You are on page 1of 17

‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪:‬‬

‫تحوالت املباحث واملفاهيم‬


‫أ‪ .‬النذير ضبعي‬ ‫أ‪ .‬عبد السالم عايب‬
‫جامعة أم البواقي‬ ‫جامعة محمد بوضياف املسيلة‬
‫‪abisalim813@yahoo.com‬‬

‫تاريخ االستالم‪ 2017/12/02 :‬تاريخ القبول‪2018/02/02 :‬‬

‫امللخّــص‬
‫تقــرر عنــد الباحثــن اللســانيني أن نــوام ( تشومســي ‪)Noam Chomsky/‬‬
‫قــد أحــدث طفــرة يف اللســانيات عندمــا نــأى بنفســه عــن الدراســات البنويــة‪،‬‬
‫واختــط لنفســه منهجــا يقــوم عــى العقالنيــة والتفســر‪ ،‬ويــروم الوقــوف عــى‬
‫قــدرة العقــل عــى إنتــاج اللغــة وفهمهــا‪ ،‬وقــد التــف حــول أفــكاره ثلــة مــن‬
‫الباحثــن والعلــاء الذيــن تبنــوا أفــكاره ووســعوها‪ ،‬لكــن رسعــان مــا وجهــوا‬
‫لهــا الكثــر مــن النقــد وبخاصــة لقضيــة "مركزيــة الرتكيــب" عنــد تشومســي‪،‬‬
‫لينخرطــوا يف مــا يســمى بالبحــث العرفــاين‪.‬‬
‫وقــد جــاء هــذا املقــال ليجــي شــيئا مــن ذلــك ويبــن أهــم املباحــث التــي‬
‫ميــزت اللســانيات العرفانيــة عــن اللســانيات التوليديــة‪.‬‬
‫الكلامت املفاتيح‪:‬‬
‫اللســانيات التوليديــة التحويليــة ‪ -‬العرفانيــة ‪ -‬مركزيــة الرتكيــب ‪ -‬الداللــة ‪ -‬البنيــة‬
‫التصورية‪.‬‬
De la linguistique générative à la linguistique cognitive:
mutation des questions et des concepts

Résumé
Pour les chercheurs linguistes, Chomsky a certainement fait un bond
en avant dans le domaine de la linguistique, en s’étant éloigné des études
constructivistes. En effet, il s’est tracé une méthodologie fondée sur le ra-
tionalisme et l’interprétation, son objectif était de prouver la capacité de la
raison à produire et à comprendre la langue.
De nombreux chercheurs et savants ont adopté ses idées et ils les ont
développés. En revanche, ceux-ci ont, rapidement, largement critiqué son
approche, notamment" la centralisation de la structure". Ils se sont ainsi
inscrits dans la recherche cognitive.
Ce présent article tente d’apporter de l’éclaircissement sur cette ques-
tion et de faire la lumière sur les principaux tournants qui ont marqué le
parcours de la linguistique cognitive.
Mots clés:
Linguistique génératives et transformationnelles - cognitives - centralisa-
tion de la structure - sémantique - structure superficielle.
From obsteric linguistics to cognitive linguistics:
transformations of investigations and concepts

Abstract
Many linguistic researchers stated that Noam Chomsky has changed a
lot in the field of linguistics. He moved from constructivist studies towar-
ds developing a self- dependent approach, based on rationalisme and in-
terpretation. Its main objective was to prove the innate capacity of the
mind (brain) to produce and understand language. Many researchers and
scholars have adopted and also developed his ideas. But, they have qui-
ckly changed their minds and widely criticized this approach. Especially,
Chomsky’s perspective of the centralization of structure. Then, they were
engaged in "cognitive research".
Eventually, this research is conducted for the sake of clarifying thi sam-
biguity and to shed the light on the major investigations which have diffe-
rentiated the cognitive linguistics from the generative linguistics.

Key words:
Transformational linguistics - cognitive linguistics - generative linguistics
- centralization of structures - semantics - the conceptual structure.
‫عبد السالم عايب و النذير ضبعي‬

‫متهيد‬
‫ُعــرف عــن اللســانيات التوليديــة مباينتهــا ملناهــج البحــث البنــوي التــي تغيــت النظــر‬
‫يف النظــام اللغــوي معــزوال عــن ســياق اســتعامله مــن جهــة وعــن جملــة العمليــات‬
‫العقليــة التــي تســبق عمليــات إنتــاج اللغــة مــن جهــة أخــرى‪ ،‬وقــد نظــر ( تشومســي‬
‫‪ )Noam Chomsky/‬يف العمليــات العقليــة املنتجــة للغــة باعتبارهــا آليــات منفصلــة‬
‫عــن بقيــة اآلليــات العقليــة التــي تخــص اإلدراك والتصــور والخيــال‪ ،‬وجــل العمليــات‬
‫التــي هــي يف صميــم أبحــاث علــم النفــس املعــريف‪ ،‬وهــو األمــر الــذي ولــد ردة فعــل‬
‫قويــة لــدى بعــض التالميــذ املســتثمرين ملفــرزات علــم النفــس املعــريف‪ ،‬ومــن أبــرز تلــك‬
‫املفــرزات الزعــم بــأن املعرفــة اللغويــة تندمــج ضمــن بقيــة اآلليــات العقليــة‪ ،‬ويحكمهــا‬
‫مــا يســمى بالبنيــة التصوريــة التــي تضــم املعلومــات اللغويــة و غــر اللغويــة ‪.‬‬
‫ومن هذا املنطلق فإن أسئلة كثرية تتوارد يف هذا السياق لعل أبرزها‪:‬‬
‫‪ -‬ما األسس النظرية التي قامت عليها اللسانيات العرفانية ؟‬
‫‪ -‬هــل باينــت اللســانيات العرفانيــة اللســانيات التوليديــة مــن حيــث‪ :‬املوضــوع‬
‫املنهــج والغايــة ؟‬
‫‪ -‬ما هي مباحث اللسانيات التوليدية التي استثمرتها اللسانيات العرفانية ؟‬
‫‪ -‬هــل ميكــن الزعــم بــأن اللســانيات التوليديــة قــد وىل زمانها مــع ظهور اللســانيات‬
‫العرفانية ؟‬
‫ليــس هينــا الزعــم بــأن اللســانيات العرفانيــة قــد أحدثــت قطيعــة مــع مــا جــاء بــه‬
‫تشومســي‪ ،‬ذلــك أن أصحــاب اللســانيات العرفانيــة هــم يف الغالــب تالمــذة تشومســي‪،‬‬
‫ومــع إمــكان االنفصــال عــن آرائــه والتفــرد بالجديــد مــن اآلراء‪ ،‬فإنهــم يكونــون حتــا –‬
‫ولــو عــى ســبيل الفــرض العقــي – قــد وظفــوا شــيئا مــا تعلمــوه مــن تشومســي يف‬
‫أبحاثهــم التــي تخــص اللســانيات العرفانيــة‪.‬‬
‫و بديهــي القــول إ َّن حــدوث القطيعــة مــن عدمهــا إمنــا يَفصــل فيــه املقــال إذا أمكــن‬
‫الوقــوف عــى أقــوال رصح فيهــا أصحــاب اللســانيات العرفانيــة ‪ -‬ترصيحــا واضحــا وقاطعا‬

‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬ ‫‪124‬‬


‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪ :‬تحوالت املباحث واملفاهيم‬

‫‪ -‬بالقطيعــة املزعومــة ونحســب أن شــيئا مــن ذلــك مل يعلــم عــن واحــد منهــم‪ .‬وملــا‬
‫كان الحــال كذلــك‪ ،‬فإنــه ال فــكاك مــن النظــر يف أهــم املفاهيــم والــرؤى التــي ولدهــا‬
‫التيــاران‪ ،‬تيــار اللســانيات التوليديــة التحويليــة‪ ،‬وتيــار اللســانيات العرفانيــة؛ للوقــوف‬
‫عــى مســارات التحــول والنقــاط التــي ميــزت اللســانيات العرفانيــة عــن اللســانيات‬
‫التوليديــة‪.‬‬
‫‪ .1‬أسس النظرية التوليدية التحويلية ومبادئها‬
‫مــا مييــز البحــث اللســاين عنــد تشومســي هــو آراؤه اللســانية الصادمــة التــي أحدثــت‬
‫قطيعــة مــع اللســانيات البنيويــة‪ ،‬وخالفتهــا مــن حيــث املوضــو ُع واملنهــج‪ ،‬وقــد وضــع‬
‫تشومســي "نظريــة لســانية جديــدة تختلــف يف تصوراتهــا األســاس ومنهجيتهــا التحليليــة‬
‫للظواهــر اللغويــة عــن النظريــات الســابقة عليهــا‪ .‬كــا تتجىل هــذه القطيعــة يف املفاهيم‬
‫واألدوات اإلجرائيــة الدقيقــة التــي تــم اقرتاحهــا لتنــاول اللغــة باعتبارهــا ملكــة برشيــة‬
‫عامــة‪.‬‬
‫وتعيــش املحافــل اللســانية الدوليــة منــذ (‪ )1957‬عــى إيقــاع النظريــة التوليديــة‬
‫التحويليــة وتصوراتهــا الجديــدة يف مجــال الدراســات اللســانية التــي مافتئــت تتغــر‬
‫وتتطــور نحــو مزيــد مــن الضبــط و الدقــة"‪.1‬‬
‫ويقــوم تصــور تشومســي لدراســة اللغــة‪ ،‬عــى فكــرة ُمفادهــا أن اللغــة إمنــا تنتــج‬
‫عــى مســتوى الذهــن‪ ،‬وأن هنــاك آليــات محــددة تولــد الجمــل الالمتناهيــة‪ ،‬واملقبولــة‬
‫نحويــا‪ ،‬ولذلــك "حــر تشومســي يف عــام ‪ 1957‬مجــال الدراســة يف الرتكيبيــة وهــو يبحث‬
‫عــن بنــاء نظريــة لألبنيــة اللســانية دون الرجــوع إىل لغــة مخصوصــة‪ ،‬يطلــق عليهــا اســم‬
‫النحــو وأهــم أقســامها يتألــف مــن الرتكيبيــة ‪.‬‬
‫فالظواهــر الرتكيبيــة عنــده تنتمــي إىل مســتوى مخصــوص مســتقل يتميــز عــن علــم‬
‫الصيــغ‪ ،‬وعلــم وظائــف األصــوات‪ ،‬والدالليــات؛ "فالجملــة قــد تكــون حســنة التكويــن‬
‫تركيبيــا لكــن خاليــة مــن الداللــة مثــل الجملــة التــي يوردهــا‪ :‬األفــكار الخـراء التــي ال‬
‫لــون لهــا تنمــو بعنــف"‪.2‬‬

‫‪125‬‬ ‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬


‫عبد السالم عايب و النذير ضبعي‬

‫إن هــذا التحــول الــذي بــدا جليــا عــى يــد تشومســي يعــد "ثــورة لســانية معــارصة‪،‬‬
‫مقرونــة بانتقــال ابســتمولوجي مــرر مــن العنايــة بوصــف اللغــة كموضــوع خارجــي‪،‬‬
‫أو مــا يطلــق عليــه تشومســي اللغــة الخارجيــة‪ ،‬إىل العنايــة بالكفايــة اللغويــة كنســق‬
‫معــريف يعــد يف العمــق آلــة صوريــة متكــن مــن توليــد عــدد ال محــدود مــن املتواليــات‬
‫وهــذه اآللــة عبــارة عــن خوارزمــات توليــد وتحليــل" ‪.3‬‬
‫وقــد ح َّيــد تشومســي يف بدايــة دراســاته مســتويات الصــوت‪ ،‬والداللــة‪ ،‬وركــز عــى‬
‫الجانــب الرتكيبــي‪ ،‬وهــو مــا ضمنــه يف كتابــه (البنــى الرتكيبيــة) الصــادر ســنة ‪،1957‬‬
‫وجعــل مــن الرتكيــب قطــب الرحــى الــذي تــدور حولــه النظريــة التوليديــة التحويليــة‪،‬‬
‫وبنــاء عــى هــذا الطــرح فــإن الرتكيــب قــد اعتــر "منــذ بدايــة النحــو التوليــدي الخاصيــة‬
‫املميــزة للغــة‪ ،‬والكــون الــذي يصبــغ عليهــا طابعهــا اإلبداعــي‪ ،‬ويحظــى بأعــى درجــات‬
‫التعقيــد والتجريــد‪ .‬وكانــت االعتبــارات الرتكيبيــة أســاس صياغــة املســائل املركزيــة‪،‬‬
‫واالكتســاب الفطــري‪ ،‬واالســتدالل عليهــا‪ ،‬بينــا أنيــط بالصــوت والــرف عــى أهميتهــا‬
‫دور ثانــوي‪.‬‬
‫ومبــا أن الداللــة ال ميكــن ترميزهــا مــن خــال الرتكيــب؛ فقد ت ُركــت للدالليــن الصوريني‬
‫الذيــن ال يهتمــون يف أغلبهــم بالخاصيــة الذهنيــة للغــة" ‪ ،4‬ولهــذا التوجــه مربراتــه‬
‫التاريخيــة التــي تعطيــه شــيئا مــن القــوة؛ ذلــك أن الدراســات اللســانية األمريكيــة قــد‬
‫متيــزت" باهتاممهــا الشــديد بالدراســات الصوتيــة‪ ،‬والرصفيــة‪ ،‬والرتكيبيــة‪ ،‬مقابــل إغفــال‬
‫تــام لقضايــا الداللــة واملعنــى‪ ،‬ومعلــوم أن (زيلــج هاريــس ‪-1909( (Zelling Harris/‬‬
‫‪ )1993‬تلميــذ ( بلومفيلــد‪ )1949-1887( ) Leonard Bloomfield/‬وأســتاذ تشومســي‪،‬‬
‫كان هــو اآلخــر يرفــض أي إحالــة عــى املعنــى يف التحليــل اللغــوي نظـرا لصعوبــة التحقــق‬
‫العلمــي مــن ماهيــة الحقائــق الدالليــة للوحــدات اللغويــة "‪.5‬‬
‫ومــا لبــث تشومســي أن غــر شــيئا مــن آرائــه عــى فـرات بعــد صــدور كتابــه (البنى‬
‫الرتكيبيــة) ســنة ‪ ،1957‬وقــد دفعــت لذلــك دوافــع عــدة‪ ،‬منهــا الدراســات الهامــة التــي‬
‫قــام بهــا اللســانيان (كاتــز‪ ) katz/‬و( فــودور‪(fodor /‬؛ فقــد أصــدرا "مقــاال بعنــوان (بنيــة‬

‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬ ‫‪126‬‬


‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪ :‬تحوالت املباحث واملفاهيم‬

‫النظريــة الدالليــة ‪ ،)the structure of a semantic theory -‬تســاءال فيــه عــن موقــع‬
‫ـان يعــر عنهــا مبســتوى‬‫املعنــى يف نظريــة تشومســي‪ ،‬وفحــوى نظريتهــا أ ّن مثــة َم َعـ ِ َ‬
‫صــوري مــن الوصــف اللســاين مختلــف عــن البنيــة النظميــة يســمى التمثيــل الــداليل‪،‬‬
‫وهــذا املســتوى مــن البنيــة اللغويــة مقــرن بالبنيــة النظميــة بواســطة قواعــد اإلســقاط‪،‬‬
‫مــا يعنــي لــزوم العــودة ‪ -‬عنــد إنشــاء الجمــل ‪ -‬إىل معانيهــا األصليــة التــي صيغــت مــن‬
‫أجلهــا " ‪. 6‬‬
‫وبنــاء عــى هــذه الدراســات‪ ،‬وغريهــا‪ ،‬ظهــر كتــاب (مظاهــر النظريــة الرتكيبيــة)‬
‫الصــادر ســنة ‪ ،1965‬وقــد اتســم منــوذج (املظاهــر) بتوســع مفاهيــم النظريــة التوليديــة‬
‫التحويليــة واعتبــار الداللــة مكونــا تأويليــا‪ ،‬ويطلــق عــى هــذا املؤلــف تســمية (النمــوذج‬
‫املعيــار ) ‪.‬‬
‫والجديــد يف هــذا النمــوذج‪ ،‬أنــه يُعــد "أكــر وضوحــا وعمقا يف تحليــل القضايا اللســانية‬
‫مــن وجهــة نظــر توليديــة تحويليــة‪ ،‬بــل إنــه أكــر نضجــا مــن الناحيــة التصوريــة العامــة؛‬
‫ألنــه يتضمــن اإلطــار العــام للنظريــة التوليديــة يف أبعادهــا املختلفــة‪ ،‬وعالقتهــا وموقفهــا‬
‫مــن العديــد مــن القضايــا اللســانية الجوهريــة‪ ،‬عــاوة عــى جملــة مــن املفاهيــم النظرية‬
‫واإلجرائيــة التــي ستشــكل أســاس التصــور التوليــدي؛ فبــه ُعرفــت واشــتهرت التقســيامت‬
‫املعروفــة‪ :‬قــدرة إنجــاز‪ ،‬وبنيــة عميقــة‪ ،‬وبنيــة ســطحية‪ ،‬والكليــات اللغويــة‪ ،‬وعالقــة‬
‫الداللــة بالرتكيــب‪ ،‬ودور الرتكيــب يف توليــد الجمــل‪ ،‬واســتقاللية الرتكيــب‪ ،‬وغريهــا مــن‬
‫القضايــا الهامــة التــي تســم املقاربــة التوليديــة إىل اليــوم "‪.7‬‬
‫ويف مرحلــة الحقــة توســعت اللســانيات التوليديــة التحويليــة عنــد تشومســي نفســه‪،‬‬
‫وهــي املرحلــة التــي يطلــق عليهــا مرحلة(النظريــة النموذجيــة املوســعة)‪ ،‬وقــد نتجــت‬
‫عــن عــدم الرضــا لــدى تشومســي‪" ،‬خاصــة بعــد االنتقــادات التــي وجهــت إليــه مــن قبــل‬
‫علــاء الداللــة‪ ،‬فأعــاد النظــر مــن جديــد يف نظريتــه‪ ،‬وعدلهــا وذلــك بوضــع فرضيــات‬
‫جديــدة لتبســيط القواعــد التوليديــة التحويليــة‪ ،‬وللتغلــب عــى هــذه املشــاكل ربــط‬
‫تشومســي التمثيــل الــداليل بالبنيــة العميقــة والبنيــة الســطحية عــى حــد الســواء‪ ،‬وذلــك‬

‫‪127‬‬ ‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬


‫عبد السالم عايب و النذير ضبعي‬

‫مــن خــال‪:‬‬
‫أ‪ -‬قاعدة تفسريية داللية أوىل للبنية العميقة‪.‬‬
‫ب‪ -‬قاعدة تفسريية داللية ثانية للبنية السطحية" ‪.8‬‬
‫ثــم ظهــرت نظريــة املبــادئ والوســائط(‪1981‬م) ضمــن التيــار اللســاين التوليــدي‪ ،‬ولهــا‬
‫جملــة مــن املبــادئ التــي متيزهــا عــن غريهــا‪.9‬‬
‫ويف آخــر تطــورات اللســانيات التوليديــة ظهــرت النظريــة األدنويــة (الربنامــج األدنــوي)‬
‫(‪ ،)1995-1993‬ومــن خصائصهــا املميــزة أنهــا جــاءت لتبســيط النظريــة التوليديــة‪ ،‬وهــي‬
‫"امتــداد لنظريــة العمــل والربــط‪ ،‬مــن جهــة الكشــف عــن الخصائــص العامــة للملكــة‬
‫اللغويــة وتدقيــق آليــات اشــتغالها‪ ،‬واملبــادئ العامــة املتحكمــة يف بنائهــا" ‪.10‬‬
‫تلــك هــي أهــم املحطــات التــي مــرت بهــا اللســانيات التوليديــة‪ ،‬ثــم إن الوقــوف‬
‫عــى تفاصيــل ودقائــق هــذه النظريــة يســتلزم بحوثــا موســعة تحتــوي أهــم املحطــات‬
‫التاريخيــة التــي مــرت بهــا اللســانيات التوليديــة يف ســياق البحــث العلمــي الدقيــق‪،‬‬
‫الــذي يقــرب مفاهيمهــا ويجــي مصطلحاتهــا‪ ،‬وهــو مــا ال ميكــن عرضــه يف مقــال يــروم‬
‫وضــع اللســانيات املعرفيــة يف موقعهــا الصحيــح مــن اللســانيات التوليديــة‪.‬‬
‫غــر أن القــول بــأن مركزيــة الرتكيــب‪ ،‬تعتــر أهــم ركيــزة قامــت عليهــا اللســانيات‬
‫التوليديــة يف كل محطاتهــا التاريخيــة‪ ،‬ويف كل التطــورات الحاصلــة ال يعــد ‪ -‬يف نظرنــا‪-‬‬
‫مجازفــة؛ ذلــك أن أهــم االنتقــادات التــي وجهــت للســانيات التوليديــة إمنــا ركــزت عــى‬
‫هــذه النقطــة‪ ،‬وجعلــت منهــا منفــذا للطعــن عــى نظريــة تشومســي‪ ،‬كــا فتحــت‬
‫البــاب واســعا نحــو مجــاالت جديــدة مــن الــدرس اللســاين الــذي يخــص اللغــة يف بعديهــا‬
‫الذهنــي والبــري ‪.‬‬
‫وبعــد هــذا العــرض املوجــز ملســار اللســانيات التوليديــة يف محطاتهــا التاريخيــة‪ ،‬نعــرج‬
‫اآلن عــى اللســانيات العرفانيــة لبيــان الصلــة املفرتضــة لهــا باللســانيات التوليديــة مــن‬
‫عدمهــا ‪.‬‬
‫ولعـلل خــر مــن ميثــل هــذا الطــرح هــو اللســاين األمريــي )راي جاكنــدوف‪Jack�/‬‬

‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬ ‫‪128‬‬


‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪ :‬تحوالت املباحث واملفاهيم‬

‫‪ )ray endoff‬الــذي ُعـ َّد واحــدا مــن رواد اللســانيات العرفانيــة‪ ،‬وقــد " تتلمــذ عــى يــد‬
‫تشومســي وغــره مــن كبــار علــاء اللغــة‪ ،‬ثــم انتقــل إىل دراســة علــم النفــس والفلســفة‬
‫واملوســيقى‪ ،‬وهــو يــدرس حاليــا يف جامعــة توفتــس بالواليــات املتحــدة األمريكيــة حيــث‬
‫يديــر مبعيــة (دانيــال دينــات‪ )Daniel Dennett /‬معهــد العلــوم العرفانيــة‪ ،‬بعــد أن تــرك‬
‫‪11‬‬
‫جامعــة براندايــس"‬
‫ويحســن قبــل متييــز املباحــث التــي خالــف فيهــا جاكنــدوف ومــن ســار عــى نهجــه أن‬
‫نعــرج عــى اللســانيات العرفانيــة بيانــا وتوضيحــا ‪.‬‬
‫‪ .2‬ما اللسانيات العرفانية؟‬
‫عــى الرغــم مــن اختــاف املســميات التــي أطلقــت عــى هــذا العلــم كالعرفانيــة‪،‬‬
‫العرفنــة‪ ،‬املعرفيــة‪ ،‬فــإن الــذي يعنينــا هــو الوقــوف عــى مبادئــه وأسســه التــي قــام عليها‪،‬‬
‫فهــو يعــد "مــن العلــوم اللغويــة الحديثــة نســبيا‪ ،‬ويرتبــط ارتباطــا وثيقــا بالدراســات‬
‫النفســية التــي تهتــم بعمــل الدمــاغ ومتابعــة العمليــات العقليــة املختلفــة التــي تتصــل‬
‫باملعرفــة اإلنســانية واإلدراك بشــكل عــام‪.‬‬
‫وال يقبــل أصحــاب هــذا االتجــاه يف دراســة اللغــة‪ ،‬عــى اختــاف منطلقاتهــم القــول‬
‫باســتقاللية النظــام اللغــوي؛ فهــم يــرون أ ْن ال انفصــال بــن املعرفــة اللغويــة والتفكــر‬
‫بشــكل عــام"‪.12‬‬
‫غــدا واضحــا أن اللســانيات املعرفيــة تبحــث يف اآلليــات التــي يعمــل بهــا الدمــاغ‪/‬‬
‫الذهــن البــري لتوليــد املعرفــة واللغــة‪ ،‬وذلــك يف ســياق تكامــي مســتفيدة يف ذلــك‬
‫مــن كل العلــوم وثيقــة الصلــة بهــذه الغايــة كعلــم األعصــاب والترشيــح والرياضيــات‬
‫والحاســوب وبطبيعــة الحــال اللســانيات ‪.‬‬
‫واملعرفــة اللغويــة يف هــذا التيــار "جــزء مــن اإلدراك العقيل الــذي ال مييز بــن املعلومات‬
‫اللغويــة واملعلومــات غــر اللغويــة‪ ،‬والــذي يتأثــر‪ ،‬وبقــوة‪ ،‬مبحيــط اإلنســان وتجاربــه‬
‫اليوميــة املختلفــة؛ فالعمليــات العقليــة التــي تتحكــم يف التفكــر اإلنســاين ويف تكويــن‬
‫املعرفــة بشــكل عــام هــي نفســها التــي تتحكــم يف املعرفــة اللغويــة ويف تشــكيل البنيــة‬

‫‪129‬‬ ‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬


‫عبد السالم عايب و النذير ضبعي‬

‫اللغويــة العا ّمــة مبســتوياتها املختلفــة‪ .‬فهنــاك " مســتوى واحــد تعالــج فيــه املعلومــات‬
‫اللغويــة واملعلومــات األخــرى الحركيــة والبرصيــة والســمعية غــر اللغويــة للوصــول إىل‬
‫مجموعــة مــن املعلومــات ال ينبغــي التمييــز داخلهــا بــن مــا هــو لغــوي ومــا هــو غــر‬
‫لغـ�وي‪ ،‬وهـ�و املسـ�توى الـ�ذي يطلـ�ق عليـ�ه مسـ�توى البنيـ�ة التصوريـ�ة �‪conceptual struc‬‬
‫‪13‬‬
‫‪"ture‬‬
‫هــذا هــو اإلطــار العــام الــذي انبثقــت منــه اللســانيات العرفانيــة والــذي طــرح‬
‫‪14‬‬
‫"جاكنــدوف" أســبابه يف كتابــه (علــم الداللــة والعرفانيــة)‬
‫و بالنظــر يف مــا ميــز اللســانيات العرفانيــة عــن اللســانيات التوليديــة فــإن أهــم مظاهر‬
‫التاميــز ميكــن صيغتهــا يف العنرصيــن اآلتيني‪:‬‬
‫أ‪ -‬من مركزية الرتكيب إىل هندسة التوازي‪:‬‬
‫بنــى تشومســي نظريتــه يف بداياتهــا عــى مركزيــة (املكــون الرتكيبــي)‪ ،‬وقــد كان‬
‫الرتكيــب قطــب الرحــى الــذي درات يف فلكــه مباحــث اللســانيات التوليديــة ردحــا مــن‬
‫الزمــن‪ ،‬بينــا تعمــل املكونــات األخــرى الصــوت والداللــة يف مســتوى ثانــوي‪ ،‬يقــول‬
‫جاكنــدوف‪" :‬ونعــود إىل مــا أعتقــد أنــه الخطــأ الــذي يقــع يف صلــب النحــو التوليــدي‬
‫أقصــد الخطــأ الــذي يقــف وراء ابتعــاد النظريــة اللغويــة عــن العلــوم العرفانيــة واغرتابهــا‬
‫فقــد برهــن تشومســي عــى أن اللغــة تتطلــب نســقا توليديــا يســمح بإنتــاج مــا ال حــر‬
‫لــه مــن الجمــل املتنوعــة‪ ،‬لكنــه دافــع دون دليــل يف كتــاب املظاهــر عــن أن خاصيــة‬
‫التوليديــة هــذه توجــد يف صلــب املكــون الرتكيبــي للنحــو ـ بنــاء املركبــات مــن الكلــات‬
‫ـ وأن الصوتيــات (نظــام أصــوات الــكالم) والدالليــات (نظــام املعنــى) هــا مكونــان‬
‫تأويليــان فقــط؛ أي إن خصائصهــا التأليفيــة ال تعــد أصليــة‪ ،‬بــل مشــتقة بكيفيــة صارمــة‬
‫مــن تأليفيــة الرتكيــب"‪ ،15‬ويف هــذا الصــدد تلــح اللســانيات العرفانيــة عــى مركزيــة كل‬
‫املكونــات وتؤكــد عــى أن الرتكيــب "يف إطــار فرضيــة التــوازي‪ ،‬مجــرد مكــون للغــة بــن‬
‫املكونــات األخــرى التــي يســهم كل واحــد منهــا يف إبداعيــة اللغــة وتعقدهــا وطابعهــا‬
‫املجــرد" ‪.16‬‬

‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬ ‫‪130‬‬


‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪ :‬تحوالت املباحث واملفاهيم‬

‫والحــق أن مركزيــة الرتكيــب تجــد شــيئا مــن مــررات الســيطرة التــي اســتمرت ردحــا‬
‫مــن الزمــن‪ ،‬فقــد كانــت "الهندســة القامئــة عــى مركزيــة الرتكيــب تبــدو معقولــة يف‬
‫بدايــات النحــو التوليــدي‪ ،‬كانــت القواعــد الصواتيــة قواعــد مســتوى أدىن تعــدل نطــق‬
‫الكلــات بعــد أن ينظمهــا املكــون الرتكيبــي‪ ،‬ومل تكــن هنــاك نظريــة دالليــة جــادة‪،‬‬
‫واعتــر املعنــى مجــرد قـراءة للبنيــة الرتكيبيــة‪ ،‬فــأدت هــذه االعتبــارات إضافــة إىل الصــدى‬
‫الواســع الــذي القــاه الرتكيــب التحويــي املبكــر إىل تعزيــز قــوة املركزيــة الرتكيبيــة "‪.17‬‬
‫وميكن أن نقرتح لبيان نقاط االختالف يف هذه الجزئية املخطط آليت‪:‬‬

‫الصوت الداللة‬
‫الرتكيب الصوت‬
‫الداللة‬
‫الرتكيب يف‬
‫املركز‬

‫تصور العرفانيني‬ ‫تصور تشومسيك‬

‫مخطط رقم ‪ :1‬نقاط االختالف بني تشومسيك والعرفانيني‬


‫تبــن الرتســيمة األوىل تصــور تشومســي الــذي فصــل بــن الرتكيــب مــن جهــة‪ ،‬والصــوت‬
‫والداللــة مــن جهــة ثانيــة‪ ،‬جاعــا الرتكيــب يف املركــز بينــا‪ ،‬يخالــف العرفانيــون ذلــك‬
‫بإعطــاء نفــس األهميــة للمكونــات جميعهــا‪ ،‬وهــو مــا تبينــه الرتســيمة الثانيــة ‪.‬‬
‫ب‪-‬البنية التصورية‪ ،‬من أحادية املكونات إىل دمجها‪:‬‬
‫ينظــر تشومســي ملختلــف العمليــات الذهنيــة التــي ترافــق عمليــات التحليــل اللغــوي‬
‫عــى أنهــا عمليــات منفصلــة‪ ،‬وال متــت للتحليــل اللســاين بصلــة‪ ،‬وهــو األمــر الــذي يخالف‬
‫مــا هــو موجــود عنــد أصحــاب اللســانيات العرفانيــة الذيــن أولــوا هــذه العمليــات أهميــة‬
‫كــرى‪ ،‬واعتــروا اآلليــات التــي تعمــل بهــا كال متكامــا‪ ،‬يضــاف إىل ذلــك الرتكيــز عــى‬
‫مختلــف مباحــث علــم النفــس كاإلدراك‪ ،‬والخيــال‪ ،‬والتصــور ومــا إىل ذلــك‪ ،‬وهــي املباحث‬

‫‪131‬‬ ‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬


‫عبد السالم عايب و النذير ضبعي‬

‫التــي حيدهــا تشومســي كــا أســلفنا ‪.‬‬


‫إننــا اآلن بصــدد الحديــث عــن مقاربــة جديــدة مؤداهــا أن " معالجة الوحــدات اللغوية‬
‫وإنشــاءها يقــع إنجازهــا بفضــل عــدد مــن القــدرات الذهنيــة العامــة التــي ال تخــص‬
‫نشــاط اإلنســان اللغــوي فحســب‪ ،‬وإمنــا تهــم مختلــف األنشــطة التــي يقــوم بهــا يف كل‬
‫مياديــن املعرفــة وحتــى يف حياتــه اليوميــة " ‪ ،18‬فهــذا الطــرح يعطــي ملباحــث اللســانيات‬
‫بعــدا شــموليا ينــدرج ضمــن مباحــث علــم النفــس املعــريف‪ ،‬ويجعــل االســتمداد مــن‬
‫علــوم كثــرة أم ـرا مرشوعــا كعلــم األعصــاب وعلــم الترشيــح وعلــوم الطبيعــة وغريهــا‪،‬‬
‫وهــو األمــر الــذي نــرى دائرتــه ضيقــة إىل أبعــد الحــدود يف الفكــر اللســاين التوليــدي‬
‫وبخاصــة إذا مــا عددنــا العلــوم التــي نهلــت منهــا اللســانيات التوليديــة و عــى رأســها‬
‫الرياضيــات ‪.‬‬
‫وتعترب(البنيــة التصوريــة) واحــدة مــن أهــم املباحــث التــي متيــز البحــث اللســاين‬
‫العرفــاين عــن البحــث اللســاين التوليــدي‪ ،‬وكان تشومســي قــد ألــح عــى انفصــال‬
‫اآلليــات اللغويــة املســؤولة عــن إنتــاج اللغــة يف الدمــاغ وفهمهــا‪ ،‬مــا يعنــي أن إنتــاج‬
‫اللغــة وفهمهــا عنــده تتــم عــى مســتوى جهــاز مفصــول عــن بقيــة العمليــات الذهنيــة‬
‫كاإلدراك والخيــال والتصــور وغريهــا‪.‬‬
‫غــر أن األمــر عنــد العرفانيــن بخــاف ذلــك فــكل العمليــات الذهنيــة –مبــا فيهــا‬
‫اللغويــة ‪-‬تتــم عــى مســتوى البنيــة التصوريــة‪ ،‬وهــي "ليســت جــزءا مــن اللغــة يف حــد‬
‫ذاتهــا‪ ،‬إمنــا هــي جــزء مــن الفكــر‪ .‬إنهــا املحــل الــذي يتــم فيــه فهــم األقــوال اللغويــة يف‬
‫ســياقاتها‪ ،‬مبــا يف ذلــك االعتبــارات الذريعيــة واملعرفــة املوســوعية؛ إنهــا البنيــة املعرفيــة‬
‫التــي ينبنــي عليهــا التفكــر والتخطيــط " ‪ ،19‬وتخــص البنيــة التصوريــة عنــد العرفانيــن‬
‫كل املعــارف التــي تتــم صناعتهــا يف الذهــن ولهــا عالقــة بتجــارب اإلنســان يف املواقــف‬
‫الحياتيــة املختلفــة‪ ،‬كــا أن " مبــادئ البنيــة التصوريــة تنســحب عــى معرفتنــا بــكل أنــواع‬
‫الدالئــل واســتعاملها‪ .‬فهــي تتعلــق بتجاربنــا الفكريــة والجامليــة والحســية مــع اللــون‬
‫والحجــم والهيئــة والصــوت ‪ . . .‬إنهــا تهــم مختلــف أنســاقنا املعرفيــة واإلدراكيــة" ‪.20‬‬

‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬ ‫‪132‬‬


‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪ :‬تحوالت املباحث واملفاهيم‬

‫ميكــن أن منثــل لتصــور إنتــاج اللغــة وفهمهــا يف املنجزيــن التوليــدي والعرفــاين باملخطط‬
‫اآليت‪:‬‬

‫إنتاج اللغة وفهمها‬ ‫إنتاج اللغة وفهمها‬

‫باقي العمليات الذهنية‬


‫باقي العمليات الذهنية‬

‫( البنية التصورية ) تصور العرفانيني‬ ‫تصور تشومسيك‬

‫مخطط ‪ :2‬تصور إنتاج اللغة وفهمها يف املنجزين التوليدي والعرفاين‬


‫وميكــن يف هــذا الســياق رصــد أهــم نقــاط االختــاف بــن املنجزيــن التوليــدي والعرفاين‬
‫وضبطهــا وذلــك مــن خــال كتــاب (النظريــة اللســانية والداللــة العربيــة املقارنــة)‪ 12‬عــى‬
‫النحــو التــايل‪:‬‬
‫يف اللسانيات املعرفية‬ ‫يف اللسانيات التوليدية‬
‫ث‪ -‬الصــوت والداللــة مكونــان موازيــان للرتكيب‬ ‫ب‪ -‬الصــوت والداللــة مكونــان‬
‫ويحتــان املكانة نفســها‪.‬‬ ‫تأويليــان يف مرتبــة أقــل مــن‬
‫ج‪ -‬املعنــى يف نظريــة الداللــة التصوريــة عبــارة‬ ‫مرتبــة الرتكيــب الــذي يحتــل‬
‫عــن متثيــات ذهنيــة مبنيــة يف صــورة تنظيــم‬ ‫مكانــة مركزيــة‪.‬‬
‫معــريف هــو البنيــة التصوريــة وهــي ليســت‬ ‫ت‪ -‬إنتــاج اللغــة وفهمهــا يتــم‬
‫جــزءا مــن اللغــة وإمنــا هــي جــزء مــن الفكــر‪.‬‬ ‫مبعــزل عــن بقيــة العمليــات‬
‫الذهنيــة‬
‫وختامــا فــإن املالحــظ ملســرة النظريــة التوليديــة وأهــم املفاهيــم التــي ركــزت عليهــا‬
‫يالحــظ أن اللســانيات العرفانيــة مل تــأت عــى أنقاضهــا‪ ،‬ومل تــأت مباينــة لهــا‪ ،‬وعليــه فــإن‬
‫األمــر "ال يتعلــق باتجــاه لســاين جديــد مجــاوز لقديــم‪ ،‬وال مبــا هــو أكــر تطــورا أو أقــل‬
‫قيمــة‪ ،‬وال بنظريــة لســانية أحســن‪ ،‬وال بنظريــة أســوأ‪ ،‬إمنــا األمــر أن اللغــة لتعقداتهــا‬
‫وصعوبــات حرصهــا تحتــاج إىل مقاربــات مختلفــة‪ ،‬وهــي مقاربــات وإن ألحــت عــى‬
‫‪133‬‬ ‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬
‫عبد السالم عايب و النذير ضبعي‬

‫وجــوه اختالفهــا‪ ،‬فكث ـرا مــا انتهــت إىل ترســيخ أفــكار مشــركة بينهــا‪ ،‬تعــر أكــر مــن‬
‫غريهــا عــن تقــدم اإلنســانية يف فهــم اللغــة"‪.22‬‬
‫إن تغيــر بعــض املفاهيــم أو توســيعها ال يعنــي البتــة حــدوث قطيعــة بــن منج ـزات‬
‫تشومســي ومنج ـزات تالميــذه‪ ،‬فرتكيــز تشومســي عــى مركــب بعينــه وإعطــاؤه صفــة‬
‫املركزيــة لــه مربراتــه التاريخيــة واملعرفيــة ولــه أســبابه التــي تصــب يف خانــة تراكبيــة‬
‫العلــوم وصريورتهــا‪ ،‬إذ ال يُتصــور توقــف عجلــة اللســانيات التوليديــة عنــد مــا قــرره‬
‫تشومســي يف البنــى الرتكيبيــة عــام ‪ 1957‬وبخاصــة مــع التطــور املتزايــد الــذي تعرفــه‬
‫العلــوم اإلنســانية ‪.‬‬
‫والالفــت للنظــر أن (جاكنــدوف) وهــو أحــد منظــري اللســانيات العرفانيــة قــد ُوضــع‬
‫عنــوة عنــد بعــض الدارســن يف خانــة مــن خالفــوا تشومســي‪ ،‬مــع أن الظاهــر مــن خــال‬
‫أعاملــه املتأخــرة (‪ )2002-1997‬هو"ســعيه إىل رشح إشــارات تضمنهــا الربنامــج األدنــوي‪،‬‬
‫وتعميــق النظــر فيهــا ليتخذهــا ســبيال عــى إقامــة تصــور نظــري يســتمد حصانتــه مــن‬
‫الخــوض فيهــا بإثبــات االنتــاء إىل املؤسســة التوليديــة‪ ،‬ويثبــت خصوصيتــه وقوتــه مــن‬
‫مــوارد نظريــة أخــرى ليســتوي يف نهايــة املطــاف قاطــرة تجــذب البحــث التوليــدي إىل‬
‫أرضيــة نفســية عرفانيــة موســعة‪ .‬ولذلــك نجــد يف كتاباتــه مــا بــه يكــون التابــع املخلــص‬
‫لتشومســي والخــارج عنــه يف آن واحــد" ‪.23‬‬
‫وقــد بــدا جليــا اآلن‪ ،‬أن اللســانيات العرفانيــة إمنــا حاولــت جــر اللســانيات التوليديــة‬
‫إىل حقــل العلــوم املعرفيــة التــي وســعت مجــال الدراســة أكــر‪ ،‬كــا أن أحــد" األهــداف‬
‫الرئيســة التــي تتوخــى نظريــة الداللــة التصوريــة تحقيقهــا هــو إعــادة إدمــاج النحــو‬
‫التوليــدي‪ ،‬مبــا يف ذلــك نظريــة الداللــة يف العلــوم العصبيــة واملعرفيــة بكيفيــة تجعلــه‬
‫يتــاءم بصــورة طبيعيــة مــع الهندســة الواســعة للذهــن ‪/‬الدمــاغ‪ ،‬وذلــك وفــاء بوعــد‬
‫قطعتــه اللســانيات التوليديــة عــى نفســها منــذ كتــاب تشومســي (مظاهــر النظريــة‬
‫الرتكيبيــة) ســنة ‪ 1965‬الــذي جــاء فيــه‪ :‬لنالحــظ أننــا ال نقصــد طبعــا أن وظائــف اكتســاب‬
‫اللغــة تنجزهــا مكونــات منفصلــة متامــا يف الذهن املجــرد أو الدمــاغ الفيزيــايئ‪ . . .‬وبالفعل‬

‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬ ‫‪134‬‬


‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪ :‬تحوالت املباحث واملفاهيم‬

‫فمــن مشــاكل علــم النفــس الهامــة أن نحــدد إىل أي حــد تقتســم مظاهــر أخــرى للمعرفــة‬
‫خصائــص اكتســاب اللغــة واســتعاملها‪ ،‬وأن نحــاول يف هــذا االتجــاه‪ ،‬تطويــر نظريــة‬
‫للذهــن أغنــى وأوســع " ‪.24‬‬
‫تلــك هــي الحقيقــة التــي رمبــا غيبــت يف كثــر مــن الدارســات التــي تخــص اللســانيات‬
‫العرفانيــة‪ ،‬وهــي الحقيقــة التــي تؤكــد عــى أن الصلــة بــن املنجزيــن قويــة متجــذرة‪،‬‬
‫وإن تباينــت كثــر مــن البحــوث يف املنجزيــن‪ ،‬لكــن األطــر العامــة التــي تحكــم املنجزيــن‬
‫واحــدة‪ ،‬وهــو مــا يجيــز لنــا وصــف العالقــة بينهــا بعالقــة االمتــداد ال القطيعــة ‪.‬‬

‫‪135‬‬ ‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬


‫عبد السالم عايب و النذير ضبعي‬

‫اإلحاالت‬
‫‪ 1-‬مصطفــى غلفــان‪ ،‬اللســانيات التوليديــة مــن النمــوذج مــا قبــل املعيــار إىل الربنامــج‬
‫األدنــوي‪ ،‬عــامل الكتــب الحديــث‪ ،‬إربــد‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪2010 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.1‬‬
‫‪ -2‬كاتريــن فــوك و بيــاريل قوفيــك‪ ،‬مبــادئ يف قضايــا اللســانيات املعــارصة‪ ،‬ترجمة‪:‬املنصف‬
‫عاشــور‪ ،‬ديــوان املطبوعــات الجامعية‪ ،‬الجزائــر‪ ،1984 ،‬ص‪.77‬‬
‫‪ -3‬حافــظ إســاعيل علــوي‪ ،‬أمحمــد املــاخ‪ ،‬قضايــا إبســتمولجية يف اللســانيات‪ ،‬الــدار‬
‫العربيــة للعلــوم نــارشون‪ ،‬لبنــان‪ ،‬ط‪2009 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪ -4‬محمــد غاليــم‪ ،‬النظريــة اللســانية والداللــة العربيــة املقارنــة‪ ،‬دار طوبقــال للنــر‪،‬‬
‫الــدار البيضــاء‪ ،‬املغــرب‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -5‬اللســانيات التوليديــة مــن النمــوذج مــا قبــل املعيــار إىل الربنامــج األدنــوي‪ ،‬مرجــع‬
‫ســابق‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫‪ -6‬نســيمة شــام‪ ،‬النظريــات الدالليــة يف القواعــد التوليديــة التحويليــة مجلــة كليــة‬
‫اآلداب واللغــات‪ ،‬جامعــة بســكرة‪ ،‬العــدد الســادس عــر‪ ،‬ديســمرب ‪ ،2014‬ص‪103-102‬‬
‫‪ -7‬اللســانيات التوليديــة مــن النمــوذج مــا قبــل املعيــار إىل الربنامــج األدنــوي‪ ،‬مرجــع‬
‫ســابق‪ ،‬ص ‪96‬‬
‫‪ -8‬نعامن بوقرة‪ ،‬املدارس اللسانية املعارصة‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة دط‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.161‬‬
‫‪ -9‬ينظــر‪ :‬اللســانيات التوليديــة مــن النمــوذج مــا قبــل املعيــار إىل الربنامــج األدنــوي‪ ،‬ص‬
‫‪.198 ،197‬‬
‫‪ -10‬اللسانيات التوليدية من النموذج ما قبل املعيار إىل الربنامج األدنوي‪ ،‬ص‪.365‬‬
‫‪ -11‬راي جاكنــدوف‪ ،‬علــم الداللــة والعرفانيــة‪ ،‬ترجمــة‪ :‬عبــد الــرزاق بنــور‪ ،‬املركــز الوطني‬
‫للرتجمــة‪ ،‬تونس‪ ،2010 ،‬ص‪5‬‬
‫‪ -12‬إبراهيــم النجــار‪ ،‬آليــات التصنيــف اللغــوي بــن علــم اللغــة املعــريف والنحــو العــريب‪،‬‬
‫مجلــة امللــك ســعود‪ ،‬م‪ ،17‬كليــة اآلداب‪ ،2004 ،‬ص‪.2‬‬
‫‪ -13‬آليــات التصنيــف اللغــوي بــن علــم اللغــة املعــريف والنحــو العــريب‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬
‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬ ‫‪136‬‬
‫من اللسانيات التوليدية إىل اللسانيات العرفانية‪ :‬تحوالت املباحث واملفاهيم‬

‫ص ‪.5‬‬
‫‪ -14‬ينظر‪ :‬علم الداللة والعرفانية‪ ،‬ص ‪ 47‬ومابعدها ‪.‬‬
‫‪ -15‬جاكنــدوف ضد تشومســي‪ ،‬مقال منشــور عــى االنرتنــت‪http://mustafahaddad. ،‬‬
‫‪blog-post_15. html0/05/blogspot. com/2007‬‬
‫‪ -16‬النظرية اللسانية والداللة العربية املقارنة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪15‬‬
‫‪ -17‬السابق‪ ،‬ص‪19‬‬
‫‪ -18‬عبــد الجبــار بــن غريبــة‪ ،‬مدخــل إىل النحــو العرفــاين‪ ،‬مســكيلياين للنــر والتوزيــع‪،‬‬
‫تونــس‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‪39‬‬
‫‪ -19‬مجموعــة مؤلفــن‪ ،‬آفــاق اللســانيات‪ ،‬مركــز دراســات الوحــدة العربيــة‪ ،‬بــروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪2011‬ص ‪58-57‬‬
‫‪ -20‬محمــد غاليــم‪ ،‬التوليــد الــداليل يف البالغــة واملعجــم دار توبقــال للنــر‪ ،‬الــدار‬
‫البيضــاء‪ ،‬املغــرب‪ ،‬ط‪ ،1987 ،1‬ص‪92‬‬
‫‪ -21‬ينظر‪ :‬النظرية اللسانية والداللة العربية املقارنة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪17/16/15‬‬
‫‪ -22‬مدخل إىل النحو العرفاين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪9‬‬
‫‪ -23‬الزهر الزناد‪ ،‬نظريات لسانية عرفنية‪ ،‬الدار العربية للعلوم نارشون‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫‪ -24‬آفاق اللسانيات‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.54‬‬

‫‪137‬‬ ‫اللّـسانيـــــات ‪ -‬املجلد ‪ - 24‬العدد ‪1‬‬

You might also like