You are on page 1of 44

‫الدراسات العربية‬

‫مسار‪ :‬أدب وفنون‬

‫بحث لنيل شهادة االجازة األساسية‬


‫تحت عنوان‪:‬‬

‫النقد القديم ومعضلة‬


‫التدوين‬

‫تحت اشراف األستاذ‪:‬‬ ‫من اعداد الطالبة‪:‬‬

‫د‪ .‬عبد هللا الصغيري‬ ‫ابتسام مسعيدي‬


‫اإلهداء‬
‫رحلت الجامعية قد انتهت اليوم بالفعل‪ ،‬من بعد مشقة لوقت طويل‪،‬‬ ‫ي‬ ‫أرى‬
‫بداخل‪.‬‬
‫ي‬ ‫تخرج بكل ما لدي من همة ونشاط‬ ‫ي‬ ‫وها أنا اليوم أختم بحث‬
‫مسي يت الدراسية‬
‫فالشكر والحمد هلل الذي إليه ينسب الفضل كله يف إكمال ر‬
‫ويرست أن أقدم كل التقدير واالمتنان لكل شخص‬
‫ي‬ ‫المكللة بالنجاح والتفوق‬
‫نجاج هذا‬
‫ي‬ ‫أنت أقدم‬
‫كان له الفضل يف تقديم المساعدة يل ولو باليرس كما ي‬
‫كهمسة حب وعنوان وفاء‪....‬‬
‫واستمراريت‪ ،‬إل‬
‫ي‬ ‫قوت‬
‫وعالم ي‬
‫ي‬ ‫معلم‬
‫ي‬ ‫إل الحبيب األول سيدي وسندي‬
‫السني‬
‫ر‬ ‫المثال أطال هللا يف عمره ليظل عونا يل‪ ،‬إل الذي بدل جهد‬
‫ي‬ ‫الرجل‬
‫سخيا إل من كلله هللا بالهيبة والوقار‪ ،‬إل ينبوع العطاء‪ ،‬إل من أحمل اسمه‬
‫الت‬
‫قدوت ي‬‫ي‬ ‫ألبست ثوب مكارم األخالق واألدب‪ ،‬إل‬
‫ي‬ ‫بكل افتخار‪ ،‬إل من‬
‫صديق قبل أن يكون والدي‪.‬‬
‫ي‬ ‫أقتدي بها إل من تعجز الكلمات عن وصفه إل‬
‫أرجو هللا أن يمد يف عمرك ترى ثمارا قد حان قطافها بعد طول انتظار‪ .....‬إل‬
‫أت الحبيب‬
‫ي‬
‫ات‪ ،‬إل بسمة الحياة ورس‬‫مالك يف الحياة ومعت الحب والحنان والتف ي‬
‫ي‬ ‫إل‬
‫جراج‪ ،‬إل من أثقلت‬
‫ي‬ ‫نجاج وحنانها بلسم‬
‫ي‬ ‫الوجود‪ ،‬إل من كان دعائها رس‬
‫الفؤاد هما وجاهدت األيام صيا‪ ،‬إل من شغلت البال فكرا‪ ،‬ورفعت األيادي‬
‫مثل‬
‫ه أندى من قطرات الندى وأصق من ماء الدج‪ ،‬إل ي‬ ‫دعاءا‪ ،‬إل من ي‬
‫رافقتت بدعائها يف‬
‫ي‬ ‫لحزت‪ ،‬إل من‬
‫ي‬ ‫لفرج وتحزن‬
‫ي‬ ‫وقدوت‪ ،‬إل من تفرح‬
‫ي‬ ‫العال‬
‫ي‬
‫حيات‪ ....‬إل ي‬
‫أم الحنون‬ ‫ي‬ ‫كل خطوة من خطوات‬
‫قلت وصاحبات القلب الطيب والنوايا الصادقة‪ ،‬إل من‬‫إل رفيقات ي‬
‫صغية ومعكم رست خطوة بخطوة‬ ‫ر‬ ‫رافقتموت منذ أن حملنا حقائب‬
‫ي‬
‫وت اآلن‪ .‬إل من أكتسب بوجودهم قوة ومحبة ال حدود لها‪،‬‬ ‫ومازلتم ترافق ي‬
‫أخوات الجميالت‬
‫ي‬ ‫إل من عرفت معهم معت الحياة‪ ....‬إل‬
‫الحقيق يف الدراسة‪ ،‬إل الذي‬
‫ي‬ ‫وقدوت وسندي‬
‫ي‬ ‫ومعلم‬
‫ي‬ ‫ورفيق‬
‫ي‬ ‫صديق‬
‫ي‬ ‫إل‬
‫الغال عبد الوهاب‬
‫ي‬ ‫بجانت يف كل األوقات‪ ....‬إل ي‬
‫أج‬ ‫ي‬ ‫أجده دائما وأبدا‬
‫لنجاج بنظرات أمل‪ ،‬إل من لم يبخلوا بدعواتهم يل‪ ،‬إل‬
‫ي‬ ‫إل من تطلعتم‬
‫وأحبات‬
‫ي‬ ‫الذين أجلهم وأحيمهم‪ ....‬إل ي‬
‫أهل‬
‫الشكر‬
‫أشكر اهلل سبحانه وتعالى في البداية والنهاية أما بعد‪:‬‬
‫أرفع أسمى آيات العرفان والشكر والتقدير إلى أستاذي‬
‫الفاضل الدكتور عبد اهلل الصغيري على نصائحه وإرشاداته‬
‫القيمة لي فلم يبخل بوقته وعلمه وفكره ألخطو نحو األفضل‬
‫في إنجاز هذا البحث‪.‬‬
‫كما أشكر أساتذة وأطر الكلية المتعددة التخصصات‬
‫بالراشدية‪ .‬وأشكر أيضا األطر الساهرة على المكتبة على‬
‫مجهوداتها الساهرة‪ .‬وأخيرا أشكر كل من ساهم من‬
‫قريب وبعيد في إخراج هذا العمل المتواضع إلى حيز‬
‫الوجود‪ ،‬وأتمنى أن يستفيد منه كل طالب علم‪.‬‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫اللهم لك الحمد حمدا كثيرا مباركا فيه ملء السماوات وملء االرض وملء ما‬
‫بينهما وملء ما شئت من شيء بعد كما ينبغي لجالل وجهك وعظيم سلطانك‬
‫سبحانك ال أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ال راد لما قضيت وال‬
‫حول وال قوة اال بك تباركت ربي وتعاليت‬
‫والصالة و السالم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بنعبد هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‬
‫و بعد‪:‬‬
‫لقد اهتم الباحثون العرب بالتراث النقدي القديم اهتماما خاصا كما هو حال األمم‬
‫األخرى في عنايتها بتراثها ويرجع سبب هذا االهتمام الى ما يمثله دراسة التراث‬
‫وقراءته من استرجاع للتاريخ وحفاظا على الهوية الثقافية لألمم‬
‫تعد دراسة معضلة التدوين في النقد القديم من الدراسات المهتمة لما تطرحه من‬
‫اشكاالت لدى النقاد فيما وصلنا من اعمال الرواد‬
‫لذلك وقع اختياري على موضوع النقد القديم ومعضلة التدوين لنيل شهادة‬
‫االجازة في الدراسات العربية تخصص ادب و فنون‬
‫ومن أسباب هذا االختيار ايضا ‪:‬‬
‫أوال طبيعة البحث اذ هو عبارة عن دراسة موجزة لما جاء في أبحاث النقاد عن‬
‫تأريخ تاريخ النقد وكيف حاولوا معالجة قضية تدوينه‬
‫وما دعاني أيضا لإلقدام على البحث في هذا الموضوع لم أجد من قبل على حدود‬
‫ما اطلعت عليه بحثا يدرس معضلة التدوين في النقد العربي القديم ويتطرق لها‬
‫بالتفصيل اال ما نظر من بعض االعمال مثل ‪:‬‬
‫كتاب تاريخ النقد االدبي عند العربي من العصر الجاهلي الى القرن الرابع لطه‬
‫محمد ابراهيم‬
‫كتاب تاريخ النقد العربي الى القرن الرابع الهجري لمحمد زغلول سالم‬

‫‪1‬‬
‫كتاب الدراسات في نقد االدب العربي من الجاهلية الى القرن الثالث لبدوي طبانة‬
‫وثم تقسيم الدراسة على النحو التالي ‪:‬‬
‫اقتضت طبيعة البحث أن يأتي في فصلين صدرت بمقدمة تناولت فيها الخطوط‬
‫العريضة للبحث وفصل تمهيدي يخصص لتحديد المفاهيم األساسية المكونة‬
‫لعنوان البحث لغة واصطالحا وهي‪:‬‬
‫أـ تعريف مفهوم النقد‬
‫ب ـ تعريف مفهوم المعضلة‬
‫ج ـ تعريف التدوين‬
‫وكما ذكرت من قبل فقد قسمت هذا البحث الى فصلين ‪:‬‬
‫‪ ‬أولهما نظريا وهو بعنوان النقد العربي في العصور‬
‫المبحث ‪ :1‬النقد في العصر الجاهلي‬
‫✓ المحور االول‪ :‬مظاهر النقد في العصر الجاهلي‬
‫✓ المحور الثاني‪ :‬أبرز سمات التذكير النقدي في العصر الجاهلي‬
‫• المبحث ‪ :2‬النقد في صدر الدولة اإلسالمية‬
‫• المبحث ‪ :3‬النقد العربي القديم في العصر األموي‬
‫• المبحث ‪ :4‬النقد العربي القديم في العصر العباسي‬
‫‪ ‬ثانيهما‪ :‬تطبيقيا وهو بعنوان النقد العربي ومعضلة التدوين عند القدماء‬
‫وختمت البحث بخالصة لما توصلت اليه من استنتاجات ثم وضعت فهرسا‬
‫للمعاجم والمصطلحات وفهرسا للموضوعات‬
‫وقد اعتمدت في هذه الدراسة منهجا وصفيا تحليليا يعتمد على البحث في اراء‬
‫النقاد حول ظاهرة التدوين والنقد بصفة عامة وتحليلها واستخالص أهم النتائج‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫الفصل التمهيدي‪:‬‬
‫المفاهيم االساسية‬

‫‪3‬‬
‫مدخل‪:‬‬
‫لقد اهتم مجموعة من الدارسين والباحثين في الساحة العربية والغربية على حد‬
‫سواء‪ ،‬بالنقد األدبي الذي عرف تطورا متعددا من حقبة إلى أخرى‪ ،‬وقد اجتهد‬
‫مجموعة من الباحثين إلبراز خصوصياته وحيثياته وذلك راجع لكثرة المفاهيم‬
‫التي بنيت عليها كلمة النقد‪.‬‬
‫يعد التدوين جزء من الثقافة اإلنسانية فيه يتم تسجيل وتوثيق تاريخ‬
‫الحضارات وماضيها‪ .‬من حروب وأمجاد وبطوالت ونكسات‪ ،‬وأعمالها األدبية‬
‫والفنية لهذا يعد التدوين عامال أساسيا لفهم وتحليل ومناقشة النصوص واإلبداعات‬
‫األدبية‪.‬‬
‫لذلك كان لزاما علينا في هذا الفصل التمهيدي أن نخص ونحدد مفهوم النقد من‬
‫الناحية اللغوية واالصطالحية‪ .‬إضافة إلى تعريف التدوين والحديث باختصار عن‬
‫أولياته وكيف بدأ تدوين األعمال األدبية العربية القديمة‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أ‪ -‬مفهوم النقد‪:‬‬
‫إن البحث عن المعنى الداللي لمصطلح النقد بحث متشعب إذ تناظرت حوله‬
‫اآلراء والتصورات وذلك راجع لصعوبة تصنيفه هل هو إبداع فني أم علما قائما‪.‬‬
‫فالمعاجم العربية ترى أنه إلى يفضي المناقشة واإلظهار يقال‪" :‬النقد تمييز‬
‫الدراهم وغيرها‪ ....‬وناقده وناقشه "‪1.‬وتحدث ابن منظور عن األصل اللغوي‬
‫للكلمة فقال ‪ :‬نقد الدراهم و انتقدها ‪ :‬إذا ميز جيدها من رديئها ‪ ....‬كما في قولهم‬
‫إن نقدت الناس نقدوك‪ ،‬و إن تركتهم تركوك‪ ،‬و معنى نقدتهم عبتهم ‪ ."2‬و النقد‬
‫في ارتباطه بالنثر و الشعر يحيل على إظهار المحاسن و العيوب ف "انتقد الشعر‬
‫على قائله أظهر عيبه"‪3.‬و"يقال نقد النثر‪-‬الشعر أظهر ما فيها من عيب أو‬
‫حسن‪"4‬‬
‫إذن فتصور مفهوم النقد عند العرب القدماء ينطلق من الداللة اللغوية لمادة‬
‫نقد والتي جاءت في اللغة "بمعنى نقد الشيء نقدا‪ .‬ليختبره أو يميزه"‪.‬‬
‫و إذا كان النقد من الناحية اللغوية يعني التمييز و االختيار وإظهار العيوب و‬
‫المحاسن فإنه من الناحية االصطالحية يفضي إلى ‪" :‬القدرة على تذوق األساليب‬
‫‪5‬‬
‫المختلفة و الحكم عليها"‪.‬‬
‫ولهذا نجد أن المعنى االصطالحي لكلمة نقد ال يبتعد معناها عن اللغوي األصلي‬
‫عند القدماء كما جاء في كتاب قدامة ابن جعفر {نقد الشعر} حيث قال‪ :‬أن علم‬
‫‪6‬‬
‫في الشعر له أربعة أقسام وأن العلم الرابع هو "تمييز جيد الشعر من رديئه "‪.‬‬
‫حين نجد أن األدباء المتأخرين يرون أن النقد في أصله فن صادر عن نظرة‬
‫شاملة إلى الفن بشكل عام‪" 7.‬البد من الوقوف عند النقد من حيث هو فن له‬
‫أصوله و طرائقه فهو الدرس الفني‪."8‬‬

‫‪ 1‬المعجم الوسيط‪ :‬باب النقد‬


‫‪ 2‬القاموس المحيط‪ :‬مادة (نقد)‬
‫‪ 3‬لسان العرب ‪:‬نقد‬
‫‪ 4‬المعجم الوجيز مجمع اللغة العربية إبراهيم مذكور الصفحة‪629 :‬‬
‫‪ 5‬المعجم الوسيط‪ ،‬باب‪ :‬نقد‪ ،‬الصفحة‪944 :‬‬
‫‪ 6‬البالغة والنقد المصطلح والنشأة والتحديد‪ :‬محمد كريم الكوار‪ ،‬الصفحة‪50 :‬‬
‫‪ 7‬نقد الشعر‪ ،‬جعفر ابن قدامة‪ ،‬الصفحة‪2 :‬‬
‫‪ 8‬تاريخ النقد االدبي عند العرب طه أحمد إبراهيم‪ ،‬الصفحة‪9 :‬‬

‫‪5‬‬
‫إذن فالنقد في مفهومه االصطالحي هو دراسة األعمال األدبية والفنية‬
‫وتفسيرها وتحليلها وموازنتها‪ ،‬وأخيرا الحكم عليها لبيان جودتها من رديئها‪.‬‬
‫ب‪ -‬مفهوم التدوين‪:‬‬
‫لقد فرض مفهوم التدوين نفسه على الحقلين األدبي والفني الرتباطه الوثيق بهم‪.‬‬
‫فهو األداة التي توصل األعمال اإلبداعية إلى األجيال الالحقة ويشير مصطلح‬
‫التدوين من الناحية اللغوية إلى الكتابة وهذا ما نجده في جل المعاجم العربية‬
‫القديمة والحديثة ففي المعجم الوسيط‪( "،‬دون) الديوان أنشأه وجمعه‪ ،‬والكتب‬
‫جمعها"‪" .9‬الديوان مجتمع الصحف‪ ،‬والكتاب يكتب في أهل الجيش‪ ،‬وأهل‬
‫العطية‪ ،‬وأول من وضعه عمر رضي هللا عنه (جمع دواوين ودياوين) "‪.10‬‬
‫‪11‬‬
‫وجاءت كلمة التدوين في المعجم الوجيز بمعنى ‪".‬يكتب "‬
‫إن موضوع التدوين والتأليف النقدي لألدب العربي القديم موضوع شائك‬
‫ومتشعب وذلك راجع لقلة الكتابات فيه‪ .‬ال نكاد نجد أي كتابات تهتم بالنقد وحده‬
‫حتى نهاية القرن الرابع الهجري‪ .‬فما كان قبل ذلك هو مزج بين النقد والبالغة‪.‬‬
‫كما نجد في كتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري سنة ‪ 395‬هجرية‪ .‬ودالئل‬
‫اإلعجاز لعبد القاهر الجرجاني سنة ‪ 471‬هجرية‪.‬‬
‫وهذا ما يجعلنا نطرح سؤاال‪ :‬كيف وصلتنا أعمال القدماء؟ إذا لم يكن هناك تدوين‬
‫قبل القرن الرابع الهجري‪.‬‬
‫إال أن طه ابراهيم في مؤلفه تاريخ النقد األدبي عند العرب يخالف الرأي‬
‫ويقول إن بداية الكتابة النقدية كانت في القرن الثاني الهجري مع محمد ابن سالم‬
‫الجمحي المتوفي سنة ‪ 231‬هجرية‪ .‬في كتابه طبقات فحول الشعراء حيث قال‪،‬‬
‫وواضح جدا أن أقر ابن سالم الجمحي في تدوين الحقائق العلمية الشائعة في‬
‫عصره فهو ال يكتفي بنظر‪ ،‬وال برأي‪ ،‬وال بكالم‪ ،‬مفكك مثبت‪ ،‬بل يلم الفكرة من‬
‫أطرافها‪ ،‬ويأخذ العلماء بالنظر والتحليل‪ ....‬لتحليل النصوص األدبية‪ ،‬فيظهر‬
‫جمالها الفني وعناصرها الرائعة ‪ ....‬هذا وإلى إن الكتاب قدم وثائق النقد المدونة‬

‫‪ 9‬المعجم الوسيط‪ :‬مادة (دون)‬


‫‪ 10‬القاموس المحيط‪ :‬محمد الفيروز بادي‪ ،‬باب (دنن)‬
‫‪ 11‬المعجم الوجيز‪ :‬مادة (دان)‬

‫‪6‬‬
‫فيه لكثير من آراء األدباء واللغويين التي انتفع بها فيما بعد من كتبوا في نقد‬
‫األدب‪.‬‬
‫إن التدوين هو الكتابة و التوثيق فيه نعرف أعمال االدباء القدماء‪ ،‬إال أنه‬
‫يشكل معضلة بالنسبة لتاريخ النقد و األدب العربي القديم ‪ ,‬وذلك الختالف‬
‫الباحثين و المؤرخين في توثيق أول األعمال النقدية العربية ‪.12‬‬

‫تاريخ النقد االدبي عند العرب من العصر الجاهلي الى القرن الرابع الهجري‪ :‬طه أحمد ابراهيم الصفحة ‪ 108-102‬بتصرف‬ ‫‪12‬‬

‫‪7‬‬
‫خالصة‪:‬‬
‫نخلص مما سبق ذكره الى أن مفهوم النقد يفضي إلى تمييز الجيد من‬
‫الرديء وذكر محاسنه من عيوبه‪ .‬وأن وظيفته الفنية تتلخص في تقويم العمل‬
‫األدبي‪ ،‬وبيان قيمته الموضوعية والتعبيرية‪.‬‬
‫وأن التدوين هو الكتابة‪ .‬وأنه جزء من الثقافة االنسانية عموما والعربية‬
‫خصوصا‪ ،‬فالمنتج الثقافي ال يصل إلى األجيال الالحقة إال عن طريق التسجيل‬
‫والكتابة‪ .‬لكن أن هناك صعوبة في التأريخ أو الكتابات النقدية العربية‪ .‬فهل هذه‬
‫الكتابات بدأت في القرن الثاني الهجري مع ابن سالم الجمحي أم أنها لم تكن‬
‫كتابات نقدية حتى أواسط القرن الرابع الهجري؟‬

‫‪8‬‬
‫الفصل األول‬

‫‪9‬‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫لقد اتصل النقد العربي بالشعر منذ طليعته في العصر الجاهلي وبداية الدعوة‬
‫اإلسالمية اتصاال الزما‪.‬‬
‫كانت العملية النقدية في العصر الجاهلي متاحة بين يدي كل شاعر وكل مستمع‬
‫ذواق لألدب لذلك فقد كان النقد يستند إلى حكم الذوق وتميز النقد في هذه المرحلة‬
‫بأنه نقد فطري‪ ،‬ينطلق من أفواه الشعراء على سجيتها دون تصنع وتكلف‪ ،‬وهكذا‬
‫كان األدباء يحتكمون في نقدهم الى ذائقتهم الفنية بما تملي عليهم من استحسان‬
‫ببعض المواضيع البالغية األسلوبية‪ .‬لهذا حاولت في هدا الفصل التطرق الى النقد‬
‫في عصوره‪ :‬الجاهلي واإلسالمي واألموي‪ ،‬والعباسي‪.‬‬
‫إن مصطلح صدر اإلسالم يدل على السنوات األولى لإلسالم وهي تلك الفترة‬
‫الممتدة بين بعثة النبي محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬الى آخر أيام الخلفاء الراشدين‬
‫والتي كانت في نهاية القرن الرابع الهجري‪ ،‬مع موت علي ابن ابي طالب‪ ،‬وبما‬
‫أن هذا العصر كان متزامنا مع الذي قبله‪ .‬فليس من المتوقع أن يحدث تغيير كبير‬
‫على األدب‪ .‬إال أن تأثير الدين على الشعر كان تأثيرا نقديا من الناحية المعنوية‪،‬‬
‫فالنقد في صدر اإلسالم لم يتغير من حيث الشكل انما تغير في المضمون أي من‬
‫ناحية األغراض والموضوعات‪.‬‬
‫كان للنقد األدبي في العصر األموي دورا رائدا في النهضة الفكرية واللغوية‬
‫واألدبية‪ .‬فتح الخلفاء واألمراء والقادة أبوابهم للشعراء فوفدوا من كل مكان‪،‬‬
‫فاشتد التنافس بينهم وكان كل واحد يرد على اآلخر‪.‬‬
‫وإذا وصلنا إلى النقد في العصر العباسي رأينا إمعانا في الحضارة وإمعانا في‬
‫الترف ورأينا الشعر واألدب يتحوالن إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن‬
‫طبع وسليقة‪ ،‬حتى نرى كثيرا من الكتاب والشعراء الذين أصبحوا يعطون أولوية‬
‫للنقد وتتبع أخطاء اآلخرين‪.‬‬
‫لهذا حاولت في هذا الفصل أن أبرز مفهوم النقد والحكم النقدي في العصر‬
‫الجاهلي وذلك اعتمادا على عدة خطوات اعتمدها النقاد منها تتبع أخطاء الشعراء‪،‬‬
‫وكيف رجحوا شاعر على شاعر آخر‪ ،‬وكيفية الحكم على جودة القصيدة وما‬
‫اإليجاز الشعري‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫كما أنني حاولت أن أبرز صفات النقد في صدر اإلسالم وإبراز دور الدين‬
‫واألخالق والمبادئ التي أتى بها في تحول األغراض الشعرية‪.‬‬
‫وأبرزت أيضا الدور الذي لعبه التقدم الحضاري والفكري في العصرين األموي‬
‫والعباسي في ازدهار حركة النقد األدبي‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫❖ المبحث األول‪ :‬النقد في العصر الجاهلي‬
‫لقد ارتبط النقد في العصر الجاهلي بالشعر والنثر حيث عرف مجموعة من‬
‫الشعراء بنقدهم لشعر اآلخرين من بينهم النابغة الذبياني واألعشى وغيرهم‪.‬‬
‫فإذا كنا ال نعرف الشعر العربي إال متقنا محكما قبل اإلسالم فإننا ال نعرف النقد‬
‫إال في ذلك العهد‪ ،‬وأقدم النصوص التي تدل عليه تعزى في الغالب الكثير من‬
‫الشعراء الذين نهضوا بالشعر في أواخر العصر الجاهلي كثرة أسواق العرب التي‬
‫يجتمع فيها الناس من قبائل عدة وكثرة المجالس األدبية التي يذكرون فيها الشعر‬
‫وكثرة تالقي الشعراء‪...‬من ذلك ما نجده في عكاظ فكانت سوقا تجاريا يباع‬
‫ويشرى طريف األشياء والحاجي منها وكان يأتيها العرب من كل فج حتى من‬
‫الحيرة وكانت موعدا للخطباء والدعاة وكانت فوق كل ذلك بيئة من بيئات النقد‬
‫األدبي يلتقي الشعراء فيها كل عام‪ .1‬يقول حمادة الراوية ‪ :‬إن العرب كانت‬
‫تعرض شعرها على قريش فما قبلوه منها كان مقبوال وما ردوه منها كان‬
‫‪2‬‬
‫مردودا‪.‬‬
‫لهذا نجد أن مفهوم الناقد والحكم النقدي في هذا العصر ارتبط بفكرة الناقد الحاذق‬
‫المتمكن يحتكم إليه الناس في الشعر كانت فكرة معروفة بين الناس عامة واألدباء‬
‫خاصة‪ .‬كما أن فكرة الحكم النقدي كانت فكرة حاضرة في أذهان الشعراء‪ ،‬أيضا‬
‫إذ لوالها لما تفاضل الشعراء فيما بينهم وال فضلت قصيدة على أخرى وال بيت‬
‫من قصيدة على بيت آخر‪ .‬وفي النصوص األدبية التي نقلت لنا من العصر‬
‫الجاهلي‪ ،‬ما يدل على وجود الناقد الذي يكون شاعرا أو ماهرا أو قبيلة بعينها‪،‬‬
‫وفي قصة النابغة الذبياني‪ 3‬من حسان بن ثابت‪ 4‬ما يوضح كالمنا أكثر‪.‬‬
‫روى المرزباني في كتابه الموشح‪ :‬كان النابغة الذبياني ‪5‬تضرب له قبة حمراء‬
‫من آدم من سوق عكاظ‪ 6‬فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها قال‪ :‬فأول من‬
‫أنشده األعشى‪ 7‬ميمون بن قيس أبو بصير‪ .‬ثم أنشده حسان ابن ثابت األنصاري‪:‬‬
‫وأسيافنا يقطرن من نجدة دما‬ ‫لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى‬

‫‪ 1‬تاريخ النقد األدبي عند العرب طه إبراهيم الصفحة ‪26-25‬‬


‫‪ 2‬تاريخ النقد األدبي عند العرب طه إبراهيم الصفحة ‪27‬‬
‫‪ 3‬طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي الصفحة (‪)51/1‬‬
‫‪ 4‬طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي الصفحة (‪)215-220/1‬‬
‫‪ 5‬طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي الصفحة )‪(258-250‬‬
‫‪6‬الشعر والشعراء البن قتيبة الدينوري (‪)250-258/1‬‬
‫‪ 7‬طبقات فحول الشعر والشعراء (‪)250-258/1‬‬

‫‪12‬‬
‫فأكرم بنا خاال وأكرم بنا ابنما‬ ‫ولدنا بني العنقاء وابني‬
‫محرق‬

‫فقال له النابغة‪ :‬أنت شاعر‪ ،‬ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم‬
‫‪8‬‬
‫تفخر بمن ولدك‪.‬‬
‫وهكذا كان العرب يتبعون أخطاء الشعراء ونقدها ومحاولة تصحيحها‪ .‬كان عرب‬
‫الجاهلية يجيدون اإلنصات الى األشعار التي كانت تنشد في معاجمهم وكانوا‬
‫ينتبهون إلى األخطاء التي يقع فيها الشعراء والغالب في هذه األخطاء أنها كانت‬
‫في القافية وهو ما يسمى في علم العروض (االقواء) ومعناه اختالف حركة‬
‫‪9‬‬
‫الروي في القصيدة الواحدة من الكسر الى الضم‪.‬‬
‫يقول ابن سالم الجمحي أثناء كالمه عن الشعراء الجاهليين في الطبقة األولى في‬
‫كتابه طبقات فحول الشعراء متحدثا عن االقواء‪:‬‬
‫وهو أن يختلف إعراب القوافي فتكون قافية مرفوعة وأخرى مخفوضة أو‬
‫منصوبة وهو في شعر األعرابي كثير‪ 10.‬ويتابع ابن سالم حديثه ليقول إنهم من‬
‫شعراء الطبقة األولى إال النابغة في بيتين من الشعر قوله‪:‬‬
‫عجالن ذا زاد وغير مزود‬ ‫أمن ال مية رائح أو متغذي‬
‫وبذاك خبرنا الغراب األسود‬ ‫رغم البوارح أن رحلتنا غدا‬
‫وقوله‪:‬‬
‫فتناولته واتقتنا باليد‬ ‫سقط النصيف ولم ترد إسقاطه‬
‫عنم‪ 11‬يكاد من الطاقة يعقد‬ ‫بمخضب رخص كأنه بنانه‬
‫وعندما قدم النابغة المدينة انتقده الناس‪ .‬فلم يلتفت لقولهم إن يسمعوه في مجلس‬
‫غناء‪ .‬فقالو للجارية التي تغني وتنشد شعر النابغة‪ .‬إذا صرت الى القافية فرتلي‪،‬‬
‫فلما قالت الجارية‪ :‬الغداف األسود ويعقد وباليد علم النابغة خطأه وانتبه فلم يعد‬
‫لإلقواء‪ .‬وقال النابغة قدمت الحجاز وفي شعري صنعة ورحلت عنها وأنا أشعر‬

‫‪ 8‬الموشح جزء ‪1‬الصفحة ‪69‬‬


‫‪ 9‬التفكير النقدي عند العرب الصفحة ‪32‬‬
‫‪ 10‬طبقات فحول الشعراء جزء ‪1‬الصفحة ‪71‬‬
‫‪ 11‬العنم‪ :‬نبات أحمر يستعمل للصبغ‬

‫‪13‬‬
‫الناس‪ .12‬وذلك بترجيح كافة شاعر على شاعر آخر‪ ،‬ان فكرة تفضيل شاعر على‬
‫اخر فكرة رئيسية في العصر الجاهلي فعندما يكثر الشعراء وتتقارب مستوياتهم‬
‫في اجادة الشعر يتأثر الناقد ويفتن فيصدر حكما نقديا مرجحا شاعرا على شاعر‬
‫اخر‪ ،‬أو على قبيلة أو على كل العرب من هذا القبيل ما ورد في كتاب األغاني‬
‫من قصة النابغة الذبياني مع لبيد بن ربيعة ‪13‬وفي بعض األحيان نجد بعض‬
‫الشعراء يحاولون الحكم على القصيدة كاملة وكأفضل مثال على هذه الفكرة‬
‫النقدية هي المعلقات السبع وهي من أشهر وأجود القصائد التي كانت تتباهى بها‬
‫العرب في الجاهلية فقد حكموا على القصيدة بأكملها بأنها جيدة ولوال وجود الفكر‬
‫النقدي عندهم لما استطاعوا أن يحكموا على هذه القصائد ‪،‬يقول ابن رشيق في‬
‫العمدة ‪":‬كانت المعلقات تسمى المذهبات ‪،‬ذلك ألنها اختيرت من سائر الشعر‬
‫فكتب في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة ‪:‬فلذلك يقول‪ :‬مذهبة فالن‪ ،‬إذا‬
‫كانت أجود شعره‪...،‬وقيل‪ :‬بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول‬
‫‪14‬‬
‫‪:‬علقوا لنا هذه لتكون في خزانته"‪.‬‬
‫وبغض النظر عن صحة الرواية التي تقول إن هذه القصائد كانت معلقة على‬
‫أستار الكعبة‪ ،‬فان العرب قد أجمعوا على استحسانها وعلى أنها أفضل ما قيل في‬
‫الشعر‪.‬‬
‫كان الشعر عند نقدته من الجاهليين صياغة وفكرة‪ ،‬كان نظاما محكما أو غير‬
‫محكم‪ ،‬ومعنى مقبول وغير مقبول كذلك نلحظ في هذا النقد أنه قائم على‬
‫اإلحساس بأثر الشعر في النفس وعلى مقدار وقع الكالم عند النقد فالحكم مرتبط‬
‫‪15‬‬
‫بهذا اإلحساس قوة وضعفا ال تعقب فيه‪.‬‬
‫وإذا ذكرنا أن النقد الذي تمحض عنه قرائح الناقد في هذا العصر انما يمثل في‬
‫نشأة النقد العربي ومراحله فإنه يكون من التجني أن نتوقع منهم أن يحللوا‬
‫ويعللوا‪ ،‬وأن يخضعوا في قضايا النقد األخرى تلك القضايا التي أخذت قرونا من‬
‫العلم والعمل والبحث حتى ظهرت وتبلورت وتطورت كما سنرى من خالل‬
‫‪16‬‬
‫عرضنا المتصل لتاريخ النقد األدبي عند العرب‪.‬‬

‫‪ 12‬طبقات فحول الشعراء جزء ‪ 1‬الصفحة ‪67-68‬‬


‫‪ 13‬الشعر والشعراء جزء‪ 1‬الصفحة ‪269-266‬‬
‫‪ 14‬العمدة جزء ‪ 1‬الصفحة ‪96‬‬
‫‪ 15‬تاريخ النقد االدبي عند العرب الصفحة ‪ 31-30‬طه إبراهيم‬
‫‪ 16‬تاريخ النقد عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة ‪38‬‬

‫‪14‬‬
‫ومن هنا كان من الصعب أن نحكم حكما موثقا على الصورة األولى التي نشأ‬
‫عليها النقد األدبي‪ ،‬ذلك ألنه ارتبط بالشعر في نشأته ومعلوماتنا على النهج األول‬
‫‪17‬‬
‫للشعر العربي ال تتجاوز المئة والخمسين عاما والتي سبقت ظهور اإلسالم‪.‬‬
‫يعد النقد في العصر الجاهلي نقدا انطباعيا تلقائيا فهو لم يكن مضبوط القواعد‬
‫والخصائص كامل القوام كما هو عليه اآلن‪ ،‬إال أنه كان مرتبطا ارتباطا وثيقا‬
‫بالشعر وبحياة العرب الذين كانوا ال يقبلون اال الجيد من األشياء ويذمون‬
‫ويبغضون ما دون ذلك فكان النقد عندهم يأتي على شكل ترجيح شاعر على‬
‫شاعر أو تتبع أخطاء الشعراء أو الحكم على جودة القصيدة‪.‬‬

‫‪ 17‬النقد االدبي في العصر الجاهلي وصدر اإلسالم محمد إبراهيم نصر الصفحة ‪20‬‬

‫‪15‬‬
‫❖ المبحث الثاني‪ :‬النقد في صدر اإلسالم‬
‫في هذا المحور نواصل بحثنا في التاريخ للنقد األدبي عبر العصور‪.‬‬
‫لقد وصلنا إلى عصر صدر اإلسالم أبا العصر الذي عاش فيه النبي محمد صلى‬
‫هللا عليه وسلم والخلفاء الراشدون إلى غاية قيام الدولة األموية‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة من البدء إلى أن الحياة األدبية في عهد البعثة اإلسالمية قد تأثرت‬
‫‪18‬‬
‫إلى حد كبير باإلسالم وبالقرآن الكريم معجزته الخالدة‪.‬‬
‫فظهرت بوادر النقد في هذا العصر بداية من شعر قريش ومن األهم يهجون النبي‬
‫وأصحابه‪ ،‬وكان األنصار يناقضون هذا الهجاء لعل ذلك أول عهد حقيقي للنقائض‬
‫في الشعر العربي‪...‬هذه النقائض بين مكة والمدينة كانت تدعوا إلى النقد وإلى‬
‫الحكم وإلى اإلقرار واإلذعان‪ ،‬وكان العرب يقدرون هذا التهاجي‪ .19‬فعندها‬
‫استندت الخصومة بين قريش والرسول‪ .‬راح شعراء قريش من زعمائهم يهجون‬
‫الرسول ويحاربونه باللسان كما تحاربه قريش بالسنان‪ .‬ولما أسرف هؤالء‬
‫الشعراء وأمثالهم في هجاء الرسول‪ ،‬قال األنصار‪" :‬ما يمنع الذين نصروا هللا‬
‫بسالحهم أن ينصروا بألسنتهم"‪ .‬وكأن هذه الكلمة دعوة من النبي لشعراء المدينة‬
‫بالرد على خصومهم فانطلقوا يدافعون عنه بألسنتهم‪ .‬ولعل الرسول خير من اتجه‬
‫بالنقد في عصره هذا االتجاه الجديد‪ .‬كما يشهد بذلك بعض ما أثر عنه من أقوال‬
‫وأفعال تتعلق بالشعر ونقده‪ .‬لم يكن عجبا أن يتحدث الناس في الشعر بمجلسه وأن‬
‫يكثر اجتماع الشعراء به وأن يعجب بالشعر إعجاب أصحاب الذوق السليم‪ .‬أنشد‬
‫النابغة‪:‬‬
‫بوادر تحمي صفوه أن يكدرا‬ ‫وال خير في حلم إذ لم يكن له‬
‫حليم إذا ما أورد األمر أصدرا‬ ‫وال خير في جهل إذ لم يكن له‬
‫فأعجب الرسول بجودة شعره وقال‪{ :‬أجدت ال يفضض هللا فاك} وأنشد كعب بن‬
‫زهير قصيدته "بانت سعاد" فأعجب بها الرسول وبلغ من إعجابه بها أن صفح‬
‫عن كعب‪20 .‬يروى أن وفدا من عرب بني تميم المعادين له قدموا عليه ومعهم من‬
‫شعائرهم الزبرقان بن بدر‪ ،‬واألقرع بن حابس‪ ،‬ومن خطبائهم عطارد بن حاجب‪.‬‬
‫ثم راحوا ينادونه من وراء الحجرات‪ :‬يا محمد أخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك فإنا‬
‫‪ 18‬تاريخ النقد األدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة‪43 :‬‬
‫‪ 19‬تاريخ النقد االدبي عند العرب من العصر الجاهلي الى الرابع هجري‪ ،‬طه أحمد إبراهيم الصفحة‪41:‬‬
‫‪ 20‬تاريخ النقد االدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة‪43:‬ـ‪ 48‬بتصرف‬

‫‪16‬‬
‫مدحنا زين وذمنا شين‪ .‬فرماهم الرسول بخطيبه ثابت بن قيس‪ ،‬فساجل ثابت‬
‫عطاردا خطابة‪ ،‬وساجل حسان الزبرقان شعرا وردا عليهما ردا بليغا مفحما دفع‬
‫األقرع بن حابس ألن يقول‪" :‬وهللا إن هذا الرجل ـ يعني الرسول ـ لمؤتي له‬
‫لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شعرائنا وأصواتهم أعلى من‬
‫‪21‬‬
‫أصواتنا ثم أسلم القوم جميعا‪.‬‬
‫يمكننا أن نتحدث في عهد النبي صلى هللا عليه وسلم عن نظريته في النقد األدبي‬
‫وعن األسس والمقومات التي كان يحث على وجوب وجودها في الشعر والتي‬
‫تتمثل في ثالثة أمور‪.‬‬
‫أولها‪ :‬نقد المضمون إذا نظرنا إلى ما أثر عن النبي صلى هللا عليه وسلم من‬
‫أحاديث وتعليقات على الشعر والشعراء‪.‬‬
‫باستحسان أو استهجان نجدها قد ركزت على مضمون الشعر ومادته وكان‬
‫استحسانه لها موقفا نقديا‪ ،‬قال عليه السالم‪ :‬أصدق كلمة قالها شاعر‪ ،‬قول لبيد‪:‬‬
‫"أال كل شيء ما خال هللا باطل"‪.‬‬
‫وإنما جاء هذا الصدق من ترجمة هذا القول عن وحي الروح إلسالمية‪22 .‬أما عن‬
‫الفرع الثاني الذي استهجنه النبي صلى هللا عليه وسلم ورفضه وأبدى عليه‬
‫مالحظات تشعر بالتحفظ وعدم الرضى‪ .‬تصحيحه لكعب بن زهير عندما أنشده‬
‫قائال‪:‬‬
‫مهند من سيوف الهند مسلول‬ ‫إن النبي لنور يستضاء به‬
‫‪23‬‬
‫فقال له بل من سيوف هللا‪ .‬فشتان في القيمة بين سيف هللا وسيف الهند‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬نقد الشكل وذلك يوضع عدة مقاييس لشكل الشعر‪ ،‬منها عدم التكلف‪ .‬قد‬
‫أثر على النبي صلى هللا عليه وسلم أقوال كثيرة نهى فيها التكلف والمبالغة وحذر‬
‫من التشدق‪ .‬واختياره لأللفاظ الجميلة بعناية‪24 .‬فالمالحظ أن النبي قد أرسى قاعدة‬
‫نقدية مهمة وهي حسن انتقاء األلفاظ التي تشاكل المعاني وتليق بها‪ ،‬وهذا ما سماه‬
‫البالغيون مشكلة اللفظ والمعنى أي اختيار األلفاظ التي تعبر عن المعنى بلفظ‬

‫‪ 21‬تاريخ النقد االدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة‪49 :‬‬
‫‪ 22‬في النقد االدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمان إبراهيم الصفحة‪68 :‬ـ ‪69‬‬
‫‪ 23‬في النقد االدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمان الصفحة‪72 :‬‬
‫‪ 24‬في النقد االدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمان إبراهيم‪ ،‬الصفحة‪74 :‬‬

‫‪17‬‬
‫جميل‪ 25.‬باإلضافة إلى اإليجاز‪ ،‬فالمالحظ في أقواله عدم التطويل والتزيد‪ ،‬فيبلغ‬
‫المعاني الكثيرة باللفظ الموجز‪.‬‬
‫ثالثها‪ :‬نجد قاعدة الحكم على الشعراء ضمن األسس التي وضعها النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم في نظريته نقد الشعر‪ .‬وقد أثرت عنه أحكام نقدية دقيقة على شعراء‬
‫الدعوة اإلسالمية الثالثة وعلى غيرهم‪ ،‬وقد تجلى ذلك في قوله‪ :‬أمرت عبد هللا بن‬
‫رواحه فقال‪ :‬وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال‪ ،‬وأحسن وأمرت حسان بن ثابت‬
‫فشفى واستشفى‪.26‬‬
‫إن هذه القواعد واألسس في نظرية نقد الشعر دفعت الشعراء إلى تتخلق بخلق‬
‫اإلسالم والنهل من منابعه الصافية‪.‬‬
‫هكذا كان النقد في عصر النبوة والوحي ومن أجل إتمام الحديث عن صدر‬
‫اإلسالم البد من الحديث عن النقد في عصر الخلفاء الراشدين الذين نهجوا منهج‬
‫الرسول في حث المسلمين على حفظ القرآن‪ ،‬فلم يشجعوا على الشعر والشعراء‬
‫كثيرا‪ .‬قال عمر ابن الخطاب‪" :‬كان الشعر على قوم لم يكن لهم على أصح منه‬
‫فجاء اإلسالم فتشاغلت عنه العرب"‪27 .‬إن حركة النقد في هذا العصر تلتمس‬
‫أكثر ما تلتمس في المالحظات النقدية‪ ....‬فقد ساروا فيه سيرة الرسول ونهجوا‬
‫نهجه‪ ،‬كانوا يميزون بين شعر وشعر فيحضون على ما هو حسن مفيد ويعاقبون‬
‫على ما هو شائن ضار‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إلى نشاط هؤالء الخلفاء في ميدان النقد األدبي رأينا أن الخليفة عمرا‬
‫كان أكثرهم أثرا وتأثرا فيه‪ ،‬حتى ليعد بحق الناقد األول في هذه الفترة‪ ،‬وعن‬
‫عمر الناقد يقول الحسن بن رشيق القيرواني‪" :‬كان من أنقد أهل زمانه للشعر‬
‫‪28‬‬
‫وأنقدهم فيه معرفة‪".‬‬
‫وكان في عهد الخلفاء الراشدين أسباب أخرى تدعوا إلى غير الوفادة وغير‬
‫األحاديث التي تفيض بها المجالس‪ .‬فالشعراء كما نعلم كانوا ينكسبون بالشعر‪،‬‬
‫وهذا التكسب يدفعهم الى المديح غالبا ويحملهم على الهجاء في بعض األحيان‪.29‬‬
‫وكثيرا ما كان يشاركهم في تجادب الحديث الخلفاء أنفسهم‪ ،‬فقد يتحدث الخليفة مع‬
‫الوفد القادم عليه عن شاعر له مؤانسة وتكريما وأخص الخلفاء في ذلك عمر بن‬
‫‪25‬في النقد االدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمان إبراهيم‪ ،‬الصفحة‪75 :‬‬
‫‪ 26‬في النقد االدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمان إبراهيم‪ ،‬الصفحة‪76 :‬‬
‫‪ 27‬طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي الصفحة‪10:‬‬
‫‪ 28‬تاريخ النقد عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة ‪61‬ـ‪62‬‬
‫‪ 29‬تاريخ النقد االدبي عند العرب من العصر الجاهلي الى القرن الرابع هجري طه إبراهيم الصفحة‪47 :‬‬

‫‪18‬‬
‫الخطاب‪ ،‬تحدث مرة مع وفد من غطفان وقد نزل ببابه فقال‪ :‬يا معشر غطفان أي‬
‫شعرائكم الذي يقول‪:‬‬
‫وليس وراء هللا للمرء مذهب‬ ‫حلفت فلم أترك لنفسك ريبة‬
‫لمبلغك الواشي أغش وأكذب‬ ‫لئن كنت قد بلغت عني خيانة‬
‫قالوا‪ :‬النابغة‪ ،‬قال‪ :‬هذا أشعر شعرائكم‪.‬‬
‫فعمر في هذا الموقف مثله مثل نقاد عصر الرسول والعصر الجاهلي يصدر حكما‬
‫غير معلل‪ .‬فالنابغة في رأيه أشعر غطفان أي أشعر الشعراء عبس وذي بيان من‬
‫أمثال عنترة‪ ،‬والربيع بن زياد‪ ،‬والحطيئة‪ ،‬وعروة بن الورد‪ ،‬والشماخ بن ضرار‪،‬‬
‫‪30‬‬
‫وابن ميادة ممن يرجعون بأصلهم إلى غطفان‪.‬‬
‫كما أسهم بقية الخلفاء بنظريات نقدية مختلفة فقد أثر عن أبوبكر الصديق رضي‬
‫هللا عنه بعض المواقف النقدية‪ .‬منها ما يتصل بنقد المعنى وتوجيهه إلى النظرة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ومنها ما يتصل بالحكم على الشعراء‪ ،‬ومنها ما يتصل بالتنفيذ اللغوي‪،‬‬
‫يروى أن لبيدا الشاعر المخضرم قام على أبي بكر فقال‪:‬‬
‫أال كل شيء ما خال هللا باطل‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬صدقت‬
‫فلما قال‪ :‬وكل نعيم ال محالة زائل‬
‫قال‪ :‬كذبت عند هللا نعيم ال يزول‬
‫‪31‬‬
‫وهنا نجد أن نظرة أبي بكر النقدية إلى الشعر يبدو فيها اإلجمال والعموم‪.‬‬
‫في حين نجد علي رضي هللا عنه أتى بالجديد في نظريته النقدية للشعر فالتفاضل‬
‫ال يجري بين الشعراء المتعارضين وال يتم ذلك على وجه الدقة إال إذا نصبنا لهم‬
‫راية واحدة ليجروا نحوها‪ ،‬وكأنه هنا يشترط وحدة الموضوع الشعري للمتسابقين‬
‫من الشعراء‪ .‬بذلك يضع للمفاضلة شرطين‪ :‬المعاصرة ووحدة الموضوع‪32 .‬وفي‬
‫هذا الصدد يقول العقاد‪" :‬إن نقد علي للشعراء كان نقد عليم بصير‪ ،‬يعرف‬
‫اختالف مذاهب القول‪ ،‬واختالف وجوه المقابلة‪ ،‬والتفضيل على حسب‬

‫تاريخ النقد االدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة‪67 :‬ـ‪ 68‬بتصرف‬ ‫‪30‬‬

‫في النقد االدبي القديم عند العرب مصطفى عبد الرحمان إبراهيم الصفحة‪88 :‬ـ‪ 89‬بتصرف‬ ‫‪31‬‬

‫في النقد االدبي القديم عند العرب مصطفى عبد الرحمان إبراهيم الصفحة‪91 :‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪19‬‬
‫المذاهب‪".‬‬ ‫‪33‬‬

‫تلك كانت حالة النقد عند الخلفاء الراشدين وعند بعض معاصريهم من الشعراء‪،‬‬
‫وباإلضافة إلى ذلك كان هناك المجالس األدبية التي يعقدها أهل الثقافة في المسجد‬
‫وما إليه‪ ،‬حيث يستمعون إلى تناشد األشعار ويخوضون في أحاديث األدب‬
‫والشعر‪ ،‬والنقد‪ ،‬والمفاضلة بين الشعراء من الجاهليين والمخضرمين‪ ،‬ومن أمثال‬
‫ذلك مجلس حسان ابن ثابت وغيره‪.‬‬
‫وعلى العموم فالمقاييس النقدية في عصر صدر اإلسالم يمكن أن نجملها في ثالثة‬
‫مبادئ‪ ،‬كما جاء عند الدكتور مصطفى عبد الرحمان إبراهيم‪ ،‬في كتابه في النقد‬
‫األدبي القديم عند العرب‪ .‬حيث حصرها في االلتزام بمبادئ الدين والخلق وذلك‬
‫بتوجيه الشعراء إلى االلتزام باألفكار واالتجاهات التي تالئم روح اإلسالم‪ .‬ثانيا‬
‫الحث على الموضوعية وتحري الصدق والصحة والصواب‪ ،‬وأخيرا وضع‬
‫األسس النقدية للموازاة األدبية كما جاء بها علي ابن أبي طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫والظاهر أن النقد في هذا العصر قد اتسع أفقه وتنوعت رجاله‪ ،‬وجنح إلى شيء‬
‫من الدقة وحاول أن يحدد بعض خصائص الصياغة والمعاني وتأثر شيئا ما‬
‫بروح البناء والتأسيس التي سادت فيما كان يجد أمام المسلمين من شؤون‬
‫التشريع‪ ،‬وليس عجيبا أن كثيرا من اإلعجاب ينصرف في عصر البعثة والخلفاء‬
‫‪34‬‬
‫إلى الشعر الخلقي إلى شعر الفضائل والعظات إلى شعر المروءة والهمة‪.‬‬
‫لقد سار العرب في صدر اإلسالم على خطى أسالفهم من الجاهليين‪ ،‬فكانت لهم‬
‫مواقف نقدية ساعدت في تقدم الشعر ووصوله إلى هذه الدرجة من الجودة والتألق‬
‫فأسهمت هذه الحركة النقدية على غرس قيم اإلسالم في نفوس الصحابة كحب‬
‫الخير للغير‪ ،‬والعطف‪ ،‬والتسامح‪ ،‬وااللتزام بالصدق‪ ،‬ونبد الكذب والفسوق‬
‫والفجور‪ ..... ،‬كما ساهم األثر اإلسالمي أيضا في تطوير األغراض والمعاني‬
‫واألسلوب‪.‬‬

‫عبقرية االمام العقاد الصفحة‪139:‬‬ ‫‪33‬‬

‫تاريخ النقد االدبي عند العرب طه إبراهيم الصفحة‪48 :‬‬ ‫‪34‬‬

‫‪20‬‬
‫❖ المبحث الثالث‪ :‬النقد في العصر األموي‬
‫يطلق العصر األموي على الفترة التي تبدأ بخالفة معاوية سنة ‪ 41‬هجرية وتنتهي‬
‫بغلبة العباسيين على بني أمية وانتزاعهم الخالفة ‪123‬هجرية‪ .‬ولعل من المفيد‬
‫هناك أن نشير إجماال إلى أسباب قيام الدولة األموية لما كان ذلك من آثار بعيدة‬
‫المدى في جميع جوانب الحياة اإلسالمية من دينية وعقلية وسياسية واجتماعية‬
‫واقتصادية‪.‬‬
‫نقتضي البدء من البيئات العربية التي نما فيها النقد األدبي وازدهر في العصر‬
‫األموي هي نفس البيئات التي أخصب فيها الشعر وارتقى‪ .‬هذه البيئات بالتحديد‬
‫هي‪ :‬بيئة الحجاز‪ -‬بيئة الشام‪ -‬بيئة العراق‪.‬‬
‫‪ ‬النقد في الحجاز‪:‬‬
‫لقد نهض الشعر الحجازي وتطور في العصر األموي‪ ،‬وغلب عليه طابع الغزل‬
‫الحضري الذي أخذ بفعل العوامل الجديدة التي طرأت على بيئته ومجتمعه ينزع‬
‫عن نفسه رداء البداوة شيئا فشيئا‪ ،‬ويدخل في رداء الحضارة شيئا فشيئا كذلك‪.‬‬
‫وقد استتبعت هذه النهضة الجديدة في بيئة الحجاز الظريفة المرحة نهضة أخرى‬
‫في النقد األدبي تجاريها في روحها‪ .‬نهضة تدل على حد ما من الرقي في الذوق‪،‬‬
‫واتساع في األفق والنظرة‪ ،‬وااللتفات إلى بعض الجوانب التي لم يلتفت إليها النقاد‬
‫السابقون‪.‬‬
‫والمطلع على تاريخ النقد األدبي في العصر األموي يدهشه ما يرى من اهتمام‬
‫عام بالنقد على جميع المستويات وبين مختلف الطبقات‪ .‬فالنقد األدبي في هذا‬
‫العصر أسهم فيه الرجال والنساء والشعراء وغير الشعراء كل على قدر ذوقه‬
‫وفهمه ونوع ثقافته‪.35‬‬
‫ولعل النقد في هذا العصر بدأ يشق الطريق الصحيح وأن ما سبقه من نقد لم يكن‬
‫إال نواة أو محاوالت للريادة والكشف في اتجاه طريق النقد القويم‪.‬‬
‫ومن صور النقد األدبي في العصر األموي نقف للتعرف إليها وهي صورة نقد‬
‫الشعراء بعضهم لبعض‪ .‬ولعل أوفاهم نصيبا عمرو بن أبي ربيعة‪ ،‬فقد أبدى‬

‫‪ 35‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪113 :‬‬

‫‪21‬‬
‫أربعة من معاصريهم رأيهم في شعره‪ ،‬هؤالء هم‪ :‬نصيب بن رباح‪ ،‬الفرزدق‪،‬‬
‫‪36‬‬
‫وجرير‪ ،‬وجميل‪.‬‬
‫ولعل أكبر شخصية ناقدة ظهرت بالحجاز في العصر األموي وأثر عنها الكثير‬
‫من النقد هي شخصية ابن عتيق‪37 ،‬لقد اعتمد في عصره نقدا ظريفا لكثير من‬
‫الشعراء‪ ،‬وكان يعتمد في نقده على ذوق مرهف وحس مترف‪ ،‬وبصيرة نافذة في‬
‫‪38‬‬
‫التمييز بين جيد الشعر ورديئه‪.‬‬
‫فمثال نراه يقدم عمرو بن أبي ربيعة‪ ،‬ويؤثر شعره‪ ،‬ويفضله على غيره من‬
‫شعراء مذهبه الغزلي‪ ،‬ويقول‪" :‬لشعر ابن أبي ربيعة نوطه بالقلب‪ ،‬وعلوق بالنفس‬
‫‪39‬‬
‫ودرك للحاجة‪ ،‬ليس لشعر غيره"‪.‬‬
‫وإذا كان ابن ابي عتيق هو الناقد األول من غير الشعراء في الحجاز إبان العصر‬
‫األموي‪ ،‬فإن السيدة سكينة بنت الحسين تحتل بعده المرتبة الثانية من حيث‬
‫االهتمام بالشعر ونقده‪ .‬ومع ما كان لكل منها من منزلة دينية عالمية‪ ،‬فإنها خير‬
‫من يمثل هذا العصر من غير الشعراء‪ ،‬وخير من يمثل أهل الحجاز في حبهم‬
‫‪40‬‬
‫لألدب وبصرهم فيه‪.‬‬
‫وكان لها من الشعراء وغيرهم نوادر وحكايات ظريفة‪ ،‬ومن ذلك ما يروى أنها‬
‫وقفت على عروة بن أذنيه وكان من أعيان العلماء الكبار الصالحين وله أشعار‬
‫رائقة فقالت له‪ :‬أنت القائل‪:‬‬
‫ذهبت نحو سقاء ‪41‬الماء أبترد‬ ‫إذا وجدت أوار الحب في كبدي‬
‫فمن لنار على األحشاء تتقيد؟‬ ‫‪42‬‬
‫هبني بردت ببرد الماء ظاهره‬
‫فقال لها‪ :‬نعم‪ .‬فقالت‪ :‬وأنت القائل‪:‬‬
‫قد كنت عندي تحب الستر فاستر‬ ‫قالت أبثتها حبي وبحت به‬
‫غطى هواك وما التقى على بصري‬ ‫ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها‬

‫‪ 36‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪115 :‬‬
‫‪ 37‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪117 :‬‬
‫‪ 38‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد الغزيز عتيق الصفحة‪119:‬‬
‫‪ 39‬النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى إبراهيم عبد الرحمن إبراهيم الصفحة‪109:‬‬
‫‪ 40‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪142:‬‬
‫‪ 41‬سقاء‪ :‬قرية الماء‬
‫‪ 42‬ظاهره‪ :‬ظاهر الكبد‪ ،‬والكبد تذكر وتؤنث‬

‫‪22‬‬
‫قال لها نعم‪ .‬فالتفتت إلى جواركن حولها فقالت‪ :‬هن حرائر إن كان خرج هذا من‬
‫قلب سليم‪.‬‬
‫أما فيما يخص المفضالت ففي هذا العصر تطورت إلى حد ما‪ ،‬وذلك بااللتفات‬
‫إلى المفاضلة أو الموازنة إلى جوانب من الشعر لم يكن النقاد السابقون يلتفتون‬
‫‪43‬‬
‫إليها‪.‬‬
‫‪ ‬النقد في الشام‪:‬‬
‫إذا نظرنا الى بيئة الشام في العصر األموي لنتبين الحياة األدبية فيها والطابع‬
‫العام لهذه الحياة‪ ،‬فإننا ال نكاد نرى لها مالمح متميزة أو سمات خاصة تنفرد بها‬
‫وتظهر شخصيتها‪ .‬وعلى هذا فليس للشام نصيب يذكر من األدب أو الشعر النابع‬
‫من صميم بيئتها‪ ،‬وذلك راجع في الغالب إلى أن أكثر سكان الشام من العرب‬
‫كانوا يمنيين ممن اكتيسوا لغة عرب الشمال اكتسابا لم يؤهلهم لقول الشعر‬
‫ونظمه‪ .44‬إلى جانب ذلك فبيئة الشام مفقرة من الشعراء إال من شاعر كعدي بن‬
‫الرقاع العالمي‪ .‬ومع ذلك فهو ال يستطيع أن يرتفع بشعره إلى مستوى شعراء‬
‫العراق من أمثال بن جرير‪ ،‬الفرزدق‪ ،‬فبيئة الشام أيام األمويين لم تكن تربة‬
‫خصبة ينمو فيها الشعر ويزهر‪ ،‬وأكثر ما وجد فيها من الشعر كان طارئا أو وافدا‬
‫من الخارج‪ .‬هذا األخير كان له مصدران‪ :‬يتمثل أولها في وفود الشعراء بشعرهم‬
‫على دمشق عاصمة الخلفاء حيث ينسدون الخلفاء واألمراء وينالون عطاءهم‪.‬‬
‫وكان أغلب هذا الشعر مديحا‪ .‬أما المصدر الثاني فشعره كان وليد الحروب القبلية‬
‫بين القبائل اليمنية بالشام والقبائل القيسية التي وفدت عليه مهاجرة من الحجاز‪.‬‬
‫فهذا الشعر لم يكن شعرا نابعا من بيئة الشام وإنما كام شعرا طارئا جلبته معها‬
‫قبائل عرفت بالشعر‪ ،‬وكان أكثره يدور على الفخر والمهجيات‪.‬‬
‫ولعل الشعر الوحيد الذي نبع من داخل بيئة الشام هو ذلك الشعر الذي أثر عن‬
‫بعض أمراء وخلفاء بني أمية ممن دفعت بهم ظروف نشأتهم وحياتهم الخاصة‬
‫إلى االنغماس في حياة الغناء واللهو والشراب‪.45‬‬
‫وكان عبد الملك بن مروان على رأس خلفاء بني أمية في مجال النقد وكان‬
‫صاحب ذوق أدبي راق يقصده الشعراء بمدحهم فيدقق في معاني شعرهم بذوقه‬

‫‪ 43‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪127 :‬‬
‫‪ 44‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪191 :‬‬
‫‪ 45‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪192 :‬‬

‫‪23‬‬
‫اللطيف وحسه الرهيف‪ ،‬الذي كان إلى أعماق النص يكشف عن جماله أو يبين‬
‫‪46‬‬
‫رداءته‪.‬‬
‫ومن صور نقده ما رواه صاحب الموشح من أن الراعي النميري أنشده قصيدته‬
‫التي منها قوله‪:‬‬
‫حنفاء نسجد بكرة وأصيال‬ ‫أ خليفة الرحمان أنا معشر‬
‫حق الزكان منزلة تنزيال‬ ‫عرب نرى هللا في أموالنا‬
‫فقال عبد المالك‪ :‬ليس هذا شرح إسالم وقراءة آية‪.‬‬
‫ويظهر أن عبد المالك لم يقبل من الشعر ما كان تقريرا لمسائل دينية أو خلقية‬
‫فليس هذا وظيفة الشعر‪ ،‬وإنما هو‪ :‬شعور وإحساس يعبر عنهما في بيان جميل‬
‫ونغم بديع وتصوير مفتن‪ ،‬أما ما قاله الراعي فليس شعرا‪ ،‬ألنه ال عاطفة فيه وال‬
‫‪47‬‬
‫شعور وإنما هو تقرير لحقائق يعرفها العامة‪.‬‬
‫والتفت عبد المالك في نقده الى موسيقى الشعر فعاب على الشعراء بعض قوافيهم‬
‫لما يظهر فيها من رخاوة وليونة ينزالن بقيمة الشعر الصوتية وموسيقاه‪.‬‬
‫أنشده ابن قيس الرقيات‪:‬‬
‫أوجعتني وقر عن مروتيه‬ ‫إن الحوادث بالمدينة قد‬
‫يتركن ريشا في مناكبييه‬ ‫وجببتني جب السنام فلم‬
‫فقال له عبد المالك‪ :‬أحسنت إال أنك تخنثت في قوافيك‪ .‬فقال‪ :‬ما عدوت قول هللا‬
‫‪48‬‬
‫عز وجل‪ " :‬ما أغنى عني ماليه هالك عني سلطانه"‪.‬‬
‫‪ ‬النقد في العراق‪:‬‬
‫إن بيئة العراق بيئة عالمية ثقافية امتزجت فيها األصول العربية واألصول‬
‫األجنبية لذلك تأثرت هذه البيئة بالمنهج العلمي الذي اعتمد فيه نقادها غالبا على‬
‫قواعد النحو وأصول اللغة‪ ،‬يقسون األدب بمقاييسها‪ ،‬ويحاولون أن يخضع‬
‫‪49‬‬
‫الشعراء لها‪.‬‬

‫‪ 46‬في النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة‪116 :‬‬
‫‪ 47‬في النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة‪117 :‬‬
‫‪ 48‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪225 :‬‬
‫‪ 49‬في النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة‪120 :‬‬

‫‪24‬‬
‫لم يكن هؤالء العلماء النقاد من اللغويين النحويين على درجة واحدة في التزام‬
‫المقياس العلمي‪ ،‬فالحق أن منهم من كان نقده يقوم أساسا على األصول المقررة‬
‫في اللغة والنحو والعروض‪ ،‬ومنهم من يميل إلى األصول األدبية الفنية في‬
‫‪50‬‬
‫التعبير والتصوير‪.‬‬
‫ولعل أول من نالحظه على حركة النقد األدبي في بيئة العراق هو طابعها العام‪.‬‬
‫فاالتجاه الغالب على هذه الحركة يتمثل في التفضيل والمفاضلة بين الشعراء بوجه‬
‫‪51‬‬
‫عام‪ ،‬وبين الفحول الثالثة الفرزدق وجرير واألخطل بوجه خاص‪.‬‬
‫ومن هؤالء ما قصر نقده على معاصريه من شعراء العصر اإلسالمي‪ ،‬ومنهم‬
‫امتد نقده إلى شعراء العصر الجاهلي وأبدى رأيه في أفضلهم وأشعرهم من وجهة‬
‫نظره‪.‬‬
‫فالفرزدق يرى أنه وجرير يستمدان شعرهما من نبع واحد‪ ،‬وأن شعره في جملته‬
‫أقوى من شعر جرير‪ .‬وفي ذلك يقول الفرزدق‪ :‬إني وإياه –جريرا‪ -‬لنعترف من‬
‫بحر واحد‪.‬‬
‫لقد عاب النقاد على شعراء العراق في هذا العصر على فساد معانيهم أو قصرها‬
‫عن الوفاء بغرضها‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال عابوا على األخطل قوله في عبد المالك بن مروان‪:‬‬
‫البيض ال عاري الخوان ال جدب‬ ‫وقد جعل هللا الخالفة منهم‬
‫‪52‬‬
‫وقالوا هذا مما ال يمدح به الخليفة‪.‬‬

‫‪ 50‬في النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة‪121 :‬‬
‫‪ 51‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪121 :‬‬
‫‪ 52‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ :‬عبد العزيز عتيق الصفحة‪116 :‬‬

‫‪25‬‬
‫❖ المبحث الرابع‪ :‬النقد في العصر‬
‫العباسي‬
‫يعد العهد العباسي أكثر العهود ازدهارا للعلم واألدب والفن‪ .‬فهو عصر رقي‬
‫الحضارة اإلسالمية ونضوج الثقافة‪ ،‬فقد صنفت كتب في مختلف العلوم المتداولة‬
‫مما أتاح المجال لتنامي العلم واألدب‪ ،‬في هذا المجال اختص األدب والنقد بحظ‬
‫وافر من االهتمام واتخذ التأليف األدبي اتجاها علميا وفلسفيا حيث عنيت بسيرة‬
‫الشعراء والكتاب ونقد آثارهم‪.‬‬
‫وكان الزدهار الحركتين العلمية واألدبية في هذا العصر عدة أسباب نذكر منها‪:‬‬
‫االتصال الخصب المثمر بين الثقافة العربية وثقافات األمم األخرى‪ .‬يقول األستاذ‬
‫أحمد أمين‪" :‬إذا وصلنا إلى النقد في العصر العباسي رأينا إمعانا في الحضارة‬
‫والترف ورأينا الشعر واألدب يتحوالن إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن‬
‫طبع وسلفية‪ .‬حتى نرى كثيرا من الكتاب والشعراء من الموالي الذين عدوا عربا‬
‫بالمربي ورأينا الثقافات األجنبية تدق على المملكة اإلسالمية من فارسية وهندية‬
‫ويونانية"‪ .53‬وقد بدأت الثقافات األصلية والوافدة تتفاعل في العقول وتحدث تحوال‬
‫كبيرا في الذوق وقد شمل هذا التحول الشعر‪ .‬فبدأ يتجه إلى الثراء والوحدة‬
‫والشاعر الذي بدأ يحدد لنفسه إطارا فنيا ينظم فيه وفلسفة خاصة يشعر خاللها‪.‬‬
‫كما برزت اتجاهات فنية استقطبت بعض الشعراء فتحمسوا لها وأقبلوا عليها‬
‫كمذهب البديع أو شعراء الصنعة‪ ،‬كمذهب الشعراء المطبوعين وبدأ الشعراء‬
‫ينقلون ما وعته ذاكرتهم من فكر غربي إلى ساحة الشعر العربي كما فعل أبوا‬
‫العناهية‪54 .‬والحق أن ترجمة الكتب إلى العربية كانت عامال قويا من العوامل‬
‫التي دفعت النقد العباسي إلى األمام‪ ،‬وذلك ألنه قد انتقلت بترجمتها من مظاهر‬
‫أدبية ونقدية كان لها أثرها في الحركة العقلية في النقد‪ ،‬فوضعت النظريات‬
‫وتدخل المنطق في الجدل والحوار وألفت الكتب النقدية التي تدخر بالمناهج‬
‫‪55‬‬
‫العلمية والعقلية التي أسسها النقاد العرب‪.‬‬

‫‪ 53‬النقد األدبي‪ :‬أحمد أمين الصفحة‪435 :‬‬


‫‪ 54‬في النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬رفعت زكي محمود عفيفي‪ :‬الصفحة‪117 :‬‬
‫‪ 55‬دراسة في النقد األدبي العربي‪ :‬بدوي طبانة‪ :‬الصفحة‪127 :‬‬

‫‪26‬‬
‫ولقد كان الخلفاء العباسيون من فاتحة هذا العصر يعنون بالشعر والشعراء فكان‬
‫لهم القدرة من تمييز جيده من رديئه ونقد ألفاظه ومعانيه بحاستهم الفنية وأذواقهم‬
‫المرهفة‪.56‬‬
‫ومن العوامل التي اشعلت جودة النقد وأسهمت في بروزه على الساحة األدبية‬
‫العربية في هذا العصر نجد الخصومة حول الشعراء‪ .‬وهذا ما أدى إلى تأليف‬
‫الكتب في نقد الشاعر إلنصاف من التحامل عليه أو لتهجيين شعره والحط من‬
‫مذهبه‪ .‬وقد حظي كل من أبي تمام وأبي طيب المتنبي ما لم يحظى به غيرهما من‬
‫خصومات حادة ومناقشات صاحبة حول شاعرية كل من هما وشعره الى حد فاق‬
‫االعتدال أحيانا الى التعصب ألحدهما أو عليه فمنهم من تعصب ألبي تمام ومنهم‬
‫من تعصب عليه ونظر النقاد كذلك الى شعر البحتري وسهولته وجريانه على‬
‫عمود الشعر فقارنوه بأبي تمام وكثرة في ذلك ألقوال والحجج‪ ،‬حتى وضع‬
‫األمدى كتابه الموازنة بين الطائيين‪ ،‬الذي لم يقتصر فيه على حجج كل فريق‪ ،‬بل‬
‫‪57‬‬
‫أخذ في دراسة الشاعرين الموازنة بينهما في منهج تفصيلي منظم‪.‬‬
‫من العوامل التي أثرت كذلك في تطور النقد العباسي نجد األثر المباشر للقرآن‬
‫الكريم يقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن حول هذا األثر‪" :‬والحق أن القرآن‬
‫كان له أبلغ األثر في نمو األذواق وتطورها في هذا العصر وضعفها إلى‬
‫اإلحساس"‪.‬‬
‫وبجمال العبارة وروعة تصويري وبراعة المعنى ولطف التناول فيما يعرض لها‬
‫من فنون األدب‪ ،‬وعلى ذلك ظهرت مجموعة من الدراسات القرآنية تلك المرحلة‬
‫تعد من صميم النقد‪ ،‬وذلك ألنها كانت تحاول فهم النص‪...‬ومثل هذه الدراسات‬
‫‪58‬‬
‫القرآنية قد ساعدت على تأصيل النقد األدبي في هذا الطور من أطوار تكوينه‪.‬‬
‫لقد ظهر في هذا العصر ثالثة اتجاهات نقدية بارزة‪.‬‬
‫أولهما‪ :‬اتجاه عربي‪ :‬صرف لم تمازجه ثقافات وافدة أو تؤثر فيه عوامل داخلية‪،‬‬
‫وقد تمثل هذا االتجاه عند جماعة اللغويين والنحاة كالخليل واألصمعي وأبي‬
‫عمرو بن العالء وابن األعرابي المبرد ومن على شاكلتهم ممن كانت لهم الدراية‬
‫باللغة وأصولها والشعر وروايته وصور هذا النقد مبثوثة في ثنايا كتب األدب‬
‫والنقد األولي كاألغاني ألبي الفرج والموشح للمزرباني والشعر والشعراء البن‬
‫‪ 56‬في النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمن إبراهيم‪ :‬الصفحة‪132 :‬‬
‫‪ 57‬النقد المنهجي عند العرب‪ :‬محمد مندور الصفحة‪91 :‬‬
‫‪ 58‬في النقد األدبي القديم عند العرب‪ :‬مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة‪132 :‬‬

‫‪27‬‬
‫قتيبة وغيرهما‪ .‬كما تمثل هذا االتجاه عند بعض النقاد األوائل الذين عالجوا النقد‬
‫حسب ما انتهى إليه عملهم في منصفات مستقلة‪ ،‬رتبوا فيها الشعراء الى طبقات‬
‫كما فعل ابن سالم‪ ،‬أو تناولوا فيها الحديث عن الشعراء وأخبارهم ومنزلتهم كما‬
‫فعل ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬اتجاه عربي اعتمد على الطبع والذوق ثم دعمته الثقافات المنوعة التي‬
‫نهضت به وغدته وكان له رافدا قويا‪ ،‬ولكنها لم تقض على أصالته وسمات‬
‫عروبته وهو ما نالحظه عند األمدى في موازنته‪ ،‬وعند القاضي الجرجاني في‬
‫وساطته‪ ،‬وذلك في باب نقد الشعر‪ ،‬وعند رجل كالجاحظ في مجال نقد النثر‪.‬‬
‫وقد اتسم نقد هؤالء باستقصاء البحث وشمول الفكرة وتوضح العلة والموازنة بين‬
‫الشعراء‪.‬‬
‫ثالثها‪ :‬اتجاه تأثر فيه أصحابه بالتيارات الثقافية األجنبية شكال ومضوعا حيث‬
‫خضع النقد فيه لسلطان المنطقة والفلسفة وغلب فيه العقل على الذوق والفكر‬
‫الحس‪ ،‬وقد تمثل هذا االتجاه عند قدامة ابن جعفر في كتابه‪ -‬نقد الشعر‪ -‬الذي كان‬
‫تأثره فيه بمنطق اليونان واضحا‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫خالصة‪:‬‬
‫لم يكن النقد في العصر الجاهلي سوى نقد بسيط للغاية‪ ،‬ولم يكن نقد انطباعي ال‬
‫غير‪ ،‬وكثرة األسواق الشعرية كسوق عكاظ والتي كان فيها النقاد من الشعراء‬
‫يبدون رأيهم بالقصائد الشعرية بحسب العادات والتقاليد وكانت هذه األسواق تشهد‬
‫منافسة كبيرة بين الشعراء‪ .‬أما في صدر اإلسالم فقد تطور النقد عما كان عليه‬
‫في العصر الجاهلي‪ .‬وتغيرت طبيعة األشعار حيث ابتعد العرب عن أسواقهم‬
‫وانشغلوا بفتوحاتهم وعلى الرغم من عدم بروز عدد كبير من الشعراء في ذلك‬
‫العصر بسبب الحروب وبسبب سوء الفهم الذي اعتقد في البداية أن اإلسالم حرم‬
‫الشعر‪ ،‬ولكن الحقيقة إن اإلسالم نفي أن يقول النبي الشعر‪ .‬ولم يحرم الشعر‪ .‬وقد‬
‫ازدهر النقد في العصر األموي وحظي الشعر بالشعراء بمكانة مرموقة عند‬
‫الملوك واألمراء‪ ،‬كما كثر النقاد الذين كانوا يبرزون نقاط القوة في القصائد‬
‫ويحددون أيضا نقاط الضعف فيها‪ .‬وفي العصر األموي شهد النقد ثورة كبيرة‬
‫وبخاصة بعد أن اطلع العرب على الكتب اليونانية‪ ،‬وظهر في هذا العصر عدد‬
‫كبير من النقاد العظماء كالجرجاني الذي كان يدرس الحالة النفسية لألديب‬
‫والظروف المحيطة به‪ ،‬وقدامة بن جعفر وغيره من النقاد الذين دفعوا حركة النقد‬
‫نحو األمام‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪30‬‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫اتصل النقد العربي منذ القدم بالشعر‪ ،‬فقد بدأت المالمح األولى للنقد األدبي في‬
‫العصر الجاهلي على شكل أحكام نقدية تكون حسب ذوق الناقد‪.‬‬
‫لقد عرف العرب القدماء الكتابة فدونوا بعض أشعارهم وبعض ما كانوا يعقدونه‬
‫من مواثيق وعهود‪ ،‬كما أسهم اإلسالم في ازدهار عملية التدوين ال سيما بعد ما‬
‫توافرت دواعي اإلقبال على تعلم الكتابة والقراءة‪.‬‬
‫إن حركة التدوين بدأت بسيطة ال تتجاوز تقييد بعض األشعار واألخبار‪ .‬ثم‬
‫بوصولنا إلى القرن الثاني للهجرة الحظنا ازدهار هذه الحركة فبدأت تظهر‬
‫مدونات تاريخية للقبائل‪ ،‬كما أن وسائل الكتابة فيها كانت بدائية‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫النقد العربي ومعضلة التدوين‬
‫قبل البدء في سرد آراء النقاد والمؤرخين حول مدى اعتماد العرب التدوين‬
‫والكتابة في حفظ تراثهم يتوجب علينا أوال أن نسرد بعض الوسائل التي كان‬
‫يستخدمها القدماء في الكتابة‪ ،‬فما وصلنا من أخبار عن األدوات التي استخدمت‬
‫في الكتابة نجد قول المتنبي‪:‬‬
‫والسيف والرمح والقرطاس والقلم‬ ‫والخيل والليل والبيداء تعرفني‬
‫فكلمة القرطاس في هذا البيت تطلق في المصادر العربية القديمة على ورق‬
‫البردي‪ .‬وكان هذا النوع من الورق يفد على العرب من خارج جزيرتهم‪.‬‬
‫كما تصدفنا في الشعر العربي القديم كلمة (المهراق) التي تطلق على ثياب من‬
‫الحرير أو من القطن كانت تطلى بالصمغ ثم تصقل لتستخدم في الكتابة‪ .‬كقول‬
‫األعشى‪:‬‬
‫لطول يالها والتقادم مهرق‬ ‫وأنى ترد القول دار كأنها‬
‫فاألصمعي في شرحه لهذه اللفظة يكشف عن األصل األجنبي لهذا الصنف من‬
‫الورق‪ .‬فهو يقول‪ :‬هو فارسي معرب وكان أصله خرق حرير تصقل وتكتب فيه‬
‫األعاجم‪ ،‬تسمى مهر كرد‪ ،‬فأعربته العرب وجعلته اسما واحدا فقالوا‪" :‬مهرق"‪.1‬‬
‫كما أننا نجد إشارات في الشعر العربي تدل على استعمال بعض المواد المحلية‬
‫في الكتابة يقول امرئ القيس‪:‬‬
‫كحظ الزبور في العسيب اليماني‬ ‫لمن طلل أبصرتاه فشجاني‬
‫فكلمة (العسيب) الواردة في البيت جمعها عسب والمراد بها السعفة أو جريد‬
‫النخل‪ ،‬وكان العرب يكتبون عليها فعي إذن من وسائل التدوين التي كانت توفرها‬
‫لهم بيئتهم كما هو واضح من إشارة امرئ القيس‪.‬‬
‫وكانوا يستخدمون جلود الحيوان في كتابتهم ففي أشعارهم إشارات كثيرة إليها‬
‫منها‪ ،‬هذا البيت للمرقش األكبر‪:‬‬
‫رقش في ظهر األديم قلم‬ ‫الدار وحش والرسوم كما‬

‫‪ 1‬المفضليات للمفضل الضبي‪ ،‬الصفحة‪25 :‬‬

‫‪32‬‬
‫فهو هنا يشبه اآلثار المتبقية من الديار بآثار الكتابة على الجلد‪ .2‬ومن هنا تتبين‬
‫النقوش التي اكتشفها الباحثون في أماكن مختلقة من الجزيرة العربية وفي اليمن‪،‬‬
‫خاصة أن العرب كانت تستخدم الحجر أيضا في الكتابة وتدوين األخبار ما ويؤكد‬
‫ذلك ما نلقاه في أشعارهم من تشبيه األطالل وآثار الديار التي رحل عنها أهلها‬
‫‪3‬‬
‫بآثار الكتابة على الحجر‪.‬‬
‫لقد أكدت مجموعة من األخبار والنقوش التي وصلتنا عن عصر الجاهليين‬
‫وصدر الدولة اإلسالمية حتى نهاية القرن الثاني الهجري‪ ،‬أنه لم تعد معرفة‬
‫الجاهليين بالكتابة موضوع اختالف بين الدارسين والمؤرخين‪ .‬لكن محل‬
‫االختالف بين النقاد هو مدى انتشار الكتابة في هذه الحقبة‪ ،‬لم يكن للعرب فترة ما‬
‫قبل اإلسالم ثقافة مدونة وعلوم مسجلة‪ ،‬فقد غلبت عليهم البداوة واستقرت حياتهم‬
‫على التنقل‪ ،‬فتفشت فيهم األمية ولم يتركوا خالل هذه الحقبة المديدة الغامضة من‬
‫حياتهم سوى نقوش قليلة تنبئ مما كان لهم من دور حضاري‪ .‬حتى إن النقوش لم‬
‫تكن متوافرة إال في بعض المناطق العربية‪ ،‬كجنوب جزيرة العرب وشمالها حيث‬
‫توجد األحجار والصخور‪ .4‬وبهذا يكون الدكتور محمد الدفاق قد ضيق من رقعة‬
‫الكتابة في المجتمع العربي‪.‬‬
‫كما قلل المستشرق الفرنسي بالشير أيضا من انتشار التدوين بين العرب فيقول‪:‬‬
‫ال شك أن بعض الرواة في بعض المراكز الحضرية دونوا بعض القصائد الهامة‪،‬‬
‫ولكن ذلك يعزوه الدليل حتى ولو سلمنا بصحة وقوع ذلك فإن التدوين لم يستعمل‬
‫إال جزءا من آثار الشعراء الحضريين‪ ،‬أما البقية فقد صارت في الصحراء عن‬
‫‪5‬‬
‫طريق الرواية الشفوية‪.‬‬
‫أما الدكتور ناصر الدين األسد فيذهب إلى أبعد من ذلك في تأكيده على معرفة‬
‫العرب بالكتابة واعتمادهم عليها في تدوين تراثهم األدبي وأخبارهم فكل قبيلة من‬
‫القبائل كما يقول‪" :‬كانت تجمع شعر شعرائها وحكم حكمائها وأقوال خطبائها‬
‫وأخبارها ومفاخرها ومآثرها وأنسابها في كتاب‪."6‬‬
‫وقد قام على رأس حركة التدوين في هذه الحقبة علماء عرفوا بجمعهم للتراث‬
‫وتدوينه كحماد الراوية (‪156‬هجرية) الذي قال فيه ابن سالم الجمحي‪" :‬وكان‬

‫‪ 2‬األغاني لألصفهاني‪ ،‬الجزء ‪ 6‬الصفحة‪127 :‬‬


‫‪ 3‬ناصر الدين األسد مصادر الشعر الجاهلي‪ ،‬الصفحة‪84 :‬ـ‪85‬‬
‫‪ 4‬مصادر التراث العربي الدكتور عمر الدفاق‪ ،‬الصفحة‪7 :‬‬
‫‪ 5‬تاريخ األدب العربي رجيس بالشير‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬الصفحة‪120 :‬‬
‫‪ 6‬مصادر الشعر الجاهلي‪ ،‬وقيمتها التاريخية الدكتور ناصر الدين أسد‬

‫‪33‬‬
‫أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية"‪ .7‬وممن شاركوا أيضا‬
‫في حركة التدوين في هذه الفترة المفضل الضبي (‪168‬هجرية) الذي عرف بسعة‬
‫علمه بأخبار العرب وأيامها ولغتها وأسفارها‪ .‬ولكن شوقي ضيف يذهب إلى أن‬
‫المفضل لم يكتب هذه القصائد بنفسه‪ .‬يقول‪ :‬وتروى للمفضل الضبي كتب صنف‬
‫فيها أشعار وأخبار‪ .‬ومن المؤكد أنه لم يكتب معضلياتها‪ .‬وإنما أنشدها تالميذه‬
‫فحملوها عنه‪ 8.‬وقد أعقب هذا الجيل من علماء القرن الثاني جيال آخر تتلمذ لهم‬
‫وجمع مثلهم بين الرواية والتدوين‪ .‬هم الذين يرجع الفضل إليهم في تدوين الشعر‬
‫‪9‬‬
‫الجاهلي تدوينا منهجيا قائما على التوثيق والتجريح‪ ،‬وعلى رأسهم األصمعي‪.‬‬
‫إنه ليطول بنا الحديث لو أردنا أن ستفضي كل أخبار حركة التدوين والتأليف التي‬
‫عرفت تطورا كبيرا منذ القرن الثاني الهجري سواء من حيث كثرة ما جمع ودون‬
‫في هذه الفترة أو من حيث كثرة تنوع موضوعات الكتابة حيث أخذ مجال النقد‬
‫النصيب األكبر‪ ،‬فاتجه العرب إلى التأليف المنهجي والذي سيزهر في القرن‬
‫الثالث ويكثر فيه ظهور المؤلفات‪.‬‬
‫تعد مرحلة العصر الجاهلي هي المرحلة التي تطور فيها النقد األدبي‪ .‬فالعرب‬
‫عرفوا النقد انطالقا من التالزم المفترض بين النقد والشعر‪ ،‬فما دام لدينا شعر‬
‫فالبد أن يكون لدينا نقد‪ ،‬فهناك من الدارسين من يرى أن النقد أسبق إلى الوجود‬
‫من الشعر‪ .‬وما األديب إال ناقد قبل أن تأخذ أفكاره صبغتها الفنية وتتخذ أسلوبها‬
‫الجميل وسيلة في الظهور شعرا ونثرا‪ .10‬فالنقد األدبي ظهر في الشعر وظلت‬
‫أكثر تجربة في الشعر‪11 .‬ولكي يبرهن األستاذ طه أحمد دالئله من وجود الشعر‬
‫انطالقا من النقد يقول‪" :‬في مثل هذا العهد نعد نقد كل ماله مساس باألدب بنية‬
‫ومعنى وإن لم يتصل بالبحث في الجمال الفني فذم اإلقواء نقد في الجاهلية ألنه‬
‫‪12‬‬
‫يعيب أمرا لعله من آثار طفولة الشعر"‪.‬‬
‫وجد النقد األدبي في الجاهلية ولكنه وجد هينا يسيرا مالئما لروح العصر‪ ،‬مالئما‬
‫للشعر العربي نفسه‪ ،‬فالشعر الجاهلي إحساس محض أو يكاد والنقد كذلك‪ 13.‬وفي‬

‫‪ 7‬طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬الصفحة‪48 :‬‬
‫‪ 8‬تاريخ األدب العربي شوقي ضيف‪ ،‬الصفحة‪160 :‬‬
‫‪ 9‬تاريخ األدب العربي شوقي ضيف‪ ،‬الصفحة‪161:‬‬
‫‪ 10‬رشيد العبدي‪ ،‬األدب ومذاهب النقد فيه‪ ،‬الصفحة‪98:‬‬
‫‪ 11‬طه إبراهيم تاريخ النقد األدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع‪ ،‬الصفحة‪6 :‬‬
‫‪ 12‬ابن قتيبة الشعر والشعراء جزء‪ ،1‬تحقيق أحمد شاكر‪ .‬الصفحة‪84 :‬‬
‫‪ 13‬طه إبراهيم تاريخ النقد األدبي‪ ،‬الصفحة‪16 :‬‬

‫‪34‬‬
‫العصر الجاهلي ظهر اتجاه نقدي جديد‪ ،‬إن يكن بدائيا ولكنه كان فيه ضرب من‬
‫‪14‬‬
‫التعليل الموضوعي أساسه تقاليد العرب في أشعارهم‪.‬‬
‫وهنا نقف أننا لم نستطع أن نحدد الصورة الدقيقة للنقد العربي القديم‪ .‬ما وصلنا‬
‫فقد كان الشعر علم قوم لم يكن لهم على أصح منه‪.‬‬

‫‪ 14‬محمد هالل النقد األدبي الحديث‪ ،‬الصفحة‪11 :‬‬

‫‪35‬‬
‫خالصة‪:‬‬
‫لقد تعددت اإلجابات حول البداية األولى لتدوين النقد األدبي عند العرب‪ ،‬فاختلف‬
‫النقاد حول بداياتها فآثرت مرحلة البداية األولى للنقد نقاشا محتدما بينهم‪ ،‬فريق‬
‫منهم يرى أن البداية األولى للكتابة النقدية كانت في مرحلة العصر الجاهلي إذ‬
‫ينطلقون من التالزم المفترض بين الشعر والنقد كاألستاذ طه أحمد إبراهيم‪،‬‬
‫وفريق آخر قرأ النقد العربي القديم انطالقا من مفاهيم نقدية مستمدة من الثقافة‬
‫الغربية‪ .‬فانتهى برفضه للبداية األولى لتدوين النقد لينص على أن النقد لم يظهر‬
‫إال في القرن الرابع الهجري كالدكتور محمد مندور وأيضا بعض المستشرقين‬
‫كالفرنسي بالشير الذي ينكر معرفة العرب بالكتابة في هذه الحقبة الزمنية بالرغم‬
‫مما وصلنا من آثار قديمة حول معرفة العرب بالكتابة في أشعارهم‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫خاتمة‬
‫وبعد خوضنا غمار هذه الدراسة "النقد القديم ومعضلة التدوين" خلصنا إلى‬
‫مجموعة من النتائج والنقاط التي تكون جوهر البحث‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬
‫كشف الفصل التمهيدي عن معاني المفاهيم المكونة لعنوان البحث فتوصلت إلى‬
‫أن النقد هو تمييز جيد الشيء من رديئه‪ .‬وأن وظيفته تتلخص في تقويم العمل‬
‫األدبي‪ ،‬وأن التدوين هو الكتابة‪ .‬وأنه اقترن بالثقافة اإلنسانية‪ ،‬كما يساهم في‬
‫تطور اإلنسان ونقل المعارف والخبرات إلى األجيال الالحقة‪.‬‬
‫توصلت في الفصل األول إلى أن عملية تدوين النقد األدبي القديم قد واجهت عدة‬
‫صعوبات في مختلف العصور‪ .‬فالنقد في العصر الجاهلي كان انطباعيا بسيطا ال‬
‫يخرج عن األسواق الشعرية‪ ،‬وقد تطور عما كان عليه في صدر اإلسالم بحيث‬
‫تغيرت طبيعة األشعار حيث ابتعد الشعر عن األسواق الشعرية وانشغلوا‬
‫بالفتوحات‪.‬‬
‫ولقد ازدهر النقد وتدوينه في العصرين األموي والعباسي فكانت البدايات األولى‬
‫لكتابة النقد في هذه الفترة من الزمن‪ ،‬يظهر هذا من خالل ما وصل إلينا منقوال‬
‫من أعمال النقاد والباحثين‪.‬‬
‫لقد ارتبط النقد العربي القديم بالشعر حيث كان ظهورهما متالزما وهذا ما‬
‫توصلت إليه في الفصل الثاني من هذه الدراسة فقد قدمت مجموعة من األدلة‬
‫والشواهد على أن النقد كان يمارس عن طريق الشعر وأنه كان يكتب في‬
‫الصحف منذ العصر الجاهلي‪ ،‬لذلك نجد بعض الدارسين يقولون في نهاية الفصل‬
‫الثاني أن كتابة النقد الجاهلي ذلك هو تدوين الشعر وقد جمعنا ما استطعنا أن نعثر‬
‫عليه من أدلة عقلية ونقلية تسنده‪ .‬وقد انتهت كلها إلى ترجيح أن الشعر الجاهلي‬
‫كان يقيد في صحف متفرقة ألغراض شتى‪ .‬غير أن هذا كله مرحلة واحدة من‬
‫مراحل بحثنا تقودنا إلى مرحلة تالية نتحدث فيها عن تدوين النقد الجاهلي‬
‫واإلسالمي واألموي والعباسي‪.‬‬
‫وفي حديثنا في هذا الفصل عن التدوين‪ ،‬نشير إلى أن ما شاع حول القرن الثاني‬
‫الهجري بأنه العصر الذي بدأ معه التدوين هو أمر مشكوك في صحته‪ ،‬ثم شرعت‬
‫بعرض نصوص وأقوال تؤيد هذا الطرح‪ .‬وأن التدوين بمفهومه العام هو‬
‫الصحف المجتمعة‪ ،‬قد كان قبل هذا التاريخ‪ ،‬وكما سبق وذكرت على أن النقد‬

‫‪37‬‬
‫القديم قد دون في العصر الجاهلي وفي عصر صدر اإلسالم‪ ،‬وقدمت أدلته على‬
‫ذلك‪ ،‬فخلصت في األخير إلى أن هذه النصوص والروايات واألخبار حول تدوين‬
‫النقد قد جمعت في القرون الالحقة ولم تكتب في وقتها إنما وصلت عن طريق‬
‫الرواية كما روى عن رواية حماده وابن سالم عن جمع النعمان للشعر الجاهلي‬
‫وتدوينه‪ ،‬وهذا ما يترك السؤال المطروح عن مدى صحة هذا الطرح؟‬

‫‪38‬‬
‫الئحة المصادر والمراجع‬
‫تاريخ األدب العربي العصر الجاهلي‪ ،‬الدكتور ريجيس بالشير تعريب إبراهيم‬
‫الحيالني‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫تاريخ النقد العربي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري‪،‬‬
‫طه إبراهيم‪ ،‬المكتبة الفيصلية مكة المكرمة ‪.2004‬‬
‫طبقات فحول الشعراء البن قتيبة تحقيق محمد شاكر‪ ،‬مطبعة المدني القاهرة‪.‬‬
‫النقد األدبي الحديث‪ ،‬محمد غنيمي هالل‪ ،‬الطبعة األولى دار العودة‪.1957،‬‬
‫المفضليات ألبو العباس المفضل بن محمد الضبي‪ ،‬شرح ألبي محمد فاهم‬
‫األنباري‪.‬‬
‫طبقات فحول الشعراء ألبي سالم الجمحي‪ 231 ،‬هجرية‪ ،‬قرأه وشرحه محمود‬
‫محمد شاكر‪ ،‬الجزء األول دار المدني جدة‪.‬‬
‫تاريخ األدب العربي العصر الجاهلي لشوقي ضيف‪ ،‬الطبعة الحادية عشرة‪ ،‬دار‬
‫المعارف مصرـ القاهرة‪.‬‬
‫تاريخ النقد األدبي عند العرب نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن‬
‫الهجري‪ ،‬الدكتور إحسان عباس الطبعة الرابعة ‪ ،1983‬دار الثقافة ببيروت‪،‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫في النقد األدبي القديم عند العرب الدكتور محمد مصطفى عبد الرحمن إبراهيم‪،‬‬
‫مكة للطباعة ‪.1998‬‬
‫تاريخ النقد األدبي عند العرب عبد العزيز عتيق‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،1972‬دار‬
‫النهضة العربية‪ ،‬ببيروت لبنان‪.‬‬
‫قضايا النقد القديم محمد صايل حمدان‪ ،‬عبد المعطي معاذ السرطاوي‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى ‪ ،1990‬دار األمل األردن‪.‬‬
‫المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ ،2004‬مكتبة الشروق‬
‫الدولية‪ ،‬مصرـ القاهرة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫مصادر التراث العربي في اللغة والمعاجم واألدب والتراجم‪ ،‬دار الشرق العربي‬
‫‪.2001‬‬
‫األغاني أبو فرج األصفهاني‪ ،‬تحقيق إحسان عباس‪ .‬الدكتور إبراهيم السعافين‬
‫واألستاذ بكر عباس المجلد األول طابعة دار صادر بيروت ‪.2002‬‬
‫مصادر الشعر الجاهلي ناصر الدين أسد الطبعة الخامسة‪ 1985 ،‬دار المعارف‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫الشعر والشعراء البن قتيبة الدينوري‬
‫دراسة في النقد األدبي عند العرب لبدوي طبانة‬
‫النقد المنهجي عند العرب ألحمد مندور‬
‫التفكير النقدي عند العرب لعيسى علي العاكوب‬
‫عبقرية االمام علي عباس العقاد‬
‫النقد األدبي ألحمد أمين‬
‫البالغة والنقد والمصطلح والنشأة والتحديد لمحمد كريم الكواز‬
‫لسات العرب البن منظور‬
‫المعجم الوجيز البن مذكور‬
‫القاموس المحيط للفيروز أبادي‬

‫‪40‬‬

You might also like