You are on page 1of 45

‫اختصار‪ :‬خضر بن حسن بن أحم ــد‬

‫الصومالي السعدي‬

‫مركز القرن اإلفريقي للبحوث والدراسات‬


‫المصفى من مقدمة المستصفى‬
‫المقدمة‬
‫الحمد لله الذي صفى للعلوم عقول أولي األلباب‪ ،‬وفتح لها من لطائف معارفه مقفالت‬
‫األبواب‪ ،‬ودرأ بها عنهم أدران الجهل وظلمات االرتياب‪ ،‬وصلى الله وسلم على عبده ونبيه‬
‫ودل على الصواب‪ ،‬وعلى آله الطيبين وسائر األصحاب‪ ،‬ومن سار‬ ‫محمد خير من علَّم َّ‬
‫سيرهم إلى يوم المآب‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫أدل على ذلك من أن خير خصال الجاهل‬ ‫يداخل عاقل في فضل العلم وأهله‪ ،‬وال َّ‬ ‫فال َ‬
‫علمه بجهله‪ ،‬وخير العلوم ما يورث السعادة األبدية‪ ،‬التي اتفقت على طلبها البشرية‪ ،‬وال‬
‫يدل المرء على مصيره‪ ،‬وما الذي إليه مآل أموره‪ ،‬وذلك علم‬ ‫يكون ذلك إال العلم الذي ُّ‬
‫الوحي‪ ،‬الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل‪ ،‬وأكبر آلة لفهم ذلك آلة العقل‪ ،‬وهو‬
‫مركوز في أصل خلقة البشر‪ ،‬ال يزول عنه إال بآفة تعتل منها الفطرة ويختل النظر‪ ،‬والناس فيه‬
‫متفاوتون غير متساوين‪ ،‬كتفاوتهم في حدة البصر‪ ،‬فمنهم األعشى واألعمش واألخفش‬
‫والحديد‪ ،‬وكلهم مبصرون‪ ،‬إال أن تفاوتهم في ذلك سهل اإلدراك لتعلقه بالمحسوسات‬
‫فيعترف ضعيف البصر أنه ضعيفه‪ ،‬ال يمتري في ذلك وال يماري‪ ،‬ولما كان العقل‬ ‫ُ‬ ‫واألجسام‪،‬‬
‫متعل ًقا بالمعاني التي هي وراء المحسوسات لم يتهيَّأ فيه ذلك‪ ،‬بل تجد أغبى الناس يجادل‬
‫جرم وضع العلماء مقاييس تعين الغافل‬
‫معتقدا في نفسه الذكاء وحسن الفهم‪ ،‬ال َ‬ ‫ً‬ ‫أذكاهم‪،‬‬
‫وتفيد العاقل في فهم كالم الله وكالم رسوله ﷺ‪ ،‬فكانت القواعد األصولية هي طريق ذلك‪،‬‬
‫كثير من العلماء المصطلحات‬‫وهي حصيلة إعمال العقل في طرق الفهم‪ ،‬ومن هنا استعمل ٌ‬
‫المنطقية في هذا العلم‪ ،‬وكان ذلك مدعاة للوقوف على مقاصد تلك المصطلحات؛ لئال‬
‫تضيع األفهام‪ ،‬وتضل عن المرام‪ ،‬وال يكون ذلك إال بدراسة شيء من كتب المنطق يفصح‬
‫تدق عن بعض‬ ‫عن معاني تلك األلفاظ؛ على أن القواعد المنطقية أيضا ال تخلو من فائدة ِ‬
‫ً‬
‫األفهام ُّ‬
‫وتشذ‪ ،‬فيحتاج إلى التنبيه عليها لئال تضل‪.‬‬
‫ووجدت حجة اإلسالم الغزالي ‪-‬رحمه الله‪ -‬ممن حاز قصب السبق في التضلع‬
‫والتأليف في هذا العلم‪ ،‬مع ما أوتي من البسطة في العبارة وإيصال المراد بأقصر وأظهر إشارة‪،‬‬
‫ولما كانت مقدمته لكتابه المستصفى أخصر كتبه في هذا الفن أحببت تقريبها بين يدي‬

‫‪2‬‬
‫الطالب؛ بحذف ما ال تشتد الحاجة إليه‪ ،‬واستبدال مألوف أهل العصر من األمثلة بما ال‬
‫اعتياد لهم عليه‪ ،‬مع الحفاظ على عبارته الجزلة ما وجدت إليه سبيال‪ ،‬وقد اشتملت المقدمة‬
‫كثير من كتب المنطق‪،‬‬‫على فوائد عديدة ودقائق مفيدة تفيد عالم الشريعة ال تعرض لها ٌ‬
‫فكانت ح ِريَّة بالوقوف عليها‪ ،‬وضممت فوائد تتم المقاصد‪ ،‬وربما خالفته في بعض المواضع؛‬
‫ال لدرايتي بالمنطق؛ فأنا لم أخض غماره‪ ،‬بل اقتصرت منه على المهمات؛ وإنما لكون‬
‫الموضع مما قد يؤثر فيه غير ِ‬
‫فن المنطق في نفسه‪ ،‬والله أسأل اإلعانة على بلوغ الكمال‪،‬‬
‫والتوفيق لحسن القصد وإحسان العمل‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫توطئة‬

‫عالقة المنطق بالعلوم عامة واألصول خاصة‬


‫ليس علم المنطق من جملة علم األصول وال من مقدماته الخاصة به‪ ،‬بل هو مقدمة‬
‫العلوم كلها‪ ،‬وحاجة جميع الفنون إليه كحاجة أصول الفقه إليه‪ ،‬ومن ال يحيط بها – ِخل َقةً أو‬
‫دربةً‪ -‬فال ثقة له بعلومه أصال‪.‬‬
‫نوعا اإلدراك‬
‫اعلم أن إدراك األمور على ضربين ‪:‬‬
‫األول‪ :‬إدراك الذوات المفردة؛ كعلمك بمعنى (الجسم)‪ ،‬و(الحركة)‪ ،‬و(العالَم)‪،‬‬
‫و(الحادث)‪ ،‬و(القديم)‪ ،‬وسائر ما يُ َدل عليه باألسامي المفردة‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض بالنفي أو اإلثبات‪ ،‬فتعلم –‬
‫أوال‪ -‬معنى لفظ (العالم) وهو أمر مفرد‪ ،‬ومعنى لفظ (الحادث) ومعنى لفظ (القديم) وهما‬
‫أيضا أمران مفردان‪ ،‬ثم تنسب مفردا إلى مفرد بالنفي أو اإلثبات كما تنسب القدم إلى العالم‬
‫بالنفي فتقول‪( :‬ليس العالم قديما)‪ ،‬وتنسب الحدوث إليه باإلثبات فتقول‪( :‬العالم حادث)‪.‬‬
‫تطرق الصدق والكذب إلى المدرك‬
‫والضرب األخير هو الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب‪ ،‬وأما األول فيستحيل فيه‬
‫التصديق والتكذيب إذ ال يتطرق التصديق إال إلى خبر‪.‬‬
‫وأقل ما يتركب منه جزءان مفردان‪ ،‬وصف وموصوف‪ ،‬فإذا نسب الوصف إلى‬
‫الموصوف بنفي أو إثبات‪ ،‬صدق أو كذب‪.‬‬
‫فأما قول القائل‪( :‬حادث)‪ ،‬أو‪( :‬جسم)‪ ،‬أو‪( :‬قديم)‪ ،‬فمفردات ليس فيها صدق وال‬
‫كذب‪.‬‬
‫االصطالح على ما يعبر به عن نوعي اإلدراك‬
‫وال بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين؛ فإن حق األمور‬
‫المختلفة أن تختلف ألفاظها الدالة عليها‪ ،‬إذ األلفاظ مثل المعاني‪ ،‬فحقها أن تحاذى بها‬
‫المعاني‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫اصطالح المناطقة‪:‬‬
‫وقد سمى المنطقيون معرفةَ المفردات تصورا‪ ،‬ومعرفةَ النسبة الخبرية بينهما تصديقا‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬العلم إما تصور‪ ،‬وإما تصديق‪.‬‬
‫اصطالح بعض العلماء‪:‬‬
‫ِ‬
‫المفرد معرفة‪ ،‬وإدراك النسبة علما؛ تأسيًا بالنحاة‪.‬‬ ‫وسمى بعض العلماء إدراك‬
‫ال مااةة يي االصطالح‬
‫وإذا فهمت افتراق الضربين فال مشاحة في األلقاب‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬إن اإلدراكات صارت محصورة في [المعرفة‪ ،‬والعلم] أو في [التصور‪،‬‬
‫والتصديق]‪ .‬وإذن‪ :‬فكل تصديق سبقه تصوران‪ ،‬فإن من ال يعرف المفرد ال يعلم المركب ومن‬
‫ال يفهم معنى (العالَم) ومعنى (الحادث) كيف يعلم أن (العالم حادث)‪.‬‬
‫تقسيم اإلدراك باعتبار طريق حصوله‬
‫والمعرفة أو التصديق قسمان‪:‬‬
‫أولي‪ ،‬وهو الذي ال يطلب بالبحث‪ ،‬وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث‬
‫وطلب؛ كلفظ الوجود والشيء وككثير من المحسوسات‪.‬‬
‫ومطلوب‪ ،‬وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل وال مفسر فيطلب‬
‫تفسيره بالحد‪.‬‬
‫وكذلك العلم ينقسم إلى أولي كالضروريات‪ ،‬وإلى مطلوب كالنظريات‪.‬‬
‫طريق تةصيل نوعي اإلدراك‬
‫يدرك بالحد‪ ،‬مأخوذٌ من الحد في اللغة بمعنى المنع‪،‬‬ ‫(=التصور) َ‬
‫ُّ‬ ‫المطلوب من المعرفة‬
‫وهو هنا منبئ عن حقيقة معنى اللفظ‪ ،‬مانع من دخول غير المراد فيه‪.‬‬
‫شارحا‪.‬‬
‫وقوال ً‬ ‫ويسمى ِ‬
‫معرفا‪ ،‬وحدًّا‪ً ،‬‬
‫وقياسا‪.‬‬
‫والمطلوب من العلم (=التصديق) يدرك بالبرهان‪ ،‬ويسمى برهانًا ً‬
‫تدرك كل العلوم المطلوبة‪.‬‬
‫فالبرهان والحد هما اآللة التي بها َ‬
‫فمن هنا كان هذا العلم في بابين‪ ،‬أحدهما في الحد‪ ،‬واآلخر في البرهان‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫الباب األول‪ :‬في الحد‬

‫ويجب تقديمه؛ لتعلقه بالمفردات‪ ،‬وإدراكها متقدم على إدراك المركبات كما سبق‪،‬‬
‫ويشتمل على فصلين‪ :‬فصل فيما هو كالقوانين له‪ ،‬وفصل في التدريبات على تلك القوانين‪.‬‬

‫الفصل األول‪ :‬في القوانين‬


‫وهي ستة‪:‬‬
‫القانون األول‪ :‬الةد جواب عن سؤال‪ :‬ما هو‬

‫أي إن الحد إنما يذكر جوابا عن سؤال بأداة االستفهام «ما»‪.‬‬


‫والمسؤول عنه بـ ـ«ما» أحد ثالثة أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يطلب به تفسير اللفظ كما يقول من ال يدري العُقار‪ :‬ما العقار؟ فيقال له‪:‬‬
‫الخمر‪ ،‬إذا كان يعرف لفظ الخمر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يطلب به لفظ محرر جامع مانع يتميز به المسئول عنه من غيره‪ ،‬كما يقع‬
‫كثيرا‪ :‬ما تعريف الفاعل؟ وما تعريف الصالة؟‬
‫في العلوم ً‬
‫والثالث‪ :‬أن يطلب به ماهية الشيء وحقيقة ذاته‪ ،‬كمن يقول‪ :‬ما الخمر؟ فيقال‪ :‬هو‬
‫تبعا‪.‬‬
‫الشراب المسكر‪ ،‬فيكون ذلك كاشفا عن حقيقته‪ ،‬ويقع به التميُّز عن غيره ً‬
‫وكل هذه الثالثة تسمى حدًّا باالشتراك اللفظي‪.‬‬
‫واألولى أن نخص كل واحد باسم‪:‬‬
‫اللفظي؛ إذ السائل ال يطلب به إال شرح اللفظ‪ ،‬وهو أضعف‬
‫ُّ‬ ‫فاألول‪ :‬هو ال ُّ‬
‫حد‬
‫الحدود‪.‬‬
‫الرسمي؛ إذ هو مطلب مرتسم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء‪ ،‬وقد‬
‫ُّ‬ ‫والثاني‪ُّ :‬‬
‫الحد‬
‫رسما أيضا‪.‬‬
‫يسمى‪ً :‬‬
‫والثالث‪ُّ :‬‬
‫الحد الحقيقي؛ إذ مطلب الطالب منه درك حقيقة الشيء‪ ،‬ويسمى‪ :‬الحدَّ؛ بال‬
‫قيد‪ ،‬وشرطه أن يشتمل على جميع ذاتيات الشيء‪ ،‬بخالف الرسمي‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬لو قيل‪ :‬ما الحيوان؟ فقال‪( :‬جسم حساس) فقد جيء بوصف ذاتي‪ ،‬وهو‬

‫‪6‬‬
‫كاف في الجمع والمنع‪ ،‬ولكنه ناقص بل حقه أن يضاف إليه‪( :‬متحرك باإلرادة)‪ ،‬فإن كنه‬
‫حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع أمرين‪ ،‬فأما المرتسم الطالب للتمييز فيكتفي بالحساس‪،‬‬
‫وإن لم يُقل‪ :‬إنه جسم أيضا‪.‬‬
‫القانون الثاني‪ :‬معرية أقسام صفات األاياء‬
‫أن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية والالزمة والعرضية‪.‬‬
‫‪ -‬أما الصفة الذاتية‪ :‬فهي كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخوال ال يتصور فهم‬
‫المعنى دون فهمه‪ ،‬وذلك كاللونية للسواد‪ ،‬والجسمية للفرس والشجر؛ فإن من فهم‬
‫(الشجر) فقد فهم (جسما) مخصوصا فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية‬
‫دخوال به قوامها في الوجود والعقل‪ ،‬لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية‪ ،‬وكذا‬
‫الفرس‪ ،‬ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن‪.‬‬
‫وما يجري هذا المجرى فال بد من إدراجه في حد الشيء‪ ،‬فمن يحد النبات يلزمه‬
‫أن يقول‪« :‬جسم نام» ال محالة‪.‬‬
‫ويسمى هذا القسم‪ :‬ذاتيًّا‪ ،‬وصفةَ نفس‪ِّ ،‬‬
‫ومقوما‪.‬‬

‫‪ -‬وأما الالزمة‪ :‬فهي ما ال يفارق الذات ً‬


‫أيضا؛ لكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف‬
‫عليها‪ ،‬كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس‪ ،‬فإن هذا‬
‫الزم ال ينفك؛ لكن فهم الحقيقة غير موقوف عليه؛ إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم‬
‫الفرس والنبات‪ ،‬بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك‪ ،‬وكذلك‬
‫كون األرض مخلوقة وصف الزم لألرض ال يفارقها‪ ،‬ولكن فهم األرض غير موقوف‬
‫بعد أنهما‬
‫على فهم كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة األرض والسماء من لم يدرك ُ‬
‫مخلوقتان‪.‬‬
‫ويسمى هذا القسم‪ :‬الزما‪ ،‬وتابعا‪.‬‬

‫‪ -‬وأما العرضية‪ :‬فهي ما ليس من ضرورته أن يالزم بل يتصور مفارقته إما سريعا كحمرة‬
‫كصغر ِ‬
‫الطفل‪.‬‬ ‫الخجل‪ ،‬أو بطيئا ِ‬
‫ويسمى‪ :‬غير الزم‪ ،‬ومفارقا‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫رضا أو‬
‫‪ -‬والمشهور في كتب المنطق عدم الفرق بين الثاني والثالث بل يسمونهما ع ً‬
‫عرضيًّا‪.‬‬
‫أهمية الفرق بين األول والثاني‪:‬‬
‫ومن مثارات األغاليط الكثيرة التباس الالزم بالذاتي فإنهما مشتركان في عدم المفارقة‪،‬‬
‫والفرق بينهما بأمرين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬إمكان تصور مفارقة الالزم ذهنيًّا بخالف الذاتي‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬إمكان فهم حقيقة الشيء مع الغفلة عن الالزم‪ ،‬وال يمكن ذلك في الذاتي‪.‬‬
‫تقسيم الذاتي‪:‬‬
‫ينقسم الذاتي إلى قسمين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬عام‪ ،‬ويسمى جنسا‪ ،‬كقولنا‪ :‬في حقيقة اإلنسان‪ :‬الحيوان العاقل‪ ،‬فالحيوانية‬
‫من حقيقة اإلنسان‪ ،‬والحيوان أعم من اإلنسان‪ ،‬فإن كان ال أعم منه سمي جنس األجناس‪.‬‬
‫ومثاله‪( :‬الجوهر)‪ ،‬ينقسم إلى جسم وغير جسم‪ ،‬والجسم ينقسم إلى نام وغير نام‪،‬‬
‫والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان‪ ،‬والحيوان ينقسم إلى عاقل ‪-‬وهو اإلنسان‪ -‬وغير‬
‫عاقل‪ ،‬فالجوهر إ ًذا جنس األجناس؛ إذ ال أعم منه‪.‬‬
‫أعم من الجوهر‪ ،‬والموجود أعم منه؛ فإنه يشمل العرض‬
‫فإن قيل ‪ :‬كيف ال يكون شيء ُّ‬
‫والجوهر؟‬
‫األعم الذي هو ذاتي‬
‫األعم فقط‪ ،‬بل عنَينا َّ‬
‫قلنا‪ :‬لم نعن ‪-‬في هذا االصطالح‪ -‬بالجنس َّ‬
‫للشيء‪ ،‬أي داخل في جواب «ما هو»‪ ،‬بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل‬
‫المحدود وحقيقته عن الذهن‪ ،‬وخرج عن كونه مفهوما للعقل‪ ،‬وعلى هذا االصطالح فالموجود‬
‫ال يدخل في الماهية؛ إذ بطالنه ال يوجب زوال الماهية عن الذهن‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬خاص ويسمى نوعا‪ ،‬فإن كان ال أخص منه سمي نوع األنواع‪ ،‬كاإلنسان‪ ،‬وإال‬
‫فهو جنس لما تحته نوع لما فوقه‪ ،‬فالحيوان جنس بالنسبة لإلنسان‪ ،‬نوع بالنسبة للنامي‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف ال يكون شيء أخص من اإلنسان‪ ،‬وقولنا‪( :‬شيخ) و(صبي) و(طويل)‬
‫و(قصير) و(كاتب) و(خياط) أخص منه؟‬
‫قلنا‪ :‬ال شيء من ذلك يدخل في الماهية؛ إذ ال يتغير جواب الماهية بتغيره‪ ،‬فلو قيل لنا‪:‬‬
‫‪8‬‬
‫ما هذا؟ فقلنا‪ :‬إنسان‪ ،‬وكان صغيرا فكبِر‪ ،‬أو قصيرا فطال‪ ،‬فسئلنا مرة أخرى‪ :‬ما هو؟ لكان‬
‫الجواب ذلك بعينه‪.‬‬
‫واعلم أن النوع يدل على تمام الماهية‪ ،‬فإذا قال لك شخص‪ :‬ما هذا؟ فقلت‪ :‬إنسان‪،‬‬
‫فقد ذكرت حقيقته كاملة‪ ،‬وأما الجنس فإنما يدل على جزء منها‪ ،‬فإن قلت في الجواب‬
‫السابق‪ :‬حيوان‪ ،‬لم تذكر تمام حقيقته‪ ،‬بل ذكرت ما هو داخل فيها‪ ،‬إذ الحيوانية جزء من‬
‫مشترك بينه وبين بقية الحيوانات‪ ،‬والجزء اآلخر ‪-‬وهو ما يميزه عما يشاركه في‬
‫ٌ‬ ‫حقيقته‪،‬‬
‫فصال‪ ،‬وهو العقل في اإلنسان‪ ،‬فإن قلت‪ :‬حيوان عاقل‪ ،‬كنت قد ذكرت‬ ‫الجنس‪ -‬يسمى ً‬
‫تمام ماهيته‪ ،‬وكان ذلك مساويًا للجواب األول‪ :‬إنسان‪.‬‬
‫وبهذا يتبين لك أن‪:‬‬
‫الجنس‪ :‬لفظ يقال على أشياء مختلفة الحقائق في جواب ما هو‪.‬‬
‫والنوع‪ :‬لفظ يقال على أشياء مختلفة األشخاص متفقة الحقائق في جواب ما هو‪.‬‬
‫والفصل‪ :‬لفظ يقال على الشيء في جواب أي ِ‬
‫شيء هو‪.‬‬
‫وقولهم‪( :‬أي شيء هو) تعريب لسؤال في الالتينية‪-‬كما أفاده ابن حزم‪ -‬وقد ال يؤدي‬
‫البيان المطلوب في العربية‪ ،‬والمقصود إذا سئلت عن شخص ما هو؟ فقلت‪ :‬حيوان‪ ،‬قيل‬
‫لك‪ :‬أي حيوان هو؟ فقلت‪ :‬حيوان عاقل‪ ،‬فتجيب بالفصل عن االستفهام ٍّ‬
‫بأي المضافة إلى‬
‫جنسه‪.‬‬
‫احتجت إلى ِذكر أكثر من فصل كما سيأتي‪.‬‬
‫َ‬ ‫وربما‬
‫تقسيم الصفات غير الذاتية‪:‬‬
‫الصفة غير الذاتية بقسميها الالزم والمفارق تنقسم قسمين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬العرض العام‪ ،‬وهو ما يشترك فيه أكثر من نوع‪ ،‬مثل المشي بالقوة‪ ،‬فهو‬
‫أيضا غير الزم‪.‬‬ ‫مشترك بين جميع الحيوانات‪ ،‬وهو الزم‪ ،‬والمشي ِ‬
‫بالفعل‪ ،‬وهو مشترك بينها ً‬
‫والثاني‪ :‬العرض الخاص‪ ،‬وهو ما يختص به نوع دون نوع‪ ،‬كالضحك‪ ،‬فإنه خاص بنوع‬
‫اإلنسان‪ ،‬فإن كان بالقوة فالزم‪ ،‬وإن كان بالفعل فغير الزم‪.‬‬
‫خمسا‪ :‬الجنس‪ ،‬والنوع‪ ،‬والفصل‪ ،‬والعرض العام‪ ،‬والعرض‬
‫وبذا تكون صفات األشياء ً‬
‫الخاص ويقال له‪ :‬الخاصة‪ ،‬وتسمى هذه الخمس بالكليات الخمسة‪ ،‬وسيأتي معنى الكلي‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫القانون الثالث ‪ :‬مراعاة وظائف الةد‬
‫إذا وقع السؤال عن ماهية شيء وأردت أن تحده ًّ‬
‫حدا حقيقيًّا فعليك فيه وظائف ال‬
‫يكون الحد حقيقيا إال بها‪ ،‬فإن تركتها سميناه رسميا أو لفظيا ويخرج عن كونه معربِا عن‬
‫ِ‬
‫ومصوًرا ل ُكنه معناه في النفس‪.‬‬ ‫حقيقة الشي‪،‬ء‬
‫الوظيفة األولى‪ :‬أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول‬
‫فإذا قال لك مشيرا إلى ما ينبت من األرض‪ :‬ما هو؟ فال بد أن تقول‪ :‬جسم‪ ،‬لكن لو‬
‫اقتصرت عليه النتقض عليك بالحجر‪ ،‬فإنه جسم‪ ،‬فتحتاج إلى الزيادة فتقول‪ٍّ :‬‬
‫نام‪ ،‬فتحترز به‬
‫عما ال ينمو‪ ،‬ثم هذا ينتقض عليك بالحيوان‪ ،‬فتحتاج إلى شيء آخر تحترز به عنه‪ ،‬فهذا‬
‫االحتراز هو الفصل أي تفصل به المحدود عن غيره‪ ،‬ولذا سمي ما أتيت به لهذا الغرض‬
‫فصال‪ ،‬وقد تحتاج إلى فصلين أو أكثر‪.‬‬
‫الوظيفة الثانية ‪ :‬االستغناء بالجنس القريب عن الجنس البعيد‬
‫إذا وجدت الجنس القريب فال تذكر البعيد معه؛ فتكو َن مكررا‪ ،‬كقولك في حد الخمر‪:‬‬
‫(مائع شراب)‪.‬‬
‫وال تقتصر على البعيد؛ فتكو َن مبعدا‪ ،‬كقولك فيها‪( :‬جسم مسكر مأخوذ من العنب)‪.‬‬
‫وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذاتي‪ ،‬ومطرد ومنعكس؛ لكنه مختل قاصر عن تصوير‬
‫كنه حقيقة الخمر‪ ،‬بل لو قلت‪( :‬مائع مسكر)‪ ،‬كان أقرب من الجسم‪ ،‬وهو أيضا ضعيف‪.‬‬
‫فينبغي أن تقول‪( :‬شراب مسكر)‪ ،‬فإنه األقرب األخص وال تجد بعده جنسا أخص منه‪.‬‬
‫الوظيفة الثالثة‪ :‬أن تذكر جميع ذاتياته‬
‫وإن كانت ألفا وال تبالي بالتطويل‪ ،‬فإذا ذكرت الجنس‪ ،‬فاطلب بعده الفصل بالذاتيات‬
‫إال إذا عسر عليك ذلك وهو كذلك عسير في أكثر الحدود فاعدل بعد ذكر الجنس إلى‬
‫رسما‪.‬‬
‫اللوازم‪ ،‬ويكون ذلك ً‬
‫وأكثر ما ترى في الكتب من الحدود رسمية؛ إذ الحقيقة عسرة جدا‪ ،‬وقد يسهل درك‬
‫بعض الذاتيات ويعسر بعضها فإن درك جميع الذاتيات حتى ال يشذ واحد منها عسر‪.‬‬
‫وينبغي مراعاة أمرين‪:‬‬
‫‪01‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن تقدم األعم على األخص فال تقل‪( :‬نام جسم) بل بالعكس‪ ،‬فإن خالفت‬
‫تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ‪،‬‬
‫وبدأت باألخص تشوش النظم‪ ،‬ولم ُ‬
‫فاإلنكار عليك في هذا أقل من ترك بعض الذاتيات‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬االجتهاد في أن يكون ما تذكره من اللوازم الظاهر المعروف فإن الخفي ال‬
‫يعرف‪ ،‬كما إذا قيل‪ :‬ما األسد؟ فقلت‪( :‬سبع أبخر) ليتميز بالبخر عن الكلب‪ ،‬فإن البخر من‬
‫خواص األسد لكنه خفي‪ ،‬ولو قلت‪ :‬سبع شجاع عريض األعالي‪ ،‬لكانت هذه اللوازم‬
‫واألعراض أقرب إلى المقصود ألنها أجلى‪.‬‬

‫جهات العسر في الحدود‬


‫إدراك جميع الذاتيات عسر‪ ،‬والتمييز بين الذاتي والالزم عسر‪ ،‬ورعاية الترتيب حتى ال‬
‫يبتدأ باألخص قبل األعم عسر‪ ،‬وطلب الجنس األقرب عسر‪ ،‬فإنك ربما تقول في األسد‪:‬‬
‫(إنه حيوان شجاع) وال يحضرك لفظ (السبع) فتجمع أنواعا من العسر‪ ،‬وأحسن الرسميات ما‬
‫وضع فيه الجنس األقرب‪ ،‬وتمم بالخواص المشهورة المعروفة‪.‬‬
‫الوظيفة الرابعة‪ :‬توخي الوضوح واإليجاز‬
‫فتحترز من األلفاظ الغريبة الوحشية‪ ،‬والمجازية البعيدة‪ ،‬والمشتركة المترددة‪ ،‬واجتهد في‬
‫اإليجاز ما قدرت‪ ،‬وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك‪ ،‬فإن أعوزك النص وافتقرت إلى‬
‫االستعارة فاطلب من االستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض‪ ،‬واذكر مرادك للسائل فما كل‬
‫أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة لإلنباء عنه‪.‬‬

‫دقيقة‪ :‬ال ينبغي التشدد في التحسينات‬


‫مطول‪ ،‬أو استعار مستعير‪ ،‬أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح‪ ،‬أو‬ ‫فلو طول ِ‬
‫بالقرينة‪ ،‬فال ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر‬
‫جميع الذاتيات‪ ،‬أو اللوازم المميزة‪ ،‬فإنه المقصود وهذه المزايا تحسينات وتزيينات‪ ،‬كاألبازير‬
‫من الطعام المقصود‪ ،‬وإنما المتحذلقون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية االستنكار؛‬
‫لميل طباعهم القاصرة عن المقصود األصلي إلى الوسائل والتوابع‪.‬‬
‫فمن قال‪ :‬اللون‪ :‬ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا‪ ،‬فال ينبغي أن ينكر عليه من‬

‫‪00‬‬
‫حيث إن لفظ العين مشترك بين الميزان والشمس والعضو الباصر وعين الماء؛ ألن قرينة‬
‫(الحاسة) أذهبت عنه االحتمال؛ وحصل التفهيم الذي هو مطلوب السؤال‪ ،‬واللفظ غير مراد‬
‫بعينه في الحد الحقيقي إال عند المرتسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها‬
‫وشغفه بها‪.‬‬
‫شرط إفادة الحد اللفظي‪:‬‬
‫والحد اللفظي إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في‬
‫السؤال‪ ،‬والوضوح مطلوب في كل الحدود‪ ،‬واللفظي إليه أحوج‪ ،‬فإنه إيضاح كلمة بكلمة‪ ،‬فإذا‬
‫ِ‬
‫الموضحة أبيَن بل كانت مساوية لها في الخفاء أو أغرب منها‪ ،‬فال تحصل فائدة‪.‬‬ ‫لم تكن‬
‫القانون الرابع‪ :‬يي طريق إثبات صةة الةد‬
‫طريق إثبات صحته االطراد واالنعكاس‪.‬‬
‫ناظرا مع نفسه فإذا تحررت له حقيقة الشيء‪ ،‬وتخلص له اللفظ الدال‬ ‫فإن كان الشخص ً‬
‫على ما تحرر في مذهبه علم أنه واجد للحد‪ ،‬فال يعاند نفسه‪.‬‬
‫يقر به‪ ،‬فالطريق‬
‫مناظرا‪ ،‬فالخصم ربما ينازع في كونه معربا عن تمام الحقيقة وال ُّ‬
‫وإن كان ً‬
‫أن يقال‪ :‬عرفنا صحته باطراده وانعكاسه‪.‬‬
‫فإن منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه‪ ،‬وقابلنا أحد‬
‫الحدين باآلخر وعرفنا ما فيه التفاوت من زيادة أو نقصان وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان‬
‫وجردنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬أن يقول الشافعي‪( :‬المغصوب مضمون‪ ،‬وولد المغصوب مغصوب‪ ،‬فكان‬
‫مضمونا)‪ ،‬فقال الحنفي‪( :‬ال نسلم أن ولد المغصوب مغصوب)‪ ،‬فيقول الشافعي‪( :‬حد‬
‫الغصب‪ :‬إثبات اليد العادية على مال الغير‪ ،‬وذلك موجود في الولد)‪.‬‬
‫فإن قال الحنفي‪( :‬ال أسلم كون اليد عادية‪ ،‬أو ال أسلم أن هذا إثبات بل هو ثبوت) فليس‬
‫اضا على الحد‪ ،‬وإن قال‪( :‬ال أسلم أن هذا حد الغصب) لم يكن سبيل الشافعي إال أن‬ ‫اعتر ً‬
‫يستدل عليه باالطراد واالنعكاس‪ ،‬ويمنَع الحنفي ذلك‪ ،‬فيقال له‪ :‬ما حد الغصب عندك؟‬
‫فيقول‪( :‬إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة)‪ ،‬فيقول الشافعي‪( :‬الفرق بين حدي ِ‬
‫وحدك‬
‫اشتراط [إزالة اليد المحقة]‪ ،‬وهو منتقض بالغصب من الغاصب‪ ،‬فإنه غصب عندي وعندك‬

‫‪02‬‬
‫وقد أثبت اليد المبطلة‪ ،‬ولم يزل المحقة فإنها كانت زائلة)‪ ،‬فهذا طريق قطع النزاع مع‬
‫المناظر‪.‬‬

‫القانون الخامس‪ :‬يي ةصر مداخل الخلل يي الةدود‬


‫وهي ثالثة‪:‬‬

‫المدخل األول‪ :‬من جهة الجنس‬


‫وله صور‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬أن يؤخذ الفصل بدله‪ ،‬كما يقال في العشق‪( :‬إنه إفراط المحبة)‪ ،‬وإنما ينبغي‬
‫أن يقال‪( :‬إنه المحبة المفرطة)‪ ،‬فاإلفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أن تؤخذ مادة الشيء بدل جنسه‪ ،‬كقولك في الكرسي‪( :‬إنه خشب يجلس‬
‫عليه)‪ ،‬وفي السيف‪( :‬إنه حديد يقطع به)‪ ،‬بل ينبغي أن يقال للسيف‪( :‬إنه آلة صناعية من‬
‫مادة وأصل ال جنس‪.‬‬
‫حديد مستطيلة عرضها كذا ويقطع بها كذا)‪ ،‬فاآللة جنس والحديد َّ‬
‫وأبعد منه ما ليست مادته موجودة اآلن‪ ،‬كقولك للرماد‪( :‬إنه خشب محترق)‪ ،‬وللولد‪:‬‬
‫(إنه نطفة مستحيلة)‪ ،‬فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير‬
‫موجودين في الولد والرماد‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬أن يؤخذ الجزء بدل الجنس‪ ،‬كما يقال في حد العشرة‪( :‬إنها خمسة وخمسة)‪،‬‬
‫ومثله قولهم في تعريف الصالة‪( :‬أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم)‪ ،‬والصواب‪:‬‬
‫عبادة مفتتحة‪....‬الخ‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬أن توضع القدرة موضع المقدور؛ كما يقال حد العفيف‪( :‬هو الذي يقوى على‬
‫اجتناب اللذات الشهوانية) وهو فاسد‪ ،‬بل (هو الذي يترك‪ )...‬وإال فالفاسق يقوى على الترك‬
‫وال يترك‪.‬‬
‫والخامسة‪ :‬أن يضع اللوازم التي ليست بذاتية بدل الجنس‪ ،‬كـ(الواحد) و(الموجود) إذا‬
‫أخذته في حد الشمس أو األرض مثال‪.‬‬
‫والسادسة‪ :‬أن يضع النوع مكان الجنس كقولك‪( :‬الشر هو ظلم الناس)‪ ،‬والظلم نوع من‬

‫‪03‬‬
‫الشر‪.‬‬

‫المدخل الثاني‪ :‬من جهة الفصل‬


‫أيضا‪:‬‬
‫وله صور ً‬
‫األولى‪ :‬أن تؤخذ اللوازم والعرضيات في االحتراز بدل الذاتيات؛ لكن هذا يقبل في الرسم‬
‫عاما فهو غير مانع‪.‬‬
‫خاصا‪ ،‬ال إن كان مفارقًا فهو غير جامع‪ ،‬أو ًّ‬
‫الزما ًّ‬
‫إن كان المأخوذ ً‬
‫والثانية‪ :‬أال يورد جميع الفصول‪ ،‬فيكون غير مانع‪ ،‬كقولهم في تعريف الجعالة‪( :‬التزام‬
‫عوض معلوم على عمل معين)‪ ،‬فإنه صادق على اإلجارة‪.‬‬
‫حكما ينبني على المعرفة وال ِ‬
‫يعرف‪ ،‬كما لو زاد في تعريف الجعالة‬ ‫والثالثة‪ :‬أن يورد ً‬
‫معلوما ال يجب إال بتمام العمل)‪ ،‬فكون العوض ال‬
‫عوضا ً‬‫فيقول‪( :‬أن يلتزم على عمل معين ً‬
‫يجب إال بتمام العمل حكم تحكم به إذا عرفت أن المعاملة جعالة ال إجارة‪ ،‬وليس ِ‬
‫بمعرف‬
‫لكون ما جرى جعالة‪ ،‬بل هو مترتب على المعرفة‪.‬‬
‫فإن لم يلزم هذا الدور فال مانع؛ كقولهم‪( :‬الواجب‪ :‬ما يذم تاركه)‪ ،‬فإن ذم التارك يعلم‬
‫من دليل الشرع ال من التسمية‪ ،‬ويتصوره من لم يسمع بالواجب‪.‬‬

‫المدخل الثالث‪ :‬من جهة أمور مشتركة بين الجنس والفصل‬


‫أيضا‪:‬‬
‫وله صور ً‬
‫األولى‪ :‬أن يحد الشيء بما هو أخفى منه أو مثله كقولك‪( :‬حد الحادث‪ :‬ما تتعلق به‬
‫القدرة)‪ ،‬وقولك‪( :‬العلم‪ :‬ما يعلم به) أو (ما تكون الذات به عالمةً)‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أن َّ‬
‫يعرف الضد بالضد كأن يقال‪( :‬حد العلم‪ :‬ما ليس بظن وال جهل)‪ ،‬وهكذا‬
‫حتى يحصر األضداد‪ ،‬و(حد الزوج‪ :‬ما ليس بفرد)‪ ،‬ثم يمكنك أن تقول في حد الفرد‪( :‬ما‬
‫ليس بزوج)‪ ،‬فيدور األمر‪ ،‬وال يحصل له بيان‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬أن يأخذ المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في اإلضافة‪ ،‬كقول القائل‪:‬‬
‫(حد األب‪ :‬من له ابن)‪ ،‬ثم ال يعجز أن يقول‪( :‬حد االبن من له أب)‪ ،‬بل ينبغي أن يقول‪:‬‬
‫(األب‪ :‬حيوان تولد من نطفته حيوان آخر هو من نوعه)‪ ،‬فهو أب من حيث هو كذلك‪ ،‬وال‬
‫يحيل على االبن فإنهما في الجهل والمعرفة يتالزمان‪.‬‬

‫‪04‬‬
‫القانون السادس ‪ :‬إنما يةد بالةد الةقيقي المعاني المركبة‬
‫أما المعاني المفردة التي ال تركيب فيها فال يمكن حدها إال بطريق الحد اللفظي أو‬
‫الرسمي‪ ،‬والمعنى المفرد مثل الموجود‪ .‬فإذا قيل لك‪ :‬ما حد الموجود؟ فغايتك أن تقول‪( :‬هو‬
‫الشيء)‪ ،‬أو‪( :‬الثابت)‪ ،‬فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له‪ ،‬كمن يقول‪ :‬ما العقار؟‬
‫فيقال‪ :‬الخمر‪ ،‬وما الغضنفر؟ فيقال‪( :‬األسد)‪.‬‬
‫ولو قلت‪( :‬حد الموجود أنه المعلوم) أو (المذكور)‪ ،‬وقيدته بقيد احترزت به عن‬
‫المعدوم‪ ،‬أو قلت‪( :‬إنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق)‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬كنت ذكرت شيئا من‬
‫توابعه ولوازمه وكان حدك رسميا غير معرب عن الذات فال يكون حقيقيا‪.‬‬
‫تشرح؟ وهذا يجري في التصديقات‬‫وهكذا كل األوليات‪ ،‬فإنها مبدأ الشرح فكيف َ‬
‫والتصورات‪ ،‬فالتصديقات تطلب بالبرهان‪ ،‬المكون من مقدمتين ونتيجة‪ ،‬وكل مقدمة تحتاج‬
‫إلى برهان مكون من ذلك‪ ،‬حتى ينتهي األمر إلى األوليات‪ ،‬فكذلك التصورات‪.‬‬

‫‪05‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في التدريبات‬

‫سماها الغزالي‪ :‬امتحانات‪ ،‬واشتملت على فوائد جمة‪ ،‬وكشفت عن طرق تخبط الناس‬
‫في محاوراتهم‪ ،‬ومناقشاتهم‪ ،‬واقتصر في هذا الكتاب على ثالثة تدريبات‪ ،‬وأرى أن المهمات‬
‫المتممة للقوانين السابقة في األولين منها فأقتصر عليهما‪ ،‬وأضم من الثالث ما يُحتاج إليه‬
‫منه‪:‬‬
‫التدريب األول‪ :‬يي ةد الةد‪.‬‬
‫اختلف الناس فيه على مسالك‪:‬‬
‫فقال بعضهم‪( :‬حد الشيء‪ :‬حقيقته وذاته)‪.‬‬
‫وقال آخر‪( :‬حد الشيء هو‪ :‬اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع)‪.‬‬
‫وقال ثالث‪( :‬هذه المسألة خالفية) وأخذ ينصر أحد الحدين على اآلخر‪.‬‬
‫االختالف إنما يتصور عند اتحاد المورد‬
‫فانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن االختالف إنما يتصور بعد التوارد على‬
‫شيء واحد‪ ،‬وهذان قد تباعدا وتنافرا‪ ،‬وما تواردا على شيء واحد‪.‬‬
‫وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة االسم المشترك على ما سنذكره‪ ،‬فإن من يحد‬
‫(العين) بأنه‪( :‬العضو المدرك لأللوان بالرؤية) لم يخالف من حده بأنه‪( :‬الجوهر المعدني‬
‫غير الذي حدَّه اآلخر‪ ،‬وإنما اشتركا في اسم العين‪،‬‬
‫أمرا َ‬
‫حد هذا ً‬ ‫الذي هو أشرف النقود)‪ ،‬بل َّ‬
‫فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع‪.‬‬
‫تقرير المقاصد والمعاني قبل تحرير األلفاظ والمباني‬
‫فإن قلت‪ :‬فما الصحيح عندك في حد الحد؟ فاعلم أن كل من طلب المعاني من‬
‫أوال في عقله‪،‬‬
‫األلفاظ ضاع وهلك‪ ،‬وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه‪ ،‬ومن قرر المعاني ً‬
‫ثم أتبع المعاني األلفاظ فقد اهتدى‪.‬‬

‫‪06‬‬
‫فلنقرر المعاني‪ ،‬فنقول‪ :‬الشيء له في الوجود أربع مراتب‪.‬‬
‫األولى‪ :‬حقيقته في نفسه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬تأليف صوت بحروف تدل عليه وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة‪ ،‬فالكتابة تبع للفظ؛‬
‫إذ تدل عليه‪ ،‬واللفظ تبع للعلم؛ إذ يدل عليه‪ ،‬والعلم تبع للمعلوم؛ إذ يطابقه ويوافقه‪.‬‬
‫وهذه األربعة متطابقة إال أن األولين وجودان حقيقيان ال يختلفان باألعصار واألمم‪،‬‬
‫واآلخرين ‪-‬وهما اللفظ والكتابة‪ -‬يختلفان باألعصار واألمم؛ ألنهما موضوعان باالختيار‪،‬‬
‫ولكن األوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها قُصد بها مطابقة الحقيقة‪.‬‬
‫وهذه األربعة كلها يصح أن يطلق عليها حد‪ ،‬فإن الحد مأخوذ من المنع‪ ،‬فيستعار لكل‬
‫ما فيه منع‪ ،‬وهو موجود في هذه األربعة‪.‬‬
‫فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به؛ إذ حقيقة كل‬
‫شيء خاصيته التي له وليست لغيره‪ ،‬فإ ًذا الحقيقة جامعة مانعة‪.‬‬
‫أيضا كذلك؛ ألنه مطابق‬ ‫وإن نظرت إلى مثال الحقيقة في الذهن ‪-‬وهو العلم‪ -‬وجدته ً‬
‫للحقيقة المانعة‪ ،‬والمطابَقة توجب المشاركة في الجمع والمنع‪.‬‬
‫أيضا‪ -‬حاصرة؛ فإنها مطابقة للعلم المطابق‬ ‫وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها ‪ً -‬‬
‫للحقيقة‪ ،‬والمطابق للمطابق مطابق‪.‬‬
‫ِ‬
‫المطابق للحقيقة‪ ،‬فهي‬ ‫وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للَّفظ المطابق للعلم‪،‬‬
‫أيضا مطابقة‪ ،‬فقد وجدت المنع في الكل‪.‬‬
‫هذا من حيث الصالحية‪ ،‬إال أن العادة لم تجر باستعمال مصطلح «الحد» في الثاني‬
‫والرابع‪ ،‬بل استعمل في األول (=الحقيقة)‪ ،‬والثالث (=اللفظ)‪ ،‬فهو إذن مشترك‪.‬‬
‫المشترك بين حقيقتين ال بد له من حدين‬
‫وكل لفظ مشترك بين حقيقتين فال بد أن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين؛‬
‫الختالف حقيقتيه والحد منبئ عن الحقيقة‪.‬‬
‫وعلى هذا فكال التعريفين صحيح‪ ،‬فمن قال بالتعريف األول أراد المعنى األول‪ ،‬ومن قال‬

‫‪07‬‬
‫بالثاني أراد المعنى الثالث؛ لكن في الحد على المعنى الثالث اشتراك آخر‪ ،‬من جهة أنه‬
‫يطلق على الحد اللفظي والرسمي والحقيقي‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫حد الحد اللفظي‪ :‬تبديل اللفظ بما هو أوضح عند السائل على شرط أن يجمع ويمنع‪.‬‬
‫وحد الرسمي‪ :‬اللفظ الشارح للشيء بتعديد صفاته الذاتية أو الالزمة على وجه يميزه عن‬
‫غيره تمييزا‪.‬‬
‫وحد الحقيقي‪ :‬القول الدال على تمام ماهية الشي‪.‬‬
‫وعلى هذا فقس في صناعة الحد‪ ،‬فإذا ذكر لك اسم‪ ،‬وطلب منك حده‪ ،‬فانظر فإن كان‬
‫مشتركا فاطلب عدة المعاني التي فيها االشتراك‪ ،‬فإن كانت ثالثة فاطلب لها ثالثة حدود‪،‬‬
‫فإن الحقائق أو االصطالحات إذا اختلفت فال بد من اختالف الحدود‪.‬‬
‫منشأ االختالف الحقيقي في الحدود‬
‫فإن قلت‪ :‬نرى الناس يختلفون في الحدود‪ ،‬وهذا الكالم يكاد يحيل االختالف في‬
‫الحد‪ ،‬أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقالء؟‬
‫فالجواب أن االختالف في الحد يتصور في موضعين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى‪ ،‬أو سنة رسوله ﷺ‪ ،‬أو قول إمام من‬
‫قصد االطالع على مراده به‪ ،‬ويكون ذلك اللفظ مشتركا‪ ،‬فيقع النزاع في مراده به‪،‬‬ ‫األئمة يُ ُ‬
‫فيكون قد وجد التوارد على القائل‪ ،‬والتباين بعد التوارد‪ ،‬فالخالف تباين بعد التوارد‪ ،‬فيكون‬
‫إيضاح ذلك من صناعة التفسير ال من صناعة النظر العقلي‪.‬‬
‫أمرا‬ ‫المطلوب ُّ‬
‫حده ً‬ ‫ُ‬ ‫الثاني‪ :‬أن يقع االختالف في مسألة أخرى على وجه محقق‪ ،‬ويكون‬
‫ثانيًا‪ ،‬ال يتحد حده على المذهبين بل يختلف‪ ،‬كما يقول المعتزلي‪( :‬حد العلم اعتقاد الشيء‬
‫على ما هو به)‪ ،‬ونحن نخالف في ذكر الشيء‪ ،‬فإن المعدوم عندنا ليس بشيء وهو معلوم‪،‬‬
‫فالخالف في مسألة أخرى‪ ،‬ويتعدى إلى الحد‪.‬‬
‫هل يكون للشيء الواحد حدان؟‬
‫فإن قال قائل‪ :‬هل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان؟‬
‫قلنا‪ :‬أما الحد اللفظي فيجوز أن يكون ألفا إذ ذلك بكثرة األسامي الموضوعة للشيء‬
‫الواحد‪.‬‬
‫‪08‬‬
‫وأما الرسمي فيجوز أيضا أن يكثر ألن عوارض الشيء الواحد ولوازمه قد تكثر‪.‬‬
‫احدا؛ ألن الذاتيات محصورة‪ ،‬فإن لم‬‫وأما الحد الحقيقي فال يتصور أن يكون إال و ً‬
‫يذكرها لم يكن حدا حقيقيًّا‪ ،‬وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو‪ ،‬فإذًا هذا الحد ال‬
‫يتعدد‪ ،‬وإن جاز أن تختلف العبارات المترادفة‪ ،‬كما يقال في حد الحادث‪( :‬إنه الموجود بعد‬
‫العدم)‪ ،‬أو‪( :‬الكائن بعد أن لم يكن) أو‪( :‬الموجود المسبوق بعدم)‪ ،‬أو (الموجود عن عدم)‪،‬‬
‫فهذه العبارات ال تؤدي إال معنى واحدا فهي في حكم المترادفة‪.‬‬
‫التدريب الثاني‪ :‬يي ةد العلم‬
‫اختلف في حد العلم على أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪( :‬أنه المعرفة)‪.‬‬
‫والثاني‪( :‬أنه الذي يعلم به)‪ ،‬و(أنه الذي تكون الذات به عالمة)‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنه الوصف الذي يتأتى للمتصف به إتقان الفعل وإحكامه‪.‬‬
‫فأما األول فلفظي‪ ،‬ال رسمي وال حقيقي‪.‬‬
‫اللفظي ال يخرج عن اللفظية بالتطويل‬
‫وال يخرج عن كونه لفظيًّا بأن يقال‪( :‬معرفة المعلوم على ما هو به) ألنه في حكم تطويل‬
‫وتكرير؛ إذ المعرفة ال تطلق إال على ما هو كذلك‪ ،‬كقول القائل‪( :‬حد الموجود‪ :‬الشيء الذي‬
‫له ثبوت)‪ ،‬فإن هذا تطويل ال يخرجه عن كونه لفظيا‪.‬‬
‫ال يصح تعريف اللفظ بما يشتق منه‬
‫وأما الثاني فأبعد من األول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والداللة على الماهية‪،‬‬
‫ويزيد عليه في الضعف؛ فإنه قد يتوهم في األول شرح اللفظ؛ بأن يكون أحد اللفظين عند‬
‫السائل أشهر من اآلخر‪ ،‬فيشرح األخفى باألشهر‪ ،‬أما (العالم) و(يعلم) فهما مشتقان من‬
‫ِ‬
‫بالمشتق من المصدر والمشتق أخفى‬ ‫نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح له‬
‫من المشتق منه؟ ألنه مركب من المصدر وزيادة‪ ،‬وهو كقول القائل في حد الفضة‪ :‬هي‪ :‬التي‬
‫تصاغ منها األواني الفضية‪.‬‬
‫قد يكون الحد قريبًا من جهة فاسدًا من جهة‬
‫وأما الثالث ففيه ذكر الزم من لوازم العلم فيكون رسميا‪ ،‬وهو أبعد مما قبله من حيث إنه‬
‫‪09‬‬
‫العلم بالله وصفاته؛ إذ ليس يتأتى‬
‫أخص من العلم؛ فإنه ال يتناول إال بعض العلوم‪ ،‬ويخرج منه ُ‬
‫به إتقان فعل وإحكامه‪ ،‬ولكنه أقرب مما قبله بوجه فإنه لذكر الزم قريب من الذات يفيد‬
‫شرحا وبيانا‪ ،‬بخالف قوله‪( :‬ما يعلم به) و(ما تكون الذات به عالمة)‪.‬‬
‫ً‬
‫ماسة‪.‬‬
‫ثم ذكر الغزالي طريقين لتمييز العلم‪ ،‬ال أرى الحاجة إليهما َّ‬
‫الباب الثاني‪ :‬في البرهان‬

‫ويشتمل على ثالثة فصول‪ :‬سوابق‪ ،‬ومقاصد‪ ،‬ولواحق‪.‬‬

‫الفصل األول ‪ :‬في السوابق‬


‫ويشتمل على تمهيد وثالثة فروع‪:‬‬

‫التمهيد‬

‫ح ُّد البرهان‬
‫اعلم أن البرهان في اللغة‪ :‬الحجة‪.‬‬
‫وفي االصطالح‪ :‬قول مؤلف من قضيتين فأكثر‪ ،‬يلزم من تسليمه قول آخر ‪.‬‬
‫وقضايا هذا القول المؤلف تسمى مقدمات‪.‬‬
‫تصوران‪ ،‬وهذا يوجب‬‫وأقل ما ينتظم منه برهان مقدمتان‪ ،‬وأقل ما تحصل منه مقدمة ُّ‬
‫النظر في أمور متعلقة بالمعاني المفردة ووجوه داللتها‪ ،‬فإذا فهمناها وبنينا منها مقدمة‪،‬‬
‫احتجنا إلى معرفة حكم المقدمة وشروطها‪ ،‬ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهانا وننظر في‬
‫كيفية الصياغة الصحيحة‪ ،‬فاحتجنا إلى السوابق قبل المقاصد‪.‬‬
‫مداخل الخلل في البرهان‬
‫الخلل في البرهان يكون من ثالث جهات‪:‬‬
‫إما من جهة نفس المقدمات إذ قد تكون خالية عن شروطها‪.‬‬
‫وإما من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية‬
‫وإما منهما جميعا‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫الفرع األول ‪ :‬في داللة األلفاظ على المعاني‬
‫ويتضح المقصود منه بتقسيمات أربعة‪:‬‬
‫التقسيم األول‪ :‬في داللة اللفظ على المعنى‬
‫داللة اللفظ على المعنى تنحصر في ثالثة أوجه‪ :‬وهي المطابقة والتضمن وااللتزام‪.‬‬
‫فأما المطابقة فهي داللة اللفظ على تمام معناه‪ ،‬كداللة لفظ «البيت» على البناء الكامل‬
‫من الحيطان والسقف‪.‬‬
‫وأما داللة التضمن فهي داللة اللفظ على بعض معناه الكامل‪ ،‬كداللة لفظ «البيت»‬
‫على السقف وحده؛ ألن البيت يتضمن السقف؛ إذ البيت عبارة عن السقف والحيطان‪.‬‬
‫وأما داللة االلتزام فهي داللة اللفظ على أمر خارج عن مسماه مالزم له‪ ،‬كداللة لفظ‬
‫السقف والجزءًا منه؛‬
‫َ‬ ‫«السقف» على الحائط‪ ،‬فإنه غير موضوع للحائط‪ ،‬إذ ليس الحائط هو‬
‫لكنه كالرفيق المالزم الخارج عن ذات السقف الذي ال ينفك السقف عنه‪.‬‬

‫ال تسعتمل في النظر العقلي داللة االلتزام‬

‫وإياك أن تستعمل في نظر العقل من األلفاظ ما يدل بطريق االلتزام‪ ،‬لكن اقتصر على ما‬
‫يدل بطريق المطابقة والتضمن‪ ،‬ألن الداللة بطريق االلتزام ال تنحصر في حد‪ ،‬إذ السقف يلزم‬
‫األرض‪ ،‬وذلك ال ينحصر‪ ،‬فيؤدي إلى أن يدل اللفظ على‬ ‫َ‬ ‫األس‪ ،‬واألس‬
‫الحائط‪ ،‬والحائط َّ‬
‫معاني غير متناهية‪ ،‬وهو محال(‪.)1‬‬

‫)‪ )1‬هذا في الحد الحقيقي التام‪ ،‬فأما الرسم والحد الناقص فقيل‪ :‬داللتهما بااللتزام‪ .‬تحفة المسؤول (‪،702-702/1‬‬
‫‪ ،)792‬وعند التأمل ال يخالف ذلك ما ذكره الغزالي هنا وتوبع عليه‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫التقسيم الثاني‪ :‬في انقسام اللفظ إلى كلي وجزئي‬
‫تنقسم األلفاظ باإلضافة إلى تعيُّن مقصودها وشموله قسمين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬لفظ مفهومه واحد معين‪ ،‬كقولك‪( :‬زيد) و(هذه الشجرة)‪ ،‬و(هذا الفرس)‪،‬‬
‫و(هذا السواد)‪ .‬ويسمى جزئيًّا‪ ،‬وسماه الغزالي معيَّـنًا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬لفظ ال يمنع مفهومه من وقوع االشتراك فيه‪ ،‬أي يصلح أن يراد به واحد من‬
‫أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد‪ ،‬كقولك‪( :‬رجل)‪ ،‬و(شجرة)‪ ،‬و(إنسان)‪ ،‬و(شمس)‪،‬‬
‫و(أرض)‪ ،‬وهكذا كل النكرات‪ ،‬ويسمى‪ :‬كليًّا‪ ،‬وسماه الغز ُّ‬
‫الي‪ :‬مطلقا‪.‬‬
‫واعلم أن الكلي ال وجود له في الخارج إال في جزئياته‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬وكيف يستقيم هذا وقولك‪ :‬إله‪ ،‬وشمس وأرض‪ ،‬نكرات وال يدل كل منها إال‬
‫على واحد مفرد؟‬
‫فاعلم أن هذا غلط‪ ،‬فإن امتناع الشركة ههنا ليس لنفس مفهوم اللفظ؛ بل لعدم الوجود‪،‬‬
‫ثان‪ ،‬وإما مع اإلمكان كشمس وأرض آخرين‪.‬‬ ‫إما مع االستحالة كوجود إله ٍّ‬

‫الفرق بين الكل والكلي والجزء والجزئي‬

‫وينبغي أن تعرف الفرق بين الكل والكلي‪ ،‬والفرق بين الجزء والجزئي‪ ،‬فإنهم يستعملونها‬
‫كثيرا‪ ،‬والمعنى مختلف‪ ،‬فالمقصود بالكلي ما سبق وضده الجزئي‪ ،‬وأما الكل‪ :‬فيقصدون به‬
‫ما كان مرَّكبًا من أبعاض‪ ،‬وهذه األبعاض أجزاؤه‪ ،‬وواحدها جزء‪ ،‬فالشخص الذي اسمه (زيد)‬
‫مركب من أعضائه التي هي اليدان والرجالن وغيرها‪ ،‬وكل واحدة من هذه جزء‪ ،‬فإذًا زي ٌد كلٌّ‬
‫ئي باالصطالح األول‪.‬‬‫بهذا االصطالح‪ ،‬وهو جز ٌّ‬
‫التقسيم الثالث‪ :‬في النسبة بين الكليات‬
‫كلي آخر في جزئياته‪:‬‬
‫الكلي إذا نسب إلى ٍّ‬
‫فإما أن تكون جزئياته هي عين جزئيات اآلخر؛ كنسبة(اإلنسان) لـ(ـلبشر)‪.‬‬
‫وإما أن يشاركه في جزئياته ويختص هو بجزئيات؛ كـنسبة (الحيوان) لـ(ـإلنسان)‪.‬‬
‫بعض جزئيات اآلخر؛ كنسبة (اإلنسان) لـ(ـلحيوان)‪.‬‬ ‫وإما أن تكون جزئياته َ‬
‫وإما أن يشتركا في بعض الجزئيات ويختص كل منهما بجزئيات؛ كنسبة (األنثى)‬
‫لـ(ـإلنسان)‪ ،‬فالمرأة داخلة فيهما‪ ،‬وينفرد األول بـ(الناقة) مثال‪ ،‬والثاني بـ(الرجل)‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫وإما أن تكون جزئيات كل واحد غير جزئيات اآلخر؛ كنسبة (الرجل) لـ(ـلمرأة)‪.‬‬
‫فالنسبة األولى‪ :‬هي المساواة‪ ،‬والثانية‪ :‬هي العموم المطلق‪ ،‬والثالثة‪ :‬هي الخصوص‬
‫المطلق‪ ،‬والرابعة‪ :‬هي العموم والخصوص من وجه‪ ،‬والخامسة هي المباينة‪ ،‬والثانية والثالثة‬
‫متالزمتان فعدَّتا واحدة‪ ،‬وبذا صارت النسب أر ًبعا‪.‬‬
‫التقسيم الرابع‪ :‬في نسبة األلفاظ إلى المعاني‬
‫إذا نسبنا األلفاظ إلى المعاني‪ ،‬فإما أن يكون لكل لفظ معنى خاص‪ ،‬وإما أن يتعدد‬
‫اللفظ لمعنى واحد‪ ،‬وإما أن يتعدد المعنى للفظ واحد‪ ،‬وإذا اتحد المعنى الكلي فإما أن‬
‫تتساوى اإلفراد فيه وإما أن تتفاوت فاألقسام خمسة‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون لكل لفظ معنى خاص‪ ،‬فهو التباين‪ ،‬ويقال لكل لفظين بينهما ذلك‪:‬‬
‫متباينان‪ ،‬كالسواد والقدرة‪ ،‬واألسد والكرسي‪ ،‬والسماء واألرض‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يتعدد اللفظ لمعنى واحد‪ ،‬فهو الترادف‪ ،‬ويقال لكل لفظين اتحد معناهما‪:‬‬
‫مترادفان‪ :‬كاألسد والليث‪ ،‬والخمر والعقار‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن يتعدد المعنى للفظ واحد‪ ،‬فهو االشتراك‪ ،‬ويقال لذلك اللفظ‪ :‬مشترك‪،‬‬
‫كالعين للباصرة والجارية‪ ،‬والقرء للحيض والطهر‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬أن يتحد معنى اللفظ وتتساوى أفراده فيه‪ ،‬فهو التواطؤ‪ ،‬ويقال للفظ حينئذ‪:‬‬
‫متواطئ‪ ،‬كاإلنسان‪ ،‬والرجل‪.‬‬
‫والخامس‪ :‬أن يتحد معنى اللفظ لكن تتفاوت أفراده فيه‪ ،‬فهو التشكيك‪ ،‬ويقال لهذا‬
‫بياضا من ذاك‪.‬‬
‫اللفظ‪ :‬مشكك‪ ،‬كالبياض‪ ،‬والسواد‪ ،‬فإنك تقول‪ :‬هذا أشد ً‬
‫التباس المشترك بالمتواطي‪ ،‬والمتباينة بالمترادفة‪.‬‬

‫مشكال قريب الشبه من المتواطئ‪ ،‬ويعسر على الذهن‬‫ً‬ ‫واعلم أن المشترك قد يكون‬
‫تمييزه‪،‬‬
‫وذلك‪ :‬كلفظ (الحي) يطلق على النبات والحيوان‪ ،‬وهو باالشتراك المحض؛ إذ يراد به‬
‫في النبات‪ :‬المعنى الذي به نماؤه‪ ،‬وفي الحيوان‪ :‬المعنى الذي به يحس ويتحرك باإلرادة‪.‬‬
‫أسام مختلفة على شيء واحد‪،‬‬ ‫وقد تلتبس المترادفة بالمتباينة‪ ،‬وذلك إذا أطلقت ٍّ‬

‫‪23‬‬
‫باعتبارات مختلفة‪ ،‬ربما ظُ َّن أنها مترادفة‪ ،‬كالسيف والمهند والصارم‪ ،‬فإن (المهند) يدل على‬
‫السيف مع زيادة نسبة إلى الهند فخالف إ ًذا مفهومه مفهوم السيف‪ ،‬و(الصارم) يدل على‬
‫السيف مع صفة الحدة والقطع‪ ،‬ال كـ(األسد) و(الليث)‪.‬‬
‫مثال الغلط في المشترك‪ :‬قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل‪:‬‬
‫(يلزمه القصاص؛ ألنه مختار)(‪ ،)7‬ويقول الحنفي‪( :‬ال يلزمه القصاص؛ ألنه مكره وليس‬
‫بمختار)‪ ،‬ويكاد الذهن ال ينبو عن التصديق باألمرين‪ ،‬وأنت تعلم أن التصديق بالضدين‬
‫محال‪ ،‬وترى الفقهاء يتعثرون فيه وال يهتدون إلى حله‪.‬‬
‫وإنما ذلك ألن اللفظ (مختارا) مشترك‪ ،‬إذ قد يجعل مرادفًا للفظ‪(:‬قادر)‪ ،‬فيقال‪ :‬هذا‬
‫عاجز محمول‪ ،‬وهذا قادر مختار‪ ،‬ويراد بالمختار الذي يقدر على الفعل وتركه وهو صادق‬
‫المكره‪.‬‬
‫على َ‬
‫وقد يعبر بالمختار عمن يُخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته‪ ،‬وهذا يكذب على‬
‫المكره‪ ،‬ونقيضه ‪-‬وهو أنه ليس بمختار‪ -‬يصدق عليه‪ ،‬فإذًا صدق عليه (أنه مختار) و(أنه‬
‫ليس بمختار)؛ لكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت‪.‬‬

‫)‪ )7‬لم أقف على هذا النص للشافعي‪.‬‬


‫‪24‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬النظر يي المعاني المفردة‬
‫ويظهر الغرض من ذلك بتقسيمين‪:‬‬
‫التقسيم األول‪ :‬في أقسام الصفات‬
‫المعنى الذي يوصف به شيء ما فال يخلو من أن يكون ذاتيا أو عرضيا أو الزما‪ ،‬وقد‬
‫فصلناه في الباب األول‪.‬‬
‫التقسيم الثاني‪ :‬في أقسام المعاني من جهة طريق إدراكها‬
‫إلدراك المعاني أسباب وطرق‪ ،‬والمعاني بهذا االعتبار ثالثة‪ :‬محسوسة ومتخيلة‬
‫ومعقولة‪.‬‬
‫فاألسباب إذن ثالثة‪ ،‬و ِ‬
‫لنسم كل سبب منها قوة‪ ،‬وللتمييز بينها نقول‪:‬‬
‫الحواس معروفة‪ ،‬ومنها العين الباصرة‪ ،‬وفيها معنى به تميزت عن الجبهة مثال‪ ،‬حتى‬
‫صرت تبصر بها ال بالجبهة‪ ،‬وإذا بطل ذلك المعنى بطل اإلبصار‪ ،‬وشرط اإلبصار وجود‬
‫المبصر انعدم اإلبصار‪ ،‬وتبقى صورته في‬ ‫َ‬ ‫المبصر‪ ،‬وهو شرط المحسوسات‪ ،‬فلو انعدم‬ ‫َ‬
‫دماغك تتخيلها؛ كأنك تنظر إليها‪.‬‬
‫وهذ التخيُّل ال يفتقر إلى وجود المتخيَّل‪ ،‬فهو إ ًذا قوة غير اإلحساس‪ ،‬ومحلها الدماغ؛‬
‫ألنك تحس بالتخيل في دماغك‪ ،‬والصبي في أول نشأته تقوى فيه قوة اإلبصار ال قوة‬
‫التخيل؛ فلذلك إذا ولِع بشيء‪ ،‬فغيبته عنه وشغلته بغيره‪ ،‬اشتغل به ولها عنه‪.‬‬
‫وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للتخيل وال يفسد اإلبصار‪ ،‬فيرى‬
‫األشياء؛ ولكنه كما تغيب عنه ينساها‪ ،‬وهذه القوة تشارك البهيمة فيها اإلنسان؛ كقوة‬
‫اإلحساس‪ ،‬ولذلك تجد الفرس إذا رأى الشعير تذكر صورته التي كانت له في دماغه‪ ،‬فعرف‬
‫أنه موافق له‪ ،‬وأنه مستلذ لديه فبادر إليه‪ ،‬فلو كانت الصورة ال تثبت في خياله لكانت رؤيته له‬
‫‪25‬‬
‫يبادر إليه ما لم ِ‬
‫يجربه بالذوق مرة أخرى‪.‬‬ ‫أوال؛ حتى ال ُ‬
‫ثانيًا كرؤيته له ً‬
‫القوة التي باين بها اإلنسان سائر الحيوان‬

‫ثم فيك قوة ثالثة شريفة يباين اإلنسان بها البهيمة تسمى عقال‪ ،‬محلها إما دماغك وإما‬
‫قلبك‪ ،‬وقوة العقل تباين قوة التخيل مباينةً َّ‬
‫أشد من مباينة التخيل لإلبصار‪ ،‬إذ ليس بين قوة‬
‫اإلبصار وقوة التخيل فرق سوى أن وجود المبصر شرط لبقاء اإلبصار وليس شرطا لبقاء‬
‫التخيل‪ ،‬وإال فصورة الفرس تدخل في اإلبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبُعد منك‬
‫مخصوص‪ ،‬ويبقى في التخيل ذلك البعد وذلك القدر واللون‪ ،‬وذلك الوضع والشكل حتى‬
‫كأنك تنظر إليه‪.‬‬
‫القوة المفكرة‬

‫ولعمري فيك قوة رابعة تسمى المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصور التي في‬
‫الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر‪ ،‬ولكن إذا حضرت في الخيال صورةُ‬
‫قدرت على أن تَجعلها نصفين فتصور نصف إنسان‪ ،‬وربما ركبت شخصا نصفه من‬ ‫إنسان َ‬
‫إنسان ونصفه من فرس‪ ،‬وربما تصور إنسانا يطير؛ إذ ثبت في الخيال صورة اإلنسان وحده‪،‬‬
‫وصورة الطير وحده‪ ،‬وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق بين نصفي اإلنسان‪.‬‬
‫وليس في وسعها –البتة‪ -‬اختراع صورة ال مثال لها في الخيال؛ بل كل تصوراتها بالتفريق‬
‫والتأليف في الصور الحاصلة في الخيال‪.‬‬
‫التفريق بين قوة التخيل وقوة العقل‬

‫الفرق أنه ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة التي ليست‬
‫داخلة في ذاتها‪ ،‬فإنك ال تقدر على تخيل السواد إال في مقدار مخصوص من الجسم‪ ،‬ومعه‬
‫ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد‪ ،‬ومعلوم أن الشكل غير اللون‪ ،‬والقدر‬ ‫شكل مخصوص‪ٍّ ،‬‬
‫غير الشكل‪ ،‬فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا‪ ،‬فإذًا التخيل ال يمكنه الفصل‬
‫بينها‪ ،‬ونحن نحس من أنفسنا التفريق بينها‪ ،‬فبم أدركناها مجردة؟‬
‫عقال) فيدرك السواد‪،‬‬
‫إدراك هذه المفردات المجردة بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها ( ً‬
‫ويقضي بقضايا‪ ،‬ويدرك اللونية‪ ،‬والحيوانية‪ ،‬والجسمية مجردة‪ ،‬وحيث يدرك الحيوانية قد ال‬
‫‪26‬‬
‫يحضره االلتفات إلى العاقل وغير العاقل وإن كان الحيوان ال يخلو عن القسمين‪.‬‬
‫احدا أدرك الفرس المطلق‬‫فرسا و ً‬
‫وهذه من عجيب خواصها وبديع أفعالها‪ ،‬فإذا رأى ً‬
‫الذي يشترك فيه الصغير والكبير‪ ،‬واألشهب والكميت‪ ،‬والبعيد منه في المكان والقريب‪ ،‬بل‬
‫يدرك الفرسية المجردة المطلقة عن كل قرينة ليست ذاتية لها‪ ،‬فإن القدر المخصوص واللون‬
‫مختلفات اللون والقدر‬
‫ُ‬ ‫الزم في الوجود؛ إذ‬
‫عارض أو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫المخصوص ليس للفرس ذاتيًّا بل‬
‫تشترك في حقيقة الفرسية‪.‬‬
‫وهذه المطلقات المجردة هي التي يعبر عنها المتكلمون باألحوال والوجوه واألحكام‪،‬‬
‫ويعبر عنها المنطقيون بالكليات المجردة‪ ،‬ويزعمون أنها موجودة في األذهان ال في األعيان‪،‬‬
‫وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج بل من داخل‪ ،‬يعنون خارج الذهن وداخله‪.‬‬
‫ويقول أرباب األحوال‪ :‬إنها أمور ثابتة‪ ،‬تارة يقولون‪ :‬إنها موجودة معلومة‪ ،‬وتارة يقولون‪:‬‬
‫ال موجودة وال معدومة‪ ،‬وال معلومة وال مجهولة‪ ،‬وقد دارت فيه رءوسهم وحارت عقولهم‪.‬‬
‫والعجب أنه أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس؛ إذ من ههنا يأخذ العقل‬
‫التخيل اإلنساني‪ ،‬فمن‬
‫َ‬ ‫خيل البهيمي فيه‬
‫اإلنساني في التصرف‪ ،‬وما كان قبله كان يشارك الت ُ‬
‫تحيَّر في أول منزل من منازل العقل كيف يرجى فالحه في تصرفاته؟‬

‫‪27‬‬
‫الفرع الثالث‪ :‬يي أةكام المعاني المؤلفة‬
‫قد نظرنا في مجرد اللفظ ثم في مجرد المعنى‪ ،‬فننظر اآلن في تأليف األلفاظ الدالة على‬
‫المعاني المؤلفة‪ ،‬وهو ضربان‪:‬‬
‫األول‪ :‬ما ال يحسن السكوت عليه مثل‪( :‬إن قمت)‪ ،‬فيسمى ً‬
‫ناقصا‪ ،‬وليس الكالم فيه‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ما يحسن السكوت عليه‪ ،‬مثل‪( :‬قام زيد)‪ ،‬فيسمي‪ًّ :‬‬
‫تاما‪.‬‬
‫ثم التام قسمان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬ما يكون على وجه ال يتطرق إليه الصدق والكذب لذاته‪ ،‬فهو اإلنشاء‪ ،‬نحو‪:‬‬
‫يدا‪ ،‬وال يتعلق به هنا غرض‪.‬‬
‫ال تقم‪ ،‬وما أحسن ز ً‬
‫والثاني‪ :‬ما يكون على وجه يتطرق إليه التصديق والتكذيب لذاته‪ ،‬فهو الخبر‪ ،‬كقولنا‪:‬‬
‫(العالم حادث)‪ ،‬و(زيد قائم)‪ ،‬فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين تصورين لذاتين‬
‫مفردتين بنسبة إحداهما إلى األخرى‪ ،‬إما باإلثبات؛ كقولك‪( :‬العالم حادث)‪ ،‬أو بالسلب؛‬
‫كقولك‪( :‬العالم ليس بقديم)‪.‬‬
‫خبرا)‪ ،‬ويسمي‬‫وقد التأم هذا من جزأين يسمي النحويون أحدهما (مبتدأً)‪ ،‬واآلخر ( ً‬
‫موضوعا)‪،‬‬
‫ً‬ ‫اآلخر (موصوفا)‪ ،‬ويسمي المنطقيون أحدهما (‬
‫المتكلمون أحدهما (وص ًفا)‪ ،‬و َ‬
‫محكوما عليه)‪،‬‬
‫ً‬ ‫اآلخر (‬
‫حكما)‪ ،‬و َ‬‫محموال)‪ ،‬ويسمي أهل المعاني‪ :‬أحدهما ( ً‬ ‫اآلخر ( ً‬‫و َ‬
‫كالما)‪ ،‬و(جملةً مفيدة)‪.‬‬
‫ويسمى المجموع عند المنطقيين (قضية)‪ ،‬وعند النحويين ( ً‬
‫وأحكام القضايا كثيرة‪ ،‬ونذكر منها ما تشتد الحاجة إليه وتضر الغفلة عنه‪ ،‬وهو ثالثة‬
‫أمور‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬تقسيم القضايا من حيث عموم الحكم فيها وخصوصه‬
‫موضوع القضية إما أن يكون جزئيًّا‪ ،‬وإما أن يكون كليًّا‪ ،‬وإذا كان كليًّا فإما أن يصرح في‬
‫‪28‬‬
‫القضية بأن الحكم على كل أفراده‪ ،‬وإما أن يصرح بأنه على بعضها‪ ،‬وإما أن يسكت عن‬
‫ذلك‪ ،‬فالقضايا إ ًذا أربع‪:‬‬
‫األولى‪ :‬القضية الشخصية‪ ،‬وهي التي يكون موضوعها جزئيا‪ ،‬كقولنا‪( :‬محمد رسول‬
‫الله)‪ ،‬و(مكة قبلة المسلمين)‪ ،‬وتسمى الشخصية‪ ،‬والمخصوصة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬القضية الكلية‪ ،‬وهي التي يكون موضوعها كليًّا والحكم على كل جزئياته‪ ،‬كقولنا‪:‬‬
‫(كل مؤمن مسلم)‪ ،‬و(كل مسكر خمر)‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬القضية الجزئية‪ ،‬وهي التي يكون موضوعها كليًّا‪ ،‬والحكم على بعض جزئياته‪،‬‬
‫كقولنا‪( :‬بعض المسلمين مؤمنون)‪ ،‬و(بعض البيوع محرم)‪ ،‬و(بعض الحيوان إنسان)‪.‬‬
‫بكل وال ٍّ‬
‫بعض‪،‬‬ ‫الرابعة‪ :‬قضية مهملة‪ ،‬وهي التي يكون موضوعها كليًّا‪ ،‬وال يصرح فيها ٍّ‬
‫كقولنا‪( :‬اإلنسان في خسر)‪.‬‬
‫ومسورة‪.‬‬
‫وما في موضوعها لفظ (كل) أو (بعض) أو ما في معناهما تسمى‪ :‬محصورةً‪َّ ،‬‬
‫وكل قضية من هذه القضايا إما أن تكون موجبة وهي التي يكون الحكم فيها مثبتًا‪ ،‬وإما‬
‫أن تكون سالبة‪ ،‬وهي التي يكون الحكم فيها منفيًّا‪.‬‬
‫القضية المهملة من طرق المغالطات‬

‫ومن طرق المغالطين في النظر استعمال المهمالت بدل القضايا العامة‪ ،‬فإن المهمالت‬
‫قد يراد بها الخصوص وقد يراد بها العموم فيصدق طرفا النقيض‪ ،‬كقولك‪( :‬اإلنسان في‬
‫خسر)‪ ،‬تعني الكفار‪ ،‬و(اإلنسان ليس في خسر)‪ ،‬تعني األنبياء‪.‬‬
‫وال ينبغي أن يسامح بهذا في المناظرات‪ ،‬كأن يقول الشافعي‪( :‬معلوم أن المطعوم ربوي‪،‬‬
‫والسفرجل مطعوم‪ ،‬فهو إذا ربوي) فيقال له‪ :‬قولك‪( :‬المطعوم ربوي) أردت به‪ :‬كل‬
‫المطعومات أو‪ :‬بعضها؟ فإن أردت البعض لم تلزم النتيجة؛ إذ يمكن أن يكون السفرجل من‬
‫البعض الذي ليس ربويا‪ ،‬وإن أردت الكل فمن أين عرفت هذا فنحن ال نسلِم به؟‬
‫ويقرر المناطقة أن المهملة في قوة الجزئية‪ ،‬فمن قال‪( :‬المطعوم ربوي)‪ ،‬فكأنه قال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫(بعض المطعوم ربوي)‪ ،‬فال يصح له االحتجاج به على ربوية أفراد المطعوم‪ ،‬وال يخلو هذا من‬
‫ٍّ‬
‫كدر إذا قارنته بكالم األصوليين في صيغ العموم‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬في تقسيم القضايا من حيث هيئتها‬
‫تنقسم القضايا من حيث أشكالها وهيآتها قسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬القضية الحملية‪ ،‬وهي المكونة من مفردين يحمل أحدهما على اآلخر أي يحكم‬
‫به عليه‪ ،‬كقولك‪( :‬زيد قائم)‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬القضية الشرطية‪ ،‬وهي نوعان‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬الشرطية المتصلة‪ ،‬وهي حمليتان ربط بينهما بأداة شرط‪ ،‬كقولك‪( :‬إن كان‬
‫مسكرا فهو حرام)‪.‬‬
‫ً‬ ‫القات‬
‫والنوع الثاني‪ :‬الشرطية المنفصلة‪ ،‬وهي التي يكون موضوعها م ً‬
‫حصورا في أحد شيئين أو‬
‫أشياء بأداة (إما)‪ ،‬وتسمى أداة عناد‪ ،‬كقولك‪( :‬اإلنسان إما ذكر‪ ،‬وإما أنثى)‪ .‬سميت أداة‬
‫عناد؛ ألنها تقتضي التنافر وعدم االجتماع‪ ،‬وتستعمل على وجهين‪:‬‬
‫معا‪،‬‬
‫معا وعدمهما ً‬ ‫أحدهما‪ :‬أن تكون مانعةَ جمع ٍّ‬
‫وخلو‪ ،‬أي تمنع وجود المتعاندين ً‬
‫مثل‪ :‬اإلنسان إما ذكر وإما أنثى‪ ،‬والعدد إما زوج وإما فرد‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن تكون مانعة جمع ال ٍّ‬
‫خلو‪ ،‬كقولك‪ :‬الشيء إما أبيض وإما أسود‪ ،‬تعني أنهما‬
‫ال يجتمعان فيه‪ ،‬وقد يرتفعان عنه بأن يكون أحمر مثال‪.‬‬
‫مقدما)‪ ،‬وشقها الثاني (تاليًا)‪.‬‬
‫ويسمى شق الشرطية األول ( ً‬
‫األمر الثالث‪ :‬في شروط التناقض‪.‬‬

‫الحاجة إليه‪:‬‬

‫هو محتاج إليه؛ إذ رب مطلوب ال يقوم الدليل عليه؛ لكن على بطالن نقيضه أو‬
‫صحته‪ ،‬فيستبان من إبطال نقيضه صحته هو‪ ،‬ومن صحة نقيضه بطالنه هو‪.‬‬
‫تعريف النقيض‪.‬‬

‫قبل تعريف التناقض والنقيض‪ ،‬أقدم لك مصطلحات قد تمر بك وتحتاج إلى الوقوف‬
‫عليه‪ ،‬ومن خاللها ندلف إلى تعريفهما‪.‬‬
‫أقسام المباينة‬

‫سبق في نسبة األلفاظ إلى المعاني‪ ،‬نسبة المباينة‪ ،‬وهي اختالف اللفظين في اللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬وتقسم قسمين‪:‬‬
‫‪31‬‬
‫أحدهما‪ :‬تباين المخالفة‪ :‬وهو أن يكون المتباينان ال يمتنع اجتماعهما في محل‪،‬‬
‫باردا‪ ،‬فيجتمع فيه المعنيان‪.‬‬
‫كالبياض والبرودة‪ ،‬فال يمتنع أن يكون األبيض ً‬
‫والثاني‪ :‬تباين المقابلة‪ ،‬وهي أن يكون المتباينان يمتنع اجتماعهما‪ ،‬كالبياض والحمرة‪.‬‬
‫أقسام المقابلة‪:‬‬

‫ثم ينقسم التقابل أيضا أربعة أقسام‪:‬‬


‫أحدها‪ :‬تقابل العدم والملكة‪ ،‬وهو الذي يكون بين مفردين متقابلين أحدهما وجودي‬
‫واآلخر عدمي حقيقتُه نفي للوجودي من محل قابل له‪ ،‬كالبصر والعمى‪ ،‬والسمع والصمم‪،‬‬
‫فالعمى ليس إال نفي البصر‪ ،‬والصمم ليس إال نفي السمع‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬تقابل المتضايفين‪ ،‬وهو التقابل بين وجوديين يتوقف تصور أحدهما على تصور‬
‫اآلخر‪ ،‬كاألبوة والبنوة؛ إذ ال يتصور األبوة من لم يتصور البنوة‪ ،‬وكذا العكس‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬تقابل الضدين‪ :‬وهو التقابل بين وجوديين ال يتوقف تصور أحدهما على تصور‬
‫اآلخر‪ ،‬كالبياض والسواد‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬تقابل النقيضين‪ ،‬وهو االختالف في السلب واإليجاب‪ ،‬إما بين مفردين مثل‪:‬‬
‫(إنسان)‪ ،‬و(ال إنسان)‪ ،‬أو بين قضيتين‪ :‬كقولك‪( :‬علة الربا الطعم)‪ ،‬و(علة الربا ليست‬
‫الطعم)‪ ،‬ولتناقض القضيتين شروط ستأتي‪.‬‬
‫فكل هذه األقسام تتفق في أنها ال يمكن اجتماعها في محل‪ ،‬فيستدل بوجود أحدها‬
‫على بطالن مقابله‪.‬‬
‫أيضا بخالف الضدين والمتضايفين‪ ،‬وأما تقابل العدم‬
‫ويزيد النقيضان بأنهما ال يرتفعان ً‬
‫والملكة فكالنقيضين إال أنه في المفردات‪ ،‬ويختص بالمحل القابل‪ ،‬فال يقال للحجر‪:‬‬
‫(أعمى)‪ ،‬وال (مبصر)‪.‬‬
‫وإذا كان النقيضان ال يجتمعان وال يرتفعان فالقضيتان المتناقضتان إذا صدقت إحداهما‬
‫كذبت األخرى بالضرورة‪ ،‬وإذا كذبت إحداهما صدقت األخرى بالضرورة؛ كقولنا‪( :‬العالم‬
‫حادث) و(العالم ليس بحادث)‪.‬‬
‫وإنما يلزم صدق إحداهما عند كذب األخرى إذا اتفقت القضيتان في كل شيء إال في‬
‫السلب واإليجاب؛ وذكروا لذلك شروطًا مرجعها إلى شرطين‪:‬‬
‫‪30‬‬
‫شرطا التناقض‬

‫أحدهما‪ :‬أن يكون المثبت هو المنفي في القضيتين حقيقةً وزمانا ومكانًا‪ ،‬فال يخالفه‪:‬‬
‫‪ -‬في المعنى وإن اتحد اللفظ‪ ،‬كقولك‪ :‬العين باصرة‪ ،‬والعين ليست باصرة‪ ،‬تريد باألولى‬
‫عين اإلنسان‪ ،‬وبالثانية عين الماء‪.‬‬
‫موجودا)‪ ،‬تريد‬
‫ً‬ ‫موجودا)‪ ،‬و(لم يكن زيد‬
‫ً‬ ‫‪ -‬وال في الزمان والمكان‪ ،‬كقولك‪( :‬كان زيد‬
‫زمنين أو مكانين مختلفين‪.‬‬
‫‪ -‬وال في اإلضافة‪ ،‬كقولك‪( :‬زيد أب)‪ ،‬و(زيد ليس أبًا) تريد‪ :‬لشخصين مختلفين‪.‬‬
‫‪ -‬وال في القوة والفعل‪ ،‬كقولك‪( :‬زيد كاتب) تريد بالقوة‪ ،‬و(زيد ليس بكاتب) تريد‬
‫بالفعل‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أال تكون القضيتان كليتين‪ ،‬فإن الكليتين متضادتان ال متناقضتان‪ ،‬فصدق‬
‫إحداهما يدل على بطالن األخرى؛ لكن بطالن إحداهما ال يدل على صدق األخرى‪ ،‬فقد‬
‫تبطالن بأن يكون الموضوع فيهما أعم من المحمول ولو من وجه‪ ،‬كقولك‪( :‬كل حيوان‬
‫إنسان)‪ ،‬و(ال حيوا َن إنسان)‪ ،‬فهما كاذبتان؛ إذ بعض الحيوان إنسان‪ ،‬وكقولك‪( :‬كل ذكر‬
‫إنسان) و(ال ذكر إنسان)‪ ،‬فهما كاذبتان كالسابقتين‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في المقاصد‬
‫وفيه فرعان‪ :‬فرع في صورة البرهان‪ ،‬وفرع‪ :‬في مادته‬
‫الفرع األول ‪ :‬يي صورة البرهان‬
‫سبق أن أقل ما يتركب منه البرهان مقدمتان تؤلفان تأليفا مخصوصا‪ ،‬فيتولد بينهما‬
‫نتيجة‪.‬‬
‫فإن كانت المقدمات قطعية سميناها برهانا‪ ،‬وإن كانت مسلمة سميناها قياسا جدليا‪،‬‬
‫وإن كانت مظنونة سميناها قياسا فقهيا‪ ،‬هذا هو التدقيق‪ ،‬وإال فنستعمل لفظ البرهان أو‬
‫القياس في الجميع‪.‬‬
‫ولما كانت القضايا على ثالثة أنماط‪ ،‬الحملية والشرطية المتصلة والشرطية المنفصلة ‪-‬‬
‫كما سبق‪ -‬كان البرهان المؤلف منها ثالثة أنماط‪:‬‬
‫النمط األول‪ :‬البرهان المؤلف من القضايا الحملية‪.‬‬
‫ويسمى بالقياس االقتراني‪ ،‬وبقياس الشمول‪.‬‬
‫ويتكون ‪-‬على األقل‪ -‬من مقدمتين حمليتين‪ ،‬فيكون مجموع أجزاء البرهان أربعة أمور‬
‫يتكرر لم‬
‫احدا يتكرر في المقدمتين‪ ،‬فيعود إلى ثالثة أجزاء بالضرورة‪ ،‬ألنها لو لم َّ‬
‫أمرا و ً‬
‫إال أن ً‬
‫تشترك المقدمتان في شيء‪ ،‬وبطل اقترانهما‪ ،‬فال تتولد النتيجة‪ ،‬فإنك إذا قلت‪( :‬القات‬
‫مسكر)‪ ،‬ثم لم تتعرض في المقدمة الثانية ال للقات وال للمسكر؛ لكن قلت‪( :‬وكل مغصوب‬
‫مضمون) أو (والعالم حادث)‪ ،‬لم ترتبط إحداهما باألخرى‪ ،‬ولم تحصل نتيجة‪ ،‬بخالف ما‬
‫إذا كررت فقلت‪( :‬وكل مسكر حرام)‪ ،‬فينتج بالضرورة‪( :‬القات حرام)‪.‬‬
‫وهذا المكرر يسمى بـ(الحد األوسط)‪ ،‬وسماه الغزالي علةً‪ ،‬وموضوع النتيجة يسمى‬

‫‪33‬‬
‫بـ(الحد األصغر)‪ ،‬والمقدمة التي تحويه تسمى بـ(المقدمة الصغرى)‪ ،‬ومحمول النتيجة يسمى‬
‫بـ(الحد األكبر)‪ ،‬والمقدمة التي تحويه تسمى بـ(المقدمة الكبرى)‪ ،‬وهذه المصطلحات‬
‫للتسهيل واالختصار‪.‬‬
‫موضوعا في المقدمتين‪ ،‬وإما أن‬
‫ً‬ ‫إذا عرفت ذلك فالحد األوسط (المكرر) إما أن يكون‬
‫محموال في األخرى‪ ،‬فاألشكال‬ ‫ً‬ ‫موضوعا في إحداهما‬
‫ً‬ ‫محموال فيهما‪ ،‬وإما أن يكون‬
‫ً‬ ‫يكون‬
‫موضوعا في الصغرى محموال في الكبرى‪ ،‬كقولك‪( :‬كل‬ ‫ً‬ ‫أربعة؛ إال أنه يبعد في الطبع كونه‬
‫إنسان حيوان‪ ،‬وكل كاتب إنسان)‪ ،‬يلزم منه‪ :‬بعض الحيوان كاتب‪ ،‬وقد تركه الغزالي‪ ،‬فنتركه‪،‬‬
‫ونكتفي باألشكال الثالثة األخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫محموال في الصغرى موضوعًا في الكبرى‬ ‫الشكل األول‪ :‬أن يكون األوسط‬
‫ضر‪ ،‬وكل ٍّ‬
‫مضر حرام)‪ ،‬فهاتان مقدمتان إذا سلمتا على هذا الوجه لزم‬ ‫مثاله‪( :‬الدخان م ٌّ‬
‫بالضرورة تحريم الدخان‪ ،‬فيقال‪( :‬الدخان حرام)‪ ،‬فإن لم تسلم إحدى المقدمتين فال ينتج إال‬
‫بعد إقامة الدليل على صحتها؛ بإقامة الدليل الشرعي على الكبرى‪ ،‬وشهادة الحس أو التجربة‬
‫للصغرى‪.‬‬
‫وعادة الفقهاء أن يقولوا‪( :‬هذا محرم ألنه مضر)‪ ،‬أو‪( :‬هذا محرم؛ ألنه مسكر)‪ ،‬وقد‬
‫اجع إلى هذا الشكل؛ لكن حذفت إحدى‬ ‫(قياسا على الخمر) مثال‪ ،‬وهذا كله ر ٌ‬
‫يزيدون‪ً :‬‬
‫وجل أقيستهم أو كلها من هذا الشكل؛ بهذا التقدير‪.‬‬
‫اختصارا‪ ،‬وهي الكبرى‪ُّ ،‬‬
‫ً‬ ‫مقدمتيه‬
‫مشموال لهذا‬
‫ً‬ ‫ووجه إنتاجه‪ :‬أنك إذا حكمت بالمحمول على الموضوع‪ ،‬كان الموضوع‬
‫حكما عليه وعلى مشموالته‪،‬‬‫المحمول‪ ،‬فإذا حكمت على ذلك المحمول بأمر آخر كان ً‬
‫فيدخل الموضوع األول في الحكم الثاني ضرورة‪.‬‬
‫شروط إنتاج الشكل األول‪:‬‬

‫إلنتاج هذا الشكل شرطان‪:‬‬


‫أحدهما‪ :‬أن تكون صغراه موجبة أي مثبتة‪ ،‬فإن كانت نافية لم تنتج ألنك إذا نفيت‬
‫محموال عن موضوع لم يدخل فيه‪ ،‬فال يندرج في الحكم عليه بعد ذلك‪ ،‬فإنك إذا قلت‪:‬‬ ‫ً‬
‫حكما على‬
‫مسكرا‪ ،‬وكل مسكر حرام)‪ ،‬فال يكون الحكم الثاني ً‬ ‫ً‬ ‫(المشروب الغازي ليس‬
‫المشروب الغازي؛ ألنه لم يندرج في المسكر‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الثاني‪ :‬أن تكون كبراه كلية حتى يدخل موضوع الصغرى في الحكم‪ ،‬فإنك إذا قلت‪:‬‬
‫(البرتقال مطعوم‪ ،‬وبعض المطعوم زكوي)‪ ،‬لم يلزم منه كون البرتقال زكويا؛ إذ ليس من ضرورة‬
‫الحكم على بعض المطعوم أن يتناول البرتقال‪.‬‬
‫وال يشترط غير هذين الشرطين‪ ،‬فال يشترط البدء بالصغرى قبل الكبرى‪ ،‬فلك أن تعكس‬
‫فتبدأ بالكبرى‪ ،‬فتقول‪( :‬كل مسكر حرام‪ ،‬والقات مسكر)‪ ،‬فينتج‪( :‬القات حرام)‪.‬‬
‫وال كون الصغرى كلية‪ ،‬فيجوز أن تقول‪( :‬بعض القات مسكر‪ ،‬وكل مسكر حرام)‪ ،‬وينتج‬
‫لك‪( :‬بعض القات حرام)‪.‬‬
‫وال كون الكبرى موجبة‪ ،‬فإذا قلت‪( :‬القات مسكر‪ ،‬والمسكر ليس حالال) نتج لك‪:‬‬
‫(القات ليس حالال)‪.‬‬
‫ً‬
‫محموال في المقدمتين‬ ‫الشكل الثاني‪ :‬أن يكون األوسط‬
‫مضرا)‪ ،‬نتج عند صحتهما أو تسليمهما‪:‬‬
‫مضر‪ ،‬والحالل ال يكون ًّ‬
‫مثاله‪( :‬الدخان ٌّ‬
‫حالال)‪.‬‬
‫(الدخان ال يكون ً‬
‫وهذا الشكل إذا عكست كبراه رجع إلى الشكل األول؛ بأن تقول‪( :‬الدخان مضر‪،‬‬
‫موضوعا مع بقاء‬
‫ً‬ ‫حالال)‪ ،‬إذ العكس جعل الموضوع محموال والمحمول‬
‫والمضر ال يكون ً‬
‫الصدق والكيف أي اإليجاب والسلب‪.‬‬
‫ووجه لزوم النتيجة منه أن كل شيئين ثبت ألحدهما ما انتفى عن اآلخر فهما متباينان‬
‫ضرورة‪ ،‬فالضرر ثابت للدخان‪ ،‬منتف عن الحالل‪ ،‬فال يكون بين الدخان والحالل التقاء أي‬
‫المضر حالالً‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫مضر‪ ،‬وال‬
‫ال يكون الحالل ًّ‬
‫وهذا الشكل يعبر عنه الفقهاء بالفرق‪ ،‬كقولهم‪( :‬صالة الوتر تؤدى على الراحلة فال‬
‫تكون واجبة)‪ ،‬فهذا إبداء فرق يمنع جعل الوتر واجبة‪ ،‬وتمامه‪( :‬صالة الوتر تؤدى على‬
‫الراحلة‪ ،‬وليس شيء من الصلوات الواجبة يؤدى على الراحلة)‪ ،‬فينتج (صالة الوتر ليست‬
‫واجبة)‪.‬‬
‫شروط الشكل الثاني‪:‬‬

‫أيضا شرطان‪:‬‬
‫ويشترط لهذا الشكل ً‬
‫أحدهما‪ :‬أن تكون الكبرى كلية‪ ،‬كالشكل األول‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫والثاني‪ :‬أن تختلف المقدمتان في السلب واإليجاب؛ ليحصل الفرق والتباين‪ ،‬ومن هنا‬
‫ال تكون نتيجته إال سالبة بخالف نتيجة األول فإنها يجوز أن تكون سالبة ويجوز أن تكون‬
‫موجبة‪.‬‬
‫ويصح أن تكون الصغرى جزئية كالشكل األول‪ ،‬وتكون النتيجة جزئية‪ ،‬فإن النتيجة تتبع‬
‫األخس في الجزئية والسلب‪.‬‬
‫الشكل الثالث‪ :‬أن يكون الحد األوسط موضوعًا في المقدمتين‬
‫مثاله‪( :‬كل بر مطعوم‪ ،‬وكل بر ربوي)‪ ،‬فهاتان المقدمتان إذا سلمتا نتج عنهما‪( :‬بعض‬
‫المطعوم ربوي)‪ .‬وهذا يسميه الفقهاء نقضا‪.‬‬
‫ووجه لزوم نتيجته‪ :‬أن فيه الحكم بمحمولين على موضوع واحد فالحكمان يلتقيان في‬
‫المحل ضرورة‪ ،‬وأقل درجات االلتقاء أن يكون في هذا الموضوع دون غيره‪ ،‬فينتج نتيجة‬
‫جزئية‪ ،‬ولهذا تصح النتيجة السابقة وعكسها (بعض الربوي مطعوم)‪.‬‬
‫شروط الشكل الثالث‪:‬‬

‫أيضا شرطان‪:‬‬
‫يشترط فيه ً‬
‫أحدهما‪ :‬أن تكون صغراه موجبة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أال تكون كلتا مقدمتيه جزئيتين؛ إذ ال يتركب قياس من جزئيتين؛ بل تكونان‬
‫كليتين‪ ،‬أو كلية وجزئية‪ ،‬أو شخصيتين كقولك‪( :‬زيد عالم‪ ،‬وهو كاتب) أنتج‪( :‬بعض العلماء‬
‫كاتب)‪.‬‬
‫النمط الثاني‪ :‬البرهان المؤلف من الشرطية المتصلة ‪.‬‬
‫قد عرفت ساب ًقا صورة القضية الشرطية‪ ،‬وأنها تنقسم قسمين‪ :‬متصلة ومنفصلة‪ ،‬وعرفت‬
‫مفهوم كل منهما‪ ،‬والمقصود هنا معرفة تأليف األقيسة من الشرطية المتصلة‪ ،‬والقياس المؤلف‬
‫منها يسمى بالقياس االستثنائي‪ ،‬وسماه الغزالي‪( :‬نمط التالزم)‪.‬‬
‫وطريقة تأليفه‪ ،‬أن تأتي بالقضية الشرطية المتصلة‪ ،‬كقولك‪( :‬إن كان العالم مخلوقًا فال‬
‫بد له من خالق)‪ ،‬فهذه مقدمة‪ ،‬ثم تأتي بالمقدمة الثانية مشتملة على التسليم بمقدم الشرطية‬
‫أو إبطال التالي‪ ،‬كأن تقول‪( :‬ومعلوم أن العالم حادث) فينتج ‪-‬بشرط التسليم بالربط الذي‬
‫لزوما‪( :‬فال بد له من خالق)‪ ،‬وبه يتبين أن التسليم بالمقدم ينتج عين‬
‫هو المقدمة األولى‪ً -‬‬
‫‪36‬‬
‫التالي‪.‬‬
‫ومثال إبطال التالي‪( :‬لو كان الحج على الفور لما أخره النبي عن العام التاسع) هذه‬
‫المقدمة األولى‪ ،‬ثم تبطل التالي‪( :‬لكنه أخره عنه) وهذه المقدمة الثانية‪ ،‬والنتيجة‪( :‬فليس‬
‫الحج على الفور)‪ ،‬وبه يتبين أن إبطال التالي ينتج نقيض المقدم‪.‬‬
‫وأما التسليم بالتالي أو إبطال المقدم فال ينتج شيئًا‪.‬‬
‫ووجه إنتاجه أن وجود الملزوم يقتضي وجود الزمه ضرورة‪ ،‬وبطالن الالزم يقتضي بطالن‬
‫ملزومه ضرورة‪ ،‬فأما بطالن الملزوم فال يقتضي بطالن الالزم؛ وكذا وجود الالزم ال يقتضي‬
‫وجود الملزوم‪.‬‬
‫وتحقيقه أنه مهما جعل شيء الزما لشيء فينبغي أال يكون الملزوم أعم من الالزم‪ ،‬بل‬
‫وجود (اللون)‬
‫األخص ُ‬‫ِ‬ ‫وإما مساويًا‪ ،‬أال ترى أنه يلزم من وجود (السواد)‬
‫أخص َّ‬‫َّ‬ ‫يكون إما‬
‫األعم‪ ،‬وال يلزم من وجود (اللون) األعم وجود (السواد) األخص‪ ،‬ويلزم من وجود النهار وجود‬
‫الشمس؛ إذ ال معنى للنهار إال وجود الشمس فهما متساويان‪ ،‬وإذا كان كذلك‪ ،‬فثبوت‬
‫األخص بالضرورة يوجب ثبوت األعم‪ ،‬وانتفاء األعم يوجب انتفاء األخص بالضرورة‪.‬‬
‫وأما وجود األعم فال يدل على وجود األخص‪ ،‬وكذا انتفاء األخص ال يدل على انتفاء‬
‫األعم‪ .‬وأما في حال التساوي فتصح كل النتائج األربع؛ لكن ليس لمجرد الصيغة بل لثبوت‬
‫التساوي بقضية أخرى‪.‬‬
‫واعتبِر ذلك بشروط الصالة‪ ،‬ال يلزم من بطالن الصالة بطالن الطهارة؛ ألنها قد تبطل‬
‫لفقد شرط آخر مع صحة الطهارة؛ وكذلك ال يلزم من صحة الطهارة صحة الصالة‪ ،‬وإنما‬
‫الذي يلزم‪ :‬صحةُ الطهارة من صحة الصالة‪ ،‬وبطالن الصالة من بطالن الطهارة‪.‬‬
‫وهذا الموضع مثار غلط كبير في المناقشات‪ ،‬فاالحتجاج بمثل هذا النمط يحتاج إلى‬
‫تسليم الخصم بصحة الربط‪ ،‬ثم بصحة المقدمة الثانية‪ ،‬مع صحة االستنتاج بأحد الوجهين‬
‫السابقين دون الوجهين الفاسدين‪.‬‬
‫النمط الثالث‪ :‬البرهان المؤلف من الشرطية المنفصلة‬
‫وهو من قبيل االستثنائي‪ ،‬وسماه الغزالي‪( :‬نمط التعاند)‪ ،‬ويسميه األصوليون ب ـ ـ ــ(السبر‬
‫والتقسيم)‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫وهو كسابقيه مقدمتان ونتيجة‪ ،‬المقدمة األولى هي الشرطية المنفصلة‪( :‬المخلوق إما أن‬
‫يكون هو خلق نفسه وإما أن يكون له خالق غيره)‪ ،‬ثم المقدمة الثانية بإبطال أحد الشقين‬
‫فيتعين اآلخر‪ ،‬أو تسليمه فيبطل اآلخر‪ ،‬فتقول‪( :‬ومحال أن يخلق نفسه)‪ ،‬فينتج‪( :‬إ ًذا له‬
‫غيره)‪.‬‬
‫خالق ُ‬
‫زوجا)‪ ،‬وإن‬‫وتقول‪( :‬الثالثة إما زوج وإما فرد‪ ،‬ومعلوم أنها فرد) والنتيجة‪( :‬فال تكون ً‬
‫زوجا) فالنتيجة‪( :‬فهي فرد)‪ ،‬وبه تبين أن‬
‫قلت بدل المقدمة الثانية‪( :‬ومعلوم أنها ليست ً‬
‫إبطال المقدم ينتج تعيُّن التالي‪ ،‬وإبطال التالي ينتج تعين المقدَّم‪ ،‬والتسليم بالمقدم ينتج‬
‫إبطال التالي‪ ،‬والتسليم بالتالي‪ ،‬ينتج إبطال المقدم‪.‬‬
‫ناقصا‪ ،‬فال ينتج؛ إذ يمكن أن يكون المتروك هو‬
‫وشرطه‪ :‬تمام الحصر‪ ،‬فلو كان الحصر ً‬
‫الصواب‪.‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬يي بيان مادة البرهان‬
‫وهي المقدمات الجارية من البرهان مجرى القماش من القميص‪ ،‬والخشب من السرير‪،‬‬
‫فإن ما ذكرناه يجري مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من السرير‪ ،‬وكما ال يمكن‬
‫أن يتخذ من كل جسم سيف؛ إذ ال يتأتى من الخشب‪ ،‬وال من الثوب سيف‪ ،‬وال من السيف‬
‫سرير‪ ،‬فكذلك ال يمكن أن يتخذ من كل مقدمة برهان منتج‪ ،‬بل البرهان المنتج ال ينصاغ إال‬
‫من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينيا أو ظنية إن كان المطلوب فقهيا‪.‬‬
‫واليقين ينحصر في خمسة أقسام‪:‬‬
‫األول‪ :‬األوليات‪ ،‬وهي الفطريات التي فُ ِطر الناس عليها‪ ،‬من العقليات المحضة التي‬
‫أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل‪ ،‬بل ُجبل على التصديق بها‪،‬‬
‫معا‪ ،‬وال يقف حصوله على أمر سوى وجود‬ ‫مثل‪ :‬علم اإلنسان بأن النقيضين ال يصدقان ً‬
‫العقل‪ ،‬فال يحتاج إال إلى ذهن ترتسم فيه المفردات‪ ،‬وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه‬
‫المفردات إلى البعض‪ ،‬فينتهض العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب‪.‬‬
‫مفطورا عليه من غير ترتيب أدلة سواء أكان بواسطة ال تغيب‬
‫ً‬ ‫وكذا كل ما يجد اإلنسان‬
‫عن الذهن‪ ،‬أو بدون واسطة‪ ،‬كوجود الله‪ ،‬وحسن الصفات الحميدة‪ ،‬وقبح الذميمة‪ ،‬فإن‬
‫منقادا إليها بطبعه‪.‬‬
‫اإلنسان يجد نفسه ً‬

‫‪38‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هذا قد اختلف فيه الناس‪ ،‬فكيف يكون أوليًّا؟ فالجواب‪ :‬أن الفطريات نوعان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬ما يتفق عليه الحس والعقل‪ ،‬كامتناع الجمع بين النقيضين‪ ،‬وكون الكل أكبر‬
‫ٍّ‬
‫عقليات محضة‪ ،‬فإن جزئياتها في الحقيقة محسوسة‪،‬‬ ‫من الجزء‪ ،‬وهي التي جعلها الغزالي‬
‫نادرا؛ كحالة الشك عند الفالسفة‪.‬‬
‫فيساعد فيها الحس العقل‪ ،‬فال يقع فيها خالف إال ً‬
‫والنوع الثاني‪ :‬ما هو ٌّ‬
‫عقلي بحت‪ ،‬ال يمكن تطبيقه في جزئيات حسية‪ ،‬كوجود الله‪،‬‬
‫وقبح السرقة‪ ،‬واللواط وغيرهما‪ ،‬وحسن التراحم‪ ،‬وستر العورات ونحوهما‪ ،‬فهي ٍّ‬
‫معان بحتة‪ ،‬ال‬
‫ويعتل‪،‬‬
‫يختل ُّ‬
‫تتعلق بها الحواس الظاهرة‪ ،‬فهذه يمكن التشكيك فيها بإفساد الفطرة‪ ،‬والعقل ُّ‬
‫مرا‪ ،‬فإن كان يعلم من نفسه العلة لم‬
‫ومثله في المحسوسات‪ :‬أن من به علة يجد الحلو ًّ‬
‫يجادلك‪ ،‬وإن لم يعلم العلةَ جادلك في هذا المحسوس‪ ،‬بخالف ما يتطابق عليه العقل‬
‫والحس‪ ،‬فإنه إذا فسد أحدهما عارضه اآلخر‪.‬‬
‫الخاصة ‪-‬دون العامة‪ -‬اختلفوا في وجود المعاني المجردة ‪-‬كالسواد والبياض‬
‫َّ‬ ‫وإذا كانت‬
‫‪ -‬مع ظهورها ووضوحها في جزئياتها المحسوسة؛ بسبب شبهة عرضت لهم عند التدقيق؛‬
‫َفألن يمكن التشكيك في هذه التي تنفرد بها الفطرة أولى‪.‬‬
‫والغزالي ‪-‬رحمه الله‪ -‬جعل الفطريات التي تقطع بها الفطرة قسمين‪ :‬ما يرجع إلى‬
‫فيهمل إال أن يشهد له العقل‪ ،‬وجعل‬‫العقليات األولية فيقبل‪ ،‬وما يرجع إلى الوهميات َ‬
‫استحسان المكارم واستقباح المساوئ مشهورات تفيد في الظنيات‪ ،‬وهذا مشكل فإن‬
‫تقرر بدليل؛ بل لقطع الفطرة بها‪ ،‬فكذا اآلخران تقطع بهما الفطرة‬ ‫األو ِ‬
‫ليات العقليَّةَ لم َّ‬
‫البشرية‪ ،‬وإمكان تطرق الخطأ إليها واالختالف أحيانًا لشبهة مسخت أو تربية نسخت ال‬
‫يقتضي إهمالها؛ فإن الحسيات يتطرق الخطأ إليها‪ ،‬فيُ ُّرد ما بان خطؤه فقط‪.‬‬
‫الثاني من مدارك اليقين‪ :‬المشاهدات الباطنة وذلك كعلم اإلنسان بجوع نفسه‪،‬‬
‫وعطشه‪ ،‬وخوفه‪ ،‬وفرحه‪ ،‬وجميع األحوال الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس‪،‬‬
‫فهذه ليست من الحواس الخمس وال هي عقلية‪ ،‬بل البهيمة تدرك هذه األحوال من نفسها‬
‫بغير عقل‪ ،‬وكذا الصبي‪ ،‬واألوليات ليست للبهائم والصبيان؛ إال أن تظهر فيهم بعض‬
‫مقتضياتها كالرحمة؛ فقد ال يمتنع أن يوجد شيء منها فيهم بنسبة ضئيلة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬المحسوسات الظاهرة‪ ،‬كقولك‪( :‬الثلج أبيض)‪ ،‬و(القمر مستدير)‪ ،‬وهذا القسم‬

‫‪39‬‬
‫واضح؛ لكن الغلط يتطرق إلى الحواس لعوارض مثل بعد وقرب مفرطين أو ضعف الحاسة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬التجريبيات‪ ،‬وقد يعبر عنها باطراد العادات‪ ،‬وذلك مثل حكمك بأن النار‬
‫محرقة‪ ،‬والخبز مشبع‪ ،‬والحجر هاو إلى أسفل‪ ،‬والنار صاعدة إلى فوق‪ ،‬والخمر مسكر‪.‬‬
‫فهذه يقينية عند من جربها‪ ،‬والناس يختلفون في هذه العلوم الختالفهم في التجربة‪،‬‬
‫فمعرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل كمعرفتك بأن الماء مرو‪ ،‬وكذلك الحكم بأن المغناطيس‬
‫جاذب للحديد عند من عرفه‪.‬‬
‫درك الحس هو أن هذا الحجر يهوي إلى األرض‪ ،‬وأما‬ ‫وهذه غير المحسوسات؛ ألن ُم َ‬
‫الحكم بأن كل حجر هاو فهي قضية عامة ال قضية في عين وليس للحس إال قضية في عين‪،‬‬
‫وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر‪ ،‬فحكم بأن جنس هذا المائع مسكر فالحس لم يدرك‬
‫احدا معيَّـنًا‪ ،‬فالحكم في الكل إ ًذا هو للعقل‪ ،‬ولكن بواسطة الحس أو بتكرر‬
‫وسكرا و ً‬
‫ً‬ ‫إال شربًا‬
‫اإلحساس مرة بعد أخرى؛ إذ المرة الواحدة ال يحصل العلم بها‪ ،‬فمن تألم له موضع فصب‬
‫عليه مائعا‪ ،‬فزال ألمه‪ ،‬لم يحصل له العلم بأنه المزيل؛ إذ يحتمل أن زواله باالتفاق‪.‬‬
‫ومن لم يمعن في تجربة األمور تعوزه جملة من اليقينيات فيتعذر عليه ما يلزم منها من‬
‫النتائج فيستفيدها من أهل المعرفة بها‪ ،‬وهذا كما أن األعمى واألصم تعوزهما جملة من العلوم‬
‫التي تستنتج من مقدمات محسوسة حتى يقدر األعمى على أن يعرف بالبرهان أن الشمس‬
‫أكبر من األرض‪ ،‬فإن ذلك يعرف بأدلة هندسية تنبني على مقدمات حسية‪ ،‬ولما كان السمع‬
‫والبصر شبكة جملة من العلوم قرنهما الله تعالى بالفؤاد في كتابه في مواضع‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬متواترات‪ ،‬كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلوات الخمس‪ ،‬بل‬
‫كعلمنا بأن من مذهب الشافعي‪ :‬أن المسلم ال يقتل بالذمي‪ ،‬فإن هذا أمر وراء المحسوس؛‬
‫إذ ليس للحس إال أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة‪ ،‬وأما الحكم بصدقه فهو للعقل وآلته‬
‫السمع‪ ،‬ال مجرد السمع بل تكرر السماع؛ وال ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ومن‬
‫تكلف حصر ذلك فهو في شطط؛ بل هو كتكرر التجربة ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى‬
‫إلى أن ينقلب الظن علما وال يشعر بوقته؛ فكذلك التواتر‪.‬‬
‫وهذا القسم والذي قبله يندرجان في التسمية التي ذكرها الغزالي‪( :‬اطراد العادات) فإن‬
‫كال منهما يستند إلى داللة العادة المطردة القاطعة بذلك‪ ،‬فكما قطعت العادة بصدق‬ ‫ًّ‬

‫‪41‬‬
‫التجريبيات‪ ،‬تقطع بصدق المتواترات؛ بل بصدق خبر الواحد إذا احتفت به قرائن من هذه‬
‫تعسر تسلُّل الخطأ إلى‬ ‫وتحرزه وصدقِه ُّ‬
‫وتعذر أو ُّ‬ ‫العادات؛ كما عرف من شدة تيقظ الشخص ِ‬
‫مثل الخبر الذي ينقله؛ كما لو نقل لك ثقة أو ثقتان بهذه الصفة أن فالنًا قتله فالن‬
‫داخلك الشك في ذلك الخبر‪.‬‬ ‫بحضرتهما ودفناه‪ ،‬فال ي ِ‬
‫هذه هي مدارك اليقينيات‪ ،‬وليس من شرط اليقينيات اتفاق الناس عليها‪ ،‬بل منها ما ال‬
‫يحصل إال لبعض الناس ويصعب عليه إقناع غيره بها إال أن يرشده إلى سلوك الطريق الذي‬
‫سلكه؛ ليحصل له ذلك‪ ،‬قال الغزالي‪( :‬لمثل هذا ال يمكن إفحام كل مجادل بكالم‬
‫مسكت‪ ،‬فال ينبغي أن تطمع في القدرة على المجادلة في كل حق‪ ،‬فمن االعتقادات اليقينية‬
‫غيرنا بطريق البرهان إال إذا شاركنا في ممارسته؛ ليشاركنا في العلوم‬
‫ما ال نقدر على تعريفه َ‬
‫المستفادة منه‪ ،‬وفي مثل هذا المقام يقال‪ :‬من لم يذق لم يعرف‪ ،‬ومن لم يصل لم يدرك)‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬في اللواحق‬


‫وفيه فرعان‪:‬‬
‫الفرع األول‪ :‬يي بيان رجوع الةجج اللفظية إلى هذه األنماط‬
‫ما تنطق به األلسنة في معرض الدليل والتعليل في جميع أقسام العلوم يرجع إلى األنماط‬
‫التي ذكرناها‪ ،‬فإن لم يرجع إليها لم يكن دليال‪ ،‬وحيث يذكر ال على ذلك النظم فسببه إما‬
‫قصور علم الناظر‪ ،‬أو إهماله إحدى المقدمتين للوضوح‪ ،‬أو لكون التلبيس في ضمنه حتى ال‬
‫ينتبه له‪.‬‬
‫مثال ترك إحدى المقدمتين لوضوحها ‪-‬وهو غالب في الفقهيات والمحاورات احتر ًازا عن‬
‫التطويل‪( :-‬هذا يجب عليه الرجم‪ ،‬ألنه زنى وهو محصن)‪ ،‬وتمام القياس أن يقول‪( :‬كل من‬
‫زنى وهو محصن فعليه الرجم‪ ،‬وهذا زنى وهو محصن)‪ ،‬ولكن ترك الكبرى الشتهارها‪.‬‬
‫ومثاله للتلبيس‪ :‬أن يقول في نكاح الشغار‪( :‬هو فاسد؛ ألنه منهي عنه)‪ ،‬وتمامه أن‬
‫يقول‪( :‬كل منهي عنه فهو فاسد‪ ،‬والشغار منهي عنه)‪ ،‬ولكن ترك الكبرى؛ ألنها موضع نزاع‪،‬‬
‫ولو صرح بها لتنبه الخصم لها‪.‬‬
‫ويقول‪( :‬فالن خائن في حقك)‪ ،‬فتقول‪ :‬لمه؟ فيقول‪( :‬ألنه كان يناجي عدوك)‪ ،‬وتمامه‬

‫‪40‬‬
‫أن يقول‪( :‬كل من يناجي العدو فهو عدو‪ ،‬وهذا يناجي العدو)؛ ولكن لو صرح به لتنبه‬
‫الذهن لعدم صحة الكلية‪ ،‬فإن من يناجي العدو قد ينصحه وقد يخدعه‪ ،‬فال يجب أن يكون‬
‫عدوا‪.‬‬
‫ًّ‬
‫وربما يترك المقدمة الصغرى‪ ،‬مثاله أن يقال‪( :‬ال تخالط فالنا؛ فإن الحساد ال‬
‫يخالَطون)‪ ،‬وتمامه أن يضم إليه‪( :‬إن هذا حاسد)‪.‬‬
‫وسبيل من يريد التلبيس إهمال المقدمة التي التلبيس تحتها‪.‬‬
‫وهذا الحذف يجري في األنماط كلها‪.‬‬
‫ومن أمثلته في النمط الثاني‪ :‬قوله تعالى‪ :‬ﮋ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﮊ‬
‫(األنبياء‪ ،)77 :‬تمامه‪( :‬ومعلوم أنهما لم تفسدا) والنتيجة‪( :‬فليس فيهما آلهة إال الله)‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ :‬ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮊ‬
‫(اإلسراء‪ ،)27 :‬وتمامه‪( :‬ومعلوم أنهم لم يبتغوا إلى ذي العرش سبيال)‪.‬‬
‫ومثال النمط الثالث أن تقول‪( :‬األربعة زوج؛ ألن العدد إما زوج وإما فرد) تمامه‪:‬‬
‫(ومعلوم أنه ليس بفرد)‪ ،‬فتتركه لوضوحه‪.‬‬
‫أو تقول‪( :‬األربعة زوج؛ ألنها ليست بفرد)‪ ،‬فتحذف األولى‪ ،‬ويمكن إعادة هذا للنمط‬
‫األول؛ بأن تقدر‪( :‬كل عدد ليس بفرد فهو زوج‪ ،‬واألربعة ليست بفرد)‪.‬‬
‫إذا تبين رجوع الحجج اللفظية إلى ذلك‪ ،‬فالخطأ يكون إما بخطأ المقدمات‪ ،‬وإما بعدم‬
‫مراعاة شروط االستنتاج؛ كأن يرى شخص عالِ ًما يكذب‪ ،‬فيقول‪( :‬العلماء يكذبون)‪ ،‬فيعمم‬
‫أو يوهم‪ ،‬وهو خطأ؛ إذ تمام قياسه‪( :‬هذا عالم‪ ،‬وهو يكذب) فهما مقدمتان شخصيتان من‬
‫الشكل الثالث‪ ،‬فال تنتجان إال نتيجة جزئية‪( :‬بعض العلماء يكذب)‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬يي االستقراء والتمثيل‬
‫كلي‪ ،‬وفي الغالب يكون‬ ‫ٍّ‬
‫بحكم ٍّ‬ ‫أما االستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليُح َكم‬
‫تصفح بعض جزئيات هذا الكلي‪ ،‬فهذا إن أدى إلى أمر ال يستراب فيه‪ ،‬فيلتحق‬ ‫ناقصا؛ بأن تُ َّ‬
‫ً‬
‫بالتجريبيات‪ ،‬وخرج عن اصطالح االستقراء‪ ،‬وإن أدى إلى ظن فهو المراد هنا‪ ،‬وهو نافع فيما‬
‫يصح بناؤه على الظن‪.‬‬
‫وأما التمثيل فالمراد به قياس الفقهاء الذي هو إلحاق فرع بأصل في حكم لجامع بينهما؛‬
‫أيضا مقبول في مجاالت الظن‪.‬‬ ‫فهو ً‬
‫تصوره وإمكانه؛ كمن ينكر‬‫وقد يرد مثل هذا التمثيل مر ًادا به تشبيه أمر بأمر لتقريب ُّ‬
‫الخطأ في العقليات‪ ،‬فيقال له‪ :‬أال ترى أن اإلبصار يورث اليقين‪ ،‬ومع ذلك يقع الخطأ فيه‪،‬‬
‫فكذلك العقل يجوز عليه الخطأ‪ ،‬فهذا ليس مقصوده االستدالل على إثبات القضية‬
‫المطلوبة؛ بل على إمكانها‪ ،‬ومن هنا قد ال يمكن رجوعه إلى األنماط التي سبقت‪ ،‬بل هو‬
‫نوع من قياس التمثيل‪.‬‬
‫هذا ما يسر الله كتابته في اختصار مقدمة اإلمام الغزالي؛ مع ِ‬
‫ضم فوائد من معيار العلم‬
‫ومحك النظر له‪ ،‬ومن مصنفات أخرى‪ ،‬وبعض ذلك مما الح في الفكر‪ ،‬فما كان صوابًا فمن‬

‫‪43‬‬
‫الله وما كان من خطإ فمن نفسي والشيطان‪ ،‬وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى‬
‫آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان‪.‬‬
‫كتبه‪ /‬خضر بن حسن بن أحمد الصومالي‬
‫مساء األربعاء ‪/2‬جمادى الثاني‪1221/‬ه‪ ،‬الموافق ل ـ ـ ‪7070/1/79‬م‬
‫في مدينة رنكاس من جزيرة جاوة بإندونيسيا‪.‬‬

‫‪44‬‬

You might also like