You are on page 1of 577

‫دراسات نقديَّة يف أعالم الغرب (‪)3‬‬

‫مارتن هايدغر‬
‫مقاربات نقديَّة لنظامه الفلسفي‬

‫جمموعة باحثني‬
‫دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪)3‬‬
‫مارتن هايدغر‬
‫مقاربات نقد َّية لنظامه الفلسفي‬
‫جمموعة باحثني‬
‫الطبعة األُو ىل‪1441 :‬هـ ‪2020 /‬م‬
‫العتبة الع َّباس َّية املقدَّ سة‬
‫املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيج َّية‬
‫الفهرس‬

‫مقدّ مة املركز ‪5 ........................................................................‬‬


‫األول‪ :‬هايدغر يف العامل اإلسالمي والعريب ‪7 ........................................‬‬
‫القسم َّ‬
‫حممد اسرب ‪9 ...................‬‬
‫عيل ّ‬
‫معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر‪ّ /‬‬
‫ى‬ ‫دالالت‬
‫حممد رضا أسدي ‪43..........................‬‬
‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة‪ّ /‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود‪ /‬زهري أنصاريان ورضا أكربيان‪59.........................‬‬
‫حممد رضا أسدي‪81.......................................‬‬
‫العالقة بني النظر والعمل‪ّ /‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل (املُبتذل)‪ /‬رضا دهقاين ومحيد رضا آية اللهي ‪95...‬‬
‫حممد بيدهندي ‪129 .....‬‬ ‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ه‬
‫املتأِّلني وهرمنيوطيقا هايدغر‪ّ /‬‬
‫موسى وهبه ‪151 .......‬‬
‫ى‬ ‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن ْ‬
‫أن تقال‪ :‬اِّلايدغر َّية بلغة العرب؟‪/‬‬
‫القسم الثاين‪ :‬هايدغر والغرب‪171 ........................................................‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر‪ /‬أمري ع َّباس الصاحلي ‪173 ......................‬‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية‪ /‬سعيد بيناي مطلق وس هيد جميد كامل‪197.....‬‬
‫مصطلح األصالة‪ :‬مدخل إ ىل نقد ماركيس ِّلايدغر‪ /‬غريي ستال ‪219 ..................‬‬
‫وجمتبى اعتامدي نيا ‪233..‬‬
‫ى‬ ‫عيل أصغر مصلح‬ ‫هايدغر ونقد ا ُ‬
‫ألسس النظر َّية ِّلرم الوجود األكرب‪ّ /‬‬
‫عيل‬
‫حممد جواد س هيدي وأمحد ّ‬ ‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية‪ /‬الس هيد ّ‬
‫حيدري‪261 ..........................................................................‬‬
‫هايدغر ناقدا هيغل‪ /‬فرانك درويش ‪287 .............................................‬‬
‫هايدغر ناقدا نيتشه‪ /‬آالن دي بينوا‪311 ...............................................‬‬
‫عيل جعفر ‪329 ..................................‬‬
‫األصل يف التقن َّية‪ /‬صفاء عبد السالم ّ‬
‫ب‪ /‬مشري باسيل عون ‪361 ..................‬‬ ‫التقنية احلديثة ثمرة العقل املِ‬
‫تافيزيائي الغر ّ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫‪ ❖ 4‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا‪ /‬خشايار برومند والس هيد حسني احلسيني‪409....‬‬
‫هايدغر واملوت (نقد إفراغي)‪ /‬باول إدواردز ‪441 ....................................‬‬
‫من العدم إ ىل البحث عن جالء الفطرة‪ /‬ديفيد تشاي‪477 ..............................‬‬
‫هل كان هايدغر صوف ًّيا؟‪ /‬جيف غيلفورد‪505 ........................................‬‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ‪519 .....................................................‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ‪543 ...............................................‬‬

‫* * *‬
‫مقدّمة املركز‬

‫الظاهرة الغرب َّية يف عرصنا الراهن واسعة النطاق ومع َّقد ٌة غاي َة التعقيد لدرجة َّأّنا بسطت‬
‫عل مجيع بقاع العامل‬
‫نفوذها وجتاوزت تأريخ العامل الغرب وحدوده اجلغراف َّية ل ُتلقي بظالِّلا ى‬
‫عل سائر األنظمة‬ ‫وتسود يف خمتلف األوساط الفكر َّية املعارصة‪ ،‬ومن َث َّم قطعت الطريق ى‬
‫املعرف َّية لتقول كلمتها‪.‬‬
‫عل عاملقة تأريخ‬ ‫الفكر الغرب املعارص رغم سطوته وسلطته الواسعة‪َّ ،‬إال أ َّنه ه‬
‫متقو ٌم ى‬
‫مدين للمف هكرين القدماء واملدارس الفكر َّية والفلسف َّية التي‬
‫ٌ‬ ‫الفكر البرشي‪ ،‬وهو ه‬
‫بكل وجوده‬
‫أن تأثري علامء العصور الكالسيك َّية واحلديثة‬ ‫تأ َّلقت يف العهود السابقة؛ واجلدير بالذكر هنا َّ‬
‫ٌ‬
‫شامل وباق‪.‬‬ ‫عل هذا الفكر‬
‫ى‬
‫بعد إخفاق العلامء الغرب هيني يف صياغة األُنموذج األمثل الذي كانوا يطمحون لرتوجيه يف‬
‫احلياة االجتامع َّية لإلنسان احلديث‪ ،‬وإثر عدم توقفهم عن الفضول املعريف إزاء شت ىّى‬
‫األوساط الفكر َّية يف املجتمعات غري الغرب َّية؛ واجه املف هكرون الرشقيون والغربيون‬
‫ٌ‬
‫سؤال‬ ‫املعارصون سؤاال مصري ًّيا ال حميص منه حول الظاهرة الغرب َّية الواسعة واملع َّقدة؛ فهو‬
‫ٌ‬
‫مشرتك‪ ،‬حيث يواجهه من يتصدَّ ىى ملواجهة املده الفكري الغرب‪ ،‬وكذلك من يدعو إ ىل احلوار‬
‫والتبادل املعريف‪.‬‬
‫عل ضوء‬‫هذه املواجهات الفكر َّية يف عرصنا احلارض حمتدم ٌة يف باطن العامل الغرب أيضا ى‬
‫ظهور العديد من املصطلحات‪ ،‬مثل «مركز َّية ُأوروبا» و«العوملة» و«األمركة»‪ ،‬وما‬
‫َ‬ ‫نقد أثمر‬
‫شاكلها‪.‬‬
‫سلسلة «دراسات نقد َّي ة يف أعالم الغرب»‪ ،‬ضمن هدفها األسايس الذي يتمحور حول‬
‫الدراسات النقد َّية للفكر الغرب يف إطار بحوث حتليل َّية نقد َّية للمنظومات الفكر َّية لفطاحل‬
‫الفكر الغرب ورواده الذين أنشؤوه بفضل جهودهم الفكر َّية‪ ،‬تتمحور مواضيعها حول بيان‬
‫اِّلواجس والتساؤالت املطروحة بخصوص ما ُذكِ َر‪.‬‬
‫‪ ❖ 6‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫نتعرض للفيلسوف األملاين مارتن هايدغر‪ ،‬وهو بال شك‬ ‫يف هذا اجلزء من السلسلة َّ‬
‫عل مكانة‬
‫أهم فالسفة القرن العرشين؛ إذ حصل من خالل كتابه الكينونة والزمان ى‬ ‫واحد من ّ‬
‫مرموقة وممتازة‪َّ .‬‬
‫إن اجلانب األصيل املم هيز لتفكريه يكمن يف اهتاممه باألزمة‪ ،‬سواء أخذنا‬
‫ذلك يف حقل املعرفة والفلسفة أو يف حقل التكنولوجيا وكينونة اإلنسان املعارص‪.‬‬
‫وبذلك يكون هايدغر ناقدا للناحية امليتافيزيق َّية والفلسف َّية للحضارة الغرب َّية ح َّت ىى‬
‫إل‬
‫عرصه‪ ،‬حيث يعيدها إ ىل الوراء يف إطار «نسيان الوجود والتأمل يف املوجد» وصوال ى‬
‫اليونان القديمة‪ ،‬كام هو ناقد للنزعة العمالن َّية والتكنولوج َّية للحضارة الغرب َّية احلديثة‪ ،‬التي‬
‫عل قطع االرتباط‬
‫عملت ‪ -‬من خالل هيمنة النظرة امليكانيك َّية والرياض َّية إ ىل العامل ‪ -‬ى‬
‫تم التأسيس لسلسلة من األزمات‪ ،‬ابتداء من‬ ‫اجلوهري بني اإلنسان والعامل‪ .‬وبذلك َّ‬
‫إل اإلنسان‪ ،‬وصوال إ ىل األزمات األنطولوج َّية‬
‫األزمات البيئ َّية الناشئة من النظرة اآللية ى‬
‫لإلنسان‪.‬‬
‫األول يتع َّلق بمقاربة أفكار هايدغر‬
‫وقد تم تدوين بحوث هذا الكتاب يف قسمني‪ :‬القسم َّ‬
‫يف املناخ اإلسالمي والعرب‪ ،‬والقسم الثاين يتع َّلق برؤية الغرب إ ىل هايدغر ورؤية هايدغر ى‬
‫إل‬
‫أن نختار البحوث التي متتاز بالنقد والتحليل‪.‬‬ ‫الغرب‪ .‬وحاولنا ْ‬
‫أن ينال رضاهم ْ‬
‫وأن يساهم يف تنمية‬ ‫ونحن إذ ُنقده م هذه السلسلة إ ىل ُق َّرائنا الكرام‪ ،‬نأمل ْ‬
‫أن نشيد بجهود ه‬
‫كل من ساهم يف إنجاز هذا‬ ‫الوعي النقدي يف ساحتنا اإلسالم َّية‪ .‬وال يفوتنا ْ‬
‫العمل‪ ،‬وأخص بالذكر منهم الدكتور أمري ع ّباس صاحلي‪ ،‬حيث قام بإعداد وحترير هذه‬
‫حممد حسني الكيانی والس هيد‬
‫املوسوعة‪ ،‬وكذلك الدكتور الس هيد حمسن املوسوي‪ ،‬والدكتور ّ‬
‫حممد رضا الطباطبائي حيث قاموا باإلرشاف واملتابعة‪ ،‬وكذلك مجيع من ساهم يف إنجاز هذا‬
‫ّ‬
‫العمل‪.‬‬
‫عل رسوله األمني وآله‬ ‫ِ‬
‫رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم ى‬
‫وآخر دعوانا أن احلمد هلل ه‬
‫امليامني‪.‬‬

‫النجف األرشف‬
‫رجب‪1441 /‬هـ‬
‫املبعث النبوي الرشيف‬
‫القسم األوَّل‬

‫هايدغر يف العامل اإلسالمي والعربي‬


‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر‬
‫حممد اسرب‬
‫عل ي‬‫ي‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫لقد أرا َد الفيلسوف األملاين مارتن هايدغر من خالل جتربته الفلسف َّي ِة ْ‬
‫أن َ‬
‫يصل إ ىل حتقيق غاية‬
‫عل‬
‫ملعنى الوجود عا َّمة‪ُ ،‬م َع هوال ى‬
‫ى‬ ‫جوهر َّية بالنسبة له‪ ،‬وهي الوصول إ ىل وض ِع تفسري ّنائي‬
‫علم وجود ظاهر َّيات يبحث يف املوجود اإلنساين ابتغاء فهم الوجود يف ك ّل َّيته؛ َّ‬
‫لكن هايدغر‬
‫عل أنَّه األساس‬
‫تعر َض أثناء حتليالته لعقبات تعود إ ىل أنَّه حدَّ َد وجود اإلنسان يف العامل ى‬
‫َّ‬
‫املنحى؛ غري َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫أي استقصاء يتع َّلق ببلو ِغ احلقائق املنشودة يف هذا‬
‫الوحيد املمكن للرشو ِع يف ه‬
‫املوجودات اإلنسان َّية ال تنطبق عليها ‪ -‬من حيث وجودها ‪ -‬كيف َّي ٌة واحد ٌة بعينها للوجود‬
‫ول َ‬
‫دون تعيني هذه املوجودات‬ ‫بحيث تستغرقها كا َّفة‪ ،‬وإ َّنام تتوزَّ عها كيف ّيات متعده دة خمتلفة َ ُ‬
‫حت ُ‬
‫ت‪ .‬ومن هنا جلأ‬
‫اإلنسان َّية أنفسها يف نموذج يكون نقطة االنطالق لعلم الوجود الظاهر َّيا ه‬
‫هايدغر إ ىل فكرة االنعطاف بقصد تسويغ إمكان االنطالق لفلسفته‪ ،‬فكان االنعطاف بالنسبة‬
‫له حمورا رئيس ًّيا تدور فلسفته كلها حوله‪ ،‬فكل ما ُي ْب ِعدُ املوجودات اإلنسان َّية عن كيف َّي ِة‬
‫عل صلة وثيقة بالوجود‪ ،‬هو انعطاف عن الوجود أو ابتعاد‬ ‫وجودها التي تكون من خالِّلا ى‬
‫قر ُب املوجودات اإلنسان َّي َة من‬
‫املعنى النهائي لإلنسان َّية؛ وباملقابل كل ما ُي ه‬
‫ى‬ ‫عنه‪ ،‬من حيث إنَّه‬
‫معنى اإلنسان َّية‪.‬‬
‫ى‬ ‫الوجود هو انعطاف إ ىل الوجود أو اقرتاب منه‪ ،‬وهنا َيت ََح َّق ُق‬
‫لكن هايدغر مل يتم َّكن من االستمرار يف البحث ى‬
‫عل هذا النحو‪ ،‬ونقل فكرة االنعطاف‬
‫عل هاّتاذ املواقف‬
‫من املوجودات اإلنسان َّية إ ىل الوجود ذاته‪ ،‬ونظر إ ىل الوجود بوصفه قادرا ى‬
‫إزاء البرش بانعطافه إليهم أو انعطافه عنهم وف َقا لقابل ّياهتم‪.‬‬
‫حتو َل عن فهم الوجود عا َّمة ابتداء من الوجود‬ ‫وهنا غَ َّ َري هايدغر مسار تفكريه ْ‬
‫بأن َّ‬
‫العام‪.‬‬
‫باملعنى ه‬
‫ى‬ ‫اإلنساين‪ ،‬إ ىل فهم الوجود اإلنساين ابتداء من الوجود‬
‫‪ ❖ 10‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املقدّمة‪:‬‬
‫إل مصطلح االنعطاف(‪ )1‬يف ُأ فق جتربة الفيلسوف األملاين مارتن هايدغر‬
‫النظر عموما ى‬
‫ُ‬ ‫يمكن‬
‫ه َّية‪ ،‬نظرا ملا ينطوي عليه‬
‫عل أنَّه مصطلح شديد االلتباس وفائق األ ّ‬
‫(‪1976 - 1889‬م)‪ ،‬ى‬
‫من دالالت خمتلفة يتداخل بعضها مع بعض‪ ،‬وتتعالق مع سريته الثقاف َّية يف مجلتها‪.‬‬
‫أن هايدغر نفسه قد و َّظ َ‬
‫ف مصطلح االنعطاف يف سياقات ُمتعده دة‪ ،‬تقتيض‬ ‫وهذا يعود إ ىل َّ‬
‫تنوعة ومتباينة أحيانا‪ ،‬نجدها بداية يف صيغة باكور َّية يف كتاب هايدغر الوجود‬
‫دالالت ُم ه‬
‫والزمان الصادر عام ‪ ،1927‬ومن َث َّم نالحظها يف جمموعة حمدَّ دة من أعامله الفلسف َّية‬
‫َّ‬
‫الالحقة‪.‬‬
‫هذا أل َّن مصطلح االنعطاف ُيس َتخدم للتعبري عن التغريات يف مسار فلسفة هايدغر‪ ،‬من‬
‫حيث أولو ّيات هذه الفلسفة واهتامماهتا وكيف َّية تناوِّلا ملوضوعاهتا‪ ،‬كام َّ‬
‫أن هذا املصطلح عينه‬
‫األول‬
‫يف سياق ُحمدَّ د يقف وراء القسمة الشهرية يف شخص َّية هايدغر الفلسف َّية إ ىل هايدغر َّ‬
‫إل نرشه ملؤ َّلفه‬
‫الفلسفي‪ ،‬وصوال ى‬
‫ه‬ ‫أن هايدغر منذ ْ‬
‫أن بدأ بالتأليف‬ ‫بمعنى‪َّ :‬‬ ‫ى‬ ‫وهايدغر الثاين‪،‬‬
‫أن مؤ َّل ِ‬
‫فاته الفلسف َّية التي جاءت‬ ‫األول‪ ،‬بسبب َّ‬ ‫ِ‬
‫اآلنف الذكر الوجود والزمان ُدع َي هبايدغر َّ‬
‫أفىض إ ىل‬
‫ى‬ ‫السابق ما‬
‫الفلسفي بصورة خمتلفة عن َّ‬
‫ه‬ ‫بعد الوجود والزمان َح َّق َق ْت ُن ْق َلة يف تفكريه‬
‫عي بـ هايدغر الثاين‪ .‬وهذا كله جاء يف سبيل‬ ‫انعطاف أو َحتَول ُم َّ‬
‫عني يف فلسفته‪ ،‬ومن هنا ُد َ‬
‫إقامة التمييز بني طروح هايدغر كام جت َّلت بشكل خاص يف كتابه الوجود والزمان وطروحه‬
‫كام جت َّلت يف مؤ َّلفاته الفلسف َّية التالية لـ الوجود والزمان‪.‬‬
‫ِ‬
‫الذكر‪ ،‬فهو يقول يف رسالة له بعثها‬ ‫القسمة الس ِ‬
‫الفة‬ ‫ِ‬ ‫يعرتف هبذه‬
‫ُ‬ ‫أن هايدغر نفسه‬ ‫والواقع َّ‬
‫َّ‬
‫إ ىل األب ويليم ج‪ .‬ريتشاردسون(‪ُ )2‬أستاذ الفلسفة يف ك ّل َّية بوسطن(‪ ،)3‬بسبب َّ‬
‫أن‬
‫ريتشاردسون كان َّأو َل من أعلن التمييز بني هايدغر َّ‬
‫األول وهايدغر الثاين‪:‬‬
‫ربر ًا رشيط َة أن‬
‫يكون ُم َّ‬
‫ُ‬ ‫األو ِل وهايدغر الثاين‬
‫إن التمييز الذي أجري َت ُه بني هايدغر َّ‬
‫َّ‬

‫‪(1) Die Kehre،The Turn.‬‬


‫‪(2) William J. Richardson.‬‬
‫‪(3) Boston College.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪11‬‬

‫نحو دائم يف الذهن‪ :‬يمكن للمرء فقط عن طريق ما َفك ََّر فيه‬ ‫يبقى التايل م َّا أقو ُل ُه عىل ٍ‬
‫الوصول إىل ما هو ُم َفكَّر فيه من قِ َب ِل هايدغر الثاين؛‬
‫ِ‬ ‫األول أن يبلغَ وسيل َة‬ ‫هايدغر َّ‬
‫األول يصري مكن ًا فقط إذا كان ُحمتوى يف فكر هايدغر الثاين(‪.)1‬‬ ‫لكن فكر هايدغر َّ‬
‫أن هايدغر استخدم مصطلح االنعطاف بوصفه ُحمده دا لكيف َّية العالقة‬ ‫و ُيضاف إ ىل ما سبق َّ‬
‫خاصة أ َّنه بفعل ثورة التقن َّية األُوروب َّية يف العرص احلديث مل َي ُعدْ الفكر‬
‫بني البرش والوجود‪َّ ،‬‬
‫معنى الوجود وحجب حقيقته‪.‬‬
‫ى‬ ‫اإلنساين مكرتثا بمسألة الوجود‪ .‬وهذا أ َّد ىى إ ىل غموض‬
‫مدى تعق ِد دالالت مصطلح االنعطاف وتداخلها وتشابكها بعضها مع‬ ‫ى‬ ‫إذا يظهر جل ًّيا‬
‫بعض يف جتربة هايدغر الفلسف َّية‪ ،‬لذلك هيدف هذا البحث ليكون بمثابة حماولة لفض مكنون‬
‫معنى االنعطاف‪ ،‬لتبيان جوانب ها َّمة يف فلسفة هايدغر ما يزال يلفها الغموض‪،‬‬
‫ى‬ ‫دالالت‬
‫أن ُيسهم يف إعادة فهم هذه الفلسفة ونقدها من منظور جديد‪.‬‬ ‫وهذا بحده ذاته ُيمكن ْ‬

‫تعدُّدُ الدالالت الفلسفيَّة ملصطلح االنعطاف يف فكر هايدغر وحماولة حتديدها‪:‬‬


‫انعطاف الـ دازاين‪:‬‬
‫للمرة األُو ىل يف كتابه الوجود والزمان الذي كان قد‬
‫توسل هايدغر بمصطلح االنعطاف َّ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫رش يف شهر شباط من العام ‪ 1927‬باعتباره املج َّلد رقم ‪ VIII‬من نرشة الفيلسوف األملاين‬
‫ُن َ‬
‫ت)‪ ،‬والكتاب‬ ‫إدموند ُه هِّسل التي تتع َّلق بالفلسفة والبحث الفينومينولوجي (ال َّظاهر َّيا ّ‬
‫(‪)2‬‬

‫ت يف البحث‬ ‫نفسه كان قد أهداه هايدغر إ ىل ُأستاذه ُه هِّسل الذي أخذ عنه املنهج ال َّظاهر َّيا َّ‬
‫الفلسفي؛ لكن قام بتطبيقه يف ُأفق جديد خمتلف عن ذلك األُفق الذي حدَّ ده ُه هِّسل‬
‫ات(‪ .)3‬وهذا األُفق اجلديد هو األنطولوجيا(‪( )4‬علم الوجود)‪ .‬ويف هذا اخلصوص‬ ‫اهري ِ‬
‫ِ‬
‫لـ ال َّظ َّ‬

‫‪(1) Heidegger, Martin, Letter to William J.Richardson: Printed as Preface by Martin Heidegger, in: .‬‬
‫‪Richardson, S. J., William, Heidegger: Through Phenomenology To Thought, Fordam University‬‬
‫‪Press, New York, 2003, p. XXII.‬‬
‫‪(2) Edmund Husserl.‬‬
‫(‪ )3‬الفينومينولوجيا (= ال َّظاهر َّيات) ‪ phenomenology‬هي يف منظور إدموند ُه هِّسل علم وصف الظواهر الشعور َّية‪،‬‬
‫سميه ُه هِّسل الر يد الفينومينولوجي‪ ،‬حيث يصل بوساطته إ ىل ماه ّيات‬ ‫عل ما ُي ّ‬
‫ويستند الباحث الفينومينولوجي ى‬
‫تتحول بدورها إ ىل معان يف وعي الذات املتعالية التي تقوم برتكيبها للوصول إ ىل احلقيقة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الظواهر التي‬
‫‪(4) Onotology‬‬
‫‪ ❖ 12‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫قال هايدغر عبارته الشهرية‪:‬‬


‫اه ِر َّيات) هي مكنة فقط من حيث هي أنطولوجيا (علم‬ ‫الفينومينولوجيا (ال َّظ ِ‬

‫وجود)(‪.)1‬‬
‫أن ُُيرر ال َّظ ِ‬
‫اهر َّيات من إسار الذات املتعالية التي ُتفيض إ ىل رضب‬ ‫ومن هنا أراد هايدغر ْ َ ه َ‬
‫املعنى الوحيد املمكن لظهور الظواهر‬
‫ى‬ ‫من املثالية املتعالية‪ ،‬إذ إ َّن الذات املتعالية هي التي ُ َ‬
‫حتده ُد‬
‫سميه ُه هِّسل الر َّد‬ ‫عرب ت َْص ِ‬
‫يريها ماه ّيات فكر َّية تقبع يف وعي هذه الذات املتعالية بوساطة ما ُي ّ‬
‫معنى ال َّظاهر َّيات يتوجب َّأال يكون قائام يف وعي‬
‫ى‬ ‫ارتأى هايدغر َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫ت‪ .‬ولذلك‬ ‫ال َّظاهر َّيا َّ‬
‫ِ‬
‫يتوجب ْ‬
‫أن يكون هذا‬ ‫َّ‬ ‫ت الذي يقصدُ اليشء بوصفه موضوعا له‪ ،‬بل‬ ‫الفيلسوف ال َّظاه ِر َّيا ه‬
‫املعنى ذاته قائام يف اليشء نفسه‪ .‬وهذا يعني أنَّه‪:‬‬
‫ى‬
‫َ‬
‫حيدث حتول يف عالقة اإلنسان مع األشياء‪ ،‬مع اآلخرين‪ ،‬ومع نفسه؛‬ ‫ينبغي أن‬
‫وأخري ًا هذا التحو ُل عين ُه ليس شيئ ًا جديد ًا‪ ،‬لكن هو كام ُيؤكِّد هايدغر أقدم القديم(‪،)2‬‬
‫َ‬
‫احلدث‬ ‫أن ذلك‬
‫وهذا التحول يف وجود اإلنسان يف العامل هو عودة إىل نفسه‪ ،‬بمعنى‪َّ :‬‬
‫احلاسم(‪ )3‬الذي من خالله تبزغ إىل الوجود عالقة اإلنسان والعامل‪ ،‬يكون عىل وجه‬ ‫َ‬
‫الدِّ َّق ِة نقض ًا لإلدراك(‪ ،)4‬وإيقاف ًا(‪ )5‬أو رجوع ًا(‪ )6‬من خالله عىل مستوى ال َّظاهر َّيات‬
‫املهمة واضح ًة(‪.)7‬‬
‫تصري َّ‬
‫املهمة‬ ‫يرى َّ‬ ‫ِ‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫أن َّ‬ ‫عل وعي الذات املتعالية‪ ،‬إ َّنام ى‬
‫عول ظاهر َّيات ًّيا ى‬
‫أن هايدغر ال ُي ه‬

‫& ‪(1) Heidegger, Martin, Being and Time. Translated by John Macquarrie and Edward Robinson. Harper‬‬
‫‪Row, HarperSanFrancisco, 1962, P.60.‬‬

‫‪(2) the oldest of the old.‬‬


‫‪(3) definitive event.‬‬
‫‪(4) de-realization.‬‬
‫‪(5) suspensión‬‬
‫‪(6) stepping-back‬‬
‫‪(7) Seeburger, Francis, Heidegger and the Phenomenological Reduction, in: Philosophy and‬‬
‫‪Phenomenological Research, Vol. 36, No.2 (Dec.,1975), P.221.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪13‬‬
‫ِ‬
‫القوة ا ُملدْ ِركة يف اإلنسان بل وإيقافها‪ ،‬هبدف الرجوع ى‬
‫إل‬ ‫احلقيق َّية لل َّظاه ِر َّيات تكمن يف جتاوز َّ‬
‫العالقة األصيلة البدئ َّية بني اإلنسان والعامل أو األشياء التي ال ُحتده دها أ َّية نظر َّية يف املعرفة‪.‬‬
‫سميه‬
‫ومن أجل حتقيق هذه العالقة عينها استعاض هايدغر عن الذات املتعالية بام ُي ّ‬
‫بضم الكلمة األملان َّية‬
‫ه‬ ‫الـ دازاين(‪ .)1‬والـ دازاين(‪ )2‬مصطلح ابتكره هايدغر نفسه‪ ،‬وذلك‬
‫األول هنا؛ والثاين هناك‪،‬‬
‫‪ ،Sein‬وتعني وجودا‪ ،‬إ ىل كلمة أملان َّية هي ‪ ،Da‬وحتتمل معنيني‪َّ :‬‬
‫لذلك تصري الرتمجة احلرف َّية ِّلذا املصطلح هي‪ :‬الوجود ‪ -‬هنا‪ ،‬أو الوجود ‪ -‬هناك‪ .‬والوجود‬
‫ِ‬
‫ب‪ ،‬وذلك تبعا الختالف السياق‪.‬‬‫ب‪ ،‬أ َّما الوجود ‪ -‬هناك فيخص املُخا َط َ‬
‫‪ -‬هنا خيص املُ َخاط َ‬
‫ويقصد هايدغر عموما بالـ دازاين الواقع اإلنساين أو الوجود اإلنساين يف العامل‪ ،‬من‬
‫حيث هو موضوع لـ علم الوجود ال َّظاهر َّيا ه‬
‫ت‪.‬‬
‫وقد ن َّبه هايدغر يف معرض حتليله اللـ دازاين إ ىل َّ‬
‫أن‪:‬‬
‫الفعل(‪،)4()3‬‬
‫ِّ‬ ‫للهم هي الوجود‬
‫ِّ‬ ‫ه َّية‬
‫املقومات الثالثة املتالزمة واملتساوية األ ي‬
‫ِّ‬
‫الوقائع َّية ‪ ،‬والسقوط ‪.‬‬
‫(‪)7()6‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫اِّلم‪ .‬وهذا‬
‫عل هيأة ه‬ ‫ّى‬
‫يتجل ى‬ ‫وعنى هايدغر بذلك َّ‬
‫أن الشكل األسايس لوجود الـ دازاين‬ ‫ى‬

‫(‪ )1‬يرتجم عبد الرمحن بدوي كلمة ‪( Dasein‬دازاين) األملان َّية إ ىل اللغة العرب َّية بـ آن َّية مشريا يف كتابه (الزمان الوجود‪،‬‬
‫ال لرتمجة هذه الكلمة األملانيَّة التي‬ ‫دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،1973 ،‬هامش‪ ،‬ص‪ )5 :‬إ ىل َّ‬
‫أن كلمة آنيَّة‪ :‬صاحلة فع ً‬
‫(احلق العرب يف االختالف‬ ‫ه‬ ‫كل اللغات األُوروبيَّة‪ .‬لكن يقول طه عبد الرمحن يف مؤ َّلفه‬
‫استعصت ترمجتها إىل ِّ‬
‫الفلسفي‪ ،‬املركز الثقايف العرب‪ ،‬بريوت‪ ،2002 ،‬ص‪ :)158 :‬يبدو أنَّ اللفظ العريب الكينونة أقرب عىل أداء معنى‬
‫عل‬
‫موحد دليل ى‬
‫عل ترمجة مصطلح ‪ Dasein‬إ ىل اللغة العرب َّية بلفظ َّ‬
‫أن عدم االتهفاق ى‬ ‫الـ دازاين من غريه‪ .‬واحلقيقة َّ‬
‫صعوبة ضبط هذا املصطلح يف اللغة العربيَّة ضبطا دقيقا‪.‬‬
‫‪(2) Dasein‬‬
‫اخلاص بالـ دازاين ‪ ،Existenz‬ويقابلها باألملانيَّة ‪، Existence‬‬
‫ه‬ ‫الفعل‪ ،‬ويعني هبا هايدغر نمط الوجود‬
‫ِّ‬ ‫(‪ )3‬بـ الوجود‬
‫ترمجنا من حيث إنَّه يوجد وجودا فعل ًّيا يف العامل‪.‬‬
‫‪(4) existence‬‬
‫‪(5) facticity‬‬
‫‪(6) falling‬‬
‫‪(7) Heidegger, Martin, Being and Time, P.274, 376 - 401.‬‬
‫‪ ❖ 14‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن هايدغر قد اعتقد أ َّنه ال يمكن‬ ‫الفعيل ووقائع َّيته وسقوطه‪ .‬وبام َّ‬ ‫ِ‬
‫وجوده‬ ‫ناجم عن‬
‫ه‬ ‫ٌ‬
‫أي رضب من رضوب الوجود تقضيه ماه َّية مفارقة أ ًّيا كانت‪ ،‬فإنَّه‬ ‫اللـ دازاين ْ‬
‫أن ُيوز أبدا َّ‬
‫حاول تقويض التعارض التقليدي بني الوجود واملاه َّية بقوله‪َّ :‬‬
‫«إن ماهية الـ دازاين تكمن يف‬
‫الفعيل»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫وجوده‬
‫ه‬
‫وباملساوقة مع الوجود الفعيل اللـ دازاين‪ ،‬أي وجود ُه كام هو متح هقق يف العامل‪ ،‬تظهر‬
‫بمعنى‪ :‬أ َّننا نالحظ َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ى‬ ‫وقائع َّيته‪،‬‬
‫كون‬
‫األحجار واألشجار تكون حارضة ‪ -‬يف ‪ -‬متناول اليد داخل العامل‪ ،‬وهذا ُي ِّ‬
‫(‪)2‬‬

‫واقع ًة‪ ،‬ونحن نتك َّلم عىل وقائع َّيتها (األحجار واألشجار)‪َّ .‬أما الـ دازاين فيكون أيض ًا‬
‫حارض ًا ‪ -‬يف ‪ -‬متناول اليد داخل العامل‪ ،‬لكن ليس فقط أو يف املقام َّ‬
‫األول يكون‬
‫حارض ًا يف تلك الطريقة التي تكون عليها األحجار واألشجار فهي تكون بدون عامل‪،‬‬
‫أن الـ دازاين يكون عىل العكس من ذلك‪ ،‬فهو يمتلك عامل ًا(‪.)3‬‬
‫غري َّ‬
‫أجرى متييزا بني املوجود اإلنساين وغريه من املوجودات‬
‫ى‬ ‫أن هايدغر‬ ‫والواقع هنا َّ‬
‫َّ‬
‫تتحق ُق فيه‬ ‫أن طريقة وجود اإلنسان تقتيض اجرتاحه لعامل خاص به‬ ‫عل أساس َّ‬ ‫األُ ى‬
‫خرى‪ ،‬ى‬
‫خرى دون ْ‬
‫أن‬ ‫أن يكون مشاهبا للموجودات األُ ى‬‫تنأى به عن ْ‬
‫وقائع َّيته بصورة متنحه ُهو َّية ى‬
‫يكون غافال عن توجيه اهتاممه نحو هذه املوجودات أنفسها‪ ،‬نظرا الرتباطه الصميمي معها‪.‬‬
‫وهذا يعني‪:‬‬
‫أن املوجو َد داخل العامل حيوز وجود ًا ‪ -‬يف ‪ -‬العامل‬ ‫أن وقائعي َة الـ دازاين ت ِ‬
‫ُفص ُح عن َّ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫منفصل من حيث َقدَ ُر ُه عن‬ ‫بالطريقة التي يمكن له فيها أن يفهم نفسه بوصفه غري‬
‫تلك املوجودات التي يالقيها داخل عامله(‪.)4‬‬
‫عل أساس وقائع َّيته داخل العامل‬
‫وعل هذا األساس يكون هايدغر قد َم َّيزَ الـ دازاين ى‬
‫ى‬
‫خرى‪ ،‬مثل‪ :‬األحجار‪ ،‬واألشجار‪ ...‬إلخ‪ ،‬ولذلك‬ ‫كموجود خمتلف عن املوجودات األُ ى‬

‫‪(1) Ibid, P.67.‬‬


‫‪(2) present-at-hand‬‬
‫‪(3) Ibid, P.82.‬‬
‫‪(4) Ibid, P.82.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪15‬‬

‫أن ُت ْف َه َم يف ُأفق االنقذاف(‪ ،)1‬وهذا يعني َّ‬


‫أن الـ دازاين ال‬ ‫أن الوقائع َّية ينبغي ْ‬
‫أى هايدغر َّ‬
‫ارت ى‬
‫يوجد داخل العامل كيفام ا َّتفق‪ ،‬وإنَّام كام قال هايدغر‪« :‬يكون مقذوفا يف الـ هناك‬
‫أن َّ‬
‫كل دازاين يكون مقذوفا يف شكل خاص به من‬ ‫بمعنى‪َّ :‬‬
‫ى‬ ‫اخلاصة به»(‪،)2‬‬
‫َّ‬ ‫(‪)There=Da‬‬
‫مكان وزمان وعرق‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫الفعيل والوقائع َّي ِة الس َ‬
‫قوط(‪ ،)3‬ويقصد هايدغر بالسقوط‪:‬‬ ‫ه‬
‫ِ‬
‫الوجود‬ ‫ونجد إ ىل جانب‬
‫ٍ‬
‫كقدرة أصيلة عىل‬ ‫األول دائ ًام ُ‬
‫ومس َب َق ًا يسقط بعيد ًا عن نفسه‬ ‫أن الـ دازاين يف املقام َّ‬
‫َّ‬
‫أن يكون نفسه ويسقط يف العامل(‪.)4‬‬
‫ول بحده ذاهتا بينه وبني حتقيقه‬ ‫أن كيف َّية وجود الـ دازاين يف العامل َ ُ‬
‫حت ُ‬ ‫وعنى هايدغر بذلك َّ‬
‫ى‬
‫ِ‬
‫ألصالته التي تبزغ فقط يف حرك َّية توج ِهه نحو كشف حقيقة الوجود‪.‬‬
‫للهم عند هايدغر وهي‪ :‬الوجود الفعيل‪،‬‬
‫املقومات الثالثة ه‬
‫إذا بعد تكوين هذا التصور عن ه‬
‫مدى الصلة التي عقدها هايدغر بني الـ دازاين والوجود هبدف‬
‫يتبني ى‬
‫الوقائع َّية‪ ،‬والسقوط‪َّ ،‬‬
‫عل أساس االنعطاف بني املوجود اإلنساين والوجود‪ ،‬لذلك وبناء‬‫تسويغ تأكيد عالقة قائمة ى‬
‫للمرة األُو ىل عندما أشار يف‬ ‫املسوغ ليتك َّلم ى‬
‫عل مصطلح االنعطاف َّ‬ ‫عل ما َت َقدَّ َم وجد هايدغر ه‬
‫ى‬
‫أن الـ دازاين تعرتيه حاالت انعطاف‪ ،...‬غري َّ‬
‫أن الفكرة املركز َّية‬ ‫إل َّ‬
‫كتابه الوجود والزَّ مان ى‬
‫التي يريد ْ‬
‫أن ُيشده َد عليها هايدغر هنا هي أ َّنه «يف السقوط ينعطف الـ دازاين بعيدا عن‬
‫ِ‬
‫سقوطه يف العامل يقوم‬ ‫أن مقصد هايدغر هنا هو تبيان َّ‬
‫أن الـ دازاين بفعل‬ ‫نفسه»(‪ .)5‬ويبدو َّ‬
‫بأّنا كل ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بانعطافات ُتبعده عن وجوده األصيل‪ ،‬ويمكن حتديد هذه االنعطافات عموما َّ‬
‫ُيرف الـ دازاين عن االقرتاب من هاجتاهه نحو كشف حقيقة الوجود‪.‬‬
‫أن كيف َّي َة وجود الـ دازاين نفسها يف العامل هي التي حترفه‬
‫يرى َّ‬ ‫ويظهر ممَّا سبق َّ‬
‫أن هايدغر ى‬
‫عن ذلك؛ لكن ال يمكن قبول هذا الرأي الذي قال به هايدغر بطابعه اإلطالقي‪ ،‬ألنَّه ليس‬

‫‪(1) Throwness‬‬
‫‪(2) Ibid, P.174.‬‬
‫‪(3) Falling‬‬
‫‪(4) Ibid, P.220.‬‬
‫‪(5) Ibid, P. 230.‬‬
‫‪ ❖ 16‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أمرا حم َّتام َّ‬


‫أن الكيف َّية التي يوجد هبا املوجود اإلنساين يف العامل ُتفيض به إ ىل االنعطاف بعيدا‬
‫عن وجوده األصيل ‪ -‬الذي هو برأي هايدغر ه‬
‫االجتاه نحو كشف حقيقة الوجود ‪ ،-‬ألنَّه ال‬
‫توجد كيف َّي ٌة واحدة وحيدة بعينها تستغرق وجود املوجودات اإلنسان َّية ى‬
‫عل اختالفها‪ ،‬هذا‬
‫معنى األصالة يف هذا‬
‫ى‬ ‫من جهة‪ .‬ومن جهة ُأ ى‬
‫خرى ال يوجد معيار واحد وحيد هو الذي ُُيده د‬
‫املنحى‪.‬‬
‫ى‬

‫حنو مفهوم جديد للميتافيزيقا‪:‬‬


‫أن هايدغر ذكر مصطلح االنعطاف‪ ،‬وذلك يف سياق حمارضاته‬ ‫الحظ بعد الوجود والزمان َّ‬
‫ُي َ‬
‫لعام ‪ ،1928‬والتي ُنرشت يف ما بعد حتت عنوان‪ :‬األُ ُسس امليتافيزيق َّية للمنطق(‪ ،)1‬وقد جاء‬
‫عل َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ذكره لالنعطاف يف معرض كالمه ى‬
‫وتعميمها(‪ )3‬تفسري ًا للـ‬ ‫(‪)2‬‬
‫املشكلة األساس َّية يف امليتافيزيقا تقتيض يف تأصيلها‬
‫دازاين عىل أساس الزمان َّية(‪ ،)4‬ومن هذا التفسري تصري اإلمكان َّية الفعل َّية لفهم‬
‫الوجود‪ ،‬وبالتايل لفهم األنطولوجيا واضح ًة متام ًا(‪.)5‬‬
‫ورأى هايدغر َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ى‬
‫والـ ما بعد أنطولوجيا(‪،)7‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫امليتافيزيقا تتأ َّلف من األنطولوجيا األساس َّية‬
‫وتتضمن األنطولوجيا األساس َّية‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ - 1‬التحليل املتعايل للـ دازاين‪.‬‬
‫‪ - 2‬حتليل زمان َّية الوجود‪.‬‬

‫‪(1) The Metaphysical Foundations of Logic.‬‬


‫‪(2) radicalization‬‬
‫‪(3) universalization‬‬
‫‪(4) temporality‬‬
‫‪(5) Heidegger, Martin, The Metaphysical Foundations of Logic. Translated by Michael‬‬
‫‪Hein. Indiana University Press, Bloomington and Indianapolis, 1984, P.158.‬‬
‫‪(6) Fundamental Ontology‬‬
‫‪(7) Meta-ontology‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪17‬‬

‫َّأما الـ ما بعد أنطولوجيا فهي متع ِّلقة بالوجود يف ك يل َّيته(‪.)1‬‬


‫وترمي األنطولوجيا األساس َّية إ ىل تفسري الـ دازاين يف ُأفق زمان َّيته‪ ،‬وإ ىل إيضاح الزمان‬
‫إل حتليل زمان َّية‬
‫معنى الوجود‪ ،‬وهذا بالتال يؤول ى‬
‫ى‬ ‫بوصفه ُأفقا متعاليا لطرح السؤال عن‬
‫الوجود؛ غري َّ‬
‫أن حتليل زمان َّية الوجود هو انعطاف من األنطولوجيا األساس َّية إ ىل ما بعد‬
‫معنى آخر جديد‬ ‫أن األنطولوجيا األساسية نفسها ُت ِ‬
‫فص ُح عن‬ ‫األنطولوجيا‪ .‬وهذا يعني َّ‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫لألنطولوجيا ذلك أ َّنه‪:‬‬
‫عرب حركة التأصيل والتعميم (السالفة الذكر) يكون اهلدف هو َسو ُق‬ ‫َ‬
‫األنطولوجيا إىل انقالهبا املسترت ‪ .latent over turning‬وهنا يكون االنعطاف‬
‫متح ِّقق ًا بام هو منعطف نحو ما بعد أنطولوجيا(‪.)2‬‬
‫ويقصد هايدغر بـ ما بعد األنطولوجيا ذلك املبحث الذي هيدف إ ىل فهم الوجود يف ك ّل َّيته‬
‫من منظور جديد متاما أساسه االنطالق من تفسري الـ دازاين‪.‬‬
‫وعل هذا األساس فهم هايدغر امليتافيزيقا فهام جديدا بتأكيده أ َّنه «يف وحدهتام‬ ‫ى‬
‫األنطولوجيا األساس َّية وما بعد األنطولوجيا تؤ هلفان مفهوم امليتافيزيقا» ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫انعطاف الوجود‪:‬‬
‫فعم َق تصوره‬‫الفلسفي‪َّ ،‬‬
‫ه‬ ‫لتوجهه‬‫معنى االنعطاف بالنسبة ه‬ ‫ى‬ ‫ه َّية‬
‫مدى أ ّ‬
‫أن هايدغر أدرك ى‬‫وظاهر َّ‬
‫ٌ‬
‫ِ (‪)4‬‬ ‫ِ‬
‫حلدَ ث) املكتوب بني عامي‬ ‫حول االنعطاف يف مؤ َّلفه‪ :‬إسهامات يف الفلسفة (من ق َب ِل ا َ‬
‫‪ ،1938 -1936‬واملنشور بعد وفاته عام ‪.1989‬‬
‫أن َثم انعطافا يتع َّلق باألصل يف احلدَ ِ‬
‫ث؟ ويتساءل هايدغر‪:‬‬ ‫َ‬ ‫وحاول هايدغر هنا تبيان َّ َّ‬
‫ث؟ [وجييب‪ ]:‬فقط ُقدُ و ُم‬ ‫احلدَ ِ‬‫ما هو هذا االنعطاف الذي يتع َّلق باألصل يف َ‬

‫‪(1) Princeton Philipse, Herman, Heidegger’s Philosophy of Being: A critical Interpretation,‬‬


‫‪University press, United Kingdom, 1998, P. 243.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin, The Metaphysical Foundations of Logic, P. 158‬‬
‫‪(3) Ibid, P. 158.‬‬
‫‪(4) From Enowning )Contributions to Philosophy(.‬‬
‫‪ ❖ 18‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬
‫الوجود‪ ،‬الوجود بوصفه حدوث ًا لـ اهلناك (‪ ،)There = Da‬ي ِ‬
‫رشد الـ دازاين إىل‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫املؤسسة‪ ،‬ولكن يف الوقت نفسه غري‬ ‫نفسه‪ ،‬وهكذا يفيض إىل إتاحة رعاية احلقيقة َّ‬
‫ٍ‬
‫لوجود يتح َّقق يف إرشاق هذه الرعاية نفسها عليه‪ ،‬غري أنَّه يكون خمفيا يف‬ ‫املُ َّ‬
‫ستقرة‬
‫الـ هناك(‪.)1‬‬
‫إن َث َّم انعطافا للوجود‬ ‫أن هايدغر أراد القول من خالل هذه العبارات امللغزة‪َّ :‬‬ ‫والواقع َّ‬
‫أن ي ِ‬
‫رشد هذا املوجو َد عينَ ُه إ ىل ذات َّيته‬ ‫التارخيي يمكن ْ ُ‬
‫ه‬ ‫اإلنساين يف واقعه‬
‫ه‬ ‫نحو املوجود‬
‫أن حقيقة الوجود ال‬ ‫عنى من حيث هو ذات َّية أصيلة بحقيقة الوجود‪ ،‬بيد َّ‬ ‫األصيلة‪ ،‬وإ ىل ْ‬
‫أن ُي ى‬
‫ألّنا ما ْ‬
‫أن تظهر ح َّت ىى ّتتفي وما‬ ‫استمر املوجود اإلنساين بالعناية هبا‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫عل حال ح َّت ىى لو‬
‫تثبت ى‬
‫التارخيي الذي هو‬
‫ه‬ ‫ْ‬
‫أن ّتتفي ح َّت ىى تظهر‪ .‬وحتدث هذه العالقة بني الظهور واخلفاء يف الواقع‬
‫و ْف َقا لتعبري هايدغر الـ هناك‪ ،‬حيث يوجد املوجود اإلنساين‪ .‬وأ َّكد هايدغر يف السياق نفسه‬
‫أنَّه‪:‬‬
‫ِّض احلال َة من‬
‫يكون فقط تأسيس الـ دازاين هو الذي ُحي ِّ ُ‬
‫ُ‬ ‫داخل هذا االنعطاف‪:‬‬
‫الساحرة ‪ -‬لالنتقال ‪ -‬إىل حقيقة الوجود‪ ،‬إذ املوجودات هي ما ُيصاخُ‬
‫أجل احلركة َّ‬
‫ِ‬
‫إرشاق هذا احلدوث‬ ‫املوجودات أنفسها إىل‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫اإلصاخة تنتمي‬ ‫السمع إليه‪ ،‬ويف هذه‬
‫ُ‬
‫الواقع(‪.)2‬‬
‫اخلاص عن‬
‫ه‬ ‫أن انعطاف الوجود نحو الـ دازاين ُي ْف ِص ُح يف سياقه‬
‫ويعني هذا الكالم َّ‬
‫معنى املوجودات يف الوجود بالنسبة للـ دازاين‪ ،‬إذ‬ ‫ِ‬
‫حقيقة الوجود‪ ،‬وهنا ينجيل‬ ‫ف‬‫تكش ِ‬
‫ى‬
‫ث‪.‬‬‫يفهمها يف ضوء جديد متاما بسبب هذا االنعطاف الذي يتع َّلق باألصل يف احلدَ ِ‬
‫َ‬
‫مر سابقا َّ‬
‫أن الـ دازاين ‪ -‬بفعل السقوط ‪ -‬ينعطف بعيدا‬ ‫لكن الالفت هنا هو أ َّنه كان قد َّ‬
‫حلدَ ث هيتدي الـ دازاين إ ىل نفسه‪ ،‬أي ينعطف نحو‬
‫عن نفسه؛ أ َّما اآلن بفعل االنعطاف يف ا َ‬
‫ملعنى االنعطاف‪ ،‬فهو كان َّأوال انعطاف الـ دازاين بعيدا عن‬
‫ى‬ ‫نفسه‪ .‬وبذا نصل إ ىل داللتني‬

‫‪(1) Heidegger, Martin, Contributions to Philosophy (From Enowning). Translated by Parvis‬‬


‫‪Emad and Kenneth Maly, Indiana University Press, 1989, p. 286.‬‬
‫‪(2) Ibid, P.286.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪19‬‬

‫نفسه؛ أ َّما ثانيا فهو انعطاف الوجود نحو الـ دازاين‪ ،‬ما ُيفيض إ ىل انعطاف هذا األخري نحو‬
‫تنوس‬
‫ُ‬ ‫تبقى‬ ‫أن حقيقة الوجود قد جت َّلت بشكل ّنائي‪ ،‬وذلك َّ‬
‫ألّنا ى‬ ‫نفسه؛ َّإال َّ‬
‫أن هذا ال يعني َّ‬
‫ِ‬
‫الظهور واخلفاء‪.‬‬ ‫بني‬

‫االنعطاف من فكر الوجود والزمان إىل فكر الزمان والوجود‪:‬‬


‫عاد هايدغر إ ىل ذكر االنعطاف يف مؤ َّلفه رسالة يف النزعة اإلنسان َّية(‪ )1‬املنشور يف عام ‪1947‬؛‬
‫أن لتعقله‬‫بني َّ‬ ‫أن ذكره لالنعطاف يف هذه الرسالة ُيمل داللة حمدَّ دة‪ ،‬فهو ُياول ْ‬
‫أن ُي ه َ‬ ‫غري َّ‬
‫لمح إ ىل َّ‬
‫أن‬ ‫ملعنى االنعطاف قيمة فائقة يف حتقيق تغيري م َطور ملسار تفكريه‪ ،‬وهو يف هذا املقام ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ه‬ ‫ى‬
‫أن ملصطلح‬ ‫ملحارضته يف ماه َّية احلقيقة (‪ )1930‬بالرغم من أ َّن ُه مل يذكر فيها بصورة مبارشة َّ‬
‫معنى االنعطاف‪.‬‬
‫ى‬ ‫االنعطاف دورا مع َّينا يف اكتناه‬
‫قال هايدغر يف رسالة يف النزعة اإلنسان َّية‪:‬‬
‫إن املحارضة التي حتمل عنوان يف ماه َّية احلقيقة‪ ،‬والتي ت ََّم التفكري فيها وإلقاؤها‬
‫َّ‬
‫ال بتبيني فكرة انعطاف الوجود‬ ‫ُنرش َّإال يف سنة ‪ ،1943‬تسمح لنا قلي ً‬
‫سنة ‪ ،1930‬ومل ت َ‬
‫ال لوجهة نظر الوجود‬‫والزمان إىل الزمان والوجود‪ ،‬هذا االنعطاف مل يكن تعدي ً‬
‫ٍ‬
‫منطقة أكثر‬ ‫والزمان‪ ،‬وإ َّنام ما منه فقط أمكن للفكر الذي يبحث عن نفسه أن َ‬
‫يصل إىل‬
‫َّ‬
‫احتك الوجود والزمان واكتملت خربته من خالل التجربة‬ ‫ُبعد ًا انطالق ًا منها‬
‫األساس َّية لنسيان الوجود(‪.)2‬‬
‫وهذا يعني َّ‬
‫أن هايدغر هبذا االنعطاف أراد الذهاب إ ىل أبعد باجرتاح آفاق جديدة‪.‬‬
‫إل انعطاف أسايس‬
‫أن فكر الوجود والزمان‪ ،‬يرمز ى‬‫عل َّ‬ ‫َّ‬
‫وتتكشف هذه اآلفاق اجلديدة بناء ى‬
‫للوجود عندما عطف الوجود ذا َت ُه مبتعدا عن البرش ليمنحهم فقط زمان التاريخ الواقعي(‪.)3‬‬

‫‪(1) Letter on Humanism.‬‬


‫‪(2) Heidegger, Martin, Letter on Humanism. Translated by E. Lohner, in: Philosophy‬‬
‫‪Twentieth Century. Edited. W. Barrett, H. Aiken, Random House, New York, 1962, P.204‬‬
‫‪- 245.‬‬
‫‪(3) Philipse, Herman, Heidegger´s Philosophy of Being: A critical Interpretation, P.238‬‬
‫‪ ❖ 20‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن البرش قد استغرقوا أنفسهم يف زمان التاريخ الواقعي الذي هو زمان احلياة‬ ‫وبام َّ‬
‫معنى‬ ‫ِ ِ‬ ‫اإلنسان َّية بمشكالهتا املعهودة‪َّ ،‬‬
‫أي تساؤل حقيقي من ق َبلهم عن ى‬ ‫فإن هذا أ ّد ىى إ ىل غياب ه‬
‫طي النسيان(‪.)1‬‬
‫ألن هذا التساؤل صار اليوم يف ه‬‫الوجود‪َّ ،‬‬
‫وقد َّبني هايدغر ذلك يف الصفحة األُو ىل من كتابه الوجود والزمان بقوله‪:‬‬
‫هل نمتلك نحن البرش يف عرصنا الراهن إجاب ًة َّ‬
‫عام نعنيه فع ً‬
‫ال بكلمة وجود(‪)2‬؟ ال‬
‫عىل اإلطالق‪ .‬هكذا يكون مناسب ًا أ َّنه َّ‬
‫يتوجب علينا أن نُحيي من جديد السؤال عن‬
‫معنى الوجود(‪.)3‬‬
‫أن ال اكرتاث البرش بمشكلة الوجود آل هبم إ ىل إهال ليس فقط البحث عن‬ ‫يظهر من هنا ْ‬
‫أن فلسفة هايدغر ك َّلها ُت َعد‬
‫إجابة لسؤال الوجود؛ بل إهال هذا السؤال نفسه‪ .‬واحلقيقة َّ‬
‫بمثابة حماولة للوصول إ ىل هذه اإلجابة‪ ،‬فقد كان هدفه الرئيس من مؤ َّلفاته التي نرشها يف‬
‫حياته الطويلة هو البحث عن إجابة لسؤال الوجود‪.‬‬
‫عام ًة (الصخور(‪ ،)4‬األدوات(‪،)5‬‬ ‫يتناول هذا السؤال يف ما يتع َّلق باألشياء َّ‬
‫يكون وجود ًا بالنسبة هلذه األنواع من‬ ‫َ‬ ‫الناس(‪ ...)6‬إلخ) ما الذي يمكن أن‬
‫للمرة األُوىل من قِ َبل الفالسفة‬
‫َّ‬ ‫املوجودات؟ إ َّنه سؤال األنطولوجيا الذي ُو ِض َع‬
‫اليونان ِّيني القدماء بدء ًا من أنكسيمندريس وصوالً إىل ُأرسطو(‪.)7‬‬
‫أن الباحث يف تاريخ الفلسفة سوف يكتشف َّ‬
‫أن الفالسفة‬ ‫أن هايدغر قد الحظ أيضا َّ‬ ‫غري َّ‬
‫عموما مل ينجحوا يف إجياد جواب صحيح عن سؤال الوجود‪ .‬ويعزو ذلك إ ىل تأثرهم بفلسفة‬
‫أفالطون‪ ،‬بام حتمله من عنارص سلب َّية ُتفيض إ ىل فهم الوجود بطريقة خاطئة‪.‬‬

‫‪(1) Heidegger, Martin, Being and Time, P.21.‬‬


‫‪(2) Being‬‬
‫‪(3) the question of the meaning of being, Ibid, P.1.‬‬
‫‪(4) rocks‬‬
‫‪(5) tools‬‬
‫‪(6) people‬‬
‫‪(7) Guignon, Charles B., Heidegger, in: The Cambridge Dictionary of Philosophy, General‬‬
‫‪Editor: Robert Audi, Cambridge University Press, 1999, P.370.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪21‬‬

‫أن الفالسفة بدؤوا مع أفالطون يضلون يف حماولتهم اإلجابة‬


‫لقد اعترب هايدغر َّ‬
‫خاص َّية أو ماه َّية‬
‫ألن عنايتهم انص َّبت عىل التفكري يف الوجود بوصفه ي‬
‫عن هذا السؤال‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫وبكلامت ُأخرى لقد سقط الفالسفة يف ميتافيزيقا‬ ‫حارضة عىل نحو ثابت يف األشياء‪.‬‬
‫احلضور(‪ )1‬التي ُتف ِّكر يف الوجود بوصفه جوهر ًا(‪.)3()2‬‬
‫أن َث َّم ماه َّية‬
‫عل َّ‬ ‫يتبني َّ‬
‫أن الفالسفة فهموا املوجودات بام فيها املوجود اإلنساين ى‬ ‫ومن هنا َّ‬
‫حارضة فيها بصورة ثابتة هي التي متنحها حتققها‪ ،‬وهم يف هذا متأ هثرون بأفالطون الذي أ َّكد‬
‫أي موجود مستمد من الوجود احلقيقي الذي هو وجود املثال‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن وجود ه‬
‫املستوى‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫رفض هايدغر ميتافيزيقا احلضور وكيف َّية فهم الوجود الناجم عنها ى‬
‫خاصة وجود اإلنسان‬
‫َّ‬ ‫أن يفهم وجود املوجودات وبصورة‬ ‫الفلسفي‪ ،‬لذلك عوضا عن ْ‬
‫عل ماه َّية ُمت هثل الوجود احلقيقي‪َّ ،‬اجته إ ىل فهم الوجود استنادا ى‬
‫إل البحث يف وجود‬ ‫اعتامدا ى‬
‫ِ‬
‫شامل للوجود‪.‬‬ ‫عسى ْ‬
‫أن يصل إ ىل فهم‬ ‫ى‬ ‫املوجود اإلنساين نفسه‬
‫وعليه كان الطريق الوحيد املتاح لـ هايدغر هو حتليل وجود الوجود اإلنساين الـ دازاين‬
‫معنى الوجود‪ ،‬وبالتال صار املوجود اإلنساين الـ دازاين هو موضوع‬
‫ى‬ ‫بقصد الوصول إ ىل فهم‬
‫علم الوجود‪.‬‬
‫معنى الوجود مب هينا ذلك بقوله‪:‬‬
‫ى‬ ‫رشع هايدغر يف حتليل الـ دازاين بقصد فهم‬
‫وقد َ‬
‫نكون نحن أنفسنا املوجودات التي ينبغي أن تكون موضوعات للتحليل(‪.)4‬‬
‫وهذا يعني أ َّنه ال يوجد أي موجود له أولو َّي ٌة ى‬
‫عل املوجود اإلنساين كيام يكون موضوعا‬
‫معنى الوجود‪َّ ،‬‬
‫ألن املوجودات اإلنسان َّية هي وحدها‬ ‫ى‬ ‫ف من خالله‬ ‫َّ‬
‫يتكش ُ‬ ‫للتحليل بحيث‬
‫تبني سابقا ‪ -‬قد‬ ‫عنى بمسألة أو قض َّية الوجود بالرغم من َّ‬
‫أن الوجود ‪ -‬كام َّ‬ ‫عل ْ‬
‫أن ُت ى‬ ‫القادرة ى‬
‫انعطف مبتعدا عنها‪َّ .‬‬
‫ألن‪:‬‬

‫‪(1) metaphysics of presence.‬‬


‫‪(2) substance‬‬
‫‪(3) Ibid, P.370.‬‬
‫‪(4) Heidegger, Martin, Being and Time, P.67.‬‬
‫‪ ❖ 22‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫هذه املوجودات (اإلنسان َّية) ‪ -‬يف وجودها ‪ُ -‬تك ِّي ُ‬


‫ف أنفسها من أجل وجودها(‪.)1‬‬
‫إن الوجود ُيشكِّل‬
‫اخلاص‪َّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫وكموجودات هلا هذا الوجود تكون ُمساق ًة إىل وجودها‬
‫ٍ‬
‫موجود من هذا النمط(‪.)2‬‬ ‫مسأل ًة بالنسبة ِّ‬
‫لكل‬
‫وعل هذا األساس أراد هايدغر يف كتابه الوجود والزمان ْ‬
‫أن يصل إ ىل إجابة للسؤال عن‬ ‫ى‬
‫معنى الوجود بوساطة حتليل الـ دازاين؛ َّإال َّ‬
‫أن هايدغر مل ُيقده م يف هذا الكتاب تلك اإلجابة‬ ‫ى‬
‫املنشودة‪ .‬وهذا يعود إ ىل أ َّنه استغرق كتابه هذا بصورة كاملة يف حتليالت أنطولوج َّية تتع َّلق‬
‫بالبحث يف الطبيعة الزَّ مان َّية املتناهية للموجود اإلنساين بوصفها نقطة ال َبدْ ء يف ه‬
‫االجتاه نحو‬
‫األول من كتابه الوجود والزمان كام هو‬
‫معنى الوجود‪ ،‬لذلك استنفد هايدغر اجلزء َّ‬
‫ى‬ ‫فهم‬
‫ظاهر من العنوان الذي اختار ُه له يف‪:‬‬
‫تفسري الـ دازاين من جهة الزَّمان َّية‪ ،‬وإيضاح الزمان بوصفه ُأفق ًا متعالي ًا للسؤال‬
‫عن الوجود(‪.)3‬‬
‫األول املنشور من كتاب الوجود والزمان إ ىل قسمني‪ :‬تناول‬
‫قسم هايدغر هذا اجلزء َّ‬
‫وقد َّ‬
‫األول وفقا لعنوانه التحليل التمهيدي األسايس للـ دازاين(‪ .)4‬وتناول القسم الثاين‬
‫القسم َّ‬
‫األول‬
‫يتطرق يف اجلزء َّ‬ ‫يتبني َّ‬
‫أن هايدغر مل َّ‬ ‫وفقا لعنوانه الـ دازاين والزمان َّية ‪ ،‬ومن هنا َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫املنشور يف كتابه الوجود والزمان إ ىل البحث يف الوجود بصورة ُتفيض إ ىل الكشف عن معناه‬
‫وسبب انعطافه بعيدا عن البرش‪.‬‬
‫وكان هايدغر واعيا هبذا النقص يف كتابه‪ ،‬لذلك‪:‬‬
‫ثان؛ لكنَّه تو َّقع َّ‬
‫أن منشوراته‬ ‫ٍ‬
‫بجزء ٍ‬ ‫يأسف لعدم قدرته عىل إكامل الوجود والزمان‬

‫‪(1) comport themselves towards their Being.‬‬


‫‪(2) Ibid, P.67.‬‬

‫‪(3) The Interpretation of Dasein in Terms of Temporality, and the Explication of Time as‬‬

‫‪Transcendental Horizon for the Question of Being ,Ibid, P.65.‬‬


‫‪(4) Preparatory Fundamental Analysis of Dasein,Ibid, P.65.‬‬
‫‪(5) Dasein and Temporality,Ibid, P.274.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪23‬‬
‫األُخرى سوف ُت ِ‬
‫رشد إىل السؤال احلقيقي عن معنى الوجود بوساطة االنعطافات(‪.)1‬‬
‫ّى‬
‫وتتجل هذه االنعطافات املقصودة هنا يف انتقال هايدغر من حتليل الـ دازاين إ ىل البحث‬
‫معنى الوجود‪ .‬وظهرت هذه‬
‫ى‬ ‫ه َّية يف كشف‬
‫األنطولوجي يف موضوعات عدَّ ها أكثر أ ّ‬
‫املوضوعات يف فكر الزمان والوجود الذي يشري إ ىل‪:‬‬
‫االنعطاف اآلخر‪ ،‬االنعطاف من زمان التاريخ الواقعي إىل الوجود نفسه(‪.)2‬‬
‫ومن هذا املنطلق هاجته هايدغر نحو‪:‬‬
‫حماولة التفكري يف الوجود دون اعتبار لتأسيسه انطالق ًا من املوجود‪ .‬فمحاولة‬
‫التفكري يف الوجود بمعزل عن املوجود قد أصبحت رضور ًة(‪.)3‬‬
‫عل‬ ‫انصبت عناية هايدغر يف مؤ َّلفاته التالية ليس ى‬
‫عل حتليل الـ دازاين‪ ،‬وإ َّنام ى‬ ‫ولذلك َّ‬
‫أن البحث فيها ُيس ِهم يف حتقيق رؤية‬
‫الفن‪ ،‬وعَدَّ َّ‬
‫خرى مثل‪ :‬اللغة‪ ،‬الشعر‪ ،‬ه‬ ‫موضوعات ُأ ى‬
‫أعمق للوجود‪ ،‬أل َّنه من املُتاح يف رأيه التوصل من خالل حتليل هذه املوضوعات أنفسها‬
‫أنطولوجيا إ ىل االقرتاب من فهم الوجود بصورة أكثر غنى من حتليل الـ دازاين‪.‬‬
‫ه َّية اللغة يف دراسته الطريق إ ىل اللغة املنشورة سنة‬
‫عل أ ّ‬
‫ويظهر موقف هايدغر يف تأكيده ى‬
‫بني أ َّنه‪:‬‬
‫‪ ،1959‬إذ َّ َ‬
‫كل ِّاّتاه‬
‫لن يكون اإلنسان إنسان ًا لو بقي متنع ًا عليه أن يتك َّلم دون انقطاع ويف ِّ‬
‫بأشكال متنو ٍ‬
‫عة وغالب ًا بصورة ضمن َّية‪ :‬إنَّه يكون‪ ،‬وحيث َّ‬
‫إن‬ ‫ٍ ِّ‬ ‫عن ِّ‬
‫كل كائن‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‬
‫فإن ماه َّية اإلنسان تقوم يف اللغة(‪.)4‬‬
‫اللغة هي ما يسمح بذلك‪َّ ،‬‬
‫ه َّية‪ ،‬نظرا أل َّنه يربط بني‬
‫عل التكلم بالكلامت هذه األ ّ‬
‫ويمنح هايدغر قدرة اإلنسان ى‬

‫‪(1) Inwood, Michael, A Heidegger Dictionary, Blackwell Publishers Inc., Malden,‬‬


‫‪Massachustts, 1999, P.30.‬‬
‫‪(2) Philipse, Herman, Heidegger’s Philosophy of Being: A critical Interpretation, P.238.‬‬

‫(‪ )3‬هيدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬الزمان والوجود‪ ،‬ترمجة‪ :‬عبد اِّلادي مفتاح‪ ،‬إرشاف ومراجعة‪ّ :‬‬
‫حممد سبيال‪ ،‬يف‪ :‬مارتن هيدجر‪،‬‬
‫التقنيَّة‪ .‬احلقيقة‪.‬‬
‫(‪ )4‬هايدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬الطريق إىل اللغة‪ ،‬يف‪ :‬كتابات أساسية‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ترمجة وحترير‪ :‬إسامعيل املصده ق‪ ،‬املجلس‬
‫األعل للثقافة‪ .‬املرشوع القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪ ،2003 ،‬ص‪.260 :‬‬
‫ى‬
‫‪ ❖ 24‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الكلامت واملوجودات ربطا صميم ًّيا حمكام بحيث ال يمكن الفصل بني اللغة والوجود‪:‬‬
‫أن الكلامت ‪ -‬ماهويا ‪ -‬حتيل إىل املوجودات‪ ،‬وبالعكس املوجودات هي ‪-‬‬
‫بسبب َّ‬
‫ماهويا ‪ -‬معنى مو َقر(‪ .)1‬وهكذا يمنح هذا املعنى عينه املنشأ للكلامت(‪.)2‬‬
‫ومن هذا املنطلق نظر هايدغر إ ىل اللغة بوصفها موضوعا غن ًّيا جدًّ ا لألنطولوجيا‪ ،‬أل َّنه‬
‫ارتأى‪:‬‬
‫ى‬
‫ألن تاريخ الكلامت هو نفسه‬ ‫َّ‬
‫يتكشف تاريخ الوجود‪َّ ،‬‬ ‫أن يف تاريخ ِّ‬
‫كل كلمة‬ ‫َّ‬
‫فإن االشتقاق هو الطريق الوحيد لألنطولوجيا‬
‫تاريخ الوجود‪ .‬ومن وجهة النظر هذه َّ‬
‫بوصفها إعادة بناء لتاريخ الوجود(‪.)3‬‬
‫وقد ُعنِ َي هايدغر أيضا يف ُأفق بحثه يف اللغة بالعالقة بني الشعر والوجود‪ ،‬فقد أكَّد يف‬
‫الشعر املنشور سنة ‪َّ 1936‬‬
‫أن‪:‬‬ ‫بحثه املوسوم بـ هيلدرلن وماه َّية ه‬
‫جمرد وضع اسم ليشء‬ ‫سمي األشياء بام هي عليه‪ ،‬وليست هذه التسمية َّ‬ ‫الشاعر ُي ِّ‬
‫ٍ‬
‫معروف من قبل ج ِّيد ًا‪ ،‬بل حني ينطق الشاعر بالكالم اجلوهري حينئذ ُي ِّ‬
‫سمي املوجود‬
‫عرف عىل هذا النحو بوصفه موجود ًا(‪.)4‬‬
‫هبذه التسمية عىل ما هو عليه‪ ،‬و ُي َ‬
‫عل‬ ‫أن هايدغر جيد يف شاعر َّية الشاعر التي تت ّ ى‬
‫جل يف قوله الشعري قدرة ى‬ ‫الحظ هنا َّ‬
‫إذا ُي َ‬
‫تأسيس للوجود بواسطة الكالم»(‪.)5‬‬‫ٌ‬ ‫عر‬ ‫ه‬
‫«فالش ُ‬ ‫حتديد وجود املوجود باللغة‪،‬‬
‫هيب‬
‫أن َ‬‫وحاول هايدغر أيضا يف بحثه املوسوم بـ أصل العمل الفنّي املنشور سنة ‪ْ 1936‬‬

‫‪(1) meaning laden‬‬


‫‪(2) Inwood, Michael, Heidegger: A very Short Introduction, Oxford, University Press, Inc,.‬‬
‫‪Oxford New York, 1997, P.47.‬‬
‫(‪ )3‬فاتيمو‪ ،‬جياين‪ ،‬التاريخ واللغة عند هايدغر‪ ،‬تورينو‪ ،1963،‬ص‪ ،158 :‬ذكره عبد الرمحن بدوي يف‪ :‬ملحق‬
‫املؤسسة العرب َّية للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،1996 ،‬ما َّدة‪ :‬اللغة (ص‪.)262 :‬‬
‫موسوعة الفلسفة‪َّ ،‬‬
‫(‪ )4‬هيدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬هيلدرلن وماهيِّة الشعر ‪ ،‬ترمجة‪ :‬فؤاد كامل‪ ،‬يف‪ :‬مارتن هيدجر‪ :‬ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا؟‬
‫عل األصل األملاين‪ :‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬دار‬
‫هيلدرلن وماهيَّة الشعر‪ ،‬ترمجة‪ :‬فؤاد كامل‪ ،‬حممود رجب‪ ،‬وراجعها ى‬
‫الثقافة للطباعة والنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1974 ،‬ص‪ 149 :‬و‪.150‬‬
‫(‪ )5‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.150 :‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪25‬‬

‫عل كشف حقيقة الوجود بواسطة‬


‫العمل الفنّي (لوحة‪ ،‬مقطوعة موسيق َّية‪ ...‬إلخ) قدرة ى‬
‫اجلامل َّية الكامنة يف هذا العمل الف ّني‪.‬‬
‫ومرد ذلك إ ىل َّ‬
‫أن‪:‬‬
‫«احلقيقة هي كشف املوجود بصفته موجود ًا‪ .‬احلقيقة هي حقيقة الوجود»(‪.)1‬‬
‫وقد نظر هايدغر إ ىل العمل الفنّي بوصفه َّ‬
‫حمل إقامة احلقيقة‪ ،‬وبالتال‪:‬‬
‫فإّنا تُظ ِهر نفسها‪ .‬والظهور هو ‪-‬‬
‫«عندما تُقيم احلقيقة نفسها يف العمل الف يني َّ‬
‫بوصفه وجود ًا هلذه احلقيقة يف العمل وبوصفه عم ً‬
‫ال فنييا ‪ -‬اجلامل»(‪.)2‬‬
‫مدى هذا التحول الكبري يف فكر هايدغر بعد الوجود والزمان‪ ،‬إذ انعطف من‬
‫يتبني ى‬
‫إذا َّ ُ‬
‫والفن‪.‬‬
‫ه‬ ‫معنى الوجود‪ ،‬يف اللغة‪ ،‬الشعر‪،‬‬
‫ى‬ ‫إل الكشف عن‬
‫حتليل الـ دازاين ى‬
‫إل‬
‫ملعنى االنعطاف‪ ،‬وهي االنعطاف من فكر الوجود والزمان ى‬
‫وعليه نصل إ ىل داللة ثالثة ى‬
‫إل‬ ‫فكر الزمان والوجود‪ ،‬أي النقلة التي حدثت يف فكر هايدغر كام ّ ى‬
‫جتل يف الوجود والزمان ى‬
‫عل حتول يف‬
‫سامه فكر الزمان والوجود‪ ،‬داللة ى‬ ‫فكره كام ّ ى‬
‫جتل بعد الوجود والزمان والذي َّ‬
‫َّ‬
‫يتلخص يف االنتقال من التاريخ البرشي إ ىل الوجود ذاته‪ ،‬أو‬ ‫مسار تفكريه‪ ،‬والذي‬
‫باالنعطاف من الـ دازاين إ ىل الوجود من حيث التحليل األنطولوجي‪.‬‬

‫االنعطاف من ماهيَّة احلقيقة إىل حقيقة املاهيَّة‪:‬‬


‫عل انعطاف رابع يمكن استنتاجه من قولة هايدغر‬
‫ى‬
‫(‪)3‬‬
‫تدل حمارضة هايدغر يف ماه َّية احلقيقة‬
‫يف هذه املحارضة‪:‬‬
‫احلقيقة هي حقيق ُة املاه َّي ِة(‪.)4‬‬
‫ِ‬ ‫جواب السؤال عن ماه َّية احلقيقة هو‪ :‬ماه َّي ُة‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬أصل العمل الفني‪ ،‬مع مقدمة للفيلسوف غادامري‪ ،‬ترمجة‪ :‬أبو العيد دودو‪ ،‬منشورات االختالف‪،‬‬
‫اجلزائر‪ ،2001 ،‬ص‪.107 :‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪(3) On the Essence of Truth.‬‬
‫‪(4) The answer to the question about the essence of truth is: the essence of truth is the truth of‬‬
‫‪the essence, Heidegger, Martin, On the Essence of Truth Translated by: R.F.C. Hull, Alan‬‬
‫‪Grick, in: Existence and Being, ed. Werner Brock. Chicago: Regnery, 1949. Pp.317 - 351.‬‬
‫‪ ❖ 26‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن َث َّم سؤاال هو‪:‬‬


‫عل أساس َّ‬
‫عل غموض ال بدَّ من إزالته ى‬ ‫والواقع َّ‬
‫أن هذه القولة تنطوي ى‬
‫عل الشكل اآلت‪ :‬ما‬ ‫ما ماه َّية احلقيقة؟ ويمكن ْ‬
‫أن ُيصاغ هذا السؤال بطريقة أكثر وضوحا ى‬
‫إن ماه َّي َة‬
‫أن ُيقده م جوابا عن هذا السؤال بقوله‪َّ :‬‬
‫ماه َّية حقيقة الوجود؟ هنا حاول هايدغر ْ‬
‫حقيقة الوجود هي حقيقة املاه َّية‪ ،‬ويعني هبا حقيقة ماه َّية الوجود‪.‬‬
‫الحظ هنا يف بادئ األمر َّ‬
‫أن هايدغر قام بعمل َّية عكس لرتكيب األلفاظ يف اجلواب‬ ‫لكن ُي َ‬
‫عن هذا السؤال‪ ،‬فهل يكفي هذا العكس للقول بانعطاف جديد؟‬
‫أن ُُي ِدث انعطافا يف جوابه‪ ،‬وذلك بتغيري‬
‫لقد أراد هايدغر من خالل عمل َّية العكس ْ‬
‫معاين كل من املاه َّية واحلقيقة‪.‬‬
‫تعني املاه َّية َّأوالً (يف السؤال) املاه َّية باملعنى التقليدي(‪)1‬؛ لكن يف ظهورها ثاني ًة (يف‬
‫ُفهم لفظيا‪ ،‬ومن َث َّم ُي َّ‬
‫قرب معناها إىل الوجود عىل أساس متييزه‬ ‫اجلواب) ينبغي أن ت َ‬
‫من املوجودات(‪.)2‬‬
‫ُي ِد َ‬
‫ث هذا التمييز‬ ‫لكن السؤال املطروح هنا هو‪ :‬ملاذا أراد هايدغر وفقا ِّلذا املنظور ْ‬
‫أن ُ ْ‬
‫بني الوجود واملوجودات؟‬
‫فِّسوا الوجود باملوجود‪ .‬وبدأ ذلك يف‬ ‫أكَّدَ هايدغر َّ‬
‫أن الفالسفة عرب تاريخ الفلسفة قد َّ‬
‫الفلسفة اليونان َّية القديمة مع طاليس امللطي يف القرن السادس قبل امليالد عندما‪:‬‬
‫فَّس طاليس املوجودات بوساطة‬
‫تساءل ما ماه َّية الوجود؟ وكان جوابه‪ :‬املاء‪ .‬هنا َّ‬
‫موجود(‪.)3‬‬
‫ون َّبه هايدغر يف هذا السياق إ ىل أنَّه قد‪:‬‬
‫استطاع طاليس يف السؤال أن يفهم شيئ ًا قريب ًا من الوجود‪ ،‬لكنَّه ف ََّّس الوجود(‪ )4‬يف‬

‫‪(1) Essence in the traditional sense.‬‬


‫‪(2) Inwood, Michael, A Heidegger Dictionary, P.232.‬‬
‫‪(3) Heidegger, Martin, The Basic Problems of Phenomenology, Translation, Introduction and‬‬
‫‪lexicon by: Hofstadter, Indiana University Press, Bloomington & Indianapolis, 1982, P.319.‬‬
‫‪(4) being‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪27‬‬

‫اجلواب بوصفه موجود ًا(‪.)2()1‬‬


‫عل الفلسفة اليونان َّية القديمة؛‬ ‫وارتأى هايدغر َّ‬
‫أن هذا النمط يف التفسري مل يقترص فقط‪ ،‬ى‬ ‫ى‬
‫لكنَّه‪:‬‬
‫استمر ح َّتى بعد التطويرات اجلوهر َّية التي قام هبا كل من أفالطون ُ‬
‫وأرسطو يف‬ ‫َّ‬
‫أن هذا التفسري بقي هو الوحيد املعمول به يف‬
‫تصييغ املشكالت(‪ .)3‬وواقع األمر َّ‬
‫الفلسفة‪ ،‬وصوالً إىل يوم الناس هذا(‪.)4‬‬
‫معنى ماه َّية الوجود‬
‫ى‬ ‫َ‬
‫أحدث هايدغر انعطافا يف تاريخ الفلسفة بتغيريه‬ ‫وعل هذا األساس‬
‫ى‬
‫من كونه موجودا ُحم َدَّ دا إ ىل كونه الوجود املتم هيز من املوجودات‪ ،‬وذلك من أجل اجتناب‬
‫اخللط يف التفسري بني الوجود واملوجودات‪.‬‬
‫معنى احلقيقة يف جوابه عن السؤال السابق‪َّ ،‬‬
‫ألن‪:‬‬ ‫ى‬ ‫غري‬ ‫الحظ أيضا َّ‬
‫أن هايدغر ُي ه‬ ‫و ُي َ‬
‫الصحة أو املطابقة(‪ ،)5‬لكنَّها تصري (يف‬
‫َّ‬ ‫احلقيقة تبدأ (يف السؤال) كحقيقة بمعنى‬
‫اجلواب) حقيقة بمعنى التسرت ا ُمليضء(‪.)6‬‬
‫عل‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫أن هايدغر ُُي هول احلقيقة بمعناها التقليدي من كوّنا حقيقة منطق َّية تقوم ى‬
‫إل‬
‫التقارن التا هم بني اليشء الواقعي وماه َّيته العقل َّية ى‬
‫ُ‬ ‫عل‬
‫مطابقة الفكر لليشء الواقعي‪ ،‬أي ى‬
‫تتوضح فقط‬ ‫َّ‬ ‫ألّنا‬
‫كوّنا تسرتا مضيئا‪ .‬فاحلقيقة ليست نتيجة تطابق العقل والواقع‪َّ ،‬‬
‫أنطولوج ًّيا يف ُأفق َّأّنا تسرت ميضء‪ .‬لكن ماذا يعني هايدغر بـ التسرت امليضء(‪ ،)7‬فكيف يمكن‬
‫إن جواب هايدغر الوحيد عن‬ ‫أن يصري مضيئا كاشفا؟ َّ‬ ‫ب وغموض ْ‬ ‫للتسرت الذي هو حتج ٌ‬
‫أن الوجود ال ي ِ‬
‫سفر عن حقيقته َّإال بوصفها استِّسارا وكشفا ِّلذا‬ ‫هذا السؤال هو تأكيده َّ‬
‫ُ‬

‫‪(1) abeing‬‬
‫‪(2) Ibid, P. 319.‬‬
‫‪(3) formulation the problems.‬‬
‫‪(4) Ibid, P. 319.‬‬
‫‪(5) correctness‬‬
‫‪(6) Inwood, Michael, A Heidegger Dictionary, P.232.‬‬
‫‪(7) lighting sheltering.‬‬
‫‪ ❖ 28‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫باملعنى األنطولوجي فحقيقة‬


‫ى‬ ‫االستِّسار يف آن واحد‪ ،‬وكأ َّننا إزاء تضايف مأخوذ فقط‬
‫رسا مكشوفا‬
‫عل اإلطالق‪ ،‬وال بوصفها ًّ‬
‫رسا ُمستغلقا ى‬
‫َصور بوصفها ًّ‬ ‫الوجود ال يمكن ْ‬
‫أن ُتت َّ‬
‫وكشف يف الوقت ذاته‪ .‬ولذلك قال هايدغر‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫عل اإلطالق‪ ،‬وإ َّنام هي رس‬
‫ى‬
‫فإن الوجود يظهر َبدئي ًا يف ضوء‬
‫أن التسرت امليضء ينتمي صميميا إىل الوجود‪َّ ،‬‬
‫بام َّ‬
‫االنسحاب ا ُملخفي(‪.)1‬‬
‫أن ظهور حقيقة الوجود ُيدث فقط َّ‬
‫ألن حقيقة الوجود ت َّتجه نحو‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫معنى للظهور‪ .‬و ُيؤ هكد هايدغر ذلك‬
‫ى‬ ‫االنسحاب واالختفاء‪ ،‬أي لوال االختفاء ملا كان َث َّم‬
‫بقوله‪:‬‬
‫هكذا جواب السؤال عن ماه َّية احلقيقة هو كالم عىل انعطاف داخل تاريخ‬
‫وألن التسرت امليضء ينتمي إىل الوجود فهو يظهر بدئيا يف ضوء االنسحاب‬
‫َّ‬ ‫الوجود‪،‬‬
‫ا ُملخفي(‪.)2‬‬
‫بمعنى ماه َّية حقيقة الوجود إ ىل ُأفق جديد متاما مل يكن‬
‫ى‬ ‫أن هايدغر انعطف‬‫وعليه ي َّتضح َّ‬
‫يتجل يف التسرت امليضء للوجود من حيث‬ ‫ّى‬ ‫معروفا من قبل يف تاريخ الفلسفة‪ .‬وهذا األُفق‬
‫متيزه عن املوجودات؛ لكن ال يمكن التسليم مع هايدغر َّ‬
‫بأن التسرت (االختفاء) واإلضاءة‬
‫عل‬ ‫أن يكونا تعبريا أصيال عن حقيقة الوجود‪َّ ،‬‬
‫ألن عدم أولو َّية أحدها ى‬ ‫(الظهور) يمكن ْ‬
‫اآلخر يوقع اإلنسان يف احلرية و ُيفيض به إ ىل عدم اليقني‪.‬‬

‫التقنيَّة واالنعطاف‪:‬‬
‫نرش هايدغر يف عام ‪ 1962‬جمموعة حمارضات جاءت حتت عنوان التقن َّية واالنعطاف‪ ،‬ن َّبه‬
‫أن هايدغر َّ‬
‫حذر من هذا اخلطر بعد احلرب العامل َّية‬ ‫والالفت َّ‬
‫فيها إ ىل خطر يتهدَّ د الوجود‪َّ .‬‬
‫وضح جورج باتيسون(‪َّ )3‬‬
‫أن هذا اخلطر املشار إليه‪:‬‬ ‫الثانية واّنيار أملانيا الناز َّية‪ .‬و ُي ه‬

‫‪(1) in the light of the concealing withdrawal ,Heidegger, Martin, On the Essence of Truth,‬‬
‫‪Pp.317 - 351.‬‬
‫‪(2) Ibid, Pp.317 - 351.‬‬
‫‪(3) George Pattison‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪29‬‬

‫مل يكن الشيوع َّية الروس َّية‪ ،‬وال الرأسامل َّية األمريك َّية‪ ،‬وال هو يف توقع مجيع ما هو‬
‫اخلاص (االنسياق استجاب ًة حلضور‬
‫ِّ‬ ‫خارج احلرب بينهام؛ لكن يف تصييغ هايدغر‬
‫اهليكلة هو اخلطر)(‪.)1‬‬
‫ما الذي يقصده هايدغر هبذا املصطلح الغريب اِّليكلة ‪Enframing‬؟ َّ‬
‫إن اِّليكلة بالنسبة‬
‫بمعنى‪َّ :‬أّنا ما يقف وراء تشكيل‬
‫ى‬ ‫معنى التقن َّية يف العرص احلديث‪،‬‬
‫ى‬ ‫فهم من خالِّلا‬
‫له هي ما ُي َ‬
‫معنى اِّليكلة وفقا ملنظور هايدغر من حيث عالقتها بالتقن َّية بتأكيده َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ى‬ ‫العامل تقن ًّيا‪ .‬ويتحدَّ ُد‬
‫اشرتاطي متام ًا يمكن أن نقول‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫اهليكلة ليست هي نفسها شيئ ًا تقنيا؛ لكن عىل ٍ‬
‫نحو‬
‫مؤسس حتتي للتقن َّية احلديثة(‪.)2‬‬
‫َّإّنا يشء مثل‪ :‬عقل ‪ِّ -‬‬
‫أن اِّليكلة بمثابة ُخم هطط للهيئات التقن َّية التي تتمظهر بأشكال عديدة يف‬
‫يتبني َّ‬
‫من هنا َّ‬
‫إل أكثرها تعقيدا؛ َّإال َّأّنا ال تقف‬
‫املخرتعات الصناع َّية اإلنسان َّية بدءا من أبسطها وصوال ى‬
‫ألّنا ظاهرة ح َّت ىى يف ُط ُرق تفكري البرش وعاداهتم اليوم َّية‪ .‬ولذلك‪:‬‬
‫عند هذا احلده ‪َّ ،‬‬
‫حني نتك َّلم عىل صناعة الثقافة أو ُأرستقراط َّية العرص أو كون املستهلكني من‬
‫الريف‪ ،‬فنحن نكشف عن تأثري اهليكلة يف طريقة تفكرينا‪.‬‬
‫عل حياة الناس إ ىل هذه‬ ‫غري َّ‬
‫أن السؤال املطروح اآلن ملاذا يعد هايدغر اِّليكلة طاغية ى‬
‫عل أنفسهم أم هي من أصل غري إنساين؟‬‫الدرجة‪ ،‬فهل البرش هم الذين س َّلطوها ى‬
‫لقد كان جواب هايدغر عن هذا السؤال هو التال‪:‬‬
‫فعل إنساين؛ لكن يأيت ‪ -‬كام يقول هايدغر ‪ -‬بقضاءٍ‬
‫أي ٍ‬‫ال يكمن أصل اهليكلة يف ِّ‬
‫ٍ‬
‫وقدر من الوجود األصل(‪.)3‬‬
‫قر َر بقضاء وقدر منه مصري‬ ‫عل ْ‬
‫أن ُي ه‬ ‫أن هايدغر قد منح الوجود القدرة ى‬‫الحظ هنا َّ‬
‫لكن ُي َ‬
‫أن ُيوز مثل هذه القدرة‪ .‬واحلقيقة‬‫ربر كيف يمكن للوجود ْ‬ ‫ِ‬
‫وجود العامل اإلنساين؛ لكن مل ُي ه‬
‫أن‪:‬‬ ‫أن َّ‬
‫كل ما يقوله هايدغر يف هذا السياق هو َّ‬ ‫َّ‬

‫‪(1) The coming to presence of Enframing is the danger, Pattison, George, The Later‬‬
‫‪Heidegger, Routledge, London & New York, 2000, P.2.‬‬
‫‪(2) the mind-set underlying modern technology, Ibid, P.2.‬‬
‫‪(3) destining of primordial being, Ibid, P.3.‬‬
‫‪ ❖ 30‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫قضاء وقدر ًا ُف ِرضا عىل العامل من اخلارج؛ لك َّنهام‬


‫ً‬ ‫القضاء والقدر ليسا ببساطة‬
‫ذايت من قِ َب ِل الوجود بالنسبة للطريقة التي يكون عليها العامل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫يشريان إىل تكيف ٍّ‬
‫صري ًا منحه الذايت وكشفه الذايت (أي الوجود) مالئمني لقابليات هؤالء البرش الذين‬
‫ُم ِّ‬
‫يتل َّقونه(‪.)1‬‬
‫ف ذات ُه يف التوجه نحو البرش‬ ‫ماذا يعني هايدغر هبذا الكالم؟ إ َّنه يعني َّ‬
‫أن الوجود ُيك هي ُ‬
‫توجهني نحو الوجود‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن اِّليكلة ُت َعد وفقا ملنظور‬ ‫بالطريقة نفسها التي يكون فيها البرش ُم ه‬
‫ألن ثورة التقن َّية التي افتعلها البرش‬‫هايدغر قضاء وقدرا من ِق َب ِل الوجود‪ ،‬فهي ما هي‪َّ ،‬‬
‫أن تكون هيكلة العامل تقن ًّيا هي قضاء وقدر الوجود بالنسبة إ ىل البرش‪.‬‬ ‫أفضت إ ىل ْ‬
‫أن ي ِ‬
‫رسل قضاء‬ ‫عل ْ ُ‬ ‫قادر ى‬
‫أن الوجو َد ٌ‬ ‫سعى إ ىل تبيان َّ‬
‫ى‬ ‫واحلقيقة َّ‬
‫أن هايدغر يف هذا املقام‬
‫معنى الوجود‪.‬‬‫ى‬ ‫وقدرا إ ىل البرش يتناسب مع قابل ّياهتم أو استعداداهتم لتل ّقي وفهم وتَقبل‬
‫أي تفسري‬‫أن هايدغر مل ُيقده م َّ‬‫أن الوجود َّاّتذ موقفا إزاء البرش؛ لكن املشكلة هي َّ‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫عل هاّتاذ مثل هذا املوقف‪ .‬وال يوجد أي حل ِّلذه‬ ‫أن يكون قادرا ى‬ ‫حول كيف يمكن للوجود ْ‬
‫عل أ َّنه هو اهلل‪.‬‬ ‫سوى َّ‬
‫أن هايدغر فهم الوجود ى‬ ‫ى‬ ‫املشكلة‬
‫ِ‬
‫أن هيكلة العامل تقن ًّيا من حيث هي قضاء وقدر من ق َب ِل الوجود تتس َّب ُ‬
‫ب يف‬ ‫املهم يف األمر َّ‬
‫الوقوع يف اخلطر‪.‬‬
‫لكن أين يكمن اخلطر؟ بالتأكيد أي يشء يأيت إلينا من قِ َب ِل الوجود جيب أن ُيظ ِهر‬
‫ما تكون عليه األشياء‪ ،‬وعىل هذا األساس يكون بمعنى ما صحيح ًا‪ .‬هكذا يمكن أن‬
‫يبدو أيض ًا بينا هايدغر يقول‪ :‬تأيت اهليكلة من الوجود أو هي حدث داخل الوجود‪،‬‬
‫هو كذلك يقول‪َّ :‬إّنا تطوي الوجود يف النسيان(‪.)2‬‬
‫إل البرش هو هيكلة العامل‬ ‫ِ‬ ‫أن هايدغر قد َّبني َّ‬
‫من هنا يظهر َّ‬
‫أن الوجود ُيرسل قضاء وقدرا ى‬
‫طي الوجود يف النسيان‪ .‬وهذا الطي عينه ُيؤ هدي إ ىل وقوع البرش يف‬
‫تقن ًّيا بصورة ُتفيض إ ىل ه‬
‫اخلطر‪ .‬فالوجود ذاته هنا يدفع البرش إ ىل نسيانه‪ ،‬وهذا هو أساس اخلطر‪ .‬والسؤال املطروح‬
‫هنا هو‪ :‬ما احلل الذي وضعه هايدغر لتجنب اخلطر؟‬

‫‪(1) Ibid, P.3.‬‬


‫‪(2) Ibid, P.3.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪31‬‬

‫املنحى بحثا عن حل‪ :‬إ َّنه جيب‪:‬‬


‫ى‬ ‫أ َّكد هايدغر يف هذا‬
‫أن يكون كل منَّا اإلنسان الذي ينتظر‪ ،‬اإلنسان الذي يرعى قدوم حضور الوجود‪،‬‬
‫يف ذلك الذي يف التفكري هو (بوصفه إنسان ًا) يقوم بتأسيسه‪ .‬وفقط عندما اإلنسان‬
‫بوصفه راعي الوجود(‪ ،)1‬من حيث إ َّنه يرعى حقيقة الوجود‪ ،‬فإ َّنه يستطيع أن يتو َّقع‬
‫وصول قضاء وقدر الوجود(‪.)2‬‬
‫يتحول إ ىل راع للوجود ومهتم بمسألته‪ .‬وهذا يؤول‬
‫َّ‬ ‫أن‬ ‫وعليه يطالب هايدغر َّ‬
‫كل إنسان ْ‬
‫وكأن هايدغر يزعم هنا َّ‬
‫بأن‬ ‫َّ‬ ‫برأيه إ ىل تغيري يف قضاء وقدر الوجود اللذين أرسلهام إ ىل البرش‪.‬‬
‫عل تغيري موقفه إزاء البرش‪.‬‬
‫الوجود قادر ى‬
‫املدى من التحليل األنطولوجي ُين هبه هايدغر إ ىل أ َّنه‪:‬‬
‫ى‬ ‫إل هذا‬ ‫أي حال‪ ،‬بعد الوصول ى‬
‫عل ه‬
‫ى‬
‫آنئذ هو انعطاف انقالب‪ ،‬وهو عىل‬ ‫ما جيب أن يكون مبحوث ًا عنه أو متط َّلع ًا إليه ٍ‬
‫ُ‬
‫حدٍّ سواء انعطاف يف الوجود وانعطاف يف اإلنسان َّية‪ .‬يف الوجود‪ :‬يف نسيانه هذا‬
‫املنعطف إىل الرعاية‪ ،‬يف اإلنسان َّية‪ :‬يف ذلك الذي ينعطف بنا من اإلنسان الصانع زعيم‬
‫املخلوقات وس ِّيد الكون إىل اإلنسان راعي الوجود اإلنسان الذي ُين َتظر(‪.)3‬‬
‫ألّنا‬
‫نى االنعطاف عند هايدغر‪َّ ،‬‬
‫عل ما سبق نصل إ ىل دالالت فرع َّية جديدة ملع ى‬
‫وبناء ى‬
‫عل أساس اقرتاب اإلنسان‬
‫ألّنا تتحدَّ د ى‬
‫عل الدالالت األربع املذكورة سابقا‪َّ ،‬‬
‫ترت َّتب أساسا ى‬
‫من كشف حقيقة الوجود أو ابتعاده عنها‪.‬‬
‫أن الوجود ينعطف نحو البرش عرب‬ ‫ملعنى االنعطاف‪ ،‬وهي َّ‬ ‫ى‬ ‫ومن هنا تظهر داللة خامسة‬
‫تكيف ذات منه‪ ،‬مع قابل ّيات البرش الذين يتل َّقونه بأفهامهم ومواقفهم‪ .‬وهذا ُيفيض ‪ -‬كام ُذكِ َر‬
‫أن الوجود‬ ‫تم تفصيل ذلك ‪ -‬عن َّ‬ ‫ناتج ‪ -‬كام َّ‬
‫سابقا ‪ -‬إ ىل الوقوع يف اخلطر‪ .‬وهذا اخلطر ٌ‬
‫عل هيأة هيكلة تقن َّية للعامل حتجب الوجود وتطويه يف‬
‫أرسل قضاء وقدرا منه إ ىل البرش ى‬
‫أن ينعطف‬‫ملعنى االنعطاف‪ ،‬وهي ْ‬
‫ى‬ ‫أن اخلطر نفسه ُيسفر عن داللة سادسة‬ ‫النسيان؛ غري َّ‬

‫‪(1) shepherd of Being.‬‬


‫‪(2) Ibid, P.4.‬‬
‫‪(3) Ibid.‬‬
‫‪ ❖ 32‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫اإلنسان نحو انتظار الوجود‪ ،‬أي انتظار القضاء والقدر اللذين سوف يبعثهام الوجود بصورة‬
‫خمتلفة عن السابق (هيكلة العامل تقن ًّيا)؛ َّ‬
‫ألن الوجود من حيث تكيفه الذات مع قابل هية اإلنسان‬
‫سفر عن قضاء وقدر ينسجامن مع كون هذا اإلنسان‬ ‫املُنتظِر املَعني بمسألة الوجود سوف ي ِ‬
‫ُ‬
‫غري موقفه إزاء البرش باعتبار‬ ‫أن الوجود يمكن ْ‬
‫أن ُي ه َ‬ ‫عل َّ‬ ‫معن ًّيا بمسألة الوجود‪ .‬وهذا يدل ى‬
‫وجود ُأناس يكونون معن هيني بالوجود‪ ،‬بحيث ينصب اهتاممهم ى‬
‫عل انتظار الوجود ح َّت ىى‬
‫غري‬ ‫عل إمكان ْ‬
‫أن ُي ه َ‬ ‫باملعنى احلقيقي‪ .‬وما يمنح قيمة ِّلذا االنتظار هو أ َّنه قائم ى‬
‫ى‬ ‫يكشف عن ذاته‬
‫ت مع هؤالء الناس املعن هيني بمسألة الوجود‪ ،‬أي إ َّن الوجود ي َّتجه نحو‬ ‫الوجود تكي َف ُه الذا َّ‬
‫فسح يف املجال‬ ‫إظهار حقيقته عندما يعثر عل من ينتظر التوص َل إل هذه احلقيقة‪ .‬وهذا ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ى‬ ‫ى‬
‫أن ينتشل البرش من اخلطر الذي أوقعوا أنفسهم فيه‪ ،‬أو‬ ‫إن الوجو َد ذات ُه يريد ْ‬ ‫للقول‪َّ :‬‬
‫ألّنم استغرقوا حيواهتم يف ُط ُرق ى‬
‫تنأى هبم عن‬ ‫باألحرى الذي أوقعهم فيه الوجود ذاته؛ َّ‬ ‫ى‬
‫كونته التقن َّية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الوجود‪ ،‬و ُتقحمهم يف رضوب من العيش مستمدَّ ة من العامل الذي َّ‬
‫ولذلك ينتشل الوجود البرش من هذا اخلطر عندما جيد بينهم اإلنسان (املُنتظر) للوجود‬
‫بصورة تكشف عن حقيقته التي تنسجم مع تذكره ال نسيانه‪ ،‬واالكرتاث به ال إهاله‪.‬‬
‫ملعنى االنعطاف‪ ،‬أي انعطاف اإلنسان نحو انتظار‬
‫ى‬ ‫عل هذه الداللة السادسة‬
‫وترت َّتب ى‬
‫َ‬
‫اإلنسان ينعطف من نسيان الوجود إ ىل رعاية‬ ‫الوجود‪ ،‬داللة سابعة نامجة عنها‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن‬
‫الوجود‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن اّنامم اإلنسان بحياته الدنيو َّية العاد َّية‪ ،‬وانشغاله بشؤون حياته‪ ،‬وما يقتضيه ذلك من‬
‫عل ه‬
‫كل تفاصيل‬ ‫مطالب ما ّد َّية‪ ،‬وعنايته املفرطة باملخرتعات التكنولوج َّية التي سيطرت ى‬
‫يتوجب عليه ْ‬
‫أن‬ ‫َّ‬ ‫ألهم مسألة‬
‫ه‬ ‫أفىض إ ىل إهاله‬
‫ى‬ ‫عالقته مع العامل من حوله‪ ...‬إلخ‪ ،‬هذا كله‬
‫عنى هبا‪ ،‬وهي مسألة الوجود‪ .‬وإذا مل ُي ْع َن اإلنسان بمسألة الوجود َّ‬
‫فإن ذلك سوف يؤول‬ ‫ُي ى‬
‫يتوجب‬
‫مهمة َّ‬
‫بمعنى الوجود إ ىل النسيان‪ ،‬بل إ ىل الضياع واالختفاء ّنائ ًّيا‪ ،‬لذلك تظهر هنا َّ‬
‫ى‬
‫عل اإلنسان املُنت َظر ْ‬
‫أن يضطلع هبا هي رعاية الوجود‪ ،‬وتكون هذه الرعاية عينها بوساطة‬ ‫ى‬
‫عل أ َّنه‪:‬‬
‫نمط جديد من التفكري يتحدَّ د يف منظور هايدغر ى‬
‫سالح يستهدف به تغيري الواقع لصالح الوجود الذي هو التجميع وسط التشتت‪.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪33‬‬

‫وهذا التفكري ُحي ِدث يقظ ًة لإلنسان من أجل أن ُيضفي الرعاية واحلامية عىل الوجود‪.‬‬
‫واخلطوة األُوىل نحو مثل هذه اليقظة هو االرتداد من التفكري الذي يعرض األشياء‬
‫فحسب‪ ،‬أي الذي يرشح إىل التفكري الذي ُيفكِّر ويستجيب ويستدعي(‪.)1‬‬
‫عل اإلنسان ْ‬
‫أن ينعطف نحو رعاية الوجود بنوع جديد من التفكري ال‬ ‫يتبني َّ‬
‫أن ى‬ ‫وعليه َّ‬
‫عل حقيقة الوجود‪ ،‬وإ َّنام يكون هدفه هو حفظ الوجود‬
‫يكون هدفه هو وضع رشوح تعسف َّية ى‬
‫بوساطة االستجابة له واستدعائه كيام يكشف عن حقيقته األصيلة‪.‬‬
‫عل الدالالت الفرع َّية‬
‫ملعنى االنعطاف ترت َّتب أيضا ى‬
‫ى‬ ‫ويبقى ْ‬
‫أن نشري إ ىل داللة ثامنة‬ ‫ى‬
‫ّى‬
‫تتجل يف انعطاف اإلنسان من كونه اإلنسان الصانع س هيد الكون إ ىل اإلنسان راعي‬ ‫السابقة‬
‫الوجود‪.‬‬
‫عل اإلنسان َّأال يمنح األولو َّية من حيث وجوده البتكار‬
‫ب ى‬ ‫يتوج ُ‬
‫َّ‬ ‫وهذا يعني أ َّنه‬
‫املخرتعات التقن َّية واالنشغال هبا واخلضوع لسريورهتا؛ لكن كيف يمكن لإلنسان َّأال يمنح‬
‫جمرى‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫وتتدخل ح َّت ىى يف‬ ‫عل ه‬
‫كل تفاصيله‪،‬‬ ‫األولو َّية للتقن َّية وهو يعيش يف عامل تسيطر التقن َّية ى‬
‫ارتأى هايدغر أ َّنه ينبغي‬
‫ى‬ ‫حياته اليوم َّية (كهرباء‪ ،‬مواصالت‪ ،‬أجهزة إلكرتون َّية‪ ...‬إلخ)؟ هنا‬
‫ْ‬
‫أن‪:‬‬
‫إن‬ ‫نتحكَّم بالتقن َّية و ُن ِّ‬
‫وجهها لصالح غايات روح َّية‪ ،‬نريد أن نصبح ساد ًة عليها‪َّ .‬‬
‫إرادة السيادة هاته تصبح أكثر إحلاح ًا ك َّلام هدَّ دت التقن َّية أكثر باالنفالت من مراقبة‬
‫اإلنسان(‪.)2‬‬
‫أن ُخي هلص اإلنسان من شغفه بكونه صانعا للتقن َّية‬
‫ومن هذا املنطلق حاول هايدغر ْ‬
‫عل حياته‪ ،‬ومن‬
‫تطغى ى‬
‫ى‬ ‫عل التحكم بمسارها ح َّت ىى ال‬
‫ومستخدما ِّلا‪ ،‬إ ىل كونه إنسانا قادرا ى‬
‫يتوجه اإلنسان نحو الوجود‬
‫أن َّ‬‫َث َّم حتجب الوجود عنه‪ .‬وعندما ال يكون أسريا للتقن َّية ال بدَّ ْ‬
‫ح َّت ىى َّ‬
‫يتواله بالرعاية واحلفظ‪.‬‬

‫(‪ )1‬جماهد‪ ،‬جماهد عبد املنعم‪ ،‬هيدجر راعي الوجود‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1983 ،‬ص‪.76 :‬‬
‫حممد سبيال‬ ‫(‪ )2‬هيدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬مسألة التقني َّة‪ ،‬ترمجة‪ّ :‬‬
‫حممد سبيال‪ ،‬يف مارتن هيدجر‪ :‬التقنية‪ .‬احلقيقة‪ .‬الوجود‪ ،‬ترمجة‪ّ :‬‬
‫وعبد اِّلادي مفتاح‪ ،‬املركز الثقايف العرب‪ ،‬الدار البيضاء‪ .‬بريوت‪ ،1995 ،‬ص‪.45 :‬‬
‫‪ ❖ 34‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫لكن إذا كان هايدغر ُياجج َّ‬


‫بأن إفراط البرش يف الركون إ ىل احلياة العرصية التي حدَّ دت‬
‫معاملها وتوجهاهتا األساس َّية املُنجزات التقن َّية هو الذي أ َّد ىى إ ىل عدم عناية البرش بمسألة‬
‫حجة هايدغر يف ما يتع َّلق‬ ‫إل نسيانه‪َّ .‬‬
‫فإن السؤال املطروح هنا‪ :‬ما َّ‬ ‫أفىض ذلك ى‬ ‫ى‬ ‫الوجود بحيث‬
‫عل احلياة األُوروب َّية يف‬
‫تطغى التقن َّية‪ ،‬وبشكل خاص ى‬
‫ى‬ ‫بنسيان الوجود من ِق َب ِل البرش َق ْب َل ْ‬
‫أن‬
‫خاصة‬ ‫خمتلف مناحيها‪ ،‬علام َّ‬
‫أن االنطالقة األساس َّية للتقن َّية كانت يف القرن املنرصم وبصورة َّ‬
‫يف البلدان الغرب َّية؟‬
‫هنا يمكن القول‪ :‬لقد أنكر هايدغر أيضا ح َّت ىى كون الفالسفة عرب تاريخ الفلسفة قد‬
‫ألّنم سقطوا ‪ -‬كام سبق القول ‪ -‬يف ميتافيزيقا احلضور‬
‫أفلحوا يف تناول مسألة الوجود‪َّ ،‬‬
‫هلت عموما يف تاريخ الفكر‬‫أن مسألة الوجود قد ُأ ِ‬
‫بتأثري من فلسفة أفالطون‪ .‬وهذا يعني َّ‬
‫البرشي واحلياة البرش َّية‪.‬‬
‫قصوى يف رأي هايدغر هي ه‬
‫االجتاه نحو رعاية الوجود‪.‬‬ ‫ى‬ ‫ومن هنا تظهر رضورة فكر َّية‬
‫أن‬‫وضح كيف يمكن ِّلذه الرعاية عينها ْ‬
‫غري أ َّن االلتباس هنا يف فكر هايدغر هو أ َّنه مل ُي ه‬
‫غري توجهات البرش نحو الوجود‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫تستدعي الوجود نحو املبادرة هاجتاه البرش‪ ،‬أو َّ‬
‫أن ُت ه‬
‫هايدغر مل ُُيده د أ َّية طريقة حلدوث ذلك وترك األمر غامضا‪.‬‬

‫نتائج البحث‪:‬‬
‫طي النسيان ْ‬
‫أن ُي هبني‬ ‫تتجل يف إخراج الوجود من ه‬ ‫َّ ى‬ ‫لقد أراد هايدغر يف حماولته الفلسف َّية التي‬
‫ه َّية الفائقة التي تكمن يف حرك َّي ِة توجه املوجود اإلنساين نحو كشف حقيقة هذا الوجود‪.‬‬ ‫األ ّ‬
‫ألن املوجود اإلنساين أو‬ ‫عل َّأّنا ُممْتَنِ َع ٌة؛ َّ‬ ‫ِ‬
‫وقد نظر هايدغر يف بداية املطاف إ ىل هذه احلرك َّية ى‬
‫عل حده تعبري هايدغر الـ دازاين يكون بفعل سقوطه يف العامل منهمكا يف شؤونه الدنيو َّي ِة‪ ،‬نا ًّدا‬ ‫ى‬
‫استغراق املوجودِ‬ ‫ِ‬ ‫ناجم عن‬ ‫عنى بمسألة الوجود‪ ،‬وهذا الندو ُد عينه من حيث إ َّنه‬ ‫عن ْ‬
‫ٌ‬ ‫أن ُي ى‬
‫يدفع به إ ىل‬ ‫ُ‬ ‫رات ِه يف ما تسوقه إليه حياته العاد َّية داخل العامل‬ ‫واهتاممات ِه وتفك ِ‬
‫ِ‬ ‫اإلنساين حيا َت ُه‬
‫ه‬
‫اإلنساين خيِّس ذاته بمحاولته ْ‬
‫أن يكسبها بوصفها‬ ‫َّ‬ ‫االنعطاف بعيدا عن ذاته‪ ،‬أي إ َّن املوجود‬
‫أن يربط ربطا صميم ًّيا ُحمكام‬ ‫أن هايدغر أرا َد ْ‬
‫ذاتا ال تتعدَّ ىى غاياهتا احلياة الدنيو َّية العاد َّية‪ ،‬غري َّ‬
‫ِ‬
‫املوجودات اإلنسان َّي َة‬ ‫بط عينه ُُيده ُد‬‫ومصرييا بني املوجود اإلنساين والوجود‪ .‬وهو يف هذا الر ِ‬
‫َّ‬ ‫ًّ‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪35‬‬

‫عل َّأّنا هي وحدها املعن َّي ُة بمسألة الوجود‪.‬‬


‫ى‬
‫اإلنسان نا ًّدا بفعل كيف َّي ِة سقوطه يف‬
‫ُ‬ ‫أن َث َّم مفارقة هنا يف تفكري هايدغر‪ ،‬فكيف يكون‬ ‫غري َّ‬
‫حيث كيف َّي ُة وجوده‬‫نى بمسألة الوجود‪ ،‬وهو يف الوقت نفسه أيضا َم ْعنِي من ُ‬ ‫العامل عن ْ‬
‫أن ُيع ى‬
‫عل هذا النحو‪ ،‬فإ َّما‬ ‫تكون محَّال َة أوجه ى‬
‫َ‬ ‫بمسألة الوجود؟ فكيف يمكن ِّلذه الكيف َّية ذاهتا ْ‬
‫أن‬
‫ِ‬
‫اإلنسان نحو الوجود أو عدم قابل َّيتها لذلك؟‬ ‫يكون طابعها األسايس هو قابل َّيتها لتوج ِه‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫أن‬
‫عل فكرة انعطاف‬ ‫أن هايدغر وقع يف إشكال َّية ُم َع َّقدة‪ ،‬فهو بالرغم من تأكيده ى‬ ‫ويظهر هنا َّ‬
‫أن يفهم الوجود يف ضوء هذا املوجود‬ ‫املوجود اإلنساين إ ىل الوجود؛ َّإال أ َّن ُه أراد أيضا ْ‬
‫اإلنساين عينه‪ .‬وذلك من خالل حماولته تفسري الـ دازاين من جهة الزمان َّية بقصد فهم‬
‫الوجود‪.‬‬
‫انتهى هايدغر من هذه املحاولة‪ ،‬كام يقول هو نفسه إ ىل َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ى‬ ‫وقد‬
‫ف يف عمل َّية فهم الوجود الذي ينتمي إىل الـ دازاين‬ ‫أمر ًا مثل الوجود قد ك ُِش َ‬
‫الفعل(‪ ،)1‬وذلك بوصفه طريق ًة ُيف َه ُم من خالهلا(‪.)2‬‬ ‫ِ‬
‫املوجود‬
‫ِّ‬
‫أن هايدغر مل‬ ‫ِ‬
‫الوجود؛ َّإال َّ‬ ‫ف‬ ‫أن حتليل كيفية وجود الـ دازاين أسفرت عن كش ِ‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫َّ‬
‫يفص ْح عن نتائج هذا الكشف؛ َّإال أ َّن ُه يستدرك بقوله‪:‬‬ ‫َ‬
‫بطريقة َبدئِ َّي ٍة(‪ ،)3‬ولو َّأّنا غري متح ِّق َق ٍة مفاهيميا(‪ .)4‬وهذا‬
‫ٍ‬ ‫الوجود هنا قد ك ُِش َ‬
‫ف‬
‫جيعل مكن ًا بالنسبة اللـ دازاين بوصفه وجود ًا فعليا موجود ًا ‪ -‬يف ‪ -‬العامل(‪ )5‬أن‬
‫ينسجم مع نفسه ِّاّتا َه املوجودات(‪ ،)6‬أي ِّاّتاه (املوجودات) التي يالقيها ‪ -‬داخل ‪-‬‬
‫العامل‪ ،‬أضف إىل ذلك اّتا َه نفسه بوصفه وجود ًا فعليا(‪.)7‬‬

‫‪(1) existent Dasein.‬‬


‫‪(2) Heidegger, Martin, Being and Time, P.488.‬‬
‫‪(3) Preliminary way‬‬
‫‪(4) non-conceptually.‬‬
‫‪(5) Dasein as existent Being -in- the World.‬‬
‫‪(6) towards entities.‬‬
‫‪(7) Ibid, P. 488.‬‬
‫‪ ❖ 36‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َ‬
‫يكون‬ ‫لكن هل يصح فقط من حيث إ َّن الـ دازاين وجو ٌد فعيل موجو ٌد ‪ -‬يف ‪ -‬العامل ْ‬
‫أن‬
‫ري مثل هذا االنسجا َم اآلنف الذكر‪ ،‬مع املوجودات األُ ى‬
‫خرى ومع نفسه‬ ‫قادرا ع ىل ْ‬
‫أن ُجي َ‬
‫بوصفه موجودا‪.‬‬
‫هنا يعزو هايدغر هذا االنسجام إ ىل فهم الـ دازاين للوجود ويتساءل‪:‬‬
‫ِ‬
‫للوجود(‪ )1‬مكن ًا بالنسبة اللـ دازاين؟ يمكن‬ ‫املتكش ُ‬
‫ف‬ ‫ِّ‬ ‫لكن كيف يكون هذا الفهم‬
‫ِ‬
‫لوجود ذلك‬ ‫اجلواب عن هذا السؤال من خالل الرجوع إىل التكوين األصل‬
‫الـ دازاين الذي من خالله يكون الوجو ُد مفهوم ًا(‪.)2‬‬
‫مر سابقا َّ‬
‫أن هايدغر قد قال‪:‬‬ ‫وكان قد َّ‬
‫الفعل يف العامل‬
‫َّ‬ ‫الفعل‪ ،‬ويعني بذلك وجود ُه‬
‫ِّ‬ ‫إن ماه َّية الـ دازاين تكمن يف وجوده‬
‫َّ‬
‫الذي ُيق ِّي ُض له َ‬
‫فهم الوجود‪.‬‬
‫مر سابقا أيضا ‪ -‬من جهة الزمان َّية ابتغا َء‬
‫الفعيل عين ُه ‪ -‬كام َّ‬
‫َّ‬ ‫وقد َف َّ َ‬
‫ِّس هايدغر هذا الوجود‬
‫أن ُيعيدنا هايدغر يف نقطة النهاية إ ىل نقطة البداية؟ ُياول‬ ‫معنى الوجود‪ ،‬فهل يصح ْ‬ ‫ى‬ ‫كشف‬
‫سو َغ ذلك بقوله‪:‬‬ ‫هايدغر ْ‬
‫أن ُي ه‬
‫مؤسس يف‬ ‫َّ‬
‫(‪)3‬‬
‫التكوين األنطولوجي ‪ -‬الوجودي الفعل لك يل َّي ِة الـ دازاين‬
‫يكون مكن ًا بطريقة َبدئ َّي ٍة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫االختطاط الوجدي للوجودي(‪ )5‬نبغي أن‬ ‫ال َّزمان َّية(‪ .)4‬من هنا‬
‫تتزمن الزَّمان َّي ُة الوجد َّي ُة(‪.)7()6‬‬
‫ما‪ ،‬تُتيح من خالهلا أن َّ‬
‫أن يربط ربطا صميم ًّيا إ ىل أبعد حد بني الوجود والزمان يف ُأفق‬
‫وهنا حاول هايدغر ْ‬
‫أن الوجو َد ال يمكن ْ‬
‫أن‬ ‫عالقة الـ دازاين هبام‪ ،‬هادفا من ذلك إ ىل إلغاء الفرق بينهام‪ ،‬لينتهي إ ىل َّ‬

‫‪(1) disclosive understanding of being.‬‬


‫‪(2) Ibid, P. 488.‬‬
‫‪(3) the existential ontological constitution of Dasein’s totality.‬‬
‫‪(4) temporality‬‬
‫‪(5) ecstatical projection of being.‬‬
‫‪(6) ecstatical temporality temporalizes.‬‬
‫‪(7) Ibid, P. 488.‬‬
‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪37‬‬

‫عل فلسفة‬ ‫فهم َّإال ى‬


‫عل أنَّه هو نفسه الزَّ مان‪ .‬وهذا ما يشري إليه غادامري يف معرض كالمه ى‬ ‫ُي َ‬
‫هايدغر بقوله‪:‬‬
‫‪ ...‬فامه َّية الوجود كان جيب حتديدها ضمن ُأفق ال َّزمان‪ ،‬لذلك ظهرت بنية‬
‫الزَّمان َّية بوصفها حتديد ًا أنطولوجيا للذات َّية‪ ،‬ولك َّنها كانت أكثر من ذلك أيض ًا‪.‬‬
‫إن الوجود ذات ُه زمان(‪.)1‬‬‫ُفأطروحة هايدغر كانت تقول‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫رش إليه غادامري باملقابل هو‪ :‬إذا كانت بنية الزَّ مان َّية بوصفها حتديدا أنطولوج ًّيا‬
‫لكن ما مل ُي ْ‬
‫بمعنى‪ :‬أ َّن ُه‬
‫ى‬ ‫عل ذلك؟‬
‫للذات َّية هي التي حدَّ دت ماه َّية الوجود بوصفه زمانا‪ ،‬فام هو الربهان ى‬
‫ما هو املُ ه‬
‫سوغ الذي قاد هايدغر إ ىل تزمني زمان َّية وجود الـ دازاين يف العامل من حيث إ َّّنا‬
‫أساس لفهم الوجود بوصفه زمانا؟ اجلواب الوحيد الذي ُيقده مه هايدغر هو قوله يف ّناية‬
‫كتابه الوجود والزمان‪:‬‬
‫فَّس ًا؟ هل َث َّم طريقة تقود من‬ ‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ُ‬
‫النمط من تزمني الزمان َّية ُم َّ‬ ‫كيف يكون هذا‬
‫الزمان البدئي إىل معنى الوجود؟ هل الزمان نفسه ُيظ ِه ُر نَف َس ُه عىل أ َّن ُه ُأفق لفهم‬
‫الوجود؟(‪.)4‬‬
‫عل‬
‫جمرد ع َْو ٌد ى‬ ‫أن هذا اجلواب املُصاغ ى‬
‫عل هيأة أسئلة ال يضيف جديدا وإ َّنام هو َّ‬ ‫والواقع َّ‬
‫َبدْ ء‪ ،‬فهايدغر يبدأ أصال بتفسري زمان َّية الـ دازاين لفهم الوجود‪ ،‬وينتهي إ ىل هذه الزمان َّية‬
‫أن هايدغر قد وقع يف دور‪ .‬ومن هنا مل‬ ‫عل َّأّنا هي الوجود‪ ،‬ولذلك يبدو واضحا متاما َّ‬
‫عينها ى‬
‫سوى اللجوء إ ىل فكرة االنعطاف‪ ،‬فعاد واستخدم هذه الفكرة‬
‫ى‬ ‫جيد هايدغر ّ‬
‫حال ِّلذه املعضلة‬
‫بمعنى خمتلف عن استخدامه ِّلا يف كتابه الوجود والزمان‪ ،‬وظهر ذلك االستخدام‬
‫ى‬ ‫لكن‬
‫مر‬
‫بشكل جيل يف حمارضاته لعام ‪ 1962‬التي جاءت حتت عنوان التقن َّية واالنعطاف‪ ،‬كام َّ‬
‫سابقا‪.‬‬

‫وعيل حاكم صالح‪،‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ )1‬غادامري‪ ،‬هانز جورج‪ ،‬احلقيقة واملنهج‪ :‬اخلطوط األساسي َّة لتأويلي َّة فلسفي َّة‪ ،‬ترمجة‪ :‬حسن ناظم‬
‫العظمى‪ .2007 ،‬ص‪.357 :‬‬
‫ى‬ ‫راجعه عن األملانيَّة‪ :‬جورج كتورة‪ ،‬دار أويا‪ ،‬طرابلس‪ .‬اجلامهري َّية‬
‫عل وزن تفعيل‪.‬‬
‫عل وجود الـ دازاين‪ .‬وقد أخذنا هذا املصطلح ى‬
‫(‪ )2‬تزمني‪ :‬يعني إضفاء الزمانيَّة ى‬
‫‪(3) temporalizing of temporality.‬‬
‫‪(4) Heidegger, Martin, Being and Time, P. 488.‬‬
‫‪ ❖ 38‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّب عن حماولته حتليل الـ دازاين من جهة الزمان َّية ابتغاء فهم‬ ‫واملهم هنا َّ‬
‫أن هايدغر تنك َ‬
‫خرى يروم من خالِّلا فهم الوجود‪ ،‬وتظهر هذه‬ ‫الوجود‪ ،‬واستعاض عنها بمحاولة ُأ ى‬
‫عل َّ‬
‫أن الوجو َد‬ ‫املحاولة األخرية أكثر ما تظهر يف تأكيد هايدغر ‪ -‬كام مت َّت اإلشارة إ ىل ذلك ‪ -‬ى‬
‫ينعطف نحو البرش‪ ،‬وانعطافه هنا ُيمل داللة مزدوجة‪ ،‬أل َّنه ُيصل و ْف َقا لقابل ّيات البرش‬
‫الذين يتل َّقونه‪ ،‬فإذا كانت قابل ّياهتم سلب َّية انعطف عنهم‪ ،‬وإذا كانت قابل ّياهتم إجياب َّية انعطف‬
‫إليهم‪.‬‬
‫أن هايدغر هنا ِعوضا عن ْ‬
‫أن يفهم الوجود يف ُأفق الوجود اإلنساين فهم الوجود‬ ‫والواقع َّ‬
‫تتوس ُل‬
‫َّ‬ ‫بمعنى‪ :‬أنَّه مل يكن ملتزما بطريقته يف البحث والتي‬
‫ى‬ ‫اإلنساين يف ُأفق الوجود‪،‬‬
‫عل وجه احلرص يف الـ دازاين‬
‫امليتافيزيقا‪ ،‬لكن من حيث هي َّأوال أنطولوجيا أساس َّية تبحث ى‬
‫انطالقا إ ىل فهم الوجود‪ ،‬ومن حيث هي ما بعد أنطولوجيا تبحث يف ك ّل َّية الوجود انطالقا‬
‫ِ‬
‫بحث الـ دازاين‪.‬‬ ‫تم الوصول إليها يف‬
‫من النتائج التي َّ‬
‫أن هايدغر َط َف َر إ ىل الوجود مبارشة وأطلق أحكاما تتع َّلق بانعطافه أو‬
‫الحظ َّ‬‫ومن هنا ُي َ‬
‫سوغ يسمح له بذلك‪ ،‬وهو أيضا من حيث إ َّن ُه‬
‫ربر أو ُم ه‬
‫أي م ه‬
‫عدم انعطافه نحو البرش‪ ،‬دون ه‬
‫ٌ‬
‫زمان‪ ،‬قال بفكرة انعطافه أو عدم انعطافه‪ ،‬فكيف يمكن ِّلذا‬ ‫نتهى إ ىل َّ‬
‫أن الوجو َد ذا َت ُه‬ ‫ا ى‬
‫عل االنعطاف أو عدمه؟ فانعطاف الزمان‬ ‫الوجود الذي هو أصال زمان ْ‬
‫أن يملك القدرة ى‬
‫عل َّأّنا هي التكوين األسايس‬ ‫مثال نحو الـ دازاين املتز همن بزمان َّية مع َّينة حدَّ دها هايدغر ى‬
‫سفر أيضا عن‬ ‫سفر عن انكشاف الوجود بالنسبة للـ دازاين عل أ َّنه زمان‪ ،‬كام ي ِ‬ ‫للـ دازاين‪ ،‬ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ى ُ‬ ‫ُ‬
‫فإّنا هي نفسها‬‫وعل هذا األساس َّ‬ ‫ى‬ ‫فهم الـ دازاين للموجودات يف ضوء زمان َّيته نفسها‪،‬‬
‫أن املشكلة هنا يف فكر هايدغر تظهر من حيث إ َّنه ليس‬ ‫ُم ْكتَنِ َف ٌة يف هذه الزمان َّية عينها؛ غري َّ‬
‫أن ُنم هيزَ متييزا دقيقا بني ُكل من الوجود والـ دازاين واملوجودات؛ أل َّنه يفهمها مجيعا‬ ‫بمقدورنا ْ‬
‫عل أساس الزمان وينتهي إ ىل َّأّنا هي أنفسها جت ّليات خمتلفة للزمان‪ ،‬فهو يقول يف مؤ َّلفه‬
‫ى‬
‫املشكالت األساس َّية يف الفينومينولوجيا(‪ )1‬والذي ُي َعد بمثابة تكملة ملؤ َّلفه الوجود والزمان‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل ُمسبق انبثاق يف‬ ‫إن إنجاز التمييز بني الوجود واملوجودات هو دائ ًام‬ ‫‪َّ ...‬‬

‫‪(1) The Basic problems of Phenomenology.‬‬


‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ ‪39‬‬
‫ِ‬
‫الِّضورة‬ ‫زماني ِة الـ دازاين(‪ ،)1‬فالزمانية هي جذر(‪ )2‬وأساس(‪ )3‬إلمكاني ٍة وبدِّ ٍ‬
‫قة لفه ِم‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫)‬‫‪4‬‬ ‫(‬ ‫ِ‬
‫الوقائع َّية لتشييئ املوجودات املُعطاة(‪ )5‬والوجود املُعطى ‪.‬‬
‫(‪)7()6‬‬

‫عل أساس زمان َّية‬ ‫أن هايدغر قد م َّيزَ بني الوجود واملوجودات ى‬ ‫ويبدو جل ًّيا هاهنا َّ‬
‫ِ‬
‫املوجودات ُت ْف َه ُم بالنسبة‬ ‫زمان وإ ىل َّ‬
‫أن‬ ‫ٌ‬ ‫انتهى إ ىل َّ‬
‫أن الوجو َد ذات ُه‬ ‫الـ دازاين‪ ،‬وكان قد‬
‫ى‬
‫َ‬
‫الزمان هو‬ ‫وعل هذا هي متع هلقة هبا‪ .‬وهذا ُكل ُه يؤول إ ىل َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫للـ دازاين يف ضوء زمان َّيته‪،‬‬
‫فصح عن ذلك حتليل فلسفة هايدغر؛ لكن‬ ‫األساس املطلق والنهائي ملعنى الوجود كام ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ى‬
‫أمر ال يمكن التسليم به كام دلت‬ ‫الربط بني فكرة الوجود وفكرة االنعطاف كام أراد هايدغر ٌ‬ ‫َ‬
‫ينعطف بوصفه زمانا‬
‫َ‬ ‫يمكن ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫زمان ال‬ ‫ألن الوجو َد من ح ُ‬
‫يث هو‬ ‫عل ذلك نتائج البحث‪َّ ،‬‬
‫ى‬
‫نحو دازاين تكوينه األسايس هو الزمان َّية بسبب َّ‬
‫أن هذا ُي َعد تغيريا يف أصل الزمان جيرتح ُه‬
‫الزمان نفسه يف جمراه اجرتاحا‪ ،‬وهذا حمال َّإال إذا كان الزمان ُيوزُ رضبا غامضا من الوعي‪،‬‬
‫معنى وجود‬
‫ى‬ ‫عل أ َّن ُه اهلل تعا ىل‪ .‬وبذا يكون هايدغر قد فهم‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫أن هايدغر فهم الزمان ى‬
‫الـ دازاين انطالفا من الوجود اإلِّلي املقدَّ س‪ .‬وهذا ُي َعد نوعا من ال َعود إ ىل امليتافيزيقا‬
‫عى هايدغر أ َّن ُه جتاوزها‪.‬‬
‫التقليد َّية التي ا َّد ى‬

‫* * *‬

‫‪(1) proceeding in Dasein’s temporality.‬‬


‫‪(2) root‬‬
‫‪(3) ground‬‬
‫‪(4) factical necessity.‬‬
‫‪(5) objectification of given beings .‬‬
‫‪(6) given being.‬‬
‫‪(7) Heidegger, Marin, The Basic Problems of Phenomenology, P.320-321.‬‬
‫‪ ❖ 40‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املصادر‪:‬‬
‫بدوي‪ ،‬عبد الرمحن‪ ،‬الزمان الوجودي‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪.1973 ،‬‬
‫عبد الرمحن‪ ،‬طه‪ ،‬احلق العريب يف االختالف الفلسفي‪ ،‬املركز الثقايف العرب‪ ،‬الدار البيضاء ‪ -‬بريوت‪.2002 ،‬‬
‫وعيل حاكم صالح‪،‬‬
‫ّ‬ ‫غادامري‪ ،‬هانز جورج‪ ،‬احلقيقة واملنهج‪ :‬اخلطوط األساسي َّة لتأويلي َّة فلسفي َّة‪ ،‬ترمجة‪ :‬حسن ناظم‬
‫العظمى‪.2007 ،‬‬
‫ى‬ ‫راجعه عن األملانيَّة‪ :‬جورج كتورة‪ ،‬دار أويا‪ ،‬طرابلس ‪ -‬اجلامهري َّية‬
‫جماهد‪ ،‬جماهد عبد املنعم‪ ،‬هيدجر راعي الوجود‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.1983 ،‬‬
‫ملحق موسوعة الفلسفة‪َّ ،‬‬
‫املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪.1996 ،‬‬
‫هايدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬الطريق إىل اللغة‪ ،‬يف‪ :‬كتابات أساسي َّة‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ترمجة وحترير‪ :‬إسامعيل املصدق‪ ،‬املجلس‬
‫األعل للثقافة ‪ -‬املرشوع القومي للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪.2003 ،‬‬
‫ى‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬أصل العمل الفنيي‪ ،‬مع مقدّ مة للفيلسوف غادامري‪ ،‬ترمجة‪ :‬أبو العيد دودو‪ ،‬منشورات االختالف‪،‬‬
‫اجلزائر‪.2001 ،‬‬
‫هيدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬الزمان والوجود‪ ،‬ترمجة‪ :‬عبد اِّلادي مفتاح‪ ،‬إرشاف ومراجعة‪ّ :‬‬
‫حممد سبيال‪ ،‬يف‪ :‬مارتن هيدجر‪،‬‬
‫حمم د سبيال وعبد اِّلادي مفتاح‪ ،‬املركز الثقايف العرب‪ ،‬الدار البيضاء ‪ -‬بريوت‪،‬‬
‫التقنيَّة ‪ -‬احلقيقة ‪ -‬الوجود‪ ،‬ترمجة‪ّ :‬‬
‫‪.1995‬‬
‫هيدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬مسألة التقني َّة‪ ،‬ترمجة حم ّمد سبيال‪ ،‬يف‪ :‬مارتن هيدجر‪ :‬التقنيَّة ‪-‬احلقيقة ‪-‬الوجود‪ ،‬ترمجة‪ّ :‬‬
‫حممد سبيال‬
‫وعبد اِّلادي مفتاح‪ ،‬املركز الثقايف العرب‪ ،‬الدار البيضاء ‪-‬بريوت‪.1995 ،‬‬
‫هيدجر‪ ،‬مارتن‪ ،‬هيلدرلن وماهي َّة الشعر ‪ ،‬ترمجة‪ :‬فؤاد كامل‪ ،‬يف‪ :‬مارتن هيدجر‪ :‬ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا؟ ‪-‬‬
‫عل األصل األملاين‪ :‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬دار الثقافة‬
‫هيلدرلن وماهيَّة الشعر‪ ،‬ترمجة‪ :‬فؤاد كامل وحممود رجب‪ ،‬وراجعها ى‬
‫للطباعة والنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪.1974 ،‬‬
‫‪A Heidegger Dictionary,Blackwell Publishers Inc., Malden, Massachusetts, 1999.‬‬
‫‪Contributions to Philosophy (From Enowning). Translated by Parvis Emad and‬‬
‫‪Kenneth Maly, Indiana University Press, Bloomington and Indianapolis, 1989.‬‬
‫‪Dictionary of Philosophy, General Editor: Robert Audi, Cambridge University‬‬
‫‪Press, 1999.‬‬
‫‪Guignon, Charles B., Heideeger,in: The Cambridge.‬‬
‫‪Heidegger, Martin, Being and Time. Translated by John.‬‬
‫‪Heidegger, Martin, On the Essence of Truth. Translated by: R.F.C. Hull, Alan‬‬
‫‪Grick, in: Existenceand Being, ed. Werner Brock. Chicago: Regnery, 1949.‬‬
‫‪Inwood,Michael,Heidegger: A Very Short Introduction, Oxford University‬‬
‫‪Press, Inc, Oxford New York, 1997.‬‬
41 ❖ ‫دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر‬

Letter on Humanism. Translated byE.Lohner, in: Philosophy Twentieth


Century. Edited.W. Barrett and HAiken, Random House, New York, 1962.
Letter to William J. Richardson: Printed asPreface by Martin Heidegger, in:
Richardson, S. J.، William, Heidegger: Through Phenomenology to Thought,
Fordam University Press, New York, 2003. London & New York, 2000.Macquarie
and Edward Robinson , Harper & Row,HarperSanFrancisco, 1962.
Pattison, George, The Later Heidegger,Routledge.
Philipse, Herman, Heidegger’s Philosophy of Being:A Critical Interpretation,
Princeton University Press, UnitedKingdom, 1998.
Seeburger, Francis, Heidegger and Phenomenological Redu-cation, in:
Philosophy and Phenomenological Research, Vol. 36.No. 2. Dec, 1975.
The Basic Problems of Phenomenology, Translations, Introduction,and Lexicon
by AlbertHofstadter, Indiana University Press, Bloomington&Indianapolis, 1982.
The Metaphysical Foundations of Logic, Translated by Michael Hein,Indiana
University Press,Bloomington and Indianapolis, 1984.

* * *
‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة‬
‫(‪)1‬‬
‫من وجهة نظر صدر املتألِّهني ومارتن هايدغر‬
‫(‪)2‬‬
‫حممد رضا أسدي‬
‫ي‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫ه‬
‫املتأِّلني(‪ )3‬ومارتن هايدغر(‪ )4‬يف‬ ‫سوف نتناول يف هذه املقالة بحث رؤية كل من صدر‬
‫موضوع ومنهج وغاية الفلسفة بطريقة مقارنة‪ ،‬وسوف ي َّتضح َّ‬
‫أن موضوع الفلسفة إذا كان‬
‫يتم َّثل عند صدر ه‬
‫املتأِّلني بـ املوجود بام هو موجود‪ ،‬فإ َّنه عند هايدغر يعني الوجود‪ ،‬وإذا كان‬
‫املتأِّلني هو الربهان العقيل‪ ،‬فهو يتم َّثل عند هايدغر بالظاهرات َّية(‪.)5‬‬
‫ه‬ ‫املنهج يف فلسفة صدر‬

‫)‪ (1‬املصدر‪ :‬أسدي‪ّ ،‬‬


‫حممد رضا‪« ،‬مقايسه موضوع‪ ،‬روش‪ ،‬و مقصد فلسفه از نگاه مالصدرا و هيدگر»‪ ،‬فصلية علمية‬
‫«خردنامه صدرا»‪ ،1387 ،‬العدد ‪ ،53‬ص ‪.60 - 52‬‬
‫عيل مطر‪.‬‬
‫تعريب‪ :‬حسن ّ‬
‫(‪ُ )2‬أستاذ مساعد يف حقل الفلسفة من جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم القوامي الشريازي‪ ،‬فيلسوف مسلم شيعي مجع بني‬ ‫(‪ )3‬صدر ه‬
‫املتأِّلني الشريازي (‪1640 - 1572‬م)‪ّ :‬‬
‫املعرب‪.‬‬
‫سم ىى باحلكمة املتعالية‪ .‬ه‬
‫احلكمة النظر َّية والعمليَّة‪ ،‬كام مجع بني الفلسفة والعرفان فيام ُي ّ‬
‫مؤسس الظاهر ّيات‪ .‬متيَّز هايدغر بتأثريه‬
‫(‪ )4‬مارتن هايدغر (‪1976 - 1889‬م)‪ :‬فيلسوف أملاين‪ ،‬تلميذ إدموند هورسل ه‬
‫أهم إنجازاته أ َّنه‬
‫هها الوجود َّية وما بعد احلداثة‪ .‬من ّ‬
‫عل املدارس الفلسف َّية يف القرن العرشين للميالد‪ ،‬ومن أ ه‬
‫الكبري ى‬
‫أعاد توجيه الفلسفة الغربيَّة بعيدا عن األسئلة امليتافيزيقيَّة َّ‬
‫والالهوتيَّة واإلبستيمولوجيَّة‪ ،‬ليطرح عوضا عنها أسئلة‬
‫معنى الكينونة (‪َّ .)Dasein‬اهتمه الكثري من الفالسفة واملف هكرين‬
‫ى‬ ‫أنطولوجيَّة‪ ،‬وهي أسئلة ترت َّكز يف األساس ى‬
‫عل‬
‫األدنى يأخذون عليه انتامءه ‪ْ -‬‬
‫وإن يف فرتة ما ‪ -‬إ ىل احلزب النازي‬ ‫ى‬ ‫واملؤرخني بمعاداة الساميَّة‪ ،‬أو َّأّنم يف احلده‬
‫ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫األملاين‪ .‬ه‬
‫عل اخلربة احلدسيَّة للظواهر كنقطة بداية (أي ما ُمتثهله هذه‬
‫(‪ )5‬الظاهراتيَّة أو الفينومينولوجيا‪ :‬مدرسة فلسفيَّة تعتمد ى‬
‫ثم تنطلق من هذه اخلربة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا هبا‪ .‬غري َّأّنا ال تدَّ عي‬
‫الظاهرة يف خربتنا الواعية)‪ّ ،‬‬
‫عل فهم نمط حضور اإلنسان يف العامل‪.‬‬
‫جمردة سواء يف امليتافيزيقا أو يف العلم‪ ،‬بل تراهن ى‬
‫إل حقيقة مطلقة َّ‬
‫التوصل ى‬
‫‪‬‬
‫‪ ❖ 44‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫وبالتال َّ‬
‫فإن غاية الفلسفة بالنسبة إ ىل صدر ه‬
‫املتأِّلني هي الوصول إ ىل السعادة‪ ،‬بينام هي بالنسبة‬
‫جمرد معرفة الوجود‪.‬‬
‫إ ىل هايدغر َّ‬
‫ه‬
‫املتأِّلني تكمن يف إيصال‬ ‫َّ‬
‫إن الغاية األساس َّية والنهائ َّية للفلسفة من وجهة نظر صدر‬
‫النفس اإلنسانية إ ىل الكامل(‪ ،)1‬أو تشبه اإلنسان باخلالق سبحانه وتعا ىل(‪ .)2‬ولكن حيث‬
‫فإن الفلسفة أو احلكمة النظر َّية تتك َّفل‬
‫قوتني‪ :‬نظر َّية وعمل َّية‪َّ ،‬‬
‫عل َّ‬
‫تشتمل النفس اإلنسان َّية ى‬
‫القوى العقل َّية والنظر َّية لإلنسان إ ىل الكامل‪ ،‬وأ َّما الفلسفة أو احلكمة العمل َّية‬
‫ى‬ ‫بإيصال‬
‫القوى العمل َّية لإلنسان إ ىل الكامل‪.‬‬
‫ى‬ ‫واألخالق فهي التي تتك َّفل بإيصال‬
‫ُيظى التناغم بني التفكري ونتائج التحقيق الفلسفي مع الده ين اإلسالمي‬
‫ى‬ ‫ويف هذا اإلطار‬
‫بالنسبة إ ىل صدر ه‬
‫املتأِّلني باالعتبار والقيمة‪ ،‬بحيث إ َّنه يقول‪:‬‬
‫وحاشا الرشيعة احل َّقة اإلهل َّية البيضاء أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف‬
‫اليقين َّية الِّضور َّية‪ ،‬وتبا لفلسفة تكون قوانينها غري مطابقة للكتاب والسنَّة(‪.)3‬‬
‫كام أ َّنه يعتقد من ناحية ُأ ى‬
‫خرى‪:‬‬
‫أن أحكام الرشيعة والدِّ ين احلقيقي ال تتعارض مع التعاليم اليقين َّية والِّضور َّية(‪.)4‬‬
‫َّ‬
‫بأن حقيقة الوجود هو اهلل تعا ىل(‪َّ ،)5‬‬
‫فإن‬ ‫املتأِّلني حيث يعتقد َّ‬
‫أن صدر ه‬‫ُيضاف إ ىل ذلك َّ‬
‫معرفة اهلل سبحانه ومراتب وجوده وصفاته وأفعاله ُتع َترب من أفضل العلوم اإلِّل َّية عنده(‪.)6‬‬

‫املؤسس ِّلا هو إدموند هورسل‪ ،‬تاله يف التأثري عليها عدد من‬


‫‪ ‬يمكن رصد بداية الظاهراتيَّة مع هيجل‪ ،‬والذي ُيعتَرب ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫الفالسفة‪ ،‬من أمثال‪ :‬هايدغر‪ ،‬وسارتر‪ ،‬وريكور‪ ،‬وموريس مريلو بونتي‪ .‬ه‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،23‬تصحيح‪ :‬غالم رضا أعواين‪،‬‬ ‫(‪ )1‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫بنياد حكمت اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1383 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ‪.353‬‬ ‫(‪ )3‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪.‬‬
‫مصطفى حم هقق داماد‪ ،‬بنياد حكمت‬
‫ى‬ ‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬الشواهد الربوبي َّة‪ ،‬ص ‪ ،66‬تصحيح‪ :‬السيهد‬ ‫(‪ )5‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1382 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،7 - 5‬تصحيح‪ّ :‬‬
‫حممد ذبيحي وجعفر شاه نظري‪ ،‬بنياد‬ ‫(‪ )6‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫حكمت اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1381 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ ‪45‬‬

‫تعال أو حقيقة الوجود طريقني‪َّ ،‬‬


‫وإن نقطة اشرتاك هذين‬ ‫ى‬ ‫احلق‬ ‫يقرتح صدر ه‬
‫املتأِّلني ملعرفة ه‬
‫عل الربهان العقيل(‪ ،)1‬وثانيا‪ :‬ال يمكن سلوك هذين‬ ‫الطريقني هي َّأّنام َّأوال‪ :‬جيب ْ‬
‫أن يقوما ى‬
‫الطريقني دون القيام بتهذيب النفس وتزكيتها‪ ،‬ومن دون اجتياز الرياضات العقل َّية‬
‫عل‬
‫وعل هذا األساس فإ َّنه ى‬
‫ى‬ ‫بمجرد طريق احلكمة فقط(‪.)2‬‬
‫َّ‬ ‫والرشع َّية والقلب َّية‪ ،‬واالكتفاء‬
‫عل سلوك هذين الطريقني عرب االستفادة من الدليل والربهان العقيل‪،‬‬ ‫الرغم من تأكيده ى‬
‫جمرد الشهود والذوق ّيات العرفان َّية‬
‫يرى كفاية االستناد إ ىل َّ‬
‫يرى ذلك كافيا‪ ،‬كام أ َّنه ال ى‬
‫ولكنَّه ال ى‬
‫يف كشف احلقيقة(‪ .)3‬والنتيجة هي أ َّنه يف مقام مجع املوا هد اإلنشائ َّية لبناء رصح املعرفة ْ‬
‫وإن كان‬
‫احلس والتجربة والشهود والعقل‬ ‫باإلمكان ‪ -‬من وجهة نظر صدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ -‬االستفادة من ه‬
‫وصحة املوا هد اإلنشائ َّية املعرف َّية ليس هناك‬
‫َّ‬ ‫وما إ ىل ذلك‪َّ ،‬إال أ َّنه يف مقام احلكم بشأن اعتبار‬
‫وحج َّية لغري الربهان العقيل(‪.)4‬‬
‫ّ‬ ‫من اعتبار‬
‫عل حقيقة الوجود أو اهلل‬
‫ولكن ما ها هذان الطريقان اللذان جيب أو يمكن التعرف ى‬
‫واألهم هو التأمل يف حقيقة الوجود‬
‫ّ‬ ‫األول‬ ‫املتأِّلني َّ‬
‫أن الطريق َّ‬ ‫يرى صدر ه‬
‫سبحانه وتعا ىل؟ ى‬
‫ولوازمه(‪ ،)5‬والطريق الثاين هو معرفة نفس اإلنسان وصفاته وأفعاله(‪ .)6‬نضيف إ ىل ذلك َّ‬
‫أن‬
‫املتأِّلني حيث يتن َّفس يف التعاليم التقليد َّية برئة ميتافيزيق َّية‪ ،‬فإ َّنه يذهب ‪ -‬مثل الفالسفة‬
‫صدر ه‬
‫الذين سبقوه ‪ -‬إ ىل اعتبار املنطق هو امليزان املعترب يف التفكري العقيل لقياس وتقييم الرباهني‬
‫عل تأليف رسالة مستق َّلة يف‬
‫وعل هذا األساس فقد ذهب إ ىل حده العمل بشخصه ى‬
‫ى‬ ‫العقل َّية‪.‬‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،23‬تصحيح‪ :‬رضا أكربيان‪،‬‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬ ‫(‪ )1‬صدر‬
‫‪1383‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬يف مقدّ مة األسفار األربعة‪ ،‬وكذلك يف مقدّ مة املبدأ واملعاد‪ ،‬حيث يتم التذكري َّ‬
‫بأن‬ ‫(‪ )2‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫معرفة اهلل والعلم باملعاد ومعرفة النفس ليست من العلوم التي يمكن احلصول عليها من دون هتذيب النفس‬
‫عل سبيل املثال‪ :‬املبدأ واملعاد‪ ،‬ص ‪ 8‬و‪.9‬‬
‫وبمجرد احلكمة‪ .‬انظر ى‬
‫َّ‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ‪.326‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،10‬ص ‪23‬؛ وج ‪ ،9‬ص ‪.326‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬الشواهد الربوبي َّة‪ ،‬ص ‪.61‬‬ ‫(‪ )5‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫(‪ )6‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ ❖ 46‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املنطق األُرسطي(‪.)1‬‬
‫وعليه فإ َّن صدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ -‬كام هو ملحوظ ‪ -‬يذهب إ ىل القول‪:‬‬
‫جمرد الفلسفة ومعرفة الوجود فقط‪ ،‬بل معرفة حقيقة‬ ‫َّأوالً‪ :‬ال تقترص املوضوع َّية ى‬
‫عل َّ‬
‫القوى العقل َّية والنظر َّية لإلنسان‪،‬‬
‫ى‬ ‫وتعال هي الوسيلة إ ىل إيصال‬
‫ى‬ ‫الوجود أو اهلل سبحانه‬
‫والوصول يف ّناية املطاف إ ىل السعادة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫عل الفلسفة واحلكمة‬ ‫وثاني ًا‪ :‬أ َّن للفلسفة واحلكمة العمل َّية ذات الدور واأل ّ‬
‫ه َّية املرت هتبة ى‬
‫النظر َّية يف إيصال اإلنسان إ ىل الكامل وإ ىل سعادته الدنيو َّية واألُخرو َّية‪.‬‬
‫أن ال تتعارض مع الده ين‪ ،‬بل جيب ْ‬
‫أن تتناغم معه‪،‬‬ ‫أن الفلسفة جيب ْ‬
‫عل الرغم من َّ‬
‫وثالث ًا‪ :‬ى‬
‫وأن التأمل يف الوجود ومعرفة النفس ُيم هثالن طريقني أساس َّيني ملعرفة حقيقة الوجود‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬
‫صحتها وصواب َّيتها‬
‫يتم التأكد من َّ‬ ‫أي طريق تو َّفرت ‪ -‬جيب ْ‬
‫أن َّ‬ ‫املوا َّد اإلنشائ َّية للمعرفة ‪ -‬من ه‬
‫وعل أساس الرباهني العقل َّية‪.‬‬
‫ى‬ ‫عل ك َّفة ميزان املنطق‬
‫من خالل وضعها ى‬
‫ورابع ًا‪ :‬أ َّن امليزان األخري واحلاسم يف سلوك طريق ومسار معرفة احلقيقة ْ‬
‫وإن كان هو‬
‫الربهان العقيل‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن الذي يساعد العقل يف الوصول إ ىل احلقيقة يف ّناية املطاف هو‬
‫إل هتذيب النفس وممارسة الرياضات العقل َّية والرشع َّية والقلب َّية‪.‬‬
‫االستناد ى‬
‫لدى صدر ه‬
‫املتأِّلني ال‬ ‫ي َّتضح من النقاط األربعة أعاله بوضوح َّ‬
‫أن اِّلواجس الوجود َّية ى‬
‫املستوى النظري أو العميل فقط‪ ،‬بل َّ‬
‫إن اِّلاجس الرئيس له‬ ‫ى‬ ‫عل‬
‫جمرد معرفة احلقيقة ى‬
‫عل َّ‬
‫تقوم ى‬
‫يتم َّثل يف الوصول إ ىل الكامل والسعادة الدنيو َّية واألُخرو َّية‪ ،‬ولكن حيث إ َّن مسار الوصول‬
‫إ ىل الكامل إ َّنام يتح َّقق عرب املعرفة النظر َّية حلقيقة الوجود اإلِّلي ومراعاة احلكمة العمل َّية‪ ،‬فإ َّنه‬
‫وعل هذا األساس ر َّبام أمكن‬
‫ى‬ ‫ال مندوحة له من اخلوض يف بحث احلكمة النظر َّية والعمل َّية‪.‬‬
‫املتأِّلني رغم كونه فيلسوفا عقل ًّيا ونظر ًّيا‪ ،‬ولكنَّه حيث ُيمل‬ ‫إن صدر ه‬ ‫القول بعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫جمرد معرفتها ‪ُ -‬يع َترب لذلك فيلسوفا عمالن ًّيا؛ بمعن ىى‬
‫هواجس الوصول إ ىل احلقيقة ‪ -‬وليس َّ‬
‫باملعنى املطروح من ِق َبل املف هكرين من‬
‫ى‬ ‫أن لعمل اإلنسان من وجهة نظر صدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ -‬ال‬ ‫َّ‬

‫(‪ )1‬وقد مت َّت ترمجة هذه الرسالة إ ىل اللغة الفارس َّية حتت عنوان‪( :‬منطق نوين)‪.‬‬
‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ ‪47‬‬

‫بمعنى سعي اإلنسان إ ىل تفعيل‬


‫ى‬ ‫أمثال كارل ماركس(‪ )1‬والرباغامت هيني أو الوجود هيني‪ ،‬بل‬
‫عل هتذيب النفس‬‫القوى النظر َّية والعمل َّية لوجوده والبلوغ هبا إ ىل الكامل من خالل العمل ى‬
‫ى‬
‫‪ -‬دورا ها ًّما يف الوصول إ ىل احلقيقة‪.‬‬
‫املتأِّلني من زاوية ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬وجب‬ ‫كام أ َّننا إذا أردنا احلديث عن الشخص َّية الفكر َّية لصدر ه‬
‫عل الرغم من كونه فيلسوفا يستند إ ىل العقل‬ ‫بمعنى أ َّنه ى‬
‫ى‬ ‫علينا ْ‬
‫أن نعتربه فيلسوفا عارفا؛‬
‫واالستدالل‪ ،‬كان يف الوقت نفسه ُيمل هاجس الشهود‪ ،‬بل والوصول إ ىل احلقيقة‪ ،‬وأ َّنه ال‬
‫جمرد الشهود العقيل يف الوصول إ ىل احلقيقة‪ ،‬بل‬
‫عل االطمئنان من َّ‬
‫يقر له قرار وال ُيصل ى‬
‫يسعى وجيهد نفسه من أجل الوصول إ ىل الشهود القلبي‪ ،‬بل إ ىل الوصول القلبي‪ .‬إ َّنه ال يروم‬
‫ى‬
‫االكتفاء من احلقيقة باجتياز مرحلة علم اليقني فقط‪ ،‬وإ َّنام يريد اجتياز مرحلة عني اليقني‬
‫حق اليقني‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬واالستقرار يف بحبوحة ه‬
‫ولكن كيف هو احلال بالنسبة إ ىل منهج وغاية التفكري الفلسفي من وجهة نظر مارتن‬
‫هايدغر؟‬
‫يسعى إ ىل معرفة الوجود؛ َّ‬
‫ألن هاجسه الرئيس يكمن يف‬ ‫ى‬ ‫ي َّتضح من كلامت هايدغر أ َّنه‬
‫الوجود(‪َّ .)2‬إال أ َّنه ال يريد الوصول ‪ -‬من خالل معرفة الوجود ‪ -‬إ ىل الغاية العلم َّية املتم هثلة‬
‫بالسعادة الدنيو َّية واألُخرو َّية‪ ،‬كام َّ‬
‫أن الوجود ال ُيم هثل بالنسبة له هو اهلل(‪ )3‬سبحانه وتعا ىل(‪،)4‬‬
‫إل‬ ‫تعال؛ َّ‬
‫ألن هايدغر يف الوقت الذي يذهب ى‬ ‫وال اإلنسان عنده وسيلة وطريقا إ ىل معرفة اهلل ى‬
‫يرى َّ‬
‫أن وجود اإلنسان خمتلف عن نمط وجود اهلل‬ ‫الفصل بني حقيقة الوجود وبني اهلل‪ ،‬ى‬
‫وعل حده تعبري هايدغر‪َّ :‬‬
‫إن اإلنسان هو وحده املوجود والذي‬ ‫ى‬ ‫والشجر واحلجر واملالئكة‪.‬‬

‫ؤرخ وصحفي واشرتاكي ثوري‬


‫(‪ )1‬كارل هانريك ماركس (‪1883 - 1818‬م)‪ :‬فيلسوف واقتصادي وعامل اجتامع وم ه‬
‫أملاين‪ .‬لعبت أفكاره دورا ها ًّما يف تأسيس علم االجتامع ويف تطويراحلركات االشرتاكيَّة‪ .‬نرش العديد من ال ُك ُتب‬
‫هها‪( :‬بيان احلزب الشيوعي)‪ ،‬و(رأس املال)‪ .‬املع هرب‪.‬‬
‫خالل حياته‪ ،‬ومن بني أ ّ‬
‫‪(2) being‬‬
‫‪(3) God‬‬
‫‪(4) Heidegger, M., Letter on Humanism in Martin Heidegger: Basic Writings, ed. Davis‬‬
‫‪Fareel, trans. Frank A. Caquzzi, New York, Harper and Row, 1977, p. 210.‬‬
‫‪ ❖ 48‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫تكون له موجود َّية(‪ ،)1‬وأ َّما سائر الكائنات فليس ِّلا من الوجود كالذي لإلنسان‬
‫الـ دازاين(‪ .)2‬ومن هنا فقد ذهب هايدغر إ ىل توضيح هذا األمر‪ ،‬قائال‪َّ :‬‬
‫إن الصخرة كائنة(‪،)3‬‬
‫وإن الشجرة كائنة‪ ،‬ولكنَّها غري موجودة‪َّ .‬‬
‫وإن املالئكة كائنة‪ ،‬ولكنَّها‬ ‫ولكنَّها غري موجودة(‪َّ .)4‬‬
‫غري موجودة‪َّ .‬‬
‫وإن اهلل كائن‪ ،‬ولكنَّه غري موجود(‪.)5‬‬
‫فرق بني نمط وجود اإلنسان وأنامط وجود مجيع املوجودات‬ ‫إن هايدغر ُي ه‬ ‫بعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫األُ ى‬
‫خرى‪ ،‬ويتم التفريق بني هذين النحوين من الوجود يف اللغة اإلنجليز َّية من خالل الفصل‬
‫والتفكيك بني مفردة «‪ ،»exist‬ومفردة «‪ .»is‬فاإلنسان وحده الذي يمتلك كينونة‪ ،‬أو هو‬
‫وحده الكائن‪ ،‬أ َّما سائر املوجودات األُ ى‬
‫خرى ‪ -‬بام يف ذلك اهلل نفسه ‪ -‬فهي فاقدة للكينونة أو‬
‫إن اإلنسان وحده الذي يستطيع تغيري ماه َّيته إ ىل أشكال خمتلفة‪،‬‬ ‫الـ دازاين‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫أن تكون كام هي‪.‬‬ ‫وأ َّما سائر الكائنات األُ ى‬
‫خرى فال تستطيع تغيري ماه ّياهتا‪ ،‬وإ َّنام تستطيع ْ‬
‫عرب عن مرونة ماه َّية أو نمط وجود اإلنسان‪ ،‬وأ َّما‬ ‫ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن كلمة الـ «‪ُ »exist‬ت ه‬
‫عرب عن عدم املرونة أو عدم التغيري يف أنامط وجود سائر املوجودات‬ ‫كلمة «‪ »is‬فهي ُت ه‬
‫كل حال َّ‬
‫فإن هايدغر رغم عدم اعتباره معرفة اإلنسان وسيلة إ ىل معرفة اهلل‬ ‫وعل ه‬
‫ى‬ ‫األُ ى‬
‫خرى‪.‬‬
‫مدى تأثر‬
‫ى‬ ‫سبحانه وتعا ىل‪َّ ،‬إال أ َّنه يعترب ذلك الـ دازاين مدخال إ ىل معرفة الوجود‪ .‬وأ َّما‬
‫هايدغر بالنصوص الدين َّية والعرفان َّية أو أفكار العرفاء من أمثال ميسرت إيكهرت(‪ )6‬من هذه‬

‫‪(1) exist‬‬
‫بمعنى يكون‪ .‬فهي بمجموعها‬
‫ى‬ ‫بمعنى هناك‪ ،‬و(‪)SEIN‬‬
‫ى‬ ‫مكونة من (‪)DA‬‬
‫(‪ )2‬الـ دازاين (‪ :)DASEIN‬كلمة أملان َّية َّ‬
‫عل كينونة املوجود‬ ‫تعني الوجود احلارض أو الوجود املقابل لـ َّ‬
‫(الالوجود)‪ .‬ويستخدم هايدغر هذه الكلمة للداللة ى‬
‫عل الكون يف تغريه وعدم استقراره‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫اإلنساين أو كيف َّية وجوده؛ أي اإلنسان من حيث هو الكائن املنفتح ى‬
‫وُي هقق كينونته؛ فامه َّية اإلنسان إذن تعني وجوده‬ ‫أن الـ دازاين خيتلف عن سائر الكائنات من حيث إ َّنه ُي ِ‬
‫نجز كونه ُ‬ ‫َّ‬
‫املعرب‪.‬‬
‫مدونة مرشد الفلسف َّية‪ .‬ه‬ ‫وحقيقته ونزوعه إ ىل ما يريد ْ‬
‫أن يكون‪ ،‬فهو من يصنع ذاته بذاته‪ .‬نقال عن‪َّ :‬‬
‫‪(3) is‬‬
‫‪(4) not exist‬‬
‫‪(5) Wyschogrod, M., Keirkegaard and Heidegger, The Ontology of Existence, London,‬‬
‫‪Routledge, 1945. P. 74.‬‬
‫(‪ )6‬ميسرت إكهرت (‪1328 - 1260‬م)‪ :‬فيلسوف وعامل الهوت مسيحي‪ ،‬أثارت أفكاره بعض األُورثودوكس هيني الذين‬
‫‪‬‬ ‫ويف قبل إصدار احلكم عليه‪.‬‬ ‫يتخوفون من ه‬
‫كل جديد؛ وأ ّد ىى ذلك إ ىل هاهتامه باِّلرطقة‪ ،‬ولكنَّه ُت ّ‬ ‫َّ‬
‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ ‪49‬‬

‫إل‬
‫الناحية ‪ -‬بحيث جيعل من معرفة اإلنسان نافذة ومدخال إ ىل معرفة الوجود‪ ،‬كام ذهبوا هم ى‬
‫ه َّية يف بحثنا الراهن‪.‬‬
‫اعتبار معرفة اإلنسان طريقا ومدخال إ ىل معرفة اهلل ‪ ،-‬فليس له كبري أ ّ‬
‫إ َّنام املهم يف هذا البحث هو االلتفات إ ىل هذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن هايدغر (املتقده م) ال يذهب يف‬
‫معرفة الوجود إ ىل التأمل يف حقيقة الوجود‪ ،‬وإ َّنام يذهب إ ىل املوجود كي يتم َّكن من النظر ى‬
‫إل‬
‫أن اإلنسان الذي ُيصبِح مدخال‬
‫الوجود من خالل نافذة وجود ذلك املوجود‪ ،‬والعجيب هو َّ‬
‫بأي‬
‫أي شبه ه‬
‫عل ه‬‫إ ىل معرفة حقيقة الوجود هو من الناحية األنطولوج َّية بحيث ال ُيتوي ى‬
‫وعل‬
‫ى‬ ‫عرب عن هذا الوجود ه‬
‫الفذ واملختلف لإلنسان بالـ دازاين‪.‬‬ ‫موجود آخر! َّ‬
‫إن هايدغر ُي ه‬
‫الرغم من توضيح هايدغر (املتقده م) ألد َّلة اختيار الـ دازاين ‪ -‬اإلنسان ‪ -‬من أجل معرفة‬
‫أي تشابه يمكن للـ دازاين ‪ -‬الذي خيتلف‬
‫وعل أساس وجود ه‬
‫ى‬ ‫الوجود‪َّ ،‬إال أ َّنه مل ي َّتضح كيف‬
‫مدى يمكنه ْ‬
‫أن يكون‬ ‫ى‬ ‫أي‬
‫وإل ه‬ ‫نمط وجوده عن أنامط مجيع املوجودات األُ ى‬
‫خرى ‪ ،-‬وملاذا ى‬
‫عل الوجود دون سائر املوجودات األُ ى‬
‫خرى؟!‬ ‫وحده الدليل ى‬
‫إل صدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ -‬هو التأمل‬ ‫واألهم يف معرفة الوجود ‪ -‬بالنسبة ى‬
‫ّ‬ ‫األول‬
‫فإذا كان الطريق َّ‬
‫يف ذات الوجود‪ ،‬فإ َّنه يتم َّثل ‪ -‬بالنسبة إ ىل هايدغر ‪ -‬يف التأمل يف اإلنسان بوصفه متسائال عن‬
‫املتأِّلني من خالل اعتباره ه‬
‫االحتاد بني اهلل والوجود ينظر إ ىل معرفة‬ ‫الوجود‪ .‬وإذا كان صدر ه‬
‫اإلنسان بوصفها طريقا ثانيا ومن أرشف الط ُرق ‪ -‬بعد التأمل يف ذات الوجود ‪ -‬من أجل‬
‫أهم أو أفضل طريق‬
‫جمرد ّ‬ ‫عل الوجود واهلل‪َّ ،‬‬
‫فإن هايدغر ال يعترب معرفة اإلنسان َّ‬ ‫التعرف ى‬
‫أي‬
‫إل ه‬
‫يتطرق ى‬
‫إل معرفة الوجود‪ .‬بل إ َّنه يف األساس ال َّ‬‫فحسب‪ ،‬بل يراه الطريق الوحيد ى‬
‫حديث يتع َّلق بمعرفة اهلل من طريق معرفة اإلنسان أبدا‪.‬‬
‫وإذا كانت الفلسفة من وجهة نظر صدر ه‬
‫املتأِّلني تنقسم إ ىل قسمني‪ :‬الفلسفة النظر َّية‪،‬‬
‫وأن الغاية من حتصيل الفلسفة هي استكامل النفس اإلنسان َّية والوصول‬‫والفلسفة العمل َّية‪َّ ،‬‬
‫سوى‬
‫ى‬ ‫فإن الفلسفة من وجهة نظر هايدغر ال تعني‬ ‫إ ىل السعادة الدنيو َّية واألُخرو َّية‪َّ ،‬‬

‫أحيى‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫وظل منسيًّا إ ىل أ ْن‬ ‫أهم رموز اإلصالح اللوثري‪ ،‬ولك َّن شهرته خفتت بعد ذلك‬ ‫ظل إكهرت أحد ّ‬ ‫‪َّ ‬‬
‫الثيوصويف (فرانز بيفايفر) فكره األفالطوين اجلديد‪ ،‬وقام بنرش مقاطع كثرية من أفكاره َّ‬
‫بالالتينيَّة واألملانيَّة‪.‬‬
‫املعرب‪.‬‬
‫ه‬
‫‪ ❖ 50‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يرى َّ‬
‫أن من بني اخلصائص اإلجياب َّية للفلسفة‪،‬‬ ‫االنحراف الفكري(‪ .)1‬وإذا كان صدر ه‬
‫املتأِّلني ى‬
‫وأّنا تعمل ‪ -‬بالتناظر مع‬
‫تقسيمها إ ىل قسمني‪ ،‬وها‪ :‬الفلسفة النظر َّية‪ ،‬والفلسفة العمل َّية‪َّ ،‬‬
‫عل تكميل واستكامل األبعاد النظر َّية والعمل َّية لإلنسان‪،‬‬
‫القوى النظر َّية والعمل َّية لإلنسان ‪ -‬ى‬
‫ى‬
‫مستوى الفلسفة‪ ،‬وتقسيم التفكري ‪ -‬الفلسفي ‪ -‬إ ىل‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫فإن هايدغر يعترب خفض التفكري إ ىل‬
‫مؤرشات وعالمات االنحراف عن التفكري األصيل‪،‬‬ ‫تفكري نظري وتفكري عميل‪ ،‬واحدا من ه‬
‫إل االعتقاد َّ‬
‫بأن هذا التقسيم للتفكري إ ىل نظري وعميل بمثابة إبعاد التفكري عن‬ ‫ويذهب ى‬
‫دائرته احلقيق َّية(‪.)2‬‬
‫وعل حده زعم هايدغر مل يكن للتفكري األصيل حيث َّية عمل َّية(‪ ،)3‬ولكن منذ ْ‬
‫أن ظهر نوع‬ ‫ى‬
‫من البيان والتفسري التقني للتفكري يف كلامت أفالطون و ُأرسطو ‪ ،‬اكتسب التفكري نوعا من‬
‫(‪)4‬‬

‫بمعنى أ َّنه أصبح عبارة عن «التقن َّية»(‪ ،)6‬وأصبحت «التقن َّية» عبارة عن ت ّيار‬
‫ى‬ ‫احليث َّية العمل َّية(‪،)5‬‬
‫فكري من أجل العمل والبناء(‪ .)7‬يف حني مل يكن هناك قبل ذلك أي تقسيم للتفكري إ ىل نظري‬
‫وعميل‪ ،‬ومل تكن هناك عناوين مثل‪ :‬األخالق‪ ،‬واملنطق‪ ،‬واألنطولوجيا‪ ،‬والفيزيقا‪.‬‬
‫وعليه َّ‬
‫فإن هايدغر يذهب إ ىل التصور قائال‪:‬‬
‫للمرة األُوىل يف ‪ -‬تفكري ‪-‬‬
‫إن األخالق املقرونة باملنطق والفيزيقا إ َّنام ظهرت َّ‬
‫َّ‬
‫وإن هذه األنظمة الفلسف َّية ‪ -‬األفالطون َّية ‪ -‬إ َّنام تبلورت عندما انخفض‬
‫أفالطون‪َّ .‬‬

‫‪(1) Heidegger, Letter on Humanism, P. 232.‬‬

‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش در باب تكنولوژي (سؤال يف حقل التكنولوجيا)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫حممد رضا‬
‫أسدي‪ ،‬ص ‪ ،5‬مقدّ مة املرتجم‪ ،‬نرش انديشه‪ ،‬طهران‪1375 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(3) practice‬‬
‫(‪ُ )4‬أرسطو أو ُأرسطوطاليس (‪ 322 - 384‬ق‪ .‬م)‪ :‬فيلسوف يوناين‪ ،‬تلميذ أفالطون ومع هلم اإلسكندر األكرب‪ ،‬واحد‬
‫من عظامء املف هكرين‪ُ ،‬تغ ّطي كتاباته جماالت عدَّ ة‪ ،‬منها‪ :‬الفيزياء وامليتافيزيقا والشعر واملِّسح واملو ى‬
‫سيقى واملنطق‬
‫مؤسيس‬
‫أهم ه‬
‫والبالغة واللغو ّيات والسياسة واحلكومة واألخالق ّيات وعلم األحياء وعلم احليوان‪ ،‬وهو واحد من ّ‬
‫املعرب‪.‬‬
‫الفلسفة الغربيَّة‪ .‬ه‬
‫‪(5) practical‬‬
‫‪(6) techne‬‬
‫‪(7) Heidegger, Letter on Humanism, P. 194.‬‬
‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ ‪51‬‬

‫التفكري إىل مستوى الفلسفة‪ ،‬وانخفضت الفلسفة إىل مستوى العلم‪ ،‬وانخفض العلم‬
‫إىل مستوى البحث املدريس(‪.)1‬‬
‫َّإال َّ‬
‫أن اإلغريق الذين سبقوا سقراط(‪ )2‬وأفالطون‪ ،‬والذين كانوا ُيف هكرون يف عرصهم‬
‫املجيد ‪ -‬دون االستعانة بمصطلحات (من قبيل‪ :‬املنطق واألخالق والفيزيقا) ‪ ،-‬فقد‬
‫عل التفكري عنوان الفلسفة أيضا(‪.)3‬‬
‫اصطلحوا ى‬
‫فإن ظهور الفلسفة‪ ،‬وتقسيم التفكري الفلسفي إ ىل نظري وعميل‪ ،‬وكذلك ظهور‬ ‫وعليه َّ‬
‫عناوين من قبيل‪ :‬املنطق واألخالق والفيزيقا يف عرص أفالطون و ُأرسطو‪ ،‬وهكذا االهتامم‬
‫عل َّ‬
‫أن التفكري‬ ‫بمعنى التفكري من أجل العمل والبناء‪ ،‬تدل بأمجعها ى‬
‫ى‬ ‫بال ُبعد العمالين للتفكري‬
‫أن خيدم الوجود كي يكشف عن حقيقته‪.‬‬ ‫قد ابتعد عن دائرته احلقيق َّية‪ ،‬ومل يعد بمقدوره ْ‬
‫إن التفكري املنحرف‪ ،‬أو بعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬التفكري التقني‪ ،‬كان تفكريا يف خدمة املوجود‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وينشط من أجل املوجود‪ .‬ومل يعد بمقدور هذا التفكري ْ‬
‫أن يكون واسطة بني الوجود‬
‫عل نسبة الوجود لذات اإلنسان‪ .‬كان التفكري التقني يعني‬
‫واإلنسان‪ ،‬و ُيؤ هدي إ ىل احلصول ى‬
‫تثمري النسبة التقن َّي ة بني اإلنسان والعامل‪ .‬ويف مثل هذه احلالة حيل بني اإلنسان والتفكري‬
‫األصيل‪ ،‬ومل يعد يامرس التفكري‪ ،‬وإ َّنام أخذ ي ِ‬
‫شغل نفسه بالفلسفة(‪َّ .)4‬إال َّ‬
‫أن هذا االنشغال مل‬ ‫ُ‬
‫يكن يعني ّناية األمر يف املرحلة اجلديدة‪ ،‬وإ َّنام كانت الفلسفة بدورها تقرتب من ّناية‬
‫بمعنى َّ‬
‫أن الفلسفة قد ذابت يف العلوم التجريب َّية اإلنسان َّية(‪.)5‬‬ ‫ى‬ ‫مرحلتها‪،‬‬

‫‪(1) Ibid, p. 232.‬‬


‫مؤسيس الفلسفة الغرب َّية‪ ،‬و ُي َعد هو‬ ‫(‪ )2‬سقراط (‪ 399 - 470‬ق‪ .‬م)‪ :‬فيلسوف وحكيم كالسيكي يوناين‪ُ ،‬يع َترب أحد ه‬
‫مستقى من خالل‬ ‫ى‬ ‫عرف عنه‬ ‫وأفالطون و ُأرسطو واضعو ُأ ُسس التفكري العاملي‪ .‬مل يرتك سقراط كتابات‪ُ ،‬‬
‫وجل ما ُي َ‬
‫روايات تالميذه‪ ،‬و ُتع َترب (حوارات أفالطون) من أكثر الروايات شمول َّية وإملاما بشخص َّية سقراط‪ .‬وقد أصبح‬
‫نسب مفاهيم السخرية السقراط َّية واملنهج السقراطي‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫سقراط مشهورا بإسهاماته يف جمال علم األخالق‪ .‬إليه ُت َ‬
‫املعرب‪.‬‬
‫سقراط كام يصفه أفالطون هو من قام بإسهامات ها َّمة وخالدة يف جماالت املعرفة واملنطق‪ .‬ه‬
‫‪(3) Heidegger, Letter on Humanism, pp. 195 - 196.‬‬
‫‪(4) Ibid, p. 195.‬‬
‫‪(5) Idem, The End of Philosophy and the Task of Thinking in Martin Heidegger: Basic‬‬
‫‪Writings, p. 376.‬‬
‫‪ ❖ 52‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫وعليه نالحظ يف ضوء هذا التحليل َّ‬


‫أن الفلسفة من وجهة نظر هايدغر ‪ -‬سواء يف ذلك‬
‫الفلسفة النظر َّية أو العمل َّية ‪ -‬ال توصل اِّلو َّية اإلنسان َّية إ ىل الكامل‪ ،‬بل َّ‬
‫إن هايدغر يذهب ‪-‬‬
‫إل الكامل ‪-‬‬ ‫املتأِّلني من َّ‬
‫أن الفلسفة النظر َّية والعمل َّية توصل اإلنسان ى‬ ‫خالفا ملا يعتقده صدر ه‬
‫إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن الفلسفة متنع اإلنسان من إقامة النسبة مع الوجود‪ ،‬وكانت ُتؤ هدي إ ىل إقامة‬
‫العالقة التقن َّية والعمل َّية بني اإلنسان والعامل‪.‬‬
‫بأن املنطق املنبثق عن انحراف التفكري مل يكن يستطيع ْ‬
‫أن‬ ‫كام يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫خد َم بوصفه وسيلة لتقييم‬‫إن هذا املنطق لو اس ُت ِ‬
‫يكون معيارا لتقييم التفكري فحسب‪ ،‬بل َّ‬
‫عل أساس املدَّ ة التي يمكن‬
‫وخواص سمكة ‪ -‬التفكري ‪ -‬ى‬‫ه‬ ‫التفكري‪ ،‬لكان بمثابة تقييم ماه َّية‬
‫معها ِّلذه السمكة ْ‬
‫أن تعيش يف بر ‪ -‬دائرة املنطق ‪ -‬ومواصلة نشاطها(‪ .)1‬وهبذا التوصيف‬
‫إن املنطق يمكنه ْ‬
‫أن يكون وسيلة لتقييم احلقيقة‬ ‫للمنطق كيف يعود باإلمكان القول‪َّ :‬‬
‫إن املنطق الذي هو نتاج انحراف التفكري األصيل كيف يمكنه ْ‬
‫أن يعمل‬ ‫والتفكري األصيل؟ َّ‬
‫عل رسم خط مستقيم وكامل‬ ‫عل تقييم التفكري األصيل‪َّ .‬‬
‫إن هذا األمر من قبيل العمل ى‬ ‫ى‬
‫وطويل بمسطرة مكسورة وقصرية‪ ،‬وهذا مستحيل طبعا‪.‬‬
‫ه‬
‫املتأِّلني ُتع َترب من وجهة نظر هايدغر ومبانيه واحدة من مصاديق‬ ‫َّ‬
‫إن فلسفة صدر‬
‫امليتافيزيقا‪ ،‬وذلك َّ‬
‫ألن الفلسفة من وجهة نظر صدر ه‬
‫املتأِّلني َّأوال‪ :‬تنقسم إ ىل نظر َّية وعمل َّية‪.‬‬
‫وثانيا‪ :‬أ َّن املنطق ميزان اكتشاف احلقيقة‪ .‬وثالثا‪ :‬أ َّن الربهان العقيل هو املنهج إ ىل معرفة‬
‫احلقيقة‪ .‬ورابعا‪ :‬أ َّن احلقيقة نفسها يف األساس تعني مطابقة احلكم للواقع‪ .‬وخامسا‪ :‬أ َّن‬
‫موضوع امليتافيزيقا هو معرفة املوجود أيضا‪ .‬وسادسا‪ :‬أ َّن اهلل مطروح بوصفه ع َّلة العلل‬
‫وخالقا جلميع املوجودات‪.‬‬
‫خمتصات امليتافيزيقا‪ .‬وعليه َّ‬
‫فإن‬ ‫يذهب هايدغر إ ىل اعتبار مجيع هذه اخلصائص الس َّتة من ّ‬
‫تتعرض إ ىل‬
‫أن َّ‬‫املتأِّلني ‪ -‬طبقا ملباين هايدغر ‪ -‬ال تستطيع بدورها ْ‬
‫ه‬ ‫ميتافيزيقا صدر‬
‫األنطولوجيا ومعرفة الوجود‪ ،‬وإ َّنام تقف عند حدود معرفة املوجود‪ ،‬وال تتم َّكن من‬
‫التعرض إ ىل معرفة احلقيقة بوسيلة مناسبة والتي هي الربهان العقيل من وجهة نظر صدر‬

‫‪(1) Idem, Letter on Humanism, P. 195.‬‬


‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ ‪53‬‬

‫ه‬
‫املتأِّلني‪ ،‬أو انكشاف الوجود من وجهة نظر هايدغر‪.‬‬
‫أن تكون‬ ‫أن هايدغر عمد ‪ -‬من جهة ُأ ى‬
‫خرى ‪ -‬إ ىل طرح مدَّ عيات وحتليالت ال يمكن ْ‬ ‫بيد َّ‬
‫املتأِّلني جيب القول‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫املتأِّلني‪ .‬وعليه بالنظر إ ىل مدَّ عيات صدر ه‬
‫مقبولة يف ضوء مباين صدر ه‬
‫أن تقسيم التفكري إ ىل نظري وعميل‪ ،‬وظهور عناوين من قبيل‪ :‬املنطق‬‫عى َّ‬
‫هايدغر قد ا َّد ى‬
‫واألخالق والفيزيقا‪ُ ،‬يش هكل عالمة أو ع َّلة النحراف التفكري عن مساره الصحيح وحتول‬
‫أن املنطق ال يصلح ْ‬
‫أن يكون معيارا لتشخيص وتقييم‬ ‫التفكري إ ىل ميتافيزيقا‪ .‬يدَّ عي هايدغر َّ‬
‫عى هايدغر َّ‬
‫أن الربهان العقيل ليس منهجا ملعرفة‬ ‫احلقيقة‪ ،‬وال يمكنه ْ‬
‫أن يكون كذلك‪ .‬لقد ا َّد ى‬
‫حقيقة الوجود‪ ،‬بل ال بدَّ من توظيف واستخدام املنهج الظاهرات الوجودي ملعرفة الوجود‪.‬‬
‫أن احلقيقة ال تكمن يف مطابقة احلكم مع األمر الواقع‪ ،‬بل تكمن يف‬ ‫عى هايدغر َّ‬
‫وقد ا َّد ى‬
‫أن حمور التفكري هو معرفة الوجود‪ ،‬وليس معرفة‬‫عى هايدغر َّ‬
‫انكشاف الوجود‪ .‬لقد ا َّد ى‬
‫أن االلتفات إ ىل اهلل بوصفه ع َّلة وجود مجيع املوجودات‬
‫فإن هايدغر يدَّ عي َّ‬
‫املوجود‪ ،‬وبالتال َّ‬
‫ُيول دون االهتامم والتأمل يف حقيقة الوجود‪.‬‬
‫كل واحد من اال هدعاءات املذكورة أعاله قابلة للبحث والنقاش اجلا هد‬ ‫أن َّ‬
‫إل َّ‬
‫باإلضافة ى‬
‫عل رؤية صدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ -‬بل‬ ‫املتأِّلني بشكل مستقل‪َّ ،‬إال أ َّنه بناء ى‬
‫ه‬ ‫عل أساس مباين صدر‬ ‫ى‬
‫عل مجيع‬ ‫كيل ى‬ ‫ُ‬
‫كل ميتافيزيقي عقيل يؤمن باملنطق األرسطي ‪ -‬يمكن إيراد نقد ّ‬ ‫ورؤية ه‬
‫أن مجيع هذه اال هدعاءات ‪ -‬وبطبيعة احلال‬ ‫املدَّ عيات املطروحة من ِق َبل مارتني هايدغر‪ ،‬وهو َّ‬
‫يتم‬
‫تم إثباهتا بواسطة الربهان العقيل أو مل ّ‬ ‫أهم مدَّ عيات هايدغر ‪ -‬إ َّما قد َّ‬
‫مجيعها أو ح َّت ىى ّ‬
‫عل أساس منهج الربهان العقيل من ِق َبل‬
‫تم إثبات املدَّ عيات أعاله يف ّناية املطاف ى‬ ‫إثباهتا؛ لو َّ‬
‫أن هايدغر قد عمد إ ىل توظيف منهج ينفيه يف‬ ‫عل َّ‬
‫فإن هذا اإلثبات العقيل دال ى‬ ‫هايدغر‪َّ ،‬‬
‫إثبات مدَّ عياته‪ ،‬وهذا تناقض وهتافت واضح‪ .‬وأ َّما إذا عمد هايدغر إ ىل إثبات هذه‬
‫اال هدعاءات دون تقديم أد َّلة عقل َّية أو ب ُأسلوب مغاير ملنهج اإلثبات العقيل‪ ،‬ففي كلتا احلالتني‬
‫لن يكون مقبوال من وجهة نظر أصحاب التفكري الفلسفي الذين يعتربون املالك يف قبول‬
‫األفكار والعقائد قيامها واستنادها إ ىل الربهان العقيل‪.‬‬
‫عل األُسلوب‬ ‫وقد ُجياب عن ذلك َّ‬
‫بأن املنهج الفكري ِّلايدغر حيث ال يقوم يف األساس ى‬
‫‪ ❖ 54‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يتم‬
‫أن َّ‬‫امليتافيزيقي السائد‪ ،‬فال ينبغي البحث عن إثبات عقيل يف هذا الشأن‪ .‬أو من املمكن ْ‬
‫إل إثبات مدَّ عياته أو آرائه يف‬
‫أن يعمد هايدغر ى‬ ‫تقديم إجابة ُأ ى‬
‫خرى تقول‪ :‬ما هو اإلشكال يف ْ‬
‫أي منهج آخر غري منهج الربهان العقيل‪ .‬وعليه يمكن ِّلايدغر ْ‬
‫أن‬ ‫ضوء املنهج الظاهرات أو ه‬
‫ُي ِثبت ما يعتقده ب ُأسلوب مغاير ألُسلوب اإلثبات العقيل‪.‬‬
‫األول جيب القول‪َّ :‬أوال‪ :‬أ َّن هايدغر مل يستفد يف معرض بيان آرائه من لغة‬
‫يف نقد اجلواب َّ‬
‫تتجاوز اللغات املوجودة واملتداولة يف امليتافيزيقا‪ .‬وثانيا‪ :‬حيث إ َّن َّ‬
‫أهم أصل يف التفكري‬
‫امليتافيزيقي السائد هو أصل امتناع التناقض‪ ،‬كيف يمكن ِّلايدغر ْ‬
‫أن ُيف هكر دون االستناد ى‬
‫إل‬
‫أن ُي هبني أو ُي ِثبت مدَّ عياته وراء االستناد إ ىل هذا األصل‪ ،‬وبلغة‬
‫هذا األصل‪ ،‬ناهيك عن ْ‬
‫عل أصل امتناع التناقض؟!‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى تفوق اللغة التي تقوم ى‬
‫إن ُأسلوب التفكري الفلسفي يف مقام مجع املوا هد‬
‫ويف نقد اجلواب الثاين جيب القول إمجاال‪َّ :‬‬
‫اإلنشائ َّية املعرف َّية ومعرفة احلقيقة مهام كانت‪،‬ال يمكن ‪ -‬يف مقام احلكم بني تلك املوا هد التي‬
‫أن يكون غري الربهان العقيل‪ .‬ومن هنا َّ‬
‫فإن أساليب من قبيل‪ :‬املنهج التجريبي‬ ‫يتم مجعها ‪ْ -‬‬
‫أو األُسلوب الظاهرات ونظائره التي ُيدَّ ى‬
‫عى أحيانا َّأّنا أساليب ومناهج معرفة احلقائق‬
‫الفلسف َّية‪ ،‬ال ُت َعد أساليب يف عرض ُأسلوب الربهان العقيل‪ ،‬بل َّ‬
‫إن هذه األساليب هي يف‬
‫األقىص إ َّنام تكون جمدية يف مقام مجع املوا هد اإلنشائ َّية‪ ،‬وليس يف مقام إصدار األحكام‪.‬‬
‫ى‬ ‫احلده‬
‫«أن هايدغر نفسه قد حتدَّ ث مرارا وقال‪َّ :‬‬
‫إن ما يقوم به‬ ‫أن ال ننس ىى َّ‬
‫وعلينا بطبيعة احلال ْ‬
‫يرقى‬
‫وإن تفكريه ى‬ ‫«إن جوهر الفلسفة ميتافيزيقا‪َّ ،‬‬
‫ليس من الفلسفة يف يشء»(‪ .)1‬وقال أيضا‪َّ :‬‬
‫إ ىل ما وراء امليتافيزيقا»(‪ .)2‬ولكن هل مت َّك ن هايدغر من إثبات آرائه بلغة وراء لغة االستدالل‬
‫وعل الرغم من َّ‬
‫أن هايدغر ‪ -‬والس ّيام‬ ‫ى‬ ‫أن ُي ِثبتها؟‬
‫ح ًّقا أم أ َّنه قد رشح أكثر أفكاره دون ْ‬
‫عل مواقفه الفكر َّية‪ ،‬ويقترص يف بيان أفكاره‬ ‫ه‬
‫املتأخر ‪ -‬ال ُيقده م استدالال عقل ًّيا ى‬ ‫هايدغر‬
‫يرى أ َّنه ال يمكن لنا ْ‬
‫أن نستفيد‬ ‫عل التعابري االستعار َّية وامللغزة‪ ،‬ولكن هناك من ى‬‫وعقائده ى‬

‫‪(1) See: ZSD, p. 61 ff.‬‬

‫‪(2) Macan, Christopher (ed.), Martin Heidegger, Critical Assessments, London, Routledge,‬‬

‫‪1992, Vol. 2, p. 169.‬‬


‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ ‪55‬‬

‫من عدم تقديم هايدغر األد َّلة ى‬


‫عل تفكريه الفلسفي أ َّنه ينبذ الفلسفة لصالح العرفان‪ .‬نعم ر َّبام‬
‫وعل الرغم من‬
‫ى‬ ‫يكون قد جتاوز الفلسفة‪َّ ،‬إال أ َّنه جنح يف الغالب نحو الشعر دون العرفان(‪.)1‬‬
‫أن ُننكِر وجود عنارص الرؤية العرفان َّية يف تفكري هايدغر سواء من الناحية‬‫ذلك ال يمكن لنا ْ‬
‫املنهج َّية أو بلحاظ البنية واملضمون أيضا(‪.)2‬‬
‫إل اللغة التمثيل َّية‬
‫املتأخر أكثر ميال من لغة هايدغر املتقده م ى‬ ‫عل الرغم من َّ‬
‫أن لغة هايدغر ه‬ ‫ى‬
‫أن لغة هايدغر املتقده م بدورها ال ّتلو من التعابري امللغزة‬‫والشعر َّية واالستعار َّية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن هايدغر يف األساس يعترب ُأسلوبه يف ه‬
‫حل املسائل‬ ‫واالستعار َّية والشعر َّية‪ُ .‬يضاف إ ىل ذلك َّ‬
‫عرب دائام عن نوع من الوجود‪َّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫األنطولوج َّية هو ُأسلوب ظاهرات‪ .‬فحيث إ َّن َّ‬
‫كل ظاهرة ُت ه‬
‫إل‬ ‫الوجود يستعرض نفسه أبدا يف إطار وجود الكائنات‪َّ ،‬‬
‫فإن الظاهرات َّية ت َّتخذ بالنسبة ى‬
‫هايدغر هو َّية وجود َّية‪ ،‬ويف هذا البني ُيم هثل الـ دازاين مصداقا بارزا لذلك املوجود الذي‬
‫أن يأخذ بأيدينا إ ىل معرفة الوجود‪ .‬وعليه َّ‬
‫فإن الظاهرات َّية الوجود َّية ِّلايدغر ُتؤ هدي يف‬ ‫يمكنه ْ‬
‫عرب من جهة ُأ ى‬
‫خرى عن‬ ‫ّناية املطاف إ ىل الظاهرات َّية الوجود َّية للـ دازاين‪ .‬ولكن هايدغر ُي ه‬
‫ُأسلوبه هذا باِّلرمنيوطيقا اجلديدة أيضا‪.‬‬

‫‪(1) Ibid, pp. 169 - 170.‬‬


‫إل االعتقاد‬
‫خاصة إ ىل ميسرت إيكهرت‪ ،‬ويذهب ى‬
‫الوسطى رؤية َّ‬
‫ى‬ ‫إل مجيع عرفاء العصور‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫إن ملارتني هايدغر يف نظرته ى‬
‫أسمى وأعمق األفكار إ َّنام توجد يف العرفان‪ ،‬وأ َّن عرفان إيكهرت من أبرز مصاديق وجود هذا التفكري‪ .‬لقد‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫بأن‬
‫عل صلة وثيقة هبا‪ ،‬وكان من بني آماله التي مل ُيكتَب ِّلا‬
‫عل معرفة تا َّمة بأفكار إيكهرت‪ ،‬بل وكان ى‬
‫كان هايدغر ى‬
‫عل هايدغر يبلغ حدًّ ا من‬ ‫أن يكتب رسالة مستق َّلة يتناول فيها أفكار إيكهرت‪َّ .‬‬
‫إن حجم تأثري إيكهرت ى‬ ‫التحقق ْ‬
‫أن اجلزء األكرب من املضامني الفكر َّية ِّلايدغر هي ذات األفكار الده ين َّية والعرفان َّية‬ ‫العمق بحيث قد يتص َّور الفرد معه َّ‬
‫تم بياّنا يف إطار املصطلحات اجلديدة‪ .‬ال يمكن‬ ‫إليكهرت ولكنَّها قد ُألبست ثيابا غري دين َّية وغري عرفان َّية‪ ،‬وقد َّ‬
‫إنكار االختالفات األساس َّية بني أفكار هايدغر وإيكهرت‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن هذه االختالفات ال تبلغ حدًّ ا يمكن معه إنكار‬
‫تأثر هايدغر بإيكهرت‪ .‬ومن بني موارد التشابه اِّلا َّمة بني هايدغر وإيكهرت َّأّنام ال ينظران إ ىل اإلنسان من الناحية‬
‫األنثروبولوج َّية‪ ،‬بل من الناحية األنطولوج َّية‪ ،‬أي من حيث إ َّن اإلنسان أو الـ دازاين يعد مركز وكانون معرفة األمر‬
‫أن صدر امل ه‬
‫تأِّلني ‪ -‬بطبيعة احلال ‪ -‬يشبه بدوره هايدغر‬ ‫املتعال أو الوجود (عند هايدغر) واهلل (عن إيكهرت)‪ ،‬كام َّ‬
‫عل أوجه الشبه ونقاط االختالف يف األراء العرفان َّية ِّلايدغر‬
‫وإيكهرت من هذه الناحية‪ .‬وانظر أيضا للتعرف ى‬
‫بالنسبة إ ىل العرفان يف الرشق الياباين‪:‬‬
‫‪May, R., Heidegger’s Hidden Sources, London and New York, Routledge, 1996.‬‬
‫‪ ❖ 56‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ولكن ما هو وجه الشبه القائم بني الظاهرات َّية واِّلرمنيوطيقا ح َّت ىى جعل هذين األمرين‬
‫عرب ‪ -‬من وجهة نظر هايدغر ‪-‬‬ ‫إن َّ‬
‫كل ظاهرة ُت ه‬ ‫بالنسبة إ ىل هايدغر شيئا ومنهجا واحدا؟ قلنا‪َّ :‬‬
‫فِّسه لنا‪ ،‬وهذا هو شأن‬ ‫عن الوجود بنحو من األنحاء‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬إّنا ترشح الوجود و ُت ه‬
‫ألّنا تعني تفسري اليشء وجعله مفهوما بالنسبة لنا‪ .‬ويف هذه احلالة عندما‬
‫اِّلرمنيوطيقا أيضا؛ َّ‬
‫نقوم بتوظيف الظاهرات َّية الوجود َّية يف حتليل الـ دازاين‪ ،‬ونكشف الستار عن الـ دازاين‪ ،‬كي‬
‫نصل إ ىل معرفة وفهم حقيقة وخصائص الوجود‪ ،‬إ َّنام نقوم يف الواقع بنوع من النشاط‬
‫عل فهم الوجود أيضا‪.‬‬
‫بمعنى أ َّننا نعمل ‪ -‬من خالل فهم الـ دازاين ‪ -‬ى‬
‫ى‬ ‫اِّلرمنيوطيقي أيضا‪،‬‬
‫وعل هذا األساس كام َّ‬
‫أن الظاهرات َّية بالنسبة إ ىل هايدغر تعني ظاهراتية الـ دازاين من‬ ‫ى‬
‫أن يكون اليشء قابال للفهم‪ ،‬أو جعل‬ ‫أجل معرفة الوجود‪ ،‬كذلك اِّلرمنيوطيقا بدورها تعني ْ‬
‫الـ دازاين قابال للفهم من أجل فهم الوجود‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن الظاهرات َّية واِّلرمنيوطيقا‬
‫واألنطولوجيا ترتبط وت َّتحد فيام بينها من طريق الـ دازاين(‪ ،)1‬بل وتنصهر يف بعضها‪.‬‬
‫تم التعبري عن ُأسلوب هايدغر‬ ‫إن هذه التعابري جيب ْ‬
‫أن ال ُتؤ هدي إ ىل تضليلنا؛ إذ سواء َّ‬ ‫َّ‬
‫بوصف الظاهرات َّية‪ ،‬أو اِّلرمنيوطيقا‪ ،‬أو معرفة الوجود واألنطولوجيا‪َّ ،‬‬
‫فإن الوجه املشرتك‬
‫عل يشء من االستدالل والربهان‬ ‫ِّلذه األساليب أو العناوين الثالثة هو َّأّنا ال حتتوي ى‬
‫أي حاجة إ ىل السلوك العقيل والقلبي وهتذيب النفس‪،‬‬‫العقيل‪ ،‬وليست هناك لالستفادة منها ّ‬
‫املتأِّلني الذي يقوم منهجه و ُأسلوبه النهائي‬
‫ه‬ ‫عل خالف ما يذهب إليه صدر‬ ‫وهذا متاما ى‬
‫جمرد الربهان العقيل‪ ،‬بل إ َّنه يعتقد يف األساس أ َّن النجاح يف سلوك‬
‫عل َّ‬
‫واحلاسم للحكم ى‬
‫ُأسلوب االستدالل العقيل ومعرفة احلقيقة إ َّنام ُيتاج إ ىل ممارسة يف الرياضات العقل َّية‬
‫ّ‬
‫والتحيل بالفضائل األخالق َّية والتنزه عن الرذائل األخالق َّية‪.‬‬ ‫والرشع َّية والقلب َّية‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫أن نستخلصه يف ختام هذه املقالة كنتيجة ِّلذا البحث‪ ،‬هو َّ‬
‫أن صدر‬ ‫إن الذي يمكن لنا ْ‬
‫َّ‬
‫يسعى إ ىل الوصول إ ىل السعادة يف الدنيا ويف اآلخرة‪،‬‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني حيث كان يف تفكريه الفلسفي‬

‫‪(1) Heidegger M., Being and Time, trans. J. Macquarrie and E. Robinson, Oxford, Blackwell,‬‬
‫‪1990. Pp. 61 - 62.‬‬
‫مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ ‪57‬‬

‫فإ َّنه يعمل ‪ -‬من خالل التامهي مع الده ين‪ ،‬واالستفادة من األُسلوب الربهاين والرياضات‬
‫يسعى يف‬
‫ى‬ ‫عل معرفة حقيقة الوجود واكتشافها‪ .‬وأ َّما مارتن هايدغر فحيث ال‬
‫النفس َّية ‪ -‬ى‬
‫يرى نفسه بحاجة إ ىل مواءمة تفكريه مع الده ين‬
‫تفكريه الفلسفي إ ىل السعادة‪ ،‬فإ َّنه ال ى‬
‫يرى يف الده ين عقبة حتول دون التفكري‪ ،‬ويف هذا اإلطار يلجأ إ ىل توظيف‬
‫واملسيح َّية‪ ،‬بل ى‬
‫ملجرد معرفة الوجود ال أكثر‪.‬‬
‫املنهج الظاهرات َّ‬

‫* * *‬
‫‪ ❖ 58‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املصادر‪:‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،23‬تصحيح‪ :‬غالم رضا أعواين‪ ،‬بنياد‬ ‫صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫حكمت اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1383 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية‪ ،‬ج ‪.9‬‬ ‫صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫مصطفى حم هقق داماد‪ ،‬بنياد حكمت‬
‫ى‬ ‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬الشواهد الربوبيَّة‪ ،‬ص ‪ ،66‬تصحيح‪ :‬السيهد‬ ‫صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1382 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،7 - 5‬تصحيح‪ّ :‬‬
‫حممد ذبيحي وجعفر شاه نظري‪ ،‬بنياد‬ ‫صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫حكمت اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1381 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش در باب تكنولوژي (سؤال يف حقل التكنولوجيا)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫حممد رضا‬
‫أسدي‪ ،‬ص ‪ ،5‬مقدّ مة املرتجم‪ ،‬نرش انديشه‪ ،‬طهران‪1375 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪Heidegger M., Being and Time, trans. J. Macquarrie and E. Robinson, Oxford,‬‬
‫‪Blackwell, 1990.‬‬
‫‪Heidegger, M., Letter on Humanism in Martin Heidegger: Basic Writings, ed.‬‬
‫‪Davis Fareel, trans. Frank A. Caquzzi, New York, Harper and Row.‬‬
‫‪The End of Philosophy and the Task of Thinking in Martin Heidegger: Basic‬‬
‫‪Writings.‬‬
‫‪Wyschogrod, M., Keirkegaard and Heidegger, The Ontology of Existence,‬‬
‫‪London, Routledge, 1945.‬‬
‫‪Macan, Christopher (ed.), Martin Heidegger, Critical Assessments, London,‬‬
‫‪Routledge, 1992, Vol. 2.‬‬
‫‪May, R., Heidegger’s Hidden Sources, London and New York, Routledge,‬‬
‫‪1996.‬‬

‫* * *‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود‬
‫(أُسلوب جديد لإلجابة عن السؤال األساسي هلايدغر)‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫زهري أنصاريان‬
‫(‪)3‬‬
‫رضا أكربيان‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫أن الفلسفة هي العلم بالوجود؛ معتربين َّ‬
‫أن تساؤالهتا املحور َّية‬ ‫يرى الفالسفة املسلمون َّ‬
‫ى‬
‫خاصة للوجود؛ جاعال‬
‫عل رؤية َّ‬ ‫تدور حول الوجود‪ .‬ويف هذا الصدد يتو َّفر صدر ه‬
‫املتأِّلني ى‬
‫أن هذه املسألة قد ُأودعت يف الغرب يف غياهب‬
‫الفلسفي؛ يف حني نجد َّ‬
‫ه‬ ‫إ ّياه أساسا لنظامه‬
‫النسيان‪ ،‬وابتعدت عن مِّسح الفلسفة‪ ،‬أو َّأّنا وقعت كحد ّ‬
‫أقل عرضة للتفسريات اخلاطئة‪،‬‬
‫مرة‬
‫نرى إعادة طرح هذا السؤال َّ‬ ‫وفقدت عمل ًّيا مكانتها املعرف َّية‪ .‬لكن يف القرن األخري ى‬
‫عل يد هايدغر كسؤال فلسفي جوهري‪ .‬فعند دراستنا ملصنَّفات هذين الفيلسوفني‪،‬‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى ى‬
‫أن نستنتج ‪ -‬بمعزل عن اخلالفات األساس َّية القائمة بينهام ‪َّ -‬أّنام ش ّقا معا طريقا‬
‫ُيمكننا ْ‬
‫الفلسفي؛ وذلك من خالل‬
‫ه‬ ‫منفصال عن الفلسفات السائدة‪ ،‬وسلكا مسارا جديدا يف البحث‬
‫انتقاِّلام من املوجود إ ىل الوجود‪ ،‬وعبورها من مفهوم الوجود إ ىل احلقيقة العين َّية للوجود‪.‬‬
‫ويتم َّثل اخلالف اجلوهري القائم بني هذين الرأيني يف اعتقاد هايدغر َّ‬
‫بأن بعض أحكام مفهوم‬
‫الوجود ش َّكلت أرض َّية إلصدار الفالسفة السابقني عددا من األحكام املسبقة يف باب معرفة‬

‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬أنصاريان‪ ،‬زهري وأكربيان‪ ،‬رضا‪« ،‬مال صدرا وشناخت هستي‪ :‬راهي نو در پاسخ به پرسش بنيادين‬
‫املتأِّلني ومعرفة الوجود‪ :‬طريقة جديدة يف اإلجابة عن السؤال األصيل ِّلايدغر)‪ ،‬يف جم َّلة‪ :‬نامه‬
‫هايدگر» (صدر ه‬
‫حكمت‪ ،‬العدد‪ :‬الثاين‪18 ،‬صفحة‪ ،‬السنة السابعة‪ ،‬إيران‪ ،‬خريف وشتاء عام ‪1388‬هـ ش‪.‬‬
‫مدرس‪ ،‬فرع احلكمة املتعالية‪.‬‬
‫(‪ )2‬طالب يف مرحلة الدكتوراة بجامعة تربيت ه‬
‫(‪ُ )3‬أستاذ حمارض بقسم الفلسفة‪ ،‬جامعة تربيت ه‬
‫مدرس‪.‬‬
‫‪ ❖ 60‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يرى َّ‬
‫أن ذلك‬ ‫وأّنا قطعت الطريق أمام اجلواب الصحيح عن سؤال الوجود‪ ،‬حيث ى‬
‫الوجود‪َّ ،‬‬
‫ألن الطريق إ ىل هكذا معرفة ينحرص يف الدراسة‬ ‫املفهوم ال ُيفيض بنا إ ىل معرفة الوجود؛ َّ‬
‫املال صدرا‪ ،‬فرغم انتقاله من مفهوم الوجود إ ىل حقيقة الوجود‪َّ ،‬إال‬
‫الظاهرات َّية للوجود؛ وأ َّما َّ‬
‫أ َّنه اعتقد يف الوقت ذاته بالقيمة املعرف َّية ِّلذا املفهوم؛ معتربا إ ّياه كمدخل للعلم بالوجود؛‬
‫هذا مع َّ‬
‫أن اإلشكاالت التي أثارها هايدغر للفالسفة السابقني ال ترد عليه‪.‬‬

‫مقدّمة‪:‬‬
‫يتع َّلم كل طالب للفلسفة اإلسالم َّية يف املرحلة األُو ىل من دراسته للفلسفة َّ‬
‫أن قاطبة احلكامء‬
‫املسلمني ي َّتفقون حول َّ‬
‫أن املوجود والوجود بدهي ّيان تصورا وتصديقا‪ ،‬حيث ُيشري هؤالء‬
‫أعم املفاهيم وأعرفها؛‬ ‫احلكامء يف الفصول األُو ىل من مصنَّفاهتم إ ىل َّ‬
‫أن هذين املفهومني من ه‬
‫وِّلذا ال ُيتاجان إ ىل تعريف‪ ،‬بل ال ُيمكن تعريفهام من األساس؛ كام يعتقدون أيضا َّ‬
‫بأن‬
‫السعي نحو إقامة الربهان إلثبات حتقق الوجود هو سعي بال طائل(‪.)1‬‬
‫الوسطى‪ ،‬كان االعتقاد‬
‫ى‬ ‫ويف بالد الغرب الس ّيام يف الفلسفات املدرس َّية السائدة يف القرون‬
‫أن الوجود أمر بدهيي ومستغن عن التعريف واإلثبات‪ ،‬أو َّ‬
‫أن تعريفه والتدليل‬ ‫عل َّ‬
‫قائام أيضا ى‬
‫عليه حمال‪ ،‬حيث ورثت تلك اجلامعة من الفالسفة هذا االعتقاد من الفلسفة اليونان َّية‪ ،‬ومن‬
‫خالل مطالعة مصنَّفات املتقدّ مني‪ ،‬الس ّيام الفالسفة املسلمني‪.‬‬
‫طرح علينا التساؤل اآلت‪َّ :‬أال يصد القول ببداهة هذا املفهوم عن التحقيق العميق‬ ‫وهنا ُي َ‬
‫بشأن حقيقته يف الفلسفة؟ أي‪ :‬إذا اع ُت ِ َ‬
‫رب الوجود عند الفالسفة أمرا بدهي ًّيا‪ ،‬فلامذا نجدهم‬
‫وخي هصصون قسام كبريا من مصنَّفاهتم للبحث عن الوجود‬
‫العلم بالوجود‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫يعدون امليتافيزيقا‬
‫عل الدوام لدراسة ع َّلة وجود األشياء؟ فإذا‬
‫وجهون اهتاممهم ى‬
‫وأحكامه؟ وملاذا نجدهم ُي ه‬
‫معنى الوجود؟»‪ ،‬أو‬
‫ى‬ ‫هية البحث عن تساؤالت من قبيل‪« :‬ما هو‬
‫كان الوجود بدهي ًّيا فام هي أ ّ‬
‫«ملاذا هذا اليشء موجود اآلن‪ ،‬مع أ َّنه كان بوسعه َّأال يكون موجودا؟»؟ فهذه تساؤالت‬

‫عى راجع‪ :‬ابن سينا‪ ،1404 ،‬ص ‪29‬؛ نفسه‪ ،1379 ،‬ص ‪496‬؛ فخر الده ين‬ ‫(‪ )1‬لال هطالع أكثر ى‬
‫عل مفاد هذا املدَّ ى‬
‫الرازي‪ ،1411 ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪11‬؛ قطب الده ين الرازي‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪61‬‬

‫لفلسفي َّأّنا ُتتيح لنا التأمل من جديد يف مصنَّفات العلامء‬


‫ه‬ ‫يعتقد املح هققون يف جمال الفكر ا‬
‫املسلمني والغرب هيني للجواب عن السؤال األسايس الذي يقول‪ :‬هل بمقدورنا اال هدعاء َّ‬
‫أن‬
‫بداهة الوجود ‪ -‬إذا ثبتت يف الفلسفة اإلسالم َّية أو الغرب َّية ‪ -‬متنع من التحقيق يف حقيقة هذا‬
‫العنرص املحوري للفلسفة؟ فكام سيأتينا الحقا يعتقد بعض العلامء املعارصين ‪ -‬ومن‬
‫أن القول ببداهة مفهوم الوجود ال ُيساعد أبدا يف معرفة احلقيقة‪ ،‬بل‬ ‫ضمنهم هايدغر ‪َّ -‬‬
‫إن ُأمورا من قبيل املوجود ومفهوم‬
‫األنكى من ذلك إ َّنه ُيش هكل سدًّ ا أمام هذا الطريق‪ ،‬بحيث َّ‬
‫ى‬
‫الوجود ‪ -‬بوصف الك ّل َّية والبداهة ‪ -‬هي عبارة عن مفاهيم فارغة وخاوية من داخل‪ ،‬وال‬
‫تعكس بتاتا عمق حقيقة الوجود‪ ،‬بل وتقطع الطريق أمام معرفته‪ .‬ويف املقابل مع َّ‬
‫أن بعض‬
‫تتيِّس َّإال من خالل العلم‬ ‫كاملال صدرا ‪ -‬يرون َّ‬
‫بأن املعرفة احلقيق َّية للوجود ال َّ‬ ‫احلكامء ‪َّ -‬‬
‫الشهودي‪ ،‬لكنَّهم يعتقدون يف الوقت ذاته بامتالك املاه ّيات وكذلك مفهوم الوجود لدور ‪-‬‬
‫أدق سنستعرض يف البداية‬‫ولو يسري ‪ -‬يف معرفة احلقائق الوجود َّية‪ .‬ولفهم هذه املسألة بنحو ّ‬
‫أن نشري بعد‬‫عل ْ‬ ‫ِ‬
‫بيانا مقتضبا ِّلا‪ ،‬واإلشكاالت املطروحة من ق َبل هايدغر يف هذا الباب؛ ى‬
‫ذلك إ ىل كيف َّية حرص َّ‬
‫املال صدرا مسألة املعرفة يف املعرفة الشهود َّية للوجود‪ ،‬واعتباره املفاهيم‬
‫الوجود َّية واملاهو َّية كمدخل ملعرفة الوجود‪.‬‬

‫‪ - 1‬هايدغر‪ :‬املوجود ومفهوم الوجود قاطعان للطريق أمام معرفة الوجود‪:‬‬


‫مرة‬
‫عل إحياء «سؤال الوجود (الكينونة)» َّ‬
‫ى‬
‫(‪)1‬‬
‫لقد عمل الفيلسوف األملاين مارتن هايدغر‬
‫أهم سؤال غفل عنه اإلنسان يف هذا‬ ‫خرى يف الغرب‪ ،‬حيث ُي َعد هذا السؤال ‪ -‬برأيه ‪ّ -‬‬‫ُأ ى‬
‫«معنى الكينونة» أو «حقيقة الكينونة»؛ وبتعبري ّ‬
‫أدق يعتقد‬ ‫ى‬ ‫العرص؛ وهو سؤال يبحث عن‬
‫أن السؤال األسايس املطروح بشأن الوجود يتم َّثل يف‪« :‬كان بوسع هذا اليشء َّأال‬
‫هايدغر َّ‬
‫يكون موجودا‪ ،‬فلامذا هو موجود؟» أو «ملاذا هذه األشياء موجودة عوض َّأال تكون‬
‫معنى الوجود ُيش هكل هدفا ه‬
‫لكل‬ ‫ى‬ ‫يرى َّ‬
‫أن جواب السؤال عن‬ ‫موجودة؟» ؛ فقد كان ى‬
‫(‪)2‬‬

‫‪(1) Martin Heidegger (1889 - 1976).‬‬


‫‪(2) Heidegger, Martin (1987), An Introduction to Metaphisics, Trans. by Ralph Manheim,‬‬
‫‪Virginia: Yale univesity.p. 1.‬‬
‫‪ ❖ 62‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫معنى ‪ -‬للوجود‬
‫ى‬ ‫درك بنحو مناسب؛ إذ الريب يف َّ‬
‫أن هناك مفهوما ‪ -‬ذا‬ ‫ميتافيزيقا؛ ولو مل ُي َ‬
‫ُيش هكل الطبقات التحتان َّية للمعرفة التي نمتلكها عن احلقيقة‪.‬‬
‫معنى الوجود‬
‫ى‬ ‫سعى الفالسفة املتقده مون للبحث عن السؤال املطروح بشأن‬
‫ى‬ ‫وباعتقاده‬
‫فإّنم مل يتم َّكنوا من تقديم جواب‬
‫(الكينونة)؛ لكن بام َّأّنم سقطوا يف جمموعة من األخطاء َّ‬
‫أفىض للتخ ّيل عنه‪ ،‬وعده السعي لإلجابة عنه من دون طائل‪ .‬لقد كان ى‬
‫يرى‬ ‫ى‬ ‫تام ِّلذا السؤال؛ مم َّا‬
‫فإّنم‬ ‫َّ‬
‫أن الفالسفة السابقني ‪ -‬الس ّيام املدرس هيني ‪ -‬طرحوا سؤال الوجود بنحو خاطئ؛ وِّلذا َّ‬
‫إل اِّلدف املنشود؛ فبدال من طرح السؤال بالنحو السابق‪ ،‬فقد طرحوه‬
‫عجزوا عن الوصول ى‬
‫توسلوا باملوجودات لكي‬
‫هبذا النحو‪« :‬ما هي حقيقة املوجودات كام هي عليه؟» أي إ َّّنم َّ‬
‫عل الوجود؛ يف حني َّ‬
‫أن هذا السؤال صار قاطعا للطريق أمامهم‪ ،‬وصا ًّدا ِّلم عن‬ ‫يتعرفوا ى‬
‫َّ‬
‫ملعنى الوجود‪.‬‬
‫املعرفة احلقيق َّية ى‬
‫فرغم أ َّنه كان ُجيِل كثريا اجلهود التي بذِّلا املتقده مون يف اجلواب عن سؤال الكينونة‪ ،‬لكنَّه‬
‫ويرى هايدغر َّ‬
‫أن هذا السؤال كان مطروحا‬ ‫ى‬ ‫اعتقد بعجزهم عن الفهم الصحيح للوجود؛‬
‫ح َّت ىى يف اليونان‪ ،‬وأ َّنه انتقل من فالسفة ذلك العرص إ ىل الفالسفة يف العصور الالحقة‪ ،‬الس ّيام‬
‫نسب ألُرسطو أ َّنه َّأول من أطلق ى‬
‫عل امليتافيزيقا اسم «علم‬ ‫الوسطى‪ ،‬حيث ُي َ‬
‫ى‬ ‫فالسفة القرون‬
‫عل سقراط استعملوا بدورهم بعض‬ ‫أن الفالسفة املتقده مني ى‬ ‫الوجود»(‪)1‬؛ هذا مع َّ‬
‫املصطلحات ‪ -‬نظري «اليشء» ‪ -‬لإلشارة إ ىل «املوجود» أو «ما هو كائن»؛ وِّلذا َّ‬
‫فإن هايدغر‬
‫عل ُأرسطو وبعض قدماء اليونان هيني؛ ففي الدروس التي عقدها سنة‬ ‫ُير هكز كثريا يف مصنَّفاته ى‬
‫‪ 1920‬حول رسالة «السفسطائي» ألفالطون‪ ،‬نجده يصف ُأرسطو بالفيلسوف الذي ف َّكر يف‬
‫أن ُأرسطو ومن خالل طرحه ملفهوم أوسيا(‪ ،)3()2‬قد ق َّيد نفسه بمعرفة‬
‫يرى َّ‬
‫الوجود؛ لكنَّه ى‬

‫‪(1) Science of being as such OR science of being qua being. (Aristotle, 1966, 1025b & 1064b.‬‬

‫‪(2) Ousia‬‬

‫بمعنى املفردة عند‬


‫ى‬ ‫(‪ )3‬ترجم بعضهم هذه املفردة اليونان َّية إ ىل اجلوهر‪ ،‬لك َّن البعض اآلخر ارتأ ىى عدم وفاء هذه الرتمجة‬
‫عل أصلها اليوناين‪ .‬راجع يف هذا الصدد‪ :‬إي‪ ،‬واژه ارسطويي «اوسيا» ونارسايي برخي‬ ‫ُأرسطو؛ وِّلذا َّ‬
‫فضل تركها ى‬
‫از ترمجههاى آن‪ .‬املرتجم‪.‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪63‬‬

‫اهتم اليونان هبذا‬


‫يتطرق ألصل الكينونة ‪ ،‬وعليه فربأيه َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫الوجود عن طريق املوجودات‪ ،‬ومل َّ‬
‫عل «العامل» فقد أنزلوه إ ىل مرتبة مفهوم بدهيي‬
‫املوضوع‪ ،‬لكن بام َّأّنم فهموا الوجود اعتامدا ى‬
‫وبني بنفسه؛ وقد انتقلت بعض التج ّليات ِّلذا الرأي إ ىل الفالسفة الغرب هيني يف القرون‬
‫ه‬
‫وعل الرغم من التغيريات اجلوهر َّية التي شهدهتا الفلسفة يف العرص احلديث‪َّ ،‬إال‬
‫ى‬ ‫الوسطى‪.‬‬
‫ى‬
‫أن ًّ‬
‫كال من الكوجيتو‬ ‫يرى هايدغر َّ‬ ‫أن هذه املسألة ال زالت ُحتافظ ى‬
‫عل صبغتها اخلاطئة‪ ،‬حيث ى‬ ‫َّ‬
‫الديكارت وفلسفة كانط الرتنسندنتال َّية (املتعالية) ومنطق هيغل مل خيرج عن هذه الدائرة‪،‬‬
‫عل دراسة املوجودات يف إجابتها عن سؤال الوجود؛ وذلك بسبب‬‫وأّنا اعتمدت ك َّلها ى‬ ‫َّ‬
‫عده ها الكينونة أمرا بدهي ًّيا ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫عل مقاربات‬ ‫فوفقا ِّلذا التحليل لتاريخ الفلسفة يعتقد هايدغر َّ‬
‫أن هذه الرؤية املبتنية ى‬
‫معنى الكينونة‬
‫ى‬ ‫يونان َّية خاطئة أفضت يف العصور األخرية إ ىل اعتبار السؤال املطروح يف باب‬
‫والتخيل عنه؛ أي بسبب سلوك‬ ‫ّ‬ ‫عل إهاله‬‫أمرا زائدا وغري سليم‪ ،‬بل وساعدت أيضا ى‬
‫الفالسفة لطريق خاطئ يف بحثهم عن هذا السؤال فقد عجزوا عن التوصل إ ىل جواب عنه؛‬
‫وبالتال سقطوا يف جمموعة من األخطاء واألحكام املسبقة بشأن الوجود‪ ،‬حيث ساقتهم هذه‬
‫األحكام املسبقة إ ىل عده السؤال عن الوجود خاطئا وزائدا؛ ويتم َّثل هذا النوع من األحكام‬
‫يف‪:‬‬
‫‪« - 1‬الوجود» أكثر املفاهيم ك ّل َّية؛ ويقول هايدغر يف هذا املجال‪ :‬كان املتقده مون يرون َّ‬
‫أن‬
‫خيفى َّ‬
‫أن املراد من‬ ‫متضم ٌن ُمسبقا يف ه‬
‫كل ما نحصل عليه من املوجودات»؛ وال ى‬ ‫َّ‬ ‫«فهم الوجود‬
‫كل ك ّل َّية ُتقاس باجلنس(‪.)3‬‬
‫أعل من ه‬
‫ك ّل َّية الوجود ليست هي الك ّل َّية اجلنس َّية‪ ،‬بل هي ى‬
‫‪ - 2‬مفهوم «الوجود» ال يقبل التعريف؛ فبحسب التعبري املتداول‪ ،‬بام َّ‬
‫أن التعريف ُيصل‬
‫أعم من مفهوم الوجود‬ ‫من اجلنس والفصل َّ‬
‫فإن الوجود ال تعريف له؛ وذلك أل َّنه ال يشء ّ‬
‫ح َّت ىى ُجي َعل جنسا له‪ .‬فمع أ َّنه قد يصح لنا ذكر هذا الكالم عن مفهوم الوجود‪ ،‬لكنَّنا ال‬

‫(‪ )1‬أمحدي‪ ،‬بابك‪ ،‬هايدگر و پرسش بنيادين‪ ،‬دار النرش مركز‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة الثانية‪1382 ،‬هـ ش‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin (1996), Being and Time, Trans. by John Macquarrie & Edward‬‬
‫‪Robinson, Oxford: Blackwell, 15th Edition.p.43 - 44.‬‬
‫‪(3) Ibid.p.22.‬‬
‫‪ ❖ 64‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أي تساؤل؛‬ ‫أن نستنتج منه َّ‬


‫بأن «الوجود» ال يثري أمامنا َّ‬ ‫نستطيع أبدا ‪ -‬من منظور هايدغر ‪ْ -‬‬
‫عرف يف املنطق الكالسيكي‪ ،‬غري َّ‬
‫أن عدم قابل َّية‬ ‫فاملراد من ذلك الكالم َّ‬
‫أن الوجود ال ُي َّ‬
‫الوجود للتعريف ال ُتلغي سؤال الوجود‪ ،‬بل َّإّنا تدعونا إليه بالتحديد(‪.)1‬‬
‫كل واحد يستعمله يف معارفه‪ ،‬ويف‬ ‫بأن َّ‬
‫‪« - 3‬الوجود» مفهوم بدهيي التصور‪ ،‬حيث نجد َّ‬
‫عل الفهم من ِق َبل اجلميع؛ أي إ َّننا‬ ‫القضايا التي يصيغها؛ وبالتال َّ‬
‫فإن هذا املفهوم ال يستعيص ى‬
‫كل موجود ُن ِ‬
‫دركه فهام مسبقا عن وجوده(‪.)2‬‬ ‫نمتلك عن ه‬
‫وبرأي هايدغر بام َّ‬
‫أن الفالسفة املتقده مني حرصوا الوجود يف مفهوم ّ‬
‫كيل وبدهيي وغري‬
‫معنى الكينونة؛ وبالتال‬
‫ى‬ ‫عل السؤال املثار بشأن‬
‫قابل للتعريف‪ ،‬فقد عجزوا عن اإلجابة ى‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن هذه األحكام املسبقة‬ ‫عدوا هذا السؤال خاطئا وزائدا؛ وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬ى‬
‫ألي جواب‪ ،‬بل َّ‬
‫وبأن‬ ‫معنى الوجود ه‬
‫ى‬ ‫أفضت إ ىل اعتقاد الفالسفة بعدم امتالك السؤال بشأن‬
‫نفس هذا السؤال هو سؤال غامض وبال وجهة؛ لكن ‪ -‬باعتقاده ‪ُ -‬تش هكل هذه املسألة بحده‬
‫املعنى مسترت وراء الظالم‬
‫ى‬ ‫معنى الكينونة؛ أل َّن هذا‬
‫ى‬ ‫ربرا مناسبا إلعادة التساؤل عن‬
‫ذاهتا م ه‬
‫والغموض(‪.)3‬‬
‫يرى َّ‬
‫أن‬ ‫فهذا هو الفضاء الذي يتحدَّ ث فيه هايدغر عن عدم بداهة الكينونة والوجود؛ إذ ى‬
‫الوجود وفضال عن كونه أمرا غري بدهيي‪ ،‬فإ َّنه غامض جدًّ ا بحيث ُيتاج فهم معناه إ ىل تأمل‬
‫شديد؛ ففي اجلزء الرابع من كتاب «أسئلة»(‪ ،)4‬وكذلك يف كتاب‪« :‬نيتشه»(‪ ،)5‬نجده يتحدَّ ث‬
‫عن الكينونة َك ُلغز‪ .‬وي نقل هايدغر يف مدخل كتاب «الكينونة والزمان» عبارة عن أفالطون‬
‫عل املسألة ذاهتا‪ ،‬وتكشف بجالء عن مجيع ما هيدف إليه‪:‬‬
‫تدل ى‬
‫اجلل أ َّنه مهام كان عليه احلال‪ ،‬فإ َّنكم ‪ -‬ومنذ سالف األ ييام ‪ -‬متى‬
‫ِّ‬ ‫‪ ...‬من‬

‫‪(1) Ibid.p.23.‬‬
‫‪(2) Ibid.p.23.‬‬
‫‪(3) Ibid.p.23 - 24.‬‬
‫(‪ )4‬أمحدي‪ ،‬بابك‪ ،‬هايدگر و پرسش بنيادين‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫‪(5) Heidegger, Martin (1982), Nietzsche IV: Nihilism, Ed. by David F. Krell, Trans. by Frank‬‬
‫‪A. Capuzzi, New York: Harper & Row.p. 228.‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪65‬‬

‫استعملتم لفظ «موجود»‪ ،‬فإ َّنكم كنتم عاملني بام تريدونه حقيق ًة من هذا اللفظ؛ لكن‬
‫ٍ‬
‫زمان ما هذا اللفظ‪ ،‬رصنا اآلن منه يف حرية وحرج(‪.)2()1‬‬ ‫نحن الذين ظننَّا أ َّننا فهمنا يف‬
‫أن هايدغر يعترب القول بك ّل َّية مفهوم‬
‫أن نخ ُلص إ ىل َّ‬
‫فبمقتىض الكالم السابق بوسعنا ْ‬
‫ى‬
‫الوجود وبداهته عامال يف تغايض الفالسفة عن دراسة معناه وكنه حقيقته؛ معتقدا َّ‬
‫بأن هذه‬
‫الفلسفي باملوجود؛‬
‫ه‬ ‫األحكام املنسوبة إ ىل الوجود تس َّببت يف تعلق بحثهم عرب تاريخ الفكر‬
‫بدال عن الوجود؛ وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬بام َّأّنم عدوا الوجود أمرا ك ّل ًّيا وبدهي ًّيا َّ‬
‫فإّنم مل يتناولوا‬
‫خضم جواهبم عن التساؤالت‬
‫ه‬ ‫عل «املوجود» يف‬
‫هذه احلقيقة بالدراسة والبحث‪ ،‬وعكفوا ى‬
‫إل‬
‫عل نفس الوجود ألجل التوصل ى‬ ‫يرى وجوب العكوف ى‬ ‫األساس َّية‪ ،‬خالفا ِّلايدغر الذي ى‬
‫عل جواب لسؤال الكينونة؛ وعليه وألجل بلوغ هذا اِّلدف فإ َّنه يعتقد‬
‫معناه‪ ،‬والعثور ى‬
‫برضورة العبور َّأوال من املوجود إ ىل الوجود؛ وِّلذا الغرض ينبغي أيضا جتاوز مفهوم‬
‫يتطرق يف فلسفته إ ىل مفهوم أسايس‬
‫عل نفس الوجود؛ ومن هنا فإ َّننا نجده َّ‬
‫الوجود والرتكيز ى‬
‫يتم َّثل يف «االختالف األنطولوجي»(‪ ،)3‬والذي يتع َّلق باختالف املوجود عن الوجود‪،‬‬
‫يرى تبلور هذا االنتقال خارج فلسفة هايدغر‪ ،‬وأ َّنه‬ ‫خيفى َّ‬
‫أن البعض ى‬ ‫واالنتقال منه إليه‪ .‬وال ى‬
‫أن يعتني باملوجود(‪)4‬؛ وِّلذا بوسعنا ْ‬
‫أن‬ ‫عل دراسة الوجود من دون ْ‬
‫اقترص يف هذه الفلسفة ى‬
‫بأن القول بك ّل َّية مفهوم الوجود وبداهته صاد عن االنتقال من املفهوم ى‬
‫إل‬ ‫نخ ُلص إ ىل اعتقاده َّ‬
‫احلقيقة؛ وبالتال عن العبور من املوجود إ ىل الوجود‪.‬‬
‫أن هايدغر جتاوز عند حديثه عن مسألة‬ ‫فبالنظر إ ىل هذه األبحاث بمقدورنا اال هدعاء َّ‬
‫الكينونة مفهوم الوجود؛ واضعا قدمه ‪ -‬بنحو ما ‪ -‬يف دائرة حقيقة الوجود؛ وِّلذا السبب‬
‫املفِّسين لكالمه ‪ُ -‬يعا ِرض بشدَّ ة العقالن َّية االنتزاع َّية؛ معتقدا‬
‫نجده ‪ -‬بحسب تعبري بعض ه‬

‫‪(1) Cf: Plato, 1997, 224a.‬‬


‫‪(2) Heidegger, Martin (1996), Being and Time, Trans. by John Macquarrie & Edward‬‬
‫‪Robinson, Oxford: Blackwell, 15th Edition.p.19.‬‬
‫‪(3) Ontological Distinction.‬‬

‫(‪ )4‬أكربيان‪ ،‬رضا‪ ،‬حكمت متعاليه وتفكر اسالمى معارص‪ ،‬نرش َّ‬
‫مؤسسة صدرا للحكمة اإلسالميَّة‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة‬
‫األو ىل‪ 1386 ،‬هـ ش‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪ ❖ 66‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫التامس املبارش معه(‪)1‬؛ وبالتال ينبغي القول‪ :‬ليس لكل من‬


‫ه‬ ‫برضورة فهم الوجود عن طريق‬
‫يرى َّ‬
‫بأن‬ ‫املوجود ومفهوم الوجود أ َّية مكانة أو دور يف فلسفة هايدغر؛ بل األكثر من ذلك أ َّنه ى‬
‫عل أحكام من قبيل الك ّل َّية والبداهة ُيش هكل مانعا أمام‬
‫البحث عن املوجودات والرتكيز ى‬
‫الوصول إ ىل حقيقة الوجود ومعناه‪.‬‬
‫املال صدرا أيضا بتلك األحكام املسبقة املشار‬‫طرح علينا هذا السؤال‪ :‬هل اب ُتيل َّ‬
‫وهنا قد ُي َ‬
‫املال صدرا ببداهة مفهوم‬‫إليها آنفا كام اب ُتيل هبا الفالسفة املدرسيون؟ أي‪ :‬هل أ ّد ىى اعتقاد َّ‬
‫عل دراسة املوجودات عوضا عن‬
‫الوجود إ ىل اعتباره معرفة الوجود أمرا ب هينًّا؛ ليعكف بالتال ى‬
‫دراسة حقيقة الوجود؟ وإذا مل يكن األمر كذلك‪ ،‬هل وافق هايدغر يف القول بعدم دخالة‬
‫عل حقيقة الوجود؛ ليضعهام جانبا‪ ،‬و ُير هكز اهتاممه‬
‫املوجود ومفهوم الوجود أبدا يف التعرف ى‬
‫عل املعرفة الشهود َّية للوجود وحسب؛ أم أ َّنه ومع قوله بانحصار املعرفة احلقيق َّية للوجود يف‬
‫ى‬
‫املعرفة احلضور َّية‪َّ ،‬إال أ َّنه يعرتف يف الوقت ذاته بدور للموجود (املاه ّيات) ومفهوم الوجود‬
‫يف املعرفة أيضا؟‬

‫رق أصالةً ملعرفة الوجود‪:‬‬


‫‪ - 2‬املال صدرا‪ :‬املعرفة الشهوديَّة أكثر الطُّ ُ‬
‫املال صدرا ‪َّ -‬‬
‫بأن الوجود بدهيي‪،‬‬ ‫كام هو معروف يعتقد الفالسفة املسلمون ‪ -‬ومن ضمنهم َّ‬
‫أن رأي َّ‬
‫املال صدرا ال خيرج يف‬ ‫وأقاموا العديد من األد َّلة يف ُك ُتبهم ى‬
‫عل هذه البداهة؛ كام َّ‬
‫كل موضع من مصنَّفاته؛‬ ‫عل هذه املسألة يف ه‬ ‫حقيقة األمر عن ذلك‪ ،‬حيث نجده ُيؤ هكد ى‬
‫املتأِّلني ال ُيمكننا تعريف مفهوم الوجود؛ كام ال‬‫مستدال عليها بمختلف الط ُرق؛ فربأي صدر ه‬‫ًّ‬
‫عل‬
‫املال صدرا وأتباعه ى‬ ‫ُيمكننا أيضا إقامة الربهان عليه؛ هذا وتستند عمدة األد َّلة التي أقامها َّ‬
‫أن ُأسلوب التعريف اعتمد يف الفلسفة اإلسالم َّية‬ ‫بداهة مفهوم الوجود إ ىل بساطته؛ فباعتبار َّ‬
‫عل جدول املقوالت األُرسط َّية العرش بحيث ك َّلام كان املفهوم‬
‫‪ -‬منذ القديم وإ ىل اآلن ‪ -‬ى‬
‫فإن أغلب الفالسفة املسلمني جعلوا بساطة املفهوم مالكا يف‬ ‫أبسط كان أعرف عند ِ‬
‫املدرك‪َّ ،‬‬
‫أن نغفل عن َّ‬
‫أن التعريف ال ينحرص ‪ -‬بحسبهم ‪ -‬يف‬ ‫القول ببداهته؛ أجل ال ينبغي علينا ْ‬

‫حممد سعيد حنايي كاشاين‪ ،‬دار النرش گروس‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة األُو ىل‪،‬‬
‫(‪ )1‬مك كواري‪ ،‬جان‪ ،‬مارتني هايدگر‪ ،‬ترمجة ّ‬
‫ص ‪.48‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪67‬‬

‫حتليل املفهوم إ ىل املقوالت العرش‪ ،‬بل من املمكن كذلك تعريف املفاهيم باللوازم األعرف؛‬
‫أي مفهوم أعرف من الوجود‪َّ ،‬‬
‫فإن الوجود ال يقبل‬ ‫ويف هذا الصدد أيضا نظرا لعدم وجود ه‬
‫التعريف أبدا؛ وبذلك ُي َعد مفهوما بدهي ًّيا(‪.)1‬‬
‫بأن اعتقاد َّ‬
‫املال صدرا ببداهة مفهوم الوجود‬ ‫وهبذا البيان ينبغي علينا االعرتاف ظاهرا َّ‬
‫وك ّل َّيته قد أسقطه يف األحكام املسبقة التي نسبها هايدغر إ ىل الفالسفة املدرس هيني؛ كام ي َّ‬
‫توجب‬
‫إدراج صدر ه‬
‫املتأِّلني يف ضمن هذه الطائفة من الفالسفة كام‬ ‫ُ‬ ‫علينا بحسب التحليالت السائدة‬
‫ُ‬
‫واإلذعان ‪ -‬بالنظر إ ىل قوله ببداهة الوجود وإبائه عن التعريف ‪ -‬بأ َّنه‬ ‫فعل بعض املعارصين‪،‬‬
‫معنى الوجود سؤاال خاطئا‪َّ ،‬‬
‫وبأن املساعي التي بذِّلا ألجل معرفة الوجود‬ ‫ى‬ ‫اعترب السؤال عن‬
‫عل معرفة املوجود أو مفهوم الوجود؛ وِّلذا فإ َّنه سيكون ‪ -‬من منظور هايدغر ‪ -‬من‬
‫انص َّبت ى‬
‫املتخ هلفني عن قافلة معرفة احلقيقة(‪.)2‬‬
‫لكن ويف مقابل هذا الرأي ينبغي علينا القول‪ :‬مل يسقط أي واحد من الفالسفة املسلمني‬
‫املال صدرا ‪ -‬يف هذا اإلشكال؛ أي إ َّن إرصاره ى‬
‫عل مسألة البداهة مل‬ ‫تقريبا ‪ -‬وليس فقط َّ‬
‫يسقه إ ىل البحث عن‬‫يصده عن التحقيق والتدقيق يف باب السؤال عن الوجود‪ ،‬ومل ُ‬
‫يبقى َّ‬
‫أن الفالسفة املسلمني سلكوا‬ ‫«املوجود» أو «مفهوم الوجود» بدال عن «الوجود»؛ أجل ى‬
‫ُط ُرقا خمتلفة من أجل بلوغ هذا اِّلدف‪ ،‬حيث نجد َّ‬
‫أن هذه الط ُرق واملناهج امل َّتبعة يف حتليل‬
‫مسألة الوجود قد بلغت ذروهتا يف أفكار صدر ه‬
‫املتأِّلني الشريازي ومصنَّفاته‪.‬‬
‫عل‬
‫وقد عمل ابن سينا من خالل التفريق بني ميتافيزيقا الوجود وميتافيزيقا املاه َّية ى‬
‫تقسيم أبحاثه الفلسف َّية إ ىل قسمني‪ :‬قسم خيتص بمسائل املاه َّية‪ ،‬وقسم آخر بمسائل الوجود؛‬
‫وبيان ذلك َّ‬
‫أن الشيخ الرئيس الذي يعد موضوع الفلسفة «املوجود بام هو موجود» حتدث‬

‫عل بداهة الوجود‪ ،‬راجع‪َّ :‬‬


‫املال صدرا‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪،‬‬ ‫عل أد َّلة َّ‬
‫املال صدرا ى‬ ‫(‪ )1‬لال هطالع ى‬
‫قم‪ ،‬الطبعة الثانية‪1368 ،‬هـ ش‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 25‬وص ‪51‬؛ نفسه‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪106‬؛ نفسه‪،‬‬
‫نرش مكتبة املصطفوي‪ّ ،‬‬
‫املشاعر‪ ،‬تصحيح هنري كوربان‪ ،‬دار النرش طهوري‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة الثانية‪1363 ،‬هـ ش‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫(‪ )2‬أتشيك كنج‪ ،‬ألب أرسالن‪ ،‬مطالعهاى در هستى شناسى تطبيقى؛ وجود از ديدگاه صدر الده ين شريازى و مارتني‬
‫مؤسسة الدراسات اإلسالميَّة التابعة جلامعتي طهران ومكغيل‪ ،‬الطبعة‬
‫حممد رضا جوزي‪ ،‬نرش َّ‬
‫هايدگر‪ ،‬ترمجة ّ‬
‫األُو ىل‪1378 ،‬هـ ش‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪ ❖ 68‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يرى أ َّن هذا املفهوم يتش َّكل بدوره من مفهومني‬


‫عن بداهة «املوجود» ال «الوجود» ‪ ،‬حيث ى‬
‫(‪)1‬‬

‫اخلارجي؛ فمفهوم الوجود ُير هكز‬


‫ه‬ ‫آخرين ُيشري كل واحد منهام إ ىل حيث َّية من حيث ّيات اليشء‬
‫عل حيث َّية تعلق اليشء بع َّلته‪ ،‬بينام تتع َّلق املاه َّية بحده الوجود؛ هذا وقد أقام ابن سينا جمموعة‬
‫ى‬
‫ويتبني من هذا الكالم َّ‬
‫أن بداهة الوجود ال متنع ‪ -‬بحسب‬ ‫َّ‬ ‫من األد َّلة إلثبات هذا التحليل‪.‬‬
‫يتمسك بعدد من األد َّلة‬
‫الشيخ الرئيس ‪ -‬من دراسة الوجود والتحقيق بشأنه‪ ،‬حيث نجده َّ‬
‫يتطرق بعد ذلك إ ىل دراسة هذه احليث َّية‬
‫َّ‬ ‫ثم‬
‫اخلارجي‪ّ ،‬‬
‫ه‬ ‫إلثبات احليث َّية الوجود َّية لليشء‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ه‬ ‫اجلوهر َّية للموجود طوال بحثه‬
‫وألجل البحث عن‪ :‬هل َّ‬
‫إن اإلشكاالت التي طرحها هايدغر يف باب معرفة الكينونة ترد‬
‫أن َّ‬
‫املال صدرا حرص املعرفة احلقيق َّية‬ ‫املال صدرا أيضا أم ال؟ ينبغي علينا ‪ -‬وبعد بيان َّ‬
‫عل َّ‬‫ى‬
‫للوجود يف املعرفة الشهود َّية ‪ْ -‬‬
‫أن نشري إ ىل اعتقاده بإمكان َّية معرفة الوجود عن طريق‬
‫إل‬ ‫«املوجودات» (املاه ّيات) و«مفهومي املوجود والوجود»؛ ولو َّ‬
‫أن هذه املعرفة ال تصل بنا ى‬
‫كنه حقيقة الوجود‪.‬‬
‫‪ 1 - 2‬بداهة مفهومي «املوجود» و«الوجود»‪:‬‬
‫الفلسفي من «الوجود»؛ معتربا يف‬
‫َّ‬ ‫عل غرار بق َّية الفالسفة املسلمني بدأ َّ‬
‫املال صدرا بحثه‬ ‫ى‬
‫املرحلة األُو ىل موضوع الفلسفة «املوجود بام هو موجود»‪ ،‬حيث ال نجده خيتلف من هذه‬
‫اجلهة مع املتقده مني عنه(‪)2‬؛ لكن يف املرحلة التالية وبعد اعرتافه بالزيادة امليتافيزيق َّية للوجود‬
‫عل املاه َّية‪ ،‬وطرحه لنظر َّية أصالة الوجود‪ ،‬فإ َّنه ُيقده م تفسريا جديدا لـ «املوجود»؛ معتربا ‪-‬‬
‫ى‬
‫يتعني‬
‫بالتال ‪ -‬احلقيقة العين َّية الواحدة للوجود كمحكي ملفهوم الوجود يف اخلارج؛ وِّلذا َّ‬
‫علينا القول‪ :‬إ َّنه رشع يف فلسفته من «املوجود»؛ شأنه يف ذلك شأن املتقده مني؛ لكنَّه انتقل من‬
‫متوسال يف ذلك بأصالة الوجود‪ .‬أجل ينبغي علينا االلتفات إ ىل َّ‬
‫أن هذا‬ ‫ه‬ ‫املوجود إ ىل الوجود‬
‫االنتقال من املوجود إ ىل الوجود قد حصل يف داخل فلسفة َّ‬
‫املال صدرا؛ خالفا ملا عليه احلال‬

‫(‪ )1‬ابن سينا‪ ،‬احلسني بن عبد اهلل‪ ،‬النجاة من بحر الغرق والضالالت‪ ،‬تصحيح ّ‬
‫حممد تقي دانش بجوه‪ ،‬نرش جامعة‬
‫طهران‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة الثانية‪1379 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلاشية عىل إهلييات الشفاء‪ ،‬دار النرش بيدار‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬ص ‪.14‬‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪69‬‬

‫عند هايدغر؛ والذي وقع االنتقال خارج فلسفته(‪.)1‬‬


‫وبناء عليه ينبغي القول‪ :‬إ َّن األمر الذي حتدَّ ث َّ‬
‫املال صدرا يف البداية عن بداهته هو‬
‫«املوجود» ال «الوجود»؛ إذ مل يكن بوسعه البحث عن الوجود‪ ،‬ما دام مل يطرح يف مصنَّفاته‬
‫مسألة أصالة الوجود؛ وِّلذا نجده ُير هكز يف املرحلة األُو ىل ى‬
‫عل «بداهة املوجود»؛ لكن حينام‬
‫متسك بأصالة الوجود وأثبت من خالِّلا أ َّنه من بني مفهومي الوجود واملاه َّية فإ َّن الوجود‬
‫َّ‬
‫أوال وبالذات‪ ،‬بينام ال تتح َّقق املاهيَّة َّإال ثانيا‬ ‫هو الذي يتو َّفر ى‬
‫عل مصداق خارجي َّ‬
‫وبالعرض؛ ففي هذه احلالة فقط ُيق له احلديث عن أحكام مفهوم الوجود؛ ومن ضمنها‬
‫بداهتُه‪.‬‬
‫املال صدرا َّ‬
‫أن مفهوم‬ ‫يرى قاطبة الفالسفة ومن ضمنهم َّ‬
‫وملزيد من البيان نقول‪ :‬ى‬
‫عل نفي الشكّاك َّية املعرف َّية‪،‬‬ ‫«املوجود» يعني الواقع َّية يف اجلملة‪َّ ،‬‬
‫وأن بداهة هذا املفهوم تدل ى‬
‫ووضع القدم داخل حدود الفلسفة؛ فأصل الواقع َّية أمر بدهيي وجيل‪ ،‬وغني يف تعريفه عن‬
‫عل ثبوته‪ ،‬وال‬
‫أي برهان ى‬
‫أ َّية واسطة‪ ،‬وال مناص من اإلذعان به أبدا‪ ،‬بحيث ال ُيمكننا إقامة ه‬
‫عل البداهة التصديق َّية‬ ‫عل نفيه؛ أجل ينبغي االلتفات إ ىل َّ‬
‫أن مفاد الرباهني املقامة ى‬ ‫أي دليل ى‬
‫ه‬
‫األول؛ وأ َّما إثبات حتقق مصاديق هذه الواقع َّية‬
‫للوجود هو إثبات الواقع َّية للموجود باحلمل ّ‬
‫الصناعي‪ ،‬فيحتاج‬
‫ه‬ ‫‪ -‬بام يشمل املصاديق املق َّيدة ومصداق الواقع َّية املطلقة ‪ -‬باحلمل الشائع‬
‫أن هذا هو السبب الذي دفع صدر‬ ‫العقيل(‪ .)2‬ويبدو َّ‬
‫ه‬ ‫باحلس وإقامة الربهان‬
‫ه‬ ‫إ ىل التمسك‬
‫املبنى ال يكون مبدأ أصالة‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني إ ىل إقامة براهني إلثبات أصالة الوجود؛ فبحسب هذا‬
‫إل برهان؛‬
‫عل املاه َّية مبدأ بدهي ًّيا من األساس‪ ،‬بل ُيتاج ى‬
‫الوجود وتقدم الوجود باحلقيقة ى‬
‫أن املوجود َّية ُحت َمل َّأوال وبالذات ى‬
‫عل‬ ‫فإن مفاد أد َّلة أصالة الوجود إثبات َّ‬ ‫وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫وأن الوجود هو املصداق الذات ملفهوم «املوجود»؛ هذا وقد أشار َّ‬
‫املال صدرا أيضا‬ ‫الوجود‪َّ ،‬‬

‫(‪ )1‬أكربيان‪ ،‬رضا‪ ،‬حكمت متعاليه وتفكر اسالمى معارص‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫(‪ )2‬جوادي آميل‪ ،‬عبد اهلل‪ ،‬رحيق خمتوم (ج ‪ ،) 1‬دار النرش إرساء‪ ،‬ق ّم ‪ ،‬الطبعة الث انية‪1382 ،‬هـ ش‪184 ،‬‬
‫و ‪.185‬‬
‫‪ ❖ 70‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل وجه التلميح ؛ وِّلذا نجده ُيقيم العديد من األد َّلة ى‬


‫عل‬ ‫إ ىل عدم بداهة ذلك املبدأ ى‬
‫(‪)2()1‬‬

‫أن هذه األد َّلة قد‬


‫أن يدَّ عي بداهتها أبدا(‪ .)3‬أجل ينبغي االلتفات إ ىل َّ‬
‫أصالة الوجود؛ من دون ْ‬
‫أن َّ‬
‫املال صدرا‬ ‫ُتواجه بعض اإلشكاالت من ناحية بنيتها املنطق َّية؛ لكن ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬ال يبدو َّ‬
‫املنطقي للكلمة؛ بل لع َّله بوسعنا عدَّ هذه الرباهني‬
‫ه‬ ‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫اعترب أصالة الوجود أمرا بدهي ًّيا‬
‫إل العلم احلضوري بأصالة الوجود؛ وذلك‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني للفت النظر ى‬ ‫تنبيها استخدمه صدر‬
‫تتيِّس َّإال عن طريق هذا النوع من العلم‪.‬‬ ‫العتقاده َّ‬
‫بأن املعرفة احلقيق َّية للوجود ال َّ‬
‫أن نخ ُلص إ ىل َّ‬
‫أن بداهة مفهومي «املوجود» و«الوجود» ليس من شأّنا أ ْن‬ ‫وعليه بوسعنا ْ‬
‫تصدَّ َّ‬
‫املال صدرا عن الدراسة العميقة للوجود‪ ،‬حيث نجده يعد املعرفة احلقيق َّية للوجود‬
‫منحرصة فقط وفقط يف الشهود املبارش ِّلذه احلقيقة؛ مقيام العديد من األد َّلة ى‬
‫عل مدَّ عاه‪.‬‬
‫‪ 2 - 2‬املعرفة الشهود َّية للوجود‪:‬‬
‫عل أصالة الوجود ‪ -‬باعتبارها املرتكز األسايس للفلسفة الصدرائ َّية ‪َّ ،-‬‬
‫فإن الوجود‬ ‫بناء ى‬
‫ُيم هثل عني اخلارج َّية‪ ،‬بحيث َّ‬
‫إن هذه اخلارج َّية والعين َّية ُتش هكل حقيقة ذاته وهو َّيته؛ ومن هنا‬
‫َّ‬
‫فإن حقيقة الوجود ال تأت إ ىل الذهن ح َّت ىى ُيقال بإمكان َّية إدراكها بالعلم احلصول؛ إذ لو كان‬

‫(‪ )1‬جاءت عبارة َّ‬


‫املال صدرا يف هذا الباب بالنحو اآلت‪« :‬وأ َّما إثبات الوجود ملوضوع هذا العلم أي املوجود بام هو‬
‫ألن إثبات اليشء لنفسه غري ممكن لو ُأريد به حقيقة اإلثبات‬
‫موجود‪ ،‬فمستغن عنه‪ ،‬بل غري صحيح باحلقيقة‪َّ ،‬‬
‫وخصوصا إذا كان ذلك اليشء نفس الثبوت؛ َّ‬
‫فإن الثابت أو املوجود أو غريها من املرادفات نفس مفهوم الثبوت‬
‫أن املضاف باحلقيقة هو نفس اإلضافة ال غريها‪َّ ،‬إال بحسب املجاز سواء كان الوجود وجود يشء‬
‫والوجود؛ كام َّ‬
‫يأبى شيئا من القسمني‪ ،‬وليس يستوجب بربهان وال تبيني‬
‫آخر أو وجود حقيقته وذاته وهو بام هو هو أي املطلق ال ى‬
‫برضورة َّ‬
‫أن الكون يف الواقع دائام هو كون يشء فقط‪ ،‬أو كون نفسه البتَّة‪ ،‬بل الربهان واحلس أوجبا القسمني مجيعا‪،‬‬
‫واألول كالوجود الذي يتع َّلق باألجسام؛ فالوجود غري املتع هلق بيشء هو‬
‫َّ‬ ‫الثاين كالوجود الذي ال سبب له‪،‬‬
‫موجود َّية نفسه والوجود العارض هو موجود َّية غريه»‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪44 - 38‬؛ نفسه‪ ،‬الشواهد‬ ‫(‪َّ )3‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫الربوبي َّة‪ ،‬تصحيح السيهد جالل الده ين اآلشتياين‪ ،‬مركز النرش اجلامعي‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة األُو ىل‪1360 ،‬هـ ش‪ ،‬ص ‪6‬‬
‫وص ‪ 13‬و‪14‬؛ نفسه‪ ،‬املشاعر‪ ،‬ص ‪.33 - 9‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪71‬‬

‫درك يف الذهن عن طريق العلم احلصول كام هو الشأن بالنسبة للامه َّية‪ ،‬للزم أحد‬
‫الوجود ُي َ‬
‫إل الذهن ليس الوجود‪ ،‬بل شبح وعنوان له فقط‪ ،‬ممَّا يعني عدم‬
‫أتى ى‬ ‫أمرين‪ :‬إ َّما ْ‬
‫أن يكون ما ى‬
‫إل الذهن واقعا هو حقيقة الوجود والعين َّية‪ ،‬ممَّا‬
‫أتى ى‬
‫أن يكون ما ى‬ ‫حصول العلم بكنهه؛ وإ َّما ْ‬
‫سيلزم منه انقالب الوجود وفقدانه لذاته وهو َّيته‪ ،‬أي العين َّية واخلارج َّية؛ هذا مع َّ‬
‫أن‬
‫االنقالب يرجع أيضا إ ىل اجتامع النفي واإلثبات‪ ،‬وهو حمال؛ إذ سيلزم من الفرض املذكور‬
‫أن ُحتافظ هذه احلقيقة ى‬
‫عل ذاهتا ‪ -‬أي اخلارج َّية ‪ -‬يف عني كوّنا‬ ‫وحضور الوجود إ ىل الذهن ْ‬
‫ذهن َّية؛ وهذا ليس َّإال اجت ٌ‬
‫امع للنقيضني؛ أي‪ :‬ينبغي ْ‬
‫أن تكون تلك احلقيقة عين َّية يف نفس‬
‫املاهوي‬
‫ه‬ ‫(أعم من‬
‫ّ‬ ‫العلم احلصول املفهومي‬
‫ُ‬ ‫أن يتح َّقق بتاتا‬
‫كوّنا غري عين َّية؛ وِّلذا ال ُيمكن ْ‬
‫املاهوي) بكنه الوجود وحقيقته(‪.)1‬‬
‫ه‬ ‫وغري‬
‫فوفقا ِّلذا التحليل ال ُي َعد املفهوم الذي ُيصل يف الذهن عن الوجود مرآة تعكس متام‬
‫حقيقة الوجود وكنهه‪ ،‬بل حتكي فقط عن وجه من وجوه هذه احلقيقة‪ ،‬وعنوان من عناوينها‪،‬‬
‫وحيث َّية من حيث ّياهتا(‪)2‬؛ وِّلذا َّ‬
‫فإن العلم بحقيقة الوجود ‪ -‬والتي هي عني اخلارج َّية وال تأت‬
‫احلضوري‪ ،‬بل ح َّت ىى مفهوم الوجود ‪ -‬باعتباره‬
‫ه‬ ‫يتيِّس َّإال عن طريق العلم‬
‫إ ىل الذهن أبدا ‪ -‬ال َّ‬
‫احلضوري؛ هذا ويعتقد َّ‬
‫املال صدرا‬ ‫ه‬ ‫نوعا من أنواع العلم احلصو هل ‪ -‬ال يتح َّقق َّإال بعد العلم‬
‫جردة(‪.)3‬‬
‫عل هذا املفهوم يف الذهن هو العلم احلضوري بالنفس امل َّ‬ ‫َّ‬
‫بأن أبرز طريق للحصول ى‬
‫إل‬
‫أن هذا املفهوم بسيط أيضا‪ ،‬وبالتال بدهيي‪ ،‬وال ُيتاج العلم به ى‬‫املتأِّلني َّ‬
‫ويرى صدر ه‬
‫ى‬
‫وسائط كالتعريف واالستدالل‪ ،‬غاية األمر َّ‬
‫أن بداهته تأت بعد إثبات أصالة الوجود؛ إذ لوال‬
‫جمرد مفهوم‬
‫هذه األصالة ملا حظي هذا املفهوم بأ َّية مكانة يف نظامه الفكر هي‪ ،‬بل سيكون َّ‬
‫فارغ‪.‬‬

‫عل هذه املسألة‪ ،‬راجع‪َّ :‬‬


‫املال صدرا‪ ،‬احلكمة‬ ‫عل أد َّلة َّ‬
‫املال صدرا ى‬ ‫(‪ )1‬ملزيد من اال هطالع يف هذا املجال‪ ،‬ولال هطالع أيضا ى‬
‫املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 37‬و‪ 38‬وص ‪413‬؛ نفسه‪ ،‬املشاعر‪ ،‬ص ‪7‬؛ نفسه‪ ،‬احلاشية عىل‬
‫إهلييات الشفاء‪ ،‬ص ‪.320‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 37‬و‪ 38‬وص ‪61‬؛ نفسه‪ ،‬ج‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫‪ ،4‬ص ‪ 244‬و‪ 245‬وص ‪.269‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ص ‪.24‬‬ ‫(‪َّ )3‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫‪ ❖ 72‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املال صدرا ال ُيمكن العلم بكنه حقيقة الوجود عن طريق‬ ‫عل ذلك برأي َّ‬ ‫وعالوة ى‬
‫املفاهيم غري املاهو َّية كاملوجود والوجود‪ ،‬بل وفضال عن ذلك ال ُيمكن احلصول عليه ح َّت ىى‬
‫عن طريق املفاهيم املاهو َّية‪ ،‬فبام َّ‬
‫أن الوجود ليس من سنخ املاه َّية وغري مر َّكب من جنس‬
‫ه‬
‫متعذرة؛ ولقد‬ ‫املاهوي‬
‫ه‬ ‫وفصل أو من ما َّدة وصورة‪َّ ،‬‬
‫فإن معرفته عن طريق العلم احلصو هل‬
‫أعم من ْ‬
‫أن‬ ‫وكرات إ ىل َّ‬
‫أن حقيقة الوجود ليست ِّلا أجزاء ماهو َّية‪ّ ،‬‬ ‫مرات ّ‬ ‫أشار َّ‬
‫املال صدرا ّ‬
‫تكون هذه األجزاء خارج َّية ‪ -‬أي املا َّدة والصورة ‪ ،-‬أو عقل َّية ‪ -‬أي اجلنس والفصل ‪،-‬‬
‫وأّنا ال تندرج حتت أ َّية مقولة من املقوالت‪ ،‬وبالتال ال حدَّ ِّلا وال برهان عليها‪ .‬كام َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬
‫أي نوع من أنواع املاه َّية الك ّل َّية‪ ،‬أي اجلنس والفصل والنوع؛ وِّلذا عالوة‬
‫الوجود ال ُيم هثل َّ‬
‫اهوي بكنه حقيقة الوجود ‪ -‬واحلاصل عن طريق‬
‫ه‬ ‫عل عدم إمكان َّية العلم احلصو هل غري امل‬
‫ى‬
‫املعقوالت الثانية الفلسف َّية كاملوجود والوجود ‪َّ ،-‬‬
‫فإن العلم احلصول املاهوي بكنه هذه‬
‫احلقيقة ه‬
‫متعذر أيضا(‪.)1‬‬
‫نأى َّ‬
‫املال صدرا بنفسه عن‬ ‫عل هذا البيان بمقدورنا القول ه‬
‫بكل رصاحة‪ :‬لقد ى‬ ‫فباال هتكاء ى‬
‫أن الفالسفة املدرس هيني قد وقعوا‬ ‫رأى هايدغر َّ‬ ‫اإلشكاالت النامجة عن األحكام املسبقة التي ى‬
‫فيها؛ أي‪ :‬مع أ َّنه اعترب الوجود مفهوما ك ّل ًّيا وبدهي ًّيا وغري قابل للتعريف‪َّ ،‬إال أ َّنه مل ُُي ِجم عن‬
‫أي طريق للمعرفة التا َّمة بالوجود‪،‬‬
‫عل سؤال الوجود؛ وذلك العتقاده بعدم وجود ه‬ ‫اإلجابة ى‬
‫أن الطريق الوحيد هو شهود‬ ‫للم ِ‬
‫درك بحقيقة الوجود‪ ،‬مم َّا يعني َّ‬ ‫التامس املبارش ُ‬
‫ه‬ ‫سوى طريق‬
‫ى‬
‫عل‬ ‫أن َّ‬
‫املال صدرا وهايدغر ي َّتفقان يف القول بعدم إمكان َّية التعرف ى‬ ‫هذه احلقيقة‪ .‬فصحيح َّ‬
‫هذه احلقيقة بنحو كامل عن طريق املوجودات (املاه ّيات)‪ ،‬وكذلك عن طريق مفاهيم‬
‫سنتطرق له فيام ييل من‬
‫َّ‬ ‫كن هناك خالفا جوهر ًّيا بينهام يف الرأي‬
‫كاملوجود والوجود‪ ،‬ل َّ‬
‫أبحاث‪.‬‬

‫رق معرفة الوجود‪:‬‬


‫‪ - 3‬االختالف القائم بني رأيي املال صدرا وهايدغر يف حتديد طُ ُ‬
‫إل‬
‫عل مسألة االنتقال من املوجود ى‬ ‫أن َّ‬
‫املال صدرا وهايدغر بنيا فلسفتيهام ى‬ ‫مر معنا سابقا َّ‬
‫َّ‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪ 137‬و‪.138‬‬ ‫(‪َّ )1‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪73‬‬

‫ه َّية يف فلسفة هايدغر‪ ،‬بحيث إ َّنه يعد‬


‫ُيظى بأ َّية أ ّ‬
‫ى‬ ‫الوجود‪ ،‬لكن مع فارق َّ‬
‫أن «املوجود» ال‬
‫أن َّ‬
‫املال صدرا ومع أ َّنه‬ ‫التوسل به لبيان سؤال الوجود انحرافا عن معرفة الوجود‪ ،‬يف حني َّ‬
‫ينتقل من املوجود إ ىل الوجود َّإال أ َّنه هيتم يف فلسفته أيضا باملوجود‪ ،‬فربأيه ُيع َترب مفهوم كل‬
‫عل الواقع‬
‫من «املوجود» و«الوجود» من املعقوالت الثانية الفلسف َّية التي بوسعنا التعرف ى‬
‫من خالِّلا؛ كام َّ‬
‫أن املوجودات (املاه ّيات) عبارة عن نوافذ ُيمكننا عن طريقها حتصيل معرفة‬
‫بالوجود‪.‬‬
‫أن هايدغر وضع قدمه يف ساحة الوجود بعد طرحه ملسألة االختالف‬ ‫يتبني َّ‬
‫وهبذا َّ‬
‫األنطولوجي‪ ،‬لكنَّنا نجده يف خطوة ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬ومن خالل الطعن يف األحكام املسبقة ذات‬
‫والبدهيي‬
‫ه‬ ‫الكيل‬ ‫يسعى لبيان َّ‬
‫أن مفهوم الوجود ّ ه‬ ‫ى‬ ‫الصلة هبذا املفهوم والتي وقع فيها املتقده مون‪،‬‬
‫عل معرفة الوجود‬‫أن عكوف الفالسفة ى‬ ‫عل حقيقة الوجود؛ معتربا َّ‬ ‫ليس من شأنه الداللة ى‬
‫عل‬
‫عن طريق املوجودات عبارة عن حماولة فاشلة؛ وألجل معرفة الوجود والظفر بإجابة ى‬
‫معنى الوجود يعتقد هايدغر برضورة جتاوز مفهوم الوجود أيضا‪ ،‬والبحث عن‬
‫ى‬ ‫السؤال عن‬
‫حقيقة الكينونة من خالل املنهج الظاهرات الذي طرحه بنفسه‪ .‬ويف احلقيقة بوسعنا القول‪:‬‬
‫هبذا الطرح يكون هايدغر قد وقف يف وجه كانط الذي اعترب النومينون (اليشء يف ذاته‪،‬‬
‫الواقع) خارجا عن حيطة املعرفة‪ ،‬وأ َّنه ال ُيمكن الوصول للمعرفة َّإال من خالل الفينومنون‬
‫حس َّية متر من مصفاة املقوالت املتعالية؛‬
‫معطيات ّ‬
‫ٌ‬ ‫(اليشء لدينا‪ ،‬الظاهر)؛ فالظواهر ‪ -‬برأيه ‪-‬‬
‫وِّلذا فإ َّنه ال هيتم أبدا يف فلسفته بالنومينون؛ أل َّنه يراه خارجا عن جمال املعرفة‪ ،‬خالفا‬
‫اهتم بدراسة‬
‫ت للكينونة الـ دازاين ‪ ،‬فكأ َّنه َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫عل التحليل الظاهرا ه‬
‫بنى فلسفته ى‬
‫ِّلايدغر الذي ى‬
‫سم ىى يف األدب ّيات الكانط َّية بالنومينون‪.‬‬
‫ما ُي ّ‬
‫إن ًّ‬
‫كال من رأيي كانط وهايدغر يف هذا املجال ُيع َترب يف النظام‬ ‫هذا وينبغي علينا القول‪َّ :‬‬
‫املال صدرا ال تنحرص معرفة احلقيقة يف املعرفة‬ ‫الصدرائي ناقصا‪ ،‬ففي فلسفة َّ‬
‫ه‬ ‫الفلسفي‬
‫ه‬
‫تصور ذلك هايدغر‪ ،‬بل َّ‬
‫إن صدر املتأ هِّلني يعرتف إ ىل جانب هذا‬ ‫املبارشة حلقيقة الوجود كام َّ‬
‫النوع من املعرفة ‪ -‬والتي يعدها أكمل أنواعها ‪ -‬بإمكان َّية معرفة الوجود عن طريق مفاهيم‬

‫‪(1) Dasein‬‬
‫‪ ❖ 74‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫من قبيل‪« :‬املوجود» و«الوجود»‪ ،‬ومن خالل املاهيات أيضا؛ وِّلذا َّ‬
‫فإن اإلشكاالت الناشئة‬
‫من القول بك ّل َّية الوجود وبدهي َّيته ال ُترخي بظالِّلا ى‬
‫عل فلسفته‪.‬‬
‫‪ 1 - 3‬معرفة الوجود عن طريق مفهوم «الوجود»‪:‬‬
‫علم باليشء بوجه خاص منه‪ ،‬وليس علم بوجه‬ ‫العلم بالوجود عن طريق مفهومه ٌ‬
‫اليشء‪ ،‬حيث نجد البعض قد اعترب َّ‬
‫أن وجه اليشء هو اليشء بوجه‪ ،‬وبالتال عدَّ العلم هبام‬
‫واحدا‪ .‬وأ َّما َّ‬
‫املال صدرا فقد َّفرق بني العلم بوجه اليشء‪ ،‬والعلم باليشء بوجه‪ ،‬فوجه اليشء‬
‫مصححا للتصديق يف هذا النوع من‬
‫ه‬ ‫يقع موضوعا يف القض َّية الطبيع َّية‪ ،‬ويكون العلم به‬
‫مصححا‬
‫ه‬ ‫القضايا‪ ،‬بينام يكون العلم باليشء بوجه ‪ -‬واملراد به العلم اإلمجال هبذا اليشء ‪-‬‬
‫للتصديق بالقضايا احلقيق َّية‪ .‬ففي العلم بوجه اليشء ال يِّسي احلكم من املفهوم إ ىل األفراد‪،‬‬
‫بل وال ح َّت ىى إ ىل لوازمه القريبة والبعيدة‪ ،‬خالفا للعلم باليشء بوجه والذي يِّسي فيه احلكم‬
‫إل األفراد‪ ،‬كام يِّسي أيضا عن طريقها ‪ -‬وبالعرض ‪ -‬إ ىل أفراده‬
‫من مفهوم املوضوع ى‬
‫العرض َّية ولوازمه؛ وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫فإن امللحوظ يف العلم بوجه اليشء نفس العنوان بنحو‬
‫مستقل وبالذات ومن دون اإلشارة إ ىل معنونه‪ ،‬وأ َّما يف العلم باليشء بوجه َّ‬
‫فإن امللحوظ هو‬
‫أن املُ َ‬
‫درك يف كلتا احلالتني هو املفهوم‪ ،‬وهو‬ ‫العنوان من حيث كونه مرآة للمعنون(‪ .)1‬فرغم َّ‬
‫وجه اليشء ال كنهه‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن هذين العلمني خيتلفان معا يف جانب املرآت َّية وعدمها(‪.)2‬‬
‫يبقى عاجزا‬
‫أي تقدير سواء كان مفهوم الوجود وجه اليشء أو اليشء بوجه‪ ،‬فإ َّنه ى‬
‫وعل ه‬
‫ى‬
‫أن َّ‬
‫املال صدرا أذعن بإمكان َّية حصول العلم‬ ‫عن عكس كنه حقيقة الوجود؛ لكن بام َّ‬
‫يتعني علينا عد مفهوم الوجود بمنزلة اليشء‬
‫اصة ‪َّ ،-‬‬
‫التصوري بالوجود ‪ -‬برشوطه اخل َّ‬
‫بوجه‪ ،‬والعلم التصوري بالوجود عن طريق مفهوم الوجود علام باليشء بوجه؛ وِّلذا فإ َّننا‬
‫رصح بإمكان َّية العلم بالوجود عن طريق هذا املفهوم؛ غاية األمر أ َّنه يعكس وجها‬
‫نراه ُي ه‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 388‬و‪.389‬‬ ‫(‪َّ )1‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬تفسري القرآن الكريم (ج ‪ ،)4‬دار النرش بيدار‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬الطبعة الثانية‪1366 ،‬هـ ش‪،‬‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫ج ‪ ،4‬ص ‪ 33‬و‪.34‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪75‬‬

‫أن العلم هبذا املفهوم ليس علام بكنه الوجود‪َّ ،‬إال أ َّنه ٌ‬
‫علم بكنه وجه‬ ‫وعنوانا للوجود؛ ومع َّ‬
‫إل العلم بكنه ذلك‬
‫العلم باليشء بوجه إ ىل العلم بكنه هذا الوجه‪ ،‬ال ى‬
‫ُ‬ ‫للوجود(‪)1‬؛ إذ يرجع‬
‫اليشء(‪.)2‬‬
‫‪ 2 - 3‬معرفة الوجود عن طريق املوجودات (املاه ييات)‪:‬‬
‫عل أصالة الوجود والقول‬
‫املاه َّية يف احلكمة الصدرائ َّية عبارة عن حده الوجود‪ ،‬فبناء ى‬
‫أوصاف ذات َّية للوجود‪ ،‬ومعان عقل َّية ينتزعها‬
‫ٌ‬ ‫املال صدرا َّ‬
‫أن املاهيات‬ ‫يرى َّ‬
‫بتحققها العين هيي ى‬
‫اخلاصة ُأمورا «جمهولة‬
‫َّ‬ ‫العقل من نفاد الوجود ؛ ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى فإ َّنه يعد الوجودات‬ ‫(‪)3‬‬

‫األسامي»؛ إذ َّ‬
‫إن مجيع التعاريف املطروحة بشأن الوجود عبارة ‪ -‬بحسبه ‪ -‬عن تعاريف‬
‫برشح االسم(‪ ،)4‬بحيث نقول مثال‪ :‬هذا وجود إنسان‪ ،‬وذاك وجود فلك‪ ،‬واآلخر وجود بال‬
‫سبب؛ وبذلك فإ َّننا ُنشري إ ىل الوجودات بامه ّيات منتزعة منها‪ ،‬وهي عبارة عن ُأمور «معلومة‬
‫عل‬‫األسامي» حتكي عن خواص ب هينة ِّلذه الوجودات؛ هذا مع أ َّنه ينبغي علينا التأكيد جمدَّ دا ى‬
‫عرف باالسم وال بالصفة(‪)5‬؛ أي وكام ذكرنا مرارا وتكرارا َّ‬
‫فإن‬ ‫َّ‬
‫أن كنه حقيقة الوجود ال ُي َ‬
‫العلم بالوجود عن طريق املاه ّيات ال يكشف َّإال وجها وحيث َّية من الوجود‪ ،‬شأنه يف ذلك‬
‫شأن العلم عن طريق املفاهيم غري املاهو َّية‪.‬‬
‫علم بحقيقة الوجود تنعكس من خالله‬
‫املاهوي هو أيضا ٌ‬
‫َّ‬ ‫ومن هنا َّ‬
‫فإن العلم احلصو َّل‬
‫لدى النفس‪،‬‬
‫خصائص الوجود املق َّيد‪ .‬وبام أ َّنه ليس باإلمكان حضور األشياء املاهو َّية املا ّد َّية ى‬
‫كام أ َّنه من الالزم يف العلم وجو ُد عالقة وارتباط بني العامل واملعلوم‪َّ ،‬‬
‫فإن النفس ترتبط‬
‫حس َّية نتيجة‬
‫احلس َّية للبدن؛ فتحصل فيها صورة ّ‬
‫باألشياء املا ّد َّية بواسطة اآلالت والقو ىى ّ‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.391‬‬ ‫(‪َّ )1‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬تصحيح السيهد جالل الده ين اآلشتياين‪ ،‬األكاديميَّة اإليرانيَّة للحكمة‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫والفلسفة‪ ،‬طهران‪1354 ،‬هـ ش‪ ،‬ص ‪.289‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪58‬؛ ج ‪ ،2‬ص ‪.310‬‬ ‫(‪َّ )3‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫(‪ )4‬املراد منها التعاريف اللفظيَّة‪ ،‬وليست التعاريف املنطقيَّة التي تقع جوابا عن ما الشارحة‪ .‬املرتجم‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪49‬؛ نفسه‪ ،‬احلاشية عىل إهلييات‬ ‫(‪َّ )5‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫الشفاء‪ ،‬ص ‪24‬؛ نفسه‪ ،‬املشاعر‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ ❖ 76‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫وتتحول إ ىل صورة‬
‫َّ‬ ‫لتمر من مرتبة اخليال‪،‬‬
‫ثم تتعا ىل هذه الصورة َّ‬
‫علمها احلضوري بالبدن؛ ّ‬
‫معقولة‪.‬‬
‫أن هذا هو السبب الذي دفع امل َّال صدرا للقول بإمكان َّية العلم بالوجودات املق َّيدة‬
‫ويبدو َّ‬
‫احلس(‪ ،)1‬فال ُيمكن ْ‬
‫أن يكون املراد من العلم‬ ‫احلضوري‪ ،‬وكذلك عن طريق ه‬
‫ه‬ ‫عن طريق العلم‬
‫احلس متع هلقا باالرتباط املبارش بوجود هذه املوجودات‬
‫ه‬ ‫بالوجودات الشخص َّية عن طريق‬
‫العين َّية؛ أل َّننا أثبتنا سابقا است حالته‪ ،‬بل املراد منه العلم بتلك الوجودات عن طريق املفاهيم‬
‫احلس َّية‪.‬‬
‫املاهو َّية‪ ،‬واحلاصل بواسطة املبادئ ّ‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫العيني للوجود سبب لرفض‬‫ه‬ ‫املال صدرا َّ‬
‫أن االعتقاد بالتحقق‬ ‫عل خالف هايدغر‪ ،‬مل َير َّ‬ ‫ى‬
‫املعرفة املاهو َّية أو املفهوم َّية‪ ،‬بل ومع تصحيحه ِّلذين النوعني من املعرفة فقد اعترب الشهود‬
‫أرقى من اإلدراك املعريف‪ ،‬وهو املرجع لكا َّفة املعارف املاهو َّية واملفهوم َّية‪،‬‬
‫ى‬ ‫الوجودي مرتبة‬
‫َّ‬
‫معنى من دون هذا الشهود؛ ويف احلقيقة‬
‫ى‬ ‫بحيث ال يكون ملعرفة العامل ‪ -‬كيفام حصلت ‪ -‬أي‬
‫املتأِّلني يف فلسفته من املعرفة املاهو َّية واملفهوم َّية‪ ،‬ليضع قدمه يف حريم‬ ‫ه‬ ‫فقد انتقل صدر‬
‫املعرفة الوجود َّية‪.‬‬
‫ِ‬
‫املتأِّلني تتم َّثل يف أ َّنه مل ينف أبدا‬
‫املهمة التي نستخلصها من حتليلنا لرأي صدر ه‬ ‫والنتيجة َّ‬
‫ه َّيتها يف التوصل للحقائق‬ ‫عل أ ّ‬‫قيمة التعاريف والقياسات املنطق َّية‪ ،‬بل نراه ُيؤ هكد دائام ى‬
‫أن هذا القسم من املعرفة يقع ‪ -‬من ناحية سري اإلنسان‬ ‫الفلسف َّية‪ ،‬لكنَّه يعتقد يف الوقت ذاته َّ‬
‫أن املعارف‬ ‫اجلوهري يف مراتب الوجود ‪ -‬يف مرتبة دانية من شهود حقيقة الواقع؛ ولو َّ‬
‫أن يتح َّقق‬
‫ألي شهود ْ‬‫املاهو َّية واملفهوم َّية ُت َعد كبذور للمشاهدة احلضور َّية بحيث ال ُيمكن ه‬
‫من دون حلاظ حيث َّيتها اإلعداد َّية(‪.)2‬‬
‫أن َّ‬
‫املال صدرا مل يسقط يف اإلشكاالت التي أثارها هايدغر‬ ‫وبناء عليه بوسعنا اال هدعاء َّ‬
‫عل الرغم من قوله ببداهة مفهوم الوجود‪ ،‬واعتقاده بقيمته املعرف َّية‪،‬‬
‫ضدَّ املتقده مني‪ ،‬وذلك ى‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلاشية عىل إهلييات الشفاء‪ ،‬ص ‪.216‬‬ ‫(‪َّ )1‬‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫(‪َّ )2‬‬
‫املال صدرا‪ ،‬حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقليية األربعة‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.386‬‬
‫َّ‬
‫املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ ‪77‬‬

‫عل‬‫وحديثه عن إمكان َّية معرفته عن طريق املاه ّيات؛ والسبب يف ذلك أ َّنه مل يدَّ ِع أبدا القدرة ى‬
‫ارتأى َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫احلقيقي للوجود بواسطة املفاهيم واملاه ّيات‪ ،‬بل‬ ‫ه‬ ‫املعنى واملضمون‬
‫ى‬ ‫الوصول إ ىل‬
‫احلضوري‪ ،‬لكنَّه مل يعترب يف الوقت ذاته‬
‫ه‬ ‫اكتناه الوجود ال ُيمكن أساسا َّإال من خالل العلم‬
‫مفهوم الوجود ‪ -‬بصفته معقوال ثانيا فلسف ًّيا ‪ -‬واملاه َّية من األُمور الباطلة التي ال قيمة ِّلا؛‬
‫ه َّية من حيث حكايتها عن حقيقة الوجود؛ ولو َّ‬
‫أن املفهوم بام هو‬ ‫حتظى باأل ّ‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫ألن هذه املفاهيم‬
‫املال صدرا ومع اعتقاده َّ‬
‫بأن‬ ‫فإن َّ‬
‫مفهوم ال يتم َّتع بأ َّية مكانة أو دور يف الفلسفة؛ ونتيجة لذلك َّ‬
‫املفاهيم الوجود َّية واملاهو َّية ُتتيح إمكان َّية العلم بالوجود‪َّ ،‬إال أ َّنه ى‬
‫يرى عدم كفايتها للوصول‬
‫إ ىل كنه حقيقة الوجود‪ ،‬واضعا يف سبيل بلوغ ذلك منهجا آخر؛ وِّلذا ال ُيمكننا اإلذعان بأ َّنه‬
‫عل حده قول هايدغر ‪ -‬سقط نتيجة إليامنه ببداهة مفهوم الوجود واعتقاده بقيمته املعرف َّية‬
‫‪ -‬ى‬
‫ملعنى‬
‫املاهوي يف أحكام مسبقة‪ ،‬وعجز عن املعرفة احلقيق َّية ى‬
‫ه‬ ‫وكذلك بالقيمة املعرف َّية للمفاهيم‬
‫األسايس للكينونة‪.‬‬
‫ه‬ ‫عل السؤال‬
‫الوجود‪ ،‬واجلواب ى‬

‫* * *‬
‫‪ ❖ 78‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املصادر‪:‬‬
‫ابن سينا‪ ،‬احلسني بن عبد اهلل‪ ،‬النجاة من بحر الغرق والضالالت‪ ،‬تصحيح ّ‬
‫حممد تقي دانش بجوه‪ ،‬نرش جامعة طهران‪،‬‬
‫طهران‪ ،‬الطبعة الثانية‪1379 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫العظمى املرعيش النجفي‪1404 ،‬هـ‪.‬‬
‫ى‬ ‫نفسه‪ ،‬الشفاء (اإلِّل ّيات)‪ ،‬تصحيح سعيد زايد‪ ،‬نرش مكتبة آية اهلل‬
‫أتشيك كنج‪ ،‬ألب أرسالن‪ ،‬مطالعه اى در هستى شناسى تطبيقى؛ وجود از ديدگاه صدر الدين شريازى و مارتني‬
‫مؤسسة الدراسات اإلسالميَّة التابعة جلامعتي طهران ومكغيل‪ ،‬الطبعة األُو ىل‪،‬‬ ‫هايدگر‪ ،‬ترمجة ّ‬
‫حممد رضا جوزي‪ ،‬نرش َّ‬
‫‪1378‬هـ ش‪.‬‬
‫أمحدي‪ ،‬بابك‪ ،‬هايدگر و پرسش بنيادين‪ ،‬دار النرش مركز‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة الثانية‪1382 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫أكربيان‪ ،‬رضا‪ ،‬حكمت متعاليه وتفكر اسالمى معارص‪ ،‬نرش َّ‬
‫مؤسسة صدرا للحكمة اإلسالميَّة‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة‬
‫األُو ىل‪1386 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫جوادي آميل‪ ،‬عبد اهلل‪ ،‬رحيق خمتوم (ج ‪ ،)1‬دار النرش إرساء‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬الطبعة الثانية‪1382 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن حممد‪ ،‬رشح اإلشارات والتنبيهات (ج ‪ ،)3‬دار النرش كتاب‪ ،‬بدون مكان‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫الطويس‪ّ ،‬‬
‫‪1403‬هـ‪.‬‬
‫حممد بن عمر‪ ،‬املباحث املرشقي َّة (ج ‪ ،)1‬دار النرش بيدار‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬الطبعة الثانية‪1411 ،‬هـ‪.‬‬ ‫فخر الده ين الرازي‪ّ ،‬‬
‫حممد‪ ،‬رشح مطالع األنوار‪ ،‬منشورات كتبي نجفي‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬ ‫حممد بن ّ‬
‫قطب الده ين الرازي‪ّ ،‬‬
‫مك كواري‪ ،‬جان‪ ،‬مارتني هايدگر‪ ،‬ترمجة ّ‬
‫حممد سعيد حنايي كاشاين‪ ،‬دار النرش گروس‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة األو ىل‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬احلاشية عىل إهلييات الشفاء‪ ،‬دار النرش بيدار‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬ ‫َّ‬
‫املال صدرا‪ّ ،‬‬
‫نفسه‪ ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬نرش مكتبة املصطفوي‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬الطبعة الثانية‪1368 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬الشواهد الربوبي َّة‪ ،‬تصحيح السيهد جالل الده ين اآلشتياين‪ ،‬مركز النرش اجلامعي‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة األُو ىل‪،‬‬
‫‪1360‬هـ ش‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬تصحيح الس هيد جالل الده ين اآلشتياين‪ ،‬األكاديميَّة اإليرانيَّة للحكمة والفلسفة‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪1354‬هـ ش‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬املشاعر‪ ،‬تصحيح هنري كوربان‪ ،‬دار النرش طهوري‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة الثانية‪1363 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬تفسري القرآن الكريم (ج ‪ ،)4‬دار النرش بيدار‪ّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬الطبعة الثانية‪1366 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬هستى وزمان‪ ،‬ترمجة سياوش مجادي‪ ،‬دار النرش ققنوس‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة األُو ىل‪1386 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪Aristotle (1966), Metaphysics, Trans. by W. D. Ross, in The basic works of‬‬
‫‪Aristotle, Ed. by Richard McKeon, New York: Random house, 20th Edition.‬‬
‫‪Frede, Dorothea (1998), The question of being: Heidegger's project, in The‬‬
‫‪Cambrige Companion to Heidegger, ed. by Charles Guignon, Cambrige university‬‬
‫‪press, 7th Edition.‬‬
َّ
79 ❖ ‫املال صدرا ومعرفة الوجود‬

Heidegger, Martin (1987), An Introduction to Metaphisics, Trans. by Ralph


Manheim, Virginia: Yale univesity.
Id. (1996), Being and Time, Trans. by John Macquarrie & Edward Robinson,
Oxford: Blackwell, 15th Edition.
Id. (1982), Nietzsche IV: Nihilism, Ed. by David F. Krell, Trans. by Frank A.
Capuzzi, New York: Harper & Row.
Plato (1997), Sophist, Trans. by Nicholas P. White, in Plato's complete works,
Ed. by John M. Cooper, Indianapolis: Hackett Publishing Company.

* * *
‫العالقة بني النظر والعمل‬
‫(دراسة مقارنة بني مال صدرا وهايدغر)‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫حممد رضا أسدي‬
‫ي‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫بقوتني‪ :‬إحداها نظر َّية والثانية عمل َّية‪ ،‬ولكلتيهام تأثري‬ ‫ّى‬
‫يتحل اإلنسان بحسب اخللقة األصل َّية َّ‬
‫طرح‬ ‫الطبيعي ْ‬
‫أن ُي َ‬ ‫ه‬ ‫يف طريقة عيش اإلنسان‪ ،‬كام ُتؤ ّديان دورا يف حياته‪ .‬ومن هنا كان من‬
‫عل األُ ى‬
‫خرى؟ وقد عالج‬ ‫القوتني ملعرفة أي منهام تتقدَّ م ى‬
‫السؤال عن العالقة بني هاتني َّ‬
‫الفالسفة املسلمون والغربيون هذا السؤال وقدَّ موا أجوبة خمتلفة عنه‪ .‬حيث اخرتنا يف هذه‬
‫الدراسة الفيلسوف املسلم صدر الده ين الشريازي والفيلسوف األملاين مارتن هايدغر لنقارن‬
‫عل الرغم من اشرتاكهام يف بعض املبادئ‬
‫بينهام‪ ،‬وقد تبن ىّى كل منهام جوابا خمتلفا عن اآلخر‪ ،‬ى‬
‫الفلسف َّية ويف بعض ُأ ُسس نظرهتام إ ىل اإلنسان‪.‬‬
‫عل‬ ‫اخلاص للعمل والنظر ‪َّ -‬‬
‫أن العمل متقده م وجودا ى‬ ‫ه‬ ‫عل تعريفه‬
‫يرى هايدغر ‪ -‬بناء ى‬ ‫ى‬
‫اخلاص‬
‫ه‬ ‫مال صدرا ‪ -‬وانطالقا من تعريفه‬‫يرى َّ‬
‫النظر‪ ،‬يف مقا ِم تشكيل املعرفة البرش َّية‪ .‬بينام ى‬
‫عل العمل يف مقام تشكل املعرفة‬ ‫ملفهومي النظر والعمل ‪َّ -‬‬
‫أن النظر واملعرفة متقده مان ى‬
‫عل غريه من الكائنات‪.‬‬‫البرش َّية وتفضيل اإلنسان ى‬

‫مدخل‪:‬‬
‫خيتلف املوقف من حتديد طبيعة العالقة بني النظر والعمل باختالف تعريف كل من‬

‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬أسدي‪ ،‬حممد رضا‪« ،‬مقايسه نگاه مال صدرا وهايدگر در باب نسبت نظر وعمل» (مقارنة بني رؤية صدر‬
‫األول‪ ،‬ص ‪- 21‬‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني وهايدغر يف باب النسبة بني التنظري والتطبيق)‪ ،‬فصليَّة جامعة قم العلميَّة البحثيَّة‪ ،‬العدد َّ‬
‫‪ ،32‬السنة العارشة‪.‬‬
‫حممد حسن زراقط‪.‬‬
‫تعريب‪ّ :‬‬
‫(‪ُ )2‬أستاذ مساعد يف قسم الفلسفة يف جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪ ،‬إيران‪.‬‬
‫‪ ❖ 82‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ّى‬
‫يتحل بمجموعة من‬ ‫املفهومني‪ .‬ولكن ر َّبام يمكن القول بكلمة عا َّمة‪ :‬لـ َّام كان اإلنسان‬
‫القوى العلمية عند اإلنسان هو الوعي والفهم‪ ،‬ويف‬ ‫ى‬ ‫القوى العلم َّية والعمل َّية‪ ،‬وأبرز مصاديق‬
‫ى‬
‫العام‬
‫ه‬ ‫وعل ضوء هذا التحديد‬
‫ى‬ ‫القوى العمل َّية العزم واإلرادة‪،‬‬
‫ى‬ ‫اجلهة املقابلة َّ‬
‫فإن أبرز مصاديق‬
‫املتصورة بني النظر والعمل‪ ،‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬بني‬ ‫َّ‬ ‫ُيتاح لنا احلديث عن أشكال أربعة للعالقة‬
‫الوعي واإلرادة عند اإلنسان‪ ،‬وهذه األشكال األربعة املحتملة هي‪:‬‬
‫عل العمل قيمته‬ ‫عل العمل‪َّ ،‬‬
‫وأن املعرفة هي التي تضفي ى‬ ‫َّأوالً‪ :‬تقدم العلم واملعرفة ى‬
‫واعتباره‪ ،‬واإلرادة أداة خادمة لتكامل فهم اإلنسان‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬تقد م العمل‪ ،‬وكون الوعي والعلم يف خدمة تنمية اإلرادة والعمل عند اإلنسان‪،‬‬
‫تتطور‪.‬‬
‫وما مل يصدر العمل من اإلنسان ال تظهر قواه العلم َّية وال تنمو أو َّ‬
‫ماهوي بينهام‪ ،‬وعليه ال‬
‫َّ‬ ‫ثالث ًا‪ْ :‬‬
‫أن يكون العلم والعمل حيث َّيتان حلقيقة واحدة‪ ،‬وال متايز‬
‫عل هذا االحتامل َّ‬
‫أن الوعي‬ ‫عل اآلخر‪ .‬وحقيقة احلال بناء ى‬
‫يصح احلديث عن تقدم أحدها ى‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫أشكال من العمل الذي ُتنجزه النفس اإلنسان َّية يف مسرية كشف‬ ‫والفهم والتفكري والتعقل‬
‫اإلنساين‪ ،‬وال يمكن ْ‬
‫أن‬ ‫ه‬ ‫نوع من الوعي‬
‫احلقيقة والوصول إليها‪ .‬يف املقابل العمل والفعل ها ٌ‬
‫عمل أو يصدر عن اإلنسان من دون ْ‬
‫أن يكون مقرونا ومشوبا بالعلم واملعرفة‪.‬‬ ‫يتح َّقق ٌ‬
‫رابع ًا‪ :‬احليث َّية العمل َّية واحليث َّية النظر َّية عند اإلنسان تعمل إحداها بموازاة األُ ى‬
‫خرى دون‬
‫وكأن ًّ‬
‫كال منهام جزيرة معزولة عن اجلزيرة الثانية ال عالقة تربط‬ ‫َّ‬ ‫أن تتأ َّثر إحداها بالثانية‪،‬‬
‫ْ‬
‫إحداها ب ُأختها‪.‬‬
‫اخلاص‬
‫ه‬ ‫وعل ضوء تعريفه‬
‫ى‬ ‫من بني االحتامالت األربعة املذكورة أعاله خيتار هايدغر ‪-‬‬
‫عل‬
‫ى‬
‫(‪)2‬‬
‫لكل من العمل والنظر ‪ ،-‬خيتار تقدم العمل (املامرسة)(‪ )1‬والفعل (التطبيق العميل)‬

‫‪(1) Practice‬‬
‫(‪ )2‬يستخدم الكاتب كلمتي عمل (‪ )practice‬وپراكسيس (‪ ،)praxis‬والرتمجة العرب َّية احلرف َّية ِّلاتني الكلمتني يف‬
‫اللغة اإلنجليز َّية هي املامرسة والتطبيق العميل‪ .‬وقد وجدت َّ‬
‫أن ترمجتهام هبذه الطريقة ترض بجامل الرتمجة وتعيق‬
‫الوضوح ود َّقة نقل املصطلح إ ىل اللغة العرب َّية‪ .‬ولذلك َّ‬
‫فضلت استخدام كلمة عمل كمعادل لـ (‪ )practice‬التي‬
‫عل املامرسة بمعناها العا هم‪ ،‬وكلمة فعل كمعادل لـ (‪ )praxis‬التي تدل يف‬
‫تدل بحسب بعض املعاجم اإلنجليز َّية ى‬
‫عل مفهوم التطبيق العميل املستند إ ىل نظر َّية‪ .‬هذا مع التفات إ ىل َّ‬
‫أن هذا التمييز ال ي َّتفق كثريا مع‬ ‫اللغة اإلنجليز َّية ى‬
‫الفرق الذي تذكره معاجم اللغة العرب َّية بني كلمتي عمل وفعل‪( .‬املرتجم)‪.‬‬
‫العالقة بني النظر والعمل ❖ ‪83‬‬

‫عل تعريفه املختلف لكل من‬ ‫النظر يف مقام تشكيل املعرفة اإلنسان َّية‪ .‬وأ َّما َّ‬
‫مال صدرا ‪ -‬وبناء ى‬
‫عل العمل يف‬
‫والقيمي للعلم واملعرفة ى‬
‫ه‬ ‫الوجودي‬
‫ه‬ ‫هذين املفهومني ‪ ،-‬فإ َّنه خيتار القول بالتقدم‬
‫عل سائر الكائنات‪ .‬وسوف نحاول توضيح‬
‫مقام تشكل املعرفة اإلنسان َّية وترجيح اإلنسان ى‬
‫نظر َّية كل من الفيلسوفني يف النظر والعمل‪.‬‬
‫قوى النفس الناطقة اإلنسان َّية إ ىل قسمني‪ ،‬ها‪ :‬النظر َّية والعمل َّية(‪،)1‬‬
‫مال صدرا ى‬ ‫قسم َّ‬
‫ُي ه‬
‫كل واحدة من هذه‬ ‫خاصة‪ ،‬والوصول إ ىل آخر مراتب ه‬ ‫وى ِّلا مراتب َّ‬
‫وكل واحدة من هذه الق ى‬
‫عل املالئكة‬
‫القوى النظر َّية والعمل َّية هو كامل اإلنسان ‪ .‬وما يوجب كامل اإلنسان وفضله ى‬
‫(‪)2‬‬
‫ى‬
‫قوته النظر َّية وليس كامل عمله بالقياس إ ىل عمل سائر‬
‫وسائر موجودات العامل هو كامل َّ‬
‫الكائنات(‪.)3‬‬
‫َ‬
‫اإلنسان عن غريه من الكائنات هو أعامله وأفكاره‪ ،‬ولكن أعامل اإلنسان‬ ‫وما ُيم هيز‬
‫تكتسب قيمتها واعتبارها من العلم واملعرفة اللذان تستند إليهام‪ .‬وبناء عليه ال يشء أفضل‬
‫من العلم واملعرفة(‪.)4‬‬
‫وقد وصل اإلنسان إ ىل مقام اخلالفة اإلِّل َّية بعد ا هتصافه بالعلم باألسامء اإلِّل َّية‪ ،‬وهبذا‬
‫استحق سجود املالئكة له‪.‬‬
‫َّ‬ ‫العلم‬
‫عل ه‬
‫كل يشء يف العامل‬ ‫عل العمل‪ ،‬بل ُتقدَّ م املعرفة ى‬ ‫و ُي هبني َّ‬
‫مال صدرا فكرة تقدم العلم ى‬
‫يرى َّ‬
‫أن السعادة اإلنسان َّية تنقسم إ ىل‬ ‫عل موضوع (السعادة)‪ .‬فهو ى‬ ‫بطريقة ُأ ى‬
‫خرى مبن َّية ى‬
‫قسمني‪ ،‬ها‪ :‬السعادة البدن َّية والسعادة العقل َّية‪.‬‬
‫درك باملشاعر اجلسامن َّية كالسمع للمسموعات والبرص للمبرصات‪،...‬‬
‫والبدن َّية هي ما ُي َ‬
‫بالقوة العاقلة كإدراك العقل للمفارقات كذات الباري وصفاته وأسامئه‬
‫َّ‬ ‫درك‬
‫والعقل َّية ما ُي َ‬
‫وأرقى بمراتب من السعادة البدن َّية؛ وذلك َّ‬
‫ألن‬ ‫ى‬ ‫ومالئكته العلو َّية‪ .‬والسعادة العقل َّية أفضل‬

‫(‪ )1‬الشريازي‪ ،‬األسفار األربعة العقلية‪ ،‬ص ‪.294‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.298 - 295‬‬
‫(‪ )3‬الشريازي‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ 356‬و‪.357‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.330‬‬
‫‪ ❖ 84‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫قوة وأدوم زمنا من َّ‬


‫اللذة احلاصلة من السعادة البدن َّية(‪.)1‬‬ ‫َّ‬
‫اللذة احلاصلة من العقل َّية أشد َّ‬
‫وعل الرغم من الرتابط املتبادل بني العلم والعمل‪ ،‬بحيث َّ‬
‫إن العلم يف‬ ‫ى‬ ‫عل ما تقدَّ م‪،‬‬
‫وبناء ى‬
‫عل الروح ويصوغها وفق ُأ ُسسه‬ ‫النهاية جيب ْ‬
‫أن ُيفيض إ ىل العمل‪ ،‬وهذا األخري يرتك أثره ى‬
‫عل الرغم من ذلك ك هله‪َّ ،‬‬
‫فإن ك َّفة‬ ‫عل املعرفة والوعي‪ ،‬ى‬
‫ومقتضياته‪ ،‬والعمل من جهته مبني ى‬
‫العلم هي الراجحة يف مدرسة احلكمة املتعالية؛ وذلك َّ‬
‫ألن العلم هو الذي يوصل اإلنسان‬
‫إ ىل الكامل‪ ،‬والعمل ال يكون حسنا َّإال إذا كان يف خدمة العلم املفيض إ ىل التكامل(‪.)2‬‬

‫ما هي نظرة هايدغر إىل العالقة بني الفهم والعمل والعلم(‪)3‬؟‬


‫عل ضوء العالقة بالـ دازاين(‪ )4‬والوجود‪،‬‬
‫معنى التفسري الذي ُيقده مه هايدغر للفهم ى‬
‫ى‬ ‫ي َّتضح‬
‫وهذا يعني َّ‬
‫أن الفهم يف الواقع هو أحد األبعاد الوجود َّية للـ دازاين‪ .‬والـ دازاين له أبعاد عدَّ ة‬
‫سقطه يف اليوم َّية‪ ،‬كام يمكنها ْ‬
‫أن‬ ‫أن ُت ِ‬
‫وإمكانات خمتلفة‪ ،‬وهذه األبعاد واإلمكانات يمكنها ْ‬
‫الفهم هو أحد إمكانات الـ دازاين‪ ،‬وهذا اإلمكان‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫اإلطار‬ ‫ُتبده له إ ىل وجود أصيل‪ .‬ويف هذا‬
‫بدوره هو نحو من أنحاء وجود الـ دازاين ويف الوقت عينه يمكنه نحت أنحاء ُأ ى‬
‫خرى من‬ ‫(‪)5‬‬

‫إل انعكاس ذاته وأخذها إ ىل األمام(‪.)6‬‬


‫كينونة الـ دازاين‪ ،‬والـ دازاين بواسطة الفهم ُيؤ هدي ى‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.334 - 331‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.176 - 173‬‬
‫(‪ُ )3‬خي هصص هايدغر الصفحات من ‪ 182‬إ ىل ‪ 203‬لتوضيح رؤيته الفلسفيَّة إ ىل مقولة الفهم‪ ،‬ويف هذه الصفحات ُي هبني‬
‫وكثري من‬‫ٌ‬ ‫عل الفهم‪.‬‬
‫والبنى السابقة ى‬
‫ى‬ ‫خرى مثل‪ :‬الوجود‪ ،‬والتأويل‪ ،‬والتفسري‪،‬‬ ‫الصلة بني هذه املقولة ومقوالت ُأ ى‬
‫هذه املباحث ال تدخل يف صميم ما نحن بصدده‪ ،‬وما هيمنا هو بيان الصلة بني الفهم والعلم والعمل‪.‬‬
‫(‪ )4‬الـ دازاين كلمة أملانيَّة‪ ،‬تعني الوجود احلارض أو الوجود املقابل َّ‬
‫للالوجود‪ .‬ويستخدم هايدغر هذه الكلمة للداللة‬
‫فيتغري هو عدم‬
‫َّ‬ ‫عل الكون‬
‫عل كينونة املوجود اإلنساين أو كيف َّية وجوده؛ أي اإلنسان من حيث هو الكائن املنفتح ى‬
‫ى‬
‫استقراره‪ ،‬وهذا يعني َّ‬
‫أن الـ دازاين خيتلف عن سائر الكائنات من حيث إ َّنه ينجز كونه‪ ،‬فامهيَّة اإلنسان إذن وجوده‬
‫عل العامل‪ .‬صليبا‪،‬‬
‫وحقيقته نزوعه إ ىل ما يريد أن يكون‪ ،‬فهو من يصنع ذاته بذاته وجياوز بفعله حدود الواقع وينفتح ى‬
‫مجيل‪ .)1982( .‬املعجم الفلسفي‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‪ :‬دار الكتاب اللبناين‪ .‬مكتبةاملدرسة‪ .‬ج‪ ،1‬ص ‪( .556‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪(5) Heidegger, 1990: 185.‬‬
‫‪(6) Ibid, 188.‬‬
‫العالقة بني النظر والعمل ❖ ‪85‬‬

‫وكل فهم هو بالنسبة إ ىل الـ دازاين خ َّطة تساعده ى‬


‫عل مواجهة العامل‪ ،‬وبناء عليه ُيعطي الفهم‬
‫الـ دازاين إمكان َّية انكشاف نفسه والتعرف إليها‪ ،‬كام ُيعطيه إمكان َّية اكتشاف العامل ومعرفته‪.‬‬
‫والـ دازاين بواسطة الفهم ينال أمرين ها‪ :‬مكشوف َّية نفسه ومكشوف َّية العامل‪ .‬والـ دازاين هو‬
‫طومار (سجل ملفوف أو ل ّفافة) من اإلمكانات التي يسهم الفهم من حيث هو واحدٌ من‬
‫ٌ‬
‫ٌ‬
‫إمكان مفتاحي يستفيد منه الـ دازاين يف‬ ‫أكثرها حيو َّية يف فتح أقفاِّلا‪ .‬نعم فالفهم هو‬
‫اخلاصة به‪ ،‬كام عن سائر أضالع املوجودات املحيطة به‬
‫َّ‬ ‫الكشف عن سائر األبعاد الوجود َّية‬
‫يتبني َّ‬
‫أن الفهم من وجهة نظر هايدغر يتجاوز يف‬ ‫عل ما تقدَّ م َّ‬
‫وبواسطته يفك رموزها‪ .‬وبناء ى‬
‫ه َّيته دائرة املعرفة النظر َّية‪ .‬ويف احلقيقة تولد املعارف النظر َّية والقضايا العلمية يف‬
‫أثره وأ ّ‬
‫أحضان إمكان اسمه الفهم‪ .‬والـ دازاين‪ ،‬بواسطة الفهم‪ ،‬وعن طريق البنية املسبقة(‪ ،)1‬ينفخ‬
‫عل املسبقات‬ ‫أن َّ‬
‫كل فهم مبني ى‬ ‫املعنى يف األشياء امل هيتة التي ال روح فيها‪ .‬وعليه ي َّتضح َّ‬
‫ى‬ ‫روح‬
‫الوجود َّية املتو هفرة للـ دازاين أي يف قالب املكسب السابق(‪ )2‬والرؤية السابقة(‪ )3‬والتصور‬
‫معنى(‪.)5‬‬
‫ى‬ ‫السابق(‪ )4‬يف التعامل مع األشياء واملوجودات اخلارج َّية تصبح هذه األشياء ذات‬
‫ألي موضوع‬ ‫وبعبارة خمترصة‪ :‬املقصود من هذه البنية الثالثية الطبقات للفهم َّ‬
‫أن إدراكنا ه‬
‫العام‬
‫ه‬ ‫عل ما يتو َّفر لدينا من مفاهيم ومشاهدات قبل َّية‪ .‬ومن باب املثال‪ :‬فهمي‬
‫يعتمد ى‬
‫وتصوري ملفهوم الرياضة يسعفني لتكوين معرفة أفضل باجلمباز(‪ )6‬من حيث هو رياضة يف‬
‫عل‬
‫إطار األرض َّية العا َّمة لفهمي‪ ،‬ولكن أيضا تساعدين الرؤية القبل َّية والبصرية املسبقة ى‬
‫إدراك أفضل للعالقات والروابط يف إطار تلك األرض َّية املعرف َّية العا َّمة‪ .‬وبصريت يف ما‬
‫يرتبط باحلركات املتوازنة لأليدي واألرجل يف الرياضة تساعدين يف فهم أفضل للجمباز‪،‬‬
‫ويف ّناية املطاف توقعات أو مفاهيمي القبل َّية هي التي ُتش هكل توقعات املستقبل َّية‪ ،‬وتوقعات‬

‫‪(1) Fore structure.‬‬


‫‪(2) Fore having.‬‬
‫‪(3) Fore sight.‬‬
‫‪(4) Fore Conception.‬‬
‫‪(5) Ibid: 191.‬‬
‫‪(6) Gymnastics.‬‬
‫‪ ❖ 86‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫هذه تظهر يف قوالب تلك املفاهيم القبل َّية وهي التي ُتش هكل فهمي ملوضوع َّ‬
‫معني‪ .‬فبام أ َّنني‬
‫إل اجلمباز من وراء تلك السالمة وهاتيك‬ ‫أتو َّقع العيش مع سالمة اجلسم َّ‬
‫وقوته‪ ،‬فإ َّنني أنظر ى‬
‫والقوة‪ ،‬ففي هذه احلالة أشك‬
‫َّ‬ ‫القوة‪ ،‬فإذا مل ّتدم تلك الرياضة أهدايف أي مل ُحت هقق ل السالمة‬
‫َّ‬
‫يف فهمي للجمباز بوصفه رياضة‪.‬‬
‫إذا‪ ،‬أنا أصوغ القض َّية العلم َّية التي تقول‪:‬‬
‫قوته‪ ،‬عىل ضوء الفهم‬
‫الرياضة تسهم يف احلفاظ عىل سالمة اجلسم وتزيد من َّ‬
‫أن‬
‫وبناء عىل هذا العرض للتصور اهلايدغري ي َّتضح َّ‬
‫ً‬ ‫بطبقاته الثالثة املشار إليها آنف ًا‪.‬‬
‫الفهم متقدِّ م عىل النظر َّية أو القض َّية العلم َّية‪ ،‬ويف إطار الفهم حتدث حوادث عدَّ ة‪ ،‬ما‬
‫صياغة القض َّية العلم َّية أو النظر َّية َّإال يشء منها‪.‬‬
‫وبناء عليه الفهم ليس نوعا من الوعي واملعرفة‪ ،‬بل هو أساس ه‬
‫كل وعي ومعرفة‪ ،‬وعليه‬
‫نوع من الكينونة والوجود‪،‬‬
‫يقوم بنياّنام‪ .‬وكذلك الفهم ليس من جنس املعرفة فقط‪ ،‬بل هو ٌ‬
‫ونوع من العمل أيضا‪ .‬والفهم وفق التبيني اِّلايدغري موجود ذو وجهني‪ .‬فضال عن أ َّنه نحو‬
‫وجود للـ دازاين‪ .‬وهذا الوجود للـ دازاين ذو وجهان ها املعرفان َّية والعمالن َّية‪.‬‬
‫عريض يف شعاع وجوده يمكن رؤية ما ليس مرئ ًّيا‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عرض‬ ‫وبناء عليه َّ‬
‫فإن الفهم له ٌ‬
‫وألجل هذا عدَّ ه هايدغر من جنس الوعي واملعرفة‪ ،‬ومن حيث إ َّنه خيرج الظواهر من ظلمة‬
‫َّ‬
‫الالفهم هو من جنس العمل والنشاط‪.‬‬
‫وعل ضوء ما عرضناه من رؤية هايدغر ونظرته إ ىل الفهم ي َّتضح َّ‬
‫أن النظر ّيات والقضايا‬ ‫ى‬
‫العلم َّية تنمو يف أحضان الفهم‪ ،‬وهذه النظر ّيات والقضايا العلم َّية هي بدورها يف مقابل‬
‫اإلنساين‪ .‬فالفهم من جهة أشبه ما يكون باألُ هم التي ُت ّ‬
‫رب يف أحضاّنا طفلني‬ ‫ه‬ ‫العمل والسلوك‬
‫ولكن هذه اِّلو َّية‬
‫َّ‬ ‫أحدها النظر واآلخر العمل‪ ،‬ومن جهة ُأ ى‬
‫خرى ِّلا وجهة وهو َّية عمالن َّية‪،‬‬
‫ال تقع يف مقابل الطفل اآلخر الذي هو النظر الذي بدوره نجم عن الفهم‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪:‬‬
‫عل نوعني‪ :‬أحدها توأم الفهم‪ ،‬واآلخر يف مقابل النظر‪.‬‬
‫العمل واملامرسة ى‬
‫هذا ولكن هل املاه َّية العمالن َّية للفهم ّتتلف عن العمل الذي جيعله هايدغر يف مقابل‬
‫أي جواب‬
‫ولكن هايدغر ال ُيبدي َّ‬
‫َّ‬ ‫النظر أو ال ّتتلف؟ إ َّنه سؤال قمنيٌ بالبحث والدراسة‪،‬‬
‫العالقة بني النظر والعمل ❖ ‪87‬‬

‫عل املباين التي يرتضيها هايدغر أ َّنه يمكن تفكيك‬


‫رصيح يف ما يرتبط به‪ .‬ولكن يبدو لنا بناء ى‬
‫هذين النحوين من العمل أحدها عن اآلخر‪ ،‬وأعني هبام العمل الذي هو توأم الفهم‪،‬‬
‫والعمل الذي جيعل يف مقابل النظر‪ .‬ونعفي أنفسنا من اخلوض يف تفصيل الكالم يف هذه‬
‫عل نحو اإلمجال‬
‫النقطة كي ال نبتعد عن اِّلدف األصيل لنا من هذه املقالة‪ ،‬ونكتفي بالتذكري ى‬
‫الالحق للفهم الذي ُجي َعل يف مقابل النظر كالها من جنس‬‫أن العمل توأم الفهم والعمل َّ‬
‫ب َّ‬
‫أن فصل كل منهام خيتلف عن اآلخر‪ .‬ومن جهة ُأ ى‬
‫خرى ر َّبام يمكن تفسري‬ ‫العمل‪ ،‬مع مالحظة َّ‬
‫يبقى َث َّمة تعد ٌد لـ العمل‬ ‫كلامت هايدغر يف كتابه الكينونة والزمان بطريقة ُأ ى‬
‫خرى بحيث ال ى‬
‫سوى عمل واحد يف مقابل النظر‪ ،‬سواء كان هذا‬
‫ى‬ ‫املقومة‪ ،‬بل ال يكون‬
‫من حيث الفصول ه‬
‫عل النظر أو الحقا له‪.‬‬
‫العمل سابقا ى‬
‫ثم كيف ظهر يف فلسفة هايدغر أمران أحدها العمل واآلخر املامرسة؟ واجلواب الذي‬
‫ّ‬
‫رشاحه حاصله‪:‬‬
‫يطرحه بعض ُ ّ‬
‫كالفن‪ ،‬والشعر‪ ،‬واملَّسح‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫بأن احلقيقة تظهر نفسها من ُط ُر ٍق شتيى‬ ‫إ َّنه يعتقد َّ‬
‫التارخياين‪ ،‬وفكر املف ِّكرين الكبار وما شابه ذلك(‪.)1‬‬
‫ِّ‬ ‫والفعل األصيل‬
‫يرى هايدغر بحسب كتابه الكينونة والزمان َّ‬
‫أن الفعل له‬ ‫ومن بني الط ُرق املذكورة أعاله ى‬
‫األهم يف تظهري احلقيقة‪ .‬فالفعل األصيل بام هو صورة من احلقيقة وقسم من ظهور‬
‫ّ‬ ‫الدور‬
‫الوجود وحضوره يتح َّقق يف قالب نشاط الـ دازاين‪.‬‬
‫فالعالقة النظر َّية لإلنسان بالكون‪ ،‬بحسب هايدغر‪ ،‬والتي تشمل الكثري من‬
‫املجاالت بدء ًا من امليتافيزيقا التقليد َّية إىل ا َّلالهوت املسيحي‪ ،‬مرور ًا بمقام الترشيع‬
‫انتهاء بالفيزياء املعارصة والتقانة احلديثة‪ ،‬تنشأ من‬
‫ً‬ ‫والتقنني لإلنسان والطبيعة‪،‬‬
‫اإلنساين(‪.)2‬‬
‫ِّ‬ ‫التجربة العمل َّية للعيش‬
‫واإلنسان ‪ -‬بحسب هايدغر أيضا ‪ -‬موجود ٌ‬
‫فاعل وعمالين(‪ )3‬أكثر مم َّا هو مف هك ٌر نظري‪،‬‬

‫(‪ )1‬اسميث‪ ،‬نيچه‪ ،‬هيدگر وگذار به پسامدرنيته‪ ،‬ص ‪.286‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.287‬‬
‫أن نداء الضمري والعزم عند اإلنسان هو من جت ّليات ومصاديق الفعل بالنسبة إ ىل الـ دازاين‪.‬‬
‫يرى َّ‬
‫(‪ )3‬ومن ذلك أ َّنه ى‬
‫‪ ❖ 88‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل النظر عن طريق العمل والتعامل مع املحيط‬ ‫وهذه الف ّعال َّية يكسبها اإلنسان بشكل مقدَّ م ى‬
‫والبيئة التي ُييا فيها‪ .‬ولكن عندما خيِّس اإلنسان ُأنسه باألشياء وصلته العمل َّية هبا يبدأ‬
‫بالنظر إليها بام هي موضوعات خارج َّية يتعامل معها بطريقة نظر َّية وتنظري َّية‪ .‬ومن هنا نجد‬
‫العمالين لإلنسان بام هو نشاط انكشايف وأسايس‬
‫َّ‬ ‫أن هايدغر يطرح العمل والنشاط‬ ‫َّ‬
‫للـ دازاين وأخريا حلقيقة الوجود‪ ،‬ولع َّله يمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن أحد أهداف كتاب الكينونة‬
‫عل النظر‪ .‬بل ر َّبام ال يكون جمانبا للحقيقة وال مبالغة القول‬
‫والزمان هو إثبات تقدم العمل ى‬
‫أهم مراكز الثقل يف‬
‫الظواهري حليثية العمل واملامرسة يف الـ دازاين هو أحد ّ‬
‫ه‬ ‫َّ‬
‫بأن حتليل‬
‫التحليل الفينومينولوجي اِّلايدغري‪.‬‬
‫أن يكون نظرا؛ وذلك َّ‬
‫ألن نظره وعلمه له‬ ‫فإن الـ دازاين هو عمل وممارسة قبل ْ‬
‫وعليه َّ‬
‫عل‬
‫جذور يف الفهم‪ ،‬وهذا األخري ينتمي إ ىل مقولة العمل أكثر من انتامئه إ ىل النظر‪ .‬هذا ى‬
‫وعل الرغم من ذلك‬
‫ى‬ ‫الرغم من كون الفهم أمرا إمكان ًّيا وبالتال خارج دائرة الفعل َّية‪ ،‬غري أ َّنه‬
‫عل ما تقدَّ م ك هله يمكن استنتاج َّ‬
‫أن‬ ‫عل ضوء العمل واملامرسة‪ .‬وبناء ى‬
‫يصل إ ىل حالة الفعل َّية ى‬
‫ألن َّ‬
‫كل عالقة نظر َّية‬ ‫املتأِّلني‪ .‬وذلك َّ‬
‫ه‬ ‫آل َّية الوصول إ ىل الفهم ّتتلف بني هايدغر وصدر‬
‫املسيحي والفيزياء احلديثة كل ناشئة عن نوع من جتربة‬
‫ه‬ ‫بالعامل من امليتافيزيقا إ ىل َّ‬
‫الالهوت‬
‫عميل للـ دازاين‪ .‬وفهم الـ دازاين هو إسقاط وجتل لذاته يف صور عدَّ ة‪ .‬وأ َّما بالنسبة‬
‫العيش ال ه‬
‫والتقوى وهتذيب‬
‫ى‬ ‫مال صدرا َّ‬
‫فإن الوصول إ ىل الفهم ال يمر بالرضورة بالعمل‪ .‬واألخالق‬ ‫إ ىل َّ‬
‫النفس ُأ ٌ‬
‫مور عمل َّية يمكن ْ‬
‫أن تساعد يف الوصول إ ىل مراحل من املعرفة والعلم‪ ،‬ولك هن الفهم‬
‫ٌ‬
‫نشاط نظري كام هو معلو ٌم‪.‬‬ ‫‪ -‬بحسب َّ‬
‫مال صدرا ‪ -‬ال بدَّ له من املرور عرب الربهان الذي هو‬
‫ُيضاف إ ىل هذا َّ‬
‫أن الفهم أو العلم بحسب صدر الده ين الشريازي هو من مقولة حصول‬
‫الصورة يف الذهن‪ ،‬وبحسب تعبري بعض املعارصين(‪ )1‬كل علم حصول ال بدَّ من ْ‬
‫أن ينتهي‬
‫يرى أ َّنه إذا قيل‪ :‬العلم‬ ‫فإن َّ‬
‫مال صدرا ى‬ ‫وبغض النظر عن تفسري الفهم وتعريفه َّ‬
‫ه‬ ‫إ ىل احلضور‪.‬‬
‫عبارة عن الصورة احلاصلة من اليشء عند ِ‬
‫املدرك‪ُ ،‬أريد باملعلوم به األمر اخلارج من َّ‬
‫القوة‬
‫عنى به العلم الذي هو‬ ‫ِ‬
‫للمدرك‪ ،‬ى‬ ‫ِ‬
‫املدركة‪ ...‬وإذا قيل‪ :‬العلم عبار ٌة عن حضور صورة يشء‬

‫(‪ )1‬تعليقة َّ‬


‫العالمة الطباطبائي عىل األسفار‪ ،‬املج َّلد ‪ ،2‬ص ‪.286 - 284‬‬
‫العالقة بني النظر والعمل ❖ ‪89‬‬

‫نفس املعلوم ال يشء غريه‪ ،‬ويف كل من القسمني املعلوم باحلقيقة واملكشوف بالذات هو‬
‫الصورة التي وجودها وجود نوري إدراكي خالص عن الغوايش املا ّد َّية غري خملوط باألعدام‬
‫والظلامت(‪)1‬؛ وعليه إذا كان الفهم عند هايدغر من مقولة العمل‪ ،‬وإذا كان فهم الـ دازاين‬
‫عل‬ ‫فإن العلم والفهم عند َّ‬
‫مال صدرا من الناحية املتيافيزيق َّية مبتن ى‬ ‫نحوا من أنحاء كينونته َّ‬
‫العقيل والنظر‪ ،‬وماه َّية الفهم يف ّناية األمر تؤول إ ىل الوجود‪ ،‬ولكن وجود الصورة‬
‫ه‬ ‫الربهان‬
‫مال صدرا يزعم يف تقرير آخر له َّ‬
‫بأن العلم‬ ‫أن َّ‬
‫املنزَّ هة عن ظلامت عامل املا َّدة‪ ،‬فضال عن َّ‬
‫باليشء ووجوده حقيقة واحدة(‪.)2‬‬
‫يرى يف حمل آخر َّ‬
‫أن اإلدراك والفهم من مقولة االلتفات‬ ‫ولكن َّ‬
‫مال صدرا ى‬ ‫َّ‬ ‫هذا‬
‫احلضوري) أم كانت‬
‫ّ‬ ‫واملشاهدة(‪ .)3‬سواء كانت ذات املعلوم حارضة عند العامل (العلم‬
‫صورته هي احلارضة (العلم احلصو ّل)‪ ،‬ففي احلالتني تلتفت النفس وتشاهد إ َّما صورة‬
‫احلارض أو عينه‪.‬‬
‫ربر الفهم و ُيب هينه عن طريق كينونة الـ دازاين‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫أي تقدير فإذا كان هايدغر ُي ه‬
‫وعل ه‬
‫ى‬
‫مال صدرا يفعل ذلك أي تبيني احليثية الوجودية للفهم واإلدراك‪ ،‬عن طريق احليث َّية‬ ‫َّ‬
‫الوجود َّية للصورة احلارضة عند نفس العامل‪ ،‬وعن طريق املساوقة بني العلم والوجود‪ .‬وال‬
‫مال صدرا يف ما يرتبط ه‬
‫باحتاد العاقل واملعقول وكيف َّية‬ ‫أن األبحاث التي يطرحها َّ‬
‫نغفل عن َّ‬
‫إنشاء املعلوم بواسطة النفس‪ ،‬ال جمال ِّلا وال َّ‬
‫حمل يف الفلسفة اِّلايدغرية؛ وذلك أل َّنه ال ينظر‬
‫إ ىل الـ دازاين بعني العالقة بني النفس واجلسد‪ .‬بل إ َّنه ال يقبل التمييز والتفكيك بني النفس‬
‫واجلسد‪ ،‬كام ال يقبل تفسري الـ دازاين انطالقا من التقابل بينه وبني العامل‪ .‬ومن األُمور التي‬
‫تستحق الذكر يف مقام املقارنة بني َّ‬
‫مال صدرا وهايدغر يف ما يرتبط بالعالقة بني العلم‬

‫(‪ )1‬يذكر صدر الده ين الشريازي مثل هذا الكالم يف أكثر من موضع من كتابه األسفار‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬املج َّلد الثامن‪،‬‬
‫املتأِّلني يف هذا الصفحة ‪ 155‬من هذا املج َّلد‪ ،‬يف معرض بيان‬
‫ص ‪ .152‬األسفار‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪ .151‬يقول صدر ه‬
‫الفرق بني العلم احلصول والعلم احلضوري‪َّ :‬‬
‫«إن العلم بيشء هو ذات الصورة الذهنيَّة لذلك اليشء‪ ،‬وتارة تكون‬
‫هذه الصورة هي عني املعلوم اخلارجي»‪.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.150‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.162‬‬
‫‪ ❖ 90‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫والعمل‪َّ ،‬‬
‫أن دائرة العمل عند هايدغر أوسع بكثري مم َّا هي عند صدر الده ين الشريازي‪ .‬وذلك‬
‫وسع دائرة العمل لتشمل كثريا من األُمور التي ِّلا بعدٌ نظري مثل العلم‬ ‫َّ‬
‫أن هايدغر ُي ه‬
‫احلديث‪ ،‬فضال عن شموِّلا ه‬
‫لكل ما هو عميل بشكل أو بآخر مثل التقانة‪ ،‬فهذه األشياء‬
‫يرى شيئا من التقابل بني العلم‬ ‫وغريها ّترج من قلب الفعل واملامرسة‪ .‬وأ َّما َّ‬
‫مال صدرا فإ َّنه ى‬
‫عل هذا األمر‬‫املؤرشات الدا َّلة ى‬
‫التوالدي بينهام‪ .‬ومن ه‬
‫ه‬ ‫عل الرغم من إمكان َّية الرتابط‬
‫والعمل ى‬
‫أ َّنه جيعل الفلسفة األُو ىل يف مقابل األخالق‪ ،‬والعمل عنده مفهوم أقرب ما يكون إ ىل األعامل‬
‫األخالقي ويف بعض احلاالت ُيستفاد من تتبع أفكاره أ َّنه يدخل األعامل‬
‫ه‬ ‫الفرد َّية والسلوك‬
‫االجتامع َّية والعا َّمة يف هذه الدائرة‪.‬‬
‫وينظر هايدغر إ ىل مقولة الفهم والعمل بعني األنطولوجيا‪َّ ،‬‬
‫ومال صدرا ينظر إ ىل العلم‬
‫ولكن هذا األخري ال ينظر إ ىل العمل من الناحية األنطولوج َّية‬
‫َّ‬ ‫والفهم هبذه النظرة أيضا‪،‬‬
‫إل تبيني‬
‫عل هذه الناحية‪ .‬فهو بعد حتليله األنطولوجي للعلم ينتهي ى‬
‫املحضة وال يقرص حتليله ى‬
‫األنطولوجي‬
‫ه‬ ‫ويتحول إ ىل البحث‬
‫َّ‬ ‫عل ضوء املعارف الده ين َّية‬
‫العالقة بني العلم والعمل ى‬
‫عل ضوء‬
‫والقيمي‪ .‬وأ َّما هايدغر فإ َّنه يعمد إ ىل معاجلة مسألة الفهم والعمل والنظر ى‬
‫ه‬
‫وعل الرغم من إرصار‬
‫ى‬ ‫األنطولوجيا بعيدا عن املعاجلة الده ين َّية أو ح َّت ىى القيم َّية‪ .‬هذا ولكن‬
‫عرب عن هذا التجنب يف عدد من‬
‫عل حتايش امليل نحو املعاجلة القيم َّية والده ين َّية‪ ،‬و ُي ه‬
‫هايدغر ى‬
‫املواضع يف كتابه الكينونة والزمان‪ ،‬فإ َّنه ال ُيو َّفق يف الوفاء هبذا التعهد‪.‬‬
‫يني للمعاجلة الصدرائ َّية للعلم والعمل(‪،)1‬‬
‫والقيمي والده ه‬
‫ه‬ ‫األنطولوجي‬
‫ه‬ ‫عل التوجه‬
‫وبناء ى‬
‫إل‬
‫قسم العلم ى‬ ‫عل العمل‪ .‬ويف بعض حتليالته ُي ه‬ ‫مال صدرا إ ىل ترجيح العلم والنظر ى‬ ‫ينتهي َّ‬
‫سمي‬
‫عل بعضها اآلخر و ُي ّ‬ ‫فضل بعضها ى‬ ‫أقسام عدَّ ة و ُي هبني قيمة ه‬
‫كل واحد من هذه األقسام و ُي ه‬
‫العلوم املمدوحة واألُ ى‬
‫خرى املذمومة‪ ،‬وذلك بطريقة ال ُتفيض إ ىل قطيعة كاملة بني الدائرتني‪،‬‬

‫مال صدرا‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬املج َّلد الثاين‪ ،‬ص ‪ .362 - 331‬فهو يف هذا املوضع من تفسريه يتحدَّ ث عن‬
‫(‪َّ )1‬‬
‫فضل علم‬
‫إل حممودة ومذمومة‪ ،‬و ُي ه‬
‫قسم العلوم ى‬
‫احلقيقي‪ ،‬و ُي ه‬
‫ه‬ ‫فضل العلم ورشفه‪ ،‬وعن منزلة العامل‪ ،‬ومعيار العلم‬
‫معنى احلكمة واحلكيم‪ .‬ويتحدَّ ث عن ُأمور قريبة من هذه املوضوعات من صفحة ‪55‬‬
‫ى‬ ‫عل علم املالئكة‪ ،‬و ُي هبني‬
‫آدم ى‬
‫‪ 83 -‬من الكتاب نفسه أيضا‪.‬‬
‫العالقة بني النظر والعمل ❖ ‪91‬‬

‫كال من العمل والعلم يمكن ْ‬


‫أن يكون وسيلة للتقرب إ ىل اهلل تعا ىل‪ .‬وهذا‬ ‫أن ًّ‬
‫بل ُيستفاد منه َّ‬
‫أن العلم والنظر ليسا مطلوبني بالذات‪ ،‬بل َّ‬
‫إن قيمة األمرين تنبع‬ ‫يكشف يف ّناية املطاف عن َّ‬
‫من إسهام هذين األمرين يف تأصيل حالة العبود َّية هلل وتعميقها يف النفس اإلنسان َّية‪ .‬العلم‬
‫وعل األمرين ْ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫أن يكون مأمتِرا مطيعا‪،‬‬
‫ملال صدرا هاد للعمل‪ ،‬وهذا األخري جيب ْ‬ ‫بالنسبة َّ‬
‫يكونا جناحني ُحت هلق هبام روح اإلنسان وترتقي إ ىل اهلل‪ .‬و ُتعطي املعاجلة الصدرائ َّية للعلم‬
‫العميل وهتذيب النفس‪ ،‬ويقر للعمل بدور يف تنمية‬
‫ه‬ ‫والعمل مقاما مقبوال للسري والسلوك‬
‫معرفة حقيقة كل من الوجود واإلنسان‪ .‬وهذا يعني يف ّناية املطاف َّ‬
‫أن العلم ال يغني عن‬
‫وخاصة العمل الذي له طابع أخالقي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫العمل يف الفلسفة الصدرائ َّية‬
‫العميل االعتبار التا َّم واملنزلة‬
‫ه‬ ‫ويف مقابل َّ‬
‫مال صدرا ُيعطي هايدغر للفعل والتطبيق‬
‫األرقى(‪ ،)1‬وليس ذلك من الناحية القيم َّية بل من حيث البعد األنطولوجي‪ ،‬ومن جهة َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬
‫العمالين‪ .‬فالـ دازاين يفهم العامل عن طريق العمل‬
‫ه‬ ‫الـ دازاين يرهن َّ‬
‫كل ما يرتبط به ببعده‬
‫رشع القوانني وغري‬
‫و ُينشئ العالقة النظر َّية بينه وبينه‪ ،‬ومن هذا املسار ينتج العلم والتقانة و ُي ه‬
‫عل العده ‪ .‬واألبعاد الوجود َّية للـ دازاين كلها ِّلا بعدٌ عمالين أو متأ هثرة‬
‫ذلك مم َّا هو عيص ى‬
‫وعل الرغم من َّ‬
‫أن احليث َّية العمالن َّية للـ دازاين بالنسبة إ ىل هايدغر من‬ ‫ى‬ ‫بالعمل بدرجة كبرية‪.‬‬
‫أهم مصادر التعرف والصريورة‪ ،‬فإ َّنه ال يقصد من العمل ما يرمي إليه َّ‬
‫مال صدرا‪ ،‬أي ال‬ ‫ّ‬

‫(‪َ )1‬ث َّمة نقطتان تستح ّقان الذكر يف جمال احلديث عن نظرة هايدغر إ ىل العمل واملامرسة‪:‬‬
‫األُوىل‪ :‬يتحدَّ ث هايدغر يف مواضع عدَّ ة ومناسبات خمتلفة بطريقة مبارشة وغري مبارشة عن دور العمل وعن احليثيَّة‬
‫وبخاصة الكينونة والزمان‪ .‬ففي هذا الكتاب األخري يتحدَّ ث عن أ ّ‬
‫ه َّية‬ ‫َّ‬ ‫العمالن َّية للـ دازاين‪ ،‬وذلك يف عدد من ُكتُبه‬
‫العمل يف سياق معاجلته ملفهومي ما هو حتت اليد (‪ ،)ready to hand‬واحلارض يف اليد (‪،)present to hand‬‬
‫هيَّة املامرسة والتطبيق العمليَّة دون‬
‫يف الصفحات‪ 408 ،142 ،141 ،140 ،136 ،135 :‬و‪ ،409‬يتحدَّ ث عن أ ّ‬
‫اخلاصة به يف هذا السياق‪ ،‬وكل ذلك يصب‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫أن يستخدم كلمة (‪ )praxis‬ويطرح كثريا من املفاهيم واملصطلحات‬
‫عل هو َّية اإلنسان وكينونته‪.‬‬
‫يف خدمة بيان املوقف اِّلايدغري من العمل وأثره ى‬
‫أن هايدغر وكام أرشنا من قبل متأ هثر بدرجة كبرية بالعارف األملاين إكهارت‪ ،‬ويظهر هذا التأثر كثريا يف كتاب‬
‫الثانية‪َّ :‬‬
‫العمالين لإلنسان ُنذ هكر َّ‬
‫بأن هذه املعاجلة اِّلايدغرية ليست ‪ -‬كام‬ ‫ه‬ ‫الكينونة والزمان‪ .‬وهنا يف سياق احلديث عن البعد‬
‫سوى إعادة تدوين للكتاب السادس من رسالة األخالق إ ىل نيكوماخوس ألُرسطو‪،‬‬
‫ى‬ ‫رشاح هايدغر ‪-‬‬
‫يرى عد ٌد من ُ ّ‬
‫ى‬
‫ْ‬
‫وإن كان ذلك بلغة هايدغر َّية‪.‬‬
‫‪ ❖ 92‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بمعنى هتذيب النفس أو دور‬ ‫ى‬ ‫يقصد من حديثه عن دوره العمل يف فهم احلقيقة‪ ،‬العمل‬
‫اِّلايدغري ليس هو الذات العاملِة‬
‫َّ‬ ‫األخالق يف معرفة احلقيقة‪ .‬أضف إ ىل هذا َّ‬
‫أن الـ دازاين‬
‫عند ديكارت وال األنا املتعالية عند كانط‪ ،‬بل هو نوع من العمل وكيف َّية العيش واحلياة‪.‬‬
‫والـ دازاين اِّلايدغري ليس منزويا بل هو يف اجلمع واملجتمع‪ ،‬وليس يف اخلالء بل يف العامل‪،‬‬
‫وهو يتف َّتح بواسطة العمل وعن طريق املامرسة واالختيار والتصميم‪ .‬ومعرفته وتفتحه‬
‫نرى َّ‬
‫أن العمل مقدَّ م‬ ‫توأمان وها حاصل عمالن َّية اإلنسان وليسا حاصل علمو َّيته‪ ،‬ومن هنا ى‬
‫عل النظر من الناحية القيم َّية‪ ،‬وذلك‬
‫عل العلم وجود ًّيا وليس قيم ًّيا‪ .‬فليس العمل متقده ما ى‬
‫ى‬
‫َّ‬
‫ألن املعاجلة اِّلايدغر َّية للعمل معاجلة أنطولوح َّية‪.‬‬
‫ويف ختام هذا القسم من هذه املقالة ال ينبغي غض النظر عن مالحظة نقد َّية لفكر‬
‫يرى يف كتابه رسالة يف اإلنسانو َّية َّ‬
‫أن‬ ‫هايدغر‪ ،‬وهي أ َّننا ال نعلم كيف يمكن ِّلايدغر الذي ى‬
‫يرى‬
‫تقسيم التفكري إ ىل نظري وعميل هو أساس انحطاط الفكر األصيل‪ ،‬كيف يمكن ملن ى‬
‫عل‬ ‫هذا الرأي ْ‬
‫أن يعود إ ىل الفكر األصيل الذي ُيلم به من خالل احلكم بتقدم العمل ى‬
‫النظر؟ َأال يبتني هذا التقديم ى‬
‫عل ذاك التقسيم؟! فهل يمكن فتح ُط ُرق جديدة يف الفكر‬
‫عل نتائجه؟ وهل يصح دعوة اآلخرين إ ىل معرفة‬
‫عى‪ ،‬أو ى‬
‫عل منشإ االنحطاط املدَّ ى‬
‫باالعتامد ى‬
‫عل ضوء العمل واملامرسة؟‬
‫احلقيقة وانكشافها ى‬

‫* * *‬
‫العالقة بني النظر والعمل ❖ ‪93‬‬

‫املصادر‪:‬‬
‫اسميث‪ ،‬كركوري بروس‪ ،1380 ،‬نيچه‪ ،‬هيدگر‪ ،‬وگذار به پسامدرنيته‪ ،‬الرتمجة الفارسيَّة ّ‬
‫عيل رضا سيهد أمحديان‪،‬‬
‫آبادان‪ ،‬به نرش پرسش‪.‬‬
‫شريازي‪ ،‬صدر الده ين‪ ،1981 ،‬احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العرب‪ ،‬ج ‪.9‬‬
‫‪ ،------------‬الشواهد الربوبي َّة‪ ،‬مقدّ مة وتصحيح س هيد جالل الده ين آشتياين‪ ،‬قم‪ ،‬بوستان كتاب‪ ،‬قم‪.‬‬
‫‪ ،------------‬تفسري قرآن كريم‪ ،1364 ،‬تصحيح ّ‬
‫حممد خواجوئي‪ ،‬قم‪ ،‬انتشارات بيدار‪ ،‬ج ‪ 2‬و‪.3‬‬
‫‪Heidgger, M. (1990), Being and Time, trans, J. Macquarrie and E. Robinson,‬‬
‫‪Blackwell, Oxfard.‬‬
‫‪Heidegger, M. (1977), ‘Letter on Humanism’, in Basic writings, pp189 - 243.‬‬
‫‪Heidegger, M. (1977), Basic Writings. Ed. Davis Farrell krell, trans. Frank‬‬
‫‪A.Capuzzi, with J.Glenn Gray and David Farrell Krell. New york:Harper and Row.‬‬
‫‪Macann, CHR (ed) (1992), Martin Heidegger, critical Assessments, 4Vols, 1.‬‬
‫‪Routledge London and New York.‬‬

‫* * *‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل (املُبتذل)‬
‫يف األنطولوجيا األساسيَّة هلايدغر وفشله يف جتاوزالفهم امليتافيزيقي‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫رضا دهقانی‬
‫(‪)3‬‬
‫محيد رضا آية اللهي‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫معنى للوجود من خالل حتليله‬
‫ى‬ ‫سعى هايدغر يف كتاب الوجود والزمان إ ىل تقديم‬
‫ى‬ ‫لقد‬
‫املعنى‬
‫ى‬ ‫األول من الكتاب «القلق» بعنوانه‬ ‫الوجودي لزمان َّية الـ دازين‪ ،‬فطرح يف القسم َّ‬
‫سعى يف القسم‬
‫ى‬ ‫الوجودي للـ دازين‪ ،‬وعرض ُبنيته الثالث َّية الوجوه امل ُتك هثرة واملتجزه ئه‪ ،‬وقد‬
‫الثاين من خالل طرحه ملسألة الزمان َّية إ ىل عرض الزمان َّية كأساس لوحدة هذه ال ُبنية املتك هثرة‬
‫ُيربز املعن ىى الوجودي للـ دازين‪ ،‬ومنشأ حتليل هايدغر هو تقسيم وجود الـ دازين إ ىل أصيل‬
‫يرى‬
‫ثم ى‬‫وغري أصيل‪ ،‬وهو يذهب يف الزمان َّية كذلك إ ىل حتليلها إ ىل زمان َّية أصيلة وغري أصيلة‪ّ ،‬‬
‫بأن املفهوم امليتافيزيقي للزمان عبار ٌة عن توال لآلنات املتامثلة واملس َّطحة‪،‬‬
‫هايدغر فيام بعد َّ‬
‫أساس موجو ٌد يف الزمان َّية غري األصيلة‪ ،‬وهذه‬
‫ٌ‬ ‫وهو مفهو ٌم غري أصيل ( ُمبتذل)‪ ،‬ويعترب أ َّنه‬
‫أن مساعي هايدغر يف جتاوز الفهم امليتافيزيقي مل تكن مو َّفقة؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫املقالة هي بصدد بيان َّ‬
‫عل رغبة الـ دازين يف جتاوز عدم األصالة نحو األصالة‪ ،‬كام أ َّنه يقع يف‬
‫حتليله هو اآلخر مبني ى‬
‫دائرة أصالة فاعل املعرفة (املذهب الذات)‪ ،‬ويقع بتبعه يف دائرة امليتافيزيقيا‪ ،‬ويف النهاية سوف‬

‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬دهقاين‪ ،‬رضا‪ ،‬آيةاللهی‪ ،‬محيدرضا‪« ،‬بررسی مفهوم زمان نااصيل (مبتذل) در هستی شناسی بنيادين‬
‫هايدگر و ناكامی وی در فراروی از فهم مابعدالطبيعی»‪،‬پژوهشهای هستی شناختی‪ =[ ،‬بحوث يف الفلسفة‬
‫الوجود َّية]‪ ،‬فصلي َّتان علمي َّتان وبحثي َّتان‪ ،‬السنة الرابعة‪ ،‬رقم ‪ ،7‬ربيع وصيف ‪1394‬ش‪ ،‬الصفحات ‪.21 - 1‬‬
‫(‪ُ )2‬أستاذ فلسفة مقارن‪ ،‬جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪.‬‬
‫(‪ُ )3‬أستاذ فلسفة‪ ،‬جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪.‬‬
‫‪ ❖ 96‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ُن هبني َّ‬


‫أن اختزال طرح الوجود والزمان بإرادة ورغبة الـ دازين(‪ )1‬هو السبب الرئييس لفشل‬
‫كتاب الوجود والزمان‪ ،‬وفشل طرح الدَ َوران يف فكر هايدغر‪.‬‬

‫مقدّمة‪:‬‬
‫يع َترب هايدغر من أشهر الفالسفة وأكثرهم احرتاما يف القرن العرشين(‪ ،)2‬ومنذ ْ ِ‬
‫رش كتاب‬
‫أن ُن َ‬ ‫ُ‬
‫الوجود والزمان(‪1927( )3‬م) أصبح العديد من املعارصين متأ هثرين هبذا الكتاب(‪ ،)4‬وهدف‬
‫هايدغر يف هذا الكتاب هو عرض الزمان بمثابة ُأفق لفهم الوجود ى‬
‫عل أساس الزمان َّية‬
‫إن الزمان َّية ُمت هثل ُأفقا‪ ،‬وهي هنا عبار ٌة عن رشط إلمكان فهم‬
‫بعنواّنا وجود الـ دازين(‪َّ ،)5‬‬
‫الوجود‪ ،‬فاملسألة الرئيس َّية ليست هي الزمان‪ ،‬بل زمان َّية(‪ )6‬الـ دازين(‪ ،)7‬ومصطلح هايدغر‬
‫الذي استعمله للزمان َّية هو ‪ ،Zeitlichkeit‬لكنَّه استعمل أيضا كلمة ‪ Temporalität‬يف‬
‫عل أساس الوجود‪ ،‬بل َّ‬
‫إن هذا الوجود هو‬ ‫خرى ‪ ،‬وهذا الزمان ال ُيمكن إدراكه ى‬ ‫مواضع ُأ ى‬
‫(‪)8‬‬

‫(‪ )1‬جتدر اإلشارة إ ىل َّ‬


‫أن كلمة (الـ دازين ‪ ،)Dasein‬وهي كلمة أملانيَّة‪ ،‬وقد ن ََحت هايدغر هذا املصطلح لنظر َّيته‪ ،‬وهو‬
‫عل عالقة باملوجود‪ ،‬ويتميَّز عن سائر املخلوقات بفهم هذا الوجود‬
‫يبقى دائام ى‬
‫يعني به الوجود اإلنساين الذي ى‬
‫ِ‬
‫عل عدم نحت مصطلح مقابل‪ ،‬بل استخدام نفس كلمة (دازين)‪ ،‬وهذا األمر‬ ‫املعربون ى‬
‫والسؤال عنه‪ ،‬وقد درج ه‬
‫مشاهدٌ كذلك يف ال ُك ُتب واملقاالت الفلسفيَّة الفارسيَّة أيضا‪ ،‬فآثرنا اإلبقاء عليه هكذا‪ ،‬توحيدا للمصطلح بني أهل‬
‫الف هن‪( .‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪(2) Inwood, Michael, (2004), Heidegger, David Bernfeld (Übers.), Wien, Herder.p. 8.‬‬
‫‪(3) Sein und Zeit.‬‬
‫‪(4) Reijen, Willem van, (2009), Martin Heidegger, Wien, UTB. P. 8.‬‬
‫(‪ . SuZ7 )5‬املراد من ‪ SuZ‬يف اإلرجاعات‪ ،‬هو كتاب‪ :‬الوجود والزمان‪ ،‬وقد استخدمت هذه املقالة الطبعة التالية‪:‬‬
‫‪Heidegger, Martin (1967), Elfte Unveränderte Auflage. Sein und Zeit. Max Niemeyer‬‬
‫‪Verlag: Tübingen. P. 8.‬‬
‫[وجتدر اإلشارة إ ىل أ َّننا رأينا َّ‬
‫أن البعض ترجم الكتاب إ ىل اسم (الكينونة والزمان)‪ ،‬ولكن مقصودهم من الكينونة‬
‫عل غريه]‪( .‬املرتجم)‪.‬‬ ‫ليس َّإال الوجود‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن هذا املصطلح هو الشائع بني أهل التخصص‪ ،‬لذا فقد آثارناه ى‬
‫(‪ )6‬أي كونه مق َّيدا بالزمان‪( .‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪(7) Chin, Chin - Chien, (2014(, Zeit verstehen, Würzburg, Königshausen & Neumann. P. 83.‬‬
‫‪(8) Heidegger, Martin, (1997a), Ibid. P. 388.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪97‬‬

‫عل أساس الزمان‪ ،‬وهذا األمر ُيعاكس متاما ه‬


‫االجتاه الغالب يف الفلسفة ويف‬ ‫درك بناء ى‬
‫الذي ُي َ‬
‫امليتافيزيقيا‪.‬‬
‫لقد كان سؤال الفلسفة ح َّت ىى اآلن يف باب املوجود بام هو موجود‪ ،‬ولكن قبل ذلك جيب‬
‫طرح هذا السؤال‪ :‬نحن كيف ُند ِرك الوجود؟ ومن أين(‪)1‬؟ وبتعبري كتاب الوجود والزمان‪:‬‬
‫ما هو اليشء الذي ُيمكِن للـ دازين أن يفهم عىل أساسه الوجود أو التعبري عنه‬
‫ضمني وغري رصيحٍ ؟(‪.)2‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬
‫عل هذا السؤال هو الزمان َّية‪.‬‬
‫اجلواب ى‬
‫بأّنا تعني‬ ‫بأّنا بذ َل ْت جهدا كي ُت ه‬
‫فِّس لنا احلقيقة َّ‬ ‫كل السنَّة الفلسف َّية َّ‬ ‫وي َّتهم (هايدغر) َّ‬
‫عل أ َّنه ُأ مور خالدة وال تقبل التغيري‪ ،‬ويف هذا اإلطار‬
‫فهم الوجود ى‬ ‫عل هذا ُي َ‬
‫احلقيقة‪ ،‬وبناء ى‬
‫لكن هايدغر ُيريد ْ‬
‫أن يضع‬ ‫اإلنسان يف نسبته إ ىل اخللود ‪َّ ،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫َ‬ ‫بشكل عام تَفهم السنَّ ُة الفلسف َّي ُة‬
‫درك احلقيقة والوجود يف ُأفق أمر‬‫هذا املرياث األفالطوين جانبا ‪ ،‬ففي السنَّة امليتافيزيق َّية مل ُت َ‬
‫(‪)4‬‬

‫زماين؛ ولذا كان ِّلذه املسألة نتيجتان‪:‬‬


‫ِ‬
‫يس‪ ،‬واألسوء‬
‫طرح السؤال عن الوجود واحلقيقة بنحو صحيح‪ ،‬بل ح َّت ىى إ َّنه ُن َ‬ ‫َّأوالً‪ :‬مل ُي َ‬
‫من ذلك هو أ َّننا نسينا هذا النسيان(‪.)5‬‬
‫وثاني ًا‪ :‬بسبب أ َّننا ال نعرف الوجود يف ُأفق الزمان‪ ،‬بل بمثابة أمر خالد ال يقبل التغيري‪،‬‬
‫لكن هايدغر ُيريد ْ‬
‫أن جيعل مفاهيم الوجود واحلقيقة‬ ‫أصبحت معرفتنا جا َّفة وجامدة أيضا‪َّ ،‬‬
‫والفكر يف حال من احلركة(‪.)6‬‬

‫‪(1) Heidegger, Martin, (1973), Kant und das Problem der Metaphysik (GA. 3), F.-W. von‬‬
‫‪Herrmann(Hrsg.), Frankfurt am Main,Vittorio Klosstermann. P. 218.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 17.‬‬
‫‪(3) Streubel, Thorsten, (2006), Das Wesen der Zeit. Zeit und Beweußtsein bei Augustinus,‬‬
‫‪Kant und Husserl, Würtzburg, Königshausen & Neumann. P. 10f.‬‬
‫‪(4) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 7.‬‬
‫‪(5) Safranski, Rüdiger, (2013), Ein Meister aus Deutschland. Heidegger und seine Zeit,‬‬
‫‪München, Fischer Taschenbuc. P. 172.‬‬
‫‪(6) Reijen, Willem van, (2009), Martin Heidegger, Wien, UTB. P. 8.‬‬
‫‪ ❖ 98‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫إن دائرة النقاش يف هذه املقالة حمدود ٌة بالوجود والزمان واملرحلة املتقده مة من التفكري‪،‬‬
‫األول من كتاب‬
‫حيث سنبدأ يف هذه املقالة بتحليل متهيدي ل ُبنية وجود الـ دازين طبقا للقسم َّ‬
‫معنى وجود الـ دازين‪ ،‬وسنقوم بعرض بنيته‬
‫ى‬ ‫الوجود والزمان‪ ،‬وسوف نطرح القلق بعنوانه‬
‫معنى القلق‪ ،‬وكأساس لوحدة بنيته‬
‫ى‬ ‫املتنوعة واملتك هثرة‪ ،‬وبعد ذلك سنعرض الزمان َّية بعنواّنا‬
‫ه‬
‫املتنوعة وك ّل َّيته‪ ،‬وهذا التعريف سيقوم ى‬
‫عل أساس تقسيم الزمان َّية إ ىل أصيلة وغري أصيلة‪،‬‬ ‫ه‬
‫مبنى‬
‫عل ى‬ ‫ولكنَّنا سنقوم يف القسم الرابع بتعريف مفهوم الزمان العاملي يف فكر هايدغر بناء ى‬
‫الزمان َّية غري األصيلة‪ ،‬وبعد ذلك سنطرح مفهوم الزمان غري األصيل (املبتذل) بعنوانه زمانا‬
‫مبنى الزمان َّية غري األصيلة‪ ،‬وسنعرض نقد هايدغر للسنَّة‬ ‫ى‬ ‫عل‬
‫تم تسطيحه بناء ى‬ ‫عامل ًّيا َّ‬
‫امليتافيزيق َّية‪ ،‬وبعد ذلك سنقوم بدراسة نقد َّية لنقد هايدغر للسنَّة امليتافيزيق َّية‪ ،‬وسنُ هبني هناك‬
‫أن خيرج‬ ‫أن هايدغر كان بصدد جتاوز الذات َّية (أصالة املوضوع) ولكنَّه هو بنفسه مل يستطع ْ‬ ‫َّ‬
‫عنها‪ ،‬وهذا هو السبب الرئييس لفشل الوجود والزمان والدوران يف فكر هايدغر‪.‬‬

‫التحليل األساسي التمهيدي للـ دازين(‪:)1‬‬


‫لحظ الـ دازين كواقع َّية‪ ،‬فالـ دازين يرتبط‬
‫يف فلسفة هايدغر التي ُتقابل الفلسفة املدرس َّية ُي َ‬
‫بوجود اإلنسان وحمدو ٌد به‪ ،‬طبعا وجود اإلنسان من تلك اجلهة ومن حيث إ َّنه يمتلك فهام‬
‫عرف هايدغر‬ ‫للوجود‪ ،‬يعني‪ :‬أ َّنه هو بنفسه يفهم وجود نفسه وكونه «هناك » ‪ ،‬و ُي ه‬
‫(‪)3( )2‬‬

‫عل السؤال ولديه إمكان َّية‬ ‫الـ دازين كموجود مثلام أ َّننا موجودون‪ ،‬وكموجود يمتلك القدرة ى‬
‫سميه يف ساحة الطبيعة باسم‬ ‫ّ‬
‫األقل كل ما ُن ّ‬ ‫عل‬
‫السؤال عن الوجود ‪ ،‬ومجيع األشياء‪ ،‬أو ى‬
‫(‪)4‬‬

‫املوجود‪ ،‬فجميع هذه األشياء جواهر طبيع َّية وزمان َّية‪ ،‬ولكن اإلنسان لوحده يمتلك اختالفا‬
‫ملبنى زمان َّيته‪ ،‬والـ دازين بسبب‬
‫سبق للوجود‪ ،‬وهو يعمل طبقا ى‬
‫فهم ُم ٌ‬ ‫عن البق َّية‪َّ ،‬‬
‫إن لإلنسان ٌ‬

‫‪(1) Dasein‬‬

‫‪(2) Da‬‬

‫‪(3) Müller, Marx & Hadler, Alois, (1965), Herders Kleines Philosophisches Wörterbuch,‬‬

‫‪Freiburg im Breisgau, Herder. P. 40.‬‬


‫‪(4) Heidegger, Martin(1967),Ibid. P. 7.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪99‬‬

‫عل أساس‬
‫ويترصف ى‬
‫َّ‬ ‫فهمه املُسبق للوجود َف َص َل نفسه عن باقي املوجودات‪ ،‬وهو يتعا ىل‬
‫أن يصدر َّإال من كينونة ومعرفة وتأمل واحد‪ ،‬بحيث‬
‫زمان َّيته يف عامل‪ ،‬وهذا التعال ال ُيمكن ْ‬
‫خاصة مع نفسه‪ ،‬ويتأ َّمل يف نفسه‪َّ ،‬‬
‫إن الـ دازين هو عبار ٌة عن موجود يمتلك يف‬ ‫يمتلك نسبة َّ‬
‫هم وجود نفسه‪ ،‬وبالتال فاملوضوع املحوري لكتاب الوجود والزمان هو حتليل‬ ‫نفسه َّ‬
‫عل َّأّنا هرمونطيقيا‬
‫الـ دازين ‪ُ ،‬يمكن تعريف فكرة هايدغر يف كتاب الوجود والزمان ى‬
‫(‪)2()1‬‬

‫فينومينولوج َّية وجود َّية(‪.)3‬‬


‫يعيش الـ دازين يف العامل يف حالة من الفهم‪ ،‬ولكنَّه ليس أمرا منزويا يف العامل‪ ،‬وأساسا هو‬
‫مع اآلخر(‪ ،)4‬وصفته هذه بأ َّنه مع آخر بالطبع ليست أمرا أنطيق ًّيا(‪ )5‬أو مق َّيدا بالكينونة؛ يعني‪:‬‬
‫معنى وجود َّية هذا احلكم هي َّ‬
‫أن أ ًّيا‬ ‫ى‬ ‫ليس حكام أو خصوص َّية يمتلكها باقي الناس أيضا‪َّ ،‬‬
‫إن‬
‫من الـ دازين ال ُيمكنه ْ‬
‫أن ُيف هكر منفردا بدون اآلخر‪ ،‬و ُي ّ‬
‫سمي هايدغر عالقتنا بأشياء العامل‬
‫بأّنا‬
‫عرف العالقة مع اآلخرين َّ‬
‫سميها (انشغال القلب) ‪ ،‬و ُي ه‬
‫(‪)6‬‬
‫األعم من املساعدة والتوقع‪ُ ،‬ي ّ‬
‫ّ‬
‫عرف الـ دازين بعنوانه قلقا(‪.)9()8‬‬
‫رعاية ‪ ،‬و ُي ه‬
‫(‪)7‬‬

‫معنى كينونة الـ دايزن هي القلق‪ ،‬وللقلق ثالثة أركان‪،‬‬


‫ى‬ ‫بمعنى ّ‬
‫أدق‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن طريق الكينونة أو‬
‫سعى هايدغر إ ىل تفسري البنية الثالث َّية الوجوه للقلق‪ ،‬فالـ دازين يف وجوده يمتلك يف ه‬
‫كل‬ ‫وقد ى‬

‫‪(1) Daseinsanalyse‬‬
‫‪(2) Tugendhat, Ernst, (2001a), Heidegger und Bergson über die Zeit. In Aufsätze (1992 -‬‬

‫‪2000), Frankfurt am Main, Suhrkampf, S. 11- 26. P. 185.‬‬


‫)‪(3‬‬ ‫‪Heidegger,‬‬ ‫‪Martin,‬‬ ‫‪(2005),‬‬ ‫‪Phänomenologische‬‬ ‫‪Interpretation‬‬ ‫‪ausgewälter‬‬
‫‪Abhandlungen des Aristoteles zu Ontologie und Logik. G. Neumann (Hrsg.), Frankfurt‬‬
‫‪am Main, Vittorio Klostermann. P. 364.‬‬
‫‪(4) Wesenhaft Mitsein‬‬
‫‪(5) Ontic‬‬
‫‪(6) Besorgen‬‬
‫‪(7) Fürsorge‬‬
‫‪(8) Sorge‬‬
‫‪(9) Heidegger, Martin (1967) ,Ibid . P. 121.‬‬
‫‪ ❖ 100‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل الدوام ْ‬
‫أن‬ ‫عل الدوام ًّ‬
‫كال من‪« :‬املا قبل ‪ -‬النفس ‪ -‬الوجود» ‪ ،‬وبإمكان الـ دازين ى‬
‫(‪)1‬‬
‫حالة ى‬
‫سمي هايدغر هذه البنية الوجود َّية «املا قبل ‪ -‬النفس ‪-‬‬
‫يذهب أبعد من كينونة قدرته‪ ،‬و ُي ّ‬
‫سمي هايدغر «املا قبل ‪ -‬النفس ‪ -‬الكينونة» الذين ُيمكن فهمهم يف ذلك‬
‫الكينونة» ‪ ،‬و ُي ّ‬
‫(‪)2‬‬

‫األول للقلق‪،‬‬
‫الـ دازين الذي للوجود نفسه بعنواّنم إمكانا‪ :‬وجودا ‪ ،‬وهذا هو الركن َّ‬
‫(‪)4()3‬‬

‫وبسبب هذا القلق ُيصبح الـ دازين يف حالة من الفهم(‪ )5‬للعامل‪ ،‬ومراد هايدغر من هذا‬
‫املُصطلح هو وجود الـ دازين ‪ ،‬ومن جهة ُأ ى‬
‫خرى فإ َّن للـ دازين يف كينونة نفسه ى‬
‫عل‬ ‫(‪)6‬‬

‫تول هذا التقدم لكينونة الـ دازين أو‬ ‫الدوام تقدما ‪ -‬كينونة ‪ -‬كونا يف العامل ‪ ،‬وجيب أ ْن ُي ّ ى‬
‫(‪)7‬‬

‫ِ‬
‫سمي‬ ‫مرر‪ ،‬لقد ُجع َل وجودنا وديعة لدينا‪ ،‬وال بدَّ أ ْن ُي ّ ى‬
‫تول أمره‪ ،‬و ُي ه‬ ‫تحمل ومن َث َّم ُي ه‬
‫أ ْن ُي َّ‬
‫هايدغر هذا الوجود املودع‪ :‬الواقع َّية(‪ ،)8‬وهو ُيش هك ل الركن الثاين للقلق‪ ،‬والـ دازين ُمق َّيدٌ‬
‫عل الدوام(‪ ،)10‬ولكن كينونة الـ دازين مضافا إ ىل هذا‪ ،‬دائام ما تكون بنحو‬
‫ى‬
‫( ‪)9‬‬
‫بسببه باحلال‬
‫ٌ‬
‫مرتبط‬ ‫تظهر فيه وتبدو مع انشغال قلب بالكينونات املوجودة يف داخل العامل‪ ،‬والـ دازين‬
‫(‪)11‬‬
‫هبذا االنشغال للقلب؛ إ َّن الدازين متقده ٌم دائام بنحو يظه ر يف العامل املشرتك مع اآلخرين‬
‫ومع العامل املحيط(‪ ،)13()12‬وهذه املاقبل نفسها تكون بعنواّنا وجودا(‪ )14‬للكينونة السابقة ‪-‬‬

‫‪(1) Sich-Vorweg-Sein.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin (1967) ,Ibid . P. 192.‬‬
‫‪(3) Existenz‬‬
‫‪(4) Existencep‬‬
‫‪(5) Verstehen‬‬
‫‪(6) Tugendhat, Ernst, (2001b), Ibid. P. 187.‬‬
‫‪(7) Schon-Sein-in Einer Welt.‬‬
‫‪(8) Faktizität‬‬
‫‪(9) Gestimmt-Sein‬‬
‫‪(10) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 340.‬‬
‫‪(11) Mitwelt‬‬
‫‪(12) Umwelt‬‬
‫‪(13) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 14.‬‬
‫‪(14) Existence‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪101‬‬

‫وعل الدوام هناك كينونة ‪ -‬عند (الكينونة التي يف داخل‬ ‫ى‬ ‫يف العامل(‪ )1‬بعنواّنا وجود َّية‪،‬‬
‫العامل)(‪ ،)2‬وهي نفس الركن الثالث للـ دازين‪ ،‬وغالبا ما يكون الـ دازين (وبالطبع ليس دائام)‬
‫عل التحليل السابق ُيمكِن بيان‬
‫بنحو ما غري أصيل يف إمكاناته بسبب العامل املشرتك ‪ ،‬وبناء ى‬
‫(‪)3‬‬

‫القلق بالنحو التال‪:‬‬


‫املا قبل ‪ -‬النفس ‪ -‬الكينونة يف ‪ -‬العامل يف مقام الكينونة ‪ -‬املالقاة عند الكينونة‬
‫التي هي داخل العامل(‪.)5()4‬‬
‫سمي هايدغر البيان الفلسفي الوجودي(‪ )6‬ل ُبنية الـ دازين التا َّمة هذه‪« :‬القلق»‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫و ُي ّ‬
‫عل الدوام بنحو يكون فيه منشغل القلب باألشياء وبقلق آخر يتع َّلق‬
‫وجود الـ دازين هو ى‬
‫باآلخرين‪ ،‬وهذا األمر موجو ٌد يف مجيع التغيريات واحلاالت‪ ،‬فح َّت ىى انعدام القلق(‪ )7‬هو ٌ‬
‫حالة‬
‫هم يشء دائام(‪.)8‬‬
‫ووج ٌه من أوجه القلق‪ ،‬فح َّت ىى بدون القلق يمتلك الـ دازين َّ‬
‫تم توضيحه فيام يتع َّلق بـ دازين هايدغر‪ُ ،‬يشري إ ىل التعدد‬ ‫َّ‬
‫إن التحليل الوجودي الذي َّ‬
‫يرى َّ‬
‫بأن الـ دازين يمتلك منذ السابق وحدة‬ ‫ولكن هايدغر ى‬
‫َّ‬ ‫والتنوع يف بنية كينونة الـ دازين‪،‬‬
‫يسعى الـ دازين إ ىل ْ‬
‫أن يعاود‬ ‫ى‬ ‫ومتام َّية وك ّل َّية‪ ،‬وهو يفقد هذه الك ّل َّية يف حلظة واحدة‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫اكتساب هذه الوحدة والتامم َّية(‪ ،)9‬والسؤال األسايس هنا هو أ َّنه إذا كانت بنية كينونة‬

‫‪(1) Schon-Sein -in Einer Welt.‬‬

‫‪(2) Sein-Bei (Innerweltlich Seiendem).‬‬


‫‪(3) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Die Philosophie Martin Heideggers; Eine‬‬
‫& ‪Einfühung in Sein Denken, Bernd Heimbüchel (Hrsg), Würzburg, Königshausen‬‬
‫‪Neumann. P. 58.‬‬
‫‪(4) Sich - Vorweg - Schon - Sein - in (Einer WELT) Als Sein - Bei (Innerweltlich‬‬
‫‪Begegnendem Seienden).‬‬
‫‪(5) Martin ,Heidegger (1967), Ibid. P. 192.‬‬
‫‪(6) Existential‬‬
‫‪(7) Sorglossigkeit‬‬
‫‪(8) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Ibid. P. 59.‬‬
‫‪(9) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 60.‬‬
‫‪ ❖ 102‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املتنوعة واملتك هثرة‪ ،‬فكيف ُيمكِن ِّلذه ال ُبنية ْ‬


‫أن تكون يف وحدة؟‬ ‫كل هذه األُمور ه‬
‫الـ دازين هي َّ‬
‫يذهب هايدغر من هذه املسألة إ ىل مسألة الزمان َّية(‪ ،)1‬ويف البند ‪ 65‬من كتاب الوجود والزمان‬
‫أن خيدم هذا التأمل آخر متهيد إلدراك ظاهرة الك ّل َّية ه‬
‫لكل ُبنية‬ ‫يقول هايدغر‪ :‬جيب ْ‬
‫أن يبني ك ّل َّية مجيع ال ُبنية َّ‬
‫املقسمة‬ ‫الـ دازين(‪ ،)2‬ولذلك يسأل‪« :‬ما هو اليشء الذي ُيمكن ْ‬
‫عل هذا السؤال يف نفس البند ‪65‬؛‬ ‫(التفاصيل) للقلق يف وحدة تقسيمها؟» ‪ُ ،‬جييب هايدغر ى‬
‫(‪)3‬‬

‫إن اليشء الذي ُيفظ هذا الـ دازين يف الك ّل َّية هو نفس الزمان َّية؛ «الوحدة األُو ىل لبنية القلق‬
‫َّ‬
‫ثم يقول فيام بعد‪« :‬الزمان َّية ُيمكن ِّلا ْ‬
‫أن تبني وحدة الوجود والواقع َّية‬ ‫عل الزمان َّية» ‪ّ .‬‬
‫(‪)4‬‬
‫تبتني ى‬
‫قوم َّأول ك ّل َّية ل ُبنية القلق»(‪،)5‬‬ ‫والسقوط (األركان الثالثة للقلق)‪ ،‬وبنحو ما ُيمكنها ْ‬
‫أن ُت ه‬
‫أن يكون وجود الـ دازين‬ ‫املعنى األنطلوجيا القلق‪ ،‬ولذلك جيب ْ‬
‫ى‬ ‫وبرأي هايدغر الزمان َّية هي‬
‫ممكنا بواسطة الزمان َّية‪ ،‬وبيان الزمان َّية كرشط َّأول إلمكان القلق ُيم هثل رشطا لتفسري َّأول َّية‬
‫الـ دازين(‪ ،)6‬ويدَّ عي هايدغر َّ‬
‫بأن الزمان َّية تعني القلق‪ ،‬وبالتال هي تعني وجود الـ دازين‪،‬‬
‫وبالطبع ال تعني الوجود بشكل ّ‬
‫كيل(‪.)7‬‬

‫الزمانيَّة والـ دازين‪:‬‬


‫كمعنى للقلق يف ه‬
‫ظل ثالثة‬ ‫ى‬ ‫يبحث القسم الثاين من كتاب الوجود والزمان عن الزمان َّية‬
‫معنى اخلروج عن الذات؟ ‪ Ekstatiko‬تعني‬ ‫ى‬ ‫خروجات عن ذات(‪ )8‬الزمان(‪ ،)9‬ولكن ما‬

‫‪(1) Chin, Chin - Chien, (2014(, Zeit verstehen, Würzburg, Königshausen & Neumann. P. 79.‬‬

‫‪(2) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 323.‬‬

‫‪(3) Ibid: 324.‬‬

‫‪(4) Ibid: 327.‬‬


‫‪(5) Ibid: 328.‬‬
‫‪(6) Ibid: 372.‬‬
‫‪(7) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Ibid. P. 61.‬‬
‫‪(8) Extase‬‬
‫‪(9) Thomä, Dieter, (1990), Die Zeit des Selbst und die Zeit danach. zur Kritik der‬‬
‫‪Textgeschichte Martin Heideggers (1910 - 1976), Frankfurt am Main, Suhrkampf. P. 283.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪103‬‬

‫عل االنفصال عن يشء واالبتعاد عنه‪ ،‬ويف باب صور الزمان ُيمكن يف الواقع القول‬
‫القدرة ى‬
‫بأ َّنه كل واحد منها يف نفس الوقت تقوم بتجاوز نفسها وتعود إ ىل صور ُأ ى‬
‫خرى من الزمان‪،‬‬
‫وال يوجد أحدٌ منها بدون اآلخر(‪ ،)1‬ويقول هايدغر‪:‬‬
‫ُسمي الظواهر املستقبل َّية(‪ ،)2‬الكائنة(‪ )3‬واحلال َّية واحلارضة(‪ )4‬خارج ًة عن ذات‬
‫إ َّننا ن ي‬
‫الزمان َّية(‪.)5‬‬
‫وقد استعمل هايدغر كلمة الكائن بدال من كلمة املايض(‪ ،)6‬فالكائن صفة للـ دازين‪ ،‬يف‬
‫أن املايض صفة للزمان‪ ،‬وهو يتع َّلق باألحداث التي ُي َ‬
‫بحث عنها بشكل جمزَّ أ(‪ ،)7‬وهنا‬ ‫حني َّ‬
‫خروج عن الذات يف ه‬
‫كل واحد من أركان القلق‪.‬‬
‫مثال يف املزاج(‪ )8‬هناك تقد ٌم للكائن‪ ،‬وبالتال جيب ْ‬
‫أن تكون مجيع األمزجة زمان َّية بنحو‬
‫َّأول يف الكون املايض(‪.)9‬‬
‫ويف التحليل الثالثي األوجه الذي ُقده م للقلق‪ ،‬متتلك الوجوه الثالثة خصوص َّية واحدة‬
‫وهي تشري إ ىل أ َّن الـ دازين يف حال حركة نحو يشء خارج نفسه أو غري نفسه املحدَّ دة‪،‬‬
‫جمرد «غري ‪ -‬النفس»(‪ ،)10‬فإ َّن‬
‫وطبعا هذه املغايرة للنفس ليست موجودة يف نفسها‪ ،‬بل هي َّ‬
‫ًّ‬
‫كال من «املاقبل ‪ -‬النفس ‪ -‬الكينونة»‪« ،‬التقدم ‪ -‬الكينونة» و«الكينونة ‪ -‬إ ىل جانب» ُتشري‬
‫إ ىل أمر خارج عن الـ دازين(‪ ، )11‬ولكن اللواحق الثالثة «املاقبل» و«التقدم» و«الـ إ ىل‬

‫‪(1) Figal, Günter, (2000), Heidegger. Zur Einführung, Hamburg, Junius. P. 87.‬‬
‫‪(2) Zukunft‬‬
‫‪(3) Gewesenheit‬‬
‫‪(4) Gegenwart‬‬
‫‪(5) Heidegger, Martin (1967) ,Ibid. P. 329.‬‬
‫‪(6) Vergangenheit‬‬
‫‪(7) Figal, Günter, (2000), Ibid. P. 85.‬‬
‫‪(8) Befindlichkeit‬‬
‫‪(9) Thomä, Dieter, (1990), Ibid. P. 290f.‬‬
‫‪(10) Außer - Sich.‬‬
‫‪(11) Marjanovic, Teodor, (1996), Der Zeitbegriff in Martin Heideggers Weken, Sein und Zeit‬‬
‫‪und Zeit und Sein, Helmut Vetter (Betreuer) Diplomarbeit, Universität Wien. P. 25.‬‬
‫‪ ❖ 104‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أول موطنني) أو بشكل غري مبارش‬


‫جانب‪ »...‬ارتبطت مجيعها بالزمان بشكل مبارش (يف َّ‬
‫(يف املوطن األخري) وِّلا وج ٌه زماين‪ ،‬وهذه النقطة هي اجلِّس الرابط بني الزمانيَّة وبني ُبنية‬
‫القلق‪ ،‬وببيان أد ّق‪ :‬هي اجلِّس الرابط بني القسم َّ‬
‫األو ل وبني القسم الثاين من الوجود‬
‫والزمان(‪.)1‬‬
‫بأن هايدغر يعتقد بثالثة أنواع من الزمان َّية‪ :‬األُو ىل‪،‬‬‫كل يشء جيب التنبيه َّ‬‫َّأوال وقبل ه‬
‫واألصيلة‪ ،‬وغري األصيلة‪ ،‬وليس للزمان َّية األُو ىل عالقة مبارشة مع موضوع املقالة احلال َّية؛‬
‫نتعرض ِّلا بالبحث يف باهبا‪ ،‬ولكن هايدغر يعتقد يف باب املفهومني اآلخرين تبعا‬
‫ولذا لن َّ‬
‫األول من الوجود والزمان‪ ،‬وتبعا للتحليل الذي قدَّ مه فيام يتع َّلق بالكينونة َّ‬
‫بأن‬ ‫للقسم َّ‬
‫أن يكون أصيال أو غري أصيل‪ ،‬وللوهلة األُو ىل ويف الغالب يوجد‬ ‫الـ دازين يف كينونته إ َّما ْ‬
‫بنحو غري أصيل‪ ،‬ويف هذا العامل يعني الوجود إ ىل جانب املوجودات املتالقية ما ييل‪َّ :‬‬
‫«إن‬
‫عل الدوام‬
‫املعنى ى‬
‫ى‬ ‫عل الدوام مسبقا يف العامل الذي ينشغل قلبه به» وهبذا‬
‫جمذوب ى‬
‫ٌ‬ ‫الـ دازين‬
‫نفسه يف العامل الذي لديه انشغال‬
‫كان سقوط الـ دازين منذ السابق ‪ ،‬لقد خِّس الـ دازين َ‬
‫(‪)2‬‬

‫مرة ُأ ى‬
‫خرى نفسه‬ ‫أن يسرتجع َّ‬‫«ألي شخص»(‪ ،)3‬و ُيمكن للـ دازين ْ‬
‫ه‬ ‫قلب به‪ ،‬وأصبح جمذوبا‬
‫التي فقدها بالعزم واإلرادة(‪ ،)4‬لقد كان الـ دازين قبل هذه االستعادة غري أصيل‪ ،‬وأصبح‬
‫أي شخص ويضيع ْ‬
‫أن ُيستعاد من هذا‬ ‫عل الـ دازين الذي يسقط يف ه‬
‫أصيال بعدها ‪ ،‬جيب ى‬
‫(‪)5‬‬

‫أن يستعيد نفسه من ضياعه يف ه‬


‫كل واحد‬ ‫عل الـ دازين ْ‬ ‫األي شخص ْ‬
‫وأن ُيسرت َّد‪ ،‬جيب ى‬ ‫ّ‬
‫كل شخص‪،‬‬ ‫و ُيعيدها إ ىل ذاته ‪ ،‬لقد سقط الـ دازين يف الوهلة األُو ىل وغالبا‪ ،‬وقد ضاع يف ه‬
‫)‬‫‪6‬‬ ‫(‬

‫إ َّنه يفهم نفسه من خالل إمكانات وجوده(‪)7‬؛ تلك اإلمكانات «الشائعة» يف تعبري احلالة‬

‫‪(1) Thomä, Dieter, (1990), Ibid. P. 283.‬‬

‫‪(2) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 192.‬‬


‫‪(3) Das Man.‬‬
‫‪(4) Entschlossenheit‬‬
‫‪(5) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 10.‬‬
‫‪(6) Thomä, Dieter, (1990), Ibid. P. 291f.‬‬
‫‪(7) Existency‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪105‬‬

‫«متوسط»(‪ )2‬وعموم(‪ )3‬الـ دازين يف أ ّيامنا هذه(‪ ،)4‬لقد سقط الـ دازين يف الوهلة‬
‫ه‬ ‫احلاصلة(‪ )1‬لـ‬
‫األُو ىل يف العامل‪ ،‬وهذا العامل مملو ٌء بالكينونات التي للـ دازين انشغال قلب هبا‪َّ ،‬‬
‫إن الـ دازين‬
‫أي شخص‪،‬‬
‫مغلوب عليه بفهم ه‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مشغول بفهم هذه الكينونات وبفهم العامل‪ ،‬ولكن فهمه‬
‫وغارق يف عدم األصالة‪ ،‬ولكن ُيمكن للـ دازين غري األصيل ْ‬
‫أن ُيصبح أصيال‪ ،‬وال ُيمكن‬ ‫ٌ‬
‫نى وجود الـ دازين َّإال يف األصالة(‪َّ ،)5‬‬
‫إن هذا الرجوع يعني‪ :‬تغيري الوجه الوجودي‬ ‫فهم مع ى‬
‫وخيار باالسرتجاع‪ ،‬وهذا‬
‫ٌ‬ ‫قرار‬
‫أن ُيصل ٌ‬ ‫األي شخص يف جهة أصالته‪ ،‬فيجب ْ‬ ‫ّ‬ ‫لنفس‬
‫عل اختيار أحد اخليارات‪ ،‬يعني‪ :‬هاّتاذ تصميم جازم من أجل ْ‬
‫أن‬ ‫خيار مبني ى‬
‫االسرتجاع هو ٌ‬
‫عل عزم الـ دازين‬ ‫عل أساس نفس الشخص(‪َّ ،)6‬‬
‫إن نفس تأكيد هايدغر هذا ى‬ ‫حتصل الكينونة ى‬
‫وتصميمه يف األصالة‪ ،‬هو األساس األصيل لنقد املنتقدين ولفشل كتاب الوجود والزمان‪،‬‬
‫سنتعرض له فيام بعد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وهو ما‬
‫األول من الوجود والزمان‪ ،‬هو كون‬ ‫عل أساس القسم َّ‬ ‫ولكن إذا كان نوعا الكينونة ى‬
‫معنى وجود الـ دازين‪ ،‬فبالتبع سوف‬
‫ى‬ ‫الكينونة أصيلة أو غري أصيلة‪ ،‬وكانت الزمان َّية هي‬
‫يكون لدينا نوعني من الزمان َّية‪ :‬أصيلة وغري أصيلة‪ ،‬لقد ذكرنا َّ‬
‫بأن للقلق ثالثة أركان‪ ،‬ولكن‬
‫معنى القلق هو الزمان َّية‪ ،‬وكان هناك زمان َّية أصيلة أو غري أصيلة بالنسبة لكينونة‬
‫ى‬ ‫إذا كان‬
‫الـ دازين‪ ،‬إذن فسوف يكون لدينا يف حتليل وجود َّية الزمان َّية س َّتة ظواهر زمان َّية(‪ ،)7‬والظواهر‬
‫الثالثة األُو ىل مرتبطة باألركان الثالثة للخوف يف ساحة األصالة‪ ،‬وهناك تقد ٌم يف خصوص‬
‫الزمان َّية األصيلة للمستقبل‪ ،‬فاملستقبل األصيل هو نفس رجوع الـ دازين إ ىل نفسه‪ ،‬وكذلك‬
‫التقدم يف أكثر األماكن اختصاصا‪ ،‬يعني‪ :‬املوت(‪.)8‬‬

‫‪(1) Ausgelegtheit‬‬
‫‪(2) Durchschnittlich‬‬
‫‪(3) Öffentlich‬‬
‫‪(4) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 338.‬‬
‫‪(5) Pöggeler, Otto, (1994), Der Denkweg Martin Heideggers; Stuttgart, Neske. P. 59.‬‬
‫‪(6) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 268.‬‬
‫‪(7) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 34.‬‬
‫‪(8) Marx, Werner, (1961), Heidegger und die Tredition, Stuttgart, Kohlhammer. P. 109.‬‬
‫‪ ❖ 106‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بعنوانه تارخي َّية‬


‫يتم تقويم الوجود ومقدار نسبته إ ىل ذلك الفهم كتصميم ُمس َبق‬
‫(‪)1‬‬

‫أصيلة ‪ ،‬والظاهرة األُ ى‬


‫خرى هي الواقع َّية ومقدار نسبتها إ ىل ذلك املزاج(‪ )3‬األصيل‪ ،‬وهو‬ ‫(‪)2‬‬

‫من الناحية الزمان َّية‪.‬‬ ‫األمر الذي ُح هلل يف فلسفة هايدغر يف ذيل مقولة االضطراب‬
‫(‪)4‬‬

‫سميه‬ ‫ٌ‬
‫أصيل‪ ،‬وهو الذي ُي ه‬ ‫والظاهرة الثالثة‪ ،‬هي َّ‬
‫أن توسيع املقام يف عمل الـ دازين املوجود‬
‫وصف اليشء الذي يكون أصيال بعنوانه ًّ‬
‫حاال وحارضا من خالل‬ ‫حلظة(‪ ،)6()5‬جيب ْ‬
‫أن ُي َ‬
‫مفهوم اللحظة(‪ ،)7‬ويف مجيع الظواهر الثالثة‪:‬‬
‫الزمان َّية األُوىل واألصيلة للمستقبل التي تتزامن ‪ ...‬الظاهرة األُوىل هي الزمان َّية‬
‫األُوىل واألصيلة للمستقبل(‪.)8‬‬
‫يعني‪ :‬يف الزمان َّية األصيلة وكذلك األُو ىل يكون اخلروج عن ذات املستقبل الذي له‬
‫تقدم(‪ُُ ،)9‬ي هلل ها يدغر الظواهر الثالثة (القرار املسبق‪ ،‬االضطراب‪ ،‬اللحظة) يف حتليل‬
‫بمحتوى هذه‬
‫ى‬ ‫الزمان َّية ومقدار نسبها إ ىل بعضها‪ ،‬وحيث إ َّن موضوع هذه املقالة ال يتع َّلق‬
‫الظواهر‪ ،‬لذا سنرصف النظر عن حتليلها الفيمونوجلي‪.‬‬
‫اخلاصة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وهناك ثالثة ظواهر ُأ ى‬
‫خرى تتع َّلق بالزمان َّية غري األصيلة التي ترتبط مع مسائلها‬
‫مبنى اخلروج عن ذات احلال احلارض(‪ ،)10‬و ُتظهر الزمان َّية‬
‫عل ى‬ ‫تتزامن الزمان َّية غري األصيلة ى‬
‫غري األصيلة نفسها يف مقام زمان َّية الفهم غري األصيل‪ ،‬ويف زمان َّية احلال واملزاج غري األصيل‪،‬‬

‫‪(1) Vorlaufende Enschlossenheit‬‬


‫‪(2) Geschichtlichkeit‬‬
‫‪(3) Befindlichkeit‬‬
‫‪(4) Angst‬‬
‫‪(5) Augenblick‬‬
‫‪(6) Thomä, Dieter, (1990), Ibid. P. 290f.‬‬
‫‪(7) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 41.‬‬
‫‪(8) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 329.‬‬
‫‪(9) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 34.‬‬
‫‪(10) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 348f.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪107‬‬

‫إن الزمان َّية غري األصيلة كانت ُحم هققة منذ‬


‫واِّلاجيس‪َّ ،‬‬
‫ويف زمان َّية السقوط الوجودي‬
‫(‪)1‬‬

‫وبمجرد ْ‬
‫أن حصل عليها الـ دازين (اكتسب الشأن الوجودي) سقط مطابق شأن َّيته‬ ‫َّ‬ ‫السابق‪،‬‬
‫ول وبشكل أسايس(‪ ،)2‬لقد استطاع‬ ‫ألن الـ دازين غري أصيل يف الوهلة األُ ى‬‫الوجود َّية؛ َّ‬
‫الـ دازين يف الوهلة األُو ىل ودائام بشكل قبل نفسه ْ‬
‫أن جيعل األصيل يتنزَّ ل يف مقام الوجود‪،‬‬
‫ْ‬
‫وأن يسقط يف «العامل»(‪.)3‬‬
‫وهذه املسألة واضحة جدًّ ا يف السقوط‪ ،‬والسقوط ُيصل بشكل طبيعي يف احلال‬
‫احلارض(‪ ،)4‬و ُي هبني هايدغر تزامن السقوط يف اخلروج عن الذات يف احلال احلارض من خالل‬
‫ولكن هايدغر يقول يف باب الوجود غري‬‫َّ‬ ‫حتليل أنطولوجي وجودي استطالعي(‪،)6()5‬‬
‫األصيل أو الفهم غري األصيل‪:‬‬
‫أن الفهم غري األصيل لكينونة اإلمكان مطروح عىل أساس األُمور القابلة‬
‫طاملا َّ‬
‫أن هذا الفهم نفسه يتزامن عىل أساس بناء‬ ‫ألن تكون انشغال ٍ‬
‫قلب‪ ،‬فمعنى ذلك هو َّ‬
‫احلارض(‪.)7‬‬
‫وصف فيام بعد الفهم غري األصيل بأ َّنه «توقع النايس إلصالح احلارض»(‪ ،)9()8‬وهذا‬ ‫ثم ُي ه‬
‫ّ‬
‫عل التوقع بعنوانه‬
‫خرى ‪ -‬رغم عدم األصالة ‪ -‬ى‬‫مرة ُأ ى‬ ‫األمر ُيشري إ ىل َّ‬
‫أن هايدغر ُيؤ هكد هنا َّ‬
‫أمرا متقده ما‪ ،‬يعني‪ُ :‬يؤ هكد ى‬
‫عل املستقبل بعنوانه أمرا متقده ما‪ ،‬ولكن اخلروج عن الذات اآلخر‬
‫عل املايض‪ ،‬والكينونة أو األمر الذي كان‬
‫إ ىل جانب مستقبل الكائن ‪ ،‬فالـ «كان» هنا تدل ى‬
‫(‪)10‬‬

‫‪(1) Existenziel‬‬
‫‪(2) Thomä, Dieter, (1990), Ibid. P. 290f.‬‬
‫‪(3) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 175.‬‬
‫‪(4) Gegenwart‬‬
‫‪(5) Neugier‬‬
‫‪(6) Ibid: 346.‬‬
‫‪(7) Ibid: 338.‬‬
‫‪(8) Vergessend - gegenwärtigende Gegenwart.‬‬
‫‪(9) Ibid: 339.‬‬
‫‪(10) Gewesenheit‬‬
‫‪ ❖ 108‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫(كذلك) تنهض ب ُأسلوب ما من‬ ‫عليه الـ دازين إ َّنام يتع َّلق بمستقبله(‪« ،)1‬الكينونة‬
‫(‪)2‬‬

‫املستقبل»(‪ )3‬خيتار هايدغر يف حتليل ركن الواقع َّية أو نفس املزاج يف الوجه غري األصيل َّ‬
‫بأن‬
‫احلالة غري األصيلة من اخلوف(‪ )4‬بالنسبة إ ىل االضطراب عنوانه مزاج أصيل‪« ،‬فالقلق هو‬
‫تم تغطية‬
‫واِّلوى غري األصيل‪ ،‬القلق هو نفس االضطراب غري األصيل الذي َّ‬
‫ى‬ ‫نفس احلال‬
‫نفسه بام هو نفسه(‪ .)5‬ويلعب املستقبل دورا مم َّيزا يف حتليل هايدغر للزمان َّية‪ ،‬وهذا هو أحد‬
‫املهمة لتاميز فهم هايدغر يف باب الزمان َّية واجلهود امليتافيزيق َّية‪َّ ،‬‬
‫إن املستقبل واملايض‬ ‫الوجوه َّ‬
‫ال ينتجان عن احلارض‪ ،‬وهذا يعني أ َّنه بالنسبة ِّلايدغر املستقبل احلال ليس بحيث مل ِ‬
‫يأت‬
‫بعد‪ ،‬واملايض ليس بعضا من احلارض بحيث مل يعد موجودا(‪ ،)6‬وبالتال هناك ثالثة ظواهر‬
‫زمان َّي ة أصيلة تتزامن يف املستقبل‪ ،‬وثالثة ظواهر غري أصيلة يف احلال احلارض‪ ،‬ولكن يف‬
‫النهاية ح َّت ىى يف هذه الثالثة ظواهر غري األصيلة ُيشري هايدغر إ ىل نوع من تقدم املستقبل‪ ،‬فهو‬
‫يقول‪« :‬إ َّننا يف تعداد اخلروجات عن الذات دائام ما نضع املستقبل يف املرتبة األُو ىل»(‪.)7‬‬
‫ثم يذكر هايدغر مجلة فيام بعد‪ ،‬وهي باعتقادي ُمت هثل ُل َّ‬
‫ب ولباب رأيه يف باب الزمان ونسبة‬ ‫ّ‬
‫اخلروجات عن ذات الزمان‪ ،‬إ َّنه يقول‪:‬‬
‫ُسمي هذه الظاهرة الواحدة التي ّتعل األمر الكائن أمر ًا حارض ًا بعنواّنا‬ ‫إ َّننا ن ي‬
‫مستقب ً‬
‫ال(‪ :)8‬الزمان َّية(‪.)9‬‬

‫‪(1) Heidegger, Martin, (1997a), Ibid. P. 375.‬‬

‫‪(2) Gewesenheit‬‬

‫‪(3) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 326.‬‬

‫‪(4) Furcht‬‬

‫‪(5) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 189.‬‬


‫‪(6) Unterthurner, Gerhard, (1993), Bemerkungen zu Heideggers Analyse der Stimmungen,‬‬

‫‪Helmut Vetter (Betreuer), Diplomarbeit: Universität Wien. P. 30.‬‬

‫‪(7) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 319.‬‬

‫‪(8) Gewesend - Gegenwärtigende Zukunft.‬‬

‫‪(9) Ibid: 326.‬‬


‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪109‬‬

‫مهم ٌة جدًّ ا؛ َّ‬


‫ألن هايدغر أشار فيها إ ىل وحدة ثالثة خروجات عن ذات‬ ‫َّ‬
‫إن هذه اجلملة َّ‬
‫البنى الثالثة للقلق جذورا يف‬
‫ى‬ ‫الزمان‪ ،‬ونسبتها إ ىل بعضها‪ ،‬وإ ىل تقدم املستقبل‪ .‬وجلميع‬
‫أي أمر ذات أو يف نفسه‪ ،‬بل ُيمكن‬
‫الثالثة اخلروجات عن ذات الزمان َّية‪ ،‬والـ دازين ليس لديه َّ‬
‫فهمه فقط بعنوانه وحدة ِّلذه الثالث خروجات عن الذات‪َّ ،‬‬
‫إن الزمان َّية ليس فقط غري‬
‫تزامن‪ ،‬وهي موجودة يف وحدة اخلروجات عن‬
‫ٌ‬ ‫موجودة منذ السابق‪ ،‬بل هي يف ذاهتا‬
‫الذات(‪.)1‬‬

‫الزمان العاملي(‪:)2‬‬
‫عل ذلك فمنشؤه هو انشغال القلب؛ ولذا‬
‫أساس يف انشغال القلب‪ ،‬وبناء ى‬
‫ٌ‬ ‫للزمان العاملي‬
‫وضارب يف‬
‫ٌ‬ ‫فهو أساس للحياة اليوم َّية وعدم األصالة(‪ ،)3‬أ َّما َّ‬
‫أن الـ دازين مشغول القلب‪،‬‬
‫فهم بالنسبة إ ىل الزمان العاملي‪ )Ebd58( ،‬النشغال القلب من‬ ‫عدم األصالة‪ ،‬فيجب ْ‬
‫أن ُي َ‬
‫ناحية التزامن جذورا يف خروج عن ذات احلال احلارض‪ ،‬لقد ُدفِ َع الـ دازين يف طرحه‬
‫كموجود فصار مشغول القلب بالعامل‪ ،‬وسقط فيه‪ ،‬وهو كرشيك يف املوجود َّية مع اآلخرين‪،‬‬
‫املتوسط الذي يتم إبرازه يف اللسان‪ ،‬وهذا اإلظهار يف الواقع عبار ٌة‬
‫ه‬ ‫ينظر إ ىل نفسه يف التعبري‬
‫إن الزمان‬‫أساس النشغال قلبه يف الزمان َّية(‪َّ ،)4‬‬ ‫عن حوار عن األُمور التي ُت ِ‬
‫شغل قلبه‪ ،‬وهناك‬
‫ٌ‬
‫العاملي عبار ٌة عن الزمان الذي ُُياسب الـ دازين وُيكم من خالله‪ ،‬وهذا الوجه من الزمان‬
‫سميه هايدغر الزمان العاملي(‪،)5‬‬
‫يرتبط بالعامل‪ ،‬وهو ُيطرح بالنسبة إ ىل عامل َّية الـ دازين‪ ،‬ولذا ُي ّ‬
‫وهو ذو أربعة خصائص‪.‬‬
‫وخصوص َّيته األُو ىل هي أ َّنه يقبل التوقيت(‪ ،)6‬ويستعمل هايدغر من أجل حتليل الزمان‬

‫‪(1) Ibid: 329.‬‬


‫‪(2) Weltzeit‬‬
‫‪(3) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 57.‬‬
‫‪(4) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 406.‬‬
‫‪(5) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P.59f.‬‬
‫‪(6) Datierbarkeit‬‬
‫‪ ❖ 110‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ويسعى إ ىل حتليل هذه القيود‬


‫ى‬ ‫العاملي القيود الزمان َّية يف املحاورات اليوم َّية يف مواجهة العامل‪،‬‬
‫عل أساس‬
‫الزمان َّية التي ُتس َتعمل عند مصادفة الـ دازين املشغول القلب ومواجهته للعامل ى‬
‫زمان َّية الـ دازين وانشغال القلب الذي له أساس يف احلال احلارض‪ ،‬وبالتال َّ‬
‫فإن توضيح هذه‬
‫املباحث مع َّقدٌ جدًّ ا بالنظر إ ىل امتزاج بحث هايدغر مع اللغة األملان َّية ومع القيود اللغو َّية‪ ،‬إ َّنه‬
‫يقول يف باب قابل َّية التوقيت‪َّ :‬‬
‫إن انشغال القلب بعنوانه حماسبة للقلب املشغول‪ ،‬وّتطيط‬
‫القلب املشغول‪ ،‬وبعد نظر القلب املشغول‪ ،‬واحتياط القلب املشغول متقده ٌم(‪ )1‬دائام ‪...‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫أن ُيدث اليشء الفالين «بعد ذلك»(‪ ،)2‬وجيب ْ‬
‫أن ي َّتخذ القرار يف األمر الفالين‬ ‫جيب ْ‬
‫إل مكان أو فقد الـ «آنذاك»(‪َّ ... )5‬‬
‫إن‬ ‫«سابقا» ‪ ،‬وجيب «اآلن» تدارك اليشء الذي مل يصل ى‬
‫(‪)4‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫«ثم» بنحو من األنحاء ‪ ...‬وينطوي يف ذات الـ «آنذاك»‬‫«اآلن وليس ال يزال» منطوية يف ّ‬
‫(‪)6‬‬

‫ومعنى ذلك هو أ َّنه‬


‫ى‬ ‫«ثم» و«آنذاك» ُيفهامن من خالل «اآلن»‪،‬‬
‫إن ّ‬‫الـ «اآلن وليس اآلخر»(‪َّ ،)7‬‬
‫وزن خاص يف انشغال القلب بإصالح احلارض (احلال احلارض)‪ ... ،‬واليشء الذي‬ ‫يوجد ٌ‬
‫حمال للخطاب يف الـ «فورا»(‪ ،)8‬واليشء الذي‬ ‫يتو َّقعه القلب املشغول بعنوانه أقرب يشء‪ ،‬يقع ّ‬
‫ُقبِ َل يف الوهلة األُو ىل من الوصول‪ ،‬أو ُيف َقد يف «اآلن فورا»(‪ ،)9‬و ُأفق نظر احلائز الذي ُيربزه يف‬
‫«ثم»‪ ،‬و«الحقا»(‪« )10‬يف املستقبل»‪ُ ،‬أ ٌ‬
‫فق لآلن «اليوم»(‪.)11‬‬ ‫الـ «آنذاك»‪ ،‬و«سابقا» ُأ ٌ‬
‫فق لـ ّ‬
‫«ثم»‬
‫أساس للتسلسل والتوال الزماين يف هذا امليدان‪ ،‬فاملستقبل ينقسم إ ىل ّ‬
‫ٌ‬ ‫فهناك‬

‫‪(1) Zuvor‬‬
‫‪(2) Dann‬‬
‫‪(3) Früher‬‬
‫‪(4) Jetzt‬‬
‫‪(5) Damals‬‬
‫‪(6) Jetzt Noch Nicht‬‬
‫‪(7) Jetzt NichtŞehir‬‬
‫‪(8) Sogleich‬‬
‫‪(9) Soeben‬‬
‫‪(10) Späterhin‬‬
‫‪(11) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 406f.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪111‬‬

‫و«السابق» و«فورا» التي ُتش هكل يف جمموعها ُأفق «الحقا»‪ ،‬واملايض كذلك ينقسم ى‬
‫إل‬
‫«آنذاك» و«الحقا» و«اآلن حاال» التي ُتش هكل يف جمموعها ُأفق «سابقا»‪ ،‬وهذه اآلفاق ُت َ‬
‫طرح‬
‫«ثم» و«السابق» و«فورا» ومجيع ُأفق «الحقا» ُت ه‬
‫فِّس بأمجعها بنحو‬ ‫بأمجعها بالنسبة إ ىل اآلن‪َّ ،‬‬
‫إن ّ‬
‫فهم الـ «آنذاك» والبق َّية كـ «اآلن وليس اآلخر»‪،‬‬
‫َّأول كـ «اآلن وليس ح َّت ىى اآلن»‪ ،‬كام ُت َ‬
‫وهذه القيود يف اللغة اليوم َّية ليست شكال أو صورة خالية‪ ،‬وإ َّنام رشط العمل يف ه‬
‫كل يوم‬
‫سمي هايدغر هذه اخلصوص َّية‪ :‬قابل َّية التوقيت‪ ،‬ويقول من‬
‫موجود يف احلياة اليوم َّية ‪ ،‬و ُي ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫جهة ُأ ى‬
‫خرى‪:‬‬
‫يفهم توقع إصالح احلارض «إ ىل ذلك الزمان»(‪ ،)2‬والتعبري ُي هبني هذا الـ «إ ىل ذلك الزمان»‪،‬‬
‫اخلاص هبا التي ِّلا بدورها نسب ٌة إ ىل قبول‬
‫ّ‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫أن الـ «إ ىل ذلك الزمان» ِّلا زماّنا‬
‫خرى‪ ،‬من خالل املفهم املقرتن مع توقع صانع‬ ‫التوقيت بمثابة الـ «يف ما بني»‪ ،‬ومن جهة ُأ ى‬
‫واضح يف‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫زمان‬ ‫عرب عنها بـ «املواكبة»(‪ ،)4‬وهذا التأخر له بدوره‬
‫احلارض «يف احلني» التي ُي ه‬
‫(‪)3‬‬

‫فهم عادة يف انشغال القلب وبصورة غري موضوع َّية حتت‬


‫التعبري الذات للزمان َّية‪ ،‬والذي ُي َ‬
‫و«ثم»‬
‫ّ‬ ‫عنوان مدَّ ة من الزمان(‪ ... ،)5‬وليست مدَّ ة «يف احلني» فقط‪ ،‬بل كل من «اآلن»‬
‫و«آنذاك» َّ‬
‫تتأخر من خالل بنية قبول التوقيت(‪.)6‬‬
‫أن الزمان العاملي مضافا إ ىل كونه يقبل التوقيت‪ ،‬فهو يمتلك‬‫وي َّتضح من العبارة أعاله َّ‬
‫خرى‪ ،‬وهي االمتداد أو امتالك وقت طويل(‪ ،)7‬وأ َّما اخلصوص َّية الثالثة فهي‬‫خصوص َّية ُأ ى‬
‫العموم َّية(‪ ،)8‬ويقول هايدغر‪:‬‬
‫ٍ‬
‫موجود مع اآلخر‪ ،‬كثري ًا ما يقول عدَّ ة أشخاص مع بعضهم‪« :‬اآلن»‪،‬‬ ‫يف أقرب‬

‫‪(1) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P.58.‬‬


‫‪(2) Bis Dahin‬‬
‫‪(3) Während.‬‬
‫‪(4) Während Dessen‬‬
‫‪(5) Spanne‬‬
‫‪(6) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 406.‬‬
‫‪(7) Dauern‬‬
‫‪(8) Öffentlichkeit‬‬
‫‪ ❖ 112‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬
‫ٍ‬
‫خمتلف عن اآلخر‪ ... ،‬فهذه‬ ‫ٍ‬
‫بنحو‬ ‫واحد منهم ُيو ِّقت «اآلن» املذكورة‬ ‫ٍ‬ ‫ولكن َّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫«اآلن» التي ُي ِربزها كل واحد من هؤالء األفراد تظهر يف العموم مع اآلخرين يف عامل‬
‫ً‬
‫جنبة‬ ‫عرب عنه وا ُمل ِربز هلذا أو لذلك الـ دازين يمتلك‬
‫الكينونة‪ ،‬وبالتايل فالزمان ا ُمل َّ‬
‫عموم َّي ًة دائ ًام(‪.)1‬‬
‫املعرب‬
‫ه‬ ‫وأ َّم ا اخلصوصيَّ ة الرابعة للزمان العاملي «اختصاصه بـ»(‪ُ ،...)2‬ي ف َه م الزمان‬
‫كل موطن متق هد م كوقت ليشء ‪ ،‬و«اآلن حيث إ َّّن ا هكذا‬ ‫عنه يف القلب املشغول يف ه‬
‫عل الدوام ّتتص بيشء أو ال ّتص به»(‪ ،)3‬وبرأي هايدغر‬ ‫وكذلك» يف ه‬
‫كل حالة ‪ ،‬لذا ى‬
‫األعل فيام يتعلَّ ق باآلن‪،‬‬
‫ى‬ ‫«اآلن» َّ‬
‫وكل زمان ُم ؤ َّق ت بحيث يكون مطابقا ملا ذكرناه يف‬
‫عل الدوام خيتص بخصوصيَّ ة قابليَّ ة التوقيت هذه أو ال خيتص به‪ ،‬ودائام هذا‬ ‫فهو ى‬
‫وقت ليشء ‪ ،‬أو ليس وقتا ليشء (‪« ،)4‬لقد أصبح الزمان عموميًّا‬
‫ٌ‬ ‫الزمان (اآلن) هو‬
‫كزمان يشء متعله ق من األساس بالعامل‪ ،‬ولذلك نحن ُن س ّم ي الزمان الذي جيعل نفسه‬
‫عموميًّا يف مزامنة الزمانيَّ ة‪ :‬الزمان العاملي»(‪ ،)5‬وطبعا هذا الزمان ال جيب أ ْن ُي ف َه م‬
‫ككائن داخل العامل وموجود(‪ ،)6‬وإ َّن ام ُن س ّم يه زمانا عامليًّ ا فقط أل َّن ه متعله ٌق بالعامل من‬
‫جهة التحليل الوجودي(‪.)7‬‬

‫مفهوم الزمان غري األصيل (املبتذل)(‪:)8‬‬


‫بأن مجيع النظر ّيات امليتافيزيق َّية يف باب الزمان ُمت هثل فهام غري أصيل ( ُمبتذل)‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫ى‬
‫عل كون‬ ‫للزمان‪ ،‬وح َّت ىى فهم املف هكرين الذين من قبيل بريغسون ى‬
‫فعل الرغم من تأكيده ى‬

‫‪(1) Ibid: 410f.‬‬


‫‪(2) Geeignet zu‬‬
‫‪(3) Ibid: 414.‬‬
‫‪(4) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P.59f.‬‬
‫‪(5) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 414.‬‬
‫‪(6) Vorhandene‬‬
‫‪(7) Ibid‬‬
‫‪(8) Vulgär‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪113‬‬

‫الزمان أنفس ًّيا َّإال أ َّنه يقع يف ضمن هذا اإلطار أيضا ‪ ،‬وإذا كان من املُ َّ‬
‫قرر ْ‬
‫أن ُنقارن بني‬ ‫(‪)1‬‬

‫الفالسفة اإلسالم هيني (مثال‪َّ :‬‬


‫املال صدرا) وبني هايدغر‪ ،‬فطبقا للقاعدة بسبب اخلصوص َّية‬
‫فهم ميتافيزيقي‪،‬‬ ‫امليتافيزيق َّية لتفكري الفالسفة املسلمني‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن فهمهم طبقا للقاعدة هو ٌ‬
‫فهم غري أصيل (مبتذل)‪.‬‬ ‫ولذا َّ‬
‫فإن فهمهم برأي هايدغر هو ٌ‬
‫َّ‬
‫إن الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان هو يف الواقع نفس الزمان غري األصيل مع التأكيد‬
‫سمي هايدغر عدم األصالة يف الرابطة والنسبة مع الزمان باسم‬
‫عل تسطيح هذا الفهم‪ ،‬و ُي ّ‬
‫ى‬
‫داخل َّية الزمان(‪ ،)3()2‬وحينام ُيصل مفهوم الزمان بواسطة الفهم الداخل الزماين والسقوط‪،‬‬
‫فسوف يكون هذا املفهوم ‪ -‬بحسب اصطالح هايدغر ‪ -‬مفهوما للزمان غري أصيل‬
‫عل الفهم امليتافيزيقي للزمان‪ ،‬ففي الفهم امليتافيزيقي الزمان هو‬
‫(مبتذل)‪ ،‬ويبتني هذا الفهم ى‬
‫آنات تتابع خلف بعضها البعض يف صف‬ ‫جمموع ٌة من اآلنات‪ ،‬ولكن هذه اآلنات هي ٌ‬
‫م َّتصل‪ ،‬فتأت واحد ٌة خلف األُ ى‬
‫خرى وتذهب‪َّ ،‬‬
‫إن التصور امليتافيزيقي لآلنات يشبه نقاط‬
‫َّ‬
‫وكأن هذه النقاط ُتصبح تعدادا‪ ،‬ونحن ُندرك التغيريات داخل هذا الفهم والتعداد‪،‬‬ ‫ه‬
‫اخلط‪،‬‬
‫ؤخذ املنشأ اإلنساين‬ ‫أي حركة ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬و ُي َ‬ ‫ونحن نقوم هبذا العده من خالل عقارب الساعة أو ه‬
‫أو األنفيس للزمان يف الفهم غري األصيل من الزمان‪ ،‬فالزمان يف هذا الفهم ال ّنائي وهو‬
‫عبار ٌة عن وحدة واحدة(‪ ،)4‬ويف الواقع نحن نستعمل لقياس الزمان املقاييس التي تكون‬
‫عرف الزمان‬
‫بنفسها من جنس احلركة‪ ،‬وبالتال ُتصبح النتيجة هي أ َّنه يف الس َّنة امليتافيزيق َّية‪ُ ،‬ي َّ‬
‫معروف جدًّ ا لنا‪ ،‬ونتيجة ِّلذا‬
‫ٌ‬ ‫كحركة أو مقدار للحركة‪ ،‬والزمان غري األصيل (املبتذل)‬
‫الفهم فالذي سيطر يف امليتافيزيقيا هو جعل الزمان مكان ًّيا(‪.)5‬‬

‫‪(1) Tugendhat, Ernst, (2001a), Ibid. P. 12f.‬‬


‫‪(2) Innererzeitlichkeit‬‬
‫‪(3) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 419.‬‬
‫‪(4) Sandbothe, Ernst, (2003), „Zeit von der Grundverfassung des Daseins zur Vielfalt der‬‬
‫‪Zeit - Sprachspiele. In Heidegger Handbuch, Leben - Werk - Wirkung, Dieter Thomä‬‬
‫‪(Hrsg.), Stuttgart, J. B. Metzler.p. 88.‬‬
‫‪(5) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 520.‬‬
‫‪ ❖ 114‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫طبقا للمقدّ مة السابقة ُيمكن ْ‬


‫أن ُنحده د وجهني كذلك يف فهم الزمان غري األصيل‬
‫(املبتذل)؛ ال ُبعد املا ّدي الذي هو احلركة‪ ،‬وال ُبعد الصوري الذي هو تعداد اآلنات‪ ،‬أو ببيان‬
‫خاصة(‪َّ ،)1‬‬
‫إن الوجه‬ ‫عل حركة َّ‬
‫آخر‪ :‬فاعل املعرفة (املوضوع)‪ ،‬ويقوم بعده اآلنات املقيسة بناء ى‬
‫املا ّدي للزمان غري األصيل (املبتذل) ُيكي عن أ َّنه ال يوجد زمان بال حركة‪ ،‬ويظهر النموذج‬
‫البارز للفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان يف استعاملنا للساعة‪ ،‬فنحن نرتجم عقارب‬
‫جمرد حركة عقارب الساعة‪ ،‬بل املراد هو‬
‫الساعة بشكل زماين‪ ،‬ومرادنا من احلركة هنا ليس َّ‬
‫كل نوع من احلركة املمكنة‪َّ ،‬‬
‫إن الزمان يف الفهم امليتافيزيقي يرتبط بالديناميك َّية احلاصلة يف‬
‫قريب بنسبة ما مع احلركة ومع أمر مرتبط‬
‫ٌ‬ ‫التغيريات‪ ،‬والزمان غري األصيل (املبتذل)‬
‫أمر واحدٌ (‪.)2‬‬
‫عل َّأّنام ٌ‬
‫عل الرغم من أ َّنه ال ُيمكن أخذ احلركة والزمان ى‬
‫باحلركة‪ ،‬هذا ى‬
‫وطبعا يف احلياة اليوم َّية الزمان واحلركة دائام ما ُيفرضان كيشء واحد‪ ،‬مثال‪ :‬يف الساعة‬
‫ُيد الزمان باحلركة‪ ،‬فعقارب الساعة ذات حركة ثابتة‪ ،‬وهي املقياس لفهم الزمان‪ ،‬وإذا‬
‫دائام ُ َ‬
‫إل ساعة اليد أو اجلدار‪َّ ،‬‬
‫فإن الزمان واحلركة املحدَّ دين واملع َّينني لعقارب الساعة‬ ‫ما التفتنا ى‬
‫ُيصبحان أمرا واحدا‪ ،‬ويف النتيجة الساعة(‪ )3‬هي النموذج الزماين أو املكاين املثال‪َّ ،‬‬
‫إن ظهور‬
‫الزمان غري األصيل (املبتذل) يربز يف استعاملنا للساعة‪ ،‬ويف العلوم الطبيع َّية نحن نتعامل مع‬
‫بأّنم يضعون فضاء جغراف ّيا‬ ‫هذه الساعة املكان َّية أيضا‪ ،‬إذ ُيمكن لنا ْ‬
‫أن ُنالحظ يف العلوم َّ‬
‫والقوى‬
‫ى‬ ‫عل َّأّنا الصفر‪ ،‬وُيسبون مجيع املسافات‬
‫كنظام لإلحداث ّيات‪ ،‬ويفرضون فيه نقطة ى‬
‫كزخم للحركة والِّسعة بنحو دقيق‪ ،‬هذا الزمان عميل جدًّ ا و ُيمكن االستفادة منه جدًّ ا‪،‬‬
‫ولكن يف هذا النحو من الفهم للزمان‪ُ ،‬تصبح مسألة الزمان يف معناها الفلسفي منح َّلة من‬
‫الناحية العمل َّية‪ ،‬وبرأي ه ايدغر ال فرق يف هذا املجال بني الزمان النيوتني وبني الزمان‬
‫األينشتايني‪ ،‬أي بني الزمان املطلق يف الفيزياء الكالسيك َّية والزمان النسبي يف الفيزياء‬

‫‪(1) Anzenbacher, Arno, (1987), Einführung in die Philosophie, Wien, Herder. P. 120.‬‬
‫‪(2) Unterthurner, Gerhard, (1993), Bemerkungen zu Heideggers Analyse der Stimmungen,‬‬
‫‪Helmut Vetter (Betreuer), Diplomarbeit: Universität Wien. P. 34.‬‬
‫‪(3) Uhr‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪115‬‬

‫املعارصة‪ ،‬ففي الواقع «الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان يربز بشكل رصيح يف الوهلة‬
‫األُو ىل يف استعامل ساعته‪ ،‬وال فرق يف ذلك‪َّ ،‬‬
‫أن الساعة أي تكامل تكاملت(‪َّ .)2(»)1‬‬
‫إن الفهم‬
‫تابع جلعل األُمور والزمان مكان ّيان‪ ،‬ويف الواقع نحن نميل من‬
‫غري األصيل (املبتذل) للزمان ٌ‬
‫أن جعل ُأمور العامل‬
‫خالل املفهوم غري األصيل (املبتذل) بدال من فهم العامل يف سيالنه إ ىل ْ‬
‫ثابتة وبعد ذلك نفهمها(‪.)3‬‬
‫وأ َّما الوجه الصوري للزمان غري األصيل (املبتذل) فهو يعود إ ىل من يقوم بعده اآلنات‪،‬‬
‫إن فاعل املعرفة (املوضوع) يقوم بمزامنة الزمان‪ ،‬فيأخذ فاعل املعرفة جمموعة من األُمور‬ ‫َّ‬
‫ويبقى منتظرا ل ُ‬
‫ألمور املستقبل َّية‪،‬‬ ‫ى‬ ‫وروتني األُمور املتع هلقة باملايض يف نطاق سيطرته واختياره‪،‬‬
‫عل األمر املايض‪ ،‬وانتظار األمر‬ ‫يرى مرور األُمور بام هي من خالل السيطرة ى‬ ‫إن فاعل املعرفة ى‬ ‫َّ‬
‫املستقبيل‪ ،‬ومشاهدة هذا املرور ُيصل من خالل روح أو نفس فاعل املعرفة (املوضوع)‬
‫عل هذه النقطة‪ ،‬وهي أ َّنه بدون احلركة ال‬‫بعنوانه مدركا‪ ،‬والوجود املا ّدي للزمان ُيؤ هكد ى‬
‫عل أ َّنه بدون النفس التي تعد الزمان بمثابة‬
‫زمان‪ ،‬والوجه الصوري للزمان ُيشده د ى‬‫ٌ‬ ‫يوجد‬
‫ٌ‬
‫زمان‪ ،‬ويف هذا الفهم امليتافيزيقي اليشء الوحيد الذي جيعل إدراك‬ ‫توال اآلنات فال يوجد‬
‫كمقوم للوجه الصوري‬ ‫ه‬ ‫الزمان ممكنا هو إدراك «العده » للحركة‪ ،‬ونحن ننظر إ ىل الساعة‬
‫عل هذا ُنربز و ُن هبني إدراكنا املبني‬
‫للزمان‪ ،‬ونقول‪ :‬كم الساعة (الوجه املا ّدي) اآلن؟ وبناء ى‬
‫عل اإلدراك املكاين للزمان‪ ،‬واليشء املوجود يف هذا الزمان الذي جعله مكان ًّيا‪ ،‬ليس‬
‫بأكمله ى‬
‫تم حذف حميط أو نطاق مايض‬
‫جمرد احلال احلارض ‪ ،‬ويف الواقع َّ‬
‫(‪)4‬‬
‫املايض أو املستقبل‪ ،‬وإ َّنام َّ‬
‫املوجودات أو مستقبلها يف هذا الفهم املكاين للزمان‪ ،‬وال يوجد أي فهم وإدراك غري إنساين‬
‫للزمان‪ ،‬وحتقق الزمان إ َّنام ُيصل يف نطاق عده اإلنسان‪ ،‬ومن املس َّلم أ َّن هذا التقييم يف‬

‫‪(1) Vollkommenheit.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin, (1997a), Ibid. P. 363.‬‬
‫‪(3) Sandbothe, Ernst, (2003), „Zeit von der Grundverfassung des Daseins zur Vielfalt der‬‬
‫‪Zeit - Sprachspiele. In Heidegger Handbuch, Leben - Werk - Wirkung, Dieter Thomä‬‬
‫‪(Hrsg.), Stuttgart, J. B. Metzler.p. 88.‬‬
‫‪(4) Marjanovic, Teodor, (1996), Ibid. P. 21.‬‬
‫‪ ❖ 116‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل‬
‫عل بعض اآلراء التي ى‬ ‫تقييم ّ‬
‫كيل‪ ،‬و ُيمكن العثور ى‬ ‫ٌ‬ ‫النظريات امليتافيزيق َّية يف باب الزمان هو‬
‫أن هذه ه‬
‫االجتاهات ال تنسجم‬ ‫األقل ال تنطبق مع هذا البيان متاما‪ ،‬ولكن جيب االلتفات إ ىل َّ‬ ‫ّ‬
‫مع الت ّيار الغالب للفكر امليتافيزيقي(‪ ،)1‬وأ َّم ا ما ذكرناه يف باب مفهوم الزمان غري األصيل‬
‫عل املسائل األساس َّية لعلم الظواهر (الفينومينولوجيا)(‪ )2‬من املج َّلد‬
‫(املُبتذل)‪ ،‬ينطبق أكثر ى‬
‫‪ 21‬من جمموعة آثار هايدغر‪ ،‬والتي هي عبارة عن كالم هايدغر يف الدرس الصيفي من عام‬
‫‪1927‬م‪.‬‬
‫ملبنى الزمان غري األصيل يف كتاب الوجود والزمان‪ ،‬يعتقد هايدغر َّ‬
‫بأن‬ ‫سنتعرض ى‬
‫َّ‬ ‫واآلن‬
‫عرب عن انشغال القلب بالزمان‪ ،‬وهو ذو زمان أيضا‪ ،‬ويف ضمن ذلك يفهم الزمان‬
‫الـ دازين ُي ه‬
‫العاملي وكذلك الزمان الذي يقع فيه املوجود(‪ ،)3‬ويعتقد هايدغر َّ‬
‫أن زمان َّية الـ دازين « ُتعرف‬
‫يف الوهلة األُو ىل ويف الغالب فقط يف هذا التعبري املضطرب للقلب املشغول»(‪ ،)4‬ويعتقد‬
‫بأن الـ دازين حينام يتأ َّمل يف الزمان الذي ُيعرف من خالله يف الوهلة األُو ىل ويف‬ ‫هايدغر َّ‬
‫الغالب‪( ،‬سواء أكان الزمان ما قبل العلم‪ ،‬أم كان ِعلم ًّيا‪ ،‬أو ح َّت ىى لو كان عبارة عن فيلسوف‬
‫إن الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان هو يف‬ ‫كالسيكي)‪ ،‬فسوف يقوم بتسطيح الزمان‪َّ ،‬‬
‫الواقع عبار ٌة عن نفس تسطيح الزمان العاملي هذا(‪ ،)5‬ويف الواقع الفهم غري األصيل (املُبتذل)‬
‫للزمان هو عبارة عن فهم الزمان كسيالن لآلنات‪َّ ،‬‬
‫إن املفهوم غري األصيل (املبتذل) للزمان‬
‫يف الواقع عبارة عن سرت تسطيح الزمان العاملي(‪ ،)6‬والـ دازين ينزل يف فهمه غري األصيل‬
‫إل نفس هذه اآلنات املتساوية‪ ،‬ولكن هذا التسطيح‬
‫(املبتذل) للزمان إ ىل توال اآلنات أو ى‬
‫أمر رضوي متاما(‪ ،)7‬ولكن ملاذا الفهم‬
‫للزمان الذي يقوم به الـ دازين ال ُيصل صدفة‪ ،‬بل هو ٌ‬

‫‪(1) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Ibid. P. 54.‬‬


‫‪(2) Grundprobleme der Phänomenologie ( Sommersemester1927).‬‬
‫‪(3) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P.61.‬‬
‫‪(4) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 408.‬‬
‫‪(5) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 539a.‬‬
‫‪(6) Nivellierende Verdeckung der Weltzeit.‬‬
‫‪(7) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P.61.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪117‬‬

‫أمر رضوري؟‬‫غري األصيل (املُبتذل) للزمان هو ٌ‬


‫عرف ُأرسطو الزمان باليشء الذي نواجهه سابقا والحقا يف احلركة التي يف األُفق‬ ‫لقد َّ‬
‫فإن تعريف ُأ رسطو للزمان هو ما ييل‪« :‬مقدار احلركة بحسب القبل‬
‫أن ُي َعدَّ ‪ ،‬وبالد َّقة َّ‬‫و ُيمكن ْ‬
‫يتحرك بنحو أكرب ه‬
‫باجتاه الفهم الطبيعي‬ ‫َّ‬ ‫فإن تفسري ُأرسطو‬ ‫والبعد»(‪ ،)2()1‬وبرأي هايدغر َّ‬
‫تم حفظها يف األساس يف اإلطار األُرسطي‬
‫للزمان‪ ،‬واألبحاث الالحقة املتع هلقة بالزمان َّ‬
‫للزمان‪ ،‬يعني كام َّ‬
‫أن الزمان ُيربز نفسه يف انشغال القلب‪ ،‬كذلك جعلوه هو بنفسه املوضوع‪،‬‬
‫َّ‬
‫فإن الزمان يف الفهم غري األصيل هو نفس األمر املعدود الذي يظهر يف حركة عقرب الساعة‬
‫تم عده يف عمل َّية العده هذه هو اآلنات‪ ،‬وهذه اآلنات ُتظهر‬
‫يتحرك‪ ،‬واليشء الذي َّ‬
‫َّ‬ ‫الذي‬
‫نفسها يف ه‬
‫كل آن بمثابة «اآلن حاال ‪ -‬ليس فيام بعد ‪ -‬اآلن»(‪ ،)3‬و«اآلن حاال ‪ -‬ال ‪ -‬مل ُيصل‬
‫بعد ‪ -‬اآلن»(‪ ،)5()4‬قول هايدغر‪:‬‬
‫إن الزمان بالنسبة للفهم غري األصيل (املُبتذل) للزمان‪ ،‬يظهر دائ ًام كتوايل متقدِّ م‬
‫َّ‬
‫لآلنات التي متر وتقرتب مع ًا(‪.)6‬‬
‫ويف الفهم الشائع نحن نعرف الزمان كأمر واحد ال يقبل التكرار‪ ،‬وتوال اآلنات ال يقبل‬
‫التكرار(‪َّ ،)7‬‬
‫إن الزمان يف الفهم غري األصيل (املبتذل) ال بداية له وال ّناية‪ ،‬وتزول فيه‬
‫خصوص َّية تعال الزمان(‪.)8‬‬
‫وكام ب َّينّا ففي الزمان َّية األصيلة املستقبل ُمتقده ٌم‪ ،‬وتتزامن مجيع أركان القلق بنحو أصيل‬
‫ه َّي ٌة للحال احلارض‪،‬‬
‫نت بأ َّنه يف الزمان َّية غري األصيلة هناك أ ّ‬
‫وأول يف املستقبل‪ ،‬ويف املقابل ب َّي ُ‬
‫َّ‬

‫‪(1) Die Zahl der Bewegung im Sinne des Früher und Später.‬‬

‫‪(2) Heidegger, Martin, (1997a), Ibid. P. 330.‬‬

‫‪(3) Sogleich - Nicht - Mehr - Jetzt.‬‬

‫‪(4) Eben - Noch - Nicht - Jetzt.‬‬

‫‪(5) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 421.‬‬

‫‪(6) Ibid: 422.‬‬


‫‪(7) Heidegger, Martin, (1997), Ibid. P. 378.‬‬
‫‪(8) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 329.‬‬
‫‪ ❖ 118‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫وتتزامن مجيع أركان القلق يف خروج الذات يف احلال احلارض‪ ،‬ولكن يف هذا الفهم غري‬
‫عل فهم الـ دازين الساقط والشائع‪ ،‬املستقبل عبار ٌة عن‬
‫األصيل (املبتذل) للزمان الذي يبتني ى‬
‫«جمرد آنات انقضت»‪ ،‬واحلال‬ ‫وعل وشك ْ‬
‫أن تصل»‪ ،‬واملايض هو َّ‬ ‫ى‬ ‫جمردة مل تصل بعد‪،‬‬
‫«آنات َّ‬
‫ٌ‬
‫حامل لـ «ال ‪ -‬مل ُيصل بعد ‪ -‬اآلن»(‪ ،)1‬بينام الزمان َّية األصيلة متتلك ثالث ساحات‬ ‫احلارض‬
‫عل وجود الـ دازين‪ ،‬ففي الزمان َّية األصيلة املستقبل ال ُيمكن ْ‬
‫أن ُي َعدَّ ساحة مل حتصل‬ ‫تعتمد ى‬
‫عى فيام يتع َّلق باملايض أيضا‪ ،‬فاملايض‬ ‫بعد‪ ،‬وإ َّنام املستقبل موجو ٌد‪ ،‬وهذا اال هدعاء ُيمكن ْ‬
‫أن ُيدَّ ى‬
‫انقىض‪ ،‬بل هو موجو ٌد يف‬
‫ى‬ ‫أو بتعبري كتاب الوجود والزمان األكثر د َّقة‪ :‬الكون‪ ،‬ليس ٌ‬
‫أمر‬
‫نى الزمان العاملي بحسب االصطالح‬
‫وجود الـ دازين ‪ ،‬وبرأي هايدغر مجيع اخلصائص أو ُب ى‬
‫(‪)2‬‬

‫والتي تعني قابل َّية التوقيت واالمتداد والعموم َّية واالختصاص خمف َّي ٌة يف الفهم غري األصيل‬
‫(املبتذل) للزمان(‪.)3‬‬
‫عل أساس التعريف‬ ‫ذكرت لقد َّبني هايدغر ماه َّية الزمان غري األصيل (املبتذل) ى‬
‫ُ‬ ‫وكام‬
‫يتعرض للدفاع‬
‫أن هايدغر َّ‬ ‫األُرسطي للزمان‪ ،‬ولكن التنبيه ى‬
‫عل هذه النقطة يف مكانه‪ ،‬وهو َّ‬
‫عن ُأرسطو بوجه من الوجوه يف املسائل األساس َّية من علم الظواهر (الفينومينولوجيا)‪ ،‬فهو‬
‫يقول‪ :‬يف التعريف األُرسطي للزمان ليس مفهوم القبل والبعد واحدا‪ ،‬و ُأرسطو من خالل‬
‫عل ضغط األُمور(‪ ،)4‬وبالتال فالتعريف‬ ‫عل القبل َّية والبعد َّية ُيؤ هكد ى‬
‫عل اجلرب أو ى‬ ‫التأكيد ى‬
‫مهام عن الفهم املدريس للزمان‪ ،‬إذ يف الفهم املدريس‬ ‫األُرسطي للزمان خيتلف اختالفا ًّ‬
‫ولكن ُأرسطو التفت إ ىل حمدود َّية الزمان من خالل تأكيده‬
‫َّ‬ ‫أمر غري متناهي‪،‬‬
‫للزمان الزمان هو ٌ‬
‫عل جرب األُمور‪ ،‬وبالتال ففكر ُأرسطو ليس باطال من األساس‪ ،‬رغم أ َّنه بقي يف سطح‬ ‫ى‬
‫املفهوم غري األصيل (املبتذل) للزمان ‪ ،‬ويف الواقع الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان‬
‫(‪)5‬‬

‫أن ُأرسطو ُيؤ هكد نوعا ما ى‬


‫عل‬ ‫عل عدم قابل َّية االنتهاء وعدم تناهي الزمان‪ ،‬يف حني َّ‬
‫يبتني ى‬

‫‪(1) Ibid: 427.‬‬

‫‪(2) Kettering, Emil, (1987), Ibid.p. 296.‬‬

‫‪(3) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 422.‬‬

‫‪(4) Der Zwang der Sachen.‬‬

‫‪(5) Heidegger, Martin, (1997), Ibid. P. 362.‬‬


‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪119‬‬

‫تناهي الزمان(‪.)1‬‬
‫عل أ َّنه ال ينبغي ْ‬
‫أن نفهم مصطلح ووصف غري األصيل (املبتذل)‬ ‫وهنا ال بدَّ من التنبيه ى‬
‫بنحو أخالقي واحلكم عليه مع الغضب أو السخرية‪ ،‬إذ مل يعترب هايدغر َّ‬
‫بأن الفهم غري‬
‫األصيل (املبتذل) للزمان خطأ فكر ًّيا‪ ،‬فهذا الفهم هو بنفسه جز ٌء من تاريخ عامل الفكر‪ ،‬مثلام‬
‫أن الوجود الساقط يتع َّلق بالـ دازين‪ ،‬والـ دازين قد سقط يف الوهلة األُو ىل ويف الغالب(‪،)2‬‬
‫َّ‬
‫فهم كذلك يف الوهلة األُو ىل بنحو غري أصيل‪ ،‬وعدم األصالة ليست‬
‫عل هذا فالزمان ُي َ‬
‫وبناء ى‬
‫أن يكون أصيال َّإال إذا استعاد‬
‫شيئا ُيمكن فصله عن الـ دازين أو فصله‪« ،‬ال ُيمكن للـ دازين ْ‬
‫أن يكون أصيال َّإال إذا جعل نفسه تتعا ىل دائام‬
‫دائام أصالته من جديد‪ ،‬وال ُيمكن للـ دازين ْ‬
‫من داخل الزمان الكائن من جديد إ ىل نفس مزامنة الزمان»(‪ ،)3‬واملفهوم غري األصيل‬
‫غارق يف جمال «ال ُبنية املكان َّية»‪ ،‬وهذا الفهم يف الواقع يتع َّلق بحياتنا اليوم َّية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫(املبتذل) للزمان‬
‫عل أساس احلركة‬‫كيل ى‬‫عل أساس الساعة وبشكل ّ‬ ‫وفهمنا للزمان يف احلياة اليوم َّية يتش َّكل ى‬
‫املكان َّية‪ ،‬فام يقوله ُأرسطو يف تعريف الزمان ينطبق مع الفهم العلمي غري األصيل للزمان(‪،)4‬‬
‫ويف الواقع لقد قام ُأرسطو يف تعريف واحد ببيان عدد من اجلُ َمل التي ُمت هثل الفهم ّ‬
‫الكيل الذي‬
‫يفهمه الناس من الزمان‪.‬‬
‫املحتوى‬
‫ى‬ ‫املعروف لألذهان يستبعد‬
‫ٌ‬ ‫عل َّ‬
‫أن «الزمان غري األصيل (املبتذل)‬ ‫ُيؤ هكد هايدغر ى‬
‫لكن مل ُيصل التأمل يف الزمان َّية‬
‫اخلاص بأنفسها الذي هو نفس الزمان َّية» ‪َّ ،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫َّ‬ ‫الفينومينولوجي‬
‫عل نطاق املوجودات‬ ‫ألن امليتافيزيقيا ُتر هكز دائام ى‬ ‫باعتبارها منشأ للزمان غري األصيل؛ َّ‬
‫ه َّية‬
‫اخلاص َّية امليتافيزيق َّية هي أ َّنه دائام ما ُيعطي األولو َّية واأل ّ‬
‫ّ‬ ‫املحدودة والسابقة‪ ،‬وع َّلة هذه‬
‫أن الزمان غري األصيل يقع يف نطاق املوجودات ولكن‬ ‫لوجه الـ دازين الساقط‪ ،‬ولكن رغم َّ‬

‫‪(1) Marjanovic, Teodor, (1996), Ibid. P. 30.‬‬


‫‪(2) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 192.‬‬
‫‪(3) Pöggeler, Otto, (1994), Ibid. P. 62.‬‬
‫‪(4) Heidegger, Martin, (1997a), Ibid. P. 362.‬‬
‫‪(5) Heidegger, Martin, (1997), Die Grundprobleme der Phänomenologie (GA. 24), F.-W.‬‬
‫‪von Herrman (Hrsg.), Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann. P. 362.‬‬
‫‪ ❖ 120‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يبقى يف نطاق املوجودات‪َّ ،‬‬


‫إن منشأ الزمان غري األصيل هو زمان َّية الـ دازين(‪،)1‬‬ ‫منشأه ال ى‬
‫عى األسايس للفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان هو َّ‬
‫أن الزمان ال ّناية له(‪ ،)2‬ولكن‬ ‫واملدَّ ى‬
‫عل هذا‬
‫الـ دازين برأي هايدغر يقبل االنتهاء‪ ،‬وهو موجو ٌد بنحو حمدود ومتناهي ‪ ،‬بناء ى‬
‫(‪)3‬‬

‫إل الـ دازين ‪ ،‬ولكن يف الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان فالزمان‬
‫فالزمان حمدو ٌد بالنسبة ى‬
‫أمر غري متناهي‪َّ ،‬‬
‫إن التصور غري األصيل (املبتذل) للزمان يتجاهل ال ُبنية الثالث َّية الوجوه‬ ‫هو ٌ‬
‫ويرى َّ‬
‫أن الزمان سلسلة ال ّناية ِّلا من اآلنات‪،‬‬ ‫ى‬ ‫للقلق (الوجود(‪ )4‬والواقع َّية(‪ )5‬والسقوط(‪،))6‬‬
‫إل‬
‫إن «اآلن» الذي ُيشري ى‬‫واليشء الوحيد الذي له حتقق وواقع َّية فيها هو اآلن أو اللحظة(‪َّ ،)7‬‬
‫الساعة هو املتح َّقق فقط؛ يف حني أ َّنه يف الزمان َّية مجيع الوجوه الثالثة للقلق تتع َّلق بوجود‬
‫الـ دازين يف نسبته مع الزمان َّية‪َّ ،‬‬
‫إن القلق موجو ٌد يف مجيع الوجوه الثالث املذكورة‪ ،‬يف إطار‬
‫خاصة للقلق ال تقبل البيان‪،‬‬
‫الفهم غري األصيل (املبتذل) خلصوص ّيات الزمان هناك جوانب َّ‬
‫عل واقع َّية كل من‬
‫ولك َّن الزمان َّية األصيلة تتض َّمن خالفا للمفهوم غري األصيل للزمان ى‬
‫الساحات الثالثة للزمان‪ ،‬وبالتال فهي تتطابق مع بنية جتردات الـ دازين‪ ،‬والوجوه الثالثة‬
‫و«إل‬
‫ى‬ ‫للقلق يعني‪« :‬البعد» (الوجود) أساس املستقبل‪« ،‬القبل» (الواقع َّية) أساس املايض‬
‫جانب»‪( ...‬السقوط) أساس احلال احلارض‪ ،‬هي التي جتعل الـ دازين يتجاوز نفسه أو غريه‪،‬‬
‫وهي نوعا ما ثالثة خروجات عن الذات ُتش هكل الساحات الثالثة للزمان َّية(‪.)8‬‬
‫يطرح هايدغر بحثه من خالل تناهي الـ دازين وقابل َّيته لالنتهاء؛ أل َّنه الـ دازين يمتلك‬
‫قفزة يف املوت‪ ،‬وبالطبع َّ‬
‫فإن لوجوده ّناية‪ ،‬واملستقبل األصيل ُيزامن الزمان َّية من األساس‪،‬‬

‫‪(1) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P.70.‬‬


‫‪(2) Ibid: 424.‬‬

‫‪(3) Ibid: 329.‬‬

‫‪(4) Existenz.‬‬

‫‪(5) Faktizität‬‬

‫‪(6) Verfallen‬‬

‫‪(7) Kettering, Emil, (1987), NÄHE. Des Denken Martin Heideggers, Pfullingen. P. 296.‬‬
‫‪(8) Marx, Werner, (1961), Heidegger und die Tredition, Stuttgart, Kohlhammer. P. 109.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪121‬‬

‫فهم‬
‫و ُيظهر نفسه كأمر يقبل االنتهاء ‪ ،‬إذا كان للزمان َّية أساسا يف املستقبل فام دام املستقبل ُي َ‬
‫(‪)1‬‬

‫كرشط إلمكان تقدم الـ دازين نحو موته أو عدمه‪َّ ،‬‬


‫فإن املستقبل ُيمكن أن يكون قابال‬
‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫بأن الزمان يستمر كذلك‬‫لالنتهاء(‪ ،)2‬وبالطبع ينبغي االلتفات بل من الواضح جدًّ ا َّ‬
‫غري األصيل بعد موت الـ دازين‪َّ ،‬‬
‫إن املستقبل األصيل والقابل لالنتهاء ال عالقة له أبدا‬
‫يتعني بواسطة النهاية وقابل َّية‬
‫إن املستقبل األصيل َّ‬ ‫باستمرار أو عدم استمرار الزمان‪َّ ،‬‬
‫االنتهاء؛ َّ‬
‫ألن املستقبل األصيل ُيمل معه إمكان َّية العدم وإمكان َّية املوت وعدم الوجود‪،‬‬
‫ويستمر الزمان بعد املوت‪ ،‬ولكن ال يعود هناك خصوص َّية للزمان َّية بعد ذلك(‪َّ ،)3‬‬
‫إن الزمان َّية‬
‫عل وجود اإلنسان كوجود ي َّتجه نحو املوت(‪.)4‬‬
‫أمر يقبل االنتهاء؛ أل َّنه يبتني ى‬
‫هي ٌ‬

‫فشل الوجود والزمان والدوران‪:‬‬


‫تم توجيهه إ ىل هايدغر هو بقاؤه يف دائرة مذهب الذات َّية(‪ )5‬أو أصالة املوضوع‪،‬‬
‫أهم انتقاد َّ‬
‫إن ّ‬‫َّ‬
‫بأن الـ دازين يف الوهلة األُو ىل ويف الغالب هو غري أصيل وساقط‪ ،‬وجيب ْ‬
‫أن‬ ‫يعتقد هايدغر َّ‬
‫باجتاه األصالة ‪ ،‬وحتليل زمان َّية الـ دازين بمثابة ُأفق لفهم الوجود‪ ،‬و ُي َ‬
‫طرح أيضا‬ ‫يتحرك ه‬
‫(‪)6‬‬
‫َّ‬
‫بالنسبة إ ىل أصالة الـ دازين أو عدم أصالته‪ ،‬ولكن إذا كان من ا ُمل َّ‬
‫قرر ْ‬
‫أن ال يكون الـ دازين‬
‫أصيال َّإال حينام يتجاوز عدم األصالة ويتعا ىل بنفسه‪ ،‬إذن فجميع األشياء سوف تكون‬
‫أن ُيريد الوصول إ ىل األصالة‪ ،‬أو ْ‬
‫أن ُيريد‬ ‫عل إرادة الـ دازين‪ ،‬وينبغي للـ دازين ْ‬
‫متو هقفة ى‬
‫يتحرر من الفهم املكاين وغري األصيل للزمان‪،‬‬
‫َّ‬ ‫امتالك الفهم األصيل للوجود‪ ،‬أو ُيريد ْ‬
‫أن‬
‫عل نفس‬
‫وعل تصميمه أو ى‬
‫ى‬ ‫عل إرادة الـ دازين؛ إ َّنه يتو َّقف ى‬
‫عل إرادته‬ ‫فكل يشء يتو َّقف ى‬
‫عزمه‪ ،‬وهذا األمر ُيعيد فهمنا األصيل للزمان َّية إ ىل انفتاح الـ دازين وإ ىل فهمه‪ ،‬ويضعنا يف‬

‫‪(1) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 330.‬‬


‫‪(2) Marx, Werner, (1961), Ibid. P. 109.‬‬

‫‪(3) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 330.‬‬

‫‪(4) Ibid.‬‬

‫‪(5) Subjektivismus.‬‬

‫‪(6) Reijen, Willem van, (2009), Martin Heidegger, Wien, UTB. P. 16.‬‬
‫‪ ❖ 122‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل هذا النقد ُيمكن قراءة نفس‬


‫دائرة تفكري املذهب الذات أو أصالة املوضوع‪ ،‬وبناء ى‬
‫(‪)1‬‬

‫يتحرر منه‪ ،‬وبتعبري آخر‪ :‬لقد وقف‬


‫َّ‬ ‫هايدغر يف إطار التفكري امليتافيزيقي؛ رغم أ َّنه أراد ْ‬
‫أن‬
‫هايدغر يف كتاب الوجود والزمان يف املكان الذي أراد ْ‬
‫أن يرحل عنه(‪.)2‬‬
‫بأن كتاب الوجود‬‫لقد التفت هايدغر نفسه بعد الوجود والزمان إ ىل هذا النقد‪ ،‬فكتب َّ‬
‫والزمان ُو ِض َع يف هذه املخاطرة خالفا إلرادته‪ ،‬وهو ما أ ّد ىى إ ىل إحياء أصالة فاعل املعرفة‬
‫عل االلتزام برفع‬ ‫عل حقيقة الوجود أو العزم والتصميم ى‬ ‫إن االنفتاح ى‬‫(املوضوع)(‪َّ ،)3‬‬
‫التشويش من أجل فهم الوجود له وجوه مرتبطة بفاعل املعرفة (املوضوع) للوجود والزمان‪،‬‬
‫وهذا االنفتاح والعزم عبار ٌة عن نوع من اإلرادة(‪ ،)4‬واإلرادة يف الواقع إرادة املوضوع أو‬
‫نجز‪ ،‬فلم ُيك َتب‬ ‫فاعل املعرفة‪ ،‬ور َّبام يكون هذا هو السبب يف َّ‬
‫أن كتاب الوجود والزمان مل ُي َ‬
‫األول ح َّت ىى‪ ،‬وهذا االفرتاض واملخاطرة التي‬
‫أبدا اجلزء الثاين وال القسم الثالث من اجلزء َّ‬
‫ْ‬
‫و«أن يتعالی» بحسب‬ ‫عل الـ دازين ْ‬
‫أن يقوم هبا بحيث يأخذ نفسه نحو البناء النهائي‬ ‫جيب ى‬
‫عل أصالة فاعل املعرفة (املوضوع َّية)‬
‫نوع من اإلرادة األساس َّية املبن َّية ى‬
‫(‪)5‬‬
‫تعبري هايدغر‪ ،‬هو ٌ‬
‫ولكن السبب الذي أوقع كتاب الوجود والزمان يف مثل هذه املشكلة‪ ،‬هو‬
‫َّ‬ ‫وامليتافيزيق َّية(‪،)6‬‬
‫الفصل بني األصالة وعدم األصالة‪ ،‬وبناء األُمور ى‬
‫عل أساس هذا التاميز‪ ،‬إذ كيف يمكننا‬
‫باملعنى املرتبط بوجودها عن معناها غري‬
‫ى‬ ‫فصل األمر األصيل والواقعي واحلقيقي والزماين‬
‫أن تبتعد الفكرة عن ه‬
‫ظل األمر األصيل املمتده فوق رأسه؟‬ ‫األصيل؟ هل من املمكن واقعا ْ‬
‫نى يف بحث القلق‬
‫يسعى إ ىل تقديم ُب ى‬
‫ى‬ ‫عل هايدغر‪ ،‬وهو أ َّنه‬
‫ويف هذا الصدد هناك نقدٌ آخر يرد ى‬
‫نى‪ ،‬وهو ما ُيؤ ّدي إ ىل نوع من التكلف‬
‫والزمان َّية عن طريق نوع من التبسيط وتركيب ال ُب ى‬
‫عل تقديم مجيع مباحثه والتعرض ِّلا يف‬
‫والنظرة الساذجة معا‪ ،‬وهو ما جيعل هايدغر ُجمربا ى‬

‫‪(1) Subjectivism.‬‬
‫‪(2) Marjanovic, Teodor, (1996), Ibid. P. 21.‬‬
‫‪(3) Heidegger, Martin, (1997b), Ibid. P. 194f.‬‬
‫‪(4) Pöggeler, Otto, (1994), Ibid. P. 171.‬‬
‫‪(5) Gründenwollen‬‬
‫‪(6) Tugendhat, Ernst, (2001b), Ibid. P. 189.‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪123‬‬

‫نى وهذا التكلف احلاصل يعودان إ ىل تقدم الوجود‬


‫إطار ذلك‪ ،‬ويف الواقع هذه ال ُب ى‬
‫والزمان(‪.)1‬‬
‫وهو يقول يف الفقرة األخرية من النسخة املطبوعة من كتاب الوجود والزمان‪:‬‬
‫كيف ُي مكن فهم انفتاح الوجود من األساس؟ فهل يمكن احلصول عىل هذا‬
‫األو يل لوجود الـ دازين الفاهم للوجود؟ إ َّن تقويم‬
‫اجلواب يف العودة إىل التقويم َّ‬
‫الوجود لك يليَّة الـ دازين له أساس يف الزمان َّي ة‪ ،‬ويف النتيجة نفس األُسلوب َّ‬
‫األو ل‬
‫كل أمراً مكناً‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ي‬ ‫ملزامنة زمانيَّ ة التعايل جيب أن جيعل طرح تعايل الوجود‬
‫فكيف ُي مكن تفسري هذا الوجه من مزامنة الزمانيَّة؟ فهل هناك سبيل يقودنا من‬
‫وض ح نفسه مثل أُ فق‬
‫األو ل إىل معنى الوجود؟ هل نفس الزمان ُي ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الزمان‬
‫الوجود؟(‪.)2‬‬
‫كانت هذه مقدّ مة للقسم الثالث من كتاب الوجود والزمان وهو القسم الذي مل ُيط َبع‪،‬‬
‫أن يقوم املج َّلد الثاين بتفكيك السنَّة الفلسف َّية من خالل البحث يف فلسفة كانط‬
‫وكان ينبغي ْ‬
‫عرب هايدغر يف رسالة أرسلها إ ىل ماكس كومرييل يف الرابع من‬ ‫وديكارت و ُأرسطو‪ ،‬وقد َّ‬
‫كتاب‬
‫ٌ‬ ‫أثر غري كامل وغري مو َّفق(‪)3‬؛‬
‫أغسطس من عام ‪ 1942‬عن كتاب الوجود والزمان بأ َّنه ٌ‬
‫بقي واقفا يف قبال خطوة ّنائ َّية(‪ ،)4‬و ُيمكن طرح هذه املشكلة بنحو آخر بالشكل الذي اختار‬
‫فيه هايدغر الـ دازين؛ َّ‬
‫ألن الدازين يتعا ىل(‪ )5‬بنفسه بواسطة اخلصوص َّية الوجود َّية ‪ -‬اخلروج‬
‫عن الذات(‪َّ ،)6‬‬
‫إن الـ دازين أبعد من مجيع املوجودات‪ ،‬وهو يقف دائام يف انفتاح الوجود‪،‬‬
‫سعى هايدغر يف رسالة يف باب‬
‫ى‬ ‫ولكن تعاليه هذا هو عبارة عن مصطلح ميتافيزيقي(‪ ،)7‬لقد‬

‫‪(1) Kisiel, Theodore, (1983), „Der Zeitbegriff beim früheren Heidegger. In Zeit und. P. 192.‬‬
‫‪(2) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 437.‬‬
‫‪(3) Torso‬‬
‫‪(4) Kommerell, Max, (1967), Briefe und Aufzeichnungen (1919 - 1944), Inge Jens (Hrsg.),‬‬
‫‪Freiburg am Main, Olten. P. 405.‬‬
‫‪(5) Transzendenz‬‬
‫‪(6) Ekstasis‬‬
‫‪(7) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Ibid. P. 82.‬‬
‫‪ ❖ 124‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ؤسس النفتاح الوجود بشكل ّ‬


‫كيل يف تعال الـ دازين(‪،)1‬‬ ‫إل ْ‬
‫أن ُي ه‬ ‫أساس الذات سنة ‪1929‬م ى‬
‫باملعنى الرائج للكلمة‪ ،‬ويف ّناية هذه‬
‫ى‬ ‫ولكن سعيه يف هذه الرسالة مل يصل إ ىل نتيجة أيضا‬
‫َّ‬
‫املعنى‬ ‫أن نصل من‬ ‫أن نسأل بأ َّنه هل ي ِ‬
‫مكن لنا ْ‬ ‫األُغنية عن الوجود والزمان ُيمكن لنا ْ‬
‫ى‬ ‫ُ‬
‫كيل‪ ،‬والنقطة املس َّلمة هي َّ‬
‫أن الـ دازين يتجاوز‬ ‫معنى الوجود بشكل ّ‬‫ى‬ ‫الوجودي للـ دازين إ ىل‬
‫القدَ م‪ ،‬وبواسطة ذلك ُيمكِن له ْ‬
‫أن يفهم باقي‬ ‫نفسه عن طريق الوجود ‪ -‬يف ‪ -‬العامل منذ ِ‬
‫املوجودات املوجودين يف داخل العامل‪ ،‬ولكن كيف ُيمكِن لزمان َّية وجود الـ دازين ْ‬
‫أن جتعل‬
‫ملعنى الوجود أساسا يف‬
‫ى‬ ‫خرى‪ :‬كيف يكون‬ ‫كيل؟ وبعبارة ُأ ى‬
‫ُأفق انفتاح الوجود ممكنا بشكل ّ‬
‫تعال الـ دازين؟ وإذا عكسنا هذا السؤال عندها ُيمكِن السؤال بأ َّنه أليس النفتاح الـ دازين‬
‫عل الوجود أساس يف انفتاح نفس الوجود(‪)2‬؟‬
‫ى‬
‫معنى الدوران الذي كان ُيشري إليه هايدغر عددا من‬
‫ى‬ ‫ومن خالل هذا السؤال نقرتب من‬
‫أمر مؤ َّق ٌت‪ ،‬وجيب جتاوزه‪،‬‬
‫إن التحليل الوجودي للـ دازين هو ٌ‬ ‫الفكري‪َّ ،‬‬
‫ه‬ ‫املرات طوال حياته‬
‫َّ‬
‫معنى الوجود‬ ‫أن ُينري الطريق من أجل تعيني‬ ‫ِ‬
‫واالستمرار املبارش يف هذا الطريق ال ُيمكن له ْ‬
‫ى‬
‫غري هايدغر يف الوهلة األُ ى‬
‫ول‬ ‫كيل‪ ،‬وبرأيي هذه بداي ٌة للتفكري ما وراء امليتافيزيقيا‪ ،‬لقد َّ‬
‫بشكل ّ‬
‫معنى الوجود(‪ )3‬واستبدله بمصطلح حقيقة الوجود(‪،)4‬‬
‫ى‬ ‫بعد كتاب الوجود والزمان مصطلح‬
‫وحيث إ َّن احلقيقة هي األُ ى‬
‫خرى تعني يف الفهم العمومي صدق وكذب األحكام والقضايا‪،‬‬
‫غري هايدغر هذا املصطلح أيضا إ ىل البقعة املضيئة للوجود(‪ )5‬ولكن نفس هذا التعبري‬
‫لذا فقد َّ‬
‫ينجر إ ىل دوران آخر يف فكر هايدغر‪ )Ebd84( ،‬لقد أعلن هايدغر يف سنة ‪1969‬م َّ‬
‫«أن‬
‫عل َّ‬
‫أن الفكرة‬ ‫تنح ىى لصالح مصطلح حقيقة الوجود‪ ،‬وقد أ َّكد ى‬ ‫معنى الوجود ّ‬
‫ى‬ ‫مصطلح‬
‫الناجتة من الوجود والزمان هتتم يف املستقبل بانفتاح نفس الوجود بعنوانه انفتاح للـ دازين‬

‫‪(1) Heidegger, Martin, (1978), „Vom Wesen des Grundes, In Wegmarken (GA. 9); F.-W.‬‬
‫‪von Herrmann (Hrsg.), Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann. P. 123f.‬‬
‫‪(2) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Ibid. P. 83.‬‬
‫‪(3) Sinn von Sein‬‬
‫‪(4) Wahrheit des Seins‬‬
‫‪(5) Lichtung des Seins‬‬
‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ ‪125‬‬

‫إل‬
‫إل انفتاح الوجود» ‪ .‬وانتقال التأكيد هذا من توسع الـ دازين للوجود ى‬
‫(‪)1‬‬
‫من خالل االلتفات ى‬
‫إل َّ‬
‫أن حتليل الـ دازين‬ ‫املعنى ّ‬
‫الكيل للدوران‪ ،‬وهذا التغيري ُيشري ى‬ ‫ى‬ ‫توسع نفس الوجود ليس شيئا َّإال‬
‫يمكن ْ‬
‫أن جيد‬ ‫فمعنى الوجود ال ُ‬
‫ى‬ ‫يف ُأفق الزمان َّية من أجل فهم الوجود مل يكن مو َّفقا‪ ،‬وبالتال‬
‫أساسه بشكل عام يف تعال الـ دازين‪ ،‬وكام يقول بوغلر‪َّ :‬‬
‫إن التجربة الزمان َّية لنفس الوجود يف‬
‫إل نتيجة‪ .‬ومل يكن هايدغر مو َّفقا يف قفزته من أجل إظهار زمان َّية‬
‫كتاب الوجود والزمان ال تصل ى‬
‫يسعى خلف طريق‬
‫ى‬ ‫معنى الوجود والسعي من أجل إبراز وحدة الزمان َّية(‪ ،)2‬كان جيب عليه ْ‬
‫أن‬ ‫ى‬
‫يضع الزمان َّية التي بمثابة ُأفق الوجود جانبا متاما‪ ،‬ومن أجل فهم الزمان يف فلسفة هايدغر ه‬
‫املتأخرة‬
‫إل حمارضة الوجود(‪َّ ،)3‬‬
‫إن هدف هايدغر من الوجود والزمان كان هو اإلجابة‬ ‫ال بدَّ من الرجوع ى‬
‫سعى هايدغر ْ‬
‫أن يقوم‬ ‫أمر مل َّ‬
‫يتحقق يف ذلك الكتاب‪ ،‬وقد ى‬ ‫عل سؤال الـ دازين عن الوجود‪ ،‬وهو ٌ‬
‫ى‬
‫إحدى حمارضاته سنة ‪1962‬م‪ ،‬وعنوان هذه املحارضة بالد َّقة هو‬
‫ى‬ ‫هبذا العمل بعد ‪ 35‬سنة يف‬
‫صمم للقسم الثالث من املج َّلد َّ‬
‫األول من الوجود والزمان(‪.)4‬‬ ‫نفس العنوان ا ُمل َّ‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫معنى الوجود‪ ،‬ذلك‬
‫ى‬ ‫سعى هايدغر يف كتاب الوجود والزمان إ ىل ْ‬
‫أن يطرح سؤاال عن‬ ‫ى‬ ‫لقد‬
‫تعرض‬
‫سوى الزمان‪ ،‬وقد َّ‬
‫ى‬ ‫يرى ُأفقا لفهم الوجود‬
‫تم نسيانه‪ ،‬ولكنَّه ال ى‬
‫املعنى للوجود الذي َّ‬
‫ى‬
‫األول من الوجود والزمان يطرح‬
‫للتحليل الفلسفي الوجودي للـ دازين‪ ،‬ويف القسم َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫معنى هذا الكائن‪ ،‬ولكن القلق يف حتليل هايدغر‬


‫ى‬ ‫ويرى َّ‬
‫أن القلق هو‬ ‫ى‬ ‫اإلنسان ككائن يف العامل‪،‬‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Heidegger,‬‬ ‫‪Martin,‬‬ ‫‪(2005),‬‬ ‫‪Phänomenologische‬‬ ‫‪Interpretation‬‬ ‫‪ausgewälter‬‬

‫‪Abhandlungen des Aristoteles zu Ontologie und Logik. G. Neumann (Hrsg.), Frankfurt‬‬

‫‪am Main, Vittorio Klostermann. P. 345.‬‬


‫‪(2) Pöggeler, Otto, (1994), Ibid. P. 180.‬‬

‫‪(3) Heidegger, Martin, (1976), „Zeit und Sein, In Zur Sache des Denken, Tübingen, Max‬‬

‫‪Niemezer, S. 1- 26.‬‬

‫‪(4) Tugendhat, Ernst, (2001b), Ibid. P. 185.‬‬

‫‪(5) Existential‬‬
‫‪ ❖ 126‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫متنوعة وذات ثالثة وجوه‪ ،‬وهي تشمل ًّ‬


‫كال من‪ :‬الوجود والواقع َّية والسقوط‪،‬‬ ‫عبارة عن ُبنية ه‬
‫أن‬ ‫إن هذه ال ُبنية متك هثرةٌ‪ ،‬وبناء عليها ال ُيمكِن ْ‬
‫أن نكتفي هبا يف حتليل الـ دازين‪ ،‬وجيب علينا ْ‬ ‫َّ‬
‫املتنوع يف وحدة‪ ،‬وهذا‬
‫نسعى خلف أساس لوحدة وجود الـ دازين‪ ،‬بحيث ُنخرج هذا البناء ه‬
‫ى‬
‫البناء هو نفس الزمان َّي ة‪ ،‬واألركان الثالثة للقلق تتزامن يف ثالث خروجات عن الذات‬
‫عل التاميز بني األصالة وعدم األصالة‪،‬‬
‫بنى هايدغر بحثه يف حتليل الزمان َّية ى‬
‫للزمان َّية‪ ،‬لقد ى‬
‫عل هذا سوف‬
‫معنى القلق هو الزمان َّية‪ ،‬فبناء ى‬
‫ى‬ ‫وقال بأ َّنه إذا كان للقلق ثالثة أركان‪ ،‬وكان‬
‫تعرض‬
‫يكون لدينا س َّتة ظواهر زمان َّية‪ ،‬وهي تشمل مجيع أطوار وجود الـ دازين‪ ،‬وقد َّ‬
‫عل أساس الزمان َّية غري‬
‫لتحليل هذه الظواهر‪ ،‬وفيام بعد يقوم بتعريف الزمان العاملي ى‬
‫عل انشغال القلب‪ ،‬ولذا خيرج عن ذات احلال احلارض‪ ،‬وبالتال فهو‬
‫األصيلة‪ ،‬والذي يبتني ى‬
‫يمتلك أساسا يف الزمان َّية غري األصيلة‪ ،‬وهو يفهم مجيع األشياء بالنسبة إ ىل اآلنات‪ ،‬ولكن‬
‫هذه الزمان َّية ليست مس َّطحة‪ ،‬وفيام بعد ينتقد هايدغر الفهم امليتافيزيقي فيام يتع َّلق بالزمان َّية‬
‫غري األصيلة وفيام يتع َّلق بعنوان توال اآلنات املس َّطحة‪ ،‬و ُي هبني متايزها عن الزمان َّية األصيلة‪ ،‬وينتقد‬
‫هايدغر الفكر امليتافيزيقي يف باب الزمان‪ ،‬ولك َّنه ُيركه ز حتليله بأكمله ى‬
‫عل متايز األصالة وعدم‬
‫أن الـ دازين جيب ْ‬
‫أن يرتاجع عن عدم األصالة من خالل تصميمه أو‬ ‫األصالة‪ ،‬ويف النهاية يعتقد َّ‬
‫عزمه املتقده م‪ ،‬فالـ دازين األصيل هو الذي يمتلك فهام أصيال للزمان‪ ،‬والفهم امليتافيزيقي غري‬
‫عل أساس‬ ‫تكونت ى‬‫عل الـ دازين غري األصيل‪ ،‬وقد َّ‬ ‫أصيل؛ َّ‬
‫ألن امليتافيزيقيا كانت ُتركه ز دائام ى‬
‫وعل‬ ‫ِ‬
‫عل إرادة الـ دازين ى‬
‫مواجهة الـ دازين ذو القلب املشغول‪ ،‬ولكن هذا التأكيد من ق َبل هايدغر ى‬
‫عزمه‪ ،‬هو يف الواقع بقا ٌء منه يف التفكري امليتافيزيقي‪ ،‬وهو األساس لفشل كتاب الوجود والزمان‪ ،‬يف‬
‫إل ثالثة وجو ٌه جعل القلق وجعل حتليله للزمان َّية‬
‫الواقع هايدغر مع تقليله ل ُبنية وجود الـ دازين ى‬
‫نى وهذا املنطق‬ ‫إل ذلك َّ‬
‫فإن هذه ال ُب ى‬ ‫األصيلة وغري األصيلة يف دائرة املفاهيم امليتافيزق َّية‪ ،‬ومضافا ى‬
‫الداخيل ها يف حكم البناء املقفل واليدين والرجلني املق َّيدتني‪ ،‬وهو األمر الذي ُيلقي بظ هله ى‬
‫عل‬
‫إل‬
‫بقوة ى‬
‫سعى هايدغر َّ‬‫إن الدوارن قد حصل يف فكر هايدغر بسبب هذا الفشل‪ ،‬وقد ى‬ ‫حتليل هايدغر‪َّ .‬‬
‫معنى الوجود‪.‬‬
‫إجياد طريق آخر لطرح سؤال واحد عن ى‬

‫* * *‬
127 ❖ ‫حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل‬

:‫املصادر‬
Anzenbacher, Arno, (1987), Einführung in die Philosophie, Wien, Herder.
Chin, Chin - Chien, (2014(, Zeit verstehen, Würzburg, Königshausen &
Neumann.
Figal, Günter, (2000), Heidegger. Zur Einführung, Hamburg, Junius.
Fleischer, Margot, (1991), Zeitanalysen in Heideggers„Sein und Zeit, Aporien,
Probleme und Ausblick. Würtzburg, Könnigshausen & Neumann.
Heidegger, Martin, (1967), Sein und Zeit, Elfte unveränderte Auflage,
Tübingen, Max Niemeyer.
Heidegger, Martin, (1973), Kant und das Problem der Metaphysik (GA. 3), F.-
W. von Herrmann(Hrsg.), Frankfurt am Main,Vittorio Klosstermann .
Heidegger, Martin, (1976), „Zeit und Sein, In Zur Sache des Denken,
Tübingen, Max Niemezer, S. 1- 26.
Heidegger, Martin, (1978), „Vom Wesen des Grundes, In Wegmarken (GA. 9);
F.-W. von Herrmann (Hrsg.), Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann .
Heidegger, Martin, (1997a), Die Grundprobleme der Phänomenologie (GA.
24), F.-W. von Herrman (Hrsg.), Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann .
Heidegger, Martin, (1997b), Nietzsche 2. (GA. 6.2), B. Schillbach (Hrsg.),
Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann.
Heidegger, Martin, (2005), Phänomenologische Interpretation ausgewälter
Abhandlungen des Aristoteles zu Ontologie und Logik. G. Neumann (Hrsg.),
Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann.
Inwood, Michael, (2004), Heidegger, David Bernfeld (Übers.), Wien, Herder.
Kettering, Emil, (1987), Nähe Des Denken Martin Heideggers, Pfullingen.
Kisiel, Theodore, (1983), „Der Zeitbegriff beim früheren Heidegger. In Zeit
und
Zeitlichkeit bei Husserl und Heidegger. Phänomenologische Forschungen. Bd.
14, Ernst Wolfgang Orth (Hrsg.), Freiburg/ Alber, München.
Kommerell, Max, (1967), Briefe und Aufzeichnungen (1919- 1944), Inge Jens
(Hrsg.), Freiburg am Main, Olten.
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬128

Marjanovic, Teodor, (1996), Der Zeitbegriff in Martin Heideggers Weken, Sein


und Zeit und Zeit und Sein, Helmut Vetter (Betreuer) Diplomarbeit, Universität
Wien.
Marx, Werner, (1961), Heidegger und die Tredition, Stuttgart, Kohlhammer.
Müller, Marx & Hadler, Alois, (1965), Herders Kleines Philosophisches
Wörterbuch, Freiburg im Breisgau, Herder.
Pöggeler, Otto, (1994), Der Denkweg Martin Heideggers; Stuttgart, Neske.
Reijen, Willem van, (2009), Martin Heidegger, Wien, UTB.
Safranski, Rüdiger, (2013), Ein Meister aus Deutschland. Heidegger und seine
Zeit, München, Fischer Taschenbuc.
Sandbothe, Ernst, (2003), „Zeit von der Grundverfassung des Daseins zur
Vielfalt der Zeit - Sprachspiele. In Heidegger Handbuch, Leben - Werk - Wirkung,
Dieter Thomä (Hrsg.), Stuttgart, J. B. Metzler.
Streubel, Thorsten, (2006), Das Wesen der Zeit. Zeit und Beweußtsein bei
Augustinus, Kant und Husserl, Würtzburg, Königshausen & Neumann.
Thomä, Dieter, (1990), Die Zeit des Selbst und die Zeit danach. zur Kritik der
Textgeschichte Martin Heideggers (1910 - 1976), Frankfurt am Main, Suhrkampf.
Tugendhat, Ernst, (2001a), „Heidegger und Bergson über die Zeit. In Aufsätze
(1992 - 2000), Frankfurt am Main, Suhrkampf, S. 11- 26.
Tugendhat, Ernst ,(2001b),„Zeit und Sein in Heideggers Sein und Zeit. In
Aufsätze (1992 - 2000), Frankfurt am Main, Suhrkampf, S. 185 - 199.
Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Die Philosophie Martin
Heideggers; Eine Einfühung in Sein Denken, Bernd Heimbüchel (Hrsg.),
Würzburg, Königshausen & Neumann.
Unterthurner, Gerhard, (1993), Bemerkungen zu Heideggers Analyse der
Stimmungen, Helmut Vetter (Betreuer), Diplomarbeit: Universität Wien.

* * *
‫دراسة مقارنة بني‬
‫تأويل صدر املتألِّهني وهرمنيوطيقا هايدغر‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫حممد بيدهندي‬
‫ي‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫يرى َّ‬
‫أن التأويل هو املرتبة‬ ‫إن التأويل ُيم هثل رضورة يف املنظومة الفكر َّية لصدر ه‬
‫املتأِّلني‪ .‬فهو ى‬ ‫َّ‬
‫الالمرئ َّية من األُمور‪.‬‬
‫األكمل لـ التفسري‪ ،‬ويرتبط بالباطن والصورة َّ‬
‫وإن دراسة النسبة بني‬‫املتأِّلني للتأويل متأ هثر بشدَّ ة بـ أنطولوج َّيته‪َّ .‬‬
‫ه‬ ‫َّ‬
‫إن فهم صدر‬
‫اختص باملسألة األُو ىل من هذه‬
‫َّ‬ ‫واجتاهه الوجودي إ ىل التأويل قد‬‫املتأِّلني ه‬
‫أنطولوج َّية صدر ه‬
‫عل أصالته‪ ،‬واعتباره ذا مراتب‪ ،‬باإلضافة‬ ‫الدراسة‪َّ .‬‬
‫إن االهتامم اجلذري بالوجود‪ ،‬والتأكيد ى‬
‫إ ىل األصلني الفلسف َّيني‪ ،‬وها‪ :‬احلركة اجلوهر َّية‪ ،‬ه‬
‫واحتاد العاقل واملعقول‪ ،‬من املم هيزات‬
‫املتأِّلني‪ ،‬والتي كانت مؤ هثرة يف هاجتاهه ى‬
‫إل التأويل‪ .‬وفيام‬ ‫األصل َّية للتفكري الفلسفي لصدر ه‬
‫املعنى من التاويل ‪ -‬التأويل الوجودي ‪ -‬هناك تناغم كامل بني ُك ُتبه الثالثة‪،‬‬
‫ى‬ ‫يتع َّلق هبذا‬
‫كل واحد من مراتب‬ ‫وهي‪ :‬التكوين‪ ،‬والتدوين‪ ،‬والنفس‪ ،‬بحيث إ َّن انكشاف وظهور ه‬
‫وعوامل الوجود والبطون القرآن َّية رهن بانكشاف املراتب والدرجات الوجود َّية لإلنسان‪.‬‬
‫املتأِّلني وهرمنيوطيقا هايدغر ُمت هثل املسألة‬ ‫َّ‬
‫إن الدراسة املقارنة لـ التأويل الوجودي لصدر ه‬
‫الثانية يف هذه املقالة‪َّ .‬‬
‫إن االهتامم بـ الوجود بدال من املوجود أو ماه َّية وفهم احلقيقة بام هي‬
‫انكشاف الوجود وتبيني اإلنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي ليس له حد وجودي خاص‪،‬‬

‫(‪ )1‬بررسى تطبيقى تاويل مالصدرا و هرمونوتيک هيدگر‪ ،‬درخرد نامهی صدرا‪ ،1387 ،‬شامرهی ‪،53‬‬
‫ص ‪.72 - 61‬‬
‫(‪ُ )2‬أستاذ مساعد يف قسم اإلِّل َّيات من جامعة أصفهان‪.‬‬
‫عيل مطر‪.‬‬
‫تعريب‪ :‬حسن ّ‬
‫‪ ❖ 130‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إ ىل جانب االهتامم بمسألة العامل‪ ،‬من بني العنارص اِّلا َّمة‪ ،‬التي ُتش هكل أرض َّية مناسبة‬
‫لألبحاث املقارنة بشأن التأويل الوجودي لصدر ه‬
‫املتأِّلني وهرمنيوطيقا هايدغر‪.‬‬
‫عل الرغم من انطالقهام من مبادئ خمتلفة ومن طريقني‬ ‫إن كال هذين الفيلسوفني ى‬ ‫َّ‬
‫خمتلفني‪َّ ،‬إال أ َّّن ام قد اقرتبا يف منتصف الطريق من بعضهام يف بعض املوارد‪ ،‬وحيث إ َّن غايتهام‬
‫فإّنام عادا ليبتعدا عن بعضهام يف ّناية الطريق‪َّ .‬‬
‫إن حتليل وبيان املوارد‬ ‫مل تكن واحدة‪َّ ،‬‬
‫أهم أهداف هذه املقالة‪.‬‬
‫املذكورة ُي َعد من ّ‬

‫املقدّمة‪:‬‬
‫َّ‬
‫إن كلمة التأويل مصطلح شائع يف التاريخ والثقافة الده ين َّية‪ ،‬والس َّيام يف الرتاث اإلسالمي‪.‬‬
‫تم استعامل كلمة التأويل‬
‫بمعنى العود والرجوع إ ىل األصل‪ .‬وقد َّ‬
‫ى‬ ‫األول‬
‫والتأويل مأخوذ من َّ‬
‫املفِّسين الده ين هيني‬ ‫يف مورد ال ُك ُتب السامو َّية‪ ،‬بحيث لو َّ‬
‫تم استعامل هذه الكلمة يف مصطلح ه‬
‫بشكل مطلق‪َّ ،‬‬
‫فإن الذهن لن ينرصف إ ىل غري تأويل ال ُك ُتب السامو َّية‪ ،‬يف حني َّ‬
‫تم استعامل‬
‫كلمة التأويل يف ال ُك ُتب السامو َّية والنصوص الده ين َّية ومن بينها القرآن الكريم‪ ،‬يف تأويل‬
‫الرؤيا أيضا‪ ،‬باإلضافة إ ىل استعامِّلا يف نصوص ال ُك ُتب املقدَّ سة‪.‬‬
‫لقد كان التأويل ك ُأسلوب ومنهج موجود بني األُ َمم ى‬
‫عل الدوام‪ ،‬حيث يتم توظيفه غالبا‬
‫يف إثبات العقائد واآلراء اجلديدة وغري املسبوقة‪ ،‬وكذلك لتوجيه ظاهر كالم ال ُك ُتب املقدَّ سة‪،‬‬
‫مقتىض العقل أو الذوق‪ .‬وقد انتبه أشخاص ‪ -‬من‬
‫ى‬ ‫والس َّيام املوارد التي تتوافق يف ظاهرها مع‬
‫األول للميالد) يف الرتاث اليهودي‪ ،‬و ُأورجين(‪،)2‬‬
‫أمثال فيلون اإلسكندراين (يف القرن َّ‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪ )1‬فيلون السكندري أو فيلو السكندري (‪ 20‬ق‪ .‬م ‪ 50 -‬م)‪ :‬فيلسوف هيودي عاش يف الفرتة اِّللنستيَّة‪.‬‬
‫املعرب‪.‬‬
‫استخدم الرمز ملواءمة الفلسفة اليونان َّية واليهود َّية‪ .‬ه‬
‫ِ‬
‫تم تنصيبه من ق َبل أساقفة ُأورشليم‬ ‫(‪ُ )2‬أورجين (حوال عام ‪ - 185‬؟ م)‪ :‬فيلسوف وقس مسيحي‪َّ .‬‬
‫عل اإلسكندر َّية‪ ،‬ولكن األُسقف السابق رفض ذلك ونفاه إ ىل قيصار َّية‪ ،‬وهناك َّ‬
‫تفرغ‬ ‫قسا ى‬ ‫وقيصار َّية ًّ‬
‫معذبا يف سجون اإلمرباطور‬ ‫قىض العقدين األخريين من حياته َّ‬
‫للتأليف يف حقل التفسري ور هد الشبُهات‪ .‬ى‬
‫وعل الرغم من أ َّنه مل ُيقتَل‪ ،‬ولكنَّه عاش بق َّية حياته ًّ‬
‫معتال يعاين من الضعف واملرض‪ ،‬حتَّ ىى‬ ‫ى‬ ‫(دكيوس)‪،‬‬
‫املعرب‪.‬‬‫وافته املن َّية حوال سنة ‪253‬م‪ .‬ه‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪131‬‬

‫(الزنديق َّية) املجوس َّية يف تفسري‬ ‫و ُأوغسطني(‪ )1‬يف الرتاث املسيحي‪ِ ،‬‬
‫والف َرق الزنديك َّية‬
‫(‪)2‬‬

‫أن املسلمني قد عمدوا بدورهم ‪ -‬ضمن بيان اآلل َّية‬ ‫ه َّية آل َّية التأويل‪ .‬كام َّ‬
‫األفستا ‪ -‬إ ىل أ ّ‬
‫املتنوعة‪ ،‬من قبيل‪ :‬الفلسفة‪ ،‬والعرفان‪،‬‬
‫املمتازة واإلثبات املعريف لـ التأويل يف خمتلف احلقول ه‬
‫والتفسري‪ ،‬و ُأصول الفقه‪ ،‬والكالم ‪ -‬إ ىل االستفادة من التأويل بوصفه وسيلة الكتشاف‬
‫احلقيقة‪.‬‬
‫ه َّية الكبرية التي ُيو هليها علامء اإلسالم لـ التأويل‬
‫عل الرغم من األ ّ‬
‫ولألسف الشديد فإ َّنه ى‬
‫يف الرتاث اإلسالمي‪ ،‬وما قدَّ موه من األبحاث والدراسات الواسعة يف هذا الشأن‪ ،‬ال يزال‬
‫هناك نوع من االضطراب والغموض يف هذا الشأن‪ ،‬وقد أ ّد ىى ذلك إ ىل الكثري من سوء الفهم‬
‫وإن هذا االضطراب يصل إ ىل حد بحيث حتدَّ ث بعض العلامء واملف هكرين‬‫واملخالفات اِّلا َّمة‪َّ .‬‬
‫املسلمني عن التأويل بوصفه ُأسلوبا أصيال لفهم آيات القرآن والنصوص الده ين َّية(‪ ،)3‬وذهب‬
‫آخرون إ ىل حده اعتبار التأويل نوعا من التحريف‪.‬‬
‫بمعنى‪ :‬الكالم‪ ،‬والرشح‪،‬‬
‫ى‬ ‫إن مفردة اِّلرمنيوطيقا مشت َّقة من الفعل هرمنيوين ‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫َّ‬
‫والتفسري‪ ،‬والتأويل‪ ،‬والرتمجة‪ .‬ويبدو من املستحيل تقديم تعريف جامع لعلم اِّلرمنيوطيقا‪،‬‬
‫متاما كام هو احلال بالنسبة إ ىل التأويل‪ .‬وقد قدَّ م ريتشارد باملر(‪ - )5‬بالنظر إ ىل املسار التارخيي‬
‫عل النحو اآلت‪:‬‬
‫لعلم اِّلرمنيوطيقا ‪ -‬ست تعريفات خمتلفة نسب ًّيا‪ ،‬وهي ى‬
‫‪ - 1‬نظر َّية تفسري الكتاب املقدَّ س‪.‬‬

‫(‪ )1‬القده يس ُأوغسطني (‪430 - 354‬م)‪ :‬كاتب وفيلسوف من أصل نوميدي ‪ -‬التيني‪ُ .‬ولِدَ يف طاغاست‬
‫أهم الشخص َّيات املؤ هثرة يف املسيح َّية الغرب َّية‪ .‬تعتربه الكنيستان‬
‫(سوق أهراس حال ًّيا يف اجلزائر)‪ُ .‬ي َعد أحد ّ‬
‫(الكاثوليكيَّة واإلنجيليكانيَّة) قده يسا وأحد آباء الكنيسة البارزين‪ ،‬وشفيع املسلك الرهباين األُوغسطيني‪.‬‬
‫كام يعده العديد من الربوتستانتيني ‪ -‬والسيَّام الكالفانيون ‪ -‬أحد املصادر َّ‬
‫الالهوتيَّة لتعاليم اإلصالح‬
‫املعرب‪.‬‬
‫الربوتستانتي حول النعمة واخلالص‪ .‬ه‬
‫(‪ )2‬نسبة إ ىل (زند)‪ ،‬يف الديانة املجوس َّية‪.‬‬
‫َّ‬
‫والعالمة الطباطبائي‪ ،‬إ ىل‬ ‫(‪ )3‬لقد ذهب كل من حميي الده ين بن عرب‪ ،‬وصدر ه‬
‫املتأِّلني‪ ،‬والفيض الكاشاين‪،‬‬
‫القول َّ‬
‫بأن التأويل منهج أصيل يف فهم القرآن والنصوص الده ينيَّة‪.‬‬
‫‪)4( hermeneuein‬‬
‫املعرب‪.‬‬
‫(‪ )5‬ريتشارد باملر بالكمور (‪1965 - 1904‬م)‪ :‬ناقد وشاعر وأديب أمريكي‪ .‬ه‬
‫‪ ❖ 132‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫‪ - 2‬املنهج العام ملعرفة اللغة‪.‬‬


‫‪ - 3‬علم مجيع أنواع الفهم اللغوي‪.‬‬
‫‪ - 4‬املباين املعرف َّية للعلوم اإلنسان َّية‪.‬‬
‫‪ - 5‬فينومينولوجيا الوجود وفينومينولوجيا الفهم الوجودي‪.‬‬
‫‪ - 6‬أنظمة التأويل(‪.)1‬‬
‫بأن اِّلرمنيوطيقا عبارة عن آل َّية الفهم فيام يتع َّلق بتفسري‬
‫إل القول َّ‬
‫ى‬
‫(‪)2‬‬
‫وذهب بول ريكور‬
‫النصوص(‪.)3‬‬
‫فن التفسري والتأويل‪ ،‬كانت يف األصل نظر َّية و ُأسلوبا‬
‫بمعنى ه‬
‫ى‬ ‫فإن اِّلرمنيوطيقا‬ ‫نرى َّ‬
‫وكام ى‬
‫تعرض إ ىل تغيريات‬ ‫لتأويل وتفسري ال ُك ُتب املقدَّ سة والنصوص املع َّقدة األُ ى‬
‫خرى‪ .‬والحقا َّ‬
‫عل يد أمثال‪ :‬شالير ماخر(‪ ،)4‬وفيلهلم دلتاي‪ ،‬وكذلك مارتن‬
‫جذر َّية يف العرص احلديث ى‬
‫أن ُأصول التفسري وتأويل الكتاب املقدَّ س‬
‫عل الرغم من َّ‬
‫هايدغر‪ ،‬وهانس جورج غادامري‪ .‬ى‬
‫ال تزال هي األكثر شيوعا يف فهم مفردة اِّلرمنيوطيقا‪.‬‬
‫سوف نتناول يف هذه املقالة ‪ -‬دون الدخول يف تفاصيل فلسفة صدر ه‬
‫املتأِّلني ومارتن‬
‫هايدغر ‪ -‬دراسة إمكان املقارنة بني التأويل الوجودي املنشود من وجهة نظر صدر ه‬
‫املتأِّلني‬
‫لدى مارتن هايدغر‪ .‬ويف البداية سوف نبحث يف وجهة نظر‬
‫واِّلرمنيوطيقا األنطولوج َّية ى‬
‫املتأِّلني بشأن ُأسلوب توظيف التأويل بوصفه منهجا يف فهم النصوص‪ ،‬لننتقل بعد‬
‫صدر ه‬

‫حممد سعيد حنائي‬ ‫(‪ )1‬باملر‪ ،‬ريتشارد‪ ،‬علم هرمنوتيک (علم اهلرمنيوطبيقا)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ّ :‬‬
‫كاشاين‪ ،‬ص ‪ ،41‬نرش هرمس‪ ،‬طهران‪1377 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )2‬بول ريكور (‪2005 - 1913‬م)‪ :‬فيلسوف فرنيس وعامل إنسانيَّات معارص‪ .‬من مم هثيل التيّار التأوييل‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫اهتم بعد ذلك بالبنيو َّية‪ُ .‬ي َعد امتدادا لـ (فرديناند دي سيسور)‪ .‬من أشهر أعامله‪( :‬نظر َّية التأويل)‪،‬‬
‫َّ‬
‫املعرب‪.‬‬
‫ه‬ ‫)‪.‬‬ ‫املعنى‬
‫ى‬ ‫وفائض‬ ‫و(اخلطاب‬
‫‪(3) Ricoeur, Paul, Hermeneutics and the Human Sceince, trans. John Tompson, Cambridge‬‬
‫‪University Press, 1992, p. 43.‬‬
‫(‪ )4‬فريدريك دانيال إرنست شاليرماخر (‪1834 - 1768‬م)‪ :‬الهوت وفيلسوف أملاين‪ُ .‬يعتَرب زعيام مب هكرا‬
‫املعرب‪.‬‬
‫للمسيح َّية الليربال َّية‪ .‬ه‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪133‬‬

‫ذلك يف املرحلة الثانية إ ىل البحث يف رؤية هايدغر بوصفه شخص َّية بارزة يف اِّلرمنيوطيقا‬
‫اجلديدة‪ .‬ويف اخلتام عمدنا ‪ -‬ضمن توصيف هاتني الرؤيتني ‪ -‬إ ىل تناول إمكان َّية املقارنة‬
‫بينهام بالدراسة والتحليل‪ .‬ومن الواضح َّ‬
‫أن البيان التفصييل لنظر َّية هذين الفيلسوفني ُيتاج‬
‫يف حده ذاته إ ىل رسالة مستق َّلة‪.‬‬

‫التأويل من وجهة نظر صدر املتألِّهني‪:‬‬


‫عل سلسلة من‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني ومارتن هايدغر ى‬ ‫يقوم كل من التأويل واِّلرمنيوطيقا عند صدر‬
‫اخلاصة‪ ،‬بحيث ال يمكن التوصل إ ىل فهم عميق آلرائهام يف هذا الشأن دون‬
‫َّ‬ ‫األُصول واملباين‬
‫عل تعريف بعض تلك األُصول واملباين‪.‬‬‫العمل ى‬
‫املتأِّلني إ ىل اعتبار َّ‬
‫أن الوجود وحده هو األصيل واملنشأ لآلثار‪ ،‬وجعله‬ ‫لقد ذهب صدر ه‬
‫عل الرغم من تعرضه يف‬
‫املبنى واألساس جلميع القواعد الفلسف َّية واملسائل اإلِّل َّية ‪ .‬إ َّنه ى‬
‫(‪)1‬‬
‫هو ى‬
‫الكثري من املوارد إ ىل طرح األبحاث والنظر َّيات الفلسف َّية ضمن إطار امليتافيزيقا التقليد َّية‪،‬‬
‫َّإال أ َّنه ال يغفل عن الوجود واعتبار املوجود هو املحور‪ ،‬وقوله بأ َّنه املاه َّية ُمت هثل نوعا من‬
‫االنحراف يف تاريخ الفلسفة‪ .‬يول صدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ -‬كام هو شأن مارتن هايدغر ‪ -‬اهتامما أكرب‬
‫أن هؤالء‬‫بفالسفة ما قبل عرص ُأرسطو‪ ،‬ويراهم هم أصحاب املعرفة احلقيق َّية؛ وذلك َّ‬
‫الفالسفة مل ُُيرصوا فهم الوجود واحلقيقة يف العلوم احلصول َّية‪ ،‬وإ َّنام كانوا يرون الطريق‬
‫الواقعي للمعرفة يكمن يف احلضور ضمن حمرض الوجود‪ ،‬وكان يعترب احلقيقة انكشافا‬
‫للوجود‪.‬‬
‫عل العلم بالوجود‬ ‫فيام يتع َّلق باألنطولوجيا التأويل َّية لصدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ ،‬يمكن احلصول ى‬
‫(‪)2‬‬

‫خاص من الشهود‪ ،‬رغم َّ‬


‫أن هذا الكالم ال يعني نفي االستدالل‬ ‫ّ‬ ‫ومراتبه من خالل نوع‬
‫العقيل بشأن مفهوم الوجود‪ .‬وإليك نص عبارة صدر ه‬
‫املتأِّلني يف هذا الشأن‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬تصحيح‪ :‬نجف قيل حبيبي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪،15‬‬ ‫(‪ )1‬صدر ه‬
‫املتأِّلني الشريازي‪ّ ،‬‬
‫بنياد حكمت اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1386 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد‪ ،‬برريس وحتليل هستي شنايس تأويل مال صدرا (دراسة وحتليل‬
‫(‪ )2‬للمزيد من التوضيح بيدهندي‪ّ ،‬‬
‫املتأِّلني)‪ ،‬جم َّلة مطالعات وپژوهشهاى دانشكده ادبيات وعلوم انسانى‬
‫ه‬ ‫األنطولوجيا التأويل َّية لصدر‬
‫دانشگاه اصفهان‪ ،‬العدد املزدوج‪ 34 :‬و‪1382 ،35‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ ❖ 134‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫فالعلم هبا َّإما أن يكون باملشاهدة احلضور َّية أو باالستدالل عليها بآثارها‬
‫عرف هبا َّإال معرفة ضعيفة(‪.)1‬‬
‫ولوازمها‪ ،‬فال ُت َ‬
‫بأن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات‬ ‫املتأِّلني إ ىل االعتقاد َّ‬
‫ه‬ ‫يذهب صدر‬
‫األعم من اإلنسان والعامل والقرآن ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫كل حقيقة ‪-‬‬ ‫أن َّ‬
‫يرى َّ‬
‫متعده دة ومتك هثرة‪ ،‬ومن هنا فإ َّنه ى‬
‫أن َّ‬
‫كل‬ ‫عل هذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫ذات مراتب ودرجات متناظرة ومتطابقة فيام بينها‪ .‬وهو ُيؤ هكد ى‬
‫ما هو موجود يف هذا العامل املا ّدي‪ ،‬له يف الواقع ما يضاهيه يف عامل املثال‪َّ ،‬‬
‫وإن املوجود يف عامل‬
‫املثال هو يف احلقيقة مثال لذلك اليشء املتح هقق يف العامل العقالين أو ما فوق املثال‪ .‬إ َّنه نتيجة‬
‫يتطرق إليه‬ ‫أصل وحقيقة وروح ورس ه‬
‫كل يشء موجود يف العامل العقالين‪ ،‬وهو العامل الذي ال َّ‬
‫أي نوع من أنواع الكثرة والتغري واحلجم واملقدار أبدا‪.‬‬
‫املتأِّلني فيام يتع َّلق باإلنسان ‪ -‬بوصفه الكائن الوحيد الذي ليس له حد‬
‫كام يذهب صدر ه‬
‫أن يكون له حضور يف مجيع عوامل الوجود‪ْ ،‬‬
‫وأن يكتب التحقق‬ ‫وجودي خاص‪ ،‬ويمكن ْ‬
‫عل مراتب وعوامل ثالثة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫جلميع عوامل الوجود يف داخله ‪ -‬إ ىل اشتامله ى‬
‫احلس واإلحساس‪.‬‬
‫‪ - 1‬عامل ه‬
‫‪ - 2‬عامل اخليال واملثال‪.‬‬
‫‪ - 3‬عامل العقل وما فوق املثال‪.‬‬
‫سؤال‪ :‬ما هو التأثري الذي تركه هذا األُسلوب من الرؤية الكون َّية واألنثروبولوج َّية ى‬
‫عل‬
‫املتأِّلني متأ هثرا يف تفسري‬
‫أي حد كان صدر ه‬ ‫املتأِّلني للتأويل؟ وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬إ ىل ه‬ ‫فهم صدر ه‬
‫اخلاصة إ ىل الوجود والكون واإلنسان؟‬‫َّ‬ ‫وتأويل القرآن وغريه من النصوص الده ين َّية‪ ،‬برؤيته‬
‫إل القول‬ ‫لقد ذهب صدر ه‬
‫املتأِّلني من خالل تصويره للمراتب الوجود َّية للعامل واإلنسان ى‬
‫بوجود مراتب ودرجات للقرآن الكريم‪ ،‬وقارن بني ظاهره وظاهر اإلنسان وظاهر العامل‪،‬‬
‫عل عامل املا َّدة‬
‫حواسه الظاهر َّية فقط‪ ،‬وما دام مقترصا ى‬
‫ه‬ ‫عل‬ ‫وقال َّ‬
‫بأن اإلنسان ما دام يعتمد ى‬
‫واملحسوسات‪ ،‬فإ َّنام يمكنه االستفادة من الظاهر اجلسامين للقرآن فقط‪َّ ،‬‬
‫وإن إدراك باطن‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬األسفار األربعة‪ ،‬تصحيح‪ :‬غالم رضا أعواين‪ ،‬ج ؟‪ ،‬ص‬ ‫(‪ )1‬صدر ه‬
‫املتأِّلني الشريازي‪ّ ،‬‬
‫‪ ،62‬بنياد حكمت اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1383 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪135‬‬

‫أن القرآن الكريم ْ‬


‫وإن كان حقيقة واحدة‪،‬‬ ‫املتأِّلني َّ‬
‫يرى صدر ه‬ ‫ه‬
‫متعذرا عليه‪ .‬ى‬ ‫القرآن سيكون‬
‫ولكنَّه ‪ -‬مثل اإلنسان والعامل ‪ -‬ذو مراتب‪ ،‬وله حتقق يف ه‬
‫كل مرحلة من مراحل املثال وعامل‬
‫أعل مراتب‬
‫املا َّدة بشكل متناسب مع تلك املرحلة‪ .‬واملرتبة األكمل هي النور املوجود يف ى‬
‫األدنى هي األلفاظ والكلامت التي هي يف متناول أيدينا نحن البرش يف‬
‫ى‬ ‫عوامل الوجود‪ ،‬واملرتبة‬
‫ويرى َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫أن التأويل ُيم هثل املرتبة املتكاملة للتفسري(‪،)1‬‬
‫املتأِّلني َّ‬
‫يرى صدر ه‬
‫احلس واملا َّدة‪ .‬ى‬
‫عامل ه‬
‫التفسري مرتبط بالظاهر‪ ،‬والتأويل مرتبط بالباطن‪ .‬ويف فهم وتفسري القرآن الكريم كام جيب‬
‫إل العامل املا ّدي حيث‬ ‫ْ‬
‫أن ينزل القرآن من عامل العقول إ ىل عامل النفوس واملثال‪ ،‬ومن هناك ى‬
‫املفِّس أيضا ْ‬
‫أن‬ ‫عل ه‬ ‫تتعني هذه احلقيقة الواحدة من خالل املراتب والعوامل الوجود َّية‪ ،‬جيب ى‬
‫َّ‬
‫احلواس الظاهرية‬
‫ه‬ ‫املعنى الظاهري للقرآن‪ْ ،‬‬
‫وأن ُيصل من طريق‬ ‫ى‬ ‫عل تفسري‬‫يعمل َّأوال ى‬
‫عل فهم وإدراك‬
‫عل معاين األلفاظ وعبارات القرآن‪ ،‬وبعد ذلك يعمل ى‬
‫والعلوم احلصول َّية ى‬
‫احلواس الداخل َّية‬
‫ه‬ ‫بطون وأعامق القرآن من خالل تصفية النفس والباطن واالستعانة ب‬
‫عل تأويل األُمور‪.‬‬
‫والكشف والشهود‪ ،‬ليحلق إ ىل العوامل العليا‪ ،‬وبذلك ُيصل ى‬
‫يرى أ َّن اإلنسان هو الكائن الوحيد‬ ‫إن صدر ه‬
‫املتأِّلني يف تصويره الذي قدَّ مه لإلنسان‪ ،‬ى‬ ‫َّ‬
‫الذي كان له منذ ظهوره ماه َّية مع َّينة‪ ،‬ولكنَّه يف مواصلة مساره التكاميل ال يكون حمدودا‬
‫بأن اإلنسان بحكم أصل‬ ‫وعل هذا األساس فإ َّنه يذهب إ ىل االعتقاد َّ‬
‫ى‬ ‫بامه َّية حمدَّ دة أبدا‪.‬‬
‫احلركة اجلوهر َّية يف حالة من االرتقاء الوجودي الدائم واملتواصل‪ ،‬وقد اجتاز عامل املا َّدة‪،‬‬
‫ومن خالل سريه يف العوامل العليا‪ ،‬فإ َّنه ‪ -‬بحكم أصل ا هحتاد العامل واملعلوم ‪ -‬سوف ي َّتحد مع‬
‫العوامل واملراتب الوجودي‪ ،‬ومن هذا الطريق يمكنه الوصول إ ىل فهم املراتب العالية لعامل‬
‫الوجود والكالم اإلِّلي‪.‬‬
‫يرى رضورة االهتامم باأللفاظ وظواهر القرآن واألبعاد‬ ‫إن صدر ه‬
‫املتأِّلني يف الوقت الذي ى‬ ‫َّ‬
‫األدب َّية والفنّ َّية يف تفسري القرآن وتأويله‪ ،‬واعتباره استخراج األحكام الفقه َّية واحلقوق َّية‬
‫أن االكتفاء باأللفاظ‬ ‫يرى َّ‬
‫ونظائرها ناشئا عن التدبر والدراسة لظواهر هذه العبارات‪ ،‬ى‬

‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬تصحيح‪ّ :‬‬


‫حممد خواجوي‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪ ،162‬نرش‬ ‫(‪ )1‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫بيدار‪ ،‬قم‪1360 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ ❖ 136‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫سوى خفضا‬
‫ى‬ ‫والعبارات الظاهر َّية للقرآن‪ ،‬بحثا عن املعاين الظاهر َّية والفوائد األدب َّية‪ ،‬ليس‬
‫وعل هذا األساس ُي َعد السعي يف املنظومة‬
‫ى‬ ‫النص األدب البحت(‪.)1‬‬
‫ه‬ ‫مستوى‬
‫ى‬ ‫للقرآن إ ىل‬
‫الفكر َّية لصدر ه‬
‫املتأِّلني من أجل الوصول إ ىل املعاين الكامنة وراء الظواهر ‪ -‬التي ال يمكن‬
‫للمفِّس من تأويل‬
‫ه‬ ‫احلصول عليها من طريق التفسري اللفظي ‪ -‬أمرا رضور ًّيا‪ .‬ال مندوحة‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫يسعى إ ىل احلصول ى‬
‫ى‬ ‫اآليات القرآن َّية‪ ،‬ومن خالل الدخول يف البطون العميقة للقرآن‬
‫وأسمى للقرآن الكريم‪.‬‬
‫ى‬ ‫جديد‬
‫سوى اهلل تعا ىل واملعصومني ‪ ‬املصداق البارز لإلنسان‬
‫ى‬ ‫ال يعلم تأويل القرآن الكريم‬
‫الكامل‪ ،‬وأ َّما سائر أفراد اإلنسان فإ َّنام يمكنهم الوصول يف بعض املوارد ‪ -‬من خالل‬
‫األسمى واالستعانة باملكاشفة واإلرشاق والعقل‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫واالحتاد مع العوامل‬ ‫االرتقاء الوجودي‬
‫يرى َّ‬
‫أن الوصول إ ىل‬ ‫املتحرر من قيود عامل املا َّدة ‪ -‬إ ىل التأويل الصحيح لآليات القرآن َّية‪ .‬إ َّنه ى‬
‫ه‬
‫شرتط يف ذلك امتالك االستعداد الذات والعلوم‬ ‫كل أحد‪ ،‬بل ُي َ‬‫باطن األُمور ليس بمقدور ه‬
‫صحة ه‬
‫كل‬ ‫َّ‬ ‫يرى‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني ال ى‬ ‫اللد ّن َّية وعدم التبع َّية للدنيا وهبارجها‪ .‬من الواضح أ َّن صدر‬
‫يتناىف مع ظاهر اآليات(‪.)2‬‬
‫ى‬ ‫تأويل‪ ،‬بل يشرتط يف التأويل ْ‬
‫أن ال‬
‫َّ‬
‫إن األمر األخري الذي جتدر اإلشارة إليه هنا‪ ،‬هي املقارنة التي أقامها صدر ه‬
‫املتأِّلني بني‬
‫عرب عنها‬‫إل املقارنة بني هذه احلقائق الثالثة التي ُي ه‬
‫العامل والقرآن واإلنسان‪ .‬وقد عمد ى‬
‫سوى انطباق وإجياد التوازن بني اإلنسان والعامل‬
‫ى‬ ‫بـ الكتاب‪ ،‬ويعتقد َّ‬
‫أن حقيقة التأويل ليست‬
‫أن غاية الفلسفة ُحت هول اإلنسان إ ىل عامل عقيل‬
‫يرى من جهة َّ‬
‫وعل هذا األساس ى‬ ‫ى‬ ‫والقرآن‪.‬‬
‫يرى َّ‬
‫أن‬ ‫خرى حيث يتطابق القرآن مع العامل واإلنسان‪ ،‬ى‬ ‫يضاهي العامل العيني‪ ،‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫انكشاف مراتب العامل وبواطن القرآن رهن بانكشاف الوجود َّية لذات الفرد(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.162‬‬


‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬رشح ُأصول الكايف‪ ،‬تصحيح‪ :‬س هيد مهدي رجائي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ ،27‬بنياد‬ ‫(‪ )2‬صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫حكمت اسالمي صدرا‪ ،‬طهران‪1385 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد‪ ،‬برريس وحتليل معناشناسى تأويل واعتبار معرفتى آن در انديشه‬ ‫(‪ )3‬للمزيد من التوضيح‪ ،‬بيدهندي‪ّ ،‬‬
‫املتأِّلني)‪ ،‬نامه‬
‫ه‬ ‫مال صدرا (دراسة وحتليل مفاهيم التأويل واعتباره املعريف يف املنظومة الفكر َّية لصدر‬
‫مفيد‪ ،‬العدد‪ 1383 ،41 :‬هـ ش‪( .‬مصدر فاريس)‪.‬‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪137‬‬

‫هرمنيوطيقا هايدغر‪:‬‬
‫فإن للهرمنيوطيقا صور خمتلفة‪َّ ،‬‬
‫وإن أقدم صورة ِّلا ت َّتصل بتفسري وتأويل‬ ‫أن ذكرنا َّ‬
‫كام سبق ْ‬
‫الكتاب املقدَّ س‪ ،‬حيث كانت اِّلرمنيوطيقا حتتوي ع ىل ُأصول وقواعد تساعد ه‬
‫املفِّس يف‬
‫النص‪ .‬وقد َّاّتذت هذه الصورة من اِّلرمنيوطيقا الحقا صيغة‬
‫ه‬ ‫معنى‬
‫ى‬ ‫الوصول إ ىل‬
‫عل ُأصول‬
‫عل يد بعض املف هكرين من أمثال شالير ماخر‪ ،‬حيث اشتمل ى‬
‫اِّلرمنيوطيقا العا َّمة ى‬
‫وقواعد عا َّمة للتفسري بحيث أصبح الكتاب املقدَّ س واحدا من املوضوعات التي تقع موردا‬
‫لتفسري هذه القواعد الك ّل َّية‪.‬‬
‫ويبدو َّ‬
‫أن الكثري من القواعد اللغو َّية املوجودة يف هذه الصيغة من اِّلرمنيوطيقا قابلة‬
‫ملفِّسي القرآن الكريم‪ ،‬وكذلك بعض مباحث‬ ‫للتطبيق مع األُصول والقواعد التفسري َّية ه‬
‫حتظى بسابقة‬‫ى‬ ‫إن هذا القسم من املباحث التي‬ ‫ُأصول الفقه‪ ،‬والس ّيام منها مباحث األلفاظ‪َّ .‬‬
‫قديمة يف تاريخ الثقافة اإلسالم َّية‪ ،‬رغم قبوِّلا من ِق َبل صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ ،‬ولكنَّها مل حتظ باهتاممه‬
‫املتأِّلني ليس له وجه مشرتك مع هذا‬ ‫فإن التأويل املنشود لصدر ه‬ ‫كثريا‪ .‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫تم تقديمها‬ ‫خرى للهرمنيوطيقا التي َّ‬‫املعنى من اِّلرمنيوطيقا‪ .‬بيد أ َّنه يف خصوص الصور األُ ى‬
‫ى‬
‫أن إمكان املقارنة بني صدر ه‬
‫املتأِّلني‬ ‫من ِق َبل دلتاي‪ ،‬وهايدغر‪ ،‬وغادامري‪ ،‬وبول ريكور‪ ،‬يبدو َّ‬
‫بقوة أكرب‪ .‬ومن هنا فإ َّننا سوف نتناول يف هذا القسم دراسة املباين‬ ‫وهايدغر يتم َّتع َّ‬
‫عل نحو اإلمجال‪.‬‬
‫اِّلرمنيوطيق َّية ِّلايدغر ى‬
‫لقد ا َّتبع هايدغر يف بحث الوجود ُأسلوبا أطلق عليه عنوان الظاهرات َّية اِّلرمنيوطيق َّية‪،‬‬
‫أي بحث بشأن هرمنيوطيقا‬ ‫وقام بتوضيح وبيان األُسلوب املذكور‪ .‬وهنا قبل الدخول يف ه‬
‫هايدغر‪ ،‬من الرضوري التذكري هبذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن هايدغر من خالل ربطه اِّلرمنيوطيقا‬
‫عل اِّلرمنيوطيقا‪ .‬ال ش َّك يف َّ‬
‫أن هرمنيوطيقا‬ ‫أضفى معنى جديدا ى‬
‫ى‬ ‫اخلاصة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫برؤيته الفلسف َّية‬
‫وإّنا ‪ -‬بترصُيه ‪ -‬عبارة عن هرمنيوطيقا‬
‫هايدغر هي يشء آخر غري هرمنيوطيقا النصوص‪َّ ،‬‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫أن يكون ذا‬ ‫فإن الـ دازاين وحده الذي يمكن له ْ‬
‫الـ دازاين‪ .‬طبقا ِّلرمنيوطيقا هايدغر َّ‬
‫معنى‪ .‬وكام نالحظ َّ‬
‫فإن هايدغر ‪ -‬من خالل التحليل الذي ُيقده مه للـ دازاين‬ ‫ى‬ ‫أو ال يكون ذا‬
‫بوصفه كينونة يف العامل ‪ُ -‬يقده م رؤية خمتلفة متام االختالف عن اِّلرمنيوطيقا‪ .‬ويف األساس‬
‫‪ ❖ 138‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن الفهم ُيم هثل الوجه الوجودي للـ دازاين‪ ،‬ال أ َّنه‬
‫ورأى َّ‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫فإن هايدغر قدَّ م فهام آخر لـ الفهم‪،‬‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن اِّلرمنيوطيقا ‪ -‬من وجهة نظر‬ ‫ى‬ ‫واحد من خصائص الـ دازاين‪.‬‬
‫جمرد فرع من الفروع اِّلامش َّية للفلسفة‪ ،‬بل أصبحت الفلسفة بنفسها‬
‫هايدغر ‪ -‬مل تعدّ ُتع َترب َّ‬
‫هرمنيوطيقا‪.‬‬

‫ظاهراتيَّة اهلرمنيوطيقا‪:‬‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن األنطولوجيا ال تكون‬ ‫َّ‬
‫إن ظاهرات َّية هايدغر مرتبطة بالوجود بشكل كامل‪ .‬ى‬
‫ممكنة َّإال من طريق الظاهرات َّية‪َّ .‬‬
‫إن الظاهرات َّية التي عمد هايدغر إ ىل التعريف هبا بوصفها علام‬
‫أن ُتربز األشياء كام هي‪:‬‬ ‫بمعنى األنطولوجيا‪ ،‬يستلزم ْ‬‫ى‬ ‫بوجود املوجودات‬
‫ِ‬
‫يكتف بعدم‬ ‫َّ‬
‫إن هايدغر يف الطريق الذي ُيؤ ّدي به إ ىل الظاهرات َّية شبه املتعالية واملثال َّية‪ ،‬مل‬
‫عل كتاب التحقيقات املنطق َّية أيضا‪ ،‬حيث قال‪ :‬إ َّنه مل‬
‫لـهورسل فحسب‪ ،‬بل وأشكل ى‬
‫ّ‬ ‫التبع َّية‬
‫أي اهتامم‬
‫يتحرر من علم النفس كام ينبغي‪ ،‬وغرقت يف وصف أفعال الوعي الذات‪ ،‬ومل يعر َّ‬
‫َّ‬
‫إ ىل املسألة احلقيق َّية‪ ،‬ونعني هبا الوجود‪ .‬وقال يف كتاب الكينونة والزمان‪:‬‬
‫إن األنطولوجيا والظاهرات َّية وصفان للفلسفة‪ ،‬حيث ينظر أحدها إىل املوضوع‬
‫َّ‬
‫واآلخر إىل طريقة البحث والتحقيق فيه(‪.)1‬‬
‫أن ُأسلوبه الفكري هو الظاهرات َّية‬
‫لقد ذكر هايدغر يف كتاب الكينونة والزمان رصاحة َّ‬
‫هورسل يريده‬ ‫اِّلرمنيوطيق َّية‪َّ .‬‬
‫إن مراد هايدغر من الظاهرات َّية غري ذلك اليشء الذي كان ّ‬
‫منها‪ .‬والسؤال املطروح هنا يقول‪:‬‬
‫إن فهم هايدغر للظاهرات َّية‬
‫ما هي العالقة القائمة بني اهلرمنيوطيقا والظاهرات َّية؟ َّ‬
‫يقوم عىل الـ الظاهر والـ لوغوس(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬الكوست‪ ،‬جان‪ ،‬فلسفه در قرن بيستم (الفلسفة يف القرن العرشين)‪ ،‬ص ‪ ،75‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪:‬‬
‫رضا داورى أردكانى‪ ،‬نرش سمت‪ ،‬طهران‪1375 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫هيَّة وأكثرها غموضا يف التفكري الغرب الده يني والفلسفي؛ إذ‬
‫(‪ )2‬الـ لوغوس (‪ :)logos‬من أشدّ املفاهيم أ ّ‬
‫اهتم‬ ‫عل مدلوالت متعده دة‪ ،‬كاخلطاب‪ ،‬واللغة‪ ،‬والعقل ّ‬
‫الكيل‪ ،‬وكلمة اإلله‪ .‬وقد َّ‬ ‫تدل يف سياقات شتّ ىى ى‬
‫الفيلسوف اإلغريقي القديم (هرقليطس) بالـ لوغوس بشكل كبري حيث اعتربه (القانون ّ‬
‫الكيل للكون)‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫القوى الصادرة عن اهلل)‪.‬‬
‫ى‬ ‫وقال فيلون اليهودي عن الـ لوغوس‪( :‬إ َّنه َّأول‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪139‬‬
‫(‪)2‬‬
‫يشري هايدغر هنا إ ىل اجلذور اإلغريق َّية ملفردات من قبيل‪ :‬فاينامنون(‪ )1‬أو فاينستاي‬
‫والـ لوغوس(‪ ،)3‬ويقول‪:‬‬
‫وإن الفاينستاي من‬ ‫ي‬
‫ويتجىل بنفسه‪َّ ،‬‬ ‫إن الفاينامنون يعني ذلك اليشء الذي يظهر‬
‫َّ‬
‫مفردة فاينو بمعنى التنوير‪.‬‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن الظاهرات عبارة عن جمموعة من األشياء التي تظهر يف ضوء‬ ‫ى‬
‫عرف‪َّ .‬‬
‫وإن الحقة الـ لوجيا يف كلمة الـ الفينومينولوجيا(‪ )4‬بدورها‬ ‫النهار‪ ،‬أو يمكن ِّلا ْ‬
‫أن ُت َ‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن الـ لوغوس هو ذلك اليشء الذي يتم‬ ‫تعود إ ىل كلمة لوغوس اليونان َّية‪ .‬ى‬
‫باملعنى األعمق هو السامح ليشء بالظهور‪.‬‬
‫ى‬ ‫إظهاره وبيانه من خالل التكلم‪َّ .‬‬
‫إن الـ لوغوس‬
‫إن منطق الـ (لوجك)(‪ُ )5‬يم هثل‬
‫تتجل حقيقة الوجود يف املوجودات‪َّ .‬‬
‫ّى‬ ‫إ َّنه بواسطة الـ لوغوس‬
‫عل‬ ‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن تركيب الفاينستاي والـ لوغوس ى‬ ‫ى‬ ‫بيانا مفهوم ًّيا لـ الـ لوغوس‪.‬‬
‫شكل الفينومينولوجيا‪ ،‬يعني السامح لألشياء بالظهور ‪ -‬كام هي ‪ -‬دون ْ‬
‫أن نفرض مقوالتنا‬
‫نسعى نحن إ ىل‬
‫ى‬ ‫عليها‪ .‬يف الظاهرات َّية املقصودة ِّلايدغر تظهر األشياء لنا بنفسها‪ ،‬ال ْ‬
‫أن‬
‫إن الظاهرات َّية ُمت هثل ُأسلوبا وطريقا لظهور وانكشاف ذات‬ ‫اكتشافها بأنفسنا‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫عل‬
‫تتحول األنطولوجيا إ ىل ظاهرات َّية‪ ،‬واإلقبال من الناحية العمل َّية ى‬
‫َّ‬ ‫األشياء‪ .‬وعليه جيب ْ‬
‫أن‬
‫ّى‬
‫تتجل تلك احلالة والناحية‬ ‫الفهم والتفسري الذي تظهر األشياء من خالله‪ .‬وهنا جيب ْ‬
‫أن‬
‫الوجود َّية من اإلنسان‪ ،‬وينكشف البنية َّ‬
‫الالمرئ َّية الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل‪.‬‬

‫‪ ‬ويف العهد القديم كان الـ لوغوس (الكلمة) هو الذي جعل فيه إله إرسائيل َّ‬
‫كل األشياء‪ ،‬كام كان الـ‬
‫لوغوس هو الكلمة التي ُمت هثل فاحتة األناجيل يف عبارة‪( :‬يف البدء كان الكلمة)‪ .‬وقد ذهب الدكتور حسن‬
‫وإّنا مشت َّقة من كلمة (لوغوس) التي تعني‬ ‫ظاظا إ ىل القول َّ‬
‫بأن أصل كلمة (لغة) يوناين غري عرب‪َّ ،‬‬
‫باليونان َّية الكلمة أو الكالم‪.‬‬
‫‪(1) phainomenon‬‬
‫‪(2) phainesthai‬‬
‫‪(3) logos‬‬
‫‪(4) phenomenology‬‬
‫‪(5) logic‬‬
‫‪ ❖ 140‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن األنطولوجيا يف مقام ظاهرات َّية الوجود قد ُحت َّول إ ىل هرمنيوطيقا الوجود‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫الحظ َّ‬
‫ُي َ‬
‫هذا النوع من اِّلرمنيوطيقا خيتلف بالكامل قطعا عن علم املنهج اللغوي القديم‪ ،‬بل وخيتلف‬
‫ح َّت ىى عن علم املنهج العا هم املنشود لدلتاي يف العلوم اإلنسان َّية أيضا‪.‬‬
‫قوة ظهور الوجود يف الفهم والتفسري‪ ،‬وهو‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن حقيقة اِّلرمنيوطيقا تعني َّ‬ ‫ى‬
‫سعى يف هرمنيوطيقا‬ ‫ى‬ ‫اليشء الذي تظهر فيه حقيقة الوجود وبالتال ذات الـ دازاين‪ .‬وقد‬
‫الوجود إ ىل اإلجابة عن أكثر املسائل أصالة‪َ ،‬أال وهو السؤال عن الوجود‪ .‬إ َّنه يروم العبور‬
‫عل تفسري وتأويل ذات الوجود‪ ،‬ويعمل يف هذا املسار إ ىل هاّتاذ‬ ‫من املوجود‪ ،‬والعمل ى‬
‫الـ دازاين مرآة ينظر من خالِّلا إ ىل الوجود‪َّ .‬‬
‫إن الـ دازاين هو الكائن الوحيد الذي يسأل عن‬
‫الوجود‪ ،‬و ُيع َترب الوجود بالنسبة إليه مسألة‪.‬‬
‫يرى‬
‫حتول علم اِّلرمنيوطيقا بخطوة واحدة إ ىل تفسري وجود الـ دازاين‪ .‬ى‬ ‫وعل هذا النحو َّ‬
‫ى‬
‫املهمة األساس َّية واجلوهر َّية لعلم اِّلرمنيوطيقا تتم َّثل يف اإلظهار حيث يعمل‬
‫َّ‬ ‫هايدغر َّ‬
‫أن‬
‫عل إظهار حقيقة الوجود لنفسه‪.‬‬
‫الـ دازاين ى‬
‫سوى الفهم ‪-‬‬
‫ى‬ ‫أهم ما يف البنية األساس َّية للـ دازاين ليس‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى حيث إ َّن َّ‬
‫يتحول علم اِّلرمنيوطيقا إ ىل أنطولوجيا الفهم‬
‫َّ‬ ‫بحيث يشكل الفهم طريقة وجود الـ دازاين ‪-‬‬
‫يرى حقيقة علم اِّلرمنيوطيقا شيئا آخر غري‬ ‫والتفسري‪ .‬ويف ّناية املطاف َّ‬
‫فإن هايدغر ال ى‬
‫أنطولوجيا الف هم والتفسري‪ ،‬وهي األنطولوجيا التي جتعل من انكشاف وجود األشياء‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن‬ ‫ى‬ ‫بالقوة لوجود الـ دازاين أمرا ممكنا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وبالتال االستعدادات الكامنة‬
‫يبقى بوصفه نظر َّية للفهم‪ ،‬مع فارق َّ‬
‫أن الفهم هنا‬ ‫علم اِّلرمنيوطيقا من وجهة نظر هايدغر ى‬
‫تم تعريفه بطريقة أنطولوج َّية‪.‬‬
‫قد َّ‬
‫خرى يكتسب يف املنظومة الفلسف َّية‬ ‫إن مصطلح الفهم مثل الكثري من املفردات األُ ى‬ ‫َّ‬
‫إن الفهم يف أنطولوجيا هايدغر ُيم هثل حالة أو جزءا ال ينفك عن‬ ‫خاصا‪َّ .‬‬
‫ًّ‬ ‫ِّلايدغر مفهوما‬
‫فإن الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل بدورها ُمت هثل البنية األساس َّية يف‬ ‫الـ دازاين‪ .‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫أن تنفصل عنه‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬وحده الـ دازاين الذي يمتلك عاملا‬ ‫الـ دازاين وال يمكن ِّلا ْ‬
‫الحظ َّ‬
‫أن العامل والفهم أجزاء ال تنفك عن قوام أنطولوجيا‬ ‫ويكون يف العامل‪ .‬وعليه ُي َ‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪141‬‬

‫وإن العامل ُيش هكل أساسا ه‬


‫لكل فهم‪.‬‬ ‫الـ دازاين‪ ،‬ومن هنا ال يتح َّقق الفهم َّإال من طريق العامل‪َّ ،‬‬
‫يتضمن فرض امليتافيزيقا الغرب َّية التي تضع الفاعل‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن تصور انفصال العامل عن الـ دازاين‬
‫(املوضوع الذهني) يف قبال املتع َّلق املعريف (املوضوع اخلارجي) ومنفصال عنه‪ ،‬وهذا التصور‬
‫يتعارض بشكل عام مع فهم هايدغر للعامل‪.‬‬
‫وعل هذا األساس فقد عمد هايدغر إ ىل توظيف اِّلرمنيوطيقا من أجل تفسري‬
‫ى‬
‫عل أساس لتفسري الوجود‬
‫بمعنى تفسري شكل من أشكال الوجود‪ ،‬ليعثر ى‬
‫ى‬ ‫الـ دازاين‪،‬‬
‫بشكل عام‪.‬‬
‫وحيث إ َّن َّ‬
‫كل تفسري ‪ -‬من وجهة نظر هايدغر ‪ -‬يكون مسبوقا بفرض ّيات بدهي َّية‪ ،‬فمن‬
‫أن يكون تفسري الـ دازاين كذلك أيضا‪ .‬وهذا الكالم يعني َّ‬
‫أن مفهوم الـ دازاين‬ ‫الطبيعي ْ‬
‫يكمن وراء خمتلف الفرض ّيات البدهي َّية‪َّ ،‬‬
‫وإن هرمنيوطيقا الـ دازاين يبحث عن أساليب كي‬
‫املعنى الكامن‬
‫ى‬ ‫يتجاوز توصيف الظاهر ويذهب إ ىل ما هو أبعد منه وصوال إ ىل انكشاف‬
‫املعنى الكامن من الوجود بشكل عام‪.‬‬
‫ى‬ ‫للـ دازاين‪ ،‬ويصل تبعا لذلك إ ىل‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن علم اِّلرمنيوطيقا بوصفه نظر َّية يف حقل الفهم هو يف الواقع ذات‬ ‫ى‬
‫نظر َّية انكشاف الوجود واألنطولوجيا‪ ،‬وحيث إ َّن وجود اإلنسان يف حده ذاته ُيم هثل مسارا‬
‫النكشاف الوجود‪َّ ،‬‬
‫فإن هايدغر لن يسمح لنا بمالحظة اِّلرمنيوطيقا بمعزل عن وجود‬
‫وعل هذا يكون علم اِّلرمنيوطيقا من وجهة نظر هايدغر نظر َّية أساس َّية بشأن كيف َّية‬
‫ى‬ ‫اإلنسان‪.‬‬
‫عل ربط علم اِّلرمنيوطيقا باألنطولوجيا‬
‫تبلور الفهم يف وجود اإلنسان‪ .‬يعمل هايدغر ى‬
‫الوجود َّية أو الظاهرات َّية(‪.)1‬‬
‫تعرض هايدغر ألنطولوج َّية الفهم فقط‪،‬‬
‫ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو‪ :‬هل َّ‬
‫شك يف َّ‬
‫أن هرمنيوطيقا هايدغر تدور بشكل رئيس حول‬ ‫باملرة؟ ال َّ‬
‫وأهل تفسري النصوص َّ‬
‫مهتام بتفسري النصوص أيضا‪.‬‬ ‫حتليل وتفسري وجود الـ دازاين‪ ،‬بيد َّ‬
‫أن هذا ال يعني أ َّنه مل يكن ًّ‬

‫(‪ )1‬للمزيد من التوضيح‪ ،‬كوزنر هوي‪ ،‬ديفد‪ ،‬هيدگر وچرخش هرمنوتيكى در هرمنوتيک مدرن (هايدغر‬
‫واالستدارة اِّلرمنيوطيق َّية يف اِّلرمنيوطيقا احلديثة)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬بابک أمحدى وآخرون‪،‬‬
‫ص ‪ ،337‬نرش مركز‪ ،‬طهران‪1377 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ ❖ 142‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫إن تفسري أفكار فالسفة من أمثال إيامنوئيل كانط وح َّت ىى شعراء من أمثال هولدرلني(‪ ،)1‬كان‬
‫وعل هذا األساس يمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫ى‬ ‫يعكس هاجتاهه اِّلرمنيوطيقي إ ىل النصوص بشكل دقيق‪.‬‬
‫تفسري الـ دازاين وتفسري الوجود بشكل عام يستلزم تفسري النصوص أيضا‪.‬‬

‫هايدغر وهرمنيوطيقا النصوص‪:‬‬


‫لدى هايدغر‪،‬‬ ‫ال َّ‬
‫شك يف عدم االهتامم هبرمنيوطيقا النصوص يف اِّلرمنيوطيقا األنطولوج َّية ى‬
‫اهتم بمسألة اللغة‬ ‫ه‬
‫املتأخرة ‪ -‬قد َّ‬ ‫أن أرشنا َّ‬
‫فإن هايدغر ‪ -‬والس ّيام يف أعامله‬ ‫بيد أ َّنه كام سبق ْ‬
‫وارتباطها بالوجود وتفسري النصوص بشكل أكرب‪.‬‬
‫اخلاص ة به بأنطولوجيا الفهم ورشائطه‬‫َّ‬ ‫اهتم يف اِّلرمنيوطيقا‬
‫َّ‬ ‫علمنا َّ‬
‫أن هايدغر قد‬
‫رأى َّ‬
‫أن‬ ‫الوجود َّية بالكامل‪ .‬لقد ذهب هايدغر إ ىل اعتبار الفهم أمرا تارخي ًّيا‪ ،‬ومن هنا فقد ى‬
‫اخلاص الشامل للفرض ّيات البدهي َّية ‪ -‬إ ىل تفسري‬
‫ه‬ ‫املفِّس يعمد ‪ -‬من خالل التأرخي َّية والعامل‬
‫ه‬
‫األُمور‪ ،‬وهو تفسري قابل للتغيري والتكامل ى‬
‫عل الدوام‪.‬‬
‫املعنى املكنون وإظهار‬
‫ى‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن رسالة اِّلرمنيوطيقا تكمن يف استنباط‬ ‫ى‬
‫وعل هذا األساس‬ ‫ِ‬
‫أن ُنطلق عليها مصطلح كشف املحجوب‪.‬‬ ‫املجهوالت‪ ،‬حيث يمكن لنا ْ‬
‫ى‬
‫فإ َّنه عندما خيوض يف تفسري وتأويل فلسفة كانط‪ ،‬ال يكتفي ببيان مراد املؤ هلف وغايته من هذا‬
‫يسعى‬
‫ى‬ ‫النص فقط؛ َّ‬
‫ألن مثل هذا ال يصل ح َّت ىى إ ىل نقطة بداية التفسري والتأويل احلقيقي‪ ،‬بل‬ ‫ه‬
‫عل تأويل ما بني السطور‬
‫عام ال يقوله النص أيضا‪ .‬ويف احلقيقة فإ َّنه يعمل ى‬ ‫إ ىل السؤال َّ‬
‫النص ليصل إ ىل ما مل يقله املؤ هلف‪ ،‬أو مل‬ ‫والبياض املوجود يف ه‬
‫كل صفحة‪ .‬إ َّنه ي َّتجه إ ىل ما وراء ه‬

‫(‪ )1‬يوهان كريستيان فريدريش هولدرلني (‪1843 - 1770‬م)‪ :‬شاعر وفيلسوف أملاين‪ُ .‬ي َعد من بني أشهر‬
‫عل كتاباته سواء األدبيَّة منها أو‬
‫الشعراء يف تاريخ األدب األملاين‪ .‬تركت الثورة الفرنسيَّة تأثريا عميقا ى‬
‫كمدرس خاص يف منزل‬ ‫ه‬ ‫الفلسف َّية آت وضعها باالشرتاك مع زمالئه من أمثال هيجل وشيلينغ‪ .‬عمل‬
‫اضطر إ ىل مغادرة املنزل بعد افتضاح‬
‫َّ‬ ‫املرصيف ياكوب غونتارد؛ حيث ُأغرم هناك بزوجته زوزيت‪ ،‬وقد‬
‫عل َّأّنا‬ ‫ثم ُأصيب باّنيار عصبي بعد تل هقيه خرب وفاهتا‪َّ ،‬‬
‫وتم تشخيص حالته املرض َّية ى‬ ‫عالقته مع زوزيت‪ّ .‬‬
‫عل‬
‫وخصص له مكانا ى‬
‫َّ‬ ‫نجار تك َّفل برعايته‬
‫مرض عقيل‪ .‬عاش الشاعر هولدرلني إ ىل حني وفاته يف بيت ّ‬
‫ّنر النيكار‪ ،‬وقد ُأطلق عليه الحقا (برج هولدرلني) أو (صومعة هولدرلني)‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪143‬‬

‫النص ْ‬
‫أن نذهب إ ىل ما هو أبعد من معاين‬ ‫يتم َّكن من قوله(‪ .)1‬إ َّنه يقول‪َّ :‬‬
‫إن علينا لفهم ه‬
‫أن يكون ناقضا‬ ‫بأن َّ‬
‫كل تفسري أو تأويل جيب ْ‬ ‫رصح َّ‬
‫للنص‪ .‬وقد َّ‬
‫املفردات والقواعد اللغو َّية ه‬
‫النص‬
‫عل ظاهر العبارات واألقوال املرصح هبا يف ه‬
‫النص الرصُية‪ ،‬واعترب اجلمود ى‬
‫لضوابط ه‬
‫وجها من وجوه الصنم َّية والسطح َّية التارخي َّية‪.‬‬
‫باملعنى الكامن واألصيل واملفردات‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن هايدغر يف تفسري النصوص ُيبدي تعلقا شديدا‬
‫إل‬
‫يسعى جاهدا ى‬ ‫ى‬ ‫فِّس النصوص الفلسف َّية اإلغريق َّية‬
‫األول َّية‪ .‬ومن هنا نجد أ َّنه عندما ُي ه‬
‫َّ‬
‫املفِّسين ‪ -‬بفهم املعن ىى السائد‬
‫أن يكتفي ‪ -‬مثل سائر ه‬ ‫املعنى األصيل ه‬
‫لكل مفردة‪ ،‬ال ْ‬ ‫ى‬ ‫استكناه‬
‫خاصة للكثري من املفردات اجلوهر َّية‬
‫واملعارص للمفردات‪ .‬ويف هذا اإلطار فإ َّنه جيد مفاهيم َّ‬
‫يف النصوص الفلسف َّية‪ ،‬من قبيل‪ :‬الفوزيس(‪ ،)2‬واألليثيا‪ ،‬والـ لوغوس‪ ،‬ونظائر هذه املفردات‬
‫تعرضت للتحريف طوال تاريخ الفلسفة‪.‬‬ ‫التي َّ‬
‫معنى واحد وثابت مستقل عن استعامِّلا‪.‬‬
‫ى‬ ‫كام أ َّنه يذهب إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن املفردة ليس ِّلا‬
‫عل‬
‫معنى يف حده ذاهتا‪ ،‬وإ َّنام حتصل هذه املفردة ى‬
‫ى‬ ‫وقد م َّثل لذلك باملطرقة‪ ،‬حيث ال يكون ِّلا‬
‫املعنى واملفهوم يف حقل خاص يشمل الطاولة واملخترب واملسامري واخلشب واملصنع والصانع‬ ‫ى‬
‫عل دائرة‬
‫بأن املفردة تقوم ى‬ ‫وما إ ىل ذلك‪ .‬وبشكل عام يذهب مارتن هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫النص من جتاوز معاين املفردات‬ ‫ِ‬
‫استعامِّلا من ق َبل من يستخدمها‪ .‬وعليه ال بدَّ لفهم وتفسري ه‬
‫وعل هذا‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫واالجتاه مبارشة إ ىل عامل املؤ هلف وأدواته‪.‬‬ ‫واملعاجم اللغو َّية والقواعد النحو َّية‬
‫عل إعادة‬‫عل سبيل املثال ‪ -‬هو أ َّننا نعمل ى‬
‫النص األدب ‪ -‬ى‬ ‫فإن ما ُيدث يف تفسري ه‬ ‫األساس َّ‬
‫اخلاصة‬
‫َّ‬ ‫صوره املؤ هلف ونعيش جتربته‪ ،‬بعيدا عن حاالته الذهن َّية ون ّياته‬
‫صياغة العامل الذي ُي ه‬
‫وغري املتعارفة(‪.)3‬‬
‫يسعى إ ىل البحث‬
‫ى‬ ‫املفِّس احلقيقي يف عمل َّية التفسري ال‬
‫أن ه‬ ‫يرى َّ‬ ‫يمكن القول َّ‬
‫إن هايدغر ى‬
‫يسعى يف‬
‫ى‬ ‫عن مراد ون َّية املؤ هلف‪ ،‬فهو ال يتمحور حول املؤ هلف ‪ -‬بحسب املصطلح ‪ -‬وإ َّنام‬
‫طرح هذا السؤال عادة‪ ،‬وهو‪ :‬هل‬
‫املعنى املكنون‪ .‬وهنا ُي َ‬
‫ى‬ ‫النص لكي يفهم‬
‫ذهابه إ ىل ما وراء ه‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.146‬‬


‫‪(2) physis‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ ❖ 144‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل فهم أفضل للمؤ هلف؟ يقول ريتشارد باملر‬


‫فِّس بصدد احلصول ى‬ ‫يلزم من ذلك ْ‬
‫أن يكون امل ه‬
‫يف اجلواب عن هذا السؤال‪ :‬ليس هناك من يفهم املؤ هلف بشكل أفضل‪ ،‬وإ َّنام اآلخرون‬
‫يفهمون املؤ هلف بشكل خمتلف‪ .‬وقد استند إ ىل كالم هايدغر يف مقالة يف طريق اللغة حيث‬
‫إن مراده التدبر يف التفكري اليوناين ب ُأسلوب يوناين‬
‫يقول يف حواره الشهري مع شخص ياباين‪َّ :‬‬
‫إن هايدغر ليس بصدد ا هدعاء أ َّنه يفهم اليونان هيني بشكل أفضل من فهمهم‬ ‫أشدّ عمقا‪َّ .‬‬
‫عل هذا األساس يعمد يف تفسري النصوص إ ىل بيان املسائل‬ ‫ألنفسهم فيام ُيف هكرون فيه‪ .‬وهو ى‬
‫يتعرض املؤ هلف ِّلا‪ ،‬والتي مل تكن منظورة من ِق َبله وال مقصودة له‪.‬‬‫التي مل َّ‬
‫النص باِّلرمنيوطيقا السابقة له‪ ،‬خيتلف من عدَّ ة‬
‫أن رأي هايدغر يف حقل تفسري ه‬ ‫الحظ َّ‬
‫ُي َ‬
‫جهات؛ إذ مل ت َّتخذ ماه َّي ة الفهم يف حتليالت هايدغر صورة جديدة فحسب‪ ،‬بل ومن خالل‬
‫عل تارخي َّية الفهم ينتفي االعتقاد بجميع أنواع احلقيقة العين َّية يف تأويل وتفسري‬ ‫تأكيده ى‬
‫عل الدوام باملوقع َّية التارخي َّية وتصوراتنا‬ ‫النصوص‪ ،‬الس ّيام َّ‬
‫وأن تأويالتنا وتفسرياتنا حمدودة ى‬
‫مهد لنوع من النظر َّية النسب َّية التا َّمة والكاملة التي جتتذب إليها‬
‫وتعلقاتنا الشخص َّية‪ ،‬وهو ُي ه‬
‫اهتامم الكثريين(‪.)1‬‬
‫عل الفرض ّيات البدهي َّية للتفسري‪،‬‬
‫النص وتأكيده ى‬
‫لقد ترك رأي هايدغر يف حقل تفسري ه‬
‫عل‬
‫الالهوت املسيحي‪ .‬وقد جاء تأثري هايدغر ى‬‫تأثريا كبريا يف حقل التفكري الده يني والس ّيام َّ‬
‫الالهوت املسيحي بشكل رئيس من خالل رودولف بولتامن(‪ .)2‬فقد ذهب بولتامن ‪ -‬تبعا‬ ‫َّ‬
‫كل تفسري ‪ -‬بام يف ذلك تفسري ال ُك ُتب املقدَّ سة ‪ -‬يتبلور عرب‬ ‫بأن َّ‬
‫ِّلايدغر ‪ -‬إ ىل االعتقاد َّ‬
‫كل تفسري هو السؤال عن‬ ‫األهم يف ه‬
‫ّ‬ ‫مقدّ مات وفرض ّيات فلسف َّية ونظر َّية بدهية‪َّ ،‬‬
‫وإن السؤال‬
‫صحة وصواب َّية تلك الفرض ّيات‪.‬‬
‫َّ‬

‫(‪ )1‬هوالب‪ ،‬روبرت‪ ،‬يورغن هابرماس‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسية‪ :‬حسني بشرييه‪ ،‬ص ‪ ،84‬نرش ين‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪1375‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )2‬رودولف بولتامن (‪1976 - 1884‬م)‪ :‬الهوت أملاين بروتستانتي من خلفيَّة لوثر َّية‪ُ .‬أستاذ دراسات‬
‫العهد اجلديد لثالثة عقود‪ .‬قام بفصل كامل تقريبا بني التاريخ وبني اإليامن‪ .‬تأ َّثر بالفيلسوف األملاين‬
‫عل هذا األساس‪.‬‬‫(مارتن هايدغر) يف هرمنيوطيقا الكتاب املقدَّ س‪ ،‬وطرح نظر َّية النزع األُسطوري ى‬
‫املعرب‪.‬‬
‫انتقد االشرتاك َّية الوطن َّية‪ ،‬وسوء معاملة اليهود‪ ،‬والتطرف الوطني‪ .‬ه‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪145‬‬

‫عل فرض ّيات الفهم والتفسري يبلغ حدًّ ا بحيث جيعل من‬ ‫َّ‬
‫إن تأكيد هرمنيوطيقا هايدغر ى‬
‫أي نوع من أنواع التأويل والتفسري دون وجود جمموعة من الفرض ّيات أمرا‬ ‫إمكان َّية فهم ه‬
‫شك يف َّ‬
‫أن الكثري من فالسفة اِّلرمنيوطيقا الذين قالوا ببعض الرشائط لفهم‬ ‫مستحيال‪ .‬ال َّ‬
‫املفِّس‪،‬‬
‫لدى ه‬ ‫عل الفرض ّيات البدهي َّية واألحكام املسبقة ى‬‫النص‪ ،‬والس ّيام منهم الذين أ َّكدوا ى‬
‫ه‬
‫النص‪ ،‬قد تأ َّثروا بآراء هايدغر‪ .‬وليس األمر ‪ -‬بطبيعة احلال‬
‫وحتدَّ ثوا عن تعدد األفهام حول ه‬
‫بالنص فقط‪ ،‬بل وله مدخل َّية يف فهم وتفسري مجيع الواقع ّيات‬‫ه‬ ‫‪ -‬بحيث يتع َّلق هذا األمر‬
‫األعم من اإلنسان والعامل‪ .‬يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد بأ َّن أكثر ه‬
‫املفِّسين تبنّيا للفرض ّيات‬ ‫ّ‬
‫يتم‬
‫أن َّ‬ ‫البدهي َّية ي َّتخذ ح َّت ىى من األشعار الغنائ َّية بوصفها فرض ّيات بدهي َّية ومس َّلامت مسبقة‪ .‬ما ْ‬
‫النص‪ ،‬ويضع‬ ‫ه‬ ‫املفِّس نفسه يف وضع متناسب مع فهم وتفسري هذا‬ ‫اختيار نص‪ ،‬ويضع ه‬
‫أن‬‫شك يف َّ‬
‫املفِّس‪ .‬ال َّ‬
‫فإن ذلك يمتد بجذوره يف فرض ّيات فهم ه‬ ‫النصوص األُ ى‬
‫خرى جانبا‪َّ ،‬‬
‫عل هذا‬
‫املفِّس ألثر ما ال خيرج عن إطار جتاربه وعالقاته الشخص َّية‪ ،‬وهذا كله يدل ى‬
‫مواجهة ه‬
‫كل تفسري مسبوق ومصطبغ بفرض ّيات‬ ‫املعنى‪ ،‬وهو أ َّنه ليس هناك فهم ينشأ من فراغ‪ ،‬وأ َّن َّ‬
‫ى‬
‫املفِّس‪.‬‬
‫لدى ه‬ ‫ومعلومات َّأول َّية ى‬
‫أن األشياء واألُمور يف عامل ه‬
‫املفِّس إ َّنام تكتسب معناها ومفهومها‬ ‫إل َّ‬
‫املهم االلتفات ى‬ ‫َّ‬
‫إن من ه‬
‫املفِّس بوصفه فاعال معرف ًّيا يف مواجهة األشياء‬
‫بواسطة الفهم‪ ،‬وليس األمر بحيث يقف ه‬
‫عل هذا‬ ‫معنى األشياء متع َّلقا لفهم ه‬
‫املفِّس‪ .‬لقد كان هايدغر ى‬ ‫ى‬ ‫بوصفها متع َّلق املعرفة‪ ،‬ويكون‬
‫إن توصيف الفهم‬ ‫النحو خمالفا بشدَّ ة ملالحظة الفهم‪ ،‬ويعتربه تراثا للميتافيزيقا التقليد َّية‪َّ .‬‬
‫عل التقسيم الثنائي للذهن واخلارج‪َّ ،‬‬
‫وإن له ‪ -‬كام سبق‬ ‫والتفسري عند هايدغر بحيث يتقدَّ م ى‬
‫رصح هايدغر يف كتابه الكينونة والزمان َّ‬
‫بأن ملقدّ مات الفهم‬ ‫ْ‬
‫أن ذكرنا ‪ -‬بنية أنطولوج َّية‪ .‬لقد َّ‬
‫وأّنا تتأ َّلف من ثالثة أقسام‪ ،‬وهي‪ :‬اخللف َّية أو األرض َّية‪ ،‬والرؤية‬
‫البنيوية ثالث طبقات‪َّ ،‬‬
‫عل‬
‫كل واقع َّية نعمل َّأوال ى‬ ‫املسبقة أو املشهد‪ ،‬واألُسلوب أو املنهج‪ .‬ومراده هو أ َّننا يف فهم ه‬
‫خاصة‪،‬‬
‫ثم ننظر إليها من زاوية َّ‬
‫خاصة ‪ -‬وهي أرض َّية كينونتنا الواقع َّية ‪ّ -‬‬
‫وضعها يف أرض َّية َّ‬
‫وبالتال فإ َّننا نفهم تلك الواقع َّية ب ُأسلوب وطريقة َّ‬
‫خاصة(‪.)1‬‬

‫‪(1) Hiedegger, M, Being and Time, trans. By John Maequarrie and Edward Robinson,‬‬
‫‪Oxford, Blackwell, 1962, p. 191.‬‬
‫‪ ❖ 146‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫أن هايدغر حيث كان بصدد تفسري الوجود من خالل االهتامم بحقيقة وجود‬ ‫شك يف َّ‬‫ال َّ‬
‫ه َّية لتفسري النصوص‪َّ ،‬‬
‫فإن ذلك قد ش َّكل أرضية مناسبة لطرح‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومل يول تلك األ ّ‬
‫مفِّسا مل‬ ‫وأن صدر ه‬
‫املتأِّلني ‪ -‬بوصفه ه‬ ‫املتأِّلني‪ .‬الس ّيام َّ‬
‫البحوث املقارنة بني هايدغر وصدر ه‬
‫يكتف ‪ -‬كام أسلفنا ‪ -‬بتفسري النصوص‪ ،‬بل عمد ‪ -‬من خالل معرفة مراتب الوجود‬ ‫ِ‬

‫إل رضورة التأويل والعبور من‬


‫والعوامل الوجود َّية وكذلك املراتب الوجود َّية لإلنسان ‪ -‬ى‬
‫الظاهر إ ىل الباطن بشكل عام‪ .‬لقد ش َّكل طرح آراء كال الفيلسوفني حول الوجود واحلقيقة‬
‫وكذلك اإلنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي يتساءل عن الوجود واحلقيقة‪ ،‬اجلزء األكرب من‬
‫هذا البحوث املقارنة‪.‬‬
‫عل شكل فهرسة إ ىل بعض نقاط االشرتاك واالفرتاق بني هذين املف هكرين‪.‬‬
‫وفيام ييل نشري ى‬
‫أن هذه النقاط التي سنذكرها إ َّنام تتع َّلق بآراء صدر ه‬
‫املتأِّلني ومارتن هايدغر‬ ‫ومن الواضح َّ‬
‫حول التفسري والتأويل‪ ،‬ولن تشمل األبعاد األُ ى‬
‫خرى من تفكري هذين الفيلسوفني‪.‬‬
‫ويف البداية سوف نشري إ ىل نقاط االشرتاك بينهام‪ .‬وال نريد بنقاط االشرتاك هنا َّ‬
‫أن كال‬
‫إل نتائج واحدة ومتناغمة يف هذه املقوالت‪ .‬وإ َّنام الذي نعنيه‬
‫توصال ى‬
‫هذين الفيلسوفني قد َّ‬
‫جمرد التقارب الفكري بني هذين الفيلسوفني يف بعض املسارات‪َّ ،‬‬
‫وإال‬ ‫بنقاط االشرتاك هو َّ‬
‫املنتهى‪.‬‬
‫ى‬ ‫املبتدى وال يف‬
‫ى‬ ‫فكام أرشنا ليس هناك من رشاكة بني هذين الفيلسوفني‪ ،‬ال يف‬
‫اهتام بـ الوجود‪،‬‬ ‫‪َّ - 1‬‬
‫إن كال هذين الفيلسوفني ‪ -‬خالفا ملا عليه تقليد السلف ‪ -‬قد ّ‬
‫ونظرا إ ىل الغفلة عن الوجود‪ ،‬وحرص االهتامم باملوجود أو املاه َّية نوعا من االنحراف يف‬
‫تاريخ الفلسفة‪.‬‬
‫‪ - 2‬لقد التفت كل واحد من هذين الفيلسوفني بشكل تام إ ىل النسبة بني الوجود‬
‫عل عرص سقراط ‪-‬‬
‫ه َّية كبرية يف الفلسفة اإلغريق َّية السابقة ى‬
‫حتظى بأ ّ‬
‫ى‬ ‫واحلقيقة ‪ -‬والتي كانت‬
‫ومبنى للكثري من نظر ّياهتام والس ّيام يف حقيل التفسري‬
‫ى‬ ‫وقد جعال من هذه النسبة قاعدة‬
‫والتأويل‪.‬‬
‫عرب كال هذين الفيلسوفني عن اإلنسان بوصفه الكائن الوحيد الفاقد للامه َّية‬
‫‪ - 3‬لقد َّ‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪147‬‬

‫وعل هذا األساس قاما بنقد ور هد االنفصال بني‬


‫ى‬ ‫عل الوجود‪،‬‬
‫الثابتة‪ ،‬والذي ينفتح أبدا ى‬
‫اإلنسان وعامل الوجود بام ها من الوجود الذهني والوجود اخلارجي‪.‬‬
‫‪ - 4‬لقد اعترب كال هذين الفيلسوفني احلقيقة بوصفها انكشافا للوجود‪ ،‬وقاال بنقص‬
‫وعدم كفاية الفهم التقليدي للحقيقة بوصفها تطابقا بني الوجود الذهني والوجود اخلارجي‪.‬‬
‫النص‪َّ ،‬‬
‫واجتها إ ىل تفسري وتأويل اإلنسان‬ ‫عرب كال هذين الفيلسوفني من تفسري ه‬
‫‪ - 5‬لقد َ‬
‫عل الكشف عن الوجه املختبئ من‬
‫صب اهتاممهام ى‬
‫والوجود‪ ،‬وعمدا بذلك يف احلقيقة إ ىل ه‬
‫الوجود‪.‬‬
‫املفِّس يف‬
‫إل تأثري شخص َّية ه‬
‫‪ - 6‬لقد التفت كال هذين الفيلسوفني ‪ -‬بنحو من األنحاء ‪ -‬ى‬
‫الفهم والتفسري‪ ،‬وبذلك فقد آمنا باختالف األفهام والتفاسري والتأويالت املتعده دة لليشء‬
‫الواحد‪.‬‬
‫جمرد‬
‫عل َّ‬ ‫وأ َّما نقاط االختالف التا هم بني صدر املت ه‬
‫أِّلني وهايدغر أو تلك التي تشتمل ى‬
‫تشابه صوري وظاهري بينهام‪ ،‬فهي كاآلت‪:‬‬
‫تم تعريفه وحتليله من وجهة نظر مارتن هايدغر بشكل دقيق‪ ،‬كانت‬ ‫‪َّ - 1‬‬
‫إن العامل الذي َّ‬
‫أدنى مراتبه هو هذا العامل‬
‫وإن ى‬‫املتأِّلني مراتب طول َّية وغري متناه َّية‪َّ ،‬‬
‫له من وجهة نظر صدر ه‬
‫ّ‬
‫األقل ‪-‬‬ ‫عل‬
‫يرى أبواب القدس يف العرص احلارض ‪ -‬ى‬
‫املا ّدي والفيزيقي‪ ،‬وأ َّما هايدغر فإ َّنه ى‬
‫مغلقة بوجه البرش‪.‬‬
‫إل‬ ‫‪ - 2‬لقد عمد صدر ه‬
‫املتأِّلني يف منظومته الفلسف َّية إ ىل تفسري الوجود ومراتبه وعمد ى‬
‫أن هايدغر ‪ -‬الس ّيام يف تفكريه املتقده م ‪ -‬جعل من تفسري‬‫تفسري اإلنسان أيضا‪ ،‬يف حني َّ‬
‫الـ دازاين مقدّ مة لتفسري الوجود‪.‬‬
‫املبنى واألساس وح َّت ىى‬
‫املتأِّلني ومارتن هايدغر عن بعضهام يف ى‬ ‫‪ - 3‬خيتلف كل من صدر ه‬
‫يف املقصد والغاية؛ َّ‬
‫فإن صدر ه‬
‫املتأِّلني مل جيعل اإلنسان يف البداية مرآة ملعرفة الوجود‪ ،‬وإ َّنام بدأ‬
‫أن تأويل ه‬
‫كل يشء يكون‬ ‫رأى ‪ -‬خالفا ملارتن هايدغر ‪َّ -‬‬
‫من ذات الوجود‪ ،‬ويف ّناية املطاف ى‬
‫يف عامل اآلخرة‪.‬‬
‫املتأِّلني وهايدغر خيتلفان عن بعضهام يف األُسلوب؛ َّ‬
‫ألن صدر‬ ‫إن ًّ‬
‫كال من صدر ه‬ ‫‪َّ - 4‬‬
‫‪ ❖ 148‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل كشفه‬
‫ويسعى إ ىل الربهنة ى‬‫ى‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني يواصل الكالم يف إطار امليتافيزيقا التقليد َّية‪ ،‬بل‬
‫أن هايدغر منفصل متام االنفصال عن امليتافيزيقا التقليد َّية‪ ،‬ومنغمس‬ ‫وشهوده أيضا‪ ،‬يف حني َّ‬
‫متام االنغامس يف الظاهرات َّية اِّلرمنيوطيق َّية‪.‬‬
‫إل الكشف‬‫ه َّية األكرب يف تفسري وتأويل الوجود ى‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني األ ّ‬ ‫أعطى صدر‬
‫ى‬ ‫‪ - 5‬لقد‬
‫والشهود‪ ،‬بحيث مل َير إمكان َّية ملعرفة بواطن األُمور يف األساس َّإال من خالل الشهود‬
‫يرى َّ‬
‫أن‬ ‫ه َّية العقل والتأمالت العقالن َّية‪ .‬فهو ى‬
‫واملشاهدة‪ ،‬ولكنَّه يف الوقت نفسه مل يتجاهل أ ّ‬
‫الفيلسوف ما ْ‬
‫أن يصل إ ىل مشاهدة احلقيقة‪ ،‬ح َّت ىى جيب عليه العودة إ ىل مرتبة العقل‪ ،‬ليعمل‬
‫عل بيان وتعريف ما رآه وشاهده بحسب املفاهيم العقل َّية والفلسف َّية‪ .‬يف حني يبدو َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬
‫ه َّية إ ىل العقل الفلسفي‪ ،‬بل وكان يراه خمالفا للتفكري األصيل‪ ،‬ومن‬ ‫ِ‬
‫هايدغر مل يول تلك األ ّ‬
‫اخلاص‪.‬‬
‫ه‬ ‫عل الشعر بتعريفه‬
‫هنا فقد أقبل ى‬
‫إن اآلراء الفلسف َّية األنطولوج َّية ِّلايدغر يف حقل الفهم‪ ،‬ليس ِّلا َّإال تطابق قليل مع‬
‫‪َّ - 6‬‬
‫املتأِّلني قد تأ َّثر‬ ‫تفسري وتأويل النصوص‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن تفسري وتأويل النصوص يف تفكري صدر ه‬
‫عل نحو كامل‪.‬‬
‫بأنطولوج َّيته وأنثروبولوج َّيته ى‬
‫‪ - 7‬يذهب كل من صدر ه‬
‫املتأِّلني ومارتن هايدغر إ ىل القول بتعدد األفهام حول حقيقة‬
‫يرى َّ‬
‫أن تعدد األفهام بشأن‬ ‫أن صدر ه‬
‫املتأِّلني ى‬ ‫بالنص)‪ ،‬مع فارق َّ‬
‫ه‬ ‫واحدة (والتي تتم َّثل هنا‬
‫القرآن الكريم ناشئ من أمرين‪ ،‬وها َّأوال‪ :‬تعدد وكثرة طبقات وبطون القرآن الكريم‬
‫فِّسين والنور‬ ‫(وسائر النصوص الده ين َّية األُ ى‬
‫خرى)‪ .‬وثانيا‪ :‬الدرجات الوجود َّية املتعده دة للم ه‬
‫عل ذلك الفرد بام يتناسب مع تلك الدرجة‬ ‫وتعال ى‬
‫ى‬ ‫الذي ُيفاض من ِق َبل اهلل سبحانه‬
‫بأن تعدد القراءات واختالف األفهام حول‬ ‫إل القول َّ‬‫الوجود َّية‪ ،‬يف حني يذهب هايدغر ى‬
‫املفِّس يف ذاكرته‪.‬‬
‫النص الواحد‪ ،‬ينشأ من الفرض ّيات املسبقة واملعلومات التي خيتزّنا ه‬
‫ه‬
‫عل إقحام التارخي َّية‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني يف تفسري وتأويل النصوص الده ين َّية ى‬ ‫‪ - 8‬مل يعمل صدر‬
‫ه َّية العامل الزمني‬‫والعرص الزمني بشكل مبارش‪ ،‬يف حني يذهب هايدغر إ ىل اعتبار أ ّ‬
‫والتارخيي يف الوصول إ ىل الفهم والتفسري الصحيح‪.‬‬
‫بمعنى‬
‫ى‬ ‫املتأِّلني فيام يتع َّلق بالتفسري والتأويل متمحورا حول املؤ هلف‪،‬‬
‫‪ - 9‬لقد كان صدر ه‬
‫دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ‬
‫املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ ‪149‬‬

‫املعنى‬
‫ى‬ ‫عل مراد وقصد املؤ هلف‪ ،‬وثانيا‪ :‬كان ى‬
‫يرى يف اختيار‬ ‫يسعى إ ىل احلصول ى‬
‫ى‬ ‫أ َّنه كان َّأوال‪:‬‬
‫صحة ذلك‪،‬‬‫النص تفسريا بالرأي وكان يقول بعدم َّ‬‫عل ه‬ ‫املعنى الذي يرتأيه ى‬
‫ى‬ ‫من عنده وحتميل‬
‫ومن هنا فإ َّنه كان خيالف مجيع أنواع النسب َّية يف التفسريات الده ين َّية‪ .‬يف حني يؤمن هايدغر‬
‫وأتباعه بعدم االهتامم بقصد املؤ هلف ومراده‪ ،‬و ُي ه‬
‫صحح التفسري بالرأي‪ ،‬والنسب َّية يف التفسري‪،‬‬
‫للنص‪ ،‬وغياب املعيار واملالك الواضح لفهم‬
‫ه‬ ‫وعدم الوصول إ ىل الفهم الصحيح والعيني‬
‫النصوص‪ ،‬وما إ ىل ذلك من األُمور األُ ى‬
‫خرى‪.‬‬

‫* * *‬
‫‪ ❖ 150‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املصادر‪:‬‬
‫باملر‪ ،‬ريتشارد‪ ،‬علم هرمنوتيک (علم اهلرمنيوطبيقا)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫حممد سعيد حنائي كاشاين‪ ،‬نرش هرمس‪،‬‬
‫طهران‪1377 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد‪ ،‬برريس وحتليل معناشناسى تأويل واعتبار معرفتى آن در انديشه مال صدرا (دراسة وحتليل مفاهيم‬
‫بيدهندي‪ّ ،‬‬
‫التأويل واعتباره املعريف يف املنظومة الفكر َّية لصدر ه‬
‫املتأِّلني)‪ ،‬نامه مفيد‪ ،‬العدد‪ 1383 ،41 :‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد‪ ،‬برريس وحتليل هستي شنايس تأويل مال صدرا (دراسة وحتليل األنطولوجيا التأويليَّة لصدر‬
‫بيدهندي‪ّ ،‬‬
‫املتأِّلني)‪ ،‬جم َّلة مطال عات وپژوهشهاى دانشكده ادبيات وعلوم انسانى دانشگاه اصفهان‪ ،‬العدد املزدوج‪ 34 :‬و‪،35‬‬
‫ه‬
‫‪1382‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬تصحيح‪ :‬نجف قيل حبيبي‪ ،‬ج ‪ ،1‬بنياد حكمت اسالمي‬ ‫صدر ه‬
‫املتأِّلني الشريازي‪ّ ،‬‬
‫صدرا‪ ،‬طهران‪1386 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬األسفار األربعة‪ ،‬تصحيح‪ :‬غالم رضا أعواين‪ ،‬بنياد حكمت اسالمي‬ ‫صدر ه‬
‫املتأِّلني الشريازي‪ّ ،‬‬
‫صدرا‪ ،‬طهران‪1383 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬تصحيح‪ّ :‬‬
‫حممد خواجوي‪ ،‬ج ‪ ،4‬نرش بيدار‪ ،‬قم‪،‬‬ ‫ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬ ‫صدر‬
‫‪1360‬هـ ش‪.‬‬
‫حممد بن إبراهيم‪ ،‬رشح ُأصول الكايف‪ ،‬تصحيح‪ :‬سيهد مهدي رجائي‪ ،‬ج ‪ ،2‬بنياد حكمت اسالمي‬ ‫صدر ه‬
‫املتأِّلني‪ّ ،‬‬
‫صدرا‪ ،‬طهران‪1385 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫الكوست‪ ،‬جان‪ ،‬فلسفه در قرن بيستم (الفلسفة يف القرن العرشين)‪ ،‬ترمجه ى‬
‫إل اللغة الفارسيَّة‪ :‬رضا داورى‬
‫أردكانى‪ ،‬نرش سمت‪ ،‬طهران‪1375 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫كوزنر هوي‪ ،‬ديفد‪ ،‬هيدگر وچرخش هرمنوتيكى در هرمنوتيک مدرن (هايدغر واالستدارة اِّلرمنيوطيقيَّة يف‬
‫اِّلرمنيوطيقا احلديثة)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬بابک أمحدى وآخرون‪ ،‬نرش مركز‪ ،‬طهران‪1377 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫هوالب‪ ،‬روبرت‪ ،‬يورغن هابرماس‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسية‪ :‬حسني بشرييه‪ ،‬ص ‪ ،84‬نرش ين‪ ،‬طهران‪1375 ،‬هـ‬
‫ش‪.‬‬
‫‪Hiedegger, M, Being and Time, trans. By John Maequarrie and Edward‬‬
‫‪Robinson, Oxford, Blackwell, 1962.‬‬
‫‪Ricoeur, Paul, Hermeneutics and the Human Sceince, trans. John Tompson,‬‬
‫‪Cambridge University Press, 1992.‬‬

‫* * *‬
‫هايدغر بالعربيَّة‬
‫(هل ميكن أنْ تقال‪ :‬اهلايدغريَّة بلغة العرب؟ وكيف ميكن لقوهلا أنْ يكون؟)‬
‫(‪)1‬‬
‫موسى وهبه‬

‫عل زاوية لـ َّام ْ‬


‫تزل‬ ‫لن ُأقده م يف ما ييل تأويال آخر لفكر هايدغر‪ .‬ولن ُأ َ‬
‫لقي ضوءا جديدا ى‬
‫ُمعتمة‪ .‬بل لن أتك َّلم أصال ى‬
‫عل البادرة اِّلايدغر َّية‪ .‬وقول يقع دون استيضاح هذه البادرة‬
‫حرى ‪ -‬بالنصوص العرب َّية التي تناولت هايدغر تأليفا أو‬
‫وتفليتها‪ .‬واّناممي ينحرص ‪ -‬باأل ى‬
‫عل اجلملة جمموعة قليلة قابلة للحرص والتبويب ور َّبام التأريخ‪ .‬لكنّي ال ُأ ى‬
‫عنى‬ ‫ترمجة‪ ،‬وهي ى‬
‫هبذه اجلوانب اآلن‪ ،‬بل أسلك دربا صارت سالكة منذ زمن قليل‪ .‬أسأل فقط‪ :‬كيف يمكن‬
‫فإن‬ ‫أن يكون؟ و ُأ ه‬
‫فصل قليال‪ :‬هل يمكن قول هايدغر بالعرب َّية أصال؟ ْ‬ ‫لقول هايدغر بالعرب َّية ْ‬
‫نعم فكيف كان ذلك وكيف يمكن لذلك ْ‬
‫أن يكون؟‬
‫جمرد سؤال بروتوكول نظرا إ ىل َّ‬
‫أن‬ ‫‪ - 1‬والسؤال‪ :‬هل يمكن قول هايدغر بالعرب َّية؟ ليس َّ‬
‫العرب َّية لغة تضمر فعل الكون(‪ )2‬يف الربط بني املبتدأ واخلرب‪ ،‬فال يظهر هذا الفعل بشخصه كام‬
‫قد يفعل يف لغات ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬وال يظهر الب َّتة يف صيغة احلارض‪.‬‬
‫إ ىل ذلك خيتصم أهل العرب َّية أ َّيام اختصام يف الكون والثبوت والوجود والوجد‬
‫أن أشار الفاراب إ ىل َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫والتواجد‪ ،‬وسبق ْ‬
‫ليس يف العرب َّية منذ َّأول وضعها لفظة تقوم مقام «هست» يف الفارس َّية‪ ،‬وال مقام‬
‫«أستني» يف اليونان َّية‪ ،‬وال مقام نظائر هاتني اللفظتني يف سائر األلسنة» ‪ ...‬ومنذ أخربنا‬

‫(‪ )1‬مف هكر لبناين و ُأستاذ مرشف ى‬


‫عل أبحاث الدكتوراة العليا يف الفلسفة‪ ،‬اجلامعة اللبنانيَّة‪.‬‬
‫املصدر‪ :‬جم َّلة االستغراب‪ ،‬السنة الثانية‪1437 ،‬هـ‪ ،‬خريف ‪ ،2016‬ص ‪.267 - 250‬‬
‫‪(2) sein‬‬
‫‪ ❖ 152‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن بعض «الفالسفة الذين يتك َّلمون بالعرب َّية» وضعوا لفظة «هو مكان هست‬
‫َّ‬
‫وأن آخرين استعملوا بدل الـ هو لفظة املوجود» و«استعملوا الوجود يف‬
‫وأستني‪َّ ،‬‬
‫العرب َّية حيث ُتس َتعمل «هستي» بالفارس َّية‪ ،‬واستعملوا وجد ويوجد وسيوجد مكان‬
‫كان ويكون وسيكون(‪.)1‬‬
‫عل استعامل أيس وليس بدال مم َّا سيشيع بعده من وجود وعدم‬ ‫بل سبق ْ‬
‫أن أقدم الكندي ى‬
‫(عل ما يذكر أنطوان سيف‪ :‬مصطلحات الفيلسوف الكندي‪ ،‬بريوت‪ ،‬اجلامعة اللبنان َّية‪،‬‬
‫ى‬
‫‪ ،2003‬ما َّدة أيس وكون ووجود)‪ ،‬وصوال إ ىل ما أثاره ناصيف نصار يف وجه شارل مالك‬
‫الذي مال إ ىل نقل(‪ )2‬بـ كيان َّية ودافع عن ميله يف فصل طويل من املقدّ مة(‪.)3‬‬
‫أقول‪ :‬يف هذه اللغة التي ُ‬
‫حال الكون والوجود واأليس هي تلك احلال‪ ،‬هل يمكن قول‬
‫و«املؤسس احلقيقي‬
‫ه‬ ‫عمم بالعرب َّية «فيلسوف الوجود»‪،‬‬
‫عل ما ُيشاع و ُي َّ‬
‫هايدغر وهو ى‬
‫عل‬
‫عل ما يقول عبد الرمحن بدوي ‪ ،‬أو هو صاحب «نصوص نسيان الكينونة» ى‬
‫(‪)4‬‬
‫للوجود َّية» ى‬
‫ما ُي َعن ِْون مطاع صفدي(‪)5‬؟‬
‫إل‬
‫ب ى‬‫البنيوي مل ُيش هكل عائقا ُيذ َكر أمام الطموح العر ه‬
‫َّ‬ ‫اللغوي‬
‫َّ‬ ‫الواقع‪َّ ،‬‬
‫إن هذا اإلشكال‬
‫إل‪:‬‬‫قول‪ :‬هايدغر‪ ،‬أو التوق العرب املضطرم وصوال إ ىل الدعوة ى‬
‫مرة وصرب ًا بعد صرب‪ ،‬ح َّتى الدخول‬
‫مرة بعد َّ‬
‫معارشته واكتشاف هلجاته املضمرة َّ‬
‫معه يف العشق األخري(‪.)6‬‬
‫عل ما يذكر عبد الرمحن بدوي‪:‬‬
‫فمنذ بدايات األربعينات‪ ،‬ى‬
‫ن َّبهنا طه حسني إىل إمكان استعامل لفظ اآلن َّية ترمجة للكلمة األملان َّية ‪.Dasein‬‬

‫(‪ )1‬الفاراب أبو النرص‪ ،‬كتاب احلروف‪ ،‬حتقيق حمسن مهدي‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املرشق الطبعة الثانية‪ ،1990 ،‬ص‬
‫‪ 112‬و‪.113‬‬
‫‪(2) Existentialism‬‬
‫(‪ )3‬ناصيف نصار‪ ،‬مقالة يف الوجود‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار النهار‪.2001 ،‬‬
‫(‪ )4‬موسوعة الفلسفة‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪.1984 ،‬‬
‫(‪ )5‬العرب والفكر العاملي‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬بريوت‪ ،‬خريف ‪.1988‬‬
‫(‪ )6‬العرب والفكر العاملي م‪.‬ن رئيس حترير‪.‬‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪153‬‬

‫بل قدَّ م بدوي ُأطروحته للدكتوراة يف الفلسفة بالعرب َّية بعنوان «الزمان الوجودي»‪،‬‬
‫وناقشها بالعرب َّية أمام مجهور ضخم جتاوز األلف شخص يف ‪ 29‬مايو سنة ‪ .1944‬وفيها‬
‫يقول بدوي‪:‬‬
‫إسهامي يف الوجود َّية إ َّنام يرتبط مبارش ًة بوجود َّية هايدغر‪ ،‬و ُي َعد إكامالً ملذهبه يف‬
‫عدَّ ة نواحٍ (‪.)1‬‬
‫أن بدوي انرصف بعد ذلك إ ىل حتقيقات تراث َّية وتأليفات َّإال أ َّنه نرش يف القاهرة‬
‫وصحيح َّ‬
‫خصص فيها فصال من ثامين صفحات بعنوان‬
‫منذ ‪ 1960‬دراسات يف الفلسفة الوجود َّية‪َّ ،‬‬
‫«هايدغر زعيم الوجود َّية»‪ ،‬وفصال آخر يف موسوعته من ثالث عرشة صفحة «موسوعة‬
‫األملاين وقدَّ م ِّلا يف‬
‫ه‬ ‫عل األصل‬
‫اج َع نصوصا مرتمجة ِّلايدغر ى‬
‫الفلسفة‪ ،‬اجلزء الثاين»‪ ،‬ور َ‬
‫‪.)2(1964‬‬
‫أن ننتظر ‪ 1986‬لصدور مارتن هايدغر‪ :‬معضلة احلقيقة‪( ،‬ترمجة شهاب‬ ‫وسيكون علينا ْ‬
‫الده ين اللعالعي‪ ،‬الدار التونس َّية للنرش)‪ ،‬فاحتة لسلسلة فلسف َّية مل تصلنا حلقاهتا األُ ى‬
‫خرى‪.‬‬
‫والحقا‪ ،‬سوف ُّت هص ص العرب والفكر العاملي يف خريف ‪ 1988‬حمورا يضم حوال ‪90‬‬
‫صفحة مليئة من «نصوص نسيان الكينونة» بإرشاف فريق الرتمجة واملراجعة يف مركز اإلنامء‬
‫القومي ‪ -‬بريوت‪.‬‬
‫حممد سبيال‬
‫يليه بتأخر نسبي كتاب‪ :‬مارتن هايدغر‪ ،‬التقن َّية ‪ -‬احلقيقة ‪ -‬الوجود (ترمجة ّ‬
‫وعبد اِّلادي مفتاح نرش املركز الثقايف العرب‪ ،‬بريوت ‪ -‬الدار البيضاء ‪ )1995‬يف أكثر من‬
‫مائتي صفحة نقال عن الرتمجة الفرنس َّية‪.‬‬
‫أن َث َّمة كتابا واحدا ُخي َّصص ِّلايدغر بالعرب َّية لكنَّه ليس كتابا عموم ًّيا عن‬
‫وصحيح َّ‬
‫هايدغر وال تعريفا مدرس ًّيا‪ ،‬بل كتاب ‪ -‬حماولة‪ essai :‬بعنوان هايدغر ومشكل امليتافيزيقا‬

‫األول‪ ،‬ص ‪178‬‬ ‫(‪ )1‬بدوي‪ ،‬عبدالرمحن‪ ،‬سرية حيايت‪َّ ،‬‬


‫املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪ ،2000 ،‬اجلزء َّ‬
‫و‪.179‬‬
‫وحممد‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2‬مارتن هايدغر‪ :‬ما الفلسفة‪ ،‬ما امليتافيزيقا‪ ،‬هيلدرلني وماه َّية الشعر‪ ،‬ترمجة فؤاد كامل عبد العزيز‬
‫رجب الس هيد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العرب َّية‪.1964 ،‬‬
‫‪ ❖ 154‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫حممد حمجوب عن دار اجلنوب‪ ،‬تونس ‪( ،1995‬وسأتو َّقف الحقا عنده بالنظر ى‬
‫إل‬ ‫تأليف ّ‬
‫تفرده)‪.‬‬
‫هذا برصف النظر عن االستناد إ ىل هايدغر أو اإلحالة إليه يف بطون املؤ َّلفات واملقاالت‬
‫املنثورة يف طول العرب َّية وعرضها ومشاريع الرتمجات املعلنة لنصوص أساس َّية له‪.‬‬
‫ليس هايدغر غريبا عن قوله بالعرب َّية‪ ،‬إذن ‪ْ -‬‬
‫وإن كان اسمه نفسه ُيك َتب بأشكال أربعة‬
‫أو مخسة‪ :‬باجليم‪ ،‬والقاف‪ ،‬والغني‪ ،‬وبألف أو من دون ألف بعد اِّلاء‪ ،‬وبألف أو من دون‬
‫ألف يف ما قبل األخري ‪ -‬ليس هايدغر غريبا‪ ،‬بل هو مقيم بالعرب َّية‪ْ ،‬‬
‫وإن بتقطع‪ ،‬منذ س هتني‬
‫عل ّ‬
‫األقل‪.‬‬ ‫عاما ى‬
‫لكن هذا القيام الواقعي (الوقائعي) ال يثبت أمام «النقد»‪ .‬والنص اِّلايدغري بالعرب َّية‬
‫ّ‬
‫أقل ما ُيقال فيه إ َّنه‪:‬‬
‫معمم وابتدائي‬
‫قلق املصطلح ومضطرب العبارة وبعيد املنال يف الرتمجات‪ .‬والقول فيه ه‬
‫َ‬
‫اإلمعان‬ ‫ُ‬
‫القول‬ ‫وأحيانا متغاير يف معظم مقدّ مات نصوصه واإلشارات إليه ح َّت ىى إذا ما حاول‬
‫حممد حمجوب‬
‫اضطر إ ىل االستعانة بالفرنس َّية كام فعل ّ‬
‫َّ‬ ‫والغوص يف التفاصيل‪،‬‬
‫َ‬ ‫يف التخصيص‬
‫َّ‬
‫وكأن العرب َّية مل تعد ُتل ّبي‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬ليس يف العرب َّية هايدغر واحد بل كثرة‪ ،‬يتحدَّ د الواحد منها بمصطلحاته وبعض‬
‫ما انكشف منه‪.‬‬
‫وأتفل قلق املصطلح يف ما يعادل ‪ Sein‬ومشت ّقاته من مصطلحات عرب َّية‪ .‬ويف ما يعادل‬
‫ّى‬
‫‪ Zeit‬ومشت ّقاته ولواحقه وحسب‪ ،‬مهمال اآلن النظر يف مصطلحات املنهج الفيميائي‬
‫وملحقاته‪.‬‬
‫‪ - 2‬وأبدأ بالزوج العرب‪ :‬الوجود واملوجود بإزاء ( ‪ Sein‬و ‪Seiend Etre et‬‬
‫سوى فريق الرتمجة‬
‫ى‬ ‫‪ .)Etant‬ويرد هذا الزوج عند معظم النقلة واملؤ هلفني‪ ،‬فال يشذ عنه‬
‫نص مديره‬
‫واملراجعة يف مركز اإلنامء القومي (العرب والفكر العاملي‪ ،‬العدد الرابع) ويف ه‬
‫العا هم مطاع صفدي (يف نقد العقل الغرب‪ ،‬بريوت‪ ،‬مركز اإلنامء القومي‪ ،1990 ،‬ص ‪)271‬‬
‫حيث ُيستبدَ ل بزوج الكينونة والكائن‪.‬‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪155‬‬

‫عل نفسه يف املشت ّقات واللواحق‪:‬‬


‫ويعود فريق الوجود واملوجود لينقسم ى‬
‫إل قول‬
‫إل الزوج املذكور ‪ -‬ى‬
‫‪ 1 - 2‬فيلجأ التقليد البدوي (عبد الرمحن) ‪ -‬إضافة ى‬
‫عل ما‬
‫‪ Dasein‬بلفظ اآلن َّية «وهو املوضوع الذي وضعه هايدغر لنفسه يف كتابه الرئيس» ى‬
‫سميه الوجود ‪ -‬هنا (يف دراسات يف الفلسفة الوجود َّية)‬
‫قرر ع‪ .‬بدوي الذي رسعان ما ُي ه‬
‫ُي ه‬
‫والوجود ‪ -‬هناك (يف موسوعة الفلسفة)‪ ،‬ويقول علم «الوجود» كام هو متو َّقع بإزاء‬
‫أنطولوجيا‪.‬‬
‫سوى «الوجود خارج الذات»‬
‫ى‬ ‫وإذ خيص بدوي الوجود بـ ‪ Sein‬ال يرتك لـ ‪Existenz‬‬
‫أن يشري إ ىل ‪َّ Existenzial‬إال بلفظ‪:‬‬
‫سوى التخارج (دراسات) ال يسعه ْ‬ ‫ى‬ ‫(املوسوعة) أو‬
‫عل «األشياء‬ ‫ِ‬
‫اخلاص َّية اجلوهر َّية لوجود اإلنسان‪ .‬وإذ ُيطلق لفظ املوجود بإزاء ‪ Seiend‬ى‬
‫ّ‬
‫واألدوات» أيضا ال يعود بإمكانه متييز «موجود َّية اإلنسان» الذي وحده ‪ ،existe‬وبعبارة‬
‫كان يفرتض ْ‬
‫أن يقوِّلا ع‪ .‬بدوي‪« :‬الذي وحده يوجد خارج الذات»‪ ،‬من كائن َّية «األشياء‬
‫واألدوات» التي ال ‪ ،existe‬والتي يفرتض ْ‬
‫أن يقال فيها إذن‪« :‬ال توجد خارج الذات»‪.‬‬
‫أن تظهر‪ ،‬بل عليها ْ‬
‫أن تسترت ليتابع بدوي التمييز يف‬ ‫لكن مثل هذه «الفضيحة» ال يتي َِّّس ِّلا ْ‬
‫املرة عن َّ‬
‫أن‬ ‫املعطى والوجود ‪ -‬يف ‪ -‬متناول اليد غافال هذه َّ‬ ‫وجهة ُأ ى‬
‫خرى بني املوجود‬
‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ى‬
‫باألحرى) يف حماولة‬
‫ى‬ ‫الوجود ال ُيط َلق ى‬
‫عل «املوجودات» ‪ -‬بل تلك غفلة عا َّمة (شبه عامة‬
‫(املشتق من النسبة) (يف حماولة‬
‫ّ‬ ‫قول امللحق ‪ sein‬حيث يصح قوله غالبا باملصدر الصناعي‬
‫قول ‪ In-der-welt-sein‬بـ وجود ‪ -‬يف ‪ -‬العامل مثال‪ .‬حيث كان من األنسب واألسهل ْ‬
‫أن‬
‫يقال‪ :‬يف العاملية خشية َّأال يعود َث َّمة فارق َّإال إضاف ًّيا بني ‪ Sein‬و‪.Dasein‬‬
‫‪ 1 - 1 - 2‬ويتابع فؤاد كامل (مارتن هايدغر‪ :‬ما الفلسفة‪ )...‬متييز بدوي لكنَّه ال يرتكه‬
‫من دون تسويغ فيقول‪:‬‬
‫فرق هايدغر بني الوجود ‪ Sein‬واملوجود تفرقة هي أقرب ما تكون إىل تفرقة‬
‫ُي ِّ‬
‫اإلسالم ِّيني بني الوجود الذهني والوجود العيني‪.‬‬

‫‪(1) Vorhanden‬‬
‫‪(2) Zuhandensein‬‬
‫‪ ❖ 156‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫(كذا) و ُيعلِن أ َّنه جتنَّب الرتمجة بكينونة وكائن الرتباطهام‪:‬‬


‫«باملعنى الطبيعي أكثر من املعنى األنطولوجي»‪« ،‬هذا فض ً‬
‫ال عن َّأّنام غري شائعني‬
‫مثل شيوع «وجود» و«موجود»‪( .‬ص ‪ 68‬هامش ‪.)15‬‬
‫وصف به َّأّنا غري‬ ‫حجة دامغة يف تسويغ قول مصطلحات ّ‬
‫أقل ما ُت َ‬ ‫في َّتخذ من الشيوع َّ‬
‫شائعة‪.‬‬
‫عل الرتمجة الفرنس َّية‪ ،‬يتابع إغفال‬
‫وإذ يقول‪ :‬املوجود اإلنساين بإزاء ‪ Dasein‬جريا ى‬
‫الفارق بني الوجود واملوجود‪ ،‬فيقول‪ :‬الوجود العندي لـ ‪ Zu-sein‬والوجود األمامي‬
‫لـ ‪ Vor-sein‬والوجود املعي لـ ‪( Mit sein‬بدال من العند َّية واألمام َّية واملع َّية)‪ .‬ويقول‬
‫بعد حديثه عن «االهتامم»(‪ )1‬الذي يِّسي يف دم اإلنسان‪:‬‬
‫املكونة‬
‫عىل هذا تكون الواقع َّية والوجود املاهوي والسقوط هي اخلصائص الثالثة ِّ‬
‫للموجود اإلنساين‪.‬‬
‫ويضيف‪:‬‬
‫وهلذه اخلصائص جذور يف آنات الزمان الثالثة املايض واحلارض واملستقبل‪.‬‬
‫عل هذا الرتتيب (ص ‪ 10‬و‪.)11‬‬
‫ى‬
‫أن ُأطروحة بدوي كانت بعنوان‬
‫الزماين القليل رغم َّ‬
‫ه‬ ‫عل هذا‬
‫ويقترص إسهام فريق بدوي ى‬
‫«الزمان الوجودي»‪َّ .‬إال أ َّنه كان ظهر قبل نرش ‪ Zeit und Sein‬وقبل التعرف إ ىل حمارضة‬
‫هايدغر عن الزمان يف ‪.1962‬‬
‫عرب فيها هايدغر‬ ‫عل ما يمكن ْ‬
‫أن يعيننا يف نقل املصطلحات التي ُي ه‬ ‫وال نعثر عند بدوي ى‬
‫عن تأمله يف الزمان َّإال ما ُيقده مه من صفة الزمان بقوله‪ :‬التزمن‪ ،‬من دون إثارة الفارق بني‬
‫عل يشء مثل هذا يف وصف «أدوار عمل َّية‬ ‫‪ Temporalität‬و‪َّ .Zeitlichkeit‬‬
‫وإال ى‬
‫التحقق عرب الفعل‪« :‬سيكون» معناها املستقبل و«قد كان» معناها املايض و«كائن» معناها‬
‫فرق يف‬
‫املعنى وحسب‪ُ ،‬ن ه‬
‫ى‬ ‫عنى‪ ،‬وهذا‬
‫احلارض»‪ .‬لكن بدوي رسعان ما يضيف‪« :‬وهبذا امل ى‬
‫الزمان بني ماض وحارض ومستقبل» مهمال برضبة واحدة إمكان االستفادة من فعل الكون‬
‫ثمره الحقا)‪.‬‬
‫وغافال عن االنتباه إ ىل حارض َّية الكائن‪( .‬وهذا ما سوف ُن ه‬

‫‪(1) Sorge‬‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪157‬‬

‫حممد سبيال وزميله‬ ‫‪ 2 - 1 - 2‬وإ ىل جانب فريق بدوي يمكن ْ‬


‫أن تقع اجلهود التي بذِّلا ّ‬
‫عبد اِّلادي مفتاح يف نقل نصوص أساس َّية ِّلايدغر (التقن َّية ‪ -‬احلقيقة)‪ ،‬وإذ ُيافظ سبيال‬
‫يضطران إ ىل قول ‪ Ek-sistenz‬بالوجود املُنفتح ى‬
‫وإل االحتفاظ‬ ‫ّ‬ ‫عل الزوج املذكور‬
‫وزميله ى‬
‫نصا‬
‫عل كائن ووجود وموجود فيكتبان نقال عن الفرنسية ًّ‬
‫وإل قلب توزيع املعاين ى‬
‫بـ دازاين‪ ،‬ى‬
‫مثل هذا‪:‬‬
‫يف الـ دازاين حيتفظ لإلنسان باألساس اجلوهري الذي َّ‬
‫ظل لزمن طويل بدون‬
‫أساس‪ ،‬والذي يمكنه من أن يوجد وجود ًا منفتح ًا‪ .‬و«الوجود» (‪ )Existence‬ال‬
‫يعني هنا «الوجود» (‪ )Existentia‬كظهور ملوجود معطى فقط‪ .‬بل ال جيوز أن‬
‫نفهم الوجود كمجهود وجودي أخالقي‪ ...‬إذ الوجود املنفتح (‪)Ek-sistence‬‬
‫كحر َّية هو تعرض أمام الطابع املنكشف‬
‫ي‬ ‫ِّ‬
‫متجذر يف احلقيقة‬ ‫من حيث إ َّنه وجود‬
‫للكائن من حيث هو كذلك‪.‬‬
‫‪ ...‬إ ىل ْ‬
‫أن يقول‪:‬‬
‫‪ ...‬عند اللحظة التي يستشعر فيها َّأول مف ِّكر ال حتجب املوجود [‪ ]Etant‬ويبدأ‬
‫عام هو املوجود [‪ ...]Etre‬إلخ‪( .‬ص ‪.)25‬‬
‫فيها بالتساؤل َّ‬
‫إل سبيال ومفتاح‪.‬‬
‫وسأعود برتيث أكرب ى‬
‫حممد حمجوب‪ ،‬إذ ُيف هكر‬‫يتفرد ّ‬
‫عل الطرف اآلخر من زوج الوجود ‪ -‬املوجود َّ‬ ‫‪ 2-2‬ى‬
‫ما َّدته‪ .‬فال يكتفي بتلخيص املعلومات أو تعليمها‪ ،‬بل يعالج مشكلة فلسف َّية جديرة ب ُأسلوب‬
‫يتفرد باقرتاح مصطلحات‬
‫حمكم ما زال قليل االنتشار يف العرب َّية املعارصة لألسف‪ .‬وهو ال َّ‬
‫خضم‬
‫ه‬ ‫جديدة وحسب‪ ،‬بل ُيف هكر هذه املصطلحات يف سياق العرض با هتساق مدهش يف‬
‫املعمم‪:‬‬
‫االستسهال َّ‬
‫فهو ينطلق من التمييز املتداول بني وجود وموجود (بإزاء ‪ Sein‬و‪ )Seiend‬ليقول‬
‫جمرد‬
‫تواجد (بإزاء ‪ )Existenz‬ر َّبام لكون هذا الوزن (تفاعل) ُييل إ ىل احلضور ‪ -‬مع أو إ ىل َّ‬
‫املعنى فيقول‪ :‬توجدي بإزاء ‪ Existenzial‬متييزا له من‬‫ى‬ ‫ويتوسع يف هذا‬‫َّ‬ ‫احلضور ‪،-‬‬
‫الوجداين ‪(Existenziel‬إ َّنام من دون أ ْن يرشح ملاذا مل يقل‪ :‬تواجدي ى‬
‫عل القياس)‪.‬‬
‫‪ ❖ 158‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل حده تعبريه) َم ْو ِجد ليقول ‪ Dasein‬من حيث إ َّنه‪:‬‬ ‫ِ‬


‫و ُيو هلد (أو ُُيدث ى‬
‫هو مكان انفتاح السؤال‪ ،‬وهو مكان التصادي‪ ،‬وفسحة املالعبة املتجاوبة بينه‬
‫كموجود وانكشافه إىل نفسه يف معناه ‪ -‬كوجود(‪.)1‬‬
‫ح ويقول‪:‬‬
‫العهد بإزاء ‪ Ereignis‬حيث ال رشط الجتامع الزمان والوجود‪ ،‬بل ها‬
‫يتعاهدان (ص ‪)23‬؛ واخللوة بإزاء ‪Lichtung‬؛ واحلضور وانتشار احلضور (تأثر ًا‬
‫بالرتمجة الفرنس َّية) ‪ Anwesen‬لكنَّه يقول‪ :‬احلارض َّية بإزاء ‪.Anwesenheit‬‬
‫ويتك َّلم عىل‪ :‬ال ينعطي وال ينوهب‪ .‬وعىل قصود الوجود بام يف القصد ‪le‬‬
‫‪ destiner‬من معاين االنعطاء والتوجه (‪ 121‬و‪.)122‬‬
‫وإ ىل ذلك‪ ،‬يتك َّلم ى‬
‫عل فهم الوجود كإقبال َّية وحتديد هذه اإلقبال َّية انطالقا من اخللوة‬
‫وعل «يقبل الزمان» و«يقبل الوجود» (‪.)..Es gibt‬‬‫ى‬ ‫(ص‪)120‬‬
‫وينحت حمجوب أيضا لدو َّية بإزاء ‪( Vorhandenheit‬ص ‪ )33‬فيكون َّأول من‬
‫مرة‪ .‬ويكتب أخريا‪ :‬العلوم‬ ‫ُيذ هكرنا باستعامل املصدر الصناعي من دون حرش الوجود يف ه‬
‫كل َّ‬
‫األول‪ ،‬إذ ُي ِنقذنا من‬
‫القامويس َّ‬
‫َّ‬ ‫رصوف إنسان َّية واللفظ برونقه وسالسته يكاد ُينسينا معناه‬
‫ثقل سلوك وسلوكات‪.‬‬
‫عل اجتهاد مواطنه شهاب الده ين اللعالعي الذي‬ ‫حممد حمجوب ا َّطلع ى‬
‫أن يكون ّ‬ ‫رجح ْ‬ ‫و ُأ ه‬
‫يكتب يف مقدّ مة ترمجته‪:‬‬
‫عام هو مألوف ومتداول‪ ...‬فعوض أن نأخذ املصطلحات‬
‫حدنا يف ترمجتنا هذه َّ‬
‫اهلايدقار َّية كام هي‪ ،‬فإ َّننا قمنا بتأويلها حسب مقتضيات اللغة العرب َّية‪ ،‬أي حسب‬
‫قدرهتا األنتولوج َّية(‪.)2‬‬
‫‪ ..‬وكان ْ‬
‫أن أنتج احليد والتأويل ترمجة ‪ Sein‬بعبارة «كيفية وجود املوجودات»‪ ،‬وترمجة‬
‫‪ Dasein‬بعبارة «مقام االنفتاح»‪ ،‬كام نقل ‪ Existenz‬بلفظ تواجد‪.‬‬

‫(‪ )1‬هايدغر ومشكل امليتافيزيقا‪ ،‬ص ‪.80‬‬


‫(‪ )2‬مارتن هادقار‪ ،‬معضلة احلقيقة‪ ،‬تونس‪ ،‬الدار التونس َّية للنرش‪.1984 ،‬‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪159‬‬

‫عرب عن «مقام االنفتاح» بـ َم ْو ِجد‬


‫لكن حمجوب الذي رفض العبارتني واحتفظ باللفظ‪َّ ،‬‬
‫عل ما ُيستفاد من رشحه يف ما تقدَّ م‪ .‬ولع َّله فعل اليشء‬
‫إلظهار املكان َّية املالزمة للـ ‪ Dasein‬ى‬
‫اخللو أكثر مم َّا إ ىل االنقشاع مثال‪ .‬وقد‬
‫ه‬ ‫نفسه مع ‪ Lichtung‬حني ُيؤ هديه بـ خلوة‪ ،‬فانتبه إ ىل‬
‫أن ُيف هكر ‪ Es gibt‬املتع هلق بـ «الوجود» والزمان كام لو َّ‬
‫أن‬ ‫أمل عليه ْ‬
‫يكون االعتبار نفسه ى‬
‫الواحد منهام «يقبل»‪.‬‬
‫حممد حمجوب نقاشا أوسع ممَّا يف إمكاين اآلن‪.‬‬
‫وعل اجلملة‪ ،‬يستدعي مصطلح ّ‬
‫ى‬
‫‪ - 3‬وأثني بالزوج العرب‪ :‬الكينونة ‪ -‬الكائن‪:‬‬
‫‪ 1 - 3‬وأبدأه من «مالحظات حول ترمجة هايدغر» صدر هبا جورج زينات حمور «مارتن‬
‫هايدغر‪ :‬نصوص نسيان الكينونة» (العرب والفكر العاملي)‪ .‬يشري زينات إ ىل صعوبة ترمجة‬
‫تعرض ِّلا النص الفرنيس‪ ،‬فيذكر‬
‫عل ذلك باستعراض الصعوبات التي َّ‬
‫هايدغر‪ ،‬ويستدل ى‬
‫‪ facticité‬واستبداله بـ ‪ factivité‬و ُيذ هكر بمصري ‪ réalitéhumaine‬و‪ être-là‬قبل ْ‬
‫أن‬
‫سهل‬ ‫كل فلسفة هايدغر هو مفهوم الوجود‪/‬الكينونة‪َّ ،‬‬
‫وأن «ترمجته ُت ه‬ ‫ُيعلِن َّ‬
‫أن املفتاح يف ه‬
‫الكثري من التعابري‪ ،‬وُيسب َّ‬
‫أن العرب عرفوا هذا املفهوم القديم يوم كانوا أسياد الفلسفة يف‬
‫أن عبد‬ ‫يرى زينات َّ‬
‫العرص الوسيط وترمجوا الكلمة اليونانية املقابلة بكلمة وجود» وعليه ى‬
‫رتجم ‪ être et le néant’L‬لسارتر بالوجود والعدم لكنَّه‬ ‫الرمحن بدوي مصيب حني ُي ِ‬
‫اخلط‪ ،‬ويالحظ َّ‬
‫أن كلمة وجود التصقت بكلمة‬ ‫ه‬ ‫عل‬
‫يصطدم بدخول الوجود َّية املعارصة ى‬
‫‪ existence‬ف ُيعلِن أ َّنه‪:‬‬
‫مل يعد من املمكن َّإال إذا شئنا اإليغال يف اإلهبام والغموض‪ ،‬ترمجة ‪ Sein‬و‪être‬‬
‫أن اإلنسان‬ ‫بأن َّ‬
‫كل الكائنات تكون يف حني َّ‬ ‫أن هايدغر يعترب َّ‬
‫بكلمة وجود بالنظر إىل َّ‬
‫وحده يوجد»(‪.)1‬‬
‫عل‬
‫عل فريقه من مصطلحات نتيجة هذا اخليار ليحصل ى‬ ‫ويِّسد زينات ما استجدَّ ى‬
‫الـ دازاين أو الكينونة ‪ -‬هنا وكائن َّية ‪ étantité‬وكائن ‪ étant‬والكينونة هكذا ‪so-sein‬‬
‫خاصتي ‪être ،jemeinigkeit‬‬
‫َّ‬ ‫والكينونة داخل (يف قلب) ‪ -‬العامل وأناويتي ‪ -‬الكينونة‬

‫(‪ )1‬العرب والفكر العاملي‪ ،‬ص ‪ 4‬و‪.5‬‬


‫‪ ❖ 160‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل ‪ ontique‬كنعت‪،‬‬ ‫ِ‬


‫‪ .mien‬و ُيم هيز بني وجودي ووجودوي ‪ existential -‬و ُيطلق ى‬
‫املؤرخة والتارخياو َّية‪.‬‬
‫كينوين وليس كائني كام هو متوقع‪ .‬و ُيم هيز بني َّ‬
‫وال يذكر يف هذه القائمة تلك املصطلحات املشكلة التي وردت يف النصوص املنقولة‬
‫نفسها مثال‪ :‬اإلطار(‪ ،)1‬والتحقق(‪ ،)2‬والتملك املشرتك(‪ ،)3‬ومتلك مشرتك أسايس‪.‬‬
‫والواقع َّ‬
‫أن زينات يستند يف خيار كينونة إ ىل تعليم الس هيدة عفاف بيضون التي كانت َّأول‬
‫خصص دروسا عن هايدغر بالعرب َّية يف ك ّل َّية اآلداب يف اجلامعة اللبنان َّية إثر عودهتا من‬
‫من َّ‬
‫أن قضت ردحا طويال هناك ّتتص هبايدغر َّإال َّأّنا مل تنرش‬
‫أملانيا أواخر السبعينات بعد ْ‬
‫بالعرب َّية شيئا ُيذ َكر‪.‬‬
‫نقلت ‪ Sein‬إ ىل العرب َّية يف ترمجة نقد العقل املحض (‪ )1988‬واملوسوعة‬
‫ُ‬ ‫‪ 2 - 3‬وكنت‬
‫الفلسف َّية العرب َّية (‪ )1985‬بـ َك ْون كمصدر من كان‪َّ ،‬‬
‫وعربت عن ‪ Dasein‬يف لوحة‬
‫عل خيار كون وكائن‬ ‫املقوالت بـ وجود (مقوالت اجلهة)‪ ،‬وبقيت بعد تقاعد بيضون ى‬
‫نص هايدغر بالعرب َّية انطالقا من هذا اخليار‪ ،‬فكان ل‪ :‬الكون وك ََو َن‬
‫عل ه‬
‫وتابعت االشتغال ى‬
‫(واألحرى اِّلوذ َّية واِّلوذي) وال َث َّمة (وبت أميل إ ىل‬
‫ى‬ ‫ويكون والكائن والكينونة واِّلوذا‬
‫عطى)‪.‬‬
‫ُي ى‬
‫وكان ل يف املقابل‪ :‬الوجود واالنوجاد والقيام باإلزاء ويف املتناول والتكوين والتكون‬
‫(عل وزن أفاهيم مجع أجود دغم‬ ‫ى‬ ‫(وف َّكرت أيضا باالكتوان والتكونن)‪ ،‬واألواجيد‬
‫ّ‬
‫التخيل عن‬ ‫أوجود)(‪ ،)4‬وصدر ذلك منذ قليل (فلسفة عدد ‪ ،)1‬ووددت لو كان باإلمكان‬
‫بمعنى‬
‫ى‬ ‫الكون يف العبارة الشائعة‪ :‬الكون والفساد‪ ،‬لنقول‪ :‬النشوء والفساد‪ ،‬وعن الكون‬
‫الكوسمس لنقول‪ :‬العاملني‪.‬‬
‫عل َّ‬
‫أن الشائع غري‬ ‫وكان تسويغي لكون بدال من وجود‪ ،‬ولكائن بدال من موجود يقوم‪ ،‬ى‬

‫‪(1) Das Gestel‬‬


‫‪(2) Ereignis‬‬
‫‪(3) Ereignen‬‬
‫‪(4) Existenzial‬‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪161‬‬

‫مسوغ‪ ،‬بل هو موضع شك بسبب من شيوعه بالذات‪ ،‬وهو ال يصلح يف األحوال مجيعا‬
‫َّ‬
‫عل مقصد هايدغر‪ .‬فالوجود واملوجود تَع َّلق به فكرة اللقيا واملصادفة واملعرفة كام‬
‫للداللة ى‬
‫نصه الشهري (الفصل اخلامس عرش‪ :‬املوجود) (فقرة‬
‫يذكر الفاراب نفسه يف كتاب احلروف يف ه‬
‫عرب عن هذه‬ ‫عرب عن ‪ Seiend‬وليس عن ‪ .Sein‬إضافة إ ىل َّ‬
‫أن الفاراب ُي ه‬ ‫‪ ،)80‬أي يف ما ُي ه‬
‫اللفظة الدا َّلة يف سائر األلسن ‪ -‬من فارس َّية ورسيان َّية وسغد َّية ‪ -‬ى‬
‫عل‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ماض أو مستقبل استعملوا الكلم‬ ‫حمصل‬
‫رباط اخلرب باملخرب عنه؛ إذا أرادوا َّ‬
‫الوجود َّية وهي‪ :‬كان أو يكون أو سيكون أو اآلن‪.‬‬
‫حمل الكلم الكائنة كلام وجود َّية‪( .‬ص ‪.)113‬‬ ‫ويشري الفاراب إ ىل فريق آخر ُُيِل َّ‬
‫أن الفعل من وجود هو َو َجدَ ‪ ،‬وهو متعد ال يقع الوجود فيه أو عليه‪ ،‬بل‬ ‫ُأضيف إ ىل ذلك َّ‬
‫يف ما هو أمامه‪ .‬أو مبني للمجهول من ُو ِجدَ ‪ ،‬وحامله موجود أي اسم مفعول‪ ،‬وهو ما ال‬
‫عل ‪ Etant‬الدا َّلني ع ىل اسم الفاعل ‪participe présent‬‬
‫عل ‪ Seiend‬وال ى‬
‫ينطبق ال ى‬
‫عل لفظ كائن كام انتبه إ ىل ذلك بدوي من‬ ‫معنى احلارض إذا يف حني َّ‬
‫أن ذلك ينطبق ى‬ ‫ى‬ ‫املتضمن‬
‫ه‬
‫ثمره أو ْ‬
‫أن ُيعده ل ذلك من اصطالح َّيته‪.‬‬ ‫زمان من دون ْ‬
‫أن ُي ه‬
‫ولع َّله باإلمكان االستفادة من الوجود واملوجود َّية لقول ‪Anwesen‬‬
‫و‪ Anwesenheit‬إذا استثقلنا َتكْوان و َت ْكوانية وإتاحة االكتوان‪ .‬وإذا ما راجعنا قليال حميط‬
‫املحيط حيث نقرأ‪ :‬كان اليشء كونا وكيانا وكينونة‪ ،‬أي حدث فهو كان‪َّ .‬‬
‫وإن الكون عند‬
‫املتك هلمني مرادف للوجود‪َّ ،‬‬
‫وإن الثبوت والوجود والكون والتحقق مرتادفة‪َّ .‬‬
‫وإن الثبوت‬
‫عند املعتزلة أعم من الوجود‪.‬‬
‫إذا ما راجعنا ذلك قليال ال يعود بوسعنا ‪ -‬خجال من املعتزلة ‪ -‬إطالق لفظ الوجود‬
‫و َث َّمة ما هو أعم منه‪ ،‬ى‬
‫عل ‪.das Sein‬‬
‫إ ىل ذلك أقول‪ :‬يمكن ملستعمل كان ومشت ّقاهتا ْ‬
‫أن يستغني عن وجود وموجود يف التعبري‬
‫عن مجيع أحوال كان وكون‪ .‬يف حني ال يستغني مستعمل وجد‪ ،‬إذ هو مضطر يف املايض‬
‫واملستقبل لالستعانة بفعل الكون ليقول مثال‪ :‬كنت موجودا‪ ،‬وسأكون موجودا للقائك‪ .‬يف‬
‫حني يكتفي مستعمل كان بالقول‪ :‬كنت هناك‪ ،‬وسأكون هناك إ ىل آخره‪...‬‬
‫‪ ❖ 162‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إن لفظ وجود لصيق بـ ‪ Existenz‬بام ال فكاك منه‪َّ ،‬‬


‫وإال‬ ‫وأختم هذا التسويغ بالقول‪َّ :‬‬
‫عل وجود اهلل‪ .‬وإ َّنه منذ كنط بدأ هذا الوجود يندرج «يف‬
‫فكيف نقول‪ :‬وجود اهلل يف الرباهني ى‬
‫سوى التميز من وجود بقول‬
‫ى‬ ‫عل ما «يف األذهان»‪ .‬فلم يعد أمامنا‬‫األعيان» ومل يعد ُيط َلق ى‬
‫جمرد نمط كون ليس َّإال‪.‬‬
‫كون ال كينونة إذا شئنا حرص كينونة بـ َّ‬
‫‪ 3 - 3‬أ َّما التفكري يف مصطلحات الزمان ومشت ّقاته فمسألة ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬إ ىل ذلك‪َّ ،‬‬
‫إن انشغال‬
‫نرش بعد لكن تأمالت تدور حول التفكري يف‪:‬‬
‫هبا مل ُي َ‬
‫واملدى الزمني ‪Espace- temps‬‬‫ى‬ ‫إمداد‪ ،‬متداد بإزاء ‪Porrection Reichen‬‬
‫واإلباحة أو اإلتاحة ملا حتتمل من البسط والقبض بإزاء ‪ Ereignis‬وربام ِ‬
‫احلدثان واالقتضاء‬ ‫َّ‬
‫بإزاء ‪ das Geschick‬بدال من القصد‪.‬‬
‫عطى لـ ‪ ،gibt Es‬تثمريا لصيغة املجهول يف مقابل ‪ gibt Es‬لتمييزه من ‪ Es ist‬كام‬ ‫و ُي ى‬
‫يشاء هايدغر‪ ،‬حيث يف القول‪ :‬هناك مكان وهناك زمان‪ ،‬يظل الواحد منهام مبتدأ جيب ْ‬
‫أن‬
‫ُخي ِرب عنه ال به‪ .‬وذاك أقرب إ ىل الفرنس َّية التي هي ألزَ بـ ‪ Es ist‬كام ُين هبه هايدغر نفسه‪ .‬واألمر‬
‫كذلك يف‪ :‬يقبل الزمان ويقبل املكان‪ ،‬حيث يلعبان دور الفاعل‪.‬‬
‫‪ - 4‬وأكتفي من احلجاج هبذا املقدار ألنرصف أخريا إ ىل مبارشة هايدغر بالعرب َّية يف نص‬
‫أن انشغل به مؤ هلف هايدغر ومشكل امليتافيزيقا‪ ،‬وسبق ْ ِ‬
‫أن ُنق َل ى‬
‫إل‬ ‫متكامل ورئيس سبق ْ‬
‫حممد سبيال بعنوان «الزمان‬
‫العرب َّية بسعي من عبد اِّلادي مفتاح ومراجعة وإرشاف ّ‬
‫والوجود»(‪.)1‬‬
‫وهو نص حمارضة هايدغر ‪ Zeit und Sein‬التي ألقاها عام ‪ ،1962‬وأعاد نرشها مع‬
‫دعوى التفكري(‪ )2‬يف ‪.1969‬‬
‫ى‬ ‫بروتوكول ملحق يف كتابه‪:‬‬
‫أن ُأذ هكر بخطوطها العريضة قبل مبارشهتا بالعرب َّية لكنّي سأرصف النظر‬
‫وكان يف ن َّيتي ْ‬
‫عن هذا التذكري اآلن و ُأبارش قراءهتا فورا‪:‬‬
‫أن ُيعلِن هايدغر أ َّنه يريد قول يشء عن حماولة التفكري يف الكون دونام اعتبار لتأسيسه‬
‫بعد ْ‬
‫انطالقا من الكائن‪ ،‬يقول حسب املرتجم‪:‬‬

‫(‪ )1‬مارتن هايدغر‪ ،‬التقني َّة ‪ -‬احلقيقة ‪ -‬الوجود‪ ،‬ص ‪.135 - 87‬‬
‫‪(2) Zur Sache des Denken.‬‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪163‬‬

‫منذ فجر الفكر األُورويب الغريب وإىل يومنا هذا‪َّ ،‬‬


‫ظل معنى الوجود مرادف ًا‬
‫ي‬
‫ليتجىل وينترش بالقرب من ذاته‪ .‬ففي كلمة «حضور»‬ ‫للحضور‪ ،‬باعتباره ما يأيت لذاته‬
‫هذه (باروسيا) يتك َّلم احلارض‪ .‬واحلال َّ‬
‫أن احلارض ُيش ِّكل مع املايض واملستقبل حسب‬
‫التمثل الشائع‪ ،‬ما به يتحدَّ د الزمان‪ .‬والزمان بدوره هو ما يتحدَّ د به الوجود من حيث‬
‫هو أرض َّية له(‪( .)1‬ص ‪.)15‬‬
‫ويتساءل قارئ العربية وال بدَّ ‪ :‬من أين جاء احلضور ليلصق بالوجود؟ ومن أين دخلت‬
‫أن ُج َّل ما يقوله هايدغر يف األصل هو‪ :‬يقول كون منذ‪...‬‬
‫باروسيا يف ثنايا الكالم؟ يف حني َّ‬
‫ما يقوله ‪ Anwesen‬نفسه‪ .‬وابتداء من ‪ Anwesen‬تتك َّلم ‪ Anwesenheit‬احلارض‪.‬‬
‫فإذا كان ‪ wesen‬يقابل يف العرب َّية الكائن واجلوهر واملاه َّية و‪ An‬يفيد االقرتاب‪ ،‬احلركة‬
‫عل ما يضعه‬ ‫فإن اللفظ قد يعني التكوان أو الوجود ه‬
‫بكل بساطة ال احلضور جريا ى‬ ‫إ ىل‪َّ ..‬‬
‫الناقل الفرنيس‪ présence :‬ليلتبس لفظا مع ‪ .le présent‬وليس َث َّمة من داع الستقدام‬
‫تشتق املصدر الصناعي بسهولة‪.‬‬ ‫اليوناين باروسيا حيث يمكن للعرب َّية ْ‬
‫أن َّ‬
‫أن ه‬
‫لكل يشء زمنه يضيف يف لغة املرتجم‪:‬‬ ‫وإذ ُي هبني هايدغر َّ‬
‫الوجود ليس شيئ ًا‪ ،‬إ َّنه ال يكون يف الزمان‪ ،‬ومع ذلك فهو يظل‪ ،‬من حيث هو‬
‫ي‬
‫التجل واالنتشار‪ ،‬ومن حيث هو حارض‪ ،‬حمدَّ د ًا بالزمان‪ ،‬أي بام‬ ‫حركة اقرتابه من‬

‫(‪ )1‬نقال عن الفرنس َّية‪.‬‬


‫‪Être،depuis le matin de la pensée européenne - occidentale et jusqu’à aujourd’hui ،veut‬‬
‫‪dire le même que anwesen - approche de l’être [génitif subjectif]. Dans ce mot‬‬
‫‪d’Anwesen، пαρoυσíα، parle le présent. Or le present ،selon la représentation courante،‬‬
‫‪forme avec le passé et le futur ce qui caractérise le temps. Être،en tant qu’avancée - de -‬‬
‫‪l’être،est déterminé par la temps.‬‬
‫بإزاء األملان َّية‪:‬‬
‫‪Sein besagt seit der Frühe des abendländisch - europäischen Denkens bis heute dasselbe‬‬
‫‪wie Anwesen. Aus Anwesen ،Anwesenheit spricht Gegenwart. Diese bildet nach der‬‬
‫‪geläufigen Vorstellung mit Vergangenheit und Zukunft die Charakteristik der Zeit. Sein‬‬
‫‪wird als Anwesenheit durch die Zeit bestimmt.‬‬
‫‪ ❖ 164‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يستقر فيه ويتع َّلق به(‪.)1‬‬


‫والعبارة يف األصل أبسط بكثري‪ :‬يظل الكون بام هو ‪ ،Anwesen‬بام هو حارض بالزمن‪،‬‬
‫متع هينا بالزمني‪.‬‬
‫وباختصار ُتض هلل الرتمجة الفرنس َّية مرتجم العرب َّية الناقل عنها وتقف حجابا بينه وبني‬
‫النص اِّلايدغري‪ ،‬فبدل ْ‬
‫أن ينقل ‪ Anwesen‬و‪ Anwesenheit‬و‪Anwesenlassen‬‬ ‫ه‬
‫ه‬
‫بكل بساطة بوجود وموجود َّية وإتاحة الوجود تراه ي َّتبع تعثر الفرنس َّية فيأت بعبارات مثل‪:‬‬
‫الذي يتقدَّ م يف احلضور‪ ،‬ومقده م انتشار الكينونة‪ ،‬والسامح باالنتشار يف الكينونة‪ .‬ف ُيقده م‬
‫نصوصا مثل هذه‪:‬‬
‫إن الوجود من حيث هو ما به يتحدَّ د كل موجود كام هو‪ ،‬يعني احلضور‪ .‬إ َّنه‬
‫َّ‬
‫اقرتاب الكينونة من احلضور كي تنترش فيه‪ .‬فإذا ما تط َّلعنا إىل املوجود الذي يتقدَّ م يف‬
‫ي‬
‫سيتجىل‬ ‫فإن الوجود ‪ -‬من حيث هو مقدِّ م انتشار الكينونة ‪-‬‬
‫احلضور عىل هذا النحو‪َّ ،‬‬
‫ي‬
‫التجل واحلصول يف احلضور‪( .‬ص ‪.)96‬‬ ‫لنا باعتباره «طواع َّية»‬
‫الذي كان يمكن نقله‪:‬‬
‫إل‬
‫كل كائن بام هو كذلك‪ ،‬الكون يعني التكوان‪ .‬ويف النظر ى‬ ‫الكون الذي عربه يرسم َّ‬
‫املتكون سيتبدَّ ىى التكوان بوصفه إتاحة تكون‪ .‬واملطلوب اآلن التفكري يف إتاحة التكون هذه‬
‫ه‬
‫من حيث التكوان متاح(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬نقال عن الفرنس َّية‪:‬‬


‫‪Mais l’être n’est pas une chose ،n’est pas dans le temps. Et pourtant l’être reste،en tant que‬‬
‫‪mouvement d’approche de l’être،en tant que présent، déterminé par ce qui tient au temps.‬‬
‫بإزاء األملان َّية‪:‬‬
‫‪Sein aber ist kein Ding،ist nicht in der Zeit. Gleichwohl bleibt Sein als Anwesen، als‬‬
‫‪Gegenwart durch Zeit، durch Zeithaftes bestimmt.‬‬
‫(‪ )2‬بإزاء األملان َّية‪:‬‬
‫‪Sein، dadurch jegliches Seiende als ein solches gezeichnet ist ، Sein besagt Anwesen. Im‬‬
‫‪Hinblick auf das Anwesende gedacht، zeigt sich Anwesen als Anwesenlassen. Nun aber gilt‬‬
‫‪es،dieses Anwesenlassen eigens zu denken ، insofern Anwesen zugelassen wird. (p5).‬‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪165‬‬

‫أو مثل‪:‬‬
‫إن العطاء ‪ -‬الذي حيصل معطاه عىل الزمن ‪-‬‬
‫الزمان ال يكون‪ ،‬بل هناك زمان‪َّ .‬‬
‫يتحدَّ د انطالق ًا من اجلوار َّية التي ُحت ِّول وتدَّ خر‪َّ .‬إّنا هي بالضبط التي ُت ِّ‬
‫زود الفضاء‬
‫احلر للزمان بفسحته وانفتاحه وحتصل عليه‪ .‬فتصون ما يظل من املايض متنع ًا‪ .‬ومن‬
‫َّ‬
‫احلق بـ‪:‬‬ ‫املجيء واإلقبال مدَّ خر ًا‪ .‬وعليه‪ ،‬سنُ ي‬
‫سمي هذا العطاء ‪ -‬الذي ُيعطي الزمان َّ‬
‫املثول املفسح ‪ :-‬املستضيف‪( .‬ص ‪.)1()118‬‬
‫أو‪:‬‬
‫احلق هو قرابة حصول الوجود وانتشاره انطالق ًا من احلارض م َّا كان وم َّا‬
‫إن الزمان َّ‬
‫َّ‬
‫سوف يكون‪ .‬مقارب ًة ُت ِّ‬
‫وحد مثوهلا الذي يفسح املجال ألبعاد الزمان الثالثة‪ .‬لقد‬
‫أصاب الزمن هبيمنته عىل اإلنسان بام هو كذلك‪ .‬وبكيف َّية ال يمكنه معها أن يكون‬
‫إنسان ًا َّإال بإقامته يف قلب املثول الثالثي‪ ،‬انوجاد مقارب حيلولة‪ ،‬ا ِّدخار‪ ،‬الذي يتحدَّ د‬
‫به‪ .‬فال الزمان من صنيع اإلنسان‪ ،‬وال اإلنسان من صنيع الزمان‪ .‬فليست هناك من‬
‫سميناه آنف ًا‪ .‬ذلك‬
‫صناعة أو صنعة‪ .‬بل كل ما هناك هو العطاء بمعنى املثول الذي َّ‬

‫(‪ )1‬نقال عن الفرنسيَّة‪:‬‬


‫‪Le temps n’est pas،Il y a temps. Le donner ،dont la donation obtient le temps،se‬‬

‫‪détermine depuis la proximité qui empêche et réserve. C’est elle qui procure l’Ouvert de‬‬

‫‪l’espace libre du temps et sauvegarde ce qui demeure empêché dans l’avoir - été،et ce qui‬‬

‫‪dans le survenir demeure réservé. Nous nommons le donner qui donne le temps véritable:‬‬

‫‪la porrection éclaircissante - hébergeante. (p213 - 214).‬‬

‫بإزاء األملانيَّة‪:‬‬
‫‪Die Zeit ist nicht. Es gibt die Zeit. Das Geben،das Zeit gibt،bestimmt sich aus der‬‬

‫‪verweigernd-vorenthaltenden Nähe. Sie gewährt das Offene des Zeit - Raumes and‬‬

‫‪verwhart،was im Gewesen verweigert ،was in der Ankunft vorenthalten bleibt. Wir‬‬

‫‪nennen das Geben،das die eigentliche Zeit gibt،das lichtend - verbergende Reichen.‬‬

‫‪(p16).‬‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬166

.)1()120‫ و‬119 ‫ (ص‬.‫احلر للزمان‬


َّ ‫املثول الذي ينظم ويفسح الفضاء‬
:‫أو‬
‫سميناه عندما‬ ‫ي‬
َّ ‫ويتجىل باعتباره ذلك الـ (هو) الذي‬ ‫هكذا ينكشف الزمان احلق‬
‫ يكمن يف‬- ‫ هناك حيث يكون َث َّمة وجود‬- ‫ فتجمع املصري‬.»‫ «هو الوجود هناك‬:‫قلنا‬
.)121 ‫ (ص‬.‫مثول الزمان‬
ِ ‫أو حني ُي‬
:‫رتجم أخريا‬
،‫ ويف مثول الزمان‬،‫يف ذلك املصري الذي يؤول إليه كل ّتميع لقدر َّية الوجود‬
‫ أي اإلحراز عىل الوجود والزمان ومتلكهام يف‬،‫يتجىل نوع من اإلحراز والتملك‬‫ي‬
‫ َّأما ما ُخي ِّوهلام مع ًا يف‬،‫ والثاين كمجال للمنفتح‬،‫األول كباروزيا‬
َّ .‫خصوص َّيتهام‬
‫ فهو ما ندعوه باحلصول‬،‫ يف توافقهام املتبادل‬:‫خصوص َّيتهام وهذا معناه‬

:‫) نقال عن الفرنس َّية‬1(


Le temps véritable est la proximité du déploiement d’être à partir du présent،del’avoir-été
et de l’avenir - proximité qui unifie sa porrection triplement éclaircissante. Le temps a
déjà atteint de son règne l’homme an tant que tel et de façon qu’il ne peut être homme
qu’en se tenant au coeur de la triple porrection،ek-sis-tant la proximité،empêchement et
réserve،qui la détermine. Le temps n’est pas un fabricat de l’homme،l’homme n’est pas
un fabricat du temps. Il n’y a pas ici de fabrication،pas de faire. Il n’y a que le donner-
entendu au sens de la porrection que nous avons nommée،celle qui régit et éclaircit
l’espace libre du temps. (p215).
:‫نقال عن األملانيَّة‬
Die eigentliche Zeit ist die ihr dreifältig lichtendes Reichen einigende Nähe von Anwesen
aus Gegenwart،Gewesenheit und Zukunft. Sie hat den Menschen als solchen schon so
erreicht،daβ er nur Mensch sein kann،indem er innesteht im dreifachen Reichen und
aussteht die es bestimmende verweigernd-vorenthaltende Nähe Die Zeit ist kein
Gemächte des Menschen،der Mensch ist kein Gemächte der Zeit. Es gibt hier kein
Machen. Es gibt nur das Geben im Sinne des genannten ،den Zeit-Raum lichtenden
Reichens. (p17).
167 ❖ ‫ اهلايدغر َّية بلغة العرب؟‬:‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‬

‫سميه هذا الكالم ال يمكننا أن ُنف ِّكر فيه اآلن َّإال انطالق ًا م َّا قيل‬
ِّ ‫ وما ُي‬.LEreignis
‫ حيث‬.‫يف النظر املحرتز واملتي ِّقظ حول الوجود والزمان كتجميع للمصري وكمثول‬
‫ والـ‬.‫ الوجود والزمان) بـ سؤالني‬:‫ وها مع ًا اصطلحنا عليهام (أي‬.‫كل منهام يف مكانه‬
ٍّ ‫والذي يربط بينهام يرتك عالقة‬
.)1()125‫ و‬124 ‫ (ص‬.‫كل منهام باآلخر غري حمدَّ دة‬
.‫ أتو َّقف إذن‬.‫ فكيف باملستمع‬، ‫وال يستطيع القارئ متابعة القراءة أبعد من هذا احلده‬
‫ بل رأيناه يلجأ إ ىل فعل‬،‫عل وجود وموجود‬ ِ ‫و ُأ ه‬
َّ ‫سجل‬
‫أن املرتجم إ ىل العرب َّية مل يستطع احلفاظ ى‬
.‫ يكون وكون وكينونة‬:‫وكأن ذلك جيري عفو اخلاطر حني يقول‬ َّ ،‫الكون ومشت ّقاته‬
‫النص الفرنيس الذي حجب األصل وأبعده ما يزال قابال للقراءة جلهة ا هتساقه مع‬
َّ ‫إن‬َّ

:‫) نقال عن الفرنسيَّة‬1(


Dans le destiner du rassemblement de toute destination d’être،dans la porrection de

temps،se montre une propriation،une appropriation-à savoir de l’être comme пαρoυσíα et

du temps comme région de l’Ouvert - en leur propre. Ce qui détermine et accorde tous

deux en leur propre،et cela veut dire dans leur convenance réciproque-nous le nommons:

das Ereignis. Ce que nomme cette parole،nous ne pouvons maintenant la penser qu’à

partir de ce qui s’annonce dans le circonspect regard sur l’être et sur le temps comme

rassemblement de la destination et comme porrection - en quoi temps et être sont à leur

place. Les deux،l’être aussi bien que le temps،nous les avons nommés des questions. Le

«et»،entre les deux،laissait leur relation l’un à l’autre dans l’indéterminé. (p219).
:‫بإزاء األملان َّية‬
Im Schicken des Geschikes von Sein،im Reichen der Zeit zeigt sich ein Zueignen،ein
Übereignen، nämlich ،von Sein als Anwesenheit und von Zeit als Bereich des Offenen in
ihr Eigenes. Was beide ،Zeit und Sein،in ihr Eigenes ،d.h. in ihr
Zusammengehören،bestimmt، nennen wir: das Ereignis. Was dieses Wort nennt، können
wir jetzt nur aus dem her denken،was sich inder Vor-Sicht auf Sein und auf Zeit als
Geschick und als Reichen bekundet،wohin Zeit und Sein gehören. Beide ،Sein sowohl
wie Zeit، nannten wir Sachen. Das und zwischen beiden lieβ ihre Beziehung zueinander
im Unbestimmten. (p20).
‫‪ ❖ 168‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ّ‬
‫األقل يمتنع فهمه‬ ‫عل‬
‫النص العرب متتنع قراءته أو ى‬
‫أن َّ‬‫نفسه وخروجه بتأويل ما‪ ،‬يف حني َّ‬
‫تم النقل‪ :‬الفرنس َّية أو األملان َّية‪.‬‬
‫لغو ًّيا من دون العودة إ ىل ما عنه َّ‬
‫عل وحدة خياراته االصطالح َّية وال يستفيد‬
‫إل العرب َّية ال ُيافظ ى‬
‫فناقل «الزمان والوجود» ى‬
‫سوغ ما خيتار بإزاء ما يرتك‪ .‬وهو ‪ -‬شأنه شأن عا َّمة املرتمجني ‪ُ -‬يسب َّ‬
‫أن الفلسفة‬ ‫ممَّن سبق أو ُي ه‬
‫إل سبك وجممع)‪.‬‬ ‫إل أفكار ومعاين ال ى‬ ‫جممع أفكار أو سبك معان (ويف هذا ينشد االنتباه ى‬
‫وجتري األُمور كام لو َّ‬
‫أن ناقل هايدغر إ ىل العرب َّية‪ ،‬وناقيل الفلسفة بعا َّمة ال يبني أحد منهم‬
‫عل شكل‬
‫اخلاصة فيأت القول الفلسفي بالعرب َّية مبعثرا ى‬
‫َّ‬ ‫عل أحد‪ ،‬بل ينشئ كل منهم خيمته‬
‫ى‬
‫البدوي‬
‫َّ‬ ‫كأن املتفلسف بالعرب َّية‪َّ ،‬‬
‫كأن هذا‬ ‫خيم يف صحراء تتع َّثر املواصالت يف ما بينها‪َّ ،‬‬
‫خيشى اإلقامة يف العامرة‪.‬‬
‫ى‬ ‫األصيل‬
‫فال تنضوي الفلسفة ضمن خ َّطة‪ ،‬بل تأت مبعثرة متع هثرة حسب الطلب‪ ،‬كام لو َّ‬
‫أن منطق‬
‫السوق العرب َّية قد سبق منطق السوق العامل َّية يف التحكم ببذل األقوال الفلسف َّية واألقوال بعا َّمة‪.‬‬
‫‪ - 5‬فهل يمكن قول هايدغر بالعرب َّية أصال؟‬
‫حممد عابد اجلابري وطول باعه لتحدَّ ثت إذن عن بنية العقل العرب‬
‫لو كانت ل مهارة ّ‬
‫إل قول‬ ‫إن َث َّمة نزوعا طبيع ًّيا ى‬
‫لدى «العقل العرب» ى‬ ‫وتكوينه‪ ،‬ولقلت باالستعارة من كنط‪َّ :‬‬
‫أن يقال‪َّ ،‬‬
‫وإن لذلك‬ ‫هايدغر بالعرب َّية لكنَّه ما يزال يفتقر إ ىل النقد كي يقول هايدغر كام وجيب ْ‬
‫عل هذا القدر من املهارة‬
‫وإين لست ى‬
‫رشوطا يمكن تعدادها وحدودا ال يمكن تعده هيا‪ .‬أ َّما ّ‬
‫إل قول هايدغر بالعرب َّية‪ ،‬هذا امليل الذي يعتمل بنا‬
‫وطول الباع‪ ،‬فسأكتفي بتسجيل هذا امليل ى‬
‫إ ىل حده العشق كرافد من روافد احلاجة التي تلوب بنا ونلوب هبا إ ىل قول الفلسفة‪.‬‬
‫وعل افرتاض أ َّّنا حاجة حقيق َّية أي ليست حاجة‬
‫ى‬ ‫ْ‬
‫فإن صدقت هذه احلاجة إ ىل الفلسفة‪،‬‬
‫وأن قول الفلسفة بالعرب َّية ال ُحت هركه مصالح العرب َّية‪ ،‬بل‬
‫تسترت بالفلسفة لرتيد أمرا آخر‪َّ .‬‬
‫يتوجه فقط بمصالح الفلسفة‪ ،‬يصري باإلمكان التساؤل‪ :‬كيف يمكن لقول هايدغر بالعرب َّية‬
‫َّ‬
‫اليوم ْ‬
‫أن يكون؟‬
‫جمرد جممع أفكار‪ ،‬إذا كانت يف األساس نحوا وبادرة م َّتسقة يف‬ ‫وإذا مل تكن الفلسفة َّ‬
‫ُ‬
‫الفلسفة‬ ‫املبنى اللغوي‪ .‬لن تتك َّلم‬
‫ى‬ ‫باملعنى عن‬
‫ى‬ ‫باألحرى عدم االنشغال‬
‫ى‬ ‫حركتها‪ ،‬فيجدر‬
‫هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال‪ :‬اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ ‪169‬‬

‫العرب َّي َة ما مل يتك َّلمها املشتغلون بالفلسفة بدءا‪ .‬وواضح َّأّنم لن يستطيعوا قول هايدغر‬
‫عل اليشء أو احلديث عنه إ ىل قول اليشء نفسه‪ ،‬ما مل ينتقل‬
‫بالعرب َّية ما مل نعرب من الكالم ى‬
‫القول َّأوال من الِّسد واإلخبار إ ىل حماولة السرب والكشف‪ .‬ولنستعمل عبارة قديمة غري‬
‫يتم ثانيا املكوث يف آثاره يف‬
‫متأ َّمل فيها بعد‪ :‬من اخلرب إ ىل اإلنشاء‪ ،‬من النثر إ ىل الشعر‪ ،‬وما مل ّ‬
‫وجد آثاره كاملة أو شبه كاملة بالعرب َّية يف سياق م َّتسق املصطلحات‬
‫العرب َّية أي ما مل ُت َ‬
‫والرتاكيب أي قابلة للقراءة عرب ًّيا‪.‬‬
‫وهذه «القابلة للقراءة عرب ًّيا» هبا حاجة إ ىل تفلية‪ ،‬فهايدغر أو سواه من الفالسفة ال يوجد‬
‫منقطعا عن الرتاث الفلسفي نفسه‪ .‬من دون كنط وديكارت و ُأرسطو‪ ،‬بل أيضا من دون‬
‫هيغل وأفالطون وسواريز وهوسريل‪ ،‬من دون وجود نصوصهم شبه الكاملة ال جمال‬
‫عل قراءة عرب َّية منتجة أي متيحة للتفكري والنقد واإلضافة‪.‬‬
‫للكالم ى‬
‫مستقبل القول الفلسفي بالعرب َّية‪ ،‬إمكان قول الفلسفة بالعرب َّية منوط إذن باستيضاح‬
‫احلاجة العرب َّية إ ىل الفلسفة‪ :‬هل هي حاجة الستخدام الفلسفة أم خلدمة التفلسف (لراحة‬
‫سوى إحضار‬‫ى‬ ‫العقل كانت القدماء تقول)؟ وبتأمني املناخ اللغوي املناسب الذي ليس‬
‫احلي‪ ،‬إ ىل العرب َّية‪ .‬هذا اإلمكان منوط بنا إذن‪.‬‬ ‫الرتاث الفلسفي‪ ،‬وما ُأ ه‬
‫سميه جسد الفلسفة ه‬
‫متوحد؟ أليست الـ نا عائقا‬
‫ه‬ ‫لكن من هذه الـ «نا»؟ يقول املعرتض‪ :‬أليست الفلسفة تدبري‬
‫آخر‪ ،‬حجابا ضدَّ التفلسف؟‬
‫متوحد بالرضورة‪ ،‬لكنَّه‬
‫ه‬ ‫صح َّ‬
‫أن الفيلسوف‬ ‫املتوحد ْ‬
‫إن َّ‬ ‫ه‬ ‫جواب‪ :‬هذا ممكن يف حال وجود‬
‫غري قائم اآلن‪.‬‬
‫متى وكيف‪ ،‬ال‬
‫كالنبي‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬يأت ال أحد يعرف ى‬ ‫ه‬ ‫فإذا كان الفيلسوف كاملَلِك‪ ،‬أو‬
‫عسى ْ‬
‫إن جاء‬ ‫ى‬ ‫سوى هتيئة املقام ومتهيد األرض لقدومه‬
‫ى‬ ‫عل األحياء مثلنا القائمني هاهنا‬
‫يبقى ى‬
‫ى‬
‫ْ‬
‫أن يستطيب اإلقامة بيننا‪...‬‬
‫ِ‬
‫أن نختار بني ْ‬
‫أن نكون ‪ -‬إلكامل االستعارة‬ ‫سوى ْ‬
‫ى‬ ‫يبقى‬ ‫لسنا ا َمللك بعد‪ ،‬ال وال َّ‬
‫النبي‪ .‬فال ى‬
‫بحريى‪ .‬األعور الدَّ جال أو ُيوحنّا املعمدان‪ْ ،‬‬
‫فإن اخرتنا ما‬ ‫ى‬ ‫ّ‬
‫الكذاب أو راهب‬ ‫‪ -‬مسيلمة‬
‫أن رأسنا س ُيق َطع بالتأكيد‪ ،‬لكن الفيلسوف يكون قد ى‬
‫أتى‪.‬‬ ‫أن نختار‪ ،‬نعرف َّ‬
‫ينبغي ْ‬

‫* * *‬
‫‪ ❖ 170‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املصادر‪:‬‬
‫الفاراب أبو النرص‪ ،‬كتاب احلروف‪ ،‬حتقيق حمسن مهدي‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املرشق الطبعة الثانية‪.1990 ،‬‬
‫األول‪.‬‬ ‫بدوي‪ ،‬عبدالرمحن‪ ،‬سرية حيايت‪ ،‬امل َّ‬
‫ؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪ ،2000 ،‬اجلزء َّ‬
‫وحممد رجب‬
‫ّ‬ ‫مارتن هايدغر‪ :‬ما الفلسفة‪ ،‬ما امليتافيزيقا‪ ،‬هيلدرلني وماه َّية الشعر‪ ،‬ترمجة فؤاد كامل عبد العزيز‬
‫السيهد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العربيَّة‪.1964 ،‬‬
‫مارتن هادقار‪ ،‬معضلة احلقيقة‪ ،‬تونس‪ ،‬الدار التونسيَّة للنرش‪.1984 ،‬‬
‫موسوعة الفلسفة‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪.1984 ،‬‬
‫العرب والفكر العاملي‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬بريوت‪ ،‬خريف ‪.1988‬‬
‫ناصيف نصار‪ ،‬مقالة يف الوجود‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار النهار‪.2001 ،‬‬

‫* * *‬
‫القسم الثاني‬

‫هايدغر والغرب‬
‫هوسرل وكاسرير يف مواجهة هايدغر‬
‫(انتقادات إدموند هوسرل وإرنست كاسرير على الوجود والزمان‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وكانط ومسألة ما بعد الطبيعة هلايدغر)‬
‫أمري ع يباس الصاحلي‬
‫املقدّمة‪:‬‬
‫عمد يورغن هابرماس(‪ )2‬يف الصفحات األُو ىل من مقالته األثر والرؤية العقد َّية‪ ،‬إ ىل مناقشة‬
‫مارتن هايدغر(‪ )3‬من وجهة نظر أملان َّية(‪ .)4‬وبدأ هربرت شيندلباخ(‪ )5‬عرضه للفلسفة األملان َّية ‪-‬‬
‫مصيبا ‪ -‬هبذه النقطة‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫إن فلسفتنا املعارصة قد بدأت عىل نحو القطع واليقني بالرسالة املنطق َّية‬
‫َّ‬

‫عيل مطر اِّلاشمي‪.‬‬


‫(‪ )1‬تعريب‪ :‬حسن ّ‬
‫أهم‬
‫(‪ )2‬يورغن هابرماس (‪ - 1929‬؟ م) (‪ :)Jürgen Habermas‬فيلسوف وعامل اجتامع أملاين معارص‪ُ .‬ي َعد من ّ‬
‫من هظري مدرسة فرانكفورت النقد َّية‪ ،‬وهو صاحب نظر َّية الفعل التواصيل‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫مؤسس‬
‫(‪ )3‬مارتن هايدغر (‪1976 - 1889‬م) (‪ :)Martin Heidegger‬فيلسوف أملاين‪ .‬تلميذ إدموند هورسل ه‬
‫هها الوجود َّية وما‬
‫عل املدارس الفلسفيَّة يف القرن العرشين للميالد‪ ،‬ومن أ ّ‬
‫الظاهر ّيات‪ .‬متيَّز هايدغر بتأثريه الكبري ى‬
‫ّ‬
‫والالهوت َّية‬ ‫أهم إنجازاته أ َّنه أعاد توجيه الفلسفة الغرب َّية بعيدا عن األسئلة امليتافيزيق َّية‬
‫بعد احلداثة‪ .‬من ّ‬
‫معنى الكينونة‬
‫ى‬ ‫واإلبستيمولوجيَّة‪ ،‬ليطرح عوضا عنها أسئلة أنطولوجيَّة‪ ،‬وهي أسئلة ترت َّكز يف األساس ى‬
‫عل‬
‫األدنى يأخذون عليه‬
‫ى‬ ‫واملؤرخني بمعاداة الساميَّة‪ ،‬أو َّأّنم يف احلده‬
‫ه‬ ‫(‪َّ .)Dasein‬اهتمه الكثري من الفالسفة واملف هكرين‬
‫املعرب‪.‬‬ ‫انتامءه ‪ْ -‬‬
‫وإن يف فرتة ما ‪ -‬إ ىل احلزب النازي األملاين‪ .‬ه‬
‫‪(4) Habermas, J, Work and Weltanschaung: The Heidegger Controversy from a German‬‬
‫‪Perspective in Heidegger: A Critical Reader, ed. Hubert L. Dreyfus and Harrison Hall,‬‬
‫‪Oxford: Blackwell, 1992: 186 - 208.‬‬
‫عل ُأستاذيه أدورنو‬
‫(‪ )5‬هربرت شندلباخ (‪ :)Herbert Schnädelbach‬فيلسوف وعامل اجتامع أملاين‪ ،‬عاب ى‬
‫وهوكهايمر جتاهلهام لفلسفة مارتن هايدغر وجان بول سارتر ولودفيغ فتغنشتاين‪.‬‬
‫‪ ❖ 174‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫لغيوريغ‬ ‫(‪)3‬‬
‫للودفيغ فيتغنشتاين(‪ ،)2‬والتاريخ والوعي الطبقي‬ ‫(‪)1‬‬
‫(الفلسف َّية)‬
‫لوكاتش(‪ ،)4‬والوجود والزمان(‪ )5‬ملارتن هايدغر(‪.)6‬‬
‫عل َّ‬
‫أن مارتن هايدغر ُي َعد واحدا من أكرب وأكثر الفالسفة‬ ‫شك يف َّ‬
‫أن هناك إمجاعا ى‬ ‫ال َّ‬
‫تأثريا يف عرصنا الراهن‪ .‬فقد مت َّكن بشكل أصيل من حتريك عجلة هرمنيوطيقا دلتاي(‪،)7‬‬
‫وعل نحو‬
‫ى‬ ‫وفينومينولوجيا هورسل(‪ ،)8‬واملضامني الظاهرات َّية ملاكس شيللر(‪ ،)9‬يف مسار جديد‬

‫‪(1) Tractatus logico - philosophicus.‬‬


‫(‪ )2‬لودفيغ يوسف يوح ّنا فيتغنشتاين (‪1951 - 1889‬م)‪ :‬فيلسوف نمساوي وأحد أكرب فالسفة القرن العرشين‪ ،‬كان‬
‫عل كل من (الوضعان َّية املنطق َّي ة) و(فلسفة التحليل)‪ .‬أحدثت كتاباته ثورة يف فلسفة ما بعد‬
‫ألفكاره أثرها الكبري ى‬
‫بأن معظم املشاكل الفلسفيَّة تقع بسبب اعتقاد الفالسفة َّ‬
‫أن أكثر الكلامت أسامء‪.‬‬ ‫احلربني العامليتني‪ .‬قال فيتغنشتاين َّ‬
‫املعنى يف اخلطاب‪ .‬من أبرز أعامله‪:‬‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن اللغة عند فيتغنشتاين هي الطريق إ ىل املعرفة باعتبارها وسيلة لفهم تكوين‬
‫املعرب‪.‬‬
‫و(الكراسة البنية)‪ .‬ه‬
‫ّ‬ ‫و(الكراسة الزرقاء)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(مصنف منطقي فلسفي)‪ ،‬و(حتقيقات فلسفيَّة)‪،‬‬
‫‪(3) Geschichte und Klassenbewusstsein.‬‬
‫مؤسس املاركسيَّة‬
‫(‪ )4‬جورج لوكاش (‪1923‬م)‪ :‬فيلسوف وكاتب وناقد ووزير جمري ماركيس‪ ،‬يعده معظم الدارسني ه‬
‫الغرب َّية يف مقابل ه‬
‫االحتاد السوفيتي‪ .‬أسهم يف عدَّ ة أفكار‪ ،‬ومن بينها‪( :‬التشيؤ)‪ ،‬و(الوعي الطبقي)‪ .‬وكان لنقده‬
‫عل املدرسة الواقعية األدبيَّة‪ .‬خدم لفرتة وجيزة كوزير للثقافة يف املجر بعد الثورة املجر َّية سنة‬
‫األدب تأثري ى‬
‫املعرب‪.‬‬
‫عل الرئيس ماتياش راكويش‪ .‬ه‬
‫(‪1956‬م) التي قامت ى‬
‫‪(5) Sein und Zeit.‬‬
‫‪(6) Ibid.‬‬
‫(‪ )7‬فيلهم دلتاي (‪1911 - 1833‬م)‪ :‬فيلسوف وطبيب نفساين وعامل اجتامع أملاين‪ُ .‬يعتَرب من الفالسفة األكثر نفوذا يف‬
‫إحدى ثوابت فكر دلتاي هي الوعي بتارخي َّية املوجود البرشي؛ أل َّنه يعيش يف الزمان‪ ،‬ويتحدَّ د وجوده‬
‫ى‬ ‫فلسفة احلياة‪.‬‬
‫بامليالد واملوت‪ ،‬ويتأ َّلف من سلسلة حلقاهتا (املايض واحلارض واملستقبل)‪ .‬كام َّ‬
‫أن العالقة بني الناس تارخييَّة أيضا‪،‬‬
‫املعرب‪.‬‬ ‫ومن هنا َّ‬
‫فإن عامل اإلنسان هو عامل التاريخ‪ .‬ه‬
‫ومؤسس الظاهر ّيات‪ .‬أ َّثر (هورسل)‬
‫ه‬ ‫(‪ )8‬إدموند هورسل (‪1938 - 1859‬م) (‪ :)Edmund Husserl‬فيلسوف أملاين‬
‫عل فالسفة كبار‪ ،‬ومن بينهم‪ :‬جان بول سارتر‪ ،‬وماكس شيللر‪ .‬كام كان ُأستاذا ملارتن هايدغر‪ .‬كان هورسل يف بدايته‬
‫ى‬
‫باالجتاه النفساين يف الفلسفة‪ ،‬ولك َّنه رسعان ما َّاجته إ ىل االهتامم باملعاين واملاهيّات اخلالصة‪ ،‬وهو ما ّ ى‬
‫جتل يف كتابه‬ ‫متأ هثرا ه‬
‫(البحوث املنطقيَّة)‪ ،‬وهو ما أ َّكده حتت ّ‬
‫مسم ىى (القصد َّية) وهي فكرة حمور َّية يف فلسفته الظاهراتيَّة‪ .‬من أعامله‪( :‬فلسفة‬
‫علم احلساب)‪ ،‬و(تأمالت ديكارتيَّة)‪ ،‬و(أزمة العلوم األُوروبيَّة والظاهر ّيات املتعاليَّة)‪ ،‬و(التجربة واحلكم)‪ .‬امل ه‬
‫عرب‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫(‪ )9‬ماكس شيلر (‪1928 - 1874‬م) (‪:)Max Scheler‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪175‬‬

‫عل طاولة البحث والتفكري الفلسفي ضمن إطار‬ ‫مبدع‪ ،‬كام مت َّكن من وضع الوجود ى‬
‫املعطى‬
‫ى‬ ‫عل الفلسفة األملان َّية املتمحورة حول املوضوع‪ .‬وهذا‬
‫ويتفوق ى‬
‫َّ‬ ‫فوميتافيزيقي وتأرخيي‪،‬‬
‫من هايدغر عميق بطبيعة احلال؛ أل َّنه بنحو من األنحاء نتاج حل ورفع العنارص الوجود َّية‬
‫واإلشكال َّية امليتافيزيق َّية التقليد َّية‪ .‬ومن هنا يقول يورغن هابرماس‪:‬‬
‫فإن نقطة االنطالق اجلديدة هلايدغر حيتمل َّأّنا ال تزال ‪-‬‬
‫من وجهة نظر معارصة َّ‬
‫كام كانت ‪ -‬متُ ِّثل أعمق استدارة(‪ )1‬فلسف َّية قد ظهرت يف الفلسفة األملان َّية منذ عرص‬
‫فريدريتش هيجل(‪.)3()2‬‬
‫ُولِدَ مارتن هايدغر سنة (‪1889‬م) يف مسكريخ وهي مدينة صغرية وحمافظة‪ .‬ويمكن‬
‫القول‪َّ :‬‬
‫إن السؤال األسايس الذي شغل ذهن مارتن هايدغر طوال حياته االحرتاف َّية هو‬
‫السؤال عن الوجود‪ .‬لسنا يف هذا املقال بصدد السعي إ ىل بيان وتبويب اإلبداعات الفلسف َّية‬
‫املتعده دة ِّلايدغر؛ إذ هناك الكثري من ال ُك ُتب واملقاالت الصادرة يف حقل انتقاد هايدغر‬
‫للميتافيزيقا التقليد َّية‪ ،‬وماه َّية الـ دازاين‪ ،‬والكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل‪ ،‬والتارخي َّية‪ ،‬ونقد‬
‫تم تقديم‬
‫خرى َّ‬‫التكنولوجيا‪ ،‬وغري ذلك من املعطيات الفلسف َّية ملارتن هايدغر‪ .‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫عل خمتلف أنحاء آرائه وأعامله الفكر َّية من ِق َبل املف هكرين البارزين‪.‬‬
‫الكثري من اآلراء النقد َّية ى‬
‫إن املسألة الرئيسة التي أنشدها يف هذه املقالة هي ّأين ‪ -‬بدال من الدخول يف تفاصيل فلسفته‬ ‫َّ‬
‫إل تعقب عموم املسائل واِّلواجس األصلية ِّلايدغر يف مرحلته‬
‫أسعى ى‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫واملتأخرة ‪-‬‬ ‫املتقده مة‬

‫الطب يف ميونخ‪ ،‬ودرس الفلسفة وعلم االجتامع‬


‫َّ‬ ‫‪ ‬فيلسوف أملاين‪ُ ،‬ولِدَ ألب لوثري و ُأم هيود َّية ُأورثودوكس َّية‪ .‬درس‬
‫التقى بالفينومينولوجي الشهري هورسل‬
‫ى‬ ‫أبدى اهتامما قو ًّيا بالفلسفة الرباغامتية األمريك َّية‪.‬‬
‫ى‬ ‫حتت إرشاف دلتاي‪.‬‬
‫ولكن عالقتهام ظ َّلت متو هترة‪ ،‬وأ َّيد يف رسالة املاجستري حتت عنوان (التحقيقات املنطق َّية) حتفظات هايدغر يف كتابه‬
‫عوض للفكر األُورب‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬ ‫(الكينونة والزمن)‪ .‬رأ ىى الكثريون يف وفاته املفاجئة واملبكرة خسارة ال ُت َّ‬
‫‪(1) Turning point.‬‬
‫أهم الفالسفة األملان؛ إذ ُيع َترب‬
‫(‪ )2‬جورج فيلهلم فريدريتش هيجل (‪1831 - 1770‬م)‪ :‬فيلسوف أملاين‪ُ ،‬يع َترب أحد ّ‬
‫طور املنهج اجلدل الذي أثبت من خالله َّ‬
‫أن‬ ‫مؤسس املثاليَّة األملانيَّة يف الفلسفة يف أواخر القرن الثامن عرش للميالد‪َّ .‬‬
‫ه‬
‫ثم التوليف بينهام‪ .‬وكان لفلسفة هيجل أثر عميق يف معظم‬
‫مسار التاريخ واألفكار يتم من خالل الطرُية والنقيضة ّ‬
‫املعرب‪.‬‬
‫الفلسفات املعارصة‪ .‬ه‬
‫‪(3) Ibid. p. 188.‬‬
‫‪ ❖ 176‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫األُو ىل من خالل التأكيد ى‬


‫عل اآلراء النقد َّية لفيلسوفني معارصين له‪ ،‬وها‪ :‬إدموند‬
‫هورسل ‪ ،‬وإرنست كاسرير ‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬كان هذان الفيلسوفان ها من أوائل‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫عل كتاب الكينونة والزمان‪ ،‬وكانط ومسألة ما بعد‬


‫تعرضوا بالر هد ى‬
‫الفالسفة البارزين الذين َّ‬
‫عل هذين الكتابني‪ ،‬واملناظرة التي‬
‫الطبيعة‪ .‬وذلك من خالل اِّلوامش التي كتبها هورسل ى‬
‫نسعى يف هذا املقال إ ىل رشح ودراسة املسائل النقد َّية‬
‫ى‬ ‫أقامها كاسرير مع هايدغر الحقا‪ .‬كام‬
‫عل هذين الكتابني اللذين ينتميان إ ىل املرحلة الفكر َّية‬
‫التي أثارها هذان الفيلسوفان البارزان ى‬
‫األُو ىل ِّلايدغر؛ لنكون يف اخلتام قد أعددنا ‪ -‬من خالل هذه املواجة االنتقاد َّية َّ‬
‫األول َّية ‪-‬‬
‫مدخال مناسبا إ ىل األبحاث املطروحة يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫السؤال عن الوجود‪ :‬أساس املشروع األوَّل ملارتن هايدغر‪:‬‬


‫أهم أعامل هايدغر ‪ -‬بوصفه جت ّليا ِّلاجس‬
‫لو اعتربنا كتاب الكينونة والزمان ‪ -‬الذي هو من ّ‬
‫املرحلة األُو ىل ِّلايدغر‪ ،‬وجب علينا ْ‬
‫أن نسأل أنفسنا قبل ه‬
‫كل يشء‪ :‬ما هي األرض َّية واخللفية‬
‫أن هايدغر كان يف مرحلته األُ ى‬
‫ول‬ ‫تم فيها تأليف هذا الكتاب؟ نعلم َّ‬‫التارخي َّية والفكر َّية التي َّ‬
‫إن هورسل الذي‬ ‫ظاهرات ًّيا فينمومينولوج ًّيا متأ هثرا يف ذلك بآراء ُأستاذه إدموند هورسل‪َّ .‬‬
‫اخلطى يف ا هتباع أثر اليقني‪ ،‬قد عمد إ ىل تأسيس وتثبيت‬
‫ى‬ ‫أمىض َّ‬
‫كل حياته الفلسف َّية تقريبا ُيث‬ ‫ى‬
‫دعائم الفلسفة الفينومينولوج َّية والظاهرات َّية بوصفها طريقا لبلوغ اليقني الفلسفي الذي‬
‫إن املسألة األساس َّية هي َّ‬
‫أن الرتاث امليتافيزيقي الغرب ‪ -‬والس ّيام بعد رينيه‬ ‫ينشده‪َّ .‬‬
‫ديكارت ‪ -‬مل يتم َّكن أبدا ‪ -‬من خالل التفكيك بني طرُية ه‬
‫املعرف ونقيضة التعريف ‪ -‬من‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪(1) Edmund Husserl (1859 - 1938).‬‬

‫سم ىى‬
‫ومؤرخ فلسفة ينتمي إ ىل ما ُي ّ‬
‫ه‬ ‫(‪ )2‬إرنست كاسرير (‪1945 - 1874‬م) (‪ :)Ernst Cassirer‬فيلسوف أملاين‬
‫بمدرسة ماربورج يف (الفلسفة الكانط َّية اجلديدة)‪ ،‬اشتهر كأبرز شارح للفلسفة النقد َّية الكانط َّية يف القرن العرشين‪.‬‬
‫من أشهر أعامله‪( :‬اجلوهر والوظيفة)‪ ،‬و(احلُ ّر َّية والشكل)‪ ،‬و(فلسفة األشكال الرمز َّية)‪ ،‬و(األُسطورة والدولة)‪،‬‬
‫و(اللغة األُسطور َّية)‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫(‪ )3‬رينيه ديكارت (‪1650 - 1596‬م)‪ :‬فيلسوف وريايض وفيزيائي فرنيس‪ُ ،‬يل َّقب بـ (أب الفلسفة احلديثة)‪َّ .‬‬
‫إن الكثري‬
‫‪‬‬ ‫من األُطروحات الفلسف َّية الغرب َّية التي جاءت بعده هي انعكاسات ألُطروحاته‪.‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪177‬‬
‫ِ‬
‫يكتف بعدم اليقني يف حقل املعرفة فحسب‪ ،‬بل‬ ‫إقامة ارتباط مقنع بني هذين األمرين‪ ،‬ومل‬
‫وأضاف إ ىل ذلك جمموعة كبرية من األزمات التي َّ‬
‫متخضت من صلب هذه الثنائ َّية‪.‬‬
‫حتولت ثنائ َّية الذهن واخلارج إ ىل الرؤية العقد َّية الغالبة يف العامل الغرب بعد رينيه‬
‫لقد َّ‬
‫ديكارت‪ ،‬فلم تكن الواقع َّية االستعالئ َّية إليامنوئيل كانط(‪ )1‬منتجة يف تأليف هذين املفهومني‪،‬‬
‫سعى هورسل بدوره ‪ -‬من خالل االستعانة‬
‫ى‬ ‫وال مرشوع الواقع َّية املطلقة ِّليجل‪ .‬كام‬
‫إل رفع هذا الرشخ‬
‫بمقتضيات من قبيل القصد َّية يف صلب مرشوعه الفينومينولوجي ‪ -‬ى‬
‫(‪)2‬‬

‫املعرف واإلعطائ َّية(‪ )3‬غري النظر َّية لنقيضته يف الوعي‪.‬‬


‫األول َّية لطرُية ه‬
‫بواسطة نظر َّية املواجهة َّ‬
‫وإن كان متأ هثرا‬ ‫يف ه‬
‫ظل هذه األرض َّية كان املرشوع الفكري ملارتن هايدغر آخذا بالتبلور‪ .‬فهو ْ‬
‫ويرى َّ‬
‫أن هذا النوع من الفهم لإلعطائ َّية ما‬ ‫ى‬ ‫يرى جوابه كافيا‪،‬‬
‫بإدموند هورسل‪ ،‬ولكنَّه مل يكن ى‬
‫إل فكرة َّ‬
‫أن املشكلة تكمن يف‬ ‫قبل النظر َّية ُيدث بدوره يف سطح نظري‪ .‬ث ّم ي َّتجه هايدغر ى‬
‫وعل هذا األساس فإ َّنه واصل تتبع مفهوم‬
‫ى‬ ‫بمعنى َّأّنا تكمن يف فهم الوجود‪.‬‬
‫ى‬ ‫موضع آخر؛‬
‫عل جذور هذا الرشخ‪.‬‬
‫الوجود وصوال إ ىل مرحلة اليونان القديمة ليقف ى‬
‫عام إذا كان اليشء موجودا‬
‫يقول هايدغر‪ :‬عندما نسأل عن وجود يشء؟ أو عندما نسأل َّ‬
‫بمعنى أ َّنه بمعزل عن اإلجابة عن‬
‫ى‬ ‫أو معدوما‪ ،‬فإ َّننا نكون قد افرتضنا مفهوم الوجود مسبقا‪.‬‬
‫إن الوجود كامن يف جوهر ه‬
‫كل‬ ‫هذا السؤال نفيا أو إجيابا‪ ،‬كأ َّنام يكون هناك حضور للوجود‪َّ .‬‬

‫‪ ‬كام َّ‬
‫أن لديكارت تأثريا واضحا يف علم الرياضيّات‪ ،‬وقد اخرتع نظاما رياضيًّا ُس ّمي باسمه وهو (نظام اإلحداثيّات‬
‫الديكارت َّية) الذي ش َّكل النواة األُو ىل لـ (اِّلندسة التحليل َّية)‪ ،‬فكان بذلك من الشخص ّيات الرئيسة يف تاريخ الثورة‬
‫العلميَّة‪ .‬كام كان ديكارت الشخصيَّة الرئيسة ملذهب العقالنيَّ ة يف القرن السابع عرش للميالد‪ .‬وهو صاحب املقولة‬
‫الشهرية‪( :‬أنا ُأف هكر؛ إذن أنا موجود)‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫(‪ )1‬إيامنوئيل كانط ( ‪ 1804 - 1724‬م)‪ :‬فيلسوف أملاين‪ُ ،‬ي عتَرب آخر الفالسفة املؤ هث رين يف الثقافة األُوروبيَّة‬
‫احلديثة‪ ،‬وأحد أه ّم الفالسفة الذين كتبوا يف نظر َّي ة املعرفة الكالسيكيَّ ة‪ ،‬وهو آخر فالسفة عرص التنوير يف‬
‫املجر د)‪ ،‬و(نقد‬
‫َّ‬ ‫أُ وروبا والذي بدأ بجون لوك وجور ج بريكيل وديفد هيوم‪ .‬من أشهر أعامله‪( :‬نقد العقل‬
‫املعر ب‪.‬‬
‫العقل العميل)‪ .‬ه‬
‫‪(2) intentionality‬‬
‫‪(3) givenness‬‬
‫‪ ❖ 178‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إل االعتقاد‬
‫ما نفكر فيه‪ ،‬وهذا هو املفهوم اإلغريقي ح َّت ىى عرص أفالطون ‪ .‬يذهب هايدغر ى‬
‫(‪)1‬‬

‫بتحقق حادثة بعد أفالطون‪ ،‬حيث تنخفض الرؤية األنطولوج َّية(‪ )2‬إ ىل رؤية التعريف‬
‫عل طول تاريخ امليتافيزيقا الغرب َّية‪ ،‬وبدال من االهتامم بذات‬ ‫بالوجود ‪ ،‬حيث هتيمن ى‬
‫(‪)3‬‬

‫ومسمياته املختلفة لدراسة ميتافيزيق َّية حتت عناوين‬


‫ّ‬ ‫الوجود‪ ،‬يتم إخضاع جت ّليات الوجود‬
‫إن هذا االنحراف عن ذات الوجود‬ ‫متنوعة من قبيل‪ :‬الطاقة‪ ،‬واملا َّدة‪ ،‬واملونادوما إ ىل ذلك‪َّ .‬‬
‫ه‬
‫إ ىل املوجود ُيؤ ّدي إ ىل الغفلة عن الوجود ونسيانه‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وبغض النظر عن مدى ثراء منظومة‬ ‫إن مجيع األنطولوج ييات ‪ -‬هي يف األساس‬
‫َّ‬
‫مقوالهتا‪ ،‬وتكثيفها عىل نحو ثابت ‪ -‬إذا مل تعمل منذ البداية عىل تنقيح معنى‬
‫الوجود(‪ )4‬بشكل مناسب‪ ،‬ومل ّتعل هذا التنقيح بوصفه وظيفة مبنائ َّية هلا‪ ،‬سوف تبقى‬
‫أهم أهدافها الذات َّية(‪.)5‬‬
‫كليلة وعمياء ومنحرفة عن ي‬
‫َّ‬
‫وإن جذور الرشخ الالحق يف الذات واملوضوع‪ ،‬والذهن واخلارج‪ ،‬والروح واملا َّدة‪،‬‬
‫املعنى احلقيقي للوجود‪َّ .‬‬
‫إن مجيع هذه‬ ‫ى‬ ‫األول عن‬
‫والعني والظاهرة‪ ،‬يكمن يف هذا االنحراف َّ‬
‫وإن فلسفة الغرب تغفل عن هذه النقطة وهي َّ‬
‫أن مجيع‬ ‫الثنائ ّيات موجودة يف صلب الوجود‪َّ ،‬‬
‫املسميات من جت ّليات الوجود‪ .‬وقد أ َّكد هايدغر يف كتابه كانت واملسألة امليتافيزيق َّية ى‬
‫عل‬ ‫ّ‬ ‫هذه‬
‫أن ت َّتجه نحو املوضوعات؛ إذ من‬ ‫أن املعرفة األنطيق َّية (املرتبطة باملوجد) ال يمكنها لوحدها ْ‬
‫َّ‬

‫(‪ )1‬أفالطون أو أرستوكليس بن ارستون (‪ 347 - 427‬ق‪ .‬م)‪ :‬فيلسوف يوناين كالسيكي‪ ،‬كاتب لعدد من احلوارات‬
‫مؤسسا ألكاديم َّية أثينا التي كانت َّأول معهد للتعليم العال يف العامل الغرب‪ ،‬وقد وضع األُ ُسس‬
‫الفلسف َّية‪ُ ،‬يعتَرب ه‬
‫األُو ىل للفلسفة الغربيَّة والعلوم‪ُ .‬أستاذه سقراط وتلميذه ُأرسطو‪ .‬وقد ظهر نبوغ أفالطون و ُأسلوبه ككاتب واضح‬
‫يف حماوراته السقراط َّية التي تناول فيها مواضيع فلسف َّية خمتلفة‪ ،‬من قبيل‪ :‬نظرية املعرفة‪ ،‬واملنطق‪ ،‬واللغة‪،‬‬
‫املعرب‪.‬‬
‫والرياض ّيات‪ ،‬وامليتافيزيقا‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والسياسة‪ .‬ه‬
‫‪(2) ontological‬‬

‫‪(3) ontic‬‬

‫‪(4) Being‬‬

‫‪(5) Heidegger, M, Being and Time, translated by Joan Stambaugh, State University of New‬‬

‫‪York Press, Albany: 2010. 3:31.‬‬


‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪179‬‬

‫دون املعارف األنطولوج َّية‪ ،‬ليس هناك أي إمكان َّية إ ىل ه‬


‫االجتاه نحو أينياهتا(‪.)2()1‬‬

‫الرؤية االنتقاديَّة هلوسرل إىل الكينونة والزمان‪:‬‬


‫أي أساس أقام هايدغر‬
‫عل ه‬ ‫عل هذه اخلطوة‪ْ ،‬‬
‫وأن نسأل أنفسنا‪ :‬ى‬ ‫املهم ْ‬
‫أن نقف أكثر قليال ى‬ ‫من ه‬
‫إل‬
‫فلسفته من خالل نقد امليتافيزيق الغرب؟ وبعبارة أوضح‪ :‬هل بلغت الفلسفة مع هايدغر ى‬
‫املعنى السائد للفلسفة يف الرتاث الغرب؟ أ َّما السؤال‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫منتهى غايتها من خالل العبور ى‬
‫ى‬
‫إل ما ينتقده (أي امليتافيزيق)؟ هل األمر بحيث جيب‬
‫اآلخر فهو‪ :‬ما هي نسبة رؤية هايدغر ى‬
‫أن نعترب رؤيته وتفكريه نمطا جديدا من امليتافيزيقا‪ ،‬أم األفضل ْ‬
‫أن نعتربه من نمط ما بعد‬ ‫ْ‬
‫عل مواصلة عمل َّية إرجاع ما بعد الطبيعة إ ىل مسارها األصيل‪،‬‬ ‫امليتافيزيقا؟ يرص هايدغر ى‬
‫فإن إيامنوئيل كانط قد سبق مارتن‬‫بمعنى استعادة السؤال عن الوجود‪ .‬ولكن كام نعلم َّ‬ ‫ى‬
‫عل رؤية‬ ‫ِ‬
‫بمجرد توجيه انتقادات تفصيل َّية ى‬
‫َّ‬ ‫إل غربلة امليتافيزيقا‪ ،‬ومل يكتف‬
‫هايدغر يف سعيه ى‬
‫يسعى أيضا إ ىل إقامة بناء جديد للتفكري امليتافيزيقي‬
‫ى‬ ‫ما بعد الطبيعة التقليد َّية‪ ،‬بل وكان‬
‫الصحي ح‪ .‬ومع ذلك هناك اختالف أسايس بني هذين املرشوعني؛ حيث كان سعي كانط‬
‫هيدف إ ىل إصالح وتنقية الفكر امليتافيزيقي يف صلب الرتاث امليتافيزيقي املوجود ومن خالل‬
‫االستفادة من مصطلحات هذا الرتاث‪ .‬هذا يف حني َّ‬
‫أن هايدغر يضع عالمة استفهام من‬
‫عل جممل الرتاث امليتافيزيقي باإلضافة إ ىل سلسلة املفردات واآلفاق التفكري َّية‪،‬‬
‫األساس ى‬
‫أن نسأل‬ ‫وذلك من خالل حتويل السؤال عن الوجود إ ىل سؤال عن املوجد‪ .‬ولكن علينا ْ‬
‫أنفسنا‪ :‬ما هي اخلطوات اإلجياب َّية التي ي َّتخذها هايدغر من أجل إقرار منهجه وسلسلة‬
‫مفرداته وأرض َّيته الفكر َّية بوصفها بديال عن امليتافيزيقا التقليد َّية؟ توضيح ذلك َّ‬
‫أن هايدغر‬
‫رغم ما يبدو من حتده يه للرؤية األنطيق َّية املوجودة يف الرتاث امليتافيزيقي‪َّ ،‬إال أ َّنه بالتزامن مع‬
‫باجتاه ذات الوجود‪ ،‬وبذلك‬ ‫بأن تكون لديه قفزة أنطولوج َّية ه‬ ‫ُأطروحته يطالب املخاطب ْ‬

‫‪(1) Heidegger, M, Kant and the Problem of Metaphysics, translated by Richard Taft, Indiana‬‬
‫‪University Press; 1997. 76, note 7.‬‬
‫‪(2) M. Heidegger, Kant and the Problem of Metaphysics, translated by Overgaard, 2002: 76,‬‬
‫‪note 7.‬‬
‫‪ ❖ 180‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ّى‬
‫تتجل أو ىل انتقادات إدموند‬ ‫يكون قد أنشأ شكال من أشكال امليتافيزيقا‪ .‬ويف هذه النقطة‬
‫عل‬
‫أهم الشخص ّيات التي تورد نقدا تفصيل ًّيا ى‬
‫إن هورسل من ّ‬ ‫هورسل ملارتن هايدغر‪َّ .‬‬
‫تم تنظيم هذه املجوعة من انتقادات هورسل ِّلايدغر بشأن الكينونة‬
‫الكينونة والزمان‪ .‬وقد َّ‬
‫والزمان‪ ،‬وكانط ومسألة ما بعد الطبيعة‪ ،‬يف كتاب الظاهرات َّية النفس َّية واالستعالئ َّية ومواجهة‬
‫هايدغر(‪1931 - 1927( )1‬م)(‪.)2‬‬
‫إل‬
‫أن باإلمكان فتح ثغرة من قناة متابعة انتقادات ومواقف هورسل بالنسبة ى‬ ‫يبدو َّ‬
‫الكينونة والزمان‪ ،‬وكانط ومسألة ما بعد الطبيعة‪ ،‬يف سياق اإلجابة عن السؤال األخري يف‬
‫حقل نسبة تفكري هايدغر إ ىل امليتافيزيقا بشكل خاص والفلسفة بشكل عام‪.‬‬
‫لقد ذهب هايدغر يف مقدّ مة الكتاب ‪ -‬حيث يعمد إ ىل التعريف بالـ دازاين بوصفه نقطة‬
‫انطالق لفهم الوجود ‪ -‬إ ىل القول‪:‬‬
‫إن املالحظة‪ ،‬والفهم‪ ،‬واحلصول‪ ،‬واالنتخاب‪ ،‬وإمكان َّية الوصول‪ ،‬هي هيئات‬ ‫َّ‬
‫فإّنا متُ ِّثل يف حدِّ ذاهتا ومن تلقائها حاالت لوجود‬
‫مقومة للبحث والتنقيب‪ .‬ومن هنا َّ‬ ‫ِّ‬
‫خاص‪ .‬ومن‬ ‫ٍ‬ ‫خاص‪ ،‬وهو املوجود الذي يوجد يف ذواتنا الباحثة يف ِّ‬ ‫ٍ‬
‫كل مورد ٍّ‬ ‫موجود ٍّ‬
‫فإن تنقيح السؤال عن الوجود يعني أن نعمل عىل توضيح وبيان كيف َّية وجود‬ ‫هنا َّ‬
‫إن التساؤل عن مثل هذا السؤال ‪ -‬بمثابة ُأسلوب وجود‬ ‫املوجود الذي يتساءل‪َّ .‬‬
‫يتعني يف نفسه رضورة بواسطة ما ُيس َئل عنه يف السؤال عن ذلك‬ ‫موجود ما ‪ -‬إ َّنام َّ‬
‫ٍ‬
‫واحد م ينا‪ ،‬ويشمل البحث يف‬ ‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫إن هذا املوجود(‪ )3‬الذي يتم َّثل يف ِّ‬
‫كل‬ ‫الوجود‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫حقل إمكان ييات وجوده‪ ،‬نعمل عىل تبويبه من الناحية اللغو َّية باسم الـ دازاين‪َّ .‬‬
‫التبويب الواضح والرصيح للسؤال عن معنى الوجود يستلزم مسبق ًا ترشحي ًا مناسب ًا‬

‫(‪ )1‬عنوان الكتاب يف ترمجته الفارسيَّة‪( :‬پديدارشناسى روانشناختى و استعاليى و مواجهه با هايدگر)‪.‬‬
‫‪(2) Husserl, E, Psychological and Transcendental Phenomenology and the Confrontation with‬‬
‫‪Heidegger (1927 - 1931): The Encyclopaedia Britannica Article, The Amsterdam‬‬
‫‪Lectures, Phenomenology and Anthropology, Translated and Edited by Thomas Sheehan‬‬
‫‪and Richard E. Palmer, Springer Science + Business Media Dordrecg, 1997.‬‬
‫‪(3) Seiende‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪181‬‬

‫لـ [هذا] املوجود الـ دازاين بااللتفات إىل وجوده(‪.)1‬‬


‫سميه‬ ‫َّ‬
‫إن هايدغر يتحدَّ ث يف هذه الفقرة عن خصائص ّتص ذلك املوجود الذي ُي ّ‬
‫إل ذلك‪.‬‬
‫دازاين؛ وهي خصائص من قبيل‪ :‬النظر‪ ،‬والفهم‪ ،‬واالستيعاب‪ ،‬واالنتخاب وما ى‬
‫وعل هذا‬
‫ى‬ ‫أن هذه اخلصائص ُمت هثل توجهات تعمل ى‬
‫عل تنظيم وتقويم أسئلتنا عن الوجود‪،‬‬ ‫كام َّ‬
‫األساس تتو َّفر ‪ -‬من خالل السؤال عن مثل هذا املوجد ‪ -‬األرض َّية إلمكان االقرتاب من‬
‫يتعرض يف هامش هذه الفقرة إ ىل هذه النقطة‪ ،‬وهي‬
‫معنى الوجود‪ .‬وأ َّما هورسل فإ َّنه بدوره َّ‬
‫ى‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫ما هو اليشء الذي يدعو إ ىل اختيار الـ دازاين بوصفه نقطة انطالق لالقرتاب من‬
‫يتم‬
‫عل الطبيعة ح َّت ىى َّ‬
‫الوجود؟ ما هي أفضل َّية الـ دازاين ‪ -‬الذي كان كامنا يف الوجود ‪ -‬ى‬
‫(‪)2‬‬

‫معنى الوجود؟ إذ يف هذه الفقرة األخرية بالذات‪،‬‬


‫ى‬ ‫اختياره بوصفه ُأفقا لبداية احلركة ه‬
‫باجتاه‬
‫اخلاصة‪ ،‬ويبدأ منه مسار‬
‫َّ‬ ‫كان بإمكان هايدغر احلديث عن خصائص ووجوه الطبيعة‬
‫أن هايدغر قد عمد بشكل‬‫فحوى كالم هورسل َّ‬
‫ى‬ ‫معنى الوجود(‪ .)3‬يبدو من‬
‫ى‬ ‫إل‬
‫الوصول ى‬
‫وعل نحو إمكاين إ ىل اختيار الـ دازاين بوصفه نقطة انطالق له يف السؤال عن‬
‫ى‬ ‫مزاجي‬
‫وعل‬
‫ى‬ ‫موجه وهادف‬
‫الوجود‪ ،‬وأ َّنه تبعا للعبارة السابقة قد عمد إ ىل هذا االنتخاب بشكل َّ‬
‫نحو خمالف للطريقة الظاهرات َّية‪.‬‬
‫إن هايدغر عمد يف الفقرتني الالحقتني َّأوال إ ىل التذكري هبذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن الوجود‬ ‫َّ‬
‫وإن كان مفرتضا يف مجيع السنَن واألنظمة امليتافيزيق َّية‪َّ ،‬إال أ َّنه ال يشء من األنظمة الفلسف َّية‬
‫ْ‬
‫ملعنى هذا الوجود‪ .‬جيب النظر إ ىل هذا االفرتاض للوجود بشكل‬
‫ى‬ ‫ال ُتقده م مفهوما واضحا‬
‫بمعنى َّ‬
‫أن الـ دازاين هو ذلك املوجد الذي يمتلك نوعا من‬ ‫ى‬ ‫آخر وجيب نسبته إ ىل الـ دازاين‪.‬‬
‫ثم يستطرد هايدغر يف هامش هذه‬ ‫واألول َّية التي هتديه إ ىل دائرة الوجود ‪ّ .‬‬
‫(‪)5‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫َّ‬ ‫النظرة البكر‬
‫واألول َّية تبدو بدهي َّية‪ ،‬ولكن ال‬
‫َّ‬ ‫عل الرغم من َّ‬
‫أن هذه النظرة البكر‬ ‫النقطة ِّلايدغر قائال‪ :‬ى‬

‫‪(1) Heidegger, M, Being and Time, translated by Joan Stambaugh, State University of New‬‬
‫‪York Press, Albany: 2010. P. 6 - 7.‬‬
‫‪(2) dieses seiende Dasein.‬‬
‫‪(3) Husserl, Ibid. p. 278.‬‬
‫‪(4) preliminary look.‬‬
‫‪(5) Heidegger, Ibid, p. 7.‬‬
‫‪ ❖ 182‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بمعنى أ َّننا نتساءل عن‬


‫ى‬ ‫عل تعينه‪.‬‬
‫يمكن إطالقها بوصفها ذات الـ دازاين‪ ،‬بحيث تعمل ى‬
‫ربر الذي ي َّتخذه هايدغر بوصفه ُأسلوبا متالئام مع ُأسلوبه الظاهرات‪ ،‬يف نسبة مثل‬
‫املبنى وامل ه‬
‫ى‬
‫هذه الكيف َّية إ ىل الـ دازاين(‪)1‬؟‬
‫عرب عنه هايدغر يف األنظمة امليتافيزيق َّية الغرب َّية بمعرفة املوجود وليس معرفة‬ ‫إن ما ُي ه‬‫َّ‬
‫ويسعى فيه إ ىل البحث والتنقيب يف الطبقات األعمق واألكثر جتذرا تبعا لذات‬ ‫ى‬ ‫الوجود‪،‬‬
‫الوجود الذي ُيم هثل األرضية واخللف َّية‪ ،‬هو مبهم وغري مستساغ من وجهة نظر هورسل‪.‬‬
‫يسعى ‪ -‬ضمن سياق الرؤية األُرسط َّية ‪ -‬إ ىل القول بأ َّنه ال يمكن‬
‫ى‬ ‫أن هايدغر‬ ‫توضيح ذلك َّ‬
‫عل ذات األنظمة‬ ‫وعل هذا األساس جيب ى‬‫ى‬ ‫البحث عن موضوع العلوم يف ذات تلك العلوم‪،‬‬
‫أن تبحث عن‬ ‫امليتافيزيق َّية ‪ -‬التي يتم التعبري عنها حاليا يف تفسريه بعلوم معرفة املوجود ‪ْ -‬‬
‫ذعن هورسل هبذه احلقيقة وهي أ َّنه ال‬ ‫موضوعها يف تضاعيف أشدّ عمقا‪ ،‬وأبعد غورا‪ .‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫يمكن إظهار مضامني وموضوعات علم ما بعد الطبيعة يف ُصلب األنظمة امليتافيزيق َّية‬
‫القائمة‪ ،‬ولكنَّه يعتقد يف الوقت نفسه ويدَّ عي أ َّنه قد مت َّكن ‪ -‬من خالل ُأسلوبه الظاهرات‬
‫مستوى الذات واجلوهر‪.‬‬
‫ى‬ ‫املستوى الظاهرات إ ىل‬
‫ى‬ ‫ومراحله ‪ -‬من تنقيح وتثبيت االنتقال من‬
‫فإّنا‬‫إن البنية اجلوهر َّية للعامل‪ ،‬هي الذات املرتبطة بالعامل‪ ،‬وعىل هذا األساس َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫َّ‬
‫متُ ِّثل (ماه َّية وجود املوجدات) ‪ -‬التي متُ ِّثل [بدورها] عامل َّية(‪ )3‬الوجود ‪ -‬ولكن عامل َّية‬
‫املوجدات تنتمي بالتحديد إىل هذا العامل(‪.)4‬‬
‫املعنى الذي يمكن للبحث عن البنية اجلوهر َّية لوجود املوجودات يف بيان‬
‫ى‬ ‫وعليه ما هو‬
‫هايدغر؟! ويف هذا املسار وبعد بضعة أسطر يشري هورسل إ ىل الفقرة األخرية من هذا الفصل‬
‫معنى الوجود عند هايدغر‪ ،‬معتربا‬
‫ى‬ ‫عل إعادة صياغة‬
‫من كتاب الكينونة والزمان‪ ،‬ويعمل ى‬
‫ذلك إعادة إلنتاج نظر َّيته األصل َّية‪ .‬يقول هايدغر(‪:)5‬‬
‫كل أنطولوجيا وإن تو َّفرت عىل نسق من املقوالت مهام كان ثريا وثابت‬ ‫إن َّ‬
‫َّ‬

‫‪(1) Husserl, Ibid. p. 278.‬‬


‫‪(2) sachliche‬‬
‫‪(3) universum‬‬
‫‪(4) Ibid, p. 280.‬‬
‫‪(5) Heidegger, Ibid, p. 10.‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪183‬‬

‫األخص‪ ،‬إذا هي مل‬


‫ِّ‬ ‫الرتابط‪ ،‬إ َّنام تبقى يف أساسها عمياء وتبقى انحراف ًا عن مقصدها‬
‫مهمتها‬
‫َّ‬ ‫صور هذا اإليضاح بوصفه‬ ‫وضح قب ً‬
‫ال معنى الكينونة كفاية‪ ،‬ومل ُت ِّ‬ ‫ُت ِّ‬
‫األساس َّية(‪.)1‬‬
‫يقول هورسل‪ :‬إذا كان مراد هايدغر من اإليضاح يف هذه الفقرة هو اإليضاح التقويمي‬
‫فإن هذا املرشوع سيكون هو نفسه املرشوع الظاهرات ِّلورسل(‪َّ .)3‬إال َّ‬
‫أن‬ ‫(الظاهرات)(‪َّ ،)2‬‬
‫إن هايدغر قد عمد إ ىل خفض اإليضاح‬ ‫عل هامش بضع فقرات الحقة يقول‪َّ :‬‬ ‫هورسل ى‬
‫التقويمي (الظاهرات) بالنسبة إ ىل مجيع أبعاد الوجود‪ ،‬إ ىل إيضاح إنثروبولوجي‪ ،‬ويف ضوء‬
‫فإن املسألة األصل َّية املتم هثلة بالعثور‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫ى‬ ‫تم حجب مجيع مسألتنا‪،‬‬
‫هذا االنتقال َّ‬
‫عل أساس متني وحمكم للعامل وفهمه‪ ،‬ستفقد قيمتها من الناحية الفلسف َّية(‪ .)4‬لو اعتربنا‬
‫ى‬
‫ّ‬
‫الكيل املرتبط‬ ‫الـ فينومن (الظاهرة) جت ّليا ‪ ،‬عندها ستكون الظاهرات َّية هي العلم‬
‫(‪)5‬‬

‫عل ما يظهر يف نفسه(‪.)7()6‬‬


‫بالـ فينومنات بقصد احلصول ى‬
‫أن نتساءل‪ :‬هل َّ‬
‫إن مرشوع هايدغر من قبيل علم النفس اإلنساين وقد‬ ‫وعليه من املناسب ْ‬
‫َّاّتذ تبويبا شبه فلسفي؟ هذا يف حني َّ‬
‫أن هورسل يعلن ‪ -‬يف مقام املقارنة ‪ -‬عن َّ‬
‫أن مرشوعه‬
‫الظاهرات ُيم هثل اهتامما جا ًّد ا يف إطار تقديم أساس وثيق للعامل وفهمه‪ .‬وهو املرشوع الذي‬
‫يكمن الفهم الطبيعي للعامل كامنا يف صلب فهمه الفلسفي واالستعالئي‪ ،‬وتتع َّلق كينونته‬
‫عل نحو ظاهرات(‪ .)8‬يزعم هورسل أ َّنه ال‬
‫تتقوم ى‬
‫أن َّ‬‫األولية قبل ْ‬
‫األولية يف العامل وأفهامه َّ‬
‫َّ‬
‫يمكن فهم الكائن اإلنساين بشكل حقيقي َّإال من خالل حتويل وتقويم ظاهرات‪ ،‬واحلديث‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬الكينونة والزمان‪ ،‬ص ‪( 62‬مقدّ مة املؤ هلف)‪ ،‬نقله إ ىل اللغة العربية‪ :‬د‪ .‬فتحي املسكيني‪ ،‬دار الكتاب‬
‫اجلديد املتَّحدة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت‪ 2012 ،‬م‪.‬‬
‫‪(2) Constitutive - phenomenological clarification.‬‬
‫‪(3) Husserl, Ibid. p. 281.‬‬
‫‪(4) Ibid, p. 284.‬‬
‫‪(5) appearance of.‬‬
‫‪(6) Whatappears as such.‬‬
‫‪(7) Ibid. p. 295.‬‬
‫‪(8) Ibid, p. 287.‬‬
‫‪ ❖ 184‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يرى َّ‬
‫أن‬ ‫عن شخصان َّيته الداخل َّية ومواجهته األصل َّية مع العامل واآلخر ‪ .‬ويف احلقيقة فإ َّنه ى‬
‫(‪)1‬‬

‫األول َّية‪ ،‬نصل يف سياق البحث يف‬


‫َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫الت ّيار الصحيح للظاهرات َّية بحيث إ َّنه بعد القصد َّية‬
‫عل تقويم هذه الذات َّية التي كانت‬
‫املراحل الالحقة إ ىل البنية الذات َّية إ ىل ما قصدناه‪ ،‬ونعمل ى‬
‫عل نحو سابق(‪ ،)3‬ونجعلها معلومة لنا(‪.)4‬‬
‫موجودة ى‬

‫االنتقادات األكثر صراحةً من قِبَل هوسرل على كانط ومسألة ما بعد الطبيعة‪:‬‬
‫مهمة للغاية‬ ‫كام َّ‬
‫أن مواقف هورسل من كانط ومسألة ما بعد الطبيعة ِّلايدغر‪ ،‬هي بدورها َّ‬
‫تم تأليف هذا الكتاب يف سياق‬
‫ه َّية من عدَّ ة جهات‪ :‬لقد َّ‬
‫أيضا‪ .‬ويمكن طرح وتناول هذه األ ّ‬
‫مرشوع الكينونة والزمان‪ ،‬ويف إطار اِّلاجس الرئيس ِّلايدغر املتم هثل بالسؤال عن مفهوم‬
‫توصل إ ىل وجود اختالف ماهوي‬ ‫الوجود‪َّ .‬‬
‫إن هورسل يف الكينونة والزمان مل يكن بعد قد َّ‬
‫بينه وبني هايدغر يف توجهه ورؤيته ومسألته؛ ولذلك نجده يلتزم جانب االحتياط والتحفظ‬
‫عل الكينونة والزمان‪َّ ،‬إال أ َّنه فيام يتع َّلق بكانط ومسألة ما بعد الطبيعة يطرح هذه‬
‫يف هتميشه ى‬
‫بغض النظر عن‬
‫عل أفكار هايدغر ه‬
‫الصبغة املحافظة جانبا‪ ،‬ويورد انتقادات أكثر رصاحة ى‬
‫اشرتاكه معه يف معظم املواقف(‪.)5‬‬
‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫فإن هذا الكتاب من حيث تناوله لشخص َّية فلسف َّية بالبحث‪ ،‬ونعني‬
‫خاصة فيام يتع َّلق بتفكري هورسل وربطه بتفكري هايدغر؛‬
‫ه َّية َّ‬
‫ُيظى بأ ّ‬
‫ى‬ ‫بذلك شخص َّية كانط‪،‬‬
‫عل سؤاله األصيل واملحوري ‪ -‬وهو سؤاله حول نقد العقل املحض‬ ‫وذلك َّ‬
‫ألن هايدغر بناء ى‬

‫‪(1) Ibid, p. 307.‬‬


‫‪(2) intentionality‬‬
‫‪(3) a priori‬‬
‫‪(4) Ibid. p. 400 - 401.‬‬
‫‪(5) Palmer, R, E, An Introduction to Husserl's Marginal Remarks in Kant and the Problem of‬‬
‫‪Metaphysics, in Psychological and Transcendental Phenomenology and the Confrontation‬‬
‫‪with Heidegger (1927 - 1931): The Encyclopaedia Britannica Article, The Amsterdam‬‬
‫‪Lectures, Phenomenology and Anthropology, Translated and Edited by Thomas Sheehan‬‬
‫‪and Richard E. Palmer, Springer Science + Business Media Dordrecg, 1997, p. 424.‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪185‬‬

‫أن سؤال كانط يف هذا الشأن سؤال أنطولوجي‪ .‬هذا يف حني َّ‬
‫أن هورسل‬ ‫يرى َّ‬
‫لكانط ‪ -‬ى‬
‫يتعرض إ ىل كانط من الناحية املقابلة‪ ،‬وهو يقرتب من كانط لسبب مغاير متاما ِّلايدغر‪.‬‬ ‫َّ‬
‫األول هي مسألة معرف َّية أبستيم َّية‪،‬‬ ‫يذهب هورسل إ ىل القول َّ‬
‫بأن املسألة املحور َّية لنقد كانط َّ‬
‫ألهم أعامل كانط جمانب للصواب(‪ .)1‬فحيث يقول هايدغر‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ويرى َّ‬
‫أن فهم هايدغر األنطيقي‬ ‫ى‬
‫إ َّن كانط كان يسعى إىل استبدال تسمية أنطولوجيَّ ة تدعو إىل الفخر بفلسفة‬
‫استعالئيَّ ة أي االنكشاف الذايت لألمر االستعالئي(‪ ، )2‬ذهب هورسل من خالل‬
‫تأكيده عىل عدم أنطولوجيَّ ة مرشوع كانط‪ ،‬إىل التامهي مع كانط يف هذه‬
‫القراءة(‪.)4()3‬‬
‫لقد حدَّ د هايدغر هدفه يف القسم األ َّول من الكتاب‪ ،‬وهو أ َّنه ُيؤ ّدي إ ىل السؤال عن‬
‫امليتافيزيقا ورسم اخلطوط املستقبل َّية ملرشوع نقد العقل املحض‪ .‬ويف الفقرة األُو ىل حيث‬
‫يتناول املفهوم التقليدي للميتافيزيقا‪ ،‬يواصل البحث يف الفقرة الثانية بحيث يسوق املخاطب‬
‫عل هذا األساس يكتب هورسل يف‬ ‫نحو القراءة األنطيق َّية ملرشوع كانط بشكل أكرب‪ .‬و ى‬
‫ثم عندما يعمل هايدغر ‪ -‬يف‬
‫عل هذا القسم من الكتاب مرشوع الوجود ؟ ّ‬
‫(‪)6()5‬‬
‫حاشيته ى‬
‫الفقرة اخلامسة من هذا الكتاب ‪ -‬إ ىل التعريف باملعرفة بوصفها شهودا َّأوليا(‪ ،)8()7‬الذي يعني‬
‫عل ذلك‪:‬‬
‫(التمثل الذي يظهر املوجود يف نفسه ومن دون واسطة)‪ ،‬يقول هورسل يف حاشيته ى‬
‫«هل [هذا] هو كانط؟!»(‪َّ .)9‬‬
‫إن هذه النقطة ُت هبني ذروة االختالف بني هورسل وهايدغر يف‬

‫‪(1) Ibid, p. 425.‬‬

‫‪(2) Heidegger, Ibid. p. 88.‬‬

‫‪(3) So auch ich.‬‬

‫‪(4) Husserl, Ibid: p. 447.‬‬

‫?‪(5) Seinsplan‬‬
‫‪(6) Ibid: p. 438.‬‬
‫‪(7) primarily intuition.‬‬
‫‪(8) Heidegger, Ibid. p. 19.‬‬
‫‪(9) Husserl, Ibid: p. 442.‬‬
‫‪ ❖ 186‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إل املرشوع الظاهرات بشكل عام‪ .‬والحقا عندما‬


‫النظر إ ىل كانط بشكل خاص‪ ،‬ويف النظر ى‬
‫عرب عنها بـاإلمكان‬
‫يعمد هايدغر إ ىل مالحظة املسألة األصل َّية لنقد العقل املحض لكانط‪ُ ،‬ي ه‬
‫عل هذا القسم ويف معرض‬
‫الذات للتأليف األنطولوجي ‪ .‬وقد عمد هورسل يف حاشيته ى‬
‫(‪)1‬‬

‫إل التذكري بأ َّن ه إذا كان الذي يريده كانط من مرشوعه النقدي هو إقامة صورة‬
‫خمالفة هايدغر ى‬
‫بنيو َّية ثابتة للعامل معدَّ ة مسبقا‪ ،‬فإ َّنه يف مثل هذه احلالة مل يكن بحاجة إ ىل االنطالق من‬
‫األنطولوجيا التقليد َّية‪ ،‬بل كان بإمكانه ْ‬
‫أن يطرح هذا السؤال بالطريقة ذاهتا التي قام بطرحها‬
‫ثم يواصل مسألته(‪.)3‬‬
‫ديفد هيوم قبل إيامنوئيل كانط‪ّ ،‬‬
‫(‪)2‬‬

‫يطغى يف هذا الكتاب من بني مجيع انتقادات هورسل هو ما يدعوه‬ ‫ى‬ ‫أن الذي‬‫َّإال َّ‬
‫األنثروبولوجيا الفلسف َّية ِّلايدغر‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن فهم الوجود(‪ )4‬من وجهة نظر هايدغر‬
‫وعل الرغم من أ َّنه ال يروم تقديم مرشوع أنثروبولوجي‪،‬‬
‫ى‬ ‫يتح َّقق من خالل قناة الـ دازاين‪،‬‬
‫عل‬‫األول ِّلايدغر يتم َّثل يف األنطيق َّية القائمة ى‬ ‫ولكن يمكن القول ه‬
‫بكل ثقة‪َّ :‬‬
‫إن املرشوع َّ‬
‫الـ دازاين‪ ،‬وهو املرشوع الذي يزعم هورسل أ َّنه ليس فلسف ًّيا‪ ،‬وإ َّنام هو أنثروبولوجيا‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫هايدغر يف الفقرة الثامنة والثالثني من كانط ومسألة ما بعد الطبيعة‪ ،‬ضمن عنوان فكرة‬
‫جمرد كائن طبيعي‪ ،‬بل ويراه‬
‫األنثروبولوجيا الفلسف َّية‪ ،‬ال يكتفي بتعريف اإلنسان بوصفه َّ‬
‫وخالقا ومبدعا أيضا‪ .‬وعليه جيب ْ‬
‫أن نواصل البحث عن فهم ماه َّية هذا‬ ‫َّ‬ ‫(‪)5‬‬
‫كائنا فاعال‬
‫أن فهم ه‬
‫كل يشء يف العامل إ َّنام يأت يف‬ ‫الكائن الفاعل(‪ .)7()6‬وبالتال فإ َّنه يصل إ ىل نتيجة مفادها َّ‬
‫فإن األنثروبولوجيا تشمل ه‬
‫االجتاه اجلوهري بالنسبة إ ىل املوقع َّية‬ ‫ضوء فهم اإلنسان‪ ،‬وعليه َّ‬

‫‪(1) Heidegger, Ibid. p. 30.‬‬

‫ومؤرخ اسكتلندي‪ُ ،‬يعتَرب شخصيَّة ها َّمة يف الفلسفة الغربيَّة‬


‫ه‬ ‫(‪ )2‬ديفد هيوم (‪1779 - 1711‬م)‪ :‬فيلسوف واقتصادي‬
‫املعرب‪.‬‬
‫وتاريخ التنوير اإلسكتلندي‪ .‬ه‬
‫‪(3) Husserl, Ibid: p. 445.‬‬

‫‪(4) Seinsverständis‬‬

‫‪(5) handelt‬‬
‫‪(6) handelnde‬‬
‫‪(7) Heidegger, Ibid; 1997. p. 146.‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪187‬‬

‫عل هذا‬
‫الراهنة لإلنسان فيام يربط بنفسه ومجيع الكائنات ‪ .‬وقد عمد هورسل ‪ -‬يف حاشيته ى‬
‫(‪)1‬‬

‫واهتمهم مجيعا بامتالك‬


‫القسم ‪ -‬إ ىل التعريف بامكس شيلر وفيلهلم دلتاي يف إطار هايدغر‪َّ ،‬‬
‫احلكم املسبق فيام يتع َّلق هبذه املسألة(‪ .)2‬كام أ َّنه يف خمالفة هايدغر ‪ -‬الذي يذهب إ ىل االعتقاد‬
‫بأن أخذ األُسلوب الفلسفي املؤ ّدي إ ىل ناحية ذات َّية من الكائن اإلنساين‪ ،‬من شأنه ْ‬
‫أن جيعلنا‬ ‫َّ‬
‫(‪)3‬‬
‫عل احلديث عن األنثروبولوجيا الفلسف َّية ‪ -‬يقول‪َّ :‬‬
‫«إن بحث ذات [هذا املوضوع]‬ ‫قادرين ى‬
‫ال يعني حتوله إ ىل فلسفة»(‪.)4‬‬
‫عل احلديث عن خصائص‬ ‫أن نعمل ‪ -‬مثل هايدغر ‪ -‬ى‬ ‫أن باإلمكان ْ‬ ‫يرى هورسل َّ‬‫ى‬
‫وعوارض األشياء‪ ،‬والوصول إ ىل حكم صوري ‪ -‬األنطولوجي‪ ،‬كام شاهدنا ذلك يف تاريخ‬
‫الفلسفة مرارا وتكرارا‪َّ ،‬إال أ َّنه ال يشء من هذه األحكام كان ُمرض ًّيا‪ .‬وِّلذا السبب يعمد‬
‫إل التعريف باملنهج الظاهرات ويتبنّاه‪ ،‬كي يتم َّكن من احلصول ى‬
‫عل الروابط الذات َّية‬ ‫هورسل ى‬
‫كل املسألة تكمن يف‬ ‫إن َّ‬
‫يرى هورسل‪َّ :‬‬
‫املقومة لليشء ‪ .‬ى‬ ‫والواقع َّية بني األُمور واألشياء ه‬
‫(‪)6()5‬‬

‫عل هذا األصل الوثيق الذي شغل األذهان والعقول الكبرية يف تاريخ الفلسفة‪.‬‬
‫احلصول ى‬
‫إل القول َّ‬
‫بأن فهم ماه َّية الوجود رهن بالبحث عن‬ ‫وعل هذا األساس حيث يذهب هايدغر ى‬
‫ى‬
‫إمكان فهمنا بوصفنا كائنات إنسان َّية خم َّطط ِّلا يف العامل مسبقا ‪ ،‬يذهب هورسل بدوره ى‬
‫إل‬ ‫(‪)7‬‬

‫عل أنفسنا بوصفنا كائنات يف هذا العامل(‪َّ ،)8‬إال َّ‬


‫أن هذه النتيجة ال جتدينا‬ ‫االعرتاف بأ َّننا نعثر ى‬
‫نبقى كام كنّا غاطسني يف‬
‫شيئا‪ ،‬وال ُتؤ ّدي إ ىل الغاية التي يرمي إليها هايدغر؛ وذلك أل َّننا ى‬
‫وحل املشاكل املنبثقة عن تأمالتنا املوضوع َّية(‪.)9‬‬

‫‪(1) Ibid, p. 147.‬‬


‫‪(2) Husserl, Ibid: p. 445.‬‬
‫‪(3) Wesenbetrachtung‬‬
‫‪(4) Ibid.‬‬
‫‪(5) für die sie ist‬‬
‫‪(6) Ibid, p. 460 - 461.‬‬
‫‪(7) Heidegger, Ibid. p. 158.‬‬
‫‪(8) Begreifen‬‬
‫‪(9) Husserl, Ibid: p. 463.‬‬
‫‪ ❖ 188‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫تم القذف بنا يف هذا العامل‪ ،‬وأ َّننا نمتلك فهام‬ ‫وعل هذا األساس صحيح أ َّننا قد سبق ْ‬
‫أن َّ‬ ‫ى‬
‫أي‬
‫عل ه‬ ‫مبارشا من هذه اإلحاطة‪ ،‬بيد َّ‬
‫أن السؤال الذي ُيمله هورسل إ ىل هايدغر يقول‪ :‬ى‬
‫أساس يمكن حتويل هذه البداهة البدوية إ ىل أمر يقيني لنفسه‪ ،‬ليكون يف قبال إمكانية املعرفة‬
‫عل تصورنا للوجود‬ ‫أن يكون تصورنا لألشياء واألُمور ‪ -‬املشتملة ى‬ ‫اإلنسان َّية(‪)1‬؟ من الطبيعي ْ‬
‫أيضا ‪ -‬منبثقا عن جتربة مبارشة وما قبل املفهوم َّية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن سؤالنا يقول‪ :‬كيف يمكن احلصول‬
‫عل قوام استعالئي‪ ،‬بحيث تكون‬
‫عل رشائط ت َّتخذ هذه التجربة ذات السبق املفهومي معها ى‬
‫ى‬
‫عل نحو استعالئي‬
‫مفهوما ال بالنسبة إ ىل موضوع فحسب‪ ،‬بل وكام هو يف نفسه أيضا‪ ،‬أي ى‬
‫ويف األُفق املوضوعي املتع هلق بنا أيضا(‪.)2‬‬

‫مواجهة إرنست كاسرير النقديَّة هلايدغر‪:‬‬


‫ُين َظر إ ىل كاسرير بوصفه أحد أبرز املف هكرين الكانط هيني يف عرصه‪ ،‬حيث َّاّتذ ‪ -‬مثل هورسل‬
‫‪ -‬موقفا انتقاد ًّيا ألفكار هورسل‪ .‬وقد كان ِّلام يف عام (‪1929‬م) مناظرة عا َّمة يف مدينة‬
‫دافوس(‪ )3‬يف سويِّسا‪ ،‬حول موضوعات من قبيل‪ :‬الكانط َّية احلديثة‪ ،‬وحدود اإلنسان‪،‬‬
‫ه َّية االضطراب واملوت ومسؤول َّية وآل َّية الفلسفة(‪.)4‬‬ ‫وعالقته باألمر املطلق َّ‬
‫والالحمدود‪ ،‬وأ ّ‬
‫ه َّيتها من‬
‫عل هايدغر إ َّنام تكتسب أ ّ‬ ‫أن ذكرنا َّ‬
‫فإن املواقف النقد َّية لكاسرير ى‬ ‫ولكن كام سبق ْ‬
‫َّأّنا تكمن ‪ -‬غالبا ‪ -‬يف ما يتع َّلق بفهم هايدغر لكانط وفيام ي َّتصل بكانط ومسألة ما بعد‬
‫إن مضمون كلامت هايدغر يف هذه االجتامعات ويف إطار اهتاممه يف كتابه كانط‬ ‫الطبيعة‪َّ .‬‬
‫أن نقد العقل النظري لكانط ُيم هثل‬
‫واملسألة امليتافيزيق َّية هو السعي إ ىل بيان هذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫يف الدرجة األُو ىل مرشوعا هيدف إ ىل التأسيس للميتافيزيقا(‪.)5‬‬

‫‪(1) Ibid.‬‬
‫‪(2) Ibid.‬‬
‫‪(3) Davos‬‬
‫‪(4) Krois, J. M, Cassirer's Unpublished Critique of Heidegger in Philosophy and Rhetoric,‬‬
‫‪Vol. 16, No. 3 1983: p. 147.‬‬
‫‪(5) Heidegger, M, Davos Lectures in Kant and the Problem of Metaphysics, translated by‬‬
‫‪Richard Taft, Indiana University Press, 1997: p 191.‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪189‬‬

‫لقد عمد كاسرير يف هذه املناظرة إ ىل هاهتام هايدغر بأ َّنه ُيمل رؤية ُأحاد َّية ال ُبعد‬
‫سم ىى بالنزعة النيوكانط َّية‪ ،‬قد‬ ‫وكاريكاتري َّية جتاه الفلسفة الكانط َّية(‪ .)1‬توضيح ذلك َّ‬
‫أن ما ُي ّ‬
‫أن مدرسة ماربورغ(‪ُ )2‬ت َعد مم هثال بارزا ِّلذه‬
‫شك يف َّ‬
‫ازدهرت يف عرص هايدغر وكاسرير‪ ،‬وال َّ‬
‫النزعة‪ .‬يذهب كاسرير إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن هايدغر ُيقده م تعبريا أنطيق ًّيا لفلسفة كانت من جهة‪،‬‬
‫إل‬
‫مبسطة عن النزعة النيوكانط َّية ‪ -‬ى‬‫خرى يعمد ‪ -‬من خالل تقديم صورة ه‬ ‫ومن جهة ُأ ى‬
‫جمرد نظر َّية للكشف العلمي‪ .‬ومن هنا فإ َّنه يتساءل بشكل رصيح‪ :‬من هو املخاطب‬
‫اعتبارها َّ‬
‫ثم يستطرد بعد ذلك‬
‫وطرف النقد ِّلايدغر يف كالمه؟ وما هو مراده من النزعة النيوكانط َّية؟ ّ‬
‫قائال بوجوب تقييم النيوكانط هيني ‪ -‬ومن بينهم هرمان كوهني(‪ - )3‬يف ظرفهم التارخيي‪ .‬ويف‬
‫رصح كاسرير قائال‪:‬‬
‫إطار هذه الرؤية ُي ه‬
‫يتعني من الناحية املاهو َّية‪ ،‬وإ َّنام من الناحية العمالن َّية‪.‬‬ ‫َّ‬
‫إن مصطلح النزعة النيوكانط َّية مل َّ‬
‫فهي ليست من قبيل نوع من الفلسفة أو النظام التعليمي الدوغامت(‪ ،)4‬بل هو هاّتاذ موقف‬
‫و هاجتاه لطرح السؤال(‪.)6()5‬‬
‫ثم‬ ‫كام نعلم َّ‬
‫فإن هايدغر قد جعل غايته من الكينونة والزمان هي السؤال عن الوجود‪ّ ،‬‬
‫عل موجود يأخذ مثل هذه الرؤية‪ ،‬ويسأل عن ماه َّيته‪.‬‬
‫واصل بحثه من خالل الرتكيز ى‬

‫‪(1) Gordon, P, E, Myth and Modernity: Cassirer's Critique of Heidegger in New German‬‬
‫‪Critique, No. 94, Secularization and Disenchantment (winter, 2005), p. 152.‬‬
‫عل دراسة فرضيّات‬
‫(‪ )2‬مدرسة ماربورغ (‪ :)Marburg School‬مدرسة نيوكانطيَّة يف الفلسفة تعمل بشكل رئيس ى‬
‫العلوم الطبيع َّية‪ .‬وكان من بني أعضائها‪ :‬هرمان كوهني (‪1918 - 1842‬م)‪ ،‬وبول ناتروب (‪1924 - 1874‬م)‪،‬‬
‫املعرب‪.‬‬
‫وإرنست كاسرير (‪ 1945 - 1874‬م)‪ .‬ه‬
‫(‪ )3‬هرمان كوهني (‪1918 - 1842‬م)‪ :‬فيلسوف وعامل أملاين‪ ّ ،‬ى‬
‫تول إدارة جامعة ماربورغ‪ ،‬وكان واحدا من أعضاء‬
‫املعرب‪.‬‬
‫مدرسة ماربورغ النيوكانطيَّة إ ىل جانب بول ناتروب وإرنست كاسرير‪ .‬ه‬
‫‪(4) als dogmatisches Lehrsystem.‬‬
‫‪(5) eine Richtung der Fragestellung‬‬
‫‪(6) Heidegger, M and Cassirer, E, Davos Disputation between Ernst Cassirer and Martin‬‬
‫‪Heidegger in Kant and the Problem of Metaphysics, Translated by Richard Taft, Indiana‬‬
‫‪University Press: 1997, p. 193.‬‬
‫‪ ❖ 190‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يتامهى‬
‫ى‬ ‫وبذلك يتمركز مرشوع الكينونة والزمان ليواصل السؤال عن الـ دازاين‪َّ .‬‬
‫إن كاسرير‬
‫مع هذا املرشوع ِّلايدغر‪ ،‬كام ي َّتفق مع طريقة بيان هايدغر للـ دازاين والزمان واملكان‬
‫أن نواصل البحث يف ه‬
‫حمل افرتاق واختالف هذين‬ ‫وعل هذا األساس جيب ْ‬ ‫ى‬ ‫أيضا(‪.)1‬‬
‫عل مفهوم‬
‫عل الرغم من تركيزه ى‬‫بأن هايدغر ى‬ ‫إل االعتقاد َّ‬ ‫الفيلسوفني‪ .‬يذهب كاسرير ى‬
‫الـ دازاين‪َّ ،‬إال أ َّنه ال ُيقده م لنا شيئا عن ماه َّية هذا الـ دازاين‪ .‬بعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬ليس من الواضح‬
‫نفى مجيع أنواع النزعة الذات َّية إ ىل اإلنسان(‪.)2‬‬ ‫لنا ما هو قوام الـ دازاين‪ ،‬كام َّ‬
‫أن هايدغر قد ى‬
‫عل الرغم من اعتباره َّ‬
‫أن السؤال عن الوجود والكينونة إ َّنام كان‬ ‫يضاف إ ىل ذلك َّ‬
‫أن كاسرير ى‬
‫بتأثري كشف لوغوس منذ عرص اإلغريق بوصفه بناء ملسري‪ُ ،‬يؤ ّدي به يف ّناية املطاف إ ىل‬
‫يرى‬
‫ويرى نفسه ضمن هذا املسار‪ ،‬حيث يروم تقديم أرض َّية جديدة لفهمه وتفسريه‪ ،‬ى‬
‫ى‬ ‫املثال َّية‪،‬‬
‫املعنى احلقيقي‬
‫ى‬ ‫أن مسار التفكري من عرص اإلغريق فصاعدا ُيم هثل انحرافا عن‬
‫هايدغر َّ‬
‫عل تنظيم مرشوعه يف ضوء مسار جديد‪.‬‬
‫للوجود‪ ،‬ويعمل ى‬
‫إن هذا االختالف يف الرؤية هو الذي ُيؤ ّدي إ ىل لوازم خمتلفة يف جمال رؤية ه‬
‫كل واحد من‬ ‫َّ‬
‫إن كاسرير يف ُأسطورة الدولة يدافع‬ ‫هذين املف هكرين إ ىل األخالق والسياسة‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫عن مقولة‪ :‬إ َّن مواجهة أفالطون ل ُ‬
‫ألسطورة ُمت هثل بداية للعقالن َّية التي ُتع هلمنا ‪ -‬يف مواصلة‬
‫مدى التاريخ ‪ -‬كيف َّية جتاوز الفردان َّية والنسب َّية املنبثقة من التعلق بأهوائنا‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫مسارها ى‬
‫فإن هايدغر قد انتسب إ ىل عضو َّية‬‫كل واحد(‪ .)3‬وكام نعلم َّ‬ ‫وأن ننسجم مع ه‬ ‫وتعلقاتنا اجلزئ َّية‪ْ ،‬‬
‫وتم تنصيبه رئيسا جلامعة‬
‫مدى فرتة حكم احلركة الناز َّية يف أملانيا‪َّ ،‬‬
‫عل ى‬‫احلزب النازي األملاين ى‬
‫أن هذه القرارات من ِق َبل هايدغر قد َّ‬
‫متخضت عن رؤيته التقدير َّية‬ ‫هامبورغ أيضا‪ .‬ويبدو َّ‬
‫جتاه انفتاح الوجود يف التاريخ‪ .‬هذا يف حني َّ‬
‫أن كاسرير بعد ارتقاء هذا احلزب لسدَّ ة احلكم يف‬
‫أملانيا‪ ،‬ترك هذا البلد قاصدا إنجلرتا كمح َّطة ُأو ىل‪ ،‬لينتقل منها الحقا ه‬
‫ميمام شطر الواليات‬

‫‪(1) Krois, Ibid: p. 150.‬‬

‫‪(2) Ibid, p. 153.‬‬

‫‪(3) Gordon, P, E, Myth and Modernity: Cassirer's Critique of Heidegger in New German‬‬

‫‪Critique, No. 94, Secularization and Disenchantment (winter, 2005), p. 157.‬‬


‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪191‬‬

‫مقتىض االختالف يف‬


‫ى‬ ‫إن هذا التفاوت واالختالف يف هاّتاذ القرار يعود إ ىل‬
‫امل َّتحدة األمريك َّية‪َّ .‬‬
‫عل خلف َّيته الفكر َّية الكانط َّية وكذلك إخالصه‬
‫إن كاسرير بناء ى‬ ‫رؤية ونظرة ه‬
‫كل واحد منهام‪َّ .‬‬
‫أي أمر َّ‬
‫حمل التعهد الفردي من أجل االضطالع‬ ‫أن َّ‬
‫ُيل َّ‬ ‫للرتاث التنويري‪ ،‬ال يمكنه ْ‬
‫بمسؤول َّيته واالرتباط باألمر املطلق‪.‬‬
‫خرى لكاسرير مع هايدغر تتع َّلق باملوضوعات‬ ‫إن املواجهة األُ ى‬ ‫ويف سياق الفقرة السابقة‪َّ ،‬‬
‫التي كان يتم التعبري عنها من الناحية التقليد َّية بـ َّ‬
‫الالهوت َّية‪ ،‬وإرادة اإلنسان‪ ،‬ونسبة حمدود َّية‬
‫الالحمدود واملطلق‪ .‬يذهب كاسرير إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن هايدغر يذهب‬ ‫اإلنسان بالنسبة إ ىل األمر َّ‬
‫والالهوت َّية‪َّ .‬‬
‫إن املسألة من وجهة نظر‬ ‫يف كتاباته إ ىل متابعة مضامني ترتبط باألبحاث الده ين َّية َّ‬
‫كاسرير ال تتع َّلق ُ‬
‫بح ّر َّية اإلرادة أو جرب َّيتها‪ ،‬وإ َّنام متتد بجذورها يف مسألة َّ‬
‫الالهوت القديم‬
‫القائل‪ :‬هل اإلنسان يسري يف طريق الفالح املتع هلق بالفيض اإلِّلي أو أ َّنه ال ُيصل ى‬
‫عل أي‬
‫عل بلورته يف‬ ‫مدد يفاض عليه من هذا املسار‪ .‬ويبدو َّ‬
‫أن ِّلايدغر جتاه املضمون الذي يعمل ى‬
‫إل اإلنسان‪.‬‬
‫رسالة يف باب األنسنة ‪ -‬حتت عنوان تقدير الوجود ‪ -‬رؤية من السنخ الثاين ى‬
‫(‪)1‬‬

‫أن رأينا َّ‬


‫فإن فهم ماه َّية الوجود إ َّنام يأت من مسار فهم املوجود الذي يطرح مثل هذا‬ ‫وكام سبق ْ‬
‫إل التعريف بأحد اخلصائص الوجود َّية ملثل هذا املوجود يف إطار‬ ‫السؤال‪ ،‬وقد عمد هايدغر ى‬
‫(‪)2‬‬
‫إل االعتقاد َّ‬
‫بأن قوانني العامل‬ ‫فهم املصري التارخيي والس ّيام عندما يتل َّبس بالوجود‪ .‬وقد ذهب ى‬
‫جمرد أحكام و ُأصول حاكمة ى‬
‫عل العامل فقط‪ ،‬وإ َّنام هي كذلك ُمت هثل مقدّ رات ظهور‬ ‫ليست َّ‬
‫عل اإلنسان ْ‬
‫أن يشارك فيها من خالل التفكري‪ ،‬إذ‬ ‫يتعني ى‬
‫الوجود يف املواقف التارخي َّية حيث َّ‬
‫يكون التعهد بواسطة الوجود من أجل الوجود‪ .‬قال هايدغر يف رسالة يف باب األنسنة‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫كل رشط وحالة برش َّية(‪ .)3‬هذا يف حني أ َّن كاسرير‬‫عل حفظ وتعريف ه‬
‫تاريخ الوجود يعمل ى‬
‫إل اخلالص من خالل االستعانة بالعقل(‪.)4‬‬ ‫عل طريق ى‬ ‫يعتقد َّ‬
‫أن اإلنسان يستطيع العثور ى‬

‫‪(1) Schikung des Seins.‬‬

‫‪(2) nomos‬‬

‫‪(3) Heidegger, M, Letter on Humanism in Basic Writings, edited and revised by David Farrell‬‬

‫‪Krell, Harper SanFrancisco: 1993, p. 218.‬‬

‫‪(4) Krois, Ibid: p. 154.‬‬


‫‪ ❖ 192‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إل ه‬
‫االجتاه التقديري ِّلايدغر نحو الوجود‪ُ ،‬تؤ هدي إ ىل نقطة‬ ‫َّ‬
‫إن الرؤية االنتقاد َّية لكاسرير ى‬
‫عل تبلور اإلنسان‪ُ ،‬يم هثل واحدا من‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬يذهب كاسرير إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن تأكيد هايدغر ى‬
‫عل سهم فاعل يف بناء وإعادة صياغة‬
‫أي أمل باحلصول ى‬ ‫خصائصه األصل َّية‪ .‬وأ َّنه قد ّ ى‬
‫ّتل عن ه‬
‫احلياة الثقاف َّية للبرش(‪.)1‬‬
‫وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن الـ دازاين بوصفه موجودا مقذوفا يف العامل ُيؤ هدي إ ىل طريق أخالقي‬
‫مسدود؛ أل َّنه يرتك إمكان َّية أي نوع من أنواع املسؤول َّية األخالق َّية أمرا من دون جواب‪ .‬ويف‬
‫إل‬ ‫يتعرض كاسرير يف ُأسطورة الدولة يف ر َّدة فعله ى‬
‫عل الرؤية امليكافيل َّية ى‬ ‫هذا السياق َّ‬
‫السياسة‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫إن عليه ْ‬
‫أن خيتار مساره‬ ‫واحلظ‪َّ ...‬‬
‫ه‬ ‫عل أمره من قبل البخت‬ ‫َّ‬
‫إن اإلنسان ليس مغلوبا ى‬
‫َّ‬
‫واحلظ‬ ‫عل هدايته‪ ...‬فإذا مل يتم َّكن من االضطالع بمسؤول َّيته‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا البخت‬ ‫ويعمل ى‬
‫ّى‬
‫ويتخل عنه(‪.)2‬‬ ‫سوف يسخر منه‬
‫يتجل معناها عندما يعترب الشخص نفسه يف سياق جريان‬ ‫ّى‬ ‫َّ‬
‫إن املسؤول َّية األخالق َّية إ َّنام‬
‫وعل هذا األساس يذهب‬ ‫ردود األفعال الواعية حارسا ِ‬
‫للق َيم البرش َّية واألخالق َّية الثابتة(‪.)3‬‬
‫ى‬
‫بأن حمدود َّية اإلنسان والشعور باإلحباط املنبثق عن إدراك هذه‬ ‫كاسرير إ ىل االعتقاد َّ‬
‫املحدود َّية‪ ،‬يمكن النظر إليه بوصفه فرصة‪ .‬وهي فرصة االلتفات إ ىل األمر َّ‬
‫الالحمدود‬
‫وإمكان االنفتاح عليه‪ ،‬والعودة من األمر َّ‬
‫الالحمدود‪ .‬ويف املقابل يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد‬
‫َّ‬
‫بأن الطريق الوحيد للخالص والنجاة من هذه املحدود َّية واالضطراب املنبثق عنها يكمن يف‬
‫الغفلة واإلعراض عنها‪َّ .‬‬
‫إن الفرد املنترش (فردنا(‪ ))4‬هو العنوان الذي ُيقده مه هايدغر لعدم‬
‫وعل الرغم من َّ‬
‫أن كاسرير يشرتك مع‬ ‫ى‬ ‫أصالة احلياة الـ دازاين َّية املحدودة امل َّتجهة نحو املوت‪،‬‬

‫‪(1) Cassirer, E, The Myth of the State, Yale University Press; 1946. P. 293.‬‬
‫عل ترمجة األُستاذ نجف دريابندرى لكتاب ( ُأسطورة الدولة)‪ ،‬الذي ُيمل املواصفات‬
‫لقد اعتمدنا يف هذه الفقرة ى‬
‫اآلتية‪ :‬كاسرير‪ ،‬ارنست‪ ،‬افسانهى دولت‪ ،‬ترمجهى نجف دريابندری‪ ،‬هتران‪ ،‬خوارزمی‪ ،1385 :‬ص ‪.370‬‬
‫‪(2) Cassirer, E, The Myth of the State, Yale University Press; 1946. P. 160.‬‬
‫‪(3) Krois, Ibid: p. 155.‬‬
‫‪(4) Das Man‬‬
‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ ‪193‬‬

‫هايدغر يف نفي مجيع أنواع الفهم النوعي عن اإلنسان‪َّ ،‬إال أ َّنه يعتقد َّ‬
‫بأن الفرد احلقيقي كامن‬
‫يف الفرد َّية حيث جيب احرتامه؛ وهذه الفرد َّية ال تعني العزلة‪ ،‬وإ َّنام يتم احلصول عليها يف‬
‫لكل شخص فردان َّيته التي ال تعني يف الوقت نفسه‬ ‫إن ه‬ ‫انضاممه إ ىل اجلمع‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫نفي املحدود َّية‪ ،‬وإ َّنام حتصل هذه الفردان َّية من قناة املشاركة يف العامل االجتامعي (األخالقي)‬
‫أن ينشغل وينهمك يف‬ ‫إل اجلمع‪ ،‬حيث ُّترجه من العزلة(‪َّ .)1‬‬
‫إن كاسرير قبل ْ‬ ‫واالنضامم ى‬
‫اجلزئ ّيات النظر َّية لتفكري هايدغر يف هذا القسم‪ُ ،‬يبدي هواجسه جتاه لوازمها العمل َّية‬
‫عل نفي ُأ ُسس أهدافه النظر َّية‬
‫ونتائجها العين َّية؛ إذ إ َّن هذا النوع من الفلسفة يعمل ى‬
‫واألخالقية‪ .‬وعليه يمكن ْ‬
‫أن تكون بمنزلة األداة املرنة والط هيعة يف يد الزعامء السياس هيني(‪.)2‬‬

‫* * *‬

‫‪(1) Ibid: p. 156.‬‬


‫‪(2) Cassirer, Ibid. P. 293.‬‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬194

:‫املصادر‬
Cassirer, E, The Myth of the State, Yale University Press; 1946.
Gordon, P, E, Myth and Modernity: Cassirer's Critique of Heidegger in New
German Critique, No. 94, Secularization and Disenchantment (winter, 2005), pp.
127 - 168.
Habermas, J, Work and Weltanschaung: The Heidegger Controversy from a
German Perspective inHeidegger: A Critical Reader, ed. Hubert L. Dreyfus and
Harrison Hall, Oxford: Blackwell, 1992: 186 - 208.
Heidegger, M, Being and Time, translated by Joan Stambaugh, State University
of New York Press, Albany: 2010.
Heidegger, M and Cassirer, E, Davos Disputation between Ernst Cassirer and
Martin Heidegger in Kant and the Problem of Metaphysics, Translated by Richard
Taft, Indiana University Press: 1997.
Heidegger, M, Davos Lectures in Kant and the Problem of Metaphysics,
Translated by Richard Taft, Indiana University Press: 1997.
Heidegger, M,Kant and the Problem of Metaphysics, translated by Richard Taft,
Indiana University Press; 1997.
Heidegger, M. Letter on Humanism in Basic Writings, edited and revised by
David Farrell Krell, Harper SanFrancisco: 1993.
Husserl, E, Psychological and Transcendental Phenomenology and the
Confrontation with Heidegger (1927 -1931): The Encyclopaedia Britannica Article,
The Amsterdam Lectures, Phenomenology and Anthropology, Translated and Edited
by Thomas Sheehan and Richard E. Palmer, Springer Science+Business Media
Dordrecg, 1997.
Krois, J. M, Cassirer's Unpublished Critique of Heidegger inPhilosophy and
Rhetoric, Vol. 16, No. 3 (1983), pp. 147 - 159.
Palmer, R, E, An Introduction to Husserl's Marginal Remarks in Kant and the
Problem of Metaphysics, in Psychological and Transcendental Phenomenology and
195 ❖ ‫هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر‬

the Confrontation with Heidegger (1927 - 1931): The Encyclopaedia Britannica


Article, The Amsterdam Lectures, Phenomenology and Anthropology, Translated
and Edited by Thomas Sheehan and Richard E. Palmer, Springer Science+Business
Media Dordrecg, 1997, pp.424-433.
.1385 :‫ خوارزمی‬،‫ هتران‬،‫ ترمجة نجف دريابندری‬،‫ ُأسطورة الدولة‬،‫ ارنست‬،‫كاسرير‬

* * *
‫عدم متاميَّة تفسري هايدغر للحقيقة األفالطونيَّة‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫(قراءة نقديَّة لرؤية أفالطون يف باب احلقيقة)‬
‫(‪)3‬‬
‫سعيد بيناي مطلق‬
‫(‪)4‬‬
‫س ِّيد جميد كاميل‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫إل متثيل‬
‫يعمد مارتن هايدغر يف رسالته رؤية أفالطون يف مسألة احلقيقة ‪ -‬من خالل الرجوع ى‬
‫يتعرض إ ىل‬ ‫معنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون َّ‬
‫ى‬ ‫كهف أفالطون ‪ -‬إ ىل القول َّ‬
‫بأن‬
‫عل سقراط من احلقيقة‪ ،‬إ ىل احلده‬
‫إعادة جتسيد باملقارنة إ ىل ما كان يعنيه اإلغريقيون السابقون ى‬
‫الذي تنخفض فيه احلقيقة بوصفها أمرا غري مستور إ ىل احلقيقة بوصفها مسألة صدق أو‬
‫إل إثبات َّ‬
‫أن تفسري هايدغر للحقيقة عند أفالطون ال يشمل‬ ‫مطابقة‪ّ .‬ندف يف هذه املقالة ى‬
‫نسعى ‪ -‬من خالل‬ ‫ى‬ ‫معنى احلقيقة‪ .‬ومن هنا فإ َّننا‬
‫ى‬ ‫مجيع املنظومة الفكر َّية ألفالطون بشأن‬
‫الرجوع إ ىل بعض آراء أفالطون يف باب مثال اخلري‪ ،‬ومثال اجلامل‪ ،‬والوجود‪ ،‬واحلقيقة أليثا ‪-‬‬
‫ملعنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون‪.‬‬
‫ى‬ ‫إ ىل بيان بعض املوارد الناقضة لتفسري هايدغر‬

‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬عنوان املقالة بالفارسيَّة‪« :‬نامتامى تفسري هايدگر از حقيقت افالطون؛ خوانشى انتقادى از آموزه افالطون‬
‫ِ‬
‫ألول‪ ،‬السنة السابعة‪ ،‬صيف عام ‪1395‬هـ ش‪.‬‬ ‫رشت يف جم َّلة‪ :‬تاريخ فلسفة‪ ،‬العدد ا َّ‬
‫در باب حقيقت»‪ ،‬وقد ُن َ‬
‫تم‬
‫مبنى رسالة (رؤية أفالطون يف باب احلقيقة ِّلايدغر)‪ ،‬فقد َّ‬
‫عل ى‬‫وحيث إ َّن أساس التحليل يف هذه املقالة يقوم ى‬
‫النص األملاين ِّلذه الرسالة وعنواّنا يف األصل (‪ )Platons Lehre von der Wahrheit‬املنشورة‬
‫السعي إ ىل جعل ه‬
‫يف جمموعة (‪ )Wegmarken‬مصدرا ِّلذه املقالة‪.‬‬
‫عيل مطر‪.‬‬
‫تعريب‪ :‬حسن ّ‬
‫(‪ )2‬أفالطون‪ ،‬األعامل الكاملة‪ ،‬ج ‪ ،3‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسية‪ّ :‬‬
‫حممد حسن لطفي‪ ،‬انتشارات خوارزمي‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪1367‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ُ )3‬أستاذ الفلسفة يف جامعة أصفهان‪ ،‬له مؤ َّلفات يف فلسفة أفالطون واحلكمة اخلالدة‪.‬‬
‫مستوى الدكتوراة يف حقل الفلسفة من جامعة أصفهان (كاتب مسؤول)‪.‬‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫(‪ )4‬طالب ى‬
‫‪ ❖ 198‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫نسعى يف الوقت نفسه إ ىل إثبات أ َّن مواجهة هايدغر ألفالطون تقليل َّية‪ ،‬وأ َّن خفض‬
‫ى‬ ‫كام‬
‫جمرد الصدق واملطابقة قبل أ ْن يكون بشأن مصادر آراء أفالطون ينشأ من‬
‫معنى احلقيقة إ ىل َّ‬
‫ى‬
‫إرادة هايدغر نفسه من أجل تسمية كامل التاريخ الفكري للغرب باسم (امليتافيزيقا‬
‫الغرب َّية)‪.‬‬

‫املقدّمة‪:‬‬
‫عل الرغم من َّ‬
‫أن هايدغر يبدأ كتابه الوجود والزمان بنقل نص من حماورة السفسطائي‪ ،‬أو‬ ‫ى‬
‫مرة واحدة بشكل‬ ‫يكون له انعطافة يف بعض النصوص إ ىل أفالطون‪َّ ،‬إال أ َّنه َّ‬
‫يتعرض له َّ‬
‫رصيح فقط‪ ،‬وذلك يف رسالة أفالطون يف مسألة احلقيقة(‪َّ .)1‬‬
‫إن التفاسري التي ُيقده مها هايدغر‬
‫قصة الفلسفة بعد أفالطون عبارة عن جمموعة‬ ‫عل االعتقاد القائل َّ‬
‫بأن َّ‬ ‫يف هذه الرسالة تقوم ى‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫املحرفة ملسائل ومضامني الفلسفة األفالطون َّية‪ .‬ويف هذا الشأن ُيش هكل‬
‫َّ‬ ‫من األفهام‬
‫لدى أفالطون‪ ،‬والتفسري الذي ُيقده مه هايدغر هبذا الصدد‪ ،‬أرض َّية مناسبة لتقييم‬
‫ى‬
‫(‪)2‬‬
‫احلقيقة‬
‫رأيه حول أفالطون بشكل خاص وحول تاريخ امليتافيزيقا بنحو عام‪.‬‬
‫عل دراسة مثال (كهف أفالطون)‪.‬‬
‫يعمل هايدغر يف هذه الرسالة ‪ -‬بشكل خاص ‪ -‬ى‬
‫ويسعى يف هذا اإلطار ‪ -‬من خالل التدقيق يف مفاهيم من قبيل‪ :‬اإلدراك والتمثل واملثال ‪-‬‬
‫ى‬
‫معنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون‪ .‬وهو يعمد إ ىل تعريف‬
‫ى‬ ‫إ ىل بيان إعادة قولبة‬
‫إل احلقيقة بوصفها مسألة صدق‬
‫إعادة القولبة هذه يف تقليل احلقيقة بوصفها أمرا غريخمفي ى‬
‫(‪)3‬‬

‫عل َّ‬
‫أن تفسري‬ ‫نسعى إ ىل إثباهتا ‪ -‬ى‬
‫ى‬ ‫أو مطابقة(‪ .)4‬تقوم الفرض َّية الرئيسة يف هذه املقالة ‪ -‬التي‬

‫‪(1) Heidegger, Martin (1975), ‘Platons Lehre von der Wahrheit‘, in Wegmarken, vittorio‬‬
‫‪klostermann.‬‬
‫‪(2) Alethia‬‬
‫‪(3) unverborgenheit/unhiddenness.‬‬
‫للمرة األُو ىل يف درسه يف املقطع الشتوي (عام‪- 1924 :‬‬
‫خفي َّ‬
‫ٍّ‬ ‫(‪ )4‬لقد قدَّ م هايدغر تفسريه للحقيقة بوصفها أمرا غري‬
‫اهتم هايدغر بتحليل الكتاب السادس ألخالق‬ ‫َّ‬ ‫‪1925‬م) حتت عنوان‪( :‬سفسطة أفالطون)‪ .‬ويف هذا الدرس‬
‫املفِّسين ‪ -‬ومن بينهم (إنريكو بريت) ‪ -‬إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن مواجهة هايدغر مع‬ ‫نيقوماخوس‪ .‬ومن هنا يذهب بعض ه‬
‫‪‬‬ ‫أفالطون‪ ،‬والس ّيام تفسريه للحقيقة األفالطون َّية‪ ،‬تأت متأ هثرة بقراءته للكتاب السادس ألخالق نيقوماخوس‪.‬‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪199‬‬

‫معنى‬
‫ى‬ ‫لدى أفالطون بشأن‬
‫هايدغر للحقيقة عند أفالطون ال يشمل مجيع املنظومة الفكر َّية ى‬
‫نسعى ‪ -‬من خالل الرجوع إ ىل بعض آراء أفالطون يف باب مثال‬‫ى‬ ‫احلقيقة‪ ،‬ومن هنا فإ َّننا‬
‫اخلري‪ ،‬ومثال اجلامل‪ ،‬والوجود‪ ،‬واحلقيقة (أليثا) ‪ -‬إ ىل بيان بعض املوارد الناقضة لتفسري‬
‫ملعنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون‪.‬‬
‫هايدغر ى‬
‫عل بيان العنارص األساس َّية يف رسالة رؤية‬
‫وسوف نعمل يف هذا اخلصوص َّأوال ى‬
‫أفالطون يف باب احلقيقة ِّلايدغر‪ ،‬لننتقل بعد ذلك إ ىل بيان االنتقادات التي يمكن طرحها‬
‫عل تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية‪.‬‬
‫ى‬

‫‪ - 1‬العناصر اجلوهريَّة يف رسالة رؤية أفالطون يف باب احلقيقة‪:‬‬


‫‪ 1 - 1‬التحريف األفالطوين ملعنى احلقيقة من وجهة نظر هايدغر‪:‬‬
‫معنى احلقيقة ُمت هثل جهودا واسعة بحيث ظهرت أفهام‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن جهود هايدغر لبحث ودراسة‬
‫وتفسريات خمتلفة ِّلذا املفهوم يف خمتلف مراحله الفكرية‪ .‬وقد عمد هايدغر يف كتاب الوجود‬
‫بأن حتليل‬‫والزمان إ ىل إدخال بحث احلقيقة ضمن حتليل دازاين(‪ ،)1‬ويذهب إ ىل االعتقاد َّ‬
‫تضمن معاين ها َّمة للحقيقة‪ ،‬واعترب يف هذا الكتاب َّ‬
‫أن احلقيقة مرتبطة بإظهار َّية‬ ‫دازاين ي َّ‬
‫أن ترتبط هبذه التجربة‬ ‫دازاين‪ ،‬و ُيثبِت َّ‬
‫أن مجيع األفهام الفلسف َّية والروتين َّية للحقيقة جيب ْ‬
‫اجلوهر َّية للحقيقة(‪َّ .)2‬إال َّ‬
‫أن رؤية هايدغر بشأن مفهوم احلقيقة يف كتابيه اآلخرين‪ ،‬وها حول‬
‫نسعى يف هذه املقالة إ ىل نقده‪ ،‬أي رؤية أفالطون يف باب‬
‫ى‬ ‫ذات احلقيقة‪ ،‬واألثر اآلخر الذي‬
‫احلقيقة أكثر تفصيال باملقارنة إ ىل كتاب الوجود والزمان(‪.)3‬‬

‫وعل صفة احلقيقة‬


‫ى‬ ‫عل صفة احلقيقة بوصفها إظهارا‪،‬‬ ‫فإن احلقيقة عند ُأرسطو تشتمل ى‬ ‫‪ ‬طبقا لقراءة هايدغر ألُرسطو َّ‬
‫إن هذا التعاطي املزدوج ِّلايدغر مع ُأرسطو‪ ،‬يتسلل بدوره إ ىل تفسريه للحقيقة عند‬
‫بوصفها مسألة صدق وانطباق‪َّ .‬‬
‫أفالطون أيضا‪.‬‬
‫‪(1) Dasein‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin (1962), Being and Time, translated by Macquarrie, John & Robinson,‬‬
‫‪Edward, San Francisco: Harper, pp. 266 - 277.‬‬

‫(‪ )3‬جانسون‪ ،‬باتريشيا‪ ،‬راه مارتني هايدگر (طريق مارتن هايدغر)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬السيهد ّ‬
‫حممد كامل‪،‬‬
‫ص ‪.73‬‬
‫‪ ❖ 200‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬


‫بأن مجيع االختالفات التي وقعت بني الفالسفة املؤ هيدين‬
‫لنظر َّية احلقيقة األفالطون َّية‪ ،‬إ َّنام كانت حول اال هتفاق القائل َّ‬
‫بأن احلقيقة تستلزم االنطباق‬
‫إن هذا‬ ‫والصدق بني اإلدراك والظاهر والصورة اخلارج َّية للكائنات واملوجودات ِ‬
‫املدركة‪َّ .‬‬
‫عل الصدق املنبثق عن رؤية أفالطون أكثر من احلده الالزم‪ ،‬يف حني أ َّننا يف‬
‫التأكيد ينطبق ى‬
‫التعاطي مع املوجودات نواجه شيئا أبعد من اإلدراك واملعرفة الصحيحة واملنطبقة عليها‪.‬‬
‫بمعنى االنطباق والصدق‪ ،‬يأفل املفهوم‬
‫ى‬ ‫وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬من خالل أفالطون وبطرح احلقيقة‬
‫األصيل للحقيقة‪ ،‬أي غري املستور ويتم حتريفه(‪.)1‬‬
‫عل ما نجده يف رسالته رؤية أفالطون يف‬
‫يف تفسري هايدغر للحقيقة عند أفالطون ‪ -‬ى‬
‫باب احلقيقة ‪ -‬يمكن التمييز بني مستويني‪ ،‬ويف أحد املستويني يكون مراده تارخييًّا بحتا ‪.‬‬
‫وهذا يف احلقيقة ُي م هث ل تعيني حلظة يف تاريخ فلسفة الغرب انحازت فيها احلقيقة إ ىل‬
‫مستوى أعمق أيضا‪،‬‬
‫ى‬ ‫اإلدراك والتمث ل وابتعدت عن عدم اخلفاء‪ .‬بيد أ َّن لتحليل هايدغر‬
‫املستوى إ ىل إثبات أ َّن ه يف تفكري أفالطون يتم اقتباس تصميم‬
‫ى‬ ‫يسعى يف هذا‬ ‫ى‬ ‫حيث‬
‫أنطولوجي ُُي ده د تقدير مجيع املف هكرين َّ‬
‫الال حقني‪ .‬ويف هذا التقدير يتم تفسري احلقيقة‬
‫عل ر َّدة الفعل اإلدراكيَّ ة(‪ )2‬والتمثل‬
‫جمر د صفة لقض َّي ة‪ ،‬وهي احلقيقة التي تقوم ى‬
‫بوصفها َّ‬
‫واإلظهار(‪ )3‬بطبيعة احلال(‪ .)4‬وهكذا ومن خالل إعامل هذه املحدود َّي ة يف فهم احلقيقة يتم‬
‫غض الطرف عن وجود املو جود‪ ،‬ويأفل عدم اخلفاء بمعناه ما قبل السقراطي‪ .‬وبعبارة‬
‫معنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّي ة ألفالطون حيث إ َّن هذا‬
‫ى‬ ‫أُ ى‬
‫خرى ‪ :‬من خالل تغيري‬
‫التغيري يرتك تأثريا تارخييًّا فإ َّن ه ُيرم الفلسفة والفالسفة من مواجهة احلقيقة بمعناها‬
‫اخلالص واألصيل‪.‬‬

‫‪(1) Heidegger, Martin (1975), Ibid, PP. 230 - 231.‬‬

‫‪(2) vernehmung / perceptual activity.‬‬

‫‪(3) vorstellung / representation.‬‬

‫‪(4) Ibid. p. 232 - 233.‬‬


‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪201‬‬

‫‪ 2 - 1‬الرؤية الضمن َّية(‪ )1‬ألفالطون‪:‬‬


‫مضمنة يف كالمه دون ْ‬
‫أن تقال(‪.)3‬‬ ‫َّ‬ ‫كل مف هكر هي التي تظل‬ ‫أن رؤية(‪ )2‬ه‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫ى‬
‫ه‬
‫مستهل‬ ‫عل ما مل يقل جيب الرجوع إ ىل ما قاله الفيلسوف‪ .‬لقد اعرتف هايدغر يف‬
‫وللعثور ى‬
‫رسالته رؤية أفالطون يف باب احلقيقة باستحالة بحث مجيع أقوال أفالطون‪ ،‬ومن هنا فإ َّنه‬
‫يرى أ َّنه يف املنظومة الفكر َّية‬
‫عام مل يقله‪ .‬فهو ى‬
‫يبحث عن مفهوم جوهري يف آرائه‪ ،‬كي يكشف َّ‬
‫ألفالطون‪:‬‬
‫كل ما كان بالنسبة إىل اإلنسان ح َّتى ذلك الوقت واضح ًا وبدهييا‪ ،‬والطريق الذي‬
‫يتحول إىل يشء آخر(‪.)4‬‬
‫َّ‬ ‫كان فيه هذا األمر بدهييا‪،‬‬
‫إن هذا األمر البدهيي هو عدم اخلفاء الذي ُيم هثل‬
‫طبقا لرتمجة هايدغر لـ ‪َّ ،Alethia‬‬
‫اخلصيصة اجلوهر َّية للحقيقة‪َّ .‬‬
‫إن عدم اخلفاء لديه يعني‪:‬‬ ‫ه‬
‫هو ما يكون يف مدار سكن اإلنسان‪ ،‬يف ِّ‬
‫كل مورد‪ ،‬حضور مفتوح تعمل‬
‫املوجودات من طريقه عىل إظهار الوجود(‪.)5‬‬
‫غض الطرف عن احلقيقة بوصفها أمرا غري مستور‪ ،‬هي‬ ‫يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء َّ‬
‫بأن َّ‬
‫يتم قوله من ِق َبل املف هكر ال ينحرص بام كان‬ ‫لدى أفالطون‪َّ .‬‬
‫إن ما مل ّ‬ ‫الرؤية املسكوت عنها ى‬
‫يقصد املف هكر قوله بكالمه‪ ،‬أو ح َّت ىى ما كان يفهمه املخاطبون املبارشون وغري املبارشين من‬
‫أن تنقيض مدَّ ة زمن َّية ح َّت ىى تتو َّفر رشائط‬
‫إن ما ال يقال حارض يف ما يقال‪ ،‬ولكن جيب ْ‬
‫أقواله‪َّ .‬‬
‫إن من بني نتائج هذا الكالم هو َّ‬
‫أن ما يتم كشفه وإعالنه‬ ‫حتقق بعض أو مجيع ما مل ُيقال(‪َّ .)6‬‬
‫عل املأل قد يتعارض مع ما كان يقصده املتك هلم األصيل‪.‬‬
‫ى‬

‫‪(1) ungesagate / unsaid.‬‬

‫‪(2) Iehre / doctrine.‬‬

‫‪(3) Ibid. p. 201.‬‬


‫‪(4) Ibid. p. 218.‬‬
‫‪(5) Ibid. p. 219.‬‬
‫‪(6) Heidegger, Martin (1982), On the Way to Language, translated by D. Hertz, Peter, San‬‬
‫‪Francisco: Harper. p. 122 – 124.‬‬
‫‪ ❖ 202‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املرصح هبا من ِق َبل أفالطون إ ىل متثيل‬


‫َّ‬ ‫وقد عمد هايدغر يف بيان مدَّ عاه يف باب الرؤية غري‬
‫املتنوعة للحقيقة‬
‫إل حتليل املستويات واألبعاد ه‬
‫كهف أفالطون يف حماورة اجلمهور َّية‪ ،‬وعمد ى‬
‫إل‬ ‫داخل وخارج الغار‪ .‬إ َّن ه‬
‫لكل واحد من هذه املستويات واألبعاد ‪ -‬طبقا لتفسريه ‪ -‬نسبة ى‬
‫إل‬
‫كل ُبعد جيب تسمية غري مستور ومالحظته ‪ .‬يعمد أفالطون ى‬
‫(‪)1‬‬
‫عدم اخلفاء‪ ،‬بحيث يف ه‬
‫درك‪ ،‬وتبعا لذلك ما يمكن فهمه من خالل هذا اإلدراك‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫تقليل غري املستور بام يمكن ْ‬
‫أن ُي َ‬
‫يتجل وي َّتضح‪ .‬يعمد‬ ‫(‪)2‬‬
‫َّ‬
‫كل نوع من أنواع املوجودات يمكن مواجهته له ظاهر ‪ ،‬ولذلك فإ َّنه ّ ى‬
‫إن غري‬ ‫أفالطون إ ىل توسيع نطاق هذا الفهم لظاهر املوجود إ ىل احلده الذي يقول معه هايدغر‪َّ :‬‬
‫املستور يتغ َّلب بنحو مستمر ى‬
‫عل خفاء األمر املستور(‪)3‬؛ يف حني َّ‬
‫أن هذه الغلبة املستم َّرة ال‬
‫تنسجم مع ذات غري املستور بوصفه أصال للحضور‪.‬‬
‫ومع ذلك يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن عدم اخلفاء ال يزال رضور ًّيا للمنظومة الفكر َّية‬
‫بمعنى َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ى‬ ‫ألفالطون‪ ،‬غاية ما هنالك أ َّنه انخفض بنحو من األنحاء‪،‬‬
‫ال للوصول يف وضوحه‪ ،‬وهذا جيعل الظهور الذايت قاب ً‬
‫ال‬ ‫األمر الواضح كان قاب ً‬
‫للرؤية(‪.)4‬‬

‫‪(1) Idem, Heidegger, Martin (1975), Platons Lehre von der Wahrheit, in Wegmarken, vittorio‬‬

‫‪klostermann, p. 125.‬‬
‫‪(2) Ibid. p. 220.‬‬
‫‪(3) Ibid. p. 218.‬‬
‫‪(4) Ibid. p. 225.‬‬
‫يرى يف جواب سؤال‬ ‫وهنا ر َّبام ال خيلو ذكر هذا التوضيح من فائدة‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن تئيتوس يف حماورة تئاتوس ألفالطون‪ ،‬ى‬
‫أن املعرفة نوع من اإليامن واالعتقاد (‪ )doxazein‬بيشء‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر من خالل تفسري‬ ‫سقراط عن ماهيَّة املعرفة َّ‬
‫فِّس الـ (‪ )doxazein‬بـ امتالك مشهدات رؤية عن أو بشأن‬
‫اخلاص ملفهوم الـ (‪ُ ،)ansicht / opinion / view‬ي ه‬
‫ه‬
‫بمعنى اإليامن‬
‫ى‬ ‫يشء‪ ،‬وهو اليشء الذي يظهر نفسه بوصفه هذا أو ذلك اليشء‪َّ .‬‬
‫إن املفردة األملان َّية (‪)ansicht‬‬
‫أن يكون ناظرا إ ىل رؤيتنا لليشء‪ ،‬ومن جهة ُأ ى‬
‫خرى‬ ‫معنى مبهم وذي حدَّ ين‪ .‬فهو من جهة يمكن ْ‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫واملشهد حتتوي ى‬
‫أن يكون بشأن املشهد الذي يبديه اليشء عن نفسه‪ .‬يستفيد هايدغر من هذا اإلهبام ليثبت بذلك َّ‬
‫أن معرفتنا‬ ‫يمكن ْ‬
‫ِ‬ ‫االعتياد َّية لألشياء يستلزم امتالك مشهد ه‬
‫واجتاه خاص من قبَلنا بشأّنا‪ ،‬كام يستلزم ْ‬
‫أن يكون لذات األشياء مشهد َّية‬
‫عل إظهارها لنا بوصفها شيئا‪.‬‬
‫خاصة وتعمل ى‬
‫َّ‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪203‬‬

‫عل بذل الظاهر(‪ ،)1‬هو الظاهر‬ ‫يرى هايدغر َّ‬


‫أن املفهوم األفالطوين للمثال مشهد يعمل ى‬ ‫ى‬
‫متقرر يف الوضوح ومنح إمكان َّية الرؤية‪،‬‬
‫إن ذات املثال ه‬ ‫الذي ُيرض فيه ‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬ ‫)‬‫‪2‬‬ ‫(‬

‫كل موجود يف الوجود‪ .‬ويغدو املثال مبدأ يمكن بواسطته ه‬


‫لكل‬ ‫وجد حضور ه‬ ‫وهذا هو الذي ُي ِ‬
‫أن هذا هو كل ما يمكن للمثال ْ‬
‫أن يقوم به(‪ .)3‬ومن وجهة‬ ‫ويرى هايدغر َّ‬
‫ى‬ ‫درك‪.‬‬ ‫موجود ْ‬
‫أن ُي َ‬

‫‪(1) aussicht / exterior.‬‬


‫‪(2) Ibid.‬‬
‫عل طبق أعامل‬
‫معنى هذه الكلمة اجلوهر َّية ى‬
‫ى‬ ‫تم احلديث عن فهم هايدغر لـ املثال‪ ،‬يبدو من الرضوري بيان‬
‫(‪ )3‬حيث َّ‬
‫عل مضمون ثالثي األوجه‪،‬‬‫أفالطون‪ ،‬وكذلك جذورها اليونانيَّة أيضا‪ .‬إ َّن املُثُل يف الفلسفة األفالطونيَّة تشتمل ى‬
‫بمعنى اليشء يف‬
‫ى‬ ‫عل الوجود الواقعي‪،‬‬
‫بمعنى َّأّنا‪ :‬أنطولوج َّية‪ ،‬وغائ َّية‪ ،‬ومنطق َّية‪ .‬ومن الناحية األنطولوج َّية تدل ى‬
‫ى‬
‫وعل هذا األساس فإ َّن املُثُل بوصفها أمرا‬
‫ى‬ ‫نفسه‪ .‬إ َّن وجود ه‬
‫كل يشء رهن بحضور املثال فيه أو استفادته من املثال‪.‬‬
‫يبقى كام هو‪ .‬كام أ َّن ُمثُل أفالطون تشتمل ى‬
‫عل‬ ‫متغرية وكل مثال ى‬ ‫واحدا تقع يف قبال األُمور الكثرية‪ ،‬وهذه األُمور ه‬
‫مضمون غائي‪ .‬وإ َّن ه‬
‫لكل صريورة غاية وهدف‪ .‬إ َّن هذه الغايات إ َّنام يمكنها أ ْن توجد يف حتقق ما يراه العقل من‬
‫النامذج الثابتة واجلوهر َّية فيها لألشياء‪ .‬وعليه فإ َّن املُثُل من هذه الناحية بمثابة التصور املثال يف ذهن الصناعي الذي‬
‫والقوى املح هفزة التي هي بحيث أ َّن الذي يصنع أشياء‬
‫ى‬ ‫يسعى إ ىل منحها صورا ما ّد َّية‪ .‬ومن هنا فإ َّن املثل تعني العلل‬
‫ى‬
‫العامل هو اليشء املوجود‪ ،‬وإ َّن املُثُل ‪ -‬من الناحية املنطقيَّة ‪ -‬جتعلنا قادرين ى‬
‫عل تنظيم املوجودات اجلزئيَّة املبعثرة‪ْ ،‬‬
‫وأن‬
‫عل فهم وإدراك واحد يف الكثري‪ .‬لقد‬ ‫عل األمر املشابه‪ ،‬وأ ْن ُنحده د األُمور املختلف عليها‪ ،‬وأ ْن نحصل ى‬ ‫نتعرف ى‬‫َّ‬
‫املتنوعة للفظ‬
‫ه‬ ‫التفسريات‬ ‫بني‬ ‫ومن‬ ‫ل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫ُ‬ ‫مل‬‫ا‬ ‫بنظرية‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ع‬ ‫ما‬
‫ى ُ‬ ‫عل‬ ‫للداللة‬ ‫واأللفاظ‬ ‫املصطلحات‬ ‫خمتلف‬ ‫أفالطون‬ ‫دم‬ ‫استخ‬
‫ومفِّسي أفالطون‪ .‬والسبب الرئيس ِّلذه االختالفات يكمن يف‬
‫ه‬ ‫رشاح‬
‫مثال أفالطون‪ ،‬هناك اختالفات كثرية بني ُ ّ‬
‫اإلشارات املختلفة والتعابري املتعده دة ألفالطون ذاته ِّلذا اللفظ يف مجيع مواضع أعامله ومؤ َّلفاته‪ .‬ومن بني ّ‬
‫أهم األلفاظ‬
‫عل معاين املُثُل‪ ،‬عبارة عن‪( :‬أيده آ)‪ ،‬و(ايدوس)‪ ،‬و(باراديغام)‪ ،‬و( ُأوسيا)‪،‬‬
‫التي استخدمها أفالطون للداللة ى‬
‫و( ُأوتوس)‪ ،‬و(ت استي)‪ ،‬و(ت اون)‪ ،‬و(فوسيس)‪ ،‬و(غينوس)‪ ،‬و(هيناس)‪ ،‬و(موناس)‪ ،‬و(دوناميس)‪ .‬بيد َّ‬
‫أن‬
‫بمعنى الرؤية)‪ .‬إ َّن لفظ املثال يف‬
‫ى‬ ‫الكلامت األصلية ها‪( :‬أيده آ)‪ ،‬و(ايدوس)‪ ،‬وكلتاها مشت َّقة من الفعل (ايدين‪،‬‬
‫تم استعامل هاتني الكلمتني يف معاين‪ :‬الصورة‪،‬‬
‫األصل يعني الصيغة والنموذج‪ ،‬وجذره مأخوذ من الرؤية أيضا‪ .‬وقد َّ‬
‫والظهور‪ ،‬والنوع‪ ،‬والشكل‪ ،‬واألُسلوب‪ ،‬والكيفيَّة‪ ،‬والطبقة‪ ،‬واملفهوم‪ ،‬وما ُي ى‬
‫رى‪ ،‬والنموذج‪ ،‬والطبيعة وغري ذلك‪.‬‬
‫تطورتا بالتوازي مع تطور املباحث العقالن َّية يف‬
‫ثم َّ‬ ‫شك يف أ َّن املعاين ّ‬
‫األول َّية لكلتا املفردتني كانت صورا حمسوسة‪ّ ،‬‬ ‫وال َّ‬
‫األنظمة الفلسفيَّة السابقة للعرص األفالطوين‪ ،‬حيث اكتسبنا معاين أكثر معقولية وفنّ َّية من قبيل‪ :‬الصورة والشكل‬
‫(لدى‬
‫ى‬ ‫(لدى الفيثاغوريني)‪ ،‬والطبيعة وذات األشياء (عند علامء الطبيعة)‪ ،‬والطبقات واألنواع املنطقيَّة‬
‫ى‬ ‫اِّلنديس‬
‫يبقى حمفوظا بنحو من األنحاء يف مجيع هذه االستعامالت‪ ،‬مع‬
‫املعنى األصيل للرؤية ى‬
‫ى‬ ‫سقراط) وما إ ىل ذلك‪ .‬بيد أ َّن‬
‫املعنى أكثر فنّ َّية واصطالح َّية تغ َّلبت صبغة الرؤية بعني البصرية ى‬
‫عل الرؤية بعني البرص‪.‬‬ ‫ى‬ ‫أضحى‬
‫ى‬ ‫توضيح أ َّنه ك َّلام‬
‫‪ ❖ 204‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫نظر هايدغر هنا يكمن منشأ االنحراف األفالطوين‪ .‬يف رأي أفالطون‪:‬‬
‫إن األمر الواضح وغري املستور يتم احلصول عليه يف البداية وبشكل رصف بمثابة‬ ‫َّ‬
‫عرف(‪ )1‬يف الفعل املعريف(‪.)3()2‬‬
‫فهم بمثابة ما ُي َ‬
‫دركه املثال و ُي َ‬ ‫ما ُي ِ‬
‫وعل هذا األساس يتم‬
‫ى‬ ‫فإن عدم اخلفاء إ َّنام يتح َّقق من طريق الرؤية بالرضورة‪،‬‬
‫ومن هنا َّ‬
‫تسجيلها يف النسبة إ ىل الرؤية وتبعا ِّلا(‪.)4‬‬
‫فإّنا تشمل املفهوم‬ ‫َّ‬
‫إن هذه النسبة تشمل مجيع أبعاد ومستويات احلقيقة‪ ،‬وبالتال َّ‬
‫األول ألفالطون من مثال مجيع‬ ‫األفالطوين للخري (آجاتون)(‪ )5‬أيضا‪ .‬يزعم هايدغر َّ‬
‫أن املراد َّ‬
‫األمثلة‪ ،‬هو «إمكان َّية الظهور الشامل لألمر احلارض بحيث ُمتكن رؤيته من مجيع جوانبه»(‪.)6‬‬
‫يرى َّ‬
‫أن الرتمجة األص ّح لـ (آجاتون) هو األمر املناسب(‪ )7‬دون الـ خري(‪.)8‬‬ ‫ومن هنا فإ َّنه ى‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫معنى أخالقي‪ ،‬وإ َّنه يف جزء منه ‪ -‬بطبيعة احلال ‪ -‬يفيد‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫إن اخلري ُيتوي ضمنا ى‬ ‫َّ‬
‫املعنى؛ وذلك َّ‬
‫ألن هذا‬ ‫ى‬ ‫الـ (آجاتون)‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن الـ (آجاتون) يف حده ذاته أكثر جتذرا من هذا‬
‫فإن أنسب ظهور يكمن يف جت ّليه‬ ‫املفهوم «يدفع َّ‬
‫كل أمر واضح إ ىل الظهور‪ ،‬ويف نفسه َّ‬
‫وإمكان َّية رؤيته»(‪.)9‬‬
‫عل النحو اآلت‪:‬‬
‫املرصح به ملثال الغار‪ ،‬ى‬
‫َّ‬ ‫عل تلخيص املفهوم غري‬
‫يعمل هايدغر ى‬
‫إن املثال أصل يكشف عن‬
‫إن أفالطون من خالل قوله‪َّ :‬‬
‫إن احلقيقة تنقاد إىل املثال‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫فإن ذات احلقيقة‬
‫عدم اخلفاء‪ ،‬يعمل عىل نفي [احلقيقة] إىل داخل املسكوت‪ ،‬وعندها َّ‬

‫‪(1) gignoskein‬‬
‫‪(2) gignoskomenon‬‬
‫‪(3) Ibid.‬‬
‫‪(4) Ibid. p. 225.‬‬
‫‪(5) to agathon‬‬
‫‪(6) Ibid.‬‬
‫‪(7) tauglich / the suitable.‬‬
‫‪(8) The Good / das Gute.‬‬
‫‪(9) Ibid. p. 226.‬‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪205‬‬

‫ال تنكشف عن متام َّية الذات التي تقتضيها‪ ،‬وإ َّنام تسكن يف ذات املثال‪َّ .‬‬
‫إن ذات احلقيقة‬
‫خصيصة عدم اخلفاء اجلوهر َّية(‪.)1‬‬
‫تعرض عن ِّ‬
‫إن للحقيقة بوصفها صفة لقض َّية بالقياس إ ىل احلقيقة بوصفها صفة لعدم خفاء الكائنات‬ ‫َّ‬
‫إن الكائنات يف الوهلة األُ ى‬
‫ول جيب ْ‬
‫أن يكون ِّلا وجود بنحو‬ ‫وجها ثانو ًّيا‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫خاص‪ ،‬ح َّت ىى يمكن بيان القضايا الصادقة بشأّنا‪ .‬بيد َّ‬
‫أن أفالطون ينقل احلقيقة من نمط‬
‫يتم حتديد االنتقال من مرحلة‬
‫كينونة األشياء إ ىل نمط ظهور هذه األشياء‪ .‬ويف مثال الغار مل ّ‬
‫خرى بواسطة عدم اخلفاء البحت‪ ،‬بل يتم حتديد ذلك بنوع من الصدق‬ ‫إ ىل مرحلة ُأ ى‬
‫صحة تطابق رؤيتنا املعرفية مع التج ّليات اخلارج َّية ملختلف‬
‫والتطابق؛ وهو املعيار الذي ُيق هيم َّ‬
‫عل النحو اآلت‪:‬‬
‫املراحل‪ .‬وقد عمد هايدغر إ ىل بيان نتيجة هذا التغري يف الرؤية ى‬
‫‪ ...‬يتم تبد ل رؤية ومعرفة اليشء الصحيح والصادق‪ ،‬بحيث إ َّن هذا الصدق‬
‫يرتقي دون إبطاء إىل أسمى مثال‪ ،‬ويكتسب التعني يف هذا التطابق واالنسجام‪ .‬وهذا‬
‫هو ي‬
‫ّتل وظهور الكائنات(‪.)2‬‬
‫تتحول احلقيقة إ ىل الصدق(‪ )3‬والتطابق(‪ )4‬بني املعرفة واألمر املتح َّقق(‪.)5‬‬
‫َّ‬ ‫ويف ّناية املطاف‬
‫أن أفالطون قد عمد إ ىل‪:‬‬‫إن عدم اخلفاء بمعناه البحت ال يزال حارضا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫َّ‬
‫نقل مكانه من ي‬
‫ّتل ظاهر (املوجود) وبمع َّيته إىل الرؤية املالزمة هلذا الظاهر‪ ،‬ومن‬
‫هذا الطريق نقله إىل دائرة صواب َّية وصدق الرؤية(‪.)6‬‬
‫إن الذي يسمح له أفالطون يف الوهلة األُو ىل باخلروج من عدم اخلفاء‪:‬‬ ‫َّ‬
‫سميه مثاالً ‪ ،-‬عبارة عن‬
‫حس َّية ‪ -‬و ُي ي‬
‫تتجىل بواسطة رؤية غري ي‬ ‫ي‬ ‫ُأمور فوق ي‬
‫حس َّية‬
‫وجود كائنات ال يمكن إدراكها بواسطة البدن(‪.)7‬‬

‫‪(1) Ibid. p. 238.‬‬


‫‪(2) Ibid. p. 230.‬‬
‫‪(3) richtigkeit; orthotes.‬‬
‫‪(4) übereinstimmung / the correspondence.‬‬
‫‪(5) Ibid.‬‬
‫‪(6) Ibid. p. 231.‬‬
‫‪(7) Ibid. p. 235.‬‬
‫‪ ❖ 206‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إن هذا التبديل األفالطوين الضمني الذي يتح َّقق يف ذات احلقيقة‪ ،‬يعمل ى‬
‫عل تعني كامل‬ ‫َّ‬
‫لدى الغرب‪ .‬يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء قائال‪:‬‬
‫الرتاث العقالين ى‬
‫يتحول إىل معيار‬
‫َّ‬ ‫إن إثبات ذات احلقيقة بام هي صدق تصورات (إظهار) القضايا‪،‬‬
‫َّ‬
‫جلميع األفكار الغرب َّية(‪.)1‬‬
‫إل‬
‫عل الدائرة الفلسف َّية‪ .‬ويذهب هايدغر ى‬ ‫هذا يف حني َّ‬
‫أن هذه الفهم للحقيقة ال يقترص ى‬
‫االستنتاج قائال‪:‬‬
‫تم تثبيت هذا التبدل يف ذات احلقيقة منذ فرتة طويلة‪ ،‬وال يبدو األمر غري‬‫‪ ...‬لقد َّ‬
‫كل يشء يف تاريخ العامل وصوالً إىل آخر املرحلة‬
‫متأصلة تسود َّ‬
‫متعارف‪ ،‬فهي واقع َّية ِّ‬
‫املعارصة(‪.)2‬‬
‫ترسخ هذا التبدل األفالطوين من احلقيقة بوصفها عدم خفاء إ ىل احلقيقة بوصفها‬
‫وهكذا َّ‬
‫تطابقا بني حتقق الظهور مع ظاهر الكائنات‪ ،‬إ ىل داخل مجيع أبعاد ومستويات حياتنا‪ ،‬بام يف‬
‫ذلك حياتنا التكنولوج َّية أيضا‪.‬‬
‫‪ 3 - 1‬عدم اخلفاء وانتقاد هايدغر لنظر َّية املعرفة األفالطون َّية‪:‬‬
‫إل‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫صحة ترمجة هايدغر لكلمة ألثيا ى‬ ‫عل َّ‬
‫إن الباحثني يف حقل التفكري اليوناين ال ُجيمعون ى‬
‫نتعرض إ ىل ذلك‬
‫يتجل نقد فريدلندر جا ًّدا للغاية‪ ،‬وسوف َّ‬ ‫ّى‬ ‫عدم اخلفاء‪ .‬ويف هذا الشأن‬
‫(‪)3‬‬

‫ملعنى عدم اخلفاء‪َّ ،‬إال أ َّنه ُيقده م‬


‫ى‬ ‫عل الرغم من َّ‬
‫أن هايدغر ال ُيقده م توضيحا إجياب ًّيا‬ ‫الحقا‪ .‬ى‬
‫املعنى‪َّ .‬‬
‫إن هذه الدالالت حتوم حول‬ ‫ى‬ ‫عل االقرتاب من هذا‬
‫بعض الدالالت التي تساعد ى‬
‫حمور مفهوم احلضور(‪ .)4‬يقول هايدغر‪ :‬عندما نكون يف احلضور من الكائنات‪َّ ،‬‬
‫فإن جتاربنا لن‬
‫إل االعتقاد َّ‬
‫بأن أفالطون من خالل تعريف اإلدراك‬ ‫تنحرص باملفاهيم‪ .‬يذهب هايدغر ى‬

‫‪(1) Ibid. p. 232.‬‬


‫‪(2) Ibid. p. 237.‬‬
‫ذري أملاين ‪ -‬أمريكي‪ ،‬سبق له ْ‬
‫أن عمل يف مرشوع منهاتن‪.‬‬ ‫(‪ )3‬جريهارت فريدالندر (‪2009 - 1916‬م)‪ :‬عامل كيمياء ّ‬
‫هرب من أملانيا إ ىل الواليات امل َّتحدة األمريكيَّة إ ّبان احلقبة الناز َّية‪ .‬واصل دراستها يف أمريكا حتَّ ىى نال شهادة‬
‫املعرب‪.‬‬ ‫الدكتوراة‪ .‬وقام بتحقيقات جوهر َّية فيام يتع َّلق بمكانيك االنعكاسات ّ‬
‫الذر َّية‪ .‬ه‬
‫‪(4) anwesen / presence.‬‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪207‬‬

‫درك والذهن الذي ُي ِ‬


‫درك‪ُ ،‬يقده م ألُصول مجيع‬ ‫ونسب اإلظهار بني الكائن الذي ال ُي َ‬ ‫َ‬
‫حتول اإلدراك والتفهيم‬
‫مفهوم ّيات املستقبل والتي يتم طرحها يف إطار نظر َّية املعرفة‪ .‬وبذلك َّ‬
‫التخيل عن العنارص التارخي َّية للكائنات(‪َّ .)1‬‬
‫إن متثل وتصور‬ ‫ّ‬ ‫إ ىل ُأمور جوهر َّية يف ذاهتا‪َّ ،‬‬
‫وتم‬
‫كائن بقصد معرفته ُي َعد َحدَ ثا تارخي ًّيا وزمن ًّيا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن نتيجة التمثل األفالطوين ‪ -‬يف حده ذاهتا‬
‫عل العنارص‬ ‫ونفسها ‪ -‬غري تارخي َّية‪ُ .‬ير هكز هايدغر يف بحثه ى‬
‫عل أ َّنه ما دام ال يتم احلصول ى‬
‫التارخيية لـ حضور كائن ما‪َّ ،‬‬
‫فإن ذلك الكائن ال يمكن إخضاعه للتجربة بواسطة عدم اخلفاء‬
‫بشكل صحيح‪ .‬ومن هذه الزاوية َّاجتهت األبستيمولوج ّيات َّ‬
‫الالحقة ألفالطون يف الغالب‬
‫درك واليشء الذي يظهر‪ .‬يمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن الفلسفة‬ ‫نحو النظر إ ىل التمييز بني اليشء الذي ُي َ‬
‫دفعت ثمنا باهظا بسبب هذا االنحراف‪،‬حيث يتم جتاهل ُأسلوب تدخل حضور التاريخ يف‬
‫مسار الفهم واإلدراك‪.‬‬
‫عل الكائن املستور‪ ،‬ح َّت ىى ال يعود‬
‫يف مثال الغار األفالطوين هييمن عدم اخلفاء بالتدريج ى‬
‫إل‬
‫رى وخيضع ى‬
‫إن املوجود والكائن الذي ُي ى‬ ‫هناك أي أمر مستور يف البني‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إل التمييز بني‬
‫ثم يعمد هايدغر يف تفسريه ى‬
‫يتحول إ ىل يشء خارجي‪ّ .‬‬
‫َّ‬ ‫التجربة بحكم ما‪،‬‬
‫ّى‬
‫يتجل لإلنسان بوصفه مستقبال له‪ ،‬وبني التمظهر‬ ‫ظاهر(‪ )2‬املوجود‪ ،‬وهو الظاهر الذي‬
‫(‪)3‬‬

‫عل ظاهر(‪ .)4‬وعليه ال يمكن ‪ -‬من خالل هذه احلقيقة‬


‫الذي يسمح لذلك املوجود باحلصول ى‬
‫يتجل بواسطة ردود األفعال اإلدراك َّية واالنعكاسات الذهن َّية ‪ْ -‬‬
‫أن‬ ‫القائلة َّ‬
‫بأن ظاهر املوجود ّ ى‬
‫نصل إ ىل نتيجة مفادها َّ‬
‫أن ذلك املوجود قد وصل إ ىل ذروة متظهره بشكل كامل‪ .‬ويف احلقيقة‬
‫عل متظهر موجود وكائن ما‪ ،‬يشء‬ ‫يذهب (مارتني هايدغر) إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن املعرفة القائمة ى‬
‫أبعد من ذلك الذي تراه العني‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن الذي ُي َعد حاسام ومصري ًّيا يف املنظومة‬
‫الفكر َّية ألفالطون هو جتاهل هذه األنحاء واألبعاد غري الظاهرة‪.‬‬

‫‪(1) Ibid. p. 234.‬‬


‫‪(2) aussehen‬‬
‫‪(3) erscheinen / the appearance.‬‬
‫‪(4) Ibid. p. 214.‬‬
‫‪ ❖ 208‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بمعنى التمظهر الظاهري‪ ،‬خفض‬


‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن نتيجة مواجهة املثال األفالطوين مع عمد اخلفاء‬
‫ومعرف‪ ،‬وبذلك يغدو عدم اخلفاء مرتبط بالرؤية(‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫ومظهر‬
‫َّ‬ ‫مدرك‬
‫وجود املوجود إ ىل يشء َ‬
‫يذهب (تيد سادلر)(‪ )2‬إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن احلقيقة عند أفالطون تتأرجح ما بني احلدث األصيل‬
‫لعدم اخلفاء وصدق وصواب َّية الرؤية؛ ومن هنا تكون غامضة ومبهمة(‪َّ .)3‬‬
‫إن هايدغر ُيم هيز هنا‬
‫األول هو‪ :‬اإلدراك الذي ُيصل بواسطة الـ ‪ ،eidos‬والنوع‬
‫بني نوعني من الرؤية‪ ،‬النوع َّ‬
‫الثاين هو‪ :‬الرؤية البرص َّية التي يسندها إ ىل الرؤية الفلسف َّية أو التعقل‪ .‬يقوم ا هدعاء هايدغر‬
‫تتعاطى مع‬
‫ى‬ ‫عل رؤية شهود َّية‪ ،‬وهي رؤية‬
‫احليس لألشياء واألشكال يقوم ى‬ ‫عل َّ‬
‫أن اإلدراك ّ‬ ‫ى‬
‫الـ نوس واملثال‪ .‬ومع ذلك ك هله َّ‬
‫فإن كال هذين النوعني من الرؤية إ َّنام يتح َّقق يف النسبة ى‬
‫إل‬
‫سوى املثال األفالطوين(‪ .)4‬يزعم هايدغر َّ‬
‫أن هذه‬ ‫ى‬ ‫منشئهام األنطولوجي‪ ،‬وهذا املنشأ ليس‬
‫عل إبعاد فعل التحصيل واإلدراك عن منشئهام احلقيقي‬
‫النسبة موضع إشكال؛ إذ إ َّنه يعمل ى‬
‫إن ّ‬
‫كال من هذا الفعل ومنشأه ‪ -‬بعد‬ ‫والصائب‪ ،‬ونعني به احلضور التارخيي لعدم اخلفاء‪َّ .‬‬
‫مستوى حالة غري‬
‫ى‬ ‫أفالطون ‪ -‬إ َّنام خيضعان للتفكري ضمن قالب مفهومي خيفضهام إ ىل‬
‫تارخي َّية‪.‬‬

‫‪ - 2‬تفسري هايدغر يف بوتقة النقد‪:‬‬


‫لقد سعينا ح َّت ىى اآلن ‪ -‬من خالل إعادة قراءة الرسالة املفهوم َّية ألفالطون يف باب احلقيقة‬
‫عل‬
‫وعل هذا األساس يمكن القول ى‬ ‫ى‬ ‫عند هايدغر ‪ -‬إ ىل إظهار بعض عنارصها املحور َّية‪.‬‬
‫أسس لفهم خاص للحقيقة ‪ -‬قد عمد ‪ -‬من‬ ‫إن أفالطون ‪ -‬بوصفه شخصا قد َّ‬‫نحو اإلمجال‪َّ :‬‬
‫وجهة نظر هايدغر ‪ -‬إ ىل إحداث تغيري شامل يف إدراكنا وفهمنا للوجود‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪:‬‬

‫‪(1) sehen / see.‬‬


‫(‪ )2‬تيد سادلر (‪ - 1952‬؟ م)‪ُ :‬أستاذ حمارض يف الفلسفة من جامعة سيدين األُسرتال َّية‪ .‬من مؤ َّلفاته‪( :‬هايدغر‬
‫و ُأرسطوطاليس‪ :‬سؤال الوجود)‪ ،‬و(نايتزيتش‪ :‬احلقيقة واالنعتاق)‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫‪(3) Sadler, Ted (1996), Heidegger and Aristotle: The Question of Being, Humanities Press,‬‬

‫‪p. 137.‬‬

‫‪(4) Ibid.p. 226.‬‬


‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪209‬‬

‫اخلصيصة اجلوهر َّية لعدم اخلفاء يف الفهم امليتافيزيقي للحقيقة‪ ،‬ومع حتوِّلا‬
‫بسبب الغفلة عن ه‬
‫جمرد الصدق والتطابق‪ ،‬يتم طرد احلقيقة من منزِّلا احلقيقي املتم هثل بذات الكائنات‬
‫إ ىل َّ‬
‫عل تفسري أحد‬
‫واملوجودات‪ ،‬لتسكن يف القضايا التي تتحدَّ ث عن املوجودات‪ .‬وهذا ‪ -‬بناء ى‬
‫املختصني برشح هايدغر ‪ -‬هو التأثري التارخيي الذي يتحدَّ ث عنه هايدغر بوصفه حتريفا‬
‫ه‬
‫وانحرافا(‪ .)1‬طبقا الفرتاضنا يف هذا املقال ال ُي َعد فهم هايدغر للحقيقة األفالطون َّية تا ًّما‪،‬‬
‫فإن حكمه بشأن احلقيقة عند أفالطون يواجه بعض اإلشكاالت‪َّ .‬‬
‫وإن هذا اال هدعاء هو‬ ‫وعليه َّ‬
‫عل أساس مخسة هاجتاهات نقدية‪ ،‬وهي‬
‫نسعى إ ىل بيانه يف قسم نقد تفكري هايدغر‪ ،‬وذلك ى‬
‫ى‬ ‫ما‬
‫كاآلت‪:‬‬
‫‪ 1 - 2‬احلقيقة عند أفالطون ليست بمعنى التطابق فقط‪:‬‬
‫يف مقام نقد تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية يمكن لنا اال هدعاء بأ َّننا يف املنظومة‬
‫الفكر َّية ألفالطون ‪ -‬يف مواجهتنا للموجودات ‪ -‬نواجه شيئا يتخ ّط ىى َّ‬
‫جمرد اإلدراك واملعرفة‬
‫إن مواجهة األشكال واألجسام اجلميلة وسلوك الطريق ح َّت ىى‬ ‫الصحيحة واملتطابقة معها‪َّ .‬‬
‫األدنى ‪-‬‬
‫ى‬ ‫عل ما ُيثبِته أفالطون يف حماورة املأدبة يف احلده‬
‫الوصول إ ىل مثال اجلامل يفتح ‪ -‬ى‬
‫عى‪.‬‬
‫طريقا نحو بيان هذا املدَّ ى‬
‫ُيثبِت أفالطون يف حماورة املأدبة أ َّنه ى‬
‫عل الرغم من َّ‬
‫أن اللقاء مثال اجلامل‪ ،‬نتاج الـ نوس‬
‫عل هذا اللقاء يتم َّثل يف التجربة التي تبدأ‬ ‫واملثال‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن الطريق الوحيد حلصول الشخص ى‬
‫وتتسامى بالتدريج وتغدو أكثر صفاء وخلوصا‪ .‬وبعبارة‬
‫ى‬ ‫ثم تتعا ىل‬
‫برؤية األشكال اجلميلة‪ّ ،‬‬
‫األدنى ‪-‬‬
‫ى‬ ‫ْ‬
‫(وإن مل يكن كافيا) لفهم أحد األمثلة ‪ -‬يف احلده‬ ‫إن اجلسد رشط رضوري‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫وهو مثال اجلامل‪ .‬يقول أفالطون يف حماورة املأدبة‪:‬‬
‫ب رساج ًا حيكي عن أنواع اجلامل األريض‪ ،‬وكذلك إذا‬ ‫إن الذي جيعل من ُ‬
‫احل ِّ‬ ‫َّ‬
‫جعل من اجلامل ُس َّل ًام يصل بواسطته إىل اهلدف والغاية درجة درجة‪ ،‬عندها سوف‬
‫يصل من اجلامل إىل مجالني‪ ،‬ومن هناك يصل إىل مجال اجلسم والبدن‪ ،‬وبشك ٍل ٍّ‬
‫عام‬

‫‪(1) Bernasconi, Robert (1989), The Question of Language in Heidegger’s History of Being,‬‬

‫‪Humanities Press, p. 17.‬‬


‫‪ ❖ 210‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يصل من هناك إىل مجال األخالق والسلوك احلسن أيض ًا‪ ،‬وحيث ينتقل من هذه‬
‫املرحلة سيصل إىل مجال العقل واحلكمة‪ ،‬ومن مجال العقل واحلكمة‪ ،‬يصل إىل مجال‬
‫معرفة املطلق َّ‬
‫والالّنائي‪ ...‬يا سقراط العزيز! عندها ستكون الدنيا مكان ًا مناسب ًا حلياة‬
‫اإلنسان‪ ،‬أي عندما يتم َّكن اإلنسان من مشاهدة ذات اجلامل بنفسه(‪.)1‬‬
‫األدنى من‬
‫ى‬ ‫أن الوصول إ ىل مرحلة لقاء اجلامل ال يمكن َّإال بعد جتربة املراحل‬
‫من الواضح َّ‬
‫اجلامل والتي يمكن إدراكها بواسطة األجسام‪ .‬وعليه بااللتفات إ ىل أ َّننا كائنات جسامن َّية َّ‬
‫فإن‬
‫بمعنى‬
‫ى‬ ‫حيس لألشياء اجلميلة‪،‬‬
‫جمرد إحساس وإدراك ّ‬ ‫جزءا من كامل جتربتنا للكامل هو َّ‬
‫يرى أفالطون َّ‬
‫أن من‬ ‫وعل هذا األساس ى‬
‫ى‬ ‫اخلطوة األُو ىل نحو الصعود إ ىل رؤية اجلامل املطلق‪.‬‬
‫احليس لألشكال‬
‫بني التجارب الالزمة والرضور َّية للتعا ىل نحو مثال اجلامل هو اإلدراك ّ‬
‫واألشياء اجلميلة‪ ،‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫فإن منشأ اجلامل يف األشكال اجلميلة هو املثال اجلميل‪.‬‬
‫إ ىل هنا يتم تأييد رأي هايدغر‪ .‬ولكن علينا االلتفات إ ىل َّ‬
‫أن املسار الذي يرسمه أفالطون‬
‫إل اإلدراك والفهم املتطابق مع األشياء‪ ،‬يشمل العشق‬
‫عل لقاء اجلامل‪ ،‬باإلضافة ى‬
‫للحصول ى‬
‫األدنى يف مورد عشق‬
‫ى‬ ‫احلقيقي لألشياء واألجسام اجلميلة أيضا‪َّ ،‬‬
‫إن هذا العشق ‪ -‬ويف احلده‬
‫احليس‪.‬‬
‫أسمى من اإلدراك ّ‬
‫ى‬ ‫اإلنسان اجلميل ‪ -‬يشء‬
‫أن هايدغر ُيق هلل هذا اللقاء ‪ -‬الذي يغدو ممكنا بواسطة األمثلة ‪ -‬إ ىل املفاهيم التي‬
‫يبدو َّ‬
‫تتحول احلقيقة إ ىل التطابق البحت بني اإلظهار (التمثيل)‬
‫َّ‬ ‫احليس‪ .‬وهكذا‬
‫نصنعها بإدراكنا ّ‬
‫أن أفالطون نفسه ال يعمل ع ىل‬‫والشكل الظاهري لليشء الذي يتم إدراكه‪ .‬هذا يف حني َّ‬
‫األدنى)‪ ،‬وبيان هذه‬
‫ى‬ ‫تعريف النسبة بني التجربة احلاصلة من األمثلة (مثال اجلامل يف احلده‬
‫إن مشاهدة‬ ‫احليس‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬ ‫التجربة بام هي انطباق وصدق بني القضايا واإلدراك ّ‬
‫احليس الصحيح واملتطابق‪ .‬وبذلك يمكن‬
‫جمرد اإلدراك ّ‬
‫أسمى من َّ‬
‫ى‬ ‫مثال اجلامل يستلزم شيئا‬
‫جمرد تطابق مدركاتنا مع ظواهر األشياء‬
‫عل َّ‬ ‫أن نستنتج َّ‬
‫أن احلقيقة عند أفالطون ال تقترص ى‬ ‫لنا ْ‬
‫يف دائرة القض َّية‪.‬‬

‫عيل فروغي‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أفالطون‪ ،‬ضيافت (املأدبة)‪ ،‬ص ‪ ،50‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ّ :‬‬
‫حممد ّ‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪211‬‬

‫‪ 2 - 2‬تقليل مثال اخلري األفالطوين يف تفسري هايدغر‪:‬‬


‫يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن اخلري مثال مجيع األمثلة‪ ،‬واملنشأ األخري إلمكان َّية‬
‫عل خفض مثال اخلري بنحو من‬ ‫إن هايدغر يعمل من خالل هذا التفسري يف الواقع ى‬ ‫الرؤية(‪َّ .)1‬‬
‫فِّس آل َّيته يف املنظومة األفالطون َّية بإمكان َّية رؤية املوجودات‪ ،‬وتبعا لذلك إمكان َّية‬
‫األنحاء‪ ،‬و ُي ه‬
‫فإن هايدغر من خالل اعتباره إطالق دور اآلغاتون ‪ -‬بوصفه مثال‬ ‫إدراكها‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬
‫يسعى إ ىل إظهار صورة مفهوم َّية كاملة وثابتة عن الفلسفة‬
‫ى‬ ‫املُ ُثل يف مسار معرفة األُمور ‪-‬‬
‫األفالطون َّية‪ .‬ومن البدهيي َّ‬
‫أن احلقيقة ‪ -‬يف هذه املنظومة ‪ -‬إ َّنام تظهر نفسها حيث تنطبق‬
‫األُمور يف ضوء نور مثال اخلري مع َ‬
‫املدركات واملفاهيم الناجتة عنها‪ .‬األمر اآلخر َّ‬
‫أن الذهاب‬
‫إ ىل هذه احلقيقة القائلة َّ‬
‫بأن اآلغاتون يمنح مجيع الكائنات صورة قابلة لإلدراك‪ ،‬ال ينتج عنه‬
‫قوة متنح إمكان َّية اإلدراك‪ .‬ومن خالل هذا التفسري نعود جمدَّ دا إ ىل نقد‬
‫جمرد َّ‬ ‫َّ‬
‫أن اآلغاتون َّ‬
‫أن هايدغر يذهب إ ىل القول َّ‬
‫بأن عدم اخلفاء عند أفالطون‬ ‫أن ذكرنا َّ‬
‫هايدغر ألفالطون‪ .‬سبق ْ‬
‫يندرج حتت انقياد عامل املُ ُثل‪ ،‬وبذلك َّ‬
‫يتعرض الوجود لضائقة مفهوم َّية ‪ -‬وهي املفهوم َّية‬
‫املحدودة بذاهتا بفهم ظاهر اليشء ‪ -‬ويتم حتديده‪ .‬لو س َّلمنا َّ‬
‫بأن اآلغاتون عند أفالطون‬
‫ُيم هثل شأنا أبعد من التعاطي املرتبط بإمكان َّية اإلدراك‪َّ ،‬‬
‫فإن رأي هايدغر سوف يسقط عن‬
‫االعتبار من هذه الناحية(‪ .)2‬ومن هنا كان بمقدور هايدغر يف تفسريه لتمثيل كهف أفالطون‬
‫أن يقول َّ‬
‫بأن احلقيقة عند أفالطون تشمل ح َّت ىى الصدق والتطابق بني اإلدراك‬ ‫األقىص ْ‬
‫ى‬ ‫يف احلده‬

‫‪(1) Heidegger, Martin (1975), Ibid, p. 230.‬‬

‫(‪ )2‬أفالطون‪ ،‬األعامل الكاملة‪ ،‬ترمجها إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬


‫حممد حسني لطفي‪ ،‬ص ‪.508‬‬

‫إن من بني األد َّلة ى‬


‫عل عدم متام َّي ة تفسري هايدغر للحقيقة عند أفالطون‪ ،‬جتاهل اختالف آراء أفالطون بشأن مفهوم‬ ‫َّ‬
‫عل سبيل املثال يمكن اإلشارة إ ىل اختالف رأي أفالطون حول مثال اخلري يف حماورة‬
‫واحد يف حماوراته‪ .‬من ذلك ى‬
‫فيلبوس باملقارنة بام جاء يف كتاب اجلمهور َّية‪ .‬طبقا لرأي هايدغر‪:‬‬
‫وعل حده ذاته يف عامل وراء عامل الوجود‪ ،‬بل‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫«إن اخلري الذي هو اجلامل يف الوقت نفسه‪ ،‬ال وجود له يف مكان مستقل‬
‫وجوده يكمن يف ه‬
‫كل يشء ننظر إليه بوصفها تركيبا مجيال‪ ...‬ويبدو َّ‬
‫أن تلك الوحدة ومتام َّية ذات الظهور هي التي‬
‫عل‬
‫يرى يف هذا االختالف دليال ى‬ ‫متنح القوام للخري‪ .‬رغم َّ‬
‫أن هايدغر من خالل التفسري الذي ُيقده مه الحقا ال ى‬
‫حدوث تغري يف تعليامت أفالطون»‪.‬‬
‫‪ ❖ 212‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫جمرد هذا النوع من الصدق فقط؛ ومن‬


‫احليس والشكل الظاهري لألشياء أيضا‪ ،‬ال َّأّنا تشمل َّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫هنا يتم تضعيف هذا احلكم من ق َبل هايدغر أيضا‪ ،‬إذ يقول َّ‬
‫بأن رواية أفالطون لعدم اخلفاء‬
‫عل خفض الوجود‪.‬‬
‫تعمل ى‬
‫ه َّية بالغة أيضا‪َّ .‬‬
‫إن غادامري‬ ‫ُيظى بأ ّ‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن نقد غادامري(‪ )1‬لفهم هايدغر ملثال اخلري يف البني‬
‫عرب عن اخلري دائام بكلمة الفكرة أو املثال‪ ،‬وليس بكلمة ايدوس‪ ،‬فإ َّنه‬
‫حيث جيد أفالطون ُي ه‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن مثال اخلري‬ ‫أن مثال اخلري خيتلف عن املُ ُثل األُ ى‬
‫خرى‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬ ‫يستنتج من ذلك َّ‬
‫فِّس هذا التعال‬ ‫عل سائر املُ ُثل األُ ى‬
‫خرى‪ ،‬وإ َّنه يقع وراء الوجود‪ .‬لقد كان غادامري ُي ه‬ ‫يتسامى ى‬
‫ى‬
‫أن اخلري يصاحب مجيع الكائنات‬‫بمعنى َّ‬
‫ى‬ ‫عل أساس االختالف األنطولوجي(‪ِّ )2‬لايدغر‪،‬‬ ‫ى‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن اخلري ليس حضورا حمضا أو‬ ‫ى‬ ‫واملوجودات‪ ،‬ولكنَّه بنفسه غري موجود‪.‬‬
‫عل بنيته املعقولة يف نظر َّية تفصيل َّية(‪ .)3‬ومع ذلك َّ‬
‫فإن‬ ‫مثاال ثابتا أبدا‪ ،‬كي يمكن احلصول ى‬
‫بأن أفالطون رغم اعتباره اخلري أمرا وراء الوجود‪ ،‬ولكن جيب ْ‬
‫أن ال نعتربه‬ ‫غادامري ُيذ هكر َّ‬
‫أن اخلري أو مثال املُ ُثل نموذج جلميع املُ ُثل أو‬
‫يرى َّ‬
‫أمرا وراء التفكري كام صنع أفلوطني ‪ .‬فهو ى‬
‫(‪)4‬‬

‫أن اخلري ينقل انفتاحه إ ىل حد ما إ ىل سائر املُ ُثل‬ ‫مصدر لوجود سائر املُ ُثل‪ .‬كام ُيؤ هكد ى‬
‫عل َّ‬
‫خرى‪ :‬إذا كانت احلركة أو اخلفاء وعدم اخلفاء الذات خريا‪ ،‬فعندها لن‬ ‫خرى‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬ ‫األُ ى‬
‫أي بيان أو تفسري قطعي بشأن اخلري‪ .‬ويف مثل هذه احلالة يبدو َّ‬
‫أن‬ ‫يكون من املمكن تقديم ه‬
‫أن املُ ُثل‬
‫يرى غادامري َّ‬ ‫إن احلركة ستكون ذات َّية بالنسبة إ ىل املُ ُثل األُ ى‬
‫خرى‪ .‬ى‬ ‫باإلمكان القول‪َّ :‬‬
‫املتعالية‪ ،‬من قبيل‪ :‬الوجود والعدم‪ ،‬احلقيقة واجلامل‪ ،‬وما إ ىل ذلك‪ ،‬هي ُم ُثل اخلري‪ ،‬أي ُمت هثل‬
‫إن هذه املُ ُثل ليست متع َّلقا حمضا للنظرية أبدا‪ ،‬وإ َّنام هي ُأصول‬
‫والسمو‪َّ .‬‬
‫ه‬ ‫نوعا من التعال‬

‫(‪ )1‬هانز جورج غادامري (‪ 2002 - 1900‬م)‪ :‬فيلسوف أملاين‪ .‬اشتهر بعمله الشهري‪( :‬احلقيقة واملنهج)‪ ،‬وكذلك‬
‫املعرب‪.‬‬
‫بتجديده يف النظر َّية التفسري َّية (اِّلرمنيوطيقا)‪ .‬ه‬
‫‪(2) ontological difference‬‬
‫‪(3) Wachterhauser, B. (1999), Beyond Being, Gadamer’s Post.Platonic Hermeneutic‬‬

‫‪Ontology, Evanston, Northwestern University Press, p. 180.‬‬

‫‪(4) Gadamer, Hans – Georg (1986), The Idea of the Good in Platonic – Aristotelian‬‬

‫‪Philosophy, New Haven, Yale University Press p. 28.‬‬


‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪213‬‬

‫أن ذات تلك املوجودات ليست أشياء مستق َّلة‬


‫كل موجود‪َّ .‬إال َّ‬
‫عل تعني ه‬
‫أنطولوج َّية تعمل ى‬
‫وعل هذا األساس يمكنه اال هدعاء بأ َّنه ال‬
‫ى‬ ‫وال ح َّت ىى أشياء مثال َّية‪ ،‬بل هي تقع وراء الوجود‪.‬‬
‫عل املطابقة واحلضور بدال من احلقيقة‪.‬‬ ‫يوجد أي تأكيد ُأحادي يف تفسري أفالطون للحقيقة ى‬
‫يذهب غادامري إ ىل االعتقاد بإمكان َّية التعرف يف ديالكتيك املُ ُثل ى‬
‫عل ناحية االنفتاح لـ ألثيا‬
‫إل التفسري‬
‫عل هذا األساس‪ ،‬وبااللتفات ى‬‫التي يتم بياّنا يف لوغوس بشكل رصيح ‪ .‬ى‬
‫(‪)1‬‬

‫اخلاص ِّلايدغر‪ ،‬يمكن ْ‬


‫أن نصل‬ ‫ه‬ ‫اخلاص الذي ُيقده مه غادامري عن مثال اخلري‪ ،‬يف قبال الفهم‬
‫ه‬
‫إ ىل نتيجة مفادها‪ :‬أ َّن احلقيقة ‪ -‬من وجهة نظر أفالطون ‪ -‬مقرونة بالصدق واملطابقة وعدم‬
‫اخلفاء معا‪.‬‬
‫‪ 3 - 2‬استبدال الديالكتيك األفالطوين بالديالكتيك اهليجل‪:‬‬
‫يرى أفالطون َّ‬
‫أن الفلسفة هي الديالكتيك‪ ،‬ولذلك ال يمكن احلصول‬ ‫يف تفسري هايدغر ى‬
‫إل‬
‫يرى طريق الوصول ى‬ ‫أن هايدغر ى‬ ‫عل احلقيقة َّإال بوساطة من لوغوس(‪ .)2‬هذا يف حني َّ‬ ‫ى‬
‫احلقيقة خمتلفا بالكامل عن املسار األفالطوين املتم هثل بلقاء احلقيقة‪ .‬يزعم هايدغر َّ‬
‫أن للفلسفة‬
‫طريقا عقل ًّيا(‪ )3‬مبارشا إ ىل احلقيقة‪ ،‬ومن هنا تصل الفلسفة يف حتققها إ ىل مساحة وراء لوغوس‬
‫والديالكتيك يف التعاطي والتفاعل اخلالص للرؤية(‪َّ .)4‬‬
‫إن لفعل الرؤية انتساب تام وكامل مع‬
‫الظاهرات َّية‪ ،‬والس ّيام مع ذلك النوع من علم الظاهرات الذي هيتم به هايدغر‪َّ .‬‬
‫إن الظاهر‬
‫ويبقى مستورا من نواح ُأخر ىى‪َّ ،‬‬
‫وإن هذا التنازع بني إظهار‬ ‫ى‬ ‫عل إظهار نفسه‪،‬‬
‫يعمل من جهة ى‬
‫اخلفي واملستور(‪ .)5‬ويف هذا‬
‫ه‬ ‫عل إظهار األمر‬
‫الذات والبقاء يف االحتجاب هو الذي يعمل ى‬

‫‪(1) Ibid. p. 16.‬‬


‫زينيل مهرآباد‪ ،‬زهراء‪ ،‬جايگاه اخالق در هرمنوتيک گادامر (مكانة األخالق يف هرمنيوطيق غادامري)‪ ،‬جم َّلة‪:‬‬
‫پژوهشهاي فلسفي (أبحاث فلسفي َّة)‪ ،‬العدد‪ ،13 :‬ص ‪.134 - 129‬‬
‫‪(2) logos‬‬
‫‪(3) noetic access‬‬
‫‪(4) Lonescu, Cristiana, A Theory of Virtue: Excellence in Being for the Good, in Dialogue,‬‬
‫‪Vol 49, Issue 2, 2010, p. 322.‬‬
‫‪(5) J. Gonzalez, Francisco (2009), Plato and Heidegger: A Question of Dialogue,‬‬
‫‪Philadelphia: Penn State Press, p. 30.‬‬
‫‪ ❖ 214‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل الرغم من َّ‬


‫أن هايدغر هبذا النوع‬ ‫املقام ّ ى‬
‫تتجل احلقيقة بوصفها أمرا واضحا وغري مستور‪ .‬ى‬
‫يبقى‬
‫يسعى دائام لكي يظهر لنا طريقا غري ديالكتيكي‪ ،‬يبدو أ َّنه ى‬
‫ى‬ ‫من التوصيف لظهور احلقيقة‬
‫اخلفي وغري املستور ‪ -‬يف تفكري‬
‫ه‬ ‫كام كان يف دائرة الديالكتيك األفالطوين؛ إذ إ َّن لألمر‬
‫إل احلقيقة‪َّ .‬‬
‫إن املراتب التي يواجهها‬ ‫أفالطون ‪ -‬سهام ها ًّما يف املسار الديالكتيكي للوصول ى‬
‫الشخص املحبوس يف الغار ‪ -‬يف متثيل كهف أفالطون‪ ،‬حيث يواصل مسريه من دائرة‬
‫الظلمة إ ىل النور ‪ُ -‬تؤ هيد هذا اال هدعاء‪ .‬طبقا لتفسري غونزالس‪:‬‬
‫حيرص هايدغر الديالكتيك بفهم هايدغر له‪ ،‬وكأ َّنه ُي ِّ‬
‫فَّس احلقيقة األفالطون َّية من‬
‫إن األمر املبهم يف الديالكتيك اهليجل يندرج ضمن‬
‫زاوية الديالكتيك اهليجل‪َّ .‬‬
‫لوغوس ‪ -‬الواصل إىل املقام املطلق‪ ،‬وانعكس يف ذاته‪ ،‬ومن هنا فإ َّنه ال يستعل [عىل‬
‫ما هو عليه] ‪ -‬ويصبح تابع ًا له‪ ،‬ومن هنا يسعى الفهم الديالكتيكي [اهليجل] إىل‬
‫يف‬ ‫(‪)1‬‬
‫أن اإلهبام والغموض أو (األبوريا)‬
‫إزالة الغموض واإلهبام‪ .‬هذا يف حني َّ‬
‫املنظومة الفكر َّية ألفالطون‪ ،‬أمر ذايت ورضوري(‪.)2‬‬
‫ومن هنا يمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن هايدغر قد عمد إ ىل تفسري احلقيقة عند أفالطون من خالل‬
‫اخلفي‬
‫َّ‬ ‫عل الديالكتيك اِّليجيل‪ ،‬وهو ه‬
‫االجتاه الذي يتجاهل األمر‬ ‫نوع من ه‬
‫االجتاه القائم ى‬
‫واملستور‪ .‬هذا يف حني َّ‬
‫أن للعبة التقابل بني الوضوح واخلفاء من أجل الوصول إ ىل احلقيقة ‪-‬‬
‫يف الديالكتيك األفالطوين ‪ -‬دورا حيو ًّيا‪.‬‬
‫‪ 4 - 2‬اختالف معنى الوجود عند أفالطون وهايدغر‪:‬‬
‫يسعى هايدغر يف رسالته الزمان والوجود(‪ )3‬إ ىل التفكري بـ الوجود بمعزل عن‬
‫ى‬
‫يرى التفكري يف الوجود والزمان مرتبط‬
‫املوجودات ‪ .‬ومع ذلك فإ َّنه يف هذه الرسالة ى‬
‫(‪)4‬‬

‫ببعضه‪ ،‬ويقول‪َّ :‬‬


‫إن التفكري حول أحدها بمعزل عن اآلخر والنسبة القائمة بينهام غري ممكن‪.‬‬

‫‪(1) aporia‬‬
‫‪(2) Ibid. pp. 265 - 266.‬‬
‫‪(3) Zeit und Sein.‬‬
‫‪(4) Sein ohne das seiende / being without beings‬‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪215‬‬

‫إن الوجود والزمان يتع َّينان بحيث يقابل أحدها اآلخر(‪َّ .)1‬‬
‫إن إفالطون يف‬ ‫وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫يرى َّ‬
‫أن املايض واملستقبل‬ ‫املتحركة لألبد َّية‪ .‬وهو ى‬
‫ه‬ ‫سمي الزمان بـ الصورة‬
‫حماورة تياموس ُي ّ‬
‫أن ننسبهام إ ىل الوجود الِّسمدي‪َّ .‬‬
‫إن الوجود الِّسمدي ثابت‬ ‫أجزاء من الزمن‪ ،‬وال يصح َّ‬
‫عل ما هو عليه‪ ،‬ومن هنا ال يكون عرضة ألي من احلاالت التي ُتؤ هثر‬
‫ويبقى ى‬
‫ى‬ ‫متحرك‬
‫ه‬ ‫وغري‬
‫يرى الوجود بمعناه‬ ‫املتحركة واملحسوسة ‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬إ َّن أفالطون ى‬
‫(‪)2‬‬
‫ه‬ ‫عل األُمور‬
‫ى‬
‫يرى الوجود منفصال عن الزمن‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن هايدغر‬ ‫باملرة‪ ،‬فهو ى‬
‫احلقيقي معزوال عن الزمان َّ‬
‫يرى الوجود زمن ًّيا بالكامل‪.‬‬
‫ى‬
‫أي الرأيني هو الصحيح؛ َّ‬
‫ألن هذا خارج عن موضوع هذا املقال‪ .‬وإ َّنام‬ ‫لسنا هنا بصدد بيان ه‬
‫إل‬
‫بحثنا يدور حول بيان االختالف اجلوهري بني هايدغر وأفالطون بشأن الوجود ونسبته ى‬
‫عل أفالطون‪:‬‬ ‫الزمان‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر من خالل تفسريه املختلف للزمان‪ ،‬يقول يف االعرتاض ى‬
‫تأمل منذ البداية يف الوجود بمعنى احلضور يف عدم‬‫إن التفكري الوحيد الذي َّ‬‫َّ‬
‫اخلفاء‪ ،‬يمكنه اعتبار حضور األُمور احلارضة بوصفها مثاالً(‪.)3‬‬
‫عل احلضور ‪ -‬بااللتفات إ ىل قرب هذه املفردة من الزمان ‪ -‬يف مواجهة‬ ‫َّ‬
‫إن تأكيد هايدغر ى‬
‫تفكري أفالطون‪ ،‬ال صلة له برؤية أفالطون يف حقل الزمان‪ ،‬أو بعبارة أفضل‪ :‬ال مكان‬
‫عل هايدغر‬
‫وعل هذا األساس كان ى‬‫ى‬ ‫للزمان بوصفه حضورا يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون‪.‬‬
‫بدال من التعرض إ ىل ما مل يقله أفالطون ْ‬
‫أن يأخذ بنظر االعتبار الفهم املختلف ألفالطون‬
‫عن الوجود‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر يف تفسريه للحقيقة ونسبتها إ ىل الوجود يف تفكري أفالطون ينسب‬
‫أي موقع يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون‪.‬‬
‫موارد إ ىل أفالطون ليس ِّلا َّ‬
‫‪ 5 - 2‬ليس لتفسري هايدغر لـ ألثيا اعتبار مطلق‪:‬‬
‫لقد وجد باول فريدالندر(‪ )4‬يف تفسري هايدغر للحقيقة ما يستحق النقد من عدَّ ة جهات‪،‬‬

‫‪(1) Heidegger, Martin (2007), Zeit und Sein in Zur Sache des Denkens, vittorio klostermann,‬‬
‫‪p. 28.‬‬
‫(‪ )2‬سلسلة أعامل أفالطون‪.1847 ،‬‬
‫‪(3) Heidegger, Martin (2007), Ibid, p. 17.‬‬
‫‪(4) Paul Friedlaender.‬‬
‫‪ ❖ 216‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل سبيل القطع َّ‬


‫أن (‪ )alethes‬مبن َّية من‬ ‫أحدها‪ :‬خالفا لرأي هايدغر ليس هناك ما ُيؤ هكد ى‬
‫عل النفي) و(‪ .)lanthanein‬األمر اآلخر ح َّت ىى إذا‬
‫تركيب (‪( )a‬التي تدل يف اللغة اليونانية ى‬
‫واملؤ هلفني‬ ‫(‪)2‬‬
‫وهسيودوس‬ ‫(‪)1‬‬
‫كان األمر كذلك َّ‬
‫فإن هذه املفردة مل تكن عند هومريوس‬
‫عل ثالثة‬ ‫بمعنى املستور‪َّ .‬‬
‫إن هذه الكلمة ‪ -‬طبقا لتحقيق فريدالندر ‪ -‬حتتوي ى‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫الالحقني‬
‫معاين أصلية‪ ،‬وهي كاآلت‪:‬‬
‫‪ - 1‬الصواب وصدق القول واالعتقاد (األبستيمولوجيا)‪.‬‬
‫‪ - 2‬حقيقة الوجود (األنطولوجيا)‪.‬‬
‫‪ - 3‬األصالة والصدق والوجدان الشخيص (الوجود َّية)(‪.)3‬‬
‫أن هذه األوجه الثالثة من الـ ألثيا قد اجتمعن يف‬ ‫الناحية األُ ى‬
‫خرى من نقد فريدالندر هي َّ‬
‫فهم أفالطون للحقيقة‪ .‬ففي مثال الغار ُيم هثل الصعود من الغار صعودا يف مراتب الوجود‬
‫إن أفالطون من‬‫إن الذي يريد هايدغر قوله هو‪َّ :‬‬
‫واملعرفة‪ ،‬وهذا ما عجز هايدغر عن فهمه‪َّ .‬‬
‫عل جتاوز املعاين األُ ى‬
‫خرى‬ ‫خالل اعتباره احلقيقة بوصفها مصابقة وصدق اإلدراك‪ ،‬يعمل ى‬
‫للحقيقة‪ ،‬وإذا حصل وبرزت هذه املعاين يف بعض املوارد‪ ،‬فهذا يعود سببه ‪ -‬من وجهة نظر‬
‫يتعرض له أفالطون‪ .‬وأخريا َّ‬
‫إن هايدغر من خالل‬ ‫هايدغر ‪ -‬إ ىل الرتدد والغموض الذي َّ‬
‫تفسري احلقيقة بوصفها عدم اخلفاء ال ي ِ‬
‫بعدها عن خماطر الذهن َّية احلديثة؛ وذلك َّ‬
‫ألن عدم‬ ‫ُ‬
‫لدى شخص ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫اخلفاء إ َّنام هو عدم اخلفاء ى‬

‫(‪ )1‬هومريوس (حوال القرن الثامن قبل امليالد)‪ :‬شاعر ملحمي إغريقي ُأسطوري‪ُ ،‬يع َتقد أ َّنه مؤ هلف امللحمتني‬
‫بأن هومريوس شخص َّية تارخي َّية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن الباحثني‬ ‫القدامى َّ‬
‫ى‬ ‫اإلغريقيتني‪( :‬اإللياذة) و(األُوديسة)‪ .‬وقد آمن اإلغريق‬
‫ويرى (مارتن وست)‬
‫ى‬ ‫املتأخرين ُيش هككون يف ذلك؛ إذ ال تتو َّفر ترمجات موثوقة حلياته باقية من احلقبة الكالسيكية‪.‬‬
‫ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫جمرد اسم خمتلق‪ .‬ه‬ ‫َّ‬
‫أن هومريوس ليس اسام لشاعر تارخيي‪ ،‬وإ َّنام هو َّ‬
‫صور عرص حكم‬
‫(‪ )2‬هسيودوس أو هسيود أو هزيود (ما بني القرن الثامن والسابع قبل امليالد)‪ :‬شاعر إغريقي شهري‪َّ ،‬‬
‫االرستقراط َّية يف بالد اإلغريق‪ .‬وقد أمدَّ تنا األشعار التي نظمها ببعض املعلومات الضئيلة عن نسبه وأصله‬
‫وشخص َّيته‪ .‬كتب هسيودوس العديد من األسا طري واألناشيد والقصائد يف العصور القديمة‪ ،‬وكانت أعامله بمثابة‬
‫املعرب‪.‬‬
‫مرجع للتاريخ‪ ،‬وكانت له أعامل خالدة‪ .‬ومن قصائده‪( :‬األعامل)‪ ،‬و(األ ّيام)‪ ،‬و(أنساب اآلِّلة)‪ .‬ه‬
‫‪(3) Inwood, Michael (1999), A Heidegger Dictionary, Blackwell Publishers Ltd,pp. 14 - 15.‬‬
‫‪(4) Ibid.‬‬
‫عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ ‪217‬‬

‫االستنتاج‪:‬‬
‫يسعى إ ىل إثبات‬
‫ى‬ ‫ملعنى احلقيقة عند أفالطون‬
‫ى‬ ‫واخلاص‬
‫ه‬ ‫إن هايدغر من خالل فهمه التقلييل‬ ‫َّ‬
‫أن الوجود حيث تكون له نسبة إ ىل احلقيقة فإ َّنه‬ ‫رؤيته بشأن الك ّل َّية امليتافيزيق َّية‪ ،‬فهو ى‬
‫يرى َّ‬
‫جمرد املطابقة يتم تصور الوجود واملوجود شيئا واحدا‪ ،‬وبذلك يتم‬
‫بسبب تقليل احلقيقة إ ىل َّ‬
‫جتاهل االختالف بني الوجود واملوجود طوال تاريخ الفلسفة‪ ،‬والتبعة يف ذلك ك هله تقع ى‬
‫عل‬
‫عاتق أفالطون‪ .‬إ َّنه من خالل تسمية هذه القض َّية التارخيية بـ التحريف األفالطوين ‪ -‬رغم‬
‫ه‬
‫املتأخرة من تفكريه جرب َّية وتابعة إ ىل الطريقة التقدير َّية‬ ‫اعتباره هذا التحريف يف املرحلة‬
‫وعل هذا األساس‬
‫ى‬ ‫عل طرح مفهوم التخريب امليتافيزيقي‪.‬‬ ‫النكشاف الوجود ‪ -‬يعمل ى‬
‫معنى احلقيقة عنده‪.‬‬
‫ى‬ ‫ه َّية بحث قراءة هايدغر آلراء أفالطون‪ ،‬والس ّيام‬
‫تتضاعف أ ّ‬
‫عل عنارص تفسري هايدغر‪ ،‬يغلب هذا الظن‬ ‫طبقا لالنتقادات التي قدَّ مناها يف هذا املقال ى‬
‫عل آراء أفالطون‪.‬‬
‫أن هايدغر يف تفسري أفالطون مل يكن يمتلك إطاللة شاملة وكاملة ى‬‫القوي ع ىل َّ‬
‫اخلاصة‬
‫َّ‬ ‫إل نتيجة مفادها َّ‬
‫أن حصيلة القراءة‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫فإن هذا اال هدعاء ال ُيؤ هدي بالرضورة ى‬
‫أي صلة بآراء هذا الفيلسوف اإلغريقي‪ .‬بل يمكن القول أيضا‪:‬‬ ‫ِّلايدغر عن أفالطون ليس ِّلا َّ‬
‫خرى واخلافية من فلسفة أفالطون‪.‬‬
‫أل ى‬‫تتجل إمكان َّية تظهري النواحي ا ُ‬
‫من خالل تفسري هايدغر ّ ى‬
‫عل ا هدعاء هايدغر ر َّبام كان أفالطون قد شكَّ ل بداية االنحرافات التي‬ ‫ومع ذلك فإ َّنه بناء ى‬
‫أن هذا اال هدعاء ال ُي ِثبت َّ‬
‫أن املفاهيم الفلسفية ومن‬ ‫شخصها هايدغر يف تاريخ فلسفة الغرب‪َّ ،‬إال َّ‬
‫َّ‬
‫تعرضت للجنوح‬ ‫بينها مفهوم احلقيقة والوجود يف ذات املنظومة الفكر َّية ألفالطون قد َّ‬
‫األدنى ‪ -‬مل ُيقده م يف هذا الشأن أد َّلة ُتؤ هيد هذا اال هدعاء بشكل‬
‫ى‬ ‫واالنحراف‪ ،‬أو َّ‬
‫أن هايدغر ‪ -‬يف احلده‬
‫ملعنى احلقيقة والوجود‬
‫إل فهم حمدود وتقلييل ى‬ ‫فإن ذهاب الفالسفة ال َّالحقني ى‬
‫رضوري ومنطقي‪َّ .‬‬
‫إل هذا الفهم املحدود ِّلذه املعاين أيضا‪ .‬ومن‬
‫أن أفالطون نفسه كان يذهب ى‬ ‫ال يستلزم بالرضورة َّ‬
‫جمرد‬
‫إل َّ‬
‫معنى احلقيقة ى‬
‫ى‬ ‫وإن خفض‬ ‫أن مواجهة هايدغر ألفالطون تقليل َّية‪َّ ،‬‬ ‫هذه الناحية يبدو َّ‬
‫الصدق واملطابقة قبل ْ‬
‫أن تكون بشأن مستندات آراء أفالطون إ َّنام تنشأ من إرادة هايدغر نفسه من‬
‫أجل تسمية جممل التاريخ الفكري الغرب بوصف امليتافيزيق الغرب‪ ،‬وهو التاريخ الذي عجز ‪-‬‬
‫بزعم هايدغر ‪ -‬منذ أفالطون فالحقا عن مواجهة احلقيقة بوصفها عدم اخلفاء‪.‬‬

‫* * *‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬218

:‫املصادر‬
.‫عيل فروغي‬ ّ :‫ ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‬،50 ‫ ص‬،)‫ ضيافت (املأدبة‬،‫أفالطون‬
ّ ‫حممد‬
ّ :‫ ترمجها إ ىل اللغة الفارسيَّة‬،‫ األعامل الكاملة‬،‫أفالطون‬
‫حممد حسني لطفي‬
:‫ جم َّلة‬،)‫ جايگاه اخالق در هرمنوتيک گادامر (مكانة األخالق يف هرمنيوطيق غادامري‬،‫ زهراء‬،‫زينيل مهرآباد‬
.134 - 129 ‫ ص‬،13 :‫ العدد‬،)‫پژوهشهاي فلسفي (أبحاث فلسفيَّة‬
Heidegger, Martin (1975), ‘Platons Lehre von der Wahrheit‘, in Wegmarken,
vittorio klostermann.
Heidegger, Martin (1962), Being and Time, translated by Macquarrie, John &
Robinson, Edward, San Francisco: Harper.
Heidegger, Martin (1982), On the Way to Language, translated by D. Hertz,
Peter, San Francisco: Harper.
Sadler, Ted (1996), Heidegger and Aristotle: The Question of Being,
Humanities Press.
Bernasconi, Robert (1989), The Question of Language in Heidegger’s History
of Being, Humanities Press.
Wachterhauser, B. (1999), Beyond Being, Gadamer’s Post.Platonic
Hermeneutic Ontology, Evanston, Northwestern University Press.
Gadamer, Hans – Georg (1986), The Idea of the Good in Platonic – Aristotelian
Philosophy, New Haven, Yale University Press.
Lonescu, Cristiana, A Theory of Virtue: Excellence in Being for the Good, in
Dialogue, Vol 49, Issue 2, 2010,.
J. Gonzalez, Francisco (2009), Plato and Heidegger: A Question of Dialogue,
Philadelphia: Penn State Press.
Heidegger, Martin (2007), Zeit und Sein in Zur Sache des Denkens, vittorio
klostermann.
Inwood, Michael (1999), A Heidegger Dictionary, Blackwell Publishers Ltd.

* * *
‫مصطلح األصالة‪ :‬مدخل إىل نقد ماركسي هلايدغر‬
‫(‪)2()1‬‬

‫(‪)3‬‬
‫غريي ستال‬

‫مهمة استئصاِّلا‪ .‬واألصالة تعبري خاص يف اللغة‬ ‫مصطلح األصالة آفة اجتامع َّية ّ ى‬
‫تول أدورنو َّ‬
‫االصطالح َّية املشرتكة بني هايدغر وعدد من السياس هيني َّ‬
‫والالهوت هيني والعقائد هيني املحافظني‪.‬‬
‫انتزع هذا املصطلح من قضايا االستياء االجتامعي‪ ،‬وذلك من خالل إعطاء الشعور املعارص‬
‫بالقوى‬
‫ى‬ ‫معنى صياغة غري تارخي َّي ة‪ .‬فكتابات هايدغر التي حتاول إخفاء عالقاهتا امللتبسة‬ ‫َّ‬
‫بالال ى‬
‫بعدوى اإلقحام األيديولوجي لأللفاظ التي‬
‫ى‬ ‫الرجع َّية املوجود َّية فقط(‪ ontical )4‬مصابة‬
‫بأن عبارة أصالة ُمت هثل‬
‫هترب هايدغر من مسؤول َّية الزعم املوروث َّ‬
‫عل الغموض‪ .‬لقد َّ‬
‫تزدهر ى‬
‫عقيدة إجياب َّية باحلياة الكريمة عندما أ َّكد أ َّنه يستعمل الكلمة بوصفها مصطلحا تقن ًّيا خاليا من‬
‫كل مبادئ‬ ‫معنى املزعوم للحياة ُيلغي َّ‬ ‫بأن َّ‬
‫الق َيم‪ ،‬ح َّت ىى أثناء استغالل سحرها‪ .‬واالعتقاد َّ‬ ‫ِ‬
‫الال ى‬
‫معني‪ .‬فكتاب أدرنو‬‫كيف َّية العيش‪ ،‬ال ُيؤ هدي يف الواقع َّإال جلذب الناس إ ىل ُأسلوب عيش َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫ُُي هلل هذه العمل َّية التي تتم َّكن مفاهيم اللغة االصطالح َّية بموجبها من توفري ذريعة للتعامل‬

‫(‪ )1‬املصدر‪:‬‬
‫‪Gerry Stahl. “The Jargon of Authenticity: An Introduction to a Marxist Critique of‬‬

‫‪Heidegger” in Boundary 2, Vol. 3, No. 2, (Winter 1975), pp. 489 - 498.‬‬


‫ترمجة‪ :‬طارق عسييل‪.‬‬
‫(‪ )2‬متس احلاجة قبل قراءة وفهم هذه املقالة‪ ،‬إ ىل اال هطالع ى‬
‫عل الكتاب املعروف لثيودور أدرنو يف نقد مارتن هايدغر‪،‬‬
‫أي‪.»the Jargon of Authenticity« :‬‬
‫‪(3) Gerry Stahl‬‬
‫(‪َ )4‬ث َّم ة متييز بني ميدان الوجود وميدان املوجود‪ ،‬أي بني الوجودي (‪ ،(ontology‬واملوجودي (‪ ،)ontic‬فاألنطولوجي‬
‫معطى‪.‬‬
‫ى‬ ‫يرجع إ ىل ما جيعل املوجود موجودا‪ ،‬أي يرجع إ ىل تركيبه األسايس‪ ،‬أ َّما املوجود فيشمل املوجود كام هو‬
‫‪(5) Adorno‬‬
‫‪ ❖ 220‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن ُج َّل ما تفعله هذه املفاهيم هو‬


‫جذر ًّيا مع القضايا احليات َّية واالجتامع َّية والفلسف َّية‪ ،‬يف حني َّ‬
‫رأى أدورنو َّ‬
‫أن ظهورها‬ ‫باملحتوى املطلوب‪ .‬وقد ى‬
‫ى‬ ‫استبدال هالة الكلامت املثقلة بالدالالت‬
‫الزائف أ ّد ىى إ ىل طعن مفاجئ بكتاب هايدغر الوجود والزمن وبالوجود َّية التي يدعو إليها‪.‬‬
‫ألن ُأسلوبه‬
‫إن قراءة أدورنو من املمكن َّأال تثري اإلعجاب يف البداية؛ َّ‬
‫وعل العكس َّ‬ ‫ى‬
‫هيدف بالتحديد الجتناب االلتزام الطائش باألفكار‪ .‬ومع ذلك ما قاله أدورنو كان فيه‬
‫االستعجال الذي يكون يف العادة وه ًّيا يف كتابات هايدغر‪َّ .‬‬
‫إن نقد أدورنو ِّلايدغر الذي‬
‫يستأصل املصطلحات الِّسطان َّية من أجل جتنب االهتاممات التي باتت حتمل يف ط ّياهتا بذور‬
‫فشلها‪ ،‬يرتبط مبارشة بموضوع تطو ر فلسفة ما بعد احلداثة املعارصة‪ .‬واملقالة التي نراجعها‬
‫اخلاصة للغة ما هي َّإال مقدّ مة للمواجهة بني‬
‫َّ‬ ‫حساس َّية أدورنو وهايدغر‬
‫والتي تتمحور حول ّ‬
‫فالسفة القرن العرشين املثريين لالهتامم‪.‬‬
‫الذوق بالنسبة ألدورنو جيب ْ‬
‫أن يكون مكتسبا وهو مفيد بشكل خاص كونه ُيش هكل‬
‫ّ‬
‫األقل هذا ما اختربته‪ .‬فمنذ سنوات‬ ‫عل‬
‫مدخال ألكثر أعامله إثارة‪ :‬مصطلح األصالة ‪ ،‬ى‬
‫(‪)1‬‬

‫عندما كنت يف هيدلربغ(‪ )2‬أدرس الفلسفة األُوروب َّية السائدة يف عرصي‪ ،‬وهي فلسفة مارتن‬
‫عل الفور‪ ،‬والواضح أ َّنه‬
‫عل كتاب أدورنو األزرق الرفيع فأثار اهتاممي ى‬
‫هايدغر‪ ،‬وقع نظري ى‬
‫أهم نقد متاح ِّلايدغر‪ .‬يف احلقيقة كان مم َّيزا يف هذا املجال‪َّ ،‬‬
‫ألن الدراسة اجلدّ َّية‬ ‫كان ُيوي ّ‬
‫متعذرة بسبب السياقات السياسية التي ُق ِر َئت فيها‪ ،‬وكذلك بسبب‬ ‫ه‬ ‫لكتابات هايدغر كانت‬
‫مهمة التفسري غري النقدي‪،‬‬
‫غموض النصوص‪ .‬ففي حني كان بعض أتباع هايدغر يتابعون َّ‬
‫كان الوضعيون يستهزئون هبايدغر ويعتربونه تافها‪ ،‬وكان املاركسيون خيلطون بينه وبني‬
‫مفِّسون آخرون‪.‬‬
‫عل دمج املقاصد التي أخطأ يف فهمها ه‬
‫سارتر‪ .‬لكن أدورنو عمل ى‬
‫يتعامل أدورنو مع فكر هايدغر بجدّ َّية‪ ،‬وبطريقة مثمرة بشكل خاص‪ ،‬ونقد َّية لكن ليس‬
‫بإيامن‪ ،‬و ُي هبني َّ‬
‫أن ابتكاراته الفلسف َّية تتناقض مع النتائج االجتامع َّية لتعقيداهتا‪.‬‬
‫سعيت لرتمجة نقد أدورنو للجمهور األمريكي‪ ،‬اقرتحت طباعته يف‬
‫ُ‬ ‫عندما‬

‫‪(1) The Jargon of Authenticity.‬‬


‫‪(2) Heidelberg‬‬
‫مصطلح األصالة‪ :‬مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ ‪221‬‬

‫املتطورة فوق‬
‫ه‬ ‫أن وجدت َّ‬
‫أن األملان َّية‬ ‫‪ ،Northwestern University Press‬وبعد ْ‬
‫الالحقون هبا للحفاظ‬ ‫أن أبالغ يف تقدير املهارة التي عمل املرتمجون َّ‬
‫قدرات‪ ،‬فإ َّنني أستطيع ْ‬
‫عل مجال ومضمون ما كتبه أدورنو‪ .‬وعندما رجعت إ ىل أملانيا كان كتاب ‪ Jargon‬برفقتي‪،‬‬
‫ى‬
‫ثم ازداد اهتاممي‬ ‫وانضمت إليه ُك ُتب أدورنو األُ ى‬
‫خرى‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ورسعان ما أخذ مكانه يف مكتبتي‬
‫وحسه اجلامل‪ .‬ويف حماولتي الراهنة لفهم وتقييم البديل الذي‬
‫ه‬ ‫بفكره الفلسفي ونقده الثقايف‬
‫عرفه ماركس وهايدغر يف الفلسفة األملان َّية ما بعد اِّليغل َّية‪ ،‬ما زال كتاب أدورنو يلعب الدور‬
‫َّ‬
‫املركزي‪.‬‬
‫عل تطوري الفكري‪ ،‬كان ملوضوعه‬ ‫َّ‬
‫إن كتاب ‪ Jargon‬الذي ترك بعض التأثري العريض ى‬
‫عالقة َّأول َّية بالعمل الذي ُيش هكل ثمرة عمر أدورنو‪ .‬لذلك عوضا عن حماولة إعادة صياغة‬
‫كتاب أدورنو‪ ،‬وبالتال إخفاء ما هو فريد فيه‪ ،‬فإ َّنني س ُأراجع يف هذا املقام السياق األوسع‬
‫وهو عالقة أدورنو هبايدغر‪ ،‬وس ُأشري إ ىل املنظور غري التقليدي الذي اضطلع به أدورنو طوال‬
‫نشاطه النقدي‪ ،‬كام س ُأشري إ ىل مركز َّية نقد أدورنو‪.‬‬

‫املنظومة الفكريَّة ألدورنو‪:‬‬


‫األربعون سنة ون هي ف من اهتامم أدورنو بالفينومينولوجيا وهبايدغر‪ ،‬بدأت خالل سنوات‬
‫الدراسة‪ ،‬وش َّكلت أساسا لبعض حمادثاته مع هوكهيمر وبنجمني ‪ّ ،‬‬
‫ثم بلغت ذروهتا‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫عندما بلغ العرشين يف ُأطروحة الدكتوراة عن هِّسل (‪ . )1924‬فيام بعد َّ‬


‫تطور نقد‬ ‫(‪)3‬‬

‫فنومنولوجيا هِّسل وصيغ ببعض املصطلحات الديالكتيك َّية يف كتاب ما بعد نقد نظر َّية‬
‫املعرفة(‪ .)5()1956()4‬الذي يعالج ُأصول عدد من املشاكل التي أشار إ ىل وجودها أدورنو‬

‫‪(1) Horkheimer‬‬
‫‪(2) Benjamin‬‬

‫‪(3) ‘Die Transcendence des Dinglichen und Noematischen in Husserls Phaenomenologie‘,‬‬

‫‪Gesammelte Schriften, 1 (Frankfurt: Suhrkamp, 1970).‬‬

‫‪(4) Zur Metakritik der Erkenntnistheorie.‬‬

‫‪(5) Gesammelte Schriften 5 (Frankfurt: Suhrkamp, 1970).‬‬


‫‪ ❖ 222‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل هايدغر‪َّ ،‬‬


‫فإن الكتاب‬ ‫أيضا عند تلميذ هِّسل (هايدغر)‪ .‬وباالنتقال إ ىل تأثري كبري آخر ى‬
‫األول ألدورنو (‪ُ )1()1932‬يم هثل طعنة لألنطولوجيا الوجود َّية تستهدف كريكغارد‪ ،‬مصدر‬
‫َّ‬
‫وجود َّية هايدغر؛ واملقدّ مة التي كتبها رشوير(‪ )2‬لرتمجة كتاب ‪ Jargon‬تستنتج هذه العالقة‪.‬‬
‫ر َّبام كانت السلسلة املؤ َّلفة من ثالث مقاالت‪ ،‬والتي ُأ هلفت بعد وقت قصري من نرش‬
‫هايدغر لكتاب الوجود والزمن‪ ،‬أكثر ما يثري االهتامم من بني كتابات أدورنو املب هكرة؛ لكن‬
‫مؤخرا يف املجموعة الكاملة ألعامل أدورنو التي ُن ِرشت‬‫هذه السلسلة مل تصبح متو هفرة َّإال َّ‬
‫بعد وفاته‪ .‬املقالة األُو ىل‪ :‬خطاب التدشني التخطيطي حول أ ّ‬
‫ه َّية الفلسفة(‪ ،)3‬الذي ُألقي عام‬
‫‪ 1931‬عندما رشع أدورنو بالتدريس‪ ،‬ناقش فيه وضع الفلسفة املعارصة وق َّيم الفشل الراهن‬
‫ه َّية التي نسبتها إ ىل هايدغر‪،‬‬
‫للمدارس املختلفة‪ .‬لفتت هذه املحارضة األنظار َّأوال بسبب األ ّ‬
‫وثانيا بسبب نظرهتا الشمول َّية إ ىل ا هدعاءاته‪ .‬هنا يتعامل أدورنو مع ثالث أمثلة لرضورة فشل‬
‫تم رفض عنرص التعاطف يف كتاب الوجود‬
‫إنجازات هايدغر باإليفاء بام وعد به يف خطاباته‪َّ :‬‬
‫والزمن من أجل بداية جديدة جذر َّية من خالل ترسيخ إشكال َّيته يف سياق املأزق الذي وصل‬
‫تبني َّ‬
‫أن صالبة روح هايدغر املا ّد َّية املعادية‬ ‫إليه سيمل ‪ ،‬وريكرت ‪ ،‬وهِّسل‪ ،‬وشلر؛ وقد َّ‬
‫(‪)5‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫للمثال َّية قد ظهرت من خالل طريقته املنهج َّية وعرضه يف الوجود والزمن؛ لقد فهم أدورنو‬
‫إل الذات َّية املحضة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن اِّلروب باعتزاز من ميتافيزيقا الذات ‪ -‬املوضوع هو حتول ى‬
‫َّ‬
‫إن بحث أدورنو حول فكرة التاريخ الطبيعي (‪ ،)6()1932‬الذي صدر بعد عام‪ ،‬يدرس‬
‫عل الفور ‪ -‬باعتباره‬
‫مفهوم التارخيان َّية عند هايدغر ‪ -‬وهو بحث يثري العصب املاركيس ى‬
‫مالءمة كاذبة بني التاريخ والطبيعة‪ ،‬وبني الكيانات األبد َّية واحلقائق اإلمكان َّية‪ .‬فالنظر َّية‬
‫التارخي َّية األنطولوج َّية ال تستطيع إنجاز تفسري كاف للوجود َّإال إذا ّت َّلت عن التوجه نحو‬

‫‪(1) Kierkegaard. Konstruktion des Aesthetischen (Frankfurt: Suhrkamp, 1962).‬‬


‫‪(2) Schroyer‬‬
‫‪(3) ‘Die Aktualitaet der Philosophie‘, Gesammelte Schriften, 1.‬‬
‫‪(4) Simmel‬‬
‫‪(5) Rickert‬‬
‫‪(6) ‘Die Idee der Naturgeschichte‘, Gesammelte Schriften 1.‬‬
‫مصطلح األصالة‪ :‬مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ ‪223‬‬

‫الكيانات اإلمكان َّية لصالح تفسريات ُأصول َّية لواقع َّية املوجودات من حيث تعيناهتا ضمن‬
‫التاريخ االجتامعي املا ّدي‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬أ َّن كتاب ُأطروحة حول لغة الفيلسوف ألدورنو (‪ )1()1930‬ينتقد ابتكارات‬
‫يرى أدورنو يف حتليله َّ‬
‫أن‬ ‫هايدغر اللغو َّية جلهة التفكري بالرشوط التارخي َّية للكتابة الفلسفية‪ .‬ى‬
‫َّ‬
‫استغل‬ ‫االبتكار يف اللغة االصطالح َّية عند هايدغر يفر من التاريخ لكنَّه ال يفلت منه‪ .‬فقد‬
‫وأعطى املفاهيم‬
‫ى‬ ‫املستوى مفرتضا ِّلا صدقية غري تارخي َّية‬
‫ى‬ ‫هايدغر لغة اصطالح َّية عالية‬
‫التارخي َّية صفة إطالق َّية ضمن مصري الوجود الذي ال يتأ َّثر بالسياق االجتامعي‪ .‬وبالتال‬
‫عل الشعراء‪،‬‬‫ورغم شغفه بالتالعب باأللفاظ ومعرفته ب ُأصول الكالم وتارخيه‪ ،‬وثنائه ى‬
‫إل‬
‫وتبجيله للغة كوسيط تارخيي للوجود‪ ،‬كان هايدغر م َّتهام يف كتابات أدورنو بافتقاره ى‬
‫باملحتوى االجتامعي للغة‪ ،‬وهذا الفشل هو الذي تركه عرضة إلغواء مصطلح‬
‫ى‬ ‫احلس اجلامل‬
‫ه‬
‫األصالة وإقليم َّيته غري املنعكسة‪ .‬ويف توقع أدورنو ملنهج كتاب ‪ Jargon‬ختم مقالته حول‬
‫كل أنطولوجيا مض هللة عن طريق النقد اللغوي‪.‬‬
‫اللغة بالقول جيب فضح ه‬
‫بيد َّ‬
‫أن كتاب جدل التنوير (‪ )2()1944‬الذي كتبه مع ماكس هوركهايمر أثناء احلرب‪،‬‬
‫مهمة مع كتابات هايدغر‪ ،‬رغم أ َّنه مل يرش أبدا إ ىل الوجود َّية‪ ،‬واألنطولوجيا‪،‬‬
‫عرض مقارنات َّ‬
‫أو للمتحده ثني األساس هيني باسمهام‪ .‬كان مرشوع تتبع مفهوم العقل من املرحلة املاقبل‬
‫سقراط َّية إ ىل العرص التكنولوجي من جهة النصوص الفلسف َّية واألدب َّية أساس ًّيا ملحاولة‬
‫أدورنو فهم الشكل املعارص من العقالن َّية‪ ،‬التي بلغت ذروهتا يف الفاش َّية‪ .‬أ َّما بالنسبة ملقاالت‬
‫فإّنا تشرتك بنفس اِّلدف‪ .‬تشري هذه املقارنة إ ىل َّ‬
‫أن اخلالف الذي‬ ‫هايدغر يف نفس املرحلة َّ‬
‫عل الرغم‬
‫الرؤى الكون َّية املتباينة؛ لكن ى‬
‫ى‬ ‫عرب عنه يف كتاب ‪ Jargon‬ليس تبادال للشتائم بني‬
‫َّ‬
‫عل‬
‫عل االهتاممات الراهنة للفلسفة‪ ،‬وكذلك ى‬ ‫من ِّلجة أدورنو اجلدل َّية فإ َّنه ي َّتفق مع هايدغر ى‬
‫مهمة‪ .‬تقول األُطروحة التي ُيؤ هكد عليها‬
‫بعض املسائل املنهج َّية‪ .‬ومع ذلك هناك فروقات َّ‬
‫القدَ م مصحوبة بـ نزع‬‫إن العملية التارخيية لتشكيل الذات كانت منذ ِ‬ ‫كتاب جدل التنوير‪َّ :‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬

‫‪(1) ‘Thesen ueber die Sprache des Philosophen‘ , Gesammelte Schriften 1.‬‬

‫‪(2) Dialectic of Enlightenment, with Max Horkheimer (New York: Seabury, 1972).‬‬
‫‪ ❖ 224‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫احلجة الواضحة ضدَّ األنطولوجيا‪،‬‬


‫َّ‬ ‫والقوى االجتامع َّية‪ ،‬وهي‬
‫ى‬ ‫الذات َّية من خالل العالقات‬
‫التي ال يمكن ْ‬
‫أن تعا لج مفاهيم اإلنسان والوجود فيها التداخل األسايس يف التاريخ‬
‫جمردا‪.‬‬
‫االجتامعي للمفهوم الذي ترتكه املفاهيم األنطولوج َّية َّ‬

‫فهم أدورنو هلايدغر‪:‬‬


‫يربط أدورنو تطور العقالن َّية وعالقة األُسطورة بالتنوير وشؤون ُأ ى‬
‫خرى خمتلفة يتشارك فيها‬
‫وعل النقيض من ذلك يعتقد‬
‫ى‬ ‫مع هايدغر بتحليل ماركس لعالقات اإلنتاج الرأسامل َّية‪.‬‬
‫هايدغر باألولو َّية الصارمة لتطور املقوالت األنطولوج َّية‪ .‬هذا االختالف يف القصد يوحي‬
‫َّ‬
‫بأن أدورنو كان يتحدَّ ث عن نفسه كام كان يتحدَّ ث عندما وصف موقف بنجامني جتاه‬
‫هايدغر‪ .‬وباإلشارة إ ىل رفض بنجمني وهايد غر املشرتك للتجريد املثال والتعميم الشكيل‬
‫عل َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ُيؤ هكد أدورنو ى‬
‫االختالفات األساس َّية بني الفالسفة كانت تنشأ دائ ًام من فوارق بسيطة‪َّ ،‬أما‬
‫أن عالقة بنجامني‬‫التناقض الشديد فهو التشابه الذي يظهر يف مراكز ُأخرى‪ ،‬بيد َّ‬
‫بأيديولوج ييات (الواقع) املقبولة راهن ًا ليست خمتلفة‪ .‬لقد نظر (بنجامني) من خالهلا‬
‫جمرد قناع للتفكري املفاهيمي يف أحسن األحوال‪ ،‬وبنفس الطريقة أيض ًا رفض‬
‫بوصفها َّ‬
‫جمرد مقتطفات بقيت بعد زوال‬
‫املفهوم األنطولوجي الوجودي للتاريخ بوصفه َّ‬
‫حقيقة اجلدل التارخييط(‪.)1‬‬
‫يسعى أدورنو تكرارا لكشف املركز وتسليط الضوء عليه‪ ،‬إ َّنه املركز الذي تزدهر عليه‬
‫ى‬
‫ه َّية لنسق أفكار هايدغر‪َّ .‬‬
‫إن فهم‬ ‫حتليالت هايدغر وشعب َّيتها‪َّ ،‬‬
‫ألن هذا املركز ُيعطي شكال وأ ّ‬
‫زودنا بمنشأ‬
‫عالقة هذا املركز باملجتمع ‪ -‬النشاط الشخيص ِّلايدغر بطريقة غري مبارشة ‪ُ -‬ي ه‬
‫الرأي السيايس لفلسفة هايدغر‪ .‬غري َّ‬
‫أن هذه املقاربة من خصائص العمل النقدي ألدورنو‪.‬‬
‫فوفقا لنظر َّيته اجلامل َّية ليس انسجام املضامني الفرد َّية للعمل الفنّي مع تأثريات اجتامع َّية مع َّينة‬

‫‪(1) ‘A Portrait of Walter Benjamin’ (1950), Prisms, (London: Neville Spearman, 1967), p.‬‬
‫‪231.‬‬
‫مصطلح األصالة‪ :‬مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ ‪225‬‬

‫فِّس امليزة التقدم َّية أو الرجع َّي ة ِّلذا العمل‪ ،‬بل الطريقة التي يستجيب فيها هذا‬
‫هو الذي ُي ه‬
‫عل سبيل املثال يكتب أدورنو يف رسالة لوولرت‬
‫العمل للعالقات االجتامع َّية السائدة‪ .‬ى‬
‫بنجامني‪:‬‬
‫أنا ال أرى مالئمة منهج َّية يف إعطاء اخلصائص الفرد َّية البارزة التي تنتمي إىل‬
‫حقل البنية الفوق َّية دور ًا ما يديا من خالل ربطها مبارش ًة‪ ،‬ور َّبام سببيا‪ ،‬بخصائص البنية‬
‫إن احلتمية املا يد َّية للمعامل الثقاف َّية ال تكون مكنة َّإال إذا حت َّققت عن‬
‫التحت َّية املناسبة‪َّ .‬‬
‫طريق توسط العمل َّية االجتامع َّية الك يل َّية(‪.)1‬‬
‫تستمر التفسريات الفلسف َّية ألدورنو وفقا للمبادئ ذاهتا‪ ،‬فالتعامل مع كتاب هايدغر مل‬
‫يتم ببساطة وال بطريقة حتم َّية‪ ،‬فال هو مرفوض ك ّل ًّيا باعتباره أيديولوجيا برجواز َّية‪ ،‬وال هو‬
‫ّ‬
‫تستثنى‬
‫ى‬ ‫مستقال‪ ،‬بل إ َّنه مفهوم بوصفه امليدان الذي يمكن ْ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫مقبول بدون نقد باعتباره تأمال‬
‫ألي حقيقة ‪ -‬إذا ُأتيح ِّلا الظهور ‪ْ -‬‬
‫أن‬ ‫القوى العاملة يف املجتمع‪ ،‬والذي يمكن فيه ه‬ ‫ى‬ ‫منه‬
‫القوى بطريقة أو ب ُأ ى‬
‫خرى‪.‬‬ ‫ى‬ ‫تكون مرشوطة بالرضورة بتلك‬
‫يتكشف َّإال‬
‫أن َّ‬‫أن تغلغل العالقات االجتامع َّية إ ىل منظومة هايدغر ال يمكن ْ‬
‫من الواضح َّ‬
‫فهم كغايات يف ذاهتا‪،‬‬ ‫كيل للقضايا الفلسف َّية‪ ،‬لكن هذه القضايا ال يمكن ْ‬
‫أن ُت َ‬ ‫من خالل فهم ّ‬
‫خلص أدورنو منهج َّية التفسري‬
‫للقوى االجتامع َّية‪ .‬فقد َّ‬
‫ى‬ ‫وهذا يعني وجوب إعادة بناء حقل‬
‫الفلسفي هذه أثناء تكريم صديق صباه سيغفريد كراكور(‪ )2‬بقوله‪:‬‬
‫يف املستقبل إذا سمحت لنفيس أثناء قراءيت للنصوص الفلسفية أن تكون ي‬
‫أقل تأثر ًا‬
‫بوحدهتا وترابطها املنهجي‪ ،‬ويف املقابل شغلت نفيس بتنافس القوى التي أ َّثر بعضها‬
‫كل عقيدة مغلقة واعتربت الفلسفات املقنَّنة كام يف ِّ‬
‫كل حالة‬ ‫ببعض حتت سقف ِّ‬
‫قوة‪ ،‬بالتأكيد يكون كراكور هو الذي أهلمني هبذا(‪.)3‬‬
‫حقول َّ‬

‫‪(1) A letter to Benjamin (November 10, 1938), New Left Review, 81 (October 1973), p. 71.‬‬
‫‪(2) Siegfried Kracauer.‬‬
‫‪(3) ‘Der wunderliche Realist. Ueber Siegfried Kracauer‘ (1964), Noten zur Literatur III,‬‬
‫‪(Frankfurt: Suhrkamp, 1965), p. 84.‬‬
‫‪ ❖ 226‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫إن هذه املقاربة املنحرفة للفلسفة ‪ -‬التي تظهر بشكل خاص يف كتاب ‪ ،Jargon‬الذي‬
‫يربط هايدغر باملجتمع عن طريق وساطة لعبة اللغة املثقلة سياس ًّيا ‪ -‬جتعل نقد أدورنو‬
‫ِّلايدغر عسري الفهم‪.‬‬

‫نقد أدورنو هلايدغر‪:‬‬


‫عل هايدغر الذي كان متو َّقعا يف املقاالت املب هكرة‪،‬‬
‫جتنب أدورنو لسنوات اِّلجوم املبارش ى‬
‫نسب ِّلوركهايمر‪ ،‬مل تكن معهودة عن‬ ‫فاملقاربة املنهج َّية لكتاب جدل التنوير التي يمكن ْ‬
‫أن ُت َ‬
‫قىض معظم عمره اإلنتاجي يف تأليف مقاالت مر َّكزة‪ .‬نجد يف هذه الدراسات‬
‫أدورنو الذي ى‬
‫املهمة لكافكا‬
‫(‪)1‬‬
‫َّ‬ ‫عددا كبريا متناثرا من اإلشارات املرجع َّية ِّلايدغر‪ ،‬فمثال املناقشات‬
‫فِّست موضوعها واعتربته انتقادات شعر َّية ِّلايدغر‪ ،‬ويف‬ ‫(‪ )1953‬وبيكت (‪َّ ، )1961‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫عل املوت عرض‬


‫هذا إنكار واضح للقراءات الوجود َّية املألوفة‪ .‬لكن عندما شارف أدرنو ى‬
‫خصص كتاب اجلدل‬
‫فهمه للفلسفة بطريقة منهج َّية كان هايدغر حارضا يف مجيع فصوِّلا‪َّ .‬‬
‫السلبي (‪ ،)4()1976‬وهو الكتاب الوحيد املك َّثف الناضج املكتمل (باستثناء الرسالة العلم َّية‬
‫حول ألبن برغ)(‪َّ ،)5‬أول جزء من أجزائه الثالثة لكتاب أدورنو العالقة باألنطولوجيا‪ ،‬وهو‬
‫األهم بني هايدغر‬
‫ّ‬ ‫نقد ِّلايدغر ُيش هكل منطلقا لكتاب أدرنو ضدَّ النظام(‪ .)6‬ور َّبام كان التباين‬
‫رش بعد موته‪ .‬لكن‬‫ِ‬
‫عل كتاب أدورنو النظر َّية اجلامل َّية الذي ُن َ‬ ‫وأدرنو هو ذاك الذي يرتكز ى‬
‫(‪)7‬‬

‫قد يكون ِّلذه الدراسة بعض الصالت الواضحة التي ُيستفاد منها‪ .‬فلو درست النقاش‬

‫‪(1) Kafka‬‬
‫‪(2) ‘Notes on Kafka’ (1953), Prisms.‬‬
‫‪(3) Beckett, Versuch, das Endspiel zu verstehen Noten zur Literatur II, (Frankfurt:‬‬
‫‪Suhrkamp, 1961) .‬‬
‫‪(4) Negative Dialectics, (New York: Seabury, 1973).‬‬
‫‪(5) Alban Berg (1968), (New York: Viking), forthcoming.‬‬
‫‪(6) anti system.‬‬
‫‪(7) Aesthetische Theorie (incomplete, 1969), Gesammelte Schriften 7 (Frankfurt: Suhrkamp,‬‬
‫‪1970).‬‬
‫مصطلح األصالة‪ :‬مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ ‪227‬‬

‫الفن‬
‫ه‬ ‫أن تلحظ الرفض املشرتك لعلم اجلامل الذات ْ‬
‫وأن تق ّيم عالقة‬ ‫الفلسفي كان جيب ْ‬
‫وألن ذلك مل يتح َّقق َّ‬
‫فإن كتاب اجلدل السلبي(‪ )1‬وكتاب‬ ‫َّ‬ ‫باملجتمع يف النظر ّيات ذات الصلة‪.‬‬
‫املتفرع عنه‪ ،‬سيكونان مقبولني بوصفهام بيانات قاطعة لنقد أدورنو‬
‫ه‬
‫(‪)2‬‬
‫مصطلح األصالة‬
‫ِّلايدغر‪.‬‬
‫املهمة الراهنة للفلسفة هي تغيري التفكري الذات‬
‫َّ‬ ‫وفقا ملقدّ مة كتاب اجلدل السلبي َّ‬
‫إن‬
‫عل اهتامم‬
‫عل الذات العارفة تدل ى‬
‫القوة الذات َّية للشخص الناقد‪ .‬فأسبق َّية اجلوهر ى‬
‫بواسطة َّ‬
‫أن املنهج يمكن ْ‬
‫أن‬ ‫َّأول بالواقع‪ ،‬الذي ُش هوه برضورات الشمول َّية االجتامع َّية اجلرب َّية‪ .‬ورغم َّ‬
‫يتحدَّ د من خالل موضوع البحث‪ ،‬لكن التحليل ال يستمر بدون مفاهيم‪ .‬هذه الرضورة‬
‫الفلسف َّية تستلزم نقدا للرتاث الفلسفي‪ ،‬أي للمثال َّية األملان َّية وللنقد غري املالئم للمثال َّية من‬
‫عل جانب كبري‬
‫خالل الوضع َّية‪ ،‬والفينومينولوجيا والوجود َّية‪ .‬بينام سيطرت هذه األهداف ى‬
‫من النوايا املعلنة ِّلايدغر‪َّ ،‬‬
‫فإن هايدغر ‪ -‬وفقا ملا يقوله أدورنو ‪ -‬فشل كام فشل هِّسل قبله يف‬
‫التعامل الصحيح مع التعقيدات املتع هلقة بفهم الواقع‪.‬‬
‫ُي هبني أدورنو يف كتاب اجلدل السلبي كيف غفل املرشوع التبسيطي ِّلايدغر عن الواقع‪،‬‬
‫وهذا ما عزَّ ز ودعم فكرة الغموض املدروس‪َّ .‬‬
‫إن الدعائم الثالثة لنظام هايدغر ‪-‬‬
‫املوجودات‪ ،‬والوجود اإلنساين‪ ،‬والوجود‪ ،‬تتداخل فيام بينها شكل ًّيا فقط ‪ ،‬بدون أخذ‬
‫باالعتبار هيأهتا الفعل َّية التي ُحتده د مضموّنا‪ .‬التاريخ االجتامعي الواقعي الذي تتشابك‬
‫تطور فيه هذه الدعائم‪ ،‬بوصفها ديالكتيك َّية‪ ،‬وفقا ِّليغل وملاركس أيضا‪ّ ،‬تتفي من عرض‬
‫وت َّ‬
‫هايدغر‪ .‬وعيله َّ‬
‫فإن صورها الراهنة ليست واقعة يف التاريخ بشكل واضح‪ ،‬فهي بوصفها‬
‫يتحِّس عليها هايدغر يف‬
‫َّ‬ ‫وممجدة كام يعتقد أدورنو‪ .‬فالطمأنينة التي‬
‫َّ‬ ‫مقرة‬
‫أساس َّية وأبد َّية َّ‬
‫ه‬
‫املتأخرة ُي هبني أدورنو َّأّنا ليست عارضة‪ ،‬بل هي نتيجة ملقاربة املرشوع‬ ‫الغالب بكتاباته‬
‫األنطولوجي الذي يستثني املضمون االجتامعي من البداية‪.‬‬
‫إ َّن هذا النقد مثري لالهتامم‪ ،‬خصوصا َّ‬
‫ألن أدورنو كان أيضا م َّتهام بالعجز التطبيقي ‪،‬‬

‫‪(1) Negative Dialectics.‬‬

‫‪(2) The Jargon of Authenticity.‬‬


‫‪ ❖ 228‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل‬‫عل التأمل كان ر َّدة فعل ى‬ ‫أن ُجييب كام أجاب أدورنو َّ‬
‫أن تشديده ى‬ ‫وألن هايدغر يمكن ْ‬
‫َّ‬
‫تفوق النشاطات الرباغامت َّية الطائشة يف املجتمعات الراهنة‪ .‬الفرق بني الفلسفتني هو َّ‬
‫أن‬
‫قابل َّية التأثر يف نظام هايدغر وصلت إ ىل طريق مسدود‪ ،‬ومل تكن حلظة تصحيح َّية تلغي‬
‫تشوهات وقيود الفعل السيايس فحسب‪ .‬املنشأ الفلسفي لالختالف هو َّ‬
‫أن مقاربة هايدغر‬
‫تتفاعل ببساطة شديدة مع معضالت الفلسفة ما قبل اِّليغل َّية حماولة جتنب التوسط غري املثال‬
‫عل ديالكتيك هيغل‬
‫بني الذات واملوضوع‪ ،‬الفكر واملجتمع‪ ،‬النظر َّية والتطبيق‪ُ .‬يكم أدورنو ى‬
‫عرفه من حيث عدم تطابق الكلمة واملوضوع و ُيقده م تفسريات للوساطات أكثر‬
‫بالتطرف‪ ،‬و ُي ه‬
‫شمول َّية ح َّت ىى من هيغل‪ ،‬أ َّما هايدغر فقد ّت َّلف عن هيغل باعرتافه بواقع َّية اللغة والوجود‬
‫أي تأثري إنساين‬
‫جمرى التاريخ خارج نطاق ه‬
‫ى‬ ‫خارج تأثري هذا الواقع الذي ُيم هيزانه‪ ،‬وبرتكه‬
‫ممكن‪.‬‬
‫ِّلذه املسألة النظر َّية نتائج عمل َّية بالنسبة لفلسفة هايدغر حيث إ َّنه فشل يف تبيان عالقة‬
‫لغته باملجتمع‪ .‬وقد يكون فشل هايد غر يف التعامل املالئم مع السياق االجتامعي الراهن‬
‫أقوى هاهتامات أدورنو له‪ ،‬حيث ش َّكلت أنطولوجيا هايدغر ر ًّدا غري مالئم ى‬
‫عل‬ ‫ى‬ ‫للفلسفة‬
‫الظروف االجتامع َّية التي يشعر اإلنسان بالعجز أمامها‪ .‬فت َْح َت ستار اإلرادة الذات َّية تستحرض‬
‫وهم العجز‪ ،‬وبالتال ّتدم من هم يف السلطة‪ .‬بعد التوجه التصاحلي مل يفرتض استحضار‬
‫أي حل‪ ،‬وبالتال ساعد يف استمرار املشاكل األساس َّية‪ .‬ومن أجل‬
‫امللحة َّ‬
‫هايدغر للحاجة َّ‬
‫تعزيز األيديولوجيا املحافظة سعت مقاربة هايدغر الجتناب املسائل التي تشري إ ىل املجال‬
‫االجتامعي‪ ،‬وهو امليدان الذي يمكن ْ‬
‫أن يامرس املرء فيه بعض السيطرة املشرتكة‪.‬‬
‫عل خالف كتاب اجلدل السلبي الذي‬ ‫يتم َّيز كتاب مصطلح األصالة بشدَّ ة الرتكيز‪ ،‬ى‬
‫يتوجه إ ىل املفهوم األسايس يف جممل فكر هايدغر‪ ،‬ويبدو َّ‬
‫أن كتاب ‪ُ Jargon‬يق هيد نفسه يف‬ ‫َّ‬
‫أتى بنسق من االعتبارات املثرية لإلعجاب التي جيب‬
‫ه َّيته‪ ،‬رغم أ َّنه ى‬
‫جمال مشكوك بأ ّ‬
‫مراعاهتا‪ .‬ويف حني يتعامل كتاب ‪ Jargon‬بشكل هاميش مع مسألة الوجود عند هايدغر‪،‬‬
‫عل املصطلحات‬ ‫صوب مبارشة ى‬ ‫ه َّية لعقيدة اإلنسان املالزمة له‪ .‬كام أ َّنه ُي ه‬
‫تراه ُيول أ ّ‬
‫واملوضوعات التي هجرها هايدغر نفسه بعد كتاب الوجود والزمن‪ .‬وكذلك من بني املقاطع‬
‫مصطلح األصالة‪ :‬مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ ‪229‬‬

‫األربعة التي اشتمل عليها بحث أدورنو (تبدأ من الصفحات ‪ 92 ، 49 ،3‬و‪ ،)130‬يدور‬
‫األول حول املصطلحات التي تداوِّلا أسالف هايدغر وزمالؤه وأتباعه‪ ،‬وال يكاد يذكر‬
‫َّ‬
‫هايدغر نفسه‪ .‬أ َّما املقطع الذي يليه فإ َّنه يضع هايدغر يف هذا املشهد‪ ،‬لكنَّه يشري إ ىل َّ‬
‫أن‬
‫هايدغر ُيمي نفسه من هتمة اإلساءات التي ُتس هببها املصطلحات ح َّت ىى عندما يستغل‬
‫بح ّر َّية‬ ‫جاذب َّيتها‪ .‬والقسم اآلخر ُخ هصص ملفهوم األصالة‪ ،‬الذي مل يستعمله هايدغر َّ‬
‫مرة ثانية ُ‬
‫األول‪ .‬ويف الصفحات األخرية نجد َّ‬
‫أن خيار حتليل‬ ‫عل كتابه َّ‬
‫كبرية أبدا بعد ر َّدة الفعل ى‬
‫بحجة غري بدهي َّية تقول‪َّ :‬‬
‫إن اإلنسان‬ ‫َّ‬ ‫املوت باعتباره توضيحا ألُسلوب هايدغر ُيلزم أدورنو‬
‫أن يتغ َّلب ى‬
‫عل املوت يف تدبري اجتامعي مستقبيل‪ ،‬ح َّت ىى لو كان هذا ممكنا ‪ -‬وهو يف‬ ‫يمكن ْ‬
‫ه َّية التناهي بوصفه‬ ‫يبقى احتامال فارغا ‪َّ -‬‬
‫فإن هايدغر ال يزال يعرب عن أ ّ‬ ‫كتاب ‪ Jargon‬ى‬
‫ميزة أساس َّية من مم هيزات الوضع اإلنساين كام نعرفه‪ .‬وعندما ُير هكز أدورنو ى‬
‫عل النتائج‬
‫االجتامع َّية ملفاهيم األصالة واملوت عند هايدغر‪ ،‬يبدو أ َّنه ال يلتفت إ ىل الدور الذي تلعبه‬
‫هذه املفاهيم يف أنطولوجيا هايدغر؛ َّ‬
‫ألن الوجود األصيل ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت هو موقف أخالقي‬
‫يف منظومة هايدغر‪ ،‬لكنَّه ّ‬
‫أقل من رشط إلمكان َّية التأمل األنطولوجي الصحيح‪.‬‬
‫هكذا يبدو كتاب ‪ Jargon‬عرضة للنقد نفسه الذي ُو هجه للوجود والزمن‪ ،‬أي إ َّن التأثري‬
‫رب ره دليل افرتايض‪ .‬وكام نسب أدورنو شهرة كتاب هايدغر بشكل‬
‫عل القارئ ال ُي ه‬
‫الفعيل ى‬
‫كبري إ ىل املضامني األخالق َّية املستبعدة بشكل واضح من اخلطاب اإلبستيمولوجي‬
‫عل فلسفة هايدغر عندما ّتتار‬ ‫اِّلايدغري‪ ،‬يبدو َّ‬
‫أن بحث أدورنو يثري انطباعا بالقضاء التا هم ى‬
‫موضوعات عارضة فحسب بدون ْ‬
‫أن تفهم مضموّنا‪.‬‬
‫لكن عندما ننظر إ ىل حتليل هايدغر للوجود اإلنساين من منظور كتاب اجلدل السلبي‪،‬‬
‫فإ َّنه من أعراض حتقيقاته َّ‬
‫الالحقة حول األدوات‪ ،‬واألعامل الفنّ َّية‪ ،‬واألشياء والكلامت‬
‫وح َّت ىى الوجود بحده ذاته‪ .‬ووفقا لتفسري هايدغر ‪ -‬رغم َّ‬
‫أن لكيان اإلنسان واليشء والوجود‬
‫فإن التاريخ االجتامعي املا ّدي الذي تتأ َّثر ى‬
‫عل أساسه بعضها ببعض‬ ‫عالقة بعضها ببعض ‪َّ ،-‬‬
‫املعنى‬
‫ى‬ ‫املجر دة بقي خارج االعتبار‪ .‬يمكن إظهار هذا اخلطأ بنفس‬
‫َّ‬ ‫من خالل هذه العالقات‬
‫‪ ❖ 230‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫من جهة كتاب حتليل الـ دازاين(‪ )1‬املب هكر ِّلايدغر كام يف كتاب سؤال الوجود(‪ )2‬ه‬
‫املتأخر‪ ،‬ومن‬
‫األول‪ .‬باختصار َّ‬
‫إن اِّلجوم‬ ‫الواضح َّ‬
‫أن التبعات السياس َّية الناجتة عن الكتابني نتجت عن َّ‬
‫عل العنرص اللغوي من القسم األخالقي‬
‫االجتامعي املنحرف الذي شنَّه كتاب ‪ Jargon‬ى‬
‫املفرتض من فكر هايدغر املب هكر‪ ،‬نجح يف جعل عدد من اخلصائص املركز َّية ملنهج هايدغر‬
‫العا هم ونظامه إشكال َّية شاملة‪.‬‬
‫ه َّية أ َّن نقد أدورنو االجتامعي ِّلايدغر ال ينفصل عن نقده الفلسفي له‪ ،‬بل‬
‫واألكثر أ ّ‬
‫عل األبعاد االجتامع َّية جعل‬ ‫ُيؤ هكد ى‬
‫عل الفشل الفلسفي لفكر هايدغر‪ :‬عدم تركيز االهتامم ى‬
‫نتيجته عكس َّية‪ .‬وقد أ ّد ىى هذا الفشل اخلاص إ ىل مواجهة بني فلسفة هايدغر والنظر َّية‬
‫االجتامعية املاركس َّية النقد َّية‪ .‬وعندما يرسم أدورنو حدودا اجتامع َّية لفكر هايدغر فإ َّنه ال‬
‫ينبذ هايدغر‪ ،‬بل يوائم بني أهداف مفاهيم فلسفة هايدغر ومضموّنا االجتامعي‪ ،‬و ُيقده ر‬
‫رؤى هايدغر يف‬
‫فِّس ى‬ ‫املسافة بني مزاعمها وإنجازاهتا‪ .‬بعد ذلك فقط يمكن للامركس َّية ْ‬
‫أن ُت ه‬
‫القوى التقدم َّية والرجعية ملسار تفكري هايدغر الذي‬
‫ى‬ ‫اخلاص‪ ،‬وتفهم‬
‫ه‬ ‫سياق منهج املاركس َّية‬
‫ي َّتخذ موقعا اجتامع ًّيا مثمرا‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن االعرتاف بقيمة النقد املاركيس ِّلايدغر وحدوده هو خطوة رضور َّية ملالءمة آراء‬
‫الفن واملجتمع واحلقيقة‬ ‫ه‬ ‫ماركس‪ ،‬وهايدغر‪ ،‬وأدورنو النقد َّية مع املشاكل املرتبطة بتفسري‬
‫يسعى لرفض املوضوع َّية العلم َّية‬
‫ى‬ ‫التي برزت يف زمنهم‪ .‬لذا إذا كان الفكر مابعداحلداثي‬
‫عل أيدي هؤالء‬
‫عل حد سواء‪ ،‬فإ َّنه سيجد مطلبه فعال متقده ما جدًّ ا ى‬
‫والذات َّية الرومنطيق َّية ى‬
‫مهد الطريق للتوفيق بني‬ ‫املؤ هلفني الثالثة‪َّ .‬‬
‫إن كتاب ‪ُ The Jargon of Authenticity‬ي ه‬
‫مظاهر التطور عند هايدغر ومظاهر التطور يف الرتاث املاركيس غري الدوغامئي‪ ،‬ويعرض‬
‫متطور وحيوي‪.‬‬
‫ه‬ ‫القضايا املركز َّية يف نقاش‬

‫* * *‬

‫‪(1) Daseinsanalytik‬‬
‫‪(2) Seinsfrage‬‬
231 ❖ ‫ مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر‬:‫مصطلح األصالة‬

:‫املصادر‬
Adorno, T, ‘Die Transcendence des Dinglichen und Noematischen in Husserls
Phaenomenologie‘, Gesammelte Schriften, 1 (Frankfurt: Suhrkamp, 1970).
------------, Gesammelte Schriften 5 (Frankfurt: Suhrkamp, 1970).
------------, Kierkegaard. Konstruktion des Aesthetischen (Frankfurt: Suhrkamp,
1962).
------------, ‘Die Aktualitaet der Philosophie‘, Gesammelte Schriften, 1.
------------, ‘Die Idee der Naturgeschichte‘, Gesammelte Schriften 1.
------------, ‘Thesen ueber die Sprache des Philosophen‘ , Gesammelte Schriften
1.
------------, Dialectic of Enlightenment, with Max Horkheimer (New York:
Seabury, 1972).
------------, ‘A Portrait of Walter Benjamin’ (1950), Prisms, (London: Neville
Spearman, 1967).
------------, ‘Der wunderliche Realist. Ueber Siegfried Kracauer‘ (1964), ----------
-------, Noten zur Literatur III, (Frankfurt: Suhrkamp, 1965.
------------,‘Notes on Kafka’ (1953), Prisms.

------------, Negative Dialectics, (New York: Seabury, 1973).


------------, Aesthetische Theorie (incomplete, 1969), Gesammelte Schriften 7
(Frankfurt: Suhrkamp, 1970).
A letter to Benjamin (November 10, 1938), New Left Review, 81 (October
1973).
Beckett, Versuch, das Endspiel zu verstehen Noten zur Literatur II, (Frankfurt:
Suhrkamp, 1961) .

* * *
‫(‪)1‬‬
‫هايدغر ونقد األسس النظريَّة هلرم الوجود األكرب‬
‫(‪)2‬‬
‫عل أصغر مصلح‬
‫ي‬
‫(‪)3‬‬
‫جمتبى اعتامدي نيا‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫لقد آل كل واحد من األفهام التقليد َّية ِّلرم الوجود األكرب يف املرحلة اجلديدة من التفكري‬
‫الغرب‪ ،‬والس ّيام بعد القرن الثامن عرش [للميالد] إ ىل الضعف واألُفول بشكل وآخر‪ ،‬األمر‬
‫الذي أ ّد ىى إ ىل تعرض هذا األساس األنطولوجي للتفكري ما قبل احلداثوي إ ىل النسيان‬
‫والتجاهل أو اإلنكار‪ .‬ومن بني جمموع أنواع النقض واإلنكار الناظرة إ ىل هرم الوجود األكرب‬
‫عل هذا األُسلوب من‬‫يف املرحلة اجلديدة‪ ،‬كان النقد اجلوهري الذي أورده مارتن هايدغر ى‬
‫الفهم للوجود ومراتبه‪ ،‬خمتلفا بشكل جذري عن هاجتاه سائر املنتقدين اآلخرين‪ .‬فهو خالفا‬
‫ألكثر الناقدين ِّلرم الوجود األكرب ‪ -‬الذين ي َّتجهون يف الغالب إ ىل رفضه من خالل النقد‬
‫يرى بشكل عام عدم صواب َّية ومتام َّية هذا‬
‫املوضعي للتقريرات التقليد َّية يف هذا الشأن ‪ -‬ى‬
‫معنى وحقيقة‬ ‫ى‬ ‫األُسلوب لفهم الوجود‪ ،‬من حيث إ َّنه ُيؤ ّدي إ ىل نسيان وجتاهل السؤال عن‬
‫أن النظر إ ىل الوجود بوصفه أصال ‪ -‬وهو الذي ُيم هثل أحد أكثر املباين‬
‫الوجود‪ .‬يزعم هايدغر َّ‬
‫النظر َّية أصالة بالنسبة إ ىل الكثري من التقارير املدرس َّية عن هرم الوجود األكرب ‪ -‬ينفي‬

‫وجمتبى اعتامدي نيا‪ ،‬فصلية‪:‬‬


‫ى‬ ‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬هايدگر ونقد بنيان های نظري هرم بزرگ هستی‪ ،‬عيل أصغر مصلح‬
‫پژوهشهاي فلسفي ‪ -‬كالمي‪ ،‬جامعة قم‪ ،‬السنة السابعة عرشة‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬العدد املتتابع‪ 20 ،68 :‬صفحة‪.‬‬
‫عيل مطر اِّلاشمي‪.‬‬
‫تعريب‪ :‬حسن ّ‬
‫عيل أصغر مصلح‪ُ ،‬أستاذ يف جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪ ،‬له عدد من املؤ َّلفات‪ ،‬ومن بينها‪ :‬فلسفه فرهنگ (فلسفة‬ ‫(‪ )2‬د‪ّ .‬‬
‫الثقافة)‪ ،‬وگيورگ ويلهلم فردريش هگل (جورج فيلهامل غريدريش هيجل)‪ ،‬وجستجو وگفتگو‪ :‬جستارهايی در‬
‫فرهنگ (بحث وحوار‪ :‬بحوث يف الثقافة)‪ .‬وهو هيتم بحقل الدراسات الفلسفيَّة بني الثقافات‪.‬‬
‫مستوى الدكتوراة يف الفلسفة املقارنة من جامعة َّ‬
‫العالمة [الطباطبائي]‪.‬‬ ‫ى‬ ‫عل‬
‫جمتبى اعتامدي نيا‪ .‬طالب ى‬
‫ى‬ ‫(‪)3‬‬
‫‪ ❖ 234‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫األول ‪ -‬يف‬
‫املواجهة مع حقيقة الوجود بوصفه ذات عدم اخلفاء‪ .‬ويف هذه التقارير ُيل املبدأ َّ‬
‫معنى وحقيقة‬ ‫يتامهى فيها الوجود مع املاه َّية ‪َّ -‬‬
‫حمل البحث والسؤال عن ى‬ ‫ى‬ ‫املنصة احلقيق َّية التي‬
‫َّ‬
‫أن جتاهل االختالف األنطولوجي يف التقارير الفلسف َّية ِّلرم‬ ‫إل ذلك َّ‬ ‫الوجود‪ .‬يضاف ى‬
‫عل منظومة املقوالت‬ ‫الوجود األكرب يف املاه َّية َّ‬
‫الالهوت َّية ِّلذه التقارير‪ ،‬وقيام أغلبها ى‬
‫األُرسط َّية واألبستيمولوج َّية اإلظهار َّية وتقديم صورة منقوصة وغري أصيلة عن اإلنسان يف‬
‫أغلبها‪ُ ،‬يش هكل ّ‬
‫أهم حماور نقد هايدغر ِّلذه األفهام التقليد َّية واجلديدة ِّلرم الوجود األكرب‪.‬‬

‫املقدّمة‪:‬‬
‫َّ‬
‫إن هرم الوجود األكرب ُيكي نوعا من الطرح األنطولوجي املتسلسل املراتب‪ ،‬والذي عمد‬
‫عل أساسه‪ ،‬وخضعوا إ ىل لوازمه املنطق َّية‬
‫إل تنظيم آرائهم وأعامِّلم ى‬
‫الناس طوال قرون ى‬
‫والنفس َّية يف حقل الثقافة والسياسة‪َّ .‬‬
‫إن التقارير املختلفة ِّلذا الطرح األنطولوجي ‪ -‬الذي‬
‫يتم التعبري عنه منذ العقد الثالث من القرن العرشين للميالد إ ىل هذه اللحظة يف أروقة‬
‫مدى القرون املتامدية جتسيدا‬
‫عل ى‬‫العظمى ‪ -‬كان ى‬
‫(‪)1‬‬
‫ى‬ ‫اجلامعات الغرب َّية بعنوان سلسلة الوجود‬
‫إن َّأول من استعمل عبارة سلسلة‬ ‫ملعنى احلياة املعقولة للكثري من ُس ّكان الكرة األرض َّية‪َّ .‬‬
‫ى‬
‫واملؤرخ األمريكي من ُأصول أملان َّية (آرثور لوفجوي) ‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ه‬ ‫العظمى هو الفيلسوف‬
‫ى‬ ‫الوجود‬
‫وكان ذلك سنة ‪1936‬م يف كتاب له هبذا العنوان‪ ،‬يف إشارة منه إ ىل اإلطار الفكري الذي‬
‫الوسطى‪.‬‬
‫ى‬ ‫حكم املرحلة القديمة والقرون‬
‫عل حده تعبري لوفجوي ‪ُ -‬يم هثل أكثر‬
‫الكربى ‪ -‬ى‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن هرم الوجود األكرب أو سلسلة الوجود‬
‫األُطروحات األنطولوج َّية أصالة يف التفكري التقليدي‪ ،‬والذي ى‬
‫عل أساسه يتأ َّلف الوجود من‬
‫سلسلة عظيمة من الروابط املتوالية التي تنتظم فيها الكائنات يف سلسلة تراتب َّية تبدأ من‬
‫املتنوعة ِّلذا الطرح األنطولوجي‬
‫إل أكملها‪ .‬هناك الكثري من القراءات ه‬
‫أضعف الكائنات ى‬

‫‪(1) The great chain of being.‬‬


‫أسس لعلم (تاريخ‬
‫ومؤرخ أمريكي نافذ‪َّ .‬‬
‫ه‬ ‫(‪ )2‬آرثر أو‪ .‬لوفجوي (‪1962 - 1873( )Arthur Lovejoy‬م)‪ :‬فيلسوف‬
‫األفكار)‪ ،‬ول َّقن ُط ُرق دراستها يف العقود األُو ىل من القرن العرشين‪ .‬أرشف ى‬
‫عل اجتامعات (نادي تاريخ األفكار)‬
‫املعرب‪.‬‬
‫العظمى)‪ ،‬و(ثورة ضد الثنائية)‪ .‬ه‬
‫ى‬ ‫الذي قام بتأسيسه وأرشف عليه لعدَّ ة عقود‪ .‬من أعامله‪( :‬سلسلة الوجود‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪235‬‬

‫عل أساس األفهام املختلفة للوجود ومراتبه‪ ،‬وقد أضحت تلوُيا أو ترصُيا فرض َّية‬ ‫القائم ى‬
‫جلميع األنظمة األُسطور َّية والفلسف َّية والده ين َّية والسياس َّية واالجتامع َّية يف مرحلة ما قبل‬
‫احلداثة‪ .‬وقد وجد كني ويلرب(‪ - )1‬وهو الفيلسوف األمريكي وعامل النفس والباحث يف حقل‬
‫العظمى أمرا بالغ اجلدّ َّية والتأمل‪ ،‬بحيث مال‬
‫ى‬ ‫العرفان ‪ -‬يف االنتشار الشامل لسلسلة الوجود‬
‫عل‬
‫بأن اإليامن هبذه السلسلة إ َّما أن يكون هو اخلطأ األكرب الذي ارتكبه اإلنسان ى‬‫إ ىل االعتقاد َّ‬
‫أن يكون من ّ‬
‫أدق األفكار البرش َّية بشأن عامل الواقع والتي أمكن ِّلا الظهور ح َّت ىى‬ ‫نحو فذ‪ ،‬أو ْ‬
‫هذه اللحظة‪ ،‬وتستحق االهتامم من هذه الناحية(‪َّ .)2‬‬
‫إن سلسة مرتب الوجود ‪ -‬التي يراها‬
‫املتنوعة‬
‫عل التقريرات ه‬
‫أهم مواريث التفكري البرشي العريق ‪ -‬إ َّنام تقوم ى‬
‫(‪)3‬‬
‫البعض بحق من ّ‬
‫بني املدارس الفكرية التي تنتمي إ ىل حضارات كانت سائدة ومعتربة يف مراحله ما قبل‬
‫احلداثة‪.‬‬
‫لعظمى والتي كانت ‪ -‬بحسب‬
‫ى‬ ‫إن االعتقاد هبرم الوجود األكرب أو سلسلة الوجود ا‬ ‫َّ‬
‫ترصيح لوفجوي ‪ -‬ح َّت ىى ّناية القرن الثامن عرش للميالد من األُمور التي ال يمكن التشكيك‬
‫فيها من وجهة نظر أغلب املف هكرين والعلامء(‪ ،)4‬أخذت بعد هذه املرحلة يطوهيا النسيان‬
‫األهم يف هرم‬
‫ّ‬ ‫والتجاهل أو اإلنكار يف الفلسفة وخمتلف فروع العلوم بالتدريج‪َّ .‬‬
‫إن الرشخ‬
‫الفذ الذي ح َّققه اإلنسان الغرب يف العلوم التجريب َّية‪،‬‬ ‫الوجود األكرب إ َّنام ينشأ من التطور ه‬
‫أي نوع من الواقع َّية‬ ‫ِ‬
‫حتول يف ّناية املطاف إ ىل نوع من اإلمربيال َّية العلم َّية التي ُتنكر َّ‬
‫والذي َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫(‪ )1‬كني ويبلر (‪ - 1949( )Ken Wilber‬؟ م)‪ :‬كاتب وفيلسوف أمريكي‪.‬‬
‫‪(2) Wilber, Ken. 1993, ‘The Great Chain of Being’, in: Journal of Humanistic Psychology, 3‬‬
‫‪(33). p. 53.‬‬
‫‪(3) Cassirer, Ernst. 1963. The Individual and the Cosmos in Renaissance Philosophy,‬‬
‫‪translated with an introduction by Mario Domandi, New York: Harper & Row, P. 9.‬‬
‫‪(4) Lovejoy, Arthur O. 1936. The Great Chain of Being: The History of an Idea,‬‬
‫‪Cambridge, MA: Harversity Press. P. 59.‬‬
‫)‪ )scientific imperialism( (5‬استعرت هذا التعبري من كني ويلرب‪.‬‬

‫‪Wilber, Ken. 2000. The Marriage of Sense and Soul: Integrating Science and Religion, in:‬‬
‫‪The Collected Works of Ken Wilber, Boston: Shambhala, 8: p. 97.‬‬
‫‪ ❖ 236‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫العين َّية غري املا ّد َّية وغري التجريب َّية‪ .‬بيد َّ‬
‫أن من بني أنواع النقض واإلنكار الناظرة إ ىل هرم‬
‫الوجود األكرب يف املرحلة اجلديدة والس ّيام عند الت ّيار املعروف بام بعد احلداثة الفلسف َّية‪ُ ،‬ي َعد‬
‫عل هذا النمط من الفهم للوجود ومراتبه خمتلفا اختالفا جذر ًّيا عن‬
‫النقد اجلوهري ِّلايدغر ى‬
‫هاجتاهات سائر الناقدين‪ .‬فهو خالفا ألكثر الناقدين ِّلرم الوجود األكرب ‪ -‬الذي ي َّتجهون يف‬
‫يرى بشكل‬
‫الغالب إ ىل رفضه من خالل النقد املوضعي للتقريرات التقليد َّية يف هذا الشأن ‪ -‬ى‬
‫عام عدم صواب َّية ومتام َّية هذا األُسلوب لفهم الوجود‪ ،‬من حيث إ َّنه ُيؤ ّدي إ ىل نسيان وجتاهل‬
‫معنى وحقيقة الوجود(‪.)1‬‬
‫السؤال عن ى‬
‫معنى وحقيقة الوجود َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫يرى هايدغر من خالل انتقاده ل ُ‬
‫ألسلوب التقليدي للسؤال عن‬ ‫ى‬
‫تاريخ التفكري الفلسفي يف الغرب بعد أفالطون قد أخذ باالنحطاط(‪ ،)2‬وهو انحطاط مستمد‬
‫‪ -‬بزعمه ‪ -‬من نسيان الوجود(‪ .)3‬وقد عمد هايدغر يف أعامله املكتوبة وحمارضاته املتعده دة بعد‬

‫عل الرغم من أ َّن املعادل ملفردة (‪ )Sein‬عند هايدغر قد اع ُت ِ َ‬


‫رب يف اللغة الفارس َّية موازيا ملفردة الوجود يف اللغة العرب َّية‬ ‫(‪ )1‬ى‬
‫(وهو ما ذهب إليه باإلضافة إ ىل املعارصين أرباب الفلسفة من أمثال ابن سينا وبابا أفضل الكاشاين أيضا)‪ .‬بيد َّ‬
‫أن‬
‫كاتب هذه السطور قد الحظ د َّقة النظر الفلسفيَّ ة يف استعامل لفظ الوجود يف األبحاث املرتبطة بآراء هايدغر‪ .‬وكام‬
‫فطن األُستاذ پرويز ضياء شهاب يف هذا الشأن بحق‪ ،‬فإ َّن لفظ الوجود حيث ينطوي ى‬
‫عل نوع من التبعيَّة للزمان‬
‫احلارض‪ ،‬دون اإلشارة إ ىل املايض واملستقبل‪ ،‬ال يمكن لـ الوجود أ ْن يكون معادال مناسبا ملفردة الـ (‪ )Sein‬عند‬
‫هايدغر الذي هو بحسب األُصول أمر زمني وتارخيي‪ .‬ولكن يبدو أ َّن لفظ الوجود يمكن له إ ىل حد ما أ ْن يتك َّفل‬
‫بنقل الربط والنسبة التي يقيمها هايدغر بني مفهوم الوجود واألقسام الزمنيَّ ة الثالثة (والتي هي يف احلقيقة عبارة عن‬
‫عل هذا االعتبار جيب ترمجة عنوان كتاب (‪ )Sein und Zeit‬إ ىل اللغة الفارسيَّة بعنوان‬
‫نسبة التساوق)‪ .‬وبناء ى‬
‫(وجود وزمان)‪( .‬ضياء شهاب‪ ،‬پرويز‪ ،‬برريس إمكان وقوعي ترمجه فاريس وجود وزمان هيدگر چنان كه بسزاي‬
‫چنني كتاب بود‪ ،‬جملة‪ :‬جستارهاي فلسفي (تصدر َّ‬
‫كل نصف سنة)‪ ،‬العدد‪ ،12 :‬ص ‪1386 ،207 - 205‬هـ ش)‪.‬‬
‫يسعى هايدغر إ ىل جتنب تقييم احلكم بشأن مفهوم االنحطاط‪ ،‬ويذكر بأ َّنه إ َّنام يستخدم هذا املصطلح بمعزل عن‬ ‫ى‬ ‫(‪)2‬‬
‫لدى اإلنسان‬ ‫ِ‬
‫جمرد اإلشارة إ ىل االختالف الذي ظهر يف اآلراء الفلسفيَّة ى‬
‫املحتوى القيَمي الذي ُيمله‪ ،‬وأ َّنه إ َّنام يروم َّ‬
‫ى‬
‫الغرب بعد املرحلة اإلغريق َّية القديمة وما قبل مرحلة سقراط بفرتة وجيزة‪ .‬ويزعم هايدغر أ َّنه جيب اعتبار هذا‬
‫االختالف نوعا من التقدير واملصري‪( .‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬گفت وگوي ريشارد ويَّس با مارتن هيدگر‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة‬
‫الفارسيَّة‪ :‬رشف الده ين خراساين‪ ،‬منشور يف جم َّلة‪ :‬بخارا‪ ،‬العدد‪ ،5 :‬ص ‪ .)68 - 61‬ولكن ى‬
‫عل الرغم من ا هدعاء‬
‫هايدغر ال يمكن جتاهل لوازم تقييم حكم هذا املفهوم يف أعامل هايدغر‪.‬‬
‫‪(3) seinsvergessenheit‬‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪237‬‬

‫كتاب الوجود والزمان‪ ،‬إ ىل بحث ومناقشة آل ّيات هذا االنحطاط من خمتلف األبعاد والزوايا‬
‫مرارا وتكرارا(‪ .)1‬فهو تارة يبحث عن آثار هذا االنحطاط يف حتول مفهوم الـ (‪)aletheia‬‬
‫اليونان َّية إ ىل الـ (‪َّ )veritas‬‬
‫الالتين َّية‪ ،‬حيث ال تعود ُتظهر عدم اخلفاء بوصفه جوهر احلقيقة‪،‬‬
‫خرى كان يبحث عنها يف حتوالت مفهوم الـ (‪ ،)phusis‬والذي ينخفض يف ّناية‬ ‫وتارة ُأ ى‬
‫معنى وحقيقة‬
‫ى‬ ‫املطاف إ ىل الـ (‪ )natura‬و(‪َّ )physica‬‬
‫الالتين َّية‪ ،‬وبذلك أدخل السؤال عن‬
‫وأحل حم َّل ها البحث يف وجود الكائنات والطبيعة‪ .‬ويف بعض األحيان‬
‫َّ‬ ‫الوجود يف املحاق‪،‬‬
‫كان حتويل الـ (‪ )logos‬اليونان َّية إ ىل الـ (‪َّ )ratio‬‬
‫الالتين َّية أو وضع املعادل لـ (‪)theorien‬‬
‫اليونان َّية مع الـ (‪ُ )contemplati‬يم هثل بالنسبة إ ىل هايدغر تذكريا بالنسيان التدرجيي‬
‫للوجود الذي كان يميض بنشاطه قدما بواسطة اللغة‪ .‬يف مجيع هذه األمثلة والنامذج فقدت‬
‫اللغة بالتدريج خاص َّيتها البيان َّية والكشف َّية يف قبال الوجود‪ ،‬وبدال من ذلك من خالل‬
‫عل اإلظهار‪ ،‬ال تعود ترمجانا لتجربة الـ دازين املعاشة(‪.)2‬‬
‫استنادها إ ىل التفكري القائم ى‬
‫إن السؤال عن الوجود ‪ -‬كام هو منظور بالنسبة إ ىل هايدغر ‪ -‬سؤال عن ع َّلة ومنشأ عدم‬ ‫َّ‬
‫أن الفهم اليوناين القديم‬‫خفاء الوجود‪ ،‬ال ما هو املوجود كام هو موجود‪ .‬يزعم هايدغر َّ‬
‫يستدعي مفهوم احلضور يف اإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬وحيث إ َّن احلضور قد ارتبط باللحظة‬
‫الراهنة أو اآلن‪ ،‬فقد كان اجلواب عن هذا السؤال يرتبط بالزمان‪ .‬وأ َّما بعد ُأرسطو فقد كان‬
‫املعني‬
‫يتم تعريف الزمان ‪ -‬الذي كانوا يرونه عبارة عن مقدار احلركة ‪ -‬يف ضوء الكائن َّ‬
‫بأّنم فيام يتع َّلق‬
‫الذي كان مقدار احلركة ناظرا إليه‪ ،‬ومن هنا يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫عل سقراط(‪ - )3‬تنرصف أذهاّنم من‬
‫معنى الوجود كانوا ‪ -‬خالفا للمتقده مني ى‬
‫ى‬ ‫بإدراك‬

‫(‪ُ )1‬يشري هايدغر يف مقدّ مة (ما هي امليتافيزيقا؟) ‪ -‬من خالل التذكري َّ‬
‫بأن مسألة نسيان الوجود ال تزال مطروحة يف‬
‫كتاب الوجود والزمان إ ىل وجود ارتباط دقيق بني كلتا مرحلتيه الفكر َّيتني‪ ،‬وإ َّنه جيب عد نسيان الوجود بوصفه‬
‫احللقة الرئيسة يف االرتباط بني هاتني املرحلتني‪.‬‬
‫‪Heidegger, Martin. 1998 c, Introduction to What Is Metaphysics/ in: Pathmarks, edited‬‬
‫‪by William McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 287.‬‬
‫(‪ )2‬أمحدي‪ ،‬بابك‪ ،‬هيدگر وتاريخ هستي‪ ،‬ص ‪ ،82 - 78‬نرش مركز‪ ،‬ط ‪ ،6‬طهران‪1391 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )3‬سقراط (‪ 399 - 470‬ق‪ .‬م)‪ :‬فيلسوف يوناين‪ُ .‬يع َترب هو وأفالطون و ُأرسطو واضعو ُأ ُسس التفكري العاملي‪.‬‬
‫املعرب‪.‬‬
‫ه‬
‫‪ ❖ 238‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الوجود إ ىل املوجود(‪.)1‬‬
‫إل تطبيق سؤال اليبنتس(‪ )2‬الشهري القائل‪« :‬ملاذا تكون الكائنات بدال من‬
‫يعمد هايدغر ى‬
‫أن ال تكون؟» خالفا للفهم املتعارف‪ .‬فهو يذهب ‪ -‬خالفا لاليبنتس وشيلينغ(‪ )3‬وسائر‬ ‫ْ‬
‫الذين طرحوا هذا السؤال ‪ -‬إ ىل القول بأ َّنه ال يروم السعي إ ىل تتبع ُأصول الكائنات‪ ،‬وإ َّنام هو‬
‫عل شكل‪« :‬ملاذا يكون املوجود موجودا أصال وال أكثر من ذلك؟»‪ .‬ويف‬
‫يطرح هذا السؤال ى‬
‫هذه الطريقة من طرح السؤال نجد هايدغر يسأل عن سبب تقدم املوجود وجتاهل الوجود‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫يف املواجهة مع املوجودات‪ ،‬وبذلك فإ َّنه من هذه الناحية يستعمل هذا السؤال يف‬
‫اخلاص لطرح هذا السؤال إ َّنام يسأل‬
‫ه‬ ‫فإن هايدغر من خالل األُسلوب‬
‫خمتلف‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬
‫عن سبب نسيان الوجود‪ ،‬وكذلك العدم الذي يراه مواكبا للوجود(‪.)4‬‬
‫يرى ‪ -‬من خالل استعراض تاريخ النسيان التدرجيي الذي يبدأ من‬ ‫وبذلك َّ‬
‫فإن هايدغر ى‬
‫أفالطون‪ ،‬ويبلغ ذروته يف املرحلة اجلديدة مع رينيه ديكارت‪ ،‬وخيتتم يف ّناية املطاف عند‬
‫أن األفهام التقليد َّية للوجود ومراتبه ُمت هثل بشكل وآخر مصداقا لنسيان‬
‫فريدريك نيتشه(‪َّ - )5‬‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬گفت وگوي ريشارد ويَّس با مارتن هيدگر‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬رشف الده ين خراساين‪،‬‬
‫منشور يف جم َّلة‪ :‬بخارا‪ ،‬العدد‪ ،5 :‬ص ‪1378 ،67‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )2‬غوتفريد اليبنتس (‪1716 - 1646‬م)‪ :‬فيلسوف وعامل طبيعة وعامل رياض ّيات ودبلومايس وحمام أملاين اجلنسيَّة‪.‬‬
‫املعرب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُيشغل موقعا مرموقا يف تاريخ الرياضيّات والفلسفة‪ .‬ه‬
‫(‪ )3‬فريدريك شيلينغ (‪1854 - 1775‬م)‪ :‬أحد أكرب الذين صاغوا النظرة الديالكتيك َّية لتطوير املجتمع‪ .‬جعل من‬
‫فلسفة الطبيعة أحد اهتامماته قبل ْ‬
‫أن ينتقل إ ىل فلسفة الروح‪ .‬تراجع عن الكثري من آرائه السابقة‪ ،‬وأبطل مرشوعه‬
‫القايض بدراسة الده ين دراسة تارخييَّة‪ ،‬وصار يدعو إ ىل فلسفة األُسطورة بكثري من الثقة‪ ،‬ولكنَّه مل جيد مريدين له يف‬
‫املعرب‪.‬‬
‫هذا الشأن‪ .‬ه‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪.‬‬
‫وملحن ولغوي وباحث يف‬ ‫ه‬ ‫(‪ )5‬فريدريك فيلهيلم نيتشه (‪1900 - 1844‬م)‪ :‬فيلسوف أملاين وناقد ثقايف وشاعر‬
‫عل الفلسفة الغرب َّية وتاريخ الفكر احلديث‪ .‬بعمر الرابعة والعرشين‬ ‫َّ‬
‫الالتين َّية واليونان َّية‪ .‬كان ألعامله تأثري عميق ى‬
‫الصح َّية التي ابتيل هبا معظم‬
‫ّ‬ ‫أصبح ُأستاذ كريس اللغة يف جامعة بازل ح َّت ىى استقال يف عام ‪1869‬م بسبب املشاكل‬
‫أهم ُكتُبه‪ .‬ويف الس هن الرابع واألربعني ى‬
‫عانى من اّنيار وفقدان لكامل‬ ‫حياته‪ ،‬وأكمل العقد التال من عمره يف تأليف ّ‬
‫أن يكون سعيدا ح ًّقا؟)‪ ،‬و(مولد‬
‫قواه العقل َّية‪ .‬من أعامله‪( :‬اإلرادة احلُ َّرة والقدر)‪ ،‬و(هل يستطيع احلسود ْ‬
‫والرش)‪ ،‬و( ُأفول األصنام)‪ ،‬و(إنسان مفرط يف إنسان َّيته)‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬ ‫ه‬ ‫الرتاجيديا)‪ ،‬و(ما وراء اخلري‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪239‬‬

‫مستوى املوجودات‪ ،‬و ُيطلِق عليها مصطلح امليتافيزيقا(‪ .)1‬ويف‬


‫ى‬ ‫وجتاهل الوجود وخفضه إ ىل‬
‫خضم هذا األمر لن يكون فهم سلسلة مراتب الوجود ‪ -‬التي هي عبارة عن هرم الوجود‬ ‫ه‬
‫األكرب والتي ُت َعد مثاال وكاشفا له ‪ -‬يف ِحل من هذا االنتقاد‪ .‬وطبقا إلحصائ َّية وبحث كاتب‬
‫قال ورصُيا بشأن هرم الوجود األكرب(‪،)2‬‬‫وإن مل يكتب بحثا مست ّ‬
‫فإن هايدغر ْ‬‫هذه السطور َّ‬
‫أن نستنتج من تضاعيف كلامته يف نقد امليتافيزيق َّ‬
‫أن هرم الوجود األكرب من‬ ‫ولكن يمكن ْ‬
‫وجهة نظره بوصفه من أبرز حمامل امليتافيزيقا يف جممل تاريخ الفلسفة الغرب َّية يواجه الكثري‬
‫من االنتقادات‪ ،‬وهي بأمجعها مرتبطة بنحو ما بنسيان وجتاهل حقيقة الوجود‪.‬‬
‫ذهب جوليان يانغ(‪ )3‬يف اجلواب عن سؤال الكاتب يف حقل ه‬
‫االجتاه النقدي ِّلايدغر يف‬
‫بأن فهم الوجود املتسلسل املراتب واملعروف بسلسلة‬‫قبال هرم الوجود األكرب إ ىل االعتقاد َّ‬
‫أن يكون موضع انتقاد هايدغر من خالل ثالثة اعتبارات يف احلده‬ ‫العظمى‪ ،‬يمكن ْ‬
‫ى‬ ‫الوجود‬
‫األدنى‪:‬‬
‫ى‬
‫أن هذا النوع من فهم مراتب املوجودات ُيم هثل مصداقا لفكرة‪..‬‬
‫األول‪َّ :‬‬
‫االعتبار َّ‬
‫بمعنى التفكري الباحث عن املوجود َّ‬
‫الالهوت القائم‬ ‫ى‬ ‫(‪،)Onto – Theo - logical‬‬
‫عل املنطق األُرسطي‪.‬‬
‫ى‬
‫االعتبار الثاين‪ :‬أ َّن هذا الرأي ُي َعد مصداقا للميتافيزيقا‪.‬‬
‫يتضمن حضور إله الفالسفة (وليس اإلله‬
‫َّ‬ ‫االعتبار الثالث‪ :‬أ َّن الفهم الرتاتبي للوجود‬

‫‪(1) Heidegger, Martin. 1991, Nietzsche, Translated by David Farrell Krell, USA: Harper One,‬‬
‫‪vol. 3, p. 7.‬‬
‫املختصني هبايدغر‪ ،‬من أمثال‪ :‬األُستاذ األُسرتال‬
‫ه‬ ‫(‪ )2‬باإلضافة إ ىل األبحاث الشخصيَّة لكاتب هذه السطور‪َّ ،‬‬
‫فإن آراء‬
‫هانز كوتشلر (‪ُ - )Hans Kochler‬أستاذ الفلسفة يف جامعة انسربوك (‪ - )Innsbruck‬وكذلك األُستاذ األمريكي‬
‫جوليان يونغ (‪ُ - )Julian Young‬أستاذ الفلسفة يف جامعة ويك فورست (‪ُ - )Wake Forest‬تؤ هيد أبحاثي يف‬
‫هذا الشأن‪.‬‬
‫‪Young ,Julian. 2015, Re: Question about Heidegger’s Teaching, Email to the Author, 12‬‬
‫‪July; Kochler, Hans. 2014, , Re: Question about Heidegger’s Teaching, Email to the‬‬
‫‪Author, 25 December.‬‬
‫(‪ )3‬جوليان بادريك يانغ (‪ - 1943‬؟ م)‪ :‬فيلسوف أمريكي‪.‬‬
‫‪ ❖ 240‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل رأس سلسلة املوجودات(‪ .)1‬وكام نعلم َّ‬


‫فإن‬ ‫الذي ُيع َبد ويتم اخلضوع له والترضع إليه) ى‬
‫هايدغر يعترب مجيع هذه األُمور عنارص رادعة عن األنطولوجيا اجلوهر َّية(‪ )2‬والفلسفة‬
‫أهم‬
‫إل حتصيل حقيقة الوجود‪ .‬وفيام ييل سنعمل ‪ -‬يف إطار بحث ّ‬ ‫العلم َّية التي تطمح ى‬
‫(‪)3‬‬

‫عل بيان تصوير واضح‬


‫انتقادات هايدغر يف حقل األبنية النظر َّية ِّلرم الوجود األكرب ‪ -‬ى‬
‫لرؤيته االنتقاد َّية لألفهام التقليد َّية لسلسلة مراتب الوجود‪ ،‬ضمن املحاور اخلمسة اآلتية‪:‬‬

‫‪ - 1‬جتاهل التمايز األنطولوجي من التقارير الفلسفيَّة هلرم الوجود األكرب‪:‬‬


‫عل الدوام إ ىل لفت انتباه خماطبيه إ ىل التاميز أو‬
‫سعى هايدغر يف كتاب الوجود والزمان ى‬
‫ى‬ ‫لقد‬
‫االختالف األنطولوجي(‪ ،)4‬أي التفاوت أو التاميز اجلوهري بني الوجود واملوجود(‪،)5‬‬

‫‪(1) Young, Julian. 2015, Re: Question about Heidegger’s Teaching, Email to the Author, 12 July.‬‬
‫وأن األنطولوجيا املستأصلة‬ ‫أن َّ‬
‫كل أنطولوجيا تغفل عن حقيقة الوجود هي أنطولوجيا مستأصلة‪َّ ،‬‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫(‪ )2‬ى‬
‫وعل هذا األساس فإ َّنه يعمد إ ىل تلقيب أنطولوج َّيته املنشودة التي هتتف‬‫ى‬ ‫سوف ّتفق يف أنطولوج َّيتها أيضا‪.‬‬
‫بالوجود بدال من التخبط يف زمحة املوجودات بـ األنطولوجيا اجلوهر َّية‪.‬‬
‫‪Fundamental ontology .Heidegger, Martin. 1993 a, Letter on Humanism in: Basic‬‬
‫‪Writings: from Being and Time (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David‬‬
‫‪Farrell Krell, Harper San Francisco. p. 258 .‬‬
‫إن األنطولوجيا اجلوهرية ِّلايدغر ‪ -‬طبقا لترصُيه ‪ -‬ليست فكرة نظر َّية أو عمليَّة‪ ،‬بل َّ‬
‫إن هذا النمط من التفكري‬ ‫َّ‬
‫يكتسب املوضوعية قبل ثنائيَّة النظر َّية ‪ -‬العمليَّة‪ ،‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬إّنا ُمتثهل رشط اكتساهبا للموضوعيَّة‪ ،‬وتضع‬
‫األرضيَّة التي يظهر فيها كل واحد منها‪َّ .‬‬
‫إن األنطولوجيا اجلوهر َّية حترس حقيقة الوجود التي مت َّت دعوهتا لتحقيق‬
‫هذه الرسالة من ِق َبل الوجود‪.) Ibid, p. 259( .‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬مسائل أسايس پديدارشنايس (املسائل األساسي َّة للظاهراتي َّة)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬پرويز‬
‫ضياء شهاب‪ ،‬ص ‪ 27‬و‪ ،28‬نرش‪ :‬مينوي خرد‪ ،‬ط ‪ ،1‬طهران‪1392 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(4) ontological differentiation.‬‬
‫تكرر يف هذا الكتاب مرارا وتكرارا‪،‬‬ ‫(‪ )5‬مل يرد استخدام هذا املصطلح يف كتاب الوجود والزمان‪ ،‬بيد َّ‬
‫أن مضمونه قد َّ‬
‫وكان َّأول ظهور له يف املسائل األساسيَّة للفينومينولوجيا‪( .‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬مسائل أسايس پديدارشنايس (املسائل‬
‫تم بحث هذه املفهوم‬ ‫األساسي َّة للظاهراتي َّة)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬پرويز ضياء شهاب‪ ،‬ص ‪ 285‬فام بعد)‪ّ .‬‬
‫ثم َّ‬
‫بشكل جاد يف القسم الثاين من رسالة التامثل واالختالف‪..‬‬
‫‪‬‬ ‫(‪.)Identität und Differenz / Identity and Difference‬‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪241‬‬

‫عل احليلولة دون اخلفض اخلاطئ للوجود إ ىل موجود خاص‪ .‬لقد عدَّ هايدغر‬
‫وبذلك يعمل ى‬
‫عل‬
‫التاميز األنطولوجي مدخال إ ىل ساحة املسائل الفلسف َّية ‪ .‬يضاف إ ىل ذلك أ َّنه يذكر ى‬
‫(‪)1‬‬

‫خاصة‬
‫َّ‬ ‫معنى الوجود واإلجابة عنه بحاجة إ ىل منظومة مفهوم َّية‬‫ى‬ ‫الدوام َّ‬
‫بأن السؤال عن‬
‫ّتتلف متام االختالف وبشكل ماهوي عن املنظومة املفهوم َّية الرضور َّية للبحث والتأمل يف‬
‫حقل املوجودات(‪ ،)3()2‬وهذا يف حده ذاته ُيش هكل واحدا من أسباب تعقيد وغموض أدب ّيات‬
‫يرى هايدغر‬
‫كتاب الوجود والزمان‪ ،‬ور َّبام الكثري من األعامل واآلثار البارزة ملارتن هايدغر‪ .‬ى‬
‫إل جتاهل ُأسلوب مواجهة الفالسفة مع‬ ‫َّ‬
‫أن االلتفات إ ىل هذا التاميز قد أ ّد ىى بالتدريج ى‬
‫معنى الوجود َّ‬
‫حمط اهتامم من خالل اإلطار الوجودي‬ ‫ى‬ ‫الوجود‪ ،‬وبدال من ذلك صار‬
‫للكائنات(‪.)4‬‬
‫أن طريقة فهم السلسلة الرتاتب َّية للوجود املتج ّلية يف إطار هرم الوجود األكرب‪ ،‬تقع‬
‫ويبدو َّ‬
‫‪ -‬باعتبار ما ‪ -‬يف معرض هذا النقد الذي ُيقده مه هايدغر‪َّ .‬‬
‫إن اإلحالة امل َّتصلة واملتسلسلة‬
‫للكائنات ببعضها يف هرم الوجود األكرب ُتؤ ّدي يف ّناية املطاف إ ىل رأس اِّلرم الذي ُي َعد مبدأ‬
‫اخلضم تتو َّفر أرض َّية مالئمة ومناسبة لتجاهل حقيقة‬
‫ه‬ ‫ومنشأ الكائنات ومراتبها‪ ،‬ويف هذا‬
‫إن أصل الديمومة(‪ )5‬بوصفه عنرصا مشرتكا‬ ‫خرى‪َّ :‬‬‫الوجود والسؤال عن مفهومه‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫ألغلب تقريرات هرم الوجود األكرب‪ُ ،‬يم هثل حممال مناسبا لتجاهل ونسيان سؤال الوجود‪،‬‬

‫يسعى هايدغر يف هذا األثر ‪ -‬من خالل التحاور مع هيجل ‪ -‬إ ىل إظهار ما ال يتم التفكري فيه من امليتافيزيقا‪،‬‬
‫ى‬ ‫‪ ‬أيضا‬
‫إل التاميز‬ ‫بمعنى التأمل يف باب حقيقة الوجود‪ .‬يزعم هايدغر َّ‬
‫أن التأمل يف باب هذه احلقيقة يستلزم االلتفات ى‬ ‫ى‬
‫األنطولوجي‪.‬‬
‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬مسائل أسايس پديدارشنايس (املسائل األساسي َّة للظاهراتي َّة)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬پرويز‬
‫ضياء شهاب‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin. 1962, Being and Time, Translated by John Macquarrie & Edward‬‬
‫‪Robinson, Britain: Blackwell Publisher Ltd. P.6.‬‬
‫(‪ )3‬األعداد يف اإلحالة إ ىل كتاب الوجود والزمان‪ ،‬تشري إ ىل رقم الفقرة‪.‬‬
‫‪(4) Ibid.‬‬
‫إن أصل الديمومة الذي يعود بجذوره إ ىل أفكار ُأرسطو‪ ،‬ينفي إمكانيَّة وجود رشخ أو انقطاع بني خمتلف أنواع‬
‫(‪َّ )5‬‬

‫الكائنات‪ ،‬و ُيؤ هكد ى‬


‫عل وجود االرتباط والديمومة بينها‪.‬‬
‫‪ ❖ 242‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بحيث يتم نسيان وجتاهل أخذ الوجود بوصفه أصال ليس فيه موضع آخر لنوع ما‪ ،‬وال‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن هرم الوجود األكرب‬ ‫ى‬ ‫يمكن حدوث تبدل يف سلسلة مراتب الوجود‪.‬‬
‫قبل ْ‬
‫أن يكون مب هينا للتامي ز األنطولوجي‪ ،‬سوف يذكر باإلحالة واالرتباط املتسلسل للكائنات‬
‫والطبقات املشتملة عليها ببعضها‪ ،‬األمر الذي يعتربه هايدغر بداية لتجاهل التاميز‬
‫واالختالف األنطولوجي‪.‬‬

‫‪ - 2‬املاهيَّة اإلهليَّة للتقريرات الفلسفيَّة هلرم الوجود األكرب‪:‬‬


‫َّ‬
‫إن من بني الشواهد والقرائن التي يذكرها هايدغر يف معرض إثبات املسار التارخيي لنسيان‬
‫األسمى أو اهلل‬
‫ى‬ ‫الوجود يف امليتافيزيق الغرب‪ ،‬هو استبدال حقيقة الوجود وإحالله َّ‬
‫حمل الكائن‬
‫متنوعة‪ .‬يزعم‬
‫الذي يتم التعبري عنه يف خمتلف األديان واملدارس الفلسف َّية بألفاظ وتعابري ه‬
‫إل‬
‫اخلصيصة التي جيب اعتبارها ناشئة من املاه َّية اإلِّل َّية يف امليتافيزيقا‪ ،‬ى‬
‫(‪)1‬‬
‫ه‬ ‫هايدغر َّ‬
‫أن هذه‬
‫جانب األُ ُسس املنطق َّية ِّلذه املنظومة الفكر َّية دفعت بامليتافيزيق بدال من اخلوض يف حقيقة‬
‫الوجود‪ ،‬إ ىل التفكري باملوجود والتفكري األنطيقي‪ .‬يذهب هايدغر ‪ -‬دون ْ‬
‫أن يعمد من خالل‬
‫عل رأس هرم الوجود األكرب ‪ -‬إ ىل االعتقاد‬
‫األسمى ى‬
‫ى‬ ‫هذا الطريق إ ىل نفي أو إنكار الكائن‬
‫األسمى يف تاريخ التفكري الغرب والبحث عن كيف َّيته الوجود َّية وطريقة‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫بأن االهتامم بالكائن‬
‫معنى وحقيقة الوجود‪ .‬وع ىل هذا األساس‬
‫ى‬ ‫حل َّ‬
‫حمل السؤال عن‬ ‫ارتباطه بسائر الكائنات‪ ،‬قد َّ‬
‫عل حده تعبري هايدغر ‪-‬‬ ‫َّ‬
‫فإن االلتفات إ ىل ما هو ما َّدة وجود الكائنات‪ ،‬وكانت ومضة منه ‪ -‬ى‬
‫حل َّ‬
‫حمل السؤال عن‬ ‫موجود يف تفكري املف هكرين من أمثال بارمنيدس(‪ )2‬وهرقليطس(‪ ،)3‬قد َّ‬
‫األول للكائنات‪ ،‬وهو األُسلوب الذي تش َّكلت دعاماته األُو ىل من طريق أفكار‬ ‫املبدأ َّ‬

‫‪(1) theo - logical.‬‬


‫(‪ )2‬بارمنيدس (‪480 - 540‬ق م)‪ :‬فيلسوف يوناين ُولِدَ يف القرن اخلامس قبل امليالد‪ .‬من فالسفة عرص ما قبل‬
‫املعرب‪.‬‬
‫سقراط‪ .‬ه‬
‫(‪ )3‬هرقليطس (‪480 - 540‬ق م)‪ :‬فيلسوف يوناين سابق لعرص سقراط‪ .‬اشتهر بالغموض؛ ف ُع ِر َ‬
‫ف بـ‪( :‬الفيلسوف‬
‫عل كتاباته طابع احلزن؛ ف ُع ِر َ‬
‫ف بـ‪( :‬الفيلسوف الباكي)‪ .‬تأ َّثر بأفكاره كل من سقراط وأفالطون‬ ‫الغامض)‪ .‬وغلب ى‬
‫املعرب‪.‬‬
‫األول‪ ،‬ومنها نشأ الكون‪ .‬ه‬ ‫و ُأرسطوطاليس‪ .‬قال َّ‬
‫بأن النار هي اجلوهر َّ‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪243‬‬

‫متنوعة‪ ،‬بحيث‬ ‫ُأرسطو‪َّ .‬‬


‫إن هذا االستبدال كانت له عند الفالسفة واملدارس املختلفة أشكال ه‬
‫حت َّقق تارة بواسطة مفهوم الروح (عند أنصار أصالة الروح)‪ ،‬وتارة ُأ ى‬
‫خرى كان ملفاهيم من‬ ‫(‪)1‬‬

‫قبيل‪ :‬املا َّدة‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬واجلوهر‪ ،‬والطاقة‪ ،‬واملوضوع‪ ،‬والعرض والتقديم(‪ ،)2‬أو العودة‬
‫عل العالقة بني‬
‫اخلالدة للذات َّية ‪ ،‬حمور َّية فيها‪ .‬ويف مجيع هذه األحوال من خالل الرتكيز ى‬
‫(‪)3‬‬

‫الوجود واملوجودات‪ ،‬مت َّت الغفلة عن أصل الوجود(‪.)4‬‬


‫َّ‬
‫إن هايدغر يف املرحلة األخرية من تفكريه‪ ،‬يف الوقت الذي يعد معه تغيري نقطة ارتكاز‬
‫املف هكرين يف مواجهة حقيقة الوجود نوعا من األمر املقدَّ ر والناشئ من التج ّليات ه‬
‫املتنوعة‬
‫تعرضوا إ ىل نوع من‬ ‫وتغيري نمط ظهوره يف خمتلف مراحل التاريخ‪َّ ،‬إال أ َّنه ى‬
‫يرى الفالسفة قد َّ‬
‫االنحطاط من حيث إ َّّنم مل يلتفتوا إ ىل ماه َّية هذا الظهور والتأمل يف باب ظهورهم املقدَّ ر‪.‬‬
‫بأن الوجود يف جت ّلياته وظهوراته ه‬
‫املتنوعة يواصل إخفاء ذاته‪ ،‬أمر‬ ‫أن القول َّ‬
‫يزعم هايدغر َّ‬
‫يعجز التفكري واللسان امليتافيزيقي عن إدراكه وبيانه‪َّ .‬‬
‫إن املتعاطني يف الشأن امليتافيزيقي لطاملا‬
‫عل طول التاريخ يف مواجهتهم ِّلذه املسألة‪ ،‬إ ىل البحث عن الكائن‬‫عمدوا يف الغالب ى‬
‫األو ل للكائنات يف هرم الوجود األكرب‪ ،‬واعتربوه بمثابة واحد من الكائنات‬
‫األسمى واملبدأ َّ‬
‫ى‬
‫أن الوجود يف جت ّلياته ه‬
‫املتنوعة مل يكن ‪ -‬من وجهة نظر‬ ‫بل هو من أفضلها وأسامها‪ .‬يف حني َّ‬
‫وعل الرغم من أ َّنه ُي َعد ما َّدة لظهور‬
‫ى‬ ‫هايدغر ‪ -‬يف متناول اليد بشكل عيني وموضوعي أبدا‪،‬‬
‫الكائنات وجعلها يف املتناول‪َّ ،‬إال أ َّنه ُخيفي ذاته عن التفكري املفهومي القائم ى‬
‫عل إظهار‬
‫املستور‪ ،‬وال يمكن احلصول عليه ضمن إطار كائن وموجود خاص ح َّت ىى إذا كان من أفضل‬
‫غض الطرف عن حقيقة‬ ‫بأن هذا األُسلوب من ه‬
‫الكائنات‪ .‬يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫الوجود‪ ،‬قد أظهر نفسه يف مرحلته اجلديدة من خلف التكنولوجيا احلديثة ويف إطار اآلل َّية‬
‫التكنولوج َّية‪.‬‬

‫‪(1) spirit‬‬
‫‪(2) representation‬‬
‫‪(3) the eternal recurrence of the same.‬‬
‫‪(4) Heidegger, Martin. 1998 c, Introduction to What Is Metaphysics/ in: Pathmarks, edited by‬‬
‫‪William McNeill, UK: Cambridge University Press, p. 278.‬‬
‫‪ ❖ 244‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫وعل هذه الشاكلة َّ‬


‫فإن املواجهة األنطولوج َّية للمتعاطني يف الشأن امليتافيزيقي مع مبدأ‬ ‫ى‬
‫معنى وحقيقة الوجود ‪ -‬الذي مل يعدّ التفكري‬ ‫ى‬ ‫األول واستبداله بالسؤال عن‬ ‫الكائنات َّ‬
‫عل متهيد األرض َّية لنسيان الوجود يف تاريخ‬
‫عل اإلجابة عنه ‪ -‬لطاملا ساعد ى‬
‫امليتافيزيقي قادرا ى‬
‫إن عجز املنظومة امليتافيزيق َّية يف طرح هذا السؤال واإلجابة عنه‪ ،‬واِّلاجس‬‫امليتافيزيقا‪َّ .‬‬
‫اجلوهري‪ ،‬واألُنس املتعارف للبرش يف أخذ الكائنات بنظر االعتبار‪ ،‬قد دفع هايدغر يف ّناية‬
‫املطاف ‪ -‬يف اإلشارة إ ىل جوهر الكائنات وما َّدة ظهورها ‪ -‬إ ىل االستفادة من مصطلح ومفوم‬
‫ونرى أنفسنا عند واحد‬ ‫أي جهة َّإال‬ ‫ِ‬
‫ى‬ ‫يرى هايدغر أ َّننا حيث ال ننزلق إ ىل ه‬
‫العدم املقرصن ‪ .‬ى‬
‫(‪)1‬‬

‫ويرى أغلب امليتافيزيق هيني الوجود أمرا بدهي ًّيا وغري قابل للتعريف‪ ،‬ال نعود‬‫ى‬ ‫من الكائنات‪،‬‬
‫الكم اِّلائل من الكائنات‪ ،‬يف حني أ َّن‬
‫ه‬ ‫نأخذه مأخذ اجلده ‪ ،‬وكأ َّننا نعتربه ال يشء بالقياس إ ىل‬
‫هذا الكائن َّ‬
‫الاليشء (العدم) هو منشأ وأصل مجيع الكائنات‪ ،‬ومن هذه الناحية يعد أصل‬
‫امليتافيزيقا(‪ .)2‬يقول هايدغر يف هذا الشأن يف املسائل الفينومينولوج َّية األساس َّية‪:‬‬
‫نحن نواجه املوجود سواء عىل املستوى النظري أو العمل‪ .‬فام سوى هذا املوجود‬
‫هو العدم‪ .‬ور َّبام ُعدَّ من بني املوجودات ما هو كائن ال يشء‪ ،‬ولكن مع ذلك ر َّبام‬
‫يكون هناك يشء موجود‪ ،‬وهو وإن كان موجود ًا َّإال أ َّنه معدوم‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‬
‫ك ِّله فهو موجود بمعنى أ َّنه ال يزال جيب تعيينه(‪.)3‬‬

‫أبدى‬
‫ى‬ ‫أن بعض القارئني آلثار هايدغر قد اعتربوه هاجتاها عدميًّا‪ .‬وقد‬ ‫ِ‬
‫مقرصنا من جهة َّ‬ ‫(‪ )1‬لقد كان استعامل هذا املفهوم‬
‫توميو توسكا ‪ُ -‬أستاذ الفلسفة الياباين ‪ -‬يف حوار له مع هايدغر‪ ،‬باإلشارة إ ىل الدور املحوري للعدم (‪)Das Nichts‬‬
‫يف رسالة ما هي امليتافيزيقا؟ تعج به من هذا الفهم اخلاطئ ملفهوم العدم يف هذه الرسالة‪ .‬وقد قال ِّلايدغر يف هذا الشأن‪:‬‬
‫عندما وصلت إلينا ترمجة رسالة ما هي امليتافيزيقا؟ سنة ‪ 1930‬م يف اليابان‪ ،‬أدركنا معانيها يف ذات الوقت‪ .‬فقد كان‬
‫نتعجب‬
‫عل يدك‪ ،‬وامتلك اجلرأة وقام برتمجتها‪ .‬ولذلك فإ َّننا َّ‬ ‫هناك طالب ياباين قد درس يف تلك الفرتة هذه الرسالة ى‬
‫توصل األُوروبي ون يف مقام تفسري مفهوم العدم املذكور يف تلك الرسالة إ ىل العدم َّية‪ .‬إ َّن كلمة اخلأل‬
‫اليوم ونقول‪ :‬كيف َّ‬
‫تشري يف ثقافتنا إ ىل االسم األعظم لذلك اليشء الذي تروم بيانه من خالل كلمة الوجود (‪( .)Sein‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪،‬‬
‫زبان‪ ،‬خانه وجود؛ گفت وگوى هيدگر با ي ک ژاپنی (اللغة‪ :‬بيت الوجود‪ ،‬حوار هايدغر مع شخص ياباين)‪ ،‬ترمجه ى‬
‫إل‬
‫اللغة الفارس َّية‪ :‬جهانبخش نارص‪ ،‬ص ‪ 48‬و‪ ،49‬نرش هرمس‪ ،‬ط ‪ ،1‬طهران‪1391 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(2) Ibid, p. 290.‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬مسائل اسايس پديدارشنايس (املسائل الفينومينولوجي َّة األساسي َّة)‪ ،‬ص ‪ ،25‬ترمجه إ ىل اللغة‬
‫النص‪.‬‬
‫الفارس َّية‪ :‬پرويز ضياء شهاب‪ ،‬نرش مينوي خرد‪ ،‬ط ‪ ،1‬طهران‪1392 ،‬هـ ش‪ .‬التأكيدات موجودة يف أصل ه‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪245‬‬

‫‪ - 3‬هرم الوجود األكرب وقيامه على نظام املقوالت‪:‬‬


‫عل‬ ‫إن من بني اآلل ّيات األُ ى‬
‫خرى لنسيان الوجود من وجهة نظر هايدغر‪ ،‬قيام فهم الكائنات ى‬ ‫َّ‬
‫التعينات املقول َّية‪ ،‬الذي ُيول دون الظهور األصيل للكائنات ومواجهة الصورة احلقيق َّية‬
‫إن العامل اِّلايدغري أمر يفوق الطبيعة وطبقات الكائنات يف هرم الوجود األكرب‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫للعامل‪َّ .‬‬
‫العامل من وجهة نظر هايدغر عبارة عن انفتاح وإضاءة الوجود‪َّ ،‬‬
‫وإن إنسان َّية اإلنسان بدورها‬
‫سوى‬
‫ى‬ ‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن اإلنسان ليس شيئا‬ ‫ى‬ ‫رهن باحلضور والقيام يف هذا االنفتاح‪.‬‬
‫التوقف اخلارجي(‪ )1‬يف ساحة الوجود املنفتح‪ .‬ومن خالل هذا التوقف اخلارجي تكتسب‬
‫ثنائ َّية املوجود الذهني واملوجود اخلارجي مفهومها ومعناها(‪َّ .)2‬‬
‫إن العامل عند هايدغر أرض َّية‬
‫ونسيج تندرج فيه األرض ّيات واألنسجة اجلزئ َّية يف احلياة االنضامم َّية لإلنسان بوصفها‬
‫معني يتناسب مع ه‬
‫كل نسيج‬ ‫سجل حضوره ب ُأسلوب َّ‬ ‫جمموعة مرتابطة فيام بينها‪َّ .‬‬
‫إن اإلنسان ُي ه‬
‫عل تنظيم أضالع وزوايا كينونة اإلنسان يف‬ ‫وأرض َّية انضامم َّية‪َّ ،‬‬
‫وإن نتيجة هذا احلضور تعمل ى‬
‫متنوعة‬
‫عل إظهار إمكان ّيات ه‬ ‫العامل‪َّ .‬‬
‫إن الكينونة يف العامل أرض َّية عا َّمة ومساحة مفتوحة تعمل ى‬
‫ألنس البرشي مع الكائنات‪ .‬ومن هذه الزاوية َّ‬
‫فإن كينونة الـ دازين والكينونة هناك‬ ‫ل ُ‬
‫والكينونة يف العامل ستكون متوافقة فيام بينها‪ .‬يزعم هايدغر َّ‬
‫أن الكينونة يف عامل الـ دازين‬
‫عل أساسه دائام مع اآلخرين‬
‫عل خصوص َّية التامهي العاملي ‪ ،‬حيث يكون للـ دازين ى‬
‫(‪)3‬‬
‫يشتمل ى‬
‫عل أساسها االنتخابات‬ ‫تتعني ى‬
‫أو األشخاص يف عامل مشرتك ارتباط ونسبة وجود َّية‪َّ ،‬‬
‫(‪)4‬‬

‫وعل هذا األساس فإ َّننا من‬


‫ى‬ ‫ونمط كينونته‪ .‬ومن هذه الزاوية يكون الـ دازين كينونة مع(‪.)5‬‬

‫‪(1) Ek-sistenze.‬‬

‫‪(2) Heidegger, Martin. 1993 a Letter on Humanism in: Basic Writing: from Being and Time‬‬

‫‪(1927) to the Task of thinking (1964), edited by Bavid Farrell Krell, Harper San‬‬

‫‪Francisco. p. 252.‬‬

‫‪(3) Mitwelt‬‬

‫‪(4) das man‬‬


‫(‪ )5‬فيجال‪ ،‬غونرت‪ ،‬درآمدي بر هيدگر (مدخل إىل هايدغر)‪ ،‬ص ‪ 74‬فام بعد‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬شهرام باقري‪،‬‬
‫نرش حكمت‪ ،‬ط ‪ ،1‬طهران‪1394 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪ ❖ 246‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل نظام املقوالت‪ ،‬ال نصل إ ىل إدراك مظهر للواقع‬


‫خالل إحصاء الكائنات وتبويبها بناء ى‬
‫عن العامل‪َّ .‬‬
‫إن العامل من وجهة نظر هايدغر ‪ -‬والس ّيام يف مرحلة صدور كتاب الوجود‬
‫أن يكون نمطا من توصيف وتبويب األشياء‪ُ ،‬يم هثل نحوا من األنحاء‬
‫والزمان ‪ -‬بدال من ْ‬
‫ألي واحد من الكائنات‬
‫وعل هذه الشاكلة لن يكون ه‬
‫ى‬ ‫الوجودية للـ دازين وجزءا من طبيعته‪.‬‬
‫عل الكائنات املاثلة أمام‬
‫ألن العامل بوصفه دائرة للتعرف ى‬ ‫‪ -‬باستثناء اإلنسان ‪ -‬عامل‪ ،‬وذلك َّ‬
‫اإلنسان وجعلها أمرا يف املتناول‪ ،‬نعمة وهبة من ِق َبل الوجود مل ُمت َنح لغري اإلنسان‪.‬‬
‫إل اال هدعاء ‪ -‬خالفا ملا يعتقده الكثري من الفالسفة املتقده مني ‪ -‬بأ َّننا يف‬
‫يذهب هايدغر ى‬
‫الوهلة األُو ىل ال نقوم جتاه األشياء والظواهر املحيطة بنا بمواجهة نظر َّية قائمة ى‬
‫عل ثنائ َّية‬
‫الوجود اخلارجي والوجود الذهني‪ ،‬بل َّ‬
‫إن أغلب مواجهاتنا مع األشياء هي مواجهة تقوم‬
‫عل شكل املواجهة‬ ‫عل التفكري باملآل واآلل ّيات العمل َّية لألشياء‪ .‬لقد أطلق هايدغر ى‬
‫(‪)1‬‬
‫ى‬
‫عل املواجهة التي‬
‫األخرية مع األشياء مصطلح املواجهة اليدو َّية أو يف متناول اليد ‪ ،‬وأطلق ى‬
‫(‪)2‬‬

‫ُمت هثل أمامنا داخل تلك األشياء بوصفها من متع َّلقات اإلدراك ‪ -‬وقام أغلب الفالسفة‬
‫إل االعتقاد‬
‫عل هذه املواجهة ‪ -‬مواجهة املاثل يف اليد ‪ .‬يذهب هايدغر ى‬
‫(‪)3‬‬
‫بدراسة األشياء بناء ى‬
‫بأن املواجهة النظر َّية البحتة مع األشياء التي ُمت هثل األُسلوب الشائع بالنسبة ى‬
‫إل الفالسفة‬ ‫َّ‬
‫خاص َّية كينونة الـ دازين يف العامل و ُأنسه العلمي‬
‫املتقده مني والس ّيام بعد ديكارت‪ ،‬قد جتاهلت ّ‬
‫مع األشياء ( ُأسلوب املواجهة اليدو َّية)‪.‬‬
‫إل حدث لغوي هام يسود مع‬ ‫لقد أشار هايدغر يف رسالة الظاهر ّيات َّ‬
‫والالهوت بذكاء ى‬
‫الوسطى ‪ -‬يقع بعد‬
‫ى‬ ‫وعل أساسه ‪ -‬خالفا ملنهج الفالسفة املدرس هيني يف العصور‬
‫ى‬ ‫ديكارت‪،‬‬
‫وعل‬
‫ى‬ ‫الالتين هيني (‪ )obiectum‬و(‪،)subiectum‬‬ ‫ديكارت تبادل مفهومي بني املصطلحني َّ‬
‫األول ‪ -‬الذي كان يف البداية ُيط َلق بشأن متع َّلقات اإلدراكات‬
‫أساس ذلك أخذ املصطلح َّ‬

‫‪(1) Umsicht / circumspection.‬‬

‫‪(2) Handlich / handy.‬‬


‫(‪ ،)Vorhandenheit / present at hand( )3‬لقد استعمل هايدغر هذه املصطلحات لشكل مواجهتنا مع األشياء‪،‬‬
‫ويف توصيف ذات هذه األشياء أيضا‪.‬‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪247‬‬

‫احلس َّية واخلياالت والتمنّيات واألحكام والشهود البرشي‪ ،‬ويعني لفظا املطروح نسقا ‪-‬‬ ‫ّ‬
‫عل األشياء العين َّية واخلارج َّية‪ ،‬واملصطلح الثاين ‪ -‬الذي كان يف البداية ُيط َلق ى‬
‫عل‬ ‫ُيط َلق ى‬
‫اإلشارة إ ىل األعيان االنضامم َّية املاثلة أمامنا‪ ،‬وتعني لفظا املطروح أسفال ‪ُ -‬يط َلق ى‬
‫عل‬
‫احلج َّية واألصالة التي كان ديكارت وأنصاره يروّنا‬
‫ّ‬ ‫انتزاعاتنا الذهنية عن األشياء‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫ملتع َّلقات اإلدراك يف دائرة ذهن الفاعل املعريف‪ ،‬قد أ َّدت يف ضوء هذا التحول والتبادل بني‬
‫ّ‬
‫التخيل عن‬ ‫األلفاظ باملاه َّية املستق َّلة والعين َّية لألشياء ‪ -‬بوصفها أساسا ه‬
‫لكل إدراك ‪ -‬إ ىل‬
‫موضعها لصالح انعكاسات الذهن البرشي(‪َّ .)1‬‬
‫إن انتشار هذه الوترية وضع نسيان الوجود‬
‫أمام حالة جديدة‪ ،‬بحيث ظهر اجلشتال بوصفه ذات التكنولوجيا احلديثة من صلبها‪.‬‬
‫عل َّ‬
‫أن مواجهتنا الرئيسة مع األشياء مواجهة مآل َّية‬ ‫يذهب هايدغر ‪ -‬من خالل تأكيده ى‬
‫بأن جهود الفالسفة‬ ‫عل األُنس العلمي باملوجودات والكائنات ‪ -‬إ ىل القول َّ‬
‫التفكري وتقوم ى‬
‫عل منهج يدوي‪ُ ،‬مت هثل جهودا فاشلة‪ ،‬إذ ال‬
‫الرامية إ ىل اكتشاف حقيقة األشياء التي تقوم ى‬
‫تأخذ نسبة األشياء إ ىل اإلنسان وكذلك فيام بينها بنظر االعتبار كام ينبغي‪ .‬ويف مسار املعرفة‬
‫ترى اإلنسان كائنا متخ هلفا عن األشياء ويف مواجهتها‪ ،‬يف حني يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء َّ‬
‫بأن‬ ‫ى‬
‫عل الدوام أمام اإلنسان ضمن أرض َّية وسياق واحد‪َّ ،‬‬
‫وإن ظهور األشياء أمام‬ ‫األشياء حترض ى‬
‫اإلنسان ُيم هثل يف حده ذاته واحدا من األنحاء الوجود َّية لإلنسان حيث تنشأ من كينونته يف‬
‫العامل‪ .‬ويف هذا البني يمكن لإلنسان من خالل توظيف إمكاناته الوجود َّية من جهة َّ‬
‫أن‬
‫يتعامل مع األشياء بشكل ما بحيث تقوم تلك األشياء بإظهار نفسها له كام هي‪ ،‬ومن جهة‬
‫يتعاطى اإلنسان مع األشياء بحيث إ َّنه بدال من إظهار حقيقتها‬
‫ى‬ ‫أن‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى يمكن لإلنسان ْ‬
‫يرى َّ‬
‫أن امليتافيزيقا من خالل أخذ‬ ‫ُيسهم يف إخفائها‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر يف كلتا مرحلتيه الفكر َّيتني ى‬
‫عل تنظيم مثل هذه املواجهة (أي‬ ‫األشياء بنظر االعتبار يف ضوء مفهوم اجلوهر‪ ،‬تعمل ى‬
‫املواجهة املضمرة)‪.‬‬
‫فإن اإلدراك املقول للموجودات ‪ -‬الذي ُيم هثل واحدا من األُ ُسس‬
‫عل هذا الرأي َّ‬
‫بناء ى‬

‫‪(1) Heidegger, Martin. 1998 b, Phenomenology and Theologyin: Pathmarks, edited by‬‬

‫‪William McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 57 - 58.‬‬


‫‪ ❖ 248‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫البنيو َّية للكثري من تقارير هرم الوجود األكرب ‪ -‬حيث ال ُتو هفر جماال للمواجهة مع املوجودات‬
‫بوصفها جت ّليات وانكشافات ه‬
‫متنوعة للوجود‪ُ ،‬يؤ ّدي إ ىل رسم صورة غري أصيلة للعامل‬
‫عنى وحقيقة الوجود‪ .‬يف هذه الطريقة من مواجهة‬
‫واإلنسان‪ ،‬وبالتال فإ َّنه خيفي السؤال عن م ى‬
‫ّ‬
‫التجيل‬ ‫عل‬
‫الوجود‪ ،‬يقوم اإلنسان ‪ -‬من خالل االستناد إ ىل آليات التفكري املفهومي القائم ى‬
‫عل وجودها األصيل‪ ،‬ولكن بدال من احلصول عليها‬
‫المتالك أقسام املوجودات ‪ -‬باِّلجوم ى‬
‫عل تغطية وجودها األصيل‪.‬‬‫جمرد فرض األبنية املقول َّية عليها‪ ،‬والعمل ى‬
‫يتم َّ‬
‫إن الفصل املشرتك يف املرحلة األُو ىل من تفكري هايدغر واملرحلة َّ‬
‫الالحقة ِّلا جيب البحث‬ ‫َّ‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫معنى الوجود يف املرحلة األُو ىل مع السؤال عن‬
‫ى‬ ‫عنه يف االرتباط القائم بني السؤال عن‬
‫عل‬
‫سعى هايدغر يف هذا الشأن ‪ -‬من خالل الرتكيز ى‬ ‫ى‬ ‫احلقيقة يف املرحلة َّ‬
‫الالحقة ِّلا(‪ .)1‬وقد‬
‫معنى مفردة الـ أليثايا(‪ )2‬التي زعم َّ‬
‫أن أوائل فالسفة اإلغريق كانوا يستعملوّنا يف ما يساوق‬ ‫ى‬
‫ملعنى‬
‫والتجيل ‪ -‬إ ىل رسم فهم خمتلف ى‬‫ّ‬ ‫وبمعنى الظهور‬
‫ى‬ ‫احلقيقة وما يرتبط مع مفهوم الوجود‬
‫عل هذا الفهم املختلف حيث إ َّن َّ‬
‫كل نوع من أنواع املواجهات األنطولوج َّية‬ ‫الكينونة‪ .‬بناء ى‬
‫واألبستيمولوج َّية مع الكائنات يتو َّقف َّأوال ى‬
‫عل خروجها من االحتجاب واخلفاء‪ ،‬وهو أمر‬
‫مستوى الربط‬
‫ى‬ ‫يذهب هايدغر معه إ ىل االعتقاد بأ َّنه قد انخفض بعد أفالطون و ُأرسطو إ ىل‬
‫والنسبة بني ذهن اإلنسان والواقع ّيات اخلارج َّية‪ ،‬واقرتب من ذروته يف املرحلة اجلديدة من‬
‫الفلسفة الغرب َّية مع انتشار الكوجيتو(‪ )3‬عند ديكارت‪.‬‬
‫يتم التفكري فيه يف الفكر اليوناين وخصوص ًا‬
‫إن جوهر احلقيقة بوصفه (أليثايا) مل ي‬
‫َّ‬
‫املتأخرة‪ .‬فالكشف بالنسبة إىل التفكري هو أخفى اخلفاء يف الوجود اآلين‬
‫ِّ‬ ‫يف الفلسفة‬

‫(‪ )1‬بيمل‪ ،‬والرت‪ ،‬برريس روشنگرانه انديشههاى مارتني هيدگر (دراسة تنويريَّة ألفكار مارتن هايدغر)‪ ،‬ص ‪ 41‬و‪،42‬‬
‫ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬بيژن عبد الكريمي‪ ،‬نرش رسوش‪ ،‬ط ‪ ،2‬طهران‪1387 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(2) Aletheia‬‬
‫(‪ )3‬الكوجيتو َّ‬
‫(بالالتين َّية‪ :)Cogito, ergo sum :‬هو املبدأ الذي انطلق منه ديكارت إلثبات احلقائق بالربهان‪ ،‬وهو‬
‫عبارة عن قضيَّة منطقيَّة ترمجتها بالعربيَّة (أنا أشك؛ إذن أنا موجود)‪ ،‬وهذه هي ترمجتها الصحيحة؛ َّ‬
‫ألن البعض‬
‫يرتمجها خطأ (أنا ُأف هكر؛ إذن أنا موجود)‪ .‬ه‬
‫املعرب‪.‬‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪249‬‬

‫اليوناين‪ ،‬ولك َّنه يف الوقت نفسه هو املحدِّ د لوجود ِّ‬


‫كل موجود(‪.)1‬‬
‫إثر نسيان احلقيقة بام هي أليثايا‪َّ ،‬‬
‫فإن املوجودات بدال من أخذها بنظر االعتبار بوصفها‬
‫حضور األمر احلارض‪ ،‬يتم تصو رها يف قبال املثول أمام ذهن وإدراك اإلنسان‪ ،‬ومن هذه‬
‫القناة تقع حتت ضبط وسيطرة منظومة املقوالت األُرسط َّية ونظائرها‪ ،‬ويذهب االلتفات ى‬
‫إل‬
‫الوضوح واجلالء يف املحاق‪ ،‬هذا يف حني َّ‬
‫أن اإلغريق األوائل ‪ -‬بزعم هايدغر ‪ -‬يعتربون‬
‫وجود املوجودات بوصفه حضورا لألمر احلارض(‪َّ .)2‬‬
‫إن احلقيقة بوصفها أليثايا تالزم نوعا‬
‫إل ذو اهتا‪ .‬وبطبيعة احلال جيب علينا التعاطي مع هذا النوع من اإليكال‬
‫من إيكال األشياء ى‬
‫عل أساسه ‪ -‬من خالل العمل ب ُأسلوب خاص ‪ -‬السامح للموجودات‬ ‫بإجياب َّية‪ ،‬حيث يتم ى‬
‫بالظهور األصيل‪.‬‬
‫لو أ َّننا عمدنا [طبق ًا إلدراك اإلغريق األوائل] إىل ترمجة الـ (أليثايا) ‪ -‬بدالً من‬
‫جمرد ترمجة لفظ َّية بحتة‪ ،‬بل سوف‬
‫فإن ذلك لن يكون َّ‬ ‫الالحتجب‪َّ ،‬‬ ‫احلقيقة ‪ -‬إىل َّ‬
‫يتضمن توجيه ًا إىل إعادة التفكري يف املفهوم املتعارف للحقيقة بمعنى صدق القضايا‬
‫َّ‬
‫إن تعاطي الفرد مع‬ ‫الالحتجب واالنفتاح غري ِ‬
‫املدرك بعدُ للموجودات‪َّ .‬‬ ‫وإرجاعها إىل َّ‬
‫إن هذا التعاطي يعني تراجع ًا أمام‬
‫ال حتجب املوجودات ال يعني ضياع الفرد فيها‪ ،‬بل َّ‬
‫تقدم املوجودات‪ ،‬حيث تُبلور وجودها وتعمل عىل إظهار ذاهتا بالنظر إىل ماه َّيتها‬
‫(صحته) منها(‪.)4‬‬
‫َّ‬ ‫وكيف َّيتها‪ ،‬ويأخذ العرض التطابقي(‪ )3‬معيار‬
‫اخلاص ملفهوم‬
‫ه‬ ‫عل فهمه‬
‫مل يكن هايدغر وحده من قام الحقا بإجراء بعض التعديالت ى‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي)‪ ،‬مع رشح‪ :‬ويلهامل فان هريمان‪ ،‬ص ‪ ،34‬ترمجه إ ىل اللغة‬
‫الفارسيَّة‪ :‬پرويز ضياء شهاب‪ ،‬نرش هرمس‪ ،‬ط ‪ ،5‬طهران‪1392 ،‬هـ ش‪ .‬نقال عن الرتمجة العربيَّة التي هي من‬
‫عمل‪( :‬د‪ .‬أبو العيد دودو)‪ ،‬ص ‪ ،112‬نرش‪ :‬دار اجلمل‪.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin. 1998 c, Introduction to What Is Metaphysics/ in: Pathmarks, edited by‬‬

‫‪William McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 285.‬‬


‫‪(3) presentative correspondence.‬‬
‫‪(4) Heidegger, Martin. 1998 a, On the Essence of Truth in: Pathmarks, edited by William‬‬
‫‪McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 144.‬‬
‫‪ ❖ 250‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫واملتخصصني يف الشأن اليوناين قاموا بنقده‬


‫ه‬ ‫الـ أليثايا فحسب‪ ،‬بل ح َّت ىى بعض الباحثني‬
‫اخلاص ِّلايدغر إ ىل ما‬
‫ه‬ ‫صحة انتساب التقرير‬ ‫إن هذه االنتقادات ْ‬
‫وإن أمكنها تعريض َّ‬ ‫أيضا(‪َّ .)1‬‬
‫صحة‬
‫بغض النظر عن َّ‬ ‫قبل السقراط هيني إ ىل اإلشكال‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن ذات مدَّ عاه يف هذا الشأن ‪ -‬ه‬
‫انتسابه إ ىل ما قبل السقراط هيني ‪ -‬جدير بالتأمل‪ .‬لقد ذهب هايدغر يف كلمة له بعنوان ّناية‬
‫الفلسفة ووظيفة التفكري ‪ -‬خالفا آلرائه السابقة ‪ -‬إ ىل عدم اعتبار الـ أليثايا مساوقة للحقيقة‪،‬‬
‫أي حضور وال حتجب‪ ،‬ومن هنا ال‬ ‫عل َّ‬
‫أن الـ أليثايا تعني انفراج رشط إمكان ه‬ ‫وإ َّنام ُيؤ هكد ى‬
‫يمكن تسميتها حقيقة‪ .‬كام أ َّنه ‪ -‬خالفا آلرائه الرصُية يف رسائل يف حقل ذات الصدق ‪ -‬قد‬
‫والالاحتجاب؛ إذ إ َّن‬
‫بأن احلقيقة مل ُتس َتعمل يف فلسفة اليونان بمعن ىى عدم اخلفاء َّ‬
‫رصح َّ‬‫َّ‬
‫وعل هذا األساس يذهب‬ ‫ى‬ ‫الالاحتجاب أو عدم اخلفاء‪.‬‬‫املعنى املتعارف للحقيقة ليس هو َّ‬
‫ى‬
‫إل‬
‫هايدغر إ ىل القول بعدم صواب َّية مدَّ عاه السابق حول تبديل مفهوم عدم اخلفاء وحتويله ى‬
‫بأن الـ أليثايا كانت منذ البداية مقرونة بمفهوم التطابق‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫رصح بدال من ذلك َّ‬
‫املطابقة‪ ،‬و ُي ه‬
‫عدم اخلفاء ذاته قد َّ‬
‫ظل مغفوال عنه بشكل دائم‪ ،‬وكانت الفلسفة بر َّمتها م َّتجهة إ ىل ذلك‬
‫عل إظهار عدم خفائها وال احتجاهبا(‪.)2‬‬
‫اليشء الذي يعمل ى‬
‫عل‬
‫إل مفهوم اجلوهر واحدا من لوازم تقسيم املوجودات ى‬ ‫ويف هذا الشأن ُي َعد االلتفات ى‬
‫أساس األبنية املقول َّية التي هي يف الوقت نفسه واحدة من األجزاء اجلوهر َّية للميتافيزيق‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن موضوع الفلسفة ‪ -‬الذي يراه مساوقا للميتافيزيق ‪ -‬هو وجود‬ ‫املدريس‪ .‬ى‬
‫املوجودات التي أظهرت نفسها طوال تاريخ الفلسفة يف إطار مفهوم اجلوهر أو الذات‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن هذا النوع من التعاطي مع املوجودات ُيول دون ظهورها‬ ‫املعرف َّية ‪ .‬ى‬
‫(‪)3‬‬

‫عل نامذج من هذه االنتقادات‪ُ ،‬انظر املصدر أدناه‪:‬‬


‫(‪ )1‬للوقوف ى‬
‫‪Inwood, 1999, Michael. A Heidegger Dictionary, Britain: Blackwell Publisher. p. 14 -‬‬

‫‪15.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin. 1993 b, The End of Philosophy and the Task of Thinking in: Basic‬‬
‫‪Writings: from (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David Farrell Krell,‬‬
‫‪Harper San Francisco, p. 446 - 447.‬‬
‫‪(3) Ibid, p. 438.‬‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪251‬‬

‫األصيل‪ ،‬وحتقق التطلعات الفينومينولوج َّية لـدعوة إ ىل األشياء ذاهتا(‪ ،)1‬يف حني َّ‬
‫أن اإلغريق‬
‫األوائل قبل بداية تاريخ امليتافيزيق كانوا يواجهون األشياء والظواهر بطريقة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ .‬‬
‫إن هذه‬
‫نرى شذرات منها ح َّت ىى يف آثار‬
‫الطريقة غري امليتافيزيق َّية من التعاطي مع املوجودات والتي ى‬
‫ُأرسطو أيضا ‪ -‬بدال من الوقوف أمامها يف مسار معرفة املوجودات بتحميل املقوالت‬
‫عل السامح ِّلا باحلضور‬ ‫الذهن َّية للفاعل املعريف‪ ،‬وحتويلها إ ىل متع َّلق معرفتها ‪ -‬تعمل ى‬
‫والظهور من خالل وضع ذاهتا يف الدائرة التي ُتو هفر للموجودات إمكان َّية الظهور‪ .‬بيد أ َّنه مع‬
‫عل اإلثارات‬ ‫مالحظة األبنية املقول َّية يف التعاطي مع املوجودات‪َّ ،‬‬
‫فإن وجودها األصيل يقوم ى‬
‫مستوى مفهوم اجلوهر‪ ،‬ويتم تبويب سائر‬
‫ى‬ ‫املقول َّية لذهن الفاعل املعريف‪ ،‬يتم خفضه إ ىل‬
‫العرض‪ ،‬وهذا املنهج يتم توظيفه ‪ -‬بوصفه‬
‫عل هامش مفهوم َ‬ ‫أبعادها وأضالعها الوجود َّية ى‬
‫معيارا لتبديل أقسام املوجودات (أنواع اجلواهر واألعراض) ‪ -‬يف بنية هرم الوجود األكرب‪.‬‬
‫عل إخفاء الظهور واجلالء األصيل لألشياء‬
‫وهو أمر يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء بأ َّنه يعمل ى‬
‫والظواهر‪ ،‬وُيرشها يف اإلطار املحدود لذهن الفاعل املعريف‪.‬‬

‫‪ - 4‬هرم الوجود األكرب وقيامه على األبستيمولوجيا اإلظهاريَّة‪:‬‬


‫خاصا من‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫إن األنطولوجيا املنبثقة عن بنية هرم الوجود األكرب حيث تستلزم نوعا‬
‫أي نوع من التطابق‬ ‫يرى َّ‬
‫أن حتقق ه‬ ‫األبستيمولوجيا يمكن ْ‬
‫أن تقع موردا لنقد هايدغر أيضا‪ ،‬إذ ى‬
‫عل حتقق نوع من عدم اخلفاء َّ‬
‫والالحتجب‬ ‫بني ذهن الفاعل املعريف وأمر الواقع‪ ،‬يتو َّقف َّأوال ى‬
‫األنطولوجي والوجودي الذي مل يأخذه امليتافيزيق التقليدي بنظر االعتبار بشكل عام‪.‬‬
‫إن األمر األبستيمولوجي من وجهة نظر هايدغر ال يتو َّقف ى‬
‫عل بناء‬ ‫وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫أن األُ ُسس‬
‫أنطولوجي فحسب‪ ،‬بل هو نوع من األمر األنطولوجي الوجودي‪ ،‬يف حني َّ‬
‫املقول َّية ‪ -‬التي تعني أخذ املوجودات يف هرم الوجود األكرب بنظر االعتبار ‪ -‬ال تسمح ِّلا‬
‫بالظهور األصيل‪ ،‬من خال ل وضعها يف قبال ذهن الفاعل املعريف عرب آلية اإلظهار وإحراز‬
‫املطابقة بني الذهن والعني‪.‬‬

‫‪(1) the call to the things themselves.‬‬


‫‪ ❖ 252‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫احلقيقة تعني اليوم ومنذ زمن طويل تطابق املعرفة مع اليشء‪ .‬ولكن لكي تستطيع‬
‫املعرفة واجلملة التي ُتش ِّكل املعرفة وتصوغها أن تتناسبا مع اليشء ح َّتى َّ‬
‫ينم اليشء‬
‫يتم ظهور اليشء نفسه بوصفه شيئ ًا‪ .‬وكيف يظهر‬
‫نفسه عن ارتباطه باجلملة‪ ،‬جيب أن َّ‬
‫نفسه إذا كان هو نفسه مل خيرج من اخلفاء‪ ،‬إذا مل يقف هو نفسه يف الكشف؟ فاجلملة‬
‫تكون حقيقية عندما ت َّتجه إىل الكشف‪ ،‬أي إىل احلقيقة‪ .‬حقيقة اجلملة هي دائ ًام ودائ ًام‬
‫هذا الصدق وحده(‪.)1‬‬
‫وعل هذا الشكل يكون حتقق ه‬
‫كل نوع من أنواع التطابق رهن انفتاح الـ دازين أو ثباته‬ ‫ى‬
‫اخلارجي يف معرض ساحة من الوضوح الذي تعمل فيه املوجودات (أو الوجود بعبارة ّ‬
‫أدق)‬
‫عل إظهار نفسها بنحو من األنحاء‪َّ .‬‬
‫إن ارتباط ذلك االنفتاح وهذا الوضوح ُيش هكل أساسا‬ ‫ى‬
‫يرى هايدغر رصاحة َّ‬
‫أن مجيع أنواع امليتافيزيق ومنتقديه‪ ،‬من‬ ‫ه‬
‫لكل إدراك أبستيمولوجي ‪ .‬ى‬
‫(‪)2‬‬

‫(‪)3‬‬
‫قبيل الفلسفة الوضعية‪ ،‬مواكبة لكالم أفالطون‪ ،‬حيث تضع املفهوم اجلوهري للفكرة‬
‫بوصفها أساسا لوجود املوجودات بمختلف األنحاء يف صلب اهتاممها‪َّ .‬‬
‫إن هذا األصل‬
‫اجلوهري الذي يظهر بنحو من األنحاء يف ه‬
‫كل واحد من املدارس الفلسف َّية والفالسفة‬
‫إل بعض الثنائ ّيات‪ ،‬من قبيل‪ :‬املعقول ‪/‬‬
‫املنتسبني إليها‪ ،‬باإلضافة إ ىل استلزامها من جهة ى‬
‫الظل‪ ،‬واجلوهر ‪ /‬العرض‪ ،‬والوجود الذهني ‪ /‬الوجود اخلارجي‪،‬‬ ‫املحسوس‪ ،‬والنور ‪ّ /‬‬
‫وهذا العامل ‪ /‬العامل اآلخر‪ ،‬وما إ ىل ذلك من الثنائ ّيات األُ ى‬
‫خرى‪ُ ،‬يؤ ّدي من جهة ُأ ى‬
‫خرى إ ىل‬
‫اهتم به‬
‫َّ‬ ‫عل الوضوح الذي‬ ‫أن هذا الظهور يتو َّقف ى‬ ‫الظهور اخلارجي للموجودات‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن الذي عجزت مجيع أقسام امليتافيزيق دائام عن اخلوض فيه هو‬ ‫امليتافيزيق بشكل وآخر‪َّ ،‬إال َّ‬
‫التأم ل يف حقل ساحة االنفتاح التي جتعل من قناة احلضور ظهور الوضوح واخلفاء أمرا‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي)‪ ،‬مع رشح‪ :‬ويلهامل فان هريمان‪ ،‬ص ‪ 34‬و‪ ،35‬ترمجه ى‬
‫إل‬
‫اللغة الفارس َّية‪ :‬پرويز ضياء شهاب‪ ،‬نرش هرمس‪ ،‬ط ‪ ،5‬طهران‪1392 ،‬هـ ش‪ .‬نقال عن الرتمجة العرب َّية التي هي من‬
‫عمل‪( :‬د‪ .‬أبو العيد دودو)‪ ،‬ص ‪ 112‬و‪ ،113‬نرش‪ :‬دار اجلمل‪.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin. 1962, Being and Time, Translated by John Macquarrie & Edward‬‬
‫‪Robinson, Britain: Blackwell Publisher Ltd. p. 213 - 220.‬‬
‫‪(3) eidos‬‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪253‬‬

‫ممكنا‪ ،‬والذي مل يقع موردا لالهتامم أبدا َّإال يف املراحل األُو ىل من تبلور األفكار الفلسف َّية يف‬
‫اليونان القديمة وعند فالسفة من أمثال بارمنيدس‪.‬‬
‫يف البحث عن القناة األصل َّية لإلدراكات األبستيمولوج َّية لإلنسان‪ُ ،‬يع َترب حضور هذه‬
‫قوى اإلدراك َّية لإلنسان أمام انفتاح سائر املوجودات‬
‫الساحة من االنفتاح ‪ -‬الذي يضع ال ى‬
‫والكائنات ‪ -‬هو املفتاح الرئيس لفهم املسألة‪ .‬لقد أطلق هايدغر يف رسالة له بعنوان‪ :‬يف باب‬
‫احلر َّية‬
‫(‪)1‬‬
‫عل انفتاح الـ دازين يف قبال وضوح وعدم خفاء املوجودات مصطلح ّ‬
‫ذات الصدق ى‬
‫التي ُتش هكل ماه َّية الصدق‪ .‬يذهب هايدغر ‪ -‬خالفا إليامنوئيل كانط الذي يبحث يف إطار‬
‫إل اعتبارها بمثابة احلضور يف‬
‫احلر َّية يف حقل الفاهة ‪ -‬ى‬
‫عل التفكري البرشي عن ّ‬
‫إضفاء اِّلو َّية ى‬
‫عل جتسيد وجودها األصيل‪ ،‬وبذلك جتعله‬
‫انفتاح املساحة التي تعمل فيها املوجودات ى‬
‫مقرتنا بذات احلقيقة بوصفها عدما للخفاء‪.‬‬
‫احلر َّية‬
‫أن ّ‬ ‫بمعنى َّ‬
‫ى‬ ‫جمرد لوازم سلب َّية فقط‪،‬‬
‫عل َّ‬
‫احلر َّية املنشودة ملارتن هايدغر ال حتتوي ى‬
‫إن ّ‬ ‫َّ‬
‫إل‬ ‫ال تتح َّقق من خالل َّ‬
‫جمرد التجاهل والتغافل عن األشياء‪ ،‬بل تستلزم عمال إجياب ًّيا وناظرا ى‬
‫خاصة معها أيضا‪ ،‬بحيث يظهر عدم‬
‫َّ‬ ‫عل إعداد مواجهة‬ ‫االحتكاك باملوجودات والعمل ى‬
‫عل الرتاجع وسحب أنفسنا كي‬
‫خفاء الوجود وال احتجابه من قناهتا‪ .‬ويف هذه احلالة نعمل ى‬
‫ي َّتضح الوجود احلقيقي للموجودات كام هي‪َّ .‬‬
‫إن القضايا التي تتبلور من قناة هذا النوع من‬
‫املواجهة‪ ،‬بدال من ْ‬
‫أن تستخرج مالك صدقها من ذهن َّية الفاعل املعريف وإحراز مطابقته مع‬
‫احلر َّية‬ ‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن حتقق ّ‬ ‫ى‬ ‫تبقى رهينة الوضوح احلقيقي للموجودات(‪.)2‬‬
‫اخلارج‪ ،‬ى‬
‫بوصفها أمرا أنطولوجيا‪ ،‬سوف ُيش هكل أساسا جلميع أنواع التطابق‪ .‬وبطبيعة احلال جيب‬
‫مدركات‬
‫أن مجيع َ‬ ‫احلر َّية ال يعني بالرضورة َّ‬
‫أن حتقق ّ‬ ‫أن ال نغفل عن َّ‬
‫علينا يف هذا البني ْ‬
‫إن وضوح املوجودات ّتفي ك ّل َّيتها من بعض‬ ‫أن تكون صادقة حتام‪ ،‬بل َّ‬
‫اإلنسان جيب ْ‬
‫اجلهات‪ ،‬وهذا بدوره قد ُيؤ ّدي إ ىل عدم احلقيقة‪.‬‬

‫‪(1) Freiheit / freedom.‬‬


‫‪(2) Heidegger, Martin. 1998 a, On the Essence of Truth in: Pathmarks, edited by William‬‬
‫‪McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 143 - 144.‬‬
‫‪ ❖ 254‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫جوهر احلقيقة‪ ،‬أي جوهر الكشف (وعم اخلفاء) يسيطر عليه الرفض‪ .‬ولكن هذا‬
‫أن احلقيقة كانت كشف ًا حمض ًا يتخ َّلص من ِّ‬
‫كل ما‬ ‫الرفض ليس نقص ًا وال عيب ًا‪ ،‬كام لو َّ‬
‫فإّنا ما كانت لتكون هي نفسها‪ .‬فهذا الرفض‬ ‫ٍّ‬
‫متخف‪ .‬فلو َّأّنا استطاعت ذلك َّ‬ ‫هو‬
‫ينتمي إىل جوهر احلقيقة بوصفها كشف ًا عىل نحو من اإلخفاء املزدوج‪ .‬احلقيقة يف‬
‫أن‬
‫جوهرها ال حقيقة‪ .‬فلنقل هذا هكذا لنظهر وقد يتم ذلك بنوع من احلدَّ ة الغريبة‪َّ ،‬‬
‫الرفض عىل طريقة اإلخفاء ينتمي إىل الكشف بوصفه بقعة مضاءة(‪.)1‬‬
‫فإن عدم احلقيقة خفاء الوجود وراء وضوح املوجودات‪َّ .‬‬
‫إن السقوط‬ ‫وعل هذا األساس َّ‬
‫ى‬
‫يف ورطة عدم احلقيقة يدفع الـ دازين بدال من مواجهة الوجود نحو االنشغال باملوجودات‪.‬‬
‫إن هذه اخلصوص َّية التي ُيطلِق عليها هايدغر تسمية الوقوف يف الداخل(‪ ،)2‬عندما متتزج‬
‫َّ‬
‫بوقوف الـ دازين يف اخلارج ال ُيؤ ّدي إ ىل سقوط الوجود يف ورطة اخلفاء فحسب‪ ،‬بل َّإّنا‬
‫عل هذا اخلفاء‬
‫ّتفي سقوط الوجود يف هذه الورطة عن الـ دازين أيضا‪ .‬وقد أطلق هايدغر ى‬
‫األخري ‪ -‬الذي هو يف احلقيقة خفاء األمر الذي َّ‬
‫ظل خافيا(‪ - )3‬مصطلح الِّس(‪ )4‬أيضا(‪َّ .)5‬‬
‫إن‬
‫عل توريط اإلنسان يف التخبط والضياع وانشغال الفكر‬ ‫عل الدوام ى‬‫الِّس يعمل ى‬
‫نسيان ه‬
‫باملوجودات‪ .‬وجيب علينا ْ‬
‫أن نبحث عن منشأ أخطاء الـ دازين يف هذا التيه والضياع‪.‬‬
‫عل‬‫أن صدق قض َّية موقوف ى‬ ‫عل َّ‬
‫إن هايدغر ‪ -‬من خالل تأكيده ى‬ ‫وعل هذا األساس ف َّ‬
‫ى‬
‫عل األبستيمولوجيا اإلظهار َّية يف فهم‬
‫يرى عدم متام َّية امليتافيزيق القائم ى‬
‫واقعة وجود َّية ‪ -‬ى‬
‫ومهمة التفكري قائال‪َّ « :‬‬
‫إن‬ ‫َّ‬ ‫الواقع َّية‪ .‬وقد َّنوه هايدغر رصاحة يف كلمة له بعنوان ّناية الفلسفة‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي)‪ ،‬مع رشح‪ :‬ويلهامل فان هريمان‪ ،‬ص ‪ ،37‬ترمجه إ ىل اللغة‬
‫النص)‪.‬‬
‫الفارس َّية‪ :‬پرويز ضياء شهاب‪ ،‬نرش هرمس‪ ،‬ط ‪ ،5‬طهران‪1392 ،‬هـ ش (التأكيدات موجودة ضمن أصل ه‬
‫نقال عن الرتمجة العربيَّة التي هي من عمل‪( :‬د‪ .‬أبو العيد دودو)‪ ،‬ص ‪ ،117‬نرش‪ :‬دار اجلمل‪.‬‬
‫‪(2) In - sistenz.‬‬

‫‪(3) the concealing of what is concealed.‬‬

‫‪(4) das Geheimnis / mystery.‬‬

‫‪(5) Heidegger, Martin. 1998 a, On the Essence of Truth in: Pathmarks, edited by William‬‬

‫‪McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 148.‬‬


‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪255‬‬

‫الفلسفة رغم التفاهتا إ ىل إضاءة العقل َّإال َّأّنا ال تفهم شيئا عن االنفتاح أبدا»(‪ .)1‬ومن هنا‬
‫َّ‬
‫فإن هرم الوجود األكرب املنبثق عن هذا النوع من املواجهة مع أنواع املوجودات لن يكون‬
‫أهم رشط يف‬ ‫معربا عن التصوير والتصور الواقعي ألقسام املوجودات‪ .‬ويف هذا البني ف َّ‬
‫إن َّ‬ ‫ه‬
‫عل تصور وتصوير صائب للموجودات هو الكينونة يف مساحة مفتوحة يواجه فيها‬
‫احلصول ى‬
‫انفتاح الـ دازين مع وضوح املوجودات‪َّ .‬‬
‫إن القضايا املنبثقة عن هذه املواجهة ستكون مظهرة‬
‫عرب عن نسبتها الواقع َّية مع املوجود أو املوجودات التي ُتظهر ذواهتا‪.‬‬
‫بمعنى َّأّنا ُت ه‬
‫ى‬ ‫للحقيقة‪،‬‬

‫‪ - 5‬هرم الوجود األكرب وتقديم تصوير ناقص وغري أصيل عن اإلنسان‪:‬‬


‫يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد بأ َّنه عندما ال يكون هناك فهم صحيح ملناط عن كون اإلنسان‬
‫نفسه‪ ،‬وتكون هناك موضوع َّية ملفاهيم من قبيل اجلوهر واملوضوع يف هذا الشأن‪َّ ،‬‬
‫فإن الطريق‬
‫يرى هايدغر أ َّنه ال يكون الطريق‬
‫أمام النظر املناسب للسؤال عن الوجود سيكون مغلقا‪ .‬ى‬
‫ممهدا أمام لقاء الوجود َّإال إذا َّ‬
‫تم حلاظ هذا الوجود بوصفه مناطا لكون اإلنسان ذاته(‪.)2‬‬ ‫َّ‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن هايدغر منذ البداية من خالل االستخدام الذكي ملصطلح الـ دازين‬ ‫ى‬
‫إل املوجود اإلنساين قد فصل طريقه عن ميتافيزيق املتقده مني وطريقة فهمه‬ ‫يف اإلشارة ى‬
‫لإلنسان‪ .‬لقد كان هايدغر يف سعيه إ ىل توصيف حقيقة وجود اإلنسان ‪ -‬بدال من االستناد‬
‫إ ىل املقوالت األُرسط َّية‪ ،‬التي تستلزم بدورها افرتاض ثنائ ّيات من قبيل‪ :‬الوجود الذهني ‪/‬‬
‫إل‬
‫والقوة ‪ /‬الفعل ‪ -‬يذهب ى‬
‫َّ‬ ‫الوجودي اخلارجي‪ ،‬والذهن ‪ /‬اخلارج‪ ،‬واملا َّدة ‪ /‬الصورة‪،‬‬
‫عل تأصيل‬
‫اعتبار اإلنسان انكشافا يف مواجهة االنكشاف‪ ،‬كي يعمل من خالل هذه القناة ى‬
‫يتصور‬
‫َّ‬ ‫فإن اإلمكانات األبستيمولوج َّية لإلنسان ‪ -‬كام كان‬‫الوجود‪ .‬ومن هذه الزاوية َّ‬
‫جمرد فصل مم هيز ِّلا من سائر املوجودات‪ ،‬بل جيب يف الوهلة األُ ى‬
‫ول‬ ‫ُأرسطو وأتباعه ‪ -‬ليست َّ‬

‫‪(1) Heidegger, Martin. 1993 b, The End of Philosophy and the Task of Thinking in: Basic‬‬

‫‪Writings: from (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David Farrell Krell,‬‬

‫‪Harper San Francisco, p. 443.‬‬

‫‪(2) Heidegger, Martin. 1998 c, ‘Introduction to What Is Metaphysics’ in: Pathmarks, edited‬‬

‫‪by William McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 285.‬‬


‫‪ ❖ 256‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل املوجودات التي هي بدورها عني الظهور واالنفتاح من أكثر‬ ‫عد انفتاح اإلنسان ى‬
‫(‪)1‬‬

‫اخلصيصة ُمت هثل أساسا جلميع اإلمكانات‬


‫ه‬ ‫خصائص أصالة اإلنسان فردان َّية‪َّ .‬‬
‫إن هذه‬
‫األبستيمولوج َّية لإلنسان‪.‬‬
‫ال ينبغي هلذا الذي ت َّتجه إليه املعرفة أن يبقى مكشوف ًا وحده فقط‪ ،‬بل ينبغي أن‬
‫يتحرك يف هذا ِّ‬
‫االّتاه إىل يشء(‪ )2‬بأكمله‪ ،‬وللذي‬ ‫َّ‬ ‫يبقى مكشوف ًا ح َّتى امليدان الذي‬
‫يتم بصفته الك يل َّية فيام هو مكشوف‪ .‬لن‬
‫تظهر من أجله مطابقة اجلملة لليشء أيض ًا‪ ،‬أن َّ‬
‫نكون بجميع تصوراتنا الصحيحة شيئ ًا‪ ،‬وما كنيا لنستطيع أن نفرتض أيض ًا َّ‬
‫أن هناك‬
‫شيئ ًا واضح ًا نستطيع ِّ‬
‫االّتاه إليه‪ ،‬وذلك فيام يبدو إذا مل يكن كشف املوجود قد‬
‫وضعنا مسبق ًا يف املكان املضاء‪ ،‬الذي يقوم كل موجود بالنسبة إلينا يف داخله‬
‫وينسحب منه(‪.)3‬‬
‫عل هذا النمط من الفهم الذي كان هايدغر يؤمن به يف كتاب الوجود والزمان‪،‬‬ ‫بناء ى‬
‫يمكن ‪ -‬من خالل حتليل طريقة وجود هذا األُفق املنفتح ى‬
‫عل الوجود ‪ -‬لقاء مفهوم وحقيقة‬
‫مستوى موجود من املوجودات‪ .‬ولكن كام نعلم َّ‬
‫فإن عثور اإلنسان‬ ‫ى‬ ‫الوجود دون خفضه إ ىل‬
‫عل مثل هذه الرؤية‪ ،‬ومن هذه الناحية َّ‬
‫فإن‬ ‫عل مكانه يف بنية هرم الوجود األكرب مل يقم ى‬
‫ى‬
‫تم عد‬
‫أغلب التقارير املدرس َّية ِّلرم الوجود األكرب تشبه بعضها‪ .‬ففي أغلب هذه التقارير َّ‬
‫أهم‬
‫اخلصيصة من بني ّ‬
‫ه‬ ‫عل هذه‬‫القابل ّيات اإلدراك َّية واألبستيمولوج َّية لإلنسان والقائمة ى‬
‫وتم وضع سائر أنواع املوجودات بالقياس‬
‫أوجه متايز اإلنسان من سائر أنواع املوجودات‪َّ ،‬‬
‫عل خالف هذا‬ ‫إ ىل اإلنسان يف خمتلف طبقات هرم الوجود األكرب‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن هايدغر يذهب ‪ -‬ى‬
‫ه‬
‫االجتاه الغالب‪ ،‬والذي يراه بزعمه عاجزا عن املعرفة الصحيحة حلقيقة اإلنسان وأبعاده‬

‫‪(1) Lichtung‬‬

‫‪(2) nach etwas sichrichten‬‬

‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬مارتن‪ ،‬رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي)‪ ،‬مع رشح‪ :‬ويلهامل فان هريمان‪ ،‬ص ‪ ،35‬ترمجه إ ىل اللغة‬
‫النص)‪.‬‬
‫الفارسيَّة‪ :‬پرويز ضياء شهاب‪ ،‬نرش هرمس‪ ،‬ط ‪ ،5‬طهران‪1392 ،‬هـ ش (التأكيدات موجودة ضمن أصل ه‬
‫نقال عن الرتمجة العرب َّية التي هي من عمل‪( :‬د‪ .‬أبو العيد دودو)‪ ،‬ص ‪ 113‬و‪ ،114‬نرش‪ :‬دار اجلمل‪.‬‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪257‬‬

‫بأن خصوصية الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل ُمت هثل ّ‬


‫أهم اخلصائص األصيلة‬ ‫الوجود َّية ‪ -‬إ ىل االعتقاد َّ‬
‫ويرى َّ‬
‫أن اإلنسان ال يمكن احلصول عليه يف ضوء هذه اخلصوص َّية بشكل منفصل‬ ‫ى‬ ‫لإلنسان‪،‬‬
‫عن سائر املوجودات أبدا‪ ،‬ومن هذه الناحية يكون اإلنسان ‪ -‬بوصفه دازين أو ذلك املوجود‬
‫اخلاصة مع نفسه ومع العامل ‪ -‬مع الوجود واألُفق املفتوح‬
‫َّ‬ ‫الذي يتم َّتع بإمكان َّية إقامة العالقة‬
‫امل َّتجه نحو الوجود واملوجودات وحارضا معها دائام‪ .‬بيد أ َّنه يف الفهم امليتافيزيقي حلقيقة‬
‫اإلنسان يتم استخدام أدوات فهم ورصد سائر املوجودات يف فهم ورصد اإلنسان أيضا‪،‬‬
‫يسعى هايدغر ‪ -‬من خالل‬
‫ى‬ ‫عل األُ ُسس األصيلة لوجوده‪.‬‬
‫وبذلك يتم إسدال حجاب ى‬
‫اخلاص ومن خالل حتليل احلال واليوم املتعارف لنوع البرش يف‬
‫ه‬ ‫توظيف ُأسلوبه الظاهرات‬
‫عل هذا‬
‫حياهتم اليوم َّية ‪ -‬إ ىل كشف األبعاد والزوايا األصيلة من وجود اإلنسان‪ .‬وبناء ى‬
‫األُسلوب بدال من أخذ اإلنسان ى‬
‫عل خصائصه املقول َّية بام هو جوهر وماه َّية‪ ،‬يعد نوعا‬
‫خاصا ًّ‬
‫وفذا من انفتاح الوجود‪ ،‬حيث جيب فهم وتفسري سائر خصائصه وأبعاده الوجود َّية يف‬ ‫ًّ‬
‫فإن ارتباط ونسبة اإلنسان إ ىل سائر‬ ‫اخلصيصة اجلوهر َّية‪ .‬ومن هذه الزاوية َّ‬
‫ه‬ ‫ضوء هذه‬
‫املوجودات تنشأ يف الوهلة األُو ىل من أمر وجودي‪ ،‬وخالفا للفهم السائد عند امليتافيزيق هيني‪،‬‬
‫فإن اإلنسان يف البداية ال يقيم ارتباطه مع العامل من قناة العالقات األبستيمولوج َّية‪ ،‬بل َّ‬
‫إن‬ ‫َّ‬
‫أي نسبة إدراك َّية وأبستيمولوج َّية إ َّنام تنشأ يف الوهلة األُو ىل من كينونة اإلنسان ‪ -‬يف ‪-‬‬
‫إقامة ه‬
‫أن ال نغفل َّ‬
‫أن االرتباط‬ ‫عل الوجود واملوجودات(‪ .)1‬ويف هذا البني علينا ْ‬
‫العامل‪ ،‬وانفتاحه ى‬
‫اإلدراكي واألبستيمولوجي لإلنسان مع سائر املوجودات ُي َعد يف حده ذاته عني انفتاحه‪ ،‬ويف‬
‫احلقيقة واحدا من أنحائه الوجود َّية‪.‬‬
‫فإن طريقة نظر هايدغر إ ىل حقيقة اإلنسان مثل سائر أجزاء تفكريه ُمت هثل‬
‫وكام هو واضح َّ‬
‫معنى وحقيقة الوجود‪ ،‬واستذكار غلبة نسيان الوجود يف تاريخ‬
‫ى‬ ‫حممال للعودة إ ىل السؤال عن‬
‫امليتافيزيق الغرب‪ .‬وبذلك َّ‬
‫فإن هايدغر ‪ -‬من خالل نقد املكانة املنظورة لإلنسان يف‬

‫‪(1) Heidegger, Martin. 1993 b, ‘The End of Philosophy and the Task of Thinking’ in: Basic‬‬

‫‪Writings: from (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David Farrell Krell,‬‬

‫‪Harper San Francisco, p. 441.‬‬


‫‪ ❖ 258‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫التحليالت امليتافيزيق َّية التقليد َّية‪ ،‬و التي انعكست يف أغلب تقريرات هرم الوجود األكرب ‪-‬‬
‫يفتح ُأفقا جديدا يف فهم وحتليل األبعاد الوجود َّية لإلنسان‪ ،‬حيث يتم من ورائها التفكري‬
‫املستمر‬
‫ه‬ ‫اخلاصة لظهور اإلنسان بدال من االنشغال‬
‫َّ‬ ‫بأنحاء ظهور املوجودات والطريقة‬
‫باملوجود والضياع والتيه والتعلق الدائم بأقسام املوجودات‪.‬‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫عل األنطولوجيا التقليد َّية تثبت أ َّنه قد مت َّت‬ ‫َّ‬
‫إن النقد األكثر جوهر َّية الذي يورده هايدغر ى‬
‫الغفلة عن مفهوم وحقيقة الوجود يف أغلب املنظومات الفكر َّية املنبثقة عن األنطولوجيا‬
‫عل‬
‫التقليد َّية‪ ،‬وبدال من ذلك كان االلتفات إ ىل املوجودات والبحث عن املوجود يقع أبدا ى‬
‫ُس َّلم األولو ّيات األُو ىل للفالسفة‪ .‬يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء َّ‬
‫بأن الغفلة عن الوجود ونسيانه‬
‫عل آل ّيات خمتلفة‪ ،‬ومن بينها إصدار األحكام املسبقة يف باب‬‫يف الرتاث امليتافيزيقي يقوم ى‬
‫مفهوم الوجود‪َّ .‬‬
‫إن هذه األحكام امل سبقة مع أخذ الوجود بنظر االعتبار بوصفه من أكثر‬
‫عل ما‬
‫املفاهيم شمول َّية‪ُ ،‬ت َعد بدهي َّية وغري قابلة للتعريف‪ ،‬وبذلك يلقي بالسؤال عن الوجود ى‬
‫يبدو وبشكل منطقي ومستدل يف املحاق‪ ،‬وبدال من ذلك يمنح موضوع َّية للسؤال عن ماه َّية‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن‬ ‫ى‬ ‫وطريقة وجود املوجودات أو السؤال عن املوجودات بشكل عام‪.‬‬
‫أي واحد من أقسام املوجودات‪ ،‬وال ي َّتصف‬
‫الوجود عند هايدغر حيث ال يندرج ضمن ه‬
‫مدركاتنا‪َّ .‬‬
‫إن الوجود بمثابة جمال للرؤية‬ ‫أي واحد منها‪ ،‬فإ َّنه ال يقع ضمن متناول َ‬
‫بخصائص ه‬
‫ُيم هثل رشط ه‬
‫كل أنواع مواجهاتنا األنطولوج َّية واألبستيمولوج َّية مع املوجودات‪ .‬ومن هنا‬
‫فإن إمكان َّية التبويب إ َّنام ّتص املوجودات فقط‪َّ ،‬‬
‫وإن الوجود بوصفه أصال ال يمكن أن‬ ‫َّ‬
‫وعل هذا‬
‫ى‬ ‫جمرى النهر‪.‬‬
‫ى‬ ‫عل املنبع من‬
‫أي إطار أو تبويب؛ إذ ال يمكن احلصول ى‬
‫يندرج ضمن ه‬
‫فإن تقريرات هرم الوجود األكرب التي عملت ع ىل إدراج ح َّت ىى ُأصول ومناشئ‬
‫األساس َّ‬
‫املوجودات ضمن بنية الوجود الرتاتب َّية‪ ،‬قد غفلت عن هذه الفطنة التي مت َّكن هايدغر من‬
‫أن النظر إ ىل الوجود بوصفه أصال ‪ -‬وهو الذي ُيم هثل‬
‫التوصل إليها بجدارة‪ .‬يزعم هايدغر َّ‬
‫أحد أكثر املباين النظر َّية أصالة بالنسبة إ ىل الكثري من التقارير املدرس َّية عن هرم الوجود األكرب‬
‫‪ -‬ينفي املواجهة مع حقيقة الوجود بوصفه ذات عدم اخلفاء‪ .‬ويف هذه التقارير ُيل املبدأ‬
‫هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ ‪259‬‬

‫يتامهى فيها الوجود مع املاه َّية ‪َّ -‬‬


‫حمل البحث والسؤال عن‬ ‫ى‬ ‫املنصة احلقيق َّية التي‬
‫األول ‪ -‬يف َّ‬
‫َّ‬
‫أن جتاهل االختالف األنطولوجي يف التقارير‬ ‫معنى وحقيقة الوجود‪ .‬يضاف إ ىل ذلك َّ‬ ‫ى‬
‫عل منظومة‬ ‫الفلسف َّية ِّلرم الوجود األكرب يف املاه َّية َّ‬
‫الالهوت َّية ِّلذه التقارير‪ ،‬وقيام أغلبها ى‬
‫املقوالت األُرسط َّية واألبستيمولوج َّية اإلظهار َّية وتقديم صورة منقوصة وغري أصيلة عن‬
‫اإلنسان يف أغلبها‪ُ ،‬يش هكل ّ‬
‫أهم حماور نقد هايدغر ِّلذه األفهام التقليد َّية واجلديدة ِّلرم‬
‫الوجود األكرب‪.‬‬

‫* * *‬
‫(‪)1‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارتيَّة‬
‫(‪)2‬‬
‫حممد جواد س ِّيدي‬
‫الس ِّيد ي‬
‫(‪)3‬‬
‫عل حيدري‬
‫أمحد ي‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫عل أساس‬
‫هيدف هذا املقال إ ىل بيان نقد هايدغر ملفهوم العامل عند ديكارت‪ .‬يأت هذا النقد ى‬
‫عل بسطه وتفصيله يف‬
‫املفهوم اجلديد للعامل الذي أوجده هايدغر يف الوجود والزمان‪ ،‬وعمل ى‬
‫الالحقة‪ .‬يقوم ُأسلوب هذا املقال ى‬
‫عل حتليل مفهوم الوجود عند هذين الفيلسوفني‬ ‫أعامله َّ‬
‫إن العامل الديكارت عبارة عن االمتداد‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن عامل‬ ‫(ديكارت وهايدغر)‪ ،‬واملقارنة بينهام‪َّ .‬‬
‫هايدغر ‪ُ -‬يم هثل يف احلقيقة ‪ -‬شبكة من العالقات تتبلور الكينونة(‪ )4‬يف إطارها‪َّ .‬‬
‫إن الكينونة‬
‫إن العامل أرض َّية يمكن يف ضوئها إقامة‬‫موجودة يف العامل‪ ،‬وليس العامل يف ذهن الكينونة‪َّ .‬‬
‫ه‬
‫املتأخرة إ ىل نقد‬ ‫ثم يعمد هايدغر يف عدد من آثار املرحلة‬
‫النسبة مع الكينونة حتت اليد ‪ّ .‬‬
‫(‪)5‬‬

‫املفهوم الديكارت للعامل أيضا‪ .‬يتحدَّ ث هايدغر يف مؤ َّلفات من قبيل‪ :‬عرص تصوير العامل‬
‫وسؤال عن التكنولوجيا‪ ،‬عن حتول العامل إ ىل صورة ومصدر للطاقة‪ ،‬والذي هو يف احلقيقة‬
‫نتاج التصور الديكارت للعامل‪ .‬تشري نتيجة هذا املقال إ ىل َّ‬
‫أن اِّليمنة التكنولوج َّية يف املرحلة‬
‫املعارصة ُمت هثل امتدادا للتصور الديكارت للعامل‪.‬‬

‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬نقد هايدگر بر مفهوم جهان در فلسفه ى دكارت (نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارتيَّة)‪ ،‬س هيد‬
‫عيل حيدري‪ ،‬پژوهش های فلسفی ‪ -‬كالمی‪ ،‬السنة الثامنة عرشة‪ ،‬العدد‪ ،2 :‬شتاء عام‬
‫حممد جواد سيهدي‪ ،‬أمحد ّ‬
‫ّ‬
‫‪ ،95‬العدد املتتابع‪.70 :‬‬
‫عيل مطر‪.‬‬
‫تعريب‪ :‬حسن ّ‬
‫حممد جواد س هيدي‪ ،‬من جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي يف إيران‪.‬‬ ‫(‪ )2‬الس هيد ّ‬
‫عيل حيدري ُأستاذ مساعد يف الفلسفة من جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪ ،‬مؤ هل ف ومرتجم الفلسفة يف إيران‪.‬‬ ‫(‪ )3‬الدكتور أمحد ّ‬
‫‪(4) Dasein‬‬
‫‪(5) Zuhanden/ ready-to-hand.‬‬
‫‪ ❖ 262‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املقدّمة‪:‬‬
‫األول يف تبلور الفلسفة احلديثة‪ ،‬أو احلداثو َّية‬
‫لقد كانت فلسفة ديكارت قد شكَّلت املنعطف َّ‬
‫بعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬وإذا أردنا التمييز بني مرحلة ما قبل احلداثة ومرحلة احلداثة من زاوية حمور َّية‬
‫املفهوم أو احلضور الفلسفي‪ ،‬وجب القول دون تردد‪َّ :‬‬
‫إن املفهوم املحوري واحلاسم يف‬
‫مرحلة ما قبل احلداثة هو اهلل‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن املفهوم املحوري يف مرحلة احلداثة هو اإلنسان(‪.)1‬‬
‫سجل هذه املنزلة لإلنسان أو الوجود الذهني(‪.)2‬‬
‫وقد كان رينه ديكارت هو َّأول فيلسوف ُي ه‬
‫لقد كانت الفلسفة ما قبل الديكارت َّية تبحث موقع اإلنسان فيام يتع َّلق باالرتباط مع اهلل‪ ،‬بينام‬
‫حتولت الفلسفة الديكارت َّية لتبحث نسبة العامل إ ىل ذهن اإلنسان أو الوجود الذهني‪.‬‬
‫َّ‬
‫تم جتاهله يف حمور َّية اإلنسان عند‬ ‫بااللتفات إ ىل هذه املقدّ مات يمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن الذي َّ‬
‫ديكارت‪ ،‬وحمورية اهلل يف مرحلة ما قبل احلداثة‪ ،‬هو البحث يف ذات العامل الذي ُيش هكل يف‬
‫خضم هذا الوضع عمد مارتن‬
‫ه‬ ‫احلقيقة األرض َّية لوقوع مجيع أنواع العالقات والروابط‪ .‬يف‬
‫عل الفلسفة احلديثة ‪ -‬إ ىل نقد‬
‫هايدغر ‪ -‬إثر االنتقادات التي أوردها فالسفة ما بعد نيتشه ى‬
‫تم طرحه يف فلسفة ديكارت‪ ،‬وجاء بمفهوم جديد للعامل‪ .‬وفيام ييل‬
‫مفهوم العامل كام كان قد َّ‬
‫سنواصل البحث من خالل بيان أوجه التاميز وانفصال هايدغر عن العامل الديكارت‪،‬‬
‫استمرت‬
‫َّ‬ ‫ومناقشة الوصول إ ىل مفهوم الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل(‪ .)3‬لنُثبِت بعد ذلك كيف‬
‫عل ما هي عليه إ ىل آخر تأمالته‪ ،‬والس ّيام عند تناوله‬
‫هواجس هايدغر بشأن العامل‪ ،‬وبقيت ى‬
‫للتكنولوجيا احلديثة‪.‬‬

‫تأمُّالت ديكارت بشأن العامل‪:‬‬


‫لقد َّبني ديكارت يف كتابه تأمالت يف الفلسفة األُو ىل(‪َّ ،)4‬‬
‫أن مشكلته تكمن يف إثبات وجود اهلل‬
‫عل إثبات وجود‬
‫وخلود النفس‪ .‬وقد قدَّ م عددا من براهني ‪ -‬ضمن س َّتة أنواع من التأمل ‪ -‬ى‬

‫‪(1) Human‬‬
‫‪(2) subject / sujet.‬‬
‫‪(3) In-der-Welt-sein (being-in-the-world).‬‬
‫‪(4) Meditationes de Prima Philosophia (1641) (English: Meditations on first philosophy).‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪263‬‬

‫أهم وجوه اشرتاكها هو أ َّنه مل يكن أي من براهني ديكارت ما ُيشبِه الرباهني‬


‫اهلل‪ ،‬وكان من ّ‬
‫املوسومة بـ الرباهني األنطولوج َّية(‪ .)1‬ومل يكن ذلك صدفة؛ إذ سبق لديكارت ْ‬
‫أن ش َّكك يف‬
‫أن ُيثبِت من خالله وجود صانع له‪ ،‬بل ى‬
‫عل‬ ‫الوجود اخلارجي للعامل‪ ،‬وعليه مل يكن بإمكانه ْ‬
‫العكس من ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن الذي كان ُيتاج إ ىل إثبات بالنسبة له هو وجود العامل نفسه‪ .‬ويف‬
‫األول الذي أحدثه ديكارت يف الفلسفة احلديثة؛ فلم يعد‬
‫احلقيقة كان هذا هو االنقالب املهم َّ‬
‫أضحى وجود اهلل هو الذي يتم توظيفه يف خدمة إثبات‬
‫ى‬ ‫العامل منطلقا للوصول إ ىل اهلل‪ ،‬وإ َّنام‬
‫وجود العامل‪ .‬ولكي نرشح مفهوم العامل عند ديكارت جيب ْ‬
‫أن نضعه يف مسار استدالله‬
‫عل بيان مراحل استدالله يف هذا الكتاب‬
‫الفلسفي يف كتاب التأمالت‪ .‬ومن هنا سوف نعمل ى‬
‫باختصار‪ ،‬كي نتم َّكن من فهم موقع مسألة العامل من وجهة نظره‪.‬‬

‫الكوجيتو وبداية الفلسفة من الوجود الذهين‪:‬‬


‫َّ‬
‫الشك‬ ‫َّ‬
‫إن ديكارت ‪ -‬خالفا ملن سبقه من الفالسفة‪ ،‬ومن بينهم السفسطائ هيني ‪ -‬مل ي َّتخذ‬
‫الشك الديكارت ُيم هثل قنطرة ومنزال مؤ َّقتا‬‫َّ‬ ‫بوصفه غاية‪ ،‬بل بام هو ُأسلوب ومنهج‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫احلواس وعدم‬
‫ه‬ ‫للوصول إ ىل اليقني‪ .‬لقد صار ديكارت يف الوهلة األُو ىل ‪ -‬بالنظر إ ىل خداع‬
‫َّ‬
‫الشك‬ ‫الشك يف املحسوسات‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫ه‬ ‫إمكان َّية الوثوق هبا أو االعتامد عليها يف احلياة اليوم َّية ‪ -‬إ ىل‬
‫ه َّيته بالنسبة إ ىل ديكارت تكمن‬ ‫يف املحسوسات أمر معهود من ِق َبل سائر الفالسفة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن أ ّ‬
‫وعل هذا األساس‬
‫ى‬ ‫الشك والوصول إ ىل اليقني املطلق‪.‬‬ ‫ه‬ ‫عل رفع مجيع آثار‬‫يف قيامه بالعمل ى‬
‫ه‬
‫الشك‪ .‬ويف احلقيقة يمكن بيان طريقة ديكارت‬ ‫سعى ديكارت ما أمكنه إ ىل توسيع دائرة‬
‫ى‬
‫عل النحو اآلت‪ :‬الشك يف ه‬
‫كل ما يمكن الشك فيه‪ ،‬ح َّت ىى الوصول يف ّناية املطاف‬ ‫باختصار ى‬
‫إ ىل يشء ال يمكن الشك فيه‪ ،‬أو ُيؤ ّدي الشك فيه إ ىل التناقض(‪َّ .)2‬‬
‫إن القض َّية الوحيدة التي‬
‫عل مثل هذه املنزلة ‪ -‬من وجهة نظر ديكارت ‪ -‬هي قض َّية الكوجيتو(‪ ،)3‬أي القض َّية‬
‫حتتوي ى‬

‫‪(1) ontological‬‬
‫(‪ )2‬ديكارت‪ ،‬رينيه‪ ،‬تأمالت در فلسفه أوىل (تأمالت يف الفلسفة ُ‬
‫األوىل)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬أمحد أمحدي‪ ،‬ص‬
‫‪ ،23‬انتشارات سمت‪ ،‬طهران‪1385 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(3) cogito‬‬
‫‪ ❖ 264‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بأي‬
‫القائلة‪ :‬أنا أشك؛ إذن أنا موجود ‪ .‬ال يمكن عند النطق هبذه العبارة الشك يف صدقها ه‬
‫(‪)1‬‬

‫عل قض َّية يستحيل الشك‬


‫وعل هذا األساس يكون ديكارت قد عثر ى‬ ‫ى‬ ‫حال من األحوال‪.‬‬
‫إن‬ ‫أن مجيع القضايا األُ ى‬
‫خرى‪ ،‬وبعبارة أفضل‪َّ :‬‬ ‫ألّنا يقين َّية مائة باملائة‪ .‬وهذا يعني َّ‬
‫فيها؛ َّ‬
‫نرى َّ‬
‫أن مفهوم العامل عند‬ ‫عل اليقني بوصفه موضوعا للتفكري‪ .‬وسوف ى‬
‫الفلسفة بر َّمتها تقوم ى‬
‫ديكارت يتم تعريفه بر َّمته بتأثري من هذه القض َّية‪.‬‬

‫مالك الوضوح والتمايز‪:‬‬


‫عل استخراج معيار عام من‬ ‫يسعى ديكارت إ ىل العمل ى‬
‫ى‬ ‫عل قض َّية الكوجيتو‪،‬‬
‫بعد احلصول ى‬
‫عل سائر القضايا األُ ى‬
‫خرى أيضا‪ ،‬وبناء املعرفة عليه‪.‬‬ ‫صلب هذه القض َّية‪ ،‬كي يمكن تعميمه ى‬
‫لقد أدرك ديكارت من خالل التأمل يف قض َّية الكوجيتو َّ‬
‫أن اخلصوص َّية اِّلا َّمة ِّلذه القض َّية‬
‫إن وضع معيار الوضوح والتاميز يف هذه املرحلة‬ ‫درك بوضوح ومتايز(‪َّ .)3()2‬‬
‫تكمن يف َّأّنا ُت َ‬
‫ه َّية بالغة؛ إذ إ َّن هذا املعيار ليس معيارا خارج ًّيا‪ ،‬وإ َّنام هو معيار يتناسب مع الرؤية‬
‫ُيظى بأ ّ‬
‫ى‬
‫أن منزلة اهلل يف فلسفة ديكارت‬ ‫عل هذا األساس َّ‬ ‫نرى ى‬
‫املوضوع َّية لديكارت ‪ .‬وسوف ى‬
‫(‪)4‬‬

‫منزلة موضوع َّية أيضا‪.‬‬

‫إثبات وجود اهلل‪:‬‬


‫ه‬
‫للشك‬ ‫سعى ديكارت إ ىل إزالة االحتامل األخري‬
‫ى‬ ‫بعد الوصول إ ىل معيار الوضوح والتاميز‪،‬‬
‫عل خداعه وممارسة‬ ‫أن يكون هناك شيطان ماكر يعمل دائام ى‬‫أيضا‪ .‬وعليه فقد افرتض ْ‬
‫االحتيال عليه‪ .‬ويف معرض إبطال وجود الشيطان املاكر‪ ،‬عمد ديكارت َّأوال إ ىل إثبات‬
‫مدركات من قبيل‪ :‬أنا أشك؛‬ ‫إن سمح هذا اإلله ْ‬
‫بأن أنخدع ح َّت ىى يف َ‬ ‫وجود إله حمب للخري‪ .‬ف ْ‬
‫إذن أنا موجود‪ ،‬فهذا يعني أ َّنه ليس حم ًّبا للخري‪ .‬وبالتال ونتيجة لذلك تبطل فرض َّية وجود‬

‫‪(1) cogito ergo sum.‬‬


‫‪(2) clarity and distinction.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫(‪ )4‬كابلستون‪ ،‬فريدريك‪ ،‬تاريخ فلسفه (تاريخ الفلسفة)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬غالم رضا أعواين‪ ،‬ص ‪،127‬‬
‫رشكت انتشارات علمي وفرهنگي‪ ،‬طهران‪1380 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪265‬‬

‫عل ممارسة اخلداع بح ّقي‪ .‬ولو كانت آل َّية اإلدراك يف واقع األمر شيئا‬
‫شيطان ماكر يعمل ى‬
‫مغايرا لذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا اإلله سيكون ماكرا؛ إذ جعل يف مركوز ذات ميال شديدا كي أخضع‬
‫للتأثر الذهني الناشئ من األجسام املوجودة يف خارج الذهن(‪.)1‬‬

‫إثبات العامل اخلارجي واالستنتاج‪:‬‬


‫أن هناك عاملا خارج الذهن‪ ،‬ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن إدراك العامل‬ ‫وبذلك فقد استنتج ديكارت َّ‬
‫اخلارجي صحيح‪ ،‬وليس ناشئا من الوهم‪ .‬ويف الواقع جيب عدم تسمية هذا العامل بالعامل‬
‫بشكل مطلق‪ ،‬بل علينا تسميته بـ العامل الديكارت‪ .‬ويمكن بيان خصائص هذا العامل‬
‫عل النحو اآلت‪:‬‬
‫الديكارت ى‬
‫‪ - 1‬أ َّن العامل الديكارت يتأ َّلف من االمتداد(‪ ،)2‬والعامل املمتد قابل للتقييم والقياس‪.‬‬
‫يبقى‬
‫وعل هامش قض َّية الكوجيتو‪ ،‬ى‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫الشك‬ ‫‪ - 2‬حيث ُيقده م ديكارت مفهوم العامل بعد‬
‫هذا العامل بمجموعه تابعا للذهن ِ‬
‫املدر ك للموضوع‪ .‬ويف احلقيقة يكون عامل ديكارت هو عامل‬
‫املوضوع الذهني‪.‬‬
‫عل منزلته‬
‫‪ - 3‬يغدو اإلنسان يف فلسفة ديكارت حمور العامل‪ ،‬وُيصل العامل واإلله كالها ى‬
‫بالنسبة إ ىل ذهن اإلنسان‪.‬‬
‫بعد ْ‬
‫أن قدَّ منا صورة عن العامل الديكارت‪ ،‬ننتقل اآلن إ ىل رسم صورة لـ العامل يف رؤية‬
‫هايدغر‪ ،‬كي نتم َّكن بعد ذلك من توفري األرض َّية املناسبة لبيان نقد هايدغر للعامل الديكارت‬
‫عل ذلك بالنسبة إ ىل العامل احلديث‪.‬‬
‫والنتائج املرت هتبة ى‬

‫مقدّمات حبث العامل يف رؤية هايدغر‪:‬‬


‫خصص مارتن هايدغر جزءا كبريا من كتابه الوجود والزمان(‪ )3‬لصياغة مفهوم جديد‬
‫لقد َّ‬
‫فإن العامل ُيم هثل واحدا‬
‫إن للعامل يف رؤية هايدغر دورا ها ًّما وحيو ًّيا‪ ،‬ويف احلقيقة َّ‬
‫عن العامل‪َّ .‬‬

‫(‪ )1‬ديكارت‪ ،‬رينيه‪ ،‬تأمالت در فلسفه أوىل (تأمالت يف الفلسفة ُ‬


‫األوىل)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬أمحد أمحدي‪ ،‬ص‬
‫‪1385 ،101‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(2) erweiterung / extension .‬‬
‫‪(3) Sein und Zeit (1927) (English: Being and Time).‬‬
‫‪ ❖ 266‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ه َّية ومنزلة مفهوم العامل يف‬ ‫من األُ ُسس األُو ىل يف أنطولوج َّيته احلديثة‪ .‬ولكي ُن ِ‬
‫درك أ ّ‬
‫عل منزلة هذا البحث يف كتاب الوجود‬ ‫أنطولوج َّية هايدغر‪ ،‬من األفضل ْ‬
‫أن ُنلقي نظرة ى‬
‫يسعى هايدغر يف هذا الكتاب ‪ -‬من خالل بحث مناشئ مجيع أنواع األنطولوجيا ‪-‬‬
‫ى‬ ‫والزمان‪.‬‬
‫عل أطالِّلا يف ّناية املطاف أنطولوجيا‬
‫عل األنطولوجيا امليتافيزيق َّية‪ ،‬ليبني ى‬
‫إ ىل إيراد نقد ى‬
‫جديدة اسمها األنطولوجيا األساس َّية(‪.)1‬‬
‫يرى هايدغر أ َّن نا يف املرحلة املعارصة ال نستطيع تأسيس أنطولوجيا جديدة دون االلتفات‬
‫ى‬
‫إ ىل الرتاث األنطولوجي القديم‪ ،‬ابتداء من أفالطون إ ىل العرص الراهن‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن هذا الرتاث قد‬
‫أ ّد ىى ‪ -‬من وجهة نظر هايدغر ‪ -‬إ ىل ترسخ جمموعة من األخطاء التي يعترب القضاء عليها‬
‫وإزالتها رشطا للدخول الصحيح يف األنطولوجيا ومعرفة الوجود‪ .‬وقد أشار هايدغر يف‬
‫الفقرة األُو ىل من كتابه إ ىل ثالثة من هذه األخطاء‪ .‬ويف احلقيقة فقد َّ‬
‫توصل إ ىل نتيجة مفادها‬
‫أي نوع من األخطاء‪ ،‬وجب علينا إزاحة مجيع الفرض ّيات‪،‬‬
‫أ َّننا إذا أردنا جتنب الوقوع يف ه‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن العنرص الرئيس يف السؤال عن الوجود‪ ،‬أي‬ ‫عل ذات السؤال فقط‪ .‬ى‬
‫والرتكيز ى‬
‫عل وجود خاص يتبلور يف‬
‫السؤال القائل‪ :‬ما هو الوجود؟‪ ،‬يكمن يف طرح هذا السؤال ى‬
‫سياق حياته‪:‬‬
‫إن للتساؤل ذاته من جهة ما هو سلوك كائن ما‪ ،‬سلوك السائل‪ ،‬طابع ًا خاصا‬
‫َّ‬
‫بالكينونة(‪.)2‬‬
‫فإن طريقة ه‬
‫حل هايدغر ه‬
‫لفك لغز الوجود يكمن يف اخلوض يف ذات السؤال‬ ‫ويف احلقيقة َّ‬
‫عل جواب عن سؤال الوجود(‪،)4‬‬
‫والكائن الذي يطرح السؤال‪ ،‬أي الكينونة ‪ ،‬وللعثور ى‬
‫(‪)3‬‬

‫جيب قبل ه‬
‫كل يشء حتليل اخلصائص األنطولوج َّية لكائن ما‪ ،‬والذي ال يكون طرح السؤال‬

‫‪(1) Fundamental ontology.‬‬


‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬عبد الكريم رشيديان‪ ،‬ص ‪ ،9‬نرش ين‪،‬‬
‫طهران‪1389 ،‬هـ ش‪ .‬وانظر أيضا‪ :‬مارتني هايدغر‪ ،‬الكينونة والزمان‪ ،‬ص ‪ ،54‬ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬فتحي‬
‫املسكيني‪ ،‬نرش‪ :‬دار الكتاب اجلديد املتَّحدة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت‪ 2012 ،‬م‪.‬‬
‫‪(3) Dasein‬‬
‫‪(4) Seinsfrage (question of being).‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪267‬‬

‫ّ‬
‫مستقال عن كينونته‪ .‬وهذا التحليل يف الواقع هو ذات التحليل الوجودي‬ ‫املذكور شيئا‬
‫للكينونة‪:‬‬
‫مرة(‪.)1‬‬ ‫كونه يف ِّ‬
‫كل َّ‬ ‫مهمة برأسها‪ ،‬نحن أنفسنا ُن ِّ‬
‫إن الكائن الذي صار حتليله َّ‬
‫َّ‬
‫لقد عمد هايدغر يف الفقرة التاسعة من كتابه إ ىل بيان هذه املسألة قبل ه‬
‫كل يشء‪ ،‬وهي أ َّننا‬
‫أن نستعني يف حتليل الكينونة بمصطلحات ومفاهيم من قبيل املاه َّية‪ .‬وذلك َّ‬
‫ألن‬ ‫ال نستطيع ْ‬
‫سوى وجوده‪ ،‬ويف ذلك يقول‪:‬‬
‫ى‬ ‫ماه َّية الكينونة ليست‬
‫إن ماه َّية هذا الكائن تكمن يف أ َّن عليه أن يكون(‪)2‬؛ إذ إ َّن ماه َّية [أو ذات](‪ )3‬هذا‬
‫َّ‬
‫ُتصور انطالق ًا من‬ ‫الكائن‪ ،‬إ َّنام ينبغي ‪ -‬بقدر ما يمكن أن ُيتك َّلم يف ذلك َّ‬
‫بعامة ‪ -‬أن ت َّ‬
‫كينونته(‪.)5()4‬‬
‫وعل هذا األساس جيب االستعانة بعنارص ُأ ى‬
‫خرى لتحليل الكينونة التي هي من وجهة‬ ‫ى‬
‫أهم العنارص‪ .‬لو كانت املاه َّية أو الذات يف األنطولوجيا التقليد َّية‪ ،‬حتكي‬
‫نظر هايدغر من ّ‬
‫عل أساس الكينونة ‪-‬‬
‫عن تعني كائن ما‪ ،‬جيب من وجهة نظر هايدغر حتليل تعينات الكينونة ى‬
‫يف ‪ -‬العامل‪ ،‬حيث ال يكون مفهوما ماهو ًّيا‪ ،‬بل تقويام أنطولوج ًّيا‪َّ :‬‬
‫«إن نقطة االنطالق‬
‫الصحيح لتحليل الكينونة سوف يكون تعبريا ِّلذا التقويم»(‪ .)6‬ويف احلقيقة يمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫منزلة مفهوم الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل يف فلسفة هايدغر مساوية ملنزلة الذات يف الفلسفة‬
‫تم جتاهلها يف‬
‫أهم املفاهيم التي َّ‬
‫وعل هذا األساس يكون مفهوم العامل من ّ‬ ‫ى‬ ‫امليتافيزيق َّية‪.‬‬
‫أن سبب هذا التجاهل يكمن يف االهتامم‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫الفلسفة امليتافيزيق َّية ح َّت ىى اآلن‪ .‬ى‬
‫بالكينوانات الداخل َّية من العامل‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ .57‬مارتني هايدغر‪ ،‬الكينونة والزمان‪ ،‬ص ‪ ،111‬ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬فتحي املسكيني‪،‬‬
‫‪ 2012‬م‪.‬‬
‫‪(2) Zu-sein‬‬

‫‪(3) Essentia‬‬

‫‪(4) Existentia‬‬
‫(‪ )5‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.57‬مارتني هايدغر‪ ،‬الكينونة والزمان‪ ،‬ص ‪ 111‬و‪.112‬‬
‫(‪ )6‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ ❖ 268‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫حيث يبدأ تفسري العامل يف الوهلة األُوىل بكائن ما داخل العامل‪ ،‬يتم ّتاهل ظاهرة‬
‫العامل بشكل كامل(‪.)1‬‬
‫وقد ذهب هايدغر يف هذه الفقرة إ ىل اعتبار فلسفة ديكارت والتصور الديكارت للعامل‬
‫مصداقا ِّلذه الغفلة(‪.)2‬‬
‫تم تقديمها لـ العامل يف املنظومة الفكر َّية ِّلذين‬
‫بااللتفات إ ىل هذه املقدّ مة والصورة التي َّ‬
‫الفيلسوفني‪ ،‬نجد اآلن من املناسب ْ‬
‫أن نبحث موقف هايدغر من الفهم الديكارت للعامل‪،‬‬
‫عل املقارنة بني املفهومني املختلفني عن العامل يف فلسفة هذين الفيلسوفني‪.‬‬
‫ونعمل ى‬

‫العامل بوصفه أرضيَّة للنزاعات‪:‬‬


‫وأهم وجوه الرشخ بني مفهوم هايدغر للعامل عن العامل الديكارت يكمن يف َّ‬
‫أن العامل‬ ‫ّ‬ ‫إ َّن َّأول‬
‫عند هايدغر ‪ -‬خالفا للعامل الديكارت ‪ -‬يكون يف متناولنا من طريق الفعل(‪َّ .)3‬‬
‫إن عالقة‬
‫عل الفعل والفائدة التي جتنيها الكينونة من األشياء‬ ‫الكينونة والعلم تقوم قبل ه‬
‫كل يشء ى‬
‫بوصفها أمرا يف متناول اليد(‪.)4‬‬
‫عل غرار كتاب التأمالت‬
‫نسعى بدورنا ‪ -‬ى‬
‫ى‬ ‫عل حتليل مفهوم هايدغر للعامل‪،‬‬
‫ولكي نعمل ى‬
‫عل أساسها‪َّ .‬‬
‫إن راوي‬ ‫‪ -‬إ ىل تقديم رواية‪ ،‬كي يغدو املفهوم اِّلايدغري للعامل قابال لإلدراك ى‬
‫قصة هايدغر الذي ُنطلِق عليه اسم الكينونة (الـ دازين)‪ ،‬مثل راوي كتاب تأمالت ديكارت‪،‬‬ ‫َّ‬
‫جيلس يف غرفته خلف املنضدة وهو منهمك يف الكتابة‪ .‬ي ِ‬
‫مسك الرواي بقلم يف يده‪ ،‬وهناك‬ ‫ُ‬
‫ورقة بني يديه‪ ،‬وهناك أفكار متور يف ذهنه‪ .‬ولكن خالفا للراوي يف كتاب تأمالت‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫عل االستفادة منهام‪.‬‬
‫الكينونة (الـ دازين) بدال من التفكري بالقلم والورقة التي أمامه‪ ،‬يعمل ى‬
‫إن القلم والورقة واملنضدة ك َّلها أدوات أو ُأ مور يف متناول اليد‪ ،‬يعلم هبا الراوي‪ ،‬ولكنَّه ال‬
‫َّ‬
‫أن األدوات تكون يف الوهلة األُ ى‬
‫ول متع َّلقا‬ ‫يلتفت إليها‪ .‬ويف احلقيقة ليس األمر كام لو َّ‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.119‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.120‬‬
‫‪(3) akt / act.‬‬
‫‪(4) Zuhanden / ready - to - hand.‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪269‬‬

‫ثم جيب بعد ذلك إثبات وجودها اخلارجي‪َّ .‬‬


‫إن‬ ‫لإلدراك الذهني أو املوضوعات الذهن َّية‪ّ ،‬‬
‫األدوات أثناء توظيفها تغدو ش ّفافة‪ ،‬متاما مثل عدسة الن ّظارة التي تصبح غري مرئ َّية‪ ،‬لكي‬
‫رى يشء فيام ورائها‪ .‬وكام ي َّتضح من مصطلح الكون يف متناول اليد(‪ )1‬يف الكينونة والزمان‪،‬‬
‫ُي ى‬
‫صح التعبري ‪-‬‬ ‫وإن مجيع أدوات َّيتها ‪ْ -‬‬
‫إن َّ‬ ‫فإن األدوات ال تكمن يف ذهن املوضوع‪ ،‬بل يف يده‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫يبقى هناك يشء من األدوات كي يغدو متع َّلقا لإلدراك‪،‬‬
‫يضمحل يف توظيفها‪ .‬ويف احلقيقة ال ى‬
‫َّ‬
‫وإن الكون يف متناول اليد يبدأ باالنحسار‪:‬‬
‫ُدرك بشكل نظري وال عىل نحو النظر إىل ما حول‪ ،‬بل‬
‫إن الكينونة حتت اليد ال ت َ‬‫َّ‬
‫خصيصة الكائن يف الوهلة‬ ‫يتم جعلها يف الوهلة األُوىل عىل شكل نظر إىل ما حول‪َّ .‬‬
‫إن ِّ‬
‫ألّنا‬ ‫األُوىل للكينونة حتت اليد‪ ،‬هي َّ‬
‫أن يدو َّيتها تبدو يف رضورة أن تسحب نفسها َّ‬
‫يدوية حقا(‪.)2‬‬
‫ويف هذه النقطة حتديدا يعمد هايدغر إ ىل فصل مساره عن الفلسفة الديكارت َّية‪َّ :‬‬
‫إن طريق‬
‫الوصول إ ىل ظاهرة العامل والكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل‪ ،‬حتليل الفعل دون اإلدراك‪َّ .‬‬
‫إن العامل ليس‬
‫موضوعا يف قبال الذهن‪ ،‬بل هو أرض َّية لكي يكتسب الفعل واالستفادة من األدوات‬
‫إل‬
‫مفهومها‪ .‬بسبب جتاهل الكينونة يف اليد‪ ،‬يتم تقليل العامل عند فيلسوف مثل ديكارت ى‬
‫اإلدراكات الذهن َّية‪:‬‬
‫فهم ذلك‬
‫إن نوع كينونة هذا الكائن‪ ،‬تكمن يف كينونته اليدو َّية‪ .‬ولكن جيب أن ال ُي َ‬
‫َّ‬
‫بوصفه خصلة إدراك َّية بحتة(‪.)3‬‬
‫يسعى إ ىل توضيح كيف َّية خروجنا من حصار أذهاننا‪ ،‬ونصل إ ىل‬
‫ى‬ ‫خالفا لديكارت الذي‬
‫أن ُيثبِ ت كيف نخرج من انشغالنا بالعامل واالستغراق فيه‪،‬‬
‫عل هايدغر ْ‬
‫يتعني ى‬
‫العامل واألشياء‪َّ ،‬‬
‫بمعنى حضور األشياء يف متناول اليد‪ُ .‬جييب هايدغر عن ذلك بقوله‪:‬‬
‫ى‬ ‫ونلتفت إ ىل ذهننا‪.‬‬

‫‪(1) Zuhandenheit‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬عبد الكريم رشيديان‪ ،‬ص ‪،94‬‬
‫‪1389‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ ❖ 270‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫تتجرد األدوات عن أدات َّيتها وكينونتها اليدو َّية‪ ،‬وتقف أمامنا بوصفها موضوعا ذهن ًّيا‪،‬‬
‫عندما َّ‬
‫وتكتسب خصلة إدراك َّية‪ ،‬عندها ُنطلِق عليه مصطلح احلضور يف اليد(‪ )1‬أو اليدو َّية أو بعبارة‬
‫فإّنا سوف‬
‫أن األداة عاطلة عن العمل َّ‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى الكينونة اليدو َّية(‪ .)2‬يف املوارد التي يثبت فيها َّ‬
‫فإن اليشء الذي يكشف عدم‬ ‫تتجرد عن أدات َّيتها أو تنسحب‪ .‬ولكن ح َّت ىى يف هذه احلالة َّ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫جدوائ َّيتها‪ ،‬ليس هو حتديد خصوص ّياهتا من طريق النظر إليها‪ ،‬أي من قبيل إدراكها من ق َبل‬
‫مستوى الكينونة اليدو َّية‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫ى‬ ‫عل‬
‫ذهن املوضوع‪ ،‬بل هو كون األداة حارضة ى‬
‫ُأسلوب تعاطينا مع األداة ح َّت ىى يف مثل هذه احلالة بحيث كام لو كنّا نروم من خالل إصالحها‬
‫ْ‬
‫أن نعيد إليها كينونتها اليدو َّية(‪ .)3‬وح َّت ىى يف هذه احلالة ال تكون األداة الذهن َّية واقعة يف مكان‪.‬‬
‫إن األُسلوب اآلخر لرشح مفهوم العامل عند هايدغر‪ ،‬هو ْ‬
‫أن ُند هقق يف نسبة األرض َّية‬ ‫َّ‬
‫ه‬
‫املتأخر ِّلايدغر أيضا‪ .‬وقد بدأ‬ ‫واليشء املتح َّقق فيها‪ ،‬وهو ما لعب دورا ها ًّما يف التفكري‬
‫وصل هايدغر‬‫أن النقطة األُول واألهم التي ُت ِ‬
‫هايدغر بحثه من خالل االهتامم باألدوات‪َّ .‬إال َّ‬
‫ّ‬ ‫ى‬
‫إل سائر‬
‫عل الدوام يف نسبتها ى‬ ‫إل العامل‪ ،‬هي اخلصوصية اآلل َّية املوجودة ى‬ ‫من األدوات ى‬
‫ّى‬
‫يتجل يف داخلها مفهوما آل ًّيا‬ ‫عل الدوام ك ّل َّية آل َّية أو أرض َّية يف البني‬
‫األدوات‪ .‬هناك ى‬
‫أن األداة موجودة من أجل(‪ )5‬يشء أو‬ ‫أهم خصوص َّية يف األداة تكمن يف َّ‬ ‫واحدا(‪َّ .)4‬‬
‫إن َّ‬
‫عمل‪َّ .)6(...‬‬
‫إن هذا التوصيف يضع األداة اِّلايدغر َّية يف اليد يف قبال املوضوع الديكارت‬
‫مستوى‬
‫ى‬ ‫عل سبيل املثال) الذي تنخفض مجيع خصائصه إ ىل‬‫(يطرح ديكارت اليشء الشمعي ى‬
‫األُمور املحسوسة والذهن َّية‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن األشياء عند ديكارت بمثابة اجلواهر اجلسامن َّية‬
‫عل جوهر َّيتها‪ .‬وأ َّما عند هايدغر‬
‫متفرعا ى‬
‫خرى ه‬‫واملستق َّلة التي يكون ارتباطها باألشياء األُ ى‬
‫فإن ذات األداة أو احلالة اليدوية هي التي ُمت هثل االرتباط باليشء اآلخر‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪(1) Vorhanden / present - at - hand.‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.99‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪(5) in - order - to.‬‬
‫(‪ )6‬املصدر السابق‪.‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪271‬‬

‫يرى هايدغر أ َّنه ليس من‬


‫عل سبيل املثال ّأين أستعمل املنشار لتقطيع اخلشب‪ .‬ى‬
‫من ذلك ى‬
‫قبيل الصدفة ْ‬
‫أن تكون خصوص َّية املنشار وسيلة لقطع اخلشب‪ ،‬بل مواجهة الكينونة اليدو َّية‬
‫عل حده تعبري هايدغر كينونة ذلك الكائن‪:‬‬ ‫ليشء آخر ُمت هثل اجلزء املالزم واألسايس‪ ،‬أو ى‬
‫إن مواجهة كينونة الكائن داخل العامل هي التي ُحت ِّرر الكائن يف ِّ‬
‫كل مورد من‬ ‫َّ‬
‫إن هذا الكائن بوصفه كائن ًا حيمل معه عنرص‬‫أجلها بشكل مسبق ويف الوهلة األُوىل‪َّ .‬‬
‫املواجهة واالحتكاك عىل الدوام(‪.)1‬‬
‫إن هذا التوصيف ُي َعد واحدا من اخلصائص الوجود َّية أو‬‫وعل حده تعبري هايدغر‪َّ :‬‬ ‫ى‬
‫األنطولوج َّية ِّلذا الكائن‪ ،‬وليس أمرا عارضا عليه ‪ .‬بيد َّ‬
‫أن مسار املواجهة ال يقف عند هذه‬ ‫(‪)2‬‬

‫عل إقحام‬ ‫النقطة‪ .‬إذا كان يشء مثل املنشار ينشغل يف فعل القطع‪َّ ،‬‬
‫فإن القطع نفسه يعمل ى‬
‫يشء من قبيل خشب الكريس اخلشبي‪ ،‬والكريس اخلشبي بدوره وسيلة يتم هاّتاذها جللوس‬
‫الشخص واسرتاحته عليه‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن عموم هذه الشبكة من الروابط والعالقات هو‬
‫وعل‬
‫ى‬ ‫عل شيئ َّية يشء ما‪.‬‬
‫عل تعيني نوع مواجهة الكينونة اليدو َّية‪ ،‬وهذا متقده م ى‬
‫الذي يعمل ى‬
‫اخلصيصة اِّلامة يف األداة أو الكينونة اليدو َّية‬
‫ه‬ ‫إل استنتاج َّ‬
‫أن‬ ‫هذا األساس يذهب هايدغر ى‬
‫تكمن يف أ َّنه ال يمكن احلديث أبدا عن أداة منفردة(‪َّ .)3‬‬
‫إن آلية اآللة رهن بوجود جمموعة من‬
‫الروابط التي تكتسب اآللية معناها داخلها‪َّ ،‬‬
‫وإن هذه املجموعة املتكاملة ترتبط بحياة‬
‫عل إحالة ذاهتا من خالل‬ ‫الكينونة (الـ دازاين) يف ّناية املطاف‪َّ .‬‬
‫إن الكينونة تعمل مسبقا ى‬
‫وإن هذه املواجهة هي مواجهة مع الكينونة اليدو َّية‪َّ .‬‬
‫إن العامل هو تلك‬ ‫املواجهة مع يشء‪َّ ،‬‬
‫الظاهرة التي تكتسب اإلحالة معناها داخل ذلك املفهوم وتغدو ممكنة‪ ،‬وتصبح مواجهة‬
‫الكائن الذي يمكن مواجهته أمرا ممكنا(‪.)4‬‬
‫عرف من ِق َبل الذهن بشكل‬ ‫يذهب ديكارت إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن الوجود الذهني إ َّنام ُي َ‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.116‬‬
‫‪ ❖ 272‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫فإن العالقة األُو ىل للموجود الذهني عند ديكارت ُمت هثل ارتباطا‬
‫وعل هذا األساس َّ‬ ‫ى‬ ‫منفرد(‪.)1‬‬
‫إن األشياء ال ُت ِ‬
‫ظهر نفسها‬ ‫بأمر جزئي‪ .‬ولكن هنا متاما يبادر هايدغر إ ىل طرح هذا االنتقاد‪َّ :‬‬
‫بشكل منفصل‪:‬‬
‫إن هذه األشياء ال ُت ِ‬
‫ظهر نفسها لذاهتا بدو ًا‪ ،‬كي تعمل بعد ذلك جمموعة من‬ ‫َّ‬
‫األشياء عىل الرتاكم يف ح ِّيز من املكان(‪.)2‬‬
‫فإن إدراك ك ّل َّية ما تكمن فيها األشياء ‪ -‬بوصفها أدوات ‪ -‬متقدّ مة دائام ى‬
‫عل‬ ‫ويف احلقيقة َّ‬
‫يتم إدراك جمموعة ك ّل َّية من‬
‫إدراك يشء جزئي‪ .‬وقبل تشخيص أداة منفردة جيب َّأوال أ ْن َّ‬
‫األدوات(‪.)3‬‬

‫نقد هايدغر على ديكارت‪:‬‬


‫بعد دراسة مفهوم العامل عند ديكارت‪ ،‬ننتقل اآلن إ ىل اخلوض يف االنتقادات التي يوردها‬
‫عل ديكارت‬
‫األهم الذي يورده هايدغر ى‬
‫ّ‬ ‫عل املفهوم الديكارت للعامل‪َّ .‬‬
‫إن االنتقاد‬ ‫هايدغر ى‬
‫أن أرشنا سابقا َّ‬
‫فإن هايدغر ينظر إ ىل العامل بوصفه‬ ‫ينظر إ ىل اخللط بني مفهومني‪ .‬وكام سبق ْ‬
‫عل ديكارت يكمن‬ ‫أهم نقد ِّلايدغر ى‬ ‫أرض َّية مفهوم َّية ملجموعة من األدوات أو األُمور‪َّ .‬‬
‫وإن َّ‬
‫متاما يف هذه النقطة‪« :‬يعمد ديكارت إ ىل تعريف العامل ‪ -‬من خالل توظيف مفهوم‬
‫أن العامل ليس من سنخ األُمور املمتدَّ ة‪ .‬وسوف‬
‫االمتداد»(‪ - )4‬بوصفه كينونة ممتدَّ ة‪ ،‬يف حني َّ‬
‫نصني آخرين ها َّمني‬ ‫نرى َّ‬
‫أن هايدغر ‪ -‬بعد هذا االنتقاد اِّلا هم يف الوجود والزمان ‪ -‬يعمد يف َّ‬ ‫ى‬
‫إ ىل بيان تداعيات وتبعات هذا التصور الديكارت للعامل‪:‬‬
‫‪ - 1‬يف الكينونة والزمان‪:‬‬
‫عل تصور ديكارت للعامل إ َّنام ينظر إ ىل هذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن‬ ‫أهم انتقاد ِّلايدغر ى‬ ‫َّ‬
‫إن َّ‬

‫‪(1) singular‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬عبد الكريم رشيديان‪ ،‬ص ‪،93‬‬
‫‪1389‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪(4) extension‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪273‬‬

‫إل االختالف األنطولوجي بني الكينونات يف داخل العامل‪ ،‬أي األُمور‬


‫ديكارت مل يلتفت ى‬
‫اليدوية وذات العامل‪ .‬فمن جهة‪:‬‬
‫إن ُأنموذج ديكارت يفرتض َّ‬
‫أن أكثر أوضاعنا يف العامل جوهر َّية عبارة عن بيان‬ ‫َّ‬
‫معتقداتنا بشأن األشياء عىل أساس العالقة القائمة بني املوضوع واملحمول‪ .‬من‬
‫أن‬
‫أن هذا النموذج يستلزم منيا القول بأنطولوج َّية اجلوهر والعرض‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫الواضح َّ‬
‫يتم محل األعراض عليها(‪.)1‬‬
‫العامل جيب أن يشتمل عىل جواهر كي َّ‬
‫أهم خصائص العامل من‬ ‫أن رأينا ‪َّ -‬‬
‫فإن االمتداد ُيع َترب من ّ‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى ‪ -‬كام سبق ْ‬
‫أن االمتداد من وجهة نظر هايدغر ُيم هثل خصوص َّية يف األشياء‬
‫وجهة نظر ديكارت‪ ،‬يف حني َّ‬
‫بمعنى الكائن الذي يتموضع بنفسه داخل العامل‪ ،‬وليس خصوص َّية هذا العامل الذي‬
‫ى‬ ‫اليدو َّية‪،‬‬
‫عل تلك الكينونة‪ .‬وقد استعمل ديكارت لتوصيف العامل مقولة ال تناسبة‪:‬‬
‫يشتمل ى‬
‫إن الكينونة التي يسعى ديكارت إىل فهمها بواسطة االمتداد بشكل أنطولوجي‪،‬‬
‫َّ‬
‫هي يف الغالب كينونة يمكن كشفها من طريق الكائن داخل العامل الذي هو يدوي‬
‫بالدرجة األُوىل(‪.)2‬‬
‫عل محل‬
‫أن يسمح لظاهرة العامل بالظهور‪ ،‬يعمل ى‬ ‫أن ديكارت بدال من ْ‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫ى‬
‫وعل إثرها‬
‫ى‬ ‫عل العامل‪َّ .‬‬
‫إن ديكارت ال يسمح بالظهور للكينونة اليدو َّية‬ ‫مقوالت غري مناسبة ى‬
‫يسعى إ ىل فهم ه‬
‫كل يشء‬ ‫ى‬ ‫العامل بوصفه أرض َّية ملفهوم َّية األداة أو الكائن اليدوي‪ ،‬ويف املقابل‬
‫عل أساس الكينونة اليدو َّية‪:‬‬
‫ى‬
‫وبذلك يعمد ديكارت بشكل فلسفي واضح إىل تغيري ِّاّتاه تداعيات األنطولوجيا‬
‫التقليد َّية نحو الفيزياء الرياض َّية احلديثة وأنسجتها االستعالئ َّية(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬خامتي‪ ،‬حممود‪ ،‬جهان در انديشه هيدگر (العامل يف رؤية هايدغر)‪ ،‬ص ‪ 251‬و‪ ،252‬انتشارات انديشه معارص‪،‬‬
‫طهران‪1384 ،‬هـ ش‪( .‬مصدر فاريس)‪.‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬عبد الكريم رشيديان‪ ،‬ص ‪،128‬‬
‫‪1389‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.129‬‬
‫‪ ❖ 274‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل أساس ا هتصال النفس بالبدن‪ ،‬وهو‬


‫إن ديكارت إ َّنام يدرك اإلنسان ى‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى ف َّ‬
‫نرى َّ‬
‫أن‬ ‫بدوره ليس شيئا غري االمتداد‪ .‬ويف احلقيقة ح َّت ىى إذا نظرنا من زاوية الـ دازين سوف ى‬
‫أهم‬
‫إن الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل من ّ‬ ‫ديكارت قد جتاهل الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬عامل الـ دازين‪َّ .‬‬
‫أن ديكارت يتجاهلها‪ ،‬ويدرك الـ دازين كام يدرك كينونة اليشء‬ ‫خصائص الـ دازين‪َّ ،‬إال َّ‬
‫عل أساس مفهوم اجلوهر(‪ .)1‬ويواصل ديكارت تفكريه ضمن املنهج‬ ‫املمتده ‪ ،‬أي ى‬
‫عل االعتقاد‬ ‫األنطولوجي التقليدي؛ إذ إ َّن ًّ‬
‫كال من ديكارت واألنطولوجيا التقليد َّية يقومان ى‬
‫القائل ب َّ‬
‫أن أتقن أنواع املعرفة هي املعرفة األنطيق َّية(‪ .)2‬يضع هايدغر املفهوم األنطولوجي‬
‫لـ الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل يف قبال املفهوم األنطيقي لـ اجلوهر‪َّ .‬‬
‫إن االهتامم بخصائص من قبيل‬
‫االمتداد من وجهة نظر هايدغر ال تكشف عن املاه َّية الظاهرة للعامل‪َّ .‬‬
‫إن ظاهرة العامل هي يف‬
‫الواقع عامل ّ ى‬
‫يتجل يف إطار االنشغاالت اإلنسان َّية‪ ،‬وليس موضوعا ما ّد ًّيا أو فيزيق ًّيا‪.‬‬
‫إل‬
‫عل الوصول ى‬ ‫َّ‬
‫إن النموذج العام ِّلايدغر يف التحليل األنطولوجي لظاهرة العامل يقوم ى‬
‫شبكة من العالقات التي تكتسب كل أداة مفهومها يف ضمنها(‪َّ .)3‬‬
‫إن العامل واملكان عند‬
‫وإن األنحاء املختلفة املوجودة داخل هذا‬ ‫ديكارت عبارة عن مفاهيم متناسقة وجوهر َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن املكان ُيم هثل أداة خمتلفة عن‬
‫املكان ال ّتتلف عن بعضها أبدا‪ ،‬وأ َّما من وجهة نظر هايدغر َّ‬
‫عل نحو الصدفة‪َّ ،‬‬
‫إن مكان األداة يندرج ضمن‬ ‫الكينونة والتحقق البحت يف موقع َّية مكان َّية ى‬
‫ك ّل َّية‪ ،‬و ُيك َتب له التعني يف التالحم مع متام األدوات األُ ى‬
‫خرى(‪ .)4‬وخالفا للموضوع‬
‫فإن األداة أو األمر اليدوي عند هايدغر إ َّنام يتع َّلق‬
‫الديكارت الذي يتح َّقق خارج الذهن‪َّ ،‬‬
‫وجمرد عن‬ ‫َّ‬ ‫فإن مراد هايدغر هو َّ‬
‫أن تقليل املكان إ ىل أمر متناغم‬ ‫بمكان(‪ .)5‬ويف احلقيقة َّ‬
‫االختالف‪ ،‬يتعارض مع جتربتنا الروتين َّية عن املكان‪ ،‬فاملكان ليس َّ‬
‫كل منسجم‪ ،‬بل هو متام َّية‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 131‬و‪.132‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.134‬‬
‫(‪ )3‬خامتي‪ ،‬حممود‪ ،‬جهان در انديشه هيدگر (العامل يف رؤية هايدغر)‪ ،‬ص ‪ ،67‬انتشارات انديشه معارص‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪1384‬هـ ش‪( .‬مصدر فاريس)‪.‬‬
‫(‪ )4‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ص ‪1389 ،137‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )5‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪275‬‬
‫ِ‬
‫الق َطع التي حصل كل واحد منها ى‬
‫عل مفهومه من خالل نسبتنا إ ىل أداة ما‪« :‬لقد جتزَّ أ املكان‬
‫رصح هايدغر بأ َّنه ال يمكن اعتبار النسبة بني‬
‫يف املواضع قطعة قطعة» ‪ .‬وبالتال فقد َّ‬
‫(‪)1‬‬

‫الـ دازين والعامل نسبة بني موضوع ومكان بحيث يكون املوضوع بمثابة يشء واقعا يف‬
‫ضمنه‪:‬‬
‫تم فتحه‬
‫ال املكان يف املوضوع‪ ،‬وال العامل يف املكان‪ ،‬بل املكان (يف) العامل ما دام املكان قد َّ‬
‫املقوم للـ دازين‪َّ .‬‬
‫إن املكان ال يتم العثور عليه يف املوضوع‪،‬‬ ‫بواسطة الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل ه‬
‫واملوضوع بدوره ال ينظر إ ىل العامل بحيث َّ‬
‫كأن العامل يف مكان‪ ،‬بل (املوضوع) يف الفهم‬
‫بمعنى الـ دازين‪ ،‬يعني املتم هكن َّ‬
‫األول(‪.)2‬‬ ‫ى‬ ‫األنطولوجي الصحيح له‬
‫بأن ديكارت ‪ -‬من خالل جتاهله جلميع خصائص العامل ‪-‬‬ ‫يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫جمرد امتداد(‪ .)3‬وحيث إ َّن االمتداد ال يناسب إدراك العامل‪ ،‬بل هو‬
‫يعمد إ ىل خفضة واعتباره َّ‬
‫يناسب فهم الكينونة داخل العامل والكائن اليدوي‪ ،‬جيب القول‪َّ :‬‬
‫إن ديكارت ُيقده م تعينا‬
‫أن سبب خطأ ديكارت ال يكمن يف شغفه بعلم‬ ‫يرى هايدغر َّ‬‫خاطئا عن العامل ‪ .‬ى‬
‫(‪)4‬‬

‫عل خفض الوجود‬ ‫لدى ديكارت يعمل ى‬ ‫الرياض ّيات‪ ،‬بل هناك نوع من التوجه األنطولوجي ى‬
‫أن هذا ه‬
‫االجتاه الديكارت هو الذي ُيؤ ّدي ‪ -‬من‬ ‫سنرى َّ‬
‫ى‬ ‫إ ىل كينونة يدو َّية دائمة(‪ .)5‬وفيام يأت‬
‫وجهة نظر هايدغر ‪ -‬إ ىل حتول العامل إ ىل صورة‪.‬‬
‫‪ - 2‬يف عرص تصوير العامل‪:‬‬
‫فأوال َّ‬
‫إن هذه املقالة تشتمل‬ ‫َّ‬
‫إن ملقالة عرص تصوير العامل مكانة ها َّمة يف تفكري هايدغر‪َّ .‬‬
‫عل‬
‫أهم مضامني املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر يف كتاب الوجود والزمان‪ ،‬أي إ َّّنا تعمل ى‬
‫عل ّ‬‫ى‬
‫تكميل البحث عن مفهوم العامل‪ .‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى يبحث هايدغر يف هذا املقال عن التبعات‬
‫عل ربط‬
‫فإن هذا املقال يعمل ى‬ ‫والتداعيات األكثر ضمن َّية يف الفكر الديكارت‪ .‬وبالتال َّ‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.139‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.149‬‬
‫‪(3) res extensa‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫(‪ )5‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.129‬‬
‫‪ ❖ 276‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫البحث عن العامل بأحد املضامني املحور َّية األُ ى‬


‫خرى ِّلذه املرحلة من النشاط الفكري ِّلايدغر‪،‬‬
‫أي املضمون التكنولوجي‪ .‬وقبل ه‬
‫كل يشء ال بدَّ من التذكري َّ‬
‫بأن حلقة ا هتصال نقد هايدغر‬
‫والنصني الذين سنبحثهام منذ اآلن فصاعدا‪ ،‬مضمون‬
‫َّ‬ ‫لديكارت يف كتاب الوجود والزمان‪،‬‬
‫عل إظهاره‪َ ،‬أال وهو اخللط بني العامل والكينونات املوجودة داخل العامل‪.‬‬ ‫سبق لنا ْ‬
‫أن عملنا ى‬
‫عل‬
‫إن هايدغر يف العثور ى‬ ‫أهم خصائص املرحلة احلديثة؟ َّ‬ ‫والسؤال األصيل‪ :‬ما هي ّ‬
‫جواب عن هذا السؤال‪ ،‬بدال من اخلوض يف الك ّل ّيات‪ ،‬يعمد إ ىل االهتامم بالعنارص اِّلا َّمة من‬
‫املرحلة احلديثة‪ ،‬أي العلم احلديث‪ .‬لقد عدَّ هايدغر يف بداية هذه املقالة العلم والتكنولوجيا‬
‫إن للعلم احلديث من وجهة نظر هايدغر‬ ‫احلديثة جزءا من الظواهر الذات َّية احلديثة(‪َّ .)1‬‬
‫إن جوهر العلم احلديث هو التحقيق(‪ .)2‬خالفا للبحث والتحقيق‬ ‫خصوص َّية حرص َّية‪َّ :‬‬
‫عل هذه اخلصوص َّية‪،‬‬ ‫العلمي يف مرحلة ما قبل احلداثة‪َّ ،‬‬
‫فإن حتقيق العلم احلديث يشتمل ى‬
‫خاصة من‬‫َّ‬ ‫عل حتديد مساحة‬
‫عل الكائنات‪ ،‬يعمل بنفسه ى‬ ‫وهي أ َّنه بدال من االنفتاح ى‬
‫«إن انفتاح مثل هذا الفضاء هو الذي ُيم هثل احلدث اجلوهري للتحقيق»(‪َّ .)3‬‬
‫إن‬ ‫الكائنات‪َّ :‬‬
‫يرى‬
‫عل تثبيت حدود الطبيعة والكائنات‪ .‬ى‬‫مهمة العلم اجلديد تكمن يف رسم خريطة تعمل ى‬‫َّ‬
‫هايدغر َّ‬
‫بأن هذه اآللية التي يشتمل عليها العلم احلديث تثبت يف احلقيقة شدَّ ة البحث‬
‫عل‬
‫أن البحث يعمل ى‬ ‫إن شدّ ة وقسوة البحث والتحقيق عند هايدغر تعني َّ‬ ‫والتحقيق(‪َّ .)4‬‬
‫عل حتديد بعض األنحاء‬ ‫عل العامل والعلم واحلقيقة‪َّ .‬‬ ‫ِ‬
‫إن العلم يعمل ى‬ ‫فرض ق َيمه ومفاهيمه ى‬
‫أن يكون كل يشء فيها موجودا ذهن ًّيا(‪َّ .)5‬‬
‫إن حتول األشياء إ ىل وجودات ذهن َّية يعني يف‬ ‫جيب ْ‬
‫وعل حده تعبري هايدغر‪:‬‬
‫ى‬ ‫احلقيقة حتوِّلا إ ىل أشياء قابلة للتقييم واحلساب‪.‬‬
‫إن البحث إ َّنام يكون مهيمن ًا عىل الكائنات عندما يتم َّكن من التنبؤ بمستقبلها من‬
‫َّ‬

‫‪(1) Heidegger, Martin. 2002, The Age of The World Picture. Off the Beaten Track. Edited‬‬
‫‪and translated by Julian Young and Kenneth Haynes. Cambridge University press. p. 57.‬‬
‫‪(2) Forschung / Research.‬‬
‫‪(3) Ibid, p. 59.‬‬
‫‪(4) Ibid, p. 59.‬‬
‫‪(5) Ibid, p. 60.‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪277‬‬

‫يتوصل إىل نتائج بشأن ماضيها(‪.)1‬‬


‫خالل املحاسبة أو السلوك‪ ،‬أو أن َّ‬
‫إل ظهور(‪ )2‬ذهني‪َّ .‬‬
‫إن النقطة‬ ‫إل التاريخ ‪ -‬ى‬
‫يتحول كل يشء ‪ -‬ابتداء من الطبيعة ى‬
‫ويف هذا املسار َّ‬
‫إل صدور حكم عام‬ ‫اِّلا َّمة من وجهة نظر هايدغر هي ْ‬
‫أن ُيؤ ّدي هذا املوقف العلمي يف اخلفاء ى‬
‫إن العامل ال ُيكم عليه بالوجود ويتم التعرف‬ ‫إل ظهور ذهني(‪َّ .)3‬‬ ‫مفاده‪ :‬ليس هناك َّإال ما ي َّ‬
‫تحول ى‬
‫ِ‬
‫عليه رسم ًّيا‪َّ ،‬إال إذا مت َّثل ذهن اإلنسان‪ ،‬بحيث يطمئن له اإلنسان و ُيدركه ى‬
‫عل نحو القطع واليقني‪.‬‬
‫تم بيانه يف كتاب التأمالت‪:‬‬ ‫ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن هذا اليقني هو اليقني الديكارت الذي َّ‬
‫للمرة األُوىل التعريف بالوجود بوصفه أمر ًا ذهنيا‪،‬‬ ‫يف امليتافيزيق الديكاريت يتم َّ‬
‫ويتم إظهار احلقيقة عىل مستوى القطع واليقني(‪.)4‬‬
‫وإن العامل َّ‬
‫وكل الوجود إ َّنام‬ ‫ُيم هثل اإلنسان حمور العامل يف املنظومة الفكر َّية لديكارت‪َّ ،‬‬
‫إل‬
‫يتحول ى‬ ‫َّ‬ ‫«إن اإلنسان‬ ‫يكتسب مفهومه ومعناه من خالل اإلحالة إليه‪ ،‬و ُخي َلق ى‬
‫عل أساسه‪َّ .‬‬
‫إن هذا العامل يتم خفضه إ ىل صورة(‪ )6‬يف ذهن‬ ‫مركز إحالة الوجود بام هو وجود»(‪َّ .)5‬‬
‫املوضوع‪ .‬ح َّت ىى ما قبل الدخول يف املرحلة احلديثة وظهور التفكري الديكارت‪ ،‬مل يكن بإمكان‬
‫عل التدقيق يف مفهوم‬
‫معنى‪ .‬ومن هنا يعمل هايدغر ى‬
‫ى‬ ‫يشء ‪ -‬مثل صورة العامل ‪ْ -‬‬
‫أن يكون له‬
‫صورة العامل‪:‬‬
‫بمعنى العامل‬
‫ى‬ ‫بمعنى صورة العامل‪ ،‬بل‬
‫ى‬ ‫من الزاوية الذات َّية َّ‬
‫فإن كلمة (‪ )Weltbild‬ليست‬
‫إن الكائنات بوصفها جمموعة إ َّنام ُين َظر إليها بام هي وجود‪ ،‬بحيث ال تكون‬ ‫بام هو صورة‪َّ .‬‬
‫املظهر (املنتج)(‪.)8()7‬‬ ‫وال تكتسب هو َّيتها َّإال من ِق َبل اإلنسان ِ‬

‫‪(1) Ibid, p. 65.‬‬


‫‪(2) representation‬‬
‫‪(3) Ibid.‬‬
‫‪(4) Ibid, p. 66.‬‬
‫‪(5) Ibid, p. 66.‬‬
‫‪(6) Bild / Picture.‬‬
‫‪(7) Vorstellend - herstellend‬‬
‫‪(8) Heidegger, Martin. 2002, The Age of The World Picture. Off the Beaten Track. Edited‬‬
‫‪and translated by Julian Young and Kenneth Haynes. Cambridge University press. p. 67.‬‬
‫‪ ❖ 278‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫إن املعضلة الناشئة من املوضوع املحوري الديكارت واملفهوم الديكارت للعامل من وجهة‬
‫لدى ذهن املوضوع وحتوله إ ىل ما َّدة للنشاط اإلنساين املنتج‪،‬‬ ‫نظر هايدغر هو َّ‬
‫أن ظهور العامل ى‬
‫دركه املوضوع من العامل‪َّ .‬‬
‫إن العامل‬ ‫إل ذلك اليشء الذي ُي ِ‬
‫بمنزلة خفض وتقليل العامل ى‬
‫الديكارت ليس شيئا آخر غري الصورة يف ذهن املوضوع‪ .‬كام يعمد هايدغر إ ىل ربط مسألة‬
‫اإلظهار هذه إ ىل مسألة إنتاج التكنولوجيا أيضا‪َّ .‬‬
‫إن املنظومة الفكر َّية الديكارت َّية واملفهوم‬
‫عل العامل‪ ،‬وتصوره‬
‫الديكارت للعامل هو ذلك التفكري الذي ُيؤ ّدي إ ىل بسط اإلنسان سيطرته ى‬
‫له بوصفه وجودا ذهن ًّيا‪ ،‬وبالتال يتم اإلعداد ملقدّ مات اِّليمنة التكنولوج َّية يف العامل بوصفه‬
‫إن ديكارت من خالل طرحه ملفهوم اإلظهار ُأ ُسس ملرحلة جديدة يف تاريخ‬ ‫كال متكامال‪َّ .‬‬ ‫ّ‬
‫إن اإلظهار التصويري هو ذات املرحلة احلديثة‪،‬‬ ‫اإلنسان ُمت هيزها من سائر املراحل األُ ى‬
‫خرى‪َّ .‬‬
‫«إن احلداثة تتبلور يف األساس من خالل تصوير العامل»(‪.)1‬‬ ‫وعل حده تعبري هايدغر‪َّ :‬‬ ‫ى‬
‫والنقطة اِّلا َّمة األُ ى‬
‫خرى من وجهة نظر هايدغر يف هذا البحث هو أ َّنه ح َّت ىى ما قبل املرحلة‬
‫عل العامل‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫احلديث ة مل يكن هناك يف األساس فهم لسيطرة اإلنسان أو الوجود الذهني ى‬
‫«متضمنا لالنخراط يف دائرة‬
‫ه‬ ‫املرحلة احلديثة هي املرحلة التي يكون فيها وجود الكينونة‬
‫معنى وجود‬
‫ى‬ ‫«جمرد‬
‫عل بلورة َّ‬ ‫معلومات اإلنسان والوقوع حتت اختيارها» وهذا يعمل ى‬
‫الكينونة»(‪ . )2‬يشري هايدغر من خالل مقارنة هذا الفهم للعامل بالرؤية اليونان َّية ‪ -‬كام هي‬
‫عل الرؤية القائلة‪َّ :‬‬
‫«إن العامل يف عرص‬ ‫إل نقطة ها َّمة تقوم ى‬
‫لدى بارمنيدس ‪ -‬ى‬
‫مطروحة ى‬
‫يتحول إ ىل صورة»(‪ .)3‬يواصل هايدغر كالمه يف هذه املقالة ليقول‬
‫َّ‬ ‫اإلغريق ال يستطيع ْ‬
‫أن‬
‫يرى هايدغر‬ ‫رصاحة‪َّ :‬‬
‫إن حتول العامل إ ىل صورة يساوي حتول اإلنسان إ ىل موجود ذهني ‪ .‬ى‬
‫(‪)4‬‬

‫أن ديكارت ُيم هثل املرحلة التي أضحت فيها نسبة اإلنسان والعامل نسبة معكوسة‪ .‬لقد َّ‬
‫حتول‬ ‫َّ‬

‫‪(1) Ibid, p. 68.‬‬

‫‪(2) Ibid, p. 67.‬‬

‫‪(3) Heidegger, Martin. 2002, The Age of The World Picture. Off the Beaten Track. Edited‬‬

‫‪and translated by Julian Young and Kenneth Haynes. Cambridge University press. p. 69.‬‬

‫‪(4) Ibid, p. 69.‬‬


‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪279‬‬

‫أن هايدغر يف كتاب الوجود والزمان‬‫العامل إ ىل جزء من إدراك الوجود الذهني‪ ،‬يف حني َّ‬
‫يسعى إ ىل تقديم مفهوم عن العامل يكون فيه اإلنسان (الـ دازين) جزءا منه‪.‬‬
‫ى‬
‫‪ - 3‬يف السؤال عن التكنولوجيا‪:‬‬
‫وجه هايدغر اهتاممه يف هذه املقالة إ ىل مسألة نسبة اإلنسان والعامل أيضا‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن البحث‬ ‫ُي ه‬
‫فإن السؤال الذي‬‫عل دراسة مفهوم اإلنتاج‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬ ‫يف هذا املقال ينصب بالتحديد ى‬
‫يطرحه هايدغر يف هذه املقالة يقول‪ :‬ما هي النسبة بني اإلنتاج البرشي والعاملي الذي يتح َّقق‬
‫اإلنتاج يف داخله؟‬
‫يبدأ هايدغر بحثه من اإلنتاج عند اإلغريق‪ .‬لقد كان اإلغريق عند البحث يف حقل‬
‫اإلنتاج يستخدمون مصطلح الـ بويسس(‪ )1‬أو التكون‪َّ .‬‬
‫إن للـ بويسس دائرة مفهوم َّية واسعة‬
‫جمرد إنتاج اآلثار الفنّ َّية واإلنتاج اليدوي فقط‪ ،‬بل تشمل ح َّت ىى اإلنتاج الف ّني‬
‫عل َّ‬
‫ال تقترص ى‬
‫ومجيع أنواع اإلنتاج األُ ى‬
‫خرى أيضا‪ .‬ويف احلقيقة فإ َّنه من خالل هذه الدائرة املفهوم َّية الواسعة‬
‫وعل حده تعبري‬
‫ى‬ ‫يسعى هايدغر إ ىل حتديد نسبة اإلنتاج والعامل الطبيعي‪.‬‬
‫ى‬ ‫ملفردة الـ بويسس‬
‫فإن الطبيعة أو الـ فوسيس(‪ )2‬هي نوع من اإلنتاج والتكوين أو الـ بويسس(‪ .)3‬بيد َّ‬
‫أن‬ ‫هايدغر َّ‬
‫النواة األصلية لبحث هايدغر ‪ -‬أي نسبة اإلنتاج والتكنولوجيا إ ىل العامل ‪ ّ -‬ى‬
‫تتجل من خالل‬
‫طرح مفهوم عدم اخلفاء أو االنكشاف(‪ )4‬الظاهر‪ .‬وقد أشار هايدغر يف بداية األمر إ ىل َّ‬
‫أن‬
‫َّ‬
‫«كل منتج يمتد بجذوره عند اإلغريق يف اإلنكشاف أو (عدم اخلفاء)»(‪ .)5‬ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن‬
‫إن هذه‬‫ثم أجاب بالقول‪َّ :‬‬ ‫هايدغر قد تقدَّ م بالسؤال َّأوال‪ :‬ما هي الذات التكنولوج َّية؟ ّ‬
‫إن االنكشاف ُيم هثل رشطا يف مجيع أنواع التصنيع(‪.)6‬‬
‫الذات هي االنكشاف أو عدم اخلفاء‪َّ .‬‬
‫وعليه يمكن القول‪ :‬ح َّت ىى التكنولوجيا احلديثة نفسها ُمت هثل نمطا من اإلنكشاف أيضا‪ .‬ولكن‬

‫‪(1) Poiesis‬‬
‫‪(2) Phusis‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ص ‪1389 ،12‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(4) Aletheia‬‬
‫(‪ )5‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ص ‪1389 ،12‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )6‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ ❖ 280‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أين تكمن مشكلة التكنولوجيا احلديثة من وجهة نظر هايدغر؟‬


‫لقد كان اإلنتاج عند اإلغريق يتم ضمن دائرة االنكشاف أو عدم اخلفاء‪ .‬وقد كان‬
‫اإلغريق يرون حدًّ ا إلنتاج َّيتهم‪ ،‬وكان يتم تعيني هذا احلده من ِق َبل عدم اخلفاء‪َّ .‬إال أ َّننا مع‬
‫الدخول إ ىل العامل احلديث أخذنا نواجه نوعا آخر من اإلنتاج َّية‪َ ،‬أال وهو اإلنتاج‬
‫أن اإلنتاج التكنولوجي ُيدث ويغدو ممكنا بدوره من خالل‬‫وعل الرغم من َّ‬
‫ى‬ ‫التكنولوجي‪.‬‬
‫عل التكنولوجيا احلديثة ُي َعد نوعا من التعرض»(‪.)1‬‬ ‫االنكشاف‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن «االنكشاف احلاكم ى‬
‫تتعرض إ ىل العامل‪ُ ،‬‬
‫وحت هوله‬ ‫َّ‬
‫إن التكنولوجيا احلديثة ال تقوم باإلنتاج داخل العامل‪ ،‬بل َّإّنا َّ‬
‫بأمجعه إ ىل مصدر للطاقة(‪ .)3()2‬من خالل االلتفات إ ىل البحث املطروح يف الوجود والزمان‬
‫عل نحو ج هيد َّ‬
‫أن العامل ‪ -‬الذي كان ُيش هكل أرض َّية ملفهوم َّية األشياء ‪ -‬حتت‬ ‫يمكن ْ ِ‬
‫أن ُندرك ى‬
‫يتحول بنفسه إ ىل واحد من األشياء أو املوضوعات‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫َّ‬ ‫سيطرة التكنولوجيا احلديثة‬
‫وعل الرغم من‬
‫ى‬ ‫التكنولوجيا احلديثة تنظر إ ىل جمموع العامل بوصفه موضوعا قابال للتوظيف‪.‬‬
‫عل التكنولوجيا احلديثة‬ ‫أن التكنولوجيا نفسها حصيلة االنكشاف‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن االنكشاف احلاكم ى‬ ‫َّ‬
‫ُيم هثل نوعا من التعرض‪ ،‬وهو التعرض الذي يضع الطبيعة أمام هذا التوقع االعتباطي‪ ،‬حيث‬
‫أن ُتو هفر الطاقة‪ ،‬ح َّت ىى يكون باإلمكان العمل ى‬
‫عل استخراج وا هدخار الطاقة بام هي‬ ‫ُيراد منها ْ‬
‫طاقة‪ ،‬من ُصلب الطبيعة(‪.)4‬‬
‫إل‬
‫يمكن تعريف مواجهة هايدغر لديكارت من خالل كتاب الوجود والزمان وصوال ى‬
‫تم طرح العامل َّأوال يف كتاب‬
‫مقال سؤال عن التكنولوجيا بمحور َّية مفهوم العامل‪ .‬لقد َّ‬
‫الوجود والزمان يف إطار تركيب الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل‪ ،‬يف قبال العامل الديكارت وامتداد‬
‫ثم ذهب هايدغر يف عرص تصوير العامل إ ىل اعتبار ديكارت والتفكري املتمحور حول‬
‫حمور َّيته‪ّ .‬‬
‫جمرد تصور يف ذهن املوضوع‪ .‬ويف ّناية‬
‫إل َّ‬
‫املوضوع مسؤوال عن مسار تقليل العامل وخفضه ى‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫‪(2) Bestand‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ص ‪1389 ،15‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪281‬‬

‫أن هذا املسار ُيؤ ّدي إ ىل تدمري‬‫املطاف ويف سؤال عن التكنولوجيا ُيعلِن هايدغر رصاحة َّ‬
‫ظهور العامل وحمو نسبة اإلنسان والعامل‪ ،‬والذي يتم التعبري عنه يف املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر‬
‫حتت عنوان ترشد(‪ )1‬اإلنسان احلديث‪ .‬ويف مجيع هذه املوارد الثالثة ُيرصح هايدغر بشكل‬
‫واضح بتصوره للعامل يف قبال التصور الديكارت‪.‬‬
‫جمرد موضوع خارجي ممتد يف قبال املوجود الذهني‪ .‬يتم خفض العامل‬ ‫َّ‬
‫إن العامل الديكارت َّ‬
‫إ ىل موضوع خارجي‪ ،‬وهذا ُيش هكل من وجهة نظر هايدغر مقدّ مة لتحول العامل ى‬
‫إل مصدر‬
‫ه َّي ة املفهوم الديكارت للعامل عند هايدغر من حيث إ َّنه طبقا‬
‫للطاقة‪ .‬ويف احلقيقة تكمن أ ّ‬
‫لتصور هايدغر للتكنولوجيا جيب إعداد املقدّ مات األنطولوج َّية واملفهوم َّية لسيطرة‬
‫التكنولوجيا بشكل مسبق يف الفلسفة وامليتافيزيق‪.‬‬

‫مقارنة بني فهم هايدغر وديكارت للعامل‪:‬‬


‫عل املقارنة بني املوارد األصل َّية لالختالف بني تصور‬
‫بااللتفات إ ىل ما تقدَّ م سوف نعمل ى‬
‫ديكارت وهايدغر للعامل‪:‬‬
‫أ ‪ -‬االنطالق من الذهن واالنطالق من الفعل‪:‬‬
‫األول بني التصور الديكارت والتصور اِّلايدغري عن العامل يكمن يف‬ ‫َّ‬
‫إن وجه االختالف َّ‬
‫أن هايدغر جيعل نقطة االنطالق يف بحثه من فعل الـ دازين‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن نقطة االنطالق عند‬ ‫َّ‬
‫ديكارت هو ذهن املوضوع‪َّ .‬‬
‫إن نسبة الـ دازين إ ىل العامل نسبة غري واعية؛ إذ عند االستفادة‬
‫من األداة تغدو األُمور ش ّفافة وال يعود باإلمكان مشاهدهتا بالعني‪ .‬ليس هناك يشء‬
‫سوى األداة املتع هلقة بفعل الـ دازين‪ ،‬أو ى‬
‫عل حده تعبري هايدغر امتالكه لـ الفعل‬ ‫ى‬ ‫لإلدراك‪،‬‬
‫اليدوي ال يف قبال ذهنه أو يف متناول يده‪ ،‬ح َّت ىى ُيدث انقطاع يف مساره الروتيني‪ ،‬فيجعله‬
‫قابال للرؤية بالعني أو يف متناول اليد‪.‬‬
‫ب ‪ -‬متييز العامل من الكائنات داخل العامل‪:‬‬
‫يرى متايزا واختالفا بني الكائنات يف‬ ‫أ َّما االختالف اِّلام اآلخر فيكمن يف َّ‬
‫أن ديكارت ال ى‬

‫‪(1) Unheimlichkeit‬‬
‫‪ ❖ 282‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يرى اختالفا بني األجسام ونفس العامل‪ ،‬فاجلوهر فيها مجيعا هو االمتداد‪.‬‬ ‫بمعنى أ َّنه ال ى‬
‫ى‬ ‫العامل‪،‬‬
‫أ َّما من وجهة نظر هايدغر فال ينبغي اخللط بني العامل واألُمور اليدو َّية‪َّ .‬‬
‫إن العامل ُيش هكل‬
‫أرض َّية ملفهوم َّية هذه األُمور‪ ،‬وليس واحدا منها‪ .‬ى‬
‫يرى هايدغر أ َّننا قبل التفكري والتأمل يف‬
‫ماه َّية يشء ما‪ ،‬نستفيد منه بوصفه أداة‪ .‬ال ْ‬
‫أن نعتربها مزجيا من اجلواهر واألعراض‪ ،‬وال‬
‫عل‬
‫احلس َّية املتعده دة وال ارتباطا بني املا َّدة والصورة‪ .‬بل نحن إ َّنام نعمل ى‬
‫وحدة للكيف ّيات ّ‬
‫إن االمتداد هو اخلصلة الوحيدة املتو هفرة يف متناول اليد‪،‬‬
‫االستفادة منها وتوظيفها ال أكثر‪َّ .‬‬
‫خصيصة األمر اليدوي‪ .‬والعامل بنفسه ليس يف متناول اليد‪ ،‬بل ُيش هكل أرض َّية يكتسب‬
‫وليس ه‬
‫يرى متايزا بني العامل واألشياء‬ ‫األمر اليدوي مفهومه فيها ويغدو ممكنا‪ .‬بيد َّ‬
‫أن ديكارت ال ى‬
‫املاثلة فيه‪.‬‬
‫ج ‪ -‬العامل جزء من الذهن أم الذهن جزء من العامل‪:‬‬
‫عند ديكارت يبدأ البحث من داخل الذهن ح َّت ىى نصل إ ىل عامل اخلارج‪ .‬وأ َّما يف الواقع‬
‫عل الدوام‪ .‬وأ َّما من‬ ‫َّ‬
‫فإن العامل الذي يصفه ديكارت هو جزء من ذهن املوضوع‪ ،‬ومرتبط به ى‬
‫وجهة نظر هايدغر فإ َّن الـ دازين وذهنه وجسمه وأفعاله بر َّمتها تقع داخل العامل‪ ،‬وبعبارة‬
‫مهمة‬ ‫عل الـ دازين والكينونة وذهن َّيتها‪َّ .‬‬
‫إن الكينونة ‪ -‬يف ‪ -‬العامل َّ‬ ‫إن العامل مقدَّ م ى‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫ه َّية بالنسبة إ ىل ديكارت هو تفكري املوضوع‬ ‫بالنسبة إ ىل هايدغر‪ ،‬بيد َّ‬
‫أن الذي يكتسب أ ّ‬
‫بالعامل‪.‬‬
‫د ‪ -‬العامل االمتدادي يف قبال العامل الشبكي‪:‬‬
‫بمعنى َّ‬
‫أن العامل عند ديكارت‬ ‫ى‬ ‫اخلصيصة األصل َّية يف العامل هي االمتداد‪.‬‬
‫أن ه‬ ‫يرى ديكارت َّ‬
‫ى‬
‫عامل ممتد‪َّ ،‬‬
‫وإن معرفتنا وعلمنا بجميع األشياء املوجودة داخل العامل تنحرص بإدراكنا ِّلذا‬
‫فإن العامل ُيم هثل خصلة شبك َّية ال يمكن اخللط بينها وبني‬
‫االمتداد‪ .‬وأ َّما بالنسبة إ ىل هايدغر َّ‬
‫إن االمتداد ُيم هثل واحدا من خصائص األشياء املوجودة داخل العامل‪َّ ،‬إال َّأّنا َّأوال‪:‬‬
‫االمتداد‪َّ .‬‬
‫فإن االمتداد إ َّنام هو‬ ‫أهم تلك اخلصائص‪ ،‬وثانيا‪ :‬ال تقبل التعميم إ ىل ه‬
‫كل العامل‪َّ .‬‬ ‫ليست من ّ‬
‫اخلصيصة األصل َّية يف العامل عند‬
‫أن ه‬ ‫من خصائص األمر الذي يكون يف متناول اليد‪ .‬يف حني َّ‬
‫هايدغر تكمن يف شبك َّيته‪َّ .‬‬
‫إن العامل من هذه الناحية عبارة عن شبكة من العالقات التي تعثر‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪283‬‬

‫عل توظيف األدوات‪ ،‬وبعبارة ُأ ى‬


‫خرى‪:‬‬ ‫عل طريقها‪ ،‬وتعمل ى‬
‫الكينونة والـ دازين يف داخلها ى‬
‫تعيش يف ضمنها‪ .‬فاملطرقة إ َّن ام تكتسب معناها ومفهومها ضمن االرتباط بسائر األدوات‪ ،‬ال‬
‫بشكل مستقل ومنفرد‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬التمييز بني الكينونة واملوضوع بواسطة التصورات املختلفة عن العامل‪:‬‬
‫َّ‬
‫إن املمتدَّ الديكارت يتناسب مع املوضوع الديكارت‪ ،‬والعامل الشبكي عند هايدغر‬
‫سوى‬
‫ى‬ ‫يتناسب مع الـ دازين والكينونة‪ .‬وحيث إ َّن املوضوع والوجود الذهني ليس شيئا آخر‬
‫الذهن‪َّ ،‬‬
‫فإن عامله ينخفض بدوره إ ىل أمر كامن داخل الذهن‪ .‬أ َّما الكينونة والـ دازين فهي‬
‫وعل هذا األساس يكون عاملها بدوره أرض َّية للفعل واملواجهة‬
‫ى‬ ‫قبل ه‬
‫كل يشء فعل وتطبيق‪،‬‬
‫واالستفادة من األدوات‪َّ .‬‬
‫إن الكينونة والـ دزاين ‪ -‬خالفا للموضوع والوجود الذهني ‪-‬‬
‫ليس هنا ويف داخل الذهن‪ ،‬بل يقع هناك ويف العامل‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن التاميز واالختالف بني‬
‫الكينونة واملوضوع يتبلور من خالل مفهومني خمتلفني‪.‬‬
‫و ‪ -‬تقسيم األشياء إىل األُمور املحسوسة وغري املحسوسة يف قبال تقسيم األشياء إىل ُأمور‬
‫يدو َّية وما فوق اليدو َّية‪:‬‬
‫وبالتال جيب القول‪ :‬طبقا للتصور الديكارت للعامل‪ ،‬تنقسم األُمور إ ىل حمسوسة وغري‬
‫حمسوسة‪ ،‬أي‪ :‬إ ىل جوهر جسامين وجوهر غري جسامين‪ .‬وأ َّما بالنظر إ ىل فهم هايدغر للعامل‬
‫بمعنى تقسيم األُمور ى‬
‫إل‬ ‫ى‬ ‫فإ َّنه مل يعد هذا التقسيم جمديا‪ ،‬وإ َّنام جيب احلديث عن تقسيم آخر‪،‬‬
‫ُأمور يدو َّية و ُأ ى‬
‫خرى ما فوق اليدو َّية‪َّ .‬‬
‫إن هذا التقسيم إ َّنام يتم من خالل تصور جديد للعامل‬
‫عمد هايدغر إ ىل وضعه‪َّ .‬‬
‫إن التاميز بني املحسوس وغري املحسوس ناظر إ ىل موضوع الوعي‬
‫أن التاميز بني اليدوي وما فوق اليدوي ناظر إ ىل الكينونة والـ دازين التي ُيم هثل‬
‫والتفكري‪ ،‬بيد َّ‬
‫خصيصته األصل َّية‪.‬‬
‫الفعل والتخطيط ه‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫ُيظى‬
‫ى‬ ‫إن التصور الديكارت للعامل كان‬‫بااللتفات إ ىل املسار الفكري ِّلايدغر‪ ،‬يمكن القول‪َّ :‬‬
‫ه َّية يف مجيع مراحل النشاط الفكري ِّلايدغر‪ .‬وبالنظر إ ىل جمموع هذا املسار جيب القول‪:‬‬
‫بأ ّ‬
‫إن ديكارت ‪ -‬من وجهة نظر هايدغر ‪ُ -‬يم هثل التوجه األساس للتفكري وامليتافيزيق احلديث‬
‫َّ‬
‫‪ ❖ 284‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الذي ُيؤ ّدي يف ّناية املطاف إ ىل تدمري العامل واإلنسان‪َّ .‬‬


‫إن ديكارت من خالل خفضه العامل‬
‫جمرد صورة‪ .‬وكام‬
‫إ ىل االمتداد‪ ،‬وقيامه يف الواقع بربطه بذهن املوضوع‪ ،‬قد عمد إ ىل حتويله إ ىل َّ‬
‫جمرد صورة يعني سقوط العامل وجعله يف معرض التعرض‬ ‫أن رأينا َّ‬
‫فإن حتول العامل إ ىل َّ‬ ‫سبق ْ‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن هذا التصوير للعامل يفرتض العامل بوصفه موضوعا‬ ‫[التكنولوجي] اإلنساين‪ .‬ى‬
‫أن يقع متع َّلقا للترصف‬ ‫داخل العامل‪ ،‬بحيث يمكن له ‪ -‬مثل سائر األشياء األُ ى‬
‫خرى ‪ْ -‬‬
‫وعل هذا األساس يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن املفهوم الديكارت للعامل هو‬ ‫ى‬ ‫اإلنساين‪.‬‬
‫الذي رشع األبواب أمام خطر العدم َّية التكنولوج َّية يف املرحلة املعارصة‪.‬‬

‫* * *‬
‫نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ ‪285‬‬

‫املصادر‪:‬‬
‫ديكارت‪ ،‬رينيه‪ ،‬تأمالت در فلسفه أوىل (تأمالت يف الفلسفة ُ‬
‫األوىل)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬أمحد أمحدي‪ ،‬ص ‪،23‬‬
‫انتشارات سمت‪ ،‬طهران‪1385 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫كابلستون‪ ،‬فريدريك‪ ،‬تاريخ فلسفه (تاريخ الفلسفة)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬غالم رضا أعواين‪ ،‬ص ‪،127‬‬
‫رشكت انتشارات علمي وفرهنگي‪ ،‬طهران‪1380 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬هستي وزمان (الوجود والزمان)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬عبد الكريم رشيديان‪ ،‬ص ‪ ،9‬نرش ين‪،‬‬
‫طهران‪1389 ،‬هـ ش‪ .‬وانظر أيضا‪ :‬مارتني هايدغر‪ ،‬الكينونة والزمان‪ ،‬ص ‪ ،54‬ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬فتحي املسكيني‪،‬‬
‫نرش‪ :‬دار الكتاب اجلديد املتَّحدة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت‪2012 ،‬م‪.‬‬
‫خامتي‪ ،‬حممود‪ ،‬جهان در انديشه هيدگر (العامل يف رؤية هايدغر)‪ ،‬ص ‪ 251‬و‪ ،252‬انتشارات انديشه معارص‪،‬‬
‫طهران‪1384 ،‬هـ ش‪( .‬مصدر فاريس)‪.‬‬
‫‪Heidegger, Martin. 2002, The Age of The World Picture. Off the Beaten Track.‬‬
‫‪Edited and translated by Julian Young and Kenneth Haynes. Cambridge University‬‬
‫‪press.‬‬

‫* * *‬
‫هايدغر ناقداً هيغل‬
‫(الكينونة والزمان كمنفسحٍ للمساجلة النقديَّة)‬
‫(‪)1‬‬
‫فرانك درويش‬

‫عل ذلك‪،‬‬
‫عل الرغم من حتفظ البعض ى‬
‫ما انتقده هايدغر يف أعامل هيغل ر َّبام أصبح معروفا‪ ،‬ى‬
‫ومن تشابه فكر الفيلسو َفني يف بعض النواحي هذا التشابه شمل عدَّ ة موضوعات أ ّ‬
‫هها‪:‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫الكينونة‪ ،‬الزمان‪ ،‬التاريخ‪ ،‬احلقيقة‪ ،‬والفلسفة‪ .‬لقد ر َف َض هايدغر جتاوز الكينونة بالطريقة‬
‫باألحرى أكثر يشء يستحق التفكر به‪.‬‬
‫ى‬ ‫التي أوردها هيغل يف بداية علم املنطق‪ ،‬معتربا َّأّنا‬
‫بأن الزمان ُيم هثل ُأفق سؤال الكينونة‬
‫وانتقد اعتبار هيغل الزمان وحدة اخلارج السلب َّية‪ ،‬فقال َّ‬
‫حرى‬ ‫ثم فنَّد مقولته القائلة َّ‬
‫بأن التاريخ هو عودة الروح إ ىل ذاهتا‪ ،‬فأعاده باأل ى‬ ‫الرتانسندنتال‪ّ ،‬‬
‫العقالين للكينونة‪ .‬أ َّما احلقيقة‪ ،‬فدحض حتديدها اِّليغيل كنتيجة‬
‫ه‬ ‫إ ىل البعث الدهري‪ ،‬وغري‬
‫اليوناين ككشف أو انكشاف ذات(‪ .)3‬وأخريا‪ ،‬ليست الفلسفة‬
‫ه‬ ‫نظر َّية وأعادها إ ىل أصلها‬
‫وعل العكس ‪ْ -‬‬
‫أن تعود إ ىل البساطة‪،‬‬ ‫األعل‪ ،‬بل عليها ‪-‬‬ ‫بالنسبة ِّلايدغر بناء علم أو ِ‬
‫العلم‬
‫ى‬ ‫ى‬ ‫َ‬

‫باحث و ُأستا ٌذ الفلسفة الغربيَّة يف جامعة البلمند ‪ -‬لبنان‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫(‪)1‬‬
‫(‪ )2‬هذا ما ُيؤ هكده أالن رونو مثال‪ .‬راجع‪:‬‬
‫‪Alain Renaut ,La fin de Heidegger et la tâche de la philosophie ,Etudes philosophiques 4‬‬

‫‪. 1977.‬‬

‫راجع ما يقوله بوفريه‪ ،‬مفنهدا‪ ،‬هبذا الصدد‪:‬‬


‫‪Heidegger„ ,Protocole d’un séminaire sur la conférence“ temps et être‬‬ ‫‪“,”Questions IV,‬‬
‫‪trans. J. Beaufret and C. Roëls (Paris: Gallimard, 1990), p. 258.‬‬

‫‪)3( Unverborgenheit‬‬
‫‪ ❖ 288‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بل إ ىل «فقر»(‪ )1‬بدايتها(‪.)2‬‬


‫تقيص هذا النقد‪ ،‬أ َّما بالنسبة إلينا‪ ،‬فام هيمنا ليس إعادة وعرض هذا النقد‬
‫بالتأكيد يمكن ّ‬
‫بإحدى مزاياه اخلمس‪ ،‬أو أل َّنه ُيعطينا ضوءا جديدا ُنس هلطه ى‬
‫عل اِّليغل َّية اليمين َّية أو‬ ‫ى‬ ‫أو التوسع‬
‫اليسار َّية‪ ،‬أو أل َّنه يعارض توجهات هيغل بشكل الذع‪ ،‬بل َّ‬
‫ألن نقد هايدغر ِّليغل عبار ٌة عن‬
‫ه َّية هيغل يف تشكيل فكر جديد وهو فكر الكينونة‬
‫مرافقة له يف درب تفكره بشكل ُي هبني أ ّ‬
‫اخلاصة ‪ -‬هي ما جعلت من قراءة إمتام هيغل للميتافيزيقا‬
‫َّ‬ ‫والزمان‪ .‬هذه املرافقة ‪ -‬بنوع َّيتها‬
‫جتاوز تقليدها‪.‬‬
‫الفكر يف تاريخ َ‬
‫ُ‬ ‫عل مرصاعيه ليدخل‬
‫قراءة بنَّاءة‪ ،‬إذ فتحت باب الفلسفة ى‬
‫ش َّكلت فلسفة هيغل إذا ‪ -‬وكام سنُ هبني ‪ -‬رشطا أساس ًّيا لظهور فلسفة جديدة تبلورت يف‬
‫توسعت لتشمل اللغة والتاريخ واإلنسان واآلِّلة‪ ،‬وذلك بشكل أصبح‬
‫ثم َّ‬
‫الكينونة والزمان‪ّ ،‬‬
‫العمل الفلسفي فيه غري ممكن دون الدخول يف حوار مع هايدغر‪.‬‬
‫املخصصة ِّليغل تناولت مشكلة احلضور (‪ )1929‬وفينومينولوجيا‬
‫َّ‬ ‫كتابات هايدغر‬
‫ثم السلب (‪ ،)1939 - 1938‬فمفهوم التجربة (‪،)1943 - 1942‬‬
‫الروح (‪ )1930‬أ ّوال‪ّ ،‬‬
‫وأخريا‪ ،‬يف سنة (‪ ،)1958‬تعلق هيغل باإلغريق وطريقة استعامله لفكرهم(‪ ،)3‬ولكن ما هيمنا‬
‫يف هذه املقالة هو املحارضة التي ظهرت َّ‬
‫مؤخرا يف سلسلة األعامل الكاملة ِّلايدغر(‪،)4‬‬

‫‪)1( Armut‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪:‬‬
‫‪Dominique Janicaud„ ,Hegel -Heidegger‬‬ ‫‘‪: un‬‬ ‫? ‪dialogue ’impossible‬‬ ‫‪“Heidegger et‬‬
‫‪l’idée de la phénoménologie, (Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 1988), p.8 - 145.‬‬
‫‪)3( Der deutsche Idealismus (Fichte, Schelling, Hegel) und die philosophische Problemlage‬‬
‫‪der Gegenwart (1929), GA, Bd. 28‬‬ ‫; ‪; Hegels Phenomenologie des Geistes, GA, Bd. 32‬‬
‫‪„Die Negativität“ 39 / 1938„ ,Erläuterung der„ Einleitung “zu Hegels Phänomenologie‬‬
‫‪des Geistes “1942, in Hegel, GA, Bd. 68‬‬ ‫; ‪; Seminare : Hegel-Schelling, GA, Bd. 86‬‬
‫‪„Hegel und die Griechen“ 1958 ,in Wegmarken, GA, Bd. 7„ ; Hegels Begriff der‬‬
‫‪Erfahrung“ 43 / 1942 ,in Holzwege, GA, Bd. 5.‬‬
‫(‪ 2017 - 2016 )4‬للطبعة األملان َّية يف األعامل الكاملة‪.‬‬
‫‪“ Hegel und das Problem der Metaphysik ,”in Vorträge, GA, Bd. 80.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪289‬‬

‫فيتبني لنا رضورة قراءته‬


‫وعنواّنا «هيغل ومشكلة امليتافيزيقا»‪ ،‬حيث يرشح مركز َّية هيغل‪َّ ،‬‬
‫نقد ًّيا‪ ،‬وبالتحديد قراءة علم املنطق‪ ،‬لالنطالق بفكر الكينونة والزمان(‪.)1‬‬
‫كانت املحارضة بحوزة ابنه هريمان(‪ ،)2‬وقد قدَّ مها لفرانسوا فيديي(‪ )3‬بمناسبة عيد ميالده‬
‫ألقى هايدغر هذه املحارضة يف الثاين والعرشين من آذار‪ ،‬سنة ‪،1930‬‬
‫الس هتني‪ ،‬سنة ‪ .2000‬ى‬
‫أمام مجع َّية أمسرتدام العلم َّية‪ ،‬أي بعد ثالث سنني من ظهور (‪ .)Sein und Zeit‬وأمكننا‬
‫عل‬
‫تأثري يقوم ى‬‫بعد التمعن فيها استخراج تأثري هيغل يف تكوين هذا الكتاب وما تبعه‪ ،‬وهو ٌ‬
‫اخلالقة لفكر فيلسوف يينا(‪ .)4‬يف هذا النقد حتر ٌر وبنا ٌء جديدٌ ‪ ،‬وهذا ما سنُظ ِهر‬
‫املرافقة النقد َّية َّ‬
‫معامله وأعامقه يف هذه الدراسة‪ .‬علينا إذا ْ‬
‫أن ُنحده د فنسأل قبل الدخول يف تفاصيله‪ :‬عال َم هو‬
‫قائم؟ وكيف سننظر إ ىل تفاصيله بشكل يظهر فيه االنتقال من فكر هيغل إ ىل فكر هايدغر؟‬
‫ٌ‬

‫النقد‪:‬‬
‫عندما يقرأ هايدغر هيغل ناقدا‪ ،‬ال يقوم بذلك يف سبيل «جتديد» الفلسفة‪ ،‬فالفيلسوف ‪ -‬مهام‬
‫إن ُنجده ده بطريقة أو ب ُأ ى‬
‫خرى»(‪ )5‬نقد هايدغر ال‬ ‫قوته ‪ -‬يف جوهره ‪ -‬ما ْ‬
‫يكن ‪« -‬خيتنق وخيِّس َّ‬
‫يسعى إ ىل التوفيق بني فكر هيغل وتطور الفكر أو املجتمع أو العلم احلديث‪ ،‬وال يريد ْ‬
‫أن‬ ‫ى‬
‫يموضعه بشكل يتناسق مع تفاعالت جديدة‪ ،‬فيخنق التجديد عمق فكر موضوعه‪ .‬ال‬
‫يبحث هايدغر عن هيغل َّية حديثة كام كان هناك أفالطون َّي ٌة حديث ٌة‪ .‬ما هو النقد هنا إذا؟‬
‫عل حتديد سؤال هيغل‪ ،‬بل يبحث‬ ‫ٌ‬
‫متسائل مع هيغل‪ ،‬والتساؤل ال يقترص ى‬ ‫حوار‬
‫ٌ‬ ‫هو َّأوال‬
‫عام مل ُيس َئل يف فلسفة هيغل‪ ،‬ليس أل َّنه ال خيصها‪ ،‬بل أل َّنه يف صميمها كسؤال حصل تغييبه‪،‬‬
‫َّ‬
‫سعى إ ىل إمتامه يف‬
‫ى‬ ‫ال فقط عند هيغل‪ ،‬بل يف تاريخ امليتافيزيقا بأمجعه‪ ،‬تاري ٌخ أمت َّه هيغل أو‬

‫‪)1( GA, Bd. 80.‬‬

‫‪)2( Hermann‬‬

‫‪)3( François Fédier‬‬


‫‪)4( Iena‬‬
‫‪(5) GA, Bd. 80, p. 282‬‬ ‫‪…„ : jeder Philosoph in seinem Wesentlichsten erstickt und kraftlos‬‬
‫‪gemacht wird dadurch, daß man ihn‬‬ ‫‪– so oder so – erneuert“.‬‬
‫‪ ❖ 290‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫قلب سمح ببنائها وإقامة تركيباهتا‪،‬‬ ‫ِ‬


‫«العلم» ‪ .‬السؤال خيص إذا قلب الفلسفة اِّليغل َّية‪ ،‬وهو ٌ‬
‫(‪)1‬‬

‫نقص تساؤل خيص األساس الذي تقوم عليه وال تدخل يف‬ ‫ٌ‬ ‫ويف هذا ال َقلب‬
‫ِ‬
‫ُأصوله‪« :‬امليتافيزيقا التي تب ُلغ متامها هي التي ى‬
‫يبقى سؤال امليتافيزيقا األساس خارجا عنها(‪»)2‬‬
‫إل السؤال األساس وتفسري غيابه الحقا يف هذه املقالة‪.‬‬
‫سننظر إذا ى‬
‫قمة‬
‫انتظار متفك ٌهر لتجل كاشف‪ ،‬يبدأ من البداية‪ ،‬وهذه البداية هي َّ‬
‫ٌ‬ ‫والنقد ثانيا‪ ،‬هو‬
‫العمل‪ ،‬أي االبتداء بالفعل‬
‫إل اخرتاق هذا َ‬‫نسعى ى‬
‫ى‬ ‫فلسفة هيغل‪ ،‬أي املنطق اِّليغيل‪ :‬علينا أ ْن «‬
‫من بداية هذا املنطق»(‪ )3‬عند ذلك‪ ،‬وعنده فقط‪« ،‬ما ُيش هكل خصوص َّيته يظهر بوضوح بشكل‬
‫يكفي لقراءته»(‪ )4‬الفكر الذي يرافق هيغل متسائال‪ ،‬يبدأ تساؤ َله مع هيغل‪ ،‬ح َّت ىى يظهر له يف‬
‫سياق عمله ما هو موجو ٌد يف البدء‪ ،‬ما يستحق السؤال لكونه أساس ًّيا‪ ،‬وقد غاب و ُغ هيب‪ .‬هذا‬
‫ِ‬
‫املنرصم‪.‬‬ ‫مرشوع هايدغر يف وقتها‪ ،‬وقد تابعه ح َّت ىى أواخر مخسينات القرن‬
‫اخلالق نكشف عنه هنا ونتابعه يف طريقه‪ ،‬لنجد ما ُيو هلده و ُيب هينه‪ .‬سنتناول ما ُيم هيزه‬
‫النقد َّ‬
‫من خالل النظر يف تشعباته املرتابطة يف توجهها نحو فكر جديد هو الفكر اِّلايدغري‪ ،‬فنبدأ‬
‫ثم ننظر يف مشكلة الروح‪ ،‬فالسؤال األساس يف أصل الفلسفة‪،‬‬ ‫بمفهوم إمتام الفلسفة‪ّ ،‬‬
‫ثم سؤال ماه َّية اإلنسان‪ُ .‬تش هكل كل من هذه املح َّطات يف الوقت ذاته‬
‫فانفتاح سؤال الزمان ّ‬
‫مراحل نقد َّية وانطالقا واجبا نحو فكر فلسفي جديد‪.‬‬

‫اإلمتام‪:‬‬
‫املعروف عن هيغل ما رفعه هو نفسه كشعار وما ارتفع به من بعده اِّليغليون اليساريون‬
‫واليمينيون‪َ ،‬أال وهو َّ‬
‫أن فلسفة هيغل أمت َّت الفلسفة‪ ،‬أي امليتافيزيقا وتارخيها‪ ،‬بأمجعها‪.‬‬

‫‪)1( Wissenschaft‬‬
‫‪(2) GA, Bd. 80, p. 300“ : sich die Metaphysik vollendet, in der die Grundfrage ausgeblieben‬‬
‫‪ist”.‬‬
‫“‪(3) GA, Bd. 80, p. 284‬‬ ‫‪: in das Werk einzudringen, d.h. wirklich mit dem Anfang dieser‬‬
‫‪Logik beginnen.”.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 80, p. 284“ : Dabei springt uns schon hinreichend deutlich ihre Eigentümlichkeit‬‬
‫‪in die Augen.”.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪291‬‬

‫َّأوال ليس إمتام الفلسفة مرادفا لنهاية التاريخ‪ ،‬كام عند فوكوياما مثال(‪ ،)1‬وليس اِّلدف هنا‬
‫الدخول يف املناظرات العديدة التي أ َّد ىى إليها هذا املوضوع وال يزال‪ .‬ما هيم هايدغر هو‬
‫التمعن بام جيعل من فلسفة هيغل إمتاما للميتافيزيقا‪ ،‬كام أبرزه الحقا يف حمارضة «هيغل‬
‫واإلغريق(‪ِّ »)2‬لذا السبب ينظر بالتحديد‪ ،‬يف حمارضة «هيغل ومشكلة امليتافيزيقا»‪ ،‬إ ىل علم‬
‫«منطق» وكوّنا منطقا هو بالضبط ما جيعل منها إمتاما مليتافيزيقا‬
‫ٌ‬ ‫املنطق‪« :‬ميتافيزيقا هيغل هي‬
‫الغرب»(‪ )3‬هذا اإلمتام يعني به هايدغر «الوصول ه‬
‫بكل املحاوالت واملواضيع األساس َّية‪ ،‬التي‬
‫ظهرت يف سياق تاريخ امليتافيزيقا‪ ،‬إ ىل أبعد ّناياهتا واجلمع بينها وصياغتها يف جمموعة‬
‫متوازنة ومتامسكة(‪ »)4‬هذا بالفعل ما ُيؤ هكده هيغل نفسه يف علم املنطق‪« :‬علم املنطق‪ ،‬الذي‬
‫ُيش هكل امليتافيزيقا األصيلة أو الفلسفة التأمل َّية املحضة‪َّ ،‬‬
‫تم جتاهله ح َّت ىى اليوم»(‪ )5‬ال ُيمل‬
‫املنطق هنا معناه التقليدي‪« :‬ليس من املسموح(‪ )6‬التفكري هنا بذلك الفرع التقليدي من‬
‫عل هذا املنطق ْ‬
‫أن يزول»(‪ )7‬وذلك أل َّنه «علم قوانني الذهن والعقل الرضور َّية…‬ ‫املعرفة‪ ،‬بل ى‬

‫‪(1) Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man (New York‬‬ ‫‪: Macmillan,‬‬
‫‪1992).‬‬

‫‪(2) “Hegel und die Griechen‬‬ ‫‪,”in GA, Bd. 9, p. 362 - 365.‬‬
‫“‪(3) GA, Bd. 80, p. 283‬‬ ‫‪: Hegels Metaphysik ist Logik und gerade als diese Vollendung der‬‬
‫‪abendländischen Metaphysik”.‬‬

‫„‪(4) GA, Bd. 80, p. 224‬‬ ‫‪: Unter Vollendung der abendländischen Metaphysik verstehen wir‬‬
‫‪das einheitlich gestaltende Zum-Austrag-bringen der wesentlichen Ansätze und Motive,‬‬

‫‪die im Verlauf der Metaphysikgeschichte herausgetreten sind“.‬‬

‫‪(5) G.W.F. Hegel, Wissenschaft der Logik (Meiner‬‬ ‫‪: Leipzig, 2008) p. 6...„ : die logische‬‬
‫‪Wissenschaft, welche die eigentliche Metaphysik oder reine spekulative Philosophie‬‬
‫‪ausmacht, hat sich bisher noch sehr vernachlässigt gesehen“.‬‬

‫‪)6( dürfen wir‬‬

‫“‪(7) GA, Bd. 80, p. 284‬‬ ‫‪: Bei dem Titel Logik aber dürfen wir nicht an die überlieferte‬‬
‫‪Schuldisziplin denken. Diese überlieferte Logik soll gerade zum Werschwinden gebracht‬‬

‫‪werden”...‬‬
‫‪ ❖ 292‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫علم شكل الفكر فقط»(‪ )1‬يعني هايدغر بذلك طبعا‪ ،‬يف هذا التذكري بتعريف كانط له‪َّ ،‬‬
‫أن‬
‫يني‪ .‬من هنا االنقالب الكامل‬
‫املنطق التقليدي ال هيتم بام َّدة الفكر‪ ،‬أي بالكائن يف وجوده ال َع ه‬
‫املنطق‬
‫ُ‬ ‫للمنطق عند هيغل‪ ،‬من ابتعاده عن الكائن يف التقليد ‪« -‬مبدئ ًّيا وّنائ ًّيا يستبعد‬
‫[التقليدي‪/‬املدريس] الكائن»(‪ - )2‬إ ىل توجهه الرضوري نحوه‪ُ :‬يؤ هكد هيغل منذ بداية علم‬
‫«املبارش َّ‬
‫الالحمدَّ د»(‪ )3‬انتقل املنطق مع هيغل إذا من‬ ‫َ‬ ‫املنطق أ َّن كتابه خيص «الكينونة» التي هي‬
‫الشكل إ ىل الكائن‪ .‬ولكن‪ ،‬ما هو هذا الكائن؟ هل هو الكائن العيني كام نجده يف املقطع ‪29‬‬
‫من (‪ )Sein und Zeit‬مثال(‪)4‬؟ يمكننا اإلجابة بوضوح‪َّ :‬‬
‫كال‪ .‬وهنا بيت القصيد‪.‬‬
‫أن انتقال املنطق هبذا الشكل مع هيغل مس هلطا أنظاره ى‬
‫عل مسألة الكينونة‬ ‫ُيذ هكرنا هايدغر َّ‬
‫‪ْ -‬‬
‫وإن يكن يف صلبها العدَ م والتغري ‪ُ -‬يبقيه يف امليتافيزيقا بامتياز‪:‬‬
‫ِّ‬
‫املستقل عن الكيان يف املنطق التقليدي]‬ ‫هذا املنطق ال يتناول الفكر [بمعنى الفكر‬
‫ولكن الكينونة هي موضوع امليتافيزيقا‪ .‬ما أن يبدأ املنطق ح َّتى‬
‫َّ‬ ‫بل الكينونة‪ .‬نعم!‬
‫نجد أنفسنا معه يف صلب امليتافيزيقا(‪.)5‬‬
‫وضعه يف جمال الكينونة كام حدَّ دهتا‬
‫تبدل املنطق مع هيغل مل يوصله إذا إ ىل العين َّية‪ ،‬بل َ‬
‫الوسطي أو منطق بور‬ ‫امليتافيزيقا‪ .‬قد ترك هيغل فكر املنطق املدريس‪ ،‬سواء األُرسطي منه أو َ‬
‫روايال(‪ ،)6‬ولكنَّه دخل بمنطقه يف فكر بقي يف كون َّية مفاهيم امليتافيزيقا‪« .‬موضوع» منطق‬
‫«ُي هول نظره إ ىل ما‬
‫يتصور [املفاهيم]»‪ ،‬أي الذي ُ‬
‫َّ‬ ‫بمعنى «الفكر الذي‬
‫ى‬ ‫هيغل «هو الفكر»‪،‬‬

‫‪(1) GA, Bd. 80, p. 285‬‬ ‫‪…„ : die Wissenschaft von den notwendigen Gesetzen des‬‬
‫‪Verstandes und der Vernunft…oder …von der bloßen Form des Denkens“.‬‬
‫‪(2) GA, Bd. 80, p. 286“ : Das Seiende …ist grundsätzlich und für immer aus der Logik‬‬
‫‪ausgeschlossen”.‬‬
‫‪(3) Hegel, Wissenschaft der Logik, p. 101“ : Das Sein ist das unbestimmte Unmittelbare”.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 2, 29.‬‬
‫“‪(5) GA, Bd. 80, p. 286‬‬ ‫‪: Nicht vom Denken handelt diese Logik, sondern vom Sein. Das‬‬
‫‪Sein aber ist das Thema der Metaphysik. Mit dem Anfang der Logik stehen wir schon in‬‬
‫‪der Metaphysik”.‬‬
‫‪)6( Port Royal‬‬
293 ❖ ‫هايدغر ناقد ًا هيغل‬

‫ [تصور] الكائن‬،)2(‫ بل فعل تصور األشياء‬،‫) أو ذاك‬1(‫املتصور‬ َّ ‫ وهو ليس هذا‬،‫يتصوره‬َّ


‫بذاته» مسألة الفكر عند هيغل هي بالتال مسألة مفهوم األشياء وما ُيف هكر باألشياء كحقائق‬
)3(

،)essentia( ‫سميه امليتافيزيقا التقليد َّية أيضا بـ‬


‫)» أي «ما ُت ه‬realitas( ‫بمعنى الـ‬
‫ى‬
‫ «اجلواهر املحضة ُتش هكل ُحمت ى‬:‫اجلوهر َّية» من هنا قول هيغل يف مقدّ مة علم املنطق‬
‫َوى‬ )5( )4(

- ‫ بحسب قول هيغل‬- ‫ أي‬،‫ أي حقيقة الكائن‬،‫) هذه اجلواهر هي حقيقة األشياء‬6(»‫املنطق‬
‫ هو ليس‬.‫فكر ُيم هكن كينونة الكائن‬
ٌ - ‫ باختصار‬- ‫ املنطق‬، »‫ عقالن َّية املوجود‬،‫«الـ لوغوس‬
)7(

َّ ‫كل قول وُيتضن‬


‫الكل‬ ‫ يرتفع فوق ه‬،‫ بل هو الـ لوغوس بذاته‬،‫استخداما كغريه للغة ُين هظمها‬
‫ عند‬،‫ تصبح الصورة كاملة إذا ما أضفنا ما يقوله هايدغر الحقا يف املحارضة‬.‫يف آن واحد‬
،)8(‫األعل‬
‫ى‬ ‫ «الكائن‬،‫ يف هذا اإلمتام الكامل امليتافيزيقي‬:‫تناوله للميتافيزيقا يف ذروهتا اِّليغل َّية‬
‫ عندها‬.‫ هو ما يم َّكن وجود ما هو بالفعل‬،‫ ك َّل اجلواهر‬،‫كل الوقائع‬ َّ ‫… جيمع يف ذاته‬
‫ إمتام امليتافيزيقا ُيؤ ّدي إ ىل الكائن‬.)9(»‫أصبحت امليتافيزيقا كمنطق العقل املط َلق الهوتا تأمل ًّيا‬

)1( Begriffene

)2( Dinge

(3) GA, Bd. 80, p. 286“ : Das Denken als begreifendes, d.h. im Hinblick auf das Begriffene ;

aber nicht dieses oder jenes Begriffene, sondern das Begreifen der Dinge, des Seienden

als solchen ”.
(4) GA, Bd. 80, p. 286“ : Der Begriff der Dinge, jenes, das den Begriff der Dinge denkt, das
ist für Hegel die Sache …in der Bedeutung … realitas der Dinge, was die überlieferte
Metaphysik auch essentia, Wesenheit, nennt”.
)5( Wesenheiten
(6) Hegel, Wissenschaft der Logik, p. 9...“ : die Entwicklung alles natürlichen und geistigen
Lebens, auf der Natur der reinen Wesenheiten, die den Inhalt der Logik ausmachen ”.
(7) Hegel, Wissenschaft der Logik, p. 27 … : der Logos, die Vernunft dessen, was ist”...
)8( ens realissimum
(9) GA, Bd. 80, p. 296 …“ : ens realissimum, das, all Realitäten, Wesenheiten in sich
einigend, die Ermöglichung der Wiklichen ist. Damit ist die Metaphysik als Logik der
absoluten Vernunft zur spekulativen Theologie geworden”.
‫‪ ❖ 294‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫األعظم‪ ،‬ذروة الكائنات(‪ ،)1‬وسبب ذاته(‪ ،)2‬كام سيقول هايدغر الحقا يف تفكيكه لتاريخ‬
‫امليتافيزيقا(‪.)3‬‬
‫بمعنى ْ‬
‫أن تكون كل األسئلة‬ ‫ى‬ ‫نستخلص اآلن َّ‬
‫أن إمتام امليتافيزيقا مع نظام هيغل‪« ،‬ليس‪...‬‬
‫وو َجدَ ت جوابا ّنائ ًّيا ِّلا»‪ ،‬بل هو ‪ -‬وهنا نقد هايدغر الواضح امللح ‪« -‬إمتام‬
‫قد ُحده َدت َ‬
‫املرجوة»(‪ )4‬مع هيغل تصل امليتافيزيقا إ ىل ذروهتا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تساؤل مل يكن ملوقفه يف البداية َّ‬
‫كل األصالة‬
‫دخل يف الـ (‪ ،)Λόγος‬لوغوس (الكالم‪/‬اللغة)‪ ،‬الذي يقفل احللقة‪ ،‬أي النظام‬ ‫ح َّتى إّنا ُت ِ‬
‫ى َّ‬
‫يبقى خارج أسئلة‬ ‫ككل الكينونة‪ .‬ى‬‫كل املوجودات‪ ،‬فيصبح اسم الكائنات ه‬ ‫عل ذاته‪َّ ،‬‬
‫بأرسه‪ ،‬ى‬‫ِ‬
‫أن تسأل ما هي‬‫امليتافيزيقا السؤال عن التوجه الذي قد َّاّتذته منذ البداية نحو الكائن‪ ،‬دون ْ‬
‫(‪)5‬‬
‫معني للسؤال األُرسطي عن كينونة الكائن‬
‫كينونة الكائن‪ .‬إمتام امليتافيزيقا هو إمتام توجه َّ‬
‫معنى الكينونة‬
‫ى‬ ‫األعل والفكر احلاضن ه‬
‫لكل الكائنات‪ ،‬تاركا السؤال عن‬ ‫ى‬ ‫يصل إ ىل الكائن‬
‫التحري عن الكينونة ومعناها‬
‫ّ‬ ‫وراءه‪ ،‬ملتحفا بالنسيان‪ .‬دفع هذا االكتشاف هايدغر إ ىل‬
‫وتوجهاهتا‪ ،‬وعن الفارق األنطولوجي بني الكينونة والكائن(‪ ،)6‬وحقيقة الكينونة(‪.)7‬‬

‫الروح‪:‬‬
‫دخل املنطِق ‪ -‬كام رأينا ‪ -‬يف ديناميك َّية جتعل منه مسألة حتول وتغري‪ .‬هذه‬
‫اإلمتام عملي ٌة هو ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الديناميك َّية التي م َّكنَت حتريك املفاهيم املنطق َّية هي من عمل الروح‪ ،‬ف ُت ه‬
‫وجب تناول هذا‬
‫املفهوم وتبيني تداعيات النقد اِّلايدغري له‪.‬‬

‫‪)1( summum ens‬‬


‫‪)2( causa sui‬‬
‫‪(3) Identität und Differenz, GA, Bd. 11, p. 77.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 80, p. 317„ : Hegels Metaphysik ist nicht Vollendung der Metaphysik in dem‬‬
‫‪Sinne, als seien für alle Zeiten alle Fragen entschieden und beantwortet… Wohl aber ist‬‬
‫‪Hegels Metaphysik die Vollendung eines nicht ursprünglich angesetzten Fragens “.‬‬
‫(‪ُ )5‬أرسطو‪ ،‬املقوالت‪a42 - b251 ،‬؛ ميتافيزيقا‪.2.Γ ،‬‬
‫‪(6) GA, Bd. 9, p. 123 .‬‬
‫‪(7) Vom Wesen der Wahrheit , in Wegmarken, GA, Bd. 9‬‬ ‫‪.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪295‬‬

‫الروح كام يريدها هيغل هي فعل الفكر الـ لوغوس ديناميك َّيته ا َّ‬
‫خلالقة عرب التاريخ ُتعطي‬
‫الفن‪ .‬الروح يف فعلها حتل التناقض بني الفاعل‪/‬الذات‬
‫التاريخ والفكرة أوجههام كام تظهر يف ه‬
‫واملفعول‪/‬املوضوع‪:‬‬
‫عرف نفسه يف‬ ‫ِ‬
‫عرف نفسه كعالقة العامل باملعلوم‪ُ ،‬ي ِّ‬
‫جوهر العقل روح‪ ...‬الروح ُي ِّ‬
‫التناقض الذي ُتش ِّكله الكينونة الواعية‪ ...‬يأخذ التناقض إىل قلب ذاته‪ ...‬يف الروح‬
‫يتم ّتاوز التناقض بني الذات واملوضوع(‪.)1‬‬
‫هذا احلل هو يف ّناية املطاف تصالح اِّلو َّية املتمزه قة مع ذاهتا‪ ،‬ما يعني اكتشاف وتعزيز‬
‫رتك(‪ )2‬لألنا َّ‬
‫والالأنا‪ ،‬للفكر والطبيعة‪ ،‬للذات واملوضوع(‪ ،»)3‬يكون هيغل بذلك‬ ‫«االنتامء املش َ‬
‫قد ارتفع بالتناقضات يف تاريخ املعرفة وامليتافيزيقا وح َّقق التوافق بني الداخل واخلارج‪،‬‬
‫وأخرج الفكر من عزلته املنطق َّية وامليتافيزيق َّية واإلبستيمولوج َّية‪.‬‬
‫ينتقل الروح‪ ،‬يف تارخيه امل َّت جه نحو التوفيق بني التناقضات املذكورة‪ ،‬من الوعي بشكله‬
‫إل‬ ‫ومعناه العا َّمني‪ ،‬وهو ُير هكز ى‬
‫عل الكائن املوجود أمامه‪« ،‬يف نفسه»‪ ،‬وهو الوعي ككينونة‪ ،‬ى‬
‫ثم‬
‫الوعي بالنفس‪ ،‬أي التفكري العكيس بالنفس‪ ،‬التفكري «لنفسه»‪ ،‬وهو الوعي كجوهر‪ّ ،‬‬
‫أخريا إ ىل العقل‪ ،‬وهو التوحيد بني الوعي والوعي بالنفس‪ ،‬هو «يف نفسه ولنفسه»‪ ،‬وهو‬
‫الوعي كمفهوم(‪ .)4‬يعني كل ذلك يف ّناية املطاف َّ‬
‫أن الروح «قد ارتفع عن نسب َّية التنافر بني‬

‫‪(1) GA, Bd. 80, p. 288„ : Das Wesen der Vernunft‬‬ ‫‪…ist Geist …Der Geist … Weiß… sich‬‬
‫‪als das Verhältnis des Wissenden gegen das Gewußte‬‬ ‫‪; er weiß sich in diesem Gegensatz‬‬
‫‪des Bewußtseins. In diesem Sichwissen hat er den Gegensatz in sich‬‬ ‫…‬
‫‪zurückgenommen. Der Gegensatz von Subjekt und Objekt ist im Geist aufgehoben“.‬‬
‫‪(2) Zusammengehörigkeit‬‬
‫‪(3) GA, Bd. 80, p. 292‬‬ ‫‪„ : Zusammengehörgkeit von Ich und Nicht-Ich, Intelligenz und‬‬
‫‪Natur, Subjekt und Objekt“.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 80, p. 288‬‬ ‫‪.‬‬
‫راجع أيضا‪:‬‬
‫‪Der deutsches Idealismus (Fichte, Schelling, Hegel) und die philosophische Problemlage‬‬
‫‪der Gegenwart (1929), GA, Bd. 28, p. 218 .‬‬
‫‪ ❖ 296‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬
‫ِ‬
‫توص َل إ ىل أنبل الق َمم الوجود َّية والفكر َّية‪ ،‬أي ّ‬
‫احلر َّية‪ ،‬بل‬ ‫الذات واملوضوع» ‪ ،‬أي هو قد َّ‬
‫(‪)1‬‬

‫احلر َّية بذاهتا‪ ،‬يف عمله املتواصل نحو التجاوز والوصول واإلمتام للذات‪« :‬تصور‬
‫وهو ّ‬
‫اِّليغيل‪ ،‬هناك ‪-‬‬
‫ه‬ ‫احلر َّية»(‪ ،)2‬ولكن ‪ -‬يف ه‬
‫كل ذلك ‪ -‬يف صلب فعل الروح‬ ‫الذات لنفسها‪ ،‬هو ّ‬
‫مفر منه لكونه من صميم املنهج اِّليغيل‪.‬‬
‫سنرى ‪ -‬تناس أسايس ال َّ‬
‫ى‬ ‫كام‬
‫حل التناقض بني الذات واملوضوع ليس ًّ‬
‫حال ّنائيا أو إجيادا ملا ُيل مكاّنام‬ ‫أن َّ‬
‫نلمح َّأوال َّ‬
‫فكر ًّيا بشكل يتجاوز املقوالت امليتافيزق َّية وامليتافيزيقا عا َّمة‪ ،‬بل هو حل يضع التناقض‬
‫موحدا(‪ .)3‬أ َّما هذا الوضع جانبا‬
‫ه‬ ‫العلو‪ُ ،‬يتفظ به‪،‬‬
‫ه‬ ‫جانبا‪ ،‬فريتفع به‪ ،‬وبالتال‪ ،‬يف هذا‬
‫ثمرة إدخال السلب الفاعل يف املنطق األنطولوجي‪ .‬نلمح مشكلة‬ ‫واالرتفاع الذي ي َّتبعه فهام َ‬
‫سميه هيغل «بالسلب‬
‫وُيده دها بشكل أوضح هايدغر يف سنة ‪ :1958‬ما ُي ه‬
‫هذا السلب هنا‪ُ ،‬‬
‫باألحرى ذلك املوقع الذي‬
‫ى‬ ‫الذي ي َّتصل بنفسه»‪ ،‬ليس باحلقيقة سلب ًّيا‪« .‬سلب السلب هو‬
‫عل الرغم من‬‫آخر‪ :‬هذا الروح ‪ -‬ى‬ ‫بمعنى َ‬
‫ى‬ ‫يفرض الروح نفسه فيه كمط َلق‪ ،‬بفضل عمله»(‪.)4‬‬
‫ِ‬
‫ديناميك َّيته املو هفقة بني الثبات واحلركة‪ ،‬املقوالت واملوجودات ‪ُ -‬يؤ ّدي يف آخر املسار ى‬
‫إل‬
‫املُط َلق بوصفه غايته ال ُعليا‪« :‬جوهر العقل‪ ،‬ماه َّيته‪ ،‬حقيقته‪ ،‬هو الروح»‪ ،‬وهو ‪ -‬يف جتاوزه‬
‫لنسب َّية التعارض بني الذات واملوضوع ‪« -‬مل ي ُعد خيص واحدا دون َ‬
‫اآلخر‪ ،‬بل ما جيعل‬
‫ِ‬
‫النسب َّية ممكنَة‪ ،‬وهو إذا املُط َلق» ‪ ،‬مفاد ذلك أ َّنه ى‬
‫عل الرغم من إقحامه التغري‪ ،‬أي التاريخ‪ ،‬يف‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪(1) GA, Bd. 80, p. 288„ : Der Geist hat sich über die Relativität des Gegensatzes von Subjekt‬‬
‫‪und Objekt erhoben“.‬‬
‫‪(2) GA, Bd. 80, p. 290„ : Sichselbstbegreifen ist Freiheit“.‬‬
‫‪(3) GA, Bd. 80, p. 288.‬‬
‫„‪(4) GA, Bd. 9, p. 437‬‬ ‫‪: Wenn die Thesis durch die Antithesis negiert, diese ihrerseits durch‬‬
‫‪die Synthesis negiert wird, wo waltet in solchem Verneinen das, was Hegel die sich auf‬‬
‫‪sich beziehende Negativität nennt. Sie ist nichts Negatives. Die Negation der Negation ist‬‬
‫‪vielmehr diejenige Position, in der sich der Geist durch seine Tätigkeit selbst als das‬‬
‫‪Absolute setzt“.‬‬
‫„‪(5) GA, Bd. 80, p. 288‬‬ ‫‪: Das Wesen der Vernunft, das, was sie ist, ihre Wahrheit, ist‬‬
‫‪Geist‬‬ ‫‪…nicht mehr relativ, nicht mehr etwas Beziehungsweises, aber zugleich‬‬
‫‪Ermöglichung der Relativität, ist er das Absolute“.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪297‬‬

‫حموال‬ ‫امليتافيزيقا‪ ،‬جمده دا قوة ودور املنطِق يف الفلسفة‪ِ ُ ،‬‬


‫حرك ركائزه ه‬
‫وحمدثا زلزاال يف الفكر َّ‬ ‫َّ‬
‫نبقى إذا ‪ -‬مع هيغل ‪ -‬يف‬‫ى‬ ‫فيها‪ ،‬غابت عن هيغل عين َّية األشياء‪ ،‬أي وجودها هاهنا‪.‬‬
‫باألخص يف‬
‫ه‬ ‫ثم‬
‫تبلورت ابتداء من اكتشاف أوغوسطينُس لإلنسان الباطن ّ‬ ‫َ‬ ‫امليتافيزيقا كام‬
‫فِّس هايدغر يف فرتة كتابته «هيغل‬
‫احلداثة الفلسف َّية يف التأمالت الديكارت َّية‪ ،‬أي يف اليقني‪ُ .‬ي ه‬
‫ومشكلة امليتافيزيقا» ذاهتا‪ ،‬يف الدورة التعليم َّية يف فرايبورغ (‪ ،)1931 - 1930‬مع هلقا ى‬
‫عل‬
‫فينومينولوجيا الروح‪:‬‬
‫فينومينولوجيا الروح هليغل هي‪ ...‬ال َعرض الذايت املط َلق الذي يتط َّلبه اإلشكال‬
‫واألسايس ُللفلسفة األُوروبية‪ ...‬والعقل (‪ ،ratio‬لوغوس)‪ ...‬وجد هيغل‬ ‫ي‬ ‫املوجه‬
‫َّ‬
‫الفاعل َّية يف الروح املط َل ِق(‪.)1‬‬
‫الضمني للعين َّية وراء التغري امل َّت ِجه نحو املط َلق هناك توج ٌه ال يسائل أساس‬
‫ه‬ ‫مع التغييب‬
‫العين َّية‪ ،‬أي كوّنا متناهية‪ .‬هناك بالطبع ‪ -‬ولسبب اهتامم منهج هيغل بالتاريخ والتغري ‪-‬‬
‫ك‪/‬املتحرك‬
‫ه‬ ‫املحر‬
‫ه‬ ‫متعمدٌ وأسايس نحو املتناهي‪ ،‬جاعال منه أحد اهتاممات املنطق‬
‫ه‬ ‫توج ٌه‬
‫األساس َّية‪ .‬ولكن ‪ -‬وهنا بيت القصيد ‪ -‬املتناهي ليس هدف الفكر اِّليغيل‪ ،‬بل هو ما جيب‬
‫إل‬
‫يسعى هيغل يف فينومينولوجيا الروح ى‬
‫ى‬ ‫جتاوزه‪ .‬ف ُيؤ هكد هايدغر يف الدورة التعليم َّية ذاهتا‪:‬‬
‫الالمتناهية»(‪َّ ،)2‬‬
‫الالمتناهي يظهر عندها ال‬ ‫عل املعرفة َّ‬ ‫«جتاوز املعرفة املتناهية مستوليا ى‬
‫العيني‪ ،‬بل كحقيقة املتناهي التي تب َّينها ديالكتيك َّية‬
‫ه‬ ‫كنقيض املتناهي‪ ،‬وال كاستحالة للتحديد‬
‫«الالمتناهي احلقيقي للمتناهي‪ ،‬عند هيغل‪ ،‬هو االنتامء‬ ‫األُطروحة ‪ -‬النقيض ‪ -‬التوليف‪َّ :‬‬
‫رتك للسعادة واحلزن»(‪ ،)3‬أي ما ُيو هف ق بني اليقني احلزين واليقني السعيد‪ ،‬كام يظهران يف‬
‫املش َ‬

‫‪(1) GA, Bd. 32, p. 42“ : Hegels» Phänomenologie des Geistes «ist‬‬ ‫‪…sie die aus dem Leit -‬‬
‫‪und Grundproblem der abendländischen Philosophie geforderte‬‬ ‫‪…in eine bestimmte‬‬
‫‪Richtung gezwungene absolute Selbstdarstellung der Vernunft (ratio‬‬ ‫)‪- λόγος...‬‬
‫‪Wirklichkeit Hegel im absoluten Geist gefunden hat”.‬‬

‫‪(2) GA, Bd. 32, p. 16‬‬ ‫‪…„ : das endliche Wissen zu überwinden in der Gewinnung des‬‬
‫‪unendlichen Wissens“.‬‬

‫‪(3) GA, Bd. 32, p. 108“ :Die Zusammengehörigkeit von Unglück und Glück”...‬‬
‫‪ ❖ 298‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أعل ما يصل إليه‪ ،‬أي يف‬


‫فينومينولوجيا الروح‪ .‬علم املنطق هو تتويج وحتقيق هذا التوافق يف ى‬
‫الـ لوغوس كقول وفعل املط َلق‪ .‬ما بدأ من الفكرة وأدخلها يف التاريخ ترك العين َّية يف ّناية‬
‫قمة امليتافيزيقا‪ ،‬أي املط َلق‪ُُ ،‬ي هققه‬
‫املطاف جانبا‪ ،‬وترك معها السؤال عن املتناهي‪ ،‬ليصل إ ىل َّ‬
‫وتبقى اِّليغل َّية يف امليتافيزيقا بامتياز‪.‬‬
‫ى‬ ‫والعمل وال خيرج منه‪،‬‬
‫َ‬ ‫يف الفكر‬

‫السؤال األساس‪:‬‬
‫هذا االنكامش احلاد الذي تفرضه امليتافيزيقا يف تارخيها‪ ،‬بقي فيه هيغل كذروة وكون َّية‪ ،‬أل َّنه مل‬
‫تتضمنه‪ .‬هنا تكمن حقيقة التساؤل عن‬
‫َّ‬ ‫يسأل السؤال األساس‪ ،‬الـ (‪ )Grundfrage‬الذي‬
‫هيغل كتساؤل مرافق له‪ ،‬كام حدَّ دنا يف البداية‪« :‬مع هيغل‪ ،‬نسأل هذا السؤال‬
‫معنى ذلك؟ ما هو هذا السؤال؟ وما الذي حصل له يف‬
‫ى‬ ‫األساس…»(‪ ،)1‬ونسأل اآلن‪ :‬ما‬
‫امليتافيزيقا كام نعرفها؟‬
‫ما ُيم هيز السؤال األساس هو أ َّنه «ما ْ‬
‫أن نسأله بالفعل‪ ،‬ح َّت ىى جيعل من امليتافيزيقا مشكلة‪،‬‬
‫املؤسس فقط‪،‬‬ ‫ما ُيؤ ّدي إ ىل حتويل الفلسفة بكاملها» ‪ .‬السؤال األساس‪ ،‬ليس إذا السؤال ه‬
‫(‪)2‬‬

‫يبقى فقط يف داخل امليتافيزيقا وتطورها‪ .‬نعم‪ ،‬هو‬ ‫ِ‬


‫معنى ما ُبن َي عليه فقط‪ ،‬ال ى‬‫ى‬ ‫ليس معناه‬
‫أصل َّأو ُل محل‬
‫أساس حص َلت منه انطالق ٌة أعطت امليتافيزيقا وما ارتكز عليها‪ ،‬ولكنَّه أيضا ٌ‬
‫ٌ‬
‫عل عاتقها‪ِّ .‬لذا السؤال‬
‫اإلمكان ّيات الفكر َّية التي مل تأخذها امليتافزيقا يف توجهها الصارم ى‬
‫ٌ‬
‫سؤال ما‬ ‫ٌ‬
‫سؤال خيص امليتافيزيقا بأرسها‪ ،‬وثانيا هو‬ ‫هنا ميزتان علينا التشديد عليهام‪ :‬هو َّأوال‬
‫تتحول الفلسفة‪ ،‬بل وقد ّتتفي امليتافيزيقا يف ط ّيات‬‫َّ‬ ‫نتعرف إليه فنسأله جمدَّ دا ح َّت ىى‬
‫أن َّ‬‫ْ‬
‫تساؤالهتا اجلديدة‪ ،‬فيكون السؤال األساس التحضري لفكر َ‬
‫آخر‪ ،‬أكثر َّأول َّية وأصالة‪.‬‬
‫«إل‬
‫تفسري يذهب ى‬
‫ٌ‬ ‫أهم أسئلة الفلسفة بام أ َّنه‬ ‫ٌ‬
‫سؤال فلسفي بامتياز‪ ،‬بل هو ّ‬ ‫السؤال هو‬
‫أعمق احلاجات الطارئة املالزمة لوجود اإلنسان»(‪ ،)3‬السؤال «خيص الكائن ككائن‪ :‬هو‬

‫‪(1) GA, Bd. 80, p. 282“ : Wir fragen mit Hegel jene Grundfrage”...‬‬
‫‪(2) GA, Bd. 80, p. 282‬‬ ‫‪…“ : wenn sie wirklich gestellt wird, die Metaphysik zum Problem‬‬
‫‪werden läßt, d.h. die Philosophie im Ganzen verwandelt”.‬‬
‫‪(3) GA, Bd. 80, p. 281‬‬ ‫‪…“ : innerste Not der Existenz des Menschen”.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪299‬‬

‫إل كينونة الكائن… سؤال امليتافيزيقا األساس ليس «ما هو الكائن ككائن؟»‪ ،‬بل «ما‬
‫هيدُ ف ى‬
‫هي الكينونة ككينونة؟» باختصار‪ :‬سؤال امليتافيزيقا األساس هو الذي يسأل عن جوهر‬
‫وعمق جوهر ما جيعل الكائن يكون ككائن‪ ،‬مهام يكن الكائن ومهام تكن طريقة وجوده»(‪.)1‬‬
‫عام ُيمل جواهبا‬ ‫هذا السؤال مل تسأله امليتافيزيقا منذ بدايتها‪ ،‬أو جاوبت عنه دون ْ‬
‫أن تسأل َّ‬
‫من تساؤل هو يف صلب الكينونة‪ ،‬فكان جواهبا انحجابا أكرب للسؤال األساس‪ .‬جاوبت‬
‫امليتافيزيقا‪« :‬الكينونة هي ‪( οὐσία‬أوسيا‪/‬جوهر)‪[ ،‬و]هذا اجلواب بقي خارج التساؤل؛ ال‬
‫سؤال بعد ذلك َّإال عن معرفة ما هي الـ ‪( οὐσία‬أوسيا‪/‬جوهر)‪ ،‬وكيف يمكن حتديدها‬
‫بشكل أكثر د َّقة»(‪ ،)2‬فبقيت الكينونة بذاهتا خارج السؤال طوال تاريخ الفلسفة‪ .‬أ َّما يف إمتام‬
‫الفلسفة يف ميتافيزيقا هيغل‪ ،‬فبقي «يف احلقيقة هذا السؤال بالضبط غري مسؤول‪ ،‬كام كانت‬
‫احلال يف ه‬
‫كل امليتافيزيقا من قبله»(‪ ،)3‬قد بقي هيغل يف السؤال عن الـ ‪οὐσία‬‬
‫عل الـ ‪οὐσία‬‬ ‫أن ُ‬
‫يدخل يف الكينونة بذاهتا‪ .‬بقيت الكينونة عنده مبن َّية ى‬ ‫(أوسيا‪/‬جوهر) دون ْ‬
‫(أوسيا‪/‬جوهر)‪ ،‬واضعا هيغل إ ّياها كموضوع للمعرفة اخلالصة‪ ،‬أي املط َلق‪ ،‬الذي ‪ -‬كام‬
‫عل التاريخ‪ ،‬وينهيه‪.‬‬
‫عل املتناهي‪ ،‬أي ى‬ ‫رأينا ‪ُ -‬يتوي فيه َّ‬
‫الالمتناهي ى‬
‫إل تكرار وإعادة السؤال‪ ،‬بدءا من ه‬
‫االجتاه الذي أخذته الـ‬ ‫من هنا بالطبع احلاجة ى‬
‫مرة ما هو خمفي يف‬ ‫ِ‬
‫ألول َّ‬
‫املوجه‪/‬املرشد)‪ ،‬وذلك بشكل ُي هبني َّ‬ ‫َّ‬ ‫(‪( )Leitfrage‬السؤال‬
‫املوجه التقليدي ‪ -‬ما هو الكائن؟ ‪-‬‬
‫َّ‬ ‫باطنها‪« :‬اإلمكان َّية الوحيدة املتبق َّية هي إعادة السؤال‬

‫‪(1) GA, Bd. 80, p. 303, 304‬‬ ‫‪…„ : gefragt ist nach dem Seienden als Seienden, nach dem Sein‬‬
‫‪des Seienden‬‬ ‫‪…Die Grundfrage der Metaphysik lautet nicht : Was ist das Seiende als‬‬
‫? ‪solches‬‬ ‫‪,sondern : Was ist das Sein als solches ? ,kurz : Die Grundfrage der‬‬
‫‪Metaphysik ist die nach Wesen und Wesensgrund dessen, was das Seiende, was und wie‬‬
‫‪immer es sein mag, als Seiendes sein läßt“.‬‬

‫„‪(2) GA, Bd. 80, p. 303‬‬ ‫‪: Die gefallene Antwort selbst, daß Sein οσία sei, bleibt außer‬‬
‫‪Frage ; gefragt wird nur noch, was die οσία sei und wie sie näher zu bestimmen sei.‬‬

‫‪(3) GA, Bd. 80, p. 282‬‬ ‫‪…“ : die Frage, die …in der Metaphysik Hegels - und damit aller‬‬
‫‪Metaphysik vor ihm‬‬ ‫‪- ungefragt geblieben ist”.‬‬
‫‪ ❖ 300‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫واملخفي فيه‪ ،‬لكي يتبلور وُيصل‬


‫ه‬ ‫عل رشط ْ‬
‫أن يقود السؤال إ ىل التساؤل الكامن‬ ‫ولكن ى‬
‫ّى‬
‫يتجل فيه جوهر الكينونة»(‪ ،)1‬فيقول هايدغر يف‬ ‫السؤال العيني عن اجلوهر والعمق الذي‬
‫املوجه للفلسفة القديمة هو السؤال (‪ ،)τί τὸ ὄν‬ما هو الكائن؟‬
‫الفرتة ذاهتا‪ …« :‬اإلشكال َّ‬
‫األو هل للسؤال‬
‫حوله إذا ما فرضنا عليه يف البداية الشكل َّ‬ ‫املوجه يمكننا ْ‬
‫أن ُن ه‬ ‫َّ‬ ‫وهذا السؤال‬
‫األساس‪ :‬ما هي الكينونة؟»(‪ .)2‬هذا التحول يصبح الحقا وثبة نوع َّية عند هايدغر‪ ،‬ولكن‬
‫عل‬
‫نبقى هنا يف ما حصل قبل الكينونة والزمان ومكَّن كتابته ‪ :‬التحول هو يف الرتكيز ى‬
‫(‪)3‬‬
‫ى‬
‫الكينونة بدال من الـ ‪( οὐσία‬أوسيا‪/‬جوهر)‪ .‬الذي ُيصل عندها هو مركزي ورضوري‬
‫لقيام فكر جديد‪.‬‬
‫ّ‬
‫التجيل الذي أراده هايدغر يف بداية‬ ‫ما ُيصل بالفعل يف هذا التحول هو جتل‪ ،‬ذلك‬
‫املحارضة‪« :‬البدء بالفعل من بداية هذا املنطق‪ .‬وعندها‪ ،‬ما ُيم هيزه يقفز أمام أعيننا بشكل‬
‫يمكننا قراءته بوضوح»(‪ .)4‬يسأل إذا هايدغر‪« :‬ما هو جوهر الكينونة‪...‬؟ ما هو العمق‬
‫واضح اآلن‪ ،‬متجل‪ :‬هذا العمق «هو‬
‫ٌ‬ ‫الذي يمكن ِّلذا الفهم أ ْن يقوم عليه؟» واجلواب‬
‫الزمان»(‪.)5‬‬

‫‪(1) GA, Bd. 80, p. 317„ : Es bleibt nur die Wiederholung der überlieferten Leitfrage : Was ist‬‬

‫? ‪das Seiende‬‬ ‫‪,aber so, daß sich dieses Fragen auf den ihr verborgenen‬‬
‫‪zugrundeliegenden Grund zurückbringt, d.h. so, daß die konkrete Frage nach dem Wesen‬‬

‫‪und Wesensgrund des Seins zur Ausarbeitung und wirklichem Geschehen gelangt‬‬ ‫‪.‬‬
‫„‪(2) GA, Bd. 32, p. 59‬‬ ‫?‪: Das Leitproblem aber der antiken Philosophie ist die Frage τί τν‬‬
‫‪Was ist das Seiende? Und diese Leitfrage können wir verwandeln zunächst in die‬‬

‫“?‪Vorform der Grundfrage: Was ist das Sein‬‬


‫(‪ )3‬راجع‪:‬‬
‫‪Otto Pöggeler, Der Denkweg Martin Heideggers (Pfullingen : Neske, 1963), p. 161.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 80, p. 284‬‬ ‫‪…„ : wirklich mit dem Anfang dieser Logik beginnen. Dabei springt‬‬
‫‪uns schon hinreichend deutlich ihre Eigentümlichkeit in die Augen“.‬‬
‫“‪(5) GA, Bd. 80, p. 317‬‬ ‫‪: Was ist das Wesen des Seins …? Auf dem Grunde wovon ist‬‬
‫‪dieses Seinsverständnis möglich ? Auf dem Grunde der Zeit”.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪301‬‬

‫فتح سؤال الزمان‪:‬‬


‫وبقي «الكينونة هي الـ‬
‫َ‬ ‫كام رأينا‪ ،‬اجلواب النهائي عن السؤال «ما هي الكينونة؟» كان‬
‫‪ ،»οὐσία‬وبقي معه السؤال عن الكينونة ككينونة دون جواب أو تساؤل متجده د‪.‬‬
‫كرره هايدغر الحقا يف‬
‫غاب مع هذا اجلواب ما محلته األليثيا (احلقيقة) ‪ ،ἀλήθεια‬كام َّ‬
‫حتليله الستيعاب هيغل للفالسفة اإلغريق يف نظامه‪ .‬الـ ‪( ἀλήθεια‬أليثيا‪ ،‬حقيقة) حتمل يف‬
‫تم إسكاته ونسيانه الحقا‪،‬‬ ‫ُأصوِّلا لغزا(‪ ،Rätsel )1‬هو قول الكينونة يف صمتها َّ‬
‫احلق الذي َّ‬
‫حتو َلت الـ ‪( ἀλήθεια‬األليثيا‪ ،‬احلقيقة) ى‬
‫إل‬ ‫عل هذا النسيان‪َّ .‬‬
‫فقامت الفلسفة ومذاهبها ى‬
‫‪( certitudo‬يقني) وإ ىل حساب‪ )calculation( ،‬يقوم به العقل (‪ .)ratio‬الكشف الذي‬
‫عام ُُي هقق الكشف دون ْ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫وتوارى معه إمكان السؤال َّ‬
‫ى‬ ‫اختفى‪،‬‬
‫ى‬ ‫لسلب‬
‫أشارت إليه ‪( ἀ‬ألف) ا َّ‬
‫يبقى اللغز يف ط ّيات تعريف امليتافيزيقا وهيغل معها‬
‫كشف بنفسه‪ ،‬أي الكينونة ‪ .‬ولكن‪ ،‬ى‬
‫(‪)2‬‬
‫ُي َ‬
‫للـ ‪( ἀλήθεια‬األليثيا‪/‬احلقيقة)‪ .‬يشري هايدغر يف «هيغل واإلغريق» إ ىل ذلك‪:‬‬
‫كاملبارش غري املحدَّ د‪ ،‬ما تضعه الذات املحدَّ دة‬
‫َ‬ ‫هيغل خيترب الكينونة عندما يفهمها‬
‫واملتصو َرة‪ِّ .‬لذا السبب ال يمكنه ْ‬
‫أن يفصل الكينونة بمعناها اإلغريقي الـ ‪ ،εἶναι‬عن‬ ‫ه‬
‫ص‪ .‬ولكن‪ ،‬هذا [اجلوهر] هو‬ ‫عالقتها بالذات وحتريرها يف جوهرها (‪ )Wesen‬اخلا ه‬
‫احلضور (‪ )Anwesen‬الذي خيرج من انحجابه (‪ )Verborgenheit‬و ُيبقي نفسه يف‬
‫َّ‬
‫الالانحجاب (‪ )Unverborgenheit‬أمامنا(‪.)3‬‬

‫‪(1) “Hegel und die Griechen‬‬ ‫‪,”in Wegmarken, GA, Bd. 9, p. 440 …“ : die ἀλήθεια ist das‬‬
‫‪Rätsel selbst – die Sache des Denkens ”.‬‬
‫«الـ ‪ λήθεια‬هي اللغز بذاته ‪ -‬مسألة الفكر»‪.‬‬
‫خصصها هايدغر ألُسطورة الكهف‪:‬‬‫(‪ُ )2‬أشري هنا بالطبع إ ىل الدراسة التي َّ‬
‫‪“Platons Lehre von der Wahrheit ,”in Wegmarken, GA, Bd. 9.‬‬
‫‪(3) GA, Bd. 9, p :441 .Hegel erfährt das Sein, wenn er es als das unbestimmte Unmittelbare‬‬
‫‪begreift, als das vom bestimmenden und begreifenden Subjekt Gesetzte. Er kann‬‬
‫‪demgemäß das Sein im griechischen Sinne, das εναι nicht aus dem Bezug zum Subjekt‬‬
‫‪loslassen und es in sein eigenes Wesen freigeben. Das aber ist das Anwesen, d. h. das aus‬‬
‫‪der Verborgenheit her in die Unverborgenheit vor-Währen“.‬‬
‫‪ ❖ 302‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫تاريخ له صفتان أساس َّي تان‪ ،‬ها االختفاء املتزايد وراء تراكم املفاهيم‬ ‫ٌ‬ ‫للكينونة‬
‫فهم تقوم عليه ويسود يف‬‫امليتافيزيق َّية‪ ،‬والفهم املحدَّ د ِّلا يف كل من املذاهب الفلسفية‪ ،‬وهو ٌ‬
‫«املبارش غري املحدَّ د»(‪ .)1‬هذا يعود إ ىل تكرار ما ذكرناه‬
‫َ‬ ‫ك هل ثناياها‪ .‬فهم هيغل للكينونة هو‬
‫العيني يف‬
‫ه‬ ‫اهتامم بالعين َّية والكائن‬
‫ٌ‬ ‫أعاله‪ ،‬أي َّ‬
‫إن إقحام التاريخ يف الكينونة عند هيغل مل يرافقه‬
‫حتديداته‪ ،‬بل كان وبقي اهتامما مثابرا يف ما هو غري حمدَّ د‪ ،‬فتو َّجه املذهب وروحه ‪ -‬يف ّناية‬
‫املطاف ‪ -‬نحو املط َلق‪.‬‬
‫ُ‬
‫السؤال األساس‬ ‫يبقى‬ ‫مع ذلك‪ ،‬يف جوهر الكينونة كـ ‪( εἶναι‬فِعل الكينونة‪َ /‬‬
‫كان)‪ ،‬ى‬
‫موجودا‪ ،‬فيظهر ملن يسأل ابتداء من أصل الكينونة‪ ،‬يف حتديدها كـ ‪ .Anwesen‬ما يقوله‬
‫هايدغر هنا‪ ،‬يف سنة ‪ ،1958‬هو امتدا ٌد ملا أ َّكده يف سنة ‪ .1930‬فلن ُعد إذا إ ىل «هيغل ومشكلة‬
‫امليتافيزيقا»!‬
‫أن الكينونة هي الـ ‪( οὐσία‬أوسيا‪/‬جوهر) بقي نفسه خارج السؤال…‬ ‫اجلواب القائل َّ‬
‫أن يأخذ أصالة أكرب فيذهب أبعد سائال‪ :‬لِـ َم قول‪ :‬كينون ٌة‪ ،‬يعود‬ ‫ولكن َأال جيب ى‬
‫عل السؤال ْ‬
‫دائم؟‬ ‫إل ِ‬
‫حضور ٌ‬
‫ٌ‬ ‫قول‪:‬‬ ‫ى‬
‫تم تصوره ‪ ،‬يف الزمن القديم وما تبعه‪ ،‬كجوهر‬
‫(‪)3‬‬
‫إذا كان جوهر كينونة الكائن قد َّ‬
‫(‪)2‬‬

‫تم فهمه إذا كحضور دائم(‪ ،)5‬هناك مع هذا التحديد‬


‫حارض ‪ ،‬مهام كان حتديده‪ ،‬إذا كان قد َّ‬
‫(‪)4‬‬

‫للكينونة التفات نحو الزمان(‪.)6‬‬

‫‪(1) unbestimmte Unmittelbare‬‬


‫‪(2) Wesen des Seins des Seienden‬‬
‫‪(3) begriffen‬‬
‫‪(4) Substanzialität‬‬
‫‪(5) beständige Anwesenheit‬‬
‫„‪(6) GA, Bd. 80, p. 303‬‬ ‫‪: Die gefallene Antwort selbst, daß Sein οὐσία sei, bleibt außer‬‬
‫‪Frage‬‬ ‫‪…Aber muß nicht ursprünglicher gefragt werden, warum heißt Sein soviel wie‬‬
‫? (…)‪beständige Anwesenheit‬‬
‫‪Wenn in der Antike und fortan das Wesen des Seins des Seienden wird als Substanzialität,‬‬
‫‪mag diese wie immer bestimmt sein, d. h. als beständige Anwesenheit, so ist bei dieser‬‬
‫‪Bestimmung des Seins der Hinblick genommen auf die Zeit“.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪303‬‬

‫يف صلب الـ ‪( οὐσία‬أوسيا‪/‬جوهر) إذا هناك ٌ‬


‫قول عن الزمان‪ ،‬بل ويقوم حتديد‬
‫عل الزمان‪.‬‬
‫الـ ‪( οὐσία‬أوسيا‪/‬جوهر)‪ ،‬أينام يكون يف تاريخ امليتافيزيقا‪ ،‬دائام ومنذ البداية ى‬
‫اجلواب املخفي يف اجلواب هو العالقة األُو ىل والدائمة بالزمان‪ .‬يقول هيغل ما تقوله‬
‫دائم هو «دوما»(‪)1‬؛ احلضور هو‬
‫دائم‪ ،‬و«ما هو ٌ‬‫حضور ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫امليتافيزيقا‪ :‬اجلوهر الفردي هو‬
‫احلارض(‪ .)2‬احلضور واحلارض صفتان مع َّينتان للزمان»(‪.)3‬‬
‫اهتم بالزمان‪ ،‬ولكن كان اهتاممه باملايض‬ ‫ذ َّكر هايدغر ‪ -‬يف الفرتة ذاهتا ‪َّ -‬‬
‫بأن هيغل قد َّ‬
‫وباألخص بقي هذا االهتامم منطق ًّيا ‪ -‬ديالكتيك ًّيا‪ .‬نقرأ يف «فينومينولوجيا الروح»‬
‫ه‬ ‫فقط‪،‬‬
‫ِّليغل‪« :‬دون شك يتك َّلم [هيغل] أحيانا عن الكينونة ‪ -‬املاضية»(‪ ،)4‬ولكن‪ ،‬مهام كان كالمه‬
‫عل ضوء تصور‬
‫«ُيده د الزمان كام ُُيده د األنا‪ ،‬أي منطق ًّيا ‪ -‬ديالكتيك ًّيا‪ ،‬ى‬
‫عن املايض‪ ،‬فهو ُ‬
‫للكينونة قد ُق هر َر مس َبقا»(‪ .)5‬هذا التصور هو بالطبع اعتبار الكينونة حضورا‪ ،‬ما ُيجب أصلها‬
‫وفحواها‪ .‬حدَّ د هيغل الزمان ابتداء من هذا الفهم للكينونة‪ ،‬ال الكينونة من خالل فهم‬
‫املعنى بقي الزمان غائبا لصالح املط َلق‪.‬‬
‫ى‬ ‫ألصلها يف الزمان‪ .‬هبذا‬
‫أي حال ي َّتضح إذا السؤال األساس‪ :‬هو التساؤل عن العالقة الوطيدة بني الكينونة‬
‫عل ه‬
‫ى‬
‫والزمان(‪ .)6‬وهو السؤال املخفي وراء التحديد املنطقي ‪ -‬الديالكتيكي لألنا(‪ )7‬يف «هنا» فارغ‪،‬‬
‫مرة اليشء الذي هو‬ ‫«هنا» عند هيغل «ال يلتفت أبدا نحو هذا اليشء الذي هو يف ه‬
‫كل َّ‬ ‫إذ الـ ُ‬

‫‪(1) immer‬‬
‫‪(2) Anwesenheit ist Gegenstand‬‬
‫“‪(3) GA, Bd. 80, p. 305‬‬ ‫‪: Beständig ist das“ Immer .”Anwesenheit ist Gegenwart. Immer‬‬
‫‪und Gegewart sind bestimmte Charaktere der Zeit”.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 32, p. 116“ : Hegel spricht zwar zuweilen... vom Gewesensein”...‬‬
‫“‪(5) GA, Bd. 32, p. 116‬‬ ‫‪: Hegel die Zeit ebenso bestimmt wie er das Ich bestimmt, d. h.‬‬
‫‪logisch-dialektisch, aus der schon vorausentschiedenen Idee des Seins”.‬‬
‫‪(6) GA, Bd. 80, p. 305“ : Oder ist gerade diese Frage nach dem Zusammenhang von Sein und‬‬
‫‪Zeit die Grundfrage in der Tat ”.‬‬
‫«أو قد يكون بالفعل هذا السؤال عن العالقة الوطيدة بني الكينونة والزمان هو السؤال األساس»‪.‬‬
‫‪(7) GA, Bd. 32, p. 116.‬‬
‫‪ ❖ 304‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫فيبقى الـ هنا الفارغ َّ‬


‫والالمبال‪،‬‬ ‫ى‬ ‫هنا‪ .‬الـ ُهنا يتط َّلب ما هو هنا ولكنَّه مع ذلك يصده دائام‪.‬‬
‫البساطة املنقولة‪ ،‬أي الكون َّية ‪ -‬متاما كاآلن َّية»(‪.)1‬‬
‫يمكن اآلن اختصار نقد هايدغر ِّليغل يف ما خيص مسألة عالقة الكينونة بالزمان كام ييل‪:‬‬
‫الكينونة عنده‪ ،‬مثلها عند القدماء‪ ،‬هي للدخول الدائم يف احلارض اخلال‪ ،‬اجلوهر غري‬
‫الزماين‪ ،‬وهذا الفهم للكينونة ال ُيش هكل عنده مشكلة يف ما خيص إمكان َّيته الباطنة‪ ،‬أي‬
‫أن التغري عنده هو حلظ ٌة‪ ،‬ولكنَّها حلظة الكينونة كأبد َّية‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫الكينونة والزمان(‪ .)2‬نضيف َّ‬
‫الذات َّية عنده هي اجلوهر َّية‪ ،‬وهي ذات َّي ٌة ال ُتؤ ّدي إ ىل الزمان‪ ،‬املتناهي‪ ،‬البرشي‪ ،‬بل هي مط َل َق ٌة‪،‬‬
‫الروح املط َل ُق واملفهوم(‪.)3‬‬
‫ملحا يف التفكري النقدي الذي‬‫مع ذلك‪ ،‬ومن هذا املنط َلق بالذات‪ ،‬يصبح سؤال الزمان ًّ‬
‫أي ُأفق‬
‫يرافق هيغل‪ .‬إذ نسأل‪ ،‬ويسأل هايدغر‪ :‬عندما ُأف هكر مع هيغل باألبد َّية‪ ،‬فابتداء من ه‬
‫حارض‪ :‬األبد َّية هي‬
‫ٌ‬ ‫ذهني أنا أفعل ذلك(‪)4‬؟ هيغل ُُيده د األبد َّية كحارض مط َلق(‪ .)5‬هي إذا‬
‫أن ننطلِق من الزمان‪ .‬السؤال الذي مل يسأله هيغل‪،‬‬
‫احلارض‪ .‬وبالتال لكي نفهم األبد َّية علينا ْ‬
‫وذلك لطبيعة نظامه ولبقائه يف امليتافيزيقا يف إمتامه ِّلا‪ ،‬هو التال‪ :‬كيف يمكن تصور األبد َّية‬
‫أنطولوج ًّيا؟ كام وال يتساءل عن جوهر احلارض كمختلف عن احلضور‪ .‬عندما نكتشف ذلك‬
‫يف مرافقته النقد َّية‪ ،‬يسأل هايدغر‪« :‬أليست األبد َّية أكثر التناهي عمقا؟»(‪ ،)6‬ونكتشف مع‬
‫امللح َّ‬
‫أن الزمان يف األبد َّية‪ ،‬أي هو حمتواها‪« :‬الزمان‪ ،‬هو بالضبط هنا‪ ،‬يف‬ ‫هذا التساؤل ه‬

‫‪(1) GA, Bd. 32, p. 89„ : Aber indem es dergleichen verlangt, kehrt es sich doch gerade nie an‬‬
‫‪das Diesige selbst, das je das Hiesige ist. Das Hier verlangt das Hiesige und stößt es doch als‬‬
‫‪je dieses von sich. Es bleibt das leere und gleichgültige Hier, die vermittelte Einfachheit, d.‬‬
‫‪h. die Allgemeinheit - wie das Jetzt“.‬‬
‫‪(2) GA, Bd. 80, p. 305 - 306.‬‬
‫‪(3) GA, Bd. 80, p. 311.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 80, p. 311.‬‬
‫‪(5) GA, Bd. 80, p. 313.‬‬
‫‪(6) GA, Bd. 80, p. 315“ : Ist am Ende der Begriff der Ewigkeit nicht der Begriff der tiefsten‬‬
‫”?‪Endlichkeit, der Endlichste aller Begriffe‬‬
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪305‬‬

‫وبأي طريقة؟ هو الـ «بِدون»(‪ ،)2(»)1‬هو الـ «بدون»‪ ،‬أي هو ما جيعل من َّ‬
‫الالمتناهي‬ ‫ه‬ ‫الداخل‪.‬‬
‫المتناهيا‪ ،‬هو يعطي الـ «بدون» ّناية‪ .‬وهذا العطاء أو اإلعطاء هو بالضبط ما مل َيره هيغل ومل‬
‫أن يراه من داخل ُن ُظم امليتافيزيقا‪ .‬إعطاء الزمان لذاته هو السؤال‬
‫يكن من املمكن له ْ‬
‫األساس‪ ،‬وهو أصل األنطولوجيا املخفي‪ .‬الزمان إذا هو أصل ومفتاح الفهم والكشف‬
‫األنطولوجي هو مركز الكينونة وجوهرها‪ .‬من هنا انطلق هايدغر‪ ،‬ومن هنا ظهرت إشكال َّية‬
‫الكينونة والزمان‪.‬‬
‫جممل هذه العمل َّية النقد َّية التي دخلنا فيها‪َّ ،‬‬
‫أن من‬ ‫يتبني بوضوح يف َ‬ ‫نضيف أخريا‪َّ ،‬‬
‫أن ما َّ‬
‫سأل ويسأل ويسائل جوهر الكينونة هبذه الطريقة الكاشفة‪ ،‬الفينومينولوج َّية‪ ،‬هو املتناهي‬
‫بامتياز‪ .‬ينتمي أو يعود جوهر الكينونة إ ىل املتناهي‪« :‬املط َلق ال يعرف كينونة الكائن‪ .‬ليس‬
‫عل الوعي‬‫هناك من كينونة وفهم للكينونة َّإال حيث هناك تناه للـ دازَين ‪ . »...‬ليس ى‬
‫(‪)4‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫أن يتجاوز نفسه‪ ،‬أي كونه متناهيا‪ ،‬لكي يصل إ ىل َّ‬


‫الالمتناهي‪ ،‬فبذلك خيِّس الكينونة‬ ‫بالذات ْ‬
‫يبقى ويسأل ابتداء من ذاته كمتناه بامتياز‪ ،‬أي كإنسان‪ .‬فيقودنا‬
‫أن ى‬ ‫والـ هنا والزمان؛ بل عليه ْ‬
‫أخريا السؤال عن الكينونة إ ىل السؤال عن اإلنسان‪.‬‬

‫إعادة فتح سؤال اإلنسان‪:‬‬


‫أن نفهم الكينونة فعلينا ْ‬
‫أن ننطلق من‬ ‫نعرف اآلن‪ ،‬بعد هذا املسار املتسائل‪ ،‬أ َّنه إذا ما أردنا ْ‬
‫الزمان‪ :‬الزمان مفتاح فهم الكينونة‪ .‬ولكن «ليس الزمان شيئا أبدا‪ ،‬بل هو َن ْف ٌس‪ ،‬ذات»(‪ )5‬من‬
‫هذا املنط َلق‪ ،‬يستنتج هايدغر‪:‬‬
‫فهم هبذا‬ ‫فهم ابتداء من الزمان‪ ،‬بل وإذا كان من الرضوري أيضا ْ‬
‫أن ُت َ‬ ‫إذا كانت الكينونة ُت َ‬

‫‪(1) ohne‬‬
‫‪(2) GA, Bd. 80, p. 315“ : Darin die Zeit und gerade sie. In welcher Weise ? Das ohne.‬‬
‫‪(3) Dasein‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 80, p. 319‬‬ ‫‪: Das Absolute kennt kein Sein des Seienden. Sein und‬‬
‫‪Seinsverständnis nur, wo Endlichkeit des Daseins.‬‬
‫‪(5) GA, Bd. 80, p. 305 - 306 : Zeit aber kein Ding, sondern Seele, Subjekt.‬‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬306

‫ بل هو بالعكس‬،‫ ولكن إذا كان… الزمان ليس شيئا هنا أمامنا أو موضوعا‬،‫الشكل‬
‫بمعنى‬
‫ى‬ ‫ فبلورة السؤال األساس للميتافيزيقا‬،‫ يف قلب الذات‬،‫) يف نفس اإلنسان‬1(‫يتخ َّبط‬
.)2(‫مشكلة الكينونة والزمان تصبح سؤاال خيص اإلنسان‬
‫ هذا‬،‫ ولكن‬.‫السؤال األساس خيص إذا اإلنسان ومفتاح فهمه والتوسع به هو يف اإلنسان‬
،‫عل أنواعها‬
‫اإلنسان ليس موضوع األنثروبولوجيا أو ح َّت ىى البسيكولوجيا أو علوم الطبيعة ى‬
‫ هو‬،‫ أي اإلنسان‬،‫ الذات‬- ‫ السؤال عن كينونة الكائن‬.‫وليس بالطبع ما يدرسه علم االجتامع‬
‫تصبح الذات (الوعي) مركز‬
ُ ‫غائب عن ه‬
‫ أل َّنه «يف الفلسفة احلديثة‬،‫كل أوجه الذات احلديثة‬ ٌ
َّ ‫ ذلك‬،)3(»‫«اإلشكال َّية‬
‫) حتت ضغط سؤال جوهر الكينونة‬4(‫ألن ديكارت ال يصل إ ىل األنا‬
‫إل‬
‫وجه طريقة تساؤله يأت من سعيه إ ىل الوصول ى‬
‫ ما ُي ه‬،‫وعل العكس‬
‫ى‬ ‫ بل‬،»‫وبالتال… الزمان‬
fundamentum - ‫«أساس حتمي مطلق للعلم وبالتال للمعرفة الفلسف َّية‬
‫ السعي إ ىل اليقني املط َلق هو الذي وضع األنا يف‬.)5(»inconcussum et absolutum
.)6(»‫ فتكون «الكائن احلتمي بامتياز‬،‫عل املوضوعات واألشياء‬
‫املوقع املركزي الذي ُيكم ى‬

(1) treibt
(2) GA, Bd. 80, p. 307„ : Wenn Sein aus der Zeit verstanden wird, ja vielleicht notwendig
verstanden werden muß ,Zeit aber nicht …ein vorhandenes Ding und Objekt ist, sondern
in der Seele des Menschen, im Subjekt ihr Wesen treibt, dann wird die Ausarbeitung der

eigentlichen Grundfrage der Metaphysik als das Problem von Sein und Zeit einer Frage

nach dem Menschen“.


(3) GA, Bd. 80, p. 309 … : im Beginn der neuzeitlichen Philosophie und der von ihr
begründeten Vorrangstellung des Subjekts auftaucht.
(4) ego
(5) GA, Bd. 80, p. 309 „ : Denn Descartes stößt auf das ego nicht unter dem Zwang der Frage
nach dem Wesen des Seins und gar … nach der Zeit, sondern er ist in seinem Fragen
primär geleitet von der Sorge, ein absolut gewisses Fundament …der philosophischen
Erkenntnis in erster Linie zu gewinnen – fundamentum inconcusuum et absolutum“.
(6) GA, Bd. 80, p. 309 … : das schlechthin gewisse Seiende...
‫هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ ‪307‬‬

‫وتوسعت يف الفلسفة احلديثة‪ ،‬من ديكارت إ ىل فلسفات‬


‫َّ‬ ‫هذه الذات ‪ -‬احلتم َّية هي التي بقيت‬
‫الذات والفلسفات املثال َّية‪ ،‬أي فيشت(‪ )1‬وشيلينغ(‪ )2‬وأخريا هيغل الذي ش َّكل ذروهتا(‪ .)3‬ك َّلام‬
‫عل املوضوعات‪ ،‬ك َّلام هرب‬
‫ع ُظم شأن اليقني املط َلق وتطور حتديده وتوسع نطاق حكمه ى‬
‫باألحرى‪ .‬بقي صوت كانط وحيدا‪ ،‬وبقي وحده يف‬
‫ى‬ ‫السؤال األساس أمام الفلسفة أو خلفها‬
‫ّتوم السؤال األساس‪ ،‬كام َّبني هايدغر قبل سنة من هذه املحارضة(‪ .)4‬خالصة هذا‬
‫(‪)5‬‬
‫االكتشاف هو ما قاله هايدغر الحقا‪ ،‬يف «هيغل ومفهوم التجربة»‪« :‬الوعي هو أرض َّية‬
‫للعلم» وقاست نفسها‬ ‫امليتافيزيقا احلديثة»‪ ،‬وهذه األرضية قد «استولت عل نفسها كـ «نظام ِ‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫بالكامل(‪ .)7(»)6‬وبالتال‪ ،‬كام تشهد له حمارضة «هيغل ومشكلة امليتافيزيقا» وكل أعامل هايدغر‬
‫تتحرر الفلسفة من وطء الوعي‪ ،‬جيب إزالة هذه األرض َّية‪،‬‬
‫ابتداء من الكينونة والزمان‪ ،‬لكي َّ‬
‫سحب البساط من حتت َ‬
‫رجيل الفكر‪ .‬نتيجة ذلك نعرفها يف فكر هايدغر‪ :‬هناك‬ ‫سحبها كام ُي َ‬
‫من ناحية عندها القبول باِّلاوية‪ ،‬الـ (‪ )Abgrund‬الذي ُيمكهن الق َلق ّ‬
‫احلق يف الكينونة‬
‫إل‬ ‫والزمان ؛ ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى يصبح االنطالق نحو فكر يتجاوز امليتافيزيقا انطالقا ُيتاج ى‬
‫(‪)8‬‬

‫القيام بوثبة نوع َّية فوق الفراغ الذي ترتكه ّناية امليتافيزيقا‪ ،‬وهي وثب ٌة تتط َّلب شجاعة‬
‫الدخول يف املجهول‪ ،‬الذي هو بالذات القول احلق للكينونة الزمان َّية يف جمال الكائن ‪ -‬هاهنا‪،‬‬

‫‪(1) Fichte‬‬
‫‪(2) Schelling‬‬
‫‪(3) GA, Bd. 80, p. 309 - 310.‬‬
‫دعى بالـ ‪.Kant Buch‬‬
‫خصصه هايدغر لكانط والذي صدر سنة ‪ ،1929‬ما ُي ى‬
‫(‪ )4‬يف الكتاب الذي َّ‬
‫‪Kant und das Problem der Metaphysik, GA, Bd. 3.‬‬
‫راجع‪.GA, Bd. 80, p. 309 :‬‬
‫‪(5) Land‬‬
‫‪(6) ausgemessen hat‬‬
‫‪(7) GA, Bd. 5, p. 201‬‬ ‫‪…„ :das Bewußtsein das Land der neuzeitlichen Metaphysik ist, welches‬‬
‫‪Land jetzt sich selbst als System der Wissenschaft in den Besitz genommen und sich‬‬
‫‪vollständig ausgemessen hat“.‬‬
‫‪(8) GA, Bd. 2. 40.‬‬
‫‪ ❖ 308‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الـ دازَين‪ .‬هذه الوثبة نراها يف الكتاب األسايس الثاين ِّلايدغر بعد الكينونة والزمان‪ ،‬أي‬
‫مساهات يف الفلسفة‪ :‬يف احلدث‪ ،‬حيث يرافقها ما ُيم هكن حصوِّلا‪ :‬القرار الشجاع‪ ،‬خطر‬
‫عل القيام هبا وبناء تاريخ جديد للكينونة(‪.)1‬‬
‫خسارة العامل واإلنسان‪ ،‬القالئل القادرون ى‬
‫لحة(‪ ،)2‬إ ىل القيام بورشة‬ ‫نرى اآلن بوضوح َّ‬
‫أن مرافقة هيغل الناقدة كشفت عن حاجة م َّ‬ ‫ى‬
‫عمل فلسف َّية ّترج بالفكر إ ىل حقول جديدة خارج امليتافيزيقا ومن خالل الفينومينولوجيا‬
‫يتوج ب جتاوزها بدورها‪ .‬مل يعد حتديد الوعي وجماله هو شغل الفلسفة الشاغل‪ ،‬بل‬‫َّ‬ ‫الذي‬
‫اكتشاف الـ دازَين وإيقاظه‪ ،‬دون تفكر انعكايس(‪ ،)3‬كفضاء ل ه‬
‫كل الفلسفات(‪ .)4‬لورشة العمل‬
‫هذه اسم‪ ،‬هو الكينونة والزمان‪.‬‬
‫عل فكر يعيد النظر باإلنسان وعالقته بالعامل‪ .‬إذا كان‬
‫التجربة تأت أحيانا كثرية كشاهد ى‬
‫كانط قد جدَّ د مفهوم التجربة يف نقد َّيته التي ب َّينَت أخطاء التجريب َّية والعقالن َّية وو َّفقت بينهام‪،‬‬
‫فأصبح للتجربة رشطان أساسيان‪ ،‬ماقبيل ‪ -‬عقيل وجتريبي؛ فقد قام هايدغر بتجديد التجربة‬
‫يتم‬ ‫بدوره لتكون يف عين َّية الـ دازَين التارخيي ويف زمن َّيته‪ ،‬أي يف املتناهي‪ .‬مل يكن لذلك ْ‬
‫أن َّ‬
‫دون إعادة النظر بالتجربة كام وجدَ ت ذروهتا امليتافيزيق َّية عند هيغل‪ ،‬أي دون مرافقة هيغل‬
‫ميكي ويف املتناهي الذي ارتفعت به الروح نحو َّ‬
‫الالمتناهي‪ ،‬فوصلت إ ىل أبعد‬ ‫يف منطقه الدينا ه‬
‫أن تسقط ْ‬
‫وأن ُيف هكك هايدغر أسباب وأشكال‬ ‫أن تصل إليه‪ ،‬قبل ْ‬
‫ما أمكن للميتافيزيقا ْ‬
‫سقوطها وتداعياته‪ .‬كشفت لنا حمارضة «هيغل ومشكلة امليتافيزيقا» أ َّنه مل يكن ِّلذه العمل َّية‬
‫أن حتصل لوال القراءة النقد َّية اجلديدة ِّليغل‪ ،‬التي ّت َّلصت من تاريخ طويل ال‬
‫التفكيك َّية ْ‬
‫نزال نتخ َّبط فيه هو تاريخ اِّليغل َّية اليمين َّية واِّليغل َّية اليسار َّية يف أوجهها الفوضو َّية‬
‫واملاركس َّية‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪(1) GA, Bd.1. 5. 40. 44 - 49. 65. 112. 115 - 167.‬‬


‫‪(2) Not‬‬
‫‪(3) GA, Bd. 80, p. 319.‬‬
‫‪(4) GA, Bd. 80, p. 321.‬‬
309 ❖ ‫هايدغر ناقد ًا هيغل‬

:‫املصادر‬
Dominique Janicaud„ ,Hegel – Heidegger :un‘ dialogue ’impossible? “ Heidegger
et l’idée de la phénoménologie, (Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 1988).
Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man (New York :
Macmillan, 1992).
Heidegger, M, Kant und das Problem der Metaphysik, GA, Bd. 3.
Heidegger„ ,Protocole d’un séminaire sur la conférence“ temps et être ,”
“Questions IV, trans. J. Beaufret and C. Roëls (Paris: Gallimard, 1990).
Hegel, Wissenschaft der Logik. (Meiner : Leipzig, 2008).
“Hegel und die Griechen ,”GA, Bd. 9.
“Hegel und das Problem der Metaphysik ,”in Vorträge, GA, Bd. 80.
„Hegels Begriff der Erfahrung“ 43 / 1942 ,in Holzwege, GA, Bd. 5.
„Hegel und die Griechen“ 1958 ,in Wegmarken, GA, Bd. 7
Der deutsche Idealismus (Fichte, Schelling, Hegel) und die. philosophische
Problemlage der Gegenwart (1929), GA, Bd. 28.
Hegels Phenomenologie des Geistes, GA, Bd. 32.
32„ ; Die Negativität“ 39 / 1938„ ,Erläuterung der„ Einleitung “zu Hegels
Phänomenologie des Geistes “1942, in Hegel, GA, Bd. 68.

* * *
‫هايدغر ناقداً نيتشه‬
‫(إرادة القوَّة وميتافيزيقا الذاتيَّة)‬
‫(‪)1‬‬
‫آالن دي بينوا‬

‫ور ْفض «العامل فوق املحسوس» لصالح العامل املحسوس الذي ُأعلِن‬ ‫بإعالن «موت اهلل» َ‬
‫َر ْسم ًّيا أ َّنه وحده احلقيقي‪ ،‬بدا نيتشه وكأ َّنه ُهياجم جمال األفكار األفالطون َّية و ُيعلِن عدم‬
‫وجود عوامل َخفية‪( .‬ح َّتى لو مل تكن رصخة «مات اهلل» رصخة م ِ‬
‫لحد وإ َّنام املالحظة اجلل َّية‬ ‫ُ‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫للموت الطارئ والقديم‪ ،‬وح َّت ىى رصخة ُم َّتسمة بالندم‪ ،‬تشجب هؤالء املؤمنني باعتبارهم‬
‫إن نيتشه‬ ‫رب عن إيامّنم بطريقة ال ينتج عنها َّإال موت اهلل)‪ .‬يف الواقع َّ‬ ‫ِ‬
‫« ُملحدين» حقيقيني ُع ه َ‬
‫ب‬‫عجب بنفسه رصاحة‪ ،‬أل َّنه قام بـ « َق ْلب» الفكر األفالطوين‪ .‬وهو يعني بذلك أ َّنه َق َل َ‬ ‫م ِ‬
‫ُ‬
‫مصطلحات إشكال َّيته‪ .‬لكن َأال ُيوازي هذا ال َق ْلب(‪ )2‬التجاوز(‪)3‬؟ َأال يمكن تفسريه بشكل‬
‫إن َو ْصف العامل املحسوس كـ «عامل حقيقي»‪ ،‬والعامل ما فوق‬ ‫أدق كاكتامل ؟ بعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬ ‫ّ‬
‫(‪)4‬‬

‫‪(1) Alain de Benoist‬‬

‫املصدر‪ :‬جم َّلة االستغراب‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬السنة الثانية‪1437 ،‬هـ‪ ،‬خريف ‪ ،2016‬ص ‪.340 - 328‬‬
‫العنوان األصيل للمقال‪:‬‬
‫‪Heidegger،critique de Nietzsche،volonté de puissance et métaphysique de la subjectivité.‬‬

‫اخلاص لكاتبه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫نقال عن املوقع‬
‫‪s3-eu-west-1.amazonaws.com/alaindebenoist/pdf/Heidegger-critique-de-nietzsche.pdf.‬‬

‫ترمجة‪ :‬عامد أ ّيوب‪.‬‬


‫‪(2) umkehrung‬‬

‫‪(3) Überwindung‬‬

‫‪(4) Vollendung‬‬
‫‪ ❖ 312‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املحسوس كوهم زائف‪َ ،‬أال يكفي هذا للخروج من األفالطون َّية؟ و ُيضيف جان بوفريه(‪:)1‬‬
‫القلب النيتشوي لألفالطون َّية بدوره ‪ -‬يف األفالطون َّية ‪ -‬ليشء ما‬
‫ُ‬ ‫َأال يستجيب‬
‫خاص باألفالطون َّية التي أصبحت أكثر وضوح ًا يف ضوء عمل َّية َقلبها؟(‪.)2‬‬
‫عل َّ‬
‫أن ُمعارضة يشء ما تعني َحتْام مشاركة هذا اليشء نفسه يف ما‬ ‫لقد شدَّ د هايدغر مرارا ى‬
‫أن «ال َق ْلب» األفالطوين الذي يقوم به نيتشه يمتاز بشكل رئيس‬
‫ُنعارضه‪ .‬س ُيؤ هكد إذن َّ‬
‫خاصة بام ُيريد «قلبه»‪ ،‬وهذا ما سيقوده‬
‫عل ترسيامت مفهوم َّية أو إِّلامات جوهر َّية َّ‬
‫باحلفاظ ى‬
‫عرفه‬
‫يبقى يف النهاية يف «املوقع امليتافيزيقي األسايس»‪ ،‬الذي ُي ه‬ ‫عل َّ‬
‫أن نيتشه ى‬ ‫إ ىل التأكيد ى‬
‫هايدغر بأ َّنه‪:‬‬
‫الطريقة التي يعتمدها ذلك الذي يطرح السؤال املَبدئي كي يبقى هو نفسه ُمندجم ًا‬
‫طورة للسؤال املَبدئي(‪.)3‬‬
‫بالبنية غري املُ َّ‬
‫أ َّما عن كيف َّية إجراء برهنته؟ فذلك سيكون بشكل أسايس انطالقا من تفكري نقدي حول‬
‫مفهوم القيمة‪.‬‬
‫ه َّية‪ ،‬و ُي َعد عنرصا أساس ًّيا يف نقده ومرشوعه‬
‫ُيتل هذا املفهوم عند نيتشه مكانة بالغة األ ّ‬
‫أن القيم العليا(‪ )4‬تفقد قيمتها ( ‪La‬‬ ‫السواء‪ .‬كتب نيتشه‪ :‬ماذا تعني العدم َّية؟ َّ‬ ‫عل ّ‬ ‫ى‬
‫ِ‬
‫إن العدمية نامجة عن التغلب التدرجيي لبعض الق َيم‬ ‫‪ volontéde puissance‬الفقرة ‪َّ .)2‬‬
‫ِ‬
‫عل ق َيم ُأ ى‬
‫خرى كانت األكثر ُس ُم ًّوا (أو األكثر‬ ‫التي يعتربها نيتشه األكثر دناءة (أو زَ ْيفا) ى‬
‫اخلاص‬ ‫ثم ُيبلور يف جمال وجوده‬ ‫ِ‬ ‫أدق يعتقد نيتشه َّ‬
‫أصالة)‪ .‬بتعبري ّ‬
‫ه‬ ‫أن اإلنسان ُيسقط تدرجييا ّ‬
‫عل العدول‬ ‫ِ‬ ‫ِق َيام ُمستعارة أصل ًّيا من العامل‬
‫اخلفي ‪ .‬يف التحليل األخري ارتكز «ّتفيض الق َيم» ى‬
‫(‪)5‬‬
‫ه‬
‫سوى‬ ‫أعل ما ورائي (أو فوق العامل املا ّدي) الذي ليس‬ ‫ِ‬
‫ى‬ ‫عن ق َيم العامل املحسوس باسم مثل ى‬

‫‪(1) Jean Beaufret‬‬

‫‪(2) Jean Beaufret،Dialogue avec Heidegger،vol. 2،Philosophie moderne, Minuit،1973،p. 195.‬‬

‫‪(3) Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit. vol. 1،p. 353.‬‬

‫‪(4) die obersten werte‬‬

‫‪(5) arrière-monde‬‬
‫هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ ‪313‬‬

‫أن العدم َّية تصدر عن َثنوية(‪ )1‬العاملني التي‬ ‫خدعة وبريق م ِ‬


‫وهم للعامل املحسوس‪ ،‬ما يعني َّ‬ ‫ُ‬
‫أِّلمت الفلسفة الغرب َّية منذ أفالطون‪ .‬ولـ َّام كانت العدم َّية مطروحة كحدث أسايس يف‬
‫التاريخ الغرب‪ ،‬يقرأ نيتشه إذن هذا التاريخ بوصفه تاريخ التخفيض البطيء لـ ِ‬
‫«الق َيم‬
‫وأن ليس هناك يشء ذو قيمة‪ .‬من‬ ‫وإن نقطة النهاية للعدم َّية هي أ َّنه ال يشء له قيمة‪ْ ،‬‬ ‫العليا»‪َّ ،‬‬
‫أن إرادة القوة هي «مبدأ التأسيس اجلديد ِ‬
‫وإن العنوان‬ ‫للق َيم»‪َّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫خرى يعترب نيتشه َّ‬‫ناحية ُأ ى‬
‫الفرعي لكتابه معرب‪« :‬بحث يف قلب ِ‬
‫الق َيم كا َّفة»‪ .‬فانطالقا من مفهوم القيمة يفهم نيتشه‬ ‫ُ ه‬
‫الق َيم‪ ،‬ومن أجل‬ ‫صعود العدمية وإمكانية جتاوزها‪ ،‬ارتكزت العدمية عل ّتفيض بعض ِ‬
‫ى‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ُمواجهتها جيب تأسيس ِق َيم جديدة‪.‬‬
‫عل التفكري بـ «ما له‬ ‫بقوة فكرة َّ‬ ‫ِ‬
‫اخلاص يقوم ى‬
‫ه‬ ‫أن دور الفلسفة‬ ‫عل العكس ُينكر هايدغر َّ‬ ‫ى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عل حتديد مقياس للق َيم‪ .‬بالطبع ليست كل الق َيم متعادلة بنظر هايدغر‪.‬‬ ‫قيمة»‪ ،‬واستطرادا ى‬
‫باألحرى من الفلسفة اإلغريق َّية الغريبة أصال عن مفهوم القيمة كام‬ ‫ى‬ ‫هنا أيضا يستوحي‬
‫نفهمها اليو م‪ ،‬الفلسفة التي فهمت فكر الكينونة كـ «بزوغ لعامل االختالف»‪ ،‬وجمال الكينونة‬
‫كمجال لالختيار بني األفضل واألسوأ انطالقا من «الكايف»‪ .‬وقد كتب جان بوفريه(‪َّ )2‬‬
‫أن‪:‬‬
‫املهمة النقد َّية أساس ًا لفكر الكينونة [‪َّ ،]...‬‬
‫إن فكرة االختيار‬ ‫االختيار إيثار ًا هو َّ‬
‫تُش ِّكل جوهر الـ لوغوس(‪ )3‬الذي ال يقوم عىل َمجع ِّ‬
‫الكل بال تنظيم‪ ،‬بل عىل عدم‬
‫االحتفاظ بام انتخبه يف ُمصنَّفه(‪.)4‬‬
‫باملعنى احلديث للكلمة ُمشت َّقة من َّ‬
‫األول َّية األفالطون َّية للـ «أغاثون»(‪،)5‬‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن َّأول َّية «القيمة»‬
‫عني نوع َّية‬
‫أي تعيني ملموس هو ما ُي ه‬ ‫املجرد‪َّ .‬‬
‫إن هذا اخلري املقطوع من ه‬ ‫َّ‬ ‫أي اخلري بذاته‪ ،‬اخلري‬
‫إن القول َّ‬
‫بأن العامل فوق املحسوس حمكوم‬ ‫الكينونة ونوع َّية عامل األفكار يف الوقت نفسه‪َّ .‬‬
‫باخلري يعني برأي أفالطون َّ‬
‫أن عامل األفكار هو نفسه حمكوم بفكرة‪ ،‬فكرة «أغاثون»‪،‬‬

‫‪(1) dualism‬‬
‫‪(2) Jean Beaufret‬‬
‫‪(3) Logos‬‬
‫‪(4) Jean Beaufret،op. cit،.pp. 184 - 185.‬‬
‫‪(5) Agathon‬‬
‫‪ ❖ 314‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املطروحة بوصفها الفكرة األُو ىل‪ ،‬أي القيمة بامتياز‪ .‬ينتج من ذلك َّ‬
‫أن حقيقة الكينونة‪،‬‬
‫احلقيقة الضعيفة متاما‪ ،‬ال ُتساوي شيئا بذاهتا ‪ -‬كام كان احلال عند فالسفة ما قبل سقراط‬
‫أن احلقيقة الكافية نفسها بنفسها مل تكن بحاجة أبدا إ ىل ْ‬
‫أن تكون مكفولة مم َّا‬ ‫الذين يعتربون َّ‬
‫عرب عن الـ «أغاثون» الذي ترتبط به‪« .‬هكذا‬ ‫هو أرفع منها ‪ ،-‬وإ َّنام فقط باعتبارها ُجت هسد أو ُت ه‬
‫يفتتح أفالطون ‪ -‬حتت اسم الفلسفة ‪ -‬إخضاع احلقيقة»(‪َّ .)1‬‬
‫إن التاريخ الفلسفي ملفهوم‬
‫القيمة سيكون تاريخ إخضاع احلقيقة‪.‬‬
‫تتامهى ُم ْذ ذاك مع وجهة نظر‪ ،‬وكل قيمة يطرحها هدف ما‪ ،‬ونظرة ى‬
‫عل ما َّقررنا‬ ‫ى‬ ‫كل قيمة‬
‫لدى ديكارت الذي‬
‫عل نحو أكمل ى‬ ‫أ َّنه ذو قيمة‪َّ .‬‬
‫إن هذا التعريف احلديث لـ «القيمة» يظهر ى‬
‫ُيم هك ن ممارسة الفلسفة من بلوغ أوجها يف تعيني «القيمة الصحيحة» للخريات التي ال ترتبط‬
‫َّإال بنا‪ ،‬وهذا انطالقا من مصدر وحيد للتعيني هو «األنا املُف هكر»(‪َ .)2‬ث َّمة نتيجتان رئيس َّيتان‬
‫لذلك‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫األُو ىل هي ظهور صورة جديدة للحقيقة‪ .‬مع ديكارت احلقيقة ليست االنكشاف‬
‫شفى ا ُملع هلقون القدماء ُغ َّلتهم منها‬
‫القدامى‪ ،‬وال ح َّت ىى «املطابقة» التي ى‬
‫(‪)4‬‬
‫ى‬ ‫لدى اإلغريق‬
‫القديم ى‬
‫تتحول احلقيقة إ ىل «يقني» ‪-‬‬
‫َّ‬ ‫«احلقيقة هي تطابق األشياء والعقل»‪ .‬من املطابقة البسيطة‬
‫نصبة نفسها «بوصفها أمان الوجود»(‪ .)7‬ال يتساءل‬ ‫تتحول إ ىل «يقني» ‪ُ -‬م َّ‬
‫(‪)6‬‬
‫َّ‬
‫(‪)5‬‬
‫«احلقيقة»‬
‫ديكارت بشأن الكينونة(‪ ،)8‬وإ َّنام فقط بشأن الكائن(‪ )9‬الذي يمكن ْ‬
‫أن يعرض نفسه يف ُبعد‬

‫‪(1) Ibid،.p. 196.‬‬

‫‪(2) Ego cogitans‬‬

‫‪(3) aléthèia‬‬
‫‪(4) adaequatio‬‬

‫‪(5) verum‬‬

‫‪(6) certum‬‬
‫‪(7) Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 20.‬‬
‫‪(8) Être‬‬
‫‪(9) Etant‬‬
‫هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ ‪315‬‬

‫اليقني‪ .‬وهذا يعني أ َّنه ال هيتم َّإال باملعرفة القابلة ِأل ْن تطرح نفسها كمعرفة للذات‪ .‬وال يمكن‬
‫كل معرفة هي َّأوال‬ ‫خرى‪ ،‬حيث طرح ُأرسطو ‪ -‬مثال ‪َّ -‬‬
‫أن َّ‬ ‫أن حتدث من دوّنا أي معرفة ُأ ى‬ ‫ْ‬
‫زودنا به‬ ‫ِ‬
‫عل هذا النحو يمكن ملاه َّية احلقيقة االقرتاب‪ .‬لليقني الذي ُي ه‬
‫معرفة يشء آخر‪ ،‬وأ َّنه ى‬
‫سامها توما األكويني(‪ ))1‬يستجيب يقني الـ‬ ‫اإليامن يف ما خيص األُمور الغائبة (التي ّ‬
‫«‪ »intuitis mentis‬الذي سيحل َّ‬
‫حمل السلطة اإلِّل َّية‪.‬‬
‫أن تأويل احلقيقة كيقني يتأت ىّى من وجود الذات املُف هكرة التي متتحن نفسها‪.‬‬
‫ُيؤ هكد ديكارت َّ‬
‫إن طرح وجود الذات كحقيقة ُأو ىل أكيدة يقود ى‬
‫إل‬ ‫لكن هايدغر ُي هبني يف الواقع عكس ذلك‪َّ :‬‬
‫َف ْهم ه‬
‫كل حقيقة كيقني‪.‬‬
‫سميه هايدغر «ميتافيزيقا‬ ‫ألول َّية القيمة هي انبجاس ما ُي ه‬
‫النتيجة الثانية للتأكيد احلديث َّ‬
‫إل «ذات» ‪ -‬أو لِنقل ذلك بلغة هايدغر‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫تتحول مع ديكارت ى‬ ‫َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫الذات»‪ .‬فـ «األنا»‬
‫اإلنسان «بوصفه موضوعا(‪ )3‬يتن َّظم و ُيو هفر األمان لنفسه ُمراعيا استقراره يف مجلة الكائن(‪.)5()4‬‬
‫مع ديكارت الذات هي التي يصبح علمها التفكري‪ ،‬أي العلم بذاهتا‪ ،‬معيار احلقيقة‪ .‬هذا‬
‫يعني بتعبري هايدغر َّ‬
‫أن‪:‬‬
‫أن‬
‫ألي عمل َّية استحضار للكائن وحقيقته [‪ ]...‬م َّا يعني َّ‬ ‫اإلنسان هو الع َّلة َ ِ‬
‫اخلف َّية ِّ‬
‫َّ‬
‫كل كائن غري إنساين يصبح موضوع ًا هلذه الذات(‪.)6‬‬
‫أن َث َّمة دورا‬
‫باجتاه تصور ذات حمض للحقيقة يعني َّ‬ ‫لكن هذا االنزياح الذي نراه يتس َّلل ه‬
‫أساس ًّيا يعود إ ىل القرار‪ ،‬وبالتال إ ىل اإلرادة‪ .‬و ُيفيد الكوجيتو الديكارت «أنا ُأف هكر إذا أنا‬
‫وأن كينونتي ُيع هينها هذا التمثيل الذي ُأ ه‬
‫كونه لذات‪ ،‬لكنَّه‬ ‫موجود» أ َّنني ُأو َجد ما ُد ْم ُت ُأف هكر‪َّ ،‬‬
‫أن طريقتي يف متثيل األشياء تبت أيضا يف حضورها أو حضور ما َحتويه يف ذاهتا‪.‬‬
‫ُيفيد أيضا َّ‬

‫‪(1) Absentibus‬‬
‫‪(2) le moi‬‬
‫‪(3) subjectum‬‬
‫‪(4) Ibid،.p. 23.‬‬
‫‪(5) Etant‬‬
‫‪(6) Ibid،.p. 136.‬‬
‫‪ ❖ 316‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫قرر طرحه‬ ‫رب يف بادئ األمر أكيدا ما تعتربه الذات بطريقة ُم ِ‬


‫دركة كام هو‪َّ ،‬‬
‫فإن الذات ُت ه‬ ‫إذا اع ُت ِ َ‬
‫درك أو ُتراد‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫من حيث هو والذي س ُين َظر إليه ى‬
‫عل أ َّنه أكيد‪ُ .‬مذ ذاك لن تعود احلقيقة ُت َ‬
‫ؤول ضمن ُأفق اإلرادة‬ ‫اليقني الديكارت هو إذن قبل ه‬
‫كل يشء مسألة إرادة‪َّ ،‬‬
‫إن احلكم نفسه ُي َّ‬
‫َب جان بوفريه َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫وكتصديق لإلرادة‪َ .‬كت َ‬
‫املعرفة نفسها للحقيقة كام يتط َّلبها التثمني الصحيح ِ‬
‫للق َيم تُصبِح بدورها موضوع‬
‫تقويم يعتمد من ناحيته‪ ،‬بشكل أسايس عىل قابل َّية اإلرادة ملواجهة املواقف التي‬
‫تتورط فيها(‪.)1‬‬
‫َّ‬
‫القوة‪ ،‬والعودة‬ ‫عل املُ َّ‬
‫كونني األساس َّيني لفلسفة نيتشه‪ :‬إرادة َّ‬ ‫بعد ذلك ُيلقي هايدغر نظرة ى‬
‫األبد َّية‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر وهو ُيواجه التأويل الذي اقرتحه ألفريد بوملري(‪ )2‬سنة ‪ ،1931‬والذي‬
‫القوة‪ ،‬يف حني ُتصبِح عقيدة العودة‬
‫تبعا له يبلغ الفكر النيتشوي أوجه يف موضوع إرادة َّ‬
‫كربى»‪ ،‬جيتهد يف إظهار َّ‬
‫أن هاتني املضمون َّيتني(‪ )3‬ها يف احلقيقة غري‬ ‫ى‬ ‫األبد َّية عنده «بدون نتائج‬
‫قابلتني لالنفصال‪.‬‬
‫فعل سبيل املثال عندما يكتب‬ ‫ثم َّ‬
‫إن كوّنام غري قابلتني لالنفصال َيظهر َجل ًّيا عند نيتشه‪ .‬ى‬ ‫ّ‬
‫القوة العليا»‪ .‬أو‬
‫رسخ يف الصريورة طابع الكينونة‪ ،‬هذه هي إرادة َّ‬ ‫هذه اجلملة املُوحية‪ْ :‬‬
‫«أن ُي َّ‬
‫أن يكون ال‬ ‫قوة حمدودة ليس بوسع تطورها َّإال ْ‬‫القوة هي َّ‬
‫أن إرادة َّ‬‫كذلك عندما ُيعلِن َّ‬
‫عل نحو دوري»(‪ .)4‬يف كتاب هكذا تك َّلم‬
‫أن ُيف هك َر فيه َّإال ى‬
‫ُمتناهيا‪ ،‬لكن هذا التطور «ال يمكن ْ‬
‫األعل»(‪َّ .)5‬‬
‫إن اإلنسان‬ ‫ى‬ ‫القوة بالطبع عن صورة «اإلنسان‬
‫عرب موضوع إرادة َّ‬ ‫زرادشت ُي ه‬
‫أن هاتني العقيدتني ال‬ ‫األعل والعودة األبد َّية ها ُأ ّسا تعليم زرادشت‪ُ .‬يشده د هايدغر ى‬
‫عل َّ‬ ‫ى‬
‫كال منهام «يدعو اآلخر كي يستجيب له»(‪َّ .)6‬‬
‫إن العودة األبد َّية تعني‬ ‫ألن ّ‬
‫أن تنفصال‪َّ ،‬‬
‫يمكن ْ‬

‫‪(1) Op. cit،.p. 189.‬‬


‫‪(2) Alfred Bäumler،Nietzsche Der Philosoph und Politiker،Reclam،Leipzig 1931.‬‬
‫‪(3) thematiques‬‬
‫‪(4) Friedrich Nietzsche, Le crépuscule des idoles، XII2،e partie.77.‬‬
‫‪(5) surhomme‬‬
‫‪(6) Martin Heidegger،Essais et conférences،op. cit،.p. 137.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ ‪317‬‬

‫يتضمن عقيدة العودة‪:‬‬


‫َّ‬ ‫األعل‬
‫ى‬ ‫األعل‪ ،‬كام َّ‬
‫أن اإلنسان‬ ‫ى‬ ‫اإلنسان‬
‫حيدث التعليامن و ُيش ِّكالن دائرة‪ .‬يستجيب التعليم من خالل حركته الدائر َّية ملِا‬
‫للمتطابق ‪ -‬تُش ِّكل كينونة الكائن‪،‬‬
‫وجد يف الدائرة التي ‪ -‬من حيث هي عودة أبد َّية ُ‬
‫ي َ‬
‫أي ما هو يف الصريورة دائم(‪.)1‬‬
‫القوة»‪.‬‬
‫وجدت إرادة َّ‬
‫ُ‬ ‫وجدت احلياة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قوة؟ ُيعلِن نيتشه‪« :‬حيث‬
‫لكن ما هي إرادة ال َّ‬
‫وأيضا‪:‬‬
‫احلي‪ ،‬إ َّنام هو مزيد من‬
‫إن ما ُيريده اإلنسان‪ ،‬ما ُيريده أي جزء صغري من اجلسم ِّ‬
‫َّ‬
‫قوة(‪.)2‬‬
‫َّ‬
‫إن ِميزهتا أمر بالغ اخلطورة‪ .‬لكن هايدغر‬
‫خاص َّية للحياة‪ ،‬بل َّ‬
‫ّ‬ ‫القوة‬
‫بالتال تبدو إرادة َّ‬
‫عل «احلياة»‬ ‫بقوة َّ‬
‫كل تأويل «بيولوجاين» لوجهات نظر نيتشه‪ .‬بالتأكيد ُيشده د نيتشه ى‬
‫(‪)3‬‬
‫ُيقاوم َّ‬
‫لكن ال يف منظور «بيولوجي»‪ ،‬إذ يكتب هايدغر‪:‬‬
‫عندما يفهم نيتشه الكائن يف مجلته وقبل ِّ‬
‫كل يشء الكينونة من حيث هي «حياة»‪،‬‬
‫[‪ ]...‬فهو ال ُيف ِّكر بيولوجي ًا الب َّتة‪ ،‬وإ َّنام ُي ِّ‬
‫ؤسس ميتافيزيقيا هذه الصورة البيولوج َّية يف‬
‫الظاهر للعامل(‪.)4‬‬
‫القوة ُتش هكل املِيزة األساس‬
‫القوة كامه َّية احلياة‪ ،‬يريد نيتشه القول‪ :‬إ َّن إرادة َّ‬
‫طارحا إرادة َّ‬
‫القوة هي «املاه َّية األكثر محيم َّية‬ ‫كل كائن‪ .‬و ُيضيف نيتشه َّ‬
‫أن إرادة َّ‬ ‫لكل كائن‪ ،‬وإ َّّنا ماه َّية ه‬
‫ه‬
‫القوة‪.‬‬ ‫للكينونة»(‪ .)5‬يف ّناية املطاف الكينونة عينها ُت ِ‬
‫صبح إرادة َّ‬
‫تتعني به»(‪ .)6‬لذلك من‬
‫أن َّ‬‫الحظ أ َّنه «مل يعد هناك من يشء يمكن لإلرادة ْ‬
‫لكن هايدغر ُي َ‬
‫املرشوع تأويل اإلرادة كإرادة ُتؤ هكد نفسها‪ ،‬أي إرادة اإلرادة‪َ .‬أال يقول نيتشه ُ‬
‫نفسه عن‬

‫‪(1) Ibid،. p. 139.‬‬


‫‪(2) Friedrich Nietzsche،La Volontéde puissance .702.‬‬
‫‪(3) biologisante‬‬
‫‪(4) Martin Heidegger، Nietzsche، op. cit،. vol. 1،p. 409.‬‬
‫‪(5) Friedrich Nietzsche،La volontéde puissance.693§،‬‬
‫‪(6) Nietzsche،op. cit،.vol. 1،p. 42.‬‬
‫‪ ❖ 318‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫باألحرى ُمت هلك العدم بدال من ال يشء» ؟ ومن ناحية ُأ ى‬


‫خرى تتقابل‬ ‫ى‬ ‫اإلرادة إ َّّنا « ُتريد‬
‫(‪)1‬‬

‫القوة) إ ىل حده تطابق مدلوليهام‪ ،‬فبالنسبة‬


‫و«قوة» ‪ -‬يف عبارة (إرادة َّ‬
‫َّ‬ ‫الكلمتان ‪« -‬إرادة»‬
‫القوة َّإال ماه َّية اإلرادة‪ ،‬بينام تَؤول كل إرادة ى‬
‫إل إرادة ‪ -‬كينونة ‪ -‬أكثر‪ .‬يقول‬ ‫لنيتشه ليست َّ‬
‫هايدغر‪:‬‬
‫القوة ‪-‬‬
‫كم من َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫جمرد ٍّ‬
‫القوة ‪ -‬وال الب َّتة َّ‬
‫إن ماه َّية َّ‬
‫القوة‪َّ ،‬‬
‫القوة هي ماه َّية َّ‬
‫إن إرادة َّ‬
‫َّ‬
‫اخلاص ليس بمقدور اإلرادة أن‬
‫ِّ‬ ‫هي بالطبع التي تظل هدف اإلرادة‪ ،‬يف هذا املعنى‬
‫تكون إرادة َّإال يف ماه َّية َّ‬
‫القوة نفسها(‪.)3‬‬
‫القوة ليست يف األخري َّإال هذه اإلرادة التي تريد ْ‬
‫أن ُتؤ هكد ذاهتا يف رغبة الغزو‪،‬‬ ‫َّ‬
‫إن إرادة َّ‬
‫األعل‬
‫ى‬ ‫عل جممل الكائن‪ ،‬و ُيم هثل اإلنسان‬‫أي توطيد هيمنة اإلنسان بشكل أكرب ودائم ى‬
‫للقوة بوسائل الق َّوة املُتاحة‬
‫صبح فيها اإلنسان «س هيد املامرسة غري املرشوطة َّ‬ ‫اللحظة التي ُي ِ‬

‫ك هلها له ى‬
‫عل هذه األرض»(‪.)4‬‬
‫لكن عقيدة العودة األبدية‪ ،‬أي الصيغة النيتشو َّية لألبد َّية ‪ -‬التي تتجاوز التصور‬
‫املسيحي لألبدية كثبات لـ «اآلن»(‪ )5‬احلارضة لتجعل من األبد َّية العودة الدائمة للمتطابق ‪-‬‬
‫إن الكائن يف جممله هو ‪ -‬يف آن‬ ‫ُتش هكل هي أيضا «إعالنا حول الكائن يف جممله» (هايدغر)‪َّ .‬‬
‫إن ما ُت ُفك َهر فيه انطالقا من (ويف منظور) العودة‬
‫القوة والعودة األبد َّية‪َّ ،...‬‬
‫واحد ‪ -‬إرادة َّ‬
‫وجهة دائام وفقط نحو ما هو‬
‫القوة إرادة بال موضوع‪ ،‬إرادة ُم َّ‬
‫األبد َّية هو ما جيعل من إرادة َّ‬
‫أكثر منها‪.‬‬
‫القوة يف النسيان اجلذري للكينونة لصالح‬ ‫إن إرادة اإلرادة ترتكز عىل حقيقة إرادة َّ‬ ‫َّ‬
‫الفعل‪ ،‬وهذا بدوره ليس له معنى آخر سوى إعادة الفعل أيض ًا‪ ،‬ودائ ًام يف االنشغال‬
‫فضاء جديد ًا(‪.)6‬‬
‫ً‬ ‫كل مكان عامل ًا فاحت ًا فيه‬ ‫اخلاص ل ُ‬
‫ألفق الذي ُيع ِّبئ يف ِّ‬ ‫ِّ‬

‫‪(1) Friedrich Nietzsche،La généalogie de la morale،3،1.‬‬


‫‪(2) Quantum‬‬
‫‪(3) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 215.‬‬
‫‪(4) Ibid،.p. 102.‬‬
‫‪(5) maintenant‬‬
‫‪(6) Jean Beaufret،op. cit،.p. 214.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ ‪319‬‬

‫لذلك يقول هايدغر عن العودة األبد َّية إ َّّنا «أعظم انتصار مليتافيزيقا اإلرادة من حيث َّ‬
‫إن‬
‫اخلاصة»‪ .‬و ُيضيف هايدغر‪:‬‬
‫َّ‬ ‫اإلرادة تريد إرادهتا‬
‫القوة ‪-‬‬
‫إن الكائن ‪ -‬من حيث هو كائن ولديه امليزة األساس إلرادة َّ‬
‫إليكم ما هيم‪َّ :‬‬
‫ليس بمقدوره أن يكون يف جممله غري عودة أبد َّية لـ «لذات النفس»(‪.)1‬‬
‫وبالعكس‪:‬‬
‫جيب عىل الكائن ‪ -‬الذي هو يف جممله عودة أبد َّية لـ «ذات النفس» ‪ -‬أن يتو َّفر من‬
‫القوة(‪.)2‬‬ ‫ِ‬
‫حيث هو كائن عىل امليزة األساس َّية إلرادة َّ‬
‫القوة والعودة األبد َّية‬
‫إن هايدغر وهو يذهب بعيدا بتفكريه حول العالقة بني إرادة َّ‬ ‫َّ‬
‫أن هذه العالقة ُتقده م من النظرة األُو ىل متييزا ميتافيزيق ًّيا‪ ،‬أي التمييز بني املاه َّية‬
‫الحظ َّ‬‫ُي َ‬
‫القوة هي عند نيتشه ماه َّية جممل الكائن‪ ،‬كينونة الكائن يف جممله‪ ،‬بينام‬ ‫والوجود‪َّ .‬‬
‫إن إرادة َّ‬
‫املظهر «احليات» له طابع العودة‪ ،‬فالعودة األبد َّية ُتش ِبه تغيري وجه [أو هيأة] الوجود‪ .‬كتب‬
‫هايدغر‪:‬‬
‫إن‬
‫القوة إىل كينونة الكائن من حيث هو كائن‪ ،‬ماه َّية(‪ )3‬الكائن [‪َّ ]...‬‬
‫تُشري إرادة َّ‬
‫ُعرب عن الطريقة التي يكون هبا الكائن يف جممله‬‫«العودة األبد َّية لذات النفس» ت ِّ‬
‫وجود(‪ )4‬الكائن»(‪َّ .)5‬أما بالنسبة لـ «اإلنسان األعىل» فهو «االسم ا ُملعطى لكينونة‬
‫اإلنسان التي تُطابق كينونة الكائن(‪.)6‬‬
‫عني الكائن يف جممله من خالل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن نيتشه ُيربهن بالرضورة بلغة الق َيم‪ ،‬أل َّنه ُي ه‬ ‫ى‬
‫القوة»(‪.)7‬‬
‫كمل رضوري من ميتافيزيقا إرادة َّ‬ ‫إن مفهوم القيمة هو «جزء ُم ه‬ ‫القوة‪َّ .‬‬
‫إرادة َّ‬

‫‪(1) Même‬‬
‫‪(2) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 228.‬‬
‫‪(3) essentia‬‬
‫‪(4) existential‬‬
‫‪(5) Ibid.،p. 209.‬‬
‫‪(6) Martin Heidegger،Essais et conférences،op. cit،.p. 144.‬‬
‫‪(7) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 80.‬‬
‫‪ ❖ 320‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫القوة تفحص‬ ‫إرادة القوة وتأسيس ِ‬


‫الق َيم ها اليشء نفسه خصوص ًا َّ‬
‫وأن إرادة َّ‬ ‫َّ‬
‫والنمو(‪.)1‬‬
‫ِّ‬ ‫بتدقيق ونظام وجهات النظر املُتع ِّلقة باحلفظ‬
‫معنى «املنظور»(‪ ،)2‬أي وجهة نظر‪:‬‬
‫ى‬ ‫معنى للقيمة عند نيتشه؟ إ َّنه بشكل أسايس‬
‫ى‬ ‫لكن أي‬
‫ُحتدِّ د القيمة وت ِّ‬
‫ُعني «بشكل منظوري» [‪ ]...‬املاه َّية األساس َّية املنظور َّية للحياة(‪.)3‬‬
‫أن تكون احلياة‬ ‫وجب ْ‬ ‫إن تأسيس ِق َيم جديدة يعني إذن تعيني املنظور ورشوطه «التي ُت ِ‬ ‫َّ‬
‫القوة‪ ،‬فاملسألة ُمرتبطة‬
‫حياة‪ ،‬أي تضمن تقوية ماه َّيتها» ‪ .‬لـ َّام كانت ماه َّية احلياة هي إرادة َّ‬
‫(‪)4‬‬

‫عل ُجم َمل الكائن‪ .‬بالتال كام الحظ هايدغر‪:‬‬ ‫جي َع َل من هذه اإلرادة املنظور املفتوح قطعا ى‬ ‫ْ‬
‫بأن ُ ْ‬
‫تنكشف إرادة القوة من حيث هي الذاتية القصوى التي تُف ِّكر من منظور ِ‬
‫الق َيم(‪.)5‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫َيؤول تعيني ماه َّية احلقيقة عند نيتشه إذن إ ىل تثمني الق َيم (‪ .)...‬لكن ‪ -‬وبشكل بالغ‬
‫خرى‪ ،‬كتلك‬ ‫إن استبدال قيمة ب ُأ ى‬
‫الد َّقة ‪ -‬نجد إخضاع احلقيقة بواسطة القيمة عند أفالطون‪َّ .‬‬
‫بالقوة أو بالـ «حياة»‪ ،‬بالقيمة املُم َّثلة بـ «أغاثون»‪َّ ،‬‬
‫إن هذا االستبدال ال يعني القطيعة‬ ‫املُم َّثلة َّ‬
‫عل إخضاع‬ ‫عل العكس إ َّنه يعني البقاء بداخل األفالطون َّية التي تقوم ى‬
‫مع األفالطون َّية‪ .‬ى‬
‫احلقيقة لتعيني ما بواسطة القيمة‪ُ ،‬مكتفية بإحالل قيمة ُأ ى‬
‫خرى ُتع َترب أعظم حمل قيمة ُتع َترب‬
‫يبقى هو نفسه‪.‬‬
‫تتغري القيمة‪ ،‬لكن تصور احلقيقة ى‬
‫ضارة‪َّ .‬‬
‫أدنى أو َّ‬
‫ى‬
‫اكتفى األخري بوضع احلقيقة يف وضع َّية‬
‫ى‬ ‫لكن نيتشه يذهب أبعد من أفالطون‪ ،‬ففي حني‬
‫خضوع للقيمة‪ ،‬قام نيتشه بإحالل القيمة َّ‬
‫حمل احلقيقة‪َّ .‬‬
‫إن احلقيقة عند أفالطون خاضعة فقط‬
‫القوة‪ ،‬وإ َّنام‬
‫والقوة وإرادة َّ‬
‫َّ‬ ‫للخري (أغاثون)‪ .‬أ َّما عند نيتشه فهي ليست فقط خاضعة للحياة‬
‫ُّتتَزل يف ذاهتا وتتطابق معها‪ .‬ليست احلقيقة هي ما له قيمة َّ‬
‫ألّنا «صاحلة»‪ ،‬بل َّ‬
‫إن ما له قيمة‬
‫أو نعتربه ذا قيمة فوق ه‬
‫كل يشء هو احلقيقة‪َّ .‬‬
‫إن مفهوم القيمة يتم َّكن أخريا من اخرتاق‬

‫‪(1) Ibid،.p. 89.‬‬


‫‪(2) perspective‬‬
‫‪(3) Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit،.vol. 1،p. 381.‬‬
‫‪(4) Ibid،.p. 381.‬‬
‫‪(5) Ibid،.vol. 2،p. 219.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ ‪321‬‬

‫مفهوم احلقيقة‪ .‬فالقيمة ُتف هتش احلقيقة‪ ،‬بحيث جتنح احلقيقة نفسها ل ُتصبِح قيمة‪ .‬هذه هي‬
‫اخلاصة بانقالب احلقيقة إ ىل قيمة‪ ،‬والتي ‪ -‬بحسب هايدغر ‪ -‬قد أنجزها نيتشه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫العمل َّية‬
‫ِ‬
‫إن نيتشه وهو يقرتح تأسيس ق َيم جديدة يظل يف الظاهر ضمن املنظور الديكارت حيث‬ ‫َّ‬
‫أن تكون لديه حقيقة اليشء املعروف‪ .‬بعد ْ‬
‫أن‬ ‫ُحت هتم الذات العارفة بواسطة اإلدراك نفسه ْ‬
‫عرب عن عامل قيد التحول‪ ،‬ال يستطيع َّإال االعتامد ى‬
‫عل‬ ‫يرفع نيتشه األقنعة عن الفكرة التي ُت ه‬
‫وباألحرى كيقني ذات َّ‬
‫ألن «ماه َّية الذات َّية جتنح بالرضورة إ ىل الذات َّية‬ ‫ى‬ ‫تأويل احلقيقة كيقني ‪-‬‬
‫غري املرشوطة»(‪ .)1‬و ُيعلِن هايدغر قائال‪« :‬ينبغي علينا َف ْهم فلسفة نيتشه من حيث هي‬
‫ميتافيزيقا الذات َّية»(‪ .)2‬وإذا كانت القيمة وجهة نظر وِّلا امل ُ‬
‫دلول نفسه الذي لـ «احلقيقة ‪ -‬التي‬
‫سوى مسألة وجهة نظر‪ .‬لكن يف الوقت عينه َّ‬
‫إن‬ ‫ى‬ ‫‪ -‬صارت ‪ -‬قيمة»‪َّ ،‬‬
‫فإن احلقيقة مل ُت َعدّ‬
‫القيمة من حيث هي وجهة نظر‪:‬‬
‫ِ‬
‫مرة ُحمدَّ دة من خالل طريقة النظر [‪ ]...‬بالتايل‪ ،‬ليست الق َيم شيئ ًا ما‬ ‫هي يف ِّ‬
‫كل َّ‬
‫موجود ًا بذاته بادئ ذي َبدء‪ ،‬بحيث ُيمكنها عند احلاجة أن تُصبِح وجهات نظر(‪.)3‬‬
‫عرب عن‬ ‫إلحدى وجهات النظر ‪ُ -‬ت ه‬
‫ى‬ ‫القوة ‪ -‬من حيث هي َع ْرض غري مرشوط‬ ‫َّ‬
‫إن إرادة َّ‬
‫عل تعطيلها‪« :‬الكائن ُمبت َلع كهدف يف ُمثول َّية‬
‫املاه َّية نفسها للذات َّية التي ال يشء قادر ى‬
‫الذات َّية»(‪.)4‬‬
‫ويكتب هايدغر‪:‬‬
‫فإن َقلب ِ‬
‫الق َيم(‪ )5‬الذي أنجزه نيتشه ال يقوم عىل إحالل‬ ‫أن َّ‬
‫كل خري قد ُت ُف ِّحص َّ‬ ‫بام َّ‬
‫حمل قِيم متفوقة إىل اآلن‪ ،‬بل تقوم عىل ما يفهمه منذ اآلن ِ‬ ‫ِ‬
‫كق َيم «الكينونة»‬ ‫ق َيم جديدة َّ َ ُ ِّ‬
‫«النهاية» «احلقيقة»‪ ،‬وال يشء َّإال من حيث هو قِيم‪ .‬يعود قلب ِ‬
‫الق َيم النيتشوي يف‬ ‫َ‬
‫ِ (‪)6‬‬
‫كل رضوب تعيني الكائن إىل ق َيم ‪.‬‬ ‫العمق إىل حتويل ِّ‬

‫‪(1) Ibid،.p. 239.‬‬


‫‪(2) Ibid،.p. 160.‬‬
‫‪(3) Ibid،.p. 84.‬‬
‫‪(4) Martin Heidegger،Chemins qui ne mènent nulle part،op. cit،.pp. 214.‬‬
‫‪(5) tranvaluation‬‬
‫‪(6) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 91.‬‬
‫‪ ❖ 322‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬
‫أن تظهر َّإال من خالل ِ‬
‫الق َيم‬ ‫جيعل نيتشه الكينونة ُمتالزمة مع الذات‪ .‬وال يمكن للكينونة ْ‬
‫التي هي رشوط اإلرادة التي تطرحها اإلرادة‪ .‬ويقول هايدغر‪:‬‬
‫الق َيم يمنع يف احلال الكينونة من احلدوث يف احلقيقة(‪.)1‬‬ ‫إن الفكر الذي يف ِّكر بلغة ِ‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫يف ما يتع َّلق بالعدم َّية‪ ،‬يظهر فكر هايدغر وفكر نيتشه متناقضني‪ .‬طبعا ينسب هايدغر ى‬
‫إل‬
‫إحدى السامت املُم هيزة‬
‫ى‬ ‫تعرف يف العدم َّية‪ ،‬ال فقط إ ىل َّأّنا‬
‫نيتشه الفضل يف كونه َّأول من َّ‬
‫كمل‬ ‫لألزمان احلديثة‪ ،‬بل أيضا إّنا «الواقعة األصلية األساسية ملغامرة التاريخ الغرب»‪ .‬وي ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وأّنا « ُتش هكل ماه َّية‬
‫أن «العدم َّية هي تاريخ»‪َّ ،‬‬ ‫نفسه يف الطريق ذاهتا عندما يكتب َّ‬ ‫هايدغر ُ‬
‫كل موقف‬ ‫ألّنا ُتساعد يف تعيني قانون املواقف امليتافيزيق َّية األساس َّية وعالقة ه‬
‫التاريخ الغرب َّ‬
‫أي يشء ‪ُ -‬حماولة معرفة العدم َّية من حيث هي‬
‫باآلخر»‪ُ ،‬مضيفا أ َّنه جيب بالتال ‪ -‬وقبل ه‬
‫«قانون التاريخ»(‪ .)2‬لكن بنظر هايدغر‪ ،‬ليست القض َّية األساس َّية للعدم َّية هي ّتفيض بعض‬
‫القيم لصالح ِقيم ُأخرى‪ ،‬وإ َّنام نسيان الكينونة التي يم هثل التفكري هبا بلغة ِ‬
‫الق َيم طريقة بمقدار‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ُتساوي الكينونة بذاهتا خلف ه‬
‫كل قيمة‪ .‬كتب هايدغر‪:‬‬
‫إن ميتافيزيقا نيتشه ومن الوهلة نفسها أساس ماه َّية «العدم َّية الكالسيك َّية» ال‬ ‫َّ‬
‫يستطيعان تعيني حدودها من حيث ميتافيزيقا الذات َّية املُطلقة إلرادة َّ‬
‫القوة(‪.)3‬‬
‫أن يتعارض مع العدم َّية‪ ،‬أل َّنه تعبري عنها وينبثق‬ ‫إذن‪ ،‬ليس بمقدور التفكري بلغة ِ‬
‫الق َيم ْ‬
‫عنها‪.‬‬
‫إن نيتشه ال يعود إ ىل «البدء األسايس» الذي يتمنّاه‪ ،‬فهو ‪ -‬برأي هايدغر ‪ -‬مل « ُينْ ِه» إذن‬ ‫َّ‬
‫بمعنى اكتامِّلا(‪ .)4‬إذ يكتب هايدغر‪:‬‬
‫ى‬ ‫امليتافيزيقا َّإال‬
‫وألول وهلة ‪ -‬مل يروا‬ ‫أي ُمف ِّكر آخر قبله َّ‬
‫توصل إىل البدء‪ ،‬كلهم ‪َّ -‬‬ ‫ال نيتشه وال ي‬
‫البدء َّإال من وجهة نظر ما مل يكن سوى هروب من البدء‪ ،‬طريقة ملقاطعة البدء‪ :‬من‬
‫وجهة نظر الفلسفة األفالطون َّية(‪.)5‬‬

‫‪(1) Chemins qui ne mènent nulle part،op. cit،.p. 317،trad. modifiée.‬‬


‫‪(2) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 76.‬‬
‫‪(3) Ibid،.p. 160.‬‬
‫‪(4) vollendung‬‬
‫‪(5) Ibid،.vol. 1,p. 363.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ ‪323‬‬

‫عى نيتشه بحق َق ْلب األفالطون َّية‪« ،‬لكن عمل َّية ال َق ْلب هذه ال ُتلغي املوقف‬
‫لقد ا َّد ى‬
‫عل العكس َّإّنا تدعمه من خالل املظهر الذي ُتو هلده إللغائه»(‪.)1‬‬‫األفالطوين األسايس‪ ،‬بل ى‬
‫إن فكر نيتشه ينتمي إ ىل امليتافيزيقا التي ُيم هثل انتهاءها واكتامِّلا‪.‬‬
‫َّ‬
‫ويكتب جان بوفريه‪:‬‬
‫نيتشه أقرب ما يكون إىل ديكارت بمقدار ما تُفيض زعزعة احلقيقة لصالح اإلرادة‬
‫التي ُيش ِّغلها ديكـارت إىل تأويـل نيتيش للحقيقـة كــ (‪ )wertschätzung‬يف‬
‫القوة‪ .‬لكنَّه ‪ -‬رسا أيض ًا ‪ -‬أقرب إىل أفالطون‬ ‫منظور اإلرادة نفسها ا ُمل ِّ‬
‫جذرة يف إرادة َّ‬
‫مرة خاضعة ملا هو أعظم منها‪ ،‬حيث‬ ‫ألول َّ‬
‫بمقدار ما تظهر احلقيقة مع أفالطون َّ‬
‫ُيش ِّكل إخضاع احلقيقة حالة أفالطون َّية للميتافيزيقا الغرب َّية التي َيصدر نيتشه عنها‬
‫بقدر ما يزداد ُغ ُلوا يف تفحص األفالطون َّية من مجيع النواحي(‪.)2‬‬
‫للمعنى»‪ ،‬غياب يربطه‬‫ى‬ ‫ف هايدغر ِمرارا العامل احلديث بأ َّنه «زمن الغياب الكامل‬ ‫َو َص َ‬
‫هايدغر بـ «غياب احلقيقة» الناجم عن نسيان الكينونة وصعود ميتافيزيقا الذات َّية‪ .‬نفهم‬
‫«تتوصل عربه‬
‫َّ‬ ‫إل فكر نيتشه كفكر‬‫أن باستطاعة هايدغر النظر ى‬ ‫بشكل أفضل منذ ذلك الوقت َّ‬
‫ّ‬
‫التخيل‬ ‫اخلاصة»(‪ ،)3‬إكامل امليتافيزيقا التي ُتق هيم الكائن يف‬
‫َّ‬ ‫األزمنة احلديثة إ ىل هيأهتا‬
‫األنطولوجي الذي ينتج من النسيان وأيضا من ترك الكينونة‪.‬‬
‫صحة أو صواب َّية نقد هايدغر لفكر نيتشه‪ .‬وجيب باملقابل‬
‫لسنا هنا بوارد النقاش حول َّ‬
‫عل الطابع الفريد جدًّ ا لفكره‪ .‬لطاملا كان لـ نيتشه أعداء ُك ُثر سواء يف حياته أو بعد‬
‫التشديد ى‬
‫مماته‪ .‬وهؤالء أخذوا عليه عموما ال عقالن َّيته وعداوته للمسيح َّية و«نزعته البيولوج َّية»‬
‫(‪)4‬‬

‫املُ َ‬
‫فرتضة‪ ،‬أو انتاهبم القلق من النتائج التي قد تنجم عن «تطبيق» عقيدته‪ .‬وال نجد شيئا من‬
‫هذا القبيل عند هايدغر الذي ُيعارضه برباهني ُخمتلفة متاما‪ .‬يعرتف هايدغر بفضل نيتشه‬

‫‪(1) Ibid،.pp. 363. 364.‬‬


‫‪(2) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p.11.‬‬
‫‪(3) Silvio Vietta ،Heidegger ،critique du national .socialisme et de la technique ،Pardès‬‬
‫‪،Puiseaux 1993،p. 102.‬‬

‫‪(4) Biologisme‬‬
‫‪ ❖ 324‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ف أ َّنه من خالِّلا إنَّّّما‬


‫الكبري يف أنَّّّه كان َّأول من تناول وجها لوجه مسألة العدم َّية وع ََر َ‬
‫يرق إ ىل‬‫أن نيتشه مل َ‬‫عل نحو ما َّ‬ ‫طرح كل إشكال َّية التاريخ الغرب‪ .‬لكن هايدغر يعتقد ى‬
‫ُت َ‬
‫مستوى هذه اإلشكال َّية التي حدَّ دها هو نفسه‪ .‬ليس مرشوع نيتشه هو ما يطرحه هايدغر‬ ‫ى‬
‫عل نيتشه عدم ذهابه بعيدا يف تناول األُمور وأ َّنه‬
‫عل العكس يأخذ هايدغر ى‬ ‫للمناقشة‪ ،‬بل ى‬
‫لدى ميتافيزيقا اعتقد خطأ أ َّنه جتاوزها‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ظل أسريا ى‬
‫لكن هناك أيضا جانب ظريف ينبغي تقديمه‪ .‬طبعا ليس صدفة أ َّنه سنة ‪ 1939‬ويف عهد‬
‫يتضمن مواجهة قو َّية مع فكر نيتشه‪ .‬من خالل‬
‫َّ‬ ‫الرايخ الثالث قدَّ م هايدغر هذا العمل الذي‬
‫قراءة نيتشه اعرتف هايدغر بالعدم َّية معتربا َّأّنا ‪ -‬اليوم ‪ -‬هي الظاهرة األشدّ ضغطا يف‬
‫حتقق يف الوقت نفسه من كون االشرتاك َّية (القوم َّية)(‪ )1‬هي الشكل‬‫عرصنا الراهن‪ .‬لكنَّه َّ‬
‫عل إظهار‬
‫َف هايدغر فقط ى‬
‫احلديث للعدم َّية احلارض أمامه‪ .‬يف عرص (الكينونة والزمان)‪َ ،‬عك َ‬
‫الطابع الزمني والتارخيي بشكل أسايس لـ «الـ دازاين»(‪ )2‬اإلنساين يف منظور منهجي ال صلة‬
‫له بالتاريخ‪ .‬فمن خالل االشرتاك َّية (القوم َّية) فقط‪ ،‬وعرب قراءة نيتشه التي ُدفِ َع هايدغر إليها‪،‬‬
‫جلأ إ ىل التساؤل حول التاريخ احلقيقي‪ ،‬وليس فقط التاريخ بوصفه فئة ُجم َّردة‪ .‬كتب سيلفيو‬
‫فييتّا(‪:)3‬‬
‫أي درجة يف احلقيقة كانت االشرتاك َّية (القوم َّية) تعبري ًا عن العدم َّية‪ ،‬مل‬
‫إىل ِّ‬
‫يكتشف هايدغر ذلك َّإال يف ضوء التطور التارخيي احلقيقي وعرب دراسة هذا ا ُملف ِّكر‬
‫الذي هو َّأول َمن ح َّلل يف العمق املظاهر التارخي َّية للعدم َّية احلديثة‪ ،‬الذي هو نيتشه(‪.)4‬‬
‫إن هايدغر الذي أخذنا عليه ظلام «سكوته» يف ما خيص جتربة الرايخ‬ ‫لِنقل ذلك بوضوح‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫طور عن طريق نقده لنيتشه نقدا أساس ًّيا للناز َّية (م ْن املُ َّ‬
‫رجح جدًّ ا أ َّنه‬ ‫الثالث التي هي جتربته‪ُ ،‬ي ه‬
‫ويتضمن هذا النقد جانبني َيرجع كل واحد منهام إ ىل اآلخر كام‬
‫َّ‬ ‫عل اإلطالق)‪.‬‬
‫أهم نقد َصدَ َر ى‬
‫ّ‬
‫يف لعبة املرايا‪ .‬فمن ناحية يوجد نقد القراءة الناز َّية التعسف َّية لعمل نيتشه (خصوصا من‬

‫‪(1) National - socialism‬‬


‫‪(2) Dasein‬‬
‫‪(3) Silvio Vietta‬‬
‫‪(4) Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 102.‬‬
‫هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ ‪325‬‬

‫خرى هناك نقد األفكار التي‬ ‫األعل)‪ .‬ومن ناحية ُأ ى‬


‫ى‬ ‫خالل َم ْب َح َثي إرادة َّ‬
‫القوة واإلنسان‬
‫عرضه لالنحراف التعسفي الذي يشجبه نيتشه‪ .‬بعبارة‬ ‫وردت يف عمل نيتشه والتي قد ُت ه‬
‫أن يقوله‪ ،‬ومن َث َّم‬
‫أن نيتشه ال يقول ما أردنا ْ‬ ‫خرى يبذل هايدغر قصاراه كي ُي ِ‬
‫ظه َر َّأوال َّ‬ ‫ُأ ى‬
‫َن ‪ -‬انطالقا مم َّا قاله ‪ -‬جعله يقول شيئا آخر غري الذي قاله‪ .‬و ُي ِ‬
‫ظهر للوهلة نفسها‬ ‫كيف َأمك َ‬
‫العنرص التنبؤي يف رؤية نيتشه‪.‬‬
‫نص الدرس حول نيتشه نقرأ مثال اجلُ َمل التال َّية‪:‬‬
‫يف ه‬
‫للقوة هي القيمة الوحيدة األساس التي ُنقدِّ ر‬
‫القوة بوصفها املاه َّية نفسها َّ‬
‫إن إرادة َّ‬
‫َّ‬
‫عىل أساسها َّ‬
‫كل ما جيب أن تكون له قيمة أو ما ليس باإلمكان املطالبة بغريها [‪،]...‬‬
‫تصور ًا أو مرغوب ًا به بوصفه هدف ًا جوهريا‪،‬‬
‫َّأما بالنسبة لألمر الذي نُكافح من أجله‪ُ ،‬م َّ‬
‫إن األهداف والشعارات مهام تكن ليست شيئ ًا آخر‬
‫إليكم ما هو ذو فائدة ثانو َّية‪َّ .‬‬
‫قرر قبل األوان‪ ،‬إ َّنه َّ‬
‫القوة نفسها التي‬ ‫إن ما نكافح من أجله ُم َّ‬ ‫سوى وسائل للكفاح‪َّ .‬‬
‫هدف‪ .‬وهي بال هدف بمقدار ما تكون ك يل َّية الكائن بال قيمة‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ال حتتاج إىل ِّ‬
‫للقوة‪.‬‬
‫غياب اهلدف ُمرتبط باملاه َّية امليتافيزيق َّية َّ‬
‫ؤولة هنا بوضوح‪ ،‬ال‬ ‫عل االشرتاك َّية (القوم َّية) املُ َّ‬
‫تنطبق هذه الكلامت بشكل خاص ى‬
‫القوة واِّليمنة‬
‫ستمرة تبتغي دائام املزيد من َّ‬ ‫كن ََسق ُجم َّهز بأيديولوجيا حقيق َّية‪ ،‬وإ َّنام كحركة ُم َّ‬
‫و ُيش هكل النجاح والنرص بالنسبة ِّلا ‪ -‬كام يف الليربال َّية ذات اإلِّلام «الدارويني» ‪ِ -‬معيارا‬
‫للحقيقة‪.‬‬
‫لقد َكت َ‬
‫َب سيلفيو فييتّا بحق‪:‬‬
‫القوة الذي قام به هايدغر سنة ‪ُ 1940‬م َّيز خصوص ًا لناحية ما ُي ِ‬
‫ظهره من‬ ‫إن حتليل َّ‬
‫َّ‬
‫جرعة شجاعة شخص َّية بعيدة عن أن تكون أمر ًا ال ُيذكر‪ .‬ويرشح التحليل يف ٍّ‬
‫نص‬
‫أن َّ‬
‫كل الواجهة األيديولوج َّية لالشرتاك َّية (القوم َّية) ليست سوى‬ ‫واضحٍ سياسيا َّ‬
‫القوة املحض‪« ،‬بال هدف» يف ذاهتا‪ ،‬وال يشء غري ذلك [‪ ،]...‬يرى هايدغر‬
‫تعبري عن َّ‬
‫والقوة بوصفه «كفاح ًا»(‪- )1‬‬
‫َّ‬ ‫ويقول برصاحة ‪ -‬يف سنة ‪ :- 1940‬إ َّن فكر اهليمنة‬

‫‪(1) kampf‬‬
‫‪ ❖ 326‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ينسى املُستمع بصعوبة هنا ربط املسألة بكتاب كفاحي(‪ - )1‬ليس [‪ ]...‬يف حقيقته أي‬
‫يشء آخر سوى هذه العدم َّية التي ال يمكنها االستيالء عىل فئة احلقيقة َّإال بصفة أداة‬
‫القوة والكفاح(‪.)2‬‬
‫يف خدمة َّ‬
‫بفضل قراءة نيتشه إذن مت َّكن هايدغر من وضع ُأ ُسس نقد أسايس لفكر َّ‬
‫القوة املحض‪،‬‬
‫وكأّنا ُمم هثل‬
‫َّ‬ ‫فكر اِّليمنة والتفتيش ّ‬
‫الكيل الذي تبدو االشرتاك َّية (القوم َّية) ‪ -‬برأي هايدغر ‪-‬‬
‫أن ذلك الفكر ‪ -‬بعيدا عن الرايخ الثالث نفسه ‪ُ -‬يم هيز َّ‬
‫كل احلداثة‬ ‫يرى َّ‬
‫نموذجي له‪ ،‬لكنَّه ى‬
‫بوصفها سببا لقيام إنسان َّية ُمطابقة للامه َّية األساس َّية للتقن َّية احلديثة وحقيقتها امليتافيزيق َّية‪ ،‬أي‬
‫شك يف َّ‬
‫أن االندفاع‬ ‫أي جمال كان‪ .‬بنظر هايدغر ال َّ‬
‫قيام إنسان َّية ال يش َء كاف ًّيا بنظرها يف ه‬
‫القوة كام نجدها ُجم َّسدة يف االشرتاك َّية‬
‫عل هيجان إرادة َّ‬ ‫ؤسس ى‬ ‫الالإرادي الك ّلياين املُ َّ‬
‫َّ‬
‫(القوم َّية)‪ ،‬يرتبط بميتافيزيقا الذات َّية‪ ،‬م يتافيزيقا التفتيش البعيدة عن االختفاء مع الرايخ‬
‫كرسة لتدوم ما دامت العدم َّية الناجتة عن نسيان الكينونة‪ .‬يف‬
‫عل العكس ُم َّ‬
‫الثالث‪ ،‬لكنَّها ى‬
‫املعنى ُيم هثل درس نيتشه انتقاال بني نقد االشرتاك َّية (القوم َّية) ونقد التقن َّية الذي ليس‬
‫ى‬ ‫هذا‬
‫األول َّإال ْ‬
‫أن يكون مرحلة من مراحله‪.‬‬ ‫بمقدور َّ‬
‫* * *‬

‫‪(1) Mein kampf‬‬


‫‪(2) Op. cit،.pp. 115-116.‬‬
327 ❖ ‫هايدغر ناقد ًا نيتشه‬

:‫املصادر‬
Alfred Bäumler،Nietzsche Der Philosoph und Politiker ،Reclam ،Leipzig 1931.
Friedrich Nietzsche, Le crépuscule des idoles، XII2،e partie.
Friedrich Nietzsche،La généalogie de la morale،3.
Friedrich Nietzsche،La Volontéde puissance.
Jean Beaufret،Dialogue avec Heidegger،vol. 2،Philosophie moderne,
Minuit،1973.
Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit. vol. 1.
Martin Heidegger،Essais et conférences،op. Cit.
Martin Heidegger،Chemins qui ne mènent nulle part،op. cit،.
Silvio Vietta ،Heidegger ،critique du national .socialisme et de la technique
،Pardès ،Puiseaux 1993.

* * *
‫األصل يف التقنيَّة‬
‫(دراسة يف نقد أبعادها األنطولوجيَّة)‬
‫(‪)1‬‬
‫عل جعفر‬
‫صفاء عبد السالم ي‬

‫قدر‬
‫السؤال عن التقن َّية هو من أبرز حمارضات الفيلسوف األملاين مارتن هايدغر التي يكتنفها ٌ‬
‫أن املحارضة ‪ -‬موضوع هذا البحث ‪ -‬ليست‬ ‫إل َّ‬
‫غري ضئيل من الغموض‪ .‬ر َّبام يرجع ذلك ى‬
‫كام قرأها عد ٌد من املف هكرين الغرب هيني وصفا للتقن َّية يف عرصنا احلال‪ ،‬وكذلك ليست بحثا‬
‫عل إنسان هذا‬
‫تارخي ًّيا يف تطور التقن َّية احلديثة‪ ،‬كام َّأّنا ليست حماولة لتفادي ويالهتا املد همرة ى‬
‫العرص(‪.)2‬‬
‫إن حمارضة (السؤال عن التقن َّية) غامض ٌة‪َّ ،‬‬
‫ألن موضوعها ليس التقن َّية‪ ،‬وإ َّنام األصل يف‬ ‫َّ‬
‫أن السؤال عن التقن َّية عند هايدغر ليس‬ ‫ٌ‬
‫سؤال عن األصل أو املاه َّية‪ .‬ويبدو َّ‬ ‫التقن َّية‪ ،‬فهي‬
‫سوى السؤال عن الوجود(‪ ،)3‬والسؤال عن حركة التحول(‪ )4‬من نسيان الوجود إ ىل حضور‬
‫ى‬
‫سنرى يف سياق البحث‪.‬‬
‫ى‬ ‫الوجود كام‬
‫عل التقن َّية احلديثة‪ ،‬فهو عندما‬ ‫إن موقف هايدغر من التقن َّية أبعد من ْ‬
‫أن يكون هجوما ى‬ ‫َّ‬
‫يسعى إ ىل مواجهة التحدّ ي‬
‫ى‬ ‫يتناول مسألة التقن َّية بدءا من اليونان وح َّت ىى العرص احلديث‪ ،‬إ َّنام‬
‫عل إنسان اليوم‪ ،‬وهو ينشد يف سعيه هبذا التفكري التأميل احلقيقي يف الوجود ْ‬
‫أن‬ ‫الذي تفرضه ى‬
‫يتجاوز ميتافيزيقا الذات الكالسيك َّية(‪ ،)5‬بحيث يكون هذا التفكري هو االستجابة الوحيدة‬

‫(‪ُ )1‬أستاذة الفلسفة احلديثة‪ ،‬رئيس قسم الفلسفة ‪ -‬ك ّل َّية اآلداب جامعة اإلسكندر َّية ‪ -‬مجهور َّية مرصالعرب َّية‪.‬‬
‫‪(2) Sallis, J. Heidegger and the Path of Thinking Duquese, Uni. Press, U.S.A., 1970, P. 158.‬‬
‫‪(3) Ibid, p. 159.‬‬
‫‪(4) Kehre rcturning‬‬
‫‪(5) Langan, T .The Meaning of Heidegger; Aceitical Study of the Existentialist‬‬
‫‪Phenomenology, Routledge & Kegan Paul Ltd, London, Great Britain, 1959, p, 192 - 193.‬‬
‫‪ ❖ 330‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املم هكنة لنداء الوجود‪ ،‬علام َّ‬


‫بأن هذا التفكري عند هايدغر ليس مذهبا مغلقا جامدا‪ ،‬وإ َّنام هو‬
‫رحل ٌة متجده د ٌة عرب طريق الوجود‪.‬‬

‫ماهيَّة التقنيَّة ليست هي التقنيَّة‪:‬‬


‫بأن التقن َّية يف معناها الواسع‪ ،‬ويف ضوء تعدد ظواهرها‪ُ ،‬ت َعد ّتطيطا من صنع‬ ‫يمكن القول َّ‬
‫عل هاّتاذ القرار يف ْ‬
‫أن يصري تابعا ِّلا‪ ،‬أو ْ‬
‫أن ُيتفظ بسيادته عليها‪.‬‬ ‫اإلنسان‪َّ ،‬إال َّأّنا ُجتربه أحيانا ى‬
‫املعنى إ ىل َّ‬
‫أن اإلنسان هو مركز الوجود‪ ،‬ويرجع إليه كل ما يف الوجود(‪.)1‬‬ ‫ى‬ ‫يشري ذلك‬
‫عل عقب‪ ،‬فالتقن َّية مل ُت َعدّ شيئا من صنع‬ ‫املعنى الشائع للتقن َّية رأسا ى‬
‫ى‬ ‫ق َلب هايدغر هذا‬
‫اإلنسان‪ ،‬ولكنَّها جز ٌء من املصري(‪ُ ،)2‬تش هكل أهدافنا ُ‬
‫وحت هققها(‪.)3‬‬
‫يقول هايدغر‪:‬‬
‫تتساوى مع ماه َّية التقن َّية» ‪ ،‬فعندما نبحث عن ماه َّية الشجرة ُندرك َّ‬
‫أن ما‬ ‫(‪)4‬‬
‫ى‬ ‫«‪ ...‬التقن َّية ال‬
‫أن نجده يف سائر الشجر‪ ،‬باملثل َّ‬
‫فإن ماه َّية التقن َّية ال‬ ‫جعل الشجرة يابسة ليس هو ما يمكن ْ‬
‫عالقة ِّلا بام هو تقني‪ .‬ونحن لن نعرف عالقتنا بامه َّية التقن َّية ما دمنا ندور يف فلك التقن َّية‪..‬‬
‫فنحن دوما مق َّيدون بالتقن َّية سواء أتعاطفنا معها أم أنكرناها»(‪.)5‬‬
‫يشري النص السابق إ ىل َّ‬
‫أن هايدغر يف حمارضته عن التقن َّية قد انتهج طريق التفكري ليصل‬
‫حرة مع التقن َّية‪.‬‬
‫إ ىل ماه َّيتها من خالل اللغة‪ ،‬وهدفه هو إعدادنا لتجربة الدخول يف عالقة َّ‬
‫يرى بأ َّننا سنظل نعاين من هذه القيود‪،‬‬
‫وما دمنا نعجز عن معرفة عالقتنا احلقيق َّية بالتقن َّية فإ َّنه ى‬
‫ما دمنا مل نتع َّلم بعد التفكري يف ماه َّيتها التي ّتتلف عن التقن َّية وما هو تقني‪ ،‬كام ّتتلف َّ‬
‫عام‬ ‫(‪)6‬‬

‫هو صنع اإلنسان‪.‬‬

‫‪(1) Heidegger, M .Identity & Difference ,P.25.‬‬


‫‪(2) Geschick - destiny‬‬
‫‪(3) Inwood, M .A Heidegger Dictionary ,P. 214.‬‬
‫‪(4) Die Technik ist nicht das gleiche wie das Wsesn der Technik. (Technology is not‬‬
‫‪equivalent to the essence of technology).‬‬
‫‪(5) Heidegger, M Die Frage, ...p 13.‬‬
‫‪(6) Kockelmans, J,J .On the Truth, ..p.230.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪331‬‬

‫حرة فقط إذا ح َّققت لوجودنا اإلنساين‬ ‫فإن عالقتنا بالتقن َّية سوف تصبح عالقة َّ‬ ‫إذا َّ‬
‫عل ماه َّية التقن َّية(‪ .)1‬ويف ذلك أشار هايدغر إ ىل الوهم املض هلل َّ‬
‫بأن التقن َّية احلديثة هي‬ ‫االنفتاح ى‬
‫أن التقن َّية جيب َّأال ُيساء تفسريها بوصفها َّ‬
‫جمرد تطبيق للعلم‬ ‫ورأى َّ‬
‫ى‬ ‫تطبيق للعلم الفيزيائي(‪،)2‬‬
‫ٌ‬
‫عل ماه َّية التقن َّية‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن‬ ‫يتأسس ى‬ ‫الطبيعي الريايض‪ ،‬فضال عن رأيه ب َّ‬
‫أن العلم احلديث ذاته َّ‬
‫النظر َّية الفيزيائ َّية احلديثة عن الطبيعة ُمت ههد السبيل ال للتقن َّية وإ َّنام ملاه َّية التقن َّية احلديثة‪ ،‬كام َّ‬
‫أن‬
‫العلوم احلديثة تنتمي إ ىل تلك املاه َّية‪ ،‬وهذه املاه َّية ليست تعبريا عن العالقة املتبادلة بني‬
‫العلم والتقن َّية‪ ،‬وإ َّنام هي بمثابة الكشف عن املاه َّية املشرتكة الت يتسيطر عليهام(‪.)3‬‬
‫تطبيق لنتائج العلم احلديث ‪ -‬أ ًّيا كان‬
‫ٌ‬ ‫أن القول الشائع َّ‬
‫بأن التقن َّية هي‬ ‫نستخلص مم َّا سبق َّ‬
‫صحته ‪ -‬يبتعد متاما عن حمور اهتامم هايدغر الرئييس وهو السؤال عن ماه َّية التقن َّية‬
‫من أمر َّ‬
‫ٌ‬
‫سؤال عن ماه َّية الوجود‪.‬‬ ‫الذي هو بدوره‬
‫أمر حمايدٌ ‪ ،‬ويمكن استخدامها بصورة إجياب َّية أو سلب َّية‪ ،‬وع ىل‬ ‫َّ‬
‫إن التقن َّية ‪ -‬يف حده ذاهتا ‪ٌ -‬‬
‫عرفنا ماه َّية‬
‫أن هذا األمر احليادي ال ُي ه‬‫أن ي َّتخذ قراره بشأن هذا االستخدام‪َّ ،‬إال َّ‬‫اإلنسان ْ‬
‫يرى هايدغر‪.‬‬
‫التقن َّية كام ى‬
‫(‪)4‬‬

‫ماهيَّة التقنيَّة بوصفها ختنى(‪:)5‬‬


‫حاول هايدغر البحث يف ماه َّية التقن َّية يف هاجتاهني خمتلفني‪ ،‬ومع ذلك ارتبط كل منهام باآلخر‪،‬‬
‫األول فهو يدور حول ماه َّية التقن َّية والعالقة الع ّل َّية كام سبق ْ‬
‫أن أوضحنا‪ ،‬وأ َّما‬ ‫أ َّما عن ه‬
‫االجتاه َّ‬
‫ّتنى كام ييل(‪:)6‬‬ ‫ه‬
‫االجتاه الثاين فهو يتناول ماه َّية التقن َّية بوصفها ى‬
‫أن كلمة التقن َّية(‪ )7‬مشت َّق ٌة من الكلمة اليونان َّية ‪ ،Technikon‬وهي‬
‫إل َّ‬
‫ذهب هايدغر ى‬

‫‪(1) Ibid.‬‬
‫‪(2) Heidegger, M .Die Frage ,..p.13.‬‬
‫‪(3) Sallis J.Heidegger and the path of Thinking , P.161.‬‬
‫‪(4) Kockelmans, J,J .On the Truth of Being, P.230.‬‬
‫‪(5) Techné‬‬
‫‪(6) Ibid. P.231.‬‬
‫‪(7) technology, technicity, technique.‬‬
‫‪ ❖ 332‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل العامل اليدوي والفنّان‬ ‫بتخنى(‪ ،)2()1‬فضال عن َّ‬


‫أن اليونان قد أطلقوا كلمة واحدة ى‬ ‫ى‬ ‫ترتبط‬
‫أي نوع من أنواع الصنعة أو اإلنجاز العميل‪ ،‬بل تعني‬
‫وهي ّتنيتس ‪ ،‬وال تعني هذه الكلمة َّ‬
‫(‪)3‬‬

‫باملعنى اليوناين (‪ ،)4()episteme‬كانت رضبا من‬


‫ى‬ ‫ُأسلوبا من أساليب املعرفة‪ ،‬واملعرفة‬
‫األعم‪ ،‬أي إدراك املوجود بام هو موجو ٌد‪ ،‬وجوهر هذه املعرفة هو احلقيقة‪ ،‬أي‬
‫ه‬ ‫الرؤية بمعناها‬
‫ّ‬
‫جتيل املوجود وظهوره من اخلفاء‪.‬‬
‫ّتنى هبذا الفهم اليوناين هي إظهار املوجود من الغموض واخلفاء باملظهر الذي‬
‫إذا الـ ى‬
‫عل‬
‫تراه العني فيه‪ ،‬والـ ّتنيتس ليس هو الصانع اليدوي‪ ،‬بل ذلك الذي جيعل املوجود يظهر ى‬
‫احلقيقة أو جيعل حقيقته تظهر فيه(‪.)5‬‬
‫األول فهو‬
‫ّتنى ‪ ،‬أ َّما عن األمر َّ‬
‫(‪)6‬‬
‫بمعنى كلمة التقن َّية أو ى‬
‫ى‬ ‫الحظ هايدغر أمرين يف ما يتع َّلق‬
‫أن هذه الكلمة ليست فقط اسام لألنشطة واملهارات املتع هلقة بالعامل اليدوي‪ ،‬وإ َّنام تدل أيضا‬ ‫َّ‬
‫معنى يف الشعر(‪ ،)8‬كام َّأّنا‬
‫ى‬ ‫عرب هنا عن‬‫ّتنى ُت ه‬ ‫عل الفنون الرفيعة والفنون اجلميلة(‪ ،)7‬لذا َّ‬
‫فإن ى‬ ‫ى‬
‫ذات طبيعة شاعر َّية(‪.)10()9‬‬

‫بأن املصطلحات اإلنجليز َّية التالية مشت َّقة من الكلمة اليونان َّية (‪ ،)techné‬وهي‪:‬‬
‫(‪ )1‬يمكن القول َّ‬
‫(‪( ،)machination, enframing, technology, technik, technique‬الفن‪ ،‬الصناعة اليدو َّية) يف مقابل‬
‫كلمة (‪ )science‬العلم‪.‬‬
‫‪Cp. Inwood, M. A Heidegger Dictionary, P. 209.‬‬
‫‪(2) Heidegger, M .Die Frage ,p. 20.‬‬
‫‪(3) technités‬‬
‫يتصرب‪ ،‬أ َّما عند‬
‫َّ‬ ‫ّتنى (‪ )techné‬تتَّفق مع (‪ ،)episteme‬وكالها يعني‪ :‬يعرف أو‬
‫(‪ )4‬قبل أفالطون كانت ى‬
‫سيأتى بيانه‪:‬‬
‫ى‬ ‫ُأرسطو فقد أصبحت ى‬
‫تعنى اإلحضار (‪ )forth-a bringing‬كام‬
‫‪Cp. Kockelmans, J :.On the.P.233.‬‬
‫(‪ )5‬عبد الغ ّفار مكاوي‪ :‬مقال حذاء فان جوخ يف مدرسة احلكمة‪ ،‬دار الكاتب العرب للطباعة والنرش‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،1970 ،‬ص ‪ 302‬و‪.303‬‬
‫‪(6) techné‬‬
‫‪(7) Die schonen Künste. the fine arts.‬‬
‫‪(8) Poiésis‬‬
‫‪(9) Poietisches Poetic‬‬
‫‪(10) Heidegger, M .Die Frage ,p.20.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪333‬‬

‫ّتنى‬
‫ى‬ ‫فريى هايدغر أ َّنه ح َّت ىى عرص أفالطون ارتبطت كلمة‬
‫ى‬ ‫أ َّما عن األمر الثاين‪،‬‬
‫أن نشعر باألُلفة مع‬
‫وأن كال الكلمتني يعني ْ‬
‫(‪ )techné‬بكلمة (‪ )episteme‬أي املعرفة‪َّ ،‬‬
‫وأن تتو َّفر لدينا جترب ٌة معه ومعرف ٌة به والكلمتان ُت ه‬
‫عربان عن املعرفة‬ ‫ْ‬ ‫يشء ما‬
‫(‪)1‬‬

‫باملعنى الواسع للكلمة(‪.)2‬‬


‫ى‬ ‫و(‪)Erkennen Wissen, Knowing‬‬
‫زودنا باالنفتاح(‪ ،)3‬وهذا االنفتاح هو بمثابة‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن مثل هذه املعرفة ُت ه‬ ‫كام ى‬
‫عام ُيتجب عنّا‪ ،‬وال نراه أمام‬
‫نوع من الـ أليثيا ‪ ،‬أي إ َّّنا تكشف َّ‬
‫(‪)5‬‬
‫ّتنى هو ٌ‬
‫كشف ‪ ،‬فالـ ى‬
‫(‪)4‬‬

‫إن األمر‬ ‫ثم يطرأ عليه التحول بطريقة ُأو ب ُأ ى‬


‫خرى‪ .‬يقول هايدغر‪َّ .. :‬‬ ‫عام يظهر ّ‬
‫ناظرينا‪ ،‬أو َّ‬
‫ّتنى ال يكمن إطالقا يف الصناعة(‪ ،)6‬وال يف التصنيع(‪ ،)7‬وال يف استخدام‬
‫احلاسم يف الـ ى‬
‫باألحرى يكمن يف الكشف(‪.)8‬‬
‫ى‬ ‫الوسائل‪ ،‬إ َّنه‬
‫نستلخص مم َّا سبق َّ‬
‫أن هايدغر عندما يتحدَّ ث عن ماه َّية التقن َّية اليوم‪ ،‬إ َّنام يقصد األمر‬
‫ّتنى‪ ،‬كام ُيؤ هكد هايدغر َّ‬
‫أن جتاوز‬ ‫عرب أكثر عن املفهوم األنطولوجي للـ ى‬
‫الثاين الذي يبدو أ َّنه ُي ه‬
‫املفهوم األدوات للتقن َّية السابق ذكره يمكننا من الوصول إ ىل ماه َّيتها(‪.)9‬‬
‫كشف عن‬ ‫ٌ‬ ‫فِّسها هايدغر إ َّنام هي صور ٌة منصور الكشف‪ ،‬وهي‬
‫ّتنى كام َّ‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن الـ‬
‫ّتنى ليس الصناعة أو التصنيع أو استخدام الوسائل‪ ،‬وإ َّنام‬
‫التحجب‪ ،‬وما هو أسايس يف الـ ى‬
‫الكشف‪ ،‬بمعن ىى َّ‬
‫أن التقن َّية يتم إحضارها يف جمال حدوث احلقيقة أو الكشف أو‬

‫‪(1) das Sichauskennen in etwas, das Sichversehen auf etwas . to be entirely at home in‬‬

‫‪something, and be expert in it.‬‬

‫‪(2) Ibid. s21.‬‬

‫‪(3) Aufschluss - an opening (up(.‬‬

‫‪(4) Entbergen - revealing.‬‬

‫‪(5) allétheuein.‬‬
‫‪(6) Machen making.‬‬
‫‪(7) Veferting manufacturing.‬‬
‫‪(8) Ibid. S.21.‬‬
‫‪(9) Langan, T .the Meaning of Heidegger ,P. 193.‬‬
‫‪ ❖ 334‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫الالحتجب(‪.)2()1‬‬
‫أن الشعر عند اليونان هو وجو ٌد من العدم حضور‪َّ ،‬‬
‫وأن هذا احلضور كان‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫ى‬
‫واضحا قبل ه‬
‫كل يشء يف الطبيعة أو الـ ‪ ،Physis‬وهذا احلضور ّ ى‬
‫يتجل من خالل اليشء ذاته‪.‬‬
‫ّى‬
‫يتجل يف يشء‬ ‫ّتنى بدورها صور ٌة من صور (اإلحضار)‪ ،‬وهذا اإلحضار‬ ‫يرى َّ‬
‫بأن الـ ى‬ ‫كام ى‬
‫الفن والصناعة‪ ،‬حيث يشارك اإلنسان يف إعادة تشكيل املا َّدة واملنظور‪ ،‬ويف‬
‫آخر من خالل ه‬
‫توصلوا أيضا إ ىل الفنون‬ ‫إحضار اليشء إ ىل الوجود‪َّ .‬‬
‫إن اليونان ‪ -‬من وجهة نظر هايدغر ‪َّ -‬‬
‫ّتنى‪ ،‬حيث تلقوا بانفتاح ك َّلام يوجد‪ ،‬وحاولوا الكشف عن الوجود يف ه‬
‫كل ما‬ ‫العقل َّية ى‬
‫قابلهم‪ ،‬كام حاولوا السيطرة عليه‪ ،‬وتلك السيطرة جت َّلت يف الفلسفة اليونان َّية‪.‬‬
‫ّتنى هو بمثابة املصدر احلقيقي‬ ‫ي َّتضح مم َّا سبق َّ‬
‫أن مفهوم هايدغر ملاه َّية التقن َّية بوصفها ى‬
‫نوع من‬
‫سلوب لإلحضار وهو بدوره ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ّتنى معرف ٌة كاشف ٌة و ُأ‬
‫لعرص التقن َّية احلديث‪ ،‬فالـ ى‬
‫ّتنى بمعناه اليوناين القديم ‪ -‬من حيث املصدر املنبثقة عنه‬
‫الكشف‪ ،‬والتقن َّية احلديثة مثل الـ ى‬
‫ّى‬
‫يتجل من خالله ذلك‬ ‫سلوب للكشف‪ ،‬والوجود عندما يسود كل ما يوجد إ َّنام‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬هي ُأ‬
‫الكشف‪.‬‬
‫عل‬
‫فإن اإلنسان يف العرص التقني احلديث مل يعد يفرض سيطرته ى‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى‪َّ ،‬‬
‫اخلاص رافضا ظهور األشياء كام هي‬
‫ه‬ ‫بمعنى أ َّنه مل يعد يتم َّثل الواقع وفقا لتصوره‬
‫ى‬ ‫الواقع‪،‬‬
‫عل ه‬
‫كل ما يوجد‪ ،‬فهناك عالق ٌة‬ ‫وألن الكشف الذي ُُي هققه الـ ى‬
‫ّتنى يفرض سيطرته ى‬ ‫َّ‬ ‫عليه‪،‬‬
‫وثيق ٌة بني مصري الوجود والفعل اإلنساين‪ ،‬كام سيأت بيانه(‪.)3‬‬
‫تعقيب‪:‬‬
‫عل تفسري‬
‫نحاول يف هذا التعقيب اإلجابة عن السؤال التال‪ :‬ما النتائج التي تر َّتبت ى‬
‫ّتنى؟‬
‫هايدغر ملاه َّية التقن َّية بوصفها ى‬
‫األعم‬
‫ّ‬ ‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫ّتنى ‪ -‬كام أوضح هايدغر ‪ -‬هو معرف ٌة ورؤي ٌة‬ ‫النتيجة األُوىل‪َّ :‬‬
‫أن الـ ى‬

‫‪(1) alétheia‬‬
‫‪(2) Kockelmans, J,J .On the Truth ,..P.233 - 234.‬‬
‫‪(3) Lovitt, W :.the Question ..PXXIV, XXV, XXVIII.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪335‬‬

‫سلوب‬
‫ٌ‬ ‫أي نوع من أنواع الصنعة‪ ،‬وإ َّنام هو ُأ‬
‫للكلمة‪ ،‬فهو وفقا ملا ذهب إليه اليونان ال يعني َّ‬
‫من أساليب املعرفة‪ ،‬أي إدراك الوجود بام هو موجو ٌد‪ ،‬وجوهر هذه املعرفة هو احلقيقة أو‬
‫ّ‬
‫جتيل الوجود وظهوره من اخلفاء‪.‬‬
‫وإنتاج‪ ،‬وصور ٌة من صور اإلحضار‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫إبداع‬
‫ٌ‬ ‫بمعنى أ َّنه‬
‫ى‬ ‫ّتنى هو شعر‬ ‫النتيجة الثانية‪َّ :‬‬
‫أن الـ ى‬
‫إحضار اليشء إ ىل الوجود‪ ،‬وإعادة تشكيل املا َّدة واملنظور‪ ،‬وهذا اإلحضار بدوره ُيم هثل نوعا‬
‫من الكشف‪.‬‬
‫بمعنى معرفته‪ ،‬وهذه‬
‫ى‬ ‫ٌ‬
‫ودخول يف جتربة معه‬ ‫ّتنى هو ُألف ٌة مع اليشء‬ ‫النتيجة الثالثة‪َّ :‬‬
‫أن الـ ى‬
‫عل ذلك اليشء‪ ،‬أو بالكشف عنه‪.‬‬
‫زودنا باالنفتاح ى‬ ‫املعرفة ُت ه‬
‫بمعنى‬
‫ى‬ ‫املتحجب‬
‫ه‬ ‫نوع من الـ أليثيا أي الكشف عن‬ ‫ّتنى هو ٌ‬
‫أن الـ ى‬ ‫النتيجة الرابعة‪َّ :‬‬
‫احلقيقة‪ ،‬فالتقن َّية يتم إحضارها يف جمال حدوث احلقيقة أو الكشف‪.‬‬
‫رأى اليونان ‪-‬‬ ‫النتيجة اخلامسة‪َّ :‬‬
‫أن الـ ّتنيس ليس هو الصانع اليدوي‪ ،‬وإ َّنام هو ‪ -‬كام ى‬
‫(‪)1‬‬

‫عل احلقيقة‪ ،‬أو جيعل حقيقته تظهر فيه‪.‬‬


‫ذلك الذي جيعل املوجود يظهر ى‬

‫الكشف بوصفه نداءً للتحدّي‪:‬‬


‫يقول هايدغر‪:‬‬
‫‪ ..‬الكشف الذي يسود التقن َّية احلديثة ي َّتسم بمعنى التحدي ي‪ ،‬وهذا التحدي ي حيدث‬
‫عندما تتف َّتح الطاقة املحتجبة يف الطبيعة‪ ..‬حيث يتم إخضاع ِّ‬
‫كل ما يوجد للتنظيم‬
‫(‪)3‬‬
‫أن) إضفاء طابع النظام(‪ ،)2‬واألمان‬
‫ليكون يف متناول اليد‪ ،‬و ُيل يبي احلاجة إليه‪( ..‬كام َّ‬
‫ها السمتان األساس َّيتان للكشف يف حال التحدي ي(‪.)5()4‬‬
‫كشف يتحدّ ىى‪ ،‬فهي‬
‫ٌ‬ ‫ويعني ذلك َّ‬
‫أن التقن َّية احلديثة عند هايدغر ‪ -‬من حيث املاه َّية هي‬
‫أن جتعله جاهزا لالستخدام‪.‬‬ ‫كل ما يوجد بحيث حتاول ْ‬ ‫بمثابة نزاع مع ه‬

‫‪(1) technités‬‬
‫‪(2) Seturung regulating‬‬
‫‪(3) Sicherung securing‬‬
‫‪(4) das herausfordern Entbergn.the challenging revealing.‬‬
‫‪(5) Heidegger, M .Die Frage .p. 24.‬‬
‫‪ ❖ 336‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل ه‬
‫كل ما‬ ‫وأساس هذا األُسلوب من الكشف نجده ى‬
‫لدى اإلنسان عندما ُياول السيطرة ى‬
‫يقع خارج ذاته‪ ،‬حيث يتم َّثله وجيعله موضوعا يف متناول اليد(‪.)1‬‬
‫ولكن ما هو األساس الذي يقوم عليه هذا الكشف؟‬
‫قوى اإلنسان‪ ،‬بحيث جيد نفسه مندفعا نحو‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن الطاقات الطبيع َّية تستثري ى‬ ‫ى‬
‫وجه‬ ‫الكشف الذي يتحدّ ىى‪ ،‬أي َّ‬
‫إن اإلنسان يف غمرة اهتاممه بالكشف الذي يتحدّ ىى قواه ُي ه‬
‫يبقى النداء ومصدره حمتجبني(‪.)2‬‬
‫إليه ندا ُء التحدّ ي بحيث ى‬
‫ثم توزيعه‪ ،‬وجتزئته‬
‫يتحول يتم ّتزينه ّ‬
‫َّ‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن املنفتح(‪ )3‬يطرأ عليه التحول‪ ،‬وما‬ ‫ى‬
‫أساليب‬
‫ٌ‬ ‫وإعادة صياغته من جديد‪ .‬إذا االنفتاح والتحول والتخزين والتجزئه(‪ )4‬إ َّنام هي‬
‫للكشف‪ ،‬وهذا الكشف ال يصل إ ىل ّناية ما‪ ،‬علام َّ‬
‫بأن اإلنسان ُياول الكشف عن الواقع عن‬
‫طريق تنظيمه بوصفه خمزونا(‪ )5‬و َّ‬
‫أن هايدغر ُيم هيز ما بني املخزون(‪ )6‬واليشء(‪ ،)7‬فالطائرة يف‬
‫تتحول إ ىل خمزون‪ ،‬وتدين يف حضورها‬
‫َّ‬ ‫حال عدم إقالعها تكون شيئا‪ ،‬ويف حال إقالعها‬
‫الستخدام اإلنسان ِّلا(‪.)8‬‬
‫ولعل أصل فكرة الطبيعة بوصفها خمزونا يرجع إ ىل النزعة الذات َّية يف امليتافيزيقا‬ ‫َّ‬
‫القوى‬
‫ى‬ ‫الكالسيك َّية‪ ،‬ومن َث َّم إ ىل تطور العلم احلديث‪ .‬فالفيزياء جتعل الطبيعة إطارا م َّتسقا من‬
‫ثم السيطرة عليها‪ ،‬بحيث يمكن القول َّ‬
‫بأن كشف التحدّ ي قد‬ ‫التي يمكن حساهبا سلفا ّ‬
‫عل الفيزياء قبل ْ‬
‫أن ّتضع تقن َّية اآللة للتطور‪.‬‬ ‫سيطر ى‬

‫‪(1) Lovitt, W .The Question.., IntroductionPXXiX.‬‬


‫‪(2) Sallis, J .Heidegger and the path of Thinking ,P.162 - 163.‬‬
‫‪(3) DAS Erschlossene the unlocked.‬‬
‫عل التوال‪:‬‬
‫(‪ )4‬وهي ى‬
‫‪Erschliessen.Unlocking, Umformen.transforming, .speichern.storing. Verteilen. distributing .‬‬
‫‪(5) Bestand - Standing resources‬‬
‫‪(6) Bestand‬‬
‫‪(7) Gegenstand‬‬
‫‪(8) Inwood, M :.A Heidegger Dictionary ,P.210.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪337‬‬

‫َّ‬
‫إن مصطلح املخزون الذي يستخدمه هايدغر يف توضيح طريقة حدوث األشياء يف‬
‫معنى اإلنشاء أو اإلنتاج املوجود يف الشعر بمعناه األصيل‬
‫ى‬ ‫انتامئها إ ىل الكشف ي َّتخذ‬
‫(‪ ،)1()Poéssis‬فضال عن َّ‬
‫أن املخزون ي َّتخذ شكل التحدّ ي بحيث تصبح الطبيعة مصدرا‬
‫للطاقة يمكن استخراجها وّتزينها وأخريا استخدامها‪ .‬بعبارة ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫فإن الطاقة التي كانت‬
‫وتم ّتزينها وتوزيعها واستخدامها‪ ،‬وهذه الف ّعال َّية‬
‫حتولت اآلن‪َّ ،‬‬
‫حمتجبة يف الطبيعة قد َّ‬
‫أن الكشف ال يصل قط إ ىل ّنايته كام سبق‬ ‫عل الرغم من َّ‬
‫أساليب للكشف‪ ،‬ى‬
‫ُ‬ ‫اإلنسان َّية إ َّنام هي‬
‫بيانه‪.‬‬
‫تعقيب‪:‬‬
‫أن ُُي ِدث إنقالبا يف مفهومه عن العلم احلديث‪ ،‬بحيث أصبح تطور‬
‫مت َّكن هايدغر من ْ‬
‫عل إدراكه للحقيقة بوصفها كشفا‪،‬‬
‫العلم احلديث‪ ،‬والفيزياء الرياض َّية‪ ،‬وتقن َّية اآلالت‪ ،‬رهنا ى‬
‫وفهمه للطبيعة بوصفها خمزونا للطاقة بعيد األمد‪ .‬نحاول يف هذا التعقيب اإلجابة عن‬
‫عل تفسري هايدغر للكشف بوصفه نداء للتحدّ ي؟‬
‫السؤال التا ىل‪ :‬ما النتائج املرت هتبة ى‬
‫أ َّما عن نتائج التفسري فهي كام ييل‪:‬‬
‫النتيجة األُوىل‪َّ :‬‬
‫أن النزعة الذات َّية(‪ )2‬يف امليتافيزيقا الكالسيك َّية هي املسؤولة عن فكرة‬
‫الطبيعة بوصفها خمزونا ومن َث َّم تقف وراء تطو ر العلم احلديث‪ ،‬حيث جتعل الفيزياء من‬
‫القوى يمكن حساهبا سلفا والسيطرة عليها‪.‬‬
‫ى‬ ‫الطبيعة إطارا م َّتسقا من‬
‫فِّس طريقة حدوث األشياء يف انتامئها إ ىل‬ ‫النتيجة الثانية‪َّ :‬‬
‫أن املخزون يف رأي هايدغر ُي ه‬
‫معنى اإلنتاج املوجود يف الـ (‪ )Poiésis‬أو الشعر بمعناه األصيل‪ ،‬وي َّتخذ‬
‫ى‬ ‫الكشف‪ ،‬وي َّتخذ‬
‫شكل التحدّ ي بحيث تصبح الطبيعة مصدرا للطاقة يمكن استخراجها وّتزينها لتصبح يف‬
‫متناول اليد‪.‬‬
‫أساليب‬
‫ُ‬ ‫عل املوجود‪ ،‬والتحول والتخزين‪ ،‬والتجزئة إ َّنام هي‬ ‫النتيجة الثالثة‪َّ :‬‬
‫أن االنفتاح ى‬
‫أن اإلنسان ُياول الكشف عن الواقع عندما يقوم بتنظيمه‬ ‫لكشف ال يتو َّقف‪ ،‬فضال عن َّ‬
‫بوصفه خمزونا‪.‬‬

‫‪(1) Kockelmans, J.J :On the Truth ,P. 236.‬‬


‫‪(2) Subjektivität Subjectivity‬‬
‫‪ ❖ 338‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املوجه إليه لقبول التحدّ ي عندما جيد نفسه‬


‫َّ‬ ‫النتيجة الرابعة‪َّ :‬‬
‫أن اإلنسان يستجيب للنداء‬
‫دوما يف حقيقة االنكشاف‪ ،‬ما يعني َّ‬
‫أن التقن َّية احلديثة ‪ -‬يف رأي هايدغر ‪ -‬ليست من صنع‬
‫عل اإلنسان لتنظيم الواقع بوصفه خمزونا‪ ،‬وهذا التحدّ ي ي َّتفق‬
‫فرض ى‬ ‫وأن َّ‬
‫كل حتد ُي َ‬ ‫اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫جتيل الكشف‪.‬‬ ‫مع ُأسلوب ّ‬
‫أن َث َّمة وجهني للتحدّ ي‪:‬‬
‫النتيجة اخلامسة‪َّ :‬‬
‫الوجود يواجه حتدّ يا يف ترك املوجودات لتظهر يف جمال يمكن حسابه‪.‬‬
‫اإلنسان يواجه بدوره حتدّ يا يف ْ‬
‫أن تصبح املوجودات موضوعا حلساباته ومرشوعه يف‬
‫املستقبل‪.‬‬

‫ماهيَّة التقنيَّة بوصفها جشطلت(‪ )1‬جتميعاً (‪:)Ge-stell‬‬


‫عل استعداد ليكشف الواقع‬
‫جتميع جيعل اإلنسان ى‬
‫ٌ‬ ‫إن ‪ Ge-stell‬هو‬ ‫يقول هايدغر‪َّ .. :‬‬
‫كمخزون قابل للتسخري‪َّ .‬‬
‫إن اإلنسان الذي يواجه هذا التحدّ ي يقف يف املجال األسايس‬
‫يتحمل مبارشة عالقة معه‪ ،‬وذلك‬
‫َّ‬ ‫للـ ‪ Ge-stell‬أو التجميع‪ ،‬وليس بمقدور اإلنسان ْ‬
‫أن‬
‫ٌ‬
‫سؤال يأت دوما‬ ‫َّ‬
‫ألن السؤال عن معرفة كيف نستطيع الدخول يف عالقة مع ماه َّية التقن َّية هو‬
‫متى وكيف ندخل نحن أنفسنا يف جمال الـ ‪Ge-stell‬‬ ‫ه‬
‫متأخرا‪ ..‬ولكن السؤال عن معرفة ى‬
‫(‪)2‬‬

‫أو التجميع ذاته هو سؤ ٌال ال يأت قط ه‬


‫متأخرا(‪.)3‬‬
‫عل هذا‬ ‫ي َّتضح مم َّا سبق َّ‬
‫أن الـ ‪ Ge-stell‬أو التجميع‪ ،‬هو االسم الذي أطلقه هايدغر ى‬

‫(‪ )1‬تعني كلمة ‪ Ge.stell‬باإلنجليزية الوضوع ‪ a position‬أو جتميع يشء ما (‪ )something put together‬أو‬
‫بمعنى (‪ )position‬أي وضع أو مكان‪،‬‬ ‫ى‬ ‫اإلطار (‪ )a framework‬والكلمة األملانيَّة مشت َّقة من (‪)stall‬‬
‫عرب عن أسامء مجعيَّة‬ ‫ِ‬
‫والسابقة ‪ ge‬تعني (‪ )With‬أو (‪ )together‬أي معا بالعربيَّة‪ ،‬واستُخد َمت فيام بعد لتُ ه‬
‫بمعنى كل ما يتع َّلق بأفعال‬
‫ى‬ ‫مثل (‪ )Gebirge‬أي سلسلة جبل َّية‪ ،‬و(‪ )Gem..t‬من (‪ ،)mut‬أو الشجاعة‬
‫بمعنى (‪ ،)gift‬أو‬
‫ى‬ ‫عرب عن نتيجة فعل ما مثل (‪)Geschenk‬‬
‫املعربة عن الشجاعة‪ ،‬كام ُت ه‬
‫ومشاعر اإلنسان ه‬
‫هدية من الفعل هيدي (‪.)give - schenken‬‬
‫)‪(Cp. Inwood, m .A Heidegger Dic ,p.210‬‬
‫‪(2) Ibid. p.31.‬‬
‫‪(3) Ibid. p.32.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪339‬‬

‫كال يف مواجهة اآلخر بام يف ذلك ّ‬


‫كل ما يوجد‪.‬‬ ‫التحدّ ي الذي يضع الوجود واإلنسان اليوم ّ‬
‫عرب هبا عن ماه َّية التقن َّية احلديثة‪ ،‬فهي‬
‫والكلمة يستخدمها هايدغر بطريقة اصطالح َّية ل ُي ه‬
‫عرب فقط عن التحدّ ي الذي يواجه اإلنسان للكشف عن املوجودات‪ ،‬وإ َّنام ُمت هيز ما ُي ّ‬
‫سميه‬ ‫ال ُت ه‬
‫اليونان بالشعر بوصفه إنتاجا وإنشاء بحيث يصبح الشكالن الكالسيكي واحلديث من‬
‫اإلنتاج مرتابطني من حيث كوّنام ُأسلوبني من أساليب الكشف عن احلقيقة(‪ .)1‬إذا الـ ‪Ge-‬‬
‫‪ stell‬أو التجميع تعني طريقة أو ُأسلوب الكشف الذي يتح َّكم يف ماه َّية التقن َّية احلديثة‪،‬‬
‫وهو يف حده ذاته ليس تقن ًّيا(‪ )2‬كام سيأت بيانه‪.‬‬
‫تعقيب‪:‬‬
‫يمكن القول َّ‬
‫بأن هايدغر قد استخدم مصطلح الـ ‪ Ge-stell‬أو التجميع بطريقة ّتتلف‬
‫متاما عن الطريقة املألوفة يف استخدام هذا املصطلح‪ ،‬ونحن يف توضيحنا لذلك نحاول‬
‫اإلجابة عن السؤال التال‪:‬‬
‫عل تفسري ماه َّية التقن َّية عند هايدغر بوصفها جتميعا أو ‪Ge- stell‬؟‬
‫ما النتائج املرت هتبة ى‬
‫أ َّما عن النتائج فهي كالتال‪:‬‬
‫النتيجة األُوىل‪ :‬أ َّن إدراك الوجود بوصفه عامل التقن َّية ممتنع‪َّ ،‬‬
‫ألن التقن َّية حتجب عن رؤية‬
‫أن نتو َّقف عن إدراك التقن َّية‬
‫سوى ْ‬
‫ى‬ ‫اإلنسان والوجود رؤية حقيق َّية‪ ،‬وليس أمامنا من خمرج‬
‫بوصفها شيئا تقن ًّيا من صنع اإلنسان وحده ْ‬
‫وأن نحاول إدراك ماه َّيتها بوصفها جتميعا‪.‬‬
‫عرب عن التحدّ ي الذي يواجه اإلنسان لتنظيم عنارص الواقع‬ ‫النتيجة الثانية‪َّ :‬‬
‫أن التجميع ُي ه‬
‫عرب عن ماه َّية التقن َّية احلديثة من حيث إ َّنه حتد يواجهه اإلنسان يف‬
‫يف صورة خمزون‪ ،‬كام ُي ه‬
‫بمعنى الشعر أو‬
‫ى‬ ‫سميه اليونان بالـ ‪Poiésis‬‬
‫الكشف عن املوجودات من حيث إ َّنه ُيم هيز ما ُي ّ‬
‫اإلنتاج يف الكشف عن احلقيقة‪.‬‬
‫مصري هيدف إ ىل بلوغ الكشف الذي يتحدّ ىى‪ ،‬وهذا املصري هو‬
‫ٌ‬ ‫النتيجة الثالثة‪َّ :‬‬
‫أن التجميع‬
‫عل الطريق إ ىل الكشف أو إ ىل حضور ماه َّية التقن َّية‪ ،‬وليس ذلك من‬
‫الذي يضع اإلنسان ى‬

‫‪(1) Kockelmans, J.J. On the Truth ,P. 237 - 239.‬‬


‫‪(2) Heidegger, M .Die Frage, p.28.‬‬
‫‪ ❖ 340‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫صنع اإلنسان‪ .‬إذا ماه َّية التقن َّية تستقر يف التجميع بوصفه أحد جت ّليات املصري‪ ،‬وهي ال‬
‫وإن مل تكن من صنعه وحده‪.‬‬ ‫بمنأى عن اإلنسان‪ْ ،‬‬ ‫ى‬ ‫حتدث‬
‫عل‬
‫ألن اإلنسان أساسا ى‬ ‫أن ماه َّية التقن َّية ليست مسألة إنسان َّية خالصة‪َّ ،‬‬
‫النتيجة الرابعة‪َّ :‬‬
‫الطريق إ ىل الكشف الذي ال ُيدث عن طريق اإلنسان وحده‪ ،‬وإ َّنام يتل ّق ىى اإلنسان نداء‬
‫الوجود للقيام هبذا الكشف‪.‬‬
‫رسل اإلنسان إ ىل طريق الكشف‪ ،‬وهذا‬ ‫النتيجة اخلامسة‪ :‬التجميع إرسال للوجود‪ :‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫التجميع ليس أمرا تقن ًّيا‪ ،‬إ َّنه األُسلوب الذي ينكشف من خالله ما هو موجو ٌد‪ ،‬علام ب َّ‬
‫أن‬
‫وُيده د ماه َّية التاريخ بأرسه‪ ،‬ليس‬
‫إل الكشف ُ‬‫عل الطريق ى‬ ‫اإلرسال الذي يضع اإلنسان ى‬
‫حر َّية اإلنسان بقدر انتامئه إ ىل جمال اإلرسال‪ ،‬بحيث يصبح‬
‫ملزما بجرب اإلنسان‪ ،‬وإ َّنام تتحدَّ د ّ‬
‫منصتا ملا يمليه عليه نداء الوجود‪.‬‬
‫عل الكشف عن احلقيقة‪،‬‬
‫احلر َّية عند هايدغر هي جمال املصري الذي يعمل باستمرار ى‬ ‫إذا ّ‬
‫ولكن ب ُأسلوب خاص ال يرتبط أساسا باإلرادة أو بالعالقة الع ّل َّية املألوفة‪.‬‬

‫ماهيَّة التقنيَّة ومفارقة اخلطر هو ما ينقذ )‪:(Die Gefahr/ the danger‬‬


‫أ ‪ -‬ماه َّية التقن َّية هتديد للكشف‪:‬‬
‫يقول هايدغر‪:‬‬
‫إن مصري‬ ‫ٍ‬
‫صورة من صوره هو بالِّضورة خطر(‪َّ ..)1‬‬ ‫‪ ..‬مصريالكشف‪ ..‬يف ِّ‬
‫كل‬
‫الكشف يف حدِّ ذاته‪ ..‬هو اخلطر بام هو كذلك‪ ..‬وما هو خطري ليس التقن َّية‪ ..‬وإ َّنام‬
‫اخلطر هو ماه َّية التقن َّية بوصفها مصري ًا للكشف(‪.)2‬‬
‫عل طريقة الـ ‪ Ge-stell‬أو‬ ‫أن املصري عندما يسيطر ى‬ ‫يرى هايدغر يف تفسري ذلك َّ‬
‫ى‬
‫التجميع‪ ،‬يكون اخلطر احلقيقي‪ ،‬وهذا اخلطر يؤ هكد نفسه بطريقتني‪ :‬فاملنكشف مل يعد ي ِ‬
‫شغل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان بوصفه شيئا أو موضوعا‪ ،‬وإ َّنام بوصفه خمزونا‪ ،‬واإلنسان يف غمرة ذلك مل يعد هيتم‬

‫‪(1) Das Geschick der Entbergungen ist Gafahr.‬‬


‫‪(2) Heidegger, M .Die Frage ,P. 34 - 35.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪341‬‬

‫َّإال بتنظيم املخزون‪ ،‬ح َّت ىى إ َّنه يعترب نفسه خمزونا‪ ،‬ويف الوقت نفسه يعترب نفسه س هيد األرض بام‬
‫بأن َّ‬
‫كل ما يلقاه اإلنسان يوجد فقط‬ ‫أن يسود االنطباع َّ‬
‫عل ذلك ْ‬
‫يف ذلك من مفارقة‪ ،‬ويرت َّتب ى‬
‫أن اإلنسان يف ه‬
‫كل مكان وزمان إ َّنام‬ ‫إل وهم آخر مؤ ّداه َّ‬
‫ما دام من صنعه‪ ،‬و ُيؤ ّدي هذا الوهم ى‬
‫أي‬
‫عل وجه اخلصوص مل يعد يلتقي بذاته أو بامه َّيته يف ه‬ ‫يلتقي بذاته‪ ،‬واحلق َّ‬
‫أن إنسان اليوم ى‬
‫مكان‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن اإلنسان يقف دائام يف انتظار حتدّ ي التجميع وهو يف ذلك ال ُيدرك هذا التجميع‬
‫أن ُيدرك أ َّنه ذلك املنادي‪ ،‬وخيفق من َث َّم يف اإلنصات ى‬
‫إل‬ ‫بوصفه نداء‪ ،‬فضال عن أ َّنه خيفق يف ْ‬
‫الطريقة التي يوجد هبا من خالل ماه َّيته‪ ،‬ومن َث َّم ال يلتقي أبدا بامه َّيته‪.‬‬
‫أن التجميع ُُي هول‬‫فريى هايدغر َّ‬ ‫ى‬ ‫أ َّما عن الطريقة الثانية التي يظهر من خالِّلا اخلطر‪،‬‬
‫عل ف ّعال َّية اإلنسان‪ ،‬فإنَّه ُيؤ هثر ى‬
‫عل‬ ‫اإلنسان إ ىل نوع من التنظيم‪ ،‬وعندما ُيسيطر هذا التظيم ى‬
‫املعنى احلقيقي للكشف بوصفه جت ّليا‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫كل إمكان َّية للكشف(‪ ،)1‬فضال عن َّ‬
‫أن التجميع ُيجب‬
‫للظهور‪ ،‬أي إنَّه ُيجب الكشف ذاته‪ ،‬واحلقيقة أو الـ أليثيا التي حتدث بحدوثه‪ .‬إذا ُيجب‬
‫جتيل احلقيقة‪ ،‬و ُيسيطر عليها‪ ،‬ما يعني َّ‬
‫أن املصري الذي يتَّجه يف إرساالته نحو التنظيم‬ ‫التجميع ّ‬
‫إ َّنام هو اخلطر احلقيقي‪.‬‬
‫ِ‬
‫ألول وهلة من ق َبل اآلالت‬ ‫أشار هايدغر إ ىل َّ‬
‫أن التهديد الذي يواجه اإلنسان ال يأت َّ‬
‫عل اإلنسان من حيث ماه َّيته‪ ،‬استنادا إ ىل َّ‬
‫أن التجميع‬ ‫وأجهزة التقن َّية‪ ،‬فاخلطر احلقيقي ُيؤ هثر ى‬
‫عل الدخول يف كشف أصيل(‪ ،)2‬أو جتربة احلقيقة األصل َّية(‪.)4()3‬‬
‫ُهيده د بإنكار قدرته ى‬
‫أن السؤال عن التقن َّية هو السؤال حول التجميع(‪ )5‬الذي ُيدث فيه الكشف‬ ‫كام أشار إ ىل َّ‬
‫واحلجب معا‪ ،‬أي الذي حتدث فيه احلقيقة‪.‬‬
‫يرى هايدغر ‪ -‬إ َّنام ُهتده د الكشف‪ ،‬حيث يتم استنفاد‬ ‫ويعني ذلك َّ‬
‫أن ماه َّية التقن َّية ‪ -‬كام ى‬

‫‪(1) Ibid. P.34 - 35.‬‬


‫‪(2) ein ursprünglicheres Entbergen. Original revealing.‬‬
‫‪(3) anfänglicheres Wahrheit. primal truth.‬‬
‫‪(4) Ibid., P.35 - 36.‬‬
‫‪(5) Constellation.‬‬
‫‪ ❖ 342‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫كل كشف يف عمل َّية التنظيم وحتويل ه‬


‫كل يشء إ ىل خمزون‪.‬‬ ‫ه‬
‫أن يفرتض َّ‬
‫أن ما ينقذ من ذلك اخلطر‬ ‫فإن التفكري اإلنساين بوسعه ْ‬
‫وعل الرغم من ذلك َّ‬
‫ى‬
‫أن َث َّمة صلة وثيقة جتمع بينهام(‪ )1‬كام‬
‫أسمى مم َّا ُهيده د باخلطر‪ ،‬مع َّ‬
‫ى‬ ‫ال بدَّ ْ‬
‫وأن يكون من طبيعة‬
‫سنرى تفصيال‪.‬‬
‫ى‬
‫ي َّت ضح لنا مم َّا سبق أ َّن التقنيَّة ُهتده د اإلنسان بتحويله إ ىل حيوان آل(‪ ،)2‬ما ُُيتهم علينا‬
‫عل‬
‫تأسيس سيطرتنا عليها يف إطار نسق أخالقي مالئم يسمح لنا بالتخل ص من هيمنتها ى‬
‫اإلنسان(‪.)3‬‬
‫ب ‪ -‬املفارقة يف ماه َّية التقن َّية‪ :‬اخلطر هو ما ينقذ‪:‬‬
‫وضح طرفيها كام ييل‪:‬‬
‫اختتم هايدغر حمارضته بالسؤال عن التقن َّية بمفارقة ُن ه‬
‫‪ -1‬اخلطر (أو األزمة يف ماه َّية التقن َّية)‪:‬‬
‫عل النحو التال‪:‬‬
‫أهم سامت اخلطر يف ماه َّية التقن َّية ى‬
‫يمكننا إمجال ّ‬
‫السمة األُوىل‪ :‬سيطرة التجميع أو الـ ‪:Ge-Stell‬‬
‫يقول هايدغر يف هذا الصدد‪ .. :‬حيث ُيسيطر التجميع يتم َّثل اخلطر األعظم(‪.)4‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فحيث يوجد اخلطر يوجد أيضا ما ينقذ‪ ،‬أي إ َّن التجميع ال ُيسيطر بوصفه‬
‫خطرا فحسب‪ ،‬وإ َّنام بوصفه املنقذ أيضا‪ ،‬فاخلطر هو ما ينقذ(‪ ،)5‬والتجميع كشف ينجيل يف‬
‫معنى الوجود‪ ،‬وغربة اإلنسان عن الوجود؛ ومع ذلك يظل كشفا‪.‬‬
‫ى‬ ‫االبتعاد عن‬
‫إذا التجميع ُيمل يف أعامقة اخلطر املحدق باإلنسان من ناحية وإمكان َّية حترر اإلنسان من‬
‫شعوره بالغربة والوحشة من ناحية ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬وذلك كي يتم َّكن من الدخول يف عالقة أساس َّية‬
‫معنى احلضور يف ه‬
‫كل ما يوجد(‪.)6‬‬ ‫ى‬ ‫مع الوجود ليتل ّق ىى‬

‫‪(1) Ibid., P.41- 43.‬‬


‫‪(2) Inwood, M .A Heidegger Dic, .P.211.‬‬
‫‪(3) Sallis, J .Heidegger and the Path of Thinking ,P.164.‬‬
‫‪(4) Heidegger, M .Die Frage ,P.36.‬‬
‫‪(5) Sallis, J .Heidegger and the path of Thinking,P. 167.‬‬
‫‪(6) Lovitt, W ,The Question Concerning Technology .Introduction, P.XXXV.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪343‬‬

‫السمة الثانية‪ :‬االنشغال عن ماه َّية التقن َّية‪:‬‬


‫يقول هايدغر‪:‬‬
‫إ َّننا يف حال السؤال (عن التقن َّية) نكون شهود ًا عىل األزمة‪ ،‬أي انشغالنا البعيد عن‬
‫ٍ‬
‫ّتربة معها‪ ،‬وأ َّننا يف إدراكنا للـ إستطيقا‪ ،‬مل‬ ‫ماه َّية التقن َّية‪ ،‬بمعنى أ َّننا مل ندخل بعد يف‬
‫الفن‪ ،‬ومل نعد نحافظ عليها‪ ،‬وك َّلام تساءلنا وأمع ينا يف التفكري حول‬ ‫نعد نعرف ماه َّية ِّ‬
‫الفن‪ ،‬وك َّلام اقرتبنا من اخلطر ّت َّلت لنا الط ُرق املؤ يدية‬
‫ماه َّية التقن َّية زاد غموض ماه َّية ِّ‬
‫إىل ما ينقذ(‪.)1‬‬
‫يشري النص السابق إ ىل أ َّننا يف مواجهة التقنية نخفق يف فهم ماه َّيتها ما دمنا نفهمها من‬
‫ّى‬
‫تتجل من حضور ما هو حارض‪ ،‬أي ذلك الوجود الذي ال‬ ‫ناحية أدوات َّية‪َّ ،‬‬
‫وأن ماه َّية التقن َّية‬
‫عل‬
‫أن خيدمه ‪ ،‬وينطبق ذلك ى‬
‫(‪)2‬‬
‫عل أحسن الفروض ْ‬ ‫يسيطر عليه اإلنسان قط وإ َّنام يمكنه ى‬
‫سيأتى بيانه‪.‬‬
‫ى‬ ‫الفن بوصفها إنشاء أو إنتاجا‪ .‬أو شعرا كام‬
‫إدراكنا ملاه َّية ه‬
‫السمة الثالثة‪ :‬حجب الكشف‪ ،‬هتديد عالقة اإلنسان بذاته‪:‬‬
‫يرى هايدغر أ َّنه ك َّلام ابتعد اإلنسان عن معرفة ذاته أو انتزع من تلك املعرفة انتزاعا حتت‬
‫ى‬
‫يتحول هو نفسه إ ىل‬ ‫َّ‬ ‫سيطرة التقن َّية‪ ،‬فإ َّنه يصبح أكثر قربا من حا َّفة اِّلاوية‪ ،‬أي إمكان َّية ْ‬
‫أن‬
‫عل األرض أو مالكا ِّلا كام كان من قبل‪.‬‬ ‫خمزون بحيث ال يظل س هيدا ى‬
‫أن اإلنسان قد احتجبت عنه ماه َّيته الصميمة بوصفه كذلك‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫ويعني ذلك َّ‬
‫كل ما يلتقي به يوجد بقدر ما يدخل يف الرتكيب الذي صنعه بيديه‪ ،‬أي إ َّنه خيفق يف‬ ‫أن َّ‬
‫يتوهم َّ‬
‫َّ‬
‫املنادى الذي يتل ّق ىى نداء الوجود‪ ،‬وُيسن اإلنصات إليه(‪.)3‬‬
‫ى‬ ‫ْ‬
‫أن يفهم بوصفه‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن اخلطر الكامن يف ماه َّية التقن َّية ُُيده د مقياس األشياء‬ ‫خرى ى‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫وأن هذا الكشف ‪ -‬من َث َّم ‪ُ -‬يجب بطريقة‬ ‫مجيعا من خالل الكشف الذي يتحدّ ىى اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫كل إمكان َّية ُأ ى‬
‫خرى للكشف‪ ،‬تلك اإلمكان َّية التي ُمت هثل حضورا أصل ًّيا وصميام لألشياء(‪.)4‬‬ ‫ما َّ‬

‫‪(1) Heidegger, M .Die Frage, p.43 - 44.‬‬


‫‪(2) Sallis, J .Heidegger and the path of Thinking,P.166.‬‬
‫‪(3) Kockelmans, J.J. On the Truth, .P.240 - 241.‬‬
‫‪(4) Sallis, J .Heidegger and the path of Thinking ,p.166.‬‬
‫‪ ❖ 344‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫السمة الرابعة‪ :‬سيطرة التفكري احلسايب(‪:)1‬‬


‫عام سبق ‪ -‬انشغال اإلنسان ه‬
‫بكل ما هو مبارش‪،‬‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن من سامت اخلطر ‪ -‬فضال َّ‬ ‫ى‬
‫وتفسريه لألشياء يف ضوء العالقة الع ّل َّية‪ ،‬ويف ضوء التفكري احلساب الذي أصبح يسيطر ى‬
‫عل‬
‫اإلنسان‪ ،‬بحيث انته ىى إ ىل نوع من الكشف ال يزيد عن كونه نظاما حساب ًّيا‪ ،‬ما يستبعد َّ‬
‫كل‬
‫خرى للكشف‪.‬‬ ‫إمكان َّية ُأ ى‬
‫تبقى احلقيقة حمتجبة‪ ،‬مقنعة‪ ،‬وخافية عنّا(‪.)2‬‬ ‫إذا يف ه‬
‫ظل اخلطر الناجم عن التقن َّية ى‬
‫السمة اخلامسة‪ :‬نسيان الوجود‪:‬‬
‫أشار هايدغر إ ىل أ َّنه يف التقن َّية تصبح عالقتنا باللغة واألشياء مهدَّ دة؛ أل َّنه من خالل اللغة‬
‫مرة‪ ،‬ويتح َّقق ِّلا الوجود‪ ،‬ما يعني َّ‬
‫أن سوء استخدام اللغة ُيد همر عالقتنا‬ ‫ألول َّ‬
‫تكون األشياء َّ‬
‫احلميمة باألشياء‪ ،‬وهذا التهديد يكمن مصدره يف التهديد األسايس املتم هثل يف نسيان الوجود‬
‫ح َّت ىى يمكن القول َّ‬
‫بأن جذور اإلنسان يف عرصنا هذا مهدَّ دة ح َّت ىى الصميم‪.‬‬
‫إن هايدغر يدعونا إ ىل ْ‬
‫أن نرتك أنفسنا لندخل يف حركة التحول(‪ )3‬التي تكفل لنا عودة من‬ ‫َّ‬
‫جديد إ ىل جذور اإلنسان‪ ،‬وهذه العودة تدعونا بدورها إ ىل اإلنصات إ ىل نداء الوجود‪،‬‬
‫والتحدث بلغة هي لغة العودة إ ىل األصل أو (الوطن) املسؤولة عن ُأسلوبه يف الكشف‪.‬‬
‫إل جمال ُيم هكنه‬
‫والتجميع هو أعظم األخطار يف هذا الصدد‪ ،‬أل َّنه ُهيده د بإنكار دخول اإلنسان ى‬
‫من اإلنصات إ ىل نداء(‪ )4‬الوجود؛ بل إ َّنه يدفعه دفعا إ ىل نسيان الوجود‪.‬‬
‫أي نوع من الكشف‪ ،‬وأ َّنه يصبح غافال‬
‫يرى َّ‬
‫أن ى‬‫أن اإلنسان لن يكون بوسعه ْ‬
‫يعني ذلك َّ‬
‫عن ذلك الكشف الذي ُيم هكنه بدوره من رؤية ماه َّية املنكشف‪ .‬واخلطر كله يتم َّثل يف َّ‬
‫أن‬
‫املعنى احلقيقي لإلرسال‪ ،‬أ ًّيا كانت طبيعة إرسال الكشف‪ ،‬ووقت‬
‫ى‬ ‫اإلنسان قد ُيسيئ فهم‬
‫حدوثه(‪.)5‬‬

‫‪(1) Calculative thinking.‬‬


‫‪(2) Kockelmans, J.J :On the Truth.p. 241- 242.‬‬
‫‪(3) Kehre - turning.‬‬
‫‪(4) Sallis, J.J.Heidegger and the path of Thinking , p.168.‬‬
‫‪(5) Kockelmans, J.J :On the Truth .p.241.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪345‬‬

‫َّ‬
‫إن التجميع يف ماه َّية التقن َّية ال ُيجب فقط طريقة الكشف‪ ،‬وإ َّنام ُيجب أيضا الكشف‬
‫ذاته‪ ،‬أي احلقيقة التي حتدث معه؛ أي َّ‬
‫إن التجميع ُيجب بحق نور حقيقة الوجود(‪.)1‬‬
‫يرى هايدغر ‪ -‬ال صلة له باملخاطر التي حتدق باإلنسان احلديث‬
‫إذا اخلطر احلقيقي ‪ -‬كام ى‬
‫يف ه‬
‫كل مكان وزمان‪ ،‬وال باخلطر الذي ُتس هببه أكثر األسلحة تدمريا لإلنسان‪َّ .‬‬
‫إن اخلطر‬
‫احلقيقي هو احتجاب الوجود‪ ،‬فاألمر هنا ليس وصفا للموقف التارخيي للتقن َّية بقدر ما هو‬
‫وصف لتجمع الوجود الذي ي َّتجه بذاته إ ىل اإلنسان‪ .‬كام َّ‬
‫أن من تفرض عليه التقن َّية سيطرهتا‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫فهو ال يزال عاجزا عن االستامع أو رؤية أعمق أرسار الوجود حتت سيطرة التجميع أو‬
‫ناجم عن ماه َّية التجميع‪ ،‬حيث‬
‫ٌ‬ ‫الـ ‪ Ge-stell‬إ َّن اخلطر احلقيقي ‪ -‬كام يراه هايدغر ‪-‬‬
‫معنى الوجود‬
‫ى‬ ‫إل النسيان(‪ ،)2‬ويف هذا التحول الذي ُيجب‬‫يتحول الوجود من احلضور ى‬ ‫َّ‬
‫يكمن اخلطر احلقيقي بالنسبة لإلنسان‪ ،‬حيث يفقد عالقته احلقيق َّية بنفسه وباآلخرين هذا من‬
‫جمرد وسيلة لتبادل املعلومات‪ ،‬بدال من ْ‬
‫أن تكون جتربة‬ ‫ناحية‪ ،‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى تصبح اللغة َّ‬
‫اإلنسان يف الفكر والوجود(‪َّ .)3‬‬
‫إن أعظم األخطار(‪ )4‬ليغيش أبصارنا عن أكثر احلقائق أصالة‬
‫يف ماه َّيتنا أو يف طبيعتنا األساس َّية واملنقذ(‪ )5‬هو إدراك ماه َّية ذلك الغياب(‪.)6‬‬
‫‪ - 2‬ما ينقذ (حل األزمة)‪:‬‬
‫عل املراحل التالية‪:‬‬
‫حل األزمة أو االجتاه نحو ما ينقذ يتم ى‬ ‫بأن َّ‬
‫يمكن القول َّ‬
‫املرحلة األُوىل‪ :‬السؤال عن ماه َّية التقن َّية ا ِّّتاه نحو ما ينقذ‪:‬‬
‫يقول هايدغر مقتبسا عن هيلدرلني‪ :‬لكن هناك حيث يكون اخلطر هناك أيضا ينمو ما‬
‫ينقذ(‪.)7‬‬

‫‪(1) Ibid. p.243.‬‬


‫‪(2) Ibid. p.246 - 249.‬‬
‫‪(3) Lovitt, W .The Question Concerning , Introduction, P.XXXiV.‬‬
‫‪(4) Die höchste Gefahr. the highest (outermost, extreme).‬‬
‫‪(5) Das Rettende. the Saving power.‬‬
‫‪(6) Lanagan, T .The Meaning of Heidegger .P.:197.‬‬
‫‪(7) Wo aber Gefahr ist, Wächst Das Rettende auch .But where danger is, grows the saving‬‬
‫‪Power also. Cp. Hiedegger, M. Die Frage p. 36.‬‬
‫‪ ❖ 346‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يرى هايدغر أ َّن الفعل ينقذ يف معناه املألوف إ َّنام يشري إ ىل العمل ى‬
‫عل إيقاف ما ُهيده دنا‬ ‫ى‬
‫(‪)1‬‬

‫ح َّت ىى يعود األمان والطمأنينة كام كان احلال من قبل؛ ومع ذلك َّ‬
‫فإن الفعل ينقذ يعني عند‬
‫مرة‬
‫ألول َّ‬
‫هايدغر أكثر من ذلك‪ .‬إ َّنه يعني العودة إ ىل األصل أو املاه َّية وذلك إلحضار املاه َّية َّ‬
‫يف صورهتا احلقيق َّية(‪ ،)2‬ففي اللحظة نفسها التي ُيتجب فيها الوجود‪َّ ،‬‬
‫فإن ما ينقذ ي َّتخذ‬
‫عل ماه َّية التقن َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن التجميع أو الـ ‪Ge-‬‬ ‫جذوره من هذا االحتجاب‪ ،‬وإذا ما ط َّبقنا ذلك ى‬
‫‪ُ stell‬يجب(‪ )3‬يف ذاته ما ينقذ(‪ ،)4‬ولكن ‪ -‬يتساءل هايدغر ‪َ -‬أال يمكن للنظرة الفاحصة يف‬
‫مدى يمكن ملا ينقذ ْ‬
‫أن‬ ‫أي ى‬ ‫ماه َّية التجميع بوصفها مصريا للكشف ْ‬
‫أن ُتظهر ما ينقذ؟ وإ ىل ه‬
‫يرى هايدغر أ َّنه وفقا لكلامت الشاعر فليس لدينا احلق يف‬
‫ينمو حيث يوجد مكمن اخلطر؟ ى‬
‫عل ما ينقذ مبارشة دون ما إعداد‪ ،‬حيث‬ ‫أن نتو َّقع أ َّننا سوف نكون قادرين ى‬
‫عل السيطرة ى‬ ‫ْ‬
‫يكون اخلطر(‪.)5‬‬
‫باألحرى‬
‫ى‬ ‫إن األمر املثري للدهشة يف نظر هايدغر ليس َّ‬
‫أن عاملنا قد أصبح تقن ًّيا متاما‪ ،‬وإ َّنام‬ ‫َّ‬
‫أ َّننا مل نستعدّ بعد للتحول الكامل نحو ما ينقذ‪ ،‬وأ َّننا ما زلنا عاجزين عن مواجهته بطريقة‬
‫تأمل َّية بحيث نضع التفكري التأميل وجها لوجه أمام التفكري احلساب(‪.)6‬‬
‫عل إدانه العلم والتقن َّية‪ ،‬ولن‬ ‫و ُيؤ هكد هايدغر يف هذا السياق َّ‬
‫أن التفكري التأميل لن يعمل ى‬
‫أن يضع تصورا ألُسلوب التعامل مع التقن َّية ُيول دون‬ ‫يدعو إ ىل التخلص منهام‪ ،‬وإ َّنام ُياول ْ‬
‫أن تسيطر علينا أو ُحت هولنا إ ىل َّ‬
‫جمرد عبيد‪.‬‬ ‫ْ‬
‫يتعني علينا ْ‬
‫أن ُنف هكر يف حضور الوجود ذاته بوصفه موضوعا خليقا‬ ‫رى َّ‬ ‫ومن ناحية ُأخ ى‬
‫أن نتساءل َّأوال كيف يمكننا ْ‬
‫أن ُنف هكر‪ ،‬أل َّنا لتفكري هو الفعل احلقيقي‪،‬‬ ‫بالتفكري‪ ،‬ولذلك علينا ْ‬
‫عل إحضار الوجود إ ىل اللغة‪ .‬فاللغة تكفل الطريق الذي ينبغي ْ‬
‫أن يسلكه كل‬ ‫أل َّنه يعمل ى‬

‫‪(1) Retten - save.‬‬


‫‪(2) Hidegger, M .Die Frage , p.36.‬‬
‫‪(3) Bergen. harbor.‬‬
‫‪(4) Kockelmans, J.J :On the Trut, P. 244.‬‬
‫‪(5) Heidegger, M .Die Frage .P.37.‬‬
‫‪(6) meditative thinking. calculative thinking.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪347‬‬

‫يسعى إ ىل فعل التفكري‪ ،‬وبدوّنا يفتقر كل فعل إ ىل ال ُبعد األصيل الذي عن طريقه‬
‫ى‬ ‫إنسان‬
‫يتضمنه ذلك من الدخول‬
‫َّ‬ ‫يتو َّقف ُأسلوب اإلنسان يف الوجود‪ ،‬واستجابته لنداء الوجود بام‬
‫خاصة هذه االستجابة‬
‫َّ‬ ‫يف عالقة انتامء مع ه‬
‫كل ما يوجد‪ ،‬والتفكري التأميل هو بصفة‬
‫األصل َّية(‪.)1‬‬
‫ويمكن القول َّ‬
‫بأن التفكري التأميل يتجاوز املبارش والواضح‪ ،‬ويبحث يف العالقة بني‬
‫اإلنسان والوجود من خالل الكشف الذي ُُي هقق االنتامء بينهام‪ ،‬كام أ َّنه خيتلف عن التفكري‬
‫لدى اليونان وغريهم‪ ،‬واإلفادة مم َّا سبق التفكري‬
‫احلساب‪ ،‬أل َّنه يدور يف فلك الرتاث الفكري ى‬
‫ب نحو األمام ينحرص‬
‫جمرد عودة إ ىل الوراء‪ ،‬وإ َّنام هو توث ٌ‬
‫حترر من كونه َّ‬
‫تفكري قد َّ‬
‫ٌ‬ ‫فيه‪ ،‬وأل َّنه‬
‫يف التخطيط والتنظيم والتجهيز لالستخدام(‪ )2‬الذي ي َّتسم به التفكري احلساب‪.‬‬
‫عل ذاته‬ ‫أن التفكري التأميل هبدف العودة إ ىل الوجود ال يمكنه ْ‬
‫أن يربهن ى‬ ‫وغني عن البيان َّ‬

‫ّى‬
‫يتجل من‬ ‫مثل املعرفة الرياض َّية‪ ،‬وليس ذلك أل َّنه ّ‬
‫أقل شأنا من العلوم الدقيقة‪ ،‬وإ َّنام أل َّنه‬
‫نتحول من نسيان الوجود إ ىل مصري‬
‫َّ‬ ‫املوجه إلينا كي ُنف هكر‪ ،‬وكي‬
‫َّ‬ ‫خالل استجابتنا للنداء‬
‫الوجود(‪.)3‬‬
‫املرحلة الثانية‪ :‬الكشف وما ينقذ‪:‬‬
‫أن‬ ‫أن َّ‬
‫كل مصري للكشف هو بمثابة منحة(‪ )4‬تكفل للمنقذ يف هذا املصري ْ‬ ‫ذهب هايدغر إ ىل َّ‬
‫ألن هذه املنحة هي َّأول ما ُُي هقق لإلنسان املشاركة يف الكشف‪.‬‬
‫يزداد وينمو‪ ،‬ذلك َّ‬
‫إل‬
‫خرى ى‬ ‫إذا اإلنسان يرتبط بحدوث احلقيقة‪ ،‬واملنحة التي يتم إرساِّلا بطريقة أو ب ُأ ى‬
‫الكشف هي املنقذ من حيث هو كذلك‪ ،‬ذلك َّ‬
‫ألن املنقذ يرتك اإلنسان ليدرك ماه َّيته‬
‫الصميمة‪ ،‬وتلك املاه َّية التي ُمت هكن يف تأمل الكشف وأيضا تأمل احتجاب ه‬
‫كل ما هو موجو ٌد‪.‬‬
‫يقول هايدغر‪َّ :‬‬
‫إن ماه َّية التقن َّية حتجب يف ذاهتا الظهور املمكن للمنقذ‪ ..‬ونحن عندما‬

‫‪(1) Kockelmans, J.J :On the Truth .P.242 - 247.‬‬


‫‪(2) Lovitt, W .The Question .Intro, P.XXXVII.‬‬
‫‪(3) Sallis, J .Hiedegger and the Path of Thinking ,P.165.‬‬
‫‪(4) ein Gewähren. a granting.‬‬
‫‪ ❖ 348‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫نتأ َّمل هذا الظهور‪ ،‬نقوم بالتجميع من جديد‪ ..‬من خالل ما يتح َّقق له احلضور يف التقن َّية‬
‫بدال من النظر يف ما هو تقني(‪.)1‬‬
‫عل طريق‬‫إن التجميع عند هايدغر هو بمثابة إرسال مصري اإلنسان بحيث يضعه ى‬ ‫َّ‬
‫زود اإلنسان بمدخل إ ىل يشء ليس من صنعه أو اخرتاعه‪ ،‬لذا فهو‬
‫الكشف‪ ،‬وهذا اإلرسال ُي ه‬
‫أن َّ‬
‫كل إرسال يقوم بعمل َّية الكشف ُيدث من‬ ‫اخلطر اجلسيم واملنقذ يف آن واحد‪ ،‬فضال عن َّ‬
‫بأن تلك املنحة ُحت هقق لإلنسان مشاركته يف الكشف الذي هو حدوث‬
‫خالل املنحة‪ ،‬علام َّ‬
‫حلقيقة الوجود التي يبحث عنها‪.‬‬
‫عل ذلك َّ‬
‫أن اإلنسان يف ضوء ما ُيتاجه ويستخدمه يتم ّن ىى حدوث احلقيقة‪ ،‬كام‬ ‫يرت َّتب ى‬
‫ألّنا‬ ‫ِ‬ ‫عل ذلك َّ‬
‫إل عمل َّية الكشف هي أيضا ما ينقذه َّ‬
‫أن املنحة التي ُترسل اإلنسان ى‬ ‫يرت َّتب ى‬
‫سمى مراتب وجوده الصميم(‪.)2‬‬
‫ترتك اإلنسان ليبلغ أ ى‬
‫كشف أسايس يمنح ما‬
‫ٌ‬ ‫يتساءل هايدغر يف هذا الصدد بقوله‪َ .. :‬أال يمكن ْ‬
‫أن يكون هناك‬
‫األول يف غمرة اخلطر؟ إ َّنه ‪ -‬يف رأي هايدغر ‪ -‬ذلك الكشف الذي ُيجب أكثر‬
‫ينقذ انبثاقه َّ‬
‫من كونه يكشف يف عرص التقن َّية(‪.)3‬‬
‫إحدى صور إحضار‬ ‫ى‬ ‫أن اإلرسال الراهن للوجود هو التجميع وهو‬ ‫يرى هايدغر َّ‬ ‫كام ى‬
‫خرى من حني إ ىل آخر‪ ،‬علام َّ‬
‫بأن مصري‬ ‫تتحول إ ىل صورة ُأ ى‬
‫َّ‬ ‫الوجود‪ ،‬وهي الصورة التي سوف‬
‫رسل نفسه يف‬ ‫كل حال وعندما ُيدث تغري يف الوجود‪ ،‬فإ َّنه ي ِ‬ ‫الوجود يتحدَّ د يف إرساالته يف ه‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ول‪ ،‬وال يتم إلغاؤها(‪.)4‬‬‫عرب عن حضوره بحيث ال ُتس َتبعد الصورة األُ ى‬ ‫صورة ُأ ى‬
‫خرى ُت ه‬
‫املرحلة الثالثة‪ :‬الفن والشعر وما ينقذ‪:‬‬
‫ّتنى‪ ،‬وإ َّنام كانت‬
‫مىض مل تكن التقن َّية وحدها هي التي حتمل اسم ى‬
‫يقول هايدغر‪ .. :‬فيام ى‬
‫ّتنى فيام‬ ‫ّتنى تعني أيضا هذا الكشف الذي ُيرض احلقيقة يف ّ‬
‫جتيل الظهور‪ ،‬وكانت ى‬ ‫كلمة ى‬

‫‪(1) Heidegger, M .Die Frage .P.40.‬‬


‫‪(2) Kockelmans, J.J. On the Truth .P.245.‬‬
‫‪(3) Heidegger, M.Die Frage .P.40.‬‬
‫‪(4) Kockelmans, J.J. On the Truth .P. 246 - 247.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪349‬‬

‫سم ىى أيضا‬ ‫مىض تعني أيضا حضور احلقيقي يف اجلميل(‪َّ ،)1‬‬


‫ألن إنتاج الفنون اجلميلة كان ُي ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫ى‬
‫ّتنى(‪.)3‬‬
‫ى‬
‫النص السابق إ ىل أ َّنه يف بداية املصري الغرب ارتفعت الفنون عند اليونان‬
‫أشار هايدغر يف ه‬
‫مستوى من الكشف‪ ،‬فكانت هذه الفنون تكشف عن حضور اآلِّلة‪ ،‬وعن احلوار‬
‫ى‬ ‫أعل‬
‫إ ىل ى‬
‫ّتنى‬
‫بني ما هو طبيعة إِّل َّية ‪ ،‬وعن املصائر اإلنسان َّية‪ .‬والفن يف ذلك احلني مل يكن اسمه ى‬
‫(‪)4‬‬

‫عل احلفاظ عليها‪،‬‬


‫وقادر ى‬
‫ٌ‬ ‫لقوة حقيق َّية‪،‬‬
‫بمعنى أ َّنه ط هي ٌع َّ‬
‫ى‬
‫(‪)5‬‬
‫ومتنوعا‪ ،‬وتق ًّيا‬
‫ه‬ ‫فكان كشفا فريدا‬
‫واألمر اِّلام هو َّ‬
‫أن الفنون ‪ -‬وفقا ملا يراه هايدغر ‪ -‬مل تكن تستمد أصلها من اإلحساس‬
‫الفنّي‪ ،‬فاألعامل الفنّ َّية(‪ )6‬مل تكن قط موضوع متعة مجال َّية(‪.)7‬‬
‫يتساءل هايدغر‪ :‬ماذا كان الفن يف هذه اللحظات القصرية الرائعة من التاريخ؟ ولِـ َم محل‬
‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫ّتنى؟ ذلك أل َّنه كان انكشافا منتجا‪ ،‬ولذلك كان ينتمي إ ىل الشعر أو اإلنتاج‬
‫اسم ى‬
‫كل فن مجيل‪ ،‬أو هو الشعر‪ ،‬وكل‬ ‫األسايس للكلمة‪ .‬إ َّنه ذلك الكشف الذي يتح َّكم متاما يف ه‬
‫ما هو ذو طبيعة شاعر َّية‪.‬‬
‫دعى إ ىل املشاركة يف الكشف الشعري(‪)8‬؟ وهل يمكن من‬ ‫فهل ينبغي للفنون اجلميلة ْ‬
‫أن ُت ى‬
‫ؤسس من جديد النظرة امل َّتجهة إ ىل ما يمنح‬ ‫نمو ما ينقذ‪ْ ،‬‬
‫وأن توقظ و ُت ه‬ ‫عرب عن ه‬ ‫جانبها ْ‬
‫أن ُت ه‬
‫لتضع بالتال ثقتنا فيه(‪)9‬؟‬

‫‪(1) das Schöne. the beautiful.‬‬


‫‪(2) poiesis‬‬
‫‪(3) Heidegger, M .Die Frage ,P.42.‬‬
‫‪(4) das göttliche . divine.‬‬
‫عل التوال هي‪:‬‬
‫(‪ )5‬الصفات ى‬
‫‪einziges . vielfältiges . fromm . single . manifold . pious.‬‬
‫‪(6) Die Kunstwerke . Art works.‬‬
‫‪(7) Ibid., P.42.‬‬
‫حممد سبيال‪ ،‬التقني َّة‪ ،‬احلقيقة‪ ،‬الوجود‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫ّ‬
‫‪(8) das dichterisch Entbergen . Poetic revealing.‬‬
‫‪(9) Heidegger, M :.Die Frage, P.43.‬‬
‫‪ ❖ 350‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫األقىص‪ ،‬فهل يمكن ملاه َّية‬


‫ى‬ ‫للفن وسط اخلطر‬
‫ه‬ ‫وإذا كانت اإلمكان َّية العليا ملا ينقذ ممنوحة‬
‫التقن َّية ْ‬
‫أن حتدث مع حدوث احلقيقة؟‬
‫يرى هايدغر يف اإلجابة عن ذلك السؤال َّ‬
‫أن ماه َّية التقن َّية ليست شيئا تقن ًّيا‪ ،‬لذا فالتأمل‬ ‫ى‬
‫اجلوهرى حول التقن َّية‪ ،‬واملواجهة احلاسمة معها ُيدثان يف جمال يكون من جهة مدركا ملاه َّية‬
‫ى‬
‫التقن َّية‪ ،‬ومن جهة ُأ ى‬
‫خرى خيتلف أساسا عنها ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫أن ف ّعال َّية اإلنسان وحدها ال ُمت هكنه من مواجهة اخلطر بصورة مبارشة‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ي َّتضح مم َّا سبق َّ‬
‫أسمى ممَّا ُهيدَّ د باخلطر‪.‬‬
‫ى‬ ‫عليه ْ‬
‫أن ُيف هكر يف ما ينقذ بحيث تكون ماه َّيته‬
‫إل‬
‫ّتنى ال تشري فقط ى‬
‫مىض حيث كانت كلمة ى‬ ‫ى‬ ‫عل هذه املاه َّية يف عرص‬
‫يعثر هايدغر ى‬
‫ّتنى تعني‬
‫أن كلمة ى‬‫تتجل من خالله احلقيقة‪ ،‬استنادا إ ىل َّ‬
‫ّى‬ ‫التقن َّية‪ ،‬وإ َّنام إ ىل الكشف الذي‬
‫ومتنوع‪ ،‬قادر‬
‫ه‬ ‫فن كشف فريد‪،‬‬
‫ّتنى بوصفها َّ‬ ‫حدوث احلقيقي يف صورة اجلميل ذلك َّ‬
‫أن الـ ى‬
‫عل احلقيقة(‪.)2‬‬
‫عل احلفاظ ى‬
‫ى‬
‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى يشري هايدغر إ ىل َّ‬
‫أن الشاعر الذي يقول‪:‬‬
‫لكن هناك حيث يكون اخلطر‪..‬‬
‫هناك أيضا ينمو ما ينقذ ما ينقذ‪..‬‬
‫عل هذه األرض‪.‬‬
‫ى‬
‫(‪)3‬‬
‫يقول أيضا‪ .. :‬سكن اإلنسان شاعري‬
‫فالشعر يضع احلقيقي يف أُ فق ما ُي س ّم يه أفالطون يف حماورة فايدروس ما يستيض ء‬
‫كل فن َّ‬
‫وكل فعل تنكشف من خالله ماهيَّة‬ ‫بمنتهى الصفاء‪ ،‬فام هو شاعري ينقذ َّ‬
‫ى‬ ‫وينري‬
‫اجلميل(‪.)4‬‬
‫إذا كل كشف ي َّتخذ جذوره األساس َّية من التفكري التأميل الذي أطلق هايدغر عليه اسم‬

‫‪(1) Ibid.‬‬
‫حممد سبيال وعبد اِّلادي مفتاح‪ :‬التقنية‪ ،‬ص ‪.85‬‬
‫قارن‪ّ :‬‬
‫‪(2) Kockelmans, J.J. On the Truth ,P. 245 - 246.‬‬
‫‪(3) dichterisch wohnet der Mensch anf dieser Erde . Poetically dwells man upon this earth .‬‬
‫‪(4) Heidegger, M .Die Frage .P.43.‬‬
‫حممد سبيال‪ ،‬التقنية‪ ،‬احلقيقة‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫قارن أيضا‪ّ :‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪351‬‬

‫كشف شاعري(‪.)2‬‬
‫ٌ‬ ‫إن َّ‬
‫كل كشف أسايس عنده هو‬ ‫الكشف الشاعري(‪ ،)1‬من حيث َّ‬
‫املرحلة الرابعة‪ :‬االنفتاح عىل ماه َّية التقن َّية‪:‬‬
‫أوضح هايدغر أ َّنه إذا كان التجميع بني الوجود واإلنسان من خالل عامل التقن َّية رضورة‪،‬‬
‫عل سيطرة‬ ‫َّ‬
‫فإن ذلك التجميع هو بمثابة مقدّ مات للحادث ‪ ،‬ويف هذا احلادث يتم التغلب ى‬
‫(‪)3‬‬

‫التجميع‪ ،‬والتخلص من هيمنة التقن َّية ليعود اإلنسان من جديدس هيدا ِّلا‪ .‬ويعني ذلك َّ‬
‫أن‬
‫احلادث هو ذلك املجال الذي يصل من خالله كل من اإلنسان والوجود إ ىل اآلخر من حيث‬
‫ماه َّيتهام احلقيقية‪ ،‬ومن خالله أيضا يتخ َّلصان من ه‬
‫كل الصفات التي نسبتها إليهام امليتافيزيقا‬
‫بأن يتل ّق ىى التفكري الوسائل الرضور َّية‬
‫إن التفكري يف احلادث عند هايدغر يقيض ْ‬
‫الكالسيك َّية‪َّ .‬‬
‫حرة مع ماه َّية التقن َّية‪.‬‬
‫ال من عامل التقن َّية وإ َّنام من بنية اللغة‪ ،‬هبدف الدخول يف عالقة َّ‬
‫أعمى أو‬
‫ى‬ ‫فإن حتديد املصري ال يلزم اإلنسان ْ‬
‫بأن يرتبط بالتقن َّية ارتباطا‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫يتمرد عليها يائسا منها كام لو كانت من عمل الشيطان؛ فالعكس هو الصحيح‪ .‬إذا َّ‬
‫إن‬ ‫ْ‬
‫بأن َّ‬
‫عل ماه َّية التقن َّية ُُي هررنا لالستجابة لنداء الوجود‪ ،‬كام ُُي هررنا لإلنصات إ ىل معنى‬
‫االنفتاح ى‬
‫املعنى مل خيرتعه اإلنسان وليس من صنعه‪ ،‬فضال عن‬
‫ى‬ ‫جديد(‪ )4‬كامن يف التقن َّية احلديثة‪ ،‬وهذا‬

‫‪(1) The fundamental Dictare.‬‬


‫‪(2) Langan, T .The Meaning, P.197.‬‬
‫‪(3) Ereignis . event of appropriation Ereigins.‬‬

‫‪ُ :Das Ereigins‬ت ِ َ‬


‫رمجت كلمة ‪ Ereigins‬يف اإلنجليز َّية إ ىل عدَّ ة ترمجات منها ‪ appropriation‬و‪،Concern‬‬
‫وتعني‪ :‬ما يتع َّلق باإلنسان وينتمي إليه‪ ،‬وتعني حرفيا التمييز بالعني والرؤية‪ ،‬وهي مستمدَّ ة من‬
‫الالتينية‪ ،‬وأحد معاين ‪ Cerno‬هو التمييز والرؤية‪ ،‬ومن َث َّم تتشابه مع ‪ Ereigins‬إصطالح ًّيا‬
‫‪َّ Con.Cerno‬‬
‫صور ‪ er.eigen‬مستمدّ أصال من النشاط‬
‫وضح‪ ،‬ومنها ‪ Auge‬أو العني‪ ،‬فتُ ه‬
‫بمعنى ُي ه‬
‫ى‬ ‫املشت َّقة من ‪augen‬‬

‫معنى هذا املصطلح فهي تشري إ ىل الذات وامتالكها‪ ،‬وتشري إ ىل‬


‫ى‬ ‫البرصي‪ ،‬أ َّما فكرة احلدوث التي ُتؤ ّدي‬
‫قربنا من الوجود الذي ننتمي إليه‪ ،‬بحيث يمكن القول‪ :‬إ َّّنا تصف املجال‬‫قرب الوجود الشديد منه‪ ،‬و ُت ه‬
‫الداخيل الذي يتالمس فيه كل من الوجود واإلنسان وفقا ملاه َّية كل منهام‪ ،‬ومن خالله ُُي هقق كل منهام‬
‫طبيعته األساسيَّة‪.‬‬
‫‪Cp. Heidegger, M .Essays in Metaphysics: Identity & Difference ,P. 27, P. 73.‬‬
‫‪(4) Kockelmans, J.J. On the Truth ,P. 240 - 241.‬‬
‫‪ ❖ 352‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أ َّنه يكشف عن نفسه بطريقة غري مبارشة‪ ،‬وُيتجب يف الوقت نفسه‪ ،‬وتلك هي السمة‬
‫األساس َّية ملا يطلق عليه هايدغر اسم الِّس(‪ .)1‬ويصف هايدغر السلوك الذي ُيم هكن اإلنسان‬
‫عل الِّس(‪ ،)2‬علام َّ‬
‫بأن‬ ‫املعنى املحتجب يف التقن َّية باالنفتاح ى‬
‫ى‬ ‫عل‬ ‫أن َّ‬
‫يظل منفتحا ى‬ ‫املعارص من ْ‬
‫مستقرا لنا بطريقة خمتلفة جدًّ ا‪ ،‬كام َّ‬
‫أن‬ ‫ًّ‬ ‫عل ْ‬
‫أن ن َّتخذ من هذا العامل‬ ‫ذلك االنفتاح يمنحنا القدرة ى‬
‫هذا االنفتاح ال يتم َّإال من خالل التفكري التأميل الذي سبقت اإلشارة إليه(‪.)3‬‬
‫سؤال عن الكشف واحلجب اللذين َحتدُ ث‬
‫ٌ‬ ‫ي َّتضح لنا مم َّا سبق َّ‬
‫أن السؤال حول التقن َّية هو‬
‫نمو ملا‬ ‫وعل ْ‬
‫أن نكتشف ما فيه من ه‬ ‫ى‬ ‫عل رؤية اخلطر‪،‬‬
‫من خالِّلام احلقيقة‪ ،‬لذا فهو يساعدنا ى‬
‫ينقذ أو(‪ )4‬ما يمكن ْ‬
‫أن ينقذنا‪.‬‬
‫املرحلة اخلامسة‪ :‬دور اإلنسان يف الكشف (التحول إىل الوجود)‪:‬‬
‫ه َّية دور اإلنسان يف الكشف عن ماه َّية التقن َّية‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن ماه َّية التقن َّية ال‬ ‫مل يذكر هايدغر أ ّ‬
‫حتدث تغريا يذكر بمعزل عن اإلنسان من حيث ماه َّيته‪ ،‬فضال عن َّ‬
‫أن حضور الوجود ال يتم‬
‫يتم احلفاظ عليه بوصفه وجودا للموجود‪.‬‬
‫بمنأى عن وجود اإلنسان لكي َّ‬
‫ى‬
‫أن ماه َّية‬ ‫أن يتغ َّلب ى‬
‫عل التقن َّية بذاته‪ ،‬ذلك َّ‬ ‫فإن اإلنسان ال يمكن ْ‬
‫وعل الرغم من ذلك َّ‬
‫ى‬
‫عل مكمن احلقيقة يف التقن َّية‪ ،‬كام َّ‬
‫أن‬ ‫التقن َّية يمكن جتاوزها فقط إذا أمكن لإلنسان العثور ى‬
‫عل التجميع بوصفه إرساال للوجود ال يتم من خالله وصول إرسال ُأخر ال يمكن‬ ‫التغلب ى‬
‫حسابه علم ًّيا بصورة مسبقة(‪.)5‬‬
‫فإّنا‬
‫تبقى حمتجبة حتت سيطرة التقن َّية‪َّ ،‬‬
‫الالحجب ى‬‫وإذا كانت احلقيقة أو الكشف أو َّ‬
‫يتم ذلك بدون‬ ‫ّى‬
‫ليتجل الوجود بدوره‪ ،‬ولن َّ‬ ‫سوف ّ ى‬
‫تتجل من جديد من خالل ذلك احلجب‪،‬‬
‫مستحيل بدون اإلنسان ‪ ،‬أو بعبارة ُأ ى‬
‫خرى بدون‬ ‫ٌ‬ ‫كل كشف عن الوجود‬ ‫ألن َّ‬
‫اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫(‪)6‬‬

‫‪(1) mystery‬‬
‫‪(2) Openness to the mystery.‬‬
‫‪(3) Ibid. P.243.‬‬
‫‪(4) Ibid. P.245.‬‬
‫‪(5) Ibid. P.247.‬‬
‫‪(6) Lovitt, W .The Question .Intro, P.XXXV. XXXVI.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪353‬‬

‫اإلنسان ال يمكن ْ‬
‫أن يظهر الوجود يف جمال االنفتاح بوصفه وجو َد ما يوجد‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن هايدغر إ َّنام يدعونا هنا إ ىل جتاوز الرتاث امليتافيزيقي الكالسيكي جتاه التقن َّية احلديثة‬
‫جمرد يشء مصنوع(‪ )1‬أو خمزون ليس بمقدوره الفرار من طغياّنا‪.‬‬
‫التي ترد اإلنسان إ ىل َّ‬
‫أوضح هايدغر طبيعة التحول من نسيان الوجود إ ىل حقيقة الوجود‪ ،‬فحيثام يكون اخلطر‬
‫يكون أيضا حترر الوجود‪ ،‬وهذا التحول إ َّنام ُيدث عن طريق الوجود ذاته‪ ،‬وبصورة فجائ َّية‪،‬‬
‫وهو بالتأكيد ال يتم عن طريق عالقة السبب ‪ -‬النتيجة(‪ ،)2‬فضال عن َّ‬
‫أن هذا التحول يتم يف‬
‫إطار التجميع ومن خالل ماه َّية التقن َّية بوصفها خطرا‪.‬‬
‫عل ْ‬
‫أن‬ ‫ويف هذا التحول يتح َّقق للوجود احلضور واالنفتاح وحتدث حقيقة الوجود‪ ،‬ى‬
‫أن ننظر إليها َّأوال من خالل الوجود ال من خالل‬ ‫أن كلمة يوجد(‪ )3‬ال بدَّ ْ‬
‫نضع يف االعتبار َّ‬
‫ٌ‬
‫إرسال أسايس‬ ‫املوجود ذاته‪ ،‬واليشء نفسه يقال عن التجميع إذ إ َّنه يف التجميع مل يزل هناك‬
‫للوجود‪ ،‬فإذا استجاب اإلنسان يف وجوده إ ىل نداء البصرية(‪ )4‬استنادا إ ىل َّ‬
‫أن التبرص يف ما هو‬
‫فإن احلادث ذاته ومن خالله تنكشف حقيقة الوجود يف‬ ‫سم ىى حدثت حول الوجود َّ‬‫موجو ٌد ُي ّ‬
‫صورة(‪ )5‬إنارة‪.‬‬
‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫ألن اإلنارة الفجائ َّية حلقيقة الوجود التي حتدث يف ماه َّية التقن َّية‪ ،‬هي‬
‫باألحرى كشف‬
‫ى‬ ‫رؤي ٌة للوجود ذاته‪ ،‬وملا يوجد‪ ،‬وال ُي ه‬
‫عرب ذلك عن رؤية اإلنسان‪ ،‬فإ َّنه‬
‫الوجود عن ذاته‪.‬‬
‫كشف‬
‫ٌ‬ ‫وهايدغر يستخدم كلمة احلادث كام سبق اإلشارة للتعبري عن هذه اإلنارة التي هي‬
‫إحضار للرؤية بحيث يعيد‬
‫ٌ‬ ‫يتحول يف إطار الوجود ذاته‪ ،‬إ َّنه الكشف الذي ُيدث‪ ،‬وهو‬
‫َّ‬ ‫ذات‬
‫الوجود إ ىل ذاته‪ ،‬ويرد ماه َّية التقن َّية إ ىل ذاهتا بوصفها كشفا بحيث يمكن القول َّ‬
‫بأن التجميع‬
‫بأن التجميع هو صور ٌة سلب َّي ٌة ِّلذا‬
‫املعنى ها التجميع نفسه‪ ،‬كام يمكن القول َّ‬
‫ى‬ ‫والكشف هبذا‬

‫‪(1) Langan, T .The Meaning of Heidegger .P.197.‬‬


‫‪(2) Kockelmans, J.J.On the Truth .P.248.‬‬
‫‪(3) Es ist - It is.‬‬
‫‪(4) Einblick, the insight.‬‬
‫‪(5) Ibid. P.248 - 249.‬‬
‫‪ ❖ 354‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الكشف‪ ،‬حيث يلتقي الوجود واإلنسان يف التجميع لقاء غريبا‪ ،‬بينام يتج ّليان يف نور الكشف‬
‫احلقيقي وينتمي كل منهام إ ىل اآلخر وتظهر ماه َّيتهام الصميمة(‪.)1‬‬
‫لقد عرف اليونان بالفعل عالقة املع َّية بني اإلنسان والوجود‪ ،‬ولكن يف عرصنا احلال‬
‫عل الكشف الذي ُيدث وجيعل ًّ‬
‫كال من اإلنسان والوجود يف عالقة‬ ‫يمكن إلقاء الضوء ى‬
‫انتامء يمكن جتربتها دوما من جديد‪.‬‬
‫يرى هايدغر أ َّنه يف التجميع وخصوصا يف التحدّ ي املتبادل بني اإلنسان والوجود‬‫ى‬
‫للدخول يف عالقة حساب َّية ملا يمكن ْ‬
‫أن خيضع للحساب‪ ،‬ما هو جديدٌ يف هذه العالقة يظهر‬
‫عل االنتامء بني اإلنسان والوجود ُأسلوب املع َّية بينهام؛ أي إ َّنه من‬
‫ويتجل‪ ،‬بحيث يتو َّقف ى‬
‫ّى‬
‫خالل حضور ماه َّية التقن َّية احلديثة تنبثق إمكان َّي ٌة جديد ٌة أكثر ثراء للعالقة بني اإلنسان‬
‫وكل ما يوجد أو ما ُو ِجدَ من قبل(‪.)2‬‬ ‫والوجود‪ ،‬ومن َث َّم بني اإلنسان ه‬
‫تعقيب‪:‬‬
‫عل طريقة التجميع أو الـ ‪ Ge-stell‬يواجهنا‬ ‫نستلخص مم َّا سبق َّ‬
‫أن املصريعندما يسيطر ى‬
‫عل مفارقة‪.‬‬
‫اخلطر احلقيقي بحيث تنطوي هذه املواجهة ى‬
‫عل مفارقة اخلطر‬
‫نحاول يف هذا التعقيب اإلجابة عن السؤال التال‪ :‬ما النتائج املرت هتبة ى‬
‫فِّس من خالِّلا هايدغر ماه َّية التقن َّية؟‬
‫هو ما ينقذ التي َّ‬
‫عرب عن األزمة التي تواجهنا يف البحث عن ماه َّية التقن َّية ‪ -‬موضوع هذا‬
‫اخلطر يف العبارة ُي ه‬
‫عل هذا اخلطر النتائج التالية‪:‬‬
‫األول من املفارقة‪ ،‬ويرت َّتب ى‬
‫البحث ‪ -‬وهو الطرف َّ‬
‫النتيجة األُوىل‪ :‬سيطرة الـ ‪ Ge-stell‬أو التجميع‪ ،‬حيث ينشغل بتنظيم املخزون ح َّت ىى إ َّنه‬
‫بمعنى أ َّنه مل يعد يدرك التجميع بوصفه نداء وخيفق يف إدراك أ َّنه‬
‫ى‬ ‫يبتعد عن ماه َّيته الصميمة‪،‬‬
‫املنادى‪ ،‬ويف اإلنصات إ ىل نداء الوجود‪.‬‬
‫ى‬
‫املعنى احلقيقي للكشف بوصفه جت ّليا للظهور‪ُ ،‬‬
‫وهيده د بإنكار قدرته‬ ‫ى‬ ‫إذا التجميع ُيجب‬
‫عل الدخول يف كشف أصيل أو يف جتربة احلقيقة األصل َّية‪.‬‬
‫ى‬

‫‪(1) Lovitt, W .The Question ,Introduction, P.XXXVI.XXXVII.‬‬


‫‪(2) Ibid. P.XXXVII.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪355‬‬

‫بمعنى عدم الدخول يف جتربة حقيق َّية معها‪،‬‬


‫ى‬ ‫النتيجة الثانية‪ :‬االنشغال عن ماه َّية التقن َّية‪،‬‬
‫وك َّلام زاد انشغالنا عنها‪ ،‬واستغراقنا يف املخزون‪ ،‬اقرتبنا أكثر فأكثر مم َّا ينقذ‪.‬‬
‫النتيجة الثالثة‪ :‬حجب الكشف وهتديد عالقة اإلنسان بذاته‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن اخلطر يف ماه َّية‬
‫أن الكشف الذي يتحدّ ىى اإلنسان يصبح مقياس األشياء مجيعا‪ ،‬وهذا الكشف ُيجب‬ ‫التقن َّية َّ‬
‫كل إمكان َّية ُأ ى‬
‫خرى للكشف‪ ،‬تلك اإلمكان َّية‬ ‫مقياس األشياء مجيعا‪ ،‬وهذا الكشف ُيجب َّ‬
‫التي ُمت هثل حضورا أصل ًّيا ومحيام لألشياء‪.‬‬
‫فِّس‬ ‫النتيجة الرابعة‪ :‬سيطرة التفكري احلساب‪ ،‬حيث ينشغل اإلنسان ه‬
‫بكل ما هو مبارش‪ ،‬و ُي ه‬
‫األشياء يف ضوء العالقة الع ّل َّية والتفكري احلساب‪ ،‬فينتهي إ ىل نوع من الكشف احلساب الذي‬
‫كل إمكان َّية ُأ ى‬
‫خرى للكشف ُتؤ ّدي إ ىل احلقيقة‪.‬‬ ‫يستبعد بدوره َّ‬
‫النتيجة اخلامسة‪ :‬نسيان الوجود‪ ،‬ففي التقن َّية تصبح عالقتنا باللغة واألشياء مهدَّ دة‪ ،‬أل َّنه‬
‫مرة‪ ،‬ويتح َّقق ِّلا الوجود‪ ،‬والتقن َّية ُحت هول اللغة إ ىل َّ‬
‫جمرد‬ ‫ألول َّ‬
‫من خالل اللغة تكون األشياء َّ‬
‫وهيده د بنسيان الوجود‪ ،‬وحجب‬
‫وسيلة لتبادل املعلومات ما يد همر عالقتنا احلميمة باألشياء‪ُ ،‬‬
‫املعنى احلقيقي إلرسال الوجود‪.‬‬
‫ى‬
‫عرب عن ه‬
‫(حل األزمة) وهو الطرف الثاين من املفارقة‪ ،‬وقد تر هتب‬ ‫أ َّما ما ينقذ يف العبارة ف ُي ه‬
‫عليه ما ييل من نتائج‪:‬‬
‫مرة يف صورهتا احلقيق َّية‪ ،‬ولن‬ ‫النتيجة األُوىل‪ :‬ما ينقذ هو العودة إ ىل األصل واملاه َّية َّ‬
‫ألول َّ‬
‫يتم ذلك َّإال عن طريق التفكري التأميل بوصفه الفعل احلقيقي لإلنسان بام هو كذلك‪ ،‬وهذا‬
‫َّ‬
‫عل إحضار الوجود إ ىل اللغة التي تكفل بدورها الطريق إ ىل فعل التفكري‪.‬‬
‫التفكري يعمل ى‬
‫كام َّ‬
‫أن التفكري التأم يل يتجاوز املبارش والواضح‪ ،‬ويبحث يف العالقة بني اإلنسان‬
‫والوجود‪ ،‬يف ضوء الكشف الذي ُُي هقق االنتامء بينهام‪ ،‬فضال عن أ َّنه ُحت هرر وثبة إ ىل األمام ال‬
‫تنحرص يف التخطيط والتنظيم يف التفكري احلساب‪ .‬إ َّنه العودة للوجود‪ ،‬وهو يف ذلك ال يربهن‬
‫نتحول من‬
‫َّ‬ ‫املوجه إلينا كي ُنف هكر‪ ،‬وكي‬
‫َّ‬ ‫ّى‬
‫يتجل من خالل استجابتنا للنداء‬ ‫عل ذاته‪ ،‬وإ َّنام‬
‫ى‬
‫نسيان الوجود إ ىل مصري الوجود‪.‬‬
‫النتيجة الثانية‪ :‬ما ينقذ هو الكشف‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن مصري الكشف هو بمثابة منحة تكفل‬
‫‪ ❖ 356‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن يزداد وينمو‪ ،‬وهذه املنحة هي َّأول ما ُُي هقق لإلنسان املشاركة يف‬
‫للمنقذ يف هذا املصري ْ‬
‫أسمى مراتب‬ ‫رسله إ ىل الكشف‪ ،‬وتنقذه عندما ترتكه ليبلغ‬ ‫الكشف‪ ،‬بمعنى أّنا هي التي ُت ِ‬
‫ى‬ ‫ى َّ‬
‫وجوده الصميم‪.‬‬
‫يرى هايدغر متأ هثرا باليونان ‪ -‬هو‬
‫النتيجة الثالثة‪ :‬ما ينقذ هو الفن والشعر‪ ،‬فالفن ‪ -‬كام ى‬
‫انكشاف‬
‫ٌ‬ ‫عل احلقيقة‪ ،‬فضال عن أ َّنه‬
‫عل احلفاظ ى‬
‫قادر ى‬
‫متنو ٌع‪ٌ ،‬‬
‫كشف فريدٌ ‪ ،‬ه‬
‫ٌ‬ ‫بمعنى أ َّنه‬
‫ى‬ ‫ّتنى‬
‫ى‬
‫بمعنى الكشف‬
‫ى‬ ‫بمعنى التقن َّية املتداول‪ ،‬وإ َّنام‬
‫ى‬ ‫ّتنى ال‬
‫بمعنى اإلنتاج‪ ،‬وهو ى‬
‫ى‬ ‫شعر‬
‫منتج‪ ،‬لذا فهو ٌ‬
‫ٌ‬
‫الذي ّ ى‬
‫يتجل من خالله اخلطر‪ ،‬أو حدوث احلقيقة يف صورة اجلميل‪.‬‬
‫كل فن َّ‬
‫وكل فعل تنكشف من خالله ماه َّية‬ ‫أن ما هو شاعري هو ما ينقذ َّ‬
‫ير ىى هايدغر َّ‬
‫اجلميل‪ ،‬أي إ َّنام ينقذ َّ‬
‫كل كشف ي َّتخذ جذوره األساس َّية من التفكري التأميل الذي هو بتعبري‬
‫هايدغر الكشف الشاعري‪.‬‬
‫عل سيطرة التجميع‬
‫النتيجة الرابعة‪ :‬ما ينقذ هو احلادث الذي يتم من خالله التغلب ى‬
‫وهيمنة التقن َّية‪ .‬واحلادث هو املجال الذي يلتقي من خالله اإلنسان والوجود من حيث‬
‫ماه َّيتهام الصميمة‪.‬‬
‫وُي هرر اإلنسان من أجل االستجابة لنداء‬ ‫أن احلادث ُُي هقق االنفتاح ى‬
‫عل ماه َّية التقن َّية‪ُ ،‬‬ ‫كام َّ‬
‫باألحرى ُيم هكن اإلنسان من‬
‫ى‬ ‫معنى جديد للتقن َّية احلديثة؛ إ َّنه‬
‫ى‬ ‫الوجود‪ ،‬واإلنصات إ ىل‬
‫الِّس‪ ،‬وهذا االنفتاح جيعلنا نتخذ من‬
‫عل ه‬ ‫املعنى املحتجب يف التقن َّية أو االنفتاح ى‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫االنفتاح ى‬
‫معنى الوجود‪.‬‬
‫ى‬ ‫عل التفكري التأميل يف‬
‫مستقرا لنا بطريقة خمتلفة تقوم ى‬
‫ًّ‬ ‫العامل‬
‫النتيجة اخلامسة‪ :‬ما ينقذ هو التحول إ ىل الوجود الذي ُيم هكن اإلنسان من التغلب ى‬
‫عل‬
‫توصل اإلنسان إ ىل مكمن احلقيقة يف التقن َّية‪ ،‬أي تغ َّلب ى‬
‫عل التجميع بوصفه إرساال‬ ‫اخلطر إذا َّ‬
‫للوجود من خالل إرسال آخر ال يمكن حسابه مسبقا بطريقة علم َّية‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أ َّنه بدون اإلنسان لن يظهر الوجود يف جمال االنفتاح بوصفه وجو َد ما‬
‫ى‬
‫يتم جتاوز امليتافيزيقا الكالسيك َّية والتقن َّية احلديثة التي جتعل من اإلنسان‬
‫يوجد‪ ،‬وبدونه لن َّ‬
‫جمرد يشء مصنوع أو خمزون أو حيوان آل‪.‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫إن ما ينقذ عند هايدغر هو التحول من نسيان الوجود إ ىل حقيقة الوجود‪ ،‬وهذا التحول‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪357‬‬

‫ُيدث عن طريق الوجود ذاته‪ ،‬وبصورة فجائ َّية وال صلة له بالع ّل َّية‪ ،‬ومع ذلك فالتحول يتم‬
‫يف إطار التجميع‪ ،‬ومن خالل ماه َّية التقن َّية بوصفها خطرا‪ ،‬وفيه يتح َّقق للوجود احلضور‬
‫واالنفتاح وحتدث حقيقة الوجود‪.‬‬
‫ويف الكشف الفجائي حلقيقة الوجود ‪ -‬الذي ُيدث يف ماه َّية التقن َّية بتأثري التحول ‪-‬‬
‫رؤي ٌة للوجود ذاته وملا يوجد؛ إ َّنه كشف الوجود عن ذاته‪.‬‬
‫أ َّما عن التجميع فهو صور ٌة سلب َّي ٌة للكشف‪ ،‬وفيه يلتقي اإلنسان والوجود لقاء غريبا‪،‬‬
‫بينام يتج ّليان يف نور الكشف احلقيقي الذي جيمع بينهام يف عالقة انتامء أي إ َّنه من ماه َّية التقن َّية‬
‫أي إمكان َّية جديدة أكثر ثراء للعالقة بني اإلنسان والوجود‪.‬‬
‫احلديثة ينبثق ما ينقذ َّ‬

‫اخلامتة‪:‬‬
‫واآلن‪ ..‬كيف يمكننا االستجابة للتقن َّية من وجهة نظر هايدغر؟‬
‫بالطبع ليس عن طريق الفرار إ ىل التصوف والنزوع إ ىل َّ‬
‫الالمعقول(‪ )1‬وإ َّنام عن طريق‬
‫التفكري التأميل الذي سبقت اإلشارة إليه‪ ،‬ال التفكري احلساب(‪ )2‬السائد يف هذا العرص‪ .‬يمكننا‬
‫عل وجه اخلصوص ْ‬
‫أن ُنف هكر يف ماه َّية التقن َّية‪ ،‬تلك املاه َّية التي ّتتلف عن التقن َّية و ُتؤ ّدي يف‬ ‫ى‬
‫الفن والشعر بوصفهام إنتاجا وكشفا عن احلقيقة‪.‬‬
‫ّناية املطاف إ ىل التفكري يف ه‬
‫عل َّأال هتيمن علينا بحيث نفقد‬
‫فلتكن األدوات يف عرص التقن َّية احلديثة يف متناول اليد ى‬
‫ماه َّية اإلنسان الصميمة‪ ،‬وانتامءه للوجود‪ ،‬فالتقن َّية ليست أداة من صنع اإلنسان ُيسيطر‬
‫عل التاريخ الغرب بأرسه(‪.)3‬‬
‫عليها‪ ،‬وإ َّنام هي تلك الظاهرة التي ُيسيطر فيها الوجود ذاته ى‬
‫عل إنسان العرص احلديث منذ الثورة الصناع َّية‪،‬‬
‫وإذا كانت التقن َّية قد أحكمت قبضتها ى‬
‫عل‬
‫والثقة املطلقة يف قدرة العقل‪ ،‬والصناعة‪ ،‬والعلم‪ ،‬بحيث أصبح اإلنسان س هيد مصريه ى‬
‫فإن كوارث احلربني العامل َّيتني وحروب ُأ ى‬
‫خرى ال حرص ِّلا‪ ،‬والتدمري الذي ال‬ ‫هذه األرض‪َّ ،‬‬

‫‪(1) Inwood, M .A Heidegger Dictionary ,P211.‬‬


‫‪(2) Heidegger, M .Identity & Difference ,P.32.‬‬
‫‪(3) Lovitt, W .The Question ,Introduction. PXXiX.‬‬
‫‪ ❖ 358‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫هوادة فيه للبيئة(‪ )1‬والعامل املحيط‪ ،‬قد ساعدت مجيعا يف توجيه انتقادات حا َّدة للتقن َّية احلديثة‪.‬‬
‫يتم َّإال عن طريق إدراك ماه َّيتها‪ ،‬وجتاوز سيطرة‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن جتاوز السيطرة التقن َّية لن َّ‬ ‫ى‬
‫عل املوجود ال الوجود‪َّ ،‬‬
‫وأن هذا التجاوز هو‬ ‫انصب اهتاممها ى‬
‫َّ‬ ‫امليتافيزيقا الكالسيك َّية التي‬
‫عل هذه‬
‫البداية احلقيق َّية للكشف عن املاه َّية الصميمة لإلنسان بحيث يكون سكن اإلنسان ى‬
‫األرض شاعر ًّيا(‪ ،)2‬كام سبق بيانه‪.‬‬
‫أهم إسهام ِّلايدغر يف فلسفته عن التقن َّية احلديثة هو أ َّنه ُيذ هكرنا َّ‬
‫بأن التقن َّية احلديثة‬ ‫َّ‬
‫ولعل َّ‬
‫إل‬
‫هي املرحلة األخرية من تاريخ حجب الوجود ونسيانه ‪ ،‬واحلل هو التحول من جديد ى‬
‫(‪)3‬‬

‫معنى الوجود‪ ،‬أي التحول من نسيان الوجود إ ىل التفكري يف الوجود(‪ ،)4‬علام َّ‬
‫بأن‬ ‫ى‬ ‫السؤال عن‬
‫معنى الوجود إذا فهمناه فهام صحيحا إ َّنام هو السؤال عن ماه َّية التقن َّية(‪ )5‬يف‬
‫ى‬ ‫السؤال عن‬
‫كشفها عن العالقة احلميمة بني اإلنسان والوجود‪.‬‬
‫يقول هايدغر يف ّناية حمارضته السؤال عن التقن َّية‪ :‬إ َّننا أصبحنا أكثرتساؤال‪َّ ،‬‬
‫ألن السؤال‬
‫تقوى التفكري(‪.)6‬‬
‫ى‬ ‫هو‬
‫وشكر‪ :‬هو تضحي ٌة أل َّنه ُيل ّبي مطلب الوجود‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫التفكري تضحي ٌة‬
‫َ‬ ‫والتقوى هنا تشري إ ىل َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬
‫عل الرغم من ه‬
‫كل ما ُيدث لإلنسان (يف عامل التقن َّية)‪،‬‬ ‫عل حقيقة الوجود ى‬
‫وهو املحافظة ى‬
‫عرب عن ذلك الشكر للفضل الذي أغدقه الوجود‬ ‫ه‬
‫وكل ما هو موجو ٌد‪ ،‬ويف هذه التضحية ُن ه‬
‫عل عاتقه ‪ -‬يف عالقته بالوجود ‪ -‬محاية الوجود‪ .‬والشكر‬
‫عل طبيعة اإلنسان ح َّت ىى يأخذ ى‬
‫ى‬
‫صدى املعروف الذي قدَّ مه الوجود هناك حيث يفسح لنفسه مكانا و ُيس هبب هذا‬
‫ى‬ ‫احلقيقي هو‬

‫‪(1) Zimmerman, M., E .Heidegger’s Confrontation with Modemity. Technology, Politics and‬‬

‫‪Art ,Indi. ana Uni. Press, U.S.A., 1990, P.248 - 249.‬‬

‫‪(2) Langan, T .The Meaning of Heidegger. m P.199.‬‬

‫‪(3) Ibid., P.248.‬‬

‫‪(4) Sallis, J .Heidegger and the Path ,P.167.‬‬

‫‪(5) Ibid., P. 158.‬‬


‫‪(6) Denn des Fragen ist die Frömmigkeit des Denkens/ for Questioning is the Piety of‬‬
‫‪Thought.‬‬
‫األصل يف التقن َّية ❖ ‪359‬‬

‫الصدى هو استجابة اإلنسان لنداء الوجود الذي‬


‫ى‬ ‫احلدث الفريد وهو وجود املوجود‪ ..‬هذا‬
‫ال صوت له‪.‬‬
‫أي حساب‪َّ ،‬‬
‫ألن احلساب ُخيطئ دائام يف تقدير التضحية‬ ‫تتحمل َّ‬
‫َّ‬ ‫إن التفكري تضحي ٌة ال‬
‫َّ‬
‫شوه طبيعة التضحية بالبحث عن غرض‬
‫سمو الغايات وانحطاطها‪ ،‬و ُي ه‬
‫ه‬ ‫ويغض الطرف عن‬
‫ُيكده ر صفو التوفري(‪.)1‬‬
‫إل معناها املعروف‪ :‬الطاعة واالستسالم(‪ ،)2‬أي االستجابة ملوضوع‬
‫التقوى هنا تشري ى‬
‫ى‬ ‫إذا‬
‫التفكري واإلنصات للسؤال‪ ،‬وحماولة فهم معناه‪ ،‬علام بأ َّن َّ‬
‫كل تفكري يبدأ يف ْ‬
‫أن يكون تساؤال‬
‫عند هايدغر‪ ،‬وعندما يبدأ يف ْ‬
‫أن يكون تساؤال عند هايدغر عندها يبدأ بحثه الدؤوب عن‬
‫يبق َّإال ْ‬
‫أن‬ ‫املعنى احلقيقي للوجود‪ .‬هذا هو درب هايدغر اخلاص‪ ،‬وتلك هي غايته‪ ،‬ومل َ‬
‫ى‬
‫ه‬
‫الشاق الفريد!‬ ‫عل دربه‬
‫اخلطى معه ى‬
‫ى‬ ‫نحاول شدَّ‬

‫* * *‬

‫(‪ )1‬فؤاد كامل‪ :‬احلاشية يف مارتن هايدغر‪ .‬ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا‪ ،‬هليدرلني وماهي َّة الشعر‪ ،‬ترمجة فؤاد‬
‫كامل وحممود رجب‪ ،‬سلسلة النصوص الفلسفيَّة (‪ ،)2‬دار الثقافة للطباعة والنرش‪ ،‬القاهرة ‪1973‬م‪،‬‬
‫ص‪ 134 :‬و‪.135‬‬
‫‪(2) Lovitt, W .A Question Concerning Technology ,Introduction. P. XXXIX.‬‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬360

:‫املصادر‬
‫ ترمجة فؤاد كامل وحممود‬،‫ هليدرلني وماهيَّة الشعر‬،‫ ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا‬.‫ احلاشية يف مارتن هايدغر‬:‫فؤاد كامل‬
.‫م‬1973 ‫ القاهرة‬،‫ دار الثقافة للطباعة والنرش‬،)2( ‫ سلسلة النصوص الفلسفيَّة‬،‫رجب‬
Cp. Heidegger, M .Essays in Metaphysics: Identity & Difference.
Heidegger, M .Die Frage.
Inwood, M .A Heidegger Dictionary.
Kockelmans, J, J. On the Truth of Being.
Langan, T .The Meaning of Heidegger; Aceitical Study of the Existentialist
Phenomenology, Routledge & Kegan Paul Ltd, London, Great Britain, 1959.
Lovitt, W ,The Question Concerning Technology.
Sallis, J. Heidegger and the Path of Thinking Duquese, Uni. Press, U.S.A.,
1970.
Zimmerman, M., E .Heidegger’s Confrontation with Modemity. Technology,
Politics and Art ,Indi. ana Uni. Press, U.S.A., 1990.

* * *
‫التقنيَّة احلديثة مثرة العقل املِتافيزيائيّ الغربيّ‬
‫(التبصُّر اهلايدغريّ يف اختالل العالقة بني الكينونة والكائنات واإلنسان)‬
‫(‪)1‬‬
‫مشري باسيل عون‬

‫‪“Weil das Wesen der Technik nichts Technisches ist,‬‬


‫‪darum muß die wesentliche Besinnung auf die‬‬
‫‪Technik und die entscheidende Auseinandersetzung‬‬
‫‪mit ihr in einem Bereich geschehen, der einerseits mit‬‬
‫‪dem Wesen der Technik verwandt und andererseits‬‬
‫‪von ihm doch grundverschieden ist“.‬‬

‫التقنيَّة احلديثة والتباسات دالالتها‪:‬‬


‫يف االقتباس االستهال هل امل ه‬
‫ستل من خامتة املحارضة التي ألقاها مارتن هايدغر (‪- 1889‬‬
‫عل جتاوز ظاهرة‬
‫إرصار ى‬
‫ٌ‬ ‫‪ )1976‬يف العام ‪ 1953‬يف املدرسة التقنية العليا (مونخن‪ ،‬أملانيا)‬
‫التقن َّية احلديثة‪ ،‬من أجل البلوغ إ ىل عمق ماه َّيتها‪:‬‬
‫اجلوهري يف التقن َّية‬ ‫ٍ‬
‫بيشء‪ ،‬جيب عىل التفكر‬ ‫أن ماه َّية التقن َّية ليست من التقن َّية‬
‫بام َّ‬
‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫ناحية‪ ،‬عىل قربى من ماه َّية‬ ‫وعىل املجادلة التي تُشبكنا هبا أن ينشطا يف ٍ‬
‫جمال هو‪ ،‬من‬
‫أسايس معها(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬
‫اختالف‬ ‫ٍ‬
‫ناحية ُأخرى عىل‬ ‫التقن َّية‪ ،‬ومن‬
‫ٍّ‬

‫(‪ُ )1‬أستاذ الفلسفة األملانيَّة يف اجلامعة اللبنانيَّة‪.‬‬


‫غونرت نِسكِه‪ ،‬بفو ّل ِ‬
‫ينغن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫االفتتاحي ُمستل من كتاب هايدغر (حمارضات ومقاالت‪،‬‬ ‫األملاين‬ ‫(‪ )2‬الشاهد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ ،1954‬الطبعة السادسة (‪ ،)1990‬ص ‪.)39‬‬
‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze ,Günther Neske, Pfullingen, 1990, p. 39.‬‬
‫‪ ❖ 362‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل أبعاد هي غري‬ ‫استنادا إ ىل مثل هذا الترصيح اخلطري‪ ،‬يمكن القول َّ‬
‫بأن التقن َّية تنطوي ى‬
‫معنى التقن َّية أو‬
‫ى‬ ‫األبعاد املا ّد َّية اآلل َّية اإلنتاج َّية التي نختربها فيها اختبارا ظاهر ًّيا‪ .‬فأين إذا يقع‬
‫كال‪َ .‬أويف الصناعة؟ َّ‬
‫كال‪َ .‬أويف‬ ‫مضموّنا األعمق الناشب يف ماه َّيتها؟ َأويف اإلتقان؟ َّ‬
‫إل الرخاء واِّلناء وإدامة َّ‬
‫امللذة وإطالة العمر؟‬ ‫اإلنتاج؟ َّ‬
‫كال‪َ .‬أويف الرغبة االبتكار َّية الساعية ى‬
‫عل هذا النحو من اإلرساف يف‬ ‫سوغ نشوء التقن َّية احلديثة ى‬ ‫ر َّبام‪ .‬غري َّ‬
‫أن هذه الغاية ال ُت ه‬
‫أصل التقن َّية ‪ -‬بحسب هايدغر‬‫استنزاف األرض‪ ،‬واستنفاد الكائنات‪ ،‬واستخراج الطاقات‪ُ .‬‬
‫وأحكام‬ ‫َ‬
‫رشوط تصورها‪،‬‬ ‫عني لألشياء‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫املاورائي‪ ،‬أي يف املتافيزياء التي ُت ه‬
‫ه‬ ‫‪ -‬يكمن يف الفكر‬
‫انعقادها‪ ،‬وقواعدَ انبساطها‪ ،‬ومبادئ أدائها‪ ،‬وقوانني فاعل َّيتها‪ .‬ومن َث َّم يعترب هايدغر َّ‬
‫أن هذه‬
‫عل إنشاء عامل ككل متامسك‪ ،‬باتت ّتضع لسلطان العقل‬ ‫األشياء التي يتواطأ ائتال ُفها ى‬
‫أن تفعل فع َلها يف الكائنات‪:‬‬‫القوة والتسلط ْ‬ ‫املاورائي‪ ،‬الذي أباح إلرادة َّ‬
‫ه‬
‫األسايس للظهور الذي فيه تنتظم إراد ُة اإلرادة هي بعينها وحتتسب َّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬ ‫إن الشكل‬‫َّ‬
‫املنجزة يمكن تسميته بوضوح «التقن َّية»‪ .‬وبذلك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يشء يف التارخيان َّية عامل املتافيزياء َ‬
‫جمموع الكائن‪ ،‬أي‬
‫َ‬ ‫مر ٍة‬ ‫يشتمل هذا االسم عىل مجيع ميادين الكائن التي ُّت ِّهز يف ِّ‬
‫كل َّ‬
‫الطبيعة وقد انقلبت موضوع ًا للتناول‪ ،‬والثقافة وقد أضحت موضوع ًا لالنشغال‪،‬‬
‫فإن التقنية ال تعني هنا خمتلف ميادين‬ ‫والسياسة املصنوعة‪ ،‬واملُ ُثل املتسامية‪ .‬وعليه َّ‬
‫إن تسمية «التقن َّية» تُفهم هنا فه ًام مشتقا من‬
‫اآليل‪َّ ]...[ .‬‬‫ِّ‬ ‫اآليل والتجهيز‬
‫ِّ‬ ‫اإلنتاج‬
‫ِ‬
‫ماه َّيتها بحيث تُوافق عنوان املتافيزياء املنجزة(‪.)1‬‬

‫حمارضات ومقاالت‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.76‬‬


‫ُ‬ ‫(‪ )1‬هايدغر‪،‬‬
‫‪Die Grundform des Erscheinens, in der dann der Wille zum Willen im Ungeschichtlichen‬‬
‫‪der Welt der vollendeten Metaphysik sich selbst einrichtet und berechnet, kann bündig‬‬
‫‪‘die Technik ’heißen. Dabei umfaßt dieser Name alle Bezirke des Seienden, die jeweils‬‬

‫‪das Ganze des Seienden zurüsten : die vergegenständliche Natur, die betriebene Kultur,‬‬
‫‪die gemachte Politik und dieübergebauten Ideale‘ .Die Technik ’meint hier also nicht die‬‬
‫‪gesonderten Bezirke der maschinenhaften Erzeugung und Zurüstung ]…[ .Der Name‘ die‬‬
‫‪Technik ’ist hier so wesentlich, daßer sich in seiner Bedeutung deckt mit dem Titel : die‬‬
‫‪vollendete Metaphysik) Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 76(.‬‬
‫الغريب ❖ ‪363‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫ٌ‬
‫مقرتن اقرتانا وثيقا بإرادة اإلرادة‬ ‫تافيزيائي‬‫أن أصل التقنية املِ‬
‫عل َّ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫يدل مثل هذا الكالم ى‬
‫احلساب‪ ،‬واإلغالق‬ ‫ّ‬ ‫ساين‬
‫عنيت هبا العقل اإلن ّ‬
‫ُ‬ ‫املنبثقة من تواطؤ ثالث مرجع ّيات‪،‬‬
‫الطوعي يف زمن اِّليمنة‬ ‫االنحجاب‬ ‫حر َّية الكينونة‪ ،‬وارتضاء الكينونة عينها‬ ‫املِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عل ّ‬
‫تافيزيائي ى‬
‫ّ‬
‫الكون َّية القص َّية‪ .‬فالذات اإلنسان َّية الساعية إ ىل إدراك الكائنات والكينونة أفضت إ ىل تعظيم‬
‫الفكر‬
‫ُ‬ ‫حمض إرادهتا‪ .‬والتصورات املاورائ َّية التي أغلق فيها‬
‫اقتدارها ح َّت ىى غدت تريد َ‬
‫االضطراري من أجل‬ ‫أضحى هو السبيل الوحيد‬ ‫عل رحابة الكينونة‪،‬‬ ‫املِ‬
‫ّ‬ ‫ى‬ ‫ب ى‬‫تافيزيائي الغر ّ‬
‫ّ‬
‫جراء عدوان الذات اإلنسان َّية عليها‪ ،‬ومن‬
‫معنى الكينونة‪ ،‬والكينونة عينها‪ ،‬من ّ‬
‫ى‬ ‫البلوغ إ ىل‬
‫إل‬
‫أن تنكفئ ى‬‫جراء انحباسها يف قفص املقوالت املِتافيزيائ َّية‪َّ ،‬قررت ‪ -‬بحسب هايدغر ‪ْ -‬‬
‫ّ‬
‫أصحاب السلطان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اخلاص الذي ال يدنو منه‬
‫ه‬ ‫هيكلها‬
‫عل‬
‫يرسم هايدغر هذا املشهد يف تصوره ماه َّية التقن َّية احلديثة‪ ،‬ويف يقينه أ َّنه يواظب ى‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫رسالته الفكر َّية التي اخت َّطها لنفسه يف كتابه الكينونة والزمان (‪ )1927‬حني أعلن َّ‬
‫أن‬
‫وأن الفكر اجلديد ينبغي له ْ‬
‫أن يقف ذاته يف خدمة‬ ‫ساقط اليوم يف النسيان‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫الكينونة‬
‫عنيت به استذكار حقيقة الكينونة التي هبا‬
‫ُ‬ ‫االستذكار الوحيد الذي يليق بكرامة الكائنات‪،‬‬
‫أن البلوغ إ ىل حقيقة الكينونة ال يته َّيأ‬ ‫الكائنات يف حقول جت ّلياهتا احليو َّية َّ‬
‫احلرة‪ .‬بيد َّ‬ ‫ُ‬ ‫تنبسط‬
‫القصوى أو‬
‫ى‬ ‫تأول تاريخ املِتافيزياء الغرب َّية تأوال يبلغ هبا إ ىل حدودها‬‫للفكر اجلديد َّإال إذا َّ‬
‫فكر الكينونة‬ ‫فكر الذات اإلنسان َّية املتس هلطة‪ ،‬بل َ‬ ‫الفكر عينُه يغدو‪ ،‬ال َ‬ ‫ُ‬ ‫ُأصوِّلا األُو ىل حيث‬
‫السامت احلقيق َّية التي تنطوي عليها‬
‫ُ‬ ‫الرتميمي تَظهر‬
‫ّ‬ ‫اِّلدمي‬
‫ّ‬ ‫جراء هذا التأويل‬
‫نفسها‪ .‬من ّ‬
‫ُ‬
‫نضال التاريخ بأرسه ينعقد‬ ‫القصوى‪ .‬هو‬
‫ى‬ ‫الوجودي إ ىل معاينة حقيقتها‬
‫ه‬ ‫الكائنات يف كدحها‬
‫ُ‬
‫مسعى الفكر اجلديد إ ىل االنعتاق من أرس املِتافيزياء الغرب َّية من أجل استعادة كرامة‬
‫ى‬ ‫يف‬
‫استفسارات الوجود‬
‫ُ‬ ‫كائن الكائنات الذي فيه تعتمل‬
‫ُ‬ ‫الكينونة وكرامة الكائنات‪ ،‬ومن بينها‬
‫القصوى‪َ ،‬أال وهو الـ دازاين ‪ ،‬ذاك اإلنسان الكائن يف معرتك التاريخ‪ ،‬املنفطر كيا ُنه ى‬
‫عل‬ ‫ى‬
‫(‪)1‬‬

‫بأن‬ ‫الفرنيس جان ِ‬


‫بوفره (‪َّ )Jean Beaufret‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪ Dasein )1‬يعرتف هايدغر يف رسالته إ ىل صديقه الفيلسوف‬
‫األملاين دازاين (‪ )Da.sein‬يكاد ْ‬
‫أن يستحيل نقله إ ىل الفرنس َّية‪ .‬وهو يعارض معارضة رصُية‬ ‫ّ‬ ‫االصطالح‬
‫‪‬‬ ‫الرتمجة الفرنس َّية التي تضع العبارة «هوذا أنا» (‪ )! me voilà‬مقابال أو عديال ِّلذا االصطالح‪.‬‬
‫‪ ❖ 364‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل تط ّلب الرشوط األصل َّية يف تدبر‬


‫فهمه ى‬‫التامس الكينونة يف خمتلف أطوارها‪ ،‬واملنعقد ُ‬
‫األشياء والكائنات واملوجودات‪.‬‬
‫أن الزمن الراهن هو زمن‬‫فإن هايدغر ُيعلِن يف اخلمسين ّيات من القرن العرشين َّ‬
‫ومن َث َّم َّ‬
‫املِتافيزياء املنجزة‪ ،‬أي املِتافيزياء التي بلغت أوج طاقتها يف ضبط اِّلو ّيات‪ ،‬وإحكام املقوالت‬
‫الواصفة‪ ،‬وإغالق اآلفاق املعنو َّية الناظمة‪ ،‬واستدعاء الكائنات قاطبة واستنهاضها‬
‫واستثامرها واستنفادها‪ .‬الزمن البرش ّي املنطوي بانطواء القرن العرشين كان ‪ -‬يف نظر‬
‫احلسابة القاهرة الغرب َّية‪ .‬من عالمات‬ ‫ِ‬
‫اخلتامي للمتافيزياء العقالن َّية ّ‬
‫ّ‬ ‫هايدغر ‪ -‬بمنزلة اإلنجاز‬
‫االنتشار الكو ّين للتقن َّية يف مجيع أبعادها وهيئاهتا ومقتضياهتا(‪ .)1‬فالتقن َّية‬
‫ُ‬ ‫االختتامي‬
‫ّ‬ ‫اإلنجاز‬
‫األعل‪ .‬وهي أضحت املِتافيزياء اجلديدة يف الزمن الراهن‪.‬‬ ‫ى‬ ‫مهيمن ٌة يف الكون األسفل والكون‬
‫ما من ِمتافيزياء معارصة تعلو عليها أو تضارعها تسيدا وهيمنة واستقطابا وإغراء للعقل‬
‫أن التقن َّية أضحت هي املِتافيزياء الوحيدة املمكنة يف الزمن الراهن‪،‬‬ ‫الكوين‪ .‬وبام َّ‬
‫ه‬ ‫اإلنساين‬
‫ه‬
‫فإّن ا تأرس العامل بأمجعه‪ ،‬فال تكتفي بإنتاج اآلالت وصناعة املختربات واالختبارات‪ ،‬وال‬ ‫َّ‬
‫عل ضبط العلوم وتوجيهها بحسب مقاصدها اإلكراه َّية التسلط َّية‪ ،‬بل جتتاح أيضا‬
‫تقترص ى‬
‫حقوال ما كانت قط يف دائرة اعتناءاهتا‪َ ،‬أال وهي حقول الثقافة اإلنسان َّية املعارصة‪ ،‬من آداب‬
‫وفنون وسياسة واقتصاد‪ .‬التقن َّية هي اليوم األُفق املعريف الوحيد املرتسم يف رحاب الوجود‬
‫اإلنساين يف رضب وحيد من رضوب النشاط واإلفصاح‪ ،‬هو‬
‫َّ‬ ‫التارخيي‪ ،‬الذي ُيق هيد الفكر‬
‫ه‬
‫اإلنتاجي‪ ،‬ف ُتطبق عليها استدراجا‬
‫ه‬ ‫املتفحصة التي تعاين الكائنات يف ُبعدها‬
‫ه‬ ‫رضب املعاينة‬

‫عل ْ‬
‫أن‬ ‫أن ينقله إ ىل الفرنسيَّة يف هذه الصورة ‪ :‬كينونة‪ .‬ال‪ .‬هنا (‪ ،)être.le.là‬ى‬ ‫عل ِ‬
‫بوفره ْ‬ ‫‪ ‬ولذلك يقرتح ى‬
‫تكون الـ ُهنا (‪ )le.là‬هي موضع الـ أليثيا (احلقيقة اإلغريق ّية)‪ ،‬أي موضع االنكشاف الذي تأتينا به‬
‫بوفره‪ 23 ،‬ترشين الثاين ‪ ،1945‬يف هايدغر ‪ :‬أسئلة ‪،3.4‬‬ ‫الكينونة عينُها‪( .‬رسالة هايدغر إ ىل جان ِ‬
‫باريس‪ ،‬غا ّليامر‪ ،2005 ،‬ص ‪.)130‬‬
‫‪Heidegger, Lettre à Jean Beaufret (Fribourg, 23 novembre 1945), dans Heidegger ,‬‬

‫‪Questions III et IV ,Paris, Gallimard, 2005, p. 130.‬‬

‫& ‪(1) Margreiter R .éd ., Heidegger. Technik . Ethik . Politik, Würzburg, Königshausen‬‬

‫‪Neumann, 1991.‬‬
‫الغريب ❖ ‪365‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫الكائنات‪ ،‬ومن ورائها الكينونة‪،‬‬ ‫واستنطاقا واستثامرا واستنفادا‪ .‬مثل هذا االستفحال جيعل‬
‫عل الفور ُمكرهة ما ّتتزنه من مضامنيَ‬ ‫خاضعة جلميع ألوان التعذيب اآل هل ح َّت ىى تَستحرض ى‬
‫ألّنا هي األُفق الوحيد املمكن‬
‫وطاقات وإُياءات‪ .‬ال مناص وال فكاك من هذه التقن َّية‪َّ ،‬‬
‫االستذكاري حني يتأ َّمل يف اإلشارات واإليامءات واإلُياءات املنبثقة من‬
‫َّ‬ ‫حال ًّيا‪ .‬بيد َّ‬
‫أن الفكر‬
‫أن خيضع خضوعا مميتا ألحكامه‬ ‫أن جيتاز هذا األُفق من غري ْ‬‫احلرة‪ ،‬يمكنه ْ‬
‫صميم الكينونة َّ‬
‫ومراسيمه وشعائره‪.‬‬

‫االستذكار استفسارٌ للِمتافيزياء عن مباني اإلكراه ومقوالت التسلُّط‪:‬‬


‫السبب‬ ‫السلبي‪.‬‬ ‫معنى االستذكار‪ ،‬فال يثق كثريا باِّلدم‬ ‫عل‬ ‫َ ِ‬
‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ى‬ ‫تفكيك املتافيزياء ى‬ ‫ُيمل هايدغر‬
‫احلسابة هي التي تفرض‬ ‫جيل يف ذلك‪ .‬فاِّلدم السلبي يعني َّأوال َّ‬
‫أن الذات اإلنسان َّية العاقلة ّ‬
‫أن‬ ‫عل ه‬
‫كل انحراف أو خلل‪ ،‬يف حني َّ‬ ‫عل الكينونة والكائنات‪ ،‬وهي التي تقيم احلدَّ ى‬
‫إرادهتا ى‬
‫اخللف َّية الفكر َّية التي ينتمي إليها هايدغر تقيض عليه باحلذر الشديد من العقالن ّيات الذات َّية‬
‫املستفحلة‪ ،‬والركون يف سكينة التأمل إ ىل مراسيم القدَ ر و ُمرسالته‪ .‬واِّلدم يعني ثانيا َّ‬
‫أن هذا‬
‫إل‬
‫القدَ ر‪ ،‬وهو قدَ ر الكينونة عينها‪ ،‬هو الذي يرسم مِّس ىى التفكيك والتجاوز والعودة ى‬
‫األفالطوين‬
‫ّ‬ ‫األُصول واستخراج املكنون من تضاعيف املِتافيزياء الغرب َّية‪ ،‬منذ زمن انبالجها‬
‫أن املِتافيزياء‬
‫النيتشوي األخري اجل ّبار‪ .‬واِّلدم السلبي يعني ثالثا َّ‬
‫ّ‬ ‫األول الفتّاح ح َّت ىى اختتامها‬
‫َّ‬
‫أن املطلوب هو جعل الكينونة جتتاز‬ ‫الغرب َّية ستسقط كلها يف عدم َّية اإللغاء‪ ،‬يف حني َّ‬
‫املِتافيزياء الغرب َّية الضا َّلة ح َّت ىى هتدهيا الرصاط القويم‪ .‬أ َّما إذا انجرفت املِتافيزياء يف العدم‬
‫فإن االجتياز يصبح مستحيال‪ ،‬ف ُترتك الكينونة احل َّقة يف اخلواء املطلق‪ .‬واحلال َّ‬
‫أن الفكر‬ ‫املطلق َّ‬
‫خرى رضوبا خمتلفة من حتسس‬ ‫شعوب ُأ ى‬ ‫ٌ‬ ‫ب مل يعرف َّإال هذه املِتافيزياء‪ ،‬ولئن اختربت‬ ‫الغر ّ‬
‫الكائنات واألشياء واملوجودات‪.‬‬
‫فإن االستذكار ي َّتخذ هيأة االستفسار األجرأ واألفصح واألقدر‪ ،‬ح َّت ىى يستطلق يف‬ ‫وعليه َّ‬
‫التصورات املِتافيزيائ َّية الغرب َّية املتعاقبة مستوراهتا و ُمنحجباهتا ومواضع شططها وضالِّلا‪.‬‬
‫عل املواضع‬ ‫ِ‬
‫عل استخراج ماه َّية املتافيزياء‪ ،‬واالستدالل ى‬ ‫قادر ى‬‫ٌ‬ ‫وحده هذا االستذكار‬
‫‪ ❖ 366‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ُ‬
‫احلديث عنها(‪ .)1‬فاملكتوم يف تاريخ الفلسفة هو الذي يسرتعي انتباه‬ ‫املنحجبة التي انكتم‬
‫هايدغر‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن قراءة هيغل للتاريخ تستطلع املنجز‪ ،‬وتصهره يف بوتقة اجلدل َّية الشاملة‪.‬‬
‫اِّلايدغري هو البحث عن إرادة القول أو مشيئة القول التي‬
‫ّ‬ ‫النهج الناظم يف هذا التأويل‬
‫تستوطن كتابات الفالسفة الغرب هيني‪ .‬يف صميم هذه املشيئة تنحجب ماه َّية املقاصد األُ ى‬
‫ول‪،‬‬
‫التي يبحث عنها هايدغر يف استذكاره اجلريء املقدام‪ .‬أ َّما املعيار األسايس الذي يقيس به‬
‫هايدغر مقدار التوافق بني ما قاله الفالسفة الغربيون وما كانوا يرومون قوله (مشيئة القول)‪،‬‬
‫فهو السؤال املركزي عن الكينونة‪ .‬سؤال الكينونة ‪ -‬بحسب ال ُبعدين اللذين تنطوي عليهام‬
‫املسعى‬
‫ى‬ ‫دالل ُة اإلضافة يف فقه اللغة (الكينونة هي عينها ُتسأل وتَسأل) ‪ -‬هو الذي استوطن‬
‫أفىض إ ىل مباين النظر ّيات املِتافيزيائ َّية‬
‫ى‬ ‫ب منذ البداية ح َّت ىى النهاية‪ ،‬وهو الذي‬
‫تافيزيائي الغر ّ‬
‫ّ‬
‫املِ‬

‫تافيزيائي وليس‬ ‫املتعاقبة التي اختربهتا الفلسفة الغربية‪ .‬فاملعيار مستخرج من صلب املسعى املِ‬
‫ّ‬ ‫ى‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫أن مجيع الفالسفة الغرب هيني ‪ -‬ما‬ ‫أن ُيظهر َّ‬
‫هابطا عليه من فوق‪ .‬لذلك كان مقصد هايدغر ْ‬
‫خال بعض االستثناءات النادرة ‪ -‬أهلوا سؤال الكينونة وسؤال معناها‪ ،‬واكت َفوا بمساءلة‬
‫جراء هذا نوعان من اإلشكال‪ ،‬إشكال االنحراف عن إصابة‬ ‫كائن َّية الكائن ‪ .‬فنشأ من ّ‬
‫(‪)2‬‬

‫أن فالسفة املِتافيزياء ظنوا‬


‫سؤال الكينونة‪ ،‬وإشكال نسيان الكينونة ونسيان النسيان‪ .‬ذلك َّ‬
‫َّأّنم أصابوا يف مساءلتهم الكينونة يف ذاهتا‪ ،‬يف حني َّأّنم كانوا يسائلون كائن َّية الكائنات‬
‫وحسب؛ وظنوا أيضا َّأّنم واعون بام يفعلون حني كانوا يسائلون‪ ،‬يف حني َّأّنم كانوا يف‬
‫إغفال حقيقي حلقيقة السؤال ويف إغفال أخطر لواقع النسيان‪ .‬ينبغي القول هنا‪ :‬إ َّن هايدغر‬
‫تافيزيائي‪ .‬يف مرحلة إنشاء كتاب الكينونة والزمان كان يود تفكيك‬ ‫تطور يف انتقاده للنسيان املِ‬
‫ه‬ ‫َّ‬
‫األنطولوجيا املِتافيزيائ َّية الغرب َّية ليستطلع مواضع النسيان‪ .‬أ َّما يف املرحلة التي عقبت‬
‫عل طريقة االستساغة‬ ‫ب ى‬ ‫الفلسفي الغر ّ‬
‫ّ‬ ‫املنعطف يف فكره‪ ،‬فإ َّنه آثر استذكار الرتاث‬
‫واالستدخال واِّلضم والتمثل‪ .‬فإذا بتأويل املِتافيزياء يغدو يف كتابات ما بعد املنعطف‬

‫‪(1) Jules Maidika Asana Kalinga, Métaphysique et technique moderne chez Martin‬‬

‫‪Heidegger, Paris, L’Harmattan, 2013.‬‬

‫‪(2) die Seiendheit des Seienden.‬‬


‫الغريب ❖ ‪367‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫الفكر حقيقة الكينونة بام هي عنيُ االختالف بني‬ ‫ُ‬ ‫إل الوراء(‪ )1‬به يستعيد‬
‫اِّلايدغري خطوا ى‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫األنطولوجي الذي سهت عنه املتافيزياء الغرب َّية هو التباين‬ ‫الكينونة والكائنات‪ .‬فاالختالف‬
‫ّ‬
‫عل‬
‫الرقيق بني الكينونة يف ذاهتا والكائنات يف اعتالّنا‪ .‬وحني أك َّبت الفلسفة الغرب َّية ى‬
‫استنطاق كائن َّية الكائن مل تستطع ْ‬
‫أن تتد َّبر الكينونة يف ذاهتا‪ ،‬بل يف اقرتاّنا القِّس ّي‬
‫بالكائنات‪.‬‬
‫أن املِتافيزياء التي سادت يف الفلسفة الغرب َّية منذ أفالطون‬
‫فإن هايدغر يعتقد َّ‬
‫ومن َث َّم َّ‬
‫ح َّت ىى األزمنة املعارصة كانت جتتهد يف معاجلة مسألة واحدة‪َ ،‬أال وهي مسألة تعريف‬
‫الكائن(‪ .)2‬فكانت تروم ْ‬
‫أن تتجاوز الكائن(‪ )3‬إ ىل كائن َّيته ح َّت ىى تفوز بإدراك قويم لكائن َّية‬
‫ظل ‪ -‬بحسب هايدغر ‪ -‬مأسورا بالبحث عن الكائن وعن‬ ‫أن مثل هذا التجاوز َّ‬ ‫الكائن‪ .‬غري َّ‬
‫كائن َّيته‪ ،‬مق َّيدا ب ُأفق كائن َّية الكائن‪ ،‬وعاجزا عن مساءلة الكينونة(‪ )4‬يف ذاهتا‪ .‬فإذا باملِتافيزياء‬
‫عل‬ ‫نظرهتا يف الكائن‪ ،‬فتخلط بني االثنني‪ .‬وال تلبث ْ‬
‫أن حتمل الكينونة ى‬ ‫تنظر يف الكينونة َ‬
‫عل‬
‫األسمى‪ ،‬ى‬
‫ى‬ ‫معنى الكائن‪ ،‬فتنسب إليها ما تنسبه إ ىل الكائن‪ .‬فإذا بالكينونة هي تارة الكائن‬
‫ى‬
‫كامن يف األشياء‪ُ ،‬يايث‬
‫ٌ‬ ‫لصيق‬
‫ٌ‬ ‫جوهر‬
‫ٌ‬ ‫هيأة املُ ُثل األفالطون َّية العليا‪ ،‬وهي تارة ُأ ى‬
‫خرى‬
‫األبقى‪ .‬وتبلغ مساءلة الكينونة مبلغا خطريا حني‬
‫ى‬ ‫الكائنات بوصفه قوا َمها األصلب األمتن‬
‫املستمر‬ ‫عل هيأة احلضور الدائم‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫تعمد املتافيزياء إ ىل تصور كينونة الكائن وكينونة الكائنات ى‬
‫امل َّط رد القابل للمحارصة واملداهة واإلمساك‪ .‬يف مجيع األحوال ال تستطيع مثل هذه‬
‫عنيت به‬
‫ُ‬ ‫تتحسس رضبا آخر من رضوب انبساط الكينونة يف ذاهتا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املِتافيزياء الغرب َّية ْ‬
‫أن‬
‫الكينونة يف صميم متايزها من الكائن ومن كائن َّيته واختالفها وافرتاقها عنهام‪ .‬فالتباين‬
‫ألّنا منحرص ٌة يف‬ ‫ِ‬ ‫األنطولوجي بني الكينونة والكائن ال يمكن ْ‬
‫أن تستجليه هذه املتافيزياء َّ‬
‫عل تعاقب استحضاراهتا واستدعاءاهتا‪ .‬فالكينونة يف املِتافيزياء‬
‫استنطاق كائن َّية الكائنات ى‬

‫‪(1) Schritt zurück‬‬


‫‪(2) das Seiende‬‬
‫‪(3) meta‬‬
‫‪(4) das Sein‬‬
‫‪ ❖ 368‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫العفوي‪ ،‬وال تومئ إيامءات اخلفر يف االعتالن‬


‫ه‬ ‫حر َّية االنبساط‬
‫الغرب َّية ال تأت إ ىل الكائنات يف ّ‬
‫والتهيب من الظهور‪ ،‬وال ُّتيل املجال لألشياء يف تشابك انعقاداهتا التارخي َّية‪ ،‬بل حترض‬
‫أن ُخيضعها إلمالءاته‪ .‬لذلك‬ ‫احلساب ْ‬‫حضورا قاهرا يف ك ّل َّيتها املمكنة ح َّت ىى ُهت هيئ للعقل ّ‬
‫أفىض هبايدغر إ ىل القول‬
‫ى‬ ‫تغيب الكينون ُة ‪ -‬بام هي كينون ٌة ‪ -‬يف املِتافيزياء الغرب َّية غيابا فاضحا‬
‫عدم الكينونة يف معتقالت‬ ‫بأن املِتافيزياء ‪ -‬بام هي ِمتافيزياء ‪ -‬هي العدمية بعينها؛ ألّنا ُت ِ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الكائنات وكائن َّية الكائنات(‪.)1‬‬
‫وجهني متقابلني‬ ‫َ‬ ‫أن املِتافيزياء الغرب َّية صاحب ُة‬
‫يتبني َّ‬
‫التفكيكي َّ‬
‫ه‬ ‫استنادا إ ىل هذا التأويل‬
‫يتجل يف االعتناء برتصد مجيع سامت الكائن َّية يف الكائن‪ ،‬أ َّما‬ ‫ّى‬ ‫األول‬
‫متعاضدين ‪ :‬الوجه َّ‬
‫(‪)2‬‬

‫طرا‪:‬‬
‫أسمى الكائنات ًّ‬
‫ى‬ ‫ضم مجيع هذه السامت ونسبها إ ىل‬ ‫إل ه‬ ‫الوجه الثاين فيعتلن يف السعي ى‬
‫تتصور‬
‫َّ‬ ‫األول‬ ‫تتصور كائن َّي َة الكائن عىل َ‬
‫وجهني اثنَني‪ .‬يف الوجه َّ‬ ‫َّ‬ ‫أن املِتافيزياء‬
‫غري َّ‬
‫األعم؛ ويف الوقت عينه ‪ -‬يف الوجه‬
‫ي‬ ‫ك يل َّي َة الكائن ‪ -‬بام هي كذلك ‪ -‬عىل معنى سامته‬
‫تتصور ك يل َّي َة الكائن ‪ -‬بام هي كذلك ‪ -‬عىل معنى الكائن األسمى‪ ،‬ومن َث َّم‬
‫َّ‬ ‫الثاين ‪-‬‬
‫اإلهلي(‪.)3‬‬
‫ِّ‬ ‫الكائن‬
‫أن املِتافيزياء اليونان َّية انقلبت مع أفالطون إ ىل أنطولوجيا تبحث يف‬
‫عل َّ‬
‫يدل هذا القول ى‬

‫ِ‬
‫رشت‬ ‫ِ‬
‫(‪ )1‬راجع التوسعات التي استودعها هايدغر أبحاثه يف ماه َّية العدم َّية ورضورة جتاوز املتافيزياء والتي ُن َ‬
‫يف جمموعة األعامل الكاملة ( ِاملتافيزياء والعدمي َّة‪ .1 :‬جتاوز املِتافيزياء؛ ‪ .2‬ماهيَّة العدميَّة)‪:‬‬
‫‪M. Heidegger, Metaphysik und Nihilismus : 1. Die Überwindung der Metaphysik; 2. Das‬‬
‫‪Wesen des Nihilismus ,GA 67, Frankfurt, Klostermann, 1999, p. 48 - 50 .‬‬
‫‪(2) zwiegestaltig‬‬
‫(‪ )3‬االقتباس مستل من املقدّ مة التي وضعها هايدغر لبحثه يف املِتافيزياء «ما املِتافيزياء؟»‪:‬‬
‫‪Aber die Metaphysik stellt die Seiendheit des Seienden in zweifacher Weise vor : einmal‬‬
‫‪das Ganze des Seienden als solchen im Sinne seiner allgemeinsten Züge (on katholou,‬‬
‫‪koinon); zugleich aber das Ganze des Seienden als solchen imSinne des höchsten und‬‬
‫‪darum göttlichen Seienden (on katholou, akrotaton, theion) Heidegger ,Einleitung zu : Was‬‬
‫‪ist Metaphysik? in Heidegger, Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, p. 378.‬‬
‫الغريب ❖ ‪369‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫أصل مجيع الكائنات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كائن َّية الكائن وإ ىل تيولوجيا (الهوت) تبحث يف إِّل َّية الكائن املتسامي‪،‬‬
‫نسب‬ ‫ِ‬
‫تتحر ىى عن الصفات أو املحموالت العا َّمة التي ُت َ‬ ‫فاملتافيزياء ‪ -‬بوصفها أنطولوجيا ‪ّ -‬‬
‫أن املِتافيزياء ‪ -‬بوصفها تيولوجيا ‪ -‬جتتهد يف تأصيل‬ ‫حكام إ ىل الكائن بام هو كائن‪ ،‬يف حني َّ‬
‫األول أو الع َّلة األُو ىل‪ ،‬لتعاينه يف‬‫فتتحر ىى عن أصله‪ ،‬أي عن السبب َّ‬ ‫ّ‬ ‫الكائن يف كائن َّيته‪،‬‬
‫أن مثل هذا االزدواج املثنّ ىى يف املِتافيزياء يعود إ ىل ُأرسطو‬ ‫شك يف َّ‬‫األسمى‪ .‬ال َّ‬
‫ى‬ ‫اإلِّلي‬
‫ه‬ ‫الكائن‬
‫أن هايدغر أسلكه يف مِّس ىى نسيان الكينونة الذي رضب‬ ‫أقر به قبل هايدغر‪ .‬غري َّ‬ ‫الذي َّ‬
‫عل الكينونة بسبب من‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫جرته املتافيزياء الغرب َّية ى‬‫نسيان َّ‬ ‫تاريخ الفلسفة الغرب َّية بأكملها‪ .‬هو‬
‫إغفال االختالف العميق بني الكنيونة والكائن‪ ،‬وبسبب من اإلعراض عن مالقاة الكينونة‬
‫جراء هذا ك هله كانت املِتافيزياء الغرب َّية‬‫عل استضافة االختالف‪ .‬من ّ‬ ‫كياّنا ى‬
‫يف ذاهتا وقد انعقد ُ‬
‫فإن هايدغر يذهب مذهبا مل يسبقه إليه‬ ‫عل ذلك َّ‬ ‫آثار هذا اإلغفال‪ .‬وعالوة ى‬ ‫الن ََّّساءة حاملة َ‬
‫وأن ُّتيل الساحة‬ ‫أن تنحجب ْ‬ ‫أن الكينونة هي أيضا التي َّقررت ْ‬ ‫أحدٌ ‪ ،‬إذ ُيعلِن جهارا َّ‬
‫فإن نسيان حقيقة الكينونة يقرتن يف وجه‬ ‫احلسابة‪ .‬ومن َث َّم َّ‬ ‫ِ‬
‫الجتهادات املتافيزياء الغرب َّية ّ‬
‫ُ‬
‫الكينونة‬ ‫بإغفاالت املِتافيزياء عينها‪ ،‬ويف وجه آخر بقرار االنحجاب الذي اعتزمت عليه‬
‫ومضت فيه من غري ْ‬
‫أن تنثني أو ترتاخ ىى‪.‬‬

‫االحنجابات الثالثة للكينونة على تعاقب أزمنة املِتافيزياء الغربيَّة‪:‬‬


‫أن الكينونة ‪ -‬بام هي حقيقة ه‬
‫كل الكائنات واألشياء‬ ‫يعتقد هايدغر اعتقادا راسخا َّ‬
‫عل تراخي احلقبات الزمن َّية التي اجتازهتا الفلسف ُة‬
‫واملوجودات ‪ -‬خضعت ملشيئة النسيان ى‬
‫خفر‬‫الغربية منذ أيام أفالطون‪ .‬فالفالسفة الذين أتوا قبل سقراط كانوا عل إصغاء ِ‬
‫ى‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫احلرة‪ ،‬فيام الفالسفة الغربيون الذين ورثوا هؤالء الفالسفة اإلغريق‬ ‫العتالنات الكينونة َّ‬
‫حر َّية الكينونة ومشيئتها‪ ،‬فأطبقوا عليها بمقوالهتم‬ ‫أن يصونوا ّ‬ ‫األوائل ما استطاعوا ْ‬
‫املوضوعي بني الكينونة واملِتافيزياء طفق هايدغر‬
‫ه‬ ‫االستقصائ َّية‪ .‬استنادا إ ىل هذا التواطؤ‬
‫إل استجالء حقيقة الكينونة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يستطلع احلقبات األساس َّية التي اجتازهتا املتافيزياء يف سعيها ى‬
‫احلقبة األُو ىل هي احلقبة اإلغريق َّية التي افتتحها أفالطون و ُأرسطو‪ .‬احلقبة الثانية هي احلقبة‬
‫ديكارت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الرومان َّية الوسيط َّية‪ .‬أ َّما احلقبة الثالثة فهي احلقبة احلديثة التي صنعتها فلسفة‬
‫‪ ❖ 370‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫اعتنى به هايدغر اعتناء فريدا لشدَّ ة ما استوقفه‬


‫ى‬ ‫وفلسفة كانط‪ ،‬وخصوصا فلسفة نيتشه الذي‬
‫حقبات تناسب ‪ -‬يف وجه من‬ ‫ٌ‬ ‫النقدُ اجلذري الذي ساقه نيتشه إ ىل املِتافيزياء الغرب َّية‪ .‬هي‬
‫الوجوه ‪ -‬ما رسمته الكينونة عي ُنها من انحجاب ِّلا تستطلق به ما تشاء من اعتالنات خفرة‬
‫ٌ‬
‫شامل للحقيقة وللوجود ولإلنسان‬ ‫حلقيقتها‪ .‬يف ه‬
‫كل حقبة من هذه احلقبات يسود تصو ٌر‬
‫اجلدل‬
‫ّ‬ ‫وللتاريخ‪ .‬بيد أ َّنه ليس َث َّمة من تشابك جدل بني هذه احلقبات ى‬
‫عل منوال التشابك‬
‫تعاقب حر ينساب‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫تاريخ اصطراع الفكرة يف معرتك الوجود‪ ،‬بل‬ ‫الذي ينشئه هيغل يف تأوله‬
‫انسيابا مؤاتيا لقرارات الكينونة‪.‬‬
‫األفالطوين الذي ورث عن األوائل‬ ‫ب يف التناول‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫األول للكينونة ار ُتك َ‬
‫فاالنحجاب َّ‬
‫تعريفا للحقيقة(‪ )1‬يعاين فيها تعاقبا هن ًّيا لإلقبال واإلدبار‪ ،‬واإلقدام واالنكفاء‪ ،‬واالعتالن‬
‫أن الكائن يف ك ّل َّيته الذي كان اإلغريق يعاينونه يف الطبيعة(‪ )2‬إ َّنام كان‬
‫واالنحجاب‪ .‬ذلك َّ‬
‫يكشف عن ذاته يف هيئات شت ىّى ويف أطوار متعاقبة‪ ،‬من غري ْ‬
‫أن يتق َّيد يف صورة واحدة أو‬
‫قالب واحد‪ .‬أ َّما الكائنات فكانت ‪ -‬بحسب أفالطون ‪ -‬تفوز بحقيقتها يف اإليديا(‪ ،)3‬أي يف‬
‫األول تنبت‬
‫اإلغريقي َّ‬
‫ه‬ ‫الفكرة األُو ىل أو املثال َّ‬
‫األول الذي ُنحتت هي بموجبه‪ .‬يف األصل‬
‫ألّنا هي التعبري عن الوجه‪ ،‬أو اِّليأة‪ ،‬أو الصورة التي ت َّتخذها‬
‫اإليديا يف حقل الطبيعة َّ‬
‫العفوي‬
‫ه‬ ‫التلقائي‬
‫ه‬ ‫الكائنات حني تنبثق من صميم الطبيعة‪ .‬فهي إذا ثمر ٌة من ثامر االنكشاف‬
‫فصح عن حقيقتها يف كائناهتا‪ .‬هو هذا األصل‬ ‫أن ُت ِ‬
‫الذي تعتمده الطبيعة ك َّلام شاءت ْ‬
‫اإلغريقي الذي يميل إليه هايدغر يف تصوره للصنيع الفن هّي الذي يراعي تفورات الطبيعة‬
‫ومتوجاهتا(‪ .)4‬أ َّما االنعطاف الذي حدث يف مثال َّي ة أفالطون‪ ،‬فهو الذي أبعد اإليديا عن‬
‫أعل للكائنات يف الطبيعة‪ .‬فأمست هي معيار الكشف‬‫ى‬ ‫فنصبها مثاال‬
‫الطبيعي‪َّ ،‬‬
‫ه‬ ‫أصلها‬
‫جراء هذا‬
‫عل حقيقتها‪ .‬ومن ّ‬
‫الصحيح يف الطبيعة‪ ،‬وميزان االستقامة يف استواء الكائنات ى‬

‫‪(1) aletheia‬‬
‫‪(2) phusis‬‬
‫‪(3) idea‬‬
‫‪(4) C. Jamme (Hrsg.), Martin Heidegger. Kunst . Politik . Technik ,München, Wilhelm Fink‬‬
‫‪Verlag, 1992.‬‬
‫الغريب ❖ ‪371‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫عل اإلفصاح عن الكينونة الكامنة يف الطبيعة َّإال ى‬


‫عل قدر‬ ‫تقوى ى‬
‫ى‬ ‫التسلط غدت الكائنات ال‬
‫ما تعتمد أحكام الوضوح والبيان والد َّقة واإلتقان التي تفرضها مثال َّي ُة اإليديا (الفكرة)‪.‬‬
‫احلر للكينونة‪،‬‬
‫ومسخرة خلدمة التسويغ الذي أغفل االنسياب َّ‬ ‫َّ‬ ‫وانقلبت الكينونة مق َّيدة‬
‫احلس َّية إ ىل املُ ُثل العليا‪ ،‬ومنها إ ىل الكائن‬
‫ّ‬ ‫وأقفل عليها يف تراتب َّية االرتقاء من الكائنات‬
‫األول قبل أفالطون ‪ -‬تنعم بقرهبا‬ ‫اإلغريقي َّ‬
‫ه‬ ‫األسمى‪ .‬وبينام كانت الكينونة ‪ -‬يف الزمن‬
‫ى‬
‫الطوعي(‪،)2‬‬
‫ه‬ ‫العفوي وانحجاهبا‬
‫ه‬ ‫األصيل الفوسيس(‪ ،)1‬ومن حقل اعتالّنا‬
‫ه‬ ‫السعيد من حمضنها‬
‫لدى أفالطون ال تنكشف َّإال بحسب معايري الوضوح والد َّقة واالستقامة واإلصابة‬
‫أضحت ى‬
‫التي ُتنشئها مثال َّي ُة الفكرة األصل َّية املفرتضة(‪ .)3‬هي معايري النظر املوثوق إ ىل حقائق األشياء‬
‫أن تصبح النظر َّي ُة املشت َّقة من‬
‫املجردة(‪ .)4‬فال غرابة ‪ -‬من َث َّم ‪ْ -‬‬
‫َّ‬ ‫تفرضها النظر ُة املوضوع َّي ُة‬
‫إل ّتوم الضبط‬
‫جمرد النظر املتأ همل امل َّتضع اخلفر ليصل ى‬
‫التيور َّية اإلغريق َّية استقصاء يتعدّ ىى َّ‬
‫واإلمساك واإلكراه والزجر واالستجواب‪ .‬وهي كلها من أفعال العلم َّية احلديثة التي تنتشب‬
‫األفالطوين‪.‬‬
‫ه‬ ‫بجذورها يف تربة االنحراف‬
‫األفالطوين اخلطري يف تصور الكينونة‪ ،‬ويف تصور‬ ‫ه‬ ‫أن مثل هذا التحول‬ ‫ال ريب يف َّ‬
‫احلقيقة‪ ،‬ويف تصور الكائنات‪ ،‬جعل املِتافيزياء الغرب َّية ّتضع ك َّلها للمثال َّية األفالطون َّية‪ .‬ح َّت ىى‬
‫احلركة التصحيح َّية التي اضطلع هبا ُأرسطو عجزت عن إلغاء اآلثار السلب َّية التي خ َّلفها‬
‫أن ُأرسطو أخضع احلقيقة ملعيار التطابق بني الذهن ّيات واألعيان‪،‬‬
‫ث األفالطوين‪ .‬ذلك َّ‬
‫اإلر ُ‬
‫أي بني األحكام والوقائع‪ ،‬وبني األقوال واألشياء‪ ،‬وبني القضايا واملوجودات‪ .‬فإذا كان‬
‫عل اإلفصاح الدقيق عن احلقيقة‪َّ ،‬‬
‫فإن الكينونة تنقلب‬ ‫القول الصادر عن الذهن قادرا ى‬
‫أن ُأرسطو ناهض أفالطون‬
‫بك ّل َّيتها خاضعة ألوامر الذهن ّيات العاقلة الرابطة احلاكمة‪ .‬ومع َّ‬
‫حني ذهب إ ىل َّ‬
‫أن األشياء ‪ -‬بفعل الطاقة التي تنطوي عليها ذات ًّيا ‪ -‬تنبسط يف الوجود انبساطا‬

‫‪(1) phusis‬‬

‫‪(2) aletheia‬‬

‫‪(3) idea‬‬

‫‪(4) theoria‬‬
‫‪ ❖ 372‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫حرا جيعل الفكر قابال إلدراكها ووصفها وتعريفها‪َّ ،‬إال أ َّنه َّ‬
‫ظل مق َّيدا باملثال َّية األفالطون َّية‬ ‫ًّ‬
‫احلق يف اعتالن احلقيقة‪ .‬فاإلرصار‬ ‫التي ترسم َّ‬
‫أن التطابق بني األذهان واألعيان هو ضامن ه‬
‫عل التطابق جيعل ُأرسطو يميل أكثر إ ىل الذهن ّيات وهيمل الوقائع‪ .‬ينضاف إ ىل ذلك َّ‬
‫أن تعيني‬ ‫ى‬
‫مِّسى واحد ال ّترج منه َّإال‬
‫ى‬ ‫القوة إ ىل الفعل هو تقييدٌ ِّلا يف‬
‫الكينونة يف حركة االنتقال من َّ‬
‫وعل قدر ما‬
‫ى‬ ‫بالسقوط يف العدم‪ .‬فالكينونة هي كينون ٌة ى‬
‫عل قدر ما ّتضع ملثل هذا االنتقال‪،‬‬
‫تعتلن فعال منجزا يف تضاعيف الوجود‪ .‬فاملُ َ‬
‫نجز َّية أضحت هي هو َّية الكينونة املح َّققة يف‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫األول للكينونة يف أعامل أفالطون و ُأرسطو ُخي ِضع‬ ‫لذلك يمكن القول َّ‬
‫بأن االنحجاب َّ‬
‫الكينونة ملقولة االستمرار امل َّطرد يف احلضور‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن ماه َّية(‪ )1‬الكينونة تصبح هي استدامتها‬
‫يف احلضور القابل للنظر واملعاينة‪ .‬فاالستدامة يف احلضور(‪ )2‬هي السبيل األضمن للبلوغ‬
‫التقني الذي يستند إ ىل حالة االنتقال امل َّطرد‬
‫ه‬ ‫بالكينونة إ ىل موقع التسليم واالستسالم لإلكراه‬
‫القوة إ ىل الفعل‪َ .‬ث َّمة عالقة وثيقة بني الـ ُأوسيا (ماه َّية الكينونة) والـ باورسيا (االستدامة‬
‫من َّ‬
‫عل الكينونة ومن خضوع الكينونة‬
‫يف احلضور) تنشأ من تسلط الـ إيديا (الفكرة ‪ -‬املثال) ى‬
‫ملعادلة الـ ُأومويوسيس(‪ )3‬أو التطابق بني القول الواصف والواقع املوصوف‪.‬‬
‫الـ ُأومويوسيس األُرسط َّية (نظر َّية التطابق) ُتطبِق ى‬
‫عل الكينونة يف قالب التامهي بني‬
‫األول ‪ -‬تستثري يف‬
‫اإلغريقي َّ‬
‫ه‬ ‫أن الكينونة كانت ‪ -‬يف الزمن‬‫الذهن ّيات والعين ّيات‪ ،‬يف حني َّ‬
‫احلر اجلذالن بني االنكشاف واالنحجاب‪.‬‬ ‫النظر اإلنساين الرغبة اخلفرة يف اقتبال التعاقب ه‬
‫أن سقوط االختبارات اإلغريق َّية األُو ىل يف شباك املثال َّية األفالطون َّية وشباك‬
‫شك فيه َّ‬
‫وما ال َّ‬
‫عل حمارصة‬ ‫الواقع َّية األُرسط َّية َّ‬
‫مهد السبيل إ ىل بناء التصورات النظر َّية العقل َّية القادرة ى‬
‫األشياء والكائنات واستنطاقها واستجالهبا وإخضاعها ألحكام التقن َّية احلديثة‪.‬‬
‫ّى‬
‫فيتجل ‪ -‬بحسب هايدغر ‪ -‬يف مباين‬ ‫األول‪ .‬أ َّما االنحجاب الثاين‬
‫هذا يف االنحجاب َّ‬

‫‪(1) ousia‬‬
‫‪(2) Parousia‬‬
‫‪(3) omoiosis‬‬
‫الغريب ❖ ‪373‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫التصورات الرومان َّية التي استندت إ ىل مقولة األمر القاطع أو املشيئة املتس هلطة(‪.)1‬‬
‫وأفىض‬
‫ى‬ ‫عل أساس األمر واالئتامر‪ ،‬أي النظام واخلضوع‪،‬‬
‫فاإلمرباطور َّية الرومان َّية ّنضت ى‬
‫عل هيأة االنضباط أو االستقامة أي القانون‪ ،‬وقد غدا هو‬
‫احلق ى‬
‫تطور الفكر فيها إ ىل تصور ه‬
‫التعبري األنسب عن مطابقة مضامني األمر‪ .‬وبذلك تنقلب احلقيقة ‪ -‬حقيقة الكائنات‬
‫واألشياء واملوجودات واألحداث ‪ -‬موضعا سن ًّيا لتحقق املطابقة بني األمر واملأمور به‪ .‬احلق‬
‫معايري هذه املطابقة‪ .‬ينجم عن مثل هذه‬
‫ُ‬ ‫أو الواقع ُيضحي هو القانون(‪ )2‬الذي به تنضبط‬
‫تتغري ماه َّي ُتها تغريا خطريا لتصبح هي الواقع وقد‬ ‫احلق والقانون َّ‬
‫أن الكينونة َّ‬ ‫املطابقة بني ه‬
‫املنجز(‪ .)3‬يربط هايدغر مثل هذا التغري اخلطري باآلمر َّية‬ ‫َ‬ ‫حت َّققت قابل ّيا ُته يف حقل الفعل‬
‫أن ُأرسطو كان‬ ‫املتعمد‪ ،‬يف حني َّ‬
‫َّ‬ ‫الرومان َّية التي تربط الـ إنِرغيا األُرسط َّية(‪ )4‬بعمل َّية اإلنجاز‬
‫الطوعي‪:‬‬
‫ه‬ ‫يعاين فيها َ‬
‫إقبال الواقع املنجحب إ ىل االنكشاف‬
‫يرتجم الرومانيون‪ ،‬أي يتف َّكرون اإلرغون(‪ )5‬انطالق ًا من العمل َّية(‪ )6‬وقد أدركوها‬
‫عىل معنى العمل(‪ ،)7‬وجيعلون أكتوس(‪ )8‬بدالً من الـ إنِرغيا(‪ ،)9‬والـ أكتوس عبارة‬
‫خمتلفة كل االختالف تنسلك يف حقل من الداللة خيتلف اختال ًفا ك يليا(‪.)10‬‬

‫‪(1) imperium‬‬
‫‪(2) rectus‬‬
‫‪(3) actualitas‬‬
‫‪(4) energeia‬‬
‫‪(5) ergon‬‬
‫‪(6) operatio‬‬
‫‪(7) action‬‬
‫‪(8) actus‬‬
‫‪(9) energeia‬‬
‫(‪ )10‬يربط هايدغر مثل هذا التغري باآلمر َّية الرومانيَّة‪:‬‬
‫‪Die Römerübersetzen, d. h. denken ergon von der operatio als actio her und sagen statt‬‬

‫‪energeia : actus, ein ganz anderes Wort mit einem ganz anderen Bedeutungsbereich‬‬

‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 46.‬‬


‫‪ ❖ 374‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫(‪)1‬‬
‫جراء هذا االنحجاب الثاين‪ ،‬انقلبت احلقيقة عند الرومان مرادفا لالستقامة‬
‫من ّ‬
‫والضبط واالئتامر بقوالب الصياغة السليمة واملقوالت املؤاتية‪ .‬وعليه يغدو التاريخ الغرب‬
‫أن ينتمي انتامء رصُيا إ ىل األُصول اإلغريق َّية األُ ى‬
‫ول‬ ‫بأرسه تارخي ُا رومان ًّيا‪ ،‬ويك ّفث عن ْ‬
‫الواعدة‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن الكينونة ‪ -‬حني تنحرص يف الواقع وقد ارتسمت حدو ُده يف سياق الفعل‬
‫حر َّيتها األصل َّية اللصيقة هبا‪.‬‬
‫املنجز ‪ -‬تفقد مرونتها وحيو َّيتها والس ّيام ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫َ‬
‫عرف احلقيقة باليقني‪ .‬مثل‬
‫يستهل ديكارت (‪ )1650 - 1596‬االنحجاب الثالث حني ُي ه‬
‫هذا التعريف ال يصح َّإال حني يستغرق اإل ُ‬
‫نسان يف متثله الواقع وإخضاعه األشياء وإقحامه‬
‫الذات العاقل َة صاحب َة القرار األخري يف‬
‫َ‬ ‫الكائنات يف مقوالته العقل َّية‪ .‬فاإلنسان غدا هو‬
‫ت ( ُأف هكر فأنوجد)‬ ‫استنطاق األشياء والكائنات واملوجودات‪ .‬وبام َّ‬
‫أن يقني الكوجيتو الديكار ه‬
‫الشك‪َّ ،‬‬
‫فإن الذات اإلنسان َّية العاقلة التي تعتصم به‬ ‫ه‬ ‫هو احلقيقة املطلقة التي تقهر َّ‬
‫كل أصناف‬
‫كل فكرة ل ُتضحي هي‬‫عل ه‬
‫عل العامل بك ّل َّيته‪ ،‬وتتقدَّ م ى‬ ‫عل ه‬
‫كل املوجودات‪ ،‬وتتقدَّ م ى‬ ‫تتقدَّ م ى‬
‫املركز القطب الذي يأت إ ىل الوجود من تلقاء ذاته‪ ،‬ويستجمع َّ‬
‫كل يشء يف بصريته‪ ،‬وُيكم‬
‫كل يشء وفاقا ملرجع َّيته املعيار َّية‪ .‬الذات املتي هقنة من حقيقتها املعرف َّية تغدو هي ه‬
‫املقو َم‬ ‫عل ه‬
‫ى‬
‫عل هذا النحو‪ ،‬يصبح‬ ‫أن يتح َّقق ف ُيظهر كائن َّيته‪ .‬ى‬
‫األصيل جلميع الكائنات هبا يمكن الكائن ْ‬ ‫َّ‬
‫الذات اإلنسان َّية‬
‫ُ‬ ‫جراء تعاظم القدرات التمثل َّية التي تدَّ عي‬
‫من اليسري ولوج عرص احلداثة من ّ‬
‫امتالكها والترصف هبا ‪« :‬ح َّت ىى زمن ديكارت كان كل يشء قائم بذاته ُيع َترب «ذاتا»‪ .‬ولكن‬
‫اآلن أصبحت «األنا» هي الذات البارزة التي ال تتحدَّ د األشياء األُ ى‬
‫خرى بام هي عليه َّإال‬
‫وألن األشياء ‪ -‬رياض ًّيا ‪ -‬تكتسب َّأوالَ شيئ َّيتها من عالقتها التأسيس َّية باملبدأ‬
‫َّ‬ ‫بالرجوع إليها‪.‬‬
‫فإّنا يف ماه َّيتها هي ما يقوم كآخر من جهة‬
‫سمى وبالذات املقرتنة هبذا املبدأ (األنا)‪َّ ،‬‬
‫األ ى‬
‫االرتباط بالذات‪ ،‬أي ما يقابل الذات كموضوع‪ .‬األشياء عينها تصبح «موضوعة»(‪ .)3‬كل‬

‫‪(1) rectitude‬‬

‫‪(2) actualitas‬‬

‫‪‬‬ ‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬السؤال عن اليشء‪ ،‬ص ‪.106‬‬


‫الغريب ❖ ‪375‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫املتيقنة‪ ،‬ح َّت ىى َّ‬


‫إن الذات ُتنشئ‬ ‫يشء ينقلب إ ىل حالة الوضع يف ُقبالة الذات العارفة العاملة ه‬
‫عل قدر ما تستوثق من حقائق هذه املواضيع وتتث َّبت من مضامينها‪ .‬وقد تصبح‬
‫مواضيعها ى‬
‫األصيل يف‬
‫ه‬ ‫ألّنا هي موضع اليقني‬‫األول ‪ -‬بحسب هايدغر ‪َّ ،-‬‬ ‫الذات هي املوضوع َّ‬
‫إل هذا التصور‪ُ ،‬تضحي مجيع الكائنات واألشياء واملوجودات‬
‫ت‪ .‬استنادا ى‬
‫الكوجيتو الديكار ه‬
‫عل قدر ما ّتضع ليقني الذات‬ ‫املوضوعي‪ ،‬ى‬
‫ه‬ ‫يف حالة مقابلة الذات‪ ،‬أي يف حالة الوجود‬
‫الكوين الشامل(‪ .)1‬املعرفة عينها تصبح تيقنا من‬
‫ه‬ ‫العلمي‬
‫ه‬ ‫وعل قدر ما تأمتر باملخ َّطط‬
‫ى‬ ‫اإلنسان َّية‬
‫عل إخضاع األشياء لتصورات الذات‪.‬‬
‫امتالك القدرة ى‬
‫إل‬
‫احلسابة احلديثة‪ ،‬التي تستند ى‬
‫يف صميم هذا االنقالب يعاين هايدغر نشوء العقالن َّية ّ‬
‫رشع األبواب ِّليمنة املعرف َّية الكون َّية الشاملة التي ُّتضع الكائنات‬ ‫ِ‬
‫ت و ُت َّ‬
‫متافيزياء اليقني الذا ه‬
‫ّتطيط علمي شا ٌ‬
‫مل يقرن الكائنات بالذات اإلنسان َّية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫العلمي القاهر‪ .‬هو‬
‫ه‬ ‫ك َّلها ملخ َّططها‬
‫ت‪ ،‬ويستحرض هذه الكائنات يف صورة الوضع‬
‫اخلاص وينسبها إ ىل احلقل الذا ه‬
‫َّ‬ ‫فيسلبها قوامها‬
‫اإللزامي يف ُقبالة الذات اإلنسان َّية ح َّت ىى تصبح قابلة ألداء احلساب واخلضوع املستكني‪ .‬مثل‬
‫صور إذا الطبيعة ك َّلها يف هيأة اآللة الضخمة التي تعمل‬
‫هذه العقالن َّية الديكارت َّية املتافيزيائ َّية ُت ه‬
‫عل تأسيسات‬ ‫التلقائي‪ .‬بناء ى‬
‫ه‬ ‫الوظيفي‬
‫ه‬ ‫وفاقا لنظام صارم من الد َّقة واالنضباط واالئتامر‬
‫احلسابة انتشارا واسعا يف الفلسفة الغرب َّية املعارصة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ديكارت املتافيزيائ َّية‪ ،‬تنترش العقالن َّية ّ‬

‫‪‬‬

‫‪Bis zu Descartes galt es alsSubjektjedes fürsich vorhandene Ding; jetzt aber wird‬‬

‫‪dasIchzum ausgezeichneten Subjekt, zu demjenigen, mit Bezug auf welches dieübrigen‬‬

‫‪Dinge erstals solche sich bestimmen. Weil sie-mathematisch-ihre Dingheit erst durch den‬‬

‫‪begründenden Bezug zum obersten Grundsatz und dessenSubjekt(Ich) erhalten, sind sie‬‬

‫‪wesentlich solches, was als ein anderes in Beziehung zumSubjektsteht, ihm entgegenliegt‬‬

‫‪als obiectum. Die Dinge selbst werden zuObjekten Heidegger, Die Frage nach dem Ding‬‬

‫‪, A 41, Frankfurt,‬‬


‫‪: Zu Kants Lehre von den transzendentalen Grundsätzen G‬‬

‫‪Klostermann, 1984, p. 106.‬‬


‫‪(1) mathesis‬‬
‫‪ ❖ 376‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ف إذا بكانط يربط رشوط إمكان املعرفة وأغراض املعرفة برشوط االختبار واملعرفة اللصيقة‬
‫عل‬
‫بالذات العارفة ‪ .‬بذلك تقترص إمكانات الكينونة ‪ -‬انبساطا وانتشارا وفعال وأثرا ‪ -‬ى‬
‫(‪)1‬‬

‫عل هذا النحو أسرية األنا‬


‫املعريف‪ .‬فالكينونة ُتضحي ى‬
‫ّ‬ ‫إمكانات االختبار‪ ،‬والس ّيام االختبار‬
‫العارفة وأسرية رشوط االختبار التي تلتزمها الذات العارفة(‪ .)2‬هي هذه الرشوط عينها التي‬
‫الصحة والصواب واإلصابة‪ .‬فتتم َّلك‬
‫َّ‬ ‫ترسم حدود املوضوع َّية يف األشياء‪ ،‬وتفرض معايري‬
‫عني ِّلا كينونتها‪ .‬ومن َث َّم َّ‬
‫فإن حرص كينونة الكائنات يف رشوط إمكان‬ ‫عل الكائنات و ُت ه‬
‫ى‬
‫عل‬
‫األقىص‪ ،‬واإلطباق ى‬
‫ى‬ ‫املعريف يبلغ بالعقالن َّية الديكارت َّية إ ىل مشارف االختتام‬
‫ه‬ ‫االختبار‬
‫احلر‪ ،‬وإخضاعها لسلطة الذات العاقلة‬ ‫األصيل ه‬
‫ه‬ ‫األشياء‪ ،‬وانتزاع الكينونة من حمضنها‬
‫العارفة‪ .‬وعوضا من االعتناء بحقيقة الكينونة تنرصف العقالن َّية احلديثة إ ىل استنزاف‬
‫عل حقيقة‬
‫الكائن‪ .‬وما من استنزاف أشد إهالكا للكائن من هيمنة اإلرادة الذات َّية ى‬
‫الكائنات(‪.)3‬‬
‫يف ثنايا هذا االنحجاب الثالث تنطوي إذا كل القابل ّيات االستنزاف َّية التي ُيملها التحول‬
‫الديكارت يف األزمنة املعارصة‪ .‬ولذلك يستطلع هايدغر يف مجيع أطوار الفلسفة الغرب َّية‬
‫احلسابة‪ .‬وعليه ليس هناك‬
‫املنطقي يف سلك العقالن َّية الديكارت َّية ّ‬
‫ّ‬ ‫املعارصة خيوط االنتظام‬

‫(‪ )1‬راجع ما قاله هايدغر يف رشوط إمكان املعرفة األنطولوج َّية عند كانط يف كتابه كانط واملشكلة‬
‫ِاملتافيزيائي َّة‪:‬‬
‫‪Heidegger, Kant und das Problem der Metaphysik, GA 3, Frankfurt, Klostermann, 1991,‬‬
‫‪p. 88 - 91.‬‬
‫(‪ )2‬يتحدَّ ث هايدغر عن اإلنيَّة (‪ )Ichheit‬املشت َّقة من األنا واملقرتنة بالذات العارفة‪ .‬و ُيميهز تصور ديكارت‬
‫املعريف التي هي لصيقة ببنية‬
‫ه‬ ‫خاصة من تصور كانط لألنا كوعي عام يقرتن برشوط االختبار‬
‫لألنا كذات َّ‬
‫املعريف العا هم للذات‪.‬‬
‫ه‬ ‫الوعي‬
‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 82.‬‬
‫تتجل الديمقراط َّية يف فكر هايدغر مرتبطة بإرادة إثبات الذات التي تستبطنها املِتافيزياء الغرب َّية يف‬ ‫ّى‬ ‫(‪)3‬‬
‫منتوجها األخري‪ ،‬عنيت به التقنيَّة احلديثة‪:‬‬
‫‪Rolland J ,Technique et invention démocratique , in Le Cahier du Collège International de‬‬
‫‪Philosophie, Heidegger. Questions ouvertes I, 1988 ,numéro spécial,, 1989, pp. 161 - 172 .‬‬
‫الغريب ❖ ‪377‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫أن هايدغر‬ ‫ت واإلرادة النيتشو َّية‪ .‬ذلك َّ‬ ‫من ّتا ُلف أو ُ‬
‫ّتارج أو تناقض بني الكوجيتو الديكار ه‬
‫مصف آخر الفالسفة الغرب هيني املِتافيزيائ هيني الذين محلوا أمانة اإلرث‬ ‫ه‬ ‫يضع نيتشه يف‬
‫أن نيتشه أعلن موت اهلل وّناية املِتافيزياء‬ ‫القصوى‪ .‬ومع َّ‬
‫ى‬ ‫إل خواتيمه‬
‫األفالطوين وساقوه ى‬
‫ه‬
‫إل‬
‫احلسابة ى‬‫األفالطون َّية‪َّ ،‬إال أ َّنه يف تعظيمه اإلرادة اإلنسان َّية وإرادة اإلرادة نقل الذات َّية ّ‬
‫معنى ذلك أ َّنه قلب املِتافيزياء األفالطون َّية‪،‬‬
‫ى‬ ‫مستوى السيادة القاهرة يف هيأة اإلرادة املطلقة‪.‬‬
‫ى‬
‫فأسقط الكائن احلقيقي األفالطوين يف وهاد الزيف والوهم والضالل وأفرغه من ه‬
‫كل فاعل َّية‬
‫مستوى‬
‫ى‬ ‫احليس واحلياة والصريورة والفعل التارخيي يف‬ ‫تارخي َّية ملموسة‪ ،‬وجعل الكائن ّ‬
‫ًّ‬
‫مستقال للحياة وإلرادة احلياة يف اإلنسان األعظم‪ .‬ولكنَّه‬ ‫احلق‪ .‬أراد أ ْن ينشئ قواما‬‫الكائن ه‬
‫تصور الكينونة قيمة تستلها إرادة االقتدار من معني التدفق‬ ‫ظل أسري املنطق املِ‬
‫َّ‬
‫تافيزيائي أل َّنه َّ‬
‫ه‬
‫حب إثبات الذات يف إرادة‬‫سوى ه‬‫ى‬ ‫سوغه‬
‫عل الوجود فرضا ال ُي ه‬ ‫الف ّياض للحياة‪ ،‬وتفرضها ى‬
‫االقتدار‪ .‬فإذا بمثل هذه اإلرادة املطلقة ُمتيس هي عينها مريدة َ‬
‫ذاهتا‪ ،‬طالبة عنيَ مطلبها‪ ،‬راغبة‬
‫جوهر‬
‫َ‬ ‫عل الكائنات وتنقلب هي‬ ‫إن هذه اإلرادة تستول ى‬ ‫ت‪ ،‬بحيث َّ‬ ‫يف تكثيف قوامها الذا ه‬
‫القصوى‪.‬‬
‫ى‬ ‫هذه الكائنات وحقيقتها‬
‫عل‬
‫التقني ى‬
‫ه‬ ‫احلسابة وباملِتافيزياء األفالطون َّية إ ىل التسلط‬
‫هو نيتشه الذي يبلغ بالعقالن َّية ّ‬
‫سوى الس ُبل التي هبا يصون اإلنسان هذه‬ ‫ى‬ ‫الكائنات‪ .‬فالقيم التي ّتلقها إرادة االقتدار ليست‬
‫إن إرادته تصبح هي السمة األساس َّية يف الكائن‪:‬‬ ‫اإلرادة و ُيع هظمها ح َّت ىى َّ‬
‫الق َيم بام هي رشوط‪ ،‬أي بام هي رشوط الكائن بام هو كذلك‬ ‫إذا كان نيتشه يتصور ِ‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫الكينونة تفك َره للكائن َّية بحسب‬ ‫الواقعي والصائر)‪ ،‬فإ َّنه يتف َّكر‬
‫ِّ‬ ‫(بتعبري أفضل‪ :‬رشوط‬
‫األفالطوين(‪.)1‬‬
‫ي‬ ‫املعنى‬
‫يرى يف‬
‫عل قدر ما ى‬ ‫وال غرابة ‪ -‬من َث َّم ‪ْ -‬‬
‫أن ُيضحي نيتشه ‪ -‬يف نظر هايدغر ‪ -‬أفالطون ًّيا ى‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬نيتشه‪ :‬العدمي َّة ُ‬


‫األوروبي َّة‪ ،‬ص ‪.302‬‬
‫‪Sofern Nietzsche die Werte als Bedingungen begreift, und zwar als Bedingungen‬‬
‫‪desSeiendenals solchen besser des Wirklichen, Werdenden, denkt er das Sein als‬‬
‫‪Seiendheit platonisch“ Heidegger, Nietzsche :Der europäische Nihilismus, GA 48,‬‬
‫‪Frankfurt, Klostermann, 1986, p. 302.‬‬
‫‪ ❖ 378‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫كائن َّية الكائن الرشط َّي َة التي ُمت هكن اإلرادة من ن َْسب القيمة إ ىل األشياء‪ .‬فالكائن َّية هي الرشط َّية‬
‫أسري التمكني‬ ‫َ‬ ‫ألّنا هي التي ُمت هكن الكائنات من اخلري والصالح‪ .‬ولذلك يظل نيتشه‬ ‫َّ‬
‫األفالطوين الذي يغرتف للكائنات قوا َمها و ُمكنتَها وقيمتَها من معني املُ ُثل العليا‪ُ ،‬م ُثل اخلري‬
‫ه‬
‫والصالح التي هتب الكائنات كائن َّيتها وقيمتها حني ُتعتقها من سالسل املا َّدة وظالل العامل‬
‫السفيل‪ .‬وعليه َّ‬
‫فإن نيتشه يصبح ‪ -‬يف نظر هايدغر ‪ -‬الفليسوف الغرب األخري‬ ‫ه‬ ‫احليس‬
‫ّ ه‬
‫عل الكائنات‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن حتويل‬ ‫أقىص درجات التسلط ى‬
‫ى‬ ‫للمتافيزياء األفالطون َّية‪ ،‬وقد بلغت‬
‫ت إ ىل أوج‬
‫العلمي الديكار َّ‬
‫َّ‬ ‫كائن َّية الكائن إ ىل حمض إرادة يف االقتدار والتجاوز أوصل املخ َّطط‬
‫جراء هذه اإلرادة موضوعة ليس يف خدمة‬
‫عل الكون بأمجعه‪ .‬فالكائنات ُتضحي من ّ‬
‫هيمنته ى‬
‫الذات وحسب‪ ،‬بل أيضا يف خدمة التهيؤ جلميع رضوب االستغالل واالستثامر واالستنفاد‪.‬‬
‫الكائنات ُمتيس أشبه بأغراض ُتنشئها الذات بقدرة إرادهتا‪ ،‬ومتنحها ما تستنسبه من قيمة‪.‬‬
‫عل مضاعفة اقتدار اإلرادة‬ ‫ولكنَّها قيم ٌة غريب ٌة عن الكائنات؛ َّ‬
‫ألن وظيفتها الوحيدة تقترص ى‬
‫ت‪ ،‬وينقلب العود األبدي‬ ‫اإلرادي الذا ه‬
‫ه‬ ‫الذات َّية‪ .‬بذلك يسقط كل يشء يف قبضة التملك‬
‫النيتشوي تعبريا عن املاه َّية املِتافيزيائ َّية التي تنطوي عليها التقن َّية احلديثة‪ .‬وها هو ذا هايدغر‬
‫األبدي‪:‬‬
‫ه‬ ‫يستفِّس نيتشه عن أبلغ املقاصد التي طواها يف فكرة العود‬
‫األبدي‬
‫ِّ‬ ‫املحركة احلديثة؟ أمل يكن غري رسم صورة العود‬
‫ِّ‬ ‫ما هي إذ ًا ماه َّية اآللة‬
‫لألمر عينه؟(‪.)1‬‬
‫تعبري بليغٌ عن استزادة إرادة االقتدار وسعيها املحموم إ ىل التولد الذا ه‬
‫ت‬ ‫ٌ‬ ‫العود األبدي‬
‫ومضاعفة الطاقة طمعا بسلطان ال يأفل هو أشبه بتطلب أبدي لرغبة اِّليمنة عينها‪.‬‬
‫ال ُيسن ْ‬
‫أن ُخي َتم هذا التصاعد املتفاقم يف االقتدار من دون ذكر تواطؤ املاركس َّية املا ّد َّية‬
‫التي تنتمي هي أيضا ‪ -‬بحسب هايدغر ‪ -‬إ ىل ِمتافيزياء الذات املقتدرة‪ ،‬وقد تواطأت تواطؤا‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.122‬‬


‫‪Was ist das Wesen der modernen Kraftmaschine anderes als eine Ausformung der ewigen‬‬

‫‪Wiederkehr des Gleichen Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit ,.p. 122.‬‬
‫الغريب ❖ ‪379‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫األبدي‪ .‬هي ماركس َّي ٌة تستند إ ىل أنطولوجيا اإلنتاج امل َّطرد(‪.)1‬‬


‫ه‬ ‫مريبا مع إرادة اإلرادة والعود‬
‫القصوى التي‬
‫ى‬ ‫أن كائن َّية الكائن تتح َّقق و ُتستنفد بالفعل عينه يف منتوج العمل‪ .‬أ َّما الغاية‬
‫ذلك َّ‬
‫يمكن البلوغ إليها‪ ،‬فهي اإلنتاج الذات املطلق الذي يستغرق مجيع حقول الطبيعة‪ .‬فاإلنسان‬
‫املنتِج والطبيعة القابلة لإلنتاج يتواطآن ح َّت ىى ه‬
‫االحتاد‪ ،‬فيصريان جسدا واحدا يف التاريخ ُيمل‬
‫آثار االقتدار اخلطري الذي ّتضع له الكائنات واألشياء واملوجودات‪ .‬كل يشء يصبح‬
‫معرضا‪ ،‬قابال للتموضع والتحقق‪ .‬حينئذ تكتمل دورة املِتافيزياء الغرب َّية وتبلغ‬ ‫مكشوفا‪َّ ،‬‬
‫القصوى وخواتيمها السحيقة‪ .‬فتستسلم الكينونة لتخدر النسيان‪ ،‬وتغرق‬ ‫ى‬ ‫مقاصدها‬
‫أن تاريخ‬ ‫التقني الذي يلتهم الكون بأمجعه‪ .‬مرد ذلك كله إ ىل َّ‬
‫ه‬ ‫جلة االلتهاب‬ ‫الكائنات يف َّ‬
‫سوى تاريخ‬ ‫ى‬ ‫الفلسفة أو تاريخ املِتافيزياء‪ ،‬والعبارتان مرتادفتان يف قاموس هايدغر‪ ،‬ليس‬
‫عل تطلب املثال أو القيمة املطلقة لألشياء‪ .‬هو تاريخ األفالطون َّية التي‬
‫املبني ى‬‫ه‬ ‫انتشار الفكر‬
‫رسه‪ ،‬وخبيئ‬ ‫الطوعي عن دفني ه‬
‫ه‬ ‫ّ‬
‫بالتخيل‬ ‫تتصور الوجود ك َّله راغبا يف االستزادة من قيمته‬‫َّ‬
‫أن ُتدرك‬ ‫ِ‬
‫طاقته‪ ،‬وحمجوب قوامه‪ ،‬و ُمسترت عنرصه‪ .‬ال تستيطع املتافيزياء ‪ -‬واحلال هذه ‪ْ -‬‬
‫خطورة الوضع الذي آلت إليه حني أسقطت الكينونة يف قعر النسيان‪ ،‬وحني أغفلت فعلتها‬
‫هذه وأضحت عاجزة عن التبرص يف رضورة العودة إ ىل الكينونة‪ .‬هو موقف اإلهال‬
‫والالمباالة تقفه املِتافيزياء الغرب َّية من ضيق األوضاع التي خ َّلفتها التقن َّية احلديثة‪ .‬وتتفاقم‬
‫َّ‬
‫الكياين‪ .‬هو ضيق انعدام الشعور‬ ‫ه‬ ‫حدَّ ة هذا الضيق حني يظن الناس َّأّنم يف نجوة من الضيق‬
‫ّ‬
‫التجيل(‪.)2‬‬ ‫كل أنحائه ح َّت ىى يش َّله و ُيقعده عن‬
‫بخطورة الضيق يرضب يف الوجود من ه‬

‫‪(1) Jean Vioulac, L’époque de la technique. Marx, Heidegger et l’accomplissement de la‬‬


‫‪métaphysique, Paris, PUF ,Épimethée ,2015.‬‬
‫(‪ )2‬هي العدم َّية بعينها يصفها هايدغر بانعدام استشعار خطر الضيق املحدق بنا‪« :‬انعدام الض هيق يقوم يف أ َّننا‬
‫أن تكون‬ ‫وعل الواقع‪ ،‬ويف أ َّننا ُندرك ما هو احلقيقي‪ ،‬من دون ْ‬‫ى‬ ‫الواقعي‬
‫ه‬ ‫عل‬
‫نتخ َّيل أ َّننا نقبض قبضا محيدا ى‬
‫أن نعرف أين ينبسط جوهر احلقيقة» (هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪ .)87‬يؤثرِ‬ ‫بنا حاج ٌة إ ىل ْ‬
‫ُ‬
‫إسامعيل املصده ق تعريب الكلمة األملان َّية (‪ )Not‬باستخدام اجلذر الذي ُيس َتخدم يف عديل الكلامت‬
‫األملاين عينه (‪ )Not‬والتي يستنسب تعريبها بالرضورة‬ ‫ّ‬ ‫خرى التي حتمل اجلذر‬ ‫األملان َّية األُ ى‬
‫نص‬ ‫(‪ )Notwendigkeit‬وباالضطرار (‪ .)Nötigung‬راجع احلاشية رقم ‪ 34‬املوضوعة يف تعريب ه‬
‫«مشكالت» خمتارة من «املنطق»‪ ،‬ترمجة وحتقيق وتعليق إسامعيل‬ ‫ٌ‬ ‫هايدغر‪ ،‬األسئلة األساسي َّة للفلسفة‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫املصده ق‪ ،‬مراجعة مشري عون‪ ،‬دار الكتاب اجلديد امل َّتحدة‪ ،‬بريوت‪.2018 ،‬‬
‫‪ ❖ 380‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫التقنيَّة احلديثة يف ماهيَّتها املِتافيزيائيَّة القصوى‪:‬‬


‫ينظر هايدغر إ ىل واقع املسكونة يف الزمن احلديث واملعارص نظرته إ ىل انحجاب كوين تفتعله‬
‫وارى عن األنظار يف هيأة اِّليمنة التقن َّية الساحقة‪ .‬طاملا َّ‬
‫أن هايدغر ال‬ ‫الكينونة عينها التي تت ى‬
‫الفلسفي‪ ،‬ال من موقع التحليل‬
‫ه‬ ‫الكوين من موقع التبرص‬
‫ه‬ ‫يني يضطلع بمأساة الضيق‬
‫السيايس‪َّ ،‬‬
‫فإن املحنة الكون َّية التي تزعزع أساسات‬ ‫ه‬ ‫االقتصادي‬
‫ه‬ ‫األنرتوبولوجي‬
‫ه‬ ‫االجتامعي‬
‫ه‬
‫وجرته أيضا‬ ‫ٌ‬
‫نسيان شاءته الكينونة لذاهتا َّ‬ ‫الوجود ك َّله إ َّنام تنبثق من نسيان الكينونة‪ .‬وهو‬
‫عليها اِّليمن ُة املقلقة للعلم احلديث‪ .‬فالعلم احلديث يفرض ى‬
‫عل الطبيعة تصورا كامال جيعلها‬
‫ِ‬
‫عرف هايدغر العلم‬ ‫خاضعة ملس َّلامته اإلبيستمولوج َّية ومط َّية ملطاحمه التقن َّية ‪ .‬لذلك ُي ه‬
‫(‪)1‬‬

‫احلديث تعري َفه لنظر َّية يف الواقع تستفز الواقع وتنهره وتعيد بناءه بحسب مبادئها وأحكامها‬
‫وقضاياها‪ .‬العلم كنظر َّية يف الواقع يصوغ الواقع صوغا جيعله خاضعا إلرادة االستغالل‬
‫املبثوثة يف أحكام النظر َّية(‪ .)2‬يف صياغته هذه جيتهد أيضا يف ضبط قوانني االعتالن التي ترسم‬
‫أن يظهر وفاقا للمعادلة الفيزيائ َّية املوضوعة له‪ .‬بيد َّ‬
‫أن االجتهادات النظر َّية التي‬ ‫ه‬
‫لكل كائن ْ‬
‫عل‬
‫وحر َّيتها ومحيم َّيتها عص َّية ى‬
‫عل تقييد الطبيعة التي تظل يف حيو َّيتها ّ‬
‫تقوى ى‬
‫ى‬ ‫ينشئها العلم ال‬
‫القالبي‪.‬‬
‫ه‬ ‫األحادي واإلدراك‬
‫ه‬ ‫التمثل‬

‫‪‬‬
‫‪Die Not.losigkeit besteht darin zu meinen, daßman das Wirkliche und die Wirklichkeit im‬‬

‫‪Griff habe und wisse, was das Wahre sei, ohne daßman zu wissen brauche, worin die‬‬

‫‪Wahrheit west Heidegger, Vorträge und Aufsätze ,op. cit., p. 87.‬‬


‫(‪ )1‬توس عات هايدغر يف حمارضته التي ألقاها يف التاسع من حزيران من العام ‪ 1938‬وعنواّنا‪« :‬زمن‬
‫تصورات العامل» (هايدغر‪ ،‬دروب الغابة‪ ،‬األعامل الكاملة‪ ،‬اجلزء ‪ ،5‬فرانكفورت‪ ،‬كلوسرتمان‪،1977 ،‬‬
‫ص ‪.)113 - 75‬‬
‫‪Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977, p. 75 - 113.‬‬
‫(‪ )2‬راجع‪ :‬تعريف هايدغر للعلم كنظر َّية يف حمارضته التي ألقاها يف مونخن يف الرابع من شهر آب من العام‬
‫‪ ،1953‬وعنواّنا‪« :‬العلم والتأمل» (هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪:)54 - 52‬‬
‫‪Heidegger ,Wissenschaft und Besinnung ,in Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit ,.pp.‬‬
‫‪52 - 54.‬‬
‫الغريب ❖ ‪381‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫هورسل إ ىل العلوم‬‫إل تأثر هايدغر باالنتقاد الذي ساقه ّ‬ ‫من املفيد ْ‬


‫أن يشري املرء هنا ى‬
‫ت الذي انبنت عليه‪َ ،‬أال وهو البيئة‬
‫احليوي احليا ه‬
‫ه‬ ‫احلديثة حني عاين تنكر هذه العلوم لألصل‬
‫احل َّية أو املحيط احلي أو عامل احلياة(‪ )1‬الذي يكتنف الوجود ك َّله(‪ .)2‬بيد أ َّن هذا التأثر اقترص‬
‫أن هايدغر‬ ‫عل أصل االعتالل‪ .‬ذلك َّ‬ ‫عل االستدالل املشرتك ى‬ ‫عل انتقاد العلم ‪ ،‬فلم يلتقيا ى‬
‫(‪)3‬‬
‫ى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أن األصل‬ ‫نولوجي للحياة‪ ،‬بل ذهب إ ىل َّ‬
‫ه‬ ‫هورسل يف هذا التناول الفنوم‬ ‫مل يشارك ُأستاذه ّ‬
‫لكل علم ْ‬
‫أن يعود إليه إ َّنام هو حقيقة الكينونة يف حيو َّية‬ ‫اإلغريقي الذي ينبغي ه‬ ‫َّ‬ ‫ال َف ْج َّ‬
‫ري‬
‫ب الذي ُيلقي‬ ‫سوى رضب من رضوب األُفول الغرو ه‬ ‫ى‬ ‫التامعاهتا و ُأفوالهتا‪ .‬وما التقن َّية احلديثة‬
‫حر َّيتها ويزجها يف أتون االستهالك‬ ‫عل الكائنات‪ ،‬فيسلبها ّ‬ ‫املقتمة ى‬
‫َّ‬ ‫بظالله احلالكة‬
‫األول ظاهر ُة‬
‫أن األزمنة الراهنة هتيمن عليها يف املقام َّ‬‫واالستنفاد‪ .‬وعليه يعتقد هايدغر َّ‬
‫عل جانب من جوانب استفزاز َّيتها املتفاقمة‪.‬‬ ‫َ‬
‫اشتامِّلا ى‬ ‫عل العلم‬
‫التقن َّية التي تشتمل هي أيضا ى‬
‫عل ُط َّالبه يف جامعة فرايبورغ يف فصل صيف‬ ‫يف األُملية اجلامع َّية التي ألقاها هايدغر ى‬
‫‪ ،1941‬يصف الوضع َّية العا َّمة التي تسم األزمنة احلديثة بالوضع َّية التقن َّية‪:‬‬
‫إن الوضع َّية األساس َّية لألزمنة احلديثة هي الوضع َّية «التقن َّية»‪ .‬ليست هي تقن َّي ًة‬
‫َّ‬
‫املحرك احلراري‪ .‬بخالف ذلك‪ ،‬مثل‬
‫ِّ‬ ‫ألن هناك آالت تعمل عىل البخار‪ ،‬ومن بعدها‬
‫َّ‬
‫ألن العرص هو العرص «التقني»(‪.)4‬‬
‫هذه اآلالت موجودة َّ‬

‫‪(1) Lebenswelt.‬‬
‫هورسل ألزمة العلوم األُوروب َّية‪:‬‬
‫(‪ )2‬تناول ّ‬
‫‪Husserl, Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die Transzendentale‬‬
‫‪Phänomenologie. Einleitung in die phänomenologische Philosophie, hrsg. von Walter‬‬
‫‪Biemel, Husserliana, GW 6, Leuven, 1976.‬‬
‫(‪ )3‬يستخدم هايدغر العبارة عينها‪ ،‬أزمة املعرفة (‪ ،)Krisis des Wissens‬يف األملية التي ألقاها يف فصل‬
‫صيف ‪ 1941‬يف جامعة فرايبورغ‪ ،‬وعنواّنا‪ :‬املفاهيم األساسي َّة‪:‬‬
‫‪Heidegger, Grundbegriffe, GA 51, Frankfurt, Klostermann, 1991, p. 15.‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪Die neuzeitliche Grundstellung ist dietechnische .Sie ist nicht technisch, weil es da‬‬
‫‪Dampfmaschinen und dann den Explosionsmotor gibt, sondern dergleichen gibt es auch,‬‬
‫‪weil das Zeitalter dastechnischeist. Heidegger, Grundbegriffe, op. cit., p. 17.‬‬
‫‪ ❖ 382‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ال ريب يف َّ‬


‫أن التقن َّية التي يتحدَّ ث عنها هايدغر هي غري التقن َّية املألوفة التي يأنس إليها‬
‫ب تطور احلرفة اإلنسان َّية منذ تفتح‬
‫صاح َ‬
‫َ‬ ‫الناس يف صنائعهم اليوم َّية‪ .‬يف التقن َّية بعدٌ أدات‬
‫بعضهم َّ‬
‫أن التقن َّية املعارصة نجحت يف تطوير هذا ال ُبعد‬ ‫األول‪ .‬لذلك قد يظن ُ‬
‫الوعي َّ‬
‫ت‪ ،‬فأدخلت عليه خصائص الفاعل َّية واإلنجاز َّية املثمرة‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن هايدغر ال يقتنع بمثل‬ ‫األدا ه‬
‫أن ماه َّية التقن َّية املعارصة تتخ ّط ىى ال ُبعد األدا َّ‬
‫ت‬ ‫هذه املضاعفة يف القدرات‪ ،‬بل يذهب إ ىل َّ‬
‫ضخمته التطورات العلم َّية احلديثة واملعارصة‪ .‬وبذلك أضحت التقن َّية احلديثة تتجاوز‬ ‫الذي َّ‬
‫اإلرادة اإلنسان َّية بام ُيتشد فيها من اقتدار خطري الشأن‪.‬‬
‫ال بدَّ إذا من مقارنة التصورات اإلغريق َّية األُو ىل للتقن َّية بالتصورات احلديثة التي رسمتها‬
‫يتحسسون التقن َّية يف‬‫َّ‬ ‫الكوين‪ .‬كان اإلغريق األوائل‬ ‫ه‬ ‫العلمي‬
‫ه‬ ‫العقالن َّية احلديثة يف خم َّططها‬
‫رضب‬
‫ٌ‬ ‫التلقائي(‪ .)2‬فالتقن َّية اإلغريق َّية هي‬
‫ه‬ ‫العفوي‬
‫ه‬ ‫االعتالين‬
‫ه‬ ‫أصلها ال َف ه‬
‫جري(‪ )1‬مقرتنة بالتفتح‬
‫أي صنف من أصناف االصطناع واإلنتاج‪:‬‬
‫االعتالين‪ ،‬ال حتتمل َّ‬
‫ه‬ ‫من رضوب التفتح‬
‫إن السمة احلاسمة يف التقن َّية ال تقوم الب َّتة يف الصنع واالستعامل‪ ،‬وال يف استخدام‬
‫َّ‬
‫الوسائل‪ ،‬بل يف الكشف‪ .‬فالتقن َّية هي تفتح اعتالين بام هي كشف‪ ،‬ال بام هي صنع(‪.)3‬‬
‫املعنى‬
‫ى‬ ‫املسألة كلها تتع َّلق بالتحول اخلطري الذي انتاب األزمنة احلديثة حني أعرضت عن‬
‫احلر يف الكائنات‬
‫االعتالين ه‬
‫ه‬ ‫اإلغريقي اللصيق بالتقن َّية‪ ،‬وقد ا َّتضحت دالئ ُله يف مفهوم التفتح‬
‫ه‬
‫العقالين احلديث الذي جيعل التقن َّية تغزو‬
‫ه‬ ‫ويف األشياء ويف املوجودات‪ ،‬وانحازت إ ىل التصور‬
‫الطبيعة‪ ،‬فتصطنع منها ما ال طاقة فيها عليه‪ .‬الكشف اإلغريقي هو غري االصطناع احلديث‬
‫ألن تصور احلقيقة خيتلف اختالفا ك ّل ًّيا بني الثقافتني‪ .‬وما العمل الفنّي الذي يتأ َّمل فيه‬
‫َّ‬

‫‪(1) technè‬‬
‫‪(2) poiesis‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪Das Entscheidende der technèliegt somit keineswegs im Machen und Hantieren, nicht im‬‬

‫‪Verwenden von Mitteln ,sondern in dem genannten Entbergen. Als dieses, nicht aber als‬‬

‫‪Verfertigen, ist die technèein Her.vor.bringen. Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op.‬‬

‫‪cit., p. 17.‬‬
‫الغريب ❖ ‪383‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫اإلغريقي ‪ .‬احلقيقة اإلغريق َّية‬


‫ه‬ ‫سوى التعبري األفصح عن فرادة التقنيَّة يف تناوِّلا‬
‫ى‬ ‫هايدغر‬
‫احلر ة التي تزخر هبا األشياء‪ ،‬يف حني أ َّن احلقيقة‬
‫اعتال ٌن عفوي لإلشارات املعنو َّية َّ‬
‫حس اب‬
‫قهر للدالالت‪ ،‬وإرغا ٌم للمضامني‪ ،‬وتطوي ٌع للمعاين‪ ،‬وضبط ّ‬
‫الديكارتيَّة احلديثة ٌ‬
‫للمعادالت‪.‬‬
‫ومن َث َّم فالكشف املتح َّقق يف التقن َّية اإلغريق َّية هو غري الكشف املنجز يف التقن َّية‬
‫نفار للطاقات‪،‬‬
‫حترير لطاقات األشياء‪ ،‬أ َّما الكشف احلديث است ٌ‬
‫ٌ‬ ‫احلديثة(‪ .)1‬الكشف اإلغريقي‬
‫وإخضاع لإلمكانات ح َّت ىى تذعن وهي صاغرةٌ‪ ،‬ف ُتستنزف استنزافا يتيح‬
‫ٌ‬ ‫واستفزازٌ للقابل ّيات‪،‬‬
‫العقالين‬
‫ه‬ ‫مؤهال لالستخدام‬
‫وضبها ويستودعها خمزونا َّ‬ ‫اإلنساين ْ‬
‫أن يستجمعها و ُي ه‬ ‫ه‬ ‫لالقتدار‬
‫كل استشعار أو حتسس أو تعاطف‪ .‬وما مستودعات الطاقة التي ُتش هيدها‬ ‫الطليق من ه‬
‫عل هذا االستفزار الذي ينتهك حرمة‬
‫سوى الدليل ى‬
‫ى‬ ‫املتطورة‬
‫ه‬ ‫املجتمعات الغرب َّية املعارصة‬
‫الطبيعة‪ ،‬فيذِّلا إذالال ح َّت ىى تؤت مكرهة َّ‬
‫كل ثامرها‪ ،‬اليانعة منها وغري اليانعة‪َ .‬ع َش َق هايدغر‬
‫اإلغريقي أل َّنه عاين فيه رعاية فائقة إليقاعات الطبيعة وإيقاعات كائناهتا‪ ،‬بينام التقن َّية‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫التناول‬
‫بالقوة الغاشمة َّ‬
‫كل مكانز دفائنه‪ ،‬القابلة منها‬ ‫عل الكون اّنياال لتستخرج منه َّ‬
‫احلديثة تنهال ى‬
‫َّ‬
‫مسخر ٌة يف خدمة‬ ‫مجيع طاقات الكون‬
‫لالعتالن الناضج وغري القابلة ملثل هذا االعتالن‪ُ .‬‬
‫َّ‬
‫مسخر ٌة يف خدمة ذاهتا‪ ،‬أي‬ ‫َّ‬
‫مسخ ٌر يف خدمة إرادة االقتدار‪ .‬وإرادة االقتدار‬ ‫اإلنتاج‪ .‬واإلنتاج‬
‫ت العقالن َّية‬
‫العبثي ترتسم انحرافا ُ‬
‫ه‬ ‫يف خدمة اقتدارها وتعاظمه وتفوقه‪ .‬يف هذا الرتابط‬
‫الكوين اجلارف‪.‬‬
‫ه‬ ‫التقني‬
‫ه‬ ‫الغرب َّية التي أفضت إ ىل االسرتقاق‬
‫األقىص الذي تنطوي عليه التقن َّية احلديثة‪ ،‬يبتكر هايدغر‬ ‫ى‬ ‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫سعيا يف اإلمساك‬
‫األملاين(‪ )3‬و ُيز هينه بالبادئة (‪ )Ge‬التي ُّت هوله ْ‬
‫أن ُُي همله معاين‬ ‫ه‬ ‫اصطالحا أملان ًّيا(‪ )2‬يشتقه من الفعل‬
‫كل هذه املعاين‬ ‫أن ينسب إ ىل هذا االصطالح َّ‬ ‫االستفزاز واالستجرار واالستجالب‪ .‬وقبل ْ‬

‫‪(1) Otto Pöggeler ,Kunst und Politik im Zeitalter der Technik ,in Fresco M. (Hrsg.), Heideggers‬‬
‫‪These vom Ende der Philosophie, Bonn, Bouvier, 1989, pp. 93 - 114.‬‬
‫‪(2) Ge-stell‬‬
‫‪(3) stellen‬‬
‫‪ ❖ 384‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بأن الفعل‬‫األصيل(‪ .)1‬ف ُيذ هكرنا َّ‬


‫َّ‬ ‫اإلغريقي‬
‫َّ‬ ‫الصدى الدال َّل‬
‫ى‬ ‫االعتدائ َّية‪ُ ،‬يلو له أ ْن يستصفي‬
‫أن َّ‬
‫يدل أيضا‬ ‫الطبيعي السليم‪ .‬ويمكنه أيضا ْ‬ ‫ه‬ ‫عل وضع األشياء يف موضعها‬‫األملاين يدل ى‬
‫(‪)2‬‬
‫َّ‬
‫النظري ‪ .‬فإذا باحلقل الدال ّل الذي‬ ‫ِ‬
‫التلقائي إ ىل الظهور والتعرض للعيان‬ ‫عل االنسياب‬
‫ه‬
‫(‪)4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ه‬ ‫ى‬
‫الناس‬ ‫ياين الذي يأنس‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫تنبسط فيه هذه األفعال يرمز إ ىل انتصاب األعامل الفنّ َّية يف املشهد الع ه‬
‫املعنى ينبغي‬
‫ى‬ ‫عل هذا‬
‫إليه يف انبهارهم بجامالت الطبيعة وببهاءات الفنون اإلغريق َّية القديمة‪ .‬ى‬
‫التقني يف حمموالته اإلغريق َّية األصل َّية(‪ .)5‬وهو ٌ‬
‫فعل تتعزَّ ز فيه حرك ُة‬ ‫ه‬ ‫إدراك فعل اإلنتاج‬
‫فعل‬‫اإلنساين املحض الذي يستتليه ُ‬
‫ه‬ ‫العفوي متصده رة عمل َّي َة االفتعال‬
‫ه‬ ‫االعتالين‬
‫ه‬ ‫التفتح‬
‫اإلنتاج‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫اإلغريقي يعود هايدغر إ ىل اصطالح االستجالب أو االستنهار‬
‫ه‬ ‫يف إثر هذا االستذكار‬
‫االستفزازي الذي تنطوي عليه التقن َّية احلديثة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫يصف به التحشيد‬
‫استجامع الزجر الذي يستدعي اإلنسان‪ ،‬أي يستفزه لكي يكشف‬
‫َ‬ ‫االستنهار يعني‬
‫الواقع كش َفه ملنت ََض ٍد يؤتَى إليه عىل سبيل التطلب‪ .‬االستنهار يعني هذا السبيل من‬

‫(‪ )1‬الرشوحات التي ساقها هايدغر يف تسويغ هذا التأصيل يف حمارضته «سؤال التقنيَّة» (هايدغر‪ ،‬حمارضات‬
‫ومقاالت‪ ،‬ص ‪.)24‬‬
‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 24.‬‬

‫‪(2) stellen‬‬

‫‪(3) her-stellen‬‬

‫‪(4) dar-stellen‬‬

‫‪(5) poiesis‬‬
‫عل صيغة االستنهار‪ ،‬وأصلها‬ ‫عثرت ى‬
‫ُ‬ ‫غشتِل‬
‫األملاين ْ‬
‫ّ‬ ‫(‪ ،Ge-stell )6‬يف البحث املضني عن عديل االصطالح‬
‫فعل ّنر اليشء‪ ،‬أي زجره حتَّ ىى ينهر ما فيه‪ .‬أ َّما الفعل الالزم َ ِ‬
‫(ّن َر اليش ُء)‪ ،‬فيعني كثُر وغزُ ر‪ .‬فيكون‬
‫االستنهار استفزازا للطبيعة ح َّت ىى تستطلق ما فيها من قدرات وطاقات‪ ،‬وقد تكاثرت وغزرت‪ ،‬وأضحت‬
‫عل اجلهاز أو اإلطار أو املشبَّك أو‬ ‫قابلة لالستغالل‪ .‬يف االستخدام األملاين املألوف تدل كلمة ْ ِ‬
‫غشتل ى‬ ‫ّ‬
‫معنى االستجامع والتحشيد‪ ،‬وُيمل‬ ‫ى‬ ‫عل‬ ‫املنضد‪ .‬غري َّ‬
‫أن هايدغر ُُي هور يف داللتها‪ ،‬فيحمل البادئة (‪ )Ge‬ى‬ ‫َّ‬
‫معنى الوضع والرسم والتصوير واألمر واملطاردة واملالحقة واالستحثاث‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫الفعل (‪ )stellen‬ى‬
‫واالستنهاض واالستجالب‪.‬‬
‫الغريب ❖ ‪385‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫الكشف الذي يسود ماه َّية التقن َّية احلديثة من غري أن يكون هو شيئًا تقنيا(‪.)1‬‬
‫كل نشاطات اإلنسان يف الزمن املعارص‪ ،‬سواء تلك التي‬ ‫عل ه‬
‫مثل هذه املاه َّية هتيمن ى‬
‫الصناعي أو تلك التي ترتبط بالصناعة الثقاف َّية‪ .‬ذلك أ َّنه ُيتكر املا َّدة والعقل‬
‫ه‬ ‫تتع َّلق باإلنتاج‬
‫احلي الذي ينبغي استثامر طاقاته‬
‫يتصور الطبيعة والواقع يف هيأة املستودع ه‬
‫َّ‬ ‫وجيعل اإلنسان‬
‫املخبوءة وحتويل عنارصه إ ىل أغراض استخدام َّية حمضة‪ .‬هو العلم احلديث الذي يفرض‬
‫عل استحضار مجيع قدراهتا ومواردها‪ .‬االستنهار‬
‫عل الطبيعة يستحثها ى‬ ‫خم َّططه ّ‬
‫احلساب ى‬
‫ويتامدى يف استثارة دفني أرسارها ح َّت ىى‬
‫ى‬ ‫خيترض مكانز الطبيعة‪ ،‬أي يقتطفها قبل أوان نضجها‪،‬‬
‫جراء مثل هذا االستفزاز املتامدي‬ ‫تنكشف عارية مستسلمة خاضعة أمام آالته اجل ّبارة‪ .‬من ّ‬
‫يكف اإلنسان عن اختبار الكائنات واألشياء بام هي جت ّليات حلقيقة الكينونة‪ ،‬فتنقلب مجيع‬
‫إل َّ‬
‫أن اإلنسان ليس هو من يفتعل هذا‬ ‫النفعي‪ .‬جتدر اإلشارة هنا ى‬
‫ه‬ ‫هذه العنارص أسري َة األخذ‬
‫االستنهار أل َّنه هو أيضا حمكوم به‪ .‬فاالستنهار يستفز أيضا اإلنسان ويدفع به إ ىل الترصف‬
‫أن االستنهار هو الكيف َّية احلديثة التي عليها ُيلو للكينونة ْ‬
‫أن تنحجب‬ ‫ترصفا عدائ ًّيا‪ .‬ذلك َّ‬
‫احلسابة‪.‬‬
‫انحجابا ت َّتقي به نوائب العقالن َّية ّ‬
‫عل هذا التحول اخلطري يف كائن َّية هذه األشياء والعنارص والكائنات‪ ،‬يستأنس‬
‫تدليال ى‬
‫تكومت وتكدَّ ست طاقاهتا‬ ‫ِ‬
‫آخر ُيفصح به عن حال الطبيعة وقد َّ‬ ‫هايدغر بتوليد لغوي َ‬
‫بعضها فوق‬ ‫وأضحت جاهزة لالستغالل‪ .‬هو اصطالح املُنت ََضد الذي جيمع َم َ‬
‫تاع األشياء َ‬ ‫(‪)2‬‬

‫بعض وينضدها وخيزّنا يف أهراء التوضيب ح َّت ىى ُتضحي جاهزة لالستخدام واالستثامر‬
‫واالستغالل‪:‬‬
‫للتو يف ُأفق نفع َّية ومأمور َّية‪ ،‬أو بتعبري أفضل‬ ‫ٍ‬
‫كل يشء (الكائن يف ك يل َّيته) يصطف ِّ‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.24‬‬


‫‪Ge.stell heißt das Versammelnde jenes Stellens, das den Menschen stellt, d. h.‬‬
‫‪herausfordert, das Wirkliche in der Weise des Bestellens als Bestand zu entbergen.‬‬
‫‪Ge.stell heißt die Weise des Entbergens, die im Wesen der modernen Technik waltet und‬‬
‫‪selber nichts Technisches ist, Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 24.‬‬
‫‪(2) Bestand‬‬
‫‪ ❖ 386‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يشء عاد يقوى عىل الظهور يف حياد َّية‬‫ٍ‬ ‫يف ُأفق مطلوب َّية ما ينبغي اهليمنة عليه‪ .‬ما من‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أغراض منت ََض ٍ‬
‫واحتياطات‬ ‫خمرونات‬ ‫دة من‬ ‫ٍ ُ‬ ‫التقابل املوضوع َّية‪ .‬مل يعد هناك سوى‬
‫َ‬
‫ووسائل(‪.)1‬‬
‫الكوين تنقلب الطبيعة كلها خزّ انا رحبا من الطاقة املستودعة‬
‫ّ‬ ‫جراء هذا االستنهار‬
‫من ّ‬
‫كل موارد إنتاج َّيتها‪ .‬الطبيعة ُتضحي هي املُنت ََضد األعظم الذي تنضوي‬
‫تغرتف منه التقني ُة َّ‬
‫التقني الضارب يف املسكونة قاطبة‪ .‬أ َّما اإلنسان فينقلب هو أيضا‬
‫ه‬ ‫فيه كل خمزونات االقتدار‬
‫موردا من املوارد األساس َّية يف العامل‪ ،‬ومستودعا ضخام للطاقات امله َّيأة الصاحلة لالستخدام‪.‬‬
‫وبذلك ينتظم الوجود كله يف خم َّطط علمي كوين يستوجب اإلعداد واالستباق والتمهيد‬
‫واالستطالع واالسترشاف ح َّت ىى َّ‬
‫تظل مستودعات الطاقة جاهزة لالستخدام املبارش وغري‬
‫املبارش‪ ،‬وقابلة للديمومة ح َّت ىى يف حالة انعدام احلاجة املنظورة إليها‪.‬‬
‫عل معاندة التقن َّية يف جوهرها‬
‫يقوى ى‬
‫ى‬ ‫عل هذا النحو عاد اإلنسان ال‬ ‫ولـ َّام كان األمر ى‬
‫جمرى‬
‫ى‬ ‫سري‬
‫فالقوى االستغالل َّية التي استثارها االستنهار الكوين أضحت هي التي ُت ه‬
‫ى‬ ‫الغالب‪.‬‬
‫أن جتاوزت حدود‬ ‫عل إرادات الناس‪ .‬فهي سبق ْ‬‫األحداث يف العامل وهي التي هتيمن ى‬
‫اإلنسان وخرجت من دائرة سيطرته‪ .‬السبب األسايس يف ذلك اخلروج َّأّنا أصال ليست‬
‫احلضاري الذي فيه‬
‫ه‬ ‫الكوين متأ هتي ٌة من زمن الغروب‬
‫ه‬ ‫منبثقة من إرادته الذات َّية‪ .‬هيمنة االستنهار‬
‫وكأين هبايدغر ينسب إ ىل الكينونة قرار االستفحال‬‫ّ‬ ‫سقطت الكينونة يف غياهب النسيان‪،‬‬
‫حر َّيتها ويف‬ ‫ّى‬
‫تتجل يف براءة ّ‬ ‫أن َّقررت الكينونة َّأّنا ال تستطيع ْ‬
‫أن‬ ‫التقني يف الكون من بعد ْ‬
‫ه‬
‫رس َّيتها القص َّية‪ .‬وعليه َّ‬
‫فإن زمن التقن َّية هو زمن اكتامل اِّليمنة‬ ‫صفاء حقيقتها ويف إيامءات ّ‬
‫وعل العامل‪ .‬وليس ينفع اإلنسان ْ‬
‫أن يتد َّبر باخلطط‬ ‫وعل اإلنسان‬ ‫عل الكينونة‬ ‫ِ‬
‫ى‬ ‫ى‬ ‫املتافيزيائ َّية ى‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬حلقات (حلقة طور‪ 11 ،‬أيلول ‪ ،)1969‬ص ‪.368‬‬


‫‪Alles (das Seiende im Ganzen) reiht sich ohne weiteres in den Horizont der Nutzbarkeit,‬‬
‫‪der Beherrschung oder besser noch der Bestellbarkeit dessen ein, dessen es sich zu‬‬
‫‪bemächtigen gilt .]…[ Es kann nichts mehr in der gegenständlichen Neutralität eines‬‬
‫‪Gegenüber erscheinen. Es gibt nichts mehr als Bestände : Lager, Vorräte, Mitte,‬‬
‫‪Heidegger ,Seminare ,A 15, Frankfurt, Klostermann, 1986, p. 368.‬‬
‫الغريب ❖ ‪387‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫منبثق رأسا من مراسيم الكينونة‬


‫ٌ‬ ‫الوقائ َّية اجتياحات التقن َّية الكون َّية‪َّ ،‬‬
‫ألن اقتدار االستنهار‬
‫عينها‪ .‬كل تصور أنرتوبولوجي‪ ،‬أو تدبري سوسيولوجي‪ ،‬أو عالج سيايس‪ ،‬مآله اإلخفاق‪،‬‬
‫َّ‬
‫ألن اإلنسان إ َّما أصبح ‪ -‬يف أسوأ االفرتاضات ‪ -‬غرضا من أغراض التقن َّية احلديثة‪ ،‬وإ َّما‬
‫غدا ‪ -‬يف أفضل املشاهد املأساو َّية ‪ -‬هو املو َّظف املنتدَ ب واملن هفذ األمني ألحكام االستنهار‬
‫الكوين‪.‬‬
‫ه‬
‫ناظم‪ ،‬أو إيفا ٌد‬
‫ٌ‬ ‫انتداب‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫إرسال أمري‪ ،‬أو‬ ‫رأس الكالم يف هذا ك هله َّ‬
‫أن التقن َّية احلديثة هي‬
‫حاكم‪ .‬هنا يستعني هايدغر بموارد اللغة األملان َّية ل ُينشئ رباطا دالل ًّيا بني كلمة القدَ ر‬ ‫ٌ‬ ‫قدَ ري‬
‫األملان َّية(‪ )1‬وفعل اإلرسال أو االنتداب أو اإليفاد(‪:)2‬‬
‫ٍ‬
‫رضب من رضوب االنكشاف ‪ -‬هو إيفاد‬ ‫إن االستنهار ‪ -‬وشأنه يف ذلك شأن ِّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬
‫من القدَ ر(‪.)3‬‬
‫فالقدَ ر هو قدَ رنا أل َّنه يرسم للكون ولإلنسان وللعامل ما ترتأيه الكينون ُة يف ه‬
‫رس تعاقب‬
‫اعتالناهتا واحتجاباهتا؛ وهو الذي يبعث إلينا باإليفادات الناظمة ألُفق مداركنا ولتحوالت‬
‫هدي إ ىل االنخراط ّ ه‬
‫الكيل يف الطور‬ ‫ٌ‬ ‫الكائنات عندنا وإليامءات الكينونة نحونا‪ .‬والرسم هو‬
‫القربى اخلاشعة من‬
‫ى‬ ‫األخري من استنفاد طاقات املِتافيزياء الغرب َّية ح َّت ىى ُتق َبل طوعا إ ىل اختبار‬
‫الكوين ‪-‬‬
‫ه‬ ‫هباءات احلقيقة يف الزمن األخري من التاريخ‪ .‬وما التقن َّية احلديثة ‪ -‬يف استنهارها‬
‫سوى التعبري األفصح عن مثل هذا االستنفاد‪ .‬وعليه َّ‬
‫فإن اإلنسان َّية حتيا اليوم يف زمن التقنية‪،‬‬ ‫ى‬
‫األقىص حيث تبلغ املِتافيزياء ذروة تسلطها‪ .‬ولذلك كانت‬ ‫ى‬ ‫أي يف زمن استهالل االختتام‬
‫التقن َّية هي «املِتافيزياء الناجزة» وقد اس ُت ِه َّل زمنُها استهالال مهيبا(‪ .)4‬غري َّ‬
‫أن االختتام ال يعني‬

‫‪(1) Geschick‬‬
‫‪(2) schicken‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪Das Ge.stell ist eine Schickung des Geschickes wie jedes Weise des Entbergens‬‬
‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 28.‬‬
‫(‪ )4‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫‪Das Zeitalter der vollendenten Metaphysik steht vor seinem Beginn Heidegger, Vorträge‬‬
‫‪und Aufsätze ,op. cit ., p. 76.‬‬
‫‪ ❖ 388‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل استنفاد مطاوي املاه َّية‬


‫النهائي‪ .‬االختتام يدل ى‬
‫ّ‬ ‫انتهاء عمل التقن َّية وتعطلها الدائم وتوقفها‬
‫التي حتملها املِتافيزياء الغرب َّية‪ .‬وهي املاه َّية التي يستمد هايدغر قوا َمها ومعناها من إرادة‬
‫سوى إرادة اإلرادة تريد ذاهتا‬
‫ى‬ ‫نادى هبا نيتشه‪ .‬ماه َّية املِتافيزياء الغرب َّية ليست‬
‫ى‬ ‫القوة التي‬
‫َّ‬
‫مسعى غري مسعاها‪ ،‬وال‬
‫ى‬ ‫بأي‬
‫ترىض ه‬
‫ى‬ ‫وتسعى وراء ذاهتا وتطلب االقتدار لذاهتا‪ .‬هي إراد ٌة ال‬
‫ى‬
‫تسعى‬
‫ى‬ ‫أي تسويغ َّإال التسويغ الصادر عنها(‪ .)1‬هي‬
‫سوى غايتها‪ ،‬وال تركن إ ىل ه‬
‫ى‬ ‫بأي غاية‬
‫تقبل ه‬
‫طلبا للسعي بعينه‪ ،‬وتنتج رغبة يف اإلنتاج بذاته‪ُ ،‬‬
‫وّتزه ن طمعا بالتخزين ليس َّإال‪ .‬وبام َّ‬
‫أن هذا‬
‫ك َّله ينشط بمعزل عن احلاجات اإلنسان َّية الواقع َّية الرضور َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن إرادة اإلرادة ‪ -‬وقد‬
‫الكوين‬
‫ّ‬ ‫استجمعت فيها كل استفزازات املِتافيزياء الغرب َّية ‪ُ -‬تفيض إ ىل افتعال االختالل‬
‫يتحول اإلنسان والكائنات إ ىل جوقة من اخلدَ م املنتدبني من أجل املواظبة‬
‫َّ‬ ‫الكارثي(‪ )2‬حيث‬
‫ّ‬
‫بعضهم‬
‫الناس ُ‬
‫ُ‬ ‫عل تعزيز منطق اِّليمنة التقن َّية الشاملة‪ .‬ومن رضورات هذا التعزيز ْ‬
‫أن ينسج‬ ‫ى‬
‫عل تطلب اللباس عينه‪ ،‬واملأكل عينه‪ ،‬واملرشب نفسه‪ ،‬واملسلك‬
‫عل منوال بعض‪ ،‬فيكبون ى‬
‫ى‬
‫أن وحدة‬ ‫نفسه‪ ،‬ويركنون إ ىل التعبري الواحد‪ ،‬واإلنشاء الواحد‪ ،‬والتفكري الواحد‪ .‬ذلك َّ‬
‫عل الكائنات وحدة يف الكائن َّية عينها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اإلرادة املتافيزيائ َّية تفرض ى‬
‫الريض من أرس املِتافيزياء الغرب َّية وقيد التقن َّية احلديثة؟‬
‫ه‬ ‫هل من سبيل إ ىل االنعتاق‬
‫سمري املِتافيزياء الغرب َّية‬
‫ُ‬ ‫يف خمتتم البحث الذي تناول فيه هايدغر مسألة التقن َّية‪ ،‬يغوص‬
‫سوى حبل النجاة‬ ‫ى‬ ‫غوصا سحيقا يف تبرص معاين اخلطر الداهم‪ .‬يف عمق املحيط ال جيد أمامه‬
‫سعفه به الشاعر األملاين فريدريخ هولدرلني (‪:)1843 - 1770‬‬ ‫الشعري الذي ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ه‬
‫اخلالص ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ُ‬ ‫اخلطر‪ ،‬هناك أيض ًا ينمو ما به‬
‫ُ‬ ‫ولكن حيث‬
‫فإّنا جعلت التقن َّية‬ ‫ِ‬
‫عل الكينونة يف الكائن‪َّ ،‬‬ ‫إذا كانت املتافيزياء الغرب َّية قد حبست ى‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ 85 ،‬و‪.86‬‬


‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 85 - 86.‬‬
‫(‪ ،Anarchie der Katastrophen )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪Wo aber Gefahr ist, wächst das Rettende auch, Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op.‬‬
‫‪cit., p. 39.‬‬
‫الغريب ❖ ‪389‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫العفوي إ ىل منفسحات‬ ‫حر َّي ُة انتسابه‬ ‫ِ‬


‫ه‬ ‫احلديثة تستفحل يف اجتياح الكائن وقد ُسل َبت منه ّ‬
‫عل افرتاض‬ ‫احلرة‪ .‬أ َّما إرادة اإلرادة فهي الطور األخري من انعقاد كائن َّية الكائن ى‬ ‫الكينونة َّ‬
‫ت‪ ،‬والطاقة اإلنتاج َّية املطلقة‪ .‬عزلت املِتافيزيا ُء الغرب َّية الكينون َة‪،‬‬
‫الصالبة الذات َّية‪ ،‬واليقني الذا ّ‬
‫البرشي‪.‬‬
‫ه‬ ‫كل آمال اجلربوت‬ ‫األعل الذي وضعت فيه َّ‬ ‫ى‬ ‫عل هيأة الكائن‬
‫تصورهتا ى‬‫باألحرى َّ‬‫ى‬ ‫أو‬
‫االمتالكي‪ .‬ظنت َّأّنا تعاين يف مثل هذا الكائن‬
‫ه‬ ‫كل يشء يف قبضة االستنهار‬ ‫فأسقطت َّ‬
‫عل‬
‫كل إمكانات النقص والغياب واالنحجاب‪ .‬ى‬ ‫أرحب مقدار من الواقع املنظور‪ ،‬فأقصت َّ‬
‫احلر َّية يف اإلقبال واإلدبار‪.‬‬ ‫الصمدي‪ ،‬نزعت عنه َّ‬
‫كل مبادرات ّ‬ ‫ّ‬ ‫قدر ما عزَّ زت فيه احلضور‬
‫ِ‬
‫لذلك أوجلت املتافيزيا ُء الغرب َّي ُة اإلنسان َّي َة َ‬
‫زمن العدم َّية(‪ ،)1‬أي زمن إفراغ الكينونة من قوامها‬
‫حر َّيتها الذات َّية‪ .‬وعليه أضحت الكينونة هي الضيق عينه‪ ،‬وهي الغياب‬ ‫ت وزمن سلبها ّ‬ ‫الذا ه‬
‫عينه‪ ،‬وهي العدم عينه(‪.)2‬‬
‫غري َّأّنا ما انف َّكت ‪ -‬يف معرتك حمنتها ‪ -‬تنادي اإلنسان وتضطره إ ىل مالقاهتا حيث هي‪،‬‬
‫أن اإلنسان ‪ -‬بحسب تعبري هايدغر ‪ -‬هو املُ ِ‬
‫قبل إ ىل الضيق‪:‬‬ ‫ال حيث هو اآلن‪ .‬ذلك َّ‬
‫منبثق من عوز الكينونة إ ىل اإلنسان‬
‫ٌ‬ ‫«الـ دازاين هو االنعطاف إ ىل الضيق»(‪ .)3‬والضيق‬
‫تنوعت نربا ُته بتنوع احلقبات‬
‫احلصيف النبيه الوديع املصغي إ ىل إرساالت القدَ ر‪ ،‬وقد َّ‬
‫َ‬
‫اإلنسان‬ ‫اإلغريق َّية والوسيط َّية واحلديثة والتقن َّية األخرية‪ .‬يف ه‬
‫كل إيفاد قدَ ري تنادي الكينون ُة‬
‫من صميم غيبتها‪ ،‬وتستدعيه إلدراك مغازي احلقبة املرتسمة يف معرتك الوجود‪ .‬خطر التقن َّية‬
‫ُ‬
‫الكينونة إ ىل اإلنسان ح َّت ىى يتجاوز‬ ‫صامت تبعث به‬
‫ٌ‬ ‫عل خفر ‪ -‬ندا ٌء‬
‫اجلارفة يصاحبه ‪ -‬ى‬

‫‪(1) Michael E. Zimmerman ,Heidegger on nihilism and technique ,in Man and World ,1975, 4, 8 ,‬‬

‫‪pp. 394 - 414.‬‬

‫(‪ )2‬التوسعات التي أنشأها هايدغر يف تناوله مسألة جتاوز املِتافيزياء يف زمن العدميَّة األُوروبيَّة‪:‬‬
‫‪Heidegger, Nietzsche : Der Metaphysik und Nihilismus, GA 67 ,Frankfurt, Klostermann,‬‬

‫‪1999, pp. 148 - 150.‬‬

‫(‪ )3‬قاِّلا هايدغر يف حمارضته «يف ماه َّية احلقيقة» (هايدغر‪ ،‬معامل الطريق‪ 197 ،‬و‪.)198‬‬
‫‪Das Dasein ist die Wendung in die Not( Heidegger V‬‬
‫‪, om Wesen der Wahrheit ,‬‬

‫‪Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, p. 197 - 198.‬‬


‫‪ ❖ 390‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ملعنى‬
‫ى‬ ‫انسدادات املِتافيزياء‪ ،‬ويتخ ّط ىى إرباكات اإلرصار َّية التقن َّية‪ .‬فينعطف إ ىل اختبار آخر‬
‫التارخيي الراهن‪ .‬فالتاريخ هو ميدان تعاقب اإليفادات القدَ ر َّية التي ُتفرج عنها‬
‫ه‬ ‫االنبساط‬
‫األملاين بني عبارة‬
‫ه‬ ‫اإلنساين‪ .‬والصلة ب هين ٌة يف االصطالح‬
‫ه‬ ‫الكينون ُة وتضعها يف متناول االختبار‬
‫أن التاريخ ‪ -‬يف نظر هايدغر ‪ -‬ينشأ من تراخي احل َقب‪ ،‬أي‬
‫التاريخ(‪ )1‬وعبارة القدَ ر(‪ .)2‬ذلك َّ‬
‫أن يتب َّلغها اإلنسان‬ ‫من توال اإلرساالت التي تأتينا من الكينونة‪ .‬ويف ه‬
‫كل إرسال رسال ٌة جيب ْ‬
‫رس هذه الكينونة‪:‬‬‫بالقربى احلقيق َّية من ه‬
‫ى‬ ‫ح َّت ىى يفوز‬
‫إن ِح َقب تاريخ الكينونة املختلفة‪ ،‬أي خمتلف االنقباضات الذات َّية التي تعاقبت‬ ‫َّ‬
‫احلضور قدَ ريا‬ ‫عىل الكينونة يف قدَ رها‪ ،‬هي ِح َقب الكيفيات املختلفة التي عليها ُأ ِ‬
‫رس َل‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الغريب(‪.)3‬‬
‫ِّ‬ ‫لإلنسان‬
‫باخلط املائل أل َّنه يروم ْ‬
‫أن يلقي‬ ‫ه‬ ‫(‪)4‬‬
‫عل رسم كلمة احلضور‬
‫النص ى‬
‫يرص هايدغر يف هذا ه‬
‫ببالنا إ ىل الكيف َّية التارخي َّية الراهنة التي عليها ُندرك الكينونة حضورا دائام قابال لالستمالك‬
‫ُ‬
‫حممول‬ ‫وتتوارى‪ ،‬ويف هذا‬
‫ى‬ ‫عل ذاهتا‬
‫واالستغالل‪ .‬فالكينونة يف زمن التقن َّية احلديثة تنقبض ى‬
‫األملاين (‪ ،)sich entziehen‬وتوفد إلينا من صميم توارهيا هذه الكيف َّي َة التارخي َّية‬ ‫ّ‬ ‫الفعل‬
‫أن يترصف هبا وفاقا‬ ‫نتبرص يف معناها‪ .‬ولكنَّها كيف َّي ٌة تبيح لإلنسان ْ‬
‫أن َّ‬‫التي هبا نستطيع ْ‬
‫القوة النيتشو َّية وإرادة اإلرادة‬
‫ت وإرادة َّ‬
‫اليقيني الديكار ّ‬
‫ّ‬ ‫احلسابة والتمثل‬
‫ألحكام العقالن َّية ّ‬
‫تتكون ما َّد ُة التاريخ وتتك َّثف وتتواطأ‬
‫َّ‬ ‫جراء تعاقب هذه الكيف َّيات املرسلة‬‫الكون َّية‪ .‬من ّ‬
‫التقني اجلارف يف الزمن الراهن‪.‬‬
‫ه‬ ‫عل منارصة االقتدار‬
‫عنارصها ى‬
‫ُ‬

‫‪(1) Geschichte‬‬
‫‪(2) Geschick‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬حلقات (حلقة طور‪ 11 ،‬أيلول ‪ ،)1969‬ص ‪.367‬‬
‫‪Die verschiedenen Epochen der Geschichte des Seins - das unterschiedliche und‬‬

‫‪aufeinander folgende Sichentziehen des Seins in seinem Geschick - sind die Epochen der‬‬

‫‪verschiedenen Weisen, in denen sich dem abendländichen Menschen die Anwesenheit‬‬

‫‪zuschickt Heidegger, Seminare ,GA 15, Frankfurt, Klostermann, 1986, p. 367 .‬‬
‫‪(4) Anwesenheit‬‬
‫الغريب ❖ ‪391‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫ألّنا غالب ٌة ال حمالة‪.‬‬ ‫ف التقن َّية»(‪ْ - )1‬‬


‫أن ُيارب التقن َّية َّ‬ ‫عل اإلنسان ‪ -‬وهو «مو َّظ ُ‬
‫ليس ى‬
‫عل دربة يف استطالع وجهها‬ ‫عل ّتفف من تورطه‪ْ ،‬‬
‫وأن يداورها‪ ،‬ى‬ ‫ولكنَّه يستطيع ْ‬
‫أن جيارهيا‪ ،‬ى‬
‫عل هذا النحو يمكن اإلنسان ْ‬
‫أن يسترشف إرساال آخر للكينونة يتجاوز به َمزاجز‬ ‫اآلخر‪ .‬ى‬
‫إيقاع لإلنسان يف‬
‫ٌ‬ ‫مطلق‪ ،‬أي‬
‫ٌ‬ ‫وهر‬
‫التقني ٌ‬
‫ه‬ ‫االستنهار ومغاليقه وإطباقاته‪ ،‬إذ ليس يف فعل النهر‬
‫أن خيترب رضورة الرضورات‪ ،‬أي رضورة‬ ‫عل اإلنسان َّأوال ْ‬
‫ما ال خمرج له منه‪ .‬ولكن ى‬
‫االنعطاف إ ىل الكينونة َّ‬
‫ألن الكينونة هي دائام صاحبة املبادرة يف إرسال االعتالن ويف إرسال‬
‫االنحجاب‪ .‬وهي اليوم يف إرسال االنحجاب تنوء حتت أعراض التقن َّية احلديثة‪ .‬بيد َّ‬
‫أن‬
‫إنسان التقن َّية احلديثة عاد ال ُيم هيز شعور القنوط من شعور االغتباط أل َّنه بات يظن نفسه‬
‫مكتفيا بام أنجزه من فتوحات صناع َّية‪ .‬لذلك كانت أخطر املخاطر ْ‬
‫أن ُيعرض اإلنسان عن‬
‫يتجل ضيقا‪ ،‬بل اكتفاء واقتناعا وامتنانا‪ .‬ويعود اإلنسان ال‬ ‫ّى‬ ‫حمنة الضيق‪ .‬فيعود الضيق ال‬
‫عل هيأته الراهنة التي رسمتها له املِتافيزيا ُء الغرب َّية وقد‬ ‫يستطلع هيأة ُأ ى‬
‫خرى له‪ ،‬بل ينكمش ى‬
‫«احلي العامل»‬
‫ه‬ ‫بلغت يف التقن َّي ة احلديثة شأوها األخري‪ .‬اإلنسان الذي اصطبغ بصبغة‬
‫و«احليوان الكادح» قد يفقد ماه َّيته اإلنسان َّية ْ‬
‫إن هو أوغل يف خضوعه لسلطان التقن َّية‪ .‬وحني‬
‫أقل األخطار‪.‬‬‫يفقد اإلنسان هذه املاه َّية‪ ،‬يعود خطر اإلفناء املا ّد هي للبرش َّية ولألرض من ّ‬
‫غري معلوم‪ .‬وليس يف مستطاع اإلنسان ْ‬
‫أن‬ ‫مستمر ٌة إ ىل أجل ِ‬
‫َّ‬ ‫ذلك َّ‬
‫أن حقبة التقنية احلديثة‬
‫يستثري بمحض إرادته حتوال عميقا يف اإليفادات القدَ رية التي ُت ِ‬
‫رسلها الكينون ُة إ ىل اإلنسان‬ ‫َّ‬
‫آخر»(‪.)2‬‬ ‫وإ ىل الكائنات‪ .‬فالغروب الذي ينتاب الكون يمكن ْ‬
‫أن ينقلب «ليال من أجل فجر َ‬
‫املأساوي عن «شتاء ال ّناية له»(‪ .)3‬هي الكينونة عينها صاحبة‬
‫ّ‬ ‫عل اإلعالن‬‫قادر أيضا ى‬
‫ولكنَّه ٌ‬
‫رسل من عندها إرساال آخر ُينبئ عن انبالج فجر جديد‬ ‫أن ُت ِ‬
‫القرار يف ذلك ك هله‪ .‬فإ َّما ْ‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬دروب الغابة‪ ،‬ص ‪.294‬‬


‫‪Funktionär der Technik Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977, p.‬‬
‫‪294.‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬دروب الغابة‪ ،‬ص ‪ 325‬و‪.326‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.295‬‬
‫‪ ❖ 392‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن تنغمر انغامرا يف حقبة اكتامل املِتافيزياء‪ ،‬فتنحجب وتصمت صمتا بليغا‪.‬‬
‫لإلنسان َّية‪ ،‬وإ َّما ْ‬
‫ويالت االقتدار األعظم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قبل ذلك ينبغي لألرض ْ‬
‫أن جتتاحها‬
‫ُكَّس الكينون ُة بام هي إرادة‪،‬‬
‫قبل أن تنبسط الكينون ُة يف حقيقتها األصل َّية‪ ،‬جيب أن ت َ‬
‫اإلنسان عىل العمل‬
‫ُ‬ ‫كره‬
‫ُكتسح األرض‪ ،‬وجيب أن ُي َ‬
‫رصع العامل‪ ،‬وجيب أن ت َ‬
‫وجيب أن ُي َ‬
‫وحسب(‪.)1‬‬
‫اخلالص يف إرساالت الكينونة‪ .‬وهو حتو ٌل ي َّتخذ هيأة‬
‫ه‬ ‫حينئذ يمكن استرشاف التحول‬
‫االنسالك يف حقبة تارخي َّية جديدة‪.‬‬
‫عل قدر ما ينظر نظرا حصيفا يف اخلطر‪« :‬إ َّننا‬ ‫يستطيع اإلنسان ْ‬
‫أن يشارك يف هذ التحول ى‬
‫عل الرتقب‬ ‫نمو ما به اخلالص»(‪ .)2‬ومع َّ‬
‫أن هايدغر ُُي هرض اإلنسان ى‬ ‫نبرص اخلطر فنستبرص َّ‬
‫أن الرتقب ال يعني اإلذعان واخلضوع‪ .‬نصيحة هايدغر َّأال ينجر اإلنسان وراء‬
‫الفطن‪َّ ،‬إال َّ‬
‫اإلرادي‪ ،‬فيظن نفسه قادرا بوسائل التقن َّية احلديثة ْ‬
‫أن يصارع التقن َّية احلديثة‪ .‬الرتقب‬ ‫ه‬ ‫الفعل‬
‫يعني ْ‬
‫أن ينعطف اإلنسان إ ىل الكينونة ح َّت ىى يصغي إ ىل ندائها اجلديد‪ .‬لذلك غالبا ما يتحدَّ ث‬
‫ت القديم يف‬ ‫هايدغر عن التوبة واالرتداد‪ ،‬وقد يكون يف حتدثه هذا يش ٌء من األثر َّ‬
‫الالهو ه‬
‫تنشئته الكاثوليكية‪ .‬توب ُة اإلنسان هي توب ٌة إل الكينونة‪ ،‬ي ِ‬
‫كسبه إ ّياها حتس ٌس آخر ملعاين‬ ‫ُ‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫رس الكون الفسيح‪ .‬هي‬ ‫القرى من األشياء‪ ،‬ومعاين التامس ه‬ ‫ى‬ ‫عل األرض‪ ،‬ومعاين‬ ‫السكن ى‬
‫دعو ُة الفكر إ ىل الذكر أو االستذكار حيث ينجيل لإلنسان َّ‬
‫أن اخلالص إ َّنام يأت املائتني من‬
‫«إن اخلالص جيب ْ‬
‫أن يأت من حيث يصيب‬ ‫موقع توبتهم العميقة الناشبة يف عمق ماه َّيتهم ‪َّ :‬‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.69‬‬


‫‪Ehe das Sein sich in seiner anfänglichen Wahrheit ereignen kann, mußdas Sein als der‬‬
‫‪Wille gebrochen, mußdie Welt zum Einsturz und die Erde in die Verwüstung und der‬‬

‫‪Mensch zur bloßen Arbeit gezwungen werden Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit.,‬‬

‫‪p. 69.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪Wir blicken in die Gefahr und erblicken das Wachstum des Rettenden Heidegger,‬‬
‫‪Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 37.‬‬
‫الغريب ❖ ‪393‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫إل الكينونة تستوجب التزاما فكر ًّيا‬ ‫املائتني حتو ٌل يف ماه َّيتهم»(‪ .)1‬ال ريب َّ‬
‫أن توبة اإلنسان ى‬
‫االستذكاري ال‬
‫َّ‬ ‫أن مثل هذا التحول ال ُيدركه َّإال الفكر املستذكر‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن الفكر‬ ‫رصُيا‪ ،‬غري َّ‬
‫عل غرار التقن َّية احلديثة‪ .‬الفعل اإلنساين الصحيح هو فعل الفكر‬ ‫ِ‬
‫يفعل وال يصنع وال ُينجز ى‬
‫قيقي»‪ .‬أ َّما َّأول التزامات الفكر‪ ،‬فهو االلتفات إ ىل االلتباس الذي‬
‫ألن «الفكر هو الفعل احل ّ‬‫َّ‬
‫يصيب الكينونة يف زمن التقن َّية‪ .‬فزمن التقن َّية احلديثة هو يف الوقت عينه زمن الضيق وهو‬
‫عل سبيل التجوز ‪ -‬الصورة املجاز َّية التي‬
‫زمن االرتداد إ ىل الكينونة‪ .‬ولذلك يصح فيه ‪ -‬ى‬
‫رأس إيانوسيوس(‪.)2‬‬
‫ينطوي عليها ُ‬
‫ومن َث َّم َّ‬
‫فإن االرتداد إ ىل الكينونة يكون يف رعايتها ال حارضا قابال لإلمساك‪ ،‬بل إقباال‬
‫غنى الغياب‪ .‬الكينونة ‪ -‬إقباال إ ىل احلرضة ‪ -‬تأت إلينا(‪ )3‬يف صورة‬
‫إ ىل احلرضة به ُيتجب كل ى‬
‫الكوين‪ ،‬ولكنَّها أيضا‬
‫ه‬ ‫ري‪ ،‬يف زمن التقن َّية قد ت َّتخذ الكينونة اسم االستنهار‬
‫اإليفاد القدَ ّ‬
‫وتتامهى وإ ّياها َّ‬
‫ألن الكينونة تستكره اِّلو ّيات‬ ‫ى‬ ‫خرى من غري ْ‬
‫أن متاثلها‬ ‫تلتحف بأسامء ُأ ى‬
‫األربعي(‪( )4‬األرض‬
‫ّ‬ ‫الرباعي أو‬
‫ّ‬ ‫وهب‪ ،‬وتارة ُأ ى‬
‫خرى إرأيغنيس‪ ،‬وطورا‬ ‫ٌ‬ ‫الصلبة‪ ،‬فهي تارة‬
‫والسامء‪ ،‬واملائتون واآلِّلة)‪ ،‬وأطوارا لعبة األشياء والعامل‪ .‬فاالرتداد يتح َّقق باستذكار مجيع‬
‫األسامء التي ال تناسب الكينونة بحيث َّ‬
‫إن الكينونة تصاب بأزمة عميقة يف هو َّيتها‪ .‬لذلك‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬دروب الغابة‪ ،‬ص ‪.273‬‬


‫‪Die Rettung mußvon dort kommen, wo es sich mit den Sterblichen in ihrem Wesen‬‬

‫‪wendet Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977, p. 296.‬‬

‫الروماين ذو الوجهني (‪ ،)Janus‬يرمز إ ىل املايض ويرمز إ ىل املستقبل‪ .‬يفتح الرومان معبده يف‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2‬هو اإلله‬
‫زمن احلرب ويغلقونه يف زمن السلم‪ .‬ومنه اشتُ َّقت يف اللغة َّ‬
‫الالتين َّية تسمية الشهر الذي به ُخيتم العام‬
‫تيني ُأوفيدُ س (‪ 43‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫اللغوي يعثر الشاعر َّ‬
‫الال ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنرصم و ُيستهل العام اجلديد (‪ .)Januarius‬يف أصله‬
‫عل داللة العبور واالنتقال‪ .‬وقد يكون هايدغر قد استهوته دالل ُة الرتدد بني زمنني‪ ،‬وقابل َّية‬
‫‪14 -‬ب‪ .‬م‪ ).‬ى‬
‫التلبث واالنتقال‪ ،‬واحتامل السلب واإلجياب يف شخصيَّة هذا اإلله حتَّ ىى يعتمده وصفا حلقبة التقنيَّة‬
‫احلديثة‪.‬‬
‫‪(3) An-wesen‬‬

‫‪(4) Geviert‬‬
‫‪ ❖ 394‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫احلريف املعتمد(‪ .)2‬وهو ‪ -‬يف‬


‫ّ‬ ‫املعنى‬
‫ى‬ ‫جمرد‬
‫األملاين دالالت تتجاوز َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫ّ‬ ‫ُُي همل هايدغر االصطالح‬
‫الغشتِل(‪ ،)4‬فالتالزم االنتامئي‬
‫ختام بحثه يف اِّلو َّية واالختالف(‪ - )3‬يضع الـ إرأيغنيس مقابل ْ‬
‫أن تكون الصدارة للكينونة ال لإلنسان‪.‬‬ ‫عل ْ‬
‫بني الكينونة واإلنسان هو سبيل اخلالص‪ ،‬ى‬
‫فالـ إرأيغنيس ليس حدثا ُيدث‪ ،‬بل هو رشك ٌة عفو َّي ٌة بني الكينونة واإلنسان‪ .‬إ َّنه االنسجام‬

‫‪(1) Ereignis‬‬
‫ت (‪.)ereignen‬‬ ‫ت أو التخصيص الذا ّ‬ ‫ت أو االستدخال الذا ّ‬ ‫(‪ )2‬كلمة مشت َّق ٌة من فعل االستمالك الذا ّ‬
‫اخلاصة وبلوغ الكينونة إ ىل‬‫َّ‬ ‫األول‪َّ ،‬‬
‫فإن الـ إرأيغْنيس تعني بلوغ الكائنات إ ىل كينونتها‬ ‫املعنى َّ‬
‫ى‬ ‫وبحسب هذا‬
‫ِ‬
‫إعراض هايدغر عن املقاربة املتافيزيائ َّية للكينونة‬ ‫ربر‬
‫َ‬ ‫املسعى الذي ُي ه‬
‫ى‬ ‫أصالتها الذات َّية‪ .‬ويف هذا جوهر‬
‫أسمى‪ .‬واالستمالك ال يعني يف‬ ‫ى‬ ‫نصب الكينون َة ع َّلة أو ىل وجوهرا صمدا وكائنا‬
‫احلساب ُي ه‬
‫حيث العقل ّ‬
‫اخلاصة واستدخاله لكينونته يف عمق ذاته‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عل اليشء‪ ،‬بل بلوغ اليشء إ ىل ذاته‬
‫هذا السياق االستحواذ ى‬
‫عل حدوث‬ ‫معنى يدل ى‬
‫ى‬ ‫املتضمن للفاعل (‪ .)sich ereignen‬وهو‬
‫ه‬ ‫و َث َّمة ى‬
‫معنى آخر للكلمة يف صيغة الفعل‬
‫األملاين القديم احلامل لداللة النظر‬
‫ّ‬ ‫املعنى األخري املشتق من الفعل‬
‫ى‬ ‫اليشء وتأ هتيه يف الوجود‪ .‬أ َّما‬
‫(‪ ،)eräugnen‬فيشري إ ىل اعتالن حقيقة اليشء واستدعائها لنظر الـ دازاين حتَّ ىى يستدخلها يف موضع‬
‫«معنى الـ إرأيغْنيس يف الزمن والكينونة»‪ ،‬الدراسات الفلسفي َّة‪،‬‬
‫ى‬ ‫اختباره للكينونة (‪ .)da‬ف‪ .‬فرشرتاتن‪،‬‬
‫كانون الثاين (آذار)‪ ،1986 ،‬ص ‪133 - 113‬؛ ج‪ .‬غريش‪« ،‬اهلو َّية واالختالف يف فكر مارتن هايدغر‪.‬‬
‫والالهوتي َّة‪ ،‬عدد ‪ ،1973 ،57‬ص ‪111 - 71‬؛‬ ‫سبيل الـ إرأيغنيس»‪ ،‬جم َّلة العلوم الفلسفي َّة َّ‬
‫ج‪ .‬كوكلامنس‪ ،‬يف حقيقة الكينونة‪ .‬رضوب من التفكر يف فلسفة هايدغر األخرية‪ ،‬منشورات جامعة‬
‫إنديانا‪.1984 ،‬‬
‫‪Ph. Verstraeten ,Le sens de l’Ereignis dans Temps etÊtre , LesÉtudes philosophiques ; J.‬‬

‫‪Greisch ,Identitéet différence dans la penséede Martin Heidegger. Le chemin de‬‬

‫‪l’Ereignis , Revue des sciences philospohiques et théologiques ; J. Kockelmans, On the‬‬

‫‪Truth of Being. Reflections on Heidegger’s later Philosophy ,Indiana University Press.‬‬


‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬التامثل واالختالف‪:‬‬
‫‪Heidegger, Identität und Differenz, GA 11, Frankfurt, Klostermann, 2006.‬‬
‫(إسهامات يف الفلسفة‪ :‬يف الـ إرأيغنيس) الذي يوازي كتاب الكينونة والزمان‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )4‬يف الكتاب الضخم‬
‫ِ‬ ‫يتحدَّ ث هايدغر عن انعطافة يف الـ إرأيغنيس عينه صوب ْ‬
‫الغشتل ‪:‬‬
‫‪Heidegger, Beiträge zur Philosophie Vom Ereignis, GA 65, Frankfurt, Klostermann,‬‬
‫‪1989, p. 407.‬‬
‫الغريب ❖ ‪395‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫العفوي بني الكينونة واإلنسان به ُتقبل الكينونة إ ىل اإلنسان ومن َث َّم اإلنسان إ ىل الكينونة من‬
‫غري استدعاء رشعي أو استجالب منفعي‪ .‬ولكن ‪ -‬قبل ذلك ك هله ‪ -‬أي قبل التوبة واالرتداد‬
‫الضالل‬
‫ه‬ ‫أن خيترب حالة الترشد‬ ‫إ ىل حقيقة الكينونة املتج ّلية يف الـ إرأيغنيس‪ ،‬جيب ى‬
‫عل اإلنسان ْ‬
‫احلقيقي‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن التقن َّية احلديثة هي يف‬ ‫ه‬ ‫(‪ )1()Irre‬باحثا عن الكينونة من أجل الفوز باالنتامء‬
‫عل االنعطاف‬ ‫وجه من الوجوه «تنظيم الفاقة»(‪ ،)2‬متتحن اإلنسان امتحانا قبل ْ‬
‫أن جيرؤ ى‬
‫والتحول‪.‬‬
‫ما السبيل العميل إذا إ ىل االستذكار الذي جيعل اإلنسان يتجاوز الضيق ويتجاوز نسيان‬
‫أن املسألة تستلزم خطوتني اثنتَني‪ :‬األُو ىل تبادر إليها الكينونة‪ ،‬والثانية يضطلع‬
‫الضيق‪ .‬يبدو َّ‬
‫أن نرت َّقب فضال من أفضال الكينونة أو نعمة(‪ )3‬من‬ ‫هبا اإلنسان‪ .‬يف اخلطوة األُو ىل علينا ْ‬
‫عل إسعاف اإلنسان‪،‬‬ ‫عل حده تعبري هايدغر‪ .‬ذلك َّ‬ ‫ِ‬
‫أن الكينونة هي وحدها قادر ٌة ى‬ ‫ن َعمها‪ ،‬ى‬
‫ويرىض بمعاينة الضيق وما‬
‫ى‬ ‫فكره باستعداد إصغائي جيعله «خيترب الترشد الضال َّل»‪،‬‬ ‫ف ُتز هين َ‬
‫وراء الضيق من انفراج تنسل إ ىل منفسحاته الكينونة يف خفر عظيم‪ .‬أ َّما اخلطوة الثانية فهي‬
‫الريض بالضيق وبام يستتليه من انعطاف نحو احلقيقة‬
‫ّ‬ ‫أشبه بارتداد ُهي هيئ اإلنسان لالضطالع‬
‫عل‬
‫أن مثل هذا االضطالع ال يعني ى‬ ‫املتأللئة من وراء االنسداد الكالح يف األُفق‪ .‬غري َّ‬
‫يتحرر بنزع حمدود َّيته‬
‫اإلطالق اخلضوع حلتم َّية التقن َّية وإلزام َّية الترشد الضال هل‪ .‬فاإلنسان ال َّ‬
‫يرىض‬
‫ى‬ ‫عل قدر ما‬
‫يتحرر ى‬‫التلقائي يف كائن َّية الكون والعامل والكائنات‪ ،‬بل َّ‬
‫ه‬ ‫الناشئة من انسالكه‬
‫بالقسمة‪ ،‬قسمة مقامه بني الكائنات‪ ،‬وبالنصيب‪ ،‬نصيب إحرازه اإلدراك املالئم‪ ،‬وباملصري‪،‬‬

‫(‪ )1‬يتحدَّ ث هايدغر عن َّ‬


‫الالحقيقة بام هي ترش ٌد ضالل يف بحثه الذي ُيمل العنوان ‪« :‬يف ماهي َّة احلقيقة»‪،‬‬
‫معامل الطريق‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪, om Wesen der Wahrheit W‬‬
‫‪Die Un.wahrheit als die Irre, Heidegger V‬‬ ‫‪, egmarken, GA 9 ,‬‬

‫‪Frankfurt, Klostermann, 1976, p. 196.‬‬


‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪Die Technik ist ]…[ die organisation des Mangels Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op.‬‬
‫‪cit., p. 91.‬‬
‫‪(3) Huld‬‬
‫‪ ❖ 396‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫متن الكينونة هبا‬


‫مصري انتاسبه إ ىل تارخي َّية الكينونة‪ ،‬وبالقدَ ر‪ ،‬قدَ ر اإلرساالت املتعاقبة التي ه‬
‫عليه‪:‬‬
‫انفك قدَ ُر الكشف هييمن هيمن ًة عىل اإلنسان‪ .‬ولكن ليس ذلك عىل حتم َّية‬ ‫َّ‬ ‫ما‬
‫أن اإلنسان ال يصبح ‪ -‬عىل وجه الد َّقة ‪ -‬حرا َّإال عىل قدر ما ينتسب‬
‫االضطرار‪ .‬ذلك َّ‬
‫إىل ميدان القدَ ر‪ ،‬فيغدو ‪ -‬عىل هذا النحو ‪ -‬كائن ًا ُمصغي ًا‪ ،‬ال كائن ًا ُمذعن ًا(‪.)1‬‬
‫أن ُيقبِل إ ىل الكينونة يف كشفها األخري وهو يف حالة‬ ‫أن اإلنسان ينبغي ْ‬
‫معنى هذا القول َّ‬‫ى‬
‫حر َّيته تنبثق من هباء‬ ‫احلر‪ ،‬ال يف حالة اإلذعان واخلضوع واالنسحاق‪ .‬غري َّ‬
‫أن ّ‬ ‫اإلصغاء ه‬
‫الكشف األخري‪:‬‬
‫حني نتف َّكر ‪ -‬بخالف ذلك ‪ -‬يف ماه َّية التقنية‪ ،‬نخترب االستنهار اختبارنا لقدَ ر من‬
‫احلر للقدَ ر(‪.)2‬‬
‫أقدار الكشف‪ .‬وبذلك نكون قد سبقنا فأقمنا يف املنفسح ِّ‬
‫املحرر املنبثق من‬
‫ه‬ ‫عل ماه َّية التقن َّية ح َّت ىى يفوز بالنداء‬ ‫املطلوب إذا ْ‬
‫أن ينفتح اإلنسان ى‬
‫الكينونة يف كشفها األخري‪.‬‬
‫معني للكشف األخري أو للخالص‪ .‬وال يمكن اإلنسان ْ‬
‫أن ُيتسب‬ ‫غري أ َّنه ليس من زمن َّ‬
‫عل هذا النحو َّ‬
‫ألن االحتساب خيالف ماه َّية اإلنسان األصل َّية التي جتعله كائن الرتقب‬ ‫الزمن ى‬
‫الريض بالضيق املقبل إ ىل االنفراج‪ .‬لكي يستطيع اإلنسان ْ‬
‫أن يعاين املنعطف‬ ‫ّ‬ ‫واالضطالع‬
‫حرة منعتقة من ك هل متوضع علمي استغالل‪ ،‬ينبغي له ْ‬
‫أن‬ ‫اخلالص وخيترب األشياء أشيا َء َّ‬
‫َّ‬
‫يرت َّقب ّ‬
‫جتيل الكينونة يف هيأة الربق اخلاطف الذي يشق أجنحة الليل وييضء ظلمة التقن َّية‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.28‬‬


‫‪Immer durchwaltet den Menschen das Geschick der Entbergung. Aber es ist nie das‬‬
‫‪Verhängnis eines Zwanges. Denn der Mensch wird gerade erst frei, insofern er in den‬‬
‫‪Bereich des Geschickes gehört und so ein Hörender wird, nicht aber ein Höriger‬‬
‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 28.‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪Wenn wir jedoch das Wesen der Technik bedenken, dann erfahren wir das Ge.stell als ein‬‬

‫‪Geschick der Entbergung. So halten wir uns schon im Freien des Geschickes auf‬‬

‫‪Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 29.‬‬


‫الغريب ❖ ‪397‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫الزمني‪ ،‬بل هو ينبثق‬


‫ه‬ ‫عل هيأة التعاقب‬‫أن املنعطف ال يأت بعد التقن َّية احلديثة ى‬ ‫احلسابة‪َّ .‬إال َّ‬
‫َّ‬
‫من معاناة التقن َّية ل ُيظهر ماه َّية الكينونة يف وجهها املرشق‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن التقن َّية ُتظهر الكينونة يف‬
‫(الغشتِل)‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن‬ ‫ْ‬ ‫وجهها املظلم‪ .‬يف الزمن احلارض ت َّتخذ الكينونة هيأة االستنهار‬
‫اخلالص يأتينا حني ت َّتخذ الكينونة هيأة الـ إرأيغنيس الذي يضم الكينونة واإلنسان واألشياء‬
‫التلقائي‪ .‬وحده احلس الشعري الرهيف يبرص املنعطف وقد َّ‬
‫حل‬ ‫ه‬ ‫العفوي‬
‫ه‬ ‫يف تناغم االنتامء‬
‫حلوال صاعقا‪:‬‬
‫ما من حتول جيري من غري مواكبة تشري َّأوالً إىل السبيل‪ .‬ولكن كيف للمواكبة أن‬
‫تقرتب إن مل ُيضئ الـ إرأيغنيس الذي ‪ -‬إذ يستدعي ماه َّية اإلنسان ويستثريها إليه ‪-‬‬
‫جيعلها يف نُصب النظر‪ ،‬أي يف مدارك االستبصار‪ ،‬والذي يقود ‪ -‬هبذا االستبصار ‪-‬‬
‫الشعري؟(‪.)1‬‬
‫ِّ‬ ‫بعض ًا من املائتني إىل املبنى التفك ِّ‬
‫يري‬

‫مثل هذا احلسِّ الرهيف يأتينا من اإلصغاء إىل نربات األرض‪:‬‬


‫لنا آذان أل َّننا نستطيع أن نُعري األُ ُذن الصاغية الواعية‪ ،‬وبفضل هذا اإلصغاء‬
‫الواعي يتاح لنا أن ن ِ‬
‫ُنصت إىل نشيد األرض‪ ،‬وإىل ارتعاشاهتا ومتوجاهتا‪ ،‬وهو النشيد‬ ‫ُ‬
‫الذي يظل بمنأى عن الضجيج اهلائل الذي جيره اإلنسان بني اآلونة واألُخرى عىل‬
‫املكتسح(‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫سطحها‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬حمارضات ومقاالت‪ ،‬ص ‪.95‬‬


‫‪Kein Wandel kommt ohne vorausweisendes Geleit. Wie aber naht ein Geleit, wenn nicht‬‬
‫‪das Ereignis sich lichtet, das rufend, brauchend das Menschenwesen er.äugnet, d. h.‬‬
‫‪er.blickt und im Erblicken Sterbliche auf den Weg des denkenden, dichtenden Bauens‬‬
‫‪bringt ? Heidegger, Vorträge und Aufsätze ,op. cit., p. 95.‬‬
‫ب‪ .‬املنطق ‪ :‬نظر ًّية هرياقليطس يف الـ لوغوس‪ ،‬جمموعة األعامل الكاملة‪،55 ،‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬بداية الفكر الغر ّ‬
‫فرنكفورت‪ ،‬كلوسرتمان‪ ،1987 ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪Wir haben Ohren, weil wir horchsam hören können und bei dieser Horchsamkeit auf das‬‬
‫‪Lied der Erde hören dürfen, auf ihr Erzittern und Beben, das doch unberührbar bleibt von‬‬
‫‪dem riesenhaften Lärm, den der Mensch auf ihrer vernutzten Oberfläche bisweilen‬‬
‫‪veranstaltet Heidegger, Heraklit. Der Anfang des abendländichen Denkens. Logik :‬‬
‫‪Heraklits Lehre vom Logos, GA 55, Frankfurt, Klostermann, 1987, p. 247.‬‬
‫‪ ❖ 398‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املحرر‪ .‬ذلك َّ‬


‫أن الطبيعة حتتمل‬ ‫عل ماه َّية التقن َّية ح َّت ىى يفوز بالنداء ه‬ ‫املطلوب ْ‬
‫أن ينفتح اإلنسان ى‬
‫احلر َّية املطلقة لألشياء ُتقبل و ُتدبر‪ ،‬يف كر وفر‪،‬‬
‫منفسح ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫والتجيل‪ .‬فهي‬ ‫وجوها شت ىّى من االنكشاف‬
‫تدابري‪:‬‬
‫َ‬ ‫وعل تعاقب اإلرساالت القدَ ر َّية التي ُتفرج عنها الكينونة بحسب ما ترتأيه هي من‬
‫ى‬
‫األول واجلوهري للكائن عينه يف‬
‫االسم َّ‬
‫ُ‬ ‫الطبيعة (الفوسيس) هي يف نظر اإلغريق‬
‫ك يل َّيته‪ .‬الكائن هو يف نظرهم ما يتف َّتح ويتح َّقق‪ ،‬من بعد أن ينمو بذاته من غري أن ُيكره‬
‫امللكوت الذي ال ينفك‬
‫ُ‬ ‫أمر‪ ،‬وال يلبث أن يعود إىل ذاته وينقيض‪ ،‬وهو بذلك‬ ‫أي ٍ‬‫عىل ِّ‬
‫يتع َّزز بانبساطه وبانقباضه(‪.)1‬‬
‫صونا حلركتَي االنبساط واالنقباض‪ ،‬ال يستطيع اإلنسان َّإال ْ‬
‫أن يعتصم بالعزوف َّية(‪ ،)2‬أي‬
‫بأن ترتك(‪ )3‬األُمور جتري يف‬‫ترىض ْ‬ ‫السنْهايت التي‬ ‫ِ‬
‫ى‬ ‫بالسكون َّية املنصتة الراعية‪ .‬هي الـ غ ه‬
‫أي رضب من رضوب املعانفة أو املغالظة أو‬ ‫عل مزاجها‪ ،‬فتعزف طوعا عن ه‬ ‫الطبيعة ى‬
‫أن هايدغر يعتقد اعتقادا راسخا َّ‬
‫أن ماه َّية الكينونة ‪ -‬وهي‬ ‫التحامل‪ .‬وما ال ريب فيه هو َّ‬
‫االسم اآلخر للطبيعة (الـ فوسيس) اإلغريق َّية ‪ -‬هي التي ُمتيل مثل هذا العزوف ى‬
‫عل‬
‫وحي أو‬
‫ٌ‬ ‫انكشاف أو‬
‫ٌ‬ ‫اإلنسان‪ .‬فالكينونة ليست جوهرا أو كائنا من الكائنات أو ذاتا‪ ،‬بل هي‬
‫األول انبثق‬
‫انحجاب أو انكفا ٌء أو ارتدا ٌد أو خفا ٌء‪ .‬يف زمن اإلغريق َّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫اعتالن أو جتل يصاحبه‬
‫عل وجه خمتلف»(‪ .)4‬لذلك ما كان يف مقاصد‬
‫علم «حقيقي ى‬
‫ملثل هذا التوتر اخلفر يف الكينونة ٌ‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬نيتشه‪ :‬إرادة القوة بام هي فن‪ ،‬ص ‪.94‬‬


‫‪Phusis is fürdie Griechen der erste und wesentliche Name fürdas Seiende selbst und im‬‬
‫‪Ganzen. Das Seiende ist ihnen dasjenige, was eigenwüchsig und zu nichts gedrängt‬‬
‫‪aufgeht und hervorkommt und in sich zurückgeht und vergeht, immer aber das‬‬
‫‪aufgehende und in sich zurückgehende Walten Heidegger, Nietzsche: Der Wille zur‬‬
‫‪Macht als Kunst, GA 43, Frankfurt, Klostermann, 1985, p. 95.‬‬
‫(‪ ،Gelassenheit )2‬هايدغر‪ ،‬العزوفي َّة‪ ،‬غونرت ِنسكه‪ ،‬بفولتِنغن‪.1959 ،‬‬
‫‪Heidegger, Gelassenheit ,Günther Neske, Pfultingen, 1959.‬‬
‫‪(3) lassen‬‬
‫(‪ )4‬هي عبارة جان بوفريه‪ ،‬تلميذ هايدغر النجيب يف فرنسا‪ ،‬ساقها يف حماوراته‪:‬‬
‫‪Jean Beaufret, Entretiens, Paris, PUF, 1984, p. 63.‬‬
‫الغريب ❖ ‪399‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫ُين حنينا‬ ‫أن خياصم التقن َّية و ُيعرض عن مكتسباهتا ويدين جهودها السليمة‪ ،‬وال ْ‬
‫أن َّ‬ ‫هايدغر ْ‬
‫هه كان الفوز بفهم أعمق ملاه َّية التقن َّية‬
‫مرض ًّيا إ ىل العصور القديمة أو البدائ َّية املنرصمة‪ .‬جل ه‬
‫َ‬
‫عل الكون‪.‬‬ ‫موضع اعتالن ملنحجبات اإلرساالت التي متن هبا الكينون ُة ى‬ ‫ُ‬ ‫احلديثة بام هي‬
‫إل املايض‪ ،‬جيب مواجهة التقن َّية يف أخطر منزلقاهتا ح َّت ىى نستطيع ْ‬
‫أن نتد َّبر‬ ‫عوضا من احلنني ى‬
‫عل استشعار اخلطر الداهم‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ى‬ ‫يقوى‬
‫ى‬ ‫عل قدر ما‬ ‫وجها آخر للكينونة يف األزمنة املقبلة‪ .‬ى‬
‫يتخل ّت ّليا وه ًّيا عن الوسائل السليمة التي تتيحها التقن َّية‪ ،‬بل ْ‬
‫أن‬ ‫ّى‬ ‫يف التقن َّية‪ ،‬يته َّيأ له ال ْ‬
‫أن‬
‫غري موقفه منها ومن وعودها الزائفة‪ .‬اللجوء السليم إ ىل التقن َّية ليس هو اخلطيئة املميتة‪ ،‬بل‬
‫ُي ه‬
‫اخلطيئة األعظم هي يف اخلضوع املنسحق لسلطان التقن َّية ويف تشويه عالقة اإلنسان باألشياء‪،‬‬
‫ومن وراء األشياء بالكينونة‪ .‬مسؤول َّية اإلنسان ْ‬
‫أن ينهج إ ىل األشياء سبيال آخر غري سبيل‬
‫وأمىض‬
‫ى‬ ‫أن يساعد اإلنسان يف مثل هذا النهج أنجع‬ ‫االستنهار‪ .‬وليس من تدبري عميل يستطيع ْ‬
‫االستذكاري‪« :‬الفكر ُينجز عالقة الكينونة بامه َّية اإلنسان»(‪ .)1‬هو‬
‫ه‬ ‫وأرقى من تدبري الفكر‬
‫ى‬
‫الفكر عينه الذي يامرسه هايدغر عندما يستذكر رضوب االعتالن ورضوب االحتجاب التي‬
‫فكر يروم ْ‬ ‫ِ‬
‫أن يضع اإلنسان يف‬ ‫اختربهتا الكينون ُة ى‬
‫عل تراخي عصور املتافيزياء الغرب َّية‪ .‬هو ٌ‬
‫الوهاب‪ .‬فإذا كانت التقن َّية‬
‫العفوي ّ‬
‫ه‬ ‫قربى الكينونة ْ‬
‫وأن ُهي هيئ للكينونة املوضع األمثل لتفتحها‬ ‫ى‬
‫فإن الفنون واألعامل الفنّ َّية يمكنها ْ‬
‫أن هتب الكينونة املنفسح‬ ‫احلديثة تعيق مثل هذا التفتح‪َّ ،‬‬
‫اإلغريقي‬
‫ه‬ ‫الفجري‬
‫ه‬ ‫إل التقن َّية يف مدلوِّلا‬ ‫األنسب العتالناهتا‪ .‬غري َّ‬
‫أن العمل الفن َّّي هو عو ٌد ى‬
‫بالفن استلهاما حلضور حر تأت إليه الكينون ُة يف ثنايا العمل‬ ‫ه‬ ‫األول حيث كان اإلنسان يلوذ‬
‫َّ‬
‫الفن هّي املتقن‪.‬‬

‫التباسات الربط السبيبّ بني املِتافيزياء الغربيَّة والتقنيَّة احلديثة‪:‬‬


‫السببي بني املِتافيزياء الغرب َّية والتقنية‬
‫ه‬ ‫مسوغات هذا الربط‬ ‫ُيسن يف اخلتام ْ‬
‫أن يسأل املرء عن ه‬
‫اجلذري الذي ُجي هرم هذه املِتافيزياء ويعيب‬‫ه‬ ‫احلديثة‪ .‬هل جيوز ْ‬
‫أن نصاحب هايدغر يف نقده‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪« ،‬رسالة يف اإلنس َّية»‪ ،‬معامل الطريق‪ ،‬ص ‪.313‬‬


‫‪Das Denken vollbringt den Bezug des Seins zum Wesen des Menschen Heidegger ,‬‬
‫‪Briefüber den‘ Humanismus ,’Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, p. 313 .‬‬
‫‪ ❖ 400‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل األشياء والكائنات واملوجودات من عدوان شنيع مقيت؟ وهل يمكننا ْ‬


‫أن‬ ‫جرته ى‬‫عليها ما َّ‬
‫إل الكينونة وحدها يف تسيري ُأمور العامل ويف تدبر شؤوننا بحسب مزاجها املتق هلب‬
‫نركن ى‬
‫أن ينحجب يف ذروة اعتالنه‪ ،‬وانحجاب ال ُيع هتم ْ‬
‫أن يعتلن يف‬ ‫املتأرجح بني اعتالن ال يلبث ْ‬
‫صميم انحجابه؟ وهل ُيق لنا ْ‬
‫أن نحرص قابل ّيات الكون ومستقبالت العامل وكيف ّيات‬
‫الوجود وطاقات التاريخ يف وجه واحد من وجوه اختبار األشياء‪ ،‬وهو الوجه الذي يومئ‬
‫ًّ‬
‫منحال يف‬ ‫إليه هايدغر يف ربطه التقن َّية باملِتافيزياء إ َّما مرتسام يف معارج الكينونة املتأللئة‪ ،‬وإ َّما‬
‫إل‬
‫أن التقن َّية التي تستثمر طاقات األرض وتطمح ى‬ ‫منحدرات التقن َّية املنحرفة؟ وهل يصح َّ‬
‫استعامر الكواكب القريبة يف الفضاء األرحب هي الطريق الض هيقة التي ستفيض إ ىل العدم َّية‬
‫أن هذه التقن َّية قد ُتفرج عن حاالت يف املباين اإلنسان َّية الفرد َّية واجلامع َّية ُهت هيئ‬ ‫املطلقة أم َّ‬
‫حاالت قد يأنس‬ ‫ٌ‬ ‫اجلسامين احلا هل؟ هي‬
‫ه‬ ‫الختبارات جديدة مل يألفها الكائن اإلنساين يف مر َّكبه‬
‫الكائن اإلنساين يف مر َّكبه املصطنع املع َّقد الذي قد تتآلف عنارصه يف هندسة جين َّية‬
‫ُ‬ ‫إليها‬
‫إل‬
‫حمسنات تكوين َّية بنيو َّية تبلغ به ى‬
‫جديدة مقبلة إلينا ستستدخل إ ىل بنية اإلنسان الدماغ َّية ه‬
‫تعود ارتيادها ح َّت ىى اآلن االختبار اإلنساين‪ .‬حينئذ‬ ‫جتاوز ه‬
‫كل اآلفاق املعرف َّية اإلنسان ّية التي َّ‬
‫وأرسارها؟ ر َّبام‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هل يظل اإلنسان اِّلايدغري هو الـ دازاين الذي فيه تعتلن حقائق الكينونة‬
‫خرى مل تألفها املِتافيزياء الغرب َّية عينها(‪.)1‬‬
‫عل كيف ّيات ُأ ى‬
‫ولكن هذا االستمرار قد يتح َّقق ى‬
‫َّ‬
‫أن نقرّنا بام ساقه أهل‬ ‫أ َّما الفائدة الفكر َّية من ربط التقن َّية احلديثة باملِتافيزياء فيجب ْ‬
‫عل املجتمعات الغرب َّية‬ ‫إل انتقاد العقالن ّيات األدات َّية املسيطرة ى‬
‫املعرفة الذين سبقوا هايدغر ى‬
‫ات‪ ،‬منها األدات َّية‪ ،‬ومنها التسويغ َّية‪ ،‬ومنها الغائ َّية(‪ .)2‬أ َّما‬
‫املعارصة‪ .‬فالعقالن َّية عقالن ّي ٌ‬
‫عل منوال من سبقه من فالسفة نقد‬
‫هايدغر‪ ،‬فنجح يف انتقاد األدات َّية والتسويغ َّية‪ ،‬ناسجا ى‬

‫; ‪(1) Luc Ferry, Le nouvel ordreécologique : l’arbre, l’animal et l’homme, Paris, Grasset, 1992‬‬
‫‪Id., La révolution transhumaniste : comment la technomédecine et l’uberisation du monde‬‬
‫‪vont bouleverser nos vies ,Paris, Plon, 2016.‬‬
‫األملاين كارل أوتّو أ هبل (‪ )2017 - 1922‬يف العقالنيّات احلديثة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2‬راجع البحث الذي أنشاه الفيلسوف‬
‫‪K. O. Apel ,Esquisse d’une théorie philosophique des types de rationalité ,Le Débat,‬‬
‫‪mars.avril 1988, 49, pp. 142 - 163.‬‬
‫الغريب ❖ ‪401‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫القصوى واملعاين‬
‫ى‬ ‫أن انتقاد العقالن َّية الغائ َّية التي تستجيل املقاصد‬ ‫العقالن َّية احلديثة‪ .‬غري َّ‬
‫جرى هناك‬‫ى‬ ‫جراء انحراف حدث هنا والتواء‬ ‫القوامة واملُ ُثل العليا‪ ،‬فال جيوز إبطاِّلا من ّ‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫عل نقده الشمو هل للعقالن َّية يف مجيع وجوهها‪،‬‬ ‫وتشويه اف ُتع َل هناك‪ .‬قد يعاتب املرء هايدغر ى‬
‫عل التبرص والتمييز‬
‫كل قدرة ى‬ ‫اإلنساين من ه‬
‫َّ‬ ‫وتعميامته املجحفة الظاملة التي ُجت هرد العقل‬
‫واحلكم واإلفتاء‪ .‬استجالء ِّلذه اخللف ّيات التارخي َّية التي أ َّثرت تأثريا ب هينا يف فِسارة هايدغر‬
‫التفكيك َّية‪ ،‬ال بدَّ من اإلشارة املقتضبة يف هذا السياق إ ىل النقد الذي عقده ماكس ِ‬
‫فيرب‬
‫(‪ )1920 - 1864‬حني ف َّكك األُنظومة التقنيَّة التي تنطوي عليها الرأسامليَّة املعارصة‪،‬‬
‫وأبان أ َّن األصل يقرتن بالنظرة الشاملة إ ىل الكون‪ .‬وهي نظر ٌة فلسف َّية أخالق َّية ُتعزه ز مقولة‬
‫الربوتستانتي‪.‬‬
‫ه‬ ‫االستثامر‪ ،‬فتُظهر الوشائج اخلف َّية التي تصل الرأسامل َّية بروح املذهب‬
‫األول من فالسفة مدرسة فرنكفورت‪ ،‬والسيّام ِهربِ ْرت‬‫وُيسن أيضا االلتفات إ ىل اجليل َّ‬
‫عل‬
‫ماركوزه (‪ )1979 - 1898‬وتيودور أدورنو (‪ )1969 - 1903‬اللذين عابا ى‬
‫العقالن َّية الغرب َّية مطاحم َها التسلط َّية وانحرافاهتا األخالق َّية‪ .‬ويمكن أيضا احلديث عن‬
‫يونغر (‪ )1998-1895‬الذي نظر إ ىل شكل(‪ )1‬أو هيأة العامل نظرتَه إ ىل الصورة‬ ‫إرنست ِ‬

‫املتفوق‬
‫ه‬ ‫الشكل يف ُأفق اإلنسان‬
‫ُ‬ ‫النافذة املهيمنة يف العامل املعارص(‪ ،)2‬ولئن ارتسمت هذا‬
‫تبقى هذا الشكل ‪ -‬بحسب هايدغر ‪-‬‬
‫املتجاوز لذاته والعابر للمحدود َّية اإلنسان َّية‪ .‬لذلك ى‬
‫مق َّيدا بإرادة اِّليمنة التي تنطوي عليها إراد ُة االقتدار النيتشو َّية التي ُحت هولتفي حقبة‬
‫املنجزة إ ىل إرادة اإلرادة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املتافيزياء َ‬
‫اِّلايدغري ملِّس ىى املِتافيزياء الغرب َّية واالنتقاد‬
‫ه‬ ‫واضح بني التفكيك‬
‫ٌ‬ ‫أن الفرق‬ ‫ال جرم َّ‬
‫البنيوي الذي ساقه هؤالء مجيعا يف سياق تقويم العقالن َّية الغرب َّية احلديثة‪ .‬فالتفكيك يبلغ‬
‫ه‬
‫هبايدغر حدود االرتياب من مطالب العقل عينه ومن مطاحمه ومقاصده(‪ .)3‬فالعقل هو‬

‫‪(1) Gestalt‬‬
‫‪(2) Ernst Jünger, Der Arbeiter. Herrschaft und Gestalt, Stuttgart, Klett.Cotta,1982.‬‬
‫اِّلايدغري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن ُث َّلة نابغة من الفالسفة الغرب هيني تأ َّثروا ُتأثرا محيدا باالنتقاد‬
‫(‪ )3‬ال بدَّ من اإلشارة إ ىل َّ‬
‫فاستلهموه وأنشأوا منه مذهبا فلسف ًّيا يراعي خصوص َّية الطبيعة والبيئة‪ ،‬ولكن من غري ْ‬
‫أن يطرد اإلنسان‬
‫‪‬‬ ‫من موقعه املتد هبر املسؤول‪.‬‬
‫‪ ❖ 402‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫السلطان الذي ينبغي تقويضه عند هايدغر‪ ،‬فيام هو امليزان الذي جيب ضبطه وتقويمه‬
‫كل التواءات العقالن َّية احل ّسابة يف‬‫عل افتضاح ه‬ ‫وتأهيله عند اآلخرين‪ .‬وحني يرص هايدغر ى‬
‫أن أفضل الس ُبل للنجاة من سلطان العقل هو عزل‬ ‫يتبني له َّ‬ ‫ِ‬
‫مطاوي املتافيزياء الغرب َّية‪َّ ،‬‬
‫العفوي‬
‫ه‬ ‫الكوين‬
‫ه‬ ‫اإلنسان عن مقام الصدارة والركون إ ىل الطبيعة وإ ىل األشياء وإ ىل اجلريان‬
‫خرى‬‫سوى االعتصام بلغة ُأ ى‬ ‫ى‬ ‫وإل األقدار واألرسار‪ .‬ومن َث َّم ال ى‬
‫يبقى لإلنسان‬ ‫وإ ىل الكينونة ى‬
‫أدنى ريب ‪ -‬لغة‬
‫هي غري لغة العقل والتمثل والتصور واملحاسبة واملحاكمة‪َّ .‬إّنا ‪ -‬بال ى‬
‫السفيل‪ .‬بيد َّ‬
‫أن املشكلة الكأداء تظل‬ ‫ه‬ ‫العلوي أو‬
‫ه‬ ‫الشعر والتصوف والعرفان واالنخطاف‬
‫ري الذي تبته الكينون ُة ى‬
‫عل تعاقب‬ ‫عل أعظم َّية القرار القدَ ه‬
‫ناشبة يف هذا اإلرصار الرهيب ى‬
‫اإلغريقي االستهال هل‪.‬‬
‫ه‬ ‫الفجري‬
‫ه‬ ‫اإلنساين يف الزمن‬
‫ه‬ ‫إرساالهتا الكون َّية منذ انفطار التفكر‬
‫أن اإلنسان ينزع إ ىل االنحراف ويميل إ ىل اِّليمنة ويبتهج باالستبداد‪ ،‬وقد‬ ‫فإذا ثبت َّ‬
‫تعاظم هذا كله يف زمن التقنية الكون َّية‪ ،‬فالوسيلة األنجع ال تكون بعزله‪ ،‬بل بتقويمه وهتذيبه‬
‫اخلالق‪ .‬ال ريب يف َّ‬
‫أن الركون إ ىل الكينونة يظل من‬ ‫النقدي َّ‬
‫ه‬ ‫ت‬
‫وتأهيله ملقام يليق بوعيه الذا ه‬
‫حمفوف بمخاطر االستقالة واالعتزال والتلبث‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫سبيل‬ ‫َّ‬
‫األخاذة‪ .‬ولكنَّه‬ ‫احللول الصوف َّية‬
‫خوة‪.‬‬ ‫إل حياة الكرامة واملساواة والعدل واألُ َّ‬ ‫بي‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن الناس يتوقون ى‬ ‫الوجداين الرتق ه‬
‫ه‬
‫بمجرد‬ ‫البنى القانون َّية والترشيع َّية الكون َّية‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫وهي ق َي ٌم ال يمكن منارصهتا وتعزيزها وإنشاهبا يف ى‬
‫اخللييل بني الكينونة واإلنسان‪ .‬فالتحدّ يات العلم َّية واإلشكال ّيات التقن َّية‬ ‫ه‬ ‫التامس البوح‬
‫اإلنساين ال يستطيع اإلنسان ْ‬
‫أن‬ ‫ه‬ ‫واالستصالحات اجلين َّية يف كائنات الطبيعة ويف الكائن‬
‫القديس‬
‫ه‬ ‫الِّس َّية التي تومئ إليها الكينونة من مقامها‬
‫يضطلع هبا اضطالع املتأ همل يف املشورات ّ‬
‫وعل سالمة‬
‫ى‬ ‫عل كرامة الكائنات وكرامة الكينونة‬
‫اِّلايدغري ى‬
‫َّ‬ ‫أن احلرص‬‫صحيح َّ‬
‫ٌ‬ ‫املقتدر‪.‬‬
‫البيئة وسالمة اإلنسان واإلنسان َّية يظل هو األُفق السليم الذي ينبغي ْ‬
‫أن تنسلك فيه كل‬

‫‪‬‬
‫‪Jacques Ellul, La technique ou l’enjeu du siècle, Paris, Armand Colin, 2008 ; Hans Jonas,‬‬
‫‪Technik, Medizin und Ethik : Zur Praxis des Prinzips Verantwortung, Frankfurt a.‬‬
‫‪Main, Suhrkamp, 1985 ; Andrew Feenberg, Questioning Technology, New York and‬‬
‫‪London, Routledge, 1999.‬‬
‫الغريب ❖ ‪403‬‬ ‫تافيزيائي‬‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ‬

‫عل معانقة الطبيعة‬


‫قادر ى‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وخمزن طاقات‪ .‬هو‬ ‫املباحثات العقالن َّية‪ .‬فالعقل محّال وجوه‬
‫خليق برعايتها ومالطفتها وصيانتها واستخراج خمتمر‬ ‫ٌ‬ ‫والكائنات واألشياء‪ ،‬ولكنَّه أيضا‬
‫عل وجه واحد من العقالن ّيات‬ ‫ِ‬
‫نفسه‪ .‬فل َم االقتصار ى‬
‫عل نحو ما هيواه هايدغر ُ‬ ‫مكنوناهتا‪ ،‬ى‬
‫ب؟ رأس الكالم يف هذا ك هله َّ‬
‫أن الفكر الذي جيرؤ‬ ‫الفلسفي الغر ه‬
‫ه‬ ‫املتقابلة املتعارضة يف الرتاث‬
‫عل نقض بنيانه وإعادة إعامره إ َّنام يكتنز يف ثناياه طاقات جليلة من االبتكار استخدمها‬ ‫ى‬
‫ِ‬
‫نفسه‪ ،‬وهو ابن هذه املتافيزياء الغرب َّية الرفيعة‪ ،‬ويستخدمها كل فيلسوف غرب أعلن‬ ‫هايدغر ُ‬
‫أن يكون‬ ‫ب‪ .‬فال غرابة ‪ -‬من َث َّم ‪ْ -‬‬ ‫ب وموت اإلنسان الغر ه‬ ‫موت الغرب وموت الفكر الغر ه‬
‫االبتكاري الذي ّتتزنه املِتافيزياء الغرب َّية‪،‬‬
‫ه‬ ‫عل االقتدار‬
‫مثل هذا اإلعالن هو خاتم التصديق ى‬
‫تنوعت جت ّلياهتا يف كوكبة جليلة من املذاهب الفلسف َّية الغرب َّية منذ األفالطون َّية‬ ‫وقد َّ‬
‫واألُرسط َّية واألفلوطين َّية‪ ،‬مرورا باألغسطين َّية والتومائ َّية والرشد َّية والسينو َّية‪ ،‬بلوغا ى‬
‫إل‬
‫واِّلورسل َّية واِّلايدغر َّية عينها‪ .‬ال عجب ‪ -‬من‬
‫ّ‬ ‫الديكارت َّية واإلسبينوز َّية والكانط َّية واِّليغل َّية‬
‫عنيت به‬
‫ُ‬ ‫ب‪-‬‬ ‫َث َّم ‪ْ -‬‬
‫أن يكون اخليط الناظم الذي اصطفاه هايدغر لتأول تاريخ الفكر الغر ه‬
‫األنطولوجي بني الكينونة والكائن‬
‫ه‬ ‫عل الكائن وإهال الفرق‬‫نسيان الكينونة واالقتصار ى‬
‫احلسابة ‪ -‬يشبه خيوطا ناظمة ُأ ى‬
‫خرى آثرها فالسفة آخرون عاينوا‬ ‫وإخضاع الكائن للعقالن َّية ّ‬
‫ب ممهورا إ َّما بحركة حتقق الروح املطلق يف التاريخ (هيغل)‪ ،‬وإ َّما بإخضاع‬
‫مِّسى الفكر الغر ه‬
‫ى‬
‫ت (شوبنهاور)‪ ،‬وإ َّما بالرصاع بني إله‬
‫ري الذا ه‬
‫الوجود لفعل املشيئة الذات َّية والبناء التصو ه‬
‫عل ما يذهب إليه نيتشه‪ .‬وقد‬ ‫التعقل احلكيم (أبولون) وإله النشوة َّ‬
‫اخلالقة (ديونيسيوس)‪ ،‬ى‬
‫عل خفر وّتري واستصفاء‪ .‬غري َّ‬
‫أن اإلرصار‬ ‫يكون هايدغر متأ هثرا هبذه التأوالت ومستلهام ِّلا ى‬
‫عل رضورة ترقب اخلالص اآلت من الكينونة ال‬ ‫باألحرى ى‬
‫ى‬ ‫عل رضورة إنقاذ الكينونة‪ ،‬أو‬
‫ى‬
‫يضم شتيت‬ ‫أن‬ ‫ِ‬
‫سوغ إخضاع تاريخ املتافيزياء ك هله ملشيئة الكينونة عينها‪ .‬هو تأو ٌل يروم ْ‬
‫َّ‬ ‫ُي ه‬
‫املحاوالت التفسري َّية يف بوتقة اإلدراك املستند إ ىل انسحاب الكينونة من التاريخ وسقوطها‬
‫عل اإلمساك جعلته تأوال قابال جلميع أصناف‬
‫الطوعي يف النسيان‪ .‬وقد أكسبه هايدغر قدرة ى‬
‫ه‬
‫عى‬
‫الكوين ال ُخيتزَ ل يف قالب تفسريي واحد‪ ،‬ولئن ا َّد ى‬
‫َّ‬ ‫الفكري‬
‫َّ‬ ‫االستقطابات‪ .‬بيد َّ‬
‫أن االختبار‬
‫ومعنى‬
‫ى‬ ‫طرا‪،‬‬
‫الرغبة يف التوسعة املطلقة ح َّت ىى يشمل كينونة الكائنات قاطبة‪ ،‬وحقيقة احلقائق ًّ‬
‫‪ ❖ 404‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫اِّلايدغري من َّ‬
‫أن التوسعة‬ ‫ه‬ ‫املعاين إطالقا‪ .‬يأت االمتحان األشدّ إرباكا يف مثل هذا التأول‬
‫املضموين الذي يالمس العدم‪ .‬فتصبح‬
‫ه‬ ‫املطلقة يف ترسم قوام الكينونة قد ُيفيض إ ىل اخلواء‬
‫بالقهقرى إ ىل زمن التحسس‬
‫ى‬ ‫الكينونة والعدم مرتادفني متصاحبني متالزمني‪ ،‬ونعود‬
‫رضب من رضوب العدم‪ .‬وما أثبت‬
‫ٌ‬ ‫األول حيث استحالة القول يف الكينونة هو‬
‫اإلغريقي َّ‬
‫ه‬
‫للمعنى البنّاء‪.‬‬
‫ى‬ ‫ٌ‬
‫موثوق‬ ‫نجب‬ ‫التاريخ اإلنساين قط َّ‬
‫أن العدم ُم ٌ‬

‫* * *‬
405 ❖ ‫الغريب‬ ‫تافيزيائي‬ِ ‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل‬
‫ي‬ ‫ي‬ َّ

:‫املصادر‬
َّ ‫ جم َّلة العلوم الفلسفيَّة‬،»‫ سبيل الـ إرأيغنيس‬.‫ «اهلو َّية واالختالف يف فكر مارتن هايدغر‬،‫ غريش‬.‫ج‬
،57 ‫ عدد‬،‫والالهوتيَّة‬
.1973
.1986 ،)‫ كانون الثاين (آذار‬،‫ الدراسات الفلسفيَّة‬،»‫«معنى الـ إرأيغْنيس يف الزمن والكينونة‬
‫ى‬ ،‫ فرشرتاتن‬.‫ف‬
.1984 ،‫ منشورات جامعة إنديانا‬،‫ رضوب من التفكر يف فلسفة هايدغر األخرية‬.‫ يف حقيقة الكينونة‬،‫كوكلامنس‬
،‫ ترمجة وحتقيق وتعليق إسامعيل املصده ق‬،»‫«مشكالت» خمتارة من «املنطق‬
ٌ :‫ األسئلة األساسيَّة للفلسفة‬،‫هايدغر‬
.2018 ،‫ بريوت‬،‫ دار الكتاب اجلديد املتَّحدة‬،‫مراجعة مشري عون‬
.1969 ‫ أيلول‬11 ،‫ حلقة طور‬،‫ حلقات‬،‫هايدغر‬
.1977 ،‫ كلوسرتمان‬،‫ فرانكفورت‬،5 ‫ اجلزء‬،‫ األعامل الكاملة‬،‫ دروب الغابة‬،‫هايدغر‬
.‫ معامل الطريق‬،»‫ «رسالة يف اإلنسيَّة‬،‫هايدغر‬
.‫ حمارضات ومقاالت‬،‫هايدغر‬
ُ ‫ العدميَّة‬:‫ نيتشه‬،‫هايدغر‬
.‫األوروبيَّة‬
ِ
.1959 ،‫بفولتنغن‬ ،‫ غونرت ِنسكه‬،‫ العزوفيَّة‬،‫هايدغر‬
Andrew Feenberg, Questioning Technology, New York and London, Routledge,
1999.
C. Jamme (Hrsg.), Martin Heidegger. Kunst . Politik . Technik ,München,
Wilhelm Fink Verlag, 1992.
Ernst Jünger, Der Arbeiter. Herrschaft und Gestalt, Stuttgart, Klett.Cotta,1982.
Hans Jonas, Technik, Medizin und Ethik : Zur Praxis des Prinzips
Verantwortung, Frankfurt a. Main, Suhrkamp, 1985.
Heidegger, Beiträge zur Philosophie Vom Ereignis, GA 65, Frankfurt,
Klostermann, 1989.
Heidegger, Die Frage nach dem Ding : Zu Kants Lehre von den
transzendentalen Grundsätzen ,GA 41, Frankfurt, Klostermann, 1984.
Heidegger ,Einleitung zu : Was ist Metaphysik? in Heidegger, Wegmarken, GA
9, Frankfurt, Klostermann, 1976.
Heidegger, Gelassenheit ,Günther Neske, Pfultingen, 1959.
Heidegger, Grundbegriffe, GA 51, Frankfurt, Klostermann, 1991.
Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977.
Heidegger, Identität und Differenz, GA 11, Frankfurt, Klostermann, 2006.
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬406

Heidegger, Kant und das Problem der Metaphysik, GA 3, Frankfurt,


Klostermann, 1991.
Heidegger, Lettre à Jean Beaufret (Fribourg, 23 novembre 1945), dans
Heidegger ,Questions III et IV ,Paris, Gallimard, 2005.
Heidegger. Logik : Heraklits Lehre vom Logos, GA 55, Frankfurt, Klostermann,
1987.
Heidegger, Metaphysik und Nihilismus : 1. Die Überwindung der Metaphysik;
2. Das Wesen des Nihilismus ,GA 67, Frankfurt, Klostermann, 1999.
Heidegger, Nietzsche : Der Metaphysik und Nihilismus, GA 67 ,Frankfurt,
Klostermann, 1999.
Heidegger, Nietzsche :Der europäische Nihilismus, GA 48, Frankfurt,
Klostermann, 1986.
Heidegger, Nietzsche: Der Wille zur Macht als Kunst, GA 43, Frankfurt,
Klostermann, 1985.
Heidegger ,Seminare ,GA 15, Frankfurt, Klostermann, 1986.
Heidegger ,Vom Wesen der Wahrheit ,Wegmarken, GA 9, Frankfurt,
Klostermann, 1976.
Heidegger, Vorträge und Aufsätze ,Günther Neske, Pfullingen, 1990.
Husserl, Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die Transzendentale
Phänomenologie. Einleitung in die phänomenologische Philosophie, hrsg. von
Walter Biemel, Husserliana, GW 6, Leuven, 1976.
Jacques Ellul, La technique ou l’enjeu du siècle, Paris, Armand Colin, 2008.
J. Kockelmans, On the Truth of Being. Reflections on Heidegger’s later
Philosophy ,Indiana University Press.
Jules Maidika Asana Kalinga, Métaphysique et technique moderne chez Martin
Heidegger, Paris, L’Harmattan, 2013.
Jean Beaufret, Entretiens, Paris, PUF, 1984.
Jean Vioulac, L’époque de la technique. Marx, Heidegger et l’accomplissement
de la métaphysique, Paris, PUF ,Épimethée ,2015.
K. O. Apel ,Esquisse d’une théorie philosophique des types de rationalité ,Le
Débat, mars.avril 1988.
407 ❖ ‫الغريب‬ ‫تافيزيائي‬ِ ‫التقنية احلديثة ثمرة العقل امل‬
‫ي‬ ‫ي‬ َّ

Luc Ferry, Le nouvel ordreécologique : l’arbre, l’animal et l’homme, Paris,


Grasset, 1992.
Luc Ferry , La révolution transhumaniste : comment la technomédecine et
l’uberisation du monde vont bouleverser nos vies ,Paris, Plon, 2016.
Margreiter R .éd, Heidegger. Technik . Ethik . Politik, Würzburg, Königshausen
& Neumann, 1991.
Michael E. Zimmerman ,Heidegger on nihilism and technique ,in Man and
World ,1975.
Otto Pöggeler ,Kunst und Politik im Zeitalter der Technik ,in Fresco M.
(Hrsg.), Heideggers These vom Ende der Philosophie, Bonn, Bouvier, 1989, pp. 93
– 114.
Rolland J ,Technique et invention démocratique , in Le Cahier du Collège
International de Philosophie, Heidegger. Questions ouvertes I, 1988 ,numéro
spécial,, 1989.

* * *
‫منهجيَّة هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا‬
‫(‪)2()1‬‬

‫(‪)3‬‬
‫خشايار برومند‬
‫(‪)4‬‬
‫الس ِّيد حسني احلسيني‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫أهم املوضوعات التي حظيت باالهتامم يف املنظومة الفكر َّية‬ ‫َّ‬
‫إن التكنولوجيا وماه َّيتها من ّ‬
‫وعل الرغم من االختالف الكبري بني توجه (هايدغر) وما نالحظه يف فلسفة‬
‫ى‬ ‫لـ (هايدغر)‪.‬‬
‫التكنولوجيا السائدة‪ ،‬بيد َّ‬
‫أن باإلمكان مشاهدة آثار األفكار املوجودة يف تفكري (هايدغر) يف‬
‫فلسفة التكنولوجيا املعارصة‪ ،‬وح َّت ىى يف الفلسفة التحليل َّية بشكل واضح أيضا‪ .‬سوف نعمد‬
‫عل أساس املنهج الفكري‬ ‫يف هذا املقال َّأوال إ ىل إيضاح ماه َّية التكنولوجيا احلديثة ى‬
‫لـ (هايدغر)‪َّ .‬‬
‫إن حتليل (هايدغر) للتكنلوجيا احلديثة وماه َّيتها ُيش هكل مقدّ مة لفهم املخاطر‬
‫التي ُهتده د اإلنسان املعارص‪ .‬وبعد ا هتضاح مفهوم الـ (جشتال)(‪ )5‬بوصفه ماه َّية للتكنولوجيا‬

‫(‪ )1‬عنوان املقال باللغة الفارسيَّة (برريس رويكرد هايدگر در مواجهه با تكنولوژى)‪ ،‬منشور يف جم َّلة‪( :‬غرب‬
‫األول‪ ،‬ربيع‬
‫شناسى بنيادى)‪ ،‬پژوهشگاه علوم انسانى ومطالعات فرهنگى‪ ،‬السنة اخلامسة‪ ،‬العدد َّ‬
‫وصيف عام ‪1393‬هـ ش‪ ،‬ص ‪.22 - 1‬‬
‫عيل مطر‪.‬‬
‫(‪ )2‬تعريب‪ :‬حسن ّ‬
‫مستوى الدكتوراة يف حقل الفلسفة‪ ،‬جامعة َّ‬
‫العالمة الطباطبائي‪( .‬كاتب مسؤول)‪.‬‬ ‫ى‬ ‫عل‬
‫(‪ )3‬باحث ى‬
‫(‪ )4‬باحث مساعد يف حقل فلسفة العلم‪ ،‬من جامعة رشيف الصناعيَّة‪.‬‬
‫(‪ )5‬اجلشتال أو اجلشتالت (‪ :)gestalt‬بنية أو صورة من الظواهر الطبيع َّية أو البيولوج َّية أو السيكولوج َّية‬
‫ضم‬
‫بمجرد ه‬ ‫َّ‬ ‫املتكاملة بحيث ُتؤ هلف وحدة وظيف َّية ذات خصائص ال يمكن استمدادها من أجزائها‬
‫بعضها إ ىل بعض‪َّ .‬‬
‫وإن مفهوم الـ (جشتال) يف املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر جمموع املوا هد والعنارص الدخيلة‬
‫ويرى هايدغر َّ‬
‫أن اجلشتال بمنزلة خلفيَّة‬ ‫ى‬ ‫يف عمليَّة اإلنتاج‪ ،‬وكذلك اإلطار الذي ُييط بحياتنا املعارصة‪،‬‬
‫فإن مفهوم اجلشتال عند هايدغر هو الذي يمنح‬ ‫عل أساسها ‪َّ -‬‬
‫كل األشياء‪ ،‬وعليه َّ‬ ‫الفلم التي نشاهد ‪ -‬ى‬
‫املعرب‪.‬‬
‫األشياء مفهومه ومعناها‪ .‬ه‬
‫‪ ❖ 410‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل العامل الذي نعيش فيه‪ ،‬يتم طرح رؤية هايدغر بشأن التحرر من‬
‫احلديثة‪ ،‬وخماطر سيادته ى‬
‫يرى هايدغر َّ‬
‫أن نجاة اإلنسان املعارص إ َّنام تكون ممكنة من خالل‬ ‫عامل التكنولوجيا العبث َّية‪ .‬ى‬
‫قيام نموذج جديد يغلب فيه إدراك جديد عن الكائنات‪َّ .‬‬
‫إن التحرر من األشياء يف اال هتصال‬
‫أن ُُي هقق استعداد اإلنسان لظهور وتبلور هذا النموذج‪.‬‬
‫بالتفكري املعنوي والروحي‪ ،‬من شأنه ْ‬
‫عل منهج َّية هايدغر فيام يتع َّلق بالتكنولوجيا‬
‫ويف اخلتام نستعرض االنتقادات امل َّتجهة ى‬
‫احلديثة‪.‬‬

‫املقدّمة‪:‬‬
‫إن السؤال عن التكنولوجيا يف املنظومة الفكرية لـ (هايدغر) ُيم هثل سؤاال عن الفكر الذي‬
‫َّ‬
‫عل كا َّفة أنحاء احلياة البرش َّية يف عرصنا‪ ،‬بحيث ال نبالغ لو قلنا باستحالة التعرف ى‬
‫عل‬ ‫خ َّيم ى‬
‫العامل الراهن ‪ -‬الذي ُيش هكل التفكري التكنولوجي أحد أركانه الرئيسة ‪ -‬دون التأمل يف حقل‬
‫أن املالحظات التارخي َّية تشري إ ىل َّ‬
‫أن نسبة التقن َّية لإلنسان إ ىل‬ ‫وعل الرغم من َّ‬ ‫ى‬ ‫التكنولوجيا‪.‬‬
‫كل ما هو قائم وموجود قد ظهرت يف بداية األمر يف ُأوروبا‪ ،‬و«بقيت جمهولة يف ّ‬
‫القارات‬ ‫ه‬
‫أن الرؤية التقن َّية حاليا ‪ -‬كام أشار (مارتن هايدغر)‬ ‫األُ ى‬
‫خرى إ ىل فرتات زمن َّية طويلة»(‪َّ ،)1‬إال َّ‬
‫‪ -‬هي التي حتكم الكرة األرضية من أقصاها إ ىل أقصاها(‪َّ .)2‬‬
‫إن عدم االهتامم الفكري هبذه‬
‫الرؤية‪ ،‬يمنعنا من االستعداد إ ىل التحول اآلخذ بالتبلور والظهور يف هذا العرص(‪.)3‬‬
‫إل إظهار الرؤية التكنولوجية من‬
‫يسعى ى‬
‫ى‬ ‫إن هايدغر فيام يتع َّلق بالسؤال عن التكنولوجيا‬
‫َّ‬
‫حرة مع‬ ‫خالل السؤال عن ماه َّية التكنولوجيا‪ .‬ويف هذا اإلطار ُيؤ هكد هايدغر ى‬
‫عل إقامة نسبة َّ‬
‫التكنولوجيا‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫إ َّننا نعمل عىل طرح السؤال بشأن التكنولوجيا‪ ،‬ونسعى من خالل ذلك إىل إقامة‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( .‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬ص ‪ ،126‬منشور يف فلسفة وبحران غرب‪ ،‬نرش‪:‬‬
‫إ ىل اللغة الفارس َّية‪ّ :‬‬
‫هرمس‪ ،‬طهران‪1378 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.127‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪411‬‬

‫إن هذه النسبة إ َّنام تكون َّ‬


‫حرة من حيث إ َّّنا تضع وجودنا البرشي يف‬ ‫حرة معها‪َّ .‬‬
‫نسبة َّ‬
‫معرض املاه َّية التكنولوج َّية(‪.)1‬‬
‫احلرة مع‬
‫ومن هنا يتبلور هذا السؤال القائل‪ :‬ما هو مراد هايدغر من إقامة النسبة َّ‬
‫حرة مع‬ ‫احلرة بالتساؤل؟ نحن إ َّنام نستطيع ْ‬
‫أن نقيم نسبة َّ‬ ‫التكنولوجيا؟ وما عالقة النسبة َّ‬
‫مهد الطريق‬ ‫أعمى‪ْ ،‬‬
‫وأن ُن ه‬ ‫ى‬ ‫التكنولوجيا إذا ّت َّلينا عن نبذ أو اعتناق التكنولوجيا بشكل‬
‫النكشاف ماه َّية التكنولوجيا من خالل فتح باب السؤال واالستفهام‪َّ .‬‬
‫إن ارتباط التساؤل‬
‫عل‬
‫يرى نفسه مالكا للحقيقة ‪ -‬إ ىل العمل ى‬
‫أن ى‬ ‫احلرة يكمن يف سعي السائل ‪ -‬دون ْ‬ ‫بالنسبة َّ‬
‫انكشاف ماه َّية املوضوع مورد السؤال بالنسبة له‪ .‬بيد َّ‬
‫أن الفرد الذي هياجم التكنولوجيا دون‬
‫أدنى تردد أو تشكيك‪ ،‬أو يعترب‬
‫ى‬ ‫أن يعتنقها ويقبل هبا دون‬ ‫أدنى تأمل أو تفكري‪ ،‬أو ْ‬ ‫ى‬
‫يرى نفسه منذ البداية مالكا‬
‫التكنولوجيا أمرا منفعال وخاضعا لسيطرة اإلنسان بالكامل ‪ ،‬ى‬
‫(‪)2‬‬

‫عل القوالب النظر َّية املسبقة‪ ،‬ال يسمح بظهور ماه َّية‬
‫لناصية احلقيقة‪ ،‬ومن خالل إرصاره ى‬
‫التكنولوجيا‪.‬‬
‫رصح هايدغر بأ َّنه غالبا ما يتم طرح تعاريف آل َّية وإنسان َّية يف معرض السؤال عن‬
‫لقد َّ‬
‫ماه َّية التكنولوجيا‪ .‬وطبقا ِّلذه التعاريف نجد َّ‬
‫أن «التكنولوجيا عبارة عن وسيلة ونشاط‬
‫بأن هذه التعاريف ْ‬
‫وإن كانت صحيحة‪ ،‬ولكنَّها‬ ‫برشي»(‪ .)3‬وقد ذهب هايدغر إ ىل القول َّ‬
‫إل‬
‫عل السطح‪ ،‬ومتنعنا من الوصول ى‬
‫أن هذه التعاريف ُتبقينا ى‬‫بمعنى َّ‬
‫ى‬ ‫ليست حقيق َّية(‪.)4‬‬
‫يرى التعريف‬ ‫وعل الرغم من َّ‬
‫أن هايدغر ال ى‬ ‫ى‬ ‫الطبقات األعمق التي ُمت هثل ماه َّية التكنولوجيا‪.‬‬
‫اآلل للتكنولوجيا مب هينا حلقيقة التكنولوجيا‪َّ ،‬إال أ َّنه يف الوقت ذاته ال يراه تعريفا خاطئا‪ .‬بيد‬
‫يسعى إليه هايدغر هو بيان هذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن ماه َّية التكنولوجيا تكشف عن‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫أن الذي‬
‫حقيقة أعمق بكثري من التعريف اآلل واإلنساين للتكنولوجيا‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن الذي جيعل‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى ‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬املنشور يف فلسفة التكنولوجيا‪،‬‬
‫ص ‪ ،4‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬شاپور اعتامد‪ ،‬نرش‪ :‬مركز‪ ،‬طهران‪1389 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 6‬و‪.7‬‬
‫‪ ❖ 412‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫من مجيع أنواع النشاط التقني أو إنتاج اليشء التكنولوجي أمرا ممكنا هو نمط النظر إ ىل‬
‫األشياء‪ ،‬والذي يتح َّقق من خالل ظهور اليشء لإلنسان‪ ،‬وهذه الرؤية هي التي جتعل من‬
‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫إن التكنوجليا‬ ‫التكنولوجيا أمرا ممكنا بوصفها أداة ونشاطا إنسانيا‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫اخلاص بالوجود احلقيقي(‪ )2‬أو حقيقة‬
‫ه‬ ‫املعنى‬
‫ى‬ ‫األنطولوجي(‪ُ ،)1‬مت هثل أساسا للتكنولوجيا يف‬
‫عل سطح وظاهر التعريف الصحيح للتكنولوجيا أو التكنولوجيا‬ ‫إن الوقوف ى‬ ‫الوجود(‪َّ .)3‬‬
‫اخلاص بالوجود احلقيقي‪ ،‬يعني عدم وصولنا إ ىل الطبقة اجلوهر َّية‪ ،‬أو التكنولوجيا‬
‫ه‬ ‫باملعنى‬
‫ى‬
‫عل العنارص األساس َّية يف‬
‫نتعرض ‪ -‬بعد جولة ى‬
‫باملعنى األنطولوجي‪ .‬ويف هذه املقالة سوف َّ‬
‫ى‬
‫املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر فيام يتع َّلق بموضوع التكنولوجيا ‪ -‬إ ىل اشتامل منهج هايدغر ى‬
‫عل‬
‫بعض النواقص فيام يتع َّلق بطريقة تعاطيه مع األدوات التكنولوج َّية‪.‬‬

‫العناصر األساسية يف املنظومة الفكريَّة هلايدغر فيما يتعلَّق بالتكنولوجيا‪:‬‬


‫اجلشتال(‪:)4‬‬
‫بمعنى الوجود احلقيقي أو حقيقة الوجود وبني‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫إن االختالف بني التكنولوجيا‬
‫باملعنى األنطولوجي‪ ،‬هو يف احلقيقة اختالف بني األشياء والنشاطات‬
‫ى‬ ‫التكنولوجيا‬
‫وعل هذا األساس‬
‫ى‬ ‫التكنولوج َّية (حقيقة الوجود) وبني املاه َّية التكنولوج َّية (األنطولوج َّية)‪.‬‬
‫َّ‬
‫فإن إيضاح ماه َّية التكنولوجيا احلديثة يعني الوصول إ ىل اجلوهر األنطولوجي للتكنولوجيا‬
‫عل استعداد كامل للتعاطي املناسب مع التكنولوجيا‬ ‫احلديثة‪َّ ،‬‬
‫وإن التأمل والتدبر فيها جيعلنا ى‬
‫يف العامل املعارص(‪.)5‬‬

‫‪(1) ontological‬‬

‫‪(2) ontic‬‬
‫(‪ )3‬آيدي‪ ،‬دن‪ ،‬هنر وتكنولوژى‪ :‬فلسفه پديدارشناختى هايدگر در باب تكنولوژى (الفن والتكنولوجيا‪:‬‬
‫الفلسفة الظاهراتيَّة ِّلايدغر يف حقل التكنولوجيا)‪ ،‬منشور يف فلسفة التكنولوجيا‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة‬
‫الفارسية‪ :‬شاپور اعتامد‪ ،‬ص ‪ ،50‬نرش‪ :‬مركز‪ ،‬طهران‪1389 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫(‪ )4‬عن اللغة األملانيَّة (‪ ،)Ge-Stell‬ويف اللغة اإلنجليز َّية (‪.)gestalt‬‬
‫‪(5) Pattison, George (2000). The Later Heidegger, New York: Routledge. P.66.‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪413‬‬

‫إن ماه َّية التكنولوجيا احلديثة ‪ -‬طبقا لرؤية هايدغر ‪ -‬تتع َّلق بنمط خاص من ظهور‬
‫َّ‬
‫ه‬
‫املتأخرة(‪ )1‬أو عرص‬ ‫األشياء لإلنسان‪ ،‬والتي أضحت هي الغالبة مع ظهور املرحلة احلديثة‬
‫التكنولوجيا‪َّ .‬‬
‫إن األساس األنطولوجي للتكنولوجيا احلديثة هو ذات النمط اخلاص لظهور‬
‫مستوى املصدر القابل لالستهالك‬
‫ى‬ ‫عل أساسه ينخفض اليشء إ ىل‬
‫األشياء لإلنسان‪ ،‬والذي ى‬
‫اخلاصة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أو احلفظ واخلزن أو النبذ‪ ،‬حيث يعمد اإلنسان إ ىل اختيار أي منهام طبقا حلساباته‬
‫القصوى من ِق َبل اإلنسان(‪.)2‬‬
‫ى‬ ‫ويتم فهم ه‬
‫كل يشء بوصفه كائنا أو مصدرا لالنتفاع واالستفادة‬
‫عل حده تعبري (درايفوس)‪،‬‬ ‫كل يشء ‪ -‬طبقا للتفكري التكنولوجي ‪ -‬ى‬ ‫فإن َّ‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫ى‬
‫ثم يتم نبذه واالستغناء‬
‫ُيع َترب بمثابة مصدر تتم االستفادة منه ما دامت هناك حاجة إليه ّ‬
‫عل أساسها ما هو موجود ‪ -‬بفقدان معناه ‪ -‬إ ىل مصدر‬ ‫عنه(‪َّ .)3‬‬
‫إن هذه الرؤية التي ينخفض ى‬
‫الستهالك اإلنسان يمكن مشاهدته يف اللغة املعارصة بوضوح‪ .‬يف عامل التكنولوجيا ُيط َلق‬
‫ويتحول الكتاب إ ىل مصدر لتخزين‬ ‫َّ‬ ‫عل األشياء الطبيع َّية عنوان املصادر الطبيع َّية‪،‬‬
‫ى‬
‫وإن ما قاله (بيل غيتس) بشأن عدم‬ ‫املعلومات‪ ،‬ويتم حتديد القيمة ح َّت ىى للوقت أيضا‪َّ .‬‬
‫إن هذه املسألة ُت ِثبت‬
‫جدوائ َّية الده ين بحسب ّتصيص املصادر الزمن َّية يعكس هذه الرؤية(‪َّ .)4‬‬

‫عل حتليل لني تامسون (‪)Iain Thomson‬‬ ‫ه‬


‫املتأخرة اعتامدا ى‬ ‫(‪ )1‬لقد استعملنا مصطلح املرحلة احلديثة‬
‫للمنظومة الفكر َّية ِّلايدغر‪.‬‬
‫(‪ )2‬بيمل‪ ،‬فالتري‪ ،‬بررسى روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيحيَّة ألفكار مارتني هايدغر)‪،‬‬
‫ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬بيژن عبد الكريمي‪ ،‬ص ‪ ،196‬انتشارات‪ :‬صدا وسيامى مجهورى اسالمى‬
‫ايران‪ ،‬نرش‪ :‬رسوش‪ ،‬طهران‪1387 ،‬هـ ش؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن‬
‫التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪18‬؛ وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge University‬‬
‫‪Press. P. 25; Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of‬‬
‫‪Heidegger, State University of New York Press. P. 84.‬‬
‫‪(3) Dreyfus, Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’ in‬‬
‫‪Heidegger Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus (ed.),‬‬
‫‪New York: Routledge. P. 165.‬‬
‫‪(4) Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of Heidegger's‬‬
‫‪Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri. P.576.‬‬
‫‪ ❖ 414‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫أن الده ين يف مثل هذا التفكري بدوره يتم فهمه بحسب املفاهيم التكنولوج َّية من قبيل‬
‫االستثامر‪.‬‬
‫للمعنى وقابل‬
‫ى‬ ‫كل يشء يف إطار مصدر استهالكي فاقد‬ ‫أن ظهور ه‬
‫وال بدَّ من االلتفات إ ىل َّ‬
‫للتقدير‪ ،‬يقرتن بنوع من التعرض من ِق َبل اإلنسان جتاه الطبيعة‪ .‬وقد أشار (مارتني هايدغر)‬
‫إ ىل هذه النقطة قائال‪:‬‬
‫إن االنكشاف احلاكم عىل التكنولوجيا احلديثة ُي َعد نوع ًا من التعرض؛ وهو‬
‫َّ‬
‫التعرض الذي يضع الطبيعة يف مواجهة هذا التوقع االعتباطي يف أن يكون ضامن ًا‬
‫للطاقة‪ ،‬كي يغدو باإلمكان استخراج الطاقة بام هي طاقة من ُصلب الطبيعة‬
‫وا ِّدخارها‪ .‬ولكن َأال يصدق هذا األمر بالنسبة إىل الطواحني القديمة التي تعمل َّ‬
‫بقوة‬
‫وأّنا تتو َّقف‬
‫بقوة الرياح‪َّ ،‬‬
‫فإن مراوح هذه الطواحني وإن كانت تعمل َّ‬ ‫الرياح؟ َّ‬
‫كال‪َّ ،‬‬
‫بالكامل عىل هبوب الرياح‪ ،‬ولك َّنها ال تعمل عىل حبس الطاقة احلاصلة بفعل الرياح‪،‬‬
‫كي تتم َّكن من ا ِّدخارها(‪.)1‬‬
‫إل‬
‫عل استقالِّلا‪ ،‬وال تنخفض ى‬
‫لقد كانت الطبيعة يف التكنولوج ّيات القديمة حتافظ ى‬
‫مصدر للطاقة‪َّ .‬‬
‫إن الطاحونة اِّلوائ َّية هي التي تتناغم مع الرياح‪ ،‬وبذلك تكون حاجتها‬
‫أن الطبيعة يف التكنولوجيا احلديثة هي‬ ‫عل الدوام‪ ،‬يف حني َّ‬
‫املبارشة إ ىل الرياح حمسوسة ى‬
‫مصدر الط اقة الوحيد اخلاضع لسيطرة اإلنسان‪ .‬وإذا كانت الزراعة يف يوم ما تعني املراقبة‬
‫فإن التعرض للطبيعة يف الوقت الراهن قد أحدث تغريا يف الزراعة أيضا‪َّ .‬‬
‫إن هذا‬ ‫والرعاية‪َّ ،‬‬
‫عل االستفادة منها يف ختام هذه املقالة‬
‫النوع من عبارات (هايدغر) من املوارد التي سنعمل ى‬
‫إل توصيف نموذج من هذا‬
‫يف إطار نقد طريقة تعاطيه مع التكنولوجيا‪ .‬وقد عمد هايدغر ى‬
‫التعرض‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫إن الزراعة ليست اليوم سوى تصنيع الطعام آليا‪ .‬حيث يتم حالي ًا معاجلة اهلواء‬
‫َّ‬
‫ل ُيخرج ما فيه من النيرتوجني‪ ،‬ويتم معاجلة األرض ويتم استخراج معادّنا‪ ،‬كام يتم‬
‫التعرض للموا ِّد املعدن َّية بدوره‪ ،‬ومن ذلك ‪ -‬عىل سبيل املثال ‪ -‬معاجلة اليورانيوم‪،‬‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى (السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪415‬‬

‫حيث تتم االستفادة منه بوصفه مصدر ًا للطاقة التي يمكن توظيفها يف املجاالت‬
‫السلم َّية‪ ،‬كام يمكن توظيفها يف تدمري احلياة(‪.)1‬‬
‫ويف كلمة واحدة يتم فهم ه‬
‫كل يشء ‪ -‬يف التفكري التكنولوجي ‪ -‬بوصفه مصدرا‬
‫عل املفردة‬
‫لالستهالك البرشي‪ .‬وقد أشار (ريتشارد رويتسويتش) ‪ -‬من خالل تركيزه ى‬
‫(‪)2‬‬

‫األملان َّية (‪ - )Bestand‬إ ىل َّ‬


‫أن عبارة «املصدر االستهالكي» ُتع َترب مرادفا ناقصا ِّلذه املفردة‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن هايدغر من خالل استعامله ملفردة (‪ )Bestand‬إ َّنام يشري يف احلقيقة إ ىل مصدر لالستهالك‬
‫ه َّيته الوحيدة يف رفع حاجته‪ ،‬وبعد االستعامل الكامل‪ ،‬يتم نبذه‬
‫البرشي‪ ،‬والذي تكمن أ ّ‬
‫إل‬ ‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن مراد هايدغر من استعامل هذه املفردة ليس جمرد اإلشارة ى‬ ‫بكل بساطة‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫ه‬
‫أي استقالل َّية أو‬
‫رى فيه ّ‬
‫املعطى االستهالكي‪ ،‬وإ َّنام هو يشري إ ىل نوع من االستهالك الذي ال ُي ى‬
‫ى‬
‫عل هذا النمط من االنكشاف ‪ -‬الذي يظهر فيه األمر الواقع‬ ‫ِ‬
‫ه َّية لألشياء ‪ُ .‬يطلق هايدغر ى‬
‫أ ّ‬
‫)‬‫‪3‬‬ ‫(‬

‫سوى تلبية احلاجة االستهالك َّية‬


‫ى‬ ‫ه َّية له‬
‫ه َّية (ال أ ّ‬
‫نفسه بوصفه مصدرا لالستهالك فاقدا لأل ّ‬
‫إن مصطلح الـ (‪ )Ge-stell‬مؤ َّلف كام هو واضح من‬
‫لإلنسان) ‪ -‬مصطلح الـ «جشتال»(‪َّ .)4‬‬
‫األول أو السابقة (‪ )Ge‬تعني اجلمع واحلرص‬ ‫كلمتني‪ ،‬وها‪ )Ge( :‬و(‪َّ ،)stell‬‬
‫وإن اجلزء َّ‬
‫وعل هذا‬
‫ى‬ ‫عل التحميل والتعرض(‪.)6‬‬
‫واالستيعاب الشامل ‪ ،‬واجلزء الثاين (‪ )stell‬يدل ى‬
‫(‪)5‬‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫‪(2) Richard Rojcewicz.‬‬
‫‪(3) Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 83 - 84.‬‬
‫(‪ )4‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫(‪ )5‬مجادى‪ ،‬سياوش‪ ،‬زمينه وزمانه پديدارشناسى‪ :‬جستارى در زندگى وانديشه هاى هورسل وهايدگر‬
‫(األرض َّية واجلذور التارخي َّية لعلم الظاهرات‪ :‬بحث يف مسار وأفكار هورسل وهايدغر)‪ ،‬ص ‪،692‬‬
‫نرش‪ :‬ققنوس‪ ،‬طهران‪1389 ،‬هـ ش‪ .‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 103.‬‬
‫(‪ )6‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ .23‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 103.‬‬
‫‪ ❖ 416‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫األساس َّ‬
‫فإن مصطلح الـ (جشتال) يشري يف احلقيقة إ ىل نوع من اجلمع واحلرص الشامل يف‬
‫عل‬
‫املعنى ينسجم مع االنكشاف احلاكم ى‬
‫ى‬ ‫اإلطار الذي يتح َّقق فيه التحميل والتعرض‪ ،‬وهذا‬
‫يتم‬ ‫العرص التكنولوجي الذي مت َّت اإلشارة له‪َّ .‬‬
‫إن اجلشتال يدعو الناس إ ىل املعارضة‪ ،‬كي َّ‬
‫عل ضبطه وتنظيمه‪ .‬وبطبيعة احلال‬
‫الكشف عن األمر الواقع بوصفه (‪ )Bestand‬والعلم ى‬
‫معنى الضبط والتنظيم هنا ‪ -‬بااللتفات إ ىل االرتباط اجلوهري بني الـ (‪)bestellen‬‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫فإن‬
‫وعل هذا األساس جيب‬
‫ى‬ ‫عل نوع من احلمل واخلوض أيضا‪.‬‬
‫والـ (‪ - )stellen‬يدل بدوره ى‬
‫اعتبار الضبط والتنظيم نوعا من احلمل والتعرض املقرون بالسيطرة والترصف يف الطبيعة‬
‫واملعنى اآلخر ِّلذا النوع من التنظيم عبارة عن‬
‫ى‬ ‫ه‬
‫لكل نوع من االستهالك الذي يريده اإلنسان‪.‬‬
‫وعل هذا األساس وبواسطة التنظيم واالنضباط‬
‫ى‬ ‫ترتيب األشياء من طريق احلساب(‪.)1‬‬
‫ومتى ما‬
‫ى‬ ‫عل ُأهبة االستعداد‪ ،‬كي ينطلق الطلب مبارشة‬
‫«يكون كل يشء ويف مجيع األمكنة ى‬
‫عل‬ ‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن خصوص َّية التنظيم يف التكنولوجيا احلديثة تدل ى‬ ‫ى‬ ‫اقتىض األمر»(‪.)2‬‬
‫ى‬
‫تتم تلبية حاجات اإلنسان االستهالك َّية‬
‫عل ما هو موجود من طريق احلساب‪ ،‬كي َّ‬ ‫السيطرة ى‬
‫أن ذكرنا ‪ -‬بالتعرض‬ ‫إن هذه السيطرة تقرتن ‪ -‬كام سبق ْ‬ ‫كل زمان ويف ه‬
‫كل مكان مبارشة‪َّ .‬‬ ‫يف ه‬
‫ه َّية‬ ‫إل ه‬
‫كل يشء بوصفه شيئا عديم األ ّ‬ ‫والترصف يف الطبيعة؛ وهو التعرض الذي ُين َظر فيه ى‬
‫وال ينفع َّإال بوصفه شيئا ُيل ّبي احلاجة االستهالك َّية للبرش فقط‪.‬‬
‫أن نستنتج ما ييل‪َّ :‬‬
‫إن سؤال هايدغر حول‬ ‫وعل أساس ما حتدَّ ثنا عنه ح َّت ىى اآلن‪ ،‬يمكن لنا ْ‬
‫ى‬
‫خاصة إ ىل ما هو موجود‪،‬‬
‫التكنولوجيا ناظر إ ىل ماه َّية التكنولوجيا احلديثة‪ ،‬وهو يرتبط برؤية َّ‬
‫والفن وسائر‬
‫َّ‬ ‫وهذه الرؤية ال تستوعب األدوات والوسائل فحسب‪ ،‬بل وتشمل الده ين‬
‫سمي هذه النتيجة بالنقطة (أ)‪ ،‬كي نستفيد‬
‫املساحات املرتبطة باحلياة البرشية أيضا‪ .‬وسوف ُن ّ‬
‫منه يف ختام هذه املقالة‪.‬‬
‫التكنولوجيا بوصفها وديعة تارخي َّية أو قدَ ر ًا‪:‬‬
‫األول فيام يتع َّلق بطريقة تعاطي هايدغر مع التكنولوجيا ‪ -‬والذي مت َّت‬ ‫َّ‬
‫إن العنرص َّ‬

‫‪(1) See: Ibid, p. 80 - 82.‬‬


‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪417‬‬

‫اإلشارة إليه يف هذه املقالة ‪ -‬هو ماه َّية التكنولوجيا احلديثة أو اجلشتال‪ .‬وأ َّما العنرص الثاين‬
‫فهو فهم التكنولوجيا بوصفها وديعة تارخي َّية أو قدرا(‪ .)1‬طبقا للرؤية الفكر َّية ِّلايدغر َّ‬
‫فإن هذا‬
‫النوع من التعاطي مع الطبيعة والرؤية االستهالك َّية والفاقدة للمفهوم اإلنساين جتاه‬
‫الكائنات‪ ،‬ليست إبداعا برش ًّيا‪َّ .‬‬
‫إن هذه الرؤية ناشئة من طريقة ظهور الوجود (‪ )being‬يف‬
‫عل تظهريها بوصفها‬
‫عرص التكنولوجيا‪ ،‬حيث ينظر إ ىل الكائنات (‪ ،)beings‬ويعمل ى‬
‫ه َّية وقابال للحساب الستهالك‬
‫ُيظى باأل ّ‬
‫ى‬ ‫للمعنى وال‬
‫ى‬ ‫مصدرا قابال لال هدخار وفاقدا‬
‫اإلنسان‪ .‬وذلك إذ يقول‪:‬‬
‫إن اإلنسان حيث يسوق التكنولوجيا إىل األمام‪ ،‬فإ َّنه يشارك يف هذا االنضباط‬
‫َّ‬
‫بوصفه نوع ًا من االنكشاف‪ .‬بيد َّ‬
‫أن ذلك العدم املسترت الذي يزدهر هذا االنضباط يف‬
‫إطاره‪ ،‬مل يكن من صنع البرش أبد ًا ‪ ...‬وك َّلام عمد األمر غري املستور إىل دعوة اإلنسان‬
‫اخلاص‪ ،‬يكون عدم استتاره قد حدث مسبق ًا ‪ ...‬وعىل هذا‬
‫ِّ‬ ‫إىل أنحاء االنكشاف‬
‫األساس عندما يعمد اإلنسان أثناء التحقيق واملشاهدة متابعة الطبيعة بوصفها مَّسح ًا‬
‫لتصوراته‪ ،‬يكون قد ُدعي مسبق ًا إىل نحو من االنكشاف يدعوه إىل املعارضة‪ ،‬كي‬
‫يواجه الطبيعة بوصفها موضوع ًا للتحقيق‪ ،‬ح َّتى إىل احلدِّ الذي ينمحي معه هذا‬
‫فإن التكنولوجيا‬
‫املوضوع يف فقدان موضوع َّية املصدر األزيل ‪ ...‬وعىل هذا األساس َّ‬
‫احلديثة بوصفها انكشاف ًا يمنح االنضباط‪ ،‬ليست صناعة برش َّية(‪.)2‬‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن التعاطي التكنولوجي مع األشياء والكائنات ليس أمرا اعتباط ًّيا‬ ‫ى‬
‫جتيل الوجود يف عرص‬ ‫خيتاره اإلنسان‪ ،‬بل يتم وضع اإلنسان ‪ -‬بااللتفات إ ىل طريقة ّ‬
‫التكنولوجيا ‪ -‬يف هذ النوع من املواجهة والتعاطي(‪َّ .)3‬‬
‫إن النظرة التكنولوج َّية إ ىل األشياء‬
‫ليس إبداعا برش ًّيا‪ .‬وإ َّن ام هذه الرؤية هي حصيلة نمط من تبلور الوجود‪ ،‬حيث تظهر‬

‫‪(1) destining‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 20‬و‪.21‬‬
‫(‪ )3‬بيمل‪ ،‬فالتري‪ ،‬برريس روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيحيَّة ألفكار مارتني هايدغر)‪،‬‬
‫مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.199‬‬
‫‪ ❖ 418‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الكائنات إ ىل اإلنسان‪ ،‬وأ َّما كيف َّية ا هتضاح الوجود وإظهار ما هو موجود إ ىل اإلنسان‪ ،‬فهو‬
‫عل كيف َّية ظهور‬ ‫ليس باختيار اإلنسان ‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬إ َّننا ال نمتلك السلطة والسيطرة ى‬
‫(‪)1‬‬

‫وتبلور الكائنات(‪.)2‬‬
‫إن العمل املسترت الذي يظهر فيه األمر الواقع نفسه يف ِّ‬
‫كل حلظة أو يعمل عىل‬ ‫َّ‬
‫أن اإلنسان قد سبق‬
‫وملجرد اعتبار َّ‬
‫َّ‬ ‫سحبها وانحسارها ال يقع حتت اختيار اإلنسان ‪...‬‬
‫له أن ُد عي ليقوم باملعارضة بدوره ليستفيد من طاقة الطبيعة‪ ،‬يمكن ملثل هذا‬
‫االنكشاف املنضبط أن يتح َّقق(‪.)3‬‬
‫إل إحالة تارخي َّية من ناحية الوجود‪ ،‬حيث ينكشف طريق‬
‫ويف هذا الشأن ُيشري هايدغر ى‬
‫عل هذه اإلحالة مصطلح ال َقدَ ر‪ .‬يقول هايدغر‪َّ :‬‬
‫«إن ماه َّية جمموع‬ ‫إ ىل البرش‪ .‬وقد أطلق ى‬
‫ّى‬
‫تتجل الكائنات لإلنسان‬ ‫كل ُأفق تارخيي‬‫التاريخ يتم تعيينها من صلب هذا القدَ ر»(‪ .)4‬ويف ه‬
‫اخلاص‬
‫ه‬ ‫بنحو من األنحاء يف ضوء النسبة التي يقيمها مع الوجود‪ ،‬حيث تكون الغلبة للتفسري‬
‫عن اليشء املوجود‪َّ .‬‬
‫إن الذي ُُيال إليه اإلنسان يف ضوء نسبته إ ىل الوجود‪ ،‬هو ذلك النحو‬
‫عل الفهم املسيطر والغالب عن الكائنات واملوجودات يف ه‬
‫كل‬ ‫من االنكشاف الذي يشتمل ى‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن هيمنة اجلشتال يرتبط ‪ -‬مثل سائر أنحاء االنكشاف ‪ -‬بدائرة‬ ‫ى‬ ‫مرحلة‪.‬‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬نامه در باب انسان گرائى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسانيَّة)‪ ،‬ص ‪ 294‬و‪ ،295‬املنشور‬
‫ضمن نصوص خمتارة من احلداثة إ ىل ما بعد احلداثة‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬عبد الكريم رشيديان‬
‫وآخرون‪ ،‬نرش ين‪ ،‬طهران‪1388 ،‬هـ ش؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن‬
‫التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 20‬و‪ .21‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 91.‬‬
‫‪(2) O'Brien, Mahon (2004). ‘Commentary on Heidegger's ‘The Question Concerning‬‬
‫'‪Technology’’, in Thinking Together, Proceedings of the IWM Junior Fellows‬‬
‫‪Conference, Winter 2003, A. Cashin and J. Jirsa (ed.), Vienna: IWM Junior Visiting‬‬
‫‪Fellows Conferences, Vol. 16. P. 22.‬‬
‫(‪ )3‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 19‬و‪.20‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪419‬‬

‫«إن اجلشتال هو إحالة القدَ ر‪ ،‬مثل مجيع أنحاء االنكشاف‪َّ .‬‬


‫وإن اإلنتاج أو الفوسس‬ ‫القدَ ر(‪َّ .)1‬‬
‫املعنى ُي َعد نوعا من القدَ ر»(‪ .)2‬يذهب هايدغر إ ىل عدم اعتبار سلطة املنطق الريايض ‪-‬‬
‫ى‬ ‫هبذا‬
‫عل الفكر الفلسفي‬
‫الذي هو مظهر التفكري التقني واآلخذ بالتمدد واالنتشار حال ًّيا ‪ -‬ى‬
‫وارتباطه بعلم االجتامع وعلم النفس احلديث‪ ،‬من صنع اإلنسان‪ ،‬أو ال يندرج حتت‬
‫فإن مسألة َّ‬
‫أن التفكري التكنولوجي عبارة عن إحالتنا التارخي َّية‪ ،‬ال‬ ‫سيطرته(‪ .)3‬وبطبيعة احلال َّ‬
‫أن املُ ُثل‬
‫عل الرغم من َّ‬ ‫أن لإلنسان دورا يف تبلور هذا التفكري‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬ى‬ ‫تعني َّ‬
‫وعل الرغم من‬
‫ى‬ ‫عل سبيل املثال ‪« -‬مل تكن من صنع وصياغة أفالطون»(‪،)4‬‬
‫األفالطون َّية ‪ -‬ى‬
‫أن تبلور الطبيعة ‪ -‬بوصفها أمرا قابال للكبح والتدجني ‪ -‬خارجة من وجهة نظر بيكون عن‬ ‫َّ‬
‫أن قابل ّيات واستعداد أفالطون وبيكون يف إبراز وتظهري ما ُأعطي ِّلام غري‬
‫حدود اختياره‪َّ ،‬إال َّ‬
‫فإن هايدغر ك َّلام اقرتب من ّناية عمره‪ ،‬كان ُيق هلل من دور‬
‫قابل لإلنكار‪ .‬ومع ذلك ك هله َّ‬
‫اإلنسان يف تقديم طرح جديد‪.‬‬
‫إ َّن هايدغر يف تفكريه األخري يبتعد عن الوجود والزمان إ ىل حدود بعيدة‪ .‬حيث يضمحل‬
‫إن املخ َّطط‬
‫واحلر َّية وخوض الكينونة(‪ )5‬مع اإلمكانات‪ .‬يقول هايدغر‪َّ :‬‬
‫ّ‬ ‫مضمون التخطيط‬
‫لقى‪ ،‬وبإلقائه يتم إلقاء املخ هطط أيضا‪ .‬وليس األمر كام لو كان املخ هطط شخص َّ‬
‫معني أو‬ ‫ُي ى‬
‫يكون يف موضع تارخيي حمدَّ د‪ ،‬بحيث خيتار خم َّططه كام يطلب شخص طعامه‪ .‬إ َّنه من خالل‬
‫فإن اخل َّطة والتخطيط حتت إرادة‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫ى‬ ‫خم َّططه أصبح قادرا ى‬
‫عل االختيار‪.‬‬
‫ومشيئة الوجود‪ .‬ويف احلقيقة كل ما ابتعد هايدغر عن وجود اإلنسان واقرتب من الوجود‬
‫ه َّية أكرب‪ ،‬ولكن اإلنسان بطبيعة احلال ال يضمحل‬
‫ُيظى مضمون التاريخ عنده بأ ّ‬
‫ى‬ ‫املطلق‪،‬‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.30‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪(3) Heidegger, Martin (1968). What Is Called Thinking, Fred D. Wieck and J. Glenn Grey‬‬
‫‪(trans.), New York: Harper and Row. P. 21 - 22.‬‬
‫(‪ )4‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 19‬و‪.20‬‬
‫(‪ )5‬الكينونة (‪ :)dasein‬كلمة أملانيَّة تعني (جيري هناك) أو (الكينونة هناك)‪ ،‬وغالبا ما تتم ترمجة هذا‬
‫املعرب‪.‬‬
‫عل أ َّنه (وجود)‪ .‬ه‬
‫املصطلح إ ىل اللغة اإلنجليز َّية ى‬
‫‪ ❖ 420‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫باملرة(‪.)1‬‬
‫َّ‬
‫عل تفكري هايدغر ‪ -‬إ ىل هذا‬
‫وقد أشار (ريدلينغ) ‪ -‬بالنظر إ ىل التحول الذي طرأ ى‬
‫(‪)2‬‬

‫عل‬ ‫عل الرغم من َّ‬


‫أن هايدغر السابق يتحدَّ ث كام لو كان التفكري احلاكم ى‬ ‫األمر‪ ،‬وهو أ َّنه ى‬
‫يرى َّ‬
‫أن هذا النوع من‬ ‫العامل احلديث هو حصيلة توجهات اإلنسان‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن هايدغر َّ‬
‫الالحق ال ى‬
‫التفكري هو حصيلة القرارات اإلنسان َّية‪ ،‬بل يرتبط باإلحالة التارخي َّية للوجود(‪ .)3‬ويف احلقيقة‬
‫الالحق يتحدَّ ث كام لو َّ‬
‫أن الوجود ليس فوق اإلنسان فحسب‪ ،‬بل ويمتلك إرادة‬ ‫فإن هايدغر َّ‬
‫َّ‬
‫عل هاّتاذ القرار أيضا(‪.)4‬‬
‫ومشيئة وقدرة ى‬
‫وباختصار فإ َّنه طبقا لتفكري هايدغر ال جيب اعتبار التكنولوجيا احلديثة ‪ -‬بوصفها نحوا‬
‫من أنحاء االنكشاف ‪ -‬من صنع وصياغة اإلنسان(‪َّ .)5‬‬
‫إن التكنولوجيا احلديثة ليست من‬
‫معطيات املف هكرين‪ ،‬وال هي حصيلة إرادهتم ومطالبتهم البرش َّية‪َّ .‬‬
‫إن التكنولوجيا احلديثة‬
‫ترضب بجذورها يف صلب اإلحالة التارخي َّية للوجود‪ ،‬ويضاف إ ىل ذلك َّ‬
‫أن التغيري اإلرادي‬
‫عل هذه النتيجة مصطلح‬
‫ِّلذا الت ّيار واملسار التارخيي ال خيضع لقدرة اإلنسان ‪ .‬ونطلق ى‬
‫(‪)6‬‬

‫النقطة «ب»‪.‬‬
‫املخاطر‪:‬‬
‫يمكن رشح خماطر التكنولوجيا احلديثة من وجهة نظر هايدغر من عدَّ ة وجوه خمتلفة‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجادى‪ ،‬سياوش‪ ،‬زمينه وزمانه پديدارشناسى‪ :‬جستاري در زندگي وانديشه هاى هورسل وهايدگر (األرضية‬
‫واجل ذور التارخيية لعلم الظاهرات‪ :‬بحث يف مسار وأفكار هورسل وهايدغر)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.530‬‬
‫‪(2) Turning/Kehre‬‬
‫‪(3) Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of Heidegger's‬‬
‫‪Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri. P.198.‬‬
‫(‪ )4‬مجادى‪ ،‬سياوش‪ ،‬زمينه وزمانه پديدارشناسى‪ :‬جستارى در زندگي وانديشه هاى هورسل وهايدگر‬
‫(األرض َّية واجلذور التارخي َّية لعلم الظاهرات‪ :‬بحث يف مسار وأفكار هورسل وهايدغر)‪ ،‬مصدر سابق‪،‬‬
‫ص ‪.694‬‬
‫(‪ )5‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )6‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪421‬‬

‫يرى ما هو‬ ‫أن هايدغر فيام يتع َّلق باالنكشاف احلاكم ى‬


‫عل التكنولوجيا احلديثة‪ ،‬ى‬ ‫واملؤ َّكد هو َّ‬
‫أخطر بكثري من التخريب احلاصل بفعل األدوات واآلالت التكنولوج َّية(‪.)1‬‬
‫إ َّن نا ال نتو َّق ف أبداً عند هذا املعنى ‪ ،‬وال نشك يف أ َّن انفجار القنبلة‬
‫اهليدروجينيَّ ة أهون بكثري من تداعيات الغزو التكنولوجي عىل احل ياة والطبيعة‬
‫البرش َّي ة؛ إذ ليس هناك من َّ‬
‫شك يف أ َّن ه حتَّ ى إذا مل تنفجر القنابل اهليدروجينيَّ ة‬
‫وتم احلفاظ عىل حياة اإلنسان عىل الكرة األرضيَّ ة‪ ،‬فإ َّن نا مع ذلك لن نكون‬
‫َّ‬
‫بمنجى من التغري ات املثرية للقلق واملخاوف التي سيشهدها العامل بفعل‬
‫التكنولوجيا»(‪.)2‬‬
‫أن هايدغر ُيق هلل من املشاكل املنبثقة عن‬
‫وهذا الكالم ال يعني ‪ -‬بطبيعة احلال ‪َّ -‬‬
‫إن مراد هايدغر ‪ -‬كام أشار هو بنفسه ‪-‬‬‫اخلاصة‪ ،‬من قبيل‪ :‬اإلرضار بالبيئة‪َّ .‬‬
‫َّ‬ ‫التكنولوج ّيات‬
‫هو التقليل من هذه األخطار يف مواجهة الدمار احلاصل من اخلطر الذي ُهيده د إنسان َّية‬
‫إن اخلطر هو خطر التفكري‬ ‫إل خطر أكرب‪َّ .‬‬
‫إل توجيه أنظار الناس ى‬ ‫اإلنسان‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر هيدف ى‬
‫التكنولوجي(‪َّ .)3‬‬
‫إن السؤال املاثل هنا يقول‪ :‬ما هي املخاطر التي ُيملها التفكري‬
‫التكنولوجي؟‬
‫األو ل الذي يمكن اإلشارة له هو خطر فقدان وضياع مجيع املعاين واملفاهيم‬ ‫َّ‬
‫إن اخلطر َّ‬
‫تتحول يف عامل التكنولوجيا إ ىل مصدر استهالكي‬
‫َّ‬ ‫الذات َّية يف عامل التكنولوجيا‪َّ .‬‬
‫إن الكائنات‬
‫املعنى يف مثل هذا العامل هو اإلنسان فقط‪ ،‬وهو يف ّناية‬
‫ى‬ ‫ه َّية‪َّ .‬‬
‫إن واضع‬ ‫عديم القيمة واأل ّ‬
‫ألي‬
‫يتحول بنفسه إ ىل مصدر لالستغالل واالستثامر‪ .‬ويف مثل هذا العامل ال يكون ه‬
‫َّ‬ ‫املطاف‬
‫للمعنى‪،‬‬
‫ى‬ ‫ه َّية ذات َّية من نفسها‪ .‬فكل ما هو موجود فاقد‬
‫أي منظومة بيئية أ ّ‬
‫نبات أو حيوان أو ه‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪.127‬‬
‫‪(3) Dreyfus, Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’ in‬‬
‫‪Heidegger Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus (ed.),‬‬
‫‪New York: Routledge. P. 165.‬‬
‫‪ ❖ 422‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إل‬
‫إن هايدغر من خالل إشارته ى‬ ‫القصوى(‪َّ .)1‬‬
‫ى‬ ‫سوى مصدر لالستغالل واالستفادة‬‫ى‬ ‫وليس‬
‫ه َّيته تكمن يف جم َّرد تلبيته حلاجات اإلنسان‬
‫حتول ّنر الراين إ ىل مصدر لالستهالك‪ ،‬واعتبار أ ّ‬
‫االعتباط َّية‪ ،‬عمد إ ىل التذكري بزوال ّنر َّية النهر واستقالله يف عامل التكنولوجيا‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫مصب ّنر الراين‪ ،‬وفرض عىل الراين أن‬
‫ِّ‬ ‫تم وضع حمطَّة للطاقة املائ َّية يف‬
‫لقد َّ‬
‫ُيو ِّفر ضغطاً مائيا‪ ،‬ليعمل بدوره عىل حتريك توربينات املحطَّ ة‪ ،‬وهذه احلركة تقوم‬
‫قوهتا إىل إنتاج الكهرباء‪ ،‬ولتوزيع هذه الكهرباء يتم تأسيس‬
‫بتحريك آالت ُتؤ يدي َّ‬
‫ظ مة‪ .‬ويف إطار هذه املسارات املرتابطة فيام‬ ‫طة مركز َّية للطاقة ذات شبكات من َّ‬ ‫حم َّ‬
‫مرة ُأخرى‬ ‫ي‬
‫يتجىل ّنر الراين َّ‬ ‫بينها ولغاية االستفادة املنظَّمة من الطاقة الكهربائ َّية‪،‬‬
‫بوصفه عنرص ًا خاضعاً للسيطرة أيضاً‪ .‬إ َّن طريقة حرش حمطَّة الطاقة املائ َّية عىل ّنر‬
‫الراين‪ ،‬ليس من قبيل اجلَّس اخلشبي الذي كان يربط بني ضفتي النهر ملئات السنني‪.‬‬
‫بل عىل العكس من ذلك متاماً حيث يتم دمج النهر بمح َّطة الطاقة من خالل إقامة‬
‫فإن ماه َّية النهر من اآلن فصاعد ًا تكتسب من ماه َّية‬
‫سدٍّ يقف يف طريقه‪ .‬وعليه َّ‬
‫كون ولو صورة مص َّغرة عن‬ ‫حمطَّة الطاقة‪ ،‬فالنهر حاليا يضمن ضغط املاء‪ .‬ولكي ُن ِّ‬
‫سلطة هذا املوجود املهول‪ ،‬يكفي أن نلتفت للحظة إىل التقابل بني العنوانني‬
‫ماء يصب يف حمطية الطاقة (كأثر فني ي)‪ ،‬و«الراين» بوصفه‬
‫اآلتيني‪« :‬الراين» بوصفه ً‬
‫ما يتم بيانه يف األثر الفنيي لـ (هولدرلني) يف مناجاة هبذا االسم‪ .‬قد ُجي يب أحدكم‪:‬‬
‫َّإال َّ‬
‫أن الراين يبقى بوصفه ّنر ًا يف عني الطبيعة‪ .‬ر َّب ام كان األمر كذلك‪ ،‬ولكن كيف؟‬
‫جمرد يشء حارض ومعدٍّ تعرضه صناعة السياحة عىل قوافل السائحني ال‬
‫عىل شكل َّ‬
‫أكثر(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬مك وورتر‪ ،‬ليدل‪ ،‬گناه تكنولوژى مديريت‪ :‬دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة‪ :‬دعوة‬
‫هايدغر إ ىل التفكري)‪ ،‬ص ‪ ،171‬مقال منشور يف (فلسفه وبحران غرب)‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪ ،‬طهران‪1378 ،‬هـ ش‪ .‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫الفارسية‪ّ :‬‬
‫‪Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge University‬‬
‫‪Press. P. 19 - 22.‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪423‬‬

‫يروم هايدغر بيان هذه احلقيقة‪ ،‬وهي َّ‬


‫أن النظرة التكنولوج َّية تتس َّبب يف تدمري جوانب‬
‫مستوى املصدر املستهلك‬
‫ى‬ ‫عل مفهوم َّية املوجود وتقلله إ ىل‬
‫احلياة يف الطبيعة‪ ،‬حيث تقيض ى‬
‫وعل هذا األساس ال تعود األرض ‪ -‬يف عامل التكنولوجيا ‪-‬‬
‫ى‬ ‫ه َّية‪.‬‬
‫عل أ ّ‬
‫الذي ال ينطوي ى‬
‫سوى توفري االحتياجات َّ‬
‫الالمتناهية لإلنسان‪.‬‬ ‫ى‬ ‫ه َّية له‬
‫مأوى ومالذا لإلنسان‪ ،‬بل منجم ال أ ّ‬
‫عل شكل معدن للفحم احلجري‪ ،‬وتعرض تربتها بوصفها ثروات معدن َّية‬
‫تتجل ى‬ ‫َّ‬
‫إن األرض ّ ى‬
‫املتغريات يف عامل التكنولوجيا ‪ -‬من‬
‫ه‬ ‫مستكشفة(‪ .)1‬وقد َّ‬
‫حذر هايدغر ‪ -‬بااللتفات إ ىل هذه‬
‫اضمحالل جذور اإلنسان َّية‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫إن تعلق اإلنسان برتاب مسقط رأسه‪ ،‬وّتذره يف األرض التي يعيش عليها‪ ،‬هو‬
‫َّ‬
‫اليوم عرضة خلطر شامل! بل أكثر من ذلك‪ ،‬إذ إ َّن خطر فقدان اجلذور ال يقترص عىل‬
‫حادثة أو ُأسلوب غافل أو مبتذل حلياته‪ ،‬وإ َّنام ينشأ ذلك من روح العرص الذي ولدنا‬
‫عرض عرصنا‬
‫إن ضياع اجلذور اإلنسان َّية‪ ،‬هو ذات اليشء الذي َّ‬
‫فيه بأمجعنا ‪َّ ...‬‬
‫للخطر(‪.)2‬‬
‫مستوى الطبيعة إ ىل مصدر مسته َلك‪ ،‬قابل للحساب والضبط‬
‫ى‬ ‫ُيضاف إ ىل ذلك َّ‬
‫أن تقليل‬
‫جمرد راع يف مزرعة الوجود‪ ،‬وإ َّنام‬
‫دى اإلنسان‪ ،‬وهو أ َّنه مل يعد َّ‬
‫قوي هذا التصور ل ى‬
‫والتقدير‪ُ ،‬ي ّ‬
‫إن هذا اإلنسان ‪ -‬من‬ ‫عل ه‬
‫كل يشء من طريق املحاسبة والتدوين‪َّ .‬‬ ‫يرتقي إ ىل إقطاعي يسيطر ى‬
‫وجهة نظر هايدغر ‪ -‬قد ابتعد عن مكانته‪ .‬وفوق ذلك ك هله َّ‬
‫أن اإلنسان الذي ال ُي َعد يف الفكر‬
‫يتحول فيها اإلنسان‬
‫َّ‬ ‫بمعنى احلا َّفة التي‬
‫ى‬ ‫سوى ناظم(‪ ،)3‬يصل إ ىل حا َّفة اِّلاوية‪،‬‬
‫ى‬ ‫التكنولوجي‬
‫ألقىص درجات االستهالك‪ .‬وبذلك َّ‬
‫فإن اإلنسان يعمل يف عامل‬ ‫ى‬ ‫نفسه وينخفض إ ىل مصدر‬
‫إل جزء من هذه الشبكة‪ .‬يف مثل هذا العامل‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫عل حتويل نفسه يف ّناية املطاف ى‬
‫التكنولوجيا ى‬
‫حتسني الذاكرة ورفع رسعة العرض يف بعض املسارات الذهن َّية‪ ،‬من خالل تناول أدوية من‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪ 124‬و‪.125‬‬
‫‪(3) Bestand‬‬
‫‪ ❖ 424‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل التفكري إ ىل اخلطر‪ .‬من‬


‫عرض قدرة اإلنسان ى‬ ‫قبيل الـ (آدرال) ‪ ،‬والـ (ريتالني) ‪ُ ،‬ي ه‬
‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫ألقىص‬
‫ى‬ ‫خالل دراسة معطيات اِّلندس َّية اجلين َّية‪ ،‬ر َّبام أمكن مشاهدة حتول اإلنسان إ ىل مصدر‬
‫حدود االستغالل بشكل أفضل‪َّ .‬‬
‫إن اإلنسان يف عامل التكنولوجيا بمنزلة الروبوت الذي ليس‬
‫القصوى من سائر‬
‫ى‬ ‫سوى التوظيف األفضل لطاقاته وقواه يف إطار االستفادة‬
‫ى‬ ‫له من غاية‬
‫املصادر‪ .‬ويف املدارس واجلامعات مل يعد الطالب أو اجلامعي بوصفه إنسانا مث َّقفا ومف هكرا‬
‫يتم َّتع بخصائص وقابل ّيات َّ‬
‫فذة جيب التعرف عليه وتطويره‪ ،‬بل جيب تطوير وحتسني مجيع‬
‫الكم َّية‪َّ .‬‬
‫إن عبارة‬ ‫ّ‬ ‫الطالب واجلامع هيني بوصفهم منافذ للنظام التعليم بحسب املعايري‬‫َّ‬
‫«املصادر اإلنسان َّية»(‪ )3‬الشائعة تشري بوضوح إ ىل تقليل اإلنسان إ ىل مصدر لالستغالل يف‬
‫قصوى ُي َعد هو اِّلدف الوحيد ِّلذا النوع‬
‫ى‬ ‫عل نسبة إنتاج َّية‬ ‫التفكري التكنولوجي‪َّ .‬‬
‫إن احلصول ى‬
‫من التفكري(‪.)4‬‬
‫أي نوع من أنواع االنكشاف‬
‫ويكمن هناك خطر آخر أيضا‪ ،‬وهو خطر زوال إمكان َّية ه‬
‫يرى َّ‬
‫كل يشء ‪ -‬يف التفكري التكنولوجي ‪ -‬قابال للسيطرة‬ ‫األُ ى‬
‫خرى‪َّ .‬‬
‫إن اإلنسان حيث ى‬
‫ومستعدًّ ا للتوظيف‪:‬‬

‫‪(1) adderall‬‬
‫‪(2) ritalin‬‬
‫‪(3) Human resources‬‬
‫(‪ )4‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى (السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 18‬و‪ .31‬وانظر‬
‫أيضا‪:‬‬
‫‪Pattison, George (2000). The Later Heidegger, New York: Routledge. P. 64; Dreyfus,‬‬

‫‪Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’ in Heidegger‬‬

‫‪Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus (ed.), New York:‬‬
‫‪Routledge. P. 166 - 167; Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity,‬‬

‫‪Cambridge University Press. P. 22; Thomson, Iain D. (2005). Heidegger on‬‬

‫‪Ontotheology: Technology and the Politics of Education, Cambridge University Press.‬‬

‫‪P. 150 - 158; Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of‬‬

‫‪Heidegger, State University of New York Press. P. 95.‬‬


‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪425‬‬

‫يبلغ به الغرور والتكرب إىل أن جيعل نفسه يف مقام اإلله يف األرض‪ .‬وعىل هذه‬
‫بأن َّ‬
‫كل ما يصادفه اإلنسان أمامه إ َّنام هو موجود‬ ‫يرتسخ هذا التوهم القائل َّ‬
‫الشاكلة َّ‬
‫باعتبار أ َّنه من صنعه‪َّ .‬‬
‫إن هذا التوهم ُيؤ يدي بدوره إىل توسيع دائرة رساب ال ّناية‬
‫وكأن اإلنسان أبد ًا ال يرى َّإال نفسه ‪ ...‬ويف احلقيقة َّ‬
‫فإن اإلنسان مل يعد يرى‬ ‫َّ‬ ‫ألمده‪،‬‬
‫إن اإلنسان قد نذر نفسه بشكل قاطع يف خدم منازلة‬ ‫ٍ‬
‫مكان‪َّ .‬‬ ‫أي‬
‫نفسه وماه َّيته يف ِّ‬
‫اجلشتال بحيث مل يعد ُيدرك اجلشتال بوصفه خطاب ًا‪ ،‬وال يرى نفسه خماطب ًا هبذا‬
‫اخلطاب(‪.)1‬‬
‫متورطا ضمن شبكة من‬
‫يرى نفسه من جهة ه‬ ‫ومن هنا َّ‬
‫فإن اإلنسان يف عامل التكنولوجيا ى‬
‫مستوى إنتاج َّيته يف‬
‫ى‬ ‫اخلاصة لرفع‬
‫َّ‬ ‫العالقات التقن َّية‪ ،‬وألسباب متعده دة من قبيل تناول األدوية‬
‫عل‬
‫العمل والدراسة يف الفضاء التكنولوجي ‪ -‬الذي تقدَّ مت اإلشارة له ‪ -‬يفقد القدرة ى‬
‫االنتقاد والتفكري بالواقع الذي وضع نفسه فيه‪ ،‬وال يعود ُيف هكر باخلروج من هذا الواقع‪.‬‬
‫كل يشء من صنعه وخلق يده‪ ،‬يغفل عن كونه خماطبا‪ ،‬أو‬ ‫يرى َّ‬
‫خرى حيث ى‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫عل نداء الوجود‪ .‬إ َّن هذا‬ ‫ِ‬ ‫إمكان ْ‬
‫دعى من ق َبل الوجود بطريق آخر‪ ،‬ويفقد انفتاحه ى‬‫أن ُي ى‬
‫إل هذه احلقيقة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن التكنولوجيا احلديثة ُت َعد نمطا من االنكشاف‬ ‫اإلنسان ال يلتفت ى‬
‫الذي جعله وضوح الوجود أمرا ممكنا‪ .‬إذا كان كامل تاريخ امليتافيزيقا عبارة عن تاريخ‬
‫الفج‬
‫فإن هذه الغفلة يف عرصنا قد بلغت ذروهتا مقرونة بالغرور والتكرب ه‬ ‫الغفلة عن الوجود‪َّ ،‬‬
‫من ِق َبل اإلنسان(‪َّ .)2‬‬
‫إن عدم االلتفات إ ىل َّ‬
‫أن اإلنسان قد فقد شيئا يف عامل التكنولوجيا‪ ،‬يعني‬
‫خرى‪ :‬تسمية احلطام واألطالل واألنقاض مدينة فاضلة‪ ،‬وجتاهل اخلطر‪ ،‬ي َّتسع‬ ‫بعبارة ُأ ى‬
‫ه َّية سائر ُط ُرق فهم ما هو موجود يف عامل‬
‫بالتوازي مع اعتبار ال عقالن َّية وعدم أ ّ‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫املهم أيضا ْ‬
‫أن نلتفت إ ىل هذه النقطة أيضا‪ ،‬وهي أ َّنه طبقا لرؤية هايدغر ال ينبغي ربط‬ ‫(‪ )2‬ويف هذا الشأن من ه‬
‫هذه الغفلة بعدم التفات اإلنسان فقط‪ ،‬وذلك َّ‬
‫ألن الوجود ذاته من خالل عدم االرتباط يفاقم بدوره من‬
‫هذه الغفلة‪ .‬ومن هنا َّ‬
‫فإن ابتعاد الوجود ‪ -‬كام ُينبهه كيتريينغ (‪ - )Emil Kettering‬يرتبط من جهة بنفس‬
‫الوجود‪ ،‬كام ينبثق من جهة ُأ ى‬
‫خرى عن النسيان اإلنساين‪َّ .‬‬
‫إن النسيان اإلنساين يفاقم من ابتعاد الوجود‪.‬‬
‫‪ ❖ 426‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫التكنولوجيا‪ ،‬ومن شأن ذلك ْ‬


‫أن ُيول دون اخلالص والتحرر من الواقع املوجود(‪ .)1‬طبقا‬
‫سمي األمر‬ ‫لتفكري هايدغر فيام يتع َّلق باالنكشاف احلاكم ى‬
‫عل التكنولوجيا احلديثة‪ ،‬سوف ُن ّ‬
‫عل املخاطر املذكورة بالنقطة «ج»‪.‬‬
‫الذي يشتمل ى‬
‫اخلالصة‪:‬‬
‫عل الرغم من َّ‬
‫أن هايدغر قد أشار إ ىل املخاطر الكامنة يف التكنولوجيا احلديثة والتي ُهتده د‬ ‫ى‬
‫إنسان َّية اإلنسان‪َّ ،‬إال أ َّنه ال يدعو إ ىل عدم االستفادة من األدوات والوسائل التقن َّية يف العامل‬
‫احلديث‪ .‬وقد سبق ِّلايدغر ْ‬
‫أن دعا إ ىل بعثنا وحتفيزنا للتفكري بالوضع الذي وقعنا فيه(‪.)2‬‬
‫األدنى ‪ُ -‬ت ِثبت َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫فإن التأمل حول هذه احلالة ‪ -‬كام يصفها هايدغر يف احلده‬ ‫وعل ه‬
‫كل حال َّ‬ ‫ى‬
‫أن نتو َّقع من‬
‫عرضت البرش إ ىل هتديد وخطر جاد‪ .‬ومن الطبيعي ْ‬
‫التكنولوجيا احلديثة قد َّ‬
‫هايدغر ْ‬
‫أن يضع أمامنا طريقا للخروج من هذا املأزق‪.‬‬
‫الفن‬
‫ه‬ ‫لقد حتدَّ ث هايدغر يف ّناية كتابه (سؤال عن التكنولوجيا) عن املواجهة بني‬
‫والتكنولوجيا‪ .‬وقد أشار يف األثناء إ ىل مفردة «ّتنة» اإلغريق َّية والتي تعني التقن َّية‪َّ .‬‬
‫إن كلمة‬

‫(‪ )1‬كرتينغ‪ ،‬إيميل‪ ،‬نيست انگارى در نگاه نيچه وهيدگر (النهليستيَّة يف رؤية نيتشه وهايدغر)‪ ،‬ص ‪191‬‬
‫و‪ ،192‬املقال املنشور يف جم َّلة (نيست انگارى اروپايى)‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫حممد باقر‬
‫هوشيار وأصغر تفنگسازي‪ ،‬نرش پرسش‪ ،‬طهران‪1382 ،‬هـ ش؛ مك وورتر‪ ،‬ليدل‪ ،‬گناه تكنولوژى‬
‫مديريت‪ :‬دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة‪ :‬دعوة هايدغر إ ىل التفكري)‪ ،‬مصدر سابق‪،‬‬
‫ص ‪164‬؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪،‬‬
‫مصدر سابق‪ ،‬ص ‪125‬؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪ .33 - 31‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of Heidegger's‬‬
‫‪Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri. P. 578; Thomson, Iain D. (2011).‬‬
‫;‪Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge University Press. P. 150, 199 - 200‬‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 10, 145 - 148.‬‬
‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪ 127‬و‪.129‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪427‬‬

‫بمعنى‬
‫ى‬ ‫وإن كانت مشرتكة يف األصل مع التكنولوجيا‪ ،‬ولكن جيب عدم اعتبارها‬ ‫ّتنة ْ‬
‫التكنولوجيا بوصفها من َّظمة وضابطة ميكانيك َّية‪َّ .‬‬
‫إن التخنة أو التقن َّية تعني نوعا من املعرفة‬
‫أن ُينتج‪ .‬ومن هنا َّ‬
‫فإن‬ ‫إن التخنة فهم عن املوجود بمثابة ما مل ُينتج نفسه وجيب ْ‬ ‫اإلنتاج َّية‪َّ .‬‬
‫التخنة ترتبط باإلنتاج واإلجياد‪ ،‬وهي أمر شاعري‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬ال يوجد يف التخنة إجلاء‬
‫فن يف (السؤال عن‬ ‫أن مراد هايدغر من اإلشارة إ ىل ال ه‬ ‫وفرض من ِق َبل اإلنسان‪ .‬ويبدو َّ‬
‫الفن‬
‫الفن كان يف يوم بمنزلة ه‬ ‫التكنولوجيا)‪ ،‬هيدف إ ىل لفت االنتباه إ ىل هذه النقطة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن َّ‬
‫الشعري‪ .‬ومن هنا عندما ُخييل الفن القديم مكانه للتكنولوجيا امليكانيك َّية التي ال يعود ُيفهم‬
‫ه َّية له وخيضع للضغوط اإلنسان َّية‪،‬‬
‫فيها املوجود بمثابة ما يتم إنتاجه‪ ،‬بل بوصفه مصدرا ال أ ّ‬
‫أن يكون ًّ‬
‫حال(‪.)1‬‬ ‫بالفن ْ‬
‫ه‬ ‫يمكن لالهتامم‬
‫وقال (بيمل) يف هذا الشأن‪:‬‬
‫الفن ليست يف تنظيم املوجودات من أجل حتويل‬ ‫يف احلقيقة إ َّن النقطة األساس َّية يف ِّ‬
‫أن ما هو موجود كان قد ُو ِجدَ (‪.)2‬‬
‫اليشء إىل كائن أو ثروة‪ ،‬بل ال بدَّ من أن ي َّتضح َّ‬
‫جيهد الفنّان من خالل توظيف مقدرته لكي ُيظهر ما أعطي له يف عمله الفنّي‪ .‬ومن هنا‬
‫فإ َّنه ُيدرك دوره يف عمله الفنّي بوصفه متل ّقيا ومنتجا‪ ،‬وهو الدور الذي نسيه اإلنسان يف‬
‫يتحول إ ىل تابع للحضارة‬
‫َّ‬ ‫الفن يف عرص التكنولوجيا‬ ‫َّ‬ ‫عرص التكنولوجيا‪ .‬ومع ذلك َّ‬
‫فإن‬
‫ويتحول الفنّان بدوره إ ىل تابع ألهداف ومقاصد صناعة‬
‫َّ‬ ‫العامل َّية اخلاضعة لسيطرة اجلشتال‪،‬‬
‫الفن ‪ -‬من وجهة نظر هايدغر ‪ -‬ال يستلزم بالرضورة خروجا‬ ‫الفن(‪ )3‬أيضا(‪ .)4‬ومن هنا َّ‬
‫فإن َّ‬ ‫ه‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 13‬و‪ ،14‬و‪40‬‬
‫‪ .42 -‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 9.‬‬
‫(‪ )2‬بيمل‪ ،‬فالتري‪ ،‬برريس روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيح َّية ألفكار مارتني هايدغر)‪،‬‬
‫مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.208‬‬
‫‪(3) Art industry‬‬
‫(‪ )4‬كوكلامنس‪ ،‬جوزيف‪ .‬ي هيدگر وهنر (هايدغر والف ّن)‪ ،‬ص ‪ 359‬و‪ ،361‬ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫حممد جواد صافيان‪ ،‬نرش‪ :‬پرسش‪ ،‬ع ّبادان‪1388 ،‬هـ ش‪ .‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ ❖ 428‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫من الفضاء التكنولوجي السائد(‪.)1‬‬


‫عل بحثه يف حقل العالقة‬
‫أي حال فقد أسدل هايدغر ستارا من الغموض واإلهبام ى‬
‫وعل ه‬
‫ى‬
‫إن َّ‬
‫جل اهتامم هايدغر‬ ‫الفن واخلالص يف الفضاء التكنولوجي السائد‪ .‬ر َّبام أمكن القول‪َّ :‬‬
‫بني ه‬
‫إل وجود نمط آخر من احلياة‪ ،‬وبعبارة‬ ‫يف هذا الشأن يصب يف توجيه أنظار املخاطبني ى‬
‫كل يشء(‪ ،)2‬وبذلك‬ ‫أن ال يعترب اإلنسان نفسه َّ‬
‫بمعنى ْ‬
‫ى‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى‪َّ :‬‬
‫إن احلياة الشاعر َّية ممكنة أيضا‪،‬‬
‫عل تقب ل نمط آخر من االنكشاف‪ .‬ومن هنا يقول هايدغر يف (رسالة يف‬
‫عل انفتاحه ى‬
‫ُيافظ ى‬
‫حقل النزعة اإلنسان َّية)(‪:)3‬‬
‫تتم دعوتنا من قِ َبل الوجود من جديد(‪.)4‬‬
‫جيب علينا أن نسمح بأن َّ‬
‫عل والدة املوسيقار‬
‫وقد حتدَّ ث هايدغر يف كلمته التي ألقاها بمناسبة مرور ‪ 175‬سنة ى‬
‫األول سنة ‪ 1955‬للميالد‪،‬‬
‫األملاين الشهري (كونرادين كرويتز) ‪ ،‬بتاريخ الثالثني من ترشين َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫‪‬‬
‫‪Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge University‬‬
‫‪Press. P. 60.‬‬
‫(‪ )1‬كوكلامنس‪ ،‬جوزيف‪ .‬ي هيدگر وهنر (هايدغر والف ّن)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪359‬؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪،‬‬
‫پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 41‬و‪ .42‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Wrathall, Mark (2002). ‘Volume Introduction’, in Heidegger Reexamined Volume 3: Art,‬‬
‫‪Poetry, and Technology, Hubert Dreyfus and Mark Wrathall (ed.). New York: Routledge.‬‬
‫وإن ترصُيات مايكل آنش بشأن دوره‬ ‫أن الشعراء والفنّانني احلقيقيهني ال يعتربون أنفسهم َّ‬
‫كل يشء‪َّ .‬‬ ‫(‪ )2‬كام َّ‬
‫عل هذه املسألة‪ .‬انظر املصدرين أدناه‪:‬‬
‫يف إبداع األثر الفنّي خري شاهد ى‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 26; Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and‬‬
‫‪Postmodernity, Cambridge University Press. P.21.‬‬
‫‪(3) Letter on Humanism.‬‬
‫(‪ )4‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬نامه در باب انسان گرايى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسانيَّة)‪ ،‬ص ‪ ،286‬املنشور ضمن‬
‫نصوص خمتارة من احلداثة إ ىل ما بعد احلداثة‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ :‬عبد الكريم رشيديان وآخرون‪،‬‬
‫نرش ين‪ ،‬طهران‪1388 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫‪(5) Conradin Kreutzer.‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪429‬‬

‫عن «اخلالص من األشياء»(‪ ،)1‬كمقدّ مة لتوفري إمكان َّية اخلروج من عرص التكنولوجيا(‪.)2‬‬
‫وقال يف ذلك‪:‬‬
‫ولكن ال يزال هناك أمامنا م َّتسع للعمل عىل نحو آخر‪ .‬يمكن لنا أن نستخدم‬
‫الوسائل الف ين َّية‪ ،‬ويف الوقت نفسه نتخ َّلص من قيودها من خالل التوظيف الصحيح‪،‬‬
‫بمعنى أن نتم َّكن من اخلالص من أغالهلا متى أردنا ذلك ‪ ...‬سوف نسمح‬
‫للتكنولوجيا بأن تقتحم حياتنا اليوم َّية‪ ،‬عىل أن نتم َّكن يف الوقت نفسه من إخراجها‬
‫وطردها‪ ،‬متام ًا كام هو الشأن بالنسبة إىل األشياء غري املطلقة والتابعة ألُمور أسمى‬
‫عرب عن هذا التعاطي احليادي مع التكنولوجيا املستلزم لقول «أجل»‬‫منها‪ .‬وأنا ُأ ِّ‬
‫َّ‬
‫و«كال» يف الوقت نفسه‪ ،‬باستخدام عبارة قديمة‪ ،‬وهي‪ :‬اخلالص من األشياء(‪.)4()3‬‬
‫إن التحرر من األشياء يعني يف احلقيقة ْ‬
‫أن نستخدم الوسائل واألدوات التكنولوج َّية‪ ،‬ويف‬ ‫َّ‬
‫الوقت نفسه ال نعترب هذا النمط من احلياة أمرا مطلقا(‪ .)5‬وإذا أردنا بيان مراد هايدغر يف هذا‬
‫مبسطة‪ ،‬ر َّبام أمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن التحرر من األشياء يعني االستفادة من الوسائل‬ ‫الشأن بلغة َّ‬
‫التكنولوج َّية وعدم الغرق يف مستنقعها‪َّ .‬‬
‫إن فهم هذا األمر ي َّت ضح من خالل مالحظة حياة‬
‫هايدغر نفسه بشكل أوضح‪ .‬مل يمتلك هايدغر جهاز تلفزيون يوما أبدا‪ ،‬وكان يف الوقت‬
‫نفسه يستمتع بمشاهدة املسابقات الرياض َّية عرب تلفزيونات اآلخرين‪ .‬وكان يكره الطباعة‬
‫ه‬
‫بخط يده إ ىل أخيه‬ ‫عل الورق‪ ،‬وكان يدفع ما كتبه‬
‫عل اآللة الكاتبة‪ ،‬وكان يكتب نصوصه ى‬
‫ى‬
‫كي يطبعه له(‪ .)6‬ويف احلقيقة كان هايدغر يطالب باخلالص من خمالب التكنولوجيا‪ ،‬رغم‬

‫‪(1) Releasement toward things.‬‬

‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪ 119‬و‪.131 - 129‬‬
‫‪(3) Glassenheit‬‬

‫(‪ )4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.129‬‬


‫(‪ )5‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 128‬و‪.129‬‬
‫‪(6) Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of Heidegger's‬‬
‫‪Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri. P. 580.‬‬
‫‪ ❖ 430‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يرى هايدغر َّ‬


‫أن‬ ‫إدراكه حاجة االستفادة من الوسائل امليكانيك َّية يف عرص التكنولوجيا‪ .‬ى‬
‫عل صدورنا أمر‬‫التخلص من األشياء من أجل التحرر من الفضاء التكنولوجي اجلاثم ى‬
‫جمرد مقدّ مة لظهور عرص جديد وتوفري األرض َّية إلمكان اإلقامة‬ ‫رضوري‪ْ ،‬‬
‫وإن كان هذا َّ‬
‫جمرد التخلص من‬‫أن َّ‬ ‫أن هايدغر كان ِ‬
‫مدركا َّ‬ ‫خيفى َّ‬
‫والسكن يف األرض بطريقة خمتلفة‪ .‬وال ى‬
‫كون فهام جديدا عن املوجودات والدخول إ ىل عرص ما بعد التكنولوجيا(‪.)1‬‬
‫األشياء‪ ،‬ال ُي ه‬
‫فإن اخلالص من األشياء ُيتاج بدوره إ ىل مقدّ مات؛ إذ من الواضح َّ‬
‫أن‬ ‫ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫إن التفكري املعنوي(‪ُ )2‬يم هثل مقدّ مة للخالص‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫جمرد إرادة اخلالص ال ُُي هقق اخلالص‪َّ .‬‬
‫َّ‬
‫يسعى إ ىل اِّليمنة وبسط سيطرته‬
‫ى‬ ‫التفكري املعنوي التذكريي ‪ -‬خالفا للتفكري احلساب الذي‬
‫(‪)3‬‬

‫معنى ما سيجري علينا(‪ .)4‬إذ يقول يف ذلك‪:‬‬


‫ى‬ ‫عل األوضاع بالط ُرق احلساب َّية ‪ -‬يتأ َّمل يف‬
‫ى‬
‫إن التفكري املعنوي يقتيض منيا أن ال نتش َّبث بمفهوم واحد باملطلق وبشك ٍل ٍّ‬
‫تام‪،‬‬ ‫َّ‬
‫إن التفكري املعنوي يريد‬ ‫وأن ال نسري وراء املفاهيم من جانب واحد وإىل آخر ِّ‬
‫اخلط‪َّ .‬‬
‫منيا أن نتك َّفل وننهمك بالعمل عىل ذلك اليشء الذي يبدو مستحي ً‬
‫ال وغري قابل‬
‫لإلنجاز يف الوهلة األُوىل(‪.)5‬‬

‫‪(1) Dreyfus, Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’ in‬‬
‫‪Heidegger Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus (ed.),‬‬
‫‪New York: Routledge. P. 170; Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A‬‬
‫‪Comprehensive Study of Heidegger's Thought, Access Foundation Kansas City,‬‬
‫‪Missouri. P. 580.‬‬
‫‪(2) meditative thinking.‬‬
‫‪(3) calculative thinking.‬‬
‫(‪ )4‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( .‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪ ،123 - 121‬وص ‪ 129 - 127‬و‪ .131‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 226.‬‬
‫(‪ )5‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪431‬‬

‫ويف احلقيقة َّ‬


‫فإن هايدغر عندما يتحدَّ ث عن غياب التفكري إ َّنام يريد بذلك هذا النوع من‬
‫الكم اِّلائل‬
‫عل الرغم من عدم القيام هبذا ه‬
‫التفكري‪ُ .‬يشري هايدغر إ ىل هذه املسألة‪ ،‬وهي أ َّنه ى‬
‫أي فرتة زمن َّية كام نشهد اليوم مثل هذه‬
‫من التحقيقات الكثرية يف احلقول التخصص َّية يف ه‬
‫أن التفكري اِّلادي إ ىل مثل هذه املعطيات إ َّنام ُيم هثل‬
‫التحقيقات املقرتنة بمعطيات ها َّمة‪ ،‬بيد َّ‬
‫خاصا من التفكري‪َّ .‬‬
‫إن هذا السنخ من التفكري هو التفكري احلساب الذي‬ ‫ًّ‬ ‫نمطا وسنخا‬
‫وينسى ْ‬
‫أن ُيف هكر بام‬ ‫ى‬ ‫عل ه‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫يسعى إ ىل السيطرة ى‬
‫ى‬ ‫عل اإلنسان املعارص‪ ،‬وجعله‬‫استحوذ ى‬
‫عليه واقع اإلنسان يف العامل املعارص و ُط ُرق احلياة األُ ى‬
‫خرى‪ .‬يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ‬
‫بأن‬
‫أن ينظر أو يتق َّبل غيابه الفكري‪ .‬تكمن خماوف هايدغر يف ْ‬
‫أن يرزخ‬ ‫اإلنسان ال يريد ح َّت ىى ْ‬
‫البرش املعارص حتت تأثري سكرة معطياة هذا التفكري‪ ،‬بحيث يعترب التفكري احلساب هو الطريقة‬
‫الوحيدة للتفكري(‪.)1‬‬
‫أن نفتح آذاننا وعيوننا لكي ُندرك ما ُيقده مه لنا ا هتضاح الكائنات‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫إن هايدغر يريد منّا ْ‬
‫َّ‬
‫إل فهم التكنولوجيا احلديثة فيام يتع َّلق باألمر األكثر تعاليا‪ .‬ويف هذه‬
‫إدراك هذا األمر ُيؤ ّدي ى‬
‫عل‬
‫يتم اعتبار نمط احلياة الراهن أمرا مطلقا‪ ،‬ولن يعود اإلنسان يعترب نفسه قادرا ى‬
‫احلالة لن َّ‬
‫عل اإلنسان يف‬
‫يتعني ى‬
‫عل الوجود‪ .‬ويف هذا اإلطار َّ‬ ‫كل يشء وأ َّنه الس هيد املطلق احلاكم ى‬ ‫ه‬
‫وأن هناك خطرا ُهيده ده‪ .‬هذا يف حني َّ‬
‫أن اإلنسان‬ ‫اخلطوة األُو ىل ْ‬
‫أن ُيدرك أ َّنه قد افتقد شيئا َّ‬
‫عل الطبيعة‪،‬‬
‫جمرد معيار القدرة املتزايدة يف السيطرة ى‬
‫املعارص ُيق هيم تقدمه وتطوره من خالل َّ‬
‫بأي حاجة إ ىل معرفة يشء حول واقعه املأساوي‪ ،‬وما إذا كانت تلك الناحية من‬
‫وال يشعر ه‬
‫الطبيعة التي أصبحت ملموسة يف ه‬
‫االجتاه التكنولوجي تصلح ح ًّقا جلعل الطبيعة بمنزلة‬
‫أن العبور من هذه احلالة لن يكون ممكنا َّإال إذا َّ‬
‫تم‬ ‫يرى هايدغر َّ‬
‫املأوى واملالذ لإلنسان؟ ى‬
‫ى‬
‫إدراك اخلطر بوصفه خطرا‪ .‬ومع ذلك ُيرصح هايدغر بأ َّنه ال أحد يعلم بزمان أو كيف َّية هذا‬
‫يرى هايدغر عدم رضورة‬
‫التحول من نسيان الوجود إ ىل إحياء املكانة احلقيقية لإلنسان‪ .‬ال ى‬
‫مرضا أيضا؛ وذلك َّ‬
‫ألن منزلة اإلنسان ومكانته ‪ -‬من‬ ‫معرفة هذا الزمان فحسب‪ ،‬بل ويراه ًّ‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 121‬و‪ ،122‬وص ‪ 127‬و‪ ،128‬وص ‪.130‬‬


‫‪ ❖ 432‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل قارعة الوجود‪ ،‬وليس العلم هبذه املوارد(‪.)1‬‬


‫وجهة نظره ‪ -‬تكمن يف ترقبه وتوقعه ى‬
‫عل‬ ‫رصح هايدغر يف آخر حوار له(‪ )2‬سنة ‪1966‬م قائال‪َّ :‬‬
‫إن اهلل وحده هو القادر ى‬ ‫لقد َّ‬
‫جمرد استعداد اإلنسان‬ ‫وعل هذا األساس َّ‬
‫فإن ما مت َّت اإلشارة إليه يف هذا القسم هو َّ‬ ‫ى‬ ‫إنقاذنا‪.‬‬
‫إن اإلنسان ‪ -‬من وجهة نظر هايدغر ‪ -‬إ َّنام يمكنه ْ‬
‫أن ُي َعدَّ نفسه لظهور هذا‬ ‫لظهور هذا اإلله‪َّ .‬‬
‫إل ظهور تفسريات خمتلفة يف هذا‬
‫اإلله الذي ال ُيقده م تفسريا له‪ ،‬وهذا األمر هو الذي أ ّد ىى ى‬
‫الشأن(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬بيمل‪ ،‬فالتري‪ ،‬بررسى روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيحيَّة ألفكار مارتني هايدغر)‪،‬‬
‫مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ 208‬و‪ ،281‬وص ‪ ،184‬وص ‪ ،209 - 206‬وص ‪ 224‬و‪225‬؛ مك وورتر‪،‬‬
‫ليدل‪ ،‬گناه تكنولوژى مديريت‪ :‬دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة‪ :‬دعوة هايدغر إ ىل‬
‫التفكري)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪171‬؛ مولر‪ ،‬ماكس‪ ،‬ما بعد الطبيعة وتاريخ تفكر مارتني هيدگر (ما بعد‬
‫حممد رضا‬
‫الطبيعة وتاريخ تفكري مارتني هايدغر)‪ ،‬ص ‪ 204‬و‪ ،210‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫جوزي وآخرون‪ ،‬ص ‪ ،126‬منشور يف فلسفة وبحران غرب‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪ ،‬طهران‪1378 ،‬هـ ش؛‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬نامه در باب انسان گرايى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسان َّية)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪294‬‬
‫و‪ ،295‬وص ‪ ،299‬وص ‪303 - 301‬؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن‬
‫التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ ،21‬وص ‪ ،38‬وص ‪40‬؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬راه بازگشت به درون‬
‫رسزمني ما بعد الطبيعة (طريق العودة إ ىل واحة ما بعد الطبيعة)‪ ،‬ص ‪ ،106‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬ص ‪ ،126‬منشور يف فلسفة وبحران غرب‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪،‬‬ ‫الفارسية‪ّ :‬‬
‫طهران‪ 1378 ،‬هـ ش؛ هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف‬
‫التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ .130‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫‪Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State‬‬
‫‪University of New York Press. P. 216 – 226; Heidegger, Martin (1977). ‘The Turning’, in‬‬
‫‪The Question Concerning Technology and Other Essays (in English), William Lovitt‬‬
‫‪(trans.), New York: Garland Publishing. P. 41 - 42.‬‬
‫(‪ )2‬وحيث كان هايدغر قد اشرتط عدم نرش هذا احلوار َّإال بعد وفاته‪ ،‬ر َّبام أمكن القول‪َّ :‬‬
‫إن هذه الكلمة كان‬
‫املوجهة إ ىل ُق ّراء ُكتُبه وأعامله‪.‬‬
‫هي الكلمة األخرية ه‬
‫(‪ )3‬مك كواري‪ ،‬جان‪ ،‬فقط خدا مىتواند ما را نجات دهد (اهلل وحده هو القادر ى‬
‫عل إنقاذنا)‪ ،‬ص ‪،136‬‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬منشور يف فلسفة‬
‫وص ‪ 148‬و‪ ،149‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ّ :‬‬
‫وبحران غرب‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪ ،‬طهران‪1378 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪433‬‬

‫عل ما يدَّ عيه هايدغر يف تقابل مع احللول اإلدار َّية واملتمحورة حول‬ ‫ِ‬
‫وسوف ُنطلق ى‬
‫السيطرة‪ ،‬والتفكري املعنوي‪ ،‬واخلالص‪ ،‬وتوقع إله منقذ‪ ،‬عنوان النقطة «د»‪.‬‬

‫نقد طريقة تعاطي هايدغر مع التكنولوجيا احلديثة‪:‬‬


‫بااللتفات إ ىل ما تقدَّ م‪ ،‬وبعد مالحظة النقاط (أ) و(ب) و(ج) و(د)‪ ،‬يمكن لنا بيان العنارص‬
‫عل النحو اآلت‪:‬‬ ‫الرئيسة لطريقة تعاطي هايدغر مع التكنولوجيا ى‬
‫يسعى إليه هايدغر من خالل السؤال عن ماه َّية التكنولوجيا‪ ،‬عبارة عن نوع‬
‫ى‬ ‫‪َّ -‬‬
‫إن الذي‬
‫عل مجيع أبعاد احلياة البرش َّية‪ ،‬بام يف ذلك‬
‫من االنكشاف الذي ُيكم يف عرص التكنولوجيا ى‬
‫الفن أيضا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وعل الرغم من َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫عل التكنولوجيا مل يكن من إبداع اإلنسان‪،‬‬ ‫‪َّ -‬‬
‫إن االنكشاف احلاكم ى‬
‫طريقة تعاطي اإلنسان ْ‬
‫وإن كان ِّلا تأثري يف تغيريها‪ ،‬ولكن ال ينبغي اعتبارها أمرا أراد ًّيا‬
‫وخاضعا لسيطرته‪.‬‬
‫‪َّ -‬‬
‫إن هذا االنكشاف يعرض طريقة حياة اإلنسان إ ىل املخاطر‪.‬‬
‫‪َّ -‬‬
‫إن اخلالص من املخاطر املذكورة عند وقوعها ال يأت عرب الط ُرق اإلدار َّية‪ ،‬بل بواسطة‬
‫التفكري املعنوي واخلالص‪.‬‬
‫إل طريقة تعاطي هايدغر مع‬
‫بااللتفات إ ىل املوارد أعاله يمكن توجيه بعض االنتقادات ى‬
‫التكنولوجيا احلديث ة‪ .‬ومن بني هذه االنتقادات النقد املرتبط بغموض رؤيته جتاه الوسائل‬
‫التكنولوج َّية‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر مل ُي هبني موقفه من الوسائل التكنولوج َّية احلديثة بوضوح‪ ،‬فهو من‬
‫جهة جيري مقارنة بني تكنولوج ّيات من قبيل ما نشاهده اليوم يف حم َّطات الطاقة املائ َّية‬
‫والزراعة امليكانيك َّية‪ ،‬وبني التكنولوج ّيات القديمة‪ ،‬ويتحدَّ ث وكأ َّنه مرعوب من الوسائل‬
‫عل سبيل املثال أ َّنه يضع طاحونة اِّلواء القديمة يف قبال‬
‫التكنولوج َّية احلديثة‪ .‬من ذلك ى‬
‫التعرض الناتج عن التكنولوجيا احلديثة(‪ .)1‬ويتحدَّ ث عن تعرض الزراعة امليكانيك َّية ويذكر‬
‫يف املقابل الرعاية واالهتامم باألرض الزراع َّية يف الفالحة التقليد َّية(‪ .)2‬ويضع حم َّطة الطاقة‬

‫(‪ )1‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ ❖ 434‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل النهر دون‬


‫عل ّنر الراين بوصفها ظاهرة مرعبة يف قبال قنطرة خشب َّية قديمة ى‬
‫املائ َّية املقامة ى‬
‫«الذكرى» عن املذياع والتلفزيون‬
‫ى‬ ‫عرض استقالل النهر للخطر(‪ .)1‬وقد حتدَّ ث يف خطاب‬ ‫ْ‬
‫أن ُت ه‬
‫املصورة والفنون اجلديدة لوسائل التواصل االجتامعي بنربة حمبطة(‪ )2‬بحيث قد‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫واملجالت‬
‫أن هايدغر معرض عن التكنولوجيا بشدَّ ة‪ .‬ولكنَّه من جهة‬ ‫يذهب املخاطب معها إ ىل تصور َّ‬
‫أن هاجسه ينشأ من التفكري‬ ‫يرى بااللتفات إ ىل املورد (أ) َّ‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى ‪ -‬كام أرشنا سابقا ‪ -‬ى‬
‫التكنولوجي ال من الوسائل التكنولوج َّية احلديثة‪ ،‬وهو التفكري الذي ُيؤ هثر يف كا َّفة شؤون‬
‫جمرد الوسائل التكنولوج َّية فقط‪ .‬وعليه يمكن لنا اآلن ْ‬
‫أن نطرح هذا‬ ‫احلياة البرشية وليس َّ‬
‫إل بعض‬
‫السؤال القائل‪ :‬ما هي نسبة التعرض الذي ذكره هايدغر ‪ -‬من خالل اإلشارة ى‬
‫األمثلة والنامذج عن التكنلوجيا احلديثة ‪ -‬إ ىل الوسائل واألدوات التكنولوج َّية؟ لو كان هذا‬
‫عام هو كائن‪ ،‬وإذا كان هذا‬
‫التعرض رهن بالفهم الذي ُيمله اإلنسان يف مثل هذا العامل َّ‬
‫يتغري بواسطة اجلهود البرش َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن التغيري يف طرح‬ ‫الفهم ‪ -‬بااللتفات إ ىل املورد (ب) ‪ -‬ال َّ‬
‫عل الوضع القائم‪َّ .‬‬
‫وإن النقطة الكامنة هنا‬ ‫مثل هذه الوسائل جيب بدوره ْ‬
‫أن ال ُجيري حتسينا ى‬
‫يف احلقيقة هي َّ‬
‫أن هايدغر مل ُير هكز بشكل واضح ى‬
‫عل النسبة بني التفكري التكنولوجي وطرح‬
‫بغض النظر عن التغيري يف فهم التكنولوجيا السائدة يف‬
‫األدوات والوسائل التقن َّية‪ .‬فإ َّنه ه‬
‫عل تصميم الوسائل واألدوات بغية إنتاج‬ ‫أي تغيري سوف يرت َّتب ى‬ ‫فإن َّ‬ ‫الوضع املوجود‪َّ ،‬‬
‫أن التعرض املشابه ملا يذكره هايدغر‬ ‫عل سبيل املثال‪َّ ،‬إال َّ‬ ‫التكنولوج ّيات املتناغمة مع البيئة ى‬
‫بشأن حم َّطة الطاقة املائ َّية والزراعة امليكانيك َّية‪ ،‬أم ال‪ ،‬قد ُت ِر َك يف املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر دون‬
‫بصحة هذا املوضوع القائل َّ‬
‫بأن التغيري يف تصميم الوسائل‬ ‫َّ‬ ‫جواب‪ .‬وال َّ‬
‫شك يف طبيعة احلال‬
‫واألدوات‪ ،‬لن ُيدث تغيريا يف الرؤية التكنولوج َّية‪ ،‬إذ إ َّن هذه اآلل َّية نفسها بدورها منبثقة‬
‫عن التفكري التقني أيضا‪ .‬كام َّ‬
‫أن موضوع النقد املذكور هنا ال يرتبط باخلالص من الرؤية‬
‫التكنولوج َّية أيضا‪ ،‬بل هي مسألة الوسائل التكنولوج َّية احلديثة‪ ،‬حيث نجد موقف هايدغر‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.17‬‬


‫(‪ )2‬هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگي‪ :‬گفتاري در تفكر معنوى‪( ،‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬مصدر‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪435‬‬

‫وإن هايدغر مل ُي ِرش أيضا إ ىل موقع الوسائل‬


‫منها مقرونا بنوع من الغموض واإلهبام‪ .‬هذا َّ‬
‫واألدوات التكنولوج َّية احلديثة يف حالة ظهور مرحلة ما بعد التكنولوجيا‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪:‬‬
‫يبقى‬
‫إن واقع التكنولوجيا يف حالة سيادة نموذج حديث يغلب فيه فهم جديد ملا هو كائن‪ ،‬ى‬ ‫َّ‬
‫مبهام يف املنظومة الفكرية ِّلايدغر‪ .‬فهل يمكن اعتبار التكنولوج ّيات التي هي بحجم‬
‫التكنولوج ّيات املعارصة‪ ،‬والتي هي من ناحية ُأ ى‬
‫خرى متناسبة مع البيئة‪ ،‬تكنولوج ّيات مناسبة‬
‫ملثل هذا العرص؟ ويف هذه احلالة‪َ ،‬أال يمكن للتغيري يف تصميم الوسائل التكنولوج َّية ْ‬
‫أن‬
‫ُيؤ ّدي إ ىل إنتاج مثل هذه التكنولوج ّيات؟ واليوم نشاهد َّ‬
‫أن الباحثني يف حقل التكنولوج ّيات‬
‫هيتمون بنامذج كثرية عن هذه التكنولوج ّيات البديلة‪ .‬ومن ناحية ُأ ى‬
‫خرى َّ‬
‫فإن االختالف‬
‫الرئيس الذي ُيم هيز هايدغر من هؤالء الباحثني يكمن ‪ -‬بااللتفات إ ىل املورد «ب» ‪ -‬يف‬
‫إل هذا املوضوع يمكن نقد رؤية‬‫اهتاممه بامه َّية التكنولوج ّيات احلديثة‪ ،‬وأساسا بااللتفات ى‬
‫هؤالء الباحثني من الزاوية الفكر َّية ِّلايدغر‪ .‬وأ َّما إذا كانت املسألة هي مسألة ماه َّية‬
‫التكنولوج َّية احلديثة وليست الوسائل واألدوات التكنولوج َّية‪ ،‬فيجب إيضاح النسبة بني‬
‫أن هذا املوضوع ‪ -‬كام سبق ْ‬
‫أن‬ ‫عل اآلخر‪ ،‬هذا يف حني َّ‬
‫كل واحد منهام ى‬ ‫هذين األمرين وتأثري ه‬
‫يتم التطرق له يف املنظومة الفكرية ِّلايدغر‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬إذا كانت وسائل‬ ‫ذكرنا ‪ -‬مل ّ‬
‫التكنولوجيا احلديثة منبثقة عن فهم التكنولوجيا السائدة‪َّ ،‬‬
‫وأن التغيري يف الرؤية التكنولوج َّية‬
‫ال يتح َّقق بإرادة برش َّية‪ ،‬عندها يمكن طرح هذا السؤال القائل‪ :‬ما هي نسبة التكنولوج ّيات‬
‫إل مثل هذا الفهم؟ ال يمكن‬
‫حتظى اليوم باالهتامم الشديد ى‬
‫ى‬ ‫املتناغمة مع البيئة البرش َّية التي‬
‫عل إجابة حمدَّ دة عن هذا السؤال‪.‬‬
‫العثور ضمن أفكار هايدغر ى‬
‫إل املوردين «أ» و«ج» ال يمكن حرص التفكري التكنولوجي‬
‫األمر اآلخر أ َّنه بااللتفات ى‬
‫وأخطاره بدائرة الوسائل واألدوات التكنولوج َّية فقط‪ ،‬فبااللتفات إ ىل هذا املوضوع يمكن‬
‫لنا ْ‬
‫أن نطرح السؤال اآلت‪ :‬إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فلامذا بالغ هايدغر يف ذكر األمثلة عن‬
‫األدوات والوسائل التكنولوج َّية احلديثة؟ أفليس اخلطر يكمن يف التفكري التكنولوجي الذي‬
‫عل نامذج خمتارة من‬
‫أحاط اليوم بجميع شؤون احلياة؟ إذن ملاذا يتم الرتكيز إ ىل هذا احلده ى‬
‫إل‬ ‫األدوات والوسائل التكنولوج َّية؟ َّ‬
‫إن هذه األمثلة هي التي أ َّدت طبقا لبعض التفاسري ى‬
‫‪ ❖ 436‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املفِّسين ِّلايدغر‬ ‫هاهتامه باخلوف من التكنولوجيا يف معناها املتعارف‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن الكثري من ه‬
‫قد رفضوا هذا التفسري‪َّ .‬‬
‫إن هذه الثنائ َّي ة يف التفاسري ترتبط بدورها بذلك الغموض املوجود‬
‫يف فكر هايدغر بشأن النسبة بني املاه َّية التكنولوج َّية احلديثة واألدوات والوسائل‬
‫التكنولوج َّية‪.‬‬
‫عل رؤية هايدغر فيام يتع َّلق‬ ‫أ َّما األمر اآلخر الذي ْ‬
‫وإن أمكن عدم اعتباره نقدا جا ًّدا ى‬
‫بالتكنولوجيا احلديثة‪ ،‬بيد أ َّنه يستحق التأمل‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن املفاهيم املستعملة يف املنظومة الفكر َّية‬
‫ِّليادغر‪ ،‬من قبيل‪ :‬الوجود‪ ،‬واالنكشاف‪ ،‬واإلحالة التارخي َّية‪ ،‬واجلشتال‪ ،‬تعمل بشكل وآخر‬
‫وعل الرغم من إمكان القول‬
‫ى‬ ‫عل استحالة قيام االرتباط بني املجتمع الفلسفي واملهندسني‪.‬‬
‫ى‬
‫َّ‬
‫بأن الفالسفة يف الكثري من املوارد ال يراعون يف طرح أفكارهم وتأمالهتم فهم اآلخرين ِّلا‬
‫كثريا‪ ،‬وهذا األمر يرتبط إ ىل حد ما بامه َّية التفكري الفلسفي‪ ،‬ولكن فيام يتع َّلق بمسائل من‬
‫قبيل التكنولوجيا التي خيوض فيها املهندسون وسائر الباحثني يف هذا احلقل‪ ،‬يبدو َّ‬
‫أن‬
‫باإلمكان اعتبار إمكان َّي ة االرتباط بني أفكار الفالسفة وغري الفالسفة من الناشطني يف هذا‬
‫قوة‪ .‬ويف غري هذه احلالة سيحدث رشخ عميق بني التأمالت الفلسف َّية يف حقل‬
‫احلقل نقطة َّ‬
‫امللحة يف هذا احلقل‪ ،‬األمر الذي ُيؤ ّدي بدوره إ ىل عزل‬
‫التكنولوجيا واملسائل امللموسة و َّ‬
‫عل عدد حمدود من‬
‫أفكار الفيلسوف وحرشها يف زاوية األبحاث الفلسفية التي تقترص ى‬
‫األشخاص‪ .‬ويبدو َّ‬
‫أن هذا النقص يصدق يف مورد رؤية هايدغر جتاه التكنولوجيا بشكل‬
‫املفِّس والشارح إ ىل بيان رؤية هايدغر فيام يتع َّلق بإقامة‬
‫يسعى فيها ه‬
‫ى‬ ‫كامل‪ .‬ويف املوارد التي‬
‫وعل هذا‬
‫ى‬ ‫املعنى الذي يرومه الفيلسوف‪.‬‬
‫ى‬ ‫االرتباط بني حقلني بلغة ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬قد يشط بعيدا عن‬
‫األساس عندما يتحدَّ ث مف هكر عن التكنولوجيا‪ ،‬ال يبدو توقع ْ‬
‫أن ُيمل هاجس االرتباط مع‬
‫الباحثني يف حقل التكنولوجيا‪ ،‬أمرا اعتباط ًّيا‪.‬‬
‫عل الرغم من َّ‬
‫أن مسألة هايدغر تكمن يف النظرة‬ ‫ويف اخلتام ال بدَّ من االلتفات إ ىل أ َّنه ى‬
‫التقن َّية بشكل عام‪ ،‬وليس يف مسائل فلسفة التكنولوجيا املتعارفة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن اإلنسان ُيتاج يف‬
‫حياته يف عامل التكنولوجيا املعارصة إ ىل هاّتاذ القرار املناسب للعمل‪ .‬ويف هذا الشأن سيواجه‬
‫املف هكر التابع ِّلايدغر بعض املشاكل‪ ،‬ومن ذلك ى‬
‫عل سبيل املثال‪ :‬هل جيب التخطيط للسيطرة‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪437‬‬

‫عل األزمات البيئ َّية‪ ،‬أم َّ‬


‫أن هذه الرؤية بنفسها انعكاس عن التفكري التقني املتمحور حول‬ ‫ى‬
‫فإّنا بااللتفات إ ىل املورد «د» لن تستتبع‬
‫وعل هذا األساس َّ‬
‫ى‬ ‫السيطرة والنزعة اإلنسان َّية؟‬
‫اخلالص من النموذج التكنولوجي السائد‪ ،‬سؤال جاد يضع هذا املف هكر أمام حتدّ يات عديدة‪.‬‬
‫رصح َّ‬
‫بأن رسالته تتجاوز اخلوض يف مثل هذه‬ ‫أن ُي ه‬ ‫وبطبيعة احلال يمكن لشخص هايدغر ْ‬
‫ألن هايدغر ينظر إ ىل ُأفق أوسع‪ .‬وأ َّما الباحثون يف احلقل التكنولوجي من الذين‬
‫املسائل؛ َّ‬
‫يسعون إ ىل حتسني وضع حياة اإلنسان يف عامل التكنولوجيا الراهنة‪ ،‬فال يمكنهم ْ‬
‫أن يكونوا‬
‫حياد هيني وال ُأبال هيني بشأن هذه املسائل‪ .‬يبدو َّ‬
‫أن تفكري هايدغر جيعلنا يف بعض املوارد نواجه‬
‫نوعا من َّ‬
‫الالعمل َّية‪ ،‬التي ر َّبام اعتربها املف هكر التابع ِّلايدغر فكرا مقدَّ ما ى‬
‫عل النظر والعمل‪ ،‬يف‬
‫حني أ َّننا يف قبال بعض املوارد من قبيل األزمات البيئ َّية‪ ،‬بحاجة إ ىل قرار للعمل‪ ،‬واحلال أ َّننا‬
‫أن نستخرج مثل هذه الوصفات من املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر‪َّ .‬‬
‫إن هذا املوضوع‬ ‫ال نستطيع ْ‬
‫إل‬ ‫ُيم هثل نقدا ى‬
‫عل تفكري هايدغر‪ ،‬بحيث ال يمكن جتاوزه ببساطة من طريق ح َّت ىى اللجوء ى‬
‫فإن بعض فالسفة حقل‬ ‫عل النظر والعمل‪ .‬ومن هنا َّ‬
‫إشارات من قبيل تقدم هذا التفكري ى‬
‫التكنولوجيا قد استفادوا من األفكار العميقة ِّلايدغر فيام يتع َّلق بالرؤية التقن َّية‪ ،‬وعمدوا يف‬
‫الوقت نف سه من خالل عزل بعض العنارص الغامضة وامللغزة يف تفكريه‪ ،‬وإيضاح املسائل‬
‫امللحقة بالتكنولوجيا إ ىل فتح مسار جديد يف فلسفة التكنولوجيا‪ ،‬وهو املسار الذي مل يكن‬
‫عل املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر‪.‬‬ ‫من املمكن ْ‬
‫أن يتبلور لوال االعتامد ى‬

‫االستنتاج‪:‬‬
‫َّ‬
‫إن التكنولوجيا احلديثة ‪ -‬طبقا لرؤية هايدغر ‪ -‬هي باختصار يشء يفوق املاكنات واآلالت‬
‫إن التكنولوجيا احلديثة هي يف احلقيقة عبارة عن رؤية يكون كل يشء مو َّظف ى‬
‫عل‬ ‫الصناع َّية‪َّ .‬‬
‫أساسها خلدمة اإلنسان ال غري‪ ،‬وهي الرؤية التي سيغدو فيها اإلنسان بنفسه أسريا وسط‬
‫شبكة من العالقات التقن َّية‪َّ .‬‬
‫إن هايدغر يعترب هذه الرؤية إحالة تارخي َّية للوجود من جهة‪ ،‬وال‬
‫فحوى‬
‫ى‬ ‫فهم من‬ ‫كل حال َّ‬
‫فإن الذي ُي َ‬ ‫وعل ه‬
‫ى‬ ‫يعترب الوضع القائم مصريا حتم ًّيا من جهة ثانية‪.‬‬
‫كالمه ال ُيم هثل خروجا من الفضاء التكنولوجي احلاكم عن طريق اإلرادة اإلنسان َّية أبدا‪َّ .‬‬
‫وإن‬
‫اخلالص والتحرر من هذا الفضاء إ َّنام يتم عرب التحول الذي يعد اإلنسان نفسه له‪ .‬ومن هنا‬
‫‪ ❖ 438‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫فإن اخلالص من األشياء والتفكري املعنوي إ َّنام ُيش هكل مقدّ مة لظهور عرص آخر‪ .‬وقد َّ‬
‫رصح‬
‫هايدغر يف آخر حوار له مع جم َّلة (شبيغل) َّ‬
‫بأن التفكري إ َّنام يمكنه التمهيد لظهور هذا اإلله‬
‫فقط‪ ،‬وال يمكنه ح َّت ىى تقريب ظهور هذا اإلله(‪.)1‬‬
‫تم ‪ -‬بااللتفات إ ىل املسائل املتقده مة ‪ -‬توجيه بعض االنتقادات حول طريقة تعاطي‬
‫كام َّ‬
‫هايدغر مع التكنولوجيا احلديثة‪ ،‬وهي انتقادات تدور حول الغموض يف بيان النسبة بني‬
‫عل التكنولوجيا احلديثة والوسائل التكنولوج َّية‪ ،‬وعدم العمالن َّية‪،‬‬ ‫االنكشاف احلاكم ى‬
‫وفقدان االرتباط مع الباحثني يف حقل التكنولوجيا‪ ،‬ويف اخلتام ُتساق األمثلة املنتقاة من ِق َبل‬
‫وعل الرغم من ذلك َّ‬
‫فإن املوارد‬ ‫ى‬ ‫هايدغر يف مورد األدوات والوسائل التكنولوج َّية احلديثة‪.‬‬
‫املذكورة ال ُتق هلل من تأثري املعلومات املوجودة يف املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر يف حقل‬
‫التكنولوجيا احلديثة‪ ،‬بل يمكن ِّلذه املعلومات ْ‬
‫أن ُتش هكل أرض َّية لنوع من إعادة التفكري يف‬
‫هذا النمط من طريقة التعاطي مع التكنولوجيا يف إطار تبلور وبسط ه‬
‫االجتاهات اِّلايدغر َّية‬
‫اجلديدة يف هذا احلقل‪.‬‬

‫* * *‬

‫عل إنقاذنا)‪ ،‬مصدر سابق‪،‬‬


‫(‪ )1‬مك كواري‪ ،‬جان‪ ،‬فقط خدا مىتواند ما را نجات دهد (اهلل وحده هو القادر ى‬
‫ص ‪.149‬‬
‫منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ ‪439‬‬

‫املصادر‪:‬‬
‫آيدي‪ ،‬دن‪ ،‬هنر وتكنولوژى‪ :‬فلسفه پديدارشناختى هايدگر در باب تكنولوژى (الفن والتكنولوجيا‪ :‬الفلسفة‬
‫الظاهراتيَّة ِّلايدغر يف حقل التكنولوجيا)‪ ،‬منشور يف فلسفة التكنولوجيا‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسية‪ :‬شاپور اعتامد‪،‬‬
‫ص ‪ ،50‬نرش‪ :‬مركز‪ ،‬طهران‪1389 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫بيمل‪ ،‬فالتري‪ ،‬بررسى روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيحيَّة ألفكار مارتني هايدغر)‪ ،‬ترمجه إ ىل‬
‫اللغة الفارسيَّة‪ :‬بيژن عبد الكريمي‪ ،‬ص ‪ ،196‬انتشارات‪ :‬صدا وسيامى مجهورى اسالمى ايران‪ ،‬نرش‪ :‬رسوش‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪1387‬هـ ش‪.‬‬
‫مجادى‪ ،‬سياوش‪ ،‬زمينه وزمانه پديدارشناسى‪ :‬جستارى در زندگى وانديشه هاى هورسل وهايدگر (األرض َّية‬
‫واجلذور التارخييَّ ة لعلم الظاهرات‪ :‬بحث يف مسار وأفكار هورسل وهايدغر)‪ ،‬ص ‪ ،692‬نرش‪ :‬ققنوس‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫‪1389‬هـ ش‪.‬‬
‫كرتينغ‪ ،‬إيميل‪ ،‬نيست انگارى در نگاه نيچه وهيدگر (النهليستيَّة يف رؤية نيتشه وهايدغر) وترمجه إ ىل اللغة‬
‫حممد باقر هوشيار وأصغر تفنگسازي‪ ،‬نرش پرسش‪ ،‬طهران‪1382 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫الفارس َّية‪ّ :‬‬
‫كوكلامنس‪ ،‬جوزيف‪ .‬ي هيدگر وهنر (هايدغر والف ّن)‪ ،‬ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫حممد جواد صافيان‪ ،‬نرش‪:‬‬
‫پرسش‪ ،‬ع ّبادان‪1388 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫عل إنقاذنا)‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة‬
‫مك كواري‪ ،‬جان‪ ،‬فقط خدا مىتواند ما را نجات دهد (اهلل وحده هو القادر ى‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬منشور يف فلسفة وبحران غرب‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪ ،‬طهران‪1378 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫الفارس َّية‪ّ :‬‬
‫مك وورتر‪ ،‬ليدل‪ ،‬گناه تكنولوژى مديريت‪ :‬دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة‪ :‬دعوة هايدغر ى‬
‫إل‬
‫حممد رضا جوزي‬
‫التفكري)‪ ،‬ص ‪ ،171‬مقال منشور يف (فلسفه وبحران غرب)‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسية‪ّ :‬‬
‫وآخرون‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪ ،‬طهران‪1378 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫مولر‪ ،‬ماكس‪ ،‬ما بعد الطبيعة وتاريخ تفكر مارتني هيدگر (ما بعد الطبيعة وتاريخ تفكري مارتني هايدغر)‪ ،‬أعدَّ ه‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬ص ‪ ،126‬منشور يف فلسفة وبحران غرب‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪،‬‬
‫وترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫طهران‪1378 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬پرسش از تكنولوژى‪( ،‬السؤال عن التكنولوجيا)‪ ،‬املنشور يف فلسفة التكنولوجيا‪ ،‬ص ‪ ،4‬أعدَّ ه‬
‫وترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية‪ :‬شاپور اعتامد‪ ،‬نرش‪ :‬مركز‪ ،‬طهران‪1389 ،‬هـ ش‪.‬‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬راه بازگشت به درون رسزمني ما بعد الطبيعة (طريق العودة إ ىل واحة ما بعد الطبيعة)‪ ،‬أعدَّ ه‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬منشور يف فلسفة وبحران غرب‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫وترمجه إ ىل اللغة الفارسية‪ّ :‬‬
‫‪1378‬هـ ش‪.‬‬
‫هايدغر‪ ،‬مارتني‪ ،‬وارستگى‪ :‬گفتارى در تفكر معنوى‪( .‬التحرر‪ :‬مقالة يف التفكري املعنوي)‪ ،‬أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة‬
‫حممد رضا جوزي وآخرون‪ ،‬ص ‪ ،126‬منشور يف فلسفة وبحران غرب‪ ،‬نرش‪ :‬هرمس‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫الفارسيَّة‪ّ :‬‬
‫‪1378‬هـ ش‪.‬‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬440

‫ املنشور ضمن‬،295‫ و‬294 ‫ ص‬،)‫ نامه در باب انسان گرائى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسانيَّة‬،‫ مارتني‬،‫هايدغر‬
،‫ طهران‬،‫ نرش ين‬،‫ عبد الكريم رشيديان وآخرون‬:‫ ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة‬،‫نصوص خمتارة من احلداثة إ ىل ما بعد احلداثة‬
.‫هـ ش‬1388
Dreyfus, Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’
in Heidegger Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus
(ed.), New York: Routledge.
Heidegger, Martin (1977). ‘The Turning’, in The Question Concerning
Technology and Other Essays (in English), William Lovitt (trans.), New York:
Garland Publishing.
Heidegger, Martin (1968). What Is Called Thinking, Fred D. Wieck and J.
Glenn Grey (trans.), New York: Harper and Row.
O'Brien, Mahon (2004). ‘Commentary on Heidegger's ‘The Question Concerning
Technology’’, in Thinking Together, Proceedings of the IWM Junior Fellows'
Conference, Winter 2003, A. Cashin and J. Jirsa (ed.), Vienna: IWM Junior Visiting
Fellows Conferences, Vol. 16.
Pattison, George (2000). The Later Heidegger, New York: Routledge.
Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of
Heidegger's Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri.
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of
Heidegger, State University of New York Press.
Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge
University Press.
Thomson, Iain D. (2005). Heidegger on Ontotheology: Technology and the
Politics of Education, Cambridge University Press.

* * *
‫هايدغر واملوت (نقد إفراغي)‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫باول إدواردز‬

‫يتحدَّ ث الفيلسوف الياباين هاجيم تاناب(‪ )3‬يف مقالة كتبها بمناسبة ميالد هايدغر السبعني‬
‫تناول فيها فلسفة هايدغر واصفا إ ّياها بـاملع هلم الشامخ والفريد الذي ال يمكن ْ‬
‫أن ُيضاهيه‬
‫إن تأثري هايدغر (مل يعد‬ ‫أي إنجاز من إنجازات معارصيه(‪ .)4‬قال تاناب بفرحة واضحة‪َّ :‬‬
‫حمصورا يف ُأوروبا‪ ،‬بل وصل إ ىل اليابان)‪ ،‬وليس إ ىل اليابان فحسب‪ ،‬بل إ ىل العامل بأرسه‪ .‬فقد‬
‫كل مكان من العامل(‪َّ .)5‬‬
‫إن التأثر العميق الذي شعر به‬ ‫ُأخربنا َّ‬
‫بأن تالميذ هايدغر ناشطون يف ه‬
‫األول به كان َّ‬
‫ألن اهتاممه باملوت أصبح مركز الفلسفة ودعامتها(‪ .)6‬ويمكن‬ ‫تاناب أثناء لقائه َّ‬
‫ْ‬
‫أن نجد تعابري مشاهبة عن اإلعجاب بنقاشات هايدغر ملسألة املوت يف كتابات كثري من‬
‫تالميذه‪ .‬سنُعطي مثالني فقط‪ُ ،‬يؤ هكد ويليام باريت ‪ -‬يف سياق ثنائه الكبري ى‬
‫عل هايدغر ‪-‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫َّ‬
‫أن‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر‪:‬‬
‫‪Edwards, Paul (1976), ‘HEIDEGGER AND DEATH: A DEFLATIONARY CRITIQUE’ in‬‬

‫‪The Monist, Vol. 59, No. 2, Philosophical Problems of Death, (April, 1976), pp. 161 - 186.‬‬

‫التعريب‪ :‬طارق عسييل‪.‬‬


‫(‪ )2‬باول إدواردز (باإلنجليز َّية‪ )Paul Edwards :‬هو فيلسوف أمريكي‪ ،‬ولد يف ‪ 2‬سبتمرب ‪ 1923‬يف فيينا يف‬
‫النمسا‪ّ ،‬‬
‫وتويف يف ‪ 9‬ديسمرب ‪ 2004‬يف نيويورك يف الواليات املتَّحدة‪.‬‬
‫‪(3) Tanabe Hajime‬‬
‫‪(4) ‘Todesdialektik‘, in Martin Heidegger zum 70. Geburtstag (Pfullingen, 1959), p. 94.‬‬
‫‪(5) Ibid.‬‬
‫‪(6) Ibid.‬‬
‫‪(7) William Barrett‬‬
‫‪ ❖ 442‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ه َّية واألكثر قبوالً يف تصوره الشامل‬


‫حتليله للموت ر َّبام يكون التفسري األكثر أ ي‬
‫لإلنسان(‪.)1‬‬
‫وخيربنا األب جيمس م‪ .‬دمسك(‪ )2‬الذي تأ َّثر عميقا بـ‪:‬‬
‫ُ‬
‫وقوة غري‬
‫أن هايدغر ال يطرح مسألة (املوت) بحدَّ ة َّ‬ ‫أصالة الفهم اهلايدغري َّ‬
‫مسبوقة فحسب‪ ،‬بل أيض ًا يضفي عليها عمق ًا وجوديا جديد ًا(‪.)3‬‬
‫سأسعى يف‬
‫ى‬ ‫أنا ال ُأشاطر هذين الكاتبني هذا الرأي املبالغ فيه عن كتابات هايدغر‪ .‬لذا‬
‫أرى‬ ‫هذه املقالة إليضاح بعض أسباب عدم اعتقادي َّ‬
‫بأن حتليله للموت تفسري مقنع‪ ،‬وملاذا ال ى‬
‫عل‬
‫القوة واحلدَّ ة غري السبوقة‪ .‬وبسبب صغر حجم البحث اقترصت ى‬ ‫يف مناقشاته للموضوع َّ‬
‫كربى‪ ،‬رأي هايدغر َّ‬
‫أن املوت إمكان َّية ال عالئق َّية‪ ،‬أي إ َّنه اإلمكان َّية‬ ‫ى‬ ‫ثالثة مبادئ هايدغر َّية‬
‫أن حياة اإلنسان هي وجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪ ،‬إضافة إ ىل ّأين‬ ‫األقىص لإلنسان‪ ،‬وزعمه َّ‬
‫ى‬
‫عل ما كتبه هايدغر عن املوت يف كتاب الوجود والزمن‪ .‬فام كتبه عن املوت بعد‬
‫اقترصت ى‬
‫الوجود والزمن قليل‪ ،‬لكنَّنا سنضطر ملعاجلة وافية ُتغ ّطي حتام األعامل َّ‬
‫الالحقة(‪.)4‬‬

‫وحدة املوت املزعومة‪:‬‬


‫األول الذي سآخذه باالعتبار هو الذي يتم التعبري عنه عادة بالقول‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫املبدأ اِّلايدغري َّ‬
‫َّ‬
‫كل إنسان يموت وحيدا‪ .‬وهايدغر نفسه مل يستعمل عبارة «‪ »allein‬األملان َّية التي تعني‬
‫وحيد‪ ،‬لكنَّه يستعمل تعابري خمتلفة ِّلا نفس الداللة‪ .‬وهو يتك َّلم باستمرار عن املوت بوصفه‬
‫إمكان َّية غري عقالن َّية‪ .‬يقول‪:‬‬

‫‪(1) What is Existentialism? hereafter cited as WE (New York, 1964), p. 62.‬‬


‫‪(2) Father James M. Demske.‬‬
‫‪(3) Being, Man, and Death (hereafter cited as BMD) (Lexington: The University of‬‬
‫‪Kentucky Press, 1970), pp. 2 and 5.‬‬
‫(‪ )4‬بعض مبادئ هايدغر التي مل تناقش يف هذه املقالة ناقشتها يف كتاب‪:‬‬
‫‪‘Existentialism and Death: A Survey of Some Confusions and Absurdities’, in S.‬‬
‫‪Morgenbesser, et al., Philosophy, Science and Method - Essays in Honor of Ernest‬‬
‫‪Nagel (New York, 1969), hereafter cited as ED.‬‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪443‬‬

‫فإن َّ‬
‫كل وجود إىل جانب األشياء التي تثري‬ ‫عندما يكون (املوت هو القض َّية) َّ‬
‫اهتاممنا‪ ،‬وكل وجود مع اآلخرين سيفشل(‪.)1‬‬
‫عندما يواجه الـ دازاين (اإلنسان) موته‪ ،‬أي عندما يكون وجه ًا لوجه أمام (إمكان‬
‫بأي دازاين ُأخر باتت‬
‫أ َّنه مل ‪ -‬يعد ‪ -‬قادر ًا ‪ -‬عىل ‪ -‬الوجود هناك)‪ ،‬إذ ًا كل عالقاته ِّ‬
‫باطلة(‪.)2‬‬
‫امليزة َّ‬
‫الالعالئق َّية للموت ‪ -‬كام تفهم مسبق ًا ‪ -‬ترد فردان َّية الـ دازاين إىل ذاته(‪.)3‬‬
‫يف هذه اإلمكان َّية املتم ِّيزة لذاهتا‪َّ ،‬إّنا اإلمكان َّية التي يكون فيها وجودها ذاته هو‬
‫القض َّية‪ ،‬ان ُت ِز َع الـ دازاين من الـ ُهم (الناس اآلخرين)(‪ .)4‬املوت جيب أن يستحوذ‬
‫عليه الـ دازاين وحده(‪.)5‬‬
‫(‪)7‬‬
‫استعمل أتباع هايدغر الذين كتبوا باللغة اإلنجليز َّية مفردات مثل‪ :‬وحيد(‪ )6‬ومنعزل‬
‫للتعبري عن هذا املبدأ‪ ،‬وأعتقد َّأّنم كانوا ‪ -‬بفعلهم هذا ‪ -‬خملصني متاما ملقاصد هايدغر‪.‬‬
‫فبالنسبة جلون ماكواري(‪« )8‬املوت يعزل الفرد‪ ،‬وجيب أ ْن يموت وحيدا»(‪ .)9‬وقال جون‬
‫ثم قال‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫أن أفعله بمفردي» ‪ّ .‬‬
‫(‪)11‬‬
‫عل ه‬
‫األقل جيب ْ‬ ‫ويلد متحده ثا عن املوت‪« :‬هذا اليشء ى‬
‫(‪)10‬‬

‫‪(1) Being and Time, trans. John Macquarrie and Edward Robinson (London, 1962), p.‬‬
‫‪308.Being and Time will hereafter be cited as BT.‬‬
‫(‪ )2‬الكينونة والزمن (‪ (Sein und Zeit‬ص ‪.294‬‬
‫(‪ )3‬الكينونة والزمن (‪ (Sein und Zeit‬ص ‪.308‬‬
‫(‪ )4‬الكينونة والزمن (‪ (Sein und Zeit‬ص ‪.307‬‬
‫‪(5) BT, p. 308. Heidegger's original is “einzig von ihm selbst her... übernehmen” which‬‬
‫‪means “taken over by [Dasein] itself exclusively”. The M.R translation is idiomatically‬‬
‫‪quite correct in using “alone”.‬‬
‫‪(6) Alone‬‬
‫‪(7) Isolated‬‬
‫‪(8) John Macquarrie‬‬
‫‪(9) An Existentialist Theology (hereafter cited as ET) (London, 1955), p. 118.‬‬
‫‪(10) John Wild‬‬
‫‪(11) The Challenge of Existentialism (hereafter cited as CE) (Bloomington, 1959), p. 82.‬‬
‫‪ ❖ 444‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املوت «فعل حقيقي يعيشه املرء بمفرده»(‪ .)1‬وبتعبري كالفن و‪ .‬رشاغ(‪« :)2‬كل فرد جيب ْ‬
‫أن‬
‫يموت وحيدا»(‪ .)3‬ويقول األب دمسك‪:‬‬
‫ك َّلام تقدَّ منا بثبات نحو املوت ك َّلام رأينا بصورة أوضح جوانب الوحدة التي يتم َّيز‬
‫أن َّ‬
‫كل كينونة ‪ -‬مع‬ ‫هبا الـ دازاين يف وجوده ‪ -‬ح َّتى ‪ -‬املوت‪ .‬يكشف هذا التقدم َّ‬
‫الكينونات األُخرى ‪ ...‬تتالشى يف حمِّض املوت(‪.)4‬‬
‫عل‬
‫يقول األب الديسالوس بوروس ‪ -‬وهو من تالميذ هايدغر الكاثوليك ‪« :-‬جيب ى‬
‫(‪)5‬‬

‫ويرى مياكل غلفن(‪َّ )7‬‬


‫أن حتليل هايدغر‬ ‫ى‬ ‫أن يقبل املوت بمفرده حتام»(‪،)6‬‬ ‫ه‬
‫كل واحد منّا ْ‬
‫لـ «وجود َّية الـ دازاين ُي هبني لنا ‪ ...‬أ َّنني سأموت موت لوحدي»‪ ،‬وأيضا عندما يصبح وعيي‬
‫صور ل أ َّنني سأموت يف الواقع‪ ،‬وأ َّنني عندما أموت سأموت وحيدا(‪.)8‬‬
‫مدركا للموت فإ َّنه ُي ه‬
‫ويقول ج‪ .‬غلن غراي(‪ - )9‬وهو من الس ّباقني للدفاع عن هايدغر يف الواليات امل َّتحدة ‪:-‬‬
‫شارك‪ ،‬إ َّنه أكثر إمكانات احلياة عزل ًة وانفصاالً‪ ،‬وهذا ما جيعله األكثر‬
‫املوت ال ُي َ‬
‫ه َّي ًة(‪.)10‬‬
‫أ ي‬
‫يضيف غراي متحده ثا بيقني نابع من جتربة شخص َّية مستفيضة‪« :‬أنا أموت بمفردي‬

‫‪(1) Ibid., p. 108.‬‬

‫‪(2) Calvin O. Schrag‬‬

‫‪(3) Existence and Freedom (hereafter cited as EF) (Evanston, 1961), p. 108.‬‬

‫‪(4) BMD, p. 32.‬‬

‫‪(5) Father Ladislaus Boros.‬‬

‫‪(6) The Moment of Truth (hereafter cited as MT) (London, 1965), p. 1.‬‬

‫‪(7) Michael Gelven‬‬


‫‪(8) A Commentary on Heidegger's Being and Time (hereafter cited as CBT) (New York,‬‬

‫‪1970), pp.51 - 150.‬‬

‫‪(9) J. Glenn Gray‬‬

‫‪(10) ‘The Problem of Death in Modern Philosophy’ (hereafter cited as PD) in N. A. Scott, Jr.‬‬

‫‪(ed.), The Modern Vision of Death (Richmond, Virginia, 1967), p. 55.‬‬


‫هايدغر واملوت ❖ ‪445‬‬

‫أقره‬
‫أن اإلنسان سيموت وحيدا‪ .‬فقد َّ‬ ‫عى َّ‬
‫أن َث َّمة شيئا معقوال جدًّ ا حول مدَّ ى‬
‫دائام»(‪ .)1‬الظاهر َّ‬
‫عدد من أكثر الفالسفة انتقادا لفلسفة هايدغر يف سياقات ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬كام أ َّكده آخرون ر َّبام مل‬
‫مهمة جدًّ ا‬
‫رأى مارجوري غرن يف دراسة َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫يسمعوا هبايدغر‪ ،‬واعتربوه أمرا بدهي ًّيا‪ .‬كذلك ى‬
‫«أن َّ‬
‫كل إنسان يواجه املوت وحيدا‬ ‫ِّلايدغر أكثر فيها من الثناء عليه بخصوص هذه املسألة‪َّ :‬‬
‫(‪)5‬‬
‫بذهول وعجز»(‪ .)3‬وكذلك ع َّلق ليونار برنشتاين(‪ )4‬حديثا يف خطبة جنائز َّية جلني توريل‬
‫خاصان إ ىل حد‬ ‫نجمة امليزو سوبرانو املتم هيزة َّأّنا «عرفت َّ‬
‫أن الوالدة واملوت فعالن فرد ّيان‪ّ ،‬‬
‫مؤمل‪ ،‬وغري قابلني للمشاركة»(‪.)6‬‬
‫أن السؤال الذي سنسأله حيال هذا االعتقاد ليس فقط (هل هذا صحيح؟)‪ ،‬فاحلكم‬ ‫بيد َّ‬
‫أن يت َّم من خالل تعريفات تتالءم معها‪ .‬لذلك علينا ْ‬
‫أن نطرح‬ ‫أي قض َّية يمكن ْ‬
‫بصحة ه‬‫َّ‬
‫بمعنى أ َّنه ُيش هكل اكتشافا أو علام ًّ‬
‫مهام‪.‬‬ ‫ى‬ ‫عل الشكل التال‪ :‬هل هذا االعتقاد صحيح؟‬
‫السؤال ى‬
‫عل َّ‬
‫أن هايدغر وأتباعه ُيقده مون لنا‬ ‫وقبل ْ‬
‫أن نحاول اإلجابة عن هذا السؤال ينبغي التأكيد ى‬
‫قض َّية ك ّل َّية‪ ،‬وب ى‬
‫معنى ما رضورية‪ .‬فهم ال ُيؤ هكدون ما ال جدال فيه فحسب‪ ،‬أي إ َّن بعض‬
‫عل مجيع البرش يف مجيع‬ ‫البرش أو كثريا من البرش يموتون وحدهم‪ ،‬بل ُيؤ هكدون َّ‬
‫أن هذا ينطبق ى‬
‫ملجرد قابل َّيتهم للموت‪ .‬وسوف أبدأ‬
‫عل مجيع البرش نتيجة َّ‬‫األعامر‪ ،‬وأ َّنه يصح بالرضورة ى‬
‫فهم بثالثة‬
‫أن ُت َ‬ ‫أن قض َّية ه‬
‫كل البرش يموتون وحدهم يمكن ْ‬ ‫إل َّ‬
‫مالحظات االنتقاد َّية باإلشارة ى‬
‫وأّنا كاذبة متاما يف ه‬
‫كل هذه املعاين‪ .‬فأكثر هذه املعاين وضوحا‪،‬‬ ‫معان واضحة بشكل معقول‪َّ ،‬‬
‫أن الشخص يموت وحيدا إذا مل يكن معه إنسان آخر عندما يموت‪ .‬واإلنسان الذي يقود‬ ‫َّ‬
‫املعنى‪ .‬منذ سنوات قليلة تاه‬
‫ى‬ ‫س ّيارة بنفسه ويتعرض لنوبة قلب َّية مميتة سيموت وحيدا هبذا‬
‫املطران بايك(‪ ،)7‬وهو واحد من أكثر املستنريين يف الكنيسة األُسقف َّية‪ ،‬وزوجته يف الصحراء‬

‫‪(1) Ibid., p. 56.‬‬


‫‪(2) Marjorie Grene‬‬
‫‪(3) Heidegger (London, 1957), p. 45.‬‬
‫‪(4) Leonard Bernstein‬‬
‫‪(5) Jennie Tourel‬‬
‫‪(6) New York Times, Dec .9, 1973.‬‬
‫‪(7) Bishop Pike.‬‬
‫‪ ❖ 446‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بإرسائيل‪ .‬بقي األُسقف إ ىل جانب س ّيارة اجليب املع َّطلة بينام ذهبت زوجته لطلب املساعدة‪،‬‬
‫لكنَّه مات قبل وصول املنقذين‪ .‬إ َّنه أيضا مات وحيدا باملعني الذي نناقشه‪ .‬من الواضح متاما‬
‫وأن كثريين آخرين ال يموتون‬‫أن كثريا من الناس يموتون وحدهم‪َّ ،‬‬ ‫املعنى ‪َّ -‬‬
‫ى‬ ‫‪ -‬هبذا‬
‫وحدهم‪.‬‬
‫أن نتك َّلم به عن شخص يموت وحيدا أو يف عزلة عن‬
‫معنى آخر من الطبيعي ْ‬
‫ى‬ ‫وهناك‬
‫املعنى يموت‬
‫ى‬ ‫غريه‪ ،‬ح َّت ىى لو كان البرش اآلخرون معه جسد ًّيا خالل حلظاته األخرية‪ .‬وهبذا‬
‫املستوى النفيس‪ ،‬أي إذا مل يكن للبرش املوجودين حوله‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫الشخص وحيدا إذا كان معزوال ى‬
‫أي روابط عاطف َّية قو َّية معه‪ .‬وقد وصفت اليزابيث كيبلر روس(‪ )1‬وغريها من علامء النفس‬
‫املرىض الذين يموتون‪ ،‬وكيف يعانون‪ ،‬باإلضافة إ ىل عذاهبم اجلسدي‪ ،‬من‬
‫ى‬ ‫بشكل مؤ هثر معاناة‬
‫للممرضات واألط ّباء‪ ،‬وعدم إظهار الصدق‬
‫ه‬ ‫الوحدة الشديدة نتيجة للربودة العاطف َّية‬
‫عل أ َّنه بينام يموت عدد كبري من الناس وحدهم‬
‫املهم التأكيد ى‬
‫واالنفتاح من األقارب‪ .‬ومن ه‬
‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫املعنى الثاين‪َّ ،‬إال َّأّنم ليسوا مجيعا كذلك؛ ومن املؤ َّكد أ َّنه ليس من الرضوري‪ ،‬ال‬
‫ى‬ ‫هبذا‬
‫أن ُيصل هذا جلميع البرش‪.‬‬ ‫بمعنى الرضورة الواقع َّية‪ْ ،‬‬‫ى‬ ‫املنطقي وال‬
‫َأال يكون رضور ًّيا ى‬
‫عل اإلطالق‪ ،‬ي َّتضح يف مِّسح َّية جرهردت هوبتامن(‪ ،)2‬قبل‬
‫قصة السنة األخرية من حياة ماتياس كالوزن‪ ،‬العجوز صاحب املصنع‬
‫الغروب ‪ ،‬التيرتوي َّ‬
‫(‪)3‬‬

‫اضطر للعيش بعيدا عنهام‪ ،‬وبات يشعر‬


‫َّ‬ ‫متزوجتان‪،‬‬
‫والفاحش الثراء‪ .‬كالوزن أرمل وِّلابنتان ه‬
‫بالوحدة متاما‪ُ .‬خي هطط لالنتحار‪ ،‬ولكنَّه يعدل عنه بسبب شا َّبة مجيلة تعمل ى‬
‫عل اآللة الكاتبة‪.‬‬
‫تزوجته طمعا‬ ‫وقعا يف الغرام‪ ،‬وعندما اقرتح عليها الزواج‪ ،‬رفضت َّ‬
‫ألن هناك من سيظن َّأّنا َّ‬
‫دعوى قضائ َّية‬
‫ى‬ ‫تزوجا‪ .‬رفعت ابنتاه وزوجاها‬
‫يف ثروته‪ .‬لكنَّهام عاشا معا‪ ،‬ويف ّناية املطاف َّ‬
‫تعرض لنوبة قلب َّية‪ .‬وأثناء‬
‫الستصدار حكم بفقدان ماتياس لألهل َّية العقل َّية‪ .‬واجه لكنَّه َّ‬
‫ؤسف له‪ .‬السنة املاضية‪ ،‬ومنذ ْ‬
‫أن‬ ‫احتضاره يقول لزوجته الشا َّبة املنكوبة‪ :‬ليس هناك ما ُي َ‬

‫‪(1) Elizabeth Kiibler Ross.‬‬

‫‪(2) Gerhardt Hauptmann.‬‬

‫‪(3) Vor Sonnenuntergang.‬‬


‫هايدغر واملوت ❖ ‪447‬‬
‫ِ‬
‫عرفتك‪ ،‬وهو الزمن الوحيد الذي عشته‪ ،‬والوقت الوحيد الذي كنت فيه قريبا من إنسان‪.‬‬
‫باملعنى السيكولوجي أو العاطفي‪ ،‬وبالتأكيد هذا األمر‬
‫ى‬ ‫ماتياس كالوزن مل يمت وحيدا‬
‫عل بعض البرش يف احلياة الواقعية‪ .‬ولنرضب مثاال معروفا‪ ،‬دايفيد هيوم مل يكن يف يوم‬
‫ينطبق ى‬
‫أكثر رىض من األشهر الس َّتة األخرية من حياته عندما علم أ َّنه كان ُيترض‪ .‬ومل يشعر أبدا‬
‫مهتام بالعامل من حوله‪ ،‬بام يف‬
‫بالقرب من أصدقائه أكثر ممَّا كان عليه خالل هذه الفرتة‪ ،‬وبقي ًّ‬
‫ذلك أحدث املنشورات يف خمتلف املجاالت‪ .‬كتب يف سريته الذات َّية املخترصة عندما اقرتب‬
‫املوت منه‪.‬‬
‫مرة ُأخرى‪ ،‬فإ َّنني سأمتنيى الرجوع إىل‬
‫لو ُأتيح يل اختيار فرته من حيايت ألعيشها َّ‬
‫هذه الفرتة األخرية(‪.)1‬‬
‫معنى آخر ملوت الناس وحيدين يف بعض األحيان‪ ،‬حيث املوت وحيدا يقابل املوت‬
‫ى‬ ‫َث َّمة‬
‫(‪)4‬‬
‫قصة جاك فاشيه‬
‫َّ‬
‫(‪)3‬‬
‫املتوحش‬
‫ه‬ ‫معا وليس املوت غري وحيد‪ .‬يروي أ‪ .‬ألفارز(‪ )2‬يف كتاب اإلله‬
‫مؤسس الِّسيال َّية‪.‬‬
‫عل أندريه برتون ‪ ،‬ه‬
‫(‪)5‬‬
‫الشاب الغريب‪ ،‬الذي كان له تأثري حاسم ى‬
‫ّ‬ ‫الشاعر‬
‫سميه املزاج مبدأ توجيه ًّيا له (تعبري‬ ‫كان فاشيه مقتنعا بالعبث املطلق يف احلياة‪َّ ،‬‬
‫واّتذ ما ُي ّ‬
‫ساخر خبيث ومد همر للذات)‪ .‬فقد ُجنهد يف اجليش الفرنيس خالل احلرب العامل َّية األُو ىل‪،‬‬
‫وأثناء تواجده يف اجلبهة بعث رسالة من اجلبهة قال فيها‪ :‬إ َّنه يرفض ْ‬
‫أن يموت يف احلرب‪،‬‬
‫وأضاف‪:‬‬

‫‪(1) ‘My Own Life,’ reprinted in Norman Kemp Smith (ed.), Hume's Dialogues Concerning‬‬

‫‪Natural Religion (Edinburgh, 1935), p. 239. The same volume contains the remarkable‬‬

‫‪letter from Adam Smith to William Strahan describing Hume's last month. Both these‬‬

‫‪documents are also reprinted in J.Y.T. Greig (ed.),The Letters of David Hume, vol. II‬‬
‫‪(Oxford, 1932).‬‬

‫‪(2) A. Alvarez.‬‬

‫‪(3) The Savage God.‬‬

‫‪(4) Jacques Vache.‬‬

‫‪(5) Andre Breton.‬‬


‫‪ ❖ 448‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ثم سأموت مع أحد آخر‪ .‬املوت يف وحدة ممل‪ُ ،‬أ ه‬


‫فضل‬ ‫سأموت عندما ُأريد ْ‬
‫أن أموت‪ّ ،‬‬
‫املوت مع واحد من أفضل أصدقائي(‪.)1‬‬
‫يف عام ‪ ،1919‬عندما انتهت احلرب‪ُ ،‬ت ّ‬
‫ويف فاشيه وفقا ِّلذه املواصفات‪ .‬دعا اثنني من‬
‫األصدقاء ألخذ رحلة أفيون معه‪ .‬وأعدَّ جرعة مميته ألصدقائه املطمئنهني له ومثلها جرعة‬
‫مميتة لنفسه‪ .‬وهكذا مل يمت وحيدا(‪.)2‬‬
‫وال بدَّ من اإلشارة إ ىل َّ‬
‫أن فاشيه(‪ )3‬كان يستخدم تعبري املوت وحيدا بطريقة مربكة وغري‬
‫صحيحة‪ .‬فلو ُأ ِنق َذ صديقاه‪ ،‬لكان من الصواب القول‪ :‬إ َّنه مات وحده من بني الثالثة‪ ،‬وليس‬
‫أ َّنه مات وحيدا‪ .‬عبارة وحده يف هذا السياق تعني فقط‪ ،‬وهي تصفه هو وليس املوت‪ .‬ومع‬
‫ذلك سنتنازل عن هذه النقطة ونقبل طريقة فاشيه يف احلديث ونعتربها معنى ثالثا يمكن‬
‫للمرء ْ‬
‫أن يتحدَّ ث فيه عن البرش عندما يموتون وحدهم‪ .‬ومن الواضح ‪ -‬كام بالنسبة‬
‫املعنى‪ ،‬وبعضهم ال يموتون‬ ‫ى‬ ‫أن بعض البرش يموتون لوحدهم هبذا‬ ‫للمعنيني اآلخرين ‪َّ -‬‬
‫لوحدهم‪ .‬فإذا ُأعدم واحد فقط من عرشة رهائن‪ ،‬فإ َّنه يموت لوحده‪ .‬أ َّما إذا ُأعدموا مجيعهم‬
‫عل َّ‬
‫أن البرش‬ ‫مر َّ‬
‫إن التأكيد ى‬ ‫فإّنم ال يموتون وحيدين‪ .‬وكام َّ‬
‫أو عدد منهم يف الوقت نفسه‪َّ ،‬‬
‫يموتون وحيدين قض َّية كاذبة‪.‬‬
‫وجتدر اإلشارة إ ىل َّ‬
‫أن أنصار هايدغر ال يسندون قض َّيتهم‪ :‬كل البرش يموتون وحيدين‬
‫عل عمل ّيات مراقبة تفصيل َّية للحظات البرش األخرية‪ .‬وعندما يستخدمون عبارة‪ :‬مات‬
‫ى‬
‫جمرد موته‪ .‬وال حاجة للتحقيق يف‬ ‫أن نستنتج َّ‬
‫أن شخصا مات وحيدا‪ ،‬من َّ‬ ‫وحيدا‪ ،‬يمكننا ْ‬
‫ظروف موته‪ .‬وإذا ُت ّ‬
‫ويف حماطا ببرش آخرين تربطه هبم عالقة عاطف َّية عميقة‪ ،‬فإ َّنه مات وحيدا‬
‫عام حدث هنا‪ُ .‬أعيد تعريف املوت وحيدا ليصبح مساويا‬ ‫ملجرد أ َّنه مات‪ .‬وهذا يعطينا فكرة َّ‬
‫َّ‬
‫فِّس لو َّ‬
‫أن‬ ‫باألحرى كام جيب ْ‬
‫أن ُت َّ‬ ‫ى‬ ‫منطق ًّيا لـ املوت‪ .‬يستعمل أتباع هايدغر عبارة وحيد (أو‬

‫‪(1) The Savage God (London and New York, 1971), p. 190.‬‬
‫(‪ )2‬كان فاشيه يف الثالثة والعرشين من عمره عندما انتحر‪ .‬هناك معلومات مه َّمة جدًّ ا عنه يف‪:‬‬
‫‪Hans Richter, Dada (London and New York, 1965), on which Alvarez's account is based and‬‬
‫‪in Maurice Nadau, The History of Surrealism (London, 1968).‬‬
‫‪(3) Vaché.‬‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪449‬‬

‫قض َّيتهم ليست رصُية الكذب)‪ ،‬كام لو كان من املستحيل منطق ًّيا ْ‬
‫أن يموت الشخص وال‬
‫يكون موته وحيدا‪ .‬وإذا كان لعبارة‪ :‬وحيد داللة إضاف َّية‪ ،‬فسيكون من املمكن وصف كيف‬
‫تكون احلال بالنسبة لشخص يموت دون ْ‬
‫أن يموت وحيدا؛ ولكن عندما يستعمل أتباع‬
‫هايدغر هذه العبارات‪ ،‬ال يكون هذا الوصف ممكنا‪ .‬تشري الطريقة التي يكتبون هبا إ ىل َّ‬
‫أن‬
‫العالقة املنطق َّية بني املوت واملوت وحيدا كالعالقة بني املوت واملوت فقريا أو املوت واملوت‬
‫يف الِّسير‪ .‬واضح يف كال احلالني َّ‬
‫أن هناك عالقة توليف َّية‪ :‬املوت يف فقر يعني أكثر من املوت‪،‬‬
‫عل املوت وحيدا بأي من‬
‫عل املوت يف الِّسير‪ .‬واألمر نفسه ينطبق ى‬ ‫واألمر نفسه ينطبق ى‬
‫عل أتباع هايدغر‬
‫عل املوت وحيدا كام جيب ى‬
‫املعاين الثالث املذكورة سابقا‪ ،‬ولكنَّه ال ينطبق ى‬
‫استعامل هذه العبارات إذا مل تكن قض َّيتهم‪ :‬كل الناس يموتون وحيدين كاذبة‪ .‬وكام يلتزمزن‬
‫باستخدام هذه العبارات‪َّ ،‬‬
‫فإن العالقة بيت املوت واملوت وحيدا تشبه العالقة بني األب‬
‫فِّس بأ َّنه يقول شيئا مثريا‬ ‫واألهل‪ .‬والنتيجة التي نصل إليها بنقاشنا‪َّ :‬‬
‫أن تعبري اِّلايدغر هيني ُي َّ‬
‫ثم ي َّتضح أ َّنه كذب‪ ،‬أ َّما إذا ُف هِّس بطريقة بدا فيها صحيحا‪ ،‬فلن يكون أكثر من‬
‫لالهتامم‪ّ ،‬‬
‫بأن َّ‬
‫كل الناس سيموتون ذات يوم‪ .‬ال تظهر تفاهة‬ ‫عل احلقيقة الشائعة َّ‬
‫طريقة خطاب َّية ُتؤ هكد ى‬
‫عقيدة هايدغر فورا للجميع‪ ،‬فقط َّ‬
‫ألن املوت وحيدا ‪ -‬بأي من املعاين املألوفة ‪ -‬ال يعني أكثر‬
‫وألن القارئ مل يعرف (ور َّبام اِّلايدغريون أنفسهم مل يدركوا) َّ‬
‫أن عبارة (وحده)‬ ‫َّ‬ ‫من املوت‪،‬‬
‫اكتسبت داللة جديدة‪.‬‬
‫وصف به ح ًّقا‪ ،‬ي َّتضح بوجه‬ ‫َّ‬
‫إن خواء املعتقد اِّلايدغري‪ ،‬والطابع الزائف الذي قد ُي َ‬
‫أي أثر‪ .‬دعونا‬ ‫خاص عندما يتأ َّمل املرء َّ‬
‫أن له يف الظاهر آثارا عمل َّية‪ ،‬لكنَّه يف الواقع ليس له َّ‬
‫نفرتض َّ‬
‫أن مؤمنا هبذه النظر َّية لديه زوجة وأوالد مرتبط هبم بنفس الطريقة التي يرتبط فيها‬
‫املستشفى‪ ،‬وبات‬
‫ى‬ ‫تعرض حلادث وأدخل‬
‫غري اِّلايدغر هيني بزوجاهتم وأوالدهم‪ .‬ولنفرض أ َّنه َّ‬
‫لديه سبب لالعتقاد بأ َّنه سيموت قريبا‪ .‬فلو استخدمت كلمة وحيد بأي من معانيها املألوفة‬
‫يف القض َّية اِّلايدغر َّية‪ :‬كل البرش يموتون وحيدين‪ ،‬وإذا كانت القض َّية صحيحة‪ ،‬إذا ال ينبغي‬
‫اجلدوى نظرا َّ‬ ‫رسل اِّلايدغري بطلب عائلته‪َّ ،‬‬ ‫أن ي ِ‬
‫ألن مجيع البرش‬ ‫ى‬ ‫ألن هذا سيكون عديم‬ ‫ْ ُ‬
‫كأي‬ ‫ِ‬
‫سريسل يف طلب زوجته وأوالده متاما ه‬ ‫يموتون وحيدين‪ .‬لكنَّه من الناحية العمل َّية‪ُ ،‬‬
‫‪ ❖ 450‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إنسان آخر عادي عاقل‪ .‬وبعبارة ُأ ى‬


‫خرى‪ :‬إن قبول املعتقد يتوافق متاما مع كلتاميزعادي بني‬
‫املوت وحيدا وعدم املوت وحيدا؛ واِّلايدغري‪ ،‬إذا كان لديه دوافع برشية عادية‪ ،‬لن يكون‬
‫وحده ولكن مع الذين ُيبهم‪.‬‬
‫عل االنتقادات الواردة أعاله‪ ،‬أي رغم أ َّنه ليس كل إنسان قد‬
‫القراء ى‬
‫قد يعرتض بعض ّ‬
‫يموت وحيدا‪ ،‬غري أ َّنه صحيح‪ ،‬وصحيح بالرضورة َّ‬
‫أن يف املوت كل إنسان يكون وحيدا‪.‬‬
‫َّإّنا املفردات نفسها التي استعملها مرتمجو كتاب الوجود والزمن يف اِّلوامش التوضيح َّية‬
‫عل ما يبدو أ َّن الـ دازاين يف املوت ينفصل عن العالقات‬
‫التي أ َّكدوا فيها‪ ،‬ورأوا ى‬
‫باآلخرين(‪ .)1‬سيبدو هذا التعقيب معقوال جلميع الواقعني حتت تأثري صورة املوت بوصفه‬
‫عل‬
‫نوعا من النوم أو الراحة‪ .‬يتحدَّ ث براوست عن عجز العقل‪ ،‬عندما يتأ َّمل املوت ى‬
‫(‪)2‬‬

‫املوتى ليسوا نائمني‬


‫ى‬ ‫تصور يشء غري احلياة‪ .‬وأنا أعتقد أ َّنه صحيح أ َّننا أحيانا نعرف متاما َّ‬
‫أن‬
‫أو مرتاحني (أي أحياء ولكن بطريقة سلب َّية جدًّ ا)‪ ،‬فإ َّننا أحيانا ُأ ى‬
‫خرى ُنف هكر فيهم َّ‬
‫بأّنم نائمون‬
‫يف القرب أو َّأّنم ما زالوا موجودين يف مسكن مظلم(‪ .)3‬فإذا كان امل هيت نائام بالفعل يف قربه‪،‬‬
‫واألهم أل َّنه خالفا لألحياء سيكون‬
‫ّ‬ ‫فمن املفرتض أ ْن يكون وحيدا‪ ،‬أل َّنه ال يوجد أحد معه يف قربه‪،‬‬
‫سيتبني َّ‬
‫أن هذا التعليق سخيف جدًّ ا‪.‬‬ ‫عاجزا عن التواصل مع أي كان‪ .‬وبقليل من التفكري الرصني َّ‬
‫فاألموات ليسوا يف حالة راحة أو نوم‪َّ ،‬‬
‫ألن النوم والراحة حاالت ي َّتصف هبا األحياء‪ .‬وإذا وصفنا‬
‫شخصا بأ َّنه وحيد‪ ،‬فيفرتض أ َّنه حي؛ ورغم َّ‬
‫أن وصف شخص ُيترض بأ َّنه وحيد هو قول معقول‪،‬‬
‫فاملوتى ليسوا وحيدين وليسوا غري وحيدين‬
‫ى‬ ‫معنى له‪.‬‬ ‫َّإال َّ‬
‫أن وصف اإلنسان امل هيت أ َّنه وحيد ال ى‬
‫لنفس السبب وهو أ َّن البرش ليسوا أرقاما منطق َّية وال غري منطق َّية‪.‬‬

‫عدم قابليَّة املوت للتحوُّل‪:‬‬


‫القصوى‪ .‬يقول‬
‫ى‬ ‫ليس املوت إمكان َّية الـ دازاين َّ‬
‫الالعالئقية فقط‪ .‬بل هو أيضا إمكان َّيته‬

‫(‪ )1‬الكينونة والزمن (‪ (Sein und Zeit‬ص ‪.249‬‬


‫‪(2) Proust‬‬
‫األول من مقال املذكورة أعاله‪.‬‬
‫(‪ )3‬ملناقشة تفصيل َّية ِّلذه الفكرة واضحة يف أقوالنا عن املوت انظر القسم َّ‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪451‬‬

‫القصوى»(‪ .)1‬هذه اإلمكان َّية‬


‫ى‬ ‫هايدغر‪« :‬مع املوت يقف الـ دازاين أمام نفسه يف إمكان َّيته‬
‫أقىص ما ُيم َلك هي الكلمة التي‬
‫ى‬ ‫قصوى‪.‬‬
‫ى‬ ‫القصوى َّ‬
‫والالعالئق َّية هي يف الوقت عينه ّناية‬ ‫ى‬
‫يستعملها قاموس ‪ M-R‬لرتمجة الكلمة األملان َّية ‪ eigenst‬والتي تعني حرف ًّيا أكثر ما لدي(‪.)2‬‬
‫أي يشء آخر‪،‬‬
‫خاصتي أكثر من ه‬ ‫فإن هايدغر ُيؤ هكد َّ‬
‫أن موت هو َّ‬ ‫فإذا تبنَّينا ترمجة حرف َّية متاما َّ‬
‫نرى األب دمسك يقول لنا‪َّ :‬‬
‫إن املوت هو أكثر احتامالت الوجود اإلنساين‬ ‫وليس مفاجئا أ ْن ى‬
‫محيم َّية(‪ .)3‬وحتدَّ ث غلن غراي(‪ )4‬عن املوت باعتباره اإلمكان َّية‪ ...‬األكثر خصوص َّية(‪ )5‬وهو‬
‫عل اإلطالق(‪.)6‬‬
‫أكثر التجارب محيم َّية ى‬
‫عل اإلطالق‪ .‬كام‬
‫فبمعنى ما املوت ليس خا َّصتي ى‬
‫ى‬ ‫ول يبدو الكالم مبهام‪،‬‬‫للوهلة األُ ى‬
‫سنرى بالتفصيل يف القسم التال‪ .‬خيلط هايدغر وتالميذه بني املوت وأفكارنا وعواطفنا‬
‫ى‬
‫إن أفكاري وعواطفي املرتبطة باملوت هي بالفعل خا َّصتي‪ ،‬لكن من‬ ‫املرتبطة باملوت‪َّ .‬‬
‫أن ُأ َحب‬ ‫الصعب معرفة ملاذا ينبغي اعتبارها ّتصني أكثر من ‪ -‬مثال ‪ -‬رغبتي يف ْ ِ‬
‫أن َأح َّ‬
‫بو ْ‬ ‫ّ‬
‫عل‬
‫أو رغبتي بالتمتع باحلياة‪ .‬يبدو هايدغر حتت تأثري سحر صورة غامضة ُياول فرضها ى‬
‫ُق ّرائه أيضا‪ ،‬صورة للموت تتخ ّف ىى عميقا داخل ه‬
‫كل فرد منّا‪ .‬غري َّ‬
‫أن هذا ليس كل ما يفعله‪.‬‬
‫األقىص الذي نملكه يبدو اختصارا ليشء دافع عنه بحامس‬
‫ى‬ ‫إن قض َّية َّ‬
‫أن املوت هو إمكاننا‬ ‫َّ‬
‫عرب عنه أتباعه تكرارا‪ ،‬املوت غري قابل للتحول‪ .‬أشار‬
‫سابقا يف نفس الفصل‪ ،‬أي إ َّنه كام َّ‬
‫للمرة األُو ىل بعرش صفحات إ ىل هذه اإلمكان ّيات‬
‫هايدغر قبل استعامل عبارة ‪َّ ownmost‬‬
‫أن ُيم هثل فيها دازاين‪ ،‬دازاينا آخر‪:‬‬
‫التي يمكن ْ‬
‫ال نقاش يف َّ‬
‫أن متثل دازاين بآخر ينتمي إ ىل إمكان ّيات الوجود يف الوجود ‪ -‬مع ‪ -‬بعضنا‬
‫إل‬
‫يف العامل‪ .‬يف االهتامم اليومي حتصل منفعة ثابتة ومتعده دة من هذا التمثل‪ .‬فعندما نذهب ى‬

‫(‪ )1‬الكينونة والزمن (‪ (Sein und Zeit‬ص ‪.294‬‬


‫‪(2) Most my own‬‬
‫‪(3) BMD, p. 37.‬‬
‫‪(4) Glenn Gray‬‬
‫‪(5) PD, p. 56.‬‬
‫‪(6) Ibid., p. 62.‬‬
‫‪ ❖ 452‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن نكون مم هثلني بأحد يف جمال تلك البيئة التي ّنتم‬


‫أي مكان أو إذا كان لدينا ما ُنقده مه يمكن ْ‬
‫ه‬
‫هبا عن كثب‪.‬‬
‫مكون لوجود بعضنا مع بعض‪ .‬هنا يمكن‬
‫التمثيل ليس ممكنا فحسب‪ ،‬بل هو أيضا ه‬
‫ألي دازاين ‪ -‬ضمن حدود مع َّينة ‪ْ -‬‬
‫أن يكون دازاينا آخر‪.‬‬ ‫وجيب ه‬
‫من جهة ُأ ى‬
‫خرى ‪ -‬يف حال املوت ‪ -‬هذا التمثيل أو االستبدال ليس ممكنا‪ ،‬غري أ َّن هذه‬
‫اإلمكانية للتمثيل تنهار متاما إذا تع َّلقت املسألة بتمثيل إمكان َّية الوجود هذه التي توصل‬
‫الـ دازاين إ ىل ّنايته‪.‬‬
‫ومن جديد‪:‬‬
‫أن ُيم هثلني فيه‪ .‬املوت دائام خاص‬
‫خاصتي وال يمكن ألحد ْ‬
‫َّ‬ ‫املوت‪ ...‬يف األساس‬
‫بصاحبه(‪.)1‬‬
‫وهذا ما الحظه بالضبط أتباع هايدغر‪ .‬فاملوت بالنسبة جلون وايلد(‪« )2‬ليس وظيفة قابلة‬
‫لالستبدال أو التبادل»(‪.)3‬‬
‫وكام يقول غلني غراي‪:‬‬
‫خاصتي‪ ...‬ال يمكن أن َّ‬
‫حيل أحد مكاين يف‬ ‫َّ‬ ‫املوت ال ُيشا َرك‪ ...‬إ َّنه دائ ًام وأبد ًا‬
‫بمعنى ما ‪ -‬أن أموت من أجل غريي(‪.)4‬‬
‫ً‬ ‫املوت‪ ...‬كام ال يمكنني ‪-‬‬
‫وكتب رشاغ‪:‬‬
‫املوت خيصني بشكل ثابت‪ ،‬وبالتايل غري قابل للتحويل‪ ...‬وعندما يتع َّلق األمر‬
‫باملوت ال يمكن تبادل األدوار(‪.)5‬‬
‫وأعلن غلفن‪:‬‬

‫(‪ )1‬األصل األملاين هو (‪ ،)Tod ist je nur eigener‬وقد ترمجها ‪./‬ر‪ .‬خطأ إ ىل (‪.)Death is just one's own‬‬
‫‪(2) John Wild‬‬
‫‪(3) CE, p. 239.‬‬
‫‪(4) Glenn Gray, PD, pp. 54 - 55.‬‬
‫‪(5) Schrag, EF, p .114.‬‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪453‬‬

‫اخلاص‪ .‬ال‬
‫َّ‬ ‫خاص يب‪ ،‬فهو مويت‪ ...‬كل إنسان يموت موته‬
‫ٍّ‬ ‫إذا كان من يشء‬
‫يمكن أن يشارك به أحد أو يستويل عليه أحد(‪.)1‬‬
‫بمعنى واضح إ ىل حد ما ‪ -‬إ ىل خطأ القول‪َّ :‬‬
‫إن املرء ال يستطيع ‪-‬‬ ‫ى‬ ‫املهم ْ‬
‫أن نشري ‪-‬‬ ‫ومن ه‬
‫أن جيعل شخصا آخر يموت مكانه‪ .‬يف قصيد شيلر(‪ )2‬القيد حكم‬ ‫دائام أو من حيث املبدأ ‪ْ -‬‬
‫أن ُي ِ‬
‫مهل‬ ‫توسل موروس ْ‬ ‫عل موروس باإلعدام صلبا بتهمة حماولة اغتياله‪َّ .‬‬ ‫الطاغية ديونيس ى‬
‫أن ُيتجز أفضل أصدقاء موروس‬ ‫عل رشط ْ‬‫زوج شقيقته‪ .‬وافق ديونيس ى‬ ‫ثالثة أ ّيام ح َّت ىى ُي ه‬
‫رهينة‪ .‬وإذا مل يعد موروس يف الوقت املحدَّ د َّ‬
‫فإن صديقه يموت بدال منه‪ .‬لقد حصلت قض َّية‬
‫واقع َّية شبيهة مثرية لالهتامم شارك فيها توماس باين(‪ )3‬أثناء الثورة الفرنس َّية‪ .‬كان باين منف ًّيا‬
‫من إنكلرتا‪ ،‬وحينها طلبت احلكومة كفالة لتوقيفه‪ ،‬وأطلقت محلة خبيثة من االفرتاء‬
‫عل الرغم من حكم اإلعدام الذي صدر بح هقه فيام بعد‪ ،‬فإ َّنه كان يف املراحل‬ ‫والتحريض‪ .‬ى‬
‫عل رجل اإلنجليزي‬ ‫األُو ىل من الثورة عضوا مؤ هثرا يف اجلمع َّية التأسيس َّية‪ .‬وكان قد حكم ى‬
‫أن (باين جيب‬‫دعى زكر ّيا ويلكس(‪ )4‬يف اعتداء آخر‪ ،‬طلب ويلكس املساعدة من باين‪ ،‬رغم َّ‬ ‫ُي ى‬
‫رض َب‪ ،‬و ُأهني‪ ،‬واض ُط ِهدَ ‪ُ ،‬‬
‫وافرتي عليه)‬ ‫أي رجل اإلنجليزي؛ أل َّنه ُ ِ‬ ‫أن يكره ويمقت اسم ّ‬ ‫ْ‬
‫عل يد احلكومة اإلنجليزي‪ .‬طلب باين إطالق رصاح ويلكس‪ ،‬واح ُت ِجزَ رهينة بدال منه‪،‬‬ ‫ى‬
‫يستغل ويلكس ثقة باين‪ ،‬بل رجع يف الوقت املحدَّ د حامال‬ ‫ّ‬ ‫بينام غادر ويلكس إ ىل إنكلرتا‪ .‬مل‬
‫دليل براءته‪ .‬يف هذه احلاالت مل يمت الرهائن يف احلقيقة بدال من الناس الذين نابوا عنهم‪.‬‬
‫وباملعنى‬
‫ى‬ ‫معرضني لذلك بسهولة‪ .‬يف املبدأ َّ‬
‫إن استبداال من هذا النوع ممكن متاما‪،‬‬ ‫لكنَّهم كانوا َّ‬
‫شك يف َّ‬
‫أن بعض البرش ماتوا يف بعض املناسبات بدال من برش آخرين‪.‬‬ ‫للتو ال َّ‬
‫الذي رشحناه ه‬
‫كان هايدغر مدركا ِّلذه احلقائق‪ ،‬لكنَّه يستبعدها لعدم عالقتها بفكرته‪:‬‬
‫أن جيعل غريه يموت مكانه‪ .‬طبعا يمكن إلنسان ْ‬
‫أن يذهب للموت من‬ ‫ال يمكن إلنسان ْ‬
‫أجل غريه‪ .‬لكن هذا يعني دائام التضحية بالنفس من أجل اآلخر يف قض َّية حمدَّ دة‪ .‬لكن هذا‬

‫‪(1) Gelven, CBT, pp .142 and 150.‬‬

‫‪(2) Schiller‬‬

‫‪(3) Thomas Paine‬‬

‫‪(4) Zachariah Wilkes‬‬


‫‪ ❖ 454‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن اآلخر قد ُأرجع من موته‪ .‬املوت يشء جيب ْ‬


‫أن يقبله‬ ‫أن يعني بتاتا َّ‬
‫املوت ألجل ال يمكن ْ‬
‫عل نفسه عندما ُيني وقته‪ .‬لكن املوت يف جوهره ويف مجيع األحوال‪ ،‬عندما‬
‫كل دازين ى‬
‫خاصتي‪.‬‬
‫يكون‪ ،‬يكون َّ‬
‫أن هايدغر ُينهي بقض َّيتني غري متأ هثرتني بحدوث أو بإمكان نوع االستبدال‬
‫من الواضح َّ‬
‫الذي ناقشناه يف الفقرة السابقة‪ .‬القض َّية األُو ىل‪ :‬ال أحد يموت موت غريه‪ ،‬أي إ َّن املوت‬
‫أي إنسان آخر‪ .‬والقض َّية الثانية تقول‪ :‬رغم‬ ‫الذي يموته الشخص هو موته هو وليس موت ه‬
‫أن ُي ِ‬
‫رجعه‬ ‫عل اإلطالق ْ‬ ‫أن اإلنسان يمكن ْ‬ ‫َّ‬
‫ضحي بنفسه من أجل غريه‪ ،‬لكنَّه ال يستطيع ى‬
‫أن ُي ّ‬
‫من موته‪ ،‬أي يمنعه من املوت‪.‬‬
‫أن كال القض َّيتني صحيحتان‪ ،‬لكنَّهام تافهتان‪ ،‬وذلك ألسباب خمتلفة‪ .‬السبب‬ ‫يبدو ل َّ‬
‫قرر قاعدة لغو َّية تقول‪َّ :‬‬
‫إن هناك‬ ‫سميه حقيقة نحو َّية‪ .‬فهو يف الواقع ُي ه‬ ‫األول‪ ،‬هو ما يمكن ْ‬
‫أن ُن ّ‬ ‫َّ‬
‫كائنني برش َّيني‪ ،‬أو بالنسبة ِّلذه املسألة حيوانني‪ ،‬أو أي كائنني ح َّيني‪ ،‬أ و ب‪ ،‬فإذا مات أ ال‬
‫يصح القول‪ :‬إ َّن أ مات موت ب والعكس بالعكس‪َّ .‬‬
‫إن قض َّية‪ :‬ال أحد يموت موت أحد يف‬
‫عل عجز البرش‪ .‬تبدو القض َّية هبذا االعتبار‬
‫عل بعض القيود أو ى‬ ‫ظاهرها ُتؤ هكد ى‬
‫عل واقع ما‪ ،‬ى‬
‫أن يركض ملسافة مائة ياردة يف ّ‬
‫أقل من مخس ثوان‪ ،‬أو ال‬ ‫شبيهة بقض َّية‪ :‬ال يمكن إلنسان ْ‬
‫عى عليهم يف‬
‫تعرض له املدَّ ى‬
‫مسم ىى نوع التعذيب الذي َّ‬ ‫يمكن إلنسان ْ‬
‫أن يقاوم ألجل غري ّ‬
‫حماكامت تروتسكي(‪ )1‬الشهرية يف ه‬
‫االحتاد السوفييتي يف ثالثين ّيات القرن املايض‪ .‬إذا كانت‬
‫فإّنام صحيحتان بسبب بعض احلقائق‪ .‬وهكذا بدا َّ‬
‫أن‬ ‫القض َّيتان األخريتان صحيحتني‪َّ ،‬‬
‫قضية هايدغر ُتؤ هكد ى‬
‫عل وجود بعض القيود املا ّد َّية والسيكولوج َّية‪ .‬لكن األمر ليس كذلك‪.‬‬
‫بأي قيود ما ّد َّية أو سيكولوج َّية‪ .‬إ َّنه‬ ‫وسبب ّأين ال أقدر ْ‬
‫أن أموت موت أحد آخر ال يرتبط ه‬
‫نفس سبب إصابتي بداء النقرس‪ ،‬فيجب ْ‬
‫أن يكون النقرس الذي خيصني وال خيص أحدا‬
‫خاصا ب ال‬ ‫اليمنى‪ ،‬فهذا التشنج جيب ْ‬
‫أن يكون ًّ‬ ‫ى‬ ‫غريي‪ ،‬أو سبب إصابتي بتشنج يف قدمي‬
‫أي إنسان آخر‪َّ .‬‬
‫إن قول‪ :‬إ َّنني مصاب بتشنج يف‬ ‫تشنج ريتشارد نيكسون أو فرانك سيناترا أو ه‬
‫عل‬
‫أن التشنج خيصني‪ .‬هذه ليس حقيقة إضاف َّية زائدة ى‬ ‫قدمي يشتمل يف جزء مم َّا ُأؤ هكده ى‬
‫عل َّ‬

‫‪(1) Trotzky‬‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪455‬‬

‫عل قض َّية‪ :‬أ َّنني سأموت‪ ،‬التي تشتمل‬


‫حقيقة أ َّنني مصاب بتشنج‪ .‬واألمر نفسه ينطبق متاما ى‬
‫عل جزء من مضموّنا‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن املوت الذي سأموته خيصني‪ .‬التعبري الواضح عن قاعدة‬ ‫ى‬
‫مهام وإيضاح ًّيا إذا كان قاعدة ال تتبع دائام‪ ،‬وإذا كان‬
‫لغو َّية ليس تافها بالرضورة‪ .‬قد يكون ًّ‬
‫مشوش‪ .‬ومع ذلك ليس يف هذه احلالة أي سبب لالعتقاد ْ‬
‫بأن‬ ‫انتهاك القاعدة ُيؤ ّدي إ ىل تفسري َّ‬
‫عل القاعدة املعن َّية‪ .‬عندما ُت ّ‬
‫ويف الرئيس كندي‪ ،‬مل ُيصل‬ ‫يكون ألي كان توجه لالعرتاض ى‬
‫أن يقول‪َّ :‬‬
‫إن الرئيس كندي مات موت الرئيس‬ ‫ألي شخص ح َّت ىى غري الوجوديني الزائفني ْ‬
‫ه‬
‫أي شخص غريه هو‪.‬‬
‫ريتشارد نيكسون‪ ،‬أو موت غاري غولدووتر‪ ،‬أو موت ه‬
‫أن ُخي هلص أحدا من املوت تافهة أيضا‪ ،‬لكن لسبب‬
‫إن قض َّية أ َّنه يف النهاية ال أحد يستطيع ْ‬
‫َّ‬
‫آخر‪َّ .‬إّنا قض َّية واقع َّية وليست صياغة لقاعدة لغو َّية‪ .‬لكنَّها يف الواقع ال ُتؤ هكد أكثر من َّ‬
‫أن‬
‫املهم إدراج كلمة يف النهاية هنا؛ َّ‬
‫ألن ال يف النهاية قد ينقذين‬ ‫اجلميع سيموتون يف النهاية‪ .‬ومن ه‬
‫أحد من موت بالطريقة التي رشحناها سابقا‪ .‬يف النهاية لن يستطيعوا إنقاذي من موت‪ ،‬لكن‬
‫هذا يكون أل َّنني يف النهاية سأموت‪َّ .‬‬
‫إن قض َّية هايدغر ال ُتؤ هكد َّ‬
‫أي حقيقة أكثر من حقيقة‬
‫أ َّنني سأموت‪َّ ،‬إّنا ُتؤ هكد هذه احلقيقة‪ ،‬وبالتال ليست اكتشافا أو استرشافا أو مساهة يف‬
‫ألي يشء‪.‬‬
‫فهمنا ه‬
‫هناك تفسري سهل نسب ًّيا لسبب ارتقاء مبدأ قابل َّية التحول اِّلايدغري إ ىل أكثر من‬
‫للتو‪ .‬يبدو َّأّنام سيصالن إ ىل ما هو أكثر‪ ،‬إذ بعد اإلقرار‬
‫القض َّيتني التافهتني اللتني ناقشناها ه‬
‫باملعنى الذي ُف هِّس فيه طبيع ًّيا‪ ،‬لذلك احتفظ‬
‫ى‬ ‫األول بعدم قابل َّية التحول زائف‬ ‫َّ‬
‫بأن اال هدعاء َّ‬
‫هايدغر باللغة األصل َّية‪ .‬دعنا ُنم هيز بني القضايا الثالث التالية‪:‬‬
‫ُيل إنسان َّ‬
‫حمل آخر‪.‬‬ ‫أن َّ‬
‫يف مسألة املوت ال يمكن ْ‬
‫املوت الذي يموته الشخص هو موته هو‪ ،‬وجيب ْ‬
‫أن يكون موته‪.‬‬
‫أن ُي ِنقذ أحدا من املوت‪.‬‬
‫يف النهاية ال يستطيع أحد ْ‬
‫فهم بشكل عام ليست تافهة‪َّ .‬إّنا تطرح ا هدعاء مثريا‬
‫خالفا لـ (‪ )2‬و(‪ ،)3‬القض َّية (‪ )1‬كام ُت َ‬
‫خرى كإلقاء املحارضات أو‬ ‫بأن التمثيل أو االستبدال ‪ -‬وخالفا ملسائل ُأ ى‬ ‫لالهتامم‪ ،‬اال هدعاء َّ‬
‫أداء دور يف األُوبريا أو معاجلة مريض أو الدفاع عن مو هكل يف قض َّية جرم َّية ‪ -‬ليس ممكنا‬
‫‪ ❖ 456‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل ّ‬
‫األقل من حيث املبدأ ‪-‬‬ ‫عندما يتع َّلق األمر باملوت‪ .‬عمل ًّيا هذا يعني َّ‬
‫أن املحارض يقدر ‪ -‬ى‬
‫عل‬
‫أن ُيصلوا ى‬ ‫أن جيعل شخصا آخر َّ‬
‫ُيل مكانه‪ ،‬أي إ َّن املغنني‪ ،‬واألط ّباء‪ ،‬واملحامني يمكن ْ‬ ‫ْ‬
‫أن نجعل شخصا‬ ‫اخلاصة هبم‪ ،‬لكن يستحيل ‪ -‬من حيث املبدأ ‪ْ -‬‬ ‫َّ‬ ‫بدائل لوظائفهم املهن َّية‬
‫يموت بدال من شخص آخر‪ .‬ولو كان هذا اال هدعاء صحيحا‪ ،‬لكان األكثر إثارة لالهتامم‪،‬‬
‫لكنَّنا رأينا أ َّنه ليس صحيحا‪ .‬فهايدغر يعرتف بذلك وينتقل إ ىل (‪ )2‬و(‪ .)3‬غري أ َّنه ُيتفظ‬
‫باللغة األصل َّية مم َّا ُيوحي خطأ َّ‬
‫بأن القض َّية (‪ )1‬صحيحة‪.‬‬
‫َث َّمة فائدة يف عرضنا لبعض التفاصيل يف مسألة التمثيل َّية أو االستبدال َّية‪ .‬إذ هناك وجه‬
‫شبه دقيق بني املوت من جهة‪ ،‬وبني هذه األنشطة كإلقاء املحارضات‪ ،‬واألداء يف األُوبرا‪،‬‬
‫أتصور أرضا‬
‫َّ‬ ‫املرىض‪ ،‬أو الدفاع عن مو هكل‪ ،‬من جهة ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬لتوضيح الفكرة سوف‬ ‫ى‬ ‫ومعاجلة‬
‫غريبة وشا َّذة ُت ى‬
‫دعى الربتقالة اآلل َّية‪ ،‬يوجد فيها جمتمع من الساد هيني املستبدّ ين يعرفون‬
‫خاصة تسمح ِّلم بقتل شخص يف اجتامعهم‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بـاجلالدين‪ .‬متنح احلكومة هذا املجتمع ميزة‬
‫كل شهر‪ .‬ورشط ذلك‪ ،‬جيب َّأال يكون الفرد الذي‬
‫كل َّأول مساء يوم اثنني من ه‬
‫الذي ُيع َقد يف ه‬
‫وبمجرد ْ‬
‫أن خيتاروا ضح َّيتهم‪ ،‬يطلب‬ ‫َّ‬ ‫أي عضو من أعضاء املجتمع‪.‬‬
‫قررون قتله قد أهان َّ‬
‫ُي ه‬
‫وأن احلكومة أصدرت أمرا‬ ‫أن ُتس هلمه ح ًّيا‪ .‬لنفرض أ َّنني ُ‬
‫اخرتت لالثنني القادم‪َّ ،‬‬ ‫من الرشطة ْ‬
‫املرة َّأّنم يريدون فيلسوفا حمرتفا‪ ،‬فاختاروين بطريقة‬ ‫باعتقال‪ .‬وقد َّقرر َّ‬
‫اجلالدون هذه َّ‬
‫عشوائ َّية من الئحة تضم أعضاء الرابطة الفلسف َّية يف الربتقالة اآلل َّية‪ .‬ولنفرض أيضا َّ‬
‫أن ل‬
‫دعى سموئيل بلو(‪ ،)1‬وكان بلو ينوب عنّي دائام‬
‫مساعدا خملصا‪ ،‬وهو أيضا فيلسوف حمرتف ُي ى‬
‫يف صفويف باملدرسة الرائدة لتعليم الكبار يف الربتقالة اآلل َّية‪ ،‬وهي املدرسة اجلديدة‬
‫أن أموت االثنني القادم حتديدا‪ ،‬ليس أل َّنني أكره املوت‪ ،‬بل‬‫للدراسات اإلنسان َّية‪ .‬أنا ال أريد ْ‬
‫أن أتركه غري مكتمل‪ .‬لذلك أسأل سموئيل بلو إذا‬ ‫أل َّنني أكتب مقاال عن هايدغر وال ُأريد ْ‬
‫رس َّ‬
‫اجلالدين الذي ال يعرتض‬ ‫أن يتل َّطف باحللول مكاين‪ ،‬وهو يوافق‪ .‬فأ َّتصل بأمني ه‬
‫أمكن ْ‬
‫أن بلو هو أيضا فيلسوف حمرتف وأنا متأ هكد من هذا‪ .‬وأخريا يوافق رئيس الرشطة ى‬
‫عل‬ ‫طاملا َّ‬
‫عل بلو و ُيق َتل يف اجتامع يوم االثنني‪ .‬واآلن ُأريد التأكيد‬
‫االستبدال‪ .‬وبناء عليه ُيلقي القبض ى‬

‫‪(1) Samuel Blau‬‬


‫هايدغر واملوت ❖ ‪457‬‬

‫حميل يف‬ ‫عل َّ‬


‫أن حلول بلو مكاين يف مسألة املوت هو يف مجيع االعتبارات مشابه متاما للحلول ّ‬ ‫ى‬
‫املدرسة اجلديدة للدراسات اإلنسان َّية‪ .‬ناب يف املدرسة اجلديدة بإلقاء املحارضات ومناقشة‬
‫املوضوع الذي كنت س ُأناقشه لو كنت موجودا‪ .‬ترك بعض التأثري ى‬
‫عل التالميذ الذين‬
‫باملقرر الذي كنت سأنتجه‪ .‬وهو ينوب ع ّني يف اجتامع َّ‬
‫اجلالدين يوم‬ ‫َّ‬ ‫املقرر الشبيه‬
‫يدرسون َّ‬
‫االثنني بفعل ما كنت سأفعله أو باملعاناة ممَّا كنت س ُأعانيه ويرتك أثرا ى‬
‫عل احلضور (فرضا َّ‬
‫لذة‬
‫ساد َّية) شبيها بالذي كان سينتج عن موت‪ .‬فلو قال أحد اآلن‪ :‬لكنَّه سيموت موته ال موتك‪،‬‬
‫عل‬ ‫ِ‬ ‫حل ّ‬‫مهام أل َّنه َّ‬
‫حميل‪ .‬وهو أيضا مل ُيلق حمارضت‪ ،‬أو ى‬ ‫هذا صحيح‪ ،‬لكنَّه غري ذي أه َّية‪ ،‬ليس ًّ‬
‫فإن قراءته للمحارضة كانت قراءته هو ومل تكن قراءت‪.‬‬ ‫فرض أ َّنني كتبتها وهو قرأها فقط‪َّ ،‬‬
‫(أن ظهوره يف لقاء َّ‬
‫اجلالدين يوم االثنني لن يمنعك من املوت يف‬ ‫ظن أحد حينها َّ‬
‫ولو َّ‬
‫أن هذا صحيح لكن ال عالقة له باملوضوع‪ ،‬فال عالقة له‬‫النهاية)‪ ،‬فاجلواب من جديد‪َّ :‬‬
‫بحقيقة النيابة عنّي يف تلك املناسبة‪ .‬وال صلة له باملوضوع أكثر من قول أحدهم‪( :‬سام بلو مل‬
‫عل الرغم من ظهوره وإلقائه‬
‫ينب يف الواقع عنك يف املدرسة اجلديدة الثالثاء املايض‪ ،‬أل َّنه ى‬
‫أن ُتغ ّطيه‪ ،‬فإ َّنه لن ينوب عنك يف‬
‫حمارضة يف غاية الروعة حول املوضوع الذي كان يفرتض ْ‬
‫مجيع صفوفك املستقبليَّ ة)‪ .‬لكن سيقال‪ :‬يف النهاية ال بلو وال أي شخص آخر يمكن أ ْن‬
‫يمنعني من املوت‪ ،‬يف حني يمكن ‪ -‬مبدئيًّ ا ‪ -‬ألحد غريه أ ْن ينوب عنّ ي يف مجيع‬
‫خرى ال صلة ِّلذا‬
‫ى‬ ‫مر ة أُ‬
‫املحارضات التي ر َّت بت إللقائها يف املستقبل‪ .‬هذا صحيح‪ ،‬لكن َّ‬
‫باملوضوع‪ .‬فهذا ُي هبني أ َّن قضيَّ ة هايدغر(‪ )3‬صحيحة‪ .‬وال ُي هبني أ َّن بلو مل ُي مثه لني يف لقاء‬
‫املعنى الذي مثَّ لني فيه باملدرسة اجلديدة؛ وبشكل عام ال ُي هبني‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫اجلال دين‪ ،‬متاما بنفس‬
‫باملعنى الطبيعي الوحيد للكلمة‪ .‬متاما كإجراء‬
‫ى‬ ‫ّ‬
‫األقل أ َّن املوت ال يقبل التحو ل‬ ‫عل‬
‫ى‬
‫عل حتو ل من القضيَّ ة املثرية لالهتامم لكن الكاذبة(‪،)1‬‬
‫هايدغر‪ ،‬ينطوي هذا الرد احلاسم ى‬
‫إ ىل القضيَّ ة الصحيحة لكن التَّافهة(‪.)3‬‬
‫والنتيجة من هذا النقاش َّ‬
‫أن مبدأ عدم قابل َّية التحول يكون صحيحا بمعان تافهة‪،‬‬
‫بمعنى يكون فيه مثريا لالهتامم‪ .‬ويبدو يف الوقت عينه صحيحا ومثريا لالهتامم‬
‫ى‬ ‫ويكون كاذبا‬
‫‪ -‬فقط ‪ -‬إذا مل يلحظ التحول الذي وصفته بوضوح‪.‬‬
‫‪ ❖ 458‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الوجود ‪ -‬حنو ‪ -‬املوت‪:‬‬


‫كل الوجود هي ني الكبار الذين كتبوا عن املوت (باستثناء ملحوظ لسارتر) يعارضون تعليمهم‬
‫اخلاص باملوضوع الذي ُي َسمونه النظرة اخلارج َّية للموت‪َّ .‬إّنا نظرة ي َّتفق عليها الفالسفة‬
‫َّ‬
‫الوثنيون القدماء‪ ،‬وهيغل وتالميذه‪ ،‬والفالسفة الطبيعيون يف القرن العرشين‪ ،‬وأيضا معظم‬
‫الفالسفة عندما ُيف هكرون باملوت‪ .‬فكام ى‬
‫رأى رشاغ املوت وفقا ِّلذا الرأي «ظاهرة موضوع َّية‬
‫يتعرض له اإلنسان يف ّناية حياته»(‪ .)2‬تتم َّثل‬
‫«جمرد حدث ما ّدي طبيعي َّ‬
‫وخارج َّية» ‪ ،‬إ َّنه َّ‬
‫(‪)1‬‬

‫هذه النظرة اخلارج َّية عادة بالقول الشهري ألبيقور‪( :‬عندما أكون ال يكون املوت‪ ،‬وعندما‬
‫متضمن يف املفهوم العا هم لـ «املوت بوصفه ما ُيصل عندما‬
‫ه‬ ‫يكون املوت ال أكون)‪ .‬وهو‬
‫يتناول املرء جرعة من حامض الكربيت‪ ،‬أو عندما يغرق‪ ،‬أو عندما ينام يف مكان امتأل هواؤه‬
‫بغاز الفخم»(‪ .)3‬يف وجهة النظر اخلارجية هذه خلل أسايس‪ ،‬فرشاغ ُخيربنا َّ‬
‫أن (الوثن َّية‬
‫الكالسيك َّية مل تصل مطلقا إ ىل فهم أصيل حلقيقة املوت الوجودية)‪ .‬وهي‪:‬‬
‫تفشل ‪ -‬كاملثال َّية املوضوع َّية اهليغل َّية ‪ -‬يف حتقيق (التغلغل الذايت) للموت‪.‬‬
‫واليشء نفسه يصح عن املفهوم اليومي للموت‪ .‬يف فهمنا العا ِّم اليومي البسيط‪ ،‬ما‬
‫يشتمل عليه املوت من الناحية الوجود َّية ال يمكن أن يكون ش يفاف ًا(‪.)4‬‬
‫جمرد حدث ما ّدي‬ ‫َّ‬
‫إن اعتبار املوت حقيقة خارج َّية ال يسفر عن فهم سليم ‪ .‬ففرض َّية أ َّنه َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫وطبيعي هي فرض َّية كاذبة(‪ .)6‬ومقابل هذه النظرة اخلارج َّية نحن متأ هكدون َّ‬
‫أن كريكغارد‬
‫توصلوا إ ىل هذا من خالل‬ ‫توصلوا إ ىل فهم سليم للموت‪َّ .‬‬‫وهايدغر وغريها من الوجود هيني َّ‬
‫جعل املوت داخل ًّيا‪ ،‬أي من خالل إظهار َّ‬
‫أن املوت «إمكان داخيل للنفس البرش َّية‪ ،‬إ َّنه انفعال‬
‫أو قلق»(‪.)7‬‬

‫‪(1) EFG, p .100.‬‬


‫‪(2) Ibid. p .113.‬‬
‫‪(3) Ibid., pp. 102 - 103.‬‬
‫‪(4) Ibid. p .102.‬‬
‫‪(5) Ibid. p. 103.‬‬
‫‪(6) Ibid. p. 113.‬‬
‫‪(7) Ibid. p. 98.‬‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪459‬‬

‫يوافق الفالسفة الوجوديون عىل إمكان تفسري املوت أو وصفه بأ َّنه بنية قوام َّية يف‬
‫اخلاص(‪.)1‬‬
‫ِّ‬ ‫الطابع اإلنساين‬
‫اختص هايدغر بتطوير أنطولوجيا املوت التي تدخلن فيها املوت بوصفه شكال من‬ ‫َّ‬
‫أشكال الوجود بحده ذاته(‪ .)2‬يقول األب دمسك‪ :‬إ َّننا ‪ -‬بفضل هايدغر ‪ُ -‬ندرك َّ‬
‫أن املوت بنية‬
‫أن املوت ليس حدثا يضع ّناية حلياة‬ ‫إل َّ‬‫وجود َّية داخل َّية لوجود الـ دازاين ‪ .‬إضافة ى‬
‫(‪)3‬‬

‫درك فيه‬ ‫اإلنسان‪ ...‬إ َّنه ال يكمن يف املستقبل‪ ،‬بل يف الـ ُهنا واآلن‪ُ ،‬يؤ هثر يف ه‬
‫كل فعل ُي َ‬
‫الوجود(‪ .)4‬املوت بوصفه وجود ًّيا هو‪ ...‬صيغة وجود َّية‪ ،‬طريقة كينونة‪ ،‬ويف احلقيقة إ َّنه‬
‫الطريقة التي يوجد فيها الـ دازاين(‪ .)5‬ووفقا لـويليام باريت(‪ )6‬املوت ليس حقيقة عا َّمة تظهر‬
‫اخلاص(‪ .)7‬يكتب غلن غراي‪ :‬إ َّنه ظاهرة‬
‫ه‬ ‫هناك يف العامل؛ إ َّنه يشء ُيصل يف داخل وجودي‬
‫داخل احلياة‪ ،‬ويضيف أ َّنه إذا أدخل يف احلياة بطريقة شخص َّية سيحدث ثورة يف سلوكنا(‪.)8‬‬
‫كربى‪ ،‬فهي أحد األسباب املتع هلقة بـ الصعوبات‬
‫ى‬ ‫ه َّية‬
‫ُتع َترب هذه الدخلنة للموت ذات أ ّ‬
‫املنهج َّي ة التي نواجهها عندما نحاول حتديد طبيعة املوت‪ .‬ولإلجابة عن سؤال‪ :‬ما هو املوت؟‬
‫بوجوب االستعامل الذهني‪« ،‬لنفس املنهج الفينومينولوجي الذي‬ ‫(‪)9‬‬
‫خيطرنا مكواري‬
‫مهمة يف‬
‫يستعمله هايدغر يف باقي التحليل الوجودي» ‪ .‬فقد أسفر هذا املنهج عن نتائج َّ‬
‫(‪)10‬‬

‫دراسة الفهم‪ ،‬والطباع‪ ،‬والكالم‪ ،‬والقلق‪ ،‬واالهتامم‪ ،‬والتعاطف‪ .‬ويمكن ْ‬


‫أن تستكشف هذه‬
‫نى فينومينولوج ًّي ا يف عيشنا من خالِّلا‪ ،‬لكن إذا كان املوت كام اعتقد أبيقور‪ ،‬أي إذا كان‬
‫ال ُب ى‬

‫‪(1) Ibid. p. 96.‬‬

‫‪(2) Ibid. p. 95.‬‬

‫‪(3) BMD, p. 72.‬‬


‫‪(4) Ibid. p. 7.‬‬
‫‪(5) Ibid. p. 25.‬‬
‫‪(6) William Barrett.‬‬
‫‪(7) WE, p. 63.‬‬
‫‪(8) PD, p. 53.‬‬
‫‪(9) Macquarrie.‬‬
‫‪(10) Studies in Christian Existentialism (hereafter cited as SCE), p. 51.‬‬
‫‪ ❖ 460‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بأي‬
‫واقعا خارج ًّيا‪ ،‬ال نستطيع اكتشافه فينومينولوج ًّيا طاملا أ َّننا لن نكون موجودين للقيام ه‬
‫يرى َّ‬
‫أن‬ ‫اكتشاف عندما ُيدث‪ .‬وقد أ َّكد األب بوروس هذه الصعوبات املنهج َّية‪ .‬فهو ى‬
‫جرب املوت مبارشة»(‪ ،)1‬فمراقبة الناس اآلخرين‬
‫«التفكر الفلسفي يف املوت مل يثمر أل َّننا مل ُن ه‬
‫لن ُّتربنا ما هو املوت‪َّ .‬‬
‫ألن ما نراه‪:‬‬
‫عندما نراقب إنسان ًا عىل فراش املوت ليس بالتأكيد احلقيقة الداخلية املوت‪ ،‬إ َّنه‬
‫الوجه اخلارجي للموت(‪.)2‬‬
‫أن نأمل (تل ّقي إجابة حاسمة كاشفة من ُأناس كانوا قريبني من املوت‪،‬‬
‫كام أ َّننا ال نستطيع ْ‬
‫عل جواب حاسم أو‬ ‫أن نحصل ى‬ ‫أو الذين تركهم املوجودون حوِّلم للموت)‪ .‬ال نستطيع ْ‬
‫كاشف من ُأناس كانوا قريبني من املوت‪َّ ،‬‬
‫ألّن م كانوا قريبني من املوت فقط‪ ،‬وبالتال مل‬
‫أي‬
‫عل ه‬ ‫خيتربوا املوت الذي خيتلف عن القرب من املوت‪ .‬وللسبب عينه ال يمكننا ْ‬
‫أن نحصل ى‬
‫رؤى عميقة‬
‫أن «كثريا منهم قد اكتسب ى‬‫(مساعدة من املعن هيني مهن ًّيا بالذين يموتون)‪ .‬رغم َّ‬
‫احلظ استطاعت (الفلسفة احلديثة ْ‬
‫أن تتقدَّ م كثريا)‬ ‫ه‬ ‫حيال الرصاع مع املوت»(‪ .)3‬لكن حلسن‬
‫عل هذه الصعوبات‪ .‬وليس مستغربا َّ‬
‫أن الفلسفة احلديثة التي أشار إليها‬ ‫من أجل التغلب ى‬
‫األب بوروس هي التي رشحها مارتن هايدغر يف كتاب الوجود والزمن‪ .‬ب َّينت هذه الفلسفة‬
‫وأن «املوت يكون حارضا يف ه‬
‫كل فعل وجود من‬ ‫أن «املوت وسيلة أساس َّية للعيش»(‪َّ ،)4‬‬
‫َّ‬
‫البداية»(‪ .)5‬ويقول مكواري ما يشبه ذلك‪ :‬إ َّن «الوجود هو املوت‪ ،‬وإ َّن املوت حارض عندنا‪،‬‬
‫(بمعنى ما‪ ،‬موجود يف احلارض بالفعل) وبالتال «يمكن‬
‫ى‬ ‫وبطريقة ما‪ ،‬إ َّنه يف متناولنا»(‪ .)6‬إ َّنه‬
‫للمح هلل الوجودي ْ‬
‫أن يصل إليه‪ ...‬من خالل التحقيق»(‪ .)7‬هبذه الطريقة نكون قد جتاوزنا‬

‫‪(1) MT, p. 8.‬‬

‫‪(2) Ibid. p. 1.‬‬

‫‪(3) Ibid.‬‬
‫‪(4) Ibid. p. 8.‬‬
‫‪(5) Ibid. p. 9.‬‬
‫‪(6) SCE, p .51.‬‬
‫‪(7) Ibid., p. 55.‬‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪461‬‬

‫األول َّية‪ ،‬أل َّنه بوصفه شيئا حارضا يف ه‬


‫كل فعل وجود ويمكن الوصول إليه‬ ‫الصعوبة املنهج َّية ّ‬
‫يف احلارض‪ ،‬إذا يمكن اكتشاف املوت فينومينولوج ًّيا‪.‬‬
‫أن املوت ليس خارج ًّيا‪ ،‬بل داخيل‬ ‫كيف يمكن حتقيق فعل دخلنة املوت؟ وكيف ُن هبني َّ‬
‫عل هذه النتيجة من خالل حتليل ما ُأعلن أ َّنه معان خمتلفة‬ ‫تم احلصول ى‬‫وأ َّنه طريقة حياة؟ َّ‬
‫لكلمة ّناية‪ ،‬واملعاين املقابلة لـ املوت‪ .‬يقول هايدغر‪:‬‬
‫بأي معنى ‪ -‬إذا ُو ِجدَ معنى ‪ -‬جيب أن نفهم املوت بوصفه ّناية‬
‫رضوري أن نسأل ِّ‬
‫للـ دازاين؟‬
‫لإلجابة عن هذا السؤال ال بدَّ من مناقشة املعاين املختلفة لـ االنتهاء‪ .‬الحظ رشاغ ‪-‬‬
‫أن (االنتهاء بشكل عام يعني التو ّق ُ‬
‫ف)‪ ،‬غري‬ ‫الذي يغوص يف التفاصيل أكثر من هايدغر ‪َّ -‬‬
‫أ َّنه يضيف َّ‬
‫أن التوقف عن الوجود له تغريات(‪ )1‬خمتلفة‪ .‬ي َّتضح أحد هذه التغريات أو املعاين‬
‫يف املثل الذي رضبه هايدغر ‪ -‬توقف املطر‪ .‬يرضب رشاغ مثل ّناية الصيف‪ .‬هنا لدينا‬
‫اخلاص مل يعد‬
‫ه‬ ‫انتهى هو املطر أو الصيف‪ ،‬وباالصطالح اِّلايدغري‬ ‫ى‬ ‫اختفاء ‪ -‬أ َّن الذي‬
‫ِ‬
‫بمعنى آخر االنتهاء يعني اإلمتام‪ .‬ينهي الفنّان عمله عندما ُيتم رسام بآخر‬ ‫حارضا يف املتناول‪.‬‬
‫ى‬
‫أن يستكمل‬ ‫رضبة من فرشاته‪ .‬وقد حصل تغري آخر لالنتهاء من خالل حاالت ال يمكن ْ‬
‫العمل فيها‪ ،‬وبتعبري رشاغ‪:‬‬
‫أن الرتبة التي جيب أن ُحت َفر فيها موحلة‬ ‫كام عندما يتو َّقف حفر قناة عندما َّ‬
‫يتبني َّ‬
‫جدا(‪.)2‬‬
‫إل‬
‫عل تغري رابع عندما يستنفذ يشء‪ ،‬مثال التزود بالبنزين أو عندما نصل ى‬ ‫وهناك مثل ى‬
‫ّناية رغيف اخلبز‪ .‬يذكر هايدغر حالة ُأ ى‬
‫خرى خمتلفة جدًّ ا عن ه‬
‫كل ما ُس هجل ح َّت ىى اآلن‪ .‬إذا‬
‫اختفى‪ .‬وهذا خيتلف عن البنزين الذي‬
‫ى‬ ‫عل َّ‬
‫أن الطريق‬ ‫وصلنا إ ىل ّناية الطريق‪ ،‬فهذا ال يدل ى‬
‫استنفذ‪ ،‬واخلبز الذي ُأكِ َل‪ ،‬أو املطر الذي تو َّقف‪ ،‬فالطريق ما زال موجودا‪ .‬يقول هايدغر‪:‬‬
‫هذا االنتهاء مل جيعل الطريق خيتفي‪ ،‬لكنَّه حمدِّ د لطريق كهذا الطريق احلارض ‪ -‬يف‬
‫‪ -‬متناولنا‪.‬‬

‫‪(1) EF, p. 112.‬‬


‫‪(2) Ibid. p. 112.‬‬
‫‪ ❖ 462‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫هناك حديث عن اإلنجاز يف هذه املرحلة‪ .‬ليس واضحا إذا كان جيب اعتبار اإلنجاز‬
‫معنى االنتهاء‪ .‬فهايدغر يعترب اإلنجاز صيغة ملا ُيس ّميه‬ ‫ى‬ ‫معنى جديدا أو تغيريا يف‬
‫‪ fertigwerden‬التي يرتمجها قاموس ‪ M-R‬بـاالنتهاء‪ ،‬وهي تعني باللغة األملان َّية العاد َّية‬
‫اإلكامل‪ .‬يقول هايدغر‪َّ :‬‬
‫إن «اإلنجاز نوع من اإلّناء‪ ،‬ويقوم عليه»‪ .‬لكنَّهام ‪ -‬هو ورشاغ ‪-‬‬
‫بمعنى اإلكامل أو اإلمتام ال يعني بالرضورة‬
‫ى‬ ‫عل َّ‬
‫أن االنتهاء‬ ‫يرصان ‪ -‬وهذا صحيح ‪ -‬ى‬ ‫ّ‬
‫اإلنجاز‪ .‬فكام يقول رشاغ‪:‬‬
‫املرشوع قد ينتهي بمعنى أ َّنه َّ‬
‫تم ثم ُيق َّيم باعتباره منجز أو غري منجز‪ ،‬كام عندما‬
‫إن اإلنجاز انتهى بشكل ج ِّيد أو انتهى بشكل ضعيف(‪.)1‬‬
‫نقول‪َّ :‬‬
‫معنى من هذه املعاين يشكل موت الـ دازاين ّنايته؟ اجلواب‪ :‬ليس بأي منها‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫ى‬ ‫بأي‬
‫ه‬
‫كثريا من ال ُق ّراء م َّطلعون ى‬
‫عل التمييز األسايس الذي يضعه هايدغر بني الـ دازاين من جهة‪،‬‬
‫والكيانات اجلاهزة يف املتناول واحلارضة يف املتناول من جهة ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬هذا التمييز شبيه‬
‫لدى العديد من غري الوجود هيني وهو يشبه إ ىل حد‬
‫بالتمييز بني األشخاص واألشياء املوجود ى‬
‫كبري متييز سارتر بني لذاته ويف ذاته‪ .‬يمتلك البرش بعض اخلصائص التي ال متلكها اجلامدات‬
‫عل امتالكهم لتلك اخلصائص‪ .‬هنا‬
‫سم ىى البرش دازاين للداللة ى‬
‫والنباتات واحليوانات؛ و ُي ّ‬
‫أن معاين وصيغ أو تغريات االنتهاء التي عدَّ دناها سابقا ال تنطبق َّإال ى‬
‫عل غري‬ ‫يدَّ عي هايدغر َّ‬
‫وألن البرش خيتلفون جذر ًّيا عن اخلبز‪ ،‬والرسوم أو الطرقات‪ ،‬واملطر‪َّ ،‬‬
‫فإن ّنايتهم‬ ‫َّ‬ ‫الـ دازاين‪.‬‬
‫كل تلك الكيانات األُ ى‬
‫خرى‪:‬‬ ‫خمتلفة جذر ًّيا عن ّناية ه‬
‫خاص َّية مناسبة لنهاية الـ دازاين‪.‬‬ ‫ال يمكن للموت بأي من هذه الصيغ لالنتهاء ْ‬
‫أن يكون ّ‬
‫بمعنى االنتهاء الذي ناقشناه ‪ -‬إذا سيكون التعامل‬
‫ى‬ ‫فاملوت بوصفه كونا يف النهاية ‪ -‬إذا ُف ِه َم‬
‫مع الـ دازاين كيشء حارض باملتناول أو جاهز باملتناول‪ .‬يف املوت‪ ،‬الـ دازاين مل ينجز ومل‬
‫ِ‬
‫خيتف فقط‪ ،‬مل يصبح منتهيا‪ ،‬وال هو بالكامل يف ترصف املرء بوصفه شيئا جاهزا يف املتناول‪.‬‬
‫عل وجود الـ دازاين‬ ‫َّ‬
‫إن تغريات االنتهاء التي ناقشناها ح َّت ىى اآلن ‪ -‬بتعبري رشاغ ‪« -‬ال تنطبق ى‬
‫الفريد‪ ،‬وبالتال ال يمكن استعامله لوصف املوت باعتباره ّناية لوجوده ‪ -‬يف ‪ -‬العامل»‪.‬‬

‫‪(1) EF, p .112.‬‬


‫هايدغر واملوت ❖ ‪463‬‬

‫بأي معنى يكون املوت ّناية الـ دازاين؟ لإلجابة عن هذا السؤال علينا ْ‬
‫أن نرشح بإجياز‬ ‫ه‬
‫سميه رشاغ‬
‫مفهوما أساس ًّيا من مفاهيم كتاب الوجود والزمن‪ ،‬الوجود َّية أو االستباق أو ما ُي ّ‬
‫بمعنى َّأّنم قلقون وال يسعهم َّإال‬
‫ى‬ ‫التوقع ‪ -‬وفقا ِّلايدغر ‪ -‬يكون البرش دائام أمام أنفسهم‪،‬‬
‫ْ‬
‫أن يبدوا قلقهم حيال مستقبلهم‪ .‬ولتفسري سلوك أو حركة األشياء غري احل َّية ومعظم أو مجيع‬
‫ألّنا ال‬ ‫األشياء احل َّية غري اإلنسان‪ ،‬ال نحتاج ْ‬
‫أن نأخذ بنظر االعتبار قلقها ع ىل املستقبل‪َّ ،‬‬
‫أن نفهم سلوكهم الراهن أو‬ ‫تشعر هبذا القلق‪ .‬من جهة ُأ ى‬
‫خرى ‪ -‬يف حال البرش ‪ -‬ال نستطيع ْ‬
‫أن نأخذ قلقهم حيال املستقبل بنظر االعتبار‪ .‬قد أضطر يف األثناء ْ‬
‫أن أقول‬ ‫أحواِّلم من دون ْ‬
‫عل االستخدامات املختلفة التي وضع ِّلا هايدغر هذا املفهوم‪ ،‬فإ َّنني ال‬ ‫رغم اعرتايض ى‬
‫ُأناقش مطلقا حقيقة َّ‬
‫أن البرش يتم َّيزون بالوجود َّية أو االستباق‪ .‬يعتقد هايدغر أ َّننا لو احتفظنا‬
‫املعنى املحدَّ د الذي خيتلف جذر ًّيا عن مجيع‬
‫ى‬ ‫هبذه الصفة الك ّل َّية لالستباق‪ ،‬فسوف نكتشف‬
‫أن املوت هو ّناية الـ دازاين‪:‬‬‫خرى للموت‪ ،‬الذي يعني َّ‬ ‫املعاين األُ ى‬
‫عل ‪-‬‬ ‫االنتهاء الذي نقصده عندما نتحدَّ ث عن املوت ال يعني َّ‬
‫أن الـ دازاين وجود ‪ -‬ى‬
‫النهاية‪ ،‬بل وجود ‪ -‬نحو ‪ّ -‬ناية هذا الكيان‪.‬‬
‫املوت ‪ -‬بوصفه ّناية الـ دازاين ‪ -‬هو يف وجود هذا الكيان نحو ّنايته‪.‬‬
‫يقول رشاغ‪:‬‬
‫خاص َّية التوقع عند الـ دازاين أو يف استباقه‪ .‬وهذا‬
‫ي‬ ‫إن ظاهرة املوت تنكشف يف‬
‫َّ‬
‫ُيقدِّ م فه ًام وجوديا للموت‪ ،‬وإذا فهم املوت وجوديا ال يعني وجود ًا ‪ -‬يف ‪ -‬النهاية‪.‬‬
‫التوضيح الوجودي ملعنى النهاية يسمح لنا باعتبار املوت وجد ح َّتى النهاية(‪.)1‬‬
‫بالنسبة للمف ِّكر الذايت(‪ )2‬املوت حقيقة حارضة(‪.)3‬‬
‫املوت نوع من القلق اإلنساين ‪ ...‬الذي ينكشف فيه زوال الوجود(‪.)4‬‬

‫‪(1) EF, p .113.‬‬


‫‪(2) subjective‬‬
‫‪(3) Ibid. p. 108.‬‬
‫‪(4) Ibid. p. 97.‬‬
‫‪ ❖ 464‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن اإلنسان هو مستقبله فعال‬ ‫بمعنى حريف متاما ‪َّ -‬‬


‫ى‬ ‫أن هايدغر يؤمن ‪-‬‬ ‫يبدو َّ‬
‫خاصته‪ ،‬وبالتال ال جيد صعوبة يف استنتاج َّ‬
‫أن ّناية الـ دازاين تكون حارضة‬ ‫َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫والـ ليس بعد‬
‫بالفعل عندما يكون ح ًّيا‪:‬‬
‫مستمرة طاملا‬
‫َّ‬ ‫خاصته‬
‫خاصته‪ ،‬والـ ليس بعد َّ‬
‫أن الـ دازاين هو بالفعل الـ ليس بعد َّ‬‫وكام َّ‬
‫فإّنا فعال ّنايته أيضا‪.‬‬
‫أ َّنه كائن‪َّ ،‬‬
‫املوت ليس شيئا يأت إليه الـ دازاين يف النهاية فقط عند موته‪ ،‬يف الـ دازاين بوصفه وجودا‬
‫خاص به فعال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أسمى ليس بعد‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫نحو موته‪ ،‬فهو يشتمل ى‬
‫إضافة إ ىل َّ‬
‫أن الـ دازاين « ُيمده د نفسه بطريقة يكون نفس وجوده متش هكال مسبقا بوصفه‬
‫متدد إ ىل األمام»‪.‬‬
‫عل كامل‬ ‫هبذه الطريقة ‪ -‬بواسطة االستباق واالمتداد ‪ -‬يمكن ْ‬
‫أن يشتمل الـ دازاين ى‬
‫اخلاص‪.‬‬
‫ه‬ ‫أن يلحق بركب موته‬‫أن يأخذ مسبقا بق َّية حياته‪ ،‬ويمكنه كذلك ْ‬
‫مستقبله‪ .‬يمكنه ْ‬
‫ألن االستباق إ ىل اإلمكان َّية التي ال يمكن ّت هطيها يكشف أيضا َّ‬
‫كل اإلمكان ّيات‬ ‫نظرا َّ‬
‫املاثلة أمام تلك اإلمكان َّية (يعني كل األحداث التي ستحصل قبل موت املرء)‪ ،‬يشمل هذا‬
‫كل الـ دازاين مسبقا‪.‬‬ ‫االستباق إمكان َّية أخذ ه‬
‫ُيظى بموافقة تا َّمة من تالميذ‬
‫ى‬ ‫وغني عن القول َّ‬
‫إن هذا املزج بني احلارض واملستقبل‬
‫هايدغر املختلفني‪ .‬كام يقول غلفن‪:‬‬
‫إن عنرص الـ ليس بعد يف الوجود اإلنساين‪ ،‬هو يشء موجود بالفعل‪ .‬والـ دازاين‬
‫َّ‬
‫خاصته‪ .‬إضاف ًة إىل َّ‬
‫أن موت الـ دازاين الذي ليس‬ ‫بمعنى حقيقي هو فع ً‬
‫ال الـ ليس بعد َّ‬
‫حي وموجود(‪.)2‬‬ ‫بعد متاح فع ً‬
‫ال لالستعالم يف دازاين ي‬
‫وعل هذا املنوال‪ُ ،‬يؤ هكد لنا رشاغ َّ‬
‫أن‪:‬‬ ‫ى‬
‫املستقبل الوجودي حارض فعالً‪ ...‬واملستقبل ليس شيئ ًا سيصبح واقع ًا عىل ِّ‬
‫مر‬
‫الزمن يف تاريخ الحق‪ .‬املستقبل واقع بالفعل‪.)3(...‬‬

‫‪(1) “not - yet”.‬‬


‫‪(2) CBT, p .147.‬‬
‫‪(3) EF, p .127.‬‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪465‬‬

‫ومن جديد‪:‬‬
‫يف التوقع الوجودي‪ُ ،‬جي َلب املستقبل إىل احلارض(‪.)1‬‬
‫والـ دازاين بوصفه وجود ًا مليئ ًا بالنشوة يمتد إىل ‪ ...‬مستقبل يكون فيه بالفعل(‪.)2‬‬
‫ووفقا لـ غلن غراي‪:‬‬
‫يتحرر املستقبل إذا ُف ِه َم كجزء من احلارض‪ ...‬سريى املستقبل منتمي ًا‬
‫َّ‬ ‫يمكن أن‬
‫للحارض بشكل أسايس‪ ...‬جيب النظر إىل املستقبل بطريقة جديدة‪ ،‬بوصفه جزء ًا من‬
‫اللحظة الوجود َّية‪ ...‬نحن نفهم مصطلح املستقبل بوصفه ُبعد ًا من أبعاد احلارض(‪.)3‬‬
‫اخلاص‬
‫َّ‬ ‫كل الوقت‪ ،‬ويقول‪َّ :‬‬
‫إن الـ دازاين‬ ‫كل البرش يموتون َّ‬ ‫«إن َّ‬
‫كرر هايدغر قوله‪َّ :‬‬
‫ُي ه‬
‫باملرء يف حالة موت دائم»‪َّ .‬‬
‫(إن الـ دازاين يف حالة موت طاملا أ َّنه موجود‪ .‬ومتاما) الـ دازاين‬
‫يف حالة موت واقعا وفعال دائام‪ ،‬طاملا أ َّنه مل يصل إ ىل حتفه‪ .‬من الواضح َّ‬
‫أن هذه التعابري هي‬
‫بأن احلياة اإلنسان َّية هي وجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪ .‬وعندما‬‫خرى للتعبري عن االعتقاد َّ‬‫طريقة ُأ ى‬
‫كل البرش يموتون َّ‬
‫كل الوقت‪ ،‬فإ َّنه ال يشري إ ىل حقيقة أ َّن اخلاليا متوت دائام‬ ‫أن َّ‬
‫ُيؤ هكد هايدغر َّ‬
‫أن تكون حياة اإلنسان‬ ‫يف أجسام البرش‪ .‬فهايدغر غري مهتم هبذه التفاصيل البيولوج َّية‪ْ .‬‬
‫عرف (وأنا أفرتض َّ‬
‫أن هايدغر يقول‪ :‬إ َّنه معروف‬ ‫وجودا ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت أمر كان يمكن ْ‬
‫أن ُي َ‬
‫بالفعل‪ ،‬رغم أ َّنه ليس بالطريقة الواضحة التي ُيق هنن فيها كتاب الوجود والزمن هذه املعرفة)‬
‫أن يعرف علامء البيولوجيا بوقت طويل َّ‬
‫أن اخلاليا متوت باستمرار ح َّت ىى قبل اكتشاف‬ ‫قبل ْ‬
‫وجود اخلاليا بوقت طويل‪ُ .‬يصنهف هايدغر احلقائق البيولوج َّية بخانة املوجود َّية(‪ْ .)4‬‬
‫وأن‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫وعل الرغم من َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫تكون احلياة البرش َّية وجودا ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت هو أمر وجودي(‪.)5‬‬
‫رشح بوضوح‪ ،‬يبدو َّ‬
‫أن هايدغر ال يعترب خصائص الكائن البرشي أنطولوج َّية‬ ‫أنطولوجي مل ُي َ‬
‫إذا مل تكون بشكل ما مرتبطة بالرضورة بجزء من دستور إنسان َّيتها؛ والوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‬

‫‪(1) Ibid. p. 141.‬‬


‫‪(2) Ibid. p. 146.‬‬
‫‪(3) PD, pp .59 - 60.‬‬
‫‪(4) Ontic.‬‬
‫‪(5) Ontological.‬‬
‫‪ ❖ 466‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫مرتبط باألساس بإنسان َّيته يف حني َّ‬


‫أن احلقائق التفصيل َّية التي اكتشفها علامء البيولوجيا ليست‬
‫مرتبطة هبا‪.‬‬
‫باملعنى الوجودي أو األنطولوجي‪.‬‬
‫ى‬ ‫ُّتربنا مالحظات الفقرة السابقة َّ‬
‫عام ال يعنيه املوت‬
‫وهي ال ُّتربنا ما ال تعنيه؛ وأنا ال أعتقد َّ‬
‫أن أ ًّيا من املقاطع التي اقتبستها من هايدغر أو من‬
‫فِّس بوضوح مضمون الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪ .‬ولنكتشف هذا علينا ْ‬
‫أن‬ ‫رشاغ أو دمسك ُي ه‬
‫بأّنا وجود ‪-‬‬
‫ُنحده د الرشوط الرضور َّية والكاف َّية التي جيب تلبيتها من أجل وصف احلياة َّ‬
‫باملعنى البيولوجي‪.‬‬
‫ى‬ ‫أن الكيان ينبغي ْ‬
‫أن يموت‬ ‫أن أحد الرشوط هو َّ‬
‫نحو ‪ -‬املوت‪ .‬واضح َّ‬
‫فكام أفهم هايدغر‪َّ ،‬‬
‫إن حياة البرش ال تكون حتام وجودا ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت إذا عاشوا إ ىل األبد‬
‫ألن هايدغر وأتباعه ُيؤ هكدون ى‬
‫عل‬ ‫أن هذا الرشط غري كاف‪َّ .‬‬
‫باملعنى البيولوجي‪ .‬لكن واضح َّ‬
‫ى‬
‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫َّ‬
‫أن حياة النباتات واحليوانات ليست وجودا ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت رغم أ َّّنم أيضا يموتون‬
‫البيولوجي(‪.)1‬‬
‫نسب الوجود ‪-‬‬‫ما الذي يصح عل البرش وال يصح عل النباتات واحليوانات‪ ،‬وجيعلنا ُن ِ‬
‫ى‬ ‫ى‬
‫نس به للنباتات واحليوانات؟ بعض مالحظات هايدغر هبذا‬ ‫نحو ‪ -‬املوت لإلنسان وال ُن ِ‬

‫اخلصوص مبهمة‪ ،‬لكن عددا من أتباعه كانوا أكثر وضوحا‪ ،‬وأعتقد َّ‬
‫أن فهم ما كان يدور يف‬
‫عرب األب دمسك َّ‬
‫إن‪:‬‬ ‫خلده سهل جدًّ ا‪ .‬إذ كام َّ‬

‫باملعنى املوجودي الذي هو الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪،‬‬


‫ى‬ ‫(‪ )1‬باإلضافة إ ىل التمييز بني املوت البيولوجي واملوت‬
‫األول فناء والثانيتوقف‪ ،‬احليوانات‬
‫سمي َّ‬ ‫ُيم هيز هايدغر بني معنيني خمتلفني للموت البيولوجي‪ُ .‬ي ّ‬
‫فنى بل يتو َّقف‪ .‬التوقف وفقا لرشاغ يشري إ ىل االنتهاء‬
‫فنى والـ دازاين ال يمكن أ ْن ُي ى‬
‫والنباتات ُت ى‬
‫البيوولوجي حلياة اإلنسان االنعدام املوجودي‪ .‬واعتقد أ َّن التمييز بني الفناء والتوقف يقصد حقيقة أ َّن‬
‫عل انتهاء وجودهم الذهني‬ ‫اإلنسان أكثر من كائن بيولوجي‪ ،‬وأ َّنه كائن واع‪ ،‬وبالتال َّ‬
‫فإن موته يشتمل ى‬
‫أن هذا هو املقصود‪َّ ،‬‬
‫ألن احليوانات العليا أيضا‬ ‫أن أجزم َّ‬
‫وليس اجلسدي فحسب‪ .‬ولكنَّني ال أستطيع ْ‬
‫عل ثنائيَّة يبدو َّ‬
‫أن هايدغر يعارضها يف مكان آخر من‬ ‫َّ‬
‫وألن الكالم هبذه الطريقة يشتمل ى‬ ‫كائنات واعية‪،‬‬
‫الوجود والزمن‪ .‬من دون إنكار االختالفات بني اإلنسان من جهة‪ ،‬والنباتات واحليوانات من جهة‬
‫أرى هنا َّ‬
‫أن هناك معنيني خمتلفني للموت البيولوجي أو معنيني لالنتهاء‪ ،‬وقد نوقشت هذه‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬ال ى‬
‫النص‪.‬‬
‫املسائل بشكل كامل يف الصفحات ‪ 181‬و‪ 182‬من ه‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪467‬‬

‫الكائنات احل َّية غري البرش َّية يصلون إىل النهاية بالفعل‪ ،‬لكنَّهم ال ي َّتخذون موقف ًا‬
‫يتع َّلق بتوقفهم‪ ،‬وبالتايل ليس لدهيم وجود ح َّتى النهاية(‪.)1‬‬
‫وكام يف املقطع الذي اقتبسناه سابقا‪ ،‬يتحدَّ ث رشاغ عن الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت باعتباره‬
‫املعنى ‪ ،-‬ال تعرف النباتات واحليوانات‬
‫ى‬ ‫ُأسلوب قلق‪ .‬فالبرش يعرفون َّأّنم سيموتون ‪ -‬هبذا‬
‫لدى احليوانات خوف غريزي من املوت‪ ،‬لكن هذا ليس كالوعي الواضح‬
‫َّأّنا ستموت‪ .‬ى‬
‫باملوت‪ ،‬وهذا بالتأكيد ليس ما يقصده هايدغر عندما يتحدَّ ث عن القلق الذي خيتلف عن‬
‫اخلوف‪ ،‬أي إدراك َّ‬
‫أن املوت يعني االنقراض التا ّم أو البطالن التا ّم‪ .‬ما يعرفه البرش عن موهتم‬
‫وعل عواطفهم‪ .‬باختصار‬
‫ى‬ ‫عل سلوكهم‬ ‫أن يكون له ‪َّ -‬‬
‫كل أنواع التأثري اِّلا هم ى‬ ‫له ‪ -‬أو يمكن ْ‬

‫إن البرش خالفا للنباتات واحليوانات ُيف هكرون بموهتم‪ ،‬وقلقون حيال موهتم‪ ،‬وأحيانا ى‬
‫عل‬ ‫َّ‬
‫ليترصفوا هبا لو مل يكونوا مدركني ملوهتم‪ .‬ووفقا ِّلايدغر‬
‫َّ‬ ‫يترصفون بطريقة مل يكونوا‬
‫َّ‬ ‫األقل‬
‫بأي شكل‬ ‫عل َّ‬
‫أن الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت ليس أمرا نستطيع منعه‪ ،‬وليس ‪ -‬ه‬ ‫ال بدَّ من التأكيد ى‬
‫أن يكون وجودنا ‪ -‬نحو ‪-‬‬‫من األشكال ‪ -‬خاضعا لسيطرتنا اإلراد َّية‪ .‬ما خيضع إلرادتنا هو ْ‬
‫أن سري‬ ‫إن الـ دازاين ُيزم أمره دائام بطريقة أو ب ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬والشائع َّ‬ ‫املوت أصيل أو غري أصيل‪َّ .‬‬
‫الـ دازاين نحو املوت هو من النوع غري األصيل‪ .‬تقريبا ويف أغلب األحوال خيفي الـ دازاين‬
‫أقىص ما يملك من وجوده ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪ ،‬هاربا من وجهه‪ .‬اِّلروب الساقط يوم ًّيا من وجه‬
‫ى‬
‫املوت هو وجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت غري أصيل‪ .‬لكن هذا السلوك اِّلروب ال يقل بوجوده ‪-‬‬
‫نحو ‪ -‬املوت عن احلقيقة األصيلة‪:‬‬
‫ويف سقوطه وهروبه من وجه املوت هكذا‪ ،‬تشهد يوم َّية الـ دازاين َّ‬
‫أن الـ ُهم(‪ )2‬نفسها‬
‫خاص َّية حمده دة للوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت ح َّت ىى عندما ال ينشغل رصاحة بالتفكري‬
‫ّ‬ ‫متلك فعال‬
‫باملوت‪.‬‬
‫املوت هو قض َّية دائمة للـ دازاين ح َّت ىى يف كليومعادي‪.‬الـ دازاين اليومي ليس ّ‬
‫أقل من‬

‫‪(1) BMD, p. 95.‬‬

‫‪(2) they‬‬
‫‪ ❖ 468‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫دازاين أصيل هو نحو ّنايته‪ ،‬أي ي َّتجه باستمرار نحو مواجهة موته ْ‬
‫وإن كان ذلك يف حالة‬
‫هروب َّية‪ .‬ليس الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت أمرا ُُي هصله الـ دازاين لذاته ‪ ...‬أحيانا يف مسار‬
‫وجوده‪َّ .‬‬
‫إن الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت ُيم هيز الـ دازاين من البداية‪ .‬ينتمي أساسا إ ىل قذف‬
‫الـ دازاين الذي يكشف نفسه يف حالة ذهن َّية بطريقة أو ب ُأ ى‬
‫خرى‪.‬‬
‫أن حياة اإلنسان وجود ‪ -‬نحو ‪-‬‬ ‫أن َّ‬
‫كل املقصود بتعبري هايدغر َّ‬ ‫وضح الكالم السابق َّ‬
‫ُي ه‬
‫عل خالف النباتات واحليوانات إ َّن البرش قلقون حيال‬ ‫املوت‪َّ ،‬أوال َّ‬
‫أن البرش يموتون‪ ،‬وثانيا ى‬
‫عل هذا الكالم ليس‬
‫موهتم‪ ،‬بطريقة هروب َّية أو غري هروب َّية‪ ،‬وهم يعرفون ذلك‪ .‬االعرتاض ى‬
‫أ َّنه كاذب‪ ،‬بل إ َّنه تافه‪ .‬أعلن هايدغر وتالمذته هذا االعتقاد بنوع من اللغط الذي ُيدَّ خر‬
‫تكون هو أ َّنه اكتشاف كبري أو بصرية‬
‫كربى باملعرفة اإلنسان َّية‪ .‬االنطباع الذي َّ‬
‫ى‬ ‫عادة ملساهة‬
‫صحح وجهة نظر املف هكرين الوثن هيني القدماء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫األقل َّ‬ ‫عل‬ ‫نافذة؛ وفهمنا َّ‬
‫أن هايدغر فنَّد‪ ،‬أو ى‬
‫والفالسفة الطبيعان هيني‪ ،‬وعوا هم الناس‪ ،‬التي تعترب املوت حقيقة خارج َّية‪ .‬من السهل ْ‬
‫أن ُن هبني‬
‫بأي شكل‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫أن مبدأ هايدغر ليس اكتشافا ليشء‪ ،‬وال ُجي هسد بصرية نافذة‪ ،‬وأ َّنه ال ُيدحض ه‬
‫صحح‪ ،‬وجهة النظر التي تعترب املوت حقيقة خارج َّية‪ .‬ما ينص عليه هذا املبدأ هو يف الغالب‬
‫ُي ه‬
‫من احلقائق الشائعة التي ال خيتلف عليها الوثنيون‪ ،‬والطبيعيون أو عوام الناس‪ ،‬لكنَّه يصوغه‬
‫بلغة طنّانة ومض هللة بشكل خيال‪ .‬قدَّ م لنا تفاهات‪ ،‬مصحوبة ببعض االفرتاءات وبعض‬
‫األول َّية وجمموعة من التعريفات اجلديدة اخلاطئة‪.‬‬
‫الفروقات َّ‬
‫ولكي ُن هبني خواء املعتقد اِّلايدغري وامليزة السلب َّية أللعاب هايدغر اللفظ َّية من املفيد‬
‫(باملعنى العادي)‬
‫ى‬ ‫عل متييز بسيط ال جيادل فيه أي إنسان عاقل‪ .‬وهو التمييز بني املوت‬ ‫التأكيد ى‬
‫باملعنى العادي ليس طريقة للكون أو ُأسلوب قلق‬ ‫ى‬ ‫واملعرفة باملوت والقلق حياله‪ .‬املوت‬
‫إنساين أو ُأسلوب حياة‪ ،‬إ َّنه غياب احلياة‪ .‬قد تكون معرفة املوت والقلق حياله ُأسلوب حياة‬
‫مكونات ُأسلوب احلياة‪ .‬أنا حي أثناء كتابتي ِّلذه الكلامت (كانون الثاين‬ ‫أو عنارص أو ه‬
‫‪ ،)1974‬وموت أمر مل ُيصل بعد‪ُ .‬يصل قلقي حيال موت عندما أكون ح ًّيا وهو يسبق‬
‫باملعنى العادي‪ ،‬وأستعمل الرمز ‪cd‬‬ ‫ى‬ ‫موت‪ .‬للمناسبة سأستعمل الرمز ‪ d0‬لإلشارة إ ىل املوت‬
‫أن املوت إذا ُف ِه َم وجود ًّيا‬
‫لإلشارة إ ىل املعرفة باملوت والقلق حياله‪ .‬أخربنا هايدغر وتالميذه َّ‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪469‬‬

‫وبشكل صحيح فهو وجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪ .‬وهذا الفهم الصحيح والوجودي للموت‪ ،‬من‬
‫وُي هوله إ ىل حقيقة حارضة‪ .‬قيل‪ :‬إ َّنه ُي هبني زيف أو قصور الرؤية‬ ‫املفروض ْ‬
‫أن يدخلن املوت ُ‬
‫بمعنى جديد ك ّل ًّيا ليصدق‬
‫ى‬ ‫الطبيعان َّية‪ .‬لكن هايدغر وأتباعه يقرتحون استعامل كلمة موت‬
‫عل ‪ . d0‬فإذا رغب شخص يف الكالم هبذه الطريقة ال يوجد قانون يمنعه‪،‬‬
‫عل ‪ cd‬وليس ى‬
‫ى‬
‫أن يقول‪ :‬إ َّنه ال ُُي هقق شيئا‪ ،‬أو إ َّنه ال ُُي هقق شيئا له قيمة‪َّ .‬‬
‫إن اإلشارة إ ىل ‪cd‬‬ ‫لكن يمكن للمرء ْ‬
‫صححها‪ .‬عندما قال‬ ‫بكلمة موت ليس اكتشافا ليشء‪ .‬وال هي ُت ه‬
‫كذب النظر َّية األبيقور َّية أو ُت ه‬
‫أبيقور‪ :‬عندما يكون املوت ال أكون‪ ،‬كان يتحدَّ ث عن ‪ d0‬وليس عن ‪ .cd‬ولتكذيب ‪d0‬‬
‫عل َّأّنا حقيقة داخل َّية وحارضة؛ وهذا ما مل ُيصل‪ .‬لقد‬
‫األبيقورية وليس ‪ cd‬جيب الربهان ى‬
‫دافع أبيقور عن موقف جتاه املوت شديد االختالف عن املوقف الذي يبدو َّ‬
‫أن اِّلايدغر هيني‬
‫عل‬ ‫يصادقون عليه‪ .‬لكن يمكننا افرتاض أ َّنه مل يكن جاهال أو غافال عن حقيقة َّ‬
‫أن اإلنسان ى‬
‫خالف النباتات واحليوانات‪ ،‬يعي موته ويقلق حياله‪ .‬كام َّ‬
‫أن التعريف اِّلايدغري اجلديد‬
‫للموت مل يتغ َّلب ى‬
‫عل الصعوبات املنهج َّية التي اشتكا منها مكويري وبوروس‪ .‬إذا كان عدم‬
‫عل جتربة املوت كام نخترب القلق أو الوحدة صعوبة منهج َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن دخلنة هايدغر ‪-‬‬ ‫القدرة ى‬
‫وبصورة قاطعة ‪ -‬ال تستطيع التغلب عليها‪ .‬فام نختربه‪ ،‬وما هو متاح للتحليل‬
‫الفينومينولوجي‪ ،‬وما يصبح ش ّفافا ليس موتا‪ ،d0 ،‬بل هو ‪ cd‬أو األفكار واألمزجة املتع هلقة‬
‫باملوت؛ وهذه متو هفرة دائام‪ ،‬ح َّت ىى قبل حتليل هايدغر الوجودي‪ .‬ما مل يكن متاحا لالستكشاف‬
‫الفنومنولوجي قبل دخلنة هايدغر ما زال غري متو هفر بعده‪ .‬وباملناسبة َّ‬
‫إن الصعوبة املنهج َّية‬
‫جمرد غياب للحياة‪ ،‬يعتربونه حالة‬ ‫حمض كذب‪ .‬الناس الذين ال ُيدركون بوضوح َّ‬
‫أن املوت َّ‬
‫غريبة‪ ،‬خيوض املرء خالِّلا جتربة خوض َّ‬
‫الالجتربة‪ ،‬ويميل هؤالء لإليامن بتلك الصعوبة‬
‫أن ُأ ه‬
‫جرب َّأال يكون عندي جتربة؟ هذه‬ ‫معنى ْ‬
‫ى‬ ‫املنهج َّية‪ .‬لكن كيف يمكنني ْ‬
‫أن أكتشف ما‬
‫جرب َّأال يكون لدينا جتربة‪ .‬لكن ال يوجد‬‫صعوبة أل َّننا ‪ -‬بحكم التعريف ‪ -‬يستحيل أ ْن ُن ه‬
‫جمرد غياب للحياة‪ ،‬إذا‬ ‫سبب وجيه للتفكري باملوت هبذه الطريقة‪ .‬فإذا ُف ِه َم املوت ى‬
‫عل أ َّنه َّ‬
‫ليس َث َّمة صعوبة‪ .‬ليس رضور ًّيا ْ‬
‫أن أكون م هيتا كي أفهم املقصود بعبارة أ َّنني يف القرن احلادي‬
‫والعرشين سأكون م هيتا حتام‪ ،‬فأنا أفهم ذلك متاما كام أفهم املقصود بالقول‪ :‬إ َّنني يف القرن‬
‫‪ ❖ 470‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫التاسع عرش مل أكن ح ًّيا بعد(‪.)1‬‬


‫ألي يشء‬
‫عى رشاغ‪ ،‬مل يكن تعريف هايدغر اجلديد تفسريا أو توضيحا ه‬
‫وعل عكس ما ا َّد ى‬
‫ى‬
‫تم حجبه‬ ‫إن الفارق الذي ال يمكن إنكاره بني ‪ cd‬و‪َّ d0‬‬ ‫فعل العكس َّ‬
‫عل اإلطالق‪ .‬ى‬ ‫ى‬
‫والتعمية عليه‪ .‬بالطبع ال يستطيع هايدغر نفسه ْ‬
‫أن يفلح بدون هذا التمييز‪ .‬لذلك يتحدَّ ث‬
‫أقىص إمكان َّية للـ دازاين ويبالغ يف الكالم عن القلق املوجود يف املقاربة األصيلة ِّلذه‬
‫ى‬ ‫عن‬
‫لقصوى هي املوت وليس الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت؛ وإذا مل‬
‫ى‬ ‫القصوى‪ .‬اإلمكان َّية ا‬
‫ى‬ ‫اإلمكان َّية‬
‫ألي يشء‪.‬‬
‫يتم َّيز املوت عن الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت لن تكون املقاربة األصيلة مقاربة ه‬
‫باملعنى العادي‪ ،‬أي نحو ‪ .d0‬إ َّنه ليس وجودا‬
‫ى‬ ‫الوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت هو وجود نحو املوت‬
‫باملعنى الوجودي أو املعرف من جديد‪ ،‬هو وجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‬
‫ى‬ ‫نحو ‪ ،cd‬نحو املوت‬
‫وليس وجودا ‪ -‬نحو ‪ -‬الوجود نحو املوت‪.‬‬
‫يمكن اكتشاف خواء املعتقد اِّلايدغري بوضوح شديد عندما نمعن النظر يف تأكيد‬
‫لصحة والذين يعيشون‬ ‫أن َّ‬
‫كل البرش ‪ -‬بام فيهم الشباب الذين يتم َّتعون بكامل ا َّ‬ ‫عل َّ‬
‫هايدغر ى‬
‫أفضل حياة ممكنة‪ ،‬يموتون دائام‪ .‬هذا بالتأكيد يبدو كأ َّنه اكتشاف‪ .‬ويبدو أ َّنه يتعارض مع‬
‫املعتقدات املقبولة عموما‪ ،‬لكن هذا الظاهر مض هلل‪ .‬لنفرض َّ‬
‫أن سموئيل بلو رجل يف‬
‫(باملعنى العادي) بسبب مرض عضال كِّسطان‬
‫ى‬ ‫اخلامسة واخلمسني من العمر‪ ،‬وهو ُيترض‬
‫بصحة ج هيدة جدًّ ا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫املعدة‪ .‬ولنفرض َّ‬
‫أن له ولدا اسمه بوب يف العرشين من عمره‪ ،‬وهو يبدو‬
‫وأن طبيب العائلة ‪ -‬الدكتور أدملن ‪ -‬معتنق لفلسفة هايدغر‪ .‬بوب خيضع لفحوصات دور َّية‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫خربك أ َّنه‬‫أن الدكتور ُخي ِرب الوالدة‪« :‬آسف ألُ‬
‫صحته‪ .‬غري َّ‬
‫وال جيد الدكتور أدملن ما يريب يف َّ‬
‫زوجك فقط الذي يموت‪ ،‬بل ولدك بوب أيضا يموت»‪ .‬املرأة التعيسة ترصخ مرعوبة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ليس‬
‫بصحة ج هيدة‪ ،‬وما زال يف ريعان شبابه‪ ،‬ال تقل ل‪ :‬إ َّنه أيضا مصاب بالِّسطان‪ .‬يرد‬
‫َّ‬ ‫لكنَّه‬
‫صحة‪ ،‬لكن‬
‫عل هذا الكالم‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬ليس مصابا بالِّسطان‪ ،‬بل يتم َّتع بأفضل َّ‬
‫الدكتور أدملن ى‬
‫جيب ْ‬
‫أن تعلمي أ َّنه سيموت يف النهاية‪ ،‬وأ َّنه يعرف أ َّنه سيكون لديه موقف ‪ -‬أصيل أو غري‬

‫‪(1) For a detailed discussion of the confusions discussed in this paragraph, see my article,ED,‬‬

‫‪pp .87 - 477.‬‬


‫هايدغر واملوت ❖ ‪471‬‬

‫أصيل ‪ ،-‬أنا لست متأ هكدا من موقفه جتاه موته‪ .‬سرتد والدة بوب ‪ -‬إذا حافظت ى‬
‫عل رباطة‬
‫املعنى الذي تقصده‪ .‬وأنا‬
‫ى‬ ‫جأشها ‪ -‬بام يتناسب مع الوضع‪ :‬ارحتت لسامع َّ‬
‫أن بوب يموت هبذا‬
‫املعنى أيضا‪َّ .‬‬
‫إن كالم الدكتور أدملن عن موت بوب مبتذل‪،‬‬ ‫ى‬ ‫أمتنّ ىى ْ‬
‫أن يكون زوجي يموت هبذا‬
‫بمعنى غري مألوف‪ .‬ظاهر قول‬
‫ى‬ ‫عل الفور‪ ،‬أل َّنه يستعمل عبارة مألوفة‬
‫وطبيعة ابتذاله ال تظهر ى‬
‫عل نحو مميت مثل سموئيل بلو‪ .‬وهذا بالفعل‬ ‫كل إنسان يف ه‬
‫كل زمان مريض ى‬ ‫إن َّ‬
‫هايدغر‪َّ :‬‬
‫سيكون اكتشافا هائال وساحقا‪ ،‬لكنَّه زائف‪ ،‬وإ َّنه ليس ما ُيؤ هكد عليه هايدغر يف احلقيقة‪ .‬بدا‬
‫توصل إ ىل اكتشاف مفاجئ بالنسبة لبوب لكن هذا مل ُيصل يف‬ ‫كأن الطبيب اِّلايدغري َّ‬ ‫َّ‬
‫أن َّ‬
‫كل إنسان يف موت‬ ‫الواقع‪ ،‬وبدا كأ َّن هايدغر أضاف شيئا إ ىل معرفتنا وفهمنا عندما أعلن َّ‬
‫مستمر لكنَّه يف احلقيقة مل يفعل شيئا‪.‬‬
‫حجة هايدغر بأ َّننا ال نعني بـ النهاية عندما نتحدَّ ث عن ّناية حياة إنسان‪ ،‬نفس ما‬
‫إن َّ‬ ‫َّ‬
‫حجة‬
‫أي يشء غري حي‪ ،‬هي َّ‬ ‫نعنيه عندما نتحدَّ ث عن ّناية حياة نبتة أو حيوان أو ّناية ه‬
‫مض هللة متاما‪ .‬فعندما نتحدَّ ث عن ّناية النوع الثاين من الكيانات نقصد أ َّنه يتو َّقف أو تو َّقف‬
‫عن الوجود‪ .‬لكنَّه يزعم أ َّننا ال نقصد هذا عندما نتك َّلم عن ّناية حياة إنسان‪ .‬تقوم احلجة‬
‫أن اإلنسان خيتلف عن الكيانات األُ ى‬
‫خرى‪ ،‬إ َّنه دازاين ‪-‬‬ ‫دعوى َّ‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫الداعمة ِّلذه النتيجة ى‬
‫عل‬ ‫ِ‬
‫يتم َّيز بخصائص أو قدرات كاالستباق أو الوجود َّية‪ .‬هذا صحيح‪ ،‬غري أ َّنه ال ُيربهن ى‬
‫عل‬‫أن ما ينطبق ى‬ ‫أن نستنتج من حقيقة أ َّن البرش هم دازاين مبارشة‪َّ ،‬‬
‫فكرة هايدغر‪ .‬ال نستطيع ْ‬
‫أن الكلمة نفسها عندما‬ ‫أن نستنتج َّ‬
‫غري الـ دازاين ال ينطبق عليهم أيضا‪ .‬وكذلك ال نستطيع ْ‬
‫عل غري‬
‫املعنى نفسه يف احلالني‪ .‬مقولة السببية تنطبق بوضوح ى‬ ‫ى‬ ‫عل‬
‫عل االثنني‪ ،‬ال تدل ى‬
‫حتمل ى‬
‫الـ دازاين‪ .‬قد يكون هذا صحيحا‪ ،‬لكنَّنا ال نستطيع أ ْن نستنتج بطريقة آل َّية َّ‬
‫أن أفعال البرش‬
‫املعنى الذي نتك َّلم فيه عن سبب َّية احلوادث املا ّد َّية والظواهر‬
‫ى‬ ‫ألّنم دازاين ال تتس َّبب بنفس‬
‫َّ‬
‫البيولوج َّية البحتة‪ .‬يف الواقع ‪ -‬وبرصف النظر عن هايدغر ورشاغ ‪ -‬من الواضح متاما أ َّننا‬
‫املعنى متاما الذي نستعمله‬
‫ى‬ ‫عندما نتحدَّ ث عن ّناية حياة إنسان إ َّننا نستعمل كلمة ّناية بنفس‬
‫عندما نتحدَّ ث عن ّناية غري الـ دازاين‪ .‬فعندما ينهدم منزل أو ُيرتق يكون وجوده قد وصل‬
‫إ ىل النهاية‪ .‬لقد تو َّقف وجوده ومنع من البقاء بعد املوت‪ ،‬وهذا ليس ما هيتم به هايدغر‬
‫ورشاغ‪ ،‬واألمر نفسه يكون صحيحا متاما عندما يموت إنسان‪ْ .‬‬
‫أن تكون موضوعات هذه‬
‫‪ ❖ 472‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫القضايا خمتلفة بعضها عن بعض يف ه‬


‫كل يشء‪ ،‬ال يعني َّ‬
‫أن كلمة ّناية حتمل عليها بمعان‬
‫خمتلفة‪ .‬طبعا إذا أعدنا تعريف النهاية لتعني معرفة النهاية والقلق حياِّلا‪ ،‬أي الوجود ‪ -‬نحو‬
‫بمعنى ال ينتهي فيه غري‬
‫ى‬ ‫‪ -‬النهاية‪ ،‬كام فعل هايدغر يف ّناية املطاف‪ ،‬فإذا الـ دازاين ينتهي فعال‬
‫الـ دازاين‪ .‬لكن هذا ليس توضيحا ليشء‪َّ .‬إّنا اخلدعة اللفظ َّية ذاهتا التي كشفناها من قبل‬
‫عندما حتدَّ ثنا عن كلمة موت‪.‬‬
‫يبدو بعض أنصار هايدغر مدركني بصعوبة خلواء املبدأ الذي نناقشه‪ .‬وهم ُياولون‬
‫الدفاع عنه من خالل اللجوء إ ىل بعض احلقائق اإلمربيق َّية اإلضاف َّية‪ .‬فاألب دمسك يقتبس‬
‫مقطعا من كارل رانر(‪ )1‬يقول فيه األخري‪ :‬إ َّننا نكون خالل احلياة‪..‬‬
‫خائبي األمل باستمرار‪ ،‬نخرتق احلقائق بدون توقف وصوالً إىل عدمها‪،‬‬
‫احلرة من خالل قراراتنا الفعل َّية وحياتنا الواقع َّية‪،‬‬
‫ونواصل تضييق إمكانات احلياة َّ‬
‫سميه موت ًا هو يف الواقع ّناية املوت‪ ،‬إ َّنه موت املوت(‪.)2‬‬
‫نموت طوال احلياة‪ ...‬وما ُن ي‬
‫كام يقتبس دمسك بعض اجلمل التي كتبها تانب(‪ )3‬اِّلايدغري الياباين الذي أرشت إليه يف‬
‫«ُييي وهو يموت»‪ ،‬وأيضا «يموت وهو‬ ‫كرر تانب القول‪َّ :‬‬
‫إن اإلنسان ُ‬ ‫بداية هذا البحث‪ُ .‬ي ه‬
‫معنى هذه العبارات‪:‬‬
‫ى‬ ‫فِّس دمسك‬
‫يى»‪ُ ،‬ي ه‬
‫ُُي ى‬
‫يستمر‬
‫َّ‬ ‫طوال احلياة ُجي َرب اإلنسان دائ ًام عىل ترك األشياء‪ ،‬وعىل نكران ذاته‪ ،‬وأن‬
‫بدون يشء‪ ،‬وهيب نفسه(‪.)4‬‬
‫عل هذا‪ ،‬بإعالن هايدغر َّ‬
‫أن احلياة اإلنسان َّية وجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪ ،‬فهايدغر‬ ‫جيب الرد ى‬
‫كل‬ ‫أن هايدغر مل ُينكِر َّ‬
‫أن َّ‬ ‫عل أي من احلقائق التي ذكرها رانر وتانب‪ .‬املفروض َّ‬
‫ال ُيؤ هكد ى‬

‫‪(1) Rahner Karl‬‬


‫‪(2) BMD, 200.‬‬
‫‪(3) Tanabe‬‬
‫أن هذه املقالة ال ترتبط ك ّليًّا بسؤال دمسك‪ ،‬فقضيَّته اإلنسان يعيش وهو‬
‫(‪ )4‬جيب التأكيد انصافا لتانب َّ‬
‫يموت ويموت وهو يعيش عرضيَّة يف موضوعه‪ ،‬وهذا يشمل تأسيس ه‬
‫كل ما هو متناهي وزماين يف املطلق‬
‫احليس حلادث هايدغر‪ .‬طرح تانب جمموعة‬‫الاليشء مطلقا واملصدر ّ‬ ‫الالمتناهي الذي ُأبدي أيضا‪ ،‬طبيعة َّ‬
‫َّ‬
‫خاصة ل ُط ّالب َّ‬
‫الاليشء‪.‬‬ ‫من املالحظات التي ينبغي أ ْن يكون ِّلا أ ّ‬
‫ه َّية َّ‬
‫هايدغر واملوت ❖ ‪473‬‬

‫إنسان أو تقريبا َّ‬


‫كل إنسان يشعر بخيبة األمل أحيانا‪ ،‬أل َّنه مضطر للتضحية‪ ،‬وُيرم نفسه من‬
‫امللذات‪ ،‬لكن هذه مسألة إمكان َّية بحتة و ُيصنهفها هايدغر ضمن األُمور املوجود َّية‪.‬‬
‫بعض ّ‬
‫ملرة واحدة‪،‬‬ ‫أن جيتاز احلياة بدون ْ‬
‫أن خييب أمله َّ‬ ‫أن اإلنسان يمكن ْ‬ ‫ّ‬
‫األقل َّ‬ ‫عل‬
‫مقنع منطق ًّيا ى‬
‫أي يشء‪َّ .‬‬
‫إن حياة هذا الشخص‪ ،‬كام يستعمل هايدغر التعبري‪،‬‬ ‫وبدون ْ‬
‫أن ُُيرم نفسه من ه‬
‫تكون نموذجا للوجود ‪ -‬نحو ‪ -‬املوت‪ .‬األمر كذلك‪ ،‬أل َّنه رغم حترره من خيبات األمل‬
‫وغياب التضحيات‪ ،‬هو أيضا قد يموت‪ ،‬وهو أيضا قد يعرف أ َّنه كان سيموت وي َّتخذ موقفا‬
‫جتاه موته‪.‬‬
‫ترى املستقبل موجود يف احلارض‪ ،‬وأ َّنني فعال َّ‬
‫كل‬ ‫كلمة أخرية حول فكرة هايدغر التي ى‬
‫خاصتي بام يف ذلك موت‪ .‬واضح َّ‬
‫أن هايدغر واقع حتت تأثري بعض الصور‪ ،‬الصور‬ ‫ليس بعد َّ‬
‫املرتبطة بكلامت االستباق(‪ ،)1‬االمتداد(‪ ،)2‬السعي(‪ ،)3‬والتوقع(‪ .)4‬يمكن ْ‬
‫أن أمدَّ يدي وأصل‬
‫الصف األمامي من موكب‬
‫ه‬ ‫عل الكريس‪ .‬وإذا كنت يف‬
‫أبقى جالسا ى‬ ‫إ ىل ّ‬
‫رشاشة امللح بينام ى‬
‫أن أحت َّله لو‬
‫أن أركض إ ىل األمام وبالتال أكون مسبقا يف املوقع الذي كان من املمكن ْ‬
‫يمكن ْ‬
‫أن املرء بنفس الطريقة يمكن ْ‬
‫أن يتمدَّ د أو يدخل إ ىل املستقبل‬ ‫الصف‪ .‬يعتقد هايدغر َّ‬
‫ه‬ ‫بقيت يف‬
‫خاصتي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بينام يكون يف احلارض‪ .‬لو كان هذا ممكنا‪ ،‬ألمكن ْ‬
‫أن أكون اآلن ما ليس بعد‬
‫أن أستويف موت يف احلارض‪ .‬لكنَّه ليس ممكنا‪ .‬يمكن ْ‬
‫أن ُيمل أتباع هايدغر هذا‬ ‫وألمكن ْ‬
‫جمرد متاما‪ ،‬ال ُخي َّفف بتوضيح‬
‫مستوى َّ‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫عل حممل اجلده فقط عندما يدار ى‬
‫النوع من الكالم ى‬
‫أن ُأف هكر بعام ‪ 1975‬وغريه من أعوام املستقبل‪،‬‬
‫ما ّدي واحد‪ .‬أستطيع اآلن ‪ -‬عام ‪ْ - 1974‬‬
‫أن أعيشها يف الواقع‪ .‬أستطيع جمازا ْ‬
‫أن أستبق وأمتدَّ د إ ىل عام ‪ ،1975‬لكن‬ ‫لكنَّني ال أستطيع ْ‬
‫خرض لـ‪ ،‬وآمل‪ ،‬وأخاف من ‪ .1975‬ال‬ ‫كل ما يعنيه هذا هو أ َّنني أستطيع التفكري يف‪ ،‬و ُأ ه‬
‫َّ‬
‫أستطيع ْ‬
‫أن أستبق يف الواقع عام ‪ ،1975‬أو أمتدَّ د إ ىل عام ‪1975‬؛ وكام رأينا‪ ،‬إ َّنه استباق‬

‫‪(1) Vorlaufen‬‬

‫‪(2) Erstrecken‬‬

‫‪(3) Einholen‬‬

‫‪(4) Vorwegnehmen‬‬
‫‪ ❖ 474‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫حريف لكنَّه بالفعل من أجل مقصد هايدغر دخلنة املوت(‪ .)1‬إذا كنت سأموت حقيقة بعد‬
‫وأن أمتدَّ د و ُأالقي‬
‫عرش سنوات من كتابة هذه الكلامت‪ ،‬فإ َّنني ال أستطيع االستباق فعل ًّيا‪ْ ،‬‬
‫موت‪ .‬ليس صحيحا ه‬
‫بكل املعاين غري الشا َّذة‪ ،‬أ َّنني ّنايتي بينام أنا حي؛ وعموما ليس صحيحا‬
‫فإّنا لن جتعل األمر‬
‫خاصتي‪ .‬ومهام كان قدر الشعوذة اللفظ َّية‪َّ ،‬‬
‫أ َّنني بالفعل كل ما ليس بعد َّ‬
‫خالف ذلك‪.‬‬

‫* * *‬

‫مضطرا إلهاِّلا يف هذا البحث ينبغي أ ْن ُأضيف‬


‫ًّ‬ ‫(‪ )1‬ورضوري أيضا ه‬
‫حلل مشكلة شمول َّية هايدغر التي كنت‬
‫مهمة ُيرصح هبا بغموض تام‪،‬‬‫بأي شكل تافهة‪ ،‬فلديه فكرة َّ‬
‫أن أفكار هايدغر حول الزمن ليست كلها ه‬ ‫َّ‬
‫لكنَّه أعاد الترصيح هبا َّ‬
‫مؤخرا بلغة أكثر وضوحا من خالل‪:‬‬
‫‪C. M. Sherover in Heidegger, Kant and Time (Bloomington, 1971, see esp. pp. 191ff. and‬‬
‫‪260ff.).‬‬
475 ❖ ‫هايدغر واملوت‬

:‫املصادر‬
Heidegger, M, Being, Man, and Death (Lexington: The University of Kentucky
Press, 1970).
___________, Being and Time, trans. John Macquarrie and Edward Robinson
(London, 1962).
Greig, J.Y.T. (ed.), The Letters of David Hume, vol. II (Oxford, 1932).
Kemp Smith, Norman (ed.), ‘My Own Life,’ reprinted in, Hume's Dialogues
Concerning Natural Religion (Edinburgh, 1935).
Maurice Nadau, The History of Surrealism (London, 1968).
C. M. Sherover in Heidegger, Kant and Time (Bloomington, 1971)
Morgenbesser. S, et al., Absurdities in Philosophy, Science and Method -
Essays in Honor of Ernest Nagel (New York, 1969).
Scott, N. A. Jr. (ed.), ‘The Problem of Death in Modern Philosophy’ in The
Modern Vision of Death (Richmond, Virginia, 1967).
‘Todesdialektik‘, in Martin Heidegger zum 70. Geburtstag (Pfullingen, 1959).
A Commentary on Heidegger's Being and Time (New York, 1970).
An Existentialist Theology (London, 1955).
Existence and Freedom (Evanston, 1961).
Heidegger (London, 1957).
The Challenge of Existentialism (Bloomington, 1959).
The Moment of Truth (London, 1965).
The Savage God (London and New York, 1971).
What is Existentialism? (New York, 1964).

* * *
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة‬
‫(‪)2()1‬‬

‫(‪)3‬‬
‫ديفيد تشاي‬

‫أن يذكر الفلسفة الرشق َّية يف اجلملة‬ ‫حني يتحدَّ ث الواحد م ّنا عن هايدغر فمن النادر له ْ‬
‫أن تأثر فيلسوفنا بالفلسفة الرشق آسيو َّية قد جيد توثيقا دقيقا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن‬ ‫وعل الرغم من َّ‬
‫ى‬ ‫نفسها‪.‬‬
‫النظر إ ىل هذه العالقة من زاوية الفلسفة املقارنة ال يزال يتط َّلب الكثري من البحث‪ .‬من‬
‫مستمرا عرب مسار حياة هايدغر‬
‫ًّ‬ ‫اصة‪ ،‬والتي شهد معناها تطورا‬ ‫ه َّية خ َّ‬
‫املفاهيم التي حتمل أ ّ‬
‫عل أ َّنه يعني املوقع الذي تنكشف فيه‬
‫كفيلسوف‪ ،‬مفهوم اجلالء‪ .‬فإذا أخذنا هذا املفهوم ى‬
‫فإن نظر َّية هايدغر القائلة َّ‬
‫بأن طبيعة اجلالء السحيقة يف عمقها الذي ال يسرب‬ ‫حقيقة الوجود‪َّ ،‬‬
‫إل‬
‫وخاصة الفلسفة الطاوية‪ .‬سوف نرجع ى‬‫َّ‬ ‫غوره‪ ،‬قد تأ َّثرت دون ريب بالفلسفة الرشق َّية‪،‬‬
‫املسم ىى‪ :‬تاو ت تشنغ وكتاب تشوانغتيس‬
‫ّ‬ ‫كتاب الوتيس (حوال القرن السادس قبل امليالد)‬
‫حجة مفادها‪َّ :‬‬
‫أن هايدغر عجز يف الواقع‬ ‫(‪ 300 - 375‬قبل امليالد) الذي ُيمل اسمه لنبني َّ‬
‫ملعنى العدم يف اجلالء‪.‬‬
‫عن فهم املضامني الكون َّية ى‬

‫(‪ )1‬العنوان األصيل للمقالة‪:‬‬


‫‪Nothingness and the clearing: heidegger،Daoism and the Quest for primal clarity.‬‬
‫تشمل بعض الدراسات البارزة حول تأثر هايدغر بالفكر الرشق آسيوي املصادر التالية‪:‬‬
‫‪Graham Parkes‬‬ ‫‪،Heidegger‬‬ ‫‪and Asian Thought (Honolulu: University of Hawaii‬‬
‫‪Press،1987) ;Reinhard May،Heidegger’s Hidden Sources ،trans. Graham Parkes (New‬‬
‫‪York: Routledge،1996); and Ma Lin ،Heidegger on East. West Dialogue: Anticipating‬‬
‫‪the Event (New York: Routledge ،2008).‬‬
‫املصدر‪ :‬جم َّلة االستغراب‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬السنة الثانية‪1437 ،‬هـ‪ ،‬خريف ‪ ،2016‬ص ‪.117 - 97‬‬
‫(‪ )2‬تعريب‪ :‬سامي اليوسف‪ ،‬مراجعة‪ :‬كريم عبد الرمحن‪.‬‬
‫(‪ُ )3‬أستاذ الفلسفة ‪ -‬جامعة تورنتو ‪ -‬كندا‪.‬‬
‫‪ ❖ 478‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫عل اجلالء‪ ،‬فلن تعود عالقتهام عالقة اعتامد متبادل‪ ،‬بل ستخضع‬
‫فإذا محلنا مفهوم العدم ى‬
‫معنى اجلالء هو معانقة العدم لذاته كام تفعل‬
‫ى‬ ‫إ ىل حقيقة جوهر الوجود‪ ،‬فلو اعترب هايدغر َّ‬
‫أن‬
‫الطاوية‪ ،‬لر َّبام مت َّكن من رأب الصدع ه‬
‫املفرق بني العدم والوجود‪ ،‬وهذه البداية اجلديدة التي‬
‫عل ْ‬
‫أن يقارب مفهوم الوجود من خالِّلا‪.‬‬ ‫متنّ ىى الوصول إليها كانت ستمنحه القدرة ى‬
‫(‪)1‬‬

‫إل تبيان‬
‫سيسعى هذا املقال ى‬
‫ى‬ ‫عل عمل هايدغر «إسهامات يف الفلسفة»‪،‬‬
‫من خالل الرتكيز ى‬
‫ثم ل ُيس هلط الضوء ى‬
‫عل‬ ‫مفهوم هايدغر للجالء وكيف خيتلف هذا املفهوم عن نظريه الطاوي‪ّ ،‬‬
‫ه َّية دعوة هايدغر إ ىل القيام «بقفزة إ ىل هاوية اجلالء»‬ ‫العالقة بني الوجود والعدم و ُير هكز ى‬
‫عل أ ّ‬
‫خاصة َّ‬
‫وأن هذه النقطة األخرية تفسح‬ ‫َّ‬ ‫إذا ما كان لنا ْ‬
‫أن نصل إ ىل معرفة حقيقة الوجود‪،‬‬
‫ترى َّ‬
‫أن العدم هو مصدر‬ ‫املجال أمام مقارنات غن َّية باملضامني مع الفلسفة الطاوية التي ى‬
‫حر َّية الوجود‪.‬‬
‫الوجود‪ ،‬وكذلك يف الوقت ذاته هو األساس الذي تقوم عليه ّ‬

‫مفهوم اجلالء‪:‬‬
‫عل الكلمة األملان َّية للجالء‪ ،Lichtung ،‬فهي مشت َّقة من الفعل‪:‬‬‫لنبدأ بإلقاء نظرة ى‬
‫‪ lichten‬الذي يمكن له ْ‬
‫أن يرتجم كتسوية األرض‪ ،‬أ َّما كاسم فهي تعني اإلنارة واالنفتاح‬
‫عنى فتحة يف الغابة خاوية من املوانع‪ ،‬مم َّا‬
‫من غري حجب وموانع‪ .‬يستخدم هايدغر الكلمة بم ى‬
‫يتيح ِّلا املجال كي تلعب دور فضاء موجود باستقالل عن التأثري املتبادل بني وجودها يف‬
‫وجهيه‪ :‬املسترت والظاهر(‪ .)2‬أ َّما بالنسبة إ ىل اإلنارة‪ ،‬فمع َّ‬
‫أن هايدغر كان قد ربط بني الوجود‬
‫وخاصة عمله األشهر‪« :‬الوجود والزمن»(‪ ،)3‬فيبدو أ َّنه قد عاد‬
‫َّ‬ ‫والنور يف أعامله املب هكرة‬

‫‪(1) Lichtung‬‬
‫‪(2) Thomas Prufer ،Glosses on Heidegger’s Architectonic WordPlay :Lichtung and Ereignis‬‬
‫‪،Bergung and Wahrnis, The Review of Metaphysics 44 ،no. 3 (March 1991): 607.‬‬

‫«إن قولنا‪ :‬إ َّن الوجود «يرشق» يعني أ َّنه ينجيل يف ذاته ى‬
‫عل أ َّنه الكينونة يف العامل‪ .‬ليس هذا من‬ ‫(‪ )3‬حيث قال‪َّ :‬‬
‫خالل وجود آخر‪ ،‬بل إ َّنه هو نفسه هذا اجلالء‪ .‬فقط يف كينونة تنجيل وجود ًّيا هبذا الشكل يمكن لألشياء‬
‫أن تسترت عنه يف الظالم»‪.‬‬‫أن تصبح يف متناول اإلدراك يف النور أو ْ‬ ‫احلارضة موضوع ًّيا ْ‬
‫‪Martin Heidegger ،Being and Time: A Translation of Sein und Zeit،trans. Joan‬‬
‫‪Stambaugh (Albany: SUNY Press 125 - 196).‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪479‬‬

‫لريفض هذا التشبيه يف بعض أعامله التي كتبها بعد احلرب العامل َّية الثانية‪ ،‬مثل الفقرة التالية يف‬
‫حمارضته حول هرياقليطس‪:‬‬
‫أن األمر ليس كذلك!‬ ‫اجليل َّ‬
‫ه‬ ‫أي عالقة مع بعضهام بعضا؟ من‬ ‫هل للجالء والنور ّ‬
‫يتضمن املعاين التالية‪ :‬اإليضاح‪ ،‬إرساء األُ ُسس‪ ،‬الكشف والبيان؛ لكن هذا ال‬
‫َّ‬ ‫«اجلالء»‬
‫«جي هيل اجلالء» سيوجد لدينا بالرضورة اإلرشاق والسطوع‪ ،‬فام ينجيل هو احلر‬
‫يعني أ َّنه حيث ُ‬
‫واملنفتح‪ .‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬ما ينجيل هو بعينه ما يسرت نفسه وخيفيها(‪.)1‬‬
‫بحسبام ذكرته األُست اذة «لني ما»‪ ،‬والتي درست الرابطة بني فكر هايدغر والفلسفة‬
‫الرشق آسيو َّية بتفصيل دقيق‪ ،‬فقد استخدم هايدغر مخسة فصول من جمموع ‪ 81‬فصال تؤ هلف‬
‫كتاب «تاو ت تشنغ» خالل مسار حياته كفيلسوف(‪ .)2‬من بني هذه الفصول‪ ،‬يربز الفصل‬
‫ه َّية لنقاشنا هذا‪ ،‬فحني يتك َّلم الوتيس يف هذا الفصل عن‬
‫اخلامس عرش كالفصل األكثر أ ّ‬
‫املقربة بالطاو (أو املطلق)(‪ ،)3‬يعود ليتسا َءل‪« :‬من‬
‫حكامء العصور القديمة أصحاب املعرفة َّ‬
‫عل تسكني املاء املوحل‪ ،‬ليعيده ببطء إ ىل الصفاء‪ ،‬ومن يقدر ْ‬
‫أن ُُي هرك املياه الساكنة‪،‬‬ ‫يقدر ى‬
‫ليعيدها ببطء إ ىل احلياة(‪)4‬؟»‪ ،‬وقد عاد هايدغر لرياجع هذه اجلملة وإعادة كتابتها بالشكل‬
‫التال‪:‬‬
‫اجلالء جيلب أخري ًا شيئ ًا ما حتت النور‪ ،‬واحلركة اخلف َّية يف الساكن والصايف يمكن‬
‫هلا أن ّتلب شيئ ًا إىل الوجود(‪.)5‬‬

‫‪(1) Martin Heidegger ،Heraclitus Seminar 67,1966 ،trans. Charles Seibert (Alabama: The‬‬
‫‪University of Alabama Press ،1979 ،161).‬‬
‫‪(2) Lin Ma ،Heidegger on East. West Dialogue: Anticipating the Event (New York:‬‬
‫‪Routledge،2008،119).‬‬
‫أن ُنقده م تفسريا ِّلذا املصطلح‪ ،‬إِذ الطاو ليس ال مبدأ وال عمل َّية‪ ،‬ولكنَّه أصل مجيع‬ ‫(‪ )3‬من الصعب جدًّ ا ْ‬
‫عرفه بأ َّنه إِّلي‪ ،‬فمع َّ‬
‫أن مجيع األشياء تأت منه ومع أ َّنه أبعد عن الزمان‬ ‫املبادئ والعمليّات‪ .‬ال يمكننا ْ‬
‫أن ُن ه‬
‫واملكان َّإال أ َّنه حارض فيهام وال يتأ َّثر بالتغريات التي َّ‬
‫يمران هبا‪.‬‬
‫‪(4) Wang Bi Jijiao Shied. Lou Yulie، (Beijing: Zhonghua Shuju ،1980, 34.‬‬
‫‪(5) Ma ،Heidegger on East. West Dialogue، 140.‬‬
‫‪ ❖ 480‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يتعمد حتويل الرتكيز عن صفات‬


‫ولكن إذا ما قار ّنا بني الفقرتني نجد هايدغر وكأ َّنه َّ‬
‫العدم الكوزمولوج َّية (الكون َّية) ‪ -‬أي الظالم والسكون ‪ُ -‬لري هكز ى‬
‫عل صفات الوجود ‪ -‬أي‬
‫الوضوح واِّليجان ‪ -‬فإذا كان اجلالء ُيس هلط النور ى‬
‫عل خفاء األشياء الباطني فمن أين ينبع‬
‫الظهور اخلفي هذا؟‬
‫عل‬
‫ُيقده م لنا «التشوانغتيس»‪ ،‬كتاب الطاوية الكالسيكي الثاين بعد «تاو ت تشينغ» دليال ى‬
‫اإلجابة حني يقول‪:‬‬
‫ُانظر إىل الغرفة املغلقة‪ ،‬البيت الفارغ حيث ُيو َلد السطوع؛ فالغنى والربكة‬
‫جيتمعان حيث يوجد السكون(‪.)1‬‬
‫نرى ثالثة عنارص تلعب دورها هناك‪ :‬الفراغ‪ ،‬واإلنارة‪ ،‬والسكون‪ .‬إذا ما قاربنا‬
‫حيث ى‬
‫هذه العنارص الثالثة من زاوية خمتلفة‪َّ ،‬‬
‫فإن السكون ُيؤ ّدي إ ىل الصفاء واجلالء‪ ،‬ووضع‬
‫الصفاء ح هيز االستخدام ُيؤ ّدي إ ىل اخللق‪ ،‬ويف الطاوية جيمع «الطاو» نفسه حيث يوجد‬
‫أن تشوبه شائبة نتيجة مجعه الذات هذا‪.‬‬ ‫عل متحضه من غري ْ‬ ‫متجرد ويظل ى‬‫ه‬ ‫سكون فارغ‬
‫فإن سطوع إرشاق «الطاو» ال ينبع من كونه متج ّليا بذاته‪ ،‬بل نتيجة قدرته ى‬
‫عل إنارة‬ ‫كذلك َّ‬
‫والالشيئ َّية؛ فإذا ما عدنا إ ىل كتاب «التاو ت تشنغ» نجد َّ‬
‫أن اليشء‬ ‫العامل من خالل العدم َّ‬
‫واملتجرد‪،‬‬
‫ه‬ ‫«املوحل العكر» مغرتب عن الطاو‪ ،‬أ َّما ما ي َّتحد مع الطاو فهو الساكن والفارغ‬
‫أن ُحت هصلها‪،‬‬
‫أعل مرتبة من مراتب الوجود التي يمكن لألشياء ْ‬ ‫ولذا َّ‬
‫فإن السكون الفارغ هو ى‬
‫عل‬
‫إذ َّإّنا ومن خالل عكسها للعدم الكامن يف الطاو والذي يصبغه بصبغته تضفي ى‬
‫عل االشرتاك يف مصفوفة قدرات‬
‫حضورها يف الكينونة والوجود هالة ظالم َّية جتعلها قادرة ى‬
‫الطاو َّ‬
‫اخلالقة‪.‬‬
‫فإن قيام اإلنسان بإزالة ارتباطه بمقاييس الصواب‬ ‫بالنسبة إ ىل الوتيس وتشوانغتيس‪َّ ،‬‬
‫جرا يعني ْ‬
‫أن ُيط ههر نفسه من تلك األشياء التي متنع تناغمه مع‬ ‫وهلم ًّ‬
‫َّ‬ ‫واخلطأ و«هذا وذاك»‬
‫الطاو‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه الوحدة املتناغمة مع الطاو هي ما تتيح املجال أمام الرجل احلكيم ‪ -‬الذي‬
‫عل أ َّنه ذاك الذي ُياذي طريق الطاو ويتح َّقق به ‪ -‬كي جيتمع مع كثرة األشياء‬
‫عرفه الطاوية ى‬
‫ُت ه‬

‫‪(1) Zhuangzi Jishied. Guo Qingfan (Beijing: Zhonghua Shuju ،1997), 150.‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪481‬‬

‫متعني الذي ال فرق وال حتديد فيه‪ ،‬حيث يسري بني األشياء‬ ‫يف العامل يف حالة من الوجود َّ‬
‫الال َّ‬
‫اِّلم عليها واالهتامم هبا‪.‬‬
‫متحررا من ه‬
‫ه‬

‫البساطة احملضة‪:‬‬
‫عل الدخول يف البساطة املحضة والعودة‬
‫الرجل صاحب اإلرشاق والطهارة احلقيق َّيني قادر ى‬
‫األول من خالل َّ‬
‫الالعمل‪ُ ،‬حميال اجلسد إ ىل طبيعته الفطر َّية‪ ،‬معانقا روحه‪ ،‬وهبذه‬ ‫إ ىل الكيان َّ‬
‫الطريقة يسري عرب عامله اليومي(‪.)1‬‬
‫بأن ما ينجيل حر ومنفتح‪َّ ،‬‬
‫وأن ما ينجيل هو بعينه ما يسرت‬ ‫وهكذا حني يقول هايدغر َّ‬
‫احلر َّية والتناغم‬
‫صدى مفاهيم طاوية مثل ّ‬ ‫ى‬ ‫أن نجد‬ ‫نفسه‪ ،‬يمكننا يف هذه العبارات ْ‬
‫باألحرى «زوال‬
‫ى‬ ‫األنطولوجي؛ َّإال َّ‬
‫أن توجه هايدغر إ ىل ربط اجلالء مع حالة انكشاف‪ ،‬أو‬
‫مدى تأثره‬
‫عل ى‬‫سم ىى بالكلمة اليونان َّية‪ )Alêtheia :‬يدل ى‬
‫خفاء» ما هو حارض بالفعل (ما ُي ّ‬
‫بالرتاث الفلسفي اليوناين رغم اهتاممه بالفلسفة الرشق َّية‪ .‬يف حمارضة ألقاها هايدغر حتت‬
‫رصح بالتال‪:‬‬‫عنون «حول الزمان والوجود» نجده ُي ه‬
‫ال يمكن لليشء الذي يرشق أن ُي ِ‬
‫ظهر نفسه‪ ،‬أو أن يش َّع‪َّ ،‬إال من خالل النور‪ ،‬من‬
‫خالل السطوع‪ .‬لكن السطوع بدوره يعتمد عىل يشء منفتح‪ ،‬يشء حر يمكنه أن‬
‫ٍ‬
‫ووقتئذ(‪.)2‬‬ ‫جيعله يرشق هنا وهناك‪ ،‬اآلن‬
‫القوة ه‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬وقد‬ ‫َّ‬
‫إن متثيل هذا االنفتاح بأ َّنه فسحة يف غابة ِّلو صورة برص َّية يف غاية َّ‬
‫فإّنا تسدل الغموض‬ ‫جعلت الكثري من الباحثني يتش َّبثون هبا‪َّ .‬‬
‫فألن الغابة مكان مظلم كثيف َّ‬
‫عل حضور مجيع األشياء فيها‪ ،‬ولكن وبمقابل هذا املكان املظلم‪َّ ،‬‬
‫فإن تناول‬ ‫والظالم ى‬
‫الفسحة كتمثيل جمازي ألمر يف غاية املنطق َّية‪ ،‬ذلك َّ‬
‫ألن هذا اجلالء الذي متنحه هذه الفسحة‬
‫عرب‬
‫هو ما يقابل املوجودات عند رؤية انفتاحها األنطولوجي ‪ -‬الفينومينولوجي‪ .‬ولقد َّ‬
‫هايدغر عن هذه الفكرة بالشكل التال‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪.438 ،‬‬


‫‪(2) Martin Heidegger ،On Time and Being ،trans. Joan Stambaugh (New York: Harper‬‬
‫‪Row،1972: 64 - 65).‬‬
‫‪ ❖ 482‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫تتم جتربة فسحة الغابة بمقابل الغابة الكثيفة التي كان ُيط َلق عليها اسم «الكثافة»(‪ )1‬يف‬
‫االستخدامات اللغو َّية القديمة‪ .‬ترجع هذه «الفسحة» اجلوهر َّية إ ىل فعل‪« :‬فسح أو فتح»‪،‬‬
‫وحرا ومنفتحا‪ ،‬مثال‪ :‬هو جيعل الغابة‬ ‫وكذلك َّ‬
‫فإن الصفة‪ »licht« :‬جيعل من اليشء خفيفا ًّ‬
‫خا لية عن األشجار يف مكان واحد‪ .‬هذا االنفتاح إذن ينبع من الفسحة‪ ...‬لكن هذه الفسحة‪،‬‬
‫والصدى‪،‬‬
‫ى‬ ‫أو هذا اجلالء‪ ،‬غري مق َّيد ال بالسطوع وال بالظالم‪ ،‬وكذلك فهو غري حمدَّ د بالرنني‬
‫عل ه‬
‫كل يشء حارض وغائب(‪.)2‬‬ ‫أي الصوت وتضاؤل الصوت‪ .‬اجلالء هو األمر املفتوح ى‬
‫من الصحيح إذن َّ‬
‫أن اجلالء يفتح نفسه أمام اإلرشاق والظالم‪ ،‬وكذلك أمام الصوت‬
‫والصمت‪ ،‬لكنَّه ليس هو ما يقوم باجلالء أو الفسح أو التحرير‪ .‬فقط «الطاو» عرب قدرته‬
‫سهل‬ ‫عل إنتاج هذه الصفات‪ ،‬وفقط العدم املرتبط به يمكن له ْ‬
‫أن ُي ه‬ ‫التوليد َّية لديه الطاقة ى‬
‫جمرد نفي احلضور أو‬ ‫حتقيقها‪ .‬سبب هذا هو َّ‬
‫أن العدم ‪ -‬كام يفهمه فالسفة الطاوية ‪ -‬ليس َّ‬
‫االفتقاد إ ىل احلضور‪ ،‬بل هو اجلوهر الكوزمولوجي الذي يتأ َّلف منه الواقع‪ ،‬احل هيز الكامل‬
‫الذي يوجد الطاو من خالله وتتم جتربته فيه‪ .‬وهكذا َّ‬
‫فإن جالء هايدغر ليس أكثر من‬
‫فإن طاقته َّ‬
‫اخلالقة‬ ‫أي طبيعة «شيئ َّية»‪َّ ،‬‬
‫السطوع الذي ُيع هبئ فراغه‪ ،‬أما الطاو فأل َّنه ليس لديه ّ‬
‫إل‬
‫تتفجر من خالل العدم بطريقة ال تشبه النهلست َّية (العدم َّية) يف يشء‪ ،‬وِّلذا فلطاملا أرشت ى‬
‫َّ‬
‫ه َّية العدم هبذه الطريقة‪:‬‬
‫بأّنا ميونطولوج َّية ‪ .‬يصف التاو ت تشينغ أ ّ‬
‫(‪)4()3‬‬
‫الفلسفة الطاوية َّ‬
‫يتهاوى ال توجد ظلمة‪ .‬فهو دائام كذلك‪ :‬ال اسم‬
‫ى‬ ‫حني يسمو ال يوجد سطوع نور‪ ،‬وحني‬

‫‪(1) Dickung‬‬
‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.65 ،‬‬
‫(‪ )3‬امليونطولوجيا (‪ :)Meontology‬هي الدراسة الفلسفية للعدم‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫(‪ )4‬للمزيد حول نظر َّيتي هذه حول امليونطولوجيا‬
‫‪David Chai ،Meontology in Early Xuanxue Thought, Journal of Chinese Philosophy‬‬
‫‪37.1 (March 2010): 91 - 102 ibid. ،Meontological Generativity: A Daoist Reading of the‬‬
‫‪Thing, Philosophy East & West 64، no. 2 (April 2014): 18 - 303 ;ibid. Zhuangzi’s‬‬
‫‪Meontological Temporality, Dao: A Journal of Comparative Philosophy (forthcoming‬‬
‫‪2014).‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪483‬‬

‫سم ىى هذا‪ :‬صورة ما ال صورة له‪ ،‬صورة ما هو‬


‫له‪ ،‬دائام يرجع إ ىل ذاك الذي هو ال يشء‪ُ .‬ي ّ‬
‫ليس بيشء(‪.)1‬‬
‫عل اجلالء‪َّ ،‬‬
‫فإن اجلالء يلعب دورين‬ ‫إذا ما أخذنا صفات العدم املذكورة أعاله وط َّبقناها ى‬
‫مستوى املوجودات‪ ،‬حيث يقوم بتجويفها ليتيح املجال أمام‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫مرتابطني ولكن متم هيزين‪ :‬ى‬
‫مستوى الوجود فإ َّنه جيلو الوجود نفسه بحيث يرشق‬
‫ى‬ ‫وعل‬
‫ى‬ ‫دفق احلياة َّ‬
‫اخلالق ليحصل فيها؛‬
‫خرى‪ :‬يستمر اجلالء دون مانع من الوجود أو حد منه‪ ،‬ولكن‬‫جتذره يف العدم‪ .‬بكلامت ُأ ى‬
‫انكشافه ال ينبع من حالة سابقة من إخفائه لذاته‪ ،‬بل من خالل كونه م َّتحدا مع الطاو‪.‬‬
‫ي َّت ضح الفرق بني هذا التوصيف الطاوي للجالء وبني مفهوم هايدغر إذا قرأنا ما كتبه‬
‫األخري‪:‬‬
‫يتيح اجلالء َّأوالً وقبل يشء إمكان َّية وجود طريق إىل احلضور‪ ،‬وتسمح بإمكان َّية‬
‫إن االنكشاف هو اجلالء التي يسمح بالوجود والفكر‬
‫تقديم هذا احلضور نفسه‪َّ ...‬‬
‫وجيعل كال منهام حارض ًا لآلخر وألجله ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫بأّنا تشري‬
‫وقد فهم مارك راثول فكرة هايدغر حول «جعل الذات حارضة أنطولوج ًّيا» َّ‬
‫إ ىل أوجه خمتلفة من الوجود متنعها طبيعتها التي ُيكمها السياق من الربوز آن ًّيا يف الوقت‬
‫ذاته(‪.)3‬‬

‫حقيقة الكشف‪:‬‬
‫َّإال َّ‬
‫أن هذا التفسري ُيؤ ّدي إ ىل إشكال َّية حول الكيف َّية التي جتعل أوجه مع َّينة من الوجود نفسها‬

‫‪(1) Daodejing ،31.‬‬


‫أضاف شارح الكتاب «وانغ ب» (‪249 - 226‬ميالد َّية) التال‪« :‬قد يرغب املرء ْ‬
‫أن يقول‪ :‬إ َّنه غري موجود‬
‫بأن يقول‪ :‬إ َّنه موجود ولكن صورته ال يمكن‬ ‫ولكن األشياء تستكمل وجودها به‪ ،‬وقد يرغب املرء ْ‬
‫رؤيتها‪ .‬لذلك نقول‪ :‬إ َّنه صورة ما ال صورة له‪ ،‬صورة ما ليس بيشء»‪.‬‬
‫‪Daodejing ،32.‬‬
‫‪(2) Heidegger، On Time and Being،68.‬‬
‫‪(3) Mark Wrathall، Heidegger and Unconcealment: Truth، Language، and History ،New‬‬
‫‪York: Cambridge University Press،2011،34).‬‬
‫‪ ❖ 484‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫معروفة للعامل يف الوقت الذي تقوم هبا بفعل ذلك‪ .‬وكانت استجابة راثول‪َّ :‬‬
‫أن «اجلالء» ليس‬
‫إظهارا إلمكان ّيات الوجود‪ ،‬وال هو حجب بعض اإلمكان ّيات وكشف ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬بل َّ‬
‫إن لديه‬
‫عل أ َّنه ال تتو َّفر أي إمكان ّيات حتم َّية ُأخ ى‬
‫رى» بحيث «ُيجب اجلالء‬ ‫مهمة التأكيد والبيان ى‬
‫َّ‬
‫إل َّ‬
‫أن‬ ‫خرى للوجود» ‪ .‬وصل راثول إ ىل هذه النتيجة من خالل اإلشارة ى‬ ‫إمكان َّية أفهام ُأ ى‬
‫(‪)1‬‬

‫هايدغر نفسه قال َّ‬


‫بأن اجلالء‪:‬‬
‫جمرد انفتاح احلضور‪ ،‬بل انفتاح احلضور الساتر لنفسه بنفسه‪ ،‬انفتاح اللجوء‬
‫ليس َّ‬
‫الساتر لنفسه بنفسه(‪.)2‬‬
‫بأن هذا اللجوء الساتر لنفسه بنفسه ليس َّإال ميزة‬
‫أن هايدغر نفسه قال َّ‬
‫لكن املشكلة هي َّ‬
‫مشكوك فيها‪:‬‬
‫َأوليس هذا التوجه الروحاين الذي ال أساس له أو امليثولوجيا الس ِّيئة عىل مجيع‬
‫مدمرة‪ ،‬أو نفي ًا للعقل؟(‪.)3‬‬
‫األحوال ال عقالن َّية ِّ‬
‫حل َجج السابقة التي ساقها‬ ‫وباإلضافة إ ىل ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه النقلة تعني حتوال واضحا عن ا ُ‬
‫هايدغر يف «أسئلة حول التكنولوجيا» حيث قال‪:‬‬
‫احلر‪ ،‬بمعنى املنجل‪ ،‬أي املكشوف‪ ...‬لكن اليشء الذي ُحي ِّرر ‪-‬‬
‫احلر َّية احل ِّيز َّ‬
‫حتكم ي‬
‫الَّس ‪ -‬هو دائ ًام خمفي‪ ،‬وخيفي نفسه‪ ...‬ي‬
‫احلر َّية هي ما حيجب بطريق تسليط النور‬ ‫أي ي‬
‫الذي يرشق من خالل جالئها للحجاب الذي ُيغ يطي احلدوث اجلوهري جلميع‬
‫احلقائق وجيعل احلجاب يظهر عىل أ َّنه ما حيجب(‪.)4‬‬
‫عل أ َّنه خروج ما هو حر والعودة إليه وكشفه إ ىل‬
‫لكن حني يتحدَّ ث هايدغر عن الكشف ى‬
‫ه َّية اجلالء الكوزمولوج َّية‪ ،‬وقد حبس نفسه يف لعبة متش هعبة تنشأ من‬
‫العلن فإ َّنه هيمل أ ّ‬
‫الفرض َّية املسبقة احلتم َّية بوجود فرق بني ما هو حر وما ليس بحر؛ باإلضافة إ ىل الفرض َّية َّ‬
‫بأن‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪.34 ،‬‬


‫‪(2) Heidegger، On Time and Being,71.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.71 ،‬‬
‫‪(4) Martin Heidegger، The Question Concerning Technology، in Basic Writings، ed. D. Krell‬‬
‫‪(New York: Harper Collins ،1993 ،330).‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪485‬‬

‫احلر َّية تتع َّلق فقط بظروف عيش اإلنسان وليس بجميع األشياء‪َّ ،‬‬
‫وأن العدم الذي ُيجب‬ ‫ّ‬
‫والِّس َّية ليس هو ما يقوم باحلجب نفسه‪ .‬مجيع هذه‬
‫ّ‬ ‫الوجود بحيث ُيعطيه هالة من الغموض‬
‫بأن الوجود قد ُولِدَ من‬
‫ألّنا تقول َّ‬
‫الفرض ّيات إشكال َّية من وجهة نظر الفلسفة الطاوية َّ‬
‫العدم‪ ،‬ولكن ليس العدم هو ما ّ ى‬
‫يتول أمر الوجود‪ ،‬بل هذا مرتوك للطاو‪ .‬وهكذا‪ ،‬إذا كان لنا‬
‫إل‬
‫أي إشارة ى‬ ‫ْ‬
‫أن نتحدَّ ث عن اجلالء من حيث إ َّنه يعكس طبيعة الطاو امليونطولوج َّية متجنهبني َّ‬
‫عل كشف أصل احلقيقة من حيث احل هر وغري‬ ‫أن نصف قدرته ى‬ ‫«اإلجياد من العدم» فال يمكننا ْ‬
‫تترصف بشكل منفصل عن كل من العدم والطاو‪.‬‬
‫احلر َّية َّ‬
‫أن ّ‬ ‫فإن هذا سيعني َّ‬
‫احلر‪َّ ،‬‬
‫ه‬
‫إذا ما عدنا إ ىل نقاش التاو ت تشينغ‪ ،‬فاملاء املوحل حينام يكون ساكنا وهادئا فإ َّنه وبطبيعة‬
‫احلال سيصبح صافيا‪ ،‬لكن صفاءه هذا ليس نتيجة حقيقة وجوده األنطولوج َّية‪ ،‬بل يأت من‬
‫فتحه لذاته للعدم؛ وطبيعة املياه العكرة من حيث هي ماء ال تتأ َّثر بتخ هليها عن تعكرها‪ ،‬بل‬
‫أن ُحت هقق التوازن الداخيل من خالل حتررها من احلاجة إ ىل حتقيق صفائها اخلارجي‬
‫يمكن ِّلا ْ‬
‫أن طبيعتها التي أضفاها عليها «الطاو» هي ْ‬
‫أن تكون مع َّكرة‬ ‫الذي يتح َّقق حني تتق َّبل حقيقة َّ‬
‫بالوحل وصافية يف الوقت ذاته‪ .‬يرمز الطاويون إ ىل حاالت الوجود الس ّيالة هذه بصور كثرية‬
‫املجوف(‪ ،)1‬فكام هو احلال يف حمور الدوالب وطرفه‬
‫َّ‬ ‫لعل أشهرها هو حمور الدوالب وطرفه‬ ‫َّ‬
‫املجوف َّ‬
‫فإن املاء الساكن النقي يبدو وكأ َّنه فارغ ال حياة فيه‪ ،‬ولكن إذا حركته فسوف تلتف‬ ‫َّ‬
‫عل‬
‫احلياة فيه كام ُُي هرك املحور الدائر عصا الدوالب‪ .‬تنعكس دورة السكون واحلركة هذه ى‬
‫البوابة التي‬
‫املستوى األنطولوجي ‪ -‬الكوزمولوجي من خالل اجلالء الذي يلعب دور ّ‬ ‫ى‬
‫عرب الوتيس عن هذا يف كلامته التالية‪:‬‬
‫يتامزج فيها العدم والوجود بحيث يكونان واحدا‪ ،‬وقد َّ‬
‫بينام تزدهر األشياء الكثرية‪ ،‬يعود كل واحد منها إىل أصله‪ .‬تعرف العودة إىل‬
‫اجلذور بـ «السكون»‪ ،‬ويعرف كون املرء ساكن ًا بأ َّنه العودة إىل مصريه وقدره(‪.)2‬‬
‫إذن‪ ،‬يمكننا القول َّ‬
‫بأن املاء الصايف قد أمسك بحقيقة وجوده اجلوهر َّية‪ ،‬أ َّما املاء العكر‬
‫أن نزيد هذه النقطة بيانا بقولنا‪َّ :‬‬
‫إن احلركة ّتفي‬ ‫فوىض عجاج حركته‪ .‬يمكننا ْ‬
‫ى‬ ‫فقد فقدها يف‬

‫املجوف فيتم احلديث‬


‫َّ‬ ‫(‪ )1‬يتم احلديث عن حمور الدوالب يف الفصل احلادي عرش من تاويت تشنغ أ َّما الطرف‬
‫عنه يف الفصل الثاين من تشوانغتيس‪.‬‬
‫‪(2) Daodejing،36.‬‬
‫‪ ❖ 486‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫جذور األشياء و ُأصوِّلا‪ ،‬أ َّما اِّلدوء الساكن فيظهر إرشاق هذه األُصول؛ اليشء الساكن‬
‫عل مصفوفة العدم َّ‬
‫اخلالقة‪ ،‬أ َّما اليشء العكر فيسرت هذا اللقاء وُيجبه‪.‬‬ ‫يفتح أشياء ُأ ى‬
‫خرى ى‬
‫هنا ويف هذه النقطة يكمن الفرق الرئييس بني التعريف الطاوي والتعريف اِّلايدغري‬
‫عل فكرة َّ‬
‫أن العدم يكشف أصل األشياء احلقيقي يف الطاو‪،‬‬ ‫األول يقوم ى‬
‫للجالء‪ ،‬فالتعريف َّ‬
‫إل التعريف األخري َّ‬
‫فإن اجلالء مربوط بشكل ال يقبل االنفصام مع الوجود‪ .‬لكن‬ ‫أ َّما بالنسبة ى‬
‫يتوجه‬
‫َّ‬ ‫فإن علينا ْ‬
‫أن نسأل أنفسنا‪ :‬كيف‬ ‫مستوى أعمق َّ‬
‫ى‬ ‫إذا ما شئنا ْ‬
‫أن نأخذ نقاشنا هذا إ ىل‬
‫اجلالء إ ىل رعاية حقيقة األشياء األنطولوج َّية ‪ -‬الفينومينولوج َّية؟ وح َّت ىى نتم َّكن من اإلجابة‬
‫أن نستكشف كيف يتم َّكن اجلالء من تسهيل انكشاف األشياء‪.‬‬ ‫عن ذلك السؤال علينا ْ‬
‫عل تأطري اجلالء‬
‫فإذا ما كانت معانقة الطاو للعدم ‪ -‬كام ناقشنا ح َّت ىى اآلن ‪ -‬جتعله قادرا ى‬
‫للحر َّية الكوزمولوج َّية من خالل إعادة ترتيب أولو َّية ثنائ َّية العدم ‪ -‬الوجود‪ ،‬فعلينا‬
‫ّ‬ ‫كخلف َّية‬
‫إن أوضح حل يربز للعقل هو َّ‬
‫أن اجلالء ‪ -‬ومن‬ ‫أن نعالج اآلن كيف َّية كشفه حلقيقة األشياء‪َّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫خالل فعل كشفي ‪ُ -‬يس هلط الضوء ى‬
‫عل احلقيقة كي نفهم أبعادها‪ ،‬ولكن إشكال َّية ا هتباع مقاربة‬
‫عل يشء مبهم بطبيعته لن يفعل الكثري إليضاحه‪ ،‬ويف مثال آخر‬ ‫أن تسليط النور ى‬‫كهذه هي َّ‬
‫من التفكري املتأ هثر بالطاوية ُيقده م لنا هايدغر الفقرة التال َّية‪:‬‬
‫جمرد سطوع» أكثر سطوعا من ألف‬
‫ليتحول إ ىل َّ‬
‫َّ‬ ‫«ال يظل النور جالء مرشقا حني ينترش‬
‫ننأى من مزيج‬
‫أن ى‬ ‫شمس‪ .‬يظل من الصعب علينا محاية وضوح التفكري‪ ،‬أو بكلامت ُأ ى‬
‫خرى‪ْ :‬‬
‫السطوع الذي ال ينتمي‪ ،‬لنجد السطوع الذي يناسب وهو الظالم وحده‪ .‬يقول الوتيس‪:‬‬
‫«من عرف سطوعه قد ألبس نفسه ظلمته»‪ ،‬ونضيف إ ىل هذه املقولة حقيقة يعلمها اجلميع‬
‫ولكن ال يتح َّقق هبا َّإال القليلون‪:‬‬
‫عىل تفكري األشخاص احلادثني الذين حيفهم الفناء أن يدعوا أنفسهم هيوون إىل‬
‫أعامق البئر املظلمة كي يروا النجوم يف النهار‪ .‬سيظل من األصعب علينا املحافظة عىل‬
‫ألن ما يريد‬
‫صفاء الظلمة من احلصول عىل سطوع يرغب باإلرشاق هبذه الطريقة‪َّ ،‬‬
‫فقط أن يرشق ال يمكن له أن ييضء األشياء األُخرى(‪.)1‬‬

‫‪(1) Martin Heidegger ،Contributions to Philosophy (Of the Event)، trans. Richard Rojcewicz‬‬
‫‪and Daniela Vallega. Neu (Bloomington: Indiana University Press، 2012 ،88 - 89).‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪487‬‬

‫عقدة هذه هو َّ‬


‫أن النور القاهر املهيمن ال يكشف األشياء‪ ،‬بل‬ ‫ما يعنيه هايدغر بفقرته امل َّ‬
‫يمحوها و ُيفنيها حتت شدَّ ة سطوع إرشاقه القاهر؛ يقول هايدغر‪َّ :‬‬
‫إن نورا كهذا هو نور‬
‫مهمة الكشف عن األشياء‪ ،‬ولكن باملقابل َّ‬
‫فإن اجلالء‬ ‫حمض‪ ،‬وِّلذا فال يمكن له ْ‬
‫أن ُيؤ ّدي َّ‬
‫جمرد نور الفهم العادي‪ ،‬بل جيب‬
‫أعل من َّ‬
‫باملعنى الذي يريده هايدغر ُيتاج بدوره إ ىل يشء ى‬
‫ى‬
‫عل ذلك اليشء ْ‬
‫أن يستجيب إ ىل نور اإلمكان َّية املمزوج بالظلمة‪.‬‬ ‫ى‬

‫حمدوديَّة هايدغر‪ ..‬ال حمدوديَّة الطاو‪:‬‬


‫إذا تناولنا رجوع هايدغر إ ىل الفصل الثامن والعرشين من التاو ت تشنغ بعني النقد‪ ،‬فيمكننا‬
‫النص بام يالئم احتياجاته ال بام يعنيه النص نفسه‪ ،‬وكذلك‬ ‫ْ‬
‫أن ن َّتهمه بانتقائ َّية االختيار من ه‬
‫النص األصيل بعني احلسبان‪ .‬إذا ما قرأنا السطر الذي‬
‫فهو يقوم بفعل ذلك دون أخذ سياق ه‬
‫اقتبسه وأكملناه مع الذي يليه لوجدنا التال‪:‬‬
‫إذا عرف اإلنسان البياض ولكنَّه َح َرس يف اآلن عينه السواد‪ ،‬فعندها يمكنه أن‬
‫فإن فضيلته الثابتة ال يمكن أن ُتطئ ويمكنه‬ ‫يكون ُأنموذج ًا للعامل‪ُ .‬‬
‫وكأنموذج للعامل َّ‬
‫أن يعود إىل َّ‬
‫الالحمدود(‪.)1‬‬
‫النص‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ه َّية يف ه‬
‫فلامذا إذن نجد هايدغر قد رضب صفحا عن عبارة يف غاية األ ّ‬
‫«يعود إ ىل ا َّلالحمدود»؟ يبدو ل َّ‬
‫أن حاجة هايدغر إ ىل بناء بداية ثانية جديدة للتفكري يف‬
‫أن تبدأ من فكرة النفي‪ ،‬أو العدم‪ ،‬التي علينا ْ‬
‫أن نتذ َّكر هنا َّأّنا تعني‬ ‫الوجود ال يمكن ِّلا ْ‬
‫املعنى مطلق وال يمكن‬ ‫ى‬ ‫املتضمنة يف كلمة َّ‬
‫«الالحمدود»‪ .‬العدم هبذا‬ ‫ه‬ ‫الالتعني أو َّ‬
‫الالتعريف‬ ‫َّ‬
‫أن العدم «مالذ» لنور الوجود‬ ‫أن يتو َّلد منه‪ ،‬ولكن هايدغر بدال من ذلك ى‬
‫يرى َّ‬ ‫ألي يشء ْ‬
‫ه‬
‫التارخيي‪ ،‬وهبذا جيعل الوجود متعاليا‪.‬‬
‫املعرب عنها باملصطلح اإلغريقي والتي أرشنا إليها سابقا ومن حيث هي‬
‫(‪)2‬‬
‫فإذن الكلمة َّ‬
‫«زوال خفاء» تعني إنارة ضمن ظالم أعظم‪ ،‬وهكذا َّ‬
‫فإن اجلالء هو ظالم يكشف من خالله‬
‫إن النور خيرتق‬ ‫عرب عن هذا بطريقة ُأ ى‬
‫خرى فنقول‪َّ :‬‬ ‫الوجود إرشاقه الظاهري؛ ولنا ْ‬
‫أن ُن ه‬

‫‪(1) Daodejing، 74.‬‬


‫‪(2) Alêtheia‬‬
‫‪ ❖ 488‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الظالم‪ ،‬ومن خالل فعله لذلك يزيل اخلفاء عن جوهر الظالم الباطني‪ .‬عند هايدغر يعتمد‬
‫تتصورها الفلسفة‬
‫َّ‬ ‫عل بعضهام بعضا ولكن ليس بالطريقة التي‬
‫كل من النور والظلمة ى‬
‫الطاوية‪ ،‬فسطوع اجلالء بالنسبة إ ىل هايدغر هو «زوال خفاء ما هو حارض بالفعل‬
‫احلر َّية احلاصلة من فعل‬
‫اخلاصة به‪ ،‬فهو ّ‬
‫َّ‬ ‫جترد هذا احلضور من ظلمته‬
‫(‪ »)Alêtheia‬إذا ما َّ‬
‫ترك األشياء تكون‪ .‬وترك األشياء تكون يف انعدام خفاء اجلالء هيدف إ ىل حترير الوجود من‬
‫النزوع التارخيي الذي ُي ِ‬
‫بهم الوجود ويعزله عن نفسه(‪.)1‬‬
‫األول قد ّ ى‬
‫ّتل عن‬ ‫َّ‬
‫وكأن ذلك َّ‬ ‫قد يبدو اعتامد هايدغر للتمثيل الذي استخدمه الوتيس‬
‫عل أ َّنه سلب َّية حمضة من ناحية‪ ،‬وكأ َّنه قد تبنّ ىى املوقف امليونطولوجي‬
‫التصور الغرب للعدم ى‬
‫الذي تعتمده الطاوية من ناحية ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬ولكنَّنا إذا درسنا مقوالت هايدغر بد َّقة أكرب سنجد‬
‫فروقات كبرية بني النظرتني‪:‬‬
‫عل العدم؛ فبينام يقول‬ ‫أهم هذه الفروقات هو َّ‬
‫أن هايدغر يعطي األولو َّية للوجود ى‬ ‫ّ‬
‫فإن الفلسفة الطاوية تقول‪َّ :‬‬
‫إن اجلالء ال‬ ‫عل انكشاف الوجود‪َّ ،‬‬ ‫هايدغر‪َّ :‬‬
‫إن اجلالء يدل ى‬
‫عل انكشاف اجلالء نفسه وال يشء آخر‪ ،‬فاألشياء حتجب الـ «ال أشياء»‬ ‫أن َّ‬
‫يدل ى‬ ‫يمكن َّإال ْ‬
‫كام جتتذب أغصان الشجرة انتباهنا بعيدا عن جذورها حتت أقدامنا‪ .‬اجلالء عند الطاوية هو‬
‫البوابة الغامضة إ ىل العدم الذي ُييط ه‬
‫بكل يشء ويصبغه بصبغته‪ِّ .‬لذا يقول الطاويون‪ :‬إ َّنه‬ ‫ّ‬
‫أن نحاول ْ‬
‫أن‬ ‫أن نالحق جذور األشياء مجيعا إ ىل مصدرها األصيل بدال من ْ‬ ‫من األفضل لنا ْ‬
‫النص التال يف‬
‫كل يشء يف ذاته‪ ،‬سواء أكان ذلك اجلالء أم الوجود‪ِّ .‬لذا نجد َّ‬‫نصل إ ىل معرفة ه‬
‫التاوت تشنغ‪:‬‬
‫إذا ما أراد الواحد منيا أن ُحيدِّ د أصل األشياء ‪ -‬رغم قرهبا! ‪ -‬فعليه ومن مسافة أن‬
‫ال عىل بدايتها! وإذا أراد الواحد منيا أن ُيس ِّلط الضوء عىل سبب األشياء ‪-‬‬
‫ُيقدِّ م دلي ً‬
‫رغم بداهته! ‪ -‬فعليه أن يبدأ من خفائها ح َّتى يناقش أصلها(‪.)2‬‬

‫«إن اكتشاف «العامل» ّ‬


‫وجتيل الـ دازاين يأت دائام من خالل إجالء احلُ ُجب واإلهبامات‪،‬‬ ‫(‪ )1‬يقول هايدغر‪َّ :‬‬
‫ومن خالل حتطيم السواتر التي يقطع فيها الـ دازاين (أو احلضور اإلنساين مع الوجود) نفسه عن نفسه»‪.‬‬
‫‪Being and Time 121 (129).‬‬
‫‪(2) Daodejing، 197.‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪489‬‬

‫نصا مشاهبا يف التشوانغتيس أيضا‪:‬‬


‫ونرى ًّ‬
‫ى‬
‫مع السكون َث َّمة اإلرشاق‪ ،‬ومع اإلرشاق َث َّمة الفراغ! حني يكون اإلنسان فارغ ًا‬
‫أي يشء دون أن يفعله!(‪.)1‬‬
‫بأي فعل لك َّنه ال يرتك َّ‬
‫فهو يمتنع عن القيام ِّ‬
‫فام يتس َّبب باإلرشاق ساكن‪ ،‬والسكون ُجي هسد الفراغ؛ والصامت والفارغ هو لذلك‬
‫إل الطاو‪ .‬حني كتب هايدغر أ َّنه‪:‬‬
‫مظلم‪ ،‬ولذا فام هو مظلم الباطن هو ما يفتح الطريق ى‬
‫فقط يف كينونة تنجل وجوديا هبذا الشكل يمكن لألشياء احلارضة موضوعيا أن‬
‫تصبح يف متناول اإلدراك يف النور أو أن تسترت عنه يف الظالم(‪.)2‬‬
‫أمل يكن يعني َّ‬
‫أن الظالم هو ما ُيجب اجلالء عن حتقيق ما يف وسعه وإمكانه؟ لو سمع‬
‫النص التال‪:‬‬
‫خاصة وأ َّننا نجد يف كتابه َّ‬ ‫تشوانغتيس هذه العبارة لكان اعتقد َّ‬
‫أن هذا مراده َّ‬
‫إن شدَّ ة‬
‫جوهر الطاو الكامل مبهم عميق يف إهبامه‪ ،‬مظلم وغامض يف ظلمته؛ َّ‬
‫[ظهور] الطاو الكامل خافتة يف تشويشها‪ُ ،‬حييط هبا الصمت والسكون(‪.)3‬‬
‫فبينام يشعر هايدغر برضورة وضع الوجود يف عدم ليس له هدف َّإال الكشف عن حقيقته‬
‫الوجود َّية‪ .‬تقول الطاوية‪ :‬إ َّنه ال يمكن ألي منهام ْ‬
‫أن يتجاوز احلقيقة امليونطولوج َّية إلهبام‬
‫الطاو املظلم كام هو مذكور يف التشوانغتيس‪:‬‬
‫ترجع األشياء الكثرية إىل حالتها احلقيق َّية‪ ،‬وهو ما هو معروف بالظلمة‬
‫املوحلة(‪.)4‬‬

‫القفز إىل حقيقة املوجود نفسه‪:‬‬


‫ه َّية مفهوم العدم بالنسبة إ ىل هايدغر يف عمله «إسهامات يف الفلسفة» وللفلسفة‬
‫ونظرا أل ّ‬
‫عل العموم ‪ -‬رغم اختالف الطرائق التي يستخدم هبا كل منهام هذا املفهوم ‪ -‬علينا‬
‫الطاوية ى‬
‫أن ُن هبني كيف َّية استمرار العدم أنطولوج ًّيا‪ .‬وبالفعل يكتب هايدغر أ َّننا وإذا ما كان لنا ْ‬
‫أن‬ ‫ْ‬

‫‪(1) Zhuangzi، 810.‬‬


‫‪(2) Heidegger، Being and Time، 125 (133).‬‬
‫‪(3) Zhuangzi 381.‬‬
‫(‪ )4‬املصدر السابق‪.443 ،‬‬
‫‪ ❖ 490‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫فإن علينا ْ‬
‫«أن نقفز إ ىل حقيقة‬ ‫عل االنقسام األنطولوجي بني الوجود واملوجود َّ‬ ‫نتغ َّلب ى‬
‫حرر أنفسنا من إساءة تفسريه»(‪.)1‬‬ ‫أن علينا ْ‬
‫«أن ُن ه‬ ‫إل درجة َّ‬
‫الوجود نفسه»‪ ،‬بل إ َّننا نحتاج هذا ى‬
‫كام سي َّتضح قريبا‪َّ ،‬‬
‫فإن مرشوع هايدغر هذا ليس خاليا من املشاكل حيث يستخدم العدم‬
‫كغطاء جمازي بني املوجود والوجود جاعال من هذا األخري مفهوما عميقا سحيقا ال ُُياط به‬
‫وال يدخل حتت الفهم‪ .‬بدال من القفز من املوجود إ ىل الوجود من خالل اخرتاق العدم الذي‬
‫ُيجب الواحد عن اآلخر يمكننا ْ‬
‫أن ن َّتبع أثر الفلسفة الطاوية عرب القفز من الوجود إ ىل العدم‬
‫الذي ُيش هكل لنا األُ ّس واألساس الوجودي الدائم لنا‪.‬‬
‫أن نشت قليال عن املوضوع لننظر يف‬ ‫فإن علينا ْ‬
‫ح َّت ىى نفهم ما تعنيه هذه القفزة َّ‬
‫املحارضات التي ألقاها هايدغر يف أربعين ّيات ومخسين ّيات القرن املايض‪ ،‬والتي حتدَّ ث فيها‬
‫إل األرض والسامء واإلِّل ّيات والفانني ‪ -‬كجوهر للوجود احلقيقي‪.‬‬ ‫عن التقسيم الرباعي ‪ -‬ى‬
‫للمرة األُو ىل‪،‬‬
‫فحني حتصل العمل َّية املسترتة التي ُنش هكل فيها العامل يف مداركنا بشكل صحيح َّ‬
‫أن نتغ َّلب ى‬
‫عل النهلست َّية (العدم َّية)‬ ‫خيتفي الوجود ومعه العدم يف هذه العمل َّية‪ ،‬وال يمكن لنا ْ‬
‫اختفى كل من العدم وجوهر حقيقة الوجود يف العامل(‪ .)2‬وهكذا َّ‬
‫فإن عمل َّية حتويل‬ ‫ى‬ ‫َّإال إذا‬
‫العامل إ ىل عامل‪ ،‬تربز من خالل التضايف بني العدم والوجود‪ .‬فالعدم إذن جزء ال يتجزَّ أ من‬
‫عل احلضور كحقيقة الوجود يف‬
‫إل عامل‪ ،‬وقدرة هذه العمل َّية ى‬
‫العامل من خالل عمل َّية حتويله ى‬
‫صورة اجلالء‪ .‬وكام رأينا َّ‬
‫فإن اجلالء يعمل كموقع حقيقة الوجود أل َّنه ومن خالل جالئه‬
‫فإن اجلالء من حيث إ َّنه العدم يعكس طبيعة الوجود‬ ‫نعرف مقدار ما يمده العدم‪ ،‬وهكذا َّ‬
‫بمقدار ما ي ِ‬
‫مدد العدم إمكان َّية صريورة الوجود ح َّت ىى يصل الوجود إ ىل آن َّية(‪ )3‬احلضور‬ ‫ُ‬

‫‪(1) Heidegger، Contributions to Philosophy. (269) 380.‬‬


‫‪(2) Martin Heidegger ،Bremen and Freiburg Lectures: Insight into That Which Is and‬‬
‫‪Basic Principles of Thinking، trans. Andrew J. Mitchell (Bloomington: Indiana‬‬
‫‪University Press 46 - 47، 2012).‬‬
‫(‪ )3‬يرتجم عبد الرمحن بدوي كلمة ‪( Dasein‬دازاين) األملان َّية إ ىل اللغة العرب َّية بـ آن َّية مشريا يف كتابه (الزمان‬
‫الوجود‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،1973 ،‬هامش‪ ،‬ص‪ )5 :‬إ ىل َّ‬
‫أن كلمة آنيَّة‪ :‬صاحلة فع ً‬
‫ال لرتمجة هذه الكلمة‬
‫‪‬‬ ‫كل اللغات األُوروب َّية‪.‬‬
‫األملان َّية التي استعصت ترمجتها إىل ِّ‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪491‬‬

‫اإلنساين مع الوجود (الـ دازاين)‪.‬‬


‫بأن املوجود ال ُيعطي االسم ه‬
‫لكل ما هو حقيقي فحسب‪،‬‬ ‫ُي هبني لنا هذا ملاذا كتب هايدغر َّ‬
‫بل جلميع األشياء الواقعة بينه وبني الوجود ‪ -‬بام يف ذلك العدم‪ .‬لكن الوجود يشري إ ىل أكثر‬
‫مم َّا هو واقع وممكن من خالل اإلشارة إ ىل ما هو أبعد من وقوع اجلوهر األصيل ‪ -‬كام هو‬
‫أن نصل إ ىل وجود متعال‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫سرب غوره(‪ .)1‬فإذا ما كان لنا ْ‬
‫احلال يف اجلالء السحيق الذي ال ُي َ‬
‫عل مثل هذا الوجود َّأال ُييط بجميع إمكان ّيات املوجودات املستقبل َّية فحسب‪ ،‬بل بنفي أو‬
‫ى‬
‫عل عاتق اجلالء من حيث إ َّنه‬ ‫منع هذه اإلمكان ّيات أيضا‪ .‬وهكذا َّ‬
‫فإن نجاح الوجود يقع ى‬
‫يزيل أشكال املوجودات التي ال يمكن حتقيقها‪ ،‬وهذا يكشف عن احلقيقة املنعكسة من‬
‫البداية اجلديدة التي اعتقد هايدغر أ َّننا بحاجة إليها إذا ما كان لنا ْ‬
‫أن نعيد تأطري اإلشكال ّيات‬
‫اِّلادية ملسار امليتافيزيقا الغرب َّية‪.‬‬
‫عل نقل الرتكيز بعيدا عن سؤال الكينونة‬ ‫َّ‬
‫إن األمر الذي يواجهه هايدغر حني يعمل ى‬
‫ليتوجه به إ ىل سؤال أكثر جوهر َّية وهو الوجود نفسه ال بدَّ له ْ‬
‫أن يشمل دور العدم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫األسايس‬
‫النص هو أ َّن العدم مل يعد مرتبطا يف ثنائ َّية مع الوجود‬
‫ه‬ ‫وأكثر ما يلفت انتباهنا هنا يف‬
‫كـ «اآلخر» له‪ ،‬بل يف حالة من الـ «إ َّما كذا (التي تعني وجود يشء وعدم آخر) أو كذا (التي‬
‫األول وعدم اآلخر)»‪ .‬وكون األمر أقرب إ ىل «أو» من كونه «إ َّما» ‪ -‬كام‬
‫تعني عدم اليشء َّ‬
‫يقول هايدغر ‪ -‬يكون أسهل من خالل عدم اكرتاثنا بـ «أو»‪َّ .‬‬
‫إن عدم االكرتاث هذا هو ما‬
‫سميه هايدغر ‪-‬‬
‫األعل كام ُي ّ‬
‫ى‬ ‫أعل من الوجود ‪ -‬العدم‬ ‫يرتقي بوجود َّ‬
‫«الالوجود» إ ىل درجة ى‬
‫احلجة اإلغريق َّية القديمة القائلة َّ‬
‫بأن‬ ‫َّ‬ ‫ولكن فكرة َّ‬
‫«الالوجود» كوجود تبدو فارغة بقدر‬
‫الالوجود إ َّنام هو بالفعل نوع من أنواع الوجود‪ .‬ما نحتاج إليه هو وسيلة ُمت هكننا من التوحيد‬
‫َّ‬
‫أعل من‬
‫مستوى ى‬
‫ى‬ ‫كيل ومتبادل خيضع ًّ‬
‫كال من املفهومني إ ىل‬ ‫بني َّ‬
‫الالوجود والوجود بشكل ّ‬

‫احلق العريب يف االختالف الفلسفي‪ ،‬املركز الثقايف العرب‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪ ‬لكن يقول طه عبد الرمحن يف مؤ َّلفه ( ِّ‬
‫‪ ،2002‬ص‪ :)158 :‬يبدو أنَّ اللفظ العريب الكينونة أقرب عىل أداء معنى الـ دازاين من غريه‪ .‬واحلقيقة‬
‫عل صعوبة ضبط هذا‬ ‫موحد دليل ى‬ ‫عل ترمجة مصطلح ‪ Dasein‬إ ىل اللغة العرب َّية بلفظ َّ‬ ‫َّ‬
‫أن عدم االتهفاق ى‬
‫املصطلح يف اللغة العرب َّية ضبطا دقيقا‪.‬‬
‫‪(1) Heidegger، Contributions to Philosophy،(34) 59 - 60.‬‬
‫‪ ❖ 492‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املستوى‬
‫ى‬ ‫العدم‪ ،‬وهو ما اعتربه كل من هايدغر وفالسفة الطاوية املفتاح الذي سيفتح أغالق‬
‫األعل من احلقيقة امليتافيزيق َّية‪.‬‬
‫ى‬
‫ه َّية العدم‪ ،‬دعونا ننظر إ ىل الفقرة التالية‪:‬‬
‫ح َّت ىى نفهم فكرة هايدغر حول أ ّ‬
‫تتط َّلب [العودة إىل] حدوث الوجود اجلوهري النظر يف انتامء العدم إىل الوجود‪،‬‬
‫أن الوجود‬
‫وهبذه الطريقة فقط حتصل عالقة الـ يإما ‪ -‬الـ أو عىل جدَّ هتا وأصالتها‪ .‬بام َّ‬
‫فإن املحافظة عىل حقيقته يتط َّلب استمرار النفي هذا‪ .‬وبذلك‬ ‫يتغلغل فيه «الـ َّال» َّ‬
‫فإن السلب الذايت يف‬ ‫يتط َّلب ما ال وجود له‪ ،‬أي املضاد السالب ِّ‬
‫لكل يشء‪ .‬وهكذا َّ‬
‫الوجود يقتيض أن يتط َّلب املوجود وحيتاج إىل ذلك الذي يظهر نفسه يف الـ دازاين‬
‫كالـ َّإما ‪ -‬أو‪ ،‬الواحد أو اآلخر‪ ،‬وفقط هؤالء(‪.)1‬‬
‫ويمكننا ْ‬
‫أن نقارن هذه الفقرة بفكرة مشاهبة أطلقها تشوانغتيس‪:‬‬
‫ال يمكن للوجود أن يستخدم الوجود خللق الوجود‪ ،‬ولذا فال بدَّ له أن ينشأ من‬
‫الالوجود‪ ،‬ولكن َّ‬
‫الالوجود هو نفسه العدم(‪.)2‬‬ ‫َّ‬
‫املتضمنة بني العدم والوجود‪َّ ،‬إال أ َّنه ُيد حركة َّ‬
‫األول بحركة‬ ‫ه‬ ‫مع َّ‬
‫أن هايدغر يقر باجلمع َّية‬
‫األخري‪ ،‬أ َّما بالنسبة إ ىل تشوانغتيس فالعدم هو الوسيلة امليونطولوج َّية التي ُي ه‬
‫شخص فيها‬
‫عل تعاليه وتنزهه‪ .‬من خالل كون‬ ‫الطاو نفسه يف األشياء الكثرية ضمن العامل بينام ُيافظ ى‬
‫الطاو مظلم ومبهم فهو ُيؤ هلف إبداع العدم َّ‬
‫اخلالق الذات والسالب؛ ومن خالل كون الطاو‬
‫ال عالمة له‪ ،‬فهو يشري إ ىل رابط أنطولوجي َّ‬
‫خالق مع الوجود أيضا‪.‬‬
‫بأن الوجود متخ هلل بالعدم‪،‬‬
‫حمقا بشكل جزئي حني يقول َّ‬
‫أن هايدغر كان ًّ‬
‫نرى َّ‬
‫وهكذا ى‬
‫عل حقيقته الوجود َّية‪ .‬لكن ‪ -‬ومن زاوية طاوية ‪ -‬فال ّتلو عبارة‬ ‫ويتط َّلبه ح َّت ىى ُيافظ ى‬
‫أي يشء َّإال الـ إ َّما ‪ -‬أو يف أو‬
‫يرى يف العدم َّ‬ ‫هايدغر من اإلشكال نتيجة رفض هايدغر ْ‬
‫ألن ى‬
‫احلضور اإلنساين مع الوجود (الـ دازاين)‪َّ .‬‬
‫إن تقلب الوجود يف هاوية اجلالء السحيقة يشري‬
‫بشكل صحيح إ ىل انقالب بعيدا عن َّ‬
‫الالوجود‪ ،‬لكن هذا التقلب الذات للوجود‪ ،‬ومن‬

‫(‪ )1‬املصدر السابق‪.)47( 80 ،‬‬


‫‪(2) Zhuangzi 800.‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪493‬‬

‫الناحية األنطولوج َّية ‪ -‬الكوزمولوج َّية ‪ -‬ال يمكن له ْ‬


‫أن يكون نتيجة الوجود نفسه‪ ،‬بل ال بدَّ‬
‫أن الطاوية جتادل ضدَّ فكرة َّ‬
‫أن هذه القفزة حمجوبة‬ ‫وجهها‪ ،‬وِّلذا سنجد َّ‬ ‫ْ‬
‫وأن يكون العدم ما ُي ه‬
‫بالعدم بينام هي يف احلقيقة ليست َّإال العدم نفسه!‬
‫عل هذا يمكننا ْ‬
‫أن نبني املزيد من الفروقات بني دور العدم يف فلسفة هايدغر ودوره‬ ‫بناء ى‬
‫إل‬ ‫يف الطاوية من خالل مالحظة َّ‬
‫أن قيام هايدغر بإعادة مساءلة امليتافيزيقا الغرب َّية ال هيدف ى‬
‫إل أخذ تفكرينا يف‬
‫عل العكس متاما‪ ،‬فال يزال هايدغر يدعونا ى‬
‫تقديم تفسري إجياب للعدم؛ بل ى‬
‫يستمر باستقالل عن الوجود ‪-‬‬
‫َّ‬ ‫احلجة التقليد َّية التي تقول‪ :‬إ َّنه جيب ْ‬
‫أن‬ ‫إل أبعد من َّ‬
‫العدم ى‬
‫وهو مصدر إدانتنا للوجود وكراهيتنا له ‪ -‬إ ىل حيث يكون الوجود «مضاء بالعدم»(‪ )1‬مم َّا يتيح‬
‫له املجال كي يظهر كام هو يف جوهره‪ .‬وباإلضافة إ ىل ذلك َّ‬
‫فإن االنتامء الذي يتحدَّ ث عنه‬
‫هايدغر ليس إ ىل العدم َّ‬
‫ألن‪:‬‬
‫الوجود ‪ -‬بام أ َّنه األكثر متيز ًا وندر ًة ‪ -‬إذا ما ُأ ِخ َذ ضدَّ العدم فسوف يرجع نفسه‬
‫من شمول َّية املوجودات‪ ،‬وكل التاريخ ‪ -‬حيث يصل الوجود إىل جوهره احلقيقي ‪-‬‬
‫سيخدم فقط تراجع الوجود إىل حقيقته الكاملة(‪.)2‬‬
‫َّ‬
‫إن تراجع الوجود من عامل املوجودات مشابه حلالة العدم الوسط َّية‪ ،‬ويف هذه الوسط َّية‬
‫األهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تظهر حقيقة الوجود بام هو احلدث‬

‫تراجع الوجود وظهور حقيقته‪:‬‬


‫إن احلدث الذي ُيم هثل جالء الوجود هو حدث فريد مل يشهده أحد‪َّ ،‬إال اإلله ‪ -‬بحسب‬
‫َّ‬
‫هايدغر ‪ ،-‬لكن هذا ُيم هثل تناقضا صارخا مع العزلة املنسوبة إ ىل الطاو التي أشار إليها‬
‫الوتيس‪:‬‬
‫وكل ُو ِجدَ قبل السامء واألرض؛ صامت وفارغ ومنفرد وغري‬‫المتعني ِّ‬
‫َّ‬ ‫يوجد يشء‬
‫كل مكان لك َّنه يظل حرا من األخطار‪ ،‬وذلك يمكنه أن ُيع َترب ُأ يم‬
‫متغري‪ ،‬هو موجود يف ِّ‬
‫ِّ‬

‫‪(1) Heidegger ،Contributions to Philosophy. (269) 380.‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.)256( 328 ،‬‬
‫‪ ❖ 494‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫السامء واألرض‪ .‬ال أعلم ما اسمه ولذلك ُأطلق عليه اسم‪ :‬الطاو(‪.)1‬‬
‫وكأّنا غري‬
‫عل فتق ورتق كتلة املوجودات التي تبدو َّ‬‫بالنسبة إ ىل الوتيس‪ ،‬ذاك الذي يقدر ى‬
‫قابلة للخرق ليس الوجود‪ ،‬بل العدم‪ .‬بام َّ‬
‫أن الطاو يعكس سكون العدم الفارغ الفرداين فإ َّنه‬
‫اص‪ ،‬مشكال األرض َّية األساس التي ينبثق منها وفيها الوجود‪.‬‬‫رس ال ‪ -‬وجوده اخل ّ‬
‫يسكن يف ه‬
‫حر َّيته تظل غري متأ هثرة رسمدا‪ .‬هنا نجد سبب ا هتصال‬ ‫وبام أ َّنه وجودي ف ّياض يف توجهه َّ‬
‫فإن ّ‬
‫الطاو بالعدم‪ ،‬إذ َّ‬
‫إن العدم فقط هو ما يمكنه لعب دور األرض َّية األصيلة للوجود‪ ،‬ومن هذا‬
‫ومتفردا بالذات‪.‬‬
‫ه‬ ‫الوجه يظل منزَّ ها عن األصل‬
‫عرب هايدغر عن مشاعر مشاهبة حني يقول‪:‬‬
‫ُي ه‬
‫ُتش ِّكل فردان َّية الوجود أصل أحد َّيته‪ ،‬وبحسب هذا ال يلقي الوجود حول ذاته َّإال‬
‫بالعدم الذي تظل جماورته أصيلة إىل أقىص درجة والذي يظل أكثر احلرس أمانة يف‬
‫محاية هذه األحد َّية(‪.)2‬‬
‫أن ذكر هايدغر ذلك عاد بعد قسمني من كتابه ليقول‪:‬‬ ‫بعد ْ‬
‫ُيذ ِّكرنا الوجود بـ َّ‬
‫«الال يشء»‪ ،‬ولذلك فالعدم ينتمي إىل الوجود‪ .‬نحن نعلم‬
‫القليل القليل حول هذا االنتامء‪ ،‬ولكنَّنا نعلم إحدى نتائجه التي تبدو يف مظهرها‬
‫أن‬
‫سطح َّية بالقدر الذي تدَّ عي فيه َّأّنا سطح َّية‪ :‬نحن نخشى «العدم» ونمقته‪ ،‬ونعتقد َّ‬
‫بحق ليس َّإال َّ‬
‫الالشيئ َّية‬ ‫أن العدم ٍّ‬ ‫علينا دائ ًام أن ُن ِّ‬
‫كرس أنفسنا بكامل احلامسة إلدانته بام َّ‬
‫املحضة(‪.)3‬‬
‫كالالوجود إذا ما تذ َّكرنا بأ َّنه يقول أيضا‪َّ :‬‬
‫إن العدم‬ ‫فام الذي يعنيه هايدغر إذن بالعدم َّ‬
‫مدى‬
‫عل ى‬‫ه َّية تعتمد كيف َّية إجابتنا عنه ى‬ ‫ُيذ هكرنا بالوجود؟ يبدو ل َّ‬
‫أن هذا سؤال يف غاية األ ّ‬
‫تقبلنا ألخذ العدم كعامل مساو للوجود يف إسهامه يف تنظرينا امليتافيزيقي وكيف تِّسي هذه‬
‫املساهة‪ .‬بعبارة ُأ ى‬
‫خرى‪ :‬هل ثنائ َّية العدم ‪ -‬الوجود ذات هاجتاه واحد أم هل هي مزدوجة‬
‫فِّس فيها القفزة؟‬
‫عل الطريقة التي ُن ه‬ ‫ه‬
‫االجتاه؟ وهل ُيؤ هثر هذا بدوره ى‬

‫‪(1) Daodejing، 63.‬‬


‫‪(2) Heidegger ،Contributions to Philosophy. (267) 371.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.)269( 378 ،‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪495‬‬

‫مع أ َّننا قدَّ منا بعض اإلرشادات بالنسبة إ ىل اإلجابة‪َّ ،‬إال َّأّنا يف الواقع تبدو أكثر تعقيدا ممَّا‬
‫فأوال يقول الوتيس‪َّ :‬‬
‫إن‪..‬‬ ‫قد يفرتضه املرء! َّ‬
‫الرجوع هو حركة الطاو‪ ،‬والضعف هو عمل َّيته‪ .‬تو َّلدت األشياء الكثرية من‬
‫الوجود‪ ،‬لكن الوجود ينشأ من العدم(‪.)1‬‬
‫اخلالقة‪ ،‬هو يف الوقت ذاته الوجود َّ‬
‫والالوجود‪،‬‬ ‫أن الطاو كإمكان َّية الكون َّ‬
‫هذا يعني َّ‬
‫بأي جزء منها‬
‫وتتآلف املوجودات من خالل إحاطته يف وحدة واحدة‪ ،‬لكن الطاو ال ُيتفظ ه‬
‫لنفسه‪ ،‬وبالتال يظل غري متأ هثر بتامزج املوجودات وانقسامها‪ .‬فالعودة إ ىل الطاو إذن إ َّنام هي‬
‫املعنى يمكن للواحد ْ‬
‫أن يمتزج من‬ ‫ى‬ ‫استيعاب فائدة َّ‬
‫الالوجود‪ ،‬وحني يتم االستيعاب هبذا‬
‫الالمتع هينة‪ ،‬أو ْ‬
‫إن شئت قلت‪ :‬من ضعفها‪.‬‬ ‫وحدة األشياء َّ‬
‫يرى َّ‬
‫بأن امليتافيزيقا الغرب َّية لطاملا أخطأت يف تفسري العدم‪ ،‬معتربة إ ّياه ضدَّ‬ ‫لكن هايدغر ى‬
‫األدنى منه‪:‬‬
‫ى‬ ‫الوجود‬
‫جمرد نفي تعني املوجودات ووساطتها كام فعل هيغل ومجيع‬ ‫حا ِّطني إ يياه إىل َّ‬
‫كمتوجه إىل حقيقة‬
‫ِّ‬ ‫امليتافيزيق ِّيني من قبله‪[ ...‬ولذلك فام نحتاج إليه هو] ّتربة العدم‬
‫الوجود‪ ،‬وعىل أساس هذا التوجه الوصول إىل معرفة ثابتة بحصول الوجود‬
‫اجلوهري(‪.)2‬‬
‫إن السبب الذي جعل هيغل ومن سبقه يرون َّ‬
‫بأن العدم حمدود بدور التوسط هو‬ ‫َّ‬
‫عل ما هو كائن وما ليس بكائن‪ ،‬ما هو‬ ‫توجههم إ ىل التفكري بطريقة تشعب َّية ثنائ َّية تقوم ى‬
‫صحيح وما ليس بصحيح‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬ينظر هايدغر إ ىل هذه املسلك ّيات حني ُيتج َّ‬
‫بأن‬
‫علينا ْ‬
‫أن نتق َّبل‪:‬‬
‫إمكان َّية أن يكون النفي من جوهر ح َّتى أعمق من كلمة «نعم»‪ ،‬خصوص ًا َّ‬
‫وأن‬
‫ؤخذ هبا‬
‫أي نوع من القبول‪ ،‬وبالسطح َّية ذاهتا الذي ُت َ‬
‫ؤخذ بَّسعة بمعنى ِّ‬
‫الـ «نعم» ُت َ‬
‫الـ «ال»(‪.)3‬‬

‫‪(1) Daodejing، 10 - 109.‬‬


‫‪(2) Heidegger ،Contributions to Philosophy, (269) 380.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.)90( 140 ،‬‬
‫‪ ❖ 496‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫فِّس «النعم» و«الـ َّال» ى‬


‫عل َّأّنام ينتميان إ ىل املوجود أل َّنه من طبيعة‬ ‫هكذا يمكننا ْ‬
‫أن ُن ه‬
‫أن ُيولِدها‪ .‬لكن هايدغر يعود ليكمل ويقول بأ َّنه وبالرغم من هذه احلقيقة َّ‬
‫فإن‬ ‫الوجود ْ‬
‫عل أ َّنه منزِّلام‪ ،‬والـ دازاين بدورها‬ ‫النعم اجلوهر َّية َّ‬
‫والالاجلوهر َّية يأخذان كالها الـ دازاين ى‬
‫عل‬ ‫يسكن يف الوجود؛ َّ‬
‫فإن تشوانغتيس كان سيجد إشكال َّية يف التفوق الذي يضفيه هايدغر ى‬
‫إحدى نصوصه ُتقده م رواية شخص َّية نابضة باحلياة عن زوجته حول سبب‬
‫ى‬ ‫الوجود؛ وهذه‬
‫ذلك‪:‬‬
‫كان هناك وقت قبل أن تولد‪ .‬بام أ َّنه كان هناك وقت قبل أن تولد فقد كان هناك‬
‫وقت قبل أن يكون لدهيا جسد‪ .‬وبام أ َّنه كان هناك وقت قبل أن يكون لدهيا جسد فقد‬
‫كان هناك وقت قبل أن تكون لدهيا التيش [ َن َفس احلياة (الطاقة احليات َّية)]‪ .‬يف وسط‬
‫تغريت التيش وكان هناك‬
‫ثم َّ‬
‫عدم التاميز اهلائل هذا‪ ،‬حدث تغيري وكان هناك التيش‪ ،‬ي‬
‫تغري اجلسد إىل احلياة‪ ،‬واآلن حدث تغيري آخر وهي اآلن ميتة(‪.)1‬‬
‫ثم َّ‬
‫جسد‪ ،‬ي‬
‫أن يسبق الوجود زمان ًّيا ووجود ًّيا من‬ ‫تظهر لنا رواية تشوانغتيس كيف يمكن للعدم ْ‬
‫خالل تتبع عودة زوجته إ ىل الطاو باستخدام لغة كوزموجون َّية (تتع َّلق بنشأة الكون)‪ .‬بينام‬
‫تستهدف القفزة التي نجرهيا إ ىل حقيقة الوجود كيف َّية تفكرينا يف الـ دازاين وتأطرينا له‪َّ ،‬إال‬
‫إل‬ ‫أ َّنه وبالرغم من ذلك هو إطار يعجز طريقه عن التمدد متجاوزا نفسه‪َّ .‬‬
‫إن القفز ى‬
‫جمرد املصلحة‬
‫أعل أهدافه َّ‬
‫إحدى ى‬
‫ى‬ ‫عرف املا هو كائن بالوجود‪ ،‬وبذلك تظل‬
‫«الـ ليس» ُي ه‬
‫وحد فيها بني السلب واإلجياب يف «الـ إ َّما ‪ -‬أو «بحيث‬
‫الذات َّية‪ .‬ما نحتاج إليه هو وسيلة ُن ه‬
‫عل حضور «الـ دازاين» الدائم‬ ‫إن فعل ذلك س ُيم هكننا من االلتفاف ى‬ ‫يصبح الكل واحدا‪ ،‬إذ َّ‬
‫لنستبدل به ُأعجوبة الطاو امليونطولوج َّية‪َّ .‬‬
‫إن القفزة إذن هي العودة إ ىل مركز كينونة اإلنسان‪،‬‬
‫يتسامى عن الزمن َّية والقياس‪ ،‬والذي ترضب جذور ثباته يف رسمد َّية العدم‪.‬‬
‫ى‬ ‫وهو مركز‬
‫عل َّأّنا فعل عقيل ُيملنا بعيدا عن أنفسنا إ ىل آن َّية‬
‫يتصور هايدغر القفزة ى‬
‫َّ‬ ‫لتونا‪،‬‬
‫كام ذكرنا ه‬
‫وأن هذا يتيح لنا املجال كي نرتك وراءنا البداية األُو ىل التي انطلقت منها‬ ‫«الـ دازاين»‪َّ ،‬‬
‫لنسعى إ ىل بداية جديدة يرتبط فيها الوجود بالعدم‬
‫ى‬ ‫امليتافيزيقا الغرب َّية يف تفكريها يف الوجود‬

‫‪(1) Zhuangzi 15 - 614.‬‬


‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪497‬‬

‫وضح هايدغر ما‬


‫السمو فوق معرفتنا التارخي َّية املوجودة مسبقا حول اإلنسان(‪)1‬؛ ول ُي ه‬
‫ه‬ ‫هبدف‬
‫يعنيه هبذه القفزة كتب َّ‬
‫أن‪:‬‬
‫القفزة هي القفز إىل االستعداد لالنتامء إىل احلدث‪ ...‬إ َّن تدخل الوجود املعطى إىل‬
‫الكائنات البرش َّية التارخي َّية ال ُي ِ‬
‫ظهر نفسه أبد ًا هلم مبارش ًة َّإال بطريقة خمف َّية باطنة ويف‬
‫أوجه إيوائه للحقيقة(‪.)2‬‬
‫عل الطاو‬
‫فلنقارن ما قاله هايدغر مع األوصاف الكثرية التي أضفاها تشوانغتيس ى‬
‫وسنالحظ تشاهبا كبريا يف مسار اجلدل الذي ا َّتبعه مع جدل هايدغر‪ ،‬فقد كتب التال‪:‬‬
‫أي فعل أو شكل؛ يمكن متريره ولكن ال‬
‫للطاو حقيقته وعالماته ولكن ليس له َّ‬
‫يمكن تل يق يه؛ يمكنك احلصول عليه ولكن ال يمكنك رؤيته؛ الطاو هو مصدره نفسه‪،‬‬
‫هو أصل نفسه(‪.)3‬‬
‫ُخي هبئ الوجود نفسه عن قبضة الرتابة حني يلوذ باجلالء‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن اجلالء يشري إ ىل املوقع‬
‫مدى امتداد وجودها حمجوبا ومبهام؛ لكن غموض‬ ‫الذي تنكشف فيه حقيقة الوجود‪ ،‬يظل ى‬
‫الوجود ال يكاد يذكر إذا ما قورن بالطاو‪ ،‬فلِ َم األمر كذلك؟ األمر كذلك َّ‬
‫ألن الطاو ‪-‬‬
‫وبخالف الوجود ‪ُ -‬يتوي مصدره يف نفسه أ َّما جذوره فرتجع إ ىل العدم‪.‬‬

‫تكامل الوجود والعدم‪:‬‬


‫حني يقفز الوجود إ ىل هذه اِّلاوية فإ َّنه ي َّتخذ صفاهتا ويقارب العدم‪ ،‬ولكن نقطة اخلالص ال‬
‫رس العدم‪ ،‬بل حتصل من خالل احلضور الدائم مع آن َّية الـ دازاين؛ وهكذا‬
‫متكن يف معانقة ه‬
‫الكربى للموجودات كحقيقة تنكشف دائام‬‫ى‬ ‫جيعل هايدغر ثنائية الـ دازاين ‪ -‬الوجود احلقيقة‬
‫عل ما هي عليه‪.‬‬
‫أن تعرف ى‬ ‫بشكل جزئي يف العدم املحيط هبا واملرتبط بكوّنا ال يمكن ِّلا ْ‬
‫خرى‪ :‬ما نقفز إليه يف احلقيقة هو أنفسنا املتغايرة واملتباينة يف مكان وزمان الـ‬‫بكلامت ُأ ى‬
‫دازاين؛ ولذلك فنحن بالفعل دائام يف اجلالء‪ ،‬عند حدث الوجود‪ ،‬وِّلذا السبب قال هايدغر‪:‬‬

‫‪(1) Heidegger، Contributions to Philosophy. (90) 140.‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق ‪.)120( 186‬‬
‫‪(3) Zhuangzi، 246.‬‬
‫‪ ❖ 498‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫إن أكثر القفزات أصال ًة وا ِّتساع ًا هي تلك التي ي َّتخذها الفكر‪ ،‬وال يعني هذا َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬
‫جوهر الوجود يمكن له أن يتحدَّ د عىل أساس الفكر (التوكيد)‪ ،‬بل أل َّنه هنا ويف‬
‫معرفة احلدث يتم اخرتاق وهدة الوجود إىل املدى األبعد ويمكننا استخراج‬
‫إمكان ييات إيواء احلقيقة يف املوجودات بالشكل األكرب(‪.)1‬‬
‫معنى‬
‫ى‬ ‫الالتفكري ال تعني َّأال ُيف هكر اإلنسان‪ ،‬بل حتمل‬
‫فإن حالة َّ‬
‫من وجهة النظر الطاوية‪َّ ،‬‬
‫أي‬‫أن ُيف هكر دون ه‬ ‫أن يتع َّلم التفكري دون عقل‪ ،‬أو بكلامت ُأ ى‬
‫خرى‪ْ :‬‬ ‫يعج باملفارقات وهو‪ْ :‬‬
‫أن الطاو هو ما ُجي هيل احلقيقة َّ‬
‫وكل‬ ‫جذر بالذات واألنا‪ .‬إذا ما اعتنق اإلنسان فكرة َّ‬
‫شعور مت ه‬
‫يشء حتتويه فأي حاجة تكون لدينا عندها للتفكري من حيث ّيات البرص أو السمع أو أي من‬
‫احلواس األُ ى‬
‫خرى ما دام الطاو هو الدليل املرشد؟ ُُي هذرنا كتاب التشوانغتيس مرارا وتكرارا‬ ‫ه‬
‫أن نتفاعل بشكل صادق حقيقي مع العامل‪ ،‬وذلك َّ‬
‫ألن‬ ‫حواسنا إذا ما أردنا ْ‬
‫ه‬ ‫عل‬
‫من االعتامد ى‬
‫العامل يف مجع َّيته هو جمموع املوجودات ومقابالهتا من َّ‬
‫الالموجودات‪ ،‬وبينام ينتظم الطاو‬
‫وينترش بحسب طبيعته الذات َّية (والتي ُيطلِق عليها الطاويون اسم زيران‪ ،‬وهي كلمة صين َّية‬
‫تعني حرف ًّيا‪ :‬هو كذلك) َّ‬
‫فإن اإلنسان من حيث هو الـ دازاين نفسه ‪ -‬أي احلضور الواعي‬
‫مع الوجود ‪ -‬هو ليس َّإال واحدا من إمكان ّيات ال حرص ِّلا يمكن هبا للطاو ْ‬
‫أن ينتقل فيها‪.‬‬
‫عني‬
‫عل يشء مت ه‬
‫إن هذا احلدث ممكن فقط بسبب ال تعني العدم‪ ،‬فلو كان الطاو يعتمد ى‬ ‫َّ‬
‫ه‬
‫متشخص حمدَّ د فلن يكون هو مصدر ذاته‪ ،‬ناهيك عن كونه احلامل حلقيقة الوجود‪.‬‬
‫لكن هايدغر يعود ليكتب‪:‬‬
‫الوجود دائ ًام يف حالة شديدة من اخلفاء وينتقل إىل ما ليس باحلسبان وهو الفريد‬
‫من نوعه عند أعىل ِ‬
‫الق َمم وأحدها والتي ُتؤ ِّلف ما حياذي جذر العدم السحيق وهو‬
‫نفسه ما ُيش ِّكل أساس العدم(‪.)2‬‬
‫باملعنى السالب متثيل ًّيا‪َّ :‬‬
‫إن هدفه‬ ‫ى‬ ‫ُياول هايدغر هبذا الكالم ْ‬
‫أن يتجنَّب التوجه إ ىل العدم‬
‫فرق بني الوجود واملوجود‪ ،‬وبني البداية األُو ىل للتفكري يف‬ ‫هو ْ‬
‫أن يتبنّ ىى العدم كحاجز ُي ه‬

‫‪(1) Heidegger، Contributions to Philosophy. (120) 187.‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق ‪.)120( 186‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪499‬‬

‫إل والدة جديدة للوجود من خالل‬


‫الوجود والثانية األكثر جدَّ ة‪ .‬وهكذا وبينام يشري احلدث ى‬
‫عل العدم فقد عجز فهم اإلمكان ّيات اخلالص َّية التي ُيقده مها؛ فام مل يرغب فيلسوفنا يف‬
‫اشتامله ى‬
‫االعرتاف بحقيقة العدم امليونطولوج َّية كالوسط اإلمكاين الذي تشتق منه حقيقة األشياء‬
‫إل‬
‫إل هاوية العدم للوصول ى‬ ‫الكربى‪ ،‬يمكننا القول من الزاوية الطاوية‪َّ :‬‬
‫إن هذه القفزة ى‬ ‫ى‬
‫الوجود ال ّتتلف عن جدل تشوانغتيس حول «هذا» و«ذاك» الذي أشار إليه يف الفقرة‬
‫التالية‪:‬‬
‫ح َّت ىى هذا هو طريق ذاك‪ ،‬وذاك هو طريق هذا؛ لكن هذا لديه خطؤه وصوابه‪ ،‬فهل يوجد‬
‫يف الواقع متييز بني هذا وذاك أم ال يوجد متييز بني االثنني؟ حني ال يعود هذا وذاك ضدَّ ان‬
‫لبعضهام بعضا فسوف جيد اإلنسان الطاو كاملحور بينهام‪ .‬حني يقف اإلنسان عند املحور‬
‫أن يتعامل مع تغريات ال ّناية ِّلا من اخلطأ والصواب‪ِّ .‬لذا قيل‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫واملدار فعندها يمكنه ْ‬
‫اليشء األفضل لالستخدام هو توضيح األضداد لبعضها بعضا(‪.)1‬‬
‫إن القفز احلقيقي إ ىل اِّلاوية ال يتط َّلب سلب َّية زائفة للوجود‪ ،‬بل دهشة مكتنفة بالعدم‬
‫َّ‬
‫إل‪:‬‬ ‫األول‪َّ .‬‬
‫إن إجراءات كهذه س ُتل ّبي دعوة هايدغر ى‬ ‫األصيل َّ‬
‫التساؤل حول امليتافيزيقا وحتديد انتامء الوجود والعدم إىل بعضهام بعض ًا بشكل‬
‫أكثر أصال ًة وجذر َّي ًة(‪.)2‬‬
‫عل أ َّنه‪:‬‬
‫عل العدم ى‬
‫بينام ستحافظ ى‬
‫املخصصةالتي ُيش ِّكل احتامهلا أصل مجيع عمل ييات اخللق أي‬
‫ِّ‬ ‫متلئ بتلك القدرة‬
‫(أن تصبح املوجودات موجودة بشكل أكمل)(‪.)3‬‬

‫تردُّد هايدغر‪:‬‬
‫إل وحدة أنطولوج َّية ‪-‬‬
‫يدل عجز هايدغر عن محل حتليله إ ىل خطوة أبعد‪ ،‬وحتويل القفزة ى‬
‫رى‬ ‫ّ‬
‫التخيل بالكامل عن املعايري امليتافيزيق َّية الغرب َّية؛ فهل ُت ى‬ ‫عل تردده يف‬
‫كوزمولوج َّية كاملة‪ ،‬ى‬

‫‪(1) Zhuangzi، 66.‬‬


‫‪(2) Heidegger، Contributions to Philosophy. (129) 194.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق ‪.)129( 194‬‬
‫‪ ❖ 500‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أقوى‬
‫ى‬ ‫أ َّدت دراسته الفاشلة للنصوص الطاوية مثل التاو ت تشينغ والتشوانغتيس إ ىل اعتقاد‬
‫لديه بقدرة الـ دازاين التحويل َّية؟ لر َّبام كان األمر كذلك‪ ،‬ولكن بالرغم من ذلك َّ‬
‫فإن‬
‫استعداده ح َّت ىى للتفكري يف العدم كام فعل يف «مساهات للفلسفة» ِّلو أمر مثري لإلعجاب‪.‬‬
‫عل ُأحاد َّية العدم التي خشيها هايدغر أشدّ‬
‫إن الوقوف عند حمور الطاو هو ما يتغ َّلب ى‬
‫متفردا حمضا‪ ،‬بل نسيج الواقع بأرسه‪ .‬العدم بمفهومه الطاوي‬
‫اخلشية‪ ،‬فالعدم مل يعد ال شيئا ه‬
‫أقىص صورها‪ ،‬وسيلة اإلمكان ّيات املصبوغة بدهشة الطاو والتي تقع يف‬
‫ى‬ ‫هو خالق َّية احلياة يف‬
‫ثم مل يعد كائنا‪ ،‬أو هو كائن اآلن‪ ،‬أو سيكون الحقا‪َّ .‬‬
‫إن شمول َّيتها هي‬ ‫جوهر ه‬
‫كل موجود كان ّ‬
‫اكتامِّلا‪ ،‬ومن خالل هذا االكتامل يدع الطاو األشياء تكون كام يف استعدادها الطبيعي ْ‬
‫أن‬
‫إن القفزة إ ىل هاوية العدم ليست قفزة من هذه الذات إ ىل ذات ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬بل‬ ‫تكون؛ وِّلذا أقول‪َّ :‬‬
‫املتجرد الذي ُيم هيز األشياء التي تتناغم مع الطاو(‪.)1‬‬
‫ه‬ ‫عودة باطن َّية إ ىل السكون البسيط الفارغ‬
‫وهكذا يتم جتاوز «حدث الوجود» يف اجلالء من خالل «ال حدث» الطاو؛ وهو «ال حدث»‬
‫َّ‬
‫ألن الطاو يعمل كاملحور جلميع التحوالت ويف الوقت ذاته يعمل كأساس حقيقتها يف حال‬
‫كونه دون أساس سابق له‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن القفزة مم َّا له جذر وأساس (الوجود) إ ىل ما ال جذر له وال أساس (الطاو) إ َّنام هو‬
‫حترير للمحدود بأصله وأساسه من خالل االلتجاء إ ىل العدم الذي ال أساس له‪ ،‬وهبذه‬
‫الطريقة ال يرتكنا اجلالء أبدا أل َّنه دائام مرافق لنا يف داخلنا‪.‬‬
‫األول ال يتع َّلق بتحويل مسار تاريخ التفكري‬ ‫َّ‬ ‫إذن فالبحث عن اجلالء األصيل‬
‫عل العكس‪ :‬فهو يتع َّلق باستهداف الرشاكة اخلف َّية املسترتة بني العدم‬ ‫امليتافيزيقي‪ ،‬بل ى‬
‫والطاو؛ لقد أظهرنا استعداد هايدغر لتقبل فكرة أ َّنه من املمكن لنا ْ‬
‫أن نعرف آن َّية الـ دازاين‬
‫إل العدم كان ومنذ البداية حمكوما‬
‫من خالل عالقتها مع ليس َّية الوجود‪ ،‬لكن هذا التوجه ى‬
‫عليها ْ‬
‫أن تستسلم للحاجة األنان َّية إ ىل الوجود‪.‬‬
‫وكخالصة ملا سبق‪ ،‬فقد قلت يف النقاش الذي سبق‪ :‬إ َّننا وإذا أردنا ْ‬
‫أن نعيد التفكري يف‬

‫إن سبب كوّنا بسيطة وفارغة وساكنة هو بسبب انعدام األسامء والصفات يف ح هقها‪ ،‬وهي نعوت تضفيها‬
‫(‪َّ )1‬‬
‫عليهم اإلنسان َّية ولكنَّها يف احلقيقة أجنب َّية عن حقيقتها اجلوهر َّية يف ذاهتا‪.‬‬
‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ ‪501‬‬

‫طبيعة الوجود فلدينا بديل بناء وقابل للحياة‪ .‬من خالل استخدام ميول الطاوية‬
‫امليونطولوج َّية ر َّكزت ى‬
‫عل مثال اجلالء ومتثيل هايدغر له كمكان تنكشف فيه حقيقة الوجود‪.‬‬
‫أ َّما الطاوية فتجعل العدم كاملوئل الذي ُُي هقق فيه الطاو َّ‬
‫خالق َّيته‪ ،‬ومن خالل ذلك تنسب إليه‬
‫صفات تفتقد إ ىل الوجود متاما للتأكد من َّ‬
‫أن رفعته ستظل أبعد من تطفل أيدي اإلنسان َّية؛‬
‫بالنسبة إ ىل كل من الوتيس وتشوانغتيس فليس اجلالء «زوال خفاء» (أو‪)Alêtheia :‬‬
‫الـ دازاين‪ ،‬بل انكشاف َّ‬
‫أن الوجود م َّتحد دائام مع العدم يف دورة التولد وإعادة التولد‬
‫سهل انجالء‬
‫حر َّيتنا الكوزمولوج َّية التي ُت ه‬
‫والربوز والكمون‪ .‬لذلك يشري اجلالء إ ىل موقع ّ‬
‫جوهر احلقيقة نفسها‪ ،‬وهي حقيقة ترتبط دون ريب مع تعايش الطاو مع العدم واستخدامه‬
‫له‪.‬‬

‫* * *‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬502

:‫املصادر‬
David Chai ،Meontology in Early Xuanxue Thought, Journal of Chinese
Philosophy 37.1 (March 2010).
_________, Zhuangzi’s Meontological Temporality, Dao: A Journal of
Comparative Philosophy (forthcoming 2014).
________, Meontological Generativity: A Daoist Reading of the Thing,
Philosophy East & West 64، no. 2 (April 2014).
Graham Parkes ،Heidegger and Asian Thought (Honolulu: University of Hawaii
Press،1987).
Ma Lin ،Heidegger on East. West Dialogue: Anticipating the Event (New
York: Routledge ،2008).
Mark Wrathall، Heidegger and Unconcealment: Truth، Language، and
History ،New York: Cambridge University Press،2011.
Martin Heidegger، The Question Concerning Technology، in Basic Writings، ed.
D. Krell (New York: Harper Collins ،1993.
Martin Heidegger ،Being and Time: A Translation of Sein und Zeit،trans. Joan
Stambaugh (Albany: SUNY Press 125 - 196).
Martin Heidegger ،Bremen and Freiburg Lectures: Insight into That Which Is
and Basic Principles of Thinking، trans. Andrew J. Mitchell (Bloomington: Indiana
University Press ,2012).
Martin Heidegger ،Contributions to Philosophy (Of the Event)، trans. Richard
Rojcewicz and Daniela Vallega. Neu (Bloomington: Indiana University Press،
2012).
Martin Heidegger ،Heraclitus Seminar ،67/1966 ،trans. Charles Seibert
(Alabama: The University of Alabama Press ،1979( .
Martin Heidegger ، Time and Being ،trans. Joan Stambaugh (New York: Harper
Row،1972).
Reinhard May،Heidegger’s Hidden Sources ،trans. Graham Parkes (New York:
Routledge،1996).
Thomas Prufer ،Glosses on Heidegger’s Architectonic WordPlay :Lichtung and
503 ❖ ‫من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة‬

Ereignis ،Bergung and Wahrnis, The Review of Metaphysics 44 ،no. 3 (March


1991).
Wang Bi Jijiao Shied. Lou Yulie، (Beijing: Zhonghua Shuju ،1980( .
Zhuangzi Jishied. Guo Qingfan (Beijing: Zhonghua Shuju ،1997).

* * *
‫هل كان هايدغر صوفيًّا؟‬
‫(ال تُفهَم الكينونة كشيء بل هي ما يتسامى فوق األشياء)‬
‫(‪)1‬‬
‫جيف غيلفورد‬

‫فهم بوصفها‬ ‫إل إرشاد القارئ إ ىل جتربة الكينونة‪َّ ،‬‬


‫ألن الكينونة ال ُت َ‬ ‫هتدف فلسفة هايدغر ى‬
‫«يتسامى» فوق األشياء‪ ،‬الذي يكون احلديث عنه والتفكري فيه بطريقة‬
‫ى‬ ‫شيئا‪ ،‬بل بوصفها ما‬
‫تقليد َّية مستحيال‪ .‬هذا اِّلدف شبيه بشكل الفت بعدد من أهداف التقاليد الصوف َّية األكثر‬
‫شهرة يف العامل‪ ،‬وهو يثري السؤال التال‪ :‬هل كان هايدغر صوف ًّيا؟ س ُأحاول يف هذه العجالة‬
‫اإلجابة عن هذا السؤال من خالل مقارنة الط ُرق التي يعتقد هايدغر فيها َّ‬
‫أن جتربة الكينونة‬
‫تتامهى مع الط ُرق التي ا َّتبعها الصوفيون من ثقافات خمتلفة ليصلوا إ ىل جتربة‬
‫ى‬ ‫يمكن ْ‬
‫أن‬
‫املتعال‪ .‬بعد تبيان الشبه الكبري بني ُط ُرق هايدغر و ُط ُرق الصوف هيني‪ ،‬سأصل إ ىل نتيجة َّ‬
‫أن‬
‫وأن التجربة التي يأمل ْ‬
‫أن يساعد الناس يف بلوغها هي ر َّبام التجربة نفسها‬ ‫هايدغر صويف‪َّ ،‬‬
‫املتصوفة تراثيا لبلوغها‪.‬‬
‫ه‬ ‫التي كافح‬
‫يعرتف اجلميع َّ‬
‫أن فهم الغاية من أبحاث هايدغر الفلسف َّية ليس أمرا سهال‪ .‬فعندما يطرح‬
‫املستوى من السذاجة‪.‬‬
‫ى‬ ‫معنى الكينونة؟» يبتسم عدد منّا لسؤال هبذا‬
‫ى‬ ‫علينا سؤاله‪« :‬ما‬
‫«الكينونة واضحة»‪ ،‬نضحك‪ ،‬ور َّبام نشري إ ىل صخرة من أجل إثبات فكرتنا‪ .‬لكن تلك‬
‫الصخرة بالنسبة ِّلايدغر ‪ -‬وبالفعل أي يشء آخر ‪ -‬ليست الكينونة‪ ،‬هي كينونة‪ .‬الكينونة‬
‫«يتسامى» فوق األشياء‪« ،‬التعال اخلالص والبسيط»(‪ .)2‬من دون‬
‫ى‬ ‫ليست شيئا‪ ،‬بل هي ما‬

‫‪(1) Jeff Guilford‬‬


‫املصدر‪ :‬جم َّلة االستغراب‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬السنة الثانية‪1437 ،‬هـ‪ ،‬خريف ‪ ،2016‬ص ‪.148 - 138‬‬
‫‪(2) Letter on Humanism. Translated by E.Lohner, in: Philosophy Twentieth Century.‬‬
‫‪Edited.W. Barrett and HAiken, Random House, New York, 1962. P. 251.‬‬
‫‪ ❖ 506‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الكينونة‪ ،‬ال يشء يمكن ْ‬


‫أن يكون‪ .‬لكن عندما ال يكون واقع الكينونة شيئا‪ ،‬وال موضوعا‪،‬‬
‫ألن بنية اللغة تلزم ما نتحدَّ ث عنه مهام كان ْ‬
‫أن يكون يف حالة من‬ ‫يصبح احلديث عنها صعبا‪َّ ،‬‬
‫وعل نحو‬
‫ى‬ ‫أمحر» يبدو البيت كيشء يفتقر إ ىل احلُ ْمرة‪.‬‬
‫املوضوع َّية‪ .‬ففي عبارة‪« :‬البيت ليس َ‬
‫مشابه يف عبارة‪« :‬الكينونة ليست شيئا»‪ ،‬تبدو الكينونة كموضوع يفتقر إ ىل صفة الشيئ َّية‪.‬‬
‫أن نتع َّلم التفكري بطريقة مغايرة إذا أردنا فهم وجتربة الكينونة‪.‬‬
‫لكن هذا إساءة فهم‪ ،‬وعلينا ْ‬
‫باختصار هذا هو اِّلدف الرئييس لفلسفة هايدغر‪ ،‬فهو يأمل يف إرشاد من سيستمعون إليه إ ىل‬
‫صيغة جديدة من التفكري واحلديث‪ُ ،‬يفكَّر فيها بـالكينونة بشكل كامل و ُيتحدَّ ث عنها‬
‫بوضوح‪ ،‬وبالتال ُّت َترب بشكل صحيح‪ .‬يقتيض هذا اِّلدف نقدا للميتافيزيقا‪ ،‬التي يتحدَّ ث‬
‫عن إساءة لفهمها يف الغرب‪ ،‬حيث ُف ِه َمت َّأّنا الفكر ذاته منذ زمن أفالطون‪ ،‬والتي ُيعلِن‬
‫َّأّنا يمكن ْ‬
‫أن تتعامل مع الكينونات فقط وليس الب َّتة مع الكينونة‪ .‬يقرتح طريقة خمتلفة ملقاربة‬
‫ّى‬
‫يتخل عن املرشوع‬ ‫الكينونة كبديل للتفكري امليتافيزيقي‪ .‬لكن هايدغر ليس َّأول من‬
‫امليتافيزيقي ملتابعة حقيقة أساس َّي ة بوسائل بديلة‪ .‬يف الواقع هذه املتابعة كانت موجودة منذ‬
‫سم ىى تصوفا‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫األقل وجود امليتافيزيقا ذاهتا‪ ،‬وكانت ُت ّ‬ ‫ى‬
‫يرفض الصوفيون ‪ -‬مثل هايدغر ‪ -‬التفكري امليتافيزيقي كوسيلة للسلوك إ ىل املطلق‪،‬‬
‫ويبحثون عن ُط ُرق خمتلفة يمكن ْ‬
‫أن يسلكوها‪.‬‬
‫سوف ُأ هبني أ َّن التآلف بني فلسفة هايدغر والفكر الصويف عميق جدًّ ا وتام ‪ ،‬بحيث‬
‫يمكن للمرء وسم فلسفة هايدغر بالفلسفة الصوفيَّ ة‪ .‬ففي قلوب الصوفيه ني وفلسفة‬
‫هايدغر معرفة مبارشة باحلقيقة املطلقة كهدف ّنائي‪ ،‬لكن بام أ َّن كينونة هايدغر ومطلق‬
‫الصوفيهني متعاليان ويفوقان الوصف‪ ،‬وكذلك يستحيل التعبري عنهام باللغة العاد َّي ة‪ ،‬ال‬
‫يمكن إجراء مقارنة مبارشة بني هذين اِّلدفني‪ .‬سوف أستعيض عن ذلك بمقارنة الط ُرق‬
‫قار ب من خالِّلا‪ .‬أل َّن‬ ‫التي يدَّ عي هايدغر والصوفيون أ َّن املطلق يمكن أ ْن ُي َ‬
‫در ك و ُي َ‬
‫هناك عددا كبريا من التشاهبات الدقيقة بني ُط ُرق هايدغر و ُط ُرق الصوفيهني‪ ،‬سأصل إ ىل‬
‫نتيجة أ َّن فلسفة هايدغر هي يف احلقيقة تصو ف‪ ،‬ومن املعقول التفكري أ َّن جتربة الكينونة‬
‫يسعى هايدغر إلرشادنا إليها‪ ،‬هي أساسا جتربة املطلق َن ْف ُس ها الذي يكافح‬
‫ى‬ ‫التي‬
‫هل كان هايدغر صوفيا؟ ❖ ‪507‬‬

‫الصوفي ون من ه‬
‫كل الثقافات بجد للوصول إليه‪.‬‬
‫قبل البدء باملقارنة علينا ْ‬
‫أن نقف حلظة لتوضيح ماذا نعني بكلمة تصوف‪ .‬عادة يف دائرة‬
‫الفلسفة ُتس َتعمل الكلمة كإهانة لنظام ُقده ر له ْ‬
‫أن يكون غامضا ووجدان ًّيا أكثر ممَّا ينبغي‪ .‬يف‬
‫عل اسم‬
‫أي ازدراء من هذا النوع‪ ،‬وبالفعل ‪ -‬عندما ُيصل نظام ى‬ ‫هذه الورقة ال أقصد َّ‬
‫عل مشاركة هذا‬ ‫الصوف َّية ‪ -‬وإذا أردنا ْ‬
‫أن نعتربه شيئا فإ َّننا نعتربه رشفا‪ .‬فهذا االسم قد يدل ى‬
‫النظام يف واحد من أقدم أنظمة الفكر اإلنساين العقيل والروحي وأكثرها وقارا‪ .‬ر َّبام يكون‬
‫أن ُي ْط َلق عليه ُ‬
‫لقب صويف‪ ،‬لكنَّه بالتأكيد مل يكن معاديا للتسمية‪ ،‬أل َّنه‬ ‫هايدغر نفسه قد رفض ْ‬
‫إن َّ‬
‫«كل العمق والد َّقة الفكر َّية موجود يف التصوف احلقيقي العظيم»(‪.)1‬‬ ‫مرة قال‪َّ :‬‬
‫هو ذات َّ‬
‫ويبقى السؤال‪ :‬ما هو التصوف؟ ال َّ‬
‫شك أ َّنه سينتج من خالل تعريف موجز ِّلذه‬ ‫ى‬
‫احلظ تتط َّلب حدود هذه‬
‫ه‬ ‫الظاهرة الغن َّية واملتعده دة الثقافات تعميم مبالغ فيه‪ ،‬لكن لسوء‬
‫الورقة ْ‬
‫أن نطرق املوضوع بإجياز‪ ،‬وبالتال أعرض التعريف الذي طرحته خبرية بارزة يف‬
‫سميه العامل «تصوفا» هو علم املطلقات‪...‬‬ ‫املوضوع أفلني أندرهل(‪ ،)2‬التي تقول‪َّ :‬‬
‫إن «ما ُي ّ‬
‫احلق الواضح بذاته‪ ،‬الذي ال يمكن «التفكري فيه بالعقل»‪ ،»...‬الصويف هو من يتوق إ ىل‬ ‫علم ه‬
‫أن املطلق قد ال يمكن معرفته من خالل‬‫درك َّ‬‫ول بام هو مطلق‪ ،‬لكنَّه ُي ِ‬
‫معرفة من الدرجة ُاأل ى‬
‫إل‬
‫فاملتصوفة ال يرون يف التفكري العقيل ‪ -‬كقاعدة عا َّمة ‪ -‬دليال كافيا ى‬
‫ه‬ ‫استخدام العقل فقط‪.‬‬
‫املحري‪ .‬ه‬
‫لكل‬ ‫ه‬ ‫خرى من النشاط العقيل لكي يقاربوا املطلق‬ ‫الروح‪ ،‬ولذلك يستعملون أنواعا ُأ ى‬
‫ثقافة نصيبها من التصوف‪ ،‬ورغم اختالف األسامء التي ُأطلقت ى‬
‫عل املطلق والط ُرق التي‬
‫يبقى جوهر ه‬
‫كل ثقافة متوافقا مع تعريف أندرهل‪ .‬يبحث فيدنت‬ ‫ُيس َلك إليه من خالِّلا‪ ،‬ى‬
‫يوغيس عن املوكشا (إدراك هاحتاد األمتن بالرباهن) من خالل ممارسات تأمل َّية وزهد َّية؛‬
‫وتسعى بوذ َّية الزن إ ىل الوصول إ ىل ساتوري (الوعي الكوين) من خالل تأمل صارم تزول‬
‫ى‬
‫يسعى الصوفيون إ ىل جتربة «انتقال‬
‫ى‬ ‫من خالله ثنائ َّية التفكري ك ّل ًّيا وإراد ًّيا من ذهن السالك؛‬

‫‪(1) Caputo. P. 6.‬‬

‫‪(2) Evelyn Underhill‬‬


‫‪ ❖ 508‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫والتقوى‪ ،‬التي‬
‫ى‬ ‫الروح» (جتربة مبارشة للمقدَّ س) من خالل العيش بعزلة‪ ،‬ومن خالل الفقر‬
‫ويسعى القده يسون الكاثوليك إ ىل هاحتاد‬
‫ى‬ ‫يقصد منها (حترر) القلب من ه‬
‫كل ما هو غري اهلل»(‪)1‬؛‬
‫الروح باهلل من خالل الصالة والتأمل والصوم‪ .‬هذه فقط ع هينة قليلة من فروع التصوف‬
‫يسعى‬
‫ى‬ ‫األكثر شهرة‪ ،‬ولكن يمكن َّلالئحة ْ‬
‫أن تطول بشكل غري حمدَّ د‪ .‬السؤال اآلن‪ :‬هل‬
‫اِّلايدغريون إ ىل خوض جتربة حقيقة الكينونة من خالل «التفكري التأميل» واالنفكاك عن عامل‬
‫األشياء‪ ،‬والتاميز عن اإلنسان‪ ،‬ويشاركون أيضا يف التقليد الصويف(‪)2‬؟ املقارنة األكثر تفصيال‬
‫بني اِّلايدغر َّية والفكر الصويف قد جتيب عن سؤالنا‪.‬‬
‫َّأول َش َبه قوي موجود بني الطلب الصويف للمطلق والطلب اِّلايدغري للكينونة هو أ َّنه‬
‫ح َّت ىى قبل الوصول إ ىل فهم حقيقي للمتعال وجتربته‪ ،‬يمكن استشعاره بطريقة َّأول َّية وجزئ َّية‪.‬‬
‫األول للمتعال هو الذي ُُي هفز البحث َّ‬
‫الالحق واحلاميس وأحيانا املدهش عن‬ ‫َّ‬
‫إن «التذوق» َّ‬
‫اإلدراك ّ‬
‫الكيل له‪ .‬يوجد يف الرتاث الصويف ويف الفكر اِّلايدغري مستويان من هذه التجارب‬
‫األول َّية للمطلق‪ ،‬أق ّلهام هي جتربة لطيفة لكن ّتترب بشكل عام‪ ،‬وأعظمهام َّ‬
‫يتغري من خالِّلا‬ ‫َّ‬
‫فهم الشخص ّ‬
‫الكيل للعامل‪ ،‬وتشتعل رغبة جاحمة ح َّت ىى لتجربة أكثر كامال‪.‬‬
‫عل فهم احلقيقة املتعالية» قدرة‬
‫سمي أفلني أندهرل يف دراستها العا َّمة للتصوف «القدرة ى‬
‫ُت ّ‬
‫كامنة يف داخل اجلنس البرشي‪ .‬وتقول‪« :‬ق َّلة من الناس يمرون يف احلياة من دون معرفة‬
‫معنى التأثر بالشعور الصويف»(‪ .)3‬قد يكون مشهد الشمس من ِق َمم جبال بعيدة‪ ،‬أو صوت‬ ‫ى‬
‫سمفون َّية معانقة حبيب مفقود من فرتة طويلة‪ ،‬أو مشهد فقري ه‬
‫متأمل‪ ،‬سببا ِّلذا «الشعور املتعال‬
‫يشء ما»‪.‬‬
‫بأّنم غافلون عن ْ‬
‫واحلواس َّ‬
‫ه‬ ‫الذي يتد َّفق من جزء آخر من النفس وهيمس للفهم‬
‫هذا الشعور مألوف لكثريين‪ ،‬لكن ما ُيم هيز الصوف هيني عن العا َّمة هو االنسجام االستثنائي‬
‫ويبقى‬
‫ى‬ ‫معه‪ .‬أ َّما بالنسبة للشخص العادي فيمكن ِّلذا الشعور ْ‬
‫أن يكون تثقيف ًّيا لفرتة قصرية‪،‬‬
‫تتمة حلياة قائمة يف صميم العامل الطبيعي‪ .‬من جهة ُأ ى‬
‫خرى ‪ -‬بالنسبة‬ ‫يف أحسن األحوال َّ‬

‫‪(1) James. P. 455.‬‬

‫‪(2) Discourse on Thinking. P. 46.‬‬

‫‪(3) Underhill 73.‬‬


‫هل كان هايدغر صوفيا؟ ❖ ‪509‬‬

‫للصويف ‪ -‬تكون جتربة هذا الشعور مك َّثفة جدًّ ا بحيث إ َّنه عندما ُيصل يبدأ بإعادة تنظيم‬
‫كاملة لرؤيته العاملية وإعادة توجيه ألولو ّياته ح ول احلقيقة املتعالية التي تكشفها له التجربة‪.‬‬
‫تدعو أندرهل هذه التجربة التبرص َّية صحوة‪ ،‬وتقول‪ :‬هذا هو تقريبا دائام الباعث للسفر‬
‫الصويف من «اجلسد املا ّدي‪ ...‬إ ىل األُمور الروح َّية»‪ .‬وتصفها بالطريقة التالية‪:‬‬
‫متبرص حلقيقة العامل العظيمة والبديعة ‪ -‬أو‬
‫عل إدراك مفاجئ ه‬ ‫تشتمل الصحوة عادة ى‬
‫أحيانا لوجهها اآلخر‪ ،‬األُ ُسس اإلِّلي يف قلب األشياء ‪ -‬التي مل ُت َ‬
‫فهم من قبل‪ .‬بقدر معرفتي‬
‫بمصادر اللغة‪ ،‬ال يوجد كلامت يمكن ْ‬
‫أن تصف هذا اإلدراك(‪ .)1‬عامل املدركات املاضية يف‬
‫أن يكون َّإال ضباب ًّيا يف أحسن األحوال‪َّ ،‬‬
‫غري الوعي إيقاعه فجأة وانبثق وجه‬ ‫واقعه ال يمكن ْ‬
‫آخر من وجوه الوعي‪ ،‬وانقشع الضباب وكشف املعامل الواضحة للتالل اخلالدة‪.‬‬
‫عل ثالثة أوجه أساس َّية لتجربة الصحوة‪َّ :‬إّنا مفاجئة وقو َّية؛‬
‫ُيلقي هذا االقتباس الضوء ى‬
‫تم كشفه يف‬
‫قوة دفع شديدة نحو معرفة إضاف َّية بام َّ‬
‫ُتؤ ّدي إ ىل ترك العالئق الدنيو َّية؛ وتثري َّ‬
‫حمررة وتثري شعورا بالسعادة‪،‬‬
‫بأّنا ه‬
‫وصف جتربة اليقظة َّ‬ ‫التجربة‪ .‬هيمنا ْ‬
‫أن نتذ َّكر أ َّنه بينام ُت َ‬
‫يمكن ْ‬
‫أن تكون أيضا إدراك خميفا وحمزنا‪ .‬هاك مثالن‪ ،‬واحد مفرح‪ ،‬وواحد حمزن‪ ،‬سوف‬
‫األول هو جتربة راهب غري مشهور اسمه األخ لورانس‪،‬‬
‫يساعدان يف تصوير هذه الظاهرة‪َّ .‬‬
‫تتعر ىى من أوراقها وكان يتأ َّمل يف كيف َّية‬
‫الذي أخرب أ َّنه يف شبابه‪ ،‬عندما كان «ينظر إ ىل شجرة ّ‬
‫جتدد األوراق خالل فرتة قصرية‪ ...‬انكشفت له عنائ َّية اهلل وقدرته التي من حينها مل ُمت َح أبدا‬
‫من نفسه»‪َّ ،‬‬
‫وأن «هذه املكاشفة فصلته بشكل كامل عن الدنيا‪ .)191 - 10( »...‬الثاين هو‬
‫ما حصل مع القده يسة كاترينا اجلينوية‪ ،‬التي مت َّيزت «إِّلاماهتا الداخل َّية» بـ ‪« ...‬حزّنا وقلقها‪،‬‬
‫احلي للفقر املتناهي للذات»‪ ،‬تصف كاترينا بذاهتا‬
‫ومتزيق األنسجة الصلبة لألنا والكشف ّ‬
‫(‪)2‬‬

‫حلب الذي ال ُيد»‪ .‬مثل إضايف عن جتربة الصحوة من مصدر غري‬


‫هذه التجربة بـ «جرح ا ه‬

‫(‪ )1‬قلق هايدغر هو أيضا ظاهرة حتصل خارج إطار اللغة‪ .‬فهو يقول‪ :‬إ َّن «القلق يسلب منّا الكالم‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫سوى َّ‬
‫الاليشء مرتاكام حولنا‪ ،‬ففي وجه القلق كل اشتقاقات‬ ‫ى‬ ‫يبقى‬
‫الكينونات ككل تنزلق‪ ،‬بحيث ال ى‬
‫«كون» تصمت»‪.)What is Metaphysics? 103( .‬‬
‫‪(2) I-hood‬‬
‫‪ ❖ 510‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫رأى التج ّليات األرض َّية للعمر واملرض واملوت‪ ،‬أدرك الطبيعة‬
‫أن ى‬‫غرب هو البوذا‪ ،‬الذي بعد ْ‬
‫ّى‬
‫فتخل عن حياته املرتفة كـأمريل يامرس التصوف يف غابات اِّلند‪.‬‬ ‫ّ‬
‫للملذات الدنيو َّية‬ ‫الفانية‬
‫أن تكون مفرحة أو مزعجة‪،‬‬ ‫أن جتربة الصحوة حتصل فجأة‪ ،‬ويمكن ْ‬ ‫ُت هبني هذه األمثلة الثالثة َّ‬
‫امللذات املا ّد َّية والدنيو َّية وتدفع ه‬
‫باجتاه الفعل الروحي‪.‬‬ ‫بعد املرء عن ّ‬ ‫و ُت ِ‬

‫ّى‬
‫تتجل فيها الكينونة‪ ،‬والتي‬ ‫أن هايدغر أيضا يصف مستويني للتجربة التي يمكن ْ‬
‫أن‬ ‫كام َّ‬
‫أن ُتع َترب شبيهة بتجارب الصحوة التي وصفتها أندرهل‪ .‬يقول من التجارب العا َّمة‬ ‫يمكن ْ‬
‫عرف الكينونة‬ ‫ّ‬
‫األقل شأنا‪ :‬إ َّن «الفهم العادي واملبهم للكينونة هو واقع» و ُي َّ‬ ‫األُ ى‬
‫خرى‬
‫بأّنا الكينونة ذات «العالقة بمسألة الكينونة ذاهتا»(‪ .)2‬يقول يف مكان آخر‪ :‬العناية‬
‫هناك َّ‬
‫(‪)1‬‬

‫أي مكان غري «يف هاجتاه إرجاع اإلنسان ى‬


‫إل‬ ‫خاص َّية أساس َّية للـ دازاين‪ ،‬ال متيل إ ىل ه‬
‫التي هي ّ‬
‫دعى «مالزمة االنجذاب حلقيقة الكينونة»(‪ ،)3‬إذا ‪ -‬بالنسبة ِّلايدغر ‪-‬‬ ‫ماه َّيته»‪ ،‬وهذه املاه َّية ُت ى‬
‫ه‬
‫لكل إنسان فهم فطري للكينونة وحافز لتجربة حقيقة الكينونة‪ ،‬أي لوعي «التعال خالصا‬
‫وبسيطا»(‪ ،)4‬وهذا يشبه إ ىل حد كبري مالحظة أندرهل َّ‬
‫أن لإلنسان َّية انجذابا فطر ًّيا نحو‬
‫املطلق‪.‬‬
‫سميها «القلق‬
‫األول َّية املتعالية‪ُ ،‬ي ّ‬
‫يتحدَّ ث هايدغر أيضا عن نموذج أعظم من التجربة َّ‬
‫الاليشء» الكامن «يف داخل» ه‬
‫كل كينونات العامل الداخيل(‪.)5‬‬ ‫األسايس» الذي «يكشف عن َّ‬
‫إل حد كبري لتجربة الصحوة كام وصفتها‬ ‫هذا النوع من التجربة يمكن ْ‬
‫أن ُيع َترب مماثال ى‬
‫أندرهل ويمكن اعتباره مثاال عليها‪ .‬القلق األسايس مثل الصحوات‪ ،‬هو مفاجئ وُيصل‬

‫رتجم حرفيًّا بـ (الكينونة‪ .‬هنا‬


‫(‪Da-sein )1‬؛ الـ دازاين مصطلح مهم ولكنَّه مربك يف فلسفة هايدغر‪ .‬وهو ُي َ‬
‫عل‬
‫أن الـ دازاين هو جوهر اإلنسان‪ .‬ما هو خاص يف اإلنسان أ َّنه قادر ى‬‫أو الكينونة‪ .‬هناك)‪ ،‬وهو يعتقد َّ‬
‫عل عالقة بالكينونة ذاهتا‪،‬‬
‫أن الـ دازاين ى‬ ‫الكينونة هنا‪ ،‬يف وضع‪ ،‬يف عالقته بأشياء ُأ ى‬
‫خرى‪ .‬وهو يعتقد أيضا َّ‬
‫لكن هذه العالقة مستورة عادة بالنموذج اليومي للعالقة بأشياء العامل‪.‬‬
‫‪(2) Heidegger, Martin, Being and Time. Translated by John. P. 5.‬‬

‫‪(3) Letter on Humanism. Ibid. P. 245.‬‬

‫‪(4) Letter on Humanism. Ibid. P. 251.‬‬

‫‪(5) What is Metaphysics، 103.‬‬


‫هل كان هايدغر صوفيا؟ ❖ ‪511‬‬

‫من غري توقع‪ ،‬وهذا ما ُيس هبب انسحابا من الشؤون الدنيو َّية وينتج عادة خالل الرتتيبات‬
‫البعيدة األمد ألنشطة الشخص جتاه األهداف املتعالية‪ .‬يقول هايدغر‪َّ :‬‬
‫إن القلق األسايس‬
‫أي حدث غري اعتيادي إليقاظه»‪.‬‬
‫أي حلظة وال ُيتاج إ ىل ه‬ ‫«يمكن ْ‬
‫أن يستيقظ يف الوجود يف ه‬
‫خالل هذه التجربة «تصبح الكينونات بكاملها غري رضورية»‪« ،‬تنزلق» و«الـ دازاين اخلالص‬
‫هو كل ما هنالك»(‪ .)1‬وخالل هذا النوع من التجربة هناك فقط الكينونة ‪ -‬هناك‪ .‬وبالتحديد‬
‫إل فهم جديد‬ ‫خالل هذا احلصول املفاجئ واملقلق‪ ،‬عندما تنزلق الكينونة‪ ،‬يستفيق الـ دازاين ى‬
‫للمرة األُو ىل خيترب‬
‫للحقيقة وما هو كامن بني جنباهتا‪« .‬يف الليل الصايف لاليشء القلق» َّ‬
‫الـ دازاين الكينونات كام هي واقعا‪ ،‬كأشياء متاميزة عن ا َّلالشيئ َّية التي شهدها ه‬
‫للتو‪ .‬إضافة‬
‫جمر د كينونة‪ ،‬بل هو بدل ذلك تعال كينونات وهو‬
‫إ ىل َّأّنا تكشف للـ دازاين أ َّنه بذاته ليس َّ‬
‫عرب عنه هايدغر يف كتابات الحقة‪« ،‬بروز يف فضاء‬ ‫هبذا «كينونة ثابتة يف َّ‬
‫الالشيئ َّية»‪ ،‬أو كام ُي ه‬
‫للمرة‬ ‫أن ُي ِ‬
‫درك الكينونة َّ‬ ‫الكينونة»(‪ ،)2‬وهكذا فقط من خالل القلق األسايس يمكن لإلنسان ْ‬
‫األُو ىل‪ُ ،‬ي ِ‬
‫درك وقوعه يف رشك بني الكينونات املتعده دة و«نسيانه للكينونة»‪ ،‬وبعدها يرشع‬
‫سميه هايدغر‬ ‫أن يكون واضحا َّ‬
‫أن ما ُي ّ‬ ‫بعالقة «أصل َّية» بالكينونة ذاهتا‪ .‬من ه‬
‫كل هذا جيب ْ‬
‫«القلق األصيل» يمكن تسميته بد َّقة جتربة صحوة كام تصفها أندرهل‪:‬‬
‫َّإّنا ّتربة مفاجئة وشديدة؛ تكشف َّ‬
‫الالحقيقة النسب َّية لكينونات العامل؛ وتفتح‬
‫املرء عىل احلقيقة املتعالية‪ ،‬وعاد ًة حتث املرء عىل حماولة وصل نفسه هبذه احلقيقة بشكل‬
‫كامل‪.‬‬
‫هذا ما يوصلنا إ ىل النقطة التالية من املامثلة بني اِّلايدغر َّية والفكر الصويف‪ .‬يفهم يف نمطي‬
‫أن احلقيقة املتعالية التي تكشف عنها الصحوة ال يمكن بلوغها عرب وسائل التفكري‬ ‫التفكري َّ‬
‫يسعى هذا النوع من التفكري حلبسه يف‬
‫ى‬ ‫ألّنا تتجاوز َّ‬
‫كل مفهوم عقيل قد‬ ‫العقيل امليتافيزيقي‪َّ ،‬‬
‫«احلق»‬
‫ه‬ ‫الداخل‪ .‬تقول أندرهل‪ :‬ال جيد الصوفيون طريقتهم يف املنطق‪ ،‬بل يف احلياة‪ ،‬يف وجود‬

‫(‪ )1‬هناك جتربة شبيهة بتجربة القده يسة كاترينا‪ ،‬هي جتربة القلق اخلالص «األناو َّية» حيث يقول هايدغر‪:‬‬
‫«نحن ننزلق من ذواتنا‪ .‬لكن يف القعر ليس كأ َّنام «أنت» أو «أنا» من يشعر بالقلق؛ بل هو كذلك بالنسبة‬
‫لـ «أحد» ما‪.)What is Metaphysics? 103( .‬‬
‫‪(2) Letter on Humanism. Ibid. P. 2480: What is Metaphysics، 105.‬‬
‫‪ ❖ 512‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫القابل لالكتشاف‪ ،‬هو بريق كينونة حقيق َّية يف قلب السالك‪ ،‬الذي ُيمكِنه يف تلك التجربة‬
‫أن يصهر نفسه ويفهم حقيقة‬ ‫كل وصف والتي ُي َسموّنا بـ «فعل ه‬
‫االحتاد» ْ‬ ‫التي تفوق َّ‬
‫يسعى إليه‪ ...‬يف التصوف حيث حب احلقيقة الذي اعتربناه بداية ه‬
‫كل الفلسفة‬ ‫ى‬ ‫املوضوع الذي‬
‫يرتك الدائرة العقل َّية ويتبنّ ىى الوجه الثابت للعشق الشخيص‪ ،‬حيث ُخي همن الفيلسوف‬
‫يبقى مطلق امليتافيزيقي رسام بيان ًّيا ‪ -‬غري‬
‫ويناقش‪ ،‬وينظر الصويف ويعايش‪ ...‬من هنا‪ ،‬فيام ى‬
‫شخيص وبعيد املنال ‪َّ -‬‬
‫فإن مطلق الصويف حمبوب‪ ،‬وحقيقي يمكن الوصول إليه(‪.)1‬‬
‫ويف كالم شبيه يناشد الفالسفة نيابة عن مجيع الصوف هيني‪ ،‬يقول كوفرتي بامتور(‪:)2‬‬
‫أن ُّت ِربنا عن‬
‫باحلواس‪ ،‬ولغتها احلرف َّية‪ ،‬التي يمكن ْ‬
‫ه‬ ‫دع ثقتك العميقة واملنافية للعقل‬
‫فإّنا ع َّلمتك طول قيدها‬
‫أن تبلغ الشخص َّية‪ .‬فلو ع َّلمتك الفلسفة شيئا َّ‬
‫الواقع لكن ال يمكن ْ‬
‫إل األرض اخلصبة‪ ،‬التي ال ريب َّأّنا بديعة‪ ،‬التي تكمن وراءها‪ .‬أثار‬
‫واستحالة الوصول ى‬
‫حر َّية مقاربتهم؛ فقط‬
‫عل حبل املشنقة أعلنوا للعامل ّ‬ ‫املثاليون واحدا تلو اآلخر َّ‬
‫أن من يتلوون ى‬
‫عل‬
‫مؤسسة ى‬‫من أجل الرجوع أخريا إ ىل عامل األحاسيس‪ ...‬تقول لك الفلسفة‪ :‬إ َّّنا ليست َّ‬
‫احلواس واملفاهيم الرتاث َّية‪ .‬هي بالتأكيد ناقصة‪ ،‬ور َّبام كانت وها؛ يف ه‬
‫كل‬ ‫ه‬ ‫يشء أفضل من‬
‫األحوال ال تالمس أساس األشياء(‪.)3‬‬
‫أي تراث متوافقني مع االقتباسني السابقني‪ ،‬وهم يعرتفون‬
‫املتصوفة من ه‬
‫ه‬ ‫يمكن اعتبار‬
‫بعجز التفكري املفهومي يف إيصال الفرد لال هت صال مع املطلق‪ .‬يقول الكاتب الصويف‬
‫الغزال‪:‬‬
‫وعلمت أ َّن طريقتهم إ َّن ام تتم بعلم وعمل‪ ،‬وكان حاصل علمهم قطع‬
‫يتوص ل هبا‬
‫َّ‬ ‫عقبات النفس‪ ،‬والتنز ه عن أخالقها املذمومة‪ ،‬وصفاهتا اخلبيثة‪ ،‬حتَّ ى‬
‫إىل تلية القلب عن غري اهلل ‪ ‬وحتليته بذكر اهلل ‪ ..‬وأ َّن العقل طور من‬
‫أطوار اآلدمي حيصل فيه عني يبرص هبا أنواعاً من املعقوالت‪ ،‬احلواس معزولة‬
‫فالنبو ة أيضاً عبارة عن طور حيصل فيه عني هلا نور يظهر من نورها‬
‫َّ‬ ‫عنها‪،‬‬

‫‪(1) mysticism. P. 24.‬‬


‫‪(2) Covetry Patmore.‬‬
‫‪(3) mysticism. P. 24 - 25.‬‬
‫هل كان هايدغر صوفيا؟ ❖ ‪513‬‬

‫الغيب وأُ مور ال ُي ِ‬


‫در كها العقل(‪.)1‬‬
‫يرى ليس‬
‫عل هذا قائال‪« :‬يف رؤية اهلل من ى‬
‫يوافق الفيلسوف األفالطوين املحدث أفلوطني ى‬
‫عقلنا‪ ،‬بل شيئا سابقا لعقلنا ويفوقه»‪ ،‬كام يقول القده يس ُيوحنّا الصليب‪:‬‬
‫ألي نوع‬
‫ألي نوع من الصور‪ ،‬وال ِّ‬
‫«نحن نتلقى املعرفة الصوف َّية باهلل غري مكتسية ِّ‬
‫احلس َّية‪ ،‬التي يستفيد منها ذهننا يف ظروف ُأخرى»‪.‬‬
‫من التمثالت ي‬
‫وكام يقول الو تسو‪:‬‬
‫«التاو ال ُي ِ‬
‫درك فهو ال يتع َّلق باألفكار»‪ ،‬و«تعاليمي يسهل فهمها‪ ...‬لكن عقلك‬
‫لن يستوعبها أبد ًا»(‪.)3()2‬‬
‫عل نحو غري حمدَّ د‪َّ ،‬‬
‫ألن الصوف هيني جممعون يف موقفهم‬ ‫يمكن ْ‬
‫أن تطول هذه الالئحة ى‬
‫قمة اجلبل املقدَّ س‪.‬‬ ‫ألن يكون العقل طريقا يمكن ْ‬
‫أن يوصل إ ىل َّ‬ ‫املعارض ْ‬
‫إل حده التنديد بالفكر امليتافيزيقي والتم ّثيل باعتباره عاجزا‬
‫يف موقف شبيه وصل هايدغر ى‬
‫ك ّل ًّيا عن الوصول باإلنسان إ ىل جتربة الكينونة‪ .‬ور َّبام كان هذا املوقف ملحوظا بوضوح يف‬
‫إل‬
‫سعى من خالله ى‬ ‫ى‬ ‫إدانة هايدغر يف أعامله َّ‬
‫الالحقة لباكورة ُك ُتبه الكينونة والزمن‪ ،‬الذي‬
‫ليبقى ضمن جمال «لغة امليتافيزيقا»‪،‬‬
‫ى‬ ‫إرشاد ُق ّرائه لفهم الكينونة‪ .‬يف هذا الكتاب ى‬
‫سعى هايدغر‬
‫لكي «جيعل حماولة التفكري ممكنة اإلدراك ويف الوقت نفسه مفهومة من الفلسفة‬
‫ألّنا «ال ُتف هكر بحقيقة‬ ‫املوجودة‪ .)4(»...‬لكنَّه يعرتف َّ‬
‫أن هذه اللغة «تدحض ذاهتا»‪ ،‬وتفشل َّ‬

‫‪(1) The Variety of Religious Experiences. P. 439 - 441.‬‬


‫‪(2) Tao Te Ching. P. 21 - 70.‬‬
‫(‪ )3‬هنالك مقطع آخر مالئم‪« :‬فوق ليس مرشقا‪ /‬حتت ليس مظلام‪ /‬يعود إ ىل عامل َّ‬
‫الاليشء‪ /‬صورة من دون‬
‫صورة‪ /‬لطيف ال يناله إدراك‪ /‬اقرتب منه ولكن ليس هناك بداية‪ /‬ا َّتبعه ولكن ال يوجد ّناية‪ /‬ال‬
‫تستطيع معرفته لكنَّك تستطيع ْ‬
‫أن تكون هو‪ /‬اعرف فقط من أين أتيت‪ /‬هذا هو جوهر احلكمة‪Tao ( .‬‬

‫مهتام إ ىل حد كبري بالطاوية حتَّ ىى إ َّنه يف حلظة حاول ترمجتها‬ ‫‪ .)Te Ching 14‬جيب معرفة َّ‬
‫أن هايدغر كان ًّ‬
‫وضح التآلف الكبري بني‬ ‫ّتل عن املرشوع بعد ْ‬
‫أن أكمل َّأول ثامنية فصول‪ .‬وهذا ما ُي ه‬ ‫إ ىل األملان َّية‪ ،‬لكنَّه ّ ى‬
‫تفكري هايدغر يف املراحل األخرية والطاوية‪.‬‬
‫‪(4) Letter on Humanism. Ibid. P. 246 - 263.‬‬
‫‪ ❖ 514‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫الكينونة‪ ،‬كام َّأّنا تفشل يف إدراك َّ‬


‫أن هنالك تفكريا أكثر رصامة من التفكري املفهومي»‪.‬‬
‫ويعرتف يف أعامله َّ‬
‫الالحقة بعدم كفاية التفكري الفلسفي حيث يقول‪:‬‬
‫«الفلسفة‪...‬ت َّتبع دوم ًا سبيل التمثالت امليتافيزيقية؛ ُتف ِّكر من الكينونات وصوالً‬
‫أن حقيقة الكينونة‪ ...‬تبقى خافية عىل امليتافيزيقا»‪.‬‬
‫إىل الكينونة»‪ ،‬وهذا «يعني َّ‬
‫وهذا اإلدراك بدوره جيعله يستنتج أ َّنه‪:‬‬
‫«لكي تتع َّلم كيف تترب الـ ‪ ...‬ماه َّية للتفكري عىل نحو حمض‪ ...‬علينا أن ُن ِّ‬
‫حرر‬
‫أنفسنا من التأويل التقني للتفكري»‪.‬‬
‫ما هو النوع اجلدّ ي الذي ينبغي ْ‬
‫أن ُيستَبدل بالتفكري التقني لكي يمكن التفكري بحقيقة‬
‫الالحقة‪ ،‬ولكن ما ينبغي حلاظه اآلن َّ‬
‫أن التجربة‬ ‫الكينونة؟ هذا ما سنناقشه يف الفقرات َّ‬
‫املتعالية التي يبحث عنها هايدغر إلرشادنا إ ىل ما ال يفهم بالتفكري العقيل‪ ،‬يشبه متاما املطلق‬
‫الصويف الذي ال يمكن إدراكه‪.‬‬
‫يسعى للبحث والوصول إ ىل املتعال إذا مل‬
‫ى‬ ‫واآلن يربز السؤال التال‪ :‬كيف يمكن للمرء ْ‬
‫أن‬
‫واملتصوفة كالها إجابات‬ ‫ه‬ ‫يكن عن طريق البحث الفلسفي التقليدي؟ يقرتح هايدغر‬
‫متشاهبة عن هذا السؤال‪ :‬الدخول يف حالة تأمل َّية ذهن َّية تسكت فيها األحكام املنطق َّية الثنائ َّية‬
‫سمي أندرهل هذه احلالة «تأمال»‪ ،‬وتعنوّنا بـ «التعلم الذي‬
‫عل املتعال‪ُ .‬ت ّ‬
‫واالعتناء باالنفتاح ى‬
‫عل الدوام للصوف هيني‪.)1(»...‬‬
‫وصفه الرتاث ى‬
‫تصف األمر بـ‪:‬‬
‫تقبل َّية وضيعة‪ ،‬ونظرة ثابتة ودائمة تضيع وتذوب فيها املشاعر واإلرادة والفكر‪...‬‬
‫(حيصل فيها) اّنيار للنفس السطح َّية وتلك املستويات األعمق للشخص َّية حيث يتم‬
‫لقاء اإلله ومعرفته «يف ال شيئ َّيتنا»‪.)2(...‬‬

‫‪(1) mysticism. P. 302.‬‬


‫(‪ )2‬وجه آخر من وجوه التأمل حتدَّ ثت عنه أندرهل وهو ُيتاج إ ىل مترين «يف مراحله األُو ىل»‪ ،‬تقول‪« :‬التأمل‬
‫إرادي‪ ،‬صعب وبحاجة إ ىل جمهود»‪ .‬ويقول هايدغر ما يشبه ذلك عن التفكري التأميل‪« :‬ال ُيصل بذاته كام‬
‫ل جمهود كبري‪ .‬يتط َّلب كثريا من التمرين»‪Discource ( .‬‬
‫ُيصل عادة يف التفكري االحتساب‪ .‬أحيانا ُيتاج إ ى‬
‫‪.)on Thought. 47‬‬
‫هل كان هايدغر صوفيا؟ ❖ ‪515‬‬

‫إن انكشاف املطلق من خالل هذه احلال من التقبل َّية هو مركزي يف ه‬


‫كل التقاليد الصوف َّية‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تتحدَّ ث القده يسة تريزا عن حالة مكاشفة قائلة‪:‬‬
‫أن اهلل حميط‬
‫يف يوم ما‪ ،‬عندما كنت يف صالة حصل يل إدراك يف حلظة ُب ِّني يل كيف َّ‬
‫ِّ‬
‫بكل يشء‪.)1(...‬‬
‫«إن ساعة تأمل علمته أكثر عن األُمور‬ ‫عل نحو شبيه َّ‬ ‫ويعرتف ُيوحنّا قلب الصليب ى‬
‫كل تعاليم األساتذة‪ .»...‬ويصف الغزال حالة مشاهبة بقوله‪:‬‬ ‫السامو َّية من ه‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وباجل ِ‬
‫ِ‬
‫القلب بال ُك ِّل َّية َع َّام‬ ‫يقول القائلون يف طري َقة َأ َّو ُل ُرشوطها ت ُ‬
‫َطهري‬ ‫ملة ماذا ُ‬ ‫ُ‬
‫ب‬ ‫راق ال َقل ِ‬ ‫اجلاري ِمنها َجم َرى التحري ِم يف الصالة‪ ..‬استِغ ُ‬ ‫فتاحها َ‬ ‫ِ‬
‫سوى اهللِ‪ ..‬وم ُ‬
‫ِ‬

‫التام ِة يف اهللِ؟‪.‬‬ ‫ِ‬


‫ناء بال ُك ِّل َية َّ‬
‫وآخرها ال َف ُ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بذكر اهللِ‬ ‫بال ُك ِّل َي ِة‬
‫خرى شبيهة وصفها بوضوح الو تسو عندما ُسئِ َل‪« :‬عندما تنتزع عقلك‬ ‫وهناك حالة ُأ ى‬
‫عن ضالله‪ ،‬وتعتصم بالوحدة األصيلة‪ ...‬هل بمقدورك الرجوع من عقلك وبالتال تفهم‬
‫كل يشء»‪ ،‬وثانية عندما ُسئِ َل‪« :‬هل لديك صرب ْ‬
‫أن تنتظر ح َّت ىى يرسب الوحل ويصفو‬ ‫ه‬
‫املاء؟»(‪ .)2‬يف ه‬
‫كل هذه األمثلة املختلفة حول التأمل‪ّ ،‬تتفي عمل ّيات الذهن العادي‪ ،‬من أجل‬
‫عل احلقيقة األعظم التي ال يستطيع العقل العادي إدراكها‪.‬‬
‫خلق انفتاح ى‬
‫يوص هايدغر من يريد ا ختبار الكينونة بالنوع نفسه من التمرين العقيل‪ ،‬الذي‬
‫ُي س ّم يه أحيانا التفكري التأم يل‪ ،‬بخالف التفكري االحتساب‪ .‬حيث إ َّن التفكري االحتساب‬
‫«ُيسب االحتامالت اجلديدة والواعدة‪ ...‬يسابق من احتامل إ ىل آخر‪ ...‬وال يتو َّق ف‬
‫كل ما هو‬ ‫عل ه‬
‫عل نفسه»‪ ،‬التفكري التأم يل «يتأ َّم ل باملعن ىى الذي يسيطر ى‬
‫أبدا ‪ ،‬وال يسيطر ى‬
‫كائن»(‪ . )3‬يقول‪:‬‬
‫أن يكون «حم هلقا»‪ ،‬لكن يمكن ْ‬
‫أن يتش َّكل ببساطة يف‬ ‫إن هذا الشكل من التفكري ال ُيتاج ْ‬
‫َّ‬
‫«الركون إ ىل ما هو كامن بالقرب منّا والتأمل بام هو أقرب‪.»...‬‬

‫‪(1) Variety of Religious Experince. P. 48.‬‬


‫‪(2) Tao Te Ching. P. 10 - 15.‬‬
‫‪(3) Discourse on Thinking. P. 46.‬‬
‫‪ ❖ 516‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ويقول هايدغر يف مكان آخر عن هذا النوع من التفكري الذي يسمح بالدخول إ ىل حقيقة‬
‫الكينونة‪ ،‬ذلك‪:‬‬
‫ألن هناك شيئ ًا بسيط ًا ال بدَّ من التفكري فيه‪ ،‬هذا التفكري يبدو أ َّنه صعب للفكر‬
‫َّ‬
‫حتول إىل فلسفة‪ ،‬لكن هذه الصعوبة ليست مسألة تساهل‪َّ ،‬إّنا نوع‬
‫التمثل الذي َّ‬
‫خاص من العمق ومن بناء املفاهيم املع َّقدة؛ بل َّإّنا مسترتة يف الرجوع الذي يدع‬
‫التفكري يدخل يف االستفهام الذي حيصل من خالل التجربة‪.)1(...‬‬
‫يف عمل آخر يصف هايدغر نوع التفكري الذي يسمح لوحده بالوصول إ ىل الكينونة‪،‬‬
‫كنوع من انتظار مسلوب اإلرادة‪ ،‬أو كام يقول‪ :‬نوع من «االنعتاق»‪ ،‬ويقول‪ :‬إ َّنه فقط من‬
‫خالل هذا النوع من التفكري يمكن للمطلق ْ‬
‫أن ُخي َترب(‪.)3()2‬‬
‫أن يكون واضحا من هذه التوصيفات القليلة َّ‬
‫أن نوع التفكري الذي يقرتح هايدغر‬ ‫جيب ْ‬
‫ْ‬
‫أن يكون الوسيلة التي يمكن اختبار الكينونة من خالِّلا شديدة الشبه بالطريقة الصوف َّية‬
‫التأمل َّية‪.‬‬
‫تم تأسيسه‪ .‬يوجد ثالثة أوجه من التصوف هي‪ :‬صحوة مفاجئة‬ ‫ِِ‬
‫دعنا اآلن ُنعد النظر بام َّ‬
‫عل‬
‫بأن الفكر املنطقي غري قادر ى‬‫إ ىل املتعال تتساقط فيها الكينونات الدنيو َّية‪ ،‬االعرتاف َّ‬
‫عل‬ ‫إحداث جتربة تا َّمة للمتعال‪ ،‬ووصفة نموذج النشاط الذهني َّ‬
‫الالمفهومي‪ ،‬التي ُتشده د ى‬
‫التقبل َّية‪ ،‬كوسيلة يمكن الوصول إ ىل املتعال من خالِّلا‪ .‬يمكن اعتبار فكر هايدغر شديد‬
‫الشبه بالفكر الصويف يف النقاط الثالثة مجيعها‪ ،‬فهو يتحدَّ ث عن القلق األصيل بوصفه‬
‫عل نفسه يف التعال؛ وهو يدين الفكر امليتافيزيقي‬
‫التجربة التي ينكشف الـ دازاين من خالِّلا ى‬
‫التمثيل الذي ال يقدر َّإال ى‬
‫عل التفكري بالكينونات ال بالكينونة‪ ،‬وهو يقرتح انفتاحا تأمل ًّيا‬
‫أن نستنتج َّ‬
‫أن‬ ‫كوسيلة يمكن من خالِّلا اختبار الكينونة‪ .‬من هذه التشاهبات الشديدة يمكن ْ‬

‫‪(1) Letter on Humanism. Ibid. P. 255.‬‬


‫أن عبارة ‪ that which regions‬قد ح َّلت َّ‬
‫حمل فكرة ‪ clearing of being‬لكن‬ ‫املتأخر يبدو َّ‬
‫(‪ )2‬يف فكر هايدغر ه‬
‫املعنى القديم نفسه «جتربة الكينونة»‪.‬‬
‫ى‬ ‫العبارتني تؤ ّديان الوظيفة نفسها‪ .‬فهام تؤ ّديان إ ىل‬
‫‪(3) Discourse on Thinking. P. 62 - 66.‬‬
‫هل كان هايدغر صوفيا؟ ❖ ‪517‬‬

‫إل مقاربتها ‪ -‬ر َّبام كانت متامهية‪ .‬رغم‬


‫يسعى الصوفيون وهايدغر ى‬
‫ى‬ ‫التجارب املتعالية ‪ -‬التي‬
‫أن هناك فروقات سطح َّية بني فكر هايدغر واألشكال املختلفة للتصوف‪ ،‬هناك فروقات‬ ‫َّ‬
‫ه‬
‫واالحتاد‬ ‫خرى من التصوف كذلك(‪ .)1‬ورغم َّ‬
‫أن ساتوري الزن‬ ‫كل األشكال األُ ى‬
‫شبيهة بني ه‬
‫ِ‬
‫الصويف املسيحي قد ُوص َفت بعبارات خمتلفة ك ّل ًّيا‪ ،‬ى‬
‫تبقى الوسائل التي يتم الوصول من‬
‫أن هذه التجارب هي ذات تساو‬ ‫أن نستنتج َّ‬
‫عل ذلك يمكن ْ‬ ‫خالِّلا هي نفسها‪ .‬وبناء ى‬
‫يسعى هايدغر من خالِّلا إ ىل جتربة حقيقة‬
‫ى‬ ‫جوهري كذلك‪ .‬لقد ب َّينت َّ‬
‫أن الطريقة التي‬
‫يسعى الصوفيون من خالِّلا الختبار املطلق‪،‬‬
‫ى‬ ‫الكينونة هي يف جوهرها الطريقة نفسها التي‬
‫وعليه فإ َّننا حمقون يف االستنتاج َّ‬
‫أن التجربتني تتشاهبان إ ىل حد كبري‪ ،‬بل قد تكونان شيئا‬
‫واحدا‪.‬‬

‫* * *‬

‫(‪ )1‬توجد نقطة اختالف بني هايدغر والصوف هيني تستحق مزيدا من الدراسة‪ ،‬هي أ َّنه يف حني ُيؤ هكد مجيع‬
‫نرى َّ‬
‫أن أحد أهداف هايدغر الرئيس َّية هو التعبري عن حقيقة الكينونة‬ ‫أن املطلق يفوق الوصف‪ ،‬ى‬‫الصوف هيني َّ‬
‫أن هدف هايدغر خيتلف عن هدف الصوفيهني؟ ممكن‪ ،‬لكنَّني أعتقد‬ ‫من خالل اللغة‪ .‬لكن هل هذا يعني َّ‬
‫عرب عن حقيقة الكينونة‪،‬‬ ‫عى إلعادة بناء اللغة بحيث تستطيع ْ‬
‫أن ُت ه‬ ‫أن هايدغر يس ى‬‫جمرد تفكري يف واقع َّ‬
‫أ َّنه َّ‬
‫أن يقوم هبا‪ .‬أ َّما يف ما يتع َّلق باللغة العاد َّية فهام متَّفقان َّ‬
‫أن الكالم هبا‬ ‫مهمة بسيطة مل ُيف هكر أي صويف ْ‬
‫وهذه َّ‬
‫عرب عن املطلق‪.‬‬ ‫بأي حال ْ‬
‫أن ُي ه‬ ‫ال يمكن ه‬
‫) مارتن هايدغر‬3( ‫ ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب‬518

:‫املصادر‬
Heidegger, Martin, Being and Time. Translated by John Macquarrie1960 Harper &
Row Edition.
Letter on Humanism. Translated by E.Lohner, in: Philosophy Twentieth
Century. Edited.W. Barrett and HAiken, Random House, New York, 1962.
What is Metaphysics?
Discourse on Thinking.

* * *
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل‬
‫(‪)2()1‬‬

‫(حواريَّة مع أربعة مفكِّرين متخصِّصني بالفلسفة السياسيَّة)‬

‫نرشت مؤ َّلفا جديدا عن هايدغر والناز َّية أضاف بالتأكيد‬


‫َ‬ ‫غايتن بيني‪ :‬إيامنويل فاي‪ ،‬أنت‬
‫استنتجت منه فرض َّية راديكال َّية‪ ،‬بام‬
‫َ‬ ‫إل ملف دسم مسبقا كام نعلم‪ ،‬ولكن أنت‬
‫عنارص جديدة ى‬
‫إل نفي مكانة الفيلسوف عن هايدغر‪ .‬بالنسبة إليك‪َّ ،‬‬
‫كل كتابه‪،‬‬ ‫أ َّنك ستصل يف ّناية األمر ى‬
‫عل ّ‬
‫األقل (طاملا َّأّنا مرحلة دراستك)‪ ،‬مشبع‬ ‫وهذا منذ الكينونة والزمن إ ىل العام ‪ 1945‬ى‬
‫(‪)3‬‬

‫عل الندوات من ‪ ،35 - 33‬حيث‬


‫األول ى‬
‫زت يف املقام َّ‬ ‫بالناز َّية من أساسه‪ ،‬ح َّت ىى ْ‬
‫وإن ر َّك َ‬
‫إل‬
‫األنطولوجي مع العالقة بالشعب والدولة‪ .‬لن أعود هنا ى‬
‫ه‬ ‫تش َّكلت حتديدا هو َّية االختالف‬
‫التارخيي لكتابك ‪ -‬فهذا ليس موضوعي وال جمال ـ ولكنّي أعود إ ىل هذا االستنتاج‬
‫ه‬ ‫البعد‬
‫التارخيي‪َ .‬ث َّمة بالتأكيد بعدٌ رهيب اللتزام هايدغر‪ ،‬ولك َّنك‬
‫ه‬ ‫حتر َ‬
‫يك‬ ‫الذي استخلصتَه من ه‬
‫قفزت ح َّت ىى إ ىل نفي «فلسف َّيته»‪ ،‬من أجل استخدام كلمة غري فصيحة‪ .‬لكن إذا ا َّتبع هايدغر‬
‫األو ل يف تاريخ الفلسفة الذي يضع نفسه يف خدمة األنظمة‬
‫أسوأ األنظمة فإ َّنه مع ذلك ليس َّ‬
‫األكثر قابل َّية للجدل أو لصياغة إيديولوج َّيات كارث َّية أخالق ًّيا أو للدفاع عنها‪ .‬وهكذا إذا‬

‫موجهة إىل إيامنويل فاي‪ .‬غايتن بيني‪ ،‬بياتريس فورتني وميشال كوهني‪ .‬هليمي‪ُ .‬ن ِرش‬
‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬أسئلة َّ‬
‫للمرة األُو ىل يف السفينة الشبح‪ ،‬العدد ‪ ،5‬الليل‪ ،‬خريف العام ‪ 2005‬هايدغر‪ ،‬الصفحات ‪.36 - 8‬‬
‫َّ‬
‫مستخرج من جم َّلة االستغراب‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬السنة الثانية‪1437 ،‬هـ‪ ،‬خريف ‪.2016‬‬
‫العنوان األصيل لالستطالع‪:‬‬
‫‪Martin Heidegger ou La Traversée De La Nuit. Question à Emmanuel Faye. Gaëtan‬‬

‫‪Pégny, Béatrice Fortin et Michèle Cohen. Halimi.‬‬

‫(‪ )2‬التعريب‪ :‬م‪ .‬الدرويش ‪ .‬راجعه‪ :‬كريم عبد الرمحن‪.‬‬


‫‪(3) Sein und Zeit.‬‬
‫‪ ❖ 520‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أخذنا مثا َلني من جمموعتني من التقاليد املختلفة‪ ،‬يمكن ْ‬


‫أن نتذ َّكر َّ‬
‫أن أفالطون يف اجلمهور َّية‬
‫أن نصفها من حيث املفارقة التارخي َّية بـ «علم النهسالة»‪ ،‬أو ْ‬
‫أن‬ ‫كانت لديه نظر َيات يمكن ْ‬
‫عل اِّليمنة املطلقة للبِيض‬
‫يسعى إلضفاء الرشع َّية ى‬
‫ى‬ ‫نتذ َّكر جون لوك يف دساتري كارولينا حيث‬
‫عل سبيل املثال)‪ .‬يف حالة لوك أيضا كان َث َّمة عنف‬
‫عل السود (انظر إ ىل الدستور ‪ 110‬ى‬
‫ى‬
‫يقرتب من أسوإ نصوص شميت‪ ،‬عنف كتابة اال هدعاءات القضائ َّية ولكن يف تأكيداته من‬
‫خالل جوهر متناقض مع جوهر القانون نفسه‪.‬‬
‫َ‬
‫بعناك أجيب أيضا إخراج أعامل أفالطون ولوك من مكتبات‬ ‫ٌ‬
‫بسيط وفظ‪ .‬إذا ا َّت‬ ‫إذا سؤال‬
‫أوصيت ْ‬
‫أن نفعل بالنسبة ِّلايدغر؟ ملاذا ليس توكفيل أيضا‪ ،‬الذي أشار يف‬ ‫َ‬ ‫الفلسفة‪ ،‬كام‬
‫أن اِّلنود حمكومون بالزوال كالثلج حتت‬ ‫املج َّلد الثاين من «من الديمقراط َّية يف أمريكا» إ ىل َّ‬
‫عل نحو كارثي؟ ملاذا ال ُير َفض أيضا‬ ‫ِ‬
‫أش َّعة الشمس‪ ،‬أو ماركس الذي اس ُتخد َمت نصوصه ى‬
‫راعى مسألة العبود َّية‪،‬‬
‫ى‬ ‫ُأولئك الذين هم غري سياس هيني يف الظاهر‪ ،‬مثل روسو الذي يبدو قد‬
‫أن ُنف هكر َّ‬
‫أن مراسالته مع بعض ذوي األسامء الكبرية كانت ِّلا‬ ‫أو ديكارت الذي ر َّبام يمكن ْ‬
‫أهداف ُأ ى‬
‫خرى غري فلسف َّية (ونرغب بإضافة‪ :‬إلخ)؟‬
‫نرى إذا‬
‫أن ى‬‫باألحرى عن اعرتاضك ‪ -‬ينبغي ْ‬
‫ى‬ ‫إيامنويل فاي‪ :‬قبل اإلجابة عن سؤالك ‪ -‬أو‬
‫أردت ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫اخللقي‬
‫ه‬ ‫كانت هذه املفردات تناسب كالمي‪ .‬يبدو أ َّنك ُتف هكر بأ َّنني من باب السخط‬
‫إل‬
‫أرشت ى‬
‫ُ‬ ‫الفلسفي لكتاب هايدغر‪ .‬واحلالة هذه‪ ،‬إذا‬
‫َّ‬ ‫أطرح ثانية ‪ -‬يف استنتاجات ‪ -‬الطابع‬
‫فاحلجة أوسع بكثري وال َّ‬
‫تتلخص أيضا بتحقيق‬ ‫َّ‬ ‫أ َّنه ليس َث َّمة فلسفة من دون موقف خلقي‪،‬‬
‫قرأت اخلامتة‪ ،‬وكذلك العديد من مقاطع الكتاب‪ ،‬حيث تتحدَّ د إعادة النظر‬
‫َ‬ ‫تارخيي‪ .‬إذا‬
‫اِّلايدغري مع تقدم األبحاث نحو ُأ ُسس الكتاب (الصفحات ‪20‬‬
‫ه‬ ‫الفلسفي للكتاب‬
‫ه‬ ‫بالطابع‬
‫سرتى َّ‬
‫أن إعادة النظر هذه ليست حا َّدة‬ ‫ى‬ ‫و‪ 370 ،363 ،33 ،21‬و‪ ،484 ،454 ،371‬إلخ)‪،‬‬
‫كام توحي لك‪َّ .‬إّنا يف الواقع حصيلة مشاعر من الوعي املتوال‪ .‬هذا ليس فقط التزاما سياس ًّيا‬
‫املنطقي‪ ،‬واستخدامه املنحرف للغة الفلسف َّية‪،‬‬
‫ه‬ ‫ِّلايدغر‪ ،‬ولكنَّها أيضا ن َّيته بتدمري التفكري‬
‫عل الطابع‬ ‫كأّنا انتهت مع هيغل ونيتشه‪ ،‬وتأكيده ى‬‫ورفضه الرصيح للفلسفة املعارصة َّ‬
‫تم تدمري ه‬
‫كل أبعاد الفلسفة تدرجي ًّيا‪.‬‬ ‫املهجور لألخالق َّية ما جيعل املشكلة جدّ َّية‪ .‬مع هايدغر َّ‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪521‬‬

‫والسحر اللذين يلقيهام يف الكثري من األذهان‪ .‬كان‬


‫َ‬ ‫فِّس إ ىل حد كبري النفو َذ‬
‫هذا يشء كبري‪ُ ،‬ي ه‬
‫عل ّت ّطي ه‬
‫كل يشء‪ ،‬أل َّنه كان يطمح لتدمري‬ ‫هنالك اعتقاد َّ‬
‫بأن هايدغر كان لديه القدرة ى‬
‫أن ُُي هقق يف الفكر ما‬
‫ب بأكمله‪ ،‬ولكن مل َنر أ َّنه كان يميل أيضا إ ىل ْ‬
‫الفلسفي الغر ه‬
‫ه‬ ‫الرتاث‬
‫أرادت اِّلتلر َّية حتقيقه يف التاريخ‪ .‬فضال عن ذلك نحن منغمسون مع هايدغر يف واقع‬
‫عل التدمري والراديكال َّية ها من قبيل املقارنات التارخي َّية التي ‪ -‬مع ما‬
‫الناز َّية‪ ،‬حيث القدرة ى‬
‫لدى الكثري من الفالسفة‪،‬‬ ‫سبق ‪ -‬ال تذهب أبعد من الذات‪ْ .‬‬
‫أن يكون هناك جوانب إشكال َّية ى‬
‫أمر ال يقبل املناقشة‪ ،‬ولكن األمثلة التي ُتقده مها ال تبدو متناسبة مع املشكلة التي‬
‫فهذا ٌ‬
‫تطرحها عالقة هايدغر بالناز َّية‪ .‬وأنت ذكرت أفالطون ولوك‪ .‬سأبدأ مع مالحظة بسيطة‪،‬‬
‫ذات طابع تارخيي‪َّ .‬‬
‫إن ما هو يف مجهور َّية أفالطون‪ ،‬ور َّبام يكون قريبا من أهداف حتسني‬
‫األطفال غري املقبولني من ِق َبل‬
‫ُ‬ ‫أقل بكثري من ممارسات احلقبة التي كان فيها‬ ‫النسل‪ ،‬يبدو ّ‬
‫عرضون» ح َّت ىى املوت‪...‬‬
‫أبيهم « ُي َ‬
‫معنى الكلمة‪ .‬إ َّنه‬
‫ى‬ ‫عل لوك ه‬
‫بكل‬ ‫عل أفالطون أو ى‬
‫غ‪ .‬ب‪ :‬بالتأكيد‪ ،‬ولكن هديف ال يعتمد ى‬
‫للتو‪،‬‬
‫عنى بطرح السؤال عن عالقة الفيلسوف بالسياسة‪ .‬ولكن للعودة إ ىل ما قلتَه ه‬
‫باألحرى ُي ى‬
‫ى‬
‫ال يمكن تربير أفعال فيلسوف من خالل حتديد موضعه «بالنسبة إ ىل عرصه»‪ ،‬أو بالتال جيب‬
‫ه‬
‫املحك‪ .‬عندما نبدأ بإجياد العذر لفيلسوف من‬ ‫عل‬ ‫ْ‬
‫أن نعذر أسوأ التزامات هايدغر التي هي ى‬
‫خالل النظر إ ىل بيئته‪ ،‬ننفي عنه صفة الفيلسوف الكبري‪ ،‬طاملا أ َّنه مل ُيمل هذا االنفتاح‪ ،‬وهذا‬
‫عل األحكام املسبقة للعرص الذي ُيم هيز فلسفة كبرية‪.‬‬
‫التغلب ى‬
‫إ‪ .‬ف‪ :‬أنا ال أزعم ‪ -‬من خالل هذه املالحظة ‪ -‬تربير ما كان لديه من علم حتسني النسل‬
‫يف اجلمهور َّية‪ ،‬و ُأ ِقر معك ه‬
‫بكل ما هو غري مقبول يف الصفحات التي ذكرهتا لـ لوك‪ .‬بالنسبة‬
‫أن أتبعك‪َّ ،‬‬
‫ألن األمرية إليزابيت التي كان يرتاسل‬ ‫عل العكس ‪ -‬ال يمكنني ْ‬
‫إ ىل ديكارت ‪ -‬ى‬
‫أي سلطة سياس َّية‪ ،‬وليس هناك يشء مثري‬
‫املنفى‪ ،‬من دون ه‬
‫ى‬ ‫معها‪ ،‬هي من عائلة خملوعة‪ ،‬يف‬
‫لالشمئزاز إنسان ًّيا يف مراسالته األخالق َّية مع إليزابيت أو إ ىل امللكة كريستينا‪ ،‬التي مل يدَّ ِع أبدا‬
‫أ َّنه كان مستشارها السيايس‪.‬‬
‫عل وشك أ ْن أقوله هو َّ‬
‫أن املسألة مل‬ ‫كنت ى‬ ‫من أجل العودة إ ىل هايدغر والناز َّية‪َّ ،‬‬
‫إن ما ُ‬
‫‪ ❖ 522‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫تكن تتع َّلق فقط بضامنة ُحت َمل ملامرسات اجتامع َّية كانت موجودة من قبل‪ ،‬ولكنَّها تتع َّلق‬
‫عل‬
‫أي حماولة للمقارنة إشكال َّية‪ .‬لنأخذ مثاال ى‬‫باخرتا ِع هج َّية ال اسم ِّلا‪ .‬وهذا جيعل من ه‬
‫ذلك يف تعليمه الطريقة‪ ،‬التي جيعل هايدغر فيها تشبيه الكهف ناز ًّيا بشكل كامل‪ ،‬مرعبة‪،‬‬
‫وذلك يف دورته يف شتاء العام ‪ 1934 - 1933‬الذي صدرت َّ‬
‫مؤخرا بعنوان «من جوهر‬
‫احلقيقة»‪ ،‬بينام ُيف هكر أفالطون بـ نسآل َّية [تَوليد (استخراج ه‬
‫احلق من النفس بتوجيه األسئلة يف‬
‫القومي ‪-‬‬
‫ه‬ ‫منهج سقراط)] يشري هايدغر ‪ -‬من جهته ‪ -‬برصاحة إ ىل هتلر وإ ىل «رؤية العامل‬
‫االشرتاكي»‪ .‬هذه الـ ‪ِّ Weltanschauung‬لتلر (الرؤية اِّلتلر َّية للعامل)‪ُ ،‬يقده مها بعبارات‬
‫ه‬
‫سميه ‪ -‬يف الدورة نفسها ‪« :-‬التحول‬ ‫ِ‬
‫م َّتقدة كـ «التحول الكامل» ‪ ،‬الذي يتزامن مع ما ُي ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫بأن هايدغر يف هذه‬‫أن ُأذكهر باإلضافة إ ىل ذلك َّ‬ ‫الكبري يف وجود(‪ )2‬اإلنسان»(‪ .)3‬هل ينبغي ع َّيل ْ‬
‫للعدو الكامن يف جذور الشعب؟ هذا االعتذار‬
‫ه‬ ‫الدورة نفسها يوص بـ «التدمري الكامل»‬
‫اِّلايدغري لرؤية العامل معاديا للسام َّية‪ ،‬وعنرص ًّيا وإباد ًّيا‪ ،‬والذي تزامن بالنسبة إليه مع‬
‫أي فلسفة أو ح َّت ىى بشكل خاص إذا كان قد استخدم‬
‫عل خالف مع ه‬
‫«جوهر احلقيقة»‪ ،‬يضعه ى‬
‫هبذه املناسبة ‪ -‬ولكن بطريقة منحرفة ‪ -‬مفردات اللغة الفلسف َّية كـ «جوهر» و«حقيقة»‪.‬‬
‫غ‪ .‬ب‪ :‬أنت ُتؤ هيد القياس َّية الناز َّية‪ ،‬وهذا ما يقودنا إ ىل التساؤل الكثري والعميق حول‬
‫مىض‪ ،‬ولكن يف الوقت‬
‫أي وقت ى‬ ‫مسألة التفرد هذه‪ .‬ومن املؤ َّكد أ َّنه َّ‬
‫تم جتاوز احلدود أكثر من ه‬
‫ثم‬
‫القوة التي ظهرت من قبل ّ‬
‫االجتاهات وأشكال َّ‬ ‫نفسه كان هناك أيضا نسخة ُمفرطة من ه‬
‫عادت الحقا يف أشكال هي من دون شك ّ‬
‫أقل كثافة ولكنَّها مع ذلك مرعبة‪.‬‬
‫األول‪ :‬هناك استمرار َّية يف التزام بعض الفالسفة يف‬
‫ولكنَّني أعود إ ىل قض َّية سؤال َّ‬
‫أشكال السلطة‪ ،‬وبني أكثرها عنفا‪ .‬من خالل التخلص من هايدغر‪ ،‬نتخ َّلص من مشكلة‬
‫الفلسفة ومن أجل الفلسفة‪ ،‬هي مشكلة عالقته بالسلطة‪.‬‬

‫‪(1) Gesamtwandel‬‬

‫‪(2) Dasein‬‬

‫(‪ )3‬هايدغر‪[ ،Sein und Wahrheit ،‬الكينونة واحلقيقة]‪[ Gesamtausgabe ،‬األعامل الكاملة] ‪،GA 36/37‬‬
‫ص ‪ 119‬و‪.225‬‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪523‬‬

‫عالقات الفيلسوف واألمري ‪ -‬كام هي عليه‪ ،‬بام يف ذلك األسوأ ومن َث َّم تتع َّقد ‪ -‬ك َّلام كان‬
‫خاصة بالفالسفة‪ ،‬مشكلة استخدام الصالح ّيات التي‬ ‫َّ‬ ‫هنالك مشكلة حقيق َّية‪َّ .‬إّنا مشكلة‬
‫بعد هذه املشكلة‪.‬‬ ‫ُتعطيها ِّلم الفلسف ُة‪ .‬ومن خالل إنكار «فلسفية» هايدغر ُن ِ‬
‫َّ‬
‫الحظت ‪ -‬منذ صدور الكتاب ‪َّ -‬‬
‫أن إعادة النظر باملكانة الفلسف َّية لكتاب هايدغر‬ ‫ُ‬ ‫إ‪.‬ف‪:‬‬
‫لدى البعض ر َّدات فعل قو َّية بشكل خاص‪ .‬كان جيب توقع ذلك مع القداسة التي‬
‫أثارت ى‬
‫أن هذه االستنتاجات هومجت أحيانا‬ ‫إن ما أفهمه قليال‪ ،‬هو َّ‬
‫أحاطت باسم هايدغر يف فرنسا‪َّ .‬‬
‫عل ما يبدو اخلمسامئة صفحة تقريبا من الرباهني التي سبقتها‬ ‫ِ‬
‫من ق َبل أشخاص مل يقرأوا ى‬
‫ه‬
‫وبكل صدق‪ ،‬مناقشة‬ ‫وري أيضا‪،‬‬
‫أس ست ِّلا‪ .‬إذا أرادوا نقد استنتاجات‪ ،‬من الرض ه‬ ‫والتي َّ‬
‫بالتحديد النصوص املقتبسة من هايدغر والتحليالت النقد َّية التي اقرتحتها‪.‬‬
‫لدي‬ ‫بالنسبة إ ىل اجلوهر‪ ،‬أنا أفهم َّ‬
‫أن استنتاجات تثري النقاش‪ ،‬وهذا هدفها الرئييس‪ .‬ليس َّ‬
‫للبت يف املكانة املعرتف هبا لكتاب هايدغر يف جمتمعاتنا ويف تعليمنا‪.‬‬
‫أي سلطة ه‬
‫يف الواقع َّ‬
‫عل دعوة من الزمالء املع هلمني يف املدرسة الثانو َّية‪،‬‬
‫عندما حتدَّ ثت يف جامعة السوربون بناء ى‬
‫احلر َّية الرتبو َّية ل ُ‬
‫ألساتذة‪ .‬كل ما يمكنني فعله هو أخذ النتائج الفكر َّية‬ ‫قلت كم كنت أحرتم ّ‬
‫فعلت ‪ -‬إلجراء مناقشة موضوع َّية‪ .‬بمقدار ما يأخذ املؤ هلف‬
‫ُ‬ ‫ألبحاثي والتوجه ‪ -‬كام‬
‫مسؤول َّية مواقف حمدَّ دة ومربهنة يمكن للمساحة العا َّمة للنقاش ْ‬
‫أن تنفتح‪.‬‬
‫فإن استنتاجات احلرجة‪ ،‬حيث ُأش هك ُك يف املكانة الفلسف َّية املمنوحة‬ ‫فضال عن ذلك‪َّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سم ىى «األعامل‬‫كل معناها َّإال بالنسبة إ ىل الواقع احلا هل للمؤ َّلف املـُ ّ‬
‫لكتاب هايدغر‪ ،‬ال تأخذ َّ‬
‫رش منه اليوم ‪ 66‬جم َّلدا من أصل ‪ 102‬حديث‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الكاملة» أو ‪ ،Gesamtausgabe‬الذي ُن َ‬
‫نرش بعنوان‬ ‫إن هايدغر نفسه هو الذي أراد ْ‬
‫أن ُت َ‬ ‫نحن نواجه بالفعل واقعا حترير ًّيا وحيدا‪َّ ،‬‬
‫نصوص مثل العرشين‬
‫ٌ‬ ‫‪« Être et temps‬الكينونة والزمن» نفسه ويف املجموعة نفسها‪،‬‬
‫رشت يف ه‬ ‫ِ‬
‫ظل الرايخ الثالث من العام ‪ 1933‬إ ىل العام ‪ ،1944‬والتي‬ ‫جم َّلدا للدروس التي ُن َ‬
‫الفلسفي‪،‬‬
‫ه‬ ‫نجد فيها أقواال ناز َّي ة بنسبة ملحوظة‪ .‬هذه حالة فريدة من نوعها يف تاريخ النرش‬
‫ِ‬
‫إن كارل سميث مل ُيربمج إعادة نرش مقاالته ومؤ َّلفاته الناز َّية التي تعود ى‬
‫إل األعوام من‬ ‫ح َّت ىى َّ‬
‫التحريري وهذه حقيقة‪ ،‬ولكن منذ‬
‫ه‬ ‫‪ 1933‬إ ىل ‪ .1944‬قد أكون َّأو َل َمن َقلِ َق من هذا الوضع‬
‫‪ ❖ 524‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫املهم مناقشته‪ ،‬وكذلك‬


‫ه‬ ‫اآلن الـ ‪[ Gesamtausgabe‬األعامل الكاملة] هو الذي من‬
‫ربرة من‬
‫التحليالت التي اقرتحتها منه‪ ،‬بدال من النتائج املأخوذة بشكل منعزل‪ ،‬بينام هي م َّ‬
‫خالل األبحاث التي أ َّدت إليها وليس ِّلا هدف آخر غري وعي جديد‪.‬‬
‫غري‬
‫التحريري لـ «األعامل الكاملة»‪ ،‬الذي ُي ه‬
‫ه‬ ‫ما هو اليوم موقف الفيلسوف جتاه الواقع‬
‫أن نقرتح نوعا من‬‫بشكل جذري معطيات قبول كتاب هايدغر؟ يبدو ل من غري املمكن ْ‬
‫«الفرز»‪ ،‬الذي ُنم هيز من خالله أكثر املج َّلدات ناز َّية بشكل علني واملج َّلدات ذات التضمني‬
‫تصور هايدغر خ َّطة كتابه «األعامل الكاملة» ككل‪ ،‬ولقد‬ ‫ّ‬
‫األقل رصاحة‪ .‬كام يشري عنوانه‪َّ ،‬‬
‫كانت روحه اجلامع َّية هي موضوع اخلالف‪.‬‬
‫عل تنظيم دورة دراس َّية عن الفالسفة‪ .‬عندما ي َّتخذ‬
‫بالتأكيد أنا ال أنفي قدرة هايدغر ى‬
‫موقفا لصالح َّأول إصدار ‪[ la Critique de la raison pure‬نقد العقل اخلالص]‪،‬‬
‫مؤرخي الكانط َّية [نسبة إ ىل كانط]‪َّ .‬إال أ َّن العنف‬ ‫أن هذا األمر يمكنه ْ‬
‫أن يثري اهتامم ه‬ ‫نالحظ َّ‬
‫اإلنساين يف‬
‫ه‬ ‫ب ضدَّ العقل‬ ‫استغل قراءته لكانط ليجعل منها سالح تدمري ُقلِ َ‬
‫َّ‬ ‫الذي من خالله‬
‫عرب عن نفسه بعبارات وبسياق ال خيلوان من مفاهيم‬ ‫العام ‪ ،1929‬نفسه يف دايفوس َّ‬
‫سياس َّية‪.‬‬
‫أن اليقظة تبدو تق َّلصت مع مرور الوقت‪ ،‬يف حني كان جيب‬ ‫أن ُندركه هو َّ‬
‫ولكن ما جيب ْ‬
‫رشت اليوم كل أعامل جلان‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫عل املستقبل‪ .‬وهكذا ُن َ‬ ‫عل العكس من أجل احلفاظ ى‬ ‫أن تكون ى‬
‫تم إعداد قوانني الرايخ الثالث يف برلني‬ ‫األملاين لـ هانز فرانك‪ ،‬حيث َّ‬
‫ه‬ ‫األكاديم َّية للقانون‬
‫باسم‪:‬‬
‫ِ‬
‫املؤرخ التعدييل [ ُمتع هلق بالنَّزْ عَة ا َّلتي َتد ُعو َ ى‬
‫إل‬ ‫رش ه‬‫استمرار َّية عمل فقهاء القانون! كذلك َن َ َ‬
‫مؤخرا‬‫إعَا َدة النَّ َظر ِيف َن َظ ِر َّية ْأو ُد ْستٌور] كريستيان تيليتزكي‪ ،‬تلميذ أرنست نولت وهايدغر‪َّ ،‬‬
‫األدنى‬
‫ى‬ ‫تاريخ الفلسفة األملان َّية من [مجهور َّية] فايامر إ ىل العام ‪ ،1945‬حيث ُيق هل ُل فيه إ ىل احلده‬
‫دخ َل يف تاريخ الفلسفة املؤ هلفني األكثر علن َّية يف‬ ‫أن ي ِ‬
‫انفصال العام ‪ 1933‬ويعمل من أجل ْ ُ‬
‫أردت ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫إن هذا االنزالق َّ‬
‫الالمقبول أبدا نحو التعديل َّية هو الذي‬ ‫الناز َّية مثل ألفريد بوملر‪َّ .‬‬
‫ُأشري إليه يف استنتاجات‪.‬‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪525‬‬

‫أن نتذ َّكرها‪ :‬تقديس الشخص َّية ‪ -‬مماثلة لتلك التي تتع َّلق بستالني ‪-‬‬ ‫نقطة ُأ ى‬
‫خرى تستحق ْ‬
‫لدى البعض باسم هايدغر‪ .‬وصل هذا التقديس يف فرنسا إ ىل درجة غري طبيع َّية‪.‬‬
‫التي حتيط ى‬
‫لذلك فقد عدَّ الكثريون لألسف النقدَ الواعي واملربهن ِّلايدغر غري ممكن تصوره‪ ،‬يف حني‬
‫مؤخرا‪ُ ،‬أف هكر ى‬
‫عل‬ ‫تطور خارج فرنسا منذ سنوات‪ .‬كي ال نذكر فقط ال ُك ُتب التي صدرت َّ‬ ‫إ َّنه َّ‬
‫سبيل املثال بأعامل غريغوري فرايد ويوهانس فريتش عن «الكينونة والزمن» و«االشرتاك َّية‬
‫االجتامعي» ِّلايدغر حيث‬
‫ه‬ ‫القوم َّية»‪ ،‬أو راينهارد ليند عن «التفكري الشمو هل» و«التوحد‬
‫أردت ‪ -‬من‬
‫ُ‬ ‫االنتقادات لبعض وجهات النظر أكثر قسوة من تلك التي يف كتاب‪ .‬وهكذا‬
‫قطع سلسلة اإلكبار هذه التي منعت يف أكثر األحيان َّ‬
‫كل‬ ‫خالل حتليالت واستنتاجات ‪َ -‬‬
‫نقاش نقدي يف فرنسا‪.‬‬
‫كانت الـ ‪[ Gesamtausgabe‬األعامل الكاملة] قد ُأ ِعدَّ ت بغية دعم تقرير ليس فكر ًّيا‬
‫مربهن ونقدي‪ ،‬ولكنَّه ‪ -‬نستخدم هنا كلمة ُُيِبها جونغر ‪ -‬طقويس أو‬ ‫ٌ‬ ‫وال فلسف ًّيا‪ ،‬أي‬
‫املنسقة من ِق َبل هايدغر‬
‫«شعائري» بالنسبة إ ىل هايدغر وكتابه‪ .‬هذه العالقة من التبجيل‪َّ ،‬‬
‫أن نتجاوزها اليوم‪.‬‬ ‫ومن أكثر تالميذه راديكال َّية‪ ،‬هي التي جيب علينا ْ‬
‫عل العكس‬
‫نتحرر» من هايدغر‪ ،‬ولكن ى‬ ‫عيل َّأال أدعو ‪ -‬كام تقول أنت ‪ -‬إ ىل ْ‬
‫«أن َّ‬ ‫أينبغي َّ‬
‫املؤر ُخ الذي ينرش تارخيا نقد ًّيا للرايخ الثالث‬
‫معمقة أكثر؟ ال ُيالم ه‬
‫إ ىل القيام بأبحاث نقد َّية َّ‬
‫عل نقده القايس‬
‫فيلسوف ‪ -‬مبدئ ًّيا ‪ -‬ى‬
‫ٌ‬ ‫بغية «التحرر» من هتلر‪ .‬ملاذا ‪ -‬منذ ذلك احلني ‪ُ -‬يالم‬
‫البعض ‪ -‬وحلسن‬
‫ُ‬ ‫وى املشاكل التي يطرحها علينا بالتحديد؟‬
‫عل مست ى‬
‫ِّلايدغر‪ ،‬الذي هو ى‬
‫لست كذلك ‪ -‬ذهبوا إ ىل درجة ْ‬
‫أن يعزوا إ َّل ن َّية تنظيم إعدامات باحلرق! هذه‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫احلظ‬
‫عل العكس‬
‫نزيل كتابات هايدغر‪ .‬أنا ى‬‫أن َ‬ ‫أي مكان ْ‬‫اال هدعاءات غري مقبولة‪ .‬أنا مل أطلب يف ه‬
‫أدعو اجلمهور إ ىل قراءة ما هو من ح هقهم وقد أخفيناه عنهم دائام‪ ،‬أدعوهم ملعرفة‬
‫الربوتوكوالت التي أعاد قراءهتا بنفسه‪ ،‬يف ندوته عن الرتب َّية السياس َّية اِّلتلر َّية يف شتاء العام‬
‫‪.1934 - 1933‬‬
‫الفلسفي‬
‫ه‬ ‫ولكن أنتقل إ ىل املسألة األساس َّية التي طرحتَها‪ ،‬مسألة العالقات بني الفكر‬
‫أن هذه املسألة هي مركز َّية بالنسبة لبعض الفلسفات كفلسفة هيغل‪،‬‬ ‫والسلطات‪ .‬أعتقد َّ‬
‫‪ ❖ 526‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫مهمة ليست مرتبطة قِّسا بشكل وثيق بمقاصد السلطة‪.‬‬


‫ولكن ليس ِّلا مجيعها‪ .‬كل فلسفة َّ‬
‫إل‬
‫عل سبيل املثال ‪ -‬بضع مالحظات حول ميكافيليل يف رسائله ى‬ ‫أبدى ديكارت ‪ -‬ى‬ ‫ى‬ ‫لقد‬
‫يتعهد الفلسفة السياس َّية‪ .‬لقد ذهب إ ىل ستوكهوِّلم‪ ،‬ليس كمستشار‬
‫إليزابيت‪ ،‬ولكنَّه مل َّ‬
‫اخللقي والشخيص‪.‬‬
‫ه‬ ‫عل الصعيد‬
‫سيايس‪ ،‬ولكن كنوع من املؤ هدب‪ ،‬من أجل تربية كريستينا ى‬
‫تبقى فلسفة ديكارت من دون هدف سيايس مركزي‪.‬‬
‫ى‬
‫إ َّنه خمتلف متاما عن هايدغر الذي يف ندوة له عن مفهوم الدولة ‪ ،1934 - 1933‬يصوغ‬
‫السؤال الذي يستحوذ عليه‪َ « :‬من جيب ْ‬
‫أن ُيكم؟ ح َّت ىى إ َّنه ُيقده م يف ندوة له عن هيغل‬
‫بأّنا «تأكيد الذات»(‪ )1‬للناس وللعرق‪ ،‬الذي‬ ‫والدولة ‪ ،1935 - 1934‬تعريفا للسياسة َّ‬
‫والعدو‪ .‬هذا «املفهوم» اِّلايدغري للسياس َّية‬
‫ه‬ ‫يعده أكثر أصالة من متييز شميت بني الصديق‬
‫أن باإلمكان مع ذلك الكالم عن «فلسفة‬ ‫أسال غالبا الكثري من ِ‬
‫احلرب‪َّ .‬إال أ َّنني ال أعتقد َّ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫سياس َّية» ِّلايدغر‪ ،‬بالنسبة ملفهوم تافه يتشارك به مع شبينغلر وبوملر وأكثر من مؤ هلف َ‬
‫أِّلم‬
‫تبقى مفرطة جدًّ ا بحيث يمكن االعتامد‬
‫الناز َّية أو هو نازي بنفسه‪ .‬يف الواقع حالة هايدغر ى‬
‫الفلسفي بشكل عام حول العالقة بني الفكر والسلطة‪ .‬نحن لسنا أمام فكر‬
‫ه‬ ‫عليها يف التفكري‬
‫لدى سبينوزا‪،‬‬ ‫فلسفي ُربِ َط مفصل ًّيا بمنظور السياسة العا َّمة‪ ،‬كام هو احلال ى‬
‫عل سبيل املثال ى‬
‫إل إدخال كالم قاتل ال عالقة له بالفلسفة‪ ،‬يف خطاب ذي‬
‫ولكنَّه من اسرتاتيج َّية هتدف ى‬
‫بأن املسألة تتع َّلق‬
‫إل استنتاج َّ‬ ‫مظهر فلسفي‪ .‬أ َّما بالنسبة إ ىل الناز َّية‪ ،‬لقد قادتني أبحاثي ى‬
‫كل أشكال الوجود والثقافة‪ :‬الفن‪ ،‬والشعر‪ ،‬والفلسفة‪،‬‬ ‫عل ه‬‫بمؤسسة تدمري جذر َّية استولت ى‬‫َّ‬
‫والتاريخ‪ ،‬والقانون‪ ،‬والطب‪ ،‬وح َّت ىى السياسة‪ .‬الناز َّية ليست رأيا سياس ًّيا بني آراء ُأ ى‬
‫خرى‪َّ ،‬إّنا‬
‫‪ -‬كام أثبتناها ‪ -‬املصري التارخيي للهيتلر َّية‪ ،‬تدمري للسياسة‪ ،‬بمقدار ن َّية اخلري العا هم املوجود يف‬
‫السياسة‪ ،‬أو الذي جيب ْ‬
‫أن يكون موجودا‪ ،‬والذي ألغته هذه احلركة‪.‬‬
‫غ‪ .‬ب‪ :‬أعتقد أ َّنك تفهم أ َّن ما كان ى‬
‫لدى هايدغر من خلف َّية فلسف َّية أو مجال َّية ملحوظة‬
‫الفني) هو الذي جيعل هنا تساؤل دراماتيك ًّيا‪ .‬أنا‬
‫ه‬ ‫(الس َّيام حول الشعر وتبع َّية مكانة العمل‬
‫ُأالحظ أ َّنك ال تنفي وجود جمموعة من الفرض ّيات الفلسف َّية املحض هايدغر َّية‪ .‬من أجل‬

‫‪(1) Selbsbehauptung‬‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪527‬‬

‫أن ُنثبِت اخلطأ فيها أو الصواب‪ .‬ولكن َث َّمة فرض ّيات‬ ‫رفض مكانته كفلسوف‪ ،‬كان جيب ْ‬
‫أن تكون فيها خلف َّية فلسف َّية ومجال َّية‪ .‬هل ُتنكِر إمكان َّية احلوار مع هايدغر؟‬
‫هايدغر َّية يمكن ْ‬
‫أل َّنه موجود عمل ًّيا‪َ .‬ث َّمة هايدغريون ِّلم معه عالقة ليست فقط ثقاف َّية ولكن نقد َّية أيضا‪.‬‬
‫ح َّت ىى إ َّنه ميول قوي! ُأفك ُهر بـ فيليب الكو البارت ‪ -‬ى‬
‫عل سبيل املثال ‪ -‬يف كتابه «هايدغر‬
‫وسياسة الشعر»‪.‬‬
‫إ َّنه ُين هظم فيه حوارا نقد ًّيا مع هايدغر حول قراءة هولدرلني‪ ،‬ويف حمارضته «جيب»‪ ،‬يذهب‬
‫إ ىل حده الكالم عن سخافة بعض القراءات السياس َّية للغاية ِّلايدغر‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن ذلك مل يمنعه من‬
‫لدى‬
‫عل ذلك‪ ،‬وبالتالزم‪ ،‬ح َّت ىى لو كان ى‬
‫عل الرغم من ذلك فيلسوفا عظيام؟ عالوة ى‬ ‫اعتباره ى‬
‫الفلسفي‬
‫َّ‬ ‫أن احلوار‬‫هايدغر صفحات وح َّت ىى ُك ُتب ال يمكن عدها فلسف َّية‪َ ،‬أال يمكن تصور َّ‬
‫لدى‬
‫مؤرخي الناز َّية) مع ما هو ال فلسفي ى‬
‫عل ه‬‫عل الفالسفة‪ ،‬وال فقط ى‬
‫ب ى‬‫متوج ٌ‬
‫ه‬ ‫(والذي هو‬
‫هايدغر‪ ،‬مل يكن ليحصل َّإال َّ‬
‫ألن مساره ينادينا؟ وهكذا كتب ليفيناس مقاال عن الفلسفة‬
‫اِّلتلر َّية‪ ،‬وحتدَّ ث أفالطون و ُأرسطو مع السفسطائ هيني أو عنهم يف حني َّأّنم ُيم هثلون كام يبدو‬
‫نقيض الفلسفة‪.‬‬
‫َ‬
‫قلت حرجا بالنسبة إليه ويستمر باالنتشار‪.‬‬
‫اِّلايدغري؟ إ َّنه كام ُ‬
‫ه‬ ‫إذا ماذا تفعل باإلرث‬
‫إ‪ .‬ف‪ :‬أنت تذكر خلف َّية هايدغر يف اجلامل َّية والشعر‪َ .‬ث َّمة يشء مرعب هنا‪ ،‬هو التعمية‬
‫الفني»‪،‬‬
‫ه‬ ‫مؤمتره يف نوفمرب ‪ 1935‬حول «أصل العمل‬
‫ُ‬ ‫أن تزول اليوم‪ .‬لقد ُقده ر كثريا‬
‫التي جيب ْ‬
‫الشعب إقامتَه‬
‫ُ‬ ‫ؤسس فيه‬ ‫من دون النظر إ ىل املعبد املذكور‪ ،‬الذي عدَّ ه هايدغر كمركز ُي ه‬
‫اليوناين‪ .‬يف املدينة اليونان َّية ‪ -‬يف‬
‫ه‬ ‫التارخيي للمعبد‬
‫ه‬ ‫املعنى‬
‫ى‬ ‫التارخي َّية‪ ،‬بأ َّنه ال يتوافق أبدا مع‬
‫يتجمعون يف األغورا [ساحة عا َّمة كانت املجالس السياس َّية تنعقد فيها]‬
‫َّ‬ ‫الواقع ‪ -‬كان الناس‬
‫وليس يف املعبد‪ .‬يف احلقيقة بعد شهرين من مؤمتر نورمربغ حيث ُسنَّت أسوأ القوانني العرق َّية‬
‫معنى هذا‬
‫ى‬ ‫النازي يف نورمربغ‪.‬‬
‫ه‬ ‫عل املعبد‬ ‫للرايخ الثالث‪ ،‬ذلك وقبل ه‬
‫كل يشء اعتمد هايدغر ى‬
‫املرضة‬
‫َّ‬ ‫املؤمتر سيايس وليس مجال ًّيا‪ ،‬واملقارنة اليوم ممكنة بني النسخ الثالث للمؤمتر‪ ،‬بتطوراهتا‬
‫املقاصة التي‬
‫َّ‬ ‫للمقاصة ‪ -‬هذه‬
‫َّ‬ ‫األملاين الذي ُنؤ هيده بالكامل‪ .‬أ َّما بالنسبة‬
‫ه‬ ‫عل مصري الشعب‬
‫ى‬
‫بأّنا يف البداية إشار ٌة نحو معبد النور يف نورمربغ‪،‬‬
‫ُيش هيد هبا هايدغر كثريا ‪ -‬باإلمكان التفكري َّ‬
‫‪ ❖ 528‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫وج ُه إ ىل السامء أعمد َة أضواء ترسم ‪ -‬يف الليل‬ ‫حيث كان ‪ّ 150‬‬
‫كشافا ضوئ ًّيا من الـ ‪ُ DCA‬ي ه‬
‫يتجمع «الشعب» ُمصغني إ ىل الفوهرر‪ .‬جيب أيضا احلديث ‪-‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ -‬حدو َد املساحة حيث‬
‫الشعري‬
‫ه‬ ‫مسودة رسالة إ ىل هايدغر ‪ -‬عن هذا الضعف‬ ‫َّ‬ ‫بحسب كلمة لـ بول سيالن يف‬
‫َ‬
‫احلديث عن السطح َّية املطلقة لــ‬ ‫والفلسفي املسؤول عنه هايدغر بشكل كبري‪ .‬لن ُأ َ‬
‫طيل‬ ‫ه‬
‫ِ‬
‫استصالح سيالن الذي ُجي هر ُبه‬ ‫ُ‬
‫مراسل حنَّة أرندت‪ .‬أنا مستاء من‬ ‫«القصائد» التي تركها لنا‬
‫عل صعيد آخر الطريقة التي يمزج فيها مع هل ٌق كـ‬
‫بعض اِّلايدغر هيني الراديكال هيني‪ .‬ى‬
‫اليو َم ُ‬
‫مكسانسكارون شعرا َء فرنس هيني مثل ماالرمي وكلوديل وسوبرفيل يف إعادة صياغته ِّلايدغر‬
‫حمري‪ ،‬حيث مل ُُي هلل ح َّت ىى ومل يذكر الدروس والكتابات السياس َّية ِّلايدغر التي ُتش هكل‬
‫بشكل ه‬
‫مدونة من عدَّ ة آالف من الصفحات املنترشة تقريبا يف الكتاب ك هله‪ .‬هذا املوقف ليس‬
‫اليوم َّ‬
‫املؤسسة اجلامع َّية الفرنس َّية‪ ،‬الذين‬
‫َّ‬ ‫لدى أكثر من هايدغري واحد من‬
‫منفردا‪ ،‬إ َّنه موجود ى‬
‫ع َّلموا خالل عقود هايدغر كام ُع هلم ُأرسطو أو كانط من دون مواجهة األبعاد السياس َّية‬
‫الناز َّية لكتابه‪ .‬لكنَّ نا نعرف اليوم الكثري من ذلك‪ ،‬عن طريق نرش «األعامل الكاملة»‪ ،‬كي ال‬
‫ُيعاد النظر يف هذا املوقف‪.‬‬
‫يبقى بالفعل من الفلسفة‬ ‫بالعودة إ ىل الفلسفة‪ ،‬أنا يف احلقيقة أكثر تشددا مم َّا يبدو لك‪ .‬ماذا ى‬
‫ِ‬
‫عل الذات لشعب أو لعرق‪ ،‬يامثل‬ ‫لدى مؤ هلف يفهم السؤال‪« :‬ما هو اإلنسان؟»‪ ،‬بالتأكيد ى‬ ‫ى‬
‫الوجو َد بالوطن ويزعم أ َّنه يستخلص من الوجود نفسه «مبدأ العرق َّية»؟ أ َّما بالنسبة للمسألة‬
‫الشهرية «مسألة الوجود»‪ ،‬ح َّت ىى لو حاولنا جتريدها من ناز َّية هايدغر ‪ -‬وهذا ما يبدو ل‬
‫الفلسفي التال‪ :‬كيف يمكن يف‬
‫ه‬ ‫مستحيال لألسباب التي ذكرهتا ‪ -‬سوف نصطدم بالتناقض‬
‫الوقت نفسه حتويل الفعل (كان) إ ىل موصوف‪ ،‬كام فعل هايدغر عند حديثه لنا دائام عن‬
‫«الكينونة»‪ ،‬والزعم بالتحرر بشكل كامل من فئة ُأرسطو َّية «املا َّدة»؟ ْ‬
‫إن مل نعد نريد املا َّدة‪ ،‬ال‬
‫يمكن بعد ذلك الكالم عن «الكينونة»‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬االستخدام اِّلايدغري لـ «االختالف‬
‫عل‬ ‫األنتولوجي [املختص بعلم الوجود]» للوجود واملوجود سمح له بترص ِ‬
‫يف ‪ -‬كام َّ‬
‫دل ى‬ ‫ه‬ ‫ه‬
‫ِ‬
‫وبأرس أكرب عدد من‬ ‫ذلك ج هيدا كارل لويت يف العام ‪ - 1946‬اجلذر َّية األكرب واألكثر إهباما‪،‬‬
‫احلقيقي ْ‬
‫بأن ُيؤ هكد بخشونة أمام‬ ‫ه‬ ‫أن ُيني الوقت الذي تسمح له فيه فعل َّي ُة التاريخ‬
‫العقول إ ىل ْ‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪529‬‬

‫بأن حالة الفوهرر هي الوجود نفسه الذي جيب ع ىل املوجود الذي هو الشعب ْ‬
‫أن‬ ‫مستمعيه َّ‬
‫إل‬
‫أن يصل تعليم هايدغر ‪ -‬يف ندوته يف العام ‪ - 1934 - 1933‬ى‬ ‫ُيل َبس ُح َّبه منذ اآلن‪ْ .‬‬
‫عل َّ‬
‫أن ذلك مل ي ُعد من الفلسفة‪.‬‬ ‫عل العقول‪ ،‬فهذا يدل ى‬
‫درجة اخلداع واالستيالء ى‬
‫مهمة رضور َّية‪َّ .‬‬
‫إن كلمة «نقد»‬ ‫الفلسفي ملجموعة أعامل هايدغر هو اليوم َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن النقد‬
‫تعرف فيه ياسربز نفسه‬ ‫لدى هايدغر‪ - ،‬الذي َّ‬ ‫مالئمة أكثر من كلمة «حوار»‪َّ ،‬‬
‫ألن عامل الفكر ى‬
‫حرة للحوار‪.‬‬
‫الديكتاتوري ‪ -‬ليس هو عامل َم ْن يفتحون مساحة َّ‬
‫ه‬ ‫عل صفة‬
‫ى‬
‫خرى‪ ،‬أنت أرشت إ ىل عنوان مقالة لـ إمانويل ليفيناس حول «الفلسفة‬ ‫ُ‬
‫من ناحية أ ى‬
‫باملعنى الدقيق‬
‫ى‬ ‫الشعبي وليس‬
‫ه‬ ‫باملعنى‬
‫ى‬ ‫اِّليتلر َّية»‪ ،‬لكن من الواضح أ َّنه يستخدم هنا العبارة‬
‫لـ «رؤية العامل»‪ِّ .‬لذا مل جيعل ليفيناس من هيتلر فيلسوفا‪ .‬إذا ال يمكن االحتجاج هبذا‬
‫العنوان لوصف هيتلر َّية هايدغر بالفلسف َّية‪.‬‬
‫عل التمييز بني مسألة ُأ ُسس‬
‫تلقي هايدغر‪ .‬أنا أحرص ى‬ ‫أثرهتا عن ّ‬
‫تبقى املسألة التي َ‬
‫ى‬
‫معمقة أكثر‬ ‫الكتاب ‪ -‬الذي هو موضوع كتاب ‪ -‬ومسألة تل هقيه التي تتط َّلب أبحاثا ُأ ى‬
‫خرى‪َّ ،‬‬
‫ونقد َّية أكثر من تلك التي ‪ -‬فضال عن كوّنا مفيدة ‪ -‬سبق ْ‬
‫أن قام هبا دومنيك جانيكود من‬
‫طرح اليوم السؤال التال‪ :‬إذا كان كتاب هايدغر ناز ًّيا هبذا‬ ‫الطبيعي ْ‬
‫أن ُي َ‬ ‫ه‬ ‫أجل فرنسا‪ .‬من‬
‫أن هذا العدد الكبري من ال ُكتّاب‪ ،‬وليس أق ّلهم‬
‫تفسري َّ‬
‫ُ‬ ‫القدر الذي ُي ِ‬
‫ظهره كتاب‪ ،‬فكيف يمكن‬
‫نفسه‪.‬‬ ‫َ‬
‫السؤال َ‬ ‫عل نفيس‬
‫مل يقعوا حتت تأثريها؟ من هذه الناحية أنا مثلك أطرح ى‬
‫عل اسرتاتيج َّيات التلميح ِّلايدغر‬
‫أعتقد أ َّنني قد أجبت جزئ ًّيا من خالل تسليط الضوء ى‬
‫والتقديس غري املعتاد كثريا الذي ُييط باسمه‪ ،‬ولكن أ ًّيا كانت اإلجابات ‪ -‬هي ّتتلف‬
‫عل كتاب‪ .‬لقد‬ ‫كل مؤ هلف ‪ -‬وأنا ال أعتقد َّ‬
‫أن هذا السؤال يمكن اعتباره اعرتاضا ى‬ ‫بالنسبة إ ىل ه‬
‫رتجم‬ ‫عل نصوص ظهرت َّ‬
‫مؤخرا ومل ُت َ‬ ‫اعتمدت خالِّلا ى‬
‫ُ‬ ‫معمقة‪،‬‬
‫احتجت إ ىل أبحاث َّ‬
‫بالفرنس َّية‪ ،‬وتقريبا مل يأخذها أحدٌ باحلسبان‪ ،‬من دون الكالم أيضا عن الندوات غري املطبوعة‬
‫التي مت َّكنت من الوصول إليها‪ .‬إذا نحن حال ًّيا يف وضع مستجد‪ ،‬إدراك مستحدَ ث للكتاب‬
‫أن يستخلص االستنتاجات‪ .‬ولكن ال‬‫كل واحد ْ‬ ‫عل ه‬
‫الفلسفي‪ .‬ى‬
‫ه‬ ‫وحالة جديدة من النقد‬
‫يمكن االحتجاج ضدَّ كتاب من التل ّقي السابق للكتاب‪ ،‬ما عدا الرغبة بنفي وجود وسبب ْ‬
‫أن‬
‫والتارخيي‪ ،‬والبلبالت التي ُيملها‪.‬‬
‫ه‬ ‫الفلسفي‬
‫ه‬ ‫يكون من البحث‬
‫‪ ❖ 530‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫بعض اِّلايدغر هيني الراديكال هيني الذين ‪ -‬يف قداستهم‬


‫ضيف االعتبار التال‪ ،‬لنضع جانبا َ‬
‫ُ‬ ‫ُأ‬
‫يبقى ُأولئك الذين‬
‫التا َّمة ‪ -‬قبلوا مجيعهم هبايدغر‪ ،‬مع املخاطرة بدفع دفاعه ح َّت ىى التعديل َّية‪ .‬ى‬
‫استسلموا ملظهر الكتاب‪ ،‬ولكن يبدو من دون ْ‬
‫أن يفهموه بشكل كاف يف جممله‪ ،‬ومن دون‬
‫نظرة شاملة نقد َّية‪ .‬أنا ال أقول هذا كعتاب طاملا َّ‬
‫أن ظروف التقبل األكمل ‪ -‬كام أرشت ‪ -‬مل‬
‫األول من التحيل‬
‫سوى اجلزء َّ‬
‫ى‬ ‫جتتمع َّإال منذ وقت قصري‪ .‬مل ُيفظ البعض من الكتاب‬
‫الوجودي للكينونة والزمن‪ ،‬والبعض حفظوا ميتافيزيقا السلطة املعروضة يف النسخة التي‬
‫ه‬
‫املفصلة‬ ‫ِ‬
‫رشت يف العام ‪ 1961‬لدروس عن نيتشه‪ ،‬ويف النهاية حفظ آخرون «مسألة التقن َّية» َّ‬
‫ُن َ‬
‫ألّنم مل ُيفظوا مجيعهم عن هايدغر وقاموا بخيارات‪ ،‬مت َّكن هؤالء‬‫بعد العام ‪َّ .1945‬‬
‫املؤ هلفون من الظهور كـ « ُن ّقاد» أو ا َّدعوا ذلك‪ ،‬وكانوا بذلك بالفعل مدافعني عن الده ين‬
‫ُأصول هيني‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن بإمكاننا اليوم اعتبار َّأّنم مل ُيقده موا انتقادات كافية بحيث إ َّن املقارنة الدقيقة‬
‫بني خمتلف مراحل إعداد الكتاب تسمح بفهم التوجه العا هم الذي أخذه هايدغر وبإعادة‬
‫تم جتاهله بشكل كبري يف فرنسا‪ ،‬ولكن عد ٌد آخر من‬ ‫النظر فيه‪ِّ .‬لذا ُأف هكر َّ‬
‫أن ليس كتاب فقط َّ‬
‫كتاب غريغوري فرايد ورينارد الند اللذين فتحا عهدا جديدا من‬
‫األعامل األخرية أيضا‪ ،‬مثل َ‬
‫كل األحوال رضور ًّيا بالنسبة إ ىل املج َّلدات‬
‫النقدي لكتاب هايدغر‪ ،‬وقد أصبح يف ه‬
‫ه‬ ‫التقبل‬
‫التي صدرت لـ «األعامل الكاملة»‪.‬‬
‫غ‪ .‬ب‪ :‬إذا املشكلة كلها هي عدم الفهم بشكل ج هيد كيف مت َّكنت كل اخللف َّية اِّلايدغر َّية‬
‫ثت‬
‫يف بعض أقواله من إجياد مسافة مع النظام‪ ،‬الس َّيام يف كتابات ما بعد احلرب ‪ -‬التي حتدَّ َ‬
‫لكن كتاب مارتن هايدغر مل ينته يف العام ‪ !1945‬لو تت َّبعنا‬
‫عنها قليال جدًّ ا يف كتابك ‪َّ -‬‬
‫قراءتك ح َّت ىى النهاية ال نفهم بوضوح كيف مت َّكن هذا الكم من األفكار النقد َّية لليربال َّية‬
‫عل سبيل املثال بمسألة التقن َّية كام‬
‫والرأسامل َّية من النهل من ينبوع هايدغر وفكره‪ ،‬أعتقد ى‬
‫أعاد صياغتها ماركوس وآخرون‪ ،‬ولكن باإلمكان مضاعفة األمثلة‪.‬‬
‫أن نتحدَّ ث بجدّ َّية عن مسافة نقد َّية َّاّتذها‬
‫إ‪ .‬ف‪ :‬هناك َّأوال مسألة األمر الواقع‪ ،‬أيمكننا ْ‬
‫«ملف هايدغر» يف حمفوظات كوملار يف وزارة اخلارج َّية‪ ،‬نكتشف َّ‬
‫أن‬ ‫ه‬ ‫هايدغر جتاه النظام؟ يف‬
‫«موثوق به سياس ًّيا» من ِق َبل جهاز األمن (‪service « )SD‬‬
‫ٌ‬ ‫هايدغر ُعدَّ يف العام ‪ 1938‬بأ َّنه‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪531‬‬

‫‪ ،»Sicherheits dienst« )SS( »de la sécurité‬ويف العام ‪ 1943‬عندما أعدَّ ألد‬


‫تقارير ضدَّ ه‪ ،‬دافع عنه مسؤولون يف الـ ‪NSDAP‬‬
‫َ‬ ‫أخصامه يف الناز َّية ‪ -‬أرنست كريك ‪-‬‬
‫األملاين‪.‬‬
‫ه‬ ‫االشرتاكي‬
‫ه‬ ‫القومي‬
‫ه‬ ‫النازي أو حزب ال ُع ّامل‬
‫ه‬ ‫احلزب‬
‫نرى كيف عاش هايدغر الذعر عند هزيمة الناز َّية‪ .‬نحن نعرف أ َّنه‬
‫أن ى‬‫جيب علينا أيضا ْ‬
‫ذهب يف العام ‪ 1944‬إ ىل برلني مع زوجته ألفريد إلجراء ا هتصاالت وتقويم الوضع‪ ،‬وأ َّنه‬
‫النازي كارل شميت‪ ،‬كانت مناقشاهتام تنحرص يف‬
‫ه‬ ‫القانوين‬
‫ه‬ ‫تناول الغداء بالتحديد مع الفقيه‬
‫التعدييل‬
‫ه‬ ‫املؤرخ‬
‫قوات احللفاء ‪ -‬وفقا لشهادة تلميذه وصديقه ه‬
‫ثم مع وصول َّ‬
‫مسألة احلرب‪ّ .‬‬
‫دراجة‬
‫عل َّ‬
‫هرب هايدغر الذي كان قد جلأ إ ىل مسكريتش مسقط رأسه ى‬
‫َ‬ ‫أرنست نولت ‪-‬‬
‫لدى رئيس األساقفة غروبر‬
‫خوفا من إلقاء القبض عليه‪ .‬فور اكتامل اِّلزيمة حاول االحتامء ى‬
‫انتهى األمر»‪.‬‬
‫ى‬ ‫الذي مل يكن قد التقاه من العام ‪ ،1933‬وقال ألُخت هذا األخري‪« :‬بالنسبة ل‪،‬‬
‫إحدى‬
‫ى‬ ‫إل‬
‫عاش هايدغر هزيمة الناز َّية ككارثة تارخي َّية وشخص َّية يف آن واحد‪ .‬انظر ى‬
‫املؤر خ رودولف ستادملان‪ :‬مع هزيمة الرايخ الثالث‪،‬‬
‫رسائله إ ىل أحد أكثر تالميذه قربا إليه‪ ،‬ه‬
‫دخل األملان يف ليل طويل‪ .‬يف ‪ 20‬حزيران‪/‬يونيو ‪ ،1945‬كتب هايدغر له‪:‬‬
‫نحن ‪ -‬األملان ‪ -‬ال يمكننا االنحناء أل َّننا مل ننهض بعد وينبغي علينا َّأوال ْ‬
‫أن نعرب الليل‪.‬‬
‫‪[ GA‬األعامل الكاملة])‪.‬‬
‫سامه يف رسالته إ ىل أليزابيت بلوكامن يف ‪ 12‬أيلول‪/‬سبتمرب ‪1929‬‬ ‫عام َّ‬
‫يتخل هايدغر َّ‬ ‫َّ‬ ‫مل‬
‫«القوة األُسطور َّية واملاوراء الطبيع َّية األصل َّية لليل»‪...‬‬
‫َّ‬
‫عل حمادثات سجينَني من سجناء احلرب األملان املسجونني يف‬ ‫باإلمكان أيضا االستناد ى‬
‫رشت يف ج ‪ 77‬من الـ ‪[ GA‬األعامل الكاملة]‪ :‬فقط يف حلظة هزيمة الناز َّية قال بأ َّنه‬ ‫ِ‬
‫روسيا‪ُ ،‬ن َ‬
‫خيشى إبادة اإلنسان‪.‬‬
‫ى‬
‫إذا «قدَّ م هايدغر تنازالت» أمام جلنة فرايبورغ عندما حاول تربير نفسه‪ ،‬وإذا حتدَّ ث عن‬
‫احلظر عن ممارسته‬ ‫ُ‬ ‫إل دعمه كي ُير َفع‬‫عاره يف رسالة إ ىل جاسرب ياسربز عندما احتاج ى‬
‫إن ُر هق َي إ ىل‬
‫إن مت َّكن من رفع رأسه‪ ،‬ما ْ‬
‫التدريس‪ ،‬فقد كان هذا كل يشء تقريبا‪ .‬ماذا فعل ما ْ‬
‫وس ِم َح له من جديد بالتدريس بعد س َّتة أعوام من احلظر؟ يف‬ ‫ُأستاذ فخري يف العام ‪ُ 1951‬‬
‫‪ ❖ 532‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫رشتا حتت عنوان «ماذا‬ ‫ِ‬


‫الدورتني [التدريس َّيتني] اللتني ألقاها يف ‪ ،1952 - 1951‬واللتني ُن َ‬
‫سم ىى التفكري؟»‪ ،‬كان بعيدا عن الرتاجع وانتقاد القوم َّية االجتامع َّية‪ ،‬ومل ُي ِرش إ ىل احلرب‬ ‫ُي ّ‬
‫عل الديمقراط َّية‪،‬‬
‫عل أملانيا‪ .‬حتامل من جديد ى‬ ‫العامل َّية الثانية َّإال من حيث النتائج التي ر َّتبتها ى‬
‫وقارن الوضع يف ُأوروبا بني سنوات العقد السادس وسنوات العقد الثالث من القرن‬
‫مستوى ما يرتفع من األعامق»‪،‬‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫العرشين حيث بحسب قوله‪« :‬مل يكن عامل التمثيالت ى‬
‫‪...‬ويف السنة التالية‪ ،‬أي يف العام ‪ ،1953‬نرش دورته التي ألقاها يف العام ‪ ،1935‬مقدّ مة عن‬
‫عل «احلقيقة الداخل َّية والعظمة» للحركة القوم َّية‬
‫عل ثنائه ى‬‫امليتافيزيقا‪ ،‬حيث ُيافظ ى‬
‫ألقى هايدغر كلامته حول التقن َّية ونرشها « ‪Le‬‬
‫االجتامع َّية‪ .‬ضمن هذا السياق الثقيل جدًّ ا ى‬
‫‪ »Ge-stell‬يف العام ‪ 1949‬يف برام‪ ،‬و«مسألة التقنية» يف العام ‪ 1953‬يف ميونيخ‪ .‬للحقيقة‬
‫وتم استيحاؤه بشكل واسع‪ ،‬وبشكل‬ ‫َّ‬
‫إن الكالم عن عامل َّية التقن َّية هو من دون أصالة كبرية َّ‬
‫خاص من الكتاب الذي صدر يف العام ‪ 1946‬لـ فريدريك جورج جونغر (الذي كان‬
‫ُ‬
‫[كامل التكنولوجيا]‪ .‬من جهة‬ ‫هايدغر قريبا منه)‪Die Perfektion der Technik ،‬‬
‫اِّلايدغري للتقن َّية هو خطاب يعود إ ىل العام‬
‫َّ‬ ‫أن الرفض‬ ‫ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬من املمكن اآلن إدراك واقع َّ‬
‫صحح لدوراته حول الناز َّية يف‬
‫‪ .1945‬يف الواقع نحن نعرف ذلك من خالل نرش نص ُم َّ‬
‫األملاين بالتقن َّية وعن «استخدام‬
‫ه‬ ‫‪[ Gesamtausgabe‬األعامل الكاملة] عن عالقة الشعب‬
‫عل العكس‪ .‬هذه نقطة‬‫األملاين للس ّيارات»‪ ،‬وهو ليس يف سياق رفض التقن َّية بل ى‬
‫ه‬ ‫اجليش‬
‫عل توسيعها يف كتابة مقبلة‪ ،‬وهي تفرتض إعادة تقويم شامل لتقرير هايدغر‬
‫رئيس َّية سأعمل ى‬
‫النازي»‪ ،‬التي‬
‫ه‬ ‫إ ىل أرنست جونغر‪ ،‬يف ضوء نصوصه عن «العامل والسيطرة العامل َّية للعرق‬
‫صدرت يف الـ ‪[ GA‬األعامل الكاملة] (إ ىل أرنست جونغر‪ ،‬ج ‪ .)90‬ما سأقوله ببساطة‬
‫تطوير‬
‫ُ‬ ‫أي ضوء حول األسئلة التي يطرحها‬ ‫أن كتابه ال ُيمل لنا َّ‬ ‫إلكامل حوارنا‪ ،‬هو َّ‬
‫التقنيات‪ ،‬والدمار الذي ُّت هلفه‪ ،‬ولكن أيضا تطوير املعرفة الناجتة عنها الس َّيام يف علم الفلك‬
‫سوى‬
‫ى‬ ‫وعلم الكون ‪ -‬املجاالن املجهوالن متاما من ِق َبل هايدغر ‪َّ .-‬إّنا يف الواقع ال تقوم‬
‫النقدي‪.‬‬
‫ه‬ ‫لقى غالبا اليوم عن ر هد الفعل‬
‫بتغذية اخلطابات الكارث َّية التي ُت ى‬
‫بياتريس فورتن‪ :‬نحن ال نعيش وال نموت أيضا‪ ،‬نحن ال ُنف هكر وال نتك َّلم أيضا منذ‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪533‬‬

‫بأن بريمو ليفي يذكرها كـ‬ ‫انتصار اجلنون القاتل للمخ َّيامت‪ .‬يبدو من الرضور هي التذكري َّ‬
‫اخلرقة‪ ،‬بحسب ما قالته آن ‪ -‬ليز سرتن‪ ،‬هذا‬ ‫إن س َّلة نفايات املخيامت‪ِ ،‬‬ ‫اِّلنديس‪َّ .‬‬ ‫اجلنون‬
‫َّ‬ ‫ه‬
‫معنى َّ‬
‫أن‬ ‫ى‬ ‫البرشي كان له يف البداية‬
‫ه‬ ‫التقلص غري املسبوق لإلنسان إ ىل إنسان آخر ضمن النوع‬
‫ملِّسحي ِّلا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُت َكون اللغة قد ُأعيد السيناريو ا‬
‫ِ‬
‫هذه اللغة كانت بالتأكيد اجلبهة التي ُع م َل ت َّ‬
‫أو ال ِّلو َّي ة الشخص‪ ،‬ولكنَّ ها أيضا‬
‫التارخيي والناطقة عن الكائنات البرش َّي ة‪ .‬كذلك ليس‬
‫ه‬ ‫اإلنساين‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫للعامل‬ ‫اإلنساين‬
‫ه‬ ‫للمشهد‬
‫عام استوحته الفلسفة من الناز َّي ة املسؤولة عن السالالت اجلزَّ ارة‬ ‫كثريا السؤال َّ‬
‫(ليجاندر) وعن عار اجلريمة غري املسبوقة‪ ،‬بأ َّن ما يشري يف اللغة إ ىل العامل يشري إ ىل‬
‫ت الذي يستند إ ىل مواكبة لغة ‪ ،‬وبالتال إ ىل مواكبة‬
‫الوجود املحايد بدال من الوجود الذا ه‬
‫عل هزيمة الفكرة اإلنسانيَّ ة لإلنسان‪ .‬ما هي إذا الدالالت الكبرية التي‬
‫مشهد يقوم ى‬
‫ظروف ‪ -‬كام قال فرويد ‪ -‬إخراج ليس‬
‫َ‬ ‫تظهر يف الفلسفة اِّلايدغر َّي ة وتبدو لك تنافس‬
‫احللم‪ ،‬ولكن هذا اجلنون املن َّظ م هندسيًّا؟‬
‫باألحرى أيضا حياد األنتولوجيا التي‬
‫ى‬ ‫لنُر هكز قليال ى‬
‫عل مشكلة احلياد والتحييد‪ .‬احلياد‪ ،‬أو‬
‫يمكن استخالصها من «‪[ »es gibt ein Dasein‬هذا يكون‪ ،‬الوجود]‪die Welt« ،‬‬
‫َ‬
‫[العامل]‪ ،‬إلخ‪ ،‬يساهم يف تقلص اإلنسان إ ىل يشء موجود‪ .‬التحييد من خالل هذا احلياد الذي‬
‫ت وتارخيي لألشخاص‪ ،‬وهذا أيضا‬ ‫يطبع حرف ًّيا اللغة يف املخ َّيامت‪ ،‬مساها بذلك بتدمري هو َّيا ّ‬
‫املفرغة من إشارهتا إ ىل احلالة النفس َّية وإ ىل اجلسد‬ ‫ِ‬
‫نوع من الرعب العجيب الذي ُيمسك اللغة َّ‬
‫اإلنساين‪ .‬هناك جسد البطل‪ ،‬ولكن هناك أيضا نظريه‪ ،‬اجلسد األسري‪ .‬هذه اللغة التي ال نزال‬ ‫ه‬
‫البرشي وبشكل عام أكثر كره للنفس َّية بعنوان فرد َّيتها‬
‫ه‬ ‫عل كره للظرف‬
‫ورثتها الفكر هيني تدل ى‬
‫بمستوى املطالبة‬
‫ى‬ ‫الشخص َّية‪[ »Ein geistig Toter« .‬امل هيت روح ًّيا]‪ ،‬يقول هوش‪« :‬مل ي ُعد‬
‫الشخيص؟» (السامح بتدمري احلياة ال يستحق احلياة‪ )1920 ،‬هل حتمل‬
‫ه‬ ‫بحق احلياة‬
‫داخل ًّيا ه‬
‫لغ ُة هايدغر بصامهتا؟ وفقا أل َّية أنامط؟‬
‫تطورت األُ ُطر الدالل َّية يف لغة فلسفة هايدغر‪،‬‬
‫عل نمط «احلياد هيني»‪ ،‬الذي من خالله َّ‬
‫ى‬
‫يضاف بعدُ تنكر اللغة‪ ،‬الذي أصبح كام نعرف أحد لوازم الواقعية احلديثة املُعدَّ ة إلجازةِ‬
‫َّ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ‬
‫‪ ❖ 534‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫معجم «اللغة‬
‫ُ‬ ‫اإلبادة اجلامع َّية‪ .‬سمة االنحراف هذه املُشار إليها يف اللغة الناز َّية‪ ،‬جعل منها‬
‫صدى (‪ )Süskind، Storz ،Strenbergern‬دار أولستاين للنرش ‪.)1989‬‬
‫ى‬ ‫الإلنسان َّية»‬
‫تشري هذه النقطة إ ىل استبدال الكلامت خلدمة الواقع َّية اجلديدة التي أصبحت مشهدا لقتل‬
‫«مزيت آليا» يقول كريتيش‪ ،‬حيث األمثلة املعروفة أكثر هي «االستحامم»‪ِ ،‬‬
‫«اخل َرق» أو‬ ‫ًّ‬ ‫ُ َّ‬
‫املوتى‪ :‬هل تعتقد أ َّننا نجد فيه مبدأ «إعادة دالل َّية» مماثلة يف كتابات هايدغر؟ إذا كان‬
‫ى‬ ‫«وجوه»‬
‫يتكون هذا املبدأ وما هي جماالت الواقع التي يالمسها؟‬ ‫فمام َّ‬ ‫األمر كذلك‪َّ ،‬‬
‫عرب عن القلق‬ ‫ِ‬
‫تتسجل يف منطق لغة «إعادة الدالل َّية» من ق َبل النتز َّية و ُت ه‬
‫َّ‬ ‫إذا هي ثالثة أسئلة‬
‫الفلسفي‪ ،‬املسألة تتع َّلق‬
‫ه‬ ‫عل هايدغر وطريقة تفكريه‬ ‫جمرد تأثري واضح للناز َّية ى‬
‫نفسه‪ ،‬إ َّنه ليس َّ‬
‫األسايس للتفكري وأيضا بتأثري الدالالت التي ن َّظمت تدمري َّ‬
‫قوة تظن نفسها شخص ًّيا‬ ‫ه‬ ‫باجلذر‬
‫خارج هذه احلاشية من اللغة التي أورثتنا منذ ذلك احلني شكال من أشكال الفكر‪ ،‬وبالتال‬
‫شكال للغة َس َم َح بام ال يمكن تصوره‪.‬‬
‫سوى اقرتاح‬
‫ى‬ ‫إيامنويل فاي‪َّ :‬‬
‫إن أسئلتك تفتح جماال لر هد فعل مهم ال يمكنني جتاهه حال ًّيا‬
‫بضعة ميادين‪ .‬مع هايدغر ليس هنالك فقط حتيد َّية‪ ،‬ولكن هنالك تدمري شامل للوجود‬
‫التعليمي يف جامعة فريبورغ‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫ه‬ ‫ت‪ .‬هو نفسه يقول يف رسالة بتاريخ ‪ 1933‬إ ىل اجلسم‬
‫الذا ه‬
‫«الفرد‪ ،‬حيث يقف‪ ،‬ال قيمة له»‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن هذه التحيد َّية للنفس َّية وهذا اإللغاء لإلنسان الذي‬
‫وصفتَه ج هيدا‪ ،‬أراد هايدغر تسجيله يف لغة الفلسفة‪ .‬كان اإللغاء التدرجيي لكلمة «اإلنسان»‬
‫بد َلت بكلمة الـ ‪ )1(Mensch‬كلمة ‪( Dasein‬الوجود)‪.‬‬ ‫منذ «الكينونة والزمن»‪ .‬لقد اس ُت ِ‬

‫يسعى إ ىل فرض‬
‫ى‬ ‫من خالل هذا اللفظ ‪ ،Dasein‬كل ما هو أكثر استخداما يف اللغة األملان َّية‬
‫‪ -‬يف الصفحة ‪ 74‬من «الكينونة والزمن» خالل ثالثينات القرن العرشين ‪ -‬مفهوم الـ ‪Sein‬‬
‫سوى يف مجاعة من شعب م َّتحد يف مصريه‬ ‫ى‬ ‫أن ُيدث‬ ‫[له]‪« ،‬الوجود»‪ ،‬الذي ال يمكن ْ‬
‫و«مهمته [العرق َّية]»‪ .‬يف ندوة له يف العام ‪ 1934 - 1933‬وهي غري منشورة‪ ،‬مل‬ ‫َّ‬ ‫التارخيي‬
‫ه‬
‫متأصلة‪ ،‬كام بالنسبة إ ىل ه‬
‫كل الناز هيني‪ ،‬يف وحدة الدم والعرق‪،‬‬ ‫ف هايدغر َّ‬
‫أن هذه الوحدة‬ ‫ُخي ِ‬
‫ه‬
‫ِ‬
‫بـفوهررهم‪.‬‬ ‫ويف العالقة احل َّية للشعب‬

‫(‪ )1‬الكائن البرشي‪.‬‬


‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪535‬‬

‫يفرض ْ‬
‫أن نتجاوز‬ ‫ُ‬ ‫املسألة تتع َّلق بالنضال لتأكيد الذات(‪ )1‬يف وجه اِّليمنة العامل َّية‪ .‬هذا‬
‫شبه واقع َّي ِة «فلسفة الوجود»‬
‫إن ما كان يقوله غوترأندارس عن ِ‬ ‫زمن الـ أنا إ ىل زمن الـ نحن‪َّ .‬‬
‫ف يف «الكينونة والزمن» ال يعرف اجلوع‪.‬‬ ‫إن الوجود الذي ُو ِص َ‬
‫يالمس الصواب‪َّ :‬‬
‫ُ‬ ‫ِّلايدغر‪،‬‬
‫احلب أيضا‪ .‬كل ما بقي له من اخلصوص َّية هو املوت‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كام أشار ماسكولو‪ ،‬هو ال يعرف‬
‫«األرقى واألصعب»‪ ،‬إ َّنه موت‬
‫ى‬ ‫بالنسبة إ ىل الش َّبان األملان املنضوين حتت الناز َّية‪ ،‬هو املوت‬
‫التضحية‪[ Opfer ،‬الضح َّية]‪ ،‬الذي لطاملا أشا َد به هتلر يف كتابه ‪Mein Kampf‬‬
‫إل هايدغر يف مناسبة تأبني الناز هيني لـ ألربت ليو شالغرت الذي مات‬
‫[كفاحي]‪ ،‬وبالنسبة ى‬
‫شهيدا؛ بالنسبة إ ىل األعداء الذين ينبغي طردهم من بني الشعب‪ ،‬هي اإلبادة الشاملة التي‬
‫كان هايدغر يدعو ِّلا علنا يف دورته يف شتاء العام ‪.1934 - 1933‬‬
‫عل النفس البرش َّية‪ .‬يف‬
‫يوجد يف كتاب هايدغر حلظات كثرية يف اسرتاتيج َّيته للقضاء ى‬
‫عل امتالك حقيقي للنفس البرش َّية من خالل‬ ‫ندوة غري منشورة ‪ُ ،1934 - 1933‬يض ى‬
‫حل َك ِم ا ُ‬
‫حل هر‪ ،‬ولكنَّهام‬ ‫«احلر َّية» و«القرار» مل تعودا تعنيان استخدام ا َ‬
‫ّ‬ ‫القيادة اِّلتلر َّية‪ .‬مفردتا‬
‫لـفوهررهم‪ .‬وهكذا دارت كل مفردات الفلسفة إ ىل نقيضها‪ .‬يف‬ ‫ِ‬ ‫تعنيان والء للشعب التا هم‬
‫قوة‬
‫عل اإلفراط يف َّ‬
‫دورات عن نيتشه‪ ،‬حتت اسم «امليتافيزيقا» كان تعريف شمول َّية املوجود ى‬
‫تم حتديده‪ .‬أ َّما بالنسبة إ ىل كلمة «الذات َّية»‪ ،‬فهي ال تعني الـ أنا‪ ،‬ولكنَّها تعني‬
‫الوجود هو ما َّ‬
‫عل الذات للمجتمع وللشعب وللعرق الذي َّ‬
‫تواله هايدغر متاما يف دروسه حول‬ ‫التأكيد ى‬
‫نيتشه كام يمكن ْ‬
‫أن نقرأها اليوم يف ‪[ Gesamtausgabe‬األعامل الكاملة] ‪ -‬من دون‬
‫األقىص للذات َّية‬
‫ى‬ ‫يرى َّ‬
‫أن اإلنجاز‬ ‫املتعمد يف طبعة العام ‪ ،- 1961‬لدرجة َّ‬
‫أن هايدغر ى‬ ‫َّ‬ ‫التزييف‬
‫تبقى النصوص التي ال ُحت َتمل أكثر من غريها هي ندوات برام يف‬
‫يكمن يف اختيار العرق َّية! ى‬
‫َ‬
‫الزراعة اآلل َّية وغُ َرف الغاز‪ ،‬وطرح ‪ -‬بالنسبة‬ ‫عل املخ َّطط نفسه‬
‫العام ‪ ،1949‬وضع هايدغر ى‬
‫إ ىل ضحايا خم َّيامت اإلبادة ‪ -‬نقاش إمكان َّية املوت نفسها‪ .‬املسألة ال تتع َّلق ‪ -‬كام حتاول‬
‫أن جتعله مقبوال ‪ -‬باستنكار الظروف الوحش َّية إلعدامهم‪ ،‬ولكنَّها‬ ‫التفسريات التعديل َّية ْ‬
‫«ُيِب جوهر‬ ‫أن فقط الذين يمكنهم املوت هم ُأولئك الذين جوهرهم ُ‬ ‫تتع َّلق بالتأكيد ى‬
‫عل َّ‬

‫‪(1) Selbstbehauptung‬‬
‫‪ ❖ 536‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫َّ‬
‫وجتذر يف ما‬ ‫منأى من الوجود»‪ .‬تواصل التمييز‬ ‫املوت»‪ ،‬والذين من خالل اجلوهر هم «يف ى‬
‫اإلنساين‬
‫ه‬ ‫النهائي»‪ .‬هذا ما ُتطلِقون عليه الكر َه للظرف‬
‫ه‬ ‫ه‬
‫«احلل‬ ‫هو أبعد من تطبيق تارخيي لـ‬
‫طلقت‬
‫ُ‬ ‫يسكن هايدغر ح َّت ىى ما بعد العام ‪ .1945‬تبلغ إراد ُة اإلبادة ذروهتا يف ما ُأ‬
‫ُ‬ ‫استمر‬
‫َّ‬ ‫الذي‬
‫عليه اإلنكار َّية األنطولوج َّية‪.‬‬
‫ميشال كوهني ‪ -‬حليمي‪ :‬عندما نتساءل ‪ -‬كام تفعلون ‪ -‬عن مسؤول َّية هايدغر املف هكر‪،‬‬
‫بالتحري عنها يف ‪Sein‬‬ ‫ه‬ ‫أي عن تسوية خمزية بني الفلسفة اِّلايدغر َّية والناز َّية والتي ُب ِد َئ‬
‫‪[ und Zeit‬الكينونة والزمن] ‪ ،1927‬نواج ُه الكثري من األسئلة‪ .‬بالتأكيد املسألة ال تتع َّلق‬
‫وفق حركة جيل‬
‫حتركت َ‬
‫أن الناز َّية َّ‬ ‫أبدا بتربئة ه‬
‫كل فكرة قبل العام ‪ ،1933‬وال باعتبار َّ‬
‫عفوي‪ ...‬ولكن ر َّبام جيب حتديد ما تقصدونه من «املبادئ اِّلتلر َّية»‪ ،‬عند وجود مثل هذه‬
‫املبادئ يف أساس ‪[ Sein und Zeit‬الكينونة والزمن]‪ .‬كان هابرماس قد حدَّ د « َم ْذ َه َب َة‬
‫إل ما أبعد من ذلك‪ ،‬أفضل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اِّلايدغري بالعودة إ ىل العام ‪ ،1929‬وأنتم ُترجعوّنا ى‬
‫ّ‬ ‫الفكر»‬
‫أنتم ال تدافعون عن فرض َّية «ا َمل ْذهبة» هذه ولكن عن تلك الراديكال َّية احلرف َّية للترشيب‬
‫املبدئي‪ .‬إذا ينبغي رشح شيئن ورشحهام بطريقة متالزمة‪ :‬كيف مت َّكن فالسفة حذرين جدًّ ا‬
‫ه‬
‫مثل ك‪ .‬لويت وإ‪ .‬ليفيناس من االستمرار بتربئة الـ ‪[ Sein und Zeit‬الكينونة والزمن]‪،‬‬
‫ح َّت ىى بعد صياغة أصعب التشخيصات عن الفيلسوف امللتزم بالناز َّية؟‬
‫مواقف إيامنويل ليفيناس وكارل لويت خمتلفة جدًّ ا‪ .‬يبدو من التناقض‬
‫ُ‬ ‫إيامنويل فاي‪:‬‬
‫االستناد إل ليفيناس لصالح هايدغر‪ .‬بالطبع ليفيناس مل ُخي ِ‬
‫ف أبدا أ َّنه كان يكن نوعا من‬ ‫ى‬
‫نرى ما الذي أعجبه يف هذا الكتاب‪.‬‬ ‫اإلعجاب بـ «الكينونة والزمن»‪ .‬ولكن جيب ْ‬
‫أن ى‬
‫كتاب ثقيل وغري ش ّفاف‪ ،‬ذو طريقة إعداد سكوالستيك َّية [مدرسان َّية] ُتذك ُهر‬
‫ٌ‬ ‫الكينونة والزمن‬
‫الالهوت َّية الدرسان َّية يف فريبورغ‪ ،‬كام أ َّن‬
‫غالبا بأبحاث كارم بريغ الذي تابع هايدغر دروسه َّ‬
‫كرسها‬
‫تبقى الدراسة التي َّ‬
‫أن يكون بطيئا وصعبا‪ .‬ى‬ ‫استيعاب مثل هذا الكتاب ال يمكن َّإال ْ‬
‫اهتم باألوصاف األُو ىل للتحليل‬
‫َّ‬ ‫ليفيناس يف العام ‪ 1932‬عند عتبة هذا املؤ َّلف‪ .‬لقد‬
‫املركزي للتارخيان َّية‪ ،‬مع تصور مصري أصيل ُأعيدَ ى‬
‫إل‬ ‫ه‬ ‫الوجودي‪ ،‬ولكن مل يقل شيئا عن القسم‬
‫ه‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪537‬‬

‫ّى‬
‫تتجل الدنيو َّية(‪ )1‬ج هيدا يف‬ ‫اِّلايدغري للتجذر والرتبة‪،‬‬
‫ه‬ ‫جمتمع الشعب (ص ‪ )74‬والسحر‬
‫التجميع الفقر َة األخرية حول التارخي َّية (ص‬
‫ُ‬ ‫جتميع اقتباسات كونت يورك حيث ُيشك ُهل هذا‬
‫وسعه ليفيناس احتجاجا إثن ًّيا‬
‫والالمتناهي الذي َّ‬ ‫‪ .)77‬فضال عن ذلك ُيشك ُهل ُ‬
‫فكر اآلخر َّ‬
‫ضدَّ أولو َّية األنتولوجيا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫عندما فهم ليفيناس ما ُيم هث ُله هايدغر واقع ًّيا‪ ،‬أ َّلف بضع صفحات هي‬
‫أقسى ما ُكت َ‬
‫ب عنه‪.‬‬ ‫ى‬
‫إل ما قاله يف العام ‪ ،1957‬يف الفلسفة والفكرة َّ‬
‫والالمتناهي هايدغر موجود كـ «نتيجة‬ ‫انظر ى‬
‫لتقليد طويل من األنَفة والبطولة واِّليمنة والقسوة»‪ .‬إ َّنه «يدعم نظا َم سلطة أكثر الإنسان َّية‬
‫من املكننة»‪ ،‬و«العبادة اإلقطاع َّية حيث الناس عبيد لألسياد واألعيان الذين يأمروّنم»‪ ،‬التي‬
‫تستند إليها ‪ -‬بحسب قول ليفيناس ‪ -‬القوم َّية االشرتاك َّية‪َّ .‬إّنا « ُأمومة األرض التي ُحتده د‬
‫«الديكتاتور َّية السياس َّية» و«احلرب»‪ .‬يف األساس هذا التشخيص النقدي بعيدٌ عن تربئة‬
‫«الكينونة والزمن»‪َّ ،‬‬
‫ألن العقيدة اِّلايدغر َّية للتأصيل هي بالفعل يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫كرسها ليفيناس لـ «هايدغر وللهايدغر هيني» يف «هايدغر‪ ،‬غاغارين ونحن»‬ ‫والصفحات التي َّ‬
‫أظهر‬ ‫رشت يف س هتينات القرن العرشين حول هايدغر‪:‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫هي من بني األكثر وضوحا التي ُن َ‬
‫مؤ هلفها «قسوة» «انقسام البرش َّية إ ىل ُسكّان أصل هيني وأجانب»‪ ،‬التي ُتؤ ّدي إليها ُأسطورة‬
‫األقسى أيضا‪ ،‬ر َّبام أل َّنه كان‬
‫ى‬ ‫النقدي هو‬
‫ه‬ ‫موقف كارل لويت‬
‫ُ‬ ‫هايدغر عن الطبيعة والكينونة‪.‬‬
‫يعرف تاريخ هايدغر الطويل وقد تو َّغل ج هيدا يف عقيدة الكينونة والزمن‪ .‬لويت ال ُي ه‬
‫ربئ هذا‬
‫عل غرار ما أ َّكده يف مقالته‬
‫نصه يف العام ‪( 1940‬حيات يف أملانيا‪ )...‬ى‬
‫الكتاب أبدا‪ُ .‬يؤكهدُ يف ه‬
‫لدى‬
‫عل فلسفة الوجود ى‬ ‫التي صدرت يف «العصور احلديثة» عن «اآلثار السياس َّية املرت هتبة ى‬
‫طور يف الكينونة والزمن هو الذي دفع‬ ‫التارخيي املُ َّ‬
‫ه‬ ‫عل َّ‬
‫أن تصور الوجود‬ ‫هايدغر» (‪ ،)1946‬ى‬
‫هايدغر لاللتزام باحلركة اِّلتلر َّية‪ .‬من جهة ُأ ى‬
‫خرى‪ ،‬هذا ما أ َّكده هايدغر نفسه يف روما يف‬
‫عل سؤال لويت‪ .‬استنتج هذا األخري نتيجة منطق َّية عندما أعلن ‪ -‬متاما‬
‫العام ‪ ،1936‬يف الر هد ى‬
‫الفعيل لصالح قرار‬
‫ه‬ ‫بالنسبة إ ىل الكينونة والزمن ‪َّ -‬‬
‫أن «تطبيق املامرسة السياس َّية‪ ،‬يف االلتزام‬

‫‪(1) Bodenständigkeit‬‬
‫‪ ❖ 538‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ربئ أو يدين يف احلقيقة النظر َّية الفلسف َّية التي كانت بمنزلة األساس له» (اآلثار‬
‫حمدَّ د‪ُ ،‬ي ه‬
‫عي إدانة الكينونة والزمن التي‬ ‫السياس ّية‪ ،‬ص ‪ .)344‬باختصار ُيقده ُر لويت َّ‬
‫أن من الرش ه‬
‫السيايس ِّلايدغر يف الناز َّية‪ .‬يبدو ل‬
‫ه‬ ‫عل ضوء االلتزام‬
‫ظهرت يف العام ‪ ،1933‬وذلك ى‬
‫لدى لويت الفتا‪ ،‬أكان حتديدا يف مراسالته مع هايدغر يف العام ‪ 1920‬ويف‬
‫وضوح النقد ى‬
‫ُ‬
‫تشخيصه عن الراديكال َّية وسلطة القرار ملؤ هلف الكينونة والزمن الذي أنا جز ٌء منه (انظروا‬
‫خرى‪ُ ،‬أشري إ ىل َّ‬
‫أن َفهم الكينونة والزمن‬ ‫إ ىل بداية القسم ‪ ،1‬ص ‪ .)21 - 19‬من جهة ُأ ى‬
‫يفرتض سياقا مل ُي ِعده أحد يف فرنسا‪ ،‬ويمر من خالل دراسة الروابط بني هايدغر وبركر‬
‫عل سبيل املثال ينبغي التذكري َّ‬
‫بأن قالب «الكينونة والزمن» هو تقرير بقي‬ ‫وكالب وروثاكر‪ .‬ى‬
‫غري منشور‪ ،‬للمراسالت بني دلتاي(‪ )1‬والكونت يورك التي ُن ِرشت يف العام ‪ 1923‬يف‬
‫مقررا ملج َّلة‬ ‫جمموعة يديرها أريك روثاكر‪ .‬كان التقرير باإلضافة إ ىل ذلك من ناحية ُأ ى‬
‫خرى ه‬
‫أصدرها روثاكر حديثا‪ .‬كان هايدغر قد أخذ تصوره من التارخيان َّية والتجذر يف الواقع‬
‫(الدنيو َّية) التي ال خيفي يورك مفهومها املعادي للسام َّية‪ .‬يف هذا الصدد ُتش هكل املحارضات‬
‫نونَت «الرصاع احلال من أجل رؤية للعامل» التارخيي‪ ،‬عالمة‬ ‫التي ُألقيت يف العام ‪ 1925‬و ُع ِ‬
‫فارقة رئيس َّية‪ .‬صدرت هذه املحارضات َّ‬
‫مؤخرا برتمجة ج هيدة لـ جان كلودجينز‪ .‬لألسف مل‬
‫تظهر قض َّيتها أبدا يف التعريف الذي قدَّ مه النارش‪ ،‬مل ُي ِقل يش ٌء عن فكر الكونت يورك وال‬
‫عل الغالف‪،‬‬
‫إن عنوان املحارضات مل ُي ْس َت َعدْ ى‬ ‫عن العالقات بني هايدغر وروثاكر‪ .‬ح َّت ىى َّ‬
‫نرش‬ ‫نرش مراسالت هوسلر ‪ -‬دلتاي يف املج َّلد نفسه‪ ،‬القضايا احلقيق َّية‪ .‬كان جيب ْ‬
‫أن ُت َ‬ ‫وأخفى ُ‬
‫ى‬
‫يتم حتليلها يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫أن َّ‬ ‫عل ّ‬
‫األقل ْ‬ ‫مراسالت دلتاي ‪ -‬يورك‪ ،‬أو ى‬
‫ربطت يف كتاب دراس َة املحارضات بـ دراسة الكينونة والزمن‪ .‬أنا مل أنطلق من‬
‫ُ‬ ‫وهكذا‬
‫الكتاب كنوع من املَعامل الفلسف َّية املنفصلة‪ ،‬ولكن‬
‫َ‬ ‫يت ْ‬
‫أن ال يعدَّ القارئ هذا‬ ‫العام ‪ ،1927‬متنَّ ُ‬
‫كمرحلة يف تأكيد «تارخي َّية» الوجود‪ ،‬الذي سيدفع هبايدغر لاللتزام علنا بتأييد هتلر يف العام‬
‫سوى يف‬
‫ى‬ ‫احلقيقي ال ُيصل‬
‫َّ‬ ‫الالحقة‪ُ .‬يؤكهد يف الكينونة والزمن َّ‬
‫أن الوجود‬ ‫‪ 1933‬والسنوات َّ‬

‫‪(1) Delthey‬‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪539‬‬

‫وحدة مصري شعب اختار أبطا َله‪ .‬يكون ذلك قريبا جدًّ ا من مفاهيم وحدة املصري ووحدة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عل‬
‫ب و ُنرش هبدف احلصول ى‬ ‫الشعب اللتني ها أساس الناز َّية‪ .‬يف هذا الكتاب الذي ُكت َ‬
‫ولكن ما قاله كان‬
‫َّ‬ ‫كريس؟ هورسل يف فريورغ‪ ،‬مل يتم َّكن هايدغر من ْ‬
‫أن يقول فيه املزيد‪،‬‬
‫كاف ًّيا‪.‬‬
‫أنا ال أعتقد أ َّنه كان هنالك نقطة حتول يف العام ‪ .1929‬هي ُأسطورة ابتدعها من بوغلر‬
‫ولألسف ر َّددها هابرماس‪ ،‬من دون تدعيمها بالتحليل الدقيق‪ .‬بالتأكيد انفتح هايدغر أكثر‬
‫عل املفاهيم األساس َّية للميتافيزيقا (بام يف ذلك الصفحة ‪38‬‬
‫يف دورة العام ‪ 1930 - 1929‬ى‬
‫السيايس» جلمهور َّية فايامر)‪ ،‬ويف نقاش دافوس مع كاسرييه‪ .‬يف‬
‫ه‬ ‫الشهرية حيث ندَّ د بـ «التيه‬
‫إل‬
‫األسايس برأيه‪ ،‬تدل رسال ُته يف ‪ 2‬ت ‪/1‬أكتوبر ى‬ ‫َّ‬ ‫استمر بإخفاء ما ُيشكهل‬
‫َّ‬ ‫الوقت نفسه‬
‫عل َّ‬
‫أن معاداته للسام َّية الراديكال َّية‪ ،‬ونضاله ضدَّ ما ال يرت َّدد بتسميته‬ ‫املستشار شوارير ى‬
‫املعنى الواسع»‪ ،‬يبقيان‬
‫ى‬ ‫«باملعنى الض هيق كام يف‬
‫ى‬ ‫«التهويد املتزايد» للحياة الروح َّية األملان َّية‪،‬‬
‫عل سبيل‬‫يترصف هايدغر كأعضاء بعض «الدوائر العرق َّية»‪ُ ،‬أف هكر ى‬ ‫َّ‬ ‫رتين إ ىل حد كبري‪.‬‬
‫مست َ‬
‫املثال بـ «‪[ »Bund des Artamanen‬رابطة أرتامانن] التي يمدحها جونغر ‪ -‬ومنها‬
‫انطلق هيملر وداريه ‪ -‬والتي ُّتفي عداء للسام َّية القاتلة‪ ،‬حتت ستار منح لقب الترشيف من‬
‫خالل العمل والعودة إ ىل األرض‪.‬‬
‫مهام كان عليه األمر‪ ،‬اليوم ونحن نمتلك دروس العرق َّية للعام ‪ ،1934 - 1933‬مل يعد‬
‫عل‬
‫إل تالميذه‪ .‬نراه ى‬
‫بإمكاننا جتاهل التفسري الذي قدَّ مه هايدغر نفسه لـ «الكينونة والزمن» ى‬
‫اِّلم ‪ -‬التعبري املركزي أكثر يف «الكينونة والزمن» ‪ -‬كـ‬
‫سبيل املثال ُيقده م يف العام ‪َّ 1934‬‬
‫«رشط اإلمكان َّية كي يتم َّكن اإلنسان ْ‬
‫أن يكون ذاتا سياس َّية» (‪[ GA‬األعامل الكاملة]‬
‫‪ ،)218 ،37/36‬كل هذا يف درس حتدَّ ث فيه عن «هيمنة االحتامالت األساس َّية جلوهر‬
‫األملاين األصيل» (م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪ُ .)89‬يؤ هكد هايدغر يف ذلك التاريخ ‪ -‬بعد سنة ى‬
‫عل‬ ‫ه‬ ‫العرق‬
‫عل «أ َّننا أنفسنا»‪ ،‬أي الشعب األملاين‬
‫وصول احلركة القوم َّية االشرتاك َّية إ ىل السلطة ‪ -‬ى‬
‫نتمسك «بعزيمة أكرب أيضا» مم َّا كانت عليه يف السابق‪،‬‬
‫املنضوي حتت الـ فوهرر َّية اِّلتلر َّية‪َّ ،‬‬
‫«تم التعبري عنها يف كتاب الكينونة والزمن»‪.‬‬
‫بأصل الفلسفة اليونان َّية! هذه العزيمة كام حدَّ دها َّ‬
‫‪ ❖ 540‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن تظهر عرب التاريخ» وتتع َّلق بـ «التاريخ الروحي‬


‫أن املسألة هي «عقيدة جيب ْ‬
‫وأضاف َّ‬
‫لشعبنا» (م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.)255‬‬
‫هي ليست فكرة فلسف َّية تلك التي تكمن يف عمق كتاب هايدغر‪ ،‬ولكنَّها اعتقاد عرقي‬
‫األنتولوجي لشعب ولألرومة التي توجد فيه‪ .‬يف واقع األمر القراءة املتأ هنية لفقرات‬
‫ه‬ ‫بالتفوق‬
‫الكينونة والزمن حول املوت والتارخيان َّية ‪ -‬مع مدحها للتضحية والختيار األبطال واملصري‬
‫عل َّ‬
‫أن هذه العقيدة كانت موجودة مسبقا يف‬ ‫احلقيقي للوجود يف وحدة الشعب ‪ -‬تدل ى‬
‫ه‬
‫الكتاب يف العام ‪.1927‬‬
‫م‪ .‬ك‪ - .‬خ‪ :‬السؤال الثاين «املالزم»‪ ،‬يبدو رضور ًّيا لتحديد التعريف املنفرد واملُجده د‬
‫الذي الذي قدَّ َمته للناز َّية كـ «‪[ »Bewegung‬حركة]‪ ،‬أكثر منها كإيديولوج َّية من أجل‬
‫وسع هذه الفكرة؟ هذا‬ ‫اخلاص بالـ «الكينونة والزمن»‪ .‬أيمكنك ْ‬
‫أن ُت ه‬ ‫ه‬ ‫فهم أفضل لتشخيصك‬
‫التوسيع يبدو ل رضور ًّيا إلزالة بعض االلتباسات‪.‬‬
‫إ‪ .‬ف‪ :‬هذا التعريف ‪ -‬يف الواقع ‪ -‬ليس جديدا‪ ،‬هو األُسلوب الذي يشري به النازيون ى‬
‫إل‬
‫أن ينعكس يف البنية‬ ‫املعنى الكيل للناز َّية ال يمكن ْ‬
‫ى‬ ‫أنفسهم‪ ،‬وهايدغر ال ُخيالف القاعدة‪.‬‬
‫للشك ْ‬
‫بأن نجد يف اِّلتلر َّية عددا قليال من‬ ‫ه‬ ‫الفوق َّية لـ «إيديولوجيا»‪ ،‬ح َّت ىى لو كان ال جمال‬
‫الثوابت ‪ -‬بدءا من معاداة السام َّية ‪ -‬التي يمكن تشبيهها متاما بنوع من نواة لإليديولوج َّية‪.‬‬
‫أن يبقيا مسترتين‪ ،‬انظر إ ىل الِّس الذي‬‫مؤسسة إبادة مبدؤها وّنايتها جيب ْ‬ ‫يف الواقع الناز َّية َّ‬
‫النهائي‪ .‬ينبغي يف هذه الروح َّية نفسها فهم كالم هايدغر عن الِّس‪ ،‬الباطن‬
‫ه‬ ‫ُييط بتطبيق ه‬
‫احلل‬
‫عام «ارتفع من األعامق» يف عرشينات القرن العرشين‪ .‬قدرة التلميح لـ‬
‫اخلفي والظاهر‪ ،‬أو َّ‬
‫ه‬
‫«احلركة» ملفتة‪ .‬انظروا إ ىل خطابات الـفوهرر عن السالم‪ ،‬يف الوقت الذي مل يكن ُيلم فيه‬
‫عرب هايدغر عنه يف رسالة مل‬
‫سوى بإعادة تسليح أملانيا بشكل كثيف‪ .‬وبعد العام ‪ ،1945‬كام ُي ه‬
‫ى‬
‫وضح فيها القول املأثور لـ ريفارول‪« ،‬احلركة» تستمر يف «السبات»‪ ،‬صفاء‬ ‫إل جونغر ُي ه‬‫نرش ى‬‫ُت َ‬
‫الطمأنينة الكاذبة‪ ،‬التهدئة بانتظار إله جديد‪ ،‬ليسا ّ‬
‫أقل رعبا بالنسبة إ ىل املستقبل من خطابات‬
‫العام ‪ 1933‬األكثر عدائ َّية‪.‬‬
‫السلبي بعنوان «تأمالت يف امليتافيزيقا»‪،‬‬
‫ه‬ ‫م‪ .‬ك‪ - .‬خ‪ :‬يف السلسلة األخرية للديالكتيك‬
‫والس َّيام يف املقطع التال‪:‬‬
‫مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ ‪541‬‬

‫للفن وللعلوم‬
‫الفلسفي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫حيدث هذا يف احلضن نفسه ِّ‬
‫لكل هذا العرف‬ ‫َ‬ ‫أمكن أن‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫بأن العرف والروح مل يصبحا قادرين عىل مالمسة الناس‬
‫التنوير َّية‪ ،‬فهذا ال يعني فقط َّ‬
‫وتغيريهم‪.‬‬
‫ت‪ .‬كل ثقافة َت َلت‬
‫املنمقة باالكتفاء الذا ه‬
‫يف هذه املقاطع نفسها يكمن الكذب يف املطالبة ه‬
‫سوى كومة‬
‫ى‬ ‫أوشفيتز [معسكر أوشفيتز لالعتقال واإلبادة]‪ ،‬بام يف ذلك نقدها الِّسيع‪ ،‬ليس‬
‫جرى من دون مقاومة يف أثناء عبورها‪ ،‬أصبحت‬
‫ى‬ ‫من القاممة‪ .‬من خالل ترميم نفسها بعد ما‬
‫هذه اإليديولوج َّية قو َّية بشكل كامل منذ ْ‬
‫أن سمحت لنفسها ‪ -‬يف أثناء معارضتها للوجود‬
‫إن َم ْن ُيرافع‬‫اجلسدي‪َّ .‬‬
‫ه‬ ‫املادي ‪ -‬بإعطائه الضوء الذي حرمه منه انفصال الروح والعمل‬
‫ه‬
‫يتحول إ ىل متعاون‪ ،‬يف حني أ َّن َم ْن يمتنع‬
‫َّ‬ ‫عل ثقافة مذنبة بشكل جذري ومتهالكة‬
‫للحفاظ ى‬
‫عن الثقافة يساهم فورا باِّلمج َّية التي َّ‬
‫تتكشف الثقافة عنها‪ .‬ح َّت ىى الصمت ال خيرج عن هذه‬
‫سوى بتأصيل عجزه‬ ‫ى‬ ‫الدائرة‪ .‬إ َّنه ال يقوم ‪ -‬من خالل استغالله حلالة احلقيقة املوضوع َّية ‪-‬‬
‫[مستوى] الكذب»‪ ،‬أدورنو ُيس هلمنا معضلة‬
‫ى‬ ‫مرة ُأ ى‬
‫خرى هذه احلقيقة إ ىل‬ ‫الشخيص‪ ،‬مق هلصا َّ‬
‫ه‬
‫امللحة للخروج منها‪ .‬كيف ُحتده د حتليل كتابك بالنسبة إ ىل هذه اللفتة‬
‫َّ‬ ‫يائسة مع احلاجة‬
‫األدورنو َّية املزدوجة؟‬
‫عل العكس‪ .‬أدورنو‬ ‫ّ‬
‫للتخيل عن عمل نقد الفكر‪ ،‬بل ى‬ ‫النص دعوة‬
‫أ‪ .‬ف‪ :‬أنا ال أعد هذا َّ‬
‫السلبي ‪ -‬انغمس يف النقد‬‫ه‬ ‫نفسه ‪ -‬يف «مصطلحات األصالة» كام هو احلال يف الديالكتيك‬
‫ِ‬
‫ب عن هايدغر‪ .‬بعد قولنا هذا ال يمكننا عبور الناز َّية من‬ ‫األكثر حسام واألكثر تبرصا الذي ُكت َ‬
‫عرب عنه أدورنو‪ .‬ولكنهني ال أعتقد أ َّنه‬ ‫الالحمدود‪ .‬يبدو َّ‬
‫أن هذا هو ما ُي ه‬ ‫دون معرفة اليأس َّ‬
‫اِّلايدغري ْ‬
‫وأن‬ ‫ه‬ ‫ينبغي علينا مع ذلك ‪ -‬كام كانت احلال مثال مع دريدا ‪ -‬الوقوع يف ه‬
‫الفخ‬
‫ُن َح هم ُل الفلسفة نفسها‪ ،‬أو «امليتافيزيقا الغرب َّية» كام َّ‬
‫فِّسها هايدغر مسؤول َّي َة االنحرافات‬
‫واحلس‬
‫ه‬ ‫عل عكس انحراف الفلسفة وتدمري الفكر‬ ‫االستبداد َّية يف القرن العرشين‪َّ .‬إّنا تنشأ ى‬
‫عل وجه التحديد هو ُأنموذج هايدغر‪.‬‬ ‫يبقى ُأنموذجه األكثر تطرفا ى‬‫اإلنساين الذي ى‬
‫ه‬

‫* * *‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر‬
‫(وحده اهلل بإمكانه أنْ مينحنا النجاة)‬
‫(‪)2()1‬‬

‫عل‬
‫عل أعاملك الفلسف َّية من خالل اإلضاءة ى‬ ‫دير شبيغل‪ُ :‬أستاذ هايدغر‪ ،‬الحظنا مرارا تعتيام ى‬
‫وضحها‪ ،‬إ َّما أل َّنك كنت‬
‫بعض األحداث من حياتك التي مع َّأّنا مل تدم طويال‪ ،‬فإ َّنك مل ُت ه‬
‫شديد الغرور‪ ،‬أو أل َّنك مل جتد فيها ما يستحق التعليق‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬تعني عام ‪1933‬؟‬
‫نتوجه من هناك لطرح‬
‫ثم َّ‬ ‫دير شبيغل‪ :‬نعم قبل وبعد‪ ،‬نريد ْ‬
‫أن نضعها يف سياق أوسع‪ّ ،‬‬
‫عل‬
‫مهمة بالنسبة لنا‪ ،‬مثل‪ :‬ما هي إمكانات الفلسفة يف التأثري ى‬
‫بعض األسئلة التي تبدو َّ‬
‫الواقع‪ ،‬بام يف ذلك الواقع السيايس؟ وهل احتامل التأثري ما زال موجودا أصال؟ وإذا كان‬
‫فمم يتش َّكل؟‬
‫األمر كذلك‪َّ ،‬‬
‫مهمة‪ .‬هل بمقدوري اإلجابة عنها ك هلها؟ لكن دعني أبدأ بالقول‪:‬‬
‫هايدغر‪ :‬هذه أسئلة َّ‬
‫أتول رئاسة اجلامعة‪ .‬يف شتاء ‪- 1932‬‬ ‫بأي حال ناشطا سياس ًّيا قبل ْ‬
‫أن ّ ى‬ ‫ّإين مل أكن ه‬
‫‪1933‬كنت يف إجازة وقضيت معظم وقتي يف مكتبي‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬إذا كيف رصت رئيسا جلامعة فرايبورغ(‪)3‬؟‬
‫ب جاري فون مولندورف(‪ ،)4‬وهو ُأستاذ‬ ‫ِ‬
‫األول من عام ‪ ،1932‬ان ُتخ َ‬
‫هايدغر‪ :‬يف كانون َّ‬

‫(‪ )1‬املصدر‪ :‬جم َّلة االستغراب‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬السنة الثانية‪1437 ،‬هـ‪ ،‬خريف ‪ ،2016‬ص ‪.448 - 422‬‬
‫‪Der Spiegel, 31 mai 1976, Nur noch ein Gott kann uns retten, pp. 193 - 219 link:‬‬
‫‪https://www.spiegel.de/spiegel/print/d-41238349.html.‬‬
‫عيل العسييل‪ ،‬مراجعة د‪ .‬جاد مقديس‪.‬‬
‫(‪ )2‬ترمجة‪ّ :‬‬
‫‪(3) Freiburg‬‬
‫(‪ )4‬كان رئيسا جلامعة فرايبورغ يف السنة األكاديم َّية ‪.Wilhelm von Möllendorff.34.1933‬‬
‫‪ ❖ 544‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يف الترشيح‪ ،‬رئيسا للجامعة‪ .‬وكام جتري العادة يف جامعة فرايبورغ‪ ،‬رئيس اجلامعة يتس َّلم‬
‫منصبه يف اخلامس عرش من نيسان‪ .‬خالل الفصل الدرايس الشتوي سنة ‪1933 - 1932‬‬
‫إل‬
‫الطالب‪ ،‬التي كانت إ ىل حد ما تدعو ى‬ ‫حتدَّ ثنا مرارا عن وضع اجلامعة‪ ،‬وعن أوضاع ّ‬
‫فإن اإلمكان َّية الوحيدة الباقية هي ْ‬
‫أن‬ ‫عل األشياء َّ‬
‫اليأس‪ .‬كان رأيي‪ :‬بقدر ما أستطيع احلكم ى‬
‫نحاول إقامة توازن بني التطورات املقبلة وبني القدرات البنّاءة التي ما زالت حيو َّية‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬إذا أنت من أشار إ ىل َّ‬
‫أن هناك عالقة بني وضع اجلامعة األملان َّية والوضع‬
‫السيايس يف أملانيا عموما؟‬
‫جمرى الوقائع السياس َّية‪ ،‬بني كانون الثاين (يناير) وشباط‬
‫ى‬ ‫هايدغر‪ :‬بالتأكيد لقد تت َّبعت‬
‫(فرباير) ‪ ،1933‬وأحيانا كنت أحتدَّ ث عنها مع زمالء شباب أيضا‪ .‬لكن يف الوقت الذي‬
‫عل تفسري مك َّث ف للتفكري ما بعد السقراطي‪ ،‬ومع بداية الفصل الدرايس‬
‫كنت أعمل فيه ى‬
‫تول األُستاذ فون مولندورف منصب‬
‫إل فرايبورغ‪ .‬يف هذا الوقت بالذات ّ ى‬ ‫الصيفي عدت ى‬
‫أقل من ُأسبوعني بقليل مت َّت إقالته من‬‫رئيس اجلامعة يف اخلامس عرش من نيسان‪ .‬وبعد ّ‬
‫منصبه بأمر من وزير الثقافة يف بادن(‪ )1‬حينها ويكر(‪ .)2‬أ َّما سبب اإلقالة فيعود إ ىل َّ‬
‫أن‬
‫عرف باإلشعار املتع هلق باليهود يف اجلامعة(‪ ،)3‬وهذا سبب كان‬
‫مولندروف منع نرش إعالن ما ُي َ‬
‫ينتظره الوزير ه‬
‫الّتاذ القرار‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬كان فون مولندورف اشرتاك ًّيا ديمقراط ًّيا‪ .‬ماذا فعل بعد رصفه من اخلدمة؟‬
‫هايدغر‪ :‬جاءين يف يوم رصفه وقال‪« :‬هايدغر‪ ،‬اآلن عليك ْ‬
‫أن ّ ى‬
‫تتول إدارة اجلامعة»‪ .‬قلت‪:‬‬
‫ّإين ال أملك خربة يف اإلدارة‪ .‬لكن املدير السابق يف ذلك احلني سوور ح َّثني أيضا ى‬
‫عل‬ ‫(‪)4‬‬

‫الرتشح النتخابات رئيس اجلامعة؛ بسبب خطورة اإلتيان بمو َّظف عادي مديرا للجامعة‪.‬‬
‫إ ىل ذلك َّ‬
‫فإن الزمالء الشباب ‪ -‬الذين ناقشت معهم مسائل بنية اجلامعة لعدَّ ة سنوات ‪-‬‬
‫عيل بالطلبات من أجل ّ‬
‫تول اإلدارة‪ .‬لقد تأ َّنيت لوقت طويل‪.‬‬ ‫أحلوا َّ‬

‫‪(1) Baden‬‬
‫‪(2) Waker‬‬
‫‪(3) »See note 1 to Hermann Heidegger’s« Preface.‬‬
‫‪(4) Sauer‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪545‬‬

‫ويف النهاية أعلن ت بنفيس القبول باملنصب‪ ،‬لكن فقط من أجل مصلحة اجلامعة‪ ،‬وفقط‬
‫إذا ضمنت املوافقة التا َّمة والكاملة‪ .‬لكن الشكوك حول قدرات اإلدار َّية بقيت‪ .‬ويف صباح‬
‫يوم االنتخاب ذهبت إ ىل مكتب املدير وقلت لزمالئي فون مولندورف (الذي ُأقيل من‬
‫منصب املدير كان حارضا) واملدير األسبق سوور‪ :‬إ َّنني لن استطيع ّ‬
‫تول املنصب‪ .‬أجاب‬
‫الزميالن‪ :‬إ َّن التحضريات لالنتخابات قد ُأنجزت بطريقة ال تسمح ل بسحب ترشيحي‪.‬‬
‫تطورت عالقتك مع االشرتاك هيني‬
‫دير شبيغل‪ :‬بعد ذلك أعلنت جاهز َّيتك‪ .‬إذا‪ ،‬كيف َّ‬
‫القوميني؟‬
‫الطالب مع اثنني آخرين يف املكتب‬ ‫هايدغر‪ :‬يف اليوم التال لتعييني‪ ،‬جاءين مدير شؤون ّ‬
‫الذي َّاّتذته مركزا لإلدارة‪ ،‬وطلبوا ثانية تعليق اإلشعار املتع هلق باليهود‪ .‬رفضت‪ .‬خرج‬
‫التالميذ الثالثة مع مالحظة َّأّنم سوف ُيعلِمون قيادة ّ‬
‫الطالب القوم َّية بالرفض‪ .‬بعد أ ّيام‬
‫قليلة تل َّقيت ا هتصاال هاتف ًّيا من مكتب الت عليم العال يف القيادة العليا يف اجليش النازي من‬
‫قائد املجموعة الناز َّية الدكتور بومان(‪ .)1‬وأمر بنرش اإلشعار املشار إليه الذي ُن ِرش يف‬
‫أن أتو َّقع أ َّنني س ُأقال من منصبي أو ح َّت ىى إغالق‬
‫عيل ْ‬ ‫اجلامعات األُ ى‬
‫خرى‪ ،‬فرفضت‪ ،‬وكان َّ‬
‫عل مساعدة من وزير الثقافة يف بادن ِّلذا الرفض‪ .‬رشح‬
‫اجلامعة‪ .‬رفضت وحاولت احلصول ى‬
‫ل أ َّن ه ال يستطيع فعل يشء يعارض احلزب النازي‪ .‬مع ذلك مل أتنازل عن رفيض‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬هذا مل يكن معروفا هبذا الشكل من قبل‪.‬‬
‫وسميت الدافع األسايس الذي جعلني ُأ هقرر ّ‬
‫تول اإلدارة يف املحارضة‬ ‫َّ‬ ‫هايدغر‪ :‬سبق‬
‫االفتتاح َّية «ما هي امليتافيزيقا؟» التي ألقيتها يف فرايبورغ عام ‪« :1929‬جماالت العلوم‬
‫تتباعد‪ ،‬والطرائق التي تعالج فيها موضوعاهتا خمتلفة أساسا‪ .‬وهذه التعدد َّية املترشذمة‬
‫للحقول العلم َّية جتتمع اليوم من خالل املن َّظمة التقن َّية للجامعات وك ّل ّياهتا فقط‪ ،‬وتكتسب‬
‫املعنى فقط بسبب األغراض العمل َّية املوضوعة لألقسام‪ .‬لكن جذور العلوم يف‬
‫ى‬ ‫بعض‬
‫أساسها اجلوهري مل تعد موجودة»(‪ .)2‬ما حاولت فعله خالل فرتة ّ‬
‫تول اإلدارة بالنسبة‬

‫‪(1) Baumann‬‬
‫‪(2) What Is Metaphysics? trans. by David Farrell Krell،Basic Writings،ed. by David Farrell‬‬
‫‪Krell (New York: Harper & Row،1977) p. 96.‬‬
‫‪ ❖ 546‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ألوضاع اجلامعة (التي ما زالت يف حالة متدهورة ح َّت ىى اآلن) مرشوح يف خطاب ّ‬
‫تول‬
‫اإلدارة‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬نحاول اكتشاف كيف وإذا كانت هذه اجلملة التي أطلقتها عام‬
‫‪ 1929‬تتناسب مع ما قلته يف خطاب تو ّل يك املنصب كمدير سنة ‪ . 1933‬سنأخذ‬
‫«حر َّي ة أكاديميَّ ة» سوف تُ ف َق د من اجلامعة‬
‫ّ‬ ‫أسمى‬
‫ى‬ ‫مجلة واحدة من سياقها هنا‪« :‬إ َّن‬
‫احلر َّي ة ليست أصيلة فهي كانت سلبيَّ ة فحسب» (‪ .)1‬أعتقد أ نَّ ه‬ ‫ّ‬ ‫األملانيَّ ة؛ أل َّن هذه‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫األقل ‪ -‬عن بعض اآلراء التي ليست غريبة‬ ‫عل‬
‫عرب ‪ -‬ى‬‫ُي مك ننا الظن أ َّن هذه اجلملة تُ ه‬
‫عنك حتَّ ىى راهنا ‪.‬‬
‫«احلر َّية األكاديم َّية» كانت بأساسها سلب َّية‬
‫ّ‬ ‫عل موقفي‪َّ ،‬‬
‫ألن هذه‬ ‫هايدغر‪ :‬نعم ما زلت ى‬
‫بالكامل‪ ،‬التحرر من جمهود االنخراط يف التفكري والتأمل الذي حتتاجه الدراسة العلم َّية‪.‬‬
‫وضع يف سياقها‪ .‬عندها ي َّتضح ما‬ ‫اجلملة التي انتقيتها باملصادفة ال جيوز عزِّلا‪ ،‬بل جيب ْ‬
‫أن ُت َ‬
‫«احلر َّية السلب َّية»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أردت ْ‬
‫أن تفهمه بـ‬
‫دير شبيغل‪ :‬ج هيد‪ ،‬هذا مفهوم‪ .‬لكنَّنا نعتقد أ َّننا سمعنا ِّلجة جديدة يف خطاب تنصيبك‬
‫عندما تك َّلمت‪ ،‬بعد أربعة أشهر من تسمية هتلر مستشارا ألملانيا‪ ،‬حول «عظمة وجمد هذه‬
‫االنطالقة اجلديدة»(‪.)2‬‬
‫هايدغر‪ :‬نعم كنت مقتنعا بذلك أيضا‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل يمكنك رشح األمر قليال؟‬
‫هايدغر‪ :‬بِّسور‪ .‬يف الوقت الذي مل َأر فيه خيارا آخر‪ .‬ويف اإلرباك العا هم يف اآلراء وامليول‬
‫وخاصة اشرتاك َّية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫السياس َّية الثنني وثالثني حزبا‪ ،‬كان من الرضوري إجياد وجهة نظر وطن َّية‬

‫‪(1) Martin Heidegger،Die Selbstbehauptung der deutschen Universität (1933; Frankfurt:‬‬

‫‪Klostermann،1983) ،p. 15; an English translation،The Self.Assertion of the German‬‬

‫‪University ,is in this volume.‬‬

‫‪(2) Die Selbstbehauptung der deutschen Universität،p . 19 ;The Self. Assertion of the‬‬

‫‪German University ,p. 13 in this volume.‬‬


‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪547‬‬

‫أن ُأشري هنا ملثل واحد‪ ،‬وهو مقالة كتبها‬


‫خطى حماولة فريدريك نومان(‪ .)1‬ويمكن ْ‬
‫ى‬ ‫عل‬
‫ر َّبام ى‬
‫إدوارد شربنغر(‪ )2‬تتجاوز إ ىل حد كبري ما جاء يف خطاب(‪.)3‬‬
‫متى بدأت بالتعاطي بالشأن السيايس؟ كان االثنان وثالثون حزبا موجودين‬
‫دير شبيغل‪ :‬ى‬
‫قبل ذلك بكثري‪ .‬وكان هناك ماليني العاطلني عن العمل يف عام ‪.1930‬‬
‫تطورت يف «الكينونة‬ ‫هايدغر‪ :‬يف تلك الفرتة‪ ،‬كنت ما زلت مأخوذا باملسائل التي َّ‬
‫والزمن» (‪ )1927‬وبكتابات وحمارضات السنوات التي تلت‪ .‬تلك مسائل فكر َّية أساس َّية‬
‫ترتبط أيضا بطريقة غري مبارشة بمسائل وطن َّية واجتامع َّية‪ .‬وأنا ك ُأستاذ يف اجلامعة كنت ًّ‬
‫مهتام‬
‫تم التعبري عن هذا املجهود بعنوان‬
‫مهمة اجلامعة‪َّ .‬‬
‫معنى العلوم‪ ،‬وبالتال بتحديد َّ‬
‫ى‬ ‫أيضا بمسألة‬
‫خطاب «إثبات ذات اجلامعة»‪ .‬مل يكن يف حينه عنوانا خطرا‪ .‬لكن هل قرأه بتمعن ُأولئك‬
‫الذين شنوا محلة عليه‪ ،‬وهل ف َّكروا يف مضامينه ج هيدا‪ ،‬وهل فهموه من منطلق األوضاع‬
‫السائدة يف حينه؟‬
‫املستوى من االضطراب‪َ ،‬أال يبدو ذلك غري‬
‫ى‬ ‫دير شبيغل‪ :‬إثبات ذات اجلامعة‪ ،‬يف عامل هبذا‬
‫مناسب؟‬
‫سم ىى بالعلوم السياس َّية‪ ،‬التي سبق‬ ‫هايدغر‪ :‬ملاذا؟ «إثبات ذات اجلامعة» يقف ضدَّ ما ُي ّ‬
‫والطالب االشرتاكيون القوميون ينادون هبا‪ .‬كان ِّلذا العنوان معنى خمتلفا ك ّل ًّيا‬
‫ّ‬ ‫وكان احلزب‬
‫يتضمن‪ :‬العلم بام هو علم‪ ،‬معناه‬ ‫َّ‬ ‫يف حينه‪ .‬مل ِ‬
‫يعن «علم السياسة» ما يعنيه اليوم‪ ،‬لكنَّه‬
‫تم التعبري عن املوقف املضا هد ِّلذا التسييس‬ ‫وقيمته‪ ،‬كان حممودا بسبب فائدته العمل َّية ل ُ‬
‫أل َّمة‪َّ .‬‬
‫للعلوم بشكل خاص يف اخلطاب‪.‬‬

‫‪(1) Friedrich Naumann (1860 - 1919) was a minister and a political and social theorist who‬‬
‫‪called for social reform as well as for German economic and political imperialism. After‬‬
‫‪his own party failed،he joined the Freisinnige Vereinigung in 1903،which merged with the‬‬
‫‪Progressive People’s Party in 1910. He was elected to the Reichstag in 1907 ،and in 1919‬‬
‫‪he was one of the founders of the German Democratic Party.‬‬
‫‪(2) Eduard Spranger.‬‬
‫‪(3) The essay appeared in the magazine Die Erziehung،edited by A. Fischer،W. Flitner،Th.‬‬
‫‪Litt،H .Nohl،and Ed. Spranger .März 1933 ,Die Erziehung.‬‬
‫‪ ❖ 548‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ضمك للجامعة إ ىل ما شعرت أ َّنه «انطالقة‬


‫دير شبيغل‪ :‬هل نفهمك صحيحا؟ يف ه‬
‫جديدة» أردت ْ‬
‫أن ُتؤ هكد ى‬
‫عل اجلامعة مقابل ما قد ُيش هكل ت ّيارات ذات سلطة كبرية كانت‬
‫تسعى لتغيري هو َّية اجلامعة؟‬
‫ى‬
‫بمهمة إجياب َّية‪ ،‬وهي‬ ‫أن يقوم‬ ‫هايدغر‪ :‬بالتأكيد‪ ،‬لكن يف الوقت ِ‬
‫نفسه كان إلثبات الذات ْ‬
‫َّ‬
‫الرصف ِّلا‪ ،‬من خالل‬
‫معنى جديد للجامعة‪ ،‬يف مواجهة التنظيم التقني ه‬
‫ى‬ ‫إعادة اكتساب‬
‫التأمل يف تراث التفكري الغرب واألُوروب‪.‬‬
‫يتم‬
‫أن َّ‬ ‫دير شبيغل‪ُ :‬أستاذ‪ ،‬هل نحن نفهم أ َّنك ف َّكرت حينها َّ‬
‫أن استعادة اجلامعة يمكن ْ‬
‫عل أيدي االشرتاك هيني القوم هيني؟‬
‫ى‬
‫اخلاص‪،‬‬
‫ه‬ ‫أن ُجتده د نفسها من خالل تفكريها‬
‫عل اجلامعة ْ‬ ‫هايدغر‪ :‬هذا تعبري خاطئ‪ .‬كان ى‬
‫ال مع االشرتاك هيني القوم هيني‪ ،‬وبعدها تكتسب موقع َّية ثابتة ضدَّ خطورة تسييس العلم ‪-‬‬
‫باملعنى الذي حتدَّ ثنا عنه سابقا ‪.-‬‬
‫ى‬
‫دير شبيغل‪ :‬وِّلذا أعلنت هذه األعمدة الثالثة يف خطاب تنصيبك‪ :‬اخلدمة العمل َّية‪،‬‬
‫اخلدمة العسكر َّية‪ ،‬اخلدمة العلم َّية‪ .‬من خالل هذا يبدو أ َّنك اعتقدت َّ‬
‫أن اخلدمة العلم َّية‬
‫مستوى ال يمكن للحزب االشرتاكي القومي ْ‬
‫أن ُيلغيه؟‬ ‫ى‬ ‫مستوى مساو‪،‬‬
‫ى‬ ‫أن ُتر َفع إ ىل‬
‫يمكن ْ‬
‫مستوى اخلدمة‬
‫ى‬ ‫هايدغر‪ :‬ال ذكر لألعمدة‪ .‬لو قرأت بتأن سوف تالحظ أ َّنه رغم َّ‬
‫أن‬
‫فعل املرء‬ ‫ِ‬
‫األول من حيث معناها‪ .‬ى‬ ‫العلم َّية ُوض َع يف املكان الثالث‪ ،‬فهي موضوعة يف املكان َّ‬
‫عل املعرفة ويستنريان هبا‪.‬‬‫يتأسسان ى‬
‫كأي نشاط إنساين َّ‬
‫أن العمل والدفاع ها ه‬ ‫اعتبار َّ‬
‫أن نذكر مجلة‬ ‫دير شبيغل‪ :‬لكن ينبغي (لقد انتهينا تقريبا من هذا االقتباس الرهيب) ْ‬
‫متمسكا هبا اليوم‪« .‬ال جتعلوا القواعد واألفكار أنظمة‬
‫ه‬ ‫خرى هنا‪ ،‬مجلة ال نظن أ َّنك ما زلت‬ ‫ُأ ى‬
‫كينونتكم‪ .‬القائد(‪ )1‬نفسه ووحده هو احلقيقة األملان َّية احلارضة واملستقبل َّية وقانوّنا»(‪.)2‬‬

‫‪(1) führer‬‬
‫‪(2) This is a quote from an article Heidegger published in the Freiburger Studentenzeitung on‬‬
‫‪3 November 1933. Reprinted in Guido Schneeberger ،Nachlese zu Heidegger (Bern:‬‬
‫‪1962): 135 - 136. An English translation byWilliam S. Lewis،may be found under the title‬‬
‫‪, ew German Critique 45 (Fall 1988): 101 - 102. This translation is‬‬
‫‪German Students N‬‬
‫‪،however،mine.‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪549‬‬

‫هايدغر‪ :‬هذه العبارات ليست موجودة يف اخلطاب‪ ،‬بل فقط يف جريدة ّ‬


‫طالب فرايبورغ‪،‬‬
‫يف بداية الفصل الدريس لشتاء ‪ .1934 - 1933‬عندما تو َّليت اإلدارة ا َّتضح ل أ َّنني لن‬
‫أنجح من دون تنازالت‪ .‬اليوم ال أتبن ىّى هذه العبارات التي ذكرهتا‪ .‬ح َّت ىى يف عام ‪ 1934‬مل‬
‫كرر‬‫أن ُأ ه‬
‫أي كالم من هذا النوع‪ .‬لكن اآلن‪ ،‬واليوم بإرصار أكثر من املايض‪ ،‬بو ّدي ْ‬‫أقل بعدها َّ‬
‫عبارة «إثبات ذات اجلامعة األملان َّي ة»‪ ،‬لكن هذه العبارة قد تكون بال قيمة كام كانت يف‬
‫السابق‪.‬‬
‫مرة ثانية بسؤال؟ لقد ا َّتضح خالل احلديث لغاية‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل نستطيع مقاطعتك َّ‬
‫أن تقول جمموعة من األُمور‬
‫أن ترصفك عام ‪ 1933‬تأرجح بني قطبني‪َّ :‬أوال اضطررت ْ‬
‫اآلن َّ‬
‫عربت عنه كام ييل‪:‬‬ ‫من أجل إرضاء العا َّمة‪ ،‬هذا قطب‪ .‬غري َّ‬
‫أن القطب الثاين كان أكثر إجياب َّية‪َّ ،‬‬
‫أن َث َّمة شيئا جديدا‪َ ،‬ث َّمة انطالقة‪ ،‬هذا ما قلت‪.‬‬
‫كان لدي شعور َّ‬
‫هايدغر‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬هبني هذين القطبني ‪ -‬وهذا معقول متاما عندما يؤخذ من وجهة نظر الوضع‬
‫الذي كان سائدا حينئذ ‪.-‬‬
‫أن ُأؤ هكد َّ‬
‫أن تعبري «العا َّمة» ال ُيؤ هدي الداللة املطلوبة‪.‬‬ ‫هايدغر‪ :‬بالتأكيد‪ .‬لكن جيب ْ‬
‫اعتقدت أ َّنه يف وقت مواجهة النقاش مع القوم هيني االشرتاك هيني َّ‬
‫أن طريقا جديدا‪ ،‬الطريق‬
‫الوحيد الذي ما زال ممكنا للتجديد‪ ،‬قد يتاح له ْ‬
‫أن ُيف َتح‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬تعرف أ َّنه يف ما يتع َّلق هبذا األمر هناك بعض ه‬
‫االهتامات التي ُو هجهت إليك‬
‫والتي تتع َّلق بتعاونك مع حزب ال ُع ّامل القومي االشرتاكي األملاين ومع تنسيق ّياته‪ .‬وح َّت ىى‬
‫االهتامات‪ .‬أنت اهتمت ‪ -‬مثال ‪ -‬أ َّنك شاركت يف عمل ّيات حرق ُك ُتب‬ ‫تنف هذه ه‬‫اآلن مل ِ‬

‫ن َّظمها ّ‬
‫طالب شباب أو شباب هتلر‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬أنا منعت حرق ال ُك ُتب الذي كان خم َّططا أمام مدخل اجلامعة الرئييس‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬اهتمت أيضا أ َّنك أزلت ال ُك ُتب التي أ َّلفها هيود من مكتبة اجلامعة أو من قسم‬
‫الفلسفة يف اجلامعة‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬بوصفي مديرا للقسم كنت مسؤوال عن مكتبته فقط‪ .‬مل أجتاوب مع مطالب‬
‫‪ ❖ 550‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫متكررة إلزالة ال ُك ُتب التي أ َّلفها هيود‪ .‬يمكن ملشارك سابق يف ندوات ْ‬
‫أن يشهد اليوم أ َّنه ليس‬ ‫ه‬
‫هورسل‪،‬‬
‫وخاصة ّ‬
‫َّ‬ ‫تتم إزلة الكتب التي أ َّلفها اليهود فحسب‪ ،‬بل إ َّن كتابات هؤالء املؤ هلفني‬
‫مل ّ‬
‫كانت ُتق َتبس وتناقش متاما كام كان عام ‪.1933‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬سوف نأخذ مالحظة عن ذلك‪ .‬ولكن كيف ترشح صدور هذا النوع من‬
‫الشائعات؟ هل هو نوع من اخلبث؟‬
‫يبقى أعمق‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬مم َّا أعلمه من املصدر‪ ،‬أميل لالعتقاد بذلك‪ .‬لكن الدافع للتشهري ى‬
‫فإن اِّلجائني ي ِ‬
‫بدعون عندما‬ ‫ُ‬ ‫تول لإلدارة حافزا وليس السبب املحدَّ د لذلك‪ .‬وعليه َّ ّ‬
‫ر َّبام كان ه ّ‬
‫يكون َث َّمة حافز‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬كان لديك تالميذ هيود بعد عام ‪ .1933‬عالقتك مع بعضهم ‪ -‬ر َّبام ليس‬
‫مجيعهم ‪ -‬كان من املفرتض ْ‬
‫أن تكون محيمة‪ .‬ح َّت ىى بعد ‪1933‬؟‬
‫وأذكى تالميذي هيلني‬
‫ى‬ ‫إحدى أقدم‬
‫ى‬ ‫عل حاله بعد عام ‪.1933‬‬ ‫هايدغر‪ :‬موقفي بقي ى‬
‫فايس(‪ )1‬التي سافرت يف ما بعد إ ىل سكوتالندا‪ ،‬نالت شهادة الدكتوراة من جامعة بازل (بعد‬
‫عل ُأطروحة َّ‬
‫مهمة جدًّ ا عن «السبب َّية والصدفة‬ ‫أن مل يعد بمقدورها نيلها من ك ّل َّية فرايبورغ) ى‬
‫ْ‬
‫يف فلسفة ُأرسطو»‪ُ ،‬طبِ َعت يف بازل عام ‪ .1942‬يف ّناية املقدّ مة تكتب املؤ هلفة‪« :‬املحاولة‬
‫األول منه هنا‪ ،‬صار ممكنا بفضل تأويالت الفلسفة‬
‫لتأويل فينومنولوجي‪ ،‬الذي ُنقده م اجلزء َّ‬
‫اليونان َّية غري املنشورة ملارتن هايدغر»‪.‬‬
‫واملرسلة من املؤ هلفة عام ‪ .1948‬لقد زرت‬
‫َ‬ ‫ترى النسخة املخطوطة املهداة ل‬
‫هنا ى‬
‫مرات عدَّ ة يف بازل قبل وفاهتا‪.‬‬
‫الدكتورة فايس ّ‬
‫دير شبيغل‪ :‬كنت صديقا لياسربز(‪ )2‬فرتة طويلة‪ ،‬لكن العالقة بدأت بالتوتر بعد عام‬
‫بأن هذا التوتر كان مرتبطا بحقيقة َّ‬
‫أن زوجة ياسربز كانت هيود َّية‪.‬‬ ‫‪ .1933‬انترشت إشاعة َّ‬
‫عل هذا؟‬
‫هل تريد التعليق ى‬
‫هايدغر‪ :‬ما تذكره هنا كذب‪ .‬فأنا وياسربز صديقان منذ ‪ .1919‬زرته وزوجته خالل‬

‫‪(1) Helene Weiss‬‬


‫‪(2) Iaspers‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪551‬‬

‫الفصل الدرايس الصيفي لعام ‪ ،1933‬عندما ألقيت حمارضة يف هيدلربغ‪ .‬وأرسل ل ياسربز‬
‫كل مؤ َّلفاته بني ‪1934‬و‪ ،1938‬وكتب عليها‪« :‬مع حت ّيات َّ‬
‫احلارة»‪ .‬ويمكنك رؤيتها هنا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫«حارة» لو‬
‫َّ‬ ‫احلارة»‪ .‬حسنا‪ ،‬التح ّيات ر َّبام ال تكون‬
‫َّ‬ ‫دير شبيغل‪ :‬مكتوب هنا‪« :‬مع حت ّيات‬
‫هورسل‪ ،‬سلفك السابق‬ ‫كان َث َّمة توتر يف العالقة ‪ .‬سؤال آخر شبيه‪ :‬كنت تلميذا لـ إدموند ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫أوىص بك كخليفة له ألُستاذ َّية كريس‬


‫ى‬ ‫عل كريس الفلسفة يف جامعة فرايبورغ الذي‬
‫اليهودي ى‬
‫الك ّل َّية‪ .‬عالقتك به ال يمكن ْ‬
‫أن تكون بال عرفان باجلميل‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬تعرف اإلهداء يف «الكينونة والزمن»‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬بالطبع‪.‬‬
‫رت كتابه التذكاري مليالده الثامنني‪ ،‬ويف االحتفال يف بيته‬
‫هايدغر‪ :‬يف عام ‪ 1929‬ح َّر ُ‬
‫ألقيت كلمة ُط ِب َعت يف جم َّلة ‪ Akademische Mitteinlungen‬يف أيار ‪.1929‬‬
‫أن ُّتربنا عن‬ ‫ِ‬
‫ب ْ‬‫دير شبيغل‪ :‬لكن يف ما بعد‪ ،‬أصبحت العالقة متو هترة‪ .‬هل يمكن وهل ُحت ّ‬
‫أسباب ذلك؟‬
‫هايدغر‪ :‬اشتدَّ ت الفروقات يف اآلراء واملسائل الفلسف َّية بيننا‪ .‬يف بدايات الثالثينات‪،‬‬
‫هورسل شيئا‬
‫عل املأل‪ .‬مل يرتك وضوح عبارات ّ‬ ‫ص ّف ىى ّ‬
‫هورسل حسابه معي ومع ماكس شيلر ى‬
‫هورسل ملهامجة تفكريي هبذه الطريقة العلن َّية‪.‬‬ ‫رجتى‪ .‬مل أستطع مطلقا ْ‬
‫أن أعرف ما الذي دفع ّ‬ ‫ُي ى‬
‫أي مناسبة كان هذا؟‬
‫دير شبيغل‪ :‬يف ه‬
‫هورسل يف جامعة برلني أمام حضور من ألف وستامئة شخص‪ ،‬يصفه‬
‫هايدغر‪ :‬حتدث ّ‬
‫إحدى أكرب ُص ُحف برلني بـ «مكان شبيه بقرص ريايض»‪.‬‬
‫ى‬ ‫هاينريش موهسام(‪ )2‬يف‬
‫دير شبيغل‪ :‬اخلالف هبذه الطريق غري مثري يف هذا السياق‪ .‬فهو مثري فقط إذا كان خالفا‬
‫متع هلقا بمجرايات ‪.1933‬‬

‫‪(1) The book Heidegger shows his interviewers is Vernunft und Existenz. Heidegger also‬‬
‫‪presents Jaspers ’book Descartes und die Philosophic، which has a dedication from‬‬
‫‪Jaspers to Heidegger written in 1937.‬‬
‫‪(2) Heinrich Muhsam.‬‬
‫‪ ❖ 552‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫هايدغر‪ :‬ال أبدا‪.‬‬


‫ِّلورسل من‬
‫دير شبيغل‪ :‬هذه كانت مالحظتنا كذلك‪ .‬هل أسقطت بعد ذلك اإلهداء ّ‬
‫الكينونة والزمن؟‬
‫هايدغر‪ :‬ال‪ .‬فقد أوضحت احلقيقة يف كتاب ‪ .on the way to language‬يقول‬
‫عرب‬ ‫إل املعارضني الكثر‪ ،‬املنترشين يف ه‬
‫كل مكان‪ ،‬هنالك ا هدعاءات غري صحيحة‪ ،‬فلنُ ه‬ ‫النص‪ :‬ى‬
‫نص احلوار صفحة ‪ 16‬كان موجودا أيضا يف‬ ‫عنها هنا َّ‬
‫أن إهداء الكينونة والزمن املذكور يف ه‬
‫بداية الطبعة الرابعة من الكتاب عام ‪ .1935‬يف حني اعتقد النارش َّ‬
‫أن نرش الطبعة اخلامسة‬
‫تم اال هتفاق أخريا ‪ -‬بعد اقرتاح ورغبة‬ ‫وأن الكتاب يمكن ْ‬
‫أن ُيمنَع‪َّ ،‬‬ ‫‪ 1941‬كان يف خطر‪َّ ،‬‬
‫أن اإلهداء جيب ْ‬
‫أن يسقط من الطبعة اخلامسة‪ .‬اشرتطت بقاء اِّلامش الذي ذكرت‬ ‫نيامير(‪َّ - )1‬‬
‫التحريات التالية إ ىل األمام يف كشف‬
‫ّ‬ ‫فيه أسباب اإلهداء يف صفحة ‪ .38‬وهو‪« :‬لو خ َّطت‬
‫اخلاصة‬
‫َّ‬ ‫زوده بإرشاداته‬
‫هورسل‪ ،‬الذي َّ‬ ‫فعل املؤ هلف ْ‬
‫أن يشكر َّأوال أدموند ّ‬ ‫«ذات األشياء»‪ ،‬ى‬
‫عرفت املؤ هلف باألشكال املختلفة‬ ‫الثاقبة‪ ،‬وأتاح له اال هطالع ى‬
‫عل أبحاثه غري املنشورة‪ ،‬التي َّ‬
‫سني دراسته يف فرايبورغ»(‪.)2‬‬
‫من البحث الفينمنولوجي خالل ه‬
‫دير شبيغل‪ :‬إذا من املمكن ْ‬
‫أن نسأل ما إذا كان صحيحا أ َّنك كمدير جلامعة فرايبورغ‪،‬‬
‫منعت األُستاذ املتقاعد ّ‬
‫هورس ل من الدخول أو من استخدام مكتبة اجلامعة أو مكتبة قسم‬
‫الفلسفة‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬هذا افرتاء‪.‬‬
‫هورسل؟ فكيف بدأت هذه اإلشاعة؟‬
‫عرب فيها عن منع ّ‬‫دير شبيغل‪ :‬وال توجد رسالة ُي ه‬
‫أن ُأبرهن لك ى‬
‫عل استحالة هذه‬ ‫لدي تفسري لذلك‪ .‬يمكن ْ‬
‫هايدغر‪ :‬وأنا ال أعرف‪ ،‬وليس َّ‬
‫املسألة بكاملها من خالل املثل التال‪ ،‬وهناك يشء ما جمهول أيضا‪ .‬كانت الوزارة القوم َّية قد‬

‫(‪ Hermann Niemeyer )1‬نارش ُكتُب هايدغر يف حينه‪.‬‬


‫‪(2) Martin Heidegger ،Unterwegs zur Sprache (Pfullingen: Neske،1959) p. 269; On the Way‬‬
‫‪to Language،trans. by Peter Hertz (New York: Harper & Row،1971،pp. 199 - 200. This‬‬
‫‪translation is my own، except for the passage from Being and Time ،trans. by John‬‬
‫‪Macquarrie and Edward Robinson New York: Harper & Row،1962،p. 489.‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪553‬‬

‫طلبت إقالة ‪ -‬اليهود هيني ‪ -‬مدير العيادة الط ّب َّية‪ ،‬الربوفسور ثاّناوزر(‪ ،)1‬وفون هفزي(‪،)2‬‬
‫عل ْ‬
‫أن‬ ‫ُأستاذ الكيمياء الفيزيائ َّية والفائز املستقبيل بجائزة نوبل‪ .‬وخالل رئاستي كنت قادرا ى‬
‫ُأبقي هذين الرجلني من خالل اللقاء مع الوزير‪ .‬وفكرة ّأين استبقيتهام ويف الوقت نفسه قمت‬
‫اخلاص‪ ،‬بالطريقة التي ُأشيعت‪ ،‬مناف‬ ‫ّ‬ ‫هورسل‪ ،‬األُستاذ املتقاعد و ُأستاذي‬
‫ّ‬ ‫بعمل ضدَّ‬
‫ثم ّإين منعت تظاهرة ضدَّ الربوفسور ثاّنوزر كان التالميذ واملحارضون قد خ َّططوا‬
‫للعقل‪ّ .‬‬
‫إلجرائها أمام عيادته‪ .‬جاء يف النعوة التي نرشهتا عائلة ثاّنوزر يف اجلريدة املح ّل َّية‪« :‬لغاية‬
‫‪ 1943‬كان املدير املو َّقر للعيادة الط ّب َّية يف جامعة فرايبورغ»‪ .‬وكتبت جريدة فرايبورغر اونيفر‬
‫ستاتبالتر يف شباط ‪ 1966‬عن الربوفسور فون هفزي(‪ :)3‬خالل السنوات ‪،1934 - 1926‬‬
‫كان فون هفزي رئيسا ملعهد الكيمياء ‪ -‬الفيزياء يف جامعة فرايبورغ برايسغو(‪ .»)4‬بعد‬
‫استقالتي من رئاسة اجلامعة‪ ،‬مت َّت إقالة املديرين من منصبيهام‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬كان هناك‬
‫ثم اعتقدوا يف حينه َّ‬
‫أن‬ ‫حمارضون يعملون من دون مقابل مال‪ ،‬وقد تركوا مراكزهم لفرتة‪ّ ،‬‬
‫وقت التحرك قد حان‪ .‬ولـ َّام جاؤوا للحديث معي رفضت مطلبهم‪.‬‬
‫هورسل عام ‪ .1938‬ما سبب ذلك؟‬ ‫دير شبيغل‪ :‬مل تشارك يف مأتم ّ‬
‫هبورسل ال‬ ‫هايدغر‪ :‬دعني َأ ُق ْل التال حول املوضوع‪ :‬ه‬
‫االهتام الذي س َّبب إّناء عالقتي ّ‬
‫عربنا فيها عن‬
‫هورسل يف أيار ‪َّ 1933‬‬
‫أساس له‪ .‬كتبت زوجتي رسالة باسمينا إ ىل الس هيدة ّ‬
‫هورسل‬ ‫«إقرارنا الثابت بفضله»‪ ،‬وأرسلنا مع الرسالة باقة ورد إ ىل منزِّلم‪ .‬ر َّدت الس هيدة ّ‬
‫بإجياز عرب رسالة شكر رسم َّية‪ ،‬وكتبت َّ‬
‫أن العالقات بني عائلتينا قد انتهت‪ .‬كان فشال إنسان ًّيا‬
‫هورسل وبعد‬ ‫مىض عن إعجاب وعرفاين باجلميل خالل مرض ّ‬ ‫ى‬ ‫حيث إ َّنني مل ُأ ه‬
‫عرب يف ما‬
‫هورسل‪.‬‬
‫وفاته‪ .‬اعتذرت عن ذلك يف ما بعد يف رسالة للس هيدة ّ‬
‫هورسل عام ‪ .1938‬وكنت قد استقلت من رئاسة اجلامعة يف شباط‬
‫دير شبيغل‪ :‬مات ّ‬
‫‪ .1934‬كيف حصل ذلك؟‬

‫‪(1) See note 3 to Hermann Heidegger’s Preface.‬‬


‫‪(2) See note 2 to Hermann Heidegger’s Preface.‬‬
‫‪(3) von Hevesy.‬‬
‫‪(4) Breisgau‬‬
‫‪ ❖ 554‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن أجتاوز‬ ‫أتوسع قليال يف هذه النقطة‪ .‬كان قصدي يف ذلك الوقت ْ‬ ‫َّ‬ ‫هايدغر‪ :‬سوف‬
‫أن ُأجده د الك ّل ّيات من الداخل‪ ،‬من جهة مها همها العلم َّية‪ .‬مع‬
‫بمعنى ْ‬
‫ى‬ ‫التنظيم التقني للجامعة؛‬
‫وبخاصة الزمالء املم َّيزين يف حقول‬
‫َّ‬ ‫هذا املقصد يف البال‪ ،‬اقرتحت تعيني الزمالء الشباب‬
‫عملهم عمداء للك ّل ّيات يف الفصل الدرايس الشتوي ‪ ،1934 - 1933‬بمعزل عن موقعهم‬
‫يف احلزب‪ .‬وهكذا صار الربوفسور إرك وولف عميدا لك ّل َّية احلقوق‪ ،‬والربوفسور سويرغل‬
‫عميدا لك ّل َّية العلوم الطبيع َّية‪ ،‬والربوفسور فون مولندورف ‪ -‬الذي كان قد ُأقيل من منصبه‬
‫الطب‪ .‬لكن يف فرتة امليالد من عام ‪ 1933‬كان قد‬
‫ه‬ ‫كرئيس للجامعة يف الربيع ‪ -‬عميدا لك ّل َّية‬
‫ا َّتضح ل أ َّن ني لن أستطيع حتقيق رغبتي يف جتديد اجلامعة مقابل اعرتاضات الزمالء واحلزب‪.‬‬
‫ألين أدخلت تالميذ ووضعتهم يف مراكز إدارة اجلامعة ‪-‬‬
‫فمثال مل يكن الزمالء مِّسورين‪ّ ،‬‬
‫عل طلب من‬
‫بالضبط كام هي احلال راهنا ‪ .-‬اس ُتدعيت يف أحد األ ّيام إ ىل كارلِّسوه ‪ ،‬بناء ى‬
‫(‪)1‬‬

‫األول ويف حضور قائد التالميذ‪ ،‬وطلب منّي استبدال عميدَ ي‬


‫الوزير‪ ،‬من خالل مساعده َّ‬
‫الطب بأعضاء من الك ّل َّية مقبولني من احلزب‪ .‬رفضت فعل ذلك‪،‬‬
‫ه‬ ‫ك ّل َّية احلقوق وك ّل َّية‬
‫ألح الوزير يف طلبه‪ .‬هذا ما حصل يف شباط‬ ‫وقلت‪ :‬إ َّنني سأستقيل من إدارة اجلامعة إذا َّ‬
‫تول املنصب‪ ،‬يف حني كان املدراء يف ذلك الوقت‬ ‫‪ .1934‬استقلت بعد عرشة أشهر فقط من ّ‬
‫يلبثون سنتني أو أكثر يف املنصب‪ .‬يف حني ع َّلقت وسائل اإلعالم املح ّل َّية والعامل َّية ى‬
‫عل ّ‬
‫تول‬
‫املنصب ب ُط ُرق خمتلفة‪ ،‬ساد الصمت حول استقالتي‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل تفاوضت مع وزير التعليم القومي برنارد رست حينها؟‬
‫متى؟‬
‫هايدغر‪ :‬ى‬
‫إل اليوم‪.‬‬
‫ديرشبيغل‪ :‬يف ‪ ،1933‬قام رست بزيارة لفرايبورغ هنا ما زال احلديث عنها دائرا ى‬
‫عل قرب شالغرت(‪ )2‬يف‬
‫هايدغر‪ :‬نحن نتعامل مع حادثتني خمتلفتني‪ .‬يف مناسبة تذكار َّية ى‬

‫‪(1) Karlsruhe‬‬
‫‪(2) Albert Leo Schlageter (1894 - 1923) a former student at the University of Freiburg ،was‬‬
‫‪shot by the French occupation army in the Ruhr on 26 May 1923. For one of Heidegger’s‬‬
‫‪speeches on Schlageter ،see Schneeberger، Nachlese zu Heidegger: 47 - 49. An English‬‬
‫‪translation can be found in Martin Heidegger and Politics: A Dossier, New German‬‬
‫‪Critic،45 (Fall 1988): 96 - 97.‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪555‬‬

‫عل الوزير باقتضاب وبشكل رسمي‪ .‬لكن الوزير مل‬ ‫بلدته‪ ،‬شونو إم فيزنتال ‪ ،‬س َّلمت ى‬
‫(‪)1‬‬

‫يلحظني‪ .‬يف هذه احلال مل ُأحاول ْ‬


‫أن أحتدَّ ث معه‪ .‬كان شالغرت تلميذا يف جامعة فرايبورغ‬
‫وعضوا يف ناد كاثولوكي‪ .‬حصل احلديث يف ترشين الثاين من العام ‪ 1933‬يف مناسبة مؤمتر‬
‫كهنوت يف برلني‪ .‬قدَّ مت وجهات نظري يف العلم والبنية املمكنة للك ّل ّيات إ ىل الوزير‪ .‬استمع‬
‫لكن‬ ‫حذرت منه‪ ،‬واعتقدت َّ‬
‫أن األمل الذي فتحت بابه قد يكون له أثر‪َّ .‬‬ ‫بانتباه شديد ه‬
‫لكل ما َّ‬
‫عل هذا النقاش مع وزير التعليم األملاين بينام يف الوقت‬
‫شيئا مل ُيصل‪ .‬ال أعرف ملاذا عوتبت ى‬
‫نفسه الذي كانت كل احلكومات اخلارج َّية تتسابق لالعرتاف هبتلر إلظهار املجامالت‬ ‫ِ‬

‫الدول َّية االعتياد َّية‪.‬‬


‫تطورت عالقتك مع احلزب النازي بعد استقالتك من منصب مدير‬
‫دير شبيغل‪ :‬كيف َّ‬
‫اجلامعة؟‬
‫ملهمتي ك ُأستاذ‪ .‬يف الفصل الدرايس‬
‫هايدغر‪ :‬بعد استقالتي من إدارة اجلامعة انرصفت َّ‬
‫الصيفي من عام ‪ 1934‬حارضت يف «املنطق»‪ .‬يف الفصل التال ‪1935 - 1934‬ألقيت‬
‫املحارضة األُو ىل عن هولدرلن(‪ .)2‬واملحارضات عن نيتشه بدأت عام ‪ .1936‬كل الذين كان‬
‫بإمكاّنم االستامع سمعوا َّ‬
‫أن هذه املحارضات كانت مواجهة مع الناز هيني‪.‬‬
‫تم تسليم املنصب؟ أمل تشارك يف االحتفال؟‬
‫دير شبيغل‪ :‬كيف َّ‬
‫أن ُأشارك يف مراسم تغيري املدراء‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬نعم‪ ،‬رفضت ْ‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل كان خليفتك عضوا ملتزما يف احلزب؟‬
‫هايدغر‪ :‬كان عضوا يف ك ّل َّية احلقوق‪ .‬أعلنت جريدة احلزب ‪ Der Alemanne‬تعيينه‬
‫األول للجامعة من احلزب النازي»(‪.)3‬‬
‫مديرا يف عنواّنا العريض‪« :‬املدير َّ‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل واجهت صعوبات مع احلزب يف ما بعد‪ ،‬أو ماذا حصل؟‬
‫هايدغر‪ :‬كنت حتت مراقبة ثابتة‪.‬‬

‫‪(1) Schonau im Wiesental.‬‬


‫‪(2) holderlin‬‬
‫(‪ )3‬العنوان املذكور مل يت ّم التأكد منه بعد‪.‬‬
‫‪ ❖ 556‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫دير شبيغل‪ :‬هل لديك نموذج لذلك؟‬


‫هايدغر‪ :‬نعم مسألة الدكتور هنكل(‪.)1‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬كيف عرفت بذلك؟‬
‫عل شهادة الدكتوراة‪ .‬وكان مشاركا يف ندوات‬
‫هايدغر‪ :‬أل َّنه أتاين بنفسه‪ .‬كان قد حصل ى‬
‫املتقده مة يف الفصل الدرايس الشتوي لعام ‪1937 - 1936‬ويف الفصل الدرايس الصيفي لعام‬
‫‪ُ 1937‬أرسل إ ىل هنا (إ ىل فرايبورغ) من ِق َبل املخابرات جلعيل حتت املراقبة‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬ملاذا زارك فجأة؟‬
‫هايدغر‪ :‬بسبب ندوت حول نيتشه يف الفصل الدرايس الصيفي ‪ ،1937‬وبسبب طريقة‬
‫املهمة أو املراقبة املوكلة إليه‪ .‬أراد‬
‫َّ‬ ‫الشغل يف الندوة‪ ،‬اعرتف ل أ َّنه مل يعد بإمكانه متابعة‬
‫إخباري هبذه القض َّية من منظور نشاطي املستقبيل ك ُأستاذ‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬يعني أمل تواجهك صعوبات مع احلزب؟‬
‫هايدغر‪ :‬عرفت فقط َّ‬
‫أن مناقشة أعامل مل تكن مسموحة‪ ،‬مثل مقالة «نظر َّية احلقيقة عند‬
‫أفالطون»‪ .‬واملحارضة التي ألقيتها عن هولدرلن يف املعهد األملاين يف روما يف خريف ‪1936‬‬
‫املهتمني ْ‬
‫أن يقرأوا اِّلجاء ضدّ ي الذي بدأ يف‬ ‫ه‬ ‫هومجت يف جم َّلة شباب هتلر بطريقة مؤذية‪ .‬ى‬
‫عل‬
‫صيف ‪ 1934‬يف جم َّلة فولك ام فردن(‪ )2‬التي يملكها إ‪ .‬كريك(‪ .)4()3‬فأنا مل أكن منتميا ال للبعثة‬
‫األملان َّية للمؤمتر الفلسفي العاملي يف براغ ‪ 1943‬وال ح َّت ىى ُدعيت للمشاركة فيه‪ .‬وكان‬
‫أن ُأستبعد عن مؤمتر ديكارت الدول يف باريس ‪ .1937‬وبدا األمر غريبا جدًّ ا ملن‬
‫مفرتضا ْ‬
‫كانوا يف باريس لدرجة َّ‬
‫أن رئيس املؤمتر (الربوفسور برهييه من السوربون) سألني‪ :‬ملاذا مل‬
‫أن املن هظمني للمؤمتر جيب ْ‬
‫أن يسألوا وزارة التعليم‬ ‫أكن عضوا يف البعثة األملان َّية‪ .‬أجبت َّ‬
‫األملان َّية عن هذه املسألة‪ .‬بعد فرتة تل َّقيت دعوة من برلني لاللتحاق بالبعثة ه‬
‫متأخرا جدًّ ا‪.‬‬

‫‪(1) Hanckle‬‬
‫‪(2) Volk im Werden.‬‬
‫‪(3) E. Krieck‬‬
‫‪(4) See note 16 to Martin Heidegger’s The Rectorate 1933/34.‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪557‬‬

‫فرفضت‪ .‬واملحارضات «ما هي امليتافيزيقا؟» و«يف ماه َّية احلقيقة» بيعت باخلفاء من دون‬
‫ب من األسواق بإيعاز من‬ ‫ِ‬
‫عناوين‪ .‬وبعد ‪ 1934‬بقليل‪ ،‬كان خطاب التنصيب قد ُسح َ‬
‫أن ُينا َقش فقط يف مراكز أساتذة احلزب النازي(‪ )1‬كموضوع جدل‬ ‫احلزب‪ .‬كان مسموحا ْ‬
‫للحزب‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬يف عام ‪ ،1939‬عندما كانت احلرب‪...‬‬
‫هايدغر‪ :‬يف آخر سنوات احلرب ُأعفي مخسامئة من األساتذة البارزين والفنّانني من ه‬
‫أي‬
‫نوع من اخلدمة العسكر َّية(‪ .)2‬مل أكن من بني الذين ُأعفوا‪ .‬بالعكس‪ ،‬يف صيف ‪ُ 1944‬أمرت‬
‫ْ‬
‫أن أحفر اخلنادق قرب ّنر الرين يف كيزرستول‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬يف اجلانب اآلخر‪ ،‬اجلانب السويِّسي‪ ،‬حفر كارل بارث خنادق‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬الطريقة التي حصل فيها األمر مثرية‪ .‬دعا املدير مجيع الك ّل ّيات ملحارضة يف‬
‫ألقى كلمة مقتضبة قال فيها‪ :‬إ َّن ما سيقوله اآلن متوافق مع القائد النازي‬
‫القاعة رقم ‪ .5‬ى‬
‫قسم الك ّل َّية بمجملها إ ىل ثالث‬ ‫للمنطقة ومع قائد احلزب النازي يف غو ‪ .‬وإ َّنه س ُي ه‬
‫(‪)3‬‬

‫جمموعات‪َّ :‬أوال من ال رضورة ِّلم الب َّتة‪ ،‬ثانيا الذين ال رضورة ِّلم جزئ ًّيا‪ ،‬وثالثا الذين ال‬
‫يمكن االستغناء عنهم‪َّ .‬أوال يف الئحة الذين يمكن االستغناء عنهم بالكامل يأت هايدغر‪،‬‬
‫ويليه ج‪ .‬ريرت(‪ .)4‬يف الفصل الدرايس الشتائي من عام ‪ ،1945 - 1944‬وبعد ْ‬
‫أن أّنيت‬
‫العمل يف حفر اخلنادق قرب ّنر الرين‪ ،‬ألقيت حمارضة بعنوان «الشعر والتفكري» كانت‬

‫‪(1) See note 22 to Martin Heidegger’s The Rectorate 1933/34.‬‬


‫‪(2) Here the Spiegel edited a reformulated statement by Dr. H. W. Petzet into the Heidegger‬‬

‫‪text. Heidegger accepted it in the final version ،probably because it was factually accurate.‬‬
‫‪(3) Gau‬‬
‫‪(4) Professor Dr. Gerhard Ritter (author of Carl Goerdeler und die deutsche‬‬

‫‪Widerstandsbewegung ،at the time full professor of modern history at the University of‬‬

‫‪Freiburg،was imprisoned on 1 November 1944 in connection with the attempted‬‬

‫‪assassination of Hitler on 20 July 1944. He was freed on 25 April 1945 by the Allied‬‬

‫‪troops. The historian became professor emeritus in 1956 and died in 1967.‬‬
‫‪ ❖ 558‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫استكامال لندوت حول نيتشه‪ ،‬بكالم آخر كانت يف مواجهة الناز هيني‪ .‬بعد الدرس الثاين‪،‬‬
‫ُجنهدت إلزام ًّيا يف «عاصفة الشعب»(‪ ،)1‬وكنت أكرب أعضاء الك ّل َّية الذين استدعوا للخدمة‪.‬‬
‫جمرى‬
‫ى‬ ‫دير شبيغل‪ :‬ال أعتقد أ َّننا ملزمون باالستامع للربوفسور هايدغر حول موضوع‬
‫األحداث إ ىل حلظة تل هقيه مرتبة الرشف فعل ًّيا وقانون ًّيا‪ ،‬فهذا معروف ج هيدا‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬واقعا‪ ،‬األحداث نفسها غري معروفة ج هيدا‪ ،‬هذه ليست قض َّية ّ‬
‫جذابة‪.‬‬
‫دير شبيغل‪َّ :‬إال إذا أحببت ْ‬
‫أن تقول شيئا عنها‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬ال‪.‬‬
‫باملعنى الض هيق للكلمة‪،‬‬
‫ى‬ ‫دير شبيغل‪ :‬ر َّبام يمكننا التلخيص‪ .‬بوصفك شخصا غري سيايس‪،‬‬
‫باملعنى الواسع‪ ،‬وقعت يف ه‬
‫فخ تسيس هذه االنطالقة اجلديدة عام ‪...1933‬‬ ‫ى‬ ‫ال‬
‫هايدغر‪ :‬عن طريق اجلامعة‪...‬‬
‫ديرشبيغل‪ ... :‬عن طريق اجلامعة يف سياسة هذه االنطالقة اجلديدة املفرتضة‪ .‬بعد سنة‬
‫تركت الوظيفة التي تو َّليتها يف هذه العمل َّية َّ‬
‫للمرة الثانية‪ .‬لكن يف املحارضة التي ألقيتها‬ ‫َ‬ ‫تقريبا‬
‫رشت عام ‪ 1953‬بعنوان «مقدّ مة ملا بعد الطبيعة» قلت‪« :‬األعامل‬ ‫ِ‬
‫عام ‪ ،1935‬والتي ُن َ‬
‫املنترشة اليوم»‪ ،‬أي عام ‪« 1935‬كفلسفة القوم َّية االشرتاكية‪ ،‬لكن ال عالقة ِّلا مع احلقيقة‬
‫الداخل َّية وعظمة هذه احلركة (بالتحديد مع مواجهة التكنولوجيا املحدَّ دة عامل ًّيا واإلنسان‬
‫املعارص) يسعون للحصول عل الصيد األكرب يف مياه ِ‬
‫«الق َيم» و«الك ّل ّيات» املوحلة(‪« .)2‬هل‬ ‫ى‬
‫أضفت الكلامت التي بني قوسني يف عام ‪ ،1953‬عندما ُطبِ َعت ‪ -‬ر َّبام لرشح ما اعتقدت أ َّنه‬
‫لقراء ‪1935‬؛ أي حركة االشرتاك هيني القوم هيني‪ ،‬يف‬ ‫«احلقيقة الداخل َّية وعظمة هذه احلركة» ّ‬
‫‪ 1935‬أو َّ‬
‫أن هذه األقواس كانت موجودة مسبقا عام ‪1935‬؟‬
‫هايدغر‪ :‬كانت يف خمطوطتي وهي تتناسب بالضبط مع مفهومي للتكنولوجيا يف حينه‪،‬‬

‫‪(1) The Volkssturm،an army for home defense،was organized toward the end of the Second‬‬
‫‪World War and consisted of men and boys unable to serve in the regular military .‬‬
‫‪(2) See Martin Heidegger،Einführung in die Metaphysik،2nd. ed. Tubingen: Max‬‬
‫‪Niemeyer،1958 ،p. 152. English translation: An Introduction to Metaphysics،trans. Ralph‬‬
‫‪Mannheim (Garden City،N.Y.: Doubleday ،1961 ،p. 166. The translation is my own.‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪559‬‬

‫ولكن ليس مع تأوييل يف ما بعد جلوهر التقن َّية كـ «بنية»(‪ .)1‬سبب عدم قراءت ِّلذا املقطع‬
‫بصوت عال كان أل َّنني كنت مقتنعا َّ‬
‫بأن املستمعني إ َّل كانوا س ُيحسنون فهمي‪ .‬أ َّما األغبياء‬
‫واجلواسيس واملتط هفلني فكانوا سيفهمون بطريقة مغايرة‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬بالتأكيد يمكنك تصنيف احلركة الشيوع َّية هبذه الطريقة أيضا؟‬
‫هايدغر‪ :‬نعم‪ ،‬بال ريب‪ ،‬كام هو حمدَّ د من خالل التقن َّية الكوكب َّية‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬ور َّبام قد ُتصنهف مجيع املحاوالت األمريك َّية هبذه الطريقة أيضا؟‬
‫أن يكون قد ا َّتضح خالل األعوام الثالثني املاضية‪َّ ،‬‬
‫أن حركة‬ ‫هايدغر‪ :‬أقول أيضا‪ :‬جيب ْ‬
‫ه َّيته يف صناعة‬
‫قوة ال يمكن جتاهل دورها العظيم والتقليل من أ ّ‬
‫التقن َّية الكوكب َّية احلديثة هي َّ‬
‫التاريخ‪ .‬وبالنسبة ل يوجد سؤال حاسم اليوم هو‪ :‬كيف يمكن حتديد نظام سيايس لعرص‬
‫لدي إجابة عن هذا السؤال‪ .‬وأنا غري‬
‫التقن َّية الراهن‪ ،‬وأي نظام سيايس سيكون هذا؟ ليس َّ‬
‫مقتنع أ َّنه الديمقراط َّية‪.‬‬
‫جمرد مصطلح مشرتك يمكن ْ‬
‫أن ُيوي مفاهيم خمتلفة جدًّ ا‪.‬‬ ‫دير شبيغل‪ :‬الديموقراط َّية َّ‬
‫والسؤال‪ :‬هل ما زال تشكيل هذا النظام ممكنا‪ .‬بعد عام ‪ 1945‬أبديت آراءك يف املطامح‬
‫السياس َّية للعامل الغرب‪ ،‬ويف السياق أيضا حتدَّ ثتم عن الديمقراط َّية‪ ،‬وعن التعبري السيايس عن‬
‫كل هذه املطامح‬ ‫وسميت َّ‬
‫َّ‬ ‫املؤسسات‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وجهات النظر املسيح َّية حول العامل‪ ،‬وعن دولة‬
‫«أنصافا»(‪.)2‬‬
‫وكل األُمور التي ذكرهتا‪ .‬أنا‬
‫هايدغر‪ :‬دعني أسالك َّأوال‪ :‬أين حتدَّ ثت عن الديمقراط َّية ه‬
‫بالفعل قد أصفهم باألنصاف أل َّنني ال أعتقد َّأّنم يواجهون أصال العامل التقني‪ .‬وأعتقد َّأّنم‬
‫عل فكرة َّ‬
‫أن التقن َّية يف جوهرها أمر يسيطر عليه البرش‪ .‬برأيي‪ ،‬هذا غري ممكن‪.‬‬ ‫يرتكزون ى‬
‫التقن َّية بجوهرها أمر ال يستطيع البرش السيطرة عليه كيفام يشاؤون‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬أي من ه‬
‫االجتاهات السياس َّية التي حتدَّ ثنا عنها أكثر مالءمة لزمننا؟‬
‫أرى سؤاال حاسام هنا‪َّ .‬أوال علينا توضيح‬
‫هايدغر‪ :‬هذا ال أستطيع حتديده‪ .‬ولكنَّني ى‬

‫‪(1) See note 2 to Richard Wisser’s Martin Heidegger in conversation.‬‬


‫‪(2) halves‬‬
‫‪ ❖ 560‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫األهم ما إذا كانت املالءمة‬


‫ّ‬ ‫معنى «مالئم لزمننا» وما يعنيه الزمن هنا‪ .‬ور َّبام كان السؤال‬
‫ى‬
‫لعرصنا هي معيار «احلقيقة الداخل َّية» ألفعال اإلنسان‪ ،‬أو ما إذا كان «التفكري وكتابة الشعر»‪،‬‬
‫زودانِنا باملعيار‪.‬‬
‫عل هذه العبارة‪ ،‬ليسا الفعلني اللذين ُي ه‬ ‫رغم ه‬
‫كل املآخذ ى‬
‫عل آالته؛‬
‫مر الزمن مل يكن بمقدور اإلنسان السيطرة ى‬ ‫عل ه‬‫دير شبيغل‪ :‬من املفاجئ أ َّنه ى‬
‫عل‬
‫إل تلميذ الساحر‪ .‬أليس هناك يشء من التشاؤم يف القول‪ :‬إ َّننا لن نستطيع السيطرة ى‬ ‫انظر ى‬
‫آلة التقن َّية احلديثة التي ال َّ‬
‫شك َّأّنا أعظم بكثري؟‬
‫إل املجال الذي نحاول‬ ‫هايدغر‪ :‬التشاؤم‪ ،‬ال‪ .‬التشاؤم والتفاؤل موقفان ال يصالن ى‬
‫أي عالقة‬ ‫التفكري فيه هنا‪ .‬لكن مع ه‬
‫كل هذا‪ ،‬فالتقن َّية احلديثة ليست «أداة»‪ ،‬ومل يعد ِّلا َّ‬
‫باألدوات‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬ملاذا علينا اخلضوع للتقن َّية‪...‬؟‬
‫هايدغر‪ :‬أنا مل أقل أ ْن نخضع‪ .‬أنا أقول ليس أمامنا مسار يوازي جوهر التقن َّية بعد‪.‬‬
‫أن نتفاهم هنا؟ فكل األُمور‬
‫أن يرفض بسذاجة‪ :‬عال َم جيب ْ‬
‫دير شبيغل‪ :‬يمكن للمرء ْ‬
‫عل ما يرام‪ .‬حم ّطات توليد الطاقة الكهربائ َّية ُت ى‬
‫بنى شيئا فشيئا‪ .‬واإلنتاج يزدهر‪ .‬الناس يف‬ ‫تسري ى‬
‫األجزاء املتقده مة تقن ًّيا من األرض يقومون بأعبائها‪ .‬نحن نعيش برفاه َّية‪ .‬فام الذي ينقص‬
‫هنا؟‬
‫هايدغر‪ :‬كل األمور تعمل بشكل ج هيد‪ .‬هذا بالتحديد مكمن الغرابة‪ .‬كل يشء يعمل‬
‫والعمل يقودنا أبعد وأبعد إ ىل مزيد من العمل‪ ،‬والتقن َّية ُمتزه ق الناس وترشذمهم وجتتثهم من‬
‫كنت خائفا بالتأكيد عندما رأيت َّ‬
‫مؤخرا‬ ‫كنت خائفا؛ لقد ُ‬
‫األرض شيئا فشيئا‪ .‬ال أعرف إذا َ‬
‫ذر َّية‪ ،‬لقد بدأ اجتثاث‬
‫صور األرض املأخوذة من القمر‪ .‬نحن ال نحتاج مطلقا إ ىل قنبلة ّ‬
‫يبق لدينا َّإال أوضا ِع تكنولوج َّية رصفة‪ .‬مل تعد أرضا حيث يعيش البرش اليوم‪ .‬كان‬
‫البرش‪ .‬مل َ‬
‫ل حديث َّ‬
‫مؤخرا مع رينيه شار(‪ )1‬يف بروفنس(‪ ،)2‬الشاعر واملقاوم كام تعلم‪ .‬قواعد الصواريخ‬
‫بنى يف بروفنس‪ ،‬والوطن ُيد َّمر بطريقة ال ُتصدَّ ق‪ .‬قال ل الشاعر الذي ال يمكن مطلقا‬
‫ُت ى‬

‫‪(1) Renéchar‬‬
‫‪(2) Provence‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪561‬‬

‫الشك يف عاطف َّيته أو متجيده لألناشيد الرعو َّية‪َّ :‬‬


‫إن اجتثاث البرشية احلاصل اآلن سيكون‬
‫مرة ُأ ى‬
‫خرى‪.‬‬ ‫النهائي َّإال إذا أحرز الشعر والتفكري َّ‬
‫قوة ال عنف َّية َّ‬ ‫َّ‬
‫عل األرض‪ ،‬ونحن ر َّبام لن نجرب‬
‫دير شبيغل‪ :‬اآلن ينبغي القول رغم تفضيلنا للبقاء هنا ى‬
‫عل هذه األرض؟ يمكن َّ‬
‫أن‬ ‫عل تركها خالل حياتنا‪ ،‬من يعرف َّ‬
‫أن مصري البرش َّية سيكون ى‬ ‫ى‬
‫إل‬
‫فهم أنَّه ليس لإلنسان مصري مطلقا‪ .‬لكن ما هي نسبة احتامل انتقال البرش من األرض ى‬
‫كواكب ُأ ى‬
‫خرى؟ هذا بالتأكيد لن ُيصل َّإال بعد مرور زمن‪ .‬لكن أين مكتوب َّ‬
‫أن مكان البرش‬
‫هنا؟‬
‫لدي من معلومات‪ ،‬نعلم َّ‬
‫أن‬ ‫عل ّ‬
‫األقل بقدر ما َّ‬ ‫هايدغر‪ :‬من خربتنا البرش َّية والتارخي َّية‪ ،‬ى‬
‫وتأصل يف تقاليد‪ .‬فأدب اليوم‬
‫َّ‬ ‫ك َّل يشء رضوري وعظيم برز فقط عندما ملك اإلنسان بيتا‬
‫عل نحو واسع‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬مد همر ى‬
‫ألّنا كلمة عدم َّية ُمحهلت جماال واسعا‬ ‫دير شبيغل‪ :‬نحن منزعجون من كلمة «مد همر» هنا َّ‬
‫خاصة من خاللك ومن خالل فلسفتك‪ .‬لذلك ُيد ِهشنا سامع كلمة «مد همر»‬ ‫جدًّ ا من املعاين َّ‬
‫املرتبطة باألدب‪ ،‬فكيف أمكنك اعتبارها جزءا من العدم َّية(‪.)1‬‬
‫عرفت فيه‬ ‫باملعنى الذي َّ‬
‫ى‬ ‫إن األدب الذي عنيته ليس عدم ًّيا‬ ‫هايدغر‪ُ :‬أريد ْ‬
‫أن أقول‪َّ :‬‬
‫العدم َّية‪.‬‬
‫عربت ‪ -‬حركة عامل َّية يف طور إنشاء أو َّأّنا أنشأت‬
‫ترى ‪ -‬كام َّ‬
‫دير شبيغل‪ :‬يبدو أ َّنك ى‬
‫الدولة التقن َّية الرصفة؟‬
‫ّ‬
‫األقل مع العامل واملجتمع‬ ‫عل‬
‫هايدغر‪ :‬نعم! لكنَّها بالتحديد الدولة التقن َّية التي تتالءم ى‬
‫الذي ُُيده ده جوهر التقن َّية‪ .‬الدولة التقن َّية ستكون اخلادم األكثر ًّ‬
‫ذال وعامء أمام سلطان‬
‫التقن َّية‪.‬‬
‫عل‬
‫دير شبيغل‪ :‬ج هيد‪ .‬ولكن اآلن السؤال الذي يطرح نفسه‪ :‬هل ما زال الفرد قادرا ى‬
‫أن ُتؤ هثر فيها الفلسفة‪ ،‬أو هل يمكن ِّلام‬
‫التأثري يف هذه الشبكة من احلتم ّيات‪ ،‬أو هل يمكن ْ‬
‫كِ َل ْي ِهام ْ‬
‫أن ُيؤ هثرا معا بحيث تقود الفلسفة فردا أو جمموعة أفراد لفعل ما؟‬

‫‪(1) Martin Heidegger،Nietzsche،vol. II Pfullingen: Neske،1961،p. 335.‬‬


‫‪ ❖ 562‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫أن ُأجيب بِّسعة أو‬


‫إل بداية احلديث‪ .‬إذا كان بمقدوري ْ‬
‫هايدغر‪ :‬هذه األسئلة تعيدنا ى‬
‫عل إحداث تغيري مبارش‬
‫بيشء من احلدَّ ة‪ ،‬لكن عن تفكري طويل‪ :‬الفلسفة لن تكون قادرة ى‬
‫كل املحاوالت والتأمالت‬ ‫عل ه‬‫عل الفلسفة فحسب‪ ،‬بل ى‬ ‫حلالة العامل الراهنة‪ .‬هذا ال يصدق ى‬
‫أن اإلمكان َّية األُو ىل للخالص الباقية لنا‬
‫اإلنسان َّية‪ .‬فقط اإلله ما زال بإمكانه إنقاذنا‪ .‬أعتقد َّ‬
‫هي التحضري للجهوز َّي ة‪ ،‬من خالل التفكري والشعر‪ ،‬من أجل ظهور اإلله أو غياب اإلله‬
‫معنى‪ ،‬لكنَّنا عندما ننحدر ننحدر إزاء‬
‫ى‬ ‫خالل االنحدار؛ فنحن ببساطة ال نموت ميتات بال‬
‫اإلله الغائب‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل َث َّمة صلة بني تفكريك وانبثاق هذا اإلله؟ هل هنالك ‪ -‬كام ى‬
‫ترى ‪ -‬عالقة‬
‫سبب َّية؟ هل تعتقد أ َّنه يمكننا استدعاء هذا اإلله من خالل التفكري؟‬
‫هايدغر‪ :‬ال نستطيع استدعائه من خالل التفكري‪ .‬يف أفضل األحوال نستطيع حتضري‬
‫اجلاهز َّية لالنتظار‪.‬‬
‫عل املساعدة؟‬
‫دير شبيغل‪ :‬ولكن هل نقدر ى‬
‫أن يكون اخلطوة األُو ىل‪ .‬ال يمكن للعامل ْ‬
‫أن يكون ما‬ ‫هايدغر‪ :‬التحضري للجاهز َّية يمكن ْ‬
‫أن يكون كذلك من دون اإلنسان‪ .‬هذا‬ ‫هو وكيف هو من خالل اإلنسان‪ ،‬ولكنَّه ال يمكن ْ‬
‫برأيي مرتبط باحلقيقة التي ُأ ّ‬
‫سميها «كينونة»‪ ،‬باستخدام كلمة تقليد َّية غامضة وبالية اآلن‪،‬‬
‫التي حتتاج إ ىل اإلنسان‪ .‬الكينونة ليست كينونة من دون كائن إنساين حتتاج إليه للكشف‬
‫أرى جوهر التقن َّية يف ما ُأ ه‬
‫سميه تشييدا‪ .‬هذا االسم الذي عندما‬ ‫عنها‪ ،‬ومحايتها‪ ،‬وبنائها‪ .‬ى‬
‫للمرة األُو ىل ُيساء فهمه وداللته بسهولة‪ ،‬إذا ُأعيد التفكري فيه بشكل صحيح‬
‫يطرق السمع َّ‬
‫يعيدنا بداللته إ ىل تاريخ امليتافيزيقا العميق‪ ،‬التي ما زلت ُحتده د وجودنا(‪ )1‬اليوم‪ .‬وسائل عمل‬
‫تم الكشف عنها يف ماه َّية‬
‫قوة َّ‬
‫التشييد هي‪ :‬البرش املمسوك هبم واملطلوبون واملتحدون من َّ‬
‫إن جتربة تشييد البرش بيشء غري ذاهتم ال يستطيعون السيطرة عليه بذاهتم‪ ،‬هو‬ ‫التقن َّية‪َّ .‬‬
‫أن ُت هبني ِّلم إمكان َّية استبصار َّ‬
‫أن البرش حاجة للكينونة‪ .‬إمكان َّية‬ ‫بالتحديد التجربة التي يمكن ْ‬
‫جتربة‪ ،‬الكينونة رضور َّية‪ ،‬واجلاهز َّية لتلك اإلمكانات اجلديدة كامنة يف ما ُيش هكل أكثر التقن َّية‬

‫‪(1) Dasein‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪563‬‬

‫احلديثة ذاهتا‪ .‬ال يمكن للتفكري ْ‬


‫أن يفعل أكثر من مساعدة اإلنسان يف هذا التبرص‪ ،‬والفلسفة‬
‫اس ُت ِنف َذت‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬يف األوقات السابقة ‪ -‬وليس يف األوقات السابقة فحسب ‪ -‬كان ُيع َتقد َّ‬
‫أن‬
‫الفلسفة كانت ف ّعالة بطريقة غري مبارشة (ونادرا بطريقة مبارشة)‪ ،‬حيث ساعدت يف انبثاق‬
‫ت ّيارات جديدة‪ .‬بالتفكري فقط باألملان‪ ،‬ومن خالل أسامء عظيمة مثل كانط وهيغل وصوال‬
‫إ ىل نيتشه‪ ،‬باإلضافة إ ىل ماركس‪ ،‬يمكن إثبات أ َّنه كان للفلسفة‪ ،‬ب ُط ُرق ملتوية‪ ،‬تأثري هائل‪.‬‬
‫أن هذا التأثري للفلسفة اس ُت ِنف َذ؟ وعندما تقول‪ :‬الفلسفة ماتت‪ ،‬وإ َّّنا مل تعد‬
‫هل تعتقد َّ‬
‫األقل (لو فعال ُو ِجدَ باألساس)؟‬
‫عل ّ‬‫موجودة‪ ،‬فهل تشمل فكرة تأثري الفلسفة اليوم ى‬
‫هايدغر‪ :‬سبق وقلت‪َّ :‬‬
‫إن التأثري غري املبارش ‪ -‬ال املبارش ‪ -‬ممكن من خالل نوع آخر من‬
‫غري ظروف العامل‪.‬‬ ‫التفكري‪ .‬هكذا يمكن للتفكري ‪ -‬كام كان ‪ْ -‬‬
‫أن ُي ه‬
‫أن ُت ِ‬
‫فلس ف (فنحن لسنا هبذا الوارد) لكن هنا توجد‬ ‫دير شبيغل‪ :‬عفوا اعذرنا‪ ،‬ال نريد ْ‬
‫للتو‪:‬‬
‫عالقة بني السياسة والفلسفة‪ ،‬فمن فضلك اعذرنا لدفعك إ ىل هذا احلديث‪ .‬فأنت قلت ه‬
‫إ َّن الفلسفة والفرد ال يستطيعان فعل ّ‬
‫أي يشء باستثناء‪...‬‬
‫عل ذاته منفتحا لوصول أو غياب اإلله‪.‬‬
‫هايدغر‪ ... :‬هذا التحضري جلاهز َّية حفاظ املرء ى‬
‫سميته «السقوط يف‬
‫عل العكس‪ ،‬هي حترير لإلنسان مم َّا َّ‬
‫جتربة هذا الغياب ليست الشيئا‪ ،‬بل ى‬
‫الكينونة» يف كتاب الكينونة والزمن‪ .‬تأ َّمل يف ما هو اليوم جز ٌء من التحضري للجاهز َّية الذي‬
‫كنّا نتحدَّ ث عنه‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬لكن يف احلقيقة ينبغي ْ‬
‫أن يكون الدافع الشهري من اخلارج‪ ،‬من إله أو أي‬
‫كان‪ .‬التفكري إذا ‪ -‬من خالل اكتفائه بذاته ومن دون إكراه ‪ -‬لن يكون كافيا اليوم؟ كان كافيا‬
‫عل ما أعتقد‪.‬‬
‫برأي الناس قديام‪ ،‬وح َّت ىى يف رأينا‪ ،‬ى‬
‫هايدغر‪ :‬لكن ليس مبارشة‪.‬‬
‫كمحركني عظامء‪ .‬لكن‬
‫ه‬ ‫سمينا يف ما سبق كانط‪ ،‬وهيغل‪ ،‬وماركس‬
‫دير شبيغل‪ :‬لقد َّ‬
‫الدوافع أتت من اليبنتس أيضا ‪ -‬من أجل تطوير الفيزياء احلديثة ‪ ،-‬وبالتال أصل العامل‬
‫احليث بشكل عام‪ .‬نعتقد أ َّنك قلت اآلن‪ :‬إ َّنك مل تعد تتو َّقع هذا النوع من التأثري راهنا‪.‬‬
‫‪ ❖ 564‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫مستوى الفلسفة‪ ،‬فالدور الذي أ َّدته الفلسفة ح َّت ىى اآلن تستول‬


‫ى‬ ‫عل‬
‫هايدغر‪ :‬مل يعد ممكنا ى‬
‫وضح «تأثري» التفكري بشكل كاف‪ ،‬علينا ْ‬
‫أن نخوض نقاشا أكثر عمقا‬ ‫عليه العلوم‪ .‬ولكي ُن ه‬
‫ألين أجد رضورة يف التمييز الدقيق بني السبب‪ ،‬والدافع‪،‬‬ ‫معنى «أثر» و«تأثري» هنا‪ّ .‬‬
‫ى‬ ‫عن‬
‫والدعم‪ ،‬واملساعدة‪ ،‬والتعاون‪ ،‬والعائق‪ .‬لكن ال يمكننا اكتساب ال ُبعد املناسب للقيام هبذه‬
‫عل نحو واف مبدأ الع َّلة التا َّمة‪ .‬فالفلسفة تنحل يف العلوم املستق َّلة‪:‬‬
‫التاميزات َّإال إذا ناقشنا ى‬
‫علم النفس‪ ،‬واملنطق‪ ،‬وعلم السياسة‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬وما الذي يقوم بدور الفلسفة راهنا؟‬
‫هايدغر‪ :‬السربان َّية(‪.)1‬‬
‫يبقى منفتحا؟‬
‫دير شبيغل‪ :‬أو امللتزم الذي ى‬
‫هايدغر‪ :‬لكن هذا مل يعد فلسفة‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬ماذا إذا؟‬
‫هايدغر‪ :‬أنا ُأ ّ‬
‫سميه «التفكري اآلخر»‪.‬‬
‫سميه «التفكري اآلخر»؟ هل بوسعك صياغة ذلك بشكل أوضح؟‬
‫دير شبيغل‪ُ :‬ت ّ‬
‫هايدغر‪ :‬هل كنت ُتف هكر يف العبارة التي ختمت هبا حمارضت «السؤال املتع هلق بالتقن َّية»‪:‬‬
‫«التساؤل هو التزام التفكري»(‪)2‬؟‬
‫قلت فيها‪َّ :‬‬
‫«ألن أكرب‬ ‫دير شبيغل‪ :‬وجدنا عبارة يف حمارضاتك عن نيتشه تبدو لنا مالئمة‪َ .‬‬
‫عالقة ممكنة سادت يف التفكري الفلسفي‪ ،‬فكل املف هكرين العظامء يف هكرون بالطريقة ِ‬
‫نفسها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫عل‬ ‫لكن هذه النفس َّية أساس َّية جدًّ ا وغن َّية لدرجة أ َّنه ال يوجد فرد يستطيع ْ‬
‫أن يستنفذها‪ ،‬بل ى‬
‫العكس كل يرتبط باآلخر بشكل أوثق»‪ .‬لكن يبدو أ َّنك تعتقد بوصول هذه البنية الفلسف َّية‬
‫إ ىل ّناية حتم َّية‪.‬‬

‫‪(1) cybernetics‬‬
‫‪(2) Martin Heidegger، Die Frage nach der Technik ,Vorträge und Aufsätze Pfullingen: Neske،‬‬
‫‪1954 ،p. 44; English translation :The Question Concerning Technology T‬‬
‫‪, he Question‬‬

‫& ‪ConcerningTechnology and other Essays،trans. by William Lovitt New York: Harper‬‬
‫‪Row، 1977 ،p. 35.‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪565‬‬

‫هايدغر‪ :‬انتهت ولكنَّها مل تصبح باطلة بالنسبة لنا؛ بل هي حارضة يف احلديث‪ .‬فكل ما‬
‫قدَّ مته يف املحارضات والندوات خالل السنوات الثالثني املاضية‪ ،‬كان بشكل أسايس رشحا‬
‫للفلسفة الغرب َّية‪ .‬العودة إ ىل األُ ُسس التارخي َّي ة للتفكري‪ ،‬والتفكري من خالل األسئلة التي مل‬
‫تعد ُتس َئل منذ الفلسفة اليونان َّية‪ ،‬هذا ليس ابتعادا عن التقليد‪ .‬لكن أقول‪َّ :‬‬
‫إن طريقة التفكري‬
‫امليتافيزيقي التقليد َّي ة التي انتهت مع نيتشه‪ ،‬مل يعد بوسعها توفري إمكان جتريب املواصفات‬
‫األساس َّية لعرص التقن َّية الذي ما زال يف بدايته‪ ،‬من خالل التفكري‪.‬‬
‫حتدثت عن «منهج جديد ك ّل ًّيا‬
‫َ‬ ‫دير شبيغل‪ :‬يف حديث مع راهب بوذي من سنتني تقريبا‪،‬‬
‫يف التفكري»‪ ،‬وقلت‪ :‬إ َّنه «يف الوقت الراهن ال يستطيع َّإال عدد قليل من الناس تطبيق» هذا‬
‫أن فقط ق َّلة قليلة من الناس ‪ -‬برأيك ‪ -‬يمكن ْ‬
‫أن يكون‬ ‫املنهج اجلديد يف التفكري‪ .‬هل تقصد ْ‬
‫ِّلا البصرية املمكنة والرضور َّية؟‬
‫هايدغر‪ :‬يمكنك ْ‬
‫أن تقول ذلك‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬نعم‪ ،‬لكن يف احلديث مع الراهب البوذي‪ ،‬مل تصف بوضوح كيف يمكن‬
‫حتقيق ذلك‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬ال أستطيع التوضيح‪ .‬ال أعرف كيف يكون هذا التفكري «مؤ هثرا»‪ .‬يمكن أيضا‬
‫عل التفكري من اإلبعاد يف ّ‬
‫أقل‬ ‫ْ‬
‫أن يوصل التفكري اليوم إ ىل الصمت‪ ،‬بذلك يمكن املحافظة ى‬
‫أن يستغرق ثالثامئة سنة لكي يصبح «مؤ هثرا»‪.‬‬
‫من سنة‪ .‬ويمكن أيضا ْ‬
‫دير شبيغل‪ :‬نحن نفهم ذلك ج هيدا‪ .‬لكن أل َّننا لن نعيش ثالثامئة سنة‪ ،‬فنحن هنا واآلن‪،‬‬
‫وأنصاف السياس هيني‪ ،‬واملواطنني‪ ،‬والصحفيني‪...‬‬
‫َ‬ ‫ممنوعون من الصمت‪ .‬فنحن‪ ،‬الساس هيني‪،‬‬
‫إلخ‪ ،‬نحن مضطرون ه‬
‫الّتاذ قرار من نوع أو من آخر‪ .‬ينبغي ْ‬
‫أن ُنك هيف أنفسنا مع النظام الذي‬
‫نعيش يف ظ هله‪ ،‬علينا ْ‬
‫أن نحاول تغيريه‪ ،‬علينا ارتقاب الباب الض هيق لإلصالح والباب الذي‬
‫ما زال أضيق للثورة‪ .‬نحن نتو َّقع مساعدة من الفيلسوف‪ ،‬ح َّت ىى لو بالطبع‪ ،‬مساعدة غري‬
‫مبارشة‪ ،‬مساعدة ب ُط ُرق ملتوية‪ .‬واآلن نسمع‪ :‬أنا ال أستطيع مساعدتكم‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬ال أقدر‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬هذا س ُيق هلل من عزيمة من هم ليسوا بفالسفة‪.‬‬
‫‪ ❖ 566‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫مهمة التفكري هذه مناقضا‬‫معنى َّ‬ ‫ى‬ ‫هايدغر‪ :‬ال أقدر َّ‬
‫ألن األسئلة صعبة جدًّ ا فقد يكون‬
‫لظهورها العلني‪ ،‬وللوعضا‪ ،‬ولتوزيع الدرجات األخالق َّية‪ .‬ور َّبام س ُأخاطر هبذه العبارة‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫رس هيمنة ماه َّية التقن َّية الكوكب َّية َّ‬
‫الالمف هكر فيها يوازي أسبق َّية وعدم وضوح التفكري الذي‬ ‫َّ‬
‫ُياول التأمل يف هذه املاه َّية َّ‬
‫الالمف هكر فيها‪.‬‬
‫أن ي ِ‬
‫رشدوا‬ ‫دير شبيغل‪َ :‬أال تعد نفسك من بني ُأولئك الذين يمكن ‪ -‬لو ُأصغي إليهم ‪ُ ْ -‬‬
‫إ ىل الطريق؟‬
‫عل فرض َّ‬
‫أن‬ ‫هايدغر‪ :‬ال! أنا ال أعرف طريقا إ ىل تغيري مبارش للوضع الراهن يف العامل‪ ،‬ى‬
‫وضح‪،‬‬ ‫أن حماولة التفكري يمكن ْ‬
‫أن توقظ‪ ،‬و ُت ه‬ ‫أرى َّ‬
‫تغيريا مثل هذا ممكن إنسان ًّيا‪ .‬لكنَّني ى‬
‫قوي االستعداد الذي ذكرناه سابقا‪.‬‬
‫و ُت ّ‬
‫دير شبيغل‪ :‬إجابة واضحة‪ ،‬لكن هل يمكن للمف هكر ْ‬
‫أن يقول‪ :‬لتنتظر فقط‪ ،‬فسوف‬
‫ُيصل يشء ما لنا يف الثالثامئة سنة القادمة؟‬
‫جمرد مسألة انتظار ح َّت ىى ُيصل يشء ما للبرش بعد مرور ثالثامئة‬
‫هايدغر‪ :‬املسألة ليست َّ‬
‫سنة؛ َّإّنا تتع َّلق بالتفكري يف املستقبل‪ ،‬من دون ا هدعاءات نبو َّية‪ ،‬التفكري يف الوقت اآلت‬
‫يتم التفكري فيها َّإال نادرا‪ .‬التفكري ليس‬
‫انطالقا من اخلصائص األساس َّية لعرصنا‪ ،‬الذي مل ّ‬
‫مجودا‪ ،‬لكنَّه بذاته الفعل الذي يتحاور مع مصري العامل‪ .‬ويبدو ل َّ‬
‫أن التمييز ‪ -‬الصادر من‬
‫امليتافيزيقا ‪ -‬بني النظر َّية والتطبيق‪ ،‬ومفهوم االنتقال بني االثنني‪ ،‬يعرتض الطريق إ ىل التبرص‬
‫ِ‬
‫رشت عام ‪ 1954‬حتت عنوان‬ ‫أن ُأشري هنا إ ىل حمارضات التي ُن َ‬
‫يف ما أفهم أ َّنه تفكري‪ .‬يمكنني ْ‬
‫ّ‬
‫األقل قراءة بني منشورات‪ ،‬ور َّبام هذه أيضا‬ ‫دعى تفكريا؟»(‪ ،)1‬هذه القطعة هي‬ ‫«ما الذي ُي ى‬
‫سمة عرصنا‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬بالطبع‪ ،‬دائام كان هناك سوء فهم للفلسفة‪ ،‬وهو االعتقاد أ َّنه جيب ْ‬
‫أن يكون‬

‫‪(1) Martin Heidegger، Was Heisst Denken? 2nd ed. Tubingen: Niemeyer ،1961. An English‬‬
‫‪translation by Fred Wieck and J. Glenn Gray has been published with the title What Is‬‬
‫‪Called Thinking? New York: Harper & Row ،1968 .A selection from it is published in‬‬
‫‪Basic Writings as What calls for Thinking ,pp. 345 - 367.‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪567‬‬

‫للفيلسوف تأثري مبارش بفلسفته‪ .‬فلنعد إ ىل البداية‪ .‬ال يمكن فهم كيف يمكن لالشرتاك َّية‬
‫خرى كاحتجاج‬ ‫رى من جهة كتحقق لتلك «املواجهة الكوكب َّية»‪ ،‬ومن جهة ُأ ى‬ ‫القوم َّية ْ‬
‫أن ُت ى‬
‫أخري‪ ،‬أقوى أكثر‪ ،‬ويف الوقت ِ‬
‫نفسه‪ ،‬أكثر يأسا يف مواجهة «التقن َّية الكوكب َّية املحتومة»‬ ‫ى‬
‫أن عددا من‬ ‫واإلنسان احلديث؟ يبدو أ َّنك تتعامل مع متعارضات يف شخصك كام لو َّ‬
‫النتاجات الثانو َّية ألنشطتك يمكن ْ‬
‫أن ترشح واقعا يف أ َّنك ‪ -‬يف أجزاء خمتلفة من وجودك‬
‫تتمسك بأشياء كثرية تعرف هبا أنت كفيلسوف َّأّنا ليس‬
‫الذي ال يالمس جوهر الفلسفة ‪َّ -‬‬
‫تتمسك بمفاهيم مثل «البيت»‪« ،‬التجذر» وأشياء مشاهبة‪ .‬فكيف تتوافق‬
‫ِّلا استمرار َّية‪ ،‬مثال َّ‬
‫التقن َّية الكوكب َّية مع «البيت»؟‬
‫معنى‪ .‬أنا ال‬
‫ى‬ ‫هايدغر‪ :‬ال ُأريد قول ذلك‪ .‬يبدو ل أ َّنك تأخذ التقن َّية ه‬
‫بكل ما يف الكلمة من‬
‫أعتقد َّ‬
‫أن وضع البرش َّية يف عامل التقن َّية الكوكب َّية هو قدر كارثي وحمتوم؛ بل بخالف ذلك‬
‫مهمة التفكري بالتحديد هي مساعدة اإلنسان‪ ،‬ضمن احلدود‪ ،‬يف الوصول إ ىل عالقة‬ ‫أعتقد َّ‬
‫أن َّ‬
‫أن االشرتاك َّية القوم َّية سارت يف هذا ه‬
‫االجتاه‪ ،‬فهؤالء الناس‬ ‫كافية مع ماه َّية التقن َّية‪ .‬رغم َّ‬
‫كانوا إ ىل حد ما حمدودي التفكري للوصول إ ىل عالقة واضحة وواقع َّية مع ما ُيصل راهنا‬
‫ومع ما هو يف طور احلصول لثالثة قرون من الزمن‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬هذه العالقة الواضحة‪ ،‬هل هي موجودة عند األمريك هيني؟‬
‫يرعى‬
‫ى‬ ‫هايدغر‪ :‬هم أيضا ال يملكوّنا‪َّ .‬إّنم ما زالوا واقعني يف شباك تفكري براغامت‬
‫العمالت َّية واستخدام التقن َّية‪ ،‬لكن يف الوقت نفسه يعيقون طريق التفكري بخصائص التقن َّية‬
‫احلديثة‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬جرت حماوالت لالبتعاد عن التفكري الرباغامت اإلجياب يف أماكن‬
‫من الواليات امل َّتحدة األمريك َّية‪ .‬ومن منّا يستطيع القول ما إذا كان يف يوم ما يف تراث روسيا‬
‫حرة مع‬
‫والصني القديمني «تفكري» قد يوقظ ما سوف يساعد البرش يف إمكان إنشاء عالقة َّ‬
‫عامل التقن َّية؟‬
‫دير شبيغل‪ :‬لو فقدوا هذا التفكري‪َ ،‬أال يمكن للفيلسوف ْ‬
‫أن ُيقده م ِّلم شيئا‪...‬؟‬
‫وبأي طريقة‬
‫ه‬ ‫أي حد يمكن ْ‬
‫أن أصل يف حماولتي يف التفكري‬ ‫قرر إ ىل ه‬
‫هايدغر‪ :‬لست أنا من ُي ه‬
‫يمكن تل ّقيها وحتويلها بشكل منتج يف املستقبل‪ .‬يف عام ‪ 1957‬ألقيت حمارضة بعنوان «مبدأ‬
‫‪ ❖ 568‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫مرة بتبيني أ َّنه بخطوات‬ ‫اِّلو َّية» يف املناسبة السنو َّية جلامعة فرايبورغ‪ .‬خاطرت فيها آلخر َّ‬
‫األهم للتقن َّية‬
‫ّ‬ ‫مدى يمكن ْ‬
‫أن تصل جتربة التفكري بام ُيش هكل امليزة‬ ‫أي ى‬ ‫قليلة من التفكري‪ ،‬إ ىل ه‬
‫أن جتربة التفكري هذه يمكن ْ‬
‫أن تصل إ ىل حده فتح إمكان َّية اختبار‬ ‫احلديثة‪ .‬لقد حاولت إظهار َّ‬
‫إنسان عرص التكنولوجيا العالقة بمطلب ال يسمعونه فقط‪ ،‬بل خيصهم أيضا‪ .‬كان لتفكريي‬
‫جمرد شاعر‪ ،‬يعالج شعره‬ ‫صلة جوهر َّية بشعر هولدرلن(‪ .)1‬لكنَّني ال أعتقد َّ‬
‫أن هولدرلن هو َّ‬
‫ملؤرخي األدب‪ .‬أعتقد َّ‬
‫أن هولدرلن هو الشاعر‬ ‫موضوعا من بني كثري من املواضيع بالنسبة ه‬
‫جمرد موضوع‬
‫يبقى َّ‬
‫أن ى‬‫الذي يشري إ ىل املستقبل‪ ،‬الذي يتو َّقع اإلله‪ ،‬وبالتال الذي ال يمكنه ْ‬
‫لبحث هولدرلن يف اخليال التارخيي األدب‪.‬‬
‫مرة ُأ ى‬
‫خرى)‪ ،‬يف حمارضاتك عن‬ ‫دير شبيغل‪ :‬باحلديث عن هولدرلن (نعتذر أ َّننا سنقتبس َّ‬
‫إن «الرصاع املفهوم ب ُط ُرق خمتلفة بني ُأبولو وديونيسيوس‪ ،‬حيث ُيش هكل الشغف‬
‫نيتشه قلت‪َّ :‬‬
‫املقدَّ س والرواية الرصينة قانونا نموذج ًّيا للمصري التارخيي لألملان‪ ،‬ويوما ما ينبغي ْ‬
‫أن جتدنا‬
‫جاهزين وحارضين لتشييده‪ .‬هذا االعرتاض ليس صيغة يمكن بمساعدهتا ْ‬
‫أن نصف‬
‫مهمة األملان إلجياد‬
‫«احلضارة»‪ .‬مع هذا الرصاع وضع هولدرلن ونيتشه عالمة استفهام أمام َّ‬
‫ماه َّيتهم التارخي َّية‪ .‬فهل بمقدورنا فهم هذه اإلشارة‪ ،‬عالمة االستفهام هذه؟ هناك أمر واحد‬
‫كتبت هذا‪ ،‬لكنَّنا ُنقده ر أ َّنه كان‬
‫أي سنة َ‬
‫أكيد‪ :‬إذا مل نفهمه‪ ،‬سوف ينتقم التاريخ منّا»‪ .‬ال نعرف َّ‬
‫عام ‪.1935‬‬
‫القوة بوصفها فنًّا» عام‬
‫هايدغر‪ :‬ر َّبام كان االقتباس من حمارضة عن نيتشه بعنوان‪« :‬إرادة َّ‬
‫أن تكون قد ُألقيت يف السنوات التي تلت‪.‬‬
‫‪ .1937 - 1936‬ويمكن أيضا ْ‬
‫اخلاص‬
‫ه‬ ‫دير شبيغل‪ :‬هل يمكنك رشح ذلك قليال؟ هذا جيرنا من التعميم إ ىل املصري‬
‫باألملان‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬أستطيع إعادة صياغة ما جاء يف االقتباس كام ييل‪ :‬أنا مقتنع أ َّنه يمكن حتضري‬
‫التغيري من املكان ِ‬
‫نفسه يف العامل الذي صدرت منه التقن َّية احلديثة‪ .‬ال يمكن ْ‬
‫أن يأت من خالل‬
‫خرى‪ .‬ونحن نحتاج ملساعدة الرتاث األُوروب‬ ‫ِ‬
‫تبنّي بوذ َّية الذن أو من جتارب رشق َّية ُأ ى‬

‫‪(1) Holderlin‬‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪569‬‬

‫يتغري التفكري فقط بتفكري له املصدر السابق واملصري‬


‫وسيطرته اجلديدة لتغيري التفكري‪ .‬سوف َّ‬
‫َن ْف ُسه‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬يف البقعة ِ‬
‫نفسها التي صدرت منها التقن َّية العاملية‪ ،‬تعتقد أ َّنه جيب‪...‬‬
‫باملعنى اِّليغيل‪ ،‬ال العزلة‪ ،‬التعال لكن ال من خالل اإلنسان وحده‪.‬‬
‫ى‬ ‫هايدغر‪ ... :‬التعال‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل ُّت هصص َّ‬
‫مهمة حمدَّ دة لألملان؟‬
‫املعنى ‪ -‬يف حوار مع هولدرلن‪.‬‬
‫ى‬ ‫هايدغر‪ :‬نعم ‪ -‬هبذا‬
‫أن لألملان مواصفات هذا التغيري؟‬ ‫دير شبيغل‪ :‬هل تعتقد َّ‬
‫هايدغر‪ :‬أنا ُأف هكر بعالقة داخل َّية َّ‬
‫خاصة بني اللغة األملان َّية ولغة التفكري اليونان َّية‪ .‬تأ َّكد ل‬
‫هذا مرارا وتكرارا راهنا من خالل الفرنس هيني‪ ،‬الذين عندما يبدأون التفكري فهم يتك َّلمون‬
‫اخلاصة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫األملان َّية‪ ،‬وهم ُيؤ هكدون َّأّنم ال يستطيعون النجاح بلغتهم‬
‫لدى البلدان الرومان َّية‬
‫دير شبيغل‪ :‬هل هكذا سترشح التأثري القوي جدًّ ا الذي تركتَه ى‬
‫باألخص فرنسا؟‬
‫ه‬
‫ألّنم يعتقدون َّأّنم ال يستطيعون بلوغ غاياهتم يف العامل ه‬
‫بكل عقالن َّيتهم عندما‬ ‫هايدغر‪َّ :‬‬
‫ُياولون فهمه يف مصدر ماه َّيته‪ .‬ال يمكن ترمجة التفكري َّإال بالقدر الذي ُي َ‬
‫رتجم فيه الشعر‪ ،‬يف‬
‫يتغري كل يشء‪.‬‬
‫أحسن احلاالت يمكن إعادة صياغته‪ .‬وعندما تتم حماولة الرتمجة احلرفية‪َّ ،‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬تفكري مقلق‪.‬‬
‫ِ‬
‫عل نطاق واسع ولو‬ ‫هايدغر‪ :‬قد يكون حسنا لو ُمح َل هذا التفكري املربك ى‬
‫عل حممل اجلده ى‬
‫إل‬
‫ه َّية عندما ترجم ى‬
‫مر هبا التفكري اليوناين الشديد األ ّ‬
‫يف النهاية اعتربت املعاناة التي َّ‬
‫الالتين َّية‪ ،‬حدث الذي ما زال يعرتض طريقنا اليوم إ ىل تفكري واف يف الكلامت‬‫الرومان َّية َّ‬
‫األساس َّية للتفكري اليوناين‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬بروفسور‪ ،‬يمكننا ْ‬
‫أن نفرتض دائام وبالفعل وبتفاؤل إمكان إيصال يشء أو‬
‫ح َّت ىى ترمجته‪ ،‬أل َّنه إذا كان هذا التفاؤل بإمكان إيصال حمتويات التفكري رغم توقف احلواجز‬
‫اللغو َّية تكون اإلقليم َّية التفكري َّية مصدر خطر‪.‬‬
‫سمي التفكري اليوناين إقليم ًّيا مقابل نمط أفكار اإلمرباطور َّية الرومان َّية؟‬
‫هايدغر‪ :‬هل ُت ّ‬
‫‪ ❖ 570‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫يمكن ترمجة املراسالت التجار َّية إ ىل مجيع اللغات‪ .‬ويمكن ترمجة العلوم (علوم اليوم تعني‬
‫أصح‪:‬‬
‫ّ‬ ‫إل مجيع لغات العامل‪ .‬قل بشكل‬
‫العلوم الطبيع َّية‪ ،‬الفيزياء الرياض َّية العلم األسايس) ى‬
‫رتجم‪ ،‬لكن اللغة الرياض َّية نفسها ُتس َتعمل للكالم‪ .‬وصلنا هنا إ ىل منطقة واسعة‬
‫َّإّنا ال ُت َ‬
‫ويصعب تغطيتها‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬ر َّبام كان ِّلذا صلة باملوضوع أيضا‪ ،‬يوجد حاليا ‪ -‬بدون مبالغة ‪ -‬أزمة يف‬
‫خاصة يف أملانيا‪،‬‬
‫النظام الربملاين الديمقراطي‪ ،‬واألزمة ما زالت قائمة منذ زمن‪ .‬هناك أزمة َّ‬
‫وأزمة يف البلدان الديمقراط َّية التقليد َّية‪ ،‬يف إنكلرتا ويف أمريكا‪ .‬يف فرنسا مل يعد َث َّمة أزمة‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬سؤال‪ :‬هل بوسع املف هكرين َّأال ُيقده موا النصح‪ ،‬ح َّت ىى لو كانت نتيجة تفكريهم رضورة‬
‫استبدال هذا النظام بنظام جديد؟ وكيف يمكن ْ‬
‫أن يكون النظام اجلديد‪ ،‬أو رضورة‬
‫أن الشخص غري املث َّقف فلسف ًّيا‬‫اإلصالح وإسداء النصح‪ ،‬كيف يكون اإلصالح ممكنا؟ غري َّ‬
‫عل األُمور(رغم أ َّنه ال ُُيده دها) ‪ -‬هذا‬
‫‪ -‬وهذا يكون بشكل طبيعي الشخص الذي يسيطر ى‬
‫الشخص سيظل يصل إ ىل نتائج زائفة‪ ،‬ور َّبام إ ىل أسوا نتائج وأكثرها تِّسعا‪ .‬إذا‪ :‬أال ينبغي ْ‬
‫أن‬
‫يكون الفيلسوف جاهزا للتفكري بكيف َّية تنظيم تعايش البرش يف هذا العامل‪ ،‬الذي جعلوه تقن ًّيا‬
‫هم بأنفسهم والذي ر َّبام أخضعهم لسلطانه؟ أال ُيتو َّقع بحق من الفيلسوف ْ‬
‫أن ُيسدي‬
‫نصيحة بام يعتربه ُط ُرق عيش ممكنة؟ أال ُي ه‬
‫قرص الفيلسوف عن جزء ولو صغريا من مهنته‬
‫ودعوته إذا مل يوصل شيئا عنها؟‬
‫عل فهم العامل ككل من خالل التفكري إ ىل درجة‬
‫هايدغر‪ :‬بقدر ما أعرف‪ ،‬الفرد ال يقدر ى‬
‫مهمة إجياد َّأول لركيزة من أجل‬
‫عل إعطاء تعليامت عمل َّية‪ ،‬خصوصا يف مواجهة َّ‬
‫القدرة ى‬
‫التفكري بذاته مرة ُأخرى‪ .‬وبقدر ما يكون األمر ِجدّ يا من منظور الرتاث العظيم‪ ،‬ي ِ‬
‫رهق‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫أي سلطة يمكن ِّلذا ْ‬
‫أن ُيصل؟‬ ‫التفكري إذا وجب عليه حتضري نفسه إلعطاء التعليامت‪ .‬حتت َّ‬
‫يف عامل التفكري‪ ،‬ليس َث َّمة عبارات سلطو َّية‪ .‬االشرتاط الوحيد للتفكري يأت من املسألة التي‬
‫ينبغي التفكري فيها‪ .‬لكن هذا ‪ -‬يف بادئ األمر ‪ -‬يستحق البحث‪ .‬ولنجعل هذه املسألة قابلة‬
‫للفهم‪ ،‬يبدو َّ‬
‫أن النقاش حول العالقة بني الفلسفة والعلوم التي جتعل نجاحاهتا التقن َّية ‪-‬‬
‫جدوى‪ .‬فالوضع الصعب‬
‫ى‬ ‫باملعنى الفلسفي يبدو بالفعل أكثر فأكثر غري ذي‬
‫ى‬ ‫العمل َّية التفكري‬
‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ ‪571‬‬

‫القوي‬
‫ه‬ ‫ملهمته التي تتالءم مع اغرتاب ّ‬
‫يتغذ ىى من املوقع‬ ‫الذي وضع فيه التفكري بالنسبة َّ‬
‫للعلوم‪ ،‬من تفكري جيب ْ‬
‫أن يمنع ذاته من اإلجابة عن أسئلة عمالن َّية وأيديولوج َّية يطرحها‬
‫راهنا اليوم‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬برفسور‪ ،‬يف عامل التفكري ال يوجد عبارات جازمة‪ .‬كذلك ال يمكن يف‬
‫الفن احلديث وجد صعوبة يف إطالق عبارات جازمة أيضا‪ .‬مع ذلك‬ ‫أن نتفاجأ َّ‬
‫بأن َّ‬ ‫احلقيقة ْ‬
‫سميه «هدَّ اما»‪ .‬فعادة ُيف هكر الفن احلديث بذاته كفن جتريبي‪َّ .‬‬
‫ألن نتاجاته حماوالت‪...‬‬ ‫ُت ه‬
‫هايدغر‪ :‬سأتع َّلم بسعادة‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ ... :‬حماوالت نتجت عن حالة عزلة البرش والفنّانني‪ ،‬ومن ه‬
‫كل مائة حماولة‪،‬‬
‫يوجد بني احلني واآلخر واحدة تستحق اللقب‪.‬‬
‫هايدغر‪ :‬هنا يكمن السؤال الكبري‪ .‬أين يقف الفن؟ ما هو املكان الذي ي ِ‬
‫شغله؟‬ ‫ُ‬
‫الفن مل تعد تطلبه من التفكري‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬حسنا‪ ،‬لكن ها أنت تطلب شيئا من ه‬
‫الفن‪ .‬أنا أقول فقط‪ :‬إ َّنه سؤال عن املكانة التي ُيتلها‬
‫هايدغر‪ :‬أنا ال أطلب شيئا من ه‬
‫الفن‪.‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬إذا كان الفن ال يعرف مكانته‪ ،‬فهل هذا يعني أ َّنه هدَّ ام؟‬
‫الفن احلديث يرسم لنا‬
‫أن َّ‬‫أن ُأعلِن أ َّنني ال أعتقد َّ‬
‫هايدغر‪ :‬حسنا‪ ،‬احمها‪ .‬غري أ َّنني ُأريد ْ‬
‫الفن‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫األقل البحث عن خصائص ه‬ ‫يبقى األمر مبهام جلهة الرؤية أو ى‬
‫خاصة عندما ى‬
‫طريقا‪َّ ،‬‬
‫دير شبيغل‪ :‬الفنّان أيضا‪ ،‬ينقصه التزام بالرتاث‪ .‬قد جيده مجيال ويمكنه القول‪ :‬نعم‪ ،‬هذه‬
‫هي الطريق التي كان يمكن للمرء رسمها من س ّتامئة سنة أو من ثالثامئة سنة أو ح َّت ىى من‬
‫ثالثني سنة‪ .‬ولكن مل يعد يفعل ذلك‪ .‬ح َّت ىى لو أراد ذلك‪ ،‬فهو لن يستطيع‪ .‬يمكن ألكرب فنّان‬
‫أن يكون املق هلد البارع هانس فان ميغرن‪ ،‬الذي كان بإمكانه حينئذ ْ‬
‫أن يرسم «أفضل» من‬ ‫إذا ْ‬
‫غريه‪ .‬لكن ما الفائدة اآلن‪ .‬إذا الفنّان والكاتب والشاعر يف وضع شبيه لوضع املف هكر‪ .‬فكم‬
‫غمض عينيك‪.‬‬ ‫أن نقول‪َ :‬أ ِ‬
‫مرة علينا ْ‬‫َّ‬
‫الفن والشعر والفلسفة‪ ،‬تكون‬ ‫ِ‬
‫هايدغر‪ :‬إذا اّت َذت «صناعة الثقافة» كإطار لتصنيف‬
‫ه‬
‫سم ىى ثقافة موضع شك‪،‬‬ ‫ربرة‪ .‬لكن‪ ،‬إذا مل تكن الصناعة فقط‪ ،‬بل صار أيضا ما ُي ّ‬ ‫املساواة م َّ‬
‫‪ ❖ 572‬دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب (‪ )3‬مارتن هايدغر‬

‫ه‬
‫الشك أيضا جزءا من عامل مسؤول َّية التفكري‪ ،‬برأيي ال يوجد ح َّت ىى اآلن‬ ‫يكون التفكري يف هذا‬
‫مف هكر يستطيع حتديد من هو العظيم باملقدار الكايف الذي يمكن ْ‬
‫أن يضع التفكري مبارشة أمام‬
‫عل طريقه‪َّ .‬‬
‫إن عظمة ما جيب التفكري فيه اليوم عظيم جدًّ ا بالنسبة إلينا‪.‬‬ ‫موضوعه وبالتال ى‬
‫نشق طريقا ونبني جسورا ض هيقة وقليلة االمتداد من أجل العبور‪.‬‬ ‫فقد نستطيع ْ‬
‫أن َّ‬
‫دير شبيغل‪ُ :‬أستاذ هايدغر‪ ،‬نشكرك ى‬
‫عل هذه املقابلة‪.‬‬

‫* * *‬
573 ❖ ‫يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر‬

:‫املصادر‬
Martin Heidegger, Being and Time ،trans. by John Macquarrie and Edward
Robinson New York: Harper & Row،1962.
Martin Heidegger، Die Frage nach der Technik ,Vorträge und Aufsätze
Pfullingen: Neske، 1954.
Martin Heidegger،Die Selbstbehauptung der deutschen Universität (1933;
Frankfurt: Klostermann،1983).
Martin Heidegger،Einführung in die Metaphysik،2nd. ed. Tubingen: Max
Niemeyer،1958.
Martin Heidegger،Nietzsche،vol. II Pfullingen: Neske،1961.
____________,What Is Metaphysics? trans. by David Farrell Krell،Basic
Writings،ed. by David Farrell Krell (New York: Harper & Row،1977).
Martin Heidegger ،Unterwegs zur Sprache (Pfullingen: Neske،1959).
Guido Schneeberger ،Nachlese zu Heidegger (Bern: 1962).
Martin Heidegger، Was Heisst Denken? 2nd ed. Tubingen: Niemeyer ،1961.

* * *

You might also like