You are on page 1of 141

‫رسالة كيمياء السعادة للغزالي‬

‫تقديم الكتاب‬
‫أبو حامد الغزالي (ت ‪ 505‬هـ)‬
‫كلمة في (شروح جواهر القلوب)‬
‫مقدمة المؤلف‬
‫الفصل األول‪ :‬كيمياء الذهب‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في معرفة النفس‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الوقوف على الحقيقة‬
‫الفصل الرابع‪ :‬حقيقة القلب‬
‫الفصل الخامس‪ :‬معرفة عسكر القلب‬
‫الفصل السادس‪ :‬المعرفة وأسبابها‬
‫الفصل السابع‪ :‬األخالق‬
‫الفصل الثامن‪ :‬القهارمة‬
‫الفصل التاسع‪ :‬صفات البهائم‬
‫الفصل العاشر‪ :‬عجائب عالم الغيب‬
‫الفصل الحادي عشر‪ :‬روزنة القلب‬
‫الفصل الثاني عشر‪ :‬األنبياء وخصائصهم‬
‫الفصل الثالث عشر‪ :‬في شرف القلب‬
‫الفصل الرابع عشر‪ :‬معرفة درجات النبوة‬
‫الفصل الخامس عشر‪ :‬العلم حجاب لهذا الطريق‬
‫الفصل السادس عشر‪ :‬السعادة في معرفة اهلل‬
‫الفصل السابع عشر‪ :‬في معرفة جوهر القلب‬
‫الفصل الثامن عشر‪ :‬جوهر القلب وعظمته‬
‫الفصل التاسع عشر‪ :‬صفات الحق من صفات‬
‫النفس‬
‫الفصل العشرون‪ :‬علم الحق وتنزيهه‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫تقديم الكتاب‬
‫أبو حامد الغزالي (ت ‪ 505‬هـ)‬
‫أ – حياته‪:‬‬
‫هو العالمة‪ ،‬والحبر البحر‪ ،‬زين الدين ابو حامد‬
‫محمد بن محمد بن محمد الغزالي‪،‬‬
‫الذي غلب عليه لقب حجة االسالم وذلك‬
‫لذوده عن حياض العقيدة االسالمية‪،‬‬
‫ودفاعه عنها بفكره وقلمه ومناظرته وردوده‬
‫على الفرق المتطرفة‬
‫ولد بمدينة طوس من أعمال خراسان سنة ‪450‬‬
‫هـ الموافقة لـ ‪1058‬م‪،‬‬
‫وتوفي والده وهو صغير‪ ،‬أقبل منذ صغره على‬
‫طلب ودراسة العلم وتحصيله‬
‫بارادة متواصلة‪ ،‬وعزيمة مثابرة‪ ،‬وسعي دائب‪،‬‬
‫فتعمق في فنونه‪ ،‬وغاص في أبحره‪،‬‬
‫وقد تلقى مبادئ العربية وأصولها أول األمر في‬
‫مسقط رأسه‪،‬‬
‫كما تلقى الفقه فيها على أحمد بن محمد بن‬
‫محمد الراذكاني‪،‬‬
‫ثم انتقل إلى جرجان‪ ،‬ودرس فيها على يد أبي‬
‫القاسم بن مسعدة اإلسماعيلي الجرجاني‪،‬‬
‫ثم ارتحل بعد ذلك إلى نيسابور ودرس الفقه‬
‫والجدل والمنطق والفلسفة والكالم واألصول‬
‫على أبي المعالي عبد الملك الجويني المشهور‬
‫بإمام الحرمين‪،‬‬
‫ولم يدرس بعد ذلك على أستاذ غيره‪،‬‬

‫ثم ترك نيسابور بعد وفاة اإلمام الجويني‪ ،‬ثم‬


‫قصد العراق‪ ،‬فتوجه إلى بغداد‪ ،‬مركز الخالفة‬
‫العباسية‪،‬‬
‫ولمس ان شهرته قد سبقته إلى تلك اآلفاق قبل‬
‫قدومه اليها‪ ،‬فاتصل بالوزير نظام الملك‬
‫السلجوقي‪،‬‬
‫ففوض اليه مهمة التدريس بمدرسته المسماة‬
‫(بالنظامية) ببغداد‪،‬‬
‫وعينه أستاذا فيها سنة ‪484‬هـ‪ ،‬فأخذ ينشر‬
‫العلم‪ ،‬ويدرس الطلبة‪ ،‬ويصنف الكتب‪ ،‬مدة‬
‫أربعة سنوات‪،‬‬
‫ثم فارق العراق‪ ،‬فرحل إلى الحجاز‪ ،‬وحج بيت‬
‫اهلل الحرام‪ ،‬ورحل بعد ذلك إلى الشام‪،‬‬
‫وسكن دمشق مدة‪ ،‬وأقام بالقدس‪ ،‬قريب من‬
‫سنتين‪ ،‬وصنف هناك بعض مصنفاته‪،‬‬

‫ويقال انه رحل إلى الديار المصرية ونزل‬


‫باإلسكندرية ثم عاد بعد ذلك إلى مسقط رأسه‬
‫طوس‪،‬‬
‫حيث انقطع للخلوة والعبادة والتأليف‪،‬‬
‫وبعد ذلك الزمه فخر الدين بن نظام الملك‬
‫التدريس بمهمته في نيسابور‪،‬‬
‫فمارس التدريس فيها مدة يسيرة عاد بعدها إلى‬
‫طوس‪،‬‬
‫ولزم داره وأكب على مراجعة العلوم والنظر‬
‫في االحاديث والدوام على العبادة والذكر‪،‬‬
‫وأخيرا مات سنة ‪ 505‬هـ ودفن بطوس رحمه‬
‫اهلل‪.‬‬

‫ب – منزلته العلمية‪:‬‬
‫بعد أن اطلعنا على نشأة الغزالي وشيوخه‬
‫ورحالته‪ ،‬البد ان نتطرق إلى التنوية عن منزلته‬
‫العلمية‪،‬‬
‫حيث ان للغزالي منزلته المشهورة والبارزة بين‬
‫العلماء‪،‬‬
‫سواء في عصره الذي عاش فيه‪ ،‬او العصور التي‬
‫تلته‪.‬‬
‫وقد الزمته هذه الشهرة حتى وقتنا الحاضر‬
‫الذي نحن نعيش فيه‪.‬‬
‫وكذلك ستبقى نظرة األجيال المقبلة إلى منزلته‬
‫محاطة باالجالل واإلكبار والمتابعة‪.‬‬
‫فقد خاض في فنون شتى من العلوم والمعارف‬
‫المختلفة المواضيع‪،‬‬
‫وقد أوتي موهبة ممتازة وفائقة من سعة األفق‪،‬‬
‫وقوة البيان‪ ،‬والتعمق في االستنتاج‪،‬‬
‫كما ألف كثيرا من الكتب والرسائل في علوم‬
‫عديدة كذلك‪،‬‬
‫كالفلسفة وعلم الكالم والفقه والتصوت‬
‫واألخالق والتربية‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫وقد تسابق أشهر العلماء‪ ،‬وكذلك الطلبة‪،‬‬


‫في اقتنائها واستنساخها ودراستها وشرحها‬
‫والتعليق عليها من جيل إلى جيل‪،‬‬
‫و كانت كلما نبدأ حركة ما في مجال الترجمة‬
‫في قطر من األقطار‪،‬‬
‫اال وكتب الغزالي‪ ،‬تأتي في مقدمة الكتب‬
‫الموشحة في الترجمة‪،‬‬
‫ولذلك نرى ان أغلب كتب الغزالي مترجمة‬
‫إلى عدة لغات في العالم‪،‬‬
‫وال زالت تستقطب انظار رجال الفكر والعلم‬
‫والمعرفة تأليفا وترجمة ودراسة‪.‬‬

‫جـ – مؤلفاته‬
‫أما عن كتب ابو حامد الغزالي‪ ،‬فقد وضع رحمه‬
‫اهلل كثيرا من الرسائل والكتب والتصانيف‪،‬‬
‫اذ كان رحمه اهلل من المعدودين ممن اشتهر‬
‫بغزارة التصنيف والتأليف‪،‬‬
‫وفي مواضيع مختلفة كما أشرنا سابقا‪.‬‬
‫ومن أهم كتبه ورسائله المتداولة‪:‬‬
‫احياء علوم الدين‪ ،‬المنقذ من الضالل‪ ،‬تهافت‬
‫الفالسفة‪ ،‬مشكاة األنوار‪،‬‬
‫معيار العلم في المنطق‪ ،‬ميزان العمل‪ ،‬فيصل‬
‫التفرقة بين االسالم والزندقة‪،‬‬
‫القسطاس المستقيم‪ ،‬قواعد العقائد في‬
‫التوحيد‪ ،‬منهاج العارفين‪،‬‬
‫كيمياء السعادة‪ ،‬الجام العوام عن علم الكالم‪،‬‬
‫معراج السالكين‪،‬‬
‫ورسائل وكتب ومصنفات أخرى غيرها‪.‬‬

‫وقد نسبت إلى الغزالي كتب كثيرة منها‬


‫صحيحة كالذي مر ذكره آنفا‪ ،‬ومنها غير‬
‫مقطوع في نسبتها اليه‪،‬‬
‫بل يلفها الشك والظن والتحير في أمرها‪ ،‬ومنها‬
‫ال يزال مخطوطا محفوظا في خزانات‬
‫المكتبات‪،‬‬
‫ومنها موضوعة‪ ،‬ال عالقة لالمام أبي حامد‬
‫الغزالي بها‪ ،‬وغير مسؤول عما فيها من آراء‬
‫وأفكار ومحتويات‪،‬‬
‫وتقع تبعتها على الوضاع والنساخ‪ ،‬وغيرها‪..‬‬
‫واهلل أعلم‬

‫‪2‬‬
‫كلمة في (شروح جواهر القلوب)‬
‫رسالة كيمياء السعادة للغزالي وهي‬
‫في شرح عجائب القلب‬

‫تعتبر هذه الرسالة من الرسائل المهمة للغزالي‪،‬‬


‫اذ تنحصر مواضيعها في شرح أحوال النفس‬
‫والقلب وحقيقة الروح‬
‫والعالقة بين المحسوسات والمعقوالت‪ ،‬ومنزلة‬
‫المشاهدة القلبية‪،‬‬
‫المتولدة من المجاهدة والرياضة الروحية‬
‫الحاصلة من قمع شهوات النفس ونبذ أوضارها‪،‬‬
‫وذلك من أجل ان تتحقق سعادة الروح‪.‬‬
‫الرسالة مودعة في خزانة المخطوطات في مكتبة‬
‫المتحف العراقي‬
‫وأوصافها كما هي مدونة على ظهر بطاقة من‬
‫بطاقات التعريف الراجعة إلى حقل التصوف‬
‫والتي هي كما يلي‪:‬‬
‫(رسالة في كيمياء السعادة‪ ،‬التصوف‪ ،‬محمد‬
‫الغزالي الرقم ‪9 / 8956‬‬
‫‪ 38‬ص‬
‫‪ 52‬س‬
‫‪ 15 × 21‬سم)‬
‫وقد وضعها الغزالي أصال باللغة الفارسية‪،‬‬
‫وقد أشار اليها دكتور عبد الرحمن بدوي في‬
‫كتابه (مؤلفات الغزالي) بالتفصيل‬
‫فذكر نسخها المخطوطة بأرقامها وأماكنها‪،‬‬
‫وأشار إلى الدراسات عنها‪،‬‬
‫كما قال بان الغزالي ذكرها في كتابه المنقذ من‬
‫الضالل (ص ‪ ،155‬طبعة دمشق ‪)1934‬‬
‫ويظهر كما ذكر األستاذ عبد الرحمن بدوي‬
‫بان الرسالة طبعت فقط طبعتين‬
‫حيث قال ما نصه‬
‫(طبع النص العربي ضمن مجموعة رسائل طبعها‬
‫صبري الكردي‪ ،‬القاهرة سنة ‪1328‬هـ ‪1343 ،‬‬
‫هـ)‪.‬‬
‫‪ .‬ولم يصدر طبعة أخرى غيرهما للرسالة فيما‬
‫بعد‪ ،‬كما لم تطبع الرسالة لوحدها بشكل‬
‫مستقل بنفسها‪،‬‬
‫وأخيرا لم يغفل الدكتور عبد الرحمن بدوي‬
‫متابعة ترجمة الرسالة إلى اللغات األخرى‪،‬‬
‫حيث ذكر جملة من الترجمات لها‪ ،‬القديمة‬
‫والحديثة‪،‬‬
‫كالتركية‪ ،‬واألوردية‪ ،‬والهندستانية‪ ،‬واإلنجليزية‪،‬‬
‫واأللمانية‪.‬‬
‫والنسخة التي بين يدينا ميزتها انها تنشر لوحدها‬
‫الول مرة‪ ،‬وهي محققة تحقيقا علميا‪،‬‬
‫وقد ال حظنا فيها ركاكة الترجمة واألسلوب‪،‬‬
‫وجهل الناسخ او المترجم بقواعد اللغة العربية‪،‬‬
‫اال انه بمعاودة الدارس على دقة قراءة‬
‫النصوص والحرص على ربط أفكارها‪،‬‬
‫يستطيع على ضوئها الوصول إلى النتائج‬
‫الواضحة المتوخاة بسهولة جدا‪.‬‬

‫الرسالة صغيرة الحجم‪،‬‬


‫لكن الموضوعات الذي تناوله فيها الغزالي يكاد‬
‫لم يسبقه في احد من الفالسفة والمفكرين‬
‫المسلمين من قبله‪،‬‬
‫وهو موضوع البحث عن السعادة والتي ال تتم‬
‫اال باالستعداد التام لمعرفة حقيقة النفس التي‬
‫بواسطتها يتم شرف معرفة اهلل‪،‬‬
‫ويستخلص الغزالي إلى ان معرفة الحواس‬
‫معرفة قاصرة‪ ،‬وان المعرفة الصحيحة االقرار‬
‫بخالق الوجود‪،‬‬
‫والموجودات تحصل عن طريق المجاهدة‬
‫القلبية‪،‬‬
‫ثم يذكر ان العقل انما خلق الجل القلب وخلق‬
‫القلب والروح الجل عبادة اهلل التي تتم بها‬
‫السعادة‪.‬‬

‫فائدة‪:‬‬
‫كيمياء السعادة‪ :‬هي (تهذيب النفس باجتناب‬
‫الرذائل وتزكيتها عنه‪ ،‬واكتساب الفضائل‬
‫وتحليتها بها)‬
‫وتنقسم آلي‪:‬‬
‫‪    -1‬كيمياء العوام‪ :‬وهي (استبدال المتاع‬
‫األخروي الباقي بالحطام الدنيوي الفاني)‪.‬‬
‫‪    -2‬كيمياء الخواص‪ :‬وهي (تخليص القلب‬
‫عن الكون باستئثار المكون)‪.‬‬

‫مقدمة المؤلف‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم وبه ثقتي‪،‬‬
‫الحمد اهلل كثيرا‪ ،‬والشكر والمنة بعدد نجوم‬
‫السماء‪،‬‬
‫وقطر المطر‪ ،‬وورق الشجر‪ ،‬ورمل القفار‬
‫ودواب األرض والسماء‪.‬‬
‫والحمد هلل الذي صفته‬
‫الوحدة والجالل‪ ،‬والكبرياء والعظمة ‪،‬‬
‫والعال‪ ،‬والمجد‪ ،‬والبهاء ‪ ،‬خاصيته‬
‫ليس لمخلوق علم بكمال جالله‪ ،‬وليس ألحد‬
‫طريق الى معرفة حقيقته‪ ،‬اال هو‪،‬‬
‫بل اإلقرار بالعجز عن معرفته منتهى معرفة‬
‫الصديقين‪،‬‬
‫والوصول آلي االقرار بالتقصير في مجده‬
‫وثنائه ‪ ،‬نهاية ثناء المالئكة واألنبياء‪،‬‬
‫وغاية عقل العقالء في مبادئ اشراق جالله‬
‫حائرة ‪،‬‬
‫ومنتهى السالكين والمريدين في طلب القرب‬
‫من حضرة جالله دهشه‪،‬‬
‫قطع الطمع في أصل ادراكه تعطيل دعوى‬
‫كمال معرفته من الجمال تشبيه وتمثيل‪،‬‬
‫نصيب جميع األعين من مالحظة جمال ذاته‬
‫تحيير‪،‬‬
‫وثمرة جميع العقول من النظر لعجائب صنعه‬
‫تقصير‪ ،‬معرفة ضرورية‪.‬‬
‫‪ .‬حاشا هلل أن يكون ألحد ان يهجس في ضميره‬
‫كنه عظمته‪ ،‬وجالل ذاته‪،‬‬
‫وما هي وحاشا هلل سبحانه‬
‫ان لقلب ما لحظة واحدة من عجائب صفة‬
‫معرفته‪ ،‬فيعلم وجوده‪،‬‬
‫بل ال يعلم‪ ،‬حتى يعلم جميع آثار قدرته‪ ،‬وحد‬
‫أنواع عظمته‪،‬‬
‫وجميع البدائع والغرائب من حكمته‪،‬‬
‫وكل ما عليه جمال حضرته‪ ،‬والكل منه‪ ،‬والكل‬
‫به‪ ،‬ولكن الكل هو‪،‬‬
‫فليس شيء له وجود على الحقيقة اال هو‪،‬‬
‫وجميع األشياء موقوفة على وجوده‪..‬‬
‫والصالة على المصطفى صلى اهلل عليه وسلم‬
‫سيد األنبياء ‪،‬‬
‫وممهد الطريق وأمين أسرار الربوبية ومختار‬
‫الحضرة اإللهية‪.‬‬
‫وعلى أصحابه‪ ..‬وأهل بيته‪..‬‬
‫فان كل واحد منهم‪ ،‬قدوة األمة‪ ،‬ومظهر طريق‬
‫الشريعة ‪.‬‬

‫أما بعد‬
‫فان اآلدمي ما خلق للعب والهزل‪ ،‬بل أمره‬
‫عظيم‪ ،‬وخطر كبير‪،‬‬
‫فانه وان لم يكن أزليا‪ ،‬فهو أبدي‪ ،‬وان كان‬
‫قالبه ترابيا سفليا‪،‬‬
‫فحقيقة روحه رباني علوي‪،‬‬
‫وجوهره وان كان في االبتداء ممتزجا ومتعلقا‬
‫بصيغة بهيمة وسبعية وشيطانية‪،‬‬
‫فاذا وضع في بوطقة المجاهدة‪ ،‬صار طاهرا‪،‬‬
‫من االخالط واللوث‪،‬‬
‫صالحا لجواز بحضرة الربوبية‪،‬‬
‫ومرتقيا من أسف سافلين آلي أعلى عليين‪ ،‬كله‬
‫صعود وهبوط‪،‬‬
‫وكذلك شغله وديدنه‪ ،‬وأسفل السافلين‬
‫المختص به ان يكون نازال‪،‬‬
‫في مقام البهائم والسباع‪ ،‬صار أسير الشهوة‬
‫والغضب‪،‬‬
‫وأعلى عليين المختص في الوصول آلي‬
‫درجات المالئكة ‪،‬‬
‫والخالص من يد الشهوة والغضب‪،‬‬
‫فيتأسرهما جميعا‪ ،‬ويصيران ملكا له‪،‬‬
‫فاذا وصل آلي هذا الملك صلح لعبادة حضرة‬
‫اإللهية ‪،‬‬
‫وهذا الصلوح حق المالئكة وكما درجة‬
‫اآلدمي‪،‬‬
‫واذا حصل اليسير من جمال حضرة اإللهية فال‬
‫يقدر ان يصبر عنه ساعة واحدة‪،‬‬
‫ونصيبه من ذلك الجمال يصير جنته‪ ،‬باطنها جنة‬
‫المعرفة‪،‬‬
‫ظاهرها جنة الحس‪،‬‬
‫وتلك الجنة التي من نصيب العين والبطن‬
‫والفرج نظيره جنة منحصرة‪،‬‬
‫وان كان جوهر اآلدمي في أول خلقته ناقصا‬
‫وخسيسا‪،‬‬
‫فال سبيل ان يرتقي من درجة النقصان آلي‬
‫درجة الكال اال بالمجاهدة والمعالجة ‪.‬‬
‫وكما ان الكيمياء التي توصل الصفر والنحاس‬
‫في الصفاء والنظافة‬
‫آلي قوم الذهب الخالص‪ ،‬امر عسير‪،‬‬
‫وكل أحد ال يعرفه!! فكذلك جوهر الكيمياء‬
‫الذي هو جوهر األدمي من الخسة البهيمة آلي‬
‫الصفاء ونفاسة المالئكة ‪،‬‬
‫ال يوصل اليها‪ ،‬حتى يوصل آلي السعادة‬
‫األبدية اال عسير أيضا‪،‬‬
‫وال يعرفه كل أحد‪،‬‬

‫والمقصود في وضع هذا الكتاب‬


‫شرح أخالط هذه الكيمياء التي هي بالحقيقة‬
‫كيمياء السعادة األبدية‪.‬‬
‫وهذا الكتاب سميناه بهذا المعنى كيمياء‬
‫السعادة‪ ،‬واسم الكيمياء أولى به ‪،‬‬
‫فان التفاوت بين النحاس والذهب ال يزيد على‬
‫الرزانة ‪،‬‬
‫وثمره هذه الكيمياء ال تزيد على نعيم الدنيا‪،‬‬
‫وأنت تعلم ومدتها آلي متى يكون‪ ،‬ونعيمها‪.‬‬
‫فأما التفاوت بين صفات البهايم‪ ،‬وصفات‬
‫المالئكة ‪،‬‬
‫وذلك من أسفل سافلين آلي أعلى عليين‪،‬‬
‫وثمرة السعادة األبدية‪،‬‬
‫ليس لمدتها آخر‪ ،‬وال لنعيمها نهاية‪ ،‬وال طريق‬
‫للكدورة‪ ،‬أي صفائها ‪،‬‬
‫فال جرم كان اسم الكيمياء‪ ،‬بغير هذه عارية‪.‬‬

‫الفصل األول‬
‫كيمياء الذهب‬
‫اعلم أن كيمياء الذهب ال يصل اليها كل‬
‫عجول‪،‬‬
‫وانما يكون في خزائن الملوك والرؤساء‬
‫موجودة‪،‬‬
‫وخزائن اهلل سبحانه في السماء جواهر‬
‫المالئكة وفي األرض قلوب األنبياء عليهم‬
‫السالم‪،‬‬
‫وكل من طلب هذه الكيمياء من غير حضرة‬
‫النبوة‪ ،‬غلط الطريق‪ ،‬وأخر أمره آلي التدليس‪،‬‬
‫وحاصل موسم حالة الظن والتخمين والتمني‪،‬‬
‫ويظهر في القيامة إفالسه‪ ،‬ويبين تدليسه‪،‬‬
‫ويفتضح في ظنونه‬
‫ص ُر َك ال َْي ْو َم‬ ‫ب‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫اء‬‫َ‬‫ط‬ ‫ك ِ‬
‫غ‬ ‫ويقال‪( :‬فَ َك َش ْفنَا َع ْن َ‬
‫َ ََ‬
‫يد) [ق‪]22 :‬‬ ‫َح ِد ٌ‬

‫ومن رحمة اهلل سبحانه الواسعة السابغة‪،‬‬


‫انه أرسل آلي الخلق مائة ألف نبي‪ ،‬وأربعة‬
‫وعشرين ألف‪،‬‬
‫ليعلموا الناس نسخة هذه الكيمياء‪ ،‬حتى يعلموا‬
‫كيف يجعل القلب في بوطقة المجاهدة!!‬
‫وكيف يتعدون األخالق الذميمة‪ ،‬التي هي‬
‫الخبث‪ ،‬والكدورة!!‬
‫وكيف يكتسبون األوصاف الحميدة!!‬

‫ولهذا األنموذج كان ارسال األنبياء‪ ،‬ووضع‬


‫المنة على الخلق‪،‬‬
‫فقال عز من قائل‬
‫ض‬‫األر ِ‬ ‫في‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫هلل ما فِي السم ِ‬
‫وات‬ ‫(يسبِح ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ‬
‫الح ِ‬
‫كيم‬ ‫ِ‬
‫زيز‬ ‫ْع‬‫ال‬ ‫ِ‬
‫وس‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫ْق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ك‬‫اْلملِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫لوا‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ث في األميين رسوالً ِ‬
‫م‬ ‫ُه َو الّذي َب َع َ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ َ َُ‬
‫يه ْم) [الجمعة‪،]2 ،1 :‬‬ ‫َعليَ ِه ْم آياتِ ِه َو ُي َز ّك ِ‬
‫أي ‪ :‬ينظفهم من األخالق المذمومة التي هي‬
‫صفة البهايم‪،‬‬
‫(ويعلِمهم ال ِ‬
‫ْكتاب و ِ‬
‫الح ْك َمةَ) [الجمعة‪:]2 :‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ َُ ُ ُ ُ‬
‫أي يخلع عليهم ويلبسهم الصفات المالئكة‬
‫الربانية‪.‬‬
‫ومقصود هذه الكيمياء‪ ،‬البعد من صفات النقص‪،‬‬
‫والتنظيف منها‪ ،‬وتحصيل صفات الكمال‪.‬‬
‫وسر هذه الكيمياء ان تحول وجهك عن هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬وتواجه اهلل تبارك وتعالى كما رسول اهلل‬
‫(ص)‪،‬‬
‫ك َو َتبَتّ ْل إلَْي ِه َت ْبتِيالً)‬ ‫ْك ِر ْ‬
‫اس َم َربّ َ‬ ‫فقيل له‪َ ( :‬واذ ُ‬
‫[المزمل‪،]8 :‬‬
‫أي‪ :‬انقطع من كل شيء واعط كليتك له‪.‬‬

‫وأما تفصيل هذه فيطول‪ ،‬أما عنوانه‪،‬‬


‫فمعرفة أربعة أشياء‪ ،‬وأركانه أربع معامالت‪،‬‬
‫وفي كل ركن عشرة اصول‪.‬‬
‫أما العنوان األول‪ :‬فأن تعرف حقيقة نفسك‪..‬‬
‫الثاني‪ :‬ان تعرف اهلل تعالى ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ان تعرف حقيقة الدنيا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ان تعرف حقيقة اآلخرة‪.‬‬
‫ومعرفة هذه األربعة‪ :‬حقيقة اإلسالم‪.‬‬
‫وأما أركان معامالت اإلسالم‪،‬‬
‫فاثنان متعلقان بالظاهر‪ ،‬واثنان متعلقان بالباطن‪.‬‬
‫فالمتعلقان بالظاهر‪ ،‬األول منهما‪ :‬قضاء حق‬
‫األمر ويسمى هذا عبادات‪.‬‬
‫والركن الثاني‪ :‬حفظ األدب في الحركات‬
‫والسكنات والمعاش‬
‫وهو الذي يسمى بالمعامالت‪.‬‬

‫وأما االثنان المتعلقان بالباطن‪:‬‬


‫فأحدهما‪ :‬تنظيف القلب من األخالق المذمومة‬
‫مثل الغضب والبخل والحسد والعجب‬
‫والكبرياء ‪،‬‬
‫فان هذه األخالق تسمى المهلكات وتسمى‬
‫عقاب طريق الدين‪.‬‬
‫والركن الثاني‬
‫تهذيب القلب باألخالق المرضية كالصبر‬
‫والشكر والمجد والرضا والتوكل‪،‬‬
‫وهذه تسمى المنجيات‪.‬‬
‫ونحن في جملة هذا الكتاب نشرح هذه األربعة‬
‫عنواين واألربعين أصال في العبادات‪،‬‬

‫األصل األول‪ :‬في اعتقاد أهل السنة‪.‬‬


‫‪ .‬والثاني‪ :‬في طلب العلم‪ ..‬آلي آخر ما ذكرنا‬
‫في ترجمة‬
‫(كتاب إحياء علوم الدين) وهو األربعون‬
‫حديثا‪..‬‬
‫ثم قال‬
‫فهذه فهرست األركان واألصول لكتاب كيمياء‬
‫السعادة‪،‬‬
‫وانما شرحناه هذه المعاني في هذا الكتاب لمن‬
‫يعرف العجمية ‪،‬‬
‫وحفظنا الكتاب من العبارات الغالية‪ ،‬والمعاني‬
‫الدقيقة‪ ،‬ليدركها فهم العوام‪،‬‬
‫فان كان فيه تحقيق وتدقيق وزوائد ‪ ،‬فليطلب‬
‫من الكتب الغريبة‬
‫مثل كتاب (إحياء علوم الدين) و (جواهر‬
‫القرآن)‪،‬‬
‫والتصانيف األخر المؤلفة في هذا المعنى ‪،‬‬
‫فان المقصود في هذا الكتاب‪ ،‬عوام الخلق‪،‬‬
‫فانهم التمسوا من ان أوردها لهم بلفظ العجمية‪،‬‬
‫وال يمكن ان نتعدى في الكالم حد فهمهم‪،‬‬
‫واهلل تعالى يطهر نيتهم في التماس ذلك‪،‬‬
‫ويثبنا في اإلجابة من شوائب الرياء‪،‬‬
‫وكدورات التكليف‪،‬‬
‫وتحصيل المنى‪ ،‬ويفتح طريق الصواب‪ ،‬وييسره‪،‬‬
‫ويهب التوفيق والتيسير حتى يجري اللسان‬
‫بالقلب‪،‬‬
‫ما يقع الوفا ء به معاملة‪ ،‬وأما القول بال عمل‪،‬‬
‫ضائع ‪،‬‬
‫واالمر بال سبب ال يقبل اال لقول اآلخر‪،‬‬
‫بعون اهلل سبحانه‪.‬‬

‫أول الكتاب‪:‬‬
‫بيان عنون اإلسالم‪ ،‬وهو أربعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬معرفة النفس‪.‬‬
‫اعلم ان مفتاح معرفة اهلل سبحانه وتعالى معرفة‬
‫النفس‪ ،‬ولهذا قيل‬
‫من عرف نفسه‪ ،‬عرف ربه‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬سنُ ِر ِيهم آياتِنَا في األَفَ ِ‬
‫اق َوفي‬ ‫َ ْ َ‬
‫أَ ْن ُف ِس ِه ْم) [فصلت‪.]53 :‬‬
‫وعلى الجملة ال شيء أقرب اليك منك‪ ،‬فإذا لم‬
‫تعرف نفسك كيف تعرف سواك؟‬
‫ولقد غلط من ظن انه قد عرفها‪ ،‬إذ ال يصلح‬
‫من عرفها ان يكون غير عارف بالحق تعالى‪،‬‬
‫وانما يعرف من ظاهرك أعضاءك فقط‪ ،‬وذلك‬
‫انك اذا جعت أكلت‪،‬‬
‫وإذا غضبت انتقمت‪ ،‬وإذا انعظت نكحت‪،‬‬
‫وأنت في ذلك والبهائم في حد سوا ء‪..‬‬

‫فاذا ينبغي ان تعرف كنهها‪ ،‬ومن أين منشأها!!‬


‫والى اين مصيرها!!‬
‫وألي معنى من هذا القالب!! ولماذا خلقت!!‬
‫وبم سعادتها!!‬
‫وفيم شقاوتها!! وفي ماذا تشقى !!‬

‫وانها متسمة بصفات مجتمعة من‬


‫صفات البهائم والسباع والشياطين والمالئكة‬
‫عليهم السالم‪،‬‬
‫وما أنت من هذه الجملة‪ ،‬وانها فيك!! فاذا‬
‫علمت ذلك أمكنك طلب سعادتك‪،‬‬
‫اذ سعادة كل أحد‪ ،‬وغذاؤه ‪ ،‬غير ما اآلخر‬
‫عليه‪ ،‬فللبائهم األكل والنوم والكسب‪،‬‬
‫فان كنت منهم فاحرص على ذلك‪ ،‬لتقسيم‬
‫أحوال بطنك وخرجك‪،‬‬
‫وغذاءالسباع وسعادتها‪ ،‬الضرب والقتل‪،‬‬
‫واالنتقام عند الغضب‬
‫وللشياطين التضريب بالشر والحيل والمكر‪،‬‬
‫فاي كنت منهم‬
‫فأشتغل بما فيه سعادتهم‪.‬‬

‫وأما المالئكة فسعادتهم وغذاؤهم‬


‫مشاهدة الحضرة اإللهية‪،‬‬
‫وليس للصفات الشيطانية والسبعية اليهم‬
‫السبيل‪،‬‬
‫فان كان جوهرك في االصل ملكيا فاجتهد‬
‫لتعلم الحضرة الربانية‬
‫وتمهد لنفسك الطريق لتسلكه لتصل الى‬
‫مشاهدة ذلك الجمال‪،‬‬
‫وتخلص نفسك من التوريط في ميدان الشهوة‬
‫والغضب‪،‬‬
‫وتعلم ألي معنى خلقت فيك صفات البهائم‬
‫والسباع‪،‬‬
‫ألنها تستأسرك وتستخدمك ليالً ونهاراً‪،‬‬

‫أم كيف تستأسرها وتسخرها في سفرك الذي‬


‫بين يديك‪،‬‬
‫تركب أحدهما وتجعل على اآلخر سالحك‬
‫لتستعين بذلك‬
‫مدة مقامك في طلبك حتى تقتني بذر سعادتك‬
‫بمعاونتهم‪،‬‬
‫فحينئذ تبلغ غاية المنى وتصل الى نهاية‬
‫السعادة‪،‬‬
‫وتلك الغاية في عبادة الخواص ‪ ،‬الحضرة‬
‫اإللهية‪ ،‬وفي عبارة العوام‪ ،‬الجنة‪.‬‬
‫واعلم انه ال يتصور لك الوقوف على هذه‬
‫المعاني‪،‬‬
‫وأنت ال تعرف شيئا من نفسك‪ ،‬وكل من ال‬
‫يعرف ذلك‪،‬‬
‫فهو عن حقائق الدين ليس له نصيب من‬
‫حقيقته اال القشور‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫في معرفة النفس‬

‫فاذا أردت ان تعرف نفسك‪ ،‬فاعلم انك مخلوق‬


‫من شيئين‬
‫أحدهما‪ :‬البدن الظاهر الممكن رؤيته بالبصر‪..‬‬
‫واآلخر‪ :‬معنى باطن تسميته النفس والروح‬
‫والقلب‪ ،‬يدرك بالبصيرة ال بالبصر‪،‬‬
‫فحقيقته ذلك وما عداه تبعه وخدمه‪ ،‬ونحن‬
‫نسميه القلب‪،‬‬
‫فمتى ذكرنا القلب فالمقصود هو الذي يسمى‬
‫نفسا مرة وروحاً مرة‪،‬‬
‫ال اللحم الموضوع في الصدر في الجانب‬
‫األيسر منه‪ ،‬فانه ال قدر له‪،‬‬
‫اذ هو موجود للبهائم والموتى ‪ ،‬ويمكن ان‬
‫يدرك بالبصر‪،‬‬
‫وكل ما يمكن ادراكه بالبصر فهو من هذا‬
‫العالم المسمى ‪ ،‬عالم الشهادة‪،‬‬

‫وحقيقة القلب ليس من هذا العالم في شيء‪ ،‬بل‬


‫غريب‪ ،‬ووصوله عابر سبيل‪،‬‬
‫واللحم الظاهر مركبه وآلته‪ ،‬وجميع البدن‬
‫عسكره‪،‬‬
‫ومعرفة اهلل ومشاهدة حضرته صفته‪ ،‬عليه‬
‫التكليف‪ ،‬والسعادة‪ ،‬والشقاوة‪ ،‬واألمر فيهم‬
‫راجع اليه‪،‬‬
‫وهو األصل‪ ،‬والبدن في الجميع تابع له‪،‬‬
‫ومعرفة حقيقة وصفاته مفتاح معرفة اهلل سبحانه‪.‬‬
‫فاجتهد ان تعرف نفسك‪ ،‬فانه جوهر عزيز من‬
‫جنس جور المالئكة ‪،‬‬
‫ومعدن أصل الحضرة االلهية مجيئه من هناك‪،‬‬
‫ومعاده آلي ماثم ‪،‬‬
‫وانما تغرب هاهنا للتجارة والحراثة‪ ،‬فاعلم‬
‫معنى الحراثة والتجارة‬
‫ان شاء اهلل تعالى‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫الوقوف على الحقيقة‬
‫أعلم انه ال يمكن الوقوف على حقيقة‪ ،‬ما ‪،‬‬
‫حتى تعلم وجوده‪ ،‬وتعرف حقيقته‪،‬‬
‫وانه ماذا!! وتعرف عسكره من هو!! ثم تعرف‬
‫عالقته ما هي!!‬
‫ثم تعرف صفته‪ ،‬وكيف تحصل له معرفة اهلل‬
‫سبحانه!! وكيف يصل الى هذه السعادة‪،‬‬
‫وقد أشرنا آلي كل واحد مما ذكرنا‪ ،‬وذكرنا‬
‫طرقا منه‪،‬‬

‫أما وجوده فظاهر‪،‬‬


‫اذ اآلدمي ال يشك في نفسه‪ ،‬وليس هو البدن‪،‬‬
‫اذ ذلك للميت‪ ،‬وال روح له‪،‬‬
‫ومرادنا بهذا‪ :‬القلب حقيقته الروح الذي بفقده‬
‫يكون هذا القلب جيفة‪،‬‬
‫فلو أن رجال يغمض عينه ونسي قالبه‪،‬‬
‫والسماء‪ ،‬واألرض‪ ،‬وكل ما يمكن النظر اليه‪،‬‬
‫فيعرف وجود نفسه بالضرورة‪ ،‬ويكون له منها‬
‫خبر‪،‬‬
‫ولن لم يكن له خبر من بدنه‪ ،‬وال السماء‪،‬‬
‫واالرض وغير ذلك‪.‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫حقيقة القلب‬
‫أما حقيقة القلب‪ ،‬وماهيته‪ ،‬واي شيء صفته!!‬
‫فلم يرخص الشرع في ذكره‪ ،‬ولم يرخص‬
‫رسول اهلل (ص) في ذكره أيضا‪..‬‬
‫وح قُ ْل‬
‫الر ِ‬
‫ك َع ْن ّ‬
‫وقد قال اهلل سبحانه‪َ ( :‬ويَ ْسئَلونَ َ‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َربِّي) [اإلسراء‪،]85 :‬‬
‫الر ُ‬
‫ُّ‬
‫فلم يؤذن له في اكثر من هذا‪ ،‬وهو ان يقول‬
‫ان الروح من األمور اإللهية‪،‬‬
‫فانه من عالم األمر‪ ،‬وهلل الخلق واألمر‪ ،‬وكل ما‬
‫للمقدار والكمية اليه طريق‪،‬‬
‫فيقال هو من عالم الخلق‪ ،‬والخلق في أصل‬
‫اللغة بمعنى التقدير‪،‬‬
‫وقلب اآلدمي ليس له مقدار‪ ،‬وال كمية‪ ،‬ولهذا‬
‫ال يقبل االنقسام‪،‬‬
‫اذ لو جاز ان يتجزأ ‪ ،‬او ينقسم‪ ،‬لكان بعضه‪،‬‬
‫جاهال بشيء‪ ،‬واآلخر عالما به‪،‬‬
‫ومحال أن يكون عالما جاهال بشيء واحد في‬
‫حال واحد‪.‬‬
‫واعلم انه وان كان غير قابل للقسم ‪ ،‬فهو‬
‫مخلوق‪،‬‬
‫إذ‪ ،‬اإلبداع أيضا‪ ،‬يطلق عليه اسم الخلق لما‬
‫يطلق على التقدير بالخلق‪.‬‬
‫‪ .‬فاذا بهذا المعنى ‪ ،‬هو من جملة عالم الخلق‪،‬‬
‫وبالمعنى ‪ ،‬اآلخر‪ ،‬من عالم التقدير ‪،‬‬
‫إذ هو عبارة عن أشياء ال طريق للمسامحة اليها‬
‫للمقدار‪..‬‬
‫وقد ذهب قوم آلي ان الروح قديم‪ ،‬ومن ظن ان‬
‫الروح قديم فقد غلط‪..‬‬
‫وذهب آخرون آلي انه عرض‪ ،‬وقد غلطوا‬
‫ايضا‪،‬‬
‫فان العرض ال يقوم بنفسه‪ ،‬بل هو تبع‪،‬‬
‫والروح أصل اآلدمي وما عداه تبع‪ ،‬فكيف‬
‫يكون عرضا!!‬

‫وقد غلط أيضا‪ ،‬من ذهب آلي أنه جسم يقبل‬


‫القسمة‪ ،‬والروح بخالفه‪،‬‬
‫ولعمري هاهنا شيء آخر يقال انه الروح‪ ،‬وهو‬
‫قابل القسمة لكنه أرواح البهائم ‪،‬‬
‫وأما الروح الذي سميناه قلبا‪ ،‬فهو الذي تحل‬
‫فيه معرفة اهلل تعالى‪،‬‬
‫وليس للبهائم فليس بجسم وال عرض‪،‬‬
‫بل هو جوهر من جنس جوهر المالئكة يعسر‬
‫الوقوف على حقيقته‪ ،‬ومعرفة كنهه‪،‬‬
‫ولم يرخص الشرع في شرحه‪ ،‬وليست آلي‬
‫معرفته حاجة في ابتداء سلوك الدين‪،‬‬
‫اذ‪ ،‬أول طريق الدين المجاهدة ‪ ،‬فمن جاهد‬
‫بالشرط‪ ،‬فمعرفة هذا تحصل له‪،‬‬
‫وان لم يكن قد سمعه من غيره‪ ،‬وهذه المعرفة‬
‫من جملة الهداية‬
‫دواْ فِينَا‬
‫اه ُ‬
‫ذين َج َ‬ ‫التي قال الحق تعالى‪َّ :‬‬
‫(وال َ‬‫َ‬
‫لََن ْه ِد َي ّن ُه ْم ُس ُبلَنا) [العنكبوت‪]69 :‬‬

‫ال يجوز ان نذكر معه حقيقة الروح قبل‬


‫المجاهدة‪،‬‬
‫فال بد من معرفة‪ ،‬عسكر القلب‪ ،‬فان من لم‬
‫يعرف عسكره‪ ،‬ال يقدر على المجاهدة‪.‬‬
‫واعلم أن البدن مملكة القلب‪ ،‬وفي هذه‬
‫المملكة عساكر مختلفة‪،‬‬
‫هو) [المدثر ‪،]31 :‬‬
‫ك إال َ‬
‫ود َربّ َ‬
‫( َو َما َي ْعلَ ُم ُجنُ َ‬
‫وانما خلق القلب ألجل اآلخرة‪ ،‬وشغله طلب‬
‫السعادة‪،‬‬
‫وسعادته معرفة اهلل تعالى‪ ،‬ومعرفة اهلل تعالى‬
‫تحصل بمعرفة عجائب العالم‬
‫وهذه تحصل بطريق الحواس وقوام الحواس‬
‫بالقلب‪،‬‬
‫فالمعرفة صيده‪ ،‬والحواس شبكته‪ ،‬والجسد‬
‫مركبه وجماله‪،‬‬

‫فلهذا السبب دعت الحاجة الى الجسد‪،‬‬


‫والجسد مركب من الماء والتراب والحرارة‬
‫والرطوبة‪،‬‬
‫وألجل هذا السبب هو ضعيف‪ ،‬وفي خطر‬
‫الهالك من باطنه‪ ،‬بسبب الجوع والعطش‪،‬‬
‫ومن ظاهره‪ ،‬بسبب الماء والنار‪ ،‬وبسبب قصد‬
‫األعداء والسباع وغير ذلك‪.‬‬

‫فألجل هذا الجوع والعطش احتاج الى‬


‫الشراب‪ ،‬وبسببه احتاج آلي عسكرين‪،‬‬
‫احدهما ظاهر كاليد والرجل والفم واألسنان‬
‫والمعدة‪،‬‬
‫واآلخر باطن‬
‫مثل الشهوة للطعام والشراب‪ ،‬واحتاج ايضا‬
‫آلي عسكرين لدفع األعداء الخارجة ‪،‬‬
‫أحدهما ظاهر كاليد والرجل والسالح‪ ،‬واآلخر‬
‫باطن مثل الغضب‪ ،‬والرضا‪.‬‬
‫ولما لم يكن التوصل آلي تحصيل الغذاء‪ ،‬ودفع‬
‫األعداء‪،‬‬
‫اال بإدراكات أنعم اهلل تعالى بها للحاجة اليها‪،‬‬

‫فبعضها ظاهر وهي الحواس الخمس‪،‬‬


‫مثل العين واألذن والذوق واللمس‪،‬‬
‫وبعضها باطن وهي أيضا خمس ومنزلها الدماغ‬
‫مثل قوة الخيال وقوة الفكر وقوة الحفظ وقوة‬
‫الذكر وقوة التوهم ‪،‬‬
‫ولكل واحد من هذه القوى شغل يختص به‪،‬‬
‫فاذا اختل أحدهما‪ ،‬اختل الشغل المنوط به في‬
‫أمر الدين والدنيا‪.‬‬

‫وجملة هذا العسكرين‪ ،‬الظاهر‪ ،‬والباطن‪ ،‬كلهم‬


‫‪ ،‬بأمر القلب‪،‬‬
‫فانه أمير الكل وملكهم‪،‬‬
‫فإذا أمر اللسان بالكالم نطق‪ .‬واذا أمر اليد‬
‫باألخذ ‪ ،‬اخذت وإذا أمر الرجل بالمشي مشت‪.‬‬
‫‪ .‬واذا أمر العين بالنظر نظرت‪ ..‬واذا أمر قوة‬
‫الفكر بالتفكير تفكرت‪ ،‬وكل يطيعه‪ ،‬ويطيع‬
‫أمره‪،‬‬
‫ويمتثل رسمه ليحفظوا‪ ،‬الجسد‪ ،‬حتى يأخذ‬
‫زاده‪ ،‬ويحصل صيده‪،‬‬
‫وتتم تجارة أخرته‪ ،‬ويزرع حب سعادته‪..‬‬
‫وطاعة هذا العسكر للقلب تشبه طاعة المالئكة‬
‫هلل تبارك وتعالى ‪،‬‬
‫فانهم ال يقدرون على مخالفته في أمر‪ ،‬بل‬
‫بالطبع والطوع يمتثلون األوامر‪.‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫معرفة عسكر القلب‬
‫اعلم ان معرفة تفاصيل عسكر القلب طويلة‪،‬‬
‫وتعلم مقصودك بمثال‪ :‬اعلم ان مثل البدن مثل‬
‫بلد‪ ،‬واليد والرجل واألعضا ء‬
‫مثال أهله‪ ،‬والشهوة كعامل الخراج‪ ،‬والغضب‬
‫مثل الشحنة‪ ،‬وهو صاحب المظالم‪،‬‬
‫والقلب ملكها‪ ،‬والعقل وزيره‪ ،‬وللملك حاجة‬
‫آلي هؤالء كلهم بسبب أحوال الملك‪،‬‬
‫لكن الشهوة التي هي مثل عامل الخراج كذاب‬
‫فضولي‬
‫مخلط مخالف للوزير الذي هو العقل بكل ما‬
‫بقوله‪،‬‬
‫وتمنيه أبدا ان تنقص أموال المملكة بحجة‬
‫الخراج‪،‬‬
‫وهو الغضب الذي هو الشحنة‪ ،‬شرير‪ ،‬وهو أبدا‬
‫محب القتل والشر‪،‬‬
‫وقلما يشاور ملك البلد ووزيره‪ ،‬والعامل‬
‫الكذاب يعزل‪،‬‬
‫وال يمكن لكل ما يقوله مخالفة الوزير‪ ،‬وال‬
‫يسمع منه‪،‬‬

‫بل يسلط عليه الشحنة ليمنعه من الفضول‪،‬‬


‫والشحنة أبدا يكون مقهورا‪ ،‬مقصورا‪،‬‬
‫لئال يخرج من حده‪ ،‬فاذا فعل هذا انتظمت‬
‫أمور المملكة‪،‬‬
‫وكذلك الملك الذي هو القلب‪ ،‬اذا فعل‬
‫باشارة الوزير الذي هو العقل‪،‬‬
‫استمرت أمور المملكة وطريق السعادة‪ ،‬وال‬
‫ينقطع عليه طريق الوصول آلي الحضرة اإللهية‪،‬‬
‫واذا جعل العقل أسير الغضب والشهوة‪ ،‬خربت‬
‫المملكة‪،‬‬
‫ويصير الملك هالكاً ردي البحث‪.‬‬

‫الفصل السادس‬
‫المعرفة وأسبابها‬
‫قد علمت بينة هذه الجملة التي أسلفناها امام‬
‫الشهوة والغضب‪،‬‬
‫انما خلقنا ألجل الطعام والشراب‪ ،‬وحفظ‬
‫البدن‪ ،‬فإذا‪ ،‬هاذان‪ ،‬االثنان‪،‬‬
‫خادمان للبدن في الطعام والشرب اللذين هما‬
‫علفه‪ ،‬وخلق البدن ليحمل الحواس‪،‬‬
‫وخلقت الحواس خدما للعقل‪ ،‬ليكونوا شبكة‬
‫له‪،‬‬
‫ليعلم عجائب صنع اهلل عز وجل بها‪.‬‬

‫فاذا الحواس خدم العقل‪ ،‬والعقل انما خلق‬


‫ألجل القلب‪،‬‬
‫والقلب خلق ألجل النظر الى جمال حضرة‬
‫الربوبية‪،‬‬
‫فاذا كان مشغوال بهذا‪ ،‬فهو اذا‪ ،‬العبد والخادم‬
‫للحضرة اإللهية‪،‬‬
‫وهذا معنى قوله عزوجل‬
‫ْجن واإلنس إاَّل لِي ْعب ُد ِ‬
‫ون)‬ ‫ت ال ِ‬
‫( َو َما َخلَ ْق ُ‬
‫َ ُ‬ ‫ّ َ َ‬
‫[الذاريات‪،]56 :‬‬
‫وانما خلقت أعضاء هذا العسكر والمملكة‪،‬‬
‫و سلم اليه مركب البدن ليسافر من عالم‬
‫التراب آلي أعلى ‪،‬‬
‫فاذا أراد ان يقضي حق هذه النعمة‪ ،‬ويأتي‬
‫بشرط العبودية في موضعها‪،‬‬
‫ينبغي ان يجلس الملك في صدر المملكة‬
‫ويتخذ من حضرة اإللهية قبلة ومقصدا‪ ،‬ومن‬
‫اآلخرة وطنا وقراراً‪،‬‬
‫ومن البدن مركبا‪ ،‬ومن الدنيا منزال‪ ،‬ومن اليد‬
‫والرجل واألعضا ء خدما‬
‫ويوكل كل واحد منهم بعالم بعد وآخر‬
‫ليجمعوا له جميع أخبار ذلك العمل‪،‬‬
‫ويتخذ من قوة الخيال التي في أول الدماغ‬
‫صاحب بريد‬
‫ليجمع عنده الجواسيس كلهم من قوة الحفظ‬
‫التي في آخر الدماغ‬
‫ويتخذ خريطة يجعل فيها جريدة األخبار‪ ،‬وهي‬
‫البطاقة التي أحدها من يد صاحب البريد‪،‬‬
‫يعرض على الوزير ليدبر األمر في المملكة‬
‫بوفق ما بلغه من األخبار ويدبر سفر الملك‪،‬‬
‫فاذا رأى واحدا من العسكر‪ ،‬مثل الشهوة‬
‫والغضب وغيرهما‬
‫قد بغي على الملك وأخرج يده من الطاعة‪،‬‬
‫وأراد قطع الطريق عليه دبر في جهاده‪.‬‬
‫واشتغل به وال يقصد قتله‪ ،‬فان المملكة ال‬
‫تستقيم اال به‪،‬‬

‫فينبغي ان يدبر ليذعنوا له الى حد الطاعة‬


‫ليعينوه على حد السفر الذي بين يديه‪،‬‬
‫فاذا فعل ذلك كان سعيدا وقضي حق النعمة‪،‬‬
‫ويجد ما يستحق من الخلعة في وقتها‪،‬‬
‫وان عجل بخالف ذلك وافق قطاع الطريق‬
‫واألعدا ء البغاة‪ ،‬وكفر النعمة‪ ،‬وكان شقيا‪،‬‬
‫فاستحق النكال والعقوبة‪.‬‬

‫الفصل السابع‬
‫األخالق‬
‫اعلم ان لقلب اآلدمي مع كل واحد من العساكر‬
‫التي في باطنه عالقة‬
‫يظهر له من كل واحد خلف وصفة‪ ،‬وبعض‬
‫األخالق الردية الردية المهلكة له‪،‬‬
‫وبعضها أحسن ‪ ،‬توصله آلي السعادة‪.‬‬
‫وجملة تلك األخالق وان كانت جملة كثيرة‬
‫كمالها يصير آلي أربعة أقسام من األخالق‪:‬‬
‫أخالق البهائم ‪.‬‬
‫وأخالق السباع‪.‬‬
‫وأخالق الشياطين‪.‬‬
‫وأخالق المالئكة ‪.‬‬
‫فسبب وضع الشهوة يفعل أفعال البهائم‬
‫كإظهار الشرة عند األكل‪،‬‬
‫وبسبب وضع الغضب فيه يفعل أفعال الكلب‬
‫والذئب واألسد‪،‬‬
‫مثل الضرب والقتل والوقوع في الخلق باليد‬
‫واللسان‪،‬‬
‫وبسبب ما فيه من المكر والحيلة والتلبيس‬
‫والتخليط وإرادة الفتن بين الخلق يفعل فعل‬
‫الشياطين‪،‬‬
‫وبسبب ما فيه من العل يفعل أفعال المالئكة ‪،‬‬
‫مثل‪ :‬محبة العلم‪ ،‬والصالح‪،‬‬
‫والحمية من األفعال الخسيسة‪ ،‬ويفرح بمعرفة‬
‫األشيا ء الجميلة‪،‬‬
‫ويرى العيب والجهل وعدم المعرفة‪،‬‬
‫وعلى الحقيقة ان في جلسة اآلدمي أربعة أشيا‬
‫ء‪ ،‬كلب‪ ،‬وخنزير‪ ،‬وجني‪ ،‬وملك‪..‬‬
‫فان الكلب ال يذم من أجل صورته بل ألجل‬
‫الصفة التي فيه‪،‬‬
‫وبها يقع الشره والخوض في األشيا ء القبيحة‬
‫القذرة ‪،‬‬
‫وحقيقة الكلبية‪ ،‬وكذلك حقيقة الشيطان‬
‫والملك‪..‬‬
‫وهذا ما قلناه من هذا المعنى‬

‫‪،‬فأما األدمي فمأمور بكشف تلبيس الشيطان‬


‫ومكره بأنواع العقل‬
‫التي هي من آثار أنوار المالئكة حتى يظهر‬
‫عواره‪ ،‬وال تظهر فيه آثار الفتنة وعيوبه‪،‬‬
‫كما رسول اهلل (ص) قال‬
‫(لكل آدمي شيطان ولي أيضا شيطان ولكن اهلل‬
‫نصرني عليه‬
‫حتى صار تحت قهري ال يقدر ان يأمرني بشيء‬
‫من الشرور)‬
‫فقد أمر بأدب خنزيره وشهوته‪،‬‬
‫وكلب غضبه حتى يجعلهما تحت يد العقل‬
‫كيال يقوما وال يقعدا اال بإذنه‪،‬‬
‫فاذا فعل ذلك حصل من هذا أخالق حسنة‬
‫وصفات جميلة هي لب سعادته‪،‬‬
‫فان فعل بخالف ذلك وشد على وسطه منطقة‬
‫خدمتها حتى تظهر فيه أخالق هي لب شقاوته‪،‬‬
‫فان كشف له حالته في اليقظة او في‬
‫النوم يرى نفسه مشدود الوسط في‬
‫الخدمة‬
‫بين يدي خنزير او كلب او جني‬
‫اسير‪،‬‬
‫فيعلم ان حاله أفحش وأقبح‪،‬‬

‫ولو أنصف اكثر الخلق وحاسبوا أنفسهم‬


‫رأوا منطقة الخدمة في أوساطهم مشدودة‬
‫لمرادهم‪،‬‬
‫ولهوا‪ ،‬أنفسهم ليال ونهارا وحالهم على‬
‫الحقيقة‪،‬‬
‫هذا الذي ذكرناه وان كانوا في الصور يشبهون‬
‫اآلدميين‪،‬‬
‫فغدا في القيامة ‪ ،‬انما تظهر المعاني‪ ،‬وتكون‬
‫الصور على قدر المعاني‪،‬‬
‫فالذي كانت الشهوة غالبة عليه يرى يوم‬
‫القيامة خنزيرا‪،‬‬
‫والذي كان الغضب غالبا عليه يرى يوم القيامة‬
‫في صورة سبع‪،‬‬
‫ألجل هذا اذا رأى في النون سبعا‪ ،‬فتعبيره‪ :‬انه‬
‫رجل ظالم‪.‬‬
‫وان رأى خنزيرا‪ ،‬فتعبيره انه رجل قذر‪ ،‬الن‬
‫النوم أنموذج الموت‪،‬‬
‫وهذا القدر من النوم يعبر له من هذا العالم اذا‬
‫كانت الصورة تبعا للمعنى‬
‫حتى ان صورة كل أحد على قدر باطنه‪ .‬وهذا‬
‫سر عظيم ال يحتمله شرح الكتاب‪.‬‬

‫الفصل الثامن‬
‫القهارمة‬
‫فاذا علمت ان في باطن هؤالء األربعة‪:‬‬
‫القهارمة ‪،‬‬
‫فكن موافقا بحركاتك وسكناتك‪ ،‬حتى تتبين‬
‫في طاعة من أنت منهم‪.‬‬
‫واعلم بالحقيقة انه تحصل لقلبك صفة من كل‬
‫حرفة تبقى معك وتأتي في صحبتك الى ذلك‬
‫العالم‪،‬‬
‫وتلك الصفات يقال لها األخالق‪ ،‬وانما تنفتح‬
‫أنواره من هؤالء القهارمة‪،‬‬
‫فانك إن أطعت الشهوة الخنزيرية ظهرت فيك‬

‫صفة القذارة والوقاحة والحرص والحسد‬


‫والشماتة وغير ذلك‪،‬‬
‫وان قهرته وأدبته وجعلته تحت يدك‪،‬‬
‫ظهرت فيك صفة القناعة‪ ،‬وحفظ النفس‪،‬‬
‫والحياء‪ ،‬والظرف‪،‬‬
‫والزهادة‪ ،‬وقلة الطمع‪ ،‬وقصر اليد‪،‬‬

‫وان اطعت الغضب الكلبي‬


‫ظهرت قلة المباالة والهم والتنقيص للخلق‬
‫وبغضهم والكبرياء واالفتخار‪،‬‬
‫والتحسر على ما فات من بلوغ النهاية من‬
‫الدنيا‪ ،‬والوقيعة في الخلق‪،‬‬
‫وقلة االكتراث بهم‪ ،‬وااللتفات اليهم‪ ،‬وان‬
‫أدبت هذا الكلب‬
‫ظهر فيك الصبر والعفو والشجاعة والثبات‬
‫والسكون والشهامة وغير ذلك‪.‬‬

‫وان أطعت الشيطان‬


‫الذي عمله تحريض هذا الكلب والخنزير على‬
‫األفعال القبيحة‪،‬‬
‫وتشجيعهم وتعليمهم المكر والحيلة ظهرت‬
‫فيك الخيانة والتخليط وسوء الطوية‪،‬‬
‫والنفاق والتلبيس‪ ،‬وان قهرته ولم تغتر بتلبيسه‬
‫وصرفت عسكر القلب‬
‫ظهر فيك الذكاء والمعرفة والعلم والحكمة‪،‬‬
‫وطلب الصالح للخلق‪ ،‬والعصمة‪ ،‬والرئاسة ‪.‬‬

‫وهذه االخالق الحسنة الباقية معك‪ ،‬التي هي‬


‫الباقيات‪،‬‬
‫ويكون بدء سعادتك‪ ،‬التي تظهر من هذه‬
‫األخالق‪ ،‬يقال لها الطاعة‪،‬‬
‫وحركات اآلدمي وسكناته ال تخرج من هذين‬
‫الوصفين‪،‬‬
‫والقلب مثل المضيئة النيرة‪ ،‬واألخالق القبيحة‬
‫مثل الدخان والظلمة‪،‬‬
‫اذا وصلت اليها‪ ،‬صيريها ظلمة ‪ ،‬فال يرى‬
‫الحضرة اإللهية وتكون حجاباً‪.‬‬

‫وهذه األخالق الحسنة مثل النور‪ ،‬اذا وصلت‬


‫آلي القلب رفعت ظلمة المعصية‪،‬‬
‫ولهذا قال رسول اهلل (ص)‪( :‬اتبع السيئة الحسنة‬
‫تمحها)‪.‬‬
‫وفي القيامة انما يأتي القلب مظلما‪ ،‬وال ينجو اال‬
‫من أتى اهلل بقلب سليم‪،‬‬
‫وقلب ابن آدم في ابتداء خلقته‪ ،‬مثل الحديد‪،‬‬
‫تتأتى منه مرآة منيرة‪،‬‬
‫يظهر فيها كل ما في العالم‪ ،‬فاذا أريدت على‬
‫هذه الصفة حفظت‪،‬‬
‫واال غشيها الصدأ وأكلها الزنجار‪ ،‬حتى تصير‬
‫بصفة ال تأتي منها مرآة‬
‫على ما قال اهلل تعالى‬
‫ان َعلَى ُقلُوبِ ِهم ّما َكانُواْ يَ ْك ِسبُ َ‬
‫ون)‬ ‫( َكالَ بَ ْل َر َ‬
‫[المطففين‪.]14 :‬‬

‫الفصل التاسع‬
‫صفات البهائم‬
‫وال شك انك تقول اذا كانت صفات البهائم‬
‫والسباع والشياطين والمالئكة‍‍‪.‬‬
‫فمن اين علمتم صفة المالئكة ؟‬
‫وباي شيء يعلم انه انما خلق لتحصيل األخالق‬
‫الملكية دون باقي الصفات‪.‬‬
‫فاعلم انما تعلم ذلك اذا علمت ان اآلدمي‬
‫أشرف وأجمل من البهائم والسباع وغير ذلك‪،‬‬
‫وكل شيء أعطي كماال‪ ،‬فذلك نهاية درجته‪،‬‬
‫وألجله خلق خلق‪،‬‬

‫مثال هذا‪ ،‬ان الفرس أشرف من الحمار‪،‬‬


‫فان الحمار ألجل نقل األحمال خلق‪ ،‬والفرس‬
‫خلق ألجل الجري والجهاد والقتال‪،‬‬
‫حتى يمر تحت الفارس حيث ما أراد وأعطي‬
‫ايضا قوة الحمل مثل الحمار‪،‬‬
‫وأعطي الكمال والزيادة من ما لم يعطي‬
‫الحمار‪،‬‬
‫فان عجز عن كماله‬
‫اتخذ منه حمولة‪ ،‬ورد الى درجة الحمار‪ ،‬وهذا‬
‫هالكه ونقصانه‪،‬‬
‫ولذلك ظن قوم ان اآلدمي انما خلق لألكل‬
‫والنوم والجماع والتمتع‪،‬‬
‫فأنفذوا زمانهم في ذلك‪،‬‬
‫وظن قوم انما خلق ألجل الغضب والغلبة‬
‫واالستيالء وقهر الغير مثل الترك واألكراد‪،‬‬
‫وهذان الرأيان خطأ فان األكل والجماع يكونان‬
‫بالشهوة‪،‬‬
‫وهي مركبة في البهائم ‪ ،‬وأكل الحمار أكثر من‬
‫أكل اآلدمي‪،‬‬
‫وسفاد العصفور أكثر مما يكون اآلدمي أشرف‬
‫منهم ‪،‬‬
‫وما للغلبة واالستيالء فيكونان بالغضب‪ ،‬وقد‬
‫أعطيت السباع هذه القوة‬
‫القوة… فقد أعطي اآلدمي ما للسباع والبهائم‬
‫وزيادة‪،‬‬
‫ولتلك الزيادة كمال وهو العقل الذي يعرف به‬
‫اهلل تعالى وجميل صنعه‪،‬‬
‫وتخليص نفسه من يد الغضب والشهوة‪ ،‬وهذه‬
‫صفة المالئكة‬
‫وبهذه الصفة استولى على البهائم والسباع‪،‬‬
‫وكلهم مسخرون له‪،‬‬
‫وكذلك كل ما جاء على وجه االرض‪ ،‬على‬
‫ما قال اهلل تعالى‬
‫وات َو َما فِي األَ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫السم ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ي‬ ‫(وس ّخر لَ ُكم ما فِ‬
‫ّ‬ ‫ََ َ‬
‫َج ِميعاً ِم ْنهُ) [الجاثية‪ :‬اآلية ‪.]13‬‬
‫فاذا حقيقته‪ ،‬ما منه‪ ،‬كمال وشرفه‪ ،‬وباقي‬
‫الصفات‬
‫فانها غريبة فيه وعارية‪،‬‬
‫وانما أرسلت اليه عدده وعدته‪،‬‬
‫ولهذا اذا مات لم يبق معه الغضب وال‬
‫الشهوة‪،‬‬
‫فانما الجوهر الصافي انه صفة الحق‪،‬‬
‫وهو صورة المالئكة ال جرم يكون رفيقا لهم‪،‬‬
‫وهذا رفيق للمأل األعلى ‪ ،‬وهم أبدا في حضرة‬
‫اإللهية‬
‫ند ملِ ٍ‬
‫يك ُّم ْقتَ ِدر) [القمر‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ص ْد ٍق ِ‬
‫ع‬ ‫(فِي م ْقع ِد ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫‪،]55‬‬

‫وأما المظلم المنكوس‪،‬‬


‫فانما تعلق به الصدأ من ظلمة المعصية‪ ،‬وكان‬
‫منكوسا بما اعتداه به‬
‫األخالق الشهوانية والغضبية‪ ،‬وقد ترك كل‬
‫شهوة له في هذا العالم‪،‬‬
‫عالم القدس‪،‬‬
‫فوجه قلبه الى وجه الدنيا‪ ،‬فانها محل شوته‪،‬‬
‫ومراده‪،‬‬
‫وهذا العالم تحت عالم اآلخرة‪ ،‬فاذا يكون رأسه‬
‫منكوسا‪،‬‬
‫هذا معنى قوله تعالى‬
‫وس ِه ْم ِع َ‬
‫ند‬ ‫ون نَاكِسواْ رء ِ‬
‫ُ ُُ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫ر‬
‫ُْ ُ‬‫ج‬ ‫ْم‬
‫ال‬ ‫(ولَو َترى ِ‬
‫إذ‬ ‫َ ْ َ‬
‫َربِّ ِه ْم) [السجدة‪]12 :‬‬
‫ومن كانت هذه صفته‪ ،‬فهو من الشياطين‪ ،‬في‬
‫سجين‪،‬‬
‫وال يعلم أحد ما معنى سجين‪ ،‬وألجل هذا قال‬
‫اهلل تعالى‬
‫ين) [المطففين‪]8 :‬‬ ‫راك ما ِ‬
‫( َو َما أ َْد َ َ ّ ٌ‬
‫ج‬ ‫س‬

‫الفصل العاشر‬
‫عجائب عالم الغيب‬

‫اعلم ان عجائب عالم الغيب ليست له نهاية‪،‬‬


‫وأعجب من ذلك جملة عجائب القلب‬
‫وشرفه‪ ،‬وأكثر الخلق غافلون عن ذلك‪.‬‬
‫وشرفه من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬من وجه العلم‪ ،‬واآلخر‪ :‬من وجه‬
‫القدرة‪،‬‬
‫أما شرفه من وجه العلم فعلى طبقتين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬ما يعلمه جميع الخلق‪،‬‬
‫واآلخر‪ :‬خفي‪ ،‬وال يعرفه كل أحد‪ ،‬وهو عزيز‪.‬‬

‫اما الظاهر‬
‫فهو قوة معرفة جملة الصناعات حتى يعمل‬
‫بها جملتها‪،‬‬
‫ويقرأ ما في الكتب‪ ،‬ويتعلمها‪ ،‬مثل الهندسة‬
‫والحساب والطب والنجوم وعلم الشريعة‪،‬‬
‫مع انه واحد في نفسه ال يقبل القسمة‪ ،‬اذ يسع‬
‫فيه جميع العلوم‪،‬‬
‫بل كل العالم فيه ذره في بحر‪،‬‬
‫في لحظة واحدة يذهب في فكره نفسه‬
‫وحركتها من الثرى آلي العال‪،‬‬
‫ومن المشرق آلي المغرب مع علمه مساحة‬
‫السماوات ومقدار النجوم‬
‫حتى انه يعلم مساحة كم ذلك من ذراع ‪،‬‬
‫ويخرج المسك من البحر بالحيلة‪،‬‬
‫ويحيط الطير من الهوا ء آلي األرض‪ ،‬ويسخر‬
‫الحيوانات القوية بنفسه‬
‫مثل الفيل واألسد والفرس‪ ،‬وكل ما في العالم‬
‫من عجائب العلوم عنده‪..‬‬
‫وجملة هذه العلوم عنده انما تحصل من طريق‬
‫هذه الحواس الخمس‪،‬‬
‫وبهذا السبب كانت ظاهرة‪ ،‬ولهذا خلق لها‬
‫طاعة الطريق‪،‬‬
‫وأعجب من هذا ان في باطن القلب روزنة‬
‫مفتوحة تحت ملكوت السماوات‬
‫كما ان في خارج القلب خمسة دروب مفتوحة‬
‫آلي عالم المحسوسات المسمى بالعالم‬
‫الجسماني‪،‬‬
‫اما عالم الملكوت فيسمى العالم الروحاني‬
‫وأكثر الخلق يلقبون العالم الجسماني‬
‫بالمحسوس وهذا مختصر باألصل ‪،‬‬

‫والعلم الحاصل من جهة الحواس علوم مختصرة‬


‫أيضا‪،‬‬
‫والدليل على ان في ابطان القلب روزنة آلي‬
‫العلوم األخرى شيئان‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬الرؤيا فان النائم اذا انسدت عليه‬
‫الحواس انفتح له الباب الباطن‪،‬‬
‫فيظهر له الغيب من عالم الملكوت‪،‬‬
‫ومن اللوح المحفوظ حتى يعلم ما يكون في‬
‫المستقبل‪،‬‬
‫ويراه اما ظاهرا مثل ما يريد ان يكون‪ ،‬واما‬
‫بمثال يحتاج فيه آلي التفسير‪،‬‬
‫ومن حيث الظاهر يظن الناس ان المرء أولى‬
‫بالمعرفة في حال اليقظة‪،‬‬
‫ويرون انهم يدركون النظر في حال اليقظة‪،‬‬
‫ويؤدونه في حال المنام ال من طريق الحواس‬
‫وإن شرح حقيقة النوم ال يمكننا شرحه في هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫وأما القدر الذي ينبغي ان تعلم ان القلب مثل‬
‫المرآة واللوح المحفوظ‬
‫مثل مرآة أخرى فيها صورة جميع الموجودات‪،‬‬

‫وكما ان الصورة التي في احدى المرآتين تقع‬


‫في األخرى في المقابلة لها‪،‬‬
‫فكذلك ما في اللوح المحفوظ يظهر في القلب‬
‫اذا صفي وفرغ من المحسوسات‬
‫واخذ منه مناسبات‪ ،‬و ما دام مشغوال‬
‫بالمحسوسات كان محجوبا عن مناسبات عالم‬
‫الملكوت‪،‬‬
‫وفي حالة النوم يفرغ من المحسوسات فال‬
‫جرم يظهر فيه ما في جوهره‪ ،‬من مطالعة‬
‫الملكوت‪،‬‬

‫ولكن اذا وقعت الحواس لسبب النوم فالخيال‬


‫باق في موضعه‪،‬‬
‫فألجل هذا يكون ما يراه في كسوة مثل خيال‪،‬‬
‫فال يكون تصريحا مكشوفا وال يخرج من غطاء‬
‫الخيال من األغلب اال عند الموت‪،‬‬
‫فحينئذ ال يبقى خيال وال حواس‪ ،‬فتكشف‬
‫األغطية ويرى األمور بال خيال‪،‬‬
‫ص ُر َك ال َْي ْو َم‬ ‫ب‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫طاء‬ ‫غ‬‫ك ِ‬‫ويقال له( فَ َك َش ْفنَا َع ْن َ‬
‫َ ََ‬
‫يد) [ق‪]22 :‬‬ ‫َح ِد ٌ‬
‫ص ْرنَا َو َس ِم ْعنَا فَ ْار ِج ْعنَا َن ْع َم ْل‬
‫ويقولون‪َ ( :‬ر ّبنَا أَبْ َ‬
‫ون) [السجدة‪]12 :‬‬ ‫صالِحاً إنّا ُموقِنُ َ‬ ‫َ‬

‫دليل آخر من أخذ األولية فراسة وخاطر‬


‫مستقيم‬
‫على سبيل اإللهام واصل آلي القلب من غير‬
‫طريق الحواس‪ ،‬بل ظهر منه‪،‬‬
‫وهو ال يعلم من أين جاءه ‪،‬‬
‫وبهذا القدر يعلم ان العلوم كلها ال تكون من‬
‫طريق المحسوسات‪،‬‬
‫فتعلم بهذا ان القلب ليس من هذا العالم بل من‬
‫عالم الملكوت‪،‬‬
‫وجعلت الحواس له من أجل هذه العالم‪،‬‬
‫فال جرم لذلك كانت حجابه من مطالعة ذلك‬
‫العالم‬
‫فما لم يفرغ من هذا العالم ال يجد الطريق الى‬
‫ذلك العالم‪.‬‬

‫الفصل الحادي عشر‬


‫روزنة القلب‬
‫ال تظن ان روزنة القلب ال تفتح للملكوت بل لو‬
‫كان رجال راضى نفسه وخلص قلبه‪،‬‬
‫من يد الغضب والشهوة واألخالق الردية‪،‬‬
‫ويخرج من قلبه مرارة لهذا العالم ‪،‬‬
‫ويجلس في موضع خال‪ ،‬ويغمض عينيه ويعطل‬
‫حواسه‪،‬‬
‫ويعطي لقلبه المناسبة بعالم الملكوت‪،‬‬
‫يقول على الدوام‪ :‬اهلل‪ ..‬اهلل‪..‬‬
‫بالقلب ال باللسان الى ان يصير من نفسه بال‬
‫خبر‪،‬‬
‫ومن جميع العالم لفظا بال خبر من شيء اال من‬
‫اهلل تعالى‪،‬‬

‫فاذا صار كذلك‪ ،‬وان كان مستيقظا انفتحت‬


‫تلك الروزنة‪،‬‬
‫وما يراه الخلق في النوم يراه في اليقظة‪ ،‬وأرواح‬
‫المالئكة تظهر له في صورة حسنة‪،‬‬
‫ويرى األنبياء كلهم وياخذ منهم الفوائد‬
‫ويجعل له منها المدد‪،‬‬
‫ويرى ملكوت السماوات واألرض‪،‬‬

‫ومن يفتح له هذا الباب يرى األمور‬


‫العظيمة الهائلة‬
‫التي ال تدخل تحت الحس والخيال وهو الذي‬
‫قال رسول اهلل (ص)‬
‫(زويت لي األرض فرأيت مشارقها ومغاربها‪،‬‬
‫وهو الذي قال الحق سبحانه‬
‫وت السماو ِ‬
‫ات‬ ‫ذلك نُ ِري ْإب َر َ‬
‫اهيم َملَ ُك َ ّ َ‬ ‫َو َك َ‬
‫َواألَ ْر ِ‬
‫ض) [األنعام‪]75 :‬‬
‫كله كان من هذه الحال‪،‬‬
‫بل جميع علوم األنبيا ء كانت من هذه الطريقة‪،‬‬
‫ال من طريق الحواس والتعليم‪ ،‬وبداية هذه كلها‬
‫المجاهدة) ‪.‬‬
‫َّل إلَْي ِه‬
‫ك َو َتبَت ْ‬
‫أس َم َربّ َ‬
‫ْك ْر ْ‬
‫كما قال سبحانه‪َ ( :‬وأذ ُ‬
‫َت ْبتِيالً) [المزمل‪]8 :‬‬
‫يعني تنظف من كل شيء‪ ،‬وانقطع عن كل شيء‪،‬‬
‫واعط كليتك له‬
‫وال تشغل بتدبير الدنيا فان اهلل سبحانه يكفيك‬
‫مؤنتها‪،‬‬
‫رب المشرق والمغرب‪ ،‬ال إله اال هو‪ ،‬فاتخذه‬
‫وكيالً‪.‬‬

‫أي فافرغ اليه وال تختلط بالخلق وال‬


‫تشغلن بهم‬
‫اصبِ ْر َعلَى َما َي ُقولُ َ‬
‫ون َو ْاه ُج ْر ُه ْم َه ْجراً‬ ‫( َو ْ‬
‫َج ِميالً) [المزمل‪،]10 :‬‬
‫وهذا كله تعليم المجاهدة والرياضة كيما يصير‬
‫به القلب صافيا‬
‫من رذيلة الخلق والشهوة وشغل المحسوسات‪،‬‬
‫وهذا طريق الصوفية‪ ،‬وهو طريق‬
‫النبوة‪،‬‬

‫أما ما يحصل لهم بطريق التعليم بذات العلماء‪،‬‬


‫وهذا أكثر أيضا‪،‬‬
‫ولكن مختصر باإلضافة الى طريق النبوة‪،‬‬
‫وعلم األنبياء واألولياء‬
‫الحاصل لهم من حضرة الحق سبحانه بال‬
‫واسطة تعليم اآلدميين عن قلوبهم‪،‬‬
‫وتصحيح هذا الطريق معلوم كله بالتجربة‪،‬‬
‫لخلق كثير‪ ،‬وبالبرهان العقلي‪ ،‬أيضا‪،‬‬
‫وان لم تكن قد حصلت لك هذه الحالة بالذوق‬
‫وال بالعلم وال بالبرهان العقلي‪،‬‬
‫فال أقل من أن تكون مؤمنا مصدقا لئال تحرم‬
‫أحدى هذه الثالث درجات‪،‬‬
‫وال تصير كافراً‪،‬‬
‫وهذا من عجائب عالم الغيب وبه علم شرحه‪.‬‬

‫الفصل الثاني عشر‬


‫األنبياء وخصائصهم‬
‫واعلم ان هؤالء األنبياء عليهم السالم غير‬
‫مخصوصين‪،‬‬
‫وان جواهر اآلدميين تصلح كلها في اصل‬
‫الفطرة‪،‬‬
‫كما ان يصلح ان يتخذ من كل حديد من أصل‬
‫فطرته مرآة تحكي صورة العالم‬
‫لكن اذا غاض في جوهرها الصدأ والزنجار‬
‫فسده وأهلكه‪،‬‬

‫كذلك القلب اذا غلب عليه حرص الدنيا‬


‫والشهوات والمعاصي وتمكن فيه‬
‫ال يصلح لتلك الخاصية وتبطل منه تلك‬
‫الفطرة‪،‬‬
‫(وكل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه‬
‫وينصرانه ويمجسانه)‪،‬‬
‫ولهذا العموم والخاصية والصالحية أخبر قائل‬
‫الحق تعالى عنها اذ قال‬
‫ت بِ َربّ ُكم قَالوا بَلى) [األعراف ‪]172 :‬‬
‫ألس ُ‬
‫( ْ‬
‫هكذا لو ان رجال عاقال قيل له االنسان أكثر من‬
‫الواحد لقال بلى هذا الكالم صحيح‪،‬‬
‫ولو أن عاقال لم يسمع بإذنه ولم يكن قد سمع‬
‫ولم يقل بلسانه‬
‫لكان باطنه يصدق ذلك فكذلك فطرة اآلدميين‬
‫مصوغة على فطرة اهلل تعالى‪،‬‬
‫وكما قال عزمن قائل‬
‫(ولَئِن سأَل َْت ُهم من َخلَ َق السم ِ‬
‫اوات َواألَ َ‬
‫رض‬ ‫َّ‬ ‫ّْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ّن اهللُ) [لقمان‪]25 :‬‬
‫لََي ًقول َ‬
‫َّاس‬
‫الن‬ ‫ر‬ ‫ط‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ّتي‬
‫ال‬ ‫وقال تعالى‪( :‬فِطرت َ ِ‬
‫اهلل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َعلَ ْي َها) [الروم‪،]30 :‬‬
‫وقد عرف البرهان العقلي والتجربة ان األنبياء‬
‫كلهم غير مخصوصين‬
‫وأنهم آدميون على ما قال (ص)‪( :‬إنما أنا بشر‬
‫مثلكم)‬
‫لكن اذا فتح هذا الطريق لواحد‪ ،‬ظهر له صالح‬
‫الخلق‪ ،‬ودعاهم آلي ذلك‪،‬‬
‫والذي ظهر له يسمى وليا‪ ،‬وحاله‪،‬‬
‫كرامة‪،‬‬
‫وال يجبر من ظهرت له هذه الحالة على ان‬
‫يشتغل بالخلق ودعوتهم‬
‫بل في قدرة اهلل ان ال يشغله بدعوتهم اما من‬
‫أجل ان الشريعة طريقة جديدة‬
‫فال يحتاج آلي دعوة أخرى ومن أجل ان‬
‫الدعوة لها شروط أخرى‬
‫ال تكون موجودة في هذا الولي فيجب ان يكون‬
‫ايمانك صحيحا‬
‫بأوليائه وكرامة األولياء ‪.‬‬

‫وتعلم ان أول هذا األمر له تعلق بالمجاهدة‪،‬‬


‫ولالختبار اليه طريق‪،‬‬
‫ولكن ليس من عزم سلك‪ ،‬وال كل من سلك‬
‫وصل‪ ،‬وال كل من وصل وجد‪.‬‬
‫‪ .‬لكن كل شغل هو عزيز وأعز‪ ،‬كانت شرائطه‬
‫ووجوده أبر وأعز‪،‬‬
‫وهذا هو أشرف درجات اآلدميين‪ ،‬في مقام‬
‫المعرفة‪،‬‬

‫ومن طلبه بال مجاهدة‪ ،‬وال شيخ ممن قد سلك‬


‫الطريق ال يتم وال يوصل‪،‬‬
‫ومن لم يساعده التوفيق‪ ،‬ولم يحكم له في‬
‫األول بهذه السعادة‪،‬‬
‫فال يصل المقصود‪ ،‬ووجود درجات اإلمامة‬
‫في العالم الظاهر‪،‬‬
‫وفي جميع األشغال االختيارية حكمها كذلك‪.‬‬

‫الفصل الثالث عشر‬


‫في شرف القلب‬
‫قد علمت أنموذجا من شرف جوهر اآلدميين‬
‫المسمى بالقلب‪،‬‬
‫وهو طريق العلم‪،‬‬
‫واعلم االن ان له ايضا من جهة القدرة شرفا‪،‬‬
‫وذلك المعنى من خاصية المالئكة‪،‬‬
‫وال يوجد ذلك في الحيوان اآلخر‪،‬‬
‫كما ان عالم االجسام مسخر للمالئكة باذن اهلل‬
‫تعالى‬
‫على ما يرونه صوابا مع حاجة الخلق اليه‬
‫فيثيرون الهوا في زمن الربيع‪،‬‬
‫ويصورون الحيوانات في األرحام‪ ،‬والنبات في‬
‫األرض‪،‬‬
‫ولكن جنس من هذه األمور طائفة من المالئكة‬
‫مسخرة‪ ،‬ومملكة‪..‬‬
‫كذلك قلب اآلدمي فانه من جنس جوهر‬
‫المالئكة‪،‬‬
‫وقد اعطي ايضا قدرة يسخر بها بعض اجسام‬
‫العالم‪،‬‬
‫والعالم المشخص المتعلق بالشخص يداه وبدنه‬
‫مسخرة للقلب‪،‬‬
‫وانه معلوم ان القلب ليس باالصبع‪ ،‬والعلم‬
‫واالرادة ليس باالصبع ايضا‪،‬‬
‫فالقلب ال يتحرك بامر االصبع بل على‬
‫العسكر‪،‬‬
‫فاذا ظهرت صورة الغضب في القلب‬
‫انفتح مسام البدن بالعروق من السبعة األعضاء‬
‫وهذا مثل المطر‪،‬‬
‫واذا ظهرت في القلب صورة الشهوة ظهر‬
‫الريح وتحرك الى جانب الشهوة‪،‬‬
‫واذا تفكر في الطعام وأكله ماتت القوة التي‬
‫تحت اللسان الى الخدمة‬
‫وأراقت الماء لترطب الطعام كما يمكن اكله‪،‬‬
‫وهذا ليس بمغطي‪،‬‬
‫فان تصرف القلب في البدن ظاهر والبدن له‬
‫مسخر‬
‫ولكن يجب ان تعلم انه يجوز‪،‬‬
‫ويمكن ان يكون بعض القلوب اشرف وأقوى‬
‫وأشبه بجانب المالئكة‬
‫فتعطيه اجسام اخرى خارجه عن بدنه فتفع‬
‫هيبته على األسد مثال‬
‫فيصير مطيعا وخاضعا ويعلق الهمة بمريض‬
‫فيشفي ويطرح الوهم على صحيح‬
‫فيمرض ويدير الفكر في حق شخص ليصل اليه‬
‫فتظهر حركته من باطن ذلك الشخص وتعلق‬
‫الهمة على نزول المطر‬
‫فينزل هذا كله غير منكر بالبرهان العقلي‬
‫ومعلوم بالتجربة‪،‬‬
‫وايضا ما يسمى من اصابة العين والسحر‪.‬‬

‫فمن هذا الباب فانه من جملة تأثير نفس اآلدمي‬


‫في اجسام أخر‪،‬‬
‫فان الشخص اذا نظر بهيمة حسنة ونظر اليها‬
‫على جهة الحسد‬
‫فعلو همته في تلك البهيمة مع الحسد الداعي‬
‫الى النظر‬
‫كذلك فان البهيمة تهلك في الوقت‪،‬‬
‫كما روى في الخبر ان (العين لتدخل الرجل‬
‫القبر والجمل القدر)‪،‬‬
‫واعلم ان ذلك كله من عجائب قدرة القلب‪،‬‬
‫وهذه الخاصية اذا ظهرت لشخص فان كان‬
‫داعيا للخلق كانت معجزة ‪،‬‬
‫وان لم يكن داعيا سميت كرامة‪ ،‬وان كان في‬
‫شغل خير سمي ذلك الرجل وليا او نبيا‪،‬‬
‫وان كان شرا سمي ساحرا‪ ،‬والسحر‬
‫والكرامات والمعجزات‬
‫كلها من خواص قدرة القلب اآلدمي‪ ،‬وان كان‬
‫بينهم فروق كثيرة‬
‫ال يحمل بيانها هذا الكتاب‪.‬‬

‫الفصل الرابع عشر‬


‫معرفة درجات النبوة‬
‫فالعاقل يعرف من هذه الجمل التي اسلفناها انه‬
‫لم يكن له من حقيقة الخبر اال صورة وسماع‪،‬‬
‫وان النبوة والوالية درجات شريفة من شرف‬
‫قلب اآلدمي‪ ،‬فتعلم ان خواصه ثالث ‪:‬‬
‫احدهما‬
‫ان ما ينكشف في النوم لعامة الخلق ينكشف له‬
‫في اليقظة‪.‬‬
‫الثاني‬
‫ان عامة الخلق ال تؤثر انفسهم اال في ابدانهم‬
‫ونفس النبي والولي‬
‫تؤثر في االجسام الخارجة عن بدنه على طريق‬
‫يكون صالح الخلق فيه وال يكون فسادهم‪.‬‬
‫الثالث‬
‫ان ما يحصل للعامة الخلق من العلم بالتعلم‬
‫يحصل له تلك العلوم ام اكثرها من غير تعلم‪،‬‬
‫وتكون اصفى وأقوى ويسمى ذلك العلم‪:‬‬
‫اللدني‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ّدنا ِعلماً)‬
‫وعلّمناهُ من ل ُ‬
‫َ‬ ‫نا‬ ‫ِ‬
‫ند‬ ‫(اتَيناه رحمةً من ِ‬
‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫[الكهف‪]65 :‬‬

‫فكل من اجتمعت فيه هذه الثالث الخواص كان‬


‫من األنبياء الكبار او من االولياء االخيار‪،‬‬
‫ومن حصل واحدة من هذه الثالث‪ ،‬فقلما ينال‬
‫هذه الدرجة‪،‬‬
‫وفي كل واحدة من هذه الثالث تفاوت عظيم‬
‫فانه يكون لشخص ما‪ ،‬من كل واحدة‪ ،‬منها‬
‫شيء قليل‪ ،‬وقد يكون آلخر شيء كثير منها‪،‬‬
‫وكما ان نبينا (ص)‪ ،‬لما كان اجتماع هذه‬
‫الثالث الخواص باعيانها فيه‪،‬‬
‫واهلل سبحانه لما أراد ان يظهر الطريق للخلق‬
‫بظهور نبوته‬
‫حتى يعاينوه ويتعلموا منه طريق السعادة‪،‬‬
‫اعطي لكل شخص من هذه الثالث الخواص‬
‫انموذجا‪:‬‬
‫فاألنموذج االول‪ :‬ما ينكشف في النوم ومن‬
‫خاصيته‪..‬‬
‫الثانية‪ :‬الفراسة الصحيحة‪.‬‬
‫ومن الثالث‪ :‬الخاطر المستقيم‪.‬‬

‫وال يمكن ان يؤمن اآلدمي بشيء ال يكون له‬


‫من جنسه شيء‪،‬‬
‫فان كل ما لم يكن عنده منه أنموذج فال يفهم‬
‫صورته بحال‪،‬‬
‫وألجل هذا ال يعرف اهلل بحقيقة كماله اال اهلل‪.‬‬
‫‪ .‬وشرح هذا التحقيق طويل‪ ،‬وقد بيناه وكشفناه‬
‫في كتاب‪ :‬شرح اسماء اهلل تعالى بالبرهان‬
‫المضي‪،‬‬
‫والمقصود االن ان نجوز ان يكون لالنبياء‬
‫واألولياء خواص من غير هذه الثالث‪،‬‬
‫ما ليس لنا منه خبر‪ ،‬اذ لم يكن لنا منه انموذج‪،‬‬
‫كما قلت انه ال يعرف اهلل بكماله اال اهلل‪،‬‬
‫فتقول والرسول ال يعرفه اال الرسول‪،‬‬
‫او من كان فوقه بدرجة‪ ،‬فقرب االنبياء من‬
‫اآلدميين تعرفه االنبياء‪،‬‬
‫اما نحن فلم نعرف غير هذا المقدار وانه لو لم‬
‫يكن لنا نوم‬
‫ويحكي لنا شخص ان رجال قد وقع‬
‫وليست له حركه‪ ،‬وال يبصر‪ ،‬وال يسمع‪ ،‬وال‬
‫يتكلم‪ ،‬ويري ما يكون غدا‪،‬‬
‫واذا كان يبصر ويسمع فال يري ذلك فكنا ال‬
‫نصدقه قط‪،‬‬
‫واآلدمي كل ما يراه ال يصدق به‪ ،‬ولهذا قال‬
‫الحق سبحانه‬
‫ولما ِ‬
‫يأتيه ْم‬ ‫(بل َك ّذبوا بما لَم يحيطُوا بِ ِع ِ‬
‫لمه‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫تأويلُهُ) [يونس‪]39 :‬‬
‫إفك‬
‫ون هذا ٌ‬ ‫تدوا ِبه فَ َس ُيقولُ َ‬
‫وقال‪َ ( :‬و إذ لَ ْم َي ْه ُ‬
‫قديم) [االحقاف‪،]11 :‬‬ ‫ٌ‬
‫ولذلك نتعجب ما يكون لألنبياء واألولياء من‬
‫الصفات التي ال يكون لغيرهم منها خبر‪،‬‬
‫وهم يجدون من تلك األحوال اللذات‪،‬‬
‫واألحوال الشريفة‪،‬‬
‫فانك ترى شخصا ليس له ذوق الشعر ال يجد‬
‫لذلك لذة ‪،‬‬
‫وال يكون للسماع عنده قدر‪،‬‬
‫ولو أراد شخص ان يعلمه معنى ذلك لم يقدر‬
‫عليه فانه فليس عنده من جنس ذلك خبر‪،‬‬
‫وكذلك األكمة ال يفهم معنى االلوان وال لذة‬
‫النظر‪،‬‬
‫فاذا صح من قدرة اهلل ان يخلق بعض‬
‫االدراكات‬
‫لرؤية تلك الدرجة من النبوة وال يكون عند‬
‫منكريها خبر من ذلك‪.‬‬

‫الفصل الخامس عشر‬


‫العلم حجاب لهذا الطريق‬
‫قد علمت من هذه الجملة شرف جوهر اآلدمي‬
‫من طريق الصوفية‪،‬‬
‫والشك انك سمعت من الصوفية انهم يقولون‪:‬‬
‫العلم حجاب لهذا الطريق فانكرت هذا القول‪،‬‬
‫فاحذر ان تنكر هذا القول فانه حق‪،‬‬
‫فان المحسوسات‪ ،‬وكل علم من طريق‬
‫المحسوسات‪ ،‬اذا اشتغلت به‪ ،‬واستغرقت فيه‪،‬‬
‫كان حجابا من هذا الوجه‪ ،‬ومثل القلوب في‬
‫ذلك مثل حوض الماء‪،‬‬
‫ومثل الحواس مثل خمسة انهار تصب في‬
‫الحوض من خارج‪،‬‬
‫فاذا اردت ان تخرج الماء الصافي من قعر‬
‫الحوض حتى يظهر ماء صافي من باطن‬
‫الحوض‪،‬‬
‫فما دام الحوض مشغوال بالماء الذي حصل فيه‬
‫من خارج‪،‬‬
‫ال يمكن ان يظهر من باطنه الماء‪،‬‬

‫كذلك هذا العلم ال يحصل من باطن القلب‬


‫وال يظهر حتى يخال من جميع ما حصل فيه من‬
‫خارج‪،‬‬
‫اما العالم اذا خال قلبه من العلم المتعلم ولم‬
‫يشغل قلبه بذلك‪،‬‬
‫فال يكون العلم الماضي حجاب‪ ،‬ويمكن ان‬
‫يظهر له هذا الفتح‪،‬‬
‫كما انه اذا أخلي نفسه من الخياالت‬
‫والمحسوسات الماضية ال تكون حجابه‪،‬‬
‫وانما سبب الحجاب مثل رجل تعلم اعتقاد اهل‬
‫السنة بداللتها‪،‬‬
‫كما هو مدروك في الجدل والمناظرة واعطي‬
‫كليته لذلك واعتقد انه ال علم وراء هذا‪،‬‬
‫وان خطر بباله شيء آخر فيقول هذا خالف‬
‫ذلك الذي سمعته‪ ،‬وكل ما كان خالفه‪ ،‬فهو‬
‫باطل‪،‬‬
‫فال يمكن بحال ان يعرف هذا الرجل شيئا من‬
‫حقائق االمور واالعتقاد الذي يتعلمه العوام‬
‫قالب الحقيقة‪ ،‬ال عين الحقيقة‪،‬‬
‫وتمام المعرفة‪ ،‬ان تنكشف له الحقائق من هذه‬
‫القوالب‪،‬‬
‫كما يخرج اللب من اللوز وغيره من القشر‪،‬‬
‫وكل من تعلم طريق الجدل في نصره االعتقاد‬
‫ال تنكشف له الحقيقة‬
‫اذا ظن ان كل ذلك معه وتعلمه‪،‬‬
‫فهذا الظن حجابه‪ ،‬ولما كان هذا الظن غالبا‬
‫على شخص تعلم شيئا‬
‫فال جرم كان أكثر هؤالء القوم محجوبين عن‬
‫هذه الدرجة‬
‫واذا حصل له هذا الفتح وظهرت هذه المنزلة‬
‫كان في غاية الكمال‪،‬‬
‫وطريقة آمن وأصح‪ ،‬من رجل‪ ،‬ترسخ قدمه في‬
‫العلم قدر بما تمضي عليه هذه‪،‬‬
‫ويبقى من رباط خيال باطل شبهه يكون حجابا‬
‫هنالك‪،‬‬
‫والعالم من هذا آمن‪.‬‬
‫فاذا معنى العلم حجاب في ان تعلم‪،‬‬
‫وال تنكر اذا سمعته من رجل هو في حضرة‬
‫المكاشفة واصل اليها‪..‬‬
‫اما هؤالء المطوفون غير المخلصين الموجودين‬
‫في هذا الزمان الذي قد ظهروا فيه‪،‬‬
‫لم يكن لهم هذا الحال قط‪ ،‬ولكن حفظوا‬
‫عبارات معدودة من طامات الصوفية‬
‫وشغلهم طول النهار ان يغسلوا ايديهم‪،‬‬
‫وينظفوا أثوابهم‪ ،‬ومرقعة‪ ،‬وسجادة‪،‬‬
‫وغير ذلك يذمون العلماء والعلم‪،‬‬

‫أولئك اهل الغسل األخساء شياطين الخلق‪،‬‬


‫وأعداء اهلل ورسوله‪،‬‬
‫فان عدو اهلل و رسوله يعادي العلم والعلماء‪،‬‬
‫وحبيب اهلل ورسوله من دعا الى العلم‪،‬‬
‫فهذا المدبر اذا لم يكن صاحب حالة وال حصل‬
‫شيء من العلم‪ ،‬فمتى يجوز له هذا‪،‬‬

‫ومثله مثل رجل يسمع ان الكيمياء اجود من‬


‫الذهب وقد حصل له من الذهب ما ال نهاية له‪،‬‬
‫فتوضع له الكنوز بين يديه وال يضع يده فيها‪،‬‬
‫ويقول مالي حاجة إلى الذهب وما قدره‪،‬‬
‫بل تحصيل معرفة الكيمياء فان هو األصل ‪،‬‬
‫وال يأخذ شيئا من الذهب فيبقى حقيرا مدبرا‬
‫مفلسا جائعا ال شيء معه‪،‬‬

‫ومن علم‪ ،‬علم الكيمياء‪ ،‬وهو في علم الذهب‬


‫زهاء بهمته على الخلق‪،‬‬
‫فمثل المكاشفة لألنبياء واألولياء‪ ،‬مثل‬
‫الكيمياء‪،‬‬
‫ومثال علم العلماء‬
‫مثال علم الذهب‪ ،‬ولصاحب الكيمياء على‬
‫صاحب الذهب فضيلة‪،‬‬
‫ولكن بقي هاهنا دقيقة اخرى وهو لو ان رجل‬
‫معه الف دينار فضل‪،‬‬
‫كما ان الكيمياء طالبها وحديثها كثير وحقيقتها‬
‫ال تحصل في اليد‬
‫اال في زمان طويل واكثر أقوام يذهبون في‬
‫طلبها‪،‬‬
‫ويرجع حاصل عملهم الى التدليس والقلب‬
‫والزغل‪،‬‬

‫فكذلك ايضا يكون مثل ذلك الصوفية‬


‫أعزا قليلون وما يكون لهم قليل أيضا‪ ،‬ونادر‪،‬‬
‫ان يحصل الكمال‪،‬‬

‫فينبغي ان تعلم بهذا ان كل من حصل له شيء‬


‫من حال الصوفية‬
‫وظهر له ذلك فال يكون له فضل على كل‬
‫عالم‪،‬‬
‫فان اكثرهم تظهر له‬
‫من أوائل األمر الشيء وحينئذ يتراجعون عن‬
‫ذلك وال يصلون الى تمامه‪،‬‬
‫وبعضهم يغلب عليه السوداء ‪ ،‬وخيال ال حقيقة‬
‫له‪ ،‬وهم يظنون ان ذلك شغل ‪،‬‬
‫ومن كل عشرة تسعة كذلك ‪،‬‬

‫وكما ان في النوم حقيقة واضغاث احالم‪،‬‬


‫فكذلك في الخيال‪،‬‬
‫بل انما يكون له الفضل على العلماء‪ ،‬اذا كان‬
‫في هذه الحالة كامال‪،‬‬
‫فيكون كل علم له تعلق بالدين‪ ،‬حصل لهم‬
‫بالتعليم ‪ ،‬وحصل له بال تعلم‪ ،‬وهذا نادر عظيم‪.‬‬
‫فينبغي ان تكون مؤمنا باصل طريق التصوف‪،‬‬
‫وبفضلهم‪،‬‬
‫وال تفسد اعتقادك من اجل مطوف هذا الزمان‪،‬‬
‫و كل من ترى منهم يطعن في العلماء‪ ،‬فاعلم‬
‫انه من قلة خاصيته يفعل ذلك‪..‬‬

‫الفصل السادس عشر‬


‫السعادة في معرفة اهلل‬
‫لعلك تقول بماذا اعلم ان سعادة اآلدمي في‬
‫معرفة اهلل تعالى‪..‬‬
‫فاعلم ذلك‪ :‬بان تعلم ان السعادة كل شيء في‬
‫ما فيه لذته وراحته وراحلة القلب‪،‬‬
‫انما هي ذلك‪ ،‬ولذة كل شيء‪ ،‬في ما يقتضي‬
‫طبعه‪ ،‬ومقتضى كل شيء لما خلق ألجله‪،‬‬
‫كما ان لذة الشهوة نيلها الى مقصودها ولذة‬
‫الغضب في االنتقام من االعداء‪،‬‬
‫ولذة العين في الصورة الجميلة‪ ،‬ولذة السمع في‬
‫االصوات الحسنة وااللحان المتناسبة‪،‬‬
‫كذلك لذة القلب في خاصيته التي ألجلها‬
‫خلق‪،‬‬
‫وذلك معرفة حقائق االمور فان خاصية قلب‬
‫اآلدمي هذه‪،‬‬
‫اما الشهوة والغضب وادراك المحسوسات‬
‫بالحواس الخمس فموجود للبهائم ‪،‬‬
‫والجل هذا ان اآلدمي اذا لم يعلم الشيء في‬
‫طبعه‬
‫ما يتقاضاه الى التجنيس ليعلمه ويفرح بكل ما‬
‫يعلمه وينجح به‬
‫ويفخر وان كان في شيء خسيس‪ ،‬مثل‬
‫الشطرنج مثال‪،‬‬
‫ان قيل ان الرجال يعلم علم الشطرنج ال يعلم‬
‫عشر خبره عن ذلك‪ ،‬بل يقدر عليه‪،‬‬

‫ومن فرحه بعلم اللغة العربية يريد ان يفتخر‬


‫األكبر واالشرف تلذ اكثر من ذلك‪،‬‬
‫فان الرجل يفرح بعلمه باسرار الوزير‪،‬‬
‫فاذا علم اسرار الملك ونيته وتدبيره للمملكة‬
‫كان ذلك اشد فرحا‪،‬‬
‫ومن كان عالما بشكل السماء‪ ،‬ومقدارها‪،‬‬
‫وعلم الهندسة‪،‬‬
‫كان اشد فرحا من عالم علم الشطرنج‪،‬‬
‫فالرجل الذي علم كيف بحث الشطرنج حتى‬
‫وضعها‪،‬‬
‫كان أشد لذة من الشخص الذي يعلم كيف‬
‫يحب ان يلعب بها وهكذا‪،‬‬
‫كلما كان المعلوم اشرف كان العلم به أشرف‬
‫ولذته اكثر‪،‬‬
‫وال موجود أشرف من عالم جميع األشياء‬
‫بل كل العالم وجميع عجائب العالم آثار‬
‫صنعته‪،‬‬
‫فال جرم ال تكون معرفة أشد من هذه المعرفة‪،‬‬
‫وال ألذ منها‪،‬‬
‫وال أطيب من نظارة حضرة الربوبية‪ ،‬ومقتضى‬
‫طبع القلب ذلك‪،‬‬
‫اذ مقتضى طبع كل شيء خاصيته التي ألجلها‬
‫خلق‪،‬‬
‫فان كان ثم قلب ليس فيه تقاضى هذه المعرفة‪،‬‬
‫وقد بطل شوق اليها‪،‬‬

‫وكان مثل بدن مريض قد بطل فيه تتقاضى‬


‫الغذاء‪،‬‬
‫اذ ربما كان الطين احب اليه من الخبز‪ ،‬وان لم‬
‫يعالجه حتى يرجع الى طبعه‪،‬‬
‫ولم تذهب منه هذه الشهوة الفاسدة‪ ،‬كان ردي‬
‫البخت في اآلخرة‪،‬‬
‫وجميع الشهوات واللذات المحسوسات‬
‫المتعلقة ببدن اآلدمي تتضاعف بالموت‪،‬‬
‫فان القلب ال يهلك بالموت‪ ،‬والمعرفة تبقى في‬
‫موضعها‪،‬‬
‫بل يصير صافيا فتتضاعف اللذات‪،‬‬
‫فترتفع زحمة باقي الشهوات‪،‬‬

‫وشرح هذا بتمامه نذكره في أصل المحبة في‬


‫آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫الفصل السابع عشر‬


‫في معرفة جوهر القلب‬
‫في هذا القدر الذي أوردناه من أحوال جواهر‬
‫اآلدمي كفاية في مثل هذا الكتاب‪،‬‬
‫فان أراد رجل زيادة فقد قلنا ة في كتاب‬
‫عجائب القلب ‪،‬‬
‫وبهذين الكتابين يعرف اآلدمي نفسه ايضا على‬
‫التمام‬
‫بل هذا كله بعض شرح عجائب القلب‪،‬‬
‫وهذا أحد األركان‪.‬‬

‫الركن الثاني عند اآلدمي‪ ،‬بدنه‬


‫وفي خلق البدن أيضا عجائب كثيرة‪ ،‬في كل‬
‫عضو‪ ،‬من ظاهره وباطنه‪ ،‬معاني عجيبة‪،‬‬
‫وفي كل واحد منها‪ ،‬حكم غريبة‪ ،‬وفي بدن‬
‫اآلدمي كذا ألفا من عصب وعروق وعظم‪،‬‬
‫كل واحد على صفة اخرى‪ ،‬وكل واحد ألجل‬
‫غرض أخر‪،‬‬
‫وأنت بال خبر من الجميع ومن ما تعرف هذا‬
‫المقدار‬

‫‪ :‬ان اليد ألجل األخذ‪ ،‬والرجل ألجل المشي‪،‬‬


‫واللسان الجل القول‬
‫وأما العين فمن عشر طبقات مختلفات‪،‬‬
‫حتى لو نقص واحدة من هذه العشرة اختل‬
‫البصر‪،‬‬
‫فال يعلم ان كل واحدة من هذه الطبقات لماذا‬
‫خلقت!!‬
‫والي شيء تمس الحاجة اليها في النظر ومقدار‬
‫العين ظاهر على ما هو عليه‪،‬‬
‫وشرح علمه مذكور في مجلدات‪،‬‬

‫وانت كنت ال تعلم ذلك فال تعجب من ذلك‪،‬‬


‫فانك ال تعلم لماذا خلقت أحشاء البطن مثل‬
‫الكبد والطحال والمرارة والكلية‪ ،‬وغير ذلك‬
‫‪ ..‬والكبد محل االطعمة المختلفة على صفة‬
‫واحدة اذا وصلت اليه من المعدة‬
‫وتجعله بلون الدم ليصير صالحا الن يكون‬
‫صالحا الن يكون غذاء للسبعة االعضاء‪،‬‬
‫فاذا انطبخ الدم بالكبد ترسمت منه فيه نقاته‬
‫وذلك السوء ‪،‬‬
‫والطحال الجله خلق كي تأخذ السودانية منه‬
‫واذا خرج الدم من الكبد خفيفا رقيقا كان بال‬
‫قوام‪،‬‬
‫فالكلية خلقت ألجل انها تأخذ تلك المائية‬
‫حتى يكون ذا قوام‪،‬‬
‫وكذلك تسقط قوة دعوته وتلك الصفراء‪،‬‬
‫وخلقت المرارة تجد بها‪،‬‬
‫حتى يبقى الدم بال صفرة وال مائية وال سوداء‬
‫مع القوام‪ ،‬يذهب في العروق‪،‬‬
‫فاذا وقعت على المرارة آفة بقيت الصفراء‪ ،‬في‬
‫الدم‪،‬‬
‫فيحدث منه اليرقان والصفرة على الجسم وان‬
‫طرأ على الطحال بقيت السوداء مع الدم‪،‬‬
‫فتظهر العلل السوداوية‪ ،‬وان اصابت الكلية آفة‬
‫بقيت المائية‪ ،‬فيحدث االستسقاء‪،‬‬
‫وهكذا كل جزء من االجزاء الظاهرة والباطنة‬
‫خلقت الجل عمل‬

‫فان بدن اآلدمي مع كونه مختصر امثال لجميع‬


‫العالم‬
‫فان كل ما خلق في العالم فيه منها أنموذج‪،‬‬

‫في العظام الغليظة امثال الجبال والعروق مثل‬


‫األودية والعرق مثل السماء‪،‬‬
‫والحواس مثل النجوم‪ ،‬وتفصيل هذا ايضا يطول‬
‫بل جميع اجناس المخلوقات‬
‫فيه منها مثال‪ ،‬مثال الكلب والخنزير والذئب‬
‫والبهائم ‪،‬‬
‫والجن‪ ،‬والمالئكة على ما أسلفناه وشرحناه‪،‬‬

‫وكل صنعة في العالم فيه منها أنموذج‪،‬‬


‫فالقوة التي في المعدة مثل الطباخ فانه يهضم‬
‫الطعام‪،‬‬
‫والقوة التي تصفي الطعام وترسله صافية الى‬
‫الجسد‪،‬‬
‫ونقله الى األمعاء مثل القصار‪ ،‬وذلك الذي‬
‫يحيل الطعام الى لون الدم كالصباغ‪،‬‬
‫وذلك الذي يحيل الدم أيضا في الصدر لبنا‪،‬‬
‫ويحيله منيا مثل ‪،‬‬
‫وذلك الذي في كل جزء يجدب الصفراء من‬
‫العروق‪ ،‬والكبد مثل الحالب‪،‬‬
‫وذلك في الكلية يجدب الماء الى نفسه من‬
‫الكبد ويصبه في المثانة‪ ،‬مثل السقا‪،‬‬
‫وذلك الذي يرمي النقل من خارج مثل الكناس‪،‬‬
‫وذلك الذي يثير الصفراء والسوداء في داخل‬
‫البدن مثل العيار المفسد‪،‬‬
‫وذلك الذي يرفع الصفراء والعلل مثل الرئيس‬
‫العادل‪ ،‬وشرح هذا يطول‪،‬‬

‫ومقصوده ان تعلم كم من العوالم المختلفة في‬


‫باطنك‪،‬‬
‫كل واحد مشغول بشغل‬
‫وانت غافل وهم ال يغفلون لحظة عن خدمتك‬
‫وانت ال تعلم‬
‫وال تأتي بشكر من جعلهم قائمين في خدمتك‪،‬‬
‫ولو ان رجال ارسل غالمه يوما اليك ليخدمك‬
‫الشتغلت بشكره طول عمرك‬
‫والذي خلق‪ ،‬لك الف خادم ووزير ال يغفلوا‬
‫عن خدمتك لحظة واحدة‪ ،‬ال تأتي بشكره‪.‬‬

‫ومعرفة تركيب البدن‪ ،‬ومعرفة اعضائه‪ ،‬يسمى‬


‫علم التشريح‪،‬‬
‫وهو علم عظيم الخلق عنه غافلون‪ ،‬وعنه‬
‫معرضون‪،‬‬
‫وكذلك الذي يقرونه انما يقرونه ليصيروا‬
‫استاذين في الطب‪ ،‬والطب عليه مختص‪،‬‬
‫وان كانت الحاجة اليه ماسة فال تعلق لطريق‬
‫الدين به‪ ،‬اما رجل له نظر في الدين‪،‬‬
‫فانما يقره ليرى عجائب صنع اهلل تعالى‪،‬‬
‫ويعرف كمال العالم‬
‫فانه ال شيء اعجب في العالم من اختراع هذا‬
‫الشخص من قطرة ماء‪،‬‬
‫وذلك الذي يقدر على النشأة اآلخرة بعد‬
‫الموت الثاني‪،‬‬
‫انه عالم محيط علمه بجميع األشياء‪،‬‬
‫فان مثل هذه العجائب مع هذا الحكم الغريب‬
‫ال يمكن ان تكون اال بكمال علم الثالث‪،‬‬
‫اللطف والرحمة‪ ،‬والعناية بعبيده‪ ،‬فخلق لهم‬
‫كل ما يحتاجون اليه ويضطرون اليه ويتزينون‬
‫به‪،‬‬
‫والذي بالضرورة‪ ،‬فالمضطر اليه مثل القلب‬
‫والكبد والدماغ‪،‬‬
‫والذي يتعلق الحاجة به وان لم تكن الضرورة‬
‫اليه‬
‫مثل اليد والرجل والعين واللسان‪ ،‬وما ال حاجة‬
‫اليه وال ضرورة فيه ولكن فيه زيادة زينة‪،‬‬
‫ويكون ذلك في الوجه‪ ،‬مثل سواد الشعر‪،‬‬
‫وحمرة الشفة‪ ،‬واعوجاج الحاجب وغير ذلك‪.‬‬
‫وهذا اللطف والعناية لم يكن لآلدمي فقط‬
‫بل لكل زنبور حتى الزنبور والذباب اعطى كل‬
‫واحد منهم جميع ما يحتاج اليه‪،‬‬
‫فان النظر في تفصيل بدن اآلدمي مفتاح معرفة‬
‫الصفات اإللهية من هذا الوجه‪،‬‬
‫وبهذا السبب شرف هذا العلم ال من أجل ان‬
‫للطبيب اليه حاجة‬

‫وكذلك غرائب الشعر والتصانيف والصنائع‬


‫كلما علمتها اكثر‬
‫زاد في قلبك عظمة الشاعر والصانع‬
‫فكذلك عجائب صنع اهلل هي مفتاح العلم‬
‫بعظمة اهلل تعالى‪،‬‬
‫فهذه شعبة من معرفة النفس لكن مختصرة‬
‫باالضافة الى القلب‬
‫فان البدن كالمركب للقلب‬
‫والقلب مثل الفارس والمركب الجل الفارس ال‬
‫الفارس الجل المركب‪،‬‬
‫وغرضنا بهذا ان نعرف انك ال تقدر ان تعلم‬
‫نفسك على التمام بهذه السهولة‬
‫على انه ال شيء أقرب اليك منك‪ ،‬وكل من ال‬
‫يعرف نفسه ويدعي معرفة شيء آخر‬
‫مثل مفلس ال يقدر ان يطعم الطعام يدعي انه‬
‫يعطي الطعام‬
‫لفقراء البلد وهذا قبيح ومحال‪.‬‬

‫الفصل الثامن عشر‬


‫جوهر القلب وعظمته‬
‫فاذا عرفت من هذه الجملة شرف القلب وعزته‬
‫وعظمته وجوهريته‬
‫فانك اعطيت هذا الجوهر العزيز وحجب بينك‬
‫وبينه‬
‫فاذا لم تطلبه وضيعته وغفلت عنه كان لك‬
‫عقابا عظيما وخسرانا جسيما‪،‬‬
‫فاجتهد في طلب قلبك واخرجه من مشغلة‬
‫فتوصل الى كمال شرفه و عزه في ذلك العالم‬
‫اظهر‬
‫فترى الفرح بال غم والبقاء بال فناء والقدرة‬
‫بال عجز‪،‬‬
‫والمعرفة بال شبهة‪ ،‬وجمال الحضرة بال كدرة‪،‬‬
‫أما في هذا العالم فقد علم شرفه وانه صالح‬
‫الن يصل الى ذلك العز والشرف الخفي غير‬
‫انه ناقص‬
‫فانه اسير الجوع والعطش والحر والبرد‬
‫والمرض والوجع والغم واأللم والغضب‬
‫والشهوة‪،‬‬
‫فكل ما له في راحة فهو ضرر آخرته وكل ما‬
‫ينفعه فهو مقرون بالمرارة والتعب‪،‬‬
‫والشخص انما شرف وعز بالعلم‪ ،‬او بالقدرة‬
‫واإلرادة‪ ،‬او بجمال الصورة‪،‬‬
‫فان نظرت الى علمه فال ترى أجهل منه‪ ،‬فانه‬
‫اذا ضرب في جسمه عرق‬
‫وكان فيه الهالك او الجنون ال يعلم مما نشأ‬
‫وال يعلم عالجه في ماذا!!‬
‫وقد يكون عالجه بين عينيه‪ ،‬يراه وهو ال يعلمه‬
‫وان نظرت الى قوته وقدرته فاي شيء اعجز‬
‫منه‪،‬‬
‫اذ ال يقاوم ذبابة‪ ،‬ولو سلط عليه شوكة فقد‬
‫يكون هالكه منها‪،‬‬
‫ولو لسعته زنبورة تركته بال نوم وال قرار‪،‬‬
‫وان نظرت الى همته تراه يتغير ويضيق صدره‬
‫بسبب دانق‪،‬‬
‫واذا جاوز وقت اكله فألجل لقمة تراه مدهوشا‪،‬‬
‫واي شيء أخس من هذا؟‬
‫وان نظرت الى جمال صورته تراه مذبلة قد‬
‫ألبس وجهها بجلد‪،‬‬
‫وان لم يغسل وجهه ظهرت عليه من القاذورات‬
‫ما يشمئز من نفسه‪،‬‬
‫ويظهر من النتن وأمور شنيعة‪ ،‬واي شيء اشنع‬
‫من هذا‪،‬‬
‫ومما في بطنه مما هو جامع وخازن ومماذا جمل‬
‫له ويغسل القدرة بيده كذا مرة!!‬

‫كان الشيخ ابو سعيد الخرازي رحمه اهلل‬


‫يمشي مع رهط من اصحابه من الصوفية الى‬
‫موضع كان يقتضوا فيه موضع الطهارة‪،‬‬
‫وكانت النجاسة على الطريق فوقف وهربوا‬
‫كلهم الى موضع واحد‪،‬‬
‫وسدوا افواههم من قبح النتن‪،‬‬
‫فوقف الشيخ وقال‪ :‬يا قوم تعلمون ما تقول لي‬
‫هذه النجاسة!‬
‫تقول‪ :‬باالمس كنت في السوق يوزن علي ما في‬
‫األكياس‬
‫حتى احصل في ايديهم فما صحبتهم اكثر من‬
‫ليلة واحدة حتى صرت بهذه الصفة‪،‬‬
‫فيجب لي ان اهرب منكم وتهربوا مني!‬

‫وهكذا هو على الحقيقة‬


‫فان اآلدمي في هذا العالم في غاية النقصان‬
‫والعجز وعدم االنسانية‪،‬‬
‫واما نور شرفه فهو ان يكون غدا‪ ،‬اذا وضع‬
‫كيمياء السعادة على جوهر قلبه‬
‫انتقل من درجة البهائم الى درجة المالئكة‬
‫وان صرف وجهه الى الدنيا وشهواتها فضل عليه‬
‫الكلب والخنزير‬
‫فانهم يصيرون ترابا ويستريحون من التعب‬
‫ويبقى هو في العذاب‪،‬‬
‫فكما انه قد عرف شرف نفسه من هذا الوجه‬
‫كان مفتاحا من مفاتيح‬
‫معرفة اهلل سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وهذا المقدار كاف في شرح معرفة النفس‪،‬‬
‫فان مثل هذا الكتاب ال يحمل اكثر من القول‪:‬‬

‫العنوان الثاني‪( :‬في معرفة الحق‬


‫تعالى)‪:‬‬
‫اعلم ان في كتب األنبياء المتقدمين عليهم‬
‫السالم معروف هذا اللفظ‬
‫يا انسان أعرف نفسك تعرف ربك‪.‬‬
‫‪ .‬وفي اآلثار واالخبار معروف‪ ،‬فان من يعرف‬
‫نفسه يعرف ربه‪،‬‬

‫وهذه الكلمة دليل على ان نفس اآلدمي مثل‬


‫المرأة ‪،‬‬
‫كل من ينظر فيها ينظر الحق‪ ،‬وكثير من الخلق‬
‫ينظر في نفسه فال يعرف الحق‪،‬‬
‫فاذا البد من معرفة ذلك الوجه الذي انظر في‬
‫تلك المرآة معرفة للحق‪.‬‬
‫وهذا على درجتين‪ ،‬احداهما أغمض من االخرى‬
‫وال يحتمله اكثر االفهام‪،‬‬
‫وشرح ما ال تفهمه العوام ليس بصواب‪..‬‬

‫اما الوجه الذي يمكن ان يفهمه كل احد‬


‫فذلك ان اآلدمي يعرف من ذاته وجود ذات‬
‫الحق‪ ،‬ويعرف من صفاته صفات الحق‪،‬‬
‫ومن تعرفه في مملكته‪ ،‬وهو بدنه‪ ،‬او اعضاءه‬
‫تعرف الحق في جملة العالم‪،‬‬
‫وشرح هذا هوا نه لما عرف نفسه بالوجود‪،‬‬
‫وعلم انه لم يكن قبل ذلك باعوام موجود‪،‬‬
‫ولم يكن منه اسم‪ ،‬وال عالمة كما قال سبحانه‬
‫وتعالى‬
‫يكن‬
‫لم ُ‬ ‫هر‬ ‫الد‬ ‫من‬ ‫حين‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان‬ ‫لى‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫(هل أتى َع َ‬
‫ْ‬
‫شيئاً مذكوراً‬
‫أمشاج ِ‬
‫نبتليه فَ َجعلناهُ‬ ‫ٍ‬ ‫اإلنسان من نُّ ٍ‬
‫طفة‬ ‫َ‬ ‫خلقنا‬
‫إنّا ْ‬
‫سميعاً بَصيراً) [اإلنسان‪]1،2 :‬‬

‫والقدر الذي يوصل اآلدمي الى خلقته ال يكون‬


‫أكثر من وجوده اوال فطرة ما مدره ال عقل‪،‬‬
‫وال سمع‪ ،‬وال بصر‪ ،‬وال رأس‪ ،‬وال لسان‪ ،‬وال‬
‫يد‪ ،‬وال رجل‪ ،‬وال عروق‪،‬‬
‫وال عصب‪ ،‬وال عظام‪ ،‬وال لحم‪ ،‬وال جلد‪ ،‬ماء‬
‫أبيض‪ ،‬تملي صفته‪،‬‬
‫ثم هذه العجائب ظهرت فيه‪،‬‬

‫فال يخلو اما ان يكون هو الذي أظهر نفسه او‬


‫شيء آخر اظهره‪،‬‬
‫وعلم بالضرورة في حالة الكمال‪ ،‬والنهاية‪ ،‬انه‬
‫في درجة االستقالل هو عاجز عن خلق شعيرة‪،‬‬
‫فيعلم انه لما كان قطرة ماء كان أعجز وأنقص‪،‬‬
‫فاذا يعلم ذلك بالضرورة‪،‬‬
‫من وجود ذاته‪ ،‬ووجود ذات فاعل خالق‪،‬‬

‫فاذا نظر عجائب في بدنه من وجه الظاهر ومن‬


‫وجه الباطن على ما تقدم شرحه‪،‬‬
‫فيعلم ظهور قدرة خالقه على الكمال‪ ،‬وانه‬
‫يقدر ان يخلق ما يريد كما يريد‬
‫وانه اي قدرة تصير من قطرة ماء حقيرة مهينة‬
‫مثل هذا الشخص مع الجمال والكمال مع‬
‫عجائب وبدائع‬
‫واذا نظر في غرائب صفاته ومنافع اعضائه وان‬
‫واحد‪ ،‬الي حكمة خلق!!‬
‫من االعضاء الظاهرة مثل اليد والرجل والعين‬
‫واللسان واألسنان‪.‬‬
‫‪ .‬ومن األعضاء الباطنة مثل الكبد والطحال‬
‫والمرارة وغير ذلك‪،‬‬

‫فيعلم علم خالقه وانه على نهاية الكمال‪،‬‬


‫ومحيط بكل شيء‪،‬‬
‫ويعلم ان مثل هذا العالم ال يجوز ان يعزب عنه‬
‫شيء‪،‬‬
‫فان عقل جميع العقالء لو ضرب بعضهم ببعض‬
‫وأعطوا اعمار طويلة وهم مشتغلون‬
‫بالتفكر لم يقدروا على ان يأتوا بوجه اجود في‬
‫الخلقة مما هو عليه‪،‬‬

‫مثل ان يقدر صورة اخرى غير ما وضع‬


‫االنسان عليها‪،‬‬
‫فان االسنان المقدمة رؤوسها حادة لتقطع‬
‫الطعام والباقي رؤوس عريضة لتطحن الطعام‪،‬‬
‫واللسان في ذلك مثل المجرفة التي للرحى ‪،‬‬
‫ومثل األسنان الذي يرم الطعام اليها‪،‬‬
‫والقوة التي تحت اللسان‪ ،‬مثل العجان يطرح‬
‫الماء في وقت الحاجة‬
‫بقدر ما يحتاج منه فيصب الماء ليرطب الطعام‬
‫وينحدر في الحلق لئال يغص به‪،‬‬
‫فجميع عقل العقالء ال يقدرون على ان يتفكروا‬
‫في شيء من الصور االخرى أكمل وال أملح‪،‬‬

‫وكذلك اليد فانها تحوي خمسة أصابع‪،‬‬


‫اربع منها في صفة‪ ،‬واإلبهام ابعد منها‪ ،‬وأفضل‬
‫في الطول‪،‬‬
‫وانما ذل‪ ،‬ليتمكن ان يفعل لكل واحد منها فعال‬
‫وشغال‪،‬‬
‫ولكل واحد منها‪ ،‬ثالث ‪ ،‬أنامل‪ ،‬واإلبهام‬
‫انملتان ظاهرتان‪،‬‬
‫فاتخذ ذلك ليقتبض بها ما يشاء‪ ،‬ويتخذها‬
‫مجرفة‪،‬‬
‫واذا اراد ان يفتحها ويتخذ منها طبقا ويلطفها‬
‫ويصغرها فتصير ملعقة وأشياء أخرى ‪.‬‬

‫ولو ان عقل جميع العقالء ارادوا التفكر في‬


‫وجه آخر‬
‫في موضع اليد واألصابع في صف واحد‬
‫وثالث في جانب آخر‪،‬‬
‫وهذه الخمس بست وأربع‪ ،‬وكل يتفكر فيه‪،‬‬
‫يقال هو ناقص‪،‬‬
‫واكمل ذلك كله ما خلقه اهلل تعالى‬

‫فعلم بهذا ان خالق هذا الشخص محيط‪ ،‬وعلى‬


‫كل شيء مطلع‪،‬‬
‫وفي كل جزء من اجزاء عالم اآلدمي حكم‬
‫كثيرة‪،‬‬
‫وايضا فكل من قرأ هذا العلم اكثر كان تعجبه‬
‫من عظمة اهلل أكثر‪،‬‬
‫واذا نظر اآلدمي في حاجات نفسه اولها‬
‫األعضاء‪ ،‬ثم الى العظام واللباس‪،‬‬
‫والسكر‪ ،‬وحاجة طعامه‪ ،‬الى المطر والريح‬
‫والغيم والبرد والحر‬
‫والى الصنائع الى ان يقضي االمر بها الى‬
‫صالح ذلك‪،‬‬
‫وحاجته الى هذه اآلالت بالهداية والمعرفة وانه‬
‫كيف يتحد‪،‬‬
‫ثم ينظر حينئذ ان هذا كله مخلوق ومصنوع‬
‫على التمام والمالحة‪،‬‬
‫ومن كل واحد منها يتخذ انواع لو لم يكن‬
‫كذلك الشيء‬
‫لما كانت تلك االنواع ولما خطر ببال احد‬
‫شيء منها أعطي ما يحتاج اليه‬
‫و ما يريده من غير طلب وال علم بل كلها‬
‫مهيئات باللطف والرحمة‪،‬‬

‫فتعلم من هاهنا صفته حاجة جميع األولياء‪،‬‬


‫وذلك هو اللطف والعناية بجميع المخلوقات‪،‬‬
‫كما قال تعالى‬
‫سبقت رحمتي غضبي‪ ،‬وكما قال رسول اهلل‬
‫(ص)‬
‫(شفقة اهلل على العبيد اكثر من شفقة الوالدة‬
‫على ولدها الصغير)‪..‬‬

‫فاذا قد علم بنظره الى وجود ذاته ووجود‬


‫الحق تعالى‬
‫في كثرة تفاضل اجزاء نفسه وأطرافه رأى كما‬
‫قدرة الحق‪،‬‬
‫وفي عجائب الحكم ومنافع اطراف نفسه‬
‫رأى جمال علم الحق في اجتماع‬
‫ما كانت الحاجة اليه ماسة والضرورة داعية‬
‫والمالحة‪،‬‬
‫فتجدها كانها مخلوقة معه فيرى لطف اهلل‬
‫ورحمته‪.‬‬
‫فاذا بهذا الوصف قد صارت معرفة النفس‪،‬‬
‫مفتاح معرفة الحق ‪.‬‬
‫الفصل التاسع عشر‬
‫صفات الحق من صفات النفس‬
‫فكما انه قد عرف صفات الحق من صفات‬
‫نفسه‪،‬‬
‫وعلم ذات الحق من ذاته فيعلم ايضا تقديسها‬
‫ومعنى البد ء ليس التنزيه في الحق‪ ،‬انه مطهر‬
‫من كل ما يدخل في الوهم والخيال‪،‬‬
‫ومنزه من اضافة الى مكان‪ ،‬وان كان ليس‬
‫موضع مجال من تصرفه واآلدمي انموذج هذا‬
‫يراه من نفسه‪،‬‬
‫فان حقيقة روحه الذي منزه مما يدخل في‬
‫الوهم والخيال‪ ،‬فاننا قلنا ال مقدار له وال كمية‪،‬‬
‫وال يقبل القسمة‪،‬‬

‫واذا كان كذلك‪ ،‬فال يكون له لون‪ ،‬وكل ما ال‬


‫يكون له لون وال مقدار‬
‫فال يدخل في الخيال بحال من االحوال فانه‬
‫انما يدخل في الخيال بحال من االحوال‬
‫فانه انما يدخل في الخيال شيء قدر رآه البصر‬
‫او شيء من جنسه‬
‫وليس في والية البصر والخيال غير االشكال‬
‫وااللوان ما يراه من تقاضي الطبع‪،‬‬
‫اذ ذلك الشي كيف هو!! فمعناه ان ذلك‬
‫الشيء ما لونه!!‬
‫وعلى اي شكل هو!! كبير او صغير!!‬
‫فشيء ليس بهذه الصفات طريق فسؤال الكيف‬
‫في باطل!!‬

‫فان أردت ان تعلم انه يجوز ان يكون شيء ال‬


‫طريق للكيفية اليه‪،‬‬
‫فانظر الى حقيقة نفسك‪ ،‬فان تلك الحقيقة‬
‫التي هي محل المعرفة ال تقبل القسمة‪،‬‬
‫وليس للمقدار وال للكيفية وال للكمية اليها‬
‫طريق‪ ،‬فان سال سائل ان الروح كيف هو!!‬
‫فجوابه ان يقال ال طريق للكيفية اليه‪ ،‬فاذا‬
‫عرفت نفسك بهذه الصفة‬

‫فاعلم الحق تعالى بهذا التقديس أولى ‪،‬‬


‫والخلق يتعجبون من موجود يكون بال كيفية‬
‫وال كمية‪ ،‬وهم كذلك‪،‬‬
‫وهم ال يعرفون انفسهم‪،‬‬

‫بل اآلدمي لو طلب في بدنه ألف شيء بال كيف‬


‫لزاد‪،‬‬
‫فانه يرى في نفسه الغضب والعشق‪ ،‬واآلالم‬
‫واللذة‪ ،‬ولو طلب الكيفية والكمية لذلك‪،‬‬
‫لم يقدر عليها‪ ،‬فان هذه األشياء‪ ،‬ال شكل لها‪،‬‬
‫وال لون‪ ،‬وال طريق الى هذا السؤال البتة‪،‬‬
‫بل ان رجال طلب حقيقة الصوت‪ ،‬او حقيقة‬
‫الشم‪ ،‬او حقيقة المطعم‪،‬‬
‫انها كيف‪ ،‬يعجز عن ذلك‪،‬‬
‫وسبب هذا ان الكيفية والكمية يتقاضاهما‬
‫الخيال‪،‬‬
‫فانه الحاصل من خاصية البصر‪ ،‬فحينئذ يطلب‬
‫من كل شيء نصيب اليه‪،‬‬
‫والذي في والية السمع‪ ،‬مثل الصوت مثال‪،‬‬
‫فليس للبصر فيه نصيب‬
‫بل كلية الكمية والكيفية محال‪ ،‬فان الصوت‪،‬‬
‫منزه عن نصيب البصر‪،‬‬
‫كما ان الشكل واللون منزه عن نصيب السمع‬

‫فكذلك خاصية القلب‪ ،‬والذي يدرك ويعلم‪،‬‬


‫وبالعقل فكذلك منزه عن نصيب جميع الحواس‪،‬‬
‫والكمية والكيفية انما يكون في المحسوسات‪،‬‬
‫ولهذا تحقيق وغور شرحناه في كتاب‬
‫(المعقوالت) فيكفينا هذا القدر في هذا‬
‫الكتاب‪،‬‬

‫والمقصود ان اآلدمي يمكن ان يعلم من نفسه‬


‫انه بال كيفية وال كمية وان الحق ال كيفية وال‬
‫كمية‪ ،‬ويعلم انه موجود‪،‬‬
‫كما ان الروح موجود‪ ،‬وملك البدن‪ ،‬وكل ما‬
‫في البدن‪ ،‬ماله كيفية وال كمية‪،‬‬
‫و من ماله كيفية وال كمية فكله مملكة‪ ،‬فالحق‬
‫تعالى بال كيفية وال كمية‪،‬‬
‫وكل ماله كيفية وال كميه مثل المحسوسات‬
‫فكلها مملكته‪.‬‬

‫‪ .‬النوع اآلخر في التنزيه‬


‫وهو أنك ال تضيفه الى موضع‪ ،‬والروح فال‬
‫يمكن اضافتها الى شيء من االعضاء‪،‬‬
‫فانه ال يمكن ان يقال في اليد وال في الرجل‬
‫وال في الرأس وال في موضع آخر‪،‬‬
‫بل جميع اعضاء البدن‪ ،‬تقبل القسمة‪ ،‬وهو ال‬
‫يقبل القسمة‪،‬‬
‫وما ال يقبل في ما يقبل القسمة محال ان يحل‬
‫فيه‪،‬‬
‫فانه يصير ايضا قابال للقسمة‪،‬‬
‫فكما انه ال يقبل االضافة الى شيء من االعضاء‬
‫فال شيء من االعضاء خال من تصرفه وتحت‬
‫امره وهو ملك الجميع‪،‬‬
‫ما ان جميع العالم في حضرة ملك العالم‪ ،‬وهو‬
‫منزه عن ان يضاف موضع خاص‪،‬‬
‫وتمام هذا النوع من التقديس انما يظهر باظهار‬
‫خاصية الروح وسرها‬
‫وليس في ذلك رخصة في شرحه عند من ال‬
‫يفهمه‪،‬‬
‫ويظهر في تمام ذلك معنى قوله (ص)‬
‫(ان اهلل خلق آدم على صورته) وقيل على‬
‫صورة الرحمن جل وعال‪.‬‬

‫الفصل العشرون‬
‫علم الحق وتنزيهه‬
‫فاذا علم ذات الحق‪ ،‬وعلم أيضا تنزيهه عن‬
‫اضافته الى مكان‪،‬‬
‫ومفتاح ذلك كله نفس اآلدمي‪ ،‬فهاهنا أيضا باب‬
‫آخر يحتاج الى معرفته‪،‬‬
‫وذلك معرفة انفاذ في معرفته كيف هي‪ ،‬وعلى‬
‫اي وجه يكون‪،‬‬
‫ومن يأمر من المالئكة ومن يأتمر ويقضي في‬
‫األمر‪،‬‬
‫وتحريك السماء‪ ،‬والنجوم‪ ،‬وارتباط أمور أهل‬
‫األرض بالسماوات‪،‬‬
‫والحق له على السموات بمفاتيح االرزاق‪،‬‬
‫وكيفية هذا‪ ،‬وكيف هي‪،‬‬
‫وهذا باب عظيم في معرفة الحق تعالى وتسمى‬
‫هذه المعرفة االفعال‪،‬‬
‫ومفتاح هذا معرفة النفس‪،‬‬
‫وكيف انت تعرف ملك نفسك في مملكتك‪،‬‬
‫كيف تمضيه‪،‬‬
‫فكيف تريد ان تعرف ملك العالم؟‬
‫أوال اعرف واحدا من أفعالك‪ ،‬مثال الكتابة‪،‬‬
‫فاذا أردت ان تكتب على الكاغد ‪ :‬بسم اهلل‬
‫الرحمن الرحيم‪،‬‬
‫فاول ما يظهر فيك رغبة وارادة ثم تظهر في‬
‫قلبك حركة واضطراب‪،‬‬
‫اعني هذا القلب الطاهر‪ ،‬الذي هو لحم في‬
‫الجانب األيسر [من الصدر]‬
‫ويتحرك من هذا القلب جسم لطيف يصعد الى‬
‫الدماغ‪،‬‬
‫وهذا الجسم اللطيف تسميه االطباء روحا‪ ،‬فانه‬
‫كمال قيمة الحسن والحركة‪،‬‬
‫وهذا روح آخر للبهائم مثله‪ ،‬وللموت اليه‬
‫طريق‪،‬‬

‫وانما الروح اآلخر الذي سميناه القلب ال يكون‬


‫للبهائم وال يموت قط‪،‬‬
‫فانه محل لمعرفة اهلل تعالى‪ ،‬فاذا وصل هذا‬
‫الروح الى الدماغ‬
‫وحصلت صورة بسم اهلل الرحمن الرحيم في‬
‫خزانة اول الدماغ‪ ،‬موضع قوة الخيال‪،‬‬
‫وظهر ذلك‪ ،‬فيتعلق اثر ذلك باالعصاب التي‬
‫منشأها من الدماغ‪،‬‬
‫فتصل بجملة االعضاء‪ ،‬فيبلغ رؤوس االصابع‬
‫كالخيوط‪،‬‬
‫ويظهر ذلك على ساعد من كان نحيف البدن‪،‬‬
‫ويمكن ان يشاهد‪،‬‬
‫فتتحرك تلك االعصاب‪ ،‬فبحركتها تتحرك‬
‫رؤوس االصابع‪،‬‬
‫وبتحريك رؤوس االصابع يتحرك القلم‪،‬‬
‫والقلم يحرك الحرف‪،‬‬
‫فتظهر من ذلك صورة بسم اهلل الرحمن الرحيم‪،‬‬
‫على الكاغد‬
‫على ما في وفق خزانة الخيال بمعاونة الحواس‬
‫خصوصا العين‬
‫من جملة البدن فان يحتاج اليه في الكتابة‪.‬‬
‫وكما ان أول االمور رغبة ظهرت فيك‪،‬‬
‫فان أول األمور كلها صفة من صفات اهلل تعالى‬
‫تسمى االرادة‪.‬‬
‫وكما ان اول االرادة تلك الرغبة‬
‫ظهرت في قلبك ثم بواسطة ذلك ووصل الى‬
‫موضع آخر‪،‬‬
‫فأول اثر ارادة الحق تعالى ظهر على العرش‪،‬‬
‫ثم وصل الى الباقي‬

‫وكما ان جسما لطيفا مثل البخار من عروق‬


‫القلب أوصل هذا األثر الى الدماغ‪،‬‬
‫وهذا الجسم يقال له الروح وهو جوهر لطيف‪،‬‬
‫فالحق اوصل ذلك االثر من العرش الى الكرسي‬
‫بواسطة جوهر‪،‬‬
‫وذلك الجوهر يسمى ملكا‪ ،‬ويسمى روح‬
‫القدس‪.‬‬
‫وكما ان آثار ذلك يصل من القلب الى الدماغ‬
‫والدماغ مع القلب في حكم الوالية والتصرف‪،‬‬
‫فاالثر االول من عرش اهلل تعالى واصل الى‬
‫الكرسي‪ ،‬وكما ان صورة بسم اهلل الرحمن‬
‫الرحيم‪،‬‬
‫الذي هو مرادك‪ ،‬ويكون من فعلك‪،‬‬
‫تظهر في خزانة االول من الدماغ ويظهر الفعل‬
‫على وفق ذلك‪،‬‬
‫فكل ما في العالم بتمامه ينبغي ان يكون نقشه‬
‫في اللوح المحفوظ‪،‬‬
‫وكما ان القوة التي في الدماغ المحركة لجميع‬
‫االعصاب تحرك اعصاب اليد واالصابع والقلم‪،‬‬
‫فكذلك الجواهر اللطيفة الموكلة بالعرش‬
‫والكرسي تحرك السماوات والكواكب‪،‬‬
‫وكما ان قوة الدماغ بالروابط واألوتار‪،‬‬
‫واالعصاب تحرك االصابع‪،‬‬
‫فالجواهر اللطيفة المسماة بالملكية بواسطة‬
‫الكواكب وروابط ساعاتها بعالم السفلي‬
‫تحرك طبائع امهات العالم السفلي الذي يسمى‬
‫اربع طبائع ‪ :‬الحرارة والرطوبة والبرودة‪،‬‬
‫واليبوسة‪،‬‬

‫وكما ان القلم يجمع المداد ويفرقه‪،‬‬


‫ليظهر صورة بسم اهلل الرحمن الرحيم‪،‬‬
‫والحرارة والبرودة والماء والتراب‬
‫وأمهات هذه المركبات محركة‪ ،‬وكما ان‬
‫الكاغد يقبل المداد اذا فرق عليه او جمع‪،‬‬
‫فكذلك رطوبة هذه المركبات قابلة لالشكال‪،‬‬
‫وكما انها تصير حافظة لالشكال‪،‬‬
‫فكذلك اليبوسة اذ لم تكن الرطوبة لما قبلت‬
‫األشكال‪،‬‬
‫ولو لم تكن اليبوسة لما انحفظت األشكال‬
‫تم الكتاب بعون اهلل وحسن توفيقه‪،‬‬
‫والحمد هلل رب العالمين وصلى اهلل على سيدنا‬
‫محمد وعلى آله‬
‫وصحبه وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين‪.‬‬

‫تم‬

You might also like