Professional Documents
Culture Documents
1
كتاب الدراسات في نقد االدب العربي من الجاهلية الى القرن الثالث لبدوي طبانة
وثم تقسيم الدراسة على النحو التالي :
اقتضت طبيعة البحث أن يأتي في فصلين صدرت بمقدمة تناولت فيها الخطوط
العريضة للبحث وفصل تمهيدي يخصص لتحديد المفاهيم األساسية المكونة
لعنوان البحث لغة واصطالحا وهي:
أـ تعريف مفهوم النقد
ب ـ تعريف مفهوم المعضلة
ج ـ تعريف التدوين
وكما ذكرت من قبل فقد قسمت هذا البحث الى فصلين :
أولهما نظريا وهو بعنوان النقد العربي في العصور
المبحث :1النقد في العصر الجاهلي
✓ المحور االول :مظاهر النقد في العصر الجاهلي
✓ المحور الثاني :أبرز سمات التذكير النقدي في العصر الجاهلي
• المبحث :2النقد في صدر الدولة اإلسالمية
• المبحث :3النقد العربي القديم في العصر األموي
• المبحث :4النقد العربي القديم في العصر العباسي
ثانيهما :تطبيقيا وهو بعنوان النقد العربي ومعضلة التدوين عند القدماء
وختمت البحث بخالصة لما توصلت اليه من استنتاجات ثم وضعت فهرسا
للمعاجم والمصطلحات وفهرسا للموضوعات
وقد اعتمدت في هذه الدراسة منهجا وصفيا تحليليا يعتمد على البحث في اراء
النقاد حول ظاهرة التدوين والنقد بصفة عامة وتحليلها واستخالص أهم النتائج.
2
الفصل التمهيدي:
المفاهيم االساسية
3
مدخل:
لقد اهتم مجموعة من الدارسين والباحثين في الساحة العربية والغربية على حد
سواء ،بالنقد األدبي الذي عرف تطورا متعددا من حقبة إلى أخرى ،وقد اجتهد
مجموعة من الباحثين إلبراز خصوصياته وحيثياته وذلك راجع لكثرة المفاهيم
التي بنيت عليها كلمة النقد.
يعد التدوين جزء من الثقافة اإلنسانية فيه يتم تسجيل وتوثيق تاريخ
الحضارات وماضيها .من حروب وأمجاد وبطوالت ونكسات ،وأعمالها األدبية
والفنية لهذا يعد التدوين عامال أساسيا لفهم وتحليل ومناقشة النصوص واإلبداعات
األدبية.
لذلك كان لزاما علينا في هذا الفصل التمهيدي أن نخص ونحدد مفهوم النقد من
الناحية اللغوية واالصطالحية .إضافة إلى تعريف التدوين والحديث باختصار عن
أولياته وكيف بدأ تدوين األعمال األدبية العربية القديمة.
4
أ -مفهوم النقد:
إن البحث عن المعنى الداللي لمصطلح النقد بحث متشعب إذ تناظرت حوله
اآلراء والتصورات وذلك راجع لصعوبة تصنيفه هل هو إبداع فني أم علما قائما.
فالمعاجم العربية ترى أنه إلى يفضي المناقشة واإلظهار يقال" :النقد تمييز
الدراهم وغيرها ....وناقده وناقشه "1.وتحدث ابن منظور عن األصل اللغوي
للكلمة فقال :نقد الدراهم و انتقدها :إذا ميز جيدها من رديئها ....كما في قولهم
إن نقدت الناس نقدوك ،و إن تركتهم تركوك ،و معنى نقدتهم عبتهم ."2و النقد
في ارتباطه بالنثر و الشعر يحيل على إظهار المحاسن و العيوب ف "انتقد الشعر
على قائله أظهر عيبه"3.و"يقال نقد النثر-الشعر أظهر ما فيها من عيب أو
حسن"4
إذن فتصور مفهوم النقد عند العرب القدماء ينطلق من الداللة اللغوية لمادة
نقد والتي جاءت في اللغة "بمعنى نقد الشيء نقدا .ليختبره أو يميزه".
و إذا كان النقد من الناحية اللغوية يعني التمييز و االختيار وإظهار العيوب و
المحاسن فإنه من الناحية االصطالحية يفضي إلى " :القدرة على تذوق األساليب
5
المختلفة و الحكم عليها".
ولهذا نجد أن المعنى االصطالحي لكلمة نقد ال يبتعد معناها عن اللغوي األصلي
عند القدماء كما جاء في كتاب قدامة ابن جعفر {نقد الشعر} حيث قال :أن علم
6
في الشعر له أربعة أقسام وأن العلم الرابع هو "تمييز جيد الشعر من رديئه ".
حين نجد أن األدباء المتأخرين يرون أن النقد في أصله فن صادر عن نظرة
شاملة إلى الفن بشكل عام" 7.البد من الوقوف عند النقد من حيث هو فن له
أصوله و طرائقه فهو الدرس الفني."8
5
إذن فالنقد في مفهومه االصطالحي هو دراسة األعمال األدبية والفنية
وتفسيرها وتحليلها وموازنتها ،وأخيرا الحكم عليها لبيان جودتها من رديئها.
ب -مفهوم التدوين:
لقد فرض مفهوم التدوين نفسه على الحقلين األدبي والفني الرتباطه الوثيق بهم.
فهو األداة التي توصل األعمال اإلبداعية إلى األجيال الالحقة ويشير مصطلح
التدوين من الناحية اللغوية إلى الكتابة وهذا ما نجده في جل المعاجم العربية
القديمة والحديثة ففي المعجم الوسيط( "،دون) الديوان أنشأه وجمعه ،والكتب
جمعها"" .9الديوان مجتمع الصحف ،والكتاب يكتب في أهل الجيش ،وأهل
العطية ،وأول من وضعه عمر رضي هللا عنه (جمع دواوين ودياوين) ".10
11
وجاءت كلمة التدوين في المعجم الوجيز بمعنى ".يكتب "
إن موضوع التدوين والتأليف النقدي لألدب العربي القديم موضوع شائك
ومتشعب وذلك راجع لقلة الكتابات فيه .ال نكاد نجد أي كتابات تهتم بالنقد وحده
حتى نهاية القرن الرابع الهجري .فما كان قبل ذلك هو مزج بين النقد والبالغة.
كما نجد في كتاب الصناعتين ألبي هالل العسكري سنة 395هجرية .ودالئل
اإلعجاز لعبد القاهر الجرجاني سنة 471هجرية.
وهذا ما يجعلنا نطرح سؤاال :كيف وصلتنا أعمال القدماء؟ إذا لم يكن هناك تدوين
قبل القرن الرابع الهجري.
إال أن طه ابراهيم في مؤلفه تاريخ النقد األدبي عند العرب يخالف الرأي
ويقول إن بداية الكتابة النقدية كانت في القرن الثاني الهجري مع محمد ابن سالم
الجمحي المتوفي سنة 231هجرية .في كتابه طبقات فحول الشعراء حيث قال،
وواضح جدا أن أقر ابن سالم الجمحي في تدوين الحقائق العلمية الشائعة في
عصره فهو ال يكتفي بنظر ،وال برأي ،وال بكالم ،مفكك مثبت ،بل يلم الفكرة من
أطرافها ،ويأخذ العلماء بالنظر والتحليل ....لتحليل النصوص األدبية ،فيظهر
جمالها الفني وعناصرها الرائعة ....هذا وإلى إن الكتاب قدم وثائق النقد المدونة
6
فيه لكثير من آراء األدباء واللغويين التي انتفع بها فيما بعد من كتبوا في نقد
األدب.
إن التدوين هو الكتابة و التوثيق فيه نعرف أعمال االدباء القدماء ،إال أنه
يشكل معضلة بالنسبة لتاريخ النقد و األدب العربي القديم ,وذلك الختالف
الباحثين و المؤرخين في توثيق أول األعمال النقدية العربية .12
تاريخ النقد االدبي عند العرب من العصر الجاهلي الى القرن الرابع الهجري :طه أحمد ابراهيم الصفحة 108-102بتصرف 12
7
خالصة:
نخلص مما سبق ذكره الى أن مفهوم النقد يفضي إلى تمييز الجيد من
الرديء وذكر محاسنه من عيوبه .وأن وظيفته الفنية تتلخص في تقويم العمل
األدبي ،وبيان قيمته الموضوعية والتعبيرية.
وأن التدوين هو الكتابة .وأنه جزء من الثقافة االنسانية عموما والعربية
خصوصا ،فالمنتج الثقافي ال يصل إلى األجيال الالحقة إال عن طريق التسجيل
والكتابة .لكن أن هناك صعوبة في التأريخ أو الكتابات النقدية العربية .فهل هذه
الكتابات بدأت في القرن الثاني الهجري مع ابن سالم الجمحي أم أنها لم تكن
كتابات نقدية حتى أواسط القرن الرابع الهجري؟
8
الفصل األول
9
مقدمة:
لقد اتصل النقد العربي بالشعر منذ طليعته في العصر الجاهلي وبداية الدعوة
اإلسالمية اتصاال الزما.
كانت العملية النقدية في العصر الجاهلي متاحة بين يدي كل شاعر وكل مستمع
ذواق لألدب لذلك فقد كان النقد يستند إلى حكم الذوق وتميز النقد في هذه المرحلة
بأنه نقد فطري ،ينطلق من أفواه الشعراء على سجيتها دون تصنع وتكلف ،وهكذا
كان األدباء يحتكمون في نقدهم الى ذائقتهم الفنية بما تملي عليهم من استحسان
ببعض المواضيع البالغية األسلوبية .لهذا حاولت في هدا الفصل التطرق الى النقد
في عصوره :الجاهلي واإلسالمي واألموي ،والعباسي.
إن مصطلح صدر اإلسالم يدل على السنوات األولى لإلسالم وهي تلك الفترة
الممتدة بين بعثة النبي محمد صلى هللا عليه وسلم ،الى آخر أيام الخلفاء الراشدين
والتي كانت في نهاية القرن الرابع الهجري ،مع موت علي ابن ابي طالب ،وبما
أن هذا العصر كان متزامنا مع الذي قبله .فليس من المتوقع أن يحدث تغيير كبير
على األدب .إال أن تأثير الدين على الشعر كان تأثيرا نقديا من الناحية المعنوية،
فالنقد في صدر اإلسالم لم يتغير من حيث الشكل انما تغير في المضمون أي من
ناحية األغراض والموضوعات.
كان للنقد األدبي في العصر األموي دورا رائدا في النهضة الفكرية واللغوية
واألدبية .فتح الخلفاء واألمراء والقادة أبوابهم للشعراء فوفدوا من كل مكان،
فاشتد التنافس بينهم وكان كل واحد يرد على اآلخر.
وإذا وصلنا إلى النقد في العصر العباسي رأينا إمعانا في الحضارة وإمعانا في
الترف ورأينا الشعر واألدب يتحوالن إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن
طبع وسليقة ،حتى نرى كثيرا من الكتاب والشعراء الذين أصبحوا يعطون أولوية
للنقد وتتبع أخطاء اآلخرين.
لهذا حاولت في هذا الفصل أن أبرز مفهوم النقد والحكم النقدي في العصر
الجاهلي وذلك اعتمادا على عدة خطوات اعتمدها النقاد منها تتبع أخطاء الشعراء،
وكيف رجحوا شاعر على شاعر آخر ،وكيفية الحكم على جودة القصيدة وما
اإليجاز الشعري.
10
كما أنني حاولت أن أبرز صفات النقد في صدر اإلسالم وإبراز دور الدين
واألخالق والمبادئ التي أتى بها في تحول األغراض الشعرية.
وأبرزت أيضا الدور الذي لعبه التقدم الحضاري والفكري في العصرين األموي
والعباسي في ازدهار حركة النقد األدبي.
11
❖ المبحث األول :النقد في العصر الجاهلي
لقد ارتبط النقد في العصر الجاهلي بالشعر والنثر حيث عرف مجموعة من
الشعراء بنقدهم لشعر اآلخرين من بينهم النابغة الذبياني واألعشى وغيرهم.
فإذا كنا ال نعرف الشعر العربي إال متقنا محكما قبل اإلسالم فإننا ال نعرف النقد
إال في ذلك العهد ،وأقدم النصوص التي تدل عليه تعزى في الغالب الكثير من
الشعراء الذين نهضوا بالشعر في أواخر العصر الجاهلي كثرة أسواق العرب التي
يجتمع فيها الناس من قبائل عدة وكثرة المجالس األدبية التي يذكرون فيها الشعر
وكثرة تالقي الشعراء...من ذلك ما نجده في عكاظ فكانت سوقا تجاريا يباع
ويشرى طريف األشياء والحاجي منها وكان يأتيها العرب من كل فج حتى من
الحيرة وكانت موعدا للخطباء والدعاة وكانت فوق كل ذلك بيئة من بيئات النقد
األدبي يلتقي الشعراء فيها كل عام .1يقول حمادة الراوية :إن العرب كانت
تعرض شعرها على قريش فما قبلوه منها كان مقبوال وما ردوه منها كان
2
مردودا.
لهذا نجد أن مفهوم الناقد والحكم النقدي في هذا العصر ارتبط بفكرة الناقد الحاذق
المتمكن يحتكم إليه الناس في الشعر كانت فكرة معروفة بين الناس عامة واألدباء
خاصة .كما أن فكرة الحكم النقدي كانت فكرة حاضرة في أذهان الشعراء ،أيضا
إذ لوالها لما تفاضل الشعراء فيما بينهم وال فضلت قصيدة على أخرى وال بيت
من قصيدة على بيت آخر .وفي النصوص األدبية التي نقلت لنا من العصر
الجاهلي ،ما يدل على وجود الناقد الذي يكون شاعرا أو ماهرا أو قبيلة بعينها،
وفي قصة النابغة الذبياني 3من حسان بن ثابت 4ما يوضح كالمنا أكثر.
روى المرزباني في كتابه الموشح :كان النابغة الذبياني 5تضرب له قبة حمراء
من آدم من سوق عكاظ 6فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها قال :فأول من
أنشده األعشى 7ميمون بن قيس أبو بصير .ثم أنشده حسان ابن ثابت األنصاري:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
12
فأكرم بنا خاال وأكرم بنا ابنما ولدنا بني العنقاء وابني
محرق
فقال له النابغة :أنت شاعر ،ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم
8
تفخر بمن ولدك.
وهكذا كان العرب يتبعون أخطاء الشعراء ونقدها ومحاولة تصحيحها .كان عرب
الجاهلية يجيدون اإلنصات الى األشعار التي كانت تنشد في معاجمهم وكانوا
ينتبهون إلى األخطاء التي يقع فيها الشعراء والغالب في هذه األخطاء أنها كانت
في القافية وهو ما يسمى في علم العروض (االقواء) ومعناه اختالف حركة
9
الروي في القصيدة الواحدة من الكسر الى الضم.
يقول ابن سالم الجمحي أثناء كالمه عن الشعراء الجاهليين في الطبقة األولى في
كتابه طبقات فحول الشعراء متحدثا عن االقواء:
وهو أن يختلف إعراب القوافي فتكون قافية مرفوعة وأخرى مخفوضة أو
منصوبة وهو في شعر األعرابي كثير 10.ويتابع ابن سالم حديثه ليقول إنهم من
شعراء الطبقة األولى إال النابغة في بيتين من الشعر قوله:
عجالن ذا زاد وغير مزود أمن ال مية رائح أو متغذي
وبذاك خبرنا الغراب األسود رغم البوارح أن رحلتنا غدا
وقوله:
فتناولته واتقتنا باليد سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
عنم 11يكاد من الطاقة يعقد بمخضب رخص كأنه بنانه
وعندما قدم النابغة المدينة انتقده الناس .فلم يلتفت لقولهم إن يسمعوه في مجلس
غناء .فقالو للجارية التي تغني وتنشد شعر النابغة .إذا صرت الى القافية فرتلي،
فلما قالت الجارية :الغداف األسود ويعقد وباليد علم النابغة خطأه وانتبه فلم يعد
لإلقواء .وقال النابغة قدمت الحجاز وفي شعري صنعة ورحلت عنها وأنا أشعر
13
الناس .12وذلك بترجيح كافة شاعر على شاعر آخر ،ان فكرة تفضيل شاعر على
اخر فكرة رئيسية في العصر الجاهلي فعندما يكثر الشعراء وتتقارب مستوياتهم
في اجادة الشعر يتأثر الناقد ويفتن فيصدر حكما نقديا مرجحا شاعرا على شاعر
اخر ،أو على قبيلة أو على كل العرب من هذا القبيل ما ورد في كتاب األغاني
من قصة النابغة الذبياني مع لبيد بن ربيعة 13وفي بعض األحيان نجد بعض
الشعراء يحاولون الحكم على القصيدة كاملة وكأفضل مثال على هذه الفكرة
النقدية هي المعلقات السبع وهي من أشهر وأجود القصائد التي كانت تتباهى بها
العرب في الجاهلية فقد حكموا على القصيدة بأكملها بأنها جيدة ولوال وجود الفكر
النقدي عندهم لما استطاعوا أن يحكموا على هذه القصائد ،يقول ابن رشيق في
العمدة ":كانت المعلقات تسمى المذهبات ،ذلك ألنها اختيرت من سائر الشعر
فكتب في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة :فلذلك يقول :مذهبة فالن ،إذا
كانت أجود شعره...،وقيل :بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول
14
:علقوا لنا هذه لتكون في خزانته".
وبغض النظر عن صحة الرواية التي تقول إن هذه القصائد كانت معلقة على
أستار الكعبة ،فان العرب قد أجمعوا على استحسانها وعلى أنها أفضل ما قيل في
الشعر.
كان الشعر عند نقدته من الجاهليين صياغة وفكرة ،كان نظاما محكما أو غير
محكم ،ومعنى مقبول وغير مقبول كذلك نلحظ في هذا النقد أنه قائم على
اإلحساس بأثر الشعر في النفس وعلى مقدار وقع الكالم عند النقد فالحكم مرتبط
15
بهذا اإلحساس قوة وضعفا ال تعقب فيه.
وإذا ذكرنا أن النقد الذي تمحض عنه قرائح الناقد في هذا العصر انما يمثل في
نشأة النقد العربي ومراحله فإنه يكون من التجني أن نتوقع منهم أن يحللوا
ويعللوا ،وأن يخضعوا في قضايا النقد األخرى تلك القضايا التي أخذت قرونا من
العلم والعمل والبحث حتى ظهرت وتبلورت وتطورت كما سنرى من خالل
16
عرضنا المتصل لتاريخ النقد األدبي عند العرب.
14
ومن هنا كان من الصعب أن نحكم حكما موثقا على الصورة األولى التي نشأ
عليها النقد األدبي ،ذلك ألنه ارتبط بالشعر في نشأته ومعلوماتنا على النهج األول
17
للشعر العربي ال تتجاوز المئة والخمسين عاما والتي سبقت ظهور اإلسالم.
يعد النقد في العصر الجاهلي نقدا انطباعيا تلقائيا فهو لم يكن مضبوط القواعد
والخصائص كامل القوام كما هو عليه اآلن ،إال أنه كان مرتبطا ارتباطا وثيقا
بالشعر وبحياة العرب الذين كانوا ال يقبلون اال الجيد من األشياء ويذمون
ويبغضون ما دون ذلك فكان النقد عندهم يأتي على شكل ترجيح شاعر على
شاعر أو تتبع أخطاء الشعراء أو الحكم على جودة القصيدة.
17النقد االدبي في العصر الجاهلي وصدر اإلسالم محمد إبراهيم نصر الصفحة 20
15
❖ المبحث الثاني :النقد في صدر اإلسالم
في هذا المحور نواصل بحثنا في التاريخ للنقد األدبي عبر العصور.
لقد وصلنا إلى عصر صدر اإلسالم أبا العصر الذي عاش فيه النبي محمد صلى
هللا عليه وسلم والخلفاء الراشدون إلى غاية قيام الدولة األموية.
وتجدر اإلشارة من البدء إلى أن الحياة األدبية في عهد البعثة اإلسالمية قد تأثرت
18
إلى حد كبير باإلسالم وبالقرآن الكريم معجزته الخالدة.
فظهرت بوادر النقد في هذا العصر بداية من شعر قريش ومن األهم يهجون النبي
وأصحابه ،وكان األنصار يناقضون هذا الهجاء لعل ذلك أول عهد حقيقي للنقائض
في الشعر العربي...هذه النقائض بين مكة والمدينة كانت تدعوا إلى النقد وإلى
الحكم وإلى اإلقرار واإلذعان ،وكان العرب يقدرون هذا التهاجي .19فعندها
استندت الخصومة بين قريش والرسول .راح شعراء قريش من زعمائهم يهجون
الرسول ويحاربونه باللسان كما تحاربه قريش بالسنان .ولما أسرف هؤالء
الشعراء وأمثالهم في هجاء الرسول ،قال األنصار" :ما يمنع الذين نصروا هللا
بسالحهم أن ينصروا بألسنتهم" .وكأن هذه الكلمة دعوة من النبي لشعراء المدينة
بالرد على خصومهم فانطلقوا يدافعون عنه بألسنتهم .ولعل الرسول خير من اتجه
بالنقد في عصره هذا االتجاه الجديد .كما يشهد بذلك بعض ما أثر عنه من أقوال
وأفعال تتعلق بالشعر ونقده .لم يكن عجبا أن يتحدث الناس في الشعر بمجلسه وأن
يكثر اجتماع الشعراء به وأن يعجب بالشعر إعجاب أصحاب الذوق السليم .أنشد
النابغة:
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وال خير في حلم إذ لم يكن له
حليم إذا ما أورد األمر أصدرا وال خير في جهل إذ لم يكن له
فأعجب الرسول بجودة شعره وقال{ :أجدت ال يفضض هللا فاك} وأنشد كعب بن
زهير قصيدته "بانت سعاد" فأعجب بها الرسول وبلغ من إعجابه بها أن صفح
عن كعب20 .يروى أن وفدا من عرب بني تميم المعادين له قدموا عليه ومعهم من
شعائرهم الزبرقان بن بدر ،واألقرع بن حابس ،ومن خطبائهم عطارد بن حاجب.
ثم راحوا ينادونه من وراء الحجرات :يا محمد أخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك فإنا
18تاريخ النقد األدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة43 :
19تاريخ النقد االدبي عند العرب من العصر الجاهلي الى الرابع هجري ،طه أحمد إبراهيم الصفحة41:
20تاريخ النقد االدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة43:ـ 48بتصرف
16
مدحنا زين وذمنا شين .فرماهم الرسول بخطيبه ثابت بن قيس ،فساجل ثابت
عطاردا خطابة ،وساجل حسان الزبرقان شعرا وردا عليهما ردا بليغا مفحما دفع
األقرع بن حابس ألن يقول" :وهللا إن هذا الرجل ـ يعني الرسول ـ لمؤتي له
لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شعرائنا وأصواتهم أعلى من
21
أصواتنا ثم أسلم القوم جميعا.
يمكننا أن نتحدث في عهد النبي صلى هللا عليه وسلم عن نظريته في النقد األدبي
وعن األسس والمقومات التي كان يحث على وجوب وجودها في الشعر والتي
تتمثل في ثالثة أمور.
أولها :نقد المضمون إذا نظرنا إلى ما أثر عن النبي صلى هللا عليه وسلم من
أحاديث وتعليقات على الشعر والشعراء.
باستحسان أو استهجان نجدها قد ركزت على مضمون الشعر ومادته وكان
استحسانه لها موقفا نقديا ،قال عليه السالم :أصدق كلمة قالها شاعر ،قول لبيد:
"أال كل شيء ما خال هللا باطل".
وإنما جاء هذا الصدق من ترجمة هذا القول عن وحي الروح إلسالمية22 .أما عن
الفرع الثاني الذي استهجنه النبي صلى هللا عليه وسلم ورفضه وأبدى عليه
مالحظات تشعر بالتحفظ وعدم الرضى .تصحيحه لكعب بن زهير عندما أنشده
قائال:
مهند من سيوف الهند مسلول إن النبي لنور يستضاء به
23
فقال له بل من سيوف هللا .فشتان في القيمة بين سيف هللا وسيف الهند.
ثانيها :نقد الشكل وذلك يوضع عدة مقاييس لشكل الشعر ،منها عدم التكلف .قد
أثر على النبي صلى هللا عليه وسلم أقوال كثيرة نهى فيها التكلف والمبالغة وحذر
من التشدق .واختياره لأللفاظ الجميلة بعناية24 .فالمالحظ أن النبي قد أرسى قاعدة
نقدية مهمة وهي حسن انتقاء األلفاظ التي تشاكل المعاني وتليق بها ،وهذا ما سماه
البالغيون مشكلة اللفظ والمعنى أي اختيار األلفاظ التي تعبر عن المعنى بلفظ
21تاريخ النقد االدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة49 :
22في النقد االدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمان إبراهيم الصفحة68 :ـ 69
23في النقد االدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمان الصفحة72 :
24في النقد االدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمان إبراهيم ،الصفحة74 :
17
جميل 25.باإلضافة إلى اإليجاز ،فالمالحظ في أقواله عدم التطويل والتزيد ،فيبلغ
المعاني الكثيرة باللفظ الموجز.
ثالثها :نجد قاعدة الحكم على الشعراء ضمن األسس التي وضعها النبي صلى هللا
عليه وسلم في نظريته نقد الشعر .وقد أثرت عنه أحكام نقدية دقيقة على شعراء
الدعوة اإلسالمية الثالثة وعلى غيرهم ،وقد تجلى ذلك في قوله :أمرت عبد هللا بن
رواحه فقال :وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال ،وأحسن وأمرت حسان بن ثابت
فشفى واستشفى.26
إن هذه القواعد واألسس في نظرية نقد الشعر دفعت الشعراء إلى تتخلق بخلق
اإلسالم والنهل من منابعه الصافية.
هكذا كان النقد في عصر النبوة والوحي ومن أجل إتمام الحديث عن صدر
اإلسالم البد من الحديث عن النقد في عصر الخلفاء الراشدين الذين نهجوا منهج
الرسول في حث المسلمين على حفظ القرآن ،فلم يشجعوا على الشعر والشعراء
كثيرا .قال عمر ابن الخطاب" :كان الشعر على قوم لم يكن لهم على أصح منه
فجاء اإلسالم فتشاغلت عنه العرب"27 .إن حركة النقد في هذا العصر تلتمس
أكثر ما تلتمس في المالحظات النقدية ....فقد ساروا فيه سيرة الرسول ونهجوا
نهجه ،كانوا يميزون بين شعر وشعر فيحضون على ما هو حسن مفيد ويعاقبون
على ما هو شائن ضار.
وإذا نظرنا إلى نشاط هؤالء الخلفاء في ميدان النقد األدبي رأينا أن الخليفة عمرا
كان أكثرهم أثرا وتأثرا فيه ،حتى ليعد بحق الناقد األول في هذه الفترة ،وعن
عمر الناقد يقول الحسن بن رشيق القيرواني" :كان من أنقد أهل زمانه للشعر
28
وأنقدهم فيه معرفة".
وكان في عهد الخلفاء الراشدين أسباب أخرى تدعوا إلى غير الوفادة وغير
األحاديث التي تفيض بها المجالس .فالشعراء كما نعلم كانوا ينكسبون بالشعر،
وهذا التكسب يدفعهم الى المديح غالبا ويحملهم على الهجاء في بعض األحيان.29
وكثيرا ما كان يشاركهم في تجادب الحديث الخلفاء أنفسهم ،فقد يتحدث الخليفة مع
الوفد القادم عليه عن شاعر له مؤانسة وتكريما وأخص الخلفاء في ذلك عمر بن
25في النقد االدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمان إبراهيم ،الصفحة75 :
26في النقد االدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمان إبراهيم ،الصفحة76 :
27طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي الصفحة10:
28تاريخ النقد عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة 61ـ62
29تاريخ النقد االدبي عند العرب من العصر الجاهلي الى القرن الرابع هجري طه إبراهيم الصفحة47 :
18
الخطاب ،تحدث مرة مع وفد من غطفان وقد نزل ببابه فقال :يا معشر غطفان أي
شعرائكم الذي يقول:
وليس وراء هللا للمرء مذهب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
لمبلغك الواشي أغش وأكذب لئن كنت قد بلغت عني خيانة
قالوا :النابغة ،قال :هذا أشعر شعرائكم.
فعمر في هذا الموقف مثله مثل نقاد عصر الرسول والعصر الجاهلي يصدر حكما
غير معلل .فالنابغة في رأيه أشعر غطفان أي أشعر الشعراء عبس وذي بيان من
أمثال عنترة ،والربيع بن زياد ،والحطيئة ،وعروة بن الورد ،والشماخ بن ضرار،
30
وابن ميادة ممن يرجعون بأصلهم إلى غطفان.
كما أسهم بقية الخلفاء بنظريات نقدية مختلفة فقد أثر عن أبوبكر الصديق رضي
هللا عنه بعض المواقف النقدية .منها ما يتصل بنقد المعنى وتوجيهه إلى النظرة
اإلسالمية ،ومنها ما يتصل بالحكم على الشعراء ،ومنها ما يتصل بالتنفيذ اللغوي،
يروى أن لبيدا الشاعر المخضرم قام على أبي بكر فقال:
أال كل شيء ما خال هللا باطل
فقال أبو بكر :صدقت
فلما قال :وكل نعيم ال محالة زائل
قال :كذبت عند هللا نعيم ال يزول
31
وهنا نجد أن نظرة أبي بكر النقدية إلى الشعر يبدو فيها اإلجمال والعموم.
في حين نجد علي رضي هللا عنه أتى بالجديد في نظريته النقدية للشعر فالتفاضل
ال يجري بين الشعراء المتعارضين وال يتم ذلك على وجه الدقة إال إذا نصبنا لهم
راية واحدة ليجروا نحوها ،وكأنه هنا يشترط وحدة الموضوع الشعري للمتسابقين
من الشعراء .بذلك يضع للمفاضلة شرطين :المعاصرة ووحدة الموضوع32 .وفي
هذا الصدد يقول العقاد" :إن نقد علي للشعراء كان نقد عليم بصير ،يعرف
اختالف مذاهب القول ،واختالف وجوه المقابلة ،والتفضيل على حسب
تاريخ النقد االدبي عند العرب عبد العزيز عتيق الصفحة67 :ـ 68بتصرف 30
في النقد االدبي القديم عند العرب مصطفى عبد الرحمان إبراهيم الصفحة88 :ـ 89بتصرف 31
في النقد االدبي القديم عند العرب مصطفى عبد الرحمان إبراهيم الصفحة91 : 32
19
المذاهب". 33
تلك كانت حالة النقد عند الخلفاء الراشدين وعند بعض معاصريهم من الشعراء،
وباإلضافة إلى ذلك كان هناك المجالس األدبية التي يعقدها أهل الثقافة في المسجد
وما إليه ،حيث يستمعون إلى تناشد األشعار ويخوضون في أحاديث األدب
والشعر ،والنقد ،والمفاضلة بين الشعراء من الجاهليين والمخضرمين ،ومن أمثال
ذلك مجلس حسان ابن ثابت وغيره.
وعلى العموم فالمقاييس النقدية في عصر صدر اإلسالم يمكن أن نجملها في ثالثة
مبادئ ،كما جاء عند الدكتور مصطفى عبد الرحمان إبراهيم ،في كتابه في النقد
األدبي القديم عند العرب .حيث حصرها في االلتزام بمبادئ الدين والخلق وذلك
بتوجيه الشعراء إلى االلتزام باألفكار واالتجاهات التي تالئم روح اإلسالم .ثانيا
الحث على الموضوعية وتحري الصدق والصحة والصواب ،وأخيرا وضع
األسس النقدية للموازاة األدبية كما جاء بها علي ابن أبي طالب رضي هللا عنه.
والظاهر أن النقد في هذا العصر قد اتسع أفقه وتنوعت رجاله ،وجنح إلى شيء
من الدقة وحاول أن يحدد بعض خصائص الصياغة والمعاني وتأثر شيئا ما
بروح البناء والتأسيس التي سادت فيما كان يجد أمام المسلمين من شؤون
التشريع ،وليس عجيبا أن كثيرا من اإلعجاب ينصرف في عصر البعثة والخلفاء
34
إلى الشعر الخلقي إلى شعر الفضائل والعظات إلى شعر المروءة والهمة.
لقد سار العرب في صدر اإلسالم على خطى أسالفهم من الجاهليين ،فكانت لهم
مواقف نقدية ساعدت في تقدم الشعر ووصوله إلى هذه الدرجة من الجودة والتألق
فأسهمت هذه الحركة النقدية على غرس قيم اإلسالم في نفوس الصحابة كحب
الخير للغير ،والعطف ،والتسامح ،وااللتزام بالصدق ،ونبد الكذب والفسوق
والفجور ..... ،كما ساهم األثر اإلسالمي أيضا في تطوير األغراض والمعاني
واألسلوب.
20
❖ المبحث الثالث :النقد في العصر األموي
يطلق العصر األموي على الفترة التي تبدأ بخالفة معاوية سنة 41هجرية وتنتهي
بغلبة العباسيين على بني أمية وانتزاعهم الخالفة 123هجرية .ولعل من المفيد
هناك أن نشير إجماال إلى أسباب قيام الدولة األموية لما كان ذلك من آثار بعيدة
المدى في جميع جوانب الحياة اإلسالمية من دينية وعقلية وسياسية واجتماعية
واقتصادية.
نقتضي البدء من البيئات العربية التي نما فيها النقد األدبي وازدهر في العصر
األموي هي نفس البيئات التي أخصب فيها الشعر وارتقى .هذه البيئات بالتحديد
هي :بيئة الحجاز -بيئة الشام -بيئة العراق.
النقد في الحجاز:
لقد نهض الشعر الحجازي وتطور في العصر األموي ،وغلب عليه طابع الغزل
الحضري الذي أخذ بفعل العوامل الجديدة التي طرأت على بيئته ومجتمعه ينزع
عن نفسه رداء البداوة شيئا فشيئا ،ويدخل في رداء الحضارة شيئا فشيئا كذلك.
وقد استتبعت هذه النهضة الجديدة في بيئة الحجاز الظريفة المرحة نهضة أخرى
في النقد األدبي تجاريها في روحها .نهضة تدل على حد ما من الرقي في الذوق،
واتساع في األفق والنظرة ،وااللتفات إلى بعض الجوانب التي لم يلتفت إليها النقاد
السابقون.
والمطلع على تاريخ النقد األدبي في العصر األموي يدهشه ما يرى من اهتمام
عام بالنقد على جميع المستويات وبين مختلف الطبقات .فالنقد األدبي في هذا
العصر أسهم فيه الرجال والنساء والشعراء وغير الشعراء كل على قدر ذوقه
وفهمه ونوع ثقافته.35
ولعل النقد في هذا العصر بدأ يشق الطريق الصحيح وأن ما سبقه من نقد لم يكن
إال نواة أو محاوالت للريادة والكشف في اتجاه طريق النقد القويم.
ومن صور النقد األدبي في العصر األموي نقف للتعرف إليها وهي صورة نقد
الشعراء بعضهم لبعض .ولعل أوفاهم نصيبا عمرو بن أبي ربيعة ،فقد أبدى
35تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة113 :
21
أربعة من معاصريهم رأيهم في شعره ،هؤالء هم :نصيب بن رباح ،الفرزدق،
36
وجرير ،وجميل.
ولعل أكبر شخصية ناقدة ظهرت بالحجاز في العصر األموي وأثر عنها الكثير
من النقد هي شخصية ابن عتيق37 ،لقد اعتمد في عصره نقدا ظريفا لكثير من
الشعراء ،وكان يعتمد في نقده على ذوق مرهف وحس مترف ،وبصيرة نافذة في
38
التمييز بين جيد الشعر ورديئه.
فمثال نراه يقدم عمرو بن أبي ربيعة ،ويؤثر شعره ،ويفضله على غيره من
شعراء مذهبه الغزلي ،ويقول" :لشعر ابن أبي ربيعة نوطه بالقلب ،وعلوق بالنفس
39
ودرك للحاجة ،ليس لشعر غيره".
وإذا كان ابن ابي عتيق هو الناقد األول من غير الشعراء في الحجاز إبان العصر
األموي ،فإن السيدة سكينة بنت الحسين تحتل بعده المرتبة الثانية من حيث
االهتمام بالشعر ونقده .ومع ما كان لكل منها من منزلة دينية عالمية ،فإنها خير
من يمثل هذا العصر من غير الشعراء ،وخير من يمثل أهل الحجاز في حبهم
40
لألدب وبصرهم فيه.
وكان لها من الشعراء وغيرهم نوادر وحكايات ظريفة ،ومن ذلك ما يروى أنها
وقفت على عروة بن أذنيه وكان من أعيان العلماء الكبار الصالحين وله أشعار
رائقة فقالت له :أنت القائل:
ذهبت نحو سقاء 41الماء أبترد إذا وجدت أوار الحب في كبدي
فمن لنار على األحشاء تتقيد؟ 42
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فقال لها :نعم .فقالت :وأنت القائل:
قد كنت عندي تحب الستر فاستر قالت أبثتها حبي وبحت به
غطى هواك وما التقى على بصري ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها
36تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة115 :
37تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة117 :
38تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد الغزيز عتيق الصفحة119:
39النقد األدبي القديم عند العرب :مصطفى إبراهيم عبد الرحمن إبراهيم الصفحة109:
40تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة142:
41سقاء :قرية الماء
42ظاهره :ظاهر الكبد ،والكبد تذكر وتؤنث
22
قال لها نعم .فالتفتت إلى جواركن حولها فقالت :هن حرائر إن كان خرج هذا من
قلب سليم.
أما فيما يخص المفضالت ففي هذا العصر تطورت إلى حد ما ،وذلك بااللتفات
إلى المفاضلة أو الموازنة إلى جوانب من الشعر لم يكن النقاد السابقون يلتفتون
43
إليها.
النقد في الشام:
إذا نظرنا الى بيئة الشام في العصر األموي لنتبين الحياة األدبية فيها والطابع
العام لهذه الحياة ،فإننا ال نكاد نرى لها مالمح متميزة أو سمات خاصة تنفرد بها
وتظهر شخصيتها .وعلى هذا فليس للشام نصيب يذكر من األدب أو الشعر النابع
من صميم بيئتها ،وذلك راجع في الغالب إلى أن أكثر سكان الشام من العرب
كانوا يمنيين ممن اكتيسوا لغة عرب الشمال اكتسابا لم يؤهلهم لقول الشعر
ونظمه .44إلى جانب ذلك فبيئة الشام مفقرة من الشعراء إال من شاعر كعدي بن
الرقاع العالمي .ومع ذلك فهو ال يستطيع أن يرتفع بشعره إلى مستوى شعراء
العراق من أمثال بن جرير ،الفرزدق ،فبيئة الشام أيام األمويين لم تكن تربة
خصبة ينمو فيها الشعر ويزهر ،وأكثر ما وجد فيها من الشعر كان طارئا أو وافدا
من الخارج .هذا األخير كان له مصدران :يتمثل أولها في وفود الشعراء بشعرهم
على دمشق عاصمة الخلفاء حيث ينسدون الخلفاء واألمراء وينالون عطاءهم.
وكان أغلب هذا الشعر مديحا .أما المصدر الثاني فشعره كان وليد الحروب القبلية
بين القبائل اليمنية بالشام والقبائل القيسية التي وفدت عليه مهاجرة من الحجاز.
فهذا الشعر لم يكن شعرا نابعا من بيئة الشام وإنما كام شعرا طارئا جلبته معها
قبائل عرفت بالشعر ،وكان أكثره يدور على الفخر والمهجيات.
ولعل الشعر الوحيد الذي نبع من داخل بيئة الشام هو ذلك الشعر الذي أثر عن
بعض أمراء وخلفاء بني أمية ممن دفعت بهم ظروف نشأتهم وحياتهم الخاصة
إلى االنغماس في حياة الغناء واللهو والشراب.45
وكان عبد الملك بن مروان على رأس خلفاء بني أمية في مجال النقد وكان
صاحب ذوق أدبي راق يقصده الشعراء بمدحهم فيدقق في معاني شعرهم بذوقه
43تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة127 :
44تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة191 :
45تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة192 :
23
اللطيف وحسه الرهيف ،الذي كان إلى أعماق النص يكشف عن جماله أو يبين
46
رداءته.
ومن صور نقده ما رواه صاحب الموشح من أن الراعي النميري أنشده قصيدته
التي منها قوله:
حنفاء نسجد بكرة وأصيال أ خليفة الرحمان أنا معشر
حق الزكان منزلة تنزيال عرب نرى هللا في أموالنا
فقال عبد المالك :ليس هذا شرح إسالم وقراءة آية.
ويظهر أن عبد المالك لم يقبل من الشعر ما كان تقريرا لمسائل دينية أو خلقية
فليس هذا وظيفة الشعر ،وإنما هو :شعور وإحساس يعبر عنهما في بيان جميل
ونغم بديع وتصوير مفتن ،أما ما قاله الراعي فليس شعرا ،ألنه ال عاطفة فيه وال
47
شعور وإنما هو تقرير لحقائق يعرفها العامة.
والتفت عبد المالك في نقده الى موسيقى الشعر فعاب على الشعراء بعض قوافيهم
لما يظهر فيها من رخاوة وليونة ينزالن بقيمة الشعر الصوتية وموسيقاه.
أنشده ابن قيس الرقيات:
أوجعتني وقر عن مروتيه إن الحوادث بالمدينة قد
يتركن ريشا في مناكبييه وجببتني جب السنام فلم
فقال له عبد المالك :أحسنت إال أنك تخنثت في قوافيك .فقال :ما عدوت قول هللا
48
عز وجل " :ما أغنى عني ماليه هالك عني سلطانه".
النقد في العراق:
إن بيئة العراق بيئة عالمية ثقافية امتزجت فيها األصول العربية واألصول
األجنبية لذلك تأثرت هذه البيئة بالمنهج العلمي الذي اعتمد فيه نقادها غالبا على
قواعد النحو وأصول اللغة ،يقسون األدب بمقاييسها ،ويحاولون أن يخضع
49
الشعراء لها.
46في النقد األدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة116 :
47في النقد األدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة117 :
48تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة225 :
49في النقد األدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة120 :
24
لم يكن هؤالء العلماء النقاد من اللغويين النحويين على درجة واحدة في التزام
المقياس العلمي ،فالحق أن منهم من كان نقده يقوم أساسا على األصول المقررة
في اللغة والنحو والعروض ،ومنهم من يميل إلى األصول األدبية الفنية في
50
التعبير والتصوير.
ولعل أول من نالحظه على حركة النقد األدبي في بيئة العراق هو طابعها العام.
فاالتجاه الغالب على هذه الحركة يتمثل في التفضيل والمفاضلة بين الشعراء بوجه
51
عام ،وبين الفحول الثالثة الفرزدق وجرير واألخطل بوجه خاص.
ومن هؤالء ما قصر نقده على معاصريه من شعراء العصر اإلسالمي ،ومنهم
امتد نقده إلى شعراء العصر الجاهلي وأبدى رأيه في أفضلهم وأشعرهم من وجهة
نظره.
فالفرزدق يرى أنه وجرير يستمدان شعرهما من نبع واحد ،وأن شعره في جملته
أقوى من شعر جرير .وفي ذلك يقول الفرزدق :إني وإياه –جريرا -لنعترف من
بحر واحد.
لقد عاب النقاد على شعراء العراق في هذا العصر على فساد معانيهم أو قصرها
عن الوفاء بغرضها.
فعلى سبيل المثال عابوا على األخطل قوله في عبد المالك بن مروان:
البيض ال عاري الخوان ال جدب وقد جعل هللا الخالفة منهم
52
وقالوا هذا مما ال يمدح به الخليفة.
50في النقد األدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة121 :
51تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة121 :
52تاريخ النقد األدبي عند العرب :عبد العزيز عتيق الصفحة116 :
25
❖ المبحث الرابع :النقد في العصر
العباسي
يعد العهد العباسي أكثر العهود ازدهارا للعلم واألدب والفن .فهو عصر رقي
الحضارة اإلسالمية ونضوج الثقافة ،فقد صنفت كتب في مختلف العلوم المتداولة
مما أتاح المجال لتنامي العلم واألدب ،في هذا المجال اختص األدب والنقد بحظ
وافر من االهتمام واتخذ التأليف األدبي اتجاها علميا وفلسفيا حيث عنيت بسيرة
الشعراء والكتاب ونقد آثارهم.
وكان الزدهار الحركتين العلمية واألدبية في هذا العصر عدة أسباب نذكر منها:
االتصال الخصب المثمر بين الثقافة العربية وثقافات األمم األخرى .يقول األستاذ
أحمد أمين" :إذا وصلنا إلى النقد في العصر العباسي رأينا إمعانا في الحضارة
والترف ورأينا الشعر واألدب يتحوالن إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن
طبع وسلفية .حتى نرى كثيرا من الكتاب والشعراء من الموالي الذين عدوا عربا
بالمربي ورأينا الثقافات األجنبية تدق على المملكة اإلسالمية من فارسية وهندية
ويونانية" .53وقد بدأت الثقافات األصلية والوافدة تتفاعل في العقول وتحدث تحوال
كبيرا في الذوق وقد شمل هذا التحول الشعر .فبدأ يتجه إلى الثراء والوحدة
والشاعر الذي بدأ يحدد لنفسه إطارا فنيا ينظم فيه وفلسفة خاصة يشعر خاللها.
كما برزت اتجاهات فنية استقطبت بعض الشعراء فتحمسوا لها وأقبلوا عليها
كمذهب البديع أو شعراء الصنعة ،كمذهب الشعراء المطبوعين وبدأ الشعراء
ينقلون ما وعته ذاكرتهم من فكر غربي إلى ساحة الشعر العربي كما فعل أبوا
العناهية54 .والحق أن ترجمة الكتب إلى العربية كانت عامال قويا من العوامل
التي دفعت النقد العباسي إلى األمام ،وذلك ألنه قد انتقلت بترجمتها من مظاهر
أدبية ونقدية كان لها أثرها في الحركة العقلية في النقد ،فوضعت النظريات
وتدخل المنطق في الجدل والحوار وألفت الكتب النقدية التي تدخر بالمناهج
55
العلمية والعقلية التي أسسها النقاد العرب.
26
ولقد كان الخلفاء العباسيون من فاتحة هذا العصر يعنون بالشعر والشعراء فكان
لهم القدرة من تمييز جيده من رديئه ونقد ألفاظه ومعانيه بحاستهم الفنية وأذواقهم
المرهفة.56
ومن العوامل التي اشعلت جودة النقد وأسهمت في بروزه على الساحة األدبية
العربية في هذا العصر نجد الخصومة حول الشعراء .وهذا ما أدى إلى تأليف
الكتب في نقد الشاعر إلنصاف من التحامل عليه أو لتهجيين شعره والحط من
مذهبه .وقد حظي كل من أبي تمام وأبي طيب المتنبي ما لم يحظى به غيرهما من
خصومات حادة ومناقشات صاحبة حول شاعرية كل من هما وشعره الى حد فاق
االعتدال أحيانا الى التعصب ألحدهما أو عليه فمنهم من تعصب ألبي تمام ومنهم
من تعصب عليه ونظر النقاد كذلك الى شعر البحتري وسهولته وجريانه على
عمود الشعر فقارنوه بأبي تمام وكثرة في ذلك ألقوال والحجج ،حتى وضع
األمدى كتابه الموازنة بين الطائيين ،الذي لم يقتصر فيه على حجج كل فريق ،بل
57
أخذ في دراسة الشاعرين الموازنة بينهما في منهج تفصيلي منظم.
من العوامل التي أثرت كذلك في تطور النقد العباسي نجد األثر المباشر للقرآن
الكريم يقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن حول هذا األثر" :والحق أن القرآن
كان له أبلغ األثر في نمو األذواق وتطورها في هذا العصر وضعفها إلى
اإلحساس".
وبجمال العبارة وروعة تصويري وبراعة المعنى ولطف التناول فيما يعرض لها
من فنون األدب ،وعلى ذلك ظهرت مجموعة من الدراسات القرآنية تلك المرحلة
تعد من صميم النقد ،وذلك ألنها كانت تحاول فهم النص...ومثل هذه الدراسات
58
القرآنية قد ساعدت على تأصيل النقد األدبي في هذا الطور من أطوار تكوينه.
لقد ظهر في هذا العصر ثالثة اتجاهات نقدية بارزة.
أولهما :اتجاه عربي :صرف لم تمازجه ثقافات وافدة أو تؤثر فيه عوامل داخلية،
وقد تمثل هذا االتجاه عند جماعة اللغويين والنحاة كالخليل واألصمعي وأبي
عمرو بن العالء وابن األعرابي المبرد ومن على شاكلتهم ممن كانت لهم الدراية
باللغة وأصولها والشعر وروايته وصور هذا النقد مبثوثة في ثنايا كتب األدب
والنقد األولي كاألغاني ألبي الفرج والموشح للمزرباني والشعر والشعراء البن
56في النقد األدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمن إبراهيم :الصفحة132 :
57النقد المنهجي عند العرب :محمد مندور الصفحة91 :
58في النقد األدبي القديم عند العرب :مصطفى عبد الرحمن إبراهيم الصفحة132 :
27
قتيبة وغيرهما .كما تمثل هذا االتجاه عند بعض النقاد األوائل الذين عالجوا النقد
حسب ما انتهى إليه عملهم في منصفات مستقلة ،رتبوا فيها الشعراء الى طبقات
كما فعل ابن سالم ،أو تناولوا فيها الحديث عن الشعراء وأخبارهم ومنزلتهم كما
فعل ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء.
وثانيها :اتجاه عربي اعتمد على الطبع والذوق ثم دعمته الثقافات المنوعة التي
نهضت به وغدته وكان له رافدا قويا ،ولكنها لم تقض على أصالته وسمات
عروبته وهو ما نالحظه عند األمدى في موازنته ،وعند القاضي الجرجاني في
وساطته ،وذلك في باب نقد الشعر ،وعند رجل كالجاحظ في مجال نقد النثر.
وقد اتسم نقد هؤالء باستقصاء البحث وشمول الفكرة وتوضح العلة والموازنة بين
الشعراء.
ثالثها :اتجاه تأثر فيه أصحابه بالتيارات الثقافية األجنبية شكال ومضوعا حيث
خضع النقد فيه لسلطان المنطقة والفلسفة وغلب فيه العقل على الذوق والفكر
الحس ،وقد تمثل هذا االتجاه عند قدامة ابن جعفر في كتابه -نقد الشعر -الذي كان
تأثره فيه بمنطق اليونان واضحا.
28
خالصة:
لم يكن النقد في العصر الجاهلي سوى نقد بسيط للغاية ،ولم يكن نقد انطباعي ال
غير ،وكثرة األسواق الشعرية كسوق عكاظ والتي كان فيها النقاد من الشعراء
يبدون رأيهم بالقصائد الشعرية بحسب العادات والتقاليد وكانت هذه األسواق تشهد
منافسة كبيرة بين الشعراء .أما في صدر اإلسالم فقد تطور النقد عما كان عليه
في العصر الجاهلي .وتغيرت طبيعة األشعار حيث ابتعد العرب عن أسواقهم
وانشغلوا بفتوحاتهم وعلى الرغم من عدم بروز عدد كبير من الشعراء في ذلك
العصر بسبب الحروب وبسبب سوء الفهم الذي اعتقد في البداية أن اإلسالم حرم
الشعر ،ولكن الحقيقة إن اإلسالم نفي أن يقول النبي الشعر .ولم يحرم الشعر .وقد
ازدهر النقد في العصر األموي وحظي الشعر بالشعراء بمكانة مرموقة عند
الملوك واألمراء ،كما كثر النقاد الذين كانوا يبرزون نقاط القوة في القصائد
ويحددون أيضا نقاط الضعف فيها .وفي العصر األموي شهد النقد ثورة كبيرة
وبخاصة بعد أن اطلع العرب على الكتب اليونانية ،وظهر في هذا العصر عدد
كبير من النقاد العظماء كالجرجاني الذي كان يدرس الحالة النفسية لألديب
والظروف المحيطة به ،وقدامة بن جعفر وغيره من النقاد الذين دفعوا حركة النقد
نحو األمام.
29
الفصل الثاني
30
مقدمة:
اتصل النقد العربي منذ القدم بالشعر ،فقد بدأت المالمح األولى للنقد األدبي في
العصر الجاهلي على شكل أحكام نقدية تكون حسب ذوق الناقد.
لقد عرف العرب القدماء الكتابة فدونوا بعض أشعارهم وبعض ما كانوا يعقدونه
من مواثيق وعهود ،كما أسهم اإلسالم في ازدهار عملية التدوين ال سيما بعد ما
توافرت دواعي اإلقبال على تعلم الكتابة والقراءة.
إن حركة التدوين بدأت بسيطة ال تتجاوز تقييد بعض األشعار واألخبار .ثم
بوصولنا إلى القرن الثاني للهجرة الحظنا ازدهار هذه الحركة فبدأت تظهر
مدونات تاريخية للقبائل ،كما أن وسائل الكتابة فيها كانت بدائية.
31
النقد العربي ومعضلة التدوين
قبل البدء في سرد آراء النقاد والمؤرخين حول مدى اعتماد العرب التدوين
والكتابة في حفظ تراثهم يتوجب علينا أوال أن نسرد بعض الوسائل التي كان
يستخدمها القدماء في الكتابة ،فما وصلنا من أخبار عن األدوات التي استخدمت
في الكتابة نجد قول المتنبي:
والسيف والرمح والقرطاس والقلم والخيل والليل والبيداء تعرفني
فكلمة القرطاس في هذا البيت تطلق في المصادر العربية القديمة على ورق
البردي .وكان هذا النوع من الورق يفد على العرب من خارج جزيرتهم.
كما تصدفنا في الشعر العربي القديم كلمة (المهراق) التي تطلق على ثياب من
الحرير أو من القطن كانت تطلى بالصمغ ثم تصقل لتستخدم في الكتابة .كقول
األعشى:
لطول يالها والتقادم مهرق وأنى ترد القول دار كأنها
فاألصمعي في شرحه لهذه اللفظة يكشف عن األصل األجنبي لهذا الصنف من
الورق .فهو يقول :هو فارسي معرب وكان أصله خرق حرير تصقل وتكتب فيه
األعاجم ،تسمى مهر كرد ،فأعربته العرب وجعلته اسما واحدا فقالوا" :مهرق".1
كما أننا نجد إشارات في الشعر العربي تدل على استعمال بعض المواد المحلية
في الكتابة يقول امرئ القيس:
كحظ الزبور في العسيب اليماني لمن طلل أبصرتاه فشجاني
فكلمة (العسيب) الواردة في البيت جمعها عسب والمراد بها السعفة أو جريد
النخل ،وكان العرب يكتبون عليها فعي إذن من وسائل التدوين التي كانت توفرها
لهم بيئتهم كما هو واضح من إشارة امرئ القيس.
وكانوا يستخدمون جلود الحيوان في كتابتهم ففي أشعارهم إشارات كثيرة إليها
منها ،هذا البيت للمرقش األكبر:
رقش في ظهر األديم قلم الدار وحش والرسوم كما
32
فهو هنا يشبه اآلثار المتبقية من الديار بآثار الكتابة على الجلد .2ومن هنا تتبين
النقوش التي اكتشفها الباحثون في أماكن مختلقة من الجزيرة العربية وفي اليمن،
خاصة أن العرب كانت تستخدم الحجر أيضا في الكتابة وتدوين األخبار ما ويؤكد
ذلك ما نلقاه في أشعارهم من تشبيه األطالل وآثار الديار التي رحل عنها أهلها
3
بآثار الكتابة على الحجر.
لقد أكدت مجموعة من األخبار والنقوش التي وصلتنا عن عصر الجاهليين
وصدر الدولة اإلسالمية حتى نهاية القرن الثاني الهجري ،أنه لم تعد معرفة
الجاهليين بالكتابة موضوع اختالف بين الدارسين والمؤرخين .لكن محل
االختالف بين النقاد هو مدى انتشار الكتابة في هذه الحقبة ،لم يكن للعرب فترة ما
قبل اإلسالم ثقافة مدونة وعلوم مسجلة ،فقد غلبت عليهم البداوة واستقرت حياتهم
على التنقل ،فتفشت فيهم األمية ولم يتركوا خالل هذه الحقبة المديدة الغامضة من
حياتهم سوى نقوش قليلة تنبئ مما كان لهم من دور حضاري .حتى إن النقوش لم
تكن متوافرة إال في بعض المناطق العربية ،كجنوب جزيرة العرب وشمالها حيث
توجد األحجار والصخور .4وبهذا يكون الدكتور محمد الدفاق قد ضيق من رقعة
الكتابة في المجتمع العربي.
كما قلل المستشرق الفرنسي بالشير أيضا من انتشار التدوين بين العرب فيقول:
ال شك أن بعض الرواة في بعض المراكز الحضرية دونوا بعض القصائد الهامة،
ولكن ذلك يعزوه الدليل حتى ولو سلمنا بصحة وقوع ذلك فإن التدوين لم يستعمل
إال جزءا من آثار الشعراء الحضريين ،أما البقية فقد صارت في الصحراء عن
5
طريق الرواية الشفوية.
أما الدكتور ناصر الدين األسد فيذهب إلى أبعد من ذلك في تأكيده على معرفة
العرب بالكتابة واعتمادهم عليها في تدوين تراثهم األدبي وأخبارهم فكل قبيلة من
القبائل كما يقول" :كانت تجمع شعر شعرائها وحكم حكمائها وأقوال خطبائها
وأخبارها ومفاخرها ومآثرها وأنسابها في كتاب."6
وقد قام على رأس حركة التدوين في هذه الحقبة علماء عرفوا بجمعهم للتراث
وتدوينه كحماد الراوية (156هجرية) الذي قال فيه ابن سالم الجمحي" :وكان
33
أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية" .7وممن شاركوا أيضا
في حركة التدوين في هذه الفترة المفضل الضبي (168هجرية) الذي عرف بسعة
علمه بأخبار العرب وأيامها ولغتها وأسفارها .ولكن شوقي ضيف يذهب إلى أن
المفضل لم يكتب هذه القصائد بنفسه .يقول :وتروى للمفضل الضبي كتب صنف
فيها أشعار وأخبار .ومن المؤكد أنه لم يكتب معضلياتها .وإنما أنشدها تالميذه
فحملوها عنه 8.وقد أعقب هذا الجيل من علماء القرن الثاني جيال آخر تتلمذ لهم
وجمع مثلهم بين الرواية والتدوين .هم الذين يرجع الفضل إليهم في تدوين الشعر
9
الجاهلي تدوينا منهجيا قائما على التوثيق والتجريح ،وعلى رأسهم األصمعي.
إنه ليطول بنا الحديث لو أردنا أن ستفضي كل أخبار حركة التدوين والتأليف التي
عرفت تطورا كبيرا منذ القرن الثاني الهجري سواء من حيث كثرة ما جمع ودون
في هذه الفترة أو من حيث كثرة تنوع موضوعات الكتابة حيث أخذ مجال النقد
النصيب األكبر ،فاتجه العرب إلى التأليف المنهجي والذي سيزهر في القرن
الثالث ويكثر فيه ظهور المؤلفات.
تعد مرحلة العصر الجاهلي هي المرحلة التي تطور فيها النقد األدبي .فالعرب
عرفوا النقد انطالقا من التالزم المفترض بين النقد والشعر ،فما دام لدينا شعر
فالبد أن يكون لدينا نقد ،فهناك من الدارسين من يرى أن النقد أسبق إلى الوجود
من الشعر .وما األديب إال ناقد قبل أن تأخذ أفكاره صبغتها الفنية وتتخذ أسلوبها
الجميل وسيلة في الظهور شعرا ونثرا .10فالنقد األدبي ظهر في الشعر وظلت
أكثر تجربة في الشعر11 .ولكي يبرهن األستاذ طه أحمد دالئله من وجود الشعر
انطالقا من النقد يقول" :في مثل هذا العهد نعد نقد كل ماله مساس باألدب بنية
ومعنى وإن لم يتصل بالبحث في الجمال الفني فذم اإلقواء نقد في الجاهلية ألنه
12
يعيب أمرا لعله من آثار طفولة الشعر".
وجد النقد األدبي في الجاهلية ولكنه وجد هينا يسيرا مالئما لروح العصر ،مالئما
للشعر العربي نفسه ،فالشعر الجاهلي إحساس محض أو يكاد والنقد كذلك 13.وفي
7طبقات فحول الشعراء البن سالم الجمحي ،الجزء األول ،الصفحة48 :
8تاريخ األدب العربي شوقي ضيف ،الصفحة160 :
9تاريخ األدب العربي شوقي ضيف ،الصفحة161:
10رشيد العبدي ،األدب ومذاهب النقد فيه ،الصفحة98:
11طه إبراهيم تاريخ النقد األدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع ،الصفحة6 :
12ابن قتيبة الشعر والشعراء جزء ،1تحقيق أحمد شاكر .الصفحة84 :
13طه إبراهيم تاريخ النقد األدبي ،الصفحة16 :
34
العصر الجاهلي ظهر اتجاه نقدي جديد ،إن يكن بدائيا ولكنه كان فيه ضرب من
14
التعليل الموضوعي أساسه تقاليد العرب في أشعارهم.
وهنا نقف أننا لم نستطع أن نحدد الصورة الدقيقة للنقد العربي القديم .ما وصلنا
فقد كان الشعر علم قوم لم يكن لهم على أصح منه.
35
خالصة:
لقد تعددت اإلجابات حول البداية األولى لتدوين النقد األدبي عند العرب ،فاختلف
النقاد حول بداياتها فآثرت مرحلة البداية األولى للنقد نقاشا محتدما بينهم ،فريق
منهم يرى أن البداية األولى للكتابة النقدية كانت في مرحلة العصر الجاهلي إذ
ينطلقون من التالزم المفترض بين الشعر والنقد كاألستاذ طه أحمد إبراهيم،
وفريق آخر قرأ النقد العربي القديم انطالقا من مفاهيم نقدية مستمدة من الثقافة
الغربية .فانتهى برفضه للبداية األولى لتدوين النقد لينص على أن النقد لم يظهر
إال في القرن الرابع الهجري كالدكتور محمد مندور وأيضا بعض المستشرقين
كالفرنسي بالشير الذي ينكر معرفة العرب بالكتابة في هذه الحقبة الزمنية بالرغم
مما وصلنا من آثار قديمة حول معرفة العرب بالكتابة في أشعارهم.
36
خاتمة
وبعد خوضنا غمار هذه الدراسة "النقد القديم ومعضلة التدوين" خلصنا إلى
مجموعة من النتائج والنقاط التي تكون جوهر البحث ،على النحو التالي:
كشف الفصل التمهيدي عن معاني المفاهيم المكونة لعنوان البحث فتوصلت إلى
أن النقد هو تمييز جيد الشيء من رديئه .وأن وظيفته تتلخص في تقويم العمل
األدبي ،وأن التدوين هو الكتابة .وأنه اقترن بالثقافة اإلنسانية ،كما يساهم في
تطور اإلنسان ونقل المعارف والخبرات إلى األجيال الالحقة.
توصلت في الفصل األول إلى أن عملية تدوين النقد األدبي القديم قد واجهت عدة
صعوبات في مختلف العصور .فالنقد في العصر الجاهلي كان انطباعيا بسيطا ال
يخرج عن األسواق الشعرية ،وقد تطور عما كان عليه في صدر اإلسالم بحيث
تغيرت طبيعة األشعار حيث ابتعد الشعر عن األسواق الشعرية وانشغلوا
بالفتوحات.
ولقد ازدهر النقد وتدوينه في العصرين األموي والعباسي فكانت البدايات األولى
لكتابة النقد في هذه الفترة من الزمن ،يظهر هذا من خالل ما وصل إلينا منقوال
من أعمال النقاد والباحثين.
لقد ارتبط النقد العربي القديم بالشعر حيث كان ظهورهما متالزما وهذا ما
توصلت إليه في الفصل الثاني من هذه الدراسة فقد قدمت مجموعة من األدلة
والشواهد على أن النقد كان يمارس عن طريق الشعر وأنه كان يكتب في
الصحف منذ العصر الجاهلي ،لذلك نجد بعض الدارسين يقولون في نهاية الفصل
الثاني أن كتابة النقد الجاهلي ذلك هو تدوين الشعر وقد جمعنا ما استطعنا أن نعثر
عليه من أدلة عقلية ونقلية تسنده .وقد انتهت كلها إلى ترجيح أن الشعر الجاهلي
كان يقيد في صحف متفرقة ألغراض شتى .غير أن هذا كله مرحلة واحدة من
مراحل بحثنا تقودنا إلى مرحلة تالية نتحدث فيها عن تدوين النقد الجاهلي
واإلسالمي واألموي والعباسي.
وفي حديثنا في هذا الفصل عن التدوين ،نشير إلى أن ما شاع حول القرن الثاني
الهجري بأنه العصر الذي بدأ معه التدوين هو أمر مشكوك في صحته ،ثم شرعت
بعرض نصوص وأقوال تؤيد هذا الطرح .وأن التدوين بمفهومه العام هو
الصحف المجتمعة ،قد كان قبل هذا التاريخ ،وكما سبق وذكرت على أن النقد
37
القديم قد دون في العصر الجاهلي وفي عصر صدر اإلسالم ،وقدمت أدلته على
ذلك ،فخلصت في األخير إلى أن هذه النصوص والروايات واألخبار حول تدوين
النقد قد جمعت في القرون الالحقة ولم تكتب في وقتها إنما وصلت عن طريق
الرواية كما روى عن رواية حماده وابن سالم عن جمع النعمان للشعر الجاهلي
وتدوينه ،وهذا ما يترك السؤال المطروح عن مدى صحة هذا الطرح؟
38
الئحة المصادر والمراجع
تاريخ األدب العربي العصر الجاهلي ،الدكتور ريجيس بالشير تعريب إبراهيم
الحيالني ،دار الفكر ،دمشق.
تاريخ النقد العربي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري،
طه إبراهيم ،المكتبة الفيصلية مكة المكرمة .2004
طبقات فحول الشعراء البن قتيبة تحقيق محمد شاكر ،مطبعة المدني القاهرة.
النقد األدبي الحديث ،محمد غنيمي هالل ،الطبعة األولى دار العودة.1957،
المفضليات ألبو العباس المفضل بن محمد الضبي ،شرح ألبي محمد فاهم
األنباري.
طبقات فحول الشعراء ألبي سالم الجمحي 231 ،هجرية ،قرأه وشرحه محمود
محمد شاكر ،الجزء األول دار المدني جدة.
تاريخ األدب العربي العصر الجاهلي لشوقي ضيف ،الطبعة الحادية عشرة ،دار
المعارف مصرـ القاهرة.
تاريخ النقد األدبي عند العرب نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن
الهجري ،الدكتور إحسان عباس الطبعة الرابعة ،1983دار الثقافة ببيروت،
لبنان.
في النقد األدبي القديم عند العرب الدكتور محمد مصطفى عبد الرحمن إبراهيم،
مكة للطباعة .1998
تاريخ النقد األدبي عند العرب عبد العزيز عتيق ،الطبعة الثانية ،1972دار
النهضة العربية ،ببيروت لبنان.
قضايا النقد القديم محمد صايل حمدان ،عبد المعطي معاذ السرطاوي ،الطبعة
األولى ،1990دار األمل األردن.
المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية ،الطبعة الرابعة ،2004مكتبة الشروق
الدولية ،مصرـ القاهرة.
39
مصادر التراث العربي في اللغة والمعاجم واألدب والتراجم ،دار الشرق العربي
.2001
األغاني أبو فرج األصفهاني ،تحقيق إحسان عباس .الدكتور إبراهيم السعافين
واألستاذ بكر عباس المجلد األول طابعة دار صادر بيروت .2002
مصادر الشعر الجاهلي ناصر الدين أسد الطبعة الخامسة 1985 ،دار المعارف
القاهرة.
الشعر والشعراء البن قتيبة الدينوري
دراسة في النقد األدبي عند العرب لبدوي طبانة
النقد المنهجي عند العرب ألحمد مندور
التفكير النقدي عند العرب لعيسى علي العاكوب
عبقرية االمام علي عباس العقاد
النقد األدبي ألحمد أمين
البالغة والنقد والمصطلح والنشأة والتحديد لمحمد كريم الكواز
لسات العرب البن منظور
المعجم الوجيز البن مذكور
القاموس المحيط للفيروز أبادي
40