You are on page 1of 19

‫ا‬

‫املجلةالعربية الدولية للبحوث الخّلقة – األردن‬


‫‪International Arabic Journal of Creative Research‬‬
‫‪p - ISSN 9072-4706‬‬
‫املجلد‪1‬العدد‪ ،0202 -3‬ص ‪112-11‬‬
‫‪URL: www.iajcr.com‬‬

‫حماسن التصوف يف األبد الفارسي وأساطینه‬


‫‪The virtues of Sufism in Persian literature‬‬
‫عبد الشکور عابد‪ ،‬األستا امساعد بکلیة اللغات اآلبدا ‪ /‬جامعة ختار‪ -‬أفغانستان‬
‫‪abdulshakoorabed888@gmail.com‬‬

‫تاريخ استالم املاقاة ‪ | DOI: 17.154109/IAJCR9797v1n3r4 | 0202/20/32 :‬تاريخ قبول املاقاة ‪0202/20/02 :‬‬

‫ص‬
‫امملخ م‬
‫تعد التصوف من أهم املباحث األساسية اليت يدرسها األدب اإلسالمي إىل جانب علم الكالم والفلسفة‬
‫والفكر العريب املعاصر‪ .‬وقد قطع التصوف اإلسالمي أشواطا كثرية يف تطوره إىل أن حتول إىل طرق وزوايا‬
‫ورباطات دينية للسالكني واملريدين يقودهم شيخ أو قطب‪ .‬وقد قامت هذه الطرق والزوايا بأدوار إجيابية تتمثل‬
‫يف خدمة الناس والفقراء واحملتاجني على مستوى االجتماعي‪ ،‬والدعوة إىل اجلهاد على املستوى السياسي‪ ،‬بيد‬
‫أن هناك من الزوايا الطرقية اليت كان هلا دور سليب يتمثل يف مهادنة االستعمار والتحالف معه ضد السيادة‬
‫الوطنية ومصلحة الشعب‪ .‬هذا‪ ،‬وللتصوف عالقة وطيدة باألدب نثرا وشعرا‪ ،‬إذ استعان املتصوةة بالشعر للتعبري‬
‫عن جماهداهتم وشطحاهتم العرةانية‪ ،‬كما استعانوا بالنثر لتقدمي قبساهتم النورانية وجتارهبم العرةانية الباطنية‪.‬‬
‫تبيني هذه الدراسة حماسن التصوف يف األدب الفارسي وأساطينه‪ ،‬وكيفية حسنه وانتشاره يف العامل العريب‬
‫عزام‬
‫على أشكال وأنواع تعرب عن موقفها من قضاياه عدة‪ .‬إال أن جملة الرسالة املصرية شهدت تقدمي األستاذ ا‬
‫يد ال ادين العطاار من أحد‬ ‫ألعالم التصوف الفارسي‪ ،‬ةنقرأ يف جملداهتا الثرية عن صالح التصوف الفارسي کفر ُ‬
‫أشهر ثالثة ارتبطت أشعارهم بالتصوف اإلسالمي وجالل الدين حممد البلخي وخواجه حاةظ الشريازي الذي‬
‫تأثر به جوته الشاعر الفرنسي تأثارا بالغًا يف غزلياته‪ ،‬وثانيهم السلطاء العلماء وأعظمهم وأشهرهم اليوم‪.‬‬
‫الكلمات امفتاحیة‪ :‬التصوف‪ ،‬أدب الفارسي‪ ،‬العطار النيشابوری‪ ،‬جالل الدين بلخي وحاةظ الشريازي‪.‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫امقدمة‬
‫التصوف حركة دينية انتشرت يف العامل اإلسالمي يف القرن الثالث اهلجري كنزعات ةردية تدعو إىل الزهد وشدة‬
‫العبادة كرد ةعل مضاد لالنغماس يف الرتف احلضاري‪ .‬مث تطورت تلك النزعات بعد ذلك حىت صارت طرق مميزة معروةة‬
‫باسم الصوةية‪ ،‬ويتوخى املتصوةة تربية النفس والسمو هبا بغية الوصول إىل معرةة هللا تعاىل بالكشف واملشاهدة العن‬
‫طريق اتباع الوسائل الشرعية‪ ،‬ولذا جنحوا يف املسار حىت تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية‪ :‬اهلندية والفارسية‬
‫واليونانية املختلفة‪ .‬ويالحظ أن هناك ةروقاً جوهرية بني مفهومي الزهد والتصوف أمهها‪ :‬إن الزهد مأمور به‪ ،‬والتصوف‬
‫جنوح عن طريق احلق الذي اختطه أهل السنة واجلماعة‪.‬‬
‫كان التصوف أول األمر زهداً‪ ،‬مث صار معرةة وحباً‪ ،‬مث صار ةناء وخطت سبل لرتبية السالكني ةصار التصوف‬
‫طريقة‪ ،‬ونشأت ةيه أساليب من النظر واختلط به آراء من الفلسفة ةصار له ةلسفة أو ما يشبه الفلسفة وإذا أردت أن‬
‫تتبع تطور التصوف يف تاريخ الرجال ةانظر يف سري أمثال احلسن البصري وسفيان الثوري مث أمثال شفيق البخلي وإبراهيم‬
‫بن أدهم والسري السقطي ومعروف الكرخي‪ ،‬مث أمثال اجلنيد والشبلي وأيب يزيد البسطامي مث احلالج والسهروردي‬
‫املقتول وابن العريب وليس التصوف مذهباً واضح احلدود ابني املعامل جيمع كل من دخل ةيه على آراء متفقة‪ ،‬وأعمال‬
‫متشاهبة‪ ،‬بل ةيه آراء خمتلفة وأقوال متباينة‪ ،‬وسري شىت‪ .‬ةيه تصوف اخلاصة والعامة وطريقة املقتصدين والغالة وأقوال‬
‫الصاحلني والسكارى‪.‬‬
‫ورمبا خلط بعض الناس بني التصوف والتصوف الفلسفي من جهة‪ ،‬وبني التصوف والزهد من جهة أخرى؛ أو ةهم‬
‫الثالثة أهنا من املرتادةات‪ ،‬وليس هذا بنادر الوقوع‪ .‬أما الزهد ةهو الناحية العملية من الطريق الصويف؛ أو هو احلياة اليت‬
‫حيياها الصويف‪ ،‬تلك احلياة البادية يف مظهره اخلارجي من تقشف يف املأكل واملشرب واعتزال للناس وانقطاع إىل هللا‪،‬‬
‫والبادية يف حياته الباطنة الروحية من خشية من هللا وورع وتقوى وعبادة وصوم وصالة وذكر وهتجد وهجر للدنيا‬
‫وزخرةها‪ .‬وأما التصوف ةأصدق وصف له أنه طريق لتصفية النفس وجماهدهتا ورياضتها واالنتقال هبا من حال إىل حال‬
‫ومن مقام إىل مقام والرتقي هبا يف خطوات بطيئة عسرية حىت يصل هبا صاحبها إىل املقام الذي يطلق عليه الصوةية‬
‫اسم مقام الشهود أو الوجد أو الفناء ‪ -‬وهو املقام الذي يدرك ةيه الصويف ‪ -‬ويف هذه احلال ال ةرق بني صويف مسلم‬
‫وصويف مسيحي أو يهودي أو بوذي ‪ -‬يدرك من احلقائق ما ال سبيل للعقل اإلنساين أن يدركه‪ ،‬ويتذوق من املعاين ما‬
‫يكل اللسان اإلنساين عن شرحه وأما التصوف الفلسفي ةهو األساس امليتاةيزيقي أو النظريات الفلسفية اليت حياول هبا‬
‫الصوةيون يف وقت صحوهم تفسري أو تعليل ما جيدونه يف وقت سكرهتم أو يف حالة وجدهم‪.‬‬

‫ا‬
‫‪39‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫وشعرا‪ ،‬إذ استعان املتصوةة‬


‫نثرا ً‬ ‫هذا معلوم عند کل من يبحث عن هذه احلقيقة أن للتصوف عالقة وطيدة باألدب ً‬
‫بالشعر للتعبري عن جماهداهتم وشطحاهتم العرةانية‪ ،‬كما استعانوا بالنثر لتقدمي قبساهتم النورانية وجتارهبم العرةانية الباطنية‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬ما هي عالقة التصوف باألدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة؟‬
‫اآلداب الفارسية وحدها اليت ذاعت وانتشرت يف ساحة األدب الفارسي ةقط‪ ،‬بل انتشرت معه التصوف‬
‫ُ‬ ‫مل تكن‬
‫وعجمة‬
‫الفارسي يف هذه اخلطة وإن درست آثار الصويف يف عصرنا احلديث وغاب وجودهم بفعل سياسات الدول‪ُ ،‬‬
‫اللسان واختالف البيئة وتشباع الفارسيون مبا لديهم من تراث األدب الصويف‪.‬‬
‫الدراسات السابقة للموضوع‪ :‬عين املؤلفون من قدمي بدراسة التصوف اإلسالمي يف مجلته مدةوعني غالباً مبا يف‬
‫املوضع من طراةة‪ ،‬وحماولني أن يكشفوا ما احتواه اإلسالم والشرق من حقائق وأسرار ويغلب على الظن أن األحباث‬
‫الصوةية أول موضوع استلفت أنظار املستشرقني؛ وال تزال هذه األحباث حمل عنايتهم حىت اليوم؛ ومؤلفاهتم ةيها تزيد‬
‫كثرياً على ما كتبوه يف الدراسات اإلسالمية األخرى‪.‬‬
‫ألف حممد الغزايل كتباً مسااه (املنقذ من الضالل) يف التصوف وأيضا كتب عدة كتب أخر‪ ،‬حيدثنا البيهقي يف كتابه‬
‫ا‬
‫تاريخ حكماء اإلسالم أن الغزايل كان كثرياً ما يورد كالم العامل اإلسكندري الشهري حي ى النحوي‪ ،‬السيما يف كتابه‬
‫هتاةت الفالسفة حيث يقول البيهقي‪" :‬وأكثر ما أورده اإلمام حجة اإلسالم رمحه هللا يف هتاةت الفالسفة تقرير كالم‬
‫حي ى النحوي" ويذكر الشهري زوري يف كتابه (نزهة األرواح) أن الغزايل أخذ أورده يف التهاةت من كتب حي ى النحوي‬
‫برده على الفيلسوف برقلس (‪084 - 014‬م) رئيس املدرسة األةالطونية احلديثة يف أثينا‬ ‫وقد اشتهر حي ى النحوي هذا ا‬
‫وصاحب كتاب (مباديء تعاليم الالهوت)‪ ،‬وكتاب شرح حماورات أةالطون يف إبطال نظرية قدم العامل‪.‬‬
‫أقدم كتاب منهجي يف التصوف الذي كتب األمري خسرو الدهلوي يف سنة ‪ 898‬ه ـ بعنوان (مطلع األنوار) نظمه‬
‫يف مدة أسبوعني‪ .‬كان األمري خسرو لني اجلانب رقيق العواطف قطع مجيع مدارج التصوف ومنازله‪ ،‬ةكان صاحب‬
‫حرقة قلبية دائمة يف حب هللا‪ .‬وقد قال ةيه شيخه موالنا نظام الدين أولياء قدس سره‪( :‬يف يوم القيامة كل واحد يفتخر‬
‫بشيء‪ ،‬وةخري حبرقة هذا (ترك هللا)‪ .‬ولعل خسرو أشار إىل هذا حني قال البيت اآليت‪:‬‬
‫تاتو شود (ترك خداى) خطاب‬ ‫خسرو من كوش براي صواب‬
‫(يا خسرو اجتهد يف احلق ليكون لك لقب (ترك هللا) (الدهلوي‪1880 ،‬هـ‪)124 :‬‬
‫ودون أن نعرض لكل من اشتغلوا مبوضوع التصوف من كبار املستشرقني نكتفي بأن نشري إىل رجال القرن العشرين‪،‬‬
‫وخنص بالذكر منهم جولد زيهري النمسوي الذي عقد للتصوف ةصالً ممتعاً يف كتابه (عقيدة اإلسالم وقانونه) جبانب‬
‫أحباث أخرى قيمة؛ واألستاذ مكدونلد األمريكي الذي وضح كثرياً من آراء الغزايل الصوةية‪ ،‬واألستاذ نكلسون املدرس‬

‫ا‬
‫‪39‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫جبامعة كمربدج‪ ،‬واألستاذ ماسنيون املدرس بكليج دي ةرنس‪ ،‬وعلى رأس هؤالء مجيعاً أن نضع نكلسون وماسنيون‪،‬‬
‫ةإنه يرجع إىل األول الفضل يف نشر كثري من خملفات الصوةية القيمة والتعريف عنها؛ أما أستاذنا ماسنيون ةقد رسم يف‬
‫التصوف طرائق جديدة‪ ،‬وقدم لنا احلالج صورة غنية باأللوان واملعاين الدقيقة يف كتاب يعد أوسع مؤلف يف تاريخ‬
‫التصوف اإلسالمي‪.‬‬
‫ومن هذا املنظور والرؤية نرى التصوف‪ ،‬وننظر يف الصوةية‪ ،‬ونبحث يف نشأته وقواعده وأصوله وحنقق أسسه ومبادئه‪،‬‬
‫ومناهجه‪ ،‬هل هلا أصل يف القرآن والسنة‪ ،‬أو سند يف خيار خلق هللا أصحاب رسول هللا الذين هم أولياء هللا احلقيقيون‬
‫األولون من أمة حممد‪ ،‬الذين ال خوف عليهم والهم حيزنون‪.‬‬

‫‪ -1‬مفه ــوم التصوف‬


‫وبعد هذه املقدمة املختصرة واملهمة أيضا أنتقل إىل املقصود واملطلوب‪ ،‬وهو معرةة التصوف والصوةية‪ ،‬وجعل الشرع‬
‫حاكما عليهما‪ ،‬وعرض آرائهما وأةكارمها عليه‪ .‬من يتأمل االشتقاقات اللغوية لكلمة التصوف‪ ،‬ةإنه سيجد أن الكلمة‬
‫تدل على عدة معان كالداللة على الصفاء والصفو؛ ألن هم املتصوف هو تزكية النفس وتطهريها وتصفيتها من أدران‬
‫اجلسد وشوائب املادة واحلس‪ ،‬وقد تشري الكلمة إىل أهل الصفة الذين كانوا يسكنون صفة املسجد النبوي‪ ،‬ويعيشون‬
‫على الكفاف والتقشف وشظف العيش‪ ،‬ويزهدون يف احلياة الدنيا‪( .‬عمر وخمتار‪2448،‬م ‪ )1888/2‬وهناك من يربط‬
‫التصوف بلباس الصوف؛ ألن املتصوةة كانوا يلبسون ثيابا مصنوعة من الصوف اخلشن‪ ،‬يف حني ذهب البريوين إىل أن‬
‫التصوف مشتق من كلمة صوةيا اليونانية‪ ،‬واليت هي مبعىن احلكمة‪.‬‬
‫التنعم‪ .‬ويف اصطالح أهل العرةان‪:‬‬
‫الزهد يف الدنيا وترك ا‬
‫التصوف يف اللغة ةهو ارتداء الصوف وهو من أثر ا‬ ‫اأما ا‬
‫تطهري القلب من حمبة ما سوى هللا‪ ،‬وتزيني الظاهر من حيث العمل واالعتقاد باألوامر واالبتعاد عن النواهي‪ ،‬واملواظبة‬
‫على سناة النيب صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وهؤالء الصوةية هم أهل احلق‪ ،‬ولكن يوجد قسم منهم على الباطل ممان يع ادون‬
‫أنفسهم صوةية وليسوا يف احلقيقة منهم‪( .‬صابر الفاروقي‪1998 ،‬م‪.)044 /1 :‬‬
‫عرب عن ظاهر أحواهلم‪ ،‬وذلك أهنم قوم قد تركوا الدنيا‪ ،‬ةخرجوا عن‬ ‫وأما من نسبهم إىل الصفة والصوف ةإنه ا‬
‫األوطان‪ ،‬وهجروا األخدان‪ ،‬وساحوا يف البالد‪ ،‬وأجاعوا األكباد‪ ،‬وأعروا األجساد‪ ،‬مل يأخذوا من الدنيا إال من الدنيا‬
‫إال ما ال جيوز تركه‪ ،‬من سرت عورة‪ ،‬وسد جوعة‪( .‬ظهري‪1984 ،‬م‪.)12 :‬‬
‫وعلى الرغم من تعدد معاين كلمة التصوف‪ ،‬ةإن الداللة األميل إىل املنطق والصواب هي اشتقاقها من الصوف‬
‫الذي يشكل عالمة متيز العارف وتفرد الزاهد عن باقي الناس داخل اجملتمع العريب اإلسالمي‪ ،‬وقد يكون هذا تأثرا‬
‫بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار اليهود‪.‬‬
‫ا‬
‫‪39‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫يعرف التصوف (األستاذ ةريد وجدي) يف دائرة املعارف‪ :‬إن التصوف هو مذهب كان الغرض منه تصفية القلب‬
‫عن غري هللا والصعود بالروح إىل عامل التقديس بإخالص العبودية للخالق والتجرد عما سواه‪ .‬يطلق الصويف مبعىن‬
‫املقرب‪ .‬وهذه اللفظة مل يرد ذكرها يف القرآن ولكنها تركت ووضع مكاهنا لفظة مقرب‪ .‬وال يعرف يف بالد اإلسالم هذا‬
‫االسم ألهل القرب‪ .‬ةهناك من القربني والزاهدين يف بالد املغرب وتركستان وماوراء النهر اليسمى باسم الصوةية ألن‬
‫أةراده اليتزينون بزي الصوةية(حلمي‪1988 ،‬م‪.)28-20 :‬‬
‫يعتقد الصوةيون أن معرةة هللا ال تأيت باجملادالت العقلية وال باملناظرات الفلسفية‪ ،‬ذلك ألن العقل اإلنساين عاجز‬
‫عن إدراك ُكْنه احلق وتفهم صفاته وخواصه مبثل هذه األشياء‪ ،‬وإمنا تتكون املعرةة يف الشعور بطريقة خاصة وعمل‬
‫مستمر ميكن من رؤية هللا تعاىل بالقلب ال بالعقل يسلك الناسك (طريقاً) خاصاً للوصول إىل هذه الغاية يكون ةيها‬
‫هتذيبه وتنقية روحه من عوارض الدنيا وزخارةها املادية‪ ،‬مث يتدرج يف هذه السبيل ويقطع (مقامات) معينة يصل يف‬
‫هنايتها إىل الفناء يف احلق‪ ،‬وهذه املقامات سبعة وهي‪ :‬التوبة والورع والزهد والفقر والصرب والتوكل والرضا‪ ،‬يكسبها لنفسه‬
‫بنفسه بعد طول اجلهد والتهذيب املنظم ومن هنا انتهى مؤلف (عوارف املعارف) إىل أنه ال يقصد حني يتكلم عن‬
‫الصوةية يف كتابه اال املقربني‪ .‬وهناك مالحظة ختامية أخرى ذكرها املؤلف يف هناية هذا الباب‪ ،‬هذه املالحظة هلا قيمتها‬
‫وخطرها أيضا إذ هي تظهرنا على الفرق بني الصويف واملتصوف‪( .‬حلمي‪.)28-20 :1988 ،‬‬
‫ةاملتصوف هو من تطلع إىل مقام املقربني من مجلة األبرار ما مل يتحقق حباهلم‪ ،‬وأما من هو دون املتصوف والصويف‬
‫ممن متيز بزي ونسب إىل الصوةية أو املتصوةة ةهو متشبه‪ .‬ولنمض اآلن إىل القول حيث حيدثنا السهروردي عن ةضيلة‬
‫علوم الصوةية واإلشارة إىل أمنوذج منها‪ .‬ذكر السهرودي يف مستهل هذا املوضوع احلديث الشريف الذي أمر ةيه النيب‬
‫صلى هللا عليه وسلم بطلب العلم والذي جعل ةيه طلب العلم ةريضة على كل مسلم ةقد قال رسول هللا صلی هللا عليه‬
‫يضةٌ َعلَى ُك ِال ُم ْسلِ ٍم" (أبو داوود‪2449 :‬م‪ )444/4 :‬و(بيهقي‪،‬‬ ‫ني‪ ،‬ةَِإ َّن طَلَ ِ‬
‫ب الْع ْل ِم ةَ ِر َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسلم‪" :‬اطْلُبُوا الْع ْل َم َولَ ْو بِ ا‬
‫الص ِ‬
‫‪2448‬م‪ .)198/8 :‬ذكر بعد هذا احلديث الشريف آراء العلماء من املتقدمني واختالةهم يف هذه اآلراء حول هذا‬
‫العلم الذي أمر رسول هللا بتحصيله وجعل طلبه ةريضة على كل مسلم‪ .‬وقد اختلف القدماء اختالةا قويا حول هذا‬
‫ني‬ ‫العلم ماذا عسى أن يكون‪ .‬ةمنهم من قال هو علم اإلخالص ومعرةة آةات النفوس‪﴿.‬وما أ ُِمروا إَِّال لِيـعب ُدوا َّ ِ ِ‬
‫اَّللَ خمُْلص َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ََ ُ‬
‫ين﴾ (البينة‪ .)4 :‬ومنهم من قال هو معرةة اخلواطر وتفصيلها‪ ،‬ألن هذه اخلواطر هي مبدأ الفعل وأصله وال ميكن‬ ‫ِ‬
‫لَهُ ال اد َ‬
‫حدوث ةعل إذا مل يسبقه خاطر‪ .‬وذهب ةريق إىل أنه علم الوقت‪ .‬وانتهى ةريق آخر ومنه سهل بن عبد هللا إىل أنه‬
‫علم احلال أي حكم ح ال العبد الذي بينه وبني هللا تعاىل يف دنياه وآخرته‪ .‬ورأت طائفة أنه علم احلالل أو أنه علم‬
‫الباطن الذي يستفاد من مصاحبة العلماء الزاهدين واألولياء الصاحلني‪ .‬وطائفة أخرى أنه علم البيع والشراء‪ ،‬والنكاح‬

‫ا‬
‫‪39‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫والطالق‪ ،‬أو أنه علم التوحيد‪ .‬وقد رأى أبو طالب املكي إن هذا العلم هو علم الفرائض اخلمس اليت بين عليها اإلسالم‪.‬‬
‫(حلمي‪.)28-28 :1988 ،‬‬
‫تلك هي اآلراء املختلفة اليت رآها القدماء يف هذا العلم الذي طلبه ةريضة على كل مسلم واليت استعرضها مؤلف‬
‫(عوارف املعارف) يف شيء من اإلسهاب كثري‪ ،‬وانتهى من هذه اآلراء كلها إىل أنه أميل ما يكون إىل رأي أيب طالب‬
‫املكي‪ ،‬وإىل رأي من قال بأن العلم الواجب حتصيله على كل مسلم هو علم البيع والشراء‪ ،‬والنكاح والطالق إذا أراد‬
‫الدخول ةيه‪ .‬ومن هنا يستخلص السهروردي أن العلم املقصود يف حديث رسول هللا إمنا هو علم األمر والنهي‪ .‬واملأمور‬
‫يف علم األمر والنهي هو ما يثاب على ةعله‪ ،‬وما يعاقب على تركه‪ .‬والنهي يف هذا العلم هو ما يعاقب على ةعله ويثاب‬
‫على تركه‪.‬‬
‫وكم كنت أحب أن أقف وقفة قصرية عند اختالف القدماء يف أمر هذا العلم املفرتض أبني ةيها حظ هذه اآلراء‬
‫من الصواب أو اخلطأ‪ .‬ولكن حسيب أن أوجز لك اآلن ما اعتزمت إجيازه من أطراف البحث إجيازاً يعطيك صورة مقاربة‬
‫له‪ ،‬على أن أتناول مناقشة بعض ما ورد ةيه من آراء مناقشة نقدية سوف أعرض هلا يف مقال ختامي‪ .‬وبعد أن عدد‬
‫املؤلف أنواع العلوم اليت ظفر هبا الصوةية‪ .‬مث عرض السهروردي إىل علوم اإلسالم ةقال إن لإلسالم علوما هي علوم‬
‫مباني ه‪ .‬واإلسالم بعد األميان نظر إىل جمرد التصديق‪ :‬ولكن لإلميان ةروعا بعد التحقق باإلسالم‪ .‬وهذه الفروع مراتب‬
‫كعلم اليقني الذي يعطيه لنا الدليل‪ .‬وعني اليقني وهو ما تعطيه املشاهدة‪ ،‬وحق اليقني وهو ما حصل من العلم مبا أريد‬
‫به ذلك الشهود‪ .‬وهذه قد تقال للتوحيد واملعرةة واملشاهدة‪ .‬ولإلسالم يف كل ةرع من ةروعه علوم‪ ،‬وباجلملة ةانك ترى‬
‫أن علوم اإلسالم هي علوم اللسان‪ ،‬وان علوم اإلميان هي علوم القلوب‪ .‬ولعلوم القلوب هذه وصفان أحدمها عام‬
‫واآلخر خاص‪ .‬ةأما الوصف العام ةهو أن علم اليقني يتوصل إليه بالنظر واالستدالل‪ .‬ومن هنا اشرتك يف هذا الوصف‬
‫كل من علماء الصوةية وغريهم من علماء الدنيا‪ .‬وأما الوصف اخلاص ةهو هذه السكينة اليت أنزهلا هللا على قلوب‬
‫املؤمنني ليزدادوا إميانا على إمياهنم‪ .‬ومن هنا ترى أن علوم الصوةية اشرتكت مع علوم غريهم يف مرتبة اليقني‪ ،‬وهي املرتبة‬
‫األوىل مث امتازت عليها باملرتبتني األخريني ومها مرتبة عني اليقني ومرتبة حق اليقني‪( .‬املرجع نفسه‪.)24 :‬‬
‫ويقسم املؤلف (عوارف املعارف) السهروردي‪ ،‬الناس طبقات انقسموا بالنسبة إىل نفوسهم وقلوهبم وأرواحهم‪.‬‬
‫ظاهرا على نفسه وهذا‬
‫ةمنهم من كانت نفسه ظاهرة على قلبه‪ .‬وهذا الفريق يدعوه هللا باملوعظة‪ .‬ومنهم من كان قلبه ً‬
‫يدعوه هللا باحلكم‪ .،‬ةأجاب األبرار الدعوة باملوعظة بذكر اجلنة والنار‪ ،‬وأجاب املقربون الدعوة باحلكمة وهي الدعوة‬
‫مبنح القرب وصفو املعرةة‪ .‬وملا وجدوا التلوحيات هبذا القرب أجابوا بأرواحهم وقلوهبم ونفوسهم‪ ،‬وهم حني يتابعون‬
‫األعمال جييبون بقلوهبم‪ ،‬وحني يتحققون باألحوال جييبون بأرواحهم‪ .‬ةأنت ترى من هذا الفرق بني الصوةية وبني غري‬

‫ا‬
‫‪39‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫الصوةية‪ ،‬ةهؤالء جييبون بالبعض وأولئك جييبون بالكل‪ .‬والصوةية حني جييبون بالكل يتهيأ هلم بالعلم واملعرةة حظ مل‬
‫يتهيأ لغريهم‪ .‬ومن هنا كانوا أقدر من غريهم على الوصول إىل اليقني الذي ال حييطه شك‪ .‬اليقني يكشف هلم عن‬
‫حقيقة الذات اإلهلية ويظهرهم على ماهية األشياء‪ .‬حبيث ينتهون من هذا كله إىل االحتاد مع هللا والفناء ةيه احتاداً‬
‫يضمن هلم السعادة‪ ،‬وةناء يكفل هلم السالم‪.‬‬
‫نشأة الصوفیة يف التاریخ‬
‫خالل القرنني األولني ابتداءً من عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وخلفائه الراشدين حىت وةاة احلسن البصري‪،‬‬
‫مل تعرف الصوةية سواء كان بامسها أو برمسها وسلوكها‪ ،‬بل كانت التسمية اجلامعة‪ :‬املسلمني‪ ،‬املؤمنني‪ ،‬أو التسميات‬
‫اخلاصة مثل‪ :‬الصحايب‪ ،‬البدري‪ ،‬أصحاب البيعة‪ ،‬التابعي‪.‬‬
‫يقول الشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ :‬إن أول من عرف بالصويف هو أبو هاشم الكويف سنة ‪144‬ه ولکن مل يعرف يف‬
‫عهد ذلك الرجل هذا الغلو العملي التعبدي أو العلمي االعتقادي إال بعض النزعات الفردية حنو التشديد على النفس‬
‫الذي هناهم عنه النيب صلى هللا عليه وسلم يف أكثر من مناسبة‪ ،‬ومنها قوله للرهط الذين سألوا عن عبادته صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬كين أصوم وأةطر‪ ،‬وأقوم وأنام‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬ةمن رغب عن سنيت ةليس مين" (مسلم‪،‬‬
‫د‪.‬ت‪ )1424/2 :‬و(خباری‪1022 ،‬هـ‪( )2/4 :‬احلديث متفق عليه)‪.‬‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم للحوالء بنت نويت اليت طوقت نفسها حببل حىت ال تنام عن قيام الليل كما يف حديث‬
‫ب ال اِدي ِن إِلَْي ِه َما َد َاوَم َعلَْي ِه‬
‫َح َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫"علَْي ُك ْم م َن الْ َع َم ِل َما تُطي ُقو َن‪ ،‬ةَـ َوهللا َال ميََ ُّل هللاُ َح َّىت متََلُّوا‪َ ،‬وَكا َن أ َ‬
‫عائشة رضي هللا عنها‪َ :‬‬
‫أی أحب العمل إىل هللا أدومه وإن قل‪(.‬حديث صحيح)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫صاحبُهُ" (مسلم‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،)402/1 :‬ا‬ ‫َ‬
‫وهكذا كان عهد الصحابة والتابعني وتابعيهم على هذا املنهج يسريون‪ ،‬جيمعون بني العلم والعمل‪ ،‬والعبادة والسعي‬
‫على النفس والعيال‪ ،‬وبني العبادة واجلهاد‪ ،‬والتصدي للبدع واألهواء مثلما تصدى ابن مسعود رضي هللا عنه لبدعة‬
‫الذكر اجلماعي مبسجد الكوةة وقضى عليها‪ ،‬وتصديه ألصحاب معضد بن يزيد العجلي ملا اختذوا دوراً خاصة للعبادة‬
‫يف بعض اجلبال وردهم عن ذلك‪.‬‬
‫ظهور العبابد‬
‫يف القرن الثاين اهلجري يف عهد التابعني وبقايا الصحابة ظهرت طائفة من العباد آثروا العزلة وعدم االختالط بالناس‬
‫ةشددوا على أنفسهم يف العبادة على حنو مل يُعهد من قبل‪ ،‬ومن أسباب ذلك بزوغ بعض الفنت الداخلية‪ ،‬وإراقة بعض‬
‫الدماء الزكية‪ ،‬ةآثروا اعتزال اجملتمع تصوناً عما ةيه من الفنت‪ ،‬وطلباً للسالمة يف دينهم‪ ،‬يضاف إىل ذلك أيضاً ةتح‬
‫الدنيا أبواهبا أمام املسلمني‪ ،‬وخباصة بعد اتساع الفتوحات االسالمية وانغماس بعض املسلمني ةيها‪ ،‬وشيوع الرتف‬

‫ا‬
‫‪39‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫واجملون بني طبقة من السفهاء‪ ،‬مما أوجد ردة ةعل عند بعض العباد وخباصة يف البصرة والكوةة حيث كانت بداية‬
‫االحنراف عن املنهج األول يف جانب السلوك‪( .‬اجلهين‪1024،‬هـ‪.)244/1 :‬‬
‫ةفي الكوةة ظهرت مجاعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد بعد مقتل احلسني بن علي رضي هللا عنه‬
‫البكائني‪ .‬كما ظهرت طبقة من العباد غلب عليهم جانب التشدد يف العبادة والبعد عن‬ ‫بالتوابني أو َّ‬
‫ومسوا أنفسهم َّ‬
‫املشاركة يف جمريات الدولة‪ ،‬مع علمهم وةضلهم والتزامهم بآداب الشريعة‪ ،‬واشتغاهلم بالكتاب والسنة تعلماً وتعليماً‪،‬‬
‫باإلضاةة إىل صدعهم باحلق وتصديهم ألهل األهواء‪ .‬كما ظهر ةيهم اخلوف الشديد من هللا تعاىل‪ ،‬واإلغماء والصقع‬
‫عند مساع القرآن الكرمي مما استدعى اإلنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعني كأمساء بنت أيب بكر وعبد هللا‬
‫الزَّهاد وال ُقَّراء يف تلك الفرتة‪ .‬ومن‬
‫بن الزبري وحممد بن سريين وحنوهم رضي هللا عنهم‪ ،‬وبسببهم شاع لقب العبَّاد و ُ‬
‫أعالمهم‪ :‬عامر بن عبد هللا بن الزبري‪ ،‬وصفوان بن سليم‪ ،‬وطلق بن حبيب العنزي‪ ،‬عطاء السلمي‪ ،‬األسود بن يزيد بن‬
‫قيس‪ ،‬وبعض أصحاب احلسن البصري‪( .‬املرجع نفسه‪.)244:‬‬
‫وبعد هذا املدخل الطويل واملهم أنتقل إىل املوضوع املطلوب‪ ،‬وهو معرةة أساطني التصوف يف األدب الفارسي‪،‬‬
‫وعرض حاهلم وآرائهم وأةكارهم يف إطار األدب الفارسي‪.‬‬

‫‪ -1‬فرید الدین حممد بن أيب بكر إبراهیم العطار‬


‫الشيخ العطار هو حممد بن أيب بكر إبراهيم بن اسحق‪ ،‬وكنيته أبو حامد‪ ،‬ولقبه ةريد الدين‪ ،‬وشهرته العطار‬
‫النيشابوري‪ ،‬ولد يف نيشابور عام ‪ 418‬هـ‪ ،‬يف حني عده صاحب كشف الظنون مهدانيا‪ ،‬ويبدو أنه خلط بينه وبني‬
‫احلاةظ أيب العالء احلسن بن أمحد بن حممد العطار اهلمداين املتويف عام ‪ 489‬هـ‪ .‬وذهب احملقق سعيد نفيسي إىل القول‬
‫بأنه قد ولد عام ‪ 484‬هـ‪ ،‬يف حني يعتقد ةروزانفر أن عام ‪ 404‬هـ‪ ،‬هو العام األصح‪ .‬وكان يتخلص يف قصائده‬
‫بالعطار‪ ،‬على اعتبار انه كان ميتهن «العطارة»‪ ،‬وقد يتخلص أحيانا باسم "ةريد"‪ .‬والعطار عنوان كان يطلق علي باعه‬
‫األدوية وصناعها‪ .‬وكان أبوه عطارا عظيما يف نيشابور أيضا‪.‬‬
‫وورد يف بعض كتب الرتاجم املتأخرة أنه قد تتلمذ يف الطب علی يد احلكيم جمد الدين البغدادي‪ ،‬وهو الطبيب‬
‫اخلاص بالسلطان حممد خوارزم شاه‪ ،‬ومن كبار مشايخ التصوف‪ .‬لكن ال يعتقد أن العطار قد أخذ الطب عنه‪ ،‬حيث‬
‫مل يرد مثل ذلك يف أقدم الكتب اليت ترمجت له ككتاب لباب األلباب للعويف املعاصر له‪.‬‬
‫والشيخ العطار شا عر أيب النفس مل يفتح ةمه مبدح األمراء والوزراء ومل يتزلف إىل السالطني واملتنفذين كما هي‬
‫عاده الشعراء آنذاك‪ .‬ومل جيعل من شعره وإبداعاته الشعرية والفنية وسيله لالرتزاق والكتسب‪ ،‬بل ةضل العيش متواضعا‬
‫بعيدا عن البالطات والقصور واالرتزاق من كد يده‪ ،‬ومن مهنته احملببة إىل نفسه وهي العطارة أو الطبابة والصيدلة‪.‬‬
‫ا‬
‫‪33‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫وقد أدى ابتعاده عن احلياة الصاخبة وةراره عن امللوك واألمراء إىل إحاطة حياته بكثري من الغموض واإلهبام‪ .‬وما‬
‫ورد يف كتب الرتاجم عنه قليل ومشفوع باألساطري أحيانا‪.‬‬
‫ذكر ةريد الدين العطار يف كتابه "تذكرة األولياء" أن سبب خروجه من تسرت هو اهتامه باإلحلاد من أحد علماء‬
‫أهل بلدته‪.‬‬
‫نزعته الصوفیة‪ :‬أورد اجلامي يف "نفحات األنس" قصة قال إهنا كانت السبب الذي دةعه للنزوع حنو أهل السلوك‬
‫والطريقة‪ :‬إنه كان يعمل يف دكانه‪ ،‬عندما اقبل عليه درويشا وطلب منه «شيئا هلل» ةلم يعطه‪ ،‬ةقال له الدرويش‪ :‬كيف‬
‫ستكون ميتتك أيها اخلواجة؟ ةقال له العطار‪ :‬مثلما متوت أنت‪ .‬ةقال الدرويش‪ :‬وهل ميكنك أن متوت كما أموت؟‬
‫ةورا‪ .‬ةتغري حال‬
‫ةقال‪ :‬ومل ال‪ .‬ةوضع الدرويش جفنه خشبية كانت بيده حتت رأسه وهو يقول‪ :‬هللا‪ .‬مث ةاضت روحه ً‬
‫العطار وأغلق باب دكانه‪ ،‬حنا حنو أهل الطريقة‪.‬‬
‫ويشكك البعض يف صحة هذه الرواية على اعتبار أن العطار قد أشار يف أشعاره إىل ميله للصوةية والطريقة منذ‬
‫صغره‪ .‬وطبقا للتحقيقات اليت قام هبا البعض ةإن هذه األسطورة من صناعة مريديه وهي مقتبسة عن احلكاية اليت أوردها‬
‫أبو رحيان البريوين‪.‬‬
‫وأورد الشيخ سليمان بن الشيخ إبراهيم املعروف باخلواجة كالن – وهو من مشايخ النقشبندية – أن العطار كان‬
‫من مريدي الشيخ جنم الدين الكربى (ت ‪ .)820‬كما قال بأنه كان للشيخ العطار كتاب باسم «مظهر الصفات»‬
‫حتدث ةيه عن حبه وإخالصه له وعن الطريق الكربوية أو الذهبية‪ .‬ويعد الشيخ الكربى مؤسسا هلذه الطريقة‪ ،‬ومؤلفاته‬
‫مرجع لدراسة احلركة الفلسفية يف القرن الثالث عشر ومنها «األصول العشرة»‪ .‬ونفي بعض املؤرخني أن يكون للعطار‬
‫كتاب باسم «مظهر الصفات»‪ ،‬ورمبا يراد به كتاب «مظهر العجائب» املنسوب إليه‪ ،‬والذي برهن الباحث النفيسي‬
‫أنه مل يكن من تصنيفه أيضا‪.‬‬
‫ورمبا تكون عبارة دولتشاه السمرقندي أقرب له احلقيقة عندما قال‪ :‬نال الشيخ ةريد الدين العطار خرقة التربك من‬
‫يد سلطان العاشقني وةخر الشهداء جمد الدين البغدادي‪.‬‬
‫وحتدث العطار نفسه يف كتاب «تذكره األولياء» عن عالقته مبجد الدين البغدادي‪ .‬وهو أبو سعيد شرف بن مؤيد‬
‫اخل وارزمي وأصله من بغدادك خبوارزم‪ .‬وكان طبيب السلطان حممد خوارزم شاه ومن أشهر أصحاب الشيخ جنم الدين‬
‫الكربى‪ .‬وقد غضب عليه خوارزم شاه آخر املطاف وألقي به يف هنر جيحون ةمات غرقا‪.‬‬

‫ا‬
‫‪011‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫وورد يف بعض الكتب التارخيية مثل نفحات األنس‪ ،‬أن والد جالل الدين وابنه جالل الدين حممد البلخي (الرومي)‬
‫قد غادرا مدينة بلخ قاصدين الديار املقدسة ألداء مناسك احلج‪ .‬وعندما وصال إىل نيشابور خرج الشيخ العطار‬
‫الستقباهلما وكان جالل الدين آنذاك صغريا‪ .‬وأهدى الشيخ كتابه املعروف بـ«اسرار نامه» إىل جالل الدين‪.‬‬
‫وكان العطار يعد نفسه من سالكي طريق احلقيقة احلقيقيني‪ ،‬ويعتقد بنظرية وحدة الوجود واالحتاد مع احلق‪ ،‬واحملو‬
‫والفناء ةيه‪ .‬وكان إميانه العميق هبذه الفكرة قد خلق لديه حاله االستغناء الكامل عن أي أحد غري هللا‪ ،‬ومل يعد لديه‬
‫من أمل وتطلع سوى إىل مشاهدة مجال احلق والفناء يف كماله‪ .‬وهلذا مل يكن يعبأ بأمراء عصره واحلكام الذين كان‬
‫يتزلف إليهم الشعراء املعاصرون له‪ ،‬ومل يشر يف شعره إىل أي منهم مادحا أو ذاما‪ .‬ةهو يقول وباحلرف الواحد‪:‬‬
‫يكفيين ما ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي من خـ ـ ـ ـبـ ـ ـز‬ ‫ال أريد خرب مرضي ال ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـاع‬
‫واحلقيقة سري ال ـ ـ ـ ـذين ال يفين‬ ‫أصب ـ ـ ـ ـ ـح غـ ـ ـ ـين الـ ـ ـقلـ ـ ـ ـ ـ ـب زادي‬
‫ولـ ـ ــم أكتب كتابا باسم أحد‬ ‫مل آك ـ ـ ـ ـ ـل طع ـ ـ ـ ــام أي ظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـامل‬
‫وتكفيين قوة جسمي وقوة روحـ ـ ـي‬ ‫كفي هبميت العالية أن تكون ممدوحيت‬
‫وال يف صفعـ ـات الدربـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان‬ ‫ةلست راغبا يف لقـ ـ ـ ـمه السلطان‬
‫وكانت لغته الصوةية لغة سلهة وةصيحة‪ ،‬وكان يعرب عن كل خاطره وةكره صوةيه بشكل بسيط وبعيد عن التكلف‪،‬‬
‫وهو أسلوب رمبا اقتصر عليه وانفرد به دون غريه‪ .‬أضف إىل ذلك ما كان يعرف به من قوة خيال وباع طويل يف خلق‬
‫املعاين‪ ،‬وتقدمي املعاين القدمية بأسلوب رائع حبيث كانت تبدو وكأهنا معان جديدة‪.‬‬

‫‪ -2‬موالنا جالل الدین حممد بلخي‬


‫موالنا جالل الدين الرومي هو اسم ةارسي ترمجة "حممد بن حممد بن حسني هباء الدين البلخي"‪ ،‬ولد عام ‪840‬هـ‪-‬‬
‫الرومي‪ :‬شاعر‪ ،‬عامل بفقه احلنفية واخلالف وأنواع العلوم‪،‬‬ ‫‪ 842‬هـ يف بلخ أةغانستان‪ ،‬عرف باسم موالنا ج َالل اِ‬
‫الدين ُّ‬ ‫َ‬
‫مث متصوف (ترك الدنيا والتصنيف)‪ ،‬وهو عند غريهم صاحب املثنوي املشهور بالفارسية‪ ،‬وصاحب الطريقة املولوية‬
‫املنسوبة إىل (موالنا) جالل الدين‪( .‬زرکلي‪.)84/4 :244 ،‬‬
‫تعليمه‪ :‬انتقل مع أبيه إىل بغداد‪ ،‬يف الرابعة من عمره‪ ،‬ةرتعرع هبا يف املدرسة املستنصرية حيث نزل أبوه‪ ،‬ومل تطل‬
‫كثريا‪ ،‬قام أبوه برحلة واسعة ومكث يف بعض البلدان مدداً طويلةً‪ ،‬وهو معه‪ ،‬مث استقر يف قونية سنة‬‫إقامته يف بغداد ً‬
‫‪ 828‬ه ـ يف عهد دولة السالجقة األتراك‪ ،‬وعرف جالل الدين بالرباعة يف الفقه وغريه من العلوم اإلسالمية‪ ،‬ةتوىل‬
‫وتصوف سنة‪802‬ه ـ‬ ‫التدريس بقونية يف أربع مدارس‪ ،‬بعد وةاة أبيه سنة ‪828‬ه ـ مث ترك التدريس والتصنيف والدنيا ا‬
‫أوحوهلا‪ ،‬ةشغل بالرياضة ومساع املوسيقى ونظم األشعاروإنشادها‪(.‬املرجع نفسه‪.)84/4 :‬‬
‫ا‬
‫‪010‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫أهم اشعاره‪ :‬تركت أشعاره ومؤلفاته الصوةية اليت كتبت أغلبها باللغة الفارسية وبعضها بالعربية‪ ،‬تأثرياً واسعاً يف‬
‫العامل اإلسالمي وخاصة على الثقاةة الفارسية والعربية واألردية والبنغالية والرتكية‪.‬‬
‫وأثرت مؤلفات جالل الدين الرومي "موالنا" يف األدب الفارسي والرتكي واألوردي‪ ،‬ةضال عن أثرها يف التصوف‪،‬‬
‫وترمجت العديد من املؤمتر "جالل الدين" إىل اللغات العاملية املعاصرة ومن ضمنها اللغات األوربية‪.‬‬
‫عالقة الرومي باملوسيقي ‪ :‬وتعترب "قوة احلب" لدي موالنا أكثر ما دةع جنوم موسيقى بوب غربيون مثل مادونا‬
‫ترمجات أشعاره‪ ،‬واعتقاده يف الفائدة الروحية للموسيقى والرقص‪( .‬املرجع نفسه‪.)84:‬‬
‫تويف جالل الدين الرومي بقونية متأثرا باحلمى يـوم الواحد اخلامس من مجادى األخرية سنة (‪842‬هـ‪1248 /‬م)‬
‫تاركا وراءه تراثـا ضخما‪ ،‬مؤلفات عديدة منظومـة ومنثورة‪ ،‬ومبوته طويت صفحـة مشرقة من أعظم الصفحات اخلالدة‬
‫وشيَّـ َعهـا أتباع كل ديانة‬
‫يف التصوف الفلسفي اإلسالمي‪ .‬وملا خرجت جنازته ازدحـم عليها أهل البلد ازدحاما كبريا‪َ ،‬‬
‫وهم يبكـون‪ ،‬وكانت اجلنـازة خرجت يف الصباح الباكـر‪ ،‬ووصلت إىل مقبـرة البلد عنـد املسـاء‪ ،‬ودةنت يف الليل‪( .‬الندوي‪،‬‬
‫د‪.‬ت‪ )881/2 :‬ومشاركة اليهـود والنصارى يف تشييع جنازة جالل الدين الرومـي ال تبدو ةيها أي غرابة إذا عرةنا‬
‫أخالق جـالل الدين‪ .‬هو دةن يف مدينة قونية وأصبح مدةنه مز ًارا إىل يومنا هذا‪ ،‬وبعد مماته قام أتباعه وابنه سلطان ولد‬
‫بتأسيس الطريقة املولوية الصوةية‪ ،‬اليت اشتهرت بدراويشها ورقصتهم الروحية الدائرية اليت عرةت بالسماح والرقصة املميزة‪.‬‬
‫من أةضل أقواله‪:‬‬
‫َم ْن ال يركض إىل ةتنة العشق ميشي طريقاً ال شيء ةيه حي‪ .‬إنك قد رأيت الصورة ولكنك غفلت عن املعىن‪ .‬هكذا‬
‫أود أن أموت يف العشق الذي أكنه لك‪ ،‬كقطع سحب تذوب يف ضوء الشمس‪ .‬ارتق مبستوى حديثك ال مبستوى‬
‫ينمي األزهار وليس الرعد‪.‬‬
‫صوتك‪ ،‬ةاملطر الذي ا‬
‫مسلكه يف التصوف‬
‫عرف التصوف اإلسالمي يف بالد ةارس هنضة حيوية كبرية‪ ،‬استطاع أن يركز قواعده‪ ،‬ويرسي دعائمه‪ ،‬وأثر التصوف‬
‫يف املسلمني هناك أكثر من أي شيء‪ ،‬حيث جند أن جل املتصوةة اإلسالميني يف بالد ةارس قد خاضوا يف مواضيع‬
‫ةلسفية وةكرية وال جتد للسلوك والرياضة جماال إال عند القليل منهم‪ ،‬ومصطلح "العرةان" نفسه الذي يطلق على‬
‫التصوف يعترب دليال على امتزاج الفلسفة بالتصوف‪ ،‬القرتاب هذا املصطلح من "املعرةة"‪ ،‬وساعدت طبيعة التصوف‬
‫اليت تعتمد على الذوق القابلة لألخذ من كل الينابيع أن مييز تصوةهم عن باقي بلدان العامل اإلسالمي‪.‬‬
‫ويعترب جالل الدين البلخي من إةرازات هذه البيئة اليت أثرت الفكر الصويف مبؤلفات عديدة‪ ،‬ودواوين ضخمة‪،‬‬
‫واليت يظهر من خالل ثناياها مسلكه الصويف الفلسفي‪ ،‬الذي يغلب عليه الدعوة إىل االجتاه إىل هللا‪ ،‬والفناء ةيه‪ .‬وأهم‬

‫ا‬
‫‪011‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫ما مييزه عن غريه من متصوةة عصره أنه كان بارعا يف إيصال أةكاره وآراءه الصوةية الفلسفية‪ ،‬باستعمال كل الوسائل‬
‫واألدوات‪ ،‬من آيات قرآنية‪ ،‬وأحاديث نبوية شريفة‪ ،‬وحكايات األولياء والعارةني واملشايخ وأشعار السابقني وحكمهم‪،‬‬
‫وكانت لغتهم يف ذلك احلب الذي يوصل اإلنسان بالكون الكبري‪ ،‬وباحلياة الطليقـة من قيود الزمان واملكان‪ ...‬وكانت‬
‫كلماته عذبة رةاةـة‪ ...‬مشرقة داةقة‪ ...‬متوجهـة داةئة‪ ،‬تدخل مغاليق القلــوب‪ ،‬وتبعث ذبيب احلياة يف بليدي اإلحساس‬
‫والشعور‪ ،‬وكانت أةكاره ملسات حانية على اإلنسان املعذب املفتون‪ ...‬يف نفاقه وتظاهره وريائه‪ ،‬يف عجزه وةقـره‪ ،‬يف‬
‫كربيائه وتساميــه‪ ،‬يف حريته بني األرض وما يشده إليها والسماء وما يربطه هبا‪ ،‬وذلك يف لغـة جاهد بقدر اإلمكان أن‬
‫ختدم اهلدف الذي من أجله كتب منظومة"املثنوي"‪.‬‬
‫ولغة احلب والعاطف‪ ،‬اليت استعملهــا جالل الدين ثروة ال تنفذ‪ ،‬ألهنا ثروة القلب والشعور والوجدان‪ ،‬واليت ختلق‬
‫يف اإلنسان السماحة والرضى‪ ،‬واحلب العميق الشفاف‪ ،‬واالستبشار الوديع‪.‬‬
‫ورغم طغيان عاطفة احلب على شعر جالل الدين ةإننا جند الفيلسوف واألديب الذي أثرى األدب الصويف بشكل‬
‫خاص واألدب الفارسي بشكل عام‪ ،‬بإبداعــات هلا خصائصها الفنية‪ ،‬ومقوماهتا األدبية‪ ،‬وظف ةيها بطريقة بديعــة مجيع‬
‫معارةه‪ ،‬وموارد ثقاةته املتعــددة‪ ،‬اليت تدل على رسوخ قدمه يف العلـوم الشرعية‪ ،‬والعلوم العقلية واألدبية‪ ،‬وما «املثنوي»‬
‫إال شاهــد بسيط على ذلك‪.‬‬

‫‪ -8‬خواجه مشس الدین حممد حافظ الشریازي‬


‫كان حاةظ أمري شعراء ةارس‪ .‬ولقد خص مبواهب خارقة‪ ،‬ةكانت له قرحية كقرائح بندار وأنا كريون وهوراس وبرينس‬
‫وزاد عليهم نظرته الصوةية إىل أعماق الطبيعة وأحشاء الكون‪ :‬نظرة تتغلغل إىل أبعد مما يصل إليه نظر واحد من هؤالء‬
‫الشعراء‪( .‬الربقوقي‪1411 ،‬م‪ .)24/0 :‬ليس حاةظ الشريازي من أكرب شعراء الفارسي ةحسب بل من أكرب شعراء‬
‫ٍ‬
‫عشاق الكلمة‬ ‫العامل‪ ،‬إنه ضمري األمة اخلراسانية‪ ،‬بل ضمري عشاق القيم العليا من َخ ٍْري ا‬
‫وحب ومجال وعرةان‪ .‬إنه ضمري ا‬
‫احللوة اليت هي السحر احلالل‪ ،‬إناه امللقب بلسان الغيب وترمجان األسرار‪.‬‬
‫حممد املع روف خبواجه حاةظ الشريازي‪ .‬تاريخ والدته على أةضل تقدير عام ‪428‬هـ‪1824/‬م‪.‬‬ ‫هو مشس الدين ا‬
‫ووةاته على أةضل تقدير أيضاً ةـي عام ‪491‬هـ‪ 1888/‬أو ‪1889‬م‪ .‬وعلى هذا يكون قد عاش حنواً من مخس وستني‬
‫سنة‪ .‬وتزيِان حياته زهاء ثالثة أرباع القرن الثامن اهلجري والقرن الرابع عشر امليالدي‪( .‬الربقوقي‪1411 ،‬م‪.)24/0 :‬‬
‫ترسخ وجودها على األرض باالتاساع والعمران واستمرار البقاء ةإ ان بعضها يؤاكد خلوده ةـي غمار‬
‫وإذا كانت املدن ا‬
‫الزمان بأبنائه العظام‪ .‬وال شك أن شرياز تدين بشهرهتا الواسعة اآلبدة لعلمائها الكبار وعارةيها الفضالء‪ ،‬ولكناها تدين‬

‫ا‬
‫‪019‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫خاصة لولديها الشاعرين العظيمني سعدي ةـي القرن السابع اهلجري وحاةظ ةـي القرن الثامن اهلجري‪ .‬وإلبنها‬
‫بشهرهتا ا‬
‫العامل العارف صدر الدين الشريازي ةـي القرن العاشر اهلجري‪.‬‬
‫وتفرق‬ ‫ِ‬
‫ويف الوالد ا‬
‫ولد حاةظ ةـي هذه املدينة من أب كان يشتغل بالتجارة‪ .‬وكان حاةظ أصغر أوالده الثالثة‪ .‬وتُ اَ‬
‫حممد مع والدته ةـي شرياز‪( .‬وتذكر املوسوعة اإلسالمية) نقالً أنه كانت لـه‬
‫اإلخوة‪ .‬وبقي االبن الصغري مشس الدين ا‬
‫أخت أيضاً‪ .‬اشتغل حاةظ ةيما يروى حني كان صغرياً أجري خباز‪ .‬ةكان يفيق ةـي غلس الليل ليقوم بعمله حىت الفجر‪.‬‬
‫ةإذا ةرغ اشتغل بالعبادة‪ ،‬مث انصرف إىل حلقات بعض العلماء واألعالم ةـي مدينته يأخذ عنهم علوم عصره‪ ،‬شأن‬
‫الفتيان الذين تفتاحت قلوهبم وبصائرهم على حمبة العلم والتفقه ةيه‪.‬‬
‫ثقافة الشاعر‬
‫أقبل حاةظ خاصة على دراسة علوم الدين واللغة العربية والفارسية وبرع ةـي ذلك كلاه وحفظ القرآن الكرمي وهو‬
‫ةىت ةَـ ُو ِصف باحلاةظ حىت غدا هذا الوصف لقباً لـه ُش ِهَر به ومتََ َّس َ‬
‫ك هو به حىت جعله امساً لـه يـُْزهى به‪ .‬بل كان يعزو‬
‫الفضل ةـي لطف شعره وسحر بيانه إىل ما يرمز إليه هذا اللقب أو االسم‪.‬‬
‫وله بيت من الشعر الفارسي يفيد هذا املعىن‪:‬‬
‫بالقرآن الذي يكناه صدرك‬ ‫ما رأيت ألطف من شعرك يا حاةظ‬
‫ميسرة ورائجة ةـي بلده شرياز‪.‬‬‫تامة واطالع على التآليف العربية اليت كانت ا‬ ‫وقد أجاد اللغة العربية إجادة ا‬
‫درس "الكشاف عن حقائق التنزيل" أليب القاسم جار هللا حممود الزخمشري (متوىف عام ‪ )488‬و"املصباح املنري"‬
‫ةـي النحو لإلمام ناصر بن عبد السياد املطرزي (متوىف ‪" ،)814‬وطوالع األنوار" ةـي احلكمة والتوحيد للقاضي عبدهللا‬
‫عمر البيضاوي (متوىف ‪ ،)848‬و"مفتاح العلوم" ةـي البالغة وسائر العلوم للعالمة سراج الدين يوسف أيب يعقوب‬
‫السكاكي (متوىف ‪.)828‬‬
‫ونالحظ أن هؤالء العلماء املؤلفني مجيعهم من إيران وخوارزم‪ .‬وإمنا تواةرت كتب أولئك املؤلفني بفضل انتشار‬
‫الوراقة ولقرب العهد هبا وتدريس الكتب جيالً بعد جيل‪ .‬هذا‪ ،‬ويتسلسل التعليم والرواية عن العلماء واإلجازات اليت‬
‫ُختارج الطالب النُّبهاء متواصلة ةـي تلك احلضارة الواسعة لشرف العلم والعلماء ةيها‪.‬‬
‫وش ِهر بعلمه واطالعه على العلوم العربية واآلداب العربية والفارسية ُِ‬
‫ومساي معلماً ةـي مدرسة شرياز‪.‬‬ ‫وقد نشأ حاةظ ُ َ‬
‫حب َسلَ ِفه سعدي هلا‪ .‬وقضى سائر عمره ةـي شرياز اليت متلاى أرضه ومساءها‪ ،‬وكان طوال حياته‬ ‫أحب مدينته َّ‬ ‫وهو قد ا‬
‫ِ‬
‫هزارها‪ ،‬الذي تَـغَ اذى جناها وسلساهلا و َغ اىن مجاهلا أمجل غناء‪ .‬وقد ُدة َن ةيها وغدا ضرحيه مزار الناس ومرتاد املعجبني‬
‫بشعره وغزله‪.‬‬

‫ا‬
‫‪019‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫یوع شهرة حافظ وشعره باللغة العربیة‬


‫شهر حاةظ بديوانه الذي ترجم إىل حواىل سبع وعشرين لغة‪ .‬ةيه حنو سبعمائة قطعة من الشعر‪ .‬منها ما يقرب‬
‫من مخسمائة مصوغة ةـي هذا الضرب من الشعر الفارسي الذي يدعى بالغزل‪ .‬وقد طارت شهرة غزلـه ةـي اآلةاق داخل‬
‫إيران وخارجها حىت إن الشاعر األملاين الشهري "غوته" تأثار به تأثراًكبرياً وع اده أحد األعمدة اليت قام عليها صرح اآلداب‬
‫الروحي ةـي الشعر‪.‬‬
‫ا‬ ‫العاملية ونظر إليه على أنه دليله‬
‫ملمع أي ورد بعض أبياته الغزلية بالعربية‪ .‬وقد نسب إليه شعر بالعربية قليل ولكنه ال يرتفع‬‫هذا وقسم من أشعاره ا‬
‫إىل مستوى شعره بالفارسية‪ .‬والذي نظناه أن الشعر الذي نظمه بالعربية ينبغي أن يكون أكثر من الذي وصل إلينا نظراً‬
‫لتضلاع حاةظ من هذه اللغة ومعرةة آداهبا معرةة عميقة‪ .‬ورمبا ضاع هذا القسم ةـي احملن ويف غبار الزمن‪.‬‬
‫وقد أطلق الشاعر "عبدالرمحن جامي" (‪ )1092/898 – 1010/814‬ةـي كتابه "نفحات األنس" على حاةظ‬
‫وةسره بأن صاحب هذا اللقب كشف عن كثري من األسرار الغيبية واملعاين احلقيقية‬ ‫لقب "لسان الغيب وترمجان األسرار" ا‬
‫يدل على أن أشعار حاةظ كانت‬ ‫اليت الت افت بألبسة اجملاز‪ ،‬وهي مع ذلك خالية من التكلُّف واالضطراب‪ .‬وهذا كلاه ا‬
‫هتز الناس وتطرهبم اأميا طرب‪ ،‬وتبعث ةـي نفوسهم نشوة عميقة‪.‬‬ ‫ا‬
‫إن التمكن من الثقاةتني العربية والفارسية أةاد حاةظاً ةـي قريضه وبالغته وقد أشار ةـي غزليته رقم ‪ /28/‬إىل‬
‫استفادته من البالغة العربية مبا معناه‪:‬‬
‫لكن ةمي حاةل ببالغة العرب»‪.‬‬
‫«ليس من األدب التم ادح وإظهار الفضل أمام احلبيب‪ .‬وهلذا ةلساين صامت‪ ،‬و ا‬
‫العريب وها أنذا أختار بعض األبيات‬ ‫يود أن يطالع على بعض ما وصل إلينا من شعره ا‬ ‫هذا ورمبا كان القارئ الكرمي ا‬
‫ملمعة ‪:‬‬
‫العربياة اليت وردت ةـي قصيدة ا‬
‫أالقي من نواه ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـا أالقي‬ ‫سليمى منـ ـ ـ ـذ حلات بالع ـ ـ ـ ـ ـ ـراق‬
‫محـ ـ ـاك هللا يا عهـ ـ ـ ـد التالقي‬ ‫بيع العمر ةـي م ـ ـ ـ ـرعى ِمحاكـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫ر ُ‬
‫وإين اآلن ةـي عني الف ـ ـ ـ ـ ـراق‬ ‫ا‬ ‫ةرص الوصال وما شعرنا‬ ‫مضت ُ‬
‫سوى تقبيل وجه واعتنـ ـ ـ ـاق‬ ‫هناين الشيب عن وصل العذارى‬

‫ةكم حب ٍر ا‬
‫جتمع من س ـ ـ ـواقي‬ ‫دموعي بع ـ ـ ـدك ـ ـ ـ ـم ال َحت ِق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروها‬
‫ومن تلك األبيات ما يهبط إىل الناس من أعال ذروة الفكر اإلنساين كقوله‪:‬‬
‫وح من أعذب راح‬ ‫آتىن بالكأس أحيي الر‬
‫واح خممور وص ـ ـ ـاح‬ ‫ما ي ـ ـ ـ ـرى يف عامل األر‬
‫ا‬
‫‪019‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫بني أبنـ ـ ـ ـاء الق ـ ـ ـداح‬ ‫أو ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك وعبيـ ـ ـ ـ ـ ـد‬
‫قيل أنه أبصر غالماً مليحاً يف أسواق شرياز ةقال ةيه‪:‬‬
‫وقلب الفىت أغلى وأكرب ما أهدى‬ ‫وهبتك قليب يا ابن شرياز مدنفا‬
‫خبارى متاعـ ـ ـ ـ ـ ـاً سائغ ـ ـ ـ ـ ـاً ومسـ ـ ـ ـ ـرقنداً‬ ‫ولو كنت ذا ملك وهبت خلاله‬
‫ةتناشد الناس البيتني واتصل خربمها بتيمور يف قصره ةأمر به ةأحضر‪ .‬ةلما مثل بني يديه‪ ،‬قال له‪ :‬أيها الرجل كيف‬
‫اجرتأت أن تنزل هكذا من شأن مدينيت اللتني ما رةعتهما إال بعد أن دككت املعاقل واحلصون وال عمرهتما إال بعد أن‬
‫دمرت املدن والبالد؟ قال عفواً يا موالي! إنين لوال كل هذا السرف والبذل يف مل أكن من العوز والفاقة باحلال اليت‬
‫ترى!! (الربقوقي‪1411 ،‬م‪.)24/0 :‬‬

‫‪ -4‬حممد بن حممد بن حممد بن أمحد الطوسي الغزايل‬


‫أبو حامد الغزايل حممد بن حممد بن حممد بن أمحد الطوسي امللقب حبجة اإلسالم ‪444 -044‬هـ ولد بطوس من‬
‫إقليم خراسان‪ ،‬نشأ يف بيئة كثرت ةيها اآلراء واملذاهب مثل علم الكالم والفلسفة‪ ،‬والباطنية‪ ،‬والتصوف‪ ،‬مما أورثه‬
‫ذلك حرية وشكاً دةعه للتقلب بني هذه املذاهب األربعة السابقة أثناء إقامته يف بغداد‪ ،‬رحل إىل جرجان ونيسابور‪،‬‬
‫والزم نظام امللك‪ ،‬درس يف املدرسة النظامية ببغداد‪ ،‬واعتكف يف منارة مسجد دمشق‪ ،‬ورحل إىل القدس ومنها إىل‬
‫احلجاز مث عاد إىل موطنه‪ .‬وقد ألف عدداً من الكتب منها‪ :‬هتاةت الفالسفة‪ ،‬واملنقذ من الضالل‪ ،‬وأمهها إحياء علوم‬
‫الدين‪ .‬ويعد الغزايل رئيس مدرسة الكشف يف املعرةة‪ ،‬اليت تسلمت راية التصوف من أصحاب األصولية الفارسية إىل‬
‫أصحاب األصول السنية‪ ،‬ومن جليل أعماله هدمه للفلسفة اليونانية وكشفه لفضائح الباطنية يف كتابه املستظهري أو‬
‫ةضائح الباطنية‪ .‬وحيكي تلميذه عبد الغاةر الفارسي آخر مراحل حياته‪ ،‬بعدما عاد إىل بلده طوس‪ ،‬قائالً‪« :‬وكانت‬
‫مثة أمره إقباله على حديث املصطفى وجمالسة أهله‪ ،‬ومطالعة الصحيحني ـ البخاري ومسلم ـ اللذين مها حجة اإلسالم»‬
‫وذلك بعد أن صحب أهل احلديث يف بلده أمثال‪ :‬أيب سهيل حممد بن عبد هللا احلفصي الذي قرأ عليه صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬والقاضي أيب الفتح احلاكمي الطوسي الذي مسع عليه سنن أيب داود (السبكي‪1888 ،‬ه‪ .)114/ 0 :‬ويف‬
‫هذه املرحلة ألف كتابه إجلام العوام عن علم الكالم الذي ذم ةيه علم الكالم وطريقته‪ ،‬وانتصر ملذهب السلف وهنجهم‬
‫ةقال‪« :‬الدليل على أن مذهب السلف هو احلق‪ :‬أن نقيضه بدعة‪ ،‬والبدعة مذمومة وضاللة‪ ،‬واخلوض من جهة العوام‬
‫يف التأويل واخلوض هبم من جهة العلماء بدعة مذمومة‪ ،‬وكان نقيضه هو الكف عن ذلك سنة حممودة» (املصدر‬
‫نفسه‪.)98:‬‬

‫ا‬
‫‪019‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫وةيه أيضاً رجع عن القول بالكشف وإدراك خصائص النبوة وقواها‪ ،‬واالعتماد يف التأويل أو اإلثبات على الكشف‬
‫الذي كان يراه من قبل غاية العوام‪.‬‬

‫بدایة االحنراف يف منهج الصويف‬


‫كدأب أي احنراف يبدأ صغرياً‪ ،‬مث ما يلبث إال أن يتسع مع مرور األيام ةقد تطور مفهوم الزهد يف الكوةة والبصرة‬
‫يف القرن الثاين للهجرة على أيدي كبار الزهاد أمثال‪ :‬إبراهيم بن أدهم‪ ،‬مالك بن دينار‪ ،‬وبشر احلايف‪ ،‬ورابعة العدوية‪،‬‬
‫وعبد الواحد بن زيد‪ ،‬إىل مفهوم مل يكن موجوداً عن د الزهاد السابقني من تعذيب للنفس برتك الطعام‪ ،‬وحترمي تناول‬
‫اللحوم‪ ،‬والسياحة يف الرباري والصحاري‪ ،‬وترك الزواج‪ .‬يقول مالك بن دينار‪« :‬ال يبلغ الرجل منزلة الصديقني حىت‬
‫يرتك زوجته كأهنا أرملة‪ ،‬ويأوي إىل مزابل الكالب» (ابونعيم األصبهاين‪1940 ،‬م‪ .)849/2 :‬وذلك دون سند من‬
‫قدوة سابقة أو نص كتاب أو سنة‪ ،‬ولكن مما جيدر التنبيه عليه أنه قد نُسب إىل هؤالء الزهاد من األقوال املرذولة‬
‫والشطحات املستنكرة ما مل يثبت عنهم بشكل قاطع كما يذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ :‬ويف الكوةة أخذ معضد بن‬
‫يروضون أنفسهم على ه جر النوم وإقامة الصالة‪ ،‬حىت سلك سبيلهم جمموعة من زهاد الكوةة‪،‬‬ ‫يزيد العجلي هو وقبيله اِ‬
‫ةأخذوا خيرجون إىل اجلبال لالنقطاع للعبادة‪ ،‬على الرغم من إنكار ابن مسعود عليهم يف السابق‪.‬‬
‫وظهرت من بعضهم مثل رابعة العدوية أقوال مستنكرة يف احلب والعشق اإلهلي للتعبري عن احملبة بني العبد وربه‪،‬‬
‫وظهرت تبعاً لذلك مفاهيم خاطئة حول العبادة من كوهنا ال طمعاً يف اجلنة وال خوةاً من النار خمالفةً لقول هللا تعاىل‪:‬‬
‫«يدعوننا رغباً ورهباً» ‪.‬‬
‫يلخص شيخ اإلسالم ابن تيمية هذا التطور يف تلك املرحلة بقوله‪« :‬يف أواخر عصر التابعني حدث ثالثة أشياء‪:‬‬
‫الرأي‪ ،‬والكالم‪ ،‬والتصوف‪ ،‬ةكان مجهور الرأي يف الكوةة‪ ،‬وكان مجهور الكالم والتصوف يف البصرة‪ ،‬ةإنه بعد موت‬
‫احلسن وابن سريين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء‪ ،‬وظهر أمحد بن علي اهلجيمي ت‪ ،244‬تلميذ عبد الواحد‬
‫بن زيد تلميذ احلسن البصري‪ ،‬وكان له كالم يف القدر‪ ،‬وبىن دويرة للصوةية ـ وهي أول مابين يف اإلسالم ـ أي داراً‬
‫بالبصرة غري املساجد لاللتقاء على الذكر والسماع ـ صار هلم حال من السماع والصوت ـ إشارة إىل الغناء‪ .‬وكان أهل‬
‫املدينة أقرب من هؤالء يف القول والعمل‪ ،‬وأما الشاميون ةكان غالبهم جماهدين» (ابن تيمية‪1994 ،‬م ‪.)848/14‬‬
‫من حماسن التصوف يف األبد الفارسي‬
‫حماسن التصوف يف األدب الفارسي کثرية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬ابتعاد عن حياة التزلف والتملق‪ :‬الشيخ ةريد الدين العطار شاعر أيب النفس قد ابتعاده التصوف عن حياة‬
‫تزلف ومتلق لدی السالطني واألمراء ومل يفتح ةمه مبدح األمراء والوزراء ومل يتزلف إىل السالطني واملتنفذين كما هي‬
‫ا‬
‫‪019‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫عادة الشعراء آنذاك‪ .‬ومل جيعل من شعره وإبداعاته الشعرية والفنية وسيله لالرتزاق والكتسب‪ ،‬بل ةضل العيش متواضعا‬
‫بعيدا عن البالطات والقصور واالرتزاق من كد يده‪ ،‬ومن مهنته احملببة إىل نفسه وهي العطارة أو الطبابة والصيدلة‪.‬‬
‫وقد أدى ابتعاده عن احلياة الصاخبة وةراره عن امللوك واألمراء إىل إحاطة حياته بكثري من الغموض واإلهبام‪ .‬وما ورد‬
‫يف كتب الرتاجم عنه قليل ومشفوع باألساطري أحيانا‪.‬‬
‫‪ -2‬تضمني الکالم من اآليات واألحاديث النبوي‪ :‬وأهم ما مييز جالل الدين البلخي عن غريه من متصوةة‬
‫عصره أنه كان بارعا يف إيصال أةكاره وآراءه الصوةية الفلسفية‪ ،‬باستعمال كل الوسائل واألدوات‪ ،‬من آيات قرآنية‪،‬‬
‫وأحاديث نبوية شريفة‪ ،‬وحكايات األولياء والعارةني واملشايخ وأشعار السابقني وحكمهم‪.‬‬
‫‪ -8‬الدعوة إىل االجتاه هللا‪ :‬ويعتربه من إةرازات هذه البيئة اليت أثرت الفكر الصويف مبؤلفات عديدة‪ ،‬ودواوين‬
‫ضخمة‪ ،‬واليت يظهر من خالل ثناياها مسلكه الصويف الفلسفي‪ ،‬الذي يغلب عليه الدعوة إىل االجتاه إىل هللا والفناء ةيه‪.‬‬
‫‪ -0‬أثرى األدب الصويف بإبداعات هلا خصائص الفنية‪ :‬ةإننا جند الفيلسوف واألديب الذي أثرى األدب الصويف‬
‫بشكل خاص واألدب الفارسي بشكل عام‪ ،‬بإبداعــات هلا خصائصها الفنية‪ ،‬ومقوماهتا األدبية‪ ،‬وظف ةيها بطريقة‬
‫بديعــة مجيع معارةه‪ ،‬وموارد ثقاةته املتعــددة‪ ،‬اليت تدل على رسوخ قدمه يف العلـوم الشرعية‪ ،‬والعلوم العقلية واألدبية‪،‬‬
‫وما «املثنوي» إال شاهــد بسيط على ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬الت افاهتم بألبسة اجملاز واملعاين احلقيقية‪ :‬وقد أطلق الشاعر "عبد الرمحن جامي" ةـي كتابه "نفحات األنس"‬
‫وةسره بأن صاحب هذا اللقب كشف عن كثري من األسرار الغيبية‬ ‫على حاةظ لقب "لسان الغيب وترمجان األسرار" ا‬
‫يدل على أن‬ ‫واملعاين احلقيقية اليت الت افت بألبسة اجملاز‪ ،‬وهي مع ذلك خالية من التكلُّف واالضطراب‪ .‬وهذا كلاه ا‬
‫هتز الناس وتطرهبم أاميا طرب‪ ،‬وتبعث ةـي نفوسهم نشوة عميقة‪ .‬إن التمكن من الثقاةتني العربية‬
‫أشعار حاةظ كانت ا‬
‫والفارسية أةاد حاةظاً ةـي قريضه وبالغته وقد أشار ةـي غزليته رقم ‪ /28/‬إىل استفادته من البالغة العربية مبا معناه‬
‫احلقيقي‪.‬‬
‫‪ -8‬تأثري الكامل على األدباء األرويب‪ :‬كان شاعر ولفرد جوته األملاين يف ذلك األوان قد أوىف على الستني‪،‬‬
‫ولكنه جمدد الشباب أبداً كاخلالدين‪ .‬وقد اختار ملطاةه األخري أدب ةارس‪ ،‬أدب اجلنات والبساتني‪ ،‬أدب الورد‬
‫والبالبل‪ ،‬واحلب احلسي والوجد العلوي‪ .‬ولقد استغرق جوته يف هذا األدب ونسى عامله اخلارجي وكان يؤثر واحداً‬
‫بني شعرائه الكثريين‪ ،‬وقد اختذه صاحبه ومرشده الديين يف هذا اجلو الشرقي املشبع باملتعة واحلنني‪ .‬وهو مشس الدين‬
‫حممد حاةظ الشريازي أرق شعراء الفرس الغنائيني‪.‬‬

‫ا‬
‫‪019‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫اطالق مصطلح "العرةان" على املسلك الذي يعترب دليال على امتزاج الفلسفة بالتصوف‪ ،‬القرتاب هذا املصطلح‬
‫من «املعرةة» ‪ ،‬وساعدت طبيعة التصوف اليت تعتمد على الذوق القابلة لألخذ من كل الينابيع أن مييز تصوةهم عن‬
‫باقي بلدان العامل اإلسالمي‪.‬‬

‫هِنایةم امط ه‬
‫اف (النتیجة)‬
‫ةال شك أن الطرق الصوةية املعاصرة ةيها كثري من االحنراةات‪ ،‬كالغلو يف املشايخ والصاحلني‪ ،‬وتقدمي العبادة‬
‫لألضرحة واملشاهد‪ ،‬دعاء واستغاثة ونذراً‪ ،‬وذحباً‪ ،‬وطواةاً وهذا من الشرك الذي ال يغفر‪ ،‬سلك بعضهم طريق حتضري‬
‫األرواح معتقداً بأن ذلك من التصوف‪ ،‬كما سلك آخرون طريق الشعوذة والدجل‪ ،‬وقد اهتموا ببناء األضرحة وقبور‬
‫األولياء وإنارهتا وزيارهتا والتمسح هبا‪ ،‬وكل ذلك من البدع اليت ما أنزل هللا هبا من سلطان‪ .‬أن سؤال غري هللا وطلب‬
‫تفريج الكروب منه وسرت العيوب وشفاء األمراض واألسقام من األمور اليت ال جيوز أن تطلب إال من هللا‪ ،‬ةهو الذي‬
‫يغيث‪ ،‬وهو الذي يفرج الكرب‪ ،‬وجييب دعوة املضطر‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬أمن جييب املضطر إذا دعاه ويكشف السوء‬
‫وجيعلكم خلفاء األرض أإله مع هللا قليالً ما تذكرون﴾ (النمل‪ )82:‬وقال تعاىل‪﴿ :‬وال تدع من دون هللا ما ال ينفعك‬
‫وال يضرك ةإن ةعلت ةإنك إذاً من الظاملني﴾ (يونس‪ )148:‬وقوله (من الظاملني) أي‪ :‬من املشركني‪ .‬والرسول الكرمي‬
‫صلى هللا عليه وسلم أشرف اخللق وسيد ولد آدم ال ميلك النفع والضرر‪ ،‬وكذا من دونه من البشر‪ ،‬ويكفي يف ذلك‬
‫قوله تعاىل خماطباً نبيه‪﴿ :‬قل إين ال أملك لكم ضراً وال رشداً﴾ (اجلن‪ )21:‬وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫لعمه العباس‪( :‬يا عباس أنت عمي‪ ،‬وإين ال أغين عنك من هللا شيئاً‪ ،‬ولكن سل ربك العفو والعاةية يف الدنيا واآلخرة"‬
‫(رواه اإلمام أمحد)‪.‬‬
‫وباجلملة ةال جيوز للمسلم اتباع أتباع أي طائفة أو ةرقة من هذه الفرق الصوةية‪ ،‬بل جيب احلذر منها‪ ،‬والبعد عنها‬
‫والتحذير منها‪ .‬وملعرةة املزيد عن الصوةية وخماطرها ارجع إن شئت إىل‪ :‬كتاب تلبيس إبليس لإلمام ابن اجلوزي‪ ،‬وكتاب‬
‫هذه هي الصوةية للشيخ عبد الرمحن الوكيل من علماء األزهر‪ ،‬وكتاب الصوةية يف الكتاب والسنة للشيخ عبد الرمحن‬
‫عبد اخلالق‪ .‬وةقك هللا ملا حيبه ويرضاه‪.‬‬

‫ا‬
‫‪013‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬
‫‪ ‬عبد الشکور عابد‬ ‫محاسن التصوف في األدب الفارس ي وأساطینه‬

‫امصابدر وامراجع‪:‬‬
‫‪ -1‬ابن تيمية‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أمحد بن عبد احلليم (‪1994‬م) جمموع الفتاوى ج‪ ،14‬ت‪ :‬عبد الرمحن بن‬
‫حممد بن قاسم‪ ،‬املدينة املنورة‪ :‬جممع امللك ةهد لطباعة املصحف الشريف‪.‬‬
‫‪ -2‬أبو نعيم االصبهاين‪ ،‬أمحد بن عبد هللا بن أمحد بن إسحاق بن موسى بن مهران (‪2940‬م) حلیة األولیاء‬
‫وطبقات األصفیاء ج‪ ،2‬القاهرة‪ :‬السعادة جبوار حماةظة مصر‪.‬‬
‫‪ -8‬أمحد الربقوقي‪ ،‬عبد الرمحن بن عبد الرمحن بن سيد (‪1911‬م) مقالة "شذرات مقتبسات من أمرسن"‪ ،‬جملة‬
‫البيان للربقوقي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج‪ 24 ،0‬دمسرب‪.‬‬
‫‪ -0‬بيهقي‪ ،‬أمحد بن احلسني بن علي بن موسى اخلُ ْسَرْوِجردي اخلراساين (‪2448‬م) شعب اإلميان ج‪ ،8‬ت‪ :‬عبد‬
‫العلي عبد احلميد حامدو خمتار أمحد الندوي‪ ،‬الرياض‪ :‬مكتبة الرشد للنشر والتوزيع‪.‬‬
‫‪ -4‬اجلهين‪ ،‬د‪ .‬مانع بن محاد (‪1024‬هـ) اموسوعة امیسرة يف األبدیان وامذاهب واألحزا امعاصرة ج‪ ،1‬الرياض‪:‬‬
‫دار الندوة العاملية للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪.0‬‬
‫‪ -8‬حلمي‪ ،‬حممد مصطفى ( ‪ )1988‬مقالة "مطالعات يف التصوف اإلسالمي عوارف امعارف‪ ،‬منشأ علوم الصوةية‬
‫وةضلها" جملة الرسالة ج‪14‬ص‪.28-20‬‬
‫‪ -4‬الزرکلي‪ ،‬خري الدين بن حممود بن حممد بن علي بن ةارس (‪244‬م) األعالم ج‪ ،4‬دمشق‪ :‬دار العلم للماليني‪.‬‬
‫‪ -8‬السبکی‪ ،‬أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكايف (‪1888‬ه) طبقات السبكي امسمی بطبقات الشافعیة‬
‫الكربى ج‪ ،0‬ت‪ :‬الدکتور حممود حممد الطناحي وعبد الفتاح حممد احللو‪ ،‬القاهرة‪ :‬مطبعة عيسى احلليب‪.‬‬
‫حممد (‪1998‬م) موسوعة كشاف اصطالحات‬ ‫‪ -9‬صابر الفاروقي‪ ،‬حممد بن علي ابن القاضي حممد حامد بن ا‬
‫الفنون والعلوم ج‪ ،1‬ت‪ :‬علي دحروج‪ ،‬نقل النص الفارسي إىل العربية‪ :‬د‪.‬عبد هللا اخلالدي و نقله إىل اإلجنليزية‬
‫د‪.‬جورج زيناين ‪ ،‬بريوت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪.‬‬
‫ابدر‪ ،‬باکستان‪ :‬إدارة ترمجان ُّ‬
‫السنة يف الهور‪.‬‬ ‫ف ام ْنشأ وامص ه‬
‫‪ -14‬ظهري‪ ،‬إحسان إهلي( ‪1984‬م) التَّص ُّو م‬
‫‪ -11‬عمر‪ ،‬عبد احلميد وأمحد خمتار (‪2448‬م) معجم اللغة العربیة امعاصرة ج‪ ،2‬بريوت‪ :‬عامل الکتب‪.‬‬
‫‪ -12‬الندوي‪ ،‬أبو احلسن (د‪.‬ت) رجال الفكر والدعـوة يف اإلسالم ج‪ ،2‬ص‪ ،881 :‬طبعة دار القلم‪.‬‬
‫‪ -18‬يهودی‪ ،‬جولدتسيهر ول‪ .‬أ‪ .‬أيزنربج و‪ .‬إيفانو وهـ‪ .‬أ‪ .‬ر‪ .‬جب وجمموعة من املستشرقني‪1920-1981( ،‬م)‬
‫بدائرة امعارف ا هإلسالمیة ج‪ ،11‬ترمجها إبراهيم زكي‪ ،‬وأمحد الشنتناوي وعبد احلميد يونس‪ ،‬القاهرة‪ :‬وزارة املعارف‬
‫العمومية‪.‬‬
‫ا‬
‫‪001‬‬ ‫املجلة العربية الدولية للبحوث الخّلقة – املجلد‪ ،1‬العدد‪ ،3‬آذار ‪0202‬‬

You might also like