You are on page 1of 36

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫و الصلةا و السلما على أشرف‬


‫المخلوقين سيدنا‬
‫محمد صلوات الله وسلمه عليه و‬
‫على آله وصحبه و من تبعهم‬
‫بإحسان إلى يوما الدين‬
‫وبعد‪ ... :‬يعتبر التصوف بمثابة التجربة التـــي توقف المؤمن على حقيقــة مــا يؤمـــــن‬
‫به و الحساس به‪ ،‬فهي رتبة من رتــب اليقيــن‪ ،‬أو سـلم لمــن أراد أن يرقــى بإيمـانه إلــى مقــام‬
‫الشهود‪ ،‬وهو ماعناه الشارع بمقام الحسان‪ ،‬وهو مقام"أن تعبتتد اتت كأنتتك تتتراه"‪ .‬فاختيــاري‬
‫لهذا الموضوع ‪-‬تجربة أبي حامد الغزالي الصوفية من خللا كتابه المنقذ من الضللا‪ -‬راجــع‬
‫لهميته التي تتجلى في كشفه عن حقيقة التصوف أنذاك و الذي عرف انحرافــاتا و ضــللاتا‬
‫ما أنزلا ا بها من سلطان‪.‬‬
‫وكان من السباب التي دفعتني لختيار هذا الموضوع أن الغزالي انتدب نفســه للــدفاع‬
‫عن أهل السنة في عصر اشتد فيه الصراع بين المذاهب الصأولية‪.‬‬
‫وحيث أن "الصوفية" صأفوة مختارة‪ ،‬تقدم بسلوكها نمـــاذج عليـــــا للسلوك‪ ،‬مثل لستلهــــام‬
‫و التأسي قدر الطاقة‪ .‬وليس المطلوب أن يكون عامة الناس صأوفيين‪ ،‬و إلا اختل نظام الحيــاة‬
‫النسانية‪ ،‬كما أنه ليس مــن المطلــوب أن يكــون عامــة النــاس علمــاء مبتكريــن عــاكفين علــى‬
‫البحث العلمي الخالص‪.‬‬
‫و لما كان للتصوف مكــان ملحــوظ فــي تاريــخ الســلم‪ ،‬وكــان التصــوف هــو الهــدف‬
‫البارز لبحوث الغزالي‪ ،‬وكانت شهرة هذا الخير بالتصوف أكثر من شهرته بغيره‪ ،‬حسن أن‬
‫يكون للتصوف نصيب ملحوظ من الرعاية و العناية في هذا البحث‪.‬‬
‫إن تاريخ حياة الغزالي و شخصيته و سيرته الذاتية و العلمية مازالا لغزا غامضا عنــد‬
‫المؤرخين و الباحثين‪ .‬وذلك ليس بســبب عــدم المصــادر أو المراجــع التاريخيــة‪ ،‬بــل لقصــور‬
‫بعض المؤرخين المعاصأرين سواء كانوا من السلميين أو المستشرقين‪ ،‬حيــث أنهــم أعطــوا‬

‫‪1‬‬
‫صأــورة مغلوطــة عــن الغزالــي ومــا يحملــه مــن أفكــار‪ ،‬ممــا أدى إلــى تضــييق الخنــاق عليــه‬
‫ومحاصأرة مؤلفاته‪ ،‬وعدم إطلعهم على المصادر الساسية التي كتبها القدماء عنه‪ ،‬وهذا كله‬
‫من أسباب فشلهم في إعطاء دراسة ميدانية عن الغزالي و مؤلفاته‪.‬‬
‫و إن الباحثين المحدثين سواء كانوا من السلميين أو المستشرقين الذين شــاركوا فــي‬
‫الدراسة و البحث عن الغزالــي كــثيرون‪ ،‬ومــن المستشــرقين الــذين كتبــوا عــن حيــاة الغزالــي‬
‫‪1‬‬
‫أمثالا‪ " :‬كرادي فو‪ ،‬وبروكلمن‪ ،‬وبول كراوس‪ ،‬وهمري كروبان‪ ،‬وغيرهم‪"...‬‬
‫و لكن بحوث هــؤلاء و أولئــك لــم تســتطع أن تكشــف عــن غمــوض تاريــخ شخصــية و ســيرة‬
‫الغزالي الزمنية و الفكرية و العلمية‪ ،‬خصوصأــا الجتماعيــة و السياســية و القتصــادية‪-‬علــى‬
‫سبيل المثالا‪ -‬لم نجد من المؤرخين من يكشف عن هوية وشخصية الشيخ الذي ربــى الغزالــي‬
‫بعد وفاة أبيه‪ ،‬وإســمه ونســبه‪ ،‬مــع أن هــذا الشــخص –علــى مــا نــرى‪ -‬هــو أولا مــن أثــر فــي‬
‫شخصية الغزالي‪ ،‬ثم ما نعرفه لا يزيد عن قولهم‪ :‬إنه رجل صأالح ومن كبار الصوفية‪ ،‬وهكذا‬
‫عن نسب أبويه‪ ،‬و أخواته‪ ،‬وزوجته‪ ،‬و أبنائه‪ ،‬و أصأولا نسبه عربية أم فارسية وما إلى ذلك‪.‬‬
‫و في الحقيقة إن تاريخ الغزالي في كل لحظة من لحظاتا حياته‪ ،‬و في كل محطة من محطاته‬
‫العلمية منذ نيسا بور إلى بغداد ثم إلــى طــوس مــرة ثانيــة لا يخلــو عــن حركتــه ونضــاله فــي‬
‫إصألحا وتكوين قضايا عصره‪.‬‬
‫ومن هنـا نقصـد بهـذا البحـث الكشـف وتحقيـق أفكـاره ومـواقفه ونضـاله‪ ،‬مـن خللا تجربتـه‬
‫الصوفية التي يجهلها بعض الباحثين و القراء‪.‬‬
‫وحتى يكون هذا البحث أكثر دقة وموضوعية وتفصيل‪ ،‬ومحيطا بكل الجــوانب‪ ،‬ســلكت فــي‬
‫منهج كتابته هذا التقسيم التالي‪:‬‬
‫وهكذا قسمت بحثي إلى ثلثة مباحث‪ ،‬وكل مبحــث يضــم أربــع مطــالب‪ ،‬خصصــت المبحــث‬
‫الاولا‪ :‬لترجمــة الغزالــي‪ ،‬و الــتي تــم مــن خللهــا تنــــــــاولا جوانــــب مــن حيـــاة الغزالــي‬
‫وصأفـــاته و أخلقه ورحلته العلمية وتأثره بعصــره‪ ،‬و المبحــث الثــاني‪ :‬خصصــته للتصــوف‬
‫السلمي‪ ،‬وضرورة معرفة معنى الصوفية و التصوف‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وحقيقته‪ ،‬و النظرياتا الـتي‬
‫قيلت في أصأله‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫عارف تامر‪ ،‬الغزالي بين الفلسفة والدين‪ ،‬رياض ريس للكتب‪ ،‬بيروتا لبنان‪ ،‬ص‪.1:‬‬
‫‪2‬‬
‫أما المبحث الثالث والخير‪ -‬وهو بيت القصيد‪ -‬و الذي عنونته بـ"تجربة الغزالــي الصــوفية"‪،‬‬
‫وهو يمثل البحث الذي نحن بصدده‪ ،‬ويحدد لنا تجربة الغزالــي الصــوفية مــن خللا المراحــل‬
‫التي مر بها في حياته‪ ،‬و التي تحدث عنها في كتابه"المنقذ من الضللا"‪.‬‬

‫المبحث الول‪ :‬ترجـمة الغزالي‬


‫جمع المــام الغزالـي بيــن الريــادة الفلســفية و الموســوعية الفقهيـة و النزعـة الصــوفية‬
‫الروحية‪ ،‬واتسم بالذكاء وسعة الفق وقوة الحجة و إعمالا العقــل وشــدة التبصــر مــع شــجاعة‬
‫الرأي وحضور الذهن‪ ،‬كل ذلك أهله ليكون رائدا في تلك العلوم المختلفة و الفنــون المتباينــة‪،‬‬
‫فكــان الغزالــي فيلســوفا وفقيهــا وصأوفيـــــــــا و أصأوليــــــا‪ ،‬يحكمــه العلــم الــوافر و العقــل‬
‫النـــاضج و البصيرة الواعية و الفكر الراشد‪.‬‬

‫المطلب الول‪ :‬نسب و ميلدا الغزالي‪:‬‬


‫هو أبو حامد زين العابدين محمــد بــن محمــد بــن محمــد بــن أحمــد الطوســي المشــهور‬
‫بالغزالي‪ ،‬ولم نجد من ذكر له أكثر من ثلثة آبـاء و أسـماؤهم عربيـة‪ ،‬وقـد ثـار خلف حـولا‬
‫أصأل الرجل‪ :‬أهــو عربــي أم فارســي‪ ،‬ولــم ينتــه هــذا الخلف إلــى تحقيــق أو يقيــن‪ ،‬فقــد كــان‬
‫الغزالي من سللة العرب الذين تغلغلوا في بلد فارس منذ بداية الفتح الســلمي‪ ،‬وقــد يكــون‬
‫‪2‬‬
‫من الفرس الذين غلبت عليهم السماء العربية‪ .‬لعراقتهم في السلم‪.‬‬
‫وقد ولد الغزالــي بمدينــة طــوس‪ ،‬وقيــل فــي قريــة غزالــة‪ ،‬التابعــة لطــوس‪ ،‬وقيــل فــي‬
‫الطبران وهو حي من أحياء مدينة طوس فــي منتصــف القــرن الخــامس الهجــري أعنــي ســنة‬
‫خمسين و أربعمائة هجرية‪ 3‬وقيل سنة واحد وخمسين و أربعمائة‪ ،‬من أسرة فارســية لــم تحــظ‬
‫باهتمام التاريخ‪.‬‬
‫أما والده فقد كان فقيرا صأالحا لا يأكل إلا من كسب يده في عمل غزلا الصوف وبيعــه‬
‫في دكانه بطوس‪ .‬ويجالس العلماء وقت فراغه‪ ،‬ويطـوف عليهـم ويسـعى لخـدمتهم ويجـد فـي‬
‫الحسان إليهم و النفقة بما يمكنه عليهم‪ ،‬و أنه كان إذا سمع كلمهم بكى و تضرع‪ ،‬يســألا اــ‬
‫تعالى أن يرزقه إبنا يجعله فقيها وواعظا فاستجاب ا لدعوته‪ 4‬فـــرزقه ا بولديـــن همـــــا‬

‫‪ 2‬أحمد الشرباصأي الغزالي و التصوف السلمي‪ -‬ص ‪ 23‬طبع بمطابع مؤسسة دار الهللا‪.‬‬
‫‪ 3‬عارف تامر‪ ،‬الغزالي بين الدين و الفلسفة‪ -‬رياضة الريس للكتب و النش‪ ،‬ص" ‪ .41‬يراجع‪ :‬الغزالي‪ ،‬أبو حامد‪-،‬ميزا العمل‪ -‬دار الكتــب العلميــة‪،‬‬
‫بيروتا ‪،‬لبنان‪ ،‬ط ‪،1‬ج ‪ 1‬ص‪4:‬‬
‫‪ 4‬الغزالي‪ ،‬أبو حامد –إحياء علوم الدين‪ -‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروتا‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪ 1‬ج ‪ ،1‬ص‪.4:‬‬
‫‪3‬‬
‫‪5‬‬
‫أبو حامد و أخوه احمد‪.‬‬
‫توفي أبوه ولم ير رجاءه قد تحقق ودعــوته قــد اســتجيبت لن أبــا حامــد و أخــاه لــم يبلغــا ســن‬
‫الرشد‪ .‬أما أمه فلم يذكر التاريخ شيئا عنها و لكنها شهدتا بــزوغ شــمس ابنيهــا وســماء المجــد‬
‫حيث صأار أبو حامد أفقه أقرانه‪ ،‬و إمام أهل زمانه وفارس ميدانه‪ .‬و أما أحمــد فكــان واعظــا‬
‫تلين الصخور الصم عند سماع قوله‪ ،‬وترعد فرائص الحاضرين في مجالس تذكيره‪.‬‬
‫توفي رحمه ا يوم الثنين الرابع عشر من جمــادى الخيــرة عــام ‪ 505‬هـــ‪ /‬الموافــق‬
‫الثامن عشر من ديسمبر سنة ‪ 1111‬م‪ ،‬ودفن بظاهر الطابران وهي قصبة طوس‪ .‬وقالا آخوه‬
‫أحمد‪ " :‬لما كان يوم الثنين وقت الصبح توضأ أخوه وصألى و قالا‪ :‬علي بالكفن‪ .‬فأخذه وقبله‬
‫ووضعه بين عينيه وقالا‪ :‬سمعا وطاعة للدخولا على الملك‪ ،‬ثم مد رجليه واستقبل‪ ،‬فانتقل إلى‬
‫رضوان ا تعالى قبل السفار"‪.‬‬
‫ولقد رثاه الديب أبو المظفر محمد البيوري الشاعر المشهور بقوله‪:‬‬

‫مضـى‪ ،‬و أعـظـم مفقـود فجعـت بـه ‪‬‬


‫‪6‬‬
‫‪‬مـن ل نظيـر لـه في النــاس يخلف ــه‪.‬‬

‫وهكذا أمضى الغزالي حياته كلها حتى مماته‪ ،‬كما قالا الســبكي‪ : :‬طيــب الثنــاء‪ ،‬أعلــى‬
‫منزلة من نجم السماء‪ ،‬لا يكرهه إلا حاسد أو زنديق‪ ،‬و لا يســومه بســوء إلا جــائر عــن ســوء‬
‫‪7‬‬
‫الطريق"‪.‬‬

‫‪ 5‬هو أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي الملقب بمجد الدين‪ ،‬الفقيه الشافعي‪ ،‬كان واعظا مليح الوعظ‪ ،‬حسن النظر‪ ،‬صأاحب كراماتا‬
‫و إنتشاراتا من الفقهاء ير أنه مالا إلى الوعظ فغلب عليه ودرس بالمدرسة النظامية نيابة عن أخيه أبي حامد‪ ،‬و اختصر كتاب الحياء في مجلد واحد‬
‫سماه )لباب الحياء(‪ ،‬وله تصنيف آخر )الذخيرة في علم البصيرة(‪ ،‬طاف البلد وخـدم الصـوفية بنفسـه وكـان مـائل إلـى النقطـاع و العزل ة‪ ،‬تـوفي‬
‫بقزوين سنة ‪ 520‬هــ‪.‬‬
‫‪ 6‬أحمد الشرباصأي‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪54:‬‬
‫‪ 7‬السبكي‪ ،‬طبقاتا الشافعية‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ج ‪،4‬ص ‪.105‬‬
‫‪4‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬صفات الغزالي و أخلقه‪.‬‬
‫عندما نتحدث عن حياة الغزالي و أسرته‪ ،‬ورحلته العلمية‪ ،‬نجد انه قد رزق الذكـــــاء‪،‬‬
‫و الجهد و المجاهدة‪ ،‬و القناعة بالقليل‪ ،‬و حسن الخلق‪ ،‬وشدة العطش للعلم و المعرفــة‪ ،‬وكــان‬
‫زاهدا‪ ،‬وموحدا‪ ،‬مخلصا ل تعالى في كل عمل يعمله‪.‬‬
‫وقالا أبو إبراهيم الفتح بن علي البغدادي‪ " :‬هو من لم تر العيون مثلــه لســانا‪ ،‬ونطقــا‪ ،‬وبيانــا‪،‬‬
‫‪8‬‬
‫وخاطرا‪،‬و ذكاء‪ ،‬وطبعا"‪.‬‬
‫فالتاريخ يحدثنا بأن العيون في عصره لــم تــر مثلــه‪،..‬كمــا يقــولا إبــن كــثير‪":‬كــان مــن‬
‫أذكياء العالم في كل ما يتكلم به"‪ .‬وكان صأــاحب ذهــن متوقــد مبــدع‪ ،‬وصأــاحب روحا متألقــة‬
‫متوهجة‪ ،‬وصأاحب نفس صأافية مشرقة‪ ،‬يحب الفضيلة لذاتها‪ ،‬ويريدها أن تســــود الحيــــــاة‬
‫‪9‬‬
‫و الحيـــاء‪ ،‬و يحرص على السمو بالنسان روحيا و نفسيا وحسيا‪.‬‬
‫ومن صأفاته أيضا أنه كان شديد التواضع‪ ،‬قالا ابن الســمعاني‪":‬قــرأتا فــي كتــاب كتبــه‬
‫الغزالي إلى أبي حامد بن احمد ابن السلمة بالموصأيل‪ ،‬فقـالا مـن خللا فصــوله‪ :‬أمـا الــوعظ‬
‫فلست أرى نفسي أهل له‪ ،‬لن الوعظ زكاة نصابه التعاظ‪ ،‬فمن لا نصــاب لــه فكيــف يخــرج‬
‫‪10‬‬
‫الزكاة؟ وفاقد الثوب كيف يستر به غيره؟ ومتى يستقيم الظل و العود أعوج؟‪.‬‬
‫ومــن تواضــعه‪ ،‬أنــه صأــادف دخــوله يومــا مدرســة المنيــة‪،‬فوجــد المــدرس يقــولا‪ ":‬قــــالا‬
‫‪11‬‬
‫الغـــزالي‪ :‬و هو يدرس من كلمه‪ .‬فخشي الغزالي على نفسه العجب‪ ،‬ففارق دمشق‪".‬‬
‫ومن صأفاته أيضا كان شديد الجهد و المجاهدة‪ ،‬وذلك كما يعرف منذ شبابه حينما ترك‬
‫بغداد وما فيها من زخارف الدنيا و الجاه و السمع‪ .‬و كان يتتبع كل مــا يمكــن أن يعرفــه و لــو‬
‫كان شرا‪ ،‬و ذلك كما نعرفه من خللا ما أنشده الغزالي‪:‬‬
‫عرفـت الش ــر ل للشر لكـن لتوقيه ‪‬‬
‫‪12‬‬
‫‪‬و مــن ل يعــرف الشر وق ــع فيـ ــه‪.‬‬

‫‪ 8‬الزبيدي‪ ،‬محمد بن محمد الحسيني‪ ،‬إتحاف السادة المتقين‪ ،‬شرحا إحياء علوم الدين‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروتا لبنــان‪ ،‬بــدون تاريــخ‪ .‬ج ‪،1‬‬
‫ص‪ ، 6:‬وهذا القولا نقله من كلم عبد الغافر الفارسي‪ ،‬لنه أولا من أرخ للغزالي‪ -.‬يراجع السبكي‪ ،‬الطبقاتا الشــافعية الكــبرى‪ ،‬نفــس المصــدر‪ ،‬ج ‪،6‬‬
‫ص‪.20:‬‬
‫‪ 9‬أحمد الشرباصأي‪ ،‬الغزالي و التصوف‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروتا‪ ،‬سنة ‪1975‬م‪.‬‬
‫‪ 10‬السبكي‪ ،‬الطبقاتا الشافعية الكبرى‪ ،‬المصدر السابق ‪،‬ج ‪1‬ص‪.216:‬‬
‫‪ 11‬أحمد الشرباص‪ ،‬المرجع السابق‪-‬ص‪.199:‬‬
‫‪ 12‬المام أبو حامد الغزالي‪ ،‬فضائح الباطنية‪ ،‬تحقيق محمد علي قطب المكتبة العصرية‪ ،‬بيروتا ‪ ،‬لبنان‪، ،‬ط ‪ 1‬سنة ‪1421‬هـ‪2000/‬م‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬رحلة الغزالي العلمية‬
‫تعتبر حياة الغزالي في نيسابور من أخصب مراحل حياته العلميــة‪ ،‬وبــرع فــي أثنائهــا‬
‫بالتأليف و الكتبة‪.‬‬
‫خرج الغزالي من نيسابور عام ‪ 478‬هــ‪ ،‬بعد وفــاة أسـاتذة إمــام الحرميـن متجهـا نحــو مدينـة‬
‫المعسكر‪ 13‬وكان سنه إذ ذاك ثماني ة وعش رين عام ا‪ .‬وك ان متزوج ا لن ه ت زوج قب ل بل وغه‬
‫العشرين وعاش له ثلث بناتا وقد كان له ولــد مــاتا فــي طفــولته اســمه "حامــد" وهــو ســبب‬
‫‪14‬‬
‫تكنيته "أبا حامد"‪.‬‬
‫ولقد قصد الغزالي في المعس كر مجل س ال وزير نظ ام المل ك‪ ،15‬ال ذي ك ان مجم ع أه ل العل م‬
‫ومحط رجالا السلطين السلحوقيين‪ .‬وكانت المجالس لا تخلو من المنـــــاظراتا الفقهيـــــــــة‬
‫و المطارحاتا الكلمية‪ ،‬فناظر الغزالي العلماء وقهر الخصـــوم‪ ،‬وظهر كلمـــــــــه عليــــهم‬
‫و اعترفوا بفضله حتى فوض الوزير إليه التدريس في مدرس ته النظامي ة ببغ داد‪16.‬و بـذا ق الا‬
‫الدكتور سليمان دنيـا‪ " :‬و بخروجـه )مـن نيس ابور( ودع حيـاة التلمـذة نهائيـا ليـدخل معـترك‬
‫الحياة العلمية الحقيقية كعالم بارع ومناضل ومتبحر"‪.‬‬
‫و خللا التدريس بالنظامية تمكن من جذب الانظار إليه لحسن كلمه وكمالا فضله و فصاحة‬
‫لسانه ونكته الدقيقة و إشارته اللطيفة حتى علت حشــمته الكــابر و الامــراء ودار الخلفــة ‪،17‬‬
‫وكان يقرأ على يده جمع غفير من الطلبة‪ .‬وحولا حاله بالنظامية قالا الغزالي في " المنقذ مــن‬
‫الضللا"‪ :‬و "أنا ممنون بالتدريس و الفادة لثلثمائة نفس من الطلبة ببغداد"‪.‬‬
‫لقد بلغت شهرة الغزالي ومكانته العلمية في العالم السلمي أوجهــا‪ ،‬ووصأــل إلــى أقصــى مــا‬
‫يصل إليه عالم في ذلك العصر من المجد الرئاسة‪ .‬ولكن الشــهرة و الجــاه و المجــد لــم تفــض‬
‫إلى راحة البالا و استبد به القلق‪ ،‬مما أدى به إلى أزمة نفسية عنيفة فكر خللها فـي العـتزالا‬
‫عن الناس و التدريس‪.‬‬
‫ووصأف لنا الغزالي هذه الحالة فـي كتـابه " المنقـذ مـن الضـللا" حيـث يقـولا‪" :‬ثـم لاحظـت‬
‫أحوالي فإذا أنا منغمس في العلئق وقد أحدقت بي الجــوانب‪ ...‬و لاحظــت أعمــالي و أحســنها‬

‫‪ 13‬السبكي طبقاتا الشافعية المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ 4‬ص‪.102 :‬‬


‫‪ 14‬نفس المصدر و الصفحة‪.‬‬
‫‪ 15‬وهو الحسن بن إسحاق بن العباس الطوسي‪ ،‬الوزير الكبير العالم العادلا أبو علي الملقب بنظام الملك‪ .‬ولدعام ‪ 408‬هـ‪ ،‬حفظه أبوه القرىن وشغله‬
‫التفقه مذهب الشافعي‪ ،‬و أخذ في بناء المساجد و المدارس و الرباطاتا وفعل أصأناف المعروف‪ .‬يراجع‪ :‬السبكي طبقاتا الشافعية‪ ،‬المصدر السابق ج‬
‫‪ ،3‬ص‪ 125:‬و ‪.126‬‬
‫‪ 16‬السبكي‪ ،‬نفس المصدر و الصفحة‪.‬‬
‫‪ 17‬السبكي‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص‪.107:‬‬
‫‪6‬‬
‫التدريس و التعليم فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة و لا نافعــة‪ ،‬فــي طريــق الخــرة ثــم‬
‫فكرتا في نية التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه ا تعالى‪ ،‬بــل باعثهــا و محركهــا طلـــــب‬
‫‪18‬‬
‫الجــــاه و انتشار الصيت فتيقنت أني على شفا جرف هار‪ ،‬و اني قد أشفيت على النار"‪.‬‬
‫و في هذه الحالة استحقر نفسه وطلب الخلص من حيرتهه‪ ،‬ولكنه تردد بين النصياع‬
‫لنداء اليمان الذي دعاه إلى الرحيل إذ يقولا‪ " :‬لم يبق من العمر إلا القليل و بين يــديك الســفر‬
‫الطويل وجميع ما انت فيه من العلم و العمل رياء و تخيل‪ ،‬فإن لــم تســتعد الن للخــرة فمــتى‬
‫‪19‬‬
‫تستعد؟ و إن لم تقطع هذه العلئق فمتى تقطع"؟‪.‬‬
‫ولقد قوي عزم الغزالي على النصراف عـن التـدريس و العزلـة عـن النـاس ولكـن الشـيطان‬
‫يعود إليه و يقولا‪:‬‬
‫" هذه حالا عارضة إياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوالا فإن أذعنت لها وتركــت هــذا الجــاه‬
‫العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير و التنغيص و الامن المسلم الصافي عن منازعة‬
‫الخصوم ربما إلتفت إليك نفسك‪ ،‬و لا يتيسر لك المعاودة‪ ،‬فلم أزلا اتردد بين تجــاذب شــهواتا‬
‫الدنيا ودواعي الخرة تقريبا من ستة أشهر‪ ،‬أولها رجب ثمان وثمانين و أربعمائة‪ ،‬وفــي هــذا‬
‫الشهر جاوز المر حد الختيار إلى الضــطرار‪ ،‬إذ أقفــل اــ علــى لســاني حــتى أعتقــل عــن‬
‫التدريس فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفين إلــي فكــان لا ينطــق‬
‫لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة حتى اورثت هذه العقلة فـي لسـاني وحزنـا فـي القلـب‪،‬‬
‫بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام و الشراب‪ ،‬فكان لا ينســاغ لــي شــربة و لا تنهضــم لــي‬
‫لقمة‪ ،‬وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الطباء طمعهم مــن العلج‪ ،‬وقــالوا هــذا امــر نــزلا‬
‫بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فل سبيل إليه من العلج إلا بأن يتروحا السر عن الهم الملم‪ ،‬ثم‬
‫لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري إلتجأتا إلى اــ تعــالى إلتجــاء المضــطر الــذي لا‬
‫حيلة له‪ ،‬فاجابني الذي يجيـــب المضطر إذا دعاه وسهل على قلبــــي العراض عــن الجــــاه‬
‫‪20‬‬
‫و المالا و الولاد والصأحاب"‪.‬‬
‫وبعد أن دام مرضه شهرين شفاه ا وعبر عن شفائه قــائل‪":‬فأعضــل هــذا الــداء ودام‬
‫تقريبا من شهرين أنا فيها على مذهب السفسطة بحكم الحالا‪ ،‬لا بحكم النطــق و المقــالا‪ ،‬حــتى‬
‫شفى ا تعالى ذلك المرض وعادتا النفس إلــى الصــحة و الا عتــدالا‪ ،‬ورجعــت الضــروراتا‬

‫‪18‬‬
‫الغزالي‪ :‬المنقد من الضللا دار الكتب العلمية‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪19‬‬
‫الغزالي نفس المصدر و الصفحة‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫الغزالي‪-‬نفس المصدر ص‪.61-60:‬‬
‫‪7‬‬
‫العقلية مقبولة موثوقا بها على امن ويقين‪ ،‬و لم يكن ذلك بنظم دليل و ترتيــب كلم‪ ،‬بــل بنــور‬
‫قذفه ا تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاحا أكثر العارفين‪ ،‬فمن ظن أن الكشــف موقــوف‬
‫‪21‬‬
‫على الدلة المجردة فقد ضيق رحمة ا الواسعة"‪.‬‬
‫في عام ‪ 488‬هــ خرج الغزالي من بغداد وترك التدريس بالمدرسة النظاميــة و اســتناب أخــاه‬
‫أحمد بالتدريس فيها‪ .‬وحولا خروجه من بغداد يحدثنا ويقولا‪ ":‬و أظهرتا عــزم الخــروج إلــى‬
‫مكة و انا ادبر نفسي سفر الشام حذرا ان يطلــع الخليفــة وجملــة الصأــحاب علــى عزمــي فــي‬
‫المقام بالشام فتلطفت بلطـائف الحيــل فــي الخـروج مـن بغــداد علــى عــزم ألا أعاودهــا أبـدا‪...‬‬
‫ففارقت بغداد‪ ،‬ما كان معي من المالا ولم أذخر إلا قدر الكفاف وقوتا الطفالا‪ ،‬ترخصــا بــان‬
‫مالا العراق مرصأد للمصالح‪ ،‬لكونه وقفا على المسلمين‪ ،‬فلم أر فــي العــالم مــالا يأخــذه العــالم‬
‫لعياله أصألح منه"‪ 22.‬ويقولا الغزالي أيضا‪":‬ثم دخلت الشام و أقمـت بهـا قريب ا مـن س نتين لا‬
‫شغل لي إلا العزلة و الخلوة و الرياضة و المجاهدة‪ ...‬وكنت أعتكــف مــدة فــي مســجد دمشــق‬
‫‪23‬‬
‫أصأعد منارة المسجد طولا النهار و أغلق بابها على نفسي"‪.‬‬
‫و في دمشق ألف الغزالي كتابه المشهور وهو كتاب"إحياء علوم الدين"‪ .‬و من دمشــق‬
‫ذهب الغزالي إلى بيت المقدس ثم إلى الحجاز‪ .‬قالا الغزالي‪ ":‬ثم رحلت منها إلى بيت المقدس‬
‫أدخل كل يوم الصخرة و أغلق بــــــابها علـى نفســـــي‪ ،‬ثـم تحركـت فـي داعيـــــة فريضـــة‬
‫الحج و الستمداد من بركاتا مكة و المدينة وزيارة رسولا ا )ص(‪ ،‬بعد الفــراغ مــن زيــارة‬
‫‪24‬‬
‫الخليل صألواتا ا عليه فسرتا إلى الحجاز"‪.‬‬
‫و بعد أداء فريضة الحج قصد مصر و أقــام بالســكندرية مــدة‪ ،‬ويقــالا إنــه قصــد منهــا‬
‫الركوب في البحر إلى بلد المغرب على عزم الجتماع بالمير يوســف بــن تاشــفين صأــاحب‬
‫مراكش‪ ،‬فبينما هو كذلك بلغه نعي يوسف بن تاشفين فصرف عزمه من تلك الناحيــة ثــم عــاد‬
‫إلى وطنه بطوس‪ ،‬وقالا عـن عــودته إلــى طــوس‪":‬ثـم جـذبتني الهمـم ودعـواتا الطفــالا إلـى‬
‫الوطن فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه‪ .‬فآثارتا العزلة به أيضا حرصأا على‬
‫‪25‬‬
‫الخلوة وتصفية القلب للذكر"‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫الغزالي‪-‬نفس المصدر‪-‬ص ‪.29:‬‬
‫‪22‬‬
‫الغزالي‪-‬نفس المصدر‪،-‬ص‪.61:‬‬
‫‪23‬‬
‫الغزالي‪-‬نفس المصدر‪-‬ص ‪.61‬‬
‫‪24‬‬
‫نفس المصدر و الصفحة‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫نفس المصدر‪ ،‬ص‪62-61 :‬‬
‫‪8‬‬
‫و في عام ‪ 499‬هــ ألزمه فخر الملك بن الوزير نظام الملك بالعودة إلى نيسابور للقيام‬
‫بالتدريس بالمدرسة النظامية مـرة أخــرى‪ ،‬فأجـاب الـدعوة بعــد تكـرار المعــاوداتا لمــدة ســنة‬
‫واحدة‪ .‬و بعدها عاد إلى مسقط رأسه وكانت طوس محطة أسفاره الخيرة‪.‬‬
‫قالا ابن خلكان‪":‬عاد إلى بيته وطنه واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسته للمشــتغلين بــالعلم‬
‫في جواره ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القـرآن ومجالسـة أهـل القلـوب و القعـود‬
‫‪26‬‬
‫للتدريس إلى أن انتقل على رحمة ربه‪".‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬الغزالي وتأثره بعصره‪.‬‬


‫مــن الطــبيعي أن نتعـرف بإيجــاز علـى عصـر المـــــــام الغزالــــي‪ ،‬لن أحـــــــداث‬
‫الزمن و أحواله تلقي‪-‬دون شك‪ -‬أضواء على الجوانب الفكرية و الروحية التي تعنينا فــي هــذا‬
‫المجالا قبل غيرها من الجوانب‪.‬‬
‫و أدى اختلط الرأي و تداخل الثقافاتا لا سيما في العصــر الــذي ظهــر فيــه الغزالــي‪،‬‬
‫إلى ظهور عدة عوامل ونجد من بينها الفلسفة اليونانية التي يستدلا بها في العقائد و يحتج بهــا‬
‫في الدين‪ ،‬و الخلفاتا الفقهية‪ ،‬و أساطيـــر اليهود و النصــــــارى‪ ،‬وتزاحم أخبار الوليــــاء‬
‫و كراماتا الصوفيين‪ ،‬و كذا التفسيراتا الصوفية و التدويناتا الفارسية التي شغلت اللسنة‪.‬‬
‫و تتـــألف من هذه النفاياتا و الخلط‪ ،‬عقليـــــة ســــائدة متحللة تقــوم علــى العجــــز‬
‫و النحراف‪ ،‬لها مظهر الدين و حقيقة الوثنية‪ ،‬يمكن تســميتها –"بالعقليتتة الشتترفية"‪ -‬تمييــزا‬
‫‪27‬‬
‫لها من العقلية السلمية التي تقوم على الوضوحا و الستقامة و الكفاحا‪.‬‬
‫ولقد كان الغزالي يحمل آثـار هــذه الثقافـاتا المتباينــة‪ ،‬وكــان لــذلك أثــره الملحــوظ فــي‬
‫توجيه أفكاره ومجهوداته‪ .‬فمثل نراه يبحث عن الحق خارج محيطه‪ ،‬فيما راج مــن الفلســفاتا‬
‫و النزاعاتا و الضللاتا‪ ،‬فيقرر في كتابه "المنقذ من الضلل"‪"،‬أن الحق لا يعدو واحدا مــن‬
‫‪28‬‬
‫أربع فرق وهي الباطنية و الصوفية و الفلسفة و المتكلمين"‪.‬‬
‫و على الرغم من معارضته للفلسفة‪ ،‬وقيامه بالرد عليهم و القولا بكفرهــم‪ ،‬فـإنه ينقــل‬
‫مصطلحاتهم و أفكارهم‪ ،‬ويستعين بأساليبهم وعلومهم‪ .‬فهو مثل يتكلم كما يتكلمون في النفــس‬
‫الكلية‪ ،‬و النفس الجزئية و الجوهرة و العرض‪ ،‬و إن أدعى اختلف المراد من كــل لفــظ عنــد‬
‫كل قوم‪.‬‬
‫‪ 26‬الزبيدي‪ ،‬إتحاف السادة المتقين‪ ،‬المصدر اليابق‪،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.8‬‬
‫‪ 27‬عاطف الزين‪ ،‬الصوفية في نظر السلم‪ ،‬ص‪123:‬‬
‫‪ 28‬الغمام أبي حامد الغزالي‪ ،‬المنقذ من الضللا‪ ،‬ومعه كمياء السعادة و القواعد العشرة و الدب في الدين‪ ،‬تعليق وتصحيح‪ :‬محمد جابر‪ ،‬المكتبة‬
‫الثقافية‪ ،‬بيروتا بنان‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬ص‪.13:‬‬
‫‪9‬‬
‫ونجد أنه يظهر الشك في المحسوساتا كما يصنع " السوفطائيون" من الفلسفة مع مؤاخــذتهم‬
‫عليه‪ ،‬ونراه كذلك يعشق نظرية الشراقيين فــي الفيـض والتلقــي‪ ،‬وهـو بــذلك يؤيــد بهــا فكــرة‬
‫الكشف و الذوق و العلم اللدني في التصوف‪.‬ومع مهاجمته لرجالا الكلم يقــرر أن علــم الكلم‬
‫أفضل العلوم و أجلها و أكملها‪.‬‬
‫و الغزالي لا يمانع في النقل عن اليهــود و النصــــارى و غيرهــم‪ ،‬بــدعوى أن الحكمــة ضــالة‬
‫‪29‬‬
‫المؤمن‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫عاطف الزين‪-‬الصوفية في نظر السلم –ص‪.124:‬‬
‫‪10‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التصوف السلمي‬
‫إن التصوف حركة دينية انتشرتا في العالم السلمي كنزعاتا فردية تدعو إلى الزهد‬
‫وشدة العبادة كرد فعل مضاد للنغماس في الترف الحضاري‪ .‬ثم تطورتا تلك النزعاتا حــتى‬
‫صأارتا طرقا مميزة معروفة باسم"الصوفية"‪ .‬و لا شك أن ما يدعو إليه الصــوفية مــن الزهــد‬
‫و الورع و التوبة و الرضا‪ ،‬إنما هي أمور من السلم الذي يحث على التمســك بهــا و العمــل‬
‫من أجلها‪ ،‬و لكن الصوفية في ذلـك يخـالفون مادعــا إليـه الســلم‪ ،‬و ذلــك راجــع إلـى ابتـداع‬
‫مفاهيم و سلوكياتا مخالفة لما كان عليه النبي )ص( وصأحابته‪.‬‬

‫المطلـــب الول‪ :‬معنـــى الصـــوفية‪-‬اســـم‬


‫التصوف‪-‬‬
‫أولا مشكلة تثار بالنسبة إلى التصوف السلمي‪ ،‬هــي مشــكلة إســمه‪ ،‬مــن أيــن اشــتق‪،‬‬
‫شــأنه شــأن علــم‪-‬الكلم‪ -‬وهــذا مــا ســنراه مــن خللا هــذا المطلــب‪ .‬فالســراج يعقــد فصــل‬
‫بعنوان‪":‬باب الكشف عن اسم الصوفية‪ ،‬ولم سموا بهذا السم‪ ،‬ولم نســبوا إلــى هــذه اللبســة"‪.‬‬
‫يبدأه بالسؤالا عن السبب في تسمية الصوفية بهذا السم‪ ،‬دون نسبتهم إلى حــالا و لا إلــى علــم‬
‫معين‪ .‬كما ينسب الفقهاء إلى الفقه و أصأحاب الحديث إلى الحديث‪.‬‬
‫و من هذا نرى أن رأي السراج لا يخرج عن هذه المفاهيم التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬أن اسم الصوفية مشتق من الصوف‪ ،‬بوصأفه اللبسة الغالبة على هؤلاء‪.‬‬
‫‪ .2‬و أنه اسم قديم‪ ،‬قد وجد حتى قبل السلم‪.‬‬
‫‪ .3‬إنهم لم ينسبوا إلـى حـالا معينـة أو علــم معيــن لنهـم يتخلقـون بكـل الخلق الفاضــلة‬
‫ويتسمون بكل الحوالا الشريفة‪ ،‬فل محل لتمييزهم بحــالا دون حــالا‪ ،‬ولا بخلــق دون‬
‫خلق‪.‬‬
‫و عبد الرحمن الجامعي يرى أن اولا من حمل اسم "صأوفي"هو أبوها شم الكوفي‪ ،‬الــذي‬
‫عاش في النصف الولا من القرن الثاني للهجرة‪ ،‬ويرى أن هذا السم انتشر قبل ســنة مــائتين‬
‫للهجرة )‪715‬م(‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ويبقى رأي السراج هو أرجح الراء‪ ،‬و إن طعن فيه القشيري على أساس أن الصوفية لم‬
‫‪30‬‬
‫يختصوا بلباس الصوف دون غيره من القمشة‪.‬‬
‫أما الراء الخرى الواردة في المصادر العربية فبعيدة الحتمالا‪ ،‬ونذكر أهمها هنا على سبيل‬
‫الستقصاء فحسب‪:‬‬
‫الصفة‪ :‬و هي "المقعد"‪ ،‬حيث سموا بذلك نسبة إلى اهل الصفة‪ ،‬وكان لقبا أعطي‬ ‫‪.1‬‬

‫لبعض فقراء المسلمين في عهد الرسولا)ص( ممن لم تكن لهم بيوتا يؤون إليهـا ف امر‬
‫الرسولا )ص( ببناء فناء ملحق بالمسجد مــن أجلهــم‪ ،‬وهــذا يوضــح ادعــاء المتصــوفة‬
‫بربط التصوف بعصر النبي )ص( و أنه أقر النواة الصوفية الولى‪ ،‬مع العلم أن أهــل‬
‫الصفة ما كانوا منقطعين عن الناس لجل الزهد الصوفي‪.‬‬
‫الصفاء‪ :‬ومعناها أن الصوفية صأافية من الشرور و شهواتا الدنيا‪ ،‬وهذا الشتقاق‬ ‫‪.2‬‬

‫غير صأحيح لغويا فبالنسبة إلى الصفاء‪ :‬صأفوي أو صأفاوي أو صأفائي وليس صأوفيا‪.‬‬
‫الصف الول‪ :‬بعض الصوفية ينسبون أنفسهم إلى الصف الولا من المؤمنين في‬ ‫‪.3‬‬

‫الصلة‪ ،‬وهذا التعبير بعيد عن سلمة الشتقاق اللغوي بالنسبة إلــى الصــف‪ :‬صأــفي لا‬
‫صأوفي‪.‬‬
‫بني صوفة‪ :‬بعضهم ينسبون الصوفية إلى بني صأوفة وهي قبيلة بدوية كانت تخدم‬ ‫‪.4‬‬

‫الكعبة في الجاهلية‪.‬‬
‫الصوفة‪ :‬و البعض منهم ينسبونها إلى "صأوفة" وهي خصلة الشعر على القفا‪.‬‬ ‫‪.5‬‬

‫الصفوانة‪ :‬ومنهم ينسبون الصوفية إلى "الصفوانة" وهي نوع من البقل‪.‬‬ ‫‪.6‬‬

‫وكما لاحظ القشيري فإن هذه الراء لا يشهد لها اشتقاق مــن جهــة العربيــة ولا قيــاس‪ ،‬وكلهــا‬
‫‪31‬‬
‫بعيدة من جهة القياس اللغوي‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫د‪.‬عبد الرحمن بدوي‪-‬تاريخ التصوف السلمي‪-‬ط ‪– I‬ص‪7:‬‬
‫‪31‬‬
‫د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪ -‬نفس المصدر‪-‬ص‪.9:‬‬
‫‪12‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬نشأةا التصــوف الســلمي و‬
‫العوامل التي أثرت فيه‪.‬‬
‫لا يعرف على وجه التحديد من أولا متصوف في السلم‪ ،‬ويقــالا بــأن التصــوف كــان‬
‫أولا ما ظهر في الكوفة بسبب قربها من بلد فارس‪ ،‬ويقولا شيخ السلم ابن تيميــة‪ ":‬إن أولا‬
‫من عرف بالصوفي هو أبوهاشم الكوفي سنة ‪150‬هـ"‪ .‬وقــد بلــغ التصــوف دروتــه فــي نهايــة‬
‫القرن الثالث وواصأــلت الصــوفية انتشــارها فــي بلد فــارس ثــم العــراق ومصــر و المغــرب‪،‬‬
‫وظهرتا من خللا الطرق الصوفية‪.‬‬
‫ويذكر ابن خلدون أن التصوف احد العلوم الشرعية الحادثة في الملة‪ ،‬وأصأله العكوف‬
‫على العبادة و النقطاع إلى ا تعالى‪ ،‬و العراض عن زخــارف الــدنيا وزينتهــا‪ ،‬و النفــراد‬
‫عن الخلق‪ ،‬وهذه الصفاتا كانت عامة في الصحابة و السلف‪ ،‬ولما فشا القبالا على الدنيا فــي‬
‫‪32‬‬
‫القرن الثاني وما بعده اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة‪.‬‬
‫وليس من الصواب أن نرجع كل ظاهرة في بيئة ما إلى عوامــل خارجــة عنهــا فنهمــل‬
‫بذلك العوامل الداخلية‪ ،‬بل يجــــــب النظـر أولا إلى البيئة العقليــــة و الدينية و السياسيـــــــة‬
‫و الجتماعية التي نشأتا فيها تلك الظاهرة الكــبرى –التصــوف‪ -‬الــتي غيــرتا مجــرى تاريــخ‬
‫‪33‬‬
‫السلم‪.‬‬
‫و التصوف من حيث هــو –ســواء أكــان إســلميا او غيــر إســلمي‪ -‬اســتبطان منظــم للتجربــة‬
‫الدينية‪ ،‬و لنتائج هذه التجربة في الرجل الذي يمارسها‪ ،‬فهو ظاهرة إنسانية ذاتا طابع روحي‬
‫لا تحده حدود مادية زمانية أو مكانية‪ .‬وليس وفقا على أمة بعينها‪ ،‬و لا على لغة أو جنس مــن‬
‫الجناس البشرية‪.‬‬
‫وهكذا يجب أن نعترف بالمؤثراتا الخارجية في صأورها العامة لا في تفاصأيلها‪.‬‬
‫فمما لا شك فيه أن الفلسفة السلمية و التصوف السلمي قد تـأثر بعوامــل خارجيـة‪،‬‬
‫وتياراتا فكرية وصألت إلى بيئاتا المسلمين من ثقافاتا غير إسلمية متعــددة‪ ،‬ولكــن تفاصأــيل‬
‫المذاهب الفلسفية السلميــة و النظرياتا الصوفية السلمية من عمل المسلميـــــــن أنفســهم‪،‬‬
‫و النتائج التي رتبوها على الذاهب التي استعاروها تختلف في جوهرها عن النتائج التي رتبها‬
‫‪34‬‬
‫عليها أصأحاب تلك المذاهب و النظرياتا أنفسهم‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫أحمد الشرباصأي‪-‬الغزالي و التصوف السلمي‪-‬ص‪.150:‬‬
‫‪33‬‬
‫د‪ .‬أبو العل عفيفي‪ -‬التصوف الثورة الروحية في السلم‪-‬الطبعة ‪. I‬ص ‪.57 :‬‬
‫‪34‬‬
‫د‪.‬أبو العل عفيفي‪-‬نفس المصدر السابق‪-‬ص‪.57:‬‬
‫‪13‬‬
‫و الذي أريد أن أشير إليه هو أن تاريخ التصوف في السلم جزء لا يتجزأ من تاريخ السلم‬
‫نفسه‪ ،‬وهو مظهر من مظاهر الحياة الدينية‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬حقيقة التصــوف الســلمي‬


‫ومدى انطباقها عليه‪:‬‬
‫في الحقيقة أن التصوف يقوم في جوهره على أساسين‪:‬‬
‫‪ .1‬التجربة الباطنية المباشرة للتصال بين العبد وربه‪.‬‬
‫‪ .2‬إمكان التحاد بين الصوفي و بين ا‪.‬‬
‫أما السأاس الول‪:‬‬
‫وهو التجربة الصوفية‪ ،‬فيقتضي القولا بملكة خاصأة غير العقل المنطقي‪ ،‬وهي الــتي‬
‫يتم بها هذا التصالا‪ ،‬و فيها تتأحد الــذاتا و الموضــوع‪ ،‬و تقــوم فيهــا اللوائــح و اللوامــع مقــام‬
‫التصوراتا و الحكام و القضايا في المنطق العقلي‪ .‬و المعرفة فيها معاشة‪ ،‬لا متأملة‪ .‬ويغمــر‬
‫صأاحبها شعور عارم بقوى تضطرم فيه‪ ،‬وتغمره كفيض من النور الباهر‪ ،‬و يبدو له أيضا أن‬
‫قوى عالية قد غزته وشاعت في كيانه الروحي‪ ،‬وهو لهذا يسميها وارداتا‪،‬ونفحــاتا علويــــة‪،‬‬
‫و في مرتبة أدنى تدعى خواطر‪.‬‬
‫ومن هنا يشعر صأاحب هذه التجربة بإثرا‪ ،‬في كيانه الروحي‪ ،‬و تحرر في أفكاره وخواطره‪،‬‬
‫انطلقا لطاقاتا حبيسة عميقة الغور في نفسه‪.‬‬
‫ويدخل في هذه التجربة الباطنة عنصر سلبي وهو محاولة الكشف عن حقائق الرياء و الشهوة‬
‫‪35‬‬
‫الخفية و الشرك الخفي ووساوس الشيطان و النفس المارة بالسوء‪ ،‬و الخواطر المذمومة‪.‬‬
‫أما السأاس الثاني‪:‬‬
‫فضروري جدا في مفهوم التصوف‪ ،‬و إلا كان مجرد اخلق دينية‪ .‬ويقوم على توكيد‬
‫المطلق‪ ،‬أو وجود الحق‪ ،‬أو الموجود الواحد الحد الذي يضم في حضنه كل الموجوداتا‪.‬‬
‫ومن هنا كان طريق التصوف سلما صأاعدا ذا درجاتا نهايتها عند الذاتا العليــة‪ ،‬وكــان ســفرا‬
‫يرقى في معارج حتى ذروة التحاد‪.‬‬
‫وذلك أن التصوف السلمي منذ رابعة العدوية في الثلث الثاني من القــرن الثــاني للهجــرة قــد‬
‫قام على أساس منهج استبطان كامــل للنفــس فــي علقتهــا بــال‪ ،‬وعلــى أســاس محاولــة اتحــاد‬

‫‪35‬‬
‫د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪-‬تاريخ التصوف السلمي‪-‬ص‪.19:‬‬
‫‪14‬‬
‫بالمطلق أو على القل إيجاد صأــلة عشــق لــه تســمح إذا مــا تعــــــالت إلــى التحـــــــــاد مـــــع‬
‫الذاتا‪ .‬و التطور في هذا السبيل واضح مســتقيم صأــعدا مــن فكــرة العشــق اللهــي عنــد رابعــة‬
‫العدوية‪.‬‬
‫و تحليل أحوالا النفس كان منذ البداية مطلبا أساسيا لهــذا التصــوف‪ :‬نجــده عنــد رابعــة و عنــد‬
‫المحاسبــــــي و الكرخي و الجنيد و الحلج‪ ،‬و يزداد عمقا وتدقيقــــا لدى المكـــي و الهروي‬
‫و الغزالي و ابن عربي‪ ،...‬حتى أصأبح الشطر الكـبر فـي كتـب التصـوف مخصصـا لتحليـل‬
‫‪36‬‬
‫أحوالا النفس في ملبستها مع أمور الحياة‪.‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬النظريــات الــتي قيلــت فــي‬


‫أصل التصوف‪.‬‬
‫لقد قسم الباحثون النظرياتا التي قيلت في نشأة التصوف السلمي إلى أربع نظريــاتا‬
‫وهي‪:‬‬
‫أول‪ :‬النظرية القائلة بأن التصوف تعبير عن الناحية الباطنية في السلم‪ .‬وهذا ادعــاء‬
‫الصــوفية أنفســهم لانهــم يعتــبرون انفســهم ورثــة الرســولا )ص( أي ورثــة العلــم البــاطني‪.‬‬
‫فالتصوف بهذا المعنى إدراك باطني لحقائق الشريعة المعبر عنها بلسان الظاهر‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬النظرية القائلة بأن التصوف رد فعل للعقل الري ضد دين ســامي فــرض عليــه‬
‫فرضا‪ ،‬ولهذه النظرية صأورتان‪:‬‬
‫الصورة الهندية‪ :‬و القائلون بها يرون أوجه الشبه بين بعض النظرياتا‬ ‫‪.1‬‬

‫الصوفية فــي أرقــى أشــكالها و بيــن " الفيــدانتا"‪ :‬ولكنــه شــبه ظــاهري لا حقيقــي‪ .‬لن الفنــاء‬
‫الصوفي السلمي –وهو أخص مظاهر التصوف‪ -‬يختلف عن " النرفانا" الهندية‪.‬‬
‫و لا يوجــد مــن الناحيــة التاريخيــة مــا يؤيــد أي اتصــالا بيــن المســلمين و الهنــد قبــل ظهــور‬
‫التصوف‪ .‬لكن هذا لا يعني أنه لم يكن لبعض الفكار الهندية أثر في متأخري الصوفية‪.‬‬
‫الصورة الفارسأية ‪ :‬و هي التي يدعي أصأحابها أن التصوف السلمي نتاج فارسي‬ ‫‪.2‬‬

‫في نشأته وتطوره‪ ،‬ولكنها أيضا دعوى لا تقوم على أساس من التاريخ‪ .‬ولقد كان عــدد كــبير‬
‫من أوائل الصوفية من أصأل فارسي‪ ،‬ولكن أغلــب متــأخريهم كــانوا مــن أصأــل عربــي كــابن‬
‫عربي وابن الفارض‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫نفس المصدر السابق‪-‬ص‪.20:‬‬
‫‪15‬‬
‫وسواء قيل إن أصأل التصوف السلمي هندي أو فارسي‪ ،‬فإن السبب فيه راجع إلى تعصــب‬
‫فكرة الرية ضد السامية‪ ،‬وادعاء من جهة المتعصبين بأن العقلية السامية ليست أهل للفلسفة‬
‫و لا للتصوف و لا للعلــوم و الفنــون‪ ،‬و لــذلك تنكــر نظريــاتهم فــي التصــوف الســلمي كــل‬
‫أصأالة‪ ،‬وتجعل منه نتاجا للتفاعل السللي و اللغوي و القـومي للشـعوب الريـة الـتي غزاهـا‬
‫السلم‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬نظرية الفلطونية الحديثة‪ :‬و هي نظرية قالهــا " مركــس" فــي كتــابه " التاريــخ‬
‫‪37‬‬
‫العام للتصوف ومعالمه"‪.‬‬
‫ونجد أن " نيكولسون" قد اعتمد في دفاعه عن هــذه النظريــة علــى مــا انتهــى إليــه بحثــه فــي‬
‫تصوف ذي النون المصري الذي كان لا شك متأثرا بالفكار الفلطونية الحديثة الشائعة فــي‬
‫تراث عصره‪ ،‬و إن كان لا يمثل التصوف السلمي برمته‪ .‬و الظاهر أنه تحولا عن نظريتــه‬
‫بعد ذلك حيث قالا‪" :‬وجملة القولا أن التصوف في القرن الثالث –شأنه في ذلك شأن التصوف‬
‫في أي عصر من عصوره‪-‬قد ظهر نتيجة لعوامل مختلفة أحــدثت فيــه أثرهــا مجتمعــة‪ :‬أعنــي‬
‫بهذه العوامل البحوث النظرية في معنى التوحيد السلمي‪ ،‬و الزهد و التصـوف المسحــــيين‬
‫و مذهب الغنوصأية‪ ،‬و الفلسفة اليونانية و الهندية و الفارسية"‪.‬‬
‫ثم يبدو له خطأ إرجاع نشأة التصوف السلمي إلى أصأل واحد فيقولا‪ " :‬وقد عولجت‬
‫مسألة نشأة التصوف في السلم إلى الن معالجة خاطئة‪ ،‬فذهب كثير من أوائل الباحثين إلــى‬
‫القولا بأن هذه الحركة العظيمة التي استمدتا حياتها وقوتها من جميع الطبقــاتا و الشعــــوب‬
‫و التي تألفت منها المبراطورية السلمية يمكن تفسير نشأتها تفسيرا علميا دقيقا و إرجاعهــا‬
‫‪38‬‬
‫إلى أصأل واحد "كالفيدانتا" الهندية أو الفلطونية الحديثة"‪.‬‬
‫لقد أخفقت هذه النظرياتا كلها في تفسير نشأة التصوف و تطوره في السلم‪ ،‬لن كل‬
‫واحدة منها تحاولا أن ترد هذه الحركة الكبيرة المعقدة إلى أصأل واحد‪ .‬ويبقى فــي كــل واحــدة‬
‫من هذه النظرياتا شيء من الحق‪ .‬ولكن لا واحدة منها تعبر عن الحقيقة كاملة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫د‪.‬أبو العل عفيفي –التصوف‪ :‬الثورة الروحية في السلم‪ -‬ط ‪ i‬ص‪60:‬و ‪.61‬‬
‫‪38‬‬
‫نفس المصدر –ص‪62:‬و ‪.63‬‬
‫‪16‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬تجربة الغزالي‬
‫الصوفية‪.‬‬
‫لقد عزم الغزالي على السير في طريق مجاهدة النفس و تزكيتها و التحكم فيهــا‪ ،‬وهــذا‬
‫يقتضي البحث عن الحقيقة و الوصأولا إليها‪ ،‬وهذا ما سنراه من خللا دراستنا لكتاب " المنقــذ‬
‫من الضللا"‪.‬‬

‫المطلب الول‪ :‬المنقذ من الضلل‪:‬‬


‫من المناسب أن نعطي فكرة ولــو مــوجزة عــن كتــاب " المنقتتذ متتن الضتتلل" و الــذي‬
‫يسميه الغربيون باعترافاتا الغزالي‪.‬‬
‫فهو على الرغم من صأغر حجمه يعتبر من أغزر الكتب فائدة و تعريفا بحيــاة الغزالــي‬
‫و آرائه و تصوراته و الطريقة التي سار عليهـا للوصأـولا إلـى الحقيقـة‪ ،‬فقـد وصأـف فـي هـذا‬
‫الكتاب الذي الفه في أواخر أيامه ما أحاط به من الشك‪ ،‬و ما كابده من المشقة في اســتخلص‬
‫الحق و من اضطراب الفرق‪ ،‬وما ارتضاه لنفسه من طريق التصوف‪ ،‬وما صأــرفه عــن نشــر‬
‫العلم ببغداد‪ ،‬ثم ما حمله على ترك عزلته لمعاودة نشر العلم فــي نيســابور‪ ،‬كــل ذلــك بأســلوب‬
‫جميل تغلب فيه اللهجة الخطابية على الكلم البرهاني‪ .‬وليس كتاب المنقــذ مــن الضــللا كتابــا‬
‫فلسفيا جافا ككتاب التهافت‪ ،‬و إنما هو حكاية ح الا الغزالـي نفسـه‪ ،‬كيـف انحلـت عنـه رابطـة‬
‫‪39‬‬
‫التقليد‪ ،‬و كيف استولى عليه الشك‪ ،‬و كيف استشفى في النهاية بأدوية التصوف‪.‬‬
‫و بالتالي فإننا سنقتصر في تحليل هذا الكتاب على اللمام بثلث مسائل وهي‪:‬‬
‫الشك‪ ،‬انتقاد الفرق‪ ،‬النبوة و الصألحا الديني‪.‬‬
‫‪ .1‬الشك‪:‬‬
‫إن أولا ما يسترعي انتباهنا في حياة الغزالــي تعطشــه إلــى إدراك الحقيقــة‪ ،‬فهــو يشــبه‬
‫اضطراب الفرق‪ ،‬واختلف المذاهب في زمانه‪ ،‬وبحر عميق غرق فيه الكثرون‪ ،‬و إذا كــان‬
‫قد عزم على اقتحام لجة هذا البحر العميق و التوغل في ظلماته‪ ،‬فمرد ذلـك إلـى ميـل طــبيعي‬
‫في نفسه‪ .‬قالا‪":‬ولم أزلا في عنفوان شبابي‪ ،‬وريعان عمري‪ ،‬منــذ راهقــت البلــوغ‪ ،‬قبــل بلــوغ‬
‫العشرين إلى الن‪ ،‬وقد أناف العمر على الخمسين‪ ،‬أقتحم لجة هذا البحــر العميــق‪ ،‬و أخــوض‬

‫‪39‬‬
‫د‪ .‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.393:‬‬
‫‪17‬‬
‫غمرته خوض الجسور‪ ،‬لا خوض الجبان الحذور‪ ،‬و اتوغل فــي كــل مظلمــة‪ ،‬و اتهجــم علــى‬
‫كل مشكلة‪ ،‬و أقتحم كل ورطة‪ ،‬وأتفحص عن عقيدة كل فرقة‪ ،‬و أستكشف أسرار مـذهب كـل‬
‫طائفة‪ ،‬لميز بين محق ومبطل‪ ،‬ومتسنن ومبتدع‪ ،‬لا أغـادر باطنيـا إلا وأحـب ان أطلـع علـى‬
‫باطنيته‪ ،‬و لا ظاهريا إلا و أريد ان أعلـم حاصأــل ظـاهريته‪ ،‬ولا فلسـفيا إلا و أقصــد الوقــوف‬
‫على كنه فلسفته‪ ،‬و لا متكلما إلا واجتهد في الطلع على غاية كلمه ومجادلته‪ ،‬و لا صأــوفيا‬
‫إلى و أحرص على العثور على سر صأوفيته‪ ،‬و لا متعبدا إلا و أترصأد ما يرجع إليه حاصأــل‬
‫‪40‬‬
‫عبادته‪ ،‬و لا زنديقا معطل إلا و أتجسس وراءه للتنبه لسباب جرأته في تعطيله وزندقته"‪.‬‬
‫ولقد تعطش الغزالي إلى إدراك الحقائق الكونية وهو لازالا في ميعة الشباب لم يبلغ العشــرين‬
‫من عمره‪ ،‬وبقي هذا التعطش ملزما له طوالا ثلثين سنة‪ ،‬يدرس ويتدارس‪ ،‬يناقش ويجادلا‪،‬‬
‫يهجم علــى الفكــار و النظريـاتا المختلفــة فيقتلهـا بحثــا محـاولا استكشـاف حقائقهـا‪ ،‬ويقصــد‬
‫‪41‬‬
‫مختلف المدراس الفسفية و الكلمية و الصوفية و الباطنية ليتعرف إلى الحقيقة عن طريقها‪.‬‬
‫انتقاد الفرق‪:‬‬ ‫‪.2‬‬
‫انحصرتا الفـرق عنـد الغزالـي فـي أربـع‪ :‬فرقـة المتكلميـن‪ ،‬وفرقـة الباطنيـة‪ ،‬وفرقـة‬
‫الفلسفة‪ ،‬وفرقة الصوفية‪.‬‬
‫‪.1‬فرقة المتكلمين‪ :‬نـرى أن علـم الكلم غيـر واف بمقصـوده‪ ،‬لان علمـاء الكلم يسـتندون فـي‬
‫الرد على اهل البدع و إلى مقدماتا يتسلمونها من خصومهم‪ ،‬وهذا قليل النفع في حــق مــن لا‬
‫يسلم سوى الضرورياتا‪.‬‬
‫‪.2‬أمــا فرقة الفلسفة فتنقسم في نظر الغزالــــي إلى ثلثــة أقســــــام‪ :‬و هم الدهريــــــون‪ ،‬و‬
‫الطبيعيون‪،‬و اللهيون‪.‬‬
‫أما الدهريون‪ ،‬فهم طائفة من القدمين جحدوا الصانع المدبر‪ ،‬وزعمــوا أن العــالم لــم يــزلا‬ ‫‪‬‬
‫موجودا كذلك بنفسه بل صأانع‪ ،‬ويكون هؤلاء هم الزنادقة‪.‬‬
‫و أما الطبيعيون‪ ،‬فهم قوم أكثروا البحث في عالم الطبيعة‪ ،‬فأروا فيه من عجائب صأنع اــ‬ ‫‪‬‬
‫وبدائع حكمته ما اضطروا معـه إلـى العـتراف بفـاطر حكيـم مطلـع علـى غايـاتا المـور‬
‫ومقاصأدها‪ ،‬إلا أن كثرة بحثهم في الطبيعة و اعتدالا المزاج و تأثيره‪ ،‬ظنوا أن القوة العاقلة‬
‫مـن النس ان تابعـة لمزاجـه‪ ،‬وذهبـوا إلـى ان النفـس تمـوتا بمـوتا البـدن‪ ،‬وهكـذا جحـدوا‬

‫‪40‬‬
‫المنقذ من الضللا‪ ،‬ص‪.63-62:‬‬
‫‪41‬‬
‫ندواتا أكاديمية المملكة المغربية‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.137:‬‬
‫‪18‬‬
‫الخرة‪ ،‬و أنكروا الجنة و النار‪ ،‬و القيامة و الحساب‪ ،‬فلم يبق عنــدهم للطاعــة ثــواب‪ ،‬و لا‬
‫للمعصية عقاب‪،‬وهؤلاء‪ ،‬أيضا زنادقة‪.‬‬
‫وأمــا اللهيــون‪ ،‬فــإنهم بجملتهــم ردوا علــى الــدهريين و الطــبيعيين‪ ،‬ثــم رد أرســطو علــى‬ ‫‪‬‬

‫أفلطون وسقراط ومن كان قبله‪ ،‬إلا أنه استبقى من رذائل كفرهم أشــياء لــم يوفــق للنــزوع‬
‫عنها‪ ،‬فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة السلميين كالفـــــارابي وابــن سينــــــا‬
‫و أترابهم‪ ،‬ولكن هذا التفكير لا يشمل كل ما نقل عن أرسطو‪ ،‬فإن مــا نقلــه هــذان الــرجلن‬
‫ينحصر في ثلثة أقسام‪ :‬قسم يجب التفكير به‪ ،‬وقسم يجب التبديع به‪ ،‬وقسم لا يجب إنكــاره‬
‫أصأل‪.‬‬
‫‪.3‬و أما أصأحاب التعليم‪ ،‬فقد قرر الغزالي شبهتهم‪ ،‬و أظهر فسادها في عدة كتب‪ ،‬منها كتــاب‬
‫المستظهري وكتاب القســطاس المســتقيم‪ ،...‬حــتى لامــه بعضــهم علــى تقريــر حجـــتهــــــم و‬
‫إسهامه في نشرها‪ ،‬فأجاب عن ذلك بقوله أن هذا الكلم حق ولكن فيه شبهة لم تنتشر‪ ،‬أما إذا‬
‫انتشرتا فالجواب عنها واجب‪ ،‬ولم يعمد الغزالــي إلــى تقريــر حجتــه التعليميــة لن أصأــحاب‬
‫التعليم يتهمون كل من يرد عليهم بالجهل‪ ،‬فأراد الغزالي أن يثبت لهــم أنــه يســتطيع أن يقــرر‬
‫شبهتهم إلى أقصى حدود المكان‪ ،‬و أن يظهر فسادها بغاية البرهان‪.‬‬
‫‪ .4‬و أما الصوفية‪ ،‬فهــم فــي نظــر الغزالــي خــواص الحضــرة‪ ،‬و أهــل المشــاهدة‪ ،‬و المكاشــفة‬
‫وطريقتهم مؤلفة من علم وعمل‪ ،‬وهم أرباب أحوالا لا أصأــحاب أقــوالا‪ ،‬مــن جالســهم اســتفاد‬
‫منهم باليمان‪ ،‬فهم قـوة لا يشــقى جليسـهم‪ ،‬وقــالا الغـازالي‪ ":‬ولـو جمـع عقــل العقلء وحكــم‬
‫الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء‪ ،‬ليغيروا شــيئا مــن ســيرهم و اخلقهــم‬
‫‪42‬‬
‫ويبدلوه بما هو خير منه‪ ،‬ولم يجدوا إليه سبيل"‪.‬‬
‫النبوة و الصلحا الديني‪:‬‬ ‫‪.3‬‬
‫نجد في كتاب المنقذ من الضللا فصل عنوانه"حقيقة النبوة واضطرار الخلــق إليهــا"‪،‬‬
‫يشير فيه الغزالي إلى أن درجاتا الدراك متفاوتة‪ .‬فجــوهر النســان فــي الصأــل خلــق خاليــا‬
‫ساذجا جاهل بمـا يحيــط بـه مـن الموجــوداتا‪ ،‬إلا أنـه يطلـع بعــد ذلــك علـى العـوالم بواســطة‬
‫الدراك‪ .‬وقــد تنــوعت الدراكــاتا بتنــوع أجنــاس الموجــوداتا‪ ،‬فقــوة الحــس تــدرك عــالم‬
‫المحسوساتا‪ ،‬وقــوة التمييــز تـدرك أورا زائــدة علــى عــالم المحسوسـاتا‪ ،‬وقــوة العقــل تــدرك‬
‫الواجباتا و الجائزاتا و المستحيلتا و أمور أخرى لا توجد في الطــوار الــتي قبلهــا‪ .‬ووراء‬

‫‪42‬‬
‫المنقذ من الضللا‪ ،‬ص‪.106:‬‬
‫‪19‬‬
‫طور العقل قوة أخــرى تــدرك الغيــب و أمــورا أخــرى لا يــدركها العقــل‪ ،‬فللدراك إذن أربــع‬
‫مراتب أدناها مدركاتا الحس و أعلها مدركاتا النبوة‪.‬‬
‫و البرهان على وجود مدركاتا النبوة وجود معارف لا يتصور أن تنــالا بالعقــل كحقــائق علــم‬
‫الطب والنجوم‪ ،‬فإن من يبحث عنها يعلم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهــي‪ .‬و البرهــان‬
‫على وجود النبوة أيضا أن في النسان نموذجا من مدركاتها‪ ،‬وهو النوم‪ ،‬لن النائم قــد يــدرك‬
‫ما سيكون في الغيب‪ ،‬ويرى ويسمع‪ ،‬ويبصره ويسمعه في حالا غفلة‪ ،‬فالرؤيــا تــدلا إذن علــى‬
‫أن في النسان نموذجا من خواص النبوة وهي تقرب مدركاتها من العقل‪،‬ومــا عــادا ذلــك مــن‬
‫خواص النبوة فهو يدرك بالذوق من سلوك طريق التصوف ‪.‬‬
‫فالغزالي يقــرر إذن أن النبــوة مســلم بهــا نقل ومقبولــة عقل‪ ،‬ويكفــي للتســليم بهــا مــن الناحيــة‬
‫العقلية أن نلحظ أنها تشبه ظاهرة نفسية نعترف بها جميعا‪ ،‬وهي الحلم و الرؤى‪ ،‬و الدليل‬
‫على ذلك قولا الغزالي‪":‬أن ا قد قرب ذلــك علــى خلقــه‪ ،‬بــأن أعطــاهم نموذجــا مــن خاصأــية‬
‫النبوة وهو النوم‪ ،‬إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صأريحا و إما في كسوة مثالا يكشف‬
‫‪43‬‬
‫عنه التعبير"‪.‬‬
‫و بالتالي هذا ما اشتمل عليه كتاب المنقذ من الضللا من شك‪ ،‬ويقين‪ ،‬ونقــد وتحقيــق‪،‬‬
‫فهو قصة حيــاة فكريــة مضــطربة وصأــورة نفــس متعطشــة إلــى اليمــان طامحــة فــي إرجـاع‬
‫العتقاد الديني إلى أيام عزه‪ ،‬لا بل هو قصة نزاع عميـق‪ ،‬بيـن العقـل و القلـب‪ ،‬بيـن مطـالب‬
‫الدنيا ودواعي الخرة‪ ،‬كتبه الغزالي بأسلوب سهل يغلب عليه طــابع الصــدق و المـــــــــانة‬
‫و البســـاطة و الصفاء‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫المنقذ من الضللا‪ ،‬ص‪.111:‬‬
‫‪20‬‬
‫المطلــب الثــاني‪ :‬مقومــات التصــوف عنــد‬
‫الغزالي‪:‬‬
‫تصوف الغزالي تصوف قريب مــن العتــدالا‪ ،‬آمــن بــال‪ ،‬و بــالنبوة‪ ،‬و بــاليوم الخــر‬
‫وكف نفسه عن الهوى‪ ،‬و أعرض عن الجاه والمالا‪ ،‬وهرب من الشــواغل و العلئــق‪ ،‬وأقبــل‬
‫بهمته على ا تعالى‪ ،‬لذلك كان التصوف عنده مبنيا على علم وعمل‪ ،‬أما العلم فقد حصله من‬
‫‪44‬‬
‫مطالعة كتب المتصوفين‪ ،‬و اما العمل فقد حصله بالذوق و الحالا وتبدلا الصفاتا‪.‬‬
‫وربما كان تصوف الغزالي أقل حــرارة مــن تصــوف كبــار المتصــوفين الــذين فـارقوا‬
‫الخلق الطبيعية‪ ،‬و أخمدوا الصفاتا البشرية‪ ،‬بل ربما كان تحليله لحــوالا المتصــوفين أقــل‬
‫تعمقا من تحليل ابن سينا لمقاماتا العــارفين‪ ،‬ولكــن مــا نجــده فــي كتــاب الحيــاء مــن وصأــف‬
‫لحالاتا التوبة و الورع و الزهد و الفقر و الصبر و التوكل و الرضـا و المحبـة يـدلا علـى أن‬
‫الغزالي ذاق حقيقة التصوف‪ ،‬وتميز على غيــره بــالجمع بيــن علــم المعاملــة وعلــم المكاشــفة‪،‬‬
‫‪45‬‬
‫لذلك نجده ينتقد الجهالا الذين تناسوا العقيدة الدينية‪ ،‬واغتروا بالشطح و الطاماتا‪.‬‬
‫ومن هنا سنقصر كلمنا في هذا المطلب على اللمام ببعض مقوماتا التصــوف عنــد الغزالــي‬
‫وهي‪ :‬اللهام‪ ،‬و الزهد‪ ،‬ومحبة ا‪.‬‬
‫‪ .1‬اللهام‪:‬‬
‫يرى المام الغزالي أن العلوم إنما تثبت في القلب بطريقيــن‪ :‬أحدهمــــا طريق الســتدلالا‬
‫و التعلم‪ ،‬و الخر طريق الوحي و اللهام‪ ،‬فإذا سلك المرء الطريق الولا احتاج إلــى الحيلــة‪،‬‬
‫و الجتهاد‪ ،‬و العتبار‪ ،‬و الستبصار‪ ،‬و إذا سلك الطريق الثاني احتــاج إلــى الســتغراق فــي‬
‫التأمل الباطني‪ .‬وفوق هذا التأمل الباطني درجة من المعرفة يدرك معها المرء كيف حصل له‬
‫ذلك اللهام‪ ،‬ومن أين حصل‪ ،‬وتسمى هذه المعرفة وحيـا‪ ،‬وهــي مـا يختـص بــه النبيــاء‪ ،‬أمـا‬
‫اللهام فيختص به الولياء‪ ،‬و أما العلم الحاصأل بطريق العتبــار و الستبصــار و الســتدلالا‬
‫‪46‬‬
‫فيختص به العلماء‪.‬‬
‫كما أن الغزالي يفضل العلم الذي يحصل في القلب بطريق اللهام على العلم الذي يحصــل‬
‫فيه بطريق الستدلالا و التعلم‪ .‬ومن أجمل ما في كتـاب الحيـاء مـن التشـبيهاتا تشـبيه القلـب‬

‫‪44‬‬
‫المنقذ من الضللا‪ ،‬ص‪.100.101:‬‬
‫‪45‬‬
‫د‪ .‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروتا‪ ،‬ط‪ ،I ،1970:‬ط‪ ،II، 1973:‬ص‪.380:‬‬
‫‪46‬‬
‫د‪.‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪.381:‬‬
‫‪21‬‬
‫بحوض محفور أسفل الحوض‪ ،‬ويرفع منه التراب‪ ،‬إلى أن يقرب من مســتقر المــاء الصــافي‪،‬‬
‫‪47‬‬
‫فيتفجر من أسفل الحوض‪.‬‬
‫وهكذا قد عنى الغزالي في كتاب عجائب القلب وكتاب السماع و الوجد مــن "إحيــاء علـوم‬
‫الدين" بوصأف العلم الحاصأل في القلب بطريق الكشف و اللهام‪ ،‬فقالا الغزالــي‪" :‬فــإذا تــولى‬
‫ا أمر القلب فاضت عليه الرحمة‪ ،‬و أشرق النور في القلب‪ ،‬وانشرحا الصــدر‪ ،‬وانكشــف لــه‬
‫سر الملكوتا‪ ،‬وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة‪ ...،‬وفاض علــى صأــدورهم‬
‫النور‪ ،‬لا بالتعلم و الدراسة و الكتابــة للكتــب‪ ،‬بــل بالزهــد فــي الــدنيا‪ ،‬و التــبرؤ مــن علئقهــا‪،‬‬
‫‪48‬‬
‫وتفريغ القلب من شواغلها و القبالا بكنه الهمة على ا تعالى"‪.‬‬
‫ومعنى هذا كله أن العلم المبني على اللهـــــام إنمــــا يحصل في النفس بطــــريق الزهد‪،‬‬
‫و تطهير القلب و التجــافي عــن دار الغــرور‪ .‬لن المعرفــة قســمان‪ :‬معرفــة حســية‪ ،‬و معرفــة‬
‫صأــوفية‪ ،‬الولــى تحصــل بطريــق الحســاس و الدراك‪ ،‬و الثانيــة تحصــل بطريــق التأمــل‬
‫الباطني‪ .‬و للقلـب كمـا يقـولا الغزالـي بابـان‪ :‬بـاب مفتـوحا علـى عـالم الملكـوتا‪ ،‬وهـو اللـوحا‬
‫المحفوظ وعالم الملئكة‪ ،‬وباب مفتوحا على الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك و الشهادة‪،‬‬
‫و يكفي لدراك عالم الملكوتا أن يطهر النسان نفسه من العلئــق الحســية‪ ،‬و أن يتحــرر مــن‬
‫‪49‬‬
‫الشواغل الجسمانية‪ ،‬وأن يفتح صأدره للنور‪ ،‬و يتعرض للنفحاتا اللهية‪.‬‬
‫‪-2‬الزهد‪:‬‬
‫لقد أشرنا إلى أن العلم المبني على اللهــــام لا يحصـــل في النفــس إلا بتطهيــر القلــب‬
‫و تصفيته بالعزلة و الزهد‪ ،‬وهو العلــم الحقيقــي الــذي يزيــد صأــاحبه خشــية‪ ،‬وخوفــا‪ ،‬وتوبــة‪،‬‬
‫وصأبرا‪ ،‬ورجاء‪.‬زز‬
‫ولكن ما هو الزهد؟ الزهد في اللغة هو العراض عن الشيء‪ ،‬وعند المتصوفين تــرك‬
‫ما يشغل عن ا‪ ،‬أو ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا‪ ،‬بحيث لا يفرحا الزاهــد بشــيء‬
‫منهــا‪ ،‬و لا يحــزن علــى فقــده‪ ،‬و لا يأخــذ منهــا إلا مــا يعنيــه علــى طاعــة ربــه‪ .‬و أن بعــض‬
‫المتصوفين يعرف التصوف‪ :‬إنه بذلا المجهود في طلب المقصود‪ ،‬و النس بــالمعبود‪ ،‬وتــرك‬
‫الشتغالا بالمفقود‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫إحياء علوم الدين‪ ،‬ج ‪.3‬ص‪.19:‬‬
‫‪48‬‬
‫إحياء علوم الدين‪ ،‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪.18:‬‬
‫‪49‬‬
‫د‪.‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪.382:‬‬
‫‪22‬‬
‫ويعتبر الزهد من أهم أركان التصوف‪ ،‬وقد عرف الغزالي الزهــد فــي الحيــاء بقــوله‪:‬‬
‫"إنه انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه‪ ،‬فكل من باع الدنيا بــالخرة فهــو زاهــد‬
‫في الدنيا وقوام هذا الزهد التقوى‪ ،‬و كف النفس عن الهــوى‪ ،‬وقطــع علقــة القلــب عــن الــدنيا‬
‫‪50‬‬
‫بالتجافي عن دار الغرور و النابة إلى دار الخلود"‪.‬‬
‫و للزهد في نظر الغزالي ثلث درجاتا‪ :‬الولــى أن يزهــد المــرء فــي الــدنيا وهــو لهــا‬
‫مشته وقلبه إليها مائل‪ ،‬ونفسه إليها ملتفتة‪ ،‬ولكنه يجاهــدها و يكفهــا‪ .‬و الثانيــة أن يــترك الــدنيا‬
‫طوعا لاستحقاره إياها بالضافة إلى ما طمع فيه‪ ،‬كالذي يترك درهما لجل درهمين‪ ،‬فــإنه لا‬
‫يشق عليه ذلك‪ ،‬و إن كان يحتاج إلى انتظار‪ ،‬و الثالثة وهــي العليــا‪ ،‬أن يزهــد طوعــا و يزهــد‬
‫في زهده‪ ،‬فل يرى زهده‪ ،‬ولا يرى أنه ترك شيئا لن الدنيا في نظره لا شــيء‪ .‬و لكــل درجــة‬
‫من هذه الدرجاتا الثلث درجاتا فرعية‪ ،‬لن الزهد يتفاوتا في كل منها باختلف قدر المشقة‬
‫في الصبر‪.‬‬
‫و قد بين الغزالي أن للتصوف مقاماتا تسمى أحوالا وهي التوبة‪ ،‬و الصبر‪ ،‬والشــكر‪،‬‬
‫و الخوف‪ ،‬و الرجاء‪ ،‬و الفقر‪ ،‬و الزهد‪ ،‬و التوحيـــــــد‪ ،‬و التـــــوكل‪ ،‬و المحبــة‪ ،‬و الشــــوق‪،‬‬
‫و يضبطها كلها قانون عام‪ ،‬و هو القولا أنها مؤلفة من علم وعمل‪ .‬فالعلم هو المبدأ الذي يولــد‬
‫الحالا‪ ،‬وثمرة الحالا هو العمل‪ .‬مثالا ذلك أن العلم في مقام الشكر هو معرفة النعمة و المنعــم‪،‬‬
‫أما الحالا فهو الفرحا الحاصأل بإنعامه‪ ،‬و أما العمل فهو القيام بمـــــا هو مقصــود أي المنـــــعم‬
‫‪51‬‬
‫و محبوبه‪.‬‬
‫و بالتالي يمكن أن نقولا في مقام الزهد قولا واحدا‪ ،‬وهو أنه مقــام شــريف مبنــي علــى‬
‫علم وحالا وعمل‪ .‬وقد قلنا أنه انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه‪ .‬فحــالا المــرء‬
‫بالضافة إلى الشيء المعدولا عنه يسمى زهدا‪ ،‬و بالضافة إلــى المعــدولا إليــه يســمى رغبــة‬
‫وحبا‪ .‬و الفرق بين الزهد و التوبــة‪ ،‬أن التوبــة تــرك المحظــوراتا‪ ،‬فــي حيــن أن الزهــد تــرك‬
‫‪52‬‬
‫المباحاتا‪ .‬و لذلك كان الزهد الحقيقي ترك جميع حظوظ الدنيا‪ ،‬و العدولا عنها‪.‬‬
‫‪ -3‬محبة ا‪:‬‬
‫إن محبة ا غاية الزهد‪ ،‬فما بعد مقام المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها‪ ،‬ولا قبلهــا‬
‫مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها‪ .‬وقد قيل من عرف ربه أحبه‪ ،‬ومن عرف الدنيا زهد فيهــــا‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫إحياء علوم الدين‪ ،‬ج ‪،4‬ص‪.211،220:‬‬
‫‪51‬‬
‫إحياء علوم الدين‪ ،‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪.79:‬‬
‫‪52‬‬
‫د‪.‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص‪.387:‬‬
‫‪23‬‬
‫و إذا أحـب النســان ربـه شـغل بــذكره دون غيـره‪ ،‬فكـأن ذكـر اـ مفتــاحا السـماواتا‪ ،‬وكـأن‬
‫النفحاتا اللهية لا تهب على النسان إلا بالتعرض لها‪.‬‬
‫وقد وصأف الغزالي هذه المحبة في كتاب الحياء وبين أسبابها و أقســامها‪ ،‬وقــدم للبحــث فيهــا‬
‫عدة مقــدماتا‪ :‬منهــا أنــه لا يتصــور محبــة إلا بعــد معرفــة و إدراك‪ ،‬ومنهــا أن المحبــة تنقســم‬
‫بحسب أنواع المدركاتا‪ ،‬فلكل حاسة إدراك يخصها‪ ،‬و لكل إدراك لذة تخصه‪ ،‬و الطبع السليم‬
‫‪53‬‬
‫يميل إلى ذلك الدراك بسبب تلك اللذة‪.‬‬
‫ونرى أن محبة ا في الدنيا تكتسب بقطع العلئق‪ ،‬و بتطهير القلب من كل مــا يشــغله‬
‫عن ا‪ ،‬لن قلب النسان أشبه بإناء ينقص الخمر المصبوب فيه بقدر ما يبقى فيه مــن المــاء‪،‬‬
‫فمعنى قولنا‪ :‬لا إلاه إلا ا‪ ،‬أنه تعــالى محبــوب ومعبــود‪ ،‬وانــه لا محبــوب ولا معبــود ســواه‪،‬‬
‫ومعنى الخلص‪ ،‬إخلص القلب ل بحيث يكون ا محبـــوب القلــــــب‪ ،‬ومعـــــــبود القلــب‬
‫و مقصوده‪ ،‬ومن كانت هذه حاله كانت الدنيا سجنه‪ ،‬لنها تمنعه من مشــاهدة محبــوبه‪ ،‬وكــان‬
‫‪54‬‬
‫موته خلصأا من السجن‪ ،‬وقدوما على المحبوب‪.‬‬
‫و بالتالي إذا تحقق حب العارف لربه ورآه بقلبه أورثه حالة تسمى بالوجد‪ ،‬وهــو رفــع‬
‫الحجاب وحضور الفهم‪ ،‬ومحادثة السر‪ ،‬و إيناس المفقود‪ ،‬لا بل هو فناء العارف عن ذاته في‬
‫المحبوب اللهي‪ ،‬ومعنى هذا الفناء تلشي الجسام و العراض‪ .‬وزوالها بحيث لا يبقــى فــي‬
‫القلب التفاتا إلى غير ا‪ ،‬حتى لقد عبر الغزالي عن هذه الحالة بقــوله‪ :‬أنـــها البقــاء مــع اــ‬
‫بال‪ .‬و أن العبودية الكاملة ل تسمو على الخوف من العقاب أو رجاء الثواب‪ ،‬وتتجاوزها إلى‬
‫مقام تحب النفس فيه خالقا حبا خالصا تشعر معه بفنائها فيه‪ ،‬و النسان الصالح الذي لــم يبلــغ‬
‫درجة الكمالا مطالب بالصبر و الشكر‪ ،‬أما الكامل فهو في مقام فــوق الصــبر و الشــكر‪ ،‬وهــو‬
‫‪55‬‬
‫يحب ا لذاته‪ ،‬ويشكره على ألطافه بنفس مطمئنة راضية مرضية‪.‬‬
‫ومن بلغ هذه الدرجة من الفنـاء فـي اـ‪ ،‬فليـس لـه إلا أن يقـولا‪ :‬مـن ذاق عـرف‪ ،‬لن‬
‫العارف يعتريه في حالا الوجد و الكشف فرحا غير متكلف يطير به‪ ،‬وهذا ممـــــا لا يــدرك إلا‬
‫بالـــذوق و الحالا وتبدلا الصفاتا‪ ،‬قالا الغزالي‪ ":‬إذا حصلت المشـــــاهدة الصوفيــة انمحقــت‬
‫الهــــموم و الشهواتا كلها‪ ،‬وصأار القلب مستغرقا في النعيم‪ ،‬فلو ألقي في النار لم يحــس بهــا‪،‬‬

‫‪53‬‬
‫د‪.‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص‪.388:‬‬
‫‪54‬‬
‫د‪.‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص‪.390:‬‬
‫‪55‬‬
‫د‪.‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص‪.391:‬‬
‫‪24‬‬
‫ولو عرض عليه نعيــم الجنــة لــم يلتفــت إليــه لكمــالا نعيمــه‪ ،‬وبلــوغه الغايــة الــتي ليــس فوقهــا‬
‫‪56‬‬
‫غاية‪".‬‬
‫وقالا كذلك‪ ":‬وعلى الجملة ينتهي المر إلــى قــرب يكــاد يتخيــل منــه طائفــة الحلــولا‪ ،‬وطائفــة‬
‫التحاد‪ ،‬وطائفة الوصأولا‪ ،‬وكل ذلك خطأ‪ ،‬بل الذي لابسته هذه الحالة‪ ،‬لا ينبغي أن يزيد على‬
‫أن يقولا‪:‬‬
‫وكان ما كان مما لست أذكره ‪‬‬
‫‪57‬‬
‫‪‬فظن خيرا و ل تسأل عن الخير‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫د‪.‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص‪.392:‬‬
‫‪57‬‬
‫المنقذ من الضللا‪ ،‬ص‪108.107 :‬‬
‫‪25‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬أهم المراحــل الــتي عرفهــا‬
‫الغزالي‬
‫‪ .1‬الغزالي مفكرا‪:‬‬

‫يبدو أن فكر الغزالي مزيج من علوم شتى صأقلها التفكيــر و أصأــفتها تجــاربه العلميــة‪.‬‬
‫فقد كان الغزالي رجل متعطشا إلى معرفة كل شيء‪ ،‬فكان دائرة معارف عصره‪ ،‬ونــالا لقــب‬
‫حجة السلم ومجدد المئة الخامسة‪.‬‬
‫لكن أهمية الغزالي ليست في معرفته الموسوعية‪ ،‬فكم من موســوعيين فــي التاريــخ لــم‬
‫‪58‬‬
‫يتبؤوا مكانة الغزالي في عقولا المسلمين ومشاعرهم‪ ،‬ولم يفوزوا بلقب حجة السلم‪.‬‬
‫و الغزالي‪-‬كما يبدو لدارسه بشكل عام‪ -‬واحد مـن أكـبر مفكـري السـلم‪ ،‬ولعلــه أقربهــم إلــى‬
‫البتكار‪ .‬فآراءه في التربية و التعليم وحـدها يمكـن أن تعتـبر تجديـدا مهمـا فـي وضـع قواعـد‬
‫سلوكية للمريدين وطلبة العلم فهو من القائلين بأن التربيــة يجــب أن تتنــاولا العناصأــر الثلث‪:‬‬
‫الروحا و العقل و الجسم في عملها و أن إهمالا واحد مــن هــذا العناصأــر ينتــج عنــه نقصــا فــي‬
‫التربية‪ ،‬وقد ينتقل أثره إلى العنصرين الخرين‪.‬‬
‫ويرى "كولد تسيهر" أن الغزالــي قــد اســتطاع بقــدرة المفكــر أن يشــيع الفكــرة الدينيــة‬
‫العامة التي رفع بها معه شأن آراء الصوفية وجعلها من العوامل الفعالة في الحياة الدينيــة فــي‬
‫السلم‪.‬‬
‫ومهما تكن الراء التي قيلت عن الغزالي مختلفة فإن الجميع متفقون علــى مكــانته فــي‬
‫شؤون المعرفة ورسوخ قدمه فيها‪.‬‬
‫و من الملمح الفكرية عن الغزالي أن الشك عـرض لـه فـي وقـت مبكـر‪ ،‬وكـان شـكه‬
‫صأاحب فضل عليه‪ ،‬لانه هو الذي دفعه إلى البحث وطلب الحقيقة وتلمس اليمان‪ ،‬فدرس كل‬
‫‪59‬‬
‫العلوم الدينية و المذهبية الموجودة في عصره‪.‬‬
‫ونستطيع أن نستعرض المراحل الفكرية التي مــر بهــا الغزالــي فــي حيــاته‪ ،‬فنجــد أولا‬
‫المرحلة التي سبقت شكه‪ ،‬وفيها كان يطلب العلم‪ ،‬ويكون شخصيته الفكرية ثــم المرحلــة الــتي‬
‫ظهر فيها الشــك‪ ،‬وقــد جـاءه الشــك خفيفـا‪ ،‬ثــم اشــتد وقــوي بعــد ذلــك‪ ،‬وتلــك المرحلــة طـالت‬
‫وامتدتا‪ ،‬ثم المرحلة التي أعقبت الشـك‪ ،‬وهـي مرحلـة الهـدوء و الطمئنـان و الوقـوف علـى‬
‫‪58‬‬
‫أحمد الشرباصأي‪ -‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.98:‬‬
‫‪59‬‬
‫أحمد الشرباصأي‪ -‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.73:‬‬
‫‪26‬‬
‫الحقيقة عن طريق التصوف‪ ،‬ثم مرحلة التأمل و التدبر على انفــراد فــي أثنـاء عزلتــه بدمشـق‬
‫وبطوس‪ ،‬ثم مرحلة العودة إلى عرض ما يعلم ويرى عن طريق التدريس و التــوجيه الــديني‪،‬‬
‫‪60‬‬
‫ثم مرحلة الممارسة للتصوف‪ ،‬و الزهد في أواخر أيامه بطوس‪.‬‬
‫‪ .2‬الغزالي فيلسوففا‪:‬‬

‫إن الغزالي يهدمه الفلسفة قد غدا فيلسوفا‪ ،‬ولكن بمعيار آخر ومن منطلق آخر‪ .‬لــم يعــد‬
‫تابعا‪ ،‬بل أصأيل مستقل‪ ،‬وأنه فيلسوف و إن لم يرد أن يكون فيلسوفا‪.‬ولعله لو سئل –كما قــالا‬
‫الستاذ العقاد‪ -‬أأنت فيلسوف؟ لنكر ذلك‪.‬‬
‫وهـــذا أمـــر اعـــترف بـــه كـــثيرون فـــي الشـــرق و الغـــرب‪ ،‬حـــتى قـــالا الفيلســـوف‬
‫الشــهير"رينــان"‪":‬لــم تنتــج الفلســفة العربيــة فكــرا مبتكــرا كــالغزالي"‪ ،‬و يــبين أن الفلســفة‬
‫السلميين قبله وبعده كانوا أتباعا للفلسفة الرســطية أو الفلطونيــة الحديثــة‪ ،‬و ان الغزالــي‬
‫وحده هو الذي ثار عليها واتخذ له نهجا خاصأا‪.‬‬
‫وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديما أن الغزالي رغم حربه للفلسفة لم يزلا متــأترا‬
‫بها‪ ،‬وحسبنا أن أحد دعائم الفلسفة وهو المنطق‪ ،‬قد تبناه الغزالي ودافع عنــه‪ ،‬و أضــفى عليــه‬
‫مــن ثقــافته الســلمية‪ ،‬وكتــب فيــه عــدة كتــب )معيــار العلــم( و )محــك النظــر( و)القســطاس‬
‫المستقيم(‪ ،‬وقد أعلن أن تعلمه فرض كفاية‪ ،‬كما جعله مقياسا لصحة العلوم كلهــا‪ ،‬حــتى علــوم‬
‫الدين نفسها‪ ،‬وذهب إلى أن من فقد هذا المعيار لا ثقة بعلمه‪ ،‬حتى جلب عليه ســخط كــثر مــن‬
‫علماء المسلمين فــي مختلــف المــدارس و العقليــاتا‪ ،‬مــن ابــن الصــلحا إلــى ابــن تيميــة الناقــد‬
‫المنهجي الموضوعي للمنطق الرسطي‪.‬‬
‫ويتمكن الغزالي من دخـولا عـالم الفلسـفة لنـه يملـك ملكـة التجريـد‪ .‬ويـرى العقـاد أن‬
‫تصوف الغزالي قد منحه قدرة على التفكير الفلســفي الحــر‪ ،‬و التأمــل العقلــي العميــق الــذي لا‬
‫يتاحا مثله لمن يفكر وهو رهن محابس المادياتا و الشهواتا‪.‬‬
‫‪ .3‬الغزالي فقيها‪:‬‬

‫لقد تعلم الغزالي طرفا من الفقه في صأباه بطوس على يد المام أحمــد الراذاكــاني كمــا‬
‫عرفنا‪ .‬وازداد اشتغاله بالفقه في شبابه قبل أن يتصوف‪ ،‬ولم يترك البحث فيه بعد تصوفه‪،‬بــل‬
‫لقد مزج الفقه بالتصوف مزجا عجيبا‪ ،‬فبث في الحكام الفقهية حياة التصــوف وروحـــــانيته‪،‬‬

‫‪60‬‬
‫أحمد الشرباصأي‪ -‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.75:‬‬
‫‪27‬‬
‫و أيد التصوف بأحكام الفقه وتشريعاته‪ ،‬فخدم الشريعة بالحقيقــة‪ ،‬كمــا أيــد الحقيقــة بالشــريعة‪،‬‬
‫فكان متصوفا فقيها‪ ،‬وفقيها متصوفا‪.‬‬
‫و ألف الغزالي في الفقه كتبا كثيرة ما بين مســهب ومتوســط ومختصــر‪ ،‬و كــأنه أراد أن يــدلا‬
‫على تفننه في التــأليف و تنــوع طريقتــه بيــن و التطويــل و العتــدالا و الختصــار و الــتركيز‬
‫فألف في الفقه كتبا أربعة تتدرج تدرجا تنازليا من فسحة السهاب إلى ضيق اليجاز‪ ،‬وسماها‬
‫‪61‬‬
‫بأسماء تدلا على ذلك‪ .‬وهذه الكتب الربعة هي‪ :‬البسيط و الوسيط و الوجيز و الخلصأة‪.‬‬
‫ولم يكتف بهذه الكتب‪ ،‬بل ألف أيضا‪ :‬المأخذ فــي الخلفيــاتا‪ ،‬وشــفاء العليــل فــي بيــان‬
‫مسائل التعليل‪ ،‬وبيان القولين للشافعي‪ ،‬وغير ذلك‪...‬‬
‫ومن جهود الغزالي في الفقه فتاويه المشهورة‪ ،‬و في هذه الفتاوى كان يصولا ويجولا‪،‬‬
‫و يحلل و يفصل ويلمح صأورا كثيرة محتملة في موضوع الستفتاء فيوردها و يذكر حكمهــا‪،‬‬
‫‪62‬‬
‫مما يدلا على عقل واسع وذكاء عجيب وملكة فقهية نادرة‪.‬‬
‫وكذلك كانت جهود الغزالي الفقهية تدور حولا ثلثة مواضيع‪ :‬أصأــولا الفقــه‪ ،‬وفــروع‬
‫الفقهية‪ ،‬وحكمة التشريع‪ .‬و إذا كان الشافعي قد سبق فوضع علم الصأولا وحدد فيه المنــــاهج‬
‫و الموازين و الضوابط‪ ،‬فقد جاء الغزالــي بعــده بنحــو ثلثــة قــرون‪ ،‬فســار علــى طريقــه فــي‬
‫‪63‬‬
‫الصأولا‪ ،‬ولكن مع البسط و الشرحا و التحليل والتدليل‪.‬‬
‫‪ .4‬الغزالي متصوففا‪:‬‬

‫عاش الغزالي في بيئة كثر فيها المتصــوفة و هــو يســمعهم و يتصــل بهــم‪،‬وكــان لــذكر‬
‫البالغ في نفسه دون شك‪ ،‬كما أنه درس ما كان في عصره من علوم وثقافاتا‪ ،‬يكون منها علــم‬
‫التصوف ومبادئه‪.‬‬
‫و الجو الذي أحاط بالغزالي منذ صأــباه كــان مفعمــا بعــبير التصــوف‪ ،‬فــأبوه و أخـــــوه‬
‫وعمــــه و الوصأي عليه و أستاذه الفارمدي و الجويني كلهم متصوفة‪ ،‬و الوزير نظــام الملــك‬
‫محب للصوفية ثم هناك التدين الدافع إلى التصوف‪ ،‬وهنــاك عاطفــة الغزالــي المتدفقــة ونفســه‬
‫المشرقة‪.‬‬
‫ولعل شواغل من الهوى او الشــهرة او الطمــوحا شــغلت الغزالــي عــن العنايــة البــارزة‬
‫بالجانب الصوفي في صأدر حياته‪ ،‬ولكنــه حيــن حاســب نفســه وراجعهــا غلبــت عليــه الــدوافع‬

‫‪61‬‬
‫أحمد الشرباصأي‪ -‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.56:‬‬
‫‪62‬‬
‫أحمد الشرباصأي‪ -‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.57:‬‬
‫‪63‬‬
‫أحمد الشرباصأي‪ -‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.61:‬‬
‫‪28‬‬
‫القديمة فساقته بكليته إلى رحاب التصوف‪ .‬تصوف الغزالــي بعــد فــترة الشــك فأصأــابه تحــولا‬
‫عنيف مجرى حياته‪ ،‬فإذا به يزهد بالحياة كلها وينغمس فــي حــالاتا مــن الســمو الروحــي فــي‬
‫استقصاء نهاياتا الفكار على الطريقة الصوفية‪.‬‬
‫و إعلن الغزالي‪-‬حقيقة‪ -‬عن تصوفه لم يكن عندما ترك بغداد "‪"488‬هـ بل على إثــر عــودته‬
‫منها حوالي "‪ "498‬هـ حيث قطع كل صألته مع العــالم الخــارجي الــذي غلبــت عليــه النفعيــة‬
‫التي تبعده عن الخرة بشكل حقيقي فقد وعظ بمــادة "إحيــاء علــوم الــدين" فــي نظاميــة بغــداد‬
‫الذي ألفه خللا رحلته و في دمشق بالذاتا‪.‬‬
‫يرى" كولد تسيهر" أن أصأل تصوف الغزالي كان زهدا بل إنه قوة نظر فــي حمــــاسة‬
‫و إعجاب إلى الحياة القلبية الصادقة المفعمة باليمان التي كان يحياها المسلمون فــي عصــور‬
‫‪64‬‬
‫السلم الولى‪ ،‬غير أن هذا التطلع لم يصرفه عن العقل ومكانته في العلوم‪.‬‬
‫ومما لا ريب فيه أن أبرز ما أخذ على الغزالي‪ ،‬اندماجه في طريــق الصــوفية انــدماجا‬
‫يكاد يكون كامل‪ ،‬و إذعائه لما عند القوم من معارف و أحوالا و أعمالا‪ ،‬دون أن يحكمها إلــى‬
‫منطق الفقه و أصأوله‪ .‬وسر هذا أنه تعامل مع التصوف بقلبه دون عقله وبذوقه قل فقهه‪.‬‬
‫من أجل هـذا أنكـر عليـه ابـن الجـوزي وغيـره مـن الناقـدين‪ ،‬قبـوله لكـثير مـن أفكـار‬
‫الصوفية و أعمالهم و أحوالهم‪ ،‬و هي مخالفة لقانون الشرع منحرفة عن الكتاب و السنة‪.‬‬
‫ومع هذا لا ينكر منصف ودارس للغزالــي و لحيــائه خاصأــة‪ ،‬أنــه لــم يقبــل التصــوف‬
‫بعجزه‪ ،‬بل رفض في حزم تصوف أهل الحلولا و التحــاد كــالحلج و أشــباهه‪ ،‬ولــم يقبــل إلا‬
‫التصوف المعتدلا القريب من الكتاب و السنة‪ ،‬واجتهد أن يرد كل فكرة أو سلوك مما يقولا به‬
‫المتصوفة إلى أصأولا إسلمية‪ ،‬و أن يستدلا عليها بالقرآن و الحديث و الثر‪.‬‬
‫ومما يسجل له انه نبه على ضرورة العلم الشرعي لســالك طريــق الخــرة‪ ،‬خلفــا لمــا‬
‫كان شائعا بين كثير من الصــوفية أن العلــم حجــاب‪ .‬وقــد جعــل أولا كتــاب مــن كتــب الحيــاء‬
‫الربعين "كتاب العلـم" ‪،‬و أولا عقبـة يجـب أن يجتازهـا العابـد هـي العلـم‪ ،‬كمـا فـي "منهـاج‬
‫العابدين"‪ ،‬و أكد في مواضع لا تحصر ان السعادة لا تنالا إلا بالعلم و العمل‪.‬‬
‫و من أهـــم ما أبرزه الغزالي في التصـــــوف‪ :‬أنه نقله من مجرد الــذوق و التحليـــــل‬
‫و الشطح و التهويل‪ ،‬إلى علم اخلقي عملي يعالج أمراض القلوب و آفــاتا النفــوس و يزكيهــا‬
‫بمكارم الخلق‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫تسيمر أجناس كلود‪ ،‬العقيدة و الشريعة في السلم ترجمة يوسف مرسي محمد وجماعته ط ‪ ،2‬القاهرة‬
‫‪29‬‬
‫ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي‪ ،‬ثم كيف صأار بعده‪ ،‬عرف فضل الغزالــي علــى‬
‫التصوف و أهله‪ ،‬وما ترك فيه من أثر واضح يشهد به المتخصصون في علم هذا الجانب من‬
‫جوانب الثقافة و الحياة السلمية‪.‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬حقيقة منهج الغزالــي الــذي‬


‫وصل إليه‪.‬‬
‫يعتبر الشك نقطة النطلق في منهج الغزالي‪ ،‬إذ يرى أن " من لم يشك لم ينظر‪ ،‬ومن‬
‫‪65‬‬
‫لم ينظر لم يبصر‪ ،‬ومن لم يبصر بقى في العمى و الضللا"‪.‬‬
‫وقد بدأ الشك عنده بالتخلي عن التقليد الذي انتقل منه إلى الحس‪،‬إلا أنه سرعان ما فقــد‬
‫ثقته فيه‪ ،‬ليلجأ إلى العقل‪ ،‬قبل أن ينتهي إلى الذوق و الكشــف المــؤديين إلــى المعرفــة القلبيــة‪،‬‬
‫باعتبار القلب مناط اليمان ومصدر كل فعل و انفعالا‪.‬‬
‫و الحقيقة أنه في منهجه كان يعتمد مقاييس متكاملة‪ ،‬فهو إذا كــان يــرى إمكــان اعتمــاد‬
‫الحواس في مجالا معين للمعرفة‪ ،‬واعتماد العقل في مجالا محدد آخر‪ ،‬فإنه لم يكن يرى فيهما‬
‫–أي في الحس و العقل‪ -‬مقاييس كافية لطرق ميادين أخرى كالدين‪.‬‬
‫ويشرحا الغزالي حالة الشك عنده فيوضح أنها لازمته منــذ فـترة صأـباه حيـن بــدأ يثـور‬
‫على التقليد الذي كان يشاهد ممارساته في مجالا العقائد‪ ،‬مما دفعه إلى أن يبحث عن الحقيقــة‪،‬‬
‫أي حقيقة العلم أو العلم بحقائق المور‪ ،‬وهو اليقين الذي لا يبقى معه أدنى شك‪ .‬يقولا‪ ":‬وقــد‬
‫كان التعطش إلى درك حقائق المور دأبي وديــدني مــن أولا أمــري وريعــان عمــري غريــزة‬
‫وفطرة من ا وضعتا في جبلــتي‪ ،‬لا باختيــاري و حيلــتي‪ ،‬حــتى انجلــت عنــي رابطــة التقليــد‬
‫وانكسرتا على العقائد الموروثة على قرب عهد شرة الصبا‪ ،‬إذا رأيــت صأــبيان النصــارى لا‬
‫يكون لهم نشوء إلا علـى التنصـر‪ ،‬وصأـبيان اليهـود لا نشـوء لهـم إلا علـى التهـود‪ ،‬وصأـبيان‬
‫المسلمين لا نشــوء لهـم إلا علـى السـلم‪ .‬وسـمعت الحــديث المــروي عـن رســولا اــ )ص(‬
‫يقولا‪":‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجســانه"‪ ،‬فتحــرك بــاطني‬
‫إلى حقيقة الفطرة الصألية وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين و الستاذين‪ ،‬و التمييز بيــن‬
‫هذه التقليداتا‪ ،‬و أوائلها تلقيناتا‪ ،‬و فـي تمييـز الحـق منهـا عـن الباطـل اختلفـاتا‪ ،‬فقلـت فـي‬
‫نفسي‪ :‬إنما مطلوبي العلم بحقائق الامور‪ ،‬فلبد من طلب حقيقة العلم مــا هــي؟ وظهــر لــي ان‬

‫‪65‬‬
‫المام أبي حامد الغزالي‪-‬ميزان العمل‪ -‬ط مكتبة الجندي بالحسين‪ ،‬القاهرة‪،‬دون تاريخ‪،‬ص‪.159:‬‬
‫‪30‬‬
‫العلم اليقيني هو الذي ينكشف منه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب و لا يقارنه إمكان الغلــط‬
‫‪66‬‬
‫و الوهم"‪.‬‬
‫وقد قاده‪ ،‬هذا التطلع إلى ان يتعامل مع الحس‪ ،‬انطلقا من التجربة و المشــاهدة‪،‬و فــي‬
‫ذلك يقولا‪ ":‬فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوســاتا و الضــرورياتا‪ ،‬وانظــر هــل يمكننــي أن‬
‫أشــكك نفســي فيهــا‪ ،‬فــانتهى بــي طــولا التشــكيك إلــى أن لــم تســمح نفســي بتســليم الامــان فــي‬
‫المحسوساتا أيضا‪ ،‬وأخذ يتسع هذا الشك فيها و يقولا‪ :‬من أيــن الثقــة بالمحسوســاتا و أقواهــا‬
‫حاسة البصر‪ ...،‬وتنظر إلى الكوكب فتراه صأغيرا في مقدار الدينار‪ ،‬ثم الدلــة الهندســية تــدلا‬
‫‪67‬‬
‫على انه أكبر من الرض في المقدار"‪.‬‬
‫و أســلم الغزالــي رفــض المحسوســاتا إلــى العقــل الــذي احتــل عنــده مكانــة شــريفة‬
‫مرموقة‪"،‬إذ رآه منبع العلم ومطلعه و أساسه‪ ،‬و العلم يجري منه مجرى الثمرة مــن الشــجرة‪،‬‬
‫و النور من الشمس‪ ،‬و الرؤية من العين‪ ،‬فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعـــــادة فــي الــدنيا‬
‫‪68‬‬
‫و الخرة"‪.‬‬
‫و لعلنا لا نستغرب إذا وجدنا الغزالي يحاولا تطويع منهجه –وخاصأة في ما كتب عــن‬
‫المنطق و أدواته‪ -‬للدراساتا الفقهية‪ ،‬بل إنـا نجـده يسـتمد امثلتـه مـن الفقـه فـي كتـاب )معيـار‬
‫العلم(‪ .‬و فيه يرى ان المنهج صأالح للمسائل الفقهية مثلما هو صأالح للمور العقلية‪ ،‬و إن كان‬
‫يميز بين الستدلالاتا ذاتا طابع الظني و الستدلالاتا ذاتا الطابع اليقيني‪ .‬بــل هــو كــثيرا مــا‬
‫يلجــأ فــي مناقشــته لراء الفلســفة إلــى الطعــن فــي أدلتهــم العقليــة‪ ،‬علــى حــد قــوله فــي إحــدى‬
‫القضايا‪":‬و اما ما ذكرتموه مــن الــدليل العقلــي اولا فمبنــي علــى مقــدماتا كــثيرة لســنا نطــولا‬
‫بإبطالها ولكنا ننازع في ثلث مقدماتا منها"‪.‬‬
‫ويبدو أن رفضه المحسوساتا لم يلبث أن أفضى بــه إلــى الظــن فــي العقليــاتا الــتي شــك فيهــا‬
‫بدورها‪ ،‬لما قد تتعرض له من تفنيـد إذ قـالا‪ ":‬لعـل وراء إدراك العقــل حاكمـا آخــر إذا تجلــى‬
‫‪69‬‬
‫كذب العقل في حكمه‪ ،‬كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه"‪.‬‬
‫و إذا كان الشك عند الغزالي سبيل للوصأولا إلى حقيقة المور‪ ،‬فقد كان طبيعيا –وهــو‬
‫يشك في العقل كما يشك في الحس‪ -‬ألا يجد يقينه فيه‪ ،‬أي فــي العقــل و لكنــه وجــده فــي شــيء‬
‫آخر أتاحت له أن يخرج من معاناة الشك و الضطراب‪ ،‬حيث عبر عن ذلك بقوله‪ ":‬ولم يكن‬
‫‪66‬‬
‫المام أبي حامد الغزالي‪-‬المنقذ من الضللا‪-‬المصدر السابق‪،‬ص‪.6-5:‬‬
‫‪67‬‬
‫المام أبي حامد الغزالي‪-‬المنقذ من الضللا‪-‬المصدر السابق‪،‬ص‪.9-8-7:‬‬
‫‪68‬‬
‫الغمام أبي حامد الغزالي‪-‬إحجياء علوم الدين‪-‬ج ‪ ،1‬نشر مكتبة عيسى البابي الحلبي‪ ،‬مصر‪ ،‬ص‪.73:‬‬
‫‪69‬‬
‫المنقذ من الضللا‪-‬نفس المصدر‪،‬ص‪.9:‬‬
‫‪31‬‬
‫ذلك بنظم دليل و ترتيب كلم بل بنور قذفه ا تعالى في الصدر‪ ،‬وذلك النور هو مفتاحا أكــثر‬
‫المعارف‪ 70،‬وهو الذي جعله يضع العقل في مكانه الح ق‪ ،‬ف إذا ك ان حك م العق ل صأ حيحا ف ي‬
‫العلوم المنطقية و الرياضية و فــي كــل مجــالاتا المعرفــة الــتي تعتمــد التجربــة‪ ،‬فـإنه بالنســبة‬
‫لللهياتا لا يكون فيها إلا على مقدور المكان‪.‬‬
‫وقد دلت هذه المعاناة على ان الشك الذي اجتازه الغزالــي فــي مراحــل مختلفــة منــه ومتعــددة‪،‬‬
‫كان شكا منهجيا توسل به للوصأولا إلى اليقين‪.‬‬
‫و إنتهى به المطــاف إلــى تجربــة التصــوف الــتي عاشــها وعــان فيهــا‪ ،‬حيــث قــالا "أن‬
‫الصوفية هم السابقون لطريق ا تعالى‪ ،‬خاصأة و أن سيرتهم أحسن السير و طريقهم أصأوب‬
‫الطرق و أخلقهم أزكى الخلق‪ ،‬بل لو جمــع عقــل العقلء وحكمــة الحكمــاء وعلــم الــواقفين‬
‫على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم و اخلقهم و يبدولوه بما هو خير منــه‬
‫لم يجدوا إليه سبيل‪ ،‬فإن جميع حركــاتهم وســكناتهم فــي ظــاهرهم وبــاطنهم مقتبســة مــن نــور‬
‫‪71‬‬
‫مشكاة النبوة و ليس وراء النبوة على وجه الرض نور يستضاء به‪".‬‬

‫‪70‬‬
‫الغزالي –المنقد من الضللا‪-‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص‪.11:‬‬
‫‪71‬‬
‫نفس المصدر‪،‬ص‪.50:‬‬
‫‪32‬‬
‫يمكن أن نستنتج من مجموع ما أسلفناه ان حيــاة الغزالي ابتدأتا بروحانية التصـــوف‬
‫و "الزهد"‪ ،‬إذا أردنا التعبير الصحيح عن حقيقة الحالة التي قدرتا له‪ ،‬في هــذا الحيــن أخــذتا‬
‫تتسرب –روحانية التصوف‪ -‬إلى نفسه منذ نشأته الولى في جو أسرته‪.‬‬
‫ومن هنا كانت تجربة الغزالي الصوفية‪ ،‬تتسلل في نسق مــن تقليديــة بيئيــة أســرية إلــى عقليــة‬
‫فلسفية فكرية ومن عقلية فلسفية فكرية إلى أذواق ومكاشفاتا وصألحا‪...‬‬
‫وهكذا وجد الغزالي في السلم منهج البحث المؤدي للحقيقة‪ ،‬وهذا مــا ســاعده علــى صأــياغة‬
‫نظريــاته‪ .‬وهــو بــذلك يبحــث عــن الحقيقــة بيــن المناهــج الفلســفية و الــذوق البــاطني و النهــج‬
‫الســلمي القرآنــي‪ ،‬و عــانى الغزالــي فــي حقبــة مــن حيــاته اضــطرابا فــي معرفــة الحقيقــة‬
‫وسلمتها‪ ،‬وقد أدان التقليد ثم أنهى به الشك و الحس و العقل في المعارف التي حصل عليها‪،‬‬
‫لينتهي إلى الكشف الذي قاده إلى مرفــأ اليقيــن‪ .‬ولــم يكــن شــكه شــكا نقــديا اســتمراريا لثبــاتا‬
‫الوجــود وصأــدق المعرفــة‪ ،‬و إنمــا كــان شــكه مؤقتــا فاصأــل بيــن عهــدين‪ ،‬عهــد ســابق للشــك‬
‫اضطربت فيه نفسه وقلقت روحه وهو يدرس الحكمة و الفلسفة‪ ،‬وعهد لاحق بشكه وهو يجــد‬
‫الطمئنان و المعرفة في الدين السلمي‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬أعطى الغزالي لكل علم مكانته‪ ،‬فهو بذلك كان متوازنا بيــن مختلــف الراء و المــذاهب‪،‬‬
‫وجنب نفسه الحيرة و الضللا وفكر فكــرة الفيلسـوف المتواضــع‪ ،‬وتصــوف بتصـوف صأـفاء‬
‫الروحا‪.‬‬
‫وكان طبيعيا أن ينسجم منهج الغزالي مع الفكر السلمي الشمولي انسجاما كامل‪ ،‬مــادام هــذا‬
‫المفكر الكبير يركز تركيزا أساسيا في كل آرائه وجــدله علــى النطلق مــن المنطــق القرآنــي‬
‫أولا وقبل كل شيء‪ ،‬مؤكدا أن ‪":‬أولا ما يستضــاء به من البـــواب‪،‬ويسلك من طريق النظر‬
‫و العتبار ما أرشد إليه القرآن فليس بعد بيان ا بيان"‪.‬‬
‫لعل أحسن ما نختتم به هذا البحث قولنا إن الغزالي كان مفكــرا متنــوع الجــوانب شــمل‬
‫نشاطه حقولا مختلفة من منطق وجدلا وفقه وكلم و فلسفة وتصوف‪ ،‬ومع أنه لم يكن فيلسوفا‬
‫كالفــارابي وابــن ســينا و لا متكلمــا كالشــعري ولا فقيهــا كالشــافعي و لا متصــوفا كالحــارث‬
‫المحاسبي و أبي طالب المكي إلا أنه إقتبس من هؤلاء جميعا كثيرا من العناصأــر‪ ،‬وحــاولا أن‬
‫يعطي كل شيء حقه‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫وهكذا أكون قد أنهيت هذا البحث المتواضع بالدعاء الذي ختم به الغزالــي كتــابه" المنتقــذ مــن‬
‫الضللا" بقوله‪":‬ونسألا ا العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه و أرشده للحق وهداه و ألهمــه‬
‫ذكره حتى لا ينساه وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه و استخلصه لنفسه حتى لا‬
‫يبعد إلا إياه"‪.‬‬
‫و أرجو من ا تعالى أن أكون قد وفقت في إنجاز بحثي هذا‪ ،‬الذي تم فيــه إبــراز تجربــة أبــي‬
‫حامد الغزالي الصوفية من خللا كتابه المنقذ من الضللا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪ .1‬د‪.‬أبو العل عفيفي‪ ،‬التصوف‪ :‬الثورة الروحية في السلم‪ ،‬ط ‪ 1‬سنة‪.1963 :‬‬
‫‪ .2‬د‪ .‬عاطف تامر‪ ،‬الغزالي بين الفلسفة و الدين‪ ،‬رياض ريس للكتب‪ ،‬بيروتا‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ .3‬د‪ .‬عبد الحليم محمود‪ ،‬المجموعــة الكاملــة لمؤلفــاتا –المنقــذ مــن الضــللا‪ -‬دار الكتــاب‬
‫اللبناني‪ ،‬بيروتا‪ ،‬ط‪ ،2:‬سنة ‪.1985‬‬
‫‪ .4‬د‪ .‬زكي مبارك‪ ،‬التصوف السلمي في الدب و الخلق‪ ،‬ج ‪.1‬‬
‫‪ .5‬د‪ .‬الزبيدي‪ ،‬محمد بن محمد الحسيني‪ ،‬اتحاف السادة المتقين شرحا إحيــاء علــوم الــدين‪،‬‬
‫دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروتا‪ ،‬لبنان‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ .6‬السبكي‪ .‬تاج الدين أبو بكر نصر عبد الوهاب بن علي بن عبــد الكــافي‪ ،‬تحقيــق محمــود‬
‫محمد الطناحي‪ ،‬عين الباب الحلبي‪ ،‬ط‪،1:‬ج ‪– 6‬الطبقاتا الشافعية الكبرى‪.‬‬
‫‪ .7‬بنيعيش محمد‪ ،‬الموضوعية و الذاتية بين الغزالي وابــن تيميــة‪ ،‬الخليــج العربــي‪ ،‬ط‪،1:‬‬
‫سنة ‪ 1421‬هـ ‪2000/‬م‪.‬‬
‫‪ .8‬ندواتا أكاديمية المملكة المغربية‪ ،‬حلقة وصأل بين الشرق و الغرب‪ :‬أبو حامــد الغزالــي‬
‫وموسى بن ميمون –أكادير‪ ،1986:‬السفر الثاني عشر‪ ،‬من مطبوعاتا الكاديمية‪.‬‬
‫‪ .9‬د‪ .‬جميل صأليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروتا‪ ،‬ط‪ I ،1970:‬وط‪:‬‬
‫‪.II ،1973‬‬
‫‪.10‬تسيهر أجناس كلود‪ ،‬العقيدة و الشريعة فــي الســلم‪ ،‬ترجمــة يوســف مرســي محمــد‪،‬‬
‫وجماعته‪،‬ط ‪ ،2‬القاهرة مصر‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪.11‬د‪.‬أحمد الشرباصأي‪ ،‬الغزالي و التصوف السلمي‪ ،‬طبع بمطابع مؤسسة دار الهللا‪.‬‬
‫‪.12‬المام أبو حامد الغزالي المنقذ من الضللا‪ ،‬ومعه كمياء السعادة و القواعــد العشـــــرة‬
‫و الدب في الدين‪ ،‬تعليق وتصحيح‪ ،‬محمد محمد جابر‪.‬‬
‫‪ .13‬المام أبو حامد الغزالي‪ ،‬المقصــد الســى‪ ،‬شــرحا أســماء اــ الحســنى‪ ،‬القــاهرة ط‪،2:‬‬
‫بدون تاريخ‪ ،‬مطبعة السعادة‪.‬‬
‫‪ .14‬المام أبو حامد الغزالي‪ ،‬إحياء علوم الــدين‪ ،‬دار الكتــب العلميــة‪ ،‬بيــروتا‪ ،‬لبنــان‪،‬ط‪:‬‬
‫‪، 1‬ج ‪.1‬‬

‫‪35‬‬
‫‪.15‬المام أبو حامد الغزالي‪ ،‬ميزان العمل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروتا‪ ،‬لبنــان‪،‬ط ‪ ،1‬ســنة‬
‫‪ 1409‬هـ ‪ 1989/‬م ‪.‬‬
‫‪.16‬المام أبو حامد الغزالي‪،‬فضائح الباطنية‪ ،‬تحقيق محمد على قطب المكتبــة العصــرية‪،‬‬
‫بيروتا‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1:‬سنة ‪1421‬هـ‪2000/‬م‪.‬‬
‫‪.17‬د‪ .‬عبـد الرحمـن بـدوي‪ ،‬تاريـخ التصـوف السـلمي‪ ،‬مـن البدايـة ح تى نهايـة القـرن‬
‫الثاني‪،‬ط ‪،1‬سنة ‪1975‬‬
‫‪.18‬د‪ .‬عاطف الزين‪ ،‬الصوفية في نظر السلم‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪36‬‬

You might also like