Professional Documents
Culture Documents
أ
مقدمة
اآلثار الجمالية والفنية التي جسدتها الشاعرة في ديوان " قصاصات قلق " بناء على هذا
كانت خطة البحث مقسمة كاآلتي:
مقدمة تصدرت البحث ،ومدخل تطرقت فيه إلى مفهوم الجمال لغة ،واصطالحا
والجمال عند العرب و الغرب ،والعالقة بين الجمال واألدب ،ثم درست مراحل
تطور القصيدة العربية ،وانتقلنا بعد ذلك إلى قصيدة الومضة وتاريخ تطورها وأهم
روادها.
و فصلين تطبيقين لنتطرق في الفصل األول الذي عنونته ب " أنواع الومضة في
ديوان قصاصات قلق"عرضت فيه قسمين :الومضة من خالل المحتوى ،والومضة من
خالل الحجم ،أما الفصل التطبيقي الثاني موسوم "باآلليات الجمالية لقصيدة الومضة"
أوردت فيه االنزياح بأنواعه ،والرمز ،والمفارقة ،والحقول الداللية ،وفنون البديع ،ثم
كانت الخاتمة عبارة عن نتائج توصل إليها البحث.
أما المنهج المتبع في الدراسة و هو المنهج التاريخي و األسلوبي المرتبط بالوصف
فكان األول لتتبع مراحل تطور القصيدة ،أما الثاني فكان له الفضل في الكشف عن
الجماليات في هذا التشكيل الفني ونهل فائض تلك الدالالت اللغوية المكثفة.
و قد إعتمدنا على مجموعة من المصادر و المراجع أهمها:
ديوان " قصاصات قلق " للشاعرة لطيفة حرباوي فكان يمثل مصدرا مهما في
هذه الدراسة.
قصيدة الومضة دراسة تنظيرية تطبيقية " لهايل محمد الطالب – أديب حسن
محمد.
بناء قصيدة اإلبيجراما في الشعر العربي الحديث ألحمد الصغير المراغي.
و طبعا ال يخلو أي بحث أكاديمي من صعوبات تعيق عمل الباحث ،و من أهم هذه
الصعوبات و العوائق :قلة الدراسات و األبحاث التي تتناول قصيدة الومضة و التي لها
إتصال مباشر بهذا الموضوع.
وفي األخير اليسعنا سوى أن أشكر هللا عز وجل الذي ألهمنا الصبر إلى آخر مشوار
هذا البحث و وفقنا و أعاننا فيه ،كما ال أنسى أن أتقدم بالشكر الجزيل لألستاذ المشرف
الدكتور " سليم كرام " الذي كان سندا وموجها ليفله منا خالص الشكر والعرفان كما
الأنسى أن أتقدم بالشكر ألعضاء لجنة المناقشة التي تحملت عناء قراءة هذا البحث و
مناقشته.
.
..
ب
مقدمة
.
ج
مدخــل
مدخل :البحث في مفهوم الجمال
أوال :مفهوم الجمال:
.1الجمال :أ -لغة
ب -اصطالحا
.2الجمال عند الغرب
.3الجمال عند العرب
.4عالقة الجمال باألدب
ثانيا :تطور القصيدة العربية:
.1الشعر الحر
.2قصيدة النثر
.3قصيدة الومضة:
.1.3الومضة :أ -لغة
ب -اصطالحا
.2.3النشأة و التطور
.3.3روادقصيدةالومضة
البحث في مفهوم الجمال مدخل
ب .اصطالحا:
يولد اإلنسان جميال مفطورا على الجمال إنها تلك الخاصية المحفورة فيه ألنها من
صنع هللا فقد وهبها لسائر خلقه ،ويكمن أيضا في أنه التناظر واإلنسجام والتكامل بين عناصر
األشياء وتناسقها.
لذا يصعب علينا أن نقدم تعريفا دقيقا لهذا المفهوم وذلك لما أخذه هذا المصطلح من
العمق واإلتساع لدى مختلف الفالسفة والمفكرين.
فقديماعدبابا من أبواب فروع الفلسفة وهو« قيمة الفلسفة العليا إلى جانب الحق والخير
وقد عرف منذ نشأة الفلسفة كعلم معياري يقوم على أحكام القيمة ،وعلم الجمال في صورته
المعاصرة أو ما يعرف باألستيطيقا فهو العلم الموضوعي وفلسفة الفن»(.)1
يتضح من خالل هذا التعريف أن الجمال قيمة معنوية مثلها في ذلك مثل قيمة الحق
والخير ،لكن بمجرد تجسيده على أرض الواقع يصبح حكمه حكما معياريا.
وفي طليعة هذا يرى بعض الدارسين أن الجمال في قيمته « نسبي وليس موضوعيا
وتضل سمة النسبية مميزة للجمال على الدوام فالذي يثير إعجابي قد ال يثير إعجاب اآلخرين
وما هو جميل بالنسبة لي قد ال يكون كذلك بالنسبة لهم ،وهكذا دواليك فالجمال ال يخضع
لقاعدة رغم المحاوالت التي تبذل للوصول إليها»(.)2
إذا فالحكم على جمالية الشيء يختلف من شخص إلى آخر نظرا الختالف معاييرالحكم
التي يستند إليها كل فرد.
( )1راوية عبد المنعم عباس :علم الجمال وتاريخ فلسفة الفن والحضارة،دار االوفاء لدنيا الطباعة والنشر ،إسكندرية ،ط،1
،2013ص .106
( )2المرجع نفسه :ص.109
( )3هالة محجوب خضر :علم الجمال وقضاياه ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ،اإلسكندرية ،ط ،2006 ،1ص.13
( )4المرجع نفسه :ص .13
2
البحث في مفهوم الجمال مدخل
ومن هنا فأرسطو ينظر إلى الجمال على أنه يكمن في داخلنا وليس كامن في األشياء
وذلك ألننا حينما نتلقى شيئا ما نحكم عليه جماليا ،ليس ألنه جميل بل ألننا نحن نراه جميال
ونسقط عليه أذواقنا وأحكامنا.
( )1مصطفى عبده :المدخل إلى فلسفة الجمال ،محاور نقدية وتحليلية وتأصيلية ،مكتبة مدبولي ،القاهرة ،ط ،1992 ،2ص.1
( )2رمضان بسطاويسي محمد غانم :عالم الجمال عند لوكاتش ،مطابع الهيئة العامة للكتاب ،القاهرة ( ،د ط ) ،1991،ص
.106
( )3حسين الصديق :فلسفة الجمال ومسائل الفن عند أبي حيان التوحيدي ،دار القلم العربي ،سوريا ،حلب ،ط ،2003 ،1ص
.96
3
البحث في مفهوم الجمال مدخل
نرى أن الجمال عنده هو جمال ال يدرك إال بالعقل فهو بذلك مطلق ألنه ثابت في
مختلف المبادئ وال يتغير.
ضا أبو حامد الغزالي قائالً في هذا الصدد « وأعلم أن كل جمال محبوب عند ويذكر أي ً
مدرك ذاك الجمال ،وهللا جميل يحب الجمال ولكن الجمال إذا كان يتناسب الخلقة وصفاء
اللون أدرك بحاسة البصروإن كان الجمال بالجالل والعظمة وعلو الرتبة حسن الصفات
واألخالق وإرادة الخيرات لكافة الخلق»(.)1
يشيرهنا إلى أن البصر يدرك األشكال المادية في حين يناقضه العقل فيعمل على إدراك
األمور المعنوية.
ونخلص إلى أن مقياس أفكار العالمين الغربي والعربي محتكم إلى بعض اآلراء
والتعاريف ،و بالرغم من تفاوت و نسبية مجمل هذه األحكام إلى أنها تبقى مرتبطة بالمنفعة و
الفائدة.
( )1محمد علي أبو ريان :فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة ،دار المعرفة الجامعية ،اإلسكندرية( ،د ،ط) ( ،د س) ،ص
.22
( )2ميشال عاصي :الفن واألدب ،المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت ،ط ،1970 ،2ص .74
( )3المرجع نفسه :ص .75 ،74
4
البحث في مفهوم الجمال مدخل
استقر هذا المعنى األخير على أن الجمالمرتبط بالشكل والمحتوى ،فالصياغة ال تؤدي
غاية معينة في التعبير عن جل تلك القيم الجمالية الفنية إال من خالل مضمونه ،ألن الشكل
والمضمون وجهان لعملة واحدة.
.1الشعر الحر:
يعد الشعر الحر ظاهرة جديدة خلفت لنفسها وجودا في عالم اإلبداع الشعري ،تعالت
الصرخات نحو التجديد فتوحدت آهات الشعراء المبدعين معلنين بذلك تمردًا وانفالت ًا وثورة
( )1الربعي بن سالمة :تطور البناء الفني في القصيدة العربية ،دار الهدى ،عين مليلة ،الجزائر(،دط) ،2006 ،ص.52
5
البحث في مفهوم الجمال مدخل
على عمود الشعر ،ألن تخرج إلى الوجود القصيدة الحرة هذه األخيرة التي حظيت بمكانة
مرموقة وحصة األسد بعد تراجع القصيدة النموذج.
فالشعر الحر في بداياته كان عبارة ً عن جهد فردي و تجربة الشاعر الخاصة وبذلك
فهو« ترجمة حرفية للمصطلح اإلنجليزي Freeverson:أو الفرنسيVerse Libre:وقد
أطلق على الشعر الذي يخلو من الوزن والقافية كليهما»(.)1
ففي طليعة هذا القول نجده بأنه الشعر المتحرر من قيود الوزن والقافية.
وهنا يمكن اإلشارة إلى أن نازك المالئكة من أبرز الشعراء المعاصرين الذين وضعوا
بصمة في هذا النوع من الشعر ،وذلك لما أشارت إليه في كتابها قضايا الشعر المعاصر بأن
« حركة الشعر الحر لن ترسخ في تاريخنا حتى يدرك الشاعر الحديث أن تراثه القديم قد كان
هو المنبع الذي ساقه إلى إبداع جديد »(.)2
وإن أعلنت نازك المالئكة تمردها على نظام الشطرين فهي تدعو في نفس الوقت
األديب أو المبدع إلى الرجوع إلى تراثه،وهضمه وذلك ألنه مصدر كل إبداع ،أي أن
القصيدة العمودية كان لها الفضل و المنبه الذي من خالله أتى الشاعر بما هو جديد.
فالشعر الحر في مفهومه العام هو« ظاهرة أدبية بعدما أن كانت عبارة عن مجموعة
من المحاوالت الفردية التي أخذت منحى معينا عند كل شاعر باعتبارها ظاهرة لها نظام له
منهج محدد»(.)3
ومن هنا فالشعر الحر لم يبق جثة هامدة ،فقد إستجمع قواه وتخطى مرحلة المحاوالت
إلى مرحلة التأسيس الفعلي لهذه الظاهرة بل تعداها بوضع منهج ونظام معين ،وهو بذلك
« شعر يخرج على قيود الشعر العربي في الوزن في كل األحيان ،ويحطم عمود الشعر
العربي تحطيما كامال هذا العمود الذي لم يطلق النقاد صبرا ،فهاجموا من حاولوا الخروج
عليه من المصطنعين للبديع والحكمة ومن المجددين في بعض األخيلة والمعاني
والصور»(.)4
تعد القصيدة الحرة في أقل مفاهيمها هي قصيدة خرجت عن نظام الوزن والقافية
وكسرت عمود الشعر الذي وضعه المرزوقي ومن سبقه (اآلمدي والجرجاني) فهي بهذا
تصور لمجال ال يمكن انتهاكه.
كان للذائقة األدبية دور كبير في إنتشار هذا النوع من الشعر إذ نرى « إجماع عدد
كبير من الشعراء المعاصرين على إيثار الشعر الحر والنظم منه ،كنازك وبدر شاكر السياب
وفدوى ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي،وكمال ناصر ،وأحمد عبد المعطي حجازي »(.)5
( )1سحر الخليل :كتاب خاص في األدب العربي الحديث ،دار البداية ناشرون وموزعون ،عمان ،ط،2010 ،1ص.160
( )2نازك المالئكة :قضايا الشعر المعاصر ،منشورات مكتبة النهضة ( ،د ب) ،ط ( ،1د س ) ،ص .49
( )3ينظر :فرحان بدري الحربي :الشعر العربي الحديث ،قراءة في مرجعيات وتحوالت األثر الفني ،دار رضوان للنشر
والتوزيع ،عمان ،ط ،2016 ،1ص .167
( )4محمد عبد المنعم خفاجي :دراسات في األدب العربي الحديث ،ومدارسه دار الجيل ،بيروت ،ط ،1992 ،1ص .261
( )5محمد عبد المنعم خفاجي :القصيدة العربية بين التطور والتجديد ،دار الجيل ،بيروت ،ط ،1993 ،1ص .270
6
البحث في مفهوم الجمال مدخل
ومن األسماء الالمعة التي تناولت دراسات فيمثل هذه الظاهرة صالح عبد الصبور
«الذي دافع عنه دفاعا مستميتا ألنه ينظمه ،وهو يقول في دفاعه ،الشعر الجديد يتخذ من
التفعيلة العروضية إناء الموسيقى محاوال أن يلمس بالشعر آفاقا جديدة وأن يحول عيون
الشعر إلى زوايا جديدة للرؤية الشعرية »(.)1
كما نلحظ في مقولة صالح عبد الصبور بروز المصطلح المرادف لمصطلح الشعر
الحر وهو الشعر الجديد ،فقد دفع الغالي والنفيس من أجل الذود عنه.
وكذلك تحيل نازك المالئكة إلى إشارة أخرى أن« الشعر الحر ظاهرة عروضية قبل
كل شيء ،ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقى للقصيدة ويتعلق بعدد التفعيالت في الشطر ويعني
بترتيب األشطر والقوافي ،وأسلوب استعمال التدوير.)2(»...
أي أنه في مشروع الناقدة المجددة لم يخرج الشعر عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي
غير أن «القصيدة الجديدة لم تتوقف عند قصيدة التفعيلة أوالقصيدة الحرة وإنما تجاوزتها إلى
نمط ،تخلت فيه عن الوزن والقافية ،عرف بقصيدة النثر ،كما يعرف عند البعض بنمط
الكتابة الجديدة »(.)3
ختاما لهذا نستنتج بأن مجموعة المحاوالت البكر التي سلكها الشعراء هي التي أخذت
منحاها في إنتشار الشعر الحر وتطوره من شكل آلخر ،غير أن القصيدة الحرة خلفت
صراعا فهناك من يراها إنفالتاعن الهوية وإنسالخا عن القيم والمبادئ.
.2قصيدة النثر:
شهد الشعر العربي في ساحاته والدة جنس أدبي جديد له قوامه ومرتكزاته ،وهو ما
يعرف بقصيدة النثر التي ظهرت بصورة مختلفة عما كان عليه الشعر قديما ،إال أن هذا
المصطلح هو« ترجمة حرفية لمصطلح فرنسي األصل.)4(»poème en prose:
وذلك حسب ما جاء به الدكتور نعيم اليافي من أنه« مستورد من الثقافة الفرنسية وتأثر
ناقلوه بدراسة سوازن عن قصيدة النثر منذ بودلير إلى أيامنا ال سيما المقدمة ،وذهبوا إلى أن
كل حداثة ال يمكن أن تكون كذلك دون شكل طليعي ،وأن قصيدتهم النثرية هي أكثر األشكال
طليعية »(.)5
في هذا الصدد نرى أن الكاتبة الفرنسية سوزان برنار كانت لها إشارة واضحة لهذا
اللون األدبي في مقدمة كتابها قصيدة النثر فهي « تحتوي على مبدأ فوضوي وهدام ألنها
ولدت من تمرد على قوانين علم العروض وأحيانا على القوانين المعتادة للغة ،بيد أن أي
تمر د على القوانين القائمة سرعان ما يجد نفسه مكرها على تعويض هذه القوانين بأخرى،
لئال تصل إلى الالعضوي والالشكل إذا ما أراد عمل نتاج ناجح »(.)1
تقر بذلك هنا على تمرد قصيدة النثر عن ما هو مألوف في عرف قوانين الشعر ونقصد
بالقوانين هنا العروض كظاهرة قارة وميزة إرتبطت بالشعر ،وكذلك القوانين اللغوية أو
النظام اللغوي بمفهوم فرديناند دوسوسير وتمردها على هذه القوانين يحتم عليها أن تبني
قوانين جديدة تثبت هويتها وشكلها.
ومن بين المهتمين والمولعين بقصيدة النثر نجد عزالدين المناصرة الذي خصص هو
اآلخر كتابًا كامال بعنوان " إشكاليات قصيدة النثر ،نص شعري تهجيني مفتوح عابر لألنواع
و مستقل" محاوال بذلك بناء صرح تأسيسي لقصيدة النثر.
وكان بدوره متطرقًا إلى البدايات أو الفعالياتاألولى لقصيدة النثر وحتى آراء العرب
والغربيين منهم فنجده واصفًا إياها بأنها « نص أدبي تهجيني مفتوح على الشعر ،والسرد
والنثر الفني ،عابر لألنواع يفتقد إلى البنية الصوتية الكمية المنظمة ،لكنه يمتلك إيقاعا داخليا
غير منتظم ،من خالل توزيع (عالمات الترقيم) و(البنية الداللية) ،المركبة على بنية
التضادوجدلية ( العالقات ) في النص التي تخلق اإليقاع الخفي »(.)2
في سياق الحديث عنها يصف عزالدين المناصرة قصيدة النثر بالنص الهجين ،واضعا
إياها ضمن النص المطعم الذي يدخل فيه جنسين (الشعر والنثر معًا) وهي بهذا شبيهة بعملية
التطعيم.
وهناك من عرفها على أنها« شعرال نثر جميل ،إنها قصيدة مكتملة ،كائن حي مستقل
مادتها النثر وغايتها الشعر والنثر فيها مادة تكوينية ،ألحق بها النثر لتبيان منشئتها وسميت
قصيدة للقول بأن النثر يمكن أن يصير شعرا دون نظمه باألوزان التقليدية »(.)3
ويؤكد هنا إلى أن الغاية تبرر الوسيلة ،فالغاية شعرية جمالية والوسيلة نثرية ودليله في
ذلك أن النثر باستطاعته أن يسمو ويرقى إلى مصاف الشعر.
كان أهم ما يميز قصيدة النثر في إطارها الشكلي أنها تعمل على « رفض الشكل
المجرد النموذجي الثابت والمحدد سابقا والبحث عن تجارب جديدة وعن حرية أوسع في
ممارسة التشكيل اللغوي واإليقاعي والداللي ،واالنفتاح أكثر على األجناس األدبية
األخرى»(.)4
( )1سوزان برنار :قصيدة النثر ،مؤسسة األهرام للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط ،1993 ،2ص .16
( )2عز الدين المناصرة :إشكاليات قصيدة النثر (نص شعري تهجيني مفتوح عابر لألنواع ومستقل) ،قراءة نقدية مقارنة،دار
الراية للنشر والتوزيع ،عمان (دط)،2015 ،ص .05
( )3أحمد بزون :قصيدة النثر العربية ( اإلطار النظري ) ،دار الفكر الجديد ( ،د ب) ،ط،1977 ،1ص .59
( )4عبد هللا شريف :في شعرية قصيدة النثر ،منشورات دار اتحاد كتاب المغرب ،الرباط ،ط ،2003 ،1ص .28
8
البحث في مفهوم الجمال مدخل
وبالتالي فلقد حاكت قصيدة النثر الظاهرة المعاصرة التي عرفت تداخال مزدو ًجا في
مختلف األجناس األدبية.
خالصة قولنا نستنتج بأن قصيدة النثر لها مرتكزاتها في الواقع األدبي مثلها مثل
القصائد األخرى ،وذلك لما حملته في طياتها من خصائص جمالية متنوعة.
.3قصيدة الومضة:
.1.3الومضة:
أ -لغة:
الومضة مصطلح من المصطلحات الحديثة التي أخذت مكانة لدى الشعراء المعاصرين
وفي مختلف الدراسات واألبحاث أيضا ،إذ حاول هؤالء من خالل هذا المصطلح الفني
مجاراة العصر الحديث والغوص من خالله في خبايا واقعهم.
ولقد ورد مصطلح الومضة في العديد من المعاجم العربية ومنها معجم لسان العرب
فيعرفه بقوله «:ومض :ومض البرق وغيره يمض ومضا و وميضا و ومضانا وتوماضا أي
لمع لمعا خفيا ولم يعترض في نواحي الغيم »(.)1
ووردت كلمة ومض في قاموس المحيط«:ومض البرق يمض ومضا ووميضا
وومضانا :لمع خفيفا ،ولم يعترض في نواحي الغيم ،كأومض وأومضت المرأة سارقت النظر
فالن :أشار إشارة خفية »(.)2
ونخلص إلى أن التعاريف لهذا المصطلح تبقى متعددة وهي تدل في مجملها إلى
التكثيف واإليحاء واإليجاز.
( )1ابن منظور :لسان العرب ،دار صادر ،بيروت ،لبنان ،مج ،6ط ،1997 ،1ص .494
( )2مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي ،المحيط ،مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر ،بيروت ،لبنان ،ط ،2006 ،8ص
.979
9
البحث في مفهوم الجمال مدخل
10
البحث في مفهوم الجمال مدخل
ب -اصطالحا:
تعد قصيدة الومضة من بين القصائد التي لقيت إهتما ًما كبيرا من قبل النقاد والباحثين
في العصر الحديث ونتيجة لما آل إليه هذا الشكل الشعري الجديد أصبح على الدارسين
اإللمام بحيثيات هذا اللون األدبي و تقديمه في صورة فنية متكاملة.
تعدادا لما تقدم نجد أن قصيدة الومضة قد إختلفت تسمياتها ومسمياتها ،فهناك من يطلق
عليها« اللقطة ،التوقيعات ،الهوامش وعلى حجمها وضوابطها الفنية والبنيوية ،ولعلنا ال
نجانب الصواب إن زعمنا أننا نزداد إقترابا من تسمية قصيدة الومضة كلما إزداد النص كثافة
وتركيزا وحقق القصد الذي يرومه الشاعر بجملة أو بسطر أو بعبارة ،وكلما عبرت عن
لحظة شعورية مكثفة »(.)1
كما عدت « من المصطلحات التي أثارت عدة نقاشات تمحورت حول التحديد الدقيق
لماهية المصطلح وكذا تاريخه واستعماله ويمكن أن تعرف قصيدة الومضة بوصفها القصيدة
البالغة في القصر ،حتى لتكون الجملة الواحدة قصيدة ،أين تبدو الومضة من قبس الشعر فهي
قصيدة الدفقة الشعورية الواحدة ،أو حالة واحدة يقوم عليها النص»(.)2
في كنه هذا المفهوم هناك إشارة لبعض الخصائص التي تقوم عليها هذه القصيدة
وأهمها القصر واإليجاز الذي يضفي عليها بعدا جماليا.
وندرج تعريفا آخر يشير إلى خاصية القصر واإليجاز في قصيدة الومضة وهي أنها«قد
تكون القصيدة وصفية لكن لغتها تكون مكثفة ،فتقدم فكرتها في شكل ومضة .)3(» flach
وبالتالي فالسمة الغالبة على هذا اللون الشعري هي القصر واللغة اإليحائية المكثفة التي
تخيط بجمالياتها إطار هذه القصائد المركزة.
يطرح محمود جابر عباس تعريفا هو اآلخر بأن « قصيدة الومضة هي أنموذج شعري
جديد له تشكيلته ،وصوره ولغته ،وإيقاعاته (الداخلية والخارجية) وتنبع خصوصيته هذا
النموذج الشعري بما يكتنزه من ملفوظ ات قليلة ذات دالالت كثيرة وإيحاءات خصبة ،تتخلق
من ذاتها ،وعلى ذاتها ،في حركة بؤرية مكثفة ،ومتوترة ،ونامية مع كل قراءة جديدة »(.)4
ويزيد محمود جابر عباس في تقديم هذا المفهوم حين يعتبره شكال فنيا في صورة
جمالية تحمل بعدا دالليا يطغى عليه عموما التكثيف و الغموض.
( )1هايل محمد طالب ،أديب حسن محمد :قصيدة الومضة ،دراسة نظرية تطبيقية الدار الوطنية الجديدة،المملكة العربية
السعودية ،ط ،2009 ،1ص .12
( )2فاطمة سعدون :جماليات قصيدة الومضة في ديوان معراج السنونو للشاعر أحمد عبد الكريم ،مجلة الخبر ،جامعة محمد
خيضر ،بسكرة ،العدد الثامن ،2012،ص .319
( )3أمال منصور :أدوينس وبنية القصيدة القصيرة ،دراسة في أغاني مهيار الدمشقي ،عالم الكتب الحديث ،األردن ،ط،1
،2007ص .18
( )4هايل محمد طالب ،أديب حسن محمد :قصيدة الومضة دراسة تطبيقية ،ص.13
11
البحث في مفهوم الجمال مدخل
من خالل ما سبق يمكن القول أن كل هذه التعريفات إشتركت في حيز واحد وأن
قصيدة الومضة جنس أدبي يعبر فيه األديب عن مختلف القضايا اإلنسانية ،فأراد من خاللها
أن يبسط ظالله و ذلك بخروجه وعدم تقيده بالمفاهيم والشكل القديم المعتاد.
.2.3النشأة والتطور:
تعتبر قصيدة الومضة لونا شعريا قديما قدم األدب واإلنسان ،فهي فن أدبي كان لظهوره
دوافع وحوافز لدرجة أننا لم نستطيع تحديد بدايتها ونهايتها ،فالمالحظ عليها أنها نشأت
ضئيلة ثم إنتشرت بصفة سريعة تماشيا مع عصر السرعة.
أشار طه حسين في ظل هذا المفهوم في كتابه جنة الشوك قائال « وأول حقيقة يجب
تقريرها هي أن هذا الفن كغيره من الفنون القول قد نشأ منظوما ال منثورا فهو منذ نشأته
األولى في األدب اليوناني مذهب من مذاهب الشعر ولون من ألوانه ،نشأ ضئيال أخذأمره
يعظم شيئا فشيئا حتى سيطر ،أو كاد يسيطر على األدب اليوناني في اإلسكندرية.)1(» ...
من خالل هذا المعنى الذي أبرزه طه حسين في طيات كتابه ،يأخذنا إلى أن البواكير
والبدايات الفعلية لهذا الفن قد نشأت في أحضان الحضارات الغربية إذ يحمل خصائص
الشعر المعاصر لذلك إعتبر هذا اللون بعدا من أبعاده.
ويأتي بذلك الناقد األلماني يوهانس جفكين مؤكدا بأن اإلبيجراما نشأت وتأصلت حقيقتها
على يد اإلغريق قائالً في هذا الصدد « كان اإلغريق قد عرفوا اإلبيجراما في العصر األقدم،
بوصفها كتابات شعرية قصيرة ،وعرفها في العصر األحدث ،بوصفها كتابات ،ونوع أدبي
محدد بما أنهم أنفسهم قد كتبوا تاريخ األدب »(.)2
نجد أن اإلبيجراما قد تأخر ظهورها في األدب العربي عمو ًما ،وهذا ما صرح به طه
حسين بأنها « قد تأخرت نشأته شيئ ا ما ،فلم يكاد يعرفه األدب الجاهلي ،أو نحن ال نعرف من
األدب الجاهلي ما يمكننا أن نقطع بأن الشعراء الجاهليين قد حاولوا أو قصدوا إليه ،ولم
يعرفه األدب اإلسالمي وأكبر الظن أن الشعراء اإلسالميين لم يعرفوه ألنهم لم يرثوه عن
الفحول الجاهليين ...وظهر هذا الفن في األدب العربي قويا خصبا مختلفا ألوانه في البصرة
والكوفة وبغداد »(.)3
يأخذنا هذا التعريف إلى أن طه حسين يعود بدوره ويستدرك ما صرح به ليشكك في ما
وصل إلينا من أدب جاهلي ،ليتساءل هو اآلخر إن ما كان الشاعر الجاهلي قد حاول الكتابة
على هذا المنوال وهو لم يلحق إلينا فقط.
( )1طه حسين :جنة الشوك ،دار المعارف ( ،دب) ،ط ( ،11د س) ،ص .9
( )2أحمد الصغير المراغي :بناء قصيدة االبيجراما في الشعر العربي المعاصر ،الهيئة العامة المصرية للكتاب ،القاهرة،
(دط)،2012 ،ص .17
( )3المرجع نفسه :ص .10 ،9
12
البحث في مفهوم الجمال مدخل
أما األدب اإلسالمي فيقينا أنه لم يعرف هذا النوع وذلك نظرا لتأثره بالفحول
الجزائريين على غرار كل ما سبق نجد بأن بداياته كانت في العصر العباسي (البصرة
والكوفة ).
وخالصة لما أوردناه من البوادر األولى لقصيدة الومضة نجدها في الفترة األخيرة قد
شغلت حيزا عالميا في الوسط األدبي بسبب تضارب اآلراء والجدل الكبير حول والدتها إلى
يومنا هذا.
.3.3رواد قصيدة الومضة:
جنحت في اآلونة األخيرة العديد من أقالم األدباء والشعراء نحو قصيدة الومضة
فحاولوا جاهدين التأسيس الفعلي لها ،وأن يجودوا بقريحتهم وإبداعاتهم إلى صب هذا الشعر
في قالب فني يتالءم ويتماشى مع نفسية القارئ عموما.
وما يكسو ظهورها الحقيقي أنها كانت تسير على شريط الشعر المنثور وتماشيا مع
حركته ونالحظ أن كتاب هذه القصيدة انقسموا إلى قسمين قسم أبدع فيها عن« وعي وإدراك
أمثال (عز الدين إسماعيل وكمال نشأت ،وأحمد مطر ،وعبد المنعم عواديوسف) »(.)1
« أما الذين كتبوا اإلبيجراما الشعرية دون وعي أو إدراك لمعايير النوع األدبي أمثال
(أدونيس عيد الحجيلي ،محمد حبيبي ،ميسون صقر ،عزت الطيري ،أشرف عبد الفتاح)»(.)2
وأول من فجر قصيدة الومضة ذلك الصوت الشعري الحداثي أال وهو الشاعر
الفلسطيني عز الدين المناصرة ،فقد ش ِغل بهذا المسلك الشعري العربي المعاصر وعلى إثر
ذلك « جاءت القصيدة الثامنة من ديوانه يا عنب الخليل تحت عنوان توقيعات وكان هذا عام
1198م ،ويؤكد الشاعر عز الدين المناصرة ذلك في إحدى حواراته الصحفية قائال :أما
قصيدة التوقيعة فقد كتبتها عام 1964م بتأثير فكر(التوقيعات العباسية) فوالدتها عندي عربية
المنشأ ،ثم ا ستفادت من فكرة قصيدة " الهايكو" اليابنية بتأثير الترجمات ،وبعض خصائص
السونيت»(.)3
ويورد تعريفا لها« :قصيدة التوقيعة هي قصيدة ومضة مكثفة قصيرة ،ذات ختام حاسم
ومفتوح ،وتمتلك عادة مفارقة شعرية وهي تختلف عن القصيدة القصيرة فكل توقيعة قصيدة
قصيرة ،ولكن ليست كل قصيدة قصيرة توقيعة»(.)4
ومتميزا على مستوى هذا الشعر فكانت بعضا لقصائدهً حضورا ً
فعاال ً فهو بهذا كان له
مغامرة في الطرح في الشكل والمضمون.
ضا بهذا الشكل الشعري القائم
ونجد العديد من الدارسين الذين أغنوا الشعر الجزائري أي ً
على التوقيعات ،ونذكر تجربة الشاعر أحمد عبد الكريم فنجده « يفتح ديوانه بقصيدة من نمط
( )1أحمد الصغير المراغي :بناء قصيدة اإلبيجراما في الشعر العربي الحديث ،ص .51
( )2المرجع نفسه :الصفحة نفسها.
( )3هدى بنت عبدالرحمان إدريس :الومضة الشعرية من اإلبيجراما إلى القصيدة (التفاعلية) ،مجلة كلية اآلداب ،جامعة
سوهاج ،العدد،2014 ،36ص .80 ،79
( )4أحمد الصغير المراغي :بناء قصيدة اإلبيجراما في الشعر العربي الحديث ،ص .80
13
البحث في مفهوم الجمال مدخل
الومضة وكأنها إشارة إلى أن الشعر لم يعد كما كان ،بل أصبح يأتي في عجالة كما يرحل في
عجالة إال أن هذا ال يمنع أن تحمل هذه القصائد الومضة كثيرا من التكثيف الداللي والمعنى
اإليحائي ،وقد كان التوجه إلى كتابة الومضة في الشعر العربي المعاصر وخاصة في
التسعينات مرتب ً
طا بالتغيرات الحاصلة في البنية السياسية والثقافية والفكرية في الجزائر »(.)1
معنى ذلك بأن التغيرات التي أصبحت تطفو فوق البنية السياسية والثقافية والفكرية
أيضا ،كان لها بالغ األثر في جنوح العديد من الشعراء إلى هذا الشعر الجديد ،الذي بدوره هو
قلب نابض عن آالم ومعاناة الفرد الجزائري وفي األخير إرتأينا طرح نموذجين من المشرق
والمغرب واخترنا نموذج لعزالدين المناصرة والذي يعد الرائد األول والمؤسس الفعلي لها
ونموذج آخرا تمثل في تجربة أحمد عبد الكريم الذي تميز بحضوره القوي في هذا المجال.
( )1فاطمة سعدون :جماليات قصيدة الومضة في ديوان معراج السنونو للشاعر أحمد عبد الكريم ،ص.321
14
الفصل األول
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق "
لـ":لطيفة حرباوي"
.1ومضة قصيرة
.2ومضة متوسطة
.3ومضة طويلة
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
أنواع الومضة
شهدت القصيدة العربية في اآلونة األخيرة مجموعة من المتغيرات التي كان لها األثر
في إحياء جنس أدبي مغاير عن ما كانت عليه حال القصائد األولى ،وهو ما يعرف بقصيدة
الومضة التي تعتبر « شكال شعريا أو أسلوبا بنائيا أخذ حيزا كبيرا من اإلهتمام من لدن النقاد
والباحثين العرب في عصرنا الحديث ،وال سيما بعد لجوء الشعراء إلى النظم في هذا النمط
الشعري الجديد ،الذي له من الخصائص والتقنيات األسلوبية كاإلدهاش والتكثيف واإليجاز
وقوة اإليحاء والنزوع نحو الختام السريع والمفاجئ ،وغيره ما يميزه عن القصائد
الطويلة»(.)1
يتضح من خالل هذا المعنى أن قصيدة الومضة شراع يحمل السرعة والمفاجئة في
ضا ذات دالالت ورموز مكثفة يستنطق بها الشاعر فكر القارئ وخياله ليعمل بناءه ،وهي أي ً
على محاكاة تلك الرؤى الخفية ،حيث لقيت اإلهتمام المتسع والمتسارع من قبل العديد من
الشعراء المعاصرين.
فالشاعر المعاصر يطلع في مقام هذا اللون إلى تشكيل قصيدة ينبثق اإلبداع والجمال
الفني في شكلها ومحتواها ،فيبدع بذلك إلى إبراز أسوار الواقع المعيش وما آل إليه من تلك
التحوالت واإلضطراب في مختلف األبعاد اإلجتماعية واإليديولوجية والسياسية.
( )1موسى كراد :تجليات الواقع السياسي في ملصقات عزالدين ميهوبي ،مجلة األثر ،جامعة العربي بن مهيدي ،أم البواقي،
العدد ،2015 ،23ص.39
20
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
العربية ،وهي بذلك تحسن السير في الكثير من القضايا السياسية واإلجتماعية اإلنتقادية منها،
وهذا ما سنعرضه في الدراسة الموالية:
.1ومضة ذات بعد سياسي:
يمثل الشعر العربي سلسلة متكاملة في معناه ومبناه « فمن خالله نستطيع الكشف عن
خوالج النفس البشرية ومباعث األلم والفرح فيها ،كما ينقلنا إلى عوالم أرحب من عالمنا
الخارجي»(.)1
حيث لم يقتصر على توجه معين بل عاين العديد من التمظهرات والتوجهات نذكر منها
الشعر السياسي الذي يعد أحد أنواع الكتابات الشعرية ،التي يعاين فيها الشاعر بعض مالمح
إستراتجية هذه التوجهات السياسية.
في هذا الذكر تعبر الشاعرة " لطيفة حرباوي عن هذا القالب الشعري بإبداعها ورؤيتها
الجمالية المتفردة ،وذلك بمشاركتها صور هذا البعد ومالمحه ،فانتهزت كل طاقاتها اإلبداعية
وقدراتها الفنية للتعبير عن هذا التوجه وعن هذا األفق السياسي ومثاله القصاصة :31
لم تكن لتضحي بفلذات أفكارك ألجلهم لم تكن غبيا كما
يدعون
لكنك كنت األكثر جماالا ونضاالا وأخيرا أزاحوا وشاح سنوات
اللعاب إنهم يثرثرون اآلن بأعلى كذبهم في حين أحرقت دمك
واكتفيت بالخبز الحافي والهندام المرقع والقلب النظيف
هاهم يزدادون قبحا يا شريكي يطعمون الوحش بداخلهم
حتى التخمة
ويسألون عن النسان فينا من قتله ؟ من دفنه...؟ (.)2
رسمت " لطيفة حرباوي" هنا صورة متكاملة عن هذا الوضع السياسي وجسدت
بواطنه ببراعة متقنة حيث أنها ومضة تندرج ضمن اإلطار السياسي بامتياز ،ويمكن إسقاطها
على من جاهد وسعى بكل ما أوتي لتحرير بلده ووطنه األم ،ذلك الوطن الذي يمثل هويته
التي يعتز بها ومرآة تعكس إنتماء هو وطنيته ،ثم إنزوى بنفسه بعيدا منزاحا عن األضواء
مكتفيا بلقمة عيشه ويومه.
وبعدها جاء من يدعي هذا التحرير فهو من قاوم وضحى ،لكن ذلك كله كان زورا
وبهتانا ،فبنفاقه وتزييفه للحدث الحقيقي واختبائه وراءه هو خائنا لوطنه فالشاعرة هنا تصوغ
هذه الحقيقة المرة ،وتجسمها بحشد من المفردات اللغوية ذات البعد الفني والمالمح المرتكزة
لتجاور من خاللها هذا الحدث وأبعاده المختلفة.
( )1آمال دهنون:تحوالت القصيدة العربية ،مجلة المخبر ،جامعة محمد خيضر ،بسكرة ،العدد الخامس ،2009 ،ص.342
( )2لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .15
21
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
نجد " لطيفة حرباوي " في نسيج هذه الومضة الشعرية أرادت أن تشارك هذا الفضاء
بصورة بالغية عالية ،وهي صورة يشترك فيها جمال اللغة والمعنى واإليحاء الخفي الذي
أضاف لمسة جمالية على أبياتها.
لم تكتف في قصاصاتها الشعرية هذه باإلتكاء على هذا الوضع السياسي فقط ،فقد
حاولت التعبير أيضا عن كل زوايا هذا البعد حيث سعت بقلمها إلى أن تنثر بعضا من
الغموض على عبارات هذه اإلبيجرامات الشعرية ليكون بذلك للمتلقي مساحة واسعة من
البحث والتحليل الذي يشعره بمتعة تذوق دالالت هذا النمط الشعري الجديد.
وهذه الومضات القصيرة هي من األلوان األدبية المتفردة بذاتها والمستقلة بخصائصها
«ألن كل نوع أدبي يقدم طريقة خاصة الستعمال اللغة ،ألن الكاتب وهويختار نوعا دون آخر
فإنه يختار شكال يبحث عن فعالية ،ألجل أن يؤثر نصه في السامع والقارئ »(.)1
من خالل هذا القول نجد أن األديب يحاول تجسيد شعره في شكل يمازجه باإلبداع
الفني والجمال األدبي ليؤثر بتلك الصورة في المتلقي ،ويجعله يتفاعل مع محتويات نصه
الشعري ،فنرى الشاعرة " لطيفة حرباوي " تقبع تحت ظالل هذه الحقائق السياسية وترصد
آثارها وجوانبها ومن األمثلة التي أتت بها القصاصة 9حيث تقول:
اآلن عرفت لماذا لم أعدأبتسم
كلما حركت شفتي شعرت بأنني شريك في الجريمة (.)2
الشاعرة في هذه القصاصة الشعرية تصف ذاتها ،تلك الذات المبعثرة والناطقة بالوجع
واأللم في آن واحد ،وكيف ال والوطن متوغل في عمق هذه اآلالم والمآسي فهي وكأنها تقول
كيف يمكن للنفس أن تحمل أوصال الفرح والسعادة وحتى الثبات الداخلي أيضا ووطني
يعيش المأساة والتشتت ،ويحيا تفرقا في أنظمته.
حيث توحي إلى دبيب ذلك اإلنكسار الذي يتربص األنظمة السياسية ،وتكشف عنه في
هذا المتن الشعري ،وبهذا التركيز اللغوي استطاعت الشاعرة أن تسلط الضوء على هذا
اإلتجاه السياسي وما صاحبه من تفككات إنعكست حتما على المجتمع وأثرت بصورة بالغة
فيه.
تواصل الشاعرة في عالج هذه األحداث السياسية القلقة وترسم محيطها الخارجي في
سياق شعري تضيئه بتلك الكثافة اللغوية المشحونة باإليحاءات والرموز ،حيث يتجلى ذلك
في إبيجراماتها الشعرية المختلفة التي تمثل تجاوبها مع أحداث الواقع الراهن ومع صدماته
المتوالية ،فهي تدرك حجم هذا األسى المتكئ على األمة العربية ،والمتوغل في آفاقها ومثالها
القصاصة :169
ما القضية صرنا نضحك ذاك من شر البلية نحن غرب نحن
( )1أحمد الصغير المراغي :بناء قصيدة اإلبيجراما في الشعر العربي الحديث ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة،
(دط) ،2012 ،ص.35
( )2لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص.9
22
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
فنرى الشاعر يصوغ قيم بيئته ويعبر أيضا عن وقائعه وتجاربه ،لينتهج بأسلوبه المبدع
حاله وحال أمته ،فيصنع بذلك أبعاد هذا الميدان ،ويجلي أسس تلك الرسالة التي يحملها
ليواكب ترياق أمته ووطنه.
حيث لم تخل قصيدة الومضة من هذا اللون فعاين روادها بعض المظاهر اإلجتماعية
التي تفشت في اآلونة األخيرة في الوطن العربي ،إذ غدى شعراؤها يحيون معاناة آالم
واقعهم ويعبروا عنه بصورة خاصة في قالب شعري مشحون بالدالالت واإليحاءات العميقة،
وقد تعددت هذه المواضيع التي كانت نتيجة « للتغيرات اإلجتماعية التي طرأت على
المجتمعات العربية»(.)1
وكانت أيضا بسبب ذلك التدهور والتأزم الذي يشهده اإلنسان في الوطن العربي هذا ما
حاولت الشاعرة " لطيفة حرباوي" تقديمه لنا في مختلف قصاصاتها وبما أنها أحد شعراء
عصرنا الحالي إستطاعت أن تنقش بقلمها بعضا من المشاهد اإلجتماعية المختلفة فحملتها
بلغة مشعة تجعل منها الفتة تقف عندها عين القارئ.
الشاعرة في خضم هذا اإلطار الشعري استدركت واقعها المعيش ألنه جزء يتأصل في
ذاتها وأشارت بقلق وإحساس تائه إلى أبعاده وظواهره فعاينت قضية اإلغتراب والهجرة
وغيرها من هذه المظاهر التي تركت فجوة عميقة لديها إحتواها الحزن والحيرة والحسرة
فانطلقت على كنه ذلك بالتنفيس عن ذاتها بالكتابة عن هذا األلم الذي يطفح فوق هذا الواقع.
فلها إشارات واضحة لهذا النسج من القضايا ،وأرادت من خاللها أن تؤثر في المتلقي
وتجذبه إلى اإللتفات والنظر إلى هذه األوضاع فكانت تتذوق حركة هذا الشعر الذي يحمل
تلك المعاناة التي تكابدها فتلخصها في منابع هذه القصاصات مشيرة إلى بعض منها مثالها
في القصاصة :89
في طفولتي كنت أكتب القصائد عن أمي ثم أمزقها
تماما مثلما كانوا يمزقون قلبي
وأنا أسمعهم يرددون
اتركوا اليتيميخربش (.)2
تلجأ الشاعرة في هذه القصاصة المركبة إلى رسم صورة قلب ذلك اليتيم الحافل بالوجع
وآالمه من فقدانه شجرة كانت تحتويه وظالال كانت تأويه ،فكانت هي ذلك المأوى الدافئ له
الذي يستظل به ويختبأ عنده ،فبهذه التركيبة الممتزجة بالبعد واإلقتراب ،فتحت من خاللها
نوافذ الوجع الخفي وذلك بتصويرها له عندما أشارت إليه فاسترجاع ذكرى هذه الكتابات وما
خلفه من معاناة داخلية.
( )1أحمد زهير رحاحلة:القصيدة الطويلة في الشعر العربي المعاصر ،دار الحامد للنشر والتوزيع ،األردن ،عمان ،ط،1
،2012ص .83
( )2لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .35
24
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
والمتصفح ألوراق ديوان "قصاصات قلق" يجده مغمورا بضفاف هذه األوضاع التي
كانت تعاينها الشاعرة في العديد من النماذج ومثالها القصاصة :112
ال تكتب له شيئ اا في العيد
ماذا سيفعل الجئ برسالة تختمها بعبارة اعتن بنفسك
وهوال يملك سوى دمه األعزل وجيوباا فارغة وصور أطفاله
الذين دفنهم للتو
عبارة اعتن بنفسك ال تعني سوى انك تتمنى له الموت
األفضل (.)1
تبدو الشاعرة في هذه الومضة الشعرية وكأنها في حالة وصف ذلك الالجئ حيث
تتساءل كيف يمكن لكم أن تهنئوه بعيد إفتقده منذ زمن بعيد منذ أن إنقطعت أوصاله بتاريخ
وطنه الذي فقد فيه أبناءه،ولم يبق لديه سوى آثار صورهم فأضحى بذلك يعيش حالة من الفقر
والجوع.
ماذا سيفعل كذلك برسائلكم التي أتحفتموها بعبارات يتكرر مدلولها في كل مرة وهي
وأن يعتني بنفسهوكأنكم تحملون عزاءكم له ،فالمؤلفة في هذا الصنيع الشعري تخطت
بإحساسها وجمالية دالالت هذه األبيات تلك الصورة المألوفة حيث ارتمت بها في ساحات هذا
التجاوز اللغوي.
وتظهر الشاعرة صورة أخرى من صور هذا البعد اإلجتماعي في متونها الشعرية
محاولة التعمق في تلك القضايا اإلنسانية ،التي أرادت فيها كسر النمط األولي واإللتفات إلى
ظواهر العصر الحالي والوقوف على محطاتها ،فجسدت لنابعضا من تلك الظواهر ومن بينها
اإلغتراب الذي يعد إطار لبطاقة المعاناة التي تتخلل النفس اإلنسانية فهناك من يعرفه « بأنه
هوشعور الفرد أنه غريب عن ذاته ال يجد نفسه كمركز لعالمه وأنه خارج عن اإلتصال
بنفسه كما هوخارج عن اإلتصال باآلخرين»(.)2
ويوضح هذا التعريف آخرون بأنه « يعبر عما يعانيه الفرد من إنفصال عن ذاته،حيث
ينفصل الفرد عن مشاعره الخاصة ورغباته ومعتقداته وهوفقدان اإلحساس
بالوجودالفعال»(.)3
من خالل هذين التعريفين نرى بأن اإلغتراب يمس ذات اإلنسان حيث يشعر بأنه
ينفصل عن العالم وعن مجتمعه أيضا فينتابه اإلحساس بالعجز والعزلة التي تفقده التكيف مع
األعراف اإلجتماعية السائدة.
()2جديدي زليخة :اإلغتراب ،مجلة العلوم اإلنسانية اإلجتماعية ،جامعة واد سوف ،الجزائر ،العدد الثامن ،2012 ،ص.349
( )3المرجع نفسه:الصفحة نفسها.
25
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
حاولت " لطيفة حرباوي" هنا تقديم هذه التمظهرة اإلجتماعية في ومضة تشع بشمس
المعاني والدالالت ويظهر ذلك في القصاصة :136
ألنني بال أم أضم السماء وكأن الهالل ابتسامة أمي.)1( ...
تبلور الشاعرة في هذه اللقطة الشعرية تلك الذات القلقة والحيرة التي تكون في ذاتها
وتحاورها بذلك الضياع والقلق الداخلي الذي يلوح في صدى نفسها ،فترسمه في بيت شعري
مركز صارخا باأللم وخافقا بالوجع في الوقت ذاته إثر الحياة التي نعيشها الحافلة بالمأساة
وواقع آخر نأمل بأن نعيشه تسوده السكينة والهدوء.
وبما أن الشعر العربي في صياغته ومحاكاته للواقع يتفرد بنوع خاص من الصور التي
تتباين في جمالياتها بين مؤلف وآخر فنرى أنه هو المنبع الذي يفضي الشاعر فيه تجاربه ألن
« الشعر تجربة خاصة ،وموقف خاص متميز للشاعر من واقعه ،يميزه عن غيره من علماء
اللغة،أو ،األدب ،أو التفسير،...فهونشاط متميز ،ال يتناقض مع غيره ،بل يختلف عنه فيما
يتميز به،وهوطبيعته التخييلية » (.)2
وهذا الشعر أيضا « كان دوما وثيق الصلة بمفردات بيئته ،وظروف واقعه ،وإحتياجات
مجتمعه »(.)3
في ظل هذين المفهومين نرى أن الشاعر يطوي بهذه النظرة اإلبداعية غبرات الحياة
اإلجتماعية ،فيبني على هذا الذوق الشعري قيمها ومحيطها ويستند للتعبير عنها في هذا األفق
الشعري ،ليجزي بأسلوب متكامل ووعي مرتكز هذه البنية الشعرية.
تواصل الشاعرة التجول في هذه الفلسفة اإلجتماعية فقد تغنت بصور أخرى لتلك
التوجهات اللصيقة بالواقع وهموم الوطن والمجتمع ،فشكلت تلك التجارب بجمل شعرية
مفجوعة باأللم والتي تستفيض بوتر األحزان لتمازج نفس المتلقي وبصره فيحطم بشغف
البحث ذلك الغموض الذي يلبس المصطلحات.
استطاعت الشاعرة بفعل تلك الكتابة اإلبداعية أن توقف نزيف وطن ودموعه ،فتشير
في القصاصة 78إلى هذا الحزن المضني في األعماق قائلة فيها:
لم نفترق يا وطني
لكنني كلما اقتربت ألحضنك شعرت أنني أحترق.)4(...
يظهر لنا عبر قراءتنا لهذا المرتكز الشعري أن الشاعرة هنا تعتنق هذا الوجع ،وهو
وجع إنساني يمس كل فرد منا ،مشيرة في هذه القصاصة إلى ذلك األلم الحاد الذي يسكنها إثر
رؤيتها لما آل إليه الوطن العربي الذي أصبح وطننا فاقدا للهوية تلتهب نيران الحريق فيه
فصار الشتات يسود أرجاءه مصبوغا بصبغة الالماضي والالحاضر.
وفي نموج شعري آخر تترجم الشاعرة هذه المؤثرات اإلجتماعية توردها في القصاصة
:150
حين تركت لكم األرض والهواء مازلت أتنفسني أمشي علي
وألني معي ثمة حياة (.)1
الشاعرة هنا تخاطب ذلك الكائن الذي حمل بقايا أوجاعه من تشتت وخوف باحثا على
حياة أخرى ،فهي تتكلم هنا بصيغة الوطن وكأنها تنادي على أنه موجود مع نفسه فقد حمل
ضا وكل هذه المعاني هي الحقيقة لكنه هو معه معنى الذكريات واألحالم ومعنى األرض أي ً
المعنى الحقيقي للحياة ألنه هومن يمتلك األرض.
آخرا من مشاهد الواقع ،فتصول من خالل قلقها في ضا مشهدًا ً وتلتمس الشاعرة أي ً
أعماقه ومثال ذلك في القصاصة :99
كلنا أوالد تسعة نشتهي أكل الكباب نشتهي شفقاا منيعاا
يتماهى مع السحاب (.)2
تظهر هنا قوة طرح الشاعرة لهذه الصورة المكبلة بالرمز ،وقدرتها في تأليف وصياغة هذا
اإليحاء الموجز ،فبهذه الومضة الشعرية تلتقط فكرة الالعدالة الموجودة في المجتمع العربي
وكيف لإلنسان أن يعيش الجوع والحرمان وكل فئات المجتمع سواسية وهي هنا خلف هذا
النص الشعري الموجز تروم فيه إلى طرح فكرة تغادر بها التعبير المتداول وتتجاوز بها تلك
المعاني التأويلية.
تتراسل تبعا لذلك مواضيع هذا الشعر فهي « متعددة ومتنوعة ،تتناول حياة المجتمع في
كل شؤونه والشاعر يستمد موضوعاته من حياة مجتمعه ،فموضوعات الشعر اإلجتماعي
تتصل إتصاال وثيقا بالمجتمع الذي يعيش فيه الشاعر ،فالشاعر يحيا ضمن مجتمع ليس
خارجا عنه ،وله عالقات إجتماعية مع من يعيش معهم ويخالطهم ،ولديه مشاعر وأحاسيس
تتشكل ضمن مجتمعه الذي ينصهر فيه ،لذا كانت موضوعات الشعر اإلجتماعي تمثل
العالقات العامة بينه وبين من يحيون معه»(.)3
تشير الكاتبة على إثر هذا المنهج اإلجتماعي تفاصيل الحياة ،فهي تغطي بذلك الشعاع
الحزين عنفها وإختناقها وتجلببه في ومضاتها الشعرية فتقول في القصاصة:103
كل ليلة أطفالنا ينامون بال عشاء
أفراد المجتمع كثيرا ما تكون صدى للحالة السياسية أو اإلجتماعيةأو الثقافية قد تنجح في
تصوير
هذه الظاهرة أوتلك أكثر مما يصورها األدب العادي الجاد لما تحويه من إضحاك
ومتعة ،فكانت وتظل إلى اآلن وسيلة للشعراء واألدباء للنيل من خصومهم كما أنها وسيلة
للترويح عن النفس»(.)1
وهناك من الباحثين من يعرفها بأنها « طريقة فنية أدبية ذكية لبقة في اإلبانة عن آراء
ومواقف ذات رؤية خاصة بصيغة فنية متميزة ،وهي أسلوب نقدي هازئ ،هادف في التعبير
عن أفعال معينة كعدم الرضا بتناقضات الحياة وتصرفات الناس وكشف الحسرة والمرارة
بطريقة غير مباشرة بعيدا عن العاطفة الجامحة ،واإلنفعال الحاد قصد اإلصالح والتقويم
والتغيير نحواألحسن ،وطلبا للتنفيس عن اآلالم المكبوتة »(.)2
ويتضح من خالل المقولتين بأن هذا الفن يتطلب أسلوبًا واع متميز وغير مباشر
باإلضافة إلى األسلوب النقدي الهادف ويكون أحيانا طريقة للترفيه عن النفس أيضا.
مما تقدم نجد أن السخرية أخذت بعدا دالئليا في قصاصات الشاعرة"لطيفة حرباوي"
ونجدها بإبداعها قد أشارت إلى هذا األدب الساخر ،فحاولت استجالء بعض من الظواهر
وعالجتها باستخدام هذا الشكل الشعري أو هذه الطريقة من الكتابة.
وعلى أساس هذا المقام نرى الشاعرة تستدرج هذه النصوص الساخرة وتتعمق في
رؤى هذه المادة الشعرية الجمالية و تطرحها بلغة إبداعية قلقة مؤطرةبالتلميح والتكثيف
وأسلوب مرتكز و متزن في ألفاضه ومعانيه وكأنها تسلب بذلك التالعب اللغوي المتلقي
وتخاطبه فتجعله يعانق ويتفاعل مع هذه الومضات ويمسك بسياط أبنيتها.
ترنو" لطيفة حرباوي" إلى مجارات هذه الحياة ونظرتها الريادية في ذلك ،حيث
تعرض لنا بعض من صور الواقع وتمزجها بالسخرية والتهكم وتشيعها بأسلوب فني نقدي
تعرض إثره
( )1ايمان طبشي:النزعة الساخرة في قصص السعيد بوطاجين ،مذكرة من متطلبات شهادة الماجستير ،إشراف :العيد جلولي،
قسم اللغة واألدب العربي ،جامعة قاصدي مرباح ،ورقلة ،2011 ،2010 ،ص .1
( )2المرجع نفسه :ص.10
( )3لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .14
29
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
ضا في هذه الفكرة الشعرية إلى اإلنسان وكأنه في هذه الحياة مقيد وذلك لعدم وأشارت أي ً
تنفسه بأفكاره ،مكبال في زوايا محددة مقيدة بسلسلة اإلنغالق والتقوقع ،فالشاعرة وإن
إستدرجت لفظة تتنفس فكانت تلوح إلى مقصد التنفس المعنوي والروحي الذي أصبحنا نفتقده
في زماننا هذا ،وبذلك كانت تتهكم من الحياة ومن عصارة هذه األفكار السلبية وتلك الرؤى
التي تفتقد للنضج الواعي فاستطاعت بقوة هذه العبارات أن ترصد شجن هذا السياق الشعري
وطابعه الساخر.
نجد الشاعرة " لطيفة حرباوي" بتوظيفها لفن السخرية تتطلع إثرها لرصد آمال وآالم
هذه الحياة اإلنسانية ،وبها تنشد تلك الثورة التي بداخلهاعلى مختلف األوضاع اإلجتماعية
والثقافية المتدهورة فتجسد هذا بطريقة تستطيع أن تتالعب بهذه الرؤى والمبادئ وتقدمها في
إنتاج ممتع وهادف في نفس الوقت ،تسعى من خالله إلى إصالح هذا الفساد الذي يسكن
عالمنا ومنها ما جاء في القصاصة :58
وطني وراء الباب يندب حظه الخارق ومنذ الطرقة األولى يسأل
من السارق(.)1
الالفت في هذه القصاصة الشعرية أن الشاعرة هنا تحس بنوع من القهر واأللم وهذا ما
أدى بها إلى حملها في ومضة ساخرة ،فتوظيفها لكلمة "الخارق" نجد أنها حملتها بلغة
التجاوز حيث أغنت بها الداللة الحقيقة و فارقت من خاللها المعنى األصلي لها وذلك لتكون
إيحاء على بؤس وتعاسة هذا الوطن.
والمرافق ألبنية هذه القصاصات الشعرية يرى أن الشاعرة سخريتها متأرجحة بين
الصمت والبوح في قالب تنطلق بحروفه من هذا الواقع وما يسوده من سلبيات إذ تقول
الشاعرة في قصاصة أخرى:
أقلب صور الموتى ألطمئن على حياة العالم.)2(...
في هذه الصورة الشعرية تتهكم الشاعرة بطريقة حادة من هذا العالم ،وتسخر أيضا من
مجتمع ال يحرك ساكنا وال يشغل باله من هذا الوضع المشبع باألسى الذي تعيشه األوطان
العربية كل يوم ،ومن مشاعر يجتاحها صمتا رهيبا لهذا الدمارفي جميع أركان هذا الوطن.
تأثرت الشاعرة "لطيفة حرباوي" بأوصاب هذا العصر ،وتغنت في قصاصاتها
بنزعات الواقع أيضا ،لذلك كانت إنطالقتها للتعبير عن هذه القوالب الساخرة تنبع من ذاتها
لتعايش من خاللها آفاق مختلف القضايا فتورد مثاال آخر تقول فيه:
التوقظو دمي
ساخرا (.)3
ا اتركوه يغط في الكون علمته كيف يستيقظ
الشاعرة في هذه الومضة الشعرية تصف لنا صورة الوجع المنعطف في أركان
النفسوالذي يؤول بنا إلى أن نسخر حتى من أنفسنا ومن اآلخرين ومن حياتنا التي يطفو على
أعماقها الالتوازن والإلستقرار.
وفي األخير نخلص مما أوردناه لجل هذه األبعاد ،أن الشاعرة قد أجادت صياغتها فهي
لم تقتصر على حدث واحد أومشهد معين وإنما أطالت النظر إلى زوايا مختلفة.
( )1محمد الصفراني :التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث ،النادي األدبي للنشر ،الدار البيضاء ،ط ،2008 ،1ص
.22
( )2أحمد الصغير المراغي :بناء قصيدة االبيجراما في الشعر العربي المعاصر ،الهيئة العامة المصرية للكتاب ،القاهرة،
( د ،ط) ،2012ص .51
31
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
.1الومضة القصيرة:
إن المتلقي البصري لقصاصات الشاعرة "لطيفة حرباوي" يرى بأنها قد أدرجت العديد
من الومضات القصيرة في منتوجها الشعري ،وذلك باعتمادها على بيت واحد أحيانا لتشكل
من خالله البعد الكامل للقضية المعالجة ،وتبعث به حركة إبداعية تتضافر بالتعابير الخفية
ومن أمثلتها القصاصة :1
سيادة الحزن أين تريد أن أبصم لك...؟ (.)1
تتمظهر هذه القصاصة الشعرية في سطر شعري قصير ،أرادت الشاعرة من خالل هذا
القصر أن تختزن بمفرداته آالمها وأحزانها العميقة إثر الوضع الراهن ،حيث أصبحت
األحزان تتربع على عرش زمان هذا العصر ومكانه ،فبهذه الدفقة المختزلة أرادت الشاعرة
أن تترك للقارئ مجاال ليقوض هذه القلة ويصل إلى عمق المعنى.
كما أشارت في موضع آخر إلى هذا الشكل وذلك ماأوردته في القصاصتين174و158
فتقول في القصاصة :158
الحدبة التي أنهكت ظهري سميتها حلم.)2( ...
وفي القصاصة أيضا : 175
أحتفظ بي لم أترك يدي كطفل يتشبث بالضياع.)3( ...
لجأت الشاعرة في هاذين المثالين إلى اإلختزال والقصر في المفردات ،وجسدتها بذلك
التكثيف اللغوي لتوحي من خالله على ذلك التوتر الحاد الذي يجتاحها.
فالشاعرة "لطيفة حرباوي" وقفت بإبداعها على حدود هذا الشكل الشعري ،لتعكس
برموز أطرافه مرآة ذلك االنفعال والصراع الكامن في نفسها.
لم تكتف هذه الذات المبدعة بتلك العينات فقط ،بل عاينت العديد من هذه الصور التي
تقيسها بإحساسها وتطبع على سطحها طابعا جماليا حديثا في الحجم والمضمون.
فترى الشاعرة تنتهج العديد من هذه األبنية الشعرية بشراع اإليجاز والتكثيف الذي
يتخلق ذلك القلق الذاتي ومثالها القصاصة :46
نحن نبكي لكي يكبر البحر أكثر.)4(...
تلوح الشاعرة في هذه القصاصة الشعرية بالحزن العميق الذي يتأصل في نفسها
ويتولدفي كل يوم في ذواتنا بلمحة خاطفة تخلقها بتعبير مقتصر موجز تومض من خالله هذا
البيت الشعري إلى آثار هذا الحزن عليها ،وكيف ال وهوكل يوم يصبح وجعا أكبر مما كان
عليه.
ولقد أضحى هذا القصر في قصيدة الومضة داللة مهمة « فهي قصيدة الدفقة الشعورية
الواحدة،أوحالة واحدة يقوم عليها النص»(.)1
فيحطم بها الشاعر المعاصر األشكال الشعرية الثابتة لينتج على مستوى الكتابة جمالية
في الشكل والمحتوى ،فسعت الشاعرة لمواكبة أسوار الحداثة ومجاراة هذا النمط الكلي ،ومن
الشواهد الشعرية التي أدرجت فيها هذا القصر مانجده في القصاصة :100
أيها الفرح الحزين كم تشبه رغيف الفقراء.)2(...
تذهب الشاعرة في هذه الومضة الشعرية باكتفائها بكلمات موجزة ،ذات دالالت عميقة
تكتفي من خاللها لإلحالة عن ذلك الفرح الكئيب ،فتبدوهنا وكأنها في حالة تصويرمشهد تبعث
من خالله رسالة تنعكس بمرارة هذا الواقع فتصنعها في الفتة موجزة تحتفي بذلك النغم
الحزين.
.2. 2الومضة المتوسطة:
حاول الشاعر المعاصر تأسيس نصوصه الشعرية بتقنية عالية وذلك باستثماره لمختلف
الوسائل الفنية التي يحقق بها ذلك اإلبداع الذي يروم إليه.
فابنتهاجه لتلك المدلوالت الحداثية والكتابة المعاصرة يحاول من خاللها كسر رتابة
ميزان الشعر القديم « وبهذا إتجه شعراء الحداثة إلى العمل بالوسائل اللغوية وغير
اللغوية،ليخلقوا من خالل هذا أفق جمالي ،تصبح الصفحة فيه ملعبا تأسيسيا للشعراء يشكلون
إثره مهاراتهم وقدراتهم وطاقاتهم »(.)3
وهذا ما المسته الشاعرة "لطيفة حرباوي" بريشة قلمها وإبداعها الفني ،وبذلك التوهج
ضا من تلك الومضات الذي بداخلها المفعم بإنسانيتها في هذا العمل المميز ،فال يخلوعملها أي ً
المتفاوتة في الطول لتلم بعباراتها المتموجة أشكال هذا النص الشعري الذي يرجع
المحالة لشعورها الداخلي ،والعالم الذي يحيط بها فتقوم بمفارقته في هذه النصوص القلقة
ومثال ذلك ماجاء في القصاصة:92
قالت أمي أحفظ قلبك بعي ادا عن األشياء الحادة
كل يوم قلوبنا معروضةا للذبح (.)4
نلحظ أن الشاعرة من خالل هذه الومضة الشعرية تحاول عرض ذلك المشهد الدرامي
الذي تقتصر فيه على القول الشديد ،وتومضه بمعاني مكثفة تحيطها به تلك المفردات ذات
البعد البعيد لتعبر من خالله لقلوب إختارت أن تعزل نفسها عن كل تفاهات العالم.
( )1فاطمة سعدون :جماليات قصيدة الومضة في ديوان معراج السنونوللشاعر أحمد عبد الكريم ،مجلة الخبر ،جامعة محمد
خيضر بسكرة :العدد الثامن ،2012 ،ص .319
( )2المصدر السابق :ص .39
( )3ينظر :عبد الناصر هالل:االلتفات البصري من النص إلى الخطاب ،قراءة في تشكيل القصيدة الجديدة ،دار العلم واإليمان
للنشر والتوزيع ،دسوق ( ،دط ) ،2009 ،ص.138
( )4لطيفة حرباوي ،قصاصات قلق ،ص.36
33
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
وبهذا نجد "لطيفة حرباوي" بثقافتها الواسعة تجول في حقول هذا الشكل الشعري
وتعترض بقراءاتها ذاكرة المتلقي وخياله ،والناظر إلى توقيعاتها يرى أنها ومضات مشرقة
حافلة بذلك الغموض فهو« في بعض النصوص سمة من السمات اإلبداعية،ال يفك شفراته إال
قارئ فطن ماهر ،يمتلك آليات قراءة فعالة يغوص بها في مجاهل النصوص بفعالية ذهنية
وفكرية عاليتين»(.)1
ضا بذلك الضغط اللغوي الملتئم في معناه الداخلي والخارجي ،فحاولت أن وتشدها أي ً
أمال تلتقط به تلك األحاسيسيكون قلمها واقعيا تختصر فيه منابر حياتها وأن يكون أيضا ً ً
العالقة في النفوس فتواصل الشاعرة الكتابة بهذا الشكل على أوراق قصاصاتها لتكسر به
رتابة الشعر القديم وكان اإلبهام والغموض يتعقب ويتخلل قصاصتها ألنه « صفة قارة في
التجربة الشعرية ،بماهي تجربة تصدر عن الباطن أواالنفعال المبدع ،وتتحول عبر الرؤيا
إلى تشكيل لغوي وجمالي» (.)2
وتقول في القصاصة :148
أحن إليك يا وطني
وأنا فيك (.)3
نرى أن الشاعرة اقتصرت في التنفيس عن غياب ذلك االستقرار واألمان داخل الوطن
العربي بهذا المرأى الشعري المختزل التي تلتقط بمفرداته و عباراته تلك المعاناة الداخلية
وفي نموذج آخر تقول:
هكذا علمونا إماأن نجلس في مقدمة األلم
أو في مؤخرة الحلم (.)4
طبعت الشاعرة في هذا المقام وجع وطنها في صورته العامة وذلك بهذه القصاصة
الموحية التي عبرت فيها عن إزدواجية متذبذبة بين آالمها وحلمها الذي يعتريها فتجسد هنا
فاعلية ظالل رؤاها ومدى نباهتها آلالم الوطن في مقطع يكتسح بااليجاز والبالغة.
وتخط في فضاءه جدران حكايا صمتها ورفضها أللم األمة العربية ،حيث تفصح
بكلماتها وحروفها عن رحلة تغوص فيها في أعماق الواقع ،تبعثها في هذا السياق الشعري
الذي تعتمد فيه على اختراق المعنى الحقيقي واحتضان المعنى الخفي ومثال ذلك القصاصة
:141
ال أحد يهمه أحد
والبلدآه من البلد
( )1عبد العليم محمد اسماعيل علي ،ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث ،دار الفكر العربي ،القاهرة ،ط،2011 ،1
ص .23
( )2إبراهيم رماني :الغموض في الشعر العربي الحديث ،المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ،الجزائر ،ط ،2007،3ص.454
( )3لطيفة حرباوي :قصاصات قلق،ص.57
( )4لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص . 38
34
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
(.)1
البنت التي تأخرت في الموت والقبر الذي صار مه ادا للولد
الشاعرة في توقيعتها هذه تكتفي بتضميد حسرتها على زماننا هذا ،وكيف لإلنسان أن
يرى نفسه فقط وال يلقي باالً على من حوله ،فهي بهذا تقدم صورة مصغرة عن حال البالد
فترفع هذا المشهد بلغة تأويلية تستنطق به انفعاالها من أمم تشبعت بالهزائم واإلنكسارات.
ونخلص إلى أن الشاعرة إستطاعت أن توازع بقلمها بين هذه المفارقات وتهندسها في
سلم شعري تغادر به في مقصدها نحو أشرعة التأويل الخفي ،لتترك في نفس القارئ حافزا
للبحث عن رموز و دالالت تلك القصاصات.
.3.3الومضة الطويلة:
إستطاعت الشاعرة" لطيفة حرباوي" تسويغ آلياتهذا البناء من قصيدة الومضة على
نحوتكشف فيه هذا العالم اإلبداعي ،بقصاصات مفعمة بالجمال لتتخطى الظاهرة الطباعية
القديمة فتقيم طابعا آخرا خالفا عن ما كانت عليه ،فتهفو بإحساسها في هذه النصوص وذلك
إلعادة التوازن لتلك الحياة الكسيرة التي تتخبط بذلك الوجع الذي يتغلغل في الوطن العربي،
فترافق بهذا الكم اللغوي قلقها وتشتت ذاتها ويتجلى هذا في القصاصة:113
يا صغيري في طريقك إلى المدرسة احذر أن تدهسك دبابة
وأنت تفك سروالك من األسالك واألشواك وأظافر الموتى
احذر ثم احذر ثم احذر في فلسطين الموت يرتدي كل شيء
حتى ثياب األمهات (.)2
نرى الشاعرة في هذه البرقية الشعرية تتالعب بتشكيل هذه القصاصة ،ففي هذا الوقع
الشعري نجدها ذات نفس طويإلذ تغلب على مجمل هذه الومضة حركة بطيئة وذلك بتمديدها
لألسطر الشعرية األولى لتقر بذلك الملف الذي يعج بالسواد الذي تشهده فلسطين الحبيبة وما
يلوح به من صدى الموت الذي يأتيك كرصاصة تهاجمك من الخلف لتقبع أنفاسك وأنت
تحاول الفرار منها.
ونراها بعد هذا تختزل العبارة في السطر األخير وذلك لتوحي أوصال أعاصير ذلك
الوطن بتوظيفها لكلمة "األمهات"مثال نجدها تغوص من خاللها في منابع تلك المفارقة ألن
األمهات هن األكثر وجعًا في هذه الحياة وبهذا فالشاعرة حاولت بإبداعها الشعري أنتمنح هذه
القصاصة زيًا جماليا لتعالج بها أهم قضية سجلها الوطن العربي في تاريخه.
تبصم لطيفة حرباوي بتلك اللغة الجمالية تفاصيل الحياة ،وتعانق بإبداعها بنية األسطر
والشكل الخارجي لها فتقول في القصاصة :106
وطني الظل له
يسكنني الجئا
أتقمصه
أعلقني على هفواته ثم أستعيذ منه.)1( ...
الشاعرة حاولت من خالل هذا القالب الفني أن تحمل هموم الشعب فتلقي على كتفها
ذلك األنا الجمعي ،بمفردات خاطفة تحاور بأحرفها العميقة أدبار هذا الشكل الشعري ،فتشكل
إبيجراما مضطربة تبوح إثرها إلى أوضاع وطنها ،وذلك المتداد الحركة الشعرية في أبياتها
التي تفتعل بهذا النفس الطويل لمجموعة األفكار والدالالت التي تجانب بها هذا التكثيف
الشعري.
وتستدرج الشاعرة أيضا وقع طول هذه القصاصات في نموذج آخر ومثالها ماجاء في
القصاصة :96
النسيان كذبة كبيرةا
ما نشهده على الشاشة اآلن ما هوإال شريط ناسف
ينفجر في أي لحظة ترميم حذر
()2
نحن ال ننسى الذاكرة الموجوعة ال تبرأ. ...
رصعت" لطيفة حرباوي" قصاصاتها هذه برؤية متكاملة يتضافر بناءها الشعري في
ذاكرة شوارعها التنسى ،فتنسجها بذلك الطول الذي تلتمس به رؤيتها العميقة وما يتقمصه
اإلنسان لذلك النسيان الكاذب وهو أغرب كذبة نلقي بها على أنفسنا.
الشاعرة هنا تسترسل بهذا الشكل الشعري صورة تغادر بها إلى ذهن المتلقي من
خالاللتفاوت النسبي في حجم هذه األبيات الشعرية الذي تمنح به تأويال جديدا وقراءة عميقة
خرا
فيتفاعل معها ليحاول اإلمساك بإشعاع ذلك الضوء وبتلك الدالالت فتوظف نموذجا آ ً
تقول فيه:
صغارا
ا عندما كنا
كنا نلقي بالقارورات للبحر نصفق للموج حين يعيدها إلينا
اآلن ولنهرب من الحرب نلقي بأنفسنا وأطفالنا ثم نطفئ
أعيننا حتى النرى الذين يصفقون حين يخذلنا الموج (.)3
تثني المؤلفة هذا الشكل الشعري بذلك الطول الذي يضاهي موازاة هذه التجربة،
فأرادت في هذا المقام أن تستشف ذلك االنفعال الداخلي وبركان حزنها التي تنشده بنزيف هذه
اإلطالة فتق ِدم على تضمينه واإلشارة إليه بهذا العدد من المفردات والمصطلحات اللغوية ذات
التعبير الداللي الذي يخدم هذا الهيكل الدرامي.
سجلت الشاعرة " لطيفة حرباوي" بهذه األنا الثائرة العديد من النماذج الشعرية التي
تحمل وقفتهاعلى تفاصيل هذا النظم التشكيلي ومن أمثلتها القصاصة :107
()1لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .42
( )2المصدر نفسه :ص .38
( )3لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .48
36
أنواع الومضة في ديوان " قصاصات قلق " ل :لطيفة حرباوي الفصل األول
فلسفة الطريق
أن يرافقك شتات أزلي وحيثما وصلت تحزم األمكنة فراغها
دائ اما
هناك في مؤخرة الوعي
من يقول لك عد من حيث نسيت (.)1
تحيل الشاعرة في هذه الصيغة التأليفية إلى مشهد فلسفي مليء بتلك الصيغ البالغية
فبهذه الوقفة المطولة كانت تجتث ذلك النفس الجريح الذي تزعزع جراء هذه المحن التي
يشهدها الوطن العربي.
تقودنا بموجات هذا التعريج إلى مرابع هذه القصائد التأملية من لحظات تجسـد من
خاللها نبضا تأخذ عمقه من طاقة األلم وبلغة التجاوز التي تغدورؤية غامضة وخياال واسعا
يستحضر وعي المتلقي وإبداع الشاعرة معا لتكشف عن تلك المرايا الحبيسة في
ذاتهاوتفرزها في نصوصها الشعرية التي يغلب عليها تنوعا في شكل هذه القصاصات
ومثالها القصاصة :122
السجين رقم تسعة
منذ أكثر من عشرين عاما يحفر الحائط بقلم مكسور
والغريب أنضو اءا ما تسلل إلى زنزانته وحتى ال ينتبه إليه
الحارس
علق صورة أمه على حافة الثقب
وصار يهمس لها كل صباح ال تقلقي علي منذ اآلن
الشمس هنا خلف هذا الجدار(.)2
ونسوق في هذا المنحى مثاال آخر:
سأفعل كما يفعل ساحر السرك
أخفي الحمامة البيضاء في كمي
ثم أكتب بعض الطالسم
()3
هذه الحمامة كما السالم ال تصلح إال للخداع .
نجد الشاعرة في هاتين الحركتين الشعريين ترسم لوحتين فنيتين تستقطب حدودهما بأشكال
رمزية تقرب من خاللهما هذا النص الشعري إلى السامع أو المتلقي مما يجعله يتماهى في
إنتاج معاني ودالالت هذا النص فاستطاعت بقلمها أن تواكب هذا الميدان وهذا النوع من
القصائد الشعرية أيضا و ذلك بأدواتها الفنية واللغة التعبيرية المبدعة.
وكان لهذا اإلبداع والتميز األثر البالغ لتجسيد قصاصات شعرية ترفع من خاللها
أحالمها التي تتطلع إليها ،وما زاد القارئ متعة أنها زاوجت بين المعاني الخفية وراء ستار
الحقيقة وبين الشكل الشعري لها ،حيث كانت بقلمها تطرح تلك الدفقات الشعرية في مطارح
تفاوت نظام السطر.
ونستنج أن الشاعرة لطيفة حرباوي في بنائها الشعري إستطاعت أن تجرف معها فكر
القارئ ووعيه وخياله في هذا النهر المتدارك من الوميض الشعري.
38
الفصل الثاني
اآلليات االجمالية لقصيدة الومضة
في ديوان " قصاصات قلق "
أوال .االنزياح:
.1مفهوم االنزياح
.2صور االنزياح
.1.2االنزياح التركيبي
.2.2االنزياح الداللي
ثانيا .الرمز
ثالثا .المفارقة
رابعا .المعجم الشعري:
حقل الحزن و الموت .1
حقل الزمن .2
حقل الطبيعة .3
خامسا .فنون البديع
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
توطئة:
يستقي الشاعر المعاصر من رحيق الظواهر األسلوبية جمالية ينثرها في فائض
نصوصه اإلبداعية وتراكيبها وصيغها الشعرية في مطارح ذلك التشكيل الشعري ،لذا تتباين
مقاربات التحليل األسلوبي وهذا التقارب بتنوع الدراسة المطروحة لعل هذا من األسباب التي
جعلتنا كباحثين إلى الغوص في جماليات هذا النسج الجمالي ،وحاولنا التطبيق على بعض
العينات من قصاصات الديوان و هذا ما سنحاول طرحه على الشكل اآلتي:
أوال .االنزياح:
.1مفهومه:
االنزياح من أهم الظواهر التي لقيت إهتماما واسعا في أغلب الدراسات األسلوبية فهو
أداة الشاعر في إنتاج اللغة الغير المألوفة أو هو في ظاهره خروج عن السياق األصلي للداللة
المرام طرحها حيث لقيت هذه الظاهرة اللغوية تنوعا في األخذ بتعريف معين و ذلك من
دارس آلخر لدى الباحثين العرب أو الغرب على حد سواء.
هناك من يعرفه قائال « :هو خروج عن المألوف ،أو ما يقتضيه الظاهر ،أو هو خروج عن
المعيار لغرض قصد إليه المتكلم أو جاء عفو الخاطر ،لكنه يخدم النص بصورة أو بأخرى و
بدرجات متفاوتة»(.)1
و يأخذ منذر عياشي مفهوما له أيضا قائال « :إنه إما خروج االستعمال المألوفة للغة و إما
خروج على النظام اللغوي نفسه ،أي خروج على جملة القواعد التي يصبر بها األداء إلى
وجوده ،كما يمكن أن نالحظ و كأنه كسر للمعيار»(.)2
معنى هذا القول أن االنزياح هنا هو خروج عن القاعدة األساسية للكالم و كسر األسس
التي ترتكز عليها الجملة.
بعد تلك اإللتفاتة التي أخذنا بها مفاهيم هذا المصطلح عند العرب ،نحاول اآلن عرض
بعض التعاريف التي جاء بها علماء الغرب نذكر منهم جون كوهن الذي يبدي رأيه في هذه
النظرية فيقول «:أن االنزياح ويسميه المجاوزة ،له هدفه الخاص ،وهو فك بناء اللغة ورفض
الوظيفة االتصالية لها والتحويل النوعي للمعنى الموصوف من معنى تصوري إلى معنى
شعوري »(.)3
.2صور االنزياح:
.1.2االنزياح التركيبي:
نشير في هذا اللون من االنزياح على أنه الخروج عن سياقات الكالم وخرقا لقوانين
لغته وأنماطه التي يرتكز عليها ،وذلك لما يتضمنه من أنواع تتحقق بها جماليات التشكيل
()1يوسف أبو العدوس :األسلوبية الرؤية و التطبيق ،دار المسيرة للنشر و التوزيع و الطباعة،عمان،ط ،2007 ،1ص.180
( )2المرجع نفسه:الصفحة نفسها.
( )3مسعود بودوخة :األسلوبية وخصائص اللغة الشعرية ،دار علم الكتاب العلمية للنشر والتوزيع ،عمان ،األردن ،ط،1
،2011ص.41 ،40
48
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
الشعري كالتقديم والتأخير والحذف أيضا وغيرها من هذه األنواع ،ففي هذا الصدد يقول
أراغون « ال يتحقق الشعر بقدر تأمل اللغة وإعادة خلق اللغة مع كل خطوة ،و هذا يفترض
تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو وقوانين الخطاب»(.)1
أ -التقديم والتأخير:
في ما تقدم نذكر أحد أنواع هذه الظاهرة أال و هو "التقديم والتأخير" الذي بمجرد
دخوله على الجملة الشعرية يحدث تغييرا عليها،هذا ما حاولت الشاعرة"لطيفة حرباوي" أن
تبرزه في صيغها اإلبداعية التي لم تخلو من منطلقات هذا التجاوز اللغوي و ذلك في مثل
قولها:
كم نجمةا سرقت من فم السماء وأنت في قاع الحلم..؟ .
()2
إن الطالع في سبحات هذه الصيغة الداللية يجدها مكثفة بذلك الغموض ،فالشاعرة
" لطيفة حرباوي" في هذه القصاصة أرادت أن تدخلنا في صميم ذلك اإلحساس الذي تحمله
في بحر هذه المعاني و الدالالت الغامضة.
هذا ما جعلها إلى تقديم ما كانت تراه مناسبا للفكرة المقدمة في تركيب هذه الجملة
الشعرية ،بما تجلى في تقديمها للفعل "سرقت " على الجملة " من فم السماء" و كان ذلك
التقديم لمجموعة من األغراض من بينها القصر والتخصيص وإبراز مواطن تلك المعاناة
التي تكتنف ذاتها.
و مثال آخر على ظاهرة هذا التقديم ما تقوله في القصاصة :74
عاد إلى مسقط حزنه مشياا على األحالم.)3( ...
ورد في هذه الومضة موضعا آخرا من مواضع هذا التقديم والذي تمثل في تقديم شبه
الجملة " إلى مسقط حزنه" على الحال "مشيًا" لتفيض الشاعرة " لطيفة حرباوي" بجملة هذا
التقديم مجموعة تلك الدالالت التي تنزاح فيها عن المعنى المألوف وذلك من أجل الضرورة
النحوية.
و تستدعي الشاعرة هذا األسلوب أيضا في عينات أخرى من هذا الديوان مثالها:
من رعشة المنتهى
أرجم جداري
ثم أنقشه وطناا من حذر(.)4
قدمت لطيفة حرباوي هنا الجملة " من رعشة المنتهى" على الفعل" أرجم" و ذلك لتنقل
معها القارئ في صدى هذه الداللة التي تحمل بها قصة هذا البلد إذ تنقش بهذا التقديم ذلك
األسى الذي تحمله في البيت األول لتحمل به مشاهد تلك الصورة إلى قلب القارئ.
()1عبد هللا خضر ،أسلوبية االنزياح في شعر المعلقات ،عالم الكتب الحديث ،األردن ،ط ،2013 ،1ص.50
()2لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص.26
( )3لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .29
( )4المصدر نفسه :ص .31
49
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
خالصة قولنا أن الشاعرة " لطيفة حرباوي" قد أبدعت بتلك الطاقة الهائلة من اللغة
الجمالية في صياغة ومحورة هذا القلق في قسم من أقسام هذا التركيب االنزياحي الذي كان
لبعض األغراض البالغية في الخطاب الشعري الذي يتضمنه ديوانها.
ب.الحذف:
يحوم هذا البعد في ا تجاهات االنزياح التركيبي على أنه ظاهرة فنية يشكل الشاعر
بأسلوبها مادته الشعرية ،الذي بدوره يساعد في تماسك أبنية النظام الذي تتشكل منه الصورة
الشعرية لما لهذه الظاهرة أثرا بالغيا يتضح من خالل التعمق في معاني الجملة الشعرية.
هذا ما إتكأت عليه الشاعرة " لطيفة حرباوي" فنراها قد وازنت بين أشكاله في هذه
القصاصات كل حسب تموضعه فاكتفينا لإلشارة إلى بعض منها و مثاله القصاصة:154
منذ أكثر من حزن لم نحصل على رخصة السعادة (.)1
وقع الحذف في هذه الجملة الشعرية بعد عبارة " لم نحصل" متمثال في حذف الفاعل
وتقديره "نحن" ليكون هذا الحذف داللة على تلك الحسرة التي أرادت الشاعرة اإلشارة إليها
وهي أننا ال نتمكن من الحصول على مظاهر هذه السعادة ألننا لم نستطيع إقتناء المفتاح
الحقيقي للوصول لمعنى هذا اإلحساس في الحياة.
وورد أيضا هذا الحذف في مواضع أخرى من هذه القصاصات مثالها:
الطفل الذي كان يكتب على الجدران
ضربه حارس العمارة بتهمة التخريب و النبش في الجمال
هو نفسه الطفل الذي عاقبته المعلمة ألنه لم يقم بواجبه
المدرسي
ج-التكرار:
يعد التكرار أحد الوسائل التي تساعد في تشكيل الموسيقى بأنواعها ،وهو من التقنيات
المتداولة والمألوفة في النصوص األدبية فعد « أحد أساليب التعبير المهمة و الذي يمكن أن
يثري المعنى ويغنيه ويرفعه إلى أعلى درجات التأثير واإلمتاع و األصالة» (.)1
وبالرغم من تباين وجهات النظر لهذه الظاهرة إلى أن رؤيتهم الحقيقية في ذلك بقيت
تصب في ا تجاه واحد و هو ترديد األلفاظ أو األصوات و حتى المعنى أيضا في عدة أجزاء
من نص القصيدة.
كما برز هذا اللون في الشعر العربي قديما وحديثا ،فقد أولى الشعراء له عناية كبيرة إذ
أنه عنصر أساسي في القصيدة وقد يكون إما " بالحرف أو الكلمة أو الجملة " ،لذا نجد أن
تكرار األحرف أو الحرف هو المنطلق األساسي في هذا النوع من اإليقاع.
و مثال ذلك القصاصة :37
عندما يسرقون وجهك وأنت في عز الوجع يرقعون ما تمزق
من مالمح ليس من باب الرفق بالنسان فقط ألنهم
يحتاجون هذه التقاسيم ليصوروا مشهدا آخرا لغاية في نفس
مكبوت مثير للسخرية أن تكون موجودا لتسليهم (.)2
إن صوت"الميم" هو األكثر تكرارا في هذه القصاصة الشعرية إذ تكرر حوالي ()12
مرة ،ثم صوت السين تكرر ( )7مرات وكذلك نالحظ صوت القاف تكرار ( )6مرات نرى
هنا أن كل هذه الحروف قد أضفت على األبيات نسجا و تناغما موسيقيا يتالئم مع نظام هذه
األسطر التي كانت بمثابة مرتكز تتكئ عليه الشاعرة في توضيح داللة هذا الغموض الذي
تلبسه هذه الومضة الشعرية و لغرض التأكيد أيضا.
وقولها أيضا:
أعرف أنك تحلم بأطفال تأخذهم إلى الحديقة و تشتري لهم
غزل البنات
لن تسمع كلمة بابا...بابا
يا شريكي نحن لم نولد أحياء نحن مشروع إبادة.)3(...
نجد هنا أن الشاعرة بطريقة مبدعة تعمل على توزيع هذه األحرف المتناغمة التي تولد
إحساسا جميال لدى المتلقين ،مما يجعله في تفاعل وإنسجام مع ما يقدمه الشاعر من دالالت،
( )1غانم جواد الرضا الحسن :الرسائل األدبية النثرية ،في القرن الرابع للهجرة ،دار المكتبة العلمية ،لبنان،ط،2011 ،1
ص.437
( )2لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص.17
( )3المصدر نفسه :ص.56
51
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
إذ نرى أن صوت "الباء" قد تكرر نحو ( )7مرات و كان هو الصوت األكثر تكرارا الذي
ساعد على تماسك هذ ه األسطر الشعرية لتعبر عن تلك الفكرة و عن الحالة الشعورية في أبلغ
داللة ،إلى أننا نراها تكرر حرف "الياء" و "النون" أيضا حوالي ( )6مرات لغرض تأكيد
كالمها و تقوية المعنى اإلجمالي لهذه القصاصة.
أما النوع الثاني لهذه الظاهرة الصوتية يتمثل في تكرار الكلمة فهو من األنواع األكثر
تداوال وشيوعا في الشعر ،فمن بين الومضات التي تضمنته ما تقوله في القصاصة :141
ال أحد يهمه أحد
و البلد آه من البلد
البنت التي تأخرت في الموت و القبر الذي صار مه ادا للولد(.)1
كررت الشاعرة هنا لفضة " أحد" و" البلد" مرتين والمالحظ على هذا التكرار أنه جاء
بصفة متتابعة والتي أرادت " لطيفة حرباوي" من تكرارها هذا هو تأكيد تقاسيم تلك الحسرة
والوجع لما آل إليه الوطن ،فقد صارت مخاوفنا من فقدانه هي من تشكل ذلك األسر الجريح
في أوصال النفس اإلنسانية أما غرضها البالغي في هذا كان تأكيد لمعنى هذه الفكرة وتقوية
الداللة.
كما ورد تكرار الكلمة في نموذج آخر:
طا (.)2من ثقب البرة يمكنك أنترى العالم يتقطع خيطا خي ا
في هذا السطر الشعري تكررت مفردة "خيطا خيطا" مرتين وجاءت بها الشاعرة
لتؤكد أن هذا العالم قد بلغ أقصاه من ركام اليأس ،وهو داللة واضحة على تجلي روح
التشاؤم والحزن بصورة مبالغ فيها.
ختاما يمكننا القول أن ظاهرة التكرار وما تحمله من تنوع من ناحية األسلوب ،لها وقع
وأثر واضح على النصوص الشعرية واألدبية ،وذلك طبعا بالموازاة بين تقنياته " الحرف أو
االسم أو الجمل" ب صفة عامة ،وهذا ما كان واضحا وجليا على قصاصات هذا الديوان الذي
أضافت به الشاعرة نوعا من اإللتئامواإلنسجام الذي تعتري إثره هذه الجمل الشعرية.
.2االنزياح الداللي:
يحتل هذا النوع المرتبة الثانية من أنواع االنزياح إذ يحتاج الدارس أو المتلقي لهذا
النوع جهدا من أجل الوصول إلى المعنى الداللي ،فيسعى األديب إلى إستبدال هذا المفهوم
األصلي لمعنى الجملة بمعنى التجاوز واالنحراف فكان كل منها قوام لآلخر أي أنه يريد
مخالفة اللغة المألوفة أو ما تفرضه في شكلها العام.
والمالحظ هنا أن من أبرز أنماط هذا النوع هي "اإلستعارة " فهي األساس والمرتكز
الذي يتكئ عليه نظرا لما تتضمنه من أهمية بالغة ،باإلضافة إلى التشبيه والكناية اللذين
يخلقان طابعا جماليا في تلك القراءات الشعرية وهذا ما أوردته الشاعرة "لطيفة حرباوي" في
هذا الفضاء أو النسق الشعري الحافل بتلك الصور البالغية ،ومما أوردته من نماذج
إستعارية وتشبيهية ما تقوله في القصاصة :164
ألنهن لسن ككل النساء
كلما تعطرت السوريات
يفوح العالم بالدماء (.)1
تتمثل الصورة البالغية في السطر األخير من هذه الومضة الشعرية حيث شبهت
الشاعرة ذلك العالم بالعطور ،فحذف هنا "المشبه به" وبقي شيء من لوازمه وهي "يفوح"،
إذ تبرز هنا جمالية هذه الصياغة في هذا التشكيل البالغي الذي تجاوزت به المعنى المتداول
والذي يوحي بعمق األلم الذي تعيشه سوريا والنساء السوريات باألخص الذين يذوقون مرارة
ذلك اإلغتراب عن بلدهم األم كل يوم ،فبهذا التصوير تنقل إحدى المشاهد المأساوية التي
يحتضنها الوطن العربي ،وفي مثال آخر تقول فيه:
ركضنا إلى آخر السراب لندفن الحقيقة.)2(...
تكشف لنا الشاعرة في هذه القصاصة عن درب حقيقة ذلك اإلنسان وهو كسير الخطى
إذ شبهت " السراب " هنا بالطريق و حذفت "المشبه به" وأبقت على الزمة من لوازمه أال
وهو "اإلنسان" واألصل في هذا التركيب " ركضنا إلى آخر الطريق لندفن اإلنسان" نستشف
بهذا التعبير عن نفسية ذلك اإلنسان الذي أتعبته تلك األوضاع الذي يسودها الظلم والطغيان.
و في هذا الذكر نلمح أنواعا أخرى تناولتها الشاعرة في أقسام هذه الصور البالغية ومن
أمثلتها القصاصة:114
أتسكع في الضوء حافي العينين (.)3
تلوح الشاعرة في هذه القصاصة إلى ذلك التمزق والضياع ،فذكرت هنا الصفة
والمتمثلة في لفضة "حافي" وكذلك مفردة " أتسكع " فهي صفة ذلك اإلنسان الذي أضحى
األمل بعيدا عنه ،فنراها هنا قد إستخدمت هذه الصيغة للداللة عن قمة ذلك العذاب واأللم
الذاتي فحاولت هنا تجسيدها في هذه القصاصة الشعرية التي تحمل جماليات اإلبداع الفني
لتؤثر بصورة أو بأخرى في نفس القارئ.
و في األخير نجد أن الشاعرة حاولت أن تعبر عن شدة ذلك األلم الدفين واإلضطهاد
الذي تشهده في هذا السياق االنزياحي الذي تبرز فيه قدرتها اإلبداعية في التعامل مع مختلف
أنماط صور هذه القصيدة الحداثية التي تؤثر بمختلف ألوانها في أحاسيس السامع.
ثانيا .الرمز:
عرف الشعر العربي المعاصر في الفترة األخيرة إنفتاحا في مختلف أجناسه الشعرية
باستخدامه بعضا من التقنيات الفنية التي يعبر الشاعر بها عن طوايا النفس بتفجيره لتلك
الطاقات الثائرة بداخله ،وذلك باإلعتماد على تقنية الرمز الذي يرفع به لواء لغته الشعرية
ليصاحب بها التجارب المعاصرة فهو على حسب «كما يقول ناقدالرمزية الكبير ،وليم يرك
تندال :تركيبا لفظيا ،أساسه اإليحاء عن طريق المشابهة بما ال يمكنه تحديده ،بحيث تتخطى
عناصره اللفظية كل حدود التقرير ،موحدة بين أمشاج الشعور و الفكر»(.)1
وبهذا فالرمز يشكل أحد مرتكزات معالم لغة الشعر المعاصر في مبناه العام وبمختلف
أبعاده و أسسه ،فقد حضي باإلهتمام الكبير من قبل األدباء والنقاد المعاصرين بشكل مكثف
و كل كانت له محاولة جادة في الوقوف على ظالل هذا المقام األدبي.
فنرى أن قصيدة الومضة اتخذت من مالمح هذا اإلنتاج اإلبداعي طابعا جماليا تزين به
أسوار عالمها اإلبداعي ،وهذا ما نستشفه في ديوان " قصاصات قلق" للشاعرة " لطيفة
حرباوي" التي خصصت لهذه المقتطفات الرمزية مكانا من تلك القراءات الشعرية فنجدها
تستحضر بقوة بعض الرموز في ومضاتها الشعرية كاألرض الفلسطينية مثالحينما تقول في
القصاصة :113
يا صغيري في طريقك إلى المدرسة احذر أن تدهسك دبابة
وأنت تفك سروالك من األسالك و األشواك و أظافر الموتى
احذر ثم احذر ثم احذر في فلسطين الموت يرتدي كل شيء
حتى ثياب األمهات (.)2
الشاعرة ترسم بهذا الرمز مشهدا تأثيريا تشير بمآخذه لهذا البعد التاريخي و هذه
الحضارة وهويتها الخالدة في عمق األوطان العربية ،طرحها لهذا التاريخ و كأنها ترسم به
مجريات الواقع األليم فتطرق بأوصاله باب زاوية تسكن في تلك األنفس التي تعيش كل يوم
الهلع و الخوف من الموت و ال تشعر باالستقرار واألمان.
الشاعرة تنطق بهذه اإلشارات صورة اإلنسان العربي الذي نزعت من ذاته الراحة إن
لم يكن بدوره مشاركا أحزان إخوانه في تلك األرض المقدسة فهي أرض العروبة العربية في
( )1ابراهيم رماني :الغموض في الشعر العربي الحديث ،المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ،الجزائر،ط،2007 ،3ص .338
( )2لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص.45
54
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
خضم هذا األسلوب المفعم بالرمز تشكل ذلك األلم بطريقة جمالية تمدها برمزية أدبية تقارب
كلثام تضرب به أعماق األمم العربية. ٍ بها طابع حياة األرض الفلسطينية التي تستخدمها
و في نموذج آخر نهلت" لطيفة حرباوي" من التراث السوري العريق بعضا من
ضا من المقتطفات التي مالمحه التاريخية ،فراحت في جب هذا الفضاء الشعري ترصد بع ً
تستعرض فيها أحداثا بقيت محفورة في خزانة الذاكرة لتشكل منعطفا جماليا وبعدا دالليا لهذا
التاريخ ومثاله القصاصة :83
أعرف أنه ال يوجد دائما غ ادا
و لكن باألمس العصيب كنا نذهب إلى بيت الخالة فتحية
لنشاهد مسرحية لدريد اللحام لم نكن حينها نعرف من هو
الماغوط
كنا نضمد جوعنا بالهتاف و رفع األيدي
ثم نخرج ليالا بحناجرنا المبحوحة
وأنت تهمس لي ليس الخبز فقط الفرح أيضا من حق الجميع (.)1
تجسد الشاعرة في هذه الومضة الشعرية لوحة جمالية تسجل بها واقعا مريرا تتحصر
إلى ما وصلنا إليه ،لتضرب نبض هذا الزمن بإحساسها وإبداعها ،فأرادت أن تالمس هموم
تلك األمة باستحضارها لمسرحية دريد اللحام التي تصور لنا بكل ما تحمله الكلمات من
معاني أن هذه المسرحية الثورية تعكس بتلك الصور التي تقدمها فشل ذلك اإلنسان العربي
في تحقيق الوحدة و السالم العربيين ،حالها حال حاضر هذا الزمان.
كما إستدعت األديبة في هذه القصاصة أيضا شخصية "الماغوط" تعكس إثرها كتابتها
الثائرة على زماننا المرير ،المفعمة بالنقد والمتدفقة سياسيا الالذعة في طرح حواجز الحياة
التي تلسعنا كلما قرأناها ،وبهذه الشخصية تغير معنى السعادة في ميناء هذه الومضة الشعرية
حيث أصبحت السعادة ليست حرفية أي أنها غير موجودة في كل اإلطارات ماثلتها بهذه
الصيغة ،أي أنه ليس الخبز فقط ما نطلب كذلك الفرح أيضا من حق الجميع فتوحي هنا أن
الحرية هي أساس كل األشياء.
الشاعرة هنا توظف هذه الشخصيات وهذا التراث لتتيح للمتلقي فرصة الدخول إلى
عالم تاريخ هذا البلد واالستسقاء من شهده لتغرس في نفسه حب إكتشاف عوالم هذه
الشخصيات من خالل روح تلك القراءة الفنية.
ونخلص إلى أن الشاعرة قد إستدرجت قصاصاتها في إطار هذا اللون من اإلبداع
الشعري بطريقة جمالية أخذتها في مساق هذا العمل اإلبداعي،و بنوع من اإلشارات والتلميح
في تقديم مضامينها له لتعبر بأسس هذا اإليحاء وهذا النوع من الغموض عن بعض التجارب
الذي بقيت منذ القدم إلى حد اليوم راسخة في خيال الذاكرة.
.3المفارقة:
المفارقة قالب شعري يحمل بين موازينه بعض اللمحات الغامضة أو شيء من صور
التناقض اللغوي ،فالشاعر من خالل هذه الجمالية يستطيع أن يضع أمام القارئ المعاني
السطحية التي تحمل جمالية المفردة في صيغتها التركيبية لكن بطريقة أخرى يناقض ذلك
بنتاج تلك الدالالت العميقة التي تختبئ وراء المعنى الظاهري مما يجعلنا نحن كدارسين أو
متلقين لهذا الشكل ،أن نكون ذا جهد و وعي إلكتشاف هذا اللبس الذي ترتديه في مختلف
النواحي و بخاصة في البناء الشعري أواألدبي.
فنراها من وجهة نبيلة إبراهيم على أنها « لعبة لغوية ماهرة و ذكية بين طرفين ،صانع
المفارقة وقارتها على نحو يقدم فيه صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ وتدعوه إلى
رفضه بمعناه الحرفي ،وذلك لصلح المعنى الخفي الذي غالبا ما يكون المعنى الضد ،وهو في
أثناء ذلك يجعل اللغة ترتطم بعضها ببعض بحيث ال يهدأ للقارئ بال إال بعد أن يصل إلى
المعنى يرتقيه ليستقر عنده » (.)1
أما في نظر محمد العبد « فهي نوع من التضاد بين المعنى المباشر المنطوق والمعنى
الغير المباشر له »(.)2
يتكئ شعراء قصيدة الومضة على عناصر هذه البنية الخصبة وهذا ما بدى واضحا في
قصاصات الشاعرة " لطيفة حرباوي" التي أخذت تعرض هذا القالب اللغوي في رحلة تفارق
بها مبادئ هذا العالم لتعبر بقوة عباراتها ومدارات تلك اللغة التي تجمع فيها نباهة الفكر
وجرأة التعبير عن مختلف آرائها نحو قضية معينة.
األمثلة متعددة في دراستنا هذه وذلك باختالف وتعدد القضية المعالجة فكانت الشاعرة
في الكثير من المواضع تلجأ إلى المفارقة من الناحية األسلوبية بطريقة السخرية والتهكم إلى
أن هذا لم يمنعها من ورود المفارقة اللفظية ففي ضوء هذه الصور الجمالية نطرح مثاال لهذه
المفارقات و منها ما ورد في القصاصة :84
كلما تفتق نبض في أدركت أن قلبي صار أضيق(.)1
( )1نعيمة سعدية :شعرية المفارقة بين اإلبداع و التلقي ،مجلة كلية اآلداب و العلوم اإلنسانية واالجتماعية ،جامعة محمد
خيضر،العدد األول ،2007 ،ص.3،4
( )2يبرير فريحة :المفارقة األسلوبية في مقامات الهمذاني،مذكرة من متطلبات شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها،
إشراف :جلولي العيد ،جامعة قاصدي مرباح ،2010 ،2009 ،ص.10
56
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
قارئ هذه القصاصة يرى فيها نوع من المراوغة في تضمين هذا المعنى ،حيث أن
المفارقة تكمن في خفقة ذلك النبض الذي جعلت منه الشاعرة رمزا إلنسداد القلب وضيقه.
وبالتالي هو صورة عن ضعف هذه الحياة و وهنها الذي تثقل به كاهل اإلنسان ،وهي
بهذا تعكس بأسلوب جمالي هذه الداللة بطريقة تلتمس فيها ذلك الغموض الشعري فكان من
المفترض أن الشاعرة في هذه التركيبة تقول " :كلما تفتق نبض في أدركت أن قلبي صار
قويا في رحاب الحياة" ليكون هذا النبض داللة على استمرر ذلك النفس الذي نحيا به لكن
هي أرادت أن تتجاوز هذا بلغة تأويلية أخرى ترسم بها األلم الذي بداخلها.
كلها إحتماالت كان من المتوقع إنشاءها في هذا الوصف ،لكن الكاتبة سارت على
الطريق المخالف بطريقة ذكية لتصدم المتلقي بما لم ينتظره حتى تجعله يغوص في عمق
تلك اآلالم و المآسي التي هي في صدد الحديث عنها.
و في نموذج آخر تبلغ فيه الشاعرة رسائلها لتعبر عن تلك المواقف التي تصوغها في
آليات هذه المفارقة و مثالها ما تقوله في القصاصة :106
وطني ال ظل له
يسكنني الجئا
أتقمصه
أعلقني على هفواته ثم أستعيذ منه.)2(...
تجسد الشاعرة " لطيفة حرباوي" على إثر هذه الومضة الشعرية مشهدا ذا بعد فني
أخاذ تشتغل فيه على ركائز هذه اآللية التي تصبها في صلب هذا المعنى ،إذ تصنع الشاعرة
في هذه القصاصة نوعا من المفارقة متمثال في ذلك األسلوب أو الصياغة المدهشة على
المستوى الظاهري وكذلك على المستوى الخفي في عبارة " ثم أستعيذ منه" فهي تقارب بها
معنى معين وهو أنه على النفس دوما أن تكون في الحرس من هذه الفتن المتربعة على
أرصفة طرقات هذا الوطن وأن تتخذهما درع وقاية و حماية في كل مساراتها.
تعبيرها هنا جاء مالئمة مع ذلك المعنى و مكتمل في هذا السياق أي أن في هذه
القصاصة كان من المفترض على المؤلفة أن تعلق تلك األنفس بوطنها فهو يمثل االنتماء
والحضارة لها وتجعلهم أيضا يحتمون بظله وأن يكون معه عندما يفقد ركائزه وإستقالله
ويكونوا هم الجزء من هذا الكل ،لكن الشاعرة تصدمنا بهذا التناقض لتوحي أن األوطان في
هذا الزمن صارت عبارة عن مجموعة من اللوحات المزيفة التي يزينها الخداع والتزييف.
الشاعرة "لطيفة حرباوي" هنا تتفنن في صياغة هذا النسج من األسلوب بنكهة مختلفة
عما اعتدنا عليه ألن لغة هذا الشكل لغة تدخل فيها الكثير من التشابكات ،حيث صارت تعتمد
على هذا األسلوب في العديد من القصاصات مثالها القصاصة :43
ال تذهب حزيناا غيرت رأيي
()1
لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .33
المصدر نفسه :ص .42 ()2
57
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
58
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
نخلص في مجمل هذه المفارقات أن الشاعرة " لطيفة حرباوي" كانت تحمل بهذا
المنتج من المفارقات واقعا يحمل الكثير من األحزان فتنثره بطريقة مبدعة في في مساحات
هذه القوالب المتنوع
رابعا .المعجم الشعري:
اللغة هي من الدعائم والركائز التي يلجأ إليها المبدع في بلورة أفكاره فهي «المادة
األولية التي يتعامل بها األديب ،فيحدث فيها و بها أشكاال متباينة ،فيحقق ذاته في هذه
األشكال ،و يحقق المتعة لمن يتلقاها سماعا أو قراءة»(.)1
من منطلق جماليات هذه اللغة سنحاول رصد طبيعة هذا الغطاء الشعري ،التي تفردت
به الشاعرة "لطيفة حرباوي" وذلك من خالل توزيع مفردات هذه الومضات الخاطفة في
حقول داللية مختلفة:
.1حقل الحزن و الموت:
تغنى الشعر العربي المعاصر بنغمة األحزان التي صارت من أهم الصور المتجذرة في
صلب مواضيعه وقضاياه ،فنرى الشاعرة تطوي بقساوة ذلك اللحن مرارة زمانهاو واقعها
أيضا ل تشدو بحروفها نحو اإللمام واإلحاطة بكل الصور التي تكتنف الوجع والقهر المفجع
والمتناثر على طرقات الحياة ،إلى أن شيوع هذا الركب من الظواهر في القصيدة العربية
الحديثة أضحى من لوازم الكتابات المعاصرة وهو تعبيرا عن تراتيل الحزن المتجذرة في
صلب الواقع الراهن.
في سياق الحديث نجد أن "لطيفة حرباوي" قد أدرجت بعض العينات التي تعج
بالمفردات واأللفاظ المنمة عن ذلك الصراع المتوهج في ذاتها والمنطوي على كتف الحزن
فتترجمه ببهاء تلك اللغة الملغمة التي تضاهي فيها تنوعا في تقديم هذه األنواع وذلك طبعا
لتنوع القضايا المعالجة.
نرى مما تقدم أن األلفاظ التي تدرج في سياق الحزن و األسى تبلغ في مجملها
حوالي 84مفردة أي نسبتها تقدر %143والتي أخذت الحيز األكبر من نسب المقاربة في
الحقول المعجمية التي تضمنها الديوان ،باعتبارأن القصيدة الومضة تتكئ على صور هذا
الحقل ففي هذه القصاصات تتشكل ألفاظ هذا النغم في أكثر من سياق شعري لتطل بها
الشاعرة علينا بكمية ذلك التنوع في الصياغة والداللة مثالها " الحزن ،الموت ،الفقد ،الموتى،
جثتك فجيعة ،ذبح ،يندب ،غدر ،فواجع ،حرب ،بكاء ،منفى ،جرحي ،مؤلم ،قتلى ،انتحار،
غدر مكسورة ،دموع " ...إلى غيرها من األمثلة.
ومن النماذج التي أدرجتها في إطار هذه القصاصات الشعرية القصاصة :25
كل شيء مؤلم صرت تعرف اآلن أن تلك الورود التي ينثرونها
( ) 1أحمد الصغير المراغي :بناء قصيدة اإلبيجراما في الشعر العربي الحديث ،الهيئة العامة المصرية للكتاب،
القاهرة(،دط) ،2012،ص .47
59
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
.2حقل الطبيعة:
60
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
ينهل الشاعر المعاصر من روح الطبيعة جمال ذلك الذوق الشعري و يستقي من أفكاره
التي تخالج نفسه وذواته ،وهذا ما سارت عليه شاعرتنا في األخذ من هذا النهر العظيم التي
تعكس به مقصد تلك الروح وتطلق به صراح تلك النفس األسيرة بداخلها حيث كانت
قصائدها تحتوي على ( )33مفردة من هذا الحقل على األغلب تقدر نسبتها ب %08،23
وجاءت بعد حقلي" الحزن والموت" وكذلك حقل " الزمن" ومثالها ما جاء في األمثلة اآلتية
"األرض ،ريح ،التراب ،البحر ،الشمس ،الهواء ،السماء ،المطر ،الهالل " إلى غير ذلك من
األمثلة.
ومما تقدمه الشاعرة من نماذج حول هذا الحقل أيضا ما جاء في القصاصة :136
ألنني بال أم أضم السماء و كأن الهالل إابتسامة أمي.)1(...
و في نموذج آخر تقول:
حين تركت لكم األرض والهواء مازلتأتنفسني أمشي علي
وألني معي ثمة حياة (.)2
وفي مثال آخر تطل عينا من وراء مفردات هذا الحقل حيت تقول:
كيف أشق سمائي تركت أجنحتي
على أرض ال تحلق بي.)3( ...
الشاعرة هنا ترصد إثر هذه النماذج ألفاظا مختلفة إلى أنها تحوم حول حقل داللي واحد
فمما جاءت به من مفردات مايلي " السماء ،الهالل ،األرض ،الهواء "...مماثلتهالهذا السير
أعطى دالالت جمالية تدل على حسن تذوقها أبعادا مختلفة في هذا الطابع الشعري الذي
المست بصدق إحساسها ورونق مفردات هذا التعبير.
.3حقل الزمن:
تمثل مفردات حقل الزمن بعدا آخرا تقوم عليه قصيدة الومضة فقد أخذ حيزا من
اإل هتمام والدراسات من لدن العديد من الشعراء ،بحيث يمكننا عده من بين الظواهر اللغوية
الذي يقدم إطار ميالد اإلنسان أي "حياته و مماته".
إستطاعت الشاعرة في خضم هذا الحقل أن توزع مفرداته على جل القصاصات ،حيث
تتراوح نسبة تقدير هذا اإلحصاء ب 26بالمائة أي حوالي % 18،18مفردة .
المالحظ على هذا التشكيل في هذه الحقول الزمنية أنها متعددة ومتنوعة فهناك على
سبيل المثال "صباح ،سنوات ،ساعة ،اليوم ،غدا...الخ " وكذلك "وقت ،زمن " وهذا لم
يمنعها من توظيف بعض المفردات الزمانية المتعلقة بالطبيعة وظواهرها المختلفة مثالها "
النهار ،الليالي ،الصباح ،الربيع " إلى غيرها من هذه الظواهر.
على نحو ما جاء نحاول رصد بعض النماذج التي تحتفي بألفاظ الزمان و مثالها:
لم يأت الوقت ليثرثر على األرض جاء ليضبط ساعة موتاه
(.)1
و يقف دقيقة صمت على األحياء...
نرى من خالل هذه القصاصة الشعرية أنها ترتكز في هذا المتن الشعري على بعض
مفردات الزمن كقولها " الوقت ،ساعة ،دقيقة "و كأن الشاعرة هنا تقف على مشهد ترسم
إثره صورة هذا الزمان الحالي الذي صار كلمحة برق في هذا الوقت ،فهي تجلي بنفسها على
هذا الزمن وبهذا التوظيف المكثف وكأنها في وضعية رصد هذه الحركة الزمنية.
جمعت الشاعرة في هاتين القصاصتين نوعا من فن هذا الصنيع الشعري وهو الجمع
بين األسماء كقولها " األمام ،الوراء ،البدايات ،النهايات" إلى أنها لم تتوقف عند هذه األمثلة
فقد تعددت وتنوعت النماذج على إثر هذا ،فنذكر نموذجا آخرا تمثل في القصاصة :172
كلنا سنسكن المقابر يوما حينها ستغير األنا مواقفها و تفقد
األشياء سلطتها و بريقها
هناك فقط يستعيد المعنى وعيه و ذاكرة الضد
ليتها الكراهية كانت محبة
ا
جماال ليت القبح كان
و الكراسي سجادة صالة
التفكير في العدم يا شريكي و أنت في صلب الوجود
يجعلك أكثر وع ايا بثقافة التراب أكثر حرصا على النور(.)2
و قولها كذلك في القصاصة :27
لم يأت الوقت ليثرثر على األرض جاء ليضبط ساعة موتاه
و يقف دقيقة صمت على األحياء.)3(...
تجلى الطباق في هذه الثنائيات كقولها " الكراهية ،المحبة والقبح ،الجمال "وكلمة
"موتاه " مع مقابلها "األحياء" و نلحظ أن هذا التنويع البالغي في هذه التراكيب يعكس الحالة
النفسية للشاعرة ،فمثال طرحها لجدلية "الموت والحياة " أرادت أن توحي به إلى أن هذا
الصراع قائم تحت ظل واحد في هذا الكون فعلينا أن نعمل على الموازاة بين هذين
المتضادين ليكون هناك توان واستقرار في الحياة.
و هناك من األمثلة التي تأخذ الشاعرة بها في الطباق بين األفعال تقول:
ال تبك الدمعة أكبر من جفنك
ال تضحك الضحكة أضيق من صدرك
ال تبحث في الظهر عن تابع فظلك أيضا قد خذلك.)4(...
يتجلى الطباق هنا في لفضتي "تبك تضحك " فهي مثال واضح عن المطابقة بين فعلين
جاءت بصيغة محكمة و لغة فيها من الجماليات الكثير ،التي تأخذ المتلقي إلى عمق هذه
القصاصة ليتفاعل إثرها مع روح هذا العمل.
نخلص إلى أن الشاعرة أجادت الصياغة هنا باعتمادها على هذه التقنية التي تعد أداة
تساعد على إنسجام عبارات هذه التوقيعات و تالحمها بهذا التناغم أيضا.
حاولت الشاعرة أيضا أن تطرق بابا آخر من أبواب هذه الصور البالغية لتكشف عنجمال
هذه التقنية كالجناس ونعني به « هو أن يتشابه اللفظان قي النطق ويختلفا في المعنى ...وهو
نوعان :تام :وهو ما إتفققيه اللفظان في أمور أربعة هي :نوع الحرف ،وشكلها ،وعددها،
وترتيبها .وغير تام :و هو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من األمور األربعة المتقدمة »(.)1
فلعلها بمجاراة هذا النوع من الفنون حاولت أن تجسد للمتلقي ظاهرة تجذبه بها تتضافر
بذلك النغم الموسيقي الذي تصنع به نسجا إيقاعيا متراسال تفتعله في خطابها الشعري بذلك
اإلئتالف أيضا في الحروف و اإلختالف في المدلول ،ومن بين األمثلة التي حاولت أن
تحتوي بها هذه البنية البالغية ما جاء في القصاصة :35
نحن الحفاة على السليقة
نحن الجناة على الحقيقة (.)2
و في قصاصة أخرى:
ما القضية صرنا نضحك ذاك من شر البلية نحن غرب نحن
عرب غيرنا طار و نحن نتجادل في الهوية (.)3
وقع الجناس هنا ما بين األلفاظ الموالية " السليقة ،الحقيقة و غرب ،عرب " ترمي
الشاعرة بالوقوف وراء هذا الفاعلية بصناعة تصوير تعبر فيه عن مآسي الوطن
واألمةفتوحي إليه بهذا التناغم التشكيلي الذي ساهم بشكل أو بآخر إلى تعميق المعنى.
لم تتوقف الشاعرة "لطيفة حرباوي" عند حدود هذا فقط ،بل نراها تحاول تطريز هذا
الوشاح من الوميض و ذلك بالكشف عن العديد من هذه العينات التي تكسب حروف الكلمات
جمالية مثالها القصاصة :97
هكذا علمونا إما أن نجلس في مقدمة األلم
أو في مؤخرة الحلم (.)4
كما تقول أيضا:
و طني وراء الباب يندب حظه الخارق و منذ الطرقة األولى يسأل
من السارق؟ (.)5
مما تقدم نلحظ أن هذه األنواع من الجناس التي تداولتها الشاعرة في شعرها تندرج
أغلبيتها ضمن إطار الجناس الناقص ففي هذه األبيات وقع الجناس مابين كلمة "األلم والحلم"
"،الخارق والسارق" كلها جاءت في قالب إرتجالي ال نلمس فيه الثقل أو التكلف مستمدا من
وقائع هذه الحياة.
( )1عبد هللا معتز :فن البديع ،دار صادر ،بيروت ،ط ،2013 ،1ص .13
( )2المصدر السابق :ص .16
( )3لطيفة حرباوي :قصاصات قلق ،ص .69
( )4المصدر نفسه :ص .38
()5المصدر نفسه :ص.24
64
اآلليات الجمالية لقصيدة الومضة في ديوان " قصاصات قلق " الفصل الثاني
نستنتج في األخير إلى أن الشاعرة "لطيفة حرباوي" أنها قد أضفت بهذا الجزء البالغي
جماال و بها ًء على أطر هذه القصاصات التي تحيط أسسها بقوة الخيال والتعبير المجازي.
65
خـــاتـــمـــــة
خاتمة
حاولنا في هذه الدراسة رصد أهم الجماليات اللغوية و المعنوية التي تضمنها ديوان
قصاصات قلق ،محاولين أيضا تسليط الضوء على بعض القضايا ووضعها في صورة شاملة
و بهذا فمجموع ثمرات ذلك الجهد أو النتائج نلخصها في النقاط االتية:
عبرت القصيدة العربية في صدح رحلتها بمجموعة من األشكال الشعرية إلى أن
ظهرت قصيدة الومضة و هي جنس شعري يتماشى مع روح العصر مموج بنوع من
التكثيف و الغموض ليرسم الشاعر من البيت الواحد قصيدة متكاملة.
وظفت الشاعرة مجموعة متنوعة من القضايا التي تالمس بها واقع األمة العربية
منها ماجاء على مرأى البعد السياسي و اإلجتماعي و كذا طابع السخرية فحاولت بهذه
المنتجات الفنية أن تلقي وقائع هذا الزمن بطريقة تنشد بها ذلك القلق و الثورة التي تجتاح
نفسها.
أبدعت الشاعرة في نقل ستائر هذه الرؤية الجمالية و ذلك في خلق شكال فنيا
تنقش به ينابيع ربوع الشعرالمعاصر.
حاولت الشاعرة بالتنويع في شكل الكتابة لتتخذ بهذا التوزيع في شكل قصاصاتها
موطنا تأخذ منه تشكيال بصريا بمثابة لوحة فنية تفسح بجمالياتها ذوقا و داللة للقارئ.
إ عتمدت الشاعرة " لطيفة حرباوي " على توظيف بعض التقنيات الجمالية لتمنح
هذه النصوص الشعرية طعما خاصا وتشير بطابع جمال تلك اللغة عن القلق الذي يقبع وراء
صدى تلك النفس في أخذها بألوان تلك األشكال الشعرية.
شكل االنزياح و الرمز و المفارقة عنصرا فعاال في أبنية هذه القصاصات
الشعرية حيث أخذت الشاعرة هذه األشكال في طابع جمالي يغلب عليه التناقض اللغوي.
لعبت الحقول الداللية و الفنون البديعية دورا هاما في تنويع هذا النتاج الشعري
فأضافت بذلك المؤلفة نوعا من التناغم و االنسجام في موسيقى هذه القصاصات.
الشاعرة " لطيفة حرباوي " بهذه القصاصات الموقعة تتحفنا بجمال ألوان هذه
الروح الشعرية ،فهي ت شدو في رياحين هذا الواقع و آالم األمة و آمالها وكل تطلعاته
فصاغت جدارها بأسلوب جمالي جذاب يحمل الكثير من جماليات اللغة التي ترسم بأنامل ذلك
الحرف أبلغ المشاهد و الصور.
يمكننا القول في آخر هذه الدراسة أن هذا الديوان هو بمثابة قصة متكاملة األجزاء
حاولت أن تم زج الشاعرة فيه الكثير من الرسائل التي تعكس بها نبض هذا الوطن بهذا القلم
المبدع و اإلحساس الثائر على الظلم.
82
مـلـحـق
نبذة عن حياة الشاعرة
" لطيفة حرباوي "
ملحق
ملخص
قصيدة الومضة هي نسق شعري جديد قائم على التشكيل المركز الذي يبرق
بالتلميح في سماء الساحة األدبية ليختصر بها الشاعر المعاصر كل طاقات اإلبداع و
هذا ما سارت عليه الشاعرة "لطيفة حرباوي " في ديوانها "قصاصات قلق " فهي لبنة
من لبنات هذا العصر إذ شكلت بجماليات تلك األوراق الشعرية أفقا جماليا تنقش
بإشاراته و رموزه و مفارقاته شكال فنيا ناطقا بلوحات مفعمة بالوجازة و التكثيف و
اللغة اإليحائية الجمالية.
Résumé
Le poème De « El wamdha » est un nouveau style de
poésie, basé sur la composition du centre qui brille en faisant
allusion dans le ciel de la scène littéraire pour écarter le poète
contemporain de toutes les compétences de créativité et c'est ce
que la poétesse « Latifa Harbawi » dans son bureau Les feuilles
poétiques sont esthétiquement agréables, embellies de signes, de
symboles et de paradoxes, sous une forme artistique, avec des
Symboles pleins d'audace, d'intensification et de langage inspirant
esthétique.