ،‬وكيفية االستفادة منها‪ ،‬وحاؿ اؼبستفيد"‪.‬‬ ‫حيث ّ‬
‫شرح التعريف‬
‫‪ - 1‬اؼبعرفة‪ :‬ىي العلم والتصديق بأدلة الفقو اإلصبالية‪ ،‬سواء أكاف التصديق على سبيل القطع‪ ،‬أـ على سبيل‬
‫الظن‪ ،‬ومن ىذا يظهر السبب يف اختيار لفظة اؼبعرفة‪ ،‬دوف لفظة العلم؛ ألف البيضاوي وبصر معٌت العلم‬
‫بالتصديق على سبيل القطع‪ .‬وىبرج من التعريف علم اهلل تعاىل باألدلة‪ ،‬ألف علمو تعاىل قطعي‪ ،‬وليس ظنيِّا‪.‬‬
‫‪ - 2‬دالئل‪ :‬صبع دليل‪ ،‬والدليل يف اللغة‪ :‬اؼبرشد إىل الشيء‪ ،‬والكاشف عن حقيقتو‪.‬‬
‫ويف االصطبلح‪ :‬ىو ما يبكن بصحيح النظر فيو التوصل إىل إدراؾ حكم شرعي على سبيل العلم أو الظن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الصبل َة‪[‬يونس‪،]87:‬‬ ‫يموا َّ‬ ‫مثل قولو تعاىل‪ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُوا أ َْوفُوا بالْعُ ُقود‪[‬اؼبائدة‪ ،]1:‬وقولو تعاىل‪َ  :‬وأَق ُ‬
‫ين يػُ َقاتِلُونَ ُك ْم‪[‬البقرة‪.]190:‬‬ ‫ِ ِ ِ ِ َّ ِ‬
‫وقولو تعاىل‪َ  :‬وقَاتلُوا يف َسب ِيل اللَّو الذ َ‬
‫فهذه اآليات الكريبة أدلة عند األصوليُت؛ ألهنم ينظروف إليها بأهنا أوامر شرعية‪ ،‬ويتوصلوف منها إىل إدراؾ‬
‫األحكاـ الشرعية بوجوب الوفاء بالعقد‪ ،‬وإقامة الصبلة‪ ،‬واعبهاد يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫حكما‬
‫والصحيح عند صبهور األصوليُت أف الدليل إما أف تكوف داللتو على اغبكم قطعية بأف ينتج ً‬
‫قصر بعض األصوليُت الدليل على ما يتوصل منو إىل‬ ‫حكما ظنيِّا‪ ،‬بينما ّ‬ ‫قطعيِّا‪ ،‬وإما أف تكوف ظنية بأف ينتج ً‬
‫إدراؾ حكم شرعي قطعي‪ ،‬أما ما يتوصل منو إىل إدراؾ حكم شرعي ظٍت فهو أمارة‪.‬‬
‫حكما كليِّا‪ ،‬ىو الوجوب واغبرمة‪ ،‬ويندرج‬ ‫والدليل إما أف يكوف ؾبمبل‪ ،‬كمطلق األمر والنهي‪ ،‬الذي ينتج ً‬
‫ربتو أدلة جزئية‪ ،‬وإما أف يكوف دليبل جزئيِّا تفصيليِّا يدؿ على اغبكم يف مسألة بذاهتا‪ ،‬ويندرج ربت دليل كلي‪،‬‬
‫كاألمر بإقامة الصبلة‪ ،‬الذي يدؿ على وجؤّا‪ ،‬وىذه من مباحث الفقو‪ ،‬وتذكر استطر ًادا يف األصوؿ‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫واؼبراد دبعرفة األدلة أف يعرؼ أف الكتاب والسنة واإلصباع والقياس أدلة وبتج ّٔا‪ ،‬وأف األمر مثبل للوجوب‪،‬‬
‫وال يقصد حفظ األدلة‪.‬‬
‫وىبرج من التعريف معرفة غَت األدلة‪ ،‬كمعرفة أحكاـ الفقو‪ ،‬وقواعد النحو‪ ،‬ومبادئ الببلغة‪ ،‬وأسباب‬
‫اػببلؼ؛ فإهنا ليست أدلة‪.‬‬
‫اصطبلحا‪ :‬ىو العلم باألحكاـ الشرعية العملية اؼبكتسب من أدلتها التفصيلية‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ - 3‬الفقو‪ :‬لغةً الفهم‪ ،‬و‬
‫وإف إضافة الدالئل للفقو تفيد العموـ؛ ألنو صبع مضاؼ‪ ،‬فيعم صبيع األدلة سواء كانت متف ًقا عليها أو ـبتل ًفا‬
‫فيها‪.‬‬
‫وىبرج من التعريف دالئل غَت الفقو‪ ،‬كالنحو والقانوف‪ ،‬فبل تدخل يف موضوعنا‪.‬‬
‫‪ - 4‬إصباال‪ :‬حاؿ من الدالئل‪ ،‬أي دالئل الفقو اإلصبالية الكلية غَت اؼبعينة‪ ،‬اليت يدخل ربتها جزئيات كثَتة‪،‬‬
‫مثل كوف اإلصباع حجة‪ ،‬وأف شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد ما يؤيده بشريعتنا‪ ،‬وأف النهي يفيد التحرمي‪..‬‬
‫فبل يدخل يف علم أصوؿ الفقو الدليل التفصيلي لؤلحكاـ اعبزئية يف علم الفقو وعلم اػببلؼ‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬عليو‬
‫الصبلة والسبلـ‪" :‬ال وصية لوارث" فهو دليل تفصيلي على نسخ الوصية للوارث‪.‬‬
‫‪ - 5‬كيفية االستفادة منها‪ :‬أي معرفة قواعد تفسَت النصوص وكيفية داللة ىذه األخَتة على األحكاـ‪ ،‬ومعرفة‬
‫ما يبيز الدليل الصحيح من الدليل الباطل‪ ،‬والدليل القوي من الدليل الضعيف‪ ،‬وذلك أف أدلة الفقو التفصيلية‬
‫ظنية من جهة داللتها على األحكاـ الشرعية‪ ،‬أو من جهة ثبوهتا عن النيب‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أو من‬
‫معا‪ ،‬وقد يتعارض الدليل الظٍت مع دليل آخر فيحتاج الفقيو إىل معرفة تعارض األدلة‪ ،‬ومعرفة األسباب‬ ‫اعبهتُت ً‬
‫يرجح ّٔا بعض األدلة على بعض‪ ،‬وىذا ما يدرسو األصويل يف باب التعارض والًتجيح الذي يعُِت آّتهد‪،‬‬ ‫اليت ّ‬
‫ويستفيد منو لبياف الدليل الصحيح اؼبثبت لؤلمر أو النهي‪.‬‬
‫‪ - 6‬وحاؿ اؼبستفيد‪ :‬أي معرفة صفتو‪ .‬وألف اؼبستفيد قد يكوف ؾبتهدا أو مقلدا‪ ،‬فقد حبث األصوليوف صفات‬
‫وشروط كل منهما‪ .‬وذلك أف استنباط األحكاـ من أدلتها‪ ،‬وترجيح الدليل على غَته عند التعارض‪ ،‬ال يتسٌت‬
‫لكل الناس‪ ،‬ولذا يشًتط يف آّتهد أف تتوفر فيو صفات وشروط كثَتة حىت يستطيع القياـ ّٔذا العمل اػبطَت‪،‬‬
‫وىي شروط آّتهد‪ ،‬وقد حبثها األصوليوف يف باب شرائط االجتهاد‪ ،‬وأنبها‪:‬‬
‫العلم بكتاب اهلل تعاىل وسنة رسولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ومقاصدنبا‪ ،‬واإلصباع والقياس‪ ،‬وإتقاف اللغة‬
‫العربية‪ ،‬ومعرفة الناسخ واؼبنسوخ‪ ،‬واغبقيقة وآّاز‪ ،‬واؼبطلق واؼبقيد‪ ،‬وصحيح السنة وسقيمها‪ ،‬ومتواترىا‬
‫وآحادىا‪ ،‬ومسندىا ومنقطعها‪ ،‬ومعرفة شروط القياس وطرؽ العلة وغَت ذلك‪.‬‬
‫وكما أف االجتهاد ال يستطيعو كل الناس‪ ،‬فإف التقليد أيضا غَت جائز لبعضهم‪ ،‬كمن تتوفر فيو ملكة‬
‫االجتهاد ويبتلك أدواتو‪ ،‬لذا تناوؿ األصوليوف التقليد وحددوا صفات اؼبقلد وشروطو‪.‬‬
‫وؼبا كانت معرفة كل من األدلة اإلصبالية وكيفية االستفادة منها وحاؿ اؼبستفيد الغرض منها وشبرهتا‬
‫الوصوؿ لؤلحكاـ الشرعية‪ ،‬صارت ىذه األخَتة (األحكاـ الشرعية) من مباحث علم األصوؿ أيضا‪.‬‬ ‫النهائية ّ‬
‫ولبلص من ىذا التعريف اعبامع إىل أف علم أصوؿ الفقو ىو العلم الذي يكسبنا معرفة دبصادر التشريع‬
‫ويبُت لنا الدليل الصحيح اؼبرشد إىل حكم اهلل تعاىل‪ ،‬وسبب ترجيحو على غَته‪ ،‬وكيفية استنباط‬ ‫اإلسبلمي‪ّ ،‬‬
‫‪7‬‬
‫األحكاـ الشرعية من اؼبصادر‪ ،‬ويرشدنا إىل شرائط االجتهاد‪ ،‬والطريق الذي يسلكو آّتهد يف االستنباط ضمن‬
‫اغبدود الشرعية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬موضوع علم أصول الفقو ومصادره‬
‫المطلب األول‪ :‬موضوع علم أصول الفقو‬
‫لكل علم من العلوـ موضوعا أو موضوعات خاصة يشتغل عليها‪ ،‬وىي عبارة عن ؾبموعة من اؼبسائل‬
‫واؼبباحث الكلية اليت يدور فيها وحوؽبا البحث‪.‬‬
‫ويظهر من التعريفات السابقة ألصوؿ الفقو‪ ،‬وخاصة تعريف البيضاوي‪ ،‬أف موضوعو يتكوف من طبسة‬
‫أنواع من اؼبباحث‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫‪ - 1‬مباحث األدلة اليت تستنبط منها ؤّا األحكاـ الشرعية‪ ،‬وىي مصادر التشريع اإلسبلمي اليت يستقي منها‬
‫اؼبسلم حكم اهلل تعاىل‪ ،‬وىذه األدلة قسماف‪ :‬قسم متفق عليو بُت أىل السنة واعبماعة‪ ،‬وقسم ـبتلف فيو‬
‫يعتمد عليو بعض األئمة دوف بعض‪.‬‬
‫‪ - 2‬مباحث اغبكم الشرعي‪.‬‬
‫‪ – 3‬مباحث دالالت األلفاظ وكيفية اقتباس األحكاـ من األدلة؛ أي وجوه داللة األدلة بالصيغة والنظم‪ ،‬أو‬
‫بالفحوى واؼبفهوـ‪ ،‬أو باالقتضاء والضرورة‪ ،‬أو باؼبعقوؿ وغَت ذلك من اؼبباحث اليت تدرس يف قواعد تفسَت‬
‫النصوص‪.‬‬
‫‪ - 4‬مباحث التعارض والًتجيح‪.‬‬
‫‪ - 5‬مباحث االجتهاد وشروط آّتهد وصفاتو‪ ،‬والتقليد وشروطو‪.‬‬
‫ومن ىنا ىبتلف موضوع علم أصوؿ الفقو عن موضوع علم الفقو؛ ألف الفقيو يبحث يف فعل اؼبكلف‬
‫من حيث ما يثبت لو من أحكاـ شرعية يف عباداتو وتصرفاتو وأخبلقو‪ ،‬وىل ىي واجبة عليو أـ مندوبة لو أـ‬
‫مباحة أـ مكروىة أـ ؿبرمة؟ من خبلؿ أدلتها اعبزئية التفصيلية‪.‬‬
‫أما األصويل فيبحث يف الدليل الكلي والقواعد الكلية‪ ،‬اليت تضبط عملية االجتهاد اؼبوصلة إىل األحكاـ‬
‫اعبزئية الفرعية‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬العلوم التي يستند إليها ويستمد منها علم أصول الفقو‬
‫يستند ىذا العلم ويستمد مادتو من ثبلثة علوـ أساسية‪ ،‬ىي‪ :‬علم الكبلـ واؼبنطق‪ ،‬وعلم اللغة‪ ،‬واألحكاـ‬
‫الشرعية اؼبستقرة؛ أي علم الفقو‪.‬‬
‫أما علم الكبلـ واؼبنطق فقد استفاد منو األصوليوف يف إثبات القضايا العقدية اليت تتوقف عليها صحة‬
‫األدلة وصدقها‪ ،‬كإثبات وجود اهلل سبحانو وتعاىل وصفاتو‪ ،‬واثبات اغباكمية لو‪ ،‬وصدؽ رسولو صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪ ،‬وصدؽ ما أخرب بو يف القرآف الكرمي والسنة الشريفة وحجيتهما يف االستدالؿ‪ ،‬وغَت ذلك من القضايا‪.‬‬
‫كما استفادوا من اؼبقاييس والتعريفات والبيانات اؼبنطقية يف وضع اؼبصطلحات والتعريفات للحقائق‬
‫الشرعية‪ ،‬والتطبيقات القياسية واالستقرائية‪ ،‬وإجراء اؼبقارانات واؼبوازنات والتنسيق بُت األدلة والتعارضات‬
‫واؼبتشأّات وغَتىا‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫وأما علم اللغة وكيفية داللة األلفاظ على اؼبعاين فقد اعترب أحد اؼبكونات األساسية لعلم األصوؿ‪ ،‬ذلك‬
‫أف األحكاـ الشرعية يف القرآف والسنة‪ ،‬واليت ىي غاية ومدار علم األصوؿ‪ ،‬قد نزلت ألفاظها بلغة ولساف‬
‫العرب‪ ،‬األمر الذي وبتم معرفة قواعد تلك اللغة وفهم صيغ دالالهتا على ما وضعت لو‪ ،‬واالطبلع على‬
‫أساليب ذلك اللساف وكيفية استعماؽبا‪ّٔ ،‬دؼ التعرؼ على معاين األلفاظ ومراد الشارع من النصوص‬
‫والوصوؿ إىل اغبقائق واألحكاـ الشرعية‪ .‬لذلك اىتم علماء األصوؿ باؼبباحث اللغوية وجاءت كتبهم حافلة‬
‫ّٔا‪ ،‬ودرسوىا دراسة معمقة تفوؽ أحيانا دراسة اللغويُت أنفسهم‪.‬‬
‫‪ ،‬وألهنا أسبق من تدوين أصوؿ الفقو‪ ،‬فقد استند إليها ىذا العلم يف‬ ‫وأما األحكاـ ا لشرعية اؼبستقرة‬
‫بناء قواعده من خبلؿ استقراء األحكاـ اؼببثوثة يف الكتاب وبياهنا عن طريق استقصاء تصرفات الرسوؿ صلى‬
‫اهلل عليو وسلم وتتبع ما صدر عنو من أقواؿ وأفعاؿ وتقريرات‪ ،‬وإدراؾ أسرار ومقاصد خطابو‪ ،‬وكيف تعامل‬
‫معها جيل صحابتو رضواف اهلل تعاىل عليهم‪ .‬كما اعتمد علماء اغبنفية خاصة على األحكاـ والفتاوى اليت‬
‫قررىا فقهائهم يف الفروع يف بناء قواعدىم األصولية‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬غاية علم أصول الفقو وأىميتو وفائدتو‬
‫المطلب األول‪ :‬غاية علم أصول الفقو‬
‫نفعا‪ ،‬وال تظهر فائدتو إال بعد بياف‬‫قدرا‪ ،‬وأكثرىا ً‬
‫إف علم أصوؿ الفقو من أشرؼ العلوـ‪ ،‬وأعظمها ً‬
‫الغاية منو‪.‬‬
‫والغاية من علم أصوؿ الفقو ىي الوصوؿ إىل معرفة األحكاـ الشرعية‪ ،‬أي أحكاـ اهلل تعاىل يف أفعاؿ‬
‫اعتقادا بالقلب‪ ،‬أـ نط ًقا باللساف‪ ،‬أـ عمبل باألعضاء‪ ،‬وسواء أكانت يف العقيدة أـ‬ ‫ً‬ ‫العباد‪ ،‬سواء أكانت‬
‫العبادات‪ ،‬أـ اؼبعامبلت‪ ،‬أـ األخبلؽ‪ ،‬أـ العقوبات‪ ،‬وذلك ليلتزـ اؼبكلف حدود اهلل تعاىل‪ ،‬ويبتغي مرضاتو‪،‬‬
‫ويؤدي واجباتو‪ ،‬وينتهي عن احملارـ‪ ،‬وباختصار ليمتثل دبا أمره اهلل بو‪ ،‬ويتجنب معاصيو وما هناه عنو‪ ،‬وتكوف‬
‫إرادتو موافقة إلرادة الشارع اغبكيم‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فإف علم أصوؿ الفقو ليس غاية يف ذاتو‪ ،‬وإمبا ىو طريق ووسيلة إىل معرفة حكم اهلل‬
‫تعاىل يف الوقائع‪ ،‬وإف دراسة القواعد واألدلة‪ ،‬ومعرفة طرؽ االستنباط ليست مقصودة بذاهتا‪ ،‬وإمبا تقصد ؼبا‬
‫وراءىا‪ ،‬وال هبوز حباؿ من األحواؿ أف يغيب ذلك عن ذىن الطالب والعامل وآّتهد الذين يدرسوف األصوؿ‬
‫ويدركوف فائدتو وأنبيتو ومكانتو الرفيعة بُت العلوـ‪ ،‬وأنو ال يقصد منو اغبفظ والتلقي‪ ،‬وإمبا يقصد منو أف يكوف‬
‫سديدا يف يد الباحث‪.‬‬
‫ومفتاحا ً‬
‫ً‬ ‫منهجا ضابطا يف البحث والتفكَت‪،‬‬
‫وبعد ىذه اؼبقدمة نذكر أىم فوائد علم األصوؿ‪:‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬فوائد وأىمية علم أصول الفقو‬
‫اضحا‬
‫منهجا و ً‬‫‪ - 1‬إف علم األصوؿ يرسم للمجتهد الطريق القومي اؼبوصل إىل استنباط األحكاـ‪ ،‬ويضع أمامو ً‬
‫ومستقيما يف كيفية االستنباط‪ ،‬فبل ينحرؼ وال ىببط خبط عشواء‪ ،‬وال يزؿ بو العقل واؽبوى عند أخذ‬ ‫ً‬
‫األحكاـ من األدلة‪ ،‬فيضع عامل األصوؿ القواعد الكلية ؼبعرفة كيفية استنباط األحكاـ الشرعية من األدلة‬
‫والنصوص‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫‪ - 2‬كاف علم األصوؿ الوسيلة الناجحة غبفظ الدين من التحريف والتضليل‪ ،‬فصاف أدلة الشريعة‪ ،‬وحفظ‬
‫وعرؼ الناس دبصادر التشريع األصلية اليت هبب االلتزاـ ّٔا والرجوع إليها‪ ،‬كما ّبُت اؼبصادر‬ ‫حجج األحكاـ‪ّ ،‬‬
‫الفرعية والتبعية اليت كانت آّاؿ الرحب التساع الشريعة‪ ،‬وتلبية حاجات آّتمع واألمة فيما يعًتيها من وقائع‬
‫الدس يف‬
‫وأحداث‪ ،‬وكاف علم األصوؿ العقبة الكأداء يف وجو اؼبنحرفُت واؼبضللُت واؼبشعوذين الذين حاولوا ّ‬
‫األحكاـ‪ ،‬وتشويو مقاصد التشريع واؼبراوغة يف التضليل والدعوة‪ ،‬وإطبلؽ العناف للهوى يف التأويل‪ ،‬كمن ينفي‬
‫حجية خرب اآلحاد‪ ،‬أو ينكر السنة‪ ،‬أو ينفي حجية اإلصباع والقياس‪ ،‬ومن يدعي أنو ال داللة يف ألفاظ القرآف‬
‫على شيء‪ ،‬ومن يدعي أف يف القرآف ألفاظًا مبهمة‪ ،‬ومن يتبلعب باألحكاـ‪ ،‬وأف اػبمر مثبل ليست ؿبرمة‬
‫لعدـ النص على التحرمي بلفظ وبرـ‪.‬‬
‫ونصوا على قوة‬
‫وقد حدد علماء األصوؿ مصادر التشريع وبيّنوا دالالت األلفاظ وتفسَت النصوص‪ّ ،‬‬
‫وضحوا لنا طرؽ‬ ‫األدلة القطعية والظنية‪ ،‬والعبلقة بُت النص السابق والبلحق يف التخصيص والنسخ‪ ،‬كما ّ‬
‫ويرد‬ ‫ِ‬
‫سبلحا ذا ح ّدين يُعُت اؼبخلصُت على معرفة أحكاـ اهلل‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫االجتهاد وشروط آّتهد‪ ،‬فكاف علم األصوؿ‬
‫كيد الكائدين يف كبورىم‪.‬‬
‫يبُت لؤلمة عامة‪ ،‬وألتباع آّتهد‪ ،‬ودارسي الفقو خاصة‪ ،‬اؼبنهج الذي سلكو اإلماـ‬ ‫‪ - 3‬إف علم األصوؿ ّ‬
‫آّتهد‪ ،‬ويرسم أمامهم معامل الطريق الذي سار عليو يف االستنباط واالجتهاد لتطمئن قلؤّم لعلمو‪ ،‬وتزداد‬
‫ثقتهم باغبكم الذي وصل إليو‪ ،‬وتستقر نفوسهم إىل مسلك اإلماـ وأساس االختبلؼ‪ ،‬وأف آّتهد يقصد وجو‬
‫اهلل تعاىل ويبغي مرضاتو يف عملو‪ ،‬دوف أف يدفعو لذلك اؽبوى اعبامح‪ ،‬أو اؼبصلحة الشخصية‪ ،‬أو القصد‬
‫اؼبادي‪ ،‬أو التطلع إىل منصب أو جاه‪.‬‬
‫وأتباع كل مذىب ػ وإف مل يصلوا إىل درجة االجتهاد‪ ،‬ومل ينزلوا إىل درجة العواـ ػ يرغبوف بطبيعة اغباؿ‬
‫يف معرفة أساس االجتهاد عند األئمة‪ ،‬وكيف وصلوا إىل استنباطها‪ ،‬وال يتمكنوف من ذلك إال بدراسة علم‬
‫أصوؿ الفقو‪ ،‬وإف فعلوا ذلك فقد نفوا عن أنفسهم وصمة التقليد األعمى لئلماـ‪.‬‬
‫والعلماء ػ إف عرفوا مناط األحكاـ وسبل االجتهاد وأساس التشريع ػ إف ورد أمامهم رأياف استطاعوا أف‬
‫ىبتاروا الرأي األقرب إىل قواعد اؼبذىب‪ ،‬وإف اعًتضتهم جزئية صغَتة استطاعوا زبرهبها على أصوؿ آّتهد‪.‬‬
‫يكوف عند الطالب والدارس والباحث ملكة عقلية وفقهية تصحح تفكَته‪ ،‬وتعبّد‬ ‫‪ - 4‬إف علم أصوؿ الفقو ّْ‬
‫الطريق أمامو لبلجتهاد واالستنباط واإلدراؾ الصحيح والفهم التاـ للحكم على األشياء‪ ،‬ليكوف يف اؼبستقبل‬
‫قادرا على‬
‫القريب من علماء األمة ورجاؿ الغد‪ ،‬وضبلة الرسالة السماوية واألمانة اإلؽبية يف التشريع‪ ،‬ويصبح ً‬
‫استنباط األحكاـ من األدلة‪.‬‬
‫‪ - 5‬يرسم علم أصوؿ الفقو الطريق للعلماء‪ ،‬يف كل عصر ؼبعرفة حكم اهلل تعاىل يف اؼبسائل اؼبستجدة‪،‬‬
‫ينص عليها األئمة يف كتبهم‪ ،‬فيخوض العامل غمار ىذه‬ ‫والوقائع اغبادثة اليت مل يرد فيها دليل شرعي‪ ،‬ومل ّ‬
‫األحداث فيعرؼ ما يتفق منها مع حكم اهلل تعاىل‪ ،‬وما وبقق شريعتو‪ ،‬ووبفظ مقاصده األصلية‪ ،‬فيبقى التشريع‬
‫مسايرا لتطورات الزمن‪ ،‬وال شك أف اغباجة ملحة للتشريع الدائم‪ ،‬واالجتهاد اؼبستمر‪ ،‬ألف التشريع نفسو وليد‬ ‫ً‬
‫اغباجة‪ ،‬وإذا كاف من الًتؼ الفكري والعقلي وجود الفقو االفًتاضي‪ ،‬فإنو من اػبطأ الفادح‪ ،‬والتقصَت اآلمث‬

‫‪10‬‬
‫صبود الفقو والتشريع عن ؾباراة العصر وبياف كل ما يقع فيو من جديد؛ ألف اإلسبلـ صاحل لكل زماف ومكاف‪،‬‬
‫ومن ذلك طفل األنابيب‪ ،‬وموانع اغبمل‪ ،‬والتأمُت على اغبياة‪ ،‬والتعامل مع اؼبصارؼ‪ ،‬ونقل األعضاء‪ ،‬وموت‬
‫الدماغ‪ ،‬والتجارة الدولية‪ ،‬وحوادث السَت‪ ،‬ونظاـ اؼبرور‪ ،‬واالتصاالت اغبديثة‪ ،‬واألعماؿ اؼبصرفية‪ ،‬واؼبواصبلت‬
‫الدولية‪ ،‬وغَتىا كثَت‪.‬‬
‫يعرفنا على األحكاـ الشرعية يف كل حادث وطارئ‪ ،‬فقد قاؿ علماء‬ ‫وإف علم أصوؿ الفقو ىو الذي ّ‬
‫يبُت السبب يف غلق باب االجتهاد‬ ‫حكما هلل تعاىل‪ ،‬وإف كل ؾبتهد مأجور‪ ،‬وىذا ّ‬ ‫األصوؿ‪ :‬إف لكل واقعة ً‬
‫ويدسوا يف‬
‫اعبهاؿ والدجالُت‪ ،‬وأنصاؼ اؼبتعلمُت‪ ،‬خشية أف يتولوا كرسي االجتهاد‪ُّ ،‬‬ ‫الذي أوصده العلماء أماـ ّ‬
‫الدّْين ما ليس فيو‪ ،‬فيَضلوا ويُضلوا‪ ،‬كغلق اؼبدرسة إذا مل يتوفر طبلب أو أساتذة‪ ،‬وغلق معمل إذا مل يتوفر فيو‬
‫مهندس أو اختصاصي‪ ،‬أو مواد أولية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من القوؿ بقفل باب االجتهاد يف فًتة زمنية‪ ،‬فلم تتوقف دراسة أصوؿ الفقو‪ ،‬ومل َوبرـ‬
‫علما شرعيِّا يتبوأ‬
‫االطبلع عليو‪ ،‬ومل يُلغ من حلقات الدرس‪ ،‬بل بقي ىذا العلم على مر األزماف والعصور ً‬
‫الدرجة العليا يف الدراسة والتدريس والتأليف‪ ،‬وما ذلك إال ألف ىذا العلم يؤكد صبلحية ىذه الشريعة لكل‬
‫زماف ومكاف‪ ،‬ويظهر مرونة التشريع اإلسبلمي ومسايرتو ؼبصاحل الناس‪ ،‬وإف الشريعة الغراء تليب حاجات آّتمع‬
‫كيفما كاف‪.‬‬
‫ويبُت أسباب التباين بينها‪،‬‬‫‪ - 6‬إف علم أصوؿ الفقو يضبط الفروع الفقهية بأصوؽبا‪ ،‬وهبمع اؼببادئ اؼبشًتكة‪ّ ،‬‬
‫ويظهر أساس االختبلؼ‪.‬‬
‫مثاؿ ذلك القاعدة األصولية " األمر للوجوب"‪ ،‬فإهنا تشمل صبيع النصوص يف القرآف الكرمي والسنة‬
‫الشريفة اليت جاءت بصيغة األمر‪ ،‬فإهنا تفيد الوجوب‪ ،‬ما مل يوجد قرينة تصرؼ األمر عن الوجوب إىل الندب‬
‫أو اإلباحة‪ ،‬وإف القاعدة األصولية " ال اجتهاد يف مورد النص" قاعدة أساسية تعترب شعار آّتهد واؼبتبع واؼبقلد‬
‫والباحث واؼبناظر‪ ،‬فحيثما ورد النص يف القرآف والسنة فبل ؾباؿ إلعماؿ الرأي واالجتهاد واالستنباط‪.‬‬
‫‪ - 7‬إف علم أصوؿ الفقو ىو الدعامة الرئيسية والركيزة األساسية لدراسة اؼبذاىب اؼبختلفة واؼبقارنة بينها‪،‬‬
‫وخاصة يف عصرنا اغباضر الذي شاع فيو البحث اؼبقارف‪ ،‬وانتشرت الدراسات اؼبقارنة لبياف ما يتفق مع الدليل‬
‫الراجح‪ ،‬وما يوافق مقاصد الشريعة‪ ،‬ووبقق مصاحل الناس‪ ،‬ويؤكد ىذه األنبية أف القوانُت والفتاوى واالجتهادات‬
‫والدراسات تتجو لؤلخذ من ـبتلف اؼبذاىب‪ ،‬باعتبار أف الشريعة اإلسبلمية دبذاىبها اؼبتعددة مصدر للتشريع‬
‫معُت‪ ،‬بل تبحث يف اؼبذاىب‪ ،‬وتطوؼ بُت األدلة واألحكاـ‬ ‫وأخذ األحكاـ‪ ،‬ومل تعد تقتصر على مذىب ّ‬
‫الختيار ما يؤيده الدليل القوي‪ ،‬وما يصلح لؤلمة‪.‬‬
‫ويأيت علم أصوؿ الفقو يف قمة الوسائل اليت يستخدمها الباحث يف اؼبقارنة واؼبوازنة بُت اآلراء عند‬
‫فيتعرؼ على الدليل‪ ،‬ومنهج االستنباط‪ ،‬ومسلك االجتهاد‪ ،‬مث ىبتار األحكاـ اليت يرجحها على‬ ‫االختبلؼ؛ ّ‬
‫غَتىا‪.‬‬
‫آّرد‪ ،‬واؼبطّلع‬
‫‪ - 8‬إف علم أصوؿ الفقو يعطي الدليل اعبازـ لعظمة الثروة الفقهية من جهة‪ ،‬ويؤكد للباحث ّ‬
‫اغبيادي أف أسباب االختبلؼ بُت األئمة ىي أسباب موضوعية علمية‪ ،‬وليست أسبابًا شخصية أو عشوائية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ىذه الفوائد ‪ -‬وغَتىا كثَت ‪ -‬تثبت أنبية أصوؿ الفقو‪ ،‬وضرورة دراستو وتعلّمو‪ ،‬واالطبلع عليو‪ ،‬والتزود‬
‫بقواعده‪ ،‬والتمرس بأسلوبو‪ ،‬واالىتداء بو يف معرفة تراث األمة السابق‪ ،‬واستنباط األحكاـ للوقائع يف اغباضر‪،‬‬
‫وتوضيح الرؤية ؼبستقبل اؼبسلمُت الذين يأملوف يف تطبيق شريعة رّٔم والرجوع إىل كتابو وسنة رسولو دبشيئة اهلل‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬نشأة وتطور علم أصول الفقو‬
‫ترجع نشأة أصوؿ الفقو إىل تاريخ مشروعية االجتهاد؛ ألف االجتهاد ال يقوـ إال على أصوؿ وقواعد‬
‫تضبطو‪ .‬وال خبلؼ أف حاالت من االجتهاد قد وقعت يف زمن النيب صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬رغم عدـ التصريح‬
‫باألصوؿ والقواعد اليت قاـ عليها‪ .‬وال يعٍت ىذا أف علم أصوؿ الفقو ولد مكتمبل وبرزت قواعده إىل الواقع‬
‫فجأة‪ ،‬بل مر دبراحل وعوامل ساعدت على تكوينو وظهوره التدرهبي‪ ،‬شأنو يف ذلك شأف سائر العلوـ‪.‬‬
‫وقد مرت األصوؿ والقواعد اليت تضبط عملية استنباط أحكاـ الفقو دبراحل متميزة نوجزىا فيما يلي‪:‬‬
‫المطلب األول‪ :‬األصول في عهد الرسول صلى اهلل عليو وسلم‪.‬‬
‫يف ىذا العهد كاف الرسوؿ صلى اهلل عليو وسلم ىو أصل األحكاـ ومصدرىا دبا يوحي إليو ربو عز‬
‫وجل من تعليمات وتوجيهات‪ ،‬ودبا يُ َلهم بو من السنن‪ .‬فقد أ ّكدت آيات كثَتة من القرآف الكرمي على مصدرية‬
‫الرسوؿ يف التشريع بالقرآف أو السنة وح ّذرت من اػبروج عن طاعتو‪ .‬من ذلك قولو تعاىل‪ :‬من يطع الرسوؿ‬
‫فقد أطاع اهلل‪[‬النساء‪ ،]80،‬وقولو‪ :‬وما أتاكم الرسوؿ فخذوه وما هناكم عنو فانتهوا واتقوا اهلل إف اهلل شديد‬
‫العقاب‪[‬اغبشر‪ ،]7،‬وقولو عز وجل‪ :‬وما كاف ؼبؤمن وال مؤمنة إذا قضى اهلل ورسولو أمرا أف تكوف ؽبم اػبَتة‬
‫من أمرىم ومن يعص اهلل ورسوؿ فقد ضل ضبلال مبينا ‪[‬األحزاب‪ ،]36،‬وقولو عز من قائل‪ :‬فبل وربك ال‬
‫يؤمنوف حىت وب ّكموؾ فيما شجر بينهم مثّ ال هبدوا يف أنفسهم حرجا فبا قضيت ويسلموا‬
‫تسليما‪[‬النساء‪.]65،‬‬
‫ومن خبلؿ ىذه التوجيهات والتحذيرات القرآنية عرؼ الصحابة منزلة الرسوؿ صلى اهلل عليو وسلم يف‬
‫التشريع؛ فكانوا كلما احتاجوا إىل بياف سألوه‪ ،‬وكلما رغبوا يف معرفة حكم غبادثة وقعت ؽبم رجعوا إليو‬
‫يستفتونو‪ ،‬وإذا وقعت بينهم خصومة رباكموا إليو‪ .‬فكاف صلى اهلل عليو وسلم هبيبهم دبا نزؿ عليو سلفا أو دبا‬
‫سينزؿ عليو من القرآف أو دبا أُؽبِم بو من السنة‪ .‬وقد شهدت ؽبذا األمر آيات وأحاديث كثَتة‪ ،‬نذكر على سبيل‬
‫اؼبثاؿ قولو تعاىل‪ :‬يسألونك عن الشهر اغبراـ قتاؿ فيو‪[ ..‬البقرة‪ ،]217،‬وقولو‪ :‬يسألونك ماذا أحل‬
‫ؽبم‪[..‬اؼبائدة‪ ،]4،‬وعن جرير بن عبد اهلل‪ ،‬سألت رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم عن نظر الفجأة‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫((أصرؼ بصرؾ))(روا أبو داود)‪ ،‬وجاء رجل إىل رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم فقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل إنا نركب‬
‫البحر وكبمل معنا القليل من اؼباء فإف توضأنا بو عطشنا‪ ،‬أفنتوضأ بو؟ فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪:‬‬
‫((ىو الطهور ماؤه اغبل ميتتو))(رواه مالك وأصحاب السنن)‪.‬‬
‫ومل تكن اغباجة يف ىذا العهد إىل أصوؿ وقواعد يتوصل ّٔا إىل استنباط األحكاـ؛ ألف الصحابة كانوا‬
‫يتعرفوف على األحكاـ من النصوص اليت يفهموهنا بسليقتهم العربية السليمة‪ ،‬ووقوفهم على أسباب نزوؿ‬ ‫ّ‬
‫اآليات وورود اغبديث‪ ،‬وإدراكهم ؼبقاصد التشريع من خبلؿ صحبتهم للنيب صلى اهلل عليو وسلم‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫وال يعٍت ما سبق من كبلـ أف االجتهاد مل يقع يف ىذا العهد إطبلقا‪ ،‬بل وقع االجتهاد منو صلى اهلل‬
‫عليو وسلم‪ ،‬كما وقع من صحابتو رضواف اهلل تعاىل عليهم وشجعهم النيب على ذلك‪ ،‬وكاف الغرض منو تعليم‬
‫الصحابة وتدريبهم عليو‪ ،‬وربضَتىم ؼبا بعد وفاتو صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وإال فإف األمر يؤوؿ يف النهاية إىل‬
‫الوحي‪ ،‬الذي يؤيد ما توصل االجتهاد إليو أو يصححو‪ ،‬أو يؤوؿ إىل السنة بعد إقرار النيب صلى اهلل عليو وسلم‬
‫عليو‪ .‬ومن أمثلة ذلك اجتهاد النيب صلى اهلل عليو وسلم يف أخذ الفدية من أسرى بدر‪ ،‬وإذنو ؼبن زبلف عن‬
‫غزوة تبوؾ‪ ،..‬ومن أمثلة اجتهاد الصحابة والتشجيع عليو‪ ،‬أمره عمر بن العاص أف يقضي بُت خصمُت حضرا‬
‫لديو‪ ،‬وإقراره اجتهاد الرجلُت الذين حضرت الصبلة ومل يكن معهما ماء‪ ،‬فتيمما وصليا‪ ،‬مث وجدا اؼباء يف‬
‫الوقت‪ ،‬فأعاد أحدنبا الوضوء والصبلة ومل يُعِد اآلخر‪ ،‬وؼبا جاءا إىل النيب وأخرباه‪ ،‬قاؿ للذي مل يعد‪(( :‬أصبت‬
‫السنة وأجزأتك صبلتك))‪ ،‬وقاؿ للثاين‪(( :‬لك األجر مرتُت))‪( .‬واغبديث رواه أبو داود)‪.‬‬
‫ومن القواعد األصولية اليت ظهرت يف ىذا العهد‪:‬‬
‫ػ قاعدة ترتيب مصادر التشريع عند البحث عن اغبكم الشرعي‪ ،‬وىي مستفادة من حديث معاذ عندما‬
‫أراد النيب صلى اهلل عليو وسلم بعثو إىل اليمن وسألو دبا يقضي إذا عرض لو قضاء؟ فقاؿ لو أنو يقضي بكتاب‬
‫اهلل‪ ،‬فإف مل هبد فبالسنة‪ ،‬فإف مل هبد فيجتهد برأيو‪ ،‬فوافقو النيب على ذلك (واغبديث رواه أبو داود)‪.‬‬
‫ػ قاعدة قياس األوىل‪ ،‬وىي مستفادة من حديث اؼبرأة اليت أتت النيب صلى اهلل عليو وسلم فقالت‪ :‬إف‬
‫أمي ماتت وعليها صوـ شهر؟ فقاؿ‪(( :‬أريت لو كاف عليها دين أكنت قاضيتو؟))‪ ،‬فقالت نعم‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫((فدين اهلل أحق بالقضاء))(رواه مسلم)‪.‬‬
‫ػ ومنها قاعدة قياس اؼبماثلة‪ ،‬وىي مستفادة من حديث الرجل الذي ساورتو الوساوس عندما ولد لو‬
‫غبلـ أسود اللوف فأنكر نسبو‪ ،‬فسألو عن لوف إبلو‪ ،‬فقاؿ الرجل أهنا ضبر‪ ،‬فسألو ىل فيها من أورؽ‪ ،‬فأجاب‬
‫الرجل بنعم‪ ،‬فسأؿ عن علة ذلك‪ ،‬فقاؿ الرجل لعلو نزعو عرؽ‪ ،‬فقاؿ النيب صلى اهلل عليو وسلم‪(( :‬فلعل ابنك‬
‫ىذا نزعو)) (رواه البخاري)‪ ،‬يقصد شابو أحد أجداده قياسا على اإلبل‪.‬‬
‫ػ قاعدة قياس العكس‪ ،‬وىي مستفادة من اغبديث الذي قاؿ فيو النيب صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬ويف بضع‬
‫أحدكم صدقة))‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسوؿ اهلل أيقضي أحدنا شهوتو ويكوف لو فيها أجر؟ قاؿ‪ :‬أرأيتم لو وضعها يف حراـ‬
‫أيكوف عليو وزر؟ فكذلك إذا وضعها يف حبلؿ كاف لو أجر)) (رواه مسلم)‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬األصول في زمن الصحابة‬
‫بعد وفاة النيب صلى اهلل عليو وسلم ظهرت وقائع وأحداث جديدة‪ ،‬بسبب اتساع دائرة اإلسبلـ وتطور‬
‫اغبياة بسبب االحتكاؾ مع الشعوب آّاورة ودخوؿ الناس يف دين اهلل أفواجا‪ ،‬فكاف البد من مواجهة ىذه‬
‫اؼبستجدات باالجتهاد واستنباط أحكامها من الكتاب والسنة أو القياس‪ .‬وقد ساعدىم يف ذلك خصائص‬
‫سبيزوا ّٔا‪ ،‬منها امتبلكهم للفطرة النقية الداعية للتسليم والسليقة العربية السليمة‪ ،‬ومعرفتهم بأساليب اللغة العربية‬
‫ووجوه دالالت ألفاظها وعباراهتا على اؼبعاين‪ ،‬كما ساعدىم خربهتم يف إدراؾ مقاصد التشريع وأسراره اليت‬
‫اكتسبوىا من مبلزمتهم للنيب صلى اهلل عليو وسلم وعلمهم بأسباب نزوؿ القرآف وورود اغبديث‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ومن أمثلة االجتهادات اليت وقعت يف ىذا العهد اجتهاد عبد اهلل بن مسعود‪ ،‬رضي اهلل عنو‪ ،‬يف مسألة‬
‫اؼبفوضة‪ ،‬وىي اليت تزوجها رجل ومل يفرض ؽبا صداقا ومل يدخل ّٔا حىت مات‪ ،‬بأف ؽبا صداؽ اؼبثل وعليها‬
‫العدة وؽبا اؼبَتاث‪ .‬ومن أمثلة ذلك أيضا أف عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنو أرسل عكرمة رضي اهلل عنو إىل‬
‫زيد بن ثابت رضي اهلل عنو يسألو عن زوج وأبوين‪ ،‬فأجاب بأف للزوج النصف ولؤلـ الثلث فبا بقي ولؤلب بقية‬
‫اؼباؿ‪ .‬وكذلك اختبلؼ علي وعمر ‪ ،‬رضي اهلل عنهما‪ ،‬يف من دخل باؼبعتدة‪ ،‬حيث يرى عمر‪ ،‬رضي اهلل عنو‪،‬‬
‫التفريق بينهما مع التحرمي اؼبؤبد‪ ،‬ويرى علي كرـ اهلل وجهو التفريق وبداية العدة من جديد وال ربرـ بعد ذلك‪.‬‬
‫وقد ظهرت يف اؼبرحلة ؾبموعة من القواعد األصولية‪ ،‬أنبها‪:‬‬
‫ػ قاعدة اإلصباع‪ ،‬اؼبستفادة من أصباع الصحابة على خبلفة أيب بكر‪ ،‬رضي اهلل عنو‪ ،‬وإصباعهم على‬
‫صبع القرآف يف مصحف واحد‪ ،‬وصباعهم على قتاؿ مانعي الزكاة‪.‬‬
‫األمة‪ .‬وقياسهم‬
‫ػ قاعدة القياس‪ ،‬حيث جعلوا العبد على النصف من اغبر يف النكاح واغبد‪ ،‬قياسا على َ‬
‫حد اػبمر على حد القذؼ‪ ،‬وقياس اإلمامة العظمى على إمامة الصبلة‪ ،‬وتوريث اعبدة ألب قياسا على اعبدة‬
‫ألـ من باب أوىل‪.‬‬
‫ػ قاعدة االستصبلح؛ أي بناء األحكاـ على اؼبصاحل اليت شهدت ؽبا عموـ النصوص باالعتبار‪ ،‬كما يف‬
‫صبع اؼبصحف الشريف يف زمٍت أيب بكر وعثماف‪ ،‬رضي اهلل عنهما‪ ،‬وتدوين الدواوين يف زمن عمر ‪ ،‬رضي اهلل‬
‫عنو‪ ،‬وجعل الشورى بُت الستة لتولية اػبليفة الثالث‪.‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬األصول في عصر التابعين‬
‫إذا كاف الصحابة قد تربوا على يدي رسوؿ اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وساروا على هنجو‪ ،‬فإف التابعُت‬
‫قد تربوا على أيدي الصحابة الذين نقلوا إليهم تعاليم اإلسبلـ وأحكامو وعرفوىم دبنهجو يف العلم والفقو‬
‫والفتيا‪ ،‬حُت تفرؽ ىؤالء األصحاب يف األمصار يعلموف الناس أمور دينهم‪ ،‬فأنشؤوا حركة علمية يف كل مصر‬
‫نزلوا بو‪.‬‬
‫وكاف من الطبيعي أف يكوف ؽبؤالء الصحابة أتباع وتبلميذ تأثروا بشخصياهتم ومناىجهم يف استنباط‬
‫األحكاـ‪ .‬وبذلك بدأت تتبلور مبلمح مدارس فقهية تتميز دبناىجو وقواعدىا اػباصة‪ ،‬كتلك اليت يقودىا سعيد‬
‫بن اؼبسيب (ت ‪ 94‬ىػ) وأصحابو الذين كانوا يروف أف علماء اغبرمُت الشريفُت أثبت الناس يف اغبديث والفقو‪.‬‬
‫لذلك صبع فتاوى اػبلفاء األربع وعائشة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت‪ ،‬رضي اهلل عنهم‪ ،‬وأعتمد قضيا‬
‫قضاة اؼبدينة وحفظ منها الكثَت‪ .‬فما كاف ؾبمعا عليو بُت علماء اؼبدينة عض سبسك بو ىو وأصحابو ال‬
‫هباوزونو‪.‬‬
‫‪95‬ىػ) وأصحابو الذين يروف أف عبد اهلل بن‬ ‫وكاف يف اعبانب اآلخر يف العراؽ إبراىيم النخعي (ت‬
‫مسعود‪ ،‬رضي الو عنو‪ ،‬أثبت يف الفقو‪ ،‬يعتمدوف فتاوى علي‪ ،‬كرـ اهلل وجهو ورضي عنو‪ ،‬وأحكامو مدة خبلفتو‬
‫بالكوفة‪ ،‬وفتاوى أيب موسى األشعري وسعد بن أيب وقاص‪،‬رضي اهلل عنهما‪ ،‬وقضايا القاضي شريح‪ ،‬إذ كاف‬
‫يستشَت فيها عمر وعثماف‪ ،‬رضي اهلل عنهما‪ .‬فعمل إبراىيم النخعي يف آثار ىؤالء‪ ،‬مثلما فعل سعيد بن‬
‫وخرج على فقههم بالقياس واالستنباط فيما مل ينصوا فيو‪ ،‬وازبذ قضاياىم أصبل‬ ‫اؼبسيَّب يف آثار أىل اؼبدينة‪ّ ،‬‬
‫‪14‬‬
‫لو‪ ،‬فكاف الواضع األوؿ ألسس مذىب العراقيُت (مدرسة الرأي)‪ ،‬كما كاف ابن اؼبسيّب الواضع األوؿ ألسس‬
‫مدرسة اغبديث‪.‬‬
‫وقد ظهر إىل جانب ىؤالء فقهاء آخروف اشتهروا بالفقو واالجتهاد‪ ،‬كعطاء بن رباح يف مكة‪ ،‬وطاووس‬
‫يف اليمن‪ ،‬ووبي بن أيب كثَت يف اليمامة‪ ،‬واغبسن البصري يف البصرة‪ ،‬ومكحوؿ يف الشاـ‪ ،‬والفقهاء السبعة يف‬
‫اؼبدينة‪.‬‬
‫وقد تطور ىذا التنوع يف الرأي واالختبلؼ يف النظر إىل مصادر األحكاـ ومواردىا ليتحوؿ إىل نزاع‬
‫ظاىر بُت اعبانبُت يف مسألة األخذ بالرأي‪.‬‬
‫وقد كاف من العوامل اليت ساعدت على بروز مبلمح اؼبدرستُت؛ مدرة اغبديث يف اؼبدينة ومدرسة الرأي‬
‫يف العراؽ‪ ،‬ما يلي‪:‬‬
‫بالنسبة ؼبدرسة اغبديث يف اؼبدينة‪:‬‬
‫ػ تأثرىم باؼبنهج الذي التزمو علماؤىم من الصحابة‪ ،‬وخاصة عبد اهلل بن عمر‪ ،‬رضي اهلل عنو‪ ،‬يف‬
‫حرصهم على اغبديث واآلثار‪ ،‬وذبنب األخذ بالرأي وإعماؿ القياس إال للضرورة‪.‬‬
‫ػ ما لديهم من ثروة حديثية ورثوىا عن الصحابة الذين استوطن غالبيتهم منطقة اغبجاز‪.‬‬
‫ػ قلة اؼبسائل اؼبستجدة بسبب يسر اغبياة ورتابتها يف منطقة اغبجاز‪ ،‬وبطء تطور مدهنم‪.‬‬
‫ػ وقد سبيزت ىذه اؼبدرسة بالوقوؼ عند ظواىر النصوص من غَت نظر إىل عللها‪ ،‬وقلة التفريع وكراىية‬
‫السؤاؿ عن اؼبسائل االفًتاضية‪.‬‬
‫بالنسبة ؼبدرسة الرأي يف العراؽ‪:‬‬
‫ػ تأثرىم بالصحايب اعبليل عبد اهلل بن مسعود‪ ،‬رضي اهلل عنو‪ ،‬أستاذ الكوفة الذي كاف يأخذ بالرأي‬
‫والقياس‪.‬‬
‫ػ قلة اغبديث إذا ما قيس دبنطقة اغبجاز‪.‬‬
‫ػ شيوع الوضع يف اغبديث بسبب اػببلفات السياسية‪ ،‬ما دفعهم إىل التحرز من الرجوع إليو‪.‬‬
‫ػ كثرة اؼبشكبلت واؼبسائل اؼبستجدة بسبب االحتكاؾ باغبضارة الفارسية‪.‬‬
‫وقد سبيزت ىذه اؼبدرسة بكثرة التفريع لكثرة ما يعرض ؽبم من حوادث‪ ،‬وسرعة التطور حىت افًتضوا‬
‫اؼبسائل‪ ،‬كما سبيزت بقلة رواية اغبديث‪.‬‬
‫القواعد األصولية يف ىذا العهد‪:‬‬
‫ظهرت قواعد أصولية جديدة بظهور ىذه اؼبدارس‪ ،‬باإلضافة إىل القواعد السابقة اليت ظهرت يف عهد‬
‫الصحابة؛ فظهر إصباع فقهاء اؼبدينة عند مدرسة اغبديث باؼبدينة‪ ،‬واعتمادىم اؼبصلحة يف االستنباط‪ .‬وظهر‬
‫القياس كمصدر لؤلحكاـ يف العراؽ‪ ،‬واعتمادىم أقواؿ الصحابة يف االحتجاج والفتوى‪..‬‬
‫وىكذا قبد أف لفقهاء كل بلد مناىج وطرؽ يف االستنباط‪ ،‬تنمو وتزداد وضوحا كلما تقدـ الزمن‪ .‬وىذا‬
‫بدوره يراكم اؼبادة العلمية ألصوؿ الفقو ويعمق الفكر األصويل ويساعد على بروزه يف قواعد ودالئل يتبناىا‬
‫علماء كل مصر‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫المطلب الرابع‪ :‬األصول في عهد األئمة المجتهدين‬
‫نقل علماء التابعُت النصوص الشرعية وما ورثوه من علم الصحابة إىل تبلميذىم وأتباعهم‪ ،‬كما نقلوا‬
‫منهاج ىؤالء يف استنباط األحكاـ الشرعية اليت بدأت يف التمايز على أيديهم وطوروىا‪ ،‬وكاف من الطبيعي جدا‬
‫أف تتمايز ىذه اؼبناىج أكثر على أيدي تبلميذ التابعُت‪ ،‬فبا أدى إىل ظهور واضح ؼبدارس فقهية عدة‪ ،‬أنبها‬
‫مدرسة الرأي بالعراؽ اليت وضع أسسها األوىل إبراىيم النخعي‪ ،‬ومدرسة اغبديث باغبجاز اليت وضع أسسها‬
‫األوىل سعيد بن اؼبسيّب كما رأينا سابقا‪.‬‬
‫مث اشتد النزاع واػببلؼ بُت ىاتُت اؼبدرستُت خبلؿ ىذه اؼبرحلة واستفحل أثره‪ ،‬وظهر اؼبتعصبوف من‬
‫كبل الطرفُت‪ ،‬وأخذ كل طرؼ أو أىل مدرسة باالحتجاج لرأيو وإبراز األصل الذي اعتمد عليو‪ ،‬وىكذا حىت‬
‫نضجت القواعد وتشكلت اؼبدارس الفقهية اؼبعروفة‪ ،‬وسبازيت مناىجها اؼبتبعة يف االستنباط واالستدالؿ‪،‬‬
‫وأصبح لكل مدرسة أصوؿ وقواعد تضبط االجتهاد‪ ،‬وتظهر يف الدروس واؼبناقشات واؼبناظرات على ألسنة‬
‫العلماء والفقهاء‪ ،‬وخاصة فيما اختلفوا فيو‪.‬‬
‫وكاف من بُت األصوؿ والقواعد اليت دار حوؽبا النقاش ومل تكن ؿبل اتفاؽ بُت العلماء‪ ،‬االستدالؿ‬
‫ببعض أنواع السنة‪ ،‬كاغبديث اؼبرسل‪ ،‬وخرب والواحد الذي خالف عمل أىل اؼبدينة أو خالف ما تعم بو‬
‫البلوى‪ ،‬واالستدالؿ بالقياس واالستحساف‪ ،‬وقوؿ الصحايب‪ ،‬وغَتىا‪.‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬تدوين أصول الفقو ومناىج التأليف فيو‬


‫المطلب األول‪ :‬تدوين أصول الفقو‬
‫بدأت حركة التدوين يف االزدىار يف عهد األئمة آّتهدين‪ ،‬لكنها كانت منصبة على تدوين اغبديث‬
‫والفقو‪ ،‬وكانت كتب الفقو تتضمن بعض القواعد األصولية اؼبتناثرة داخلها واليت اعتمدىا الفقهاء يف اجتهادىم‪،‬‬
‫غَت أف التدوين يف أصوؿ الفقو ككتاب مستقل مل يظهر إال على يد اإلماـ الشافعي (ت ‪204‬ىػ) رضبو اهلل يف‬
‫كتابو الرسالة‪ ،‬حيث ساعده على ذلك طبيعة نشأتو وتربيتو وتفرغو للعلم‪ ،‬وكذا أخذه للعربية السليمة وإتقانو‬
‫ؽبا‪ ،‬وكذلك كثرة تنقلو بُت البلداف وأخذه العلم من مدرسيت الرأي واغبديث‪.‬‬
‫بعد رسالة الشافعي تشجع التأليف وتوالت الكتابات يف أصوؿ الفقو‪ ،‬تأييدا وشرحا وتطويرا ؼبا قاـ بو‬
‫الشافعي‪ ،‬أونقدا وتأسيسا جديدا ؼبسائلو‪ ،‬وفق طرؽ ومناىج ـبتلفة يف التأليف‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬مناىج أصول الفقو وطرائق التأليف فيو‬
‫مناىج أصوؿ الفقو ىي الطرؽ اؼبعتمدة يف ربرير مسائلو وحبث موضوعاتو وتقرير قواعده‪ ،‬لذلك فهي‬
‫نفسها طرائق ومسالك التأليف فيو‪ .‬وقد برزت ثبلثة مناىج أو طرؽ أساسية يف ىذا آّاؿ؛ طريقة اؼبتكلمُت‬
‫(أو طريقة الشافعية)‪ ،‬طريقة الفقهاء (أو طريقة اغبنفية)‪ ،‬وطريقة اؼبتأخرين‪.‬‬
‫أوال ـ منهج وطريقة المتكلمين‬
‫هنج علماء ىذه الطريقة مسلك ربقيق القواعد األصولية وتقرير ما ترجح منها لديهم‪ ،‬مدعومة باألدلة‬
‫والرباىُت دوف التفات إىل موافقة أو ـبالفة ىذه القواعد للفروع الفقهية اليت هبب أف زبضع للقواعد‪ .‬فهو اذباه‬
‫‪16‬‬
‫نظري غايتو تقرير قواعد ىذا العلم كما يدؿ عليها الدليل‪ ،‬وجعلها موازين لضبط االستدالؿ‪ ،‬وحاكمة على‬
‫اجتهادات آّتهدين ال خادمة لفروع اؼبذىب‪.‬‬
‫وسبتاز ىذه الطريقة باعبنوح إىل االستدالؿ العقلي وعدـ التعصب للمذىب‪ ،‬واإلقبلؿ من ذكر الفروع‬
‫الفقهية‪ ،‬إال عرضا على سبيل التمثيل‪.‬‬
‫وقد اختار ىذا االذباه اؼبتكلموف من األشاعرة واؼباتريدية واؼبعتزلة لتوافقو مع نزعاهتم العقلية ونظرهتم إىل‬
‫اغبقائق نظرة ؾبردة‪ .‬وظبيت ىذه الطريقة باظبهم ؼبراعاهتا لطريقتهم يف العرض‪ ،‬اليت اعتاد أصحأّا التقدمي‬
‫ببعض اؼبباحث الكبلمية‪ ،‬كمسائل اغبُسن وال ُقبح وحكم األشياء قبل ورود الشرع‪ ،‬وربقيق القواعد األصولية‬
‫ربقيقا نظريا ذبريديا بعيدا عن تأثَت الفروع الفقهية‪ ،‬كما سبق القوؿ‪ ،‬مع العناية بوضع اغبدود والتعريفات‬
‫وربقيقها‪ ،‬وتأويل النصوص يف ضوء معانيها اللغوية‪ ،‬واعتماد أسلوب اعبدؿ يف تثبيت آرائهم وتفنيد آراء‬
‫غَتىم‪.‬‬
‫كما تسمى بطريقة الشافعية؛ ألهنا منهج اإلماـ الشافعي يف الرسالة‪ ،‬وتبعو يف ذلك علماء الشافعية‬
‫واؼبالكية وبعض اغبنابلة‪.‬‬
‫صنّْفت وفق ىذا اؼبنهج والطريقة ما يلي‪:‬‬ ‫ومن أشهر الكتب اليت ُ‬
‫‪ 1‬ػ "التقريب واإلرشاد يف ترتيب طرؽ االجتهاد"‪ ،‬أليب بكر الباقبلين اؼبالكي (ت‪ 403‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 2‬ػ "العمد"‪ ،‬للقاضي عبد اعببار اؽبمذاين اؼبعتزيل (ت‪ 415‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 3‬ػ " اؼبعتمد"‪ ،‬أليب اغبسُت البصري اؼبعتزيل (ت‪ 435‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 4‬ػ "اإلحكاـ يف أصوؿ األحكاـ"‪ ،‬البن حزـ األندلسي الظاىري (ت‪ 456‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 5‬ػ "العدة يف أصوؿ الفقو"‪ ،‬أليب يعلى الفراء اغبنبلي (ت‪ 458‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 6‬ػ "اإلشارات" و"إحكاـ الفصوؿ يف أحكاـ األصوؿ" أليب الوليد الباجي اؼبالكي (ت‪ 474‬ىػ)‬
‫‪ 7‬ػ "اللمع" و "شرح اللمع" و "التبصرة"‪ ،‬أليب إسحاؽ الشَتازي الشافعي (ت‪ 476‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 8‬ػ "الربىاف" و "التلخيص"‪ ،‬إلماـ اغبرمُت اعبويٍت الشافعي (ت‪ 478‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 9‬ػ "اؼبستصفى" و "اؼبنخوؿ"‪ ،‬أليب حامد الغزايل (ت‪ 505‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 10‬ػ "التمهيد يف أصوؿ الفقو"‪ ،‬أليب اػبطاب الكلوذاين اغبنبلي (ت‪ 510‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 11‬ػ " الواضح يف أصوؿ الفقو"‪ ،‬البن عقيل اغبنبلي (ت‪ 513‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 12‬ػ "الوصوؿ إىل األصوؿ"‪ ،‬البن برىاف اغبنبلي (ت‪ 518‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 13‬ػ "العدؿ واإلنصاؼ يف أصوؿ الفقو واالختبلؼ"‪ ،‬أليب يعقوب الورجبلين اعبزائري اإلباضي‬
‫(ت‪ 570‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 14‬ػ "احملصوؿ"‪ ،‬لفخر الدين الرازي الشافعي (ت‪ 606‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 15‬ػ "اإلحكاـ يف أصوؿ األحكاـ"‪ ،‬لسيف الدين اآلمدي الشافعي (ت‪ 631‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 16‬ػ "منتهى السوؿ واألمل يف علمي األصوؿ واعبدؿ"‪ ،‬البن اغباجب اؼبالكي (ت‪ 646‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 17‬ػ "منهاج الوصوؿ إىل علم األصوؿ"‪ ،‬لناصر الدين البيضاوي الشافعي (ت‪ 685‬ىػ)‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ثانيا ـ منهج وطريقة الفقهاء‬
‫وتسمى أيضا بطريقة اغبنفية؛ ألهنم ىم الذين ألَّفوا يف أصوؿ الفقو على هنجها‪ .‬وقد هنج علماء ىذه‬
‫الطريقة مسلك تقرير القواعد األصولية على مقتضى ما نقل عن فقهائهم من فروع فقهية؛ أي أف ىؤالء العلماء‬
‫وضعوا القواعد اليت افًتضوا أف أئمتهم الحظوىا يف اجتهاداهتم واستنباطهم لؤلحكاـ يف ضوء ما ورد عنهم من‬
‫أحكاـ جزئية يف الفروع‪ .‬ولذلك سبتاز ىذه الطريقة بكثرة إيراد الفروع وقرّٔا من الفقو‪.‬‬
‫والذي دعا أصويل اغبنفية إىل ىذه الطريقة أف علماءىم األوائل مل يًتكوا كتبا يف األصوؿ والقواعد اليت‬
‫اعتمدوىا يف االستنباط‪ ،‬أو ّأهنم مل يعثروا على تلك الكتب إف وجدت‪ ،‬فبحثوا عن تلك األصوؿ والقواعد يف‬
‫ثنايا الفروع‪ ،‬باعتبار أهنا البد أف تكوف قائمة على أساس‪.‬‬
‫صنّْفت وفق ىذا اؼبنهج أو الطريقة‪ ،‬ما يلي‪:‬‬‫ومن أىم الكتب اليت ُ‬
‫‪ 1‬ػ "مآخذ الشرائع"‪ ،‬لئلماـ أيب منصور اؼباتريدي (ت‪ 330‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 2‬ػ "األصوؿ"‪ ،‬لئلماـ الكرخي (ت‪ 340‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 3‬ػ "األصوؿ"‪ ،‬لئلماـ أيب بكر اعبصاص (ت‪ 370‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 4‬ػ "تأسيس النظر وتقومي األدلة"‪ ،‬لئلماـ أيب زيد الدبوسي (ت‪ 430‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 5‬ػ "األصوؿ"‪ ،‬لفخر اإلسبلـ البزدوي (ت‪ 482‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 6‬ػ "األصوؿ"‪ ،‬لشمس األئمة السرخسي (ت‪ 490‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 7‬ػ "كشف األسرار"‪ ،‬لعبد العزيز البخاري (ت‪ 730‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 8‬ػ "اؼبنار" وشرحو "كشف األسرار"‪ ،‬غبافظ الدين النسفي (ت‪ 790‬ىػ)‪.‬‬
‫ثالثا ـ منهج وطريقة المتأخرين‬
‫تقوـ ىذه الطريقة على اؼبزج بُت الطريقتُت السابقتُت‪ ،‬والظفر دبزايا كل منهما‪ .‬فتعٌت بتقرير القواعد‬
‫األصولية آّردة مدعومة باألدلة والرباىُت‪ ،‬وتطبيقها على الفروع الفقهية وربطها ّٔا‪ ،‬وجعلها خادمة ؽبا‪.‬‬
‫وقد ظبيت بطريقة اؼبتأخرين؛ ألف أغلب من صنف يف علم األصوؿ بعد ظهور ىذه الطريقة‪ ،‬يف أواخر‬
‫القرف السابع اؽبجري‪ ،‬قد التزـ ّٔا‪.‬‬
‫ومن أبرز الكتب اليت ألفت وفق ىذه الطريقة أو اؼبنهج‪ ،‬العناوين التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ػ "بديع النظاـ اعبامع بُت أصوؿ البزدوي واإلحكاـ"‪ ،‬ؼبظفر الدين الساعايت اغبنفي (ت‪694‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 2‬ػ "تنقيح األصوؿ" وشرحو "التوضيح"‪ ،‬لصدر الشريعة اغبنفي (ت‪ 747‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 3‬ػ "صبع اعبوامع"‪ ،‬لتاج الدين السبكي الشافعي (ت‪ 771‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 4‬ػ "البحر احمليط يف أصوؿ الفقو"‪ ،‬لبدر الدين الزركشي الشافعي (ت‪ 794‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 5‬ػ "التحرير"‪ ،‬لكماؿ الدين بن اؽبماـ اغبنفي (ت‪ 861‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 6‬ػ "مسلم الثبوت"‪ ،‬حملب اهلل بن عبد الشكور اغبنفي (ت‪ 1119‬ىػ)‪.‬‬
‫‪ 7‬ػ "إرشاد الفحوؿ إىل ربقيق اغبق من علم األصوؿ"‪ ،‬لئلماـ الشوكاين (ت‪ 1255‬ىػ)‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ىذه أىم الطرؽ اليت صنّف ّٔا العلماء يف أصوؿ الفقو‪ .‬ولكن ذبدر اإلشارة أنو يف القرف الثامن‬
‫اؽبجري سلك اإلماـ الشاطيب (ت ‪ 790‬ىػ) منهجا ـبتلفا يف دراسة أصوؿ الفقو يف كتابو القيّم اؼبوسوـ بػ‬
‫"اؼبوافقات يف أصوؿ الشريعة"‪.‬‬
‫ىذا الكتاب الذي تفرد يف طريقة تأليفو‪ ،‬يتكوف من أربعة أجزاء‪ .‬التقى الشاطيب مع علماء األصوؿ يف‬
‫القضايا اليت عرضها يف األجزاء األوؿ والثالث والرابع‪ ،‬ولكنو تفرد يف اعبزء الثاين حبديث مل يسبق إليو تناوؿ فيو‬
‫مقاصد التشريع‪ .‬وىو جانب كاف حظو من العناية يف اؼبؤلفات األصولية ضئيبل وال يتناسب مع عظيم أنبيتو يف‬
‫عملية استنباط األحكاـ‪ ،‬حيث كانت ىذه اؼبقاصد ت ِرد يف كتب األصوليُت عادة يف فصل قصَت ال يتجاوز‬
‫بضع صفحات يذكروف فيها ما يقاؿ عن االستدالؿ اؼبرسل ألجل األخذ باؼبصلحة‪ ،‬وىي عند الشاطيب تستقل‬
‫بربع الكتاب‪ ،‬كما ي ِرد اغبديث عنها يف األجزاء الثبلثة األخرى للكتاب‪ ،‬وكأمبا اؼبقاصد سبثل غبمة الكتاب‬
‫وسداه للربط بُت ـبتلف قضاياه‪ .‬فالكتاب بكل أجزائو إذف إمبا ىو تعبَت عن اؼبقاصد الشرعية بأسلوب مباشر‬
‫حينا وغَت مباشر حينا آخر‪ .‬وىو بذلك أوؿ كتاب تدور كل مباحثو حوؿ مقاصد الشريعة ومنهج استنباط‬
‫األحكاـ وفقا ؽبذه اؼبقاصد‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫في الحكم الشرعي‬

‫ويحتوي على ثالثة مباحث‪:‬‬


‫ـ المبحث األول‪ :‬تعريف الحكم الشرعي وأنواعو‬
‫ـ المبحث الثاني‪ :‬الحكم التكليفي‬
‫ـ المبحث الثالث‪ :‬الحكم الوضعي‬

‫‪20‬‬
‫الحكم الشرعي‬
‫رأينا فيما سبق أف غاية علم أصوؿ الفقو وشبرتو ىي الوصوؿ إىل معرفة األحكاـ الشرعية اؼبتعلقة بأفعاؿ‬
‫اؼبكلفُت بغية االلتزاـ ّٔا يف واقع اغبياة وحصوؿ اؼبصاحل اؼبقصودة منها‪ ،‬لذلك اىتم علماء األصوؿ باغبكم‬
‫الشرعي‪ ،‬وقدـ كثَت منهم حبثو على حبث األدلة باعتباره جزءا من اؼبدخل إىل ىذا العلم‪ ،‬يف حُت أخره بعضهم‬
‫على مبحث األدلة ألنو يبٌت عليها‪.‬‬
‫ويراد دببحث اغبكم الشرعي عند األصوليُت الكبلـ عن األركاف التالية‪:‬‬
‫ُصدر اغبكم يف حقو‪،‬‬ ‫أوال‪ :‬اغباكم‪ ،‬وىو الذي لو حق إصدار اغبكم‪ ،‬وثانيا‪ :‬احملكوـ عليو‪ ،‬وىو اؼبكلف الذي أ ِ‬
‫ً‬
‫أيضا باحملكوـ بو‪،‬‬
‫ويعرب عنو ً‬
‫وثالثًا‪ :‬احملكوـ فيو‪ ،‬وىو فعل وتصرؼ اؼبكلف الذي يكوف اغبكم وص ًفا لو‪ّ ،‬‬
‫ليبُت صفة فعلو‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬اغبكم الذي صدر من اغباكم على احملكوـ عليو ّ‬ ‫ور ً‬
‫فمبحث اغبكم الشرعي ينتظم األركاف األربعة اؼبكونة لنظريتو وىي‪ :‬اغبكم واغباكم واحملكوـ فيو‬
‫واحملكوـ عليو‪ ،‬واليت ال يبكن التعرؼ على اغبكم الشرعي بشكل جيد إال من خبلؿ التعرؼ على ؾبموعها‪.‬‬
‫وسوؼ نتناوؿ كبل من ىذه األركاف على حده إف شاء اللَّو تعاىل‪ ،‬نبدأىا باغبكم‪.‬‬
‫الحكم‬
‫المبحث األول‪ :‬تعريف الحكم الشرعي وأنواعو‬
‫المطلب األول‪ :‬تعريف الحكم الشرعي‬
‫أوال ـ الحكم لغة ‪ :‬ىو القضاء واؼبنع‪ ،‬يقاؿ حكمت عليو بكذا إذا منعتو من خبلفو‪ ،‬وحكمت بُت الناس‬
‫قضيت بينهم وفصلت‪.‬‬
‫إطالقات الحكم‪ :‬يطلق لفظ اغبكم ويراد منو أحد اؼبعاين التالية‪:‬‬
‫يشرع ما يريد من‬
‫األوؿ‪ :‬التشريع‪ :‬ومنو قولو سبحانو وتعاىل‪ :‬إف اهلل وبكم ما يريد ‪[‬اؼبائدة‪]1،‬؛ أي ّ‬
‫األحكاـ‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬السلطة‪ ،‬ومنو قولو تعاىل‪ :‬ما كاف لبشر أف يُؤتيو اهلل الكتاب واغبكم والنبوة مث يقوؿ للناس‬
‫كونوا عبادا يل من دوف اهلل ‪[..‬البقرة‪.]113،‬‬
‫الثالث‪ :‬القضاء؛ ومنو قولو تعاىل‪ :‬إنا أنزلنا إليك الكتاب باغبق لتحكم بُت الناس دبا أراؾ‬
‫اهلل‪[..‬النساء‪.]105،‬‬
‫الرابع‪ :‬اؼبنع؛ ومنو حكمت على الشخص بفعل شيء؛ دبعٌت منعتو من غَته‪ .‬ومنو اغبكمة؛ ألهنا سبنع‬
‫صاحبها من اؼبفاسد ورذائل األخبلؽ‪.‬‬
‫وأحكمت الشيء أتقنتو؛ ومنو قولو تعاىل‪ :‬أليس اهلل بأحكم اغباكمُت‪[‬التُت‪.]8،‬‬
‫ثانيا ـ تعريف الحكم في اصطالح األصوليين‬
‫وضعا‪.‬‬ ‫عرؼ صبهور علماء األصوؿ اغبكم بأنو‪ :‬خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت اقتضاء أو ً‬
‫زبيَتا أو ً‬

‫‪21‬‬
‫شرح التعريف‬
‫اؼبقصود خبطاب اهلل كبلمو مباشرة وىو القرآف‪ ،‬أو كبلمو بالواسطة‪ ،‬وىو ما يرجع إىل كبلمو من سنة‬
‫وإصباع‪ ،‬وسائر األدلة اليت نصبها ؼبعرفة حكمو‪.‬‬
‫وإضافة اػبطاب إىل لفظ اعببللة قيد أوؿ ىبرج من التعريف خطاب اؼببلئكة وخطاب الناس وخطاب‬
‫اعبن وخطاب الرسوؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬يف األقواؿ واألفعاؿ اعببلية اليت ال تدخل يف السنة‪.‬‬
‫وفهم بعض األصوليُت أف خطاب اللَّو ؿبصور يف القرآف الكرمي‪ ،‬فقاؿ‪ :‬إف التعريف غَت جامع‪ ،‬لعدـ‬
‫دخوؿ السنة واإلصباع والقياس فيو‪ ،‬فعرؼ اغبكم بقولو‪" :‬ىو خطاب الشارع"‪.‬‬
‫َورَّد اعبمهور عليهم بأف القرآف الكرمي أشار إىل ىذه األدلة فتكوف داخلة يف التعريف بلفظ "خطاب‬
‫معرفة غبكم اللَّو‪ ،‬ووسائل كاشفة عنو وموصلة‬ ‫اللَّو" وأف ىذه اؼبصادر ليست مشرعة بذاهتا‪ ،‬وإمبا ىي أمارات ّْ‬
‫إىل خطاب اللَّو تعاىل‪.‬‬
‫وخطاب اللَّو تعاىل يشمل كبلمو اؼبوجو يف أمور العقيدة واألخبلؽ والعبادات واؼبعامبلت ‪ ، ...‬ويشمل‬
‫كبلمو تعاىل اؼبتعلق بذاتو وصفاتو ‪ ،..‬وكبلـ اللَّو تعاىل اؼبتعلق باػبلق واإلهباد‪ ،‬واؼبتعلق بذات اؼبكلفُت‪.‬‬
‫لذلك جاء اػبطاب يف التعريف مقيدا بالتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت ليخرج منو اػبطاب اؼبرتبط بغَت األفعاؿ‬
‫وـ ‪[‬البقرة‪،]255:‬‬ ‫كاػبطاب اؼبتعلق بذات اللَّو تعاىل وصفاتو‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬اللَّوُ ال إِلَوَ إال ُى َو ْ‬
‫اغبَ ُّي الْ َقيُّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُخَرى ‪[‬طو‪،]55:‬‬ ‫وما يتعلق بذات اؼبكلفُت‪ ،‬كقولو تعاىل‪ :‬مْنػ َها َخلَ ْقنَا ُك ْم َوف َيها نُعي ُد ُك ْم َومْنػ َها ُلبْ ِر ُج ُك ْم تَ َارًة أ ْ‬
‫ض بَا ِرَزةً ‪[‬الكهف‪ ،]47:‬فهذه‬ ‫وما يتعلق بأعياف اعبمادات‪ ،‬كقولو تعاىل‪ :‬ويػوـ نُسيّْػر ِْ‬
‫األر َ‬
‫اعببَ َاؿ َوتَػَرى ْ‬ ‫ََْ َ َ ُ‬
‫أحكاما مع أهنا خطاب اللَّو تعاىل وكبلمو يف القرآف الكرمي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫األمور الثبلثة ليست‬
‫واألفعاؿ‪ :‬صبع فعل‪ ،‬ومعناه العريف ما يقابل القوؿ واالعتقاد والنية‪ ،‬أما معناه ىنا يف التعريف فهو كل‬
‫ما يصدر عن اؼبكلف وتتعلق بو قدرتو من قوؿ أو فعل أو اعتقاد أو تقرير‪ ،‬مثل الضرب باليد‪ ،‬واؼبشي بالرجل‪،‬‬
‫والكبلـ باللساف‪ ،‬والنية واالعتقاد بالقلب‪.‬‬
‫واؼبكلفُت‪ :‬صبع مكلّف‪ ،‬وىو اإلنساف البالغ العاقل الذي بلغتو الدعوة‪ ،‬وإف طرأ عليو عارض بنفي‬
‫كاإلكراه والنسياف‪ ،‬ولفظ اؼبكلفُت صبع واؼبراد منو اؼبفرد‪ ،‬وىو من إطبلؽ العاـ وإرادة اػباص أي اؼبكلف‬
‫الواحد‪.‬‬
‫ويدخل يف التعريف األحكاـ اػباصة دبكلف واحد‪ ،‬مثل خصوصيات الرسوؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬
‫وخصوصية أحد الصحابة كخزيبة وأيب بردة‪.‬‬
‫واختار بعض األصوليُت يف التعريف "فعل اؼبكلف" باؼبفرد‪ ،‬ليتناوؿ اػبصوصيات؛ ألف اعبمع ال يشمل‬
‫األحكاـ اػباصة‪ ،‬ويُ َّرد عليهم دبا سبق‪ ،‬وأنو ال فرؽ بُت اعبمع احمللى ببلـ االستغراؽ واؼبفرد احمللى ّٔا يف‬
‫العموـ‪.‬‬
‫أحكاما كثَتة‬
‫ً‬ ‫وىبرج من التعريف اإلنساف غَت اؼبكلف كالصيب وآّنوف‪ ،‬مع أف الشريعة الغراء ذكرت‬
‫تتعلق بالصغار وآّانُت‪ ،‬مثل إقامة الصبلة وإيتاء الزكاة‪ ،‬واالستئذاف يف الدخوؿ‪ ،‬وىذا ما دفع بعض علماء‬

‫‪22‬‬
‫األصوؿ الستبداؿ لفظ "اؼبكلفُت" بلفظ "العباد"‪ ،‬ليشمل الصغار وآّانُت‪ ،‬فقاؿ‪" :‬ىو خطاب اللَّو تعاىل‬
‫اؼبتعلق بأفعاؿ العباد"‪.‬‬
‫ردوا ىذا البدؿ؛ ألف األحكاـ اؼبتعلقة بالصغار وآّانُت ال ينطبق عليها خواص‬ ‫ولكن صبهور العلماء ّ‬
‫اغبكم الشرعي‪ ،‬وإمبا شرعت ؽبم من أجل التعويد والًتبية‪ ،‬وأف اؼبخاطب باغبكم ىو الويل والوصي والقيّم‪،‬‬
‫يطهر‬
‫ليعود ولده على الصبلة‪ ،‬وأف يربيو على االستئذاف يف الدخوؿ‪ ،‬وأف ّ‬ ‫فاللَّو سبحانو وتعاىل خاطب األب ّ‬
‫مالو بالزكاة‪ ،‬وأف ثبوت الثواب من اللَّو تعاىل على صبلة الصيب ىو فضل من اللَّو تعاىل ومنَّة وكرـ؛ ألف الثواب‬
‫ليس من لوازـ التكليف بل من فضلو تعاىل‪.‬‬
‫واؼبقصود باالقتضاء الطّلب‪ ،‬والطلب إما أف يكوف طلب فعل أو طلب ترؾ‪ ،‬وكل منهما إما أف يكوف‬
‫جازما أو غَت جازـ‪ ،‬فأنواع الطلب أربعة‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫طلبو ً‬
‫األوؿ‪ :‬طلب الفعل بشكل جازـ وىو اإلهباب‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬طلب الفعل بشكل غَت جازـ وىو الندب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬طلب الًتؾ بشكل جازـ وىو التحرمي‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬طلب الًتؾ بشكل غَت جازـ وىو الكراىة‪.‬‬
‫اؼببُت لئلهباب والندب والتحرمي والكراىة‪.‬‬ ‫فاالقتضاء يشمل خطاب اللَّو تعاىل ّ‬
‫وأما التخيَت فهو زبيَت اؼبكلف باػبطاب بُت الفعل والًتؾ‪ ،‬دوف ترجيح ألحد اعبانبُت على اآلخر‪،‬‬
‫ويسمى إباحة‪ ،‬وحرؼ "أو" ليس للتشكيك بل للتنويع‪.‬‬
‫واؼبقصود بالوضع اعبَ ْعل‪ ،‬وخطاب اللَّو تعاىل بالوضع ىو خطابو اؼبتعلق جبعل الشيء سببًا لفعل اؼبكلف‬
‫فاسدا أو عزيبة أو رخصة‪ ،‬وسوؼ نرى تعريف كل منها مع‬ ‫صحيحا أو ً‬
‫ً‬ ‫مانعا منو‪ ،‬أو بكونو‬
‫أو شرطًا لو‪ ،‬أو ً‬
‫األمثلة يف فرع مستقل‪.‬‬
‫وألفاظ االقتضاء والتخيَت والوضع قيود زبرج من التعريف خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت‬
‫للعربة والعظة واالعتبار واإلعبلـ‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪َ  :‬واللَّوُ َخلَ َق ُك ْم َوَما تَػ ْع َملُو َف ‪[‬الصافا‪ ،]96،‬فتعلق اػبطاب‬
‫بفعل اؼبكلف ليس لبلقتضاء أو التخيَت أو الوضع‪ ،‬بل للعربة‪.‬‬
‫وخبلصة تعريف اغبكم أنو كبلـ اللَّو تعاىل الذي ارتبط بتصرفات اؼبكلف يف بياف حاؽبا من اإلهباب‬
‫والندب والتحرمي والكراىة واإلباحة‪ ،‬وما يتعلق ّٔا من أسباب وموانع وشروط وصحة وفساد وعزيبة ورخصة‪.‬‬
‫واعًتض بعض األصوليُت على التعريف عبمعو بُت االقتضاء والتخيَت وبُت الوضع‪ ،‬وأف الوضع ليس‬
‫حكما من جهة‪ ،‬أو يدخل ربت االقتضاء من جهة أخرى‪.‬‬ ‫ً‬
‫ولكن صباىَت العلماء صبعوا بينهما يف التعريف‪ ،‬وأف اغبكم يشمل األمرين‪ ،‬قاؿ الكماؿ بن اؽبماـ‪:‬‬
‫األوجو دخوؿ الوضع يف اعبنس‪ ،‬وىو اػبطاب اؼبتعلق بفعل اؼبكلف‪.‬‬ ‫و َ‬
‫ولتقريب معٌت اغبكم الشرعي‪ ،‬الذي ىو الوصف الذي أثبتو الشارع اغبكيم لفعل اؼبكلف وتصرفو‪،‬‬
‫نسوؽ األمثلة التالية‪:‬‬

‫‪23‬‬
‫ػ البيع فعل يقوـ بو البائع واؼبشًتي‪ ،‬وىذا الفعل قد وصفو اهلل تعاىل بأنو حبلؿ ومباح من خبلؿ قولو‪:‬‬
‫‪‬وأحل اهلل البيع‪[  ..‬البقرة‪ .]275،‬فإثبات ىذا الوصف (إباحة البيع) ىو نفسو اغبكم الذي حكم بو‬
‫الشارع على فعل البيع‪ ،‬وىو فعل للمكلف‪.‬‬
‫ػ الزنا فعل بشري‪ ،‬لكنو فعل فبقوت ومذموـ يستنكره الناس ويعاقب عليو القانوف‪ ،‬وتأباه النفس السوية‬
‫حرمو وهنى عن‬ ‫سيء العواقب والنتائج‪ ،‬لذلك ّ‬
‫وتعافو الفطرة السليمة‪ .‬وقد وصفو اهلل تعاىل بأنو فاحشة وأنو ّ‬
‫االقًتاب منو يف قولو تعاىل‪ :‬وال تقربوا الزنا إنو كاف فاحشة وساء سبيبل ‪[ ‬اإلسراء‪ .]32 ،‬فإثبات ىذا‬
‫الوصف (ربرمي الزنا) ىو نفسو اغبكم الذي أصدره الشارع على فعل الزنا‪ ،‬وىو تصرؼ للمكلف‪.‬‬
‫ػ صبلة الظهر فعل يقوـ بو اؼبسلم‪ ،‬وىو فعل ؿبمود أمر اهلل تعاىل بو وربطو بزواؿ الشمس عن كبد‬
‫السماء بقولو تعايل‪ :‬أقم الصبلة لدلوؾ الشمس‪[  ..‬اإلسراء‪ .]78،‬فإثبات وصف اإلهباب للصبلة ‪،‬‬
‫اؼبستفاد من األمر بإقامتها‪ ،‬ىو نفسو اغبكم الذي حكم بو اهلل على فعل الصبلة‪ ،‬وىو فعل للمكلف‪ .‬كما‬
‫أف إثبات وصف سببية دلوؾ الشمس إلهباب صبلة الظهر‪ ،‬ىو نفسو اغبكم الذي وضعو الشارع عبلمة على‬
‫طلب فعل الصبلة‪ ،‬اليت ىي فعل للمكلف‪.‬‬
‫اغبكم الشرعي بُت األصوليُت والفقهاء‬
‫يتبُت أف اغبكم الشرعي عند األصوليُت ىو خطاب اهلل‬‫من خبلؿ التعريف السابق للحكم وشرحو ّ‬
‫نفسو؛ أي ذات الدليل اؼبتضمن االقتضاء أو التخيَت أو الوضع‪.‬‬
‫‪‬يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ‪[‬اؼبائدة‪ ]1،‬خطاب متعلق بالوفاء بالعقود طلبا لفعلو‪،‬‬ ‫فقولو تعاىل‪:‬‬
‫وقولو تعاىل‪ :‬يا أيها الذين آمنوا ال يسخر قوـ من قوـ‪[ ...‬اغبجرات‪ ]11،‬خطاب متعلق بالسخرية طلبا‬
‫لًتكها‪.‬‬
‫وقولو سبحانو وتعاىل‪ :‬فإف خفتم أال يقيما حدود اهلل فبل جناح عليهما فيما افتدت‬
‫يو‪[‬البقرة‪ ]229،‬خطاب متعلق بفدية الزوجة نفسها دباؿ تعطيو لزوجها مقابل تسروبها (اػبلع) زبيَتا فيو‪.‬‬
‫وقولو صلى اهلل عليو وسلم‪(( :‬القاتل ال يرث))‪ ،‬خطاب متعلق بالقتل بوضعو وجعلو مانعا من اإلرث‪.‬‬
‫وقولو تعاىل‪ :‬فمن شهد منكم الشهر فليصمو ‪[‬البقرة‪ ]185،‬خطاب تعلق بفعل الصوـ جبعل رؤية‬
‫اؽببلؿ سببا لو‪ ،‬وىكذا لسائر األنواع األخرى‪.‬‬
‫فكل نص من ىذه النصوص السابقة ىو اغبكم الشرعي عند األصوليُت‪ .‬أما عند الفقهاء فإف النص‬
‫ليس ىو اغبكم‪ ،‬وإمبا ىو دليل اغبكم‪ ،‬واغبكم ىو األثر اؼبًتتب عن اػبطاب‪ ،‬أو الفائدة اؼبتعلقة بفعل اؼبكلف‬
‫واليت يتضمنها النص‪.‬‬
‫فإذا كاف قولو تعاىل‪ :‬فمن شهد منكم الشهر فليصمو ‪[‬البقرة‪ ]185،‬ىو نفسو اغبكم عند‬
‫األصوليُت‪ ،‬فإف األثر اؼبًتتب عن النص وىو وجوب الصوـ عند رؤية اؽببلؿ ىو اغبكم عند الفقهاء‪.‬‬
‫والسبب يف اختبلؼ االصطبلح بُت األصوليُت والفقهاء‪ ،‬أف كل فريق أطلق اغبكم حبسب نظره‬
‫للمسألة‪ .‬فاألصوليوف نظروا إىل اغبكم من جهة مصدره‪ ،‬وىو اهلل عز وجل‪ ،‬واغبكم صفة لو‪ ،‬قاؿ تعاىل‪:‬‬
‫‪‬واهلل وبكم ال معقب غبكمو‪[‬الرعد‪ .]41،‬والفقهاء نظروا للحكم من ناحية متعلقو وىو فعل اؼبكلف‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫وقد عرب بعض األصوليُت عن معاين اغبكم االقتضائي بالوجوب واغبرمة‪ ،‬وىذا خطأ؛ ألف اػبطاب‬
‫يصدؽ على اإلهباب والتحرمي‪ ،‬أما الوجوب واغبرمة فإهنما من أثر اػبطاب‪ ،‬ولكن شاع واشتهر بُت األصوليُت‬
‫أف اإلهباب والوجوب أو التحرمي واغبرمة شيء واحد بالذات واغبقيقة‪ ،‬وأهنما ـبتلفاف يف االعتبار‪ ،‬فالذات‬
‫واحدة وىي اػبطاب اإلؽبي‪ ،‬ولكن إف اعتربناه يف جانب اللَّو تعاىل كاف إهبابًا وربريبًا‪ ،‬وإف اعتربناه يف جانب‬
‫ضْيػَر من استعماؿ اللفظُت‪ ،‬أما الندب والكراىة واإلباحة فاللفظ واحد يف‬ ‫اؼبكلف كاف وجوبًا وحرمة‪ ،‬فبل َ‬
‫اغبالُت‪.‬‬
‫وىذه األحكاـ اػبمسة اإلهباب والتحرمي والندب والكراىة واإلباحة إذا تعلقت باألفعاؿ أُطلق عليها‬
‫لفظ الواجب واحملرـ واؼبندوب واؼبكروه واؼبباح‪ ،‬ويوصف الفعل ّٔا‪.‬‬
‫وباختصار فاإلهباب ىو نفس خطاب الشارع‪ ،‬والوجوب ىو األثر اؼبًتتب على ذلك اػبطاب‪،‬‬
‫والواجب ىو وصف لفعل اؼبكلف الذي طلبو الشارع‪ ،‬مثل ذلك التحرمي واغبرمة واغبراـ‪ ،‬وأما الندب واإلباحة‬
‫والكراىة فلها صيغتاف فقط ندب ومندوب‪ ،‬وإباحة ومباح‪ ،‬وكراىة ومكروه‪ ،‬ومتعلقات األحكاـ ىي‪ :‬الواجب‪،‬‬
‫واؼبندوب‪ ،‬واحملرـ أو اغبراـ‪ ،‬واؼبكروه‪ ،‬واؼبباح؛ ألف اػبطاب يتعلق بالفعل فيجعلو واجبًا أو مندوبا أو مباحا أو‬
‫مكروىا أو حراما‪...‬‬
‫ثالثا ـ أثر اختالف األصوليين والفقهاء في تعريف الحكم الشرعي‬
‫يبدو يف الظاىر أف ىذا االختبلؼ لفظي ال يًتتب عليو شبرة عملية؛ ألف اػبطاب وما يًتتب عليو‬
‫متبلزماف‪ ،‬واغبق أف اػببلؼ بُت الفريقُت جوىري يًتتب على اعبهل بو خلط بُت اؼبفاىيم الشرعية‪ ،‬وىذه أىم‬
‫الفروؽ بُت التعريفُت‪:‬‬
‫‪ 1‬ػ من جهة االنتساب إىل الشرع‪ :‬اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل تصدؽ نسبتو إىل الشرع أصالة؛‬
‫ألنو خطاب الشارع‪ .‬أما اغبكم الشرعي باؼبفهوـ الفقهي فتصدؽ نسبتو إىل الشارع تبعا ال أصالة؛ ألنو األثر‬
‫الذي فهمو آّتهد من خطاب الشارع‪ ،‬وىو عمل بشري‪ .‬وآّتهدوف متفاوتوف يف الفهم واإلدراؾ‪ ،‬وىم غَت‬
‫معصومُت‪ ،‬لذلك قد يصيب بعضهم وىبطئ بعضهم‪ ،‬كما قد يصيب آّتهد نفسو وقد ىبطئ‪ .‬وخطاب‬
‫الشارع معصوـ فبل يبكن أف ننسب إليو إال ما كاف صوابا‪.‬‬
‫‪ 2‬ػ من جهة اؼبقتضى‪ :‬اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل يقتضي االعتقاد؛ ألنو ؾبرد خطاب‪ .‬أما‬
‫اغبكم باؼبفهوـ الفقهي فيقتضي االمتثاؿ؛ ألنو األثر اؼبًتتب على اػبطاب وفقا لفهم آّتهد‪ ،‬أما أثر ىذا‬
‫اػبطاب يف علم اهلل فليس ألحد أف يصل إليو إال عن طريق الوحي‪ ،‬وقد انقطع‪.‬‬
‫‪ 3‬ػ من جهة نطاؽ اؼبعنِيُّت‪ :‬اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل يقتصر البحث فيو على آّتهدين؛ ألهنم‬
‫أىل إدراؾ اػبطاب‪ .‬أما اغبكم باؼبفهوـ الفقهي فيبحث عنو عامة اؼبكلفُت ؼببلبستهم الواقع‪.‬‬
‫‪ 4‬ػ من جهة الثبات والدواـ‪ :‬اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل يتّسم بالثبات والدواـ الكتماؿ الشريعة‬
‫بانقطاع الوحي‪ .‬أما اغبكم الشرعي باؼبفهوـ الفقهي فقد يتّسم بالتجديد وعدـ الثبات الختبلؼ أنظار‬
‫آّتهدين وآرائهم باختبلؼ األوضاع والفهم‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫يعم صبيع اؼبكلفُت من جانب‬ ‫‪ 5‬ػ من جهة عموـ اغبكم‪ :‬اغبكم الشرعي باؼبفهوـ األصويل ذبريدي ّ‬
‫ويعم صبيع األحواؿ من جانب الوضع‪ .‬أما اغبكم الشرعي باؼبفهوـ الفقهي فهو تشخيصي؛ فمن‬ ‫التكليف‪ّ ،‬‬
‫جانب التكليف يقوؿ آّتهد ػ مثبل‪ :‬الصبلة واجبة على ىذا أو ىؤالء‪ ،‬ومن جانب الوضع يقوؿ‪ :‬رب ّقق السبب‬
‫يف ىذه اغباؿ دوف تلك‪ ،‬وكذلك بالنسبة للشرط واؼبانع‪.‬‬
‫وال هبوز إغفاؿ ىذه الفروؽ اعبوىرية حىت ال يتّهم اهلل ورسولو يف تنزيل األحكاـ على النّاس والوقائع‪،‬‬
‫ذلك ما نستش ّفو من حديث النيب‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فيما رواه بريدة‪ ،‬رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬كاف رسوؿ‬
‫خاصتو بتقوى اهلل ومن معو من اؼبسلمُت‬ ‫اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬إذا ّأمر أمَتا على جيش أو سريّة أوصاه يف ّ‬
‫خَتا مث قاؿ‪ « :‬اغزوا باسم اهلل ىف سبيل اهلل‪ ،‬قاتلوا من كفر باهلل‪ ،‬اغزوا و ال تغلوا وال تغدروا وال سبثلوا وال تقتلوا‬
‫فأيتهن ما أجابوؾ فاقبل منهم‬ ‫ّ‬ ‫وليدا‪ ،‬وإذا لقيت عدوؾ من اؼبشركُت فادعهم إىل ثبلث خصاؿ ‪ -‬أو خبلؿ ‪-‬‬
‫وذمة نبيّو فبل‬ ‫ِ‬
‫ذمة اهلل ّ‬ ‫وكف عنهم‪ » ...‬إىل أف يقوؿ‪ ... « :‬وإذا حاصرت أىل حصن فأرادوؾ أف ذبعل ؽبم ّ‬
‫وذمة أصحابك فإنّكم أف زبفروا ذفبكم وذمم‬ ‫ذمتك ّ‬ ‫ذمة نبيّو‪ ،‬ولكن اجعل ؽبم ّ‬ ‫ذمة اهلل وال ّ‬ ‫ذبعل ؽبم ّ‬
‫وذمة رسولو‪ .‬وإذا حاصرت أىل حصن فأرادوؾ أف تنزؽبم على حكم‬ ‫ذمة اهلل ّ‬ ‫أصحابكم أىوف من أف زبفروا ّ‬
‫اهلل فبل تنزؽبم على حكم اهلل ولكن أنزؽبم على حكمك فإنك ال تدرى أتصيب حكم اهلل فيهم أـ ال »‬
‫اغبديث رواه مسلم‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬أنواع الحكم الشرعي في أصول الفقو‬
‫قسم صبهور علماء األصوؿ اغبكم الشرعي إىل نوعُت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫أوال ـ الحكم التكليفي‬
‫زبيَتا"‪ ،‬ويشمل األحكاـ اػبمسة‪ ،‬وىي‬ ‫"وىو خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بفعل اؼبكلف اقتضاء أو ً‬
‫الزَكا َة ‪[‬البقرة‪،]110:‬‬ ‫الصبل َة َوآتُوا َّ‬
‫يموا َّ‬ ‫ِ‬
‫اإلهباب والندب واإلباحة والكراىة والتحرمي‪ .‬مثل قولو تعاىل‪َ  :‬وأَق ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َج ٍل ُم َس ِّمى فَا ْكتُبُوهُ ‪[‬البقرة‪ ،]282:‬وقولو تعاىل‪:‬‬ ‫ين َآمنُوا إ َذا تَ َدايَػْنتُ ْم ب َديْ ٍن إ َىل أ َ‬‫وقولو تعاىل‪ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُوا ال تَ ْسأَلُوا َع ْن أَ ْشيَاءَ إِ ْف تُػْب َد لَ ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫‪َ ‬وُكلُوا َوا ْشَربُوا َوال تُ ْس ِرفُوا‪[‬األعراؼ‪ ،]31:‬وقولو تعاىل‪ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫س الَِّيت َحَّرَـ اللَّوُ‪[‬اإلسراء‪.]33:‬‬ ‫تَ ُس ْؤُك ْم‪[‬اؼبائدة‪ ،]101:‬وقولو تعاىل‪َ  :‬وال تَػ ْقتُػلُوا النَّػ ْف َ‬
‫وىذا مثاؿ آخر هبمع بُت طلب الفعل وطلب الًتؾ على سبيل اعبزـ يف قولو تعاىل‪َ  :‬وتَػ َع َاونُوا َعلَى الِْ ّْرب‬
‫اإلمث َوالْعُ ْد َو ِاف ‪[‬اؼبائدة‪ .]5 :‬كما اجتمع طلب الفعل وطلب الًتؾ بدوف جزـ يف‬ ‫َوالتَّػ ْقوى َوال تَػ َع َاونُوا َعلَى ِْ‬
‫َ‬
‫آد َـ ُخ ُذوا ِزينَتَ ُك ْم ِعْن َد ُك ّْل َم ْس ِج ٍد َوُكلُوا َوا ْشَربُوا َوال تُ ْس ِرفُوا‪[‬األعراؼ‪.]31:‬‬ ‫ََ َ‬‫ٍت‬‫ِ‬ ‫اب‬ ‫ي‬ ‫‪‬‬ ‫‪:‬‬ ‫تعاىل‬ ‫قولو‬
‫ثانيا ـ الحكم الوضعي‬
‫وىو خطاب اللَّو تعاىل الذي اقتضى جعل أمر عبلمة غبكم تكليفي وجعلو مرتبطًا بو بكونو‪ :‬سببًا لو‬
‫س ‪ ،‬فالدلوؾ سبب إلهباب الصبلة‪ ،‬أو شرطًا لو مثل قولو تعاىل‪:‬‬ ‫َّم ِ‬ ‫مثل قولو تعاىل‪ :‬أَقِ ِم َّ ِ ِ‬
‫الصبل َة ل ُدلُوؾ الش ْ‬
‫ِ‬
‫مانعا لو كقولو ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪:‬‬ ‫ص ْموُ ‪ ،‬فرؤية اؽببلؿ شرط للصياـ‪ ،‬أو ً‬ ‫‪‬فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫فسادا أو عزيبة أو‬ ‫ُبوة سبنع القصاص مع االبن‪ ،‬أو صحة أو ً‬ ‫«ليس للقاتل مَتاث »‪ ،‬فالقتل يبنع اإلرث‪ ،‬واأل ّ‬
‫رخصة‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫وىناؾ من األصوليُت من قسم اغبكم الشرعي إىل ثبلثة أنواع‪ :‬اغبكم التكليفي أو االقتضائي‪ ،‬ويشمل‬
‫اإلهباب والندب والتحرمي والكراىة‪ ،‬واغبكم التخيَتي ويشمل اإلباحة‪ ،‬واغبكم الوضعي وىو اػبطاب الذي‬
‫فسادا أو رخصة أو عزيبة‪.‬‬
‫مانعا أو شرطًا أو صحة أو ً‬ ‫وضعو الشارع سببًا غبكم تكليفي أو ً‬
‫فقد أخرج ىذا التقسيم‪ ،‬خبلفا للتقسيم األوؿ‪ ،‬اإلباحة من اغبكم التكليفي؛ ألف التكليف يستلزـ‬
‫فرعا لو‪ .‬إال أف أغلب العلماء مع التقسيم األوؿ‬ ‫وجود كلفة ومشقة من اؼبكلف‪ ،‬واؼبباح ال كلفة فيو‪ ،‬فبل يعترب ً‬
‫وبرروا ذلك بأف اؼبباح مباح باعبزء ولكن تعًتيو األحكاـ األربعة السابقة بالنسبة إىل الكل‪ ،‬كما سنرى تفصيل‬
‫ذلك يف فرع اؼبباح‪ ،‬وأف أغلب األحكاـ اؼبباحة جاءت بصيغة الطلب‪ ،‬وألف االشتغاؿ باؼبباح يستلزـ ترؾ‬
‫اغبراـ‪ ،‬وترؾ اغبراـ واجب فكاف اؼبباح مطلوبًا‪ ،‬وكذلك من حيث وجوب االعتقاد باإلباحة ال بالنظر إىل الفعل‬
‫اؼبتعلق بو اغبكم‪ .‬وبذلك يكوف اغبكم الشرعي نوعُت‪ ،‬حكم تكليفي وحكم وضعي‪ ،‬ولكل منهما صفات‬
‫وخصائص وميزات زبتلف عن اآلخر كما يظهر من اؼبوازنة بينهما‪.‬‬
‫ثالثا ـ موازنة بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي‬
‫‪ - 1‬اغبكم التكليفي فيو طلب الفعل أو طلب الًتؾ أو التخيَت بُت الفعل والًتؾ‪ ،‬أما اغبكم الوضعي فليس‬
‫مانعا أو شرطًا لو‪.‬‬
‫فيو طلب أو زبيَت‪ ،‬وإمبا يفيد االرتباط بُت أمرين ليكوف أحدنبا سببًا لآلخر أو ً‬
‫‪ - 2‬اغبكم التكليفي مقصود بذاتو يف اػبطاب‪ ،‬ليقوـ اؼبكلف بالفعل أو الًتؾ أو التخيَت‪ ،‬أما اغبكم الوضعي‬
‫فبل يقصد من اؼبكلف مباشرة‪ ،‬وإمبا وضعو اؼبشرع لَتتب عليو األحكاـ التكليفية‪ ،‬مثل ملك النصاب سبب‬
‫للزكاة‪ ،‬وحوالف اغبوؿ شرط ؽبا‪ ،‬والقتل مانع من اؼبَتاث‪.‬‬
‫‪ - 3‬إف اغبكم التكليفي يتعلق باؼبكلف وىو البالغ العاقل الذي يتوجو إليو اػبطاب‪ ،‬ويقع عليو التكليف‪ ،‬أما‬
‫اغبكم الوضعي فإنو يتعلق باإلنساف سواء أكاف مكل ًفا أـ ال‪ ،‬كالصيب وآّنوف‪ ،‬وقد يكوف اغبكم متعل ًقا بفعل‬
‫اؼبكلف كالطهارة للصبلة‪ ،‬وقد ال يتعلق بفعل اؼبكلف‪ ،‬وإمبا يتعلق دبا ارتبط بو فعل اؼبكلف كالدلوؾ‪.‬‬
‫‪ - 4‬اغبكم التكليفي يكوف يف مقدور اؼبكلف فعلو أو تركو‪ ،‬مثل العبادات وصيغ العقود والتصرفات واعبرائم‪،‬‬
‫أما اغبكم الوضعي فقد يكوف يف مقدور اؼبكلف مثل صيغة العقد وإحضار الشاىدين يف النكاح‪ ،‬وقد ال‬
‫يكوف يف مقدور اؼبكلف مثل دلوؾ الشمس وحوالف اغبوؿ وبلوغ اغبُلُم‪.‬‬
‫ونبُت ما يندرج ربتو من‬‫لنعرفو ّ‬
‫وبعد ىذا البياف اؼبوجز للحكم وأنواعو‪ ،‬نتناوؿ كل نوع يف مطلب خاص ّ‬
‫أحكاـ‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الحكم التكليفي‬
‫زبيَتا‪ ،‬وسبق شرح ىذا التعريف‪ ،‬وما‬‫تعريفو‪ :‬ىو خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت اقتضاء أو ً‬
‫يدخل فيو وما ىبرج منو مع األمثلة‪ ،‬واختلف العلماء يف تقسيم اغبكم التكليفي إىل فريقُت‪ ،‬اعبمهور واغبنفية‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬أقسام الحكم التكليفي وثمرة االختالف في التقسيم‬
‫أوال ـ أقسام الحكم التكليفي‬
‫قسم جمهور األصوليين اغبكم التكليفي إىل طبسة أقساـ‪ ،‬وىي‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫جازما‪ ،‬ويكوف أثره الوجوب‪ ،‬والفعل اؼبطلوب ىو‬ ‫‪ 1‬ػ اإلهباب‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا ً‬
‫الواجب‪ ،‬والفرض والواجب دبعٌت واحد عند اعبمهور‪.‬‬
‫‪ 2‬ػ الندب‪ :‬ىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا غَت جازـ‪ ،‬وأثره النّدب‪ ،‬والفعل اؼبطلوب ىو اؼبندوب‪.‬‬
‫‪ 3‬ػ اإلباحة‪ :‬وىو التخيَت بُت الفعل والًتؾ دوف ترجيح لطرؼ على آخر‪ ،‬وأثره اإلباحة والفعل اؼبخَت‬
‫بُت فعلو وتركو ىو اؼبباح‪.‬‬
‫الكف عنو ىو‬
‫‪ 4‬ػ الكراىة‪ :‬ىو ما طلب الشارع تركو طلبًا غَت جازـ‪ ،‬وأثره الكراىة‪ ،‬والفعل اؼبطلوب َّ‬
‫اؼبكروه‪.‬‬
‫جازما‪ ،‬وأثره اغبرمة‪ ،‬والفعل اؼبطلوب تركو ىو اغبراـ‪.‬‬
‫‪ 5‬ػ التحرمي‪ :‬وىو ما طلب الشارع تركو طلبًا ً‬
‫وقسم الحنفية اغبكم التكليفي إىل سبعة أقساـ‪ ،‬حيث قسموا ما يقابل اإلهباب عند اعبمهور إىل‬
‫قسمُت‪ ،‬وقسموا ما يقابل التحرمي عند اعبمهور أيضا إىل قسمُت‪ ،‬لتصبح أقساـ اغبكم التكليفي عندىم كما‬
‫يلي‪:‬‬
‫جازما بدليل قطعي الثبوت والداللة‪ ،‬كالصبلة والزكاة‬
‫‪ - 1‬االفًتاض‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا ً‬
‫واعبهاد‪ .‬وحكمو وجوب فِعلِو‪ ،‬وأ ّف منكره كافر‪ ،‬وتاركو ببل عذر فاسق‪.‬‬
‫جازما بدليل ظٍت الثبوت أو ظٍت الداللة‪ ،‬مثل صدقة‬ ‫‪ - 2‬اإلهباب‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا ً‬
‫الفطر واألضحية وقراءة الفاربة وصبلة الوتر ومسح ربع الرأس‪ .‬وحكمو وجوب إقامتو كالفرض‪ ،‬ولكنو ال يُكفَّر‬
‫جاحده‪ ،‬وي ّفسق تاركو إذا تركو استخفافًا‪.‬‬
‫‪ - 3‬الندب‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو طلبًا غَت جازـ‪ ،‬كاعبمهور‪.‬‬
‫‪ - 4‬اإلباحة‪ :‬وىي التخيَت بُت الفعل والًتؾ دوف ترجيح أي طرؼ‪ ،‬كاعبمهور‬
‫‪ - 5‬الكراىة التنزيهية‪ :‬وىي ما طلب الشارع تركو طلبًا غَت جازـ‪ ،‬مثل لطم الوجو باؼباء يف الوضوء‪،‬‬
‫وصوـ يوـ اعبمعة فقط‪ .‬وىي تقابل الكراىة عند اعبمهور‪.‬‬
‫جازما ولكن بدليل ظٍت الثبوت أو ظٍت‬
‫‪ - 6‬الكراىة التحريبية‪ :‬وىي ما طلب الشارع تركو طلبًا ً‬
‫الداللة‪ ،‬ويشًتؾ مع اغبراـ باستحقاؽ العقاب للفاعل‪ ،‬مثل البيع وقت صبلة اعبمعة‪ ،‬والبيع على بيع األوؿ‪.‬‬
‫وإذا أطلق اؼبكروه عند اغبنفية فهو اؼبكروه ربريبًا‪ .‬وىي تدخل يف التحرمي عند اعبمهور‪.‬‬
‫جازما بدليل قطعي الثبوت قطعي الداللة‪ ،‬مثل قتل‬ ‫‪ - 7‬التحرمي‪ :‬وىو ما طلب الشارع تركو طلبًا ً‬
‫النفس والزنا‪.‬‬
‫ثانيا ـ ثمرة االختالف في التقسيم‬
‫وتظهر شبرة االختبلؼ بُت اغبنفية واعبمهور يف عدة حاالت‪ ،‬أنبها‪:‬‬
‫متأوال؛ ألف الفرض واغبراـ ثبتا‬
‫فرضا أو حر ًاما فهو كافر ولو كاف ّ‬ ‫‪ - 1‬قاؿ اغبنفية‪ :‬إذا أنكر اؼبكلف ً‬
‫بدليل قطعي الداللة وال ؾباؿ فيو للتأويل‪ ،‬أما إذا أنكر واجبًا فبل يك ّفر‪ ،‬مع لزوـ العمل للفرض والواجب‪.‬‬
‫وقاؿ اعبمهور‪ :‬الفرض والواجب مًتادفاف‪ ،‬ويدالف على حكم واحد‪ ،‬ونبا سياف يف حالة اإلنكار ولزوـ‬
‫العمل‪ ،‬ومن أنكر الفرض أو الواجب فهو كافر‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ - 2‬إذا ترؾ اؼبكلّف الفرض بطل عملو‪ ،‬عند اغبنفية‪ ،‬كما لو ترؾ اؼبصلي الركوع أو السجود‪ ،‬وال تربأ‬
‫ذمتو‬ ‫ِ‬
‫ذمتو إال باإلعادة‪ ،‬أما إذا ترؾ الواجب فإف عملو صحيح ولكنو ناقص‪ ،‬وعليو اإلعادة‪ ،‬فإف مل يُعد برئت ّ‬ ‫ّ‬
‫فرضا أو واجبًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اؼبكلف‬ ‫ترؾ‬ ‫اء‬
‫و‬ ‫س‬ ‫العمل‬ ‫يبطل‬ ‫اعبمهور‬ ‫وعند‬ ‫الصبلة‪،‬‬ ‫يف‬ ‫الفاربة‬ ‫اءة‬
‫ر‬ ‫ق‬ ‫ترؾ‬ ‫مثل‬ ‫اإلمث‪،‬‬ ‫مع‬
‫‪ - 3‬إف اؼبكروه ربريبًا يعاقب فاعلو‪ ،‬وال يك ّفر منكره‪ ،‬أما اؼبكروه تنز ًيها فإف فاعلو ال يستحق عتابًا وال‬
‫ذنبًا وال إشبًا‪ ،‬لكنو فعل غَت األوىل‪ ،‬وقاؿ اعبمهور‪ :‬اؼبكروه نوع واحد‪ ،‬وفاعلو ال يستحق عقابًا لكنو يعاتب‪،‬‬
‫وإف اؼبكروه ربريبًا يدخل يف اغبراـ‪.‬‬
‫ولكن عند التحقيق قبد أف االختبلؼ بُت اعبمهور واغبنفية لفظي واصطبلحي‪ ،‬وال مشاحة يف‬
‫احمللّْي‪ :‬وىو ؛أي اػببلؼ‪ ،‬لفظي‪ ،‬أي عائد إىل‬ ‫االصطبلح‪ ،‬قاؿ اآلمدي‪ :‬وباعبملة فاؼبسألة لفظية‪ ،‬وقاؿ َ‬
‫اللفظ والتسمية‪ ،‬وجاء يف شرح العضد‪" :‬والنزاع لفظي"‪ ،‬وقاؿ الشيخ أبو النور زىَت‪ :‬وبذلك يكوف غَت اغبنفية‬
‫قد رتبوا على القطع والظن ما رتبو اغبنفية على كل منهما‪ ،‬فبل خبلؼ بينهم يف اؼبعٌت‪.‬‬
‫ؽبذه األسباب فإننا لبتار تقسيم اعبمهور ونسَت عليو‪ ،‬ونتكلم عن كل قسم من أقساـ اغبكم التكليفي‬
‫يف فرع مستقل‪ ،‬ونبُت يف كل قسم ما ينطوي ربتو من أحكاـ ودرجات‪.‬‬
‫متعلَّق اغبكم وىو فعل اؼبكلف‪ ،‬فإف تعلق اغبكم باإلهباب‬ ‫والكبلـ عن اغبكم التكليفي يدور على َ‬
‫فالفعل واجب‪ ،‬وإف تعلق بالندب فهو مندوب‪ ،‬وإف تعلق باإلباحة فهو مباح‪ ،‬وإف تعلق بالكراىة فهو مكروه‪،‬‬
‫وإف تعلق بالتحرمي فهو ؿبرـ‪ ،‬وىذا ما نفصلو يف الفروع اػبمسة القادمة‪.‬‬
‫الفرع األول‪ :‬الواجب‬
‫أوال ـ تعريف الواجب‬
‫ب دبعٌت ثبت أو سقط أو رجف‪ ،‬يقاؿ‪ :‬وجب البيع واغبق‪ :‬ثبت ولزـ‪ ،‬ووجب‬ ‫الواجب لغة‪ :‬من َو َج َ‬
‫اغبائط سقط‪ ،‬ووجب القلب رجف‪.‬‬
‫ويف االصطبلح‪ :‬عرفو علماء األصوؿ تعريفات كثَتة‪ ،‬لبتار منها تعريفُت‪ ،‬األوؿ‪ :‬من حيث طلب‬
‫الفعل وعدـ الًتؾ‪ ،‬والثاين‪ :‬من حيث الثواب والعقاب‪.‬‬
‫التعريف األول‪ :‬الواجب‪ :‬ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما‪ .‬أو بعبارة أخرى‪ :‬ىو ما طلب‬
‫الشارع من اؼبكلف فعلو على سبيل اغبتم واإللزاـ‪.‬‬
‫وحرؼ "ما" يف التعريف دبعٌت الذي‪ ،‬وىي صفة الفعل‪ ،‬ألف اإلهباب إذا تعلق بفعل اؼبكلف فيكوف‬
‫الفعل واجبًا‪ ،‬والفعل يشمل األحكاـ اػبمسة‪.‬‬
‫وعبارة "طلب الشارع من الكلف فعلو"‪ :‬دبعٌت طلب القياـ بو وأداءه‪ .‬فيدخل يف التعريف الواجب‬
‫واؼبندوب‪ ،‬ألف الشارع طلب فعلهما‪ ،‬وىبرج من التعريف اؼبباح‪ ،‬ألف الشارع مل يطلب فعلو وال تركو‪ ،‬وىبرج‬
‫اؼبكروه واحملرـ؛ ألف الشارع مل يطلب فعلهما بل طلب تركهما‪.‬‬
‫الزما من اؼبكلف؛ حبيث ال يسوغ تركو‪ .‬والتقييد ّٔذه العبارة‬ ‫وأما عبارة "طلبًا جازما"‪ :‬تعٍت طلبًا حتما ً‬
‫ىبرج من التعريف اؼبندوب؛ ألف الشارع طلبو بدوف حتم‪ ،‬والطلب البلزـ يكوف بصيغة تدؿ عليو‪ ،‬كما سنرى‬
‫بعد قليل‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫جازما من اؼبكلف‪.‬‬ ‫فالواجب ىو الفعل الذي طلب الشارع القياـ بو طلبًا ً‬
‫التعريف الثاني‪ :‬الواجب ىو ما يثاب فاعلو ويعاقب تاركو‪ .‬وإليك شرح ىذا التعريف‪:‬‬
‫‪ -‬ما يثاب فاعلو‪" :‬ما" اسم موصوؿ دبعٌت الذي وىي صفة الفعل الواجب‪ ،‬والثواب من اللَّو تعاىل‬
‫للعبد على تنفيذ أوامره والتزاـ أحكامو‪ ،‬وتطبيق شريعتو‪ ،‬فاعلو‪ :‬أي فاعل الواجب‪ ،‬ويدخل يف التعريف الواجب‬
‫واؼبندوب‪ ،‬فإف الفاعل يستحق الثواب عليهما‪ ،‬وىبرج اؼبباح واؼبكروه؛ ألف فاعلهما ال يستحق ثوابًا‪ ،‬وىبرج‬
‫احملرـ؛ ألف فاعلو يستحق عقوبة ال ثوابًا‪.‬‬
‫‪ -‬ويعاقب تاركو‪ :‬العقوبة من اللَّو تعاىل على اؼبكلف ؼبخالفة أمره‪ ،‬وارتكاب ؿبارمو‪ ،‬وعصياف شريعتو‪،‬‬
‫فاؼبكلف الذي يًتؾ الواجب الثابت خبطاب اللَّو تعاىل يستحق العقاب الذي يثبت عن طريق الشرع فقط‪،‬‬
‫وىذا احًتاز عن اغبراـ‪ ،‬فإف تاركو ال يعاقب بل يثاب تاركو ويعاقب فاعلو‪ ،‬وقلنا‪ :‬ما يستحق تاركو العقاب‪،‬‬
‫كرما منو وفضبل‪.‬‬ ‫دبعٌت أنو لو عاقبو اللَّو تعاىل لكاف مستح ًقا لو‪ ،‬الحتماؿ أف يعفو اللَّو عنو ً‬
‫والتعريف األوؿ يتفق مع التعريفات السابقة لئلهباب والندب والكراىة واإلباحة والتحرمي من حيث‬
‫اغبقيقة واؼباىية‪ ،‬والتعريف الثاين من حيث العوارض والصفات اليت سبيزه عن غَته‪ ،‬وتظهر بو حقيقتو‪.‬‬
‫وحكم الواجب ‪-‬كما سبق بيانو‪ -‬أنو هبب القياـ بو‪ ،‬ويكفر منكره إذا ثبت بدليل شرعي‪ ،‬وأف فاعلو‬
‫يستحق الثواب وتاركو يستحق العقاب‪.‬‬
‫ثانيا ـ األساليب التي تفيد الوجوب‬
‫يثبت الواجب خبطاب اللَّو تعاىل باالتفاؽ‪ ،‬ولكن الشارع الكرمي استعمل عدة أساليب‪ ،‬يدؿ كل منها‬
‫على الطلب اغبتمي الذي يفيد اإلهباب (‪ ،)1‬وذلك لبياف إعجاز القرآف باختبلؼ الصيغ‪ ،‬حىت ال يكثر تكرار‬
‫اللفظ الواحد عدة مرات؛ ألف النفوس تسأـ التكرار‪ ،‬واألساليب اليت تدؿ على الواجب بعضها حقيقة‪،‬‬
‫وبعضها ؾباز‪ ،‬وأنبها ىي‪:‬‬
‫استَ ْمتَػ ْعتُ ْم‬ ‫الصبل َة َوآتُوا َّ‬ ‫ِ‬
‫الزَكا َة ‪[‬البقرة‪ ،]110:‬وقولو تعاىل‪ :‬فَ َما ْ‬ ‫يموا َّ‬
‫‪ - 1‬فعل األمر‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪َ  :‬وأَق ُ‬
‫ِِ‬
‫يضةً‪[‬النساء‪.]24:‬‬ ‫ُج َورُى َّن فَ ِر َ‬ ‫بِو مْنػ ُه َّن فَآتُ ُ‬
‫وى َّن أ ُ‬
‫اب ‪[‬ؿبمد‪ ،]4:‬فلفظ‬ ‫الرقَ ِ‬
‫ب ّْ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫ض ْر َ‬
‫ين َك َف ُروا فَ َ‬
‫‪ - 2‬اؼبصدر النائب عن الفعل‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬فَإ َذا لَقيتُ ُم الذ َ‬
‫ضرب مصدر ناب عن فعل الضرب‪.‬‬
‫‪ - 3‬الفعل اؼبضارع اؼبقًتف ببلـ األمر‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬لِيُػْن ِف ْق ذُو َس َع ٍة ِم ْن َس َعتِ ِو‪[‬الطبلؽ‪.]7:‬‬
‫‪ - 4‬اسم الفعل‪ ،‬مثل َم ْو وعليكم‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪َ  :‬علَْي ُك ْم أَنْػ ُف َس ُك ْم ‪[‬اؼبائدة‪ ،]105:‬أي الزموا أنفسكم‪،‬‬
‫وقولو ‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪َ (( :‬م ْو‪ ،‬عليكم من األعماؿ ما تطيقوف‪ ،‬فإف اللَّو ال يبل حىت سبلوا))(الطرباين)‪.‬‬
‫اف‪[‬النحل‪ ،]90:‬وقولو تعاىل‪ :‬إِ َّف‬ ‫‪ - 5‬التصريح بلفظ األمر‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬إِ َّف اللَّو يأْمر بِالْع ْد ِؿ واإلحس ِ‬
‫َ َ ُُ َ َ ْ َ‬
‫ات إِ َىل أ َْىلِ َها‪[‬النساء‪.]58:‬‬
‫اللَّو يأْمرُكم أَ ْف تُػؤُّدوا األمانَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُُ ْ َ‬
‫ؾبازا‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬يَا أَيػُّ َها‬ ‫‪ - 6‬أساليب اللغة العربية األخرى اليت تستعمل للداللة على الطلب اعبازـ ً‬
‫ت ‪[‬آؿ‬ ‫َْ‬ ‫الصيَ ُاـ ‪[‬البقرة‪ ،]183:‬وقولو تعاىل‪َ  :‬ولِلَّ ِو َعلَى الن ِ‬
‫َّاس ِح ُّج الْبػي ِ‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ّْ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُوا ُكت َ‬
‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫عمراف‪.]97:‬‬
‫‪30‬‬
‫‪ - 7‬ترتيب العقوبة من اللَّو على تارؾ الفعل‪ ،‬أو التهديد ّٔا أو الوعيد الشديد على تاركو‪ ،‬سواء كانت العقوبة‬
‫وجد َس َعةً ومل يضح فبل‬
‫يف الدنيا أو يف اآلخرة‪ ،‬أو يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪(( :‬من َ‬
‫يقرب مسجدنا))(اغباكم)‪ ،‬فهذا الوعيد ال يكوف إال بًتؾ الواجب‪ ،‬فاألضحية واجبة عند البعض كاغبنفية‪.‬‬
‫‪ - 8‬التصريح بلفظ وجب وهبب‪ ،‬وفرض‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬عن رمضاف‪" :‬إف اللَّو فرض عليكم‬
‫صيامو"‪.‬‬
‫فاإلهباب إما أف يكوف بفعل األمر أو طلب األمر‪ ،‬وإما أف يكوف بصيغة الطلب اليت تدؿ على‬
‫التحتيم‪ ،‬وإما أف يكوف بالعقوبة أو بالتهديد ّٔا على التارؾ‪ ،‬ويكوف فعل اؼبكلف يف ىذه اغباالت واجبًا عليو‪.‬‬
‫ثالثا ـ أقسام الواجب‬
‫ينقسم الواجب أربعة تقسيمات باعتبارات ـبتلفة‪ ،‬فينقسم باعتبار الوقت إىل واجب مؤقت وواجب‬
‫مطلق‪ ،‬وينقسم باعتبار اؼبقدار اؼبطلوب إىل واجب ؿبدد وواجب غَت ؿبدد‪ ،‬وينقسم باعتبار اؼبكلف إىل واجب‬
‫معُت وواجب ـبَت‪ ،‬وقد ينقسم القسم الواحد‬ ‫عيٍت وواجب كفائي‪ ،‬وينقسم باعتبار الفعل اؼبأمور بو إىل واجب ّ‬
‫إىل عدة أنواع‪ ،‬وإليك التفصيل‪:‬‬
‫التقسيم األول باعتبار الوقت‬
‫ينقسم الواجب من جهة وقت أدائو إىل قسمُت واجب مؤقت وواجب مطلق غَت مقيد بالوقت‪.‬‬
‫معُت‪ ،‬كالصبلة وصوـ‬ ‫ـ الواجب المؤقت‪ :‬وىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما يف وقت ّ‬
‫رمضاف واغبج‪.‬‬
‫فالوقت جزء من الواجب‪ ،‬وال يلتزـ اؼبكلف بالواجب إال بعد دخوؿ الوقت‪ ،‬وال يصح أداؤه غالبًا إال‬
‫أخره عن وقتو بدوف عذر أمث‪،‬‬‫يف وقتو احملدد لو‪ ،‬بدوف تقدمي وال تأخَت‪ ،‬فإف ق ّدمو عن الوقت فإنو باطل‪ ،‬وإف ّ‬
‫ولذا قاؿ العلماء‪ :‬الواجب يف الصبلة واجباف‪ ،‬وللمؤدي أجراف‪ ،‬واجب األداء وواجب الوقت‪ ،‬لقولو تعاىل‪:‬‬
‫ُت كِتَابًا َم ْوقُوتًا ‪[‬النساء‪ ،]103:‬وكذا الصياـ فمن صاـ يف رمضاف فلو أجراف‬ ‫ِِ‬
‫ت َعلَى الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫‪‬إِ َّف َّ‬
‫الصبل َة َكانَ ْ‬
‫أجر الصياـ وأجر فضيلة الشهر اؼببارؾ‪ ،‬ومن فعل الواجب يف غَت وقتو فقد قاـ بأحد الواجبُت وترؾ الواجب‬
‫اآلخر‪ ،‬ولو أجر يف األوؿ ويستحق اإلمث على ترؾ الثاين إذا كاف بغَت عذر‪.‬‬
‫ـ الواجب المطلق عن الوقت ‪ :‬وىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما مطل ًقا عن الوقت‪،‬‬
‫مثل الكفارة الواجبة والنذور اؼبطلقة‪ ،‬فمن حلف يبينًا وحنث‪ ،‬أو نذر ومل يقيّد نَ ْذره بوقت‪ ،‬فليس لفعلو وقت‬
‫أخره إىل الوقت الذي يريده‪ ،‬وكذا اغبج يف العمر عند‬ ‫فورا‪ ،‬وإف شاء ّ‬
‫معُت‪ ،‬فإف شاء كفَّر عن يبينو وأدى نذره ً‬ ‫ّ‬
‫الشافعية‪ ،‬وقضاء رمضاف عند اغبنفية‪.‬‬
‫الذمة‪ ،‬فإذا انقضى الوقت ومل يقم اؼبكلف بو ثبت يف‬
‫والفائدة من ىذا التقسيم أف األوؿ يثبت يف ّ‬
‫الذمة‪ ،‬ألنو غَت مؤقت فلم يبض وقتو‪.‬‬‫الذمة مشغولة بو حىت يقضى‪ ،‬أما الثاين فبل يثبت يف ّ‬ ‫ذمتو‪ ،‬وصارت ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتفرع عن ىذا التقسيم كبلـ طويل عن الواجب اؼبؤقت‪ ،‬ونذكر ناحيتُت فقط‪ ،‬األوىل‪ :‬من ناحية‬ ‫ّ‬
‫اتساع الوقت لو‪ ،‬والثانية‪ :‬من ناحية أدائو يف وقتو أو خارجو‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫تقسيم الواجب المؤقت‬
‫ينقسم الواجب اؼبؤقت باعتبارين ـبتلفُت‪:‬‬
‫بػ ‪ -‬باعتبار فعلو واإلتياف بو‪.‬‬ ‫أ‪ -‬باعتبار ارتباطو بالوقت‪،‬‬
‫األول‪ :‬ارتباط الواجب المؤقت بالوقت‬
‫ينقسم الواجب اؼبؤقت حبسب ارتباطو بالوقت إىل ثبلثة أنواع‪ :‬واجب مضيق‪ ،‬وواجب موسع‪ ،‬وواجب‬
‫ذي شبهُت‪.‬‬
‫الواجب المؤقت بوقت مضيق‬
‫ىو الواجب اؼبؤقت الذي يستغرؽ فعلو صبيع الوقت احملدد لو‪ ،‬والوقت معيار لو‪ ،‬فبل يسع واجبًا آخر‬
‫معو من جنسو‪ ،‬مثل الصياـ يف شهر رمضاف‪ ،‬فالصياـ يستغرؽ صبيع الشهر‪ ،‬وال يستطيع اؼبكلف أف يصوـ يف‬
‫نذرا أو قضاء؛ ألف الوقت بقدر الواجب فبل يزيد عنو وال ينقص‪ ،‬ووقتو سبب لوجوبو‪،‬‬ ‫تطوعا أو ً‬ ‫شهر رمضاف ً‬
‫ِ‬
‫ص ْموُ‪[‬البقرة‪.]185:‬‬ ‫لقولو تعاىل‪ :‬فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫الواجب المؤقت بوقت موسع‬
‫وىو الواجب اؼبؤقت الذي يتسع وقتو ألدائو وألداء غَته من جنسو‪ ،‬فالوقت أوسع من الواجب‪ ،‬مثل‬
‫كل منها يتسع ألداء الفرض وأداء غَته من الصلوات‬ ‫الصلوات الواجبة اؼبؤقتة بأوقات معيّنة‪ ،‬فإف وقت ٍ‬
‫األخرى‪ ،‬ويستطيع اؼبكلف أف يصلي يف وقت الظهر فرض الظهر وسننو ونوافلو وما يرغب من التطوع‪ ،‬وأف‬
‫فرضا آخر عليو‪.‬‬ ‫يقضي ً‬
‫واتفق العلماء يف الواجب اؼبوسع على أف وقتو سبب لوجوبو‪ ،‬فوقت دلوؾ الشمس سبب لوجوب‬
‫س إِ َىل َغ َس ِق اللَّْي ِل َوقُػ ْرآ َف‬
‫َّم ِ‬ ‫الظهر‪ ،‬وال ذبب الصبلة قبل دخوؿ وقتو‪ ،‬لقولو تعاىل‪ :‬أَقِ ِم َّ ِ ِ‬
‫الصبلةَ ل ُدلُوؾ الش ْ‬
‫ودا‪[‬اإلسراء‪.]78:‬‬ ‫الْ َف ْج ِر إِ َّف قُػ ْرآ َف الْ َف ْج ِر َكا َف َم ْش ُه ً‬
‫ـبَت يف األداء يف أي جزء‬ ‫وذىب صبهور األصوليُت إىل أف صبيع وقت الظهر وقت ألدائو‪ ،‬واؼبكلف ّ‬
‫وسعو على اؼبكلف‪ ،‬خبلفًا للحنفية الذين يروف أف الوقت ىو اعبزء اؼبتصل باألداء لعدـ‬ ‫منو‪ ،‬وأف الشارع ّ‬
‫إمكاف جعل الوقت كلو سببًا لؤلداء‪ ،‬وعدـ إمكاف تعيُت جزء خاص منو‪ ،‬فربط الواجب بوقت األداء‪ ،‬فإف مل‬
‫يؤده اؼبكلف اكبصر الواجب يف اعبزء األخَت من الوقت‪.‬‬
‫اؼبوسع ينقلب إىل واجب مضيق إذا غلب على ظن اؼبكلف العجز عن أداء الواجب طواؿ‬ ‫والواجب ّ‬
‫اؼبوسع‪ ،‬فيصبح‬ ‫وقتو‪ ،‬كمن ظن اؼبوت باإلعداـ بعد فًتة من دخوؿ الوقت‪ ،‬وأنو لن يعيش إىل آخر الوقت ّ‬
‫فورا‪ ،‬ومثل إذا اعتادت اؼبرأة أف ترى اغبيض بعد دخوؿ الوقت بفًتة تستطيع‬ ‫اؼبوسع مضيّػ ًقا عليو وهبب أداؤه ً‬
‫فورا‪ ،‬وإف أخرت فهي آشبة‪.‬‬ ‫فيها الصبلة فيجب عليها األداء ً‬
‫عد ْـ‪ ،‬أو مل يأت اغبيض‪ ،‬مث أدى الواجب‪ ،‬فاختلف‬ ‫يصل اؼبكلف يف مثل ىذه اغبالة ومل يُ َ‬ ‫فإف مل ّْ‬
‫العلماء فيو‪ ،‬فقاؿ أكثرىم‪ :‬يعترب آمث يف التأخَت؛ لغلبة الظن بضيق الوقت‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الواجب المؤقت ذو الشبهين‬
‫وىو الواجب الذي ال يسع غَته من جنسو‪ ،‬ولكن ال يستغرؽ فعلو كل الوقت احملدد لو‪ ،‬مثل اغبج‪،‬‬
‫حجا آخر يف نفس العاـ‪ ،‬ولكن أعماؿ اغبج ال تستغرؽ صبيع‬ ‫فإف أشهر اغبج تسع فريضة اغبج‪ ،‬وال تسع ِّ‬
‫أشهر اغبج‪ ،‬فالوقت يسع الواجب وزيادة من جهة‪ ،‬وال يسع غَته من جنسو من جهة أخرى‪ ،‬ولذا ظبي ذا‬
‫الشبهُت‪.‬‬
‫ويرى بعض العلماء أف اغبج واجب غَت مؤقت فهو واجب مطلق؛ ألنو هبب على اؼبكلف على‬
‫الًتاخي طواؿ العمر‪ ،‬ولكن إذا أراد اؼبكلف أداءه يف سنة معينة فهو ؿبدد بأشهر معينة‪ ،‬ومن ىنا فاغبج واجب‬
‫ذو شبهُت‪ ،‬فهو يشبو الواجب اؼبقيد من جهة‪ ،‬ويشبو الواجب اؼبطلق من جهة أخرى‪.‬‬
‫فائدة تقسيم الواجب اؼبؤقت إىل مضيق وموسع وذي شبهُت‬
‫ويًتتب عن ىذا التقسيم عدة نتائج‪ ،‬أنبها حكم تعيُت النية يف العبادات‪ ،‬واعتبار الوقت سببًا أو شرطًا‬
‫يف الواجب اؼبؤقت واؼبوسع‪ ،‬ونقتصر على مسألة النية‪.‬‬
‫يعُت الواجب اؼبوسع بالنية حُت أدائو‪ ،‬وإذا مل يعيّنو فبل يسقط‬
‫اتفق العلماء على أف اؼبكلف هبب أف ّ‬
‫اؼبوسع؛ ألف الوقت يسعو ويسع غَته من جنسو فبل يقع األداء عن الواجب إال بالنية كمن صلى‬ ‫عنو الواجب ّ‬
‫ذمتو من الواجب‪ ،‬وإف نوى فريضة‬ ‫يعُت فريضة الظهر‪ ،‬فتقع نفبل‪ ،‬وال تربأ ّ‬
‫أربع ركعات يف وقت الظهر‪ ،‬ومل ّ‬
‫تطوعا‪.‬‬
‫تطوعا وقعت ً‬‫الظهر صح أداؤه‪ ،‬وإف نوى ً‬
‫يعُت‪ ،‬كمن‬ ‫عُت أـ مل ّ‬
‫أما الواجب اؼبضيّق فقد اتفق صبهور العلماء على صحة أدائو بالنية مطل ًقا سواء ّ‬
‫نوى مطلق الصوـ يف شهر رمضاف فيصح صومو ويقع عن رمضاف‪ ،‬وأف النية تنصرؼ إىل الواجب؛ ألف الوقت‬
‫ؿبدد لو وال يسع غَته‪.‬‬
‫ولكن العلماء اختلفوا يف حالة النيّة اؼبخالفة كمن نوى التطوع أو النذر يف رمضاف‪ ،‬فقاؿ اغبنفية يقع‬
‫الصوـ عن رمضاف بالنية اؼببايِنة‪ ،‬وال عربة لتعيينو اؼبخالف؛ ألف وقت الواجب اؼبضيق ّ‬
‫متعُت لو‪ ،‬وال يسع غَته‬
‫من جنسو‪ ،‬فينصرؼ الفعل إليو عند اإلطبلؽ‪ ،‬وأف النيّة اؼبخالفة باطلة؛ ألهنا زبالف تعيُت الشارع‪ ،‬فيقع الفعل‬
‫أيضا عن الواجب اؼبضيق‪.‬‬
‫ً‬
‫وقاؿ صبهور العلماء واحملققوف من اغبنفية‪ :‬ال تصح النيّة اؼبخالفة‪ ،‬وال يقع الصوـ عن رمضاف؛ ألف‬
‫اؼبكلف قصد صياـ النّفل‪ ،‬وصرح ّٔذه النيّة‪ ،‬وجاىر بعدـ رغبتو يف صوـ رمضاف‪ ،‬فإف صحت النية فتقع عن‬
‫النّفل‪ ،‬وإف بطلت وقع الفعل بدوف نيّة فبل قيمة لو؛ ألف النية شرط أساسي يف العبادات‪ ،‬لقولو‪ ،‬صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪(( :‬إمبا األعماؿ بالنيات‪ ،‬وإمبا لكل امرئ ما نوى))(البخاري ومسلم)‪ ،‬وأف الفعل إف كاف عن رمضاف‬
‫جربا على اؼبكلف‪ ،‬وىذا ينايف صحة األداء‪.‬‬‫مع نيّة غَته فيكوف الصوـ ً‬
‫صحيحا دبطلق النية كالواجب اؼبضيّق‪ ،‬كمن نوى اغبج مطل ًقا‬‫ً‬ ‫أما الواجب اؼبؤقت ذو الشبهُت فإنو يقع‬
‫يبُت أنو الفريضة‪ .‬أما النفل فإنو يقع عن الواجب؛ ألف الغالب أف يبدأ اإلنساف دبا هبب عليو‪ ،‬وإف نوى‬ ‫ومل ّ‬
‫اؼبوسع‪ ،‬وقاؿ الشافعية‪:‬‬
‫تطوعا حسب نيّتو عند اغبنفية كالواجب ّ‬ ‫التطوع وقصد خبلؼ الواجب فإف فعلو يقع ً‬

‫‪33‬‬
‫ينصرؼ إىل الفرض‪ ،‬حىت قاؿ النووي‪ ،‬رضبو اللَّو تعاىل‪" :‬لو تكلف غَت اؼبستطيع اغبج وقع عن فرض اإلسبلـ‪،‬‬
‫ولو نوى غَته وقع عنو"‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أداء الواجب المؤقت‬
‫معُت‪ ،‬وإف الوقت‬ ‫قلنا‪ :‬إف الواجب اؼبؤقت ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف فعلو طلبًا جازما يف وقت ّ‬
‫اؼبعُت من قبل الشارع كاف فعلو‬
‫فيو واجب‪ ،‬ويتفرع عن ىذا أف اؼبكلف إف قاـ بالواجب يف وقتو احملدد لو و ّ‬
‫أداء‪ ،‬وإف قاـ بو بعد خروج الوقت كاف فعلو قضاء‪ ،‬وإف أداه يف وقتو غَت كامل‪ ،‬مث أعاده مرة ثانية يف نفس‬
‫الوقت كاف فعلو إعادة‪ ،‬وىذا تقسيم للواجب اؼبؤقت باعتبار فعلو واإلتياف بو‪ ،‬فما ىو األداء والقضاء‬
‫واإلعادة؟‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ األداء‬
‫شرعا أوال"‪ .‬وإليك شرح التعريف‪:‬‬‫عرؼ ابن اغباجب األداء بأنو‪" :‬فعل الواجب يف وقتو اؼبقدَّر لو ً‬
‫ػ فعل الواجب‪ :‬أي تنفيذه وإيقاعو‪ ،‬ويدخل فيو صبيع الواجبات سواء أكانت مؤقتة أـ ال‪.‬‬
‫اجب‬
‫وذىب بعض األصوليُت إىل استبداؿ لفظ الواجب‪ ،‬بلفظ العبادة أو اؼبأمور‪ ،‬ليشمل األداءُ الو َ‬
‫واؼبندوب‪.‬‬
‫ػ يف وقتو‪ :‬قيد ّأوؿ ىبرج الواجب اؼبطلق الذي ليس لو وقت كالنذور والعمرة والكفارات‪ ،‬فإف فعلها‬
‫يعترب أداء يف صبيع األوقات‪ ،‬أو ال يوصف بأداء وال قضاء‪.‬‬
‫َّد وقتها غَتُ الشارع فبل‬ ‫ٍ‬
‫شرعا‪ :‬قيد ثاف؛ أي الوقت احملدد للواجب من الشارع‪ ،‬أما إذا حد َ‬ ‫ػ اؼبقدَّر لو ً‬
‫يعترب‪ ،‬كما إذا حدد اإلماـ وقتًا للزكاة‪ ،‬فبل ينطبق ىذا التعريف عليو‪ ،‬ويسمى فعل اؼبكلف أداء سواء دفع الزكاة‬
‫يف الوقت أـ خارجو‪.‬‬
‫صحيحا ألوؿ مرة‪ ،‬فإف أداه مرة ثانية فيعترب إعادة‪ ،‬وإف‬
‫ً‬ ‫ػ أوال‪ :‬أي ألوؿ مرة‪ ،‬بأف يؤدي الواجب أداء‬
‫ذمتو منو‪ ،‬وهبب إعادتو‪.‬‬
‫ناقصا‪ ،‬فبل يعترب وال تربأ ّ‬
‫فعلو ً‬
‫‪ 2‬ـ اإلعادة‬
‫شرعا ثانيًا" وعرفو ابن اغباجب بأنو "ما فعل يف وقت األداء ثانيًا‬
‫وىو "فعل الواجب يف وقتو احملدد لو ً‬
‫ػبلل‪ ،‬وقيل لعذر"‪.‬‬
‫شرعا‪ ،‬فإذا أراد جرب ىذا النقص‬
‫ناقصا عن الوجو اؼبطلوب ً‬ ‫وفائدة اإلعادة أف اؼبكلف أدى الواجب ً‬
‫ومستفيدا من األجر والثواب يف الزيادة‪ ،‬وتقع اإلعادة لعذر ولغَت‬
‫ً‬ ‫فيؤدي الواجب مرة ثانية مستكمبل نقصو‪،‬‬
‫منفردا‪ ،‬أو يف صباعة ثانية‪.‬‬
‫عذر‪ ،‬لتحصيل فضيلة مطل ًقا زيادة يف الثواب‪ ،‬كاعبماعة يف الصبلة بعد األداء ً‬
‫واإلعادة ليست مرتبطة بالواجب اؼبؤقت‪ ،‬فإف بعض الواجبات اؼبؤقتة ال يبكن فيها اإلعادة كالواجب اؼبؤقت‬
‫اؼبضيق‪ ،‬فبل هبري فيو تعجيل وال إعادة‪ ،‬ألف وقتو ال يتسع إال لؤلداء‪ ،‬فإف فات الوقت فهو قضاء‪ ،‬كما أف‬
‫ؿبرما‪،‬‬
‫نذرا مطل ًقا أو صاـ للكفارة‪ ،‬وارتكب فيو ً‬ ‫اإلعادة قد تتحقق يف الواجب اؼبطلق عن الوقت‪ ،‬كمن صاـ ً‬
‫أو أطعم عشرة مساكُت يف الكفارة وشك يف إشباعهم‪ ،‬فأراد اإلعادة لبلحتياط فيكوف فعلو إعادة لتدارؾ اػبلل‬
‫يف أداء الواجب اؼبطلق‪ ،‬كما يرى بعض العلماء صحة إعادة اؼبندوب‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫‪ 3‬ـ القضاء‬
‫عرفو ابن اغباجب بقولو‪" :‬ىو فعل الواجب بعد وقت األداء استدرا ًكا ؼبا سبق لو وجوب مطل ًقا"‪.‬‬ ‫ّ‬
‫عمدا أـ‬
‫أخره ً‬ ‫الذمة‪ ،‬وهبب على اؼبكلف قضاؤه‪ ،‬سواء ّ‬ ‫فمىت مضى الوقت احملدد للواجب فقد ثبت يف ّ‬
‫شرعا‬
‫سهوا‪ ،‬وسواء أكاف متمكنًا من فعلو كاؼبسافر واؼبريض اللذين يفطراف يف رمضاف‪ ،‬أـ غَت متمكن ً‬ ‫ً‬
‫كاغبائض يف رمضاف‪ ،‬أـ غَت متمكن عقبل كالنائم عن الصبلة‪ ،‬ويدخل يف القضاء من مات فحج عنو وليو‬
‫فإنو يكوف قضاء؛ ألف اغبج واجب يف العمر‪ ،‬وقد فات العمر‪ .‬ىذا على فرض صحة القضاء عن اؼبيت كما‬
‫يقوؿ الشافعية واغبنابلة‪.‬‬
‫شرعا‪ ،‬كالصبلة‬‫اتفق الفقهاء على وجوب قضاء الواجبات اليت مل يؤدىا اؼبكلف يف وقتها احملدد ؽبا ً‬
‫والصياـ‪ ،‬سواء أكاف عدـ األداء لعذر أـ لغَت عذر‪ ،‬مث اختلفوا يف دليل قضاء الواجب‪ ،‬فذىب صبهور‬
‫األصوليُت إىل أف القضاء يثبت بدليل جديد غَت دليل الواجب؛ ألف الواجب اؼبؤقت‪ ،‬كما سبق‪ ،‬واجباف‪،‬‬
‫واجب الفعل وواجب الوقت‪ ،‬وطلب فعلو يشمل األمرين؛ أي أداء الواجب يف الوقت احملدد‪ ،‬فإذا فات الوقت‬
‫فبل بد من دليل جديد لئلهباب؛ ألف الدليل األوؿ ال يتضمن القضاء‪ ،‬بينما ذىب اغبنفية واغبنابلة إىل وجوب‬
‫الذمة بو‪ ،‬وأنو ال تربأ الذمة إال باألداء أو القضاء‪ ،‬فشملها الدليل‪،‬‬‫القضاء بالدليل الذي أوجب األداء لشغل ّ‬
‫وتقييده بالوقت للمصلحة يف الثواب واألجر يف شرؼ الوقت‪.‬‬
‫التقسيم الثاني للواجب باعتبار المقدار‬
‫معُت أو عدـ تقديره من الشارع إىل قسمُت‪:‬‬ ‫ينقسم الواجب من حيث تقديره دبقدار ّ‬
‫والصبلة واغبدود‬ ‫ـ واجب محدد ‪ :‬وىو الواجب الذي حدد الشارع لو ً‬
‫مقدارا معينًا‪ ،‬مثل الزكاة‬
‫والكفارات‪ ،‬فقد َّبُت الشارع مقدار الزكاة يف كل نوع‪ ،‬وذكر عدد الصلوات وركعاهتا‪ ،‬ونص على مقدار الكفارة‬
‫يف اليمُت والظهار‪ ،‬وغَت ذلك فبا حدده الشارع اغبكيم‪ ،‬فبل هبوز تغيَته‪.‬‬
‫ـ واجب غير محدد ‪ :‬وىو الواجب الذي مل وبدد الشارع مقداره بل طلبو من اؼبكلف بغَت ربديد‪،‬‬
‫وترؾ ذلك ألىل الذكر من العلماء وأىل اغبل والعقد من ىذه األمة‪ ،‬مثل مقدار التعزير على اعبرائم اليت هنى‬
‫الشارع عنها‪ ،‬ومل وبدد مقدار العقوبة ؽبا؛ ألف القصد ربقيق العدالة‪ ،‬وىذا ىبتلف حبسب األشخاص واألزماف‬
‫واألماكن والظروؼ‪ ،‬مثل مقدار النفقة الواجبة للزوجة واألقارب‪ ،‬ومثل اإلنفاؽ يف سبيل اللَّو وإطعاـ اعبائع‬
‫والدفع باليت ىي أحسن‪ ،‬والدعوة يف سبيل اللَّو‪ ،‬واألمر باؼبعروؼ والنهي عن اؼبنكر؛ ألف اؼبقصود فيها سد‬
‫أيضا باختبلؼ األشخاص واألحواؿ واألماكن‪.‬‬ ‫اغباجة وربقيق اؽبدؼ منها‪ ،‬وىذا ىبتلف ً‬
‫الذمة‪ ،‬وهبب أداؤه يف وقتو‪ ،‬أو قضاؤه بعد‬ ‫ويًتتب على ىذا التقسيم أف الواجب احملدد يثبت دينًا يف ّ‬
‫الذمة إال بعد تعيينو من اؼبكلف أو من السلطة اؼبنوط ّٔا‬ ‫وقتو‪ ،‬أما الواجب غَت احملدد فبل يثبت دينًا يف ّ‬
‫التعيُت‪ .‬ومثاؿ ذلك النفقة الواجبة للزوجة واألقارب‪ ،‬قاؿ اغبنفية‪ :‬إهنا واجب غَت ؿبدد‪ ،‬وبالتايل فبل تشغل‬
‫الذمة ّٔا إال بعد تعيينها من القضاء أو بالًتاضي‪ ،‬وال وبق للزوجة أو القريب أف يطالب ّٔا عن الفًتة اليت‬ ‫ّ‬
‫سبقت القضاء أو الًتاضي‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وعسرا‪ ،‬ودبا يكفي لسد اغباجة‪ ،‬ولذا فإهنا‬ ‫يسرا ً‬ ‫وقاؿ اعبمهور‪ :‬إهنا واجب ؿبدد حباؿ الزوج والقريب ً‬
‫تثبت يف الذمة‪ ،‬وتصح اؼبطالبة ّٔا قبل القضاء أو الًتاضي؛ ألف القضاء أظهر مقدارىا فقط‪.‬‬
‫مبوذجا من النماذج اليت تدؿ على صبلحية الشريعة لكل زماف‬ ‫واغبكمة من ىذا التقسيم أنو يعطي ً‬
‫نظرا ألنبيتها‪ ،‬ألهنا أمور جوىرية يف اغبياة ال يصح التنازع‬ ‫ومكاف‪ ،‬وأف اؼبشرع اغبكيم حدد بعض الواجبات ً‬
‫فيها وال االختبلؼ عليها؛ ألهنا سبس كياف األمة يف دينها ودنياىا‪ ،‬أو ألف العقل البشري يعجز عن بياف اؼبقدار‬
‫آّدي فيها كعدد الصلوات ومقدار الزكاة واغبدود‪ ،‬بينما ترؾ الشارع اغبكيم ربديد بعض الواجبات األخرى‪،‬‬
‫وخوؿ أىل الذكر ّٔا‪ ،‬ليكوف مقدارىا متناسبًا مع الظروؼ والناس واألحواؿ اليت زبتلف وتتطور حسب البيئات‬ ‫ّ‬
‫واألفراد‪.‬‬
‫التقسيم الثالث‪ :‬الواجب باعتبار المطالب أو المكلف بو‬
‫ينقسم الواجب ّٔذا االعتبار إىل قسمُت‪ :‬واجب عيٍت وواجب كفائي‪.‬‬
‫ـ الواجب العيني ‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو من كل فرد من أفراد اؼبكلفُت‪ ،‬كالصبلة والزكاة واغبج‬
‫والوفاء بالعقود واجتناب اػبمر واؼبيسر‪ .‬وظبي واجبًا عينيًا؛ ألف خطاب الشارع يتوجو إىل كل مكلف بعينو‪ ،‬وال‬
‫تربأ ذمة اؼبكلف منو إال بأدائو بنفسو‪ ،‬وال هبزئو قياـ غَته بو‪ .‬وحكمو إف قاـ بو فلو األجر والثواب‪ ،‬وإف تركو‬
‫فهو آمث وعليو العقاب‪.‬‬
‫فاؼبقصود من ىذا الواجب أمرين‪ :‬القياـ بالواجب من جهة‪ ،‬والتزاـ كل فرد بعينو بو من جهة أخرى‪.‬‬
‫ـ الواجب الكفائي ‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو من ؾبموع اؼبكلفُت‪ ،‬ال من كل فرد بعينو‪ ،‬فإف قاـ بو‬
‫بعض اؼبكلفُت فقد تأدى الواجب وسقط اإلمث عن الباقُت‪ ،‬كاألمر باؼبعروؼ والنهي عن اؼبنكر ورد السبلـ‪،‬‬
‫واعبهاد واكتساب أنواع العلوـ اؼبختلفة وأنواع الصنائع وصبلة اعبنازة ‪ ...‬وظبي واجبًا كفائيًا؛ ألف قياـ بعض‬
‫اؼبكلفُت بو يكفي للوصوؿ إىل مقصد الشارع‪.‬‬
‫وحكمو أنو يتعلق بكل اؼبكلفُت عند اعبمهور‪ ،‬فالقادر عليو يقوـ بو بنفسو‪ ،‬وغَت القادر وبث غَته‬
‫على القياـ بو؛ ألف اػبطاب موجو لكل مكلف‪ ،‬كقولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪(( :‬طلب العلم فريضة على كل‬
‫ين يَػلُونَ ُك ْم ِم َن الْ ُكفَّا ِر َولْيَ ِج ُدوا فِي ُك ْم ِغ ْلظَةً‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫مسلم))(ابن ماجة)‪ ،‬وقولو تعاىل‪ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُوا قَاتلُوا الذ َ‬
‫ِ‬
‫ُت ‪[‬التوبة‪ ،]123:‬فإذا قاـ بو بعضهم بالوجو الذي يضمن الكفاية العددية والنوعية‬ ‫َف اللَّوَ َم َع الْ ُمتَّق َ‬
‫َو ْاعلَ ُموا أ َّ‬
‫فقد برئت ذمة اعبميع‪ ،‬وإف مل يؤده أحد‪ ،‬أو أدي بوجو مل تضمن فيو الكفاية العددية أو النوعية‪ ،‬أو كبلنبا‬
‫معا أمث اعبميع؛ ألف القادر مل يؤده‪ ،‬وغَت القادر مل وبث عليو‪ .‬وىذا القسم لو بعد عمراين؛ ألف حصوؿ‬
‫اؼبصلحة العامة ىي اؼبقصودة منو‪ ،‬كما يعطي صورة من صور التضامن يف آّتمع اؼبسلم‪.‬‬
‫ويقصد الشارع من الواجب الكفائي القياـ بو فقط دوف اعتبار للقائم بو‪ ،‬ويتحقق مقصد اؼبشرع مىت‬
‫قاـ بو بعض اؼبكلفُت بدوف تعيُت‪ ،‬فاؼبقصود من الواجب الكفائي وجود الفعل‪ ،‬وليس تكليف األفراد بو‪ .‬فإذا‬
‫وجدت الواجبات الكفائية يف األمة فقد ربققت اؼبصلحة اؼبقصودة من تشريعها‪،‬‬
‫والواجب الكفائي قد ينقلب يف بعض اغباالت إىل واجب عيٍت‪ ،‬كما إذا تعرضت األمة للغزو‬
‫واالعتداء‪ ،‬فاعبهاد يصبح واجبا عينيا بأي وسيلة إذا مل وبصل اؼبقصود دبن تعُت عليهم‪ .‬وكما إذا اكبصر‬
‫‪36‬‬
‫الواجب الكفائي بشخص واحد‪ ،‬مثل وجود عامل واحد للفتوى‪ ،‬وشاىد واحد يف القضية‪ ،‬وطبيب واحد يف‬
‫تعُت الواجب على كل منهم‪ ،‬وصار الواجب الكفائي واجبًا‬ ‫البلدة‪ ،‬وسباح واحد أماـ الغريق‪ ،‬ففي ىذه األمثلة ّ‬
‫عينيًا عليهم‪.‬‬
‫التقسيم الرابع باعتبار الفعل المأمور بو‬
‫ينقسم الواجب من حيث نوع وتعيُت الفعل اؼبطلوب القياـ بو إىل قسمُت‪:‬‬
‫حتما بعينو‪ ،‬أي‪ :‬إف الفعل مطلوب بعينو‪ ،‬كالصبلة والصياـ‬ ‫ـ واجب معيّن‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو ً‬
‫وشبن اؼببيع ورد اؼبغصوب‪.‬‬
‫ذمة اؼبكلف ال تربأ إال بأدائو‪ ،‬وإف األمر متعلق بعُت‬ ‫وحكمو وجوب أداء ىذا الفعل بعينو‪ ،‬وإف ّ‬
‫اؼبعُت‪.‬‬
‫الواجب ّ‬
‫حتما من أمور معينة‪ ،‬كأحد خصاؿ الكفارة وحكم‬ ‫ـ واجب غير معيّن ‪ :‬وىو ما طلب الشارع فعلو ً‬
‫َّارتُوُ إِطْ َع ُاـ‬ ‫اخ ُذ ُكم اللَّو بِاللَّ ْغ ِو ِيف أَْيبَانِ ُكم ولَ ِكن يػؤ ِ‬
‫اخ ُذ ُك ْم ِدبَا َع َّق ْد ُُتُ ْ‬ ‫ِ‬
‫األيبَا َف فَ َكف َ‬ ‫ْ َ ْ َُ‬ ‫األسرى‪ ،‬قاؿ تعاىل‪ :‬ال يػُ َؤ ُ ُ‬
‫صيَ ُاـ ثَبلثَِة‬‫ع َشرةِ مساكُِت ِمن أَوس ِط ما تُطْعِمو َف أ َْىلِي ُكم أَو كِسوتُػهم أَو َْرب ِرير رقَػب ٍة فَمن َمل َِهب ْد فَ ِ‬
‫ْ ْ َْ ُ ْ ْ ُ َ َ َ ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ََ َ ْ َْ َ‬
‫خَت اغبالف بُت اإلطعاـ أو الكساء أو ربرير الرقبة‪ ،‬ومثل قولو تعاىل‪:‬‬ ‫أَيَّ ٍاـ‪[‬اؼبائدة‪ ،]89:‬فاللَّو سبحانو وتعاىل ّ‬
‫ِ‬
‫خَتت اإلماـ بُت اؼبن على‬ ‫اؽ فَِإ َّما َمنِّا بَػ ْع ُد َوإِ َّما ف َداءً ‪[‬ؿبمد‪ ،]4:‬فاآلية ّ‬ ‫‪َ ‬ح َّىت إِ َذا أَثْ َخْنتُ ُم ُ‬
‫وى ْم فَ ُش ُّدوا الْ َوثَ َ‬
‫األسرى أو أخذ الفداء منهم وأضافت السنة‪ :‬القتل واالسًتقاؽ‪.‬‬
‫اؼبخَت فيها بالفعل‪ ،‬وتربأ‬ ‫احدا من األمور ّ‬ ‫اؼبخَت أف اؼبكلف باػبيار يف أف ىبصص و ً‬ ‫وحكم الواجب ّ‬
‫ذمتو من الواجب بأداء أي واحد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مقدمة الواجب‬
‫ولبتم الكبلـ على الواجب دبسألة أصولية ىامة يطلق عليها األصوليوف اصطبلح مقدمة الواجب‪ ،‬أو‬
‫سبهيدا ؽبا يف بياف‬ ‫يعربوف عنها بعبارة "ما ال يتم الواجب إال بو ىل ىو واجب"‪ ،‬وقبل بياف ىذه اؼبسألة نقدـ ً‬
‫أقسامها‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أقسام مقدمة الواجب‬
‫الذمة بو‪،‬‬‫اؼبقدمة إما أف تكوف مقدمة وجوب وىي اليت يتعلق ّٔا التكليف بالواجب؛ أي شغل ّ‬
‫كدخوؿ الوقت بالنسبة للصبلة‪ ،‬فهو مقدمة لوجوب الواجب يف ذمة اؼبكلف‪ ،‬وكاالستطاعة لوجوب اغبج‪،‬‬
‫وحوالف اغبوؿ لوجوب الزكاة‪.‬‬
‫وإما أف تكوف مقدمة وجود وىي اليت يتوقف عليها وجود الواجب بشكل صحيح‪ ،‬أي صحة تفريغ‬
‫الذمة من الواجب‪ ،‬إما من جهة الشرع‪ ،‬كالوضوء بالنسبة للصبلة‪ ،‬فبل توجد الصبلة الصحيحة إال بوجود‬ ‫ّ‬
‫الوضوء‪ ،‬والعدد بالنسبة لصبلة اعبمعة‪ ،‬وإما من جهة العقل‪ ،‬كالسَت وقطع اؼبسافة للحج‪.‬‬
‫كما تكوف اؼبقدمة إما سببًا للواجب‪ ،‬كالبلوغ ودخوؿ الوقت للصبلة والصوـ‪ ،‬والصيغة للعتق الواجب‬
‫بنذر أو كفارة‪ ،‬واالعتداء والقتل للضماف والقصاص‪ ،‬وإما أف تكوف شرطًا للواجب كالعقل للتكليف بالواجب‪،‬‬
‫والقدرة للحج‪ ،‬والطهارة للصبلة‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫ثانيًا‪ :‬حكم مقدمة الواجب‬
‫اتفق العلماء على أف مقدمة الوجوب ليست واجبة على اؼبكلف؛ ألهنا ليست يف مقدوره‪ ،‬مثل دخوؿ‬
‫الوقت واالستطاعة وحوالف اغبوؿ‪.‬‬
‫أما مقدمة الوجود فهي نوعاف‪ ،‬نوع ال يقدر اؼبكلف على فعلو فبل هبب عليو‪ ،‬كحضور العدد يف صبلة‬
‫صحيحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫اعبمعة‪ ،‬ونوع يقدر اؼبكلف على فعلو‪ ،‬مثل صياـ جزء من الليل حىت يكوف صوـ النهار الواجب‬
‫صحيحا‪ ،‬فهذا النوع واجب باتفاؽ‬‫ً‬ ‫ومثل غسل جزء من الرأس‪ ،‬حىت يكوف غسل الوجو الواجب يف الوضوء‬
‫العلماء‪ ،‬وىو اؼبقصود من مقدمة الواجب‪ ،‬وقاعدة "ما ال يتم الواجب إال بو فهو واجب"‪.‬‬
‫لكنهم اختلفوا يف دليل اإلهباب‪ ،‬ىل ىو نفس دليل الواجب األصلي‪ ،‬أـ ىو بدليل جديد؟ أي ىل‬
‫إهباب الواجب يدؿ على إهباب مقدمتو أـ ال يدؿ عليها‪ ،‬وال بد من إهباب جديد؟ اختلفوا على عدة مذاىب‬
‫نذكر اثنُت منها‪:‬‬
‫األوؿ‪ :‬مذىب اعبمهور وىو أف دليل الواجب يدؿ على وجوب اؼبقدمة‪ ،‬سواء أكانت سببًا أـ شرطًا‪،‬‬
‫ألف التكليف بالواجب بدوف التكليف دبقدمتو يؤدي إىل التكليف باحملاؿ‪ ،‬وىو فبنوع‪ ،‬وأف السعي إىل ربصيل‬
‫أسباب الواجب واجب‪ ،‬وأف السعي يف ربصيل أسباب اغبراـ حراـ‪ ،‬باتفاؽ‪ ،‬فكاف دليل الواجب دليبل‬
‫للمقدمة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬وىو عكس األوؿ‪ ،‬وىو أف مقدمة الواجب ال ذبب بإهباب الواجب‪ ،‬وإمبا ربتاج إىل إهباب‬
‫جديد‪ ،‬ألنو لو وجبت اؼبقدمة بدليل الواجب األوؿ لوجب التصريح ّٔا‪ ،‬مع أف اؼبقدمة ال يصرح ّٔا‪ ،‬أو‬
‫كثَتا ما يغفل عنها‪ ،‬فإثبات إهباب اؼبقدمة لشيء ال يقتضيو اػبطاب‬ ‫لكانت واردة يف ذىن اؼبخاطب مع أنو ً‬
‫فيكوف باطبل‪.‬‬
‫وىناؾ آراء أخرى تفرؽ بُت السبب والشرط‪ ،‬وبُت الشرط الشرعي والشرط العقلي وغَته‪.‬‬
‫فائدة‪ :‬يقوؿ القرايف رضبو اللَّو تعاىل‪" :‬الوسيلة إىل أفضل اؼبقاصد أفضل الوسائل‪ ،‬وإىل أقبح اؼبقاصد أقبح‬
‫الوسائل‪ ،‬وإىل ما ىو متوسط متوسطة"‪.‬‬
‫الفرع الثاني في المندوب‬
‫أوال ـ تعريف المندوب‬
‫اؼبندوب أصلو اؼبندوب إليو‪ ،‬وحذؼ اعبار وآّرور زبفي ًفا وتسهيبل‪ ،‬واؼبندوب يف اللغة‪ :‬اؼبدعو إليو‬
‫واؼبستحب‪ ،‬والندب‪ :‬الدعاء إىل أمر مهم‪ ،‬ومنو قوؿ الشاعر‪:‬‬
‫ال يسألوف أخاىم حُت يندّٔم ‪ ...‬يف النائبات على ما قاؿ برىانا‬
‫ويف االصطبلح‪ :‬نذكر تعريفُت لو ‪ -‬كما فعلنا يف الواجب ‪ -‬أحدنبا‪ :‬يتعلق باؼباىية يف دليل اغبكم‪،‬‬
‫والثاين‪ :‬يتعلق يف أثر اػبطاب باؼبدح والذـ أو بالثواب والعقاب‪.‬‬
‫التعريف األول‪ :‬اؼبندوب‪" :‬ىو ما طلب الشارع من الكلف فعلو طلبًا غَت جازـ"‪.‬‬
‫فهو من حيث أنو خطاب الشارع اؼبتعلق بطلب الفعل من اؼبكلف مثل الواجب‪( ،‬لذلك تراجع قيود‬
‫التعريف يف شرح تعريف الواجب)‪ ،‬إال أف عبارة "طلبا غَت جازـ" قيد أخرج من تعريف اؼبندوب الواجب‬
‫‪38‬‬
‫بأنواعو؛ ألنو مطلوب على وجو اغبتم واإللزاـ‪ .‬أما اؼبندوب فهو مطلوب ال على وجو اغبتم واإللزاـ‪ ،‬وإمبا على‬
‫سبيل ترجيح الفعل وأولويتو على الًتؾ‪ ،‬لذلك جاء تعريفو من حيث ما يًتتب عليو من اؼبدح والثواب أو الذـ‬
‫والعقاب بأنو‪:‬‬
‫التعريف الثاني‪" :‬ما وبمد ويثاب فاعلو وال يذـ وال يعاقب تاركو"‪.‬‬
‫فاؼبندوب من جانب الفعل كالواجب يبدح فاعلو ويناؿ الثواب من اهلل عز وجل‪ ،‬عكس احملرـ واؼبكروه‪،‬‬
‫وىبالف الواجب من جانب الًتؾ؛ ألف الواجب يعاقب على تركو يف حُت أف اؼبندوب ال عقاب على تركو‪.‬‬
‫حكم اؼبندوب‬
‫ويظهر حكم اؼبندوب من التعريف الثاين‪ ،‬وىو أف فاعلو يستحق الثواب واألجر من اللَّو تعاىل‪ ،‬وتاركو‬
‫ال يستحق العقاب‪.‬‬
‫ويطلق العلماء على اؼبندوب أظباء أخرى‪ ،‬كالسنة والنافلة واؼبرغب فيو واؼبستحب واإلحساف‪ ،‬قاؿ ابن‬
‫السبكي‪ :‬واؼبندوب واؼبستحب والتطوع والسنة مًتادفة‪ ،‬وخص بعض العلماء لفظ السنة دبا واظب عليو رسوؿ‬
‫اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬كالوتر‪ ،‬واؼبستحب دبا مل يواظب عليو‪ ،‬والتطوع باختيار بعض األفعاؿ اقتداء برسوؿ‬
‫اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬كاللبس واألوراد‪.‬‬
‫ثانيا ـ األساليب التي تفيد الندب‬
‫األساليب اليت تدؿ على الندب كثَتة‪ ،‬وأنبها ىي‪:‬‬
‫‪ - 1‬التعبَت الصريح بلفظ يندب أو يسن‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬يف رمضاف‪" :‬سننت لكم قيامو"‪.‬‬
‫‪ - 2‬الطلب غَت اعبازـ‪ ،‬وذلك بأسلوب األمر السابق اؼبقًتف بقرينة لفظية تصرؼ األمر عن الوجوب إىل‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُوا إ َذا تَ َدايَػْنتُ ْم ب َديْ ٍن إ َىل أ َ‬
‫َج ٍل‬ ‫الندب‪ ،‬وقد تكوف القرينة قاعدة شرعية عامة‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫ُم َس ِّمى فَا ْكتُبُوهُ‪ ‬فلفظ ‪‬اكتبوه‪ ‬أمر يقتضي الوجوب‪ ،‬وصرؼ من الوجوب إىل الندب بقرينة الحقة يف اآلية‬
‫ضا فَػ ْليُػ َؤّْد الَّ ِذي ْاؤُسبِ َن أ ََمانَػتَوُ ‪[‬البقرة‪ ،]283:‬فكتابة الدَّيْن مندوب‪ ،‬ألف‬ ‫ِ‬
‫بقولو تعاىل‪ :‬فَِإ ْف أَم َن بَػ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم بَػ ْع ً‬
‫ت‬ ‫الدائن إف وثق دبدينو فبل حاجة لكتابة الدين عليو‪ ،‬ومثل قولو تعاىل‪ :‬والَّ ِذين يػبتػغو َف الْ ِكت ِ‬
‫اب فبَّا َملَ َك ْ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ََْ ُ‬
‫حرا فيما بعد‪،‬‬ ‫وى ْم إِ ْف َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخْيػًرا ‪[‬النور‪ ،]33:‬فلفظ كاتبوىم أمر دبكاتبة العبد ليصبح ِّ‬ ‫ِ‬
‫أَْيبَانُ ُك ْم فَ َكاتبُ ُ‬
‫ولكن ىذا األمر يفيد الندب للنص على القرينة بعده ‪‬إِ ْف َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخْيػًرا ‪ ‬فعلق الكتابة على علم اؼبالك‬
‫بأف الكتابة خَت للعبد‪ ،‬ولوجود قرينة أخرى وىي قاعدة عامة يف الشريعة أف اؼبالك لو حرية التصرؼ يف ملكو‪،‬‬
‫ت أَْيبَانُ ُك ْم ‪ ‬فبا يدؿ على أف األمر مصروؼ من اإلهباب إىل‬ ‫ِ‬
‫وأوؿ اآلية نصت على ثبوت اؼبلك لو ‪‬فبَّا َملَ َك ْ‬
‫الندب‪.‬‬
‫‪ - 3‬عدـ ترتيب العقوبة على ترؾ الفعل‪ ،‬مع طلبو من الشارع‪ ،‬كقولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إف اللَّو وبب أف‬
‫تؤتى رخصو كما وبب أف تؤتى عزائمو"‪ ،‬فاغبديث مل يرتب عقوبة على ترؾ الرخصة‪.‬‬
‫‪ - 4‬مواظبة الرسوؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬على الفعل يف معظم األحياف‪ ،‬وتركو يف حالة أو يف بعض‬
‫األحياف‪ ،‬ليدؿ على عدـ العقاب على الًتؾ‪ ،‬كالسنن اؼبؤكدة قبل صبلة الفرض أو بعدىا‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ - 5‬األساليب العربية األخرى اليت تدؿ على عدـ اإللزاـ وعدـ التحتيم‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من‬
‫ونعمت‪ ،‬ومن اغتسل فالغسل أفضل" ومثل قولو‪" :‬إف اللَّو وبب أف يرى أثر نعمتو على‬ ‫توضأ يوـ اعبمعة فبها ّ‬
‫عبده"‪ ،‬وقولو‪" :‬إف اللَّو صبيل وبب اعبماؿ"‪.‬‬
‫فهذه األحاديث تدؿ على طلب الفعل‪ ،‬ولكن بدوف إلزاـ وال ربتيم‪ ،‬وبدوف ترتيب العقوبة على التارؾ‪،‬‬
‫وإمبا اقتصر الطلب على التحبيب وبياف الفضل والًتغيب يف الفعل‪.‬‬
‫ثالثا ـ أقسام المندوب‪ :‬يقسم العلماء اؼبندوب إىل ثبلثة أقساـ‪:‬‬
‫ـ السنة المؤكدة ‪ :‬وىي ما يثاب فاعلها وال يعاقب تاركها‪ ،‬ولكنو يستحق اللوـ والعتاب‪ ،‬فالفعل‬
‫مندوب على وجو التأكيد‪ ،‬ويشمل السنن اؼبكتوبة قبل الفرائض أو بعدىا‪ ،‬كركعيت الفجر وسنة الظهر وسنة‬
‫اؼبغرب وسنة العشاء‪ ،‬ومثل اؼبضمضة واالستنشاؽ يف الوضوء‪.‬‬
‫ليبُت جواز‬
‫نادرا ّ‬
‫والضابط ؽبذا القسم أنو ما واظب عليو النيب‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ومل يًتكو إال ً‬
‫الًتؾ‪ ،‬وأنو ليس واجبًا‪ ،‬ويسمى سنة اؽبدى‪.‬‬
‫وحكم السن اؼبؤكدة أف صاحبها يستحق الثواب واألجر من اللَّو تعاىل‪ ،‬وأف تاركها ال يعاقب‪ ،‬ولكنو‬
‫يعاتب ويبلـ‪ ،‬ألف تركها معاندة لسنة رسوؿ اللَّو‪ ،‬وأف ما يتعلق من ىذا القسم بالشعائر الدينية كاألذاف‬
‫واعبماعة إذا اتفق أىل بلد على تركو وجب قتاؽبم الستهانتهم بالسنة‪.‬‬
‫ـ السنة غير المؤكدة ‪ :‬وىي ما يثاب فاعلها وال يعاقب تاركها‪ ،‬وال يستحق اللوـ والعتاب‪ ،‬فالفعل‬
‫مندوب بدوف تأكيد‪ ،‬كالصدقة غَت اؼبكتوبة‪ ،‬وصبلة الضحى‪ ،‬وصياـ االثنُت واػبميس من كل أسبوع‪.‬‬
‫والضابط ؽبذا القسم أنو ما مل يواظب عليو النيب‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وإمبا كاف يفعلو النيب يف بعض‬
‫األحياف‪ ،‬ويسمى ىذا القسم مستحبًا‪ ،‬كما يسمى نافلة‪.‬‬
‫وحكم السنة غَت اؼبؤكدة أف فاعلها يستحق الثواب‪ ،‬وتاركها ال يستحق اللوـ والعتاب أو العقاب‪.‬‬
‫ـ السنة الزائدة‪ :‬وىي ما يثاب فاعلها إف نوى ّٔا متابعة رسوؿ اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬والتأسي بو‪،‬‬
‫وال شيء على تاركها مطل ًقا‪ ،‬وىي أفعاؿ الرسوؿ‪ ،‬عليو الصبلة والسبلـ‪ ،‬اعببلية اليت يفعلها حبكم صفتو البشرية‬
‫القسم ال يعترب من اغبكم‬ ‫فبا ال يتعلق باألحكاـ الشرعية كالنوـ واؼبشي ولبس البياض من الثياب‪ ،‬فهذا‬
‫التكليفي إال بنية متابعة الرسوؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬اليت تدؿ على شدة التعلق واالقتداء بو‪.‬‬
‫والفرؽ بُت السنة غَت اؼبؤكدة والسنة الزائدة أف األوىل يستحق صاحبها الثواب دبجرد نية الفعل‪ ،‬والثانية‬
‫ال يستحق صاحبها الثواب دبجرد نية الفعل‪ ،‬وال بد من نية االقتداء والتأسي‪.‬‬
‫رابعا ـ حكم الشروع في المندوب‬
‫ـبَت‬
‫سبق يف التعريف أف اؼبندوب ما يستحق فاعلو الثواب‪ ،‬وتاركو ال يستحق العقاب؛ أي إف اؼبسلم ّ‬
‫بُت الفعل لكسب الثواب‪ ،‬وبُت الًتؾ وعدـ األجر‪ ،‬أو إف اؼبكلّف إف أراد الثواب واألجر فعل اؼبندوب‪ ،‬وإال‬
‫تركو بدوف عقاب‪ ،‬أما إذا شرع باؼبندوب فهل يبقى حكمو بعد الشروع بو على حالو السابقة قبل الشروع أـ‬
‫يتحوؿ إىل الوجوب؟‬
‫اختلف علماء األصوؿ يف ىذه اؼبسألة على قولُت‪:‬‬
‫‪40‬‬
‫القول األول‪ :‬أف اؼبندوب يبقى على حالو بعد الشروع فيو‪ ،‬وال هبب إسبامو‪ ،‬وإف تركو الفاعل فبل إمث عليو وال‬
‫هبب عليو قضاؤه‪ ،‬وىو مذىب الشافعية‪.‬‬
‫الزما بالشروع‪ ،‬وأف اؼبكلف إذا شرع باؼبندوب وجب‬ ‫القول الثاني ‪ :‬أف اؼبندوب ينقلب إىل واجب‪ ،‬ويصبح ً‬
‫عليو إكمالو‪ ،‬لكن هبوز تركو استثناء ببل إمث للنص عليو‪ ،‬وإف تركو وجب عليو قضاؤه‪ ،‬وىو مذىب اغبنفية‪.‬‬
‫وفصل اإلماـ مالك وأبو ثور فقاال‪ :‬يلزـ اإلسباـ‪ ،‬فإف خرج ببل عذر لزمو القضاء‪ ،‬وإف خرج بعذر فبل‬
‫قضاء‪ ،‬وىو ما نقلو النووي يف آّموع‪.‬‬
‫مالحظة‪ :‬ونتبع الكبلـ عن اؼبندوب دبسألتُت ىامتُت نبو عليهما اإلماـ الشاطيب‪ ،‬وتبعو يف ذلك كل من تعرض‬
‫للكبلـ عن اؼبندوب‪.‬‬
‫أوال‪ :‬المندوب خادم الواجب‬
‫خادما للواجب‪ ،‬ألنو إما‬
‫اعتبارا أعم من االعتبار اؼبتقدـ وجدتو ً‬ ‫قاؿ الشاطيب‪ :‬اؼبندوب إذا اعتربتو ً‬
‫مقدمة لو أو تكميل لو‪ ،‬أو تذكار بو‪ ،‬سواء كاف من جنس الواجب أو ال‪ ،‬فالذي من جنسو كنوافل الصلوات‬
‫مع فرائضها‪ ،‬ونوافل الصياـ والصدقة واغبج‪ ،‬والذي من غَت جنسو كطهارة اػببث يف اعبسد والثوب واؼبصلى‪،‬‬
‫والسواؾ وأخذ الزينة وغَت ذلك مع الصبلة‪ ،‬وكتعجيل اإلفطار وتأخَت السحور وكف اللساف عما ال يعٍت مع‬
‫الصياـ‪ ،‬فإف كاف ذلك فهو الحق بقسم الواجب بالكل‪ ،‬وقلما يشذ عنو مندوب يكوف مندوبًا بالكل واعبزء‪.‬‬
‫ذكر بأساس مشروعية اؼبندوب والسنن‪ ،‬وأهنا خادمة للواجب‪ ،‬وأف السنة ذبرب النقص‬ ‫وىذا كبلـ حق‪ ،‬يُ ّْ‬
‫الذي يقع يف الواجبات كاػبشوع يف الصبلة والتدبر يف القراءة فيها‪ ،‬والشرود عند الوقوؼ بُت يدي اللَّو‪ ،‬وما‬
‫تقع عليو العُت يف الصوـ‪ ،‬وما ينطق بو اللساف يف هنار رمضاف‪ ،‬وغَت ذلك‪ ،‬باإلضافة إىل زيادة األجر والثواب‬
‫يف اؼبندوب‪ ،‬وأنو يذكر بالواجبات لبلستعداد ؽبا نفسيِّا وروحيِّا‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬المندوب واجب بالكل‬
‫قاؿ الشاطيب‪" :‬إذا كاف الفعل مندوبًا باعبزء كاف واجبًا بالكل‪ ،‬كاألذاف يف اؼبساجد واعبوامع أو غَتىا‪،‬‬
‫وصبلة اعبماعة وصبلة العيدين وصدقة التطوع والنكاح والوتر والفجر والعمرة وسائر النوافل الرواتب‪ ،‬فإهنا‬
‫مندوب إليها باعبزء‪ ،‬ولو فرض تركها صبلة عبرح التارؾ ؽبا"‪ ،‬مث يبُت ذلك فيقوؿ‪:‬‬
‫"يستحق أىل اؼبصر القتاؿ إذا تركوه (األذاف) ‪ ..‬وقد توعد الرسوؿ‪ ،‬عليو الصبلة والسبلـ‪ ،‬من داوـ‬
‫على ترؾ اعبماعة منهم أف وبرؽ عليهم بيوهتم ‪ ...‬والنكاح ال ىبفى ما فيو فبا ىو مقصود للشارع من تكثَت‬
‫دائما‪ ،‬أما إذا كاف‬
‫النسل وبقاء النوع اإلنساين‪ ،‬وما أشبو ذلك‪ ،‬فالًتؾ ؽبا صبلة‪ ،‬مؤثر يف أوضاع الدين إذا كاف ً‬
‫يف بعض األوقات فبل تأثَت لو‪ ،‬فبل ؿبظور يف الًتؾ"‪.‬‬
‫ويبُت حكمة إخرى من حكم مشروعية‬ ‫وىذا كبلـ صحيح ال غبار عليو‪ ،‬وال ىبالفو أحد من العلماء‪ّ ،‬‬
‫اؼبندوب‪ ،‬وأنو يتعلق بأمور ىامة يف الواجبات الدينية واؼبصاحل الدنيوية اليت أصبع العلماء على اعتبارىا من‬
‫اؼبقاصد العامة يف الشريعة‪ ،‬وجاءت األحكاـ الشرعية لتحقيقها سواء كانت واجبة أـ مندوبة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الفرع الثالث في الحرام‬
‫أوال ـ تعريف الحرام‬
‫وظبع‪ :‬أحرمتو دبعٌت حرمتو‪ ،‬واؼبمنوع يسمى‬ ‫اغبراـ لغة‪ :‬اؼبمتنع فعلو‪ ،‬من حرـ من بايب قرب وتعب‪ُِ ،‬‬
‫حر ًاما تسمية باؼبصدر‪.‬‬
‫ويف االصطبلح نذكر تعريفُت لو‪ ،‬أحدنبا‪ :‬باغبد وبياف اؼباىية‪ ،‬والثاين‪ :‬بالرسم وبياف الصفات‪.‬‬
‫التعريف األول ‪" :‬اغبراـ ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف تركو على وجو اغبتم واإللزاـ"‪ .‬فيكوف تاركو مأجورا‬
‫مطيعا‪ ،‬وفاعلو آشبا عاصيا‪ ،‬سواء كاف دليلو قطعيا كحرمة ا لزنا‪ ،‬أـ ظنيا كاحملرمات بالسنة اآلحادية‪.‬‬
‫ويطلق على اغبراـ أو احملرـ أظباء ـبتلفة‪ ،‬منو‪ :‬احملظور‪ ،‬واؼبمنوع‪ ،‬واؼبعصية‪ ،‬واؼبزجور عنو‪...،‬‬
‫واؼبقصود بعبارة "طلب الشارع تركو" يف التعريف االبتعاد عن الفعل وعدـ القياـ بو‪ ،‬ويدخل فيو اغبراـ‬
‫واؼبكروه؛ ألف الشارع طلب تركهما‪ ،‬وىبرج من التعريف اؼبباح واؼبندوب والواجب لعدـ طلب تركها من الشارع‪.‬‬
‫وأما عبارة "على وجو اغبتم واإللزاـ" فتعٍت اعبزـ وتأكيد طلب الًتؾ‪ ،‬وىي قيد ىبرج من التعريف‬
‫اؼبكروه؛ ألف طلب تركو ليس على وجو اغبتم واإللزاـ‪.‬‬
‫ويُعرؼ طلب الكف والًتؾ اغبتمي بالصيغة اليت تدؿ عليو عن طريق األساليب الكثَتة اؼبفيدة للتحرمي‪.‬‬
‫شرعا فاعلو"‪.‬‬ ‫التعريف الثاني‪" :‬ىو ما وبمد ويثاب تاركو‪ ،‬ويذـ ويعاقب ً‬
‫فعبارة "وبمد ويثاب تاركو" تفيد األجر الذي ينالو تارؾ الفعل واحملرـ وأخرجت من التعريف الواجب واؼبندوب‬
‫شرعا فاعلو"‪ :‬قي ٌد يف التعريف‪ ،‬ىبرج أيضا الواجب؛ ألف الذـ فيو على الًتؾ‪،‬‬ ‫واؼبباح‪ ،‬أما عبارة "يذـ ويعاقب ً‬
‫وىبرج اؼبندوب واؼبكروه واؼبباح؛ ألنو ال ذـ فيو أصبل‪ ،‬ال على الفعل وال على الًتؾ‪ ،‬ويبقى احملرـ فقط‪ .‬والذـ ال‬
‫يكوف إال من الشرع‪ ،‬وفعل اغبراـ يشمل كل ما يصدر عن اؼبكلف من قوؿ ؿبرـ كالغيبة والقذؼ‪ ،‬أو فعل‬
‫كالسرقة والقتل‪ ،‬أو من عمل القلب كاغبقد واغبسد‪ ،‬والذـ ىو اللوـ واالستنقاص الذي يصل إىل درجة‬
‫العقاب‪.‬‬
‫ثانيا ـ األساليب التي تفيد التحريم‬
‫األساليب اليت تفيد التحرمي يف الكتاب الكرمي والسنة الشريفة كثَتة‪ ،‬أنبها‪:‬‬
‫ت َعلَْي ُك ْم‬ ‫‪ُ ‬حّْرَم ْ‬ ‫‪ - 1‬أف يرد اػبطاب صروبًا بلفظ التحرمي‪ ،‬وما يشتق منو‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪:‬‬
‫الربَا ‪[‬البقرة‪ ،]275:‬وقولو تعاىل‪َ  :‬و ُحّْرَـ‬ ‫َح َّل اللَّوُ الْبَػْي َع َو َحَّرَـ ّْ‬
‫أ َُّم َهاتُ ُك ْم‪[‬النساء‪ ،]23:‬وقولو تعاىل‪َ  :‬وأ َ‬
‫يل ُؿبَّرما علَى طَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اع ٍم‬ ‫صْي ُد الْبَػّْر َما ُد ْمتُ ْم ُح ُرًما ‪[‬اؼبائدة‪ ،]96:‬وقولو تعاىل‪ :‬قُ ْل ال أَج ُد ِيف َما أُوح َي إِ ََّ َ ً َ‬ ‫َعلَْي ُك ْم َ‬
‫كل اؼبسلم‬ ‫وحا ‪[‬األنعاـ‪ ،]145:‬ومثل قولو ‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪ُّ " :‬‬ ‫يَطْ َع ُموُ إال أَ ْف يَ ُكو َف َمْيتَةً أ َْو َد ًما َم ْس ُف ً‬
‫دمو ومالو وعرضو"‪.‬‬ ‫على اؼبسلم حراـ‪ُ :‬‬
‫‪ - 2‬صيغة النهي‪ ،‬ألف النهي يفيد التحرمي‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬ومن ذلك ما ورد بلفظ النهي مثل قولو تعاىل‪:‬‬
‫اف َوإِيتَ ِاء ِذي الْ ُق ْرَ َويَػْنػ َهى َع ِن الْ َف ْح َش ِاء َوالْ ُمْن َك ِر َوالْبَػ ْغ ِي ‪[‬النحل‪ ،]90:‬وىذا‬ ‫اإلحس ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫‪‬إ َّف اللوَ يَأْ ُم ُر بالْ َع ْدؿ َو ْ ْ َ‬
‫استعماال للداللة على التحرمي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫القسم أكثر األساليب‬

‫‪42‬‬
‫س‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫الـ ِ‬
‫ر‬ ‫ُ‬ ‫األز‬
‫ْ‬ ‫و‬ ‫اب‬
‫ُ‬ ‫ص‬‫َ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫األ‬‫و‬ ‫ر‬ ‫س‬‫اػبمر والْمي ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬‫ْ‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫‪ - 3‬طلب اجتناب الفعل‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪ :‬يَا أَيػُّ َها الَّ ِذين َآمنُوا إَِّ‬
‫مب‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اجتَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُػ ْفلِ ُحو َف ‪[‬اؼبائدة‪ ،]90:‬وقولو ‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬اجتنبوا السبع‬ ‫ِ‬
‫م ْن َع َم ِل الشَّْيطَاف فَ ْ‬
‫ِ‬
‫اؼبوبقات"‪.‬‬
‫وىذا أمر يفيد وجوب الًتؾ من حيث اللفظ‪ ،‬ويفيد ربرمي الفعل من حيث اؼبعٌت‪.‬‬
‫‪‬فَِإ ْف طَلَّ َق َها فَبل َِرب ُّل لَوُ ِم ْن بَػ ْع ُد َح َّىت تَػْن ِك َح َزْو ًجا‬ ‫‪ - 4‬استعماؿ لفظ "ال وبل"‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ّْساءَ َك ْرًىا ‪[‬النساء‪ ،]19:‬وقولو‬ ‫ين َآمنُوا ال َوب ُّل لَ ُك ْم أَ ْف تَرثُوا الن َ‬ ‫َغْيػَرهُ‪[‬البقرة‪ ،]230:‬وقولو تعاىل‪:‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال وبل ماؿ امرئ مسلم إال بطيب نفسو"‪.‬‬
‫ين يَػ ْرُمو َف‬ ‫َّ ِ‬ ‫‪ - 5‬ترتيب العقوبة على ِ‬
‫الفعل سواء كانت يف الدنيا أـ يف اآلخرة أـ فيهما‪ ،‬مثل قولو تعاىل ‪َ ‬والذ َ‬
‫ات ُمثَّ َمل يأْتُوا بِأَربػع ِة شه َداء فَ ِ‬ ‫الْمحصنَ ِ‬
‫ك ُى ُم‬ ‫ُت َج ْل َدةً َوال تَػ ْقبَػلُوا َؽبُ ْم َش َه َادةً أَبَ ًدا َوأُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫وى ْم َشبَان َ‬
‫اجل ُد ُ‬
‫ْ َ َْ َ ُ َ َ ْ‬ ‫ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الْ َفاس ُقو َف‪[‬النور‪ ،]4:‬فالقذؼ حراـ لًتتب عقوبة اعبلد عليو‪ ،‬وقولو تعاىل‪َ  :‬وَم ْن يَػ ْقتُ ْل ُم ْؤمنًا ُمتَػ َع ّْم ًدا فَ َجَز ُاؤهُ‬
‫ِ‬ ‫‪‬إِ َّف الَّ ِذ ِ‬ ‫َّم َخالِ ًدا ‪[‬النساء‪ ،]93:‬فالقتل حراـ لتوعد فاعلو بالنار‪ .‬وقولو تعاىل‪:‬‬
‫ين ُوببُّو َف أَ ْف تَش َ‬
‫يع‬ ‫َ‬ ‫َج َهن ُ‬
‫اآلخَرةِ ‪[‬النور‪ ،]19:‬وقولو ‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من‬ ‫الدنْػيا و ِ‬ ‫اب أَلِ ٌ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫يم يف ُّ َ َ‬ ‫ين َآمنُوا َؽبُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫الْ َفاح َشةُ يف الذ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين يَأْ ُكلُو َف أ َْم َو َاؿ الْيَتَ َامى ظُْل ًما إَِّمبَا يَأْ ُكلُو َف ِيف بُطُوهن ْم نَ ًارا َو َسيَ ْ‬
‫صلَ ْو َف‬ ‫بدؿ دينو فاقتلوه"‪ ،‬وقولو تعاىل‪ :‬إ َّف الذ َ‬
‫َسعِ ًَتا ‪[ ‬النساء‪ ،]10:‬فأكل ماؿ اليتيم حراـ لتشبيهو بأكل النار وهتديده بالعذاب يوـ القيامة‪.‬‬
‫‪ - 6‬كل لفظ يدؿ على إنكار الفعل بصيغة مشددة‪ ،‬مثل غضب اللَّو‪ ،‬حرب اللَّو‪ ،‬لعن اللَّو‪ ،‬والتحذير من‬
‫الفعل‪ ،‬مثل‪" :‬إياكم واعبلوس على الطرقات"‪ ،‬وكذا وصف الفاعل بالنفاؽ أو الكفر أو الفسق‪ ،‬مثل قولو‬
‫ك ُى ُم الْ َكافُِرو َف ‪[‬اؼبائدة‪ .. ]44:‬الظَّالِ ُمو َف‪[‬اؼبائدة‪... ]45:‬‬ ‫تعاىل‪َ  :‬وَم ْن َملْ َْوب ُك ْم ِدبَا أَنْػَزَؿ اللَّوُ فَأُولَئِ َ‬
‫اس ُقو َف‪[‬اؼبائدة‪ ]47:‬ومثل نفي اإليباف عنو‪ ،‬كقولو ‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬واهلل ال يؤمن ‪-‬ثبلثًا‪ -‬الذي‬ ‫‪‬الْ َف ِ‬
‫ال يأمن جاره بوائقو"‪.‬‬
‫حكم الحرام‬
‫من التعريف السابق وبياف األساليب اليت تفيد التحرمي يظهر أف حكم اغبراـ وجوب الًتؾ على‬
‫اؼبكلف‪ ،‬فإف فعلو فإنو يستحق العقاب والذـ من اللَّو تعاىل‪ ،‬وأف اللَّو تعاىل وصف اؼبؤمنُت بأهنم الذين هبتنبوف‬
‫ش إال اللَّ َم َم ‪[‬النجم‪ ،]32:‬وأف ىذه احملرمات ليست‬ ‫ِ‬ ‫ما حرـ اللَّو عليهم ‪‬الَّ ِذين َْهبتَنِبُو َف َكبَائِر ِْ‬
‫اإلمث َوالْ َف َواح َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فحرـ اللو تعاىل فعلها‪ ،‬وطلب من اؼبكلفُت تركها‬ ‫َّ‬ ‫إال فواحش ومنكرات ومضار ومفاسد تضر بالفرد وآّتمع‪ّ ،‬‬
‫لتحقيق السعادة ؽبم يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ثالثا ـ أقسام الحرام‬
‫سبق الكبلـ أف التشريع جاء لتحقيق العدالة اإلؽبية ورعاية مصاحل البشر يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬فما أوجب‬
‫أمرا إال لرجحاف ضرره اغبقيقي‬ ‫حكما إال بسبب فوائده ومنافعو الراجحة يف ربقيق اؼبصاحل‪ ،‬وما حرـ ً‬ ‫اللَّو ً‬
‫شرعا فقبيح‪ ،‬وإال فحسن كالواجب واؼبندوب واؼبباح‪.‬‬ ‫وثبوت فساده‪ ،‬قاؿ البيضاوي‪ :‬ما هني عنو ً‬
‫واؼبفسدة إما أف تكوف راجعة إىل ذات الفعل ويسمى حر ًاما لذاتو‪ ،‬وإما أف تكوف اؼبفسدة راجعة ألمر يتعلق‬
‫باحملرـ‪ ،‬ويسمى حر ًاما لغَته‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫أوال‪ :‬المحرم لذاتو ‪ :‬وىو ما حرمو الشارع ابتداء وأصالة‪ ،‬مثل أكل اؼبيتة والدـ واػبنزير ولعب اؼبيسر وشرب‬
‫اػبمر والزنا وقتل النفس وأكل أمواؿ الناس بالباطل وزواج احملارـ‪.‬‬
‫ويكوف احملرـ لذاتو غَت مشروع أصبل‪ ،‬ألف منشأ اغبرمة فيو عُت احملل أو ذات الفعل‪ ،‬وأنو يشتمل على‬
‫مفسدة ومضرة راجعة إىل الذات‪.‬‬
‫ويًتتب على ذلك أف التعاقد على اغبراـ باطل‪ ،‬وال يًتتب عليو أثر يًتتب عليو حكم‪.‬‬
‫مشروعا يف أصلو‪ ،‬ولكن اقًتف بو أمر آخر يفضي إىل االعتداء على حقوؽ‬ ‫ً‬ ‫ثانيًا‪ :‬المحرم لغيره‪ :‬وىو ما كاف‬
‫اهلل تعاىل أو حقوؽ العباد‪ ،‬فحرمو الشارع ؽبذا السبب‪ ،‬مثل البيع وقت النداء لصبلة اعبمعة‪ ،‬وصوـ يوـ العيد‬
‫والصبلة بدوف طهارة‪ ،‬والصبلة يف ثوب مغصوب‪ ،‬وزواج احمللّْل؛ فإف البيع مشروع ومباح‪ ،‬ولكن ؼبا اقًتف بو‬
‫ؿبرما‪ ،‬والصبلة يف األوؿ مشروعة وواجبة على اؼبكلف‪ ،‬ولكن ؼباّ‬ ‫منكر وىو االنشغاؿ عن صبلة اعبمعة صار ً‬
‫ؿبرمة بسببو‪ ،‬ومثلو الصوـ يوـ العيد‪ ،‬وزواج احمللّْل‪،‬‬
‫اقًتف ّٔا اؼبنكر‪ ،‬وىو االنتفاع بالثوب اؼبغصوب‪ ،‬أصبحت َّ‬
‫وصوـ الوصاؿ‪ ،‬والغش يف البيع‪.‬‬
‫وينتج عن تقسيم اغبراـ إىل حراـ لذاتو وحراـ لغَته‪ ،‬باإلضافة إىل االختبلؼ يف الفساد والبطبلف‪ ،‬كما‬
‫سنرى فيما يأيت‪ ،‬ينتج أمر آخر‪ ،‬وىو جواز استباحة احملرـ يف بعض اغباالت‪ ،‬فاحملرـ لذاتو يباح ّٔدؼ اغبفاظ‬
‫على الضروريات وىي حفظ الدين واؼباؿ والنفس والعقل والعرض‪ ،‬فيباح اػبمر للحفاظ على اغبياة عند‬
‫ظاىرا للحفاظ على النفس عند اإلكراه بالقتل‪ ،‬أما احملرـ لغَته فإنو يباح من أجل‬‫التهلكة‪ ،‬ويرخص بالكفر ً‬
‫اغبفاظ على الضروريات السابقة‪ ،‬ومن أجل اغبفاظ على اغباجيات‪ ،‬وىي اليت يؤدي تركها إىل مشقة بالغة‬
‫على اؼبكلف؛ مثل كشف العورة‪ ،‬فتباح للحفاظ على اغبياة أحيانًا‪ ،‬وتباح للطبيب من أجل االستشفاء من‬
‫األمراض‪ ،‬وزبفيف األمل عن اؼبريض‪ .‬ولكن بشرط عدـ إسقاط حق الغَت إذا تسببت استباحة احملرـ لغَته يف‬
‫ضرر لو‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬المحرم المعيَّن والمخيَّر‬
‫ينقسم الواجب باعتبار اؼبطلوب فعلو إىل واجب معُت كالصبلة وواجب ـبَت كأحد خصاؿ الكفارة‪،‬‬
‫وكذلك احملرـ ينقسم إىل قسمُت‪ ،‬ؿبرـ معُت‪ ،‬وىو صبيع احملرمات تقريبًا اليت هنى عنها الشارع‪ ،‬ورتب على‬
‫فاعلها العقوبة‪ ،‬كتحرمي قتل النفس وعقوؽ الوالدين والعبودية لغَت اللَّو‪ ،‬وؿبرـ ـبَت وىو أف وبرـ الشارع أحد‬
‫احدا منها‪ ،‬وىذا‬ ‫ؿبرما‪ ،‬وأف اؼبكلف لو أف يفعل عدة أشياء إال و ً‬ ‫األمرين فقط‪ ،‬فإذا فعل أحدنبا أصبح اآلخر ً‬
‫القسم ؿبصور وقليل جدِّا‪ ،‬ولو عدة أمثلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬أف يقوؿ رجل لزوجاتو‪ :‬إحداكن طالق‪ ،‬فتحرـ واحدة منهن‪ ،‬فإذا عاشر الزوج ثبلثًا فالرابعة ؿبرمة‪ ،‬كما‬
‫أيضا‪.‬‬
‫يعُت إحداىن للطبلؽ ً‬ ‫هبوز أف ّ‬
‫‪ - 2‬النهي عن اعبمع بُت األختُت يف وقت واحد‪ ،‬فالشريعة أجازت الزواج بكل منهما‪ ،‬لكن إذا تزوج إحدى‬
‫األختُت حرمت عليو األخرى‪ ،‬ما مل يطلق األوىل أو سبوت‪ ،‬وكذلك اعبمع بُت اؼبرأة وخالتها واؼبرأة وعمتها‪.‬‬
‫‪ - 3‬نص القرآف الكرمي والسنة الشريفة على التخيَت يف التحرمي بُت األـ وبنتها‪ ،‬فكل منهما هبوز الزواج منها‪،‬‬
‫ولكن إذا تزوج من إحدانبا حرمت عليو األخرى‪ ،‬وىذا خَت مثاؿ للحراـ اؼبخَت‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫‪ - 4‬كاف العرب يعددوف الزوجات بدوف حد‪ ،‬وجاء اإلسبلـ وبعضهم عنده عشر زوجات‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اللَّو‪،‬‬
‫صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬لبعض أصحابو‪" :‬أمسك أر ًبعا وطلق سائرىن"‪ ،‬فتعدد الزوجات زيادة على األربع‬
‫زوجات حراـ‪ ،‬ولكن مل يعُت الشارع احملرمة منهن‪ ،‬وترؾ اػبيار للزوج‪.‬‬
‫الفرع الرابع في المكروه‬
‫أوال ـ تعريف المكروه‬
‫اؼبكروه لغة‪ :‬القبيح‪ ،‬من كره األمر مثل قبح‪ ،‬وزنًا ومعٌت‪ ،‬وىو ضد احملبوب‪ ،‬والكريهة اغبرب‪ ،‬أو الشدة‬
‫يف اغبرب‪.‬‬
‫ويف االصطبلح نذكر تعريفُت لو‪ ،‬األوؿ‪ :‬يتعلق بالذات واؼباىية‪ ،‬والثاين‪ :‬يتعلق بالرسم والصفة‪.‬‬
‫التعريف األول‪" :‬اؼبكروه ىو ما طلب الشارع من اؼبكلف تركو طلبًا غَت جازـ"‪.‬‬
‫والتعريف واضح بعد ما سبق بيانو يف شرح تعريف اغبراـ‪ ،‬فاؼبكروه ىو الفعل الذي طلب الشارع تركو‬
‫وعدـ القياـ بو‪ ،‬وكاف ىذا الطلب بدوف حتم وال إلزاـ‪ ،‬فبا يدؿ على كراىة الفعل‪ ،‬ورغبة اؼبشرع يف االبتعاد‬
‫عنو‪.‬‬
‫التعريف الثاني‪" :‬ىو ما يبدح ويثاب تاركو وال يذـ وال يعاقب فاعلو"‪.‬‬
‫فاؼبكروه ىو ما يستحق تاركو اؼبدح والثناء واألجر والثواب من اللَّو تعاىل‪ ،‬أما فاعلو فبل يستحق العقاب‬
‫والذـ‪ ،‬وقد يستحق اللوـ والعتاب‪ ،‬ومثاؿ اؼبكروه أكل غبم اػبيل‪ ،‬وشرب لبنها عند اغبنفية‪ ،‬وترؾ السنن‬
‫اؼبؤكدة‪ ،‬والصبلة يف األوقات اؼبكروىة‪.‬‬
‫واؼبكروه يقابل اؼبندوب‪ ،‬ولذا يطلق على ترؾ اؼبندوب‪ ،‬ويطلق على ترؾ كل مصلحة راجحة‪ ،‬وقد يطلق اؼبكروه‬
‫على اغبراـ‪ ،‬مثل قوؽبم‪ :‬يكره التوضؤ بآنية الذىب والفضة‪ ،‬أي‪ :‬وبرـ‪ ،‬وقد يطلق على ترؾ األوىل‪.‬‬
‫حكم اؼبكروه‬
‫إف الفعل اؼبكروه يشتمل على بعض اؼبفاسد‪ ،‬ولذا ترجح طلب تركو على طلب فعلو‪ ،‬ولكنو مل يصل‬
‫إىل درجة اغبراـ‪ ،‬وإف فاعلو ال يستحق العذاب والعقاب يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقد يستحق اللوـ والعتاب على‬
‫فعلو‪ ،‬لقولو ‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬فمن رغب عن سنيت فليس مٍت"‪ ،‬وتارؾ اؼبكروه يبدح ويثاب إذا نوى بو‬
‫التقرب إىل اللَّو تعاىل‪.‬‬
‫ثانيا ـ األساليب التي تدل على الكراىة‬
‫‪ - 1‬اللفظ الصريح بالكراىة‪ ،‬وما أشبهها من األلفاظ اليت تصرح بعدـ االستحساف‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪" :‬إف اللَّو كره لكم قيل وقاؿ‪ ،‬وكثرة السؤاؿ‪ ،‬وإضاعة اؼباؿ"‪ ،‬وقولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أبغض اغببلؿ‬
‫إىل اللَّو الطبلؽ"‪.‬‬
‫‪ - 2‬أف ينهى الشارع عنو هنيًا مقًتنًا دبا يدؿ على صرفو إىل الكراىة‪ ،‬مثل قولو تعاىل يف كراىة السؤاؿ عن‬
‫اؼبباح خشية أف وبرـ على اؼبؤمنُت‪ :‬ال تَ ْسأَلُوا َع ْن أَ ْشيَاءَ إِ ْف تُػْب َد لَ ُك ْم تَ ُس ْؤُك ْم ‪[‬اؼبائدة‪ ،]101:‬والقرينة اليت‬
‫ِ‬
‫صرفت النهي عن التحرمي إىل الكراىة ىي قولو تعاىل‪َ  :‬وإِ ْف تَ ْسأَلُوا َعْنػ َها ح َ‬
‫ُت يػُنَػَّزُؿ الْ ُق ْرآ ُف تُػْب َد لَ ُك ْم َع َفا اللَّوُ‬
‫َعْنػ َها‪[‬اؼبائدة‪.]101:‬‬
‫‪45‬‬
‫‪ - 3‬أف يطلب الشارع اجتنابو وتركو مع القرينة اليت تدؿ على الكراىة دوف التحرمي‪ ،‬مثل قولو تعاىل يف كراىة‬
‫اس َع ْوا إِ َىل ِذ ْك ِر اللَّ ِو‬ ‫لصبلةِ ِمن يػوِـ ْ ِ‬
‫ي لِ َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اعبُ ُم َعة فَ ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫البيع وقت النداء لصبلة اعبمعة‪ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُوا إ َذا نُود َ‬
‫َو َذ ُروا الْبَػْي َع‪[‬اعبمعة‪ ]9:‬قاؿ اغبنفية‪ :‬القرينة على صرؼ الطلب من التحرمي إىل الكراىة أف البيع مشروع ومباح‬
‫يف أصلو‪ ،‬وإمبا كره ألنو يشغل عن الصبلة‪.‬‬
‫ونبلحظ أف األساليب اليت تفيد التحرمي والكراىة واحدة تقريبًا وتشًتؾ فيما بينها‪ ،‬فإف طلب الشارع‬
‫عاما‪ ،‬أو طلب االجتناب مطل ًقا‪ ،‬كاف الفعل حر ًاما‪ ،‬وإف وجدت القرينة اليت‬ ‫الكف عن أمر‪ ،‬أو جاء النهي ِّ‬
‫مكروىا‪ ،‬ومن القرائن اللفظية والنصية ترتيب العقوبة على الفعل أو عدـ ترتيبها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تصرفو عن اغبرمة كاف‬
‫ثالثا ـ أقسام المكروه‬
‫‪ – 1‬قد سبقت اإلشارة أف اغبنفية يقسموف اؼبكروه إىل قسمُت‪ ،‬مكروه ربريبي ومكروه تنزيهي‪ ،‬واؼبكروه‬
‫جازما بدليل ظٍت مثل لبس اغبرير والذىب على الرجاؿ الثابت حبديث‬ ‫التحريبي ىو ما طلب الشارع تركو طلبًا ً‬
‫رسوؿ اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم ‪" :‬ىذاف حراـ على رجاؿ أميت حلّّ إلناثهم"‪ ،‬والبيع على بيع اآلخر‪ ،‬واػبطبة‬
‫على خطبة غَته‪ ،‬وحكمو أنو إىل اغبراـ أقرب‪ ،‬وىو قسم من اغبراـ عند اإلماـ أيب حنيفة واإلماـ أيب يوسف‪،‬‬
‫وإف أطلق عليو لفظ اؼبكروه‪ ،‬ويأخذ أحكاـ اغبراـ تقريبًا من ربرمي الفعل وطلب الًتؾ واستحقاؽ العقاب على‬
‫الفعل‪ ،‬ولكن ال يكفر جاحده‪.‬‬
‫واؼبكروه التنزيهي ىو ما طلب الشارع تركو طلبًا غَت جازـ‪ ،‬وحكمو مثل حكم اؼبكروه اؼبذكور عند‬
‫اعبمهور ساب ًقا‪ ،‬وأف فاعلو ىبالف األوىل يف اؼبكروه‪ ،‬مثل الوضوء من سؤر سباع الطَت‪ ،‬وأكل غبوـ اػبيل‪.‬‬
‫ـبصوصا‬
‫ً‬ ‫‪ - 2‬قسم بعض الشافعية اؼبكروه إىل قسمُت‪ ،‬حبسب الدليل يف النهي‪ ،‬فإف كاف النهي غَت اعبازـ‬
‫بأمر معُت فهو مكروه‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إذا دخل أحدكم اؼبسجد فبل هبلس حىت يصلي‬
‫ركعتُت"‪ ،‬ومثل النهي عن الصبلة يف أعطاف اإلبل‪ ،‬فإهنا خلقت للشياطُت‪ ،‬وإف كاف النهي غَت اعبازـ غَت‬
‫ـبصوص بأمر معُت فيكوف فعلو خبلؼ األوىل‪ ،‬كالنهي عن ترؾ اؼبندوبات وإفطار اؼبسافر يف رمضاف‪.‬‬
‫الفرع الخامس في المباح‬
‫أوال ـ تعريف المباح‬
‫اؼبباح لغة‪ :‬اؼبأذوف واؼبعلن‪ ،‬من باح الشيء ظهر‪ ،‬وأباحو أظهره‪ ،‬واإلباحة دبعٌت اإلظهار ودبعٌت اإلطبلؽ‬
‫واإلذف‪ ،‬وأباح لك مالو‪ :‬أذف يف األخذ والًتؾ‪ ،‬وجعلو مطلق الطرفُت‪ ،‬وأباح الشيء أحلو لك‪.‬‬
‫ويف االصطبلح نذكر تعريفُت للمباح ‪ -‬كما أسلفنا يف غَته ‪ -‬مع البياف أف اؼبعٌت االصطبلحي ال ىبرج‬
‫عن اؼبعٌت اللغوي‪.‬‬
‫خَت الشارع اؼبكلف بُت فعلو وتركو"‪.‬‬ ‫التعريف األول‪" :‬اؼبباح ىو ما ّ‬
‫فالشارع مل يطلب فعل اؼبباح ومل يطلب تركو واجتنابو‪ ،‬فهو مستوي الطرفُت‪ ،‬ويعًتض على ىذا التعريف‬
‫ىبَت اؼبرء بُت فعلها وتركها‪ ،‬ويدخل فيو الواجب‬ ‫اؼبخَت‪ ،‬فإف كل خصلة منو ّ‬ ‫بأنو غَت مانع‪ ،‬فيدخل فيو الواجب ّ‬
‫ـبَت بُت الصبلة يف أوؿ الوقت أو يف تركها‪.‬‬ ‫اؼبوسع؛ ألف اؼبكلف ّ‬

‫‪46‬‬
‫خَت اؼبكلف يف‬ ‫ويرد على ىذا االعًتاض بأف الواجب اؼبوسع أو اؼبخَت مطلوب من الشارع‪ ،‬وبعد طلبو ّ‬
‫أجزائو أو يف وقتو‪ ،‬أما اؼبباح فليس مطلوبًا أصبل‪.‬‬
‫التعريف الثاني‪ :‬عرؼ الشوكاين اؼبباح بأنو‪" :‬ما ال يبدح على فعلو وال على تركو"‪.‬‬
‫فالشارع الكرمي قصد زبيَت اؼبكلف يف الفعل والًتؾ‪ ،‬فما فعلو اؼبكلف فهو قصد الشارع‪ ،‬وذلك‬
‫لتساوي اؼبفاسد واؼبصاحل يف اؼبباح‪ ،‬أو لتساوي النفع والضرر فيو‪ ،‬أو ألف الطبيعة البشرية والفطرة اإلنسانية‬
‫والعقل السليم الذي خلقو اللَّو تعاىل يتجو كبوه‪ ،‬كإباحة األكل والشرب وأنواع اللباس واؼبشي يف الطرقات‬
‫والتمتع باؽبواء والوقوؼ يف الشمس‪ ،‬ولذا فإف فاعلو ال يستحق اؼبدح وتاركو ال يستحق اؼبدح‪.‬‬
‫وصبع الغزايل وغَته بُت التعريفُت السابقُت فقالوا‪ :‬اؼبباح ما ورد اإلذف من اللَّو تعاىل بفعلو وتركو‪ ،‬غَت‬
‫مقروف بذـ فاعلو ومدحو‪ ،‬وال بذـ تاركو ومدحو‪.‬‬
‫ويرادؼ اؼبباح اغببلؿ واعبائز واؼبطلق‪.‬‬
‫حكم المباح‬
‫يظهر حكم اؼبباح من تعريفو‪ ،‬أف فاعلو أو تاركو ال يستحق العقوبة وال الذـ وال العتاب‪ ،‬وال يستحق‬
‫الثواب واألجر واؼبدح‪ ،‬وأف الشارع مل يطلب فعلو ومل يطلب اجتنابو‪ .‬ويتعلق حبكم اؼبباح أمراف‪:‬‬
‫ص َد ّٔا اؼبكلف وجو اللَّو تعاىل‪ ،‬وابتغى مرضاتو‪ ،‬وأنو يقوـ ّٔا بقصد الطاعة فإهنا‬ ‫األوؿ‪ :‬أف اؼبباحات إذا قَ َ‬
‫تنقلب إىل طاعة وعبادة‪ ،‬كاألكل للتقوي على الطاعة والعبادة والعلم واعبهاد‪ ،‬ومثل التمتع بأشعة الشمس‬
‫صحيحا وببو اللَّو ورسولو‪" :‬اؼبؤمن القوي خَت وأحب إىل اللَّو من اؼبؤمن‬ ‫ً‬ ‫بقصد تنشيط اعبسم ليصبح قويِّا‬
‫الضعيف ويف كل خَت"‪.‬‬
‫وىذا اؼبوضوع ميزة من ميزات وخصائص اإلسبلـ يف توسيع معٌت العبادة‪ ،‬وأف كل أمر قصد بو اؼبكلف‬
‫وجو اللَّو تعاىل أصبح عبادة يستحق بو صاحبو األجر والثواب‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أف اؼبباح خادـ للواجب واؼبندوب‪ ،‬وأف اؼبباح مباح باعبزء مطلوب الفعل أو مطلوب الًتؾ بالكل‪ ،‬وىذا‬
‫ما انفرد بو الشاطيب‪ ،‬وسوؼ نعرضو بالتفصيل يف هناية البحث‪.‬‬
‫ثانيا ـ األساليب التي تفيد اإلباحة‬
‫‪ - 1‬النص الصريح على إباحة الفعل أو التخيَت فيو‪ ،‬مثل‪ :‬افعلوا إف شئتم‪ ،‬أو اتركوا إف شئتم‪ ،‬كقولو‪ ،‬صلى‬
‫اهلل عليو وسلم‪ ،‬يف الصوـ يف السفر‪" :‬إف شئت فصم وإف شئت فأفطر"‪.‬‬
‫‪ - 2‬النص على عدـ اإلمث على الفعل أو ما يف معناه‪ ،‬كعدـ اعبناح ونفي اغبرج‪ ،‬قاؿ تعاىل يف إباحة اػبلع‬
‫ت بِِو ‪[‬البقرة‪،]229:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫على ماؿ بُت زوجُت‪ :‬فَِإ ْف ِخ ْفتُم أَال ي ِقيما ح ُد ِ‬
‫يما افْػتَ َد ْ‬
‫اح َعلَْيه َما ف َ‬‫ود اللَّو فَبل ُجنَ َ‬
‫ْ ُ َ ُ َ‬
‫ضتُم بِوِ‬ ‫ِ‬
‫يما َعَّر ْ ْ‬ ‫اح َعلَْي ُك ْم ف َ‬
‫وقاؿ تعاىل يف إباحة التعريض باػبطبة للمتوىف عنها زوجها يف أثناء العدة‪َ  :‬وال ُجنَ َ‬
‫ّْس ِاء ‪[‬البقرة‪ ،]235:‬وقاؿ تعاىل يف إباحة ترؾ اعبهاد على األعمى وإباحة األكل من بيت اؼبرء‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫م ْن خطْبَة الن َ‬
‫يض َحَر ٌج َوال َعلَى أَنْػ ُف ِس ُك ْم أَ ْف‬ ‫األعَرِج َحَر ٌج َوال َعلَى الْ َم ِر ِ‬
‫األع َمى َحَر ٌج َوال َعلَى ْ‬
‫س َعلَى ْ‬ ‫َ‬ ‫وبيت أبيو وأمو‪ :‬لَْي‬
‫وت آبائِ ُكم أَو بػي ِ‬
‫وت أ َُّم َهاتِ ُك ْم‪[‬النور‪.]61:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تَأْ ُكلُوا م ْن بػُيُوت ُك ْم أ َْو بػُيُ َ ْ ْ ُُ‬

‫‪47‬‬
‫‪ - 3‬األمر بالفعل مع القرينة الدالة على أف األمر لئلباحة وليس للوجوب أو الندب‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪َ  :‬وُكلُوا‬
‫ِ‬ ‫ضي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض‪[‬اعبمعة‪.]10:‬‬ ‫الصبلةُ فَانْػتَش ُروا ِيف ْ‬
‫األر ِ‬ ‫ت َّ‬ ‫َوا ْشَربُوا‪[‬األعراؼ‪ .]31:‬وقولو تعاىل ‪‬فَإ َذا قُ َ‬
‫‪ - 4‬األمر بالفعل بعد حظره‪ ،‬فإنو يفيد اإلباحة‪ ،‬مثل قولو تعاىل يف إباحة الصيد بعد التحلل من اغبج‪َ  :‬وإِ َذا‬
‫الصْي ِد َوأَنْػتُ ْم‬
‫‪َ ‬غْيػَر ُِؿبلّْي َّ‬ ‫ؿبرما يف أثناء اغبج بقولو تعاىل‪:‬‬ ‫ادوا ‪[‬اؼبائدة‪ ،]2:‬وكاف ً‬ ‫اصطَ ُ‬ ‫َحلَْلتُ ْم فَ ْ‬
‫ُح ُرٌـ‪[‬اؼبائدة‪ ،]1:‬ومثل قولو ‪ -‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬كنت هنيتكم عن زيارة القبور أال فزوروىا‪ ،‬فإهنا تذكركم‬
‫اآلخرة"‪.‬‬
‫وىذا األسلوب الرابع يرجع إىل ما قبلو‪ ،‬وأف األمر بالفعل بعد حظره قرينة على صرؼ األمر لئلباحة‪.‬‬
‫‪ - 5‬النص على حل الفعل‪ ،‬مثل قولو تعاىل يف إباحة الطعاـ وغَته من الطيبات وإباحة طعاـ أىل الكتاب‪:‬‬
‫اب ِحلّّ لَ ُك ْم ‪[‬اؼبائدة‪ ،]5:‬ومثل قولو تعاىل يف إباحة الزواج‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬ ‫ات َوطَ َع ُاـ الذ َ‬ ‫‪‬الْيَػ ْوَـ أُح َّل لَ ُك ُم الطَّيّْبَ ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُت ‪[‬النساء‪ ،]24:‬وقاؿ‬ ‫ُت َغْيػَر ُم َسافح َ‬ ‫من غَت احملارـ‪َ  :‬وأُح َّل لَ ُك ْم َما َوَراءَ َذل ُك ْم أَ ْف تَػْبتَػغُوا بِأ َْم َوال ُك ْم ُْؿبصن َ‬
‫ث إِ َىل نِ َسائِ ُك ْم‪[‬البقرة‪.]187:‬‬ ‫الصيَ ِاـ َّ‬
‫الرفَ ُ‬ ‫ُح َّل لَ ُك ْم لَْيػلَةَ ّْ‬ ‫تعاىل يف إباحة معاشرة الزوجة يف ليايل رمضاف‪ :‬أ ِ‬
‫‪ - 6‬اإلباحة األصلية للفعل عند عدـ األمر بو أو النهي عنو‪ ،‬ألف اؼبقرر يف الشريعة الغراء أف األصل يف‬
‫األشياء اإلباحة‪ ،‬فإف مل يرد نص شرعي يف مسألة ما فيكوف حكمها اإلباحة الستصحاب األصل فيها‪.‬‬
‫‪ - 7‬االستثناء من أشياء ؿبرمة‪ ،‬كقولو تعاىل‪( :‬حرمت عليكم ‪ ...‬إال ‪....‬‬
‫ثالثا ـ أقسام المباح‬
‫ينقسم اؼبباح من حيث تعلقو بالنفع والضرر إىل ثبلثة أقساـ‪:‬‬
‫‪ - 1‬قسم ال ضرر على اؼبكلف يف فعلو وتركو‪ ،‬كاألكل والشرب واللباس والصيد وصبغ الثياب والتنزه يف اؽبواء‬
‫الطلق وغَت ذلك فبا سبق شرحو‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقسم ال ضرر على اؼبكلف يف فعلو مع فساده وثبوت ضرره وربرمي أصلو‪ ،‬وىو ما أباح الشارع فعلو من‬
‫احملرمات للضرورة أو لئلكراه‪ ،‬وما أباح الشارع تركو من الواجبات يف حاالت خاصة‪ ،‬أو ال ضرر على اؼبكلف‬
‫بًتكو مع وجوب أصلو كاإلفطار للحامل اؼبرضع واؼبسافر‪ ،‬وترؾ القياـ يف الصبلة للعاجز‪ ،‬وسوؼ ندرس ىذا‬
‫القسم يف الرخصة والعزيبة‪ ،‬وما أباح الشارع فعلو بعد ربريبو لسبب طارئ مثل دـ اؼبرتد يباح‪ ،‬وال ضرر على‬
‫إراقتو‪ ،‬وقد كاف دمو حر ًاما فلما ارتد زالت حرمة دمو‪ ،‬بل ينقلب إىل وجوب قتلو على اغباكم‪ ،‬وكذلك أخذ‬
‫استِْب َد َاؿ َزْو ٍج َم َكا َف َزْو ٍج َوآتَػْيتُ ْم إِ ْح َد ُاى َّن قِْنطَ ًارا فَبل‬
‫جزء من مهر اؼبرأة فإنو حراـ لقولو تعاىل‪َ  :‬وإِ ْف أ ََرْد ُُتُ ْ‬
‫تَأْ ُخ ُذوا ِمْنوُ َشْيئًا أَتَأْ ُخ ُذونَوُ بػُ ْهتَانًا َوإِْشبًا ُمبِينًا‪[‬النساء‪ ،]20:‬أما إذا استمر الشقاؽ بُت الزوجُت فيباح للرجل أف‬
‫ود اللَّ ِو‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يما ُح ُد َ‬ ‫يأخذ من ماؿ زوجتو ما تفتدي بو نفسها يف اػبلع كما سبق‪ ،‬لقولو تعاىل‪ :‬فَإ ْف خ ْفتُ ْم أَال يُق َ‬
‫ت بِِو‪[‬البقرة‪.]229:‬‬ ‫ِ ِ‬
‫يما افْػتَ َد ْ‬
‫اح َعلَْيه َما ف َ‬ ‫فَبل ُجنَ َ‬
‫مباحا‪ ،‬فبل يذـ على تركو وال‬ ‫‪ - 3‬قسم ثبت فساده وضرره‪ ،‬ولكن اللَّو تعاىل عفا عن صاحبو‪ ،‬فصار فعلو ً‬
‫يثاب على فعلو‪ ،‬ويعرؼ عند الفقهاء دبرتبة العفو‪.‬‬
‫واألمثلة على ذلك كثَتة‪ ،‬كارتكاب احملرمات قبل اإلسبلـ‪ ،‬مثل الزواج من احملارـ‪ ،‬والزواج من زوجة‬
‫اآلباء‪ ،‬واعبمع بُت األختُت‪ ،‬التعارض وعدـ إمكاف اعبمع‪ ،‬وما سكت الشارع عنو‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ويبكن أف تدخل ىذه األمور ربت حكم اؼبباح الذي ال يؤاخذ اللَّو سبحانو وتعاىل فاعلو‪ ،‬ويعفو عنو‪،‬‬
‫ؼبا ورد فيها من العفو وعدـ اؼبؤاخذة‪ ،‬وأف الفاعل ال يثاب وال يعاقب على الفعل‪ ،‬وإف كاف ضرره أكثر من‬
‫نفعو‪ ،‬ولكن قد ربيط بو ظروؼ وقرائن وحاالت ذبعل الضرر متساويًا مع النفع‪ ،‬أو ذبعل النفع أكثر من الضرر‬
‫صة وشرب اػبمر عند خوؼ اؽببلؾ‪.‬‬ ‫كأكل غبم اؼبيتة يف اؼبَ ْخ َم َ‬
‫اؼبباح من حيث اعبزء والكل‬
‫ولبتم الكبلـ عن اؼبباح دبسألة لطيفة ذكرىا الشاطيب يف اؼبباح‪ ،‬وسبق لو مثلها يف اؼبندوب‪ ،‬وأف‬
‫اؼبندوب خادـ للواجب‪ ،‬وأف اؼبندوب واجب بالكل‪ ،‬وقد قسم الشاطيب اؼبباح حبسب الكلية واعبزئية إىل أربعة‬
‫أقساـ‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬اؼبباح باعبزء اؼبطلوب بالكل من جهة الوجوب‪ ،‬كالتمتع بالطيبات من اؼبأكل واؼبشرب واؼبركب واؼبلبس‪،‬‬
‫فإف ىذه األمور مباحة باعبزء‪ ،‬ويكوف اؼبكلف باػبيار يف فعلها أو تركها يف بعض األوقات أو األحواؿ‪ ،‬أو إذا‬
‫قاـ ّٔا غَته من الناس‪ ،‬أما من حيث اعبملة فإف األكل والشرب هبب فعلهما‪ ،‬وإف ترؾ اؼبكلف األكل‬
‫والشرب بشكل كلي حىت أصابو اؽببلؾ واؼبوت أو اؼبرض فهو آمث‪ ،‬ويكوف تركو حر ًاما‪ ،‬فيجب عليو األكل‬
‫والشرب‪ ،‬ومثلو البيع والشراء ووطء الزوجات وفبارسة وسائل االكتساب‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬اؼبباح باعبزء اؼبطلوب بالكل على جهة الندب‪ ،‬كالتمتع باألكل والشرب دبا فوؽ اغباجة‪ ،‬فهذه األشياء‬
‫مباحة باعبزء‪ ،‬وىبَت اؼبكلف بُت فعلها وتركها يف بعض األحواؿ أو األزماف‪ ،‬لكنها مندوبة بالكل حبيث لو‬
‫مكروىا ؼبخالفة طلب الشارع ؽبا طلبًا غَت جازـ‪ ،‬مثل قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪:‬‬ ‫ً‬ ‫تركها اؼبكلف لكاف تركو‬
‫"أال إذا أوسع اللَّو عليكم فأوسعوا على أنفسكم‪ ،‬إف اللَّو وبب أف يرى نعمتو على عبده"‪ ،‬وقولو‪ ،‬صلى اهلل‬
‫ات ِم َن‬‫عليو وسلم‪" :‬إف اللَّو صبيل وبب اعبماؿ"‪ ،‬وقولو تعاىل‪ :‬قُل من حَّرـ ِزينَةَ اللَّ ِو الَِّيت أَخرج لِعِب ِادهِ والطَّيّْب ِ‬
‫َْ َ َ َ َ‬ ‫ْ َْ َ َ‬
‫صةً يَػ ْوَـ الْ ِقيَ َام ِة‪[‬األعراؼ‪.]32:‬‬ ‫ِ‬ ‫اغبَيَاةِ ُّ‬
‫الدنْػيَا َخال َ‬ ‫ين َآمنُوا ِيف ْ‬ ‫ّْ ِ ِ ِ ِ‬
‫الرْزؽ قُ ْل ى َي للَّذ َ‬
‫ثالثًا‪ :‬اؼبباح باعبزء احملرـ بالكل‪ ،‬كاؼبباحات اليت تقدح اؼبداومة عليها يف العدالة‪ ،‬كالتمتع باللذائذ‪ ،‬وآّازفة يف‬
‫الكبلـ‪ ،‬واعتياد اغبلف‪ ،‬وشتم األوالد‪ ،‬فإهنا مباحة يف األصل‪ ،‬ولكن اإلكثار منها واالعتياد عليها يصبح‬
‫حر ًاما‪ ،‬ومثلو األكل فوؽ الشبع فبا يؤدي إىل التخمة واؼبرض‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬اؼبباح باعبزء اؼبكروه بالكل‪ ،‬كالتنزه يف البساتُت وظباع تغريد اغبماـ واللعب بو والغناء اؼبباح‪ ،‬فإهنا مباحة‬ ‫رً‬
‫باعبزء يف أصلها إذا فعلها اؼبكلف مرة أو مرتُت يف يوـ ما‪ ،‬ولكن االستمرار عليها وقضاء األوقات فيها وجعلها‬
‫عادة للمرء يًتتب عليها بعض الضرر دبخالفة ؿباسن العادات‪ ،‬فتصبح مكروىة‪.‬‬
‫قاؿ الشاطيب‪ :‬إف اؼبباح حبسب الكلية واعبزئية يتجاذّٔا األحكاـ باؼبطلوب بالكل‪.‬‬
‫خاتمة في الحكم التكليفي‬
‫وإىل ىنا ننتهي من اغبكم التكليفي وأنو يقسم عند اعبمهور إىل طبسة أقساـ وىي‪ :‬الواجب واؼبندوب‬
‫واؼبباح واغبراـ واؼبكروه‪ ،‬وزاد اغبنفية قسمُت‪ :‬ونبا‪ :‬الفرض‪ ،‬واؼبكروه ربريبًا‪ ،‬فصار آّموع عندىم سبعة أقساـ‪.‬‬
‫وىذه األحكاـ التكليفية تتعلق بأفعاؿ اؼبكلف‪ ،‬فقد يكوف الفعل واجبًا كالصبلة‪ ،‬وقد يكوف مندوبًا‬
‫ؿبرما كالقتل‪.‬‬‫مكروىا مثل كثرة الكبلـ‪ ،‬وقد يكوف ً‬ ‫ً‬ ‫مباحا كالبيع واألكل‪ ،‬وقد يكوف‬ ‫كالنوافل‪ ،‬وقد يكوف ً‬
‫‪49‬‬
‫وقد تتعلق ىذه األحكاـ بفعل واحد‪ ،‬وتعًتيو األحكاـ اػبمسة كلها أو بعضها حبسب الظروؼ‬
‫واألحواؿ اليت ربيط بو‪ ،‬كالزواج يكوف واجبًا على اؼبكلف إذا استطاع تكاليف الزواج وتأكد من نفسو الوقوع‬
‫ؿبرما إذا تأكد من‬
‫يف اغبراـ إذا مل يتزوج‪ ،‬ويكوف مندوبًا يف األحواؿ العادية مع القدرة على الباءة‪ ،‬ويكوف ً‬
‫مباحا إذا تساوت احملاسن‬‫مكروىا إذا خاؼ ذلك‪ ،‬ويكوف ً‬ ‫ً‬ ‫نفسو ظلم زوجتو وعدـ قيامو حبقوقها‪ ،‬ويكوف‬
‫واؼبفاسد‪ ،‬ومثل الزواج كثَت من أفعاؿ اؼبكلفُت اليت تعًتيها األحكاـ اػبمسة أو بعضها حبسب القرائن احمليطة‬
‫ّٔا‪ ،‬كما أف األحكاـ زبتلف من حيث اعبزئية والكلية‪ ،‬وسبق بياف ذلك يف اؼبندوب واؼبباح‪ ،‬قاؿ الشاطيب‪ :‬إف‬
‫األفعاؿ كلها زبتلف أحكامها بالكلية واعبزئية عن غَت اتفاؽ‪ ،‬وؼبدع أف يدعي اتفاؽ أحكامها‪ ،‬وإف اختلفت‬
‫بالكلية واعبزئية‪.‬‬
‫وبعد االنتهاء من الكبلـ عن اغبكم التكليفي ننتقل للقسم الثاين من اغبكم الشرعي‪ ،‬وىو اغبكم الوضعي‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ الحكم الوضعي‬
‫المطلب األول ـ تعريف الحكم الوضعي‬
‫الوضع يف اللغة‪ :‬اإلسقاط والًتؾ واالفًتاء والوالدة وغَت ذلك‪ ،‬من وضع عنو دينو أسقطو‪ ،‬ووضعت‬
‫الشيء بُت يديو تركتو ىناؾ‪ ،‬ووضع الرجل اغبديث افًتاه وكذبو‪ ،‬ووضعت اغبامل ولدىا أي ولدتو‪.‬‬
‫واغبكم الوضعي يف االصطبلح‪" :‬ىو خطاب اللَّو تعاىل اؼبتعلق جبعل الشيء سببًا لفعل اؼبكلف‪ ،‬أو‬
‫فاسدا‪ ،‬أو رخصة‪ ،‬أو عزيبة"‪ .‬فالوضع جعل الشيء مرتبطًا بشيء آخر‪.‬‬ ‫صحيحا‪ ،‬أو ً‬
‫ً‬ ‫مانعا‪ ،‬أو‬
‫شرطًا لو‪ ،‬أو ً‬
‫مانعا أو‬
‫فاغبكم الوضعي ىو الوصف اؼبتعلق باغبكم التكليفي‪ ،‬وىذا الوصف إما أف يكوف سببًا أو ً‬
‫فاسدا أو رخصة أو عزيبة‪.‬‬
‫صحيحا أو ً‬‫ً‬ ‫شرطًا أو‬
‫ويطلق اغبكم الوضعي على الوصف بالسببية والشرطية واؼبانعية والصحة والفساد والرخصة والعزيبة‪،‬‬
‫أثرا للحكم التكليفي‬ ‫وىذا الوصف إما أف يسبق اغبكم التكليفي كاألنواع الثبلثة األوىل‪ ،‬وإما أف يكوف الح ًقا و ً‬
‫كالنوعُت األخَتين‪ ،‬وعلى كبل اغبالُت فاغبكم الوضعي عبلمة للحكم التكليفي ومرتبط بو‪ ،‬فاللَّو سبحانو كلف‬
‫الناس بأحكاـ‪ ،‬ولكنو ربط ىذا التكليف بأمور أخرى‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ أقسام الحكم الوضعي‬
‫ينقسم اغبكم الوضعي حبسب طبيعة ارتباط اغبكم التكليفي بو إىل طبسة أقساـ‪ ،‬وىي‪ :‬السبب‪،‬‬
‫والشرط‪ ،‬واؼبانع‪ ،‬والصحيح ويقابلو الفاسد أو الباطل‪ ،‬والعزيبة ويقابلها الرخصة‪ .‬وذلك أف الشيء يقتضي أف‬
‫صحيحا‪ ،‬أو غَت صحيح‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مانعا‪ ،‬أو مسو ًغا لرخصة بدؿ العزيبة‪ ،‬أو‬
‫يكوف سببًا لشيء آخر‪ ،‬أو شرطًا لو‪ ،‬أو ً‬
‫فكل منها حكم ثبت خبطاب الوضع‪.‬‬
‫ولبصص كل قسم يف مطلب خاص‪ ،‬فنبُت تعريفو وحكمو واختبلؼ العلماء فيو إف وجد‪ ،‬وما يتعلق بو‬
‫من حبوث‪.‬‬
‫الفرع األول في السبب‬
‫أوال ـ تعريف السبب‬
‫السبب يف اللغة‪:‬عبارة عما يبكن التوصل بو إىل مقصود ما‪ ،‬ومنو ظبي الطريق سببًا‪ ،‬وظبي اغببل سببًا‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫ويف االصطبلح‪ :‬عرفو اآلمدي بأنو‪ :‬الوصف الظاىر اؼبنضبط الذي دؿ الدليل السمعي على كونو معرفًا‬
‫غبكم شرعي‪.‬‬
‫فالوصف ىو اؼبعٌت‪ ،‬والظاىر ىو اؼبعلوـ ضد اػبفي‪ ،‬واؼبنضبط ىو احملدد بأف ال ىبتلف باختبلؼ‬
‫األشخاص أو األحواؿ‪ ،‬خببلؼ اغبكمة وىي الباعث على شرع األحكاـ ؼبصلحة العباد‪ ،‬من جلب نفع أو‬
‫دفع ضرر‪ ،‬والدليل السمعي ىو ما كاف يف الكتاب والسنة‪ ،‬وكونو معرفًا غبكم شرعي أي عبلمة على اغبكم‬
‫الشرعي من غَت تأثَت فيو‪.‬‬
‫فالسبب ىو اؼبعٌت الظاىر اؼبعلوـ احملدد الذي ثبت بالكتاب والسنة أنو عبلمة على وجود اغبكم‪ ،‬أو‬
‫وعدما‪.‬‬
‫وجودا ً‬ ‫ىو ما ارتبط بو غَته ً‬
‫وحقيقة السبب أف الشارع جعل وجوده عبلمة على وجود مسببو وىو اغبكم‪ ،‬وجعل زبلفو وانتفاءه‬
‫عبلمة على زبلف وانتفاء ذلك اغبكم؛ أي إف الشارع ربط وجود اؼبسبب بوجود السبب‪ ،‬وعدمو بعدمو‪ ،‬ويلزـ‬
‫من وجود السبب وجود اؼبسبب‪ ،‬ومن عدـ السبب عدـ اؼبسبب‪.‬‬
‫مثالو‪ :‬جعل الزنا سببًا لوجوب اغبد؛ ألف الزنا ال يوجب اغبد بذاتو‪ ،‬وإمبا جبعل الشارع لو‪ ،‬وزواؿ‬
‫الشمس سبب يف وجوب الظهر‪ ،‬وغروب الشمس سبب يف وجوب اؼبغرب‪ ،‬وطلوع الفجر سبب يف وجوب‬
‫الصبح‪.‬‬
‫ويعرؼ السبب بإضافة اغبكم إليو كحد الزنا‪ ،‬فاغبد حكم شرعي أضيف إىل الزنا‪ ،‬فعرفنا أف الزنا ىو‬
‫السبب‪ ،‬مثل صبلة اؼبغرب‪ ،‬فالصبلة حكم شرعي أضيف إىل اؼبغرب‪ ،‬فعرفنا أف الغروب ىو السبب‪.‬‬
‫ويبدو من التعريف السابق أف السبب ال يكوف سببًا إال جبعل الشارع لو سببًا‪ ،‬ألنو سبب غبكم‬
‫تكليفي‪ ،‬والتكليف من اللَّو تعاىل الذي يكلف اؼبرء باغبكم‪ ،‬ويضع السبب الذي يرتبط بو اغبكم‪ ،‬وىذه‬
‫األسباب ليست مؤثرة بذاهتا يف وجود األحكاـ‪ ،‬بل ىي عبلمة وأمارة لظهورىا ووجودىا ومعرفة ؽبا عند صبهور‬
‫العلماء‪ ،‬فالسبب وسيلة وصلة‪ ،‬كاغببل يف إخراج اؼباء من البئر‪ ،‬ولذا عرؼ اإلماـ الغزايل السبب فقاؿ‪ :‬ىو ما‬
‫وبصل الشيء عنده ال بو‪ ،‬ويقوؿ الشاطيب رضبو اللَّو‪ :‬إف السبب غَت فاعل بنفسو‪ ،‬وإمبا وقع اؼبسبب عنده ال‬
‫بو‪ ،‬قاؿ تعاىل‪َ  :‬واللَّوُ َخلَ َق ُك ْم َوَما تَػ ْع َملُو َف‪[‬الصافات‪ ،]96:‬وقاؿ تعاىل‪ :‬اللَّوُ َخالِ ُق ُك ّْل َش ْي ٍء َوُى َو َعلَى ُك ّْل‬
‫س‬ ‫يل‪[‬الزمر‪ ،]62:‬وقاؿ تعاىل‪َ  :‬وَما تَ َشاءُو َف إال أَ ْف يَ َشاءَ اللَّوُ ‪[‬اإلنساف‪ ،]30:‬وقاؿ تعاىل‪َ  :‬ونَػ ْف ٍ‬ ‫ٍ ِ‬
‫َش ْيء َوك ٌ‬
‫َوَما َس َّو َاىا فَأَ ْؽبََم َها فُ ُج َورَىا َوتَػ ْق َو َاىا‪[‬الشمس‪7:‬ػ ‪.]8‬‬
‫ثانيا ـ حكم السبب‬
‫تبُت أف حقيقة السبب ىي أنو يلزـ من وجود السبب وجود اؼبسبب‪ ،‬ومن عدمو عدـ اغبكم‪ ،‬فإذا‬
‫وجد السبب سواء قاـ بو اؼبكلف وكاف من فعلو‪ ،‬أو كاف من غَت فعلو‪ ،‬وتوافرت الشروط اؼبوضوعة للسبب‬
‫حكما تكليفيِّا‪ ،‬أو كاف‬ ‫حتما‪ ،‬سواء أكاف اؼبسبب ً‬ ‫واؼبسبب‪ ،‬وانتفت موانع اغبكم‪ ،‬ترتب على السبب مسببو ً‬
‫إثبات ملك أو حل أو إزالتهما‪ ،‬وسواء أقصد اؼبكلف ترتب اؼبسبب على فعلو أـ مل يُِرد‪ ،‬وسواء قصد إىل‬
‫اؼبسبب أـ مل يقصد؛ ألف ترتب اؼبسبب على السبب من وضع الشارع وال دخل للمكلف بو‪ ،‬وال عربة‬
‫بقصده‪ ،‬وألف السبب ال يؤثر بنفسو يف اؼبسبب‪ ،‬كما سبق عند صبهور العلماء‪ ،‬بل يًتتب اؼبسبب على‬

‫‪51‬‬
‫السبب‪ ،‬ولو قصد اؼبكلف مثبل عدـ ترتبو عليو‪ ،‬واألمثلة توضح ذلك‪ ،‬فمن اشًتى سلعة ثبت لو اؼبلك‬
‫واالنتفاع‪ ،‬ومن سافر يف رمضاف أبيح لو الفطر سواء أقصد ذلك أـ مل يقصد‪ ،‬واؼبوت والقرابة سبباف للمَتاث‬
‫جربا عنو‪ ،‬وال وبق لو أف يرفض الًتكة أو أف‬ ‫ولو مل يرض الوارث أو اؼبتوىف ذلك‪ ،‬وتدخل الًتكة يف ملك الوارث ً‬
‫يبتنع عن قبوؿ اؼبَتاث‪ ،‬ومن تزوج وجب عليو اؼبهر ونفقة الزوجة‪ ،‬ولو تزوجها على أف ال مهر عليو وال نفقة‪،‬‬
‫وىكذا‪.‬‬
‫ثالثا ـ أنواع السبب‬
‫ينقسم السبب عدة تقسيمات باعتبارات ـبتلفة‪ ،‬أنبها‪:‬‬
‫أنواع السبب من حيث موضوعو‬
‫ينقسم السبب باعتبار موضوعو إىل قسمُت‪:‬‬
‫‪ - 1‬السبب الوقتي‪ :‬وىو ما ال يعرؼ لو حكمة باعثة يف تعريفو للحكم‪ ،‬كالزواؿ سبب وقيت لوجوب الظهر‪،‬‬
‫س ‪[‬اإلسراء‪ ،]78:‬فإف الوقت سبب ؿبض وعبلمة على وجوب‬ ‫َّم ِ‬ ‫لقولو تعاىل‪ :‬أَقِ ِم َّ ِ ِ‬
‫الصبل َة ل ُدلُوؾ الش ْ‬
‫ِ‬
‫‪‬فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر‬ ‫الصبلة‪ ،‬ورؤية ىبلؿ رمضاف سبب وقيت لوجوب الصياـ‪ ،‬لقولو تعاىل‪:‬‬
‫ص ْموُ‪[‬البقرة‪.]185:‬‬
‫فَػ ْليَ ُ‬
‫‪ - 2‬السبب المعنوي ‪ :‬وىو ما يعرؼ لو حكمة باعثة يف تعريفو للحكم الشرعي‪ ،‬كاإلسكار سبب معنوي‬
‫لتحرمي اػبمر‪ ،‬لقولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪(( :‬كل مسكر حراـ))(مسلم)‪ ،‬وملك النصاب سبب معنوي‬
‫لوجوب الزكاة‪ ،‬وكذا السرقة والزنا وقطع الطريق والقتل أسباب للعقوبات‪.‬‬
‫وتظهر فائدة التقسيم يف جواز القياس يف القسم الثاين‪ ،‬وعدـ جوازه يف القسم األوؿ‪.‬‬
‫أنواع السبب باعتبار عالقتو بالمكلف‬
‫ينقسم السبب باعتبار قدرة اؼبكلف على القياـ بو‪ ،‬وعدـ قدرتو إىل قسمُت‪:‬‬
‫‪ - 1‬السبب الذي ىو من فعل المكلف ومقدور لو ‪ :‬كالبيع‪ ،‬فهو سبب ؼبلك اؼببيع والثمن‪ ،‬والقتل العمد‬
‫سبب لوجوب القصاص‪ ،‬وعقد الزواج سبب إلباحة االستمتاع بُت الزوجُت‪ ،‬وعقد اإلجارة سبب غبل االنتفاع‬
‫بالعُت‪ ،‬وىذا النوع ينقسم إىل ثبلثة أقساـ‪ ،‬ىي‪:‬‬
‫شرعا‪ :‬وهبب على اؼبكلف فعلو‪ ،‬أو يندب لو القياـ بو‪ ،‬كالنكاح‪ ،‬فهو سبب للتوارث‪،‬‬ ‫أ‪ -‬سبب مأمور بو ً‬
‫ومأمور بو‪.‬‬
‫ب‪ -‬سبب منهي عنو‪ :‬كالسرقة سبب للحد‪ ،‬والسرقة منهي عنها‪.‬‬
‫جػ ‪ -‬سبب مأذوف بو ومباح فعلو للمكلف‪ ،‬كجعل الذبح سببًا غبل اغبيواف اؼبذبوح‪ ،‬والذبح مباح‪.‬‬
‫قادرا عليو لو صفتاف‪ ،‬صفة التكليف‪ ،‬ألنو مقدور عليو‬ ‫والسبب الذي يكوف من فعل اؼبكلف ويكوف ً‬
‫ومطلوب من الشارع فعلو عبلب اؼبنافع ودفع اؼبضار‪ ،‬ويدخل يف اغبكم التكليفي‪ ،‬وصفة الوضع؛ ألف الشارع‬
‫أحكاما أخرى‪ ،‬ويدخل يف اغبكم الوضعي‪ ،‬كالنكاح سبب للتوارث وحل االستمتاع من جهة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رتب عليو‬
‫ومندوب إليو من جهة أخرى‪ ،‬وذبح اغبيواف سبب غبل االنتفاع‪ ،‬وىو مباح‪ ،‬والقتل سبب للقصاص‪ ،‬وىو‬
‫حراـ‪ ،‬والزنا سبب للحد‪ ،‬وىو حراـ‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫‪ - 2‬السبب الذي ليس من فعل المكلف‪ ،‬وال يقدر عليو ‪ ،‬كالزواؿ فهو سبب لوجوب صبلة الظهر‪،‬‬
‫والقرابة سبب لئلرث والوالية‪ ،‬واؼبوت سبب لنقل ملكية الًتكة إىل الوارث‪ ،‬وىذه األسباب ليست من فعل‬
‫اؼبكلف‪ ،‬وال يقدر عليها‪.‬‬
‫وىذا النوع قد يكوف سببًا غبكم تكليفي كالزواؿ‪ ،‬وقد يكوف سببًا غبكم وضعي كاؼبوت‪ ،‬فهو سبب‬
‫لنقل اؼبلك إىل الورثة‪.‬‬
‫وإف الشارع الذي وضع السبب قصد منو اؼبسبب؛ ألف األسباب ليست مقصودة لذاهتا‪ ،‬وإمبا شرعت‬
‫ؼبا ينشأ عنها من مسببات‪ ،‬وألف األحكاـ الشرعية إمبا شرعت عبلب اؼبصاحل أو درء اؼبفاسد‪ ،‬فتصبح األحكاـ‬
‫كذلك أسبابًا ؽبذه النتائج وىذه اؼبسببات‪.‬‬
‫أنواع السبب باعتبار المشروعية‬
‫ينقسم السبب باعتبار اؼبشروعية وعدمها إىل نوعُت‪:‬‬
‫‪ - 1‬السبب المشروع‪ :‬وىو كل ما أدى إىل مصلحة يف نظر الشارع‪ ،‬وإف اقًتف بو أو تضمن مفسدة حبسب‬
‫الظاىر‪ ،‬كاعبهاد سبب لنشر الدعوة وضباية العقيدة وتبليغ الرسالة‪ ،‬وإف أدى إىل مفسدة كإتبلؼ اؼباؿ وتعريض‬
‫األنفس للقتل‪.‬‬
‫وإذا ظهر أحيانًا‪ ،‬أو نتج عن السبب اؼبشروع بعض اؼبفاسد فإهنا ليست ناشئة عن السبب اؼبشروع‪،‬‬
‫وإمبا تنتج عن أمر آخر مرافق لو‪.‬‬
‫‪ - 2‬السبب غير المشروع ‪ :‬وىو ما يؤدي إىل اؼبفسدة يف نظر الشارع‪ ،‬وإف اقًتف بو أو تضمن مصلحة‬
‫حبسب الظاىر‪ ،‬كالنكاح الفاسد والتبٍت‪ ،‬فإهنا أسباب غَت مشروعة؛ ألهنا تؤدي إىل مفاسد كثَتة تضر بالفرد‬
‫فورا فإف العاقل اؼبتبصر يدرؾ خطرىا يف اؼبستقبل‪.‬‬
‫وآّتمع‪ ،‬وإف مل تظهر ً‬
‫وإف ما يظهر للمرء أحيانًا من مصاحل‪ ،‬أو ما ينتج من منافع عن السبب الفاسد‪ ،‬فبل يكوف من ذات‬
‫السبب اؼبمنوع‪ ،‬وإمبا ىو من أمر آخر‪.‬‬
‫يقوؿ الشاطيب‪ :‬واؼبقصود أف األسباب اؼبشروعة ال تكوف أسبابًا للمفاسد‪ ،‬واألسباب اؼبمنوعة ال تكوف‬
‫أسبابًا للمصاحل‪ ،‬إذ ال يصح ذلك حباؿ‪.‬‬
‫أنواع السبب باعتبار تأثيره في الحكم‬
‫ينقسم السبب باعتبار تأثَته يف اغبكم وعدمو إىل نوعُت‪:‬‬
‫‪ - 1‬السبب المؤثر في الحكم ‪ ،‬ويسمى علة‪ ،‬وىو ما يكوف بينو وبُت اغبكم مناسبة يدركها العقل‪ ،‬وحكمة‬
‫باعثة لتشريعو‪ ،‬كاإلسكار فهو سبب مؤثر يف اغبكم‪ ،‬وىو علة التحرمي‪ ،‬والسفر سبب عبواز اإلفطار‪ ،‬وىو علة‬
‫اإلفطار يف رمضاف‪ ،‬والعلة ىي الوصف اؼبنضبط الذي جعل مناطًا غبكم يناسبو‪.‬‬
‫‪ - 2‬السبب غير المؤثر في الحكم ‪ :‬وىو الذي ال يكوف بينو وبُت اغبكم مناسبة‪ ،‬وال يستلزـ وجود مناسبة‬
‫وحكمة بينو وبُت اغبكم‪ ،‬مثل الوقت سبب لوجوب الصبلة‪ ،‬وىذا يتطلب منا بياف الصلة بُت العلة والسبب‪.‬‬
‫العالقة بين العلة والسبب‬

‫‪53‬‬
‫العلة أو السبب أمارة على وجود اغبكم‪ ،‬كاإلسكار يف اػبمر أمارة على التحرمي‪ ،‬والسفر يف رمضاف‬
‫أمارة على جواز اإلفطار‪ ،‬ولذا قاؿ بعض علماء األصوؿ‪ :‬إهنما دبعٌت واحد‪ ،‬وقاؿ آخروف‪ :‬إهنما متغايراف‪،‬‬
‫وخصوا العلة باألمارة اؼبؤثرة اليت تظهر فيها اؼبناسبة بينها وبُت اغبكم‪ ،‬وخصوا السبب باألمارة غَت اؼبؤثرة يف‬
‫اغبكم‪.‬‬
‫وقاؿ أكثر العلماء‪ :‬إف السبب أعم من العلة مطل ًقا‪ ،‬فكل علة سبب وال عكس‪ ،‬وإف السبب يشمل‬
‫األسباب اليت يف اؼبعامبلت والعقوبات‪ ،‬ويشمل العلة اليت تدرس يف القياس‪ ،‬والفرؽ بينهما أف الصفة اليت يرتبط‬
‫ّٔا اغبكم إف كانت ال يدرؾ تأثَتىا يف اغبكم بالعقل‪ ،‬وال تكوف من صنع اؼبكلف‪ ،‬كالوقت للصبلة اؼبكتوبة‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬فالسبب‬‫فتسمى باسم السبب‪ ،‬أما إذا أدرؾ العقل تأثَت الوصف باغبكم فيسمى علة ويسمى سببًا ً‬
‫يشمل القسمُت‪ ،‬وىو أعم من العلة كما قدمنا‪.‬‬
‫أنواع السبب باعتبار نوع المسبب‬
‫ينقسم السبب باعتبار نوع اؼبسبب الذي يدؿ عليو واختبلؼ أثره عليو إىل قسمُت‪.‬‬
‫‪ - 1‬السبب لحكم تكليفي ‪ ،‬كالوقت الذي جعلو الشارع سببًا إلهباب الصبلة يف قولو تعاىل‪ :‬أَقِ ِم َّ‬
‫الصبل َة‬
‫س ‪[‬اإلسراء‪ ،]78:‬وظهور اؽببلؿ سبب إلهباب الصوـ يف قولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪(( :‬صوموا‬ ‫َّم ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ل ُدلُوؾ الش ْ‬
‫لرؤيتو))(البخاري ومسلم)‪.‬‬
‫‪ – 2‬سبب لحكم وضعي ؛ أي إلثبات ملك أو حل أو إزالة اؼبلك واغبل‪ ،‬كالبيع سبب إلثبات اؼبلك‪ ،‬والعتق‬
‫سبب إلزالة اؼبلك‪ ،‬وعقد الزواج سبب غبل اؼبتعة بُت الزوجُت‪ ،‬والطبلؽ سبب إلزالة حل اؼبتعة‪ ،‬وىكذا‪.‬‬
‫أنواع السبب باعتبار مصدر العالقة بينو وبين المسبب‬
‫ينقسم السبب باعتبار مصدر الرابطة والعبلقة بينو وبُت اؼبسبب إىل ثبلثة أنواع‪:‬‬
‫‪ - 1‬السبب الشرعي ‪ :‬وىو السبب الذي تكوف العبلقة والرابطة بينو وبُت اؼبسبب ناذبة عن حكم شرعي‪،‬‬
‫كالوقت بالنسبة لوجوب الصبلة‪ ،‬فإنو سبب لو حبكم الشرع‪.‬‬
‫‪ - 2‬السبب العقلي ‪ :‬وىو السبب الذي تكوف العبلقة والرابطة بينو وبُت اؼبسبب ناذبة عن حكم العقل‪ ،‬ومل‬
‫تثبت عن طريق شرعي‪ ،‬كالنظر بالنسبة للعلم‪ ،‬فإنو سبب الكتساب العلم‪ ،‬وىذا يعرفو العقل‪ ،‬ووجود النقيض‬
‫سبب يف انعداـ نقيضو‪ ،‬فالعقل يدرؾ ذلك‪.‬‬
‫‪ - 3‬السبب العادي ‪ :‬وىو السبب الذي تكوف العبلقة والرابطة بينو وبُت اؼبسبب ناذبة عن حكم العادة‬
‫والعرؼ‪ ،‬مثل حز الرقبة بالنسبة للقتل أو الذبح‪ ،‬والسفر للحج‪.‬‬
‫وفائدة ىذا التقسيم إلخراج السبب العقلي والعادي من اغبكم الوضعي‪ ،‬وأنو يقتصر على السبب‬
‫الشرعي‪.‬‬
‫الفرع الثاني في الشرط‬
‫أوال ـ تعريف الشرط‬
‫الشََّرط لغة بفتحتُت‪ :‬العبلمة‪ ،‬واعبمع أشراط‪ ،‬والش َّْرط بفتحة وسكوف صبع شروط‪ ،‬قاؿ الفَتوزابادي‪:‬‬
‫الشرط‪ :‬إلزاـ الشيء والتزامو يف البيع وكبوه‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫خارجا عن حقيقتو‪،‬‬‫وجودا شرعيِّا على وجوده‪ ،‬ويكوف ً‬ ‫ويف االصطبلح‪ :‬ىو ما يتوقف وجود اغبكم ً‬
‫ويلزـ من عدمو عدـ اغبكم‪.‬‬
‫فالشرط وصف يتوقف عليو وجود اغبكم‪ ،‬وحقيقتو أف عدمو يستلزـ عدـ اغبكم‪ ،‬وال يلزـ من وجوده‬
‫وجود وال عدـ‪ ،‬وال يتحقق اغبكم بشكل شرعي إال بوجود الشرط الذي وضعو الشارع لو‪ ،‬كالوضوء شرط‬
‫للصبلة‪ ،‬فبل توجد الصبلة بشكل شرعي إال إذا وجد الوضوء‪ ،‬والوضوء ليس جزءًا يف الصبلة‪ ،‬وإذا عدـ‬
‫الوضوء عدمت الصبلة‪ ،‬ولكن إذا وجد الوضوء فبل يلزـ منو وجود الصبلة‪ ،‬ومثل اغبوؿ شرط يف وجوب الزكاة‪،‬‬
‫فإذا عدـ اغبوؿ لزـ عدـ وجوب الزكاة‪ ،‬ووجود اغبوؿ ال يلزـ منو وجود ووجوب الزكاة‪ .‬ومثل حضور الشاىدين‬
‫يف عقد الزواج‪ ،‬فالشهادة شرط يف الزواج‪ ،‬وال يصح الزواج إال بالشهادة‪ ،‬والشهادة ليست جزءًا يف الزواج‪ ،‬وإذا‬
‫فقدت الشهادة فسد الزواج‪ ،‬ولكن ال يلزـ من وجود الشاىدين وجود الزواج‪ ،‬ومثل القدرة على تسليم اؼببيع‬
‫شرط يف صحة البيع‪ ،‬واإلحصاف شرط يف سببية الزنا للرجم‪.‬‬
‫وشرح التعريف وبياف حقيقتو يقودنا لبياف العبلقة بُت الركن والشرط‪ ،‬وبُت الشرط والسبب‪.‬‬
‫العالقة بين الركن والشرط‬
‫الركن ىو ما يتوقف عليو وجود اغبكم‪ ،‬ويكوف جزءًا يف ماىيتو‪ ،‬أما الشرط فهو ما يتوقف عليو وجود‬
‫خارجا عن حقيقتو وماىيتو‪ ،‬ويظهر من ىذا أف الركن والشرط يتفقاف بأف كبل منهما يتوقف‬ ‫اغبكم‪ ،‬ويكوف ً‬
‫عليو وجود اغبكم‪ ،‬وإذا نقص الركن أو الشرط بطل أو فسد اغبكم‪ .‬وىبتلفاف بأف الركن جزء من اؼباىية‪،‬‬
‫والشرط ليس جزءًا من اؼباىية‪.‬‬
‫فالركوع ركن يتوقف عليو وجود الصبلة‪ ،‬وىو جزء منها‪ ،‬وكذا السجود والقراءة والقياـ‪ ،‬والصيغة يف‬
‫العقد ركن‪ ،‬وإذا اختل الركن بطلت الصبلة أو العقد‪.‬‬
‫والوضوء شرط يتوقف عليو وجود الصبلة‪ ،‬ولكنو خارج عن الصبلة‪ ،‬ألنو يسبقها‪ ،‬وكذا طهارة الثوب‬
‫واؼبكاف واعبسد‪ ،‬ومثلو الشهود يف عقد الزواج شرط فيو وخارج عن الزواج‪ ،‬وإذا فقد الشرط فقدت الصبلة‬
‫وعقد الزواج‪.‬‬
‫وإذا حصل خلل يف الركن كاف اػبلل يف نفس التصرؼ أو العقد‪ ،‬وال يتحقق وجود اؼبسبب واؼباىية‪،‬‬
‫وكاف حكمو البطبلف باتفاؽ العلماء‪ ،‬أما إذا حصل خلل يف شرط من الشروط كاف اػبلل يف وصف خارج عن‬
‫اغبقيقة وتكوف اغبقيقة واؼباىية موجودة‪ ،‬ولكن ال يًتتب عليها أثرىا الشرعي النتفاء الشرط فيها‪ ،‬وحكمها‬
‫البطبلف عند صبهور العلماء كالركن‪ ،‬خبلفًا للحنفية الذين وصفوىا بالفساد الذي يًتتب عليو بعض اآلثار‪.‬‬
‫ولكن اغبنفية يفرقوف يف أثر الفساد بُت العبادات واؼبعامبلت‪ ،‬فالعبادات الفاسدة ال أثر ؽبا عندىم‪ ،‬وال‬
‫الذمة‪ ،‬كالباطلة‪ ،‬ويتفقوف بذلك مع اعبمهور فيها‪ ،‬أما اؼبعامبلت الفاسدة‬‫تسقط عن اؼبكلف‪ ،‬وال تربأ منها ّ‬
‫فإهنا يًتتب عليها بعض اآلثار عندىم‪ ،‬خببلؼ اؼبعامبلت الباطلة فإنو ال يًتتب عليها أثر شرعي‪.‬‬
‫العالقة بين السبب والشرط‬
‫إف الشروط الشرعية تكمل السبب‪ ،‬وذبعل أثره يًتتب عليو‪ ،‬وىو اؼبسبب‪ ،‬وإذا وجد السبب ومل يتوفر‬
‫الشرط فبل يوجد اؼبسبب‪ ،‬فالسبب يلزـ منو وجود اؼبسبب عند ربقق الشرط وانتفاء اؼبانع‪ ،‬وإذا مل يتحقق‬
‫‪55‬‬
‫الشرط فبل أثر لو‪ ،‬مثل القتل سبب إلهباب القصاص‪ ،‬إذا ربقق شرطو وىو العمد والعدواف‪ ،‬وعقد الزواج سبب‬
‫غبل االستمتاع عند ربقق الشرط وىو حضور الشاىدين‪ ،‬والنصاب سبب لوجوب الزكاة عند ربقق الشرط‪،‬‬
‫وىو َح َوالف اغبوؿ‪.‬‬
‫ويتفرع عن ىذا األصل خبلؼ فقهي بُت اؼبذاىب‪ ،‬وىو ىل يوجد اغبكم بوجود سببو مع عدـ الشرط‬
‫أو تأخره‪ ،‬أـ ال؟‪ ،‬وذلك أف اغبكم يتوقف على وجود السبب وربقق الشرط‪ ،‬فإف وجد السبب فقط فهل يصح‬
‫أف يقع اغبكم بدوف الشرط أـ ال يصح؟‬
‫ذىب بعض الفقهاء إىل مراعاة السبب ووقوع اؼبسبب عليو دوف توقفو على الشرط‪ ،‬وذىب آخروف إىل‬
‫توقف اغبكم على ربقق الشرط‪ ،‬مراعاة ألثر الشرط‪ ،‬وإ ّف اختفاء الشرط مانع للسبب من تأثَته يف وجود‬
‫اؼبسبب‪ ،‬وتطبيق القواعد يرجح القوؿ الثاين‪ ،‬والقوؿ األوؿ يعتمد على النصوص يف اغبديث‪ ،‬فجعلوا ذلك‬
‫استثناء من القاعدة العامة‪ .‬واألمثلة الفقهية توضح ذلك‪ ،‬مثل االختبلؼ يف جواز تعجيل الزكاة عند اغبنفية‬
‫والشافعية‪ ،‬فالنصاب سبب يف وجوب الزكاة‪ ،‬واغبوؿ شرط لو‪ ،‬فعلى القوؿ األوؿ هبوز تعجيل الزكاة قبل ربقق‬
‫الشرط‪ ،‬وعلى القوؿ الثاين ال هبوز تعجيل الزكاة إال بعد حوالف اغبوؿ على النصاب‪ ،‬ومثل تعجيل الكفارة قبل‬
‫اغبنث عند الشافعية‪ ،‬كمن حلف يبينًا على إمث مثبل‪ ،‬فاليمُت سبب الكفارة‪ ،‬واغبنث شرطها‪ ،‬فعلى القوؿ‬
‫األوؿ هبوز تقدمي الكفارة مث اغبنث يف اليمُت‪ ،‬واستدلوا دبا رواه مسلم عن رسوؿ اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬
‫أنو قاؿ‪(( :‬واللَّو‪ ،‬إف شاء اللَّو‪ ،‬ال أحلف على يبُت مث أرى ً‬
‫خَتا منها إال كفرت عن يبيٍت وأتيت الذي ىو‬
‫خَت))(مسلم)‪ ،‬وعلى القوؿ الثاين ال هبوز‪ ،‬ومثل العفو عن القاتل من القتيل؛ ألف الضرب اؼبؤدي إىل اؼبوت‬
‫سبب يف القصاص أو ال ّدية‪ ،‬والزىوؽ شرط‪ ،‬وهبوز العفو من القتيل قبل زىوؽ روحو باتفاؽ‪.‬‬
‫ويتفق الشرط والسبب يف حالة العدـ‪ ،‬فإذا عدـ السبب عدـ اؼبسبب‪ ،‬وإذا عدـ الشرط عدـ اؼبشروط‪،‬‬
‫وىبتلفاف يف حالة الوجود‪ ،‬فإذا وجد الشرط فبل يلزـ منو وجود اغبكم‪ ،‬كالوضوء ال يلزـ من وجوده وجوب‬
‫إقامة الصبلة‪ ،‬وال يلزـ من وجود الشاىدين وجود النكاح‪ ،‬أما السبب فيلزـ من وجوده وجود اغبكم‪ ،‬فإذا وجد‬
‫الوقت وجبت الصبلة ووجب الصياـ‪.‬‬
‫ثانيا ـ أقسام الشرط‬
‫ينقسم الشرط عدة تقسيمات باعتبارات ـبتلفة‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫تقسيم الشرط باعتبار ارتباطو بالسبب أو المسبب‬
‫ينقسم الشرط باعتبار ارتباطو بالسبب أو اؼبسبب إىل نوعُت‪:‬‬
‫يكمل السبب حىت ينتج أثره يف اغبكم‪ ،‬وىو اؼبسبب‪ ،‬مثل حوالف‬ ‫المكمل للسبب‪ :‬وىو الذي ّْ‬ ‫ِّ‬ ‫‪ - 1‬الشرط‬
‫اغبوؿ يف وجوب الزكاة يف النصاب‪ ،‬فالنصاب سبب لوجوب الزكاة‪ ،‬وال يتحقق وجود النصاب الداؿ على الغٌت‬
‫مكمل للنصاب‪ .‬والعمد والعدواف شرطاف يف القتل اؼبوجب للقصاص‪،‬‬ ‫إال بشرط حوالف اغبوؿ‪ ،‬فاغبوؿ شرط ّ‬
‫فالقتل سبب‪ ،‬والقصاص مسبب‪ ،‬وال يرتبط السبب واؼبسبب إال إذا ربقق شرطا العمد والعدواف‪ .‬والقدرة على‬
‫تسليم اؼببيع شرط لصحة البيع الذي ىو سبب ثبوت اؼبلك‪ ،‬واإلحصاف شرط يف سببية الزنا للرجم‪ ،‬وىكذا‪،‬‬
‫وعدـ ىذه الشروط يفيد عدـ األسباب‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫المكمل للمسبب‪ :‬وىو الذي يكمل اؼبسبب وىو اغبكم‪ ،‬فالطهارة وسًت العورة شرطاف يكمبلف‬ ‫ِّ‬ ‫‪ - 2‬الشرط‬
‫الصبلة؛ ألف عدـ الشرط يستلزـ عدـ اغبكم‪.‬‬
‫تقسيم الشرط باعتبار جهة اشتراطو‬
‫ينقسم الشرط من حيث جهة اشًتاطو إىل قسمُت‪:‬‬
‫‪ - 1‬الشرط الشرعي ‪ :‬وىو ما اشًتطو الشارع لؤلحكاـ والتصرفات‪ ،‬مثل الشروط اليت وردت يف العبادات‬
‫واؼبعامبلت وإقامة اغبدود‪.‬‬
‫الج ْعلي‪ :‬وىو ما اشًتطو اؼبكلف‪ ،‬كما لو اشًتطت اؼبرأة تقدمي معجل اؼبهر كلو‪ ،‬وكما لو اشًتط‬ ‫‪ - 2‬الشرط َ‬
‫اؼبشًتي نقل اؼببيع أو استبلمو يف مكاف معُت‪.‬‬
‫وال بد أف يكوف الشرط اعبعلي مواف ًقا غبكم الشرع‪ ،‬ومتف ًقا مع مقتضى العقد أو التصرؼ‪ ،‬فإف كاف‬
‫منافيًا لو بطل التصرؼ‪ ،‬كما لو اشًتطت اؼبرأة يف عقد الزواج عدـ اؼبعاشرة‪ ،‬أو اشًتط البائع تقييد ملكية‬
‫اؼبشًتي‪ ،‬ولذا تتفاوت درجات الشرط اعبعلي‪.‬‬
‫مكمبل غبكمة الشرع ومتف ًقا مع مقتضى العقد‪ ،‬وؿبق ًقا للغاية منو كاشًتاط الكفالة أو‬ ‫فإما أف يكوف ّ‬
‫الرىن يف الدَّيْن اؼبؤجل‪ ،‬وىذا القسم متفق على صحتو‪.‬‬
‫ومتعارضا معو‪ ،‬وغَت مبلئم ؼبقصود اؼبشروط فيو وال‬
‫ً‬ ‫وإما أف يكوف الشرط اعبعلي ـبال ًفا ؼبقتضى العقد‬
‫مكمل غبكمتو‪ ،‬كأف يشًتط الزوج عدـ اإلنفاؽ على زوجتو‪ ،‬أو أف يشًتط البائع عدـ انتفاع اؼبشًتي بالعُت‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وىذا القسم متفق على بطبلنو وإلغائو‪.‬‬
‫ائدا على مقتضى العقد‪ ،‬وىو الذي يقًتف فيزيد من التزامات أحد الطرفُت‪ ،‬أو‬ ‫وإما أف يكوف شرطًا ز ً‬
‫اسعا‪ ،‬فقد أجاز ىذا االشًتاط‬‫يقوي ىذه االلتزامات‪ ،‬وحكم ىذا النوع ـبتلف فيو بُت اؼبذاىب اختبلفًا و ً‬
‫وتوسع بو اؼبذىب اغبنبلي واؼبالكي‪ ،‬وضيق فيو اؼبذىب اغبنفي والشافعي‪.‬‬
‫تقسيم الشرط باعتبار إدراك الرابطة مع المشروط‬
‫ينقسم الشرط من جهة إدراؾ الرابطة والعبلقة بينو وبُت اؼبشروط إىل أربعة أنواع‪:‬‬
‫‪ - 1‬الشرط الشرعي ‪ :‬وىو الشرط الذي تكوف العبلقة فيو بُت الشرط واؼبشروط ناذبة عن حكم الشرع‪،‬‬
‫كالوضوء للصبلة‪.‬‬
‫‪ - 2‬الشرط العقلي ‪ :‬وىو الشرط الذي تكوف العبلقة فيو بُت الشرط واؼبشروط ناذبة عن حكم العقل‪ ،‬مثل‬
‫ترؾ ضد الواجب غبصولو‪ ،‬كًتؾ األكل شرط لصحة الصبلة‪ ،‬ومثل اشًتاط اغبياة للعلم‪ ،‬فإذا انتفت اغبياة‬
‫انتفى العلم‪ ،‬وال يلزـ من وجود اغبياة وجود العلم‪ ،‬ومثل الفهم يف التكليف‪.‬‬
‫‪ - 3‬الشرط العادي‪ :‬وىو ما تكوف العبلقة بينو وبُت مشروطو ناذبة عن حكم العادة والعرؼ‪ ،‬كغسل جزء من‬
‫الرأس إلسباـ غسل الوجو‪ ،‬ومثل الغذاء للحيواف أي غبياتو‪ ،‬ومبلصقة النار للجسم يف اإلحراؽ‪ ،‬ومقابلة الرائي‬
‫للمرئي‪.‬‬
‫‪ - 4‬الشرط اللغوي ‪ :‬وذلك يف صيغ التعليق‪ ،‬مثل‪ :‬إهنا طالق إف خرجت من البيت‪ ،‬وىذا النوع لو حكم‬
‫السبب‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫ىل يصح التكليف باغبكم مع فقداف شرطو؟‬
‫يبحث علماء األصوؿ ىذه اؼبسألة‪ ،‬ويعربوف عنها بأىم مثاؿ ؽبا‪ ،‬وىو "ىل الكافر ـباطب بفروع الشريعة"؟‬
‫وصورهتا أف الشارع اعترب اإليباف شرطًا لصحة الصبلة وغَتىا من العبادات‪ ،‬فهل يصح التكليف‬
‫بالصبلة وإهبأّا على اإلنساف الكافر مع عدـ حصوؿ الشرط‪ ،‬وىو اإليباف؟‬
‫إصباعا‪ ،‬وأهنم ـباطبوف باؼبعامبلت‪ ،‬وأهنا تطبق عليهم ما‬
‫اتفق العلماء على أف الكفار ـباطبوف باإليباف ً‬
‫داموا قائمُت على أرض الدولة اإلسبلمية‪ ،‬واختلف الفقهاء يف تطبيق العقوبات الشرعية عليهم‪ ،‬كما اختلفوا يف‬
‫تكليفهم بالعبادات‪ ،‬وىو موضوع حبثنا‪ ،‬على قولُت‪:‬‬
‫القوؿ األوؿ‪ :‬يصح التكليف مع عدـ حصوؿ الشرط‪ ،‬والكافر مكلف بالصبلة مع عدـ اإليباف؛ وذلك ألف‬
‫مانعا من التكليف‪ ،‬فالكافر يتمكن من إزالة اؼبانع وىو الكفر‪،‬‬ ‫الكفر مانع من إقامة الصبلة‪ ،‬ولكنو ال يعترب ً‬
‫ويستطيع الدخوؿ يف اإليباف مث يقيم الصبلة‪ ،‬وىو رأي اعبمهور من الشافعية واؼبالكية واغبنابلة وأكثر العراقيُت‬
‫من اغبنفية‪.‬‬
‫القوؿ الثاين‪ :‬ال يصح التكليف قبل حصوؿ الشرط الشرعي‪ ،‬وإف اإليباف شرط يف التكليف‪ ،‬والكافر غَت‬
‫مكلف بالعبادات‪ ،‬وىو رأي الرازي واإلسفراييٍت من الشافعية‪ ،‬والسرخسي وصبهور اغبنفية‪ ،‬ورواية عن اإلماـ‬
‫أضبد‪.‬‬
‫الفرع الثالث في المانع‬
‫أوال ـ تعريف المانع‬
‫اؼبانع لغة‪ :‬اغبائل بُت شيئُت‪ ،‬وىو اسم فاعل من منع‪ ،‬واالمتناع ىو الكف عن الشيء‪.‬‬
‫واؼبانع يف االصطبلح‪ :‬ىو وصف ظاىر منضبط يستلزـ وجوده عدـ اغبكم أو عدـ السبب‪.‬‬
‫فاؼبانع معٌت معلوـ ؿبدد يبنع وجود اغبكم‪ ،‬أو يبنع ربقق السبب‪ ،‬وذلك أنو إذا وجد السبب الشرعي‪،‬‬
‫وربقق شرطو‪ ،‬فبل يًتتب اؼبسبب عليو إال إذا انتفى اؼبانع؛ ألف اؼبانع يبنع ترتب اغبكم على السبب‪.‬‬
‫وحقيقتو أنو يلزـ من وجوده العدـ‪ ،‬وال يلزـ من عدمو وجود وال عدـ‪.‬‬
‫مثالو‪ :‬اختبلؼ الدين والقتل يف اؼبَتاث‪ ،‬فإذا وجدت الزوجية أو القرابة‪ ،‬ونبا سبباف لئلرث‪ ،‬فبل يتم‬
‫اؼبَتاث إال إذا انتفى اؼبانع‪ ،‬وىو اختبلؼ الدّْين أو القتل‪ ،‬واألبوة مانع من القصاص‪ ،‬فإذا وجد القتل وىو‬
‫سبب للقصاص‪ ،‬وربقق الشرط وىو العمد والعدواف‪ ،‬فبل ينفذ القصاص إال إذا انتفى اؼبانع‪ ،‬فإف وجد فبل‬
‫قصاص‪.‬‬
‫العالقة بين السبب والشرط والمانع‬
‫من التعريف والشرح تظهر العبلقة بُت السبب والشرط من جهة وبُت اؼبانع من جهة أخرى‪ ،‬فاؼبانع‬
‫يوجد مع وجود السبب وتوفر الشرط‪ ،‬ويبنع ترتب اؼبسبب على سببو‪ ،‬فالشارع أخربنا بوجوب األحكاـ عند‬
‫وجود السبب والشرط وانتفاء اؼبانع‪ ،‬وعدـ وجوب األحكاـ أو عدـ وجودىا عند انتفاء السبب والشرط أو‬
‫وجود اؼبانع‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫فاؼبانع عكس الشرط؛ ألنو يلزـ من وجوده العدـ‪ ،‬وال يلزـ من عدمو وجود وال عدـ‪ ،‬والشرط يلزـ من‬
‫أيضا؛ ألنو يلزـ من وجود السبب وجود‬ ‫عدمو العدـ‪ ،‬وال يلزـ من وجوده وجود وال عدـ‪ ،‬واؼبانع عكس السبب ً‬
‫اؼبسبب‪ ،‬ومن عدمو عدمو‪ ،‬أما اؼبانع فيلزـ من وجوده العدـ‪ ،‬وال يلزـ من عدمو وجود وال عدـ‪.‬‬
‫ثانيا ـ أقسام المانع‬
‫ينقسم اؼبانع عدة أقساـ باعتبارات ـبتلفة‪.‬‬
‫أنواع المانع باعتبار تأثيره على الحكم والسبب‬
‫ينقسم اؼبانع يف األصوؿ من حيث تأثَته على اغبكم والسبب إىل نوعُت‪:‬‬
‫‪ - 1‬مانع للحكم لحكمة تقتضي نقيض الحكم ‪ ،‬كاألبوة يف القصاص‪ ،‬فإهنا منعت القصاص مع وجود‬
‫السبب وىو القتل‪ ،‬وربقق الشرط وىو العمد والعدواف‪ ،‬ولكن وجد مانع األبوة فيمنع القصاص‪ ،‬واغبكمة أف‬
‫األب سبب وجود االبن‪ ،‬وىذا يقتضي أال يصَت االبن سببًا إلعداـ األب‪ ،‬ومثل ذلك القتل يبنع اإلرث‪،‬‬
‫واغبيض اؼبانع من الصبلة والصوـ‪ ،‬واعبنوف‪..‬‬
‫‪ - 2‬المانع للسبب لحكمة تخل بحكمة السبب ‪ ،‬كالدَّيْن يف الزكاة‪ ،‬فهو مانع أبطل سبب وجوب الزكاة‪،‬‬
‫الذمة‬
‫وىو ملك النصاب؛ ألف ماؿ اؼبدين أصبح كأنو ليس ملكو‪ ،‬لوجود حق الدائنُت‪ ،‬وألف دفع الدَّين وإبراء ّ‬
‫أوىل من مساعدة الفقراء واؼبساكُت‪ ،‬وىذا عند اغبنفية واعبمهور‪ ،‬خبلفًا للشافعية يف اعبديد‪.‬‬
‫أنواع المانع باعتبار مصدره‬
‫ينقسم اؼبانع ّٔذا االعتبار إىل‪ :‬مانع سماوي كاعبنوف والعتو والنوـ‪ ،‬و مانع مكتسب‪ ،‬كالسكر فإنو‬
‫مانع للتكليف‪ ،‬والقتل فإنو مانع من اإلرث‪.‬‬
‫أنواع المانع باعتبار تأثيره في الحكم‬
‫ينقسم اؼبانع باعتبار تأثَته يف اغبكم إىل ثبلثة أنواع‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره‪ ،‬كالرضاع‪ ،‬يبنع ابتداء النكاح‪ ،‬ويبنع استمراره إذا طرأ عليو‪.‬‬
‫‪ - 2‬ما يمنع ابتداء الحكم فقط ‪ ،‬كالعدة سبنع ابتداء النكاح‪ ،‬وال تبطل استمراره إذا طرأت يف أثناء الزواج‪،‬‬
‫كالزوجة اليت وطئت غصبًا‪ ،‬أو بشبهة من غَت زوجها‪ ،‬فعليها عدة تسمى استرباءً‪ ،‬وال يبطل زواجها‪.‬‬
‫‪ - 3‬ما اختلف فيو ‪ ،‬كاإلحراـ يبنع ابتداء الصيد‪ ،‬واختلف الفقهاء يف أثره إذا طرأ يف أثناء اإلحراـ‪ ،‬ىل ذبب‬
‫إزالة اليد عنو أـ ال؟ ومثل وجود اؼباء يبنع ابتداء التيمم‪ ،‬فإف طرأ يف أثناء الصبلة‪ ،‬فهل يبطلها فيو قوالف‬
‫واختبلؼ؟‬
‫الفرع الرابع في الصحيح وغير الصحيح (الفاسد والباطل)‬
‫أوال ـ تعريف الصحيح‬
‫الصحة لغة‪ :‬حالة طبيعية يف البدف ذبري أفعالو معها على آّرى الطبيعي‪ ،‬واستعَتت للمعاين‪ ،‬وصح‬
‫القوؿ إذا طابق الواقع‪.‬‬
‫شرعا عليو‪ ،‬فإذا حصل السبب‪،‬‬ ‫واغبكم الصحيح يف االصطبلح األصويل‪ :‬ىو ترتب شبرتو اؼبطلوبة منو ً‬
‫وتوفر الشرط‪ ،‬وانتفى اؼبانع‪ ،‬ترتبت اآلثار الشرعية على الفعل‪ ،‬كما إذا أدى اؼبكلف فعبل من األفعاؿ‪،‬‬
‫‪59‬‬
‫مستكمبل أركانو وشروطو ترتب األثر الذي وضعو الشارع عليو‪ ،‬كسقوط الواجب وإبراء الذمة يف العبادات‪،‬‬
‫وترتب اؼبسبب على السبب‪ ،‬وإقامة اؼبشروط على الشرط‪ ،‬وربقق اآلثار يف اؼبعامبلت والعقود‪.‬‬
‫وغير الصحيح‪ :‬ىو الذي ال يًتتب على فعلو اآلثار الشرعية‪ ،‬فإف كاف واجبًا فبل يسقط عنو‪ ،‬وال تربأ‬
‫ذمتو‪ ،‬وإف كاف سببًا فبل يًتتب حكمو‪ ،‬وإف كاف شرطًا فبل يوجد اؼبشروط‪.‬‬
‫ومثاؿ ذلك‪ :‬صبلة الظهر الصحيحة‪ ،‬وىي اليت دخل وقتها واستوفت أركاهنا وشروطها‪ ،‬وتسقط عن‬
‫اؼبكلف وتربأ ذمتو‪ ،‬ويكسب ّٔا األجر والثواب‪ ،‬وإال فهي غَت صحيحة‪ ،‬وهبب إعادهتا‪ .‬وعقد البيع الصحيح‬
‫ىو ما استكمل أركانو وشروطو وترتبت عليو آثاره من نقل اؼبلكية‪ ،‬وإال فهو غَت صحيح‪ ،‬وال تنتقل اؼبلكية بو‪،‬‬
‫والوضوء الصحيح ىو ما يصح بو أداء الصبلة‪ ،‬وإال فهو غَت صحيح‪ ،‬وهبب إعادتو‪.‬‬
‫وعرؼ البيضاوي الصحة‪ :‬بأهنا استتباع الغاية؛ أي طلب الفعل بأف تتبعو غايتو‪ ،‬والغاية ىي األثر‬
‫مباحا‬
‫انتفاعا ً‬ ‫اؼبقصود من الفعل‪ ،‬واتفق العلماء على أف الغاية من اؼبعامبلت ىي االنتفاع بكل من العوضُت‪ً ،‬‬
‫ال حرمة فيو‪ ،‬واختلفوا يف الغاية من العبادات‪ ،‬فقاؿ علماء األصوؿ‪ :‬ىي موافقة الفعل أمر الشارع‪ ،‬ولو ظنِّا‪،‬‬
‫الذمة أماـ اللَّو تعاىل‪ ،‬فبل وباسب عليو‪.‬‬
‫وقاؿ الفقهاء‪ :‬إف غاية العبادة ىي سقوط القضاء‪ ،‬أي براءة ّ‬
‫وبناء على ىذا اؼبعٌت للصحة وعدـ الصحة ينقسم اغبكم باعتبار اجتماع األركاف والشروط اؼبعتربة يف‬
‫الفعل وعدـ اجتماعها فيو‪ ،‬أو حبسب ربقق الغاية منو‪ ،‬وترتيبها عليو‪ ،‬أو عدـ ربققها‪ ،‬إىل حكم صحيح‪،‬‬
‫وحكم غَت صحيح‪ ،‬وىو الفاسد والباطل‪.‬‬
‫ىل الصحة والفساد والبطالن من الحكم الوضعي؟‬
‫انقسم العلماء يف وصف الصحة والفساد والبطبلف‪ ،‬وىل تدخل يف اغبكم الوضعي أـ يف اغبكم‬
‫التكليفي؟ على أربعة أقواؿ‪:‬‬
‫‪ - 1‬قاؿ ابن اغباجب‪ :‬إف الصحة والبطبلف أو اغبكم ّٔما أمر عقلي‪ ،‬فالفعل إما أف يكوف مسقطًا للقضاء‪،‬‬
‫أو يكوف مواف ًقا أمر الشارع‪ ،‬فالفعل صحيح حبكم العقل‪ ،‬وإما أف ال يسقط القضاء‪ ،‬أو ال يوافق أمر الشرع‬
‫فهو باطل وفاسد حبكم العقل‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقاؿ بعض العلماء‪ :‬إف الصحة أو الفساد صفة للفعل وليس للحكم‪ ،‬وتدخل يف احملكوـ فيو‪ ،‬وليس يف‬
‫اغبكم‪ ،‬وإهنا أوصاؼ ترد على األحكاـ الشرعية سواء كانت تكليفية أو كانت وضعية‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقاؿ صباعة‪ :‬الصحة والفساد من اغبكم التكليفي‪ ،‬فالصحيح ىو اؼبباح‪ ،‬والباطل والفاسد ىو احملرـ‪.‬‬
‫ائدا على التعلق‬ ‫‪ - 4‬وقاؿ أكثر العلماء‪ :‬إهنما من خطاب الوضع‪ ،‬دبعٌت أنو حكم بتعلق شيء بشيء تعل ًقا ز ً‬
‫الذي ال بد منو يف كل حكم‪ ،‬فالشارع حكم بتعلق الصحة ّٔذا الفعل‪ ،‬وحكم بتعلق الفساد أو البطبلف‬
‫بذلك‪.‬‬
‫والراجح أف الصحة والفساد من خطاب الوضع‪ ،‬وأف الصحة والفساد يف اؼبعامبلت من أحكاـ الوضع‬
‫باتفاؽ‪ ،‬ألف اؼبعامبلت ال تستتبع شبراهتا اؼبطلوبة إال بتوقيف من الشارع‪ ،‬وأف ترتب اؼبقصود من العقد يدؿ على‬
‫أنو صحيح‪ ،‬وعدـ ترتبو عليو يدؿ على الفساد‪ ،‬فالصحة موافقة الفعل ألمر الشارع على وجو‪ ،‬والفساد عدـ‬
‫موافقة الفعل ألمر الشارع‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫وينحصر اػببلؼ يف الصحة والفساد اؼبتعلقُت بالعبادات الختبلؼ الغاية منها كما سبق‪ ،‬يقوؿ‬
‫الكماؿ بن اؽبماـ‪ :‬إف ترتب األمر على الفعل حكم وضعي‪ ،‬ويعٍت معرفة كوف العبادة مسقطة للقضاء أـ ال‪.‬‬
‫الصحة وعدم الصحة في العبادات‬
‫اتفق العلماء على أف العبادات الصحيحة ىي اليت استوفت أركاهنا وشروطها‪ ،‬وترتبت عليها اآلثار‬
‫الشرعية من براءة الذمة باألداء‪.‬‬
‫وأف العبادات غَت الصحيحة ىي اليت فقدت ركنًا أو شرطًا أو أكثر‪ ،‬ويًتتب عليها عدـ براءة الذمة‪،‬‬
‫وال فرؽ فيها بُت الفساد والبطبلف‪ ،‬باتفاؽ‪.‬‬
‫الصحة وعدم الصحة في المعامالت‬
‫أيضا على أف العقود الصحيحة ىي اليت أقرىا الشارع ورتب عليها آثارىا‪ ،‬بعد أف‬ ‫اتفق العلماء ً‬
‫تستكمل أركاهنا وتستويف شروطها‪ ،‬وأف العقد غَت الصحيح ىو الذي مل يستوؼ أركانو وشروطو‪ ،‬ولكنهم‬
‫اختلفوا يف وصف العقد غَت الصحيح وتقسيمو على قولُت‪:‬‬
‫القوؿ األوؿ‪ :‬أف العقد غَت الصحيح قسم واحد‪ ،‬وىو الفاسد أو الباطل‪ ،‬وال فرؽ بُت الفساد والبطبلف يف‬
‫اؼبعامبلت كالعبادات‪ ،‬سواء كاف اػبلل يف الركن أو يف الشرط والوصف‪ ،‬والفساد والبطبلف مًتادفاف‪ ،‬وىو قوؿ‬
‫اعبمهور من اؼبالكية والشافعية واغبنابلة‪.‬‬
‫القوؿ الثاين‪ :‬العقد غَت الصحيح قسماف‪ ،‬فاسد وباطل‪ ،‬فإف حدث خلل يف الركن فهو باطل‪ ،‬وال يًتتب عليو‬
‫أثر‪ ،‬وإف حدث اػبلل يف الشرط أو الوصف فيكوف العقد قد انعقد بأركانو وترتبت عليو بعض اآلثار‪ ،‬ولكنو‬
‫فاسد‪ ،‬وىو قوؿ اغبنفية‪.‬‬
‫ويكوف البطبلف والفساد عند اغبنفية متغايرين‪ ،‬فالباطل ىو الذي مل يشرع بأصلو وال بوصفو كالبيع من‬
‫الصيب الصغَت وآّنوف فهو باطل؛ ألنو اختل ركن من أركانو وىو الصيغة واألىلية فيكوف باطبل وال تًتتب عليو‬
‫آثاره الشرعية‪ ،‬والفاسد ىو ما شرع بأصلو ال بوصفو‪ ،‬كبيع الدراىم بالدراىم مع التفاضل وىو الربا‪ ،‬والبيع‬
‫بثمن ؾبهوؿ‪ ،‬والزواج بغَت شهود‪ ،‬فكل منها فاسد لوجود اػبلل الذي يرجع إىل شرط من الشروط أو لورود‬
‫النهي عن صفة فيو‪.‬‬
‫ثانيا ـ تعريف الباطل والفاسد‬
‫الباطل لغة‪ :‬من بطل الشيء إذا فسد وسقط حكمو‪ ،‬ويتعدى باؽبمزة فيقاؿ‪ :‬أبطلو‪ ،‬وبطل‪ :‬ذىب‬
‫ضياعا وخسرانًا‪.‬‬
‫ً‬
‫وعرؼ األستاذ الزرقا الباطل يف االصطبلح بأنو‪ :‬ذبرد التصرؼ الشرعي عن اعتباره وآثاره يف نظر الشرع‪.‬‬
‫وىذا اؼبعٌت متفق عليو بُت العلماء‪.‬‬
‫والفاسد لغة‪ :‬تغَت الشيء عن اغباؿ السليمة‪ ،‬واؼبفسدة ضد اؼبصلحة‪ ،‬ويتعدى باؽبمزة والتضعيف‪.‬‬
‫أما يف االصطبلح فقد اختلف العلماء يف معٌت الفساد على قولُت‪ ،‬كما سبق يف اختبلفهم يف غَت‬
‫الصحيح‪ ،‬فقاؿ صبهور العلماء‪ :‬إف الفساد دبعٌت البطبلف‪ ،‬وقاؿ اغبنفية‪ :‬الفساد يغاير البطبلف‪ ،‬والفاسد قسيم‬
‫صحيحا أو غَت صحيح‪ ،‬وغَت الصحيح إما أف يكوف باطبل‪ ،‬وإما أف يكوف‬ ‫ً‬ ‫للباطل‪ ،‬فاغبكم إما أف يكوف‬
‫‪61‬‬
‫فاسدا‪ ،‬وعرفوا الفساد بأنو مرتبة بُت الصحة والبطبلف‪ ،‬ىبتل فيها العقد يف بعض نواحيو الفرعية‪ ،‬وأنو مشروع‬ ‫ً‬
‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫مشروعا بأصلو ووصفو‪ ،‬فالعقد إما أف يكوف‬ ‫ً‬ ‫بأصلو ال بوصفو كبيع ماؿ الربا‪ ،‬أما الباطل فهو ما ليس‬
‫فاسدا أو باطبل‪.‬‬ ‫أو ً‬
‫أساس االختالف في الفساد والبطالن‬
‫يرجع االختبلؼ يف اغبكم غَت الصحيح وتقسيمو إىل فاسد وباطل‪ ،‬وظهور مرتبة الفساد والبطبلف عند‬
‫اغبنفية خبلفًا للجمهور‪ ،‬لسببُت رئيسُت‪:‬‬
‫األوؿ‪ :‬مقتضى النهي‪ :‬فقاؿ اعبمهور‪ :‬النهي يقتضي البطبلف والفساد‪ ،‬سواء ورد على ذات األمر وحقيقتو أو‬
‫ورد علي وصف فيو‪ ،‬كما سبق الكبلـ عنو يف أنواع اغبراـ‪ ،‬وقاؿ اغبنفية‪ :‬إذا ورد هني الشارع على ذات الشيء‬
‫وحقيقتو فهو باطل‪ ،‬وإف ورد النهي على وصف يف الشيء مع مشروعية األصل فالنهي يفيد الفساد‪ ،‬ولذا عرفوا‬
‫الفاسد بأنو مشروع بأصلو ال بوصفو‪ ،‬فالربا بيع مع زيادة ومنفعة ألحد العاقدين‪ ،‬والبيع مشروع‪ ،‬والنهي ورد‬
‫فاسدا ال باطبل‪.‬‬
‫على الوصف الزائد‪ ،‬فكاف البيع مع الربا ً‬
‫الثاين‪ :‬الفرؽ بُت الركن والشرط‪ :‬سبق الكبلـ عن الفرؽ بُت الركن والشرط‪ ،‬وأف الركن والشرط يتوقف عليهما‬
‫الشيء‪ ،‬ولكن الركن داخل يف اؼباىية‪ ،‬والشرط خارج عن اؼباىية‪ ،‬فإذا اختل الركن فالعقد باطل باتفاؽ العلماء‪،‬‬
‫وإف اختل الشرط فقاؿ اعبمهور‪ :‬العقد باطل وفاسد دبعٌت واحد‪ ،‬وقاؿ اغبنفية‪ :‬العقد فاسد لكوف اػبلل يف‬
‫وصف خارج عن الشيء‪.‬‬
‫الفرع الخامس في العزيمة والرخصة‬
‫ىذا ىو القسم اػبامس للحكم الوضعي‪ ،‬وقد ُت اعتباره داخبل يف اغبكم الوضعي‪ ،‬عند كثَت من‬
‫العلماء‪ ،‬بسبب أف األصل يف صبيع األحكاـ أف تكوف عزيبة‪ ،‬وال تنتقل من العزيبة إىل الرخصة إال لسبب‪ ،‬وىو‬
‫الضرورة يف إباحة احملظور‪ ،‬أو طروء العذر كسبب للتخفيف بًتؾ الواجب‪ ،‬أو دفع اغبرج عن الناس كسبب‬
‫صحيح يف بعض عقود اؼبعامبلت بينهم‪ ،‬فارتبطت العزيبة بفقداف السبب الشرعي اؼببيح‪ ،‬وارتبطت الرخصة‬
‫بوجود السبب اؼببيح ؽبا‪ ،‬فالرخصة يف اغبقيقة عبارة عن وضع الشارع وص ًفا من األوصاؼ سببًا يف التخفيف‪،‬‬
‫والعزيبة عبارة عن اعتبار ؾباري العادات سببًا للجري على األحكاـ األصلية‪ ،‬فكانت الرخصة من أقساـ اغبكم‬
‫الوضعي‪.‬‬
‫أوال ـ العزيمة‬
‫تعريف العزيمة‬
‫ت فَػتَػ َوَّك ْل َعلَى اللَّ ِو ‪[‬آؿ عمراف‪ ،]159 :‬وقاؿ‬
‫العزـ لغة‪ :‬ىو القصد اؼبؤكد‪ ،‬قاؿ تعاىل‪ :‬فَِإذَا َعَزْم َ‬
‫وتصميما‪ .‬وعزـ على الشيء ج ّد واجتهد يف أمره‪ ،‬وعزـ‬ ‫حزما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫تعاىل‪ :‬فَػنَس َي َوَملْ َقب ْد لَوُ َع ْزًما‪[‬طو‪ ]115:‬أي ً‬
‫على الشيء عقد ضمَته على فعلو‪ ،‬وعزائم اللَّو فرائضو‪.‬‬
‫ويف االصطبلح‪ :‬ىي ما شرعو اللَّو لعامة عباده من األحكاـ ابتداء‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫"ما شرعو اللَّو"‪ :‬أي األحكاـ اليت شرعها اللَّو تعاىل‪ ،‬ولفظ "عامة عباده" قيد ىبرج األحكاـ اػباصة‬
‫ببعض اؼبكلفُت‪ ،‬وأف العزيبة عامة عبميع العباد وعبميع األحواؿ‪ ،‬وزبرج اػبصوصية‪ ،‬ولفظ "ابتداء" أي مل تسبق‬
‫يف شريعتنا بأحكاـ أخرى‪ ،‬وأف العباد مكلفوف ّٔا من أوؿ األمر‪.‬‬
‫وعرؼ البيضاوي العزيبة بأهنا "اغبكم الثابت ال على خبلؼ الدليل القائم لعذر"‪ ،‬وىذا التعريف‬
‫للمقابلة مع تعريف الرخصة اآليت بعد قليل‪ ،‬فكل حكم مل ىبالف الدليل أصبل كاألكل والشرب‪ ،‬أو خالف‬
‫الدليل ولكن ليس بسبب العذر بل بسبب االختبار مثبل كالتكاليف‪ ،‬أو خالف الدليل ؼبانع كإفطار اغبائض‬
‫وترؾ الصبلة‪ ،‬فهذه كلها عزائم‪.‬‬
‫ومن التعريفُت السابقُت قبد أنو ال واسطة بُت العزيبة والرخصة‪ ،‬فكل حكم ثبت بالشرع فهو عزيبة‪ ،‬إال‬
‫إذا ورد ما ىبالفو لعذر فهو رخصة‪ ،‬وظبيت األحكاـ األصلية عزيبة؛ ألهنا مشروعة ابتداء حقِّا لصاحب الشرع‬
‫الذي يستحق الطاعة وتنفيذ األوامر‪.‬‬
‫والعزيبة تشمل األحكاـ اػبمسة التكليفية عند اعبمهور‪ ،‬فكل حكم منها ىو عزيبة‪ ،‬ألهنا من األحكاـ‬
‫اليت شرعت ابتداء يف الشريعة من غَت نظر إىل األعذار‪ ،‬وتبقى عزيبة ما مل يرد دليل ـبالف ؽبا لعذر‪ ،‬سواء كاف‬
‫اغبكم اإلهباب أو الندب أو اإلباحة أو الكراىة أو التحرمي‪.‬‬
‫ثانيًا ـ الرخصة‬
‫تعريف الرخصة‬
‫الرخصة يف اللغة‪ :‬التيسَت والتسهيل‪ ،‬أو اليسر والسهولة‪ ،‬والرخص ض ّد الغبلء‪ ،‬وفبلف يًتخص يف األمر‬
‫إذا مل يستقص‪ ،‬ويتعدى باؽبمزة والتضعيف‪.‬‬
‫ويف االصطبلح عرفها البيضاوي بأهنا‪" :‬اغبكم الثابت على خبلؼ الدليل لعذر"‪.‬‬
‫فاغبكم الشرعي الذي يثبت للرخصة يكوف بدليل ألجل العذر الطارئ‪ ،‬ويكوف على خبلؼ دليل‬
‫اغبكم األصلي وىو العزيبة‪.‬‬
‫وعرفها بعضهم بأهنا‪ :‬ما شرع من األحكاـ استثناء من أصل عاـ لعذر يقتضي العدوؿ عنو إىل حكم‬
‫آخر‪ ،‬مع االقتصار على موضع اغباجة فيو‪.‬‬
‫ومن خبلؿ ىذا التعريف يظهر أف الرخصة حكم جزئي شرع على خبلؼ ما يقتضيو اغبكم العاـ‬
‫الكلي‪ ،‬يطبق يف شأف بعض اؼبكلفُت يف ظروؼ خاصة‪ .‬كما أف العمل ّٔذا اغبكم اعبزئي شرطو دائما أف‬
‫يكوف العذر معتربا شرعا‪.‬‬
‫والرخصة اليت تثبت على خبلؼ الدليل لعذر تشمل األحكاـ الشرعية األربعة‪ ،‬وىي‪ :‬اإلهباب والندب‬
‫والكراىة واإلباحة‪ ،‬وبتعبَت آخر تشمل أفعاؿ اؼبكلف اليت تتعلق ّٔا األحكاـ‪ ،‬ونضرب مثاال لكل منها‪:‬‬
‫‪ - 1‬الواجب‪ :‬مثل أكل اؼبيتة للمضطر‪ ،‬فهو واجب عند صبهور الفقهاء‪.‬‬
‫‪ - 2‬اؼبندوب‪ :‬مثل القصر للمسافر عند اعبمهور خبلفًا للحنفية‪ ،‬فإهنم يعتربوف القصر عزيبة وليس رخصة‪.‬‬
‫‪ - 3‬اؼبباح‪ :‬مثل رؤية الطبيب لعورة اؼبرأة أو الرجل‪ ،‬فالنظر يف األصل ؿبرـ‪ ،‬ولكنو أبيح لرفع اغبرج عن الناس‪،‬‬
‫السلم‪ ،‬فإهنا رخصة ؾبازية؛ ألهنا عدوؿ عن القياس لعذر‪ ،‬وىو اغباجة إليها‪ ،‬ومثل‬ ‫ومثل اإلجارة واؼبساقاة و َّ‬
‫‪63‬‬
‫اعبمع بُت الصبلتُت يف غَت مزدلفة وعرفة؛ فإنو رخصة عند اعبمهور‪ ،‬خبلفًا للحنفية الذين يبنعوف اعبمع إال يف‬
‫مزدلفة وعرفة‪.‬‬
‫‪ - 4‬اؼبكروه‪ :‬مثل النطق بكلمة الكفر مع اطمئناف القلب باإليباف‪ ،‬فالنطق بالكفر حراـ‪ ،‬وعند اإلكراه هبوز‬
‫النطق ّٔا‪ ،‬مع الكراىة‪ ،‬وإف صرب فأوىل‪ ،‬ومثل قصر الصبلة ألقل من ثبلث مراحل عند الشافعية‪ ،‬ومثل‬
‫وموا َخْيػٌر لَ ُك ْم‪[‬البقرة‪.]184:‬‬ ‫صُ‬ ‫اإلفطار يف رمضاف‪ ،‬فإنو خبلؼ األوىل‪ ،‬لقولو تعاىل‪َ  :‬وأَ ْف تَ ُ‬
‫وال ىبطر على الباؿ أف يرخص اللَّو تعاىل يف أمر وتكوف الرخصة حر ًاما‪ ،‬فإف اللَّو تعاىل ال يشرع اغبراـ؛‬
‫صو‪ ،‬كما وبب أف تؤتى عزائمو))‬ ‫وألف رسوؿ اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬قاؿ‪(( :‬إف اللَّو وبب أف تُؤتى ُر َخ ُ‬
‫(أضبد)‪ ،‬وقاؿ لعمار بن ياسر‪(( :‬إف عادوا فَػعُ ْد))(البيهقي)‪.‬‬
‫ثالثا ـ أنواع الرخصة‬
‫الرخصة مبنية على أعذار العباد‪ ،‬وؼبا كانت أعذارىم ـبتلفة فلذلك اختلفت الرخص وتنوعت إىل أربعة‬
‫ؾبازا‪ ،‬وىذه األنواع‬ ‫أنواع‪ ،‬األوؿ والثاين متفق عليهما‪ ،‬والثالث والرابع نص عليهما اغبنفية واعتربونبا رخصة ً‬
‫ىي‪:‬‬
‫‪ - 1‬الرخصة في فعل المحظورات ‪ ،‬وىي اليت ذبعل الفعل يف حكم اؼبباح‪ ،‬فتسقط اؼبؤاخذة عنو‪ ،‬مع بقاء‬
‫حكم اغبراـ فيو‪ ،‬مثل الًتخص بكلمة الكفر عند اإلكراه على النفس بالقتل أو على قطع عضو من اعبسد‪،‬‬
‫مأجورا‪ ،‬وإف نطق ّٔا فبل يؤاخذ لوجود اإلكراه‬ ‫ً‬ ‫واالمتناع عن النطق بكلمة الكفر عزيبة‪ ،‬فإف صرب حىت قتل كاف‬
‫مع ثبوت اإليباف والتصديق بالقلب‪ ،‬ومثلو الًتخيص لئلفطار يف رمضاف لئلكراه‪ ،‬والًتخيص بإتبلؼ ماؿ غَته‪،‬‬
‫ومن اضطره اعبوع الشديد والظمأ الشديد إىل أكل اؼبيتة أو شرب اػبمر فيباح لو أكلها وشرّٔا‪.‬‬
‫وحكم ىذا النوع ‪ -‬ما عدا الكفر مع اإلكراه ‪ -‬ترجيح األخذ بالرخصة على العزيبة لقولو تعاىل‪ :‬فَ َم ِن‬
‫ص َل لَ ُك ْم َما َحَّرَـ َعلَْي ُك ْم إال َما‬‫اضطَُّر َغْيػَر بَ ٍاغ َوال َع ٍاد فَبل إِ ْمثَ َعلَْي ِو ‪[‬البقرة‪ ،]173:‬وقولو تعاىل‪َ  :‬وقَ ْد فَ َّ‬‫ْ‬
‫اضطُِرْرُُْت إلَْيو ‪[‬األنعاـ‪]119:‬؛ وألف يف الرخصة حفظًا للنفس والستيفاء حق اللَّو فيها‪ ،‬ولو أصر على العزيبة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫وامتنع عن شرب اػبمر وأكل اؼبيتة عند االضطرار واإلكراه حىت مات بسببهما أمث بإلقاء نفسو إىل التهلكة‪.‬‬
‫أما اإلكراه على الكفر فاألخذ بالعزيبة أوىل وأفضل لبقاء احملرـ واغبرمة‪ ،‬ولو ربمل اؼبكره اإلكراه‪ ،‬وامتنع‬
‫شهيدا؛ ألنو بذؿ نفسو إلقامة حق اللَّو تعاىل‪.‬‬ ‫عن الرخصة‪ ،‬وقتل‪ ،‬كاف ً‬
‫‪ - 2‬الرخصة في ترك الواجباب ‪ :‬وىي الرخصة اليت ذبعل الفعل يف حكم اؼبباح مع قياـ السبب اؼبوجب‬
‫غبكمو‪ ،‬ولكن اغبكم مًت ٍاخ عن السبب حىت يزوؿ العذر‪ ،‬فهذا العذر اتصل بالسبب‪ ،‬ومنعو من العمل‪ ،‬مثل‬
‫إفطار اؼبسافر واؼبريض يف رمضاف‪ ،‬فهذا رخصة مع قياـ السبب وىو شهود الشهر الثابت‪ ،‬وتراخي اغبكم‪ ،‬وىو‬
‫وجوب الصوـ وحرمة اإلفطار يف أياـ أخر‪ ،‬ودبا أف السبب قائم فيجوز ؽبما الصوـ‪ ،‬ودبا أنو هبب الصوـ عليهما‬
‫على الًتاخي إىل أياـ أخر‪ ،‬فبل هبب عليهما الفدية إذا ماتا قبل وجوب األياـ األخر‪.‬‬
‫يضا أ َْو َعلَى َس َف ٍر فَعِ َّدةٌ‬ ‫ِ‬
‫وحكم ىذا النوع جواز اإلفطار يف رمضاف‪ ،‬لقولو تعاىل‪ :‬فَ َم ْن َكا َف مْن ُك ْم َم ِر ً‬
‫ِ‬
‫ُخَر‪[‬البقرة‪ ،]184 :‬ولكن األخذ بالعزيبة أوىل إذا مل يضعفو الصوـ‪ ،‬فالصوـ يف السفر واؼبرض أفضل‬ ‫م ْن أَيَّ ٍاـ أ َ‬

‫‪64‬‬
‫وموا َخْيػٌر لَ ُك ْم ‪[‬البقرة‪ ]184:‬إال إذا أضره الصوـ وأضعفو‪،‬‬‫صُ‬‫من اإلفطار‪ ،‬لقولو تعاىل يف نفس اآلية‪َ  :‬وأَ ْف تَ ُ‬
‫أو منعو عن أمر أىم كاعبهاد‪ ،‬فيكوف اإلفطار أفضل‪ ،‬وإف خاؼ اؽببلؾ هبب اإلفطار‪.‬‬
‫‪ - 3‬نسخ األحكام في الشرائع السابقة ‪ :‬وىي األحكاـ اليت سقطت عنا‪ ،‬ومل تشرع يف حقنا‪ ،‬وكانت يف‬
‫الشرائع السابقة‪ ،‬كاشًتاط قتل النفس وقطع األعضاء يف التوبة‪ ،‬وقص موضع النجاسة يف الثوب‪ ،‬ودفع ربع‬
‫اؼباؿ يف الزكاة‪ ،‬وغَت ذلك فبا خففو اللَّو عنا‪ ،‬ومل يشرع علينا‪ ،‬وجاءت مقابلو أحكاـ ميسرة وسهلة‪ ،‬وىذا النوع‬
‫قطعا‪.‬‬
‫رخصة ؾبازية‪ ،‬ألف األصل مل يرد يف شريعتنا أصبل‪ ،‬وال هبوز القياـ بو وال العمل دبوجبو ً‬
‫‪ – 4‬ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطل ًقا دون توقف على عذر ‪ ،‬وىو ما يقاؿ لو إنو مشروع على‬
‫خبلؼ القياس‪ ،‬كالسلم واإلجارة والقرض واؼبساقاة واالستصناع‪ ،‬فالقياس يبنع ووبرـ ىذه العقود‪ ،‬وشرعت‬
‫استحسانًا‪ ،‬ويطلق عليها العلماء أهنا رخصة‪ ،‬ؼبا تتضمن يف مشروعيتها من تسهيل وترخيص وتيسَت ورفع‬
‫للحرج عن الناس‪ ،‬وؼبا جاء يف اغبديث‪" :‬هنى رسوؿ اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬عن بيع اإلنساف ما ليس‬
‫عنده‪ ،‬ورخص يف السلم" (مسلم)‪.‬‬
‫فالنوعاف األوؿ والثاين رخصة حقيقية لثبوت العزيبة اؼبقابلة ؽبا‪ ،‬والعمل فيها‪ ،‬وتسمى عند اغبنفية‬
‫رخصة ترفيو‪ ،‬وأما النوعُت الثالث والرابع فهما ؾبازياف للرخصة‪.‬‬
‫ىل األفضل األخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟‬
‫اختلف العلماء يف ترجيح األخذ بالرخصة أـ بالعزيبة‪ ،‬وكاف اختبلفهم غالبًا يف كل جزئية على حدة‪،‬‬
‫وجاء الشاطيب وتناوؿ ىذا اؼبوضوع بشكل عاـ‪ ،‬ووازف بُت الرخصة والعزيبة‪ ،‬وذكر األدلة اليت ترجح األخذ‬
‫بالعزيبة‪ ،‬مث أتبعها باألدلة اليت ترجح األخذ بالرخصة‪ ،‬ولكن مل يرجح بينهما‪ ،‬ولعل ذلك بسب أف اؼبوضوع‬
‫يرجع إىل تقدير اؼبشقة واغبرج الذي وبصل للمكلف‪ ،‬وإىل اجتهاده الشخصي وطاقتو اػباصة وإيبانو وورعو‬
‫وتقواه‪.‬‬
‫قاؿ الشيخ اػبضري رضبو اللَّو‪ :‬إف كل مكلف فقيو نفسو يف األخذ ّٔا‪ ،‬ما مل هبد فيها حدِّا شرعيِّا‬
‫فيقف عنده‪ ،‬وبياف ذلك أف سبب الرخصة اؼبشقة‪ ،‬واؼبشقة زبتلف حبسب قوة العزائم وضعفها وحبسب‬
‫األفعاؿ‪ ،‬وليس كل الناس يف اؼبشاؽ وربملها على حد سواء‪ ،‬وإذا كاف كذلك فليس للمشقات اؼبعتربة يف‬
‫التخفيف ضابط ـبصوص‪ ،‬وال حد ؿبدود يَطَّ ُرد يف صبيع الناس‪ ،‬ولذلك أقاـ الشارع يف صبلة منها اؼبظنة مقاـ‬
‫اغبكمة‪ ،‬فاعترب السفر؛ ألنو أقرب مظاف اؼبشقة‪ ،‬وترؾ صبلة منها إىل االجتهاد كاؼبرض‪.‬‬
‫أما تتبع الرخص عند األئمة آّتهدين بقصد التشهي والتخفيف والتهرب من التكليف فغَت جائز‪ ،‬قاؿ‬
‫ابن حزـ‪ :‬وطبقة أخرى وىم قوـ بلغت ّٔم رقة الدّْين وقلة التقوى إىل طلب ما وافق أىواءىم يف قوؿ كل قائل‪،‬‬
‫فهم يأخذوف ما كاف رخصة من قوؿ كل عامل مقلدين لو‪ ،‬غَت طالبُت ما أوجبو النص عن اللَّو تعاىل وعن‬
‫رسولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫في الحاكم والمحكوم فيو والمحكوم عليو‬

‫ويحتوي على ثالثة مباحث‪:‬‬

‫ـ المبحث األول‪ :‬الحاكم‬

‫ـ المبحث الثاني‪ :‬المحكوم فيو‬

‫ـ المبحث الثالث‪ :‬المحكوم عليو‬

‫‪66‬‬
‫المبحث األول‪ :‬الحاكم‬
‫أوال ـ الحاكم ىو اهلل‬
‫رأينا يف تعريف اغبكم أنو "خطاب اهلل تعاىل اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت‪ ،‬اقتضاء أو زبيَتا أو وضعا" ومن‬
‫خبللو يتنب أف اغباكم ىو اللَّو تبارؾ وتعاىل‪ ،‬اػبالق البارئ اؼبصور‪ ،‬اؼبشرع لؤلحكاـ‪ ،‬اؼبنشئ ؽبا‪ ،‬وىو اؼبصدر‬
‫الوحيد لؤلحكاـ الشرعية عبميع اؼبكلفُت‪ ،‬فبل شرع يف اإلسبلـ إال من اللَّو تعاىل‪ ،‬وال حكم إال ما حكم بو‪،‬‬
‫وعلى ىذا دؿ القرآف كما يف قولو تعاىل‪ :‬إف اغبكم إال هلل ‪[‬األنعاـ‪ ،57،‬يوسف‪ ]40 ،‬وقولو‪ :‬أال لو‬
‫اغبكم‪[‬األنعاـ‪ ،]62،‬وأصبع اؼبسلموف قاطبة‪ ،‬مل ىبالف بذلك أحد منهم يؤمن باللَّو ربّا‪ ،‬ودبحمد نبيِّا‪،‬‬
‫دستورا‪ ،‬وباإلسبلـ دينًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وبالقرآف‬
‫وجل‪ ،‬سواء أظهر ىذا اغبكم بالنص الذي أوحى بو إىل‬ ‫عز َّ‬ ‫فمصدر األحكاـ كلها حقيقة ىو اللَّو َّ‬
‫ؿبمد‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أـ فيما يتوصل إليو آّتهد بالقياس والدالئل واألمارات اليت شرعها اللَّو الستنباط‬
‫أحكامو‪ ،‬وليست السنة واإلصباع والقياس وبقية اؼبصادر إال مبيّْنة وكاشفة عن حكم اللَّو تعاىل‪ ،‬وال تعترب حجة‬
‫وال دليبل إال لثبوت حجيتها من قبل اللَّو تعاىل‪ ،‬فهي سبل ومناىج ؼبعرفة حكم اللَّو الواحد األحد‪.‬‬
‫فاللَّو ىو اؼبشرع لؤلحكاـ‪ ،‬وىو اؼبوجب ؽبا باتفاؽ‪ ،‬ولذا وضع علماء األصوؿ القاعدة اؼبشهورة " ال‬
‫حكم إال للَّو"‪.‬‬
‫ثانيا ـ بما يعرف حكم اهلل‬
‫وإذا كاف اإلصباع منعقد على أف اغباكم ىو اهلل تعاىل‪ ،‬فإف العلماء اختلفوا يف مسألتُت‪ ،‬نبا‪:‬‬
‫‪ 1‬ػ ىل أحكاـ اهلل ال تعرؼ إال برسلو‪ ،‬أـ يبكن للعقل أف يستقل بإدراكها‪ ،‬وعلى أي أساس يكوف‬
‫ذلك؟‬
‫‪ 2‬ػ وإذا أمكن للعقل أف يدرؾ حكم اهلل دوف وساطة الرسوؿ‪ ،‬فهل يكوف ىذا اإلدراؾ مناط التكليف‬
‫وما يتبعو من ثواب وعقاب يف اآلجل‪ ،‬ومدح وذـ يف العاجل؟‬
‫اختلفت أراء العلماء يف ذلك على ثبلثة مذاىب‪ ،‬يرجع أساس االختبلؼ بينها إىل اختبلفهم يف‬
‫مسألة اغبسن والقبح العقليُت‪ ،‬وما يشتمل عليو الفعل من مصلحة ومفسدة‪ ،‬وإليك ىذه اؼبذاىب فيما يلي‪:‬‬
‫مذىب األشاعرة‪ :‬وىو أف العقل ال يعرؼ حكم اللَّو تعاىل يف أفعاؿ اؼبكلفُت إال بواسطة رسلو وكتبو‪،‬‬
‫ظاىرا يف اغبكم على األفعاؿ‪ ،‬فبعض العقوؿ تستحسن فعبل معينًا‪ ،‬بينما تستقبحو‬ ‫ألف العقوؿ زبتلف اختبلفًا ً‬
‫قبيحا يف وقت‬ ‫بعض العقوؿ‪ ،‬وأف عقل الشخص الواحد ىبتلف يف الفعل الواحد‪ ،‬فَتاه حسنًا يف وقت‪ ،‬ويراه ً‬
‫وقائما على اؽبوى‪.‬‬
‫آخر‪ ،‬وألنو قد يغلب اؽبوى والتشهي على العقل‪ ،‬فيكوف التحسُت والتقبيح واىيًا وضعي ًفا ً‬
‫وأساس ىذا اؼبذىب أف اغبسن والقبح لؤلفعاؿ شرعياف‪ ،‬وأف اغبسن من أفعاؿ العباد ىو ما رآه الشارع‬
‫حسنًا فأباحو وطلب فعلو كاإليباف والصوـ والصبلة وغَتىا‪ ،‬وأف القبيح من أفعاؿ الناس ىو ما رآه الشارع‬
‫قبيحا وطلب تركو‪ ،‬مثل الكفر والزنا وشرب اػبمر وغَتىا‪ ،‬وليس اغبسن ما رآه العقل حسنًا‪ ،‬وال القبيح ما رآه‬ ‫ً‬
‫قبيحا؛ أي إف مقياس اغبسن والقبح ىو الشرع ال العقل‪.‬‬ ‫العقل ً‬
‫وينتج عن ىذا اؼبذىب ما يلي‪:‬‬
‫‪67‬‬
‫‪ - 1‬أف أىل الفًتة الذين عاشوا بعد موت رسوؿ وقبل مبعث رسوؿ‪ ،‬ومن عاش يف عزلة تامة فلم‬
‫تبلغو دعوة النيب‪ ،‬فبل يكلف من اللَّو تعاىل بفعل شيء وال بًتؾ شيء‪ ،‬وال يثاب على فعل اغبسن‪ ،‬وال يعاقب‬
‫على كفر‪ ،‬وال هبب عليو اإليباف والشكر للمنعم‪ ،‬وال وبرـ عليو غَته‪ ،‬ألف الثناء والشكر والتكليف واجب‬
‫بالشرع ال بالعقل‪ ،‬فبل يأمث اإلنساف إال إذا بلغتو دعوة نيب‪ ،‬فالواجب ما أوجبو اللَّو تعاىل ومنح الثواب عليو‪،‬‬
‫واغبراـ ما حرمو اللَّو تعاىل‪ ،‬وتوعد بالعقاب على فاعلو‪ ،‬وأما قبل البعثة فبل وبرـ كفر وال هبب إيباف‪ ،‬والعربة‬
‫ألوامر الشارع اغبكيم‪ ،‬وأنو ال طريق إىل معرفة األحكاـ إال بالشرع‪.‬‬
‫‪ - 2‬ال هبب على اللَّو تعاىل أف وبكم حبسن ما رآه العقل حسنًا‪ ،‬وأف يطلب فعلو من الناس‪ ،‬ويوجبو‬
‫قبيحا‪ ،‬وأف يطلب من الناس تركو؛ ألف إرادة اللَّو مطلقة‪،‬‬
‫عليهم‪ ،‬وال هبب عليو أف وبكم بقبح ما رآه العقل ً‬
‫وىو خالق اغبسن والقبيح‪ ،‬فلو أف يشرع ما شاء على من شاء‪ ،‬من غَت منفعة أصبل‪ ،‬ولكن ثبت باالستقراء أف‬
‫اللَّو تعاىل شرع أحكامو لتحقيق مصاحل العباد تفضبل منو وإحسانًا‪ ،‬فإف مراعاة النفع والضرر واؼبصلحة‬
‫واؼبفسدة ىي تفضل وكرـ من اللَّو سبحانو وتعاىل‪ ،‬وإذا مل تظهر لنا اؼبنفعة واؼبصلحة فيكوف الوجوب الشرعي‬
‫قطعا‪.‬‬
‫لفائدة يف اآلخرة ً‬
‫مذىب المعتزلة ‪ :‬يرى اؼبعتزلة أف العقل نفسو يعرؼ حكم اللَّو تعاىل يف أفعاؿ اؼبكلفُت قبل البعثة‪،‬‬
‫بدوف واسطة الرسل واألنبياء والكتب‪ ،‬ألف كل فعل من أفعاؿ العباد فيو من الصفات‪ ،‬ولو من اآلثار ما هبعلو‬
‫ضارا‪ ،‬فالفعل حسن بذاتو أو قبيح بذاتو‪ ،‬وإف العقل بناء على صفات الفعل وآثاره يستطيع أف وبكم‬ ‫نافعا أو ِّ‬
‫ً‬
‫بأنو حسن أو قبيح‪.‬‬
‫وأساس ىذا اؼبذىب أف اغبسن والقبح أمراف عقلياف‪ ،‬وليسا شرعيُت‪ ،‬وأف اغبسن من األفعاؿ‪ :‬ما رآه‬
‫قبيحا ؼبا فيو من ضرر‪ ،‬ألف العقل إذا مل يعلم‬‫العقل حسنًا ؼبا فيو من نفع‪ ،‬والقبيح من األفعاؿ ما رآه العقل ً‬
‫حسن األفعاؿ وقبحها قبل الشرع‪ ،‬الستحاؿ عليو أف يعلم ذلك بعد الشرع‪ ،‬وكاف مكل ًفا دبا ال يستطيع وىو‬
‫ؿباؿ‪.‬‬
‫وينتج عن ىذا اؼبذىب ما يلي‪:‬‬
‫‪ - 1‬أف من مل تبلغهم دعوة الرسل والشرائع مكلفوف من اللَّو تعاىل بفعل ما يهديهم عقلهم إىل‬
‫حسنو‪ ،‬ويثابوف من اللَّو تعاىل على فعلو‪ ،‬وأهنم مكلفوف بًتؾ ما يهديهم عقلهم إىل قبحو‪ ،‬ويعاقبوف من اللَّو‬
‫قبيحا‪ ،‬فيمكن إدراؾ تلك‬ ‫تعاىل على فعلو‪ ،‬ألف العاقل يقر بأف كل فعل فيو خواص ولو آثار ذبعلو حسنًا أو ً‬
‫األحكاـ قبل أف ترد الشرائع فيها‪.‬‬
‫‪ - 2‬أف حكم اللَّو تعاىل على األفعاؿ يكوف حبسب ما تدركو العقوؿ من النفع أو الضرر‪ ،‬فيطلب اللَّو‬
‫تعاىل من اؼبكلفُت فعل ما فيو النفع حبسب ما يدركو العقل‪ ،‬ويطلب ترؾ ما فيو ضررىم حسب ما يدركو‬
‫العقل‪ ،‬وال يبكن أف يأمر بأمر قبيح ذاتيِّا‪ ،‬وال ينهى عن شيء حسن ذاتيِّا‪ ،‬العتقاد اؼبعتزلة وجوب مراعاة‬
‫اؼبصاحل واؼبفاسد‪ ،‬وأف الشرائع مؤكدة غبكم العقل فيما يعلمو‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫شرعا فعلو‪ ،‬ويثاب من اللَّو فاعلو‪ ،‬وما رآه‬
‫ومبدأ اؼبعتزلة أف ما رآه العقل حسنًا فهو حسن‪ ،‬ومطلوب ً‬
‫شرعا تركو‪ ،‬ويعاقب من اللَّو فاعلو‪ ،‬فالشرع تابع للعقل‪ ،‬ويقولوف‪ :‬إف الشرع‬ ‫قبيحا فهو قبيح‪ ،‬ومطلوب ً‬ ‫العقل ً‬
‫مؤكد وكاشف غبكم العقل فيما أدركو من حسن األشياء وقبحها‪.‬‬
‫مذىب الماتريدية ‪ :‬وىذا اؼبذىب وسط بُت اؼبذىبُت السابقُت‪ ،‬وخبلصتو أف لؤلفعاؿ حسنا وقبحا‬
‫يستطيع العقل إدراكهما يف معظم األفعاؿ‪ ،‬بناء على ما يف الفعل من خواص ذاتية وما يًتتب عليو من مصاحل‬
‫ومفاسد‪ ،‬كما قاؿ اؼبعتزلة‪ ،‬لكن ال يلزـ من كوف الفعل حسنا حسب إدراؾ العقل أف يأمر بو الشرع‪ ،‬وال يلزـ‬
‫من كوف الفعل قبيحا أف ينهى عنو الشرع‪ ،‬كما قاؿ األشاعرة‪.‬‬
‫وعلى ىذا غاية ما يبكن أف يقاؿ‪ :‬ىو أف ما يف الفعل من حسن يدرؾ العقل هبعل الفعل صاغبا أف‬
‫يأمر بو الشارع‪ ،‬وأف ما يف الفعل من قبح يدركو العقل هبعلو صاغبا ألف ينهى عنو الشرع‪ ،‬وال يقاؿ‪ :‬إف اغبسن‬
‫والقبح موجباف غبكم اهلل باألمر والنهي‪.‬‬
‫وترتب على قوؿ ىذا اؼبذىب أف حكم اهلل ال يدرؾ بدوف وساطة رسوؿ تبليغو‪ ،‬ومن مث ال حكم هلل يف‬
‫أفعاؿ العباد قبل بعثة الرسل أو قبل بلوغ الدعوة‪ .‬وحيث ال حكم فبل تكليف‪ ،‬وحيث ال تكليف فبل عقاب‪.‬‬
‫ثمرة االختالف‪:‬‬
‫‪ - 1‬يظهر فبا سبق أف صبيع اؼبسلمُت متفقوف على أف اغبسن ما حسنو الشرع‪ ،‬وأف القبيح ما قبحو‬
‫الشرع بعد البعثة ونزوؿ الكتاب‪ ،‬فبل يًتتب على االختبلؼ السابق أثر بالنسبة للمكلفُت الذين بلغتهم‬
‫الدعوة‪ ،‬سواء آمنوا ّٔا أـ كفروا‪ ،‬فكل فعل أمر بو الشارع فهو حسن ومطلوب فعلو ويثاب فاعلو‪ ،‬وكل فعل‬
‫هنى عنو الشارع فهو قبيح‪ ،‬ومطلوب تركو ويعاقب فاعلو‪ ،‬وإف الدراسة السابقة يف موضوع اغباكم واالختبلؼ‬
‫يف اغبسن والقبح دراسة تارىبية نظرية ال جدوى منها وال طائل ربتها‪ ،‬وال تًتتب عليها األحكاـ الشرعية إال يف‬
‫األمور التالية األخرى‪.‬‬
‫‪ - 2‬يظهر أثر االختبلؼ وشبرتو بالنسبة ؼبن مل تبلغهم شرائع الرسل يف زماننا مثبل‪ ،‬أو قبل البعثة الذين‬
‫يطلق عليهم اسم أىل الفًتة‪ ،‬فقاؿ األشاعرة‪ :‬إهنم ناجوف‪ ،‬وال يثابوف على فعل وال يعاقبوف على غَته‪ ،‬وأف‬
‫شرا فشر‪ ،‬وقاؿ اؼباتريدية‪:‬‬ ‫أمرىم راجع إىل اللَّو تعاىل‪ ،‬وقاؿ اؼبعتزلة‪ :‬إهنم مكلفوف وؿباسبوف إف ً‬
‫خَتا فخَت وإف ِّ‬
‫إهنم مكلفوف باإليباف باللَّو تعاىل فقط‪ ،‬وال وباسبوف وال يعاقبوف على غَته‪.‬‬
‫مصدرا من‬
‫ً‬ ‫أيضا يف مكانة العقل بُت مصادر التشريع‪ ،‬وىل يعترب العقل‬ ‫‪ - 3‬تظهر شبرة االختبلؼ ً‬
‫نصا يف كتاب أو سنة؟‬‫اؼبصادر التشريعية اليت يرجع إليها آّتهد إذا مل هبد ِّ‬
‫مصدرا وال دليبل وال حجة‪ ،‬وإمبا‬
‫ً‬ ‫قاؿ أىل السنة واعبماعة من األشاعرة واؼباتريدية‪ :‬إف العقل ليس‬
‫تنحصر اؼبصادر يف األمور اليت سبق ذكرىا وىي القرآف والسنة مث االجتهاد واالستدالؿ واالستنباط بالقياس‬
‫واالستحساف واالستصبلح واالستصحاب وغَت ذلك‪ ،‬وإف العقل يعمل فيها حيث أباح الشارع لو العمل بناء‬
‫على ىذه اؼبصادر‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬المحكوم فيو‬
‫أوال ـ تعريفو‬
‫ىو فعل اؼبكلف الذي تعلق بو خطاب الشارع‪ .‬وذلك أف كل حكم من أحكاـ الشارع يتعلق بفعل‬
‫وضعا‪ .‬وقد سبق يف تعريف اغبكم بأنو خطاب اللَّو‬ ‫زبيَتا أو ً‬
‫من أفعاؿ اؼبكلفُت سواء كاف اغبكم اقتضاء أو ً‬
‫اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت‪ ،‬فاػبطاب لو ؿبل‪ ،‬وىذا احملل ىو فعل اؼبكلف‪ .‬وعلى ىذا فاغبكم ال يكوف إال متعلقا‬
‫بفعل‪ ،‬فإف كاف اغبكم تكليفيا فبل يكوف إال فعبل‪ ،‬أما اغبكم الوضعي فقد يكوف فعبل للمكلف كما الوضوء‬
‫ويف العقود واعبرائم‪ ،‬وقد ال يكوف فعبل لو ولكن يرجع إىل فعلو كغروب الشمس الذي جعلو الشارع سببا‬
‫لصبلة اؼبغرب وىي فعل للمكلف‪.‬‬
‫مانعا‬
‫مباحا‪ ،‬وإما أف يكوف سببًا أو ً‬ ‫مكروىا أو حر ًاما أو ً‬
‫ً‬ ‫وىذا الفعل إما أف يكوف واجبًا أو مندوبًا أو‬
‫أو شرطًا‪ ،‬أو صحة أو فسادا أو رخصة أو عزيبة‪ ،‬فالوجوب والندب والتحرمي والكراىة واإلباحة والصحة‬
‫والفساد والرخصة والعزيبة كلها أوصاؼ لفعل اؼبكلف‪ ،‬وكذلك السب والشرط واؼبانع‪ ،‬غَت أف ىذه األخَت قد‬
‫تكوف فعبل للمكلف أو تتعلق بفعلو‪.‬‬
‫وعلى ىذا األساس وضع علماء األصوؿ قاعدة‪" :‬ال تكليف إال بفعل"‪ .‬ولكن الفعل الذي يكلف بو‬
‫ليس على اإلطبلؽ‪ ،‬بل البد أف تتوفر فيو شروط‪ ،‬ىي‪:‬‬
‫ثانيا ـ شروط المحكوم فيو‬
‫يشًتط علماء األصوؿ بالفعل احملكوـ فيو لصحة التكليف بو أربعة شروط‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫تاما حىت يتجو قصده للقياـ بو ويستطيع فعلو‪ ،‬فما مل‬ ‫علما ِّ‬
‫معلوما للمكلف ً‬ ‫أوال ‪ -‬أف يكوف الفعل ً‬
‫فاؼبكلف ال يطالب بالصبلة‬ ‫يتصور اؼبكلف الفعل ومل يعلم حكم اهلل فيو ال يبكن أف تتجو إرادتو لفعلو‪.‬‬
‫والزكاة واغبج واعبهاد واإلنفاؽ وترؾ اػبمر والزنا والسرقة وفحش القوؿ إال بعد أف تكوف معلومة عنده تصورا‬
‫وحكما وإال فبل يتعلق اػبطاب بفعلو‪ ،‬وال يطالب بالفعل أو بالًتؾ‪ ،‬وال يستحق الثواب وال العقاب‪.‬‬
‫تاما بو‪ ،‬فيعلم أركاف الفعل وشروطو وكيفية‬ ‫وإف علم اؼبكلف بالفعل ال يكفي‪ ،‬بل ال بد أف يكوف العلم ِّ‬ ‫َّ‬
‫القياـ بو‪ ،‬وعلى ىذا فإف النص آّمل يف القرآف الكرمي ال يكفي يف تكليف اؼبكلف بو إال بعد بيانو من رسوؿ‬
‫ِ‬
‫الصبل َة‪ ‬أمر بفعل الصبلة على اؼبكلف‪ ،‬ومع ذلك ال‬ ‫اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم ‪ ،‬فقولو تعاىل‪ :‬أَق ُ‬
‫يموا َّ‬
‫يكلف بالصبلة‪ ،‬ألنو مل يعرؼ أركاهنا وشروطها وكيفية أدائها‪ ،‬فجاء رسوؿ اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪َّ ،‬‬
‫وبُت‬
‫كل ذلك وقاؿ‪ " :‬صلوا كما رأيتموين أصلي"‪ ،‬وىكذا بقية التكاليف بالصوـ والزكاة واغبج واعبهاد والدعوة‬
‫والبيع والربا‪ ،‬وكل فعل تعلق بو خطاب ؾبمل من الشارع ال يصح التكليف بو إال بعد بيانو يف القرآف الكرمي‬
‫بنص آخر أو بالسنة اؼببينة‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ -‬أف يعلم اؼبكلف مصدر التكليف بالفعل‪ ،‬بأنو من اللَّو تعاىل‪ ،‬لكي يكوف التنفيذ طاعة وامتثاال‬
‫ألمر اللَّو تعاىل‪ ،‬ولكي يتجو قصد اؼبكلف ؼبوافقة طلب اللَّو تعاىل يف التزاـ أحكامو دبا هبب فيو قصد الطاعة‬
‫حكما إال إذا عرؼ دليلو الشرعي‪.‬‬ ‫والتقرب‪ ،‬وؽبذا السبب ال يقبل اؼبسلم ً‬

‫‪70‬‬
‫واؼبراد بعلم اؼبكلف بالفعل ودبصدر التكليف إمكاف علمو بو‪ ،‬بأف تتوفر فيو القدرة والعقل والتمكن من‬
‫قادرا على معرفة األحكاـ بنفسو أو بسؤاؿ أىل العلم عنها‬ ‫العلم إذا قصده واذبو إليو‪ ،‬بأف يكوف بالغًا عاقبل ً‬
‫عند قيامو يف دار اإلسبلـ اليت يتوفر فيها العلم والعلماء‪ ،‬وعندئذ يتحقق الشرط بالعلم دبا كلف بو‪ ،‬فيتعلق‬
‫التكليف بو‪ ،‬وهبب عليو تنفيذه وااللتزاـ بآثاره‪ ،‬فإف قصر فبل يقبل منو االعتذار جبهلها‪.‬‬
‫ثالثًا ‪ -‬أف يكوف الفعل اؼبكلف بو فبكنًا‪ ،‬بأف يكوف يف قدرة اؼبكلف أف يفعلو أو أف يًتكو؛ ألف‬
‫اؼبقصود من التكليف االمتثاؿ‪ ،‬فإذا خرج الفعل عن قدرة اؼبكلف وطاقتو‪ ،‬مل يتصور االمتثاؿ‪ ،‬ويكوف التكليف‬
‫عبثا ينزه عنو الشارع اغبكيم‪ .‬ويًتتب على ىذا الشرط ثبلثة أمور‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫شرعا التكليف باؼبستحيل‪ ،‬سواء كاف مستحيبل لذاتو أو مستحيبل لغَته‪.‬‬ ‫‪ - 1‬أنو ال يصح ً‬
‫وؿبرما‬
‫واؼبستحيل لذاتو ىو ما ال يتصور العقل وجوده‪ ،‬كاعبمع بُت الضدين‪ ،‬كأف يكوف الفعل واجبًا ً‬
‫يف نفس الوقت على شخص واحد‪ ،‬واعبمع بُت النقيضُت كالنوـ واليقظة‪ ،‬فبل يصح التكليف باؼبستحيل لذاتو‬
‫عند اعبمهور؛ ألف اؼبستحيل لذاتو ال يبكن تصوره‪ ،‬واغبكم على الشيء فرع عن تصوره‪ ،‬وطلب الفعل‬
‫والتكليف فيو فرع عن تصور وقوعو‪ ،‬واؼبستحيل ال يبكن تصوره‪.‬‬
‫أما اؼبستحيل لغَته‪ ،‬وىو ما يتصور العقل وجوده‪ ،‬ولكن مل ذبر العادة بوقوعو‪ ،‬كاؼبشي من اؼبريض‬
‫اؼبقعد‪ ،‬والطَتاف من اإلنساف بدوف أداة‪ ،‬واؼبشي على اؼباء‪ ،‬وىكذا‪ ،‬فبل يصح التكليف باؼبستحيل لغَته عند‬
‫أيضا‪.‬‬
‫اعبمهور ً‬
‫‪ 2‬ػ ال يصح شرعا التكليف دبا ال يدخل ربت إرادة اؼبكلف‪ ،‬كتكليفو أف يفعل غَته فعبل معينا؛ ألف‬
‫ىذا ال يدخل يف إرادتو وقدرتو‪ ،‬وكل ما يستطيعو أف يأمر باؼبعروؼ أو يأمر الغَت بفعل معُت‪.‬‬
‫ت‬‫س ِدبَا َك َسبَ ْ‬‫وؽبذا فبل يُسأؿ اإلنساف عن فعل غَته‪ ،‬وال يعاقب مكانو‪ ،‬لقولو تعاىل‪ُ :‬ك ُّل نَػ ْف ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُخَرى‪‬‬ ‫س إال َعلَْيػ َها َوال تَ ِزُر َوا ِزَرةٌ ِوْزَر أ ْ‬‫ب ُك ُّل نَػ ْف ٍ‬
‫َرىينَةٌ‪[‬اؼبدثر‪ ،]38،‬وقولو تعاىل‪َ  :‬وال تَكْس ُ‬
‫[األنعاـ‪ ،]164،‬فاإلنساف مسؤوؿ عن نفسو فقط‪ ،‬وال يكوف مسؤوال عن غَته هنائيِّا إال دبا أنيط بو بنفسو من‬
‫رعاية وتربية ونصح ووعظ وإرشاد للزوجة واألوالد والطبلب والناس من حولو‪.‬‬
‫ويلحق ّٔذا عدـ صحة التكليف باألمور الفطرية والوجدانية اليت تستويل على النفس وال يبلك اؼبكلف‬
‫جلبها أو دفعها‪ ،‬كاالنفعاؿ عند الغضب‪ ،‬واغبمرة عند اػبجل‪ ،‬واػبوؼ عند الظبلـ‪ ،‬واغبزف والفزع والطوؿ‬
‫والقصر والسواد والبياض‪ ،‬والشهية عند رؤية الطعاـ والشراب‪ ،‬واغبب والكره‪ ،‬وغَت ذلك من الغرائز اليت خلقها‬
‫اللَّو تعاىل يف اإلنساف‪ ،‬وال زبضع إلرادة اؼبكلف‪ ،‬وبالتايل فهي خارجة عن قدرتو وإمكانيتو‪ ،‬فبل يكلف ّٔا‪،‬‬
‫ألهنا تكليف دبا ال يطاؽ‪.‬‬
‫اردا‬
‫وكل نص يدؿ ظاىره على التكليف بأحد ىذه األمور فبل يقصد منو ظاىره‪ ،‬ويكوف التكليف فيو و ً‬
‫على سببو أو نتيجتو وشبرتو‪ ،‬مثل قولو تعاىل‪َ  :‬وال َسبُوتُ َّن إال َوأَنْػتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َف‪[‬آؿ عمراف‪ ،]102،‬فالظاىر أف‬
‫اآلية تنهى اإلنساف عن اؼبوت إال وىو مسلم‪ ،‬واؼبوت ليس بيد اإلنساف‪ ،‬فتصرؼ اآلية عن ظاىرىا‪ ،‬ويكوف‬
‫التكليف يف اآلية حقيقة ىو األمر بالدخوؿ يف اإلسبلـ‪ ،‬وازباذ األسباب والطرؽ اليت تُثبت اإليباف‪ ،‬وتقوي‬
‫مسلما حىت اؼبوت‪.‬‬
‫العقيدة‪ ،‬ليبقى اإلنساف ً‬
‫‪71‬‬
‫‪ 3‬ػ حصوؿ الشرط الشرعي‪ ،‬وىو الذي ال يصح عمل اؼبكلف إال بو‪ ،‬كالطهارة بالنسبة للصبلة‪،‬‬
‫واإليباف بالنسبة للعبادات‪.‬‬
‫واختلف العلماء يف صحة تكليف اإلنساف بفعل قبل حصوؿ الشرط‪ ،‬ويتجلى ىذا الشرط يف مسألة‬
‫أصولية مشهورة‪ ،‬وىي تكليف الكفار بفروع الشريعة بعد االتفاؽ على تكليفهم باإليباف وأصوؿ الدين‪َّ ،‬‬
‫وإف‬
‫اب والْم ْش ِركِ َ ِ ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫َّم‬
‫ُت يف نَار َج َهن َ‬ ‫ين َك َف ُروا م ْن أ َْى ِل الْكتَ َ ُ‬
‫تركهم لو يوجب زبليدىم يف النار‪ ،‬لقولو تعاىل‪ :‬إ َّف الذ َ‬
‫ك ُى ْم َشُّر الَِْربيَِّة‪[‬البينة‪ ،]6،‬وفيما وراء ذلك قاؿ اعبمهور بعدـ اشًتاط الشرط الشرعي‬ ‫خالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها أُولَئِ َ‬
‫َ َ‬
‫صبيعا‪ ،‬فيدخل فيها‬ ‫للتكليف‪ ،‬وأف الكفار ـباطبوف بفروع الشريعة‪ ،‬ألف آيات التكليف عامة زباطب الناس ً‬
‫اؼبؤمن والكافر‪ ،‬وأف اآليات اليت تتحدث عن عقاب اآلخرة تصرح دبسؤولية الكافر وعقوبتو على ترؾ الصبلة‬
‫والزكاة مثبل‪ ،‬وأف العقل ال يبنع ذلك‪.‬‬
‫وقاؿ أكثر اغبنفية يشًتط حصوؿ الشرط الشرعي أوال لصحة التكليف‪ ،‬فإف فقد الشرط فبل يكلف‬
‫العبد ّٔا‪ ،‬وإف الكفار غَت مكلفُت بفروع الشريعة‪.‬‬
‫ثالثا ـ المشقة في األفعال‬
‫قلنا يف الشرط الثالث أف الفعل يشًتط فيو أف يكوف مقدورا عليو‪ ،‬ولكن ىل يشًتط فيو أف ال يكوف‬
‫شاقا؟‬
‫الواقع أف أي فعل يقوـ بو اإلنساف ال ىبلو من مشقة ولو يف طعامو وشرابو‪ .‬لكن اؼبشقة درجات‪،‬‬
‫فمنها ما ىو معتاد يتحملو الناس ومنها ما ىو زائد عن اؼبعتاد يدخل عليهم اغبرج‪ .‬لذلك قسم العلماء اؼبشقة‬
‫إىل نوعُت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ مشقة معتادة‪ :‬وىي اؼبشقة اليت جرت عادة الناس على احتماؽبا واالستمرار عليها‪ ،‬وتدخل يف‬
‫حدود طاقة اؼبكلف‪ .‬وىذا النوع مشروع وموجود يف التكاليف الشرعية؛ ألف التكليف نفسو ىو اإللزاـ دبا فيو‬
‫كلفة ومشقة‪ .‬وكل تكليف فيو مشقة ؿبتملة‪ ،‬لًتويض النفس على اؼبباحات وإبعادىا عن احملرمات‪ ،‬وذلك فيو‬
‫َّت النار بالشهوات"‪ ،‬فالوضوء والصبلة واغبج‬ ‫َّت اعبنةُ باؼبكاره‪ ،‬وحف ِ‬ ‫مشقة‪ ،‬قاؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ " :‬حف ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فيها مشقات على اؼبكلف‪ ،‬ولكنو يتحملها وال يلحقو ضرر إذا داوـ عليها‪.‬‬
‫وىذه اؼبشقة اؼبوجودة يف التكاليف ليست مقصودة من الشارع‪ ،‬وإمبا القصد منها ربقيق اؼبصاحل اؼبًتتبة‬
‫عليها‪ ،‬ودرء اؼبفاسد اؼبتوقعة منها‪ ،‬للحفاظ على مقاصد الشريعة الضرورية واغباجية والتحسينية‪ ،‬فيلزـ اؼبكلف‬
‫أف يتحمل ىذه اؼبشقة لتحقيق ىذه اؼبصاحل‪ ،‬كما يتحمل اؼبريض الدواء اؼبر من أجل الشفاء‪ ،‬فاؼبقصود يف‬
‫الصوـ مثبل هتذيب النفس وتربية الروح‪ ،‬وتعويد اؼبرء على الصرب‪ ،‬وليس اؼبقصود إيبلـ النفس باعبوع والعطش‪.‬‬
‫وهبب على اؼبكلف أف يتحرى مقاصد الشريعة يف التكليف‪ ،‬وأف ال يقصد ؾبرد اؼبشقات اليت فيها‪،‬‬
‫ومن فعل ذلك ظانِّا زيادة األجر والتقرب فقد أخطأ‪ ،‬وال أجر لو‪ ،‬ولكن لو أف يقصد العمل الذي يعظم أجره‬
‫وتعظم مشقتو‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫‪ 2‬ـ مشقة غير معتادة‪ :‬وىي اؼبشقة اػبارجة عن معتاد الناس‪ ،‬وال يبكن أف يداوموا على ربملها‪ ،‬وأف‬
‫اؼبداومة على ىذه اؼبشقة يرىق اؼبكلف ويقطعو عن التكليف‪ ،‬وينالو الضرر واألذى يف النفس واؼباؿ‪ ،‬وىذا‬
‫يتناىف مع مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫وىذا النوع مل يرد يف التكاليف الشرعية إال استثناء لضرورة القياـ بفروض كفائية يف ظروؼ خاصة‪ .‬وإذا‬
‫حصلت مثل ىذه اؼبشقة‪ ،‬لعارض ما يف غَت ىذه الظروؼ اػباصة‪ ،‬فقد شرع سبحانو وتعاىل الرخصة ورغب‬
‫يف ترؾ العزيبة وهنى عن قصد تلك اؼبشقة؛ ألف اهلل مل يقصد تعذيب النفوس‪ ،‬فيجب أف ال ىبالف قصد‬
‫اؼبكلف قصد الشارع‪ .‬قاؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إف اللَّو وبب أف تؤتى رخصو‪ ،‬كما وبب أف تؤتى عزائمو"‪،‬‬
‫مثاؿ ذلك اؼبشقة يف الصياـ للمريض واغبامل والعاجز واؼبرضع‪ ،‬فرخص اللَّو تعاىل ؽبم يف اإلفطار‪ ،‬ومثل اؼبشقة‬
‫والضرر يف استعماؿ اؼباء للطهارة فرخص الشارع يف التيمم‪ ،‬وغَت ذلك من الرخص اليت سبق الكبلـ عنها يف‬
‫مطلب الرخصة والعزيبة‪ ،‬ووضع العلماء قاعدة "اؼبشقة ذبلب التيسَت" اؼبشهورة يف ىذا الشأف‪.‬‬
‫رابعا ـ أقسام المحكوم فيو‬
‫ـ أقسام المحكوم فيو باعتبار ماىيتو‪:‬‬
‫احملكوـ فيو لو وجود حسي؛ ألنو فعل من أفعاؿ اؼبكلفُت يُدرؾ بأحد اغبواس‪ ،‬وبعد ذلك إما أف يكوف‬
‫لو وجود واعتبار شرعي‪ ،‬بأف يشًتط الشارع لوجوده أركانًا وشروطًا معينة‪ ،‬وإما أف ال يكوف لو اعتبار شرعي‪،‬‬
‫وكل قسم منهما إما أف يًتتب عليو حكم شرعي‪ ،‬وإما أف ال يًتتب عليو حكم شرعي‪ ،‬فاحملكوـ فيو أربعة‬
‫أقساـ‪:‬‬
‫‪ - 1‬الفعل الذي لو وجود حسي وليس لو وجود شرعي‪ ،‬وال يعترب سببًا غبكم شرعي‪ ،‬كاألكل والشرب‪.‬‬
‫‪ - 2‬الفعل الذي لو وجود حسي وليس لو وجود شرعي‪ ،‬وىو سبب غبكم شرعي‪ ،‬كالزنا والسرقة والقتل‪ ،‬فإهنا‬
‫أسباب للحكم الشرعي يف اغبدود والقصاص‪.‬‬
‫‪ - 3‬الفعل الذي لو وجود يف اغبس ويف الشرع وال يًتتب عليو حكم شرعي‪ ،‬كالصبلة بدوف وضوء أو بدوف‬
‫شرعا إال بتحقق األركاف والشروط اليت وضعها الشارع‪.‬‬‫تكبَتة اإلحراـ مثبل‪ ،‬فإف أفعاؿ الصبلة ال تعترب ً‬
‫‪ - 4‬الفعل الذي لو وجود يف اغبس ويف الشرع ويًتتب عليو حكم شرعي آخر‪ ،‬كالنكاح واإلجارة والبيع‪،‬‬
‫فكل منها لو ماىية شرعية‪ ،‬ال تتحقق إال بأركاف وشروط معينة‪ ،‬وكل منها يًتتب عليو حكم شرعي‪ ،‬مثل حل‬
‫االستمتاع ووجوب اؼبهر والنفقة يف النكاح‪ ،‬ومثل سبلك اؼبنفعة واألجرة يف اإلجارة‪ ،‬ومثل انتقاؿ اؼبلكية يف‬
‫البيع‪.‬‬
‫ـ أقسام المحكوم فيو بحسب ما يضاف إليو‬
‫قسم اغبنفية احملكوـ فيو‪ ،‬وىو فعل اؼبكلف الذي تعلق بو خطاب اللَّو تعاىل إىل أربعة أقساـ‪:‬‬
‫‪ 1‬ػ ما كاف حقا خالصا هلل تعاىل‪ :‬وىو فعل اؼبكلف الذي ىو حق خالص للَّو تعاىل‪ ،‬وىذا القسم ال‬
‫وبق لئلنساف أف يتنازؿ عنو أو يصاحل عنو‪ ،‬وال وبتاج يف إثباتو إىل دعوى‪ ،‬وال يقبل العفو واإلسقاط‪ ،‬ويسقط‬
‫بالشبهة عند إثبات اغبدود‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ويدخل يف حق اللَّو اػبالص العبادات اؼبعروفة وما يتعلق بو النفع العاـ‪ ،‬وىو يشمل اؼبصلحة العامة‬
‫الدنيوية واؼبصلحة األخروية‪ ،‬وال ىبتص بأحد‪ ،‬ويكوف فيو دفع االعتداء عن آّتمع كاعبهاد مثبل‪ .‬ونسب إىل‬
‫اللَّو تعاىل للتعظيم والتشريف لكثرة نفعو وعظيم خطره ليس إال؛ ألنو تعاىل تنزه عن االنتفاع بشيء‪ ،‬وذلك مثل‬
‫حرمة الزنا فإنو يتعلق بو عموـ النفع من سبلمة النسب من االشتباه‪ ،‬وصيانة األوالد عن الضياع‪.‬‬
‫‪ 2‬ػ ما كاف حقا خالصا للعبد‪ :‬وىو فعل اؼبكلف الذي يتعلق بو اغبق اػبالص للعباد‪ ،‬وحق العبد ما‬
‫تتعلق بو مصلحة خاصة دنيوية كحرمة مالو‪ ،‬ويستباح بإباحة صاحبو‪ ،‬ويشًتط يف خصومتو وإثباتو رفع‬
‫الدعوى‪ ،‬وهبوز لصاحبو أف يتنازؿ عنو وأف يصاحل عنو‪ ،‬وأف يسقط حقو‪ ،‬وأف يعفو عن غريبو‪ ،‬وال تؤثر فيو‬
‫الشبهة‪.‬‬
‫واؼبقصود من اغبق اػبالص للعباد ىو اغبفاظ على مصاحل العباد اػباصة‪ ،‬مثل بدؿ اؼبتلفات‪ ،‬وملك‬
‫اؼببيع والثمن‪ ،‬وحق الشفعة‪ ،‬وحبس العُت اؼبرىونة للمرهتن‪ ،‬وغَت ذلك من اغبقوؽ اؼبالية‪.‬‬
‫‪ 3‬ػ ما اجتمع فيو اغبقاف‪ ،‬وحق اللَّو غالب فيو‪ :‬وىو فعل اؼبكلف الذي اجتمع فيو حق اللَّو تعاىل وحق‬
‫العبد‪ ،‬ولكن حق اللَّو غالب فيو‪ ،‬مثل حد القذؼ عند اغبنفية‪ ،‬فقد شرعو اللَّو تعاىل لرفع عار الزنا عن‬
‫اؼبقذوؼ‪ ،‬وللزجر للقاذؼ‪ ،‬وىذا حق العبد‪ ،‬كما شرعو اللَّو تعاىل لصيانة أعراض الناس‪ ،‬وإبعاد الفساد عن‬
‫آّتمع‪ ،‬وحفظ اللساف واألخبلؽ االجتماعية‪ ،‬وىذا حق اللَّو تعاىل‪ ،‬ويرى الشافية واغبنابلة واؼبشهور عند‬
‫اؼبالكية أف حد القذؼ حق خالص لآلدمي اؼبقذوؼ‪ ،‬كالقصاص‪.‬‬
‫‪ 4‬ػ ما اجتمع فيو اغبقاف‪ ،‬وحق العبد غالب‪ ،‬وىو فعل اؼبكلف الذي اجتمع فيو حق اللَّو تعاىل وحق‬
‫قصاصا أـ ديات‪ ،‬فإف فيها‬
‫ً‬ ‫العبد‪ ،‬ولكن حق العبد فيو غالب‪ ،‬كالقصاص وعقوبات الدماء كلها‪ ،‬سواء كانت‬
‫حق اللَّو تعاىل‪ ،‬يف صيانة الدماء وحفظ آّتمع‪ ،‬وفيها حق العبد؛ ألف القصاص وبقق مصلحة أولياء القتيل‪،‬‬
‫ويبنع االنتقاـ واغبقد من قلؤّم‪ ،‬فكاف حق العبد غالبًا‪.‬‬
‫ويرى اإلماـ الشاطيب‪ ،‬رضبو اهلل‪ ،‬أف كل قسم من أقساـ احملكوـ فيو باعتبار اإلضافة ال ىبلو من حق‬
‫اهلل وحق العبد؛ فكل حكم شرعي هبمع بُت حق اللَّو وىو جهة التعبد‪ ،‬وحق العبد وىو جهة اؼبصلحة اؼبالية‬
‫أو اؼبنفعة الشخصية‪ ،‬ويرى أنو ال يوجد حق خالص للَّو تعاىل‪ ،‬كما ال يوجد حق خالص للعبد‪ ،‬وكل حق‬
‫يبدو أنو خالص للَّو تعاىل فإنو وبقق منافع ظاىرة وملموسة للعبد من ناحية اؼبصلحة لو يف الدنيا‪ ،‬والثواب‬
‫واألجر والدرجات العليا يف اآلخرة‪ ،‬وكل حكم يبدو عليو أنو حق خالص للعبد‪ ،‬فإف اللَّو تعاىل لو حق فيو‪،‬‬
‫بأف تطبق أحكاـ اللَّو تعاىل فيو وتنفذ شريعتو‪ ،‬ويلتزـ اؼبرء فيو حدود اللَّو تعاىل‪ ،‬ويرتع يف حظَتتو‪ ،‬وألف حق‬
‫العبد إمبا يثبت كونو حقِّا لو بإثبات الشرع ذلك لو‪ ،‬وليس بكونو مستح ًقا لذلك حبكم األصل‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬المحكوم عليو‬
‫أوال ـ تعريفو‬
‫احملكوـ عليو ىو اؼبكلف الذي تعلق حكم الشارع بفعلو‪.‬‬
‫ىو الشخص الذي توجو إليو اػبطاب‪ ،‬ووبكم على أفعالو بالقبوؿ أو الرد‪ ،‬أو أف أفعالو‬ ‫واؼبكلف‬
‫تدخل يف قسم اؼبأمور بو‪ ،‬أو اؼبنهي عنو أو ال تدخل فيهما‪ ،‬وقد سبق الكبلـ أف اغبكم ىو خطاب اللَّو‬
‫‪74‬‬
‫وضعا‪ ،‬وأف اػبطاب ىو توجيو الكبلـ إىل شخص‪ ،‬وليس اؼبقصود‬ ‫زبيَتا أو ً‬‫اؼبتعلق بأفعاؿ اؼبكلفُت اقتضاء أو ً‬
‫الشخص بذاتو‪ ،‬وإمبا اؼبقصود أفعالو اليت يرتبط ّٔا اػبطاب‪.‬‬
‫ثانيا ـ شروط المحكوم عليو‬
‫يشًتط لصحة التكليف أف يتوفر فيو شرطاف‪:‬‬
‫قادرا على فهم دليل التكليف‪ :‬بأف يفهم بنفسو خطاب الشارع يف القرآف والسنة‪ ،‬أو‬ ‫‪ 1‬ـ أن يكون ً‬
‫بواسطة غَته بالسؤاؿ والتعلم؛ ألف طاعة اللَّو تعاىل وامتثاؿ أوامره‪ ،‬واالبتعاد عن نواىيو‪ ،‬يتوقف على فهم‬
‫ف بو‪ ،‬وأف يبتثل األحكاـ‬ ‫لتفهم اػبطاب فبل يبكنو أف ينفذ ما ُكلّْ َ‬ ‫اػبطاب‪ .‬أما العاجز الذي ال يبلك قدرة ّ‬
‫وأف يتجو قصده إليها‪ ،‬فبل يقاؿ ؼبن ال يفهم‪ :‬افهم‪ ،‬وال يقاؿ ؼبن ال يسمع‪ :‬اظبع‪ ،‬وال ؼبن ال يبصر‪ :‬أبصر‪.‬‬
‫والقدرة على فهم اػبطاب تتحقق بوجود العقل من جهة‪ ،‬وبكوف النصوص اليت يكلف ّٔا العاقل يف‬
‫متناوؿ عقلو لفهمها من جهة أخرى؛ ألف العقل أداة فهم النصوص وإدراكها‪ ،‬قاؿ اآلمدي‪ :‬اتفق العقبلء على‬
‫أف شرط اؼبكلف أف يكوف عاقبل‪ ،‬فانبًا‪ ،‬ألف التكليف خطاب‪ ،‬وخطاب من ال عقل لو وال فهم ؿباؿ‪.‬‬
‫ودبا أف العقل خفي ال يدرؾ باغبس‪ ،‬وأنو يتفاوت من شخص إىل آخر‪ ،‬وأنو يتطور وينمو ويتدرج من‬
‫العدـ إىل الكماؿ يف الشخص الواحد‪ ،‬لذا ربط الشارع التكليف بأمر ظاىر منضبط يدرؾ باغبس‪ ،‬ويدؿ على‬
‫ربقق اؼبستوى العقلي اؼبطلوب للقدرة على فهم اػبطاب‪ ،‬وىو البلوغ ما مل تظهر عبلمات اإلعاقة الذىنية‪،‬‬
‫إقامةً للسبب الظاىر مقاـ حكمو‪.‬‬
‫والبلوغ يكوف بتحقق العبلمات الطبيعية على جسم الشاب والفتاة‪ ،‬كاالحتبلـ واغبيض‪ ،‬لقولو تعاىل‪:‬‬
‫َّ ِ‬ ‫استَأْ َذ َف الَّ ِذ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اؿ ِمْن ُك ُم ْ‬
‫‪َ ‬وإِ َذا بَػلَ َغ ْاألَطْ َف ُ‬
‫ين‬
‫ين م ْن قَػْبله ْم‪[‬النور‪ ،]59،‬ولقولو تعاىل‪َ  :‬والذ َ‬
‫َ‬ ‫اغبُلُ َم فَػ ْليَ ْستَأْذنُوا َك َما ْ‬
‫اغبُلُ َم‪[‬النور‪ ،]58،‬ولقولو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ " :،‬رفع القلم عن ثبلث‪ :‬عن النائم حىت يستيقظ‪،‬‬ ‫َملْ يَػْبػلُغُوا ْ‬
‫وعن الصيب حىت وبتلم‪ ،‬وعن آّنوف حىت يعقل"‪ ،‬فقد علقت اآليتاف واغبديث األحكاـ على بلوغ اغبلم‬
‫واالحتبلـ‪ ،‬فبا يدؿ على أف التكليف يرتبط باالحتبلـ‪ ،‬وىذا عند الشاب‪ ،‬ويقابلو اغبيض عند الفتاة‪ ،‬لقولو‪،‬‬
‫صلى اهلل عليو وسلم‪ " :‬ال يقبل اللَّو صبلة حائض إال خبمار"؛ أي ال تقبل صبلة اؼبرأة البالغة اليت وصلت إىل‬
‫سن اغبيض إال بسًت الشعر‪ ،‬فعلق اغبكم على بلوغها سن احمليض‪.‬‬
‫فإف مل تظهر عبلمات البلوغ الطبيعية باالحتبلـ أو اغبيض فيقدر البلوغ بالسن‪ ،‬والتقدير بالسن ـبتلف‬
‫فيو‪ ،‬فذىب اعبمهور من اؼبالكية والشافعية واغبنابلة‪ ،‬والصاحباف من اغبنفية‪ ،‬واؼبتأخروف يف اؼبذىب‪ ،‬إىل أف‬
‫سن البلوغ طبس عشرة سنة للصيب والفتاة‪ ،‬بينما قدره اإلماـ أبو حنيفة بسبع عشرة سنة لؤلنثى وشباين عشرة‬
‫سنة للصيب‪.‬‬
‫فمىت بلغ اإلنساف اغبلم فقد ربقق شرط التكليف‪ ،‬وسبكن العبد من معرفة خطاب الشارع‪ ،‬وإدراؾ‬
‫معناه‪ ،‬وتوجيو القدرة واإلرادة إىل تنفيذه وااللتزاـ بو‪.‬‬
‫وعلى ىذا فبل تكليف على من فقد القدرة على فهم اػبطاب‪ ،‬كآّنوف والصيب لعدـ وجود العقل‬
‫الذي ىو وسيلة فهم دليل التكليف‪ ،‬وال يكلف الغافل وال النائم وال السكراف يف ىذه اغباالت؛ ألنو ليس‬
‫باستطاعتهم الفهم‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫ويتفرع عن ىذا الشرط ثبلثة أمور‪ ،‬لبتصرىا كما يلي‪:‬‬
‫‪ - 1‬إف اؼبراد من فهم اػبطاب التصور وإمكاف الفهم‪ ،‬وليس التصديق باػبطاب واالقتناع بو‪ ،‬فمن‬
‫ومعتقدا بو أـ ال‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ً‬ ‫أمكنو فهم اػبطاب‪ ،‬وتصور الدليل‪ ،‬فهو مكلف من اللَّو تعاىل‪ ،‬سواء كاف مصدقًا‬
‫فإف الكفار ـباطبوف باألحكاـ الشرعية كلها على الرغم من عدـ تصديقهم ؽبا‪ ،‬لتوفر إمكاف الفهم والتصور‬
‫للخطاب‪ ،‬وىذا يتفق مع مذىب اعبمهور الذي قدمناه عن تكليف الكفار بفروع الشريعة‪.‬‬
‫‪ – 2‬أنو إذا كاف ظاىر اػبطاب متوجو إىل من ليس لو قدرة على فهم اػبطاب‪ ،‬كإهباب الزكاة والنفقة‬
‫والضماف يف ماؿ الصيب أو آّنوف‪ ،‬أو هني السكراف عن االقًتاب من الصبلة حاؿ السكر‪ ،‬فإف اػبطاب موجو‬
‫يف اغبقيقة إىل الويل اؼبكلف يف حالة الصيب وآّنوف‪ ،‬وإىل السكراف قبل سكره‪ ،‬ومن ىذا يكوف اػبطاب يف‬
‫مثل ىذه اغباالت من باب خطاب الوضع الذي يكوف سببا أو شرطا أو مانعا‪.‬‬
‫شرعا إال بعد تعلمهم‬ ‫‪ 3‬ػ ألف خطاب التكليف جاء بلساف العرب فإف غَت العرب ال يصح تكليفهم ً‬
‫اللغة العربية‪ ،‬أو بعد ترصبة أدلة التكليف إىل لغاهتم‪ ،‬أو بعد قياـ طائفة من العرب اؼبسلمُت بتعلم اللغات‬
‫األخرى‪ ،‬ونشر أحكاـ الشريعة وأدلتها بُت أصحاب اللغات‪ ،‬أو أف يرسل كل قوـ طائفة منهم يتعلموف أحكاـ‬
‫الشريعة وينذروف قومهم ّٔا‪ ،‬وقد سبت ىذه الوسائل كلها يف زمن الرسوؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فطلب من‬
‫زيد بن ثابت أف يتعلم اللغة العربية‪ ،‬وأرسل الرسل إىل اغبكاـ واؼبلوؾ يف دولة الروـ والفرس واغببشة‪ ،‬وأعلن أف‬
‫وؼ َويَػْنػ َه ْو َف َع ِن‬ ‫اػب َِت ويأْمرو َف بِالْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫يبلغ الشاىد الغائب‪ ،‬وقاؿ تعاىل‪َ  :‬ولْتَ ُك ْن مْن ُك ْم أ َُّمةٌ يَ ْدعُو َف إ َىل َْْ َ َ ُ‬
‫َّهوا ِيف الدّْي ِن َولِيُػْن ِذ ُروا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ِ‬
‫الْ ُمْن َك ِر‪[‬آؿ عمراف‪ ،]104،‬وقاؿ تعاىل‪ :‬فَػلَ ْوال نَػ َفَر م ْن ُك ّْل ف ْرقَة مْنػ ُه ْم طَائ َفةٌ ليَتَػ َفق ُ‬
‫قَػ ْوَم ُه ْم إِذَا َر َجعُوا إِلَْي ِه ْم لَ َعلَّ ُه ْم َْوب َذ ُرو َف‪[‬التوبة‪.]122،‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يكون المكلف أىال لما كلف بو‬
‫واألىلية يف اللغة الصبلحية واالستحقاؽ‪ .‬وأما يف االصطبلح فهي صبلحية اإلنساف ألف يكوف أىبل‬
‫الستحقاؽ اغبقوؽ وأداء والواجبات واإللتزامات‪ ،‬أو بعبارة أخرى ىي‪ :‬صبلحية الشخص لئللزاـ وااللتزاـ؛ أي‬
‫أف يكوف الشخص صاغبًا ألف يَػ ْلَزـ لو حقوؽ على غَته‪ ،‬ويَػ ْلَزُمو حقوؽ لغَته‪ ،‬وأف يكوف صاغبًا ألف يلتزـ ّٔذه‬
‫األمور بنفسو‪.‬‬
‫واإلنساف ال يكوف ـباطبا بالشرع وأحكامو إال إذا حصلت لو األىلية والصبلحية‪ ،‬وىذا الذي عرب عنو‬
‫يف الشرط بأف يكوف أىبل ؼبا كلف بو‪.‬‬
‫وقد قسم علماء األصوؿ األىلية إىل قسمُت‪ :‬أىلية وجوب وأىلية أداء‪.‬‬
‫وىذا يقودنا إىل الكبلـ عن حاالت األىلية‪ ،‬مث عن عوارضها‪.‬‬
‫حاالت األىلية‬
‫تنقسم األىلية إىل قسمُت‪ :‬أىلية الوجوب‪ ،‬وأىلية األداء‪ ،‬ولكل منهما حاالت‪.‬‬
‫ـ أىلية الوجوب‪ :‬ىي صبلحية اإلنساف ألف تثبت لو حقوؽ وذبب عليو واجبات‪ ،‬وتتعلق أىلية‬
‫الوجوب باإلنساف دبجرد إنسانيتو‪ ،‬فهي مبلزمة غبياة اإلنساف منذ بدء حياتو حىت انتهائو منها‪ ،‬مهما كانت‬

‫‪76‬‬
‫طفبل أـ بالغًا‪ ،‬عاقبل أـ ؾبنونًا‪ ،‬ويًتتب على أىلية الوجوب‬‫ذكرا أـ أنثى‪ ،‬جنينا أـ ً‬ ‫صفتو وأحوالو‪ ،‬سواء أكاف ً‬
‫الذمة‪.‬‬
‫وصف معنوي مبلزـ ؽبا ىو ّ‬
‫وأىلية الوجوب قسماف‪ :‬ناقصة‪ ،‬وكاملة‪ ،‬وكل منهما زبتص ببعض األحكاـ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أىلية الوجوب الناقصة‪ :‬وىي صبلحية اإلنساف ألف تثبت لو حقوؽ دوف أف ذبب عليو واجبات‪،‬‬
‫وأىلية الوجوب الناقصة زبتص باعبنُت قبل الوالدة‪ ،‬فلو بعض اغبقوؽ بشرط والدتو حيِّا‪ ،‬فيثبت لو حق اإلرث‬
‫والوصية والنسب والوقف‪..‬‬
‫‪ - 2‬أىلية الوجوب الكاملة‪ :‬وىي صبلحية اإلنساف ألف تثبت لو حقوؽ وذبب عليو واجبات‪ ،‬وتتوفر‬
‫ىذه األىلية يف كل إنساف منذ والدتو حىت وفاتو‪ ،‬فتثبت لو صبيع اغبقوؽ‪ ،‬وذبب عليو بعض الواجبات قبل‬
‫البلوغ كالضماف والنفقة والزكاة‪ ،‬وذبب عليو صبيع الواجبات بعد البلوغ‪ ،‬ولكن أىلية الوجوب الكاملة قبل‬
‫البلوغ ال زبوؿ اإلنساف صبلحية التعامل‪ ،‬وال تكفي العتبار أقوالو وأفعالو ما مل تتحقق فيو أىلية األداء‪.‬‬
‫ـ أىلية األداء‪ :‬ىي صبلحية اؼبكلف ألف تعترب أقوالو وأفعالو‪ ،‬سواء أكانت يف العقيدة أـ يف العبادات‬
‫أـ يف اؼبعامبلت أـ يف العقوبات‪ ،‬وىذه األىلية تساوي اؼبسؤولية‪ ،‬وأساسها البلوغ مع العقل‪.‬‬
‫ويبر اإلنساف يف أىلية األداء عند اعبمهور بثبلث مراحل‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫‪ - 1‬اإلنساف عدمي أىلية األداء أصبل‪ :‬وىو الطفل من والدتو حىت سن التمييز‪ ،‬كذا آّنوف طواؿ‬
‫جنونو‪ ،‬فالطفل وآّنوف ال عقل ؽبما‪ ،‬وبالتايل ليس ؽبما أىلية أداء‪ ،‬وال تعترب التصرفات اليت تصدر منهما‪ ،‬وال‬
‫يًتتب عليها أثر شرعي‪ ،‬فاإليباف غَت معترب‪ ،‬والصبلة ال أثر ؽبا‪ ،‬والعقود والتصرفات باطلة‪ ،‬أما اعبنايات فيتعلق‬
‫ّٔا الضماف اؼبايل‪ ،‬وال يقتص من الطفل وآّنوف بدنيِّا‪.‬‬
‫‪ - 2‬اإلنساف ناقص أىلية األداء‪ :‬وىو الصيب اؼبميز الذي بدأ يدرؾ بعض األشياء‪ ،‬ويبر يف مرحلة‬
‫التطور والنماء العقلي الذي يكتمل باغبلم والبلوغ‪ ،‬ويلحق بو اؼبعتوه ضعيف العقل‪.‬‬
‫ؿبضا‪،‬‬
‫نفعا ً‬
‫فالتصرفات اليت تصدر عن اؼبميز أو اؼبعتوه يف اؼبعامبلت ينظر فيها‪ :‬فإف كانت نافعة لو ً‬
‫ؿبضا كالتربع وإسقاط حقو‬ ‫ضررا ً‬
‫كقبوؿ اؽبدية والصدقة‪ ،‬فهي صحيحة بدوف إذف وليو‪ ،‬وإف كانت ضارة بو ً‬
‫فهي باطلة‪ ،‬وال تصح إجازهتا من الويل‪ ،‬وإف كانت تصرفاتو دائرة بُت النفع والضرر‪ ،‬كالبيع والشراء‪ ،‬فهي‬
‫صحيحة‪ ،‬ولكنها موقوفة على إجازة وليو‪ ،‬فإف أجازىا الويل نفذت‪ ،‬وإف مل هبزىا بطلت‪ ،‬وىذا عند اعبمهور‬
‫خبلفًا للشافعية‪.‬‬
‫وإف الصيب اؼبميز‪ ،‬وإف كاف عنده عقل وفهم وسبييز‪ ،‬ولكنو ليس كامبل‪ ،‬فبل تتعلق بو بالتايل أحكاـ‬
‫ف اللَّوُ نَػ ْف ًسا إال ُو ْس َع َها‪[‬البقرة‪ ،]286،‬وقد اختلف العلماء يف اعتبار‬
‫التكليف؛ ألف اللَّو تعاىل قاؿ‪ :‬ال يُ َكلّْ ُ‬
‫أقوالو وأفعالو يف اإليباف والعبادة‪ ،‬أما يف اعبنايات فيعامل معاملة الصيب غَت اؼبميز يف الضماف اؼبايل دوف‬
‫البدين‪..‬‬
‫‪ - 3‬اإلنساف كامل أىلية األداء‪ :‬وىو كل من بلغ عاقبل‪ ،‬وىذه األىلية تعتمد على العقل وترتبط‬
‫بالبلوغ؛ ألنو مظنة العقل كما رأينا‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫ويف ىذه اغبالة تكوف صبيع تصرفات اإلنساف معتربة‪ ،‬وتًتتب عليها اغبقوؽ والواجبات‪ ،‬ويكوف اإلنساف‬
‫شرعا‪ ،‬ويكوف ـباطبًا جبميع التكاليف الشرعية يف العقيدة‬ ‫صاغبًا لصدور التصرؼ منو على وجو يعتد بو ً‬
‫رشيدا وتأكد الويل أو القاضي‬ ‫والعبادات واألخبلؽ واؼبعامبلت والعقوبات‪ ،‬ولكن ال تسلم لو أموالو إال إذا بلغ ً‬
‫اح فَِإ ْف آنَ ْستُ ْم ِمْنػ ُه ْم ُر ْش ًدا فَ ْادفَػعُوا إِلَْي ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫من رشده‪ ،‬لقولو تعاىل‪َ  :‬وابْػتَػلُوا الْيَتَ َامى َح َّىت إذَا بَػلَغُوا النّْ َك َ‬
‫أ َْم َوا َؽبُ ْم‪[‬النساء‪.]6،‬‬
‫عوارض األىلية‬
‫دبا أف أىلية األداء تساوي اؼبسؤولية اليت تقوـ على العقل‪ ،‬ودبا أف أحواؿ اإلنساف وقدراتو العقلية‬
‫معرضة لطوارئ ونقص وتغيَت‪ ،‬فإف قدرتو على الفهم وصبلحيتو لبللتزامات تتغَت أيضا‪ ،‬وبالتايل فإف أىلية‬
‫التكليف زبتلف حبسب الطوارئ‪ .‬وأطلق العلماء على ىذه العوامل اليت تؤثر يف أىلية األداء اسم عوارض‬
‫األىلية؛ ألهنا سبنع األحكاـ اليت تتعلق بأىلية األداء‪ ،‬عن الثبوت‪ ،‬لنقص يف العقل أو فقدانو‪.‬‬
‫وىذه العوارض إما أف تكوف ظباوية‪ ،‬وىي اليت تثبت من قبل الشارع‪ ،‬وال كسب لئلنساف فيها‪ ،‬وال‬
‫اختيار لو يف وقوعها‪ ،‬وأنبها اعبنوف والعتو والنسياف والنوـ واإلغماء‪ ،‬وإما أف تكوف عوارض كسبية تقع بفعل‬
‫اإلنساف وكسبو واختياره‪ ،‬وأنبها اعبهل والسكر والسفو واػبطأ واإلكراه‪.‬‬
‫وتتأثر األىلية ّٔذه العوارض‪ ،‬ولكن تأثَتىا ىبتلف من حالة إىل أخرى‪ ،‬فبعضها يزيل األىلية هنائيا‪،‬‬
‫وبعضها ينقصها‪ ،‬وبعضها يغَت يف األحكاـ فقط‪ ،‬ولذا تنقسم العوارض إىل ثبلثة أقساـ‪:‬‬
‫‪ - 1‬العوارض اليت تعرض ألىلية األداء فتزيلها أصبل‪ ،‬كاعبنوف والنوـ واإلغماء واإلكراه‪ ،‬ويصبح‬
‫سباما‪ ،‬وال يًتتب على تصرفاتو أثر شرعي‪ ،‬وتنعدـ عنو التكاليف‪ ،‬قاؿ‬ ‫اإلنساف يف ىذه اغباالت عدمي األىلية ً‬
‫رسوؿ اللَّو‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬رفع عن أميت اػبطأ والنسياف وما استكرىوا عليو"‪ ،‬واؼبراد رفع اؼبؤاخذة‪ ،‬وىذا‬
‫يستلزـ رفع التكليف‪.‬‬
‫‪ - 2‬العوارض اليت تنقص أىلية األداء كالعتو‪ ،‬فإذا أصاب البالغ العاقل حجر أو عتو فبل تزوؿ عنو‬
‫أىلية األداء بل تنقص‪ ،‬وتصح منو التصرفات النافعة دوف غَتىا كالصيب اؼبميز‪.‬‬
‫‪ - 3‬العوارض اليت تغَت بعض األحكاـ‪ ،‬كالسفو والغفلة والدَّيْن‪ ،‬فإذا أصاب اؼبكلف سفو أو غفلة أو‬
‫دين فبل يؤثر ذلك على أىليتو‪ ،‬فبل تزوؿ وال تنقص‪ ،‬ولكن تتغَت بعض األحكاـ الناشئة عن تصرفاتو‪ ،‬كاغبجر‬
‫عن تصرفاتو اؼبالية باؼبعاوضة والتربع للمحافظة على مالو حىت ال يبقى عالة على غَته‪ ،‬أو للمحافظة على‬
‫حقوؽ الدائنُت الذين يتضرروف بتصرفو‪.‬‬
‫وقد توسع علماء األصوؿ يف اؼبذىب اغبنفي يف بياف األىلية وأقسامها وفروعها‪ ،‬وما يتعلق ّٔا من‬
‫أيضا بالتفصيل‪ ،‬وتابعهم على ذلك أكثر ال ُكتَّاب احملدثُت يف علم األصوؿ‪،‬‬ ‫أحكاـ‪ ،‬وخصوا عوارض األىلية ً‬
‫وقد اقتصرت على اػببلصة السابقة خشية اإلطالة من جهة‪ ،‬ولتجنب التكرار يف الدراسة من جهة أخرى‪ ،‬فإف‬
‫حبث األىلية يدرس بتوسع يف مادة اؼبدخل الفقهي العاـ‪ ،‬ويف مادة األحواؿ الشخصية‪ ،‬ويف مادة القانوف‬
‫اؼبدين‪ ،‬ومن أراد التوسع فلَتجع إىل الكتب اؼبعتمدة يف األصوؿ‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع المعتمة في إعداد المذكرة‬

‫ػ إرشاد الفحوؿ إىل إحقاؽ اغبق من علم األصوؿ‪ ،‬للشوكاين‪.‬‬


‫ػ أصوؿ الفقو‪ ،‬لعبد آّيد الزروقي‪.‬‬
‫ػ أصوؿ الفقو‪ ،‬للشيخ اػبضري بك‪.‬‬
‫ػ اإلحكاـ يف أصوؿ األحكاـ‪ ،‬لآلمدي‪.‬‬
‫ػ الفكر األصويل‪ ،‬لعبد الوىاب أبو سليماف‪.‬‬
‫ػ اؼبدخل الوجيز إىل علم أصوؿ الفقو‪ ،‬ؼبسعود فلوسي‪.‬‬
‫ػ اؼبستصفى‪ ،‬أليب حامد الغزايل‪.‬‬
‫ػ اؼبهارة األصولية واثرىا يف النضج والتجديد الفقهي‪ ،‬سعد الدين مسعد ىبليل‪.‬‬
‫ػ اؼبوافقات يف أصوؿ الشريعة‪ ،‬لئلماـ الشاطيب‪.‬‬
‫ػ الوجيز يف أصوؿ الفقو‪ ،‬لعبد الكرمي زيداف‪.‬‬
‫ػ الوجيز يف أصوؿ الفقو‪ ،‬حملمد الزحيلي‪.‬‬
‫ػ تعليم علم األصوؿ‪ ،‬لنور الدين ـبتار اػبادمي‪.‬‬
‫ػ علم أصوؿ الفقو‪ ،‬لعبد الوىاب خبلؼ‪.‬‬
‫ػ مقدمة يف التعريف بالقواعد األصولية‪ ،‬ػبليفة بابكر حسن‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫فهرس المحتويات‬
‫مقدمة‬
‫‪01‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬في مبادئ علم أصول الفقو‬
‫‪02‬‬ ‫اؼببحث األوؿ‪ :‬تعريف علم أصوؿ الفقو‬
‫‪02‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬تعريف علم أصوؿ الفقو باعتباره مركبا إضافيا‬
‫‪04‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬تعريف أصوؿ الفقو باعتباره لقبا وعلما‬
‫‪07‬‬ ‫اؼببحث الثاين‪ :‬موضوع علم أصوؿ الفقو ومصادره‬
‫‪07‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬موضوع علم أصوؿ الفقو‬
‫‪07‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬العلوـ اليت يستند إليها ويستمد منها علم أصوؿ الفقو‬
‫‪08‬‬ ‫اؼببحث الثالث‪ :‬غاية علم أصوؿ الفقو وأنبيتو وفائدتو‬
‫‪08‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬غاية علم أصوؿ الفقو‬
‫‪09‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬فوائد وأنبية علم أصوؿ الفقو‬
‫‪11‬‬ ‫اؼببحث الرابع‪ :‬نشأة وتطور علم أصوؿ الفقو‬
‫‪11‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬األصوؿ يف عهد الرسوؿ‪ ،‬صلى اهلل عليو وسلم‬
‫‪13‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬األصوؿ يف زمن الصحابة‬
‫‪13‬‬ ‫اؼبطلب الثالث‪ :‬األصوؿ يف عصر التابعُت‬
‫‪15‬‬ ‫اؼبطلب الرابع‪ :‬األصوؿ يف عهد األئمة آّتهدين‬
‫‪16‬‬ ‫اؼببحث اػبامس‪ :‬تدوين أصوؿ الفقو ومناىج التأليف فيو‬
‫‪16‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬تدوين أصوؿ الفقو‬
‫‪16‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬مناىج أصوؿ الفقو وطرائق التأليف فيو‬
‫‪19‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬في الحكم الشرعي‬
‫‪20‬‬ ‫اؼببحث األوؿ‪ :‬تعريف اغبكم الشرعي وأنواعو‬
‫‪20‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬تعريف اغبكم الشرعي‬
‫‪25‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬أنواع اغبكم الشرعي يف أصوؿ الفقو‬
‫‪27‬‬ ‫اؼببحث الثاين‪ :‬اغبكم التكليفي‬
‫‪27‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬أقساـ اغبكم التكليفي وشبرة االختبلؼ يف التقسيم‬
‫‪28‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬تفريعات اغبكم التكليفي‬
‫‪50‬‬ ‫اؼببحث الثالث‪ :‬اغبكم الوضعي‬
‫‪50‬‬ ‫اؼبطلب األوؿ‪ :‬تعريف اغبكم الوضعي‬
‫‪51‬‬ ‫اؼبطلب الثاين‪ :‬أقساـ اغبكم الوضعي‬
‫‪67‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬في الحاكم والمحكوم فيو والمحكوم عليو‬
‫‪68‬‬ ‫اؼببحث األوؿ‪ :‬اغباكم‬
‫‪71‬‬ ‫اؼببحث الثاين‪ :‬احملكوـ فيو‬
‫‪76‬‬ ‫اؼببحث الثالث‪ :‬احملكوـ عليو‬
‫‪81‬‬ ‫قائمة اؼبصادر واؼبراجع‬
‫‪80‬‬

You might also like