You are on page 1of 204

‫جامعة البحرين‬

‫كلية اآلداب‬

‫قسم اللغة العربية والدراسات اإلسالمية‬

‫معال الثقافة اإلسالمية‬


‫تأليف‬

‫د‪ .‬باسم عامر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عدنان زرزور‬ ‫د‪ .‬عبد الستار اهليتي‬

‫د‪ .‬راشد العسريى‬ ‫د‪ .‬عمر العاني‬ ‫د‪ .‬طه الكبيسي‬

‫د‪ .‬رقية العلواني‬ ‫د‪ .‬أمحد خبيت‬ ‫د‪ .‬مسري نقد‬

‫د‪ .‬حممود السيدداود‬

‫‪ 2018 / 2017‬م‬
‫‪1‬‬
‫مدخل‬
‫لدراسة الثقافة اإلسالمية‬
‫د‪ .‬عبد الستار اهلييت(*)‬
‫تعريف الثقافة لغة واصطالحا‪:‬‬
‫الثقافة يف اللغة‪:‬‬
‫الثقافة لغة‪ :‬مصدر ثقف يثقف ثقفا وثقافة‪ ،‬ومادة ثقف يف معاجم اللغة وقواميسها تدل على عدة‬
‫معان‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الفهم‪ ،‬واحلذق‪ ،‬والفطنة‪ ،‬وسرعة الفهم والتعلم‪ ،‬جاء يف لسان العرب‪ ،‬يقال‪ :‬ثقف الشيء وهو‬
‫سرعة التعلم‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ تسوية املعوج وما يرتبط به من اإلصالح والتقومي والتهذيب‪ ،‬جاء يف القاموس احمليط‪ ،‬ثقاف‬
‫كسحاب‪ ،‬وككتاب‪ :‬اخلصام واجلالد‪ ،‬وما تسوى به الرماح‪ ،2‬وجاء يف معجم مقاييس اللغة‪ ،‬ويقال‬
‫ثقفت القناة إذا أقمت عوجها‪.3‬‬
‫‪ 3‬ـ احلصول على الشيء والظفر به‪ ،‬جاء يف القاموس احمليط‪ ،‬ثقفه‪ ،‬كسمعه‪ :‬صادفه‪ ،‬أو أخذه أو‬
‫ظفر به‪ ،‬أو أدركه‪ ،‬وجاء يف معجم مقاييس اللغة‪ :‬ويقال ثقفت به إذا ظفرت به‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬
‫وإن أثقف فسوف ترون ابيل‬ ‫فإما تثقفوين فاقتلوين‬
‫فإن قيل‪ :‬فما وجه قرب هذا من األول؟ قيل له‪ :‬أليس إذا ثقفه فقد أمسكه‪ .‬وكذلك الظافر ابلشيء‬
‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم)‪ 4‬وقوله تعاىل (فَِإ َّما‬ ‫وه ْم َح ْي ُ‬
‫ميسكه‪ .‬وهو ما أشار إليه القرآن الكرمي يف قوله تعاىل ( َواقْـتُـلُ ُ‬
‫ب فَ َش ِر ْد ِبِِ ْم َم ْن َخ ْل َف ُه ْم)‪ ،5‬وتعين فإما تصادفنهم وتظفر ِبم فنكل ِبم وغلظ العقوبة‬ ‫َّه ْم ِيف ا ْحلَْر ِ‬
‫تَـثْـ َق َفنـ ُ‬

‫‪ 1‬لسان العرب البن منظور‪ ،‬أبو الفضل مجال الدين بن مكرم بن منظور‪ ،‬دار صادر بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ 1410‬هـ ‪ 1990‬م‪ ،‬ج‪ 9‬ص ‪ 19‬ـ‬
‫‪ 2‬القاموس احمليط للفريوزآابدي‪ ،‬حممد بن يعقوب الفريوزآابدي‪ ،‬دار الفكر بريوت‪ ،‬بدون اتريخ‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪131‬‬
‫‪ 3‬معجم مقاييس اللغة البن فارس‪ ،‬أبو احلسني أمحد بن فارس بن زكراي‪ ،‬حتقيق عبد السالم هارون‪ ،‬طبع احتاد الكتاب العريب‪ ،‬دمشق سوراي ‪ 2003‬م‪ ،‬ج‬
‫‪ 1‬ص ‪382‬‬
‫‪ 4‬سورة النساء آية ‪91‬‬
‫‪ 5‬سورة األنفال آية ‪57‬‬

‫‪2‬‬
‫عليهم‪ ،‬ليعترب ِبم من سواهم من األعداء‪ ،‬فال يقدم أحد على مثل ما فعلوا‪ ،‬ويف هذا يقول القرطيب‪:‬‬
‫ومعىن ثقفتموهم أي أتسرهم وجتعلهم يف ثقاف أو تلقاهم حبال ضعف تقدر عليهم فيها وتغلبهم‪ ،‬يقال‬
‫‪6‬‬
‫ثقفه أثقفه ثقفا أي وجدته‪ ،‬وفالن ثقف أي سريع الوجود ملا يطلبه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ذكر املعجم الوسيط أبهنا من ثقف مبعىن التهذيب‪ ،‬مث عرفها أبهنا‪ :‬العلوم واملعارف والفنون اليت‬
‫يطلب احلذق فيها‪.7‬‬
‫ويبدو أن هذه املعاين كلها متكاملة تسهم يف وضع التصور العلمي للمفهوم االصطالحي للثقافة‬
‫وحتديده‪ ،‬الذي يشمل الفطنة وسرعة الفهم من جهة‪ ،‬والتقومي واإلصالح من جهة أخرى‪ ،‬واحلصول‬
‫على الشيء والظفر به بعد جهد ومثابرة‪.‬‬
‫ولعل أقرب املعاين اللغوية إىل املفهوم االصطالحي للثقافة هو الظفر ابلشيء واحلصول عليه بعد‬
‫جهد وعناء ومتابعة‪ ،‬ألن الثقافة حتتاج إىل جهد مميز حىت تكتمل صورهتا يف بعدها الفكري‬
‫واالجتماعي‪.‬‬
‫الثقافة يف االصطالح‪:‬‬
‫نظرا لكون كلمة الثقافة ذات أبعاد كبرية‪ ،‬شأهنا يف ذلك شأن لفظ الرتبية واملدنية وغريمها من‬
‫املصطلحات اليت جتري على األلسن دون وضوح مدلوالهتا يف أذهان مستعمليها‪ ،‬فقد تعددت‬
‫التعريفات اخلاصة ابلثقافة من الناحية االصطالحية‪ ،‬ويرجع ذلك إىل أن مصطلح الثقافة له ارتباط‬
‫وتداخل علمي ومنهجي مع بقية العلوم والتخصصات األخرى‪ ،‬ولذلك عرف كل متخصص كلمة‬
‫الثقافة تبعا لتخصصه‪ .‬فعلماء الرتبية وعلم النفس ينظرون إليها من وجهة نظر تربوية‪ ،‬وعلماء‬
‫االجتماع اإلنساين ينظرون إليها من زاوية البعد االجتماعي‪ ،‬وعلماء األداين ينظرون إليها من البعد‬
‫الديين الروحي‪ .‬ولذلك كان مفهوم الثقافة من أكثر املفاهيم االصطالحية خضوعا للسجال العلمي‬
‫يف العصور احلديثة‪ .‬وسنحاول ذكر أبرز تلك التعريفات‪.‬‬

‫اجلامع ألحكام القرآن للقرطيب‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن أمحد األنصاري القرطيب‪ ،‬دار احلديث القاهرة ‪ 1423‬هـ ‪ 2002‬م‪ ،‬اجمللد الرابع‪ ،‬ص ‪390‬‬ ‫‪6‬‬

‫املعجم الوسيط‪ ،‬جممع اللغة العربية‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪.98‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪3‬‬
‫فقد عرفها علماء الرتبية أبهنا‪ " :‬جمموعة األفكار واملثل واملعتقدات والعادات والتقاليد واملهارات‬
‫وطرق التفكري ووسائل االتصال واالنتقال وطبيعة املؤسسات االجتماعية يف اجملتمع الواحد "‪.8‬‬
‫وعرفها علماء اإلنسان أبهنا‪ " :‬أسلوب احلياة يف جمتمع ما مبا يشمله هذا األسلوب من تفصيالت‬
‫ال حتصى من السلوك اإلنساين "‪.9‬‬
‫وعرفها كاليد كلوكهن أبهنا ( املرياث االجتماعي الذي حيصل عليه الفرد من جمموعته اليت يعيش‬
‫فيها )‪.10‬‬
‫وعرفها معجم اجملمع الفرنسي أبهنا ( العبقرية اإلنسانية مضافة إىل الطبيعة بغية حترير عطاءاهتا‬
‫وإغنائها وتنميتها )‪.11‬‬
‫أما بعض املفكرين املسلمني فقد عرفها أبهنا‪ :‬الرتاث احلضاري والفكري يف مجيع جوانبه النظرية‬
‫والعملية الذي متتاز به األمة وينسب إليها‪ ،‬ويتلقاه الفرد منذ ميالده وحىت وفاته‪.12‬‬
‫وأخريا عرفتها املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم أبهنا‪ :‬إجناز تراكمي متنام مستمر اترخييا‪ ،‬فهي‬
‫بقدر ما تضيف من اجلديد حتافظ على الرتاث السابق‪ ،‬وجتدد من قيمه الروحية والفكرية وتوحد معه‬
‫هوية اجلديد روحا ومسارا ومثال‪ ،‬وهذا هو أحد حمركات الثقافة‪.13‬‬
‫وقد عرف بعض الباحثني الثقافة أبهنا‪ :‬األخذ من كل علم بطرف‪ .‬واحلقيقة أن هذا التعريف إمنا هو‬
‫يف األصل تعريف لكلمة األدب كما عرفه ابن خلدون فقال عنه أبنه‪ :‬األخذ من كل فن بطرف‪،‬‬
‫ونظرا لوجود عالقة بني املصطلحني من حيث أن كال منهما له ارتباط وثيق بفكر الشعوب وتقاليدها‬
‫وأعرافها‪ ،‬فالثقافة أدب الروح‪ ،‬واألدب وعاء هذه الثقافة اليت حيملها إىل اآلخرين‪ ،‬ولوجود هذه‬
‫العالقة عدى بعض الباحثني مفهوم األدب إىل مفهوم الثقافة‪.‬‬

‫‪ 8‬دراسات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬رجب سعيد شهوان وآخرون‪ ،‬مكتبة الفالح الكويت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1401‬هـ ‪1981‬م‪ ،‬ص ‪8‬‬
‫‪ 9‬مفهوم الثقافة‪ ،‬إبراهيم خورشيد‪ ،‬مقال منشور مبجلة الفيصل‪ ،‬العدد العشرون‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪ 10‬اإلنسان يف املرآة ( عالقة االنثروبولوجي ابحلياة املعاصرة ) ترمجة شاكر مصطفى‪ ،‬املكتبة األهلية بغداد ‪1964‬م‪ ،‬ص ‪37‬‬
‫‪ 11‬تالقي الثقافات والعالقات الدولية‪ ،‬جان فرميون‪ ،‬جملة الفكر العريب املعاصر بريوت‪ ،‬العدد ‪ ،1983 29‬ص ‪85‬‬
‫‪ 12‬دراسات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬رجب سعيد شعوان وآخرون‪ ،‬ص ‪8‬‬
‫‪ 13‬اخلطة الشاملة للثقافة العربية‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬منشورات املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم‪ ،‬الكويت ‪ ،1986‬ص ‪ 40‬ـ ‪41‬‬

‫‪4‬‬
‫وال شك أن تعدد التعريفات هلذا املصطلح يشري إىل مدى التداخل الكبري بينه وبني املصطلحات‬
‫والعلوم األخرى‪ ،‬ابعتبار أن الثقافة ظاهرة إنسانية اجتماعية تشمل اإلنسان نفسه بصفته فردا‪،‬‬
‫وتشمل التجمعات البشرية بعمقها الفكري والروحي والديين واخللقي‪ ،‬فهي يف الوقت الذي حتافظ‬
‫فيه على الرتاث السابق لألمم‪ ،‬فإهنا جتدد تلك القيم الروحية والفكرية‪ ،‬لتنتج منه هوية مستقلة ومميزة‬
‫ألفرادها‪.‬‬
‫التعريف املختار للثقافة‪:‬‬
‫بعد ذكر التعريفات املتعددة واملتنوعة للثقافة‪ ،‬ومن خالل تلك التعريفات ميكن لنا أن نعرف الثقافة أبهنا‪:‬‬
‫جمموعة املبادئ واألفكار والنظم واألعراف والقيم وغريها اليت تؤمن ِبا أمة من األمم‪ ،‬ومتيزها عن غريها‪.‬‬
‫ونرى أن هذا التعريف ميكن أن يكون جامعا مانعا‪ ،‬من حيث إنه يشتمل على ثالثة عناصر أساسية‪ :‬ميثل‬
‫العنصر األول خلفية فكرية تتضمن الفكر والدين والعرف واخللق‪ ،‬وميثل العنصر الثاين قناعات عقلية تتضمن‬
‫اإلميان بتلك اخللفية‪ ،‬وميثل العنصر الثالث خصائص ومميزات تشكل الشخصية واهلوية لكل أمة من األمم‪ .‬وِبذا‬
‫متثل الثقافة بعدا فكراي وروحيا‪ ،‬وتعمل على تشكيل اهلوية اليت ينتمي إليها أفرادها داخل األمة‪ ،‬فثقافة كل أمة‬
‫هويتها‪ ،‬وثقافة كل أمة شخصيتها اليت متيزها عن غريها‪.‬‬
‫مفهوم الثقافة اإلسالمية‪:‬‬
‫مصـ ـ ــطلح الثقافة اإلسـ ـ ــالمية مركب وصـ ـ ــفي أصـ ـ ــبح لقبا للداللة على علم معني وهو مكون من‬
‫كلمتني مها ( الثقافة واإلسـ ـ ـ ـ ــالم ) وقد بينا سـ ـ ـ ـ ــابقا مفهوم الثقافة من خالل التعريف املختار الذي‬
‫اعتمدانه يف هذه الدراسـ ـ ـ ــة‪ ،‬أما اإلسـ ـ ـ ــالم فيعين يف اللغة االنقياد واخلضـ ـ ـ ــوع واالسـ ـ ـ ــتس ـ ـ ـ ـالم‪ ،‬ويف‬
‫االص ـ ــطالح‪ :‬دين ي الذي أنزله على رس ـ ــوله حممد ص ـ ــلى ي عليه وس ـ ــلم والرس ـ ــل من قبله هلداية‬
‫الناس وإرشـ ـ ـ ــادهم إىل طريق احلق يف اجلانب العقدي واألخالقي والتشـ ـ ـ ـريعي‪ ،‬عمال بقوله تعاىل (إِ َّن‬
‫الدين ِع ْن َد َِّ‬
‫اَّلل ِْ‬
‫اإل ْس َالم)‪.14‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ويتمثل اإلس ــالم ابألركان اخلمس ــة اليت بينها النيب ص ــلى ي عليه وس ــلم بقوله ( بين اإلس ــالم على‬
‫مخس‪ :‬شــهادة أن ال إله إال ي وأن حممدا رســول ي‪ ،‬وإقام الصــالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصــوم رمضــان‪،‬‬

‫سورة آل عمران آية ‪19‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪5‬‬
‫وحج البيت من اسـتطاع إليه سـبيال )‪ .15‬وال شـك أن إضـافة كلمة اإلسـالم جعل هلا خصـوصـية متيزها‬
‫عن غريها من الثقافات األخرى‪.‬‬
‫وبنـاء على ذلـك عرفـت الثقـافـة اإلس ـ ـ ـ ـ ــالميـة بتعريفـات متعـددة‪ ،‬منهـا ( منهج احليـاة اليت حييـاهـا‬
‫املسـلمون يف مجيع جماالت حياهتم وفقا لإلسـالم وتصـوراته)‪ .16‬ومنها ( جمموعة الصـفات واخلصـائص‬
‫النفسية والعقلية والفكرية واخللقية والسلوكية اليت تتميز ِبا الشخصية اإلسالمية املكتسبة من معرفة‬
‫مقومات األمة اإلس ـ ــالمية العامة ومقومات الدين اإلس ـ ــالمي واملس ـ ــتفادة من القرآن الكرمي والس ـ ــنة‬
‫النبوية الصحيحة‪ ،‬واجتهادات العلماء واملفكرين واملتفاعلة مع واقعنا املعاصر أتثريا وأتثرا )‪.17‬‬
‫أما التعريف املختار للثقافة اإلسالمية فهو‪ :‬جمموعة املبادئ واألحكام والنظم والقيم املستمدة من‬
‫القرآن الكرمي والسنة النبوية واجتهادات العلماء‪ ،‬اليت تؤمن ِبا األمة املسلمة‪ ،‬ومتيزها عن غريها‪.‬‬
‫أهمية الثقافة اإلسالمية‪:‬‬
‫تكمن أمهية الثقافة اإلسالمية فيما أييت‪:‬‬
‫‪ -1‬تعمل الثقافة اإلسـ ـ ــالمية على بناء شـ ـ ــخصـ ـ ــية املسـ ـ ــلم وحتصـ ـ ــينها ضـ ـ ــد التيارات املعادية‬
‫لإلسالم واألمة يف عصر الصراعات اإليديولوجية‪ ،‬مما جيعلها ضرورة اجتماعية وفكرية‪.‬‬
‫‪ -2‬تعمل الثقافة اإلس ــالمية على حترير املس ــلم من التص ــورات املنحرفة والفاس ــدة‪ ،‬وترتقي به‬
‫إىل املس ــتوى الذي يليق به بص ــفته إنس ــاان‪ ،‬بواس ــطة منهج متكامل للحياة وما حيدث فيها‬
‫يف شىت اجملاالت مؤيدا ابلرباهني والوقائع‪.‬‬
‫‪ -3‬تعمل الثقافة اإلسـ ـ ــالمية على بناء التصـ ـ ــور الصـ ـ ــحيح للعقل اإلنسـ ـ ــاين‪ ،‬يف ضـ ـ ــوء الفهم‬
‫الصـحيح لكتاب ي وسـنة رسـوله‪ -‬صـلى ي عليه وسـلم‪ -‬والتفقه يف أحكام الدين‪ ،‬حىت‬
‫يكون عطاؤه يف احلياة علما انفعا وعمال صاحلا‪.‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪11‬‬ ‫‪15‬‬

‫دراسات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬صاحل ذايب هندي‪ ،‬دار الفكر للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ص ‪19‬‬ ‫‪16‬‬

‫نظرات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬حمفوظ عزام‪ ،‬دار اللواء للنشر والتوزيع‪ ،‬الرايض‪ ،‬ص ‪30‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ -4‬تعمل الثقافة اإلس ـ ـ ـ ــالمية على رفد املس ـ ـ ـ ــلم ابملعرفة الدينية املتكاملة املتمثلة يف األحكام‬
‫واملقاصد الشرعية‪ ،‬من أجل حتقيق الوعي الصحيح والسلوك السليم‪.‬‬
‫‪ -5‬تعمل الثقافة اإلس ـ ـ ـ ــالمية على الوص ـ ـ ـ ــول ابإلنس ـ ـ ـ ــان املس ـ ـ ـ ــلم إىل أعلى درجات الكمال‬
‫البشـ ــري‪ ،‬من خالل االطالع على جتربة اإلسـ ــالم احلضـ ــارية‪ ،‬واملقارنة مع واقع املسـ ــلمني‬
‫املعاصر وما أصاِبم من التخلف والضياع والغزو الفكري والثقايف‪.‬‬
‫‪ -6‬تعمــل الثقــافــة اإلس ـ ـ ـ ـ ــالميــة على التوفيق بني حقــائق الــدين والعلم‪ ،‬ليكون الــدين موجهــا‬
‫ومرشدا للعلوم واملعارف‪ ،‬سعيا إىل خري الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫‪ -7‬تعمل الثقافة اإلســالمية على إحياء االنتماء إىل اإلســالم دينا وحضــارة‪ ،‬وتفعيل االجتاهات‬
‫اإلصالحية ودورها يف عالج الواقع األليم حلال األمة اإلسالمية‪.‬‬
‫وبذلك تعمل الثقافة اإلســالمية على التفاعل مع احلياة املعاصــرة والتطور احلضــاري احلاصــل فيها‪،‬‬
‫مما جيعلها حمققة لفكرة األصــالة واملعاصــرة اليت تعين ( اجلمع بني األصــول والثوابت الشــرعية اليت ال‬
‫تتغري بتغري األزمـان والبياـات‪ ،‬وبني املتغريات اليت تتس ـ ـ ـ ـ ــم ابملرونـة والتطور ) مبـا جيعلهـا مواكبـة لركـب‬
‫احلياة املعاصرة مع االلتزام مبا جاء به اإلسالم عقيدة وشريعة وسلوكا وأخالقا‪.‬‬
‫خصائص الثقافة اإلسالمية‪:‬‬
‫ُجيمع الباحثون يف جمال الثقافة اإلسالمية على أهنا تتميز عن غريها من الثقافات األخرى جبملة من‬
‫اخلصائص واملميزات‪ ،‬وختتلف وجهات نظرهم يف عدد تلك اخلصائص‪ ،‬فيوصلها بعضهم إىل أكثر‬
‫من عشر خصائص وخيتصرها البعض اآلخر يف ثالث أو أربع خصائص‪ ،‬وسنذكر هنا أبرز تلك‬
‫اخلصائص‪:‬‬
‫اخلاصية األول‪ :‬الربانية‪:‬‬
‫وتعين أهنا ص ــادرة من عند ي تعاىل ومنتس ــبة إليه‪ ،‬من حيث كوهنا امتدادا وش ــرحا وتعليال للدين‬
‫والش ـريعة الرابنية اليت أنزهلا ي تعاىل على نبيه حممد صــلى ي عليه وســلم‪ ،‬فهي من حيث مصــدرها‬
‫ليسـت من وضـع البشـر الذين ينسـاقون بطبيعتهم البشـرية إىل عوامل النقص والضـعف وضـغط املنفعة‬
‫واهلوى والعص ـ ـ ـ ــبية‪ .‬ولذلك فإن تص ـ ـ ـ ــورها للوجود والكون مس ـ ـ ـ ــتمد من ي تعاىل‪ ،‬فهو الذي جعل‬
‫‪7‬‬
‫اإلنس ـ ـ ــان خليفة يف األرض‪ ،‬وهو الذي س ـ ـ ــخر له ما يف الكون من أجل فائدته ومنفعته‪ ،‬وهو الذي‬
‫أمره ابلعبــادة والعمــارة وفق التكليف الرابين‪ ،‬ويف هــذا كلــه تكرمي من ي تعــاىل لإلنسـ ـ ـ ـ ـ ــان وتكليف‬
‫وتشريف له‪.‬‬
‫وِبذا الفهم تكون الثقافة اإلسالمية رابنية املصدر ورابنية التشريع ورابنية اهلدف‪ ،‬فهي رابنية املصدر ألهنا‬
‫صادرة من عند ي تعاىل ‪ ،‬وهي رابنية التشريع ألن التوجيهات اليت جاءت ِبا إمنا هي مجلة من األحكام‬
‫واألوامر الشرعية امللزمة‪ ،‬وهي رابنية اهلدف والغاية ألن مصري اإلنسان وهنايته إىل ي تعاىل‪.‬‬
‫ويرتتب على كون الثقافة اإلسالمية رابنية أمران أساسييان‪ ،‬مها‪:18‬‬
‫الكمال واخللو من النقص‪ ،‬فهي صادرة عن ي تعاىل املتصف ابلكمال واجلالل يف الذات‬ ‫أ‪-‬‬
‫والصفات واألفعال‪ ،‬خبالف الثقافات األخرى الصادرة عن اجلهد البشري الذي يتصف‬
‫ابجلهل واالحنياز وعدم احليادية‪ ،‬فالبشر معرضون الرتكاب الظلم‪ ،‬حماابة لقريب أو صديق‬
‫أو نكاية بعدو أو اتباعا هلوى‪ ،‬وغري ذلك من عوارض احملاابة واجلور‪ ،‬أما ي تعاىل فمتصف‬
‫اَّللُ أَنَّهُ َال إِلَهَ إَِّال ُه َو‬
‫ابلعدل يف ذاته ويف تشريعاته ويف أحكامه‪ ،‬بدليل قوله تعاىل ‪َ ‬ش ِه َد َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ‪.19‬‬ ‫َوال َْم َالئ َكةُ َوأُولُو الْعل ِْم قَائما ِابلْق ْسط َال إلَهَ إ َّال ُه َو ال َْع ِز ُيز ا ْحلَك ُ‬
‫ب‪ -‬العصمة من التناقض‪ ،‬ذلك أن الثقافات واملناهج واألنظمة البشرية الوضعية تعاين دائما‬
‫من التناقض والتطرف ( إفراطا أو تفريطا ) يف مجلة مواقفها الروحية واملادية‪ ،‬أما الثقافة‬
‫اإلسالمية فتتميز ابلتوافق التام بني توجيهاهتا وتشريعاهتا وبني حاجات اإلنسان ومتطلبات‬
‫حياته‪ ،‬فاهلل تعاىل هو اخلالق هلذا الكائن البشري وهو املوجه حلياته واملصلح ألحواله‪ ،‬مما‬
‫يثبت التوافق التام بني اخللق والتوجيه‪ ،‬كما قال تعاىل (أ ََال يَـ ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َق َو ُه َو اللَّ ِط ُ‬
‫يف‬
‫ري )‪.20‬‬ ‫ِْ‬
‫اخلَب ُ‬
‫وِبذا تكون الثقافة اإلسالمية متفقة مع الفطرة اليت فطر ي الناس عليها‪ ،‬وأنزل الدين من أجل‬
‫يل ِخلَل ِْق‬ ‫ِ‬ ‫ت َِّ َّ‬ ‫ك لِ ِ‬
‫لدي ِن َحنِيفا فِط َْر َ‬ ‫حتقيقها‪ ،‬كما قال تعاىل (فَأَقِ ْم َو ْج َه َ‬
‫اَّلل ال ِيت فَطََر الن َ‬
‫َّاس َعلَْيـ َها َال تَـ ْبد َ‬
‫دراسات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬جمموعة من أساتذة الدراسات اإلسالمية جبامعة البحرين‪ ،‬ص ‪17‬‬ ‫‪18‬‬

‫سورة آل عمران آية ‪18‬‬ ‫‪19‬‬

‫سورة امللك آية ‪14‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪8‬‬
‫اَّلل َذلِ َ ِ‬
‫الدين الْ َقيِم ول ِ‬
‫َك َّن أَ ْكثَـ َر الن ِ‬
‫َّاس َال يَـ ْعلَ ُمو َن)‪ ،21‬وِبذا تشري اآلية إىل التوافق الدقيق بني أصل‬ ‫َِّ‬
‫ك ُ َُ‬
‫اخللق ومنهج اإلصالح‪ ،‬فإذا كان أصل اخللق ومصدره هو ي تعاىل‪ ،‬فإنه ابلضرورة ينبغي أن يكون‬
‫منهج اإلصالح والتوجيه صادرا من عند ي تعاىل أيضا‪ ،‬وخبالفه سيضطرب حال اإلنسان ويعيش يف‬
‫تناقض وتطرف‪ ،‬وهو ما نشاهده يف املناهج البشرية وما نلحظ عليها من التناقض والتطرف‬
‫واالضطراب‪.‬‬
‫اخلاصية الثانية ـ الشمول‪:‬‬
‫ويعين ذلك أن الثقافة اإلس ــالمية قدمت للبشـ ـرية منهجا ش ــامال لكل ما حيتاج إليه اإلنس ــان من‬
‫حيث التصور االعتقادي‪،‬والسـ ـ ـ ــمو األخالقي‪،‬والتشريع العملي لتنظيم السلوك والتصرفات‪،‬فالثقافة‬
‫اإلس ــالمية القائمة على التص ــور اإلس ــالمي ش ــاملة لكل حقول النش ــاط الفكري والواقعي اإلنس ــاين‬
‫وفيها من القواعد واملناهج واخلص ـ ــائص ما يكفل منو هذا النش ـ ــاط وحيوتيه دائما‪،‬مما جيعلها ص ـ ــاحلة‬
‫للتطبيق يف كل زمان ومكان‪ .‬وهي مع ذلك ش ـ ـ ـ ــاملة ملا حيتاجه اإلنس ـ ـ ـ ــان يف مجيع مراحل حياته من‬
‫اب ِم ْن َش ْي ٍء )‪.22‬‬ ‫الوالدة حىت الوفاة‪ .‬ويف هذا يقول ي تعاىل (ما فَـ َّرطْنَا ِيف ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫َ‬
‫ويتمثل الشـ ــمول العقائدي يف أهنا قدمت تفسـ ـريا علميا دقيقا لكل القضـ ــااي الكربى اليت شـ ــغلت‬
‫الفكر اإلنس ــاين وما تزال تش ــغله‪،‬وأنقذته من متاهات الفلس ــفات والنحل املتضـ ـاربة قدميا وحديثا يف‬
‫تفسـري قضـية األلوهية والكون واإلنسـان واملصـري‪،‬من خالل بيان حقيقة التوحيد الذي يعطينا تفسـريا‬
‫واض ـ ـ ــحا لوجود هذا الكون ولكل ظاهرة من ظواهر احلياة‪،‬ومن خالل اإلجابة عن األس ـ ـ ــالة اجلدلية‬
‫الثالثة اليت ش ـ ـ ـ ــغلت عقول الفالس ـ ـ ـ ــفة واملفكرين‪ :‬من أين ؟ وملاذا ؟ وإىل أين ؟ اليت تعين من أين‬
‫خلقنا ؟ وملاذا خلقنا ؟ وإىل أين املصـ ــري ؟ حيث قدمت الثقافة اإلسـ ــالمية تفس ـ ـريا علميا دقيقا هلذه‬
‫ِ ِ ِ ِ ٍ ِ‬ ‫األس ــالة اجلدلية‪ ،‬فقال تعاىل عن مص ــدر اخللق (فَـ ْليَـ ْنظُ ِر ِْ‬
‫اإلنْ َس ـا ُن م َّم ُخل َق ُخل َق م ْن َماء َداف ٍق َخيْ ُر ُ‬
‫ج‬

‫سورة الروم آية ‪30‬‬ ‫‪21‬‬

‫سورة األنعام آية ‪39‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪9‬‬
‫الرتائِ ِ‬
‫ب)‪ ،23‬وهي إجابة علمية خمربية دقيقة تتفق مع أصـ ـ ـ ــل اخللق وطبيعته‪،‬ومتثل‬ ‫صـ ـ ـ ـل ِ‬
‫ْب َو ََّ‬ ‫ِم ْن بَ ْ ِ‬
‫ني ال ا‬
‫سبقا علميا للعلوم املخربية احلديثة‪.‬‬
‫ون (‪َ )56‬ما أُ ِري ُد ِم ْنـ ُه ْم ِم ْن‬ ‫اإلنْس إَِّال لِيـ ْعب ُد ِ‬
‫ت ا ْجل َّن َو ِْ َ َ ُ‬
‫وعن هدف اخللق وغايته قال تعاىل (وما َخلَ ْق ُ ِ‬
‫ََ‬
‫ون )‪ ،24‬حيـث جعـل غـايـة اخللق عبـادة ي تعـاىل اليت تش ـ ـ ـ ـ ـمـل تنظيم عالقـة‬ ‫ِر ْز ٍق ومـا أُ ِريـ ُد أَ ْن يط ِْعم ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫ََ‬
‫ك لِلْم َالئِ َك ِة إِِين ج ِ‬
‫اع ٌل‬ ‫اإلنســان بربه‪،‬وبناء الكون وعمارته املتمثل ابخلالفة يف قوله تعاىل ( َوإِ ْذ قَ َ‬
‫َ‬ ‫ال َربا َ َ‬
‫َك‬‫سل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ض َخلِي َفة قَالُوا أ ََجتْعل فِيها من يـ ْف ِسـ ـ ُد فِيها ويسـ ـ ِف ُ ِ‬ ‫ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ك الد َماءَ َوَْحن ُن نُ َسـ ـب ُح حبَ ْمد َك َونـُ َقد ُ‬ ‫َ ََ ْ‬ ‫َُ َ َْ ُ‬
‫ال إِِين أَ ْعلَ ُم َما َال تَـ ْعلَ ُمو َن )‪.25‬‬ ‫قَ َ‬
‫ِ‬ ‫وأما عن هناية املخلوقات فقد جاء قوله تعاىل ( ُك ال نَـ ْف ٍ ِ‬
‫ورُك ْم يَـ ْو َم‬
‫ُج َ‬ ‫س َذائ َقةُ ال َْم ْوت َوإِ َّمنَا تُـ َوفَّـ ْو َن أ ُ‬
‫اع الْغُ ُروِر )‪ ،26‬وعن جزائه‬ ‫ِح َع ِن النَّا ِر َوأُ ْد ِخ َل ا ْجلَنَّةَ فَـ َق ْد فَ َ‬
‫از َوَما ا ْحلَيَاةُ ال ادنْـيَا إَِّال َمتَ ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫الْقيَ َامة فَ َم ْن ُز ْحز َ‬
‫ال َذ َّرةٍ َش ًّرا يَـ َرهُ )‪.27‬‬ ‫ال َذ َّرةٍ َخ ْريا يَـ َرهُ َوَم ْن يَـ ْع َم ْل ِمثْـ َق َ‬
‫قال تعاىل (فَ َم ْن يَـ ْع َم ْل ِمثْـ َق َ‬
‫ويتمثل الشـمول العقائدي أيضـا يف أهنا ال تعتمد يف ثبوهتا على الوجدان أو الشـعور وحده‪،‬كما هو‬
‫شــأن الفلســفات اإلش ـراقية واملذاهب الباطنية‪،‬وكما هو شــأن املســيحية اليت ترفض تدخل العقل يف‬
‫العقيدة رفضـا ابات‪،‬حبيث ال تؤخذ إال ابلتسـليم املطلق‪،‬على حد قوهلم‪ :‬اعتقد وأنت أعمى‪،‬وكذلك ال‬
‫تعتمد على العقل وحده كما هو ش ــأن الفلس ــفات البش ــرية اليت تتخذ العقل وس ــيلتها الوحيدة ملعرفة‬
‫ألغاز الكون ومعامل الغيب‪،‬وإمنا تعتمد على الفكر والشـ ـ ــعور معا‪ ،‬أو العقل والقلب مجيعا‪ ،‬ابعتبارمها‬
‫أداتني متكاملتني من أدوات املعرفة اإلنسانية‪.‬‬
‫ويتمثل الشـ ـ ـ ــمول العقائدي يف أهنا قدمت تعريفا ابلوجود اإلهلي والوحدانية والتفرد ابخللق ومجيع‬
‫الص ـ ــفات اإلهلية اليت تش ـ ــعر فيها النفس اإلنس ـ ــانية بعظمة ي تعاىل دائما وحتس برقابته يف كل قول‬
‫وم َال َأتْ ُخـ ُذهُ ِس ـ ـ ـ ـ ـنَـةٌ َوَال نَـ ْوٌم لـَهُ َمـا ِيف‬
‫اَّللُ َال إِلـَهَ إَِّال ُه َو ا ْحلَ اي الْ َقيا ُ‬
‫ويف كــل عمــل‪،‬عمال بقولــه تعــاىل ( َّ‬

‫سورة الطارق آية ‪ 5‬ـ ‪7‬‬ ‫‪23‬‬

‫سورة الذارايت آية ‪ 56‬ـ ‪57‬‬ ‫‪24‬‬

‫سورة البقرة آية ‪30‬‬ ‫‪25‬‬

‫سورة آل عمران آية ‪185‬‬ ‫‪26‬‬

‫سورة الزلزلة آية ‪ 7‬ـ ‪8‬‬ ‫‪27‬‬

‫‪10‬‬
‫ني أَيْ ِدي ِه ْم َوَما َخ ْل َف ُه ْم َوَال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َم ْن َذا الَّذي يَ ْشـ ـ ـ ـ ـ َف ُع ع ْن َدهُ إَِّال مِِ ْذنِه يَـ ْعلَ ُم َما بَ ْ َ‬ ‫سـ ـ ـ ـ ـماو ِ‬
‫ات َوَما ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ال َّ َ َ‬
‫ودهُ ِح ْفظُ ُه َما َو ُه َو ال َْعلِ اي‬ ‫سـماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوَال يَـاُ ُ‬‫ات َو ْاأل َْر َ‬ ‫ُحييطُو َن ب َشـ ْيء م ْن علْمه إَِّال ِمبَا َشـاءَ َوسـ َع ُك ْرسـياهُ ال َّ َ َ‬
‫ال َْع ِظيم)‪.28‬‬
‫أما الش ـ ـ ــمول األخالقي فيتمثل يف كوهنا عملية هتذيب للمش ـ ـ ــاعر واألحاس ـ ـ ــيس الكامنة يف النفس‬
‫البشـ ـرية‪،‬وختليص ــها من دوافع الش ــر واحلقد واحلس ــد واألاننية‪،‬ذلك أن مفهوم األخالق يف اإلس ــالم‬
‫أوســع مما جاءت به الدايانت والفلســفات األخرى‪،‬حيث يدخل يف إطارها مجيع الص ـفات اإلنســانية‬
‫احلميدة واحلس ـ ــنة‪،‬بل تتعدى ذلك إىل عالقة اإلنس ـ ــان مع الكائنات احلية األخرى‪ .‬يف الوقت الذي‬
‫تقتص ـ ـ ـ ـ ــر األخالق يف اجملتمعـات األوربيـة املعـاص ـ ـ ـ ـ ــرة على جوانـب معينـة من احليـاة‪،‬وحتكمهـا األاننيـة‬
‫واملصلحة الذاتية‪.‬‬
‫ويتمثل الش ـ ــمول يف األخالق اإلس ـ ــالمية يف أهنا مل تقتص ـ ــر على إص ـ ــالح ظاهر اإلنس ـ ــان فقط‪،‬بل‬
‫وذم الرايء‬ ‫عملت على إصـالح الباطن ابعتباره األسـاس لكل إصـالح‪،‬فشـملت التواضـع واإلخال‬
‫والكرب والنفاق والبغض ــاء‪،‬وغريها من األخالق ذات العالقة املباش ــرة ابلقلب‪،‬وهذه الش ــمولية للقيم‬
‫هلـا أثرهـا املبـاش ـ ـ ـ ـ ــر على رعـايـة احلقوق ومراقبتهـا وحراس ـ ـ ـ ـ ــتهـا يف اجملتمعـات وهو مـا تفتقـده املنظومـة‬
‫الغربية‪ .‬ذلك أن اإلنسـان يف ظل القوانني ال تلزمه سـلطة على ضـمريه‪،‬لذلك قد يقوم ابرتكاب أبشع‬
‫احلمـاقـات مـا دام بعيـدا عن نظر القـانون وال يقع حتـت طـائلتـه‪،‬يف الوقـت الـذي تكون فيـه األخالق‬
‫اإلسـ ــالمية املعتمدة على الوحي واملعتقد اإلمياين كفيلة بتحفيز الضـ ــمري اخللقي الذي يدفع اإلنسـ ــان‬
‫إىل السلوك احلسن والتصرف الفاضل‪.‬‬
‫أما الش ــمول التش ــريعي فقد اس ــتوعب احلياة بزماهنا ومكاهنا‪،‬ومل يغادر ص ــغرية وال كبرية إال ووض ــع‬
‫هلا نظاما حمكما متوازان من األحكام والتشـريعات اليت اتسـعت حلياة اإلنسـان كلها وتناولتها من مجيع‬
‫جوانبها االجتماعية واالقتص ــادية والس ــياس ــية‪،‬مما أض ــفى عليها ص ــفة االس ــتقرار واالس ــتمرار على مر‬
‫العصـ ــور واألزمان‪ .‬وأتكيدا هلذه اخلاصـ ــية احتوى الفقه اإلسـ ــالمي األحكام الشـ ــرعية التفصـ ــيلية (‬

‫سورة البقرة آية ‪255‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪11‬‬
‫لإلنســانية من حســن االمتثال هلا حىت تســعد‬ ‫أحكام العبادات واملعامالت والســلوك ) اليت ال منا‬
‫يف الدنيا وتفوز يف اآلخرة‪.‬‬
‫ومبقارنة بسيطة بني ما تقدمه الثقافة اإلسالمية‪،‬وبني املناهج الوضعية البشرية من جهة أخرى ندرك‬
‫الفرق بني املنهجني‪،‬فالقوانني الوض ـ ـ ــعية إمنا تُعىن فقط بتنظيم عالقة اإلنس ـ ـ ــان بغريه فقط‪،‬أما عالقته‬
‫بربه الذي أوجده وسخر له هذا الكون وعالقته بنفسه اليت هي أكثر التصاقا به‪،‬فال يوجد هلا اهتمام‬
‫أو رعاية أو تش ـ ــريع يف تلك القوانني البش ـ ـرية‪،‬األمر الذي يؤدي ابلنتيجة إىل الفص ـ ــل بني املعامالت‬
‫والتصرفات وبني الدين واخللق‪،‬وهو ما ترفضه الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫اخلاصية الثالثة ـ الوسطية والتوازن‪:‬‬
‫تطلق الوسـطية ويراد ِبا‪ :‬ما بني طريف الشـيء‪،‬والفضـيلة وسـط بني رذيلتني‪،‬وكل خصـلة حممودة هلا‬
‫طرفان مذمومان‪،‬فالش ــجاعة وس ــط بني التهور واجلن‪،‬والس ــخاء وس ــط بني اإلسـ ـراف والتقتري‪،29‬ويف‬
‫املفهوم الشـ ـ ــرعي تطلق الوسـ ـ ــطية ويراد ِبا‪ :‬عدم الغلو يف الدين وعدم التنطع يف تطبيق أحكامه من‬
‫جهــة‪،‬وعــدم الركون إىل الــدنيــا وش ـ ـ ـ ـ ــهواهتــا مبــا يؤدي إىل التفلــت من األحكــام الش ـ ـ ـ ـ ــرعيــة من جهــة‬
‫أخرى‪،‬ويف هذا يقول رسول ي صلى ي عليه وسلم ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إال غلبه‬
‫‪30‬‬
‫فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا ابلغدوة والروحة وشيء من الدجلة )‬
‫وبنـاء على ذلـك فـإن الوس ـ ـ ـ ـ ــطيـة تؤدي إىل التوازن يف التش ـ ـ ـ ـ ــريع واألحكـام من خالل اجلمع بني‬
‫املادايت والروحانيات‪،‬وهي ميزة اإلســالم‪،‬ألن اإلنســان جســد وروح‪،‬وله حوائج مادية وروحانية‪،‬ومن‬
‫هنا تعارف الناس اليوم على أن الوس ــطية تعين االعتدال يف االعتقاد والتفكري والس ــلوك والتص ـرفات‬
‫واملعـاملـة واألخالق‪،‬وأن أي تطرف يف أمر من هـذه األمور يعـد خروجـا عن الوس ـ ـ ـ ـ ــطيـة وابتعـادا عن‬
‫االعتدال‪.‬‬

‫‪ 29‬لسان العرب البن منظور‪ ،‬أبو الفضل مجال الدين حممد بن مكرم املعروف اببن منظور‪ ،‬دار صادر بريوت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1414‬هـ ‪1994‬م‪ ،‬ج‪ 7‬ص‬
‫‪ 426‬ـ ‪230‬‬
‫‪ 1‬صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬ج ‪ 1‬ص‪69‬‬

‫‪12‬‬
‫وتتحقق الوسـطية والتوازن عن طريق اجتناب الغلو والتنطع يف أمر الدين‪،‬يف العقيدة والتشـريع‪،‬ويف‬
‫األخالق والسـ ـ ـ ــلوك‪،‬وحىت يف كسـ ـ ـ ــب املال والتعامل فيه ومطالب النفس ورغباهتا‪ .‬فسـ ـ ـ ــمة التوازن‬
‫واالعتدال يف اإلسـ ـ ـ ــالم آللت كل اآلفاق ونواحي االعتدال بني الروحية واملادية‪،‬بني أشـ ـ ـ ــواق الروح‬
‫وحقوق اجلسد‪،‬بني بواعث الدين ومطالب الدنيا‪.‬‬
‫واملتابع للتشــريع اإلســالمي جيد فيه الثابت واملتغري من األحكام‪،‬مبا ميثل صــيغة من صــيو الوســطية‬
‫والتوازن‪،‬ألن الثابت واملتغري يس ـ ـ ـريان معا يف خط متواز‪،‬فبالثبات يتغلب اجملتمع على عوامل االهنيار‬
‫والذوابن والتفكك‪،‬وابلثبات يس ــتقر التش ــريع وتتبادل الثقة وتبىن املعامالت والعالقات على أس ــس‬
‫راســخة ال تعصــف ِبا األهواء والتقلبات الســياســية واالجتماعية ما بني يوم وآخر‪،‬وابملرونة يســتطيع‬
‫اجملتمع أن يكيف نفســه وعالقاته حســب تغري الزمن وتغري أوضــاع احلياة‪،‬دون أن يفقد خصــائصــه و‬
‫مقوماته الذاتية‪.31‬‬
‫وقـد عملـت الوس ـ ـ ـ ـ ــطيـة يف اجملتمعـات اإلس ـ ـ ـ ـ ــالميـة على تنميـة تلـك اجملتمعـات ورقيهـا فكرا وعقيـدة‬
‫ك‬‫وس ـ ــلوكا‪،‬حيث تعد الوس ـ ــطية من أبرز معامل املنهج اإلس ـ ــالمي‪،‬فأمة اإلس ـ ــالم أمة الوس ـ ــط ( َوَك َذلِ َ‬
‫ول َعلَْي ُك ْم َشـ ِهيدا)‪ ،32‬مبعىن أهنا تســتغل‬
‫الر ُسـ ُ‬ ‫َج َعلْنَا ُك ْم أ َُّمة َو َسـطا لِتَ ُكونُوا ُشـ َه َداءَ َعلَى الن ِ‬
‫َّاس َويَ ُكو َن َّ‬
‫مجيع ط ــاق ــاهت ــا وجهوده ــا يف البن ــاء والعمران امل ــادي والرتبوي والعلمي والثق ــايف من غري إفراط وال‬
‫تفريط‪،‬وهي ب ــذل ــك حتقق التوازن بني الفرد واجلم ــاع ــة‪،‬وبني ال ــدين وال ــدني ــا‪،‬وبني العق ــل والقوة‪،‬وبني‬
‫املثالية والواقعية‪،‬وبني الروحانية واملادية وغريها‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فإن الثقافة اإلس ـ ـ ــالمية جتمع بني الغاايت والوس ـ ـ ــائل وبني العلم واإلميان فاملنهج‬
‫اإلهلي الذي جاء به اإلسـ ـ ــالم منهج يشـ ـ ــمل التصـ ـ ــور االعتقادي الذي يفسـ ـ ــر طبيعة الوجود وحيدد‬
‫مكان اإلنس ـ ـ ـ ــان فيه كما حيدد غاية الوجود اإلنس ـ ـ ـ ــاين‪،‬ويش ـ ـ ـ ــمل النظم الواقعية اليت تنبثق من ذلك‬
‫التصور االعتقادي وتستند إليه وجتعل له صورة واقعية متمثلة يف حياة البشر‪.‬‬
‫اخلاصية الرابعة ـ اإلنسانية‪:‬‬

‫‪ 31‬اخلصائص العامة لإلسالم‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬مؤسسة الرسالة بريوت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1985‬م‪ ،‬ص‪203‬‬
‫‪ 32‬سورة البقرة آية ‪143‬‬

‫‪13‬‬
‫ويقصـ ـ ــد ِبا النظر إىل الناس مبقياس واحد ال تفسـ ـ ــده قومية أو عنصـ ـ ــرية وال حييف عليه جنس أو‬
‫لون‪،33‬فقـد خلق ي اإلنس ـ ـ ـ ـ ــان وجعلـه خليفـة يف األرض‪،‬يعمـل على عمـارهتـا وبنـائهـا وتطويرهـا‪،‬فهو‬
‫خملوق ذو رس ـ ـ ـ ـ ــالـة يف هـذه احليـاة‪،‬وليس وجوده يف هـذا الكون عبثـا أو كمـا مهمال‪،‬وجعـل ي التكرمي‬
‫بناء على البعد اإلنس ــاين بغَض النظر عن داينته أو جنس ــه أو لغته‪،‬فاإلنس ــان خملوق مكرم منس ــانيته‬
‫اهم ِمن الطَّيِبـ ِ‬ ‫اه ْم ِيف ال َِ‬
‫ات‬ ‫ْرب َوالْبَ ْح ِر َوَرَزقْـنَـ ُ ْ َ َ‬ ‫قبــل داينتــه‪،‬عمال بقولــه تعــاىل ( َولََقـ ْد َك َّرْمنَـا بَِين َ‬
‫آد َم َو ََْ ْلنَـ ُ‬
‫ضـيال )‪ ،34‬ويف هذا بيان أبن ي تعاىل كرم اإلنســان‪ ،‬وفضــله على‬ ‫اهم َعلَى َكثِ ٍري ِممَّن َخلَ ْقنَا تَـ ْف ِ‬ ‫َوفَ َّ‬
‫ْ‬ ‫ضـلْنَ ُ ْ‬
‫كثري ممن خلق‪ ،‬وخصـ ـ ـ ــه ابلعقل‪ ،‬به كلفه‪ ،‬وبه أرسـ ـ ـ ــل إليه الرسـ ـ ـ ــل‪ ،‬وجعل هداية الوحي عامال من‬
‫عوامل تقوية جانب اخلري فيه ولألخذ بيده من نزعات الطغيان واهلوى‪.‬‬
‫وقد امتازت الثقافة اإلسـ ــالمية بنزعتها اإلنسـ ــانية الثابتة واألصـ ــيلة يف العقيدة والتشـ ـريع والسـ ــلوك‪،‬حيث‬
‫وجه اإلس ـ ــالم عناية ابلغة إىل اجلانب اإلنس ـ ــاين وأعطاه مس ـ ــاحة رحبة يف تعاليمه وتوجيهاته‪،‬ليتحقق بذلك‬
‫َّاس إِ َّان َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍر َوأُنْـثَى‬
‫مبدأ اإلخاء اإلنس ـ ــاين الذي دعا إليه اإلس ـ ــالم‪،‬عمال بقوله تعاىل ( َايأَياـ َها الن ُ‬
‫يم َخبِريٌ )‪ ،35‬فلم جيعل التفاض ـ ــل‬ ‫وجعلْنا ُكم ُشـ ـ ـعواب وقَـبائِل لِتـعارفُوا إِ َّن أَ ْكرم ُكم ِع ْن َد َِّ‬
‫اَّلل أَتْـ َقا ُكم إِ َّن َّ ِ‬
‫اَّللَ َعل ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ‬ ‫َ ََ َ ْ ُ َ َ َ ََ َ‬
‫قائما على أس ــاس العرق أو اللون أو اجلنس أو اللغة‪،‬وإمنا على أس ــاس التقوى والعمل الص ــاا ومقدار ما‬
‫يقدم اإلنســان من خدمة جملتمعه وألمته ولبين جنســه‪،‬وهذا يعين أن انقســام البشــر إيل شــعوب وقبائل ليس‬
‫للتمايز والتفاض ـ ـ ـ ــل والتناحر وإمنا هو للتفاعل والتعارف‪،‬ألن مقياس التفاض ـ ـ ـ ــل يف اإلس ـ ـ ـ ــالم هو التقوى‬
‫واإلميان والعمل الصـ ــاا‪،‬ويف ظل هذا املقياس ال فرق بني أيب بكر وعمر العربيان القرشـ ــيان وبني سـ ــلمان‬
‫الفارسـي وبالل احلبشـي وصـهيب الرومي‪،‬ذلك أن الناس يف ظل اإلسـالم إخوة متفاعلون متعارفون‪،‬جتمعهم‬
‫اإلنسانية اليت ينتمون ِبا إىل خالق واحد ورب واحد‪.‬‬
‫إن القيمة اإلنس ـ ـ ــانية يف الثقافة اإلس ـ ـ ــالمية واحدة للجميع‪،‬فالعريب إنس ـ ـ ــان‪،‬والعجمي إنس ـ ـ ــان‪ ،‬واألبيض‬
‫إنسـان‪،‬واألسـود إنسـان‪،‬واحلاكم إنسـان‪،‬واحملكوم إنسـان‪،‬والغين إنسـان‪،‬والفقري إنسـان‪،‬واملرأة إنسـان‪،‬والرجل‬
‫إنسـان‪،‬ولذلك فهم سـواسـية كأسـنان املشـط‪،‬فقد ورد يف األثر أن بعض الصـحابة رضـي ي عنهم حاولوا أن‬

‫دراسات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬جمموعة من أساتذة الدراسات اإلسالمية جبامعة البحرين‪ ،‬ص ‪20‬‬ ‫‪33‬‬

‫سورة اإلسراء آية ‪70‬‬ ‫‪34‬‬

‫سورة احلجرات آية ‪13‬‬ ‫‪35‬‬

‫‪14‬‬
‫ب رسول ي وابن ِحبه ـ يف امرأة من بين خمزوم سرقت فاستحقت أن يقام عليها‬
‫يشفعوا أسامة بن زيد ـ ِح ا‬
‫حد السـرقة‪،‬فغضـب صـلى ي عليه وسـلم‪،‬وقال كلمته اليت خلدها التاريخ ) إمنا هلك من كان قبلكم أهنم‬
‫كانوا إذا سـرق فيهم الشـريف تركوه‪،‬وإذا سـرق فيهم الضـعيف أقاموا عليه احلد‪،‬وأمي ي لو أن فاطمة بنت‬
‫حممد سرقت لقطع حمم ٌد يدها )‪.36‬‬
‫اخلاصية اخلامسة ـ اإلجيابية‪:‬‬
‫ويعين ذلك أن الثقافة اإلسالمية جاءت متفقة مع الفطرة اإلنسانية السليمة يف الدعوة إىل الصدق‬
‫واالس ــتقامة واالس ــتجابة للحق‪،‬مما يؤدي ابلنتيجة إىل حتقيق مص ــاا الناس ودفع املفاس ــد عنهم‪،‬وقد‬
‫حتققت اإلجيابية يف اإلسـ ــالم من خالل موافقة عقيدته وعبادته وأحكامه وتشـ ــريعاته للفطرة السـ ــليمة‬
‫ِ‬ ‫ت َِّ َّ‬ ‫ك لِل ِـدي ِن َحنِيفـا فِط َْر َ‬ ‫اليت خلق ي اخللق عليهـا (فَـأَقِ ْم َو ْج َهـ َ‬
‫ـل‬
‫َّاس َعلَْيـ َهـا َال تَـ ْبـدي َ‬ ‫اَّلل ال ِيت فَطََر النـ َ‬
‫اَّلل )‪ .37‬فـاإلس ـ ـ ـ ـ ــالم ال يكلف البش ـ ـ ـ ـ ــر مـا ال يطيق وال يرهقـه يف التكليف‪،‬يقول ي تعـاىل ( َال‬ ‫ِخلَل ِْق َِّ‬
‫اَّللُ نَـ ْفسـا إَِّال ُو ْسـ َع َها )‪ ،38‬وإمنا أيمر الناس وفقا السـتطاعتهم وقدراهتم‪،‬يقول ي تعاىل (فَاتَّـ ُقوا‬ ‫ف َّ‬ ‫يُ َكلِ ُ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫وق ُش ـ ـ ـ ـ ـ َّح نَـ ْف ِسـ ـ ـ ـ ـ ـ ِه فَـأُولَاِـ َ‬ ‫اطَعوا وأ ِ‬
‫َطيعُوا َوأَنِْف ُقوا َخ ْريا ِألَنْـ ُف ِس ـ ـ ـ ـ ـ ُك ْم َوَم ْن يُ َ‬ ‫َّ‬
‫اَّللَ َمـا ا ْس ـ ـ ـ ـ ـتَطَ ْعتُ ْم َو ْ ُ َ‬
‫ال ُْم ْفلِ ُحو َن)‪ ،39‬بعكس الش ـ ـ ـ ـ ـرائع األخرى اليت ترهق النــاس ابلتكــاليف اليت تس ـ ـ ـ ـ ـبــب هلم العنــت‬
‫واإلرهاق‪،‬فتصبح بذلك آصارا وأغالال‬

‫وتتمثل اإلجيابية يف مبادئ اإلسـ ـ ـ ــالم يف أن تشـ ـ ـ ــريعاته مل تكن جمرد جمموعة من القيود والضـ ـ ـ ــوابط‬
‫الرادعــة اليت ال تقبــل النقــار وال ترتبط ابلغــاايت واألهــداف‪،‬وإمنــا هي يف حقيقتهــا قوة بنــاء وحركــة‬
‫دافعــة إىل النمو املطرد‪،‬من أجــل حتقيق الــذات أبس ـ ـ ـ ـ ــلوب متوازن بني األوامر والنواهي‪،‬بعيــدا عن‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬دار املعرفة للطباعة والنشر بريوت‪ ،‬بدون اتريخ‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪173‬‬ ‫‪36‬‬

‫سورة الروم آية ‪30‬‬ ‫‪37‬‬

‫سورة البقرة آية ‪286‬‬ ‫‪38‬‬

‫سورة التغابن آية ‪16‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪15‬‬
‫الس ــلبية واالنكفاء واالنعزال اليت تنايف غاية الوجود اإلنس ــاين كما يص ــورها اإلس ــالم‪،‬وهي اخلالفة يف‬
‫األرض واستخدام ما يسخره ي لإلنسان من قواها وطاقاهتا يف التعمري والبناء‪.40‬‬

‫ومن معامل اإلجيابية يف الثقافة اإلسـالمية األمر ابلسـعي يف األرض والعمل على عمارهتا‪،‬والنهي عن‬
‫اإلفسـ ــاد يف األرض ابلقتل والتخريب والسـ ــرقة وشـ ــرب اخلمور وختريب البنيان واحلضـ ــارة‪،‬فهي أتمر‬
‫ابلرب والتقوى وتنهى عن اإلمث والعــدوان‪،‬عمال بقولــه تعــاىل ( َوتَـ َعـ َاونُوا َعلَى الِ ِ‬
‫ْرب َوالتَّـ ْق َوى َوَال تَـ َعـ َاونُوا‬
‫اَّللَ َأي ُْم ُر ِابلْ َعـ ْد ِل‬
‫اب )‪ ،41‬وعمال بقولـه تعـاىل (إِ َّن َّ‬ ‫اَّللَ َش ـ ـ ـ ـ ـ ِديـ ُد ال ِْع َقـ ِ‬
‫اَّللَ إِ َّن َّ‬ ‫اإل ِْمث والْعـ ْدو ِ‬
‫ان َواتَّـ ُقوا َّ‬ ‫َعلَى ِْ َ ُ َ‬
‫ان َوإِيتـَ ِاء ِذي الْ ُق ْرََ َويَـ ْنـ َهى َع ِن الْ َف ْح َش ـ ـ ـ ـ ـ ِاء َوال ُْم ْن َك ِر َوالْبَـغْ ِي يَِعظُ ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تـَ َذ َّك ُرو َن )‪،42‬‬
‫اإل ْحسـ ـ ـ ـ ــ ِ‬
‫َو ِْ َ‬
‫فالتعاون على اخلري واإلحس ـ ــان والعدل واالمتناع عن الفحش ـ ــاء واملنكر والبعد عن البغي‪،‬كل ذلك‬
‫من معامل اإلجيابية يف هذه الثقافة اليت تعين حتقيق التفاعل اإلجيايب والبعد عن السلبية واالنكفاء‪.‬‬

‫اخلاصية السادسة ـ العاملية‪:‬‬

‫الكثرية الواردة يف‬ ‫ترتكز عاملية الثقافة اإلســالمية على عاملية اإلســالم نفســه‪،‬فقد أثبتت النصــو‬
‫القرآن الكرمي والسـنة النبوية أن شـريعة اإلسـالم اسـتوعبت كل قضـااي اإلنسـانية وانفتحت عليها عرب‬
‫الزم ــان واملك ــان يف مجيع جم ــاالهت ــا‪ .‬وهل ــذا ص ـ ـ ـ ـ ـ ــار لزام ــا على اإلنس ـ ـ ـ ـ ـ ــاني ــة مجع ــاء االلتزام ابل ــدين‬
‫اإلسـ َالِم ِدينا فَـلَن يـ ْقبل ِم ْنهُ و ُهو ِيف ْاآل ِخرةِ ِمن ْ ِ‬
‫اخلَاسـ ِر َ‬
‫ين‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ُ ََ َ َ‬ ‫ري ِْ ْ‬ ‫اإلسـالمي‪،‬عمال بقوله تعاىل ( َوَم ْن يَـ ْبـتَ ِو غَ ْ َ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫سـ ـماو ِ‬ ‫مجيعا الَّ ِذي لَهُ ُمل ُ‬ ‫ول َِّ‬
‫اَّلل إِل َْي ُكم َِ‬ ‫َّاس إِِين َر ُسـ ـ ُ‬
‫ض َال‬ ‫ْك ال َّ َ َ‬ ‫) ‪ ،‬وقوله تعاىل (قُ ْل َايأَياـ َها الن ُ‬
‫‪43‬‬
‫ْ‬
‫َّيب ْاألُِم ِي الَّـ ِذي يـ ْؤِمن ِاب َِّ‬
‫َّلل َوَكلِ َمـاتِـ ِه َواتَّبِعُوهُ ل ََعلَّ ُك ْم‬ ‫َّلل َوَر ُس ـ ـ ـ ـ ـولِـ ِه النِ ِ‬
‫ـت فَـ ِامنُوا ِاب َِّ‬
‫إِلـَهَ إَِّال ُه َو ُْحييِي َوُميِيـ ُ‬
‫ُ ُ‬

‫دراسات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬جمموعة من أساتذة الدراسات اإلسالمية جبامعة البحرين‪ ،‬ص ‪21‬‬ ‫‪40‬‬

‫سورة املائدة آية ‪2‬‬ ‫‪41‬‬

‫سورة النحل آية ‪90‬‬ ‫‪42‬‬

‫سورة آل عمران آية ‪85‬‬ ‫‪43‬‬

‫‪16‬‬
‫ِ‬
‫اك إَِّال َكـافـَّة‬ ‫اك إَِّال َر ْْـَة ل ْل َعـال َِم َ‬
‫ني)‪ 45‬وقولـه تعـاىل ( َوَمـا أ َْر َس ـ ـ ـ ـ ـ ْلنَـ َ‬ ‫َهتْتَـ ُدو َن )‪ ،44‬وقولـه تعـاىل ( َوَمـا أ َْر َس ـ ـ ـ ـ ـ ْلنَـ َ‬
‫َك َّن أَ ْكثَـ َر الن ِ‬ ‫َّاس ب ِشريا ونَ ِذيرا ول ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َال يَـ ْعلَ ُمو َن )‪.46‬‬ ‫َ‬ ‫ل لن ِ َ َ‬
‫لقد أثبتت الثقافة اإلسـالمية على مدى اتريخ األمة املتعاقب أن تصـوراهتا وأحكامها آللت مجيع‬
‫الناس‪،‬فامنوا ِبا على اختالف أجناســهم وأعراقهم وعاشــوا يف ظلها إخوة متعاونني متناص ـرين‪ .‬األمر‬
‫الذي جعلهم منفتحني على العامل‪،‬من أجل إيصال هذه الرسالة إىل كل الناس يف مجيع أصقاع األرض‬
‫حيت يفوزوا يف ظل قيمه وتعاليمه أبسعد أمناط احلياة البشرية‪.‬‬
‫لقد قامت الثقافات البشـرية على اعتبارات وأسـس حمكومة ابلنظرة القومية والعنصـرية‪،‬فقد صـنف هتلر‬
‫البشـ ـ ـ ــر يف العامل وجعل أمته يف املرتبة األوىل ‪ ,‬وجعل العرب يف املرتبة الرابعة عشـ ـ ـ ــرة ‪ ,‬ومل يبق وراءهم إال‬
‫اليهود والكالب ‪ ,‬وكان شـ ــعاره‪ :‬أملانيا فوق اجلميع ‪ ,‬وما يزال داء العنصـ ـرية يسـ ــري يف األمم الغربية‪ .‬أما‬
‫الثقافة اإلســالمية فليســت ثقافة العرب وال الفرس وال الرببر ‪ ,‬وليســت ثقافة الرجل األبيض وال األســود ‪,‬‬
‫إهنا ثقافة البشر كلهم‪.‬‬
‫تربز العاملية يف الثقافة اإلسالمية يف أهنا مل ترسم للبشرية طريقا واحدا ووجهة واحدة وعاملا واحدا بقيادة‬
‫واحـدة ابإلجبـار واإلكراه‪،‬بـل اعرتفـت بواقع األداين واللغـات والقوميـات‪،‬ومتـت معـاملتهـا معـاملـة كرميـة‪،‬بال‬
‫خداع وال س ـ ــفه وال طعن من اخللف ل ولذلك عار يف اجملتمع اإلس ـ ــالمي اليهودي والنص ـ ـراين والص ـ ــاباي‬
‫واجملوسي وسائر أهل الشرك أبمان واطمانان‪.47‬‬
‫إن العـامليـة يف الثقـافـة اإلس ـ ـ ـ ـ ــالميـة ختتلف عن العوملـة اليت تعين جعـل العـامل عـاملـا واحـدا‪ ،‬موجهـا توجيهـا‬
‫واحدا يف إطار حض ــارة واحدة‪،‬يقول الفيلس ــوف الفرنس ــي روجيه جارودي عن العولـ ـ ـ ـ ـ ـ ــمة‪ :‬إنه نظام ُميكن‬
‫األقوايء من فرض الدكتاتورايت الال إنس ــانية اليت تس ــمح ابفرتاس املس ــتض ــعفني بذريعة التبادل احلر وحرية‬

‫سرة األعراف آية ‪158‬‬ ‫‪44‬‬

‫سورة األنبياء آية ‪107‬‬ ‫‪45‬‬

‫سورة سبأ آية ‪128‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪ 47‬ينظر يف ذلك على سبيل التفصيل‪ :‬احلضارة اإلسالمية يف القرن الرابع اهلجري آلدم متز‪ ،‬وكتاب الدعوة إىل اإلسالم لتوماس أرنولد‪ ،‬وكتاب مذهبية احلضارة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬حمسن عبد احلميد‬

‫‪17‬‬
‫السـ ــوق‪،48‬ولذلك فهي حتمل نتائج رهيبة أمجع الباحثون عليها‪،‬حيث ال توجد فيها لغة مشـ ــرتكة جتمع بني‬
‫احلضـ ـ ــارات والثقافات اإلنسـ ـ ــانية املختلفة‪،‬ألن اجملتمعات الفقرية والضـ ـ ــعيفة يف عرف العوملة ال تسـ ـ ــتحق‬
‫البقاء‪،‬وجيب إسقاطها من احلساب على مستوى العالقات الدولية املعاصرة‪.‬‬
‫وقد جتلت مظاهر العاملية يف هذه الثقافة يف كثري من تش ــريعات اإلس ــالم وعباداته‪،‬فالش ــهادة اليت‬
‫أبيض أو‬
‫هي مفتاح الدخول يف هذا الدين َم ْن نَطَق ِبا ص ـ ــار مس ـ ــلما س ـ ــواء كان عربيا أو أعجميا‪َ ،‬‬
‫ـود‪ ،‬حاكما أو حمكوما‪ ،‬وصـ ــار أخا للمسـ ــلمني له ما هلم وعليه ما عليهم‪،‬وهذه الصـ ــالة اليت هي‬
‫أسـ ـ َ‬
‫أعظم أركان اإلس ـ ـ ــالم بعد الش ـ ـ ــهادة يقف فيها اجلميع ص ـ ـ ــفا واحدا بني يدي ي ال فرق بني واحد‬
‫وآخر‪،‬وكذلك احلج جيتمع فيه املس ــلمون من مش ــارق األرض ومغارِبا يقفون يف ص ــعيد واحد‪،‬يؤدون‬
‫مناس ـ ـ ـ ــك واحدة ويلبون تلبية واحدة ويلبس ـ ـ ـ ــون لباس ـ ـ ـ ــا واحدا بغض النظر عن اللون أو اجلنس أو‬
‫املكانة االجتماعية‪،‬ومثل ذلك يف الصوم والزكاة وسائر العبادات األخرى‪.‬‬
‫اخلاصية السابعة ــ اجلمع بني الدين واحلياة‪:‬‬
‫متتاز الثقافة اإلسـ ـ ـ ـ ــالمية يف أهنا تعمل على حتقيق التكامل الطبيعي الذي أمر ي تعاىل عباده به بني‬
‫واجبـات الـدين ومتطلبـات الـدنيـا‪،‬والعمـل على ابتغـاء خريي الـدنيـا واآلخرة عمال بقولـه تعـاىل ( َوابْـتَ ِو‬
‫ك ِم َن ال ادنْـيَا )‪ 49‬ذلك أن من أهم خصـ ــائص هذا الدين‬ ‫الدار ْاآل ِخرةَ وَال تَـ ْنس نَ ِ‬
‫ص ـ ـيبَ َ‬ ‫َ‬ ‫اَّللُ َّ َ َ َ‬ ‫آات َك َّ‬‫يما َ‬ ‫فَ‬
‫ِ‬
‫اي‬ ‫أنه ينظم الدنيا واآلخرة على حد س ـ ـ ــواء‪،‬ويف هذا يقول ي تعاىل (قُل إِ َّن صـ ـ ـ ـ َالِيت ونُ ِ‬
‫سـ ـ ـ ـكي َوَْحميَ َ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ني )‪.50‬‬ ‫ِ‬ ‫ك أ ُِم ْر ُ‬
‫ت َوأ ََان أ ََّو ُل ال ُْم ْسل ِم َ‬ ‫يك لَهُ َوبِ َذلِ َ‬ ‫ني (‪َ )162‬ال َش ِر َ‬ ‫ب الْ َعال َِم َ‬
‫وممََ ِايت َِِّ‬
‫َّلل َر ِ‬ ‫َ‬
‫إن ادعـاء الرهبـانيـة ورفض العلم واالنعزال واالنكفـاء عن س ـ ـ ـ ـ ــنن ي تعـاىل يف الكون أمر ابطـل ال‬
‫يتفق مع أحكام ومبادئ اإلسـالم‪،‬بل هو من بقااي النصـرانية احملرفة‪،‬فاإلسـالم يرى أن الدنيا طريق إىل‬
‫اآلخرة‪،‬وأن اإلنسـ ـ ـ ـ ــان ال ينبغي له أن يتعلق ابلدنيا على حسـ ـ ـ ـ ــاب اآلخرة‪،‬وقد بلو املسـ ـ ـ ـ ــلمون يف‬
‫جماالت العلم النظرية والعملية أعلى املنازل‪ ،‬وكانت احلضــارات تتبع املســلمني يف تقدمهم وعلومهم‪،‬‬
‫وال تزال بعض اجلامعات الغربية العريقة تعرتف ِبذا ِ‬
‫وتدرس معارف املس ــلمني وأفكارهم يف مدارس ــها‬

‫‪ 48‬العولـمة املزعومة ( الواقع – اجلذور – البدائل) روجيه جارودي تعريب الدكتور حممد السبيطلي‪ ،‬دار الشوكاين للنشر والتوزيع‪ ،‬صنعاء ‪1998‬م‪ .‬ص ‪17‬‬
‫‪ 49‬سورة القصص آية ‪77‬‬
‫‪ 50‬سورة األنعام آية ‪162‬‬

‫‪18‬‬
‫وجامعتها‪ .‬ويف هذا يذكر املفكر الفرنسـ ــي " غوسـ ــتاف لوبون " يف كتابه املعروف "حضـ ــارة العرب "‬
‫أن العرب لو قدر هلم أن يس ـ ــتولوا على فرنس ـ ــا‪،‬لص ـ ــارت ابريس مثل قرطبة وغرانطة يف إس ـ ــبانيا‪،‬من‬
‫حيث كوهنا مركزا للحضـ ــارة والعلم ل حيث كان العلم واملعرفة هو السـ ــائد يف تلك املدن‪،‬وكان رجل‬
‫الشـ ــارع فيها يكتب ويقرأ‪،‬بل ويقرض الشـ ــعر أحياان‪،‬يف الوقت الذي كان فيه ملوك أورواب ال يعرفون‬
‫كتابة أطائهم‪.51‬‬
‫إن هذا يُثبت مبا ال يقبل الشـ ــك أن اإلسـ ــالم ليس بديال عن العلم واحلضـ ــارة وال عدوا هلما‪،‬وإن‬
‫من اخلداع أن نضـ ـ ـ ــع كل ما يتصـ ـ ـ ــل ابملنهج اإلهلي يف كفة واإلبداع اإلنسـ ـ ـ ــاين يف عامل املادة يف كفة‬
‫أخرى‪،‬مث نطلب من اإلنسانية أن ختتار! إما احلضارة والعلم‪،‬وإما الدين‪.52‬‬
‫وإذا كان هذا االنفصـال بني الدين والعلم مقبوال يف النصـرانية‪،‬عندما فصـلت الكنيسـة بني الدين‬
‫من جهة والعقل من جهة أخرى‪،‬فإن اإلسـالم خيتلف عن ذلك متاما فهو الذي أنشـأ اإلبداع العلمي‬
‫ووجهه الوجهة الصــحيحة‪،‬وعلى أســس املســلمني الصــحيحة العلمية التجريبية قامت حضــارة الغرب‬
‫احلديثة كما يعرتف بذلك املنص ـ ــفون من املفكرين الغربيني‪،‬ومن األدلة على ذلك أن اإلس ـ ــالم يعمل‬
‫على رفع مراتب العلماء‪،‬وحيث العقل دائما على التدبر يف ملكوت السـ ـ ــماوات واألرض ويدفعه إىل‬
‫أن يتعمق يف بواطن األمور ويص ـ ـ ـ ـ ــل إىل أس ـ ـ ـ ـ ـرار الكون‪،‬ويتعرف على حقـائق الوجود حتقيقـا لتعـاليم‬
‫اَّللُ يُـ ْن ِشـ ُُ النَّ ْشـأَةَ ْاآل ِخ َرةَ إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ َعلَى‬ ‫ْق ُمثَّ َّ‬ ‫ف بَ َدأَ ْ‬
‫اخلَل َ‬ ‫القرآن الكرمي (قُ ْل ِسـريُوا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض فَانْظُُروا َك ْي َ‬
‫ُك ِل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير)‪.53‬‬
‫إن الثقافة اإلسالمية تثبت أن الدين ليس بديال عن العلم واحلضارة‪،‬وال عدوا هلما وإمنا هو إطار‬
‫وحمور هلما يف حدود إطاره وحموره‪،‬فالعلم هو الذي ينظم شؤون احلياة‪،‬والدين هو الذي حيكم‬
‫شؤوهنا‪،‬وِبذا يكون العلم خادما للدين وأحكامه سائرا يف ركابه‪،‬والدين هو املوجه واملنظم ألطر العلم‬
‫ومعطياته‪،‬األمر الذي يثبت أن املنهج اإلهلي ليس عدوا لإلبداع اإلنساين وإمنا هو منشُ هلذا اإلبداع‬

‫‪ 51‬انظر ذلك مفصال يف‪ :‬حضارة العرب‪ ،‬غوستاف لوبون‪ ،‬نقله إىل العربية عادل زعيرت‪ ،‬مطبعة عيسى البايب احلليب مصر‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ 1384‬هـ ‪1964‬‬
‫م‪ ،‬الصفحات ‪ 439‬وما بعدها‪ ،‬و ‪ 563‬وما بعدها‬
‫‪ 52‬دراسات يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬جمموعة من أساتذة الدراسات اإلسالمية جبامعة البحرين‪ ،‬ص ‪ 21‬بتصرف‬
‫‪ 53‬سورة العنكبوت آية ‪20‬‬

‫‪19‬‬
‫وموجه له الوجهة الصحيحة كي ينهض اإلنسان مبقام اخلالفة يف األرض‪،‬وهذه هي املهمة اليت منحها‬
‫ي له وألزمه ابلقيام ِبا‪،‬ووهبه من الطاقات اليت تعينه عليها‪ ،‬وسخر له من القوانني ما يسهل له حتقيق‬
‫منزلته اليت خلقه ي من أجلها‪ ،‬ما دام أنه يتقيد ويلتزم بشروط ضوابط اخلالفة‪،‬فيعمل ويرتك يف نطاق‬
‫ما شرعه العليم احلكيم‪ .‬ولذلك فإن الثقافة اإلسالمية تعترب أن شقاء اإلنسانية يكمن يف انفصال‬
‫العلم عن اإلميان وانفصال احلياة الفكرية عن األخالق‪ .‬وواقع الغرب أكرب شاهد على ذلك‪.54‬‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 22‬بتصرف‬ ‫‪54‬‬

‫‪20‬‬
‫الفصل األول‬
‫مصادر الثقافة اإلسالمية‬
‫املبحث األول‬
‫القرآن الكريم‬
‫املصدر األول الثقافة اإلسالمية‬
‫د‪ .‬طه الكبيسي (*)‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬تعريف القرآن الكريم‪:‬‬
‫أ‪ /‬تعريف القرآن الكريم لغة‪:‬‬
‫تعددت أقوال العلماء يف تعريف القرآن لغة‪ ،‬ورمبا يكون أرجحها أن القرآن مشتق من قرأ‪،‬‬
‫كما أن الكتاب مشتق من كتب‪ ،‬على أنه بعد استعمال هذا اللفظ [ قرآن]‪ ،‬صار علما على الكتاب‬
‫املنزل على نبينا حممد ‪)55(.‬‬
‫ً‬
‫ب‪ /‬تعريف القرآن الكريم اصطالحا‪:‬‬
‫"كالم ي تعاىل املنزل على حممد ‪ ‬املتعبد بتالوته‪ ،‬واملنقول ابلتواتر واملعجز بسورة‬
‫منه"(‪)56‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬حفظ اهلل عز وجل للقرآن الكريم‪:‬‬
‫توىل ي تعاىل حفظ القرآن الكرميل ألنه معجزة ومنهج‪ ،‬فكان وصوله سليما إىل األجيال‬
‫املتعاقبة‪ ،‬أمرا ضرورايل إلقامة احلجة عليهم‪ ،‬إذ إن أي حتريف يطرأ عليه يفقدان الثقة فيه‪ ،‬كيف‬
‫والرسول ‪ ‬خامت األنبياء واملرسلني‪ ،‬وهذا يعين أن ال نيب بعده‪ ،‬ميكنه اطالعنا على ما طرأ عليه من‬
‫حتريف؟‬

‫‪ ) 55‬انظر النبأ العظيم‪ ،‬د‪ .‬دراز‪.5/‬‬


‫‪ ) 56‬املصدر السابق‪.10/‬‬

‫‪21‬‬
‫وقد شاء ي تعاىل أن جيعل هذه األمة سببا للقيام ِبذا الشرف العظيم‪ ،‬فتلقى جربيل ‪‬‬
‫القرآن من عند ي تعاىل‪ ،‬مث ألقاه على قلب النيب ‪ ،‬قال تعاىل‪  :‬نزل به الروح األمني على قلبك‬
‫لتكون من املنذرين بلسان عريب مبني ‪ ،‬مث توىل النيب ‪ ‬إقراء الصحابة ‪ ،‬فكان يقرؤه يف الصالة‪،‬‬
‫سمعه الصحابة ‪ ،‬ويسمعه منهم‪ ،‬وكان يشجعهم على ذلك‪ ،‬وتتواىل‬ ‫ويقرؤه يف خطبة اجلمعة‪ ،‬وي ِ‬
‫ُ‬
‫اآلايت واألحاديث ترغب يف ثواب قارئ القرآن الكرمي‪ ،‬فكثر عدد احلفاظل ويكفي أن يف معركة‬
‫اليمامة وحدها – اليت وقعت يف السنة الثانية عشرة للهجرة _ قتل سبعون حافظا‪ ،‬بيد أن هذه‬
‫املعركة – أعين معركة اليمامة – كانت سببا حلدث جلل‪ ،‬ذلكم أن قتل هذا العدد من القراء كان‬
‫مبعث قلق من ذهاب القراء الذين تلقوا القرآن مشافهة من النيب ‪ ،‬فجمع أيب بكر الصديق القرآن‬
‫معتمدا على ما كتب بني يدي رسول ي ‪ ،‬وما كان حمفوظا يف صور الصحابة ‪ ‬مث حدث يف زمن‬
‫عثمان ‪ ‬أمر آخر‪ ،‬وهو اختالف الناس يف قراءة القرآنل لتفرق الصحابة ‪ ‬يف األمصار‪ ،‬فكانوا‬
‫يقرئون الناس ابحلرف الذي تلقوه من رسول ي ‪‬ل ألن القرآن الكرمي نزل على سبعة أحرف‪ ،‬فكان‬
‫هؤالء املتلقني إذا التقوا يف املواسم أو املغازي خطأ بعضهم بعضا‪ ،‬ورمبا كفر بعضهم بعضا‪ ،‬فجمع‬
‫عثمان ‪ ‬كبار الصحابة ‪ ‬واستشارهم يف األمر‪ ،‬فأمجعوا أمرهم على استنساخ عدد من املصاحف‪،‬‬
‫يرسل ِبا إىل األمصار‪ ،‬وأن يؤمر الناس محراق كل ما عداها‪ ،‬وأال يعتمدوا على سواها‪ ،‬مث استمرت‬
‫هذه املسرية املباركة على مر القرون‪ ،‬وأنه مما يثلج الصدر استمرار هذا األمر يف زماننا‪ ،‬فنشهد كثرة‬
‫حفاظ القرآن الكرمي‪ ،‬وقد تزامن احلفظ يف الصدور مع احلفظ يف السطور‪ ،‬بل أضيف إىل ذلك احلفظ‬
‫الصويت‪ ،‬وهذا مما يدخل يف ابب اإلعجاز الغييب‪ ،‬فقد أخرب ي تعاىل أنه سيحفظ كتابه‪ ،‬وهذا أمر‬
‫يتعلق ابملستقبل‪ ،‬فتحقق ما وعد ي‪ ،‬مع كثرة األعداء‪ ،‬وحرصهم على النيل من القرآن الكرمي الذي‬
‫هو مصدر قوة املسلمني‪ ،‬بل إهنم من حيث ال يشعرون كانوا جزءا من أدوات حفظه‪ .‬وكل حماولتهم‬
‫لتحريفه تبوء ابلفشل بفضل ي تعاىل‪ ،‬مث وجود احلفظة املتقنني‪.‬‬
‫وإذا أردان أن ندرك طرفا من عظمة هذا األمر‪ ،‬فيمكننا ذلك مجراء مقارنة بني حفظ القرآن‬
‫الكرمي وبني الكتب السماوية األخرى‪ ،‬إذ أوكل ي تعاىل حفظ الكتب السماوية األخرى لعلمائهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َسلَ ُموا‬ ‫ور َْحي ُك ُم ِبَا النَّبياو َن الَّذ َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫كما بني القرآن الكرمي‪ ،‬قال تعاىل‪  :‬إِ َّان أَنْـ َزلْنَا التـ َّْوَراةَ ف َيها ُهدى َونُ ٌ‬

‫‪22‬‬
‫اب َِّ‬
‫اَّلل َوَكانُوا َعلَْي ِه ُش َه َداءَ‪[  ...‬املائدة‪ :‬من‬ ‫استُ ْح ِفظُوا ِم ْن كِتَ ِ‬
‫ار ِمبَا ْ‬ ‫الرَّابنِياو َن َو ْاأل ْ‬
‫َحبَ ُ‬ ‫ادوا َو َّ‬ ‫ِِ‬
‫للَّذ َ‬
‫ين َه ُ‬
‫اآلية‪ ،]44‬قال ابن عاشور‪" :‬ويدخل يف االستحفاظ ابلكتاب األمر حبفظ ألفاظه من التغيري‬
‫والكتمان‪ .‬ومن لطائف القاضي إطاعيل بن إسحاق بن ََّْاد ما حكاه عياض يف «املدارك»‪ ،‬عن أيب‬
‫احلسن بن املنتاب‪ ،‬قال‪ :‬كنت عند إطاعيل يوما فسال‪ :‬مل جاز التبديل على أهل التوراة ومل جيز على‬
‫أهل القرآن؟ فقال‪ :‬ألن ي تعاىل قال يف أهل التوراة‪  :‬مبا استحفظوا من كتاب ي ‪ ‬فوكل احلفظ‬
‫وإان له حلافظون ‪ [ ‬احلجر‪ .]9 :‬فتعهد ي حبفظه فلم‬ ‫إليهم‪ ،‬وقال يف القرآن‪  :‬إان حنن نزلنا الذكر َّ‬
‫ِ‬ ‫جيز التبديل على أهل القرآن"‪ )57(.‬وقد قال تعاىل يف شأهنم‪ :‬وإِ ْذ أَ َخ َذ َّ ِ‬
‫اَّللُ ميثَا َق الَّذ َ‬
‫ين أُوتُوا‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّاس وَال تَ ْكتُمونَهُ فَـنَـب ُذوهُ وراء ظُهوِرِهم وا ْش َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س َما يَ ْش َرتُو َن‪[‬آل‬‫رتْوا به ََثَنا قَليال فَب ْا َ‬
‫َ ََ َ ُ ْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫اب لَتُـبَـيِنُـنَّهُ للن ِ َ‬
‫الْكتَ َ‬
‫عمران‪]187:‬‬
‫وننقل هنا بعض ما ذكره العالمة رْت ي اهلندي(‪ )58‬عن حتريف الكتب السماوية‪ ،‬ونقتصر‬
‫على التوراة واإلجنيل‪ ،‬يقول رْه ي تعاىل‪ ..." :‬وال يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد‬
‫العتيق واجلديد‪ ،‬ال عند اليهود وال عند املسيحيني‪ ...،‬وطلبنا مرارا من القسيسني العظام السن َد املتصل فما‬
‫قدروا عليه‪ ،‬واعتذر بعض القسيسني يف حمفل املناظرة اليت كانت بيين وبينهم‪ ،‬فقال‪ :‬إن سبب فقدان‬
‫اإلسناد عندان‪ ،‬وقوع املصائب والفنت على املسيحيني إىل مدة ثلثمائة وثالث عشرة سنة‪ ،‬وحنن تصفحنا‬
‫كتب اإلسناد هلم فما رأينا فيها غري الظن والتخمني‪ ،‬وِبذا القدر ال يثبت السند"‪ )59(.‬وقد ذكر أمثلة‬
‫كثرية ألمور ال تليق مما وقع يف هذه الكتب‪ ،‬وِبذا يعلم قطعا أهنا ليست من عند ي تعاىل مثل‪ " :‬أن لوطا‬
‫شرب اخلمر‪ ،‬وزىن اببنتيه وْلتا ابلزان منه‪ ،‬أو أن داود عليه السالم زان ابمرأة أوراي وْلت ابلزان منه‪ ،‬وأشار‬
‫إىل أمري العسكر ألن يدبر أمرا يقتل به أوراي‪ ،‬فأهلكه ابحليلة‪ ،‬وتصرف يف زوجته‪ ،‬وأن هارون صنع عجال‪،‬‬
‫وبىن له مذحبا‪ ،‬فعبده هارون مع بين إسرائيل وسجدوا له وذحبوا الذابئح أمامه‪ ،‬وأن سليمان ارتد يف آخر‬

‫‪ ) 57‬التحرير والتنوير‪.209/6‬‬
‫‪ )58‬رمحت هللا اهلندي الكريواين عامل مسلم مشهور ولد يف كريوانة يف اهلند ‪ 1818‬وتويف يف مكة ‪ .1891‬اشتهر ملناظرته القس فندر وأتليف كتاب إظهار‬
‫احلق‪ .‬انظر ‪.https://ar.wikipedia.org‬‬
‫‪ ) 59‬إظهار احلق‪.617 - 616/2‬‬

‫‪23‬‬
‫العمر‪ ،‬وعبد األصنام وبىن املعابد هلا‪ ،‬وال يثبت من كتبهم املقدسة أنه اتب بل الظاهر أنه مات مرتدا‬
‫مشركا"‪)60(.‬‬
‫وقد أورد العالمة رْت ي أقوال بعض علمائهم‪ " ،‬قال دكرت سكندر كيدس يف ديباجة (البيبل)‬
‫اجلديد‪ :‬ثبت يل بظهور األدلة اخلفية ثالثة أمور جزما‪ :‬األول أن التوراة املوجودة ليست من تصنيف موسى‪،‬‬
‫والثاين أهنا كتبت يف كنعان أو أورشليم‪ ،‬يعين ما ُكتبت يف عهد موسى‪ ،‬الذي كان بنو إسرائيل يف هذا العهد‬
‫أنسب أتليفها إىل زمان‬
‫ُ‬ ‫يف الصحارى‪ ،‬والثالث ال يثبت أتليفها قبل سلطنة داود وال بعد زمان حزقيال‪ ،‬بل‬
‫سليمان عليه السالم‪ ،‬يعين قبل ألف سنة من ميالد املسيح أو إىل زمان قريب منه‪ ،‬يف الزمان الذي كان‬
‫فيه هومر الشاعر‪ ،‬فاحلاصل أن أتليفه بعد مخسمائة سنة من وفاة موسى‪ )61(".‬وبعد أن أورد األدلة على‬
‫حتريف التوراة قرر" انه ليس يف أيدي أهل الكتاب سند لكون الكتب اخلمسة من تصنيف موسى عليه‬
‫السالم "(‪ ،)62‬وفيما يتعلق ابإلجنيل‪ ،‬قال‪ " :‬توجد يف زمان أتليف األانجيل األربعة رواايت واهية ضعيفة‬
‫بال سند‪ .‬يعلم منها أيضا أنه ال سند عندهم هلذه الكتب‪ .‬قال (هورن) يف الباب الثاين من القسم الثاين من‬
‫اجمللد الرابع من تفسريه املطبوع سنة ‪ " :1811‬احلاالت اليت وصلت إلينا يف ابب زمان أتليف األانجيل‬
‫من قدماء مؤرخي الكنيسة أبرت وغري معينة‪ ،‬ال توصلنا إىل أمر معني‪ ،‬واملشايخ القدماء األولون صدقوا‬
‫الرواايت الواهية وكتبوها‪ ،‬وقَبِ َل الذين جاؤوا من بعدهم مكتوِبم تعظيما هلم‪ ،‬وهذه الرواايت الصادقة‬
‫والكاذبة وصلت من كاتب إىل كاتب آخر وتعذر تنقيدها بعد انقضاء املدة"‪)63(.‬‬
‫ثالثا‪ :‬إعجاز القرآن الكريم دليل على حجيته‪:‬‬
‫شاءت حكمة ي تعاىل أن ال يرتك الناس سدى‪ ،‬يتخبطون حبثا عن نظم أرضية تنظم سري‬
‫حياهتم‪ ،‬يلفقها بشر من أخص صفاهتم النقص واهلوى‪ ،‬فاصطفى من الناس رسال يبلغوهنم مراده‪،‬‬
‫وجعل معهم آايت تدل على صدق نبوهتم‪ ،‬وكان القرآن الكرمي أعظم هذه اآلايت‪ ،‬فقد حتدى به‬
‫اإلنس واجلن‪ ،‬حتداهم أن أيتوا بسورة من مثل هذا القرآن‪ ،‬فوقفوا أمامه عاجزين‪ ،‬ابلرغم من تدرجه‬
‫يف هذا التحدي‪ ،‬وكونه أهلب ْاسهم‪ ،‬عندما سفه معتقداهتم‪ ،‬فكان ذلك وغريه من دواعي قبول‬

‫‪ ) 60‬املصدر السابق‪.12/1‬‬
‫‪ ) 61‬املصدر السابق‪.117-116/1‬‬
‫‪ ) 62‬املصدر السابق‪.128/1‬‬
‫‪ ) 63‬املصدر السابق ‪157/1‬‬

‫‪24‬‬
‫التحدي لو كان يف مقدورهم فعل شيء‪ ،‬ولكنهم آثروا السنان على البيان‪ ،‬فكان اعرتافا بعجزهم‪،‬‬
‫وقد مر التحدي مبراحل متعددة‪ ،‬وقبل ذكر هذه املراحل‪ ،‬سأذكر اعرتافني على صدق القرآن‪ ،‬من‬
‫رجلني‪ ،‬األول عار يف زمن النبوة‪ ،‬واآلخر يعيش يف عصرانل لبيان أن أثر القرآن الكرمي يف الناس ال‬
‫يزال ابقيا‪ ،‬فهو حيمل دليل صدقه معه‪ ،‬وأنه كالم رب العاملني‪:‬‬
‫الوليد بن المغيرة‪:‬‬
‫يقول الوليد بن املغرية‪ " :‬قد عرفنا الشعر كله هزجه ورجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما‬
‫هو ابلشعر! قالت له قريش‪ :‬فساحر؟ قال‪ :‬وما هو بساحر‪ ،‬قد رأينا السحار وسحرهم‪ ،‬فما هو بنفثه‬
‫وال عقده‪ ،‬وي إن لقوله حلالوة وإن عليه لطالوة وإن أسفله ملغدق وإن أعاله ملثمر‪ ،‬وإنه ليعلو وال‬
‫يعلى‪ ،‬طعت قوال أيخذ القلوب‪ ،‬قالوا‪ :‬جمنون؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬وي ما هو مبجنون وال خبنقه وال بوسوسته‬
‫وال رعشته‪ ،‬قالوا‪ :‬كاهن؟ قال‪ :‬قد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان وال بسجعهم "‪)64(.‬‬
‫الدكتور ( كيث ل‪ .‬مور )(‪)65‬‬
‫" حتدث الدكتور ( كيث ل‪ .‬مور ) فقال‪ :‬لقد أسعدين جدا أن أشارك يف توضيح هذه اآلايت‬
‫واألحاديث اليت تتحدث عن اخللق يف القرآن الكرمي واحلديث الشريف‪ ،‬ويتضح يل أن هذه األدلة‬
‫حتما جاءت حملمد من عند يل ألن كل هذه املعلومات مل تكتشف إال حديثا وبعد قرون عدة‪ ،‬وهذا‬
‫يثبت يل أن حممدا رسول ي"‪)66(.‬‬
‫وقد مر التحدي مبراحل متعددة‪ ،‬نوجزها يف اآليت‪:‬‬
‫المرحلة األولى‪ :‬اإلتيان بمثل القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪ )64‬الربهان يف علوم القرآن‪ ،‬الزركشي ‪.111 - 110/2‬‬


‫‪ )65‬أحد كبار العلماء يف العامل يف جمال التشريح وعلم األجنة‪ ،‬ومؤلف كتاب أطوار خلق اإلنسان‪ ،‬الذي اختري من قبل جلنة ُك ّونت يف أمريكا ابعتباره أحسن‬
‫كتاب يف العامل ألفه مؤلف واحد‪ ،‬وقد ترجم لثمان لغات‪ ،‬ورأس الدكتور مور العديد من اجلمعيات الدولية‪.‬انظر ( أنه احلق )‪ ،‬حماورة علمية مع أربعة عشر‬
‫عاملا من رواد العلوم املعاصرة‪.14 - 13 /‬‬
‫ً‬
‫‪ )66‬املصدر السابق‪.15-14/‬‬

‫‪25‬‬
‫ني ‪[ ‬الطور‪ ،]34:‬وقال تعاىل‪ :‬قُ ْل‬ ‫يث ِمثْلِ ِه إِ ْن َكانُوا ص ِ ِ‬ ‫قال ي تعاىل‪ :‬فَـلْيأْتُوا ِحبَ ِد ٍ‬
‫ادق َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض ُه ْم لِبَـ ْع ٍ‬
‫ض ظَ ِهريا‬ ‫آن ال َأيْتُو َن ِمبِثْلِ ِه َول َْو َكا َن بَـ ْع ُ‬
‫األنْس وا ْجلِ ان َعلَى أَ ْن أيْتُوا ِمبِثْ ِل َه َذا الْ ُقر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫لَاِ ِن ْ ِ ِ‬
‫اجتَ َم َعت ْ ُ َ‬
‫‪[ ‬اإلسراء‪.]88:‬‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬اإلتيان بعشر سور مثله‪.‬‬
‫استَطَ ْعتُ ْم ِم ْن‬‫ت َوا ْدعُوا َم ِن ْ‬ ‫قال ي تعاىل‪ :‬أ َْم يـ ُقولُو َن افْ َرتاهُ قُل فَأْتُوا بِع ْش ِر سوٍر ِمثْلِ ِه م ْف َرتاي ٍ‬
‫ُ ََ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ني ‪[ ‬هود‪.]13:‬‬ ‫ون َِّ‬
‫اَّلل إِ ْن ُك ْنـتُم ص ِ ِ‬ ‫ُد ِ‬
‫ادق َ‬ ‫ْ َ‬
‫المرحلة الثالثة‪ :‬اإلتيان بسورة مثله‪:‬‬
‫ون َِّ‬
‫اَّلل إِ ْن ُك ْنـتُ ْم‬ ‫استَطَ ْعتُم ِمن ُد ِ‬ ‫قال ي تعاىل‪ :‬أ َْم يـ ُقولُو َن افْ َرتاهُ قُل فَأْتُوا بِس ٍ ِ ِ ِ‬
‫ورة مثْله َوا ْدعُوا َم ِن ْ ْ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ني ‪[ ‬يونس‪]38:‬‬ ‫ص ِِ‬
‫ادق َ‬ ‫َ‬
‫المرحلة األخيرة‪ :‬اإلتيان بسورة من مثله‪.‬‬
‫ورةٍ ِم ْن ِمثْلِ ِه َوا ْدعُوا ُش َه َداءَ ُك ْم ِم ْن‬
‫سَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يقول تعاىل‪ :‬وإِ ْن ُك ْنـتم ِيف ري ٍ ِ‬
‫ب ممَّا نَـ َّزلْنَا َعلَى َع ْبد َان فَأْتُوا ب ُ‬ ‫ُ ْ َْ‬ ‫َ‬
‫ني‪[ ‬البقرة‪.]23:‬‬ ‫ون َِّ‬
‫اَّلل إِ ْن ُك ْنـتُم ص ِ ِ‬ ‫ُد ِ‬
‫ادق َ‬ ‫ْ َ‬
‫هذه مراحل التحدي‪ ،‬لو أتملناها‪ ،‬فسنجد اآليت‪:‬‬
‫املراحل الثالث األوىل مكية كلها‪ ،‬فاآلية األوىل من سورة الطور‪ ،‬واآلية الثانية من سورة هود‪ ،‬واآلية‬
‫الثالثة من سورة يونس‪ ،‬أما اآلية الرابعة فمن سورة البقرة‪ ،‬وهي مدنية‪ ،‬وإذن فالسور املكية كان‬
‫اخلطاب فيها ‪ -‬ابتداء – للعرب خاصة‪ ،‬أما يف املدينة فكان اخلطاب للناس مجيعا‪ ،‬يدل على هذا‬
‫سياق اآلية السابقة هلا‪ ،‬فلقد ابتدأت بـ ) اي أيها الناس)‪ ،‬هذا أمر‪ ،‬وَثة مالحظة أخرى‪ ،‬وهي يف‬
‫األسلوب الذي صيغت فيه اآلايت‪ ،‬ففي املراحل الثالث األوىل كان التحدي مبثله أو بعشر سور‬
‫مثله أو بسورة مثله‪ ،‬أما يف املرحلة الرابعة فكان التحدي بسورة من مثله‪ ،‬وهنا البد من داللة للحرف‬
‫)من(‪ ،‬الذي ذكر يف املرحلة األخرية فقط‪ .‬إن حرف (من) له معان كثرية‪ ،‬من بينها‪ :‬داللته على‬
‫التبعيض‪ ،‬وإذن ملا كان التحدي يف هذه املرحلة للناس مجيعا فال يظن أن يكون التحدي للعرب‬
‫والعجم ابلبيان وحده‪ )67(.‬ويف هذا ما يدل على رجحان الرأي الذي يرى أن أوجه اإلعجاز متعددة‪،‬‬

‫‪ )67‬انظر إعجاز القرآن الكرمي‪ ،‬د‪ .‬فضل حسن عباس‪.33 - 31/‬‬

‫‪26‬‬
‫وغري منحصرة يف اجلانب اللغوي‪ ،‬وأن عطاءات القرآن الكرمي متجددة‪ ،‬فكما أنه صاا ومصلح‬
‫لكل زمان ومكان‪ ،‬فكذا إعجازه‪ ،‬فما يربز قوم يف شيء إال كان للقرآن الكرمي قصب السبق فيه‪،‬‬
‫وما اإلعجاز العلمي يف عصران هذا إال برهان ساطع على هذا‪.‬‬
‫ولقد أوصل بعضهم أوجه اإلعجاز إىل أكثر من عشرة‪ ،‬من ذلك‪ :‬اإلعجاز الغييب‪ ،‬واإلعجاز‬
‫التشريعي‪ ،‬واإلعجاز العلمي‪ ،‬وسنلقي الضوء على هذا النوعل ألثره الواضح يف كثري من الناس‪،‬‬
‫وخباصة يف هذا العصر‪:‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪ :‬من جوانب الثقافة يف القرآن الكريم‪:‬‬
‫للثقافة جوانب متعددة‪ ،‬إذ تشمل عالقات اإلنسان كلها‪ ،‬يف حياته وبعد مماته‪ ،‬فقد انتظمت‬
‫جماالت حياته كلها‪ :‬االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وقد أوىل القرآن‬
‫الكرمي هذه اجلوانب اهتماما عظيما‪ ،‬وحيث إن الكتاب سيفرد مباحث ألغلب هذه اجملاالت‪،‬‬
‫فسنكتفي ببيان اجلوانب األخرى‪ ،‬على النحو اآليت‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ ثقافة اإلنسان يف عالقته بنفسه‪:‬‬
‫من أعظم ما مييز القرآن الكرمي وهو ينظم عالقة اإلنسان بنفسه‪ ،‬أنه عين به مبجموعه‪ ،‬فغذى‬
‫جوانبه كلها‪ :‬جسمه‪ ،‬وروحه‪ ،‬وعقله‪ ،‬يف توازن حكيم‪ ،‬من لدن حكيم‪ .‬ولنحاول إلقاء الضوء على‬
‫هذه اجلوانب‪ ،‬بشيء من التفصيل‪:‬‬
‫أ‪ .‬جسمه‪:‬‬
‫اختلفت تصورات املفكرين يف كيفية التعامل مع جسد اإلنسان‪ ،‬فمنهم من رأى أن أعظم‬
‫وسيلة لتزكية النفس اإلنسانية هي يف تعذيب اجلسد‪ ،‬ومنعه مما يشتهي‪ ،‬يف حني أوغل فريق يف إمتاع‬
‫اجلسد‪ ،‬إىل حد اإلفراط‪ ،‬ومتيز اإلسالم أبن سلك طريقا وسطا‪ ،‬يتمثل هذا يف أمور عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ـــ غذاؤه‪:‬‬
‫فيما يتعلق بغذائه‪ ،‬فقد قرر القرآن الكرمي قاعدة مضطردة يف بيان حكم ما أيكله اإلنسان‪،‬‬
‫َّيب ْاأل ُِم َّي الَّ ِذي َِجي ُدونَهُ َم ْكتُواب ِع ْن َد ُه ْم ِيف التـ َّْوَراةِ واإلجنيل‬
‫ول النِ َّ‬ ‫ين يَـتَّبِعُو َن َّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫ِ‬
‫يقول تعاىل‪  :‬الَّذ َ‬

‫‪27‬‬
‫اخلَبَائِ َ‬ ‫اهم َع ِن الْم ْن َك ِر وُِحي ال َهلُم الطَّيِب ِ‬ ‫ِ‬
‫ث‪[  ...‬األعراف‪ :‬من‬ ‫ات َوُحيَ ِرُم َعلَْي ِه ُم ْ‬‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َأي ُْم ُرُه ْم ِابل َْم ْع ُروف َويَـ ْنـ َه ُ ْ‬
‫اآلية ‪ ، ]157‬قال بعض العلماء‪ " :‬كل ما أحل ي تعاىل من املاكل فهو طيب انفع للبدن والدين‪،‬‬
‫وكل ما حرمه فهو خبيث ضار يف البدن والدين "(‪ .)68‬وهذا ما أكده الطب احلديث‪)69(.‬‬
‫إن إرشاد اإلنسان إىل حتري الطيب من الطعام أمر مهم‪ ،‬ألن لبعض األغذية آاثرا سلبية على‬
‫ب ِمن الطَّ ْريِل ألهنا َع ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫سلوك اإلنسان‪ ،‬فتحرمي اخلبائث‪ِ ،‬مثْل ُك ِل ِذي َان ٍ ِ ِ‬
‫اديَةٌ‬ ‫ب م ْن السبَ ِاع َوُك ِل ذي خمْلَ ٍ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫اب ِغيةٌ‪ ،‬فَِإذَا أَ َكلَها النَّاس‪ ،‬صار ِيف أَ ْخ َالقِ ِهم َشو ِ‬
‫ب من أَ ْخ َال ِق َه ِذه الْبَـ َهائِِم‪ُ ،‬‬
‫وه َو الْبَـغْ ُي َوالْعُ ْد َوا ُن‪َ ،‬ك َما‬ ‫ْ ٌ‬ ‫ُ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ب طُغْيَا َن َه ِذهِ الْ ُق َوى َو ُه َو‬ ‫ِ‬ ‫س الشهوية الْغَ َ ِ ِ‬
‫ضبيَّة َوِزَاي َدتُهُ تُوج ُ‬ ‫وحل ِألَنَّهُ َْجم َم ُع قُـ َوى النَّـ ْف ِ‬ ‫َح َّرَم َّ‬
‫الد َم ال َْم ْس ُف َ‬
‫ان ِم ْن الْبَ َد ِن‪)70(.‬‬ ‫الش ْيطَ ِ‬
‫َْجم َرى َّ‬
‫ونبه هنا إىل أن املسلم مطالب أبن يتحرى احلالل فيما يتناوله‪ ،‬فهناك أنواع من األغذية يدخل‬
‫يف تصنيعها اخلمر واخلنزير " كبعض الشوكوالتة وبعض أنواع املثلجات (اآليس كرمي)‪ ،‬وبعض‬
‫املشروابت الغازية‪ ،‬اعتبارا لألصل الشرعي يف أن ما أسكر كثريه فقليله حرام‪ ،‬ولعدم قيام موجب‬
‫شرعي استثنائي للرتخيص فيها"‪)71(.‬‬
‫وفيما يتعلق ابلغذاء أيضا‪ ،‬فإن اإلسالم يدعو للتوازن‪ ،‬كشأنه يف األمور كلها‪ ،‬يقول تعاىل‪ :‬‬
‫ِ‬ ‫وكلوا واشربوا وال تسرفوا إِنَّهُ َال ُِحي ا‬
‫ني ‪[ .‬األعراف‪ :‬من اآلية ‪]31‬‬ ‫ب ال ُْم ْس ِرف َ‬
‫شيئا من الطيبات‪:‬‬ ‫اإلنكار على من حرم ً‬
‫مل يبح القرآن الكرمي تناول الطيبات فحسب‪ ،‬بل شدد النكري على الذين حيرموهنا‪ ،‬يقول ي‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ات ِم َن ِ‬
‫الر ْز ِق قُل ِهي لِلَّ ِذين آمنُوا ِيف ا ْحلياةِ‬
‫ج لعبَ َ َ‬
‫اَّلل الَِّيت أَ ْخر ِ ِ ِ‬
‫ادهِ والطَّيِب ِ‬
‫ََ‬
‫تعاىل‪  :‬قُل من ح َّرم ِزينَةَ َِّ‬
‫ْ َْ َ َ‬
‫َ‬
‫ت لَِق ْوٍم يَـ ْعلَ ُمو َن ‪[ ،‬األعراف‪ ]32:‬فيورد السؤال‬ ‫صل ْاآلاي ِ‬ ‫ال ادنْـيا َخالِصة يـوم ال ِْقيام ِة َك َذلِ َ ِ‬
‫ك نـُ َف ُ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َ‬

‫‪ )68‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬ابن كثري‪.488/3‬‬


‫‪ ) 69‬ينظر ما قاله د‪ .‬حممد كمال عبد العزيز املدرس بكلية الطب‪ ،‬جامعة األزهر‪ ،‬يف كتابه‪ :‬ملاذا حرم هللا هذه األشياء‪ ،...‬نظرة طبية يف احملرمات القرآنية‪.‬‬
‫‪ )70‬جمموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪.179/17‬‬
‫اإلسالمي وأدلَّتُهُ‪ ،‬د‪ .‬وهبه الزحيلي‪.5264/7‬‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫‪ )71‬الف ْقهُ‬
‫‪28‬‬
‫بصيغة اإلنكار‪ ،‬ويفهم منه أنه تعاىل مل حيرمها‪ ،‬بل جاء التحرمي من غريه‪ ،‬ويف هذه اآلية الكرمية " دليل‬
‫على أن األصل يف املطاعم واملالبس وأنواع التجمالت اإلابحة"‪)72(.‬‬
‫واإلسالم وهو ينكر على من حيرم الطيبات‪ ،‬ينكر يف الوقت نفسه على من يتوسع يف‬
‫املباحات‪ ،‬حبيث تكون شغله الشاغل‪ ،‬فتلهيه عن اهلدف الذي من اجله خلق‪ ،‬يقول تعاىل‪َ  :‬اي أَياـ َها‬
‫اس ُرو َن ‪‬‬ ‫اخلَ ِ‬
‫ك ُه ُم ْ‬ ‫اَّلل َوَم ْن يَـ ْف َع ْل ذَلِ َ‬
‫ك فَأُولَاِ َ‬ ‫الَّ ِذين آمنُوا َال تُـ ْل ِه ُكم أَموالُ ُكم وَال أَوَال ُد ُكم َعن ِذ ْك ِر َِّ‬
‫ْ َْ ْ َ ْ ْ ْ‬ ‫َ َ‬
‫[املنافقون‪ ،]9:‬فينبغي أن ال ينشغل املسلم ِبا حبيث تستعبده‪.‬‬
‫وجيدر التنبيه لذلك التناسق التام بني العالقات‪ ،‬فاآلية وهي تتحدث عن عالقة اإلنسان‬
‫جبسمه‪ ،‬ربطتها بعالقته ابهلل عز وجل‪ ،‬فهو ال حيب املسرفني‪.‬‬
‫ـــ ملبسه‪:‬‬
‫آد َم ُخ ُذوا ِزينَـتَ ُك ْم ِع ْن َد ُك ِل‬
‫يستحب للمسلم أن يتجمل يف ملبسه‪ ،‬قال ي تعاىل‪َ  :‬اي بَِين َ‬
‫ِ‬ ‫َم ْس ِج ٍد َوُكلُوا َوا ْش َربُوا َوال تُ ْس ِرفُوا إِنَّهُ ال ُِحي ا‬
‫ني ‪[ ‬األعراف‪ ،]31:‬يقول ابن كثري‪ " :‬وهلذه‬ ‫ب ال ُْم ْس ِرف َ‬
‫اآلية وما ورد يف معناها من السنة يستحب التجمل عند الصالة‪ ،‬وال سيما يوم اجلمعة ويوم العيد‪،‬‬
‫والطيبل ألنه من الزينة‪ ،‬والسواكل ألنه من متام ذلك "‪)73(.‬‬
‫كما عليه أن يراعي الضوابط الشرعية يف اللباس‪ ،‬يقول تعاىل ممتنا على عباده بنعمة اللباس‪:‬‬
‫ك ِمن آاي ِ‬ ‫ك َخ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ري َذل َ ْ َ‬ ‫اس التَّـ ْق َوى َذل َ ٌ‬ ‫آد َم قَ ْد أَنْـ َزلْنَا َعلَْي ُك ْم لبَاسا يُـ َوا ِري َس ْوآت ُك ْم َوِريشا َولبَ ُ‬ ‫‪َ ‬اي بَِين َ‬
‫آد َم َال يَـ ْفتِنَـنَّ ُك ُم َّ‬
‫الش ْيطَا ُن‬ ‫اَّلل ل ََعلَّ ُه ْم يَ َّذ َّك ُرو َن ‪ ‬مث يعقب ذلك ابحلذر من مكائد الشيطان ‪َ ‬اي بَِين َ‬ ‫َِّ‬
‫ث َال‬‫اس ُه َما لِ ُِرييَـ ُه َما َس ْوآهتِِ َما إِنَّهُ يَـ َرا ُك ْم ُه َو َوقَبِيلُهُ ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ج أَبَـ َويْ ُك ْم ِم َن ا ْجلَن َِّة يَـ ْن ِز ُ‬
‫ع َع ْنـ ُه َما لبَ َ‬ ‫َك َما أَ ْخ َر َ‬
‫ين َال يُـ ْؤِمنُو َن ‪[ ‬األعراف‪ ،]27:‬فيبني سبحانه أن كشف العورة‬ ‫اط ِ ِ ِ‬
‫ني أ َْوليَاءَ للَّذ َ‬
‫تَـرو َهنُم إِ َّان جعلْنَا َّ ِ‬
‫الشيَ َ‬ ‫َْ ْ َ َ‬
‫من تزيني الشيطان‪ ،‬وإذا كان الشيطان قد أخرج أابان من اجلنة‪ ،‬فهو حريص على أن ال يدخلها أحد‬
‫من أوالده‪ .‬فكشف العورة من األمور اليت هنى عنها شرعنا احلنيف‪ ،‬فحري ابملسلم واملسلمة أن‬
‫يراعوا ذلك‪ ،‬حىت ال يقعوا يف غضب ي تعاىل‪.‬‬

‫‪ )72‬إرشاد العقل السليم ‪.489/2‬‬


‫‪ )73‬تفسري القرآن العظيم‪.406/3‬‬

‫‪29‬‬
‫وهناك ضوابط أخرى يف اللباس حري ابملسلم أن يعرفها‪ ،‬نوجزها يف اآليت‪:‬‬
‫فيما يتعلق ابلرجل‪ ،‬فاللباس الشرعي تشرتط فيه أمور‪ ،‬من أمهها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون ساترا ما بني السرة والركبة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ال يكون شفافا حبيث تبدو بشرة العورة حتته‪.‬‬
‫‪ -3‬أن ال يكون ضيقا حبيث يصف أعضاء العورة‪.‬‬
‫‪ -4‬أن ال يكون فيه تشبه ابلنساء‪.‬‬
‫‪ -5‬أن ال يكون فيه تشبه ابلكفار‪.‬‬
‫‪ -6‬أن ال يكون حمرما كاحلرير والذهب‪.‬‬
‫أما ما يتعلق بالنساء‪:‬‬
‫فيجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من األلوان واألشكال يف احلجاب واخلمار ابلضوابط اآلتية‪:‬‬
‫‪ -1‬أن ال يكون فيه زينة ظاهرة الفتة لنظر الناس‪.‬‬
‫‪ -2‬ال يكون شفافا يظهر ما حتته‪.‬‬
‫‪ -3‬ال يكون ضيقا يظهر حدود اجلسم‪.‬‬
‫‪ -4‬ويف تغطية الوجه خالف‪ ،‬ولكن العلماء أمجعوا على أن ال جيوز للمرأة أن تضع على وجهها أي‬
‫نوع من أنواع الزينة‪ ،‬كما أنه يتوجب عليها تغطيته إذا كان يف النظر إليه فتنة‪)74(.‬‬
‫ـــ الحرص على النظافة والتجمل‪:‬‬
‫يشرع للمسلم أن يكون نظيفا متجمال‪ ،‬فقد ورد يف احلديث‪( :‬الَ يَ ْد ُخ ُل ا ْجلَنَّةَ َم ْن َكا َن ِِف قَـ ْلبِ ِه‬
‫ب أَ ْن يَ ُكو َن ثَـ ْوبُهُ َح َسنا َونَـ ْعلُهُ َح َسنَة‪ .‬قَال‪ ( :‬إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ‬ ‫الر ُج َل ُِحي ا‬‫ال َر ُج ٌل‪ :‬إِ َّن َّ‬ ‫ال ذَ َّرةٍ ِم ْن كِ ٍْرب )‪ .‬قَ َ‬
‫ِمثْـ َق ُ‬
‫َّاس)‪ )75(.‬وقد شرعت عبادات هلذه الغاية‪ ،‬من ذلك‬ ‫ط الن ِ‬ ‫رب بَطَُر ا ْحلَِق َوغَ ْم ُ‬ ‫ب ا ْجلم َ ِ‬ ‫مج ِ‬ ‫ِ‬
‫ال الْك ْ ُ‬ ‫يل ُحي ا َ َ‬ ‫َ ٌ‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِديَ ُك ْم إِ َىل‬ ‫الوضوء‪ ،‬يقول تعاىل‪  :‬اي أَياـها الَّ ِذين آمنُوا إِ َذا قُمتُم إِ َىل َّ ِ‬
‫الص َالة فَا ْغ ِسلُوا ُو ُج َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ضى أ َْو َعلَى‬ ‫َّروا َوإِ ْن ُك ْنـتُ ْم َم ْر َ‬ ‫َّ‬ ‫الْمرافِ ِق وامسحوا بِرء ِ‬
‫وس ُك ْم َوأ َْر ُجلَ ُك ْم إِ َىل الْ َك ْعبَ ْ ِ ِ‬
‫ني َوإ ْن ُك ْنـتُ ْم ُجنُـبا فَاطه ُ‬ ‫ََ َ ْ َ ُ ُُ‬

‫‪.278http://www.fikhguide.com/tourist/cloth/ )74‬‬
‫‪ )75‬صحيح مسلم برقم‪.147/‬‬

‫‪30‬‬
‫ص ِعيدا طَيِبا فَ ْام َس ُحوا‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫س َف ٍر أَو جاء أ ِ ِ‬
‫َح ٌد م ْن ُك ْم م َن الْغَائط أ َْو َال َم ْستُ ُم الن َساءَ فَـلَ ْم َِجت ُدوا َماء فَـتَـيَ َّم ُموا َ‬
‫َ ْ ََ َ‬
‫َك ْن يُ ِري ُد لِيُطَ ِه َرُك ْم َولِيُتِ َّم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي ُك ْم‬
‫اَّلل لِيجعل َعلَي ُكم ِمن حر ٍج ول ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب ُو ُجوه ُك ْم َوأَيْدي ُك ْم م ْنهُ َما يُ ِري ُد َُّ َ ْ َ َ ْ ْ ْ َ َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ل ََعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن‪[ ‬املائدة‪ :‬من اآلية‪]6‬ل ألن أعضاء الوضوء ملا كانت ابدية عادة‪ ،‬فال ختلو من الدرن‬
‫والوسخ‪ ،‬وإن مل يكن عليها جناسة‪ ،‬فيجب غسلها تطهريا هلا من ذلك‪ ،‬وحتقيقا للنظافة والزينة اليت‬
‫أمر ي ِبا‪.‬‬
‫وكذلك الغسل‪ ،‬فمنه الواجب واملستحب‪ .‬وقد قرر العلماء استحباب الغسل عند كل اجتماع‪،‬‬
‫ولنضرب لذلك مثاال " ابب الغسل املسنون‪ :‬وهو اثنا عشر غسال‪ :‬غسل اجلمعة‪ ،‬وغسل العيدين‪ ،‬وغسل‬
‫الكسوفني‪ ،‬وغسل االستسقاء‪ ،‬والغسل من غسل امليت‪ ،‬وغسل الكافر اذا أسلم‪ ،‬وغسل اجملنون اذا أفاق‪،‬‬
‫والغسل لإلحرام‪ ،‬والغسل لدخول مكة‪ ،‬والغسل للوقوف بعرفة‪ ،‬والغسل للرمي‪ ،‬والغسل للطواف"‪)76(.‬‬
‫ويف األمر بتطهري الثياب‪ ،‬يقول تعاىل‪  :‬وثيابك فطهر‪ ‬قال ابن قيم اجلوزية بعد أن ذكر عدة أقوال‬
‫يف املراد ابآلية الكرمية‪ ،‬اليت من بينها‪ :‬تطهري الثياب من النجاسات‪ " :‬والقول األول أصح األقوال‬
‫ـ يعين‪ :‬ـ نفسك فطهر من الذنب ـ ـ وال ريب أن تطهريها من النجاسات وتقصريه من مجلة التطهري‬
‫املأمور به‪ ،‬إذ به متام إصالح األعمال واألخالق‪ .‬ألن جناسة الظاهر تورث جناسة الباطن‪ .‬ولذلك أمر‬
‫ك‬‫يع َذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫القائم بني يدي ي عز وجل مزالتها والبعد عنها"(‪ )77‬وقال ابن كثري‪َ ":‬وقَ ْد تَ ْش َم ُل ْاآليَةُ َمج َ‬
‫ْب"‪ )78(.‬وهذا اجلمع هو الراجح‪ ،‬وي أعلم‪.‬‬ ‫ارةِ الْ َقل ِ‬
‫َم َع طَ َه َ‬
‫س َعلَى التَّـ ْق َوى ِم ْن أ ََّو ِل‬ ‫ِ ِ‬
‫وقد أثىن ي تعاىل على املُطهرين‪ ،‬وذكر أنه حيبهم‪ ،‬قال تعاىل‪  :‬ل ََم ْسج ٌد أُس َ‬
‫اَّللُ ُِحي ا‬ ‫ال ُِ‬ ‫يـوٍم أَح اق أَ ْن تَـ ُقوم فِ ِيه فِ ِ‬
‫ين‪[ .‬التوبة‪]108:‬‬ ‫ب ال ُْمطَّ ِه ِر َ‬ ‫َّروا َو َّ‬
‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ط‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ـ‬
‫َ‬‫ي‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬‫ب‬
‫ا‬ ‫حي‬ ‫ٌ‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫يه‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫ولعل املُلفت هنا أن اإلسالم ربط الطهارة بعبادة ي تعاىل‪ ،‬وبرضاه وحبه‪ ،‬ليستقر هذا املعىن‬
‫العظيم يف القلب ويف العقل‪.‬‬

‫ب‪ .‬عقله‪:‬‬

‫‪ )76‬التنبيه يف الفقه الشافعي للشريازي‪20/‬‬


‫‪ )77‬مدارج السالكني بني منازل إايك نعبد وإايك نستعني‪ ،‬ابن قيم اجلوزية‪.23/2‬‬
‫‪ )78‬تفسري القرآن العظيم‪.263 /8‬‬

‫‪31‬‬
‫ال شك أن العقل من أعظم نعم ي تعاىل على اإلنسان‪ ،‬فوجب عليه أن حيمده ‪ ‬على هذه‬
‫النعمة‪ ،‬وأن يسخر عقله فيما خلق ألجله‪ ،‬فبه يعرف ربه‪ ،‬فيزداد له خشية‪ ،‬وبه يعقل عن ي تعاىل‬
‫مراده‪ ،‬بل إن القرآن الكرمي‪ ،‬الذي هو معجزة النيب ‪ ،‬ودليله على النبوة‪ ،‬قد أنيط ابلعقل إدراكها‪.‬‬
‫وأتمل هذا النص من أحد فقهاء اإلسالم " (ويف ذهاب العقل الدية) ال نعلم يف هذا خالفا‪ .‬وقد‬
‫روي ذلك عن عمر‪ ،‬وزيد ‪ -‬رضي ي عنهما ‪ ،-‬وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء‪ .‬ويف كتاب‬
‫النيب صلى ي عليه وسلم لعمرو بن حزم‪( :‬ويف العقل الدية)ل وألنه أكرب املعاين قدرا‪ ،‬وأعظم احلواس‬
‫نفعا‪ .‬فإن به يتميز من البهيمة‪ ،‬ويعرف به حقائق املعلومات‪ ،‬ويهتدي إىل مصاحله‪ ،‬ويتقي ما يضره‪،‬‬
‫ويدخل به يف التكليف‪ ،‬وهو شرط يف ثبوت الوالايت‪ ،‬وصحة التصرفات‪ ،‬وأداء العبادات‪ ،‬فكان‬
‫مجياب الدية أحق من بقية احلواس"‪)79(.‬‬
‫منزلة العقل‪:‬‬
‫لقد بوأ اإلسالم العقل منزلة رفيعة‪ ،‬إذ به يفكر ويرتقي يف مدارج العلم‪ ،‬الذي يرفع ي تعاىل‬
‫اَّلل الَّ ِذين آمنُوا ِم ْن ُكم والَّ ِذين أُوتُوا ال ِْعلْم َدرج ٍ‬
‫ات ‪‬‬ ‫َ ََ‬ ‫َْ َ‬ ‫به املؤمن درجات عظيمة‪ ،‬يقول تعاىل‪  :‬يَـ ْرفَ ِع َُّ َ َ‬
‫[اجملادلة‪ :‬من اآلية‪ ،]11‬بل إن املتدبر آلايت الذكر احلكيم جيد أمرا ملفتا للنظر‪ ،‬وهو أن ي تعاىل‬
‫ب ِز ْدِين ِعلْما ‪[ ‬طـه‪ :‬من‬ ‫مل أيمر رسوله ‪ ‬بطلب الزايدة إال يف ابب العلم‪ ،‬قال تعاىل‪َ  :‬وقُ ْل َر ِ‬
‫اآلية‪ ،]114‬وفيه إعالء لشأن العلم والعلماء‪ .‬والقرآن الكرمي حافل ابآلايت اليت ترفع من شأن العلم‬
‫وأهله‪ ،‬من ذلك أنه عز وجل استشهد أويل العلم على أعظم مسألة‪ ،‬وهي التوحيد‪ ،‬فقال تعاىل‪ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم ‪[ ‬آل‬‫اَّللُ أَنَّهُ َال إلَهَ إ َّال ُه َو َوال َْم َالئ َكةُ َوأُولُو الْعل ِْم قَائما ِابلْق ْسط َال إلَهَ إ َّال ُه َو ال َْع ِز ُيز ا ْحلَك ُ‬
‫َش ِه َد َّ‬
‫عمران‪ ،]18:‬وبني أهنم املؤهلون لفهم كتابه‪ ،‬قال تعاىل‪  :‬وتلك األمثال نضرِبا للناس وما يعقلها‬
‫إال العاملون ‪[ ‬العنكبوت‪ ]43:‬قال ابن كثري‪ ":‬وما يفهمها ويتدبرها إال الراسخون يف العلم‬
‫املتضلعون منه"(‪ )80‬وينبغي أن يعلم أن أعظم َثرة ترجى من العلم‪ ،‬هي خشية ي عز وجل‪ ،‬قال‬
‫اَّلل ِمن ِعب ِ‬
‫ادهِ الْعُلَ َماءُ ‪[ ‬فاطر من اآلية‪ " ]28‬أي‪ :‬إمنا خيشاه حق خشيته‪،‬‬‫تعاىل‪  :‬إِ َّمنَا َخيْ َشى ََّ ْ َ‬

‫‪ )79‬املغين‪ ،‬ابن قدامة‪.465 /8‬‬


‫‪ )80‬تفسري القرآن العظيم‪.279/6‬‬

‫‪32‬‬
‫العلماء العارفون بهل ألنه كلما كانت املعرفة للعظيم القدير العليم املوصوف بصفات الكمال املنعوت‬
‫ابألطاء احلسىن‪ ،‬كلما كانت املعرفة به أمت والعلم به أكمل‪ ،‬كانت اخلشية له أعظم وأكثر"‪)81(.‬‬
‫هذه اخلشية تورث العمل مبا أراده ي عز وجل‪ ،‬واالنتهاء عما هنى عنه‪ .‬وبذا يعلم أن أعظم العلوم‬
‫هو الذي يقربك إىل ي تعاىل‪ ،‬مث ما فيه نفع للناس‪.‬‬
‫لقد حفل القرآن الكرمي ابآلايت اليت حتث املسلم على النظر والتدبر والتفكر‪ ،‬يقول تعاىل‪:‬‬
‫وج‪ .‬واألرض مددانها وألقينا‬ ‫َّاها َوَما َهلَا ِم ْن فُـ ُر ٍ‬
‫اها َوَزيَّـن َ‬ ‫الس َم ِاء فَـ ْوقَـ ُه ْم َك ْي َ‬
‫ف بَـنَـ ْيـنَ َ‬ ‫‪ ‬أفَـلَ ْم يَـ ْنظُُروا إِ َىل َّ‬
‫يب‪[ .‬ق‪ ،]8-6:‬ويقول‬ ‫ص َرة َوِذ ْك َرى لِ ُك ِل َع ْب ٍد ُمنِ ٍ‬‫فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج ِبيج‪ .‬تَـ ْب ِ‬
‫ف نُ ِ‬ ‫ت‪ .‬وإِ َىل ا ْجلِبَ ِ‬ ‫السم ِاء َكي َ ِ‬ ‫ف ُخلِ َق ْ‬
‫ت‪.‬‬‫صبَ ْ‬ ‫ال َك ْي َ‬ ‫ف ُرف َع ْ َ‬ ‫ت‪َ .‬وإِ َىل َّ َ ْ‬ ‫‪  :‬أَفَال يَـ ْنظُُرو َن إِ َىل اإلبل َك ْي َ‬
‫ت ‪[ ‬الغاشية‪ ،]20- 17:‬إىل جانب هذه اآلايت وغريها هناك العديد من‬ ‫ف ُس ِط َح ْ‬ ‫َوإِ َىل ْاأل َْر ِ‬
‫ض َك ْي َ‬
‫اآلايت اليت ختمت بـ ( يعقلون )‪ ( ،‬يتفكرون )‪( ،‬يعلمون )‪ ،‬بل إهنا يف غالبها تنعى على من مل يعمل‬
‫عقله‪ ،‬واسرتوح لتقليد اآلخرين‪ ،‬فريد على من قلد اآلابء ِبذا اجلواب اهلادئ الذي يدعو إىل إعادة‬
‫آابءَ ُك ْم قَالُوا إِ َّان ِمبَا أ ُْر ِسلْتُ ْم بِ ِه َكافِ ُرو َن ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال أ ََول َْو ج ْاـتُ ُك ْم ِأب َْه َدى ممَّا َو َج ْد ُْمت َعلَْيه َ‬
‫تفعيل العقل‪  ،‬قَ َ‬
‫[الزخرف‪.]24‬‬
‫حرمة اإلضرار بالعقل‬
‫حرم ي تعاىل على اإلنسان كل ما من شأنه اإلضرار به‪ ،‬ومن ذلك ما يتعلق ابلعقل‪ ،‬فحرم‬
‫س ِم ْن َع َم ِل‬
‫الم ِر ْج ٌ‬
‫اب َو ْاألَ ْز ُ‬
‫ص ُ‬
‫ِ‬ ‫آمنُوا إِ َّمنَا ْ‬
‫اخلَ ْم ُر َوال َْم ْيس ُر َو ْاألَنْ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫اخلمر‪ ،‬يقول تعاىل‪َ  :‬اي أَياـ َها الَّذ َ‬
‫اجتَنِبُوهُ لعلكم تفلحون ‪[ ‬املائدة‪ ،]90:‬يف هذه اآلية الكرمية‪ ،‬ينادي ي تعاىل املؤمننيل‬ ‫الش ْيطَ ِ‬
‫ان فَ ْ‬ ‫َّ‬
‫الستجاشة قلوِبم من جهة‪ ،‬ولتذكريهم مبقتضى هذا اإلميان من االلتزام والطاعة من جهة أُخرى‪ ،‬يلي‬
‫هذا النداء تقرير حاسم ‪ ‬إمنا اخلمر وامليسر واألنصاب واألزالم رجس من عمل الشيطان ‪ ،‬فهي‬
‫دنسة ال ينطبق عليها وصف الطيبات اليت أحلها ي‪ ،‬وهي من عمل الشيطان‪ ،‬ويكفي أن يعلم املؤمن‬
‫أن شياا ما من عمل الشيطان لينفر منه‪ ،‬وتشماز منه نفسه‪ ،‬ويف هذه اللحظة أييت النهي مصحواب‬
‫ابإلطماع يف الفالح ‪ ‬فاجتنبوه لعلكم تفلحون ‪ ،‬والتعبري بـ ( فاجتنبوه ) ال يبقي أي جمال لالقرتاب‬

‫‪ ) 81‬املصدر السابق‪.544/6‬‬

‫‪33‬‬
‫منه‪ ،‬فضال عن شربه‪ ،‬مث يكشف القرآن الكرمي عن هدف الشيطان‪ ،‬وهو إيقاع العداوة والبغضاء يف‬
‫الش ْيطَا ُن‬‫الصف املسلم‪ ،‬كما أهنا تصد الذين آمنوا عن ذكر ي وعن الصالة‪ ،‬يقول تعاىل‪  :‬إِ َّمنَا يُ ِري ُد َّ‬
‫الص َالةِ فَـ َه ْل أَنْـتُ ْم‬ ‫اخلَم ِر والْمي ِس ِر ويص َّد ُكم َعن ِذ ْك ِر َِّ‬ ‫أَ ْن يُوقِ َع بَـ ْيـنَ ُك ُم ال َْع َد َاوةَ َوالْبَـغْ َ‬
‫اَّلل َو َع ِن َّ‬ ‫ضاءَ ِيف ْ ْ َ َ ْ َ َ ُ ْ ْ‬
‫ُم ْنـتَـ ُهو َن ‪[ ‬املائدة‪ ،]91:‬وأتمل كيف علل ي تعاىل احلكم‪ ،‬مع أن املؤمن يتلقى أوامر ي تعاىل‪،‬‬
‫وهو موقن أبنه العليم احلكيم‪.‬‬
‫وكيف يذكر ي تعاىل من فقد عقله؟ فاملواد الكحولية تؤثر على املخ مؤدية إىل حالة اخلمول واجلمود‪،‬‬
‫وهي حالة مبكرة يف اإلحساس والشعور‪ ،‬وتضعف لذلك قوة املخ على السيطرة على الوصالت‬
‫والتحكم فيها‪ ...‬وإذا زادت جرعة املواد الكحولية‪ ،‬فإهنا تفقد العقل الوعي‪ ،‬ويصري يف غيبوبة‪.‬‬
‫إن غيبوبة السكر تنايف اليقظة الدائمة اليت يفرضها اإلسالم على قلب املسلم ليكون موصوال ابهلل‬
‫يف كل حلظة‪.‬‬
‫ج‪ .‬روحه‪:‬‬
‫عين القرآن الكرمي عناية اتمة ابلروح‪ ،‬فنجده قد أقسم على حقيقة مهمة‪ ،‬ينبغي أن تكون‬
‫منهجا يف حياة املسلم‪ ،‬يقول تعاىل‪  :‬قد أفلح من زكاها‪ .‬وقد خاب من دساها ‪[ ‬الشمس‪-9 :‬‬
‫‪ .]10‬قال ابن القيم‪ ":‬قد أفلح من كربها وأعالها بطاعة ي‪ ،‬وأظهرها‪ ،‬وقد خاب وخسر من أخفاها‪،‬‬
‫وحقرها وصغرها مبعصية ي"‪)82(.‬‬
‫ويف سبيل الوصول هلذه التزكية فإن هناك أمورا جيب التحلي ِبا‪ ،‬سنبينها أمهها يف اآليت‪:‬‬
‫األمور التي تغذي الروح‪.‬‬
‫شرع سبحانه لنا ما حيىي أرواحنا‪ ،‬يقول تعاىل مبينا أن احلياة احلقيقية هي حياة الروح‪  :‬أو‬
‫من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا ميشي به يف الناس‪ ،‬كمن مثله يف الظلمات ليس خبارج منها‪...‬‬
‫‪[ ‬األنعام‪ :‬من آية ‪ ،]122‬قال ابن كثري‪ ":‬فأحياه ي‪ ،‬أي‪ :‬أحيا قلبه ابإلميان‪ ،‬وهداه له‪ ،‬ووفقه‬
‫التباع رسله "(‪ ،)83‬ومن هذه األغذية‪:‬‬

‫‪ )82‬اجلواب الكايف ملن سأل عن الدواء الشايف‪ ،‬ابن قيم اجلوزية‪.78/‬‬


‫‪ )83‬تفسري القرآن العظيم‪.330/3‬‬

‫‪34‬‬
‫أ‪ .‬اإليمان باهلل تعالى‬
‫اإلميان ابهلل تعاىل عماد احلياة الروحية‪ ،‬فعندما يؤمن اإلنسان بربه الذي أفاض عليه النعم‬
‫كلها‪ ،‬ويستشعر قدرته ومعيته‪ ،‬فيستمد من قدرة ي مددا لضعفه‪ ،‬ومن معية ي تعاىل أنسا لوحشته‪،‬‬
‫إن أقفر الطريق‪ ،‬وقل الرفيق‪ ،‬فهو ال ييأس وال يبتاس‪ ،‬وكيف حيزن من كان ي تعاىل معه‪.‬‬
‫هذا اإلميان يولد يف اإلنسان طاقة روحية مبا يكسبه من الشعور مبراقبة ربه له‪ ،‬ومن مث يتحسس‬
‫مواقع خطوهل لتنتظم على الصراط الذي شرعه‪ ،‬متوخيا احلذر أن تزل به القدم‪ ،‬فهو يعلم أن اجلنة‬
‫حفت ابملكاره‪ ،‬وأن النار حفت ابلشهوات‪ ،‬فتبقى روحه يقظة‪ ،‬ويبقى قلبه موصوال بربه يسأله الثبات‪.‬‬
‫ب‪ .‬العبادات‪:‬‬
‫إن يف العبادات معينا ال ينضب‪ ،‬وغذاء سليما للروح‪ ،‬فالصالة صلة بني العبد وربه‪ ،‬يناجيه‬
‫ويسأله‪ ،‬ويسجد فيقرتب‪ ،‬ويردد بني احلني واحلني‪ :‬ي أكرب‪ ،‬فتصفو روحه وتشف‪ ،‬والصيام تربية‬
‫عملية للسمو ابلروح‪ ،‬وبسيادة اإلرادة املمتثلة ألمر ي عز وجل على متطلبات اجلسد‪ ،‬وحترير للنفس‬
‫من ثقل العادات‪ ،‬وأن ما اعتادته ممكاهنا أن تعتاد غريه‪ ،‬والزكاة اعتالء وجتاوز حلاجز الشح الذي‬
‫س ال ا‬ ‫صرحت به اآلية الكرمية ‪ ‬وأ ْ ِ ِ‬
‫ش َّح ‪[ ‬النساء‪ :‬من اآلية‪ ،]128‬مث يرتقيل ليصل‬ ‫ُحض َرت ْاألَنْـ ُف ُ‬ ‫َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن ‪[ ‬احلشر من اآلية ‪ ]9‬فيستعلي مميانه‪،‬‬
‫وق ُش َّح نَـ ْف ِس ِه فَأُولَاِ َ‬
‫إىل الفالح ‪َ ‬وَم ْن يُ َ‬
‫ويواسي ذوي احلاجات‪ ،‬وتسري هذه الروح اللطيفة‪ ،‬فال يقتنع أبداء الواجب‪ ،‬بل يتجاوزه إىل‬
‫وروح ينعش هزال روحه‪.‬‬ ‫املندوابت‪ ،‬فينشر خريه بني احملتاجني‪ ،‬كيف وقد أحس بسعادة تغمره‪َ ،‬‬
‫ص َدقَة تُطَ ِه ُرُه ْم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫إن الزكاة وسيلة عظيمة لتزكية الروح وتطهريها‪ ،‬يقول تعاىل‪ُ :‬خ ْذ م ْن أ َْم َواهل ْم َ‬
‫اَّلل َِط ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ‪[.‬التوبة‪]103:‬‬ ‫ك َس َك ٌن َهلُ ْم َو َُّ ٌ‬
‫يع َعل ٌ‬ ‫صالتَ َ‬ ‫َوتُـ َزكي ِه ْم ِِبَا َو َ‬
‫ص ِل َعلَْي ِه ْم إِ َّن َ‬
‫وهكذا سائر ما أمر ي تعاىل به من العبادات‪.‬‬
‫ج‪ .‬ذكر هللا تعالى‪:‬‬
‫وإذا كانت العبادات تؤدى يف بعض األوقات دون بعض‪ ،‬فإن هناك معينا روحيا ال ينضب‪،‬‬
‫اَّللَ ِذ ْكرا َكثِريا‪ .‬وسبحوه بكرة‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا اذْ ُك ُروا َّ‬ ‫أال وهو ذكر ي تعاىل‪ ،‬يقول ي تعاىل‪َ :‬اي أَياـ َها الَّذ َ‬
‫ين َ‬
‫وأصيال ‪[ ‬األحزاب‪ " ،]42 – 41:‬إن القلب ليظل فارغا أو الهيا أو حائرا حىت يتصل ابهلل ويذكره‬
‫‪35‬‬
‫وأينس به‪ ،‬فإذا هو مليء جاد‪ ،‬قار‪ ،‬يعرف طريقه‪ ،‬ويعرف منهجه‪ ،‬ويعرف من أين وإىل أين ينقل‬
‫خطاه‪.‬‬
‫ومن هنا حيض القرآن كثريا‪ ،‬وحتض كم كثريا‪ ،‬على ذكر ي‪ ،‬ويربط القرآن بني هذا الذكر وبني‬
‫األوقات واألحوال اليت مير ِبا اإلنسانل لتكون األوقات واألحوال مذكرة بذكر ي‪ ،‬ومنبهة إىل‬
‫االتصال به‪ ،‬حىت ال يغفل القلب وال ينسى"‪)84(.‬‬
‫د‪ .‬الدعوة إلى مكارم األخالق‪:‬‬
‫دعا القرآن الكرمي للتحلي مبكارم األخالقل ليذهب عن النفس كدر مساوئها‪ ،‬فحث على‬
‫التعاون‪ ،‬وال يتعاون إال حمب مشفق رحيم‪ ،‬فكان األمر الرابين ‪َ ‬وتَـ َع َاونُوا َعلَى الِ ِ‬
‫ْرب َوالتَّـ ْق َوى َوال‬
‫اب ‪[ ‬املائدة‪ :‬من اآلية‪ ]2‬توجيها للتعاون‬ ‫اَّللَ َش ِدي ُد ال ِْع َق ِ‬
‫اَّللَ إِ َّن َّ‬ ‫األ ِْمث والْع ْدو ِ‬
‫ان َواتَّـ ُقوا َّ‬ ‫ِ‬
‫تَـ َع َاونُوا َعلَى ْ َ ُ َ‬
‫مبجاالته املتعددة‪ ،‬ما دام منتظما يف سلك التقوى‪ ،‬وفيه ما ال خيفى من أوجه تغذية الروح مبا حتتاجه‪،‬‬
‫وهي تعيش حالة طغيان املادة وضجيج اآلالتل ليعلو على هذا كله نداء احلب‪ ،‬حب اآلخرين‬
‫والسعي يف مساعدهتم‪ ،‬وتقدمي العون هلم‪ ،‬دون انتظار ملردود مادي أو معنوي‪ ،‬وقل مثل ذلك عن‬
‫الصرب‪ ،‬وعن العفو‪ ،‬واإليثار‪.‬‬
‫ه‪ .‬عدم التعلق بالشهوات‪:‬‬
‫من أعظم ما يسمو ابإلنسان أن يعطي الدنيا قيمتها اليت تستحقها‪ ،‬فال هو يعب من لذاهتا‬
‫وشهواهتا عبا‪ ،‬وال ابلذي خيتار حياة الرهبان‪ ،‬فيرتك احلالل الذي أابحه ي تعاىل‪ ،،‬ولذا جند آايت‬
‫كرمية تدعو إىل عدم االنكباب على الدنيا‪ ،‬وتنأى ابلنفس عن التعلق بزينتها‪ ،‬مبينة أن ما عند ي‬
‫ك‬‫ري ِع ْن َد َربِ َ‬
‫ات َخ ٌْ‬
‫احلَ ُ‬‫الص ِ‬
‫ات َّ‬ ‫ال َوالْبَـنُو َن ِزينَةُ ا ْحلَيَاةِ ال ادنْـيَا َوالْبَاقِيَ ُ‬
‫تعاىل خري وأبقى‪ ،‬يقول ‪  :‬ال َْم ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ري َوأَبْـ َقى ‪.‬‬‫ري أ ََمال ‪[ ‬الكهف‪ ،]46:‬ويقول تعاىل‪  :‬بَ ْل تُـ ْؤث ُرو َن ا ْحلَيَاةَ ال ادنْـيَا‪َ .‬و ْاآلخ َرةُ َخ ٌْ‬ ‫ثَـ َوااب َو َخ ٌْ‬
‫[األعلى‪ ]17:‬وتبني له أن األصل يف سعيه هو الدار اآلخرة‪  ،‬وابتو فيما آاتك ي الدار اآلخرة‬
‫وال تنس نصيبك من الدنيا ‪[ .‬القصص من اآلية‪ .]77‬قال ابن كثري‪ " :‬استعمل ما وهبك ي من‬
‫هذا املال اجلزيل والنعمة الطائلة‪ ،‬يف طاعة ربك والتقرب إليه أبنواع القرابت‪ ،‬اليت حيصل لك ِبا‬

‫‪ )84‬يف ظالل القرآن‪.2871/5‬‬

‫‪36‬‬
‫الثواب يف الدار اآلخرة‪  .‬وال تنس نصيبك من الدنيا ‪ ‬أي‪ :‬مما أابح ي فيها من املاكل واملشارب‬
‫واملالبس واملساكن واملناكح‪ ،‬فإن لربك عليك حقا‪ ،‬ولنفسك عليك حقا‪ ،‬وألهلك عليك حقا‪".‬‬
‫)‪(85‬‬
‫‪ .2‬ثقافة اإلنسان يف عالقته بالكون‪:‬‬
‫املتأمل يف آايت القرآن الكرمي جيد أمرا الفتا للنظر‪ ،‬وهو كثرة اآلايت اليت تتحدث عن الكون‪،‬‬
‫وحتث على النظر والتأمل والتفكر فيه‪ ،‬وهناك عالقة بني القرآن الكرمي والكون‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن القرآن‬
‫كالم ي املقروء‪ ،‬والكون كتاب ي املنظور‪.‬‬
‫بل إننا جند أن القرآن الكرمي يؤكد مسألة مهمة‪ ،‬وهي أن الكون خلق لنا‪ ،‬وسخر ملصلحتنا‪،‬‬
‫َّر‬ ‫َّ ِ‬
‫حىت أننا لنلمس العناية الرابنية من خالل هذا التسخري‪ ،‬ولنتأمل اآلايت اآلتية‪َ  :‬و ُه َو الذي َسخ َ‬
‫اخ َر فِ ِيه َولِتَـ ْبـتَـغُوا ِم ْن‬
‫ْك مو ِ‬
‫وهنَا َوتَـ َرى الْ ُفل َ َ َ‬ ‫س َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الْبَ ْح َر لتَأْ ُكلُوا م ْنهُ َحلْما طَ ِرًّاي َوتَ ْستَ ْخ ِر ُجوا م ْنهُ حلْيَة تَـلْبَ ُ‬
‫ات‬‫السماو ِ‬
‫َّر لَ ُك ْم َما ِيف َّ َ َ‬ ‫َن َّ‬
‫اَّللَ َسخ َ‬ ‫ضلِ ِه َول ََعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن ‪[ ‬النحل‪ ،]14:‬وقوله تعاىل‪  :‬أََملْ تَـ َرْوا أ َّ‬ ‫فَ ْ‬
‫اه َرة َوَاب ِطنة‪ [  ...‬لقمان من اآلية‪ ]20:‬وقوله تعاىل‪ُ  :‬ه َو‬ ‫ض وأَسب َو َعلَي ُكم نِعمه ظَ ِ‬
‫َوَما ِيف ْاأل َْر ِ َ ْ َ ْ ْ َ َ ُ‬
‫ك‬‫اب َما َخلَ َق اَّللُ ذَلِ َ‬ ‫السنِ َ ِ‬
‫ني َوا ْحل َس َ‬
‫ضياء والْ َقمر نُورا وقَ َّدرهُ منَا ِز َل لِتَـ ْعلَمواْ َع َد َد ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫س َ َ ََ‬
‫الشم ِ‬
‫الذي َج َع َل َّ ْ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ت لَِق ْوٍم يَـ ْعلَمون ‪[ ‬يونس‪ .]5:‬ووراء ذلك أمور وأمور على املسلم أن‬ ‫صل اآلاي ِ‬ ‫ِ‬
‫إِالَّ ِاب ْحلَِق يُـ َف ُ َ‬
‫يستكشفها‪.‬‬
‫ومما جيدر ذكره أن الثقافة اإلسالمية ختتلف عن غريها يف التعامل مع الكون‪ ،‬فليس هناك ما‬
‫يسمى الصراع مع الكون‪ ،‬هذا املصطلح الذي ينتشر يف الثقافات األخرى‪ ،‬وإمنا نتعامل معه وفق‬
‫ضوابط شرعية مستمدة من خالق الكون ‪ -‬سبحانه وتعاىل ‪.-‬‬
‫فيما يأتي بيان ألهم األمور التي ينبغي أن يعلمها المسلم وهو يتعامل مع‬
‫الكون‪:‬‬
‫‪ .1‬أن الكون قد خلقه ي تعاىل‪ ،‬فلم خيلق نفسه‪ ،‬وال الصدفة أوجدته‪ ،‬قال ي تعاىل‪  :‬إِ َّن‬
‫ات و ْاألَرض ِيف ِست َِّة أ ََّايٍم ُمثَّ استَـوى َعلَى الْعر ِ ِ‬ ‫اَّللُ الَّ ِذي َخلَ َق َّ‬
‫ار يَطْلُبُهُ‬ ‫ر يُـغْشي اللَّْي َل النـ َ‬
‫َّه َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫الس َم َاو ِ َ ْ َ‬ ‫َربَّ ُك ُم َّ‬
‫‪ )85‬تفسري القرآن العظيم‪.254/6‬‬

‫‪37‬‬
‫ب ال َْعال َِم َ‬
‫ني ‪‬‬ ‫ار َك َّ‬
‫اَّللُ َر ا‬ ‫ْق َو ْاأل َْم ُر تَـبَ َ‬ ‫ات ِأب َْم ِرهِ أَال لَهُ ْ‬
‫اخلَل ُ‬ ‫الشمس والْ َقمر والناجوم مسخَّر ٍ‬
‫َحثيثا َو َّ ْ َ َ َ َ َ ُ َ ُ َ َ‬
‫ِ‬
‫[ألعراف‪.]54:‬‬
‫‪ .2‬أن ي تعاىل قد سخر هذا الكون لإلنسان‪ ،‬مؤمنا كان أو كافرا‪ ،‬قال ي تعاىل‪ :‬قال تعاىل‪:‬‬
‫َّر لَ ُك ُم اللَّْي َل َوالنـ َ‬ ‫الش ْمس َوالْ َق َم َر َدائِبَ ْ ِ‬
‫ار‪[ ‬إبراهيم‪ ،]33:‬وقال تعاىل‪ :‬‬ ‫َّه َ‬ ‫ني َو َسخ َ‬ ‫َّر لَ ُك ُم َّ َ‬ ‫‪َ ‬و َسخ َ‬
‫ايت لَِق ْوٍم يَـ ْع ِقلُو َن‬ ‫ات ِأب َْم ِرهِ إِ َّن ِيف ذَلِ َ‬
‫ك َآل ٍ‬ ‫َّر ٌ‬‫وم ُم َسخ َ‬ ‫اج ُ‬ ‫س َوالْ َق َم َر َوالن ُ‬ ‫ار َو َّ‬
‫الش ْم َ‬ ‫َّر لَ ُك ُم اللَّْي َل َوالنـ َ‬
‫َّه َ‬ ‫َو َسخ َ‬
‫‪[ ‬النحل‪.]12:‬‬
‫‪ .3‬أن هذا التسخري يسري وفق قواعد اثبتة مستمرة‪ ،‬وهذا ما يسهل االنتفاع به‪ ،‬يقول تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫َن َّ ِ‬
‫َج ٍل‬‫س َوالْ َق َم َر ُكلٌّ َْجي ِري إِ َىل أ َ‬ ‫َّر َّ‬
‫الش ْم َ‬
‫َّه َ َّ‬
‫ار ِيف الل ْي ِل َو َسخ َ‬ ‫اَّللَ يُول ُج اللَّْي َل ِيف النـ َ‬
‫َّها ِر َويُول ُج النـ َ‬ ‫‪ ‬أََملْ تَـ َر أ َّ‬
‫س يَـ ْنـبَ ِغي َهلَا أَ ْن تُ ْد ِر َك الْ َق َم َر‬ ‫اَّللَ ِمبَا تَـ ْع َملُو َن َخبِري‪[ ‬لقمان‪ ،]29:‬وقال تعاىل‪  :‬ال َّ‬
‫الش ْم ُ‬ ‫ُم َسمى َوأ َّ‬
‫َن َّ‬
‫ٍ‬ ‫َّها ِر وُكلٌّ ِيف فَـلَ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ك يَ ْسبَ ُحو َن ‪[ .‬يـس‪ ]40:‬وقال تعاىل‪  :‬إِ َّان ُك َّل َش ْيء َخلَ ْقنَاهُ‬ ‫َوال الل ْي ُل َساب ُق النـ َ َ‬
‫َّ‬
‫بَِق َد ٍر‪[ .‬القمر‪]49:‬‬
‫الس َم ِاء َو ِه َي ُد َخا ٌن فَـ َق َ‬
‫ال‬ ‫استَـ َوى إِ َىل َّ‬‫‪ .4‬أن الكون كله مطيع هلل مسبح له‪ ،‬يقول تعاىل‪ُ  :‬مثَّ ْ‬
‫ني ‪[ ‬فصلت‪ ،]11:‬وقال تعاىل‪  :‬تُ َسبِ ُح لَهُ‬ ‫ض ائْتِيَا طَْوعا أ َْو َك ْرها قَالَتَا أَتَـ ْيـنَا طَائِِع َ‬ ‫َهلَا َولِ ْأل َْر ِ‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوَم ْن في ِه َّن َوإِ ْن م ْن َش ْيء إَِّال يُ َسبِ ُح حبَ ْمده َولَك ْن ال تَـ ْف َق ُهو َن تَ ْسبِ َ‬
‫يح ُه ْم إِنَّهُ‬ ‫الس ْب ُع َو ْاأل َْر ُ‬
‫ات َّ‬ ‫الس َم َاو ُ‬ ‫َّ‬
‫َكا َن َحلِيما غَ ُفورا ‪[ .‬اإلسراء‪]44:‬‬
‫‪ .5‬إن ي تعاىل أمر اإلنسان يف آايت كثرية أن ينظر يف الكون نظر أتمل وتفكر‪ ،‬وذلك‬
‫بدراسة السنن والقواعد والقوانني اليت يسري عليها لكي يتمكن من االنتفاع به وتسخريه ملصاحله‪ ،‬قال‬
‫ايت َوالنا ُذ ُر َع ْن قَـ ْوٍم ال يُـ ْؤِمنُو َن ‪‬‬
‫ض َوَما تُـغْ ِين ْاآل ُ‬ ‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫تعاىل‪  :‬قُ ِل انْظُُروا َما َذا ِيف َّ َ َ‬
‫الس َم ِاء َك ْي َ‬
‫ف‬ ‫ت‪َ .‬وإِ َىل َّ‬ ‫ف ُخلِ َق ْ‬ ‫[يونس‪ ]101:‬ويقول عز من قائل‪  :‬أَفَال يـ ْنظُرو َن إِ َىل ِْ‬
‫األبِ ِل َك ْي َ‬ ‫َ ُ‬
‫ت ‪[ .‬الغاشية‪]20- 17:‬‬ ‫ف ُس ِط َح ْ‬‫ض َك ْي َ‬‫ت‪َ .‬وإِ َىل ْاأل َْر ِ‬ ‫ف نُ ِ‬
‫صبَ ْ‬ ‫ت‪ .‬وإِ َىل ا ْجلِبَ ِ‬
‫ال َك ْي َ‬ ‫ِ‬
‫ُرف َع ْ َ‬
‫‪ .6‬على الباحثني االهتمام ابلبحث خاصة العلم والبحث التجريبيني‪ ،‬وهو منهج سلكه‬
‫علماؤان السابقون عندما طبقوا املنهج القرآين يف النظر والتأمل‪ ،‬فربعوا يف علوم كان هلا أكرب األثر يف‬

‫‪38‬‬
‫ازدهار علوم الغرب يف عصران احلاضر‪ ،‬يقول نيكلسون(‪ " :)86‬وما املكتشفات اليوم لتحسب شياا‬
‫مذكورا إزاء ما حنن مدينون به للرواد العرب(‪ )87‬الذين كانوا مشاعل وضاءة يف القرون الوسطى‬
‫املظلمة‪ ،‬والسيما يف أوراب‪ ،‬فلو مل يظهر احلسن بن اهليثم الضطر إسحاق نيوتن أن يبدأ من حيث بدأ‬
‫اهليثم‪ ،‬ولو مل يظهر جابر بن حيان لبدأ جاليليو من حيث بدأ جابر بن حيان "‪)88( .‬‬
‫لقد مت أتليف القسم األكرب من كتاب احلاوي للرازي من سجل دقيق ملالحظاته على مرضاه‬
‫أثناء سري املرض‪ ،‬وكان الرازي أول من وصف بدقة ووضوح مرض احلصبة ومرض اجلدري …‪ ،‬وقد‬
‫ترجم هذا الكتاب إىل اللغة الالتينية‪ ،‬وبقي مرجعا يدرس يف اجلامعات األوربية حىت منتصف القرن‬
‫الرابع عشر للميالد‪)89(.‬‬
‫ومما جيدر ذكره يف هذا املقام أن مباحث حممد بن موسى يف حركة األجرام السماوية وخوا‬
‫اجلذب سابقة لبحوث نيوتن يف هذا اجملال‪)90(.‬‬
‫مما يتفرع على عالقة اإلنسان ابلكون‪ ،‬حث اإلسالم على احلفاظ على البياة‪ ،‬وهذا ما سنتناوله‬
‫فيما أييت‪:‬‬
‫ثقافة اإلنسان يف احملافظة على البيئة‬
‫"يعد اإلنسان أهم عامل حيوي وفعال يف البياة‪ ،‬وبياة اإلنسان‪ :‬مكان سكناه‪ ،‬وكل ما حييط به من‬
‫عناصر طبيعية كاملاء واهلواء والرتبة والكائنات احلية من نبات وحيوان‪ ،‬وعناصر بشرية تشمل اإلنسان‬
‫أبنشطته املتنوعة الزراعية والصناعية وغريها"(‪)91‬‬
‫لقد مرت عالقة اإلنسان ببياته بتطورات كثرية‪ ،‬وزاد نشاطه يف استغالل موارد البياة‪ ،‬وخباصة عندما‬
‫جاءت مرحلة الصناعة‪ ،‬واستخدام املواد الكيماوية‪ ،‬وتلويث اجلو أبدخنة املصانع‪ ،‬فظهرت مشكالت‬

‫‪ )86‬رينولد ألني نيكلسون (‪ 1364 - 1285‬ه ‪ 1945 - 1868 /‬م) مستشرق إنگليزي‪ .‬ختصص يف التصوف واألدب الفارسي‪ .‬له مقاالت كثرية يف‬
‫دائرة معارف الدين واألخالق و دائرة معارف اإلسالم‪ .‬انظر ‪https://ar.wikipedia.org‬‬
‫‪ ) 87‬ينبغي أن يقال‪ :‬املسلمني‪.‬‬
‫‪ ) 88‬ازدهار العلوم والفنون اإلسالمية‪ ،‬اهلمشري وزمياله‪.18/‬‬
‫‪ ) 89‬انظر املصدر السابق‪.102/‬‬
‫‪ ) 90‬املصدر السابق‪.111/‬‬
‫‪ )91‬املدخل إىل علم اجلغرافيا والبيئة‪ ،‬حممد حممود حممدين‪.327/‬‬

‫‪39‬‬
‫بياية عديدة‪ .)92(.‬ولقد نظم اإلسالم عالقة اإلنسان ابلبياة‪ ،‬فأرشده إىل أمور مهمة‪ ،‬تشكل قيما‬
‫يسري على منهاجها‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ .1‬قيم المحافظة‪ :‬وذلك ابحملافظة على كل ما حييط بنا من هواء‪ ،‬ومياه‪ ،‬ونبات‪ ،‬وهدوء‪،‬‬
‫وطرقات‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫‪ .2‬قيم االستغالل‪ :‬وتعىن ابستغالل املوارد املتاحة ابعتدال دون إسراف‪.‬‬
‫‪ .3‬قيم جمالية‪ :‬فقد وجه الدين احلنيف إلشاعة اجلمال يف احلياة‪ ،‬ابتداء من جعلها ْ‬
‫جزء من‬
‫العبادات‪ ،‬كالوضوء واالغتسال‪ ،‬وانتهاء ابلسنن اليت ال يكاد احلصر حيدها‪ ،‬اجلمال يف اهلياة وامللبس‪...‬‬
‫وحىت املركوب‪ ،‬يقول تعاىل‪  :‬ولكم فيها مجال حني ترحيون وحني تسرحون ‪)93(.‬‬
‫وإن كان من وقفة هنا فإننا نلفت االنتباه إىل أن ي تعاىل بني أن ما حيصل للبياة من فساد مرده‬
‫اإلنسان‪ ،‬قال تعاىل‪  :‬ظهر الفساد يف الرب والبحر مبا كسبت أيدي الناس‪  ...‬واملعىن‪ " :‬أبن النقص يف‬
‫الزروع والثمار بسبب املعاصي‪ .‬وقال أبو العالية‪ :‬من عصى ي يف األرض فقد أفسد يف األرضل ألن‬
‫صالح األرض والسماء ابلطاعة"‪ )94(.‬فاملعاصي سبب رئيس لفساد البياة‪ ،‬وهو أمر يستدعي التيقظل‬
‫ألننا نلحظ أن كثريا من املنظرين يرجعون األمر للفساد احلسي‪ ،‬وذلك حق‪ ،‬وقد نص عليه القرآن الكرمي‪،‬‬
‫اد ‪[ ‬البقرة‬
‫سَ‬ ‫اَّللُ َال ُِحي ا‬
‫ب الْ َف َ‬ ‫قال ‪  :‬وإذا توىل سعى يف األرض ليفسد فيها ويهلك احلرث والنسل‪َ ،‬و َّ‬
‫من اآلية‪ ]205‬غري أن اإلفساد ابملعاصي‪ ،‬وأعظمها الكفر ابهلل تعاىل‪ ،‬ال يذكر عند كثري من املنظرين‪،‬‬
‫فوجب التنبيه له‪ .‬وإذا كنا مطالبني أن نفهم العبادة مبعناها الشامل‪ ،‬فإنه يتحتم علينا أن نفهم اإلفساد ِبذا‬
‫املعىن أيضا‪.‬‬
‫إن اآلية اليت سبق ذكرها تنكر على من يسعى يف إفساد األرض‪ ،‬وإهالك احلرث والنسل‪ ،‬وتبني‬
‫أن ي تعاىل ال حيب الفساد‪ ،‬لتعم كل من يفعل هذا الفعل على مر األزمان‪ ،‬أاي كان نوع هذا الفساد‪.‬‬

‫‪ )92‬انظر املصدر السابق‪ 327 /‬ـ ‪328‬‬


‫‪ ) 93‬انظر الرتبية البيئية يف اإلسالم‪ ،‬مفهومها وأهدافها‪ ،‬د‪ .‬صالح عبد السميع‪ ،‬موقع‬
‫‪http://www.khayma.com/almoudaress/takafah/kiamalbia.htm‬‬
‫‪ ) 94‬تفسري القرآن العظيم‪.180/1‬‬

‫‪40‬‬
‫ونستطيع أن نلخص عالقة اإلنسان ابلبياة الىت يعيش فيها‪ ،‬أبهنا عالقة عضوية متينة‪ ،‬يتبادل من خالهلا اإلنسان‬
‫ُح ٌد َجبَ ٌل‬
‫مع البياة مشاعر احلب واملودة‪ ،‬وقد صور النيب صلى ي عليه وسلم ذلك عندما قال عن جبل أحد ( أ ُ‬
‫ُِحيباـنَا َو ُِحنباهُ)‪)95(.‬‬

‫‪ )95‬صحيح البخاري برقم‪.1482/‬‬

‫‪41‬‬
‫املبحث الثاني‬
‫السنة النبوية‬
‫املصدر الثاني للثقافة اإلسالمية‬
‫د‪ .‬طري نقد (*)‬

‫تعريف السنة وبيان أنواعها‪:‬‬


‫الس ـ ــنة يف اللغة‪ :‬الس ـ ــنة يف اللغة تعين الطريق الذي س ـ ــنه أوائل الناس فص ـ ــار مس ـ ــلكا ملن بعدهم‪،‬‬
‫وتطلق على الطريقة والسرية‪ ،‬وعلى الطريقة املستقيمة احملمودة(‪.)1‬‬
‫السنة يف اصطالح العلماء‪:‬‬
‫السـ ـ ــنة عند علماء احلديث والرواية تعين ما ثبت عن النيب صـ ـ ــلى ي عليه وسـ ـ ــلم من قول أو‬
‫فعل أو تقرير أو صفة َخل ِْقية أو ُخلُِقية‪ ،‬قبل البعثة أو بعدها(‪.)2‬‬
‫فالســنة عندهم هي ما ثبتت نســبته إىل النيب صــلى ي عليه وســلم مما يعد حجة يف أحكام الشــرع‪،‬‬
‫وتشــمل األحاديث الصــحيحة واحلســنة‪ ،‬أما ما مل يثبت من األحاديث الضــعيفة والواهية واملوضــوعة‬
‫فليس من السنة يف شيء‪ ،‬وال يصح أن ينسب إىل النيب صلى ي عليه وسلم‪ ،‬وليس حبجة يف إثبات‬
‫األحكام الشرعية‪.‬‬
‫أما عند علماء العقيدة فالسـنة تطلق على ما وافق الشـرع من العقائد الصـحيحة‪ ،‬والبدعة على‬
‫ما خالف االعتقاد الص ـ ــحيح‪ ،‬فيقال فالن على س ـ ــنةل إذا فعل ما يوافق الس ـ ــنة‪ ،‬وفالن على بدعةل‬
‫إذا فعل ما خيالف السنة(‪ ،)3‬وقد يقال فالن مبتدع‪ ،‬أو هو من املبتدعة‪.‬‬

‫(*) استاذ احلديث وعلومه املساعد بكلية اآلداب ـ جامعة البحرين‪.‬‬


‫(‪ )1‬هتذيب اللغة ‪ 120/12‬ولسان العرب ‪.2124/3‬‬
‫(‪ )2‬السنة ومكانتها يف التشريع اإلسالمي ص ‪.47‬‬
‫(‪ )3‬املوافقات ‪ 2/4‬والسنة ومكانتها يف التشريع اإلسالمي ص ‪.48‬‬

‫‪42‬‬
‫وأما عند الفقهاء فالسـ ـ ـ ــنة تعين ما ثبت عن النيب صـ ـ ـ ــلى ي عليه وسـ ـ ـ ــلم من غري افرتاض وال‬
‫وجوب‪.‬‬
‫أنواع السنن‪:‬‬
‫من التعريف األسـ ــبق لعلماء احلديث والرواية يتضـ ــح أن السـ ــنن قد تكون قولية‪ ،‬أو فعلية‪ ،‬أو‬
‫تقريرية‪ ،‬أو صفات نبوية شريفة‪.‬‬
‫السنة القولية‪:‬‬
‫األقوال النبوية هي أكثر أنواع السـنن ورودا‪ ،‬ومنها األحاديث القدسـية اليت ينسـبها النيب صـلى‬
‫ي عليـه وس ـ ـ ـ ـ ــلم إىل ربـه عز وجـل‪ ،‬ومنهـا أحـاديـث جوامع الكلمل وهي األحـاديـث اليت جتمع املعـاين‬
‫الكثرية يف ألفاظ قليلة‪ ،‬وتبني الفصاحة والبالغة النبوية‪ ،‬ومنها أحاديث األذكار واألدعية‪ ،‬وأحاديث‬
‫البيان القويل لألحكام الشـ ــرعية‪ ،‬وأحاديث تفسـ ــري القرآن الكرمي‪ ،‬وأحاديث القصـ ــص واألخبار عن‬
‫األمم الســابقة‪ ،‬وأحاديث الفنت واملالحم وعالمات الســاعة‪ ،‬واإلجاابت عن أســالة الصــحابة الكرام‬
‫وفتاواهم‪ ،‬والردود على أهل الكتاب واملشـ ــركني واملنافقني‪ ،‬ومن الس ـ ـنن القولية ما ُكتب من رسـ ــائل‬
‫للملوك أو لعمال النيب ص ــلى ي عليه وس ــلم يف أحناء جزيرة العرب‪ ،‬أو للقبائل‪ ،‬أو للوفود اليت أتيت‬
‫إليه‪ ،‬واملعاهدات بينه وبني قبائل العرب‪.‬‬
‫والس ـ ــنن القولية تش ـ ــتمل على األحكام الش ـ ــرعية اخلمس ـ ــةل وهي الواجب واملس ـ ــتحب واملباح‬
‫(احلالل) واملكروه واحملرم‪.‬‬
‫السنة الفعلية‪:‬‬
‫يقصــد ِبا كل ما فعله الرســول صــلى ي عليه وســلمل كأفعال الصــالة من قيام وركوع وســجود‪،‬‬
‫وأفعال احلج من طواف وسـ ـ ـ ـ ــعي ووقوف بعرفة ورمي مجرات وحنوها‪ ،‬وهي يُـتَأَ َّسـ ـ ـ ـ ـى ِبا‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫اَّلل والْيـوم ْاآل ِخر وذَ َكر َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـول َِّ‬
‫(لََق ْد َكا َن لَ ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـم ِيف َر ُس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ريا)‬
‫اَّللَ َكث َ‬ ‫ُس َوةٌ َح َسنَةٌ لـ ـ ـ ـ َـم ْن َكا َن يَـ ْر ُجوا ََّ َ َ ْ َ َ َ َ‬
‫اَّلل أ ْ‬
‫(األحزاب ‪.)21‬‬

‫‪43‬‬
‫الس ــنة الفعلية تدل على االس ــتحباب يف أمور العبادات والش ــعائر‪ ،‬فإذا ص ــلى النيب ص ــلى ي‬
‫عليه وســلم صــالة غري واجبة‪ ،‬ومل أيمر ِبا لفظا‪ ،‬أو صــام يوما معينا‪ ،‬ومل أيمر بصــيامهل صــارت ســنته‬
‫ُج َر‪ ،‬ومن تركه فال إمث عليه‪.‬‬ ‫الفعلية دالة على استحباب ذلك العمل‪ ،‬فمن فعله أ ِ‬
‫وتدل السـنة الفعلية على اإلابحة يف أمور العاداتل فإذا أكل النيب صـلى ي عليه وسـلم طعاما‬
‫معينا‪ ،‬أو لبس نوعا معينا من األقمشة كالقطنل دل ذلك على إابحته‪.‬‬
‫وال تدل السـ ـ ــنة الفعلية على الوجوب إال إذا كانت تنفيذا حلكم أمر به القرآن الكرمي‪ ،‬أو بياان‬
‫مثل فِ ْع ِل النيب صـلى ي عليه وسـلم فيما ليس بواجب فهو حمسـن‬
‫ألمر أوجبه‪ ،‬ومن َمثَّ فإن من فَـ َعل َ‬
‫مأجور‪ ،‬ومن مل يعمل فال أبس عليه‪ ،‬إال أن يكون تركه لتلك الس ـ ـ ـ ــنة رغبة عن اهلدي النبوي‪ ،‬وكرها‬
‫له‪.‬‬
‫وإذا حافظ النيب صــلى ي عليه وســلم على فعل شــيء من األعمال بصــورة مســتمرة دل ذلك‬
‫على أنه مس ــتحبل فإذا هناهم عما خيالف ما يفعله‪ ،‬مث فعل مرة واحدة ما هناهم عنه‪ ،‬دل فعله على‬
‫جوازه مع الكراهةل ألنه إذا مل يفعله مطلقا ْلوا النهي على حرمة ترك ذلك الفعل‪.‬‬
‫والس ــنة الفعلية ال تدل على حرمةل ألن النيب ص ــلى ي عليه وس ــلم ال يفعل حمرما على األمة‪،‬‬
‫إال يف اخلص ـ ـ ــائص النبوية فإنه قد يفعل أمرا وينهى األمة عنهل كوص ـ ـ ــال الص ـ ـ ــوم لثالثة أايم بلياليها‪،‬‬
‫والزواج أبكثر من أربع نساء‪.‬‬
‫السنة التقريرية‪:‬‬
‫هي أن يرى النيب صلى ي عليه وسلم أحدا يقول قوال أو يفعل فعال‪ ،‬فيسكت النيب صلى ي‬
‫عليه وسـ ـ ـ ــلم‪ ،‬وال ينكر عليه‪ ،‬وهي تفيد اإلابحة يف أمور املعامالت والعاداتل ألن النيب صـ ـ ـ ــلى ي‬
‫عليه وســلم ال يســكت على ابطل(‪ .)4‬وتفيد االس ـتحباب يف أمور العبادات كالســنة الفعلية‪ ،‬إال أهنا‬
‫ليسـت يف درجة اسـتحباب ما حافظ النيب صـلى ي عليه وسـلم على فعله من السـنن‪ ،‬أو حث عليه‬
‫املسلمني‪.‬‬

‫(‪ )4‬اإلحكام يف أصول األحكام ‪ 210 -207/1‬وإرشاد الفحول ص ‪.41‬‬

‫‪44‬‬
‫وإذا ظهرت الكراهة على وجه النيب صلى ي عليه وسلم دون أن يتكلمل دل ذلك على كراهة‬
‫ي ص ــلى ي عليه وس ــلم أَ َشـ ـ َّد َحيَـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ِم َن‬
‫ول ِ‬
‫ذلك الفعل‪ ،‬عن أيب س ــعيد اخلدري قال‪َ ( :‬كا َن َر ُسـ ـ ُ‬
‫العـ ـ ْذ َر ِاء ِيف ِخ ْد ِرَها‪َ ،‬وَكـ ــا َن إِذَا َك ِرهَ َش ْيـاَا َع َرفْـنَـ ــاهُ ِيف َو ْج ِه ِه)(‪ ،)5‬ومن الواضح أن املقصود من احلديث‬
‫َ‬
‫هو الكراهة الشرعية‪ ،‬ال الطبعية‪.‬‬
‫وال تدل الســنة الفعلية على الوجوبل ألن الوجوب حيتاج إىل أمر صــريح‪ ،‬واألصــل براءة الذمة‬
‫من التكليف حىت أييت األمر به‪ ،‬وال تدل على حترميل ألن النيب صلى ي عليه وسلم ال يسكت على‬
‫ابطل‪.‬‬
‫َ ْ َّ‬ ‫ُ ُ َّ‬
‫الصفات اخلل ِقية واخلل ِقية‪:‬‬
‫صـ ـ ــفات النيب صـ ـ ــلى ي عليه وسـ ـ ــلم اخلُلُقية تظهر من أقواله أو أفعاله أو تقريراته‪ ،‬وهلا حكم‬
‫أنواع السنن الثالثة‪.‬‬
‫أما الصـفات اخلَل ِْقيَّة فيقصـد ِبا صـفات اجلسـد‪ ،‬وبعضـها ميكن االقتداء به فيها‪ ،‬وهي ما ميكن‬
‫إزالته أو إبقاؤه من شعث اجلسدل كقص األظافر‪ ،‬وحف الشارب‪ ،‬وإعفاء اللحية‪ ،‬وحنوها‪.‬‬
‫وبعض ـ ـ ـ ـ ـهـا ال ميكن االقتـداء بـه فيهـال كـالص ـ ـ ـ ـ ــورة اخلَل ِْقيـة اليت خلقـه ي تعـاىل عليهـا‪ ،‬ولكن هلـا‬
‫فـائـداتن‪ ،‬األوىل‪ :‬أهنـا من دالئـل النبوة‪ ،‬كخـامت النبوة‪ ،‬ومن خالل النظر إليهـا ميكن أن يهتـدي بعض‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬وتقوم ِبا احلجة على من أعرض عن اإلسالم‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬يف رؤاي النيب صـلى ي عليه وسـلم يف النوم‪ ،‬فمن رآه على صـورته اليت خلقه ي عليها‬
‫(م ْن‬
‫كما وصفته األحاديث فقد رآه حقا‪ ،‬عن جابر بن عبد ي عن النيب صلى ي عليه وسلم قال‪َ :‬‬
‫ر ِآين ِيف النـَّوِم فَـ َق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْد ر ِآينل فَِإنَّهُ ال يـ ْنـب ِغي لِ َّ ِ‬
‫ـورِيت)‪ ،‬ويف رواية‪( :‬أَ ْن يَـتَ َشبَّهَ‬ ‫َّل ِيف ُ‬
‫صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫لش ْيطَان أَ ْن يَـتَ َمث َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِيب)(‪ ،)6‬ويف الباب عدة أحاديث يف الص ــحيحني ِبذا املعىن‪ ،‬ومن َمثَّ فمن رآه على غري تلك الص ــورة‬
‫فإنه مل يره‪.‬‬
‫مروايت ما قبل البعثة‪:‬‬

‫(‪ )5‬رواه الشيخان واللفظ ملسلم (‪.)2320‬‬


‫(‪ )6‬روا مسلم (‪،)2268‬‬

‫‪45‬‬
‫السـنن املطلوب اتباعها هي ما صـدر عن النيب صـلى ي عليه وسـلم بعد البعثة‪ ،‬أما ما صـدر قبل‬
‫البعثة فإن كان موافقا ملا بعدها فهو شرع بشريعة اإلسالم‪ ،‬كصفاته اخلُلُِقيَّة من صدق وأمانة وحنوهال‬
‫فهذه تزداد ابإلسالم كماال‪.‬‬
‫وأما ما كان خمالفا لشــريعة اإلســالم بعد البعثة فليس بشــرع لنا‪ ،‬كتبنيه صــلى ي عليه وســلم زيد‬
‫بن حارثة رضي ي عنه‪.‬‬
‫أما ما وقع للنيب صـ ــلى ي عليه وسـ ــلم من أمور خارقة للعادةل كحادثة شـ ــق الصـ ــدر‪ ،‬فهي من‬
‫إرهاصـ ــات النبوة‪ ،‬وما وقع له من أمور قدرية تشـ ــري إىل اصـ ــطفائه للنبوةل كوالدته عام الفيل‪ ،‬وبعده‬
‫عن الشــرك‪ ،‬وعن أمور اجلاهلية‪ ،‬وحل مشــكلة رفع احلجر األســود‪ ،‬ونيله شــرف وضــعه يف موض ـعه‪،‬‬
‫واتصافه ابلصدق واألمانة‪ ،‬وجبميع مكارم األخالقل فهي من دالئل النبوة‪.‬‬
‫حجية السنة النبوية‪:‬‬
‫أنكر حجية السـ ـ ــنة بعض املعاصـ ـ ـرين الذين يريدون التالعب ابلقرآن الكرميل ألن السـ ـ ــنة تبني‬
‫ص ـ َي البيان والتوضــيح ســهل التالعب ايت الكتاب‪ ،‬وســهل‬ ‫القرآن‪ ،‬وتوضــح املراد منه‪ ،‬فإذا ما أُقْ ِ‬
‫عليهم إقصـاء اآلايت اجململة واملطلقة‪ ،‬وسـهل ْلها على غري مراد ي عز وجل منها‪ ،‬ويف السـنة من‬
‫القرآن الكرمي(‪.)7‬‬ ‫الضوابط والتفاصيل ما مينع تالعب املتالعبني بنصو‬
‫الس ــنة حجة ملزمة يف األحكام الش ــرعية بال خالف بني العلماء‪ ،‬وقد دل على حجيتها القرآن‬
‫الكرمي نفسه ايت كثرية جدا‪ ،‬وأساليب متعددة(‪ ،)8‬منها اآليت‪:‬‬
‫جعـل ي الس ـ ـ ـ ـ ـنـة بيـاان لكتـابـه‪ ،‬وأعطى رس ـ ـ ـ ـ ــولـه حق البيـان‪ ،‬وقـال‪( :‬وأَنْـزلْنَـا إِلَيـ َ ِ ِ‬
‫ك الـذ ْك َر لتُـبَِ َ‬
‫ني‬ ‫َ َ ْ‬ ‫‪-1‬‬
‫َّاس ما نـُ ِز َل إِلَي ِهم ولَعلَّهـ ــم يـتَـ َف َّكرو َن) (النحل ‪ ،)44‬وقال تعاىل‪( :‬وما أَنْـزلْنَا َعلَي َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـب‬
‫ك الْكتَـ ـ ـ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫ْ ََُْ َْ ُ‬ ‫للن ِ َ‬
‫ني َهلـُ ُـم الَّ ِذي ا ْختَـلَ ُفوا فِ ِيه) (النحل‪.)64‬‬ ‫ِ‬
‫إَِّال لتُـبَِ َ‬
‫اع مِِ ْذ ِن ِ‬
‫ي) (النسـ ــاء‬ ‫‪ -2‬أرسـ ــل ي الرسـ ــل ليطاعوا‪ ،‬وقال‪( :‬وَما أ َْر َس ـ ـلْنَا ِم ْن ِر ُس ـ ـ ٍ‬
‫ول إَِّال لِيُطَ َ‬ ‫َ‬
‫‪.)64‬‬

‫(‪ )7‬دراسات يف احلديث النبوي واتريخ تدوينه ‪ 29 -26/1‬حنو ثقافة إسالمية أصيلة ص ‪.196 -195‬‬
‫(‪ )8‬انظر‪ :‬الرسالة ص ‪ 94 -84‬واملوافقات ‪ 7/4‬واإلحكام يف أصول األحكام ‪ 139/1‬والسنة ومكانتها يف التشريع اإلسالمي ص ‪ 56 -50‬و‪-143‬‬
‫‪.186‬‬

‫‪46‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -3‬جعل ي طاعة ي ورسوله شرطا لإلميان‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬
‫(وأَطيعُـ ــوا يَ َوَر ُسـ ــولَهُ إِ ْن ُك ْنـتُم امـ ـ ْـؤمنِ َ‬
‫ني)‬ ‫َ‬
‫(األنفال ‪.)1‬‬
‫(وَما َكا َن لِ ُم ْؤِم ٍن‬ ‫‪ -4‬مل جيعل ي ألحد خيارا مع السـ ــنة‪ ،‬وجعل خمالفتها ضـ ــالال مبينا‪ ،‬وقال‪َ :‬‬
‫ص يَ‬ ‫اخلِيَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـرةُ ِم ْن أ َْم ِرِه ْم َوَم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـن يَـ ْع ِ‬
‫ضى يُ َوَر ُسولُهُ أ َْم َرا أَ ْن يَ ُكو َن َهلُ ُم ْ‬ ‫َوَال ُم ْؤِمنَ ٍة إِذَا قَ َ‬
‫ضلَ ـ ـ َـال ُمبِينَا) (األحزاب ‪.)36‬‬ ‫ـل َ‬
‫ضـ َّ‬ ‫َوَر ُســولَهُ فَـ َق ْد َ‬
‫(وإِذَا‬
‫‪ -5‬جعل ي عدم الرضــا حبكم النيب صــلى ي عليه وســلم من عالمات النفاق‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫ودا)‬
‫ص ُد َ‬ ‫ص ادو َن َع ْن َ‬ ‫ِِ‬ ‫قِيَ َل لَ ـ ُـه ـ ـ ْـم تَـ َع ـ ــال َْوا إِ َىل َما أَنْـ َز َل يُ َوإِ َىل َّ‬
‫الر ُس ِ‬
‫ك ُ‬ ‫ني يَ ُ‬ ‫ت ال ُْمنَ ـ ـ ـ ـ ـ ــفق َ‬ ‫ول َرأَيْ َ‬
‫(النساء ‪.)61‬‬
‫وكــان يكفي يف إجيــاب احلكم أن تــدل عليــه آيــة واحــدة من القرآن الكرميل إال أن توارد آايت‬
‫كثرية على حكم واحد دليل واضـ ـ ــح على علو مكانة ذلك احلكم يف الشـ ـ ــريعة‪ ،‬وأنه من أركان دين‬
‫اإلســالم‪ ،‬ومن هنا يتبني أن من ترك األخذ ابلســنة النبوية فقد ترك األخذ ابلقرآن الكرمي نفســه‪ ،‬وإن‬
‫زعم أنه يتبعه‪.‬‬
‫هلذا كله‪ ،‬ولكثرة اآلايت الدالة على حجية الس ـ ـ ـ ــنة‪ ،‬وعظم مكانتها يف بيان دين ي عز وجلل‬
‫فقد قرر العلماء أنه ال جيوز ألحد أن يرد احلديث الثابت سندا ومتنا(‪.)9‬‬
‫والعقـل يـدل على أنـه ال ميكن ألحـد أن يطبق القرآن الكرمي كمـا أراد ي عز وجـل إال ابلرجوع‬
‫الزَكـ ـ ــوةَ َو ْارَكعُوا َم َع الـ ـ ـ َّـركِـ ـ ِـع ـي ـ َن) (البقرة‬
‫الصلَـ ـ ــوةَ َوءَاتُـ ــوا َّ‬
‫يموا َّ‬‫إىل السنة النبوية‪ ،‬فمثال قوله تعاىل‪ِ :‬‬
‫(وأَق ُ‬
‫َ‬
‫‪ ،)43‬كم يصــلي املســلم من الصــلوات يف اليوم والليلة‪ ،‬وكم يركع يف كل صــالة‪ ،‬وكم يســجد يف كل‬
‫ركعة‪ ،‬وكيف يركع ويسـ ـ ـ ــجد ما مل أيخذ ذلك من السـ ـ ـ ــنة النبوية‪ ،‬وعلى ذلك قس تفاصـ ـ ـ ــيل الزكاة‪،‬‬
‫وسائر األحكام الشرعية‪.‬‬
‫منزلة السنة النبوية من الشريعة‪:‬‬
‫القرآن الكرمي مصـدر الشـريعة األول‪ ،‬وهو كالم ي عز وجل‪ ،‬وكله منقول ابلتواتر كما نزل من‬
‫رب العاملني‪ ،‬ومتعبد بتالوته‪ ،‬ويقرأ به يف الصـ ـ ــالة‪ ،‬وال ميسـ ـ ــه إال املطهرون‪ ،‬ومتحدى أبلفاظه‪ ،‬وهو‬

‫(‪ )9‬اختالف احلديث ص ‪ 59‬ونزهة النظر ص ‪ 42 -41‬و‪.51‬‬

‫‪47‬‬
‫معجزة اإلســالم الباقية إىل آخر الزمان‪ ،‬والســنة ليســت مثله يف شــيء من ذلك‪ ،‬وإمنا هي دونهل لذا‬
‫تعد املصدر الثاين للشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫يظن بعض الناس أن الســنة ما دامت املصــدر الثاين فهذا يعين أن يُبحث عن حكم املســائل يف‬
‫القرآن الكرمي أوال‪ ،‬فإن ُوجد فيه حكم مت تطبيقه دون الرجوع إىل الســنة‪ ،‬وإمنا يُرجع إىل الســنة ما مل‬
‫يوجد حكم للمسألة يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫السا ِرقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْ ِديَـ ُه َما)‬
‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫(و َّ‬
‫هذا الرأي خطأ‪ ،‬ويوقع يف خمالفات للشرعل فقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫(املائدة ‪ ،)38‬لو طُبِـ ـ ـ ـ ــق دون رجوع إىل السنةل ل ُقطع كل من سرق قليال أو كثريا‪ ،‬وسواءٌ أسرق من‬
‫ِح ــرز أو من غري حرٍز‪ ،‬وسواء أكان مضطرا لألكل أو غري مضطر‪ ،‬وهذا ابطل‪ ،‬وقوله تعاىل‪َّ :‬‬
‫(الزانِيَةُ‬
‫ـل َو ِحـ ـ ـ ٍـد ِم ْنـ ُه َما ِمائَةَ َج ْل َدةٍ) (النور ‪ ،)2‬لو اكتفى فقيه مبا ورد يف هذه اآلية دون‬
‫اجلِـ ـ ـ ُدوا ُكـ ـ ـ َّ‬
‫الز ِاين فَ ْ‬
‫َو َّ‬
‫رجوع إىل السنةل ألبطل حد الرجم على احملصن‪.‬‬
‫كم مل يرد يف الســنة بشــأنه شــيء‪ ،‬وال‬
‫والصــواب البحث أوال يف القرآن الكرميل فإن ُوجد فيه ُح ٌ‬
‫تفصـ ــيل‪ ،‬وال ختصـ ــيص‪ ،‬وال تقييد‪ ،‬وال شـ ــرطل طُبِ َق ُحكم القرآن الكرمي‪ ،‬فإن جاء احلكم يف القرآن‬
‫الكرمي‪ ،‬وورد يف الس ــنة النبوية ش ــيء بش ــأن ذلك احلكمل فإنه ال جيوز االقتص ــار يف االس ــتنباط على‬
‫القرآن الكرمي دون الس ـ ـ ـ ــنة النبوية اليت هي ش ـ ـ ـ ــرحه وبيانهل حىت ال هتمل الس ـ ـ ـ ــنن اليت جاءت لبيان‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫فالصـواب عند البحث عن احلكم الشـرعي ملسـألة ما أن ُجتمع كل أدلتها من القرآن والسـنة معا‬
‫يف آن واحد‪ ،‬مث يوض ــع كل نص يف موض ــعه املناس ــب لهل فالس ــنة من احلق الذي أوحى ي عز وجل‬
‫به لرس ــوله ص ــلى ي عليه وس ــلمل لبيان أحكام الدين للعبادل لذا عند علماء احلديث وأص ــول الفقه‬
‫تعد منزلة السـنة يف بيان األحكام كمنزلة القرآن الكرمي(‪ ،)10‬ويدل على ذلك القرآن الكرمي يف آايت‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس َما نُـ ِز َل إِل َْي ِه ْم َول ََعلَّ ُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـم‬ ‫كثرية دالة على حجية السـنة‪ ،‬كقوله تعاىل‪( :‬وأَنْـزلْنَا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك الذ ْك َر لتُـبَِ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫يَـتَـ َف َّك ُرو َن) (النحل ‪ ،)44‬وال يتم تبيني القرآن الكرمي‪ ،‬وال تطبيقه تطبيقا موافقا ملراد ي عز وجل إال‬

‫(‪ )10‬انظر‪ :‬الكفاية يف علم الرواية ص ‪ 27 - 23‬واملوافقات ‪ 217/3‬و‪ 5 -3/4‬والبحر احمليط يف أصول الفقه ‪ 237 -236 /3‬وإرشاد الفحول ص ‪33‬‬
‫والسنة ومكانتها يف التشريع اإلسالمي ص ‪.379 -377‬‬

‫‪48‬‬
‫ابلرجوع إىل الســنن اليت تبينه‪ ،‬وتفصــل جممله‪ ،‬وختصــص عمومه‪ ،‬وتقيد مطلقه‪ ،‬وتوضــح مشــكله‪ ،‬أو‬
‫أتيت أبحكام زائدة على ما فيه‪.‬‬
‫عالقة السنة النبوية بالقرآن الكريم‪:‬‬
‫السنة من حيث عالقة ما ورد فيها من أحكام مبا ورد يف القرآن الكرمي ثالثة أنواع هي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن توافق القرآن من كل وجه‪ :‬وهذا من ابب توارد أدلة القرآن والس ـ ــنة وتض ـ ــافرها على‬
‫احلكم الواحــد‪ ،‬والتــأكيــد على احلكم الــذي اش ـ ـ ـ ـ ـتمــل عليــه النص القرآين‪ ،‬وأنــه مهم يف‬
‫الش ــريعة‪ ،‬ولتعظيم منزلته مقارنة مع غريه من األحكامل لذا يطلق عليها بعض العلماء أهنا‬
‫مؤكـدة للقرآن للكرمي‪ ،‬وال يُقص ـ ـ ـ ـ ــد بـذلـك أهنـا تزيـد نص القرآن قوة وثبواتل ألن القرآن‬
‫متواتر كله‪ ،‬وال حيتاج إىل تقوية وإثبات من غريه‪ ،‬وإمنا يقصد أتكيد احلكم‪.‬‬
‫‪ -2‬أن تكون بيـاان للقرآن الكرمي‪ ،‬وتفس ـ ـ ـ ـ ـريا للمراد منـه‪ :‬داللـة القرآن الكرمي على األحكـام‬
‫أكثرها جمملة وكلية‪ ،‬وكثري من األحكام جاءت جمملة يف القرآن الكرمي‪ ،‬وفصـلتها السـنةل‬
‫ني لِلن ِ‬
‫َّاس َما نُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـز َل إِل َْي ِه ْم‬ ‫كأحكام الصالة والزكاة‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬وأَنْـزلْنَا إِلَي َ ِ ِ‬
‫ك الذ ْك َر لتُـبَِ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َول ََعلَّ ُه ـ ْـم يَـتَـ َف َّك ـ ُـرو َن) (النحل ‪ ،)44‬وهذا البيان قد يكون تفسريا لكلمة غامضة يف أذهان‬
‫الصـحابة رضـي ي عنهم‪ ،‬أو بياان لعبارة أشـكل فهمها عليهم‪ ،‬أو فُهمت على غري املراد‬
‫منهال فصـححت السـنة هلم املراد‪ ،‬وقد يكون إجابة على بعض أسـالتهم‪ ،‬وقد يكون بياان‬
‫ابلفعل لرياه الصـ ـ ـ ــحابة‪ ،‬ويقتدوا بهل مثل أفعال الطهارة والوضـ ـ ـ ــوء والركوع والسـ ـ ـ ــجود‪،‬‬
‫ـحة ملا فهموه أو قالوه أو فعلوه‪ ،‬وما‬ ‫وأفعال احلج‪ ،‬وقد يكون الس ـ ــكوت داللة على ص ـ ـ ٍ‬
‫من أمر ورد يف القرآن الكرمي إال وقد قام النيب ص ــلى ي عليه وس ــلم بتنفيذه على الوجه‬
‫األكمـل‪ ،‬وقـد كـان خلقـه القرآن‪ ،‬كيف ال وهو أول العـابـدين‪ ،‬وقـدوة املؤمننيل فـالس ـ ـ ـ ـ ـنـة‬
‫هي التطبيق العملي للقرآن الكرمي‪.‬‬
‫‪ -3‬أن أتيت السـنة حبكم سـكت عنه القرآن الكرمي‪ :‬كتحرمي اجلمع يف الزواج بني املرأة وعمتها‬
‫واملرأة وخـالتهـا‪ ،‬وعـدم توريـث الكـافر من املس ـ ـ ـ ـ ــلم واملس ـ ـ ـ ـ ــلم من الكـافر‪ ،‬وتـدخـل هـذه‬

‫‪49‬‬
‫األحكام كلها حتت عموم اآلايت اآلمرة بطاعة النيب ص ــلى ي عليه وس ــلم‪ ،‬والناهية عن‬
‫معصيته‪ ،‬واحملذرة من خمالفته‪.‬‬
‫ومن َمثَّ يتبني أن السـ ـ ــنة كلها بيان للقرآن الكرمي‪ ،‬وترجع يف معناها إليه‪ ،‬وال تكاد جتد فيها‬
‫أمرا إال وقد دل عليه القرآن الكرمي داللة كلية إمجالية‪ ،‬أو داللة جزئية تفصيلية(‪.)11‬‬
‫السنن التي ليست للتشريع‪:‬‬
‫األص ــل يف الس ــنة النبوية املطهرة أهنا ترد لبيان أحكام ش ــريعة اإلس ــالم‪ ،‬ولكن يس ــتثىن منها‬
‫ثالثة أنواع ليست للتشريع لألمة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬اخلص ـ ــائص النبوية‪ :‬وهي األحكام الش ـ ــرعية اليت ختص النيب ص ـ ــلى ي عليه وس ـ ــلم دون‬
‫س ــائر األمة‪ ،‬ويعد فعلها من األمة معص ــية للنيب ص ــلى ي عليه وس ــلمل ألنه منعهم منها‪،‬‬
‫ومن ذلك زواجه أبكثر من أربع نس ــاء‪ ،‬ومتابعة الص ــيام لثالثة أايم متتالية بلياليها‪ ،‬ولكن‬
‫اخلص ـ ــائص ال تثبت إال بدليل ش ـ ــرعي واض ـ ــح من القرآن الكرمي‪ ،‬أو من الس ـ ــنة الثابتة‪،‬‬
‫ـول) ال يعين إثبات خصوصية‬ ‫الر ُسـ ـ ُ‬ ‫وجمرد اخلطاب يف القرآن بــ(يَـ ـ ـ ـأَياـ َها النِ ا‬
‫َّيب) أو (يَـ ـ ـ ـأَياـ َها َّ‬
‫األحكام الواردة بعده ابلنيب صلى ي عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -2‬أفعال ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـجبِلَّ ِة‪ :‬هي األمور اليت حيبها اإلنسـان‪ ،‬أو متيل إليها نفسـه‪ ،‬أو ينفر منها حبكم‬
‫الطبع من ماكل ومشـارب حنوها‪ ،‬كرتك النيب صـلى ي عليه وسـلم أكل حلم الضـبل ألن‬
‫نفسـ ـ ـ ـ ـ ــه تعــافــه‪ ،‬وهو مبــاح‪ ،‬وترك املبــاح حبكم اجلبلــة ال حرج فيــه‪ ،‬وال يــدل على حترمي‬
‫املرتوك(‪.)12‬‬
‫‪ -3‬ما فُ ِعل حبكم البياة والزمان‪ :‬هذه من األمور والوسـ ــائل اليت تتغري بتغري األمكنة واألزمنةل‬
‫كالقتال ابلســيوف والرماح والســهام‪ ،‬وركوب اخليل واحلمر واإلبل‪ ،‬وإمنا يســتعني املســلم‬
‫يف كل زمان ابلوسائل املتاحة يف عصره‪.‬‬
‫كتابة السنة‪:‬‬

‫(‪ )11‬الرسالة ص ‪ 57‬و‪ 164‬و‪ 169‬واملوافقات ‪ 6/4‬والسنة ومكانتها يف التشريع اإلسالمي ص ‪.384‬‬
‫(‪ )12‬املوافقات ‪ 33/4‬وإرشاد الفحول ص ‪.35‬‬

‫‪50‬‬
‫مرت السـنة يف كتابتها وتدوينها مبراحل عديدة بينها العلماء(‪ ،)13‬وكتبت يف العهد النبوي بعض‬
‫األمور الرطية واخلاص ـ ـ ـ ــةل كالعهود مع القبائل‪ ،‬ومنها ص ـ ـ ـ ــلح احلديبية‪ ،‬والرس ـ ـ ـ ــائل إىل امللوك خارج‬
‫اجلزيرة العربيةل مثل هرقل وكسـ ــرى واملقوقس والنجاشـ ــي‪ ،‬ورسـ ــائل النيب صـ ــلى ي عليه وسـ ــلم إىل‬
‫أمرائه وعماله الذين كان يبعثهم إىل مكة واليمن والنواحي‪ ،‬وال ش ـ ـ ــك يف أنه كانت جتري بينه وبينهم‬
‫مكاتبات‪ ،‬وال شـ ــك يف أهنم كانوا حيافظون على هذه الرسـ ــائل اليت كانت أتتيهم من النيب صـ ــلى ي‬
‫عليه وسلمل ملا فيها من السنن‪.‬‬
‫وبعض مـا كتـب يف العهـد النبوي مـا زالـت حمتوايتـه حمفوظـة‪ ،‬ككتـاب اخلليفـة الراش ـ ـ ـ ـ ــد أيب بكر‬
‫الصـديق رضـي ي عنه يف تفاصـيل الزكاة‪ ،‬وكتاب اخلليفة الراشـد علي بن أيب طالب رضـي ي عنه يف‬
‫العقل‪ ،‬وفكاك األس ــري‪ ،‬وأال يقتل مس ــلم بكافر‪ ،‬وكتاب عمرو بن حزم األنص ــاري رض ــي ي عنه يف‬
‫تفاص ـ ــيل الدايت‪ ،‬وهناك كتب لبعض وفود القبائل اليت كانت ترد إىل املدينة‪ ،‬وبعض ـ ــهم كان يطلب‬
‫أن يُكتب له كتابل فيجاب إىل ذلك‪َ ،‬وُو ِج َد ْ‬
‫ت بعض الكتاابت اخلاص ـ ــةل مثل الص ـ ــحيفة الص ـ ــادقة‬
‫اليت كتبها عبد ي بن عمرو بن العا يف حياة النيب صلى ي عليه وسلم‪ ،‬واحتفظ ِبا(‪.)14‬‬
‫توسـع الناس يف كتابة السـنن بعد العهد النبوي واخلالفة الراشـدة‪ ،‬خاصـة وأن القرآن الكرمي قد‬
‫اكتمل مجعه يف مص ـ ـ ــحف واحد‪ ،‬وس ـ ـ ــهل حفظه‪ ،‬ومن املعهود أن يتجه طالب العلم الش ـ ـ ــرعي بعد‬
‫حفظ القرآن إىل تعلم السـنن‪ ،‬ومل يكن يوجد من العلوم األخرى ما يشـغل الناس عن القرآن والسـنة‪،‬‬
‫وكان صغار السن من الصحابة وكبار التابعني يتنافسون يف طلب العلم ابلسنة من كبار الصحابة‪.‬‬
‫وكان من الض ــروري يف عهد التابعني أن يعتين الناس حبفظ الس ــنن وكتابتها‪ ،‬خاص ــة بعد توس ــع‬
‫دولة اإلس ـ ـ ــالم ابلفتوح‪ ،‬واحتياجها إىل أعداد كبرية من العلماء والدعاة واملعلمني واملفتني والقض ـ ـ ــاة‬
‫واألمراء والكتاب‪ ،‬وعمال الزكاة‪ ،‬وقادة اجليور‪ ،‬وتويل هذه املناصب يشرتط له تعلم العلم الشرعي‬
‫املتمثــل يف القرآن الكرمي والس ـ ـ ـ ـ ـنــة النبويــة املطهرة‪ ،‬ويف طلــب العلم وكتــابتــه وحفظــه وتبليغــه جمــال‬

‫(‪ )13‬السنة ومكانتها يف التشريع اإلسالمي ص ‪ 58 -47‬و‪ 107 - 103‬وحبوث يف اتريخ السنة املشرفة ص ‪.390 -387‬‬
‫(‪ )14‬انظر‪ :‬منهج النقد يف علوم احلديث ص ‪.48 -45‬‬

‫‪51‬‬
‫للتنافس ملن فاته شــرف الصــحبة لنصــرة اإلســالم‪ ،‬واجلهاد مع النيب صــلى ي عليه وســلم من صــغار‬
‫الصحابة‪ ،‬ومن بعدهم من التابعني‪.‬‬
‫تدوين السنة‪:‬‬
‫التدوين أخص من الكتابة‪ ،‬وهو مشتق من الديوان‪ ،‬و(الديوان ُجمتمع الصحف)(‪ ،)15‬فالتدوين‬
‫مجع املكتوب يف ديوان كبري جامع‪ ،‬وبدأ التدوين الرطي للسـ ــنة النبوية يف عهد اخلليفة عمر بن عبد‬
‫العزيز رْه ي‪ ،‬وكان مشــهورا ابلعلم والورع والعدل‪ ،‬وملا رأى الصــحابة قد ماتوا‪ ،‬واتســعت الدولة‪،‬‬
‫وخاف من ضـياع السـنن‪ ،‬أو تشـويهها ابنتشـار الوضـعل أمر قاضـيه ابملدينة ‪ -‬وهو أبو بكر بن حممد‬
‫مث كلف عمر بن عبـد العزيز رجال‬ ‫بن عمرو بن حزم ‪ -‬أن يكتـب لـه أحـاديـث أهـل املـدينـة(‪.)16‬‬
‫آخر‪ ،‬وهو حممد بن مســلم بن عبيد ي بن شــهاب الزهري‪ ،‬وكان من أعلم الناس ابلســنة يف عصـره‪،‬‬
‫وأحفظهم هلا‪ ،‬فجمعها يف ديوان كبري وأاته به‪ ،‬إال أن عمر بن عبد العزيز مات سنة (‪ 101‬هـ) رْه‬
‫يبدو أن عمر بن عبد العزيز رْه‬ ‫ي‪ ،‬ومل يكمل مشــروعه يف مجع الســنة‪ ،‬لكنه وضــع أســاســها‪.‬‬
‫ي كان يريد مجع الس ـ ــنة من األمص ـ ــار كلها‪ ،‬ولكن كان البدء ابملدينةل ألن فيها أكثر الس ـ ــنةل فهي‬
‫دار اهلجرة‪ ،‬ومسـ ـ ــكن املهاجرين واألنصـ ـ ــار‪ ،‬ومقر اخلالفة الراشـ ـ ــدة حلقبة طويلة بعد العهد النبوي‪،‬‬
‫وتلقى فيها األبناء السنن من اآلابء‪.‬‬
‫قبل منتص ــف القرن الثاين اهلجري بدأ ظهور الكتب اجلامعة للس ــنن‪ ،‬وظهرت مؤلفات احلديث‬
‫األوىل املرتبـة على األبواب الفقهيـة‪ ،‬وظهرت كتـب الس ـ ـ ـ ـ ــري واملغـازي‪ ،‬ومت ذلـك على أيـدي تالميـذ‬
‫الزهري وطبقتهمل مسـ ـ ـ ـ ــتفيدين مما مجعه الزهري مع ما مجعوه من شـ ـ ـ ـ ــيوخهم اآلخرين(‪ ،)17‬مث توالت‬
‫الكتب واملؤلفات حىت اكتمل تدوين السنة يف القرن الثالث اهلجري‪.‬‬
‫شروط قبول روايات السنة‪:‬‬

‫(‪ )15‬لسان العرب ‪.1461/2‬‬


‫(‪ )16‬انظر‪ :‬منهج النقد يف علوم احلديث ص ‪.58‬‬
‫(‪ )17‬انظر‪ :‬منهج النقد يف علوم احلديث ص ‪ 59‬ودراسات يف احلديث النبوي واتريخ تدوينه ‪.210 – 204/1‬‬

‫‪52‬‬
‫لعلمـاء احلـديـث منهج دقيق يف احلكم على الرواايت ابلقبول أو الرد‪ ،‬وهلم قواعـد عقليـة كثرية‬
‫لض ـ ـ ـ ــبط الرواية‪ ،‬وللتمييز بني الرواة‪ ،‬وقاموا برحالت واس ـ ـ ـ ــعة جلمع الس ـ ـ ـ ــنن من مجيع األقاليم اليت‬
‫سـكنها الصـحابة رضـي ي عنهم‪ ،‬مث ميزوا بني ضـعفاء الرواة وثقاهتم‪ ،‬وردوا رواايت الضـعفاء‪ ،‬وقبلوا‬
‫رواايت الثقات‪ ،‬والثقة يشرتط فيه العدالة والضبط‪.‬‬
‫أما العدالة فتتمثل يف مخس صـ ــفات هي‪ :‬اإلسـ ــالم‪ ،‬والبلول‪ ،‬والعقل‪ ،‬والسـ ــالمة من الفسـ ــق‪،‬‬
‫ومن خوارم املروءة‪ ،‬وخوارم املروءة هي ك ــل م ــا حيط من ق ــدر اإلنس ـ ـ ـ ـ ـ ــان يف العرف االجتم ــاعي‬
‫الصحيح(‪.)18‬‬
‫وأمـا الض ـ ـ ـ ـ ــبط فهو أن يكون الراوي حـافظـا إذا حـدث من حفظـه‪ ،‬ومتقنـا إذا قرأ أحـاديثـه من‬
‫كتابه‪ ،‬ويقصد من اشرتاط الضبط أن أييت الراوي ابلرواية كما طعها‪.‬‬
‫مع العدالة والض ــبط اش ــرتط العلماء اتص ــال إس ــناد رواية الثقات من أوله إىل آخره‪ ،‬واش ــرتطوا‬
‫خلوها من الشذوذ والعلل القادحة يف ثبوهتال احتياطا من أخطاء الثقات‪ ،‬واخلطأ ال خيلو منه أحد‪.‬‬
‫منهج التمييز بني الروايات املتعارضة‪:‬‬
‫وض ـ ـ ـ ـ ــع علمـاء احلـديـث منهجـا عقليـا دقيقـا لرفع التعـارض الـذي قـد يقع بني رواايت الثقـاتل‬
‫فقـدموا روايـة اجلمـاعـة على روايـة الواحـدل ألن اخلطـأ أقرب إىل الواحـد منـه إىل اجلمـاعـة‪ ،‬وقـدموا روايـة‬
‫األحفظ على احلــافظ‪ ،‬وروايــة احلــافظ الــذي يكتــب أحــاديثــه على الكــاتــب الــذي ال حيفظ‪ ،‬وعلى‬
‫احلـافظ الـذي يعتمـد على ذاكرتـه وحـدهـال ألن الـذاكرة قـد ختطُ أحيـاان‪ ،‬وقـدموا روايـة التلميـذ املالزم‬
‫لشيخه على من مل يالزمه إال قليالل ألن املالزم يعرف من أحوال شيخه وأخباره أكثر مما يعرفه غريه‪،‬‬
‫وقـدموا روايـة أهـل البلـد على الغرابء عنهـال ألن أهـل كـل بلـد أعرف أبخبـار بلـدهم‪ ،‬وقـدموا روايـة من‬
‫طع اخلرب عـدة مرات على من طعـه مرة واحـدةل ألن احتمـال اخلطـأ يف طـاع اخلرب مرة واحـدة أكثر‬
‫منـه يف الس ـ ـ ـ ـ ـمـاع املتعـدد‪ ،‬ويقـدمون روايـة من طع من ش ـ ـ ـ ـ ــيخـه قـدميـا على من طع منـه حـديثـال ألن‬

‫(‪ )18‬منهج النقد يف علوم احلديث ص ‪.80‬‬

‫‪53‬‬
‫الصـ ـ ـ ــحة إىل الرواية القدمية أقرب منها إىل الرواية احلديثةل الحتمال النسـ ـ ـ ــيان واخلطأ بطول الزمان‪،‬‬
‫والحتمال تغري العقل بكرب السن(‪.)19‬‬
‫عناية علماء احلديث بتنقية السنة النبوية‪:‬‬
‫ب َعلَ َّي ُمتَـ َع ِم َدال فَـ ْليَـتَـبَـ ـ ـ ـ ـ َّـوأْ َم ْق َع َدهُ ِمـ ـ ـ ـ ـ َـن‬
‫(م ْن َك َذ َ‬
‫تواتر عن النيب صلى ي عليه وسلم أنه قال‪َ :‬‬
‫َح ٍدل فَ َم ْن‬ ‫ب َعلَى أ َ‬ ‫النَّا ِر)(‪ ،)20‬وص ـ ــح عنه ص ـ ــلى ي عليه وس ـ ــلم أنه قال‪( :‬إِ َّن َك ِذ َاب َعلَ َّي ل َْيس َك َك ِذ ٍ‬
‫َ‬
‫ب َعلَ َّي ُمتَـ َع ِم َدا‪ ،‬فَـ ْليَـتَـبَـ َّوأْ َم ْق َع َدهُ ِم َن النَّا ِر)(‪.)21‬‬
‫َك َذ َ‬
‫ال شــك يف أن الكذب على النيب صــلى ي عليه وســلم‪ ،‬ورواية األحاديث املوضــوعة دون بيان‬
‫كذِبا يؤدي إىل أن يدخل يف دين ي ما ليس منه‪ ،‬وأن يعتقد الناس عقائد ابطلة‪ ،‬وأن يعبد ي بغري‬
‫ما شـ ـ ــرع‪ ،‬وأن يتفرق املسـ ـ ــلمون إىل مجاعات وفرق متناحرة متحاربة‪ ،‬وأن تتشـ ـ ــوه عقيدة اإلسـ ـ ــالم‬
‫وشريعته لدى غري املسلمنيل فيصدهم ذلك عن الدخول يف دين ي‪.‬‬
‫لـذا بـذل العلمـاء جهودا كبرية يف تنقيـة الس ـ ـ ـ ـ ـنـة النبويـة من الـدخيـل‪ ،‬وبـدأت العنـايـة الـدقيقـة‬
‫ابإلس ـ ـ ــناد وحتري الرواية عن الثقات منذ النص ـ ـ ــف الثاين من القرن األول اهلجري‪ ،‬وقد كانوا يعدون‬
‫اإلسناد من الدين‪ ،‬قال عبد ي بن عباس رضي ي عنه‪( :‬إان كنا ُحن ـ ـ ـ ـ ـ ــدث عن رسول ي إذ مل يكن‬
‫ب عليهل فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا احلديث عنه)(‪.)22‬‬
‫يُك َذ ُ‬
‫وقال التابعي اجلليل حممد بن س ـ ـريين‪( :‬إن هذا العلم دينل فانظروا عمن أتخذون دينكم)(‪،)23‬‬
‫وجاء مثل هذا الكالم عن مجاعة من التابعني وأتباعهم‪.‬‬
‫ِبذه العناية حفظ املسـ ـ ــلمون دين ي اخلامت للبشـ ـ ـرية‪ ،‬أما األمم السـ ـ ــابقة فلم تلتزم ابإلسـ ـ ــناد‬
‫وشـ ــروط الرواية كما فعل علماء اإلسـ ــالم‪ ،‬ومل مييز علماء اليهود والنصـ ــارى بني الغث والسـ ــمني من‬
‫الرواايت‪ ،‬ومل يعتنوا برتاجم الرواة‪ ،‬وال مبعرفـة أحواهلم ودرجـاهتم‪ ،‬وإمنـا نقلوا كـل مـا وافق أهواءهم من‬

‫(‪ )19‬انظر‪ :‬الكفاية يف علم الرواية ص ‪ 478 -474‬وإرشاد الفحول ص ‪ 276‬والباعث احلثيث ص ‪.484 -480‬‬
‫(‪ )20‬انظر‪ :‬صحيح البخاري (‪ )110 - 106‬ومقدمة صحيح مسلم (‪.)3 -1‬‬
‫(‪ )21‬مقدمة صحيح مسلم (‪.)4‬‬
‫(‪ )22‬مقدمة صحيح مسلم ص ‪.50‬‬
‫(‪ )23‬مقدمة صحيح مسلم ص ‪.51‬‬

‫‪54‬‬
‫عجـائـب األخبـار ومـا يس ـ ـ ـ ـ ــتغرب منهـا‪ ،‬فـأص ـ ـ ـ ـ ــبحـت اخلرافـات عنـدهم كـأهنـا حقـائق اترخييـة اثبتـة(‪،)24‬‬
‫وامتألت كتبهم بقصص غريبة وعجيبة‪ ،‬ومبروايت ال تثبت‪ ،‬ويسميها علماء اإلسالم (اإلسرائيليات)‪،‬‬
‫وغلبت هذه اإلسـ ـرائيليات عند أهل الكتاب على أحكام الش ــرع الصـ ـحيحة اليت أنزهلا ي عز وجل‬
‫على أنبيائهم هلداية اخللقل فكانت النتيجة أن ضل أهل الكتاب‪ ،‬وغابت عنهم هداية السماء‪.‬‬
‫وحفظا لنقاء دين رب العاملنيل ال جيوز ألحد أن ينس ــب إىل النيب ص ــلى ي عليه وس ــلم حديثا‬
‫إال وهو يعلم أنه اثبت عنه‪ ،‬وحكم عليه علماء احلديث ابلص ـ ــحة أو احلس ـ ــن‪ ،‬وال ينقل احلديث إال‬
‫ودب(‪.)25‬‬
‫هب َّ‬
‫من كتبه الصحيحة املعتمدة‪ ،‬وليس من كل كتاب‪ ،‬وال عن كل من َّ‬
‫ومن مث ال جيوز ألحد أن يعتمد يف إثبات حديث على جمرد اش ـ ـ ـ ـ ــتهاره بني الناس‪ ،‬أو يف أجهزة‬
‫اإلعالم‪ ،‬أو يف وسـائل االتصـال احلديثة‪ ،‬أو يف الكتب غري املتخصـصـة يف احلديثل فكم من حديث‬
‫يشتهر وينسب إىل النيب صلى ي عليه وسلم‪ ،‬وهو مما مل يصح عنه‪ ،‬وبعضها مل يرد يف كتب احلديث‬
‫أصال‪.‬‬
‫السنة مصدر الثقافة اإلسالمية‬
‫ثقافة اإلنسـ ــان هي أسـ ــلوب حياته‪ ،‬وتشـ ــمل العقائد واملذاهب اليت يؤمن ِبا‪ ،‬وأمناط السـ ــلوك‬
‫اليت ميارسـ ــها‪ ،‬ويتعامل ِبا مع غريه‪ ،‬والسـ ــنة هي املصـ ــدر الثاين من مصـ ــادر ثقافة املسـ ــلم‪ ،‬وتتجلى‬
‫مص ـ ـ ـ ـ ــدريتهـا يف آلول أحكـامهـا جلوانـب احليـاة كلهـا‪ ،‬ويف تفـاص ـ ـ ـ ـ ــيلهـا الـدقيقـة للنموذج األمثـل حليـاة‬
‫املسلم‪ ،‬ويف بياهنا لكثري من أمور الغيب‪.‬‬
‫‪ -1‬آلول السنة جلوانب احلياة‪:‬‬
‫آلول الس ـ ـ ــنة يوض ـ ـ ــحه أن علماء احلديث ملا مجعوها من بالد اإلس ـ ـ ــالم كلها يف هناايت القرن‬
‫الثاين وما بعده سـ ـ ـ ــعوا يف ترتيب األحاديث على املوضـ ـ ـ ــوعات‪ ،‬فجمعوا األحاديث املتعلقة ابلقرآن‬
‫ونزولـه ومعـانيـه يف كتـب التفس ـ ـ ـ ـ ــري وعلوم القرآن‪ ،‬ومجعوا أحـاديـث العبـادات واملعـامالت ومـا يتعلق‬
‫ابحلياة العملية يف كتب طوها (الس ـ ـ ـ ــنن)‪ ،‬وص ـ ـ ـ ــنفوا كتبا طوها (اجلوامع)‪ ،‬وتش ـ ـ ـ ــتمل على أحاديث‬

‫(‪ )24‬خصائص الدعوة اإلسالمية ص ‪.62‬‬


‫(‪ )25‬فتح املغيث‪ :‬للعراقي ص ‪ 33 -31‬وفتح املغيث‪ :‬للسخاوي ‪.61 -59/1‬‬

‫‪55‬‬
‫متعلقـة أببواب الـدين الثمـانيـةل وهي العقـائـد‪ ،‬واألحكـام العمليـة (الفقـه)‪ ،‬واآلداب‪ ،‬والزهـد والرقـائق‪،‬‬
‫والتفس ــري‪ ،‬والس ــري والتاريخ‪ ،‬والفنت واملالحم وأشـ ـراط الس ــاعة‪ ،‬واملناقب واملثالب(‪ ،)26‬مث ألفوا كتبا‬
‫خاصة يف كل ابب من هذه األبواب الثمانية على حدة‪.‬‬
‫‪ -2‬تفصيل النموذج األمثل للمسلم‪:‬‬
‫ما من أمر ص ــغري وال كبري إال وجتد يف الس ــنة النبوية من األقوال واألفعال والتقريرات ما يرش ــد‬
‫املسـ ــلم إىل ما ينبغي عليه فعله‪ ،‬ومنها ما يتعلق ابلعبادات‪ ،‬ومنها ما يتعلق بعادات األكل والشـ ــرب‬
‫واللبس والنوم‪ ،‬ومنهـا ما يتعلق ابألخالق وآداب التعـامل‪ ،‬ومنهـا ما يتعلق ابحليـاة الزوجيـة واألس ـ ـ ـ ـ ــرة‬
‫وتكوينهـا‪ ،‬ومعـاجلـة مشـ ـ ـ ـ ـ ــاكلهـا‪ ،‬وتوزيع املرياث بعـد املوت‪ ،‬ومنهـا مـا يتعلق ابجلوانـب االجتمـاعيـة‪،‬‬
‫والتكـافـل ورعـايـة احملتـاجني‪ ،‬ومنهـا مـا يتعلق أبمور املعـار‪ ،‬واحلرف واملهن والتجـارة واألموال‪ ،‬ومنهـا‬
‫ما يتعلق ابحلكم واإلمارة والسـياسـة والقضـاء والقيادة‪ ،‬والتعامل مع غري املسـلمني يف السـلم واحلرب‪،‬‬
‫وقد كان النيب ص ــلى ي عليه وس ــلم حاكما يف املدينة اليت فيها مع املس ــلمني يهود ومنافقون‪ ،‬وكان‬
‫قائدا للمسلمني يف احلرب والسلم‪ ،‬والصلح مع قريش والروم‪ ،‬ومشركي العرب‪ ،‬ومشاورا للمسلمني‬
‫يف أمورهم‪ ،‬وقاضيا بينهم يف اخلصومات‪.‬‬
‫وابجلملة فإن السرية النبوية أوضح سري البشر الذين يُقتدى ِبم على اإلطالق‪ ،‬وقد هتيأ هلا من‬
‫التدوين واحلفظ ما مل يتهيأ لغريها‪ ،‬وفيها من التفاص ـ ـ ـ ــيل الدقيقة جلميع جوانب احلياة ما ال يوجد يف‬
‫سـرية أحد من العاملني‪ ،‬وهذه السـرية الواضـحة‪ ،‬والسـنة املسـتقيمة هي قدوة املسـلم يف مجيع جوانب‬
‫حياته‪.‬‬
‫‪ -3‬بيان الغيب‪:‬‬
‫يف السـ ـ ـ ــنة النبوية كثري من األحاديث املتعلقة ببدء اخللق‪ ،‬ونشـ ـ ـ ــأة الكون‪ ،‬وهناية الدنيا‪ ،‬وقيام‬
‫الس ــاعة‪ ،‬وأخبار اآلخرة‪ ،‬ونعيم املؤمنني فيها‪ ،‬والنار وعذاب الكافرين والعص ــاة فيها‪ ،‬وكل ذلك من‬
‫الغي ــب ال ــذي ال يعلم ــه إال ي عز وج ــل‪ ،‬وخيرب ب ــه أنبي ــاءه‪ ،‬ومل يبق من كت ــب األنبي ــاء وأخب ــارهم‬

‫(‪ )26‬انظر‪ :‬احلطة يف ذكر الصحاح الستة ص ‪ 118‬والتأصيل ألصول التخريج وقواعد اجلرح والتعديل ص ‪.127‬‬

‫‪56‬‬
‫الصــحيحة إال ما جاء يف القرآن والســنة النبوية‪ ،‬فهما مصــدر البش ـرية الوحيد هلذه املعلومات املهمة‬
‫لعقيدة املؤمن‪.‬‬
‫ويف الوحي بيـان لكثري من حقـائق بـدء خلق اإلنس ـ ـ ـ ـ ــان‪ ،‬ونزول آدم إىل األرض‪ ،‬وبـدايـة اجملتمع‬
‫البشري األول‪ ،‬وهو مما ال يستطيع علماء االجتماع البشري الوصول إىل حقائقه ابلظن والتوهم‪.‬‬
‫ويف الوحي توسـيع ملعارف املسـلم ابلكون وما فيه من عوامل غري ماديةل كاملالئكة واجلن‪ ،‬وكيفية‬
‫الوقاية من شرور الشياطني والعني والسحر ابلرقى الشرعية‪.‬‬
‫ويف الوحي إشـ ـ ـ ـ ـ ــارات إىل تعبري الرؤاي‪ ،‬وكيفيــة التخلص من هم الرؤى املفزعــة اليت تقلق نوم‬
‫اإلنسـ ـ ـ ـ ــان‪ .‬وابجلملة فإن الوحي قد عا كثريا من الظواهر غري املادية اليت كانت تنكرها احلضـ ـ ـ ـ ــارة‬
‫الغربية املادية إىل عهد قريبل ألهنا ال تس ـ ـ ــتطيع إخض ـ ـ ــاعها للدراس ـ ـ ــة يف معاملها وخمترباهتا‪ ،‬إال أهنا‬
‫اضطرت إىل االعرتاف ببعضها على استحياء‪ ،‬وصارت توليها بعض العناية يف علم السلوك البشري‪،‬‬
‫ولكن دون أن تستطيع فعل شيء لتفسريها‪.‬‬
‫أثر السنة يف بناء الشخصية اإلنسانية‪:‬‬
‫عملت أحكام الشـ ـ ـريعة بعمومها على إص ـ ــالح الفرد الذي يص ـ ــلح بص ـ ــالحه اجملتمع‪ ،‬وتتحقق‬
‫بـذلـك طمـأنينتـه يف الـدنيـا‪ ،‬وس ـ ـ ـ ـ ـعـادتـه يف اآلخرة‪ ،‬ويتم ذلـك برتبيـة النفس على األخالق الفـاض ـ ـ ـ ـ ـلـة‬
‫وتزكيتها‪.‬‬
‫ك ل ََعلَى ُخلُ ـ ـ ـ ـ ـ ٍـق َع ِظ ٍيم)‬
‫(وإِنَّ َ‬
‫وقد وصف ي نبيه صلى ي عليه وسلم حبسن اخللق وكماله‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫صالِ َح األَ ْخالَ ِق)(‪ ،)27‬وكان النيب‬ ‫(القلم ‪ ،)4‬وقال رسول ي صلى ي عليه وسلم‪( :‬إِ َّمنَا ب ِعثْ ُ ِ‬
‫ت ألَُمتـ َـم َ‬ ‫ُ‬
‫ص ــلى ي عليه وس ــلم حريص ــا على أن يعلم أص ــحابه مكارم األخالق والقيم الفاض ــلة‪،‬من أجل بناء‬
‫الشخصية املتزنة‪،‬وميكن اإلشارة إىل أبرز آاثر السنة النبوية يف بناء الشخصية اإلنسانية فيما أييت‪:‬‬
‫‪ -1‬غرس التفاؤل واإلجيابية يف اإلنسـ ـ ــان‪،‬والنأي به عن السـ ـ ــلبية والتقاعس والكسـ ـ ــل‪ ،‬حىت‬
‫على مسـ ــتوى الكلمة اليت يقوهلا الشـ ــخص يف حق نفسـ ــه‪ ،‬فقد ورد عن النيب صـ ــلى اهلل‬

‫(‪ )27‬رواه أمحد (‪ ،)8729‬ومالك يف املوطأ بالغاً‪ ،‬وصححه ابن عبد الرب يف التمهيد ‪.30/15‬‬

‫‪57‬‬
‫عليه وسـ ــلم أنه قال ( ال يقولن أحدكم خبثت نفسـ ــي‪ ،‬ولكن ليقل‪ :‬لقسـ ــت )(‪ )28‬ومعىن‬
‫لقس ـ ـ ــت غثت‪ ،‬وهي بنفس املعىن إال أن النيب ص ـ ـ ــلى ي عليه وس ـ ـ ــلم رفض اس ـ ـ ــتخدام‬
‫اللفظة الصــرحية " خبثت " كما روي عنه صــلى ي عليه وســلم أنه قال ( على كل مســلم‬
‫صـ ــدقة‪ ،‬قالوا ‪:‬اي نيب اهلل! فمن مل جيد؟ قال‪" :‬يعمل بيده فينفع نفسـ ــه ويتصـ ــدق‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫فـإن مل جيـد؟ قـال‪ :‬يعني ذا احلـاجـة امللهوف‪ ،‬قـالوا‪ :‬فـإن مل جيـد؟ قـال‪ :‬فليعمــل ابملعروف‬
‫وليمسك عن الشر )(‪.)29‬‬
‫‪ -2‬احلث على مشـ ــاركة الناس يف حياهتم وعدم اإلنزواء واالعتزال‪،‬فقد دعى النيب صـ ــلى ي‬
‫عليه وسـلم إىل الصـلح بني املتنازعني‪،‬ونصـرة املظلوم وردع الظامل‪ ،‬مما ينمي روح املشـاركة‬
‫الوجدانية يف نفس ـ ـ ـ ــه‪،‬ويش ـ ـ ـ ــبع حاجته الطبيعية إىل االنتماء االجتماعي‪ ،‬فإن اجملتمع مثل‬
‫اجلســد الواحد‪ ،‬قال صــلى اهلل عليه وســلم ( مثل املؤمنني يف توادهم وتراْهم وتعاطفهم‬
‫( ‪") 30‬‬ ‫مثل اجلسد‪ ،‬إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر اجلسد ابلسهر واحلمى )‬
‫‪ -3‬حترير املسـ ــلم من كل ضـ ــغط نفسـ ــي ميكن أن يؤثر فيه‪ ،‬مثل اخلوف من انكسـ ــار النفس‬
‫وازدراء النعمة‪ ،‬فعن أيب هريرة رضــي اهلل عنه عن رســول اهلل صــلى اهلل عليه وســلم قال (‬
‫إذا نظر أحدكم إىل من فضـ ــل عليه يف املال واخللق‪ ،‬فلينظر إىل من هو أسـ ــفل منه‪ .‬زاد‬
‫(‪) 31‬‬ ‫مسلم‪ :‬فهو أجدر أن ال تزدروا نعمة ي )‬
‫‪ -4‬حترير اإلنس ـ ـ ـ ـ ــان من اخلوف من املوت‪،‬واإلقبـال على الـدنيـا بنيـة العمـل الص ـ ـ ـ ـ ــاا وفعـل‬
‫اخلريات‪،‬فعن أنس رضي اهلل عنه قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ( ال يتمنني أحدكم‬
‫املوت لض ـ ـ ـ ـ ــر نزل بـه‪ ،‬فـإن كـان البـد متمنيـا للموت فليقـل‪ :‬اللهم أحييين مـا كـانـت احليـاة‬
‫خريا يل‪ ،‬وتوفين إذا كانت الوفاة خريا يل )‪.‬‬

‫(‪ )28‬رواه البخاري ( ‪) 6179‬‬


‫(‪ ) 29‬رواه البخاري ( ‪) 1445‬‬
‫( ‪ ) 30‬رواه مسلم ‪ ،‬ابب تراحم املؤمنني‬
‫( ‪ ) 31‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الزهد‬

‫‪58‬‬
‫‪ -5‬احلث على االعتداد ابلنفس‪،‬وعدم الركون للذلة واملســكنة‪ ،‬قال صــلى اهلل عليه وســلم (‬
‫ألن أيخـذ أحـدكم حبلـه فيـأيت حبزمـة احلطـب على ظهره فيبيعهـا فيكف اهلل ِبـا وجهـه‪ ،‬خري‬
‫له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) وعن حكيم بن حزام رضي اهلل عنه قال سألت‬
‫رسـول اهلل صـلى اهلل عليه وسـلم فأعطاين‪ ،‬مث سـألته فأعطاين‪ ،‬مث سـألته فأعطاين‪ ،‬مث قال (‬
‫اي حكيم‪ ،‬إن هذا املال خضـرة حلوة‪ ،‬فمن أخذه بسـخاوة نفس بورك له فيه‪ ،‬ومن أخذه‬
‫مشـ ـ ـ ـ ـراف نفس مل يبارك له فيه‪ ،‬وكان كالذي أيكل وال يش ـ ـ ـ ــبع‪ ،‬اليد العليا خري من اليد‬
‫السفلى )‪.‬‬
‫‪ -6‬الرتبية على الوض ـ ـ ـ ـ ــوح واالعتدال يف طرح األمور والبعد عن املداهنة والتملق‪ ،‬والتحذير‬
‫من ازدواجية السـ ــلوك الذي ميارسـ ــه بعض األفراد أبن أييت جملموعة من الناس بوجه وأييت‬
‫آلخرين بوجه آخر‪ ،‬عن أيب هريرة رضـ ـ ــي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسـ ـ ــول اهلل صـ ـ ــلى اهلل عليه‬
‫وس ـ ـ ـ ــلم ( جتد من شـ ـ ـ ـ ـرار الناس يوم القيامة عند اهلل ذا الوجهني‪ ،‬الذي أييت هؤالء بوجه‬
‫وهؤالء بوجه )‬
‫‪ -7‬بناء الشـ ــخصـ ــية املسـ ــتقلة ورفض التبعية والتشـ ــبه بغري املسـ ــلمني‪،‬فقد روى ابن عمر أن‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ( من تشبه بقوم فهو منهم )‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫ركائز الثقافة اإلسالمية‬
‫املبحث األول‬

‫العقيدة اإلسالمية‬

‫وأثرها يف بناء عقلية املسلم‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عدانن زرزور (*)‬
‫احلديث عن العقيدة اإلسالمية يسبق البحث يف مجيع أبواب الفكر والثقافة اإلسالمية األخرى‬
‫من اجتماع وأخالق واقتصاد وتربية وشريعة وغري ذلك‪ ،‬ألن هذه األبواب مبنية على العقيدة ومنطلقة‬
‫منها‪ ،‬بل إن العقيدة تشكل روح الثقافة احلقيقي‪ ،‬وضماهنا النهائي أو األخري‪ .‬ويف احلديث عن العقيدة‬
‫اإلسالمية يف إطار مقرر الثقافة اإلسالمية الذي يدرسه كل التخصصات يف اجلامعة عموما‪ ،‬يكفي أن‬
‫نعا خبصوصه أهم النقاط اليت تتعلق ِبا‪.‬‬

‫أوال‪ :‬مفهوم العقيدة‬


‫‪ 1‬ـ تعريف العقيدة‬
‫العقد لغة‪ :‬نقيض احلل‪ ،‬يقال عقده واعتقده‪ ،‬ويقال عقدت احلبل فهو معقود‪ ،‬وكذلك‪ :‬العهد‪،‬‬
‫َجلَهُ"(‪ ،)96‬واملعاقدة‬ ‫ِ‬ ‫ومنه " عقدة النكاح "‪ ،‬قال تعاىل‪َ " :‬والَ تَـ ْع ِزُمواْ عُ ْق َدةَ النِ َك ِ‬
‫اب أ َ‬
‫ىت يَـ ْبـلُ َو الْكتَ ُ‬
‫اح َح ََّ‬
‫هي املعاهدة‪ ،‬وتعاقد القوم أي تعاهدوا‪ ،‬وعقد قلبه على الشيء أي لزمه‪ ،‬ويف احلديث الصحيح قال‬
‫اصيها اخلَْري إِ َىل يـوِم ِ‬
‫القيَ َام ِة»(‪ ،)97‬أي مالزم هلا‪،‬‬ ‫ُ َْ‬ ‫رسول ي صلى ي عليه وسلم «اخلَْي ُل َم ْع ُقو ٌد ِيف نَـ َو ِ َ‬

‫(*) األستاذ يف جامعة قطر‪ ،‬ويف جامعة البحرين سابقا‬


‫(‪ ) 96‬ـ البقرة آية رقم ‪.235‬‬
‫(‪ ) 97‬ـ صحيح البخاري‪ ،‬حممد بن إمساعيل أبو عبدهللا البخاري اجلعفي‪ ،‬حتقيق حممد زهري بن انصر الناصر‪ ،‬الناشر‪ :‬دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية‬
‫إبضافة ترقيم حممد فؤاد عبد الباقي)‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1422 ،‬هـ‪ ،‬ابب اخليل معقود يف نواصيها اخلري إيل يوم القيامة‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪ ،28‬حديث رقم ‪.2850‬‬

‫‪60‬‬
‫كأنه معقود فيها‪ .‬قال ابن فارس‪ :‬العني‪ ،‬والقاف‪ ،‬والدال ( ع‪ ،‬ق‪ ،‬د ) أصل واحد يدل على شد‬
‫وشدة وثوق‪ ،‬وإليه تُرجع فروع الباب كلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهلذا أطلق لفظ أو كلمة ( العقيدة ) يف االصطالح‪ ،‬أو يف ابب الدايانت على ما يدين به‬
‫املرء‪،‬ويعقد قلبه عليه‪ ،‬ويشتد استمساكه به‪ ،‬ودفاعه عنه‪ ،‬من مسائل اإلميان‪ ،‬كاإلميان ابهلل تعاىل‬
‫ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فإن يف وسعنا أن نقول‪ :‬إن هذا املصطلح أو هذه التسمية "العقيدة اإلسالمية"‪ ،‬تطلق‬
‫عندان على أركان اإلميان‪ ،‬أو على أبوابه الثالثة املعهودة‪ ،‬وهي اإلهليات‪ ،‬والنبوات‪ ،‬والسمعيات‪.‬‬
‫وعلى سائر ما تنطوي عليه هذه األبواب من املسائل واألحكام اليت جاءت يف القرآن الكرمي والسنة‬
‫النبوية الصحيحة‪ ،‬واليت يسلم ِبا ـ لذلك ـ عقل املسلم املؤمن بكتاب ي تعاىل وسنة نبيه صلى ي‬
‫عليه وسلم ويطمان إليها قلبه‪ ،‬واليت يبلو تصديقه ِبا درجة اليقني الذي ال خيالطه ريب‪ ،‬وال يتطرق‬
‫إليه شك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ علم اإلميان واالعتقاد‬
‫إذا أتملنا يف األبواب الثالثة املذكورة‪ ،‬ويف سائر املسائل اليت تسلك عادة يف سلك العقيدة‪ ،‬أو‬
‫تدخل حتت عنواهنا‪ ،‬فإننا جندها داخلة حتت ما أطاه القرآن الكرمي (الغيب) أو ( عامل الغيب ) الذي‬
‫يقابله يف القرآن الكرمي ( عامل الشهادة ) كما هو معلوم‪.‬‬
‫وال ريب يف أن اللفظ أو املصطلح املناسب ( للغيب ) إمنا هو اإلميان‪ ،‬وقد يساوي مصطلح العقيدة‪،‬‬
‫أو يتقدم عليه‪ ،‬ألن اإلميان يعين التصديق والتسليم مبا ال يقع حتت سلطان احلس واملشاهدة‪ ،‬وهلذا‬
‫فإن هذه الكلمة‪ ،‬أي اإلميان ومشتقاهتا وما يتفرع عنها‪ ،‬هي اليت استعملت يف القرآن الكرمي أو‬
‫وردت فيه‪ ،‬بوصفها َعلَما وداللة على أبواب العقيدة ومسائل االعتقاد‪ ،‬وتُعد هذه الكلمة من أكثر‬
‫الكلمات ورودا واستعماال يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫وهلذا‪ ،‬فإننا نرى أن هذا املصطلح‪ ( :‬اإلميان ) أوىل يف االستعمال من مصطلح ( العقيدة )‪ ،‬هذا من‬
‫حيث املبدأ‪ ،‬ولكن إذا ال حظنا معىن العقيدة ـ لغة واصطالحا ـ الذي أشران إليه‪ ،‬وأضفنا إليه استعمال‬
‫‪61‬‬
‫علمائنا األوائل هلذا املصطلح ولبعض مشتقاته كذلك‪ ،‬فإن يف وسعنا أن نسمي هذا العلم ( بعلم‬
‫اإلميان واالعتقاد )‪ ،‬وقد طى اإلمام حجة اإلسالم الغزايل ( ت ‪505‬ه )‪ ،‬واحدا من أهم كتبه يف‬
‫العقيدة اإلسالمية أو يف هذا العلم الذي نتحدث عنه‪ ( :‬االقتصاد يف االعتقاد )‪ ،‬كما كتب كتااب‬
‫آخر بعنوان‪ ( :‬قواعد العقائد ) وقد سبقه اإلمام الطحاوي ( ت ‪ 331‬هـ) إىل أتليف رسالة بعنوان‬
‫" العقيدة الطحاوية "‪،‬وكتب عضد الدين اإلجيي (ت ‪ 756‬هـ ) فيما بعد ( العقائد العضدية )‪...‬‬
‫كما أن كلمة اإلميان استعملت من بداايت القرن الثالث َعلَما على ( العقيدة )‪ ،‬أو عنواان عليها‪ .‬يف‬
‫الوقت الذي شهد هذا القرن عموما أتليف كتب كثرية يف العقيدة حتت عنوان " السنة " وقد انطوى‬
‫معظمها على مسائل ال ترقى إىل درجة االعتقاد‪ ،‬كما أن أصحاِبا مل يتحروا فيها الصحيح من‬
‫األحاديث واألخبار‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬اإلميان باهلل تعال هو أساس العقيدة‬


‫أركان اإلميان كما هو معلوم هى‪ :‬اإلميان ابهلل تعاىل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ .‬وحنن إذا‬
‫أمعنا النظر يف هذه األركان ـ ويف سواها من وسائل اإلميان ومتعلقاته ـ تبني لنا أن طرفيها وركنيها‬
‫األساسيني مها‪ :‬اإلميان ابهلل واليوم اآلخر‪ ،‬وينطوي حتت هذين الركنني سائر األركان األخرى‪ .‬وغين‬
‫عن البيان أن هذين الركنني مغيبان عن احلواس‪ ،‬وال يقعان حتت سلطان احلس واملشاهدة‪ ،‬أو مها من‬
‫أمور "عامل الغيب" حبسب التعبري القرآين‪ .‬والعامل يف القرآن ينقسم إىل عامل الشهادة وعامل الغيب‪ ،‬وهو‬
‫التقسيم املعروف يف الفلسفة ابلطبيعة وما وراء الطبيعة (أو الفيزيقا وامليتافيزيقا )‬
‫ومعىن ذلك أن موضوع اإلميان وفحواه هو اإلميان ابلغيب‪ ،‬وهلذا وصف ي تعاىل املتقني يف اآلايت‬
‫ب فِ ِيه‬ ‫اب َال َريْ َ‬
‫ب " فقال‪ " :‬أمل * ذَلِ َ ِ‬
‫ك الْكتَ ُ‬ ‫ين يُـ ْؤِمنُو َن ِابلْغَْي ِ‬ ‫ِ‬
‫األوىل من سورة البقرة بقوله‪ " :‬الَّذ َ‬
‫ين يُـ ْؤِمنُو َن ِمبَا‬ ‫ِ‬ ‫الص َالةَ وِممَّا رَزقـْنَ ُ ِ‬ ‫ُهدى لِلْمت َِّقني * الَّ ِذين يـ ْؤِمنُو َن ِابلْغَي ِ ِ‬
‫اه ْم يُـ ْنف ُقو َن * َوالَّذ َ‬ ‫يمو َن َّ َ َ‬ ‫ب َويُق ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫ك َعلَى ُهدى ِم ْن َرِبِِ ْم َوأُولَاِ َ‬ ‫ك َوِاب ْآل ِخ َرةِ ُه ْم يُوقِنُو َن * أُولَاِ َ‬
‫ك َوَما أُنْ ِز َل ِم ْن قَـ ْبلِ َ‬
‫أُنْ ِز َل إِل َْي َ‬
‫ال ُْم ْفلِ ُحو َن " (‪.)98‬‬

‫(‪ ) 98‬ـ البقرة‪ ،‬اآلايت ‪5 - 1‬‬

‫‪62‬‬
‫وال شك أن اإلميان ابلغيب حيقق لإلنسان السالم والطمأنينة‪ ..‬سالم الضمري وطمأنينة النفس‪ ،‬ألن وجود‬
‫اإلنسان نفسه إمنا هو ِف احلقيقة وجود غييب‪ ،‬كما أن العلم التجرييب الذي يتعامل مع الطبيعة عندما يعجز‬
‫عن إدراك كنه ما يكتشفه ويقف عليه من كهرابء وأثري ومغناطيس وذرة‪ ،‬حييلنا مرة أخرى على " الغيب "‬
‫ات‬ ‫السماو ِ‬ ‫حىت لكأن الغيب هو احلقيقة العلمية الوحيدة الثابتة يف عامل الشهادة‪ ،‬قال تعاىل‪ِ ِ :‬‬
‫ب َّ َ َ‬
‫{وَّلل غَ ْي ُ‬
‫َ‬
‫ض وإِلَي ِه يـرجع األَمر ُكلاهُ فَا ْعب ْدهُ وتَـوَّكل َعلَي ِه وما ربا َ ِ ِ‬
‫ك بغَاف ٍل َع َّما تَـ ْع َملُو َن }( )‪ ،‬نعم‪ ،‬وإن َ‬
‫مر َّد‬ ‫َواأل َْر ِ َ ْ ُ ْ َ ُ ْ ُ‬
‫‪99‬‬
‫ُ َ َ ْ ْ ََ َ‬
‫الغيب كله إىل ي‪ ،‬ومرد اإلميان كله مرة أخرى إىل اإلميان به سبحانه‪ ،‬ألن اإلميان ابليوم اآلخر إميان مبا‬
‫أخرب ي تعاىل بوجوده يف عامل اخللود‪ .‬وإمنا أفردانه ابإلشارة السابقة مع اإلميان ابهلل سبحانه وتعاىل ـ علما‬
‫أبن سائر عناصر اإلميان األخرى قد أخرب ي تعاىل ِبا أيضا أو جاءت من عنده سبحانه ـ ألهنا متثل النهاية‬
‫س ِم ْن َخل ٍْق‬
‫واملصري‪ ،‬يف مقابل اإلميان ابخلَلْق األول‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬أَفَـ َعيِينَا ِاب ْخلَل ِْق ْاأل ََّو ِل بَ ْل ُه ْم ِيف ل َْب ٍ‬
‫يد}(‪ .)100‬وألن نتيجة اإلميان ابهلل تعاىل‪ ،‬وبكتبه ورسله‪ ،‬إمنا تكون ِف اليوم اآلخر‪...‬‬ ‫ج ِد ٍ‬
‫َ‬
‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن اإلميان ابهلل سبحانه وتعاىل هو أساس العقيدة‪ ،‬وأصل االعتقاد والعمل‬
‫مجيعا‪ ،‬وهو لب القرآن‪ ،‬وعليه مدار اإلسالم بوصفه دين ي تعاىل الذي تتابع عليه األنبياء من آدم‬
‫إىل حممد صلى ي عليهم وسلم أمجعني‪.‬‬
‫وفيما أييت بيان ملنهج االستدالل على اإلميان ابهلل تعاىل‪ ،‬وأهم هذه األدلة ‪.‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪ :‬اإلميان باجلزاء واليوم اآلخر‬

‫أ ـ معال اليوم اآلخر ومراحله األساسية‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ االنقالب الكوين الشامل‪ :‬تبدأ معامل هذا اليوم أو أحداثه البارزة ابنقالب كوين شامل يصيب مجيع ما‬
‫ألفه اإلنسان واعتاده من سنن الطبيعة ومظاهر الكون‪ ..‬وكأن ِعقد هذا الكون قد انفرط‪ ،‬ونظامه الذي‬
‫حيكمه قد احنل وانتهى أمره إىل زوال ! فتنشق السماء‪ ،‬وتتناثر النجوم‪ ،‬وخيسف القمر‪ ،‬وجيمع الشمس‬

‫(‪ ) 99‬ـ هود‪ ،‬آية رقم ‪.123‬‬


‫(‪ ) 100‬ـ ق آية رقم ‪.15‬‬

‫‪63‬‬
‫ات‬
‫الس َم َاو ُ‬ ‫ري ْاأل َْر ِ‬
‫ض َو َّ‬ ‫ض غَ ْ َ‬
‫َّل ْاأل َْر ُ‬
‫والقمر‪ ...‬وتدك األرض‪ ،‬وتنسف اجلبال‪ ،‬وتفجر البحار‪ " ...‬يَـ ْوَم تُـبَد ُ‬
‫َّلل الْو ِ‬
‫اح ِد الْ َقهَّا ِر"(‪.)101‬‬ ‫ِِ‬
‫َوبَـ َر ُزوا َّ َ‬
‫واآلايت القرآنية الىت حتدثت عن هذا االنقالب الكوين الشامل كثرية كما هو معلوم‪ ،‬وقد جاءت يف‬
‫مطالع سور قرآنية عديدة‪ ،‬كما أن داللتها على ما ذكرانه شديدة الوضوح‪ .‬ورمبا أمكن ـ ِبذه املناسبة‬
‫ـ تصنيف هذه اآلايت القرآنية ملعرفة تسلسل أحداث هذا االنقالب يف مجيع ظواهر الكون ومعامل‬
‫الطبيعة‪ ....‬ويف املراحل الىت متر ِبا الظاهرة الكونية الواحدة‪ ،‬وهي تتالشى أو تتبدل ! على الرغم‬
‫الكتاب العزيز‪.‬‬ ‫من السرعة اهلائلة ألحداث ذلك اليوم‪ ،‬كما يفهم من نصو‬
‫يوماذ يصاب اإلنسان ابلذهول وتكون حال الناس على هذا النحو الذي أشارت إليه هذه اآلايت‬
‫ِ‬ ‫الس َ ِ‬
‫َّاس اتَّـ ُقوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َزل َْزلَةَ َّ‬
‫يم يَـ ْو َم تَـ َرْو َهنَا‬
‫اعة َش ْيءٌ َعظ ٌ‬ ‫البينات يف مطلع سورة احلج‪َ " :‬اي أَياـ َها الن ُ‬
‫ارى‬ ‫س َك َ‬ ‫ِ‬
‫ارى َوَما ُه ْم ب ُ‬ ‫َّاس ُس َك َ‬
‫ِ‬
‫ض ُع ُك ال َذات َْْ ٍل َْْلَ َها َوتَـ َرى الن َ‬ ‫ت َوتَ َ‬ ‫ض َع ٍة َع َّما أ َْر َ‬
‫ض َع ْ‬ ‫تَ ْذ َهل ُك ال مر ِ‬
‫ُ ُْ‬
‫اَّلل َش ِدي ٌد " (‪.)102‬‬ ‫َك َّن َع َذاب َِّ‬
‫ول ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫هؤالء الذين يشهدون قيام الساعة‪،‬أو تقع الساعة على رؤوسهم يف ذلك احلني‪ ..‬أييت عليهم املوت‬
‫ض " (‪.)103‬‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َوَم ْن ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫صع َق َم ْن ِيف َّ َ َ‬
‫َ‬ ‫مجيعا بصوت واحد‪َ " :‬ونُِف َخ ِيف ال ا‬
‫صوِر فَ ِ‬

‫فينضمون بذلك إىل اخلالئق الىت أتى عليها املوت منذ برأ ي تعاىل اخللق حىت قيام الساعة‪ ..‬ويتساوى‬
‫اجلميع‪ ،‬مع مالحظة أن الفرتة املمتدة من موت من مات قبل قيام الساعة تدعى ابلفرتة الربزخية ـ‬
‫ون ل ََعلِي أَ ْع َم ُل‬
‫ب ارِجع ِ‬
‫ال َر ِ ْ ُ‬ ‫ت قَ َ‬ ‫َح َد ُه ُم الْ َم ْو ُ‬‫ألهنا جسر بني حياتني ـ قال تعاىل‪َ " :‬ح َّىت إِذَا َجاءَ أ َ‬
‫صوِر فَ َال‬ ‫خ إِ َىل يَـ ْوِم يُـ ْبـ َعثُو َن فَِإذَا نُِف َخ ِيف ال ا‬
‫ت َك َّال إِ َّهنَا َكلِ َمةٌ ُه َو قَائِلُ َها َوِم ْن َوَرائِِه ْم بَـ ْرَز ٌ‬
‫يما تَـ َرْك ُ‬‫ِ ِ‬
‫صاحلا ف َ‬
‫َ‬
‫اب بَـ ْيـنَـ ُه ْم يَـ ْوَماِ ٍذ َوَال يَـتَ َساءَلُو َن" (‪.)104‬‬
‫أَنْ َس َ‬

‫(‪ ) 101‬ـ إبراهيم آية رقم ‪.48‬‬


‫(‪ ) 102‬ـ احلج األية ‪.2 ،1‬‬
‫(‪ ) 103‬ـ الزمر من اآلية ‪.68‬‬
‫(‪ ) 104‬ـ املؤمنون اآلايت ‪101 :99‬‬

‫‪64‬‬
‫وقد ورد يف هذه احلياة الربزخية أحاديث نبوية كثرية يف املوت‪ ،‬وقبض الروح‪ ،‬وسؤال امللكني يف القرب‪،‬‬
‫ومستقر أرواح املؤمنني والكافرين‪ ،‬كما جاء يف بعض شأهنا آايت قرآنية‪،‬قال تعاىل يف شأن من ميوت‬
‫َحيَاءٌ ِع ْن َد َرِبِِ ْم يُـ ْرَزقُو َن" (‪،)105‬‬ ‫يل َِّ‬
‫اَّلل أ َْم َواات بَ ْل أ ْ‬ ‫ين قُتِلُوا ِيف َسبِ ِ‬ ‫شهيدا يف سبيل ي‪ " :‬وَال َحتْس َّ ِ‬
‫ن الَّذ َ‬ ‫َ ََ‬
‫اعةُ أَ ْد ِخلُوا َ‬
‫آل فِ ْر َع ْو َن‬ ‫الس َ‬
‫وم َّ‬ ‫ِ‬
‫ضو َن َعلَْيـ َها غُ ُد ًّوا َو َعشيًّا َويَـ ْو َم تَـ ُق ُ‬ ‫َّار يُـ ْع َر ُ‬
‫وقال تعاىل يف آل فرعون " الن ُ‬
‫اب"(‪.)106‬‬ ‫أَ َش َّد ال َْع َذ ِ‬

‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‬ ‫ول َِّ‬ ‫اَّللُ َع ْنـ ُه َما‪ :‬أ َّ‬
‫ض َي َّ‬ ‫اَّلل بْ ِن عُمر ر ِ‬ ‫وأخرج البخاري ومسلم َعن َعب ِد َِّ‬
‫اَّلل َ‬ ‫َن َر ُس َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ْ ْ‬
‫الع ِشيِ‪ ،‬إِ ْن َكا َن ِم ْن أ َْه ِل اجلَن َِّة فَ ِم ْن أ َْه ِل‬ ‫ِ‬
‫ض َعلَْيه َم ْق َع ُدهُ ِابلْغَ َداة َو َ‬
‫ِ‬
‫ات عُ ِر َ‬ ‫َح َد ُك ْم إِذَا َم َ‬ ‫ال‪ " :‬إِ َّن أ َ‬ ‫قَ َ‬
‫القيَ َام ِة "(‪.)107‬‬ ‫اَّلل يـوم ِ‬
‫ك َُّ َ ْ َ‬ ‫ال‪َ :‬ه َذا َم ْق َع ُد َك َح َّىت يَـ ْبـ َعثَ َ‬ ‫اجلَن َِّة‪َ ،‬وإِ ْن َكا َن ِم ْن أ َْه ِل النَّا ِر فَ ِم ْن أ َْه ِل النَّا ِر‪ ،‬فَـيُـ َق ُ‬
‫‪ 2‬ـ البعث واحلشر‬
‫مث يكون بعث مجيع البشر من مراقدهم‪ ،‬وقيامهم بعد موهتم‪ ،‬وحشرهم بعد تفرقهم‪ ،‬وقد طى ي تعاىل هذا‬
‫ين يَ ْس َمعُو َن َوال َْم ْوتَى‬ ‫البعث واإلحياء‪ ( :‬النشأة اآلخرة ) و ( اخللق اجلديد )‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬إِ َّمنَا يستَ ِج َّ ِ‬
‫يب الذ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫اث إِ َىل رِبِِم ي ِ‬
‫َج َد ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ونُِف َخ ِيف ال ا‬ ‫ِ‬
‫نسلُو َن } (‪.)109‬‬ ‫صوِر فَِإ َذا ُهم م َن ْاأل ْ‬ ‫يَـ ْبـ َعثُـ ُه ُم اَّللُ ُمثَّ إِل َْيه يُـ ْر َجعُو َن }( )‪َ ،‬‬
‫‪108‬‬
‫َ َْ‬
‫واحلشر‪ :‬هو َس ْوق اخلالئق مجيعا إىل املوقف‪ ،‬أو إىل املكان الذي يقفون فيه انتظارا للحكم عليهم والقضاء‬
‫سِريُ ا ْجلِبَ َ‬
‫ال‬ ‫{ويَـ ْوَم نُ َ‬
‫ِ‬
‫ك َح ْش ٌر َعلَ ْيـنَا يَسريٌ }( )‪َ ،‬‬‫ض َع ْنـ ُه ْم ِس َراعا ذَلِ َ‬
‫ش َّق ُق ْاأل َْر ُ‬ ‫بينهم‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬يَـ ْوَم تَ َ‬
‫‪110‬‬

‫َحدا}(‪.)111‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ض َاب ِرَزة َو َح َ‬


‫ش ْرَان ُه ْم فَـلَ ْم نـُغَاد ْر م ْنـ ُه ْم أ َ‬ ‫َوتَـ َرى ْاأل َْر َ‬
‫‪ 3‬ـ العرض واحلساب‬

‫(‪ ) 105‬ـ آل عمران آية رقم ‪.179‬‬


‫(‪ ) 106‬ـ غافر آية رقم ‪.46‬‬
‫(‪ ) 107‬ـ صحيح البخاري‪ ،‬ابب‪ :‬امليت يعرض عليه مقعده ابلغداة والعشي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪ 99‬حديث رقم ‪ .1379‬مرجع سابق‪.‬‬
‫(‪ ) 108‬ـ األنعام آية رقم ‪.36‬‬
‫(‪ ) 109‬ـ يس آية رقم ‪.51‬‬
‫(‪ ) 110‬ـ ق آية رقم ‪.44‬‬
‫(‪ ) 111‬ـ الكهف آية رقم ‪.47‬‬

‫‪65‬‬
‫ويكون احلساب ـ بعد أهوال احملشر ـ وفقا للكتاب الذي سجلت فيه املالئكة أعمال اإلنسان‪ ،‬قال‬
‫ِ‬ ‫{وَال نُ َكلِ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫تعاىل‪{ :‬ما يـل ِْف ُ ِ‬
‫ف نَـ ْفسا إَِّال ُو ْس َع َها َولَ َديْـنَا كتَ ٌ‬
‫اب‬ ‫يب َعتي ٌد } ( )‪َ ،‬‬ ‫ظ من قَـ ْو ٍل إَِّال لَ َديْه َرق ٌ‬
‫‪112‬‬
‫َ َ‬
‫نس ُخ َما ُكنتُ ْم تَـ ْع َملُو َن‬ ‫نط ُق َعلَي ُكم ِاب ْحل ِق إِ َّان ُكنَّا نَستَ ِ‬ ‫نط ُق ِاب ْحل ِق وهم َال يظْلَمو َن } (‪{ ،)113‬ه َذا كِتابـنَا ي ِ‬ ‫ي ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫َ َُْ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫وان َك َما َخلَ ْقنَا ُك ْم أ ََّو َل َم َّرةٍ بَ ْل َز َع ْمتُ ْم أَلَّن َّْجن َع َل لَ ُكم‬ ‫صفا لََّق ْد ِج ْاـتُ ُم َ‬ ‫ك َ‬ ‫ضوا َعلَى َربِ َ‬ ‫{وعُ ِر ُ‬
‫} ( )‪َ .‬‬
‫‪114‬‬

‫اب َال يـغَ ِ‬


‫اد ُر‬ ‫ِ‬
‫ال َه َذا الْكتَ ِ ُ‬ ‫ني ِممَّا فِ ِيه ويَـ ُقولُو َن َاي ويْـلَتَـنَا َم ِ‬ ‫ِِ‬
‫ني ُم ْشفق َ‬
‫ِ‬
‫رتى ال ُْم ْج ِرم َ‬ ‫اب فَ ََ‬
‫ِ ِ‬
‫َّم ْوعدا َوُوض َع الْكتَ ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك أَحدا }(‪{ ،)115‬وُك َّل إِنس ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اها َوَو َج ُدوا َما َعملُوا َحاضرا َوَال يَظْل ُم َربا َ َ‬ ‫صَ‬‫َح َ‬ ‫رية إَِّال أ ْ‬
‫رية َوَال َكب َ‬ ‫صغ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ك الْيَـ ْو َم َعلَْي َ‬ ‫ك َك َفى بِنَـ ْف ِس َ‬‫شورا اقْـ َرأْ َكتَابَ َ‬ ‫ِج لَهُ يَـ ْو َم ال ِْقيَ َام ِة كِتَااب يَـ ْل َقاهُ َمن ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫أَل َْزْمنَاهُ طَائ َرهُ ِيف عُنُقه َوُُنْر ُ‬
‫ال َحبَّ ٍة ِم ْن‬ ‫س َش ْياا َوإِن َكا َن ِمثْـ َق َ‬ ‫ضع الْموا ِزين ال ِْقس َ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ط ليَـ ْوم الْقيَ َامة فَ َال تُظْلَ ُم نَـ ْف ٌ‬ ‫{ونَ َ ُ َ َ َ ْ‬ ‫َحسيبا } ( )‪َ ،‬‬
‫‪116‬‬

‫ِ‬
‫ني } (‪.)117‬‬ ‫َخ ْر َد ٍل أَتَـ ْيـنَا ِِبَا َوَك َفى بِنَا َحاسبِ َ‬
‫‪ 4‬ـ اجلزاء أو الثواب والعقاب‬
‫وهكذا يوِف العباد على أعماهلم وجيازون عليها يف دار اخللود‪ ،‬فمن رجحت حسناته على سيااته جنا‬
‫{وال َْو ْز ُن يَـ ْوَماِ ٍذ ا ْحلَ اق‬
‫ومضي به إىل اجلنة‪ ،‬ومن رجحت سيااته على حسناته هلك ومضي به إىل النار‪َ :‬‬
‫س ُهم ِمبَا َكانُواْ ِ َايتِنَا‬ ‫ِ‬ ‫ت موا ِزينُهُ فَأُولَـاِ َ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت َم َوا ِزينُهُ فَأ ُْولَـاِ َ‬
‫ين َخس ُرواْ أَن ُف َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫ْ‬ ‫ك ُه ُم ال ُْم ْفل ُحو َن َوَم ْن َخ َّف ْ َ َ‬ ‫فَ َمن ثَـ ُقلَ ْ‬
‫ين َخ ِس ُروا‬ ‫ت موا ِزينُهُ فَأُولَاِ َ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت َم َوا ِزينُهُ فَأ ُْولَاِ َ‬‫يِظْلِ ُمو َن } ( )‪{ ،‬فَ َمن ثَـ ُقلَ ْ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ك ُه ُم ال ُْم ْفل ُحو َن َوَم ْن َخ َّف ْ َ َ‬
‫‪118‬‬
‫ْ‬
‫اضيَ ٍة َوأ ََّما َم ْن َخ َّف ْ‬ ‫ش ٍة ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّم َخالِ ُدو َن } ( )‪" ،‬فَأ ََّما َم ْن ثَـ ُقلَ ْ‬
‫ت َم َوا ِزينُهُ‬ ‫ت َم َوا ِزينُهُ فَـ ُه َو ِيف عي َ َ‬ ‫س ُه ْم ِيف َج َهن َ‬ ‫أَن ُف َ‬
‫‪119‬‬

‫اك َما ِهيَ ْه َان ٌر َح ِاميَةٌ " (‪.)120‬‬ ‫فَأُامهُ َها ِويَةٌ َوَما أَ ْد َر َ‬

‫(‪ ) 112‬ـ ق آية رقم ‪.18‬‬


‫(‪ ) 113‬ـ املؤمنون آية رقم ‪.62‬‬
‫(‪ ) 114‬ـ اجلاثية آية رقم ‪.29‬‬
‫(‪ ) 115‬ـ الكهف آية رقم ‪.49 ،48‬‬
‫(‪ ) 116‬ـ اإلسراء آية رقم ‪.14 ،13‬‬
‫(‪ ) 117‬ـ األنبياء آية رقم ‪.47‬‬
‫(‪ ) 118‬ـ األعراف اآلية ‪.9 ،8‬‬
‫(‪ ) 119‬ـ املؤمنون آية رقم ‪.103 ،102‬‬
‫(‪ ) 120‬ـ القارعة آية رقم ‪.11 :6‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ 5‬ـ آايت قرآنية جامعة‪:‬‬
‫وقد حتدثت اآلايت القرآنية اآلتية يف ختام سورة الزمر عن مجيع " معامل يوم القيامة"‪ ،‬وخلصت أحداثه‪،‬‬
‫بدءا من موت اخلالئق على إثر النفخة األوىل‪ ،‬وانتهاء ابحلديث عن دخول أهل اجلنة اجلنة‪،‬وأهل النار‬
‫النار‪ ...‬وما جرى على ألسنة أهل اجلنة من احلمد والثناء على ي‪ ،‬واملالئكة حافون من حول العرر‬
‫يسبحون حبمد رِبم‪ ،‬وقد مت الفصل والقضاء ابحلق وامليزان‪:‬‬
‫اَّللُ ُمثَّ نُِف َخ فِ ِيه‬
‫ض إَِّال َم ْن َشاءَ َّ‬ ‫ات َوَم ْن ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫صع َق َم ْن ِيف َّ َ َ‬
‫صوِر فَ ِ‬
‫َ‬ ‫قال تعاىل‪َ " :‬ونُِف َخ ِيف ال ا‬
‫ش َه َد ِاء‬‫ني َوال ا‬ ‫اب َو ِجيءَ ِابلنَّبِيِ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ض بِنُوِر َرِِبَا َوُوض َع الْكتَ ُ‬ ‫ت ْاأل َْر ُ‬ ‫ام يـ ْنظُرو َن وأَ ْشرقَ ِ‬
‫أُ ْخ َرى فَإذَا ُه ْم قيَ ٌ َ ُ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت و ُهو أَ ْعلَم ِمبَا يـ ْفعلُو َن و ِس َ ِ‬ ‫ض َي بَـ ْيـنَـ ُه ْم ِاب ْحلَِق َو ُه ْم َال يُظْلَ ُمو َن َوُوفِيَ ْ‬ ‫وقُ ِ‬
‫يق الَّذ َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫س َما َع ِملَ ْ َ َ ُ َ َ‬ ‫ت ُك ال نَـ ْف ٍ‬ ‫َ‬
‫ال َهلُ ْم َخ َزنَـتُـ َها أََملْ َأيْتِ ُك ْم ُر ُس ٌل ِم ْن ُك ْم يَـ ْتـلُو َن‬
‫ت أَبْـ َو ُاِبَا َوقَ َ‬‫وها فُتِ َح ْ‬ ‫َّم ُزَمرا َح َّىت إِذَا َجاءُ َ‬ ‫ِ‬
‫َك َف ُروا إ َىل َج َهن َ‬
‫ِ‬ ‫ت َكلِ َمةُ ال َْع َذ ِ‬ ‫َك ْن َح َّق ْ‬ ‫ت ربِ ُكم ويـ ْن ِذرونَ ُكم لَِقاء يـوِم ُكم َه َذا قَالُوا بـلَى ول ِ‬ ‫َعلَْي ُكم ِ‬
‫ين‬‫اب َعلَى الْ َكاف ِر َ‬ ‫َ َ‬ ‫آاي َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ين اتَّـ َق ْوا َرَِّبُ ْم إِ َىل ا ْجلَن َِّة ُزَمرا‬ ‫قِيل ا ْد ُخلُوا أَبـواب جهنَّم َخالِ ِدين فِيها فَبِْاس مثْـوى الْمتَ َكِ ِربين و ِس َ ِ‬
‫يق الَّذ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ال َهلُم َخزنَـتُـها س َال ٌم َعلَي ُكم ِطبـتُم فَا ْد ُخلُ َ ِ ِ‬ ‫وها َوفُتِ َح ْ‬ ‫َح َّىت إِ َذا َجاءُ َ‬
‫ين َوقَالُوا ا ْحلَ ْم ُد‬ ‫وها َخالد َ‬ ‫ْ ْ ْ ْ‬ ‫ت أَبْـ َو ُاِبَا َوقَ َ ْ َ َ َ‬
‫ني َوتَـ َرى ال َْم َالئِ َكةَ‬ ‫ِِ‬ ‫ض نَـتَـبَـ َّوأُ ِم َن ا ْجلَن َِّة َح ْي ُ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َج ُر ال َْعامل َ‬ ‫ث نَ َشاءُ فَنِ ْع َم أ ْ‬ ‫ص َدقَـنَا َو ْع َدهُ َوأ َْوَرثَـنَا ْاأل َْر َ‬‫ََّّلل الَّذي َ‬
‫ني"(‪.)121‬‬ ‫ب ال َْعال َِم َ‬
‫ضي بـيـنَـهم ِاب ْحل ِق وقِيل ا ْحلم ُد َِِّ‬
‫َّلل َر ِ‬ ‫ِ‬
‫ر يُ َسبِ ُحو َن حبَ ْمد َرِب ْم َوقُ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ني ِم ْن َح ْو ِل ال َْع ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َحاف َ‬
‫ب ـ أدلة البعث يوم القيامة ورد شبه املنكرين‪:‬‬
‫أورد القرآن الكرمي كثريا من األدلة والرباهني على البعث والنشور يوم القيامة‪ ،‬ولفت النظر إىل الكثري‬
‫من الظواهر الطبيعية والكونية اليت تدل على البعث وتؤكد وقوعه يوم الدين‪ .‬وقد عرض القرآن الكرمي‬
‫جلميع هذه الرباهني والظواهر ابتداء أو بشكل مباشر مرة‪ ،‬ومن خالل مناقشة املتشككني‪ .‬والرد‬
‫على املنكرين من املالحدة والدهريني مرة أخرى‪ .‬وهذا ما دعاان إىل عرض أدلة هذا املوضوع‪ ،‬ومناقشة‬
‫ما يَ ِرد عليه من شبهات يف فقرة واحدة‪ .‬وقد حتمل هذه الطريقة القرآنية هنا ـ فيما حتمله وتشري إليه‬

‫(‪ ) 121‬ـ الزمر‪ ،‬اآلايت ‪.75 :68‬‬

‫‪67‬‬
‫ـ الداللة على أن إقامة الرباهني ال جيب أن أتيت على الدوام يف ابب الرد والتقومي ورد الشبه ! وميكن‬
‫تلخيص معامل هذا االستدالل يف التصنيف اآليت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ داللة النشأة األوىل على النشأة اآلخرة‪ ،‬أو على اإلعادة مرة أخرى‪.‬‬
‫ني أ ََوَملْ يَـ َرْوا‬‫ول إَِّال الْبَ َاللُ ال ُْمبِ ُ‬ ‫ب أ َُم ٌم ِم ْن قَـ ْبلِ ُك ْم َوَما َعلَى َّ‬
‫الر ُس ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ قال تعاىل‪َ " :‬وإِ ْن تُ َكذبُوا فَـ َق ْد َك َّذ َ‬
‫ْق‬
‫اخلَل َ‬ ‫ف بَ َدأَ ْ‬ ‫ض فَانْظُُروا َك ْي َ‬ ‫ري قُ ْل ِسريُوا ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ك َعلَى َِّ ِ‬ ‫ْق ُمثَّ يُِعي ُدهُ إِ َّن ذَلِ َ‬ ‫ئ َّ‬ ‫ف يُـ ْب ِد ُ‬
‫اَّلل يَس ٌ‬ ‫اخلَل َ‬
‫اَّللُ ْ‬ ‫َك ْي َ‬
‫ْق ُمثَّ يُِعي ُدهُ ُمثَّ إِل َْي ِه‬ ‫اَّللُ يَـ ْب َدأُ ْ‬
‫اخلَل َ‬ ‫اَّللَ َعلَى ُك ِل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير" (‪َّ " ،)122‬‬ ‫اَّللُ يُـ ْن ِش ُُ النَّ ْشأَةَ ْاآل ِخ َرةَ إِ َّن َّ‬
‫ُمثَّ َّ‬
‫ض إِذَا أَنْـتُ ْم‬ ‫ض ِأب َْم ِرهِ ُمثَّ إِذَا َد َعا ُك ْم َد ْع َوة ِم َن ْاأل َْر ِ‬‫الس َماءُ َو ْاأل َْر ُ‬
‫وم َّ‬ ‫تُـرجعو َن " (‪ " ،)123‬وِمن ِِ‬
‫آايته أَ ْن تَـ ُق َ‬‫َ ْ َ‬ ‫ْ َُ‬
‫ْق ُمثَّ يُِعي ُدهُ َو ُه َو أ َْه َو ُن َعلَْي ِه‬ ‫ض ُكلٌّ لَهُ قَانِتُو َن َو ُه َو الَّ ِذي يَـ ْب َدأُ ْ‬
‫اخلَل َ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫َختُْر ُجو َن َولَهُ َم ْن ِيف َّ َ َ‬
‫ئ َّ‬
‫اَّللُ‬ ‫ف يُـ ْب ِد ُ‬ ‫يم" ( )‪{ ،‬أ ََوَملْ يَـ َرْوا َك ْي َ‬ ‫ِ‬
‫ض َو ُه َو ال َْع ِز ُيز ا ْحلَك ُ‬ ‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫َولَهُ ال َْمثَ ُل ْاألَ ْعلَى ِيف َّ َ َ‬
‫‪124‬‬

‫ري } (‪.)125‬‬ ‫ك َعلَى َِّ ِ‬ ‫ْق ُمثَّ يُِعي ُدهُ إِ َّن َذلِ َ‬
‫اَّلل يَس ٌ‬ ‫اخلَل َ‬
‫ْ‬
‫ـ وقد جاء االستدالل ابلنشأة األوىل على النشأة اآلخرة يف اآلايت القرآنية اآلتية أيضا يف معرض‬
‫الرد على شبهات املنكرين الذين استبعدوا وقوع البعث عنادا وجهال‪ ..‬مبينة هلم أن اخلالق الذي‬
‫خ لق هذا الكون من العدم‪ ،‬وأبدع اإلنسان على غري مثال سبق‪ ،‬قادر من ابب أوىل يف العرف‬
‫والعادة اإلنسانية ذاهتا ـ على أن خيلقه ويعيده مرة أخرى‪ " .‬فَ َسيَـ ُقولُو َن َم ْن يُِعي ُد َان قُ ِل الَّ ِذي فَطََرُك ْم‬
‫وس ُه ْم َويَـ ُقولُو َن َم َىت ُه َو قُ ْل َع َسى أَ ْن يَ ُكو َن قَ ِريبا " (‪.)126‬‬
‫ك ُرءُ َ‬ ‫أ ََّو َل َم َّرةٍ فَ َسيُـ ْن ِغ ُ‬
‫ضو َن إِل َْي َ‬
‫وقد جاء هذا الدليل القرآين يف سياق جدال أآلل مع منكري البعث‪ ،‬ال بد لنا من ذكره والتعليق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليه‪ ،‬قال تعاىل‪َ " :‬وقَالُوا أَإِ َذا ُكنَّا عظَاما َوُرفَاات أَإِ َّان ل ََم ْبـعُوثُو َن َخلْقا َجديدا قُ ْل ُكونُوا ح َج َ‬
‫ارة أ َْو‬
‫ص ُدوِرُك ْم فَ َسيَـ ُقولُو َن َم ْن يُِعي ُد َان قُ ِل الَّ ِذي فَطََرُك ْم أ ََّو َل َم َّرةٍ فَ َسيُـ ْن ِغ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضو َن‬ ‫رب ِيف ُ‬
‫َحديدا أ َْو َخلْقا ممَّا يَ ْك ُُ‬

‫(‪ ) 122‬ـ العنكبوت اآلايت ‪.20 :18‬‬


‫(‪ ) 123‬ـ الروم آية رقم ‪.11‬‬
‫(‪ ) 124‬ـ الروم اآلايت ‪.27 :25‬‬
‫(‪ ) 125‬ـ العنكبوت آية رقم ‪.18‬‬
‫(‪ ) 126‬ـ اإلسراء آية رقم ‪.51‬‬

‫‪68‬‬
‫وس ُه ْم َويَـ ُقولُو َن َم َىت ُه َو قُ ْل َع َسى أَ ْن يَ ُكو َن قَ ِريبا يَـ ْو َم يَ ْدعُوُك ْم فَـتَ ْستَ ِجيبُو َن ِحبَ ْم ِدهِ َوتَظُناو َن إِ ْن‬ ‫إِل َْي َ‬
‫ك ُرءُ َ‬
‫لَبِثْـتُ ْم إَِّال قَلِيال " (‪.)127‬‬
‫وُنلق خلقا جديدا؟ فقال ي تعاىل‪ :‬قل هلم‪ :‬كونوا‬
‫تساءل هؤالء املنكرون‪ :‬أبعد أن نَبلى ونَفىن نُبعث ُ‬
‫ما شاتم فسوف تعادون ! لو كنتم حجارة ال تقبل احلياة حبال‪ ،‬أو حديداـ وهو أصلب من احلجارة ـ‬
‫أو خلقا آخر أوغل يف البعد عن احلياة فسيبعثكم ي ! واملعىن‪ :‬أن القادر على خلق احلياة يف اجلماد‪،‬‬
‫قادر على إعادهتا إىل األحياء !‬
‫يم قُ ْل ُْحييِ َيها الَّ ِذي أَنْ َشأ ََها‬ ‫ال من ُحي ِي ال ِْعظَ ِ ِ‬
‫ام َوه َي َرم ٌ‬ ‫َ‬ ‫ب لَنَا َمثَال َونَ ِس َي َخ ْل َقهُ قَ َ َ ْ ْ‬ ‫ض َر َ‬
‫وقال تعاىل‪َ " :‬و َ‬
‫ِ ِ‬ ‫يم الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ْم ِم َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫ض ِر َانرا فَإ َذا أَنْـتُ ْم م ْنهُ تُوق ُدو َن أ ََول َْي َ‬
‫س‬ ‫الش َج ِر ْاألَ ْخ َ‬ ‫أ ََّو َل َم َّرة َو ُه َو بِ ُك ِل َخل ٍْق َعل ٌ‬
‫يم إِ َّمنَا أ َْم ُرهُ إِ َذا أ ََر َ‬
‫اد‬ ‫ِ‬ ‫اد ٍر َعلَى أَ ْن َخيْلُ َق ِمثْـلَ ُه ْم بَـلَى َو ُه َو ْ‬
‫اخلََّال ُق ال َْعل ُ‬
‫ض بَِق ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر َ‬ ‫الَّذي َخلَ َق َّ َ َ‬
‫ِ‬
‫وت ُك ِل َش ْي ٍء َوإِل َْي ِه تُـ ْر َجعُو َن" (‪.)128‬‬ ‫س ْب َحا َن الَّ ِذي بِيَ ِدهِ َملَ ُك ُ‬ ‫َش ْيـاا أَ ْن يَـ ُق َ‬
‫ول لَهُ ُك ْن فَـيَ ُكو ُن فَ ُ‬
‫واحلجة قائمة على املنكر يف هذه اآلية يف عدة مواطن‪،‬يف قوله تعاىل‪َ :‬ونَ ِس َي َخ ْل َقهُ‪،‬فالذي يتساءل‬
‫عن إحياء العظام ينسى ابتداء كيف خلق هو بروحه وجسمه وعظامه مجيعا!!‬
‫ويف قوله " قُ ْل ُْحييِ َيها الَّ ِذي أَنْ َشأ ََها أ ََّو َل َم َّرةٍ " فإن القادر على البدء قادر على اإلعادة‪ .‬والقادر على‬
‫النشأة األوىل قادر على النشأة الثانية‪ .‬ولو كان عاجزا لكان عن األُوىل أعجز ! وقد كانت األوىل‬
‫فكيف ال تكون الثانية ؟ !‬
‫ِ‬
‫ويف قوله تعاىل َو ُه َو بِ ُك ِل َخل ٍْق َعل ٌ‬
‫يم"إشارة إىل علمه تعاىل بتفاصيل اخللق األول‪ ،‬فإذا كان سبحانه‬
‫اتم العلم وكامل القدرة‪ ،‬فكيف يتعذر عليه ان حييي العظام وهي رميم ؟‪.‬‬

‫(‪ ) 127‬ـ اإلسراء اآلايت ‪.52 :49‬‬


‫(‪ ) 128‬ـ يس اآلايت ‪.83 :78‬‬

‫‪69‬‬
‫ويف اإلشارة إىل خلق مثل السموات واألرض‪ ..‬دليل على قدرة ي تعاىل على إعادة خلق اإلنسان‪،‬‬
‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬
‫ض أَ ْك َُ‬
‫رب‬ ‫ْق َّ َ َ‬
‫ألن ي تعاىل يقول يف خلق الطبيعة واإلنسان أول مرة‪ ،‬أو من العدم‪َ " :‬خلَل ُ‬
‫َّاس ول ِ‬ ‫ِ‬
‫َك َّن أَ ْكثَـ َر الن ِ‬
‫َّاس َال يَـ ْعلَ ُمو َن" (‪.)129‬‬ ‫م ْن َخل ِْق الن ِ َ‬

‫‪ 2‬ـ داللة األطوار اإلنسانية والنباتية‬


‫وقد جاء شطر من األدلة يف معرض الرد على من ظن أن البعث والنشور خمالف للسنن املألوفة يف‬
‫الطبيعة واإلنسان‪ ،‬فبني ي تعاىل أن هذه السنن ذاهتا تدل على البعث والنشور‪ ،‬علما أبن هذه السنن‬
‫لو مل حتمل مثل هذه الداللة فإنه ال جيوز أصال أن ُجتعل هى احلَكم يف االستدالل‪ ،‬ألن ي تعاىل‬
‫وضعها لإلنسان يف عامل الشهادة‪ ،‬وله سبحانه أن ينشىء من قوانني عامل الغيب ما حيكم به على‬
‫الطبيعة واإلنسان‪ ،‬أو يعيد وفقا هلا َخ ْلق الطبيعة واإلنسان‪.‬‬
‫اب ُمثَّ ِم ْن نُطْ َف ٍة ُمثَّ ِم ْن‬ ‫ث فَِإ َّان َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن تُـر ٍ‬
‫َ‬
‫ب ِمن الْبـ ْع ِ‬
‫َّاس إِ ْن ُك ْنـتُ ْم ِيف َريْ ٍ َ َ‬ ‫قال تعاىل‪َ " :‬اي أَياـ َها الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫َعلَ َق ٍة ُمثَّ ِمن م ْ ٍ ٍ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى ُمثَّ ُُنْ ِر ُج ُك ْم‬ ‫ني لَ ُك ْم َونُق ار ِيف ْاأل َْر َح ِام َما نَ َشاءُ إِ َىل أ َ‬ ‫ضغَة ُخمَلَّ َقة َوغَ ِْري ُخمَلَّ َقة لنُـبَِ َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِط ْفال ُمثَّ لِتَـ ْبـلُغُوا أَ ُش َّد ُك ْم َوِم ْن ُك ْم َم ْن يُـتَـ َو َِّف َوِم ْن ُك ْم َم ْن يُـ َر اد إِ َىل أ َْرذَ ِل الْعُ ُم ِر لِ َك ْي َال يَـ ْعلَ َم ِم ْن بَـ ْع ِد ِعل ٍْم‬
‫َن‬‫ك ِأب َّ‬ ‫يج ذَلِ َ‬ ‫ت ِم ْن ُك ِل َزْو ٍج َِبِ ٍ‬ ‫ت َوأَنْـبَـتَ ْ‬ ‫ت َوَربَ ْ‬ ‫ض َه ِام َدة فَِإذَا أَنْـ َزلْنَا َعلَْيـ َها ال َْماءَ ْاهتَـ َّز ْ‬ ‫َش ْيـاا َوتَـ َرى ْاأل َْر َ‬
‫ث‬ ‫َن َّ‬
‫اَّللَ يَـ ْبـ َع ُ‬ ‫ب فِ َيها َوأ َّ‬ ‫الس َ ِ‬
‫اعةَ آتيَةٌ َال َريْ َ‬ ‫َن َّ‬ ‫اَّللَ ُه َو ا ْحلَ اق َوأَنَّهُ ُْحي ِي ال َْم ْوتَى َوأَنَّهُ َعلَى ُك ِل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير َوأ َّ‬ ‫َّ‬
‫ك نُطَْفة ِم ْن َم ٍِين ميُْ َىن ُمثَّ‬ ‫رت َك ُسدى أََملْ يَ ُ‬ ‫اإلنْ َسا ُن أَ ْن يُ ْ َ‬ ‫ب ِْ‬ ‫َم ْن ِيف الْ ُقبُوِر " ( )‪ ،‬وقال تعاىل‪ " :‬أ َْ‬
‫َحي َس ُ‬
‫‪130‬‬

‫اد ٍر َعلَى أَ ْن ُْحييِ َي‬ ‫ك بَِق ِ‬ ‫س َذلِ َ‬ ‫َكا َن َعلَ َقة فَ َخلَ َق فَس َّوى فَ َج َعل ِم ْنهُ َّ ِ َّ‬
‫الزْو َج ْني الذ َك َر َو ْاألُنْـثَى أَل َْي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض بَـ ْع َد َم ْوِهتَا‬ ‫ت وُخيْرِج الْميِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت م َن ا ْحلَ ِي َوُْحي ِي ْاأل َْر َ‬ ‫ِج ا ْحلَ َّي م َن ال َْميِ َ ُ َ‬ ‫ال َْم ْوتَى"( )‪،‬وقال تعاىل‪ُ " :‬خيْر ُ‬
‫‪131‬‬

‫ك ُختَْر ُجو َن" (‪.)132‬‬ ‫َوَك َذلِ َ‬

‫(‪ ) 129‬ـ غافر آية رقم ‪.57‬‬


‫(‪ ) 130‬ـ احلج اآلايت ‪.7 :5‬‬
‫(‪ ) 131‬ـ القيامة اآلايت ‪.40 :36‬‬
‫(‪ ) 132‬ـ الروم آية رقم ‪.19‬‬

‫‪70‬‬
‫ووجه الداللة يف هذه اآلايت اليت تتحدث عن أطوار اخللق واإلجياد‪:‬‬
‫ـ أن القدرة اليت انتقلت ابإلنسان من طور إىل طور‪ ،‬ومن حال إىل حال‪ ،‬ويف كل طور َخ ْلق ودقة‬
‫وإحكام‪ ...،‬سوف تعيد َخ ْلقه يف نشأة أخرى ال تعدو أن تكون طورا جديدا من هذه األطوار املقدورة‬
‫هلل تعاىل‪.‬‬
‫ـ بل إن هذا الطور اجلديد أو األخري هو الذي تقتضيه احلكمة‪ ،‬أو الذي تنتهي إليه األطوار السابقة‬
‫وتدفع إليه‪ .‬حيث يبلو اإلنسان كماله املمكن يف دار الكمال‪ ،‬ألن اإلنسان ال يبلو كماله يف حياة‬
‫األرض‪ ،‬فهو يقف مث يرتاجع " لِ َك ْي َال يَـ ْعلَ َم بَـ ْع َد ِعل ٍْم َش ْيـاا " (‪ ،)133‬فال بد من دار أخرى يتم فيها‬
‫متام اإلنسان (‪.)134‬‬
‫‪ 3‬ـ بني دليل العدم وعدم الدليل‬
‫وأخريا‪ ،‬فإننا نسأل املالحدة واملنكرين‪ :‬ما الدليل على عدم وقوع اليوم اآلخر؟ وعلى أي شيء استند‬
‫هؤالء يف إنكارهم هلذا الركن من أركان اإلميان‪ ،‬أو هلذه املسألة من مسائل الغيب ؟!! قد يكون يف‬
‫وسع هؤالء أن يقولوا‪ :‬إننا ال نعلم دليال ماداي على الوقوع ! أما أن يقولوا إننا منلك دليال على عدم‬
‫الوقوع أو على استحالته‪ ..‬فهذه دعوى تنقصها العلمية التجريبية أو العلمية أببسط صورها ومعانيها‪.‬‬

‫ت َم ِن َّاختَ َذ إِ َهلَهُ َه َواهُ‬ ‫وهلذا فإن القرآن الكرمي قد طى أقواهلم وادعاءاهتم ظنا‪ ،‬قال تعاىل‪ " :‬أَفَـ َرأَيْ َ‬
‫اَّلل َعلَى ِعل ٍْم و َختم َعلَى َطْ ِع ِه وقَـ ْلبِ ِه وجعل َعلَى بص ِرهِ ِغ َشاوة فَمن يـ ْه ِد ِيه ِمن بـع ِد َِّ‬
‫اَّلل أَفَ َال‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ ََ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫ضلَّهُ َُّ‬ ‫َوأَ َ‬
‫ك ِم ْن ِع ْل ٍم إِ ْن‬ ‫الد ْه ُر َوَما َهلُ ْم بِ َذلِ َ‬
‫وت َوَْحنيَا َوَما يُـ ْهلِ ُكنَا إَِّال َّ‬
‫تَ َذ َّك ُرو َن َوقَالُوا َما ِه َي إَِّال َحيَاتُـنَا ال ادنْـيَا َمنُ ُ‬
‫ات ما َكا َن ح َّجتَـهم إَِّال أَ ْن قَالُوا ائْـتُوا ِ ابئِنَا إِ ْن ُك ْنـتُم ص ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ني‬
‫ادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫آايتُـنَا بَـيِنَ َ‬
‫ُه ْم إَِّال يَظُناو َن َوإِذَا تُـ ْتـلَى َعلَْي ِه ْم َ‬
‫اَّلل ُْحييِي ُكم ُمثَّ ُميِيتُ ُكم ُمثَّ َْجيمع ُكم إِ َىل يـوِم ال ِْقيام ِة َال ريب فِ ِيه ول ِ‬
‫َك َّن أَ ْكثَـ َر الن ِ‬
‫َّاس َال يَـ ْعلَ ُمو َن" (‪.)135‬‬ ‫َ ُ ْ َ ْ َ َ َْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫قُ ِل َُّ‬

‫(‪ ) 133‬ـ النحل من اآلية ‪.70‬‬


‫(‪ ) 134‬ـ راجع يف ظالل القرآن‪ ،‬اجمللد اخلامس ص ‪.583‬‬
‫(‪ ) 135‬ـ اجلاثية اآلايت ‪.26 :23‬‬

‫‪71‬‬
‫وليس معىن عدم بعث آابئهم يف الوقت الذي طلبوا‪ ،‬أهنم لن يبعثوا يوم القيامة أو لن يبعثوا على اإلطالق!!‬
‫ألن هلم أو عليهم االستدالل والنظر من خالل بعث األرض وإحيائها بعد املوت‪ ...‬ومن خالل ما ردت به‬
‫اَّللُ ُْحييِي ُك ْم ُمثَّ ُميِيتُ ُك ْم " أي من خالل النظر يف خلق اإلنسان أو إحيائه وما يتصل‬
‫اآلية نفسها عليهم" قُ ِل َّ‬
‫ِبذا اإلحياء من مراحل‪.‬‬

‫ً‬
‫خامسا ـ أثر العقيدة الدينية يف بناء الشخصية اإلسالمية‪:‬‬
‫إن الشخصية اإلنسانية السوية‪ ،‬أو مبعناها احلق الذي يتمثل يف حتقيق مجيع أبعادها ال تتكون إال من‬
‫خالل العقيدة الدينية‪ ...‬سواء نظران يف ذلك إىل معاين احلياة اليت تقدمها العقيدة الدينية‪ ،‬أو إىل‬
‫حتقيق طموح العقل واالستجابة ألشواق الروح اليت توجد يف رحاب اإلميان‪ ...‬إىل جانب آاثر ونتائج‬
‫أخرى كثرية ال توجد إال يف الدين ويف قاموس املتدينني‪ ،‬واليت أفردها بعض الباحثني ابلكتابة‬
‫والتصنيف(‪.)136‬‬
‫ونشري هنا إىل أهم آاثر العقيدة الدينية يف حياة اإلنسان بوجه عام‪ ،‬وإىل أثر العقيدة اإلسالمية بوصفها‬
‫العقيدة الدينية الصحيحة الباقية يف عامل اليوم‪ ،‬بوجه خا ‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ أثرها يف اجلانب العقلي‬
‫يقدم الدين لإلنسان أعلى انواع الغذاء العقلي النظري‪ ،‬ويشبع فيه هذا التطلع الدائم إىل املبدأ‬
‫واملصري‪ ،‬أو إىل العلة األوىل والغاية األخرية‪ ،‬ويقدم له اإلجابة الشافية عن أسالته األساسية ومشكالته‬
‫الكربى‪ ،‬والىت تتلخص يف إرشاده إىل اخلالق جل وعال‪ ،‬وتعريفه أبطائه احلسىن وصفاته العلى‪ ،‬وحتديد‬
‫املبدأ واملعاد‪ ،‬إىل جانب إعطائه مقاييس اخلري والشر‪ ،‬واحلالل واحلرام‪ ،‬أو القيم واألهداف بوجه‬
‫عام‪.‬‬
‫ورمبا حاول الناس يف بعض العصور أن يشبعوا هذا التطلع العقلي‪ ،‬أو هذه القوة النظرية عند اإلنسان‪،‬‬
‫أو حاولوا اإلجابة عن تلك التساؤالت إما بطريق املعارف العلمية (أي التجريبية) من خالل النظر والفكر‬

‫(‪ ) 136‬ـ راجع كتاب الدين لألستاذ العالمة د‪ .‬حممد عبد هللا دراز‪ ،‬رمحه هللا رمحة واسعة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫يف الطبيعة‪ ،‬حتت عنوان‪ :‬العلم يغين عن الدين‪ .‬وإما بطريق اإلمعان يف النظر العقلي احملض‪ ،‬والتأمل الفلسفي‬
‫اجملرد‪،‬أي من خالل التفكر والتأمل الذايت يف اإلنسان‪،‬فيحاول العقل أن جييب نفسه بنفسه‪،‬حتت عنوان‪:‬‬
‫الفلسفة تغين عن الدين‪.‬‬
‫أ ـ أما العلوم واملعارف التجريبية فال يستغين ِبا اإلنسان عن طلب تفسري هلذا الكون‪ ،‬وعن دور اإلنسان‬
‫وسلوكه فيه‪ ،‬ومصريه من بعده‪ ،‬وهل يوجد وراء هذا الكون شيء ال يصل إليه علمه أم ال ؟‬
‫وأاي ما قيل يف اإلجابة عن هذه األسالة وسواها‪ ...‬ويف مدى إقناعها أو عدم إقناعها للعقل‪ ،‬فإنه سيبقى‬
‫أمام العقل يف طريف الوجود ـ مبدئه وغايته ـ شيء ال تفسره املعارف العلمية بوجه من الوجوه !‬
‫ومن وجه آخر فإن " العلم " حيدثنا عن الشيء كيف يعمل‪ ،‬وال حيدثنا عنه ِملَ وجد‪ ،‬وِملَ كان يعمل‬
‫على هذا الوجه؟ وهذا معىن قول بعض املفكرين‪ :‬العلم جييب عن "كيف" ؟ وال جييب عن ِ"ملَ"؟‬
‫حبال‪.‬‬
‫يضاف إىل ذلك أيضا ـ وهذا أمر مهم جدا ـ أن العلم يعجز عن رسم طريق احلياة األمثل لإلنسان‪،‬‬
‫وبيان ما جيب عليه فعله أو تركه‪ ،‬ألنه يقدم له الوسائل وال يقدم له الغاايت أو يعطيه القيم! وألنه‬
‫يتعامل مع األشياء‪ ،‬ال مع املُثُل أو األفكار! ومل يكن اإلنسان إنساان يف يوم من األايم أبشيائه ووسائله‬
‫ولكن بقيمه ومبادئه ورفعة سلوكه !‬
‫ب ـ أما الفلسفة اليت تَصدر أهلها لإلجابة عن األسالة املصريية تلك‪ .‬وهي " مصريية " حبق‪ ،‬فيكفينا‬
‫يف بيان عجزها عن إشباع تلك القوة النظرية وتكميلها عند اإلنسان‪ ،‬أن اإلنسان ليس مؤهال هلذه‬
‫اإلجابة‪ ،‬وال متفرغا هلا‪ ..‬و الفالسفة الذين فعلوا ذلك كانوا يرمجون ابلغيب‪ ،‬ألن الدور األساس للعقل هو‬
‫تفسري احلياة ال تصوير الوجود‪ .‬وإن الباحث يف اتريخ الفلسفة أو املطلع عليها يستطيع أن يقول‪ :‬إننا إذا‬
‫جتاوزان من فلسفة هؤالء " القدر " الذي يصل إليه عامة الناس‪ ،‬والذي امتاز فيه الفالسفة ابلقدرة على‬
‫الربهنة والدليل‪ ،‬وجدان أن حالتهم أو حالة أكثرهم تدعو إىل اإلشفاق‪ ،‬وقد يدلنا البحث واالستقصاء على‬
‫أن ذلك القدر املشرتك ليس إال من مورواثت النبوات يف هناية املطاف‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ومل تكن اإلجاابت النابعة من العقل اإلنساين وحده إال إجاابت انقصة أو مبتورة أو شوهاء‪ ..‬وهلذا مل‬
‫تستقر على حال‪ ،‬وال يزال التعديل والتبديل يلحق ِبا يف كل يوم‪ .‬ولو كانت صحيحة لكانت متفقة‪،‬‬
‫التصور االعتقادي أو العقيدةُ اليت تتابع عليها األنبياءُ مجيعا‬
‫ُ‬ ‫ألن احلق ال يتغري وال يتعدد‪ ،‬وهلذا كان‬
‫واحدة من لدن آدم إىل حممد صلى ي عليهم وسلم أمجعني‪ .‬إن طموح العقل‪ ،‬ووحدته أيضا‪ ،‬ووضعه‬
‫يف موضعه الصحيح مل تتحقق مجيعها إال يف العقيدة الدينية وحدها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أثرها يف اجلانب الروحي‬
‫وإذا كان اإلنسان ليس عقال فحسب‪ ،‬ولكنه عقل وروح أيضا‪ ...‬فال خالف على أن النزعة الروحية‬
‫عند اإلنسان‪ ،‬وشعوره النفسي والوجداين ال ميكن تلبيته أو إشباعه إال عن طريق الدين‪ ...‬ألن العقيدة‬
‫الدينية هي اليت تصل اإلنسان خبالقه سبحانه وتعاىل‪ ،‬وتضعه مع صفاته العلى‪ ،‬أمام عتبة اليقني‬
‫اَّلل أَالَ بِ ِذ ْك ِر ِ‬
‫وِبم بِ ِذ ْك ِر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّلل‬ ‫آمنُواْ َوتَط َْما ان قُـلُ ُُ‬ ‫واالطمانان والرضا‪ ..‬وتطلق أشواقه الروحية‪ { :‬الَّذ َ‬
‫ين َ‬
‫وب} (‪.) 137‬‬ ‫ِ‬
‫تَط َْما ان الْ ُقلُ ُ‬
‫وهلذا كان اإلميان ميثل سكينة النفس وميثل الدواء احلقيقي من أمراضها وخباصة تلك األمراض النامجة‬
‫اَّلل إِنَّه الَ يـيأَس ِمن َّرو ِح ِ‬
‫اَّلل إِالَّ‬ ‫عن اخلوف واليأس والقلق‪ ...‬قال تعاىل‪ ..{ :‬والَ تَـيأَسواْ ِمن َّرو ِح ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ َْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫الْ َق ْو ُم الْ َكافِ ُرو َن }(‪ ،)138‬وما أمجل ما قاله بعضهم حني وصف اإلميان أبنه " سند العزائم يف الشدائد‪،‬‬
‫وبلسم الصرب عند املصائب‪ ،‬وعماد الرضا والقناعة ابحلظوظ‪ ،‬ونور األمل يف الصدور‪ ،‬وسكن النفوس‬
‫إذا أوحشتها احلياة‪ ،‬وعزاء القلوب إذا نزل املوت أو قربت أايمه " (‪.)139‬‬
‫وهلذا نقول‪ :‬ما كان اإلنسان حباجة إىل الدين يف يوم من األايم ـ والدين عند اإلنسان حاجة اثبتة ال‬
‫تنقطع ـ كحاجته إليه يف هذا العصر املادي الذي يدعى بعصر العلم‪ ،‬وإن شات قلت‪ :‬عصر القلق‪،‬‬

‫(‪ ) 137‬ـ الرعد آية رقم ‪.28‬‬


‫(‪ ) 138‬ـ يوسف آية رقم ‪.87‬‬
‫(‪ ) 139‬ـ كتاب قصة اإلميان للشيخ ندمي اجلسر رمحه هللا‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫أو عصر األمراض النفسية النامجة عن طغيان النزعة املادية وسيطرة اللذات احلسية‪ ..‬وأهواء النفوس‪،‬‬
‫ورغباهتا يف اعتصار احلياة !‪.‬‬
‫وإذا كان الدين يتعامل مع البعد الروحي لإلنسان ـ كما قلنا ـ فوق تعامله السابق مع بعده العقلي‪...‬‬
‫فمعىن ذلك أنه ينفي عن الشخصية اإلنسانية الفصام والتعارض والتناقض‪ ،‬وحيقق هلا السالم احلقيقي‬
‫يف أوىل خطواته‪ ،‬وأهم مراحله ـ وأعين سالم الضمري قبل سالم البيت واجملتمع والعامل ـ كما أنه يعد‬
‫فوق ذلك عماد هذه الشخصية أو الوجود اإلنساين‪ ...‬ألن الروح هي أساس وجود اإلنسان وأساس‬
‫حياته‪.‬‬
‫وإذا كانت الروح غيبا من الغيب ال سبيل إىل االطالع عليه يف عامل الشهادة‪ ،‬فمعىن ذلك أن وجود‬
‫اإلنسان ـ يف احلقيقة ـ غييب وليس ماداي‪ ...‬فمن آمن ابلغيب ـ ابهلل تعاىل واليوم اآلخر ـ فقد وجد‬
‫َم ْيتا‬ ‫نفسه‪ ،‬وحقق أبعاده‪ ،‬وهلذا كان املؤمن هو احلي والكافر هو امليت‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬أ ََو َمن َكا َن‬
‫ُزيِ َن‬ ‫ك‬ ‫ِج ِم ْنـ َها َك َذلِ َ‬
‫س ِخبَار ٍ‬ ‫ِ ا ِ‬ ‫َحيَـ ْيـنَاهُ َو َج َعلْنَا لَهُ نُورا ميَْ ِشي بِ ِه ِيف الن ِ‬
‫َّاس َك َمن َّمثَـلُهُ يف الظلُ َمات ل َْي َ‬ ‫فَأ ْ‬
‫ِ ِ‬
‫ين َما َكانُواْ يَـ ْع َملُو َن}(‪.)140‬‬ ‫ل ْل َكاف ِر َ‬
‫‪ 3‬ـ أثرها يف اجلانب اجلسمي أو املادي‬
‫وإذا كانت شخصية اإلنسان السوية أو املتكاملة ال تتم بغري تلبية حاجات اجلسم‪ ،‬واالستجابة لنوازعه‬
‫ـ ال حتضه على تلبية تلك‬ ‫املادية‪ ،‬فإن العقيدة الدينية ـ واحلديث هنا عن اإلسالم على وجه اخلصو‬
‫النوازع من حيث هي نوازع ألنه مدفوع إليها بقوة الغرائز‪ ،‬وحبكم اخللق والتكوين‪ ،‬ولكنها ترغبه يف‬
‫تلبيتها على الوجه املشروع‪ ،‬وتضع هلا من الضوابط ما يكفل لإلنسان أن يضعها يف موضعها الصحيح‪،‬‬
‫وأن يكون قادرا على ضبطها وهتذيبها والتحكم فيها‪ ،‬حىت يكون هو املسيطر عليها والقائد هلا‪،‬‬
‫وليس العكس‪ .‬ومن العجيب أن املذاهب املادية اليت تطلق لإلنسان عقال الشهوات والغرائز إمنا‬
‫تفعل ذلك حتت عنوان احلرية‪ ،‬ولكنها مل تدر حني تفقد اإلنسان القدرة على ضبطها والتحكم فيها‬
‫ووضعها يف موضعها الصحيح ـ وما كان اإلنسان إنساان إال ابلضبط والتحكم والقانون ـ إهنا ترده إىل‬

‫(‪ ) 140‬ـ األنعام آية رقم ‪.122‬‬

‫‪75‬‬
‫أحط صور العبودية‪ ،‬من حيث تزعم أهنا حررته‪ .‬وهذا واحد من أهم مازق هذا املذهب‪ .‬وأسوأ من ذلك‬
‫بطبيعة احلال أن معظم هذه املذاهب جيعل من هذه الغرائز حمور الوجود اإلنساين يف األدب والنفس‬
‫واالجتماع‪ ...‬فريكز عليها األضواء‪ ،‬ويزينها لإلنسان صباح مساء‪ ،‬وما كان اإلنسان حباجة إىل من يزينها له‬
‫وقد زينتها الفطرة واجلِبِلَّة كما قلنا‪ ...‬ولكنه حمتاج إىل من يعلمه كيف يضبطها ويتحكم فيها‪ ،‬وصدق ي‬
‫َنت تَ ُكو ُن َعلَ ْي ِه َوكِيال }(‪.)141‬‬
‫ت َم ِن َّاختَ َذ إِ َهلَهُ َه َواهُ أَفَأ َ‬
‫العظيم حيث يقول‪{ :‬أ ََرأَيْ َ‬
‫ورد زمام‬
‫وأذكر هنا أبن شريعة الصوم يف اإلسالم ال تزال تؤدي دورها يف تربية هذه اإلرادة اإلنسانية‪َ ،‬‬
‫التحكم بشهويت البطن والفرج إىل اإلرادة اإلنسانية‪ ،‬حىت يف هذه احلالة الىت يتم تلبيتها ابلطريق‬
‫فري َجع إليها يف مظاهنا من الكتب والدراسات‪.‬‬
‫املشروع‪.‬أما ضوابط هاتني الغريزتني ُ‬
‫مىت حيض اإلسالم على تلبية الغرائز‪:‬‬
‫بقيت نقطة أخرى‪ ،‬وهي أن اإلسالم حيض على تلبية هذه الغرائز حقيقة إذا حاول املرء إمهال الغريزة‬
‫واجلبلة واخللْق اإلهلي‪ ،‬أو حني حياول أن يُسكت يف نفسه صوت الفطرة‪ ،‬فيأيت صوت الشريعة رافضا‬
‫للرهبانية وأحكامها القاسية‪ ...‬تلك الرهبانية اليت ال تتالءم وحتقيق مجيع أبعاد اإلنسان‪ :‬اجلسمية‬
‫والعقلية والروحية‪ ...‬واليت يعد حتقيقها جمتمعة كما قلنا شرطا للشخصية اإلنسانية السوية‪ .‬إن فقدان‬
‫التوازن مرفوض ولو كان ـ كما تظن الرهبانية ـ إىل أعلى‪ ،‬ألن هذه الرهبانية ليست ارتفاعا ابحلياة عن‬
‫نوازع اجلسد‪ ،‬ولكنها اختالل غري متوازن يعطل أهداف احلياة (‪ ،)142‬وصدق الرسول الكرمي واملثل‬
‫األعلى الذي اجتمعت فيه كل صفات الكمال اليت أعطاها ي عز وجل لإلنسان‪ ،‬حني قال‪ " :‬أ ََما‬
‫ِ‬ ‫َك ِين أَصوم وأُفْ ِطر‪ ،‬وأُصلِي وأَرقُ ُد‪ ،‬وأَتَـ َزَّو ِ‬ ‫ِِ‬
‫َّلل وأَتْـ َقا ُكم لَهُ‪ ،‬ل ِ‬ ‫و َِّ‬
‫ب َع ْن‬ ‫ج الن َساءَ‪ ،‬فَ َم ْن َرغ َ‬
‫ُ َُ ُ َ َ َْ َ ُ‬ ‫اَّلل إِِين َألَ ْخ َشا ُك ْم َّ َ ْ‬ ‫َ‬
‫س ِم ِين»(‪.)143‬‬
‫ُسن َِّيت فَـلَْي َ‬
‫‪ 4‬ـ أثر العقيدة الدينية يف حترير اإلنسان‬

‫(‪ ) 141‬ـ الفرقان آية رقم ‪.43‬‬


‫(‪ ) 142‬ـ راجع كتاب اإلنسان بني املادية واإلسالم لألستاذ حممد قطب‪ ،‬ص ‪ 81‬ط الثالثة‪.‬‬
‫(‪ ) 143‬ـ صحيح البخارى‪ ،‬ابب الرتغيب يف النكاح‪ ،‬حديث رقم ‪ ،5063‬ج ‪ 7‬ص ‪ 2‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫بعد هذا التكامل السوي الذي حتققه العقيدة الدينية يف حياة اإلنسان ـ انهيك عن أثرها يف اجملتمع‬
‫ا إلنساين ـ ال بد لنا أن نشري إىل أن الدين هو أعظم حمرر لإلنسان من كل عوامل القهر واخلوف‬
‫والتسلط واجلربوت‪ ...‬وال شك أبن أعظم ما يستذل أعناق الرجال‪ ،‬ويقهر إرادة اإلنسان‪ :‬اخلوف‬
‫على احلياة‪ ،‬واخلوف على الرزق‪ ..‬ومها األمران اللذان ربطا يف العقيدة مبشياة ي تعاىل املطلقة بدون‬
‫خالف أو نزاع‪ ،‬فال قهر إذن‪ ،‬وال عبودية‪ ...‬ولكنها احلرية احلقيقة أبروع صورها وأعمق معانيها‪...‬‬
‫وليست قصة سحرة فرعون عنا ببعيد‪ ،‬وقد أشار إليها القرآن الكرمي يف عدة مواضع‪ ...‬فيوم آمن‬
‫سحرة فرعون برب موسى وهارون‪ ،‬عرفوا طريقهم إىل احلرية واخلال من ذل القهر والعبودية‪ ،‬وحني‬
‫ضي َه ِذهِ ا ْحلَيَاةَ‬
‫اض إِ َّمنَا تَـ ْق ِ‬
‫َنت قَ ٍ‬ ‫توعدهم فرعون أببشع صور القتل واجهوه بقوهلم‪ ...{ :‬فَاق ِ‬
‫ْض َما أ َ‬
‫ال ادنْـيَا} (‪.)144‬‬
‫اإلميان إذن يعين احلرية‪ ،‬واحلرية تعين التكليف‪ ،‬ألنه ال تكليف بدون حرية ِف عقيدة اإلسالم‪..‬‬
‫والتكليف تشريف ومساولية‪ ...‬وهلذا فإن عنوان احلياة عند املتدين وعند املؤمن‪ :‬العمل واجلهاد‬
‫واملساولية‪ ،‬وليس عنواهنا العبث والسأم والضجر‪ ...‬إىل آخر هذا اهلراء الذي جاءت به املذاهب‬
‫الوجودية‪ ،‬وسائر مذاهب اهلدم اليت حتملها أبواق التقليد وهي تظن أهنا مذاهب تقدمية‪ ...‬قال تعاىل‪:‬‬
‫{أَفَ َح ِس ْبـتُ ْم أ ََّمنَا َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَثا َوأَنَّ ُك ْم إِلَْيـنَا َال تُـ ْر َجعُو َن }(‪ .)145‬وهكذا تكون احلياة جديرة أبن تُعار‬
‫يف نظر اإلسالم تكليف عقيدة ال عبث أهواء‪ ،‬وإدراك عقل ال تسلط غرائز‪ ،‬وعمق إميان ال ِرئيا‬
‫مظاهر‪ ،‬وشقاء كدح ال احالم اسرتخاء !‬
‫‪ 5‬ـ العقيدة الدينية ووازع الضمري‬
‫وأخريا فإن الوازع اإلمياين أو الديين هو الضمري‪ ،‬وهو أساس مكارم األخالق‪ ،‬وإن "وازع الضمري "‬
‫الذي يتحدث عنه علماء األخالق ال يغين عن الدين‪ ،‬بل إن هذا الوازع ال وجود له يف احلقيقة أو‬

‫(‪ ) 144‬ـ طه آية رقم ‪.72‬‬


‫(‪ ) 145‬ـ املؤمنون‪ ،‬آية رقم ‪.115‬‬

‫‪77‬‬
‫يف هناية املطاف إال عند املتدينني ويف قاموس حياة املؤمنني‪ ،‬حىت إنه ليجب علينا أن نسميه ابلوازع‬
‫اإلمياين‪ ،‬أو الديين(‪.)146‬‬
‫والسبب يف ذلك أن انقياد اإلنسان ملكارم األخالق إمنا يكون ابلقانون أو السلطان‪ ،‬أو برادع من‬
‫اجملتمع‪ ،‬ألن هذه املكارم متثل يف األصل التوفيق بني غرائزان وحاجات اجملتمع اإلنساين السوي‪ ،‬فإذا‬
‫كان اإلنسان بنجوة من سلطان القانون واجملتمع مل يبق إال وازع ي واليوم اآلخر‪ ...‬وهو الوازع الذي أييت‬
‫يف القرآن الكرمي مبعىن التقوى‪ .‬والذي يفتقر إليه عامل اليوم‪ ،‬وخباصة يف مواقف الساسة ومصاا الدول‪.‬‬
‫وي أعلم‪.‬‬
‫وبعد فإن أثر العقيدة الدينية يف حياة اإلنسان أوسع من أن حنيط به يف مثل هذه الصفحات‪ ،‬وقد‬
‫ضعُ َها إِ َماطَةُ‬ ‫ضلُ َها َال إِلَهَ إَِّال َّ‬
‫اَّللُ‪َ ،‬وأ َْو َ‬ ‫اإلميَا ُن بِ ْ‬
‫ض ٌع َو َس ْبـعُو َن ُش ْعبَة‪ ،‬أَفْ َ‬ ‫قال النيب صلى ي عليه وسلم‪ِْ ":‬‬
‫ان "(‪ ،)147‬ويدخل بني هذين البعدين‪ ،‬على صعيد الفرد‬ ‫ْاألَذَى َع ِن الطَّ ِر ِيق‪َ ،‬وا ْحلَيَاءُ ُش ْعبَةٌ ِم َن ِْ‬
‫اإلميَ ِ‬
‫واجملتمع‪ ،‬مجيع معاين احلياة املثلى لبين اإلنسان‪ .‬مع اإلشارة إىل أن هذا التخصيص للحياء ابلذكر‬
‫من بني سائر الشعب األخرى‪ ،‬يدل على مدى أثره ـ أو أمهيته ـ يف البعد عن القبيح‪ ،‬أو عدم وقوع‬
‫املرء يف املنهيات ‪ ...‬وهلذا مل يزل مستحسنا يف شرائع األنبياء السابقني أمجعني‪ ،‬أخرج اإلمام البخاري‬
‫وأبو داود من حديث أيب مسعود عقبة البدري رضي ي عنه أن رسول ي صلى ي عليه وسلم قال‪:‬‬
‫(‪)148‬‬
‫" إن مما أدرك الناس من كالم النبوة األوىل‪ :‬إذا مل تستحي فاصنع ما شات "‪.‬‬

‫(‪ ) 146‬ـ راجع كتاب قصة اإلميان للعالمة الشيخ ندمي اجلسر رمحه هللا‪.‬‬
‫‪ 147‬ـ السنن الصغرى للنسائي‪ ،‬أبو عبد الرمحن أمحد بن شعيب بن علي اخلراساين‪ ،‬النسائي (املتوىف‪303 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد الفتاح أبو غدة‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتب‬
‫املطبوعات اإلسالمية – حلب‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثانية‪ ،1986 – 1406 ،‬ابب ذكر شعب اإلميان‪ ،‬ج ‪ 8‬ص ‪ ،110‬حديث رقم ‪.5005‬‬
‫‪ 148‬ـ احلديث رقم ‪ ،6120‬ورقم ‪ ،3483‬صحيح البخاري‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫العبادة يف اإلسالم‬
‫مفهومها‪ ،‬أنواعها‪ ،‬شروطها‪ ،‬بناؤها على التيسري‬
‫د‪ .‬عبد الستار اهلييت(*)‬
‫مفهوم العبادة‪:‬‬
‫العبادة لغة‪ :‬الطاعة والذل واخلضوع‪ ،‬يقال تعبد فالن إذا تذلل وخضع‪ ،‬والعبادة يف اللغة هي‬
‫التنسك‪ ،‬ومنه قوله تعاىل (إِ َّاي َك نَـ ْعبُ ُد َوإِ َّاي َك نَ ْستَ ِع ُ‬
‫ني)‪ ،149‬كما ورد يف القرآن الكرمي ما يفيد أن العبادة‬
‫ادي)‪ ،150‬أي يف حزيب‪ ،‬وهو ما يفيد الوالء املطلق هلل‬ ‫تعين الوالء‪ ،‬ومنه قوله تعاىل (فَا ْد ُخلِي ِيف ِعب ِ‬
‫َ‬
‫تعاىل‪ ،‬فالعبادة طاعة وتذلل وخضوع واستكانة ووالء‪.‬‬
‫ويرى أبو األعلى املودودي استنادا إىل املفهوم اللغوي ملادة " عبد " أن مفهوم العبادة هو أن‬
‫يذعن املرءُ لعالء أحد وغلبته‪ ،‬مث يتنازل له عن حريته واستقالله‪ ،‬ويرتك إزاءه كل املقاومة والعصيان‬
‫وينقاد له انقيادا كامال‪ ،‬وهذه هي حقيقة "العبدية" و"العبودية"‪ ،‬ولذلك فإن أول ما يتبادر إىل الذهن‬
‫تصور العبدية والعبودية‪ .‬ألن وظيفة العبد احلقيقية هي إطاعة‬
‫مبجرد طاع كلمة العبد والعبادة هو ا‬
‫سيده وامتثال أوامره وطاعته‪.‬‬
‫العبادة اصطالحا‪:‬أما العبادة يف االصطالح الشرعي فهي‪ :‬اسم جامع لكل ما حيبه ي ويرضاه من‬
‫األقوال واألفعال الظاهرة والباطنة‪ ،‬وهو تعريف شامل جلميع تصرفات اإلنسان وسلوكياته‪ ،‬ابعتبار‬
‫أن كل فعل أو قول أو ترك يصدر من املكلف يصح أن يكون عبادة بشرط استحضار النية وقصد‬
‫الطاعة هلل تعاىل‪ ،‬وأن يكون ذلك موافقا ألحكام الشرع‪.‬‬
‫واملالحظ على هذا التعريف الذي ذكره الشيخ السعدي يف تفسريه أنه مل يشر إىل عنصر مهم يف‬
‫العبادة‪ ،‬وهو احلب والقناعة ابلعمل الذي يقوم به املكلف‪ ،‬وهو ما أشار إليه ابن تيمية رْه ي‬
‫تعاىل يف تعريفه للعبادة‪ ،‬فهي تعين حسب رأيه االستكانة والتذلل‪ ،‬وال يتحقق ذلك إال من خالل‬
‫احلب‪ ،‬الذي يعين القناعة والرضا مبا يقدمه اإلنسان لربه من والء وطاعة‪ ،‬وهو ما يوضح الفرق بني‬

‫سورة الفاحتة آية ‪5‬‬ ‫‪149‬‬

‫سورة الفجر آية ‪29‬‬ ‫‪150‬‬

‫‪79‬‬
‫التنفيذ والعبادة‪ ،‬فالطاعة لوحدها من دون حب وال قناعة تنفيذ فقط وليس عبادة‪ ،‬أما الطاعة اليت‬
‫يرافقها احلب والرضا فهي العبادة‪ ،‬فقد يُنفذ اإلنسان أمرا وهو غري راغب فيه وغري مقتنع به لكنه ال‬
‫يكون عابدا إال إذا نفذ وهو مقتنع وحمب وراض عن سلوكه وتصرفاته‪ .‬ويف هذا يرى ابن القيم رْه‬
‫يلتفت إىل غري ي‬
‫ُ‬ ‫ي أنه ال تتم العبودية هلل إال ِبذين األصلني "فمىت كان ُحيب غري ي لذاته أو‬
‫بعينه‪ ،‬كان عبدا ملا أحبه ورجاه حبسب حبه له ورجائه إايه‪.‬‬
‫وبناء على ما تقدم فإن العبادة اليت تعين امتثال أوامر ي واجتناب نواهيه تنبين على أن مصدر‬
‫تلقي تلك األوامر املتعلقة ابلعبادة هو الوحي والشرع‪ ،‬فليس ألحد غري ي تعاىل أن يشرع للعباد‬
‫اَّللُ َول َْوَال َكلِ َمةُ‬ ‫شعائر أو شرائع‪ ،‬عمال بقوله تعاىل (أ َْم َهلُم ُشرَكاء َشرعُوا َهلُم ِمن ِ‬
‫الدي ِن َما َملْ َأيْ َذ ْن بِ ِه َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ ُ َ‬
‫ضي بـيـنَـهم وإِ َّن الظَّالِ ِمني َهلم َع َذ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم)‪ ،151‬إذ ال حيق ألحد من املخلوقني أن يشرع‬ ‫اب أَل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ص ِل لَ ُق َ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫الْ َف ْ‬
‫للناس الشرائع أو يضع هلم األداين‪ ،‬ألن ذلك من اختصا ي تعاىل اخلالق هلذا الكائن والعارف‬
‫ري)‪ ،152‬ويف هذا يقول ابن تيمية رْه ي تعاىل ( فال‬ ‫يف ْ ِ‬
‫اخلَب ُ‬ ‫مبا حيتاجه (أ ََال يَـ ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َق َو ُه َو اللَّ ِط ُ‬
‫يُعمل إال له‪ ،‬وال يُرجى إال هو‪ ،‬هو سبحانه الذي ابتدأك خبلقك واإلنعام عليك بنفس قدرته عليك‬
‫ومشياته ورْته من غري سبب منك أصال‪ ،‬وما فعل بك ال يقدر عليه غريه‪ .‬مث إذا احتجت إليه يف‬
‫جلب رزق أو دفع ضرر‪ :‬فهو الذي أييت ابلرزق ال أييت به غريه‪ ،‬وهو الذي يدفع الضرر ال يدفعه‬
‫غريه )‪.‬‬
‫وإذا كانت العبادة مطارها الشرعي تستلزم وجود احلب مع الطاعة حىت تكون عبادة صحيحة‪،‬‬
‫فإهنا إىل جانب ذلك جيب أن تشتمل على أصلني آخرين مها‪ :‬الرجاء واخلوف‪ ،‬إذ ينبغي على املسلم‬
‫أن جيمع بني حاليت اخلوف والرجاء حىت تكون عالقته ابهلل تعاىل متوازنة معتدلة‪ ،‬ومها يف ذلك كجناحي‬
‫الطائر إذا استواي استطاع أن يتحرك ويطري‪ ،‬وإذا اختل أحدمها حيل بينه وبني ذلك‪ ،‬وقد عرب القرآن‬
‫ِِ ِ‬ ‫الكرمي عن ذلك بقوله تعاىل (أُولَاِ َ ِ‬
‫ك الَّذ َ‬
‫ين يَ ْدعُو َن يَـ ْبـتَـغُو َن إِ َىل َرِب ُم ال َْوسيلَةَ أَياـ ُه ْم أَقـ َْر ُ‬
‫ب َويَـ ْر ُجو َن َر َْْتَهُ‬
‫ك َكا َن َْحم ُذورا)‪ ،153‬وتفيد هذه اآلية أن عبادة ي تعاىل تتطلب مع‬ ‫اب َربِ َ‬
‫َوَخيَافُو َن َع َذابَهُ إِ َّن َع َذ َ‬
‫سورة الشورى آية ‪21‬‬ ‫‪151‬‬

‫سورة امللك آية ‪14‬‬ ‫‪152‬‬

‫سورة اإلسراء آية ‪57‬‬ ‫‪153‬‬

‫‪80‬‬
‫احلب عنصرين آخرين‪ ،‬مها‪ :‬الرجاء واخلوف‪ ،‬ألن ابتغاء الوسيلة إليه وطلب القرب منه سبحانه‬
‫وتعاىل ال يتحقق إال بذلك ‪.‬‬
‫أما الرجاء فهو منزلة عظيمة من منازل العبودية يتضمن ذال وخضوعا‪ ،‬وهو اجلانب الذوقي يف‬
‫العبادة عن طريق االستبشار جبود ي تعاىل وكرمه وحسن الظن ابهلل تعاىل‪ ،‬وأما اخلوف فهو من متام‬
‫االعرتاف مبلكه وسلطانه‪ ،‬ونفاذ مشياته يف خلقه‪ ،‬وقد أشار القرآن الكرمي إىل ضرورة حتقيق هذه‬
‫ِ ِ‬
‫املوازنة بني الرجاء واخلوف يف العالقة ابهلل تعاىل‪ ،‬وذلك يف قوله تعاىل (نَـبِ ُْ عبَادي أَِين أ ََان الْغَ ُف ُ‬
‫ور‬
‫ِ‬ ‫يم َوأ َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم )‪ ،154‬أي أن العباد ينبغي أن يكونوا ما بني اخلوف والرجاء‬ ‫َن َع َذ ِايب ُه َو ال َْع َذ ُ‬
‫اب ْاألَل ُ‬ ‫الرح ُ‬
‫ومن غلب عليه خوفه‬ ‫ِ‬
‫ليصح هلم سبيل االستقامة يف اإلميان ل فإنه َمن غلب عليه رجا ُؤه عطله‪َ ،‬‬
‫أقنطه‪.‬‬
‫ويتضح لنا من خالل ما تقدم أن الطاعة والتذلل واخلضوع واحلب واخلوف من ي تعاىل والرجاء‬
‫يف كرمه‪ ،‬هي مبجموعها مكوانت العبادة وعناصرها األساسية‪ ،‬فالطاعة بدون حب قد تكون تنفيذا‬
‫بدون قناعة‪ ،‬واحلب بدون طاعة وخضوع قد تكون ادعاء وكذاب‪ ،‬وال ينشأ ذلك كله إال عن طريق‬
‫اجلمع بني اخلوف من عذاب ي تعاىل والرجاء يف رْته‪ ،‬يقول ي تعاىل (قُ ْل إِ ْن ُك ْنـتُ ْم ُِحتباو َن َّ‬
‫اَّللَ‬
‫اَّلل غَ ُف ِ‬ ‫فَاتَّبِع ِوين ُْحيبِب ُكم َّ ِ‬
‫يم )‪ ،155‬وروى أبو هريرة رضي ي عنه قال‪:‬‬ ‫اَّللُ َويَـغْف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َو َُّ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫قال رسول ي صلى ي عليه وسلم ( إن ي تعاىل قال من عادى يل وليا فقد آذنته ابحلرب وما تقرب‬
‫إيل عبدي بشيء أحب إيل مما افرتضت عليه‪ ،‬وال يزال عبدي يتقرب إيل ابلنوافل حىت أحبه‪ ،‬فإذا‬
‫أحببته‪ ،‬كنت طعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده اليت يبطش ِبا ورجله اليت ميشي ِبا‪،‬‬
‫ولان سألين ألعطينه‪ ،‬ولان استعاذين ألعيذنه )‪.156‬‬
‫مشول العبادة‪:‬‬

‫سورة احلجر آية ‪ 49‬ـ ـ ـ ـ ـ ‪50‬‬ ‫‪154‬‬

‫سورة آل عمران آية ‪31‬‬ ‫‪155‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬أو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬حتقيق حممد زهري بن انصر الناصر دار طوق النجاة ‪ ،‬ج ‪ 8‬ص ‪105‬‬ ‫‪156‬‬

‫‪81‬‬
‫بناء على ما تقدم يف كون العبادة اسم جامع لكل ما حيبه ي ويرضاه من األقوال واألعمال الباطنة‬
‫ت‬‫والظاهرة‪ ،‬فقد جعلها ي تعاىل الغاية األساسية اليت خلق اخللق من أجلها‪ ،‬قال تعاىل ( َوَما َخلَ ْق ُ‬
‫ون ما أُ ِري ُد ِم ْنـ ُهم ِمن ِر ْز ٍق وما أُ ِري ُد أَ ْن يط ِْعم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون )‪ .157‬وِبذا تكون شاملة ملهمة‬ ‫ُ ُ‬ ‫ََ‬ ‫ْ ْ‬ ‫س إَِّال ليَـ ْعبُ ُد َ‬
‫ا ْجل َّن َو ْاإلنْ َ‬
‫ض‬ ‫اع ٌل ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ك لِلْم َالئِ َك ِة إِِين ج ِ‬ ‫اخلالفة اليت أوكل ي أمرها لإلنسان يف قوله تعاىل ( َوإِ ْذ قَ َ‬
‫َ‬ ‫ال َربا َ َ‬
‫َك قَا َل إِِين أَ ْعلَ ُم‬
‫سل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َخلِي َفة قَالُوا أ ََجتْعل فِيها من يـ ْف ِس ُد فِيها ويس ِف ُ ِ‬
‫ك الد َماءَ َوَْحن ُن نُ َسب ُح حبَ ْمد َك َونـُ َقد ُ‬ ‫َ ََ ْ‬ ‫َُ َ َْ ُ‬
‫َما َال تَـ ْعلَ ُمو َن)‪.158‬‬
‫إن هذا املعىن الشمويل للعبادة جيعلها قاعدة لبناء الدين من جهة واحلياة من جهة أخرى‪ ،‬فهي اليت‬
‫تنظم كيان اإلنسان ظاهره وابطنه‪ ،‬عن طريق آلوهلا جلميع أنواع التعبد الروحي كحب ي ورسوله‬
‫وخشيته واإلانبة إليه‪ ،‬والصرب حلكمه والشكر لنعمه‪ ،‬والرضا بقضائه والتوكل عليه‪ ،‬والذكر والتالوة‬
‫واالستغفار‪ ،‬وآلوهلا جلميع األخالق والفضائل اإلنسانية كصدق احلديث وأداء األمانة وبر الوالدين‬
‫وصلة األرحام واإلحسان للجار واليتيم واملسكني وابن السبيل‪ ،‬وآلوهلا ألداء احلقوق وإخال العمل‬
‫ب ول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْرب أَ ْن تُـولاوا وج َ ِ‬
‫َك َّن‬ ‫وه ُك ْم قبَ َل ال َْم ْش ِرق َوال َْمغْ ِر ِ َ‬ ‫س الِ َّ َ ُ ُ‬ ‫وطيب املعاملة‪ ،‬ويف هذا يقول ي تعاىل (ل َْي َ‬
‫ال َعلَى ُحبِ ِه ذَ ِوي الْ ُق ْرََ َوالْيَـتَ َامى‬ ‫َّلل والْيـوِم ْاآل ِخ ِر والْم َالئِ َك ِة وال ِ‬
‫ِ‬
‫اب َوالنَّبِيِ َ‬
‫ني َوآتَى ال َْم َ‬ ‫ْكتَ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫آم َن ِاب َّ َ َ ْ‬ ‫الِْ َّ‬
‫رب َم ْن َ‬
‫الزَكاةَ َوال ُْموفُو َن بِ َع ْه ِد ِه ْم إِذَا‬
‫الص َالةَ َوآتَى َّ‬‫ام َّ‬ ‫اب َوأَقَ َ‬ ‫الرقَ ِ‬
‫ني َوِيف ِ‬ ‫يل و َّ ِ‬
‫السائِل َ‬ ‫السب ِ َ‬
‫ني وابْن َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوال َْم َساك َ َ َ‬
‫ص َدقُوا َوأُولَاِ َ‬ ‫ْس أُولَاِ َ ِ‬ ‫الصابِ ِرين ِيف الْبأْس ِاء والض َّ ِ ِ‬
‫ك ُه ُم ال ُْمتَّـ ُقو َن)‪،159‬‬ ‫ين َ‬ ‫ك الَّذ َ‬ ‫ني الْبَأ ِ‬
‫َّراء َوح َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫اه ُدوا َو َّ َ‬ ‫َع َ‬
‫وروي عن أيب ذر الغفاري رضي ي عنه أن انسا من أصحاب رسول ي صلى ي عليه وسلم قالوا‬
‫له‪ :‬اي رسول ي‪ ،‬ذهب أهل الدثور ابألجور‪ ،‬يصلاون كما نصلي‪ ،‬ويصومون كما نصوم‪ ،‬ويتصدقون‬
‫بفضول أمواهلم‪ .‬قال‪ :‬أوليس قد جعل ي لكم ما تصدقون ؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة‪ ،‬وكل‬
‫تكبرية صدقة‪ ،‬وكل حتميدة صدقة‪ ،‬وكل هتليلة صدقة‪ ،‬وأمر ابملعروف صدقة‪ ،‬وهني عن منكر صدقة‪،‬‬

‫سورة الذارايت آية ‪ 56‬ـ ‪57‬‬ ‫‪157‬‬

‫سورة البقرة آية ‪30‬‬ ‫‪158‬‬

‫سورة البقرة آية ‪177‬‬ ‫‪159‬‬

‫‪82‬‬
‫ويف بضع أحدكم صدقة‪ ،‬قالوا‪ :‬اي رسول ي‪ ،‬أأييت أحدان شهوته ويكون له فيها أجر ؟‪ ،‬قال‪ :‬أرأيتم‬
‫لو وضعها يف حرام‪ ،‬أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها يف حالل كان له أجر‪.160‬‬
‫وبناء على ذلك فإن كل عمل اجتماعي أو سياسي أو ثقايف أو تربوي أو فكري انفع يعد عبادة‬
‫عند ي تعاىل‪ ،‬وِبذا تكون حياة املسلم كلها عبادة مىت ما أخلص النية وأحسن العمل‪ ،‬فمساعدة‬
‫الزوج زوجه يف أعمال البيت عبادة‪ ،‬واللعب مع أطفاله عباده‪ ،‬وإطعام أهله من الرزق احلالل عبادة‪،‬‬
‫وسريه إىل العمل ورجوعه منه عبادة‪ ،‬ودراسته يف اجلامعة عبادة‪ ،‬وإماطته األذى عن الطريق عبادة‪،‬‬
‫وتبسمه يف وجه أخيه املسلم عبادة‪ ،‬ونظافة بدنه عبادة‪ ،‬ومسح دمعة احملزون‪ ،‬وختفيف كربة املكروب‬
‫وتضميد جراح املنكوب‪ ،‬وسد رمق احملروم‪ ،‬وقضاء دين املدين‪ .‬كل ذلك جزء من العبادة الشرعية‪،‬‬
‫فقد روي عن أيب ذر الغفاري رضي ي عنه قال‪ :‬سألت رسول ي صلى ي عليه وسلم‪ :‬ماذا ينجي‬
‫العبد من النار ؟ قال اإلميان ابهلل‪ .‬قلت اينيب ي مع اإلميان عمل ؟ قال أن ترضخ مما خولك ي ـ ـ‬
‫تعطي مما ملكت ـ ـ قلت اينيب ي فإن كان فقريا ال جيد ما يرضخ ؟ قال أيمر ابملعروف وينهى عن‬
‫املنكر‪ .‬قلت فإن كان ال يستطيع أن أيمر ابملعروف وينهى عن املنكر ؟ قال فليُعن األخرق ـ ـ اجلاهل‬
‫أيت إن كان ال حيسن أن يصنع؟ قال فليُعن مظلوما‪.‬‬
‫الذي ال يعرف صنعة ـ ـ قلت اي رسول ي أر َ‬
‫قلت اينيب ي أرأيت إن كان ضعيفا ال يستطيع أن يعني مظلوما ؟ قال ماتريد أن ترتك لصاحبك من‬
‫خري ؟ ليُمسك أذاه عن الناس‪ .‬قلت اي رسول ي أرأيت إن فعل هذا يدخل اجلنة ؟ قال ما من مؤمن‬
‫أخذت بيده حىت تدخله اجلنة‪.161‬‬
‫ْ‬ ‫يطلب خصلة من هذه اخلصال إال‬
‫وبناء على ما تقدم فإن العبادة ميكن أن تشمل ما أييت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ مجيع األعمال الصاحلة اليت يقوم ِبا املسلم للتقرب إىل ي تعاىل أو خلدمة إخوانه وجمتمعه ميكن‬
‫أن تتحول إىل عبادة‪ ،‬وذلك مصالح النية هلل تعاىل وابتغاء مرضاته بذلك الفعل‪ .‬عن أيب هريرة رضي‬
‫ي عنه قال قال رسول ي صلى ي عليه وسلم (كل ُسالمى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬كتاب الزكاة ابب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من املعروف‬ ‫‪160‬‬

‫صحيح الرتغيب والرتهيب لأللباين‪ ،‬مكتبة املعارف الرايض‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ 1421‬هـ ‪ ،‬ص ‪876‬‬ ‫‪161‬‬

‫‪83‬‬
‫فيه الشمس يعدل بني اثنني صدقة‪ ،‬ويعني الرجل يف دابته فيحمله أو يرفع له عليها متاعه صدقة‪،‬‬
‫والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة ميشيها إىل الصالة صدقة ومييط األذى عن الطريق صدقة )‪.162‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ ـ مجيع أعمال اإلنسان املتعلقة أبمور معاشه ورزقه وعمله تعد من ابب العبادة‪ ،‬فقد روي أن‬
‫الصحابة رضي ي عنهم رأوا رجال فعجبوا من َجلَده ونشاطه فقالوا لو كان هذا يف سبيل ي‪ .‬فقال‬
‫النيب صلى ي عليه وسلم (إن كان يسعى على ولده صغارا فهو يف سبيل ي وإن كان يسعى على‬
‫أبوين شيخني كبريين فهو يف سبيل ي وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو يف سبيل ي وإن كان‬
‫خرج رايء ومفاخرة فهو يف سبيل الشيطان )‪.163‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ إن األعمال الغريزية اليت يليب فيها اإلنسان رغباته الفطرية وحىت اجلنسية ميكن أن تكون عبادة‬
‫ابلنية الصاحلة‪ ،‬وهو ما أشار إليه حديث أيب ذر الغفاري رضي ي عنه‪ ،‬وفيه‪ :‬ويف بضع أحدكم‬
‫صدقة‪ ،‬قالوا‪ :‬اي رسول ي‪ ،‬أأييت أحدان شهوته ويكون له فيها أجر ؟‪ ،‬قال‪ :‬أرأيتم لو وضعها يف حرام‪،‬‬
‫أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها يف حالل كان له أجر‪.164‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ إن النية الصاحلة ُحتَول مجيع األعمال إىل عبادة وقربة هلل تعاىل‪ ،‬عمال بقوله صلى ي عليه وسلم‬
‫( إمنا األعمال ابلنيات‪ ،‬وإمنا لكل امرىء ما نوى‪ )...‬احلديث‪ ،165‬بشرط أن يكون العمل مباحا يف‬
‫ذاته‪ ،‬أما إذا كان منهيا عنه فإن فاعله أيمث لقوله صلى ي عليه وسلم ( إن ي تعاىل طيب وال يقبل‬
‫وإتقان‪ ،‬عمال بقوله صلى ي عليه وسلم ( إن ي‬ ‫إال طيبا )‪ ،166‬وبشرط أن يؤدى العمل مخال‬
‫كتب اإلحسان على كل شيء )‪.167‬‬
‫أنواع العبادة‪:‬‬
‫تقسم العبادة إىل مخسة أقسام‪ ،‬هي‪:‬‬

‫متفق عليه‪ .‬صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬كتاب الصلح ج ‪ 5‬ص ‪309‬‬ ‫‪162‬‬

‫معجم الطرباين رقم احلديث ‪1692‬‬ ‫‪163‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬كتاب الزكاة ابب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من املعروف‬ ‫‪164‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪17‬‬ ‫‪165‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬رقم احلديث ‪1015‬‬ ‫‪166‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬رقم احلديث ‪ 3615‬ابب األمر إبحسان الذبح‬ ‫‪167‬‬

‫‪84‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ عبادات قلبية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ عبادت قولية‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ عبادات بدنية‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ عبادات مالية‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ عبادات بدنية ومالية‪.‬‬
‫العبادات القلبية‪ :‬وهي العبادات اليت تؤدى ابلقلب‪ ،‬وتشمل اإلميان ابهلل تعاىل وتوحيده‪ ،‬واإلخال‬
‫والتوكل عليه‪ ،‬والتفكر يف ملكوت السموات واألرض‪ ،‬وااللتجاء له وتفويض األمور إليه يف السراء‬
‫والضراء‪ ،‬والشكر على النعم‪ ،‬والصرب على البالء‪ ،‬مبا يفيده معىن اإلميان ابلقضاء والقدر‪ ،‬واالمتناع‬
‫عن الصفات السياة مثل الكرب‪ ،‬واحلسد والرايء‪ ،‬والعجب‪ ،‬والغفلة‪ ،‬والنفاق‪ ،‬والقنوط من رْة ي‪.‬‬
‫العبادات القولية‪ :‬وهي اليت تؤدى ابللسان‪ ،‬وتشمل ذكر ي تعاىل‪ ،‬وتالوة القرآن‪ ،‬والتسبيح‬
‫والتحميد والتكبري والتهليل‪ ،‬والدعاء‪ ،‬والصالة على النيب صلى ي عليه وسلم ورد السالم واألمر‬
‫ابملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وتعليم اجلاهل‪ ،‬وإرشاد الضال‪ ،‬وأداء الشهادة املتعينة‪ ،‬وصدق احلديث‪،‬‬
‫واالمتناع عن الفحش يف الكالم‪ ،‬واالمتناع عن القذف وسب املسلم‪ ،‬واالمتناع عن الكذب وشهادة‬
‫الزور‪.‬‬
‫العبادات البدنية‪ :‬وهي العبادات اليت تؤدى بسائر اجلوارح مما سوى القلب واللسان‪ ،‬وتشمل الصالة‬
‫والصيام والوضوء والتيمم‪ ،‬واملشي إىل اجلمعة واجلماعات‪ ،‬وحضور جمالس العلم‪ ،‬وتناول الطعام‬
‫والشراب ‪ ،‬وإغاثة امللهوف ‪ ،‬والوفاء ابلعهد‪ ،‬وحسن املعاملة‪ ،‬وطالقة الوجه‪ ،‬واالعتدال يف السلوك‪،‬‬
‫وصلة األرحام‪ ،‬وغريها من العبادات البدنية األخرى‪.‬‬
‫العبادات املالية‪ :‬وهي العبادات اليت تؤدى ابملال‪ ،‬وتشمل الزكاة والصدقة‪ ،‬والنفقة على الزوجة‬
‫والوالدين واألوالد واألقارب‪ ،‬واهلداي واهلبات‪ ،‬والنذور‪ ،‬ومجيع التربعات املالية األخرى‪.‬‬
‫العبادات البدنية واملالية‪ :‬وهي العبادات اليت تتطلب يف أدائها جهدا بدنيا ونفقة مالية‪ ،‬وتشمل احلج‬
‫والعمرة‪ ،‬واجلهاد‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬وإكرام الضيف‪ ،‬واإلحسان إىل اجلار‪ ،‬وغريها من العبادات املختلطة‬
‫بني البدن واملال‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫وجممل هذه العبادات‪ ،‬منها ما يكون آنيا على مدار الساعة‪ ،‬وهي عقيدة التوحيد اليت جيب أن‬
‫ال ينفك املسلم عنها‪ ،‬ومنها ما هو يومي‪ ،‬وهي اليت يتم أداؤها كل يوم‪ ،‬كالصالة والدعاء والذكر‪،‬‬
‫ومنها ما هو أسبوعي‪ ،‬كصالة اجلمعة‪ ،‬وصوم االثنني واخلميس‪ ،‬ومنها ما هو شهري‪ ،‬كصيام األايم‬
‫البيض‪ ،‬ومنها ما هو سنوي‪ ،‬كصيام رمضان وعاشوراء وست من شوال ويوم عرفة لغري احلاج‪ ،‬ومنها‬
‫ما هو عمري‪ ،‬كاحلج‪ .‬األمر الذي جيعل العبادة صيغة من صيو التواصل مع اخلالق سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫حبيث أنه كلما طغت شهوات الدنيا وملذاهتا وشغل اإلنسان فيها‪ ،‬أييت نوع من أنواع العبادة لريده‬
‫إىل ي تعاىل‪ ،‬ويذكره حبسن العالقة معه سبحانه‪ ،‬وهي بذلك تعد برانجما عمليا لتصحيح حياة اإلنسان‬
‫وتوجيهه حنو أمر ي وحكمه‪.‬‬
‫شروط العبادة‪:‬‬
‫ميكن حتديد شروط العبادة مبا أييت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ إخال النية‪ :‬ويعين ذلك أن يكون مراد العبد من عبادته رضا ي تعاىل والدار اآلخرة‪ ،‬عمال‬
‫ِ‬ ‫اَّلل ُخمْلِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ) ‪ 168‬ألن عدم اإلخال يف النية جيعل العمل‬ ‫ني لَهُ الد َ‬
‫صَ‬ ‫بقوله تعاىل ( َوَما أُم ُروا إَِّال ليَـ ْعبُ ُدوا ََّ‬
‫ادةِ‬ ‫نوعا من أنواع الشرك‪ ،‬يقول ي تعاىل (فَمن َكا َن يـرجو لَِقاء ربِ ِه فَـ ْليـ ْعمل َعمال ص ِ‬
‫احلا َوَال يُ ْش ِر ْك بِ ِعبَ َ‬ ‫َْ ُ َ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫َحدا) ‪.169‬‬ ‫َربِه أ َ‬
‫والنية يراد ِبا القصـ ـ ـ ــد واإلرادة‪ ،‬والعزم على فعل العبادة تقراب إىل ي تعاىل‪ .‬وحملها القلب‪ ،‬وذهب‬
‫بعض الفقهاء أنه ال جيوز أن ينطق ِبا‪ ،‬ألن التعبد ابلنطق ِبا بدعة ينهى عنها‪ ،‬ويدل لذلك أن النيب‬
‫وأصـ ـ ــحابه مل يكونوا ينطقون ابلنية إطالقا‪ ،‬وذهب الشـ ـ ــافعية إىل اسـ ـ ــتحباب النطق ِبا ليتوافق بذلك نطق‬
‫اللسان مع قصد القلب‪ .‬وألن النية حملها القلب فإن العبادة املرضية عند ي هي تلك اليت تصاحبها النية‬
‫والتوجه إىل ي تعاىل بقلب مقبل منيب‪.‬‬ ‫الصادقة اليت قوامها اإلخال‬
‫النية‬ ‫وقد اعترب القرآن الكرمي أن اإلنسـان إذا أراد بعبادته اآلخرة وقصـد رضـا ي تعاىل عن طريق إخال‬
‫اد ْاآل ِخ َرةَ َو َس ـ ـ ـ ـ َعى َهلَا َس ـ ـ ـ ـ ْعيَـ َها َو ُه َو ُم ْؤِم ٌن فَأُولَاِ َ‬
‫ك َكا َن‬ ‫له انل الثواب واجلزاء احلسـ ـ ـ ــن‪ ،‬قال تعاىل ( َوَم ْن أ ََر َ‬

‫سورة البينة آية ‪5‬‬ ‫‪168‬‬

‫سورة الكهف آية ‪110‬‬ ‫‪169‬‬

‫‪86‬‬
‫َس ْعيُـ ُه ْم َم ْش ُكورا)‪ ،170‬وعن عمر بن اخلطاب رضي ي عنه قال قال رسول ي صلى ي عليه وسلم ( إمنا‬
‫األعمال ابلنيات وإمنا لكل امريء ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إىل ي ورس ـ ـ ـ ــوله فهجرته إىل ي ورس ـ ـ ـ ــوله‪،‬‬
‫ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إىل ما هاجر إليه )‪ ،171‬وعن أيب هريرة رضي ي‬
‫عنه قال طعت رسـ ـ ـ ــول ي صـ ـ ـ ــلى ي عليه وسـ ـ ـ ــلم يقول ( قال ي تبارك وتعاىل‪ :‬أان أغىن الشـ ـ ـ ــركاء عن‬
‫‪172‬‬
‫وش ْركه )‬‫الشرك‪ ،‬من عمل عمال أشرك فيه غريي تركته ِ‬
‫ومن هنا كانت النية احلد الفاص ــل الذي مييز أعمال العبادة اليت يقص ــد ِبا املرء التقرب إىل ي تعاىل‬
‫عن األعمال العادية األخرى املرتبطة بشؤون الدنيا‪.‬‬
‫وقد وردت أحاديث وآاثر عن النيب صـ ــلى ي عليه وسـ ــلم تفيد أن العبد حيصـ ــل على األجر بناء على‬
‫نيته الص ــاحلة‪ ،‬حىت ولو مل يتح له القيام ابلعمل التعبدي لعذر أو طارئ طرأ عليه‪ ،‬من ذلك قوله ص ــلى ي‬
‫عليه وس ـ ــلم ( إذا مرض العبد أو س ـ ــافر كتب ي له من العمل ما كان يعمله مقيما ص ـ ــحيحا )‪ ،173‬فإذا‬
‫كان املسـلم يقوم الليل أو يصـوم التطوع أو يصـل الرحم فمرض أو سـافر ومل يسـتطع القيام بذلك كتب له‬
‫أجر تلك العبادات والطاعات كما لو كان يفعله من قبل‪ ،‬وهذا من رْة ي على عباده بس ـ ـ ــبب ص ـ ـ ــدق‬
‫النية وإخالصــها‪ .‬كما ورد عن النيب صــلى ي عليه وســلم وهو يف غزوة تبوك (إن ابملدينة أقواما ما قطعنا‬
‫واداي وال وطانا موطاا يغيظ الكفار‪ ،‬وال أنفقنا نفقة وال أصــابتنا خممصــة إال أشــركوان يف ذلك وهم ابملدينة‪،‬‬
‫ش ِركوا حبسن النية )‪.174‬‬ ‫فقيل له‪ :‬كيف ذلك اي رسول ي؟ قال‪ :‬حبسهم العذر ف َ‬
‫‪ 2‬ـ ـ صدق العزمية‪ :‬وتعين أن يبذل اإلنسان جهده يف تصديق القول ابلعمل وترك التكاسل والتهاون يف‬
‫الطاعة‪ ،‬ويتم ذلك من خالل امتثال أوامر ي تعاىل وترك نواهيه بعزمية ومهة عالية متثل الصدق مع ي تعاىل‬
‫َّ ِ‬
‫استَـ َق ُاموا تَـتَـنَـ َّز ُل‬ ‫ين قَالُوا َربـانَا َّ‬
‫اَّللُ ُمثَّ ْ‬ ‫ولزوم تقواه واالستقامة على ما حيبه ويرضاه‪ ،‬عمال بقوله تعاىل‪( :‬إِ َّن الذ َ‬
‫وع ُدو َن َْحن ُن أ َْولِيَا ُؤُك ْم ِيف ا ْحلَيَ ِاة ال ادنْـيَا َوِيف‬
‫َعلَ ْي ِه ُم ال َْم َالئِ َكةُ أ ََّال َختَافُوا َوَال َحتْ َزنُوا َوأَبْ ِش ُروا ِاب ْجلَن َِّة الَِّيت ُك ْنـتُ ْم تُ َ‬
‫س ُك ْم َولَ ُك ْم فِ َيها َما تَدَّعُو َن )‪.175‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْاآلخ َرة َولَ ُك ْم ف َيها َما تَ ْشتَ ِهي أَنْـ ُف ُ‬
‫سورة اإلسراء آية ‪19‬‬ ‫‪170‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪17‬‬ ‫‪171‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬رقم ‪2985‬‬ ‫‪172‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬كتاب اجلهاد رقم ‪2996‬‬ ‫‪173‬‬

‫رواه البخاري وأبو داود خمتصرا يف كتاب اجلهاد‬ ‫‪174‬‬

‫سورة فصلت آية ‪31‬‬ ‫‪175‬‬

‫‪87‬‬
‫إن صدق العزمية يف العبادة تعين االستقامةَ على احلق واالستمرار على الطريق الصحيح‪ ،‬مما يدل‬
‫ِ‬
‫املتذبذب يف طاعته وعبادته‪ ،‬حبيث يستقيم يوما وينحرف يوما‪ ،‬ويصلح‬ ‫رسوخ اإلميان يف قلبه‪ ،‬أما‬
‫على ِ‬
‫يوما ويفسد يوما‪ ،‬فإن ذلك دليل على عدم رسوخ اإلميان يف قلبه وعدم استقراره وثبوته‪ ،‬ولذلك‬
‫ت غَ ْزَهلَا ِم ْن بَـ ْع ِد قُـ َّوةٍ أَنْ َكااث)‪.176‬‬ ‫يقول ي تعاىل ( َوَال تَ ُكونُوا َكالَِّيت نَـ َق َ‬
‫ض ْ‬
‫ويف هذا اجملال حث النيب صلى ي عليه وسلم أمته على املبادرة واملسابقة إىل األعمال الصاحلةل‬
‫إذ يقول عليه الصالة والسالم ( لو يعلم الناس ما يف النداء والصف األول‪ ،‬مث مل جيدوا إال أن يستهموا‬
‫عليه الستهموا‪ .‬ولو يعلمون ما يف التهجري الستبقوا إليه‪ .‬ولو يعلمون ما يف العتمة والصبح ألتومها‬
‫ولو حبوا )‪ ،177‬ويقول صلى ي عليه وسلم ( يقال لصاحب القرآن‪ :‬اقرأ وار َق ورتِل‪ ،‬كما كنت‬
‫ترتل يف دار الدنيا‪ ،‬فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها )‪ ،178‬وال بد من اإلشارة هنا إىل أن هذا‬
‫العزم على طلب اآلخرة ال يعين النهي عن الكسب الدنيوي وحتصيل املتاع املباح ل بل هو أيمر بذلك‬
‫ويؤكد عليه ويوجبه‪ ،‬لكنه ينهى الناس أن تكون الدنيا هي كل شيء يف حياهتم‪ ،‬ولذلك حيتاج املسلم‬
‫إىل قوة يف اإلرادة وصدق يف العزمية للوقوف أمام شهواهتا وإغراءاهتا وجاذبيتها‪ ،‬من أجل الثبات‬
‫ضد هذه املغرايت والثبات أمام عوامل االحنراف‪ ،‬وكذلك الثبات أمام عوامل التثبيط والفتور‪.‬‬
‫وقد حذر النيب صلى ي عليه وسلم من التباطؤ عن املسابقة إىل الطاعات‪ ،‬وذلك يف قوله صلى‬
‫ي عليه وسلم ( احضروا ِ‬
‫الذ ْكر‪ ،‬وادنوا من اإلمام‪ ،‬فإن الرجل ال يزال يتباعد حىت يُؤخَّر يف اجلنة وإن‬
‫دخلها )‪ ،179‬كما علَّم أمته اإلحلاح يف الدعاء ل فأمر أن يسأل الداعي ربه بعظائم األمور وأكابرها‪،‬‬
‫وال يستكثر شياا على ربه‪ ،‬فقال صلى ي عليه وسلم ( إذا سأل أحدكم فليُ ْكثِر‪ ،‬فإمنا يسأل ربه‬
‫)‪ ،180‬وعن أيب هريرة رضي ي عنه قال قال رسول ي صلى ي عليه وسلم ( إذا سألتم ي فاسألوه‬
‫تفجر أهنار اجلنة )‪ ،181‬وعن‬
‫الفردوس‪ ،‬فإنه أوسط اجلنة‪ ،‬وأعلى اجلنة‪ ،‬وفوقه عرر الرْن‪ ،‬ومنه َّ‬

‫سورة النحل آية ‪92‬‬ ‫‪176‬‬

‫صحيح البخاري رقم ‪ ، 615‬صحيح مسلم رقم ‪437‬‬ ‫‪177‬‬

‫سنن أيب داود رقم ‪ ، 1464‬سنن الرتمذي‪ ،‬رقم ‪2914‬‬ ‫‪178‬‬

‫سنن أيب داود رقم ‪1108‬‬ ‫‪179‬‬

‫صحيح ابن حبان‪ ،‬رقم ‪889‬‬ ‫‪180‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬رقم ‪2790‬‬ ‫‪181‬‬

‫‪88‬‬
‫ربيعة بن كعب رضي ي عنه قال كنت أخدم النيب صلى ي عليه وسلم‪ ،‬فقلت له يوما اي رسول ي‬
‫أسألك أن تدعو يل أن ينجيين من النار ويدخلين اجلنة فقال رسول ي صلى ي عليه وسلم إين فاعل‪،‬‬
‫فأعين على نفسك بكثرة السجود )‪ ،182‬وقد أثرت هذه الرتبية إجيااب على صحابة النيب صلى ي‬‫ِ‬
‫عليه وسلم يف صنع نفوس متميزة حتمل العزمية واهلمة العالية يف حياهتم على مستوى الفرد واجملتمع‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ موافقة الشرع‪ :‬ويعين ذلك أن ال يُعبد يُ إال مبا شرع يف كتابه أو سنة نبيه‪ ،‬وأن تكون العبادات‬
‫موافقة ألحكام الشريعة‪ ،‬فال يقبل ي تعاىل أي قربة أو عبادة ختالف شريعة ي‪ ،‬ألن التقرب إمنا‬
‫يكون مبا شرع ي عز وجل‪ ،‬ألن أي عبادة خمالفة لذلك فهي بدعة مل أيذن ي ِبا‪ ،‬وعليه فهي مردودة‬
‫على من أحدثها وابتدعها‪ ،‬عمال بقوله تعاىل (فَمن َكا َن يـرجو لَِقاء ربِ ِه فَـ ْليـ ْعمل َعمال ص ِ‬
‫احلا َوَال يُ ْش ِر ْك‬ ‫َْ ُ َ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َْ‬
‫بِ ِعب َ ِ ِ‬
‫َحدا )‪ ،183‬وقد حذر النيب صلى ي عليه وسلم من الزايدة يف الدين أو إحداث عبادة‬ ‫ادة َربِه أ َ‬‫َ‬
‫مل يَ ِرد ِبا ٌ‬
‫نص من القرآن أو السنة‪ ،‬وذلك يف قوله صلى ي عليه وسلم ( من أحدث يف أمران هذا ما‬
‫ليس منه فهو َردٌّ )‪ ،184‬ويف قوله صلى ي عليه وسلم ( إن خري احلديث كتاب ي وخري اهلدي‬
‫هدي حممد صلى ي عليه وسلم‪ ،‬وشر األمور حمداثهتا‪ ،‬وكل حمدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة )‪.185‬‬
‫واألصل يف ذلك أن العبادة يف اإلسالم توقيفية‪ ،‬ال جيوز خمالفة النص فيها‪ ،‬بعكس املعاملة‬
‫والسلوك الدنيوي الذي يدعو اإلسالم أتباعه إىل اإلبداع واالخرتاع والتطوير فيه‪ ،‬ألنه نوع من أنواع‬
‫تنمية العمارة الشرعية للكون‪ ،‬ويف هذا يقول الشاطيب‪ :‬إن البدع ال تدخل يف العادات‪ ،‬فكل ما‬
‫اخرتع من الطرق ومل يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية‪ ،‬كاملغارم امللزمة على األموال وغريها‬
‫على نسبة خمصوصة وقدر خمصو مما يشبه فرض الزكوات ومل يكن إليها ضرورة سابقا‪ ،‬وكذلك اختاذ‬
‫املناخل‪ ،‬وغسل اليد ابالشنان‪ ،‬وما أشبه ذلك من األمور اليت مل تكن قبل‪ ،‬فإهنا ال تسمى بدعا‪.‬‬
‫ومن هنا جيب أن تؤدى العبادة ابلصورة اليت شرعها ي وابلكيفية اليت ارتضاها‪ ،‬وال يصح أن تبىن على‬
‫األهواء والظنون‪ .‬يقول ابن تيمية رْه ي‪ :‬ودين اإلسالم مبين على أصلني‪ ،‬ومها حتقيق شهادة أن ال إله‬

‫صحيح مسلم رقم ‪489‬‬ ‫‪182‬‬

‫سورة الكهف آية ‪110‬‬ ‫‪183‬‬

‫صحيح البخاري رقم ‪2697‬‬ ‫‪184‬‬

‫صحيح مسلم رقم ‪1718‬‬ ‫‪185‬‬

‫‪89‬‬
‫إال ي وأن حممدا رسول ي‪ ،‬وأول ذلك أن ال جنعل مع ي إهلا آخر‪ ،‬فال حتب خملوقا كما حتب ي‪ ،‬وال‬
‫ترجوه كما ترجو ي وال ختشاه كما ختشى ي‪ ،‬أما األصل الثاين فهو أن نعبده مبا شرع على ألسنة رسله‪،‬‬
‫فمن دعا املخلوقني من املوتى والغائبني واستغاث ِبم مع أن هذا أمر مل أيمر به ي وال رسوله أمر إجياب‬
‫وال استحباب‪ ،‬كان مبتدعا يف الدين مشركا برب العاملني‪ ،‬مبتدعا بدعة ما أنزل ي ِبا من سلطان‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فإن العبادة ال بد أن تكون موافقة ألحكام الشريعة ونصوصها‪ ،‬من حيث جنسها‪،‬‬
‫وقدرها‪ ،‬وزماهنا‪ ،‬ومكاهنا‪ ،‬وفقا للتفصيل اآليت‪:‬‬
‫أ ـ ـ موافقة العبادة ألحكام الشريعة يف جنسها‪ ،‬فكل إنسان يتعبد ي تعاىل بعبادة ليس هلا أصل يف‬
‫الشريعة فهي عبادة مردودة‪ ،‬فلو ضحى املسلم بفرس مثال مل جيزئه ذلك ومل تصح أضحيته‪ ،‬ألن‬
‫جنس األضحية ال بد أن يكون من ِبيمة األنعام من اإلبل أو البقر أو الغنم‪ ،‬ولو رمى احلاج اجلمار‬
‫يف مىن ابحلذاء أو اخلشب أو احلديد مل يصح ذلك ومل يسقط واجب الرمي عنه‪ ،‬ألن جنس الرمي‬
‫الثابت عن النيب صلى ي عليه وسلم كان ابحلجر‪.‬‬
‫ب ـ ـ موافقة العبادة ألحكام الشريعة يف قدرها‪ ،‬فلو صلى املسلم الظهر مخس ركعات أو ست ركعات مل‬
‫تصح صالته ومل يسقط الفرض عنه‪ ،‬ألهنا خمالفة ملا ورد يف الشرع من كون عدد ركعات الظهر أربعا‪ ،‬ولو‬
‫صومه‪،‬‬
‫صام رمضان ثالثني يوما بعد رؤية اهلالل يوم التاسع والعشرين بدافع االحتياط فهو آمث ومل يَصح ُ‬
‫ملخالفته قول النيب صلى ي عليه وسلم ( الشهر تسع وعشرون ليلة‪ ،‬فال تصوموا حىت تروه‪ ،‬فإن غم‬
‫عليكم فأمتوا العدة ثالثني )‪.186‬‬
‫ج ـ ـ موافقة العبادة ألحكام الشريعة يف زماهنا‪ ،‬فإذا صلى الفجر قبل طلوع الفجر أو الظهر قبل‬
‫الزوال بدافع التبكري ابلعبادة واحلر عليها مل تصح صالته ومل يسقط الفرض عنه ووجب عليه إعادة‬
‫الصالة‪ ،‬ألن ذلك خمالف لشرط دخول الوقت يف صحة الصالة‪ ،‬وكذلك إذا ترك اإلنسان الصالة‬
‫عمدا حىت خرج وقتها بدون عذر فهو آمث‪ ،‬ألنه خالف شرط الوقت‪.‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري ‪ ،‬رقم ‪1808‬‬ ‫‪186‬‬

‫‪90‬‬
‫د ـ ـ موافقة العبادة ألحكام الشريعة يف مكاهنا‪ ،‬فلو وقف احلاج يف يوم عرفة مبزدلفة أو مىن مل يصح‬
‫وقوفه ومل يصح حجه‪ ،‬لعدم موافقة العبادة للشرع يف مكاهنا‪ .‬وكذلك لو أن إنساان اعتكف يف منزله‪،‬‬
‫فال يصح ذلك ل ألن مكان االعتكاف هو املسجد‪.‬‬
‫أما االختالف يف طريقة أداء العبادة فإهنا ال تعد من املخالفة الشرعية وليس من البدعة يف شيء‪ ،‬وإن‬
‫أطلق عليها بدعة فهو من اإلطالق اللغوي للبدعة‪ ،‬ومنه قول عمر رضي ي عنه يف صالة الرتاويح‬
‫مجاعة‪ :‬نعمت البدعة هذه‪ .187‬وهذا ألن النيب صلى ي عليه وسلم مل يس ان االجتماع هلا طوال أايم الشهر‬
‫وإمنا صلى ِبم ليايل مث ترك ذلك‪ ،‬وكان عمر رضي ي عنه أول من مجع الناس عليها وندِبم إليها‪ ،‬فهذا ال‬
‫يعد من البدعة ألن األصل موجود ومشروع‪ ،‬واالختالف إمنا كان يف طريقة األداء فقط فقد رغَّب النيب‬
‫صلى ي عليه وسلم يف قيام رمضان وصلى ِبم مجاعة ليايل من رمضان‪ ،‬مث ترك ذلك خشية أن تفرض على‬
‫األمة‪ ،‬فلما انقطع الوحي واستقرت الفرائض على ما هي عليه‪ ،‬كان فِ ْعل عمر هلا مع انتفاء املانع الذي‬
‫خشيه النيب صلى ي عليه وسلم ُسنة حسنة‪.‬‬
‫وقد روى البيهقي عن اإلمام الشافعي قوله‪ :‬احملداثت من األمور ضرابن‪ ،‬أحدمها ما أُحدث مما خيالف‬
‫كتااب أو سنة أو أثرا أو إمجاعا فهذه البدعة الضاللة‪ ،‬والثانية ما أحدث من اخلري ال خالف فيه لواحد من‬
‫نعمت البدعة هذه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫العلماء وهذه حمدثة غري مذمومة‪ ،‬وقد قال عمر رضي ي عنه يف قيام شهر رمضان‬
‫ويقول ابن حجر‪ :‬البدعة أصلها ما أحدث على غري مثال سابق‪ ،‬وتطلق يف الشرع يف مقابل السنة فتكون‬
‫مذمومة‪ .‬والتحقيق أهنا إن كانت مما تندرج حتت مستحسن يف الشرع فهي حسنة‪ ،‬وإن كانت مما تندرج يف‬
‫مستقبح يف الشرع فهي مستقبحة‪ ،‬ويرى ابن حزم أن يف الدين كل ما مل أيت يف القرآن وال عن رسول ي‬
‫صلى ي عليه وسلم‪ ،‬إال أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر مبا قصد إليه من اخلري‪ ،‬ومنها ما يؤجر عليه‬
‫ويكون حسنا‪ ،‬وهو ما كان أصله اإلابحة‪ ،‬ومنها ما يكون مذموما وال يعذر صاحبه‪ ،‬وهو ما قامت احلجة‬
‫على فساده‪.‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬رقم ‪1871‬‬ ‫‪187‬‬

‫‪91‬‬
‫ولعل هذا يدخل يف قوله صلى ي عليه وسلم ( من سن يف اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر‬
‫من عمل ِبا من بعده من غري أن ينقص من أجورهم شيء‪ ،‬ومن سن يف اإلسالم سنة سياة كان عليه‬
‫وزرها ووزر من عمل ِبا من بعده من غري أن ينقص من أوزارهم شيء )‪.188‬‬
‫ويدخل يف ذلك كل ما له أصل يف الشرع ولكن اختلفت كيفية أدائه‪ ،‬مثل مجع القرآن ونسخه‪،‬‬
‫فهذا له أصل يف الشرع ألنه اتبع حلفظ القرآن‪ .‬ومنه بناء املدارس وهو داخل يف تعليم العلم املأمور‬
‫به‪ ،‬ومنه دعاء ختم القرآن‪ ،‬فقد ذكر ابن قدامة عن أْد بن حنبل عندما سال عن ذلك قال‪ :‬إذا‬
‫فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا وحنن يف الصالة وأطل القيام‪ .‬قال مب‬
‫أدعو؟ قال مبا شات‪ .‬قال‪ :‬ففعلت مبا أمرين وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه‪ ،‬ومنه تعدد اجلمعة‬
‫يف البلد الواحد إذ مل يكن ذلك يف عهد النيب صلى ي عليه وسلم وال عهد الصحابة‪ ،‬ولكنها دعت‬
‫إليها احلاجة والضرورة التساع العمران وكثرة السكان حبيث يتعذر اجتماعهم يف مسجد واحد‪ ،‬وقد‬
‫قال بتعددها عدد من الفقهاء‪ ،‬واستمر عمل املسلمني ِبا يف البالد اإلسالمية ومل يقل أحد إهنا بدعة‬
‫أو خمالفة ألحكام الشريعة‬

‫بناء العبادة على اليسر ورفع احلرج‪.‬‬


‫تتميز العبادة يف اإلسالم جبملة من اخلصائص عما هي يف األداين األخرى‪ ،‬من خالل ارتكازها‬
‫على اإلميان ابهلل ورسوله واجتثاث جذور الوثنية والشرك منها‪ ،‬وربطها ابلتوحيد اخلالص هلل تعاىل‪،‬‬
‫لتكون عالمة من عالمات اإلسالم وبرانجما عمليا له‪ ،‬عن طريق إخال النية والقصد‪ ،‬عمال بقوله‬
‫الزَكاةَ و َذلِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل ُخمْلِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫كدُ‬ ‫الص َالةَ َويُـ ْؤتُوا َّ َ‬
‫يموا َّ‬
‫ين ُحنَـ َفاءَ َويُق ُ‬
‫ني لَهُ الد َ‬
‫صَ‬ ‫تعاىل ( َوَما أُم ُروا إَِّال ليَـ ْعبُ ُدوا ََّ‬
‫الْ َقيِ َم ِة )‪ ،189‬وقوله صلى ي عليه وسلم ( إمنا األعمال ابلنيات وإمنا لكل امرء ما نوى‪ ،‬فمن كانت‬
‫هجرته إىل ي ورسوله‪ ،‬فهجرته إىل ي ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‪،‬‬
‫فهجرته إىل ما هاجر إليه )‪.190‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬رقم ‪1017‬‬ ‫‪188‬‬

‫سورة البينة آية ‪5‬‬ ‫‪189‬‬

‫صحيح مسلم ج ‪ 1‬ص ‪17‬‬ ‫‪190‬‬

‫‪92‬‬
‫ومن مميزات العبادة يف اإلسالم أهنا مقرتنة ابجلزاء والثواب من عند ي تعاىل لعباده‪ ،‬إذ يقول ي‬
‫ِِ‬
‫َح َسنُوا ا ْحلُ ْس َىن َوِزَاي َدةٌ)‪ ،191‬كما أهنا تتميز يف كوهنا متثل العالقة املباشرة بني العبد وربه‬ ‫تعاىل (للَّذ َ‬
‫ين أ ْ‬
‫بدون وساطة‪ ،‬ومتنحه قراب منه وتبعد عنه اخلوف من اجملهول والثقة ابملستقبل‪ ،‬ومن هنا جاء اجلواب‬
‫الرابين يف تنظيم هذه العالقة ابلفاء الرابطة الواردة يف قوله تعاىل (وإِذَا سأَل َ ِ ِ‬
‫َك عبَادي َع ِين فَِإِين قَ ِر ٌ‬
‫يب‬ ‫َ َ‬
‫ان فَـلْيَ ْستَ ِجيبُوا ِيل َولْيُـ ْؤِمنُوا ِيب ل ََعلَّ ُه ْم يَـ ْر ُش ُدو َن)‪ 192‬مبعىن أن السؤال مرتبط‬
‫الد ِاع إِذَا َد َع ِ‬
‫يب َد ْع َوةَ َّ‬ ‫ِ‬
‫أُج ُ‬
‫ابهلل وحده ال دخل للعباد فيه‪.‬‬
‫وإذا كانت مجيع األسالة واالستفسارات الواردة يف القرآن الكرمي يتم اإلجابة فيها عن طريق النيب‬
‫ح َهلُ ْم‬ ‫ك َع ِن الْيَـتَ َامى قُ ْل إِ ْ‬
‫ص َال ٌ‬ ‫صلى ي عليه وسلم ابعتباره ُمبلغا عن ربه‪ ،‬مثل قوله تعاىل ( َويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫ري َوَمنَافِ ُع لِلن ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اخلَ ْم ِر َوال َْم ْيس ِر قُ ْل في ِه َما إِ ْمثٌ َكبِ ٌ‬
‫َّاس َوإ َْثُُه َما أَ ْك َُ‬
‫رب‬ ‫ك َع ِن ْ‬ ‫ري ) وقوله تعاىل (يَ ْسأَلُونَ َ‬ ‫َخ ٌْ‬
‫‪193‬‬

‫ت ل ََعلَّ ُك ْم تَـتَـ َف َّك ُرو َن )‪،194‬‬‫اَّلل لَ ُكم ْاآلاي ِ‬


‫ني َُّ ُ َ‬ ‫ك يُـبَِ ُ‬ ‫ِم ْن نَـ ْف ِع ِه َما َويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫ك َما َذا يُـ ْن ِف ُقو َن قُ ِل ال َْع ْف َو َك َذلِ َ‬
‫فقد جاءت اإلجابة عن سؤال الدعاء والعبادة مباشرا من قبل اخلالق لعباده بدون توجيه األمر للنيب‬
‫صلى ي عليه وسلم‪ ،‬لتميز تلك العالقة التعبدية عن أحكام األمر والنهي والتبليو والتوجيه‪ ،‬إذ ليس‬
‫يف اإلسالم رجال دين وال كاهن وال كهنوت‪ ،‬كما هو األمر يف الدايانت األخرى وبعض الفرق املغالية‬
‫املنحرفة اليت جعلت من رجال الدين وسطاء بني العبد وربه الذين اختذوا تلك الوساطة مصدرا للثروة‬
‫املادية واحلظوة االجتماعية‪ ،‬فيبيعون من اجلنة والرْة أذرعا وأسهما ملن يدفع َثن تلك األذرع‪،‬‬
‫ابعتبار أن هلم الغفران واحلرمان واإلدخال يف رْة ي والطرد منها‪ .‬بينما تتميز عقيدة املسلم يف أهنا‬
‫ال تتيح مكاان ألولاك الوسطاء الذين يتحكمون يف ضمائر عباد ي‪ ،‬ويستغلون جهلهم وضعفهم‬
‫الروحي‪ ،‬عن طريق دغدغة املشاعر وإسفاف العقول واألفكار‪ ،‬لضمان حفظ مكانتهم االجتماعية‬
‫بني الناس زورا وِبتاان‪.‬‬

‫سورة يونس آية ‪26‬‬ ‫‪191‬‬

‫سورة البقرة آية ‪186‬‬ ‫‪192‬‬

‫سورة البقرة آية ‪220‬‬ ‫‪193‬‬

‫سورة البقرة آية ‪219‬‬ ‫‪194‬‬

‫‪93‬‬
‫ومن أبرز مميزات العبادة يف اإلسالم أهنا جاءت مبنية على اليسر ورفع احلرج عن املكلفني‪ ،‬تلك‬
‫اخلاصية اليت تعد العالمة الواضحة يف عموم أحكام الشريعة اإلسالمية اليت بنيت على رفع احلرج عن‬
‫املكلفني والتيسري عليهم‪ ،‬مبا مييزها عن الشرائع السماوية السابقة اليت كان فيها العنت واملشقة‬
‫ين ِم ْن قَـ ْبلِنَا َربَّـنَا َوَال‬ ‫ِ‬ ‫والتشدد ومن هنا جاء قوله تعاىل ( َربَّـنَا َوَال َحتْ ِم ْل َعلَْيـنَا إِ ْ‬
‫صرا َك َما ََْلْتَهُ َعلَى الَّذ َ‬
‫ُحتَ ِملْنَا َما َال طَاقَةَ لَنَا بِ ِه )‪.195‬‬
‫ويقصد ِبذه اخلاصية رفع احلرج عن املكلف يف املشقة اليت ال يقدر عليها‪ ،‬أو املشقة اليت يطيقها ولكنها‬
‫خارجة على املعتاد ملا فيها من تكليف خارج عن املأمور به‪ ،‬واليت توقع صاحبها يف الضجر من العبادة‬
‫وتفوت عليه مصاحله ومنافعه يف الدين والدنيا‪ ،‬مثل دوام قيام الليل أو معظمه‪ ،‬والوصال يف الصوم‪ ،‬وإمهال‬
‫النفس واألهل حبجة التفرل للعبادة‪ ،‬ألن مجيع األحكام الشرعية من عبادات ومعامالت وأنكحة وكفارات‬
‫استَطَ ْعتُ ْم )‪ ،196‬أما املشقة‬ ‫مرتبطة ابالستطاعة اليت يقدر عليها املكلف‪ ،‬عمال بقوله تعاىل (فَاتَّـ ُقوا َّ‬
‫اَّللَ َما ْ‬
‫الطبيعية اليت يطيقها اإلنسان ويقدر على أدائها فهذه مرتبطة بسائر األحكام الشرعية يف جمال العبادات‬
‫واملعامالت‪ ،‬وهي ال تنفك عن التكليف وال تتخلص منه‪ ،‬ألن التكليف ال يعد تكليفا إال إذا انطوى على‬
‫ما فيه ال َكلَفة الشرعية واملشقة الالزمة‪ .‬ويف هذا يقول النيب صلى ي عليه وسلم ( إذا أمرتكم أبمر فأتوا‬
‫منه ما استطعتم‪ ،‬وإذا هنيتكم عن شيء فاجتنبوه )‪.197‬‬
‫ويستدل على خاصية رفع احلرج يف العبادة الشرعية مجلة من اآلايت‪ ،‬منها قوله تعاىل ( َما يُ ِري ُد َّ‬
‫اَّللُ‬
‫َك ْن يُ ِري ُد لِيُطَ ِه َرُك ْم َولِيُتِ َّم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن )‪ ،198‬وقوله تعاىل‬
‫لِيجعل َعلَي ُكم ِمن حر ٍج ول ِ‬
‫َ ْ َ َ ْ ْ ْ ََ َ‬
‫ني ِم ْن قَـ ْب ُل )‪ ،199‬وقوله‬ ‫ِ‬
‫يم ُه َو َطَّا ُك ُم ال ُْم ْسل ِم َ‬
‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫( َوَما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِيف الدي ِن م ْن َح َر ٍج ملةَ أَبي ُك ْم إبْـ َراه َ‬
‫ف َع ْن ُك ْم َو ُخلِ َق‬
‫اَّللُ أَ ْن ُخيَِف َ‬
‫اَّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوَال يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر )‪ ،200‬وقوله تعاىل (يُ ِري ُد َّ‬
‫تعاىل (يُ ِري ُد َّ‬

‫سورة البقرة آية ‪286‬‬ ‫‪195‬‬

‫سورة التغابن آية ‪16‬‬ ‫‪196‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪ ،422‬صحيح مسلم ج ‪ 7‬ص ‪19‬‬ ‫‪197‬‬

‫سورة املائدة آية ‪6‬‬ ‫‪198‬‬

‫سورة احلج آية ‪78‬‬ ‫‪199‬‬

‫سورة البقرة آية ‪185‬‬ ‫‪200‬‬

‫‪94‬‬
‫ض ِعيفا)‪ ،201‬وتعد هذه اآلايت أصال من أصول الدين يف تقرير مبدأ التيسري ورفع احلرج‬ ‫ِْ‬
‫اإلنْ َسا ُن َ‬
‫عن املكلفني‪ ،‬فكل من عجز عن شيء من العزمية انتقل إىل الرخصة فيتم العدول عنه إىل فعل آخر‬
‫اَّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوَال يُ ِري ُد‬
‫أقل كلفة‪ ،‬أو يتم العدول عنه إىل بدل هو غرم وكفارة‪ .‬ويف قوله تعاىل (يُ ِري ُد َّ‬
‫بِ ُك ُم الْعُ ْس َر)‪ ،202‬يقرر القرآن الكرمي مبدأ التخفيف والرْة اليت أراده ي لعباده بتشريعه األحكام‪،‬‬
‫فاليسر كل ما جيهد النفس وال يضر اجلسم‪ ،‬أما العسر فهو ما جيهد النفس ويضر اجلسم‪ ،‬ويف هذا‬
‫نفي احلرج الذي يؤدي إىل الضرر‪ ،‬واآلية وإن كانت يف شأن الرخص يف الصيام إال أن املراد منها‬
‫العموم‪.‬‬
‫وقد ورد يف السنة النبوية ما يؤكد هذه اخلاصية يف بيان يسر الدين وطاحته ورفع احلرج عن‬
‫املكلفني‪ ،‬عن أيب هريرة رضي ي عنه قال قال رسول ي صلى ي عليه وسلم ( إن الدين يسر‪ ،‬ولن‬
‫يشاد الدين أحد إال غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا‪ ،‬واستعينوا ابلغدوة والروحة وشيء من الدجلة‬
‫)‪ ،203‬وروي عنه صلى ي عليه وسلم أنه قال (إمنا بعثتم ميسرين ومل تبعثوا معسرين )‪ ،204‬وعن‬
‫عائشة رضي ي عنها قالت‪ :‬صلى النيب صلى ي عليه وسلم ذات ليلة من رمضان فصلى الناس‬
‫بصالته‪ ،‬مث صلى القابلة فكثر الناس مث اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم خيرج إليهم‪ ،‬فلما‬
‫أصبح قال‪ :‬قد رأيت الذي صنعتم فلم مينعين من اخلروج إليكم إال أين خشيت أن تفرض عليكم‪،‬‬
‫ويف رواية فتعجزوا عنها‪ ،205‬وعن أيب قتادة رضي ي عنه عن النيب صلى ي عليه وسلم قال ( إين‬
‫ألقوم إىل الصالة وأان أريد أن أطول فيها فأطع بكاء الصيب فأجتوز كراهية أن أشق على أمه )‪206‬وعن‬
‫أيب مسعود األنصاري رضي ي عنه قال جاء رجل إىل رسول ي صلى ي عليه وسلم فقال‪ :‬إين‬
‫أأتخر عن صالة الصبح من أجل فالن مما يطيل بنا‪ .‬يقول راوي احلديث فما رأيت النيب صلى ي‬
‫عليه وسلم غضب يف موعظة أشد مما غضب يوماذ‪ ،‬فقال أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم‬

‫سورة النساء آية ‪28‬‬ ‫‪201‬‬

‫سورة البقرة آية ‪185‬‬ ‫‪202‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬كتاب اإلميان ابب الدين يسر‪ ،‬رقم ‪39‬‬ ‫‪203‬‬

‫سنن أيب داود‪ ،‬سليمان بن األشعث السجستاين‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪104‬‬ ‫‪204‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬ج ‪ 6‬ص ‪41‬‬ ‫‪205‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬صالة اجلماعة‪ ،‬رقم ‪675‬‬ ‫‪206‬‬

‫‪95‬‬
‫والضعيف وذا احلاجة‪ .207‬وتدل هذه األحاديث والتوجيهات وغريها‬
‫َ‬ ‫الكبري‬
‫َ‬ ‫الناس فليوجز فإن وراءه‬
‫يف نفس املعىن إىل أن النيب صلى ي عليه وسلم يوجه أمته يف عبادهتم إىل الرفق واألخذ ابأليسر‬
‫ومراعاة أحوال الناس وعدم املشقة عليهم‪.‬‬
‫ومن األدلة على أن العبادة يف اإلسالم مبنية على اليسر ورفع احلرج عن املكلفني ومنع التبتل‬
‫واالنقطاع عن الدنيا ما روي عن أنس بن مالك رضي ي عنه يقول جاء ثالثة رهط إىل بيوت أزواج‬
‫النيب صلى ي عليه وسلم يسألون عن عبادة النيب صلى ي عليه وسلم‪ ،‬فلما أُخربوا كأهنم تقالاوها‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬أين حنن من النيب صلى ي عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما أتخر‪ ،‬قال أحدهم‬
‫أما أان فإين أصلي الليل أبدا‪ ،‬وقال آخر أان أصوم الدهر وال أفطر‪ ،‬وقال آخر أان أعتزل النساء فال‬
‫أتزوج أبدا‪ ،‬فجاء رسول ي صلى ي عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما وي إين‬
‫ألخشاكم هلل وأتقاكم له لكين أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنيت فليس‬
‫مين‪ .208‬فإذا أراد اإلنسان أن يتبتل وينقطع عن كل شأن من شاون الدنيا‪ ،‬فيقوم الليل ويصوم النهار‬
‫ويعتزل النساء‪ ،‬بدافع التعبد والنسك‪ ،‬ألن اإلسالم يعلمه أن ذلك مناف لفطرته‪ ،‬ومغاير لدينه‪ ،‬فهذا‬
‫رسول ي صلى ي عليه وسلم وهو أخشى الناس هلل وأتقاهم له كان يصوم ويفطر ويقوم وينام ويتزوج‬
‫النساء‪ ،‬وأن من حاول اخلروج عن هديه فليس له شرف االنتساب إليه‪.‬‬
‫واملتابع لألحكام الشرعية جيد أن أغلب األحكام اليت شرعت على أساس العزمية والتكليف يقابلها‬
‫تشريع على أساس الرخصة والتخفيف‪ ،‬فالعزمية تقابلها الرخصة‪ ،‬والرخصة تقابلها العزمية‪ ،‬مما يعين‬
‫أن الرخص يف هذا الدين أصل من أصول التشريع ومنهج من مناهجه‪ ،‬فالعزمية هي‪ :‬ما شرعه ي‬
‫أصالة وابتداء من األحكام العامة اليت ال ختتص حبال دون حال وال مبكلف دون مكلف‪ ،‬ومتثل تشريع‬
‫األحكام يف احلاالت االعتيادية‪ ،‬وتشمل أغلب األحكام اليت شرعها ي تعاىل وفيها كلفة ومشقة‪ .‬أما‬
‫الرخصة فهي‪ :‬ما شرعه ي من األحكام ختفيفا على املكلف يف حاالت خاصة تقتضي هذا التخفيف‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪184‬‬ ‫‪207‬‬

‫صحيح البخاري‪ ،‬كتاب النكاح ابب الرتغيب ابلنكاح‪ ،‬رقم ‪5063‬‬ ‫‪208‬‬

‫‪96‬‬
‫ومتثل التشريع يف احلاالت االستثنائية أو اخلاصة اليت ترتبط ابألعذار الطارئة أو الدائمة‪ ،‬حبيث يتغري‬
‫احلكم من املشقة والصعوبة إىل السهولة واليسر لعذر شرعي يقتضي ذلك التخفيف‪.‬‬
‫أنواع الرخص‪.‬‬
‫تتنوع الرخص إىل ثالثة أنواع‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ إابحة احملظورات عند الضرورة‪ :‬مثال ذلك الرتخيص يف التلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمان ابإلميان‬
‫ان)‪ ،209‬وكذلك الرتخيص بتناول احملرم عند الضرورة‪.‬‬ ‫لقوله تعاىل (إَِّال من أُ ْك ِرهَ وقَـلْبهُ مطْماِ ٌّن ِاب ِْإلميَ ِ‬
‫َ ُ ُ َ‬ ‫َْ‬
‫وحكم هذا النوع وجوب العمل ابلرخصة إذا تعينت طريقا لدفع الضرر عن النفس‪ ،‬ولكن إن أخذ‬
‫ابلرخصة فمشروع وجائز‪ ،‬ويرى بعض الفقهاء أن األخذ ابلعزمية يف حال التلفظ ابلكفر هو األوىل ملا‬
‫يف ذلك من إظهار الثبات على احلق وإغاظة الكفار‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ إابحة ترك الواجب‪ :‬وذلك عند وجود العذر الذي جيعل أداءه شاقا على املكلف‪ ،‬مثال ذلك‬
‫إابحة الفطر يف هنار رمضان للمريض أو املسافر‪ ،‬وذلك ألن كال منهما متلبس بعذر جيعل أداء ما‬
‫كلف به شاقا عليه‪ ،‬إذ لو مل تشرع تلك الرخصة لوقع املكلف يف حرج وضيق‪ ،‬ومثل قصر الصالة‬
‫الرابعية وأتديتها ركعتني بدال من أربع للمسافر ختفيفا عليه ودفعا للمشقة‪ ،‬عمال بقوله تعاىل ( َوإِ َذا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض فَـلَيس َعلَي ُكم جنَاح أَ ْن تَـ ْقصروا ِمن َّ ِ ِ‬
‫الص َالة إِ ْن خ ْفتُ ْم أَ ْن يَـ ْفتنَ ُك ُم الَّذ َ‬
‫ين َك َف ُروا إِ َّن‬ ‫ُُ َ‬ ‫ض َربْـتُ ْم ِيف ْاأل َْر ِ ْ َ ْ ْ ُ ٌ‬ ‫َ‬
‫ين َكانُوا لَ ُك ْم َع ُد ًّوا ُمبِينا)‪.210‬‬ ‫ِ‬
‫الْ َكاف ِر َ‬
‫وحكم هذا النوع أن األخذ ابلرخصة أفضل من العمل ابلعزمية‪ ،‬لدرء املفسدة ودفع الضرر الذي‬
‫حيصل جراء األخذ ابلعزمية‪ .‬ويدل على ذلك أن رسول ي صلى ي عليه وسلم خرج عام الفتح إىل‬
‫مكة يف رمضان فصام حىت إذا بلو كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له‪ :‬إن الناس قد شق عليهم‬
‫الصوم‪ .‬وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء فشربه والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم‬
‫وظل البعض اآلخر صائما فقيل للنيب صلى ي عليه وسلم إن بعض الناس قد صام فقال عليه الصالة‬

‫سورة النحل آية ‪106‬‬ ‫‪209‬‬

‫سورة النساء آية ‪101‬‬ ‫‪210‬‬

‫‪97‬‬
‫والسالم أولاك العصاة أولاك العصاة‪ .211‬والضابط يف ذلك قوله صلى ي عليه وسلم ( إن ي حيب‬
‫أن تؤتى رخصه كما حيب أن تؤتى عزائمه )‪.212‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ تصحيح بعض العقود االستثنائية اليت مل تتوفر فيها الشروط العامة النعقاد العقد وصحته‪ ،‬ولكن‬
‫جرت ِبا معامالت الناس وصارت من حاجاهتم ‪ ,‬و حكم هذا النوع هو مشروعية األخذ ِبا ألنه‬
‫يؤدي إىل رفع احلرج واملشقة عن الناس حلاجتهم لتلك املعامالت اليت ال ختلو منها حياهتم العملية‪،‬‬
‫كالسلَم واالستصناع واإلجارة‪ ،‬فهذه العقود لو طبقت عليها الشروط العامة لصحة العقود ال تصح‪،‬‬
‫َّ‬
‫لكنها شرعت استثاء من القاعدة ختفيفا عن الناس ورفعا للحرج‪.‬‬
‫أسباب األخذ بالرخص‪.‬‬
‫اعتمد اإلسالم بناء على مبدأ التيسري ورفع احلرج يف العبادات أسبااب تتطلب ذلك التخفيف‪ ،‬ومن‬
‫تلك األسباب‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ املرض‪ :‬فقد اعتمد الفقه اإلسالمي مجلة من الرخص للمريض‪ ،‬من ذلك جواز الفطر يف رمضان‪،‬‬
‫والتيمم ابلرتاب بدل الوضوء‪ ،‬والصالة جالسا أو مستلقيا بدل الوقوف تبعا الستطاعته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ السفر‪ :‬ويقصد به السفر املشروع الذي يكون لطاعة أو عبادة والسفر املباح أيضا‪ ،‬فقد أجاز‬
‫اإلسالم للمسافر الفطر يف رمضان لقوله تعاىل ( َوَم ْن َكا َن َم ِريضا أ َْو َعلَى َس َف ٍر فَ ِع َّدةٌ ِم ْن أ ََّايٍم أُ َخ َر يُ ِري ُد‬
‫اَّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوَال يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر )‪ ،213‬وأجاز له قصر الصالة الرابعية واجلمع بني الصلوات‬ ‫َّ‬
‫وجواز الصالة إىل غري القبلة يف النوافل‪ ،‬وكل هذا من أجل التخفيف عنه ورفع احلرج‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ اإلكراه‪ :‬وهو ْل اإلنسان على قول أو فعل بسبب قاهر خارج عن إرادته‪ ،‬كاإلكراه على النطق‬
‫بكلمة الكفر‪ ،‬واإلكراه على أكل امليتة وحلم اخلنـزير وشرب اخلمر‪ ،‬فقد أابح الشارع للمكره اإلقدام‬
‫اخلِْن ِزي ِر َوَما أ ُِه َّل بِ ِه‬ ‫على ذلك يف حالة الضرورة‪ ،‬عمال بقوله تعاىل (إِ َّمنَا َح َّرَم َعلَْي ُك ُم ال َْم ْيـتَةَ َو َّ‬
‫الد َم َو َحلْ َم ْ‬
‫اَّلل غَ ُف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫لِغَ ِْري َِّ‬
‫يم )‪.214‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫ري َاب ٍل َوَال َعاد فَ َال إِ ْمثَ َعلَْيه إِ َّن ََّ ٌ‬ ‫اَّلل فَ َم ِن ا ْ‬
‫ضطَُّر غَ ْ َ‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي‪ ،‬رقم ‪1114‬‬ ‫‪211‬‬

‫صحيح ابن حبان‪ ،‬رقم ‪354‬‬ ‫‪212‬‬

‫سورة البقرة آية ‪185‬‬ ‫‪213‬‬

‫سورة البقرة آية ‪173‬‬ ‫‪214‬‬

‫‪98‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ اخلطأ‪ :‬وهو ما ليس لإلنسان فيه قصد أو عزم‪ ،‬حبيث تصدر عنه بعض التصرفات وهو ال يريدها‪،‬‬
‫ويعد عذرا لسقوط حق ي تعاىل‪ ،‬ومن هنا جاءت األحكام الفقهية للتخفيف على املكلف بسبب‬
‫هذا العذر‪ ،‬من ذلك عند البعض أنه ال إعادة على املخطُ يف القبلة ما دام جمتهدا يف التحري هلا‪،‬‬
‫وأنه ال قضاء على من صلى أربع ركعات ألربع جهات اجتهادا‪ ،‬ومنه اإلجزاء لنسك الوقوف بعرفة‬
‫وعدم وجوب القضاء للذين أخطأوا يف الوقوف بعرفة إذا كان عاما‪ ،‬ومنه القضاء دون الكفارة ملن‬
‫جامع خمطاا يف هنار رمضان‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ النسيان‪ :‬وهو عبارة عن الغفلة عن الشيء مع امنحاء صورته أو معناه عن اخليال أو الذكر‬
‫ابلكلية‪ ،‬وهو سبب يبيح التخفيف ورفع احلرج‪ ،‬ومنه عند بعض الفقهاء عدم إعادة الصالة ملن صلى‬
‫وعلى ثوبه جناسة وكان انسيا هلا‪ ،‬ومنه إعادة اإلمام للصالة إذا نسي وصلى ابلناس وهو جنب وال‬
‫إعادة على املأمومني‪ ،‬ومنه عدم القضاء على من أكل أو شرب انسيا يف رمضان‪ .‬والدليل على ذلك‬
‫قوله صلى ي عليه وسلم ( رفع عن أميت اخلطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )‪.215‬‬
‫أما سبل التخفيف ورفع احلرج فقد هنج اإلسالم يف التخفيف سبال متعددة منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ ـ ختفيف إسقاط‪ ،‬كإسقاط العبادات ابألعذار‪ ،‬مثل اجلمعة واحلج واجلهاد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ ختفيف تنقيص‪ ،‬كقصر الصالة للمسافر‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ ختفيف تقدمي‪ ،‬كتقدمي صالة العصر إىل الظهر‪ ،‬وصالة العشاء إىل املغرب يف السفر‪ ،‬وكتقدمي‬
‫الزكاة على حوهلا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ ختفيف أتخري‪ ،‬كاجلمع بني صاليت املغرب والعشاء يف مزدلفة للحاج‪ .‬وعلى رأي البعض من‬
‫الفقهاء جيوز اجلمع للمسافر مطلقا ما عدا الصبح فإنه ال مجع فيه‪ ،‬وأتخري رمضان ملن أفطره بعذر‬
‫مشروع‪.‬‬
‫وال شك أن رسالة اإلسالم اليت حدد القرآن الكرمي أهدافها ابلرْة فقال تعاىل ( َوَما َج َع َل َعلَْي ُك ْم‬
‫اك‬‫ني ِم ْن قَـ ْب ُل)‪ ،216‬وقوله تعاىل ( َوَما أ َْر َسلْنَ َ‬ ‫ِ‬
‫يم ُه َو َطَّا ُك ُم ال ُْم ْسل ِم َ‬
‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِيف الدي ِن م ْن َح َر ٍج ملةَ أَبي ُك ْم إبْـ َراه َ‬

‫سنن ابن ماجة ‪ ،‬رقم ‪2045‬‬ ‫‪215‬‬

‫سورة احلج آية ‪78‬‬ ‫‪216‬‬

‫‪99‬‬
‫ِ‬
‫ني)‪ 217‬كفيلة بتحقيق السماحة والرفق والتيسري على الناس مبا يرفع احلرج عنهم يف‬ ‫إَِّال َر َْْة لل َْعال َِم َ‬
‫اطَعوا وأ ِ‬
‫َطيعُوا )‪.218‬‬ ‫العبادات واملعامالت‪ ،‬عمال بقوله تعاىل‪( :‬فَاتَّـ ُقوا َّ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم َو ْ ُ َ‬
‫اَّللَ َما ْ‬

‫األخالق يف اإلسالم‬
‫د‪ .‬عمر عبدالعزيز العاين‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫لعل من بداهة القول أن نؤكد على أن احلاجة إىل األخالق الفاضلة ضرورة ماثلة‪ ،‬على مدار‬
‫الدهور والعصور‪ ،‬وخباصة يف زمننا املعاصر‪ ،‬الذي ابتت فيه معظم اجلرائم‪ ،‬من قبيل اجلرائم‬
‫األخالقية‪ ،‬ولعل من أهم اإلشارات املتصلة ابألخالق اليت تلفت النظر منذ بدء اخللق‪ ،‬أن اخلطياة‬
‫يس‬ ‫َِّ ِ ِ‬
‫األوىل يف السماء كانت أخالقية متثلت بغرور إبليس وتكربه على آدم اإلنسان األول(إال إبْل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين)(‪ .)219‬وأن اخلطياة األوىل يف األرض كانت أخالقية أيضا متثلت ابحلسد‬ ‫رب َوَكا َن م َن الْ َكاف ِر َ‬
‫استَ ْك ََ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫سهُ قَـ ْت َل أَخ ِيه فَـ َقتَـلَهُ فَأ ْ‬
‫َصبَ َح‬ ‫ت لَهُ نَـ ْف ُ‬
‫الذي أوغر صدر قابيل على أخيه هابيل وانتهى ابلقتل " فَطََّو َع ْ‬
‫ِمن ْ ِ‬
‫ين"(‪ .)220‬وإن دل هذا على شيء‪ ،‬فإن أول ما يدل عليه هو أمهية األخالق يف حياة‬ ‫اخلَاس ِر َ‬ ‫َ‬
‫اجملتمعات‪ ،‬وأن كثريا من اجلرائم قدميا وحديثا‪ ،‬على مستوى األفراد والدول‪ ،‬من ورائها غياب‬

‫سورة األنبياء آية ‪107‬‬ ‫‪217‬‬

‫سورة التغابن آية ‪16‬‬ ‫‪218‬‬

‫(‪ ) 219‬ص آية رقم ‪.74‬‬


‫(‪ ) 220‬ـ المائدة اآلية‪30 :‬‬

‫‪100‬‬
‫األخالق‪ ،‬ولذا تدعوان احلاجة يف كتاب الثقافة اإلسالمية‪ ،‬أن نقف على أهم جوانب األخالق يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬وهذا ما نقدمه فيما أييت‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال تعريف األخالق‪:‬‬
‫األخالق لغة‪ :‬مجع ُخلُق‪ ،‬وجاءت كلمة اخلُلُق يف بعض معاجم اللغة مبعىن السجية والطبع واملروءة‪،‬‬
‫واخلِ ْلقة مبعىن الفطرة‪ ،‬واخلَلْق مبعىن التقدير‪.‬‬
‫وأما اصطالحا‪ :‬فقد قيل يف اخلُلُق تعريفات متعددة‪ ،‬منها أن اخلُلُق هو الصورة الباطنة لإلنسان اليت‬
‫ميكن أن تظهر لآلخرين أبشكال خمتلفة على جوارحه الظاهرة للناس‪.‬‬
‫وقيل هو‪ :‬طالقة الوجه وبذل املعروف وكف األذي‪ .‬وهذا تعداد ألفراد من األخالق وليس تعريفا‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو صالح القلب مع صالح اجلوارح‪ .‬وهذا عام يف األخالق وغريها من فضائل الدين‬
‫والتعريف املختار هو‪:‬‬
‫تعريف اجلرجاين‪ ،‬حيث عرفه أبنه‪ :‬هياة للنفس راسخة تصدر عنها األفعال بسهولة ويُ ْس ٍر من غري‬
‫حاجة إىل فكر وروية‪ .‬فإن كانت اهلياة حبيث تصدر عنها األفعال اجلميلة عقال وشرعا بسهولة‪ ،‬طيت‬
‫اهلياة ُخلُقا حسنا‪ ،‬وإن كان الصادر منها األفعال القبيحة‪ ،‬طيت اهلياة اليت هي املصدر ُخلُقا سياا‪.‬‬
‫صدر منه بَ ْذل املال اندرا مثال‪ ،‬ال يقال خلقه السخاء‪ ،‬ما مل‬ ‫وإمنا قلنا‪ :‬إنه هياة راسخةل ألن َمن يَ ْ‬
‫جبهد أو روية ال يقال‪ُ :‬خلُقه احلِ ْلم‪.‬‬ ‫ف السكوت عند الغضب ٍ‬ ‫ت ذلك يف نفسه‪ .‬وكذلك من تكل َ‬ ‫يَـثْـبُ ْ‬
‫وليس اخلُلق عبارة عن الفعلل فرب شخص خلقه السخاء‪ ،‬وال يَـ ْبذل‪ :‬إما لف ْقد املال‪ ،‬أو ملانع‪.‬‬
‫لباعث أو رايء‪ .‬وهذا التعريف يتفق مع احلديث النبوي الشريف‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ورمبا يكون ُخلقه البخل‪ ،‬وهو يَبذل‬
‫صيبـها‪ ،‬أَو إِ َىل امرأَةٍ‬
‫ِ‬ ‫ات‪ ،‬وإِ َّمنَا لِ ُك ِل ام ِر ٍئ ما نَـوى‪ ،‬فَمن َكانَ ْ ِ‬ ‫ال ِابلنِيَّ ِ‬
‫َْ‬ ‫ت ه ْج َرتُهُ إِ َىل ُدنْـيَا يُ ُ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫«إِ َّمنَا األَ ْع َم ُ‬
‫اج َر إِل َْي ِه» (‪ )221‬ومع ما جاء من النصو الشرعية الكثرية يف عدم قبول‬ ‫ِ‬
‫يَـ ْنك ُح َها‪ ،‬فَ ِه ْج َرتُهُ إِ َىل َما َه َ‬
‫أعمال املنافقني واملرائني‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬منزلة األخالق يف اإلسالم‪:‬‬

‫) ـ صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪ 6‬حديث رقم ‪.1‬‬ ‫‪221‬‬


‫(‬

‫‪101‬‬
‫جاء يف الوحي كثري من النصو اليت تشري إىل منزلة األخالق‪ ،‬ومن ذلك على سبيل املثال‪:‬‬
‫ك ل ََعلَى ُخلُ ٍق َع ِظ ٍيم " (‪.)222‬‬ ‫‪ 1‬ـ ـ اآلية الكرمية‪َ " :‬وإِنَّ َ‬
‫الصائِِم الْ َقائِِم»(‪)223‬‬ ‫‪ 2‬ـ ـ‪ :‬احلديث الشريف «إِ َّن ال ُْم ْؤِم َن لَيُ ْد ِر ُك ِحبُ ْس ِن ُخلُِق ِه َد َر َجةَ َّ‬
‫ريُك ْم لِنِ َسائِ ِه ْم‪.)224(.‬‬ ‫ِ‬
‫ريُك ْم َخ ْ ُ‬ ‫ني إِميَاان أ ْ‬
‫َح َسنُـ ُه ْم ُخلُقا‪َ ،‬و َخ ْ ُ‬ ‫‪ 3‬ـ ـ احلديث الشريف‪ :‬أَ ْك َم ُل ال ُْم ْؤمنِ َ‬
‫القيام ِة ِمن ُخلُ ٍق حس ٍن‪ ،‬وإِ َّن َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ض‬
‫اَّللَ لَيُـ ْبغ ُ‬ ‫ََ َ‬ ‫‪ 4‬ـ ـ ـ احلديث الشريف‪َ :‬ما َش ْيءٌ أَثْـ َق ُل ِيف م َيزان ال ُْم ْؤم ِن يَـ ْو َم َ َ ْ‬
‫ش البَ ِذيءَ"(‪.)225‬‬ ‫ِ‬
‫ال َفاح َ‬
‫ت ِألَُمتِ َم َم َكا ِرَم ْاألَ ْخ َال ِق " (‪.)226‬‬ ‫‪ 5‬ـ ـ احلديث الشريف‪ " :‬إِ َّمنَا بُِعثْ ُ‬
‫ويف ضوء هذه النصو نستطيع أن نقف على أمهية األخالق مما أييت‪:‬‬
‫‪ -1‬األخالق هي اليت متيز سلوك اإلنسان عن سلوك البهائم سواء أيف حتقيق حاجاته الطبيعية أم يف‬
‫عالقاته مع غريه من الكائنات األخرى‪،‬‬
‫‪ 2‬ـ األخالق هتدف إىل حتقيق السعادة يف احلياة الفردية واجلماعية‪ .‬ذلك أن احلياة األخالقية هي‬
‫احلياة اخلرية البعيدة عن الشرور جبميع أنواعها وصورها‪ ،‬فكلما انتشرت هذه احلياة انتشر اخلري‬
‫واألمن واألمان الفردي واالجتماعي‬
‫‪ -3‬إن األخالق وسيلة لنجاح اإلنسان يف احلياة‪ .‬ذلك أن اإلنسان الشرير والغار واملعتدي على‬
‫أعراض الناس وأمواهلم أو على أنفسهم‪ ،‬أو الذي يؤذي اآلخرين ال يكون حمبواب أوال بني الناس‪،‬‬
‫وال يثقون به‪ ،‬وال يتعاملون معه‪ ،‬فيفقد إنسانيته‪ ،‬وتنعدم الروابط والصالت بينه وبني اآلخرين‪،‬‬
‫وكل ذلك يؤدي إىل كوارث ومفاسد‪.‬‬

‫) ـ القلم أية ‪.4‬‬ ‫‪222‬‬


‫(‬
‫) ـ سنن أبي داود‪ ،‬ص ‪252‬‬ ‫‪223‬‬
‫(‬
‫) ـ سنن الترمذي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.457‬‬ ‫‪224‬‬
‫(‬
‫) ـ سنن الترمذي‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ ،430‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪225‬‬
‫(‬
‫) السنن الكبرى حديث رقم ‪ ،20782‬ج ‪ 10‬ص ‪.323‬‬ ‫‪226‬‬
‫(‬

‫‪102‬‬
‫‪4‬ـ إن األخالق وسيلة مهمة للنهوض ابألمة‪ :‬فإذا انتشرت الفضائل اجلليلة واألخالق اجلميلة‬
‫كالتضحية يف خدمة األمة‪ ،‬وروح اإلخاء والتعاون‪ ،‬وحتقيق املساواة‪ ،‬سوف تؤدي إىل التقدم‪ ،‬أما‬
‫إذا سادت األخالق اهلدامة فإهنا تؤدى إىل سقوط األمم واحلضارات‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪:‬القيم األخالقية يف تراث النبوة‪:‬‬
‫ابلنظر يف القرآن الكرمي والسنة النبوية املطهرة‪ ،‬جند أن اآلايت الكرمية واألحاديث النبوية الشريفة‬
‫توزعت على ثالثة أقسام من العلوم الكربى اليت يقوم عليها اإلسالم‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫العقائد‪ ,‬من إهليات‪ ,‬ونبوات‪ ,‬وطعيات‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫األخالق‪ ,‬وأقسامها‪ ,‬وفضائلها‪ ،‬وطرق الوصول إليها‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫األحكام الشرعية العملية اليت اصطلح عليها ابلفقه وتبدأ من الطهارة فالعبادات‪ ,‬فاملعامالت‬ ‫‪-3‬‬
‫املالية‪ ,‬فأحكام األسرة‪ ،‬فالفقه اجلنائي‪ ،‬فالعالقات الدولية‪ ،‬إىل آخر نظم احلياة الكبرية منها والصغرية‪.‬‬

‫وبني ثنااي هذه األقسام الكربى هناك قصص عن سرية األولني من أنبياء وصاحلني‪ ,‬ومن أمم صاحلة‬
‫وطاحلة‪ ,‬وعظات وعرب ودعوة للنظر والتأمل يف كل ذلك‪.‬‬
‫ويف هذه القصص واالعتبارات التارخيية‪ ،‬نقف على كثري من أبواب الدين الكربى‪ ,‬فهي قد تضمنت‬
‫بعض األحكام العقدية‪ ,‬وأخرى يف الفضائل واألخالق‪ .. ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ومن ذلك‪:‬‬
‫جند قيمة الصرب متمثلة ابلنيب نوح ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬يف دعوته لقومه ألف سنة إال مخسني عاما‪ ,‬كان‬
‫صربا على مطاولة طريق التعليم واإلفهام‪ ,‬وصربا على حتمل أذى قومه وسخريتهم منه‪ ,‬وصربا على‬
‫مشكالت انقسام البيت الذي يرعاه يف عصيان ابنه وزوجته‪.‬ومما يصور صربه وعناءه قول ي تعاىل‬
‫ت قَـ ْوِمي ل َْيال َو َهنَارا (‪ )5‬فَـلَ ْم يَ ِز ْد ُه ْم ُد َعائِي إَِّال فِ َرارا (‪َ )6‬وإِِين ُكلَّ َما َد َع ْو ُهتُ ْم‬ ‫ب إِِين َد َع ْو ُ‬ ‫ال َر ِ‬ ‫عنه‪ " :‬قَ َ‬
‫استِ ْكبَارا (‪ُ )7‬مثَّ إِِين َد َع ْو ُهتُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫استَ ْك َربُوا ْ‬‫َص اروا َو ْ‬ ‫َصابِ َع ُه ْم ِيف آذَاهن ْم َو ْ‬
‫استَـغْ َش ْوا ثيَ َاِبُ ْم َوأ َ‬ ‫لتَـغْف َر َهلُ ْم َج َعلُوا أ َ‬
‫ت َهلُ ْم إِ ْس َرارا (‪.)227( " )9‬‬ ‫َس َر ْر ُ‬ ‫ِج َهارا (‪ُ )8‬مثَّ إِِين أَ ْعلَْن ُ‬
‫ت َهلُ ْم َوأ ْ‬

‫) ـ نوح االيات من ‪.9 :5‬‬ ‫‪227‬‬


‫(‬

‫‪103‬‬
‫وجند يف االعتبار ابلقصص القرآين عربا كربى أخرى‪ ,‬فالنيب لوط كان قد اقتصرت نبوته على تعليم‬
‫التوحيد‪ ,‬وحماربة االحنراف اخللقي الذي شاع يف بين قومه‪.‬‬
‫وجند الوفاء احلاين من النيب إبراهيم يف دعوته ألبيه وحرصه على قومه‪ ,‬وصربه على أذاهم‪ ,‬وعلى‬
‫حرمانه سنني عددا من الذرية‪ ,‬وصربه على مفارقته إايهم يف عمر متقدم يكون حباجة إىل املعني الناصر‪.‬‬
‫وابنه نيب ي إطاعيل يرقى بقيمة الرب أببيه إىل مستوايت هي من قبيل املثل اليت ال يرقى سائر البشر‬
‫إىل تطبيقها والعمل ِبا‪ ،‬ويف طرف من حياهتما يقول ي تعاىل على لسان إبراهيم عليه السالم‪" :‬‬
‫ين إِِين‬ ‫ال َايبُ ََّ‬ ‫ش ْرَانهُ بِغُ َالٍم َحلِ ٍيم (‪ )101‬فَـلَ َّما بَـلَ َو َم َعهُ َّ‬
‫الس ْع َي قَ َ‬ ‫ني (‪ )100‬فَـبَ َّ‬ ‫ب ِيل ِم َن َّ‬
‫الصاحلِِ َ‬ ‫ب َه ْ‬ ‫َر ِ‬
‫اَّللُ ِمن َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك فَانْظُر ما َذا تَـرى قَ َ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين‬ ‫ال َايأَبَت افْـ َع ْل َما تُـ ْؤَم ُر َستَج ُدِين إِ ْن َشاءَ َّ َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫أ ََرى ِيف ال َْمنَ ِام أَِين أَ ْذ َحبُ َ‬
‫ك‬ ‫ْت ال ارْؤَاي إِ َّان َك َذلِ َ‬
‫ص َّدق َ‬
‫يم (‪ )104‬قَ ْد َ‬
‫ِ ِ‬
‫ني (‪َ )103‬وَان َديْـنَاهُ أَ ْن َايإبْـ َراه ُ‬ ‫ْجبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َسلَ َما َوتَـلَّهُ لل َ‬‫(‪ )102‬فَـلَ َّما أ ْ‬
‫ني (‪َ )106‬وفَ َديْـنَاهُ بِ ِذبْ ٍح َع ِظ ٍيم (‪َ )107‬وتَـ َرْكنَا َعلَْي ِه‬ ‫ني (‪ )105‬إِ َّن َه َذا َهلَُو الْبَ َالءُ ال ُْمبِ ُ‬
‫ِ‬
‫َْجن ِزي ال ُْم ْحسنِ َ‬
‫ِ‬ ‫يم (‪َ )109‬ك َذلِ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني (‪.)228( ")110‬‬ ‫ك َْجن ِزي ال ُْم ْحسنِ َ‬ ‫ين (‪َ )108‬س َال ٌم َعلَى إبْـ َراه َ‬ ‫ِيف ْاآلخ ِر َ‬
‫الغش‪ ,‬والتطفيف الذي كان شائعا‬ ‫وترك ِ‬ ‫قومه هو إقامة التوحي ُد ُ‬ ‫والنيب ُشعيب كان مهه ِمن مصابرة ِ‬
‫ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫تدل على‬ ‫قومه‪ ،‬فكانت طباعهم قد ألفت الكذب والتزوير واخلداع‪ ،‬وانطوت على نذالة ُ‬ ‫يف بين ِ‬
‫نفس أمارةٍ ابلسوء مهانة ال تع ِرف التسامي والرتفع‪ ،‬ومما ورد يف دعوته إىل مكارم األخالق والنهي‬
‫ٍ‬
‫عن سياها ما جاء على لسانه يف القرآن اجمليد‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ين (‪َ )181‬وِزنُوا ِابل ِْق ْسطَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس ال ُْم ْستَق ِيم (‪َ )182‬وَال تَـ ْب َخ ُ‬
‫سوا‬ ‫" أَ ْوفُوا الْ َك ْي َل َوَال تَ ُكونُوا م َن ال ُْم ْخس ِر َ‬
‫ين(‪.)229(")183‬‬ ‫النَّاس أَ ْشياء ُهم وَال تَـ ْعثَـوا ِيف ْاألَر ِ ِ ِ‬
‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ َْ‬
‫والنيب موسى كان له النصيب األوفر من عرض حياته ومواقفه يف مسرية اإلصالح والتعليم‪ ,‬وقد صرب‬
‫على حيل قومه وخداعهم وجداهلم ابلباطل ومؤامراهتم‪ ،‬ومما ورد يف جمادلة فرعون له‪ ،‬قول ي تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ال فِ ْر َع ْو ُن َوَما َر ا‬
‫ني (‪)24‬‬ ‫ض َوَما بَـ ْيـنَـ ُه َما إِ ْن ُك ْنـتُ ْم ُموقنِ َ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫ب َّ َ َ‬ ‫ال َر ا‬ ‫ب ال َْعال َِم َ‬
‫ني (‪ )23‬قَ َ‬ ‫" قَ َ‬
‫ال إِ َّن َر ُسولَ ُك ُم الَّ ِذي‬ ‫ِ‬ ‫ال لِ َم ْن َح ْولَهُ أ ََال تَ ْستَ ِمعُو َن (‪ )25‬قَ َ‬
‫ني (‪ )26‬قَ َ‬ ‫آابئِ ُك ُم ْاأل ََّول َ‬
‫ب َ‬ ‫ال َربا ُك ْم َوَر ا‬ ‫قَ َ‬

‫) ـ الصافات‪ :‬اآليات ‪.110 :100‬‬ ‫‪228‬‬


‫(‬
‫) ـ الشعراء اآليات ‪.183 :181‬‬ ‫‪229‬‬
‫(‬

‫‪104‬‬
‫ب َوَما بَـ ْيـنَـ ُه َما إِ ْن ُك ْنـتُ ْم تَـ ْع ِقلُو َن (‪ )28‬قَ َ‬
‫ال لَاِ ِن‬ ‫ب ال َْم ْش ِر ِق َوال َْمغْ ِر ِ‬
‫ال َر ا‬‫أ ُْر ِس َل إِل َْي ُك ْم ل ََم ْجنُو ٌن (‪ )27‬قَ َ‬
‫ت إِ َهلا غَ ِْريي َألَجعلَن َ ِ‬
‫ني (‪.)230( " )29‬‬ ‫َّك م َن ال َْم ْس ُجونِ َ‬ ‫َْ‬ ‫َّاختَ ْذ َ‬
‫والنيب عيسى جاء بدعوة تقوم على تزكية النفوس‪ ،‬والتسامي ِبا إىل املعايل‪ ,‬والصرب على أذى‬
‫اآلخرين‪ ,‬ومتكني قيم السالم واإلخاء ونبذ الكراهية‪ .‬والنيب حممد ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬جاء‬
‫بدعوته اليت تقوم التزكية فيها على دعائم كربى من القيم واألخالق اليت ذكرها ي عز وجل فقال‬
‫خماطبا له‪َ " :‬وإِنَّ َ‬
‫ك ل ََعلَى ُخلُ ٍق عظيم " (‪.)231‬‬
‫أنواع األخالق‬
‫املدقق يف األخالق اليت تظهر على سلوك الناس وتصرفاهتم ميكن تقسيمها إىل قسمني كبريين‪:‬‬
‫األول‪ :‬األخالق الفطرية‪:‬‬
‫وهي األخالق اليت توجد أصال يف تكوين اإلنسان الفطري‪ ،‬وقد دلت أحاديث كثرية على أن من‬
‫َّاس‬
‫األخالق ما هو فطري‪ ،‬يتفاضل به الناس يف أصل تكوينهم‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬احلديث الشريف‪« :‬الن ُ‬
‫ِِ ِ ِ‬ ‫الذه ِ ِ‬ ‫اد ِن ال ِْفض ِ‬ ‫اد ُن َكمع ِ‬
‫مع ِ‬
‫اإل ْس َالِم إِذَا فَـ ُق ُهوا‪َ ،‬و ْاأل َْرَو ُ‬
‫اح ُجنُو ٌد‬ ‫ارُه ْم ِيف ِْ‬
‫ارُه ْم ِيف ا ْجلَاهليَّة خيَ ُ‬ ‫ب‪ ،‬خيَ ُ‬ ‫َّة َو َّ َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ‬
‫ف»(‪.)232‬‬ ‫ف‪َ ،‬وَما تَـنَا َك َر ِم ْنـ َها ا ْختَـلَ َ‬
‫ف ِم ْنـ َها ائْـتَـلَ َ‬
‫ار َ‬‫ُجمَنَّ َدةٌ‪ ،‬فَ َما تَـ َع َ‬
‫وهذا احلديث دليل على فروق اهلبات الفطرية اخللقية‪ ،‬وفيه يثبت الرسول ‪ -‬صلى ي عليه وسلم‬
‫‪ -‬أن خيار الناس يف التكوين الفطري هم أكرمهم ُخلُقا‪ ،‬وهذا التكوين اخلُلُقي يرافق اإلنسان‬
‫ويصاحبه على مجيع أحواله‪.‬‬
‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم َح ِديثَ ْ ِ‬
‫ني‪،‬‬ ‫ول َِّ‬ ‫ال‪َ :‬ح َّدثَـنَا َر ُس ُ‬ ‫ب‪َ ،‬ح َّدثَـنَا ُح َذيْـ َفةُ‪ ،‬قَ َ‬ ‫وروي َع ْن َزيْ ِد بْ ِن َو ْه ٍ‬
‫اَّلل َ‬
‫ال‪ُ ،‬مثَّ َعلِ ُموا ِم َن‬ ‫الر َج ِ‬
‫وب ِ‬‫َت ِيف َج ْذ ِر قُـلُ ِ‬ ‫َح َد ُمهَا َوأ ََان أَنْـتَ ِظ ُر اآل َخ َر‪َ :‬ح َّدثَـنَا‪« :‬أ َّ‬
‫َن األ ََمانَةَ نَـ َزل ْ‬ ‫ت أَ‬‫َرأَيْ ُ‬
‫سن َِّة»(‪ ،)233‬ويف هذا احلديث بيان عن األمانة يف الناس وعما تصري إليه‬ ‫آن‪ُ ،‬مثَّ َعلِ ُموا ِم َن ال ا‬ ‫ال ُقر ِ‬
‫ْ‬

‫) ـ الشعراء اآليات ‪.29 :23‬‬ ‫‪230‬‬


‫(‬
‫) ـ سورة القلم اآلية‪4 :‬‬ ‫‪231‬‬
‫(‬
‫) ـ المسند الصحيح لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري‪.‬‬ ‫‪232‬‬
‫(‬
‫) ـ صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ 8‬ص ‪.104‬‬ ‫‪233‬‬
‫(‬

‫‪105‬‬
‫فيهم‪ ،‬فقد أابن الرسول صلى ي عليه وسلم حقيقة من حقائق التكوين اخللقي الفطري يف الناس‪،‬‬
‫وهذه احلقيقة تثبت أن األصل يف الناس أن يكونوا أمناء‪.‬‬
‫صلَّى يُ َعلَْي ِه‬ ‫ول َِّ‬
‫اَّلل َ‬ ‫ال‪ُ :‬كنَّا ُجلُوسا ِع ْن َد َر ُس ِ‬ ‫ي‪ ،‬قَ َ‬ ‫اخلُ ْد ِر ا‬
‫يد ْ‬‫ال‪ :‬ح َّدثَـنَا أَبو س ِع ٍ‬ ‫ِ‬
‫ارةَ ال َْع ْبد ِي قَ َ َ‬
‫ُ َ‬ ‫َع ْن عُ َم َ‬
‫ك‪ ،‬إِ ْذ َجاءُوا فَـنَـ َزلُوا‪ ،‬فَأَتَـ ْوا‬ ‫َحدا‪ ،‬فَـبَـ ْيـنَا َْحن ُن َك َذلِ َ‬ ‫س‪َ ،‬وَما نَـ َرى أ َ‬ ‫ود َع ْب ِد الْ َق ْي ِ‬ ‫َو َسلَّ َم‪ ،‬فَـ َق َ‬
‫ال‪ :‬أَتَـ ْت ُك ْم ُوفُ ُ‬
‫خ رِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رس َ ِ‬
‫احلَتَهُ‪،‬‬ ‫ي‪ ،‬فَ َجاءَ بَـ ْع ُد‪ ،‬فَـنَـ َز َل َم ْن ِزال فَأ ََان َ َ‬ ‫صلَّى يُ َعلَْيه َو َسلَّ َم‪َ ،‬وبَق َي ْاألَ َش اج ال َْع َ‬
‫ص ِر ا‬ ‫ول ا ََّّلل َ‬ ‫َُ‬
‫صلَّى يُ َعلَْي ِه‬ ‫ول َِّ‬ ‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‪ ،‬فَـ َق َ‬ ‫ول َِّ‬ ‫ض َع ثِيَابَهُ َجانِبا‪ُ ،‬مثَّ َجاء إِ َىل َر ُس ِ‬
‫اَّلل َ‬ ‫ال لَهُ َر ُس ُ‬ ‫اَّلل َ‬ ‫َ‬ ‫َوَو َ‬
‫ول َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ني ُِحيباـ ُه َما َّ‬ ‫«اي أَ َش اج إِ َّن فِ َ‬
‫اَّلل أَ َش ْيءٌ‬ ‫ال‪َ :‬اي َر ُس َ‬ ‫اؤ َدةَ»‪ ،‬قَ َ‬ ‫ْم َوالتـ َ‬
‫اَّللُ َوَر ُسولُهُ‪ ،‬ا ْحلل َ‬ ‫صلَتَ ْ ِ‬
‫يك َخلَ ْ‬ ‫َو َسلَّ َم‪َ :‬‬
‫ْت َعلَْي ِه»(‪.)234‬‬ ‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‪« :‬بَ ْل َش ْيءٌ ُجبِل َ‬ ‫ول َِّ‬ ‫ث ِيل؟ قَ َ‬ ‫ْت َعلَْي ِه‪ ،‬أ َْم َش ْيءٌ َح َد َ‬ ‫ُجبِل ُ‬
‫اَّلل َ‬ ‫ال َر ُس ُ‬
‫مواقف عملية شاهدة على األخالق الفطرية‪:‬‬
‫أ‪ -‬ما روي أنه قيل أليب بكر الصديق يف جممع من أصحاب رسول ي صلى ي عليه وسلم‪ :‬هل‬
‫شربت اخلمر يف اجلاهلية؟ فقال‪ :‬أعوذ ابهلل‪ ،‬فقيل‪ :‬وِملَ؟ قال‪ :‬كنت أصون عرضي‪ ،‬وأحفظ مروءيت‪،‬‬
‫فإن من شرب اخلمر كان مضيعا يف عرضه ومروءته(‪.)235‬‬
‫ب‪ -‬ما روي عن السيدة خدجية أنه عند ما رجع إليها النيب صلى ي عليه وسلم من غار حراء‪ ،‬وهو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يقول‪َِ :‬‬
‫«اي َخدجيَةُ! َم ِايل‪ ،‬فَأَ ْخ ََ‬
‫ربَها اخلرب»‪.‬‬ ‫ال‪َ :‬‬
‫ع‪ ،‬فَـ َق َ‬
‫الرْو ُ‬ ‫«زملُ ِوين َزملُ ِوين فَـ َزَّملُوهُ‪َ ،‬ح َّىت ذَ َه َ‬
‫ب َع ْنهُ َّ‬
‫كان هذا شأان جديدا عليه وتغريا حمسوسا‪ ،‬وعند ما سألته عن جلية اخلرب‪ ،‬قال‪« :‬لقد خشيت على‬
‫ص ُد ُق ا ْحلَ ِد َ‬ ‫صل َّ ِ‬‫يك ي أَبدا‪ ،‬إِنَّ َ ِ‬
‫يث‪ ،‬وحتمل‬ ‫الرح َم َوتَ ْ‬ ‫ك لَتَ ُ‬ ‫نفسي!»‪ ،‬قالت له‪« :‬كال‪ ،‬وي ما ُخيْ ِز َ ُ َ‬
‫ب ا ْحلَِق»(‪.)236‬‬ ‫الكل َوتُ ِع ُ‬
‫ني َعلَى نَـ َوائِ ِ‬

‫) ـ سنن ابن ماجه‪ ،‬ابن ماجة أبو عبد هللا محمد بن يزيد القزويني‪ ،‬وماجة اسم أبيه يزيد (المتوفى‪273 :‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪:‬‬ ‫‪234‬‬
‫(‬
‫محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الكتب العربية ‪ -‬فيصل عيسى البابي الحلبي‪ ،‬باب الحلم‪ ،‬حديث رقم ‪ 4187‬ج ‪2‬‬
‫ص ‪.1401‬‬
‫) ـ تاريخ الخلفاء‪ ،‬عبد الرحمن بن أبي بكر‪ ،‬جالل الدين السيوطي (المتوفى‪911 :‬هـ)‪ ،‬المحقق‪ :‬حمدي الدمرداش‪،‬‬ ‫‪235‬‬
‫(‬
‫الناشر‪ :‬مكتبة نزار مصطفى الباز‪ ،‬الطبعة‪ :‬الطبعة األولى‪1425 :‬هـ‪2004-‬م‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫الخ ْس َرْو ِجردي الخراساني‪ ،‬أبو بكر‬
‫( ) ـ دالئل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة‪ ،‬أحمد بن الحسين بن علي بن موسى ُ‬
‫‪236‬‬

‫البيهقي (المتوفى‪458 :‬هـ)‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية – بيروت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى ‪ 1405 -‬هـ‪ ،‬باب ‪ -3‬دالئل النبوة في‬
‫إسالم خ ِديجة‪ -‬ر ِ‬
‫ضي هللاُ َع ْن َها‪ -‬ص ‪21‬‬
‫َ َُ َ َ‬
‫‪106‬‬
‫ومن خالل املثالني السابقني نالحظ إن ذلك كان قبل البعثة ومع ذلك كانت هناك آداب وأخالق‬
‫متأصلة فيهم وقد أقرها الشرع فيما بعد‪ ،‬ومن األخالق اليت أتصلت عند العرب عموما الكرم‪،‬‬
‫والشجاعة‪ ،‬والسماحة‪ ،‬وغريها مما اتصف به العرب قبل البعثة‪.‬‬
‫َّلل َش ْيـاا!‬ ‫ال‪ :‬تُـبايِعنَ ِين َعلَى أَال تُ ْش ِرْكن ِاب َِّ‬
‫َ‬ ‫ت‪ -‬وحني ابيع رسول ي صلى ي عليه وسلم – النساء‪ ،‬قَ َ َ ْ‬
‫ال َو َسنُـ ْؤتِي َكهُ قَ َ‬
‫الر َج ِ‬ ‫َت ِه ْن ٌد‪ :‬و َِّ‬
‫اَّلل إِنَّ َ‬
‫َت‪:‬‬ ‫ْن‪ ،‬قَال ْ‬ ‫ال‪َ :‬وال تَ ْس ِرق َ‬ ‫ك لَتَأْ ُخ ُذ َعلَْيـنَا أ َْمرا َما َأتْ ُخ ُذهُ َعلَى ِ‬ ‫َ‬ ‫فَـ َقال ْ‬
‫ال أَبُو‬ ‫ال أَِيب ُس ْفيَا َن ا ْهلَنَةَ َوا ْهلَنَةَ َوَما ادرى اكان ذلك حاليل أ َْم ال! فَـ َق َ‬ ‫ُصيب ِم ْن َم ِ‬ ‫اَّلل إِ ْن ُك ْن ُ ِ‬ ‫و َِّ‬
‫ت أل ُ‬ ‫َ‬
‫اَّلل ‪:‬‬ ‫ول َِّ‬ ‫ت ِم ْنهُ ِيف ِح ٍل‪ ،‬فَـ َق َ‬
‫ال َر ُس ُ‬ ‫ضى فَأَنْ ِ‬‫يما َم َ‬ ‫ول‪ :‬أ ََّما ما أ ِ ِ‬
‫َص ْبت ف َ‬ ‫َ َ‬ ‫اهدا لِ َما تَـ ُق ُ‬ ‫س ْفيا َن‪ -‬وَكا َن َش ِ‬
‫َُ َ‬
‫ني‪،‬‬‫ك! قَا َل‪َ :‬وال تَـ ْزنِ َ‬ ‫اَّللُ َع ْن َ‬‫ف َع َفا َّ‬ ‫ف َع َّما َسلَ َ‬ ‫ت عُ ْتـبَةَ‪ ،‬فَا ْع ُ‬ ‫َت‪ :‬أ ََان ِه ْن ُد بِْن ُ‬
‫ت عُ ْتـبَةَ! فَـ َقال ْ‬ ‫ك َهلِْن ُد بِْن ُ‬ ‫وإِنَّ ِ‬
‫َ‬
‫صغَارا‪َ ،‬وقَـتَـ ْلتَـ ُه ْم‬ ‫اهم ِ‬ ‫اَّلل‪َ ،‬ه ْل تَـ ْزِين ا ْحلَُّرةُ! قَ َ‬ ‫ول َِّ‬
‫َت‪ :‬قَ ْد َربَّـ ْيـنَ ُ ْ‬
‫ْن أ َْوال َد ُك َّن‪ ،‬قَال ْ‬
‫ال‪َ :‬وال تَـ ْقتُـل َ‬ ‫َت‪َ :‬اي َر ُس َ‬ ‫قَال ْ‬
‫اخلَطَّ ِ ِ ِ‬ ‫ض ِح َ‬ ‫يَـ ْو َم بَ ْد ٍر كِبَارا‪ ،‬فَأَنْ َ‬
‫ال‪َ :‬وال َأتْتِ َ‬
‫ني‬ ‫ب‪ .‬قَ َ‬ ‫استَـغْ َر َ‬
‫اب م ْن قَـ ْوهلَا َح َّىت ْ‬ ‫ك عُ َم ُر بْ ُن ْ‬ ‫ت َو ُه ْم أَ ْعلَ ُم! فَ َ‬
‫ني أَيْ ِدي ُك َّن َوأ َْر ُجلِ ُك َّن‪ ،‬قَال ْ‬
‫َت‪:‬‬ ‫بِبـ ْهتَ ٍ‬
‫ان تَـ ْف َِرتينَهُ بَ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫صينَ ِين ِيف معر ٍ‬ ‫ال‪ :‬وال تَـ ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫و َِّ‬
‫َت‪َ :‬ما َجلَ ْسنَا‬ ‫وف‪ ،‬قَال ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َّج ُاوِز أ َْمثَ ُل قَ َ َ‬‫ض الت َ‬ ‫يح‪َ ،‬ولَبَـ ْع ُ‬ ‫اَّلل إِ َّن إِتْـيَا َن الْبُـ ْهتَان لََقبِ ٌ‬ ‫َ‬
‫ك ِيف معر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وف‪ ،‬فبايعهن رسول ي صلى ي عليه وسلم‪.)237( ،‬‬ ‫س َوَْحن ُن نُ ِري ُد أَ ْن نَـ ْعصيَ َ َ ْ ُ‬ ‫َه َذا ال َْم ْجل َ‬
‫وسؤال هند بنت عتبة‪ :‬هل تزين احلرة؟» يدل على أنفة وعفة وطهارة‪ ،‬وتلك هي الفطرة السوية‬
‫اليت فطرهن ي عليها تعرف احلق‪ ،‬وتتجه للخري‪ .‬والفطرة حني تَ ْسلَم من العوارض املشوشة عليها‪،‬‬
‫والتأثريات املخدرة هلا وتسقط عنها احلوائل‪ ،‬فإهنا عندئذ تستقيم لرِبا وتعرف احلق‪ ،‬وتدعو إىل كل‬
‫ُخلق مجيل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬األخالق املكتسبة‪:‬‬
‫وهى األخالق اليت يكتسبها اإلنسان بعد تربية ومران عليها‪ ،‬فكما أن هناك أخالقا فطرية‪ ،‬كذلك‬
‫ممكان أي إنسان أن يكتسب بعض الفضائل واألخالق‪ ،‬وذلك ابلرتبية املقرتنة ابإلرادة والقيم‪،‬‬

‫) ـ تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب اآلملي‪ ،‬أبو جعفر الطبري (المتوفى‪310 :‬هـ)‪( ،‬صلة تاريخ‬ ‫‪237‬‬
‫(‬
‫الطبري لعريب بن سعد القرطبي‪ ،‬المتوفى‪369 :‬هـ)‪ ،‬الناشر‪ :‬دار التراث – بيروت‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬ج ‪ 3‬ص‬
‫‪.62‬‬

‫‪107‬‬
‫والناس يف ذلك متفاوتون مبدى سبقهم وارتقائهم يف سلم الفضائل كما أن كل إنسان عاقل يستطيع‬
‫مبا وهبه ي من استعداد عام أن يتعلم نسبة من العلوم‪ ،‬والفنون وأن يكتسب مقدارا ما من أي‬
‫مهارة عملية من املهارات‪.‬‬
‫وتفاوت االستعداد والطبائع ال ينايف وجود استعداد عام صاا الكتساب مقدار من الصفات اخللقية‪،‬‬
‫ويف حدود هذا االستعداد العام‪ ،‬وردت التكاليف الشرعية الرابنية العامة‪ ،‬مث ترتقي من بعده‬
‫مسؤوليات األفراد حبسب ما وهب ي كال منهم من فِطَر‪ ،‬وحبسب ما وهب كال منهم من استعدادات‬
‫خاصة‪ .‬ووفق هذا األساس‪ ،‬وضع اإلسالم قواعد الرتبية على األخالق الفاضلة‪.‬‬
‫اكتساب األخالق حيتاج إىل الرتبية األخالقية‬
‫إن وظيفة علم األخالق الكشف عن اخلري والشر‪ ،‬أو التعريف ِبما وبيان مواضعهما يف احلياة‬
‫والسلوك‪ ،‬لكن معرفة اإلنسان ابخلري والشر غري كافية لاللتزام ابألول وجتنب الثاين‪ .‬وقد يظن بعض‬
‫كاف لتجنبه‪ ،‬لكن هذا غري صحيح‬ ‫كاف لإلتيان به‪ ،‬والعلم ابلشر ٍ‬ ‫الناس خطأ أبن العلم ابخلري ٍ‬
‫فالعلم ابخلري غري ٍ‬
‫كاف إلتيانه‪ ،‬والعلم ابلشر غري كاف لتجنبه‪ ،‬ذلك أن بعض الناس يعرفون أضرار‬
‫بعض األفعال مثل‪ :‬مدمين املخدرات واخلمور والسجائر‪ ،‬فإهنم يعرفون ابليقني أضرارها عن طريق‬
‫التجربة ومعاانة ويالهتا‪ ،‬ومع ذلك ال يستطيعون تركها‪ ،‬وإن بعض الناس يعرفون خريية الفضائل‬
‫ومع ذلك ال يستطيعون فعلها‪ ،‬وذلك بسبب ضعف إرادهتم أو لعدم قدرهتم على مقاومة أهوائهم‬
‫أو لعدم استطاعتهم مواجهة الصعوابت اليت ال بد من اجتيازها ليكون اإلنسان فاضال ِ‬
‫خريا‪.‬‬
‫ومن هنا ابت من املهم الكتساب األخالق ضرورة الرتبية األخالقية اليت مهمتها األوىل تنشاة األجيال‬
‫على السلوك احلسن‪ ،‬واآلداب االجتماعية النبيلة‪ ،‬وبناء قوة اإلرادة‪ ،‬وبناء الروح ِ‬
‫اخلرية القوية‬
‫الدافعة إىل اخلري‪ ،‬مث تكوين قناعة عقلية علمية بتلك القيم عن علم وبصرية‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬األخالق روح تسري يف كل جوانب اإلسالم‪:‬‬
‫األخالق يف احلقيقة ليست ‪ -‬فقط ‪ -‬جزءا من نظام اإلسالم العام‪ ،‬بل إن األخالق هي جوهر‬
‫اإلسالم وروحه السارية يف مجيع جوانبه‪ ،‬ويتضح ذلك من قول الرسول الكرمي صلى ي عليه وسلم‪:‬‬

‫‪108‬‬
‫"إمنا بعثت ألمتم صاا األخالق"(‪ ،)238‬وما ذلك إال ألن األخالق روح تسري ِف كل جوانب الدين‬
‫ْت‬
‫ال‪َ :‬سأَل ُ‬ ‫ي‪ ،‬قَ َ‬ ‫صا ِر َّ‬
‫اس بْ َن َطْ َعا َن ْاألَنْ َ‬
‫َّو َ‬
‫وأحكامه وتكليفاته‪ ،‬ويصدق ذلك أيضا ما روي عن النـ َّ‬
‫ك‬‫اك ِيف نَـ ْف ِس َ‬
‫اخلُلُ ِق‪َ ،‬وا ِْإل ْمثُ َما َح َ‬ ‫ال‪« :‬الِ ا‬
‫ْرب ُح ْس ُن ْ‬ ‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم َع ِن الِ ِ‬
‫ْرب َو ِْ‬
‫اإل ِْمث؟ قَ َ‬ ‫ول َِّ‬
‫اَّلل َ‬ ‫َر ُس َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َوَك ِرْه َ‬
‫َّاس»(‪ ،)239‬وكانت أم املؤمنني عائشة تفهم هذا املعىن من دين اإلسالم‪،‬‬ ‫ت أَ ْن يَطل َع َعلَْيه الن ُ‬
‫وهلذا فهي عندما سالت عن أخالق النيب الكرمي قالت‪" :‬كان خلقه القرآن" (‪ ،)240‬يؤيد ذلك أيضا‬
‫احلديث الشريف‪" :‬إن أحسن الناس ُخلُقا أحسنهم دينا" واحلديث الشريف‪" :‬اإلسالم ُح ْسن اخلُلق"‬
‫(‪.)241‬‬
‫واحلديث الشريف‪" :‬ما من شيء أثقل يف امليزان من خلق حسن" (‪،)242‬‬
‫ك َلعلَى ُخلُ ٍق َع ِظ ٍيم "(‪ )243‬أي‪ :‬على دين‬
‫وجاء يف تفسري القرطيب وابن كثري يف اآلية الكرمية‪َ " :‬وإنَّ َ‬
‫فيه أخالق عظيمة وألن الدين عبارة عن واجبات حنو ي تعاىل وحنو اإلنسان نفسه وغريه‪ ،‬وواجباته‬
‫حنو املخلوقات احلية األخرى‪ ،‬وإذا علمنا أن ي مل يصف أحدا من األنبياء ابخللق العظيم وإمنا‬
‫وصفهم أبوصاف مثل‪ :‬رشيد وصاا وحليم وما إىل ذلك‪ ،‬إال حممدا صلى ي عليه وسلم‪ ،‬علمنا‬
‫أن األخالق مل تتم فعال إال ببعثة نبينا حممد صلى ي عليه وسلم‪.‬‬
‫ومن عظمة هذه األخالق أهنا تسري ِف كل جوانب الدين‪ ،‬ومن هذه اجلوانب‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ جانب العقيدة‪ ،‬وتسري األخالق ِف جانب العقيدة من خالل الربط بينهما‪ ،‬ويؤكد هذا الربط‪،‬‬
‫أحاديث شريفة عن النيب الكرمي يف الصلة بني اإلميان واألخالق‪" :‬أكمل املؤمنني إمياان أحسنهم‬

‫) ـ سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪238‬‬


‫(‬

‫) ـ الكتاب المصنف في األحاديث واآلثار‪ ،‬أبو بكر بن أبي شيبة‪ ،‬عبد هللا بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي‬ ‫‪239‬‬
‫(‬
‫العبسي (المتوفى‪235 :‬هـ)‪ ،‬المحقق‪ :‬كمال يوسف الحوت‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة الرشد – الرياض الطبعة‪ :‬األولى‪ ،1409 ،‬حديث‬
‫رقم ‪ ،25335‬ج ‪ 5‬ص ‪212‬‬
‫) ـ صحيح مسلم تحقيق عبد الباقي جـ ‪ 1‬ص ‪ ،513-512‬كتاب صالة المسافرين‪.‬‬ ‫‪240‬‬
‫(‬

‫) ـ منتخب كنز العمال في هامش مسند اإلمام أحمد جـ ‪ 1‬ص ‪ - 132‬كتاب األدب المفرد للبخاري ص ‪.81‬‬ ‫‪241‬‬
‫(‬

‫) ـ مختصر شرح وتهذيب سنن أبي داود‪ ،‬باب حسن الخلق جـ ‪ 7‬ص ‪.172‬‬ ‫‪242‬‬
‫(‬

‫) ـ القلم آية رقم ‪.4‬‬ ‫‪243‬‬


‫(‬

‫‪109‬‬
‫أخالقا"‪ ،‬وقال‪" :‬ال يؤمن أحدكم حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه" (‪ ،)244‬وقال أيضا‪" :‬من كان‬
‫يؤمن ابهلل واليوم اآلخر فال ِ‬
‫يؤذ جاره‪ ،‬ومن كان يؤمن ابهلل واليوم اآلخر فليقل خريا أو‬
‫ليصمت"(‪.)245‬‬
‫ْرب أَ ْن تُـ َولاوا ُو ُج َ‬
‫وه ُك ْم‬ ‫س الِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مث إن اإلسالم عد اإلميان برا‪ ،‬والرب من فضائل األخالق‪ ،‬فقال تعاىل‪{ :‬ل َْي َ‬
‫َّلل والْيـوِم ِ‬
‫اآلخ ِر والْمالئِ َك ِة وال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني} (‪.)246‬‬ ‫اب َوالنَّبِيِ َ‬ ‫ْكتَ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫آم َن ِاب َّ َ َ ْ‬ ‫َك َّن الِ َّ‬
‫ْرب َم ْن َ‬ ‫قبَ َل ال َْم ْش ِرق َوال َْمغْ ِر ِ َ‬
‫وقد بني الرسول الكرمي أن من مل يتخلق ابألخالق احلسنة ال يقبل ي منه اإلميان والدين‪ ،‬فقال‪" :‬ال‬
‫إميان ملن ال أمانة له‪ ،‬وال دين ملن ال عهد له" (‪.)247‬‬
‫‪ 2‬ـ جانب العبادة‪ ،‬واملدقق جيد أيضا أن األخالق ماثلة يف مجيع العبادات‪ ،‬ففي الصالة أييت الرابط‬
‫َذ ْكر َِّ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الوثيق بينها وبني األخالق يف قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫اَّلل أَ ْك َُ‬
‫رب‬ ‫الصالةَ تَـ ْنـ َهى َع ِن الْ َف ْح َشاء َوال ُْم ْن َك ِر َول ُ‬
‫وبني النيب الكرمي أن من مل يتخلق ابلفضائل ال يقبل ي منه الصوم‪،‬‬ ‫صنَـعُو َن} (‪َّ ،)248‬‬ ‫َو َّ‬
‫اَّللُ يَـ ْعلَ ُم َما تَ ْ‬
‫فقال‪" :‬من مل يدع قول الزور والعمل به فليس هلل حاجة يف أن يدع طعامه وشرابه"(‪ ،)249‬وقال تعاىل‬
‫سو َق َوال ِج َد َ‬
‫ال ِيف ا ْحلَ ِج َوَما‬ ‫ث َوال فُ ُ‬ ‫ض فِي ِه َّن ا ْحلَ َّج فَال َرفَ َ‬‫ات فَ َم ْن فَـ َر َ‬
‫وم ٌ‬ ‫يف احلج‪{ :‬ا ْحلَ اج أَ ْش ُه ٌر َم ْعلُ َ‬
‫اب} (‪ ،)250‬وقال أيضا‬ ‫الز ِاد التَّـ ْقوى واتَّـ ُق ِ‬
‫ون َاي أ ُْوِيل األَلْبَ ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ري َّ‬ ‫ِ‬ ‫تَـ ْف َعلُوا ِم ْن َخ ٍْري يَـ ْعلَ ْمهُ َّ‬
‫اَّللُ َوتَـ َزَّو ُدوا فَإ َّن َخ ْ َ‬
‫َك ْن يَـنَالُهُ التَّـ ْق َوى ِم ْن ُك ْم}(‪ ،)251‬وقال يف الزكاة‪:‬‬ ‫اَّلل ُحلومها وال ِدما ُؤ َها ول ِ‬
‫َ‬ ‫ال ََّ ُ ُ َ َ َ‬ ‫َن يَـنَ َ‬
‫يف األضحية‪{ :‬ل ْ‬

‫) ـ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ ص ‪ 10‬كتاب اإليمان‪.‬‬ ‫‪244‬‬


‫(‬

‫) ـ المرجع السابق جـ ‪ 1‬ص ‪.10‬‬ ‫‪245‬‬


‫(‬

‫) ـ سورة البقرة آية‪.177 :‬‬ ‫‪246‬‬


‫(‬

‫) ـ الجامع الصحيح الصغير لإلمام السيوطي جـ‪ 2‬ص ‪.198‬‬ ‫‪247‬‬


‫(‬

‫(‪ ) 248‬ـ سورة العنكبوت آية‪ ،45 :‬وقال في حديث قدسي‪" :‬إنما أتقبل الصالة ممن تواضع لعظمتي وكف شهواته عن محارمي‪...‬‬
‫" األحاديث القدسية‪ ،‬ص‪.30‬‬

‫) ـ رواه الخمسة إال مسلما‪ ،‬التاج ج‪ 2‬ص‪.61‬‬ ‫‪249‬‬


‫(‬

‫) ـ سورة البقرة آية‪.197 :‬‬ ‫‪250‬‬


‫(‬

‫) ـ سورة الحج آية‪.37 :‬‬ ‫‪251‬‬


‫(‬

‫‪110‬‬
‫ص َدقَة تُطَ ِه ُرُه ْم َوتُـ َزكِي ِه ْم ِِبَا} (‪ ،)252‬وقد ذكر لرسول ي عليه الصالة والسالم مرة‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫{ ُخ ْذ م ْن أ َْم َواهل ْم َ‬
‫أن فالنة تكثر من صالهتا وصدقتها وصيامها غري أهنا تؤذي جرياهنا بلساهنا‪ ،‬قال‪ :‬هي يف النار"‬
‫(‪.)253‬‬
‫‪ 3‬ـ جانب املعامالت‪ ،‬وال شك أن روح األخالق يف املعاملة العامة بني الناس يف جانب الشريعة‬
‫اإلسالمية جندها بصورة أوضح‪ ،‬ويؤكد ذلك على سبيل املثال الربط بني اإلجرام األخالقي وحياة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الشقاء‪ ،‬والصالح األخالقى واحلياة الطيبة ِف قوله تعاىل‪{ " :‬إنَّهُ َم ْن َأيْت َربَّهُ ُْجم ِرما فَإ َّن لَهُ َج َهن َ‬
‫َّم ال‬
‫َّات َع ْد ٍن‬
‫ات الْعُال‪َ ،‬جن ُ‬ ‫ك َهلُ ُم َّ‬
‫الد َر َج ُ‬ ‫ات فَأ ُْولَاِ َ‬ ‫وت فِيها وال َْحييا‪ ،‬ومن أيْتِِه م ْؤِمنا قَ ْد َع ِمل َّ ِ‬
‫احل ِ‬
‫الص َ‬ ‫َ‬ ‫َميُ ُ َ َ َ َ َ ْ َ ُ‬
‫ين فِ َيها َو َذلِ َ‬
‫ك َج َزاءُ َم ْن تَـ َزَّكى} (‪.)254‬‬ ‫َجتْ ِري ِمن َحتْتِها األ َْهنَ ِ ِ‬
‫ار َخالد َ‬
‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫وإذا كانت أحكام املعامالت بني الناس تتضمن معاين أخالقية‪ ،‬فإن اإلسالم يذهب إىل أبعد من‬
‫ذلك‪ ،‬حيث يوصي بتلك املعاين األخالقية حىت يف التعامل مع احليوان‪ ،‬ويف مقابل تسخري ي عز‬
‫وجل احليوان لإلنسان يقرر ي سبحانه للحيوان رعاية أخالقية‪ ،‬ويشري إىل ذلك ما أكده الرسول‬
‫الكرمي من "أن امرأة دخلت النار يف هرة حبستها‪ ،‬ال هي أطعمتها وال سقتها‪ ،‬وال هي تركتها أتكل‬
‫من خشار األرض" (‪ ،)255‬ويف احلديث الشريف‪ ":‬كنا مع رسول ي يف سفر فانطلقت حلاجيت‬
‫فرأيت ْرة "عصفورة" معها فرخان‪ ،‬فأخذت فرخيها فجاءت احلمرة فجعلت تعرض "تغرد حزان"‬
‫فجاء النيب فقال‪" :‬من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها" (‪ .)256‬وعموما فقد أاثر القرآن هذا‬
‫ِ ِ‬ ‫{وَما ِم ْن َدابٍَّة ِيف األ َْر ِ‬
‫ض َوال طَائ ٍر يَط ُ‬
‫ري‬ ‫التعاطف والرتاحم بني اإلنسان والكائنات احلية مجيعا يف قوله‪َ :‬‬
‫اح ْي ِه إِالَّ أ َُم ٌم أ َْمثَالُ ُك ْم}‪.‬‬ ‫ِ‬
‫جبَنَ َ‬

‫) ـ سورة التوبة آية‪.103 :‬‬ ‫‪252‬‬


‫(‬

‫) ـ الترغيب والترهيب ج‪ 3‬ص‪ ،356‬قال الحاكم‪ :‬صحيح اإلسناد‪.‬‬ ‫‪253‬‬


‫(‬

‫) ـ سورة طه آيات ‪76-74‬‬ ‫‪254‬‬


‫(‬

‫) ـ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج‪ 3‬ص‪.201‬‬ ‫‪255‬‬


‫(‬

‫) ـ التاج ج‪ 5‬ص‪ ،19-18‬كتاب األخالق‪.‬‬ ‫‪256‬‬


‫(‬

‫‪111‬‬
‫وهكذا جند أن اإلسالم قد ربط بني جوانب اإلسالم برابط أخالقي لتحقيق غاية أخالقية‪ ،‬وقد وصل‬
‫إىل هذا الفهم "أكثم بن صيفي" أحد حكماء العرب الذي قال عندما دعا قومه إىل اإلسالم‪" :‬إن‬
‫الذي يدعو إليه حممد لو مل يكن دينا لكان يف أخالق الناس حسنا"‪ .‬وبعد هذا كله ال نبالو إذا قلنا‪:‬‬
‫إن األخالق يف اإلسالم ابملفهوم السابق هي روح الرسالة اإلسالمية‪ ،‬وإن النظام اإلسالمي التشريعي‬
‫يعد صورة جمسمة هلذه الروح‪.‬‬

‫مناذج من األخالق‪:‬‬
‫ض ٌع َو ِستاو َن‬
‫ال «ا ِإلميَا ُن بِ ْ‬ ‫النيب الكرمي صلى ي عل ِيه وسلم قَ َ‬ ‫• احلياء‪ :‬جاء يف فضائله‪ :‬عن ِ‬
‫ُش ْعبة‪ ،‬واحلياء ُش ْعبةٌ ِمن ا ِإلميَ ِ‬
‫ان»(‪ ،)257‬واحلديث الشريف‪« :‬احلَيَاءُ الَ َأيِْيت إَِّال ِخبَ ٍْري»‪،‬‬ ‫َ َ ََ ُ َ َ‬
‫ومن عالماته‪ :‬ترك الفضول‪ ,‬والتعفف عن السوء قوال وفعال‪ ,‬ومالزمة األخيار‪.‬‬
‫ومن آاثره‪ :‬حمبة اخللق‪ ,‬وطالقة الوجه ونوره‪ ,‬وتيسري أموره يف شؤون احلياة‪.‬‬
‫• الصدق‪:‬‬

‫ْرب يَـ ْه ِدي إِ َىل ا ْجلَن َِّة‪َ ،‬وإِ َّن َّ‬


‫الر ُج َل‬ ‫الص ْد َق يَـ ْه ِدي إِ َىل الِ ِ‬
‫ْرب‪َ ،‬وإِ َّن الِ َّ‬ ‫جاء يف فضله‪ :‬احلديث الشريف «إِ َّن ِ‬
‫ور يَـ ْه ِدي إِ َىل النَّا ِر‪َ ،‬وإِ َّن‬ ‫ِ‬
‫ب يَـ ْهدي إِ َىل الْ ُف ُجوِر‪َ ،‬وإِ َّن الْ ُف ُج َ‬
‫ِ‬ ‫ص ُد ُق ح َّىت ي ْكتَ ِ ِ‬
‫ب صديقا‪َ ،‬وإِ َّن الْ َكذ َ‬ ‫لَيَ ْ َ ُ َ‬
‫ب َك َّذااب» (‪.)258‬‬ ‫ِ‬
‫ب َح َّىت يُ ْكتَ َ‬
‫الر ُج َل لَيَ ْكذ ُ‬
‫َّ‬
‫والصدق يكون يف القول كاألمانة يف نقل القول‪ ,‬وإحقاق الشهادة‪ ,‬والوفاء ابلعهود‪.‬‬
‫واإلتقان والقيام بواجب اآلخرين جتاهه‬ ‫وكما يكون يف القول يكون يف العمل فيؤدي إىل اإلخال‬
‫ومن آاثره‪ :‬حمبة الناس والثقة به‪ ,‬وقد يقع الصادق يف ابتالءات الدمهاء وأهل السوء‪ ,‬ومبغضي احلق‪,‬‬
‫عندئذ سيفتح له ابب آخر من فضائل األخالق وهو الصرب على أذى الناس‪.‬‬

‫) ـ صحيح البخاري‬ ‫‪257‬‬


‫(‬
‫) ـ صحيح مسلم حديث رقم ‪.2607‬‬ ‫‪258‬‬
‫(‬

‫‪112‬‬
‫ومن فروع هذا اخللق العايل خلق األمانة‪ ,‬وتكون يف نقل األقوال وحفظ األموال واألسرار‬
‫واألعراض‪,‬وصدق املعاملة يف شؤون احلياة كاملعامالت املالية‪ ,‬وأداء ما عليه من حقوق لآلخرين‪,‬‬
‫وحتمل الشهادة وأدائها على وجه الصدق‪ ,‬وحفظ اجلوارح من الرذائل والتحلي ِبا مع الفضائل‪,‬‬
‫وِبذا تتداخل األمانة مع الصدق واحلياء والصرب‪.‬‬
‫• الصرب‪:‬‬
‫وهو حبس النفس على ما تكره‪ ،‬وفضائله عظيمة‪ ,‬فالرب جل جالله جعل ثواب الصرب غري‬
‫َجرُه ْم بِغَ ِْري ِحس ٍ‬
‫اب)(‪،)259‬‬ ‫حمدود وإمنا أوكله إىل سعة جوده وعظيم كرمه (إِ َّمنَا يُـوِف َّ ِ‬
‫َ‬ ‫الصاب ُرو َن أ ْ َ‬ ‫َ‬
‫الص ْرب ِ‬
‫ضيَاءٌ "(‪ .)260‬ويف‬ ‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم أَنَّهُ قَ َ‬
‫صلَّى َّ‬ ‫وعن أَِيب مالِ ٍ‬
‫ك ْاألَ ْش َع ِر ِي‪َ ،‬ع ِن النِ ِ‬
‫ال‪ُ َّ " :‬‬ ‫َّيب َ‬ ‫َ‬
‫وأوسع من الصرب"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫احلديث الشريف كذلك "وما أعطي أح ٌد عطاء خريا‬
‫• الوفاء‪:‬‬
‫وتتصدر هذه اخلصلة اخللقية العليا سورة املائدة‪( :‬اي أَيـاهَا َّال ِذين آَمنُوا أَوفُوا ِابلْعُقُ ِ‬
‫ود)(‪ .)261‬الوفاء‬ ‫َّ‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫مرتبط بفضيلة الصدق‪ ,‬فمن أوِف فقد صدق‪ ,‬ومن كان صادقا فقد أوِف‪ .‬والوفاء من أفعال الرب‬
‫اليت ذكرها يف كتابه اجمليد‪( ،‬ومن أوِف بعهده من ي)(‪.)262‬‬

‫) ـ الزمر األية رقم ‪.10‬‬ ‫(‬


‫‪259‬‬

‫الخ ْس َرْو ِجردي الخراساني‪ ،‬أبو بكر البيهقي (المتوفى‪458 :‬هـ)‪،‬‬


‫( ) ـ شعب اإليمان‪ ،‬أحمد بن الحسين بن علي بن موسى ُ‬
‫‪260‬‬

‫حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه‪ :‬الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد‪ ،‬أشرف على تحقيقه وتخريج أحاديثه‪ :‬مختار أحمد‬
‫الندوي‪ ،‬صاحب الدار السلفية ببومباي – الهند‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي‬
‫بالهند‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪ 1423 ،‬هـ ‪ 2003 -‬م‪ ،‬ج ‪ 5‬ص ‪ 195‬باب الصيام‪ ،‬حديث رقم ‪3296‬‬
‫) ـ المائدة آية رقم ‪.1‬‬ ‫(‬
‫‪261‬‬

‫) ـ التوبة‪ ،‬األية رقم ‪.111‬‬ ‫(‬


‫‪262‬‬

‫‪113‬‬
‫النظام االقتصادي يف اإلسالم‬
‫د‪ .‬باسم عامر‬

‫حيتل اجلانب االقتصادي موقعا مهما يف حياة الناس املعاصرة‪ ،‬حبيث ال ميكن تصور وجود جمتمع‬
‫أو أمة من األمم من غري نظام اقتصادي له خلفية فكرية وقوانني تنظم حياة الناس االقتصادية‪ ،‬لذا‬
‫اجتهد البشر منذ القدمي يف إجياد نظم اقتصادية خمتلفة حبسب كل مكان وزمان‪.‬‬
‫وعند احلديث عن اإلسالم ونظمه وشرائعه فإنه ال ميكن فصل اجلانب االقتصادي عن هذا‬
‫الدين‪ ،‬ألن اإلسالم بطبيعته تناول اجلانب االقتصادي يف مصادره الرئيسة‪ ،‬وكذلك تناول الفقهاء‬
‫على مر العصور من خالل اجتهاداهتم واستنباطاهتم أحكاما كثرية تندرج يف اجلانب االقتصادي‪.‬‬
‫لذا فإن الفهم الصحيح لإلسالم يؤكد أبن هذا الدين قد آلل اجلانب االقتصادي تنظيما وهتذيبا‬
‫لكي يكون صاحلا للتطبيق يف حياة الناس كافة‪ ،‬وميكن القول أبن هناك نظاما اقتصاداي إسالميا يتفوق‬
‫على مجيع األنظمة االقتصادية إذا مت تطبيقه تطبيقا صحيحا من قبل أانس مؤمنني به‪.‬‬

‫مفهوم النظام االقتصادي اإلسالمي‪:‬‬


‫تعريف علم االقتصاد‪:‬‬
‫من التعريفات املهمة واملتداولة لعلم االقتصاد ما ذكره آدم طيث مؤسس علم االقتصاد احلديث‬
‫عرفه أبنه‪" :‬علم الثروة الذي خيتص بدراسة‬
‫وامللقب بـ (أبو االقتصاد) يف كتابه ثروة األمم‪ ،‬حيث َّ‬
‫وسائل اغتناء األمم‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ومن التعريفات املهمة أيضا تعريف ليونل روبنز‪ ،‬حيث قال أبن علم االقتصاد‪ " :‬هو الذي‬
‫يدرس سلوك اإلنسان إزاء حاجاته املتعددة ووسائله احملدودة ذات االستعماالت املتنوعة"‪.‬‬
‫مفهوم علم االقتصاد اإلسالمي‪:‬‬
‫ميكن تعريف االقتصاد اإلسالمي كعلم مركب من كلمتني‪ ،‬أبنه‪ :‬علم دراسة وحتليل سلوك الفرد‬
‫واجملتمع جتاه املوارد اإلنتاجية من أجل حتقيق الرفاهة يف إطار التعاليم الشرعية‪.‬‬
‫املشكلة االقتصادية‪:‬‬
‫يذكر علماء االقتصاد أن علم االقتصاد ما وجد إال ليواجه (املشكلة االقتصادية) أو ما يطلق‬
‫عليها كذلك (مشكلة الندرة)‪ ،‬فاملشكلة االقتصادية هي القضية األساسية اليت تشغل النظم‬
‫االقتصادية مجيعها‪.‬‬
‫فما حقيقة املشكلة االقتصادية ؟ وما موقف اإلسالم منها ؟‬
‫تتلخص هذه املشكلة من الناحية االقتصادية يف أن حاجات اإلنسان املتنوعة أكثر من املوارد‬
‫املوجودة يف هذا الكون‪ ،‬ففي احملصلة ‪-‬حبسب هذه النظرية‪ -‬سنكون يف مواجهة مشكلة حمدودية‬
‫املوارد مع تزايد حاجات اإلنسان وتنوعها‪.‬‬
‫ومن التفسريات الغربية هلذه املشكلة نظرية مالثوس يف السكان‪ ،‬حيث ذكر أبن سبب املشكلة‬
‫هو أن السكان يزدادون زايدة متوالية هندسية (‪ ،)16,8,4,2,1‬بينما الغذاء يزداد زايدة متوالية‬
‫عددية (‪ ،)5,4,3,2,1‬مبعىن أن منو السكان يفوق منو الغذاء‪ ،‬وابلتايل ال بد من حدوث فجوة‬
‫بني السكان واملوارد الغذائية‪ ،‬وهذه الفجوة تزداد مع مرور الزمن‪ ،‬أما احلل فبحسب نظرية مالثوس‬
‫يكمن يف اإلقالل من التزايد السكاين عن طريق تقليل املواليد ابلعزوف عن الزواج أو أتخريه‪ ،‬أو‬
‫الرتحيب ابحلروب والكوارث الطبيعية حيث تساعد على تقليل التزايد السكاين‪.‬‬
‫ويذهب الفكر االقتصادي االشرتاكي إىل أن سبب املشكلة االقتصادية هو التناقض بني شكل‬
‫اإلنتاج وعالقات التوزيع السائدة‪ ،‬وأن احلل هلذا التناقض الواقع بني اإلنتاج والتوزيع املوجود يف‬
‫الرأطالية يكمن يف قيام االقتصاد االشرتاكي‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫أما موقف النظام االقتصادي اإلسالمي من املشكلة االقتصادية فريى بعض الباحثني عدم اإلقرار‬
‫بوجود املشكلة االقتصادية يف االقتصاد اإلسالمي ألسباب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫إن فكرة املشكلة االقتصادية نشأت يف األصل يف الفكر الغريب الرأطايل‪ ،‬ومعلوم أن‬ ‫‪-1‬‬
‫مبادئ الرأطالية خمتلفة عن مبادئ االقتصاد اإلسالمي‪ ،‬وابلتايل فإن نتائج الرأطالية خمتلفة عن نتائج‬
‫االقتصاد اإلسالمي‪.‬‬
‫إن اإلقرار بوجود املشكلة االقتصادية يتناِف مع سنة ي ‪ ‬يف الكون من وجود وفرة‬ ‫‪-2‬‬
‫آات ُكم ِمن ُك ِل َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(وَاب َر َك ف َيها َوقَ َّد َر في َها أَقـ َْو َاهتَا) وقوله ‪َ :‬‬
‫(و َ‬
‫‪263‬‬
‫يف املوارد والرزق‪ ،‬كقوله ‪َ :‬‬
‫وها)‪.264‬‬ ‫سأَلْتموهُ وإِن تَـع ادواْ نِعم َ ِ‬
‫ص َ‬
‫ت اَّلل الَ ُحتْ ُ‬ ‫َ ُُ َ ُ ْ َ‬
‫إنه قد يرتتب على االعتقاد بوجود املشكلة االقتصادية اتباع نفس سياسات النظام‬ ‫‪-3‬‬
‫االقتصادي الرأطايل‪.‬‬

‫ويرى آخرون أبن املشكلة االقتصادية مشكلة حقيقية وأهنا موجودة على أرض الواقع‪ ،‬وأن‬
‫مردَّها يرجع إىل قلة املوارد الطبيعية‪ ،‬ألن الندرة هي األصل‪ ،‬والوفرة إن وجدت فهي جمرد ظاهرة‬
‫استثنائية وليست عامة‪ ،‬وهذه الوفرة ال توجد إال يف اجلنة‪ ،‬حيث أشار ي ‪ ‬إىل ذلك حينما أسكن‬
‫آدم ‪ ‬اجلنة قال له‪( :‬إن لك أال جتوع فيها وال تعرى وأنك ال تظمؤا فيها وال تضحى)‪ ،265‬فدل‬
‫ذلك على أن اجلوع والعري والظمأ من لوازم الدنيا‪.‬‬
‫ولعل القول الراجح حول حقيقة وجود املشكلة االقتصادية هو القول أبن ي ‪َّ ‬بني لنا يف‬
‫كتابه وفرة املوارد الطبيعية وكفاية األرزاق لكافة اخلالئق‪ ،‬وأنه ‪ ‬سخَّرها للعباد وذلَّلها هلم‪ ،‬قال‬
‫السم ِاء ماء فَأَ ْخرج به ِمن الثَّمر ِ‬ ‫ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫ي ‪ِ َّ :‬‬
‫ات ِر ْزقا لَ ُك ْم‬ ‫َ ََ‬ ‫ََ‬ ‫ض َوأَنْـ َز َل م َن َّ َ َ‬ ‫ات َو ْاأل َْر َ‬ ‫(اَّللُ الَّذي َخلَ َق َّ َ َ‬
‫الش ْمس َوالْ َق َم َر َدائِبَ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وسخَّر لَ ُكم الْ ُفل َ ِ‬
‫ني‬ ‫َّر لَ ُك ُم َّ َ‬ ‫ي ِيف الْبَ ْح ِر ِأب َْم ِره َو َسخ َ‬
‫َّر لَ ُك ُم ْاأل َْهنَ َ‬
‫ار َو َسخ َ‬ ‫ْك لتَ ْج ِر َ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫اإلنْ َسا َن‬‫وها إِ َّن ِْ‬ ‫وسخَّر لَ ُكم اللَّيل والنـَّهار وآ ََات ُكم ِمن ُك ِل ما سأَلْتموهُ وإِ ْن تَـع ادوا نِعمةَ َِّ‬
‫ص َ‬
‫اَّلل َال ُحتْ ُ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ُُ َ ُ ْ َ‬

‫‪ 263‬سورة فصلت‪.10/‬‬
‫‪ 264‬سورة إبراهيم‪.34 /‬‬
‫‪ 265‬سورة طه (‪.)119 ،118‬‬

‫‪116‬‬
‫واسي وأَنْـبـ ْتنا فِيها ِمن ُك ِل َشي ٍء موُز ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ‪266‬‬
‫ون‬ ‫ْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫ض َم َد ْدانها َوأَلْ َق ْينا فيها َر َ َ َ‬ ‫(و ْاأل َْر َ‬
‫ار) ‪ ،‬وقال ‪َ :‬‬ ‫وم َكف ٌ‬‫لَظَلُ ٌ‬
‫ني َوإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء إِالَّ ِع ْن َدان َخزائِنُهُ َوما نُـنَـ ِزلُهُ إِالَّ بَِق َد ٍر‬‫ِ‬
‫َستُ ْم لَهُ بِرا ِزق َ‬
‫ِ‬
‫َو َج َعلْنا لَ ُك ْم فيها َمعايِ َ‬
‫ش َوَم ْن ل ْ‬
‫وم)‪ ،267‬وغري ذلك من اآلايت الدالة على وفرة األرزاق واألقوات‪.‬‬ ‫معلُ ٍ‬
‫َْ‬
‫إال أن حصول املشكلة االقتصادية أو وجود ظاهرة الندرة ‪-‬فيما يبدو للناس ويف بعض‬
‫األوقات‪ -‬يرجع إىل عدة عوامل وأسباب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫عجز اإلنسان عن االستفادة من هذا الكون الذي سخَّره ي ‪ ،‬إما لقصور آلته‬ ‫‪-1‬‬
‫اليت يستخدمها يف استخراج خريات األرض‪ ،‬أو قصور علمه عن إدراك سبل االستفادة من هذا‬
‫الكون‪.‬‬
‫ميل اإلنسان إىل الكسل والدعة والراحة‪ ،‬وإيثارها على العمل واحلركة والكسب‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫السياسات االقتصادية اليت تنتهجها بعض الدول يف إتالف بعض حمصوالهتا من أجل‬ ‫‪-3‬‬
‫احملافظة على األسعار املرتفعة‪.‬‬
‫االحتكارات اليت ميارسها بعض التجار وأصحاب رؤوس األموال ألنواع من املنتجات‬ ‫‪-4‬‬
‫بغية رفع أسعار هذه املنتجات‪.‬‬
‫عدم قيام كثري من الدول مبسؤولياهتا االقتصادية يف اإلنتاج واالستهالك‪ ،‬فمن جهة ال‬ ‫‪-5‬‬
‫تتبع هذه الدول أسلوب ترشيد اإلنتاج حبيث يؤدي إىل إشباع احلاجات األساسية‪ ،‬بل قد تقوم بعض‬
‫قطاعات اإلنتاج منتاج السلع الضارة واحملرمة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن بعض هذه الدول ال تسعى إىل‬
‫ترشيد االستهالك‪ ،‬فتظهر مظاهر اإلسراف والتبذير والرتف‪.‬‬
‫إىل غري ذلك من العوامل واألسباب اليت يتسبب اإلنسان فيها بسلوكه وتصرفاته فتحصل مثل‬
‫هذه املشكلة‪.‬‬
‫أهداف النظام االقتصادي اإلسالمي‪:‬‬

‫‪ 266‬سورة إبراهيم (‪.)34 ،32‬‬


‫‪ 267‬سورة احلجر (‪.)21 ،19‬‬

‫‪117‬‬
‫النظام االقتصادي اإلسالمي كغريه من النظم االقتصادية له أهداف يسعى إىل حتقيقها‪ ،‬ومن‬
‫خالل النظر يف املنظومة التشريعية لالقتصاد اإلسالمي ميكن إمجال أهداف النظام االقتصادي‬
‫اإلسالمي فيما أييت‪:‬‬
‫أوال‪ :‬حتقيق النمو االقتصادي‪:‬‬
‫يتم حتقيق هذا اهلدف عن طريق استثمار رأس املال يف أي عمل من األعمال املشروعة اليت حتقق‬
‫التنمية‪ ،‬وزايدته عن طريق زايدة استثمار األفراد واجلماعة جلميع ما ميكن استثماره من األموال‬
‫(املدخرات)‪ ،‬وعدم تعطيلها عن االستثمار‪ ،‬لذلك حرم اإلسالم اكتناز األموال وتعطيلها عن اإلنتاج‪،‬‬
‫وهذا التحرمي ليس على األفراد فحسب‪ ،‬بل على الدولة أيضا‪ ،‬فإن التطبيق العملي يف عهد النيب‬
‫‪ ‬واخللفاء الراشدين يظهر لنا أن الدولة كانت ال تعطل األموال املتحصلة لديها‪ ،‬بل تستثمرها يف‬
‫نشاطات خمتلفة‪ ،‬وكانت توزع هذه األموال على الناس أبشكال متعددة بغية استثمارها‪ ،‬فرؤوس‬
‫األموال توزع‪:‬‬
‫‪ -١‬إما على شكل مزارعات‪ ،‬حيث تكون الدولة شريكا يف الناتج‪.‬‬
‫‪ -٢‬وإما على شكل إقطاعات‪ ،‬حيث تعطي الدولة األراضي لألفراد بغية استثمارها‪ ،‬فقد‬
‫أقطع رسول ي ‪ ‬بالل بن احلارث املزين ‪ ‬أرضا‪ ،‬فلما كان عمر بن اخلطاب ترك يف يده منها‬
‫وعبد ي بن مسعود‬ ‫ما يعمره وأقطع غريه‪ ،‬وكذلك أقطع عمر بن اخلطاب ‪ ‬سعد بن أيب وقا‬
‫وأسامة بن زيد والزبري رضي ي عنهم‪.‬‬
‫‪ -٣‬وإما على شكل عطاءات‪ ،‬حيث تعطي الدولة األفراد عطاءات من بيت املال‪ ،‬كما فعل‬
‫أبو بكر الصديق ‪ ‬حينما سوى بني الناس يف العطاء‪ ،‬وسار علي بن أيب طالب ‪ ‬على سنته‪،‬‬
‫وأما عمر بن اخلطاب ‪ ‬فقد فاضل يف العطاء بني الناس‪ ،‬فقدم آل بيت النيب وزوجاته‪ ،‬مث أهل‬
‫بدر‪ ،‬وسار عثمان بن عفان ‪ ‬على هنجه‪ ،‬ومل تكن هذه العطاءات اثبتة‪ ،‬بل قد تزيد كلما زادت‬
‫موارد الدولة‪.‬‬
‫وهذه العطاءات من شأهنا جعل أموال بيت املال متداولة وغري مكتنزة أو معطلة‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬حتقيق العدالة االقتصادية‪:‬‬

‫‪118‬‬
‫العدالة االقتصادية يف اإلسالم حقيقية وواقعية إذا مت تطبيق النظام االقتصادي بكل مضمونه‬
‫وحمتواه‪ ،‬أما التطبيق اجلزئي لالقتصاد اإلسالم فال يُظ ِهر مالمح تلك العدالة ابلصورة اليت أرادها‬
‫اإلسالم‪ .‬وهذا خبالف يف األنظمة الوضعية‪ ،‬فهناك تطبيقات ليست من َثراهتا العدالة االقتصادية‪,‬‬
‫اثلثا‪ :‬حتقيق سعادة اإلنسان (الرفاهية االقتصادية)‪:‬‬
‫كرمه ي ‪ ‬وفضله على كثري من خملوقاته‪ ،‬وخلق له مجيع الطيبات لتحقق‬ ‫اإلنسان خملوق َّ‬
‫اهم ِمن الطَّيِب ِ‬ ‫اه ْم ِيف ال َِ‬
‫ات‬ ‫ْرب َوالْبَ ْح ِر َوَرَزقـْنَ ُ ْ َ َ‬ ‫(ولََق ْد َك َّرْمنَا بَِين َ‬
‫آد َم َو ََْلْنَ ُ‬ ‫سعادته ورفاهيته‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ضيال)‪ ،268‬ولكن سعادة اإلنسان احلقيقية ال ميكن حتقيقها إال‬ ‫اهم َعلَ ٰى َكثِ ٍري ِممَّن َخلَ ْقنَا تَـ ْف ِ‬ ‫َوفَ َّ‬
‫ْ‬ ‫ضلْنَ ُ ْ‬
‫بتوفري مطالبه املادية والروحية‪.‬‬
‫أما املطالب املادية فمن خالل إشباع الضرورايت واحلاجات األساسية لإلنسان من غذاء وكساء‬
‫وزواج ومأوى ودواء‪ ،‬وهذا ما تسعى إليه املنظومة االقتصادية يف اإلسالم من خالل أحكامها‬
‫وتشريعاهتا‪.‬‬
‫فاالقتصاد اإلسالمي يهدف إىل رفع مستوى األفراد إىل أدىن مراتب الغىن‪ ،‬حبيث يعيش اإلنسان‬
‫متنعما بنعم ي ‪ ‬وطيباته‪ ،‬قال ي ‪( :‬قُ ْل َم ْن َح َّرَم ِزينَةَ‬ ‫كرميا مكتفيا غنيا عن سؤال اآلخرين‪ِ ،‬‬
‫صة يَـ ْو َم ال ِْقيَ َام ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اَّلل الَِّيت أَ ْخر ِ ِ ِ ِ‬
‫ِ‬
‫آمنُواْ ِيف ا ْحلَيَاة ال ادنْـيَا َخال َ‬ ‫ج لعبَاده َوالْطَّيِبَات م َن ال ِر ْزق قُ ْل هي للَّذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َ ََ‬
‫ت لَِق ْوٍم يَـ ْعلَ ُمو َن)‪ ،269‬وقال النيب ‪( :‬إن ي مجيل حيب اجلمال‪ ،‬وحيب أن‬ ‫صل اآلاي ِ‬‫َك َذلِ َ ِ‬
‫ك نـُ َف ُ َ‬
‫يرى أثر نعمته على عبده‪ ،‬ويبغض البؤس والتباؤس)‪ .270‬وأما املطالب الروحية فقد كفلها اإلسالم‬
‫من خالل بيان أركان اإلميان ومشروعية العبادات من صالة وزكاة وصيام وحج وأذكار وغريها‪ .‬وبذلك‬
‫يتحقق لإلنسان سعادته من خالل تلبية حاجاته اجلسدية والروحية‪ ،‬ويتحقق التوازن املنشود والوسطية‬
‫املطلوبة‪.‬‬
‫مقومات النشاط االقتصادي‪:‬‬

‫‪ 268‬سورة اإلسراء‪.70 /‬‬


‫‪ 269‬سورة األعراف‪.32 /‬‬
‫‪ 270‬صححه األلباين يف صحيح اجلامع ‪ 359/1‬برقم ‪1742‬‬

‫‪119‬‬
‫يهدف النشاط االقتصادي إىل إشباع احلاجات العامة واخلاصة‪ ،‬وهذا اهلدف ال يتحقق إال‬
‫من خالل مجلة نشاطات اقتصادية تشرتك كل األنظمة االقتصادية يف القيام ِبا‪ ،‬وهي اإلنتاج والتوزيع‬
‫والتبادل واالستهالك‪ ،‬وهي اليت يطلق عليها أركان العملية االقتصادية‪ ،‬وفيما يلي نلقي الضوء على‬
‫رؤية االقتصاد اإلسالمي حول كل نشاط من هذه األنشطة‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬اإلنتاج‪:‬‬
‫ميكن تعريف اإلنتاج من وجهة نظر إسالمية أبنه‪ :‬بذل اجلهد البشري على املوارد االقتصادية‬
‫إلجياد منفعة أو زايدهتا إلشباع رغبات اجملتمع املسلم بطريق مباشر أو غري مباشر‪.‬‬
‫وابلتايل فإن النشاط اإلنتاجي يشتمل على العمليات اآلتية‪:‬‬
‫‪ -‬العمليات اليت تغري من شكل املادة‪ ،‬فتجعلها صاحلة إلشباع احلاجات‪.‬‬
‫‪ -‬عملية نقل املادة أو السلعة من مكان يقل فيه نفعها (نظرا لوفرهتا) إىل مكان يزيد من نفعها‬
‫(نظرا لندرهتا)‪ ،‬وتسمى هذه املنفعة بـ (املنفعة املكانية)‪ ،‬ألن الناقل أضاف منفعة إىل املادة بنقلها‬
‫من مكان آلخر‪.‬‬
‫‪ -‬عملية ختزين السلع الوفرية عند حصادها وحفظها من التلف‪ ،‬وتوفريها يف أوقات تقل فيها‪،‬‬
‫مثل‪ :‬ختزين احلبوب‪ ،‬وتسمى هذه املنفعة بـ (املنفعة الزمانية)‪.‬‬
‫‪ -‬العمليات اليت يقوم ِبا أصحاب املواهب العقلية كاملهندسني واألطباء الذين يقدمون خدمات‬
‫ألفراد اجملتمع هم يف حاجة ماسة هلا‪ ،‬وتسمى هذه املنفعة بـ (منفعة اخلدمات الشخصية)‪.‬‬
‫‪ -‬أضاف بعض االقتصاديني نوعا آخر من املنافع هي (املنفعة التملكية أو التبادلية)‪ ،‬حيث‬
‫تضاف املنفعة إىل املادة فتجعلها تنتقل من يد من ال يريدها إىل يد من يريدها بيسر وسهولة‪ ،‬كاملوثق‬
‫الذي يقوم بتسجيل عقود امللكية‪ ،‬فإنه يقوم مضافة منفعة للسلعة عند انتقاهلا من طرف آلخر‪.‬‬
‫عوامل اإلنتاج واألحكام املتعلقة بها يف االقتصاد اإلسالمي‪:‬‬

‫لكي تتحقق العملية اإلنتاجية وتؤيت أكلها ال بد من النظر يف األحكام املتعلقة بعواملها ومدى‬
‫انعكاسها على اإلنتاج‪ ،‬وهذه العوامل هي األرض والعمل ورأس املال‪ ،‬ويضيف بعض االقتصاديني‬
‫عامال رابعا وهو التنظيم‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫وفيما يلي أبرز األحكام الشرعية املتعلقة بعوامل اإلنتاج‪:‬‬
‫العمل‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫يقوم اإلسالم أبحكامه وتشريعاته على إعداد الطاقات البشرية وجتهيزها للنشاط االقتصادي‪،‬‬
‫فاإلسالم حيث على العمل والسعي والكسب‪ ،‬وينهى عن التعطل والقعود والكسل‪ ،‬ويف ذلك يقول‬
‫ور)‪،271‬‬ ‫شُ‬ ‫شوا ِيف َمنَاكِبِ َها َوُكلُوا ِمن ِرْزقِ ِه َوإِل َْي ِه النا ُ‬‫ض َذلُوال فَ ْام ُ‬ ‫ي ‪ِ ُ :‬‬
‫(ه َو الَّذي َج َع َل لَ ُك ُم ْاأل َْر َ‬
‫اَّللَ َكثِريا ل ََعلَّ ُك ْم‬
‫اَّلل َواذْ ُك ُروا َّ‬ ‫ض َوابْـتَـغُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل َِّ‬ ‫الص َالةُ فَانْـتَ ِش ُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ت َّ‬ ‫ضي ِ‬ ‫ِ‬
‫ويقول ‪( :‬فَِإ َذا قُ َ‬
‫تُـ ْفلِ ُحو َن)‪.272‬‬
‫وجاءت السنة العملية لتؤكد هذه النظرة جتاه العمل‪ ،‬فقد عمل النيب ‪ ‬ابلرعي واشتغل ابلتجارة‬
‫وشارك يف بناء املسجد وأسهم يف حفر اخلندق‪ ،‬وكذلك أكدت السنة القولية هذا التوجه‪ ،‬فقد قال‬
‫ري‬ ‫ف َّ‬
‫اَّللُ ِبَا َو ْج َههُ‪َ ،‬خ ٌْ‬ ‫ب َعلَى ظَ ْه ِرهِ فَـيَبِ َيع َها فَـيَ ُك َّ‬
‫َح ُد ُك ْم َح ْبـلَهُ فَـيَأِْيتَ حبُ ْزَم ِة ا ْحلَطَ ِ‬
‫النيب ‪( :‬ألَ ْن َأيْ ُخ َذ أ َ‬
‫َّاس أَ ْعطَ ْوهُ أ َْو َمنَـعُوهُ)‪ ،273‬وقال ‪( :‬إن قامت الساعة ويف يد أحدكم فسيلة‬ ‫ِ‬
‫لَهُ م ْن أَ ْن يَ ْسأ ََل الن َ‬
‫(ُنلة صغرية)‪ ,‬فإن استطاع أن ال تقوم حىت يغرسها فليغرسها)‪ ،274‬وقال ‪( :‬إن ي حيب إذا عمل‬
‫ف عرقُه)‪.276‬‬ ‫أحدكم عمال أن يتقنه)‪ ،275‬وقال ‪( :‬أعطوا األجري أجره قبل أن َجي َّ‬
‫األرض‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫أما بصدد املوارد الطبيعية ويف مقدمتها األرض‪ ،‬فاإلسالم يؤكد على استغالهلا وتوظيفها لصاا‬
‫النشاط اإلنتاجي‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬

‫‪ 271‬سورة امللك‪.15 /‬‬


‫‪ 272‬سورة اجلمعة‪.10 /‬‬
‫‪ 273‬رواه البخاري يف صحيحه برقم ‪.1471‬‬
‫‪ 274‬األدب املفرد‪ ،‬حممد بن إمساعيل بن إبراهيم بن املغرية البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا (املتوىف‪256 :‬هـ)‪ ،‬احملقق‪ :‬حممد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية‬
‫– بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثالثة‪ ،1989 – 1409 ،‬حديث رقم ‪ ،479‬و السلسلة الصحيحة لأللباين (‪.)181/1‬‬
‫‪ 275‬مسند أيب يعلى‪ ،‬احملقق‪ :‬حسني سليم أسد‪ ،‬الناشر‪ :‬دار املأمون للرتاث – دمشق‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ ،1984 – 1404 ،‬برقم ‪ ،4386‬السلسلة‬
‫الصحيحة لأللباين (‪.)106/3‬‬
‫‪ 276‬صحيح اجلامع الصغري وزايدته لأللباين (‪.)240/1‬‬

‫‪121‬‬
‫حث الناس على استصالح األراضي وإحيائها‪ ،‬وذلك بتمليك األرض املوات ملن‬ ‫أ‪-‬‬
‫حيييها‪ ،‬قال النيب ‪( :‬من أحيا أرضا ْميتة فهي له)‪ ،277‬فالضابط المتالك األرض املوات هو إحياء‬
‫هذه األراضي ابحلرث والزراعة‪ ،‬أو ابلبناء عليها وعمراهنا مما يسهم يف حتويل املوارد املعطلة إىل موارد‬
‫إنتاجية‪.‬‬
‫ب‪ -‬دعا أصحاب األراضي إىل زراعتها أو استزراعها‪ ،‬قال النيب ‪( :‬من كانت له أرض‬
‫فليزرعها‪ ،‬فإن مل يزرعها فليُزِرعها أخاه)‪.278‬‬
‫مصادرة حق من حيتجز األرض سواء كان أحياها أو اقتطعها‪ ،‬لقوله ‪( :‬وليس‬ ‫ت‪-‬‬
‫حملتجز حق بعد ثالث سنني‪ ،)...‬وقد طبَّق اخلليفة الراشد عمر بن اخلطاب ‪ ‬هذا املبدأ مع بالل‬
‫بن احلارث املزين ‪ ‬واسرتجع منه ما جاوز قدرته على االستغالل‪ ،‬وقال له‪" :‬إن رسول ي ‪ ‬مل‬
‫‪279‬‬
‫يقطعك لتحجزه عن الناس‪ ،‬إمنا أقطعك لتعمل‪ ،‬فخذ ما قدرت على عمارته ورد الباقي"‪.‬‬
‫رأس املال‪:‬‬ ‫‪-3‬‬

‫أما فيما يتعلق ابملوارد املالية فقد وردت عدة أحكام شرعية جتعل حركة األموال تصب يف صاا‬
‫العملية اإلنتاجية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ورد الوعيد الشديد يف حق من يكتنز األموال وال يؤدي حقها‪ ،‬قال ي ‪ِ :‬‬
‫(والَّذ َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫أ‪-‬‬
‫وهنَا ِيف سبِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ‬ ‫ضةَ َوالَ يُ ِنف ُق َ‬
‫ب َوال ِْف َّ‬ ‫يَ ْكنِ ُزو َن َّ‬
‫يل اَّلل فَـبَش ْرُهم ب َع َذاب أَل ٍيم يَـ ْو َم ُْحي َمى َعلَْيـ َها ِيف َان ِر َج َهن َ‬
‫َّم‬ ‫َ‬ ‫الذ َه َ‬
‫ورُه ْم َه َذا َما َكنَـ ْزُْمت ألَن ُف ِس ُك ْم فَ ُذوقُواْ َما ُكنتُ ْم تَ ْكنِ ُزو َن)‪ ،280‬ومفهوم‬
‫نوِبُ ْم َوظُ ُه ُ‬
‫اه ُه ْم َو ُج ُ‬‫فَـتُ ْك َوى ِِبَا ِجبَ ُ‬
‫االكتناز هو‪ :‬تعطيل املال عن أداء احلقوق‪ ،‬وأييت على رأس هذه احلقوق الزكاة الواجبة بشروطها‬
‫املعروفة‪ ،‬روي عن ابن عباس وجابر بن عبد ي وأيب هريرة وعمر بن اخلطاب رضي ي عنهم‪ :‬أميا‬

‫‪ 277‬صححه األلباين يف إرواء الغليل برقم (‪.)1550‬‬


‫‪ 278‬رواه مسلم يف صحيحه برقم (‪.)1536‬‬
‫‪ 279‬انظر‪ :‬د‪ .‬عبد اجلبار السبهاين‪ ،‬الوجيز يف الفكر االقتصادي الوضعي واإلسالمي‪ ،‬ص ‪.263‬‬
‫‪ 280‬سورة التوبة (‪.)35 ،34‬‬

‫‪122‬‬
‫مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوان يف األرض‪ ،‬وأميا مال مل تؤد زكاته فهو كنز يكوى به‬
‫صاحبه وإن كان على وجه األرض‪.‬‬

‫واالكتناز من الناحية االقتصادية يؤدي إىل إعاقة النشاط اإلنتاجي‪ ،‬حيث إن تعطيل املال عن‬
‫حميط التداول ينقص الطلب‪ ،‬وهذا يعين إضعاف القوة الشرائية‪ ،‬وابلتايل يؤدي إىل عزوف املنتجني‬
‫عن اإلنتاج‪ ،‬فتحرمي اإلسالم لالكتناز ينعكس ابإلجياب على النشاط اإلنتاجي‪.‬‬
‫ِ‬
‫(اي أَياـ َها الَّذ َ‬
‫ين‬ ‫ب‪ -‬كذلك حرم اإلسالم الراب‪ ،‬وجعله من كبائر الذنوب‪ ،‬قال ي ‪َ :‬‬
‫اَّلل َوَر ُسولِ ِه َوإِ ْن‬
‫الراب إِن ُكنتم ام ْؤِمنِني*فَِإ ْن َمل تَـ ْفعلُوا فَأْذَنُوا ِحبرب ِمن َِّ‬
‫َْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ ِ‬
‫آمنُواْ اتَّـ ُقواْ اَّللَ َوذَ ُرواْ َما بَق َي م َن ِ َ‬
‫َ‬
‫وس أ َْم َوالِ ُك ْم ال تَظْلِ ُمو َن َوال تُظْلَ ُمو َن)‪ ،281‬وعالقة حترمي الراب ابإلنتاج أن املنتجني‬ ‫تُـ ْبـتُ ْم فَـلَ ُك ْم ُرءُ ُ‬
‫الذين يقرتضون ابلفوائد سيقومون مضافة تلك الفوائد على أسعار املنتجات‪ ،‬وهذا يعين زايدة تكلفة‬
‫اإلنتاج‪ ،‬وابلتايل زايدة أسعار السلع‪ ،‬وحصول التضخم واستمراره‪.‬‬

‫فتحرمي الراب يف اإلسالم سيسهم يف ختفيض أسعار السوق نسبيا مقارنة ابقتصاد يقوم على الراب‬
‫والفوائد‪.‬‬
‫النشاط اإلنتاجي تصب يف صاا‬ ‫مما سبق يتضح جليا أن األحكام الشرعية الواردة خبصو‬
‫اإلنتاج وحتفزه وجتعله ذا فعالية‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬التوزيع‪:‬‬
‫من املسائل االقتصادية اليت اهتم ِبا االقتصاديون بشكل كبري مسألة التوزيع‪ ،‬ويقصد ابلتوزيع‬
‫عند االقتصاديني‪ :‬توزيع الدخل والثروة على األفراد‪ ،‬فالثروات اهلائلة والدخول املتحصلة ال بد هلا‬
‫من آليات عادلة يف التوزيع‪ ،‬ويف كل نظام من األنظمة االقتصادية جند هذا اهلدف وهو (عدالة‬
‫التوزيع) غاية يرجى حتقيقها‪ ،‬ولكن ختتلف رؤية كل نظام يف حتقيق عدالة التوزيع‪ ،‬ففي النظام الرأطايل‬
‫يرون أن العدالة تتحقق تلقائيا من خالل آلية السوق (العرض والطلب) ومن غري تدخل الدولة‪ ،‬ويف النظام‬

‫‪ 281‬سورة البقرة (‪.)279 ،278‬‬

‫‪123‬‬
‫االشرتاكي يرون أن العدالة تتحقق من خالل املساواة بني أفراد اجملتمع يف الدخل والثروة‪ ،‬وهذا ال يتحقق‬
‫إال من خالل إلغاء امللكية الفردية أو جعلها يف أضيق نطاق على األقل‪.‬‬
‫أما يف النظام االقتصادي اإلسالمي فإن عدالة توزيع الثروة تتحقق من خالل مراعاة األسس‬
‫احلقوقية اآلتية‪:‬‬
‫العمل‪ :‬يرى اإلسالم أن العامل املستطيع الذي جيد العمل ال بد أن ينال نصيبه العادل‬ ‫أ‪-‬‬
‫من الثروة‪ ،‬فالعمل أساس حقوقي مهم للتوزيع يف اإلسالم‪ ،‬ويرى اإلسالم كذلك وجوب إعطاء‬
‫العمال أجورهم الالئقة أبعماهلم حبيث حيققون كفايتهم الذاتية اليت متنعهم عن السؤال‪.‬‬
‫امللكية‪ :‬أقر اإلسالم امللكية اخلاصة إىل جانب امللكية العامة بضوابط وشروط حتقق‬ ‫ب‪-‬‬
‫املصلحة للجميع‪ ،‬وطح ألصحاب هذه امللكيات ابستثمارها يف األوجه املباحة شرعا‪ ،‬فاألرابح‬
‫الناجتة عن هذه االستثمارات يتملكها أصحاِبا‪ ،‬وبذلك فإن لصاحب امللكية نصيبا من التوزيع على‬
‫قدر ملكيته‪.‬‬

‫ج ـ احلاجة‪ :‬هناك فاة من الناس ال تستطيع أن تعمل إما لضعف أو مرض أو عجز أو غري ذلك‬
‫من األسباب‪ ،‬فهؤالء يف النظام االقتصادي اإلسالمي هلم نصيب من توزيع الثروة مبقدار ما‬
‫يؤمن هلم حياة كرمية‪.‬‬

‫ومثلهم كذلك فاة قادرة على العمل إال أن دخوهلم ال تؤمن هلم املستوى الالئق من املعيشة‪،‬‬
‫فهؤالء كذلك يستحقون حصة من التوزيع يستكملون ِبا حاجاهتم‪.‬‬
‫وبعد بيان موقف اإلسالم من التوزيع قد يعتقد البعض أن الفكر االقتصادي يف اإلسالم ما هو‬
‫إال عبارة عن مزيج من الفكر الرأطايل والفكر االشرتاكي‪ ،‬فما الرد على هذه االدعاء ؟‬
‫ميكن اجلواب عن هذا التصور اخلاطُ من وجهني‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن الفكر االقتصادي الرأطايل نشأ متأخرا‪ ،‬حيث إن أبرز من وضع أسس هذا الفكر‬
‫هو االسكتلندي آدم طيث (ت ‪ 1790‬م)‪ ،‬يف حني أن املذهب االشرتاكي بدأ العمل مببادئه يف‬
‫القرن العشرين امليالدي‪ ،‬فكال املذهبني متأخر عن األسس االقتصادية يف اإلسالم املوجودة منذ‬

‫‪124‬‬
‫أربعة عشر قران‪ ،‬فال يعقل أن يكون السابق يف الوجود قد أخذ من املتأخر‪ ،‬بل على العكس ميكن‬
‫االدعاء أبن كال من املذهبني الرأطايل واالشرتاكي قد أخذا من اإلسالم بعض األفكار واألسس‬
‫االقتصادية‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن النظام االقتصادي اإلسالمي يقوم على عقيدة ختتلف عن الفلسفة الرأطالية‬
‫واالشرتاكية والشيوعية‪ ،‬حيث إن الرأطالية قد ألغت من اعتبارها شريعة اإلله عندما فصلوا الدين‬
‫عن احلياة‪ ،‬ووضعوا ألنفسهم مذهبهم االقتصادي بعيدا عن الدين‪ ،‬أما الشيوعية فإهنا ال تؤمن‬
‫أساسا بوجود اإلله عندما أعلنوا عقيدة اإلحلاد‪.‬‬
‫فوجود هذه الفروق االعتقادية واجلوهرية بني اإلسالم وسائر املذاهب االقتصادية يستحيل معها‬
‫القول أبن اإلسالم بىن نظامه االقتصادي على أسس أنظمة وضعية‪ ،‬وإذا وجد تشابه يف بعض‬
‫التطبيقات العملية بني النظام اإلسالمي من جهة والنظام الرأطايل واالشرتاكي من جهة أخرى فهو‬
‫تشابه يف الظاهر فقط بسبب التشابه يف األطاء أو العناوين‪ ،‬وهذا التشابه ال يعين أن اإلسالم أخذ‬
‫من أحد النظامني أو مزج بينهما‪.‬‬
‫اثلثا‪ :‬التبادل (السوق)‪:‬‬
‫يطلق السوق يف املفهوم العام على املكان الذي يلتقي فيه البائعون ابملشرتين لتبادل السلع‬
‫واخلدمات‪ ،‬أما املفهوم االقتصادي للسوق فهو إمكانية التقاء البائعني ابملشرتين لتبادل السلع‬
‫واخلدمات وعناصر اإلنتاج دون اشرتاط املكانية‪.‬‬
‫أما السوق يف هذا العصر قد طرأت عليه تطورات مهمة من حيث الوسائل اليت يتم ِبا التبادل‪،‬‬
‫فأصبحت كثري من األسواق متاحة على الشبكة العنكبوتية (االنرتنت)‪ ،‬وميكن للمتبايع أن يشرتي‬
‫أو يبيع ما يريد وهو يف بيته بطرق ميسرة وسهلة‪.‬‬
‫وللسوق أمهية كبرية يف االقتصاد عموما‪ ،‬فنجد أن االقتصاد الرأطايل يعتمد على السوق وآلية‬
‫العرض والطلب لتحديد األسعار ومن مث حتديد وجهة اإلنتاج ونوعية السلع املرغوبة من غريها‪،‬‬
‫وقد جاء اإلسالم ِ‬
‫منظما للسوق‪ ،‬ذاكرا ألحكامه وضوابطه وآدابه‪ ،‬من أجل استقرار املعامالت‬
‫بني الناس‪ ،‬وحصول مجيع األطراف على كامل حقوقهم‪ ،‬ومن أهم تلك األحكام ما يلي‪:‬‬

‫‪125‬‬
‫وجوب الرتاضي التام بني املتبايعني‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫يشرتط يف البيع أن يرضى املشرتي ابلسلعة ويرضى البائع ابلثمن رضا اتما ال يشوبه عيب من‬
‫عيوب الرضى‪.‬‬
‫فع ْن أََِ‬ ‫وقد حرم اإلسالم بعض البيوع اليت تفتقر إىل شرط الرضى كبيع املنابذة واملالمسة‪َ ،‬‬
‫اح ٍد ِم ْنـ ُه َما‬‫ني‪ :‬الْمالَمس ِة والْمنَاب َذةِ‪ ،‬أ ََّما الْمالَمسةُ فَأَ ْن يـل ِْمس ُك ال و ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ُ ََ‬ ‫ال‪ُ :‬هن َى َع ْن بَـ ْيـ َعتَ ْ ِ ُ َ َ َ ُ َ‬
‫ُهريـرةَ ‪ ‬أَنَّهُ قَ َ ِ‬
‫ََْ‬
‫اح ٌد ِم ْنـ ُه َما إِ َىل‬
‫اح ٍد ِم ْنـهما ثَـوبه إِ َىل اآل َخ ِر وَمل يـ ْنظُر و ِ‬
‫ََْ ْ َ‬ ‫ُ َ ْ َُ‬
‫احبِ ِه بِغَ ِْري َأتَام ٍل‪ ،‬والْمنَاب َذةُ أَ ْن يـ ْنبِ َذ ُك ال و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ثَـوب ص ِ‬
‫ْ َ َ‬
‫بص ِ‬
‫احبِ ِه‪.‬‬ ‫ثَـ ْو ِ َ‬
‫اجتناب السلع واخلدمات احملرمة والضارة‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫من الضوابط الرئيسة يف عمليات التبادل اجتناب كل ما هو حرام وضار كاخلمر واخلنزير‬
‫واملخدرات والدخان وغريها‪ ،‬وميكن القول أبن كل ما هو ضار للفرد واجملتمع حرمه اإلسالم‪ ،‬سواء‬
‫ظهر وجه الضرر لنا أم خفي‪.‬‬
‫اجتناب معامالت الراب‪:‬‬ ‫‪-3‬‬

‫ض ُل والزايدة‪ ،‬ويف االصطالح‪ :‬الزايدة يف أشياء خمصوصة‪.‬‬ ‫ِ‬


‫الراب يف اللغة‪ :‬الف ْ‬
‫حمرم ابلكتاب والسنة واإلمجاع‪ ،‬بل قال العلماء‪ :‬إن الراب مل حيل يف شريعة قط‪ ،‬لقوله ‪:‬‬ ‫وهو َّ‬
‫الرَاب َوقَ ْد ُهنُوا َع ْنه) (‪ ،)282‬يعين يف الكتب السابقة"‪ .‬فال ِراب من أكرب الكبائر‪ ،‬وحترميه‬
‫َخذهم ِ‬
‫(وأ ُ‬
‫َ‬
‫أصل من أصول الدين‪ ،‬وهو معلوم من الدين ابلضرورة‪ .‬فكل معاملة تشتمل على الراب فهي حمرمة‬
‫وفاسدة‪ ،‬ملا يف ذلك من اآلاثر السياة على األفراد واجملتمعات من استغالل احلاجات‪ ،‬والتواكل‬
‫وترك العمل‪ ،‬وحمق الربكة يف األموال‪ ،‬وحدوث األزمات املالية وغريها‪.‬‬
‫ومن الصور املعاصرة للراب احلساابت البنكية يف البنوك التجارية اليت جتر منفعة أو جائزة أو هدية‪،‬‬
‫جر نفعا فهو راب‪ ،‬وحساابت البنوك التجارية تكييفها قانوان‬
‫قرض َّ‬
‫ألن القاعدة عند الفقهاء أن كل ْ‬

‫(‪ )282‬سورة النساء ‪.161 /‬‬

‫‪126‬‬
‫وشرعا أهنا قروض مضمونة‪ ،‬فما يرتتب على هذه احلساابت من فوائد أو جوائز أو غريها هي من‬
‫الراب احلرام كما أفتت بذلك اجملامع الفقهية‪.‬‬
‫اجتناب القمار والغرر‪:‬‬ ‫‪-4‬‬
‫ِ‬
‫القمار يف اللغة‪ِ :‬‬
‫الرهان والغَلَبة‪ ،‬ويف االصطالح‪ :‬الرتدد بني الغُنم والغُرم‪ ،‬أو بتعريف آخر‪:‬‬
‫كل لعب على مال أيخذه الغالب من املغلوب(‪.‬‬
‫اسم امليسر‪ ،‬كما ُروي ذلك عن ابن عباس ‪ ‬أنه قال‪:‬‬ ‫كثري من الفقهاء يُطلق على القمار َ‬
‫و ٌ‬
‫(امليسر هو ِ‬
‫القمار‪ ،‬كان الرجل يف اجلاهلية خياطر على أهله وماله فأيهما قَ َمر صاحبَه ذهب أبهله‬
‫وماله) (‪.)283‬‬
‫احملرم ش ـ ــرعا ابلكتاب والس ـ ــنة واإلمجاع‪ ،‬قال ‪َ  :‬اي أَياها‬ ‫الذي يهمنا أن القمار من امليس ـ ــر َّ‬
‫يطان فَاجتَنبُوه لَعل ُكم‬ ‫جس ِمن َع َم ِل ال َّ‬
‫شـــــ ِ‬
‫الم ِر ٌ‬
‫األز ُ‬
‫اب َو َ‬ ‫صـــــ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الذين آمنُوا َّإمنَا اخلَ ْم ُر َوامليَس ـ ـ ـ ـ ـ ُر َواألنْ َ‬
‫ف فقال يف حلفه‪ :‬والالت والعزى‪،‬‬ ‫(م ْن َحلَ َ‬ ‫ِ‬
‫تُفل ُحون‪ ، ‬وقال النيب ص ـ ـ ـ ــلى ي عليه وس ـ ـ ـ ــلم‪َ :‬‬
‫(‪)284‬‬

‫فليقل‪ :‬ال إله إال ي‪َ ،‬وَم ْن قال لصاحبه‪ :‬تعال أُقامرك فليتصدق)(‪.)285‬‬
‫احملرم شرعا‪.‬‬
‫فكل معاملة أو مسابقة تتضمن القمار فهي من القمار َّ‬
‫عرضهما للهلكة من‬ ‫غرر بنفسه وماله تغريرا‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫أما الغَ َرر فتعريفه يف اللغة‪ :‬اخلَطَر‪ ،‬يقال‪َّ :‬‬
‫غري أن يعرف)‪ ،‬وأما عند الفقهاء فإنه‪" :‬ما يكون مستور العاقبة"‪ ،‬وبعضهم يقول‪" :‬الغَ َرر ما انطوى‬
‫عنه أمره وخفي عليه عاقبته"‪.‬‬
‫وقد هنى الشارع عن الغرر ملا فيه من اجلهالة واملخاطرة ابألموال‪ ،‬فعن أيب هريرة ‪ ‬قال‪( :‬هنى‬
‫رسول ي صلى ي عليه وسلم عن بيع الغرر)‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومن أمثلة بيوع الغرر املذكورة يف كتب الفقهاء بيع السمك يف املاء والطري يف اهلواء احلمل يف‬
‫بطن الشاة‪ ،‬ومن الصور املعاصرة لبيوع الغرر بيع اللؤلؤ يف احملار‪ ،‬وصورته أن يشرتي الرجل كيسا‬

‫اجلصاص‪ ،‬أحكام القرآن‪.)4/2( ،‬‬ ‫(‪َّ )283‬‬


‫(‪ )284‬سورة املائدة آية ‪.90‬‬
‫(‪ )285‬أخرجه البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫كبريا ملياا ابحملار‪ ،‬راجيا أن يصيب اللؤلؤ فيه‪ ،‬فإن مل جيد شياا خسر ماله‪ ،‬وقد جيد حمارة فيها‬
‫لؤلؤة‪ ،‬قيمتها أضعاف ذلك الكيس‪ ،‬ومن الصور املعاصرة كذلك عقود التأمني التجاري‪ ،‬فالعميل‬
‫يدفع أقساطا للشركة مقابل حادث قد يقع وقد ال يقع‪ ،‬وال شك أن ذلك من قبيل الغرر املنهي‬
‫عنه‪.‬‬
‫النهي عن الغش‪:‬‬ ‫‪-5‬‬

‫صلَ َح ِة‪َ ،‬وأَظ َْه َر‬


‫ري ال َْم ْ‬ ‫ش َِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ال ِْغ ا‬
‫ش ِابلْ َك ْس ِر ِيف اللاغَة نَق ُ‬
‫صاحبَهُ‪ :‬إ َذا َزيَّ َن لَهُ غَ ْ َ‬ ‫ال‪ :‬غَ َّ‬
‫اص ِح‪ ،‬يُـ َق ُ‬‫يض الن ْ‬
‫ال الْ ُف َق َه ِاء َع ِن ال َْم ْع َىن اللاغَ ِوي‪.‬‬
‫استِ ْع َم ُ‬
‫ج ْ‬
‫ِ‬
‫ط ِابل َْماء‪َ .‬والَ َخيْ ُر ُ‬‫َي َخمْلُو ٌ‬
‫ور‪ :‬أ ْ‬
‫ش ٌ‬ ‫َن َمغْ ُ‬
‫ض َم َر‪َ ،‬ول َ ٌ‬‫ري َما أَ ْ‬
‫لَهُ غَ ْ َ‬
‫والغش اببه واسع‪ ،‬ومن صوره وصف السلعة بغري ما هي عليه‪ ،‬وإخفاء العيب‪ ،‬واإلخالل‬
‫ابملواصفات الباطنة يف املادة املصنَّعة للسلعة وحنو ذلك‪.‬‬
‫تنظيم عملية التسعري‪:‬‬ ‫‪-6‬‬

‫املراد ابلتسعري هو حتديد اجلهات املختصة (احلكومة أو من ينوِبا) سعرا معينا للسلعة أو اخلدمة‪،‬‬
‫وإلزام التجار بذلك السعر دون زايدة‪.‬‬
‫ويعد التسعري يف احلاالت االعتيادية ودون احلاجة إليه عمال خمالفا لألصل الذي بُين عليه التعامل‬
‫يف االقتصاد اإلسالمي وهو الرتاضي‪ ،‬فعن أنس بن مالك ‪ ‬قال‪ :‬غال السعر على عهد رسول ي‬
‫صلى ي عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬اي رسول ي َس ِعر لنا‪ ،‬فقال رسول ي ‪( :‬إن ي هو املُ َس ِعر‪،‬‬
‫القابض‪ ،‬الباسط‪ ،‬الرازق‪ ،‬وإين ألرجو أن ألقى ريب وليس أحد منكم يطلبين مبظلمة يف دم وال‬
‫مال)‪.286‬‬
‫أما يف احلاالت االستثنائية فإن أكثر الفقهاء ذهبوا إىل جواز التسعري مىت ما ُو ِجدت املصلحة‬
‫يف ذلك‪ ،‬وقد أشار ابن تيمية إىل مربرات التسعري يف احلاالت االستثنائية‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬
‫"فمثْل أن ميتنع‬

‫‪ 286‬أخرجه أبو داود‪ ،‬يف سننه‪ ،‬والرتمذي وابن ماجه يف سننه واإلمام أمحد يف مسنده (‪ ،)286/3‬رقم (‪ ،)14089‬وصححه األلباين يف مشكاة‬
‫املصابيح (‪ ،)153/2‬رقم (‪.)2894‬‬

‫‪128‬‬
‫أرابب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إال بزايدة على القيمة املعروفة‪ ،‬فهنا جيب عليهم بيعها‬
‫بقيمة املِثْل‪ ،‬وال معىن للتسعري إال إلزامهم بقيمة املثل فيجب أن يلتزموا مبا ألزمهم ي به"‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬االستهالك‪:‬‬
‫ِ‬
‫حاجات اإلنسان‬ ‫إشباع‬ ‫عرف االستهالك يف ِ‬
‫علم االقتصاد أبنه‪ :‬استخدام السلع واخلدمات يف ِ‬ ‫يُ َّ‬
‫إشباعا مباشرا‪.‬‬
‫وقد ورد يف القرآن الكرمي اشتقاق كلمة االستهالك بلفظ إهالك املال‪ ،‬كما يف قولِه ‪( :‬يَـ ُق ُ‬
‫ول‬
‫أنفقت ماال كثريا جمتمعا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ت َماال لُبَدا)‪ ،287‬أي‬
‫أ َْهلَ ْك ُ‬
‫ويف الواقع فإن االستهالك هو اهلدف النهائي للنشاط االقتصادي‪ ،‬فكل األنشطة االقتصادية‬
‫األخرى من إنتاج وتوزيع وتبادل تنتهي بقيام املستهلك ابالنتفاع من السلع واخلدمات وإشباع حاجاته‬
‫ِبا‪.‬‬
‫رابنية وضرورةٍ إنسانية‪َّ ،‬‬
‫فإن يَ ‪ ‬ملَّا َخلَ َق اخلَل َ‬
‫ْق‬ ‫كمة ٍ‬ ‫واالستهالك مشروع يف اإلسالم حلِ ٍ‬
‫سخَّر هلم من املوارد ما تستقيم ِبا حياهتُم وتستم ار معيشتُهم‪ ،‬واإلنسا ُن بفطرته الغريزية يف ٍ‬
‫حاجة إىل‬ ‫ُ‬
‫االستهالك لكي ِ‬
‫حيق َق بقاءَه ويُشبِ َع رغباتِه‪.‬‬
‫ِ‬
‫االستهالكية اليت حيتاجها اإلنسا ُن يف معيشتِه‬ ‫ِ‬
‫الضرورايت‬ ‫أصول‬
‫َ‬ ‫لذلك َِجن ُد َّ‬
‫أن اإلسالم ذَ َك َر‬
‫واليت ال خيتلف على أمهيتها أحد‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الضرورايت اليت حيتاجها اإلنسا ُن لبقائِه واستمرا ِره على قَـ ْي ِد احلياة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬املأكل واملشرب‪ :‬وهي أه ام‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقد ذُكِ َر ْ‬
‫(وُكلُواْ ممَّا َرَزقَ ُك ُم اَّللُ َحالَال طَيِبا َواتَّـ ُقواْ اَّللَ الذ َ‬
‫ي‬ ‫ت يف القرآن الكر ِمي مرارا‪ ،‬من ذلك قولُه ‪َ :‬‬
‫جاءت‬
‫ْ‬ ‫ني)‪ ،289‬وقد‬ ‫ِ‬ ‫أَنتُم بِ ِه ُم ْؤِمنُو َن)‪ ،288‬وقولُه ‪( :‬وُكلُواْ َوا ْش َربُواْ َوالَ تُ ْس ِرفُواْ إِنَّهُ الَ ُِحي ا‬
‫ب ال ُْم ْس ِرف َ‬
‫واملشارب ألمهيتِها لإلنسان‪ ،‬خصوصا عند‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املطاعم‬ ‫ِ‬
‫استهالك‬ ‫ِ‬
‫وجوب‬ ‫بصيغة األم ِر للد ِ‬
‫َّاللة على‬ ‫ِ‬ ‫اآلايت‬
‫ُ‬
‫الضرورة وإشراف اإلنسان على اهلالك‪.‬‬

‫‪ 287‬سورة البلد‪.6 /‬‬


‫‪ 288‬سورة املائدة‪.88 /‬‬
‫‪ 289‬سورة األعراف‪.31 /‬‬

‫‪129‬‬
‫ِ‬
‫القرآن‬ ‫جاءت منصوصة يف‬ ‫ْ‬ ‫اجلداول االستهالكيةُ منها‪ ،‬وألمهيتِها‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬اللباس والكساء‪ :‬حيث ال ختلو‬
‫ى َذلِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َخ ْريٌ‬ ‫َنزلْنَا َعلَ ْي ُك ْم لبَاسا يُـ َوا ِري َس ْو َءات ُك ْم َوِريشا َولبَ ُ‬
‫اس التَّـ ْق َو َ‬ ‫(اي بَِين َ‬
‫آد َم قَ ْد أ َ‬ ‫الكرمي‪ ،‬يقول ‪َ :‬‬
‫ت ِ‬
‫اَّلل ل ََعلَّ ُه ْم يَ َّذ َّك ُرو َن)‪.290‬‬ ‫ك ِمن آاي ِ‬ ‫ِ‬
‫ذَل َ ْ َ‬
‫األمان واالستقرا ِر‬ ‫ِ‬ ‫ضرورايت االستهالك‪ ،‬فهي عنوا ُن‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬املسكن واملأوى‪ :‬وال تقل أمهية عن ِ‬
‫بقية‬
‫الس َك ِن من ٍ‬
‫أاثث‬ ‫ِ‬
‫مبستلزمات َّ‬ ‫املنة والنعمة‪ ،‬بل جاء ِذ ْك ُرها مقرتنة‬ ‫سياق ِ‬ ‫والراحة‪ ،‬وقد ذَ َكـرها يُ ‪ ‬يف ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫اَّلل جعل لَ ُكم ِمن بـيوتِ ُكم س َكنا وجعل لَ ُكم ِمن جلُ ِ‬
‫ود األَنْـ َع ِام بُـيُوات تَ ْستَ ِخ اف َ‬ ‫ٍ‬
‫وهنَا‬ ‫(و َُّ َ َ َ ْ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ ْ ُ‬ ‫وزينة‪ ،‬حيث قال ‪َ :‬‬
‫َص َوافِ َها َوأ َْوَاب ِرَها َوأَ ْش َعا ِرَها أ ََاثاث َوَمتَاعا إِ َىل ِح ٍ‬
‫ني)‪.291‬‬ ‫ِ‬
‫يَـ ْوَم ظَ ْعنِ ُك ْم َويَـ ْوَم إِقَ َامتِ ُك ْم َوم ْن أ ْ‬
‫أصبحت يف عص ِران من ِ‬
‫أهم‬ ‫ْ‬ ‫كل عص ٍر ٍ‬
‫وزمان إال َّأهنا‬ ‫‪ -‬وسيلة املواصالت‪ :‬ابلرغم من أمهيتِها يف ِ‬
‫أصول املر ِ‬
‫اكب ووسائل‬ ‫أي إنسان‪ ،‬وقد ذَ َك َر يُ ‪‬‬ ‫ِ‬
‫املعيشية واليت ال يَ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ستغين عنها ُ‬ ‫الضرورايت‬
‫وها َوِزينَة َوَخيْلُ ُق َما الَ تَـ ْعلَ ُمو َن)‪ ،292‬واآليةُ‬ ‫ال وا ْحل ِم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ري ل َْرتَكبُ َ‬
‫اخلَْي َل َوالْبغَ َ َ َ َ‬
‫(و ْ‬‫املواصالت يف قوله ‪َ :‬‬
‫ات وغ ِريها‪ ،‬وما سيصل‬ ‫ات وقطار ٍ‬ ‫ات وطائر ٍ‬ ‫احلديثة من سيار ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املواصالت‬ ‫تُشري يف آخ ِرها إىل وسائل‬
‫اده‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املستقبل إذا قَ َّد َر يُ ‪ ‬وأر َ‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان يف‬ ‫عقل‬
‫إليه ُ‬
‫االستهالك يف اإلسالم ومفهوم (سيادة املستهلك)‪:‬‬
‫سيادة املستهلك تعين‪ :‬سلطة املستهلكني يف نظام سوق حرة (كالنظام الرأطايل) على حتديد‬
‫إنتاجه‪ ،‬فاملستهلكون يستخدمون ( نقودهم ) للتصويت على السلع واخلدمات‪ ،‬فَـيُ ْملُون‬‫ما جيب ُ‬
‫أحب املستهلكون شياا ما مثال أنفقوا نقودا كثرية يف سبيله‪،‬‬
‫بذلك طلباهتم على املنتجني‪ ،‬فإذا َّ‬
‫وي ِ‬
‫عطي مثل هذا اإلنفاق الكبري صانعي تلك السلعة أرابحا طائلة مما يُغري منتجني آخرين على إنتاج‬ ‫ُ‬
‫هذه السلعة‪.‬‬
‫انبع من معتقدات ومبادئ احلرية الفردية‪ ،‬فالفرد يف اجملتمعات الرأطالية ويف إطار‬
‫وهذا املفهوم ٌ‬
‫ط يضبطُه‪،‬‬ ‫ف يف شؤونِه كلِها السيَّما االقتصادية منها‪ ،‬فال َ‬
‫وازع مينعُه وال ضابِ َ‬ ‫القانون ح ار التص ار ِ‬
‫ُ‬

‫‪ 290‬سورة األعراف‪.26 /‬‬


‫‪ 291‬سورة النحل‪.80 /‬‬
‫‪ 292‬سورة النحل‪.8 /‬‬

‫‪130‬‬
‫فيُقبِل على السوق ُمطْلِقا َعنا َن رغباتِه‪ ،‬ويَستخدم ما حبوزتِه من ٍ‬
‫أموال لشراء ما ُميليه عليه رغباته بال‬
‫ضوابط وال قيود‪.‬‬
‫التصوِر اإلسالمي‬
‫ا‬ ‫تتوافق مع‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫املستهلك مبفهومها الغريب ال‬ ‫أن فكرةَ سيادةِ‬
‫الذي يَه امنا هنا َّ‬
‫الكم والكيف‪ ،‬فهو مقيَّ ٌد‬ ‫ط أخالقيةٌ من ِ‬
‫انحية ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلسالم َحتْ ُك ُمه ضواب ُ‬ ‫الفرد يف‬
‫فإن َ‬‫لالستهالك‪َّ ،‬‬
‫اف وال تبذي ٍر‪ ،‬وهذا من ِ‬
‫انحية الكم‪ ،‬وكذلك مقيَّ ٌد ابالستهالك على‬ ‫ابعتدال بال إسر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ابالستهالك‬
‫ِ‬
‫ابإلضافة إىل ذلك هنالك وظائف اجتماعية‬ ‫املباحة شرعا‪ ،‬وهذا من ِ‬
‫انحية الكيف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واخلدمات‬ ‫السل ِع‬
‫الفرد شرعا كالزكاة والنفقات األسرية‪.‬‬
‫لزُم ِبا ُ‬
‫يُ َ‬
‫الضوابط الشرعية العامة لالستهالك يف اإلسالم‪:‬‬
‫ضوابط تتعلق ابلكيف والصفة‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫قل أو َكثُر‪ ،‬فعلى‬


‫مينع اإلسالم استهالك األمور احملرمة بغض النظر عن مقدار هذا االستهالك َّ‬
‫سبيل املثال حيرم استهالك اخلمور واملسكرات أبنواعها‪ ،‬واملخدرات بصنوفها وأطائها‪ ،‬والدخان‬
‫وأنواع التبو اليت أثبت الطب مدى خطورهتا على البدن‪ ،‬والتماثيل والصور اجملسمة‪ ،‬فكل هذه‬
‫األمور حمرمة وال جيوز إنفاق األموال فيها‪ ،‬وقد َّ‬
‫عد اإلسالم اإلنفاق يف مثل هذه احملرمات تبذيرا‬
‫قل املال املن َفق فيها‪.‬‬
‫مهما َّ‬
‫وقد نقل ابن كثري بعض أقول السلف يف ذلك يف تفسري قوله ‪( :‬وال تبذر تبذيرا)‪ ،293‬فقال‪:‬‬
‫قال ابن مسعود‪ :‬التبذير‪ :‬اإلنفاق يف غري حق‪ ،‬وكذا قال ابن عباس‪.‬‬
‫وقال جماهد‪ :‬لو أنفق إنسان ماله كله يف احلق مل يكن مبذرا‪ ،‬ولو أنفق مدا يف غري حقه كان‬
‫تبذيرا‪.‬‬
‫وقال قتادة‪ :‬التبذير‪ :‬النفقة يف معصية ي ‪ ،‬ويف غري احلق ويف الفساد‪.‬‬
‫ضوابط تتعلق ابلكم واملقدار‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫‪ 293‬سورة اإلسراء‪.26 /‬‬

‫‪131‬‬
‫ومن هذا النوع أن ينفق املستهلك ما حيتاج إليه مما ال حيتمله دخله‪ ،‬كأن يكون دخله ثالَثائة‬
‫هم ابلليل‬
‫دينار فينفق مخسمائة يف غري حاجة ملحة‪ ،‬إذ معىن هذا االضطرار إىل االستدانة‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫ومذلَّة ابلنهار‪ ،‬وقد كان النيب ‪ ‬يستعيذ ابهلل من غلبة الدين‪ ،‬ويراه دافعا إىل سوء خلق صاحبه‬
‫ف)‪.294‬‬
‫ب َوَو َع َد فَأَ ْخلَ َ‬ ‫الر ُج َل إِذَا غَ ِرَم َح َّد َ‬
‫ث فَ َك َذ َ‬ ‫وسلوكه‪ ،‬يقول ‪( :‬إِ َّن َّ‬
‫وال بد كذلك من ربط مستوى االستهالك بظروف اجملتمع املتغرية وإمكاانته االقتصادية وأولوايته‪،‬‬
‫حبيث يكون مستوى االستهالك تبعا لتلك الظروف‪ ،‬مع التأكيد على توفري احلاجات األساسية لكافة‬
‫أفراد اجملتمع‪ ،‬وترشيد استخدام املوارد املتاحة مبا حيقق ذلك‪.‬‬
‫األفكار البشريةَ القاصرة‪ ،‬فال حريةَ مطلقة يف‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫هكذا هي نظرة اإلسالم يف االستهالك ُجتان ُ‬
‫سط َْها ُك َّل الْبَ ْس ِط‬
‫ك َوَال تَـ ْب ُ‬ ‫(وَال َجتْ َع ْل يَ َد َك َمغْلُولَة إِ َ ٰىل عُنُِق َ‬
‫االستهالك وال تقيي َد وتقتري‪ ،‬قال ‪َ :‬‬
‫حر ِ‬ ‫ِ‬
‫والضارة‪ ،‬وال حترميَ‬ ‫َّ‬ ‫مة‬ ‫واخلدمات املُ َّ‬ ‫سورا)‪ ،295‬وأيضا ال حريةَ مطلقة للسل ِع‬ ‫فَـتَـ ْقعُ َد َملُوما َّْحم ُ‬
‫ات ِم َن ال ِر ْز ِق قُ ْل ِهي‬ ‫ادهِ والْطَّيِب ِ‬
‫ج لعبَ َ َ‬
‫اَّلل الَِّيت أَ ْخر ِ ِ ِ‬
‫َ ََ‬
‫للمباحة منها والطيبة‪ ،‬قال ‪( :‬قُل من ح َّرم ِزينَةَ ِ‬
‫ْ َْ َ َ‬
‫ِ‬
‫ت لَِق ْوٍم يَـ ْعلَ ُمو َن)‪.296‬‬ ‫صل اآلاي ِ‬ ‫لِلَّ ِذين آمنُواْ ِيف ا ْحلياةِ ال ادنْـيا َخالِصة يـوم ال ِْقيام ِة َك َذلِ َ ِ‬
‫ك نُـ َف ُ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬

‫‪ 294‬رواه البخاري يف كتاب األذان‪ ،‬ابب الدعاء قبل السالم برقم (‪.)789‬‬
‫‪ 295‬سورة اإلسراء‪.29 /‬‬
‫‪ 296‬سورة األعراف‪.32 /‬‬

‫‪132‬‬
‫النظام االجتماعي يف اإلسالم‬
‫د‪ .‬أحمد محمد بخيت‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬مفهوم النظام االجتماعي‪:‬‬
‫النظام مفردة تدل على التأليف‪ ،‬وضم الشيء إىل الشيء‪ ،‬فكل ما يراعى فيه الرتتيب واالنسجام‬
‫واالرتباط يسمى نظاما‪.‬‬
‫ويتفق القدماء واحملدثون على أن اإلنسان مدين بطبعه‪ ،‬فهو من األنواع اليت ال ميكن أن يتم هلا‬
‫الضروري من أمورها‪ ،‬وال األفضل من أحواهلا إال ابجتماع مجاعات منها كثرية‪ .‬وطاملا حصل اجتماع‬
‫تعني أن يكون على " شكل حيصل به التمانع والتعاون‪ ،‬حىت حيفظ ابلتمانع ما هو له‪ ،‬وحيصل ابلتعاون‬
‫ما ليس له "‪ ،‬وال يتم ذلك إال برتتيب وأتليف‪ ،‬حىت تستقيم طريقته‪ ،‬وهذا الرتتيب والتأليف‪ ،‬أو‬
‫سمى نظاما‪ ،‬أي جمموعة األحكام والقواعد اليت تُ َسِري ِبا اجلماعة شاوهنا‪،‬‬
‫ضابط احلركة‪ ،‬هو ما يُ َ‬
‫وليس هذا الضابط للتمانع والتعاون مما حيتاجه النوع اإلنساين وحده‪ ،‬بل يقوم عليه الكون كله‪ ،‬ومن‬
‫ك تَـ ْق ِد ُير ال َْع ِزي ِز ال َْعلِ ِيم َوالْ َق َم َر قَ َّد ْرَانهُ َمنَا ِز َل َح َّىت‬
‫س َجتْ ِري لِ ُم ْستَـ َق ٍر َهلَا ذَلِ َ‬ ‫ذلك قول ي تعاىل { َو َّ‬
‫الش ْم ُ‬
‫ك‬‫َّها ِر وُكلٌّ ِيف فَـلَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫س يَـ ْنـبَغي َهلَا أَ ْن تُ ْد ِر َك الْ َق َم َر َوَال الل ْي ُل َساب ُق النـ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ون الْ َق ِد ِمي َال َّ‬
‫الش ْم ُ‬
‫اد َكالْعرج ِ‬
‫َع َ ُ ْ ُ‬
‫يَ ْسبَ ُحو َن} يس‪.40-38 :‬‬
‫والنظام‪ ،‬أو جمموعة القواعد واألحكام اليت تُ َسِري شأن اجلماعة‪ ،‬مما ميكن للعقل الوصول إليه‪ ،‬غري‬
‫أن طريق العقل اجملرد‪ ،‬الذي ال يستضيء بنور الشرع‪ ،‬غري مأمون‪ ،‬وقد كشفت البحوث املقارنة يف‬
‫منهج البحث االجتماعي أن التأمل العقلي‪ ،‬والتجريب احلسي‪ ،‬ال يستقيمان – وحدمها – طريقا‬

‫‪133‬‬
‫إىل إصالح أحوال العباد والبالد‪ ،‬وإمنا البد لإلصالح من نظرة آلولية تتجاوز احلس إىل الغيب‪،‬‬
‫وتتخطى الزمين والتارخيي إىل املطلق‪ ،‬ويتكامل فيها العلمي والديين‪ ،‬فال ينفي أحدمها اآلخر‪ ،‬وإمنا‬
‫يستلزمه‪ ،‬لتنوع جماالت املعرفة ومشكالت الواقع‪.‬‬

‫حمتوى النظام االجتماعي‪:‬‬


‫مل يلتق معاجلو مادة النظام االجتماعي على كلمة سواء حول موضوعاته‪ ،‬ففيما يرى بعضهم أن‬
‫النظام االجتماعي هو " النظام الذي حيكم اجتماع املرأة ابلرجل‪ ،‬والرجل ابملرأة‪ ،‬وينظم العالقة‬
‫الناشاة عن اجتماعهما‪ ،‬وكل ما يتفرع عن هذه العالقة" دون أن يدخل يف ذلك مصاا الرجل واملرأة‬
‫يف اجملتمع‪ ،‬فيقصرون موضوعات الباب على مكانة املرأة‪ ،‬وتنظيم الصالت بينها وبني الرجل‪ ،‬والزواج‬
‫من حيث أحكامه وآاثره‪ ،‬والفرقة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬فيما يرى هؤالء ذلك فإن أكثر الكتاب يتوسعون‬
‫يف هذا الباب فيضمون إىل ما سبق مسائل أخرى كالرق والعدالة االجتماعية‪ ،‬وعادات الشعوب‬
‫ومعتقداهتا بل رمبا تعرضوا ملالية اجملتمع ‪ ،‬فضال عن العالقات اإلنسانية خارج النطاق األسري وكل‬
‫ذلك مما يدرجه الفريق األول حتت ( أنظمة اجملتمع ) ال ( النظام االجتماعي )‪.‬‬
‫وأحسب أن املنحى األخري هو األصح‪ ،‬ألن العالقات اإلنسانية من املنظور الشرعي تتجاوز قراابت‬
‫النسب والصهر إىل أخوة اإلميان‪ ،‬وحقوق اإلسالم‪ ،‬واجلوار‪ ،‬بل اعتبار وحدة األصل اآلدمي‪ ،‬هلذا‬
‫س يف النظام العائلي فالبد أن نعرج على املوضوعات األخرى‪ ،‬غري أان نسكت‬
‫فإننا وإن أطلنا الن َف َ‬
‫عما وقع الكالم عنه يف مواضع أخرى من هذا الكتاب‪ ،‬وننوه مبا مل يسبق له ذكر ‪ ،‬حريصني بوجه‬
‫على املقارنة بني النظام االجتماعي يف اإلسالم ويف الثقافات األخرى‪ ،‬ومربزين منهج اإلسالم‬ ‫خا‬
‫يف بناء األسرة‪ ،‬وأسلوبه يف عالج املشكالت األسرية‪ ،‬مع إطاللة على مبدأ التكافل االجتماعي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ومظاهر عناية اإلسالم ابملسنني‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬األسرة ( تعريفها‪ ،‬أهميتها‪ ،‬مكانتها‪ ،‬وأسس بنائها)‬
‫أ‪ -‬التعريف‬
‫اه ْم َو َش َد ْد َان‬
‫كلمة " األسرة " يف اللغة تعين‪ :‬اإلمساك والقوة‪ ،‬ويف كتاب ي تعاىل { َْحن ُن َخلَ ْقنَ ُ‬
‫َس َرُه ْم } اإلنسان‪ ،28 :‬كما تستخدم مبعىن الدرع احلصينة حتمي صاحبها‪.‬‬
‫أْ‬
‫واملتفق عليه بني علماء االجتماع أن األسرة هي‪ :‬اجلماعة املعتربة نواة اجملتمع‪ ،‬واليت تنشأ برابط‬
‫الزواجية بني الرجل واملرأة‪ ،‬مث يتفرع عنها األوالد‪ ،‬على أن يعيش هؤالء حتت سقف واحد‪ ،‬ويتفاعلون‬
‫معا‪ ،‬وفقا ألدوار اجتماعية حمددة‪ ،‬وحيافظون على منط ثقايف عام‪.‬‬
‫ويف اشتمال األسرة على أصول الزوجني وأحفادمها خالف‪ ،‬فمن االجتماعيني من يقصر األسرة‬
‫على الزوجني وأوالدمها فحسب‪ ،‬واألكثرون يوسعون‪ ،‬مع إطالق مسميات على كل حالة على حدة‪،‬‬
‫فيطلقون مصطلح " األسرة اإلجنابية " أو " األسرة النووية " على اجتماع الزوجني وأوالدمها املباشرين‬
‫يف املعيشة الواحدة‪ ،‬بينما يطلقون مصطلح " أسرة التوجيه " على التجمع الشامل للزوجني وأوالدمها‬
‫مع األجداد واألحفاد‪.‬‬
‫ويبدو أن االجتاه األخري هو األوىل ابلقبول‪ ،‬ألن املعول عليه يف االعتبار االجتماعي هو عنصر‬
‫احلياة املشرتكة‪ ،‬واليت تعين انتساب الفرد إىل النوع وممارسة الفعل االجتماعي ( كالتعاون وتبادل‬
‫املنافع مثال ) دون نظر إىل حجم أطراف العالقة‪ ،‬وكأننا ابلقرآن الكرمي ينشد هذه األسرة الكبرية يف‬
‫اح َدةٍ َو َخلَ َق‬ ‫سوِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس اتَّـ ُقوا َربَّ ُك ُم الَّذي َخلَ َق ُك ْم م ْن نَـ ْف ٍ َ‬
‫قول ي تعاىل يف مفتتح سورة النساء { َاي أَياـ َها الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ث ِم ْنـهما ِرجاال َكثِريا ونِساء واتَّـ ُقوا َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّللَ َكا َن َعلَْي ُك ْم‬ ‫اَّللَ الَّذي تَ َساءَلُو َن بِه َو ْاأل َْر َح َ‬
‫ام إِ َّن َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫م ْنـ َها َزْو َج َها َوبَ َّ ُ َ َ‬
‫َرقِيبا} النساء‪ ،1:‬ويف خلع وصف األبوة واألمومة على األجداد واجلدات يف آايت وأحاديث عدة‪،‬‬
‫ت ِملَّةَ‬ ‫يم } احلج‪ ،78:‬وقوله على لسان يوسف عليه السالم { َواتَّـبَـ ْع ُ‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫كقوله تعاىل { ملةَ أَبي ُك ْم إبْـ َراه َ‬
‫وب} يوسف‪.38 :‬وإبراهيم وإسحاق جدا يوسف‪ ،‬عليهم السالم‪.‬‬ ‫يم َوإِ ْس َح َ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اق َويَـ ْع ُق َ‬ ‫آابئي إبْـ َراه َ‬
‫َ‬
‫وال شك أن القرآن يزكي التسامي يف اجتماع مجاعة املسلمني دون نظر إىل قرابة النسب‪ ،‬وإن‬
‫مل يدخل هذا االجتماع الكبري حتت مسمى ( األسرة ) الفتقاد عنصر احلياة املشرتكة ابلتحديد الذي‬
‫سبق‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫ب‪ -‬أمهية األسرة ومكانتها وأساس تكوينها يف اإلسالم‬
‫آايتِِه أَ ْن َخلَ َق لَ ُك ْم ِم ْن‬ ‫ِ‬
‫لو مل يكن عندان إال امتنان ي على عباده ابلنظام األسري يف قوله { َوم ْن َ‬
‫ت لَِق ْوٍم يَـتَـ َف َّك ُرون } الروم‪:‬‬‫ك َآلاي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أَنْـ ُفس ُك ْم أَ ْزَواجا لتَ ْس ُكنُوا إِلَْيـ َها َو َج َع َل بَـ ْيـنَ ُك ْم َم َودَّة َوَر َْْة إِ َّن ِيف ذَل َ َ‬
‫ك‬‫ت َوَزْو ُج َ‬ ‫اس ُك ْن أَنْ َ‬
‫آد ُم ْ‬‫‪ ،21‬وإانطته حتصيل رغد العيش ابستقرار الزوجية يف قوله تعاىل { َوقُـلْنَا َاي َ‬
‫ث ِش ْاـتُ َما } البقرة‪ ،35 :‬وتنبيه نبينا صلى ي عليه وسلم أن الزواج هو‬ ‫ا ْجلَنَّةَ َوُك َال ِم ْنـ َها َرغَدا َح ْي ُ‬
‫األحصن للفرج واألغض للبصر لو مل يكن عندان سوى هذا التوجيه الرابين لكفاان تقديرا ألمهية‬
‫األسرة‪ ،‬لكنا نستطيع أن نرصد وجوها أخرى كثرية لعل أبرزها‪:‬‬
‫أهنا اخللية األوىل اليت يتكون منها البناء االجتماعي‪ ،‬بل هي أعم الظواهر االجتماعية‬ ‫‪-1‬‬
‫وأوسعها انتشارا‪ ،‬فال خيلو جمتمع‪ ،‬مؤمن أو كافر‪ ،‬من النظام األسري‪.‬‬
‫تقوم األسرة على أسس شرعية أو قانونية‪ ،‬أي أهنا ليست عمال فرداي‪ ،‬فالزواج ابتداء وبقاء‬ ‫‪-2‬‬
‫وآاثرا وانتهاء يتم وفقا لألصول الشرعية ‪ /‬القانونية املعتربة‪.‬‬
‫األسرة هي املظلة اإلنسانية املتكاملة‪ ،‬فهي حتقق إشباع النزعات الفطرية وامليول الغريزية‬ ‫‪-3‬‬
‫يف احلدود املشروعة‪.‬‬
‫األسرة هي الوسيلة النتقال األخالق والعادات من جيل إىل جيل انتقاال منظما‪ ،‬وهلذا‬ ‫‪-4‬‬
‫ندب الشرع إىل التحري يف الزواج‪ ،‬ويف قول النيب صلى ي عليه وسلم "‪ ....‬فأبواه يهودانه أو‬
‫ينصرانه أو ميجسانه " (‪ )297‬شاهد على دور األسرة يف بث اخللق ودعمه‪.‬‬
‫األسرة هي اليت تنمي ُخلُق حتمل التبعة واستشعار املساولية عن إعمار اجملتمع وحتقيق خالفة‬ ‫‪-5‬‬
‫ي يف الكون‪ ،‬وتغرس الفضائل الالزمة لتقدم البالد واستقرارها‪ ،‬والتعاون على الرب والتقوى‪ ،‬وجماِبة‬
‫السلبيات الضارة على كافة األصعدة‪.‬‬
‫األسرة نظام يؤثر يف النظم األخرى ويتأثر ِبا كالنظام االقتصادي والنظام السياسي‪ ،‬ففي‬ ‫‪-6‬‬
‫ظل اجملتمعات املستقرة اقتصاداي وسياسيا تنعم األسرة ابلتكافل االجتماعي‪ ،‬وتتنزه عن االحنرافات‪.‬‬

‫‪ ) 297‬رواه الشيخان من حديث أيب هريرة‪ ،‬البخاري رقم ‪ ،1385‬مسلم ‪.2658‬‬

‫‪136‬‬
‫األسرة وحدة إحصائية‪ ،‬فهي تتخذ أساسا إلجراء التعدادات اخلاصة ابلسكان‪ ،‬واألجور‪،‬‬ ‫‪-7‬‬
‫وميزانية األسرة‪ ،‬وغريها‪ ،‬كما أهنا تتخذ عينة يف الدراسة والبحث عن املشاكل األسرية واجملتمعية‪.‬وبقدر‬
‫أمهية األسرة تتحدد مكانتها‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬الزواج‪ :‬تعريفه‪ ،‬ومقاصده‪ ،‬ومعوقاته وسبل مواجهتها‬
‫أ‪ -‬تعريف الزواج‬
‫الزوج يف اللغة‪ :‬مقابل الفرد‪ ،‬يقال‪ :‬زوج وفرد‪ ،‬والزوجان‪ :‬إما الضدان – كالذكر واألنثى‪ -‬وإما‬
‫املتماثالن‪ ،‬فإن كل شيء له شبيه ونظري " فالزوجان متضادان ابعتبار اجلنس‪ ،‬متماثالن يف التالف‬
‫مع اآلخر والسكون إليه‪.‬‬
‫وللزواج يف االصطالح تعريفات متقاربة‪ ،‬لكنا يف مواجهة تلك الرغبة اجملنونة يف تغيري شكل األسرة‪،‬‬
‫وتعدد أمناطها‪ ،‬وفرض أمناط جديدة من االختالطات حتت مسمى الزواج‪ ،‬أبساليب قانونية‪ ،‬ودعم‬
‫دويل‪ ،‬ينبغي علينا اإلصرار على تلك التعريفات اليت حتفظ املشروع‪ ،‬وترد غائلة اهلوى واالحنراف‪،‬‬
‫عرف‬
‫وخريا فعل واضع القسم األول من قانون األسرة البحريين الصادر ابلقانون ‪19‬لسنة ‪ 2009‬إذ َّ‬
‫الزواج يف املادة الرابعة بقوله " الزواج عقد شرعي بني رجل وامرأة لتكوين أسرة بشروط وأركان مع‬
‫انتفاء املوانع ترتتب عليه حقوق وواجبات شرعية متبادلة "‬
‫وأبرز ما يف هذا التعريف أن‪:‬‬
‫الزواج رابطة َع ْقدية‪ ،‬فرياعى فيه ما يراعى يف كافة العقود‪ ،‬مع مراعاة أن له متيزا‪ ،‬فهو عند‬ ‫‪-1‬‬
‫ي ميثاق غليظ‪.‬‬
‫الع ْقدي ال يكون إال بني خمتلفي اجلنس يقينا‪ ،‬والقصد من إبراز هذا‬
‫‪ -2‬أن هذا االرتباط َ‬
‫القيدَ س اد الباب أمام دعوات إقرار العالقات الشاذة اليت تسمى زورا (مثلية(‬
‫أن الزواج الصحيح هو ما استوِف أركانه وشروطه وانتفت موانعه الشرعية‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫ٍ‬
‫وواجبات متبادلة‪ ،‬أي أن عموم احلق مكافأ بعموم الواجب‪ ،‬وليس‬ ‫أن الزواج يرتب حقوقا‬ ‫‪-4‬‬
‫معناه أن كل حق بعينه يثبت حقا للطرف اآلخر‪ ،‬فمن احلقوق ما تُقدم فيه الزوجة وتستأثر به‪ ،‬ومنها‬

‫‪137‬‬
‫ما يُقدم فيه الزوج أو يستأثر به‪ ،‬وقيمة هذا القيد التحفظ على حماوالت فرض مساواة التطابق بني‬
‫الرجل واملرأة دون مراعاة ما بينهما من فوارق طبيعية‪.‬‬

‫ب‪ -‬مقاصد الزواج‬


‫داعي الزواج األعم هو إشباع الرغبة اجلنسية ابلطريق املشروع‪ ،‬وليس ذلك مقصده الوحيد‪ ،‬بل‬
‫لعله ال يكون مع هذا الظهور والشيوع هو حقيقة املقصود‪ ،‬يقول السرخسي احلنفي " النكاح يف‬
‫اللغة‪ :‬عبارة عن الوطء‪ ،‬وحقيقة املعىن فيه هو الضم‪ .....‬مث يستعار للعقد جمازا‪ ،‬ألنه – أي العقد‬
‫– سبب شرعي يتوصل به إىل الوطء‪ ،‬أو ألن يف العقد معىن الضم‪ ،‬فإن أحدمها ينضم به إىل اآلخر‪،‬‬
‫ويكوانن كشخص واحد يف القيام ابملصاا املعيشية‪ ،..‬مث يتعلق ِبذا العقد أنواع من املصاا الدينية‬
‫والدنيوية‪ ،‬من ذلك حفظ النساء‪ ،‬والقيام عليهن‪ ،‬واإلنفاق‪ ،‬ومن ذلك صيانة النفس عن الزان‪ ،‬ومن‬
‫ذلك تكثري عباد ي ابلتناسل‪ ،‬وهذا التناسل عادة ال يكون إال بني الذكور واإلانث‪ ،‬وال حيصل ذلك‬
‫النكاح‪ ،‬وليس املقصود – أي الدافع اجلوهري‪ِ -‬بذا‬
‫َ‬ ‫يق ذلك الوطء‬
‫الشارع طر َ‬
‫ُ‬ ‫إال ابلوطء‪ ،‬فجعل‬
‫العقد قضاء الشهوة‪ ،‬وإمنا املقصود ما بيناه من أسباب املصلحة‪ ،‬ولكن ي تعاىل علق به الشهوة‬
‫لريغب فيه املطيع والعاصي "‪.‬‬
‫ج‪ -‬معوقات الزواج وسبل مواجهتها‬
‫إننا ال ننكر األسباب اليت يرصدها الباحثون االجتماعيون كمعوقات يف طريق الزواج‪ ،‬ألن فهم‬
‫الواقع واإلحاطة به أول عمل الباحث الشرعي يف حتري احلكم واستثماره‪ ،‬لكننا نرد هذه املعوقات‬
‫إىل حمركها احلقيقي‪ ،‬وهو عندان خمالفة حكم ي بوجه من الوجوه‪ ،‬قد يكون ابلغفلة عنه‪ ،‬أو ابخلطأ‬
‫صد من معوقات للزواج ما يلي‪:‬‬
‫يف تفسريه‪ ،‬أو أتويله‪ ،‬أو تطبيقه‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬وأبرز ما يُـ ْر َ‬
‫املغاالة يف املهور‪ :‬وهو شطط ال يكاد ينجو منه جمتمع يف زماننا‪ ،‬يستوي يف ذلك األقطار‬ ‫‪-1‬‬
‫اليت ترتفع فيها الدخول‪ ،‬وتلك اليت تشكو اُنفاض مستوى الدخول‪ ،‬ومل مينع من غلبة هذا الداء‬

‫‪138‬‬
‫انتشار التعليم العايل‪ ،‬وال غلبة مظاهر التدين‪ .‬واإلسالم وإن مل يضع للمهر حدا أعلى وحدا أدىن‬
‫لكنه استحب التيسري فيه‪ ،‬ويف احلديث " " خري الصداق أيسره " (‪.)298‬‬
‫اإلسراف يف مظاهر االحتفال ابلزواج‪ :‬ويظهر يف طلب جتهيز بيت الزوجية على حنو مبالو‬ ‫‪-2‬‬
‫فيه‪ ،‬وإقامة حفل أو أكثر مع بذخ يف الوالئم‪ ،‬واملالبس‪ ،‬والزينات‪ ،‬وفرق الغناء‪ ،‬فضال عن بدعة (‬
‫شهر العسل ) الذي يقضى خارج البالد‪ ،‬أو يف أحد الفنادق‪ .‬وهذه النفقات الباهظة تثقل ال شك‬
‫كاهل الشباب‪ ،‬السيما مع السببني السابق والتايل‪ ،‬حىت مع تدخل احلكومات بتنظيم حفالت الزواج‬
‫اجلماعي‪.‬‬
‫البطالة وضعف الدخول‪ :‬بغلبة النشاط الصناعي‪ ،‬وازدايد تدخل الدولة يف املرافق املختلفة‪،‬‬ ‫‪-3‬‬
‫مع انتشار التعليم املتخصص‪ ،‬أصبح مألوفا أن تعمل الدولة‪ ،‬عن طريق أجهزهتا‪ ،‬أو بتحفيز القطاع‬
‫العمل للخرجيني‪ ،‬غري أنه مع التقدم التكنولوجي‪ ،‬وزايدة عدد اخلرجيني‪،‬‬ ‫اخلا ‪ ،‬على توفري فر‬
‫على وظائف بعينها‪ ،‬وأجر متميز‪ ،‬وجدت البطالة‪ ،‬وارتفع عدد‬ ‫وتقلبات سوق العمل‪ ،‬مع احلر‬
‫املتعطلني‪ ،‬السيما يف األعمال الفنية‪ ،‬واملهارية‪ ،‬والعضلية‪ ،‬وألقت هذه املشكلة مع سابقتيها بظالهلا‬
‫على اإلقدام على الزواج‪.‬‬
‫رهاب الزواج‪ :‬الرهاب هو اخلوف املبالو فيه دون مربر‪ ،‬ومما اعترب من معوقات الزواج اخلوف‬ ‫‪-4‬‬
‫من حتمل مساوليات الزواج‪ ،‬أو خوف تكرار الزواج بسبب جتربة سابقة مل يكتب هلا النجاح‪ ،‬وهذه حالة‬
‫مرضية غالبا ما تنشأ عن تقصري يف الرتبية اليت ختلو من ( االبتالء ) أو توجيه األوالد إىل حتمل املساولية‪،‬‬
‫وإشراكهم يف األعباء املنزلية‪ ،‬واختاذ القرارات اخلاصة ابألسرة‪ ،‬مع إعفاء كامل من حتمل مساوليات‬
‫اإلنفاق‪ ،‬وتوجيه موارد األسرة‪ ،‬ويعمق هذه املشكلة – دون شك – اضطراب سوق العمل‪ ،‬وتضخيم‬
‫االضطراابت األسرية إعالميا‪ ،‬أو عرضها دون تفسريات ألسباِبا أو عالج آلاثرها‪ ،‬مع غياب التثقيف‬
‫واألساليب التعليمية املؤهلة ملمارسة األدوار املستقبلية‪ ،‬ومنها األدوار الزوجية‪.‬‬

‫‪ ) 298‬أخرجه األلباين يف إرواء الغليل ‪ ،344/6‬وصحيح اجلامع رقم ‪ 3279‬من حديث عقبة بن عامر وصححه‪ ،‬وحنوه عند مجاعة من حديث عائشة‬
‫رضي هللا عنها‪ ،‬بلفظ " إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة " وأعله األلباين يف ختريج مشكاة املصابيح رقم ‪ 3033‬بضعف إسناده‪ .‬لكنه يتقوى برواية عقبة‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫الرغبة يف االستقالل عن أسرة التوجيه‬ ‫‪-5‬‬
‫مع هيمنة أطروحات العوملة الثقافية‪ ،‬والصخب اإلعالمي يف طرح اخلالفات احلاصلة بني زوجة االبن‬
‫وأسرته‪ ،‬ازدادت رغبة حديثي الزواج يف االستقالل ابملسكن‪ ،‬وهو ما زاد من أعباء الزواج‪ ،‬خصوصا مع‬
‫على سكىن الدور أو الوحدات‪ ،‬وهذه حتتاج تكلفة يعجز عنها أكثر الشباب يف مقتبل العمر‪،‬‬ ‫احلر‬
‫وأحسب أن هذه مشكلة ثقافية أكثر منها مادية‪ ،‬وجماِبتها تكون بتكريس الرضا ابلعيش يف كنف األسرة‬
‫الكبرية‪ ،‬أو قبول اإلقامة ابلوحدات السكنية صغرية املساحة كما يفعل شباب األمم األخرى‪.‬‬
‫ضعف االلتزام الديين مع تعقيد احلالل وتيسري احلرام‬ ‫‪-6‬‬
‫ض َع ْن ِذ ْك ِري فَِإ َّن‬
‫وهذا عندي أقوى أسباب العزوف عن الزواج‪ ،‬وانجته املقرر ابلنص القرآين { َوَم ْن أَ ْع َر َ‬
‫ش ُرهُ يَـ ْوَم ال ِْقيَ َام ِة أَ ْع َمى } طه‪ ،124 :‬يقول صاحب الظالل " والشقاء َثرة الضالل‬ ‫ض ْنكا َوَْحن ُ‬ ‫لَهُ َم ِعي َ‬
‫شة َ‬
‫ولو كان صاحبه غارقا يف متاع الدنيا‪ ،‬فهذا املتاع ذاته شقوة‪ ،‬شقوة يف الدنيا وشقوة يف اآلخرة‪ " ...‬فإذا‬
‫أضيف إىل هذا اإلعراض ُوعُورات طريق احلالل‪ ،‬لألسباب اليت ذكرانها أوال‪ ،‬وتسهيل أبواب احلرام‪ ،‬فالبالء‬
‫واقع‪ ،‬وعالجه يف اآلية اليت تسبق ما تلوان وهي قوله تعاىل { فَم ِن اتَّـبع ُه َداي فَ َال ي ِ‬
‫ض ال َوَال يَ ْش َقى }طه‪:‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫‪ ،123‬وتيسري طريق اهلدى‪ ،‬والصرف عن ابب احلرام مساولية جمتمعية أكثر منها فردية‪.‬‬
‫د‪ -‬أحكام الزواج‬
‫الزواج عقد يعقد للدوام‪ ،‬ومن مث كان والبد أن تكون له مقدمات تدعم االبتداء‪ ،‬وشروط تدعم البقاء‪،‬‬
‫وآاثر حتقق الرجاء‪.‬‬
‫مقدمات الزواج‪ ،‬ومن أمهها‪:‬‬
‫‪ -1‬استحب أن يكون الدين واخللق مها عماد االختيار دون إنكار حظ النفس يف الدعائم‬
‫ني والطَّيِبو َن لِلطَّيِب ِ‬ ‫األخرى‪ ،‬ففي كتاب ي تعاىل { والطَّيِب ُ ِ‬
‫الز ِاين َال‬
‫ات } النور‪ ،26:‬وفيه { َّ‬ ‫َ‬ ‫ات للطَّيِبِ َ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ان أ َْو ُم ْش ِر ٌك َو ُح ِرَم ذَلِ َ‬
‫الزانِيةُ َال يـ ْن ِكح َها إَِّال َز ٍ‬ ‫ِ‬
‫ني } النور‪،3:‬‬ ‫ك َعلَى ال ُْم ْؤمنِ َ‬ ‫ِ‬
‫يَـ ْنك ُح إَِّال َزانيَة أ َْو ُم ْش ِرَكة َو َّ َ َ ُ‬
‫ويف السنة املشرفة ما يؤذن مبراعاة حظ النفس‪ ،‬على أن يكون لالعتبار الديين واخللقي املكانة‬
‫األعلى‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫شرع النظر من اجلنسني بغرض إرادة االرتباط‪ ،‬ويف حديث املغرية بن شعبة أن النيب صلى‬ ‫‪-2‬‬
‫ي عليه وسلم قال له " انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما"(‪.)299‬‬
‫ندب اإلسالم إىل االستشارة واالستخارة قبل اإلقدام‪ ،‬فإن وجد ما يرغبه اختذ اخلطوة‬ ‫‪-3‬‬
‫التالية‪.‬‬
‫طلب دون جواب فال خطبة‪،‬‬
‫اخلطبة‪ ،‬وهي‪ :‬تواعد متبادل على الزواج يف املستقبل‪ ،‬فإن ُوجد ٌ‬ ‫‪-4‬‬
‫وهذا القيد مهم ألن النيب صلى ي عليه وسلم " هنى أن خيطب الرجل على خطبة أخيه"(‪ )300‬فاحتجنا‬
‫إىل حتديد معىن اخلطبة‪ ،‬ويشرتط يف املخطوبة أال تكون حمرمة على اخلاطب‪ ،‬وأال يتعلق ِبا حق رجل آخر‪،‬‬
‫وحيرم التصريح خبطبة كل معتدة‪ ،‬وجيوز التعريض ( التلميح ) خبطبة املعتدة من وفاة ابتفاق‪.‬‬
‫وال ترتب اخلطبة أية آاثر إنسانية أو مالية‪ ،‬ولكن يستحب التهادي‪ ،‬ملا له من أثر يف التحاب‪ ،‬ويكره‬
‫العدول عن اخلطبة دون مربر‪ ،‬وليس على العادل من مساولية تستوجب تعويضا إال إذا أساء إىل املعدول‬
‫عنه يف عدوله‪ ،‬والراجح فقها‪ ،‬أن العادل دون مربر يلتزم برد ما قبل من هدااي الطرف اآلخر‪ ،‬ما مل تكن‬
‫هذه اهلدااي قد هلكت أو استهلكت‪ ،‬أو جرى العرف أال ترد‪.‬‬
‫تكوين عقد الزواج‬
‫نقصد بتكوين عقد الزواج اختاذ اإلجراءات مع وجود األركان واستيفاء الشروط وانتفاء املوانع حىت‬
‫توجد الرابطة وجودا معتربا شرعا‪ ،‬وللعلماء يف بيان كل ذلك تفصيالت‪ ،‬وتقع بينهم اخلالفات يف‬
‫بعض األفرع والتفصيالت‪ ،‬وعلى املعتمد ابلقسم األول من قانون األسرة البحريين فإن أركان الزواج‬
‫اثنان مها‪ :‬اإلجياب والقبول ( ويطلق عليهما الصيغة ) والزوجان ل الرجل واملرأة‪ ،‬وفيما يلي نوجز لك‬
‫شروط كل ركن من هذين الركنني‪:‬‬
‫أوال‪ :‬يشرتط يف الصيغة ( اإلجياب والقبول) ومتعلقاهتا‪:‬‬
‫أن تكون الصيغة بلفظ دال على إرادة الزواج لغة أو عُرفا‪ ،‬فإن عجز العاقد عن الكالم‬ ‫‪-1‬‬
‫فالكتابة الواضحة‪ ،‬فإن عجز فاإلشارة املفهمة‪.‬‬
‫منجزة‪ ،‬أي دالة على نشأة الزواج يف احلال‪.‬‬
‫أن تكون صيغة العقد َّ‬ ‫‪-2‬‬

‫‪ ) 299‬أخرجه اإلمام أمحد من حديث املغرية بن شعبة رقم ‪ ،12613‬وحسنه البغوي يف شرح السنة ‪.289/5‬‬
‫‪ ) 300‬أخرجه البخاري يف كتاب النكاح برقم ‪ ،5142‬ومسلم برقم ‪ 1412‬من حديث عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫أن يوافق القبول اإلجياب صراحة أو ضمنا‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫أن يتحد جملس القبول واإلجياب‪.‬‬ ‫‪-4‬‬
‫أن تكون الصيغة مقصودة ودالة على إرادة الدوام‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫أن يكون كل من العاقدين أهال إلبرام العقد‪ ،‬وال خالف بني العلماء يف اشرتاط أن يكون‬ ‫‪-6‬‬
‫العاقد ابلغا عاقال‪ ،‬لكن هل يشرتط أن يكون رجال ؟ يقول األكثرون‪ :‬نعم‪ ،‬فال نكاح إال بويل‪.‬‬
‫ويقول األحناف واجلعفرية وبعض العلماء‪ :‬يستحب وال جيب‪ ،‬فيجوز عندهم أن تزوج املرأة نفسها‬
‫دون حاجة ألن يتوىل العق َد أح ُد أوليائها‪.‬‬
‫‪ -7‬واشرتط بعض الفقهاء اإلشهاد على عقد الزواج فإذا مل يشهد عليه فسد‪ ،‬وقال آخرون‪:‬‬
‫يستحب اإلشهاد وال جيب‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬ويشرتط يف الزوجني‪:‬‬
‫أن يكوان معيـنَ ْني تعيينا انفيا ألي جهالة‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫أن يكون كل منهما راضيا ابلزواج‪ ،‬فال يصح زواج من مل يرض‪ ،‬رجال كان أو امرأة‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫أال تكون املرأة حمرمة على الرجل حترميا مؤبدا ( دائما ) أو مؤقتا‪ ،‬ونتناول هذا الشرط‬ ‫‪-3‬‬
‫بشيء من التفصيل‪.‬‬
‫التحرمي املؤبد‪ ،‬وأسبابه ثالثة هي‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫النسب ل أي قرابة الدم‪ ،‬وحترم به املذكورات يف قوله تعاىل { ُح ِرَم ْ‬
‫ت َعلَْي ُك ْم أ َُّم َهاتُ ُك ْم‬ ‫•‬
‫ت } النساء‪.23 :‬‬ ‫ات ْاألُ ْخ ِ‬
‫َخ َوبَـنَ ُ‬ ‫َوبَـنَاتُ ُك ْم َوأَ َخ َواتُ ُك ْم َو َع َّماتُ ُك ْم َو َخ َاالتُ ُك ْم َوبَـنَ ُ‬
‫ات ْاأل ِ‬
‫الرضاع‪ ،‬وحيرم بسببه ما حيرم من النسب‪ ،‬والرضاع احملرم ما كان يف احلولني‪ ،‬ويشرتط أن‬ ‫•‬
‫يبلو مخس رضعات مشبعات‪ ،‬وقال اجلعفرية ال حيرم من الرضاع إال ما كان مصا‪ ،‬وبلو عشر‬
‫رضعات مشبعات متصالت‪.‬‬
‫املصاهرةل وهي القرابة الناشاة عن الزواج‪ ،‬وحيرم ابملصاهرة منكوحات والد الشخص‬ ‫•‬
‫وأجداده من جهة أبيه أو من جهة أمه‪ ،‬كما حترم عليه أم زوجته وجداهتا‪ ،‬وحترم عليه بنت زوجته من‬
‫غريه وحفيداهتا بشرط الدخول ابلزوجة‪ ،‬وحترم عليه زوجة ابنه وزوجات أحفاده‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫ب‪ -‬التحرمي املؤقت‪ ،‬وأسبابه‪:‬‬
‫زواج املسلمة بغري املسلم‪.‬‬ ‫•‬
‫زواج املسلم بغري املسلمة والكتابية‪ ،‬ويقال‪ :‬اليت ال تدين بدين طاوي كاجملوسية‪ ،‬والبوذية‪،‬‬ ‫•‬
‫وامللحدة‪.‬‬
‫الزواج بزوجة الغري ومعتدته‪.‬‬ ‫•‬
‫الطالق ثالاث‪ ،‬فتحرم به املطلقة على من طلقها‪.‬‬ ‫•‬
‫اإلحرام ابحلج أو العمرة عند بعض الفقهاء‪.‬‬ ‫•‬
‫زواج اخلامسة ملن يف عصمته أربع‪.‬‬ ‫•‬
‫اجلمع بني ذوات احملارم كاجلمع بني األختني‪ ،‬واجلمع بني املرأة وعمتها واملرأة وخالتها‪.‬‬ ‫•‬
‫آاثر الزواج‬
‫قلنا إن الزواج يرتب حقوقا وواجبات متكاملة‪ ،‬هذه احلقوق والواجبات تثبت للعقد الذي‬
‫استوِف أركانه وشروطه وانتفت موانعه ‪ ،‬أما العقد الذي اختل ركنه فال يرتب أي أثر‪ ،‬وينبغي أن يكون‬
‫احلكم كذلك فيما اختل شرطه لوال أن للزواج يف اإلسالم منزلة خاصة اقتضت الرتخص مثبات بعض‬
‫آاثر للعقد غري الصحيح حىت مع احلكم ابلفسخ‪ ،‬فيفسخ العقد وتثبت بعض آاثره بشرط الدخول‬
‫ابملرأة‪ ،‬أخذا ابلشبهة‪ ،‬وْال حلال املسلمني على الصالح‪ ،‬واحتياطا للفروج‪ ،‬وْاية للمرأة‪ ،‬واحتياطا‬
‫حلق الطفل يف ثبوت النسب وما يرتتب على ذلك من آاثر إجيابية لصاا الطفل‪ ،‬فإذا دخل رجل‬
‫ابمرأة مع وجود خلل يف العقد‪ ،‬أو أنه عاشرها مبظنة أهنا حتل له‪ ،‬ومل تكن كذلك‪ ،‬ترتب على هذه‬
‫العالقة مخسة آاثر‪:‬‬
‫تستحق املدخول ِبا املهر‪ -2 .‬تستحق النفقة طاملا كانت العالقة قائمة ‪-3‬يثبت نسب‬ ‫‪-1‬‬
‫ما أتيت به من ولد إىل الرجل املعاشر ‪ -4‬تثبت ِبذه اخللطة حرمة املصاهرة ‪ -5‬وعلى هذه املرأة مىت‬
‫فارقها هذا الرجل العدة للتأكد من براءة الرحم‪.‬‬
‫آاثر الزواج الصحيح‪ :‬وتتوزع على ثالث فاات‪:‬‬

‫‪143‬‬
‫األوىل‪ :‬احلقوق املشرتكة للزوجني‪ ،‬أي أهنا تثبت لكل منهما يف الوقت ذاته‪ ،‬وهي‪:‬أ‪ِ -‬حل استمتاع‬
‫كل منهما ابآلخر‪ .‬ب‪ -‬احلق يف حسن العشرة‪ .‬ج‪-‬احرتام كل منهما لآلخر وألبويه وأهله األقربني‪.‬‬
‫د‪ -‬العناية ابألوالد وتربيتهم مبا يكفل تنشاتهم تنشاة صاحلة‪ .‬هـ ‪ -‬إحصان كل منهما لآلخر ( م‬
‫‪.)36‬‬
‫الثانية‪ :‬حقوق الزوجة على زوجها‪ ،‬وهي‪ :‬أ‪ -‬املهر‪ .‬ب‪ -‬النفقة ابملعروف‪ .‬ج‪ -‬عدم التعرض‬
‫ألمواهلا اخلاصة‪ ،‬وهلا حق التصرف فيها ابملعروف‪ .‬د‪ -‬عدم اإلضرار ِبا ماداي أو معنواي‪ .‬هـ ‪ -‬العدل‬
‫يف املبيت واإلنفاق عند اجلمع بني اثنني فأكثر‪ .‬و‪ -‬السماح هلا بصلة أرحامها ابملعروف‪ .‬ز‪ -‬أال‬
‫حيرمها من نسله ( م ‪.)37‬‬
‫الثالثة‪ :‬حقوق الزوج على زوجته‪ ،‬وهي‪ :‬أ‪ -‬العناية به وطاعته ابملعروف ابعتباره رب األسرة‪ .‬ب‪ -‬رعاية‬
‫أوالده منها وإرضاعهم إال إذا كان هناك مانع شرعي‪ .‬ج‪ -‬أن حتفظه يف نفسها وماله وبيته إذا غاب أو‬
‫حضر‪ .‬د‪ -‬عدم امتناعها عن اإلجناب إال مذنه‪(.‬م ‪)38‬‬
‫فُـ َرق الزواج‬
‫التعريف والصور‬ ‫أ‪-‬‬
‫‪ - 1‬التعريف‪ :‬ال ُفرق مجع فُرقة‪ ،‬مأخوذة من االفرتاق الذي هو ضد االجتماع‪ ،‬فمعناها إذن‬
‫الفصل واملباعدة‪ ،‬وفُرقة الزواج مبعىن َحل عقده وانقطاع العالقة الناشاة عنه بسبب يقتضي ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬صور الفرقة‪:‬‬
‫الشائع أن الزواج ينتهي ابلوفاة أو ابلطالق‪ ،‬وهذا صحيح ابعتبار الغالب‪ ،‬أما املعرفة فتستوجب‬
‫القول إن الطالق هو ما كان مرادة الزوج‪ ،‬ولو بنائبه‪ ،‬ووقع على نكاح صحيح‪.‬أما إهناء الرابطة اليت‬
‫قامت على أساس عقد أصابه خلل عند تكوينه‪ ،‬أو عرض له ما مينع استمراره فيسمى فسخا‪،‬‬
‫فالفسخ هو نقض عقد الزواج خللل يف نشأته‪ ،‬أو لعارض مينع استمرار الزواج شرعا‪.‬ومثال األول‪:‬‬
‫أن يتزوج أخته من الرضاع وهو ال يعلم‪ ،‬فبمجرد العلم وثبوت الرضاع يفرق بينهما وتسمى الفرقة‬
‫فسخا‪ ،‬ومثال الثاين‪ :‬إذا ارتد الزوج عن اإلسالم واستتيب فلم يرجع حترم عليه زوجته‪ ،‬ويفرق بينهما‬

‫‪144‬‬
‫ابلعارض الذي مينع استمرار زواجهما‪ ،‬وتسمى فرقة فسخ‪ ،‬إذن الفرقة تكون بطالق أو بفسخ أو‬
‫ابلوفاة‪.‬‬
‫واألثر األهم للتفرقة بني الطالق والفسخ أن الطالق حمدد بثالث فإذا استنفدت ال حتل‬
‫املرأة حىت تنكح زوجا غريه‪ ،‬أما الفسخ فغري حمدد‪.‬‬
‫ب‪ -‬حكم الفرقة‪.‬‬
‫إن كانت الفرقة لفساد العقد‪ ،‬أو للعارض الذي مينع االستمرار شرعا‪ ،‬أو كان لرفع الضرر الذي ال سبيل‬
‫إىل رفعه إال ابلتفريق فالفرقة واجبة‪ ،‬وإن مل يكن شيء من ذلك فاإلسالم يكره الفرقة‪ ،‬ويعمل على رأب‬
‫الصدع‪ ،‬والرتغيب يف البقاء بقدر اإلمكان‪ ،‬ويف احلديث الذي صح معناه‪ ،‬وقيل ضعف إسناده " إن أبغض‬
‫احلالل عند ي الطالق "‪.‬‬
‫ج‪ -‬التفكك األسري‪:‬‬
‫اإلحصائيات املنشورة عن ظاهرة التفكك األسري مرعبة‪ ،‬ويف املقابل فإن البحوث الرصينة ( يف الغرب‬
‫) انتهت إىل أن " من بني كل البدائل املتاحة للمجتمعات لوضع حد للنزاعات الزوجية يربز الطالق كأكثرها‬
‫عدال للفريقني " وهو معىن اثبت عندان عن اإلمام الصادق رضي ي عنه‪ .‬واحلاصل أن إغالق ابب الطالق‬
‫ال يعا النزاعات الزوجية‪ ،‬وقد رضخت الدول املسيحية مجيعها هلذه احلقيقة فأبطلت ما ابتدعته من إغالق‬
‫ابب الطالق‪.‬‬
‫مث لوحظ أن االُنفاض امللحوظ يف اإلقبال على الزواج ( خصوصا يف البالد غري املسلمة ) مل مينع‬
‫من التفكك األسري الذي سرعان ما يصيب هذه األسر القليلة الناشاة‪ ،‬ومل َحتُ ْل البحوث االجتماعية‬
‫الكثرية‪ ،‬وال مقرتحاهتا‪ ،‬كذلك اجلهود احلكومية عندهم – وهي ال شك متميزة – دون الفرقة‪ ،‬ألن‬
‫املقرتحات واحللول أتت على آاثره الظاهرة‪ ،‬ومل تقطع أسباِبا‪ ،‬وهي حسب إحصاء بعض الكتاب إما‬
‫خاصة‪ ،‬وإما عامة‪.‬‬
‫فمن األسباب اخلاصة‪:‬‬
‫‪ -1‬انعدام االنسجام بني الزوجني‪ -2 ...‬الفشل يف العالقة اخلاصة‪ -3.......‬االستهانة ابحلياة‬
‫الزوجية‪ -4......‬ضعف مشاركة املرأة زوجها يف احلياة العائلية مجيابية‪ -5 .‬عدم التكافؤ االجتماعي‬

‫‪145‬‬
‫والثقايف بني الزوجني‪ -6....‬عقم أحد الزوجني أو خيانته لثقة اآلخر‪ -7.....‬املشكالت النامجة عن‬
‫تعدد الزوجات‪ -8....‬تدخل األقارب يف حياة الزوجني‪ -9 .‬استغناء املرأة مباهلا وانشغاهلا بعملها‬
‫على حساب دورها األسري‪.‬‬
‫ومن األسباب العامة‪:‬‬
‫‪ -1‬تردي األوضاع االقتصادية ألي سبب من األسباب‪.‬‬
‫‪ -2‬تطور مركز املرأة يف اجملتمع وظيفيا وسياسيا‪.‬‬
‫‪ -3‬ضعف الوازع الديين واألخالقي‪.‬‬
‫‪ -4‬تغليب األهواء على املصاا احلقيقية يف اختيار الشريك‪.‬‬
‫وليست عندان السعة الستعراض نتائج البحوث حول أسباب الطالق تفصيال‪ ،‬كما أننا نفتقد يف‬
‫احلقيقة الدراسات املسحية احلديثة اليت تعطينا نتائج راجحة يف إرجاع ظاهرة الطالق إىل أسباِبا مرتبة‬
‫ترتيبا دقيقا‪ ،‬بل إن بعض الدراسات كشفت عن نتائج تبدو غري متوقعة‪ ،‬كالتعليم فإنه أسهم يف زايدة‬
‫نسبة الطالق‪ ،‬ومل مينع من الزايدة أن يكون للتثقيف الديين بروز ظاهر‪ ،‬يف مقررات الدراسة‪..‬‬
‫وال شك أن للتغريات اجملتمعية أثرا يف أسباب ظاهرة الطالق‪ ،‬فما كان سببا خامال يف بياة ما غدا‬
‫فاعال يف البياة املغايرة‪ ،‬ومؤدى ذلك أن تكون األسباب املادية للظاهرة أسبااب مؤقتة‪ ،‬قد تنتهي‬
‫ابنتهاء الظروف املهياة لتفاعلها‪.‬‬
‫والسبب الذي نطمان إىل أنه احملرك لكافة األسباب األخرى هو ضعف الوازع الديين عند أحد‬
‫الزوجني أو كليهما‪ ،‬فالنظرة الفاحصة املتعمقة تكشف عن أنه النداء الوجداين الذي يصد اإلنسان‬
‫عن العبث واالحنراف‪ ،‬ويعيده إىل التوازن السليم واألمن النفسي والرضا واملودة والسعادة‪ ،‬سعادة‬
‫النفس‪ ،‬والغري‪ ،‬واجملتمع‪ ،‬فصرعة تقليد اآلخرين اليت جاءت سببا أوليا للطالق يف بعض الدراسات‬
‫َّعنَا بِ ِه أَ ْزَواجا ِم ْنـ ُه ْم َزْه َرةَ ا ْحلَيَاةِ ال ادنْـيَا‬
‫ك إِ َىل َما َمتـ ْ‬
‫مينع منها االلتزام ابلنهي الشرعي { َوَال َمتُ َّد َّن َع ْيـنَـ ْي َ‬
‫ري َوأَبْـ َقى } طه‪ ،131 :‬وكذا هني النيب صلى ي عليه وسلم عن التشبه‬ ‫لِنَـ ْفتِنَـ ُه ْم فِ ِيه َوِر ْز ُق َربِ َ‬
‫ك َخ ٌْ‬
‫ج‬
‫رب َ‬ ‫ابملشركني والكفار يف أخالقهم وعاداهتم‪ ،‬ويف كتاب ي تعاىل { َوقَـ ْر َن ِيف بُـيُوتِ ُك َّن َوَال تَ ََّ‬
‫رب ْج َن تَ َا‬
‫ُوىل} األحزاب‪.33 :‬‬ ‫اهلِيَّ ِة ْاأل َ‬
‫ا ْجل ِ‬
‫َ‬

‫‪146‬‬
‫وأييت سوء العشرة من قبل كال الزوجني أو أحدمها سببا اتليا ومينع منه ابلتأكيد تلك الوصااي‬
‫الشرعية يف الكتاب والسنة اليت حتض على اإلمساك ابملعروف‪ ،‬وتنهى عن الضرار‪ ،‬والبغي‪ ،‬والصرب‬
‫– حىت مع الكراهة ‪ ،-‬واألمر بتقوى ي يف النساء‪ ،‬كما حتض النساء على الطاعة‪ ،‬وحسن التبعل‪.‬‬
‫ويربز تدخل األهل كسبب متقدم يف الطالق‪ ،‬والتدخل خمالفة فجة للنهي الشرعي عن إفساد زوج‬
‫على زوجه بل هو مناقضة للواجب الشرعي ابلتدخل لرأب الصدع وحتاشي الشقاق‪.‬‬
‫ويقول بعض الباحثني حبق‪ :‬وحني تكشف هذه الدراسة عن وجود معظم هذه املمارسات اخلاطاة‬
‫عند الكثري من األزواج‪ ،‬فإن ذلك يشري إىل ضعف صارخ‪ ،‬ووهن مالحظ يف الوازع الديين‪ ،‬وما مل‬
‫توجد خطة عملية سريعة للتبصري والتوعية‪ ،‬وقوانني رادعة‪ ،‬وتثقيف هادف حنو تغيري يف االجتاهات‬
‫واألفكار‪ ،‬وتعديل علمي يف السلوك‪ ،‬فإن نسب الطالق خالل األعوام القادمة ستتضاعف وتزداد‪.‬‬
‫د‪ -‬هل يستبد الرجل يف اإلسالم بالطالق‬

‫ظاهر األدلة من الكتاب والسنة أن الطالق بيد الرجل‪ ،‬يوقعه مع مراعاة شروط الطالق‪ ،‬دون‬
‫حاجة إىل توافق مع زوجته‪ ،‬وال حاجة إىل حكم حاكم به‪ ،‬ولكن هذا األسلوب يف إيقاع الطالق مما‬
‫ال يقره الغرب الكنسي ومن مث فإن الغرب واملسكونني بفكره يرفضون األسلوب اإلسالمي بدعوى‬
‫التمييز ضد املرأة‪.‬‬
‫واحلق أن اإلسالم يقر التفرقة بني الرجل واملرأة يف بعض األمور املتعلقة ابلزواج‪ ،‬والطالق‪،‬‬
‫والعالقات العائلية‪ ،‬كاملهر والنفقة فإهنما من مساوليات الرجل‪ ،‬والطالق يوقعه الرجل دون حاجة إىل‬
‫حكم القضاء‪ ،‬ودعاء الولد فإنه يكون ابسم أبيه خاصة‪ ،‬واملرياث فإن للزوج النصف أو الربع‪ ،‬أما‬
‫الزوجة‪ -‬إن كانت واحدة – فلها الربع أو الثمن حسب عدم وجود الولد ووجوده‪ .‬لكن دعوى‬
‫استبداد الرجل ابلطالق غري صحيحة‪ ،‬ألن فُـ َر املرأة يف الفرقة أوفر من حظ الرجل فيها‪ ،‬فالزوج‬
‫املسلم يستطيع أن يوقع طالق امرأته رجعيا بنفسه وإرادته املنفردة‪ ،‬لكن الطالق الرجعي ال يقطع‬
‫العصمة‪ ،‬وال يقع طالق الرجل ابئنا إال يف حالة من حاالت أربع‪ :‬األوىل‪ :‬إن كانت املطلقة غري‬
‫مدخول ِبا‪ ،‬والثانية‪ :‬مىت انتهت عدهتا من الطالق الرجعي‪ .‬والثالثة‪ :‬إن كان الطالق بناء على اتفاق‬
‫بني الزوجني على مال تدفعه الزوجة للرجل كي يطلقها‪ ،‬أو تربؤه مما هلا عليه من حق‪ .‬والرابعة‪ :‬إذا‬

‫‪147‬‬
‫كانت الطلقة هي الثالثة‪ ،‬ويف هذه احلالة فقط تبني الزوجة بينونة كربي فال حتل ملطلقها حىت تنكح‬
‫زوجا غريه‪.‬‬
‫أما املرأة فتستطيع أن تشرتط على الرجل أن يفوضها يف أمر طالقها‪ ،‬أو ميلكها إايه‪ ،‬فإن فعل كان‬
‫للمرأة أن توقع هي الطالق ويقع عندئذ ابئنا‪ ،‬فال تعود املطلقة إىل الرجل إال بعقد ومهر جديدين‪،‬‬
‫وِبما بعد أن تنكح زوجا غريه إن كانت الطلقة اليت أوقعتها هي الثالثة‪ ،‬ومتلك املرأة شرعا أن تطلب‬
‫املخالعة نظري رد الصداق الذي قبضته‪ ،‬فإن رفض الزوج أو تعنت جاز طلب املخالعة اجلربية من‬
‫القاضي‪ ،‬فإن عجز القاضي عن املصاحلة حكم ابملخالعة‪ ،‬ويف اخللع ال تلزم الزوجة بتربير طلبها‬
‫الفرقة‪ ،‬غاية األمر أن تقول أمام القاضي ( أخشى أال أقيم حدود ي )‪ ،‬ويقع ابخللع فسخ عند بعض‬
‫العلماء‪ ،‬وطالق ابئن بينونة صغرى عند اآلخرين‪ ،‬ومها يف األثر سواء‪.‬‬
‫أضر ِبا‪ ،‬ولديها الدليل على ما تقول‪ ،‬رفعت أمرها إىل القضاء‪،‬‬
‫وإن كانت الزوجة تدعي أن زوجها َّ‬
‫فإن أثبتت مدعاها‪ ،‬ومل تنجح مساعي اإلصالح‪ ،‬حكم هلا القضاء بطلقة ابئنة بينونة صغرى‪ ،‬إال يف‬
‫الطالق لعدم اإلنفاق فإنه يطلقها طلقة رجعية‪ ،‬وتستحق املطلقة مبعرفة القضاء كل حقوقها‪ ،‬وكأن‬
‫الزوج هو من طلقها‪ .‬والضرر هو كل أمر غري مشروع تتأذى منه الزوجة‪ ،‬ويتعذر معه دوام العشرة‬
‫بني أمثال الزوجة املدعية وزوجها‪ ،‬قوال كان أو فعال‪ ،‬ماداي كان أو معنواي‪.‬‬
‫وتطلق ابئنا أيضا يف حالة الشقاق‪ ،‬وهي أن تدعي ضررا وتعجز عن إثباته‪ ،‬مث تدعي ضررا آخر‬
‫وتعجز عن إثباته أيضا‪ ،‬فتتكرر شكواها مع العجز عن اإلثبات‪ ،‬عندئذ حتال الدعوى إىل التحقيق‬
‫ملعرفة املتسبب يف الشقاق‪ ،‬فإن استمر جتري حماوالت الصلح مبعرفة القضاء‪ ،‬مث مبعرفة حمكمني تندِبم‬
‫احملكمة لذلك‪ ،‬فإن وقع العجز عن اإلصالح فرقت احملكمة ببينونة‪ ،‬ولكن قد ُحتْ َرم املرأة من كل أو‬
‫تبني للمحكمة من التحقيقات أهنا السبب يف الفرقة‪.‬‬
‫بعض حقوقها املالية إ ْن َّ‬
‫فانظر‪ ،‬أي الزوجني ميلك من فر الطالق ما ال ميلكه اآلخر‪ ،‬وقد كنا نؤيد دعوى جعل الطالق كله‬
‫بيد القاضي لتتحقق املساواة بني الزوجني لو وجدان لذلك َثرة يف تقليل حاالت الطالق يف ظل النظام اليت‬
‫نطبقه‪ ،‬لكنا وجدان العكس‪ ،‬فما اجلدوى إذن ؟‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪:‬حقوق األوالد والوالدين‬
‫أ‪ -‬حقوق األوالد‬
‫أوال‪ :‬حقوق ما قبل الوالدة‪.‬‬
‫أن من حقوق الولد ما يسبق وجوده‪ ،‬كحق الولد‬ ‫وهي كثرية متنوعة‪ ،‬ويفهم من بعض النصو‬
‫على أبيه أن خيتار له األم ذات اخللق والدين‪ ،‬الودود الولود‪ ،‬عمال بقول النيب صلى ي عليه وسلم‬
‫" تزوجوا الودود الولود فإين مكاثر بكم األنبياء يوم القيامة " (‪ .)301‬ومن احلقوق السابقة لوجوده‬
‫حتصني بذرة الولد من ضر الشيطان‪ ،‬وذلك ابالستعاذة ابهلل من الشيطان عند إرادة اللقاء بني‬
‫األبوين‪ ،‬ملا يف احلديث "لو أن أحدكم إذا أراد أن أييت أهله قال‪ :‬بسم ي‪ ،‬اللهم جنبنا الشيطان‪،‬‬
‫وجنب الشيطان ما رزقتنا‪ ،‬فإن قضي بينهما ولد من ذلك مل يضره الشيطان " (‪.)302‬‬
‫ودون اعتبار لسبب احلمل فإن من حق اجلنني أن ُْحيمى حىت يتم ْله ويولد‪ ،‬فاإلسالم حيرم‬
‫اإلجهاض وإن كان احلمل سفاحا‪ ،‬وال جييز أهل العلم اإلجهاض – خصوصا بعد نفخ الروح‪ -‬إال‬
‫تفاداي خلطر حمقق الوقوع على حياة األم‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬حقوق الولد بعد الوالدة‪:‬‬
‫‪ -1‬حقه يف أن يكون التكبري والشهاداتن أول طاعه‪ ،‬ملا ورد يف حديث أيب رافع قال‪ ":‬رأيت‬
‫النيب صلى ي عليه وسلم أذَّن يف أُذُ ِن احلسني حني ولدته فاطمة ابلصالة"(‪.)303‬‬
‫‪ -2‬حقه يف التحنيك‪ :‬ويكون بشيء مائع كتمر أو رطب‪ ،‬يؤخذ منه مِبام الشخص احلريص مث‬
‫يدلك به فم املولود لالطمانان أن لسانه غري ملتصق حبلقه‪ ،‬ولينزل منه شيء إىل اجلوف‪ ،‬حلديث أيب‬
‫موسى األشعري قال " ولد يل غالم فأتيت به النيب صلى ي عليه وسلم‪ ،‬فسماه إبراهيم‪ ،‬وحنكه‬
‫بتمر " (‪.)304‬‬

‫‪ ) 301‬رواه ابن حبان يف صحيحه برقم ‪ 4028‬من حديث أنس بن مالك وبرقم ‪ 4056‬من حديث معقل بن يسار‪ ،‬وقد أخرج أبو داود حديث معقل برقم‬
‫‪ 2050‬وسكت عنه‪ ،‬وقد قال يف رسالته إىل أهل مكة إن ما سكت عنه فهو صاحل‪.‬‬
‫‪ ) 302‬أخرجه الشيخان ؛ البخاري برقم ‪ ،6388‬مسلم ‪ 1434‬من حديث ابن عباس رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫‪ ) 303‬رواه أبو داود رقم ‪ 5105‬وسكت عنه‪ ،‬والرتمذي رقم ‪ 1514‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ ) 304‬أخرجه مسلم برقم ‪.2145‬‬

‫‪149‬‬
‫اد أَ ْن‬ ‫َني َك ِاملَ ْ ِ‬
‫ني لِ َم ْن أ ََر َ‬ ‫ات يـر ِ‬
‫ض ْع َن أ َْوَال َد ُه َّن َح ْول ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -3‬الرضاع‪ :‬وهو اثبت بقول ي تعاىل { َوال َْوال َد ُ ُ ْ‬
‫اعةَ } البقرة‪ ،233 :‬وجيب على األم ـ داينة القضاء ـ ما دامت الزوجية قائمة‪ ،‬إال أن‬ ‫ضَ‬ ‫يُتِ َّم َّ‬
‫الر َ‬
‫يضرها‪ ،‬فإن كانت األم مطلقة وقت الرضاع فال جيب عليها إال أن تتعني فال يوجد غريها‪ ،‬وتستحق‬
‫على ذلك أجرا يغرمه األب أو الوارث‪ ،‬إن مل يكن للرضيع مال‪ ،‬وال يفطم الولد دون احلولني إال‬
‫بتشاور والديه وتراضيهما‪.‬‬
‫ط ِع ْن َد َِّ‬ ‫‪ -4‬حقه يف النسب إىل والديه‪ :‬وذلك بقول ي تعاىل { ا ْدعُ ُ ِ ِ‬
‫اَّلل}‬ ‫وه ْم آل َابئ ِه ْم ُه َو أَق َ‬
‫ْس ُ‬
‫األحزاب‪ ،5 :‬وينسب الولد إىل أمه إن ْلت به سفاحا‪ ،‬أو بعد مالعنة‪ ،‬وينسب إىل أبيه كلما‬
‫ُوجد نكاح صحيح‪ ،‬أو شبهة نكاح‪ ،‬ومن منهج اإلسالم التوسع يف إثبات النسب‪ْ ،‬اية للطفل من‬
‫الضياع‪ ،‬لكن اإلسالم حيرم التبين‪ ،‬والراجح عدم نسبة ولد الزان إىل الزاين سدا لباب الفساد‪.‬‬
‫‪ -5‬احلق يف االسم احلسن‪ :‬استجابة ألمر النيب صلى ي عليه وسلم " إنكم تدعون يوم القيامة‬
‫أبطائكم وأطاء آابئكم فحسنوا أطاءكم " (‪ )305‬وقد كان من هديه صلى ي عليه وسلم تغيري األطاء‬
‫اليت ال تليق‪.‬‬
‫سن النيب صلى ي عليه وسلم االحتفاء ابملولود‪ ،‬واالستبشار به‪ ،‬ويكون‬
‫‪ -6‬العقيقة وحلق الشعر‪َّ :‬‬
‫ذلك ابلتوسعة على النفس واألهل وإكرام الفقري ابلعقيقة‪ ،‬والتصدق بوزن شعر املولود ذهبا أو فضة‪،‬‬
‫قال صلى ي عليه وسلم " كل غالم مرهتن بعقيقته‪ ،‬تذبح عنه يوم سابعه‪ ،‬وحيلق ويسمى " (‪)306‬‬
‫ويعق القادر عن الغالم بشاتني وعن املولودة بشاة واحدة‪.‬‬
‫‪ -7‬التختني‪ :‬ففي الصحيحني من حديث أيب هريرة قال‪ :‬قال رسول ي صلى ي عليه وسلم "‬
‫الفطرة مخس‪ :‬اخلتان‪ ،‬واالستحداد‪ ،‬وقص الشارب‪ ،‬وتقليم األظفار‪ ،‬ونتف اإلبط " (‪ )307‬قال ابن‬
‫ِ‬
‫كثري من العلماء يف‬ ‫القيم‪ :‬أُمر ِبا إبر ُ‬
‫اهيم‪ ،‬وهي من الكلمات اليت ابتاله ربه ِبن‪ .‬وقد أوجب اخلتا َن ٌ‬

‫‪ ) 305‬أخرجه أبو داود من حديث أيب الدرداء رقم ‪ ،4948‬وابن حبان يف صحيحه ‪ ،5818‬واملنذري يف الرتغيب والرتهيب ‪ 112/3‬وإسناده صحيح أو‬
‫حسن أو ما قارهبما‪ ،‬والنووي يف اجملموع ‪ 436/8‬وإسناده جيد‪.‬‬
‫‪ ) 306‬رواه أبو داود من حديث مسرة بن جندب ‪ 2838‬وسكت عنه‪ ،‬والرتمذي ‪ 1522‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ ) 307‬أخرجه الشيخان ؛ البخاري ‪ ،5889‬مسلم ‪ 257‬من حديث أيب هريرة‪ ،‬وهو عند أصحاب السنن ومالك وأمحد وابن حبان وغريهم‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫حق الذكر‪ ،‬وقال بعض أهل العلم ُسنَّة‪ ،‬يؤمث برتكها‪ ،‬بل قالوا‪ :‬هو من أظهر الشعائر اليت يفرق ِبا‬
‫بني املسلم والنصراين‪ ،‬حىت أن من أسلم وهو كبري عليه أن خيتنت‪.‬‬
‫‪ -8‬اإلشفاق ابلولد‪ :‬اإلسالم شديد احلر على أن يكون البيت املسلم عامرا ابملودة والرْة‪،‬‬
‫ومبىن معاملة رأسي البيت ( الزوجني ) على حسن العشرة‪ ،‬حىت يف املؤاخذة ُج ِع َل العقاب آخر‬
‫اخليارات‪ ،‬مع تشريع أبواب الصلح دائما‪ ،‬ال خلدمة الزوجني فحسب‪ ،‬وإمنا لتهياة اجلو لتنشاة‬
‫األجيال املقبلة‪ " ،‬فال شيء يفسد الرتبية‪ ،‬وجيعلها أبعد عن إيتاء َثرهتا من جو القلق العصيب والنفسي‪،‬‬
‫والفكري‪ ،‬والروحي‪ ،‬واجلو املشحون‪ ،‬والشقاق والتوتر " وقد جاءت السنة املشرفة بكثري مما يدعم‬
‫من َْْل الولد حىت يف الصالة‪ ،‬وتقبيله‪ ،‬ومسح رأس الصغري‪ ،‬والسالم‬ ‫العواطف واالنفعاالت ِ‬
‫اخلرية‪ْ ،‬‬
‫عليه‪ ،‬وإعالن حمبته‪ ،‬فالنيب صلى ي عليه وسلم يقول عن احلسن " اللهم إين أحبه فأحبه " (‪.)308‬‬
‫‪ -9‬الرتبية والتعليم النافع‪ " :‬كل إنسان سوي يولد ويف نفسه جمموعة من اخلطوط املتوازية‪،‬‬
‫املتضادة يف االجتاه‪ ،‬كاخلوف والرجاء‪ ،‬واحلب والكره‪ ،‬واحلسية واملعنوية‪ ،‬واإلميان مبا تدركه احلواس‪،‬‬
‫واإلميان مبا ال تدركه احلواس‪ ،‬والواقع واخليال‪ ،‬والفردية واجلماعية‪ ،‬والسلبية واإلجيابية‪ ،‬وااللتزام‬
‫والتحرر‪ ،‬وكلها خطوط أصيلة يف الفطرة البشرية‪ ،‬وتؤدي عملها يف تكوين البناء النفسي لإلنسان‪،‬‬
‫‪ .....‬واملعاملة اخلارجية للطفل هي اليت تُـ ْع ِمل هذه اخلطوط وتربزها‪ .... ،‬وهنا أتيت مهمة الرتبية إلعادة‬
‫التوازن إىل هذه اخلطوط املتقابلة ومنعها من االحنراف وهلذا اعتربت األسرة اهلياة األساسية األوىل اليت‬
‫متارس الضبط يف إطار عملية اجتماعية كربى‪ ،‬وهي التنشاة االجتماعية ألفرادها‪ ،‬واستحقت هلذا الدور‬
‫ص ِغريا } اإلسراء‪.23 :‬‬ ‫العظيم التوصية اإلهلية يف قول ي تعاىل { َوقُ ْل َر ِ‬
‫ب ْار َْْ ُه َما َك َما َربـَّيَ ِاين َ‬
‫التعليم‪ ،‬وشأنه شأن غريه من املكتسبات منه الضار‪ ،‬ومنه النافع‪ ،‬والشرع يوصينا ابلنافع‬
‫ُ‬ ‫ويالزم الرتبيةَ‬
‫يف آايت وأحاديث عديدة‪ ،‬يصرح بذلك أحياان‪ ،‬ويومىء أحياان كثرية‪ ،‬كالتعليم ابلقدوة الذي يكسب‬
‫الطفل الصفات واملواقف تقليدا‪ ،‬هلذا كانت الوصاية بزواج ذات الدين‪ ،‬وذي الدين واخللق‪ ،‬مث يلي‬
‫ين َال تُ ْش ِر ْك ِاب َِّ‬
‫َّلل إِ َّن‬ ‫التلقني‪ ،‬وأوله العقيدة الصحيحة‪ ،‬لذا كان أول وعظ لقمان البنه { َاي بُ ََّ‬ ‫القدوةَ‬
‫ُ‬

‫‪ ) 308‬رواه البخاري من حديث أيب هريرة رقم ‪.5884‬‬

‫‪151‬‬
‫يم} لقمان‪ ،13 :‬مث الفروض واملعارف الدينية فاألخالق القومية‪ ،‬والسلوكيات‬ ‫الشر َك لَظُل ِ‬
‫ِ‬
‫ْم َعظ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫احلميدة‪ ،‬على ما توحي بذلك عظة لقمان‪.‬‬
‫وجيدر هنا التنبيه إىل خطورة هؤالء البنائني اجلدد على التنشاة االجتماعية والفكرية‪ ،‬إهنا الوسائل‬
‫اإلعالمية والرتفيهية‪ ،‬من تلفاز وإعالم إلكرتوين‪ ،‬فمنذ قرابة العقدين كان أحد كبار االجتماعيني يدق‬
‫انقوس اخلطر من التلفاز يشرتك " مع الوالدين يف القيام أبهم دور وأخطره‪ ،‬وهو التطبيع االجتماعي‪،‬‬
‫أو التنشاة االجتماعية " فيا ترى لو كان فينا اليوم فما تراه يقول عن األجهزة الذكية اليت التصقت‬
‫ابأليدي والتصقت ِبا األعني واألفكار‪.‬‬
‫العدل بني األوالد‪ :‬حفاظا على توازن اخلطوط املتوازية املتضادة اليت يولد ِبا الطفل‬ ‫‪-10‬‬
‫السوي ينبغي عدم إفساد املوازين يف حسه‪ ،‬وحتاشي إشعاره أبن األمور ليس هلا ضابط حمدد‪ ،‬فال‬
‫يعاقب بغري خطأ‪ ،‬وال يهمل تقديره إذا أحسن‪ ،‬وال ينقص حقا من حقوقه‪ ،‬حىت ال يتولد يف ِ‬
‫حسه‬ ‫ُ‬
‫الشعور ابالضطهاد والظلم‪ ،‬ولذلك حير اإلسالم حرصا شديدا على أال حيس الطفل ابلظلم من‬
‫والديه‪ ،‬ويوصي الرسول صلى ي عليه وسلم ابلعدل بني األخوة هلذا السبب ذاته‪ ،‬ألن شعور أي‬
‫واحد منهم بوقوع الظلم عليه من والديه يفسد كيانه‪.‬‬
‫كفالة الولد أو حضانته‪ :‬ومما يعد تطبيقا للشفقة ومظهرا يف القيام حباجة من ال يستقل‬ ‫‪-11‬‬
‫أبموره وإصالح شأنه ووقايته مما يضره إىل جانب تربيته الكفالة‪ ،‬أو ما اشتهر مبصطلح ( احلضانة )‪،‬‬
‫ويشهد للزومها قوله تعاىل { َوَك َّفلَ َها َزَك ِرَّاي } آل عمران‪ ،37 :‬وقوله على لسان أخت موسى { َه ْل‬
‫ت ي ْك ُفلُونَهُ لَ ُكم و ُهم لَهُ َان ِ‬
‫ٍ‬
‫ص ُحو َن} القصص‪ ،12 :‬فضال عن أحاديث وآاثر‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َدلا ُك ْم َعلَى أَ ْه ِل بَـ ْي َ‬
‫أُ‬
‫تثبت احلق وتضبط التكليف‪ ،‬ويهمنا من حديث احلضانة أن مدارها على نفع الصغري‪ ،‬لذا اعتربت‬
‫ح اقه‪ ،‬وإن كان لكل من الوالدين فيها حظ‪ ،‬واألمر الثاين‪ :‬أن أكثر أحكامها مبنية على فقه السياسة‬
‫الشرعية‪ ،‬وهو ما جيعلها مرنة تستجيب الختالف البياات واألحوال‪.‬‬
‫الوالية‪ :‬ويكتمل عقد الشفقة مجياب نيابة شرعية يلزم مبوجبها العصبات ابلعناية مبصاا‬ ‫‪-12‬‬
‫من ال حيسن التصرف لصغر أو غريه‪ ،‬يف نفسه‪ ،‬أو يف ماله‪ ،‬ويسمى هذا اإللزام الشرعي ابلوالية‪،‬‬
‫وتثبت لألب‪ ،‬فاجلد‪ ،‬فاألقرب فاألقرب‪ ،‬وإذا مل يوجد ويل واحتاج الشخص إىل راع تُعني احملكمة من‬

‫‪152‬‬
‫يقوم بذلك ويسمى ( قيما) وجيوز أن يستخلف الويل من ينوب عنه يف أعماله ويسمى ( وصيا )‪،‬‬
‫وتصرفات كل من هؤالء حمددة شرعا‪ ،‬ومراقبة قضاء‪ ،‬املهم أن الشرع يلزم برعاية الولد كفالة ووالية‬
‫وقوامة ووصاية‪.‬‬
‫النفقة‪ :‬وهي التزام يقع على شخص ( كاألب مثال) ملصلحة املن َفق عليه (كالطفل مثال‬ ‫‪-13‬‬
‫) تعين‪ :‬توفري املطعم وامللبس واملسكن‪ ،‬وسائر ما ال بد منه‪ ،‬بقدر سعة املنفق‪ ،‬وعلى ما يليق حبال‬
‫املن َفق عليه‪ ،‬بغري إسراف وال إقتار‪(.‬م ‪ )45‬أخذا من قول ي تعاىل { لِيُـ ْن ِف ْق ذُو َس َع ٍة ِم ْن َس َعتِ ِه َوَم ْن‬
‫اَّللُ } الطالق‪ ،7 :‬وقول النيب صلى ي عليه وسلم لزوج أيب سفيان‬ ‫قُ ِد َر َعلَْي ِه ِر ْزقُهُ فَـ ْليُـ ْن ِف ْق ِممَّا َ‬
‫آاتهُ َّ‬
‫" خذي ما يكفيك ويكفي ولدك ابملعروف"(‪ .)309‬وأول امللزمني بنفقة الولد الذي ال مال له وهو‬
‫عاجز عن الكسب أبوه‪ ،‬فإن مل يوجد األب‪ ،‬أو وجد وافتقر وعجز عن نفقة أوالده فالنفقة على األم‬
‫املوسرة ( م‪ ،)62‬وال يشارك القادر من األبوين أحد‪ ،‬وعندما غياِبما‪ ،‬أو عجزمها‪ ،‬جتب النفقة على‬
‫الوارث املوسر‪ ،‬فإن تعدد الورثة فالنفقة موزعة عليهم بقدر اإلرث( م ‪.)69‬‬
‫اإلرث‪ :‬وميتاز نظام اإلرث يف اإلسالم أبنه نظام إجباري‪ ،‬واالستحقاق فيه َّ‬
‫مقد ٌر شرعا‬ ‫‪-14‬‬
‫قطعية الثبوت والداللة‪ ،‬فغدت من قبيل األحكام الثابتة‬ ‫وقد وردت يف كثري من تفصيالته النصو‬
‫الباقية حىت يرث ي األرض ومن عليها‪ ،‬ويهمنا هنا التنويه حبكمني ل أوهلما‪ :‬أن األوالد هم أسعد‬
‫أقارب املتوِف حظا يف املرياث فنصيبهم – عند التعدد‪ -‬ال يقل حبال عن ‪ .12/7‬والثاين‪ :‬أن التحليل‬
‫العلمي يثبت أن حظ األنثى يف املرياث أسعد من حظ الذكر‪ ،‬فهو ال يفضلها إال يف ‪ %14‬من‬
‫حاالت اإلرث‪ ،‬ويف بقية احلاالت ( ‪ ) %86‬ترث مثله أو تفضله يف االستحقاق أصال وقدرا‪.‬‬
‫ب‪ -‬حقوق الوالدين على أوالدمها‪.‬‬
‫من األصول اليت اتفقت عليها الشرائع ب ار الوالدين‪ ،‬فهو خلق األنبياء‪ ،‬ودأب الصاحلني‪ ،‬وقد‬
‫وقص علينا يف القرآن الكرمي من خرب إبراهيم‬
‫وصف ي حيىي وعيسى عليها السالم بذلك صراحة‪َّ ،‬‬
‫وإطاعيل ويوسف مدى حرصهم على اإلحسان إىل آابئهم‪ ،‬ويف القرآن الكرمي أيضا يقرن ي تعاىل‬
‫عبادته والنهي عن أن يشرك به شياا ابإلحسان إىل الوالدين‪ ،‬كما تتكرر الوصاية ِبما صراحة يف ثالثة‬

‫‪ ) 309‬رواه مسلم من حديث عائشة رضي هللا عنها يف األقضية رقم ‪.1714‬‬

‫‪153‬‬
‫مواضع من الذكر احلكيم‪ ،‬انهيك عما ورد يف السنة املشرفة يف طاعة الوالدين‪ ،‬وبرمها‪ ،‬وصلة الرحم‬
‫اليت ال توصل إال ِبما‪.‬‬
‫والرب مجاع اخلري كله ومعىن ذلك أن حقوق الوالدين على أوالدمها ال حتصر يف فاة بعينها‪ ،‬فكل‬
‫ما فيه خري الوالدين فهو حق هلما‪ ،‬وقد أحصى الدكتور صالح سلطان يف ذلك ستني حقا‪ ،‬تثبت‬
‫لكل من الوالدين يف األحوال واألوضاع املختلفة‪.‬‬
‫ومن أبرزها يف حياة احلي منهما‪:‬‬
‫الرب والطاعة واإلحسان وترك اإلساءة‪ -2.‬شكرمها‪ -3 .‬التواضع معهما إىل مرتبة الذل‬ ‫‪-1‬‬
‫‪ -5‬وصلهما واإلنفاق عليهما‪.‬‬ ‫احملمود‪ -4 .‬الدعاء هلما‪.‬‬
‫ص عليه يف حديث أيب أسيد الساعدي عند أيب داود وغريه قال " بينما حنن‬
‫وأبرزها بعد مماهتما ما نُ َّ‬
‫جلوس عند النيب صلى ي عليه وسلم إذ جاء رجل من بين سلمة فقال‪ :‬اي رسول ي‪ :‬هل بقي من‬
‫ِ‬
‫بر أبوي شيء بعد موهتما ؟ فقال‪ :‬نعم ل الصالة عليهما‪ ،‬واالستعفار هلما‪ ،‬وإنفاذ عهدمها‪ ،‬وصلة‬
‫الرحم اليت ال توصل إال ِبما‪ ،‬وإكرام صديقهما"(‪.)310‬‬

‫‪ ) 310‬احلديث رواه أبو داود من حديث أيب أسيد الساعدي مالك بن ربيعة ‪ 5142‬وسكت عنه‪ ،‬ورواه ابن حبان يف صحيحه ‪ ،418‬وابن العريب يف‬
‫عارضة األحوذي ‪ 307/4‬وحسنه‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫النظام السياسي يف اإلسالم‬
‫د‪ .‬راشد عبد الرْن العسريي‬
‫مفهوم النظام السياسي‬
‫وس‪ :‬الطبيعة واألصل والسجية‪ ،‬يقال ساس األمر‬
‫السياسة يف اللغة‪ :‬مصدر ساس يسوس‪ ،‬وال اس ُ‬
‫سياسة‪ :‬أي قام به‪ .‬والسياسة هي‪ :‬القيام على الشيء مبا يصلحه‪ .‬وعلى ذلك فإن السياسة يف اللغة‬
‫تدل على التدبري‪ ،‬واإلصالح‪ ،‬والرتبية‪.‬‬
‫عرف الفقهاء السياسة اصطالحا أبهنا‪ :‬إصالح أمور الرعية‪،‬‬
‫أما السياسة يف االصطالح فقد َّ‬
‫وتدبري أمورهم ‪.‬‬
‫لذا فإن السياسة من هذا املنظور تُعىن بكل ما يتعلق مدارة أمور الدولة وتنظيمها على املستوى الداخلي‬
‫واخلارجي‪ ،‬وعالقة احلاكم ابحملكوم‪ ،‬واحلقوق املتبادلة بينهما‪ ،‬وفق ما جاء يف كتاب ي تعاىل وسنة نبيه‬
‫‪‬من قواعد وأحكام‪.‬‬
‫كما أهنا تُعىن مصالح أمور الرعية وتدبري أمورهم وفق املصلحة العامة لعموم األمة‪ ،‬مبا ال خيالف‬
‫املبادئ العامة للشريعة اإلسالمية‪.‬وقد أطلق العلماء على السياسة اسم‪" :‬األحكام السلطانية" أو "السياسة‬
‫املدنية"‪ ،‬أو "السياسة الشرعية" ‪.‬‬
‫والسياسة الشرعية هي‪ :‬تدبري الشاون العامة للدولة اإلسالمية مبا يكفل حتقيق املصاا ورفع املضار‪،‬‬
‫مما ال يتعدى حدود الشريعة وأصوهلا الكلية‪.‬‬
‫ومفهوم علم "النظام السياسي اإلسالمي" جزء من السياسة الشرعية‪ ،‬وهي سياسة قائمة على‬
‫قواعد الشرع وأحكامه وتفصيالته‪ ،‬حبيث تتخذ من الشرع احلكيم مصدرا ومنطلقا هلا‪ ،‬ترجع إليه‬
‫وتستمد أحكامه منه‪ ،‬ومنهجا وطريقا تسري عليه‪.‬‬
‫وميكن تعريف النظام السياسي يف اإلسالم أبنه‪ :‬معرفة نظام احلكم‪ ،‬وكيفية اختيار احلاكم‪،‬‬
‫وحقوقه وواجباته‪ ،‬وحقوق وواجبات احملكوم‪ ،‬والعالقة بني الدول يف حاليت السلم واحلرب وفق‬
‫الشريعة‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫أركان الدولة يف النظام اإلسالمي‬
‫الركن األول‪ :‬الشعب (( الرعية ))‪.‬‬
‫ال يتصور قيام دولة من غري وجود شعب أو رعية يعيشون فيها‪ ،‬والرعية هم‪ :‬جمموعة األفراد الذين‬
‫يقيمون على وجه الدوام فوق رقعة معينة من األرض‪ ،‬يعيشون عليها وينتمون إليها وخيضعون لسلطاهنا‪،‬‬
‫وهم الذين تتكون الدولة منهم‪.‬‬
‫والرعية يف الدولة اإلسالمية هم‪ :‬املسلمون ‪ -‬وهو األصل ‪ ،-‬وقد يكون منهم غري املسلمني‪،‬‬
‫وغري املسلمني الذين يعيشون يف الدولة اإلسالمية إقامة دائمة هم أهل ذمة‪.‬‬
‫(أ) املسلمون‪.‬‬
‫الرعية يف الدولة اإلسالمية يتكونون من املسلمني ‪ -‬وهم األصل ‪ -‬حيث تتألف الرعية منهم‪ ،‬وهم‬
‫ِبذه النظرة‪ :‬جمموع األفراد الذين يعتنقون الدين اإلسالمي عن اختيار وقناعة ورضا‪ ،‬ويؤمنون ابإلسالم‬
‫عقيدة وشريعة وسياسة ونظاما‪.‬‬
‫وإن ما مييز الرعية من املسلمني عن غريهم هي رابطة العقيدة اليت يعتنقها مجيع أفراده‪ ،‬بغض النظر‬
‫عن األصل أو اللغة أو اللون‪ ،‬فاإلسالم هو املعيار اجلامع الذي جيمع بينهم على اختالف األمصار‬
‫والداير‪.‬‬
‫وقد جعلهم اإلسالم إخوة يف العقيدة‪ ،‬يقول ي تعاىل‪ (( :‬إَِّمنَا ال ُْم ْؤِمنُو َن إِ ْخ َوةٌ )) (‪ ،)311‬ويقول النيب‬
‫‪ (( :‬املسلم أخو املسلم )) (‪ ،)312‬لذا كان الرابط الذي جيمع بينهم هو اإلخوة اإلميانية‪ ،‬وهم بذلك‬
‫يتمتعون جبميع احلقوق املقررة هلم‪ ،‬ويلتزمون جبميع الواجبات اليت عليهم يف الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫لذا جند أن نظرة اإلسالم إىل الرعية ليست نظرة عنصرية حمصورة يف نطاق حدود جغرافية حمددة‬
‫جيمع بني أفرادها روابط معينة‪ ،‬بل هي أطى من ذلكل حيث كان رابط العقيدة اإلسالمية هو الرابط‬
‫األعلى بغض النظر عن كل ما سواها‪.‬‬

‫(‪ - )311‬سورة احلجرات‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬


‫(‪ - )312‬متفق عليه‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب املظامل‪ ،‬ابب‪" :‬ال يظلم املسلم املسلم وال يسلمه"‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2310( :‬ومسلم يف صحيحه‪،‬‬
‫كتاب الرب والصلة واآلداب‪ ،‬ابب‪ :‬حترمي الظلم‪ ،‬حديث رقم‪.)2564( :‬‬

‫‪156‬‬
‫أهل الذمة‪.‬‬ ‫(ب)‬
‫القسم الثاين من الرعية يف الدولة اإلسالمية هم أهل ذمة‪ ،‬وأهل الذمة هم‪ :‬املعاهدون من أهل‬
‫الكتاب ومن جرى جمراهم‪ .‬والذمي هو‪ :‬املعاهد الذي أعطي عهدا أيمن به على ماله ودينه‪.‬‬
‫وألهل الذمة يف الدولة اإلسالمية واجبات وحقوق‪ ،‬من أبرزها‪:‬‬
‫واجبات أهل الذمة‬
‫أوال‪ :‬الواجبات املالية‪.‬‬
‫أ‪ -‬اجلزية‪.‬‬
‫هي‪ :‬املبلو املعني من املال الذي يُفرض على أهل الذمة من قبل الدولة اإلسالمية سنواي‪ ،‬مقابل‬
‫اخلدمات اليت تقدمها الدولة لرعاايها من املقيمني‪ ،‬من ْايتهم والدفاع عنهم‪ ،‬واستفادهتم من اخلدمات‬
‫العامة املقدمة إليهم‪.‬‬
‫واحلكمة من فرض اجلزية على أهل الذمة أن اإلسالم أوجب على أبنائه من املسلمني الدفاع عن‬
‫ابملسلمني‪ ،‬وأعفى من ذلك من‬ ‫الدين والوطن‪ ،‬وْاية الدولة ومن يعيشون فيها‪ ،‬وهذا أمر خا‬
‫يعيشون يف الدولة اإلسالمية من غري املسلمني‪ ،‬وجعل دورهم مقتصرا على املسامهة يف نفقات الدفاع‪.‬‬
‫وميكن اعتبار اجلزية ضريبة مالية سنوية على بعض األفراد يف مقابل املسامهة يف نفقات الدولة واملرافق‬
‫العامة اليت يتمتع ِبا مجيع رعااي الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫واجلزية تفرض على الرجال البالغني القادرين‪ ،‬وال جتب على الفقري وال الصيب وال املرأة وال الشيخ‬
‫الكبري وال الراهب املنقطع للعبادةل ألهنم ليسوا من أهل القتال‪.‬‬
‫ويرجع حتديد مقدار اجلزية إىل احلاكم مبا يتناسب مع إمكاانت أهل الذمة املادية‪.‬‬
‫اخلراج‪.‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫هو‪ :‬ضريبة مالية تفرض على األرض إذا بقيت يف أيدي أهل الذمة‪ ،‬ويرجع تقديرها إىل احلاكم‪ ،‬فله‬
‫أن يتفق معهم على نسبة معينة من خراج األرض‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬االلتزام أبحكام النظام اإلسالمي‪.‬‬
‫جيب على أهل الذمة االلتزام أبحكام النظام يف الدولة اإلسالمية‪ ،‬والتقيد ابلقوانني والتشريعات‬

‫‪157‬‬
‫املعمول ِبا فيما ال ميس بعقائدهم الدينية‪ ،‬وهلم أن يتحاكموا يف القضااي االجتماعية إىل ما يعتقدونه يف‬
‫داينتهم‪ ،‬وإذا أرادوا ورضوا ابالحتكام إىل النظام اإلسالمي يف هذه القضااي فلهم االحتكام إليه ‪.‬‬
‫أما فيما عدا ذلك فإن أهل الذمة ملزمون ابلتقيد أبحكام النظام اإلسالمي يف املعامالت والعقوابت‪.‬‬
‫وقد ضع النظام اإلسالمي ضوابط ألهل الذمة البد من التقيد ِبا‪:‬‬
‫أ ـ عدم إحداث دور للعبادة يف بالد اإلسالم‪ ،‬وال جيددوا ما خرب منها ‪ ،‬وأن ال يظهروا شياا من‬
‫عباداهتم أو شعاراهتم كالصلبان وحنوها‪.‬‬
‫ب ـ أن ال يبيعوا شياا حمرما يف اإلسالم كاخلمر وحنوه‪.‬‬
‫ج ـ عدم إيواء اجلواسيس‪.‬‬
‫اثلثا‪ :‬احرتام شعائر املسلمني‪.‬‬
‫جيب على أهل الذمة احرتام شعائر اإلسالم‪ ،‬وأن يراعوا هيبة الدولة اإلسالمية اليت تظلهم حبمايتها‬
‫ورعايتها‪ ،‬وال جيوز هلم أن يسبوا اإلسالم‪ ،‬أو النيب ‪ ،‬أو القرآن الكرمي‪ ،‬وال ينشروا من العقائد‬
‫واألفكار ما ينايف العقيدة اإلسالمية‪ ،‬وأن يراعوا مشاعر املسلمني‪ ،‬وال يتعرضوا ألحد منهم ابإليذاء‪،‬‬
‫وأن يلتزموا يف معامالهتم عدم الغش واخلداع‪ ،‬وأن ال مينعوا أحدا من أقرابئهم من الدخول يف دين ي‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫حقوق أهل الذمة‬
‫كما أن على أهل الذمة و ٍ‬
‫اجبات فإن هلم حقوقا‪ ،‬وتتمثل حقوق أهل الذمة فيما يلي‪:‬‬
‫الشرعية ابلتحذير الشديد من التعرض‬ ‫عصمة أمواهلم ودمائهم‪ ،‬وقد جاءت النصو‬ ‫‪-1‬‬
‫هلم ابإليذاء أو االعتداء أو القتل‪ ،‬فعن عبد ي بن عمرو رضي ي عنهما عن النيب ‪ ‬قال‪َ (( :‬م ْن‬
‫قَـتَل مع ِاهدا لَـم يرح رائِح َة اجلن َِّة‪ ،‬وإِ َّن ِرْحيها تُ ِ ِ ِ‬
‫وج ُد م ْن َمس َرية أ َْربَِع َ‬
‫ني َعاما )) (‪.)313‬‬ ‫ْ َ ْ َ َ َ َ ََ َ‬ ‫َ َُ‬
‫الدفاع عنهم ضد من قصدهم أبذى‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫االنتفاع ابملرافق العامة كاملسلمني‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫مزاولة احلَِرف واألعمال كالتجارة وحنوها‪ ،‬بشرط عدم اإلضرار ابملسلمني‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫(‪ – )313‬حديث صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب اجلزية‪ ،‬ابب إمث من قتل معاهداً بغري جرم‪ ،‬حديث رقم‪.)3166( :‬‬

‫‪158‬‬
‫احلرية الدينية‪ ،‬وإجراء األحكام املتعلقة ابألحوال الشخصية فيما بينهم‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫املواطنة يف النظام اإلسالمي‬
‫إن مفهوم املواطنة هو تعبري عن الوالء واالنتماء للوطن‪ ،‬النابع من احلب له‪ ،‬واالعتزاز ابالنضمام‬
‫إليه والتضحية من أجله‪.‬‬
‫القرآنية اليت تشري إىل املواطنة جيدها تربز مكانة الوطن‪ ،‬وتعترب‬ ‫وإن املتأمل يف دالالت النصو‬
‫اإلخراج منه نوعا من اإليذاء‪ ،‬وتقرر أن اخلروج من الوطن قهرا نُصرة للدين من أعلى مراتب اإليثار‪،‬‬
‫كما أكدت على أن من خرج من وطنه‪ ،‬فإنه يستحق نُصرة ي له‪.‬‬
‫كما أن السنة النبوية تقرر يف دالالهتا ملفهوم الوطن مكانة إظهار احلب والشوق له‪ ،‬واحلنني إليه‪،‬‬
‫كما تؤكد أمهية حب ما يف الوطن من معامل هلا يف النفوس ذكرايت ومواقف‪.‬‬
‫لذا فإن النظام اإلسالمي جعل املواطنة يف الدولة اإلسالمية أساسا للتعايش بني خمتلف أفراده‪،‬‬
‫جيمعهم حب الوطن‪ ،‬والتعلق به‪ ،‬وإظهار الشوق ملعامله‪ ،‬ملا لذلك من ارتباط وثيق ابلفطرة اإلنسانية‪،‬‬
‫واليت ال تتعارض مع عقيدة اإلنسان أو داينته‪ ،‬ما دامت هذه الوطنية منضبطة يف حدود الشرع بال غلو‬
‫وال جفاء ‪.‬‬
‫وتربز وثيقة املدينة اليت أرساها النيب ‪ ‬يف اعتماد املواطنة أساسا لتحديد العالقة داخل الدولة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فقد وضعت وثيقة املدينة أساسا جديدا حلق املواطنة‪ ،‬ال يقوم على قرابة الدم أو صلة‬
‫العقيدة فقط‪ ،‬وإمنا جعل حق املواطنة مكون من ركيزتني مهمتني‪ ،‬األوىل‪ :‬االنتماء إىل اإلقليم‪ ،‬والثاين‪:‬‬
‫الوفاء اباللتزام‪.‬‬
‫وقد اعتربت وثيقة املدينة النبوية مجيع سكان املدينة من املهاجرين واألنصار واليهود وغريهم ‪ -‬بغض‬
‫النظر عن أعراقهم ودايانهتم وقومياهتم ‪ -‬من مواطين اإلقليم‪ ،‬لتحقيق األمة الواحدة والسلم اجملتمعي‪،‬‬
‫وترسيخ مفهوم املواطنة‪.‬‬
‫كما حددت هذه الوثيقة مجلة من احلقوق والواجبات‪ ،‬على أساس قاعدة املساواة يف احلقوق‬
‫وااللتزامات بني أبناء الوطن الواحد ‪.‬‬
‫فكل من اعتنق اإلسالم من أي جنس أو لون أو وطن‪ ،‬وكل من التزم أحكام اإلسالم من غري‬

‫‪159‬‬
‫املسلمني وأقام يف دار اإلسالم‪ ،‬أو أُعطي العهد‪ ،‬فهو أحد مواطين الدولة اإلسالمية‪ ،‬له من احلقوق‬
‫ما للمسلمني‪ ،‬وعليه من الواجبات ما عليهم‪ ،‬إال ما كان خاصا ابألمور الدينية‪.‬‬
‫لذا فإن النظام اإلسالمي أوىل املواطنة مكانة معتربة يف الدولة اإلسالمية وجعلها أساسا للتعايش بني‬
‫خمتلف أفراده‪ ،‬لتحقيق السلم اجملتمعي‪ ،‬وبناء الوطن اآلمن املستقر‪.‬‬

‫الركن الثاني‪ :‬اإلقليم‪.‬‬


‫اإلقليم‪ :‬هو ذلك اجلزء الذي تباشر الدولة عليه سلطاهنا وسيادهتا دون غريها‪ ،‬وله أجزاء ثالثة‪:‬‬
‫أوال‪ :‬األرض‪ ،‬وهي اجلزء اليابس أو الرقعة اليت يعيش عليها أفراد الرعية وختضع لسلطان املسلمني‬
‫وواليتهم‪ ،‬وتطبق فيها أنظمة الدولة اإلسالمية‪ ،‬وتشمل املدن والقرى والصحاري والغاابت واجلبال‬
‫واجلزر‪ ،‬ويشمل أيضا ما يف ابطنها‪ ،‬ويطلق عليها أيضا الدار وهي‪ :‬كل بقعة تكون فيها أحكام اإلسالم‬
‫ظاهرة ‪.‬‬
‫ويشمل إقليم الدولة اإلسالمية مجيع البالد اإلسالمية‪ ،‬فهو يتحدد حبدود دار اإلسالم مهما اتسعت‬
‫رقعتها‪ ،‬مما يعين إن حدود إقليم الدولة اإلسالمية ليست اثبتة‪ ،‬فكلما اتسع نطاق سلطان املسلمني‬
‫اتسع إقليم الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬األهنار الوطنية‪ ،‬وهي األهنار اليت متر من منبعها إىل مصبها يف أراضي الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫اثلثاَ‪ :‬املياه الساحلية أو البحر اإلقليمي‪ ،‬وهي قسم حمدد من البحر مالصق ألراضي الدولة اليت‬
‫تنتهي حدودها يف البحر‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬طبقات اجلو عموداي‪ ،‬وهي الطبقات اجلوية اليت تعلو إقليم الدولة األرضي واملائي‪.‬‬
‫الركن الثالث‪ :‬احلاكم‪.‬‬
‫احلاكم أو ويل األمر هو‪ :‬من يلي أمر املسلمني ويتوىل رعايتهم واحلفاظ على مصاحلهم‪.‬‬
‫وقد ُعرف ويل األمر يف الدولة اإلسالمية بعد وفاة النيب ‪ ‬بعدة ألقاب هي‪ :‬اخلليفة‪ ،‬وأمري املؤمنني‪،‬‬
‫واإلمام‪.‬‬
‫‪ -‬اخلليفة‪ :‬أول من لقب بلقب اخلليفة هو أبو بكر الصديق ‪ ،‬فكانوا يسمونه خليفة رسول ي‬
‫‪160‬‬
‫‪.)314( ‬‬
‫‪ -‬أمري املؤمنني‪ :‬أول من دعي به هو عمر بن اخلطاب ‪.)315( ‬‬
‫‪ -‬اإلمـام‪ :‬أول من اشتهر ِبذا اللقب هو علي بن أيب طالب ‪.)316( ‬‬
‫ولقد ذكر املوىل عز وجل أولو األمر يف كتابه العزيز‪ ،‬يقول ي تعاىل‪َ (( :‬اي أَيـاهَا َّال ِذينَ آمَنُوا‬
‫ول َوأ ُْوِيل ْاألَمْ ِر ِمنْ ُكمْ )) (‪.)317‬‬ ‫الرسُ َ‬ ‫اَّلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫ِ‬
‫أَطيعُوا َّ َ َ‬
‫ف أَذَاعُوا ِبِه ۖ َول َْو َرداوهُ إِ َىل َّ‬
‫الر ُس ِ‬
‫ول َوإِ َ ٰىل‬ ‫اخلَو ِ‬ ‫ِ‬
‫ويقول سبحانه‪َ (( :‬وإِذَا َجاءَ ُه ْم أ َْم ٌر م َن ْاأل َْم ِن أَ ِو ْ ْ‬
‫ين يَ ْستَنبِطُونَهُ ِم ْنـ ُه ْم )) (‪.)318‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُويل ْاأل َْم ِر م ْنـ ُه ْم ل ََعل َمهُ الَّذ َ‬
‫أِ‬
‫ُويل ْاأل َْم ِر )) يف اآلية األوىل‪ ،‬وهو على‬
‫وقد اختلف املفسرون يف املقصود بقول ي تعاىل‪ (( :‬أ ِ‬
‫الراجح من األقوال‪ :‬أهنا عامة يف كل أويل األمر من األمراء والعلماء‪.‬‬
‫واألصل يف احلاكم أن يباشر إدارة الدولة بنفسه‪ ،‬وملا كان هذا متعذرا مع اتساع نطاق الدولة وكثرة‬
‫وظائفها‪ ،‬وتعدد السلطات فيها‪ ،‬جاز للحاكم أن ينيب عنه من يقوم ِبذه السلطات من والة وأمراء‬
‫ووزراء وقضاة وغريهم‪ ،‬ويكونون وكالء عنه يف إدارة ما وكل إليهم من أعمال‪.‬‬
‫قواعد النظام السياسي يف اإلسالم‬
‫يقوم النظام السياسي يف اإلسالم على عدد من القواعد الرئيسية‪ ،‬أتناوهلا فيما يلي‪:‬‬
‫القاعدة األول‪ :‬العدل‪.‬‬

‫ـ مفهوم العدل‬
‫العدل هو‪ :‬إعطاء كل ذي حق حقه من دون نقص أو ٍ‬
‫تعد‪ ،‬واإلنصاف يف املعاملة من غري إفراط‬
‫وال تفريط‪.‬‬
‫ـ مكانة العدل‬

‫(‪ - )314‬املقدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ص ‪.151‬‬


‫(‪ - )315‬املقدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ص ‪.151‬‬
‫(‪ – )316‬وقد صح عن النيب ‪ ‬قوله‪" :‬سبعة الذين يظلهم هللا يف ظله يوم ال ظل إال ظله‪ :‬اإلمام العادل"‪ ،‬أي احلاكم العادل‪.‬‬
‫(‪ - )317‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬
‫(‪ - )318‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.83‬‬

‫‪161‬‬
‫العدل دعامة أساسية يف بناء اجملتمع املسلم واستقراره وركيزة أساسية يف النظام السياسي‬
‫يف اإلسالم‪ ،‬لذا أوجب ي عز وجل العدل على الناس مجيعا حكاما وحمكومني‪ ،‬إلقامة العدل‬
‫والقسط بني الناس‪ ،‬ولقد توافرت األدلة من الكتاب والسنة على وجوب العدل واألمر به‪ ،‬والنهي‬
‫عن الظلم والتحذير منه‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ني الن ِ‬
‫َّاس أَن‬ ‫ِ‬
‫اَّللَ َأي ُْم ُرُك ْم أَن تُـ َؤداوا ْاألَمَا َان ِت إِ َ ٰىل أَ ْهلهَا َوإِذَا َح َك ْمتُم بَ ْ َ‬
‫قال تعاىل‪ (( :‬إِ َّن َّ‬ ‫‪-1‬‬
‫َحتْ ُك ُموا ِابل َْع ْد ِل )) (‪.)319‬‬
‫واألمر ابلعدل للوجوب‪ ،‬وهو يشمل الناس مجيعا املسلم منهم والكافر‪.‬‬
‫قال تعاىل‪ (( :‬اي أَياـها الَّ ِذين آمنُوا ُكونُوا قَـ َّو ِامني َِِّ‬
‫َّلل ُش َه َداءَ ِابل ِْق ْس ِط ۖ َوَال َْجي ِرَمنَّ ُك ْم‬ ‫‪-2‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ب لِلتَّـ ْق َو ٰى ۖ َواتَّـ ُقوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اَّللَ َخبِ ٌ‬
‫ري ِمبَا تَـ ْع َملُو َن ))‬ ‫اَّللَ ۖ إِ َّن َّ‬ ‫َشنَا ُن قَـ ْوم َعلَ ٰى أ ََّال تَـ ْعدلُوا ۖ ا ْعدلُوا ُه َو أَقـ َْر ُ‬
‫(‪.)320‬‬
‫ومن متام عدله سبحانه أن جعل األمر ابلعدل حىت مع األعداء‪ ،‬فقد هنى عز وجل أن حيملنا بغض‬
‫قوم على ترك العدل معهم‪ ،‬بل أمران ابلعدل مع كل أحد صديقا كان أو عدوا‪ ،‬ويف كل وقت ويف‬
‫كل حال‪ ،‬وهذا دليل على أمهية العدل ومكانته يف ديننا‪.‬‬

‫قال تعاىل‪َ (( :‬وِإذَا قُـلْتُمْ فَاعْ ِدلُوا َول َْو َكا َن ذَا قُـ ْرَ َٰ )) (‪.)321‬‬ ‫‪-3‬‬
‫فاملوىل عز وجل أيمر ابلعدل مع القريب والبعيد‪ ،‬وال حنايب أحدا يف كلمة احلق‪.‬‬
‫ـ كما حفلت سنة النيب ‪ ‬ابلعديد من النصو اليت تدل على فضل العدل وإقامته‪ ،‬وتنهى عن الظلم‪،‬‬
‫وتبني عظم خطورة عدم إقامة العدل بني الرعية‪:‬‬
‫فعن عبد ي بن عمرو رضي ي عنهما قال‪ :‬قال رسول ي ‪ (( : ‬إِ َّن امل ْق ِس ِطني ِعْن َد ِ‬
‫ي‬ ‫‪-1‬‬
‫َ‬
‫ين يَـ ْع ِدلُو َن ِيف ُح ْك ِم ِه ْم‪َ ،‬وأ َْهِلْي ِه ْم‪َ ،‬وَما‬ ‫الر َْْ ِن َعَّز وج َّل‪ ،‬وِكلَْتا ي َدي ِه َميِ ٌ ِ‬
‫ني‪ ،‬الذ َ‬ ‫ََ َ َ ْ‬ ‫َعلَى َمَنابَِر ِم ْن نُوٍر َع ْن َميِ ٍ‬
‫ني َّ‬

‫(‪ - )319‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.58‬‬


‫(‪ - )320‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬
‫(‪ - )321‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.152‬‬

‫‪162‬‬
‫ُولاوا )) (‪.)322‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِِ‬ ‫عن أيب هريرة ‪ ‬عن النيب ‪ ‬قال‪َ (( :‬س ْبـ َعةٌ يُ ِظلا ُه ْم َّ‬
‫اَّللُ تَـ َع َاىل ِيف ظله يَـ ْو َم َال ظ َّل إِالَّ ظلاهُ‪ :‬ا ِإل َم ُ‬
‫ام‬
‫اد ُل‪.)323( )) ...‬‬ ‫الْع ِ‬
‫َ‬
‫ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫عن معقل بن يسار املزين ‪ ‬عن رسول ي ‪ ‬أنه قال‪َ (( :‬ما م ْن َعْبد يَ ْس َ ْرتعيه يُ‬ ‫‪-2‬‬
‫ار لَِرِعيَّتِ ِهل إَِّال َح َّرَم يُ َعلَْي ِه اجلَنَّةَ )) (‪.)324‬‬
‫وت َو ُهو غَ ٌّ‬ ‫َرِعيَّة‪َ ،‬ميُ ُ‬
‫وت يَـ ْوَم َميُ ُ‬
‫فهذا وعيد شديد على أئمة اجلور‪ ،‬فمن ضيع من اسرتعاه ي‪ ،‬أو خاهنم أو ظلمهم‪ ،‬فقد توجه‬
‫إليه الطلب مبظامل العباد يوم القيامة فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة (‪.)325‬‬
‫ت ال اظلْمَ‬ ‫عن أيب ذر ‪ ‬عن النيب ‪ ‬أنه قال‪ :‬قال ي تعاىل‪َ (( :‬اي ِعبَ ِادي ِإِين حَ َّرمْ ُ‬ ‫‪-3‬‬
‫عَلَى نـَ ْف ِسي‪َ ،‬وجَعَلْتُهُ بـَيـْنَ ُكمْ ُحمََّرما‪ ،‬فَ َال تَظَالَمُوا )) (‪.)326‬‬
‫عن جابر بن عبد ي ‪ ‬أن النيب ‪ ‬قال‪ (( :‬اتَّـ ُقوا الظال َْم‪ ،‬فَِإ َّن ال اظلْمَ ظُلُمَا ٌ‬
‫ت يَـ ْو َم‬ ‫‪-4‬‬
‫ال ِْقيَ َام ِة )) (‪.)327‬‬
‫لذا فإن العدل مطلب مهم ذكره ي يف كتابه وحذر من التهاون فيه‪ ،‬وبيَّنه رسولُه ‪ ‬وشدد‬
‫عليه‪ ،‬ملا له من أمهية كربى يف استقامة حياة الناس وحفظ مصاحلهم‪ ،‬فبالعدل تستقر الدول وتنهض‬
‫وتتقدم‪ ،‬وابلظلم تتهاوى الدول وترتاجع‪.‬‬
‫القاعدة الثانية‪ :‬املساواة‪.‬‬

‫ـ مفهوم املساواة‬
‫املساواة يف النظام اإلسالمي هي‪ :‬عدم التفرقة بني الناس يف احلقوق والواجبات على أساس‬
‫العرق أو القبيلة أو البلد أو احلالة االجتماعية واالقتصادية وحنوها‪.‬‬
‫(‪ - )322‬أخرجه مسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب اإلمارة‪ ،‬ابب فضيلة اإلمام العادل‪ ،‬حديث رقم‪.)1827( :‬‬
‫(‪ - )323‬متفق عليه‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب اجلماعة واإلمامة‪ ،‬ابب من جلس يف املسجد ينتظر الصالة‪ ،‬حديث رقم‪ ،)629( :‬ومسلم‬
‫يف صحيحه‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬ابب فضل إخفاء الصدقة‪ ،‬حديث رقم‪.)1031( :‬‬
‫(‪ - )324‬متفق عليه‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬ابب من اسرتعى رعية فلم ينصح‪ ،‬حديث رقم‪ ،)6732( :‬ومسلم يف صحيحه‪،‬‬
‫كتاب اإلميان‪ ،‬ابب استحقاق الوايل الغاش لرعيته النار‪ ،‬حديث رقم‪.)142( :‬‬
‫(‪ - )325‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬ابن حجر‪.)128/13( ،‬‬
‫(‪ - )326‬حديث صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب الرب والصلة‪ ،‬حديث رقم‪.)2577( :‬‬
‫(‪ - )327‬حديث صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب الرب والصلة‪ ،‬حديث رقم‪.)2578( :‬‬

‫‪163‬‬
‫ـ مكانة املساواة‬
‫املساواة ركيزة مهمة يف بناء اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬وقاعدة أساسية يف النظام السياسي يف اإلسالم‪،‬‬
‫ولقد توافرت األدلة من الكتاب والسنة بتعزيز مكانة املساواة يف اجملتمع املسلم‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫قال تعاىل‪َ (( :‬اي أَيـاهَا النَّاسُ ِإ َّان خَلَ ْقنَا ُكمْ ِم ْن ذَ َك ٍر َوأُنْـثَى َو َج َعلْنَا ُك ْم ُشعُواب َوقَـبَائِ َل‬ ‫‪-1‬‬
‫لِتـعارفُوا إِ َّن أَ ْكرم ُكم ِع ْن َد َِّ‬
‫اَّلل أَتْـ َقا ُكم إِ َّن َّ ِ‬
‫ري )) (‪.)328‬‬ ‫يم َخبِ ٌ‬‫اَّللَ َعل ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ‬ ‫ََ َ‬
‫فاملوىل عز وجل خلق الناس كلهم من أصل واحد من ذكر وأنثى وكلهم يرجعون إىل آدم وحواء‪،‬‬
‫وإن اختلفت أعراقهم وقبائلهم وألواهنم‪ ،‬وإن التفاضل بينهم عند اخلالق سبحانه يكون مبعيار ابلتقوى‪.‬‬
‫قال تعاىل‪ (( :‬إَِّمنَا ال ُْم ْؤِمنُو َن إِ ْخ َوٌة )) (‪.)329‬‬ ‫‪-2‬‬
‫يقرر املوىل عز وجل اإلخوة اإلنسانية بني مجيع املؤمنني‪ ،‬ومقتضى هذا الوصف املساواة‪ ،‬فال‬
‫يتفاضل أحد على آخر بنسب أو أصل أو عرق أو غريه‪.‬‬
‫كما حفلت السنة النبوية ابلعديد من النصو اليت تدل على مكانة املساواة يف اجملتمع اإلسالمي‪:‬‬
‫يقول النيب ‪ (( :‬إِ َّن ي َال يـْنظُر إِ َىل صوِرُكم وأَموالِ ُكم‪ ،‬ول ِ‬
‫َك ْن يَـْنظُُر إِ َىل قُـلُوبِ ُك ْم‬ ‫‪-1‬‬
‫َُ ْ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫َوأَ ْع َمالِ ُك ْم )) (‪.)330‬‬
‫وأكد النيب ‪ ‬على هذا املبدأ يف حجة الوداع‪ ،‬يقول النيب ‪َ (( :‬اي أَياـ َها الن ُ‬
‫َّاس أََال‬ ‫‪-2‬‬
‫َََْر‬‫ض َل لِ َعَرٍِيب َعلَى أَ ْع َج ِم ٍي‪َ ،‬وَال لِ َع َج ِم ٍي َعلَى َع َرٍِيب‪َ ،‬وَال ِأل ْ‬ ‫اح ٌد‪ ،‬وإِ َّن أَاب ُكم و ِ‬
‫اح ٌد‪ ،‬أََال َال فَ ْ‬ ‫إِ َّن ربَّ ُكم و ِ‬
‫َ َ َْ‬ ‫َ َْ‬
‫َََْر إَِّال ِابلَّتـ ْق َوى)) (‪.)331‬‬
‫َس َو َد َعلَى أ ْ‬
‫َس َو َد‪َ ،‬وَال أ ْ‬
‫َعلَى أ ْ‬
‫فال تفاضل بني أحد على أحد‪ ،‬فاألصل واحد‪ ،‬وال فضل لعريب على أعجمي‪ ،‬وال ِع ْرق‬
‫على ِع ْرق أو جنس على جنس أو لون على لون‪ ،‬إمنا التفاضل بني الناس يكون ابملعيار األخروي‬
‫وهو حتقيق التقوى‪.‬‬

‫(‪ - )328‬سورة احلجرات‪ ،‬اآلية ‪.13‬‬


‫(‪ - )329‬سورة احلجرات‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬
‫(‪ – )330‬حديث صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب الرب والصلة‪ ،‬ابب حترمي ظلم املسلم وخذله واحتقاره‪ ،‬حديث رقم‪.)2564( :‬‬
‫(‪ - )331‬أخرجه أمحد يف املسند (‪ ،)411/5‬وصححه األلباين يف السلسلة الصحيحة برقم‪.)2700( :‬‬

‫‪164‬‬
‫لذا فإن الناس مجيعا يف النظام اإلسالمي متساوون على اختالف أعراقهم وقبائلهم وألواهنم يف‬
‫احلقوق والواجبات واملسؤوليات‪.‬‬
‫ـ جماالت املـسـاواة‬
‫من أبرز جوانب وجماالت املساواة بني الناس يف النظام اإلسالمي‪:‬‬
‫‪ - 1‬املساواة يف التكاليف واألحكام الشرعية‪.‬‬
‫فالتكاليف الشرعية فرضها ي عز وجل على مجيع الناس‪ ،‬وال يوجد متيز بني شخص وآخر يف‬
‫ذلك‪ ،‬فاجلميع يتوجه ابلعبادة هلل تعاىل‪ ،‬وفق ما جاء عن نبيه حممد ‪ ،‬واجلميع مكلف بتكاليف معينة‬
‫ال ختتلف بسبب جنس أو ِع ْرق أو لون أو صفة‪ ،‬لذا كان خطاب الشارع عاما يشمل مجيع املكلفني يف‬
‫احلاالت االعتيادية‪ ،‬فجميع األوامر مطلوب من اجلميع أداؤها والقيام ِبا‪ ،‬ومجيع النواهي جيب من‬
‫اجلميع الكف عنها دون استثناء أحد‪.‬‬
‫‪ - 2‬املساواة أمام القضاء‪.‬‬
‫الناس أمام القضاء سواء‪ ،‬فاجلميع خيضع لوالية القضاء وسراين األحكام عليه‪ ،‬وتنفيذها وفق ما‬
‫نسب اإلنسان أو لونه أو ِعرقه أو‬ ‫شرع ي تعاىل وسن نبيه ‪ ،‬فال فرق بني أحد يف ذلك‪ ،‬وال مينع ُ‬
‫ين قَـْبـلَ ُك ْم أ ََّهنُ ْم‬ ‫مكانته من دفع احلد عنه أو تنفيذ احلكم عليه‪ ،‬يقول النيب ‪ ‬يف ذلك‪ (( :‬إَِّمنا أ َْهلَ َ ِ‬
‫ك الَّذ َ‬
‫َن فَ ِ‬ ‫يف أَقَاموا َعلَي ِه احل َّد‪ ،‬و ْامي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َكانُوا إِ َذا َس َر َق ِفي ِه ُم َّ‬
‫اط َمةَ‬ ‫ي‪ ،‬ل َْو أ َّ‬ ‫وه‪َ ،‬وإِ َذا َس َر َق في ِه ُم الضَّع ُ ُ ْ َ‬ ‫الش ِر ُ‬
‫يف تَـ َرُك ُ‬
‫ت يَ َد َها )) (‪.)332‬‬ ‫ت ُحمَ َّم ٍد َس َرقَ ْ‬
‫تل لََقطَ ْع ُ‬ ‫بِْن َ‬
‫‪ -3‬املساواة يف اجلزاء األخروي‪.‬الناس يف اجلزاء على أعماهلم يوم القيامة سواء‪ ،‬يقول ي تعاىل‪:‬‬
‫(( فَمَنْ يـَعْمَلْ ِمثْ َ‬
‫قال ذَ َّرٍة خَ ْريا يـَرَهُ ‪َ ‬ومَنْ يـَعْمَلْ ِمثْ َ‬
‫قال َذ َّرةٍ َش ًّرا يَـ َرهُ)) (‪ ،)333‬فكل جيازى على‬
‫أعماله إن خريا فخري وإن شرا فشر حسب ما قدم يف هذه احلياة الدنيا‪.‬‬
‫‪ - 4‬املساواة يف الوظائف العامة‪.‬‬
‫فاملناصب والوظائف يف الدولة اإلسالمية حق لكل كفء‪ ،‬ال حيول دون ذلك انتماء أو عصبية‪ ،‬أو‬
‫(‪ - )332‬متفق عليه‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة ‪ ،‬ابب ذكر أسامة بن زيد‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3526( :‬ومسلم يف صحيحه‪،‬‬
‫كتاب احلدود‪ ،‬ابب قطع السارق الشريف وغريه‪ ،‬حديث رقم‪.)1688( :‬‬
‫(‪ - )333‬سورة الزلزلة‪ ،‬اآلية ‪.8-7‬‬

‫‪165‬‬
‫غريها‪.‬‬
‫لذا فإن املساواة مطلب مهم يف النظام اإلسالمي ملا له من أمهية كربى لتحقيق الطمأنينة‬
‫واالستقرار والعدالة يف اجملتمع‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‪ :‬احلرية‪.‬‬
‫ـ مفهوم احلرية‬
‫اإلنسان من القيود اليت حتد من تصرفاته ومتكنه من التصرف يف شؤونه كلها‪،‬‬ ‫احلرية هي‪ :‬خلو‬
‫مبا ال خيالف أحكام الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫ـ جماالت احلرية‬
‫إن احلرية يف اإلسالم هي حرية منضبطة ابلشرع‪ ،‬فهي ليست حرية مطلقة منفلتة عن حدود الشرع‪،‬‬
‫بل هي مقيدة أبوامر ي ونواهيه‪.‬‬
‫وتتمثل احلرية يف اإلسالم بعدة جماالت من أبرزها‪:‬‬
‫احلرية الدينية‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫اإلسالم يوجب توحيد ي واإلخال له سبحانه وتعاىل‪ ،‬وااللتزام بدينه‪ ،‬والبُعد عما حرم عز وجل‪،‬‬
‫وأعظم الواجبات وأمهها توحيد ي واإلخال له‪ ،‬وأعظم املعاصي وأعظم الذنوب الشرك ابهلل عز‬
‫اَّللَ َوَال تُ ْش ِرُكوا بِِه َشْيـاا)) (‪.)334‬‬
‫وجل‪ ،‬يقول ي تعاىل‪َ (( :‬وا ْعبُ ُدوا َّ‬
‫وليس من احلرية الدينية ارتداد املسلم عن دينه وخروجه منه‪ ،‬فمن ارتد عن دين اإلسالم فإنه‬
‫يستتاب ويعرض عليه الرجوع إىل اإلسالم‪ ،‬وتزال شبهته‪ ،‬ويناقش فيها‪ ،‬ويرفع جهله‪ ،‬فإن رجع‪،‬‬
‫وإال تطبق عليه األحكام الشرعية يف هذا الشأن‪ ،‬يقول النيب ‪ (( :‬من َّ‬
‫بد َل دينَهُ فاقتُلوهُ )) (‪،)335‬‬
‫وهذه األمور من أحكام االستتابة وحنوها منوطة بويل األمر‪ ،‬فال يقوم ِبا أي أحد من الناس‪.‬‬
‫أما إكراه غري املسلمني يف الدخول يف اإلسالم من غري رضا واقتناع فإن ي تعاىل يقول‪َ (( :‬ال‬

‫(‪ – )334‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬


‫(‪ – )335‬حديث صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب استتابة املرتدين‪ ،‬ابب حكم املرتد واملرتدة واستتابتهم‪ ،‬حديث رقم‪.)2854( :‬‬

‫‪166‬‬
‫ِإ ْكراهَ ِيف ِ‬
‫الدي ِن )) (‪ ،)336‬ومعىن ذلك‪ :‬أي ال تُكرهوا أحدا على الدخول يف دين اإلسالم‪ ،‬فإنه بني‬ ‫َ‬
‫كره أحد عليه (‪.)337‬‬
‫واضح جلي دالئله وبراهينه‪ ،‬ال حيتاج إىل أن يُ َ‬
‫فمن كان على أصل دينه من اليهود والنصارى فال جيرب إكراها على تغيري دينه إىل دين اإلسالم‪،‬‬
‫وليس ألحد أن يُك ِرهه على اعتناق عقيدة ما‪.‬‬
‫أما سبيل دعوة غري املسلمني إىل اإلسالم فإن املسلم مأمور ابلدعوة إىل دين ي تعاىل ابحلكمة‬
‫ُمر به‪.‬‬
‫واملوعظة احلسنة‪ ،‬ويكون بذلك قد أدى ما أوجبه ي عليه من النصح واإلرشاد الذي أ َ‬
‫احلرية السياسية‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫أكدت الشريعة اإلسالمية على ضمان حق الرعية يف احلرية السياسية من خالل إبداء الرأي يف‬
‫حدود ما بني الشرع‪ ،‬فاحلرية السياسية مقيدة ابألُطر الشرعية اليت وضعها اإلسالم‪ ،‬واليت ال جيوز‬
‫للمسلم جتاوزها‪.‬‬
‫ويدخل يف احلرية السياسية تطبيق مبدأ الشورى‪ ،‬وبيعة ويل األمر ومناصحته‪.‬‬
‫احلرية االقتصادية‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫كفل اإلسالم ألتباعه حرية التملك وحرية التعاقد وفق شرع ي تعاىل‪ ،‬وقد جاء اإلسالم معطاء‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حرية التملك للفرد سواء كان ذكرا أو أنثى‪ ،‬صغريا كان أو كبريا‪ ،‬يقول ي تعاىل‪ (( :‬لل ِرجَ ِال نَص ٌ‬
‫يب‬
‫يب ِممَّا ا ْكتَسَ ْنَ )) (‪.)338‬‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ممَّا ا ْكتَسَبُوا َوللنسَاء نَص ٌ‬
‫احلرية الفكرية‪.‬‬ ‫‪-4‬‬
‫حث اإلسالم على التفكر والتأمل ملا يف ذلك من النفع لإلنسان يف معرفة عظمة ي تعاىل وقدرته‪،‬‬
‫ونعمه وآالئه‪ ،‬واليت تدعو إىل تعظيمه سبحانه وإجالله‪.‬‬
‫ولقد جاءت آايت كثرية يف القرآن الكرمي تدعو إىل التفكر‪ ،‬يقول ي تعاىل‪ (( :‬أَفَ َال يَنظُرُو َن ِإ َىل‬
‫ف‬‫ض َك ْي َ‬ ‫ف نُ ِصبَ ْ‬
‫ت ‪َ ‬وِإ َىل ْاأل َْر ِ‬ ‫ف رُِفعَ ْ‬
‫ت ‪َ ‬وِإ َىل ا ِْجلبَ ِال َك ْي َ‬ ‫ف خُِل َق ْ‬
‫ت ‪َ ‬وِإ َىل َّ‬
‫السمَاء َك ْي َ‬ ‫ا ِْإلِب ِل َك ْي َ‬

‫(‪ – )336‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.256‬‬


‫(‪ – )337‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬ابن كثري‪.311/1 ،‬‬
‫(‪ - )338‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.32‬‬

‫‪167‬‬
‫ُس ِط َح ْ‬
‫ت )) (‪.)339‬‬
‫ويدخل يف احلرية الفكرية حرية الرأي والتعبري وفق الضوابط اليت حددهتا الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ومن‬
‫بينها األمر ابملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬يقول النيب ‪ (( : ‬والَّ ِذي نَـ ْف ِسي بِي ِدهِ لَتأْمر َّن ِابلْمعر ِ‬
‫وف‪،‬‬ ‫َ َ ُُ َ ُْ‬ ‫َ‬
‫جاب لَ ُك ْم ))‬ ‫ِ ِ‬ ‫ولَتَـ ْنـهو َّن َع ِن الْم ْن َك ِر أَو لَي ِ‬
‫وش َك َّن َّ‬
‫اَّللُ أَ ْن يَـ ْبـ َع َ‬
‫ث َعلَْي ُك ْم ع َقااب م ْنه‪ُ ،‬مثَّ تَ ْدعُنهُ فال يَ ْستَ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َُ‬
‫(‪.)340‬‬
‫القاعدة الرابعة‪ :‬الشورى‪.‬‬

‫ـ مفهوم الشورى‬
‫عُرفت الشورى أبهنا‪ :‬تقليب اآلراء املختلفة ووجهات النظر املطروحة يف قضية من القضااي‪،‬‬
‫واختبارها من أصحاب العقول واألفهام‪ ،‬حىت يُتوصل إىل األصوب منها‪ ،‬أو إىل أصوِبا وأحسنها‪،‬‬
‫ليعمل به‪ ،‬حىت تتحقق أحسن النتائج ‪.‬‬
‫َ‬
‫فالشورى هي أخذ أرجح اآلراء وأصوِبا بعد دراسة املوضوع من مجيع جوانبه والعمل به من أجل‬
‫املصلحة العامة‪.‬‬
‫ـ مكانة الشورى‪ :‬الشورى دعامة أساسية يف بناء اجملتمع املسلم واستقراره‪ ،‬وركيزة أساسية يف‬
‫النظام السياسي يف اإلسالم‪ ،‬لذا أمر ي تعاىل ابألخذ به نظاما يسري عليه الناس حكاما وحمكومني‪.‬‬
‫ولقد توافرت األدلة من الكتاب والسنة على مشروعية الشورى مما يدل على أمهيتها الكبرية يف حياة‬
‫املسلمني‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ش َوِإذَا مَا غَ ِضبُوا هُمْ يـَغِْفرُو َن‬ ‫ِ‬ ‫قال ي تعاىل‪َ (( :‬و َّال ِذينَ َجيْتَِنبُو َن َكبَ ِائرَ ِْ‬
‫اإل ِْمث َوالْ َف َواح َ‬ ‫‪-1‬‬
‫الص َالةَ َوأَمْرُهُمْ شُورَى بَـ ْيـنَـ ُه ْم وممَّا رزقناهم يُنفقون )) (‪.)341‬‬ ‫‪‬والذين اسْتَجَابُوا ِلرَِِِبمْ َوأَقَامُوا َّ‬
‫يبني ي تعاىل جانبا من صفات املؤمنني املتوكلني على ي تعاىل‪ ،‬حيث أوضح امليزات البارزة‬
‫فيهم‪ ،‬ومن ذلك الشورى اليت عدها ي من هذه الصفات اليت متيزهم عن غريهم‪.‬‬

‫(‪ - )339‬سورة الغاشية‪ ،‬اآلية ‪.20-17‬‬


‫(‪ - )340‬أخرجه الرتمذي‪ ،‬اجلامع الصحيح‪ ،‬كتاب الفنت‪ ،‬حديث رقم‪.)2169( :‬‬
‫(‪ - )341‬سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪.38 -36‬‬

‫‪168‬‬
‫ومع إمعان النظر يف اآلية الكرمية نالحظ أن صفة الشورى‪ ،‬وردت بني أمرين عظيمنيل مها الصالة‬
‫واإلنفاق يف سبيل ي‪ ،‬مما يوحي إلينا أبمور منها‪:‬‬
‫إن الشورى عبادة من العبادات‪ ،‬وقربة من القرابت مثل الصالة‪ ،‬فكما أن املسلم يتعبد‬ ‫‪-‬‬
‫ربه ابلصالة‪ ،‬فهو يتعبد ربه بتقدمي املشورة ألخيه املسلم‪.‬‬
‫إن اقرتان الشورى ابلصالة والزكاة دليل على أمهيتها‪ ،‬ملا للصالة من أمهية عظيمة كوهنا‬ ‫‪-‬‬
‫فريضة عبادية‪ ،‬والزكاة فريضة اجتماعية‪ ،‬فإن الشورى فريضة سياسية‪ ،‬مما يكمل بناء اجملتمع من‬
‫مجيع النواحي‪.‬‬
‫ومما يؤكد على عظم هذه الركيزة أن سورة يف القرآن الكرمي طيت ابطها‪ ،‬ملا هلا من األثر العظيم‬
‫يف تكوين اجملتمع على أسس إسالمية راسخة‪.‬‬
‫ْب َالنْـ َفضاوا ِم ْن‬ ‫ظ الْ َقل ِ‬‫ت فَظا غَلِي َ‬ ‫اَّلل ِلنْ َ‬
‫ت َهلُمْ َول َْو ُكنْ َ‬ ‫قال ي تعاىل‪ (( :‬فَِبما ر ٍَْْة ِمن َِّ‬
‫َ َ َ‬ ‫‪-2‬‬
‫ِِ‬ ‫اَّللَ ُِحي ا‬ ‫ت فَـتَـوَّكل َعلَى َِّ‬
‫اَّلل إِ َّن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ف َع ْنـهم و ِ‬ ‫َح ْولِ َ‬
‫ني‬
‫ب ال ُْمتَـ َوكل َ‬ ‫استَـغْف ْر َهلُ ْم َو َشا ِوْرُه ْم ِيف ْاأل َْم ِر فَإذَا َع َزْم َ َ ْ‬
‫ك فَا ْع ُ ُ ْ َ ْ‬
‫))‪.‬‬
‫وأتيت هذه اآلية لتؤكد على أن مبدأ الشورى مبدأ إهلي واجب التطبيق‪ ،‬ال جيب التفريط فيه‪ ،‬ولو‬
‫كانت النتائج يف ظاهرها يف غري صاا املسلمني‪ ،‬فلقد نزلت هذه اآلية بعد غزوة أحد‪ ،‬لتعا ما‬
‫حدث فيها‪ ،‬وأتمر ابلصفح عن املخطاني‪ ،‬وتدعو إىل عدم التنازل عن مبدأ الشورى يف مجيع‬
‫األحوال‪ ،‬بغض النظر عن نتيجة املشاورة اآلنية‪ ،‬لتكون درسا تربواي لألمة بوجوب ممارسة الشورى‬
‫مهما كانت النتيجة‪ ،‬وتربية لألمة على هذا املبدأ العظيم مع حتمل التبعات‪.‬‬
‫ولقد حفلت السنة النبوية ابلكثري من األحاديث الداعية بوجوب األخذ مببدأ الشورى نظاما تسري‬
‫عليه األمة اإلسالمية‪ ،‬ويظهر ذلك جليا من تعامل النيب ‪ ‬وصحابته الكرام ‪ ‬مع هذا املبدأ‪،‬‬
‫ومن ذلك‪:‬‬
‫مشاورة النيب ‪ ‬ألصحابه ‪ ‬يف غزوة أحد‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫صينَ ٍة‪َ ،‬وَرأَيْ ُ‬
‫ت بَـ َقرا‬ ‫ت َكأَِين ِيف ِدر ٍع ح ِ‬
‫ْ َ‬ ‫عن جابر بن عبد ي ‪ ‬أن رسول ي ‪ ‬قال‪َ (( :‬رأَيْ ُ‬
‫َن الْبـ َقر نَـ َفر‪ ،‬هو و َِّ‬ ‫ِ‬ ‫الدر َ ِ‬‫ْت أ َّ ِ‬
‫ري‪ ،‬قال‪ :‬فقال ألصحابه‪:‬‬ ‫اَّلل َخ ٌْ‬ ‫َ‬ ‫ع احلَصينَة‪ :‬ال َْمدينَةُ‪َ ،‬وأ َّ َ َ ٌ‬‫َن ْ‬ ‫تُـ ْن َح ُر‪ ،‬فَأ ََّول ُ‬

‫‪169‬‬
‫اَّلل َما ُد ِخ َل َعلَْيـنَا ِيف‬
‫ولَو أَقَمنَا ِابلْم ِدينَ ِة‪ ،‬فَِإ ْن َد َخلُوا َعلَيـنَا‪ ،‬قَاتَـلْنَاهم‪ ،‬فَـ َقالُوا‪ :‬اي رسول ي‪ ،‬و َِّ‬
‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ْ َ‬
‫س َألْ َمتَهُ‪ ،‬قال‪ :‬ف َقال ْ‬
‫َت ْاألَنْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلِيَّ ِة فكيف يدخل َعلَْيـنَا ِيف ِْ‬
‫اإل ْس َالِم؟ ف َق َ‬ ‫ا ْجل ِ‬
‫ار‪:‬‬
‫صُ‬ ‫ال‪َ :‬شأْنَ ُك ْم إذا‪ ،‬فلَب َ‬ ‫َ‬
‫س لِنَِ ٍيب إِذَا‬ ‫ِ‬
‫ال ‪ :‬إنَّهُ ل َْي َ‬ ‫ك إِذا‪ ،‬فَـ َق َ‬ ‫ر َد ْد َان َعلَى رسول ي ‪ ‬رأْيه‪ ،‬فَجا ُؤوا‪ ،‬فَـ َقالُوا‪ :‬اي نيب َِّ‬
‫اَّلل َشأْنُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫َ‬
‫ض َع َها َح َّىت يُـ َقاتِ َل)) (‪.)342‬‬
‫س َألْ َمتَهُ أَ ْن يَ َ‬ ‫ِ‬
‫لَب َ‬
‫مشاورة النيب ‪ ‬ألصحابه ‪ ‬يف حادثة اإلفك‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫عن عائشة أم املؤمنني رضي ي عنها قالت‪ :‬ملا ذُكر من شأين ما ذُكر‪ ،‬وما علمت به‪ ،‬قام‬
‫رسول ي ‪ ‬خطيبا‪ ،‬فتشهد وْد ي‪ ،‬وأثىن عليه مبا هو أهله‪ ،‬مث قال‪ (( :‬أ ََّما بَـ ْع ُد‪ ،‬أ َِشريُوا عَلَ َّي‬
‫ت علَى أَ ْهِلي ِمن س ٍ‬
‫ط )) (‪.)343‬‬ ‫وء ق ا‬ ‫ْ ُ‬ ‫اَّلل مَا عَِلمْ ُ َ‬ ‫س أَبـنُوا ‪ -‬اهتموا ‪ -‬أَ ْهِلي‪ ،‬و ْاميُ َِّ‬
‫َ‬ ‫ِيف أ َُان ٍ َ‬
‫فأنزل ي براءة الطاهرة العفيفة من فوق سبع طاوات‪ ،‬وجعله قراان يُتلى إىل يوم القيامة‪ ،‬قال‬
‫ري لَّ ُك ْم ۖ‬ ‫ي تعاىل‪ِ (( :‬إ َّن َّال ِذين جاءوا ِاب ِْإلفْ ِك عُ ِ‬
‫صبَةٌ من ُك ْم ۖ َال َحتْ َسبُوهُ َش ًّرا لَّ ُكم ۖ بَ ْل ُه َو َخ ٌْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُ‬
‫ِ‬ ‫اإل ِْمث ۖ والَّ ِذي تَـوَّ ٰىل كِ ْ ِ‬ ‫ب ِم َن ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم )) (‪.)344‬‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫ربهُ م ْنـ ُه ْم لَهُ َع َذ ٌ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ل ُك ِل ْام ِر ٍئ م ْنـ ُهم َّما ا ْكتَ َس َ‬
‫تصريح النيب ‪ ‬بعظم مسؤولية الشخص املستشار‪ ،‬وأنه مؤمتن يف تقدميه ملشورته‪:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫عن أيب هريرة ‪ ‬قال رسول ي ‪ (( :‬ال ُْم ْستَ َشار ُم ْؤَمتَ ٌن )) (‪.)345‬‬
‫وهنالك العديد من األحاديث اليت تروي مشاورة النيب ‪ ‬ألصحابه ‪ ‬يف كث ٍري من القضااي‪،‬‬
‫والس َري‪ ،‬مما يدل على أمهية وعظم الشورى يف حياة النيب ‪.‬‬
‫زاخرة ِبا ُكتُب احلديث َّ‬
‫وقد أمجع صحابة رسول ي ‪ ،‬واملسلمون جيال بعد جيل على مشروعية الشورى‪ ،‬واعتزوا‬
‫بكوهنا من قواعد دينهم‪ ،‬وأحكام شريعتهم‪ ،‬ومارسوها يف شؤون حياهتم اخلاصة والعامة‪ ،‬وأوصى‬
‫ِبا بعضهم بعضا (‪.‬‬

‫(‪ – )342‬أخرجه الدارمي‪ ،‬يف السنن‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2159( :‬كتاب الرؤاي‪ ،‬ابب يف القمص والرب‪ ،‬وأمحد‪ ،‬املسند‪ ،‬حديث رقم‪ ،)14829( :‬وقال‬
‫األلباين إسناده رجاله ثقات على شرط مسلم‪ ،‬األلباين‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪ ،‬ص‪.1100‬‬
‫(‪ - )343‬متفق عليه‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‪ ،)4479( :‬كتاب االعتصام ابلكتاب والسنة‪ ،‬ابب قول هللا تعاىل‪(( :‬‬
‫ورى بـَْيـنَـ ُه ْم ))‪ ،‬ومسلم يف صحيحه‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2770( :‬كتاب التوبة‪ ،‬ابب يف حديث اإلفك‪.‬‬
‫َوأ َْمُرُه ْم ُش َ‬
‫(‪ - )344‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬
‫(‪ - )345‬الرتمذي‪ ،‬اجلامع الصحيح‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬ابب أن املستشار مؤمتن‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2822( :‬قال األلباين‪ ،‬صحيح‪ ،‬صحيح الرتمذي‪،‬‬
‫ص‪ ،1931‬وأمحد‪ ،‬املسند‪ ،‬حديث رقم‪.) 22414( :‬‬

‫‪170‬‬
‫فبعد وفاة النيب ‪ ،‬كان أول عمل مارسه الصحابة ‪ ،‬الشورى يف أمر َم ْن َخيلف رسول ي‬
‫‪ ،‬فكان اختيار أيب بكر الصديق ‪ ،‬وهكذا سار الصحابة ‪ ‬يف كل ما يعنيهم من األمور‪.‬‬
‫ـ جماالت الشورى‬
‫للشورى جماالت عديدة ومتنوعة‪ ،‬وعند التمعن يف هذه اجملاالت جندها ترجع إىل قسمني رئيسني‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬األمور اخلارجة عن نطاق الشورى‪.‬‬
‫من املقرر شرعا عند عامة الفقهاء أن الشورى ال تكون فيما كان فيه نص صريح قطعي الداللة‬
‫من كتاب ي أو سنة اثبتة صحيحة من رسول ي ‪ ،‬فإذا ورد نص صريح من كتاب ي تعاىل‬
‫قطعي الداللة أو سنة اثبتة صحيحة من رسول ي ‪ ‬فال جتوز التشاور فيهما‪.‬‬
‫وكذا ما كان فيه إمجاع صحيح‪ ،‬فإذا أمجعت األمة على أمر من األمور فال جيوز التشاور فيه‬
‫القسم الثاين‪ :‬األمور الداخلة ضمن نطاق الشورى‪.‬‬
‫ويدخل ضمن نطاق الشورى‪ ،‬أمور منها‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬ما كان فيه نص ظين الداللة من القرآن أو السنة أو فيه إمجاع مصلحي‪ ،‬فما كان‬
‫فيه نص ظين الداللة‪ ،‬أي داللته حمتملة وليست قطعية على املراد‪ ،‬وحيتاج املسلمون ملعرفة الرأي‬
‫الراجح فيه‪ ،‬فإنه يعرض على علماء الشريعة لبيان الراجح منه‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬األمر املستحدث الذي ال حكم له‪ ،‬املتعلق ابألمور الدنيوية ومصاا الناس العامة‬
‫اليت ال حكم هلا‪ ،‬فيعرض على أهل الشورى ألخذ الرأي واملشورة فيه‪.‬‬
‫وهو يتضمن ِبذا االعتبار‪ :‬سياسة األمة يف احلرب والسلم‪ ،‬وحبث األولوايت وترتيبها يف الدولة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والتشاور يف اختيار املساولني‪ ،‬والرقابة على احلاكم وتسديده‪ ،‬ومناقشة النظام املايل‬
‫وتوجيهه‪.‬‬
‫وجيب أن تكون نتيجة الشورى مطابقة للتشريع اإلسالمي ومتابعة الجتاهاته وروحه‪ ،‬وال تتعارض‬
‫العامة للشريعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫مع النصو‬

‫‪171‬‬
‫ـ أهل الشورى‬
‫مدح ي عباده املؤمنني الستجابتهم ألمر ي تعاىل واختاذهم الشورى هنجا يسريون عليه‪،‬‬
‫فاستوجب ذلك وجود طائفة تكون أهال لالستشارة‪ ،‬يُستشارون كلٌّ حبسب اختصاصه‪ ،‬وهم َمن‬
‫أُطلق عليهم ُ‬
‫أهل الشورى‪.‬‬
‫فأهل الشورى هم‪ :‬أصحاب اخلربات يف العلوم املختلفة الذين يستشريهم احلاكم يف األمور العامة‪،‬‬
‫وما خيتص مبا جيري يف الدولة من مصاا الرعية‪ ،‬والقضااي العامة اليت هتم األمة‪ ،‬وجزئيات األحكام‬
‫والقضااي‪.‬‬
‫العامة‬ ‫ويتم اختيارهم ابلطريقة اليت يتوافق عليها الناس ويرتضوا ِبا‪ ،‬مبا ال يتعارض مع النصو‬
‫للشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫ـ االنتخاب يف النظام اإلسالمي‬
‫يعد االنتخاب واالختيار أحد الوسائل املهمة إلسناد السلطة يف النظام اإلسالمي‪.‬‬
‫واالختيار لفظ عرفته كتب الفقه وكتب السياسة الشرعية بشكل خا ‪ ،‬بل أقرته وطبقته‪.‬‬
‫ويراد ابالختيار‪ :‬أن تقوم األمة ابختيار األنسب لشغل منصب ما‪ ،‬وذلك عن رضا منهم واختيار‪.‬‬
‫وتكاد هذه الطريقة أن تكون الطريقة الوحيدة اجملمع عليها عند الفقهاء يف عملية إسناد السلطة‬
‫يف النظام اإلسالمي)‪.‬‬
‫وإذا متعنا يف فكرة االنتخاب جند أن جوهرها قائم على معىن االختيار‪ ،‬وإن من معاين االنتخاب‬
‫االختيار واالنتقاء‪.‬‬
‫واملقصود ابالنتخاب‪ :‬العملية اليت يتم من خالهلا اختيار األنسب واألصلح ممن َر َّشحوا َ‬
‫أنفسهم‬
‫لشغل منصب ما‪ ،‬وفق الضوابط الشرعية‪.‬‬
‫ادف ملعىن االنتخاب‪ ،‬فاالنتخاب‬
‫عرفته كتب الفقه مر ٌ‬
‫فيمكن القول أن مبدأ االختيار الذي َّ‬
‫واالختيار معنيان يُ ِ‬
‫عربان عن فكرة واحدة قائمة‪ ،‬وهي اختيار األنسب لشغل وظيفة ما‪ ،‬أو توليته‬
‫مهمة معينة‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫وقد استدل العلماء على مشروعية االختيار أبدلة من القران الكرمي والسنة النبوية ومن اإلمجاع‪،‬‬
‫من ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬قال ي تعاىل‪َ (( :‬و َشا ِوْرُه ْم ِيف ْاأل َْم ِر )) (‪.)346‬‬
‫‪ -2‬قال عز وجل‪َ (( :‬وأ َْم ُرُه ْم شُورَ ٰى بَـ ْيـنَـ ُه ْم )) (‪.)347‬‬
‫فإن مسألة اختيار احلاكم وممثلي األمة من أهم األمور اليت جتري فيها املشاورة‪ ،‬والشورى تكون‬
‫مبشاورة أفراد األمة فيمن يصلح أن يكون أهال لتويل الوالايت العامة يف الدولة اإلسالمية‪ ،‬والطريقة‬
‫ملعرفة رأي األمة هي االختيار‪.‬‬
‫وقد وردت يف السنة النبوية حوادث عدة تؤكد على مشروعية مبدأ االختيار من خالل ممارسة‬
‫النيب ‪ ‬هلا‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ما ورد بشأن بيعة العقبة الثانية عندما اجتمع النيب ‪ ‬مع األوس واخلزرج للمبايعة‬ ‫‪-1‬‬
‫ين َع َش َر نَِقيبا‪ ،‬يَ ُكونُو َن َعلَى قَـ ْوِم ِه ْم‪ ،‬فَأَ ْخ َر ُجوا‬ ‫ليال يف العقبة‪ ،‬فقال النيب ‪ (( :‬أَ ْخ ِرجوا إِ ََّ ِ‬
‫يل م ْن ُك ْم اثْ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫س )) (‪.)348‬‬ ‫اخلَْزَر ِج َوثََالثَةٌ ِم ْن ْاأل َْو ِ‬
‫ين َع َش َر نَِقيبا‪ ،‬تِ ْس َعةٌ ِم ْن ْ‬ ‫ِ‬
‫م ْنـ ُه ْم اثْ َ ْ‬
‫فإن النيب ‪ ‬عمد هلذه الطريقة لكي يعرف ما يتوصل إليه القوم‪ ،‬وذلك ابختيار األوس واخلزرج‬
‫جمموعة منهم ميثلوهنم‪ ،‬فدل ذلك على مشروعية االختيار‪.‬‬
‫ما روي عن جميء وفد هوازن إىل النيب ‪ ‬مطالبني إعادة السيب‪ ،‬وأِ ْذ ِن املسلمني هلم‬ ‫‪-2‬‬
‫يف العتق ‪ -‬عقب موقعة ُحنني وهزمية ثقيف وهوازن‪ ،-‬فإن النيب ‪ ‬قال‪ (( :‬إِِين َال أَ ْد ِري َم ْن أ َِذ َن‬
‫َّاس‪ ،‬فَ َكلَّ َم ُه ْم عُ َرفَا ُؤ ُه ْم فَـ َر َجعُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫م ْن ُك ْم ممَّ ْن َملْ َأيْ َذ ْن‪ ،‬فَ ْارجعُوا َح َّىت يَـ ْرفَ َع إلَْيـنَا عُ َرفَا ُؤُك ْم أ َْم َرُك ْم‪ ،‬فَـ َر َج َع الن ُ‬
‫َّاس قَ ْد طَيَّـبُوا َوأ َِذنُوا )) (‪.)349‬‬ ‫ول َِّ‬
‫اَّلل ‪ ‬فَأَ ْخ َربُوهُ أ َّ‬ ‫إِ َىل َر ُس ِ‬
‫َن الن َ‬
‫فإن النيب ‪ ‬أراد أن يعرف موقف املسلمني من العتق عن طريق ممثلني عنهم ليعرف من أذن‬
‫منهم ممن مل أيذن‪ ،‬وكان ذلك عن طريق االختيار من قومهم‪ ،‬فدل ذلك على مشروعية االختيار‪.‬‬

‫(‪ – )346‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.159‬‬


‫(‪ – )347‬سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪.38‬‬
‫(‪ – )348‬رواه أمحد‪ ،‬املسند‪ ،‬حديث رقم‪ ،)15559( :‬وقال األلباين حديث صحيح‪ ،‬فقه السرية‪ ،‬ص‪.149‬‬
‫(‪ – )349‬حديث صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬ابب العرفاء للناس‪ ،‬حديث رقم‪.)6755( :‬‬

‫‪173‬‬
‫وقد أمجع الصحابة ‪ ‬على أن االختيار من األمة هو طريق ثبوت اإلمامة‪ ،‬وذلك عندما أمجعوا‬
‫على تولية أيب بكر الصديق ‪ ‬عن طريق االختيار والبيعة‪.‬‬
‫فاالختيار واالنتخاب من األمة يعد من الوسائل املشروعة واملهمة إلسناد السلطة يف النظام‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ومن ذلك اختيار أهل الشورى‪.‬‬
‫ـ آل ـيــات ال ـشــورى‬
‫شرع ي الشورى نظاما يسري عليه املسلم يف حياته‪ ،‬ليسعد ابلدنيا واآلخرة‪ ،‬وهو سبحانه ملا‬
‫أقر مبدأ الشورى أمر عباده ابألخذ به طريقا ومبدأ ملمارسته‪ ،‬ومل جيعل األمر تفردا يف الرأي لذي‬
‫القوة والسلطان‪ ،‬بل جعله قابال للتشاور والتباحث للوصول إىل األصوب واألرجح من األقوال‬
‫واألفعال‪.‬‬
‫وإذا متعنا يف التاريخ اإلسالمي وممارسات الشورى يف الدولة اإلسالمية يف العصر األولل فإننا ال‬
‫جند صيغة معينة‪ ،‬أو طريقة حمددة مارسها النيب ‪ ‬أو صحابته ‪ ‬من بعده يف تطبيق الشورى‪ ،‬بل‬
‫جند أن هنالك تباينا يف طرق املشاورة‪ ،‬فسرية الرسول ‪ ‬واضحة أبنه مل يلتزم طريقة واحدة‬
‫لالستشارة‪ ،‬وهي تبني مدى حر النيب ‪ ‬على تطبيق مبدأ الشورى دون االلتزام بشكل أو طريقة‬
‫حمددة له‪ ،‬كذا خلفاؤه ‪ ‬من بعده‪.‬‬
‫فالشورى يف النظام اإلسالمي غري خاضعة ألي حتديد معني يف شكلها أو نظامها‪ ،‬فالشارع‬
‫احلكيم أقر هذا املبدأ ودعا إىل األخذ به‪ ،‬دون االلتزام لية أو شكل معني لتطبيقه‪ ،‬بل جعل سبيل‬
‫تطبيقه والعمل به متوافقا مع حياة املسلم وتطوره‪ ،‬متماشيا مع مصلحة األمة احلاضرة واملستقبلة‪،‬‬
‫وهذا ما يربز جليا من خالل عدم حتديد القرآن الكرمي آلية ملزمة للشورى‪ ،‬وعدم ممارسة النيب ‪‬‬
‫طريقة واحدة للتشاور‪ ،‬وهذا ما فهمه الصحابة الكرام ‪ ‬ومارسوه يف حياهتم‪ ،‬فهم طبقوا مبدأ‬
‫الشورى يف كل جوانب حياهتم مع عدم االلتزام بطريقة واحدة للتشاور دون سواها‪.‬‬
‫ولعل احلكمة من عدم حتديد آلية حمددة للشورى ترجع إىل املرونة اليت تتميز ِبا الشريعة اإلسالمية‬
‫واليت انعكست على املبادئ العامة يف اإلسالم‪ ،‬فهي متوافقة مع تغري الزمان واملكان‪ ،‬وصاحلة‬

‫‪174‬‬
‫للتطبيق يف مجيع العصور‪ ،‬وهو دليل على عظمة اإلسالم وعامليته‪ ،‬وصالحيته للتطبيق يف كل زمان‬
‫ومكان‪.‬‬
‫فكل طريقة يتوافق عليها املسلمون يف أي عصر من العصور تؤدي معىن التشاور وتتوافق مع‬
‫العصر‪ ،‬هي طريقة مشروعة ما دامت ال تتصادم مع النظام اإلسالمي‪.‬‬
‫وإذا توقف تطبيق مبدأ الشورى على الوجه السليم على اختاذ نظام معني له‪ ،‬فإن ذلك يصبح‬
‫مطلواب بل رمبا يكون واجبا‪ ،‬ملا أقره األصوليون يف القاعدة األصولية ‪ -‬ماال يتم الواجب إال به فهو‬
‫واجب ‪.‬‬
‫وعليه ميكن أخذ أي تنظيم للشورى‪ ،‬أاي كان نوعه أو مصدره بشرط عدم تعارضه مع النظام‬
‫اإلسالمي العام ‪.‬‬
‫فإن الذي أِبر بعض املسلمني بتقدم الغرب‪ ،‬هو وضوح الدميقراطية من خالل آلية حمددة ومقننة‬
‫وهي اجملالس النيابية‪ ،‬خبالف مبدأ الشورى الذي مل يهتم به املسلمون االهتمام املطلوب‪ ،‬فلم حياولوا‬
‫وضع آليات واضحة لتفعيله‪ ،‬فاملسلمون ميلكون األساس الرابين ولكن مل يتقدموا خطوات يف عملية‬
‫التطبيق ‪.‬‬
‫فال مانع شرعا من أخذ بعض التنظيمات اإلدارية واملؤسسية من غري املسلمني‪ ،‬وإعادة صياغتها‬
‫لكي تتوافق مع النظام اإلسالمي‪ ،‬كما هو حاصل لدى الدميقراطية النيابية واليت ميكن استخال‬
‫أفضل ما فيها‪ ،‬ووضع النظم املماثلة هلا بشرط عدم تعارضها مع النظام اإلسالمي‪.‬‬
‫وليس من الضروري أن يكون واقع جمتمع يف زمن من األزمان هو املعىن الوحيد لتطبيق الشورى‬
‫يف اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬فكل ما طابق الشورى والتزم مببادئها ومل خيرج عن النظام اإلسالمي ميكن األخذ‬
‫به‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫الوحدة والتضامن اإلسالمي‬
‫د‪ .‬حممود السيد داود‬
‫لقد شهد العامل املعاصر الكثري من االحتادات والتحالفات‪ ،‬اليت جتمع الكثري من الدول‪ ،‬لتحقيق‬
‫مصاا مشرتكة‪ ،‬ودفع أخطار متوقعة‪ ،‬كاالحتاد األوريب وحلف وارسو( ‪ ،)Warsaw‬وحلف‬
‫آلال األطلسي (الناتو‪ )NATO‬وغري ذلك‪ ،‬والعجيب أن هذه االحتادات قامت بني دول متباينة‬
‫ِف الدايانت والعادات والتقاليد واللغات وغريها‪ ،‬أما الدول اإلسالمية فإهنا تعيش حالة من التمزق‬
‫واالضطراب‪ ،‬ويسيطر عليها الكثري من اخلصومات واملشاحنات‪ ،‬وقد أَثر ذلك كله ضعفا واضحا‬
‫يف كل اجملاالت‪ ،‬ولذا تبدوا أمهية احلديث عن الوحدة اإلسالمية من النواحي التالية‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬مفهوم الوحدة اإلسالمية‪:‬‬
‫َّحد‪،‬‬ ‫ووح َد‪ ،‬واشتق منها‪َّ :‬احت َد‪ ،‬ويتَّحد‪ِ ،‬احتَادا‪ ،‬فهو مت ِ‬ ‫الوحدة لغة‪ :‬بفتح الواو مصدر وح َد ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وو ْحدات‪ ،‬ومن معانيها‪:‬‬ ‫َّحد به‪ ،‬واجلمع‪َ :‬و َحدات‪َ ،‬‬ ‫ومت َ‬‫ُ‬
‫وو ِح ٌد ووحيد‪ ،‬أي‬ ‫ورجل َو َح ٌد َ‬
‫ٌ‬ ‫اد وعدم النظري‪ :‬تقول‪ :‬رأيته وح َده‪ .‬والواحد‪ :‬أول العدد‪،‬‬ ‫‪ 1‬ـ االنفر ُ‬
‫وتوح َد برأيه‪ :‬ت َف َّر َد به‪ .‬وفال ٌن ِ‬
‫واح ُد ده ِرهِ‪ ،‬أي ال نظري له‪.‬‬ ‫منفرٌد‪َ َّ .‬‬
‫الش ْي ِء فَ َّ‬
‫الر ُج ُل‬ ‫‪ 2‬ـ اجلزء من الكل‪ :‬والوحدة ميكن أن تتضمن معىن اجلزء من الكل‪ ،‬أو اجلُْزء ِم ْن َّ‬
‫اح ٌد ِمن الْ َقوِم أَي فَـرٌد ِمن أَفْـر ِاد ِهم‪ ،‬ومن ذلك قول القائل‪ :‬طَاروا إل َْي ِه َزرافَ ٍ‬
‫ات َوُو ْح َد َاان‪.‬‬ ‫وِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ ْ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ف بِ ِه إِالَّ ي ُسبحانه‬ ‫وص ُ‬
‫وال يُ َ‬ ‫‪ 3‬ـ الكل الذى ال يتجزأ وال يقبل االنقسام‪ :‬ومن ذلك اسم‪ :‬األحد َ‬
‫َح ُد الذي َال اثينَ لَهُ ِيف‬ ‫َّجزي‪ ،‬لنَز َاهته َعن ذلك‪َ .‬وقيل‪ :‬األ َ‬ ‫َح ِديَّته َم ْعنَ َ‬
‫اها أَنه َال يَقبَل الت ِ‬ ‫َوتَـ َع َاىل‪ ،‬وأ َ‬
‫جل شأْنُه‪.‬‬
‫صفاته‪َّ ،‬‬ ‫ربوبيته وَال ِيف ذاتِه وَال ِيف ِ‬
‫َ‬ ‫ُُ َ‬
‫‪ 3‬ـ االندماج واالتفاق واالنضمام‪ ،‬ومن ذلك‪َّ :‬احتدت األشياءُ‪ :‬اندجمت‪ ،‬صارت شياا واحدا‪ ،‬واحتدت‬
‫القوم‪ :‬اتفقوا أو انضموا إىل وحدة جيمعهم فيها نوع العمل أو‬ ‫واحتد ُ‬ ‫ط‪ :‬صارت خيطا واحدا‪َّ .‬‬ ‫اخليو ُ‬
‫اخلط السياسي أو االقتصادي‪.‬‬
‫ً‬
‫الوحدة اإلسالمية اصطالحا‪:‬‬

‫‪176‬‬
‫والوحدة اإلسالمية عُ ِرفَت بتعريفات متعددة منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االندماج والتوحد‪ ،‬وذلك على أساس اإلسالم الذي يربط عقداي بني البشر املؤمنني برسالته‪. ،‬‬
‫‪ 2‬ـ اجتماع املنتسبني إىل االسالم على أصول الدين وقواعده الكلية ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن نعترب أنفسنا مهما تناءت الداير مرتبطني بروابط وثيقة متتد جذورها ِف أعماق أنفسنا‪ ،‬وهي‬
‫مبادئ اإلسالم وشعائره‪ ،‬وعبادته وعقيدته‪ ،‬إذ هو دين الوحدة الشاملة كما هو دين التوحيد الكامل‬
‫اخلالص من كل شرك ‪.‬‬
‫التعريف املختار‪:‬‬
‫وأهم ما نالحظه على هذه التعريفات‪ ،‬أهنا ليست حمكمة‪ ،‬وال ختلو من احلشو‪ ،‬وأن كال منها‬
‫يتحدث عن درجة معينة من الوحدة بني املسلمني‪ ،‬فمنهم من يصل ابلوحدة إىل أعلى درجاهتا وهو‬
‫درجة االندماج والتوحد‪ ،‬لتصبح الدول اإلسالمية املتناثرة دولة واحدة‪ ،‬وعلى رأسها حاكم واحد‪،‬‬
‫كالتعريف األول‪ ،‬ومنهم من يكتفي ِف الوحدة بتحقيق أدىن درجاهتا‪ ،‬وهو أن يعترب املسلمون‬
‫أنفسهم مرتابطني مببادئ اإلسالم وشعائره‪ ،‬فهي وحدة يف املشاعر‪ ،‬كالتعريف الثالث‪ ،‬ومنهم من‬
‫يقف ابلوحدة اإلسالمية ِف صورة متوسطة‪ ،‬تتمثل ِف جمرد اجتماع املسلمني على أصول الدين‬
‫وقواعده‪ ،‬حبيث ال تصل إىل حد االندماج والتوحد‪ ،‬وال يكتفى فيها مبجرد املشاعر واألحاسيس‪.‬‬
‫وهذه كلها صور للوحدة اإلسالمية‪ ،‬حبيث ميكن أن تصل إىل أعلى درجاهتا مع قوة املسلمني‬
‫وهنضتهم‪ ،‬كما ميكن أن تضعف إىل أدىن درجاهتا أثناء ضعف املسلمني واهنزامهم‪ ،‬وبني هاتني‬
‫الدرجني ميكن أن تتكون درجات متعددة للوحدة اإلسالمية ذاهتا ‪.‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬فإننا نفضل أن يكون تعريف الوحدة اإلسالمية هو‪ :‬اجتماع املسلمني وتوحدهم‬
‫على أصول الدين وقواعده الكلية‪ِ ،‬ف اجملاالت املناسبة‪ ،‬وابلصورة اليت تتفق مع روح العصر‪.‬‬
‫الوحدة اإلسالمية تقتضي تعزيز التضامن والتعاون بني الدول اإلسالمية‪:‬‬
‫الوحدة اإلسالمية ابملعىن السابق يف أي صورة من صورها‪ ،‬تقتضي التضامن ِف معناه العام بني‬
‫املسلمني‪ ،‬ويقصد ابلتضامن‪ :‬التكامل بني اجملتمعات والدول اإلسالمية املعاصرة‪ ،‬تكامال جيمعهم‬
‫حول مصاا مشرتكة أو مشاعر وتطلعات واحدة‪ ،‬وخاصة يف مواجهة املشاكل والصعاب‪ ،‬أو‬

‫‪177‬‬
‫األخطار اليت تتهددهم مجيعا(‪ ،‬وقد أتكدت الدعوة إىل التضامن يف اإلسالم‪ ،‬حيث تقوم العالقة‬
‫بني املسلمني على اإلخاء الكامل‪ ،‬الذي يتحرك فيه الفرد بروح اجلماعة ومصلحتها وآماهلا‪ ،‬فال‬
‫يرى لنفسه كياان دوهنا‪ ،‬وال امتدادا إال فيها‪ ،‬وهذا يعين أن تذوب عصبيات اجلاهلية‪ ،‬فال ْية‬
‫إال لإلسالم‪ ،‬وأن تسقط فوارق النسب واللون‪ ،‬فال يتقدم أحد أو يتأخر إال بتقواه)‪.‬‬
‫وألمهية التضامن يف اإلسالم‪ ،‬ركز عليه ميثاق منظمة التعاون اإلسالمي وجعله أول أهداف‬
‫املنظمة‪ ،‬وذلك كما ورد يف م‪ ،1 / 1‬وتنص على " تعزيز ودعم أواصر األخوة والتضامن بني الدول‬
‫األعضاء "‪ ،‬كما ركز عليه مؤمتر القمة اإلسالمى الثالث املنعقد يف مكة املكرمة يف الفرتة من ‪25‬‬
‫إىل ‪ 28‬يناير ‪ 1981‬حيث جاء فيه " فنحن عاقدوا العزم على أن منضي قدما لتوثيق أواصر‬
‫التضامن بني شعوبنا ودولنا‪ ،‬وعلى أن نتجاوز كل ما يؤدي إىل الشقاق وجير إىل الفرقة‪ ،‬وأن نفض‬
‫ابحلسىن كل نزاع يطرأ بيننا‪ ،‬فنحتكم إىل املواثيق وإىل مبادئ األخوة واأللفة والرتابط وما نؤمن به‬
‫مجيعا من مقاييس العدل والتسامح‪ ،‬نستمدها من كتاب ي تعاىل وسنة رسوله ـ صلى ي عليه‬
‫وسلم ـ ابعتبارمها مرجعا دائما لكل األحكام‪."..‬‬
‫والوحدة والتضامن يقتضيان ابلضرورة التعاون‪ ،‬والذي يعين‪ :‬اإلسهام يف عمل مشرتك‪ )،‬كاإلسهام‬
‫والتعاون بني الدول اإلسالمية للقضاء على الفقر واجلهل واملرض وتنشيط التبادل الثنائي واجلماعي‪،‬‬
‫وتشجيع االستثمارات‪ ،‬وْايتها وضماهنا‪ ،‬وعقد اتفاقيات متعددة األطراف للتعاون االقتصادي‬
‫والتجاري والفين وغري ذلك‪.‬‬
‫ولضمان هذا التعاون ِف ظل التضامن اإلسالمي‪ ،‬ركز ميثاق منظمة التعاون اإلسالمى على كل‬
‫أوجه هذا التعاون‪ ،‬حيث تضمن من بني أهداف املنظمة‪ " :‬تعزيز التعاون االقتصادي والتجاري‬
‫اإلسالمي بني الدول األعضاء من أجل حتقيق التكامل االقتصادي فيما بينها‪ ،‬مما يفضي إىل إنشاء‬
‫سوق إسالمية مشرتكة " ‪ ،‬كما تضمن من بني األهداف أيضا‪ " :‬تعزيز التعاون بني الدول األعضاء‬
‫يف اجملاالت االجتماعية والثقافية واإلعالمية "‪.‬‬
‫ولان غدا التعاون الدويل أصال اثبتا وقواي من أصول العالقات الدولية اليوم)‪ ،‬واعتربته األمم‬
‫املتحدة بكل أشكاله ووجوهه أحد أهدافها األساسية‪ ،‬فإن اإلسالم قد سبق ذلك كله حيث حث‬

‫‪178‬‬
‫سبحانه‪":‬وتَـ َع َاونُواْ َعلَى ال ِ‬
‫ْرب َوالتَّـ ْق َوى َوالَ‬ ‫َ‬ ‫على مجيع أشكال التعاون وعلى مجيع املستوايت‪ ،‬فقال‬
‫ان‪ ،" ..‬وحىت ال يكون هناك فكاك من هذا التعاون احليوي اهلام بني كل‬ ‫تَـعاونُواْ َعلَى ا ِإل ِْمث والْع ْدو ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ََ‬
‫املسلمني اقتضت حكمة ي تعاىل أن توزع ثروات األرض على كل البقاع واألماكن‪ ،‬حيث خص‬
‫ي عز وجل كل بقعة بشيء من الثروة الزراعية أو املعدنية أو املائية أو البشرية أو غري ذلك حىت‬
‫يكون التكامل بني بين البشر مطلبا حيواي وضروراي ال غناء عنه وال مفر‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا مشروعية الوحدة اإلسالمية‪:‬‬
‫لقد تضافرت اآلايت القرآنية‪ ،‬واألحاديث النبوية‪ ،‬على أتكيد مشروعية الوحدة اإلسالمية‪،‬‬
‫واالرتقاء ِبا جلعلها فريضة شرعية وضرورة بشرية‪ ،‬وذلك أبساليب متنوعة‪ ،‬ونكتفي ابإلشارة إىل‬
‫هذه األدلة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ من القرآن الكرمي‪:‬‬
‫ون}(‪،)350‬‬ ‫اح َدة وأ ََان ربا ُكم فَا ْعب ُد ِ‬ ‫ـ تقرير الوحدة اإلسالمية بقوله تعاىل‪ { :‬إِ َّن ه ِذهِ أ َُّمت ُكم أ َُّمة و ِ‬
‫َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ون }(‪.)351‬‬ ‫اح َدة وأ ََان ربا ُكم فَاتَّـ ُق ِ‬ ‫وقوله‪{ :‬وإِ َّن ه ِذهِ أ َُّمت ُكم أ َُّمة و ِ‬
‫َ َ ْ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫مجيعا َوالَ تَـ َف َّرقُواْ َواذْ ُك ُرواْ نِ ْع َم َ‬ ‫صمواْ ِحبب ِل ِ‬
‫ت‬ ‫اَّلل َِ‬ ‫{وا ْعتَ ِ ُ َْ‬ ‫ـ الدعوة إىل االعتصام والوحدة بقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫َصبَ ْحتُم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َواان‪.)352(}..‬‬ ‫ِ‬
‫ني قُـلُوبِ ُك ْم فَأ ْ‬
‫ف بَ ْ َ‬‫اَّلل َعلَْي ُك ْم إِ ْذ ُكنتُ ْم أَ ْع َداء فَأَلَّ َ‬
‫اطي ُم ْستَ ِقيما فَاتَّبِعُوهُ َوالَ تَـتَّبِعُواْ ال ا‬
‫سبُ َل فَـتَـ َف َّر َق بِ ُك ْم‬ ‫صر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{وأ َّ‬
‫َن َهـ َذا َ‬ ‫ـ النهي عن الفرقة واالختالف‪َ :‬‬
‫صا ُكم بِ ِه ل ََعلَّ ُك ْم تَـتَّـ ُقو َن }(‪.)353‬‬ ‫َعن َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َو َّ‬
‫ين فَـ َّرقُواْ ِدينَـ ُه ْم َوَكانُواْ ِشيَعا لَّ ْس َ‬
‫ت‬ ‫َّ ِ‬
‫ـ تربئة النيب صلى ي عليه وسلم ممن اختلفوا شيعا وأحزااب‪{ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ِم ْنـهم ِيف َشي ٍء إِ َّمنَا أَمرهم إِ َىل ِ‬
‫اَّلل ُمثَّ يُـنَـبِاُـ ُهم ِمبَا َكانُواْ يَـ ْف َعلُو َن}(‪.)354‬‬ ‫ُُْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬

‫(‪ ) 350‬ـ األنبياء آية رقم ‪.92‬‬


‫(‪ ) 351‬ـ املؤمنون آية رقم ‪.52‬‬
‫(‪ ) 352‬ـ آل عمران آية رقم ‪.103‬‬
‫(‪ ) 353‬ـ اآلنعام آية رقم ‪.153‬‬
‫(‪ ) 354‬ـ األنعام آية رقم ‪.159‬‬

‫‪179‬‬
‫شاقِ ِق‬
‫{وَمن يُ َ‬
‫ـ األصل أن األمة اإلسالمية واحدة ومن خرج على وحدة الصف يناله العذاب الشديد‪َ :‬‬
‫اءت م ِ‬ ‫يل الْم ْؤِمنِني نُـولِ ِه ما تَـو َّىل ونُ ْ ِ ِ‬‫ني لَهُ ا ْهلَُدى ويَـتَّبِ ْع غَ ْ ِ‬ ‫الرس َ ِ ِ‬
‫صريا }‪.‬‬ ‫َّم َو َس ْ َ‬
‫صله َج َهن َ‬ ‫ري َسب ِ ُ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ول من بَـ ْعد َما تَـبَ َّ َ‬ ‫َّ ُ‬

‫‪ 2‬ـ من السنة النبوية‪:‬‬


‫ـ تقرير الوحدة اإلسالمية واعتبار أن املؤمنني يف مشارق األرض ومغارِبا كاجلسد الواحد‪ ،‬ويف ذلك روي‬
‫اْ ِه ْم َوتَـ َو ِاد ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول َِّ‬ ‫اع َمان بْن بَ ِش ٍري‪ ،‬قال‪ :‬قَ َ‬
‫َ‬ ‫صلَّى يُ َعلَ ْيه َو َسلَّ َم‪« :‬تَـ َرى املُْؤمنِ َ‬
‫ني ِيف تَـر ُِ‬ ‫اَّلل َ‬ ‫ال َر ُس ُ‬ ‫َعن النـ ْ‬
‫لس َه ِر َواحلَُّمى» (‪.)355‬‬‫س ِد ِه ِاب َّ‬ ‫ِ‬
‫اعى لَهُ َسائ ُر َج َ‬
‫ضو تَ َد َ‬ ‫س ِد‪ ،‬إِذَا ا ْشتَ َكى عُ ْ‬ ‫ِ‬
‫َوتَـ َعاطُف ِه ْم‪َ ،‬ك َمثَ ِل اجلَ َ‬
‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‪ " :‬إِ َّن‬ ‫ال رس ُ ِ‬ ‫ـ األمر ابلوحدة والنهى عن الفرقة‪َ :‬ع ْن أَِيب ُه َريْـ َرةَ‪ ،‬قَ َ‬
‫ول ي َ‬ ‫ال‪ :‬قَ َ َ ُ‬
‫ضى لَ ُك ْم‪ :‬أَ ْن تَـ ْعبُ ُدوهُ‪َ ،‬وَال تُ ْش ِرُكوا بِ ِه َش ْيـاا‪َ ،‬وأَ ْن‬ ‫ضى لَ ُك ْم ثََالاث‪َ ،‬ويَ ْك َرهُ لَ ُك ْم ثََالاث‪ ،‬فَ َ ْري َ‬ ‫يَ يَـ ْر َ‬
‫اع ِة الْم ِ‬ ‫س َؤ ِال‪َ ،‬وإِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ال "(‪.)356‬‬ ‫ضَ َ‬ ‫ال‪َ ،‬وَكثْـ َرةَ ال ا‬ ‫يل َوقَ َ‬ ‫تَـ ْعتَص ُموا حبَْب ِل ي َمجيعا َوَال تَـ َف َّرقُوا‪َ ،‬ويَ ْك َرهُ لَ ُك ْم‪ :‬ق َ‬
‫ادةَ‪،‬‬ ‫س بْ ِن عُبَ َ‬ ‫ـ تقرير املساواة بني املسلمني و جعلهم يدا واحدة ضد أعدائهم‪ :‬ويف ذلك روي َعن قَـ ْي ِ‬
‫ْت‪َ :‬ه ْل َع ِه َد إِل َْي َ‬ ‫برِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫اَّللُ َع ْنهُ يَـ ْو َم ا ْجلَ َم ِل‪ ،‬فَـ ُقل ُ‬
‫ض َي َّ‬ ‫رت‪َ ،‬علَى َعل ِي بْ ِن أَِيب طَال ٍ َ‬ ‫ْت أ ََان َو ْاألَ ْش َُ‬
‫ال‪َ :‬د َخل ُ‬ ‫قَ َ‬
‫اب َس ْي ِف ِه فَِإذَا‬ ‫ج ِم ْن قِر ِ‬ ‫ال‪َ :‬ال‪ ،‬إَِّال َه َذا َوأَ ْخ َر َ‬ ‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم َع ْهدا ُدو َن ال َْع َّام ِة؟ فَـ َق َ‬ ‫ول َِّ‬
‫اَّلل َ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫َ‬
‫اه ْم‪َ ،‬ال يُـ ْقتَ ْل ُم ْؤِم ٌن‬ ‫ِ‬
‫فِ َيها‪« :‬ال ُْم ْؤمنُو َن تَـتَ َكافَأُ ِد َما ُؤ ُه ْم‪َ ،‬ويَ ْس َعى بِ ِذ َّمتِ ِه ْم أَ ْد َان ُه ْم‪َ ،‬و ُه ْم يَ ٌد َعلَى َم ْن ِس َو ُ‬
‫بِ َكافِ ٍر َوَال ذُو َع ْه ٍد ِيف َع ْه ِدهِ» (‪.)357‬‬
‫صلَّى يُ َعلَْي ِه‬ ‫ول َِّ‬ ‫ـ األمر بلزوم اجلماعة‪َ :‬ع ْن ُحمَ َّم ِد بْ ِن ُجبَ ِْري بْ ِن ُمط ِْع ٍم‪َ ،‬ع ْن أَبِ ِيه‪ ،‬قَ َ‬
‫اَّلل َ‬ ‫ام َر ُس ُ‬ ‫ال‪ :‬قَ َ‬
‫ري فَِق ٍيه‪،‬‬ ‫اَّلل امرأ َِطع م َقال َِيت‪ ،‬فَـبـلَّغَها‪ ،‬فَـر َّ ِ ِ ٍ‬ ‫ف ِم ْن ِمىن‪ ،‬فَـ َق َ‬ ‫و َسلَّم ِاب ْخلَْي ِ‬
‫ب َحام ِل ف ْقه‪ ،‬غَ ْ ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ال‪ " :‬نَض ََّر َُّ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ح ِام ِل فِ ْق ٍه إِ َىل من ُهو أَفْـ َقهُ ِم ْنهُ‪ ،‬ثََال ٌ ِ‬
‫يحةُ‬ ‫ْب ُم ْؤم ٍن‪ :‬إِ ْخ َال ُ ال َْع َم ِل ََّّلل‪َ ،‬والنَّص َ‬ ‫ث َال يُغ ال َعلَْي ِه َّن قَـل ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َوُر َّ َ‬
‫ط ِم ْن َوَرائِِه ْم "(‪)358‬‬ ‫اعتِ ِه ْم‪ ،‬فَِإ َّن َد ْع َو َهتُ ْم‪ُِ ،‬حتي ُ‬
‫وم َمجَ َ‬ ‫ني‪َ ،‬ول ُُز ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ل ُوَالة ال ُْم ْسل ِم َ‬

‫(‪ ) 355‬ـ صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ 8‬ص ‪ 10‬حديث رقم ‪.6011‬‬


‫(‪ ) 356‬ـ صحيح مسلم‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ 1340‬حديث رقم‪.1715 :‬‬
‫(‪ ) 357‬ـ املستدرك على الصحيحني ج ‪ 2‬ص ‪ 153‬حديث رقم ‪.2623‬‬
‫(‪ ) 358‬ـ سنن ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم ‪.3056‬‬

‫‪180‬‬
‫اس‪ ،‬ر ِ‬
‫ض َي َّ‬
‫اَّللُ َع ْنـ ُه َما‪،‬‬ ‫ـ األمر ابلصرب على أئمة املؤمنني وعدم اخلروج عليهم‪ :‬ويف ذلك روي عن ابْن َعبَّ ٍ َ‬
‫صِ ْرب َعلَ ْي ِه فَِإنَّهُ َم ْن فَ َار َق اجلَ َم َ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫صلَّى يُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم‪ ،‬قَ َ‬
‫اعةَ‬ ‫«م ْن َرأَى م ْن أَم ِريه َش ْيـاا يَك َْرُههُ فَـلْيَ ْ‬
‫ال‪َ :‬‬ ‫َع ِن النِ ِ‬
‫َّيب َ‬
‫ات ِميتَة ج ِ‬
‫اهلِيَّة»(‪.)359‬‬ ‫ِش ْربا فَ َم َ‬
‫ات‪ ،‬إَِّال َم َ‬
‫َ‬
‫‪ 3‬ـ اإلمجاع‪ :‬فلقد أمجعت األمة على وجوب نصب خليفة للمسلمني‪ ،‬جلمع كلمتهم‪ ،‬وتوحيد صفوفهم‪،‬‬
‫وصهر شعوِبم وقبائلهم‪ ،‬على اختالف ألسنتم وألواهنم‪ ،‬يف بوتقة النظام اإلسالمي‪ ،‬وال يعين هذا إال‬
‫ضرورة العمل على وحدة املسلمني‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬مقومات الوحدة اإلسالمية ومعوقاتها‪:‬‬
‫أ ـ مقومات الوحدة اإلسالمية‪:‬‬
‫حيث إن الوحدة اإلسالمية فريضة شرعية‪ ،‬فلقد هيأ ي عز وجل هلا مقوماهتا يف هذه األمة حىت تستطيع‬
‫حتقيقها والوصول إليها‪ ،‬وأهم هذه املقومات ما أييت‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ توحيد اهلل عز وجل‪:‬‬


‫إذ إن أول ما يعمل على توحيد األمة اإلسالمية ويؤلف بني قلوب أبنائها‪ ،‬التوحيد اخلالص هلل تعاىل‪،‬‬
‫اب تَـ َعال َْواْ إِ َىل َكلَ َم ٍة َس َواء‬ ‫النقي من كل شوائب الشرك واجلحود‪ ،‬وهو قوله تعاىل‪ { :‬قُل اي أ َْهل ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫َْ َ‬
‫ون ِ‬ ‫ضنَا بـ ْعضا أَراباب ِمن ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّلل فَِإن تَـ َولَّ ْواْ‬ ‫َْ‬ ‫بَـ ْيـنَـنَا َوبَـ ْيـنَ ُك ْم أَالَّ نَـ ْعبُ َد إِالَّ اَّللَ َوالَ نُ ْش ِر َك بِه َش ْياا َوالَ يَـتَّخ َذ بَـ ْع ُ َ‬
‫فَـ ُقولُواْ ا ْش َه ُدواْ ِأب ََّان ُم ْسلِ ُمو َن } (‪ .)360‬فالتوحيد جيمع ويوحد بني القلوب‪ ،‬أما الشرك‪ ،‬فألنه تتنوع‬
‫مظاهره‪ ،‬وتتعدد طواغيته ومعبوداته من دون ي‪ ،‬فإنه ميزق ويفرق‪ .‬ومما يرتتب على عقيدة التوحيد‬
‫بكل أركاهنا‪ ،‬وحدة التصور لإلنسان والكون واحلياة‪ ،‬وهذا التصور يتميز به الفكر اإلسالمي وال‬
‫يوجد فيه تعارض أو تناقض او تضارب‪ ،‬وأتباعه يكونون يف وحدة وانسجام اتم‪ ،‬أما التصورات‬
‫األخرى البعيدة عن اإلسالم فهي متناقضة متضاربة وجيمعها وصف الضالل واالحنراف‪ ،‬ويتفرق‬
‫ص َرفُو َن } (‪.)361‬‬
‫َىن تُ ْ‬ ‫أبتباعها السبل‪{ :‬فَ َذلِ ُك ُم اَّللُ َربا ُك ُم ا ْحلَ اق فَ َماذَا بَـ ْع َد ا ْحلَِق إِالَّ َّ‬
‫الضالَ ُل فَأ َّ‬

‫(‪ ) 359‬ـ صحيح البخاري‪،‬‬


‫(‪ ) 360‬ـ آل عمران اآلية رقم ‪.64‬‬
‫(‪ ) 361‬ـ يونس اآلية رقم ‪.32‬‬

‫‪181‬‬
‫‪ 2‬ـ العبادات اإلسالمية‬
‫وللعبادات اإلسالمية دور كبري أيضا يف حتقيق وحدة املسلمني‪ ،‬ومجع كلمتهم والتأليف بني قلوِبم‪،‬‬
‫وأهم هذه العبادات‪:‬‬
‫الصالة‪ :‬واإلسالم حينما يدعو إىل الصالة حيبب يف صالة اجلماعة‪ ،‬حىت ال يؤدي املسلم الصالة‬
‫يف عزلة عن إخوانه‪ ،‬وخاصة يف املسجد‪ ،‬حىت يلتحم املسلمون يف صفوف مستقيمة‪ ،‬ويقف الغين‬
‫جبوار الفقري‪ ،‬والقوي جبوار الضعيف‪ ،‬واحلاكم جبوار احملكوم‪ ،‬يف صورة مبهرة تُ ْشعر ابلوحدة احلقيقية‬
‫الزَكاةَ وارَكعواْ مع َّ ِ‬ ‫بني كل أبناء اإلسالم‪ ،‬وذلك هو قوله تعاىل‪ِ :‬‬
‫الراك ِع َ‬
‫ني }‬ ‫الصالَةَ َوآتُواْ َّ َ ْ ُ َ َ‬
‫يمواْ َّ‬
‫{وأَق ُ‬
‫َ‬
‫(‪.)362‬‬
‫ومن عظمة اإلسالم أن املسجد ليست له الئحة‪ ،‬ختصص الصف األول للوزراء والثاين للنواب أو‬
‫املديرين أو كبار رجال الدولة‪ ،‬وإمنا اجلميع سواسية‪ ،‬ويستطيع أن يقف يف الصف األول أي مسلم‬
‫أاي كانت منزلته وأاي كان عمله‪.‬‬
‫وإذا كانت صالة اجلماعة تُشعر املسلم ابلوحدة اإلسالمية‪ ،‬فإن صالة اجلمعة أتيت كل أسبوع‪،‬‬
‫وصالة العيدين أتيت كل عام لتعميق هذا الشعور‪ ،‬إذ إن صالة اجلمعة ِبذا احلشد األسبوعي تكون‬
‫أدعى لالئتالف وأبعد عن التدابر واالختالف‪ ،‬وأن املوعظة اليت يستمع إليها املصلون أثناءها تعمل‬
‫على وحدة املفاهيم ووحدة الفكر ووحدة املواقف‪ ،‬ويؤدي هذا إىل تقارب القلوب واستقامة العالقات‬
‫وفق املنهج اإلسالمي‪ .‬وأما صالة العيد اليت جتمع أهل البلد مجيعا‪ ،‬مبا فيهم النساء والصبيان‪ ،‬فإهنا‬
‫هتدف إىل ترسيخ وحدة املسلمني‪ ،‬ابإلضافة إىل كوهنا مظهرا لقوهتم‪ ،‬وبياان لكثرهتم‪ ،‬إذ إهنا تظهر‬
‫املسلمني على أهنم أمة واحدة وصف واحد وبنيان مرصو ‪.‬‬
‫الزكاة‪ :‬والزكاة من الفرائض العظيمة أيضا اليت تقوم بدور ملموس يف حتقيق الوحدة بني املسلمني‪،‬‬
‫وذلك ألهنا تعمل على وقاية اجملتمع من عوامل اهلدم والتفرقة وتعا فيه التفاوت والصراع بني األغنياء‬
‫والفقراء‪ ،‬وتزيل االنقسام والفنت‪ .‬وتؤكد أن الفقراء يف اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬هناك من يفكر فيهم‪،‬‬

‫(‪ ) 362‬ـ البقرة اآلية رقم ‪.43‬‬

‫‪182‬‬
‫ويهتم بشاوهنم وينشغل ِبم‪ ،‬ويذهب إىل بيوهتم إلعطائهم حقوقهم‪ ،‬فتسعد نفس الفقري‪ ،‬وتسرتيح‬
‫نفس الغين‪ ،‬ويشعر اجلميع كأهنم أسرة واحدة‪ ،‬حيث ال حقد وال حسد وال بغضاء‪.‬‬
‫البذل والعطاء بفريضة الزكاة‪ ،‬بل يدعو‬ ‫ولرتسيخ روح الوحدة بني املسلمني‪ ،‬ال يكتفي اإلسالم خبصو‬
‫املسلم إىل البذل واإلنفاق‪ ،‬سواء بصورة واجبة أو مندوبة‪ ،‬مثل النفقة على األقارب وأويل األرحام‪ ،‬كما‬
‫حيمله مساولية أخالقية مادية عن جريانه وسائر إخوانه من املسلمني‪ .‬وحيض على البذل يف ذلك كله‪،‬‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن‬
‫اصةٌ َوَمن يُو َق ُش َّح نَـ ْف ِس ِه فَأ ُْولَاِ َ‬ ‫ص َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بقوله تعاىل‪َ ...{ :‬ويُـ ْؤث ُرو َن َعلَى أَن ُفس ِه ْم َول َْو َكا َن ِب ْم َخ َ‬
‫ت َس ْب َع َسنَابِ َل ِيف ُك ِل ُسنبُـلَ ٍة ِمائَةُ‬ ‫يل ِ‬
‫اَّلل َك َمثَ ِل َحبَّ ٍة أَنبَـتَ ْ‬ ‫ين يُ ِنف ُقو َن أ َْم َوا َهلُ ْم ِيف َسبِ ِ‬ ‫}(‪ ،)363‬وقوله‪ِ َّ َّ :‬‬
‫{مثَ ُل الذ َ‬
‫يم } (‪.)364‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ف لِ َمن يَ َ‬ ‫ضِ‬ ‫َحبَّ ٍة َواَّللُ يُ َ‬
‫شاءُ َواَّللُ َواس ٌع َعل ٌ‬ ‫اع ُ‬
‫ـ الصيام‪ :‬ولفريضة الصيام يف رمضان دور كبري أيضا يف توثيق روابط األمة واحتادها‪ ،‬حيث جيعل األمة‬
‫أيضا كاجلسد الواحد والروح الواحدة‪ ،‬حيث يتوحد على صعيده كل املسلمني ابلصيام‪ ،‬املسلم الشرقي‬
‫والغريب‪ ،‬واألبيض واألسود‪ ،‬والعامل واجلاهل‪ ،‬والفقري والغين‪ ،‬واحلاكم واحملكوم‪ .‬يوحدهم يف الصيام بزول‬
‫الفجر‪ ،‬ويوحدهم يف الفطر غروب الشمس‪ ،‬ما عدا أصحاب األعذار‪ ،‬وذلك اتباعا ملا روي عن النيب‬
‫ِ‬ ‫«ص ُ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يب َعلَ ْي ُك ْم فَأَ ْك ِملُوا ع َّد َة َش ْعبَا َن ثَالَثِ َ‬
‫ني»(‪.)365‬‬ ‫وموا ل ُرْؤيَته َوأَفْط ُروا ل ُرْؤيَته‪ ،‬فَإ ْن غُِ َ‬ ‫صلَّى يُ َعلَ ْيه َو َسلَّ َم‪ُ :‬‬
‫َ‬
‫احلج‪ :‬وإذا كانت الصالة ميكن أن جتمع املسلمني وتوحدهم على مستوى البلد الواحد او القطر الواحد‪،‬‬
‫فريضة الوحدة اإلسالمية‪ ،‬ألنه يهدف إىل توحيد األمة اإلسالمية‬ ‫فإن اإلسالم ال يكتفي بذلك خبصو‬
‫أبكملها يف املشارق واملغارب‪ ،‬على اتساع أطرافها وتباعد دايرها‪ ،‬ولتحقيق ذلك جاءت فريضة احلج‪،‬‬
‫تلك الفريضة اليت ينتقل فيها املسلمون من بالدهم أببداهنم وقلوِبم إىل بلد ي احلرام‪ ،‬ليطوفوا حول بيت‬
‫واحد" البيت احلرام "‪ ،‬وجيتمعوا على صعيد واحد " صعيد عرفات " ويلبسوا لباسا واحدا" مالبس اإلحرام‬
‫"‪ ،‬وينشدون نشيدا واحدا " لبيك اللهم لبيك "‪ ...‬إهنا وحدة يف املشاعر‪ ،‬ووحدة يف الشعائر‪ ،‬ووحدة‬
‫يف اهلدف‪ ،‬ووحدة يف العمل‪ ،‬ال عصبية جلنس أو لون أو لغة أو طبقة‪ ،‬أو غري ذلك‪.‬‬

‫(‪ ) 363‬ـ احلشر اآلية رقم ‪.9‬‬


‫(‪ ) 364‬ـ البقرة اآلية رقم ‪.261‬‬
‫وموا‪َ ،‬وإِذَا َرأَيْـتُ ُموهُ فَأَفْ ِطُروا»‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ 27‬حديث رقم ‪.1909‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صلَّى هللاُ عَلَيْه َو َسلَّ َم‪« :‬إِذَا َرأَيْـتُ ُم اهلالَ َل فَ ُ‬ ‫ب قَـ ْول النِ ِّ‬
‫‪365‬‬
‫صُ‬ ‫َّيب َ‬ ‫( ) ـ صحيح البخارى‪َ ،‬اب ُ‬
‫مرجع سابق‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫إن احلج لقاء عام بني املسلمني‪ ،‬يتاح فيه للمسلم أن يتعرف على كل املسلمني يف قارات الدنيا الست‪،‬‬
‫حيث يلتقي ببعضهم ويتعرف على أخبارهم‪ ،‬ويعرف مشكالهتم‪ ،‬وختتفي أقاليمهم وألواهنم ولغاهتم‪ ،‬وال‬
‫تظهر إال رابطتهم اإلميانية واإلسالمية‪ ،‬ويؤدي هذا املؤمتر دوره يف بعث اهلمة وشحذ العزمية‪ ،‬ويوحي‬
‫الذئب من الغنم إال القاصيةَ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ابلقوة‪ ،‬ويوقظ اآلمال‪ ،‬ويؤكد دائما على أنه ال أيكل‬

‫‪ 3‬ـ األخالق اإلسالمية‬


‫وال شك أن لألخالق اإلسالمية أثرا يف جتاذب القلوب ومتاسكها‪ ،‬وقد أنتجت األخالق اإلسالمية‬
‫ذلك مع الكثري من غري املسلمني‪ ،‬فأقنعتهم ابلدخول يف اإلسالم‪ ،‬وصهرهتم مع سائر األجناس واأللوان‬
‫اليت مجعها اإلسالم‪ ،‬وال شك أن هذه األخالق ستكون أشد أثرا يف التماسك بني املسلمني‪ ،‬وإجياد‬
‫الوحدة اإلسالمية بينهم‪ ،‬ومن أهم األخالق اليت تعمل على بناء عالقات متينة ووحدة سليمة بني‬
‫املسلمني ما أييت‪:‬‬
‫ـ ُخلُق ُح ْس ِن الظن ابآلخرين‪ :‬فحسن الظن جينب اإلنسان املخاطر املقلقة اليت تؤذي النفس وتكدر‬
‫األخوة واأللفة واحملبة بني‬
‫البال وتتعب اجلسد‪ ،‬وتعود على املسلم بسالمة الصدر وتدعيم روابط َّ‬
‫املسلمني مجيعا‪ ،‬أما سوء الظن فإنه ينشأ عنه الغرية املفرطة واملكائد الشديدة‪ ،‬واالغتياالت والطعن‬
‫ِ‬
‫{اي أَياـ َها الَّذ َ‬
‫ين‬ ‫يف األنساب وغري ذلك‪ ،‬وهلذا جاء اإلسالم ابلنهي عن الظنون السياة فقال سبحانه‪َ :‬‬
‫ض ُكم بـ ْعضا أ ُِ‬ ‫ِ‬
‫َح ُد ُك ْم‬
‫بأَ‬‫َحي ا‬ ‫سوا َوَال يَـغْتَب بَّـ ْع ُ َ‬
‫سُ‬ ‫اجتَنِبُوا َكثِريا م َن الظَّ ِن إِ َّن بَـ ْع َ‬
‫ض الظَّ ِن إِ ْمثٌ َوَال َجتَ َّ‬ ‫آمنُوا ْ‬‫َ‬
‫اَّلل تَـ َّو ِ‬ ‫أَن أيْ ُكل َحلم أ ِ‬
‫َخ ِيه َم ْيتا فَ َك ِرْهتُ ُموهُ َواتَّـ ُقوا َّ‬
‫يم }(‪.)366‬‬ ‫اَّللَ إِ َّن ََّ ٌ‬
‫اب َّرح ٌ‬ ‫َ َ َْ‬
‫ـ ُخلُق العفو والصفح عن اآلخرين‪ :‬وال شك أن التعامل مع الناس يقتضي سعة الصدر وطاحة الطبع‪،‬‬
‫ورد اإلساءة ابإلحسان‪ ،‬وهذا يعمل على أتليف القلوب ووحدهتا‪ ،‬بل وإجياد أمة متماسكة حيب‬
‫بعضها بعضا‪ ،‬وجتمعهم طاحة اإلسالم وطيبة النفوس‪ ،‬وهذا قوله تعاىل‪ُ { :‬خ ِذ الْع ْفو وأْمر ِابلْعر ِ‬
‫ف‬ ‫َ َ َ ُْ ُْ‬
‫ِِ‬ ‫َوأَ ْع ِر ْ‬
‫ض َع ِن ا ْجلَاهل َ‬
‫ني } (‪.)367‬‬

‫(‪ ) 366‬ـ احلجرات آية رقم ‪.12‬‬


‫(‪ ) 367‬ـ األعراف آية رقم ‪.199‬‬

‫‪184‬‬
‫ـ ُخلُق ترك املراء واجلدال‪ :‬فقد هنى اإلسالم عن املراء واجلدال ابلباطل‪ ،‬ألنه يفسد اجملتمع وينشر‬
‫احلقد والبغض بني أفراده‪ ،‬ويقطع الروابط‪ ،‬ويؤدي إىل اخلصومة والشقاق‪ ،‬ويؤخر الوحدة أو مينعها‪،‬‬
‫ك ِاب ْحلِ ْكم ِة والْمو ِعظَ ِة ا ْحلسنَ ِة وج ِ‬
‫اد ْهلُم ِابلَِّيت ِه َي‬ ‫يل َربِ َ‬ ‫ع إِِىل َسبِ ِ‬‫ولذا يقول ي سبحانه يف اجلدال‪{ :‬ا ْد ُ‬
‫ََ ََ‬ ‫َ َ َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ك ُه َو أَ ْعلَ ُم ِمبَن َ‬ ‫َح َس ُن إِ َّن َربَّ َ‬
‫ال‬
‫ال‪ :‬قَ َ‬ ‫وع ْن أَِيب أ َُم َامةَ‪ ،‬قَ َ‬
‫ين }( ) َ‬ ‫ض َّل َعن َسبيله َو ُه َو أَ ْعلَ ُم ِابل ُْم ْهتَد َ‬ ‫أْ‬
‫‪368‬‬

‫ض ا ْجلن َِّة لِمن تَـر َك ال ِْمراء وإِ ْن َكا َن ُِحم ًّقا‪ ،‬وبِبـ ْي ٍ‬ ‫صلَّى يُ َعلَْي ِه وسلَّم‪« :‬أ ََان َز ِع ِ ٍ‬ ‫ول َِّ‬
‫ت‬ ‫ََ‬ ‫َََ‬ ‫يم ببَـ ْيت ِيف َربَ ِ َ َ ْ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ََ َ‬ ‫اَّلل َ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫س َن ُخلَُقهُ»(‪.)369‬‬ ‫ت ِيف أَ ْعلَى ا ْجلَن َِّة لِ َم ْن َح َّ‬ ‫ب وإِ ْن َكا َن ما ِزحا وبِبـ ْي ٍ‬
‫َ ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ِيف َو َسط ا ْجلَنَّة ل َم ْن تَـ َر َك الْ َكذ َ َ‬
‫َّ‬
‫‪ 4‬ـ األخوة اإلسالمية‪:‬‬
‫ومن أعظم مقومات الوحدة بني املسلمني‪ ،‬أن اإلسالم أقام العالقة بني سائر املسلمني يف مشارق‬
‫األرض ومغارِبا على أساس متني هو األخوة اإلسالمية‪ ،‬فاملسلم أخ املسلم‪ ،‬مهما تباعدت الداير‪،‬‬
‫ني‬ ‫واختلفت األجناس‪ ،‬وتعدد اللغات‪ ،‬وذلك هو قول ي تعاىل‪{ :‬إِ َّمنَا الْم ْؤِمنُو َن إِ ْخوةٌ فَأ ِ‬
‫َصل ُحوا بَْ َ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫اَّللَ ل ََعلَّ ُك ْم تُـ ْر َُْو َن }(‪ ،)370‬وقد جتاوزت هذه األخوة ِف إجياد التالحم بني املسلمني‬
‫أَ َخ َويْ ُك ْم َواتَّـ ُقوا َّ‬
‫كل االعتبارات‪ ،‬حيث آتخى العريب والفارسي والرومي واحلبشي‪ ،‬وصارت األخوة اإلسالمية مضرب‬
‫املثل يف كل أرجاء العامل‪.‬‬
‫وحىت تثمر األخوة َثارها أبد الدهر وإىل قيام الساعة‪ ،‬بني اإلسالم حقوق هذه األخوة‪ ،‬حىت‬
‫تظل العالقة بني املسلمني متينة قوية‪ ،‬ومن أهم األحاديث اليت تبني هذه احلقوق‪ :‬ما روي َع ْن‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫صلَّى يُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم قَ َ‬ ‫َن رس َ ِ‬
‫يل‪َ :‬ما‬‫«ح اق ال ُْم ْسل ِم َعلَى ال ُْم ْسل ِم ستٌّ» ق َ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫ول ي َ‬ ‫أَِيب ُه َريْـ َرةَ‪ ،‬أ َّ َ ُ‬
‫سلِ ْم َعلَْي ِه‪َ ،‬وإِذَا َد َع َ‬
‫اك فَأ ِ‬ ‫ي؟‪ ،‬قَ َ ِ ِ‬ ‫ول ِ‬
‫ص ْح‬ ‫ك فَانْ َ‬
‫ص َح َ‬ ‫َج ْبهُ‪َ ،‬وإِذَا ْ‬
‫استَـ ْن َ‬ ‫ال‪« :‬إذَا لَقيتَهُ فَ َ‬ ‫ُه َّن َاي َر ُس َ‬
‫وعن أَِيب س ِع ٍ‬
‫ات فَاتَّبِ ْعهُ»( )‪َ ْ َ ،‬‬ ‫ش ِم ْتهُ‪َ ،‬وإِذَا َم ِر َ‬
‫ض فَـعُ ْدهُ َوإِذَا َم َ‬ ‫س فَ َح ِم َد يَ فَ َ‬ ‫ِ‬
‫‪371‬‬
‫يد‬ ‫لَهُ‪َ ،‬وإذَا َعطَ َ‬
‫ض ُل ظَ ْه ٍر‪ ،‬فَـ ْليَـعُ ْد بِ ِه َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫ال رس ُ ِ‬
‫صلَّى يُ َعلَْيه َو َسلَّ َم‪َ :‬‬
‫«م ْن َكا َن َم َعهُ فَ ْ‬ ‫ول ي َ‬ ‫ال‪ :‬قَ َ َ ُ‬ ‫اخلُ ْد ِر ِي‪ ،‬قَ َ‬‫ْ‬

‫(‪ ) 368‬ـ النحل آية رقم ‪.125‬‬


‫(‪ ) 369‬ـ سنن أيب داود‪ ،‬حديث رقم ‪.4800‬‬
‫(‪ ) 370‬ـ احلجرات آية رقم ‪.10‬‬
‫(‪ ) 371‬ـ صحيح مسلم‪ ،‬ص ‪.1705‬‬

‫‪185‬‬
‫ال‪ :‬فَ َذ َك َر ِم ْن‬ ‫ض ٌل ِم ْن َز ٍاد‪ ،‬فَـ ْليَـعُ ْد بِ ِه َعلَى َم ْن َال َز َ‬
‫اد لَهُ»‪ ،‬قَ َ‬ ‫َم ْن َال ظَ ْه َر لَهُ‪َ ،‬وَم ْن َكا َن لَهُ فَ ْ‬
‫َح ٍد ِمنَّا ِيف فَ ْ‬
‫ض ٍل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال َما ذَ َك َر َح َّىت َرأَيْـنَا أَنَّهُ َال َح َّق أل َ‬ ‫َ‬
‫أَصنَ ِ‬
‫اف الْم ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ـ معوقات الوحدة اإلسالمية‪:‬‬
‫وعلى الرغم من وجود املقومات السابقة يف الدين اإلسالمي اليت تعمل على ضرورة إجياد الوحدة بني‬
‫املسلمني‪ ،‬إال أن املدقق يف الواقع املعاصر جيد ضعفا‪ ،‬يف هذه الوحدة‪ ،‬وذلك لوجود الكثري من‬
‫العقبات الىت متنعها أو حتول دوهنا‪ ،‬ومن أهم هذه العقبات الىت جيب على املسلمني التكاتف لزواهلا‪،‬‬
‫ما أييت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ العصبيات اإلقليمية‪ :‬اليت جعلت كل جمموعة من املسلمني تعتز بقوميتها أو وطنها فقط‪ ،‬على‬
‫حساب االنتماء لألمة اإلسالمية‪ ،‬وتتضارب بذلك وتتصارع القومية العربية والرتكية والفارسية وغريها‬
‫مع انتمائهم الواحد لإلسالم‪.‬‬
‫‪2‬ـ شهوة وبريق السلطة‪ :‬فللحكم شهوته وللسلطة بريقها ولإلمارة ِباؤها‪ ،‬والنفس البشرية تتطلع‬
‫إليها‪ ،‬ولذا فإهنا ميكن أن تضحي ابلوحدة من أجل االنفراد ابلسلطة‪ ،‬مع أن الرسول صلى ي عليه‬
‫وسلم حيذر من طلب السلطة‪ ،‬فيقول لِعبد الرْن ب ِن طرة‪ " :‬ايعبد الرْن ال تسأل اإلمارة فإنك‬
‫إن أعطيتها عن مسألة ُوكلت إليها‪ ،‬وإن أُعطيتها عن غري مسألة أُعنت عليها‪.)372 (" ...‬‬
‫‪ 3‬ـ التبعية والوالء لغري املسلمني‪ :‬حيث إن كثريا من الدول اإلسالمية اليوم تتعدد والءاهتم ما بني‬
‫الشرق والغرب من غري املسلمني‪ ،‬والوالء لغري املسلمني والتبعية هلم‪ ،‬ميكن أن يعيق الوحدة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ألهنا ليست يف مصاحلهم‪.‬‬
‫‪4‬ـ املكائد واملؤامرات األجنبية‪:‬فلقد تلقى املسلمون مؤامرات ومكائد عديدة تستهدف القضاء على‬
‫اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وما سقوط اخلالفة اإلسالمية وإهناؤها‪ ،‬والقضية الفلسطينية وتطوراهتا‪ ،‬وغري‬
‫ذلك مما هو قائم اآلن ومشاهد يف كثري من الدول العربية واإلسالمية‪ ،‬إال حلقات من سلسلة التامر‬
‫على اإلسالم واملسلمني‪ .‬ولقد وصل التامر على اإلسالم واملسلمني من القوى األجنبية املعادية‬

‫(‪ ) 372‬ـ صحيح البخارى ج ‪ ،9‬ص ‪ ،79‬ـ صحيح مسلم بشرح النووى‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫لإلسالم لدرجة أن قرر البعض أبن الوحدة اإلسالمية ممنوعة استكباراي ( يقصد استعماراي) فاالستعمار‬
‫أو االستكبار على حد قوله يتامر على وحدة املسلمني ومتاسكهم‬
‫الدول اإلسالمية هو العمل على إزالة هذه العقبات‪ ،‬بل وضرورة‬ ‫وواجب الوقت اليوم خبصو‬
‫القيام ابخلطوات الىت ميكن أن تساعد يف حتقيق الوحدة اإلسالمية‪.‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪ :‬وسائل حتقيق الوحدة اإلسالمية‬
‫أما عن وسائل حتقيق الوحدة اإلسالمية‪ ،‬فال شك أن حال املسلمني اليوم‪ ،‬بعد أن أصبحوا كالقصعة‬
‫اليت تتداعى عليها األكلة من كل جانب‪ ،‬يوجب علينا البحث عن أهم الوسائل الىت ميكن أن يقوم ِبا‬
‫املسلمون وتعمل على إجياد الوحدة اإلسالمية‪ ،‬وأهم هذه الوسائل اليت نقرتحها ما أييت‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ العمل على إحياء فكرة األمة الواحدة على مستوى الشعوب واحلكومات‪ :‬وذلك حىت ال َحتُول‬
‫القوميات دون اإلميان ِبذه الفكرة‪ ،‬ألن األمة ذات العقائد والتصورات الواحدة‪ ،‬والشعائر‬
‫والعبادات الواحدة‪ ،‬واملُثُل واألخالق الواحدة‪ ،‬واآلداب والتقاليد الواحدة‪ ،‬واملشاعر واآلمال‬
‫الواحدة‪ ،‬والتشريعات والتوجيهات الواحدة‪ ،‬جيب أيضا أن تكون ذات سياسة وقيادة واحدة‪،‬‬
‫وتدريب األمة على معاين الوحدة وإعداد الشعوب نفسيا‪ ،‬خطوة يف الطريق‪.‬‬
‫وهم‪ ،‬فهي‬‫وإحياء هذه الفكرة جيب أن ينطلق من أن األمة اإلسالمية الواحدة بكل املعايري حقيقة ال ْ‬
‫حقيقة مبنطق الدين ألن القرآن هو الذي أخرب أبهنا أمة واحدة ِف قوله "إن هـذه أمتكـم أمـة واحدة‬
‫"(‪ ،)373‬وهي حقيقة ابملنطق اجلغرايف ألن املسلمني يعيشون يف اتساع جغرايف متصل ومتشابك من‬
‫احمليط اهلادي إىل احمليط األطلسي‪ ،‬وذلك بعد أن كثرت الفتوحات اليت بشر ِبا الرسول ـ صلى ي‬
‫عليه وسلم ـ يف غزوة اخلندق‪ ،‬وهي حقيقة مبنطق التاريخ ألهنا ظلت األمة األوىل يف العامل أكثر من‬
‫ألف عام يف ظل اخلالفة اإلسالمية‪ ،‬واملسلمون كانوا ال يعرفون يف ظالهلا إال جنسية االنتماء لإلسالم‪،‬‬
‫وهي حقيقة مبنطق اخلصوم ألن أعداءها ينظرون إليها على أهنا أمة ذات عقيدة واحدة‪ ،‬وينظرون إىل‬
‫املسلمني يف شىت أقطار األرض على أهنم عدو واحد‪ ،‬ويف ذلك يقول نيكسون ـ أحد رؤساء الوالايت‬
‫املتحدة سابقا‪ " :‬اخلطر الذي يواجهه العامل اليوم ليس اخلطر الشيوعي‪ ،‬بل هو اخلطر اإلسالمي‬

‫(‪ ) 373‬ـ األنبياء‪ ،‬آية رقم ‪.92‬‬

‫‪187‬‬
‫املتطرف "‪ ،‬ومن الواجب أن تكون حقيقة مبنطق املصلحة أيضا‪ ،‬ألن مصلحة املسلمني يف التكتل‪ ،‬بعدما‬
‫تكتل غريهم‪ ،‬يف كل انحية‪ ،‬والتكتل هو الذي يقي املسلمني اليوم شر أعدائهم‪ ،‬وقد صدق رسول ي‬
‫ام فِي ِه ُم َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ول‪ِ :‬‬ ‫ِ‬
‫الص َالةُ إَِّال ْ‬
‫استَ ْح َوذَ‬ ‫صلَّى يُ َعلَ ْيه َو َسلَّ َم‪ ،‬حني يَـ ُق ُ َ‬
‫«ما م ْن ثََالثَة نَـ َف ٍر ِيف قَـ ْريَة َوَال بَ ْد ٍو َال تُـ َق ُ‬ ‫َ‬
‫اصيَةَ»(‪.)374‬‬ ‫الذئْب ِمن الْغَنَ ِم الْ َق ِ‬ ‫اع ِة‪ ،‬فَِإ َّمنَا أيْ ُكل ِ‬
‫ك ِاب ْجلَ َم َ‬ ‫َعلَ ْي ِه ُم َّ‬
‫الش ْيطَا ُن‪ ،‬فَـ َعلَ ْي َ‬
‫ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫‪ 2‬ـ احلفاظ على اهلوية اإلسالمية‪ :‬إذ احلفاظ على اهلوية اإلسالمية مبا تنطوي عليه من عقائد وعبادات‬
‫وأخالق ومبادئ‪ ،‬هو الذى يساعد على حتقيق الوحدة اإلسالمية‪ ،‬ومن متطلبات احلفاظ على هذه اهلوية‪:‬‬
‫ـ االلتزام بطاعة ي ورسوله وتطبيق الدين يف جوانب احلياة كلها‪ ،‬ألن الطاعة عموما تولد اهلداية‪،‬‬
‫ومنها اهلداية إىل وحدة املسلمني‪ ،‬وهو قوله تعاىل‪َ { :‬وإِن تُ ِطيعُوهُ َهتْتَ ُدوا َوَما َعلَى َّ‬
‫الر ُس ِ‬
‫ول إَِّال الْبَ َاللُ‬
‫ني}(‪.)375‬‬‫ال ُْمبِ ُ‬
‫ـ االهتمام ابملناهج التعليمية يف كل املراحل الدراسية‪ ،‬والرتكيز فيها على كل ما يتعلق بوحدة األمة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وعالقتها ابألمم األخرى‪.‬‬
‫ـ االهتمام ابللغة العربية‪ ،‬والتأكيد على اعتبارها اللغة الرطية يف كل البالد اإلسالمية‪ ،‬وهذا يعين ضرورة‬
‫إقبال الدول الناطقة بغري العربية على تعليمها ألبنائها‪ ،‬ليتمكنوا من فهم اإلسالم‪ ،‬وتغذية الوحدة‬
‫اإلسالمية مبا يناسبها من مشاعر وأعمال وضوابط‪ ،‬لكن هذا ال يعين إمهال اللغات اإلقليمية أو احمللية‬
‫األخرى‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ استثمار موسم احلج السنوي يف العمل على الوحدة اإلسالمية‪ :‬إذ ميكن على هامش موسم احلج أن‬
‫تعقد املؤمترات اليت يدعى إليها علماء املسلمني من كل جانب‪ ،‬ملناقشة ما يتصل ابلوحدة اإلسالمية‪،‬‬
‫وطريقة الوصول إليها‪ ،‬وكيفية إزالة عقباهتا‪ ،‬بل وتناقش املشاكل املشرتكة بني البلدان اإلسالمية وطريقة‬
‫حلها‪.‬‬
‫على أن يكون للمسلمني مواقف موحدة‪ ،‬من قضااي املسلمني العامة‪ ،‬وذلك بعد‬ ‫‪ 4‬ـ احلر‬
‫اجتماعات رطية عالية املستوى‪ ،‬سواء كانت اجتماعات قمة بني الرؤساء وامللوك‪ ،‬أو على مستوى‬

‫(‪ ) 374‬ـ املستدرك على الصحيحني للحاكم‪ ،‬ابب ومن كتاب اإلمامة وصالة اجلماعة‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪ ،330‬حديث رقم ‪.765‬‬
‫(‪ ) 375‬ـ النور آية رقم ‪.54‬‬

‫‪188‬‬
‫الوزراء والتنفيذيني يف الدول اإلسالمية‪ ،‬وذلك مثل قضية فلسطني‪ ،‬وقضية التدخالت األجنبية يف‬
‫الدول اإلسالمية‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وألمهية هذا األمر ركزت عليه منظمة التعاون اإلسالمي يف ميثاقها‬
‫ضمن من بني أهدافها‪" :‬تعزيز موقف موحد من القضااي ذات االهتمام املشرتك والدفاع عنها يف‬
‫إذ تَ َ‬
‫املنتدايت الدولية "‪.‬‬
‫ض املنازاعات وإهناء اخلالفات اليت ميكن أن حتدث بني األقطار اإلسالمية يف أسرع وقت ممكن‪،‬‬
‫‪ 5‬ـ فَ َّ‬
‫فإذا وقع اخلالف رغم وجود مقومات الوحدة‪ ،‬فإنه ينبغي اإلسراع حبله عن طريق الطرف الثالث "‬
‫ان ِم َن‬ ‫أهل العدل "‪ ،‬من غري طريف النزاع‪ ،‬وهذا ما أمران ي تعاىل به يف قوله تعاىل‪{ :‬وإِ ْن طَائَِفتَ ِ‬
‫َ‬
‫امهَا َعلَى ْاألُ ْخ َرى فَـ َقاتِلُوا الَِّيت تَـ ْب ِغي َح َّىت تَِفيءَ إِ َىل‬ ‫َصلِ ُحوا بَـ ْيـنَـ ُه َما فَِإن بَـغَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ت إِ ْح َد ُ‬ ‫ال ُْم ْؤمنِ َ‬
‫ني اقْـتَـتَـلُوا فَأ ْ‬
‫ني إَِّمنَا ال ُْم ْؤِمنُو َن إِ ْخ َوةٌ‬ ‫ِِ‬
‫ب ال ُْم ْقسط َ‬ ‫اَّللَ ُِحي ا‬ ‫َصلِحوا بـيـنَـهما ِابلْع ْد ِل وأَق ِ‬
‫ْسطُوا إِ َّن َّ‬ ‫اءت فَأ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ‬ ‫اَّلل فَِإن فَ ْ‬ ‫أَم ِر َِّ‬
‫ْ‬
‫اَّللَ ل ََعلَّ ُك ْم تُـ ْر َُْو َن }(‪ ،)376‬وال شك أن اإلسراع حبل النزاعات مينع‬ ‫ني أَ َخ َويْ ُك ْم َواتَّـ ُقوا َّ‬ ‫فَأ ِ‬
‫َصل ُحوا بَ ْ َ‬‫ْ‬
‫استفحال خطرها‪ ،‬أو تعميق أثرها‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ إقامة سوق إسالمية مشرتكة بني الدول اإلسالمية‪ :‬ويتم من خالله توحيد العملة النقدية بني الدول‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وتسهيل عملية التبادل التجاري واملصريف بني البالد اإلسالمية‪ ،‬وإزالة احلواجز اجلمركية‬
‫بينها‪ ،‬وزايدة اإلعفاءات الضريبية‪ ،‬وتشجيع املصانع والشركات اإلسالمية‪ ،‬وابلتايل ميكن أن يؤدي‬
‫ذلك كله إىل النهوض ابالقتصاد اإلسالمي على مستوى كل الدول اإلسالمية (‪.)377‬‬
‫‪ 7‬ـ توحيد التشريعات بني الدول اإلسالمية على ضوء اإلسالم‪ ،‬وتضمني الربامج الدراسية يف‬
‫اجلامعات واملعاهد ما يؤكد على وحدة هذه التشريعات‪ ،‬كما جيب توجيه خمتلف أجهزة اإلعالم يف‬
‫الدول اإلسالمية إىل تكوين رأي عام حول أمهية توحيد هذه التشريعات‪.‬‬

‫(‪ ) 376‬ـ احلجرات آية رقم ‪.10 ،9‬‬


‫(‪ ) 377‬ـ يراجع يف ذلك‪ :‬د‪ .‬يوسف إبراهيم يوسف‪ ،‬التكامل االقتصادي والسوق اإلسالمية املشرتكة‪ ،‬أحباث ووقائع املؤمتر العام الثاين والعشرون‪ ،‬مركز‬
‫صاحل كامل‪ ،‬ابلتعاون مع اجمللس األعلى للشئون اإلسالمية ن مصر‪ ،‬ص ‪ .12 :1‬متاح على الشبكة الدولية للمعلومات‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫‪ 8‬ـ تفعيل دور منظمة التعاون اإلسالمي يف دعم الوحدة اإلسالمية والسري يف طريقها‪ :‬حيث ميكن‬
‫استثمار دور املنظمات الدولية اإلسالمية يف حتقيق الوحدة‪ ،‬وخاصة منظمة التعاون اإلسالمي‪ ،‬وذلك‬
‫ملا أييت‪:‬‬
‫أ ـ إهنا قامت على أساس إسالمي‪.‬‬
‫ب ـ إهنا تضم يف عضويتها كل الدول اإلسالمية اليوم‪ ،‬حيث بلغت يف عضويتها سبعا ومخسني دولة‪.‬‬
‫ج ـ إهنا ركزت على ضرورة الوحدة اإلسالمية يف ديباجة ميثاقها‪ ،‬حيث تضمنت " وإذ نسرتشد‬
‫ابلقيم اإلسالمية النبيلة املتمثلة يف الوحدة واإلخاء‪ ،‬وإذ نؤكد أمهية تعزيز وتقومي أواصر الوحدة‬
‫والتضامن بني الدول األعضاء لتأمني مصاحلها املشرتكة يف الساحة الدولية‪ .....‬قرران‪ :‬تعزيز وتقوية‬
‫أواصر الوحدة والتضامن بني الشعوب املسلمة والدول األعضاء‪ " ....‬ولو ركزت اليوم على التضامن‬
‫بني الدول اإلسالمية‪ ،‬فإن التضامن ميكن أن يكون سبيال إىل حتقيق الوحدة اإلسالمية غدا‪.‬‬
‫ومما يعزز التقارب والتكامل‪ ،‬جملس التعاون لدول اخلليج العربية‪ ،‬فمن أهم اهداف هذا اجمللس‬
‫كما جاء يف املادة رقم ‪ 4‬من النظام األساسي له‪ :‬حتقيق التنسيق والتكامل والرتابط بني الدول‬
‫األعضاء يف مجيع امليادين وصوال إىل وحدهتا‪ ،‬وتعميق وتوثيق الروابط بني شعوب الدول يف خمتلف‬
‫اجملاالت‪ ،‬وقد تنادت بعض الدول يف اآلونة األخرية بضرورة حتويل هذه املنظمة ابلفعل إىل وحدة‬
‫خليجية‪ ،‬مثل مملكة البحرين‪ ،‬وذلك عقب األحداث اليت اثرت يف اململكة يف فرباير ‪ 2011‬م ‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫احلوار يف الثقافة اإلسالمية‬
‫د‪ .‬رقية طه العلواني‬

‫القرآن والسنة بصفته لوان‬ ‫احلوار يشكل قيمة كربى من القيم اليت جاء ِبا اإلسالم‪ ،‬تناولته نصو‬
‫من ألوان اخلطاب العام التكليفي الذي يتجه إىل وشيجة اإلخاء اإلنساين‪ .‬وقد احتل احلوار مكانة‬
‫ابرزة يف الفكر اإلسالمي قدميا وحديثا‪ ،‬وظهر اهتمام العلماء ابحلوار من خالل البحث يف أمهيته‬
‫وضوابطه وآدابه‪ ،‬وانعكس يف تلك الثروة اهلائلة من األدبيات والرسائل والكتب املختلفة اليت‬
‫تضمنت حوارات ومناظرات واقعية فيما عرف فيما بعد ابلفكر اجلديل واحلواري يف اإلسالم‪.‬‬
‫مفهوم احلوار‪:‬‬
‫تعريف احلوار يف اللغة‪ :‬مدار احلوار واحملاورة يف اللغة حول مراجعة املنطق والكالم يف املخاطبة‪.‬‬
‫واحلوار اجملاوبة والتحاور التجاوب‪ ،‬وحاورته أي راجعته الكالم‪ .‬وعلى هذا ذكر الراغب أن احملاورة‬
‫اَّللَ َِط ٌ‬
‫يع‬ ‫اَّللُ يَ ْس َم ُع َحتَ ُاوَرُك َما إِ َّن َّ‬
‫﴿و َّ‬‫واحلوار هي املرادة يف الكالم ومنه التحاور كما يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ري﴾‪.378‬‬ ‫ِ‬
‫بَص ٌ‬
‫تعريف احلوار يف االصطالح‬
‫تعددت تعريفات احلوار‪ ،‬من أآللها أن احلوار حديث بني طرفني أو أكثر حول قضية معينة‪،‬‬
‫اهلدف منها الوصول إىل احلقيقة‪ ،‬بعيدا عن اخلصومة والتعصب بطريقة علمية إقناعية‪ ،‬وال يُشرتط‬
‫فيها احلصول على نتائج فورية‪.‬‬
‫ألفاظ مقا ِربة للحوار‬
‫َثة ألفاظ تقرتب من احلوار إال أهنا تغايره يف املعىن وختتلف عنه ومن ذلك‪:‬‬
‫اجلدل واملناظرة‪ .‬اجلدل يف اللغة‪ :‬هو اللدد يف اخلصومة والقدرة عليها ومنه أُخذ اجلدل املنطقي‪،‬‬
‫الذي هو القياس املؤلف من املشهورات أو املسلمات والغرض منه إلزام اخلصم وإفهام من هو قاصر‬

‫‪ - 378‬سورة اجملادلة‪.1 :‬‬

‫‪191‬‬
‫عن إدراك مقدمات الربهان‪ .‬واجملادلة واجلدال املخاصمة واخلصام‪ .‬وقد جادله جمادلة وجداال أي‬
‫خاصمه وغلبه‪ ،‬ومنها مقابلة احلجة ابحلجة‪ .‬واجملادلة واملناظرة واملخاصمة‪ .‬فاجلدل واجلدال يعين‬
‫املفاوضة على سبيل املنازعة وأصله من جدلت احلبل أي أحكمت فتله ومنه اجلديل‪.‬‬
‫واحلوار واجلدل يلتقيان يف بعض األمور ويفرتقان يف البعض األخر‪ .‬فهما يشرتكان يف مراجعة الكالم‬
‫وتداوله بني طرفني‪ ،‬وخيتلفان يف أن اجلدل يتسم بطابع الغلبة واخلصومة والشدة يف حني أن احلوار‬
‫يتسم ابللني واهلدوء‪ .‬ومن الطبيعي أن صاحب اخلصومة شخص يهدف إىل االنتصار لرأيه مهما كان‬
‫ب‬‫ذلك الرأي‪ .‬من هنا جاء اجلدل يف القرآن مذموما إال يف أربعة مواضع‪ .‬منها قوله تعاىل‪( :‬فَـلَ َّما ذَ َه َ‬
‫(وَال‬ ‫ِ‬ ‫ُوط‪ .‬إِ َّن إِبـر ِاه ِ‬ ‫ادلُنَا ِيف قَـوِم ل ٍ‬
‫ع وجاءتْهُ الْب ْشرى ُجي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب) ‪ .‬وقوله‪َ :‬‬ ‫يم أ ََّواهٌ ُمني ٌ‬
‫يم َحلَل ٌ‬ ‫الرْو ُ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫يم َّ‬
‫َع ْن إبْـ َراه َ‬
‫‪379‬‬
‫َْ َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ادلُوا أ َْهل ال ِ‬ ‫ُجتَ ِ‬
‫َح َس ُن)‪.380‬‬ ‫اب إَِّال ِابلَِّيت ه َي أ ْ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫َ‬
‫ض َّل َعن َسبِيلِ ِه َو ُه َو‬
‫ك ُه َو أَ ْعلَ ُم ِمبَن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿و َجاد ْهلُم ِابلَِّيت ه َي أ ْ‬
‫َح َس ُن إِ َّن َربَّ َ‬ ‫ومن ذلك أيضا قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ين﴾‪.381‬‬ ‫أَ ْعلَ ُم ِابل ُْم ْهتَد َ‬
‫أما املناظرة يف اللغة‪ :‬مأخوذة من النظر وتقليب البصرية إلدراك الشيء ورؤيته‪ .‬واملناظرة املباحثة‬
‫واملباراة يف النظر واستحضار كل ما يراه ببصريته‪.‬‬
‫ويف االصطالح‪ :‬النظر ابلبصرية من اجلانبني يف النسبة بني الشياني إظهارا للصواب‪.‬‬
‫فهي احملاورة بني فريقني حول موضوع لكل منهما وجهة نظر فيه ختالف وجهة نظر الفريق اآلخر‪،‬‬
‫فهو حياول إثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر خصمه مع رغبته الصادقة بظهور احلق واالعرتاف به‬
‫لدى ظهوره‪.‬‬
‫فاملناظرة فرع من احملاورة‪ ،‬واحملاورة‪ :‬هي عرض لوجهيت نظر‪ ،‬بينما املناظرة حماجة فيها غالب ومغلوب‬
‫ابحلجة والربهان والدليل ومفحام اخلصم يف رأيه‪ ،‬وإبطال حجته‪ ،‬وهي تعتمد على قوة احلجة بقدر‬
‫ما تعتمد احملاورة على حضور البديهة واإلملام مبوضوع احلوار‪.‬‬

‫‪ - 379‬سورة هود‪75-74 ،‬‬


‫‪ - 380‬سورة العنكبوت‪.46 ،‬‬
‫‪ - 381‬سورة النحل‪.125 :‬‬

‫‪192‬‬
‫احلوار يف القرآن الكريم‬
‫مل ترد لفظة احلوار ومشتقاهتا يف القرآن الكرمي إال يف ثالثة مواضع‪:‬‬
‫َع از نَـ َفرا﴾‪.382‬‬ ‫احبِ ِه َو ُه َو ُحيَا ِوُرهُ أ ََان أَ ْكثَـ ُر ِم َ‬
‫نك َماال َوأ َ‬ ‫ال لِص ِ‬
‫‪﴿-1‬فَـ َق َ َ‬
‫اك َر ُجال﴾‪.383‬‬ ‫اب ُمثَّ ِمن ناطْ َف ٍة ُمثَّ َس َّو َ‬‫ك ِمن تُـر ٍ‬
‫َ‬ ‫ت ِابلَّ ِذي َخلَ َق َ‬ ‫ال لَه ص ِ‬
‫احبُهُ َو ُه َو ُحيَا ِوُرهُ أَ َك َف ْر َ‬ ‫‪﴿-2‬قَ َ ُ َ‬
‫ُك ِيف َزو ِجها وتَ ْشت ِكي إِ َىل َِّ‬ ‫اَّلل قَـو َل الَِّيت ُجتَ ِ‬
‫اَّللَ َِط ٌ‬
‫اَّللُ يَ ْس َم ُع َحتَ ُاوَرُك َما إِ َّن َّ‬
‫اَّلل َو َّ‬ ‫ِ‬
‫يع‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫ادل َ‬ ‫‪﴿ -3‬قَ ْد َط َع َُّ ْ‬
‫ري﴾‪.384‬‬ ‫ِ‬
‫بَص ٌ‬
‫إال أن قلة استعمال اللفظة يف القرآن الكرمي‪ ،‬ال ينصرف حبال إىل التقليل من أمهية أو حمورية‬
‫احلوار يف القرآن الكرمي‪ .‬فقد كانت قضية احلوار حاضرة بصفتها منوذجا تطبيقيا ابستمرار يف املواقف‬
‫القرآنية املتعددة‪.‬‬
‫فالناظر يف القرآن الكرمي يلحظ ثراء املادة احلوارية يف خمتلف سوره مع تعدد موضوعاهتا‪ ،‬وتشعب‬
‫مساراهتا‪ ،‬واختالف أهدافها وتعدد أطرافها‪ ،‬األمر الذي يؤكد أتصل اللغة احلوارية يف مكوانت‬
‫اخلطاب القرآين‪ ،‬وتغطيتها ألجزاء واسعة من هذا الكتاب العظيم‪.‬‬
‫ومن أمثلة احلوارات يف القرآن ما جاء بني ي سبحانه وتعاىل ومالئكته حول خلق آدم عليه السالم‬
‫يف سورة البقرة‪ ،‬ومنها ما جاء مع إبراهيم عليه السالم حني طلب من ربه سبحانه أن يريه كيف حيي‬
‫املوتى‪ ،‬ومنها ما جاء مع موسى عليه السالم حني طلب من ي سبحانه أن يسمح له برؤيته‪ ،‬ومنها‬
‫احلوار بني األنبياء وأقوامهم‪ ،‬ومنها قصة أصحاب اجلنة‪ ،‬وقصة داود عليه السالم مع اخلصمني‪....‬‬
‫وحوارات األنبياء مع أقوامهم‪..‬بل إن ي سبحانه جاء ابحلوار مع إبليس أيضا‪.‬‬

‫‪ - 382‬سورة الكهف‪.34 :‬‬


‫‪ - 383‬سورة الكهف‪.37 :‬‬
‫‪- 384‬سورة اجملادلة‪.1:‬‬

‫‪193‬‬
‫احلوار يف السرية النبوية‬

‫جند يف السرية النبوية أمثلة حية وأقواال تؤكد تَ ِبين منهج احلوار كطريق أمثل لطرح العقيدة‬
‫اإلسالمية اجلديدة منذ بواكري الدعوة إىل اإلسالم يف مكة‪.‬‬

‫وقد كانت حماورات النيب عليه الصالة والسالم للمشركني على اختالف مواقفهم وتوجهاهتم إزاء‬
‫الدعوة اإلسالمية‪ .‬ومل يتوقف احلوار بني الطرفني يف أصعب الفرتات وأكثر الفرتات أتزما وتعقيدا‪ .‬ومل‬
‫يتخل النيب عليه الصالة والسالم عن سلوك سبيل احلوار يف أكثر املواقف قوة وانتصارا‪ .‬ومن ذلك‬
‫مواقفه يف فتح مكة اليت عكست تَ ِبين اإلسالم العميق ملبدأ احلوار مطلقا واالعرتاف بوجود املخالفني‬
‫له‪ ،‬وبيان أن احلوار من أفضل السبل لتوضيح األفكار وتبادل وجهات النظر وتبيان األمور مهما‬
‫بلغت صعوبتها‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك ما روته كتب السرية يف فتح مكة أن بعض كفار قريش كانوا يستهزئون وحياكون‬
‫صوت بالل غيظا وكان من مجلتهم أبو حمذورة وكان من أحسنهم صوات‪ .‬فلما رفع صوته ابألذان‬
‫فمثُل بني يديه وهو يظن أنه مقتول فمسح‬ ‫ِ‬
‫مستهزًئ طعه رسول ي صلى ي عليه وسلم فأُمر به َ‬
‫رسول ي صلى ي عليه وسلم انصيته وصدره بيده الشريفة‪ ،‬قال أبو حمذورة‪ :‬فامتأل قليب وي إمياان‬
‫ويقينا فعلمت أنه رسول ي‪ .‬فألقى عليه صلى ي عليه وسلم األذان وعلمه إايه وأمره أن يؤذن ألهل‬
‫مكة وكان ست عشرة سنة وعقبه بعده يتوراثون األذان مبكة‪.‬‬
‫أمهية احلوار ومدى احلاجة إليه‬
‫احلوار هو السبيل األطى لضبط االختالف املذموم وتفعيل التعاون والتفاهم بني الناس‪ .‬كما‬
‫أن احلوار ركيزة أساسية يف الدعوة إىل ي تعاىل‪ ،‬بل إن القرآن الكرمي ما هو إال حوار متواصل لبيان‬
‫احلق من الباطل‪ .‬واحلوار ضروري الكتساب العلم وتناقل اخلربات واملعارف‪ .‬وهو من أهم وسائل‬
‫التفاهم وحل اخلالفات واالنفتاح على اآلخر‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫األسس التي يقوم عليها احلوار وضوابطه‬
‫األساس األول‪ :‬تنوع البشر واختالفهم‬
‫قرر اإلسالم االختالف كحقيقة إنسانية طبيعية‪ ،‬وتعامل معها على هذا األساس‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬
‫﴿اي أَياـها النَّاس إِ َّان َخلَ ْقنَا ُكم ِمن ذَ َك ٍر وأُنثَى وجعلْنَا ُكم ُشعواب وقَـبائِل لِتـعارفُوا إِ َّن أَ ْكرم ُكم ِعن َد َِّ‬
‫اَّلل‬ ‫ََ ْ‬ ‫َ َ ََ ْ ُ َ َ َ ََ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫أَتْـ َقا ُكم إِ َّن َّ ِ‬
‫ري﴾‪ .385‬فاإلنسانية واحدة وقد ُخلقت من نفس واحدة‪ ،‬وهذه الوحدة‬ ‫يم َخبِ ٌ‬
‫اَّللَ َعل ٌ‬ ‫ْ‬
‫ليست وحدة يف األصل فحسب بل يف اهلدف وهو التعارف‪ .‬ذلك أن االختالف آية من آايت عظمة‬
‫السماو ِ‬
‫ات‬ ‫آايتِِه َخل ُ‬ ‫ي‪ ،‬ومظهر من مظاهر روعة إبداعه يف اخللق‪ .‬يقول القرآن الكرمي‪ِ :‬‬
‫ْق َّ َ َ‬ ‫﴿وم ْن َ‬ ‫َ‬
‫ك َآلاي ٍ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض وا ْختِ َال ُ ِ ِ‬
‫ني﴾‪.386‬‬ ‫ت لل َْعال ِم َ‬ ‫ف أَلْسنَت ُك ْم َوأَل َْوان ُك ْم إِ َّن ِيف ذَل َ َ‬ ‫َو ْاأل َْر ِ َ‬
‫واختالف األلسن واللغات املشار إليه يف اآلية ال يعين اختالف اللهجات كوسائل للتخاطب والتفاهم‬
‫واحلوار فحسب‪ ،‬بل ينصرف إىل ما تتضمنه تلك اللغات واالختالف يف اللهجات من معاين وأفكار‬
‫وتصورات‪.‬‬

‫ك‬‫ت ِمن َّربِ َ‬ ‫ومنها ما جاء يف القرآن الكرمي‪﴿ :‬وما َكا َن النَّاس إِالَّ أ َُّمة و ِ‬
‫اح َدة فَا ْختَـلَ ُفواْ َول َْوالَ َكلِ َمةٌ َسبَـ َق ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫يما فِ ِيه َخيْتَلِ ُفو َن﴾‪ ..387‬أي أن اختالفاهتم على تعددها ال تلغي الوحدة اإلنسانية‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لَ ُقض َي بَـ ْيـنَـ ُه ْم ف َ‬
‫فيما بينهم‪ .‬من هنا كان االختالف الفكري بني بين اإلنسان قدميا ق ِِدم اإلنسان يف هذه األرض‪،‬‬
‫ابتدأ معه حيث ابتدأ ينظر إىل الكون فيشده بعظمته وأتخذه احلرية يف إدراك كنهه وحقيقته‪.‬‬

‫ومع حتمية التنوع تكوينا وفطرة البد من التأكيد أن هذا التنوع ال يعين ابلضرورة التنافر املطلق أو‬
‫التضاد املؤدي إىل نفي الطرف اآلخر وإلغاء وجوده‪ .‬وإمنا يعين ضرورة االعرتاف واإلميان ابلتعدد‬
‫والتنوع لتحقيق التفاعل بني أشكال متنوعة من الصور واألفكار‪ .‬فالتباين واالختالف والتنوع ليست‬

‫‪ - 385‬سورة احلجرات‪.13 :‬‬


‫‪ - 386‬سورة الروم‪.22 :‬‬
‫‪ - 387‬سورة يونس‪.19 :‬‬

‫‪195‬‬
‫عوامل هدم بل هي يف احلقيقة عوامل حتفيز فكري واستنفار ذهين تقوم على ركائزه حركة احلياة‬
‫اإلنسانية املتفاعلة‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا التفاعل أن تتالقى األفكار أو تتنازع وقد تتصارع كذلك‪ ،‬ومن هنا‬
‫ينشأ احلوار والنقار واجلدال لعرض تلك األفكار وطرحها‪ .‬وال ميكن أن خيلو بشر من احلاجة إىل‬
‫تلك األولوايت الذهنية يف طرح أفكاره والتصريح بتصوراته بقطع النظر عن طبيعة تلك األفكار أو‬
‫أمر مرتكز يف الفطرة اإلنسانية‪.‬‬
‫كيفية عرضه هلا‪ .‬فإاثرة األفكار وتبادهلا ومناقشتها موافقة أو خمالفة‪ٌ ،‬‬
‫من هنا كان البيان واإلفصاح عن ذلك كله من أخص املواصفات اإلنسانية اليت متيز ِبا اإلنسان عن‬
‫غريه من املخلوقات‪ .‬فاحلوار يتطلب أوال وقبل كل شيء االعرتاف حبتمية وجود االختالف مبعىن‬
‫التنوع يف احلياة اإلنسانية املطلقة‪.‬‬
‫وللتعرف على االختالف املمدوح واملذموم فقد وضع الشاطيب رْه ي ضابطا ملعرفة ذلك‪ ،‬حيث‬
‫يقول رْه ي يف ذلك‪ ":‬فكل مسألة حدثت يف اإلسالم فاختلف الناس فيها ومل يورث ذلك‬
‫االختالف بينهم عداوة وال بغضاء وال فرقة علمنا أهنا من مسائل اإلسالم وكل مسألة طرأت فأوجبت‬
‫العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أهنا ليست من أمر الدين يف شيء وأهنا اليت عىن رسول ي‬
‫ت ِم ْنـ ُه ْم ِيف‬
‫ين فَـ َّرقُواْ ِدينَـ ُه ْم َوَكانُواْ ِشيَـعا لَّ ْس َ‬ ‫ِ‬
‫صلى ي عليه وسلم بتفسري اآلية وهي قوله﴿إِ َّن الَّذ َ‬
‫َش ْي ٍء﴾‪ .388‬فيجب على كل ذي دين وعقل أن جيتنبها‪ ،‬ألن اإلسالم يدعو إىل األلفة والتحاب‬
‫والرتاحم والتعاطف فكل رأي أدى إىل خالف ذلك فخارج عن الدين"‪ .‬وغالبا ما يكون هذا النوع‬
‫من االختالف‪ ،‬منبثقا عن هوى النفس‪ ،‬وعلى هذا فهو مذموم بكل أشكاله وخمتلف صوره‪ ،‬ألن‬
‫حظ اهلوى فيه غلب احلر على حتري احلق‪ .‬واهلوى ال أييت خبري فهو مطية الشيطان اىل الكفر‪،‬‬
‫استَ ْك َ ْربُْمت فَـ َف ِريقا َك َّذبْـتُ ْم َوفَ ِريقا تَـ ْقتُـلُو َن﴾‪.389‬‬
‫س ُك ُم ْ‬ ‫قال تعاىل‪ ﴿ :‬أَفَ ُكلَّ َما َجاء ُك ْم َر ُس ٌ ِ‬
‫ول مبَا الَ َهتَْوى أَن ُف ُ‬
‫واهلوى مدعاة لكل ظلم وبغي وجتاوز من قِبل الفرد على غريه فكيف إن كان هذا الغري خمالفا له يف‬
‫رأي!‪.‬‬

‫‪ - 388‬سورة األنعام‪.159 :‬‬


‫‪ 389‬سورة البقرة‪.87:‬‬

‫‪196‬‬
‫من هنا كان البد من مراعاة األمور التالية لفهم االختالف بني الناس‪ ،‬منها‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬أن ي عز وجل يتوىل حساِبم على اختيارهم يوم القيامة ويفصل بينهم يف هذا‬
‫نت‬
‫آم ُ‬ ‫اءه ْم َوقُ ْل َ‬ ‫ت َوَال تَـتَّبِ ْع أ َْه َو ُ‬‫استَ ِق ْم َك َما أ ُِم ْر َ‬
‫ع َو ْ‬‫ك فَا ْد ُ‬ ‫االختالف‪ .‬كما قال تعاىل لرسوله‪﴿ :‬فَلِ َذلِ َ‬
‫ت ِألَ ْع ِد َل بَـ ْيـنَ ُك ُم َّ‬
‫اَّللُ َرباـنَا َوَربا ُك ْم لَنَا أَ ْع َمالُنَا َولَ ُك ْم أَ ْع َمالُ ُك ْم َال ُح َّجةَ‬ ‫اب َوأُِم ْر ُ‬‫اَّللُ ِمن كِتَ ٍ‬ ‫َنز َل َّ‬ ‫ِمبَا أ َ‬
‫ري﴾‪.390‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫بَـ ْيـنَـنَا َوبَـ ْيـنَ ُك ُم َّ‬
‫اَّللُ َْجي َم ُع بَـ ْيـنَـنَا َوإل َْيه ال َْمص ُ‬
‫س بْ َن‬ ‫األمر الثاين‪ :‬اعتقاد املسلم بكرامة اإلنسان من حيث هو إنسان‪َ .‬ع ْن ابْ ِن أَِيب لَْيـلَى أ َّ‬
‫َن قَـ ْي َ‬
‫ض‬‫يل َهلَُما إِ َّهنَا ِم ْن أ َْه ِل ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ازةٌ فَـ َق َاما فَق َ‬ ‫ت ِبِِ َما َجنَ َ‬ ‫اد ِسيَّ ِة فَ َم َّر ْ‬
‫ف َك َاان ِابلْ َق ِ‬ ‫َس ْع ٍد و َس ْهل بْن ُحنَـ ْي ٍ‬
‫َ َ َ‬
‫ت‬‫ال أَل َْي َس ْ‬‫ي فَـ َق َ‬ ‫ازةٌ فَـ َقام فَِقيل إِنَّهُ يـ ُه ِ‬
‫ود ٌّ‬ ‫ت بِ ِه َجنَ َ‬ ‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم َم َّر ْ‬
‫صلَّى َّ‬ ‫ول َِّ‬ ‫فَـ َق َاال إِ َّن ر ُس َ‬
‫َ َ َ‬ ‫اَّلل َ‬
‫نَـ ْفسا‪.391‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬إميان املسلم أبن عدل ي جلميع عباد ي‪ ،‬مسلمني وغري مسلمني‪ ،‬وهو أمر رابين‬
‫ال ينبغي للمسلم إسقاطه أو إغفاله‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬اي أَياـها الَّ ِذين آمنُواْ ُكونُواْ قَـ َّو ِامني ِ ِ‬
‫َّلل ُش َه َداء‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِابل ِْقس ِط والَ َْجي ِرمنَّ ُكم َشنَا ُن قَـوٍم َعلَى أَالَّ تَـع ِدلُواْ ا ْع ِدلُواْ هو أَقـْر ِ‬
‫ب للتَّـ ْق َوى َواتَّـ ُقواْ اَّللَ إِ َّن اَّللَ َخبِ ٌ‬
‫ري‬ ‫َُ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ِمبَا تَـ ْع َملُو َن﴾‪.392‬‬
‫َّلل َول َْو َعلَى أَن ُف ِس ُك ْم أَ ِو‬‫وقال تعاىل‪﴿ :‬اي أَياـها الَّ ِذين آمنُواْ ُكونُواْ قَـ َّو ِامني ِابل ِْقس ِط ُشه َداء ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ني إِن يَ ُك ْن غَنِيًّا أ َْو فَـ َقريا فَاَّللُ أ َْوَىل ِبِِ َما فَالَ تَـتَّبِعُواْ ا ْهلََوى أَن تَـ ْع ِدلُواْ َوإِن تَـل ُْوواْ أ َْو‬ ‫ِ‬
‫ال َْوال َديْ ِن َواألَقـ َْربِ َ‬
‫ضواْ فَِإ َّن اَّللَ َكا َن ِمبَا تَـ ْع َملُو َن َخبِريا﴾‪.393‬‬ ‫تُـ ْع ِر ُ‬
‫األساس الثاين‪ :‬إتباع العدل واإلنصاف‬

‫‪ - 390‬سورة الشورى‪.15 :‬‬


‫‪ - 391‬رواه البخاري‪ ،‬ابب اجلنائز‪ ،‬من قام جلنازة يهودي‪ ،‬رقم ‪ .1229‬رواه مسلم‪ ،‬ابب اجلنائز‪ ،‬القيام للجنازة‪ ،‬رقم ‪ .1596‬سنن النسائي‪ ،‬اجلنائز‪،‬‬
‫رقم ‪..1895‬‬
‫‪ - 392‬سورةاملائدة‪.8:‬‬
‫‪ - 393‬سورة النساء‪.135 :‬‬

‫‪197‬‬
‫اإلنصاف هو العدل يف املعاملة أبن ال أيخذ من صاحبه من املنافع إال ما يعطيه وال ينيله من املضار‬
‫إال كما ينيله‪ .394‬ولإلنصاف أنواع عديدة منها أن ينصف املرء الناس فيقوم منصاف الغري من نفسه‬
‫أو ممن حيب‪ ،‬حىت لو كان هذا الغري خمالفا له يف الرأي أو يف الدين أو يف املذهب أو غري ذلك مما‬
‫يقتضي التحامل أو يكون مظنة اجلور‪.‬‬

‫وقد كان من دالئل طاحة اإلسالم وعظمة مبادئه أن أقر مبدأ إنصاف العدو وتربئة ساحته‬
‫ِ‬ ‫مع خمالفته يف الدين‪ .‬كما جاء يف سبب نزول اآلية‪﴿ :‬إِ َّان أَنزلْنَا إِلَي َ ِ‬
‫َّاس‬ ‫اب ِاب ْحلَِق لتَ ْح ُك َم بَ ْ َ‬
‫ني الن ِ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ني َخ ِ‬ ‫ِ‬
‫صيما﴾‪ .395‬اليت نزلت يف أن طعمة بن أبريق سرق درعا يف جراب‬ ‫اك اَّللُ َوالَ تَ ُكن ل ْل َخائِنِ َ‬
‫ِمبَا أ ََر َ‬
‫فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي فحلف طعمة مايل ِبا من علم فاتبعوا أثر الدقيق إىل‬
‫دار اليهودي فقال اليهودي‪ :‬دفعها إيل طعمة فلما هم رسول ي صلى ي عليه وسلم ابلقضاء يف‬
‫املسألة نزلت اآلايت الكرمية تربئ ساحة اليهودي وتنصفه‪ .396‬فقد أقر القرآن هذا املبدأ وعززته‬
‫السنة الفعلية للنيب عليه الصالة والسالم فما كان لينصر مسلما على يهودي جملرد أنه مسلم‪.‬‬
‫فاالختالف يف الدين بل والعداوة ال متنع املسلم من إقامة العدل واإلنصاف وحتقيقه وهذا أدب رفيع‬
‫ال ينبغي أن ختلو ساحة احلوار منه مطلقا‪.‬‬

‫﴿ال يَـ ْنـ َها ُك ُم‬


‫وجاء نص القرآن الكرمي صراحة آمرا املسلمني ابلرب والقسط والعدل مطلقا‪ .‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ب‬‫اَّللَ ُِحي ا‬ ‫وه ْم َوتُـ ْق ِسطُوا إِل َْي ِه ْم إِ َّن َّ‬‫لدي ِن َوَملْ ُخيْ ِر ُجوُكم ِمن ِد َاي ِرُك ْم أَن تَ َا‬
‫رب ُ‬ ‫اَّلل َع ِن الَّ ِذين َمل يـ َقاتِلُوُكم ِيف ا ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َُّ‬
‫ني﴾‪ .397‬يقول الطربي يف تفسري هذه اآلية‪ ":‬أوىل األقوال يف ذلك ابلصواب قول من قال‪:‬‬ ‫ِِ‬
‫ال ُْم ْقسط َ‬
‫عىن بذلك ال ينهاكم ي عن الذين مل يقاتلوكم يف الدين من مجيع أصناف امللل واألداين أن تربوهم‬
‫وتصلوهم وتقسطوا إليهم إن ي عز وجل عم بقوله‪﴿ :‬الذين مل يقاتلوكم يف الدين ومل خيرجوكم من‬

‫‪ - 394‬حممد عبد الرؤوف املناوي‪ ،‬التوقيف على مهمات التعاريف‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد رضوان الداية‪ ،‬دار الفكر املعاصر‪ ،‬بريوت‪1410 ،‬ه‪.64 ،‬‬
‫‪ - 395‬سورة النساء‪.105 :‬‬
‫‪ - 396‬رواه الرتمذي يف حديث طويل وقال عنه حديث غريب ال نعلم أحداً أسنده غري حممد بن سلمة احلراين‪ ،‬ابب تفسري القرآن عن رسول هللا‪ ،‬رقم‬
‫‪.2962‬‬
‫‪ - 397‬سورة املمتحنة‪.8:‬‬

‫‪198‬‬
‫دايركم﴾ مجيع من كان ذلك صفته فلم خيصص به بعضا دون بعض‪ .‬وال معىن لقول من قال ذلك‬
‫منسوخ ألن بر املؤمن ألهل احلرب ممن بينهم وبينه قرابة نسب أو ممن ال قرابة بينهم وبينه وال نسب‬
‫غري حمرم وال منهي عنه إذا مل يكن يف داللة له أو ألهل احلرب على عورة ألهل االسالم أو تقوية هلم‬
‫بكراع أو سالح‪.398"..‬‬

‫أما النهي فموجه ألولاك الذين يؤمنون بعدم إمكانية التعايش وضرورة إقصاء من خيالفهم حىت تتحقق‬
‫هلم اهليمنة والسيادة وهم يف اآلية كفار قريش‪ .‬فقد أرادوا القضاء على الدعوة اجلديدة يف مكة وحالوا‬
‫دون إيصاهلا لغريهم‪ ،‬وقاموا مخراج املؤمنني ِبا من دايرهم وأمواهلم قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّمنَا يَـ ْنـ َها ُك ُم َّ‬
‫اَّللُ َع ِن‬
‫اج ُك ْم أَن تَـ َولَّ ْو ُه ْم َوَمن يَـتَـ َوَّهلُ ْم فَأ ُْولَاِ َ‬
‫اهروا َعلَى إِ ْخر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫الَّذ َ‬
‫ين قَاتَـلُوُك ْم ِيف الدي ِن َوأَ ْخ َر ُجوُكم من د َاي ِرُك ْم َوظَ َ ُ‬
‫ُه ُم الظَّالِ ُمو َن﴾‪.399‬‬

‫وإن تضافر النصو القرآنية على ذكر السمات اإلجيابية اليت يتسم ِبا بعض املخالفني من يهود‬
‫وسى أ َُّمةٌ‬ ‫ونصارى‪ ،‬أكرب دليل على إنصاف اإلسالم وعدالته‪ .‬ومن ذلك قوله تعاىل‪ِ :‬‬
‫﴿ومن قوم ُم َ‬ ‫َ‬
‫يـ ْه ُدو َن ِاب ْحل ِق وبِ ِه يـع ِدلُو َن﴾‪ .400‬وقال ي تعاىل‪﴿ :‬اي أَياـها الَّ ِذين آمنُوا ُكونُوا قَـ َّو ِام ِ ِ‬
‫ني ِابلْق ْسط ُش َه َداءَ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ‬
‫ني إن يَ ُك ْن غَنِيًّا أ َْو فَِقريا فَ َّ‬
‫اَّللُ أ َْوَىل ِبِِ َما فَال تَـتَّبِعُوا ا ْهلََوى أَن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ََّّلل َول َْو َعلَى أَن ُفس ُك ْم أَ ِو ال َْوال َديْ ِن َواألَقـ َْربِ َ‬
‫تَـ ْع ِدلُوا﴾‪.401‬‬

‫وقد يدفع اهلوى اإلنسان لظلم خمالفيه قوال أو فعال‪ ،‬بل والتشهري ِبم ليصرف الغري عنهم‪ .‬إال أن نصو‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا ُكونُوا‬
‫ين َ‬ ‫﴿اي أَياـ َها الذ َ‬
‫الوحي قرآان وسنة اجتثت ذلك التوجه واعتربته ظلما ال يربره مسول‪ .‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ب لِلتَّـ ْق َوى َواتَّـ ُقوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّلل ُشه َد ِ ِ‬ ‫قَـ َّو ِام ِ ِ‬
‫اَّللَ َّ‬
‫إن‬ ‫اء ِابلْق ْسط َوال َْجي ِرَمنَّ ُك ْم َشنَا ُن قَـ ْوم َعلَى أَالَّ تَـ ْعدلُوا ا ْعدلُوا ُه َو أَقـ َْر ُ‬
‫ني َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫اَّللَ َخبِريٌ ِمبَا تَـ ْع َملُو َن﴾‪.402‬‬
‫َّ‬

‫‪ - 398‬الطربي‪ ،‬تفسري الطربي‪ ،‬ج‪ ،28‬ص ‪.66‬‬


‫‪ - 399‬سورة املمتحنة‪.9:‬‬
‫‪ - 400‬سورةاألعراف‪159:‬‬
‫‪ - 401‬سورة النساء‪.135 :‬‬
‫‪ - 402‬سورة املائدة‪.8 :‬‬

‫‪199‬‬
‫منهج دقيق ُميثل مجيع صور القسط والعدل مع القريب والبعيد‪ ،‬املخالف واملوافق‬
‫والعدل واإلنصاف ٌ‬
‫دون متييز بني مسلم أو غري مسلم بل ينهى عن مجيع صور اجلور والظلم مع ِ‬
‫كل أحد‪ .‬فمبدأ الظلم‬
‫حمرم بكل حال‪ ،‬فال حيل ألحد أن يظلم أحدا‪ ،‬ولو كان كافرا‪.‬‬
‫واألمر يقتضي جماهدة النفس‪ ،‬والتغلب على األهواء والنوازع الضيقة‪ ،‬والتحرر من كل أشكال‬
‫التعصب األعمى للذات أو ألفكارها وقناعاهتا املسبقة‪.‬‬

‫األساس الثالث‪ :‬التثبت‬

‫من األسس املهمة يف إجراء احلوار التثبت‪ ،‬مع ْل الكالم على ظاهره وعدم التعرض للنوااي‬
‫والبواطن‪ .‬واإلسالم دين يقوم على البناء على ظواهر اآلخرين ال التتبع ملا خيفون أو البحث يف نياهتم‪.‬‬

‫ات ِم ْن ُج َه ْيـنَةَ‬ ‫اَّلل َعلَْي ِه وسلَّم ِيف س ِريٍَّة فَصبَّ ْحنَا ا ْحلرقَ ِ‬
‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫صلَّى َُّ‬ ‫اَّلل َ‬
‫ول َِّ‬ ‫ال بَـ َعثَـنَا َر ُس ُ‬ ‫ُس َامةَ بْ ِن َزيْ ٍد قَ َ‬
‫ع ْن أ َ‬
‫اَّللُ َعلَْي ِه‬
‫صلَّى َّ‬ ‫ك فَ َذ َك ْرتُهُ لِلنِ ِ‬
‫َّيب َ‬ ‫اَّللُ فَطَ َع ْنـتُهُ فَـ َوقَ َع ِيف نَـ ْف ِسي ِم ْن ذَلِ َ‬‫ال َال إِلَهَ إَِّال َّ‬ ‫ت َر ُجال فَـ َق َ‬ ‫فَأَ ْد َرْك ُ‬
‫ول َِّ‬
‫اَّلل إِ َّمنَا‬ ‫ْت َاي َر ُس َ‬ ‫ال قُـل ُ‬ ‫ال َال إِلَهَ إَِّال َّ‬
‫اَّللُ َوقَـتَـلْتَهُ قَ َ‬ ‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم أَقَ َ‬
‫صلَّى َّ‬ ‫ول َِّ‬ ‫َو َسلَّ َم فَـ َق َ‬
‫اَّلل َ‬ ‫ال َر ُس ُ‬
‫ال يُ َك ِرُرَها َعلَ َّي َح َّىت‬ ‫ت َع ْن قَـ ْلبِ ِه َح َّىت تَـ ْعلَ َم أَقَا َهلَا أ َْم َال فَ َما َز َ‬ ‫ال أَفَ َال َش َق ْق َ‬ ‫الس َال ِح قَ َ‬ ‫قَا َهلَا َخوفا ِمن ِ‬
‫ْ ْ‬
‫ني‪ -‬يَـ ْع ِين‬ ‫اَّلل َال أَقـْتُل ُم ْسلِما َح َّىت يَـ ْقتُـلَهُ ذُو الْبُطَ ْ ِ‬ ‫ال سع ٌد وأ ََان و َِّ‬
‫ال‪ .‬فَـ َق َ َ ْ َ َ‬ ‫ت يَـ ْوَماِ ٍذ قَ َ‬ ‫َسلَ ْم ُ‬‫ت أَِين أ ْ‬ ‫َمتَنـ َّْي ُ‬
‫ُ‬
‫الدين ُكلاه َِِّ‬
‫ال َس ْع ٌد‬ ‫َّلل فَـ َق َ‬ ‫وه ْم َح َّىت َال تَ ُكو َن فِ ْتـنَةٌ َويَ ُكو َن ِ ُ ُ‬ ‫اَّللُ‪ :‬وقَاتِلُ ُ‬
‫ال َر ُج ٌل‪ :‬أََملْ يَـ ُق ْل َّ‬ ‫ال‪ :‬قَ َ‬ ‫ُس َامةَ‪ -‬قَ َ‬ ‫أَ‬
‫ك تُ ِري ُدو َن أَ ْن تُـ َقاتِلُوا َح َّىت تَ ُكو ُن فِ ْتـنَةٌ"‪.403‬‬ ‫َص َحابُ َ‬
‫ت َوأ ْ‬ ‫قَ ْد قَاتَـلْنَا َح َّىت َال تَ ُكو َن فِ ْتـنَةٌ َوأَنْ َ‬
‫آداب احلوار‬
‫من أهم أسباب جناح احلوار إدراك احملاورين آداب احلوار ووسائله املوصلة إىل اهلدف‪ ،‬ومن أمهها‪:‬‬
‫ـ ـ استعمال أفضل األساليب للحوار‬
‫يتضح هذا األساس جليا من مواقف النيب عليه الصالة والسالم العديدة يف سريته مع خمالفيه‪.‬‬
‫فقد وسع نيب ي صلى ي عليه وسلم برحابة فكره وسعة صدره‪ ،‬حماوريه وخمالفيه على اختالف‬

‫‪ - 403‬رواه مسلم‪ ،‬اإلميان‪ ،‬حترمي قتل الكافر‪ ،‬رقم ‪.140‬‬

‫‪200‬‬
‫صلَّى‬ ‫ول َِّ‬
‫اَّلل َ‬ ‫ت َر ُس َ‬ ‫مشارِبم‪ .‬ومن ذلك ما دار بينه وبني عدي بن حامت قبل إسالمه‪ ،‬حيث قال‪ :‬أتَـ ْي ُ‬
‫اب‪.‬‬ ‫ان َوَال كِتَ ٍ‬ ‫ت بِغَ ِْري أَم ٍ‬
‫َ‬ ‫امت َو ِج ْا ُ‬‫ي بْ ُن َح ٍِ‬ ‫ال الْ َق ْو ُم َه َذا َع ِد ا‬‫س ِيف ال َْم ْس ِج ِد فَـ َق َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ َّ‬
‫اَّللُ َعلَْيه َو َسل َم َو ُه َو َجال ٌ‬
‫ام‬ ‫اَّللُ يَ َدهُ ِيف يَ ِدي قَ َ‬
‫ال فَـ َق َ‬ ‫ك إِِين َأل َْر ُجو أَ ْن َْجي َع َل َّ‬ ‫ال قَـ ْب َل ذَلِ َ‬ ‫ت إِل َْي ِه أَ َخ َذ بِيَ ِدي َوقَ ْد َكا َن قَ َ‬ ‫فَـلَ َّما ُدفِ ْع ُ‬
‫اجتَـ ُه َما ُمثَّ أَ َخ َذ بِيَ ِدي‬‫ضى َح َ‬ ‫ام َم َع ُه َما َح َّىت قَ َ‬ ‫اجة فَـ َق َ‬
‫ك َح َ‬ ‫يب َم َع َها فَـ َق َاال إِ َّن لَنَا إِل َْي َ‬
‫صِ ٌّ‬ ‫ِ‬
‫فَـلَقيَـ ْتهُ ْام َرأَةٌ َو َ‬
‫اَّللَ َوأَثْ َىن َعلَْي ِه‬
‫ني يَ َديْ ِه فَ َح ِم َد َّ‬ ‫ِ‬ ‫ت لَه الْولِ‬
‫ت بَ ْ َ‬‫س َعلَْيـ َها َو َجلَ ْس ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ة‬ ‫اد‬
‫َ‬ ‫س‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫َح َّىت أَتَى ِيب َد َارهُ فَأَلْ َق ْ ُ َ‬
‫ال ُمثَّ تَ َكلَّ َم َس َ‬ ‫اَّلل فَـهل تَـعلَم ِمن إِل ٍَه ِسوى َِّ‬ ‫ال َما يُِف ار َك أَ ْن تَـ ُق َ‬
‫اعة‬ ‫ْت َال قَ َ‬ ‫ال قُـل ُ‬ ‫اَّلل قَ َ‬ ‫َ‬ ‫ول َال إِلَهَ إَِّال َُّ َ ْ ْ ُ ْ‬ ‫ُمثَّ قَ َ‬
‫ال فَِإ َّن الْيَـ ُه َ‬ ‫َن َشيـاا أَ ْكرب ِمن َِّ‬ ‫ال إِ َّمنَا تَِف ار أَ ْن تَـ ُق َ‬
‫وب‬‫ض ٌ‬ ‫ود َمغْ ُ‬ ‫ْت َال قَ َ‬ ‫ال قُـل ُ‬ ‫اَّلل قَ َ‬ ‫رب َوتَـ ْعلَ ُم أ َّ ْ َُ ْ‬ ‫ول َّ‬
‫اَّللُ أَ ْك َُ‬ ‫ُمثَّ قَ َ‬
‫ط فَـ َرحا‪.404"..‬‬ ‫سَ‬ ‫ت َو ْج َههُ تَـبَ َّ‬ ‫ت ُم ْسلِما قَ َ‬
‫ال فَـ َرأَيْ ُ‬ ‫ْت فَِإِين ِج ْا ُ‬ ‫ال قُـل ُ‬ ‫ض َّال ٌل قَ َ‬ ‫ارى ُ‬ ‫َعلَْي ِه ْم َوإِ َّن الن َ‬
‫َّص َ‬
‫وجمادله‪ ،‬فيحر عند احملاورة واجملادلة على ترك الغضب‪،‬‬ ‫وينبغي للمحاور أن يكون رفيقا مع حماوِره ِ‬
‫فال يغضب على املتخاطب معه‪ ،‬وال يرفع صوته على سبيل الغضب واحلدة‪ .‬جاء رجل للنيب –‬
‫فردد مرارا‪ ،‬قال‪« :‬ال تغضب"‪.‬‬
‫صلى ي عليه وسلم– فقال‪ :‬أوصين‪ .‬قال‪« :‬ال تغضب»‪َّ .‬‬
‫وكان النيب عليه الصالة والسالم أكثر الناس رْة ورأفة مبخالفيه وحرصه على منح الطرف املقابل‬
‫الوقت الكايف ملراجعة الذات والقناعة مبا يقدم عليه‪.‬‬
‫‪ -2‬بناء احلوار على العلم‬
‫الكفار واملنكرين للحقائق بتقدمي الدليل والربهان على‬ ‫َ‬ ‫طالب‬
‫َ‬ ‫وهذا هنج رائده القرآن الذي‬
‫س لَ ُكم بِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫يدعون‪ .‬يقول ي تعاىل‪﴿ :‬هاأَنتم ه ُؤالء حاججتم فِيما لَ ُكم بِ ِه ِع ِ‬ ‫ما َّ‬
‫يما ل َْي َ‬
‫لم فَل َم ُحتَا اجو َن ف َ‬
‫ٌ‬ ‫َ َ ُْْ َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ْم َواَّللُ يَـ ْعلَ ُم َوأَنتُ ْم الَ تَـ ْعلَ ُمو َن﴾‪ .405‬والتزام العلم يسع الناس مجيعا‪ ،‬وإن اإلدالء ابحلجج والرباهني‬ ‫ِ‬
‫عل ٌ‬
‫يستميل العقول والقلوب‪ ،‬ويفتح األبصار والبصائر على احلق املبني‪ ،‬أما اجلدال ابلباطل فمضيعة‬
‫اب‬‫اَّلل بِغَ ِْري ِعل ٍْم َوَال ُهدى َوَال كِتَ ٍ‬
‫اد ُل ِيف َِّ‬
‫َّاس من ُجي ِ‬ ‫للوقت وإزدراء ابلعقل وجمافاة للحكمة‪ِ :،‬‬
‫﴿وم َن الن ِ َ َ‬
‫َ‬
‫امنِ ٍري﴾‪.406‬‬

‫‪ - 404‬رواه الرتمذي‪ ،‬سنن الرتمذي‪ ،‬تفسري القرآن عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬رقم ‪.2878‬‬
‫‪ - 405‬سورة آل عمران‪.66 :‬‬
‫‪ - 406‬سورة احلج‪.8:‬‬

‫‪201‬‬
‫القرآنية مبطالبة املخالفني بتقدمي الرباهني على دعواهم‪ ،‬مؤسسة بذلك قاعدة‬ ‫وتضافرت النصو‬
‫من أهم قواعد وضوابط احلوار السليم والتفكري العلمي اهلادف‪ .‬واهتمام القرآن الكرمي ابلدليل‬
‫والربهان و جعله معيارا للقبول والرد يف كل شيء سواء يف األفكار واملعتقدات‪ ،‬أو األحكام واملبادئ‬
‫أمر واضح ال حيتاج إىل كثري بيان واستدالل‪ .‬ومن خالل نظرة سريعة إىل اآلايت املباركة اليت تشتمل‬
‫على كلمات " الربهان" و"السلطان" و"احلجة " جند أن القرآن يدعو دائما إىل إقامة الدليل والربهان‬
‫كأساس لقبول األمور وردها‪.‬‬
‫ويقتضي هذا االلتزام التجرد من اهلوى وعدم الوقوع حتت سلطانه‪ ،‬فال مييل احملا ِور عن املنهج العلمي‬
‫إلثبات ما يوافق رغبته وهواه‪ .‬كما يقتضي ذلك أال يتكلم اإلنسان إال بعلم‪ ،‬فال يقول شياا إال وهو‬
‫يعلم مستنده‪ ،‬ويعرف دليله‪ ،‬لاال يكون ممن يتكلم يف أمور ال يعرف احلق فيها‪ ،‬وال يسندها إىل‬
‫ف ما لَيس ل َ ِ ِ‬
‫اد ُك ال‬
‫ص َر َوالْ ُف َؤ َ‬ ‫ْم إِ َّن َّ‬
‫الس ْم َع َوالْبَ َ‬ ‫َك بِه عل ٌ‬ ‫﴿وَال تَـ ْق ُ َ ْ َ‬ ‫علم صحيح‪ ،‬قال – سبحانه – َ‬
‫ك َكا َن َع ْنهُ َم ْساُوال﴾‪.407‬‬ ‫أُولَاِ َ‬
‫وخصوصا إذا كان ذلك فيما يتعلق بشرع ي ودينه‪ ،‬فإن القول على ي – جل وعال – بغري‬
‫اب‬ ‫علم من أعظم الذنوب وأكربها‪﴿ :‬ويـلَ ُكم َال تَـ ْف َرتوا َعلَى َِّ‬
‫اَّلل َك ِذاب فَـيُ ْس ِحتَ ُك ْم بِ َع َذ ٍ‬
‫اب َوقَ ْد َخ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ ْ‬
‫رتى﴾‪.408‬‬ ‫َم ِن افْ ََ‬
‫‪ -3‬اإلنصات واالستماع اجليد‬
‫القدرة على االستماع هي األداة الرئيسية للوصول إىل تفاهم وتواصل مثمر بني الناس خاصة‬
‫يف مواقف اخلالف والصراع ويف ختفيف امليول العدوانية يف حلظات التوتر واالنفعال العنيف‪.‬‬
‫وفه ُم وجهة نظرهم وتقديرها والتعبري عن‬
‫ومن فوائد اإلنصات يف احلوار‪ :‬مشاركة اآلخرين ْ‬
‫الذات وأتكيدها‪.‬‬
‫ويالحظ أن االستماع اجليد إىل اآلخرين ليس ابلضرورة ينتهي إىل التأثري الكامل عليهم إال أنه‬
‫يزيد من أواصر التقارب الروحي والعاطفي بني الناس‪..‬فليس كثرة الكالم دليال على قوة الشخصية‬

‫‪ - 407‬سورة اإلسراء‪36:‬‬
‫‪ - 408‬سورة طه‪.61:‬‬

‫‪202‬‬
‫وال قوة التأثري بل رمبا – أو يف الغالب – تنتهي كثرة الكالم إىل ما ال حيمد عقباه من النتائج‪..‬فإن‬
‫الكالم الكثري يعرض صاحبه إىل الوقوع يف األخطاء الكثرية‪ ،‬والدخول يف جماالت بعضها هامشية‬
‫قد تضر وال تنفع مضافا إىل أن امللل الناجم منه رمبا ينزل مبستوى احلديث إىل مصاف احلديث‬
‫العادي والكلمات فاقدة القيمة أو الشعارات اليت تفتقد إىل املزيد من الواقعية‪..‬‬
‫ويتضح ذلك جليا من خالل مواقف النيب عليه الصالة والسالم املتواصلة مع خمالفيه‪ .‬فقد‬
‫كان عليه الصالة والسالم حيسن االستماع إليهم مهما بلغت سفاهة طرح الطرف املقابل أو غلظة‬
‫أسلوبه وجفاوته‪ .‬يروى أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس يف اندي قريش والنيب عليه‬
‫الصالة والسالم جالس يف املسجد وحده اي معشر قريش أال أقوم إىل حممد فأكلمه وأعرض عليه‬
‫أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا‪ ،‬فقام عتبة حىت جلس إىل رسول ي فقال اي بن‬
‫أخي إنك منا حيث قد علمت من السلطة يف العشرية واملكان يف النسب وإنك قد أتيت قومك أبمر‬
‫وعبت به آهلتهم ودينهم وكفرت به من مضى من‬ ‫عظيم فرقت به مجاعتهم وسفهت به أحالمهم ِ‬
‫آابئهم‪ .‬فاطع مين أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها‪ .‬فقال له رسول ي قل‪ :‬اي‬
‫كنت إمنا تريد مبا جات به من هذا األمر ماال مجعنا لك من أموالنا‬
‫أاب الوليد أطع‪ .‬قال اي ابن أخي إن َ‬
‫حىت تكون أكثران ماال وإن كنت تريد به شرفا سودانك علينا حىت ال نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد‬
‫ُملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي أيتيك رئيا ال تستطيع رده من نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا‬
‫فيه أموالنا حىن نربئك منه فإنه رمبا غلب التابع على الرجل حىت يداوى منه أو كما قال له‪ .‬حىت إذا‬
‫فرل عتبة ورسول ي يسمع منه قال أقد فرغت اي أاب الوليد قال نعم قال فاطع مين قال أفعل‪ .‬قال‬
‫آايتُهُ قُـ ْرآان َع َربِيًّا لَِق ْوٍم‬ ‫ت َ‬
‫اب فُ ِ‬
‫صلَ ْ‬ ‫ِ‬
‫الرح ِيم‪ .‬كتَ ٌ‬
‫الر ْْ ِن َّ ِ‬
‫يل م َن َّ َ‬
‫بسم ي الرْن الرحيم‪﴿ :‬حم‪ .‬تَن ِز ِ‬
‫ٌ‬
‫وان إِل َْي ِه َوِيف‬ ‫ض أَ ْكثَـ ُرُه ْم فَـ ُه ْم َال يَ ْس َمعُو َن‪َ .‬وقَالُوا قُـلُوبُـنَا ِيف أَكِنَّ ٍة ِممَّا تَ ْدعُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يَـ ْعلَ ُمو َن‪ .‬بَشريا َونَذيرا فَأَ ْع َر َ‬
‫اب فَا ْع َم ْل إِنَّـنَا َع ِاملُو َن﴾‪ .409‬ومضى رسول ي فيها يقرؤها عليه‬ ‫ك ح َج ٌ‬
‫آ َذانِنَا وقـْر وِمن بـينِنَا وبـينِ َ ِ‬
‫َ ٌ َ َْ َ َْ‬
‫فلما طعها عتبة أنصت هلا وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه مث انتهى رسول ي إىل‬
‫السجدة منها فسجد مث قال قد طعت اي أاب الوليد ما طعت فأنت وذاك‪.‬‬

‫‪ - 409‬سورة فصلت‪.5-1 :‬‬

‫‪203‬‬
204

You might also like