You are on page 1of 178

‫دراسات في ال ّلسان ّيات العرفان ّية‬

‫الذّ هن وال ّلغة والواقع‬

‫مباحث لغوية ‪63‬‬

‫تحرير‪:‬‬

‫د‪ .‬صـــابر الحباشــــــــــــة‬

‫تأليف‪:‬‬
‫د‪ .‬الحـــــبيب المقــــــدميني‬ ‫د‪ .‬عبد الرحمــن محمد طعمــة‬

‫د‪ .‬صــــــــــــــابر الحباشــــــــــــــــــة‬ ‫د‪ .‬عفــــــــــــــــــاف مـــــوقـــــــــــــــــــــــو‬

‫د‪ .‬عمــــــــــــر بن دحمـــــــــــــــــان‬


‫مباحث لغوية ‪٦٣‬‬

‫دراسات في ال ّلسان ّيات العرفان ّية‬


‫الذّ هن وال ّلغة والواقع‬

‫تأليف‪:‬‬
‫د‪ .‬احلـــــبيب املقــــــدميني‬ ‫د‪ .‬عبد الرمحــن حممد طعمــة‬
‫د‪ .‬صـــابر احلباشــــــــــــة‬ ‫د‪ .‬عفــــــاف مـــــوقــــو‬
‫د‪ .‬عمـــر بن دمحـــــــــان‬

‫حترير‬
‫د‪ .‬صـــابر احلباشــــــــــــة‬

‫‪١٤41‬هـ ‪٢٠١٩ -‬م‬


‫دراسات في اللّسان ّيات العرفان ّية‬
‫ال ّذهن واللّغة والواقع‬
‫الطبعة األوىل‬
‫‪ 1441‬هـ ‪ ٢٠١٩ -‬م‬
‫مجيع احلقوق حمفوظة‬
‫اململكة العربية السعودية ‪ -‬الرياض‬
‫ص‪.‬ب ‪ 12500‬الرياض ‪11473‬‬
‫هاتف‪00966112581082 - 00966112587268:‬‬
‫الربيد اإلليكرتوين‪nashr@kaica.org.sa :‬‬

‫مركز امللك عبداهلل بن عبدالعزيز الدويل خلدمة اللغة‬


‫العربية‪1٤٤1 ،‬هـ‪.‬‬
‫فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النرش‬
‫التصميم واإلخراج‬ ‫احلباشة‪ ،‬صابر‬
‫دراسات يف اللسانيات العرفاين‪ :‬الذهن واللغة والواقع‪/..‬‬
‫صابر احلباشة ‪ -.‬الرياض‪1٤٤١ ،‬هـ‬
‫‪..‬ص؛ ‪ ..‬سم‬
‫ردمك‪978- 603- 8221- ٦٤- ٨ :‬‬
‫‪ - 1‬علم اللغة أ‪ .‬العنوان‬
‫ديوي ‪١٤٤١/١٨٢٣ ٤١٠‬‬
‫رقم اإليداع‪١٤٤١/١٨٢٣ :‬‬
‫ردمك‪978- 603- 8221- ٦٤- ٨ :‬‬

‫اليسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب‪ ،‬أو نقله يف أي شكل أو وسيلة‪،‬‬


‫سواء أكان إلكرتونية أم يدوية أم ميكانيكية‪ ،‬بام يف ذلك مجيع أنواع تصوير املستندات بالنسخ‪ ،‬أو‬
‫التسجيل أو التخزين‪ ،‬أو أنظمة االسرتجاع‪ ،‬دون إذن خطي من املركز بذلك‪.‬‬
-4-
‫مقدمة احملرر‬

‫يفرض علينا نسق التطور العلمي عامل ًّيا ّأل نكتفي باملتابعة والتعقيب عىل ما يصدر‬
‫من بحوث ونظر ّيات يف شتّى مناحي العلوم والفنون واملعارف‪ ،‬إذ أضحى من صميم‬
‫بأول‪،‬‬‫َد ْين اللغة العربية علينا أن نواكب إجياب ًّيا ما يصدر من الدراسات اللسانية ّأو ًل ّ‬
‫فال يرختي بنا الزمام بل نستأنف القول عىل جديد النظر ّيات والبحوث فور صدورها‬
‫تقوي ارتباطنا بام ينشأ من طارف‬ ‫خاصة بنا ّ‬
‫مظانا‪ ،‬ونُنشئ شبكة حتليل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونالحقها يف‬
‫ونجرهبا ونمتحن مدى انسجامها مع متطلباتنا‬ ‫ّ‬ ‫املعارف‪ ،‬فإ ّما أن نُقبل عليها ونقبل هبا‬
‫العلمية وحاجاتنا الثقافية ونبلو مدى انصهارها يف بوتقتنا احلضارية التي جتتمع فيها‬
‫معامل اخلصوصية العربية اإلسالمية ومظاهر االنفتاح الكوين يف اسرتسال تُوجبه إقام ٌة‬
‫اخللق وتنبني عىل طلب احلكمة والفهم‪ ،‬وإ ّما‬ ‫لنا عىل هذه األرض تنهض عىل التفاعل ّ‬
‫كل وافد ورغبة عن كل‬ ‫حذرا من ّ‬
‫نظل يف معزل عن حركة البحث اللساين عامل ًّيا ً‬ ‫أن ّ‬
‫جتديد‪ .‬وما الركون إىل اخليار الثاين بأمر ُرشد‪ ،‬ملن له ُمسكة من عقل‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫الدراسات السابقة‬
‫لقد أ ّدت بنا متابعة االهتامم العريب للمقاربة العرفانية (املعرفية‪ /‬اإلدراكية)(‪ )1‬وص ًفا‬
‫وتقييم‪ ،‬إىل تصنيف احلصيلة تصني ًفا جيعلها ال خترج عن التعريف والتأليف‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وحتليل‬
‫والتأصيل‪:‬‬
‫Ÿ Ÿ فأ ّما التعريف فيتجىل يف ترمجة فصول وكتب ومصنفات غربية يف هذه املقاربة‬
‫(تتفاوت قيمة من حيث النصوص األصلية وجودة من حيث الرتمجات العربية)‬
‫أو يف عرض موضوعي لبعض النظريات العرفانية‪ ،‬أو يف وضع متهيد مدريس‬
‫للطالب عرب تقديم النظريات العرفانية وتبسيطها وذكر مبادئها‪.‬‬
‫Ÿ Ÿوأ ّما التأليف فيظهر يف تطبيقات جزئية (هلذه النظرية أو تلك‪ :‬نظرية املزج‪،‬‬
‫االستعارة املفهومية‪/‬التصورية‪ ،‬الفضاءات الذهنية لفوكونييه‪ ،‬النحو العرفاين‬
‫نصية‪.‬‬ ‫لالنقاكر‪ )...‬عىل اللغة العربية إما بطريقة عامة أو انطال ًقا من ّ‬
‫مدونة ّ‬
‫ّ‬
‫فيتجل يف حماولة إجياد ُعرى توثق الصلة بينها وبني‬ ‫Ÿ Ÿوأ ّما تأصيل العرفانيات‬
‫املدونة اللغوية يف الرتاث اللساين العريب‪ ،‬وإن بطريقة حمتشمة حينًا وبطرائق‬
‫ّ‬
‫متعسفة أحيانًا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وباملقابل فإننا نشهد انرصاف عدد من الباحثني اللغويني العرب عن املنهج‬
‫جتاه ًل له من منطلقات‬ ‫إن منهم من ناصبه العداء‪ ،‬إ ّما ً‬
‫جهل به أو ُ‬ ‫العرفاين‪ ،‬بل ّ‬
‫بنيوية أو تراثية عىل حدّ سواء‪.‬‬

‫صعوبة البحث‬
‫يتجىل ُعرس املسألة يف أمور كثرية‪ ،‬منها ق ّلة معارفنا عن اجلانب الذهني‪ ،‬فلئن كانت‬
‫«املعرفة هي نتاج التالقي بني أفكارنا املسبقة والواقع يف العامل اخلارجي [‪ ]...‬فإن ما‬
‫يعس شكلنة األشياء»(‪.)2‬‬
‫نعرفه عن طريقة معاجلة املعلومة يف الدماغ قليل جدًّ ا‪ ،‬ممّا ّ‬
‫تنضاف إىل ذلك حداثة املنهج العرفاين يف منشئه الغريب (إذ مل يتجاوز العقود األربعة)‬

‫‪1- Cognitive Approach.‬‬


‫‪2- Thierry Poibeau and Aline Villavicencio (Editors), Language, cognition, and computational‬‬
‫‪models, Cambridge, Cambridge University Press, 2018, p3.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫ويف تشتت التلقي العريب له‪ ،‬وعدم التمكّن من مفرداته وعدم التنسيق بني الباحثني‬
‫املهتمني حتى يف ترمجة مفرداته (التي تتفاوت االجتهادات يف شأهنا تفاوتًا) وبخاصة يف‬
‫عدم بلوغ التلقي العريب هلذا املنهج مرحلة اإلبداع فيه وتأصيله‪...‬‬

‫أهداف البحث‬
‫املهتم ببعض املعارف‬
‫ّ‬ ‫هندف يف هذا الكتاب الذي يسعى لتعريف القارئ العريب‬
‫واملفاهيم وأدوات التحليل التي تستعملها املقاربة العرفانية‪ ،‬إىل تسويغ النظر فيام‬
‫تطرحه تلك املقاربة عىل اللغة العربية من إشكاليات التنظري والتطبيق‪ ،‬يف املقامات‬
‫والتوجس من هذه املقاربة وجتاوز‬
‫ّ‬ ‫التخوف‬
‫ّ‬ ‫العلمية والتعليمية‪ .‬مثلام هندف إىل إزالة‬
‫اإلشكال ّيات الشكلية (من قبيل االختالفات االصطالحية بني الباحثني العرب‪:‬‬
‫التعرف‪ ،‬املعرفية‪ ،)...‬لكي نصل إىل ترسيخ‬ ‫اللسانيات العرفانية‪ ،‬اإلدراكية‪ ،‬العرفنة‪ّ ،‬‬
‫القول يف هذه املقاربة متهيدً ا لبلوغ وضع لبنات إنتاج املعرفة يف هذا املجال‪.‬‬

‫توزيع الفصول‬
‫املتخصصني‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫فصول متكاملة أ ّلفتها جمموعة من الباحثني‬ ‫جيد القارئ يف هذا الكتاب‬
‫الذين يشتغلون عىل مرشوعات بحثية تعتمد املقاربة العرفانية وحتاول استثامر جوانب‬
‫منها يف دراسة اللغة العربية‪ .‬ورأيت أن ُأسهم يف الكتاب بإبراز وجوه العالقة بني‬
‫االجتاهني العرفاين والتداويل‪.‬‬
‫(نحوا‬
‫ً‬ ‫ويمر باللغة‬
‫وقد ارتأينا أن يتخذ ترتيب الفصول طاب ًعا منهج ًّيا يبدأ من الذهن ّ‬
‫الرتبوي واملنظور التداويل (‪ .)1‬لذا فإننا نقرتح عىل‬
‫ّ‬ ‫ودالل ًة) ليصل إىل الواقع يف املقام‬
‫املهتم باق ًة من البحوث التي حاول فيها مؤلفوها اقتناص مقرتحات االجتاه‬ ‫ّ‬ ‫القارئ‬
‫العرفاين النظرية ورصد آفاقه التطبيقية‪.‬‬
‫إذ تكاد الدراسات اللسانية منذ بداية القرن العرشين تتفق عىل اعتامد مستويات‬
‫(صوتية ورصفية وتركيبية وداللية‪ ،‬ثم تداولية) يف حتليل البيانات اللغوية أصواتًا‬
‫ووحدات رصفية وتركيبية وداللية وتداولية‪ .‬وعىل الرغم من اختالف املدارس‬

‫املتصور يف األذهان إىل املتح ّقق يف األعيان‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -1‬وهو منطق ينطلق من‬

‫‪-7-‬‬
‫اللسانية يف إيالء فضل عناية بمستوى منها عىل سائر املستويات‪ ،‬أو يف جعل أحد‬
‫املستويات متحك ًّم يف غريه‪ ،‬فإن عموم الدارسني قد ارتضوا أن تُعا َلج اللغة انطال ًقا من‬
‫هذه املستويات‪.‬‬
‫و ّملا كان االجتاه العرفاين (املعريف‪ ،‬اإلدراكي) (‪ )Cognitive linguistics‬من‬
‫االجتاهات اللسانية التي ظهرت بعد رسوخ مستويات التحليل املذكورة‪ ،‬فقد اجته‬
‫الباحثون العرفان ّيون إىل استثامر هذا االجتاه يف دراسة تلك املستويات‪ ،‬وو ّظفوا ما‬
‫ُيتيحه من أدوات يف معاجلة مباحثها‪ ،‬مع حت ّفظهم عىل القسمة املذكورة لتلك املستويات‬
‫اللسانية‪...‬‬
‫العرفاين للجوانب‬
‫ّ‬ ‫تطرقت إىل معاجلة االجتاه‬
‫فصول ّ‬‫ً‬ ‫ويضم هذا الكتاب اجلامعي‬
‫ّ‬
‫الرتكيبية والداللية والتداولية يف اللغة والذهن‪ .‬ويشكّل الفصل األول الذي أنشأه‬
‫الباحث د‪ .‬عبد الرمحن حممد طعمة متهيدً ا يضع سائر الفصول يف إطارها‪ ،‬ال سيام‬
‫ماسة‬
‫أن الدراسات العرفانية اجلا ّدة ال تزال قليلة باللسان العريب‪ ،‬فاحلاجة ال تزال ّ‬
‫أهم مقارباته وطرائقه ومصطلحاته وأهدافه‪ .‬كام قدّ م هذا‬ ‫للتعريف هبذا االجتاه يف ّ‬
‫الفصل مداخل علمية بينية ذات صلة بالنظرية اللسانية العرفانية املعارصة؛ وقد وقف‬
‫الباحث عىل أطروحة تقرير «سلون» املم ّثل لبزوغ العلم العرفاين عمو ًما يف حقل فلسفة‬
‫العلوم الغربية‪ ،‬مثلام عرض بعض مرتكزات بنائية املعجم الذهني‪ ،‬وانتهى الباحث إىل‬
‫منفتحا عىل علوم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مدخل جديدً ا‬ ‫فرضية «وهم املعرفة» التي متثل‪ -‬من وجهة نظره‪-‬‬
‫أخرى تبحث يف الظاهرة اللسانية اإلنسانية وتعالقها مع مباحث الكون‪.‬‬
‫أ ّما الفصل الثاين فقد ُعن َيت فيه الباحثة د‪ .‬عفاف موقو بتحليل مالمح من األبنية‬
‫الذهنية للفضاء يف النحو العريب؛ إذ اقرتحت قراءة إلشكالية َم ْقولة الظروف يف تراثنا‬ ‫ّ‬
‫النحوي العريب‪ ،‬وذلك اعتام ًدا عىل نامذج من املصنّفات النحوية القديمة‪ .‬وأجرت‬
‫دراستها عىل طريقة متثيل ال ّلغة للفضاء من خالل الكشف عن األبنية النّاشئة عن‬
‫بأن ظروف املكان‬ ‫الصورة عىل أساس خلف ّية مفردة‪ .‬وانتهت الدراسة إىل اإلقرار ّ‬ ‫تعيني ّ‬
‫التصور ّية للفضاء‪ .‬ومر ّد ذلك ّأنا حتدّ د‬
‫ّ‬ ‫دورا مركز ًّيا يف َبنْ َينة املقولة‬
‫عنارص نحو ّية تؤ ّدي ً‬
‫فضائي‬
‫ّ‬ ‫ّظامي لبعض مظاهر مشهد‬‫الذهن ّية املم ّثلة للفضاء‪ ،‬من خالل االختيار الن ّ‬ ‫األبنية ّ‬
‫املكونة له‪ .‬مثلام‬
‫ّ‬ ‫الكيل دون سائر مظاهره‬
‫ّ‬ ‫الفضائي‬
‫ّ‬ ‫معي وترشيحها لتمثيل املشهد‬ ‫ّ‬

‫‪-8-‬‬
‫الرئيس ّية النّاشئة عن‬
‫حاولت الدراسة يف جانبها التطبيقي اإلحاطة بالتمييزات الفضائ ّية ّ‬
‫الظروف بام هي عنارص نحو ّية‪.‬‬
‫ّظري‬
‫واهتم الباحث د‪ .‬احلبيب املقدميني يف الفصل الثالث باستعراض اإلطار الن ّ‬ ‫ّ‬
‫وخاصة مفهوم‬
‫ّ‬ ‫أهم املبادئ يف دراسة الدّ اللة‬
‫تطرق إىل ّ‬‫ثم ّ‬ ‫العا ّم للسانيات العرفان ّية‪ّ ،‬‬
‫واهتم بتقديم مقاربة طاملي يف الدّ اللة ال ّلغو ّية التي سعت إىل تبويب‬ ‫ّ‬ ‫املوسوع ّية‪،‬‬
‫معي‪ ،‬يسهم إجرائ ًّيا يف فهم الكثري‬ ‫تصور ّ‬‫القدرات العرفان ّية اإلدراك ّية وتنضيدها وفق ّ‬
‫من ال ّظواهر الدّ الل ّية النّحو ّية‪ .‬مثلام عرض الباحث اخلطاطات الذهنية املنبثقة من‬
‫التّجربة اجلسد ّية بوصفها خلف ّيات متكّننا من فهم الدّ اللة ال ّلغو ّية أو غريها من األنظمة‬
‫العالم ّية‪.‬‬
‫وعالج الباحث د‪ .‬عمر بن دمحان يف الفصل الرابع تطبيق املنظور العرفاين يف جماالت‬
‫واهتم بإحدى اآلليات واالسرتاتيجيات‬‫ّ‬ ‫تتصل بإنتاج اخلطاب وتلقيه يف املقام الرتبوي‪،‬‬
‫اخلطابية املعتمدة التي عُدّ ت أساسية ومركزية وال غنى عنها يف الفهم واإلفهام والتواصل‬
‫بشكل عام‪ ،‬أال وهي التفكري التمثييل أو القيايس يف مظاهره املختلفة‪ .‬وحاول الباحث‬
‫إبراز أمهية جتلياته يف اللغة واخلطاب من منظور عرفاين وإسهامه املركزي يف عملية بناء‬
‫املعنى وتأويله يف أثناء التواصل‪ ،‬وبخاصة بعد املكانة التي صارت حتظى هبا ظاهرة‬
‫االستعارة بعد اكتشاف أمهيتها ودورها املركزي يف األنشطة البرشية احلياتية اليومية‪.‬‬
‫احلضور‬
‫َ‬ ‫بعض األبحاث ذات املنطلق اللساين العرفاين‬ ‫وقد رصدت‪ ،‬يف هذا اإلطار‪ُ ،‬‬
‫والتمثييل يف املقام الرتبوي بوصفه من األنشطة اإلنسانية اخلصبة التي‬‫َّ‬ ‫االستعاري‬
‫َّ‬
‫تُستخدم فيها اسرتاتيجيات تواصلية وإبالغية يوظفها املعلمون والرتبويون من أجل‬
‫إيصال الفكرة إىل املتعلمني الذين ُيط َلب إليهم التفاعل مع ما ُيعرض عليهم سواء أكان‬
‫ذلك داخل الصف أم عرب املناهج واملقررات التعليمية‪.‬‬
‫ونظر الباحث د‪ .‬صابر احلباشة يف الفصل اخلامس يف وجوه التهجني واملزج‬
‫عول عليه يف الدراسات‬ ‫والتوليد املمكنة بني املنظورين العرفاين والتداويل‪ .‬فإذا كان ا ُمل َّ‬
‫فإن الدراسات التداولية (وهي‬ ‫العرفان ّية هو تنشيط العمل ّيات الذهنية يف إنتاج الداللة‪ّ ،‬‬
‫السياق يف إنتاج املعنى‪ .‬إذ تأيت املقاربة‬ ‫مه ّية ّ‬
‫العرفاين) تركّز عىل أ ّ‬
‫ّ‬ ‫رافد من روافد ّ‬
‫االتاه‬
‫ثم فال جمال للفصل أو لعزل‬ ‫املهم يف بيئاتنا العرفان ّية‪ ،‬ومن ّ‬
‫السياق ّ‬ ‫اهلجينة لتربز تأثري ّ‬

‫‪-9-‬‬
‫ً‬
‫فصل إجرائ ّيني هبدف الدراسة‬ ‫البيئة الذهنية عن التفاعالت الواقعية‪ ،‬إال ً‬
‫عزل أو‬
‫واالختبار‪ ،‬فاألقوال واخلطابات ُت َّلل عرفان ًّيا وتداول ًّيا يف رضب من االسرتسال‬
‫والرتاكب‪.‬‬
‫ولعل ممّا أنبأنا به االشتغال عىل مباحث هذا الكتاب اجلامعي‪ ،‬الذي نرجو أن حيقق‬
‫متخصص يف‬
‫ّ‬ ‫موضوعي‬
‫ّ‬ ‫أحوج ما تكون إىل معجم‬
‫ُ‬ ‫غاياته‪ ،‬أن املكتبة العربية اللسانية‬
‫ويبي‬
‫ويقرهبا من الباحث والطالب اللسان ّي ْي ّ‬
‫مفاهيم اللسان ّيات العرفان ّية‪ ،‬يرشحها ّ‬
‫ولعل مثل هذا املرشوع جدير بأن‬ ‫ويقرب املصطلحات العربية الدا ّلة عليها‪ّ .‬‬ ‫فائدهتا ّ‬
‫يرعاه مركز امللك عبداهلل بن عبدالعزيز الدويل خلدمة اللغة العربية‪ ،‬صني َعه يف سدّ‬
‫ثغرات أخرى نظرية(‪.)1‬‬
‫وال يسعنا ّإل أن نشكر القائمني عىل مركز امللك عبداهلل بن عبدالعزيز الدويل خلدمة‬
‫اللغة العربية عىل جهودهم العلمية احلثيثة واملخلصة يف متكني الباحثني املتخصصني‬
‫من فرص النرش العلمي املحكّم ألحدث ما متوج به الساحة العاملية من بحوث لغوية‬
‫ودراسات لسانية من شأهنا أن تعود بالنفع العميم عىل اللغة العربية ومتك ّلميها وطالهبا‪.‬‬
‫واهلل ويل التوفيق‪.‬‬

‫املحرر‪ /‬صابر بن حممود احلباشة‬

‫‪ -1‬منها عىل سبيل الذكر ال احلرص‪ :‬معجم اللغة املرسحية مع ثبت يف املصطلح للتيجاين الصلعاوي ورمضان العوري‪.‬‬

‫‪-10-‬‬
‫تعريف بالباحثني املشاركني يف التأليف‬

‫د‪ .‬عبد الرمحن حممد طعمة‪ :‬أستاذ اللسانيات املساعد بقسم اللغة العربية يف كلية‬
‫اآلداب بجامعة القاهرة‪ .‬وهو عضو هيئات حترير الكثري من الدوريات العلمية واملراكز‬
‫البحثية العربية واألجنبية‪ .‬وله مشاركات كثرية يف املؤمترات العلمية العربية والعاملية‬
‫متخصصا يف اللسانيات ونظرية‬‫ً‬ ‫اللسانية والتعليمية‪ .‬وقد نرش أكثر من ‪ 25‬بح ًثا‬
‫املعرفة والثقافة والدراسات القرآنية‪ .‬له عدد من الكتب املنشورة منها‪« :‬اللغة واملعنى‬
‫والتواصل‪ :‬النموذج العرفاين وأبعاده التداولية» (‪ ،)2020‬و«البناء الذهني للمفاهيم‪:‬‬
‫بحث يف تكامل علوم اللسان وآليات العرفان» (‪ ،)2019‬و«توظيف علم الداللة‬
‫املعجمي يف حقل التفسري القرآين‪ :‬مقاربة حتليلية يف علم الداللة التفسريي» (‪،)2018‬‬
‫و«البناء العصبي للغة‪ :‬دراسة بيولوجية تطورية يف إطار اللسانيات العرفانية العصبية»‬
‫(‪ ،)2017‬و«النظرية اللسانية العرفانية‪ :‬دراسات إبستمولوجية»‪ ،‬بمشاركة د‪ .‬أمحد‬
‫واألولويات»‬
‫ْ‬ ‫األوليات‬
‫عبد املنعم (‪ ،)2019‬و«اللسانيات واملعرفية والرتبية بني ّ‬
‫[اشرتاك] (‪.)2015‬‬
‫ِ‬
‫درست بجامعة‬ ‫د‪ .‬عفاف موقو‪ :‬أستاذ ُة اللسانيات املشارك ُة باجلامعة التونسية‪ّ ،‬‬
‫تتنزل بحوثها األكاديمية ضمن جمال ال ّلسان ّيات‬
‫هارفرد يف الواليات املتحدة األمريكية‪ّ .‬‬
‫باجلانبي املعجمي والنحوي‪ .‬فأ ّما اجلانب املعجمي‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫اهتمت أعامهلا‬
‫العرفان ّية‪ ،‬وقد ّ‬
‫«التصورات‬
‫ّ‬ ‫مهها‪ :‬أطروحة الدكتوراه التي محلت عنوان‬ ‫لعل أ ّ‬ ‫ً‬
‫أعامل عدّ ة ّ‬ ‫فيضم‬
‫ّ‬
‫النص القرآين»(‪ ،)2014‬ورسالة املاجستري‬ ‫املجاز ّية يف القرآن‪ :‬مقاربة عرفان ّية لبالغة ّ‬
‫الشعر العريب‬ ‫التي تناولت فيها بالدرس مفهوم الدّ اللة اإلحيائ ّية من خالل تطبيقات عىل ّ‬

‫‪-11-‬‬
‫متنزلة ضمن النحو العرفاين‬ ‫ً‬
‫أعامل ّ‬ ‫فيضم‬
‫ّ‬ ‫احلديث (‪ .)2007‬وأ ّما اجلانب النّحوي‪،‬‬
‫مهها بحث التأهيل اجلامعي «األبنية ّ‬
‫الذهن ّية للفضاء‪ :‬مقاربة نحو ّية عرفان ّية لظروف‬ ‫أ ّ‬
‫التصوري يف إطار‬
‫ّ‬ ‫املكان»(‪ ،)2019‬ومقال «توليد األبنية ال ّلغو ّية عرب تقنية ّ‬
‫الضغط‬
‫نظرية املزج»(‪.)2015‬‬
‫ربز مم ّيز درجة استثنائ ّية باملعهد العايل ل ّلغات التّطبيق ّية‬
‫د‪ .‬احلبيب املقدميني‪ :‬أستاذ م ّ‬
‫واإلعالم ّية بباجة (تونس) منذ ‪ .2006‬حاصل عىل األستاذ ّية يف ال ّلغة واألدب‬
‫ّخرج من دار املع ّلمني العليا يف تونس سنة ‪ّ ،2005‬‬
‫ثم‬ ‫واحلضارة العرب ّية وشهادة الت ّ‬
‫حتصل عىل املاجستري يف ال ّلسان ّيات الن ّظر ّية‬‫شهادة التّربيز يف ال ّلغة العرب ّية سنة ‪ّ .2006‬‬
‫والتّطبيق ّية العرب ّية سنة ‪ 2011‬بمالحظة حسن جدًّ ا‪ ،‬وهو عضو وحدة البحث‬
‫ال ّلسانيات العرفان ّية وال ّلغة العرب ّية منذ ‪ ،2006‬أنجز أطروحة دكتوراه بعنوان «التعبري‬
‫عن األمل يف ال ّلغة العرب ّية‪ :‬دراسة يف إطار نظر ّية اجلسدنة» (يناقشها قري ًبا)‪ .‬له مشاركات‬
‫ومقاالت يف ندوات ومنشورات علم ّية خمتلفة يف حمور ال ّلسانيات العرفان ّية‪.‬‬
‫د‪ .‬عمر بن دمحان‪ :‬أستاذ حمارض بقسم اللغة العربية وآداهبا‪ ،‬كلية اآلداب واللغات‪،‬‬
‫بجامعة تيزي وزو (اجلزائر)‪ .‬حاصل عىل شهادة الدكتوراه يف األدب العريب‪ ،‬باحث‬
‫بمخرب حتليل اخلطاب بالقسم نفسه‪ ،‬وعضو هيئة حترير جملة اخلطاب الصادرة عن املخرب‬
‫املذكور‪ .‬له عدة مقاالت منشورة يف جمالت وطنية ودولية‪ ،‬صدر له كتاب حول نظرية‬
‫االستعارة التصورية واخلطاب األديب (مرص ‪ .)2015‬هيتم يف بحوثه ومشاريعه بتطبيق‬
‫النظريات املعرفية‪/‬العرفانية يف املجاالت اللغوية واألدبية‪ ،‬وحتليل اخلطاب عمو ًما‪.‬‬
‫د‪ .‬صابر احلباشة‪ :‬أستاذ اللغة العربية املساعد بكلية الرتبية يف جامعة زايد‪ ،‬بدولة‬
‫اإلمارات العربية املتحدة‪ .‬حتصل عىل شهادة الدكتوراه يف اللغة العربية من جامعة منوبة‬
‫مهم من الكتب يف اللسانيات العرفانية والتداولية‪،‬‬ ‫يف تونس عام ‪ ،2012‬ألف عد ًدا ًّ‬
‫منها «املشرتك الداليل يف اللغة العربية‪ :‬مقاربة عرفانية معجمية» (‪« ،)2015‬التداولية‬
‫واحلجاج» (‪« ،)2008‬األبعاد التداولية يف رشوح التلخيص للقزويني» (‪،)2010‬‬
‫باإلضافة إىل ترمجات عدّ ة منها «التداولية من أوستن إىل غوفامن» لفيليب بالنشيه من‬
‫الفرنسية (ط‪ ،2007 .1‬ط‪ )2012 .2‬و«البنية االجتامعية الرسدية‪ :‬شبكة ترشيح‬
‫احلديث النبوي» لرجب شانتورك من اإلنكليزية (‪ ،)2018‬باإلضافة إىل فصول يف‬
‫كتب مجاعية وبحوث يف جمالت حمكمة عدّ ة‪ .‬وله مشاركات كثرية يف حتكيم البحوث‬
‫وعضوية اللجان االستشارية وهيئات التحرير يف جمالت لسانية عربية حمكمة وبعض‬
‫جوائز اللغة العربية‪ ،‬باإلضافة إىل املؤمترات العلمية العربية والعاملية‪.‬‬

‫‪-12-‬‬
‫الفصل األول‬
‫البعد الذهني يف اللسانيات العرفانية‪:‬‬
‫مدخل مفاهيمي‬

‫(‪)1‬‬
‫د‪ .‬عبد الرمحن حممد طعمة‬

‫‪ -1‬قسم اللغة العربية‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬مرص‪.‬‬

‫‪-13-‬‬
-14-
‫متهيد‪:‬‬
‫ً‬
‫مدخل مفاهيم ًّيا نحاول فيه أن نقارب (املنظور العرفاين يف‬ ‫يتناول هذا الفصل‬
‫التحليل اللساين)‪ ،‬بالرتكيز عىل البعد الذهني وآلياته العصبية‪ ،‬التي تتبلور من خالهلا‬
‫بعض القواعد املقررة يف هذا احلقل املهم من العلوم البينية‪ ،‬فيام خيص األطروحات‬ ‫ُ‬
‫اجلديدة املتعلقة بفهم الظاهرة اللغوية اإلنسانية وسريوراهتا املتنوعة ملختلف األلسن‪.‬‬
‫وستبدأ الدراسة بعرض التقرير الشهري‪ ،‬املعروف بتقرير «سلون» ‪ ،Sloan‬الذي‬
‫صدر عام ‪1978‬م‪ ،‬وكانت اللسانيات يف املركز منه‪ ،‬ضمن جمموعة أخرى من‬
‫املعارف العلمية؛ إذ كان التوجه نحو بناء نموذج «عرفاين» شامل‪ ،‬جيمع بني خمتلف‬
‫تفصيل‪ .‬من َثم‪،‬‬
‫ً‬ ‫التخصصات‪ ،‬لتحقيق التكامل بني شتى العلوم‪ ،‬وسوف نُبني هذا‬
‫نبدأ يف تقديم املداخل املفاهيمية اخلاصة باملعجم الذهني (‪ ،)Mental Lexicon‬متهيدً ا‬
‫تفصيل بالكتاب من التحليالت اللسانية العرفانية ذات الصلة‪ ،‬ونتوقف‬ ‫ً‬ ‫ملا س ُيطرح‬
‫يف هذا املدخل حول بعض القضايا املهمة‪ ،‬من مثل بنية املفاهيم ذهن ًّيا‪ ،‬وارتباطها‬
‫بحقل التصورات عمو ًما‪ ،‬وآليات التخزين يف الذاكرة‪ ،‬واالستدعاء‪ ،‬عىل سبيل املثال‬
‫ال احلرص‪ ،‬مع مقاربة موجزة حول آلية «االقتصاد املعجمي الذهني»‪ ،‬من خالل أمثلة‬
‫حتليلية للغة العربية‪ ،‬ومقارنتها باإلنكليزية واألملانية‪ .‬وينتهي هذا املدخل املفاهيمي‬
‫بمقاربة َأطل ْق ُت عليها «فرضية وهم املعرفة»‪ُ ،‬أ ّبي من خالهلا كيف أن الدماغ هو جهاز‬
‫كون الشبكات‪ ،‬و ُيدمج العنارص‪ ،‬ويوفق‬ ‫ِ‬
‫كوين معجز‪ ،‬يقوم بالكثري من احليل‪ ،‬و ُي ّ‬
‫بني املؤتلف واملختلف ‪ ...‬إلخ‪ ،‬ألجل تثبيت املفاهيم‪ ،‬مراوح ًة بني عا َلي (األذهان‬
‫واألعيان)‪ ،‬وذلك بتقديم بعض األمثلة يف اللغة العربية‪ ،‬مع مقارنتها باإلنكليزية‬
‫كذلك‪ ،‬هبذا اخلصوص‪.‬‬
‫بذلك يكون هذا املدخل املفاهيمي مز َد َل ًفا ملا س ُيطرح الح ًقا من تفصيالت حول التحليل‬
‫الداليل والنحوي وآفاق التداولية‪ ،‬من خالل املنظور العرفاين يف اللسانيات املعارصة‪.‬‬
‫الكلامت املفتاحية‪:‬‬
‫املعجم الذهني‪ ،‬العرفان‪ ،‬التصورات‪ ،‬املفاهيم‪ ،‬تقرير «سلون»‪ ،‬اللسانيات‪،‬‬
‫الظاهرة اللغوية‬

‫‪-15-‬‬
‫أوال‪ -‬مركزية النظرية اللسانية العرفانية ضمن إطار فلسفة العلوم (تقرير‬
‫«سلون»)‪:‬‬
‫إن تت ُّب َع مسار التطور األنثروبولوجي واألحيائي للفكر اإلنساين‪ ،‬وللغة اإلنسانية‬
‫وم ّركه‪ -‬هو من أخطر القضايا العلمية املعارصة‪،‬‬ ‫مركز هذا الفكر ُ‬
‫َ‬ ‫بالتبعية‪ -‬بوصفها‬
‫وال يمكن القول إننا قد نأيت إىل القول الفصل يف تلك املسائل‪ ،‬لكننا نحاول فهمها‬
‫من خالل التحليل واملقاربات‪ .‬وعمو ًما فإن التفكري يف طبيعة املعرفة املمكنة يمكن أن‬
‫حيدث عىل ثالثة مستويات (‪:)1‬‬
‫أ‪ -‬املستوى احليوي أو البيولوجي (‪ :)Biological‬ويتمثل يف الدماغ بوصفه شبكة‬
‫نظامية مكونة من ماليني العصبونات (النيورونات) املرتابطة التي تشكل خلفية‬
‫البناء الفكري للذهن اإلنساين‪.‬‬
‫ب‪-‬املستوى التمثييل (أو اإلدراكي) ‪ :Perceptual‬ويتأسس حول بحث كيفية متثيل‬
‫املعرفة املوجودة يف العامل وبلورهتا بصورة مفاهيم داخل الدماغ‪ ،‬وهو األمر‬
‫املعروف بمصطلح التمثيالت الذهنية‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬مستوى املعاجلة املعلوماتية ‪ :Information Processing‬وهو الذي ينظر إىل‬
‫الفكر بوصفه نس ًقا ّ‬
‫جمر ًدا ملعاجلة املعلومات؛ حيث يكون الرتكيز عىل دراسة كيفية‬
‫انتقال املعلومات داخل الشبكة العصبية (النيورونية) بوصفها نس ًقا وظيف ًّيا‪ ،‬من‬
‫دون اإلحالة إىل ما متثله املعلومة خارج الدماغ (استعارة الذهن – احلاسوب)‪.‬‬
‫علم بأن املعاجلة املعلوماتية بنمطيها‪ :‬اإلدراكي (إدراك يشء ما) والرمزي (فهم‬ ‫ً‬
‫اجلملة ومتثيلها العصبي وختطيطها الذهني) كل هذا حيدث من خالل منظومة‬
‫من املقوالت واملفاهيم التي تتحكم يف متثيل العامل وتنميطه ونمذجته داخل ذهن‬
‫األفراد من بني اإلنسان (‪.)2‬‬

‫‪ -1‬حممد الوحيدي‪« :‬اللسانيات وعلم املعرفة‪ ..‬اللغة وبنية املعرفة البرشية»‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪،175‬‬
‫سبتمرب‪ ،2018 ،‬ص ‪ .173‬بترصف‪.‬‬
‫‪ -2‬للمزيد من التفاصيل‪:‬‬
‫‪.De Mey, M: The Cognitive Paradigm, University of Chicago Press, 4th ed, 1992, p 5‬‬
‫وانظر كذلك‪ ،‬عبد الرمحن طعمة‪ ،‬وأمحد عبد املنعم‪ :‬النظرية اللسانية العرفانية‪ ،‬دراسات إبستمولوجية‪ ،‬دار رؤية‬
‫للنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طـ ‪ ،2019 ،1‬ص ‪ 156‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪-16-‬‬
‫وكل هذه املستويات ال يمكن البحث فيها بمنأى عن فهم الظاهرة اللغوية‬
‫وسريوراهتا العرفانية وتداخلها القوي املتشابك مع خمتلف العلوم؛ فال يمكن دراسة‬
‫املفهوم األكرب (العقل) من دون بحث اللغة‪ .‬ولذلك فإن العلوم العرفانية تدرس‬
‫اإلدراك البرشي بوصفه ظاهرة اتصالية عابرة للتخصصات‪ ،‬من أجل الوصول إىل‬
‫مقاربة معارصة هتدف إىل الفهم والتفسري‪ ،‬من خالل االستعانة بمجموعة من املعارف‬
‫املتكاملة‪ ،‬كام سنوضح يف تقرير سلون بعد قليل‪ ،‬عىل رأسها‪ :‬اللسانيات والفلسفة‬
‫العامة وفلسفة العلوم والعلوم العصبية واحلاسوبيات‪ .‬ويمكننا هنا رصد أربعة جماالت‬
‫مهمة متثل أركان هذه املقاربة العرفانية (‪:)1‬‬
‫ ‪-‬الرتكيب والبناء يف الذهن واملعرفة‪ ،‬وعمليات التفاعل بينهام‪.‬‬
‫ ‪-‬النامذج التمثيلية للمعرفة (‪.)Paradigms of Knowledge‬‬
‫ ‪-‬موارد املعرفة ومصادرها (‪.)Knowledge Resources‬‬
‫ ‪-‬األجهزة املو ّلدة للمعرفة (‪.)Knowledge Devices‬‬
‫ولغة اإلنسان‪ ،‬تب ًعا هلذا التصور‪ ،‬هي اجلهاز املركزي الرابط ُملجمل العلوم العرفانية‪،‬‬
‫بل إن الدماغ البرشي هو نموذج كوين ُمصغر‪ ،‬ولذلك أمكننا اإلفادة من العلوم‬
‫الطبيعية‪ ،‬مثل الفيزياء الكونية والرياضيات‪ ،‬يف تطوير النامذج اللسانية املعارصة‪ ،‬ما‬
‫خصوصا فرع تع ُّلم ّية (‪)didactics‬‬
‫ً‬ ‫أدى إىل ثورة هائلة يف حقل اللسانيات التطبيقية‪،‬‬
‫اللغات‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد الكريم جيدور‪« :‬اللسانيات العرفانية ومشكالت تعلم اللغات واكتساهبا»‪ ،‬جملة العالمة‪ ،‬خمرب اللسانيات النصية‬
‫وحتليل اخلطاب‪ ،‬كلية اآلداب واللغات‪ ،‬جامعة قاصدي مرباح‪ ،‬ورقلة‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬العدد ‪ ،2017 ،5‬ص ‪.301‬‬

‫‪-17-‬‬
‫ومن أهم نتائج هذه املقاربة العرفانية ذات الطبيعة العلمية البينية‪:‬‬
‫ ‪-‬اللغة اإلنسانية ليست قدرة عرفانية منفصلة عن غريها من القدرات‪ ،‬بل إهنا‬
‫متثل مركز شبكة عرفانية عصبية ال حدود هلا (‪.)1‬‬
‫ ‪-‬القواعد اللسانية هي نوع من التجريد‪ ،‬وف ًقا لتشومسكي ومذهبه‪ ،‬تقوم‪-‬‬
‫فحسب‪ -‬بم ْف َهمة (‪)Conceptualization‬؛ أي بعمليات بناء مفاهيمية‬
‫وتصورية ألجل مساعدة الذهن عىل التحصيل والفهم والتواصل‪.‬‬
‫ّ‬
‫ ‪-‬املعرفة اللغوية تنبثق من خالل استعامل اللغة وتداوهلا (انظر فقرة «وهم املعرفة»‬
‫هناية هذا الفصل)‪.‬‬
‫من هنا بدأت دراسة العالقة الوطيدة بني اللغة ضمن علم اللسانيات وغريه من‬
‫املعارف والعلوم عام ‪ ،1978‬من خالل التقرير الشهري حول وضع علم املعرفة‬
‫(باملصطلح الشامل) بام يشمله من حقول وبينيات وأفرع ‪ ...‬إلخ‪ ،‬وهو التقرير املعروف‬
‫باسم تقرير سلون (‪ ،)Sloan Report‬الذي تم بنا ًء عىل طلب من مؤسسة «ألفريد سلون»‬
‫لدراسة احلقول املوحدة التي يتشكل منها جمموع العلوم واملعارف التي تتآزر ألجل‬

‫‪ -1‬يقرتح الباحثون العرفانيون إمكانية فحص القدرة اللغوية من خالل جانبني‪ :‬جانب تشرتك فيه كل األنواع والفصائل‬
‫داخل مملكة احليوان‪ ،‬وعىل رأسها اإلنسان‪ ،‬و ُيعرف ذلك باملعاجلة الواسعة النطاق للغة ‪Faculty of Language in‬‬
‫‪ .Broad Sense FLB‬وهنا تتألف هذه القدرة من ثالثة قواسم مشرتكة‪:‬‬
‫‪ -1‬النظام احليس احلركي ‪.Sensory-Motor System‬‬
‫‪ -2‬النظام املفاهيمي التصوري ‪.Conceptual-Intentional System‬‬
‫‪ -3‬امليكانيزمات الرياضية احلاسوبية اخلاصة بعمليات االستدعاء الذايت للدماغ اإلنساين‪.‬‬
‫ويف هذا اجلانب تقوم القدرة اللغوية بوظيفة كونية تتألف من توليد الهنائي لفئات ال هنائية من العبارات‪ ،‬من خالل‬
‫جمموعة حمددة من الوحدات (راجع نحو احلاالت املحدودة ‪.)Finite State Grammar FSG‬‬
‫اجلانب اآلخر هو املعاجلة اخلاصة بالتفرد اإلنساين باللغة‪ ،‬و ُيعرف ذلك باملعاجلة ذات النطاق الضيق ‪Faculty of‬‬
‫كون واحد فقط هو (عمليات االستدعاء الذايت من‬ ‫‪ .Language in Narrow Sense FLN‬وهنا تتكون اللغة من ُم ّ‬
‫املعجم الذهني)‪ -‬كام سنوضح هبذا الفصل‪ -‬وهي املسؤولة عن قدرة اإلنسان عىل تَكرار ُجل متشاهبة ذات تسلسل‬
‫منطقي تتصف بالالهنائية‪ .‬واألمر هنا شبيه بدوال التكرار الالهنائية يف الرياضيات (مثل أنامط التوالد الذايت يف هندسة‬
‫«ماندلربوت» الكسريية‪ ،‬ومتواليات «فيبوناتيش» ‪ ...‬إلخ)‪ .‬انظر للتفاصيل‪:‬‬
‫نموذجا للتطبيق اللساين»‪ ،‬جملة املامرسات اللغوية‪ ،‬خمرب املامرسات‬
‫ً‬ ‫‪ -‬عبد الرمحن طعمة‪« :‬هندسة ماندلربوت الكسريية‬
‫اللغوية‪ ،‬جامعة مولود معمري‪ ،‬تيزي وزو‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬املجلد ‪ ،10‬العدد ‪ ،2019 ،1‬ص ‪ 215‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪- Mark D. Houser, Chomsky (et al): "The Faculty of Language: what is it? Who has it? and‬‬
‫‪how did it evolve", Science Magazine, Vol 298, 2002, p-p 1569-1579.‬‬

‫‪-18-‬‬
‫البحث يف طبيعة املعرفة اإلنسانية وتاريخ اجلنس البرشي‪ .‬وقد التقت جلنة العمل به يف‬
‫وضمت حلقات ونقاشات شملت علامء نفس ولسانيني‬ ‫ّ‬ ‫مدينة «كانساس» األمريكية‪،‬‬
‫وعلامء أعصاب وفالسفة وأنثروبولوجيني وعلامء حاسوب ومعلوماتية‪ .‬ومنذ وقت‬
‫ٍ‬
‫هائلة للبحث يف علوم الدماغ وتاريخ الفكر‬ ‫بخ ًطى‬
‫صدوره انطلقت الثورة العرفانية ُ‬
‫وتطور اإلنسان ‪ ...‬إلخ‪ .‬وبرأيي‪ ،‬فإن التقرير يمثل أقوى ردود فعل املجتمع العلمي‬
‫عىل الطرح الكبري (بنية الثورات العلمية) لفيلسوف العلم األمريكي «توماس كون» عام‬
‫‪ ،1962‬الذي أعاد النظر إىل فكرة الرتاكمية يف العلم‪ ،‬وفتح املجال أمام نموذج إرشادي‬
‫يف جسم املعارف تؤدي إىل رضورة البحث يف نامذج إرشادية جديدة (‪ ،)1‬تؤدي بدورها‬
‫إىل ثورة يف الفهم‪ ،‬ألن الثورات العلمية‪ ،‬مثل تلك التي أطلقها «أينشتاين» عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬هي التي تقطع املسار التقليدي يف البحث وجتدد أنامط التحقق واالستكشاف‪.‬‬
‫نتج عن تقرير «سلون» بلورة نموذج ختطيطي للحقول املعرفية التي يتشكل منها العلم‬
‫دايس (‪ )Hexagon‬العالقات العرفانية البينية بني العلوم (‪:)2‬‬
‫العرفاين العام‪ ،‬اشتُهر باسم ُس ّ‬
‫الفلسفة (‪)Philosophy‬‬

‫علم النفس‬ ‫اللسانيات‬


‫(‪)Psychology‬‬ ‫(‪)Linguistics‬‬

‫الذكاء االصطناعي‬ ‫األنثروبولوجيا‬


‫(‪Artificial‬‬ ‫(‪)Anthropology‬‬
‫‪)Intelligence‬‬
‫العلوم العصبية (‪)Neuroscience‬‬
‫دايس العالقات العرفانية البينية كام يف تقرير «سلون» ‪1978 Sloan‬‬
‫ُس ّ‬
‫ُﺳﺪاﺳّﻲ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻌﺮﻓﺎﻧﻴﺔ اﻟﺒﻴﻨﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﰲ ﺗﻘﺮﻳﺮ "ﺳﻠﻮن" ‪Sloan 1978‬‬
‫‪ -1‬كل بنية نظامية يف إبستمولوجيا العلوم تنطوي عىل نموذج إرشادي (‪ )paradigm‬غري مفهوم‪ ،‬لكنه موجود داخل النمط؛‬
‫وهذا النموذج اإلرشادي هو الذي يضمن‪ -‬إبستمولوج ًّيا‪ -‬استمرارية الظاهرة العلمية والكونية عمو ًما‪ ،‬فال يشء ً‬
‫كامل؛‬
‫ﺣﻴﺚ ﲤﺜﻞ اﳋﻄﻮط اﳌﺘﺼﻠﺔ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻘﻮﻳﺔ ﺑﲔ اﻟﻌﻠﻮم اﳌﻄﺮوﺣﺔ =ﳌﺨﻄـﻂ‪ ،‬واﳋﻄـﻮط اﳌﺘﻘﻄﻌـﺔ ﲤﺜـﻞ‬
‫فدو ًما هناك يشء غري مفهوم داخل النظام‪ ،‬هذا اليشء يتسع أكثر فأكثر حتى يتحول من نموذج إرشادي إىل آخر يوضح‬
‫اﻟﻌﻼﻗـﺎت اﻷﻗـﻞ ﻗـﻮة ﺑﻴﻨﻬـﺎ‪ .‬وﻳﺘﻀـﺢ ﻣـﻦ اﳌﺨﻄـﻂ ﻣﺮﻛﺰﻳـﺔ ﻋﻠـﻮم اﻷﻋﺼـﺎب واﻟﻠﺴـﺎﻧﻴﺎت وﻋﻠـﻢ اﻟـﻨﻔﺲ ﺿـﻤﻦ‬
‫الغموض‪ ،‬من ثم ينطوي عىل نموذج إرشادي جديد‪ ،‬وهكذا‪ .‬وهذا هو منشأ النظريات وتطويرها وتفسريها ‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫‪ -2‬لتفاصيل حول تقرير سلون ونشأة فكرة هذا املخطط‪:‬‬
‫ﻫﺬﻩ اﻟﺼﻼت ﲟﺨﺘﻠﻒ درﺟﺎت ﺗﺮاﺑﻄﻬﺎ‪.‬‬
‫‪Miller, George A: "The Cognitive Revolution; A Historical Perspective", TRENDS in‬‬
‫‪Cognitive Sciences, Vol.7, No.3, Elsevier, 2003, p-p 142-143.‬‬
‫وﻳﺒﲔ "ﻣﻴﻠﺮ"‪ -‬وﻫﻮ أﺣـﺪ اﻟﻌﻠﻤـﺎء اﻟـﺬﻳﻦ ﻗـﺎﻣﻮا ﺑﺼـﻴﺎﻏﺔ اﻟﺘﻘﺮﻳـﺮ )‪ -(11‬ﺳـﲑورة ﺗﺸـﻜﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌـﺔ اﻟﺒﻴﻨﻴـﺔ‬
‫‪-19-‬ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻮم اﻟﺴﻴﱪ‪Ω‬ﻃﻴﻘﺎ)‪ (13‬ﺗﺴـﺘﺨﺪم اﳌﻔـﺎﻫﻴﻢ‬ ‫ﻟﻠﻌﻠﻮم اﻟﻌﺮﻓﺎﻧﻴﺔ وﺗﺪاﺧﻠﻬﺎ اﻟﻌﻠﻤﻲ‪ ،‬ﻋﻠﻰ ﳓﻮ ﻣﺎ ﻗﺎل )‪" :(12‬‬
‫حيث متثل اخلطوط املتصلة العالقات القوية بني العلوم املطروحة باملخطط‪،‬‬
‫واخلطوط املتقطعة متثل العالقات األقل قوة بينها‪ .‬ويتضح من املخطط مركزية علوم‬
‫األعصاب واللسانيات وعلم النفس ضمن هذه الصالت بمختلف درجات ترابطها‪.‬‬
‫ويبني «ميلر»‪ -‬وهو أحد العلامء الذين قاموا بصياغة التقرير (‪ -)1‬سريورة تشكل‬
‫الطبيعة البينية للعلوم العرفانية وتداخلها العلمي‪ ،‬عىل نحو ما قال (‪« :)2‬كانت علوم‬
‫السيربناطيقا(‪ )3‬تستخدم املفاهيم التي طورهتا املعلوماتية لنمذجة وظائف الدماغ التي‬
‫كشف عنها علم األعصاب‪ .‬وبطريقة مماثلة‪ ،‬كان فرعا اللسانيات واملعلوماتية مرتبطني‬
‫من خالل اللسانيات احلاسوبية‪ .‬واتصلت اللسانيات بعلم النفس من خالل اللسانيات‬
‫النفسية‪ .‬وارتبطت األنثروبولوجيا بعلم األعصاب من خالل الدراسات املتعلقة بتطور‬
‫الدماغ‪ ،‬إىل آخر ذلك التشابك‪ .‬واليوم أعتقد أن كل الروابط اخلمسة عرش املمكنة قد‬
‫ٍ‬
‫أبحاث هلا وجاهتها‪ ،‬وأن الروابط األحد عرش التي رأيناها قائمة عام‬ ‫ُمثلت من خالل‬
‫‪ 1978‬قد تم تعزيزها»‪.‬‬

‫ثانيا ‪ -‬األسس العصبية العرفانية للمعجم الذهني‪:‬‬


‫الواجهة األساسية بني اللغة والذهن هي أننا نملك املعرفة ا ُمله ِّيئة للفهم الشامل؛ إذ‬
‫يوضح مبدأ التعاون التداويل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن رشيك املحادثة يعمل معك للحصول‬
‫شاكرا!‬
‫ً‬ ‫تفضلت بقراءة املذكرة أكون لك‬ ‫َ‬ ‫قلت لك‪ :‬إذا‬
‫عىل املعنى بصدق ووضوح‪ ،‬فإذا ُ‬

‫‪1- George Miller, Samuel Jay Keyser and Edward Walker.‬‬


‫وقد روجع التقرير من خالل جلنة أخرى خبرية‪ ،‬ومتخض عن برنامج للمنح العلمية جلامعات كثرية‪ُ ،‬يشرتط فيها‬
‫الطبيعة البينية للدراسات املقدمة‪ .‬وكانت إحدى هذه املنح لعامل األعصاب الشهري «مايكل جازانيجا»‪ ،‬ولكلية طب‬
‫«كورنيل» ‪ .Cornell‬وأصبح كثري من العلامء ‪ -‬منذ ذلك احلني‪ -‬قادرين عىل العمل ضمن أكثر من حقل معريف‪ ،‬كام‬
‫ازدهرت حلقات النقاش والندوات ‪ Colloquia and Symposia‬حول خمتلف القضايا العلمية ذات الصبغة أو‬
‫ذات الطبيعة البينية‪ .‬راجع‪.Miller, Ibid, P 143 :‬‬
‫‪2- Miller, Ibid, P 143.‬‬
‫‪ -3‬هو علم الرتابط بني اإلنسان واآللة‪ ،‬وموضوع السيربناطيقا هو دراسة السيطرة والرتابط واالتصال يف اإلنسان واآللة‪.‬‬
‫وجهت السيربناطيقا العلم والعامل وقضت عىل املنطق التحلييل‪ ،‬وأصبح تضافر العلوم وتكاملها مجيعا من الفيزياء‬ ‫ّ‬
‫والكيمياء وعلم األحياء وعلم النفس والعلوم االجتامعية ‪ ...‬إلخ‪ ،‬هو أساس املعرفة‪ .‬للتفاصيل‪ :‬عبد الرمحن طعمة‪:‬‬
‫البحث املعريف املعارص‪ ،‬نامذج من فلسفة اللغة وإبستمولوجيا العلوم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النابغة‪ ،‬طـ ‪ ،2018 ،1‬النموذج‬
‫األول من الكتاب‪.‬‬

‫‪-20-‬‬
‫مثل‬‫فهذه سلسلة من الكلامت التي تعني تداول ًّيا‪ ،‬وبام ال تقوله الكلامت‪ ،‬أنني أطلب ً‬
‫بأسلوب مهذب توقي ًعا من رئييس يف العمل‪ .‬وليس املقصود هنا يف سياق التحاور أن‬
‫يتفضل املخاطب بالنظر بعينه املجردة يف املذكرة‪ .‬هذا يدخل ضمن ما يمكننا أن نطلق‬
‫سألت‬
‫ُ‬ ‫عليه‪ :‬إضفاء الطابع التداويل عىل املعجم يف اللسانيات العرفانية‪ .‬ومثال آخر‪ ،‬إذا‬
‫فقلت‪ ،could you give me a hand? :‬فليس املقصود‬ ‫ُ‬ ‫شخصا باللغة اإلنكليزية‪،‬‬
‫ً‬
‫هنا هو املعنى الفيزيائي (أريد يدً ا)‪ ،‬بل إن املقصود هو أنني أريد املساعدة‪ .‬وهذا األمر‬
‫يفرس معظم كالم البرش‪ ،‬أعني أن البنية العرفانية للغة اإلنسانية تقوم عىل ما ُيسمى بـ‬
‫التصوري بني األشياء العينية يف العامل‪ ،‬من خالل االستعارات واملجازات والذكر‬ ‫ّ‬ ‫املزج‬
‫واحلذف ‪ ...‬إلخ‪ ،‬وعندما تدخل كل هذه املعرفة املتاحة عن الوجود‪ -‬عرفان ًّيا‪ -‬إىل‬
‫الدماغ‪ ،‬متتزج باملخزون العرفاين والوجداين العام‪ .‬فالفهم اللغوي للعامل‪ -‬إذن‪ -‬متفاعل‬
‫مع خمزون هائل من املعرفة البرشية التي تشمل السلوك اإلنساين والعالقات واخلربات‬
‫‪ ...‬إلخ؛ بحيث يكون لدينا تبادل عدد ال هنائي من األفكار من خالل استخدام عدد أو‬
‫جمموعة حمدودة من الرموز واألدوات الذهنية‪:‬‬

‫املعجم الذهني الشامل ‪ +‬منظومة القواعد ‪ +‬اإلطار التداويل‬


‫َ‬
‫للعال‪:‬‬ ‫األصول العرفانية للتم ُّثل الذهني‬
‫حيسن إغفاله هبذا اخلصوص؛ حيث يرى أن «املعاين هي‬ ‫طرح ال ُ‬
‫حلازم القرطاجني ٌ‬
‫خارج‬
‫َ‬ ‫الصور احلاصل ُة يف األذهان عن األشياء املوجودة يف األعيان؛ فكل يشء له وجو ٌد‬
‫ُ‬
‫در َك حصلت له صور ٌة يف الذهن تُطابق ما ُأ ِ‬
‫در َك منه‪ ،‬فإذا عرب عن تلك‬ ‫الذهن فإنه إذا ُأ ِ‬
‫املعب به هيئ َة تلك الصورة الذهنية يف‬ ‫ُ‬
‫اللفظ َّ ُ‬ ‫الصورة الذهنية احلاصلة عن اإلدراك أقام‬
‫آخر من جهة داللة األلفاظ»(‪ .)1‬وهذا‬ ‫أفهام السامعني وأذهاهنم؛ فصار للمعنى وجو ٌد ُ‬
‫نص جد خطري‪ ،‬حيمل رؤية عرفانية كبرية‪ ،‬ربام نجد شبها هلا عند غريه من العلامء‪،‬‬

‫‪ -1‬أبو احلسن حازم القرطاجني (‪1386 - 1211‬م)‪ :‬منهاج البلغاء ورساج األدباء‪ ،‬تقديم وحتقيق حممد احلبيب ابن‬
‫اخلوجة‪ ،‬تونس‪ ،‬دار الكتب الرشقية‪ ،‬طـ ‪ ،1966 ،1‬ص ‪.169‬‬

‫‪-21-‬‬
‫مثل الغزايل(‪ ،)1‬مما ال جمال لتفصيله هنا‪ ،‬لكن القرطاجني قد َف َّصل وأفاض؛ إذ انصب‬
‫اهتاممه عىل كيفية تشكيل الصورة وطريقة انتظامها؛ حيث حتمل الصورة عنده معنى‬
‫درك حيس غري موجود يف اإلدراك املبارش‪ ،‬ومن ثم تصبح الصورة‬ ‫االستعادة الذهنية ُمل َ‬
‫عنده ذلك االسرتجاع الذهني والتذكر للخربات احلسية البعيدة عن اإلدراك املبارش‪،‬‬
‫الذي ُيثار يف خميلة املتلقي عن طريق املنبهات اللفظية احلاصلة يف الفعل اللغوي األديب‪،‬‬
‫ويؤكد ذلك قوله‪« :‬وحمصول األقاويل الشعرية تصوير األشياء احلاصلة يف الوجود‬
‫ومتثيلها يف األذهان عىل ما هي عليه خارج األذهان (عامل األعيان) من حسن أو قبح‬
‫حقيقة»(‪ .)2‬فامدة املعنى إذن هي الطبيعة اخلارجية املنطبعة يف ذهن اإلنسان‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫كالم اإلنسان هو صدً ى ُمعدَّ ل هلذه احلقائق الواقعية‪ ،‬ال ُيشرتط معه التطابق‪.‬‬
‫مدار النظر هبذا التوجه هو مسألة الرتتيب بني (املوجودات) و(املعاين) و(الصور)‬
‫احلاصلة عن تلك املوجودات داخل املعجم الذهني؛ باألخذ يف احلسبان أن «البحث‬
‫يف موضوع املعاين يفرتض سل ًفا هذا الوجود‪ ،‬بقطع النظر عن النقاش الذي يمكن‬
‫أن يثريه ذلك الوجود ذاته»(‪ .)3‬فاملرتبة األوىل لألشياء‪ ،‬واملرتبة الثانية للصور التي هي‬
‫تحصلة عن التعقل والتفهم واإلدراك (االشتغال‬ ‫املعاين‪ ،‬وهذه ليست أصلية‪ ،‬وإنام ُم َّ‬
‫الذهني العام)‪ .‬واألمر شبيه بام طرحه ابن سينا؛ فالصورة عند ابن سينا هي اليشء الذي‬
‫احلس الظاهر يدركه ً‬
‫أول ويؤديه إىل‬ ‫واحلس الظاهر معا‪ ،‬لكن ّ‬ ‫ّ‬ ‫تدركه النفس الباطنة‬
‫النفس‪ ،‬وذاك جيعلنا نفهم أن املعنى ليس هو اليشء ذاته‪ ،‬كام أوضح القرطاجني يف‬
‫دركَات عىل املحسوسات‪،‬‬ ‫ورسم حتصل عنه بالتجريد وبناء ا ُمل َ‬‫ٌ‬ ‫النص‪ ،‬بل هو صور ٌة‬‫ّ‬
‫بحيث ال نجد هناك تطاب ًقا‪ ،‬ألن التطابق ال يكون بني املوجودات واملعاين احلاصلة عنها‬

‫‪ُ -1‬ينسب إىل اإلمام الغزايل قوله‪« :‬اعلموا أن كل يشء يف هذا الوجود له أربع مراتب»‪:‬‬
‫وجود يف األعيان‪ ،‬ووجود يف األذهان‪ ،‬ووجود يف اللسان‪ ،‬ووجود يف البياض املكتوب عليه؛ كالنـار ً‬
‫مثل‪ ،‬فإن هلا‬
‫العلم بنفس النار وحقيقتها‪ ،‬وهلا وجود يف‬
‫َ‬ ‫وجـو ًدا يف التنور‪ ،‬ووجو ًدا يف اخليال والذهن‪ ،‬وهو الوجود الذي يعني‬
‫اللسان‪ ،‬هو الكلمة الدالة عليها؛ أي لفظ النار‪ ،‬وهلا وجود يف البياض املكتوب عليه بالرقوم‪ .‬و(اإلحراق) هو الصفة‬
‫اخلاصة هبذه النار‪.‬‬
‫راجع إحياء علوم الدين للغزايل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار القلم‪ ،‬طـ ‪ ،3‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪.229‬‬
‫أيضا فاتن فاضل وأمل الرشع‪« :‬أصول ظاهرة التالحق عند القدماء»‪ ،‬جملة جامعة بابل‬
‫‪ -2‬املنهاج‪ ،‬ص ‪ .120‬وراجع ً‬
‫للعلوم اإلنسانية‪ ،‬املجلد ‪ ،23‬العدد ‪ ،2015 ،3‬ص ص ‪.1122-1121‬‬
‫‪ -3‬محادي صمود‪« :‬نظرية املعنى يف الرتاث العريب وأثرها يف فهم وظيفة الصورة»‪ ،‬ضمن كتاب يف نظرية األدب عند‬
‫العرب‪ ،‬جدة‪ ،‬النادي األديب الثقايف بجدة‪ ،‬طـ ‪ ،1990 ،1‬ص ‪.21‬‬

‫‪-22-‬‬
‫بإطالق أو بالرضورة‪ ،‬إنام التطابق حيصل بني املعاين وما ُأ ِ‬
‫در َك من تلك املوجودات(‪،)1‬‬
‫تأمل املخطط اآليت‪:‬‬

‫إن السمة اخلاصة جدًّ ا باللغة اإلنسانية هي الرتميز (‪)Symbolization‬؛ فالبرش‬


‫لدهيم قدرة عىل استعامل يشء لتمثيل يشء آخر أو تصويره أو التعبري عنه أو الرمز له‪،‬‬
‫ويمكننا مالحظة سيطرة اللغة عىل الواقع املؤسيس الذي نعيشه من خالل ما أسامه‬
‫سريل (مؤرشات الوضع) من مثل خاتم الزواج والزي الرسمي والشارات وجوازات‬
‫السفر ورخص القيادة ‪ ...‬إلخ‪ ،‬فكل هذه األمثلة لغوية‪ ،‬حتى إن كانت ال تَستعمل‬
‫الكلامت (‪)2‬؛ فلبس خاتم الزواج هو فعل كالمي مقبول‪ُ -‬عر ًفا‪ -‬يثري مفهو ًما اجتامع ًّيا‬
‫رشطي‪ ،‬وإظهار جواز سفر‬ ‫ّ‬ ‫مألو ًفا‪ ،‬مفاده‪ :‬أنا متزوج‪ .‬وارتداء زي الرشطة كذلك‪ :‬أنا‬
‫سليم يف املطار من دون أن تكون حتى عىل معرفة بلغة الفاحص هو رسالة لغوية بني‬
‫عقلني واعيني يقول أحدها‪ :‬إين مسافر إىل هنا و َي ُر ُّد اآلخر‪ :‬تفضل أوراقك سليمة‪،‬‬
‫وربام مل ينطق أي منهام ببنت شفة! هذا ما نتحدث عنه دوما حول بناء النامذج اإلدراكية‬

‫‪ -1‬للتفاصيل‪ :‬محادي صمود‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 21‬وما بعدها‪ .‬وللمزيد من املناقشات واألطروحات‪ ،‬عبد الرمحن‬
‫طعمة‪ :‬البناء الذهني للمفاهيم‪ ،‬بحث يف تكامل علوم اللسان وآليات العرفان‪ّ ،‬‬
‫عمن‪ ،‬دار كنوز املعرفة‪ ،‬طـ ‪.2019 ،1‬‬
‫‪ -2‬جون سريل‪ :‬العقل واللغة واملجتمع‪ ،‬الفلسفة يف العامل الواقعي‪ ،‬ترمجة صالح إسامعيل‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬العدد ‪ ،2006 ،1812‬ص ‪ .190‬وانظر كذلك سوزان شنايدر‪ :‬اخليال العلمي والفلسفة‪ ،‬من السفر عرب‬
‫الزمن إىل الذكاء الفائق‪ ،‬ترمجة عزت عامر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪ ،2011 ،‬الفقرة (‪ :)1-2‬املخ آلة نحوية‬
‫تقود آلة داللية‪ ،‬ص ‪ ،228‬حيث أشارت إىل التحليل احلاسويب للعمليات العصبية التفكيكية للمخ وكيفية اإلفادة‬
‫منها يف بناء نموذج روبوت عاقل يمكنه الرتميز وفك الرتميز اللغوي إلنشاء نوع من التواصل‪.‬‬

‫‪-23-‬‬
‫العرفانية داخل املخ وقدرة الدماغ عىل التخمني والتنبؤ والتوقع ‪ ...‬إلخ‪ ،‬وف ًقا ملطاطيته‬
‫غري املحدودة‪ .‬وقد اجته الباحثون اآلن يف العلوم العرفانية إىل النظر للذهن عىل أنه‬
‫صورة من صور الربامج املعلوماتية‪ ،‬ومن ذلك التصور القالبي(‪ )1‬للغة‪ ،‬الذي يرى‬
‫أن مكوناهتا اللسانية ووحداهتا منفصلة وتعمل بالتسلسل‪ ،‬الواحدة تلو األخرى يف‬
‫الدماغ‪ ،‬ما يسمح لنا من خالل التطوير بالوصول إىل نموذج صناعي ذكي‪ُ ،‬يضع‬
‫السريورات العقلية ل ُّلغة ملفاهيم فسيولوجيا األعصاب التطبيقية‪ ،‬لتقديم نموذج‬
‫إرشادي (‪ )Paradigm‬واع بمنظومة اللغة‪ ،‬من خالل سلسلة للتمثل الرمزي يف‬
‫هندسة عصبية لسانية موازية‪ ،‬عىل نحو (‪:)2‬‬
‫ ‪-‬يتكون العامل من أشياء ومن حاالت هذه األشياء‪.‬‬
‫ ‪-‬املعارف عبارة عن متثالت رمزية لألشياء وحاالهتا‪.‬‬
‫ ‪-‬تتحدد مهمة الذكاء الصناعي والسيكولوجيا واللسانيات يف إنشاء التمثالت‬
‫الرمزية اخلاصة باملعارف‪ ،‬وبالكيفية التي يمكن عن طريقها االشتغال حول‬
‫هذه التمثالت‪.‬‬
‫وال يكتمل النموذج بالرتميز وحسب‪ ،‬بل ال بد من االقرتان بإدراك كنه األشياء‪،‬‬
‫وهو أمر ليس لسان ًّيا فحسب‪ ،‬بل هو مرتبط بالزمان واملكان والقصد ‪ ...‬إلخ‪ ،‬ألن‬
‫إدراك أي ظاهرة يتوقف عىل حميطها املكاين وحيزها الزماين وتوجهها ‪ ...‬إلخ(‪.)3‬‬

‫ٍ‬
‫اختالف بينهام‪ .‬ويرشح صاحب‬ ‫املنظومي (‪ )modular‬يقول به كل من فودور وتشومسكي‪ ،‬عىل‬ ‫التصور القالبي أو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪-1‬‬
‫التصور القالبي ل ّلغة‪ ،‬عىل النحو اآليت‪« :‬يستطيع الطفل بطريقة ما من الطرق أن ينتقي من حميطه‬
‫ّ‬ ‫االجتاه التوليدي‬
‫رأسا إىل حيازة اللغة الباطنية التي يستطيع بعد‬
‫األجزاء التي تكون واردة من اجلهة اللغوية ويعاجلها بكيفية تقوده ً‬
‫قالب دخل‪ ،‬بل قالب اكتساب‪ .‬إنه يتفاعل مع القوالب األخرى ومع‬ ‫َ‬ ‫ذلك أن يستعملها‪ .‬فهذا قالب‪ .‬إنه ليس‬
‫مكونات النسق املعريف األخرى عىل النحو نفسه تقري ًبا الذي يتفاعل به الكبد والكُلية واجلهاز اهلضمي والدورة‬
‫نقل عن‪« :‬مفهوم القالبية لدى فودور ونعوم تشومسكي»‪ ،‬موقع‬ ‫الدموية للوصول إىل اشتغال البدن ُبر ّمته بوجه عام‪ً .‬‬
‫أكاديمية علم النفس‪ ،‬الرابط‪https://acofps.com/vb/65766.html :‬‬
‫‪-2‬للتفاصيل‪ ،‬البناء الذهني للمفاهيم‪ ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪ -3‬عاجلنا هذه القضايا يف بحث‪« :‬ميكانيزمات اإلدراك يف العقل البرشي‪ :‬دراسة يف أساسيات اللغة والوعي من منظور‬
‫تكنو – عصبي»‪ ،‬املجلس الدويل للغة العربية‪ ،‬مؤمتر اللغة العربية الرابع‪ ،‬ديب‪ ،‬املجلد (‪ ،2015 ،)9‬ص ص ‪.55 – 39‬‬

‫‪-24-‬‬
‫املقاربات النظرية حول بنائية املعجم الذهني‪:‬‬
‫لساين‪:‬‬
‫ٌّ‬ ‫وآخر مت ُّث ٌّيل‬
‫ُ‬ ‫ذهني‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫عصبي‬
‫ٌّ‬ ‫أ‪ -‬املعجم الذهني له بعدان أساسيان‪ :‬بعدٌ‬
‫• عصب ًّيا وأنطولوج ًّيا (مستوى البنية الداخلية) = جمموعة واسعة من التمثيالت‬
‫التي يمتلكها املتكلم لكلامت لغته‪ ،‬وتتنوع هذه التمثيالت بني‪ :‬متثيل صويت‪،‬‬
‫إىل متثيل خطي إمالئي (‪ ،)Graphological‬فتمثيل مورفولوجي‪ ،‬ثم متثيل‬
‫نحوي‪ ،‬وانتهاء بالتمثيل الداليل‪.‬‬
‫• لسان ًّيا (مستوى التحقق التواصيل) = جمموع الوحدات الدنيا‪ ‬التي تدل عىل‬
‫معنى ما فيام يمتلكه الفرد من خمزونه‪ ،‬سواء و َّظفها يف أثناء عملية التوليد‬
‫(املعجم التعبريي)‪ ،‬أو يف أثناء التحليل (معجم التلقي)‪.‬‬
‫وتتعدد درجة تعقيد هذه الوحدات من‪ :‬مورفيامت معجمية ونحوية‪ ،‬إىل توليفات‬
‫من اللكسيامت (‪ ...)Lexemes‬إلخ(‪ .)1‬‬
‫وتشري التقديرات التجريبية إىل أن املتحدث البالغ العادي ألي لغة برشية َيعرف‬
‫بالتقريب حوايل ‪ 75000‬كلمة‪ ،‬وأن معجمه التعبريي يضم ما يقارب ‪ 60000‬كلمة‪.‬‬
‫ُينتج املتحدث العادي يف املتوسط ثلثي الكلمة يف الثانية؛ وهو ما يعني‪ :‬من ‪ 100‬إىل‬
‫نادرا ما‬
‫‪ 200‬كلمة يف الدقيقة‪ ،‬مع نسبة ضئيلة من اخلطأ تُقدَّ ر بحوايل ‪ ،1000/1‬فهو ً‬
‫جيد صعوبة يف الوصول إىل خمزونه املعجمي‪ ،‬والذي يستقر بشكل ملحوظ يف حدود‬
‫‪ 25‬سنة من عمر الشخص(‪.)2‬‬

‫‪1- Clark, E: The lexicon in acquisition, Cambridge University Press, 1993, p 69.‬‬
‫‪2- Wingfield, A, Alexander, A.H. & Cavigelli, S: "Does memory constrain utilization of top-‬‬
‫‪down information in spoken word recognition? Evidence from normal aging", Language‬‬
‫‪and Speech, Vol 37, Issue 3, 1994, Pp 221-235.‬‬

‫‪-25-‬‬
‫واخلطاطة املرفقة توضح بعض اآلليات اخلاصة ببناء التمثيالت ذهن ًّيا‪:‬‬

‫حملل املفاهيم والتصورات‬

‫التحليل الداللي‬
‫الم ِ‬
‫عادل‬ ‫ُ‬
‫الترميز النحوي‬ ‫التحليل التركيبي‬
‫المعجم‬
‫الترميز الصوتي‬
‫تعرف الكلمة‬
‫ّ‬

‫الم َ‬
‫صوت المفصلي‬ ‫ُ‬ ‫تعرف الصوت أو الحرف‬
‫ّ‬

‫ويمكن توضيح درجة هذه التم ُّثالت بصورة لسانية باملخطط اآليت‪:‬‬
‫املخطط يبني اآللية احلاسوبية التي تشبه ما يقوم به الدماغ من عمليات تفسريية‬
‫للحدث االتصايل يف أجزاء من الثانية ضمن املعجم الذهني وميكانيزماته التوليدية‬
‫اهلائلة؛ فهذا نموذج مفرتض‪ ،‬أو مقرتح ملخطط سريورة عمليات التوالد الذايت يف‬
‫النظام املعجمي التواصيل‪:‬‬

‫‪-26-‬‬
-27-
‫ويف لغة اإلنسان (املتنوعة األلسن)‪ ،‬تقيم الكلامت فيام بينها أنوا ًعا من العالقات‬
‫الرتكيبية‪:‬‬
‫• عالقات معنوية‪ :‬وهي العالقات الداللية املمكنة‪.‬‬
‫• عالقات شكلية‪ :‬وهي العالقات الرصفية (املورفولوجية)‪.‬‬
‫• عالقات وظيفية‪ :‬حيث ترتبط الكلامت فيام بينها بعالقات نحوية‪.‬‬
‫باإلضافة إىل الظواهر الصوتية (الفونولوجية)‪ ،‬التي تنشأ يف تركيب املقاطع‪ ،‬ألجل‬
‫تكوين الكلامت‪ ،‬أو التي تنشأ بني سلسلة الكلامت املتتالية‪ .‬ويتفاعل اجلميع ألجل‬
‫التوافق مع البنية التصورية العرفانية؛ فالدماغ ُير ّمز ويشكل وخيلق ويسد الفجوات‬
‫‪ ...‬إلخ‪ ،‬بنا ًء عىل معاجلة املتعينات يف حيز الوجود‪ ،‬ومن خالل ما لديه من معطيات‬
‫احلروف وقوالب الرتميز‪ ،‬حمكو ًما بالربنامج اجليني التطوري‪.‬‬

‫‪-28-‬‬
‫ب‪ -‬املعاجلة العصبية للمدخالت السمعية يف نظام املعجم الذهني‪:‬‬
‫ُينقل الصوت إىل املسالك العصبية السمعية املركزية عىل شكل موجة منتقلة‬
‫تتكون عىل الغشاء القاعدي لقوقعة األذن (‪ ،)cochlea‬حيث يكون الغشاء القاعدي‬
‫للقوقعة أضيق منه يف قمتها (‪ .)1‬وموجة الضغط ذات الرتدد املحدد تسبب اهتزازا‬
‫للغشاء القاعدي بدرجة قصوى عند نقطة حمددة عىل امتداد الغشاء‪ ،‬فتنشأ شحنات‬
‫كهربائية للخاليا املشعرة (‪ )hairy cells‬ترسل النبضات الكهربائية عرب خاليا العصب‬
‫السمعي‪ ،‬وتنطلق نحو اجلهاز العصبي السمعي املركزي‪ .‬وهناك عضو سمعي يسمى‬
‫حملل لرتددات الصوت‪ ،‬وهو منظم بحسب الرتددات؛‬ ‫«كوريت» (‪ )Corti‬يعمل بوصفه ً‬
‫بمعنى أن الرتددات العالية تنبه اخلاليا املشعرة يف أدنى مستوى قاعدي من القوقعة‪،‬‬
‫حيث الغشاء القاعدي أضيق ما يكون‪ ،‬بينام تنبه الرتددات املنخفضة أجزاء الغشاء عند‬
‫القمة‪ ،‬لذلك فإن متييز الرتدد يعتمد عىل تردد النغمة‪ ،‬وعىل االستجابة املكانية للغشاء‬
‫القاعدي‪ .‬ويعتمد متييز الشدة عىل طول الغشاء القاعدي‪ ،‬الذي يبدأ بالتحرك وعىل‬
‫مدى االهتزاز‪.‬‬
‫أما حتديد موقع مصدر الصوت فيعتمد عىل املقارنة بني وقت وصول الصوت‬
‫وشدته يف كلتا األذنني‪ .‬ومعروف ترشحي ًّيا أن القرشة الصدغية يف الثدييات واإلنسان‬
‫غري مهمة لتمييز الصوت البسيط‪ ،‬غري أهنا أساسية ألجل حتديد موقع الصوت ومتييز‬
‫التغريات يف التسلسل الزمني لألصوات‪ ،‬وهذا التسلسل الزمني هو وظيفة سمعية‬
‫عرفانية عليا بالغة األمهية‪ ،‬إذ إهنا متثل جان ًبا ً‬
‫مهم جدًّ ا للنطق‪ ،‬وهلا تأثري كبري يف ترمجة‬
‫ما تراه العني‪ ،‬كام سنوضح يف فقرة فرضية وهم املعرفة‪ .‬وحيتاج التسلسل الزمني إىل‬
‫النوى القوقعية (‪ )cochlear nuclei‬والنوى الركبية اإلنسية‪ ،‬والقرشة السمعية‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من وجود تنظيم متناغم جدًّ ا يف النوى العصبية السمعية املركزية مجيعها‪ ،‬فإن‬
‫هذه النوى ال تُستخدم لتمييز النغامت أو الرتددات املختلفة‪ ،‬بل لتحليل الكثري من‬
‫اخلصائص السمعية للصوت املسموع‪.‬‬

‫‪ -1‬ملجمل التفاصيل حول هذه املسألة‪ ،‬انظر‪ ،‬رسل لوف‪ ،‬واندا ويب‪ :‬علم األعصاب للمختصني يف عالج أمراض اللغة‬
‫والنطق‪ ،‬ترمجة حممد زياد كبة‪ ،‬جامعة امللك سعود‪ ،‬الرياض‪ ،‬طـ ‪ ،2010 ،1‬ص ‪ 150‬وما بعدها‪ .‬وراجع املصدر األصيل‪:‬‬
‫‪Wanda G. Webb: Neurology for the Speech-Language Pathologist, Elsevier, 6th ed, 2017, p 97-… .‬‬

‫‪-29-‬‬
‫واملخططات اآلتية توضح هذا املسار العصبي الشديد األمهية بالنسبة إىل حاسة‬
‫السمع (‪:)1‬‬

‫أما مرحلة معاجلة الكالم املسموع عند أفراد اإلنسان ضمن حلقة التواصل فلها‬
‫مقاربات كثرية وفوق احلرص‪ ،‬لكنني سأقدم هنا أهم ما أراه مرتب ًطا بالقضايا األساسية‬
‫للمعجم الذهني‪ .‬تقرتح املقاربة العامة أن املعاجلة اخلاصة باللغة يف الدماغ تُستهل من‬
‫خالل اكتشاف الوحدات الصوتية للكالم (الفونيامت)‪ ،‬ثم ترميزها ‪ ،coding‬من ثم‬

‫‪ -1‬واندا ويب‪ :‬علم األعصاب‪ ،‬السابق‪ ،‬ص ‪Wanda Webb: Ibid, p 98.151‬‬

‫‪-30-‬‬
‫حيدث االنتقال إىل التوليفات املمكنة ‪ combinations‬عىل مستوى الوحدات الكتابية‬
‫(اجلرافيامت)‪ ،‬أو ما نعرفه بـ (الكلامت)‪ ،‬وهنا يبدأ مستوى (املعجم)‪ .‬ثم تبدأ مراحل‬
‫فك الشفرات الرمزية ‪ decoding‬وإعادة الرتميز والبناء عند املتلقي‪ ،‬حيث يتم تبادل‬
‫املخزون املفاهيمي والثقايف ‪ ...‬إلخ‪ ،‬وهذه هي (املرحلة الداللية)‪ ،‬وهي املرحلة التي‬
‫تُف َّعل من خالل الرتاكيب احلاملة للمعنى يف حدث التواصل بني أفراد بني اإلنسان‬
‫(املرحلة التعبريية) بصورتيها‪ :‬املنطوقة واملكتوبة‪ .‬والنموذج اآليت يوضح هذه املسألة (‪:)1‬‬

‫(نموذج خمطط املعاجلة العصبية املفرداتية وفقا لـ «لورا جولدشتاين» و«جني ماكنيل»‪ ،‬عام ‪)2004‬‬

‫‪1- Laura H. Goldstein, Jane E. McNeil: Clinical Neuropsychology, A Practical guide to‬‬
‫‪Assessment and Management for Clinicians, Wiley Publications, London, 1sted, 2004, p-p‬‬
‫‪167-168.‬‬

‫‪-31-‬‬
‫النظام الداليل املركزي بالنموذج املوضح ُيطلق عليه أحيانًا (النظام العرفاين) الذي‬
‫جلمل املعقدة‪،‬‬‫يمثل (الصندوق األسود) للعمليات التفسريية‪ ،‬التي تشمل معاجلة ا ُ‬
‫والتفكري‪ ،‬وجتنب عرقلة املثريات البرصية للمثريات السمعية يف أثناء املعاجلة الداللية‬
‫العامة ‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫ثال ًثا ‪ -‬مقاربة فرضية االقتصاد اللساين الذهني وداللية التعبري يف اللغة‪:‬‬
‫• أمثلة من خصائص اللغة العربية تبني ارتباط آلية االقتصاد الذهني املفاهيمي‬
‫بالتعبري اللفظي اللساين‪:‬‬
‫خصوصا‪ -‬غنية عىل املستوى اللفظي والرتكيبي هبذا االقتصاد املميز‬
‫ً‬ ‫اللغة العربية‪-‬‬
‫لطبيعة العمل الذهني عمو ًما‪ ،‬مقارن ًة بغريها من األلسن‪ ،‬فمن مظاهر االقتصاد اللساين‬
‫يف العربية االختصار يف التعبري عن الداللة املرتبطة باملفاهيم الذهنية‪ ،‬وسأكتفي هنا‬
‫بمثالني‪:‬‬

‫أ‪ -‬قضية حروف املعاين‪:‬‬


‫حروف املعاين من أوضح نامذج االختصار يف األلسن عا ّمة ويف اللسان العريب‬
‫خاص‪ ،‬ألهنا نائبة عن غريها من األفعال (‪ ،)1‬ومثاهلا حروف العطف‪ ،‬يقول‬ ‫ّ‬ ‫بشكل‬
‫لرضب من االختصار» ويقول‪« :‬من االختصار‬ ‫ٍ‬ ‫السيوطي‪« :‬احلروف دخلت الكالم‬
‫ُ‬
‫مباحث شتى‬ ‫ألن حروفه ُوضعت لإلغناء عن إعادة العامل‪ )2(».‬وهناك‬ ‫باب العطف‪َّ ،‬‬
‫أكمل أحوال احلروف يف‬ ‫أن َ‬ ‫لبحث إعجاز احلرف العريب‪ ،‬لكنني أكتفي باإلشارة إىل َّ‬
‫ٍ‬
‫حمذوفة؛‬ ‫ٍ‬
‫مزيدة وال‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬وهو من خصائصها التكوينية املميزة‪ ،‬أن تُستعمل غري‬
‫فأما وجه القياس يف امتناع حذفها َف ِمن ِق َب ِل أن الغرض يف احلروف إنام هو االختصار؛‬
‫لت‪:‬‬‫كام يف قولك‪ :‬ما قام زيد‪ ،‬فقد نابت (ما) عن ( َأ ِنفي) وهي مجلة فعل وفاعل‪ ،‬وإذا ُق َ‬
‫(أستفهم)؛ فوقوع احلرف مقام الفعل وفاعله هو‬ ‫ِ‬ ‫هل قام زيد؟ فقد نابت (هل) عن‬
‫لت‪ :‬قام القو ُم إال زيدً ا‪ ،‬فقد نابت‬‫غاية االختصار للتعبري عام جيول يف الذهن‪ ،‬وإذا ُق َ‬

‫‪ -1‬جالل الدين السيوطي‪ :‬األشباه والنظائر‪ ،‬حتقيق عبد العال سامل مكرم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬طـ ‪.52/1 ،2003 ،3‬‬
‫‪ -2‬األشباه والنظائر‪.52/1 ،‬‬

‫‪-32-‬‬
‫لت‪ :‬قام زيد وعمرو‪ ،‬فقد نابت (الواو)‬ ‫(إال) عن (أستثني)‪ ،‬وهي فعل وفاعل‪ ،‬وإذا ُق َ‬
‫مال‪ ،‬فقد نابت (ليت) عن (أمتنى)‪ ،‬ولو ذهبت حتذف‬ ‫(أعطف)‪ ،‬وإذا قلت‪ :‬ليت يل ً‬ ‫ُ‬ ‫عن‬
‫ِ‬ ‫َص إِ ْج َح ٌ‬
‫اف بِه‪ ،‬فهذا وج ٌه‪ ،‬و َأما‬ ‫اختصار ا ُملخْ ت َ ِ‬ ‫ألن‬
‫ألفرطت يف اإلجياز‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫احلرف ختفي ًفا‬
‫َ‬
‫أن الغرض يف احلروف االختصار ‪ ،‬كام تقدم‪ ،‬فلو ذهبت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ْج ُه ضعف زيادهتا فمن ق َب ِل َّ‬
‫لنقضت الغرض(‪)1‬؛ فتنوع احلروف يف العربية إنام كان لغرض عرفاين ذهني مهم‬ ‫َ‬ ‫تزيدها‬
‫هو اإلجياز واالختصار‪ ،‬وهو النيابة عن األفعال؛ لتفيد فائدهتا‪ ،‬مع إجياز اللفظ‪ ،‬وهذا‬
‫اإلجياز هو آلية ذهنية يقوم هبا الدماغ عىل الدوام‪.‬‬

‫ب‪ -‬إقامة املفرد مقام اجلمع والنكرة مقام املعرفة يف اللغة العربية‪:‬‬
‫وهو نموذج آخر ملثل هذا النوع من االلتفات القائم عىل االقتصاد واالختصار‪،‬‬
‫و ُيعدُّ من الظواهر امللحوظة التي أقام هلا النحاة واللسانيون أبوا ًبا يف كتبهم ودراساهتم‬
‫كثريا يف القرآن الكريم؛ من ذلك‬ ‫لإلعجاز الرتكيبي للعربية‪ ،‬وقد وردت هذه الظاهرة ً‬
‫﴿وإِ ْن ت ُِص ْب ُه ْم َس ِّي َئ ٌة﴾‪( ‬الشورى‪ .)48 :‬ومنه قوله تعاىل‪ُ ﴿ :‬ث َّم ُي ِْر ُجك ُْم‬ ‫قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫وره﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أطفال‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬لت َْست َُووا َع َل ُظ ُه ِ‬ ‫ً‬ ‫طِ ْفال﴾ (الزخرف‪)13 :‬؛ أي‪:‬‬
‫(غافر‪)67 :‬؛‪ ‬حيث يقول ال َف َّرا ُء‪« :‬يقول القائل‪ :‬كيف قال (عىل ظهوره) فأضاف الظهور‬
‫(‪)2‬‬
‫إىل واحد؟ ُيقال‪ :‬إن ذلك الواحد يف معنى (مجيع) بمنزلة اجلند واجليش واجلمع‪».‬‬
‫ومنه قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ ْن ك ُُّل من ِف السمو ِ‬
‫ح ِن َع ْبدً ا‪َ  * ‬ل َقدْ‬
‫الر ْ َ‬ ‫ض إِال ِآت َّ‬ ‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫اه ْم َوعَدَّ ُه ْم عَدًّ ا﴾ (مريم‪)94 -93 :‬؛ فقد جاء قوله تعاىل (العبد) بمعنى (العبيد)‬ ‫َأ ْح َص ُ‬
‫أن اللفظ يقتيض أن يكون للجمع ال للمفرد‪ ،‬خاصة‬ ‫فسياق اآلية ُّ‬
‫يدل عىل َّ‬ ‫ُ‬ ‫أو(العباد)‪،‬‬
‫عر ُض اخلالئق عىل اهلل عز وجل‬ ‫أن اآليات ت َُص ِّو ُر َم ْش َهدً ا من مشاهد يوم القيامة‪ ،‬حني ُي َ‬‫َّ‬
‫ب عن هذا اجلمع‬ ‫يف عرصات القيامة ؛ َف ُه ْم إذن ٌ‬
‫كثري‪ ،‬فلامذا آثر سبحانه وتعاىل أن ُي َع ِّ َ‬
‫(‪)3‬‬

‫بني‬
‫بلفظ (عبدً ا) املفرد؟ وقد حاول عيل النجدي ناصف‪ -‬حمقق معاين القرآن‪ -‬أن ُي َ‬
‫أن‪« :‬لفظ‬ ‫ذلك ويكشف الداللة يف التعبري بلفظ املفرد (عبدً ا) بدال من اجلمع‪ ،‬فذكر َّ‬

‫‪ -1‬راجع للتفاصيل‪ ،‬ابن جني‪ :‬اخلصائص‪ ،‬حتقيق حممد عيل النجار‪ ،‬ط ‪ 108/3 ،2006 ،1‬وما حوهلا‪.‬‬
‫‪ -2‬الفراء‪ :‬معاين القرآن‪ ،‬حتقيق عبد الفتاح شلبي‪ ،‬وعيل النجدي ناصف‪ ،‬ط ‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬اهليئة املرصية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪.28/3 ،2001‬‬
‫‪ -3‬ا ْل َع َر َص ُ‬
‫ات هي كل أرض واسعة ال بناء فيها‪ ،‬واملقصود هنا أرض املحرش واحلساب يف مواقف يوم القيامة‪.‬‬

‫‪-33-‬‬
‫هيب من مشاهد اآلخرة‪ ،‬مشهد ال‬ ‫ٍ‬
‫مشهد َم ٍ‬ ‫ف َخ ِف ٍّي إىل‬‫العبد يف اآليات يومئ من طر ٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫كاملشاهد وال الناس فيه كالناس‪ ،‬فا ُمللك يومئذ هلل الواحد القهار‪ ،‬وكل من يف الساموات‬
‫كأنم و ِ‬
‫احدٌ ُم َتك َِّر ٌر‬ ‫واألرض خاشع مقهور‪ ،‬والناس بني يدي اهلل أشباه متساوون‪ ،‬حتى َ َّ ُ ْ َ‬
‫والر ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫احدٌ يف ِّ َ ِ‬ ‫المَه ‪ ...‬نعم‪َ ،‬فالنَّاس ُك ُّلهم و ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫االتاه إىل اهلل‪ ،‬واخلوف ُّ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َذا ُت ُه َو َتت ََو َّحدُ َم ُ‬
‫واخللجات؛‬
‫ُ‬ ‫والس َم ُت‪ ،‬وتوافقت املشاعر‬
‫املالمح ِّ‬
‫ُ‬ ‫ار َو ُذ ُه ْو ِلَا‪ ،‬فتشاهبت‬ ‫وخشو ِع األ ْب َص ِ‬
‫اجلمع يف هيئة الفرد‪ ،‬ويرتدى البعيد يف القريب‪ ،‬وما كان ذلك كله ليكون‬ ‫ُ‬ ‫حتى ل َيت ََم َّث َل‬
‫لوال وضع (العبد) بلفظه املفرد مكان (العباد أو العبيد) أو غريمها من مجوع‪ )1(».‬وكلها‬
‫للمخرج اللفظي احلامل للمدلول الذهني الذي يفكر فيه اإلنسان يف‬ ‫تأويالت مقبولة ُ‬
‫خضم التفاعل الدائم بني الرمز التعبريي والصورة املفاهيمية املحمولة داخل الذهن‬
‫خب عنه ‪ ...‬إلخ(‪.)2‬‬ ‫البرشي عن الواقع واخليال وا ُمل َ‬
‫هذه هي اخلصوصية اجلوهرية للغة العربية‪ .‬وبرأيي فإن هناك لفت ًة مهم ًة من السنة‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫النبوية‪ ،‬فقد روى البخاري رمحه اهلل عن أيب هريرة ريض اهلل عنه قال‪:‬‬
‫نائم ُأتِ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صىل اهلل عليه وسلم يقول‪ُ « :‬ب ِع ُ‬
‫يت‬ ‫بالرعب‪ ،‬وبينا أنا ٌ‬ ‫ثت بجوام ِع الكَلم‪ ،‬ونُص ُت ُّ‬
‫ب‬ ‫بالر ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫خزائن األرض؛ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فوض َعت يف يدي‪ ».‬ويف رواية اإلمام مسلم‪« :‬نُص ُت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫بمفاتيح‬
‫فو ِض َع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نائم ُأتِ ُ‬ ‫ِ‬ ‫عىل العدو‪ ،‬و ُأوتِ ُ‬
‫خزائن األرض؛ ُ‬ ‫بمفاتيح‬ ‫يت‬ ‫جوامع الكَلم‪ ،‬وبينام أنا ٌ‬ ‫َ‬ ‫يت‬
‫رسول اهلل صىل اهلل‬ ‫َ‬ ‫جامعة ملسلم عن أيب هريرة ريض اهلل عنهام‪َّ ،‬‬
‫أن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫رواية‬ ‫يف يدي‪ ».‬ويف‬
‫بالرعب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بس ٍّت‪ُ :‬أ ْعطِ ُ‬
‫لت عىل األنبياء ِ‬ ‫عليه وسلم قال‪ُ « :‬ف ِّض ُ‬
‫يت جوام َع الكَلم‪ ،‬ونُص ُت ُّ‬
‫اخللق كا َّفة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لت إىل‬ ‫وج ِع َلت يل األرض طهورا ومسجدا‪ ،‬و ُأ ْر ِس ُ‬ ‫و ُأح َّلت يل الغنائم‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫وختِم يب النب ُّيون»(‪.)3‬‬‫ُ‬

‫‪ُ -1‬ينظر عيل النجدي ناصف‪ :‬مع القرآن الكريم يف دراسة مستلهمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،2009 ،‬ص ‪-‬ص ‪-116‬‬
‫االختصار سم ُة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬ط ‪ ،2006 ،1‬ص ‪ 82‬وما حوهلا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ .118‬و ُينظر عبد اهلل جاد الكريم‪:‬‬
‫ويمكن مراجعة تفاصيل القضية وعمومياهتا عند فخر الدين قباوة‪ :‬االقتصاد اللغوي يف صياغة املفرد‪ ،‬الباب األول‪:‬‬
‫اقتصاد اللغة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الرشكة املرصية العاملية للنرش (لونجامن)‪ ،‬طـ‪.2001 ،1‬‬
‫‪ -2‬للمزيد من األمثلة‪ ،‬راجع كتابنا البناء الذهني للمفاهيم‪ ،‬الفصل الثالث من الكتاب‪.‬‬
‫‪ -3‬النووي‪ ،‬أبو زكريا حميي الدين حييى بن رشف (توىف ‪676‬هـ)‪ :‬املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج (تويف ‪ 261‬هـ)‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬طـ ‪ 1392 ،2‬هـ‪ ،‬كتاب املساجد ومواضع الصالة‪ ،‬احلديث رقم ‪.371/1 ،523‬‬

‫‪-34-‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ألطراف املوضوعِ‪.‬‬ ‫واجلامع‬
‫ُ‬ ‫الناطق باحلكمة‬ ‫ُ‬ ‫واملرا ُد بجوام ِع الكَلم‪ :‬االخت ُ‬
‫صار املفيدُ‬
‫ِ‬ ‫وت الك َِل َم‬
‫اجلوام َع للمعاين ‪.)1(»...‬‬ ‫كام قال اب ُن األثري رمحه اهلل‪« :‬ا ُْلرا ُد بذلك أنه ُأ ِ َ‬
‫وهلذا فدوما نُذك ُِّر بام قاله اللساين الفرنيس إيميل بنفينيست ‪-1902( Benveniste‬‬
‫‪ 1976‬م) «املقوالت الذهنية وقوانني الفكر ليست‪ ،‬يف قدر كبري منها‪ ،‬سوى انعكاس‬
‫لنظام املقوالت اللسانية وتوزيعها‪ .‬إننا نشكل بالفكر عا ًَلا قد صاغته لغتنا ُمقدَّ ًما‪.‬‬
‫وتوجد رضوب التجربة الفلسفية أو الروحية حتت التبعية الالواعية لتصنيف جتريه‬ ‫َ‬
‫اللغة‪ ،‬وذلك لسبب وحيد‪ ،‬هو أهنا لغة وأهنا ترمز» ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫تعقيب وخالصة يف االقتصاد الذهني‪:‬‬


‫باالنتقال إىل إبستمولوجيا العلوم نالحظ أن قانون االقتصاد يف الوصف العلمي‬
‫خاص بمبادئ فلسفية حمدّ دة تقول إن وصف يشء ما أو حدث‬ ‫ّ‬ ‫‪Law of Parsimony‬‬
‫ما جيب أن يكون بأقل قدر ممكن أو حمتمل من الفرضيات؛ حيث يتمسك أصحاب‬
‫العلوم الطبيعية بالقاعدة التي تقول إن أفضل التفسريات العلمية هو ما يأيت بسي ًطا‬
‫(متييزا له من الندرة أو الشح‬‫ً‬ ‫يسريا عىل الفهم عند استيعابه‪ .‬ومبدأ التقتري‬‫يف منطوقه‪ً ،‬‬
‫‪ )Scarcity‬أو االقتصاد ‪ Parsimony‬يف التفسري العلمي للظواهر كان األكثر شيوعا‬
‫ُ‬
‫امتثال العلامء هلذه القاعدة‬ ‫عىل الدوام عند علامء أمريكا عنه لدى علامء أوروبا‪ .‬وقد لبى‬
‫وحاجات فني ًة‪ ،‬عالو ًة عىل أن هذه القاعدة جتعل من اليسري عىل الباحث أو‬ ‫ٍ‬ ‫دواعي‬
‫َ‬
‫بعض التفسريات املستقرة‪ ،‬وأن يضع بعض‬ ‫ي ِّط َئ َ‬
‫املحلل يف احلقول اإلمربيقية أن ُ َ‬
‫املالحظات العلمية موضع الشك والتمحيص إذا خالفت السياق الفكري العام؛ فكثري‬
‫جتربة أسفرت عن‬ ‫ٍ‬ ‫من االكتشافات املهمة يف نطاق الطبيعيات برزت للوجود جرا َء‬
‫أصل‪ ،‬لكنها عىل الرغم من ذلك تنقض النظرية السائدة‪.‬‬ ‫مالحظة مل تكن يف احلسبان ً‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فمشكلة الشح يف التفسري أو االقتصاد فيه تكمن يف أن الطبيعة ذاهتا‬
‫خصوصا يف امليادين البيولوجية واالجتامعية (‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫متيل غال ًبا إىل التعقيد‪،‬‬

‫‪ -1‬عبد القادر بن بدران الدومي احلنبيل‪ :‬رشح كتاب الشهاب يف احلكم واملواعظ واآلداب‪ ،‬لإلمام القضاعي‪ ،‬حتقيق‬
‫وضبط نور الدين طالب‪ ،‬الكويت‪ ،‬وزارة األوقاف والشئون اإلسالمية‪ ،‬طـ ‪ ،2007 ،1‬ص ‪.28‬‬
‫‪ -2‬إيميل بنفينيست ‪« Émile Benveniste:‬مقوالت الفكر ومقوالت اللغة»‪ ،‬ترمجة وتقديم عبد الكبري الرشقاوي‪،‬‬
‫عىل الرابط املرفق‪ ،‬بتاريخ اسرتجاع (‪ 9‬فرباير ‪http://www.aljabriabed.net/n16_10charkawi.htm:)2019‬‬
‫‪ -3‬راجع للتفاصيل‪ ،‬جريوم كيجان‪ :‬الثقافات الثالث‪ ..‬العلوم الطبيعية واالجتامعية واإلنسانيات يف القرن احلادي‬
‫والعرشين‪ ،‬ترمجة صديق حممد جوهر‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،408 ،‬يناير‪ ،2014 ،‬ص ‪ ،122‬بترصف‪ .‬والطبعة أيضا‬
‫موجودة باملركز القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬العدد ‪.2476‬‬

‫‪-35-‬‬
‫مهم‪ :‬إذ‬
‫توجيها ًّ‬
‫ً‬ ‫ولعل فيام طرحه الربنامج األدنى التشومسكي (‪)Minimalist‬‬
‫يقوم العلم‪ -‬عمو ًما‪ -‬بتغطية أكرب قدر من الوقائع والتجارب من خالل استنتاجات‬
‫منطقية مرتبطة بعدد قليل من االفرتاضات واملسلامت ‪ ...‬إلخ‪ .‬فالتقنية الصورية ليست‬
‫مقصودة لذاهتا يف النحو التوليدي‪ ،‬بل يف قدرهتا عىل إمداد املحلل اللساين بالوسائل‬
‫الصورية الكفيلة باختزال تعقيد أدوات وصف اللغات الطبيعية وتنوعها إىل مبادئ‬
‫أولية ذات كفاية تفسريية‪ ،‬تفيض إىل تفسري ميكانيزمات االكتساب اللغوي بموجب‬
‫مبادئ وقيود بسيطة‪ ،‬ثم تأيت النمذجة لتمثل اآلليات الصورية واملنطقية لبناء األنحاء‬
‫(القواعد ‪ )Grammars‬الصاحلة لتمثيل تلك اخلصائص‪ ،‬وبذلك يلتقي البناء النظري‬
‫يف اللسانيات التوليدية مع مثيله من العلوم الفيزيائية‪.‬‬
‫إن التمثيل العرفاين للغة اإلنسانية جعل هلا مستويات كثرية من املعاجلة الدماغية‬
‫يف أكثر من حمطة عصبية تشغيلية ال يتسع املجال هنا لتفصيل القول فيها؛ فلم تعد‬
‫اللغة جمرد جمموعة من األنشطة فحسب‪ ،‬بل هي أجزاء من املعرفة التي تعتمد عىل بنية‬
‫كلية ‪Structure -Dependent Piece of Information‬؛ فهناك املستوى الرتكيبي‪،‬‬
‫والصويت‪ ،‬والداليل‪ ...‬إلخ‪ ،‬توازهيا يف ّ‬
‫املخ عمليات عرفانية كربى من اإلنتاج والتحليل‪،‬‬
‫كام تقدم آن ًفا‪ ،‬بام جيعل الدماغ حاوي ًة كربى ملجموعة من التاميزات اللغوية التي ال‬
‫يمكن أن تركن إىل نظرة معيارية مقننة‪ .‬وكل حمطة تشغيل تشمل جمموعة من املراكز‬
‫واألجهزة واألدوات التي يستخدمها الدماغ لتحليل اللغة وتركيبها؛ فاألمر ليس جمرد‬
‫نشاط‪ ،‬بقدر ما هو عملية عرفانية تضافرية كربى تعمل بصورة نمطية متكاملة تنسجم‬
‫يف سيمفونية أدائية شديدة التامسك والتناسق‪.‬‬
‫ومل تَتعدّ حماوالت النمذجة الصورية ملا حيدث يف الدماغ بخصوص اللغة أن تكون‬
‫طويل أمام البحث والفحص‪ .‬فعىل‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متثيل لبعض املخرجات فقط‪ ،‬وما زال الطريق‬
‫سبيل املثال وصلت بحوث األعصاب‪ -‬اعتام ًدا عىل حاالت احلُبسة (‪)Aphasia‬‬
‫املخصصة للمعاجلة‬
‫ّ‬ ‫املرتبطة بمنطقة بروكا خاصة‪ -‬إىل أن املنطقة األمامية للدماغ‬
‫اللسانية أصبحت أوسع بكثري من منطقة بروكا‪ ،‬ألن االضطراب تعدى إىل مناطق‬
‫ِ‬
‫الوصاد (‪ ،)Operculum‬واجلزيرة الدماغية (‪ ،)Insula‬واملادة البيضاء املالصقة ملنطقة‬
‫بروكا (‪... )Subjacent White Matter‬إلخ‪.‬‬

‫‪-36-‬‬
‫واللغة هي مركز هلذه املجرات املتجمعة يف الدماغ (أو هذا الكون الصغري)‪،‬‬
‫فسيعقب هذا انكباب تام لكل الوظائف؛‬ ‫ُ‬ ‫جمازا أن نُطفئ اللغة يف العقل‬
‫فإذا استطعنا ً‬
‫فوت لوميض اإلشارات والسياالت العصبية‪ ،‬إىل أن يتحول املخ إىل كتلة‬ ‫كام لو أنه ُخ ٌ‬
‫ُصدر موجات ال معنى هلا؛ مثل حاسوب ُف ِص َل ُمشغله عن بقية الدوائر! من‬ ‫هالمية ت ُ‬
‫ثم‪ ،‬ترى إنسانًا ينظر إليك وهو ال يراك حقيق ًة!‬
‫ويف البند األخري اآليت أقدم مقاربة تنفتح عىل بعض اآلفاق التداولية والعلمية‬
‫املعتربة هبذا اخلصوص‪.‬‬

‫راب ًعا ‪ -‬مقاربة فرضية (وهم املعرفة) وأثرها يف تكوين املعجم الذهني‬
‫استنا ًدا إىل املعاجلة العصبية العرفانية للغة وتداوليات التواصل اإلنساين‪:‬‬
‫يرتبط بفكرة النامء الذهني للمفردات داخل الدماغ عند متلقي اللغة‪ ،‬ووف ًقا ملطاطية‬
‫النسيج العصبي‪ ،‬فرضية ُأسميها وهم املعرفة‪ ،‬وهي مسألة تتعلق بالكثري من الظواهر‬
‫الوجودية التي يعاجلها الدماغ ويرتبها وينظمها‪ ،‬وسنتعامل هنا مع النموذج اللساين‬
‫ومتثالت الصور الذهنية يف حلقة التواصل‪ .‬أساس هذه الفرضية أن الدماغ يقوم ببناء‬
‫ويلق َعا ًَلا من االفرتاضات اخلاصة بالتصورات؛ فالدماغ دوما ُي ّي ُئ الفضاء‬ ‫النامذج َ‬
‫نقص يف اإلدراك‪ ،‬وأن التلقي‬ ‫قنع الفرد بأن كل يشء عىل ما يرام‪ ،‬وأنه ال َ‬‫الذهني‪ ،‬و ُي ُ‬
‫َّ‬
‫املرتبط باحلواس وما تنقله من معلومات إىل الدماغ للمعاجلة يتم بصورة مناسبة‪،‬‬
‫باستثناء حاالت اخلطر واالنحراف النمطي عام هو خمزون يف خربة الفرد ووعيه ‪...‬‬
‫إلخ‪ ،‬فتلك مسائل أخرى‪ .‬يف حالة النموذج اللغوي سأعالج ما يمكن تسميته العمى‬
‫قمت بتجربة بسيطة يف أثناء‬‫العصبي وعمى األلفة اخلاص بالكلامت‪ .‬والختبار ذلك ُ‬
‫تعليم بعض الكلامت للناطقني بغري العربية‪:‬‬
‫لدينا قائمتان‪ :‬القائمة (أ) حتوي جمموعة من الكلامت التي تُعرض عىل جهاز العرض‪،‬‬
‫يقدمها بفواصل زمنية ثابتة أمام املتلقي‪ ،‬وملدة ‪ 15‬ثانية‪ .‬والقائمة (ب) تشمل جمموعة‬
‫أخرى من الكلامت التي تُعرض بالطريقة ذاهتا‪ .‬مع إضفاء بعض عوامل التشتيت حول‬
‫الكلامت‪ ،‬مثل األشكال املزخرفة‪ ،‬واستخدام األلوان ‪ ...‬إلخ‪ .‬املطلوب من املتلقي أن‬
‫أي الكلامت يف القائمة (ب) موجود يف القائمة (أ)‪ .‬واهلدف هو اختبار معاجلة‬‫يعرف َّ‬

‫‪-37-‬‬
‫الدماغ للكلامت يف الذاكرة القصرية األمد (العاملة) وهي اخلاصة باالستيعاب‪ ،‬من َثم‬
‫معاجلته لعمليات االستدعاء الح ًقا من الذاكرة الطويلة األمد‪:‬‬
‫القائمة (ب)‬ ‫القائمة (أ)‬
‫طائرة ‪ -‬سحاب ‪ -‬عربة ‪ -‬مطار ‪ -‬راكب ‪َ -‬خرضوات‬
‫جناح ‪ -‬بحر ‪ -‬أمل ‪ -‬نار‬
‫‪ -‬قائد ‪ -‬سفينة ‪ -‬معاناة ‪ -‬حقيبة ‪ -‬نظارة ‪ -‬حرارة‬

‫مع مالحظة أن الكلامت يف (ب) أقل من (أ)‪.‬‬


‫وما حدث مع ‪ %80‬من ا ُملخت ََبين هو أهنم اختاروا واحدة من هذه الكلامت يف (ب)‬
‫عىل الرغم من عدم وجودها يف (أ)‪ ،‬ألهنا ترتبط مع بعض كلامت (أ) ارتبا ًطا دالل ًّيا‬
‫مفاهيم ًّيا‪ ،‬أو مع الزم داليل من لوازم كلامت املجموعة (أ)‪:‬‬
‫الالزم الداليل املفاهيمي‬ ‫الكلمة‬
‫طائرة‬ ‫جناح‬
‫سفينة‬ ‫بحر‬
‫معاناة‬ ‫أمل‬
‫حرارة‬ ‫نار‬

‫واملسألة مرتبطة ببيولوجيا التوالد الذايت‪ ،‬التي أؤكدها دو ًما‪.‬‬


‫والتفسري الذي أقرتحه هو أن الدماغ يعمل دو ًما عىل ملء الفراغ املفاهيمي وإعادة‬
‫إكامل النقص‪ ،‬وبناء نامذج ومهية أحيانًا ليس هلا وجود فعيل‪ ،‬ألجل عمليات االستمرار‬
‫يف التوازن الذهني للكَم املهيب من املعلومات وا ُملدخالت واملثريات التي تصل إليه‬
‫كم املعلومات التي يتلقاها دماغ الفرد يف اليوم الواحد‬
‫يف كل ثانية‪ ،‬فقد قدر العلامء أن َّ‬
‫تعادل يف املتوسط ‪ 100‬مليون ميجابايت (‪ ،)1‬ولو مل يقم الدماغ بفعله املعجز هذا لتخبط‬
‫اإلنسان من دون أن ُي ْق ِد َم عىل أي تفاعل سلوكي أو أن حيرز أي خربة ممكنة‪.‬‬
‫وقد دلل سيدين المب (‪ )Sydney Lamb‬باقتدار عىل أننا ال نستطيع التواصل‬
‫والتفاهم والتفكري (العمليات العرفانية العليا) بغري أن نعتمد عىل ما اصطلح عىل‬

‫‪ -1‬أندرو كوران‪ :‬الدليل املوجز يف أرسار املخ الكربى‪ ..‬القصة احلقيقية لدماغك املذهل‪ ،‬ترمجة أمحد موسى‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫املركز القومي للرتمجة‪ ،‬العدد ‪ ،2018 ،2925‬ص ‪ 19‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪-38-‬‬
‫تسميته بـ (األوهام الداللية ‪ .)1()semantic mirages‬ويمكن فهم ذلك بناء عىل‬
‫االستدالل العرفاين اآليت‪:‬‬
‫‪1.1‬أن االنتباه والذاكرة ‪ُ -‬مدخال اإلدراك الذهني‪ -‬انتقائيان‪.‬‬
‫‪2.2‬أن منظومة العرفان جشطلتية (تعمل بصورة نمطية شمولية)‪.‬‬
‫‪3.3‬أن التجربة اجلسدية ا ُملشكِّلة للنامذج واألطر الذهنية سياقية‪.‬‬
‫‪4.4‬أن السياق الثقايف التواصيل نسبي‪.‬‬
‫‪5.5‬أن تشكيل املفاهيم يف الدماغ البرشي خاضع إلهيام اإلدراك اجلزئي يف خضم‬
‫املحيط الكوين الشاسع‪.‬‬
‫غري أننا قد برعنا يف تطوير آلياتِنا البيولوجية والثقافية من أجل تطويع سبل التواصل‬
‫مرورا بـ‬
‫ً‬ ‫خصوصا؛ بداية من بزوغ توزيع البنية العصبية يف (مقدم الفص اجلبهي (‪،FL‬‬
‫(املنطق الصوري) والنمذجة‪ ،‬حتى (الذكاء االصطناعي ‪.)AI‬‬
‫وهذه إحالة لشبكة نموذج «نيل ماركوف» الشهرية عن نمطية العمل العصبي‬
‫العرفاين املتكامل؛ فالدماغ البرشي نظام معلومايت ذايت التنظيم (‪:)2‬‬
‫ُيظهر هذا املخطط الشبكي نموذج نيل ماركوف (‪ )Neal Markov‬حول حمورية‬
‫الفص اجلبهي (‪ )FL‬يف عمل الدماغ (‪ .)3‬وقد أظهرت كثري من األبحاث املختربية‬
‫الترشحيية أن الدماغ هو شبكة مطاطية شديدة الرتابط وعىل قدر كبري من التفاعل بني‬

‫عرف سيدين المب الوهم الداليل بأنه كل عالقة داللية بني الوحدة املعجمية والوحدة املفهومية يف نظام إدراكي يقود‬ ‫‪ّ -1‬‬
‫وتضم األصناف الفرعية هلذه األوهام مغالطة وجود لفظ واحد‬
‫ّ‬ ‫اإلسقاطات عىل َ‬
‫عال اخلصائص غري املوجودة حال ًّيا‪.‬‬
‫لليشء الواحد‪ ،‬والتشييء ومغالطة الوحدة‪:‬‬
‫‪"Semantic mirage Any semantic relationship between lexical and conceptual units in a‬‬
‫‪cognitive system that leads to projections onto the world of properties that are not actually‬‬
‫‪there. Subtypes include the one-Iexeme-one-thing fallacy, reification, and the unity fallacy".‬‬
‫‪Sydney Lamb: Language and Reality, Continuum, London and New York, 1st ed, 2004, P 504.‬‬
‫‪ -2‬راجع كذلك‪ ،‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬البحث املعريف املعارص‪ ..‬نامذج من فلسفة اللغة وإبستمولوجيا العلوم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬
‫النابغة‪ ،‬طـ ‪ ،2018 ،1‬ص ‪.120‬‬
‫‪ -3‬أنجز هذا الرسم من قبل نيل ماركوف سنة ‪ ،2013‬ونرشه ضمن كتابه «هندسات التكثيف العايل للقرشة الدماغية»‪،‬‬
‫وض ِّمن الح ًقا يف كتاب‪« :‬دليل املراقبة العرفانية» سنة ‪ ،2017‬راجع‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪Markov N T, Ercsey-Ravasz M, (et al): "Cortical High-Density Counter-stream‬‬
‫‪Architectures", Science, 2013, p 342.‬‬

‫‪-39-‬‬
‫املناطق املختلفة‪ -‬املشار إليها باأللوان‪ -‬عىل أن درجة التكثيف ختتلف من حمور إىل آخر‪،‬‬
‫كام هو واضح يف قنوات االتصال الظاهرة بني اخلاليا العصبية‪ .‬ومركزية اللغة البرشية‬
‫يف خضم هذا التفاعل أصبحت معروفة؛ فبدوهنا ختتل العمليات العرفانية كلها ويتخبط‬
‫الدماغ يف فوىض كبرية‪ .‬وما حيدث اآلن هو حماولة حماكاة هذا التشابك العصبي عىل‬
‫مستوى الذكاء الصناعي‪ ،‬من خالل النامذج احلاسوبية‪ ،‬عرب آليات النمذجة والصورنة‪:‬‬

‫إن ما نسميه واق ًعا هو عبارة عن أوهام خيلقها الدماغ‪ ،‬نتفق حوهلا من خالل أطر ثقافية‬
‫متوارثة جين ًّيا وأنثروبولوج ًّيا؛ ولذلك يرى جون سريل يف حماولته رشح كيف ّ‬
‫أن العامل‬
‫ٍ‬
‫ُيعرض علينا بصورة قبل لغوية ‪ ،pre-linguistically‬حني َيستخدم اإلنسان متثيالت َ‬
‫غري‬
‫لغوية ألجل بناء التمثيالت اللغوية‪ ،‬أنه‪« :‬يمكن للمعتقدات أن تؤ ّثر يف الفينومينولوجيا‬
‫غية للمضمون القصدي‪ ،‬حتى لو ظل املحفز اإلدراكي ثابتًا»(‪ .)1‬ولكن برشط‬ ‫بطرق ُم ّ‬
‫أن تُرخي الطبيعة شيئا من قيودها يف حميط إدراكنا الوجودي (‪.)2‬‬

‫‪ -1‬جون سريل‪ :‬رؤية األشياء كام هي‪ ..‬نظرية اإلدراك‪ ،‬ترمجة إهياب عبد الرحيم عيل‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪،456‬‬
‫‪ ،2018‬ص ‪.107‬‬
‫ِ‬
‫‪ -2‬لتفاصيل العالقة بني اللغة والطبيعة والوجود الكوين‪ ،‬راجع‪ ،‬جاي دويترش‪ :‬عرب منظار اللغة‪ ..‬ل َ يبدو العامل خمتل ًفا بلغات‬
‫أخرى؟ عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪ .2015 ،429‬من خالل اجلزأين‪ :‬األول– مرآة اللغة‪ ،‬والثاين‪ -‬عدسة اللغة‪.‬‬

‫‪-40-‬‬
‫العال اخلارجي أو مملكة األعيان (أنطولوجيا حتقق‬ ‫َ‬ ‫إن اللغة اإلنسانية ال ُتيل عىل‬
‫املفاهيم)‪ ،‬لكنها ُت ُيل عىل قضايا وموضوعات ومركبات يعيد الذهن ترتيبها وتنظيمها‬
‫وتصنيفها‪ ،‬بل إنه ُيض ُعها لنظام تطوري ذي ُأطر تصورية ال حدود هلا (مملكة التخييل)؛‬
‫فإذا تكلم أحدنا أو سمع َمن يتكلم فإن ما حيدث‪ ،‬عىل املستوى العصبي الدماغي‪،‬‬
‫هو عمليات نوعية متخصصة الستدعاء املحصول الذهني من ماليني املركبات التي‬
‫صنعتها اهلياكل الذهنية التصورية واألبنية العصبية البيوجينية‪ ،‬املتميزة بديمومة تطورية‬
‫العال بوساطة ذهنية دماغية‪ ،‬ومن خالل‬ ‫تدل‪-‬فقط‪ -‬عىل َ‬ ‫ال هنائية‪ .‬إن اللغة اإلنسانية ّ‬
‫عمليات عرفانية عليا م ّيزت جنسنا‪ .‬وتبادل الرسائل اللغوية بني أفراد جنسنا هو‬
‫العال وتأويل بنياته‪ ،‬وتلك مهمة ال نعرف‪ ،‬يف‬ ‫َ‬ ‫نوع من تل ّقي الوسائل اخلاصة بتنظيم‬
‫حدود علمنا وإدراكنا‪ ،‬من يقوم هبا غري أفراد جنسنا؛ فاملتكلم ُيلقي بنفسه يف خضم‬
‫العال من خالل اللغة‪ ،‬وال ِداللة للغة عىل‬
‫َ‬ ‫عوامل التأويل الذهني ليكون وسيطا لفهم‬
‫املفتضة من غري وساطة الذهن الفاحص املن ِّظم‪ ،‬فالعملية تبادلية ونفعية؛‬‫موضوعاهتا َ َ‬
‫اللغة تتحكم يف الذهن واإلحاالت ‪ ...‬إلخ‪ ،‬والذهن حيمل آلتها وسريوراهتا (‪.)1‬‬
‫هناك‪ ،‬إذن‪ ،‬نسبة صحية من الوهم‪ ،‬حتقق أمان استكامل حقول التصورات‪ ،‬ألجل‬
‫جعل حلقة التواصل مرنة وسلسة (داخل ًّيا وخارج ًّيا)‪ .‬وهذا األمر هو الذي يفرس كيف‬
‫أننا نقرأ النصوص بصورة جشطلتية كلية‪ ،‬فنحن ال نقرأ حر ًفا حر ًفا‪ ،‬ونُسقط معظم‬
‫احلروف يف أثناء فعل القراءة‪ ،‬بل وتَسقط كلامت كذلك‪ ،‬وما حيدث هو أن الدماغ‬
‫يعوض الكلامت واملفقودات باملفردات االرتباطية‪ ،‬ألن الذهن يمتلك أنساق املعنى‬
‫العام‪ ،‬فمن خالل القدرة املطلقة عىل التوليد يمكنك من خالل َعرش كلامت فقط أن‬
‫تصوغ عرشات املفاهيم‪ ،‬وتقدم عرشات التصورات حول ما يدور بخيالك عن العامل‪،‬‬
‫ما بني احلقيقة واملجاز‪ ،‬يف عملية توالدية ذاتية تتصف بالديمومة‪ .‬ولذلك فال حيتاج‬
‫الدماغ إىل التوقف عند كل حرف وكل كلمة‪ ،‬إال إذا كانت شاذة أو غري معلومة عند‬

‫‪ -1‬للمزيد من التفاصيل والنقاشات راجع‪ ،‬عبد الرمحن طعمة‪« :‬تداولية املعنى عند حازم القرطاجني‪ ،‬األسس املنطقية‬
‫والتناول اللساين»‪ ،‬ضمن أعامل مؤمتر حازم القرطاجني وقضايا جتديد الرؤية واملنهج يف البالغة العربية القديمة‪،‬‬
‫أيضا‪ :‬البناء الذهني‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬تطوان‪ ،‬املغرب‪ ،‬نوفمرب‪ ،2017 ،‬ص ‪ 288‬وما بعدها‪ .‬وانظر ً‬
‫عمن‪ ،‬دار كنوز‬‫ّ‬ ‫العصبية‪،‬‬ ‫للمفاهيم‪ .‬وراجع البناء العصبي للغة‪ ،‬دراسة بيولوجية تطورية يف إطار اللسانيات العرفانية‬
‫املعرفة‪ ،‬ط ‪ ،2017 ،1‬ص ‪ 299‬وما بعدها‪ .‬وللمزيد من األطروحات واملقاربات‪ ،‬راجع كتابنا‪ :‬النظرية اللسانية‬
‫العرفانية‪ ،‬دراسات إبستمولوجية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار رؤية‪ ،‬طـ ‪.2019 ،1‬‬

‫‪-41-‬‬
‫املتلقي‪ .‬ولذلك ففي املراحل األولية لتعليم اللغات جيب أن ُيرا َعى هذا األمر جيدا‪،‬‬
‫بطئ قليال من عمل دماغ املتلقي‪ ،‬من خالل‬
‫بحيث يمكنني أن أقول إن عىل املعلم أن ُي َ‬
‫عوامل تركيز االنتباه والتَّكرار واإلعادة ‪ ...‬إلخ‪ ،‬وإال تشوه املعجم الذهني لديه بسبب‬
‫عمل دماغه اجلشطلتي‪.‬‬
‫ويتفق هذا األمر مع مبدأ االقتصاد الذهني‪ -‬الذي سبق تفصيله‪ -‬يف معاجلة الدماغ‬
‫للجمل وللرتاكيب؛ حيث يقوم باحلذف واإلضافة ويعوض املعلومات الداللية ‪...‬‬ ‫ُ‬
‫إلخ‪.‬‬
‫أما ظاهرة عمى األلفة التي نتعرض هلا مجيعا‪ ،‬ونقصد هبا أننا قد يمر أمامنا أخطاء‬
‫كتابية أو إمالئية ‪ ...‬إلخ‪ ،‬من دون أن نشعر هبا إال يف القراءة الثالثة أو الرابعة‪ ،‬أي‬
‫مع التَّكرار‪ ،‬وربام ال يالحظ أحدنا التصحيف ‪ Anagram‬الذي قد حيدث يف بعض‬
‫الكلامت‪ ،‬فأنا أيضا أفرس ذلك بفرضية وهم املعرفة‪ .‬وعليه‪ ،‬فإنه يف مرحلة تعلم املفردات‬
‫واألساليب وتنمية املفاهيم حيتاج املعلم إىل ضبط ك َّم الدّ فق املعريف للمعلومات‪ ،‬متا ًما‬
‫مثلام أوضح ذلك فان ديك يف قانون مقروئية النص‪ ،‬من حيث مراعاة التناسب بني ك َِّم‬
‫القضايا املطروحة والزمن املناسب هلا‪:‬‬

‫فكلام كان عدد الكلامت يف النص ثابتًا َن ُقصت رسعة القراءة بزيادة عدد القضايا (‪.)1‬‬
‫وهو أمر مهم جدًّ ا يف آليات التخزين واالسرتجاع داخل املعجم الذهني لإلنسان‪.‬‬

‫‪1- Kintch, W. & Van Dijk, T A: «Towards a Model of Text Comprehension and Production»,‬‬

‫‪Psychological Review, 85. 1978, P 372.‬‬

‫‪-42-‬‬
‫واحلق أن الدماغ هنا يعمل بتوقيت ماهر‪ ،‬ألنه يوصف بـ اآللة الزمنية الكونية‬
‫األذكى‪ ،‬حيث يستطيع أن يعود بالزمن‪ ،‬وأن يقدم ويؤخر‪ ،‬حتى يصل إىل املعنى‪ ،‬يف‬
‫أيضا اختبار يربهن عىل املسألة‪:‬‬
‫خصوصا‪ .‬ولذلك ً‬
‫ً‬ ‫أثناء التواصل‬
‫يف اجلملة اإلنكليزية‪:‬‬
‫‪ŸŸ 1. The Mouse on the disk:‬‬
‫‪- 2. is broken‬‬
‫‪- 3. is eating cheese‬‬

‫يقف الدماغ عند كلمة ‪( Mouse‬فأرة) يف اجلملة (‪ )1‬وال يستطيع تقرير داللة‬
‫الرتكيب؛ وعندما تعطيه اجلملة األوىل متبوعة بالعبارة (‪ )2‬مبارشة فسوف يتوقف‬
‫ثانية ليعود إىل كلمة ‪ Mouse‬ويربطها‪ّ -‬‬
‫تصور ًّيا‪ -‬بفأرة احلاسوب‪ .‬فإذا أعطيته العبارة‬
‫(‪ )3‬مع (‪ )2‬مع اجلملة الرئيسية (‪ ،)1‬سيستطيع حتديد املعنى (الفأرة اإللكرتونية أو‬
‫احليوان) من خالل املراوحة والتنقل بني االحتاملني وبحسب السياق‪.‬‬
‫‪synchronization‬‬ ‫ما أقصده هو أن الدماغ يقوم بعمليات من التزمني‬
‫ذي االجتاهني‪ :‬األمامي واخللفي يف أثناء فعل القراءة‪ ،‬لتقرير املعنى املراد‪ ،‬وذلك بناء‬
‫عىل الصورة البرصية التي يستدعيها من الذاكرة (صورة الفأر احليوان‪ ،‬أو صورة فأرة‬
‫احلاسوب)؛ فاملثري البرصي واحلفظ األيقوين يف غاية اخلطورة من خالل دوره يف تدعيم‬
‫مفردات اخلربة يف املعجم الذهني‪.‬‬
‫ويف الواقع فإن هذا األمر حيدث يف ثوان وبصورة جشطلتية شديدة التامسك‬
‫ـم نتوقف أحيانًا ألجل االستيعاب‪ ،‬وقد يطلب أحدنا إعادة‬ ‫ِ‬
‫حلبك‪ ،‬وربام يفرس هذا ل َ‬
‫وا َ‬
‫اجلملة يف حوار صحفي ً‬
‫مثل‪ ،‬أو يف ترمجة‪ ،‬أو يف حال االستامع إىل نص يف حتقيق ما ‪...‬‬
‫إلخ‪.‬‬
‫تأمل يف املثال العريب‪:‬‬
‫وجدت لديه ُجبنًا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ŸŸ‬
‫‪ .1‬يف طِباعه‬

‫‪-43-‬‬
‫‪ .2‬يف ثالجته‬
‫يسري عىل نحو بطيء‬ ‫يسري ‪ُ /‬‬
‫األمر ُ‬ ‫األمر ٌ‬
‫وتأمل يف مجلة‪ُ :‬‬
‫ُ‬
‫االنتقال من االسمية إىل الفعلية (بوساطة الوقف واستعامل التنوين ‪ ...‬إلخ)‪.‬‬ ‫حيث‬
‫فنحن نتعامل بصورة مستمرة مع املشرتك اللفظي وتعدد املعنى ضمن آالف‬
‫السياقات واملحادثات‪ ،‬من دون جهد كبري‪ ،‬ألن األساس العصبي ملعاجلتها حمكم وذو‬
‫آلية مطردة‪.‬‬
‫تدخل كل هذه العمليات يف سريورة التداعي الذهني واالستنباط والربط‬
‫املفاهيمي(‪.)1‬‬
‫ومن ضمن اآلليات اجلشطلتية (الكلية) أيضا للدماغ حذف املكررات ألجل سالمة‬
‫أيضا يف أثناء القراءة؛ تأ ّمل مجلة مثل‪:‬‬
‫املعنى‪ ،‬من دون الشعور بتفاصيل هذا األمر ً‬
‫تقع جزيرة «بينانج»‬
‫يف املحيط‬
‫املحيط اهلندي‬
‫حيث يقرؤها ‪ % 90‬من الناس من دون مالحظة تَكرار كلمة املحيط‪ ،‬ألهنا كلمة مألوفة‬
‫يف املعجم الذهني يمررها الدماغ مبارشة من خالل الربط الرتكيبي مع الصفة (اهلندي)‪،‬‬
‫أو مع املضاف إليه أو مع اخلرب ‪ ...‬إلخ‪ ،‬يف تراكيب أخرى‪.‬‬
‫Ÿ Ÿنموذج مهم عن الربط الداليل العصبي لالستدعاء املفردايت املفاهيمي‪:‬‬
‫بتجربة كلمة مثل ( ُقرص) يف اللغة العربية‪ ،‬إذا طلبنا من املتلقي أن يقوم بذكر ما‬
‫تستدعيه هذه الكلمة يف ذهنه من مفاهيم وإدخاهلا يف مجل مفيدة فسيكون لدينا أكثر من‬
‫احتامل‪ ،‬وفقا للتصنيف املوايل‪:‬‬

‫‪ -1‬راجع تفاصيل أكثر حول التوقع اللفظي من املنظور العرفاين الذهني‪ ،‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬البناء العصبي للغة‪،‬‬
‫ص ‪ 319‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪-44-‬‬
‫املتغري الداليل املفاهيمي‬ ‫املعنى األصيل الفيزيائي‬
‫املفهوم التصوري الذهني‬ ‫الكلمة‬
‫(خاص)‬ ‫(عام)‬
‫نَجم‬ ‫قرص الشمس‬
‫مادة للحفظ اإللكرتوين‬ ‫قرص مضغوط ‪CD/DVD‬‬

‫دواء‬ ‫قرص أسربين‬


‫طعام‬ ‫قرص عسل‬ ‫شكل مادي دائري‬ ‫ال ُقرص‬
‫آلة لالجتاه‬ ‫قرص البوصلة‬
‫مادة لصناعة اخلبز‬ ‫قرص العجني‬
‫كون ترشحيي‬
‫ُم ِّ‬ ‫قرص الفقرات‬

‫وكل احتامل وكل متغري من هذه املجموعة يكون عىل حسب خمزون الفرد من‬
‫مثل من ال يعرفون قرص البوصلة ‪Compass‬‬ ‫التصورات حول ا ُملدخل املطروح‪ ،‬فهناك ً‬
‫‪ Disk‬أو قرص الفقرات ‪ Vertebrae‬يف الترشيح ‪ ...‬إلخ‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن الدماغ يربط‬
‫دوما بني املعنى األصيل الفيزيائي العام‪ ،‬واملتغري الداليل املفاهيمي اخلاص‪ ،‬بحيث ينشأ‬
‫خزن يف حقل التصورات‪ ،‬أو استيعاب‬ ‫عن هذا التفاعل الذهني استحضار املفهوم ا ُمل َّ‬
‫املفهوم اجلديد املطروح‪ .‬ومن ثم يكون لكل مفردة نموذج شبكي ضخم مرتابط مع‬
‫النامذج األخرى داخل املعجم الذهني غري املحدود عند اإلنسان‪ ،‬تُستدعى منه الكلامت‬
‫املرتبطة باملفاهيم يف أجزاء من الثانية‪ ،‬عىل حسب كل سياق ومقام وحال‪.‬‬

‫إن فهم هذه األساسيات البنائية للجملة عصب ًّيا قبل متثلها اللساين يساعد ً‬
‫كثريا‬ ‫ّ‬
‫يف عمليات الصورنة والنمذجة احلاسوبية التي يبحث عنها كل علامء اللسانيات يف‬
‫عرصنا‪ ،‬من أجل رقمنة اللغة اإلنسانية وتفعيل الرتمجة اآللية‪ ،‬ودمج برامج تعليمية‬
‫مالئمة لتدريب املتلقي عىل تعلم اللغات والتفاعل معها بمختلف الوسائل املمكنة‪.‬‬
‫وأهني هذه الفرضية‪ ،‬التي أوضحت شي ًئا من أسسها العصبية‪ ،‬بذكر أمثلة حول‬
‫املوهة التي يقع فيها نحو ‪ % 50‬من البرش‪ ،‬وجيب مراعاهتا يف مرحلة تلقي‬ ‫التلقائية ِ‬
‫خصوصا‪ ،‬وما شاهبها؛ ألن التوالد الذايت للمفاهيم يف الدماغ قد‬
‫ً‬ ‫املفاهيم الثقافية‬
‫يتدخل هنا لتدعيم فكرة خاطئة أو بلورة نامذج ومهية غري واقعية لدى متعلم اللغة‪.‬‬

‫‪-45-‬‬
‫ً‬
‫أول‪ -‬ففي أسئلة بسيطة مما سأورده‪ ،‬جتد أنه حتى ابن اللغة قد ُي ُ‬
‫طئ‪:‬‬
‫ ‪-‬ما لون صفار البيض؟ أبيض‬
‫ ‪-‬ماذا ترشب البقرة؟ لبن‬
‫ ‪-‬ما عدد أصابع يد اإلنسان (سؤال عن يد واحدة)؟ عرشة أصابع‬
‫ ‪-‬أين يطري السمك؟ يف البحر‬
‫ً‬
‫(شامل)‪ ،‬بسبب‬ ‫ً‬
‫(شامل – جنو ًبا)‪ :‬نسبة كبرية خيتارون‬ ‫ ‪-‬ترشق الشمس يف كندا‬
‫موقع كندا‪ ،‬عىل الرغم من أنه من الطبيعي أن تكون اإلجابة‪( :‬رش ًقا)‪.‬‬
‫ ‪-‬هل أراك األسبوع القادم يف «املغرب»؟ ينرصف اعتقاد املتلقي ً‬
‫أول إىل املكان‬
‫(بالد املغرب)‪ ،‬قبل الزمان (وقت املغرب)‪ ،‬والسبب يكمن يف أن املكان يمثل‬
‫البنية األنطولوجية لوقوع الزمن‪ ،‬والذهن ال يفهم الزمن من دون احتواء‬
‫مكاين‪ .‬والبن عريب هنا عبارة مأثورة غاية يف اخلطورة‪ ،‬يقول‪« :‬املكان زمان‬
‫سائل‪ ،‬والزمان مكان متجمد»(‪.)1‬‬
‫ ‪-‬يتحول قرص الشمس إىل هالل يف (أول الشهر – منتصف الشهر – آخر‬
‫الشهر)‪ :‬جتد أن كثريين جييبون بـ (منتصف الشهر)‪ ،‬من دون أن يالحظوا‬
‫أن احلديث عن الشمس وليس عن القمر‪ ،‬ألن الشمس والقمر مقرتنان‪-‬‬
‫دو ًما‪ -‬مفاهيم ًّيا برابط داليل و َع َقدي ‪ ...‬إلخ‪ ،‬ولذلك يقع الوهم يف احلديث‬
‫عن خصائص أحدمها التي تتعلق باآلخر‪ ،‬مثلهام مثل غريمها من ألفاظ املثنى‬
‫املتالزم (الليل والنهار‪ /‬احلياة واملوت‪ /‬الذكر واألنثى‪ /‬اجلنة والنار ‪ ...‬إلخ)‪.‬‬
‫هبذه الطريقة يظل الدماغ يومهنا‪ ،‬بصورة مستمرة‪ ،‬بالفهم التام واإلدراك الكيل للعامل‬
‫من خالل حيل اللغة‪ ،‬وهو أمر رضوري وصحي مثلام سبقت اإلشارة‪ ،‬لعبور الفجوات‬
‫ِ‬
‫مكنوناتا‬ ‫ومناطق الغموض الكربى التي تغلف الوجود كله‪ ،‬تلك الغوامض التي تَسرب‬
‫اللغ ُة اإلنساني ُة‪ ،‬وحتاول َت ّطيها بأي طريقة‪ ،‬لالستمرار والبقاء‪.‬‬

‫‪ -1‬مل أقف عىل املقولة يف أحد كتب ابن عريب‪ ،‬ووجدهتا متداولة بني كثريين‪ ،‬وقد ذكرها صاحب رواية (موت صغري)‪،‬‬
‫انظر‪ /‬حممد حسن علوان‪ :‬موت صغري‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪ ،2016 ،2‬السفر الثالث‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪-46-‬‬
‫ثان ًيا‪ -‬النمذجة الذهنية وانحراف التفسري (نموذج تواصيل تداويل)‪:‬‬
‫قد يؤدي االنحراف عن (العبارات القياسية املعهودة) يف التواصل إىل كوارث مهيبة‪،‬‬
‫وأخطر األمثلة هو ما حيدث يف حوادث الطريان التي كان سببها خطأ يف التواصل اللغوي‪،‬‬
‫ما أدى إىل إزهاق مئات األرواح!‬
‫مثال من حوار متداول‪:‬‬
‫يسارا باجتاه ا َملدرج‪.‬‬
‫ ‪-‬املراقب‪ :‬عند هناية املخرج (‪ )3‬انعطف ً‬
‫ ‪-‬الطيار‪ُ :‬علم‪.‬‬
‫ ‪-‬املراقب‪ :‬انعطف يمينًا بعد اإلقالع وابق عىل ارتفاع (كذا) ‪...‬‬
‫ ‪-‬الطيار‪ :‬حسنا‪ ،‬اإلقالع‪ ،‬ثم االنعطاف يمينًا‪ ،‬واملحافظة عىل ارتفاع (كذا) ‪...‬‬
‫إن املراقب يتحدث هنا عن انتظار أمر اإلقالع‪ ،‬ومل ي ِ‬
‫عط األمر الفعيل باإلقالع‪ .‬وكان‬ ‫ُ‬
‫هذا اخلطأ التواصيل سب ًبا يف تصادم طائرتني كبريتني يف مطار (تنريف) ‪ ،Tenerife‬أو ما‬
‫ُيسمى بمطار «لوس روديوس»‪ ،‬بإحدى جزر الكناري اإلسبانية‪ ،‬يف السابع والعرشين‬
‫من مارس عام ‪1977‬م‪ ،‬ونتج عنه وفاة ‪ 583‬إنسانًا (‪ .)1‬وكانت توصية تقرير املحققني‬
‫يف سالمة النقل استخدام العبارات القياسية املتفق عليها‪ ،‬وعدم استخدام كلمة‬
‫(اإلقالع)‪ ،‬كام يف احلوار السابق‪ ،‬إال إذا أراد املراقب إصدار األمر للطيار باإلقالع‬
‫الفعيل‪ ،‬واقرتحوا تعويضها بكلمة املغادرة أو ببدء التدرج ‪ ...‬إلخ (‪.)2‬‬
‫ومنمذج عىل ختطي‬
‫ٌ‬ ‫مربمج‬
‫ٌ‬ ‫والتفسري العصبي املحتمل ملا حدث هو أن الدماغ‬
‫فجوات كثرية وتفاصيل طويلة ال حيتاج إليها‪ ،‬ألجل الوصول إىل اهلدف املقرر يف املهمة‬
‫التي يقوم هبا الفرد‪ ،‬ويف حالة الطيار‪ ،‬فإن مسألة اإلقالع متثل بؤرة احلدث يف ذهنه‪،‬‬
‫وبمجرد أن سمع عبارة مألوفة حتدد له االرتفاع ودرجة االنعطاف ‪ ... radius‬إلخ‪ ،‬وهبا‬
‫كلمة (اإلقالع)‪ ،‬انقدح التحفيز الذهني الختاذ الفعل‪ ،‬وترجم الدماغ األحداث مجلة‬
‫واحدة‪ ،‬وبلور املفهوم وجعل الطيار ينطلق‪ ،‬من دون إذن فعيل من املراقب‪ ،‬ألن هذا أمر‬
‫‪1- Curran, William J: «The Medicolegal Lessons of the Tenerife Disaster», New England‬‬
‫‪Journal of Medicine, 297 (18), Pp 986-987. November 3, 1977.‬‬
‫‪2- Weick, Karl E: «The Vulnerable System: An Analysis of the Tenerife Air Disaster», Journal‬‬
‫‪of Management, 16 (3), p-p 571-593. July 1, 2016.‬‬

‫‪-47-‬‬
‫مألوف ومعتاد لدى الطيار؛ أعني أنه يقوم باإلقالع واهلبوط آالف املرات‪ ،‬ومن ثم فقد‬
‫أيضا تأخر الطائرة عىل املدرج‬
‫جتاوز التفاصيل برسعة ومل ينتبه‪ .‬وكان مما حفز احلادثة ً‬
‫أكثر من ساعة ونصف‪ ،‬وخوف الطيار من إلغاء الرحلة إذا تأخروا عن مدة حمددة‪،‬‬
‫مما سيؤدي إىل حتمل الرشكة نفقات إقامة املسافرين‪ ،‬وربام سحب رخصة الطريان منه‪،‬‬
‫وكلها عوامل تفاعلية حميطة أدت إىل الرتمجة العصبية اخلاطئة ملجمل األحداث‪.‬‬
‫ويف حاالت كثرية تم رصدها‪ ،‬إذا كنت تستمع إىل حديث بالفرنسية وهذا احلديث‬
‫أيضا‪ ،‬ونقلت عينيك بني الرتمجتني‪ ،‬فإنك سرتى‬ ‫مرتجم باإلنكليزية‪ ،‬مع ترمجة عربية ً‬
‫اإلنكليزية فرنسية! أي إنك سرتى ما تسمع ‪ ،‬مع مالحظة أن حروف اللغتني‬
‫(‪)1‬‬

‫أيضا ضمن‬‫اختربت هذا األمر شخص ًّيا‪ ،‬وأصنفه ً‬


‫ُ‬ ‫اإلنكليزية والفرنسية متشاهبة‪ .‬وقد‬
‫إهيام الدماغ بالواقع‪ ،‬وهو أمر خطري كذلك‪ ،‬وذو تأثري كبري عىل التواصل‪ ،‬وربام تكون‬
‫له عالقة بام ُيعرف بتأثري «ماكجريك «‪ McGurk‬وما ُيطلق عليه اإلدراك املتعدد الوسائط‬
‫‪.Multi-Modal Perception‬‬
‫هذا التداخل يتفاوت يف مدته الزمنية‪ -‬بحسب كل فرد‪ ،‬وبحسب اخلربة اللسانية‬
‫ومعرفة أكثر من لغة ‪ ...‬إلخ‪ -‬حتى تكتشف يف حلظة ما أن الرتمجة املكتوبة هي‬
‫اإلنكليزية وليست الفرنسية التي يتحدثها املتكلم (‪.)2‬‬
‫إن هذه املسائل يف غاية األمهية؛ وأقصد حتديدً ا مسألة النمذجة القياسية للكالم اإلنساين‬
‫يف أثناء حدث التواصل‪ ،‬والرتمجة العصبية الداللية للعبارات املألوفة‪ .‬لك أن تتخ ّيل‪-‬‬
‫احا يقوم بعملية دقيقة‪ ،‬وقال ملساعده (اقطع هنا)‪ ،‬وكان يعني‬ ‫جر ً‬
‫يف مقام آخر‪ -‬لو أن ّ‬
‫مثل (ضاغط لوقف النزيف) ‪،tourniquet‬‬ ‫يف ذهنه بكلمة (القطع) وضع قابض أوعية ً‬

‫‪ -1‬السمع هو أبو امللكات اللسانية كام ذهب ابن خلدون يف مقدمته‪ .‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرمحن بن حممد‬
‫(‪1406 – 1332‬م)‪ ،‬املقدمة‪ ،‬حتقيق عيل عبد الواحد وايف‪ ،‬هنضة مرص للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ .1129/3 ،2004‬وللمزيد‪ ،‬عيل أمحد مدكور‪« :‬تربية امللكة اللسانية عند ابن خلدون»‪ ،‬املؤمتر العلمي التاسع‪:‬‬
‫كتب تعليم القراءة يف الوطن العريب بني االنقرائية واإلخراج‪ ،‬اجلمعية املرصية للقراءة واملعرفة‪ ،‬القاهرة‪،2009 ،‬‬
‫ص ص ‪.43-14‬‬
‫‪ -2‬للمزيد من التفاصيل حول تلك املسألة‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Viorica Marian (et al): «Language Experience Changes Audiovisual Perception», Brain‬‬
‫‪Sciences, 8, 85, 2018. Open Source on MDPI: www.mdpi.com‬‬
‫وراجع تفاصيل تأثري «ماكجريك» يف كتابنا‪ :‬النظرية اللسانية العرفانية‪ ،‬ص ‪ 206‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪-48-‬‬
‫ألجل إيقاف نزيف حمتمل ‪ ...‬إلخ‪ ،‬وال يقصد القطع باملرشط‪ ،‬من ثم قام املساعد بقطع‬
‫حتم‪،‬‬‫تأثرا بأمر القائد وبخطورة املوقف والتوتر‪ ...‬إلخ‪ ،‬ستكون النتائج كارثية ً‬
‫النسيج ً‬
‫ولذلك فإن االتفاق عىل العبارات القياسية واالتفاق عىل املرتادفات ونسقها وتركيبها‬
‫خصوصا يف الوظائف واملهام املصريية احلرجة‪ ،‬هو أمر ال مناص منه‪ ،‬جتن ًبا‬
‫ً‬ ‫‪ ...‬إلخ‪،‬‬
‫حليل الدماغ ونمذجته ورسعته يف اختاذ قرارات مبنية عىل خمزون املعلومات‪.‬‬
‫هبذه الطريقة يظل الدماغ‪ -‬كام تقدم‪ -‬يومهنا بصورة مستمرة بالفهم التام واإلدراك‬
‫الكيل للعامل من خالل حيل اللغة‪ ،‬وهو أمر رضوري وصحي مثلام سبقت اإلشارة إىل‬
‫ذلك‪ ،‬لكن تنبغي هنا احليطة وعدم اإلفراط يف االستسالم الالواعي للعمليات الذهنية‬
‫امليكانيكية‪ ،‬التي ال نتدخل فيها إراد ًّيا‪ ،‬ألن الدماغ يسعى دو ًما إىل عبور الفجوات‬
‫ألجل الوصول إىل اهلدف بأقل جهد عصبي ممكن‪.‬‬

‫‪-49-‬‬
‫اخلامتة‪:‬‬
‫أردنا يف هذه الدراسة أن نقف عىل بعض املداخل العلمية البينية ذات الصلة بالنظرية‬
‫اللسانية العرفانية املعارصة‪ ،‬وكان اهلدف األسايس التعريف بمركزية هذه املسائل‬
‫املطروحة ضمن أطروحات العلم احلديث‪ ،‬التي قدمت الدراسة مباحث مكثفة حوهلا؛‬
‫كام وقفنا عىل أطروحة تقرير «سلون» املم ّثل لبزوغ العلم العرفاين عمو ًما يف حقل‬
‫فلسفة العلوم الغربية‪ ،‬مثلام عرضنا بعض مرتكزات بنائية املعجم الذهني‪ ،‬وانتهينا إىل‬
‫منفتحا عىل علوم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مدخل جديدً ا‬ ‫فرضية «وهم املعرفة» التي متثل‪ -‬من وجهة نظرنا‪-‬‬
‫أخرى تبحث يف الظاهرة اللسانية اإلنسانية وتعالقها مع مباحث الكون‪.‬‬
‫رت ًبا ملزيد فحص‬
‫أما اهلدف العام ملا طرحته الدراسة فهو أن تكون هذه املباحث مق َ‬
‫خمتلف اجلوانب التي تعاجلها اللسانيات العصبية العرفانية‪ ،‬وعىل رأسها بيولوجيا‬
‫السريورات العرفانية ل ّلغة اإلنسانية يف الدماغ البرشي‪ ،‬وانفتاح النسق اللساين عىل‬
‫املحيط البيئي والكوين؛ فهذا الفرع من العلوم البينية قد أضحى‪ -‬يف عرصنا‪ -‬عىل قمة‬
‫هرم الدراسات الفلسفية والتجريبية‪ ،‬ولعل ما قدمناه هبذا الفصل ُيبني جان ًبا من مئات‬
‫اجلوانب التي نرجو أن نخصص هلا ً‬
‫أعامل مستقبلية يف املسائل العالقة بني علوم اللسان‬
‫والعلوم الطبيعية‪ ،‬لنخرج من ذلك بأطر جديدة تسمح بفهم أعمق للظاهرة اللسانية‪.‬‬

‫‪-50-‬‬
‫قائمة املراجع‪:‬‬
‫العربية‪:‬‬
‫‪1.1‬أندرو كوران‪ :‬الدليل املوجز يف أرسار املخ الكربى‪ ..‬القصة احلقيقية لدماغك‬
‫املذهل‪ ،‬ترمجة أمحد موسى‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬العدد ‪.2018 ،2925‬‬
‫‪2.2‬جاي دويترش‪ :‬عرب منظار اللغة‪ِ ..‬ل َ يبدو العامل خمتل ًفا بلغات أخرى؟ عامل املعرفة‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬العدد ‪.2015 ،429‬‬
‫‪3.3‬ابن جني‪ ،‬أبو الفتح عثامن (تويف ‪ 392‬هـ)‪ :‬اخلصائص‪ ،‬طبعة سلسلة الذخائر‬
‫املرصية‪ ،‬حتقيق حممد عيل النجار‪ ،‬طـ ‪.2006 ،1‬‬
‫‪4.4‬جون سريل‪ :‬العقل واللغة واملجتمع‪ ،‬الفلسفة يف العامل الواقعي‪ ،‬ترمجة صالح‬
‫إسامعيل‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬العدد ‪.2006 ،1812‬‬
‫‪5.5‬جون سريل‪ :‬رؤية األشياء كام هي‪ ..‬نظرية اإلدراك‪ ،‬ترمجة إهياب عبد الرحيم عيل‪،‬‬
‫عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪.2018 ،456‬‬
‫‪6.6‬جريوم كيجان‪ :‬الثقافات الثالث‪ ..‬العلوم الطبيعية واالجتامعية واإلنسانيات يف‬
‫القرن احلادي والعرشين‪ ،‬ترمجة صديق حممد جوهر‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪،408 ،‬‬
‫يناير‪ .2014 ،‬وطبعة املركز القومي للرتمجة‪ ،‬مرص‪ ،‬العدد ‪.2476‬‬
‫‪7.7‬محادي صمود‪ :‬نظرية املعنى يف الرتاث العريب وأثرها يف فهم وظيفة الصورة‪،‬‬
‫ضمن كتاب (يف نظرية األدب عند العرب)‪ ،‬النادي الثقايف بجدة‪ ،‬طـ ‪.1990 ،1‬‬
‫‪8.8‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرمحن بن حممد (‪1406 - 1332‬م)‪ :‬املقدمة‪ ،‬بتحقيق عيل عبد‬
‫الواحد وايف‪ ،‬هنضة مرص للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طـ ‪.2004 ،1‬‬
‫‪9.9‬رسل لوف‪ ،‬واندا ويب‪ :‬علم األعصاب للمختصني يف عالج أمراض اللغة‬
‫والنطق‪ ،‬ترمجة حممد زياد كبة‪ ،‬جامعة امللك سعود‪ ،‬الرياض‪ ،‬طـ ‪.2010 ،1‬‬
‫‪1010‬سوزان شنايدر‪ :‬اخليال العلمي والفلسفة‪ ،‬من السفر عرب الزمن إىل الذكاء الفائق‪،‬‬
‫ترمجة عزت عامر‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬العدد ‪ ،1859‬القاهرة‪.2011 ،‬‬

‫‪-51-‬‬
‫‪1111‬السيوطي‪ ،‬جالل الدين (تويف ‪ 911‬هـ)‪ :‬األشباه والنظائر‪ ،‬حتقيق عبد العال سامل‬
‫مكرم‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طـ ‪.2003 ،3‬‬
‫‪1212‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬البناء العصبي للغة‪ ،‬دراسة بيولوجية تطورية يف إطار اللسانيات‬
‫العرفانية العصبية‪ ،‬دار كنوز املعرفة‪ ،‬األردن‪ ،‬طـ ‪.2017 ،1‬‬
‫‪1313‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬البحث املعريف املعارص‪ ،‬نامذج من فلسفة اللغة وإبستمولوجيا‬
‫العلوم‪ ،‬دار النابغة‪ ،‬مرص‪ ،‬طـ ‪.2018 ،1‬‬
‫‪1414‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬البناء الذهني للمفاهيم‪ ،‬بحث يف تكامل علوم اللسان وآليات‬
‫العرفان‪ ،‬دار كنوز املعرفة‪ ،‬األردن‪ ،‬طـ ‪.2019 ،1‬‬
‫‪1515‬عبد الرمحن طعمة‪ ،‬وأمحد عبد املنعم‪ :‬النظرية اللسانية العرفانية‪ ،‬دراسات‬
‫إبستمولوجية‪ ،‬دار رؤية للنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طـ ‪.2019 ،1‬‬
‫‪1616‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬ميكانيزمات اإلدراك يف العقل البرشي‪ :‬دراسة يف أساسيات‬
‫اللغة والوعي من منظور تكنو ‪ -‬عصبي‪ ،‬املجلس الدويل للغة العربية‪ ،‬مؤمتر اللغة‬
‫العربية الرابع‪ ،‬ديب‪ ،‬املجلد (‪.2015 ،)9‬‬
‫‪1717‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬تداولية املعنى عند حازم القرطاجني‪ ،‬األسس املنطقية‬
‫والتناول اللساين‪ ،‬أعامل مؤمتر حازم القرطاجني وقضايا جتديد الرؤية واملنهج يف‬
‫البالغة العربية القديمة‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬تطوان‪ ،‬املغرب‪ ،‬نوفمرب‪،‬‬
‫‪.2017‬‬
‫‪1818‬عبد الرمحن طعمة‪ :‬هندسة ماندلربوت الكسريية نموذجا للتطبيق اللساين‪ ،‬جملة‬
‫املامرسات اللغوية‪ ،‬خمرب املامرسات اللغوية‪ ،‬جامعة مولود معمري‪ ،‬تيزي وزو‪،‬‬
‫اجلزائر‪ ،‬املجلد ‪ ،10‬العدد ‪.2019 ،1‬‬
‫‪1919‬عبد اهلل جاد الكريم‪ :‬االختصار سمة العربية‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طـ ‪.2006 ،1‬‬
‫‪2020‬عبد القادر بن بدران الدومي احلنبيل‪ :‬رشح كتاب الشهاب يف احلكم واملواعظ‬
‫واآلداب‪ ،‬لإلمام القضاعي‪ ،‬حتقيق وضبط نور الدين طالب‪ ،‬وزارة األوقاف‬
‫والشئون اإلسالمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬طـ ‪.2007 ،1‬‬

‫‪-52-‬‬
‫‪2121‬عبد الكريم جيدور‪ :‬اللسانيات العرفانية ومشكالت تعلم اللغات واكتساهبا‪ ،‬جملة‬
‫العالمة‪ ،‬خمرب اللسانيات النصية وحتليل اخلطاب‪ ،‬كلية اآلداب واللغات‪ ،‬جامعة‬
‫قاصدي مرباح‪ ،‬ورقلة‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬العدد اخلامس‪.2017 ،‬‬
‫‪2222‬العسكري‪ ،‬أبو هالل احلسن (تويف ‪1005‬م)‪ :‬كتاب الصناعتني (الكتابة والشعر)‪،‬‬
‫حتقيق مفيد قميحة‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬طـ ‪.2008 ،1‬‬
‫‪2323‬عيل أمحد مدكور‪ :‬تربية امللكة اللسانية عند ابن خلدون‪ ،‬املؤمتر العلمي التاسع‬
‫(كتب تعليم القراءة يف الوطن العريب بني االنقرائية واإلخراج)‪ ،‬اجلمعية املرصية‬
‫للقراءة واملعرفة‪ ،‬القاهرة‪.2009 ،‬‬
‫‪2424‬عيل النجدي ناصف‪ :‬مع القرآن الكريم يف دراسة مستلهمة‪ ،‬سلسلة اقرأ‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬العدد ‪.2009 ،733‬‬
‫‪2525‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد الطويس النيسابوري (تويف ‪ 505‬هـ)‪ :‬إحياء علوم الدين‪ ،‬طبعة‬
‫دار القلم‪ ،‬طـ ‪ ،3‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪2626‬فاتن فاضل وأمل الرشع‪ :‬أصول ظاهرة التالحق عند القدماء‪ ،‬جملة جامعة بابل‬
‫للعلوم اإلنسانية‪ ،‬املجلد ‪ ،23‬العدد ‪.2015 ،3‬‬
‫‪2727‬فخر الدين قباوة‪ :‬االقتصاد اللغوي يف صياغة املفرد‪ ،‬الباب األول‪ :‬اقتصاد اللغة‬
‫العربية‪ ،‬طبعة الرشكة املرصية العاملية للنرش (لونجامن)‪ ،‬طـ‪ ،1‬القاهرة‪.2001 ،‬‬
‫‪2828‬الفراء‪ ،‬أبو زكريا حييى بن زياد (تويف ‪ 207‬أو ‪ 215‬هـ)‪ :‬معاين القرآن‪ ،‬طبعة اهليئة‬
‫املرصية العامة للكتاب‪ ،‬حتقيق عبد الفتاح شلبي‪ ،‬وعيل النجدي ناصف‪ ،‬طـ ‪،1‬‬
‫‪.2001‬‬
‫‪2929‬القرطاجني‪ ،‬أبو احلسن حازم (‪1386 - 1211‬م)‪ :‬منهاج البلغاء ورساج‬
‫األدباء‪ ،‬تقديم وحتقيق حممد احلبيب ابن اخلوجة‪ ،‬دار الكتب الرشقية‪ ،‬تونس‪ ،‬طـ‬
‫‪.1966 ،1‬‬
‫‪3030‬حممد حسن علوان‪ :‬موت صغري‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بريوت‪ ،‬طـ ‪.2016 ،2‬‬

‫‪-53-‬‬
‫ جملة عامل‬،‫ اللغة وبنية املعرفة البرشية‬،‫ اللسانيات وعلم املعرفة‬:‫حممد الوحيدي‬3131
.2018 ،‫ سبتمرب‬،175 ‫ العدد‬،‫ الكويت‬،‫الفكر‬
‫ املنهاج رشح‬:)‫هـ‬676 ‫ أبو زكريا حميي الدين حييى بن رشف (توىف‬،‫النووي‬3232
‫ طـ‬،‫ بريوت‬،‫ دار إحياء الرتاث العريب‬،)‫ هـ‬261 ‫صحيح مسلم بن احلجاج (تويف‬
.‫ هـ‬1392 ،2

:‫األجنبية‬
1. Clark, E: The lexicon in acquisition, Cambridge University Press,
1993.
2. Curran, William J: «The Medicolegal Lessons of the Tenerife Dis-
aster», New England Journal of Medicine, 297 (18), November 3,
1977.
3. De Mey, M: The Cognitive Paradigm, University of Chicago Press,
4th ed, 1992.
4. Kintch, W. & Van Dijk, T A: «Towards a Model of Text Comprehen-
sion and Production», Psychological Review, 85. 1978.
5. Lamb, Sydney: Language and Reality, Continuum, London and
New York, 1st ed, 2004.
6. Laura H. Goldstein, Jane E. McNeil: Clinical Neuropsychology,
A Practical guide to Assessment and Management for Clinicians,
Wiley Publications, London, 1sted, 2004.
7. Markov N T, Ercsey-Ravasz M, (et al): «Cortical High-Density
Counter-stream Architectures». Science, 2013.
8. Mark D. Houser, Chomsky (et al): «The Faculty of Language: what
is it? Who has it? and how it evolve», Science Magazine, Vol 298,
2002.
9. Miller, George A: «The Cognitive Revolution; A Historical Perspec-
tive», TRENDS in Cognitive Sciences, Vol.7, No.3, Elsevier, 2003.
10. Wanda G. Webb: Neurology for the Speech-Language Pathologist,

-54-
Elsevier, 6th ed, 2017.
11. Wingfield, A, Alexander, A.H. & Cavigelli, S: «Does memory con-
strain utilization of top-down information in spoken word recogni-
tion? Evidence from normal aging», Language and Speech, Vol 37,
Issue 3, 1994.
12. Weick, Karl E: «The Vulnerable System: An Analysis of the Ten-
erife Air Disaster», Journal of Management, 16 (3), July 1, 2016.
13. Viorica Marian (et al): «Language Experience Changes Audiovisual
Perception», Brain Sciences, 8, 85, 2018. Open Source on MDPI:
www.mdpi.com

:‫املواقع اإللكرتونية‬
‫ ترمجة‬،‫ مقوالت الفكر ومقوالت اللغة‬Émile Benveniste: ‫ إيميل بنفينيست‬.1
‫ فرباير‬9( ‫ بتاريخ اسرتجاع‬،‫ عىل الرابط املرفق‬،‫وتقديم عبد الكبري الرشقاوي‬
http://www.aljabriabed.net/n16_10charkawi.htm :)2019

https://acofps.com/vb/65766.html :‫ أكاديمية علم النفس‬.٢

-55-
-56-
‫الفصل الثاني‬
‫مالمح من األبنية الذّ هنية للفضاء‬
‫يف النحو العربي‬

‫(‪)1‬‬
‫د‪ .‬عفاف موقو‬

‫‪ -1‬أستاذة مشاركة‪ ،‬قسم اللغة العربية‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة سوسة‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫‪-57-‬‬
-58-
‫مقدّ مة‬
‫منطلقنا النظري‪ ،‬يف هذا الفصل‪ ،‬هو علم داللة النحو‪ ،‬وحتديدً ا ما ُعرف بلسانيات‬
‫الفضاء التي اعتمدنا منها عىل نظرية ليونارد طاملي (‪ ،)L. Talmy‬وهي نظرية عرفانية‬
‫ري‪ ،‬أي أنه ال حييل بالرضورة عىل‬ ‫أن املعنى ال ّلساين معنى ّ‬
‫تصو ّ‬ ‫متأسسة عىل اعتبار ّ‬
‫العالقات بني الكيانات يف العامل املمكن أو الواقعي‪ ،‬بل إن املعنى ال ّلساين يم ّثل ّ‬
‫تصو ًرا‬
‫وقائم عىل طريقة فهم شخصية للوضعيات يف العامل‪ .‬ومن ثم فإن‬ ‫ً‬ ‫ُم َبنْ َينًا يف ّ‬
‫الذهن‬
‫املعنى ليس ثابتًا ولكنه مسألة بناء ذهني لساين تُستمدّ آلياته من اآلليات النفسية نفسها‬
‫املوجودة ضمن آلية املعرفة املوسوعية واإلدراك‪ .‬ومن منظور طاملي‪ ،‬مت ّثل اخلطاطات‬
‫سميه‬‫أبنية ذهنية تشتغل لـ «بنينة» التجربة‪ ،‬ويم ّثل نظام اخلطاطات الفضائية جز ًءا ممّا ُي ّ‬
‫«األنظمة اخلطاطية»‪.‬‬
‫التصورية»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ني للمقوالت‬ ‫يعرف طاملي ال ّلغة بام هي‪« :‬النظام ا ُمل َب ِ ُ‬
‫وعىل هذا األساس‪ّ ،‬‬
‫مزدوجا‪ :‬نظا ًما معجم ًّيا‪ ،‬ونظا ًما نحو ًّيا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وهي تشكّل نظا ًما عرفان ًّيا‬
‫ً‬
‫أشكال لسانية عدّ ة‬ ‫فأ ّما النظام املعجمي‪ ،‬فيم ّثل «القسم املفتوح» ل ّلغة الذي ّ‬
‫يضم‬
‫مثل املشت ّقات االسمية والفعلية‪.‬‬
‫ً‬
‫أشكال لسانية عسرية‬ ‫يضم‬
‫ّ‬ ‫وأ ّما النظام النحوي‪ ،‬فيم ّثل «القسم املغلق» الذي‬
‫االشتقاق مثل احلروف‪.‬‬
‫النظامي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ويكون التمثيل العرفاين خمتل ًفا بني‬
‫إذ حتدّ د العنارص النحوية القسط األوفر من «بنية» التمثيل العرفاين للملفوظ‪ ،‬وحتدّ د‬
‫ري» لذلك التمثيل‪.‬‬‫التصو ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫القسط األوفر من «املضمون‬ ‫العنارص املعجمية‬
‫بنا ًء عىل هذا األساس النظري‪ُ ،‬عني هذا البحث بدراسة املقولة التصورية للفضاء‪،‬‬
‫أن ظروف املكان وحدات نحوية منتمية إىل القسم املغلق للغة وممثلة‬ ‫واالستدالل عىل ّ‬
‫الذهني للفضاء‪.‬‬ ‫دورا مركز ًّيا يف البناء ّ‬
‫خفي يؤ ّدي ً‬
‫ملستوى بنيوي ّ‬
‫ولتحقيق ذلك‪ ،‬نقرتح قراءة إلشكالية َم ْقولة الظروف يف تراثنا النحوي العريب‪،‬‬
‫وذلك اعتام ًدا عىل املصنّفات النحوية اآلتية‪« :‬الكتاب» لسيبويه‪ ،‬و«رشح شافية ابن‬
‫املفصل» البن يعيش‪ ،‬و«املرجتل يف رشح اجلمل» البن‬
‫احلاجب» لألسرتاباذي‪ ،‬و«رشح ّ‬

‫‪-59-‬‬
‫للزجاجي‪ ،‬و«مغني ال ّلبيب عن كتب األعاريب»‬ ‫ّ‬
‫اخلشاب‪ ،‬و«اإليضاح يف علل النحو» ّ‬
‫البن هشام‪ ،‬و«اإلنصاف يف مسائل اخلالف» لألنباري‪.‬‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬اهتممنا يف هذا الفصل بدراسة أنامط متثيل ال ّلغة للفضاء من خالل‬
‫التصورات اهلندس ّية األساس ّية املتع ّلقة بظروف املكان‪ .‬إذ تنشأ عن‬ ‫ّ‬ ‫الكشف عن بعض‬
‫استعامل ظروف املكان أبنية ذهن ّية مم ّثلة للفضاء‪ .‬وتتّضح هذه األبنية من خالل أنامط‬
‫يعرف التشكّل اخلطاطي‬ ‫قياسا إىل اخللف ّية يف ال ّلغة العرب ّية‪ .‬إذ ّ‬
‫تعيني موقع الصورة ً‬
‫معي من‬ ‫مرجعي ّ‬
‫ّ‬ ‫اختيارا نسق ًّيا لبعض أبعاد مشهد‬
‫ً‬ ‫املتضمنة‬
‫ّ‬ ‫للفضاء بام هو «العمل ّية‬
‫الصورة‬
‫ويتأسس عىل مفهوم ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكل‪ ،‬برصف النظر عن بق ّية األبعاد»(‪،)1‬‬ ‫أجل متثيل ّ‬
‫(‪ )Figure‬واخللف ّية (‪ )Ground‬الذي ينتمي إىل حقل علم النّفس حيث أدرجه عامل‬
‫ثم نقله طاملي إىل املجال ال ّلساين يف‬‫النّفس الدّ نامركي إدقار روبن (‪ّ ،)Edgar Rubin‬‬
‫أطروحته «البنى الدّ الل ّية يف اإلنكليز ّية ولغة األتسوجواي»(‪ )1972‬وأصبح حييل عىل‬
‫(الصورة)‪/‬وال ّظارف (اخللف ّية)‪ ،‬مع حدوث بعض التغيريات منها‬ ‫الكيان املظروف ّ‬
‫كل‬ ‫أن ً‬
‫بالشء‪ ،‬واخللف ّية شبيهة باملا ّدة‪ ،‬يف حني ّ‬‫أن الصورة‪ ،‬لدى روبن‪ ،‬هي شبيهة ّ‬ ‫ّ‬
‫الشء‪ .‬وجتدر اإلشارة‪ ،‬يف هذا الصدد‪ ،‬إىل‬ ‫الصورة واخللف ّية‪ ،‬لدى طاملي‪ ،‬يشبهان ّ‬ ‫من ّ‬
‫أن من الباحثني العرب من يرتجم ثنائ ّية (‪ )Figure / Ground‬ترمجات مغايرة ّ‬
‫لعل‬ ‫ّ‬
‫أشهرها رسم‪/‬أرض ّية (‪.)2‬‬
‫وقد رأينا االقتصار يف هذا الصدد‪ ،‬عىل التشكّل اخلطاطي للفضاء الناشئ عن تعيني‬
‫الصورة عىل أساس خلف ّية واحدة‪.‬‬‫ّ‬

‫الدّ راسة التّطبيقية‪:‬‬


‫سنتناول‪ ،‬يف الدّ راسة التّطبيق ّية من هذا العمل‪ ،‬الظروف بام هي حروف‪ ،‬أي بام هي‬
‫التصور ّية‬
‫ّ‬ ‫«قسم مغلق» مم ّثل لعنارص نحو ّية مفرغة دالل ًّيا‪ ،‬أو بنية خف ّية من ّظمة للام ّدة‬
‫أفعال‪ .‬وعىل هذا‬‫ً‬ ‫عب عنها بواسطة عنارص املقوالت املعجم ّية سواء أكانت أسام ًء أم‬ ‫ا ُمل ّ‬
‫بنوعي من الظروف‪ :‬الظروف املضافة‪ ،‬والظروف املبهمة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫سنهتم‬
‫ّ‬ ‫األساس‪ ،‬فإنّنا‬
‫‪1- Leonard Talmy. 2003. Toward a Cognitive Semantics. MIT. Cambridge. Massachusetts.‬‬
‫‪Vol.1.p176.‬‬
‫‪ -2‬راجع ذلك لدى‪ :‬األزهر الزنّاد‪ ،‬نظرية النحو العرفاين لرونالد النقكر‪ ،‬منوبة‪ ،‬كلية اآلداب منوبة‪ ،2003 ،‬ص‪.12‬‬

‫‪-60-‬‬
‫فإنا تشرتك مع احلروف يف أمر ْين أساس ّي ْي‪ّ :‬أوهلام التبع ّية‬ ‫أ ّما الظروف املضافة‪ّ ،‬‬
‫أن املعنى الذي يتط ّلبه‬ ‫الدّ الل ّية‪ ،‬ثانيهام التبع ّية الرتكيب ّية‪ .‬فأ ّما التبع ّية الدالل ّية‪ ،‬فتعود إىل ّ‬
‫الفعل‪ ،‬ال يكون يف الظرف املضاف بل يوجد يف املضاف إليه‪ ،‬فالظرف املضاف تابع‬
‫ألن معناه ليس يف ذاته‪« :‬وقال الكوف ّيون إنام لزمت‬ ‫للمضاف إليه من الناحية الدّ الل ّية ّ‬
‫ربا عن االسم إذا‬ ‫أخبارا عن االسم كام يكون الفعل خ ً‬ ‫ً‬ ‫ألنا تكون‬ ‫[الظروف] اإلضافة ّ‬
‫فلم كان الفعل حيتاج إىل فاعل وقد يتّصل به أشياء يقتضيها‬ ‫قلت زيد يذهب ويركب ّ‬
‫من املصدر واملكان والزمان واملفعول ألزموا الظرف اإلضافة ليسدّ املضاف إليه مسدّ ما‬
‫األول‪ ،‬من‬ ‫التكيب ّية‪ ،‬فتظهر‪ ،‬كام رأينا يف الباب ّ‬ ‫ويدل عليه»(‪ .)1‬أ ّما التبع ّية ّ‬ ‫يطلبه الفعل ّ‬
‫أن هذا احلرف مالزم‬ ‫خالل تقدير «يف» قبل الظرف‪ ،‬ممّا جيعلها «يف حكم املنطوق به» أي ّ‬
‫التصور ّية‪ .‬وهو ما جيعل الظروف تشرتك يف اخلصائص الفضائ ّية‬ ‫ّ‬ ‫للظرف من الناحية‬
‫ينفك من اسم أو فعل يصحبه»(‪.)2‬‬ ‫ّ‬ ‫نفسها للحروف بام هي قسم الكالم الذي «ال‬
‫الربط بني األجزاء‬ ‫مستقل من الناحية الرتكيبية ألنه يؤ ّدي معنى التعليق أي ّ‬ ‫ّ‬ ‫فاحلرف غري‬
‫املختلفة من الكالم وفق العالقات اهلندس ّية التي يكتسبها كيان ما يف عالقته بكيان آخر‪.‬‬
‫ألن قطعها عن‬ ‫فإن الظروف ال تشتغل بام هي حروف إالّ إذا كانت مضافة‪ّ ،‬‬ ‫ومن ثم ّ‬
‫حتول الظرف إىل كيان‪-‬خلف ّية ومن ثم إىل عنرص معجمي‪.‬‬ ‫اإلضافة يؤ ّدي إىل ّ‬
‫أن احلرف‬ ‫متضمنًا له‪ ،‬وذلك باعتبار ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن معنى الظرف ّية مالزم ملعنى احلرف ّية وليس‬
‫أن الظرف يف عرف أهل هذه‬ ‫ستدل من الظرف بحكم التّقدير ال االشتامل‪« :‬اعلم ّ‬ ‫ُي ّ‬
‫الزمان واملكان عىل اإلطالق بل الظرف منها ما كان‬ ‫كل اسم من أسامء ّ‬ ‫الصناعة ليس ّ‬
‫ّ‬
‫منتص ًبا عىل تقدير «يف» واعتباره بجواز ظهورها معه فتقول قمت اليوم وقمت يف اليوم‬
‫يدل عىل ذلك أنك إذا قلت أكن عن اليوم‪ ،‬قيل‬ ‫فـ«يف ُمراد ٌة وإن مل تذكرها‪ .‬والذي ّ‬
‫متضمنا معنى «يف» (‪ )..‬وإنام «يف»‬‫ّ‬ ‫قمت فيه‪ ،‬وكذلك سائر الظروف‪ ،‬وليس الظرف‬
‫حمذوفة من ال ّلفظ لرضب من التّخفيف فهي يف حكم املنطوق به أال ترى أنّه جيوز ظهور‬
‫«يف» معه وال جيوز ظهور اهلمزة مع «من» و«كم» يف االستفهام فال يقال أمن وال أكم‬
‫شتملي عليها فظهور‬
‫ْ‬ ‫تضمنا معنى اهلمزة صارا كا ُمل‬
‫أن « َمن» و«كم» ّملا ّ‬‫وذلك من قبل ّ‬

‫املفصل‪ ،‬بريوت‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،.‬ج‪ ،2‬ص‪.127‬‬


‫‪ -1‬موفق الدين بن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬
‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.22‬‬
‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬

‫‪-61-‬‬
‫فإن الظرف ّية مفهومة من تقدير «يف» ولذلك‬
‫اهلمزة حينئذ كالتكرار وليس كذلك الظرف ّ‬
‫املتضمن له»(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫املتضمن للحرف وغري‬
‫ّ‬ ‫يصح ظهورها فاعرف الفرق بني‬
‫ّ‬
‫اإلضايف‪ ،‬يف رأينا‪ ،‬رش ًطا أساس ًّيا الشتغال الظروف بام هي عنارص‬
‫ّ‬ ‫التكيب‬ ‫ويم ّثل ّ‬
‫أن اإلضافة جتعلها تُستعمل بام هي عنرص واصل بني جزأ ْين من أجزاء‬ ‫نحو ّية‪ ،‬ذلك ّ‬
‫الصورة‪ ،‬وجزء الحق له‪ ،‬وهو اخللف ّية‪ .‬وعىل‬ ‫الكالم‪ ،‬جزء بارز سابق للظرف‪ ،‬وهو ّ‬
‫هذا األساس استنكر القدامى استعامل الظروف مفردة بل ذهب بعضهم إىل إخراج‬
‫الظروف املفردة من الظرف ّية وإدخاهلا يف االسم ّية‪ )..(« :‬فإذا أفردت وقيل قام زيد خل ًفا‬
‫وذهب عمرو قدّ ا ًما فهو عند البرصيني نُصب عىل الظرف كام يكون مضا ًفا نحو قام‬
‫قدّ امك وذهب خلفك إالّ أنّه مبهم منكور كأنك قلت قام خلف غريه وذهب قدّ ام‬
‫يشء‪ ،‬ومنع الكوف ّيون من ذلك وقالوا ال تكون ظرو ًفا إالّ مضافة وإذا أفردت صارت‬
‫أسامء وكانت يف تقدير احلال كأنّه قال قام ّ‬
‫متأخ ًرا وذهب متقدّ ًما‪ ،‬وفائدة اخلالف تظهر‬
‫ربا كام يكون مضا ًفا‪،‬‬
‫يف اخلرب فعند البرصيني تقول زيد خل ًفا وعمرو قدّ ا ًما فيكون خ ً‬
‫متأخر وقدّ ام أي متقدّ م ويكون اخلرب‬ ‫خلف أي ّ‬ ‫ٌ‬ ‫والكوف ّيون يرفعون ويقولون زيد‬
‫األول كام تقول زيد قائم»(‪ ،)2‬أ ّما املضاف إىل ال ّظرف‪ ،‬فبالرغم من إمكان ّية‬ ‫مفر ًدا هو ّ‬
‫يغي من وظيفته بام هو يشء‪-‬خلف ّية أو كيان‬ ‫فإن ذلك ال ّ‬ ‫وروده مجلة فعل ّية أو اسم ّية‪ّ ،‬‬
‫تؤول‪ ،‬يف املستوى الدّ اليل‪ ،‬بمصدر‪.‬‬‫أن اجلملة املضافة إىل الظروف‪َّ ،‬‬ ‫نظرا إىل ّ‬
‫ثابت‪ً ،‬‬
‫«تاجر حيث يقيم أخوك»‪« ،‬تاجر حيث إقامة أخيك»‪« :‬واختُلف‬ ‫ْ‬ ‫فاألصل يف قولنا‪:‬‬
‫تضمنته‪ ،‬والنّزاع يف‬
‫ّ‬ ‫يف كون الظروف مضاف ًة إىل ظاهر اجلملة‪ ،‬أو إىل املصدر الذي‬
‫ألن اإلضافة يف ال ّلفظ إىل ظاهر اجلملة بال خالف‪ ،‬ومن حيث املعنى‬ ‫منتف‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫احلقيقة‬
‫إىل مصدرها»(‪.)3‬‬
‫«ألن املكان ال‬
‫وتُعدُّ «حيث» ظرف املكان الوحيد الواجب اإلضافة إىل اجلمل‪ّ :‬‬
‫ُ‬
‫«حيث»‬ ‫ُيضاف إىل اجلملة إالّ «حيث»»(‪ ،)4‬ويندر استعامهلا مضافة إىل املفرد‪« :‬تلزم‬

‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.41‬‬


‫‪ -1‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬
‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.12‬‬
‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬
‫‪ -3‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،1982 ،‬ج‪ ،3‬ص‪.175‬‬
‫‪ -4‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.200‬‬

‫‪-62-‬‬
‫اإلضافة إىل ٍ‬
‫مجلة‪ ،‬اسم ّية كانت أو فعل ّية‪ ،‬وإضافتها إىل الفعل ّية أكثر [(واهلل أعلم حيث‬
‫ّصب يف نحو «جلست حيث زيد أراه» وندرت‬ ‫ثم رجح الن ُ‬ ‫جيعل رسالتَه)]‪ ،‬ومن ّ‬
‫إضافتها إىل املفرد كقوله‪:‬‬
‫ببيض املوايض ُ‬
‫حيث َ ِّل العامئم (‪)..‬‬ ‫ونطعنهم حتت الكُىل بعد رضهبــم ‬
‫ُ‬
‫«حيث» إىل املفرد أعرهبا‪:‬‬ ‫ومن أضاف‬
‫َ‬
‫[نجـم ُييضء ِّ‬
‫كالشهـاب الم ًعا]»(‪.)1‬‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬
‫هيــل طـــال ًعا ‬ ‫أمــا تــرى ح ْي َث ُس‬
‫أن إضافته‪ ،‬يف األصل‪ ،‬إىل مصدر اجلملة ال إىل‬‫فإن بناء «حيث» عائد إىل ّ‬‫ومن ثم ّ‬
‫اجلملة‪ ،‬و ّملا ُحذف املصدر وقامت مقامه اجلملة‪ ،‬شاهبت «حيث» الغايات من جهة‬
‫الضم مثلها‪ )..(« :‬فالواجبة اإلضافة إليها[اجلملة]‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حذف املضاف إليه‪ ،‬ف ُبنيت عىل‬
‫تضمنته اجلملة‪ ،‬وإن كانت يف‬‫ّ‬ ‫ألنا مضافة يف املعنى إىل املصدر الذي‬
‫واجبة البناء‪ّ ،‬‬
‫الظاهر إىل اجلملة‪ ،‬فإضافتها إليها كال إضافة‪ ،‬فشاهبت الغايات املحذوف ما أضيفت‬
‫ربر ابن هشام ضعف اإلضافة‬ ‫الضم كالغايات» ‪ .‬وي ّ‬ ‫إليه‪ ،‬فلهذا ُبنيت «حيث» عىل‬
‫(‪)2‬‬
‫ّ‬
‫الضم‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫«حيث‪:‬‬ ‫تربيرا إعراب ًّيا مفاده عدم ظهور عالمة اإلعراب عىل اجلملة‪:‬‬
‫إىل اجلملة ً‬
‫اجلر ال يظهر»(‪.)3‬‬
‫ألن أثرها وهو ّ‬‫ألن اإلضافة إىل اجلملة كال إضافة ّ‬
‫تشبيها بالغايات‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫أ ّما النّوع ال ّثاين من الظروف التي سيشملها ُ‬
‫نطاق بحثنا‪ ،‬فهي ظروف املكان املبهمة‬
‫الست) أم مبن ّية (حيث‪ ،‬عند‪ ،‬لدى)‪ .‬ذلك أن الظروف‬ ‫ّ‬ ‫سواء أكانت معربة (اجلهات‬
‫تصوري‪.‬‬
‫املختصة‪ ،‬مثلام سبق أن ب ّينّا‪ ،‬أسامء حمضة أي ّإنا ما ّدة معجم ّية ذات مضمون ّ‬ ‫ّ‬
‫املختصة من مقولة ظروف املكان واشرتط‬‫ّ‬ ‫وهلذا السبب‪ ،‬أخرج ابن هشام الظروف‬
‫سمة «اإلهبام» يف الظرف ّية املكان ّية مثلام أسلفنا اإلشارة إىل ذلك (‪.)4‬‬
‫التصور ّية‪ .‬ويظهر‬
‫ّ‬ ‫ومن هذا املنطلق‪ ،‬مت ّثل الظروف املبهمة بنية خطاط ّية من ّظمة للام ّدة‬
‫جهتي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ذلك من‬

‫‪ -1‬ابن هشام‪ ،‬مغني ال ّلبيب عن كتب األعاريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬املكتبة العرصية‪ ،1987 ،‬ج‪ ،1‬ص‪ -‬ص‪.133-132‬‬
‫‪ -2‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬ج‪ .3‬ص‪.180‬‬
‫‪ -3‬ابن هشام‪ ،‬مغني ال ّلبيب عن كتب األعاريب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.131‬‬
‫‪ -4‬ابن هشام‪ ،‬مغني ال ّلبيب عن كتب األعاريب‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.576‬‬

‫‪-63-‬‬
‫أن ظروف املكان املبهمة ذات داللة عا ّمة غري حمدودة‬ ‫أوالمها املستوى الدّ اليل‪ ،‬إذ ّ‬
‫يقرهبا من العنارص النّحو ّية املفرغة دالل ًّيا وجيعلها تشرتك يف متثيل خطاطة املسار‬ ‫ممّا ّ‬
‫الست‬‫ّ‬ ‫الذي ال حدود له‪« :‬فاملبهم ما مل يكن له هناية وال أقطار حترصه نحو اجلهات‬
‫واملختص ما كان‬‫ّ‬ ‫كخلف وقدّ ام وفوق وحتت ويمنة ويرسة ووراء ومكان ونحو ذلك‪،‬‬
‫فإن الفعل‬ ‫له حدّ وهناية نحو الدار واملسجد واجلامع والسوق ونحو ذلك»(‪ .)1‬وهبذا‪ّ ،‬‬
‫مبارشا‬‫ً‬ ‫يرتبط‪ ،‬سواء كان الز ًما أو متعدّ ًيا (إىل مفعول أو أكثر) بالظروف املبهمة ارتبا ًطا‬
‫جر‪ ،‬فنقول‪« :‬وقف زيد خلفك»‪ ،‬و«ملحت زيدً ا خلفك» و«أعطيت زيدً ا‬ ‫دون حرف ّ‬
‫أن الظروف املبهمة تشرتك مع األفعال يف‬ ‫مها خلفك»‪ .‬و ُيرجع النحاة هذا األمر إىل ّ‬ ‫در ً‬
‫مبهم‬
‫كل زمان ً‬ ‫كل فعل إىل ّ‬ ‫صفة اإلهبام فيتعدّ ى إليها الفعل مبارشة‪« :‬فلذلك يتعدّ ى ّ‬
‫ألن داللة الفعل عىل املكان ليست لفظ ّية وإنّام هي‬ ‫خمتصا وليست األمكنة كذلك ّ‬ ‫كان أو ًّ‬
‫أن ذلك املكان اجلامع أو‬ ‫يدل عىل ّ‬‫أن احلدث ال يكون إالّ يف مكان وال ّ‬ ‫التزام رضورة ّ‬
‫جملسا‬ ‫مبهم منه لداللته عليه تقول جلست ً‬ ‫مكّة أو السوق‪ ،‬ولذلك يتعدى إىل ما كان ً‬
‫ومكانًا حسنًا ووقفت قدّ امك ووراءك فتنصب ذلك ك ّله عىل الظرف‪ ،‬فإن قيل فأنت‬
‫أن الفعل إنام يعمل بحسب داللته وليس يف الفعل داللة عىل مكان حسن وال عىل‬ ‫تزعم ّ‬
‫أن الفعل غري املتعدّ ي إنام يتعدّ ى إىل املكان املبهم وقد‬‫قدّ ام زيد وال عىل ورائه فاجلواب ّ‬
‫أن املبهم ما ليس له هناية وال أقطار حترصه وأنت إذا قلت قمت مكانًا حسنًا مل‬ ‫ذكرنا ّ‬
‫ينحرص بالنهاية واحلدود وكذلك إذا قلت قمت خلف زيد مل يكن لذلك اخللف هناية‬
‫مبهم من هذه‬ ‫تقف عليها وكذلك إذا قلت قدّ ام زيد مل يكن لذلك حدّ ينتهي إليه فكان ً‬
‫خمصوصا مل يتعدّ إليه إالّ‬
‫ً‬ ‫اجلهة فانتصب عىل الظرف بال خالف‪ )..(،‬فإن كان املكان‬
‫أن الفعل الالّزم ال يتعدّ ى إىل مفعول به إالّ بحرف ّ‬
‫جر‬ ‫كام يتعدّ ى إىل زيد وعمرو فكام ّ‬
‫جر نحو وقفت يف الدّ ار‬ ‫كذلك ال يتعدّ ى إىل ظرف من األمكنة خمصوص إالّ بحرف ّ‬
‫يدل عىل أنّه يف الدار أو املسجد أو مكّة‬ ‫ألن الفعل ال ّ‬
‫وقمت يف املسجد وجلست يف مكّة ّ‬
‫فلم جيز أن يتعدّ ى إليه بنفسه‪ ،‬فأ ّما قوهلم دخلت البيت وذهبت الشام فهو شا ّذ وجوازه‬
‫اجلر»(‪.)2‬‬
‫عىل إرادة حرف ّ‬

‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.43‬‬


‫‪ -1‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬
‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪-‬ص‪.44-43‬‬
‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬

‫‪-64-‬‬
‫أن الظروف املبهمة ترد ضمن الرتكيب اإلضايف يف‬ ‫التكيبي‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ثانيتهام املستوى ّ‬
‫اسم‪ ،‬وهو ما‬ ‫اختيارا عند جواز استعامله ً‬ ‫ً‬ ‫حالتي‪ :‬أ ّما احلالة األوىل فهي إضافة الظرف‬
‫ْ‬
‫ّ‬
‫يصح بالنسبة إىل املعرب من هذه الظروف (كأن خيتار املتكلم أن يقول يف حتديد مكان‬ ‫ّ‬
‫جلوسه‪« :‬جلست أمام زيد» عىل أن يقول‪« :‬جلست يف األمام»)‪ ،‬أ ّما احلالة ال ّثانية فهي‬
‫ويصح ذلك بالنسبة إىل الظروف املبن ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اسم‪،‬‬
‫إضافة الظرف وجو ًبا عند امتناع استعامله ً‬
‫إن اشرتاط اإلهبام يف ظروف املكان لتكون منتصبة عىل تقدير «يف»‪ ،‬راجع إىل ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬
‫الظروف املبهمة حتتاج إىل املضاف إليه ليقع إخراجها من اإلطالق إىل التّخصيص‬
‫والتّعيني؛ أي ّإنا حتدّ د الفضاء حتديدً ا نحو ًّيا ال معجم ًّيا أو اشتقاق ًّيا‪ .‬وذلك خال ًفا‬
‫يدل‬‫يدل عىل املكان داللة معجم ّية ّأو ًل‪ ،‬والسم املكان الذي ّ‬ ‫املختص الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫للظرف‬
‫فتتضمن تعيينًا داخل ًّيا للمواضع‬
‫ّ‬ ‫املختصة‬
‫ّ‬ ‫عىل املكان داللة اشتقاق ّية‪ ،‬ثان ًيا‪ .‬أ ّما الظروف‬
‫ّوعي‬‫التي تشري إليها‪ .‬وهو ما نالحظه من خالل حديث األسرتاباذي عن الفرق بني الن ْ‬
‫خمتلفي من التشكّل الفضائي ل ّلغة‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫نمطي‬
‫ْ‬ ‫يعبان‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬عن‬ ‫من الظروف ال ّلذ ْين ّ‬
‫سمه كأعالم املواضع‪ ،‬فإهنا أعالم هلا‬ ‫ٍ‬
‫داخل يف ُم ّ‬ ‫«املو ّقت‪ :‬ما كان له اسمه بسبب أمر‬
‫عي تلك األماكن‪ ،‬وكذا مثل‪ :‬بلد‪ ،‬وسوق‪ ،‬ودار‪ ،‬فإهنا أسامء لتلك املواضع‬ ‫اعتبار ْ ِ‬
‫بسبب أشياء داخلة فيها‪ ،‬كالدّ ور يف البلد‪ ،‬والدّ كاكني يف ّ‬
‫السوق‪ ،‬والبيت يف الدّ ار‪ .‬وأ ّما‬
‫فإن هذه األشياء تُطلق عىل هذه‬ ‫وحذاء‪ّ ،‬‬ ‫ف‪ ،‬وقدّ ام‪ ،‬ويمني‪ ،‬وشامل‪ ،‬وبني‪ِ ،‬‬ ‫نحو خ ْل َ‬
‫األماكن باعتبار ما تُضاف إليه»(‪ .)1‬أ ّما اسم املكان ممّا يف ّأوله ميم زائدة مثل املجلس‬
‫واملرضب واملقام‪ ،‬فهو من األسامء املبهمة إالّ أنّه مستثنى من أسامء املكان املبهمة املنصوبة‬
‫مثل هذا االسم للمكان باعتبار احلدث الواقع فيه‪،‬‬ ‫عىل تقدير «يف»‪« ،‬ألنّه إنّام ُيث َب ُت ُ‬
‫الصف ّية‬ ‫دال عىل املكان بصيغته ّ‬‫مسمى املكان»‪ ،‬ومن ثم فهو ّ‬ ‫واحلدث يشء خارج عن ّ‬
‫املشتق ممّا‬
‫ّ‬ ‫أي بوصفه مشت ًّقا من حدث واقع يف ذلك املكان‪ ،‬و«ينص ُبه عىل الظرف ّية ُ‬
‫الفعل‬
‫اشت ُّق منه اسم املكان نحو‪ :‬املجلس واملقعد‪ ،‬واملأوى‪ ،‬واملسدّ ‪ ،‬واملقتل‪ ،‬واملبيت‪ ،‬فتقول‬
‫كل ما‬ ‫أيضا ُّ‬
‫وجلست جملسه‪ ،‬وأويت مأواه‪ ،‬وسددت مسدَّ ه‪ ،‬وينصبه ً‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )..‬قمت مقامه‪،‬‬
‫شتق ممّا اشت ُّق منه‪ ،‬نحو‪ :‬جلست موضع القيام‪ ،‬وقعدت‬ ‫فيه معنى االستقرار‪ ،‬وإن مل ُي ّ‬
‫وأقمت مشتاه» ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ُ‬ ‫موضعك (‪ )..‬وكذا‪ :‬نمت مبيتَه‪،‬‬

‫‪ -1‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.489‬‬


‫‪ -2‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.490‬‬

‫‪-65-‬‬
‫الصورة عىل أساس خلف ّية‬ ‫يتواتر التشكّل اخلطاطي للفضاء الناشئ عن تعيني ّ‬
‫واحدة‪ ،‬يف االستعامالت التي ُت ّثل فيها اخللف ّية مرج ًعا مركز ًّيا مفر ًدا أي غري مرتبط‬
‫الصورة عىل أساس‬ ‫ألنا تكتفي بتعيني ّ‬ ‫ثانوي‪ ،‬ومن ثم تكون املرجع ّية داخل ّية ّ‬
‫ّ‬ ‫بمرجع‬
‫األكثر بساطة للبناء اخلطاطي‪ ،‬إذ تقوم‬ ‫َ‬ ‫واحد هو اخللف ّية‪ .‬ويم ّثل هذا النّوع الن َ‬
‫ّمط‬
‫تعي تنظيم‬ ‫ألنا ّ‬‫العبارات الفضائ ّية بتجزئة املشهد املرجعي بدرجة دنيا من التّعقيد ّ‬
‫الصورة عىل أساس يشء‪-‬خلف ّية واحد بحيث تكون خصائصه البنيو ّية الدّ اخل ّية‪ ،‬سواء‬
‫كانت متناظرة أو المتناظرة‪ ،‬كافية وحدها لتنظيم الفضاء‪.‬‬
‫ويف هذه احلالة‪ ،‬يمكن للكيان اخللف ّية أن يتّخذ تشكّالت خطاط ّية متعدّ دة يمكن‬
‫اثنتي‪ :‬أوالمها خصائص املشهد املرجعي للخلف ّية‪ ،‬ثانيتهام‬
‫زاويتي ْ‬
‫ْ‬ ‫دراستها من خالل‬
‫اهلنديس للخلف ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشكل‬

‫‪.1‬خصائص املشهد املرجعي للخلف ّية‪.‬‬


‫يمكن إرجاع خصائص املشهد املرجعي للخلف ّية إىل أمر ْين أساس ّي ْي‪ّ :‬أوهلام أنّه يم ّثل‬
‫جمر ًدا‪.‬‬
‫حمسوسا أو ّ‬
‫ً‬ ‫أن اخللف ّية يمكن أن مت ّثل كيانًا‬
‫هد ًفا للمسار املنطلق من الصورة‪ ،‬ثان ًيا ّ‬

‫الصورة‪.‬‬
‫‪.1.1‬اخللف ّية بام هي هدف للمسار املنطلق من ّ‬
‫الصورة إىل اخللف ّية‪ ،‬عىل مستوى البنية ا ُمل َ‬
‫نجزة‬ ‫وتتح ّقق وظيفة الظرف يف إيصال ّ‬
‫اجلر‬
‫للجملة أي دون اعتبار لعمل ّية الوصل اخلف ّية بني الفعل والظرف بواسطة حرف ّ‬
‫املقدّ ر «يف»‪.‬‬
‫اآلتيي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫املثالي‬
‫ْ‬ ‫وسنرشح عمل ّية الوصل املضاعفة من خالل‬
‫(‪ )1‬جلست خلفـــك‬
‫[خ]‬ ‫[ص]‬

‫(‪ )2‬زيـــد خلفـــك‬


‫[ص] [خ]‬

‫‪-66-‬‬
‫اجلر املقدّ ر بني الفعل واالسم‬
‫عىل مستوى البنية اخلف ّية للقول (‪ ،)1‬يصل حرف ّ‬
‫فإن الظرف‪ ،‬قام مقام احلرف‪ ،‬فم ّثل‬
‫(الظرف «خلف»)‪ ،‬أ ّما عىل مستوى البنية املنجزة‪ّ ،‬‬
‫واصل بني [ص] و[خ]‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مسارا‬
‫ً‬
‫اجلر املقدّ ر يقوم‪ ،‬عىل مستوى البنية اخلف ّية للجملة‪،‬‬ ‫أ ّما يف القول (‪ّ ،)2‬‬
‫فإن حرف ّ‬
‫بالوصل بني الفعل املقدّ ر «يوجد» واالسم (الظرف «خلف»)‪ ،‬أ ّما عىل مستوى البنية‬
‫واصل بني [ص] و[خ]‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مسارا‬
‫ً‬ ‫فإن الظرف‪ ،‬قام مقام احلرف‪ ،‬فم ّثل‬
‫املنجزة‪ّ ،‬‬
‫ويف تقديرنا‪ّ ،‬‬
‫أن نيابة الظرف عن احلرف من الناحية الرتكيب ّية ترجع إىل اعتبارات‬
‫دالل ّية‪ .‬وذلك بناء عىل ما أرشنا إليه ساب ًقا من مالزمة الظرف للحرف من الناحية‬
‫الدّ الل ّية‪ ،‬فالظرف ّية مفهومة من تقدير «يف» أي من احلرف ال من االسم‪ ،‬وهو ما جعل‬
‫حذف الـ «يف» يؤ ّدي إىل قيام االسم مقام احلرف ووسمه بأنّه «ظرف»‪ ،‬ومن ثم إىل‬
‫واملكون الالّحق له أي‬
‫ّ‬ ‫الصورة‪،‬‬
‫املكون البارز السابق له أي ّ‬
‫قيامه بدور «الواسطة» بني ّ‬
‫اخللف ّية‪.‬‬
‫اجلر‪ ،‬خرج‬ ‫رصحنا بـ «يف» أو بغريها من حروف ّ‬ ‫والدّ ليل عىل ذلك هو أننّا إذا ّ‬
‫اجلر يف مستوى‬ ‫أن بروز حرف ّ‬ ‫ومتحض لالسم ّية‪ .‬وذلك راجع إىل ّ‬ ‫الظرف من الظرف ّية ّ‬
‫الصورة واخللف ّية التي‬
‫مهمة الوصل بني ّ‬ ‫وتول احلرف ّ‬ ‫التّعبري‪ ،‬قد أ ّدى إىل سقوط النّيابة ّ‬
‫احتل حم ّلها الظرف‪ .‬وهو ما يظهر من خالل أمثلة كثرية سواء كان الظرف فيها نكرة‬ ‫ّ‬
‫معر ًفا باأللف والالّم أو اإلضافة «أقبل من الوراء» أو «أقبل من‬ ‫ٍ‬
‫«أقبل من وراء»‪ ،‬أو ّ‬
‫الستار»‪« :‬من لدن صالة العرص إىل وقت كذا ومن لدن احلائط إىل مكان كذا»(‪.)1‬‬ ‫وراء ّ‬
‫الصورة إىل اخللف ّية‪ ،‬وهو ما ترتمجه العالقة‬
‫ويشرتك (‪ )1‬و(‪ ،)2‬يف رضورة انتهاء مسار ّ‬
‫الرتكيب ّية بني الظرف‪-‬املضاف املم ّثل للمسار والكيان املضاف إليه املم ّثل للخلف ّية‪،‬‬
‫ألنام‬ ‫ٍ‬
‫وهي عالقة وحدة غري قابلة للتّفكّك‪« :‬الفصل بني املضاف واملضاف إليه قبيح ّ‬
‫كاليشء الواحد؛ فاملضاف إليه من متام املضاف يقوم مقام التّنوين ويعاقبه فكام ال‬
‫حيسن الفصل بني التّنوين وا ُمل َّنون كذلك ال حيسن الفصل بينهام»(‪ .)2‬وذهب البرص ّيون‬
‫«ألن املضاف واملضاف إليه بمنزلة‬ ‫ّ‬ ‫إىل عدم جواز الفصل بني املضاف واملضاف إليه‬

‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.127‬‬


‫‪ -1‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬
‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.20‬‬
‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬

‫‪-67-‬‬
‫اليشء الواحد»‪ ،‬وذلك باستثناء بعض االستعامالت التي ُيفصل فيها بينهام بالظرف أو‬
‫در اليوم من المها» أو يف «مها أخوا يف احلرب من ال أخا له»‪ .‬أ ّما‬ ‫اجلر كام يف «للّ ّ‬
‫حرف ّ‬
‫جوزوا «الفصل بني املضاف واملضاف إليه بغري الظرف وحرف اخلفض‬ ‫الكوف ّيون فقد ّ‬
‫يب من‬ ‫الشعر»(‪ .)1‬وتظهر هذه العالقة الرتكيب ّية العضو ّية عىل املستوى اإلعرا ّ‬‫لرضورة ّ‬
‫حمل‬‫يكونان ً‬ ‫واملضاف إليه بمنزلة االسم الواحد‪ ،‬فهام ّ‬‫َ‬ ‫املضاف‬
‫َ‬ ‫خالل اعتبار النحاة‬
‫عامل عمل احلرف‪« :‬يقتيض االسم العامل‬ ‫ً‬ ‫اسم‬
‫اسم ًّيا واحدً ا بحكم كون املضاف ً‬
‫يكون ً‬
‫حمل اسم ًّيا واحدً ا‪ .‬و(‪ )..‬النحاة مل خيتلفوا يف اعتبار املضاف‬ ‫عمل احلرف ما به ّ‬
‫واملضاف إليه بمنزلة االسم الواحد (‪ )..‬وقد ذهبوا إىل تشبيه املضاف واملضاف إليه‬
‫إن املضاف إليه‬ ‫مثل ّ‬
‫يف االحتياج إىل التامم باالسم املوصول وصلته‪ .‬فسيبويه يقول ً‬
‫األول بمنزلة الوصل من «الذي» إذا قلت «الذي قال»‪ ،‬وبمنزلة التّنوين‬ ‫«من االسم ّ‬
‫يف االسم»(‪.)2‬‬
‫يعب‬‫اجلر‪ ،‬وظيفة وصف املسار الذي ّ‬ ‫وتؤ ّدي الظروف املضافة‪ ،‬شأهنا شأن حروف ّ‬
‫االسمي الذي يؤ ّدي‬
‫ّ‬ ‫الفعل من خالل تعديته إىل الكيان اخللف ّية‪ .‬ومت ّثل اخللف ّية ّ‬
‫املحل‬ ‫عنه ُ‬
‫عب عنها النحو‬ ‫قائم عىل تنزيله ضمن بنية فضائ ّية مع ّينة ّ‬ ‫وظيفة وصف املسار وص ًفا ً‬
‫أن األفعال ك ّلها تقبل التّعدية إىل مفاهيم مقول ّية‬ ‫القديم بمقولة املكان‪« :‬أكّد النحاة ّ‬
‫والصفة عن طريق املفعول املطلق واملفعول فيه واحلال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والزمان واملكان‬
‫كاحلدث ّ‬
‫فالعالقة بني حروف التّعدية واملحالّت االسم ّية تقوم حسب النحاة عىل أساس‬
‫حمل ال يعقل دونه‬ ‫«فكل فعل يطلب ً‬ ‫ّ‬ ‫مضامني األفعال وخصائصها املعنو ّية املعجم ّية‬
‫منفصل عنه‪ .‬وهو مع ذلك يكتسب منه وص ًفا‪ .‬فال يصل إليه إالّ بحرف‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وال يعقل‬
‫وسميت هذه‬ ‫الضب والقتل» ّ‬ ‫وما طلبه ومل يكتسب منه وصفا تعدّ ى إليه بنفسه نحو ّ‬
‫الصفات»(‪.)3‬‬‫احلروف عند الكوفيني حروف اخلفض أو حروف ّ‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف بني النحويني البرصيني والكوفيني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار إحياء الرتاث‪ ،‬ج‪،1‬‬
‫ص‪-‬ص‪.443-431‬‬
‫‪ -2‬املنصف عاشور‪ ،‬ظاهرة االسم يف التفكري النحوي‪ :‬بحث يف مقولة االسمية بني التامم والنقصان‪ ،‬تونس‪ ،‬منشورات‬
‫كلية اآلداب بمنوبة‪ ،‬ط‪ ،2004 ،2‬ص‪.614‬‬
‫‪ -3‬عاشور‪ ،‬ظاهرة االسم يف التفكري النحوي‪ ،‬ص‪.488‬‬

‫‪-68-‬‬
‫يعب عنه الظرف من خالل تقديم‬ ‫وجتدر اإلشارة إىل أنّه قد يقع تبئري املسار الذي ّ‬
‫يب للظرف كام يف «عندك قلم»‪،‬‬ ‫مهها‪ :‬التّقديم الوجو ّ‬ ‫اخلرب عىل املبتدأ يف استعامالت أ ّ‬
‫املتحرك («قلم»‪« ،‬زيد»)‬‫ّ‬ ‫االختياري كام يف «أمامك زيدٌ »‪ .‬ويكون الكيان‬‫ّ‬ ‫أو التّقديم‬
‫للصورة التي تراجعت درجة بروزها نتيجة التّأخري‪ ،‬يف حني يم ّثل ضمري املخاطب‬ ‫مم ّث ًل ّ‬
‫املرجعي الذي حيدّ د عىل أساسه موقع زيد‪ .‬أ ّما الظرف املم ّثل للمسار‬‫ّ‬ ‫اخللف ّية ألنه الكيان‬
‫يعب عن الربوز‬‫أن تقديم الظرف ّ‬ ‫الصدارة من جهة درجة الربوز‪ .‬ويف رأينا ّ‬ ‫فقد ّ‬
‫احتل ّ‬
‫بتصورات إدراك ّية لدى املتك ّلم‪ .‬وقد أ ّثر هذا الربوز يف‬
‫ّ‬ ‫الدّ اليل للمسار ألسباب مرتبطة‬
‫املؤخر واستبعدوا قول‬ ‫فع يف املبتدأ ّ‬ ‫الر َ‬ ‫يب‪ ،‬فاعترب الكوف ّيون الظرف ً‬
‫عامل ّ‬ ‫اجلانب اإلعرا ّ‬
‫البرصيني بارتفاع «زيد» باالبتداء (‪.)1‬‬
‫ويرتبط الظرف بالفعل ارتبا ًطا وثي ًقا‪ ،‬ممّا جعل النحاة يش ّبهون الظروف باملصادر من‬
‫جهة شدّ ة طلب الفعل هلا‪ ،‬فهو يتعدّ ى إليها بجميع أنواعه الالّزم واملتعدّ ي‪ .‬فالظرف‬
‫ُسمى األواين ظرو ًفا ألهنا أوعية‬
‫أن الظرف ما كان وعاء ليشء وت ّ‬ ‫هو وعاء للفعل‪« :‬اعلم ّ‬
‫ألن األفعال توجد فيها فصارت كاألوعية‬ ‫ملا ُيعل فيها وقيل لألزمنة واألمكنة ظروف ّ‬
‫أخبارا عن‬
‫ً‬ ‫ألنا «تكون‬ ‫وتتضمن ظروف املكان حسب النحاة «معنى الفعل ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫هلا»(‪.)2‬‬
‫الفعل‪ .‬فقد ُح ّلل الظرف كفوق يف معنى‬ ‫ُ‬ ‫االسم»‪ .‬و ُيعدُّ املضاف إليه من قبيل ما يطلبه‬
‫سمه الكوف ّيون الصفات واملحال‪ .‬فالظرف‬ ‫مستقر فوق‪ .‬والفعل ّ‬
‫دال عىل ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫استقر أو‬
‫ّ‬
‫ليتم االسم‪ .‬فمعنى خلف وقدّ ام وأمام‬ ‫الزماين واملكاين كالصفة املحتاجة إىل مظروفها ّ‬
‫وبعد وقبل معنى أفعاهلا»(‪.)3‬‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫ويعب عن املسار من خالل الفعل املتع ّلق بالظرف سواء كان ذلك الفعل‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫مفعول فيه متع ّل ًقا بمركّب إسنادي فعيل‬ ‫أو مقدّ ًرا‪ :‬أ ّما يف احلالة األوىل فيكون الظرف‬
‫ظاهر‪ .‬وقد استعمل النحاة مصطلحات عديدة لتسمية املفعول فيه نحو «الظرف»‬
‫و«املحل»‪ .‬وهي تشرتك يف الداللة عىل ّ‬
‫أن املفعول فيه وعاء‬ ‫ّ‬ ‫و«الوعاء» و«الصفة»‬
‫للحدث‪ ،‬أي أنّه الوظيفة النحو ّية املح ّققة لبنية الفضاء يف ال ّلغة‪.‬‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.51‬‬


‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.41‬‬
‫‪ -3‬املنصف عاشور‪ ،‬ظاهرة االسم يف التفكري النحوي‪ ،‬ص‪-‬ص‪.616-615‬‬

‫‪-69-‬‬
‫أ ّما يف احلالة ال ّثانية‪ ،‬فيقع تقدير الفعل قبل الظرف يف أربع حاالت إعراب ّية هي‬
‫حال‪« :‬وكذا حال الظرف يف ثالثة مواضع أخر‪:‬‬ ‫ربا أو صفة أو صلة أو ً‬ ‫وقوعه إ ّما خ ً‬
‫والصلة‪ ،‬واحلال‪ ،‬وفيام عدا املواضع األربعة ال يتع ّلق الظرف واجلار واملجرور‬
‫الصفة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫إالّ بملفوظ جمرور»(‪.)1‬‬
‫أن الفعل املقدّ ر حامل لبنية فضائ ّية ناشئة عن الظرف هي اشرتاط‬ ‫والدليل عىل ّ‬
‫أن يكون ذلك الفعل ذا معنى عا ّم ُيالئم الداللة اخلطاط ّية للظرف‪« :‬وينبغي أن يكون‬
‫ذلك العامل من األفعال العا ّمة‪ ،‬أي ممّا ال خيلو منه فعل نحو‪ :‬كائن‪ ،‬وحاصل‪ ،‬ليكون‬
‫خاصا كآكل وشارب‪ ،‬وضارب ونارص‪ ،‬مل جيز لعدم الدليل‬ ‫الظرف داالّ عليه‪ ،‬ولو كان ًّ‬
‫تؤول باملعنى اإلسنادي «فوق‬ ‫عليه»(‪ .)2‬وهو ما حييل عىل طبيعة اإلضافة املعنو ّية التي ّ‬
‫اجلبل» أي «كائن فوق اجلبل واعتىل اجلبل وصعد اجلبل»‪ ،‬فاإلضافة املعنو ّية التي يكون‬
‫فيها املضاف ظر ًفا «دا ّلة عىل عمل ّية إسناد ّية مقرتنة بمفهوم الوجود والكون»(‪.)3‬‬
‫فعل‪ ،‬عائد‬ ‫أن تغليب النحاة أن يكون العنرص املقدّ ر املتع ّلق بالظرف ً‬ ‫ويف ظنّنا ّ‬
‫قوة داللة الفعل عىل املسار مقارنة باسم الفاعل بالرغم من كونه أقرب مشت ّقات‬ ‫إىل ّ‬
‫فعل ألنّنا نحتاج إىل‬‫أن املحذوف املتع ّلق به ٌ‬ ‫الفعل داللة عىل املسار‪« :‬وأكثرهم عىل ّ‬
‫ذلك املحذوف للتع ّلق‪ ،‬وإنام يتع ّلق الظرف باسم الفاعل يف نحو‪ :‬أنا ٌّ‬
‫مار بزيد لـمشاهبته‬
‫وأيضا‪ ،‬للقياس عىل‪ :‬الذي يف الدار‬ ‫ُ‬
‫فـاألصل أوىل ً‬ ‫للفعل‪ ،‬فإذا احتجنا إىل املتع َّلق به‬
‫املوضعي فعل ال غري»(‪ .)4‬ومن بني‬
‫ْ‬ ‫و«كل رجل يف الدار فله درهم»‪ ،‬واملتع َّلق يف‬ ‫ّ‬ ‫زيد‪،‬‬
‫تركيبي مفاده وقوع‬
‫ّ‬ ‫مسوغ‬
‫التسويغات التي أوردوها لتسويغ ترجحيهم تقدير الفعل ّ‬
‫صحة ما ذكرناه أنّا وجدنا‬‫يدل عىل ّ‬ ‫والصلة ال تكون إالّ مجلة «(‪ )..‬الذي ّ‬ ‫الظرف صلة‪ّ ،‬‬
‫ورا َءك» وما أشبه ذلك‪،‬‬ ‫«رأيت الذي أ َما َمك‪ ،‬والذي َ‬
‫ُ‬ ‫الظرف يكون صل ًة ل ّلذي‪ ،‬نحو‬
‫مستقر لكان مفر ًدا‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫ّ‬ ‫والصلة ال تكون إالّ مجلة فلو كان املقدّ ر اسم الفاعل الذي هو‬ ‫ّ‬
‫اسم الفاعل مع الضمري ال يكون مجلة‪ ،‬وإنام يكون مفر ًدا‪ ،‬واملفرد ال يكون صلة البتّة‪،‬‬

‫‪ -1‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ -‬ص‪.245-244‬‬


‫‪ -2‬األسرتاباذي‪ ،‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.244‬‬
‫‪ -3‬املنصف عاشور‪ ،‬ظاهرة االسم يف التفكري النحوي‪ ،‬ص‪.618‬‬
‫‪ -4‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.245‬‬

‫‪-70-‬‬
‫استقر‪ّ ،‬‬
‫ألن الفعل مع الضمري يكون مجلة»(‪.)1‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫الفعل الذي هو‬ ‫فوجب أن يكون املقدّ ر‬
‫ّ‬
‫ولعل التّربير الذي ذهب إليه الكوف ّيون يف تفسري لزوم الظروف لإلضافة‪ ،‬عائد إىل‬
‫«اشتموا» رائحته‬
‫ّ‬ ‫ما الحظوه من تشابه بني الظرف والفعل يف التّعبري عن املسار الذي‬
‫أخبارا عن‬
‫ً‬ ‫ألنا تكون‬
‫من الظرف‪« :‬وقال الكوف ّيون إنام لزمت [الظروف] اإلضافة ّ‬
‫فلم كان الفعل‬ ‫خربا عن االسم إذا قلت زيد يذهب ويركب ّ‬ ‫االسم كام يكون الفعل ً‬
‫حيتاج إىل فاعل وقد يتّصل به أشياء يقتضيها من املصدر واملكان والزمان واملفعول‬
‫ألزموا الظرف اإلضافة ليسدّ املضاف إليه مسدّ ما يطلبه الفعل ّ‬
‫ويدل عليه»(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫عامل‬ ‫لقد ُأرشب الظرف معنى املسار من الفعل‪ ،‬فأصبح الظرف نائ ًبا عن الفعل‬
‫أن الظرف يرفع االسم إذا تقدّ م عليه‪،‬‬ ‫فع يف االسم الواقع بعده‪« :‬ذهب الكوفيون إىل ّ‬ ‫الر َ‬
‫ّ‬
‫الصفة‪ ،‬وذلك نحو قولك «أ َما َم َك زيدٌ ‪ ،‬ويف‬ ‫يسميه ّ‬ ‫املحل‪ ،‬ومنهم من ّ‬‫ّ‬ ‫ويسمون الظرف‬ ‫ّ‬
‫واحتجوا بأن قالوا‪ :‬إنام قلنا ذلك ألن األصل يف قولك «أ َما َمك زيد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدار عمرو» (‪)..‬‬
‫وحل يف الدار عمرو‪ ،‬فحذف الفعل واكتفى بالظرف‬ ‫حل أمامك زيدٌ ‪ّ ،‬‬ ‫ويف الدار عمرو» ّ‬
‫أن تسمية الظرف‬ ‫منه‪ ،‬وهو غري مطلوب‪ ،‬فارتفع االسم به كام يرتفع بالفعل»(‪ .)3‬ويبدو ّ‬
‫حيل فيه احلدث كنا‬ ‫أن الظرف وعاء ّ‬‫سببي‪ّ :‬أوهلام داليل متم ّثل يف ّ‬ ‫ّ‬
‫«املحل» عائد إىل ْ‬ ‫بـ‬
‫استقر يف املحفظة»‪ ،‬فالظرف «يف»‪ ،‬هنا‪ ،‬هو‬ ‫ّ‬ ‫يف «الكتاب يف املحفظة» وتقديره «الكتاب‬
‫املعب عن مسار‬ ‫«املحل» بمعنى أنّه فضاء أو موضع فارغ يقع ملؤه من خالل احلدث ّ‬ ‫ّ‬
‫حمل الفعل املحذوف‬ ‫حيل ّ‬
‫أن الظرف ّ‬ ‫الصورة يف اخللف ّية‪ .‬ثانيهام إعرايب متم ّثل يف ّ‬
‫حلول ّ‬
‫ويقوم مقامه يف رفع االسم بعده‪ ،‬إذ ال رافع لالسم‪ ،‬لدى أهل الكوفة‪ ،‬إالّ ُ‬
‫الفعل سواء‬
‫ظاهرا أو غري ظاهر‪ ،‬وهلذا نابه الظرف عند حذفه‪ .‬وهو ما خيالف مذهب البرصيني‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫أن العامل ال تدخل عليه‬ ‫وحجتهم ّ‬
‫ّ‬ ‫يب عن الظرف نف ًيا قاط ًعا‪،‬‬
‫الذين ينفون العمل اإلعرا ّ‬
‫عامل لقيامه مقام الفعل ملا جاز أن تدخل عليه‬ ‫ً‬ ‫العوامل‪« :‬ولو كان [الظرف] هاهنا‬
‫عامل‬‫ألن ً‬
‫عمرا»‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ّ ،‬‬ ‫«إن أمامك زيدً ا‪ ،‬وظننت خلفك ً‬ ‫العوامل فتقول‪ّ :‬‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.247‬‬


‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.127‬‬
‫‪ -3‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪-‬ص‪.52-51‬‬

‫‪-71-‬‬
‫ال يدخل عىل عامل‪ ،‬فلو كان الظرف راف ًعا لزيد ملا جاز ذلك»(‪ .)1‬فـ«زيد» يف «أمامك‬
‫تعرت من العوامل ال ّلفظ ّية‪.‬‬ ‫معنوي هو االبتداء ّ‬
‫ألن هذه البنية قد ّ‬ ‫ّ‬ ‫زيد» قد ارتفع بعامل‬
‫وهو ما يتأكّد من خالل إرجاع هذا القول إىل أصله‪ ،‬وهو «زيد أمامك»‪ ،‬حيث مل يرتفع‬
‫املعنوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫«زيد» بالظرف اآليت بعده‪ ،‬بل بالعامل‬
‫املدرستي حول رافع االسم الواقع بعد الظرف‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ومهام يكن من أمر اخلالف بني‬
‫قوة‬ ‫عامل إعراب ًّيا نيابة عن الفعل يقف ً‬
‫دليل عىل ّ‬ ‫فإن جتويز الكوفة ألن يكون الظرف ً‬
‫ّ‬
‫ويتضمنه‬
‫ّ‬ ‫يعب عنها الظرف بوصفه ً‬
‫حمل للحدث خيتزنه‬ ‫حضور خطاطة املسار التي ّ‬
‫بالقوة‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسارا بال حدود‪،‬‬
‫تعب عنه البنية اخلطاط ّية للظروف املبهمة بكونه ً‬ ‫ويتم ّيز املسار الذي ّ‬
‫نظرا إىل اشرتاك هذه الظروف مع األفعال املتع ّلقة هبا يف صفة اإلهبام‪ ،‬كام سبق أن‬‫وذلك ً‬
‫أن استعامل هذه الظروف مضافة من شأنه أن يرسم حدو ًدا للمسار قائمة‬ ‫أوضحنا‪ .‬إالّ ّ‬
‫إن اخللف ّية املتح ّققة من خالل الوظيفة‬ ‫الصورة واخللف ّية‪ .‬ويمكن القول ّ‬‫عىل طرف ْيه‪ّ :‬‬
‫النحو ّية للمضاف إليه‪ ،‬هي العنرص األبرز املسؤول عن إخراج املسار من «اإلطالق»‬
‫املعب عنه الظرف غائم‬
‫الصورة يمكن أن حترض ويبقى املسار ّ‬ ‫أن ّ‬‫أو «الالّحمدود ّية»‪ ،‬ذلك ّ‬
‫املعامل كام يف قولنا‪« :‬زيد يف األمام» وال يظهر حدّ املسار وغاية انتهائه إالّ بإضافته يف مثل‬
‫قولنا‪« :‬زيد أمامك»‪« :‬وقال أبو الع ّباس إذا قلت جلست مكانًا حسنًا وقمت خلف‬
‫زيد فالفعل إنام تعدّ ى إىل مكان مبهم وإنام نعته بعد أن عمل فيه الفعل وكذلك جلست‬
‫ينفك منه يشء أن يكون خلف واحد وإنام أضافه بعد أن‬ ‫ألن خل ًفا ال ّ‬
‫خلفك ووراءك ّ‬
‫كان مطل ًقا وعمل فيه الفعل»(‪.)2‬‬

‫مثلام تتح ّقق خطاطة املسار يف االستعامالت التي يكون فيها الظرف مسندً ا خ ً‬
‫ربا‬
‫متع ّل ًقا بمسند إليه مبتدأ ضمن مركّب إسنادي اسمي كقولنا‪ :‬الكأس فوق الطاولة‪.‬‬
‫وذلك عىل أساس تقدير فعل سابق للظرف وعامل فيه إعراب ًّيا‪[« :‬القول يف عامل‬
‫أن الظرف ينتصب عىل اخلالف‬ ‫ربا] ذهب الكوفيون إىل ّ‬
‫النّصب يف الظرف الواقع خ ً‬
‫ربا للمبتدأ‪ ،‬نحو «زيدٌ أما َمك‪ ،‬وعمرو ورا َءك» وما أشبه ذلك‪ .‬وذهب أبو‬
‫إذا وقع خ ً‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.52‬‬


‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.43‬‬

‫‪-72-‬‬
‫ألن األصل يف قولك‪« :‬أمامك‬ ‫العباس أمحد بن حييى ثعلب من الكوفيني إىل أنه ينتصب ّ‬
‫فحذف الفعل وهو غري مطلوب واكتُفي بالظرف منه فبقي منصو ًبا‬ ‫حل أمامك‪ُ ،‬‬ ‫زيدٌ » ّ‬
‫عىل ما كان عليه مع الفعل‪ .‬وذهب البرصيون إىل أنه ينتصب بفعل مقدّ ر‪ ،‬والتقدير فيه‪:‬‬
‫استقر وراءك‪ .‬وذهب بعضهم إىل أنه ينتصب بتقدير اسم‬ ‫ّ‬ ‫استقر أمامك‪ ،‬وعمرو‬
‫ّ‬ ‫زيد‬
‫مستقر ورا َءك»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫فاعل‪ ،‬والتقدير‪ :‬زيدٌ مستق ّر أما َمك‪ ،‬وعمرو‬
‫ّ‬
‫دورا‬
‫التصوري ليؤ ّدي ً‬‫ّ‬ ‫عنرصا نحو ًّيا‪ُ ،‬يفرغ من مضمونه‬ ‫ً‬ ‫إن الظرف‪ ،‬عند اشتغاله‬ ‫ّ‬
‫يفس‪ ،‬يف رأينا‪ ،‬تربير الكوفيني‬ ‫الصورة واخللفية‪ .‬وهو ما ّ‬ ‫الربط بني ّ‬ ‫تركيب ًّيا متم ّث ًل يف ّ‬
‫حجة دالل ّية هي خمالفة ال ّظرف‪-‬‬ ‫ربا‪ ،‬باالستناد إىل ّ‬ ‫يب للظرف إذا كان خ ً‬ ‫للحكم اإلعرا ّ‬
‫والصفة‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫أن اخلرب يكون‪ ،‬يف االشتقاق‪ ،‬صفة للمبتدأ‪.‬‬ ‫اخلرب املبتدأ يف املعنى‪ .‬ذلك ّ‬
‫املعنوي بينهام أي إىل كون «خرب املبتدأ‬
‫ّ‬ ‫املعنى‪ ،‬جزء من املوصوف‪ .‬ممّا يؤ ّدي إىل االتّفاق‬
‫مكمل ملضمون‬ ‫ري الذي حيمله اخلرب ّ‬ ‫التصو ّ‬
‫ّ‬ ‫فإن املضمون‬‫يف املعنى هو املبتدأ»‪ .‬ومن ثم ّ‬
‫املبتدأ‪« :‬خرب املبتدأ هو اجلزء املستفاد الذي يستفيده السامع ويصري مع املبتدأ كال ًما‬
‫أن به يقع التصديق والتّكذيب‪ ،‬أال ترى أنّك إذا قلت «عبد‬ ‫يدل عىل ذلك ّ‬ ‫تا ًّما‪ .‬والذي ّ‬
‫فالصدق والكذب إنام وقعا يف انطالق عبد اهلل ال يف عبد اهلل ألن الفائدة‬ ‫اهلل منطلق» ّ‬
‫يف انطالقه وإنام ذكرت عبد اهلل وهو معروف لدى السامع لتسند إليه اخلرب الذي هو‬
‫فإن الظرف يف حدّ ذاته‪ ،‬أي دون اعتبار االسم‬ ‫االنطالق»(‪ .)2‬وعىل خالف ذلك‪ّ ،‬‬
‫يدل عىل معنى خمصوص‬ ‫خاصا باملبتدأ‪ ،‬ألنّه ال ّ‬
‫تصور ًّيا ًّ‬
‫املضاف إليه‪ ،‬ال حيمل مضمونًا ّ‬
‫االتاه الفضائي‪ ،‬وهو معنى «خطاطي» عا ّم‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يمكن فهم‬ ‫بقدر داللته عىل ّ‬
‫إن إعرابه خالف‬ ‫ما ذهب إليه الكوفيون من انتصاب الظرف‪-‬اخلرب «باخلالف» أي ّ‬
‫إعراب املبتدأ مثلام خالف معناه معنى املبتدأ‪« :‬إنام قلنا إنه ينتصب باخلالف وذلك ألن‬
‫خرب املبتدأ يف املعنى هو املبتدأ‪ ،‬أال ترى أنك إذا قلت «زيد قائم‪ ،‬وعمرو منطلق» كان‬
‫قائم يف املعنى هو زيد‪ ،‬ومنطلق يف املعنى هو عمرو‪ ،‬فإذا قلت «زيد أما َمك‪ ،‬وعمرو‬
‫ورا َءك» مل يكن أمامك يف املعنى هو زيد‪ ،‬وال وراءك يف املعنى هو عمرو‪ ،‬كام كان قائم يف‬
‫املعنى هو زيد ومنطلق يف املعنى هو عمرو‪ ،‬فلام كان خمال ًفا له نُصب عىل اخلالف ّ‬
‫ليفرقوا‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪-‬ص‪.246-245‬‬


‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.87‬‬
‫‪ -2‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬

‫‪-73-‬‬
‫ربا للمبتدأ عند الكوفيني عىل اخلالف‪ ،‬يعنون ّ‬
‫أن اخلرب‬ ‫بينهام» ‪« .‬وانتصاب الظرف خ ً‬
‫(‪)1‬‬

‫ملا كان هو املبتدأ يف نحو‪ :‬زيد قائم‪ ،‬أو كأنّه هو يف‪« :‬وأزواجه أ ّمهاهتم»‪ ،‬ارتفع ارتفاعه‪،‬‬
‫وملا كان خمال ًفا له بحيث ال ُيطلق اسم اخلرب عىل املبتدأ‪ ،‬فال يقال يف نحو «زيد عندك»‪،‬‬
‫إن زيدً ا «عنده» خالفه يف اإلعراب‪ ،‬فيكون العامل عندهم معنو ًّيا وهو معنى املخالفة‬ ‫ّ‬
‫التي اتّصف هبا اخلرب‪ ،‬وال حيتاج عندهم إىل تقدير يشء يتع ّلق به اخلرب»(‪.)2‬‬
‫ولعل ما ُيد ّعم داللة الظروف عىل املسار ظاهرة تسمية األفعال بالظروف‪ ،‬ممّا‬ ‫ّ‬
‫جيعلها تُصنّف ضمن «أسامء األفعال»‪ )...(« :‬فمن ذلك قالوا «دونك زيدً ا» أي خذه‬
‫عمرا» أي الزمه من قرب‪ .‬وقالوا «مكانك» بمعنى اثبت‪ ،‬قال اهلل‬ ‫من حتت‪ ،‬و«عندك ً‬
‫تعاىل (مكانكم أنتم ورشكاءكم) فأكّد الضمري يف مكانكم حيث عطف عليه الرشكاء‬
‫تأخر ّ‬
‫وحذرته‬ ‫فهو كقولك اثبتوا أنتم ورشكاؤكم‪ ،‬وقالوا « َبعدك» و«وراءك» إذا قلت له ّ‬
‫حذرته من بني يد ْيه شي ًئا‪ .‬فهذه ك ّلها‬‫شي ًئا من خلفه‪ ،‬وقالوا‪« :‬فرطك» و«أمامك» إذا ّ‬
‫ظروف أنيبت عن فعل األمر فهي يف مذهب الفعل»(‪.)3‬‬

‫جمر ًدا‬
‫حمسوسا أو ّ‬
‫ً‬ ‫‪.2.1‬اخللف ّية كيانًا‬
‫جمر ًدا‪ ،‬وهو ما نتب ّينه من‬
‫حمسوسا أو ّ‬
‫ً‬ ‫يمكن للكيان اخللف ّية أن يم ّثل مشهدً ا مرجع ًّيا‬
‫خالل الفرق بني (‪ )3‬و(‪:)4‬‬
‫(‪ )3‬العصفور فوق الشجرة‪.‬‬
‫خ‬ ‫ص‬
‫أن العقرب أشدُّ لسع ًة من ُّ‬
‫الزنبور فإذا هو إ ّياها‪.‬‬ ‫كنت أظ ّن ّ‬
‫(‪ُ )4‬‬
‫خ‬ ‫ص‬
‫(يعب عنه الظرف «فوق») راب ًطا‬ ‫مسارا حرك ًّيا ّ‬
‫ً‬ ‫اإلسمي‪ ،‬يف (‪،)3‬‬
‫ّ‬ ‫خيفي اإلسناد‬
‫يفسوا‪،‬‬ ‫و(خ)‪،‬ومندرجا ضمن بنية دالل ّية خف ّية حاول النحا ُة ال ُقدامى أن ّ‬
‫ً‬ ‫بني (ص)‬
‫عمل النصب يف الظرف الواقع خربا‪ .‬وتتم ّثل هذه البنية يف الفعل املقدّ ر‬‫انطال ًقا منها‪َ ،‬‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪-‬ص‪.247-245‬‬


‫‪ -2‬األسرتاباذي‪ ،‬رشح الكافية يف النحو‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪-‬ص‪.244-243‬‬
‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.74‬‬
‫‪ -3‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬

‫‪-74-‬‬
‫أن القول (‪ )3‬عبارة عن بنية سطح ّية‬ ‫ّصب يف الظرف‪ .‬وذلك عىل أساس ّ‬ ‫الذي عمل الن َ‬
‫كل الظروف‪ ،‬كام‬ ‫أن ّ‬‫الشجرة»‪ .‬وذلك ّ‬ ‫فوق ّ‬‫ختفي بنية عميقة هي‪« :‬العصفور استقر يف ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫دال عىل املسار احلركي الذي سلكته‬ ‫اجلر أن يتع ّلق بفعل ّ‬
‫ب ّينّا‪ ،‬مقدَّ ٌر بـ «يف» وال بدّ حلرف ّ‬
‫املتحرك‪ ،‬يف ّاتاهها نحو (خ)‪ ،‬وهو الكيان ال ّثابت‪ .‬وعند حذف‬ ‫ّ‬ ‫(ص)‪ ،‬وهو الكيان‬
‫الفعل بالظرف فينصبه‪ .‬وقد اعتمد البرص ّيون عدّ ة حجج للدّ فاع عن‬ ‫ُ‬ ‫احلرف يتّصل‬
‫أن ال ّظرف ينتصب عىل اخلالف‬ ‫هذا املذهب ودحض ما ذهب إليه معظم الكوفيني من ّ‬
‫ولعل ترجيح األنباري أن يكون املقدّ ر الفعل وليس اسم‬ ‫ربا للمبتدأ‪ّ .‬‬ ‫عند وقوعه خ ً‬
‫تعبريا‬
‫ً‬ ‫الفاعل كام ذهب إليه بعض البرصيني‪ ،‬عائد إىل ما ذهبنا إليه من ّ‬
‫أن الفعل أشدُّ‬
‫احلركي املتّجه من (ص) نحو(خ)‪[«:‬القول يف عامل النّصب يف‬ ‫ّ‬ ‫اخلطاطي‬
‫ّ‬ ‫عن املسار‬
‫ربا‬
‫أن الظرف ينتصب عىل اخلالف إذا وقع خ ً‬ ‫ربا] ذهب الكوفيون إىل ّ‬ ‫الظرف الواقع خ ً‬
‫للمبتدأ‪ ،‬نحو «زيدٌ أما َمك‪ ،‬وعمرو ورا َءك» وما أشبه ذلك‪ .‬وذهب أبو العباس أمحد‬
‫حل‬ ‫ألن األصل يف قولك‪« :‬أمامك زيدٌ » ّ‬ ‫بن حييى ثعلب من الكوفيني إىل أنه ينتصب ّ‬
‫أمامك‪ ،‬فحذف الفعل وهو غري مطلوب واكتفي بالظرف منه فبقي منصو ًبا عىل ما‬
‫كان عليه مع الفعل‪ .‬وذهب البرصيون إىل أنه ينتصب بفعل مقدّ ر‪ ،‬والتقدير فيه‪ :‬زيد‬
‫استقر وراءك‪ .‬وذهب بعضهم إىل أنه ينتصب بتقدير اسم فاعل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫استقر أمامك‪ ،‬وعمرو‬ ‫ّ‬
‫مستقر ورا َءك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والتقدير‪ :‬زيدٌ مستق ّر أما َمك‪ ،‬وعمرو‬
‫ّ‬
‫فاحتجوا بأن قالوا‪ :‬إنام قلنا إنه ينتصب باخلالف وذلك ألن خرب املبتدأ‬
‫ّ‬ ‫أ ّما الكوف ّيون‬
‫يف املعنى هو املبتدأ‪ ،‬أال ترى أنك إذا قلت «زيد قائم‪ ،‬وعمرو منطلق» كان قائم يف املعنى‬
‫هو زيد‪ ،‬ومنطلق يف املعنى هو عمرو‪ ،‬فإذا قلت «زيد أما َمك‪ ،‬وعمرو ورا َءك» مل يكن‬
‫أمامك يف املعنى هو زيد‪ ،‬وال وراءك يف املعنى هو عمرو‪ ،‬كام كان قائم يف املعنى هو زيد‬
‫ومنطلق يف املعنى هو عمرو‪ ،‬فلام كان خمال ًفا له نُصب عىل اخلالف ّ‬
‫ليفرقوا بينهام‪.‬‬
‫فاحتجوا بأن قالوا‪ :‬إنام قلنا إنه ينتصب بعامل مقدّ ر وذلك ألن‬
‫ّ‬ ‫وأ ّما البرص ّيون‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األصل يف قولك‪« :‬زيد أمامك‪ ،‬وعمرو وراءك»‪ :‬يف أمامك‪ ،‬ويف ورائك‪ ،‬ألن الظرف‪:‬‬
‫اجلر‬
‫جر‪ ،‬وحروف ّ‬ ‫كل اسم من أسامء األمكنة أو األزمنة يراد فيه معنى «يف» ويف‪ :‬حرف ٍّ‬ ‫ّ‬
‫ال بدّ هلا من يشء تتع ّلق به‪ ،‬ألهنا دخلت رابطة تربط األسامء باألفعال‪ ،‬كقولك «عجبت‬
‫من زيد‪ ،‬ونظرت إىل عمرو» ولو قلت «من زيد» أو «إىل عمرو» مل جيز حتّى تقدّ ر حلرف‬

‫‪-75-‬‬
‫أن التقدير يف قولك‪« :‬زيد أمامك‪ ،‬وعمرو وراءك» زيد‬ ‫اجلر شيئا يتع ّلق به‪ّ ،‬‬
‫فدل عىل ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫الفعل بالظرف‬ ‫ثم حذف احلرف فاتّصل‬ ‫ِ‬
‫استقر يف ورائك ّ‬
‫ّ‬ ‫استقر يف أمامك‪ ،‬وعمرو‬
‫ّ‬
‫استقر مقدّ ر مع الظرف‪ ،‬كام هو مقدّ ر مع احلرف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فنصبه‪ ،‬فالفعل الذي هو‬
‫وأ ّما من ذهب من البرصيني إىل أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل –وهو‬
‫مستقر‪ -‬قال‪ :‬ألن تقدير اسم الفاعل أوىل من تقدير الفعل‪ ،‬ألن اسم الفاعل اسم جيوز‬
‫ّ‬
‫اجلر‪ ،‬واالسم هو األصل‪ ،‬والفعل فرع‪ ،‬فلام وجب تقدير أحدمها‬ ‫حرف ّ‬‫ُ‬ ‫أن يتع ّلق به‬
‫كان تقدير األصل أوىل من تقدير الفرع‪.‬‬
‫األول‪ ،‬وذلك ألن اسم الفاعل فرع عىل الفعل يف العمل وإن‬
‫والصحيح عندي هو ّ‬
‫كان هو األصل يف غري العمل‪ ،‬فلام وجب هاهنا تقدير عامل كان تقدير ما هو األصل يف‬
‫العمل –وهو الفعل‪ -‬أوىل من تقدير ما هو الفرع فيه وهو اسم الفاعل‪.‬‬
‫صحة ما ذكرناه أنّا وجدنا الظرف يكون صلة للذي‪ ،‬نحو «رأيت‬ ‫يدل عىل ّ‬ ‫والذي ّ‬
‫الذي أمامك‪ ،‬والذي وراءك» وما أشبه ذلك‪ ،‬والصلة ال تكون إالّ مجلة فلو كان املقدّ ُر‬
‫مستقر لكان مفر ًدا‪ ،‬ألن اسم الفاعل مع الضمري ال يكون مجلة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اسم الفاعل الذي هو‬
‫َ‬
‫الفعل الذي هو‬ ‫َ‬ ‫وإنام يكون مفر ًدا‪ ،‬واملفرد ال يكون صلة البتّة‪ ،‬فوجب أن يكون املقدّ ر‬
‫ألن الفعل مع الضمري يكون مجلة ّ‬
‫فدل عىل ما ب ّينّاه‪.‬‬ ‫استقر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وأ ّما اجلواب عن كلامت الكوفيني‪ :‬أ ّما قوهلم ّ‬
‫«إن خرب املبتدأ يف املعنى هو املبتدأ‪ ،‬وإذا‬
‫قلت «زيد أمامك‪ ،‬وعمر وراءك» فأمامك ليس هو زيد‪ ،‬ووراءك ليس هو عمرو‪ ،‬فلام‬
‫كان خمال ًفا له وجب أن يكون منصو ًبا عىل اخلالف» قلنا‪ :‬هذا فاسد‪ ،‬وذلك ألنه لو كان‬
‫املوجب لنصب الظرف كونَه خمالفا للمبتدأ لكان املبتدأ أيضا جيب أن يكون منصو ًبا‪،‬‬
‫تصور أن‬
‫ألن املبتدأ خمالف للظرف كام أن الظرف خمالف للمبتدأ‪ ،‬ألن اخلالف ال ُي ّ‬
‫يكون من واحد وإنام يكون من اثنني فصاعدا‪ ،‬فكان ينبغي أن يقال «زيدً ا أمامك‪،‬‬
‫دل عىل فساد ما ذهبوا إليه‪.‬‬ ‫وعمرا وراءك» وما أشبه ذلك‪ ،‬فلام مل جيز ذلك ّ‬
‫ً‬
‫وأ ّما قول أيب العباس أمحد بن حييى ثعلب‪« :‬إنه ينتصب بفعل حمذوف غري مقدّ ر‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬وذلك ألنه يؤ ّدي إىل أن يكون منصو ًبا بفعل معدوم‬ ‫إىل آخر ما ّقرر» ففاسد ً‬
‫ظه ًرا موجو ًدا أو مقدَّ ًرا يف‬
‫وتقديرا‪ ،‬والفعل ال خيلو‪ ،‬إ ّما أن يكون ُم َ‬
‫ً‬ ‫من ّ‬
‫كل وجه لف ًظا‬

‫‪-76-‬‬
‫مظهرا موجو ًدا وال مقدّ ًرا يف حكم املوجود كان معدو ًما‬
‫ً‬ ‫حكم املوجود‪ ،‬فأ ّما إذا مل يكن‬
‫ُ‬
‫الفعل باستطاعة‬ ‫احلس ّيات‬
‫عامل‪ ،‬وكام يستحيل يف ّ‬ ‫ً‬ ‫من كل وجه‪ ،‬واملعدوم ال يكون‬
‫النصب بعامل معدوم ألن العلل‬ ‫ُ‬ ‫معدومة‪ ]...[ ،‬فكذلك يستحيل يف هذه الصناعة‬
‫يدل عىل فساد ما ذهب إليه أنه ال نظري له يف‬ ‫النحوية مش ّبهة بالعلل احلس ّية‪ .‬والذي ّ‬
‫العربية‪ ،‬وال يشهد له شاهد من العلل النحوية‪ ،‬فكان فاسدً ا»(‪.)1‬‬
‫األول عىل‬
‫يتأسس املشهدُ ّ‬ ‫أ ّما القول (‪ ،)4‬ف ُيقدّ ُم مشهد ْين فضائ ّي ْي افرتاض ّي ْي‪ّ :‬‬
‫تركيب مفاضلة منعقد من خالل اسم التفضيل العا ّم «أشدّ » وحامل لشبكة من‬
‫تفضل بمقتضاها لسعة العقرب عىل لسعة‬ ‫العالقات املرتبط بعضها ببعض والتي ّ‬
‫ُ‬
‫الفعل «أظ ّن»‪ .‬أ ّما املشهد‬ ‫الزنبور‪ .‬وحيدث هذا املشهد يف فضاء االعتقاد الذي ُيدرجه‬
‫الفضائي لطريف‬
‫ّ‬ ‫األول نفسها مع التغيري يف االستعداد‬ ‫ال ّثاين فيحافظ عىل عنارص املشهد ّ‬
‫الرابط بينهام من انعدام التّوازي نحو التّساوي والتّكافؤ‬ ‫املفاضلة اللذ ْين يتّجهان باملسار ّ‬
‫املتضمن‬
‫ّ‬ ‫بني طرف ْيه‪ .‬وحيدث املشهد ال ّثاين يف فضاء الواقع الذي أدرجه الظرف «إذا»‬
‫ومقوض له ناشئ عن‬ ‫ّ‬ ‫األول‬
‫حمور للفضاء ّ‬ ‫اعتقادي ثان ّ‬
‫ّ‬ ‫ملعنى املفاجأة‪ ،‬وهو فضاء‬
‫تعرف عليها املتك ّلم يف الواقع جعلته يعدل عن اعتقاده ّ‬
‫األول‪.‬‬ ‫وجود معطيات جديدة ّ‬
‫يرجح مذهب‬ ‫رب ًرا دالل ًّيا ّ‬
‫يتضمنه الظرف «إذا»‪ ،‬م ّ‬‫ّ‬ ‫الذهني الذي‬ ‫ولعل يف معنى الوجود ّ‬ ‫ّ‬
‫أهل الكوفة يف اعتبار «إذا» ظر ًفا يعمل عمل النصب يف اخلرب ألنّه بمعنى فعل االعتقاد‬
‫نظرا إىل اعتامدهم يف‬ ‫«وجدت»‪ .‬وبالرغم من معارضة البرص ّيني عمل النصب يف اخلرب ً‬
‫أن الظرف‬ ‫فإنم مل خيالفوا الكوفيني يف ّ‬ ‫يب عىل ال ّلفظ دون املعنى‪ّ ،‬‬ ‫تسويغ العمل اإلعرا ّ‬
‫«إذا» مطابق‪ ،‬من الناحية الدالل ّية‪ ،‬لفعل االعتقاد «وجدت»‪ .‬وهو ما يتّضح من خالل‬
‫املناظرة التي وقعت بني سيبويه شيخ نحاة البرصة والكسائي شيخ نحاة الكوفة والتي‬
‫«كنت أظ ُّن ّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫الزنبور ّية»‪« :‬ذهب الكوفيون إىل أنه جيوز أن يقال‬ ‫اشتهرت باسم «املسألة ّ‬
‫الزنبور فإذا هو إ ّياها»‪ .‬وذهب البرص ّيون إىل أنه ال جيوز أن يقال‬ ‫العقرب أشدُّ لسعة من ُّ‬
‫األول الذي قدّ مه الكوفيون‬ ‫«فإذا هو إ ّياها»‪ .‬وجيب أن يقال «فإذا هو هي» (‪ )..‬الدليل ّ‬
‫األول فظهر من خالل حكاية مناظرة‬ ‫سامعي وال ّثاين قيايس‪ .‬أ ّما ّ‬
‫ّ‬ ‫صحة مذهبهم‬‫عىل ّ‬
‫واتذها الكوفيون ً‬
‫دليل عىل‬ ‫بني سيبويه والكسائي أوردها األنباري يف اإلنصاف‪ّ ،‬‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪-‬ص‪.247-245‬‬

‫‪-77-‬‬
‫أن العرب وافقت الكسائي‪ ،‬وتك ّلمت‬ ‫صحة مذهبهم‪« :‬فوجه الدليل من هذه احلكاية ّ‬ ‫ّ‬
‫أن العقرب أشدّ لسعة‬ ‫األنصاري عن العرب «قد كنت أظ ّن ّ‬
‫ّ‬ ‫بمذهبنا‪ ،‬وقد حكى أبو زيد‬
‫احلجة القياس ّية‬
‫صحة ما ذهبنا إليه»‪ .‬أ ّما ّ‬
‫فدل عىل ّ‬ ‫الزنبور فإذا هو إ ّياها» مثل مذهبنا ّ‬
‫من ّ‬
‫مكان‪ ،‬والظرف يرفع‬‫ٍ‬ ‫ظرف‬
‫َ‬ ‫«فقالوا‪ :‬إنام قلنا ذلك ألن «إذا» إذا كانت للمفاجأة كانت‬
‫وجدت»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وجدت‪ ،‬ألهنا بمعنى‬
‫ُ‬ ‫ما بعده‪ ،‬وتعمل يف اخلرب عمل‬
‫أن ««هو»‬ ‫الرفع فهي ّ‬
‫ُ‬ ‫حجة البرصيني عىل عدم جواز النصب وأنه ال جيوز إالّ‬ ‫أ ّما ّ‬
‫ربا عنه‪،‬‬
‫مرفوع باالبتداء‪ ،‬وال بدّ للمبتدأ من خرب‪ ،‬وليس ها هنا ما يصلح أن يكون خ ً‬
‫ٍ‬
‫بوجه‬ ‫إالّ ما وقع اخلالف فيه فوجب أن يكون مرفو ًعا‪ ،‬وال جيوز أن يكون منصو ًبا‬
‫الزنبور ألنه مذكّر‪ ،‬وهي‪ :‬راجع إىل‬ ‫ما‪ ،‬فوجب أن يقال «فإذا هو هي» فهو‪ :‬راجع إىل ّ‬
‫العقرب ألنه مؤنث‪ .‬وأ ّما اجلواب عن كلامت الكوفيني‪ :‬أ ّما ما رووه عن العرب من‬
‫قوهلم «فإذا هو إ ّياها» فمن الشا ّذ الذي ال يعبأ به كاجلزم بلن والنصب بلم وما أشبه‬
‫«إن «إذا» إذا كانت للمفاجأة‬ ‫ذلك من الشوا ّذ التي خترج عن القياس (‪ )..‬وأ ّما قوهلم ّ‬
‫رفع‬
‫«وجدت» يف العمل فوجب أن ُي َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫فباطل ألهنا إن كانت بمنزلة‬ ‫وجدت‬
‫ُ‬ ‫كانت بمنزلة‬
‫قائم» فرتفع الفاعل وتنصب‬ ‫«وجدت زيدً ا ً‬ ‫ُ‬ ‫هبا فاعل و ُينصب هبا مفعوالن كقوهلم‬
‫«حس ُبك زيدٌ »‬‫املفعولي‪ ،‬وإن قالوا إهنا بمعنى وجدت وال تعمل عملها كام أن قوهلم ْ‬ ‫ْ‬
‫لفظ األمر وهو بمعنى‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بمعنى األمر وهو اسم وليس بفعل‪ ،‬وكقوهلم « َأ ْحس ْن بِ َز ْيد» لف ُظه ُ‬
‫«رحم اهللُ فالنًا» لفظه لفظ اخلرب وهو يف املعنى دعا ٌء (‪ )..‬فكذلك‬ ‫التعجب‪ ،‬وكقوهلم ِ‬
‫ّ‬
‫نقول نحن ها هنا‪« :‬إذا» بمعنى وجدت وهي يف ال ّلفظ ظرف مكان‪ ،‬وظرف املكان جيب‬
‫املعرفتي بعده‪ ،‬فوجب أن ُيقال «فإذا هو هي»‪ .‬وإن قالوا «إهنا تعمل عمل الظرف‬ ‫ْ‬ ‫رفع‬
‫مفعولي»‬
‫ْ‬ ‫األول ألهنا ظرف وتنصب الثاين عىل أهنا فعل ينصب‬ ‫وجدت‪ ،‬فرتفع ّ‬
‫ُ‬ ‫وعمل‬
‫فباطل‪ ،‬ألهنم إن أعملوها عمل الظرف بقي املنصوب بال ناصب‪ ،‬وإن أعملوها عمل‬
‫ومفعولي‪ ،‬وليس هلم إىل إجياد ذلك سبيل»(‪.)1‬‬ ‫ْ‬ ‫الفعل لزمهم وجود فاعل‬

‫‪ -1‬األنباري‪ ،‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪-‬ص‪.705-704‬‬

‫‪-78-‬‬
‫‪.2‬األشكال اهلندس ّية للخلف ّية‪:‬‬
‫خصائص هندس ّية مع ّينة قائمة إ ّما‬
‫َ‬ ‫فضائي‪ ،‬أن يستدعي‬‫ّ‬ ‫يمكن للظرف بام هو شكل‬
‫افرتايض رب ًطا ال يوجد‬
‫ّ‬ ‫عىل جتزئة اخللف ّية‪ ،‬أو تشكيلها بطرق مم ّيزة‪ ،‬أو ربط اخللف ّية بإطار‬
‫إالّ يف املستوى التّخيييل‪.‬‬

‫‪.1.2‬اخللف ّية املجزّأة‪:‬‬


‫تتنوع طرق جتزئة اخللف ّية بحسب الظرف املستعمل‪ ،‬ويمكن إيضاح ذلك من خالل‬ ‫ّ‬
‫أربعة أشكال من املعاجلة اخلطاط ّية للخلف ّية‪ ،‬مرتّبة ترتي ًبا تصاعد ًّيا من الوحدة إىل‬
‫التفتّت‪ .‬إذ توجد ظروف ضعيفة من حيث درجة جتزئة اخللف ّية يم ّثلها ّ‬
‫الشكل‪ ،1‬يف‬
‫كلي ‪2‬و‪.3‬‬ ‫الش ْ‬‫حني تزداد درجة احتامل التجزئة تدرجي ًّيا مع ّ‬
‫_ الشكل ‪ 1‬اخللف ّية بام هي نقطة مفردة‪:‬‬
‫ّ‬
‫تدل عليه ظروف من قبيل‪ :‬قرب‪ ،‬أمام‪ ،‬وراء‪ ،‬فوق‪ ،‬حتت‪ ،‬عند‪.‬‬
‫الصخرة»‪.‬‬
‫الدراجة واقفة قرب ّ‬
‫(‪« )5‬كانت ّ‬
‫_ ّ‬
‫الشكل ‪ 2‬اخللف ّية بام هي نقطة ثنائ ّية‪.‬‬
‫اسم يف‬
‫الظرف «بني» الذي يرد املضاف إليه إ ّما ً‬
‫ُ‬ ‫خيتص بالدّ اللة عىل هذا ّ‬
‫الشكل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الصخرتي[خ]»‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الدراجة[ص] بني‬
‫صيغة املثنّى‪« :‬وقفت ّ‬
‫أو مركّبا بالعطف‪« :‬املسألة[ص] بني سمري وخالد[خ]»‪،‬‬
‫ضمريا‪« :‬الكتاب[ص] بيني‬
‫ً‬ ‫يتكرر الظرف إذا كان املضاف إليه‬
‫كام يمكن أن ّ‬
‫وبينك[خ]»‪.‬‬
‫«الشكة»‪ ،‬إمكان ّي ُة أن‬
‫«وسط» يف الدّ اللة عىل ّ‬ ‫ونتج عن تقاطع «بني» مع الظرف ْ‬
‫تتجاوز «بني» الدالل َة عىل خلف ّية ّ‬
‫مكونة من نقطة ثنائ ّية‪ ،‬إىل الداللة عىل خلف ّية متعدّ دة‬
‫ربا عن اجل ّثة‬‫النقاط‪« :‬أ ّما «بني» فظرف من ظروف األمكنة بمعنى وسط ولذلك يقع خ ً‬
‫نحو قولك‪ :‬الدار بني زيد وعمرو‪ ،‬واملال بني القوم‪ ،‬وهي توجب االشرتاك من حيث‬
‫اثني فصاعدً ا نحو‬ ‫كان معناها «وسط» والرشكة ال تكون من واحد وإنام تكون بني ْ‬
‫الز ْيد ْين والدار بني القوم فإن أضفتها إىل واحد وعطفت عليه بالواو جاز‬ ‫املال بني ّ‬

‫‪-79-‬‬
‫نحو‪ :‬املال بني زيد وعمرو‪ّ ،‬‬
‫ألن الواو ال توجب ترتي ًبا ولو أتيت بالفاء فقلت‪ :‬املال‬
‫ألن الفاء توجب الرتتيب وفصل ال ّثاين من ّ‬
‫األول فأ ّما قول‬ ‫بني زيد فعمرو‪ ،‬مل حيسن ّ‬
‫وحجة من رواه‬
‫ّ‬ ‫امرئ القيس‪« :‬بني الدّ خول فحومل» فقد عابه األصمعي ورواه بالواو‬
‫كل واحد منهام عىل أماكن كالشام والعراق‬ ‫أن الدّ خول وحومل موضعان يشتمل ّ‬ ‫بالفاء ّ‬
‫لتم الكال ُم وص ُلح كام تقول‬
‫فلو قلت‪ :‬عبد اهلل بني الدّ خول تريد بني مواضع الدّ خول َّ‬
‫رسنا بني الشام واملراد بني مواضع الشام فعىل هذا قال‪ :‬بني الدخول‪ ،‬أي بني مواضع‬
‫ثم عطف بالفاء فقال‪ :‬فحومل»(‪.)1‬‬ ‫الدخول‪ّ ،‬‬
‫_ ّ‬
‫الشكل‪ :3‬اخللف ّية بام هي مجلة من النقاط أو كتلة إمجال ّية‪-‬مسرتسلة من النّقاط‪.‬‬

‫وس َط‪ ،‬سوا َء‪ْ ،‬‬


‫عر َض‪ ،‬خالل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تدل عىل هذا ّ‬
‫الشكل ظروف من قبيل‪ :‬ضمن‪ْ ،‬‬
‫(‪« )6‬سبحت األسامك خالل النّهر»(استعامل حركي)‪.‬‬
‫النقطتي‬
‫ْ‬ ‫تدل «ضمن» عىل خلف ّية مم َّثلة بجملة من النقاط التي تتجاوز‬ ‫عادة ما ّ‬
‫بكثري أو بقليل كام يف‪« :‬املقال ضمن صفحات الكتاب» و«زيد ضمن أصدقائي األربعة‬
‫«وسط» و«عرض» و«سوا َء» فهي أقرب للداللة عىل اخللف ّية بام هي‬ ‫املفضلني»‪ ،‬أ ّما ْ‬
‫ّ‬
‫وسط األحجار»‪ ،‬و«غرقت‬ ‫الدراجة ْ‬
‫كتلة إمجال ّية مسرتسلة من النّقاط‪ ،‬كام يف‪« :‬وقفت ّ‬
‫السفينة عرض‪/‬سوا َء البحر»‪ « :‬تكون [سواء] بمعنى مستو [و ُيوصف به املكان بمعنى‬
‫واألفصح فيه حينئذ أن يقرص مع الكرس نحو (مكانًا ِسوى) (‪)..‬‬ ‫ُ‬ ‫مكاني]‬
‫ْ‬ ‫نصف بني‬
‫ٌ‬ ‫أنّه‬
‫ِ‬
‫وبمعنى الوسط‪ ،‬وبمعنى التا ّم‪ ،‬فت َُمدُّ فيهام مع الفتح‪ ،‬نحو قوله تعاىل (يف َسواء اجلحيم)‬
‫(‪ )...‬وعند سيبويه واجلمهور ّأنا ظرف مكان مالزم للنصب‪ ،‬ال خيرج عن ذلك إالّ يف‬
‫الضورة»(‪.)2‬‬
‫ّ‬
‫أ ّما «خالل» ّ‬
‫فتدل عىل شكل كتلة من النقاط املسرتسلة التي غال ًبا ما تكون يف حالة‬
‫األسامك خالل النّهر»‪ ،‬وتكون يف معنى «بني» و«وسط» إذا‬ ‫ُ‬ ‫حركة‪ ،‬كام يف‪« :‬سبحت‬
‫احلي وخالل دور القوم» أي جلسنا بني البيوت‬ ‫كانت اخللف ّية ساكنة‪« :‬جلسنا خالل ّ‬

‫املفصل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.128‬‬


‫‪ -1‬ابن يعيش‪ ،‬رشح ّ‬
‫‪ -2‬ابن هشام‪ ،‬مغني اللبيب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ 141‬وص‪.199‬‬

‫‪-80-‬‬
‫العدو» أي بينهم‪ ،‬و«أدخل العود خالل‬
‫ّ‬ ‫ووسط الدّ ور»(‪ ،)1‬و«سار املحارب خالل‬
‫أسنانه» أي بينها‪.‬‬

‫املتفرد للخلف ّية‪:‬‬


‫‪ .2.2‬التّشكّل اهلنديس ّ‬
‫متفردة يمكن التمثيل عىل‬ ‫ً‬
‫أشكال هندس ّية ّ‬ ‫قد تتّخذ اخللف ّية‪ ،‬يف استعامالت مع ّينة‪،‬‬
‫بعضها بواسطة اخلطاطات اآلتية‪:‬‬
‫«عب» ّ‬
‫ألن العبور يقتيض حدّ ْين‬ ‫الظرف ْ‬
‫ُ‬ ‫_ سطح ذو حدّ ْين‪ّ :‬‬
‫يدل عىل هذه اخلطاطة‬
‫أو جانبي‪« :‬عربت النهر والطريق أعبه عربا وعبورا إذا قطعته من هذا ِ‬
‫العرب (اجلانب)‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫إىل ذلك العرب» ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫الدراجة عرب الطريق»‪.‬‬


‫(‪« )7‬جرت ّ‬
‫_ سياج خ ّطي ذو شكل أسطواين‪ :‬تنتُج هذه اخلطاطة عن الظرف «خالل» يف بعض‬
‫استعامالته‪.‬‬
‫الدراجة خالل النّفق»‬
‫(‪« )8‬جرت ّ‬
‫الصورة‪ ،‬وفق حركة نمط ّية‪ ،‬لتدخل فيه‪ّ :‬‬
‫يدل عىل هذا النّوع‬ ‫_ وعاء تنحدر نحوه ّ‬
‫الظرفي «يف» و«داخل»‪:‬‬
‫ْ‬ ‫اهلنديس‪ّ ،‬‬
‫كل من‬ ‫ّ‬ ‫من ّ‬
‫الشكل‬
‫(‪«)9‬وضعت الثامر يف‪/‬داخل الس ّلة»‪« ،‬وضعت املال يف‪/‬داخل اجلراب»‪« ،‬سكبت‬
‫الصندوق»‪« ،‬قطعة احللوى يف‪/‬‬
‫املاء يف‪/‬داخل احلوض»‪« ،‬سقطت الكر ُة يف‪/‬داخل ّ‬
‫داخل الفرن»‪« ،‬بيضة األنوق» يف‪/‬داخل بطنه»‪.‬‬
‫تدل إالّ عىل خلف ّية يف شكل‬
‫أن «داخل» ال يمكن أن ّ‬ ‫الظرفي ّ‬
‫ْ‬ ‫والفرق بني هذ ْين‬
‫خمتصة بالداللة عىل هذه اخلطاطة‪ .‬أ ّما «يف» فتتجاوز هذا‬
‫وعاء صلب‪ ،‬ومن ثم فهي ّ‬
‫لتدل كذلك عىل الشكل اهلنديس املم ّثل لوضع ّية االنغامس يف سائل‪ ،‬إذ‬‫االستعامل ّ‬
‫َ‬
‫نقول‪« :‬سقطت الكر ُة يف املاء»‪ .‬ال نقول‪ :‬سقطت الكرة داخل املاء‪.‬‬

‫‪ -1‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬ط‪ .1993 ،2‬مادة (خ ل ل)‬
‫‪ -2‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،9‬ص‪.17‬‬

‫‪-81-‬‬
‫‪ .3.2‬ارتباط اخللف ّية بإطار‪:‬‬
‫و«نحو»‬
‫َ‬ ‫«خارج»(«تتّجه السفينة تدرجي ّيا خارج اجلزيرة»)‪،‬‬
‫َ‬ ‫الظرفي‬
‫ْ‬ ‫كل من‬ ‫حييل ّ‬
‫(تتّجه السفينة تدرجي ًّيا نحو اجلزيرة») عىل حركة خلف ّية شبيهة بالنّقطة من وجهة النظر‬
‫اخلطاط ّية‪.‬‬
‫أن «نحو» ظرف حييل عىل معنى الطريق‬ ‫الظرفي يتم ّثل يف ّ‬
‫ْ‬ ‫أن الفرق بني هذ ْين‬‫إالّ ّ‬
‫والطريق‪ ،‬يكون ظر ًفا ويكون ً‬
‫اسم» و«القصدُ استقامة‬ ‫ُ‬ ‫والقصد «النّحو‪ :‬القصدُ‬
‫عمودي‪ ،‬أ ّما‬
‫ّ‬ ‫أن اخللف ّية توجد يف مستوى ّ‬
‫خط‬ ‫نتصور ّ‬‫ّ‬ ‫الطريق»(‪ .)1‬وهو ما جيعلنا‬
‫مكونة معه زاوية قائمة‪ .‬ويبدأ مسار الصورة من نقطة بعيدة‬ ‫الصورة فتواجه ذلك ّ‬
‫اخلط ّ‬ ‫ّ‬
‫خط الوصول‪ .‬ويمكن التمثيل عىل ذلك من خالل‬ ‫ّجها نحوها إلدراك ّ‬ ‫عن اخللف ّية مت ً‬
‫الرسم اآليت‪:‬‬ ‫ّ‬

‫أ ّما «خارج» فيحيل عىل حركة االنتقال من باطن اليشء إىل ظاهره‪ ،‬فـ«خارج ّ‬
‫كل‬
‫كل يشء‪ :‬باطنه الداخل»(‪ )2‬وهو ما جيعلنا‬ ‫يشء‪ :‬ظاهره» وهو عكس الداخل «وداخل ّ‬
‫الصورة يبدأ‬ ‫أن اخللف ّية توجد يف مركز جمموعة من الدّ ائرات املركّزة‪ّ ،‬‬
‫وأن مسار ّ‬ ‫نتصور ّ‬
‫ّ‬

‫‪ -1‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،14-11‬ص‪-‬ص‪.179-77‬‬


‫‪ -2‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.307‬‬

‫‪-82-‬‬
‫يف مستوى نقطة اخللف ّية ويتّسع اتّسا ًعا إشعاع ًّيا بطريقة متش ّعبة‪ ،‬عرب تلك الدّ وائر‪ ،‬كام‬
‫يم ّثله ّ‬
‫الرسم اآليت‪:‬‬

‫خامتة‬
‫لقد اهتممنا‪ ،‬يف هذا الفصل‪ ،‬بدراسة طريقة متثيل ال ّلغة للفضاء من خالل الكشف‬
‫الصورة عىل أساس خلف ّية مفردة‪ .‬وقد حاولنا اإلملام‬ ‫عن األبنية النّاشئة عن تعيني ّ‬
‫بمختلف التشكّالت اخلطاط ّية للكيان اخللف ّية من خالل النّظر يف خصائصه املشهد ّية‬
‫ّأو ًل‪ ،‬وأبرز أشكاله اهلندس ّية ثان ًيا‪.‬‬
‫دورا‬
‫بأن ظروف املكان عنارص نحو ّية تؤ ّدي ً‬ ‫وتفيض بنا الدراسة التطبيقية إىل اإلقرار ّ‬
‫الذهن ّية املم ّثلة‬
‫التصور ّية للفضاء‪ .‬ومر ّد ذلك ّأنا حتدّ د األبنية ّ‬
‫ّ‬ ‫مركز ًّيا يف َبنْ َينة املقولة‬
‫معي وترشيحها‬ ‫فضائي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّظامي لبعض مظاهر مشهد‬ ‫للفضاء‪ ،‬من خالل االختيار الن ّ‬
‫املكونة له‪.‬‬
‫الكيل دون سائر مظاهره ّ‬ ‫الفضائي ّ‬
‫ّ‬ ‫لتمثيل املشهد‬
‫وعىل هذا األساس‪ ،‬سعينا إىل الربهنة عىل كيف ّية اشتغال الظروف بام هي عنارص‬
‫ألنا عنارص نحو ّية مم ّثلة للمسار الذي يتط ّلب تعيني‬
‫تابعة دالل ًّيا وتركيب ًّيا لـ «غريها» ّ‬
‫الصورة عىل أساس اخللف ّية التي ينتهي إليها‪ .‬وهذا ما جعلنا نعدّ الظروف‪ ،‬خال ًفا‬ ‫موقع ّ‬
‫لالسم والفعل‪ ،‬جز ًءا من الكالم حيتاج إىل ما بعده احتياج احلرف إليه‪.‬‬

‫‪-83-‬‬
‫الرئيس ّية النّاشئة عن‬
‫لقد حاولت دراستنا التّطبيق ّية اإلحاطة بالتمييزات الفضائ ّية ّ‬
‫الظروف بام هي عنارص نحو ّية‪ ،‬ممّا أ ّدى بنا إىل رضب من الشمول الوصفي ملجال داليل‬
‫الذهن ّية للفضاء املتح ّققة عرب اخلطاطة‪ ،‬وإذا ما س ّلمنا بام ذهب‬
‫بأرسه‪ ،‬أال وهو األبنية ّ‬
‫وأنا ظاهرة فوضو ّية ال يمكن للسانيات أن‬ ‫أن «الدّ اللة ال ُترص ّ‬ ‫الشيف‪ ،‬من ّ‬ ‫إليه ّ‬
‫تستوعبها إالّ من خالل البحث عن أبنية دالل ّية قادرة عىل التّوليد بفضل ما فيها من‬
‫هني لألبنية‬ ‫فإن اخلطاطة بام هي التّمثيل ّ‬
‫الذ ّ‬ ‫بقوة احتامل ّية كبرية»(‪ّ ،)1‬‬
‫فقر دال ّيل مصحوب ّ‬
‫النحوية املح ّققة لبنية الفضاء يف ال ّلغة‪ ،‬هي الكفيلة‪ ،‬من منظورنا‪ ،‬بأن مت ّثل «األسس‬
‫بقوة احتامل ّية قادرة عىل حرص‬
‫املخزنة ّ‬
‫ّ‬ ‫البسيطة» املو ّلدة لألبنية‪ ،‬أو اآلل ّيات الالّقضو ّية‬
‫الداللة واستيعاهبا‪.‬‬
‫الرؤية التّقليد ّية‬
‫أن ّ‬ ‫توصلنا إليه يف هذا املجال‪ ،‬يمكننا اعتبار ّ‬
‫وعىل أساس ما ّ‬
‫تصنيفي يتم ّيز بتجانس مقوالته‬ ‫ّ‬ ‫التاث النحوي‪ ،‬قائم ٌة عىل نظام‬ ‫للظروف ضمن ّ‬
‫كل مقولة من احلدّ الذي تنتهي عنده املقولة املغايرة‪ ،‬وبقدرته‬ ‫النحو ّية‪ ،‬بحيث تبدأ ّ‬
‫الكربى عىل استيعاب العنارص ضمن املقوالت املشتملة عليها‪ ،‬وبإقصائه للتّداخل بني‬
‫التصور تتط ّلب‪ ،‬يف اعتقادنا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العنارص املنتمية إىل مقوالت خمتلفة‪ .‬إالّ ّ‬
‫أن صالح ّية هذا‬
‫كثريا من الفحص واملراجعة ‪ ،‬وهو ما اقرتحناه يف هذا البحث‪ ،‬إذ أبرزنا مسامهة هذه‬ ‫ً‬
‫الظروف يف التشكّل النحوي ملجال الفضاء‪ ،‬وذلك اعتام ًدا عىل مقاييس عدّ ة منها‪ :‬جتزئة‬
‫الصورة‪،‬‬ ‫الصورة واخللف ّية‪ ،‬واهلندسة اخلطاط ّية لليشء ّ‬‫التشكّل الفضائي من أجل إنتاج ّ‬
‫الصورة واخللف ّية‪،‬‬‫واهلندسة اخلطاط ّية لليشء اخللف ّية‪ ،‬والتّناظر والالّتناظر يف هندسة ّ‬
‫املؤسسة عىل أجزائه وعىل ّاتاه ّية مع ّينة داخله‪ ،‬واألبعاد‬
‫وهندسة اليشء الالّمتناظرة ّ‬
‫املناسبة هلندسة اليشء اخلطاط ّية‪ ،‬والرشوط املتع ّلقة بحدود هندسة اليشء اخلطاط ّية‪،‬‬
‫قياسا إىل اخللفية‪ ،‬وحضور‪/‬‬ ‫الصورة قياسا إىل اخللف ّية‪ ،‬ونسب ّية حجم الصورة ً‬
‫وتوجه ّ‬
‫ّ‬
‫الصورة واخللف ّية‪ ،‬وحضور‪/‬أو غياب املرجع ّية الذات ّية بالنسبة‬ ‫أو غياب االتّصال بني ّ‬
‫إىل التشكّل صورة‪/‬خلف ّية‪ ،‬وحضور‪/‬أو غياب أشياء مرجع ّية أخرى‪ ،‬واإلسقاط‬
‫األويل‪،‬‬
‫اخلارجي هلندسة اليشء املرجع الثانوي‪ ،‬ونسبة الالّتناظر إىل اليشء املرجع ّ‬
‫الصورة أو اخللف ّية نحو األرض‪/‬أو املتك ّلم‪/‬أو اليشء املرجع الثانوي‪ ،‬وتبنّي‬ ‫واتاه ّ‬ ‫ّ‬

‫الشط واإلنشاء النّحوي للكون‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.181‬‬


‫‪ -1‬الرشيف‪ّ .‬‬

‫‪-84-‬‬
‫الصورة أو زاوية وجهة‬ ‫زاوية وجهة النظر التي نرى من خالهلا التشكّل‪ ،‬وتغيري موقع ّ‬
‫الزمن‪ .‬واستنا ًدا إىل هذه املقاييس‪ ،‬تط ّلب التشكّل اخلطاطي ملجال الفضاء‪،‬‬ ‫النظر خالل ّ‬
‫الرمزي ل ّلغة العرب ّية‬
‫يدل عىل ثراء النظام ّ‬ ‫قليل –نسب ًّيا‪ -‬من ظروف املكان‪ ،‬ممّا ّ‬
‫عد ًدا ً‬
‫القادرة‪ ،‬بواسطة عدد حمدود من العنارص النّحو ّية املنتمية إىل املقولة نفسها‪ ،‬عىل التّغطية‬
‫بالرغم ممّا الحظنا من قصور قائمة الظروف‬ ‫الشاملة ملجال الفضاء‪ .‬وذلك ّ‬ ‫الدّ الل ّية ّ‬
‫املتو ّفرة‪ ،‬عن اإلمساك ببعض التشكّالت الفضائ ّية الدّ قيقة‪ ،‬ممّا دفعنا إىل استبدال بعض‬
‫الضبط‪ ،‬بظروف بديلة مستحدثة‪.‬‬ ‫الظروف الناقصة ّ‬
‫وهبذا‪ ،‬تكشف الظروف‪ ،‬بام هي نموذج للتمثيل العرفاين قائم عىل طريقة اشتغال‬
‫متفردة من حيث بنينة املشاهد الفضائ ّية‪ ،‬عن قدرة ال ّلغة العربية عىل بنينة املركبات‬‫ّ‬
‫كيل خمصوص قائم عىل البناء‬ ‫التجريب ّية من خالل تنظيمها وفق جشطلت أو نظام ّ‬
‫التصور ّية‪ ،‬ممّا من شأنه أن يفيدنا يف إبراز جوانب نظام ّية خمتلفة عن‬
‫ّ‬ ‫هني للمجاالت‬ ‫ّ‬
‫الذ ّ‬
‫تقسيم‬
‫ً‬ ‫تلك التي توجد ضمن التّصنيف التقليدي القائم عىل تقسيم املجاالت الدالل ّية‬
‫متجانسا‪.‬‬
‫ً‬

‫‪-85-‬‬
‫قائمة املراجع‪:‬‬
‫العرب ّيـــة‪:‬‬

‫(ريض الدين)‪ :‬رشح شافية ابن احلاجب‪ ،‬حتقيق وضبط ّ‬


‫حممد نور‬ ‫ّ‬ ‫‪1.1‬األسرتاباذي‬
‫احلسن وحممد الزقراف وحممد حميي الدين عبد احلميد‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪.1982 ،‬‬
‫الريض عىل الكافية‪ ،‬حتقيق يوسف حسن عمر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(ريض الدين)‪ :‬رشح‬
‫ّ‬ ‫‪2.2‬األسرتاباذي‬
‫منشورات جامعة بنغازي‪ ،‬بريوت‪ ،‬مطابع الرشوق‪.1978 ،‬‬
‫‪3.3‬األنباري (أبو الربكات عبد الرمحان)‪ :‬اإلنصاف يف مسائل اخلالف بني النحويني‬
‫والبرصيني والكوفيني‪ .‬حتقيق حممد حميي الدّ ين عبد احلميد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬إحياء‬
‫الرتاث‪.‬‬
‫‪4.4‬ابن ّ‬
‫اخلشاب‪ :‬املرجتل يف رشح اجلمل‪ ،‬حتقيق عيل حيدر‪ ،‬دمشق‪.1972 ،‬‬
‫الزجاجي (أبو القاسم)‪ :‬اإليضاح يف علل النحو‪ ،‬حتقيق مازن املبارك‪ ،‬ط‪،4‬‬
‫‪ّ 5.5‬‬
‫بريوت‪ ،‬دار النّفائس‪.‬‬
‫التكيب والداللة‪ ،‬تونس‪ ،‬كلية اآلداب بمنوبة‪،‬‬
‫‪6.6‬الزنّاد (األزهر)‪ :‬املعجم بني ّ‬
‫‪.1998‬‬
‫‪7.7‬الزنّاد (األزهر)‪ :‬نظرية النحو العرفاين لرونالد النقكر‪ ،‬تونس‪،‬كلية اآلداب منوبة‪،‬‬
‫‪.2003‬‬
‫الرساج‪ :‬األصول يف النحو‪ ،‬حتقيق عبد احلسني الفتيل‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪،4‬‬
‫‪8.8‬ابن ّ‬
‫‪.1999‬‬
‫‪9.9‬سيبويه (عمرو بن عثامن بن قنرب) الكتاب‪ ،‬ع ّلق عليه ووضع حواشيه وفهارسه‬
‫حممد عيل بيضون‪ ،‬دار الكتب‬
‫الدكتور إميل بديع يعقوب‪ ،‬بريوت‪ ،‬منشورات ّ‬
‫العلمية‪ ،‬ط‪.1999 ،1‬‬
‫السيوطي (جالل الدين)‪ :‬مهع اهلوامع يف رشح مجع اجلوامع‪ ،‬حتقيق عبد العال سامل‬
‫‪ّ 1010‬‬
‫مكرم‪ ،‬الكويت‪ ،‬دار البحوث العلمية‪.1979 ،‬‬

‫‪-86-‬‬
‫ّحوي للكون‪ :‬بحث‬
‫ّ‬ ‫الشيف (حممد صالح الدين الرشيف)‪ّ :‬‬
‫الشط واإلنشاء الن‬ ‫‪ّ 1111‬‬
‫يف األسس البسيطة املو ّلدة لألبنية والدالالت‪ ،‬تونس‪ ،‬جامعة منوبة‪.2002 ،‬‬
‫‪1212‬عاشور (املنصف)‪ :‬ظاهرة االسم يف التّفكري النحوي‪ :‬بحث يف مقولة االسم ّية بني‬
‫التامم والنقصان‪ ،‬تونس‪ ،‬منشورات كلية اآلداب بمنوبة‪ ،‬ط ‪.2004 ،2‬‬
‫(حممد)‪ :‬التّوليد الدّ اليل يف البالغة واملعجم‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار توبقال‬
‫ّ‬ ‫‪1313‬غاليم‬
‫للنرش‪.1987 ،‬‬
‫(حممد)‪ :‬املعنى والتّوافق‪ :‬مبادئ لتأصيل البحث الدّ اليل العريب‪ ،‬الرباط‪،‬‬
‫‪1414‬غاليم ّ‬
‫منشورات معهد الدراسات واألبحاث‪.1999 ،‬‬
‫الذهن املعرف ّية»‪ ،‬ضمن كتاب‪:‬‬‫(حممد)‪« :‬هندسة التّوازي النّحوي وبنية ّ‬
‫‪1515‬غاليم ّ‬
‫تكريم لألستاذ الدكتور هناد‬
‫ً‬ ‫آفاق ال ّلسان ّيات‪ ،‬دراسات‪-‬مراجعات‪-‬شهادات‪،‬‬
‫املوسى‪ ،‬إرشاف‪ :‬هيثم رسحان‪ ،‬بريوت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب ّية‪.‬‬
‫(حممد)‪« :‬املعرفة النواة ً‬
‫دليل عىل استقالل الداللة وبنيتها»‪ .‬ضمن كتاب‪:‬‬ ‫‪1616‬غاليم ّ‬
‫قضايا املعنى يف التّفكري ال ّلساين والفلسفي‪ .‬إرشاف عبد السالم العيساوي‪،‬‬
‫تونس‪ ،‬جامعة منوبة‪ ،‬كل ّية اآلداب والفنون واإلنسان ّيات‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1‬ص‪-‬‬
‫ص‪.41-11‬‬
‫‪1717‬الفايس الفهري (عبد القادر)‪ :‬اللسانيات واللغة العربية نامذج تركيبية ودالل ّية‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬دار توبقال للنرش‪.1988 ،‬‬
‫‪1818‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬ط‪.1993 ،2‬‬
‫الضور ّية والكافية إىل‬‫الشوط ّ‬ ‫‪1919‬موقو (عفاف)‪« :‬حتليل املعنى املعجمي‪ :‬من منوال ّ‬
‫املنوال ال ّطرازي‪ ».‬جم ّلة موارد عدد‪ .2004 ،9‬نرش كل ّية اآلداب والعلوم اإلنسان ّية‬
‫بسوسة‪ .‬وهذا املقال يف األصل مداخلة قدّ مت ضمن ملتقى الدّ اللة املعجم ّية‬
‫الدّ ويل ‪ 6-3‬ماي ‪.2002‬‬

‫‪-87-‬‬
‫النص‬
ّ ‫ مقاربة عرفان ّية لبالغة‬.‫التصورات املجاز ّية يف القرآن‬
ّ :)‫موقو (عفاف‬2020
‫ منشورات‬،‫ حتت إرشاف األستاذ عبد اهلل صولة‬.‫ أطروحة الدكتوراه‬.‫القرآين‬
.2014 ،‫ كلية اآلداب والعلوم اإلنسان ّية بسوسة‬،‫جامعة سوسة‬
‫ ضمن أعامل‬،»‫ «يف األسس الفلسف ّية للمبحث ال ّلغوي العرفاين‬:)‫موقو (عفاف‬2121
‫ خمرب نحو اخلطاب وبالغة التّداول يف كل ّية اآلداب‬،)2014 ‫ جانفي‬13( ‫يوم العلم‬
.‫ كل ّية اآلداب والفنون واإلنسانيات‬،‫ منشورات جامعة منّوبة‬،‫بمنّوبة‬
،‫ القاهرة‬،‫ رشح قطر الندى وبل الصدى‬:)‫(حممد عبد اهلل مجال الدين‬
ّ ‫ابن هشام‬2222
.1963 ،11 ‫ ط‬،‫مطبعة السعادة‬
ّ ‫ رشح‬:)‫ابن يعيش (مو ّفق الدّ ين‬2323
.‫ت‬.‫ د‬،‫ عامل الكتب‬،‫ بريوت‬،‫املفصل‬

:‫األجنـــب ّيـــة‬
1. Bennett (David C.). 1975. Spatial and Temporal Uses of English
Prepositions: An Essay in Stratificational Semantics. London:
Longman.
2. Brien (Ed.): 22th Annual Round Table. Linguistics: developments
of the sixties-viewpoints of the seventies, Vol.24 de Monograph
Series on Language and Linguistics, Georgetown University Press,
Washington D.C., 35-56.
3. Brugman (Claudia).1983. The use of body-part terms as locatives in
Chalcatongo Mixtec. Report 4 of the Survey of California and Other
Indian Languages, University of California: 235-90.
4. Brugman (Claudia).1988. The Story of Over: Polysemy, Semantics,
and the Structure of the Lexicon. (Outstanding Dissertations in Lin-
guistics) New York/London: Garland. (M.A. Thesis, University of
California, Berkeley, [1981]).

-88-
5. Brugman (Claudia), and Lakoff (George).1988. Cognitive topol-
ogy and lexical networks. In Lexical Ambiguity Resolution: Per-
spectives from Psycholinguistics, Neuropsychology, and Artificial
Intelligence, Steven1. Small, Garrison W. Cottrell, and Michael K.
Tanenhaus (eds.), 477-508. San Mateo, CA: Morgan Kaufmann
Publishers, Inc.
6. Celce-Murcia(Marianne)/ Larsen-Freeman(Diane).1999. The
Grammar Book. An ESL/EFL Teacher’s Course. Second Edition.
Heinle & Heinle Publishers.
7. Clark(Herb).1973. Space, time, semantics, and the child. In Cogni-
tive development and the acquisition of language, edited by Timo-
thy E. Moore. New York : Academic Press.
8. Dictionnaire des sciences cognitives : Guy Tiberghien et Hervé
Abdi, Jean- Pirre Desclés, Nicolas Georgieff, Mark Jeannerod, Jean-
François Le Ny, Pierre Livet, Gérard Sabah. Armand Colin, 2002.
9. Gärdenfors (Peter). 2014. The Geometry of Meaning. Semantics
based on conceptual spaces. MIT. Press Books.
10. Gruber (Jeffrey S). 1965. Studies in lexical relations. Doctoral dis-
sertation, MIT, Cambridge, Mass.
11. Jackendoff (Ray) .1983. Semantics and cognition. Cambridge. The
MIT Press.
12. Jackendoff (Ray).1991. Semantic Structures. Cambridge. Mass.
MIT Press.
13. Jackendoff (Ray), Barbara(Landau). 1991. Spatial language and
spatial cognition. In Bridges between Psychology and Linguistics:
A Swarthmore Festschrift for Lila Gleitman, Donna Jo Napoli, and

-89-
Judy Anne Kegl (eds.), 145-170. Hillsdale, N.J.: Lawrence Erlbaum
Associates. 
14. Johnson (Mark). 1987. The Body in the Mind: The Bodily Basis of
Meaning, Imagination, and Reason. Chicago: University of Chicago
Press.
15. Johnson(Mark)/Lakoff(George).2002. Why cognitive linguistics re-
quires embodied realism. Cognitive linguistics13 :245-263.
16. Lakoff (George) . 1987. Women, Fire and Dangerous Things. What
Categories Reveal about the Mind. Chicago: The University of Chi-
cago Press.
17. Lakoff (George)&Johnson (Mark). 1980. Metaphors we live by.
Chicago: University of Chicago Press.
18. Lakoff(George)&Johnson(Mark).1999. Philosophy in the Flesh:
The Embodied Mind and its Challenge to Western Thought. New
York: Basic Books.
19. Lakoff (George), Nunez(Rafael).2000. Where Mathematics Comes
From: How the Embodied Mind Brings Mathematics into Being.
New York: Basic Books.
20. Lakoff (George), Turner(Mark).1989. More than cool reason: a field
guide to poetic metaphor. Chicago: University of Chicago Press.
21. Langacker (Ronald W.). 1976. Semantic Representations and the
linguistic relativity hypoyhesis. Foundations of Language 14: 307-
357.
22. 1987. Foundations of Cognitive Grammar, Vol.1: Theoretical
Pre-requisites.Stanford University Press.

-90-
23. Langacker (Ronald), and Eugene (Casad). 1985. « Inside » and
« Outside » in Cora Grammar. International Journal of American
Linguistics 51: 247-281.
24. Levinson (Stephen). 2003. Space in Language and Cognition: Ex-
plorations in Cognitive Diversity. Cambridge: Cambridge Univer-
sity Press.
25. Lindner (Susan). 1982. What goes up doesn’t necessarily come
down: the ins and outs of opposites. Chicago Linguistic Society 18:
305-323.
26. Lindner (Susan).1983. A Lexico-Semantic Analysis of English
Verb-Particle Constructions. Trier: L.A.U.T. (series A: 101).
27. Merleau-Ponty(Maurice). 1968. The visible and the Invisible.
Translated by Alphonso Lingis, Evanston: Northwestern. Universi-
ty Press. (French original 1964).
28. Narayanan (Srini). 1997. Karma: knowledge-based active rep-
resentations for metaphor and aspect. Ph.D. Dissertation, Computer
Science Division of The University of California at Berkeley.
29. Leech (Geoffrey). 1969. Towards a Semantic Description of Eng-
lish. New York: Longman. Mark, David M., and Barry Smith.
30. Talmy (Leonard). 1972. Semantic structures in English and Atsug-
wi. Doctoral dissertation, University of California, Berkeley.
31. Talmy (Leonard). 1975. Semantics and syntax of motion. In Syntax
and Semantics, Vol.4. John P.Kimball (ed.), 181-238. New York:
Academic Press.
32. Talmy (Leonard). 1978. Relation of grammar to cognition. In syntax
and Semantics. Vol.6: The Grammar of Causative Constructions,
Masayoshi Shibatani (ed.), 43-116. New York: Academic Press.

-91-
33. Talmy (Leonard). 1983. How language structures space. In Spatial
orientation: Theory, research, and application, Herbert L. Pick, Jr.,
and Linda P. Acredolo (eds.), 225-282. New York: Plenum Press.
34. Talmy (Leonard). 2003. Toward a Cognitive Semantics. MIT. Cam-
bridge. Massachusetts. Volume1.

-92-
‫الفصل الثالث‬
‫اللي يف املقاربة العرفان ّية‬
‫الد ّ‬‫التّحليل ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫د‪ .‬احلبيب املقدميني‬

‫‪ -1‬قسم اللغة العربية‪ ،‬املعهد العايل للغات بباجة‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫‪-93-‬‬
-94-
‫مقدّ مة‬
‫املكون الدّ اليل يف ال ّلغة باهتامم ال ّلسانيني عىل اختالف مقارباهتم ومدارسهم‪،‬‬ ‫حيظى ّ‬
‫منعرجا‬
‫ً‬ ‫إن هذا املعطى قد م ّثل بؤرة االهتامم‪ ،‬وشكّل‬ ‫أ ّما يف املقاربة العرفان ّية فيمكن القول ّ‬
‫يف الدّ راسات والبحوث ال ّلغو ّية املعارصة؛ ونعني هنا ما ُيصطلح عليه بال ّلسان ّيات‬
‫العرفان ّية (‪ )cognitive linguistics‬حتديدً ا‪ .‬ولئن كان هذا املبحث العا ّم جام ًعا ّ‬
‫لكل‬
‫املباحث ال ّلسان ّية‪ ،‬فإنّه ينقسم يف الدّ راسات واألعامل املعارصة إىل قسمني أساس ّيني مها‬
‫العرفاين (‪.)cognitive grammar‬‬ ‫ّ‬ ‫الدّ اللة العرفان ّية (‪ )cognitive semantic‬والنّحو‬
‫إذ نجد اختال ًفا يف حماور االهتامم والبحث بني القسمني‪ .‬لك ّن هذا االختالف ال يم ّثل يف‬
‫تكامل يف املنطلقات وكذلك النّتائج‪ ،‬فطرائق التّحليل‬ ‫ً‬ ‫الواقع إالّ اختال ًفا إجرائ ًّيا خيفي‬
‫ّحوي‪ ،‬وكذلك بالنّسبة إىل النّظر ّيات‬ ‫املكون الن ّ‬‫ّ‬ ‫الدّ اليل يف املقاربة العرفان ّية ال تقيص‬
‫املكون الدّ اليل يف رسم‬‫النّحو ّية العرفان ّية‪ ،‬فهي بدورها تعتمد يف جانب كبري منها عىل ّ‬
‫مناهجها وطرائق حتليلها للنّظام النّحوي‪ .‬لذلك حيتاج الوقوف عىل طرائق التّحليل‬
‫العرفاين كذلك‪ ،‬وقبل‬‫ّ‬ ‫ّحوي‬
‫الدّ ال ّيل يف املقاربة العرفان ّية إىل اإلحاطة بطرائق التّحليل الن ّ‬
‫تطورها‪،‬‬‫كل ذلك نحتاج إىل الوقوف عىل مفهوم ال ّلسان ّيات العرفان ّية عمو ًما ومسار ّ‬ ‫ّ‬
‫املهتمة بالدّ اللة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التوجه يف الدّ راسات العرفان ّية‬
‫ّ‬ ‫وحماور اهتاممها حتّى نفهم طبيعة‬

‫وتطورها‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬ال ّلسان ّيات العرفان ّية؛ مفهومها‬
‫ويضم الفلسفة‬
‫ّ‬ ‫العرفان أو العلوم العرفان ّية مبحث شامل انطلق مع علوم احلاسوب‪،‬‬
‫وكل ما من شأنه أن يكشف عن طبيعة‬ ‫وعلوم األعصاب علم النّفس واملنطق وال ّلسان ّيات ّ‬
‫االصطناعي (‪ ،)artificial intelligence‬وقد اقرتن تعريفه‬‫ّ‬ ‫اإلنساين أو‬
‫ّ‬ ‫عمل ّ‬
‫الذكاء‬
‫يعرف بكونه الوظيفة التي‬ ‫بطرائق معاجلة املعلومة (‪ ،)information processing‬فهو ّ‬
‫حت ّقق املعرفة‪ ،‬أو هو جمموعة األنشطة واملوا ّد التي تتضافر إلنتاج املعرفة (‪ .)1‬وقد م ّثلت‬
‫أهم املظاهر التي يمكن أن تكشف‬ ‫ال ّلغة ميدانًا أساس ًّيا للبحث يف العرفان بوصفها مت ّثل ّ‬
‫استقل هذا املجال حتت مبحث ال ّلسان ّيات العرفان ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البرشي‪ .‬لذلك‬
‫ّ‬ ‫عن طبيعة ّ‬
‫الذكاء‬
‫االصطناعي‬
‫ّ‬ ‫منفتحا عىل سائر املباحث من قبيل علوم األعصاب ّ‬
‫والذكاء‬ ‫ً‬ ‫لكنّه بقي‬

‫‪1- Tiberghien, G : Dictionnaire des Sciences Cognitives, Paris, Armand Colin.71.‬‬

‫‪-95-‬‬
‫واألنثروبولوجيا (‪ ،)anthropology‬وسعى إىل االستفادة ممّا تشهده هذه املجاالت‬
‫تطور واكتشافات‪ ،‬أسهمت بدورها يف تطوير هذا االختصاص وتطوير مفهومه‪،‬‬ ‫من ّ‬
‫وتغيات‬
‫أثرا يف تعريف هذا املبحث الذي مازال يشهد جتديدً ا ّ‬
‫ّطورات ً‬
‫ونجد هلذه الت ّ‬
‫متسارعة‪.‬‬
‫«توج ًها يف البحث متعدّ د االختصاصات‪ ،‬ظهر‬ ‫ّ‬ ‫تعرف ال ّلسان ّيات العرفان ّية بكوهنا‬
‫ّ‬
‫وهيتم هذا‬
‫ّ‬ ‫مع أواخر سنة مخسني وتسع مائة وألف (‪ )1950‬يف الواليات املتّحدة‪.‬‬
‫الذهن ّية يف اكتساب املعارف وال ّلغة وطرائق استعامهلا‪.‬‬‫التّوجه بالنّظر يف طبيعة العمل ّيات ّ‬
‫الذهن ّية وأوجه‬‫وهتدف هذه البحوث ال ّلسان ّية العرفان ّية إىل الكشف عن طبيعة البنية ّ‬
‫انتظامها‪ ،‬وذلك من خالل حتليل االسرتاتيج ّيات العرفان ّية التي يعتمدها اإلنسان يف‬
‫وفهم (‪ .)1‬وقد بقي هذا‬ ‫تفكريه ونمط ختزينه للمعلومات‪ ،‬وطريقة معاجلته ل ّلغة ً‬
‫إنتاجا ً‬
‫املوضوعي‬
‫ّ‬ ‫املبحث حتت تأثري العلوم احلاسوب ّية (‪ )computer sciences‬ذات املنحى‬
‫(‪ )objectivist‬إىل حدود سنة سبعني وتسع مائة وألف (‪ ،)1970‬إذ ستتّخذ العلوم‬
‫العرفان ّية صبغة جديدة تبلورت عند التّف ّطن إىل دور اجلسد واملا ّدة يف تشكيل العرفان‬
‫والذهن ليصبح احلديث عن العرفان املجسدن (‪ )embodied cognition‬أو اجلسدنة‬ ‫ّ‬
‫الكالسيكي‪ .‬وما جتدر اإلشارة إليه يف هذا‬
‫ّ‬ ‫احلوسبي‬
‫ّ‬ ‫(‪ )embodiment‬يف مقابل العرفان‬
‫متحض يف االستعامل لإلحالة عىل املرحلة ال ّثانية‬ ‫«العرفاين» قد ّ‬
‫ّ‬ ‫أن اصطالح‬ ‫املستوى ّ‬
‫التوجه ال ّطبيعي (‪ ،)naturelness‬أو ما يعرف‬ ‫ّ‬ ‫ّطور‪ .‬فقد قامت هذه املرحلة عىل‬ ‫من الت ّ‬
‫الشكلية التّوليدية (‪ )generativist‬من‬ ‫نقيضا للنّظر ّيات ّ‬‫بالعرفان املجسدن الذي قام ً‬
‫الكوين (‪ )universal grammar‬لــ«شومسكي» (‪ )Chomsky‬أو‬ ‫ّ‬ ‫قبيل نظر ّية النّحو‬
‫الشكل ّية (‪.)formal semantic‬‬ ‫الصدق (‪ )Truth conditions‬والدّ اللة ّ‬ ‫نظر ّية رشوط ّ‬
‫وقد مجع اليكوف (‪ )Lakoff‬هذه النّظر ّيات األخرية حتت ما يصطلح عليه باملنوال‬
‫الشكيل (‪ .)2()The original formalist nativist pardigm‬يف مقابل ذلك‬ ‫األصيل ّ‬
‫ّ‬
‫بالرؤية املفهوم ّية املشكَّلة من جمموعة من‬
‫أن العرفان املجسدن قائم عىل ما يعرف ّ‬ ‫نجد ّ‬
‫مهها‬ ‫النّظر ّيات أو املناويل‪ .‬وتتّفق هذه النّظر ّيات املفهوم ّية يف عدد من اخلصائص ّ‬
‫لعل أ ّ‬
‫‪1- Routledge Dictionary of Language and Linguistics. 1998. 80.‬‬
‫‪2- Lakoff, G: A review of The MIT Encyclopedia of the Cognitive Sciences. Published by‬‬
‫‪Elsevier Science B.V.1.‬‬

‫‪-96-‬‬
‫ًّ‬
‫مستقل بذاته‬ ‫بالشكلنة يف الوصف والتّحليل‪ ،‬ورفض اعتبار ال ّلغة ّ‬
‫مكونًا‬ ‫عدم التّسليم ّ‬
‫الذهن ّية‪ .‬وقد اعتنت هذه املقاربات بالدّ اللة يف مجيع مظاهرها‪،‬‬ ‫املكونات ّ‬‫ّ‬ ‫عن سائر‬
‫نلخص حماور اهتامم‬‫ّصورات العرفن ّية العا ّمة(‪ .)1‬ويمكن لنا أن ّ‬
‫واعتربهتا جز ًءا من الت ّ‬
‫البياين اآليت(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫ال ّلسانيات العرفان ّية يف ّ‬
‫الرسم‬

‫ال ّلسان ّيات العرفان ّية‪ :‬دراسة ال ّلغة من حيث هي مبحث‬


‫البرشي‪ ،‬حيث‬
‫ّ‬ ‫يتكامل مع ما هو معروف عن ّ‬
‫الذهن‬
‫البرشي‬
‫ّ‬ ‫انعكاسا ّ‬
‫للذهن‬ ‫ً‬ ‫تعترب ال ّلغة‬

‫الدّ اللة العرفان ّية‪ :‬دراسة العالقات‬ ‫العرفاين‪ :‬دراسة الوحدات‬


‫ّ‬ ‫النّحو‬
‫القائمة بني التّجربة والعرفان وال ّلغة‬ ‫الرمز ّية التي حتتوهيا ال ّلغة‬
‫ال ّلغو ّية ّ‬

‫تقدّ م ال ّلسان ّيات العرفان ّية بفرع ْيها الن ّ‬


‫ّحوي والدّ ال ّيل مجلة من اآلل ّيات وطرائق‬
‫ّ‬
‫مستقل عن سائر‬ ‫التّحليل‪ ،‬تتناول من خالهلا ال ّلغة ال بام هي نظام من العالمات‬
‫والذاكرة واالنتباه‪ ،‬بل بام هي نشاط منفتح عىل‬ ‫األنظمة العرفان ّية من قبيل اإلدراك ّ‬
‫بق ّية القدرات العرفان ّية‪ ،‬ويكشف جان ًبا منها‪ .‬فالنّشاط ال ّلغوي خيضع بدوره ملعطيات‬
‫بيولوج ّية‪ .‬وحتيط به جمموعة العوامل االجتامع ّية وال ّثقاف ّية‪.‬‬
‫ومن شأن هذه العوامل أن تعكس طبيعة التّفكري والفهم‪ ،‬فكانت ال ّلغة بمنزلة‬
‫أن ال ّلسان ّيات‬
‫«الكوة»‪ ،‬من خالهلا يمكن النّظر يف هذه ال ّظواهر العرفان ّية‪ .‬واستتبع ذلك ّ‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫منوال‬ ‫لساين ملقاربة املعنى‪ ،‬بل هي أقرب إىل أن تكون‬ ‫ّ‬ ‫جمرد منوال‬
‫العرفان ّية ليست ّ‬

‫حممد عيل احلا ّمي‪ ،‬تونس‪ .‬الدّ ار العرب ّية للعلوم‪ ،‬بريوت‪ .‬منشورات‬
‫‪ -1‬الزّ ناد (األزهر)‪ ،‬نظر ّيات لسان ّية عرفن ّية‪ ،‬منشورات ّ‬
‫االختالف‪ ،‬اجلزائر‪.95 ،2010 .‬‬
‫‪2- Evans, V. & Green, M: Cognitive Linguistics: An Introduction. Edinburgh University Press.‬‬
‫‪2006. 156-157.‬‬

‫‪-97-‬‬
‫أهم مبادئها اإلشارة إىل دور اجلسد يف تشكيل‬ ‫الذهن ‪ ،‬فكان من ّ‬
‫(‪)1‬‬ ‫نظر ًّيا عا ًّما حول ّ‬
‫الذهن والتّجربة والعرفان من خالل دراسة األبنية ال ّلغو ّية‪ ،‬ورصد أسسها التّصور ّية‬ ‫ّ‬
‫املجسدنة‪ ،‬وم ّثلت الدّ اللة ال ّلغو ّية أبرز حقول البحث واإلجراء‪.‬‬

‫(التصور ّية)‬
‫ّ‬ ‫‪ -2‬الدّ اللة العرفان ّية يف املقاربة املفهوم ّية‬
‫أن الدّ اللة العرفان ّية قسم من املبحث العا ّم املعروف بال ّلسان ّيات العرفان ّية‪،‬‬ ‫أرشنا إىل ّ‬
‫لك ّن هذا القسم ذو أمه ّية من حيث التّأسيس ومن حيث األعامل والدّ راسات التي‬
‫ّوليدي وما‬
‫ّ‬ ‫انضوت حتته‪ ،‬فقد أضحت الدّ اللة العرفان ّية ت ّي ًارا ينازع نظر ّية النّحو الت‬
‫كيل يف العديد من القضايا‬ ‫الش ّ‬ ‫املوضوعي ّ‬
‫ّ‬ ‫سبقها من النّظر ّيات ال ّلسان ّية ذات ال ّطابع‬
‫يب‪.‬‬
‫املكون اإلعرا ّ‬
‫أهم هذه املنطلقات عدم التّسليم بمركز ّية ّ‬ ‫ولعل ّ‬‫واملنطلقات النّظر ّية‪ّ .‬‬
‫تغي موقع الدّ اللة يف علم ال ّلغة‬ ‫األسايس الذي دفع يف ّاتاه ّ‬ ‫ّ‬ ‫املؤش‬
‫أن ّ‬ ‫إذ يرى الدّ ارسون ّ‬
‫ّوجه‬ ‫التكيب‪ /‬اإلعراب يف عمل ّية اإلنتاج والتّق ّبل ال ّلغو ّية‪ .‬فمع الت ّ‬ ‫هو مناهضة مركز ّية ّ‬
‫أساس عمل ّية اإلنتاج والتّق ّبل يف استعامل‬ ‫َ‬ ‫العرفاين أصبحت الدّ اللة بام هي عمل ّية ذهن ّية‬
‫ّ‬
‫العرفانيي‬
‫ّ‬ ‫غوي جتاوز عند‬ ‫ّصور عىل رؤية جديدة للمعنى ال ّل ّ‬ ‫ال ّلغة»‪ .‬وقد قام هذا الت ّ‬
‫املجردة باستقراء االستعامل‪ ،‬ليصبح‬ ‫ّ‬ ‫بالسامت الدّ الل ّية‬ ‫املتقوم ّ‬
‫ّ‬ ‫املعجمي واملعنى‬
‫ّ‬ ‫املعنى‬
‫الذهن ّية (‪ .)2‬فاملعاين من منظور الدّ اللة‬ ‫الصور ّ‬ ‫عمل ّية فكر ّية تتشكّل بمقتضاها صورة من ّ‬
‫وري‪ ،‬وال حتصل يف ما يكون من‬ ‫الص ّ‬ ‫الصدق يف املنطق ّ‬ ‫العرفان ّية ال تكون عرب رشوط ّ‬
‫إن املعاين عند العرفانيني‬ ‫اخلارجي‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫املوضوعي بني الكلامت واألشياء يف العامل‬ ‫ّ‬ ‫التّطابق‬
‫الذهن‪ ،‬وتكون عرب آل ّية الفهم أو امل ْفهمة (‪ .)3( )conceptualisation‬ويرى‬ ‫حتصل يف ّ‬
‫أهم املبادئ التي ارتكزت‬ ‫الدّ ارسون أمثال إيفانس وغرين (‪ )Evans & Green‬أن ّ‬
‫إليها الدّ اللة العرفان ّية يمكن أن ختتزل يف النقاط األربع اآلتية‪:‬‬
‫ ‪-‬البنية املفهوم ّية جمسدنة‪.‬‬

‫‪1- ibid, 48-49.‬‬


‫التكيب‪ ،‬جملة ال ّلسان ّيات العرب ّية‪ ،‬مركز امللك عبد اهلل‬
‫فاقيس‪ ،‬الدّ اللة العرفان ّية اإلدراك ّية وتراجع دور ّ‬
‫ّ‬ ‫الص‬
‫‪ -2‬منّانة محزة ّ‬
‫بن عبد العزيز الدّ و ّيل خلدمة ال ّلغة العرب ّية‪.96 ،2015 ،2 ،‬‬
‫‪ -3‬نحيل هنا عىل مقال األستاذ إبراهيم بن مراد‪ :‬يف املفهمة يف املعجم‪ ،‬جم ّلة املعجم ّية‪ ،‬تونس‪ ،‬عدد ‪ 18‬و‪،2003 ،19‬‬
‫ص ‪.52-35‬‬

‫‪-98-‬‬
‫ ‪-‬البنية الدّ الل ّية بنية مفهوم ّية‪.‬‬
‫موسوعي (‪.)encyclopaedic‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬متثيل املعنى‬
‫ ‪-‬انبناء املعنى قائم عىل املفهمة (‪.)1‬‬
‫مركزي يتم ّثل يف‬
‫ّ‬ ‫ينفتح بعض هذه املبادئ العا ّمة عىل بعض‪ ،‬وينتظمها معطى‬
‫السامع‪ .‬ويم ّثل هذا املعطى‬ ‫«املفهوم» (‪ )concept‬وكيف ّية حصوله يف ذهن املتك ّلم أو ّ‬
‫واألهم يف النّظر ّيات الدّ الل ّية العرفان ّية‪ ،‬فهو الوحدة األساس ّية‬
‫ّ‬ ‫األسايس‬
‫ّ‬ ‫ّظري‬
‫البنا َء الن ّ‬
‫هني (‪ .)mental representation‬وقد م ّيزت مركز ّية املفهوم‬ ‫الذ ّ‬‫واملركز ّية يف التّمثيل ّ‬
‫الشكل ّية املعتمدة عىل التّفكيك‬ ‫هذه الدّ اللة العرفان ّية عن غريها من النّظر ّيات الدّ الل ّية ّ‬
‫أن املفهوم يساوي املعاين احلاصلة يف‬ ‫الدّ اليل (‪ .)semantic decomposition‬ذلك ّ‬
‫فظي يف الدّ اللة العرفان ّية‪ .‬إذ يمكن للمفاهيم أن تنطبق عىل املقوالت املختلفة‬ ‫التّعبري ال ّل ّ‬
‫احلب)‪ .‬ويمكنها‬ ‫ّ‬ ‫الكريس أو‬
‫ّ‬ ‫املجردة أو املا ّدية التي نعاينها يف التّجربة (مثل مفهوم‬ ‫ّ‬
‫أن العبارات‬ ‫كذلك أن تنطبق عىل األفراد من قبيل أسامء األعالم (سيبويه مثال)‪ .‬يف حني ّ‬
‫الشكل ّية ال حتيل إالّ عىل أشياء نسب ّية حمدّ دة‪ ،‬يض َب ُط مضموهنا بحزمة‬ ‫من منظور الدّ اللة ّ‬
‫إن من املبادئ‬ ‫ثم ّ‬
‫السامت الدّ الل ّية (‪ )semantic features‬أو املعينامت (‪ّ .)semes‬‬ ‫من ّ‬
‫ذرية‬‫الذهن وحدة ّ‬ ‫أن املفهوم ال يكون حاد ًثا يف ّ‬ ‫األساس ّية التي ركّزهتا الدّ اللة العرفان ّية ّ‬
‫السامع) يف سياق اخللف ّيات املفرتضة لألبنية‬ ‫ِ‬
‫منعزلة‪ ،‬وإنّام يفهم (من ق َبل املتكّلم أو ّ‬
‫الشكل ّية ل ّلغة‪ ،‬أو ما يعرف‬ ‫العرفان ّية التي تشكّله (‪ .)2‬هذه اخللف ّيات تقصيها املقاربة ّ‬
‫باملقاربة املنظومات ّية القائمة عىل مجلة من املبادئ النّظر ّية املوضوع ّية‪ .‬ويمكن أن نعرض‬
‫أهم هذه املبادئ‪:‬‬‫يف ما ييل ّ‬
‫ّ‬
‫مستقل عن سائر امللكات العرفان ّية‪.‬‬ ‫عرفاين منغلق‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬ال ّلغة نظام‬
‫ ‪-‬منظومة ال ّلغة خاضعة بدورها إىل أبنية منظومات ّية داخل ّية (رصف‪-‬صومت ّية‪،‬‬
‫تركيب ّية‪ ،‬دالل ّية‪.)..‬‬

‫‪1- Evans, V. & Green, M: Cognitive Linguistics: An Introduction. Edinburgh University Press.‬‬
‫‪2006, p157.‬‬
‫‪2- Clausner Timothy C. and William Croft: Domains and image schemas, Cognitive‬‬
‫‪Linguistics, 10, 1, 1999, p2.‬‬

‫‪-99-‬‬
‫أن املعارف الدّ الل ّية مستق ّلة‬ ‫السياق ال ّل ّ‬
‫غوي‪ ،‬بمعنى ّ‬ ‫ ‪-‬الدّ اللة ال ّلغو ّية مستق ّلة عن ّ‬
‫عن االستعامل (التّداول ّية)‪.‬‬
‫موضوعي خاضع لرشوط‬
‫ّ‬ ‫اخلارجي وفق منوال‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬معاين اجلمل مرتبطة بالعامل‬
‫الصدق (التّطابق)‪ ،‬حيث يوصف املعنى وفق لغة واصفة (‪)metalanguage‬‬ ‫ّ‬
‫منطق ّية‪ .‬أ ّما العبارات املجاز ّية فهي استثناء‪.‬‬
‫مستقل عن بق ّية األنظمة العرفان ّية‪ ،‬وما هو إالّ نظام‬‫ّ‬ ‫فال ّلغة من هذا املنظور نظام‬
‫رمزي متعال عن الواقع والتّجربة‪ .‬أ ّما يف املقاربة العرفان ّية فال ّلغة نظام حمايث للتّجربة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وله فيها اخللف ّيات واألسس التي يستمدّ منها دالالته ومعانيه‪.‬‬

‫‪ -1-2‬البنية الدّ الل ّية بنية مفهوم ّية‬


‫«إن البحث يف الدّ اللة العرفانية هو بحث يف املحتوى‬ ‫يقول ليونارد طاملي (‪ّ :)Talmy‬‬
‫املفهومي وكيف ّية انتظامه داخل ال ّلغة»(‪ .)1‬ويذهب رونالد النقاكر (‪ )R. Langacker‬إىل‬ ‫ّ‬
‫بكل مظاهر التّجربة‬ ‫أن معاين العبارات ال ّلغو ّية تكمن يف امل ْفهمة‪ ،‬وهي عمل ّية متع ّلقة ّ‬ ‫ّ‬
‫املجردة‪ ،‬بل تتجاوزها‬ ‫الذهن ّية القديمة أو احلادثة‪ .‬وال تقترص هذه العمل ّية عىل املفاهيم ّ‬ ‫ّ‬
‫احلس ّية احلرك ّية (‪ )sensorimotor‬واالنفعال ّية (‪ ،)emotional‬وتنظر‬ ‫إىل املـــفاهيم ّ‬
‫ّغيات الفيزيائ ّية‬‫وحتوالهتا عرب الـــتّاريخ‪ ،‬وحسب الت ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف دالالت املفاهيـم ال ّلغوية‬
‫مظهرا من‬ ‫ً‬ ‫والسياقات ال ّثقاف ّية واالجتامع ّية»‪ .‬بحيث يكون املعنى ال ّل ّ‬
‫غوي‬ ‫وال ّلغو ّية ّ‬
‫الذهن ّية وطبيعة انتظامها ّ‬
‫بكل ما تتو ّفر‬ ‫مظاهر البنية املفهوم ّية التي هي طبيعة متثيالتنا ّ‬
‫فالرؤية املطروحة من هذا املنظور تتم ّثل يف كون الدّ اللة‬ ‫عليه من ثراء واختالف ‪ّ .‬‬
‫(‪)2‬‬

‫املفهومي بمختلف مظاهره وطرق معاجلته لألشياء واألحداث‬ ‫ّ‬ ‫جز ًءا من النّظام‬
‫وال ّظواهر يف العامل من حولنا‪ ،‬وال يقترص األمر عىل ال ّلغة فحسب‪ ،‬بل ينطبق عىل مجيع‬
‫األنظمة العالم ّية وأنامط التّعامل مع ما حييط بنا من ال ّظواهر واملعلومات واملفاهيم‪ .‬وقد‬
‫خاصة مناويل خمتلفة ومقاربات‬ ‫أوجد املن ّظرون يف ال ّلسان ّيات العرفان ّية عمو ًما والدّ اللة ّ‬
‫رمزي من‬‫ّ‬ ‫لغوي‬
‫ّ‬ ‫متنوعة‪ ،‬سعوا من خالهلا إىل تبيني مظاهر االرتباط بني ما هو دال ّيل‬ ‫ّ‬
‫إدراكي (‪ )perceptual‬من جهة أخرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مفهومي‬
‫ّ‬ ‫جهة‪ ،‬وما هو‬
‫‪1- Talmy, Leonard: Toward a Cognitive Semantics, Cambridge, MA: MIT Press.2000, p4.‬‬
‫‪2- Langacker, R.: Metonymy in grammar. Journal of Foreign Languages 27: 2–24.2004 a, 1.‬‬

‫‪-100-‬‬
‫العرفاين‪ ،‬ويمكن‬‫ّ‬ ‫تعود هذه املقاربات إىل مرحلة متقدّ مة من تاريخ البحث ال ّل ّ‬
‫ساين‬
‫إن املحاوالت ذات األثر يف هذا التّيار قد بدأت مع ما قدّ مته إليانور روش‬ ‫القول ّ‬
‫(‪ ).Rosch E‬يف نظر ّيتها املعروفة بـ»ال ّطراز» (‪ ،)prototype theory‬وما شهدته من‬
‫وخاصة يف ما قدّ مه جورج اليكوف (‪ )1987‬يف‬ ‫ّ‬ ‫تطور عندها أو يف األعامل التي تلتها‬ ‫ّ‬
‫العرفاين املؤمثل»‬
‫ّ‬ ‫كتابه املوسوم بـ»نساء ونار وأشياء خطرية» (‪)1‬حول نظر ّية «املنوال‬
‫بديل يغ ّطي نقائص نظر ّية ال ّطراز األصل ّية‬ ‫(‪ )idealized cognitive model‬التي اعتربها ً‬
‫واملوسعة‪ .‬وقد سعت هذه النّظر ّيات واملقاربات املختلفة إىل معاجلة قضايا عجزت‬ ‫ّ‬
‫املقاربات الدّ الل ّية املوضوع ّية عن الفصل فيها من قبيل قض ّية العبارات االستعار ّية‬
‫فظي واالشرتاك الدّ ال ّيل‪ .‬وقد‬ ‫واملجاز عمو ًما‪ ،‬وكذلك مسائل من قبيل االشرتاك ال ّل ّ‬
‫سعى اليكوف (‪ )1987‬إىل تقديم مقاربة جديدة للمفهمة عمو ًما وللدّ اللة ال ّلغو ّية‬
‫خاصة من خالل عرضه لنظر ّية املناويل العرفان ّية‪ ،‬حيث ربط بني البنية الدّ الل ّية والبنية‬ ‫ّ‬
‫املتجسدة (‪ .)pre-conceptual structure‬فالدّ اللة‬ ‫ّ‬ ‫املفهوم ّية والبنية ما قبل املفهوم ّية‬
‫املفهومي‪ ،‬وخيضع هذا النّظام بدوره إىل التّجربة‬ ‫ّ‬ ‫ال ّلغو ّية بالنّسبة إليه خاضعة للنّظام‬
‫واالجتامعي ال ّثقايف‪ ،‬أو ما‬
‫ّ‬ ‫أساسا جتربة اجلسد يف حميطه املا ّدي‬ ‫ً‬ ‫ما قبل املفهوم ّية‪ ،‬وهي‬
‫معطيي أساس ّيني يشكّالن‬ ‫ْ‬ ‫السياق يعرض اليكوف‬ ‫اختصارا باجلسدنة‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫ً‬ ‫يعرف‬
‫األول الرتباط الدّ اللة ال ّلغو ّية بالبنية املفهوم ّية والبنية ما قبل املفهوم ّية‪ ،‬يتم ّثالن‬
‫املظهر ّ‬
‫للم ْق َولة (‪ )basic-level of categorization‬واخلطاطة‬ ‫يف مفاهيم املستوى القاعدي َ‬
‫الصورة (‪.)image schema‬‬ ‫ّ‬
‫أهم املقاربات‬ ‫الصورة ّ‬‫للم ْق َولة» ونظر ّية خطاطة ّ‬
‫القاعدي َ‬
‫ّ‬ ‫مت ّثل مقولة «املستوى‬
‫ومرتكزا عرفان ًّيا ارتبا ًطا‬
‫ً‬ ‫التي شغلت الدّ راسات العرفان ّية وارتبطت باجلسدنة نظر ّي ًة‬
‫املؤسسة هلذه املفاهيم (اليكوف‬ ‫ّ‬ ‫مبارشا‪ ،‬سواء أكان ذلك يف الكتب األ ّمهات‬ ‫ً‬
‫(‪ ،)1987‬جونسون (‪ ،)1987‬اليكوف وجونسون (‪ ،))1999‬أو فيام جاء بعد ذلك‬
‫اهتمت هبذه النّظريات ورشحتها‪.‬‬ ‫من الدّ راسات والكتب التّي ّ‬

‫‪ -1‬نحيل هنا عىل مقال األستاذ عبد اهلل صولة‪« :‬املعنى القاعدي يف املشرتك‪ :‬مبادئ حتديده وطرائق انتشاره؛ دراسة يف‬
‫نظر ّية ال ّطراز»‪ ،‬جم ّلة املعجم ّية‪ ،‬تونس‪ ،‬عدد ‪ 18‬و‪ ،2003 ،19‬ص ‪.34-19‬‬

‫‪-101-‬‬
‫الصورة كانتا‬ ‫األسايس واخلطاطة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصدد ّ‬
‫إن بنية املستوى‬ ‫وما يمكن قوله يف هذا ّ‬
‫الذي طرحه‬ ‫املركزي ّ‬
‫ّ‬ ‫السؤال‬ ‫قد م ّثلتا اإلجابة عن كيف ّية ارتباط املعنى باجلسدنة‪ ،‬وهو ّ‬
‫املجردة عىل أسس جسد ّية‪ ،‬يف‬ ‫اليكوف (‪ )1987‬حول كيف ّية ارتكاز املفاهيم واألفكار ّ‬
‫إطار الواقع ّية التّجريب ّية (‪ )experiential realism‬ت ّي ًارا فلسف ًّيا عا ًّما والدّ اللة العرفان ّية‬
‫ختصيصا‪.‬‬
‫ً‬
‫أن لتجربتنا اجلسد ّية بنية حتكمها‪ ،‬وليست قائمة‬ ‫الشأن‪ّ -‬‬‫يفرتض اليكوف – يف هذا ّ‬
‫ألن بنية ما ال يمكن أن تنشأ من يشء آخر غري ذي بنية (‪ .)1‬وقوام هذا‬ ‫عىل الفوىض؛ ّ‬
‫األسايس واملفاهيم القائمة عىل األبنية اخلطاط ّية حتمل‬
‫ّ‬ ‫االفرتاض ّ‬
‫أن مفاهيم املستوى‬
‫متاس مبارش مع البنية ما قبل املفهوم ّية من خالل اجلسد‬ ‫ألنا جتعلنا يف ّ‬
‫املعاين يف ذاهتا‪ّ ،‬‬
‫واشتغاله يف العامل‪ .‬وعىل حدّ عبارة «اليكوف وجونسن» ّ‬
‫فإن هذه األبنية املفهوم ّية‬
‫الذهن (‪ .)2‬ونحن نصطلح عىل هذا االسرتسال‬ ‫ألن اجلسد [موجود] يف ّ‬ ‫حتمل معنى ّ‬
‫ّجريبي (اجلسد يف العامل)‬
‫ّ‬ ‫بني اجلسد واملفاهيم بالتّصافح (‪ )interfacing‬بني املستوى الت‬
‫ألن بنية ما قبل‪-‬‬‫أن البنية املفهوم ّية موجودة ومفهومة ّ‬
‫املفهومي (الذي مفاده ّ‬
‫ّ‬ ‫واملستوى‬
‫وينضدها اجلسد يف جتربته)‪.‬‬ ‫مفهوم ّية موجودة ومفهومة سلفا‪ّ ،‬‬
‫األسايس فهو تلك البنية التي تتشكّل من خالل التّصوير‬ ‫ّ‬ ‫أ ّما املقصود ببنية املستوى‬
‫الشكيل أو اجلشطلتي (‪ .)gestalt perception‬من‬ ‫هني واحلركة اجلسد ّية واإلدراك ّ‬‫الذ ّ‬‫ّ‬
‫األسايس‪ .‬وتكون هذه املفاهيم ذات ّية نسب ّية؛ ومن ذلك‬
‫ّ‬ ‫خالهلا نكتسب مفاهيم املستوى‬
‫الصورة ّ‬
‫الذهن ّية‬ ‫«الكريس» عىل األشياء التي تناسب ّ‬‫ّ‬ ‫عىل سبيل املثال أنّنا نسقط مفهوم‬
‫احلركي للجلوس‪ ،‬ويناسب‬ ‫ّ‬ ‫الكريس‪ ،‬ويتامشى هذا الفهم مع برناجمنا‬
‫ّ‬ ‫التي نشك ّلها عن‬
‫الكريس وشكله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اجلشطلتي هليئة‬
‫ّ‬ ‫إدراكنا‬
‫هني‪ ،‬احلركة اجلسد ّية‪ ،‬اإلدراك‬ ‫املكونات ال ّثالثة (التّصوير ّ‬
‫الذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشكّل هذه‬
‫اإلدراكي لعنارص مقولة مع ّينة أو‬
‫ّ‬ ‫العرفاين‬
‫ّ‬ ‫األسايس التم ّث َل‬
‫ّ‬ ‫اجلشطلتي) يف بنية املستوى‬
‫ّ‬
‫مفهوم من خالل استخدام منظوماتنا اإلدراك ّية واملفهوم ّية واحلرك ّية يف حياتنا اليوم ّية‪،‬‬

‫‪1- Lakoff, G.: Women, Fire, and Dangerous Things: What Categories Reveal about the‬‬
‫‪Mind.1987, p267.‬‬
‫‪2- Lakoff, G. & Johnson, M.: Philosophy in the Flesh; The embodied mind and its challenge‬‬
‫‪to western thought, Basic Books, 1999, p292.‬‬

‫‪-102-‬‬
‫الذهن مبارشة‪ ،‬وذلك بسبب من اجلسد ودوره من‬ ‫املحصلة يف ّ‬
‫ّ‬ ‫فتتكون مجلة املعاين‬
‫ّ‬
‫قايف‪ ،‬بوصفه‬‫واالجتامعي ال ّث ّ‬
‫ّ‬ ‫خالل تفاعله املبارش مع حميطه وتصافحه مع العامل ا ّمل ّ‬
‫ادي‬
‫حتصل هذه املفاهيم يف‬ ‫الضور ّية يف الوجود واحلياة‪ .‬وعادة ما ّ‬ ‫يم ّثل نقطة البداية ّ‬
‫ّمو حيث يكتسب اإلنسان مجلة من املفاهيم األساس ّية عرب اإلدراك‬ ‫مرحلة مبكّرة من الن ّ‬
‫(األحجام واأللوان واحلرارة واألمل وال ّطعم‪ ...‬وما إىل ذلك من املفاهيم ّ‬
‫احلس ّية)‪.‬‬
‫تتضمن تعقيدً ا يف اكتساهبا أو فهمها‬
‫ّ‬ ‫ويذهب اليكوف إىل ّ‬
‫أن هذه املفاهيم أساس ّية وال‬
‫ختص اإلدراك والوظيفة والتّواصل وتنظيم املعارف‪:‬‬ ‫العتبارات أربعة ّ‬
‫يتم إدراك هذه املفاهيم بشكل إمجا ّيل ّ‬
‫كل من حيث تشكّلها‪.‬‬ ‫ ‪-‬اإلدراك‪ّ - :‬‬
‫‪ -‬نتم ّثلها يف صورة ذهن ّية واحدة‪.‬‬
‫يتم حتديدها بشكل رسيع ومبارش‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫احلركي العا ّم الوظيفة األساس ّية يف حتديد هذه املفاهيم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬الوظيفة‪ :‬للربنامج‬
‫‪ -‬التّواصل‪ - :‬نعتمد يف تعبرينا عن مثل هذه املفاهيم عىل ما ّ‬
‫قل من املفردات‪،‬‬
‫ّ‬
‫واستقل سياق ًّيا‪.‬‬ ‫وقص‬
‫ُ‬
‫السبق يف دخول املعجم ّ‬
‫[الذهني]‪ .‬فهي ّأول ما‬ ‫‪ -‬هلذه املفردات ّ‬
‫يتع ّلمه األطفال من الكالم‪.‬‬
‫‪ -‬تنظيم املعارف‪ :‬تكون معظم خصائص هذه «املقوالت املفاهيم» ّ‬
‫خمزنة يف هذا‬
‫األسايس (‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫املستوى‬
‫األسايس ال ّثاين‪ ،‬وعليها تنهض‬
‫ّ‬ ‫الصورة فهي مت ّثل ال ّطرف‬
‫أ ّما بالنّسبة إىل اخلطاطة ّ‬
‫األسايس‪ -‬بربط البنية‬
‫ّ‬ ‫املجردة‪ .‬إذ تقوم‪ -‬إىل جانب مفاهيم املستوى‬ ‫ّ‬ ‫األبنية املفهوم ّية‬
‫ما قبل املفهوم ّية بالبنية املفهوم ّية والدّ الل ّية يف املستوى ّ‬
‫الذهني؛ فهي إذن بنية قائمة عىل‬
‫تكون مثل هذه‬‫والذهن مثلام تشري تعريفاهتا املختلفة‪ .‬واألساس يف ّ‬ ‫التّخوم بني التّجربة ّ‬
‫احلركي مع املدركات يف‬
‫ّ‬ ‫احلس‬
‫املتكررة لتفاعل اجلهاز ّ‬‫ّ‬ ‫الصور هو التّجربة‬ ‫اخلطاطات ّ‬
‫املجرد مثلام يشري إىل ذلك مارك جونسون (‪.)1987‬‬ ‫وصول إىل ّ‬ ‫ً‬ ‫احلس املدرك‪،‬‬ ‫مسار من ّ‬

‫‪1- Lakoff, G: 1987, 36-47.‬‬

‫‪-103-‬‬
‫اإلدراكي‬
‫ّ‬ ‫متكر ًرا لتفاعلنا‬
‫ّ‬ ‫الصورة بكوهنا نم ًطا دينام ًّيا‬ ‫يعرف جونسون اخلطاطة ّ‬ ‫ّ‬
‫ً (‪)1‬‬
‫وبراجمنا احلرك ّية‪ ،‬تضفي عىل جتربتنا انسجا ًما وبنية ‪ .‬وتنبثق هذه البنية من التّجربة‬
‫احلسية اإلدراك ّية مبارشة فهي تتشكّل من خالل هذه التّجارب يف املراحل األوىل‬ ‫ّ‬
‫تكون املفاهيم‪ .‬فإذا ما ُأخذت أنامط هذه املعلومات ّ‬
‫احلس ّية‬ ‫السابقة ملرحلة ّ‬ ‫ّمو ّ‬
‫من الن ّ‬
‫الصورة‪ ،‬تقدّ م التّجربة حني ذلك ً‬
‫متثيل مفهوم ًّيا‬ ‫وخ ّزنت يف شكل اخلطاطة ّ‬ ‫املتكررة‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫نكونه‬ ‫اخلارجي ومع ما ّ‬
‫ّ‬ ‫الفيزيائي النّاتج عن التّفاعل مع العامل‬
‫ّ‬ ‫قائم عىل التّأسيس املا ّدي‬ ‫ً‬
‫من املالحظات عنه‪ .‬ومن أمثلة هذه اخلطاطات ما أشار إليه جونسون حول خطاطة‬
‫القوة ومنشئها‪ ،‬فهي بنية مفهوم ّية ال تنبثق إالّ من خالل تفاعلنا مع بق ّية األشياء يف‬ ‫ّ‬
‫القوة اهتام ًما إالّ إذا ُس ِّلطت علينا أو عىل أحد األشياء يف‬ ‫حميطها؛ فنحن ال نعري مفهوم ّ‬
‫للقوة إذا اصطدمنا بحا ّفة طاولة‬ ‫اإلدراكي‪ ،‬ومن ذلك أنّنا نخترب اخلاص ّية التّفاعل ّية ّ‬‫ّ‬ ‫جمالنا‬
‫يف غرفة مظلمة‪ .‬وحيدث األمر نفسه إذا بالغنا يف األكل‪ ،‬فال ّطعام الذي نبتلعه سيامرس‬
‫القوة إذا مل تنطو عىل‬‫كل ذلك أنّه ال وجود خلطاطة مت ّثل ّ‬ ‫واملهم من ّ‬
‫ّ‬ ‫ضغ ًطا عىل املعدة‪.‬‬
‫القوة وغريها‬‫متأصلة يف خطاطة ّ‬ ‫أن املعاين ّ‬ ‫كل ذلك ّ‬ ‫تفاعل حادث أو ممكن (‪ .)2‬ومفا ُد ّ‬
‫احلسية‬ ‫من أنواع اخلطاطات بام هي نتاج تفاعل قائم عىل التّخوم بني جما ْيل التّجربة ّ‬
‫أهم اخلطاطات يف‬ ‫املفهومي والدّ ال ّيل باالستتباع‪ .‬ونسوق قائمة يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلرك ّية واملستوى‬
‫اجلدول اآليت (‪:)3‬‬
‫الصورة‬
‫اخلطاطة ّ‬ ‫ ‬ ‫املجال التّجريبي‬
‫فوق‪-‬حتت‪/‬أمام‪-‬وراء‪/‬يمني‪-‬شامل‪/‬قريب‪-‬بعيد‪/‬مركز‪-‬‬
‫الفضاء‬
‫طرف‪/‬متاس‪/‬االستقامة‪/‬العمود ّية‬
‫ّ‬
‫احلاوية‪/‬داخل‪-‬خارج‪/‬السطح ّية‪/‬الفراغ‪-‬االمتالء‬
‫ّ‬ ‫االحتواء‬

‫‪1- Johnson, M.: The Body in the Mind: The Bodily Basis of Meaning, Imagination and‬‬
‫‪Reason. Chicago: Chicago University Press.1987, xiv.‬‬
‫‪2- Ibid.‬‬
‫‪3- Evans, V. & Green, M: Cognitive Linguistics: An Introduction. Edinburgh University Press.‬‬
‫‪2006, p190.‬‬

‫‪-104-‬‬
‫الصورة‬
‫اخلطاطة ّ‬ ‫ ‬ ‫املجال التّجريبي‬
‫النّشاط‪ /‬مصدر‪-‬مسار‪-‬هدف‬ ‫احلركة‬
‫حمور التّوازن‪/‬ك ّفتا التّوازن‪/‬نقطة التّوازن‪/‬التّوازن‬ ‫التّوازن‬
‫اإلجبار‪/‬احلاجز‪/‬القوة املضا ّدة‪/‬انحراف املسار‪/‬إزالةالقيد‪/‬‬
‫ّ‬ ‫القوة‬
‫ّ‬
‫القدرة‪/‬التّمكّن‪/‬اجلذب ‪/‬املقاومة‬
‫ّ‬
‫ّكرار‪/‬جزء‪-‬كل‪/‬الكتلة‪-‬‬
‫الدّ مج‪/‬املجموعة‪/‬االنقسام‪/‬الت‬
‫الوحدة‪/‬التّعدّ د‬
‫املعدود‪/‬الربط‬
‫ّ‬
‫‪/‬التاكم‬
‫التّطابق ّ‬ ‫اهلو ّية‬
‫الشء‪/‬العمل ّية‬
‫اإلزالة ‪/‬الفضاء املحدّ د‪/‬الدّ ور ‪ّ /‬‬ ‫الوجود‬

‫تشكّل هذه اخلطاطات املنبثقة من التّجربة اجلسد ّية خلف ّيات متكّننا من فهم الدّ اللة‬
‫تتوسع استعار ّيا‬‫خيول هلا أن ّ‬ ‫ال ّلغو ّية أو غريها من األنظمة العالم ّية‪ ،‬وهلا من املرونة ما ّ‬
‫ومن ذلك مثال خطاطة احلاوية (‪ )container image-schema‬التي نبني من خالهلا‬
‫تصورات عديدة خ ّطية من قبيل (أنا يف املكتب) أو استعار ّية من قبيل (أنا يف سعادة‬ ‫ّ‬
‫الشء (‪)thing‬‬ ‫كبرية)‪ .‬وكذلك نستطيع أن نتم ّثل مقولة االسم ّية والفعل ّية عرب خطاطة ّ‬
‫والعمل ّية (‪ .)process‬فاالسم ما كان مدلوله ال ّط ّ‬
‫رازي يف التّجربة شي ًئا ما ّد ًّيا (زيد‪،‬‬
‫املجردة نتم ّثلها بام هي أشياء ذات شكل‬ ‫جدار‪ ،‬فرس)‪ ،‬فهذه األسامء يف داللتها األول ّية ّ‬
‫الزمان‬‫ووجود يف هذا العامل‪ .‬أ ّما مقولة الفعل فنتم ّثل داللتها بامهي عمل جيري يف ّ‬
‫واملكان وفيه تتابع وخ ّط ّية‪ .‬وقد سعى الدّ ارسون يف ال ّلسان ّيات العرفان ّية إىل بلورة‬
‫مناويل نظر ّية عملوا من خالهلا عىل الكشف عن األسس التّجريب ّية التي ترتكز إليها‬
‫يلغي احلدود‬‫ّحوي والدّ ال ّيل يف اسرتسال(‪ )continuum‬يوشك أن َ‬ ‫ال ّلغة يف نظامها الن ّ‬
‫نحوي وما هو دال ّيل تداو ّيل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بني ما هو‬

‫اليل‬
‫ّحوي الدّ ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -2-2‬اخللف ّية التّجريب ّية واالسرتسال الن‬
‫لعل أبرزها‬‫مركزي يف ال ّلسان ّيات العرفان ّية‪ ،‬وله مظاهر عديدة ّ‬
‫ّ‬ ‫االسرتسال مفهوم‬
‫ّ‬
‫أن املقاربة العرفان ّية للدّ اللة ال تعرتف بحدّ فاصل بني ما هو دال ّيل وما هو تداو ّيل‪.‬‬
‫أخص‪ ،‬فاملعارف ال ّلغو ّية (‪)linguistic knowledges‬‬ ‫ويمكن أن نشري إىل ذلك بعبارة ّ‬

‫‪-105-‬‬
‫التي من بينها علم الدّ اللة غري مستق ّلة متا ًما عن املعرفة بالعامل (‪)world knowledge‬‬
‫كام هو احلال يف املقاربة املوضوع ّية التي تعترب الدّ اللة مقترصة عىل املعرفة ال ّلغو ّية وما‬
‫تع ّلق بالدّ اللة املعجم ّية لأللفاظ (حزمة املعانم) دون غريها من املعارف‪ّ .‬‬
‫إن املقاربة‬
‫واملكون‬
‫ّ‬ ‫املكون الدّ ال ّيل‬
‫أن املعنى حاصل من خالل التّفاعل بني ّ‬ ‫العرفان ّية للدّ اللة ترى ّ‬
‫يتأول معاين األلفاظ والعبارات‬ ‫التّداو ّيل‪ ،‬حيث يمكن ملستعمل ال ّلغة با ًّثا أو متق ّب ًل أن ّ‬
‫السياق الذي قيلت فيه واملعطيات التي حايثتها(‪ )1‬باإلضافة إىل ما يعرفه‬ ‫بالرجوع إىل ّ‬ ‫ّ‬
‫من اخلصائص الدّ الل ّية املعجم ّية‪ .‬ومن هذا املنطلق يربز مفهوم املوسوع ّية يف التّعامل‬
‫مع الدّ اللة‪.‬‬

‫‪ -1-2-2‬اخللف ّية التّجريب ّية واملعارف املوسوع ّية‬


‫مهها رفض الفصل بني الدّ اللة‬ ‫يقوم مفهوم «املعرفة املوسوع ّية» عىل مبادئ من أ ّ‬
‫والتّداول ّية‪ ،‬فالدّ اللة ليست حادثة بذاهتا وإنّام تكون حني االستعامل وما حيايثه من‬
‫املعاين املفهوم ّية غري ال ّلغو ّية االجتامع ّية منها وال ّثقاف ّية‪ .‬وال مت ّثل الوحدات املعجم ّية‬
‫جمرد نقاط اهتداء يف شبكة هذه املعارف املوسوع ّية املن ّظمة ملعرفتنا‬ ‫السياق إالّ ّ‬
‫يف هذا ّ‬
‫اخلاصة يف معامالتنا ال ّلغو ّية‪ .‬وال تعني املوسوع ّية من‬
‫ّ‬ ‫بالعامل عمو ًما ومعرفتنا بتجربتنا‬
‫منظور «النقاكر» االتّساع والفوىض بل مت ّثل شبكة من املعارف من ّظمة بدورها تسمح‬
‫لنا بتحديد معاين الكلامت حتديدا يقوم بدوره عىل مبدإ املركز ّية (‪ .)centrality‬فمن‬
‫املعارف املوسوع ّية املرتبطة بالكلامت ما يكون أكثر بروزا ومركز ّية من غريه يف هذا‬
‫ويقسمها «النقاكر» إىل‬ ‫ّ‬ ‫بالرجوع إىل طبيعة هذه املعرفة املوسوع ّية‬ ‫التّحديد‪ ،‬وذلك ّ‬
‫أربعة أنواع هي‪:‬‬
‫‪-‬املعارف التّواضعية (‪ :)conventional knowledge‬تتم ّثل يف مجلة املعارف‬
‫خاصة‪ .‬ويمكن‬ ‫املتواضع عليها داخل املجموعات ال ّلسان ّية وتكون يف املجال ال ّل ّ‬
‫ساين ّ‬
‫الورقي بني د ّفتني من قبيل‬
‫ّ‬ ‫الشء‬‫أن نم ّثل لذلك بكلمة «الكتاب» التي تعني ذلك ّ‬
‫كل ما هو مكتوب‬ ‫الرسالة أو ّ‬
‫كتاب القراءة‪ ،‬أو كتاب صدر ملؤ ّلف ما‪ ،‬ويمكن أن تعني ّ‬
‫السامو ّية‪.‬‬
‫أو مطبوع‪ ،‬ويمكن أن نشري هبا إىل القرآن يف املصحف أو غريه من الكتب ّ‬

‫‪1- Ibid.171.‬‬

‫‪-106-‬‬
‫‪-‬املعارف اجلامعة (‪ :)generic knowledge‬تشكّلها املعارف العا ّمة من قبيل‬
‫الورقي أو املج ّلد‬
‫ّ‬ ‫الشء‬
‫متحضت يف االستعامل لذلك ّ‬ ‫بأن الكتاب كلمة قد ّ‬ ‫معرفتنا ّ‬
‫الذي نستعمله يف الدّ راسة ونشرتيه من املكتبات‪..‬‬
‫‪-‬املعارف ّ‬
‫الذاتية الدّ اخل ّية (‪ :)intrinsic knowledge‬جمموعة املعارف الدّ اخلية‬
‫املختصني‪ ،‬ومن ذلك ّ‬
‫أن «الكتاب» يف‬ ‫ّ‬ ‫حكرا عىل‬
‫بخصائص يشء ما‪ ،‬وعادة ما تكون ً‬
‫يب حييل عىل كتاب سيبويه املعروف‪.‬‬‫ّحوي العر ّ‬
‫التاث الن ّ‬
‫املختصني يف ّ‬
‫ّ‬ ‫عرف النّحويني‬
‫‪-‬املعرفة باخلصائص (‪ :)characteristic knowledge‬املعرفة باخلصائص املم ّيزة‬
‫نتأول كلمة الكتاب يف قوله‪« :‬كتْب‬‫معي أو عالقة يف مقام خمصوص‪ ،‬كأن ّ‬ ‫لكيان ّ‬
‫ونتأوهلا يف قوله‪« :‬ترك هلم كتابه» بمعنى ترك‬
‫ّ‬ ‫عي»‪.‬‬
‫الش ّ‬
‫الزواج ّ‬
‫الكتاب» عىل أنّه عقد ّ‬
‫هلم وص ّيته‪.‬‬
‫إن األلفاظ والعبارات من هذا املنظور ال حتمل معانيها بمعزل عن طريقة الفهم‬ ‫ّ‬
‫وسياق القول‪ ،‬فالدّ اللة املعجم ّية التي نجدها يف القواميس ال تكفي لفهم مقاصد‬
‫املتك ّلم وتأويل املعنى‪ ،‬بل نحتاج إىل خلف ّيات معرف ّية وثقاف ّية واجتامع ّية حتّى نتمكّن‬
‫من الفهم‪ .‬وقد ترد هذه اخللف ّيات حتت مسم ّيات خمتلفة عند ال ّلسانيني العرفانيني؛ إذ‬
‫املفهومي (‪،)conceptual domain‬‬ ‫ّ‬ ‫مسمى املجال‬
‫نجدها عند رونالد النقاكر حتت ّ‬
‫مسمى اإلطار (‪ ،)frame‬أ ّما جيل‬ ‫ّ‬ ‫ونجدها عند شارل فيلمور (‪ )Fillmore‬حتت‬
‫هني (‪ .)mental space‬ويذهب‬ ‫فوكونيي (‪ )Fauconnier‬فيصطلح عليها بالفضاء ّ‬
‫الذ ّ‬
‫أن هذه التّسميات حتيل عىل فكرة واحدة حتتكم إليها‬ ‫زولتان كوفتش (‪ )Kövecses‬إىل ّ‬
‫املقاربات العرفان ّية للدّ اللة وإن اختلفت يف اجلهاز النّظري‪ .‬إذ يقول‪:‬‬
‫بمسميات خمتلفة يف األدب ّيات والبحوث (اخلاصة‬ ‫ّ‬ ‫«إن فكرة اإلطار يمكن أن توسم‬‫ّ‬
‫والسيناريو (�‪scenar‬‬‫بالعلوم العرفان ّية) إذ نجد‪ -‬إضافة إىل اإلطار‪-‬اخلطيطة( (‪ّ )script‬‬
‫العرفاين املؤمثل واخلطاطة واجلشطلت‬
‫ّ‬ ‫‪ )io‬واملشهد (‪ )scene‬واملنوال ال ّث ّ‬
‫قايف واملنوال‬
‫كل هذه املفاهيم عىل التنّظيم املنسجم للتّجربة اإلنسان ّية»(‪ .)1‬فهذه‬ ‫ّجريبي‪ ،‬وحتيل ّ‬
‫ّ‬ ‫الت‬
‫لعل أبرزها دور التّجربة‬ ‫االصطالحات املختلفة تنطلق من اعتبارات نظر ّية واحدة ّ‬

‫‪1- Kövecses, Z.: Language, Mind, and Culture. A Practical Introduction. Oxford & New York:‬‬
‫‪Oxford University Press.2006. 64.‬‬

‫‪-107-‬‬
‫خاصة‪ .‬ويمكن‬ ‫ما قبل املفهوم ّية ودورها يف تنضيد املفاهيم عموما والدّ اللة ال ّلغو ّية ّ‬
‫أن نستعرض من هذه املقاربات النّظر ّية فكرة اإلطار ودوره يف حتليل الدّ اللة عند‬
‫«فيلمور»‪.‬‬
‫ينظر «فيلمور» إىل الدّ اللة بام هي العالقة بني األشكال ال ّلغو ّية ومعانيها‪ .‬وبناء‬
‫أن التّحليل الدّ ال ّيل اجل ّيد يكمن يف عرض الكيف ّيات التي هبا تركّز‬ ‫عىل ذلك فهو يرى ّ‬
‫خصائص املعنى يف خصائص األشكال ال ّلغو ّية‪ .‬ووجب عىل دارس ال ّلغة حينئذ‬
‫ألن هلا مظهرين‪ :‬يتع ّلق املظهر ّ‬
‫األول‬ ‫أن ينظر إىل هذه العالقة من زاويتني خمتلفتني‪ّ ،‬‬
‫وتتم خالله عمل ّية تفسري املضمون الدّ ال ّيل للبنية ال ّلغو ّية‪.‬‬ ‫بحل الشفرة (‪ّ ،)decoding‬‬ ‫ّ‬
‫وتتم يف أثنائه عمل ّية اختبار ال ّطرائق‬ ‫وأ ّما املظهر ال ّثاين فيتع ّلق بالتّشفري (‪ّ ،)encoding‬‬
‫بالرجوع إىل أبنية عرفان ّية‬ ‫يتم ّ‬
‫املناسبة للتّعبري عن املفاهيم لغو ّيا‪ .‬فالتّعبري عن املعنى ّ‬
‫وتوجهه‪ .‬ويذهب «فيلمور‬ ‫ِّ‬ ‫السامع للعبارات ال ّلغو ّية‬
‫(أطر) تشكّل فهم املتك ّلم و‪/‬أو ّ‬
‫الشفرة ال ّلغو ّية‬
‫أن جز ًءا من تع ّلم ال ّلغة يكون من خالل اكتساب ّ‬ ‫وبايكر» (‪ )2009‬إىل ّ‬
‫ربره‪،‬‬ ‫للتّجارب اليوم ّية املألوفة املقرتنة هبا‪ .‬ويشكّل هذا االقرتان ‪-‬عرفان ًّيا‪ -‬فهمنا وي ّ‬
‫بأن يربط ال ّلغة بالتّجربة يف خمتلف أبعادها‪ .‬وبناء عىل هذه املنطلقات‪ ،‬يتحدّ د مفهوم‬
‫اإلطار‪-‬بحسب فيلمور‪ -‬بام هو عمل ّية ختطيط (‪ )schematization‬لتجربة مع ّينة‪،‬‬
‫املفهومي‪ ،‬حتفظه ذاكرة طويلة املدى( (�‪long-term memo‬‬ ‫ّ‬ ‫يكون مم ّث ًل يف املستوى‬
‫معي من التّجربة اإلنسان ّية‪.‬‬ ‫ثقايف ّ‬
‫‪ ،)ry‬ويربط بني العنارص والكيانات املرتبطة بمشهد ّ‬
‫يعرف بام هو جمموعة من املعارف املن ّظمة واملعتقدات واألنشطة التّي تشكّل‬ ‫فاإلطار ّ‬
‫دورا أساس ًّيا يف الكشف‬ ‫ِ‬
‫التّجربة اإلنسان ّية وتكسبها معنى‪ .‬وتؤدي األطر هبذا املفهوم ً‬
‫عن ال ّطرائق التي ندرك هبا أنفسنا والعامل من حولنا والكيف ّيات التّي هبا نتذكّر جتاربنا أو‬
‫نفكّر فيها‪ .‬ومتكّن األطر كذلك من الكشف عن ال ّطرق التّي هبا نشكّل آراءنا وفرض ّياتنا‬
‫عن خلف ّيات هذه التّجارب‪ ،‬وما يمكن أن يكون بينها من ترابط‪ .‬ونحن هنتدي إىل‬
‫بعض هذه األطر بفضل من طبيعة عيشنا‪ ،‬فنحن كائنات نعيش عىل األرض‪ ،‬ونخضع‬
‫نوي‪ ،‬وندرك ما نعايشه من أشياء فيها‪ .‬كام أنّنا‬ ‫والس ّ‬
‫اليومي ّ‬‫ّ‬ ‫لطبيعة حركتها ودوراهنا‬
‫هنتدي إىل أطر أخرى بسبب من طبيعة نوعنا‪ ،‬فنحن برش ذوو أجساد خاضعة للجاذب ّية‬
‫وذات احتياجات بيولوج ّية وشعور ّية‪ ،‬ولنا بفضل هذه األجساد قدرات إدراك ّية عا ّمة‪.‬‬
‫ملؤسساهتا‬ ‫أيضا ما هنتدي إليه بسبب من انتامئنا لثقافة مع ّينة نستجيب ّ‬ ‫ومن األطر ً‬

‫‪-108-‬‬
‫كل هذا أهنا أطر‬ ‫واألهم من ّ‬
‫ّ‬ ‫ورموزها ومنتجاهتا وقيمها بطريقة واعية أو دون وعي‪.‬‬
‫ِ‬
‫خاصة تستند إليها‪ .‬إنّنا باالستناد إىل‬ ‫نفهمها؛ ألنّنا ننتمي إىل جمموعة خطاب ّية ذات ثقافة ّ‬
‫نكون معارف خطاط ّية حول اجلاذب ّية واحلرارة وال ّظ ّل‪ ،‬ونم ّيز بني ّ‬
‫احلي من‬ ‫كل ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫ونكون معارف‬‫ّ‬ ‫الكائنات واجلامد‪ ،‬وكذلك ندرك األلوان ونفهم األمل وال ّل ّذة والغرية‪.‬‬
‫واملؤسسات (‪ .)1‬وهبذا املعنى‬ ‫ّ‬ ‫الزواج واحلكم والعقيدة وما إىل ذلك من األشياء‬ ‫حول ّ‬
‫تشكّل األطر أبنية مركّبة من املعارف‪ ،‬تقود إىل فهم املرتابط من الكلامت‪ ،‬وتسهم‬
‫نتبي مفهوم االسرتسال‬ ‫التابط والتّعليق‪ .‬ومن هنا ّ‬ ‫ّحوي يف هذا ّ‬‫السلوك الن ّ‬ ‫يف فهم ّ‬
‫مزي‬
‫الر ّ‬ ‫غوي لتصل إىل ّ‬ ‫الفيزيائي ما قبل ال ّل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّجريبي‬
‫ّ‬ ‫بني مستويات خمتلفة تنطلق من الت‬
‫أن النّظر ّيات‬ ‫السياق ّ‬
‫املجرد املتم ّثل يف الدّ اللة والنّحو‪ .‬وممّا جتدر اإلشارة إليه يف هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫نحوي وما هو دال ّيل‪ّ ،‬‬
‫ولعل‬ ‫ّ‬ ‫متييزا مطل ًقا بني ما هو‬
‫العرفان ّية يف النّحو والدّ اللة ال مت ّيز ً‬
‫العرفاين يف كتابه «تأسيس‬
‫ّ‬ ‫مؤسس نظر ّية النّحو‬ ‫أن «النقاكر» ّ‬ ‫أبرز دليل عىل ذلك ّ‬
‫الصادر سنة ‪ ،1987‬قد‬ ‫العرفاين (‪ّ )Foundation of cognitive grammar‬‬ ‫ّ‬ ‫النّحو‬
‫يبي‬ ‫فصول متعدّ دة فيه للحديث عن الدّ اللة املفهوم ّية يف إطار نظر ّية املجال حتّى ّ‬ ‫ً‬ ‫أفرد‬
‫تفاعل الدّ اللة والنّحو وعدم وضوح احلدود بينهام‪ .‬وهو يذهب إىل أكثر من ذلك حني‬
‫أن املقولتني النّحو ّيتني األساس ّيتني (االسم والفعل) يف حدّ ذاهتام حتتاجان‬ ‫يشري إىل ّ‬
‫مفهومي‪ ،‬يقول‪« :‬لقد بات‪ ،‬إىل حدّ اآلن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مفهومي وما قبل‬
‫ّ‬ ‫تعريفني دالل ّيني بشكل‬
‫من املقبول عىل نطاق واسع كون التّوصيفات املفهوم ّية ممكنة لألعضاء املركز ّيني أو‬
‫علم عىل يشء‬ ‫رازي‪ ،‬إذن‪ ،‬هو اسم جيري ً‬ ‫ال ّطراز ّيني يف املقوالت األساس ّية‪ .‬فاالسم ال ّط ّ‬
‫ما ّد ّي (مثل ملعقة‪ ،‬س ّيارة‪ ،‬كلب‪ ،‬مطر ّية)‪ .‬ويكون األمر كذلك يف األفعال ال ّطراز ّية‬
‫تعي األعامل واألحداث (جرى‪ ،‬انفجر‪ ،‬رضب) ‪ .)2(»...‬أ ّما ليونارد طاملي الذي‬ ‫بأن ّ‬
‫أ ّلف كتاب «نحو دالل ّيات عرفان ّية» (‪ )Towards a cognitive semantics‬فقد س ّطر‬
‫نظا ًما نحو ًّيا عرفان ًّيا كان مركز اهتاممه بالرغم ممّا يشري إليه عنوان كتابه املذكور‪ .‬وقد ّبي‬
‫ّصور مدى االسرتسال والتّفاعل بني الدّ اللة والنّحو‪.‬‬ ‫خالل عرضه هلذا الت ّ‬

‫& ‪1- Fillmore, C. & Baker: A frames approach to semantic analysis. Edited by Bernd Heine‬‬
‫‪Heiko Narrog. 2009. 314.‬‬
‫للتمجة‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫العرفاين‪ ،‬ترمجة األزهر الزّ نّاد‪ ،‬منشورات دار سيناترا‪ ،‬معهد تونس ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -2‬رونالد النقاكر‪ ،‬مدخل يف النّحو‬
‫ط‪.160 ،2018 ،1‬‬

‫‪-109-‬‬
‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫اليل؛ طاملي‬
‫ّحوي الدّ ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -2-2-2‬االسرتسال الن‬
‫معجمي‬
‫ّ‬ ‫نحوي‬
‫ّ‬ ‫يسعى طاملي يف مقاربته الدّ الل ّية إىل الربهنة عىل وجود اسرتسال‬
‫(دال ّيل)‪ ،‬فهو ينفي وجود اختالفات مبدئ ّية بني النّحو أو ما يصطلح عليه بـ (القسم‬
‫املغلق) واملعجم (القسم املفتوح) ‪ .‬غري أنّه يم ّيز يف هذا ّ‬
‫السياق بني نوعني من املعنى‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫اخلطاطي (‪ )schematic meaning‬املتح ّقق عرب املقوالت النّحو ّية‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪-‬املعنى‬
‫‪-‬املعنى ال ّث ّ‬
‫ري الذي تشكّله الوحدات املعجم ّية وداللتها‪.‬‬
‫ري‪ ،‬ال‬‫ينضد املعنى ال ّث ّ‬ ‫ً‬
‫هيكل ّ‬ ‫اخلطاطي النّاتج عن املقوالت النّحو ّية‬
‫ّ‬ ‫يم ّثل املعنى‬
‫الشكل ّية‪ ،‬بل من خالل ما تنضوي عليه هذه األبنية والقيود من مفاهيم‬ ‫من حيث طبيعته ّ‬
‫تتع ّلق بظواهر عرفان ّية إدراك ّية من قبيل القدرة االنتباه ّية واملنظور ّية‪ ،‬أو بام تع ّلق هبذه‬
‫ال ّظواهر من جماالت ما قبل‪ -‬مفهوم ّية مرتبطة باجلسد وجتربته‪ .‬و ُيعدُّ الفضاء ّ‬
‫والزمان‬
‫جمال ّأول ًّيا أساس ًّيا (‪.)primary basic domain‬‬ ‫أهم هذه املجاالت‪ .‬فكالمها يم ّثل ً‬ ‫ّ‬
‫الكم ّية (‪ )quantity‬املوجود يف‬‫غوي من خالل اعتامد مفهوم ّ‬ ‫ويربطهام طاملي بالتّعبري ال ّل ّ‬
‫الكم ّية املوجودة يف‬
‫متجسدة يف احلركة‪ ،‬أ ّما طبيعة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكم ّية‬
‫الزمن ّ‬ ‫كليهام؛ إذ نجد يف جمال ّ‬
‫املجالي إ ّما مسرتسلة‬
‫ْ‬ ‫فتتجسد يف املا ّدة (‪ .)matter‬وتكون هذه املفاهيم يف‬ ‫ّ‬ ‫جمال الفضاء‬
‫يبي اجلدول اآليت‪:‬‬‫أو متفاصلة (‪ )discrete‬كام ّ‬
‫متفاصل‬ ‫مسرتسل‬ ‫املجال‬
‫يشء‪ :‬تفاحة‪ /‬س ّيارة‪ /‬علبة التّبغ‬ ‫كتلة (‪ :)mass‬ال ّطعام‪،‬احليوان‪،‬‬ ‫الفضاء (املا ّدة)‬
‫السحاب‬ ‫ّ‬
‫معي (‪ :)act‬زفر‪ /‬سعل‪ /‬أوتر‬
‫عمل ّ‬ ‫نشاط (‪ :)activity‬نام‪ /‬مشى‪/‬‬ ‫الزّمان (احلركة)‬
‫ّ‬
‫(صل الوتر)‬ ‫صل‬‫ّ‬

‫أن هذين املجالني ينعكسان يف مستوى الفهم بال ّطريقة نفسها التي‬ ‫ويرى طاملي ّ‬
‫األفكار والتّمثيالت العرفان ّية؛ فاألفعال واملركّبات الفعل ّية‬
‫َ‬ ‫تعكس هبا األنظمة النّحو ّية‬

‫إجرائي‪ ،‬فالنّحو أو ما يصطلح عليه طاملي‬


‫ّ‬ ‫جمرد اصطالح‬ ‫‪ -1‬تعدُّ قض ّية القسم املغلق والقسم املفتوح نسب ّية وتبقى ّ‬
‫ّغي باإلضافة أو احلذف‪ ،‬ويكفي هنا أن نشري إىل ظاهرة اإلنحاء‬ ‫بالقسم املغلق ليس مغلقا هنائ ّيا‪ ،‬فهو نظام خاضع للت ّ‬
‫السياق عىل العمل‬‫(‪ ،)grammaticalization‬حيث يمكن أن تضاف عنارص جديدة هلذا القسم‪ .‬ونحيل يف هذا ّ‬
‫السكري عامر‪ ،‬منشورات كل ّية اآلداب‬‫نموذجا» لـثر ّيا ّ‬
‫ً‬ ‫املوسوم بـ «ظاهرة اإلنحاء يف ال ّلغة العرب ّية؛ الفعل الناقص‬
‫والفنون واإلنسان ّيات منّوبة‪ ،‬وحدة بحث ال ّلسان ّيات العرفن ّية واللغة العرب ّية‪.2009 ،‬‬
‫ّ‬

‫‪-110-‬‬
‫الزمان (نشاط‪ /‬عمل)‪ .‬أ ّما األسامء واملركّبات االسم ّية‬ ‫معروضا ملقوالت من جمال ّ‬
‫ً‬ ‫مت ّثل‬
‫معروضا ملقوالت من جمال الفضاء (كتل‪ /‬أشياء)‪ .‬لك ّن هذه املسائل غري ثابتة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فتم ّثل‬
‫املفهومي (‪.)1( )conceptual alternativity‬‬
‫ّ‬ ‫وختضع ملا يصطلح عليه طاملي بالتّناوب‬
‫تتغي يف سياق‬‫مثل يمكن أن ّ‬ ‫أن املقوالت النّحو ّية (االسم ّية‪ /‬الفعل ّية) ً‬
‫ودليل ذلك ّ‬
‫يتحول إىل يشء أو ما ّدة‬
‫ّ‬ ‫بالزمان (م‪ )1‬يمكن أن‬ ‫االستعامل‪ ،‬فالعمل أو النّشاط املقرتن ّ‬
‫مقرتنة بالفضاء (م‪ )2‬تفهم من خالله‪:‬‬
‫‪-‬م‪ -1‬أقرضه املرصف ً‬
‫مال‪[ .‬عمل مسرتسل]‪.‬‬
‫‪-‬م‪ -2‬قدّ م املرصف ً‬
‫قرضا‪[ .‬كتلة‪ ،‬مسرتسل]‪.‬‬
‫ويذهب طاملي إىل التّفصيل يف هذا اجلانب من خالل ضبط األنظمة اخلطاط ّية‬
‫املسؤولة عن هذا التّنضيد وهي عىل التّوايل‪ :‬نظام تشكّل البنية( (�‪configuration‬‬
‫املنظوري (‪ )perspectival system‬والنّظام‬ ‫ّ‬ ‫‪ )al structure system‬والنّظام‬
‫االنتباهي (‪ )attentional system‬ونظام ّ‬
‫القوة الدّ ينام ّية (‪.)force-dynamic system‬‬ ‫ّ‬
‫معي‪،‬‬
‫الزمان ّية واملكان ّية ملشهد ّ‬ ‫أ‪ -‬نظام تشكّل البنية‪ّ :‬‬
‫ينضد هذا النّظام اخلصائص ّ‬
‫ويتضمن بدوره أربعة أنظمة صغرى تتم ّثل يف وضع ّية ّ‬
‫الكم ّية ودرجة االتّساع ونمط‬ ‫ّ‬
‫التّوزيع واملحور ّية‪.‬‬
‫‪-‬وضع ّية الكّم ّية‪ :‬نجد فيها ثالثة أنظمة صغرى أو حاالت ّأوهلا حال التّعدّ د‪ ،‬وهي‬
‫الزمان) كام تنطبق عىل األسامء (جمال الفضاء)؛ لنجد‬
‫مقولة تنطبق عىل األفعال (جمال ّ‬
‫املفرد (‪ )uniplex‬واملتعدّ د (‪.)multiplex‬‬
‫الصنفان ملقولة‬
‫Ÿ Ÿاألسامء‪ :‬هي ‪-‬بحسب طاملي‪ -‬إ ّما معدود أو كتلة‪ ،‬وخيضع ّ‬
‫العدد ّية هذه‪:‬‬
‫‪ -‬سامء [كتلة‪ ،‬مفرد] ‪ ........‬ساموات [كتلة‪ ،‬متعدّ د]‪.‬‬
‫‪ -‬ولد [معدود‪ ،‬مفرد] ‪.........‬أوالد [معدود‪ ،‬متعدّ د]‪.‬‬

‫‪1- Evans, V. & Green, M: Cognitive Linguistics: An Introduction. Edinburgh University Press.‬‬
‫‪2006.516.‬‬

‫‪-111-‬‬
‫Ÿ Ÿاألفعال‪ :‬يمكن أن تكون مسرتسلة أو متفاصلة‪ ،‬وختضع بدورها ملقولة العدد ّية‬
‫املعجمي الدّ اليل‪ ،‬فالفعل من قبيل‬
‫ّ‬ ‫ّحوي وكذلك املظهر‬
‫يف مسألة املظهر الن ّ‬
‫(توف) مفرد بطبيعته وال حيدث إالّ ّ‬
‫مرة واحدة‪ .‬وكذلك تستمدّ بق ّية األفعال‬ ‫ّ‬
‫ّحوي الدّ ال ّيل‪ - :‬بكى زيد [فعل ماض منقض] يم ّثل‬
‫مفهومها عرب التّفاعل الن ّ‬
‫حقيقة واحدة فهو مفرد‪.‬‬
‫متكرر‪،‬‬
‫استمر يف املايض وانقىض] كان‪ +‬فعل ماض= ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬كان زيد يبكي [فعل‬
‫فهو متعدّ د‪.‬‬
‫متكرر متعدّ د‪.‬‬
‫‪ -‬زيد يبكي [فعل مضارع غري منقض]‪ّ :‬‬
‫أ ّما حال التّحديد فتعنى باملحدّ د وغري املحدّ د من األسامء واألفعال‪:‬‬
‫Ÿ Ÿاألسامء‪ :‬نجد من األسامء ما هو حمدّ د (‪ )bounded‬ومعدود من قبيل (كرة‪،‬‬
‫كريس‪ ،‬فتاة) وما هو غري حمدّ د (‪ )unbounded‬كتلة من قبيل (هواء‪ ،‬وماء‬
‫ّ‬
‫وضجيج)‪.‬‬
‫الزمان ومنها املنقضية املحدّ دة (غادر زيد القاعة)‪،‬‬‫Ÿ Ÿاألفعال‪ :‬تقرتن بمجال ّ‬
‫ومنها غري املنقضية وغري املحدّ دة (يغادر زيد القاعة)‪.‬‬
‫أ ّما حال القسمة فرتتبط بالتّقطيع الدّ اخيل (‪)internal segmentation‬‬
‫وتتضمن مقولتي االسرتسال والتّفاصل وتتقاطع مع املقوالت‬ ‫ّ‬ ‫للكم ّية‪،‬‬
‫ّ‬
‫اخلطاط ّية املذكورة ساب ًقا‪ ،‬ويمكن أن نم ّثل هلا باألسامء اآلتية‪ :‬اهلواء [اسم‬
‫كتلة‪ ،‬غري حمدّ د‪ ،‬مسرتسل]‪ .‬األثاث [اسم كتلة‪ ،‬غري حمدّ د‪ ،‬متفاصل]‪.‬‬
‫‪-‬درجة االتّساع (‪ :)degree of extension‬يعنى هذا النّظام بكيف ّية ّ‬
‫تصورنا‬
‫للزمان أو الفضاء من خالل املساحة‪ ،‬وهو يتقاطع مع مقولة التّحديد‪.‬‬
‫Ÿ Ÿجمال الفضاء(األسامء)‪ :‬نجد فيه تصني ًفا إىل نقطة (‪ ،)point‬واتّساع حمدّ د‬
‫(‪ ،)bounded extent‬واتّساع غري حمدّ د (‪ .)unbounded extent‬ونم ّثل‬
‫لذلك بـ‪:‬‬
‫‪-‬مدينة تونس (نقطة)‪.‬‬
‫‪-‬القارة اإلفريق ّية (اتّساع حمدّ د)‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪-112-‬‬
‫‪-‬الكون‪/‬املجرة (اتّساع غري حمدّ د)‪.‬‬
‫ّ‬
‫الزمان (األفعال)‬
‫Ÿ Ÿجمال ّ‬
‫السادسة (نقطة)‪.‬‬
‫‪ -‬ترشق الشمس الساعة ّ‬
‫والسابعة (اتّساع حمّدد)‪.‬‬
‫السادسة ّ‬ ‫‪ -‬ترشق ّ‬
‫الشمس بني ّ‬
‫الشمس ّ‬
‫كل يوم (اتّساع غري حمدّ د)‪.‬‬ ‫‪ -‬ترشق ّ‬
‫الزمان‪،‬‬
‫توزع املا ّدة يف الفضاء واحلركة يف ّ‬
‫هتتم هذه املقولة بكيف ّية ّ‬
‫Ÿ Ÿنمط التّوزيع‪ّ :‬‬
‫ونجد فيها من األسامء واألفعال األصناف اآلتية‪:‬‬
‫[توف‪ ،‬ولِد‪ /‬الوفاة]‬
‫يتكرر ّ‬ ‫مرة وال ّ‬‫‪ -‬ما يقع ّ‬
‫ويتكرر [ذاب‪ ،‬ذوبان]‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مرة‬
‫‪ -‬ما يقع ّ‬
‫دورا (‪[ )cycle‬طاف‪ ،‬متايل‪ ،‬ال ّطواف]‪.‬‬ ‫‪ -‬ما يكون ً‬
‫‪ -‬ما يكون حالة ثابتة [أسلم‪ ،‬نام‪ ،‬يدرس]‪.‬‬
‫‪ -‬ما يكون متعدّ ًدا [تن ّفس‪ ،‬التّسبيح]‪.‬‬
‫املسورات يف‬
‫ّ‬ ‫بمغيات الدّ رجة أو‬‫ّ‬ ‫Ÿ Ÿ‪-‬املحور ّية (‪ :)axiality‬يم ّثل هلا طاملي‬
‫اإلنكليز ّية نحو (‪ .)almost, slightly‬وقد نجد ما يقابلها يف العرب ّية من قبيل‬
‫كثريا‪ ،‬جدًّ ا‪.)..‬‬ ‫ً‬
‫(قليل‪ً ،‬‬
‫االنتباهي‪ :‬ينبثق هذا النّظام من ال ّطبيعة اجلسد ّية اإلدراك ّية لإلنسان‬
‫ّ‬ ‫ب‪ -‬النّظام‬
‫ثم نمط االنتباه‪:‬‬ ‫وحيتكم بدوره إىل ثالثة عوامل تتم ّثل يف ّ‬
‫قوة االنتباه وبؤرته‪ّ ،‬‬
‫قوة االنتباه بمدى‬
‫قوة االنتباه وبؤرته‪ :‬مها عامالن متقاطعان‪ ،‬حيث ترتبط ّ‬ ‫ŸŸ ّ‬
‫النّتوء أو الربوز (‪ )prominence‬الذي يم ّثله املشاركون يف مشهد ّ‬
‫معي تعرضه‬
‫عبارة ما أو مجلة‪ .‬خيضع هذا الربوز إىل نظام الوجه واخللف ّية (‪figure-ground‬‬
‫‪ .)organisation‬ومن أمثلته إطار احلدث التّجاري الذي يمكن أن يربز‬
‫مشاركني دون غريهم‪ :‬اشرتى عمرو س ّيارة من زيد‪( .‬الربوز لعمرو)‪.‬‬
‫باع زيد س ّيارة لعمرو‪( .‬الربوز لزيد)‪.‬‬

‫‪-113-‬‬
‫يقوم هذا التّنضيد عىل نظام ترتيب الكلم داخل اجلملة (يصطلح عليه‬
‫طاملي باأليقون ّية النّحو ّية (‪.)grammatical iconicity‬كام ّ‬
‫ينضده دالل ًّيا‬
‫املعجمي بني (باع‪/‬اشرتى)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التّضاد الدّ ال ّيل‬
‫Ÿ Ÿنمط االنتباه‪ :‬نجد يف هذا النّظام بؤرة االنتباه التي أرشنا إليها إىل جانب نافذة‬
‫االنتباه ومستواه‪ .‬وختتلف نافذة االنتباه عن نظام الوجه واخللف ّية‪ ،‬وقد ترتبط‬
‫املتمامت التي يمكن أن تكون رضور ّية أو اختيار ّية‬‫ّحوي يف مستوى ّ‬
‫بالسلوك الن ّ‬
‫ّ‬
‫املعب عنه كام هو احلال يف األمثلة اآلتية‪:‬‬
‫يف ارتباطها باملشهد ّ‬
‫الرصاصة من البندق ّية‪.‬‬
‫ ‪-‬وضع ّية بداية‪ :‬انطلقت ّ‬
‫الرصاصة يف اهلواء‪.‬‬
‫ ‪-‬وضع ّية وسط‪ :‬انطلقت ّ‬
‫الرصاصة يف اهلدف‪.‬‬
‫استقرت ّ‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬وضع ّية هناية‪:‬‬
‫فينضد بؤرة االنتباه التي يمكن أن تكون ك ّلية‬
‫أ ّما بالنّسبة إىل مستوى االنتباه ّ‬
‫مكون ّية كام يف قولنا (أشجار الغابة‬
‫جشطلت ّية‪ ،‬مثل قولنا (غابة األشجار مجيلة)‪ ،‬أو ّ‬
‫مجيلة)‪.‬‬
‫املنظوري‪ :‬يتشكّل من أنظمة ثالثة يتع ّلق ّأوهلا باملوضع واملسافة‪ ،‬ويتع ّلق‬
‫ّ‬ ‫ج‪ -‬النّظام‬
‫ال ّثاين باملظهر‪ ،‬أ ّما الثالث فيتع ّلق ّ‬
‫باالتاه‪.‬‬

‫ّصور ّية بني املتك ّلم ّ‬


‫والسامع واملشهد‬ ‫Ÿ Ÿاملوضع واملسافة‪ :‬املقصود هبام املسافة الت ّ‬
‫وتنضده نحو ّيا املشريات املقام ّية نحو أسامء اإلشارة (القريب‪ :‬هذا‪،‬‬
‫املوصوف‪ّ ،‬‬
‫البعيد‪ :‬ذاك)‪ ،‬وال ّظروف (القريب‪ :‬هنا‪ ،‬البعيد هناك)‪.‬‬
‫متحركة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪-‬املظهر وحيدّ د نقطة النّظر هل هي ثابتة أو‬
‫فإن مظهر املنظور ّية يكون ً‬
‫جممل (‪ )synoptic‬مثل‪:‬‬ ‫Ÿ Ÿإذا كانت هذه النّقطة ثابتة ّ‬
‫نظر نظرة يف النّجوم‪.‬‬
‫متحركة ّ‬
‫فإن املظهر يكون تتابع ًّيا مثل‪ :‬أخذ ينظر يف النّجوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫Ÿ Ÿإذا كانت هذه النّقطة‬
‫تتم رؤيته من نقطة النّظر‪،‬‬
‫االتاه‪ :‬يرتبط باحلدث أو املشهد املوصوف وكيف ّ‬ ‫ŸŸ ّ‬
‫حيث يمكن أن يكون استباق ًّيا (‪ )prospective‬نحو قولنا يف املثال ّ‬
‫األول‪:‬‬

‫‪-114-‬‬
‫§ §أكمل زيد درسه قبل أن ينام‪.‬‬

‫§ §نام زيد بعد أن أكمل درسه‬

‫الفيزيائي بني‬
‫ّ‬ ‫يتلخص هذا النّظام يف طبيعة التّفاعل‬ ‫ّ‬ ‫القوة الدّ ينام ّية‪:‬‬
‫د‪ -‬نظام ّ‬
‫املفهومي من خالل ثنائ ّيتي ا ُملعاين (‪)agonist‬‬
‫ّ‬ ‫الكيانات يف اخلارج‪ ،‬ونتم ّثلها يف نظامنا‬
‫وا ُملعارض (‪ ،)antagonist‬يدرسها طاملي يف إطار داللة اجلعل ّية (‪ .)causation‬ويمكن‬
‫وتتوسع‬
‫ّ‬ ‫أن تدرس يف العرب ّية بالنّظر يف مقوالت التّعدية وال ّلزوم وداللة أوزان األفعال‪.‬‬
‫هذه املقولة استعار ًّيا يف أمثلة متعدّ دة قد حتملها معظم العبارات ال ّلغو ّية يف املستوى‬
‫الدّ ال ّيل التّداو ّيل‪ .‬ويمكن أن نم ّثل لذلك بـ‪:‬‬
‫الس ّيارة‪ :‬زيد‪ :‬معاين‪ /‬املفتاح‪ :‬معارض‪.‬‬
‫‪ -‬أدار زيد مفتاح ّ‬
‫‪-‬استدار زيد‪ :‬املعاين واملعارض يف الوقت نفسه لداللة االنعكاس‪.‬‬
‫تصو ًرا ملنوال تعاملنا مع ال ّلغة ودالالهتا باعتامد القدرات‬
‫مت ّثل هذه األبنية اخلطاط ّية ّ‬
‫حركي‪ .‬ولئن بدا هذا املنوال يف ظاهره‬
‫ّ‬ ‫حس‬‫العرفان ّية املختلفة من ذاكرة وانتباه وإدراك ّ‬
‫ّصور ّية املسامهة يف إضفاء الدّ اللة عىل‬
‫يبي يف الواقع جمموعة من األبنية الت ّ‬ ‫شكل ًّيا فإنّه ّ‬

‫‪-115-‬‬
‫تتكون يف مضمون العبارة وما حتمله من داللة‬ ‫أن داللة عبارة ما ال ّ‬‫العبارات‪ .‬ذلك ّ‬
‫تتكون يف طريقة انبناء العبارة وطريقة استعامهلا يف سياق التّل ّفظ ومقام‬ ‫معجم ّية‪ ،‬وإنّام ّ‬
‫إن األلفاظ والكلامت ال مت ّثل يف احلقيقة إالّ نقاط اهتداء حتيلنا عىل خلف ّيات‬ ‫ثم ّ‬
‫القول‪ّ .‬‬
‫ما قبل مفهوم ّية نستعيدها آن املعاجلة ال ّلغو ّية ونستحرضها آن‪-‬القول بال ّطريقة نفسها‬
‫إن معظم كالمنا‬ ‫ثم ّ‬
‫التي نستعملها يف توجيه الكالم عرب األنظمة اخلطاط ّية املذكورة‪ّ ،‬‬
‫قائم عىل االستعارات واملجاز والقياس وما إىل ذلك من اآلل ّيات العرفان ّية‪ ،‬فنحتاج‬
‫والربط واملزج أكثر‬ ‫حينئذ إىل حتليل هذه اآلل ّيات وفهم ما تقوم عليه من اإلسقاط ّ‬
‫حوسبي‪ ،‬بينام يتعامل‬ ‫ّ‬ ‫ألن هذا التّفكيك‬‫املكوين للكلامت؛ ّ‬
‫من احتياجنا إىل التّفكيك ّ‬
‫اإلنسان مع ال ّلغة واملحيط من حوله بطريقة طبيع ّية تستند إىل جتربته اجلسد ّية وال ّثقاف ّية‬
‫االجتامع ّية باالستتباع‪.‬‬

‫خامتة‬
‫لعل ّأوهلا ّ‬
‫أن‬ ‫إن البحث يف الدّ اللة العرفان ّية منفتح عىل جماالت بحث متعدّ دة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الدّ اللة يف هذه املقاربة ال يمكن أن تدرس يف منأى عن املقاربات النّحو ّية العرفان ّية‪،‬‬
‫ألن كال الفرعني (الدّ اللة والنّحو) متفاعل مسرتسل‪ ،‬ويقوم كل فرع منهام عىل‬ ‫ّ‬
‫ولعل املبدأ‬‫ّ‬ ‫والركائز ذاهتا يف اإلطار العا ّم املعروف بال ّلسان ّيات العرفان ّية‪.‬‬
‫املنطلقات ّ‬
‫العا ّم يف هذا املبحث هو االنفتاح عىل سائر العلوم واملباحث واالستفادة منها يف رسم‬
‫املعامل النّظر ّية للمناويل العرفان ّية يف الدّ اللة أو النّحو أو يف كليهام م ًعا‪ .‬وقد سعينا يف‬
‫اخلاص‪ ،‬فاستعرضنا اإلطار‬ ‫ّ‬ ‫أهم هذه املبادئ من العا ّم إىل‬‫هذا العمل إىل استعراض ّ‬
‫وخاصة‬
‫ّ‬ ‫أهم املبادئ يف دراسة الدّ اللة‬ ‫ثم عرضنا ّ‬ ‫ّظري العا ّم للسانيات العرفان ّية‪ّ ،‬‬
‫الن ّ‬
‫مفهوم املوسوع ّية‪ ،‬لنعرض يف األخري مقاربة طاملي يف الدّ اللة ال ّلغو ّية‪ .‬وهي مقاربة‬
‫تطرقت إىل الدّ اللة بتفصيل بأن سعت إىل تبويب القدرات العرفان ّية‬ ‫من مقاربات عدّ ة ّ‬
‫معي‪ ،‬يسهم إجرائ ًّيا يف فهم الكثري من ال ّظواهر الدّ الل ّية‬ ‫تصور ّ‬ ‫اإلدراك ّية وتنضيدها وفق ّ‬
‫النّحو ّية‪.‬‬

‫‪-116-‬‬
‫قائمة املراجع‬
‫العرب ّية‬
‫‪1.1‬ابن مراد (إبراهيم)‪ ،‬يف املفهمة يف املعجم‪ ،‬جم ّلة املعجم ّية‪ ،‬تونس‪ ،‬عدد ‪ 18‬و‪،19‬‬
‫‪.2003‬‬

‫الزناد (األزهر)‪ ،‬نظر ّيات لسان ّية عرفن ّية‪ ،‬منشورات ّ‬


‫حممد عيل احلا ّمي‪ ،‬تونس‪/‬‬ ‫‪ّ 2.2‬‬
‫الدّ ار العرب ّية للعلوم‪ ،‬بريوت‪ /‬منشورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪.2010 ،‬‬
‫التكيب‪ ،‬جملة‬ ‫فاقيس (منّانة محزة)‪ ،‬الدّ اللة العرفان ّية اإلدراك ّية وتراجع دور ّ‬
‫ّ‬ ‫الص‬
‫‪ّ 3.3‬‬
‫ال ّلسان ّيات العرب ّية‪ ،‬مركز امللك عبد اهلل بن عبد العزيز الدّ و ّيل خلدمة ال ّلغة العرب ّية‪،‬‬
‫‪.96 ،2015 ،2‬‬
‫‪4.4‬صولة (عبداهلل)‪ ،‬املعنى القاعدي يف املشرتك‪ :‬مبادئ حتديده وطرائق انتشاره؛‬
‫دراسة يف نظر ّية ال ّطراز‪ ،‬جم ّلة املعجم ّية‪ ،‬تونس‪ ،‬عدد ‪ 18‬و‪.2003 ،19‬‬
‫نموذجا‪،‬‬
‫ً‬ ‫السكري)‪ ،‬ظاهرة اإلنحاء يف ال ّلغة العرب ّية؛ الفعل الناقص‬ ‫‪5.5‬عامر (ثر ّيا ّ‬
‫منشورات كل ّية اآلداب والفنون واإلنسان ّيات منّوبة‪ ،‬وحدة بحث ال ّلسان ّيات‬
‫العرفن ّية وال ّلغة العرب ّية‪.2009 ،‬‬
‫العرفني‪ ،‬ترمجة األزهر ّ‬
‫الزنّاد‪ ،‬منشورات دار‬ ‫ّ‬ ‫‪6.6‬النقاكر (رونالد)‪ ،‬مدخل يف النّحو‬
‫للتمجة‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪،2018 ،1‬‬ ‫سيناترا‪ ،‬معهد تونس ّ‬

‫األجنب ّية‬
‫‪1. Clausner Timothy C. and William Croft: Domains and image sche-‬‬
‫‪mas, Cognitive Linguistics, 10, 1, 1999.‬‬
‫‪2. Evans, V. & Green, M: Cognitive Linguistics: An Introduction. Ed-‬‬
‫‪inburgh University Press. 2006.‬‬
‫‪3. Fillmore, C. & Baker: A frames approach to semantic analysis. Ed-‬‬
‫‪ited by Bernd Heine & Heiko Narrog. 2009.‬‬
‫‪4. Johnson, M.: The Body in the Mind: The Bodily Basis of Meaning,‬‬
‫‪Imagination and Reason. Chicago: Chicago University Press.1987.‬‬

‫‪-117-‬‬
5. Kövecses, Z.: Language, Mind, and Culture. A Practical Introduc-
tion. Oxford & NewYork: Oxford University Press.2006.
6. Lakoff, G. & Johnson, M.: Philosophy in the Flesh; The embod-
ied mind and its challenge to western thought. Published by Basic
Books, A member of the perseus books group. 1999.
7. Lakoff, G.: Women, Fire, and Dangerous Things: What Categories
Reveal about the Mind.1987.
8. Lakoff, G: A review of The MIT Encyclopedia of the Cognitive
Sciences. Published by Elsevier Science B.V.1.Evans, V. & Green,
M: Cognitive Linguistics: An Introduction. Edinburgh University
Press. 2006.
9. Langacker, R.: Metonymy in grammar. Journal of Foreign Languag-
es 27: 2–24.2004.
10. Routledge Dictionary of Language and Linguistics. 1998.
11. Talmy, Leonard: Toward a Cognitive Semantics, Cambridge, MA:
MIT Press.2000.
12. Tiberghien, G: Dictionnaire des Sciences Cognitives, Paris, Armand
Colin.

-118-
‫الفصل الرابع‬
‫املنهج العرفاني يف املقام التربوي‬

‫(‪)1‬‬
‫د‪ .‬عمر بن دمحان‬

‫‪ -1‬أستاذ حمارض بقسم اللغة العربية وآداهبا جامعة مولود معمري‪ ،‬تيزي وزو‪ -‬اجلزائر‪.‬‬

‫‪-119-‬‬
-120-
‫ملخص‪:‬‬
‫يندرج هذا العمل يف دائرة البحوث والدراسات املهتمة بتطبيق املناهج العرفانية‬
‫(املعرفية‪/‬اإلدراكية) يف املجاالت ذات الصلة بإنتاج اخلطاب وتلقيه يف املقام الرتبوي‪،‬‬
‫والنظر يف اآلليات واالسرتاتيجيات اخلطابية املعتمدة‪ ،‬وهي كثرية ومتنوعة بتنوع‬
‫العمليات الذهنية البرشية وتع ُّقدها‪ ،‬لكننا سنركز احلديث يف هذا الفصل عن واحدة من‬
‫هذه اآلليات التي عُدّ ت أساسية ومركزية وال غنى عنها يف الفهم واإلفهام والتواصل‬
‫بشكل عام‪ .‬نقصد بذلك التفكري التمثييل أو القيايس (‪ )Analogical thinking‬يف‬
‫مظاهره املختلفة‪ .‬وسنحاول أن نربز أمهية جتلياته يف اللغة واخلطاب من منظور عرفاين‪/‬‬
‫معريف وإسهامه املركزي يف عملية بناء املعنى وتأويله أثناء التواصل‪ ،‬وبخاصة بعد‬
‫املكانة التي صارت حتظى هبا ظاهرة االستعارة بعد اكتشاف أمهيتها ودورها املركزي‬
‫يف األنشطة البرشية احلياتية اليومية وغريها خاصة تلك املتعلقة باملعرفة والتواصل‬
‫البرشيني‪ .‬يف هذا اإلطار رصدت بعض األبحاث ذات املنطلق اللساين العرفاين‬
‫احلضور االستعاري والتمثييل يف املقام الرتبوي بوصفه من األنشطة اإلنسانية اخلصبة‬
‫التي تُستخدم فيها اسرتاتيجيات تواصلية وإبالغية يوظفها املعلمون والبيداغوجيون‬
‫من أجل إيصال الفكرة إىل املتعلمني الذين ُيط َلب إليهم التفاعل مع ما ُيعرض عليهم‬
‫سواء أكان ذلك داخل الصف أم عرب املناهج واملقررات التعليمية املنشورة يف شكل‬
‫كتيبات أو دوريات أو من خالل وسائط خمتلفة‪.‬‬
‫كلامت مفتاحية‪ :‬لسانيات عرفانية‪ /‬معرفية‪-‬استعارة‪ -‬استعارة تصورية ‪-‬متثيل‪-‬‬
‫مقام تربوي‪-‬تعليم‪.‬‬

‫متهيد‪:‬‬
‫هيمنا يف هذا احل ّيز أن نلقي نظرة عىل جوانب من عالقة االستعارة (بوصفها‬ ‫ّ‬
‫مظهرا رئيس ًّيا من مظاهر التفكري التمثييل) بالتعليم وبعض اإلسهامات التي أخذت‬
‫ً‬
‫عىل عاتقها مقاربة حضورها يف العملية الرتبوية بشكل عام‪ ،‬ونركز عىل بعض‬
‫التخصيصات املرتبطة باإلحالة إىل أدوار خاصة تؤ ّدهيا االستعارة يف بعض مناحي‬
‫العملية الرتبوية‪ ،‬مثل أمهيتها البيداغوجية وعالقتها بالنصوص التعليمية وغريها من‬

‫‪-121-‬‬
‫ونستهل احلديث بمدخل تعريفي باللسانيات العرفانية التي برزت‬‫ّ‬ ‫املسائل ذات الصلة‪.‬‬
‫خالل سبعينات القرن املايض (اجليل الثاين منها عىل وجه اخلصوص) وما اقرتحته من‬
‫توجه املشتغلني فيها‪ ،‬واهتاممها الذي أولته لالستعارة بصفتها آلية‬
‫افرتاضات أساسية ّ‬
‫لنعرج عىل احلضور االستعاري يف العملية التعليمية من‬
‫ذهنية وعرفانية يف املقام األول‪ّ .‬‬
‫خالل اقرتاح بعض النامذج من دراسات خمتلفة حفلت بالدور املهم للتفكري االستعاري‬
‫والتمثييل يف العملية الرتبوية والتعليمية يف ختصصات خمتلفة‪ ،‬وكلها تعكس ولو بشكل‬
‫جزئي هذه األمهية التي نود اإلملاع إليها‪ ،‬دون غض الطرف عن بعض املخاطر املحتملة‬
‫واملرتبطة بسوء استخدام االستعارة‪-‬وما يامثلها من وسائل عرفانية أخرى‪-‬بوصفها‬
‫سالحا ذا حدّ ين كشأن كثري من الوسائل املفيدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫وسيلة مساعدة وناجعة لكنها تبقى‬

‫‪ -١‬ما اللسانيات العرفانية‪/‬املعرفية؟‬


‫اللسانيات العرفانية‪/‬املعرفية ‪ Cognitive Linguistics‬مدرسة لسانية معارصة‪،‬‬
‫انبثقت ضمن اإلطار العام للعلم العرفاين‪ /‬املعريف(‪ Cognitive science )1‬الذي انبثق‬
‫أواسط القرن العرشين مع انعقاد ملتقى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ‪ MIT‬سنة‬
‫‪ 1956‬الذي ضم علامء من ختصصات خمتلفة جيمع بينهم االهتامم بالبحث يف املعرفة‬
‫عمو ًما بتناول الذهن والدماغ والسلوك البرشي من منظور يناقض ما كان سائدً ا‬
‫لدى النزعة السلوكية السائدة آنذاك‪ .‬لذا كان خروج اللسانيات العرفانية عن املنهج‬
‫أهم‬
‫اإلجرائي القائم عىل الوصف البنيوي والتوزيعي وعىل املنهج الصوري واحدً ا من ّ‬
‫ما م ّيز انطالقتها تلك‪.‬‬

‫‪ -1‬العلم العرفاين‪ /‬املعريف ‪ cognitive science‬كام حيدده جورج اليكوف هو «جمال جديد جيمع معا ما عرف عن‬
‫الذهن يف اختصاصات أكاديمية عديدة‪ :‬علم النفس واللسانيات واألنثروبولوجيا وعلم احلاسوب‪ .‬وهو ينشد أجوبة‬
‫مفصلة عن هذه األسئلة‪ :‬ما هو التفكري العقيل؟ كيف نعطي معنى لتجربتنا؟ ما هو النسق التصوري وكيف يتم‬
‫تنظيمه؟ هل يستعمل الناس مجيعهم النسق التصوري نفسه؟ إن كان األمر كذلك فام هو هذا النسق؟ وإن مل يكن‬
‫كذلك‪ ،‬ما هو بالتحديد اليشء املشرتك بني البرش يف طريقة تفكريهم؟ هذه األسئلة ليست بجديدة ولكن نوع األجوبة‬
‫الراهنة هي كذلك»‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪- George Lakoff, Women, Fire, and Dangerous Things, What Categories Reveal about the‬‬
‫)‪Mind. The University of Chicago Press, Chicago and London, 1987. p. xi (preface‬‬

‫‪-122-‬‬
‫جتري تسمية هذه اللسانيات عا ّمة عىل تيار أو حركة تضم عد ًدا من النظريات‬
‫التي تشرتك يف األسس واملنطلقات ولكنها خمتلفة ومتنوعة ومتداخلة يف بنائها‬
‫ومشاغلها وتوجهاهتا وجماالت االنشغال فيها‪ .‬يمكن التمييز هنا بني اجتاهني لسانيني‬
‫عرفانيني يشرتكان يف هذه التسمية‪ ،‬وبالعودة إىل بعض حتديدات هذا املصطلح نعثر‬
‫مثل ما أدرجه هادمود بوزمان يف قاموسه‪ ،‬عندما‬ ‫عىل مالمح هذا التاميز‪ ،‬من ذلك ً‬
‫وصف اللسانيات العرفانية بأهنا «اجتاه يف البحث متداخل التخصصات‪ ،‬تطور يف هناية‬
‫اخلمسينات يف الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬و ُيعنى بدراسة العمليات الذهنية الكتساب‬
‫املعارف واللغة واستخدامها‪ .‬وعىل خالف النزعة السلوكية املركزة عىل السلوك القابل‬
‫للمالحظة والسريورات القائمة عىل املثري واالستجابة‪ ،‬يؤدي السلوك يف اللسانيات‬
‫العرفانية دور الواسطة بقدر دعمه رؤى متعمقة للسريورات العرفانية‪ .‬واهلدف من‬
‫الدراسة العرفانية هو البحث يف البنية والتنظيم العرفانيني أو الذهنيني من خالل حتليل‬
‫االسرتاتيجيات العرفانية التي يستخدمها البرش يف التفكري وختزين املعلومات وفهم‬
‫اللغة وإنتاجها»(‪.)1‬‬
‫أما التحديد الثاين فاخرتناه من «معجم اللسانيات والتداولية» لواضعه أالن كروز‬
‫الذي حدد اللسانيات العرفانية بأهنا‪« :‬مقاربة لدراسة بنية اللغة والسلوك اللغوي والتي‬
‫تطورت فعل ًّيا منذ الثامنينات‪ .‬يندرج خلف هذه املقاربة عدد من الفرضيات األساسية‪.‬‬
‫تقول األوىل إن غرض اللغة هو تبليغ املعنى‪ ،‬وسواء أكانت بنياهتا داللية أم نحوية أم‬
‫صوتية‪ ،‬فإنه ينبغي هلا أن ترتبط هبذه الوظيفة‪ .‬وتقول الفرضية الثانية بتجسد القدرات‬
‫اللغوية‪ ،‬وأهنا غري منفصلة عن القدرات العرفانية الكلية‪ ،‬إذ ال وجود لقسم من الدماغ‬
‫مستقل بذاته خمصوص باللغة‪ .‬نتيجة هلذا ال يمكن تك ّلف وضع متييز مبدئي بني املعنى‬
‫اللغوي واملعارف الكلية بالنسبة إىل علم الداللة‪ .‬أما الفرضية الثالثة فتقوم عىل أن املعنى‬
‫واملتصورة‬
‫ّ‬ ‫حس ًّيا‬
‫تصوري طبيعة ويتضمن صورة مشرتكة أو متأثرة باملادة اخلام املدركة ّ‬
‫بطرق خمصوصة‪ .‬واللسانيات العرفانية تؤمن بأن مقاربة رشوط الصدق ال تستطيع‬

‫‪1- Hadumod Bussmann, Routledge Dictionary of Language and Linguistic, translated and‬‬
‫‪edited by Gregory Trauth and Kerstin Kazzazi; edition published in the Taylor & Francis‬‬
‫‪e-Library, London and New York, 2006. p.197.‬‬

‫‪-123-‬‬
‫إعطاء تعليل ٍ‬
‫كاف للمعنى‪ .‬وللسانيات العرفانية اتصال وثيق بعلم النفس العرفاين‪،‬‬
‫وإنا تتكفل بشكل خاص باالشتغال عىل بنية التصورات وطبيعتها‪. )1(»...‬‬
‫ّ‬
‫نالحظ للوهلة األوىل اختالف التحديدين يف حتديد البداية التارخيية هلذا الفرع من‬
‫الدراسة اللغوية‪ ،‬ففيام يرجعه األول إىل هناية اخلمسينات يصعد به الثاين إىل بدايات‬
‫الثامنينات‪ ،‬فهام يرتبطان باجتاهني خمتلفني وإن كانا يندرجان ضمن اإلطار العام نفسه‬
‫للعلم العرفاين‪.‬‬
‫أما مكمن االختالف فريجع إىل ّ‬
‫إن االجتاه الثاين مل يقم إال ردة فعل عىل االجتاه‬
‫أيضا‪ ،‬إضافة إىل‬
‫األول الذي يمثله نعوم تشومسكي بنظريته التوليدية التي تعد عرفانية ً‬
‫نظرية داللة رشوط الصدق (املنطقية) (‪،truth-conditional (logical) semantics)2‬‬
‫لألسباب التي يذكرها ويليام كروفت وأالن كروز (‪ )3‬عند تعيينهام ملبادئ اللسانيات‬
‫العرفانية وفرضياهتا األساسية (التي ختتلف عن لسانيات تشومسكي) والتي خيترصاهنا‬
‫يف ثالثة رئيسية (‪ )4‬وهي‪:‬‬
‫ ‪-‬اللغة ليست ملكة عرفانية مكتفية بذاهتا‪.‬‬
‫‪1- Cf. Alan Cruse, A Glossary of Semantics and Pragmatics, Edinburgh University Press,‬‬
‫‪2006, p.26‬‬
‫‪ -2‬املقصود بداللة رشوط الصدق تلك األفكار التي ارتبطت بام يسمى «فلسفة اللغة»‪ ،‬تتعلق هذه األفكار باملعنى‪،‬‬
‫والصدق‪/‬أو احلقيقة والواقع‪ ،‬وكيف يمكن للمعنى أن يمثل وفقا للغة واصفة صورية مستمدة من املنطق‪ .‬هذه‬
‫األفكار كان هلا تأثري كبري عىل اللسانيات الصورية يف سنوات الستينات والسبعينات‪ .‬يراجع لتفصيل أوىف‪:‬‬
‫‪- William Croft & D. Alan Cruse, Cognitive Linguistics, Cambridge University Press, 2004, p .446.‬‬
‫‪3- Cf. William Croft & D. Alan Cruse, Ibid. pp. 1-2.‬‬
‫‪ -4‬متثل هذه االفرتاضات الثالث ر ّدة فعل عىل األشكال األوىل من اللسانيات العرفانية للمقاربة النحوية والداللية‬
‫التي ما تزال مهيمنة إىل وقتنا احلايل‪ ،‬أي النحو التوليدي (‪ )generative grammar‬وداللة رشوط الصدق‬
‫(املنطقية)‪ .‬يعارض املبدأ األول الفرضية الشهرية للنحو التوليدي بكون اللغة ملكة عرفانية مكتفية بذاهتا (أو فطرية‬
‫عىل األصح) أو مكونا منفصال عن القدرات العرفانية غري اللغوية‪ .‬ويعارض املبدأ الثاين داللة رشوط الصدق‪،‬‬
‫أين تق ّيم اللغة الواصفة الداللية (‪ )semantic metalanguage‬من خالل الصدق والكذب املرتبطني بالعامل (أو‬
‫بدقة أكرب‪ ،‬بنموذج العامل ‪ .)model of the world‬أما املبدأ الثالث فيعارض توجهات ذوي النزعة االختزالية‬
‫املجردة يف‬
‫ّ‬ ‫(‪ )reductionist tendencies‬يف كل من النحو التوليدي وداللة رشوط الصدق‪ ،‬أين تُنشد التمثيالت‬
‫حدّ ها األعىل والتمثيالت العامة للشكل النحوي واملعنى‪ ،‬والكثري من الظواهر النحوية والداللية تعزى إىل «احلد‬
‫أن النحو التوليدي وداللة رشوط الصدق ما يزاالن بطبيعة احلال نشيطني‬ ‫اخلارجي»(‪ .)periphery‬ويرى الباحثان ّ‬
‫إىل اليوم‪ ،‬وكذلك اللسانيات العرفانية تستمر يف تقديم احلجج عىل افرتاضاهتا األساسية فضال عن الكشف عن مسائل‬
‫جتريبية أكثر ختصيصا للرتكيب والداللة داخل النموذج العرفاين‪.‬‬

‫‪-124-‬‬
‫ ‪-‬النحو بناء تصوري‪.‬‬
‫ ‪-‬املعارف اللغوية تنبثق من االستعامل اللغوي‪.‬‬

‫فرضيات اللسانيات العرفانية وصلتها بمبحث االستعارة‪:‬‬


‫نفصل ً‬
‫قليل يف فرضيات اللسانيات العرفانية (يف جيلها الثاين) الرتباطها‬ ‫هيمنا أن ّ‬
‫ّ‬
‫إن للفرضية األوىل بكون اللغة‬ ‫الوثيق بدراسة االستعارة‪ .‬يقول كروفت وأالن كروز ّ‬
‫ليست ملكة عرفانية مكتفية بذاهتا‪ ،‬استتباعات أساسية تتمثل يف كون متثيل املعارف‬
‫نفسه‪ ،‬وأن العمليات التي يتم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اللغوية هو باألساس ُ‬
‫التصورية األخرى ُ‬
‫ّ‬ ‫البنيات‬ ‫متثيل‬
‫استخدام املعارف فيها ال ختتلف بصفة جذرية عن القدرات العرفانية املستخدمة خارج‬
‫املجال اللغوي‪ .‬وينتج عن هذا االدعاء استلزامان اثنان‪ ،‬ينهض أوهلام عىل أن املعرفة‬
‫اللغوية ‪-‬معرفة املعنى واملبنى‪-‬هي بنية تصورية باألساس‪ .‬وسيكون التمثيل الداليل‬
‫تصور ًّيا باألساس‪ .‬وينهض االستلزام الثاين عىل أن العمليات العرفانية التي تتحكم‬
‫ّ‬
‫يف استعامل اللغة (بناء املعنى وتبليغه باللغة بوجه خاص) ال فرق بينها وبني القدرات‬
‫العرفانية األخرى‪.‬‬
‫من مقتضيات الفرضية األوىل اخلاصة بكون اللغة ليست ملكة عقلية عرفانية مكتفية‬
‫بذاهتا (‪ )1‬أن الكثري من البحوث اللسانية العرفانية ُخ ّصصت لرشح البنية التصورية‬
‫والقدرات العرفانية مثلام تبدو مطبقة عىل اللغة‪ ،‬يف مسعى إلثبات إمكان نمذجة اللغة‬
‫واف باستخدام هذه البنيات التصورية العامة واملقدرات العرفانية فحسب‪.‬‬ ‫عىل نحو ٍ‬
‫كام أن اللسانيني العرفانيني يلجؤون عىل األقل ويف األساس إىل نامذج من علم النفس‬
‫العرفاين‪ ،‬فيام يتعلق بعمل الذاكرة‪ ،‬واإلدراك احليس‪ ،‬واالنتباه وا َمل ْق َولة‪ .‬أما الفرضية‬
‫تصوري»‪ .‬يف إشارة‬‫الثانية فتتجسد يف الشعار الذي رفعه رونالد النقاكر «النحو بناء ّ‬
‫متييزا للبنية التصورية‪ ،‬التي ال يمكن اختزاهلا يف رشوط صدق‬ ‫منه إىل الفرضية األكثر ً‬
‫العال‪ .‬فاملظهر الرئيس للمقدرة العرفانية البرشية هو بناء تصور للتجربة‬ ‫بسيطة توافق َ‬
‫ليتم تبليغها (وكذلك بناء تصور املعرفة اللغوية التي نملك)‪ .‬أما الفرضية الرئيسة‬
‫الثالثة عن انبثاق املعارف اللغوية من االستعامل اللغوي فتعني أن املقوالت والبنيات‬

‫‪ -1‬يرى الباحثان أن هذا املوقف قد يؤخذ أحيانا كرفض لفطرية القدرة اللغوية البرشية‪ .‬لكن املسألة ليست كذلك‪،‬‬
‫فالرفض هنا موجه للقدرة البرشية اللغوية الفطرية حمددة الغرض (‪ )special-purpose‬واملكتفية بذاهتا‪.‬‬

‫‪-125-‬‬
‫الداللية‪ ،‬والرتكيبية‪ ،‬والرصفية‪ ،‬والفونولوجية‪ ،‬تُبنى انطال ًقا من إدراكنا مللفوظاتنا‬
‫املخصصة وفق مناسبات خاصة االستخدام‪.‬‬
‫هذه بصفة عامة فرضيات اللسانيات العرفانية الرئيسة مثلام أوردها كروفت وكروز‪،‬‬
‫وسوف نرى أن موضعة دراسة االستعارة قد ترسخت بشكل واضح يف هذا اإلطار أي‬
‫إطار اللسانيات العرفانية القائلة هبذه الفرضيات‪ ،‬أي تلك املدرسة احلديثة للتفكري‬
‫اللساين‪ ،‬التي كان انبثاقها يف األصل مع بدايات السبعينات وتطورت يف الثامنينات‬
‫نتيجة عدم رضاها عن املقاربات الصورية ل ّلغة‪ .‬وهي ترضب بجذورها إىل انبثاق العلم‬
‫العرفاين يف الستينات والسبعينات‪ ،‬وبصفة خاصة يف العمل املتعلق باملقولة البرشية‪،‬‬
‫ويف األدبيات األوىل عىل غرار علم النفس اجلشطلتي‪ .‬وقد هيمن عىل البحث املبكر‬
‫يف فرتة السبعينات والثامنينات عدد قليل نسب ًّيا من الدارسني‪ .‬ويف بدايات التسعينات‬
‫وتكاثرا للبحوث يف هذا املجال‪ ،‬وتُعدُّ اللسانيات العرفانية عىل حدّ عبارة‬
‫ً‬ ‫نموا‬
‫شهدنا ًّ‬
‫فيفيان إيفنس(‪« )1‬حركة» أو «مرشو ًعا»؛ ألهنا ليست نظرية خمصوصة‪ .‬ولكنّها مقاربة‬
‫تبنّت جمموعة مشرتكة من املبادئ‪ ،‬واالفرتاضات واملنظورات التي أفضت إىل جمال‬
‫متنوع من النظريات املتكاملة‪ ،‬واملتداخلة (واملتنافسة أحيانًا)‪.‬‬
‫ّ‬
‫ضمن هذا اإلطار برز االهتامم باالستعارة (واللغة املجازية عمو ًما) وخاصة مع‬
‫التطور الذي طال العلم العرفاين منتصف السبعينات وبداية الثامنينات‪ ،‬الفرتة التي‬
‫حتو ًل جذر ًّيا وانطالقة أفكار جديدة أو ما عرف بالثورة العرفانية‪ ،‬وازى ذلك‬
‫شهدت ّ‬
‫انبثاق ما بات ُيعرف باللسانيات العرفانية القائلة بتجسد الذهن‪ ،‬واملضادة لالجتاه‬
‫التوليدي واملنطقي‪.‬‬
‫يسميهام جورج‬
‫مر هبام العلم العرفاين ّ‬
‫يمكننا احلديث هنا عن طورين أساسيني ّ‬
‫اليكوف «اجليل األول» و»اجليل الثاين» للعلم العرفاين‪ ،‬يف حوار أجراه معه جون‬
‫بروكامن(‪ ،)2‬إذ نعثر عىل تفصيل اليكوف ألسس هذا املرشوع اجلديد وفرضياته‬

‫‪1- Vyvyan Evans and Melanie Green, Cognitive linguistics, an introduction. Edinburgh‬‬
‫‪University Press.2006, p. 3‬‬
‫‪ -2‬ينظر احلوار الذي أجراه مع جون بروكامن (‪ )John Brockman‬املنشور عىل شبكة اإلنرتنت‪:‬‬
‫‪- John Brockman، "Philosophy In The Flesh" A Talk With George Lakoff». From: http://‬‬
‫‪serbal.pntic.mec.es/~cmunoz11/interview.pdf‬‬

‫‪-126-‬‬
‫حني قال بوجود شكلني من العلم العرفاين‪ ،‬أحدمها صيغ بناء عىل فرضيات الفلسفة‬
‫األنجلو‪-‬أمريكية‪ ،‬واآلخر مستقل عن الفرضيات الفلسفية املخصوصة التي تق ّيد‬
‫نتائج البحث‪ .‬العلم العرفاين املبكر‪ ،‬وهو ما أسامه العلم العرفاين من «اجليل األول»‬
‫صمم ليناسب الصيغة الصورية للفلسفة‬ ‫املتجسد»)‪ ،‬الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫(أو «العلم العرفاين غري‬
‫األنجلو‪-‬أمريكية‪ ،‬أي إنه أخذ الفرضيات الفلسفية التي تق ّيد األجزاء املهمة ملحتوى‬
‫«النتائج» العلمية‪ .‬ويعود به إىل أواخر اخلمسينات‪ ،‬عندما اقرتح بعض اللسانيني‬
‫وفالسفة اللغة (منهم هيالري بوتنام يف نظريته الوظيفية) مواقف فلسفية عىل أساس‬
‫قبيل‪ ،‬وليس عىل أساس أي إثبات مهام كان‪ .‬واملقرتح كان هكذا‪ :‬يمكن دراسة الذهن‬
‫من خالل وظائفه العرفانية ‪-‬أي من خالل العمليات التي يؤدهيا‪-‬بشكل مستقل عن‬
‫كاف عن‬ ‫الدماغ واجلسد‪ .‬والعمليات التي يؤدهيا الذهن يمكن أن تُنمذج عىل نحو ٍ‬
‫طريق معاجلة رموز صورية عديمة املعنى‪ ،‬كام هو احلال يف برنامج احلاسوب‪ .‬هذا‬
‫الربنامج الفلسفي بحسب اليكوف يناسب النامذج التي كانت سائدة يف ذلك الوقت‬
‫يف عدد من التخصصات‪ .‬يف الفلسفة الصورية‪ :‬فكرة إمكان ختصيص الذهن عىل نحو‬
‫كاف باستخدام املنطق الرمزي‪ ،‬الذي يستخدم معاجلة الرموز الصورية عديمة املعنى‪.‬‬
‫ويف اللسانيات التوليدية‪ :‬فكرة إمكان ختصيص نحو اللغة عىل نحو كاف من خالل‬
‫القواعد التي تعالج الرموز الصورية عديمة املعنى‪ .‬ويف جمال الذكاء االصطناعي‪:‬‬
‫فكرة تركُّب الذكاء بصفة عامة يف برامج احلاسوب التي تعالج الرموز الصورية عديمة‬
‫املعنى‪ .‬ويف معاجلة املعلومات السيكولوجية‪ :‬فكرة أن الذهن جهاز ملعاجلة املعلومات‪،‬‬
‫إذ تؤخذ املعلومات املعاجلة كمعاجلة لرموز صورية عديمة املعنى‪ ،‬مثلام هو احلال يف‬
‫برنامج احلاسوب‪ .‬كل هذه املجاالت قد تطورت من الفلسفة الصورية‪ .‬وقد تقاربت‬
‫هذه املجاالت األربعة عام ‪ 1970‬إىل شكل العلم العرفاين من اجليل األول‪ .‬وكانت‬
‫رؤية الذهن بوصفه معاجلة جمسدة للرموز الصورية عديمة املعنى‪.‬‬
‫ويواصل اليكوف نقده هلذا الوضع وتقديم البديل من خالل رده عن سؤال آخر‬
‫عن كيفية مالءمة وجهة النظر هذه العلم التجريبي الذي تبنته اللسانيات العرفانية‪،‬‬
‫وجييب اليكوف بأن وجهة النظر هذه مل تكن مؤسسة جتريب ًّيا‪ ،‬لقد نشأت من فلسفة‬
‫ومشريا‬
‫ً‬ ‫متجاوزا الرؤية الفلسفية اخلفية‪،‬‬
‫ً‬ ‫قبلية‪ .‬ومع ذلك فإهنا ه ّيأت البداية ملرشوعه‪،‬‬
‫إىل تبعات مواصلة اعتامد هذا املنهج وقبول هذا املوقف الفلسفي‪ ،‬بأن تُعدَّ النتائج التي‬

‫‪-127-‬‬
‫ال تتفق مع هذه الفلسفة جمرد هراء‪ .‬وأن الباحثني الذين تك ََّونوا ضمن هذا التقليد‪،‬‬
‫نظروا إىل العلم العرفاين يف دراسته للذهن منضو ًيا حتت هذا املوقف الفلسفي القبيل‪.‬‬
‫وتكون اجليل األول من العلامء العرفانيني للتفكري هبذه الطريقة‪ ،‬والعديد من الكتب‬‫َّ‬
‫املدرسية ما تزال تصور العلم العرفاين هبذه الطريقة‪ .‬وهكذا مل يتميز اجليل األول من‬
‫العلم العرفاين عن الفلسفة‪ ،‬بل إنه يوافق وجهة النظر الفلسفية القبلية التي تضع القيود‬
‫الدائمة عىل ما يمكن أن يكون عليه «الذهن»‪ .‬ومن هذه القيود بحسب اليكوف‪ :‬أنه‬
‫جيب عىل التصورات أن تكون حرفية‪ .‬إذا ما ُخ ِّصص التفكري العقيل من خالل املنطق‬
‫تصو ًرا استعار ًّيا‪ ،‬وليس‬
‫ّ‬ ‫الصوري التقليدي‪ ،‬فإنه ال يمكن أن يكون هناك يشء ُيعدُّ‬
‫فكرا استعار ًّيا‪ .‬التصورات والتفكري العقيل بالتصورات جيب أن يكونا‬ ‫ثمة يشء يعدّ ً‬
‫متاميزين عن التخيل العقيل (‪ )mental imagery‬بام أن التخيل يستخدم آليات الرؤية‬
‫وال يمكن ختصيصه مثل رسيان معاجلة رموز صورية عديمة املعنى‪ .‬وجيب أن تكون‬
‫التصورات والتفكري العقيل مستقلني عن النسق احليس احلركي‪ ،‬بام أنه ال يمكن للنسق‬
‫املجردة غري املتجسدة‪.‬‬
‫شكل من املعاجلة‪-‬الرمزية ّ‬ ‫ً‬ ‫احليس احلركي‪ ،‬املتجسد‪ ،‬أن يكون‬
‫واللغة كذلك ‪-‬إذا كانت تناسب نموذج املعاجلة الرمزية‪-‬فإنه ينبغي أن تكون حرفية‪،‬‬
‫ومستقلة عن التخ ّيل‪ ،‬ومستقلة عن النسق احليس احلركي‪ .‬من هذا املنظور‪ ،‬يمكن‬
‫للدماغ أن يكون جمرد أداة لتنفيذ «العقل» املجرد‪ .‬ووفق وجهة النظر هذه ال ينشأ الذهن‬
‫وال يتشكل من قبل الدماغ‪ .‬هذه النتائج مل تكن جتريبية‪ ،‬من وجهة نظر اليكوف‪ ،‬ولكنها‬
‫تتبع ً‬
‫بدل من ذلك الفرضيات الفلسفية‪.‬‬
‫يمكن استيضاح معامل اجليل الثاين للعلم العرفاين الذي انبثق منتصف السبعينات‪،‬‬
‫وهي الفرتة التي أعطي فيها للعلم العرفاين اسمه هذا ورغب فيه املجتمع والصحافة‬
‫من خالل رد اليكوف كذلك عىل سؤال يتصل بالظروف التي نشأت فيه اللسانيات‬
‫العرفانية (مثلام دعا إليها) وكيف تطورت انطال ًقا من جتربته الشخصية املبكرة‪ ،‬بصفته‬
‫أحد املؤسسني واملنظرين هلذا الفرع اجلديد‪ ،‬ليخلص اليكوف بعد رسد مسريته البحثية‬
‫ملم ببعض النتائج‬‫وانتقاله من اجتاه لساين إىل آخر بقوله إنه يف سنة ‪ ،1975‬أصبح ًّ‬
‫جتسد الذهن ‪embodied‬‬ ‫األساسية من العلوم العرفانية املختلفة املتجهة نحو نظرية ّ‬
‫‪ -theory of mind‬مثل الفيزيولوجية العصبية لرؤية األلوان‪ ،‬ومقوالت النامذج‬
‫األساسية واملستوى القاعدي‪ ،‬وعمل طاملي ‪ Talmy‬عىل تصورات العالقات الفضائية‪،‬‬

‫‪-128-‬‬
‫وعلم داللة اإلطار ‪ frame semantics‬لفيلمور ‪ .Fillmore‬هذه النتائج أقنعته بأن‬
‫التوجه الكامل للبحث يف اللسانيات التوليدية واملنطق الصوري التوليدي كان‬
‫ميؤوسا منه‪ .‬وقصد‪ ،‬برفقة ليونارد طاملي ورونالد النقاكر وجيل فوكونيي‪ ،‬إىل تشكيل‬‫ً‬
‫لسانيات جديدة‪-‬متوافقة مع البحث يف العلوم العرفانية وعلم اخلاليا العصبية‪ ،‬سم ّيت‬
‫اللسانيات العرفانية‪ ،‬وإهنا ملرشوع علمي مزدهر من وجهة نظره‪ .‬ويف سنة ‪،1978‬‬
‫مقترصا عىل االستخدام املجازي يف الشعر‪ ،‬وإنام‬
‫ً‬ ‫اكتشف أن االستعارة ليست نو ًعا‬
‫هي آلية أساسية من آليات عمل الذهن‪ .‬ويف سنة ‪ ،1979‬زار مارك جونسون قسم‬
‫الفلسفة يف بريكيل وبدأ العمل معه عىل التفاصيل ومقتضياهتا الفلسفية‪ .‬وهكذا بدأ‬
‫التنظري الفعيل لالستعارة من وجهة نظر عرفانية معارصة‪ ،‬وخاصة مع صدور كتاب‬
‫ً‬
‫حامل أهم‬ ‫«االستعارات التي نحيا هبا» ‪ Metaphors we live by‬سنة ‪،1980‬‬
‫األفكار حول االستعارة ودورها يف املعرفة واللغة البرشيني والتي يمكن حوصلتها يف‬
‫النقاط األساسية اآلتية‪:‬‬
‫ ‪-‬التأسيس التجريبي‪.‬‬
‫ً‬
‫بديل من املعرفة الصورية‬ ‫ ‪-‬افرتاض الذهن املتجسد‪ ،‬واملعرفة املتجسدة‬
‫واملحوسبة‪.‬‬
‫ ‪-‬مركزية االستعارة آلي ًة أساسي ًة من آليات اشتغال الذهن البرشي‪.‬‬
‫التجسد أو اجلسدنة (‪embodiment )1‬‬
‫ّ‬ ‫يتأسس هذا االجتاه اجلديد إذن عىل فرضية‬
‫التي حتاول أن تثبت أن األذهان ليست عمليات خوارزمية غري متجسدة مثل برنامج‬
‫احلاسوب‪ ،‬ولكنها تنشأ وتتق ّيد بأنواع من التنظيم املنعكس يف اخلصوصة البيولوجية‪،‬‬
‫والترشحيية‪ ،‬والكيميائية احليوية‪ ،‬والفيزيولوجية العصبية للجسد والدماغ‪.‬‬

‫التجسد أو اجلسدنة أحد املبادئ املركزية املوجهة للداللة العرفانية‪ ،‬فالبنية التصورية وفق هذا املنظور تشتق منه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬يعد‬
‫فاملعرفة متجسدة عىل هذا األساس‪ ،‬أي أهنا خاضعة لطبيعة األجساد التي نملك‪ ،‬فمعنى أن تكون البنية التصورية‬
‫نوع التصورات املشفرة وطبيعتها‪ ،‬واملتحققة عرب اللغة‪ ،‬بالنظر يف الكيفية‬
‫متجسدة هو أن حتدّ د طبيعة أجسادنا وتق ّيد َ‬
‫التي يوفر هبا النسق اللغوي املعنى استنادا إىل تصورات مشتقة من التجسد‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪Vyvyan Evans and Melanie Green, Cognitive linguistics an introduction, p. 176‬‬

‫‪-129-‬‬
‫التجسد ارتبا ًطا قو ًّيا‪ ،‬وبخاصة يف جمال‬
‫ّ‬ ‫يرتبط فهم اللغة املجازية واستيعاهبا بفرضية‬
‫فإن استخدامنا العادي ل ّلغة‬ ‫االستعارة‪ .‬ومثلام ّبي جورج اليكوف ومارك جونسون‪ّ ،‬‬
‫ُم َبن َْي يف معظمه بواسطة مبادئ استعارية وكنائية تكشف عن االجتاهية (‪ .)1‬فالكائنات‬
‫ختصص بصفة نسقية األفكار املجردة‪-‬مثل األفكار‪ ،‬املعتقدات الدينية‪،‬‬ ‫مثل ّ‬ ‫البرشية ً‬
‫املواقف األخالقية والسياسية‪-‬من خالل حركات وأنشطة جسدية‪.‬‬
‫ويؤرخ الباحث روبرت كلري (‪ )2‬هلذه الصريورة بد ًءا بالنظرية احلوسبية للذهن‬
‫ويربطها بانبثاق اجليل األول للعلم العرفاين‪ ،‬راج ًعا بتارخيها إىل ما بعيد احلرب العاملية‬
‫الثانية مع انعقاد مؤمتر هيكسون ‪ ،Hixon Symposium‬عندما التقى دارسون (من‬
‫ختصصات خمتلفة يف معهد كاليفورنا للتكنولوجيا من‬ ‫اجليل األول للعلم العرفاين) من ّ‬
‫أجل مناقشة مقتضيات نظرية جديدة تفيد بأن الذهن البرشي يشتغل مثل احلاسوب‪.‬‬
‫وقد ناقش بعض العلامء املشهورين الذين ينتمون إىل علم النفس‪ ،‬وعلم األعصاب‪،‬‬
‫واللسانيات‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬وجهات نظرهم حول النموذج اإلرشادي اجلديد‪.‬‬
‫ورأوا أنه يمكن مقارنة الدماغ باحلاسوب‪ .‬وقد هيمن هذا النموذج اإلرشادي عىل‬
‫العلم العرفاين لفرتة طويلة‪ .‬وسمح بربوز ختصصات جديدة ومتنوعة منها اللسانيات‬
‫احلاسوبية‪ ،‬وبعض النامذج الرياضية للغة‪ ،‬والنامذج الرياضية للذهن‪ ،‬واللسانيات‬
‫الصورية‪ .‬وقد تأسست النظريات الفلسفية لدى هؤالء الباحثني عىل اعتقاد مفاده أن‬
‫الذهن واجلسد يشتغالن بصفة مستقلة أحدمها عن اآلخر‪ ،‬وأن اللغة هي باألساس‬
‫تشفري رمزي ُييل إىل حالة قضايا يف العامل‪ .‬ولكن بعد ثالثني سنة من إنشاء العلم‬
‫العرفاين‪ ،‬بدأ نموذج لساين جديد يف االنبثاق‪ .‬بعد التحقق من أن اللغة هي استعارية عىل‬
‫رئيسا يف كيفية تفكري الكائن البرشي (اليكوف‬ ‫دورا ً‬‫نطاق واسع وأن االستعارة تؤدي ً‬
‫وجونسون‪ .)1980 ،‬سم ّيت هذه املقاربة اجلديدة باللسانيات العرفانية‪ ،‬ولكنها مل تكن‬

‫‪ -1‬هذا النوع من االستعارات يتأسس عىل ما تم تسميته بـ «الذهن املتجسد»‪ .‬إهنا استعارات تتأسس عىل افرتاض أن‬
‫الكائنات البرشية تنظم وتبنني فكرها من خالل جتربتها اجلسدية‪ .‬ما أشار إليه اليكوف وجونسون (‪ )1980‬بواسطة‬
‫هذه االستعارات االجتاهية هو حقيقة كون الكائنات البرشية هلا تنظيم فضائي وتتقاسم عاملا تعكس اجتاهاته (مثل‬
‫فوق‪-‬حتت‪ ،‬داخل‪-‬خارج‪-‬أمام‪-‬خلف‪...‬الخ)‪.‬‬
‫‪2- Robert N. St. Clair,«The Renaissance of Metaphorical Thinking and the Implications for‬‬
‫‪Cognitive Models of Cultural Language Education», p-p96-115.‬‬
‫‪Link: https://pdfs.semanticscholar.org/ec16/d505efc3141fd6c15b7e8bb8e02377fb0738.pdf‬‬

‫‪-130-‬‬
‫من نوع املقاربة اللغوية نفسها التي استخدمها نعوم تشومسكي وتالمذته يف معهد‬
‫وتأسس هذا النوع اجلديد من اللسانيات العرفانية عىل اجليل‬ ‫ماساتشوستس (‪ّ .)MIT‬‬
‫الثاين من العلم العرفاين‪ .‬وكان اهتامم روادها األوائل منص ًّبا عىل الكيفية التي يفكر هبا‬
‫ضمها هذا‬‫الكائن البرشي والدور الذي تضطلع به اللغة يف املعرفة‪ ...‬واألعامل التي ّ‬
‫اإلطار اجلديد انبنت عىل نموذج اجليل الثاين للسانيات العرفانية‪ ،‬وعىل مفهوم الذهن‬
‫املتجسد‪ .‬ويمكننا أن نعثر يف الوقت احلايل عىل اجتاهني خمتلفني ضمن هذه املقاربة‬
‫جتسد الفكر‪ ،‬بينام هيتم االجتاه اآلخر‬‫اجلديدة للعلوم العرفانية‪ .‬هيتم أحدمها بكيفية ُّ‬
‫بالرتابطات العرفانية واالندماج احلاصل عىل الساحة الذهنية‪.‬‬
‫إن التنظري العرفاين لالستعارة قد نشأ ّأول ما نشأ يف أحضان‬‫ويمكن القول إذن ّ‬
‫اللسانيات العرفانية القائلة بفكرة الذهن املتجسد (‪ ،)1‬وأن ً‬
‫عمل تأسيس ًّيا قد قام به‬
‫مجاعة من اللسانيني العرفانيني‪ ،‬عىل رأسهم جورج اليكوف‪ ،‬الذين اعتمدوا عىل‬
‫براهني لغوية للتدليل عىل تصورية االستعارة ومركزيتها يف التفكري واملعرفة‪.‬‬

‫مهم يف عديد النظريات اللسانية العرفانية‪ ،‬وهي ختتص باجلسد‪،‬‬


‫‪ -1‬يقول فيفيان إيفانس إن فكرة التجسد تؤدي دورا ًّ‬
‫وبخاصة فيسيولوجيته وترشحيه املخصصني حسب النوع أو اجلنس‪ .‬ترتبط فيزيولوجيا اجلسد هبيكله البيولوجي‪،‬‬
‫وهي ما يسمى أجزاء اجلسم وطريقة تنظيمها‪ ،‬مثل امتالك يدين‪ ،‬وذراعني‪ ،‬وجذع‪ ،‬وجلد أو برشة‪ )...( ،‬ويرتبط‬
‫الترشيح بالتنظيم الداخيل للجسم‪ .‬يتضمن هذا التصميم أو البناء العصبي للكائن احلي‪ ،‬وهي ما يسمى بالدماغ‬
‫والنظام العصبي‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪- Vyvyan Evans, A Glossary of Cognitive Linguistics, Edinburgh University Press,‬‬
‫‪Edinburgh 2007, p. 68.‬‬
‫ويرى ديان بيرش ورولف زوان أنه يمكن القول إن فكرة الذهن املتجسد هذه ارتبطت أكثر بعلم النفس العرفاين الذي‬
‫يطرح من بني ما يطرح من أسئلة رئيسية الكيفية التي يمثل هبا الناس معارفهم حول التصورات‪ .‬هناك نظريات ترى‬
‫بأن التصورات يتم متثيلها يف الذاكرة البرشية بواسطة أنساق حية حركية تثوي خلف التفاعل مع العامل اخلارجي‪ .‬هذه‬
‫النظريات مثلت التطور الراهن للعلم العرفاين نحو رؤية املعرفة ليس من خالل سريورة معلومات جمردة‪ ،‬وإنام من‬
‫خالل اإلدراك احليس والفعل؛ بعبارة أخرى‪ ،‬ترتكز املعرفة عىل التجربة املتجسدة‪ .‬كام أظهرت دراسات أخرى أن‬
‫اإلدراك احليس واألفعال احلركية تدعم الفهم البرشي وتصورات الكلامت واألشياء‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬حتى فهم‬
‫التصورات املجردة والعاطفة يمكن أن تبدو معتمدة عىل التجارب األكثر حسية وجتسدا‪ .‬وأخريا‪ ،‬اللغة بحد ذاهتا‬
‫يمكن أن تبدو مرتكزة عىل السريورة احلسية احلركية‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪- Diane Pecher and Rolf A. Zwaan, Introduction to Grounding Cognition, The Role of‬‬
‫‪Perception and Action in Memory, Language, and Thinking, Cambridge University Press‬‬
‫‪2005, p.1.‬‬

‫‪-131-‬‬
‫وملا كانت االستعارة أحد املظاهر الذهنية التي تعكسها اللغة ّ‬
‫فإن اللساين العرفاين‬
‫يأخذ عىل عاتقه دراسة هذه اآللية الذهنية باالعتامد عىل معطيات لغوية بشكل جيل‬
‫بوصفها مرآة عاكسة ملا يدور يف الفكر‪ ،‬ذلك أن «اللغة‪ ،‬من منظور عرفاين‪ ،‬هي إنتاج‬
‫للذهن البرشي‪ ،‬فهي إذن تعكس سريورات الفكر البرشي وبنياته»(‪.)1‬‬
‫ومن بني املفاهيم العرفانية لالستعارة بصفتها رؤية جديدة تتحدّ ى وجهة النظر‬
‫وأسس هلا وطورها‬‫التقليدية نجد ما طرحته نظرية االستعارة التصورية التي دعا إليها ّ‬
‫جورج اليكوف ومارك جونسون بشكل خاص‪ ،‬تلك النظرية التي قال عنها كوفيتش‬
‫(‪ )2‬إهنا رؤية جديدة لالستعارة حتدّ ت كل مظاهر النظرية التقليدية القوية بطريقة‬
‫منسجمة ومتامسكة‪ ،‬كان ذلك مع صدور كتاهبام «االستعارات التي نحيا هبا»‪ .‬وقد‬
‫أصبح مفهومهام هذا معرو ًفا باسم «الرؤية اللسانية العرفانية لالستعارة»‪ .‬وقد حتدّ ى‬
‫اليكوف وجونسون الرؤية املرتسخة لالستعارة بالفرضيات اآلتية‪:‬‬
‫ ‪-‬االستعارة خاصية للتصورات‪ ،‬وليس للكلامت‪.‬‬
‫ ‪-‬تتمثل وظيفة االستعارة يف فهم أفضل لبعض التصورات‪ ،‬وليس ألغراض فنية‬
‫ومجالية معينة فحسب‪.‬‬
‫ ‪-‬ال تتأسس االستعارة عىل املشاهبة يف معظم األحيان‪.‬‬
‫ ‪-‬يستخدم الناس العاديون االستعارة دون جهد يف حياهتم اليومية‪ ،‬فاألمر ال‬
‫يتعلق باملوهوبني موهبة خاصة فحسب‪.‬‬
‫ ‪-‬االستعارة بعيدً ا عن كوهنا شي ًئا زائدً ا برغم اجلاملية اللغوية التي متنحها‪ ،‬فهي‬
‫عملية حتمية للتفكري واالستدالل البرشيني‪.‬‬
‫ويعدد جورج اليكوف يف نظريته املعارصة لالستعارة (‪ )3‬طبيعة االستعارة من هذا‬

‫‪1- Ana margarida abrantes, Meaning and Mind, Peter Lang Internationaler Verlag der‬‬
‫‪Wissenschaften, Franfurt, 2010, p.11‬‬
‫‪2- Zoltán kövecses, Metaphor, A Practical Introduction, 2nd ed. Oxford University Press,‬‬
‫‪2010, pp. ix-x‬‬
‫‪3- Cf. George Lakoff, «The Contemporary Theory of Metaphor». In, Metaphor and Thought‬‬
‫‪(2nd ed), Edited by Andrew Ortony, Cambridge University Press, 1993. pp. 244- 245.‬‬
‫ينظر أيضا‪ :‬جورج اليكوف‪ ،‬النظرية املعارصة لالستعارة‪ ،‬تر‪ .‬طارق النعامن‪ ،‬مكتبة اإلسكندرية ‪ ،2014‬ص ‪79‬‬

‫‪-132-‬‬
‫املنظور اجلديد يف النقاط اآلتية‪:‬‬
‫ ‪-‬االستعارة هي اآللية األساسية التي نستوعب من خالهلا التصورات املجردة‪،‬‬
‫ونامرس هبا التفكري املجرد‪.‬‬
‫ ‪-‬إن الكثري من املوضوعات‪ ،‬من أكثر األمور املعيشة إىل النظريات العلمية األكثر‬
‫صعوبة‪ ،‬ال يمكن فهمها إال عن طريق االستعارة‪.‬‬
‫ ‪-‬االستعارة هي تصورية يف جوهرها‪ ،‬وليست لغوية‪ ،‬بشكل طبيعي‪.‬‬
‫ ‪-‬اللغة االستعارية هي ّ‬
‫جتل سطحي لالستعارة التصورية‪.‬‬
‫مهم منه‬
‫كبريا من نسقنا التصوري استعاري‪ ،‬فإن جز ًءا ًّ‬
‫ ‪-‬عىل الرغم من أن جز ًءا ً‬
‫متجذرا يف الفهم غري االستعاري‪.‬‬
‫ً‬ ‫هو غري استعاري‪ .‬والفهم االستعاري يكون‬
‫ ‪-‬تسمح لنا االستعارة بأن نفهم املوضوع املجرد نسب ًّيا وغري املبنني بطبيعته من‬
‫خالل موضوع ملموس أكثر‪ ،‬أو أعىل بنينة عىل األقل‪.‬‬
‫أفكارا ثورية مقارنة بام ظل سائدً ا يف األوساط العلمية‬
‫ً‬ ‫إن مثل هذه األفكار تبدو‬
‫واألكاديمية بشكل عام حول النظرة التي بدت قارصة جتاه االستعارة‪ .‬هنا ال يفتأ‬
‫اليكوف يف معظم أعامله يوجه انتقادات الذعة لوجهة النظر الكالسيكية حول‬
‫االستعارة‪ ،‬تلك التي ترضب بجذورها يف عمق التاريخ‪ ،‬وتصل عىل أقل تقدير إىل‬
‫أرسطو‪ .‬وعىل مدى ألفي سنة مل تتغري هذه النظرة إىل االستعارة بكوهنا مسألة لغوية‪،‬‬
‫وليست فكرية‪ .‬وأن اللغة اليومية ليس هبا لغة استعارية‪ ،‬بل هي لغة تنتمي إىل جمال‬
‫اللغة احلرفية(‪.)1‬‬
‫أما عن طريقة عمل االستعارة فتكون يف املستوى الذهني ببناء تصور ملجال ذهني‬
‫من خالل جمال ذهني آخر‪ .‬يتم ذلك عن طريق إقامة ترابطات ما بني املجالني‪ .‬واألمر‬
‫يتعلق بشكل خاص بالتصورات اليومية املجردة من قبيل الزمن‪ ،‬احلاالت‪ ،‬التغري‪،‬‬
‫السببية‪ ،‬والغرض‪ ،‬التي هي تصورات استعارية‪ .‬هذا ما جعل اليكوف وجونسون‬

‫عمن‪ ،‬دار كنوز املعرفة‪،‬‬


‫‪ -1‬عبد العزيز حلويدق‪ ،‬نظريات االستعارة يف الغرب من أرسطو إىل اليكوف ومارك جونسون‪ّ ،‬‬
‫‪.2015‬‬

‫‪-133-‬‬
‫حياوالن الربهنة عىل أن النسق التصوري البرشي هو استعاري يف جزئه األكرب‪ ،‬نظرا‬
‫إىل أن الطريقة التي يفكر هبا الكائن البرشي والطريقة التي يترصف هبا هي استعارية يف‬
‫جزئها األكرب‪.‬‬
‫هذا املنظور اجلديد لالستعارة جيد صداه يف أبحاث تلت صدور كتاب اليكوف‬
‫وجونسون املشار إليه‪ ،‬وتنوعت النظريات التي حاولت مقاربة االستعارة من وجهة‬
‫دائم عىل املعطى اللغوي‪ ،‬هذا االختالف والتنوع ظل مؤ ّط ًرا‬‫نظر عرفانية‪ ،‬باالعتامد ً‬
‫وموج ًها ببعض االلتزامات والتقييدات التي يلتزم هبا املشتغل ضمن هذا اإلطار‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أمهها تلك التي يعرضها اليكوف يف قوله بتميز اللسانيات العرفانية عن االجتاهات‬
‫(‪)1‬‬

‫األخرى يف اللسانيات‪ ،‬سواء ذات النزعة الصورية أو ذات النزعة الوظيفية‪ ،‬من خالل‬
‫أول‪ ،‬إهنا تأخذ بصفة جدية الدعامة العرفانية للغة‪ ،‬وهو ما يسمى‬ ‫هذين الوجهني‪ً :‬‬
‫بااللتزام العرفاين‪ .‬فاللسانيون العرفانيون حياولون وصف اللغة ونمذجتها يف ضوء‬
‫براهني متجمعة من علوم الذهن والعلوم العرفانية األخرى‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬يلتزم اللسانيون‬
‫العرفانيون بالتعميم‪ :‬أي التزام وصف املبادئ التي تشكل املعارف اللغوية وطبيعتها‬
‫تشكيل لقالب‬‫ً‬ ‫بدل من رؤية اللغة بوصفها‬ ‫بوصفها حمصلة ملقدرات عرفانية عامة ً‬
‫ٍ‬
‫ومستبطن يف الذهن‪ً ،‬‬
‫مثل‪.‬‬ ‫منفصل ك ّل ًّيا‬

‫‪ -٢‬االستعارة يف املقام الرتبوي‪:‬‬


‫انطال ًقا من التحديد املستجد لالستعارة ضمن اإلطار اللساين العرفاين حاول كثري‬
‫من الدارسني البت يف أمهية االستعارة يف املقام الرتبوي يف مستوياته املختلفة‪ ،‬انطال ًقا من‬
‫وجود «اتفاق بني العلامء والباحثني عىل إمكانية استخدام االستعارة كوسيلة تعليمية‪...‬‬
‫فال شك يف أن قدرة االستعارة عىل نقل املعلومة أو الصورة من املجال األصيل إىل‬
‫املجال املستهدف يمكن استغالهلا لتوضيح بعض املظاهر غري املعتادة للطالب‪ ،‬عن‬
‫تعودوا عليها‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يمكن أن تساعد االستعارة‬ ‫طريق احلديث عن ظواهر أخرى ّ‬
‫يف توضيح املوضوعات املختلفة وتبسيطها‪ ،‬وهذا يساعد الدارس عىل التخيل والتذكر‪.‬‬

‫‪1- Vyvyan Evans, Language and Cognition: The View from Cognitive Linguistics. p.3.‬‬
‫‪From: http://www.vyvevans.net/TheViewFromCogLx.pdf‬‬

‫‪-134-‬‬
‫وتربز أمهية هذا األمر حينام يتعرض الدارسون إلحدى الظواهر اجلديدة‪ ،‬بل واملعقدة‪،‬‬
‫والتي عادة ما تستعيص عىل الفهم‪ ،‬مثل الكهرباء وبنية الذرة‪ ،‬ووظائف احلمض النووي‪.‬‬
‫وقد أثبتت دراسات عدّ ة أن استخدام االستعارة يف النصوص التعليمية قد أسهم بشكل‬
‫الفت يف زيادة قدرة الدارسني عىل تذكر املعلومات‪ ،‬واخلروج باستنتاجات‪ ،‬واإلجابة‬
‫عن األسئلة‪ ،‬وحل املشكالت»(‪ .)1‬واألمر ال يتعلق بكون االستعارة أداة مساعدة فقط‬
‫بل هي تتجاوز هذا الدور لتؤدي دور الوسيط الذي ال غنى عنه يف توصيل املعارف‬
‫اجلديدة‪.‬‬
‫من التحديدات التي واجهت االستعارة يف عالقتها بالتعليم ما أوردته الباحثة إيلني‬
‫بوتا يف مقال هلا(‪ )2‬عن أمهية االستعارة يف املجال التعليمي؛ إذ حددت االستعارة يف هذا‬
‫املجال بأهنا رؤية الظواهر الرتبوية وأحداثها وأفعاهلا غري املألوفة ووصفها أو تفسريها‬
‫من خالل ما هو مألوف من األشياء واألحداث أو األفعال (مثل اعتبار املدرس‬
‫مرشدً ا‪ ،‬أو التعلم معركة ارتقاء‪ .)...‬وترى الباحثة بدعم من آراء باحثني آخرين أن‬
‫االستعارة هي واحدة من الطرق املركزية جلرس اهلوة اإلبستيمولوجية الفاصلة بني‬
‫املعارف القديمة واملعارف اجلديدة بصفة جذرية‪ ،‬وهو الدور اإلبداعي واالبتكاري‬
‫والتفاعيل لالستعارة إذ تبدع تشاهبات بني الفهم السابق للطالب من جهة واكتساب‬
‫معارف جديدة حول موضوع ما من جهة أخرى‪.‬‬
‫لقد حاولت إيلني بوتا يف مقاهلا إثبات الدور املهم لالستعارة يف املقام الرتبوي بتع ّقب‬
‫التغيات ودورها احليوي يف العملية‬ ‫تأثري التغريات يف فهم االستعارة‪ ،‬وحضور هذه ّ‬
‫التغيات التي صاحبت التحوالت التي شملت املناويل املتحولة من‬ ‫التعليمية‪ ،‬هذه ّ‬
‫النزعة املوضوعية إىل النزعة الكلية والرتابطية يف التعليم‪ .‬وانعكست هذه التحوالت‬
‫يف اختيار األساليب التعليمية كذلك‪ .‬وزعمت الباحثة أن االستعارات هي أنشطة‬
‫ووقائع وعمليات تأسيسية وتربوية‪ ،‬وإهنا تعدّ وسي ًطا الفرتاضات أساسية لرؤية عامل‬

‫‪ -1‬إيلينا سيمينو‪ ،‬االستعارة يف اخلطاب‪ ،‬ترمجة عامد عبد اللطيف وخالد توفيق‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة ‪،2013‬‬
‫ص‪-‬ص ‪221-220‬‬

‫;‪2- Elaine Botha, «Why metaphor matters in education», South African Journal of Education‬‬
‫‪2009, Vol 29:431-444.‬‬
‫‪From: http://www.ajol.info/index.php/saje/article/download/47740/34112‬‬

‫‪-135-‬‬
‫خاصة هبذه الوقائع واألنشطة‪ .‬ومتلك االستعارة محولة عرفانية وأيديولوجية‪ ،‬وتوظف‬
‫ً‬
‫وصول إىل افرتاضات ختصصية حول الطريقة التي‬ ‫ً‬
‫حامل لرؤية للعامل موفرة‬ ‫بصفتها‬
‫يبنني هبا العامل واجلنس البرشي‪.‬‬
‫ومن منطلق كون االستعارة من األدوات الفكرية املتاحة للكائن البرشي من أجل‬
‫تشكيل رؤيته للعامل‪ ،‬فإن الواقع يف املجال التعليمي ال ُيويل عناية كبرية لالستعارة التي‬
‫ما يزال ينظر إليها عىل أهنا جمرد أداة يستخدمها الشعراء واألدباء بشكل حرصي‪ ،‬ما‬
‫أ ّدى إىل حرص وظيفتها يف التزيني والتأثري العاطفي ال غري‪ .‬وبذلك تزداد اهلوة بني‬
‫اللغة احلرفية واللغة االستعارية وعدّ جمال األوىل املامرسة العلمية‪ ،‬غري أن هذا الفهم‬
‫املزدوج ل ّلغة كانت له نتائج سلبية يف التقليل من أمهية اللغة املجازية ودورها العرفاين‬
‫والتأسييس للكثري من النظريات الفلسفية والعلمية‪ ،‬ودورها املهم يف تفسري العامل وبناء‬
‫رؤية عنه ونقل هذا التفسري إىل املتعلمني‪.‬‬

‫‪ -٣‬نامذج بحثية‪:‬‬
‫نظرا إىل األمهية التي أضحت االستعارة حتظى هبا يف املنظومة الرتبوية (الغربية‬
‫ً‬
‫خاص)‪ ،‬عمدت بعض األبحاث إىل اقرتاح مقاربات الستثامر هذه األمهية يف‬ ‫ّ‬ ‫بشكل‬
‫بعضا من‬
‫اجلوانب املرتبطة بالعملية التعليمية‪ ،‬نقرتح منها هذه النامذج التي تعكس ً‬
‫جوانب االهتامم باستثامر منجزات اللسانيات العرفانية ومبحث االستعارة التصورية‬
‫خاصة يف املجال التعليمي بشكل عام‪.‬‬

‫Ÿ Ÿاالستعارة واخلطاب الرتبوي‪:‬‬


‫ينطلق راندي غارنر يف بحثه(‪ )1‬حول االسرتاتيجيات ذات الفاعلية يف التدريس من‬
‫اجلمع بني الفكاهة والتمثيل واالستعارة بوصفها أهم االسرتاتيجيات التعليمية داخل‬
‫الصف‪ ،‬ويقول إن االستخدام اجليد هلذه األدوات الثالث بام يناسب املوضوع املطروق‬
‫من شأنه أن يمنح فوائد مجة‪ ،‬فالفهم اجليد وزيادة القدرة عىل تذكر املواد‪ ،‬وخلق بيئة‬
‫أكثر أرحيية يف الصف يسهم فيه االستخدام الفاعل هلذه االسرتاتيجيات‪ .‬فاالستعارات‬

‫‪1- Cf. Randy Garner, «Humor, Analogy, and Metaphor: H. A.M. it up in Teaching», from:‬‬
‫‪radicalpedagogy.icaap.org/content/issue6_2/garner.html‬‬

‫‪-136-‬‬
‫والتمثيالت تساعد الطلبة عىل تصور غري املعتاد من خالل تصور آخر أكثر قابلية‬
‫للتعرف عليه‪ ،‬وتعمل عىل حتسني فهمهم وتنمية قدرهتم عىل احلفظ واالستذكار‪.‬‬
‫دائم‪-‬تتيح له االستعارة استخدام فكرة‪ ،‬أو‬‫وبالنسبة إىل املعلم ‪-‬بحسب الباحث ً‬
‫كلمة‪ ،‬أو فقرة‪ ،‬أو يشء ما‪ ،‬يف مكان أخرى القرتاح وجود مشاهبة بينهام‪ .‬والتمثيل‬
‫بالرغم من اختالفه من الناحية التقنية عن االستعارة‪ ،‬فإنه ُيعدُّ استعارة موسعة‪ .‬وقد‬
‫استُعمل هذان النمطان تارخي ًّيا بوصفهام من الوسائل التعليمية الفاعلة‪ .‬وكان هلام حضور‬
‫واضح يف األساطري اليونانية والنصوص الدينية واحلكايات الرمزية‪ ،‬التي استُعني هبا‬
‫إن استخدام االستعارة والتمثيل ينترش يف املجتمع يف كل‬ ‫يف تعليم سلوكات معينة‪ّ .‬‬
‫ُوضح األفكار بتضمني استخدام متثيالت استعارية‪ .‬وثمة‬ ‫من اللغة والتواصل‪ .‬وت َّ‬
‫اعتقاد لدى بعض الباحثني مفاده أننا نفكر يف معظم األحيان يف املعلومات ونعطي هلا‬
‫تفسريا من خالل تصورات وأمثلة استعارية‪ .‬ويقرتح راندي غارنر أن التفكري البرشي‬ ‫ً‬
‫هو استعاري يف الصميم واستخدام االستعارة يف امليدان البيداغوجي يقع يف صلب‬
‫املوضوع‪.‬‬
‫ووف ًقا ملصادر الباحث ُيعدُّ االستعامل الفاعل أو املؤثر لالستعارات والتمثيالت‬
‫اسرتاتيجي ًة تربوي ًة مهم ًة‪ .‬واألهم من ذلك أن مفهوم التعليم نفسه يوصف من خالل‬
‫استعارات عديدة (مثل زرع األزهار‪ ،‬وإضاءة مصباح كهربائي‪ ،‬وتنقيب‪...‬إلخ)‪.‬‬
‫واستعامل االستعارة والتمثيل يف التعليم يسمح للمعلم بربط فكرة غري معتادة عىل‬
‫املدرسني يتمثل الدافع املوضوعي‬
‫األرجح بفكرة أخرى معتادة‪ .‬وبالنسبة إىل كثري من ّ‬
‫لعمل ذلك يف نقل مفهوم غريب إىل مفهوم أو تصور قد يكون أكثر قابلية للتعرف عليه‪.‬‬
‫تصور آخر‪.‬‬
‫تصور ما أو جتربته من خالل ّ‬
‫هذا ما حيدث عندما نحاول فهم ّ‬

‫Ÿ Ÿاالستعارة وتعليم النحو واملعجم‪:‬‬


‫خيصص الباحث يورغ ماتياس روش ح ّي ًزا من مقاله (‪ )1‬الذي خصصه للحديث‬
‫عن تعلم اللغة وبيداغوجيتها للحديث عن االستعارات التصورية وتعليم النحو‬
‫‪1- Cf. Jörg Matthias Roche, «Language Acquisition and Language Pedagogy», in: The‬‬
‫‪Bloomsbury Companion to Cognitive Linguistics, Edited by Jeannette Littlemore and John‬‬
‫‪R. Taylor, Bloomsbury Academic 2014, pp. 325-351.‬‬

‫‪-137-‬‬
‫‪ ،grammar‬ويشري بد ًءا إىل أن أمهية االستعارات ال تنحرص فقط يف املجال املعجمي‬
‫ولكنها تعد وسيلة مفيدة يف تعليم القواعد النحوية كذلك‪ ،‬سواء أتعلق األمر باللغة‬
‫األم أم باللغات األجنبية‪ .‬يف هذه احلال حيتاج املدرسون إىل معرفة ميتا‪-‬لغوية باألساس‬
‫التصوري هلذه القواعد‪ .‬ويمثل الباحث لذلك باألساس التصوري للحاالت النحوية‬
‫أساسا‬
‫ً‬ ‫(أو اإلعرابية) التي تتشارك فيها مجيع اللغات‪ .‬وخيتار جمال احلركة يف الفضاء‬
‫جتريب ًّيا للبناء التصوري والنحوي لدى البرش‪ .‬ذلك أن األشياء املتحركة يف الفضاء‬
‫أو املنتقل ‪ trajector‬تدرك من خالل معارضتها للخلفية ‪ background‬أو املع َلم‬
‫‪ ،landmark‬بحسب اصطالحات النقاكر‪ .‬يف هذا اإلطار يعد املعلم احليز الفضائي‬
‫الذي يتموضع اليشء املتحرك يف نطاقه‪ .‬ويمكن هلذا اليشء أن حيافظ عىل موضعه‬
‫منتقل إىل حيز فضائي آخر‪ .‬من هنا نميز بني منظورات‬ ‫ً‬ ‫ضمن هذه احلدود أو يغادرها‬
‫خمتلفة يف وصف وضعية ما وعكسها نحو ًّيا يف عبارات لغوية‪ ،‬انطال ًقا من التمييز بني‬
‫حاالت املنتقل واملع َلم‪ ،‬فإما أن حيافظ املنتقل عىل موضعه داخل حميط املعلم‪ ،‬وإما أن‬
‫عابرا اىل حدود املعلم‪...‬‬
‫يتحرك ً‬
‫مهم خاصة فيام يتصل‬ ‫دورا ًّ‬
‫أما يف اجلانب املتعلق بمفردات املعجم فتؤدي االستعارة ً‬
‫بالتوسعات املعجمية‪ ،‬يف هذا الصدد يتحدث فاتشان تشانغ يف مقال له (‪ )1‬عن استخدام‬
‫االستعارات التصورية وتطبيقها يف تعليم معجم اللغة وهي التي توفر لنا إمكان النظر‬
‫يف يشء من خالل يشء آخر‪ .‬هذه اخلاصية بحسب الباحث تسمح لنا بربط معاين مادة‬
‫معجمية يف جمال ما بمعانيها االستعارية املرتبطة هبا يف جمال آخر‪ .‬وعليه توسع معاين‬
‫مثل كلمة «هش» املستخدمة يف جمال البناء التي يمكن‬ ‫أشكال الكلمة نفسها‪ .‬من ذلك ً‬
‫أن تستعمل يف جمال النظرية وفق االستعارة التصورية النظريات بنايات (تفرس لنا‬
‫هذه االستعارة سبب حديثنا عن هشاشة النظرية واهنيارها)‪ ،‬وقس عىل ذلك مع عدد‬
‫كبري من الكلامت التي يمكن تعلمها بطريقة نسقية اعتام ًدا عىل هذه الطريقة‪ .‬ويقرتح‬
‫نصوصا تتضمن‬
‫ً‬ ‫الباحث تطبيق هذه الطريقة بيداغوج ًّيا بأن يقرتح املعلم عىل التالميذ‬
‫استعارات تصورية‪ ،‬ويطلب إليهم تعيني املجالني (املصدر واهلدف) بعد أن يوجههم‬
‫بطرح بعض األسئلة عليهم‪ ،‬بالرتكيز عىل الكلامت املستخدمة استعار ًّيا‪ ،‬وبإدراك‬

‫‪1- Cf. Fachun Zhang, «A Study of Metaphor and its Application in Language Learning and‬‬
‫‪Teaching»; in International Education Studies, Vol. 2, No. 2, May, 2009.‬‬

‫‪-138-‬‬
‫ذلك يمكن للتالميذ استنتاج االستعارة التصورية املعنية‪ ،‬ومن ثم الوقوف عىل أوجه‬
‫استخدام أشكال الكلامت نفسها يف جمالني خمتلفني أحدمها فيزيقي أو حيس واآلخر أقل‬
‫حسية أو جمرد‪ .‬وهبذه الطريقة يستطيع التالميذ تذكر معاين كلمة ما بسهولة من خالل‬
‫ترسخ هذا الرتابط املحفز هبذه األمثلة‪.‬‬

‫Ÿ Ÿاالستعارة وتعليم احلاسوبيات‪:‬‬


‫من البحوث التي اعتنت بإبراز دور االستعارة يف التعليم املتخصص نعثر عىل العمل‬
‫الذي قام به الباحث ويليام جون ووالرد يف بحثه حول دور االستعارة يف تدريس‬
‫احلوسبة؛(‪ )1‬إذ رأى أن تدريس هذه املادة يتطلب‪ ،‬عىل غرار مجيع املواد الدراسية‪،‬‬
‫جمموعة من االسرتاتيجيات لإلملام بمحتوى املنهاج الدرايس (مهارات‪ ،‬معرفة‪ ،‬فهم‪،‬‬
‫واختاذ املواقف) ووضعها يف شكل يمكن هضمه بسهولة أكرب من قبل املتعلمني‪ .‬وتؤدي‬
‫مضمنة يف تصميم أجهزة احلاسوب‬ ‫َّ‬ ‫خاصا يف عامل احلوسبة؛ إذ هي‬
‫ًّ‬ ‫دورا‬
‫االستعارة ً‬
‫أساسا لتسهيالت مهمة مثل‬ ‫ً‬ ‫والربجميات‪ ،‬وهي جزء من واجهة اجلهاز وأهنا تشكل‬
‫مهم يف معرفة املحتوى‬
‫دورا ًّ‬
‫األيقونات‪ ،‬وعمل املؤرشات وعرض النوافذ‪ .‬وهي تؤدي ً‬
‫البيداغوجي (‪ Pedagogic Content Knowledge (PCK‬اخلاص بمعلمي احلوسبة‪.‬‬
‫وقد كشفت نتائج هذا البحث عن وجود منظور جديد بخصوص معرفة املحتوى‬
‫البيداغوجي فيام يتعلق بتدريس احلوسبة يف التعليم ما بعد املرحلة األوىل‪ .‬إهنا مقاربة‬
‫نموذجية حددت املجاالت الرئيسة وشددت عىل الدور الذي تؤديه االستعارة يف‬
‫كل من اسرتاتيجيات التدريس ومعرفة موضوع احلوسبة‪ .‬وقد عرض البحث وص ًفا‬
‫لتطبيقات خمتلفة‪ ،‬وقارهنا وعرضها يف شكل من شأنه أن يساعد املعلمني عىل حتديد‬
‫املقاربة أو املقاربات اخلاصة هبم‪.‬‬
‫واقرتح الباحث مواصلة البحث مستقبال ًلتحديد مدى فاعلية االسرتاتيجيات‬
‫االستعارية وكفاءهتا خاصة‪ .‬وال سيام أن دور مقاربات التدريس غري احلرفية يمكن أن‬
‫يسمح للتالميذ الصغار بفهم مبادئ احلوسبة وكيف يمكن هلذه املقاربات غري احلرفية‬
‫أن تُستعمل لضامن حتفيز الطالب أكثر يف دراستهم‪.‬‬
‫‪1- William John Woollard, «The role of metaphor in the teaching of computing; towards a‬‬
‫‪taxonomy of pedagogic content knowledge»; from: https://eprints.soton.ac.uk/11227/1/‬‬
‫‪ThesisJWoollard2004.pdf‬‬

‫‪-139-‬‬
‫‪ -٤‬خماطر استعامل االستعارة يف اخلطاب الرتبوي‪:‬‬
‫نختم هذه اجلولة الرسيعة باإلشارة إىل أنه يف مقابل احلديث عن األمهية التي حظيت‬
‫هبا االستعارة يف جمال التعليميات بصفتها اسرتاتيجية تعليمية‪ ،‬وقد أملحنا لذلك من‬
‫خالل هذه النامذج البحثية املختارة عشوائ ًّيا بام ال يعكس بحق مقدار االهتامم املتزايد‬
‫واملتنوع بمثل هذه االسرتاتيجيات العرفانية يف التعليم‪ ،‬إال أن بعض املخاوف التي‬
‫ترتبط باألساس بإساءة استخدام االستعارة أو التعامل معها قد ُأثريت‪ ،‬وتتجىل تلك‬
‫اإلساءة بحسب راندي غارنر(‪ )1‬يف تأسس االستعارات والتمثيالت عىل أمور غري مألوفة‬
‫وغموضا يف فهم الفكرة‪ .‬ويشري الباحث إىل أنه من‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تشويشا‬ ‫لدى الطالب ما يثري لديه‬
‫تتدرج من التصورات املعتادة‬ ‫أفكارا ّ‬
‫ً‬ ‫الواجب عىل االستعارات والتمثيالت أن تنقل‬
‫لدى املتعلمني إىل تصورات أقل ألفة أو غري معروفة لدهيم‪ .‬وينبغي للعالقة االستعارية‬
‫أن تكون واضحة ومضبوطة‪ ،‬فاالستخدام الدقيق لالستعارات والتمثيالت يمكن أن‬
‫يوفر نم ًطا من االختصار املساعد عىل حتديد غري امللموس أو املجرد‪ .‬ومع ذلك تتوقف‬
‫عملية اختيار االستعارات والتمثيالت املالئمة عىل فهم املتعلمني وإدراكهم احليس‪،‬‬
‫وعىل املعلم أن يضمن استخدا ًما دقي ًقا ومضبو ًطا لالستعارة من أجل بلوغ اهلدف‬
‫املتمثل يف التأثري املطلوب يف الفهم اجليد للموضوع أو املسألة قيد النظر‪.‬‬
‫مثال عن هذه املخاطر والصعوبات يف استخدام االستعارة‬ ‫وتورد إيلينا سيمينو (‪ً )2‬‬
‫يف التعليم من خالل هذا املثال أو النموذج الذي نقلته عن لني كامريون ‪Lynne‬‬
‫يدرس للتالميذ‬
‫‪ Cameron‬وهو يتعلق بنص مأخوذ من كتاب مدريس يف ما ّدة العلوم‪ّ ،‬‬
‫يف سني العارشة واحلادية عرشة موضوعه «القلب»‪ ،‬وحيتوي ذلك النص عىل عدد كبري‬
‫من التعبريات االستعارية املختلفة‪:‬‬
‫«يمثل الدم نظام النقل ‪...‬داخل اجلسم‪ ،‬بينام يمثل القلب مركز هذا النظام‪ .‬وحيتوي‬
‫القلب عىل أربع غرف هلا جدران عضلية‪ ،‬وهذه اجلدران تنقبض كل ثانية تقري ًبا‪ ،‬لتدفع‬
‫الدم خارج هذه الغرف‪ ،‬داخل أنابيب قوية نسميها الرشايني‪ ،‬ومنها يندفع الدم إىل كل‬
‫أجزاء اجلسم‪ .‬وحينام يرختي القلب مرة واحدة‪ ،‬متتلئ غرفه باملزيد من الدماء‪ ،‬والتي‬

‫‪1- Randy Garner, «Humor, Analogy, and Metaphor: H. A.M. it up in Teaching». Ibid.‬‬
‫‪ -2‬ينظر‪ :‬إيلينا سيمينو‪ ،‬االستعارة يف اخلطاب‪ ،‬ص‪-‬ص ‪.224-222‬‬

‫‪-140-‬‬
‫جاءت عن طريق أنابيب أخرى نسميها األوردة‪ .‬وهذا الضخ (للدماء) –والذي نسميه‬
‫نحن دقات القلب‪-‬حيدث كل ثانية تقري ًبا طيلة عمر اإلنسان‪ ،‬وال توجد آلة صنعها‬
‫اإلنسان تعمل بكفاءة القلب البرشي واستمراريته نفسه‪ ،‬فيمكن للقلب أن يدق ملدة‬
‫مائة عام دون احلصول عىل راحة‪ .‬وعالوة عىل ذلك‪ ،‬فإن القلب يمتلك القدرة عىل‬
‫التكيف؛ بمعنى أنه يستطيع أن يدق برسعة أو ببطء‪ ،‬وهذا يواكب تغيري كمية الدم التي‬
‫يضخها مع كل دقة‪ ،‬بناء عىل املجهود الذي يقوم به اإلنسان»‪.‬‬
‫وتفرق كامريون بني ثالثة أنواع من التعبريات االستعارية الواردة يف الفقرة السابقة‬
‫عن القلب‪ :‬تعبريات شبه فنية‪ ،...‬وأخرى فنية‪ ،...‬وثالثة فنية ومكونة للنظريات‪...‬‬
‫فعىل سبيل املثال‪ ،‬تضم التعبريات شبه الفنية وصف «الدم» بأنه نظام للنقل‪ ،‬ووصف‬
‫«الرشايني» بأهنا أنابيب‪ ،‬ووصف «القلب» بأنه يمتلك قدرة عىل التكيف (وتعبري‬
‫«الدفع» يدخل ضمن هذه الفئة)‪ .‬وهذه التعبريات ال تستخدم بشكل تقليدي عند‬
‫احلديث عن وظيفة القلب؛ ومن ثم فال تُعدُّ من التعبريات املكونة للنظريات يف أي‬
‫سياقات أخرى‪ .‬وقد استخدمها املؤلف هنا ملا هلا من قدرة عىل توصيل املعلومة‬
‫للدارس ‪ ...‬فهذه التعبريات تتامشى مع ما يعرفه القارئ (عن النقل‪ ،‬واألنابيب‪ ،‬وقدرة‬
‫اآلالت عىل التكيف)‪ ،‬ومن ثم يسهل عىل املؤلف رشح بعض جوانب املجال املستهدف‬
‫(الدورة الدموية‪ ،‬ووظيفة القلب فيها)‪ .‬وتشمل االستعارات الفنية تعبريات مثل‬
‫«غرف»‪ ،‬و»جدران»‪ ،‬التي تستخدم عادة يف املناقشات العلمية لإلشارة إىل مكونات‬
‫القلب‪ ،‬ولكنها ال تعكس الطريقة التي عادة ما ترشح هبا وظيفة القلب (بمعنى أن‬
‫القلب ال يصور عادة يف شكل بناء)‪ .‬وعىل النقيض من هذا‪...‬بعض التعبريات مثل‬
‫«ضخ» و»يضخ» عىل أهنا تعبريات فنية‪ ،‬ومكونة للنظريات يف نفس الوقت‪[ ..‬فـ]‬
‫وظيفة القلب قد ُف ّست للمتلقي عن طريق االستعارة التي تشري إىل أن القلب عبارة‬
‫عن مضخة‪.‬‬
‫وأشارت سيمينو إىل أن العمل الذي قامت به لني كامريون مع جمموعة من‬
‫األطفال يف سن العارشة يكشف عن مدى صعوبة توقع تفسريات الدارسني ألنواع‬
‫االستعارات الواردة يف هذا النص‪ ،‬وبتحديد أكثر‪ ،‬فقد كان املشاركون يف الدراسة التي‬
‫أجرهتا كامريون ُيعاملون التعبريات االستعارية الفنية املغلقة الواردة يف النص معاملة‬

‫‪-141-‬‬
‫التعبريات املفتوحة‪ .‬وقد طبقوا بعض ما لدهيم من معرفة منقوصة عن املجال املصدر‬
‫عىل تفسرياهتم للنص‪ .‬فلقد أثار استخدام لفظ «اجلدران»‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف أذهاهنم‬
‫قوة اجلدران املوجودة يف املنازل‪ ،‬ومحايتها لقاطني هذه املنازل‪ ،‬كام أثارت كلمة «الغرف»‬
‫يف أذهاهنم وجود مساحة للتخزين‪ ،‬وأثارت كلمة «الضخ» يف أذهاهنم «املنفاخ» الذي‬
‫يستخدمونه يف ضخ اهلواء يف عجالت الدراجة‪ ،‬عند خلوها من اهلواء‪ .‬وانتهى األطفال‬
‫إىل نتيجة مفادها أن القلب يضخ اهلواء الذي يدفع الدم يف كل أجزاء اجلسم‪.‬‬
‫وتلخص كامريون هذه املشكلة‪ ،‬مثلام تنقل سيمينو‪ ،‬بالقول إن هذه املشكلة سواء‬
‫أكنا نتحدث عن هؤالء األطفال أم عن غري املتخصصني‪ ،‬تكمن يف عدم قدرهتم عىل‬
‫التفرقة بني االستعارات املقصودة (املتداولة)‪ ،‬واملصطلحات الفنية‪ ،‬التي قد تكون هي‬
‫أخريا مستخدمي االستعارة يف التعليم‬
‫ً‬ ‫بدورها استعارات وضعية‪ .‬وتنصح سيمينو‬
‫بتوخي احلذر والعمل عىل أن يتوافر لدى الدارس أكثر من نموذج استعاري واحد‬
‫للظواهر التي يدرسها‪ ،‬من أجل تقليل احتامل الفهم اخلاطئ‪ ،‬أو الفهم الناقص للظواهر‬
‫التي تكون موضع دراسة‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬
‫نكتفي هبذا القدر من إثارة االنتباه إىل بعض املالمح املتعلقة بدور االستعارة يف‬
‫العملية التعليمية والرتبوية‪ ،‬إىل جانب آليات عرفانية‪ /‬معرفية مركزية أخرى (مثل‬
‫الكنايات والتمثيالت وعمليات املزج) عند الكائن البرشي بغية اإلفادة من إثارة هذا‬
‫الوعي يف هذا املجال احليوي الذي يشهد تقلبات وحتوالت الفتة يف الوقت الراهن‪،‬‬
‫وحماولة عالج النقائص وحل املشكالت املطروحة مما يعايشه يوم ًّيا املشاركون يف‬
‫العملية التعليمية والرتبوية بشكل عام‪ .‬وإننا عىل يقني من أن تطبيق ما توصلت إليه‬
‫البحوث املنجزة من نتائج يف إطار اللسانيات العرفانية‪ /‬املعرفية يف املقام الرتبوي أو يف‬
‫غريه من شأنه أن حيل الكثري من تلك املشكالت والنقائص املالحظة ما دام األمر يتعلق‬
‫بنتائج بحوث متعاضدة ومؤسسة‪ ،‬شغلها الشاغل هو البحث يف املعرفة والسلوك‬
‫أساسا‪ .‬ونأمل أن نكون هبذا امللمح‬ ‫اإلنساين بالرتكيز عىل آليات اشتغال الذهن البرشي ً‬
‫قد نبهنا عىل بعض هذه الوسائل املستبعدة أو املتغافل عنها ضمن منظومة التعليم يف‬
‫الوقت الراهن واالستفادة منها يف دعم االسرتاتيجيات التعليمية عامة‪.‬‬

‫‪-142-‬‬
:‫املراجع‬
‫العربية‬
‫ املركز‬،‫ ترمجة عامد عبد اللطيف وخالد توفيق‬،‫ االستعارة يف اخلطاب‬،‫إيلينا سيمينو‬1.1
.2013 ،‫ القاهرة‬،‫القومي للرتمجة‬
‫ عبد املجيد‬.‫ تر‬،‫ االستعارات التي نحيا هبا‬،‫جورج اليكوف ومارك جونسن‬2.2
.1996 ،‫ دار توبقال‬،‫ الدار البيضاء‬،‫جحفة‬
‫ مكتبة‬،‫ طارق النعامن‬.‫ تر‬،‫ النظرية املعارصة لالستعارة‬،‫جورج اليكوف‬3.3
.2014 ،‫اإلسكندرية‬
‫ نظريات االستعارة يف الغرب من أرسطو إىل اليكوف ومارك‬،‫عبد العزيز حلويدق‬4.4
.2015 ،‫ دار كنوز املعرفة‬،‫عمن‬
ّ ،‫جونسون‬
‫ دار رؤية‬،‫ القاهرة‬،‫ نظرية االستعارة التصورية واخلطاب األديب‬،‫عمر بن دمحان‬5.5
.2015 ،‫للنرش‬

‫األجنب ّية‬
1. Abrantes, Ana Margarida, Meaning and Mind, Peter Lang Interna-
tionaler Verlag der Wissenschaften, Franfurt, 2010.
2. Botha, Elaine, «Why metaphor matters in education», South Afri-
can Journal of Education; 2009, Vol29:431-444.
3. http://www.ajol.info/index.php/saje/article/download/47740/34112
4. Brockman, John, ««Philosophy In The Flesh» A Talk With George
Lakoff». From : http://serbal.pntic.mec.es/AParteRei/
5. Bussmann, Hadumod, Routledge Dictionary of Language and Lin-
guistic, translated and edited by Gregory Trauth and Kerstin Kazza-
zi; edition published in the Taylor & Francis e-Library, London and
New York, 2006.
6. Clair, Robert N. St., «The Renaissance of Metaphorical Thinking
and the Implications for Cognitive Models of Cultural Language
Education», p-p96-115. Link: https://pdfs.semanticscholar.org/
ec16/d505efc3141fd6c15b7e8bb8e02377fb0738.pdf

-143-
7. Cruse, Alan, A Glossary of Semantics and Pragmatics, Edinburgh
University Press, 2006.
8. Evans, Vyvyan & Green, Melanie, Cognitive linguistics, an intro-
duction, Edinburgh University Press, 2006.
9. Evans, Vyvyan «Language and Cognition: The View from Cogni-
tive Linguistics», From: http://www.vyvevans.net/TheViewFrom-
CogLx.pdf
10. Evans, Vyvyan, A Glossary of Cognitive Linguistics, Edinburgh
University Press, Edinburgh, 2007.
11. Garner, Randy, «Humor, Analogy, and Metaphor: H. A.M. it up in
Teaching», link: radicalpedagogy.icaap.org/content/issue6_2/gar-
ner.html
12. Kövecses, Zoltán, Metaphor, A Practical Introduction, 2nd ed. Ox-
ford University Press, 2010.
13. Lakoff, George, Women, Fire, and Dangerous Things, What Cat-
egories Reveal about the Mind, The University of Chicago Press,
Chicago and London, 1987.
14. Lakoff, George, «The Contemporary Theory of Metaphor». in Met-
aphor and Thought (2nd ed), edited by Andrew Ortony, Cambridge
University Press, 1993.
15. Pecher, Diane & Zwaan, Rolf A., Introduction to Grounding Cogni-
tion, The Role of Perception and Action in Memory, Language, and
Thinking, Cambridge University Press, 2005.
16. Roche, Jörg Matthias, «Language Acquisition and Language Ped-
agogy», in The Bloomsbury Companion to Cognitive Linguistics,
Edited by Jeannette Littlemore and John R. Taylor, Bloomsbury Ac-
ademic 2014.
17. William Croft & D. Alan Cruse, Cognitive Linguistics, Cambridge
University Press, 2004.
18. Woollard, William John «The role of metaphor in the teaching of
computing; towards a taxonomy of pedagogic content knowledge.»
link: https://eprints.soton.ac.uk/11227/1/ThesisJWoollard2004.pdf
19. Zhang, Fachun, «A Study of Metaphor and its Application in Lan-
guage Learning and Teaching», in International Education Studies,
Vol. 2, No. 2, May, 2009.

-144-
‫الفصل اخلامس‬
‫املنظوران العرفاني والتداولي‬
‫(‪)1‬‬
‫آفاق التهجني‬

‫( ‪)2‬‬
‫د‪ .‬صابر احلباشة‬

‫‪ -1‬مل ن ََر حاج ًة إىل أن نرشح اختيارنا استعامل املشت ّقات املتو ّلدة عن اجلذر (هـ‪ .‬ج‪ .‬ن)‪ :‬هجني‪ّ ،‬‬
‫مهجن‪ ،‬هتجني‪ ...‬يف سياقنا‬
‫املستعمل يف علم األحياء‬
‫َ‬ ‫البحثي؛ إذ ننأى به عن املعنى السلبي (التقبيح والتعييب)‪ ،‬ونقصد املعنى القريب من املعنى‬
‫«التدخل البرشي يف إنتاج احليوانات أو النّباتات؛ لضامن احلصول عىل الصفات املرغوب فيها لدى األجيال‬ ‫ُّ‬ ‫من‬
‫بترصف)‪.‬‬
‫السالالت»‪( .‬عن «معجم املعاين» اإللكرتوين‪ّ ،‬‬ ‫القادمة‪ ،‬مثل مزج ُّ‬
‫الرابط‪/https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%87%D8%AC%D9%86 :‬‬
‫‪ -2‬أستاذ مساعد‪ ،‬قسم اللغة العربية‪ ،‬كلية الرتبية‪ ،‬جامعة زايد‪ ،‬دولة اإلمارات العربية املتحدة‪.‬‬

‫‪-145-‬‬
-146-
‫تصدير‬
‫ل ّلسان ّيات العرفانية الفضل يف إعادة تأهيل الوظيفة الرمزية أو التمثيلية ل ّلغة(‪.)1‬‬

‫مقدمة‬
‫يتناول هذا الفصل بالدرس وجوه التهجني واملزج والتوليد املمكنة بني املنظورين‬
‫عول يف الدراسات العرفان ّية عىل تنشيط العمل ّيات الذهنية‬ ‫العرفاين والتداويل‪ .‬فإذا كان ا ُمل َّ‬
‫السياق يف إنتاج املعنى‪.‬‬
‫مه ّية ّ‬‫فإن الدراسات التداولية تركّز عىل أ ّ‬ ‫يف إنتاج الداللة‪ّ ،‬‬
‫ثم فال جمال‬‫املهم يف بيئاتنا العرفان ّية‪ ،‬ومن ّ‬
‫السياق ّ‬‫وتأيت املقاربة اهلجينة لتربز تأثري ّ‬
‫ً‬
‫فصل إجرائ ّيني‬ ‫عزل أو‬‫للفصل أو لعزل البيئة الذهنية عن التفاعالت الواقعية‪ ،‬إال ً‬
‫هبدف الدراسة واالختبار‪ ،‬فاألقوال واخلطابات ُت َّلل عرفان ًّيا وتداول ًّيا يف رضب من‬
‫االسرتسال والرتاكب‪.‬‬
‫أن األثر السياقي هو أثر عرفاين‪ .‬فال قيمة للسياق يف‬‫إن سبريبر وولسون يريان ّ‬ ‫ّ‬
‫السياق ّية يف الفرد هي‬
‫تغيات تطال فكر الفرد‪ ،‬فـ«اآلثار ّ‬ ‫ذاته‪ ،‬بل يف ما يستتبعه من ّ‬
‫العرفاين بادئ‬
‫ّ‬ ‫نعرف األثر‬
‫اآلثار العرفان ّية‪ّ ...‬إنا التّغريات يف معتقدات الفرد‪ ...‬دعونا ّ‬
‫عرفاين (عىل سبيل املثال فرد)»(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫سياقي حيدث يف نظام‬
‫ّ‬ ‫ذي بدء بأنّه أثر‬
‫أمرا بالغ‬ ‫ُ‬
‫القول ّ‬
‫إن التمييز بني الكفاءة اللغوية واألداء اللغوي ُيعدُّ ً‬ ‫ِ‬
‫النافل‬ ‫ولع ّله من‬
‫األمهية يف التقليد الذهني للنظرية اللسانية الذي بدأه تشومسكي يف مخسينات القرن‬
‫العرشين وستيناته‪ .‬وتشري الكفاءة اللغوية إىل معرفة الفرد بقواعد اللغة التي متكن من‬
‫اكتساهبا واستعامهلا‪ .‬أ ّما استخدام اللغة بشكل صحيح فريتبط باألداء اللغوي‪ .‬ويرتتب‬
‫أن التداولية بوصفها نظرية استعامل اللغة تقع بشكل طبيعي يف جمال األداء‪.‬‬ ‫عىل ذلك ّ‬
‫وعىل املنوال نفسه‪ ،‬وبعد حوايل عقد من الزمان‪ ،‬انعكس التمييز بني الكفاءة واألداء‬
‫عىل التمييز بني علم الداللة والتداولية (‪.)3‬‬

‫‪1- Paul Gévaudan, La linguistique cognitive, p 610.‬‬


‫‪2- Dan Sperber and Deirdre Wilson. 1995. Postface to the Second Edition of Relevance:‬‬
‫‪Communication and Cognition. Oxford: Blackwell.‬‬
‫‪3- Sophia S.A Marmaridou. 2000. Pragmatic meaning and cognition, Amsterdam, John‬‬
‫‪Benjamins p 25.‬‬

‫‪-147-‬‬
‫فروث كمبسن (‪ ،)1()1977( )Kempson‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مت ّيز بني علم الداللة‬
‫بوصفه جمال التحليل القائم عىل احلقيقة‪ ،‬والتداولية بوصفها جمال حتليل العمل القويل‪.‬‬
‫أن هذا التمييز يتامشى مع عرض تشومسكي (‪ )1965‬للكفاءة‬ ‫وتدّ عي كمبسن نفسها ّ‬
‫إن معرفة الشكل املنطقي للجمل (رشوط احلقيقة املتعلقة باجلمل) هي جزء‬ ‫واألداء‪ّ .‬‬
‫من الكفاءة اللغوية‪ ،‬أ ّما االستخدام املقامي للجمل فهو جزء من األداء اللغوي‪ .‬وقد‬
‫أن معنى اجلملة‪ ،‬الذي يشمل معناها احلريف‪،‬‬ ‫انتُقدت وجهة نظر كمبسن عىل أساس ّ‬
‫يمكن التقاطه عرب مقاربة استخدام فريث (‪ )Firth‬للمعنى ‪ ،‬ومن ّ‬
‫ثم فإنه ال يمكن‬ ‫(‪)2‬‬

‫احلفاظ عىل التفريع الثنائي إىل علم الداللة والتداولية فقط من ناحية التمييز بني احلريف‬
‫وغري احلريف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وعىل الرغم من االنتقادات‪ ،‬فإن املذهب املتل ّقى بشأن نظرية‬
‫املعنى يستبعد االعتبارات التداولية (‪.)3‬‬
‫ويم ّيز تشومسكي بني الكفاءة النحوية (أي معرفة الشكل واملعنى) والكفاءة‬
‫عرف التمييز‬‫التداولية (أي معرفة رشوط االستخدام املناسب)‪ .‬ويف هذا السياق‪ُ ،‬ي َّ‬
‫بني الداللة والتداولية يف عالقة بنوعني من املعرفة‪ .‬إذ يؤكد غازدار (‪ )Gazdar‬أن‬
‫فيفضل التمييز بني أنواع‬
‫التداولية هي امتداد للكفاءة النحوية‪ .‬أ ّما كارش(‪ّ )Kasher‬‬
‫خمتلفة من التداولية‪ ،‬بعضها ينتمي إىل الكفاءة‪ ،‬ولكن يبدو أنه يشري إىل آليات األداء‬
‫كذلك (‪.)4‬‬
‫أن من الباحثني من يرى أن التداولية أصبحت ال ختتلف حقيق ًة عن علم‬ ‫عىل ّ‬
‫ٍ‬
‫مكملة له‪ ،‬تأخذ بعني االعتبار سامت خمتلف ًة أو واقع ًة‬
‫الداللة‪ :‬فليست سوى تنويعة ّ‬
‫خارج اللغة (كالسياق‪ ،‬ومقاصد املتكلم‪ ،‬وانتظارات املخا َطب‪ ،‬إلخ‪.)5().‬‬

‫‪1- Ruth M. Kempson. 1977. Semantic Theory. Cambridge: Cambridge University Press.‬‬
‫‪2- Cecil H. Brown. 1977.Review of Kempson, Language in Society 7: 264.‬‬
‫‪3- Marmaridou. 2000. p-p.25-26.‬‬
‫‪4- Marmaridou. 2000. p. 26.‬‬
‫‪5- Bruno Ambroise. 2011. «Le tournant cognitif en pragmatique Un aller-retour‬‬
‫‪transatlantique et ses impacts philosophiques», Revue d’Histoire des Sciences Humaines,‬‬
‫‪25, 97.‬‬

‫‪-148-‬‬
‫املنعرج الغراييس‬
‫مرت يف أواسط ثامنينات‬ ‫آن ربول (‪ )A. Reboul‬للتداولية مشرية إىل ّأنا ّ‬ ‫تؤرخ ّ‬‫ّ‬
‫القرن العرشين بطورين‪ :‬إذ مل تكن موجودة يف الطور األول عمل ًّيا ّإل يف حال املرشوع؛‬
‫مهية نسبية‪ ،‬ولكن من دون اكتساب وضع العلم‬ ‫أ ّما يف الطور الثاين فقد أصبحت ذات أ ّ‬
‫األقل لسببني خمتلفني‪ ،‬وإن‬ ‫ّ‬ ‫الذي جيلب االحرتام‪ .‬وقد شهدت فرتة الثامنينات‪ ،‬عىل‬
‫توسع جماالت اشتغاهلا إىل‬ ‫طورا جديدً ا من حياة التداولية‪ ،‬وألفيناها ّ‬‫كانا مرتابطني‪ً ،‬‬
‫مناطق جديدة‪ ،‬حاملة غائ ّيات خمتلفة‪ .‬وقد أ ّدى ازدهار العلوم العرفانية‪ ،‬حتت تأثري‬
‫دراسات الذكاء االصطناعي عىل وجه اخلصوص‪ ،‬إىل رؤية خمتلفة ملا يمكن أن تكون‬
‫عليه التداولية‪ :‬تداولية عرفانية تسعى إىل أخذ صالت اللغة بمستخدميها بعني االعتبار‬
‫من خالل جعلها أحد جوانب نظام أكرب بكثري ملعاجلة املعلومة‪ ،‬عىل نحو ما نجده يف‬
‫نظرية املناسبة لسرببري وولسون (‪.)1‬‬
‫أساسا إىل كتاب «املناسبة»‬
‫ً‬ ‫وغري بعيد عن ذلك يرى موشلري ّ‬
‫أن الفضل يرجع‬
‫أن إلسهام غرايس تأثريين أساسيني يف‬‫لسرببري وولسون (‪ ،)1986‬الذي ّبي ّ‬
‫اللسانيات‪ :‬الفصل بني بنية اللغة واستخدام اللغة من ناحية‪ ،‬والتخيل عن أطروحات‬
‫املعنى التواضعية من ناحية أخرى(‪.)2‬‬
‫أن اللسانيات (التي توافق املجاالت املنسوبة تقليد ًّيا إىل الصوتيات‪،‬‬ ‫وترى ربول ّ‬
‫والنحو‪ ،‬وعلم الداللة) من منظور املنظومات (الوحدات)‪ ،‬املتأ ّثر إىل حدّ كبري‬
‫متخصصة يف‬
‫ّ‬ ‫بدراسات فودور (انظر ‪ ،)1986/1983 Fodor‬تُعدُّ منظومة (وحدة)‬
‫متخصصة وتعود إىل النظام املركزي‬ ‫ّ‬ ‫املدركة‪ ،‬يف حني أن التداولية غري‬
‫البيانات اللسانية َ‬
‫كامل للمعطيات وللمعطيات اللسانية‪( ،‬من بني معطيات أخرى)‬ ‫تفسريا ً‬
‫ً‬ ‫الذي يو ّفر‬
‫مهمة التداولية) انطال ًقا من حتليل ّأول تو ّفره املنظومة (الوحدة) اللسانية‪ .‬هذا‬ ‫(وتلك ّ‬
‫التصور اجلديد لدور التداولية ولواقعها أ ّدى إىل حصول امتداد إجيايب مع ّل ٍل هلا من‬ ‫ُّ‬
‫مفروضا من خارجها (‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫داخل التداولية ومل يعد سلب ًّيا وال‬

‫‪1- Anne Reboul. 1995. La pragmatique à la conquête de nouveaux domaines: la référence. In:‬‬
‫‪L’Information Grammaticale, N. 66, 1995. p. 32.‬‬
‫‪2- Jacques Moeschler. 2018. «L’implicite et l’interface sémantique-pragmatique: où passe la‬‬
‫‪frontière», Corela [En ligne], HS-25 | 2018, mis en ligne le 19 juillet 2018, consulté le 31‬‬
‫‪août 2018. URL: http://journals.openedition.org/corela/6571‬‬
‫‪3- Reboul. 1995.Ibid.‬‬

‫‪-149-‬‬
‫فوسع‬
‫فربول تنظر إىل االجتاه العرفاين بصفته عامل تطوير للتداولية؛ إذ احتكّت به ّ‬
‫وإخراجا هلا من دائرة‬
‫ً‬ ‫جماهلا وأثمر اللقاء بينهام نتائج أفادت التداولية توسي ًعا لنطاقها‬
‫اللسانيات‬
‫ُ‬ ‫رتف به‪ ،‬أو الذي ظل يقتات عىل موضوعات مل تستسغ‬ ‫حرج العلم غري املع َ‬
‫ونحوا ودالل ًة االشتغال عليها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وفرو ُعها التقليدي ُة صوتيات‬
‫ً‬

‫مقاربة كارستون‬
‫ترى روبني كارستون أنّه ُينظر إىل التداولية يف سياق فلسفة اللغة‪ ،‬بصفتها وسيلة‬
‫حل املشكالت الواردة يف علم الداللة‪ .‬ولقد أ ّدى املفهوم العلمي العرفاين‬ ‫مساعدة يف ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫مسؤول عن تفسري املثريات التواصلية اإلشارية‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬
‫للتداولية بوصفها نظا َم معاجلة ذهن ًّيا‬
‫(عىل وجه التحديد‪ ،‬األقوال امللفوظة) إىل حدوث حتول يف القضايا التداولية التي تتبعها‬
‫وأنواع التفسري املقدّ مة‪ .‬وتُوازن كارستون‪ ،‬آخذ ًة هذا املنظور األخري بعني االعتبار (‪،)2‬‬
‫بني مقرتحني متميزين حول أنواع العمليات‪ ،‬وهندسة النظام (األنظمة) املسؤول (ـة)‬
‫عن استعادة معنى املتكلم (املعنى املتواصل به رصاح ًة وضمن ًّيا)‪.‬‬
‫وبشكل عا ّم‪ ،‬فثمة منظوران للتداولية‪« :‬الفلسفي» و«العرفاين»‪ .‬فمن املنظور‬
‫حل املشكالت‬ ‫الفلسفي‪ ،‬كان االهتامم بالتداولية مدفو ًعا إىل حدّ كبري بالسعي إىل ّ‬
‫والقضايا الواردة يف علم الداللة‪ .‬ومن األمثلة املألوفة عىل ذلك اهتامم غرايس (‪)Grice‬‬
‫تواز داليل وثيق بني العوامل املنطقية وما ُيناظرها من عوامل يف اللغة‬ ‫باحلفاظ عىل ٍ‬
‫الطبيعية‪ ،‬من قبيل أدوات النفي والتخيري والرشط والتسوير والتعريف‪« :‬ال»‪ ،‬و«أو»‪،‬‬
‫و«كل»‪ ،‬و«بعض»‪ ،‬و«أل» (أداة التعريف)‪ ،‬يف مواجهة ما يعدّ اختالفات كبرية‬ ‫ّ‬ ‫و«إذا»‪،‬‬
‫يف معنى العنارص ال ّلسانية(‪.)3‬‬
‫أ ّما التفسري الذي قدّ مه غرايس فقد كان تداول ًّيا‪ ،‬أي من جهة ما حيدث عندما‬
‫تُستخدَ م الدالالت املنطقية هلذه األلفاظ استخدا ًما تواصل ًّيا منطق ًّيا‪ .‬ولننظر يف مثال‬
‫حرف العطف «و»‪:‬‬

‫‪ -1‬صفة اإلشارية (‪ )ostentive‬تتع ّلق باألمور الظاهرة احلارضة يف املقام‪.‬‬


‫‪2- Robyn Carston, «Linguistic Meaning, Communicated Meaning and Cognitive Pragmatics».‬‬
‫‪January 2002, Mind & Language 17(1-2):127 – 148.‬‬
‫‪3- Ibid.‬‬

‫‪-150-‬‬
‫‪1.a.Mary went to a movie and Sam read a novel.‬‬
‫‪.1‬أ) ذهبت مريم ملشاهدة رشيط سينامئي وقرأ سامي رواية‪.‬‬
‫‪1. b. She gave him her key and he opened the door.‬‬
‫‪.1‬ب) أعطته مفتاحها وفتح الباب‪.‬‬
‫‪1.c. She insulted him and he left the room.‬‬
‫‪.1‬ج) شتمته وغادر الغرفة(‪.)1‬‬
‫عاكسا العالقة املبارشة والوظيفية املتناظرة للحقيقة الواقعة‪،‬‬
‫ً‬ ‫فلئن بدا املثال (أ)‬
‫فقد بدا املثاالن (ب) و(ج) ينقالن عالقة غري متامثلة أقوى‪ :‬التسلسل الزمني يف (ب)‬
‫والعالقة السببية يف (ج)‪.‬‬
‫وتبدو اخليارات الداللية العتبار هذه األمثلة غري جذابة‪ :‬إ ّما القول بغموض‬
‫ثالثي االجتاهات (ومن ثم وجود ثالثة عنارص معجمية «ثالث واوات»(‪ ،)2‬واحدة‬
‫منها فحسب متطابقة معنو ًّيا مع عامل الربط املنطقي)‪ ،‬أو القول بأنه عنرص واحد ذو‬
‫يتضمن خصائص زمانية وسببية‪ .‬ومع‬
‫ّ‬ ‫دالالت أغنى بكثري من العامل املنطقي‪ ،‬إذ إنه‬
‫أي من هذين اخليارين‪.‬‬ ‫يتعي علينا قبول ٍّ‬
‫ذلك‪ ،‬ال ّ‬
‫وحتتفظ املقاربة الغرايسية بفكرة مفا ُدها أن اللغة الطبيعية لغة وظيفية ال لبس‬
‫فيها وترشح الروابط األكثر ثرا ًء بوصفها دا ّلة من القواعد املناسبة املتعلقة بمامرسة‬
‫التحادث؛ إذ ما «تقوله» الكلامت (دالالت األقوال) وما يعنيه املتكلم خيتلفان‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫ففي احلالة (‪ 1‬ج)‪ ،‬عىل سبيل املثال‪« ،‬ما قيل»‪ ،‬أو القضية التي تم التعبري عنها‪ ،‬هي ربط‬
‫وظيفي للحقيقة بينام نستنتج‪ ،‬عىل أساس اعتبارات إخبارية تواصلية و‪ /‬أو املناسبة‪ّ ،‬‬
‫أن‬
‫ما يقصده املتكلم أن هناك عالقة سبب ونتيجة بني العنرصين املوصولني (املربوطني)‪:‬‬
‫ما قيل‪ :‬س و ص‬
‫ما ُق ِصدَ ‪ :‬ص نتيجة لـ س‬

‫لصحة االستدالل ترمجنا املثال مستعملني حرف (الواو)‪ ،‬واألوىل يف اللغة العربية أن نأيت بالفاء التي تفيد عالقة‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬خدم ًة‬
‫السبب والنتيجة‪.‬‬
‫القسم‪...‬‬
‫توسعنا يف مقارنة مع النحو العريب لذكرنا واو احلال وواو املعية وواو َ‬
‫‪ -2‬لو ّ‬

‫‪-151-‬‬
‫أي عنرص من عنارص املعنى املفهوم‪ ،‬يكون‬ ‫أساسا يف سحب ّ‬
‫ً‬ ‫ويتم ّثل دور التداولية‬
‫من شأنه أن ُيع ّقد الدالالت أو أن يتداخل مع أوجه الشبه املأمولة بني املنطق واللغة‬
‫الطبيعية‪ .‬وأ ّما القضية املقصودة فهي استلزام حمادثي واستلزامات‪ ،‬هي نتيجة اعتبارات‬
‫تقع خارج اللغة‪ ،‬مثل املالءمة التواصلية‪ ،‬وليس هلا أي تأثري يف رشوط صدق القول‪.‬‬
‫فكل حالة من حاالت الربط بالواو العاطفة يف املثال (‪ )1‬تُعدُّ صحيحة‪ ،‬ما دامت‬ ‫ّ‬
‫اجلمل املعطوفة صحيحة‪ .‬ومن هذا املنظور يقترص دور املعايري التواصلية (الصدق‪،‬‬
‫اإلخبار‪ ،‬املناسبة‪ ،‬إلخ) عىل االشتقاق االستداليل لالستلزامات؛ أ ّما اجلوهر املركزي‬
‫املستويف لرشط الصدق يف القول ف ُيعطى دالل ًّيا‪ .‬ولقد استعمل علامء الداللة استهالل‬
‫مفضل لبعض التعبريات‬ ‫ً‬
‫استعامل واس ًعا دفا ًعا عن حتليل داليل ّ‬ ‫غرايس باالستلزام‬
‫اللغوية الطبيعية‪.‬‬
‫ولقد أ ّدى ظهور التداولية العرفانية‪ ،‬وحتديدً ا مقاربة املناسبة النظرية‪ ،‬إىل حدوث‬
‫اجتاه خمتلف إىل حدّ ما‪ :‬إذ «التداولية» هي‪:‬‬
‫‪1)1‬قدر ٌة للعقل‪ ،‬ورضب من رضوب أنظمة معاجلة املعلومات‪ ،‬وهي نظا ٌم لتفسري‬
‫موضوع‬
‫ٌ‬ ‫ظاهرة مع ّينة يف العامل‪ ،‬أال وهي السلوك التواصيل البرشي‪ .‬إهنا‬
‫جمرد ملحق‬ ‫مناسب للدراسة يف حدّ ذاته‪ ،‬مل يعد ُينظر إىل التداولية عىل أهنا ّ‬
‫بعلم داللة اللغة الطبيعية‪ .‬وضمن هذا اإلطار العرفاين ‪ -‬العلمي‪ ،‬يكون هذا‬
‫ً‬
‫مسؤول عن توفري مصادر لألد ّلة وملعايري املالءمة‬ ‫النوع من النظريات التداولية‬
‫بأي مقاصد فلسفية) تكمن وراءها‬ ‫اخلاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫ختتلف متام االختالف عن نظريهتا‬
‫(أي إهنا تطابق نظام «نظرية العقل» العامة)؛‬
‫‪2)2‬والتداولية كذلك نظا ٌم لفهم السلوك التواصيل؛ أي للتعرف إىل ما حياول منتج‬
‫السلوك الظاهر التواصل يف شأنه‪.‬‬
‫‪3)3‬وهي منرصف ٌة إىل فهم السلوك التواصيل اللغوي عىل وجه التحديد‪.‬‬
‫أن‬ ‫أي من هذه املجاالت ُيتخذ ً‬
‫جمال للتداولية‪ّ ،‬‬ ‫بغض النظر عن ٍّ‬ ‫ومن الواضح‪ّ ،‬‬
‫التواصل اللغوي مندرج فيه‪ ،‬لذلك جيب أن يكون ثمة تفا ُعل مع علم داللة اللغة‬
‫املوجهة عرفان ًّيا نحو التداولية‪ ،‬ال ُيعدُّ علم داللة اللغة‬
‫الطبيعية‪ ،‬ولكن يف هذه املقاربة َّ‬
‫الطبيعية نقطة انطالق البحث‪.‬‬
‫‪-152-‬‬
‫ويؤ ّيد تقدير نظرية املناسبة املوقف الثاين‪ :‬جمال التداولية هو فئة طبيعية من الظواهر‬
‫البيئية‪ ،‬تلك الظواهر اخلاصة باملثريات الظاهرة (= التواصلية)؛ الكلامت املنطوقة هي‬
‫القضية املركزية‪ ،‬ولكنها ليست احلالة الوحيدة‪ ،‬وغال ًبا ما تكون مصحوب ًة يف حدّ ذاهتا‬
‫بإيامءات إشارية للوجه واليدين والصوت وغريها‪ ،‬والتي ينبغي تفسريها م ًعا إذا ما أراد‬
‫املرء أن يستنتج بشكل صحيح ما جيري التواصل يف شأنه‪.‬‬
‫ويستدعي االنتقال من منظور «الربط الداليل» إىل منظور «النظام العرفاين» لنظرية‬
‫املناسبة إجراء جمموعة من التغيريات؛ إذ ختتلف مكونات النظرية إىل حدّ بعيد عن‬
‫مكونات نظرية غرايس وسائر التوصيفات الفلسفية‪ ،‬وهي تشمل العمليات العرفانية‬
‫الفورية‪ ،‬ومتثيالت املدخالت واملخرجات‪ ،‬وجهد املعاجلة والتأثريات العرفانية‪ .‬وما‬
‫عاد ُينظر إىل ظاهرة االستلزام املحادثي بصفتها «أداة مفيدة للتحليل الفلسفي»‪ ،‬بل‬
‫خاصا يف عملية الفهم‪ .‬و ُينظر‬ ‫بوصفها مستوى متثيل ًّيا‪ ،‬مشت ًّقا بطريقة مع ّينة ويؤ ّدي ً‬
‫دورا ًّ‬
‫إىل داللة نوع التعبري اللغوي املستخدم يف قول من األقوال‪ ،‬وعىل الرغم من أمهيتها‬
‫ٍ‬
‫واضح‪ ،‬وما هو بالدور املحدِّ د بشكل كامل‪ ،‬يف‬ ‫جمر َد ٍ‬
‫دور‬ ‫أن هلا ّ‬ ‫احلاسمة يف الفهم‪ ،‬عىل ّ‬
‫حتديد ما قام املتكلم بتوصيله بشكل رصيح (أي «املقول»)‪ .‬وهذا األمر أوضح ما يكون‬
‫يف حالة األقوال ما دون اجلملة‪ ،‬التي يزخر هبا التواصل الواقعي‪.‬‬
‫و ْلننظر يف احلالة العادية اآلتية‪ :‬إنه وقت فطور الصباح‪ ،‬وعندما أذهب إىل املطبخ‪،‬‬
‫أرى رفيقي يبحث يف الرفوف السفلية من اخلزانة؛ وبام أنني أعرف عاداته يف الفطور‪،‬‬
‫وأعتقد أنه يبحث عن علبة ُم َر ّبى الربتقال فإنني أقول له‪:‬‬
‫الرف العلوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )4‬عىل‬
‫«عىل الرغم من ّ‬
‫أن اجلملة التي قلتها هنا (مثلام تقول روبني كارستون) هي يشء‬
‫الرف العلوي‪ ،‬فإن املدخل اللغوي الداليل‬
‫ّ‬ ‫من قبيل‪ّ :‬‬
‫إن ُمر ّبى الربتقال موجود عىل‬
‫أي معنى تضفيه اللغة عىل ذلك املركّب‬
‫بأي حال من األحوال‪ُّ ،‬‬
‫للمعالج التداويل هو‪ّ ،‬‬
‫جمرد موقع‬
‫باجلر‪ ،‬أبعد ما يكون عن الشكل القضوي املنطقي الكامل؛ إذ يتكون من ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصية مع ّينة)» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫املكون (الذي يشري إىل ّ‬

‫‪1- Robyn Carston, «Linguistic Meaning, Communicated Meaning and Cognitive Pragmatics».‬‬
‫‪January 2002, Mind & Language 17(1-2):127 – 148.‬‬

‫‪-153-‬‬
‫اخلاص للتداولية‬
‫ّ‬ ‫وبالنظر إىل ذلك‪ ،‬تستنتج كارستون أنه «بنا ًء عىل املفهوم العرفاين‬
‫ألي ما ّدة مش ّفرة (عىل‬
‫املعتمد هنا‪ ،‬فقد استُنتج حمتوى املقصد التواصيل يف الغياب التا ّم ّ‬
‫جمرد حركة الوجه أو اليد الظاهرة)‪ ،‬فإنه ليس من املستغرب‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬عىل أساس ّ‬
‫أنه عندما يتعلق األمر برمز ما‪ ،‬فإنه ال حيتاج إىل أكثر من تقديم أي أد ّلة‪ ،‬مهام كانت‪،‬‬
‫يتم‬
‫فيحكم املتكلم برضورة توجيه العملية االستنتاجية نحو االجتاه الصحيح‪ .‬وال ّ‬
‫توجيه العنرص املر َّمز لغو ًّيا للكلمة بشكل عام إىل حتقيق أعىل درجة ممكنة من الترصيح‪،‬‬
‫أقل (ليس أكثر من رضوري الستعادة التأثريات العرفانية‬ ‫بل نحو إبقاء جمهود املعاجلة ّ‬
‫املنشطة بوضوح بالفعل يف عقل املخا َطب («علبة‬ ‫ثم فإن املعلومات َّ‬
‫املقصودة)‪ ،‬ومن ّ‬
‫مر ّبى الربتقال هنا يف مكان ما»‪ ،‬عىل سبيل املثال) ال ُيعطى هلا تعبري لغوي يف كثري من‬
‫األحيان»(‪.)1‬‬
‫وقد ذهب ماركوس تاندل إىل ّ‬
‫«أن الفكر واللغة االستعار َّي ْي ُيعدَّ ان من الظواهر‬
‫مرة‬
‫املعقدّ ة التي ال يمكن اختزاهلا يف شكل واحد من التّمثيل‪ .‬وهكذا يمكن القول ّ‬
‫تكمل إحدامها األخرى»(‪.)2‬‬ ‫إن نظر ّية املناسبة وال ّلسان ّيات العرفان ّية ّ‬
‫أخرى ّ‬
‫رضوري وأداة منهج ّية مساعدة يف حتليل ما يقوم عليه الفكر‬
‫ّ‬ ‫فالتهجني معطى‬
‫املجازي واللغة بشكل عا ّم من تركّب أو تع ّقد‪.‬‬

‫إبستيمولوجي يتع ّلق باندراج ّ‬


‫السياق يف العرفان أم العرفان يف‬ ‫ّ‬ ‫ثمة تساؤل‬
‫بقي ّ‬
‫توسع دائرة السياق وأخرى تض ّيقها بحسب املنظور‬ ‫السياق‪ .‬وقد وجدنا دراسات ّ‬ ‫ّ‬
‫كل منها ‪ .‬بل لقد ّبي غازدار (‪ )Gazdar‬وغريه من الباحثني‬
‫(‪)3‬‬ ‫العرفاين الذي تتبعه ّ‬
‫كل مستوى من‬ ‫دورا يف ّ‬
‫أن التمييز بني االعتامد عىل السياق واالستقالل عنه يؤ ّدي ً‬

‫‪1- Carston, Ibid.‬‬


‫‪2- Markus Tendahl. 2009. A Hybrid Theory of Metaphor: Relevance Theory and Cognitive‬‬
‫‪Linguistics. Palgrave Macmillan, p254.‬‬
‫‪ -3‬يقف الدارس عىل منظورات طريفة للسياق منها ما ُيضفي عليه ُبعدً ا عرفان ًّيا‪ ،‬ف ُيصبح السياق بمنزلة «عقول أخرى»‪.‬‬
‫انظر كتاب‪:‬‬
‫‪Talmy Givon. 2005. Context as Other Minds: The Pragmatics of Sociality, Cognition and‬‬
‫‪Communication.‬‬

‫‪-154-‬‬
‫مستويات النظرية اللسانية‪ ،‬وال يتعلق األمر بالتداولية فحسب(‪ .)1‬ولئن رأى القائلون‬
‫بنظرية املناسبة أن «لكل قول جمموعة متنوعة من التفسريات املحتملة التي هي مزيج من‬
‫حمتوى رصيح وسياق ومعان ضمنية»(‪ ،)2‬فكيف يرى أصحاب وجهة النظر التهجينية‬
‫األمر؟‬
‫يف البداية يمكن حتديد جمال اهتامم التداولية العرفانية بأنه يتمثل يف العالقة املتبادلة‬
‫بني التداولية واإلدراك‪ .‬و ّملا كانت التداولية مرتبطة بـ «املعنى يف السياق»(‪ ،)3‬فإن ذلك‬
‫يستتبع أن تركز التداولية العرفانية عىل اجلوانب العرفانية لفهم املعنى يف السياق‪ .‬وهذا‬
‫يتصل بإنتاج اللغة وفهمها‪ ،‬ويتعلق عىل وجه اخلصوص بأحد األسئلة الرئيسة التي‬
‫عمل التداول ّيون عىل اإلجابة عنها‪ :‬ما القدرات والعمليات العرفانية الالزمة لنكون‬
‫قادرين عىل بلوغ «ما يمكن قوله أو جيب أن يقال» يف سبيل بلوغ «املقصود» عىل أن‬
‫يكون بلوغ «املقصود» عىل أساس «ما قيل» (ا َمل ُقول)؟ و ُيوافق هذا املفهوم للتداولية‬
‫العرفانية‪ ،‬إىل حدّ كبري‪ ،‬املفهوم الذي اقرتحه برونو بارا (‪)Bara‬؛ إذ يعرفها بأهنا «دراسة‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫للحاالت الذهنية لألشخاص الذين يتعرضون للتواصل»(‪ .)4‬ومع ذلك‪ ،‬فإن‬
‫التصور الذي اقرتحه بارا من‬ ‫أكثر حتديدً ا من‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫احلايل للتداولية العرفانية هو من ناحية ُ‬
‫بدل من «التواصل» عىل هذا النحو‪ ،‬وهو من ناحية‬ ‫حيث إنه يركز عىل «فهم املعنى» ً‬
‫أعم من حيث إنه ال يتحدّ ث عن «احلاالت الذهنية»‪ ،‬ولكن عن «اجلوانب‬ ‫أخرى ُّ‬
‫العرفانية» بشكل عا ّم (‪.)5‬‬

‫‪1- Sophia S.A Marmaridou. 2000. Pragmatic meaning and cognition, Amsterdam, John‬‬
‫‪Benjamins, p 26.‬‬
‫‪2- Ian Mackenzie. 2002. Paradigms of Reading: Relevance Theory and Deconstruction,‬‬
‫‪Palgrave Macmillan, p 1.‬‬
‫‪3- Bublitz, W., & Norrick, N. R. (Eds.). 2011. Foundations of pragmatics. Berlin: De Gruyter‬‬
‫‪Mouton, p4.‬‬
‫‪4- Bruno Bara. 2010. Cognitive Pragmatics: The Mental Processes of Communication,‬‬
‫‪London, Cambridge, p1.‬‬
‫‪5- Hans-Jörg Schmid. 2012. «Generalizing the apparently ungeneralizable. Basic ingredients‬‬
‫‪of a cognitive-pragmatic approach to the construal of meaning-in-context». In: Hans-Jörg‬‬
‫‪Schmid, ed., Cognitive Pragmatics. Handbooks of Pragmatics Vol. 4. Berlin etc.: Mouton‬‬
‫‪de Gruyter, 3-22.‬‬

‫‪-155-‬‬
‫مقاربة ولسون (‪)2011‬‬
‫أنشأت دردري ولسون (‪ )D. Wilson‬مقالة بعنوان‪« :‬املتوازيات واالختالفات يف‬
‫معاجلة االستعارة يف نظرية املناسبة واللسانيات العرفانية»(‪)1‬حاولت فيها تسليط الضوء‬
‫عىل وجوه التكامل املمكنة بني نظرية املناسبة واللسانيات العرفانية‪ .‬إذ تشري ولسون‬
‫أن «لكثري من الثقافات جمموعة من استعارات الزهور (مثل األقحوان والزنبق‬ ‫إىل ّ‬
‫يتم إطالقها عادة عىل النساء»(‪ .)2‬ومن منظور اللسانيات‬ ‫والبنفسج والورد) والتي ّ‬
‫العرفانية‪ ،‬قد ُينظر إىل هذه االستعارات اللغوية عىل أهنا انعكاسات سطحية لنظرية‬
‫االستعارة املفهومية األساسية هي الزهور‪ ،‬بنا ًء عىل التوافقات املنهجية بني جماالت‬
‫النساء والزهور‪ .‬وتُعدُّ هذه االستعارات اللغوية من منظور نظرية املناسبة‪ً ،‬‬
‫أصل يف‬
‫االستخدامات اإلبداعية ل ّلغة ألغراض التواصل االنتهازية‪ ،‬والتي إذا ما ّ‬
‫تكررت يف‬
‫كثري من األحيان بام فيه الكفاية‪ ،‬فقد تؤ ّدي إىل إنشاء توافقات منهجية بني جماالت‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ثمة سؤال حقيقي حول إذا ما كانت «التطبيقات‬ ‫النساء والزهور‪ .‬هنا ّ‬
‫ثم‬
‫أي مدى يكون ذلك‪ ،‬ومن ّ‬ ‫املفهومية العابرة للمفاهيم تنشأ يف استخدام اللغة‪ ،‬وإىل ّ‬
‫فإنه ينبغي توضيح أمرها جزئ ًّيا عىل ّ‬
‫األقل من الناحية التداولية»(‪.)3‬‬
‫«إن نظرية املناسبة تقدّ م ً‬
‫بديل حقيق ًّيا‬ ‫وحدّ دت ولسون هدفها من ورقتها بالقول‪ّ :‬‬
‫للمقاربات اللسانية العرفانية لالستعارة‪ ،‬ويمكن أن تكمل هذه األساليب بطريقتني‬
‫عىل األقل‪:‬‬
‫Ÿ Ÿ ّأو ًل‪ ،‬من خالل بيان كيف يمكن أن تنشأ بعض االستعارات عىل أهنا‬
‫استخدامات إبداعية فضفاضة للغة‪،‬‬
‫Ÿ Ÿثان ًيا‪ ،‬من خالل بيان كيف أن لفكرة خلق االستعارات اللغوية مفاهيم‬
‫آثارا مثري ًة للمعاجلة اللسانية العرفانية لالستعارة»(‪.)4‬‬
‫«خمصصة» جديدة ً‬
‫ّ‬

‫‪1- Deirdre Wilson. 2011. «Parallels and Differences in the Treatment of Cognitive‬‬
‫;‪Linguistics», Studia Linguistica Universitatis Iagellonicae Cracoviensis‬‬
‫‪Kraków Iss. 128,  (2011): 195-213.‬‬
‫‪2- Deirdre Wilson. 2011. «Parallels and Differences in the Treatment of Cognitive‬‬
‫‪Linguistics», p198.‬‬
‫‪3- Wilson. 2011, Ibid.‬‬
‫‪4- Wilson. 2011, Ibid.‬‬

‫‪-156-‬‬
‫كل من من ّظري نظرية املناسبة واللسان ّيني العرفان ّيني يرون‬
‫أن ًّ‬
‫وتشري ولسون إىل ّ‬
‫أن االستعارة عاد ّية وطبيع ّية‪ ،‬يف حني أهنم خيتلفون يف األسباب التي يع ّللون هبا هذا‬
‫ّ‬
‫الرأي (‪.)1‬‬
‫انتشارها يف‬
‫ُ‬ ‫أن ع ّل َة انتشار االستعارة يف اللغة‬
‫فأ ّما اللسان ّيون العرفان ّيون فريون ّ‬
‫بأن االستعارة شأن فكري باألساس‪ ،‬وليست‬ ‫الفكر؛ إذ يس ّلم اليكوف وجونسن ّ‬
‫شأنًا لغو ًّيا ّإل بسبب اشتقاقها من اللغة‪ .‬ووفق هذه املقاربة تُعا َلج االستعارات اللغوية‬
‫تصورية كامنة بني جماالت عرفانية خمتلفة (مثل‬ ‫بصفتها انعكاسات سطحية لتقاطعات ّ‬
‫جماالت شؤون احلب والرحالت‪ /‬النظريات والبنايات‪ /‬احلجج والقتال)‪ ،‬وهلا‬
‫جذورها يف اإلدراك ال يف التواصل‪.‬‬
‫أ ّما من ّظرو نظرية املناسبة فريون أن االستعارة تنشأ طبيع ًّيا يف التواصل اللساين‪،‬‬
‫حر يف حماولة إلبالغ أفكار معقدة قد تكون غامضة‪ ،‬لكنها‬ ‫مستعمل ًة بشكل ّ‬
‫َ‬ ‫بصفتها لغ ًة‬
‫ثمة اسرتسال حلاالت بني‬ ‫ال حتتاج إىل أن تكون استعاري ًة يف ذاهتا‪ .‬ويف هذه املقاربة ّ‬
‫احلر‪ ،‬واملبالغة (‪ ،)hyperbole‬واالستعارة‪ ،‬فليس أحدٌ منها‬ ‫الكالم احلريف‪ ،‬والكالم ّ‬
‫ألي تطبيق مفهومي مسبق (‪.)2‬‬ ‫انعكاسا ّ‬
‫ً‬ ‫بالرضورة‬
‫أن من ّظري نظرية املناسبة واللسان ّيني العرفانيني ظ ّلوا إىل وقت‬
‫وقد ب ّينت ولسون ّ‬
‫مهتمني بتطوير مقارباهتم وتطبيقها أكثر من اهتاممهم بعقد مقارنات مع مقاربات‬ ‫قريب ّ‬
‫أخرى‪ .‬ويم ّثل رايموند جيبس (‪ )Raymond Gibbs‬استثنا ًء يف هذا الصدد‪ ،‬إذ ُيعدّ‬
‫عمله التجريبي رائدً ا يف حتديد عنارص من اللسانيات العرفانية ونظرية املناسبة‪ ،‬وكان له‬
‫تأثري يف كلتيهام‪ .‬ويرى جيبس وماركوس تاندل يف ورقتني نُرشتا عامي ‪ 2006‬و‪2008‬‬
‫أنه برصف النظر عن بعض االختالفات األساسية‪ ،‬فإنه يمكن النظر إىل نظرية املناسبة‬
‫واللسانيات العرفانية بصفتهام تو ّفران مقاربتني متكاملتني لالستعارة أكثر من كوهنام‬
‫متناقضتني‪ ،‬ورشع الباحثان يف بيان كيف يمكن التوليف بينهام (‪.)3‬‬

‫‪1- Wilson. 2011, Ibid, p196.‬‬


‫‪2- Wilson. 2011, Ibid, p196.‬‬
‫‪3- Wilson. 2011, Ibid, p196.‬‬

‫‪-157-‬‬
‫وقد اقرتحت ولسون بعض الطرائق التي يمكن عربها التوليف بني مقاربتي‬
‫االستعارة تداول ًّيا (نظرية املناسبة) وعرفان ًّيا (اللسانيات العرفانية)‪ ،‬منها املصاحلة بني‬
‫وجهتي النظر اللتني تبدوان غري متوافقتني لكل من منظري نظرية املناسبة واللسانيني‬
‫العرفانيني عن أصل االستعارات؛ وذلك بالقول إن بعض االستعارات تنشأ يف اللغة‬
‫كل فريق بصنف خمتلف من االستعارات؛ إذ يو ّفر‬ ‫وهيتم ّ‬
‫ّ‬ ‫وبعضها اآلخر ينشأ يف الفكر‪.‬‬
‫بترصف عن‬ ‫من ّظرو نظرية املناسبة حتاليل كثرية ألمثلة االستعارة من قبيل (أمثلة منقولة ّ‬
‫ولسون)‪:‬‬
‫أ‪ -‬زيد حاسوب‪.‬‬ ‫((‪ (1‬‬
‫ب‪ -‬هند وردة ّبرية‪.‬‬
‫ج‪ -‬سعاد مالك‪.‬‬
‫ومثل هذه األمثلة معهودة يف البالغة التقليدية‪ .‬أ ّما اللسان ّيون العرفان ّيون فهم أكثر‬
‫عناية بأمثلة من قبيل‪:‬‬
‫ب رحلة)‬‫حل ّ‬
‫(ا ُ‬ ‫(‪ )2‬أ‪ -‬زواج زيد يرتطم بالصخور‪.‬‬
‫ِ‬
‫(احلجاج قتال)‬ ‫ب‪ -‬لقد د ّمر دفاعي عن فكريت‪.‬‬
‫(النظريات بنايات)‬ ‫ج‪ -‬لقد تداعت نظر ّيتك‪.‬‬
‫وهي أمثلة يرون أهنا تعكس تطبيقات مفهومية عابرة للمجاالت العرفانية(‪.)1‬‬
‫أي شخص يسعى لتوحيد النظر إىل‬ ‫بأن «التحدّ ي الذي يعرتض ّ‬ ‫وتُع ّلق ولسون ّ‬
‫االستعارة يتمثل يف بيان أنّه يمكن حتليل صنفي األمثلة بالطريقة نفسها»(‪.)2‬‬
‫التصور التداويل لالستعارة يتمثل يف «رشح كيفية إدراك‬ ‫ّ‬ ‫أن هدف‬‫وتشري ولسون إىل ّ‬
‫السامع للمعنى الضمني للقول االستعاري يف السياق‪ .‬فبحسب نظرية املناسبة‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫ُؤصل بصفتها استعامالت حرة ل ّلغة‪ ،‬حيث تُستعمل كلم ٌة أو مجل ٌة‬
‫االستعارات اللغوية ت َّ‬
‫(أعم) من املعنى املعجمي املش َّفر‪ .‬ويف استعارة‪ :‬زيدٌ‬
‫ّ‬ ‫لتوصيل مفهوم خمصوص أوسع‬

‫‪1- Wilson. 2011, Ibid, p197.‬‬


‫‪2- Wilson. 2011, Ibid, p197.‬‬

‫‪-158-‬‬
‫حاسوب‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬فإن املعنى املعجمي املش ّفر لكلمة (حاسوب) هو رضب من‬ ‫ٌ‬
‫اآلالت املستخدمة يف معاجلة املعلومات‪ ،‬ولكن املقصود يف تلك االستعارة ليس ذاك‬
‫شخصا يتوفر عىل بعض اخلصائص املوسوعية للحواسيب (كأن‬ ‫ً‬ ‫املعنى املعجمي‪ ،‬بل‬
‫للحس املشرتك‪ ،‬أو للحدس‪ ،‬أو للمشاعر‬
‫ّ‬ ‫مفتقرا‬
‫ً‬ ‫يعالج املعلومة بد ّقة‪ ،‬أو أن يكون‬
‫حاسوب) هي مناسبة خاصة‬
‫ٌ‬ ‫جرا)‪ .‬فام ُيتل َّفظ به يف ذلك املثال (زيدٌ‬
‫وهلم ًّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسانية‪،‬‬
‫إن احلاسوب مفهوم خمصوص واسع يشتمل عىل‬ ‫يمكن تقديمها يف ما يأيت‪ ،‬حيث ّ‬
‫احلواسيب وبعض الناس‪:‬‬
‫*‬
‫حاسوب‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )4‬أ‪ -‬معنى املتكلم الرصيح‪ :‬زيدٌ‬
‫ب‪ -‬االستلزامات‪ :‬يفتقر زيد إىل األحاسيس‪ ،‬يعالج املعلومات كام ينبغي‬
‫(‪)1‬‬
‫(إلخ‪»).‬‬
‫يتجزأ‬ ‫وبحسب وجهة نظر ولسون (‪ّ )2‬‬
‫فإن معاجلة نظرية املناسبة لالستعارة تُعدُّ جز ًءا ال ّ‬
‫من مقاربة أكثر عمومية يف التداولية املعجمية التي تستند إىل االفرتاضات اخلمسة اآلتية‪:‬‬
‫جمرد دليل (أو إشارة ‪ )clue‬ملعنى املتك ّلم‪،‬‬ ‫‪ً 1)1‬‬
‫أول‪ ،‬املعنى اللغوي للكلمة هو ّ‬
‫يتم توصيله باستعامل كلمة خيتلف عاد ًة عن املعنى املعجمي‪.‬‬
‫واملفهوم الذي ّ‬
‫‪2)2‬ثان ًيا‪ ،‬ما االستعارة ّإل واحد ٌة من الطرق العديدة التي يمكن من خالهلا تعديل‬
‫يتم إبالغ املفهوم عن طريق استعامل كلمة‬
‫املعاين املعجمية يف االستعامل‪ .‬قد ّ‬
‫(أعم) من املعنى املعجمي (أو قد يكون أضيق يف‬
‫أضيق (أكثر حتديدً ا) أو أوسع ّ‬
‫بعض اجلوانب وأوسع نطا ًقا يف جوانب أخرى‪ ،‬كام هي احلال يف االستعارة)‪.‬‬
‫ٌ‬
‫اسرتسال حلاالت التوسيع‪ ،‬يرتاوح من االستعامل احلريف الصارم‪،‬‬ ‫‪3)3‬ثال ًثا‪ّ ،‬‬
‫ثمة‬
‫مرورا بظالل خمتلفة من التقريب إىل املبالغة واالستعارة‪ ،‬مع عدم وجود نقطة‬‫ً‬
‫فصل حا ّدة بينها‪.‬‬
‫ُفس كل هذه احلاالت بالطريقة نفسها‪ :‬ال توجد مبادئ أو آليات‬ ‫‪4)4‬راب ًعا‪ ،‬ت َّ‬
‫تداولية خاصة تنطبق عىل االستعارات حرص ًّيا‪.‬‬

‫‪1- Wilson. 2011, Ibid, p-p198-199.‬‬


‫‪2- Wilson. 2011, Ibid.‬‬

‫‪-159-‬‬
‫خامسا‪ ،‬عىل عكس ما ُيفرتض عمو ًما يف التداولية الغرايسية وفلسفة اللغة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪5)5‬‬
‫نشط املتكلم‬ ‫يتم توصيله باستخدام كلمة ما يسهم يف ما َي َ‬ ‫فإن املفهوم الذي ّ‬
‫مستلزم‬
‫َ‬ ‫إلثباته (أي حمتوى القول املستويف رشوط احلقيقة)‪ ،‬وليس فقط ملا هو‬
‫أن االستخدامات االستعارية للغة ‪ -‬متا ًما مثل‬ ‫ونظرا إىل ّ‬
‫ً‬ ‫(‪.)implicated‬‬
‫االستخدامات احلرفية الدقيقة ‪ -‬تسهم يف املحتوى املستويف رشوط احلقيقة‬
‫وتندرج يف نطاق الروابط املنطقية‪ ،‬فإنه ال يمكن جتاهلها بوصفها هامشية‬
‫بالقياس إىل االهتاممات احلقيقية ل ّلسانيات (‪.)1‬‬
‫مفتوحا لقراءات أخرى ومقاربات ممكنة للعالقة بني‬
‫ً‬ ‫وقد تركت ولسون الباب‬
‫املنظور التداويل لالستعارة والنظرية اللسانية العرفانية هلا‪ ،‬فكتبت‪« :‬وآمل أن توفر‬
‫أساسا للمناقشة يف املستقبل وحتفز عىل إجراء مزيد من البحوث حول‬ ‫ً‬ ‫الصورة الناجتة‬
‫العالقات املحتملة بني املقاربتني»(‪.)2‬‬

‫مقاربة شميد للتداولية العرفانية‬


‫م ّيز هانز يورغ شميد(‪ )3‬بني وجهتي نظر تبنّامها ال ّلسان ّيون يف دراستهم التداولية‬
‫العرفانية‪ :‬تركّز األوىل عىل التحدّ يات التي تقف أمام هذا املنظور‪ ،‬فيام تعدّ وجهة النظر‬
‫أمر مفرو ٌغ منه‪:‬‬ ‫ِ‬
‫أن عرفان ّي َة التّداول ّية ٌ‬
‫الثانية ّ‬
‫خاصة أولئك الذين يدرسون ما يمكن تسميته‬ ‫ّ‬ ‫فبالنسبة إىل بعض ال ّلسانيني ‪-‬‬
‫«النحو اخلالص» هبدف إنتاج متثيالت صورية لبنيته ‪ -‬قد تكون فكرة وجود نظام‬
‫لغوي يف الواقع حيمل اسم التداولية العرفانية فكرة مرعبة‪ّ .‬‬
‫إن تزاوج مقاربتني لدراسة‬
‫اللغة‪ ،‬إحدامها اللسانيات العرفانية واألخرى التداولية‪ ،‬تُعرف كل منهام بتحدّ هيا ّ‬
‫كل‬
‫حماوالت صياغة قواعد وتعميامت صارمة ورسيعة‪ ،‬قد ال يؤ ّدي ّإل إىل مزيج هجني‬
‫جيسد التخصيص (انعدام قابلية التعميم) واالنزالق والغموض فحسب‪ّ .‬‬
‫إن رد الفعل‬ ‫ّ‬
‫املفهوم حيدّ د بد ّقة طبيعة التحدّ ي الذي تواجهه التداولية العرفانية؛ ذلك التحدّ ي‬
‫الذي يقوم عىل تعميم ما يبدو أنه ال يقبل للتعميم‪ .‬يف حني ّ‬
‫أن العمليات العرفانية‪،‬‬
‫‪1- Wilson. 2011, Ibid.‬‬
‫‪2- Wilson. 2011, Ibid.‬‬
‫‪3- Schmid, Loc. Cit, Op. Cit.‬‬

‫‪-160-‬‬
‫خاصة‪ ،‬وعىل الرغم من‬‫بحكم تعريفها‪ ،‬تنفذ يف عقول فردية‪ ،‬مما جيعلها إىل حدّ كبري ّ‬
‫أن العمليات العملية‪ ،‬مرة أخرى من حيث املبدأ بشكل يزيد أو ينقص‪ ،‬إنّام تعتمد عىل‬
‫السياق‪ ،‬ومن ثم فإنه ال يمكن التنبؤ هبا إىل حد ّكبري‪ ،‬فإن اهلدف من البحث هو حتديد‬
‫املبادئ والعمليات التداولية العرفانية العا ّمة التي تشكّل أساس فهم املعنى وتفسريه يف‬
‫السياق وحتدّ دمها‪.‬‬
‫ويبدو أن جمموعة ثانية من اللسانيني ‪ -‬أولئك الذين لدهيم منزع «تداويل» – ترى‬
‫أن تعبري التداولية العرفانية‪ ،‬عىل األقل بمعنى من املعاين‪ ،‬رضب من احلشو (حتصيل‬
‫احلاصل)‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فإن قراءة بعض األ ّمهات يف الدراسات التداولية مثل دراسات‬
‫غرايس (‪ )1975‬عن االستلزام‪ ،‬أو وصف سريل (‪ )1975‬للخطوات العرش التي‬
‫ينبغي عىل املخا َطبني اتباعها للوصول إىل تفسري األعامل القولية غري املبارشة‪ ،‬توقفنا عىل‬
‫بأن التداولية كانت عرفانية طوال الوقت قد جرى إثباته بوضوح(‪.)1‬‬ ‫أن االنطباع القائل ّ‬‫ّ‬
‫ويقدّ م عنوان كتاب سبريبر وولسون األسايس «املناسبة‪ :‬التواصل واإلدراك»‬
‫(‪ ،1986‬الطبعة الثانية ‪ )1995‬وصياغتهام مبدأ عرفان ًّيا هو املناسبة إىل جانب مبدأ‬
‫تعزيزا لذلك االنطباع يف هذا الصدد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنه ال يمكن أن يكون‬ ‫ً‬ ‫التواصل‬
‫«القار ّي‬
‫ّ‬ ‫الشق‬
‫الشق األنجلو أمريكي «الض ّيق» من التداولية‪ ،‬وال ّ‬ ‫شك يف أنه ال ّ‬ ‫ثمة ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫بمتجذر يف املقاربات علم النفس أو العلوم العرفانية‪ ،‬بل‬ ‫[األورويب]«العريض» منها‬
‫متجذر يف املقاربات الفلسفية ومقاربات العمل النظرية واالجتامعية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن كال الش ّقني‬‫ّ‬
‫وتشري العالمات الرئيسة للمقاربة العلمية؛ أي أسئلة البحث واملوضوعات واألساليب‬
‫وأنامط احلجاج‪ ،‬بوضوح شديد إىل أن العلامء والباحثني الذين يعملون يف جمال التداولية‬
‫ال يستهدفون تقليد ًّيا الناحية النفسية‪ ،‬ناهيك عن النامذج «الواقعية» لتفسري معنى يف‬

‫‪ -1‬يذكّرنا هذا التحليل بام ألفينا عليه الباحث اللساين الفرنيس جلبار الزار من عدّ ه من يقول عن اللسانيات ّإنا عرفانية‪،‬‬
‫واق ًعا يف نوع من احلشو؛ إذ ال تزيد صفة «العرفانية» غري حتصيل حاصل‪ ،‬فام كانت اللسانيات لتكون غري عرفانية‪.‬‬
‫فكأن إطالق تلك الصفة عليها رضب من الفضول‪ .‬انظر مقالته‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪Gilbert Lazard. 2007. «La linguistique cognitive n’existe pas». Bulletin de la Société de‬‬
‫‪linguistique de Paris CII/1: 3-16.‬‬
‫وقد أنشأت كاترين فوكس مقالة جوابية عىل وجهة نظر الزار‪:‬‬
‫‪Catherine Fuchs. 2009.«La linguistique cognitive existe -t-elle?», Quaderns de Filologia.‬‬
‫‪Estudis lingüístics. Vol. XIV: 115-133.‬‬

‫‪-161-‬‬
‫السياق‪ ،‬ولكنهم يعطون األولوية للمعايري التي ينبغي توافرها يف النظرية من قبيل‪:‬‬
‫بساطة النظرية وأناقتها وقوهتا الوصفية والتفسريية (‪.)1‬‬
‫ويشري شميد إىل مقاربات ُيمكن عدُّ ها تداولية عرفانية قبل احلرف؛ إذ «ال ّ‬
‫شك يف‬
‫أن النظر ّيات التداولية الكالسيكية قد أنتجت جمموعة من املقاربات املوضوعة بحزم‬ ‫ّ‬
‫ضمن ُأ ُطر العلوم العرفانية واألطر اللسانية العرفانية‪ .‬ويمكن أن نعدّ هذه املقاربات يف‬
‫الواقع تداولية عرفانية بشكل واضح‪ ،‬عىل الرغم من أن هذا املصطلح مل ُيطلق عليها‬
‫حتى اآلن»(‪.)2‬‬
‫وينطلق شميد إىل طرح سؤال جوهري‪« :‬ما هي إذن املطالب األساسية التي جيب‬
‫عىل النظرية العرفانية التداولية للغة أن تُل ّبيها؟ أو بعبارة أخرى‪ :‬كيف نصوغ ً‬
‫عقل‬
‫(‪)3‬‬
‫برش ًّيا مه َّي ًئا لفهم معنى يف السياق؟»‬
‫لئن بدا تقديم قائمة عامة باألسس العرفانية الرئيسية لتفسري املعنى يف السياق‬
‫نقل عن شميد (مرجع مذكور))‬ ‫(املتطلبات والقدرات العرفانية‪ ،‬انظر أدناه اجلدولني‪ً ،‬‬
‫مهمة ليست شاقة جدًّ ا‪ ،‬فإن العربة يف التعميم‪.‬‬
‫جدول املتطلبات العرفانية‪:‬‬
‫املصطلحات األساسية‬ ‫املتطلبات العرفانية‬
‫القدرة احلركية واحلسية عىل إنتاج األقوال وإدراكها التعبري واإلدراك السمعي‬
‫املعرفة النحوية واملعجمية‬ ‫الكفاءة اللسانية‬
‫التعاون‪ ،‬مبدأ التعاون‬ ‫االستعداد لالنخراط يف التواصل‬

‫‪1- Schmid, Loc. Cit, Op. Cit.‬‬


‫‪2- Schmid, Loc. Cit, Op. Cit.‬‬
‫ويف هذا السياق يذكر شميد أسامء كثري من الباحثني الذين يرى أن بحوثهم تندرج ضمن التداولية العرفانية‪ ،‬حتى وإن‬
‫مل تُطلق عليها هذه التسمية‪ .‬من هؤالء‪ )Herbert Clark( :‬و(‪Seana Coulson, Raymond Gibbs, Rachel‬‬
‫‪ )Giora, Sam Glucksberg, Anthony Sanford‬باإلضافة إىل (‪ )Lynn Cameron, Alice Deignan‬وكذلك‬
‫(‪ )Suzanne Beeke, Dorothy Bishop, Louise Cummings, Daniela O’Neill, Ann Reboul‬باإلضافة‬
‫إىل (‪Mira Ariel, Simon Garrod, Morton Ann Gernsbacher, Art Graesser, Walter Kintsch, Ted‬‬
‫‪)Sanders, Anthony Sanford and Rolf Zwaan‬‬
‫‪3- Schmid, Loc. Cit, Op. Cit.‬‬

‫‪-162-‬‬
‫املصطلحات األساسية‬ ‫املتطلبات العرفانية‬
‫االهتامم املشرتك‪ ،‬فهم املقصد‬ ‫الكفاءة التداولية‬
‫املعايري االجتامعية‪ ،‬السياق الثقايف‪ ،‬األطر‪،‬‬ ‫الكفاءة االجتامعية واملعرفة الثقافية ومعرفة العامل‬
‫السيناريوهات‪ ،‬النامذج العرفانية والثقافية‬

‫جدول القدرات العرفانية‪:‬‬


‫املصطلحات األساسية‬ ‫القدرات العرفانية‬
‫اإلشاريات والعوائد اإلحالية واالتساق‬ ‫تتبع املقام الظريف والنص اللساين املصاحب‬
‫واالنسجام‬
‫األرضية املشرتكة‪ ،‬وتبادل املعرفة‪ ،‬واملعرفة‬ ‫تتبع أحوال املخاطبني اآلخرين الذهنية‬
‫املتبادلة‪ ،‬وتصميم اجلمهور‪ ،‬وإعطاء إمكانية‬
‫جديدة للوصول‪ ،‬واألمهية الراهنة‬
‫ربط املدخالت اللغوية واملقامية وفهم معاين توضيح املعنى (االشرتاك الداليل)‪ ،‬وتتبع‬
‫املرجع‪ ،‬ومعرفة العائد‪ ،‬والتخصيب التداويل‪،‬‬ ‫العنارص والقطع يف املدخالت‬
‫والترصيح‬
‫تفسري املعنى الضمني عرف ًّيا (مع األخذ بعني االستدالل‪ ،‬واالقتضاء‪ ،‬واالستلزام التواضعي‬
‫االعتبار النص املصاحب‪ ،‬والسياق‪ ،‬واملعرفة [ال ُعريف] (وإىل حد ما‪ ،‬املحادثة املعممة)‬
‫التداولية واالجتامعية والثقافية)‬
‫االستدالل‪ ،‬والتفكري‪ ،‬واالستلزام املحادثي‬ ‫تفسري املعنى الضمني سياق ًّيا‬
‫املخصص)‬
‫ّ‬ ‫(وال س ّيام‬
‫تفسري املعنى غري احلريف تواضع ًّيا [ ُعرف ًّيا] االستلزام‪ ،‬والسخرية‪ ،‬واملزاح‪ ،‬والفكاهة‪،‬‬
‫واللغة املجازية‪ ،‬واالستعارة‪ ،‬واملجاز املرسل‬ ‫وسياق ًّيا‬
‫(الكناية)‬

‫عىل ّ‬
‫أن من الباحثني يف العرفان ّيات من يرسم حدو ًدا ألفق اإلفادة من املنوال املنطقي‬
‫أن زيدً ا [املتك ّلم االفرتايض] مل يقم عند‬ ‫ِ‬
‫املستد ّلة‪« ،‬فبام ّ‬ ‫عم يف ذهن الذات‬
‫يف الكشف ّ‬
‫بأي معاجلة رمزية‪ ،‬ومل يتبع ذلك يف وصفه‪ّ ،‬‬
‫فإن عىل‬ ‫[أي استدالل]‪ّ ،‬‬
‫وضع استدالله ّ‬
‫املن ّظر أن يتجنّب باملثل متثيل ذلك االستدالل رمز ًّيا»(‪ .)1‬فالتمثيل الرمزي املنطقي‪،‬‬
‫لالستدالل الذي جرى فعل ًّيا يف الذهن‪ ،‬هو – هبذا املعنى – حمض افرتاض أو تشويه‪:‬‬

‫‪1- Dov M. Gabbay and John Woods. 2003. Agenda Relevance A Study in Formal Pragmatics,‬‬
‫‪Amsterdam, Elsevier, p 459.‬‬

‫‪-163-‬‬
‫عم حيدث داخل صندوق زيد األسود‪ ،‬فمن املحتمل‬ ‫«ونظرا إىل أننا نعرف القليل جدًّ ا ّ‬
‫ً‬
‫يتم تقديمه يف منوال منطقي‪،‬‬
‫عم حيدث هناك وما ّ‬ ‫أنه عىل الرغم من أنه يمكن التعبري ّ‬
‫أن هذا القاسم املشرتك جيري نبذه بسبب‬ ‫بمفردات مشرتكة‪ ،‬فإنه ال يمكن استبعاد ّ‬
‫الغموض املنهجي؛ من ذلك أن االستدالالت التي حتدث داخل صندوق زيد األسود‪،‬‬
‫إنّام هي استدالالت بمعنى خمتلف عن تلك التي يمكن وصفها يف النظام املنطقي‪ ،‬وهي‬
‫شديدة االختالف يف الواقع‪ ،‬بحيث يكون أفضل ما بوسع املنوال الصوري أن يأتيه فيام‬
‫مشوهة‪ ،‬عىل نحو خطري»(‪.)1‬‬
‫يتعلق باستدالالت الصندوق األسود هو أن يقدّ مها بصورة ّ‬
‫التصور الريبي‪ ،‬الذي يقول به بعض الباحثني‪ ،‬فإننا نُلفي ّ‬
‫جل‬ ‫ّ‬ ‫وعىل الرغم من هذا‬
‫مماريس التداولية العرفانية‪ُ ،‬يصادرون‪ ،‬بمصفوفة رياضية‪-‬منطقية‪ ،‬عىل ّ‬
‫أن أداء الدماغ‬
‫ثم‪ّ ،‬‬
‫فإن املعاجلة العملية للمعلومات ختضع للنظام‬ ‫البرشي يشبه عمل احلاسوب‪ .‬ومن ّ‬
‫املركزي للفكر والتداولية هي املسؤولة عن حتليل العمليات االستداللية العا ّمة‪ ،‬وهي‬
‫خاصة باللغة‪ .‬وبذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن التداولية العرفانية حتاول االهتامم بالصالت‬ ‫كونية وليست ّ‬
‫التي تنشأ بني اللغة ومستخدميها وتصبح أحد جوانب نظام أوسع ملعاجلة املعلومات (‪.)2‬‬
‫فإذا كان تاندل يذهب يف حتليله وجهة نظره التهجين ّية بني العرفان ّيات والتداول ّيات‬
‫وتعزز املعاجلة من‬
‫ّ‬ ‫السياق‬
‫ّصور ّية يمكن أن تكون جز ًءا من ّ‬ ‫إىل أن «االستعارات الت ّ‬
‫العرفاين الذي ُيتاج إليه ملعاجلة االستعارة»(‪ّ ،)3‬‬
‫فإن ذلك‬ ‫ّ‬ ‫حيث أنّه يمكن تقليل اجلهد‬
‫األقل) جزء من السياق العا ّم‪ ،‬عىل‬ ‫ّ‬ ‫أن العرفان (أو رضو ًبا خمصوصة منه عىل‬ ‫يقتيض ّ‬
‫املكونات والعنارص التي تشارك يف إنتاج املعنى‪ .‬عىل‬ ‫يلم شمل مجيع ّ‬ ‫أن السياق ّ‬ ‫اعتبار ّ‬
‫أن االستعارات قد تتط ّلب جهدً ا عرفان ًّيا ً‬
‫كبريا يف‬ ‫أن بعض الباحثني «يرون ّ‬ ‫الرغم من ّ‬
‫سياقات حمايدة»(‪.)4‬‬
‫كل عنرص يف ذلك اإلنتاج‪ ،‬وما نصيب ّ‬
‫كل‬ ‫لكن كيف يمكن احتساب إسهام ّ‬
‫مكون يف توليد املعنى؟‬
‫ّ‬

‫‪1- Ibid.‬‬
‫‪2- Martine Bracops. 2006. Introduction à la pragmatique, Bruxelles, De Boeck.‬‬
‫‪3- Markus Tendahl. 2009. A Hybrid Theory of Metaphor: Relevance Theory and Cognitive‬‬
‫‪Linguistics, Palgrave Macmillan, p 254.‬‬
‫‪4- Markus Tendahl. 2009. A Hybrid Theory of Metaphor, p 162.‬‬

‫‪-164-‬‬
‫احلساسة‬
‫ههنا تُطرح فرضيات جتريبية تقوم عىل قياس التنشيط العصبي للخاليا ّ‬
‫(حواسه)‪ ،‬ونُظم معاجلتها دماغ ًّيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املسؤولة عن نقل اإلدراك بواسطة قنوات اجلسد‬
‫وضمن هذه الفرضيات تربز حماوالت رصد الوقت الذي تقضيه الوحدة املعاجلة‬
‫ثم حتليله وتأويله وفهمه‪ .‬وهل يوجد احتساب دقيق‬ ‫مكون خطايب ومن ّ‬
‫يف قراءة ّ‬
‫للمعنى؟ وما حدود ذلك التشخيص الفيزيائي ملحتوى غري فيزيائي (املعنى)‪.‬‬
‫األول الذي تنضوي فيه نظر ّية فتغنشتاين حول املعنى؛ إذ‬ ‫وهذا ُيرجعنا إىل املر ّبع ّ‬
‫حترصه يف السياق‪ ،‬وجتعله كامنًا فيه متج ّل ًيا يف ظروف القول‪ ،‬ال يف ذهن أو يف بنية‬
‫جمردة أو يف نفس أو يف عضو ذهني‪ ،‬مثلام تذهب إىل ذلك النظر ّيات املثالية والسلوكية‬ ‫ّ‬
‫والتوليدية‪ً ،‬‬
‫متثيل‪.‬‬
‫وعىل الرغم من هتجني تاندل بني نظرية املناسبة والنظرية العرفانية‪ ،‬فقد كان‬
‫واع ًيا ببعض الفروق اجلوهرية التي تفصل بني النظريتني‪ ،‬يقول‪« :‬يقع أكرب الفروق‬
‫أسايس جدًّ ا‪ .‬فكال‬
‫ّ‬ ‫وأخطرها بني نظر ّية املناسبة وال ّلسان ّيات العرفان ّية عىل مستوى‬
‫عرفاين‪ ،‬ولك ّن أفكارمها بشأن دور العرفان يف التّواصل‬ ‫ّ‬ ‫اإلطارين النّظر ّيني يدّ عي أنّه‬
‫يتكون من وحدات مغ ّلفة عدّ ة‪.‬‬ ‫أن عرفاننا ّ‬ ‫خمتلفة إىل حدّ ما‪ .‬إذ تزعم نظر ّية املناسبة ّ‬
‫أن عقولنا منظوم ّية بشكل كبري مع العديد من الوحدات‬ ‫إن دان سبريبر (‪ )1‬يدّ عي ّ‬ ‫بل ّ‬
‫التخصص واملحدّ دة بشكل واضح‪ ،‬مثل‬ ‫ّ‬ ‫الشديدة‬‫الصغرى املسؤولة عن املهامت ّ‬
‫الصورة‬‫َم ْق َولة احليوانات»(‪ .)2‬ويشري تاندل إىل رفض ال ّلسانيني العرفان ّيني مثل هذه ّ‬
‫وبدل من ذلك يقدمون صورة ك ّلية (شاملة) إلدراكنا وأجسادنا‪ .‬وعىل وجه‬ ‫للعقل‪ً ،‬‬
‫فإن ال ّلسان ّيني العرفان ّيني ال يعتقدون أن ال ّلغة تقع يف وحدة مستق ّلة‪ .‬إذ تعدُّ‬
‫اخلصوص‪ّ ،‬‬
‫ُنشط يف أثناء التنقل يف‬ ‫ال ّلغة جمسدة؛ فعىل سبيل املثال‪ّ ،‬‬
‫فإن البنى العصب ّية نفسها التي ت َّ‬
‫العامل‪ ،‬يتم تنشيطها كذلك يف أثناء إنتاج ال ّلغة وفهمها‪ .‬وبشكل أكثر حتديدً ا‪ُ ،‬يعدُّ عمل‬

‫‪1- Dan Sperber. 1994. ‘The Modularity of Thought and the Epidemiology of Representations.’ In‬‬
‫‪Hirschfeld, Lawrence A. and Susan A. Gelman, eds, Mapping the Mind: Domain Specificity‬‬
‫‪in Cognition and Culture. New York: Cambridge University Press. 39–67, and ——. 2005.‬‬
‫‪‘Modularity and Relevance: How Can a Massively Modular Mind be Flexible and Context-‬‬
‫‪sensitive?’ In Carruthers, Peter, Stephen Laurence and Stephen Stich, eds, The Innate Mind:‬‬
‫‪Structure and Contents. Oxford and New York: Oxford University Press. 53–68.‬‬
‫‪2- Markus Tendahl. 2009. A Hybrid Theory of Metaphor: Relevance Theory and Cognitive‬‬
‫‪Linguistics, Palgrave Macmillan, p 255.‬‬

‫‪-165-‬‬
‫فإن االختالفات‬ ‫ثم ّ‬ ‫جزء كبري من فهم ال ّلغة عمل ًّيا يف جمال عمل ّيات املحاكاة‪ .‬ومن ّ‬
‫بني نظر ّية املناسبة وال ّلسان ّيات العرفان ّية ال يمكن أن تكون أكرب فيام يتع ّلق هبندستنا‬
‫وري اختيار أحد‬ ‫الض ّ‬ ‫الذهن ّية املزعومة‪ .‬وبسبب هذه االختالفات الكبرية‪ ،‬فإنّه من ّ‬ ‫ّ‬
‫االقرتاحي(‪ .)1‬يقول تاندل‪« :‬أرفض فكرة املنظوم ّية وأوافق عىل تقدير التجسيد السائد‬ ‫ْ‬
‫يف ال ّلسان ّيات العرفان ّية» ‪ .‬وقد قدم تاندل العديد من احلجج لدعم الصيغة ال ّلسانية‬
‫(‪)2‬‬

‫مهم‬
‫فإن ما هو ّ‬ ‫العرفان ّية‪ ،‬كام ُقدّ مت بعض احلجج لرفض مفهوم املنظوم ّية‪ .‬ومع ذلك ّ‬
‫أن القرار الواضح ملصلحة موقف ال ّلسان ّيات‬ ‫بالنّسبة إىل النّظر ّية اهلجينة لالستعارة هو ّ‬
‫الرأي الذي‬ ‫قائل‪« :‬يف الواقع‪ ،‬فإنّني مع ّ‬ ‫العرفان ّية ال يعني اهنيار نظر ّية املناسبة‪ .‬ويضيف ً‬
‫بأن نظر ّية املناسبة فحسب تعمل إذا ُقبِلت ا ّدعاءاهتا‬ ‫يقول إنّه ال يوجد سبب لالعتقاد ّ‬
‫املتعلقة بمنظوم ّية العقل‪ .‬العنرص الوحيد يف نظر ّية املناسبة الذي يعتمد عىل مفهوم‬
‫املنطقي»(‪ .)3‬وينتهي بالقول‪« :‬وهذا ال أعدّ ه‪ ،‬مع ذلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشكل‬‫املنظوم ّية هو فكرة ّ‬
‫دورا يف النّظر ّية‬
‫املنطقي ال يؤ ّدي ً‬
‫ّ‬ ‫الشكل‬ ‫أن ّ‬‫إشكال ًّيا‪ ،‬ألنّه مثلام ب ّينت ساب ًقا فإنّني أرى ّ‬
‫بأي طريقة كانت‪ .‬ومل جيرؤ كثري من العلامء عىل العمل عرب‬ ‫النّفسية ل ّلغة والتّواصل ّ‬
‫احلدود الفاصلة بني اختصايص نظر ّية املناسبة وال ّلسان ّيات العرفان ّية»(‪.)4‬‬
‫إن احلديث عن جيل ثان من الدراسات العرفانية قد مكّننا من الوقوف عىل معطى‬ ‫بل ّ‬
‫مهم يف سياق بحثنا يتم ّثل يف أن العرفان والتداوليات مها بمعنى من املعاين مكونات‬
‫ّ‬
‫مندجمة يف كل جوانب اللغة‪ ،‬مثلام تذهب إىل ذلك برجييت نرليخ وديفيد كالرك ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬

‫وبحسب موشلري‪ّ ،‬‬


‫فإن نظرية املناسبة تُعد صلة الوصل بني اللسانيات العرفانية‬
‫والتداوليات؛ ألهنا نظرية تقوم عىل جانب عرفاين وعىل جانب تداويل كذلك‪ .‬لذلك‬
‫يمكن القول تب ًعا ملوشلري‪:‬‬

‫‪1- Markus Tendahl, A Hybrid Theory of Metaphor, 2009, p 255-256.‬‬


‫‪2- Ibid, p256.‬‬
‫‪3- Ibid, p256.‬‬
‫‪4- Ibid, p256.‬‬
‫‪5- Brigitte Nerlich and David D. Clarke, Cognitive Linguistics and the History of Linguistics,‬‬
‫‪in Dirk Geeraerts & Hubert Cuyckens (eds.): The Oxford Hand Book of Cognitive‬‬
‫‪Linguistics, Oxford University Press, 2007, p-p. 589- 607.‬‬
‫انظر ترمجة حافظ إسامعييل علوي للفصل املذكور‪« :‬اللسانيات اإلدراكية وتاريخ اللسانيات»‪ ،‬جملة أنساق‪ ،‬جامعة قطر‪،‬‬
‫املجلد ‪ ،1‬العدد ‪ ،1‬مايو ‪ ،2017‬ص‪-‬ص ‪.289-269‬‬

‫‪-166-‬‬
‫يتم ختزين املعلومات الالزمة‬
‫تفس كيف ّ‬ ‫ألنا ّ‬ ‫أ‪ّ .‬‬
‫إن نظرية املناسبة نظرية عرفانية؛ ّ‬
‫ملعاجلة البيانات (يف الذاكرات الطويلة واملتوسطة والقصرية األجل) وكيف‬
‫يمكن الوصول إليها من خالل النظام العرفاين‪.‬‬
‫ب‪ .‬وهي نظرية تداولية؛ ألهنا ترشح كيف أن املعلومات التي توفرها اجلمل‪ ،‬والتي‬
‫ال تكفي للوصول إىل املقصد التواصيل للمتكلم‪ ،‬تنضاف إليها املعارف عن‬
‫الوضعية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإن نظرية املناسبة تتبنى فكرة أن تفسري األقوال ال‬
‫اللغوي وحده(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫ُيدِّ ده املعطى‬

‫النظرية اهلجينة لالستعارة بني التداوليات واللسانيات العرفانية‬


‫هنتم يف هذا البحث بالنظر يف نظرية هجينة لالستعارة انطال ًقا من حماولتي‬
‫ّ‬
‫ماركوس تاندل (‪ ،)M. Tendahl‬وحنّا ستوفر (‪ )H. Stöver‬التهجين ّيتني‪ ،‬ساعني إىل‬
‫التعسف يف‬
‫ّ‬ ‫توظيفهام يف قراءة الرتاث البالغي العريب قراءة ال تنحو نحو التقويل أو‬
‫التأويل أو الشطط يف التمثيل‪ ،‬بل نسعى إىل ربط الصلة بني اجلوانب احليوية يف ّ‬
‫كل‬
‫منوال من املنوالني الرتاثي من جهة والتهجيني (تاندل‪ )2009 ،‬والتهجيني اجلديد‬
‫(ستوفر‪ ،)2010 ،‬من جهة أخرى بطريقة حتاول كسب رهان الفهم األجود والوعي‬
‫األصوب‪ ،‬ما استطعنا إىل ذلك ً‬
‫سبيل‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولعل مثل هذه املنظورات التهجينية مفيدة من جهة ّأنا توقفنا عىل تع ّقد الظاهرة‬
‫االستعارية‪ ،‬ومن شأن تلك املنظورات أن تذهب بنا بعيدً ا يف فهم أبعاد خف ّية أو حمتجبة‬
‫من تلك الظاهرة‪ ،‬مل يكن للمح ّلل التقليدي أن يقف عليها مكتف ًيا‪ ،‬عىل ما جرت عليه‬
‫العادة‪ ،‬باستعامل مقاربة أحادية‪ .‬وسنراجع النظر يف التقاليد البالغية العربية‪ ،‬للنظر يف‬
‫إمكان إجياد ما يمكن أن ُيقال يف مثل هذه اإلجراءات املنهجية احلديثة‪.‬‬

‫‪1- Jacques Moeschler, Linguistique et pragmatique cognitive. L’exemple de la référence‬‬


‫‪temporelle, Le Gré des langues, 15, 1999, p-p.10-33.‬‬
‫‪Link: https://www.researchgate.net/publication/240093773‬‬

‫‪-167-‬‬
‫ونخترص النظر يف املقاربتني التهجينيتني اآلتيتني‪:‬‬
‫منوال تاندل التهجيني‬
‫يو ّظف ماركوس تاندل مقاربتني خمتلفتني (وإن كانتا مرتابطتني من وجوه عديدة)‬
‫يصوغ انطال ًقا منهام اقرتاحه ملقاربة هجينة‪ ،‬مو ّلدة ليست حمض جتميع لنقاط التقاء‬
‫منظوري نظرية املناسبة (‪ )relevance theory‬واللسانيات العرفانية (‪cognitive‬‬
‫‪ ،)linguistics‬بل هي منتج يستخلص رؤية جديدة مشكّلة من منظورات سابقة‬
‫ولكن هلا خصوصيتها التي جتعلها أكثر اجتها ًدا من التجميع وأبعد مدى من االنتقاء‬
‫أو االصطفاء‪.‬‬
‫أن للكلامت مؤرشات إىل ما يسمى املناطق‬ ‫وتفرتض النظرية اهلجينة لالستعارة ّ‬
‫املفهومية التي تكون بمنزلة خمططات إلنشاء مفاهيم خمصصة‪ .‬وحتتوي هذه املناطق‬
‫املفهومية عىل معلومات مستقلة عن السياق‪ ،‬تسمى النطاق املتأصل‪ ،‬ومعلومات تعتمد‬
‫عىل السياق‪ .‬وتكون مرتبطة عرب املوصالت هبياكل املعرفة اخلارجية‪ ،‬مثل املجاالت‬
‫املفهومية‪ ،‬االستعارات أو املجازات املرسلة‪ ،‬وخمططات الصور‪ ،‬والربامج النصية‪،‬‬
‫وغريها‪ .‬وهي عنارص من هياكل املعرفة اخلارجية تُدخل يف هناية املطاف املفهوم‬
‫عمليات االختيار املناسبة‪ .‬ولن تدخل يف املفهوم املخصص ّإل‬
‫ُ‬ ‫املخصص‪ ،‬وحتدِّ ُدها‬
‫العنارص التي تسهم يف املناسبة العامة للقول‪ .‬ولكي يكون العنرص اخلارجي مناس ًبا‪،‬‬‫ُ‬
‫ميسورا‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن أحد افرتاضات النظرية‬ ‫ً‬ ‫أمرا‬
‫ينبغي أن يكون الوصول إليه ً‬
‫املوصالت تنشط إذا كانت بنى‬‫ّ‬ ‫اهلجينة‪ ،‬املستوحى من نظرية املناسبة‪ ،‬يتمثل يف أن‬
‫املعرفة اخلارجية تتوافق مع االفرتاضات التي تُبنى يف البيئة العرفانية للشخص بشكل‬
‫تم الكشف عن مثل هذا التوافق وفق درجة تفعيل كافية‪ ،‬فإنه قد جيري‪،‬‬ ‫واضح‪ .‬فإذا ّ‬
‫خمصص من شأنه أن يصبح جز ًءا من بنية‬ ‫املوصالت وحتديد مفهوم َّ‬ ‫ّ‬ ‫من ثم‪ ،‬تفعيل‬
‫شبكة أكرب متثل املعنى‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن التو ّقعات املناسبة تضطلع بأداء دور حاسم يف‬
‫توليد املعاين املجازية (‪.)1‬‬

‫‪1- Markus Tendahl, A Hybrid Theory of Metaphor: Relevance Theory and Cognitive‬‬
‫‪Linguistics, Palgrave Macmillan, 2009, p 5.‬‬

‫‪-168-‬‬
‫توصل تاندل إىل أنه من الواضح أن السياق حيدّ د إذا ما كان يمكن معاجلة‬ ‫وقد ّ‬
‫استعارة بسهولة أو ال‪ ،‬وإذا ما كان يمكن لالستعارة أن تنتج العديد من اآلثار العرفانية‬
‫أم ال‪ .‬سهولة التأويل يف الغالب تعتمد عىل إذا ما كان بإمكاننا الوصول بسهولة إىل‬
‫افرتاضات سياقية يمكننا دجمها مع القول االستعاري‪ .‬ويعتمد عدد اآلثار العرفانية‬
‫بدرجة عالية جدًّ ا عىل عدد بنى املعارف اخلارجية التي نصل إليها ونضع املفاهيم‬
‫التصورية‪ ،‬وخطاطات‬ ‫ّ‬ ‫املخصصة مقابلها‪ .‬وألن املجاالت املفهومية واالستعارات‬
‫الصور أو الربامج النصية‪ ،‬تتسم بالفرادة وترتابط بطرق معقدة ال يستطيع الباحثون‬
‫وصفها إال بصعوبة‪ ،‬لذلك فإنه من العسري تقديم إفادات دقيقة حول عدد اآلثار‬
‫العرفانية وأنواعها (‪.)1‬‬

‫منوال حنّا ستوفر التهجيني اجلديد‬


‫انطلقت حنّا ستوفر من منوال تاندل وسعت يف أطروحتها (‪ )2010‬إىل طرح فهم‬
‫لالستعارة يرشح االستعارة يف اللغة والفكر‪ ،‬فه ٍم يقوم عىل الرتابط بني اجلانبني‪ .‬إذ‬
‫ُطور مقرتح تاندل عرب مالحظة أن ّ‬
‫كل صيغة من الصيغ التمثيلية املختلفة التي ُيعت َقد‬ ‫ت ّ‬
‫أهنا منخرطة يف الفهم ُت ّصص آليات املعاجلة املناسبة‪ .‬وترى ستوفر أن ذلك يكون ممكنًا‬
‫باختاذ إطار قالبي (‪.)2‬‬
‫توجهه ستوفر إىل تاندل يف مقاربته اهلجينة يرتبط بضعف ّ‬
‫حظ‬ ‫وجمال النقد الذي ّ‬
‫نظرية املناسبة يف مقرتح تاندل اهلجني‪ ،‬ولذا تقرتح ستوفر أطروحة هتدف إىل مالحظة‬
‫مبادئ نظرية املناسبة بدرجة أكرب من أطروحة تاندل (‪ .)3‬وترى ستوفر أن تاندل ذو‬
‫أهم أفكار نظر ّية االستعارة‬
‫عرفاين عمو ًما‪ .‬وباخلصوص‪ ،‬فإنه يتبنّى ّ‬
‫ّ‬ ‫لساين‬
‫ّ‬ ‫توجه‬
‫ّ‬
‫إن االستعارات يف الذهن هي تطبيقات عابرة للمجاالت‪،‬‬ ‫التصور ّية‪/‬املفهوم ّية‪ ،‬أي ّ‬
‫ّ‬
‫ترسخ يف الذاكرة عرب تكرار االستعامل ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫‪1- Tendahl, A Hybrid Theory of Metaphor: Relevance Theory and Cognitive Linguistics, p‬‬
‫‪246.‬‬
‫‪2- Hanna Stöver, Metaphor and Relevance Theory: A New Hybrid Model, A thesis submitted‬‬
‫‪for the degree of Doctor of Philosophy of the University of Bedfordshire, 2010, p 9.‬‬
‫‪3- Hanna Stöver, Metaphor and Relevance Theory: A New Hybrid Model, p 166.‬‬
‫‪4- Stöver, Metaphor and Relevance Theory, p 166.‬‬

‫‪-169-‬‬
‫كل من اللسانيات العرفانية‬ ‫أن ًّ‬
‫وترى ستوفر أن وجهة نظر تاندل تذهب إىل ّ‬
‫ونظرية املناسبة سرتبح إن ُدمج بينهام‪ .‬فمن ناحية أوىل تفتقر اللسانيات العرفانية إىل‬
‫تفسري العملية الفورية املتضمنة آلليات اختيار السامت يف التأويل‪ .‬وهذه مظاهر يبدو‬
‫الفهم االستكشايف لنظرية املناسبة أكثر إفادة فيها‪ .‬أ ّما نظرية املناسبة فهي جتني‪ ،‬من‬
‫ناحية أخرى فائدة من النظر يف طريقة التي يبدو ان استعارات خمتلفة ترتابط يف الذاكرة‪،‬‬
‫التصورية‪ /‬املفهومية (‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫وهذا هو جمال تركيز نظرية االستعارة‬
‫أ ّما ستيف أزوالد فريى ّ‬
‫أن نظرية املناسبة «منوال ضمن مناويل أخرى للتداولية‬
‫العرفانية»(‪.)2‬‬

‫اخلامتة‬
‫توزع الباحثون ال ّلسان ّيون يف دراستهم إمكان التوليف بني التداولية العرفانية‪ :‬فرأى‬ ‫ّ‬
‫بعضهم أن اجلمع بينهام ينطوي عىل رضب من اهلُجنة والتنافر‪ ،‬فيام عدّ آخرون ّ‬
‫أن‬
‫أمر مفرو ٌغ منه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عرفان ّي َة التّداول ّية ٌ‬
‫كل منظور من املنظورين التداويل والعرفاين إىل اآلخر ّ‬
‫أن‬ ‫يقوي حاجة ّ‬ ‫ولع ّله ممّا ّ‬
‫االستعارات‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قد تتط ّلب جهدً ا عرفان ًّيا ً‬
‫كبريا يف السياقات املحايدة‪،‬‬
‫ثم ّ‬
‫فإن التحليل العرفاين يستفيد من االستقصاء التداو ّيل العميق‪.‬‬ ‫ومن ّ‬
‫جترأوا عىل العمل‬‫أقر بق ّلة عدد العلامء الذين ّ‬ ‫حق إذ ّ‬
‫ولعل بعض الباحثني عىل ّ‬ ‫ّ‬
‫عرب احلدود الفاصلة بني اختصايص نظر ّية املناسبة وال ّلسان ّيات العرفان ّية‪ .‬فهذه‬
‫املنطقة الرخوة حتتاج إىل مزيد الدرس للخروج بتعالقات مثمرة تُقطف من اجلمع‬
‫بني املنظورين التداويل والعرفاين‪ ،‬حتى وإن ظ ّلت التداولية «رافدً ا نظر ًّيا» ضمن سائر‬
‫العلوم العرفانية (‪.)3‬‬

‫‪1- Stöver, Metaphor and Relevance Theory, p 167.‬‬


‫‪2- Steve Oswald. 2007. Towards an interface between Pragma-Dialectics and Relevance‬‬
‫‪Theory, Pragmatics & Cognition 15:1, p181.‬‬
‫النص واخلطاب‪ :‬مباحث لسانية عرفنية‪ ،‬تونس‪ ،‬مركز النرش اجلامعي‪ /‬دار حممد عيل للنرش‪،2011 ،‬‬
‫‪ -3‬األزهر الزنّاد‪ّ ،‬‬
‫ص ‪.8‬‬

‫‪-170-‬‬
‫قائمة املراجع‬
‫العربية‬
‫ مركز النرش‬،‫ تونس‬،‫ مباحث لسانية عرفنية‬:‫النص واخلطاب‬
ّ ،‫ األزهر‬،‫الزنّاد‬1.1
.2011 ،‫ دار حممد عيل للنرش‬/‫اجلامعي‬

‫األجنبية‬
1. Ambroise, Bruno. 2011. Le tournant cognitif en pragmatique Un
aller-retour transatlantique et ses impacts philosophiques, Revue
d’Histoire des Sciences Humaines, 2011, 25.
2. Bara, Bruno. 2010. Cognitive Pragmatics: The Mental Processes of
Communication, London, Cambridge.
3. Bracops, Martine. 2006. Introduction à la pragmatique, Bruxelles,
De Boeck.
4. Brown. Cecil H. 1977.Review of Kempson, Language in Society 7:
264.
5. Bublitz, W., & Norrick, N. R. (Eds.). 2011. Foundations of pragmat-
ics. Berlin: De Gruyter Mouton.
6. Carston, Robyn.2002. Linguistic Meaning, Communicated Meaning
and Cognitive pragmatics, January 2002, Mind & Language 17(1-2):
127 – 148.
7. Fuchs, Catherine. 2009.«La linguistique cognitive existe -t-elle?»,
Quaderns de Filologia. Estudis lingüístics. Vol. XIV: 115-133.
8. Gabbay, Dov M. and Woods, John. 2003. Agenda Relevance A
Study in Formal Pragmatics, Amsterdam, Elsevier.
9. Givon, Talmy. 2005. Context as Other Minds: The Pragmatics of
Sociality, Cognition and Communication.
10. Kempson, Ruth M. 1977. Semantic Theory. Cambridge: Cambridge
University Press.
11. Lazard, Gilbert. 2007. «La linguistique cognitive n’existe pas».
Bulletin de la Société de linguistique de Paris CII/1: 3-16.

-171-
12. Mackenzie, Ian. 2002. Paradigms of Reading: Relevance Theory
and Deconstruction, Palgrave Macmillan.
13. Marmaridou, Sophia S.A. 2000. Pragmatic meaning and cognition,
Amsterdam, John Benjamins.
14. Moeschler, Jacques. 1999. Linguistique et pragmatique cognitive.
L’exemple de la référence temporelle, Le Gré des langues, 15,
p-p.10-33.
15. Moeschler, Jacques. 2018. L’implicite et l’interface séman-
tique-pragmatique : où passe la frontière, Corela [En ligne], HS-25 |
2018, mis en ligne le 19 Juillet 2018, consulté le 31 août 2018. URL
: http://journals.openedition.org/corela/6571
16. Nerlich, Brigitte and Clarke, David D. 2007. Cognitive Linguistics
and the History of Linguistics, in Dirk Geeraerts & Hubert Cuyck-
ens (eds.): The Oxford Hand Book of Cognitive Linguistics, Oxford
University Press, pp589- 607.
17. Oswald, Steve. 2007. Towards an interface between Pragma-Dia-
lectics and Relevance Theory, Pragmatics & Cognition 15:1.
18. Reboul, Anne. 1995. La pragmatique à la conquête de nouveaux do-
maines : la référence. In: L’Information Grammaticale, N. 66, 1995.
19. Schmid, Hans-Jörg. 2012. «Generalizing the apparently ungener-
alizable. Basic ingredients of a cognitive-pragmatic approach to
the construal of meaning-in-context». In: Hans-Jörg Schmid, ed.,
Cognitive Pragmatics. Handbooks of Pragmatics Vol. 4. Berlin etc.:
Mouton de Gruyter, 3-22.
20. Sperber, Dan and Wilson, Deirdre. 1995. Postface to the Second
Edition of Relevance: Communication and Cognition. Oxford:
Blackwell.
21. Sperber, Dan. 1994. ‘The Modularity of Thought and the Epidemi-
ology of Representations.’ In Hirschfeld, Lawrence A. and Susan A.
Gelman, eds, Mapping the Mind: Domain Specificity in Cognition
and Culture. New York: Cambridge University Press.39–67.

-172-
22. Sperber, Dan. 2005. ‘Modularity and Relevance: How Can a Mas-
sively Modular Mind be Flexible and Context-sensitive?’ In Carru-
thers, Peter, Stephen Laurence and Stephen Stich, eds, The Innate
Mind: Structure and Contents. Oxford and New York: Oxford Uni-
versity Press. 53–68.
23. Stöver, Hanna. 2010. Metaphor and Relevance Theory: A New Hy-
brid Model, A thesis submitted for the degree of Doctor of Philoso-
phy of the University of Bedfordshire.
24. Tendahl, Markus. 2009.A Hybrid Theory of Metaphor: Relevance
Theory and Cognitive Linguistics. Palgrave Macmillan.
25. Wilson, Deirdre. 2011. «Parallels and Differences in the Treatment
of Cognitive Linguistics», Studia Linguistica Universitatis Iagel-
lonicae Cracoviensis; Kraków Iss. 128,  (2011): 195-213.

-173-
-174-
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬
‫مقدمة املحرر‬
‫‪5‬‬
‫د‪.‬صابر احلباشة‬
‫‪11‬‬ ‫تعريف بالباحثني املشاركني يف التأليف‬
‫الفصل األول‪ :‬البعد الذهني يف اللسانيات العرفانية‪ :‬مدخل مفاهيمي‬
‫‪١٣‬‬
‫د‪ .‬عبد الرمحن حممد طعمة‬
‫الفصل الثاين‪ :‬مالمح من األبنية ّ‬
‫الذهنية للفضاء يف النحو العريب‬
‫‪57‬‬
‫د‪ .‬عفاف موقو‬
‫اليل يف املقاربة العرفان ّية‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التّحليل الدّ ّ‬
‫‪٩٣‬‬
‫د‪ .‬احلبيب املقدميني‬
‫الفصل الرابع‪ :‬املنهج العرفاين يف املقام الرتبوي‬
‫‪١١٩‬‬
‫د‪ .‬عمر بن دمحان‬
‫الفصل اخلامس‪ :‬املنظوران العرفاين والتداويل‪ :‬آفاق التهجني‬
‫‪١٤٥‬‬
‫د‪ .‬صابر احلباشة‬

‫‪-175-‬‬
-176-
‫مباحث لغوية ‪63‬‬
‫دراسات في اللّسان ّيات العرفان ّية‬
‫الذّ هن واللّغة والواقع‬
‫يُصدِ ر مركز امللك عبداهلل بن عبدالعزيز الدولي خلدمة اللغة العربية هذا الكتاب ضمن سلسلة‬
‫(مباحث لغوية)‪ ،‬وذلك وفق خطة عمل مقسمة إلى مراحل‪ ،‬ملوضوعات علمية رأى املركز حاجة املكتبة‬
‫اللغوية العربية إليها‪ ،‬أو إلى بدء النشاط البحثي فيها‪ ،‬واجتهد يف استكتاب نخبة من احملررين واملؤلفني‬
‫للنهوض بعنوانات هذه السلسلة على أكمل وجه‪.‬‬
‫ويهدف املركز من وراء ذلك إلى تنشيط العمل يف املجاالت التي تُـنَـ ّبه إليها هذه السلسلة‪ ،‬سواء أكان‬
‫العمل علميا بحثيا‪ ،‬أم عمليا تنفيذيا‪ ،‬ويدعو املركز الباحثني كافة من أنحاء العالم إلى املساهمة يف هذه‬
‫السلسلة‪.‬‬
‫وتو ّد األمانة العامة أن تشيد بجهد السادة املؤلفني‪ ،‬وجهد محرر الكتاب‪ ،‬على ما تفضلوا به من رؤى‬
‫وأفكار خلدمة العربية يف هذا السياق البحثي‪.‬‬
‫والشكر والتقدير الوافر ملعالي وزير التعليم املشرف العام على املركز‪ ،‬الذي يحث على كل ما من‬
‫شأنه تثبيت الهوية اللغوية العربية‪ ،‬ومتتينها‪ ،‬وفق رؤية استشرافية محققة لتوجيهات قيادتنا احلكيمة‪.‬‬
‫موجهة إلى جميع املختصني واملهتمني للتواصل مع املركز؛ لبناء املشروعات العلمية‪ ،‬وتكثيف‬
‫والدعوة ّ‬
‫اجلهود‪ ،‬والتكامل نحو متكني لغتنا العربية‪ ،‬وحتقيق وجودها السامي يف مجاالت احلياة‪.‬‬

‫األمني العام للمركز‬


‫أ‪ .‬د‪ .‬محمود إسماعيل صالح‬

You might also like