Professional Documents
Culture Documents
مارتن هايدغر
مقاربات نقديَّة لنظامه الفلسفي
جمموعة باحثني
دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ()3
مارتن هايدغر
مقاربات نقد َّية لنظامه الفلسفي
جمموعة باحثني
الطبعة األُو ىل1441 :هـ 2020 /م
العتبة الع َّباس َّية املقدَّ سة
املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيج َّية
الفهرس
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا /خشايار برومند والس هيد حسني احلسيني409....
هايدغر واملوت (نقد إفراغي) /باول إدواردز 441 ....................................
من العدم إ ىل البحث عن جالء الفطرة /ديفيد تشاي477 ..............................
هل كان هايدغر صوف ًّيا؟ /جيف غيلفورد505 ........................................
مارتن هايدغر أو عبور الليل 519 .....................................................
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر 543 ...............................................
* * *
مقدّمة املركز
الظاهرة الغرب َّية يف عرصنا الراهن واسعة النطاق ومع َّقد ٌة غاي َة التعقيد لدرجة َّأّنا بسطت
عل مجيع بقاع العامل
نفوذها وجتاوزت تأريخ العامل الغرب وحدوده اجلغراف َّية ل ُتلقي بظالِّلا ى
عل سائر األنظمة وتسود يف خمتلف األوساط الفكر َّية املعارصة ،ومن َث َّم قطعت الطريق ى
املعرف َّية لتقول كلمتها.
عل عاملقة تأريخ الفكر الغرب املعارص رغم سطوته وسلطته الواسعةَّ ،إال أ َّنه ه
متقو ٌم ى
مدين للمف هكرين القدماء واملدارس الفكر َّية والفلسف َّية التي
ٌ الفكر البرشي ،وهو ه
بكل وجوده
أن تأثري علامء العصور الكالسيك َّية واحلديثة تأ َّلقت يف العهود السابقة؛ واجلدير بالذكر هنا َّ
ٌ
شامل وباق. عل هذا الفكر
ى
بعد إخفاق العلامء الغرب هيني يف صياغة األُنموذج األمثل الذي كانوا يطمحون لرتوجيه يف
احلياة االجتامع َّية لإلنسان احلديث ،وإثر عدم توقفهم عن الفضول املعريف إزاء شت ىّى
األوساط الفكر َّية يف املجتمعات غري الغرب َّية؛ واجه املف هكرون الرشقيون والغربيون
ٌ
سؤال املعارصون سؤاال مصري ًّيا ال حميص منه حول الظاهرة الغرب َّية الواسعة واملع َّقدة؛ فهو
ٌ
مشرتك ،حيث يواجهه من يتصدَّ ىى ملواجهة املده الفكري الغرب ،وكذلك من يدعو إ ىل احلوار
والتبادل املعريف.
عل ضوءهذه املواجهات الفكر َّية يف عرصنا احلارض حمتدم ٌة يف باطن العامل الغرب أيضا ى
ظهور العديد من املصطلحات ،مثل «مركز َّية ُأوروبا» و«العوملة» و«األمركة» ،وما
َ نقد أثمر
شاكلها.
سلسلة «دراسات نقد َّي ة يف أعالم الغرب» ،ضمن هدفها األسايس الذي يتمحور حول
الدراسات النقد َّية للفكر الغرب يف إطار بحوث حتليل َّية نقد َّية للمنظومات الفكر َّية لفطاحل
الفكر الغرب ورواده الذين أنشؤوه بفضل جهودهم الفكر َّية ،تتمحور مواضيعها حول بيان
اِّلواجس والتساؤالت املطروحة بخصوص ما ُذكِ َر.
❖ 6دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
نتعرض للفيلسوف األملاين مارتن هايدغر ،وهو بال شك يف هذا اجلزء من السلسلة َّ
عل مكانة
أهم فالسفة القرن العرشين؛ إذ حصل من خالل كتابه الكينونة والزمان ى واحد من ّ
مرموقة وممتازةَّ .
إن اجلانب األصيل املم هيز لتفكريه يكمن يف اهتاممه باألزمة ،سواء أخذنا
ذلك يف حقل املعرفة والفلسفة أو يف حقل التكنولوجيا وكينونة اإلنسان املعارص.
وبذلك يكون هايدغر ناقدا للناحية امليتافيزيق َّية والفلسف َّية للحضارة الغرب َّية ح َّت ىى
إل
عرصه ،حيث يعيدها إ ىل الوراء يف إطار «نسيان الوجود والتأمل يف املوجد» وصوال ى
اليونان القديمة ،كام هو ناقد للنزعة العمالن َّية والتكنولوج َّية للحضارة الغرب َّية احلديثة ،التي
عل قطع االرتباط
عملت -من خالل هيمنة النظرة امليكانيك َّية والرياض َّية إ ىل العامل -ى
تم التأسيس لسلسلة من األزمات ،ابتداء من اجلوهري بني اإلنسان والعامل .وبذلك َّ
إل اإلنسان ،وصوال إ ىل األزمات األنطولوج َّية
األزمات البيئ َّية الناشئة من النظرة اآللية ى
لإلنسان.
األول يتع َّلق بمقاربة أفكار هايدغر
وقد تم تدوين بحوث هذا الكتاب يف قسمني :القسم َّ
يف املناخ اإلسالمي والعرب ،والقسم الثاين يتع َّلق برؤية الغرب إ ىل هايدغر ورؤية هايدغر ى
إل
أن نختار البحوث التي متتاز بالنقد والتحليل. الغرب .وحاولنا ْ
أن ينال رضاهم ْ
وأن يساهم يف تنمية ونحن إذ ُنقده م هذه السلسلة إ ىل ُق َّرائنا الكرام ،نأمل ْ
أن نشيد بجهود ه
كل من ساهم يف إنجاز هذا الوعي النقدي يف ساحتنا اإلسالم َّية .وال يفوتنا ْ
العمل ،وأخص بالذكر منهم الدكتور أمري ع ّباس صاحلي ،حيث قام بإعداد وحترير هذه
حممد حسني الكيانی والس هيد
املوسوعة ،وكذلك الدكتور الس هيد حمسن املوسوي ،والدكتور ّ
حممد رضا الطباطبائي حيث قاموا باإلرشاف واملتابعة ،وكذلك مجيع من ساهم يف إنجاز هذا
ّ
العمل.
عل رسوله األمني وآله ِ
رب العاملني ،والصالة والسالم ى
وآخر دعوانا أن احلمد هلل ه
امليامني.
النجف األرشف
رجب1441 /هـ
املبعث النبوي الرشيف
القسم األوَّل
املقدّمة:
إل مصطلح االنعطاف( )1يف ُأ فق جتربة الفيلسوف األملاين مارتن هايدغر
النظر عموما ى
ُ يمكن
ه َّية ،نظرا ملا ينطوي عليه
عل أنَّه مصطلح شديد االلتباس وفائق األ ّ
(1976 - 1889م) ،ى
من دالالت خمتلفة يتداخل بعضها مع بعض ،وتتعالق مع سريته الثقاف َّية يف مجلتها.
أن هايدغر نفسه قد و َّظ َ
ف مصطلح االنعطاف يف سياقات ُمتعده دة ،تقتيض وهذا يعود إ ىل َّ
تنوعة ومتباينة أحيانا ،نجدها بداية يف صيغة باكور َّية يف كتاب هايدغر الوجود
دالالت ُم ه
والزمان الصادر عام ،1927ومن َث َّم نالحظها يف جمموعة حمدَّ دة من أعامله الفلسف َّية
َّ
الالحقة.
هذا أل َّن مصطلح االنعطاف ُيس َتخدم للتعبري عن التغريات يف مسار فلسفة هايدغر ،من
حيث أولو ّيات هذه الفلسفة واهتامماهتا وكيف َّية تناوِّلا ملوضوعاهتا ،كام َّ
أن هذا املصطلح عينه
األول
يف سياق ُحمدَّ د يقف وراء القسمة الشهرية يف شخص َّية هايدغر الفلسف َّية إ ىل هايدغر َّ
إل نرشه ملؤ َّلفه
الفلسفي ،وصوال ى
ه أن هايدغر منذ ْ
أن بدأ بالتأليف بمعنىَّ : ى وهايدغر الثاين،
أن مؤ َّل ِ
فاته الفلسف َّية التي جاءت األول ،بسبب َّ ِ
اآلنف الذكر الوجود والزمان ُدع َي هبايدغر َّ
أفىض إ ىل
ى السابق ما
الفلسفي بصورة خمتلفة عن َّ
ه بعد الوجود والزمان َح َّق َق ْت ُن ْق َلة يف تفكريه
عي بـ هايدغر الثاين .وهذا كله جاء يف سبيل انعطاف أو َحتَول ُم َّ
عني يف فلسفته ،ومن هنا ُد َ
إقامة التمييز بني طروح هايدغر كام جت َّلت بشكل خاص يف كتابه الوجود والزمان وطروحه
كام جت َّلت يف مؤ َّلفاته الفلسف َّية التالية لـ الوجود والزمان.
ِ
الذكر ،فهو يقول يف رسالة له بعثها القسمة الس ِ
الفة ِ يعرتف هبذه
ُ أن هايدغر نفسه والواقع َّ
َّ
إ ىل األب ويليم ج .ريتشاردسون(ُ )2أستاذ الفلسفة يف ك ّل َّية بوسطن( ،)3بسبب َّ
أن
ريتشاردسون كان َّأو َل من أعلن التمييز بني هايدغر َّ
األول وهايدغر الثاين:
ربر ًا رشيط َة أن
يكون ُم َّ
ُ األو ِل وهايدغر الثاين
إن التمييز الذي أجري َت ُه بني هايدغر َّ
َّ
نحو دائم يف الذهن :يمكن للمرء فقط عن طريق ما َفك ََّر فيه يبقى التايل م َّا أقو ُل ُه عىل ٍ
الوصول إىل ما هو ُم َفكَّر فيه من قِ َب ِل هايدغر الثاين؛
ِ األول أن يبلغَ وسيل َة هايدغر َّ
األول يصري مكن ًا فقط إذا كان ُحمتوى يف فكر هايدغر الثاين(.)1 لكن فكر هايدغر َّ
أن هايدغر استخدم مصطلح االنعطاف بوصفه ُحمده دا لكيف َّية العالقة و ُيضاف إ ىل ما سبق َّ
خاصة أ َّنه بفعل ثورة التقن َّية األُوروب َّية يف العرص احلديث مل َي ُعدْ الفكر
بني البرش والوجودَّ ،
معنى الوجود وحجب حقيقته.
ى اإلنساين مكرتثا بمسألة الوجود .وهذا أ َّد ىى إ ىل غموض
مدى تعق ِد دالالت مصطلح االنعطاف وتداخلها وتشابكها بعضها مع ى إذا يظهر جل ًّيا
بعض يف جتربة هايدغر الفلسف َّية ،لذلك هيدف هذا البحث ليكون بمثابة حماولة لفض مكنون
معنى االنعطاف ،لتبيان جوانب ها َّمة يف فلسفة هايدغر ما يزال يلفها الغموض،
ى دالالت
أن ُيسهم يف إعادة فهم هذه الفلسفة ونقدها من منظور جديد. وهذا بحده ذاته ُيمكن ْ
ت يف البحث نفسه كان قد أهداه هايدغر إ ىل ُأستاذه ُه هِّسل الذي أخذ عنه املنهج ال َّظاهر َّيا َّ
الفلسفي؛ لكن قام بتطبيقه يف ُأفق جديد خمتلف عن ذلك األُفق الذي حدَّ ده ُه هِّسل
ات( .)3وهذا األُفق اجلديد هو األنطولوجيا(( )4علم الوجود) .ويف هذا اخلصوص اهري ِ
ِ
لـ ال َّظ َّ
(1) Heidegger, Martin, Letter to William J.Richardson: Printed as Preface by Martin Heidegger, in: .
Richardson, S. J., William, Heidegger: Through Phenomenology To Thought, Fordam University
Press, New York, 2003, p. XXII.
(2) Edmund Husserl.
( )3الفينومينولوجيا (= ال َّظاهر َّيات) phenomenologyهي يف منظور إدموند ُه هِّسل علم وصف الظواهر الشعور َّية،
سميه ُه هِّسل الر يد الفينومينولوجي ،حيث يصل بوساطته إ ىل ماه ّيات عل ما ُي ّ
ويستند الباحث الفينومينولوجي ى
تتحول بدورها إ ىل معان يف وعي الذات املتعالية التي تقوم برتكيبها للوصول إ ىل احلقيقة.
َّ الظواهر التي
(4) Onotology
❖ 12دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
وجود)(.)1
أن ُُيرر ال َّظ ِ
اهر َّيات من إسار الذات املتعالية التي ُتفيض إ ىل رضب ومن هنا أراد هايدغر ْ َ ه َ
املعنى الوحيد املمكن لظهور الظواهر
ى من املثالية املتعالية ،إذ إ َّن الذات املتعالية هي التي ُ َ
حتده ُد
سميه ُه هِّسل الر َّد عرب ت َْص ِ
يريها ماه ّيات فكر َّية تقبع يف وعي هذه الذات املتعالية بوساطة ما ُي ّ
معنى ال َّظاهر َّيات يتوجب َّأال يكون قائام يف وعي
ى ارتأى هايدغر َّ
أن ى ت .ولذلك ال َّظاهر َّيا َّ
ِ
يتوجب ْ
أن يكون هذا َّ ت الذي يقصدُ اليشء بوصفه موضوعا له ،بل الفيلسوف ال َّظاه ِر َّيا ه
املعنى ذاته قائام يف اليشء نفسه .وهذا يعني أنَّه:
ى
َ
حيدث حتول يف عالقة اإلنسان مع األشياء ،مع اآلخرين ،ومع نفسه؛ ينبغي أن
وأخري ًا هذا التحو ُل عين ُه ليس شيئ ًا جديد ًا ،لكن هو كام ُيؤكِّد هايدغر أقدم القديم(،)2
َ
احلدث أن ذلك
وهذا التحول يف وجود اإلنسان يف العامل هو عودة إىل نفسه ،بمعنىَّ :
احلاسم( )3الذي من خالله تبزغ إىل الوجود عالقة اإلنسان والعامل ،يكون عىل وجه َ
الدِّ َّق ِة نقض ًا لإلدراك( ،)4وإيقاف ًا( )5أو رجوع ًا( )6من خالله عىل مستوى ال َّظاهر َّيات
املهمة واضح ًة(.)7
تصري َّ
املهمة يرى َّ ِ وهذا يعني َّ
أن َّ عل وعي الذات املتعالية ،إ َّنام ى
عول ظاهر َّيات ًّيا ى
أن هايدغر ال ُي ه
& (1) Heidegger, Martin, Being and Time. Translated by John Macquarrie and Edward Robinson. Harper
Row, HarperSanFrancisco, 1962, P.60.
اِّلم .وهذا
عل هيأة ه ّى
يتجل ى وعنى هايدغر بذلك َّ
أن الشكل األسايس لوجود الـ دازاين ى
( )1يرتجم عبد الرمحن بدوي كلمة ( Daseinدازاين) األملان َّية إ ىل اللغة العرب َّية بـ آن َّية مشريا يف كتابه (الزمان الوجود،
ال لرتمجة هذه الكلمة األملانيَّة التي دار الثقافة ،بريوت ،1973 ،هامش ،ص )5 :إ ىل َّ
أن كلمة آنيَّة :صاحلة فع ً
(احلق العرب يف االختالف ه كل اللغات األُوروبيَّة .لكن يقول طه عبد الرمحن يف مؤ َّلفه
استعصت ترمجتها إىل ِّ
الفلسفي ،املركز الثقايف العرب ،بريوت ،2002 ،ص :)158 :يبدو أنَّ اللفظ العريب الكينونة أقرب عىل أداء معنى
عل
موحد دليل ى
عل ترمجة مصطلح Daseinإ ىل اللغة العرب َّية بلفظ َّ
أن عدم االتهفاق ى الـ دازاين من غريه .واحلقيقة َّ
صعوبة ضبط هذا املصطلح يف اللغة العربيَّة ضبطا دقيقا.
(2) Dasein
اخلاص بالـ دازاين ،Existenzويقابلها باألملانيَّة ، Existence
ه الفعل ،ويعني هبا هايدغر نمط الوجود
ِّ ( )3بـ الوجود
ترمجنا من حيث إنَّه يوجد وجودا فعل ًّيا يف العامل.
(4) existence
(5) facticity
(6) falling
(7) Heidegger, Martin, Being and Time, P.274, 376 - 401.
❖ 14دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
أن هايدغر قد اعتقد أ َّنه ال يمكن الفعيل ووقائع َّيته وسقوطه .وبام َّ ِ
وجوده ناجم عن
ه ٌ
أي رضب من رضوب الوجود تقضيه ماه َّية مفارقة أ ًّيا كانت ،فإنَّه اللـ دازاين ْ
أن ُيوز أبدا َّ
حاول تقويض التعارض التقليدي بني الوجود واملاه َّية بقولهَّ :
«إن ماهية الـ دازاين تكمن يف
الفعيل»(.)1 ِ
وجوده
ه
وباملساوقة مع الوجود الفعيل اللـ دازاين ،أي وجود ُه كام هو متح هقق يف العامل ،تظهر
بمعنى :أ َّننا نالحظ َّ
أن: ى وقائع َّيته،
كون
األحجار واألشجار تكون حارضة -يف -متناول اليد داخل العامل ،وهذا ُي ِّ
()2
واقع ًة ،ونحن نتك َّلم عىل وقائع َّيتها (األحجار واألشجار)َّ .أما الـ دازاين فيكون أيض ًا
حارض ًا -يف -متناول اليد داخل العامل ،لكن ليس فقط أو يف املقام َّ
األول يكون
حارض ًا يف تلك الطريقة التي تكون عليها األحجار واألشجار فهي تكون بدون عامل،
أن الـ دازاين يكون عىل العكس من ذلك ،فهو يمتلك عامل ًا(.)3
غري َّ
أجرى متييزا بني املوجود اإلنساين وغريه من املوجودات
ى أن هايدغر والواقع هنا َّ
َّ
تتحق ُق فيه أن طريقة وجود اإلنسان تقتيض اجرتاحه لعامل خاص به عل أساس َّ األُ ى
خرى ،ى
خرى دون ْ
أن أن يكون مشاهبا للموجودات األُ ىتنأى به عن ْ
وقائع َّيته بصورة متنحه ُهو َّية ى
يكون غافال عن توجيه اهتاممه نحو هذه املوجودات أنفسها ،نظرا الرتباطه الصميمي معها.
وهذا يعني:
أن املوجو َد داخل العامل حيوز وجود ًا -يف -العامل أن وقائعي َة الـ دازاين ت ِ
ُفص ُح عن َّ َّ
َّ
ٍ
منفصل من حيث َقدَ ُر ُه عن بالطريقة التي يمكن له فيها أن يفهم نفسه بوصفه غري
تلك املوجودات التي يالقيها داخل عامله(.)4
عل أساس وقائع َّيته داخل العامل
وعل هذا األساس يكون هايدغر قد َم َّيزَ الـ دازاين ى
ى
خرى ،مثل :األحجار ،واألشجار ...إلخ ،ولذلك كموجود خمتلف عن املوجودات األُ ى
(1) Throwness
(2) Ibid, P.174.
(3) Falling
(4) Ibid, P.220.
(5) Ibid, P. 230.
❖ 16دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
انعطاف الوجود:
فعم َق تصورهالفلسفيَّ ،
ه لتوجههمعنى االنعطاف بالنسبة ه ى ه َّية
مدى أ ّ
أن هايدغر أدرك ىوظاهر َّ
ٌ
ِ ()4 ِ
حلدَ ث) املكتوب بني عامي حول االنعطاف يف مؤ َّلفه :إسهامات يف الفلسفة (من ق َب ِل ا َ
،1938 -1936واملنشور بعد وفاته عام .1989
أن َثم انعطافا يتع َّلق باألصل يف احلدَ ِ
ث؟ ويتساءل هايدغر: َ وحاول هايدغر هنا تبيان َّ َّ
ث؟ [وجييب ]:فقط ُقدُ و ُم احلدَ ِما هو هذا االنعطاف الذي يتع َّلق باألصل يف َ
نفسه؛ أ َّما ثانيا فهو انعطاف الوجود نحو الـ دازاين ،ما ُيفيض إ ىل انعطاف هذا األخري نحو
تنوس
ُ تبقى أن حقيقة الوجود قد جت َّلت بشكل ّنائي ،وذلك َّ
ألّنا ى نفسه؛ َّإال َّ
أن هذا ال يعني َّ
ِ
الظهور واخلفاء. بني
أن البرش قد استغرقوا أنفسهم يف زمان التاريخ الواقعي الذي هو زمان احلياة وبام َّ
معنى ِ ِ اإلنسان َّية بمشكالهتا املعهودةَّ ،
أي تساؤل حقيقي من ق َبلهم عن ى فإن هذا أ ّد ىى إ ىل غياب ه
طي النسيان(.)1
ألن هذا التساؤل صار اليوم يف هالوجودَّ ،
وقد َّبني هايدغر ذلك يف الصفحة األُو ىل من كتابه الوجود والزمان بقوله:
هل نمتلك نحن البرش يف عرصنا الراهن إجاب ًة َّ
عام نعنيه فع ً
ال بكلمة وجود()2؟ ال
عىل اإلطالق .هكذا يكون مناسب ًا أ َّنه َّ
يتوجب علينا أن نُحيي من جديد السؤال عن
معنى الوجود(.)3
أن ال اكرتاث البرش بمشكلة الوجود آل هبم إ ىل إهال ليس فقط البحث عن يظهر من هنا ْ
أن فلسفة هايدغر ك َّلها ُت َعد
إجابة لسؤال الوجود؛ بل إهال هذا السؤال نفسه .واحلقيقة َّ
بمثابة حماولة للوصول إ ىل هذه اإلجابة ،فقد كان هدفه الرئيس من مؤ َّلفاته التي نرشها يف
حياته الطويلة هو البحث عن إجابة لسؤال الوجود.
عام ًة (الصخور( ،)4األدوات(،)5 يتناول هذا السؤال يف ما يتع َّلق باألشياء َّ
يكون وجود ًا بالنسبة هلذه األنواع من َ الناس( ...)6إلخ) ما الذي يمكن أن
للمرة األُوىل من قِ َبل الفالسفة
َّ املوجودات؟ إ َّنه سؤال األنطولوجيا الذي ُو ِض َع
اليونان ِّيني القدماء بدء ًا من أنكسيمندريس وصوالً إىل ُأرسطو(.)7
أن الباحث يف تاريخ الفلسفة سوف يكتشف َّ
أن الفالسفة أن هايدغر قد الحظ أيضا َّ غري َّ
عموما مل ينجحوا يف إجياد جواب صحيح عن سؤال الوجود .ويعزو ذلك إ ىل تأثرهم بفلسفة
أفالطون ،بام حتمله من عنارص سلب َّية ُتفيض إ ىل فهم الوجود بطريقة خاطئة.
املنشور يف كتابه الوجود والزمان إ ىل البحث يف الوجود بصورة ُتفيض إ ىل الكشف عن معناه
وسبب انعطافه بعيدا عن البرش.
وكان هايدغر واعيا هبذا النقص يف كتابه ،لذلك:
ثان؛ لكنَّه تو َّقع َّ
أن منشوراته ٍ
بجزء ٍ يأسف لعدم قدرته عىل إكامل الوجود والزمان
(3) The Interpretation of Dasein in Terms of Temporality, and the Explication of Time as
( )3هيدجر ،مارتن ،الزمان والوجود ،ترمجة :عبد اِّلادي مفتاح ،إرشاف ومراجعةّ :
حممد سبيال ،يف :مارتن هيدجر،
التقنيَّة .احلقيقة.
( )4هايدجر ،مارتن ،الطريق إىل اللغة ،يف :كتابات أساسية ،اجلزء الثاين ،ترمجة وحترير :إسامعيل املصده ق ،املجلس
األعل للثقافة .املرشوع القومي للرتمجة ،القاهرة ،2003 ،ص.260 :
ى
❖ 24دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
الكلامت واملوجودات ربطا صميم ًّيا حمكام بحيث ال يمكن الفصل بني اللغة والوجود:
أن الكلامت -ماهويا -حتيل إىل املوجودات ،وبالعكس املوجودات هي -
بسبب َّ
ماهويا -معنى مو َقر( .)1وهكذا يمنح هذا املعنى عينه املنشأ للكلامت(.)2
ومن هذا املنطلق نظر هايدغر إ ىل اللغة بوصفها موضوعا غن ًّيا جدًّ ا لألنطولوجيا ،أل َّنه
ارتأى:
ى
ألن تاريخ الكلامت هو نفسه َّ
يتكشف تاريخ الوجودَّ ، أن يف تاريخ ِّ
كل كلمة َّ
فإن االشتقاق هو الطريق الوحيد لألنطولوجيا
تاريخ الوجود .ومن وجهة النظر هذه َّ
بوصفها إعادة بناء لتاريخ الوجود(.)3
وقد ُعنِ َي هايدغر أيضا يف ُأفق بحثه يف اللغة بالعالقة بني الشعر والوجود ،فقد أكَّد يف
الشعر املنشور سنة َّ 1936
أن: بحثه املوسوم بـ هيلدرلن وماه َّية ه
جمرد وضع اسم ليشء سمي األشياء بام هي عليه ،وليست هذه التسمية َّ الشاعر ُي ِّ
ٍ
معروف من قبل ج ِّيد ًا ،بل حني ينطق الشاعر بالكالم اجلوهري حينئذ ُي ِّ
سمي املوجود
عرف عىل هذا النحو بوصفه موجود ًا(.)4
هبذه التسمية عىل ما هو عليه ،و ُي َ
عل أن هايدغر جيد يف شاعر َّية الشاعر التي تت ّ ى
جل يف قوله الشعري قدرة ى الحظ هنا َّ
إذا ُي َ
تأسيس للوجود بواسطة الكالم»(.)5ٌ عر ه
«فالش ُ حتديد وجود املوجود باللغة،
هيب
أن َوحاول هايدغر أيضا يف بحثه املوسوم بـ أصل العمل الفنّي املنشور سنة ْ 1936
( )1هايدغر ،مارتن ،أصل العمل الفني ،مع مقدمة للفيلسوف غادامري ،ترمجة :أبو العيد دودو ،منشورات االختالف،
اجلزائر ،2001 ،ص.107 :
( )2املصدر السابق ،الصفحة نفسها.
(3) On the Essence of Truth.
(4) The answer to the question about the essence of truth is: the essence of truth is the truth of
the essence, Heidegger, Martin, On the Essence of Truth Translated by: R.F.C. Hull, Alan
Grick, in: Existence and Being, ed. Werner Brock. Chicago: Regnery, 1949. Pp.317 - 351.
❖ 26دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) abeing
(2) Ibid, P. 319.
(3) formulation the problems.
(4) Ibid, P. 319.
(5) correctness
(6) Inwood, Michael, A Heidegger Dictionary, P.232.
(7) lighting sheltering.
❖ 28دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
التقنيَّة واالنعطاف:
نرش هايدغر يف عام 1962جمموعة حمارضات جاءت حتت عنوان التقن َّية واالنعطاف ،ن َّبه
أن هايدغر َّ
حذر من هذا اخلطر بعد احلرب العامل َّية والالفت َّ
فيها إ ىل خطر يتهدَّ د الوجودَّ .
وضح جورج باتيسون(َّ )3
أن هذا اخلطر املشار إليه: الثانية واّنيار أملانيا الناز َّية .و ُي ه
(1) in the light of the concealing withdrawal ,Heidegger, Martin, On the Essence of Truth,
Pp.317 - 351.
(2) Ibid, Pp.317 - 351.
(3) George Pattison
دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ 29
مل يكن الشيوع َّية الروس َّية ،وال الرأسامل َّية األمريك َّية ،وال هو يف توقع مجيع ما هو
اخلاص (االنسياق استجاب ًة حلضور
ِّ خارج احلرب بينهام؛ لكن يف تصييغ هايدغر
اهليكلة هو اخلطر)(.)1
ما الذي يقصده هايدغر هبذا املصطلح الغريب اِّليكلة Enframing؟ َّ
إن اِّليكلة بالنسبة
بمعنىَّ :أّنا ما يقف وراء تشكيل
ى معنى التقن َّية يف العرص احلديث،
ى فهم من خالِّلا
له هي ما ُي َ
معنى اِّليكلة وفقا ملنظور هايدغر من حيث عالقتها بالتقن َّية بتأكيده َّ
أن: ى العامل تقن ًّيا .ويتحدَّ ُد
اشرتاطي متام ًا يمكن أن نقول:
ٍّ اهليكلة ليست هي نفسها شيئ ًا تقنيا؛ لكن عىل ٍ
نحو
مؤسس حتتي للتقن َّية احلديثة(.)2
َّإّنا يشء مثل :عقل ِّ -
أن اِّليكلة بمثابة ُخم هطط للهيئات التقن َّية التي تتمظهر بأشكال عديدة يف
يتبني َّ
من هنا َّ
إل أكثرها تعقيدا؛ َّإال َّأّنا ال تقف
املخرتعات الصناع َّية اإلنسان َّية بدءا من أبسطها وصوال ى
ألّنا ظاهرة ح َّت ىى يف ُط ُرق تفكري البرش وعاداهتم اليوم َّية .ولذلك:
عند هذا احلده َّ ،
حني نتك َّلم عىل صناعة الثقافة أو ُأرستقراط َّية العرص أو كون املستهلكني من
الريف ،فنحن نكشف عن تأثري اهليكلة يف طريقة تفكرينا.
عل حياة الناس إ ىل هذه غري َّ
أن السؤال املطروح اآلن ملاذا يعد هايدغر اِّليكلة طاغية ى
عل أنفسهم أم هي من أصل غري إنساين؟الدرجة ،فهل البرش هم الذين س َّلطوها ى
لقد كان جواب هايدغر عن هذا السؤال هو التال:
فعل إنساين؛ لكن يأيت -كام يقول هايدغر -بقضاءٍ
أي ٍال يكمن أصل اهليكلة يف ِّ
ٍ
وقدر من الوجود األصل(.)3
قر َر بقضاء وقدر منه مصري عل ْ
أن ُي ه أن هايدغر قد منح الوجود القدرة ىالحظ هنا َّ
لكن ُي َ
أن ُيوز مثل هذه القدرة .واحلقيقةربر كيف يمكن للوجود ْ ِ
وجود العامل اإلنساين؛ لكن مل ُي ه
أن: أن َّ
كل ما يقوله هايدغر يف هذا السياق هو َّ َّ
(1) The coming to presence of Enframing is the danger, Pattison, George, The Later
Heidegger, Routledge, London & New York, 2000, P.2.
(2) the mind-set underlying modern technology, Ibid, P.2.
(3) destining of primordial being, Ibid, P.3.
❖ 30دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
اإلنسان نحو انتظار الوجود ،أي انتظار القضاء والقدر اللذين سوف يبعثهام الوجود بصورة
خمتلفة عن السابق (هيكلة العامل تقن ًّيا)؛ َّ
ألن الوجود من حيث تكيفه الذات مع قابل هية اإلنسان
سفر عن قضاء وقدر ينسجامن مع كون هذا اإلنسان املُنتظِر املَعني بمسألة الوجود سوف ي ِ
ُ
غري موقفه إزاء البرش باعتبار أن الوجود يمكن ْ
أن ُي ه َ عل َّ معن ًّيا بمسألة الوجود .وهذا يدل ى
وجود ُأناس يكونون معن هيني بالوجود ،بحيث ينصب اهتاممهم ى
عل انتظار الوجود ح َّت ىى
غري عل إمكان ْ
أن ُي ه َ باملعنى احلقيقي .وما يمنح قيمة ِّلذا االنتظار هو أ َّنه قائم ى
ى يكشف عن ذاته
ت مع هؤالء الناس املعن هيني بمسألة الوجود ،أي إ َّن الوجود ي َّتجه نحو الوجود تكي َف ُه الذا َّ
فسح يف املجال إظهار حقيقته عندما يعثر عل من ينتظر التوص َل إل هذه احلقيقة .وهذا ي ِ
ُ ى ى
أن ينتشل البرش من اخلطر الذي أوقعوا أنفسهم فيه ،أو إن الوجو َد ذات ُه يريد ْ للقولَّ :
ألّنم استغرقوا حيواهتم يف ُط ُرق ى
تنأى هبم عن باألحرى الذي أوقعهم فيه الوجود ذاته؛ َّ ى
كونته التقن َّية. ِ
الوجود ،و ُتقحمهم يف رضوب من العيش مستمدَّ ة من العامل الذي َّ
ولذلك ينتشل الوجود البرش من هذا اخلطر عندما جيد بينهم اإلنسان (املُنتظر) للوجود
بصورة تكشف عن حقيقته التي تنسجم مع تذكره ال نسيانه ،واالكرتاث به ال إهاله.
ملعنى االنعطاف ،أي انعطاف اإلنسان نحو انتظار
ى عل هذه الداللة السادسة
وترت َّتب ى
َ
اإلنسان ينعطف من نسيان الوجود إ ىل رعاية الوجود ،داللة سابعة نامجة عنها ،وهي َّ
أن
الوجود.
َّ
إن اّنامم اإلنسان بحياته الدنيو َّية العاد َّية ،وانشغاله بشؤون حياته ،وما يقتضيه ذلك من
عل ه
كل تفاصيل مطالب ما ّد َّية ،وعنايته املفرطة باملخرتعات التكنولوج َّية التي سيطرت ى
يتوجب عليه ْ
أن َّ ألهم مسألة
ه أفىض إ ىل إهاله
ى عالقته مع العامل من حوله ...إلخ ،هذا كله
عنى هبا ،وهي مسألة الوجود .وإذا مل ُي ْع َن اإلنسان بمسألة الوجود َّ
فإن ذلك سوف يؤول ُي ى
يتوجب
مهمة َّ
بمعنى الوجود إ ىل النسيان ،بل إ ىل الضياع واالختفاء ّنائ ًّيا ،لذلك تظهر هنا َّ
ى
عل اإلنسان املُنت َظر ْ
أن يضطلع هبا هي رعاية الوجود ،وتكون هذه الرعاية عينها بوساطة ى
عل أ َّنه:
نمط جديد من التفكري يتحدَّ د يف منظور هايدغر ى
سالح يستهدف به تغيري الواقع لصالح الوجود الذي هو التجميع وسط التشتت.
دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ 33
وهذا التفكري ُحي ِدث يقظ ًة لإلنسان من أجل أن ُيضفي الرعاية واحلامية عىل الوجود.
واخلطوة األُوىل نحو مثل هذه اليقظة هو االرتداد من التفكري الذي يعرض األشياء
فحسب ،أي الذي يرشح إىل التفكري الذي ُيفكِّر ويستجيب ويستدعي(.)1
عل اإلنسان ْ
أن ينعطف نحو رعاية الوجود بنوع جديد من التفكري ال يتبني َّ
أن ى وعليه َّ
عل حقيقة الوجود ،وإ َّنام يكون هدفه هو حفظ الوجود
يكون هدفه هو وضع رشوح تعسف َّية ى
بوساطة االستجابة له واستدعائه كيام يكشف عن حقيقته األصيلة.
عل الدالالت الفرع َّية
ملعنى االنعطاف ترت َّتب أيضا ى
ى ويبقى ْ
أن نشري إ ىل داللة ثامنة ى
ّى
تتجل يف انعطاف اإلنسان من كونه اإلنسان الصانع س هيد الكون إ ىل اإلنسان راعي السابقة
الوجود.
عل اإلنسان َّأال يمنح األولو َّية من حيث وجوده البتكار
ب ى يتوج ُ
َّ وهذا يعني أ َّنه
املخرتعات التقن َّية واالنشغال هبا واخلضوع لسريورهتا؛ لكن كيف يمكن لإلنسان َّأال يمنح
جمرى
ى َّ
وتتدخل ح َّت ىى يف عل ه
كل تفاصيله، األولو َّية للتقن َّية وهو يعيش يف عامل تسيطر التقن َّية ى
ارتأى هايدغر أ َّنه ينبغي
ى حياته اليوم َّية (كهرباء ،مواصالت ،أجهزة إلكرتون َّية ...إلخ)؟ هنا
ْ
أن:
إن نتحكَّم بالتقن َّية و ُن ِّ
وجهها لصالح غايات روح َّية ،نريد أن نصبح ساد ًة عليهاَّ .
إرادة السيادة هاته تصبح أكثر إحلاح ًا ك َّلام هدَّ دت التقن َّية أكثر باالنفالت من مراقبة
اإلنسان(.)2
أن ُخي هلص اإلنسان من شغفه بكونه صانعا للتقن َّية
ومن هذا املنطلق حاول هايدغر ْ
عل حياته ،ومن
تطغى ى
ى عل التحكم بمسارها ح َّت ىى ال
ومستخدما ِّلا ،إ ىل كونه إنسانا قادرا ى
يتوجه اإلنسان نحو الوجود
أن ََّث َّم حتجب الوجود عنه .وعندما ال يكون أسريا للتقن َّية ال بدَّ ْ
ح َّت ىى َّ
يتواله بالرعاية واحلفظ.
( )1جماهد ،جماهد عبد املنعم ،هيدجر راعي الوجود ،دار الثقافة للنرش والتوزيع ،القاهرة ،1983 ،ص.76 :
حممد سبيال ( )2هيدجر ،مارتن ،مسألة التقني َّة ،ترمجةّ :
حممد سبيال ،يف مارتن هيدجر :التقنية .احلقيقة .الوجود ،ترمجةّ :
وعبد اِّلادي مفتاح ،املركز الثقايف العرب ،الدار البيضاء .بريوت ،1995 ،ص.45 :
❖ 34دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
نتائج البحث:
طي النسيان ْ
أن ُي هبني تتجل يف إخراج الوجود من ه َّ ى لقد أراد هايدغر يف حماولته الفلسف َّية التي
ه َّية الفائقة التي تكمن يف حرك َّي ِة توجه املوجود اإلنساين نحو كشف حقيقة هذا الوجود. األ ّ
ألن املوجود اإلنساين أو عل َّأّنا ُممْتَنِ َع ٌة؛ َّ ِ
وقد نظر هايدغر يف بداية املطاف إ ىل هذه احلرك َّية ى
عل حده تعبري هايدغر الـ دازاين يكون بفعل سقوطه يف العامل منهمكا يف شؤونه الدنيو َّي ِة ،نا ًّدا ى
استغراق املوجودِ ِ ناجم عن عنى بمسألة الوجود ،وهذا الندو ُد عينه من حيث إ َّنه عن ْ
ٌ أن ُي ى
يدفع به إ ىل ُ رات ِه يف ما تسوقه إليه حياته العاد َّية داخل العامل واهتاممات ِه وتفك ِ
ِ اإلنساين حيا َت ُه
ه
اإلنساين خيِّس ذاته بمحاولته ْ
أن يكسبها بوصفها َّ االنعطاف بعيدا عن ذاته ،أي إ َّن املوجود
أن يربط ربطا صميم ًّيا ُحمكام أن هايدغر أرا َد ْ
ذاتا ال تتعدَّ ىى غاياهتا احلياة الدنيو َّية العاد َّية ،غري َّ
ِ
املوجودات اإلنسان َّي َة بط عينه ُُيده ُدومصرييا بني املوجود اإلنساين والوجود .وهو يف هذا الر ِ
َّ ًّ
دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر ❖ 35
َ
يكون لكن هل يصح فقط من حيث إ َّن الـ دازاين وجو ٌد فعيل موجو ٌد -يف -العامل ْ
أن
ري مثل هذا االنسجا َم اآلنف الذكر ،مع املوجودات األُ ى
خرى ومع نفسه قادرا ع ىل ْ
أن ُجي َ
بوصفه موجودا.
هنا يعزو هايدغر هذا االنسجام إ ىل فهم الـ دازاين للوجود ويتساءل:
ِ
للوجود( )1مكن ًا بالنسبة اللـ دازاين؟ يمكن املتكش ُ
ف ِّ لكن كيف يكون هذا الفهم
ِ
لوجود ذلك اجلواب عن هذا السؤال من خالل الرجوع إىل التكوين األصل
الـ دازاين الذي من خالله يكون الوجو ُد مفهوم ًا(.)2
مر سابقا َّ
أن هايدغر قد قال: وكان قد َّ
الفعل يف العامل
َّ الفعل ،ويعني بذلك وجود ُه
ِّ إن ماه َّية الـ دازاين تكمن يف وجوده
َّ
الذي ُيق ِّي ُض له َ
فهم الوجود.
مر سابقا أيضا -من جهة الزمان َّية ابتغا َء
الفعيل عين ُه -كام َّ
َّ وقد َف َّ َ
ِّس هايدغر هذا الوجود
أن ُيعيدنا هايدغر يف نقطة النهاية إ ىل نقطة البداية؟ ُياول معنى الوجود ،فهل يصح ْ ى كشف
سو َغ ذلك بقوله: هايدغر ْ
أن ُي ه
مؤسس يف َّ
()3
التكوين األنطولوجي -الوجودي الفعل لك يل َّي ِة الـ دازاين
يكون مكن ًا بطريقة َبدئ َّي ٍة
َ ُ
االختطاط الوجدي للوجودي( )5نبغي أن ال َّزمان َّية( .)4من هنا
تتزمن الزَّمان َّي ُة الوجد َّي ُة(.)7()6
ما ،تُتيح من خالهلا أن َّ
أن يربط ربطا صميم ًّيا إ ىل أبعد حد بني الوجود والزمان يف ُأفق
وهنا حاول هايدغر ْ
أن الوجو َد ال يمكن ْ
أن عالقة الـ دازاين هبام ،هادفا من ذلك إ ىل إلغاء الفرق بينهام ،لينتهي إ ىل َّ
َّب عن حماولته حتليل الـ دازاين من جهة الزمان َّية ابتغاء فهم واملهم هنا َّ
أن هايدغر تنك َ
خرى يروم من خالِّلا فهم الوجود ،وتظهر هذه الوجود ،واستعاض عنها بمحاولة ُأ ى
عل َّ
أن الوجو َد املحاولة األخرية أكثر ما تظهر يف تأكيد هايدغر -كام مت َّت اإلشارة إ ىل ذلك -ى
ينعطف نحو البرش ،وانعطافه هنا ُيمل داللة مزدوجة ،أل َّنه ُيصل و ْف َقا لقابل ّيات البرش
الذين يتل َّقونه ،فإذا كانت قابل ّياهتم سلب َّية انعطف عنهم ،وإذا كانت قابل ّياهتم إجياب َّية انعطف
إليهم.
أن هايدغر هنا ِعوضا عن ْ
أن يفهم الوجود يف ُأفق الوجود اإلنساين فهم الوجود والواقع َّ
تتوس ُل
َّ بمعنى :أنَّه مل يكن ملتزما بطريقته يف البحث والتي
ى اإلنساين يف ُأفق الوجود،
عل وجه احلرص يف الـ دازاين
امليتافيزيقا ،لكن من حيث هي َّأوال أنطولوجيا أساس َّية تبحث ى
انطالقا إ ىل فهم الوجود ،ومن حيث هي ما بعد أنطولوجيا تبحث يف ك ّل َّية الوجود انطالقا
ِ
بحث الـ دازاين. تم الوصول إليها يف
من النتائج التي َّ
أن هايدغر َط َف َر إ ىل الوجود مبارشة وأطلق أحكاما تتع َّلق بانعطافه أو
الحظ َّومن هنا ُي َ
سوغ يسمح له بذلك ،وهو أيضا من حيث إ َّن ُه
ربر أو ُم ه
أي م ه
عدم انعطافه نحو البرش ،دون ه
ٌ
زمان ،قال بفكرة انعطافه أو عدم انعطافه ،فكيف يمكن ِّلذا نتهى إ ىل َّ
أن الوجو َد ذا َت ُه ا ى
عل االنعطاف أو عدمه؟ فانعطاف الزمان الوجود الذي هو أصال زمان ْ
أن يملك القدرة ى
عل َّأّنا هي التكوين األسايس مثال نحو الـ دازاين املتز همن بزمان َّية مع َّينة حدَّ دها هايدغر ى
سفر أيضا عن سفر عن انكشاف الوجود بالنسبة للـ دازاين عل أ َّنه زمان ،كام ي ِ للـ دازاين ،ي ِ
ُ ى ُ ُ
فإّنا هي نفسهاوعل هذا األساس َّ ى فهم الـ دازاين للموجودات يف ضوء زمان َّيته نفسها،
أن املشكلة هنا يف فكر هايدغر تظهر من حيث إ َّنه ليس ُم ْكتَنِ َف ٌة يف هذه الزمان َّية عينها؛ غري َّ
أن ُنم هيزَ متييزا دقيقا بني ُكل من الوجود والـ دازاين واملوجودات؛ أل َّنه يفهمها مجيعا بمقدورنا ْ
عل أساس الزمان وينتهي إ ىل َّأّنا هي أنفسها جت ّليات خمتلفة للزمان ،فهو يقول يف مؤ َّلفه
ى
املشكالت األساس َّية يف الفينومينولوجيا( )1والذي ُي َعد بمثابة تكملة ملؤ َّلفه الوجود والزمان:
ٍ
بشكل ُمسبق انبثاق يف إن إنجاز التمييز بني الوجود واملوجودات هو دائ ًام َّ ...
عل أساس زمان َّية أن هايدغر قد م َّيزَ بني الوجود واملوجودات ى ويبدو جل ًّيا هاهنا َّ
ِ
املوجودات ُت ْف َه ُم بالنسبة زمان وإ ىل َّ
أن ٌ انتهى إ ىل َّ
أن الوجو َد ذات ُه الـ دازاين ،وكان قد
ى
َ
الزمان هو وعل هذا هي متع هلقة هبا .وهذا ُكل ُه يؤول إ ىل َّ
أن ى للـ دازاين يف ضوء زمان َّيته،
فصح عن ذلك حتليل فلسفة هايدغر؛ لكن األساس املطلق والنهائي ملعنى الوجود كام ي ِ
ُ ى
أمر ال يمكن التسليم به كام دلت الربط بني فكرة الوجود وفكرة االنعطاف كام أراد هايدغر ٌ َ
ينعطف بوصفه زمانا
َ يمكن ْ
أن ُ ٌ
زمان ال ألن الوجو َد من ح ُ
يث هو عل ذلك نتائج البحثَّ ،
ى
نحو دازاين تكوينه األسايس هو الزمان َّية بسبب َّ
أن هذا ُي َعد تغيريا يف أصل الزمان جيرتح ُه
الزمان نفسه يف جمراه اجرتاحا ،وهذا حمال َّإال إذا كان الزمان ُيوزُ رضبا غامضا من الوعي،
معنى وجود
ى عل أ َّن ُه اهلل تعا ىل .وبذا يكون هايدغر قد فهم وهذا يعني َّ
أن هايدغر فهم الزمان ى
الـ دازاين انطالفا من الوجود اإلِّلي املقدَّ س .وهذا ُي َعد نوعا من ال َعود إ ىل امليتافيزيقا
عى هايدغر أ َّن ُه جتاوزها.
التقليد َّية التي ا َّد ى
* * *
املصادر:
بدوي ،عبد الرمحن ،الزمان الوجودي ،دار الثقافة ،بريوت.1973 ،
عبد الرمحن ،طه ،احلق العريب يف االختالف الفلسفي ،املركز الثقايف العرب ،الدار البيضاء -بريوت.2002 ،
وعيل حاكم صالح،
ّ غادامري ،هانز جورج ،احلقيقة واملنهج :اخلطوط األساسي َّة لتأويلي َّة فلسفي َّة ،ترمجة :حسن ناظم
العظمى.2007 ،
ى راجعه عن األملانيَّة :جورج كتورة ،دار أويا ،طرابلس -اجلامهري َّية
جماهد ،جماهد عبد املنعم ،هيدجر راعي الوجود ،دار الثقافة للنرش والتوزيع ،القاهرة.1983 ،
ملحق موسوعة الفلسفةَّ ،
املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش ،بريوت.1996 ،
هايدجر ،مارتن ،الطريق إىل اللغة ،يف :كتابات أساسي َّة ،اجلزء الثاين ،ترمجة وحترير :إسامعيل املصدق ،املجلس
األعل للثقافة -املرشوع القومي للرتمجة ،القاهرة.2003 ،
ى
هايدغر ،مارتن ،أصل العمل الفنيي ،مع مقدّ مة للفيلسوف غادامري ،ترمجة :أبو العيد دودو ،منشورات االختالف،
اجلزائر.2001 ،
هيدجر ،مارتن ،الزمان والوجود ،ترمجة :عبد اِّلادي مفتاح ،إرشاف ومراجعةّ :
حممد سبيال ،يف :مارتن هيدجر،
حمم د سبيال وعبد اِّلادي مفتاح ،املركز الثقايف العرب ،الدار البيضاء -بريوت،
التقنيَّة -احلقيقة -الوجود ،ترمجةّ :
.1995
هيدجر ،مارتن ،مسألة التقني َّة ،ترمجة حم ّمد سبيال ،يف :مارتن هيدجر :التقنيَّة -احلقيقة -الوجود ،ترمجةّ :
حممد سبيال
وعبد اِّلادي مفتاح ،املركز الثقايف العرب ،الدار البيضاء -بريوت.1995 ،
هيدجر ،مارتن ،هيلدرلن وماهي َّة الشعر ،ترمجة :فؤاد كامل ،يف :مارتن هيدجر :ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا؟ -
عل األصل األملاين :عبد الرمحن بدوي ،دار الثقافة
هيلدرلن وماهيَّة الشعر ،ترمجة :فؤاد كامل وحممود رجب ،وراجعها ى
للطباعة والنرش ،القاهرة ،الطبعة الثانية.1974 ،
A Heidegger Dictionary,Blackwell Publishers Inc., Malden, Massachusetts, 1999.
Contributions to Philosophy (From Enowning). Translated by Parvis Emad and
Kenneth Maly, Indiana University Press, Bloomington and Indianapolis, 1989.
Dictionary of Philosophy, General Editor: Robert Audi, Cambridge University
Press, 1999.
Guignon, Charles B., Heideeger,in: The Cambridge.
Heidegger, Martin, Being and Time. Translated by John.
Heidegger, Martin, On the Essence of Truth. Translated by: R.F.C. Hull, Alan
Grick, in: Existenceand Being, ed. Werner Brock. Chicago: Regnery, 1949.
Inwood,Michael,Heidegger: A Very Short Introduction, Oxford University
Press, Inc, Oxford New York, 1997.
41 ❖ دالالت معنى االنعطاف يف فلسفة مارتن هايدغر
* * *
مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة
()1
من وجهة نظر صدر املتألِّهني ومارتن هايدغر
()2
حممد رضا أسدي
ي
اخلالصة:
ه
املتأِّلني( )3ومارتن هايدغر( )4يف سوف نتناول يف هذه املقالة بحث رؤية كل من صدر
موضوع ومنهج وغاية الفلسفة بطريقة مقارنة ،وسوف ي َّتضح َّ
أن موضوع الفلسفة إذا كان
يتم َّثل عند صدر ه
املتأِّلني بـ املوجود بام هو موجود ،فإ َّنه عند هايدغر يعني الوجود ،وإذا كان
املتأِّلني هو الربهان العقيل ،فهو يتم َّثل عند هايدغر بالظاهرات َّية(.)5
ه املنهج يف فلسفة صدر
وبالتال َّ
فإن غاية الفلسفة بالنسبة إ ىل صدر ه
املتأِّلني هي الوصول إ ىل السعادة ،بينام هي بالنسبة
جمرد معرفة الوجود.
إ ىل هايدغر َّ
ه
املتأِّلني تكمن يف إيصال َّ
إن الغاية األساس َّية والنهائ َّية للفلسفة من وجهة نظر صدر
النفس اإلنسانية إ ىل الكامل( ،)1أو تشبه اإلنسان باخلالق سبحانه وتعا ىل( .)2ولكن حيث
فإن الفلسفة أو احلكمة النظر َّية تتك َّفل
قوتني :نظر َّية وعمل َّيةَّ ،
عل َّ
تشتمل النفس اإلنسان َّية ى
القوى العقل َّية والنظر َّية لإلنسان إ ىل الكامل ،وأ َّما الفلسفة أو احلكمة العمل َّية
ى بإيصال
القوى العمل َّية لإلنسان إ ىل الكامل.
ى واألخالق فهي التي تتك َّفل بإيصال
ُيظى التناغم بني التفكري ونتائج التحقيق الفلسفي مع الده ين اإلسالمي
ى ويف هذا اإلطار
بالنسبة إ ىل صدر ه
املتأِّلني باالعتبار والقيمة ،بحيث إ َّنه يقول:
وحاشا الرشيعة احل َّقة اإلهل َّية البيضاء أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف
اليقين َّية الِّضور َّية ،وتبا لفلسفة تكون قوانينها غري مطابقة للكتاب والسنَّة(.)3
كام أ َّنه يعتقد من ناحية ُأ ى
خرى:
أن أحكام الرشيعة والدِّ ين احلقيقي ال تتعارض مع التعاليم اليقين َّية والِّضور َّية(.)4
َّ
بأن حقيقة الوجود هو اهلل تعا ىل(َّ ،)5
فإن املتأِّلني حيث يعتقد َّ
أن صدر هُيضاف إ ىل ذلك َّ
معرفة اهلل سبحانه ومراتب وجوده وصفاته وأفعاله ُتع َترب من أفضل العلوم اإلِّل َّية عنده(.)6
حممد بن إبراهيم ،األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية ،ج ،1ص ،23تصحيح :رضا أكربيان، ه
املتأِّلنيّ ، ( )1صدر
1383هـ ش.
حممد بن إبراهيم ،يف مقدّ مة األسفار األربعة ،وكذلك يف مقدّ مة املبدأ واملعاد ،حيث يتم التذكري َّ
بأن ( )2صدر ه
املتأِّلنيّ ،
معرفة اهلل والعلم باملعاد ومعرفة النفس ليست من العلوم التي يمكن احلصول عليها من دون هتذيب النفس
عل سبيل املثال :املبدأ واملعاد ،ص 8و.9
وبمجرد احلكمة .انظر ى
َّ
( )3املصدر السابق ،ج ،9ص .326
( )4املصدر السابق ،ج ،10ص 23؛ وج ،9ص .326
حممد بن إبراهيم ،الشواهد الربوبي َّة ،ص .61 ( )5صدر ه
املتأِّلنيّ ،
( )6املصدر السابق ،ص .63
❖ 46دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املنطق األُرسطي(.)1
وعليه فإ َّن صدر ه
املتأِّلني -كام هو ملحوظ -يذهب إ ىل القول:
جمرد الفلسفة ومعرفة الوجود فقط ،بل معرفة حقيقة َّأوالً :ال تقترص املوضوع َّية ى
عل َّ
القوى العقل َّية والنظر َّية لإلنسان،
ى وتعال هي الوسيلة إ ىل إيصال
ى الوجود أو اهلل سبحانه
والوصول يف ّناية املطاف إ ىل السعادة يف الدنيا واآلخرة.
عل الفلسفة واحلكمة وثاني ًا :أ َّن للفلسفة واحلكمة العمل َّية ذات الدور واأل ّ
ه َّية املرت هتبة ى
النظر َّية يف إيصال اإلنسان إ ىل الكامل وإ ىل سعادته الدنيو َّية واألُخرو َّية.
أن ال تتعارض مع الده ين ،بل جيب ْ
أن تتناغم معه، أن الفلسفة جيب ْ
عل الرغم من َّ
وثالث ًا :ى
وأن التأمل يف الوجود ومعرفة النفس ُيم هثالن طريقني أساس َّيني ملعرفة حقيقة الوجودَّ ،إال َّ
أن َّ
صحتها وصواب َّيتها
يتم التأكد من َّ أي طريق تو َّفرت -جيب ْ
أن َّ املوا َّد اإلنشائ َّية للمعرفة -من ه
وعل أساس الرباهني العقل َّية.
ى عل ك َّفة ميزان املنطق
من خالل وضعها ى
ورابع ًا :أ َّن امليزان األخري واحلاسم يف سلوك طريق ومسار معرفة احلقيقة ْ
وإن كان هو
الربهان العقيلَّ ،إال َّ
أن الذي يساعد العقل يف الوصول إ ىل احلقيقة يف ّناية املطاف هو
إل هتذيب النفس وممارسة الرياضات العقل َّية والرشع َّية والقلب َّية.
االستناد ى
لدى صدر ه
املتأِّلني ال ي َّتضح من النقاط األربعة أعاله بوضوح َّ
أن اِّلواجس الوجود َّية ى
املستوى النظري أو العميل فقط ،بل َّ
إن اِّلاجس الرئيس له ى عل
جمرد معرفة احلقيقة ى
عل َّ
تقوم ى
يتم َّثل يف الوصول إ ىل الكامل والسعادة الدنيو َّية واألُخرو َّية ،ولكن حيث إ َّن مسار الوصول
إ ىل الكامل إ َّنام يتح َّقق عرب املعرفة النظر َّية حلقيقة الوجود اإلِّلي ومراعاة احلكمة العمل َّية ،فإ َّنه
وعل هذا األساس ر َّبام أمكن
ى ال مندوحة له من اخلوض يف بحث احلكمة النظر َّية والعمل َّية.
املتأِّلني رغم كونه فيلسوفا عقل ًّيا ونظر ًّيا ،ولكنَّه حيث ُيمل إن صدر ه القول بعبارة ُأ ى
خرىَّ :
جمرد معرفتها ُ -يع َترب لذلك فيلسوفا عمالن ًّيا؛ بمعن ىى
هواجس الوصول إ ىل احلقيقة -وليس َّ
باملعنى املطروح من ِق َبل املف هكرين من
ى أن لعمل اإلنسان من وجهة نظر صدر ه
املتأِّلني -ال َّ
( )1وقد مت َّت ترمجة هذه الرسالة إ ىل اللغة الفارس َّية حتت عنوان( :منطق نوين).
مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ 47
تكون له موجود َّية( ،)1وأ َّما سائر الكائنات فليس ِّلا من الوجود كالذي لإلنسان
الـ دازاين( .)2ومن هنا فقد ذهب هايدغر إ ىل توضيح هذا األمر ،قائالَّ :
إن الصخرة كائنة(،)3
وإن الشجرة كائنة ،ولكنَّها غري موجودةَّ .
وإن املالئكة كائنة ،ولكنَّها ولكنَّها غري موجودة(َّ .)4
غري موجودةَّ .
وإن اهلل كائن ،ولكنَّه غري موجود(.)5
فرق بني نمط وجود اإلنسان وأنامط وجود مجيع املوجودات إن هايدغر ُي ه بعبارة ُأ ى
خرىَّ :
األُ ى
خرى ،ويتم التفريق بني هذين النحوين من الوجود يف اللغة اإلنجليز َّية من خالل الفصل
والتفكيك بني مفردة « ،»existومفردة « .»isفاإلنسان وحده الذي يمتلك كينونة ،أو هو
وحده الكائن ،أ َّما سائر املوجودات األُ ى
خرى -بام يف ذلك اهلل نفسه -فهي فاقدة للكينونة أو
إن اإلنسان وحده الذي يستطيع تغيري ماه َّيته إ ىل أشكال خمتلفة، الـ دازاين .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
أن تكون كام هي. وأ َّما سائر الكائنات األُ ى
خرى فال تستطيع تغيري ماه ّياهتا ،وإ َّنام تستطيع ْ
عرب عن مرونة ماه َّية أو نمط وجود اإلنسان ،وأ َّما ويف احلقيقة َّ
فإن كلمة الـ «ُ »existت ه
عرب عن عدم املرونة أو عدم التغيري يف أنامط وجود سائر املوجودات كلمة « »isفهي ُت ه
كل حال َّ
فإن هايدغر رغم عدم اعتباره معرفة اإلنسان وسيلة إ ىل معرفة اهلل وعل ه
ى األُ ى
خرى.
مدى تأثر
ى سبحانه وتعا ىلَّ ،إال أ َّنه يعترب ذلك الـ دازاين مدخال إ ىل معرفة الوجود .وأ َّما
هايدغر بالنصوص الدين َّية والعرفان َّية أو أفكار العرفاء من أمثال ميسرت إيكهرت( )6من هذه
(1) exist
بمعنى يكون .فهي بمجموعها
ى بمعنى هناك ،و()SEIN
ى مكونة من ()DA
( )2الـ دازاين ( :)DASEINكلمة أملان َّية َّ
عل كينونة املوجود تعني الوجود احلارض أو الوجود املقابل لـ َّ
(الالوجود) .ويستخدم هايدغر هذه الكلمة للداللة ى
عل الكون يف تغريه وعدم استقراره ،وهذا يعني اإلنساين أو كيف َّية وجوده؛ أي اإلنسان من حيث هو الكائن املنفتح ى
وُي هقق كينونته؛ فامه َّية اإلنسان إذن تعني وجوده أن الـ دازاين خيتلف عن سائر الكائنات من حيث إ َّنه ُي ِ
نجز كونه ُ َّ
املعرب.
مدونة مرشد الفلسف َّية .ه وحقيقته ونزوعه إ ىل ما يريد ْ
أن يكون ،فهو من يصنع ذاته بذاته .نقال عنَّ :
(3) is
(4) not exist
(5) Wyschogrod, M., Keirkegaard and Heidegger, The Ontology of Existence, London,
Routledge, 1945. P. 74.
( )6ميسرت إكهرت (1328 - 1260م) :فيلسوف وعامل الهوت مسيحي ،أثارت أفكاره بعض األُورثودوكس هيني الذين
ويف قبل إصدار احلكم عليه. يتخوفون من ه
كل جديد؛ وأ ّد ىى ذلك إ ىل هاهتامه باِّلرطقة ،ولكنَّه ُت ّ َّ
مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ 49
إل
الناحية -بحيث جيعل من معرفة اإلنسان نافذة ومدخال إ ىل معرفة الوجود ،كام ذهبوا هم ى
ه َّية يف بحثنا الراهن.
اعتبار معرفة اإلنسان طريقا ومدخال إ ىل معرفة اهلل ،-فليس له كبري أ ّ
إ َّنام املهم يف هذا البحث هو االلتفات إ ىل هذه النقطة ،وهي َّ
أن هايدغر (املتقده م) ال يذهب يف
معرفة الوجود إ ىل التأمل يف حقيقة الوجود ،وإ َّنام يذهب إ ىل املوجود كي يتم َّكن من النظر ى
إل
أن اإلنسان الذي ُيصبِح مدخال
الوجود من خالل نافذة وجود ذلك املوجود ،والعجيب هو َّ
بأي
أي شبه ه
عل هإ ىل معرفة حقيقة الوجود هو من الناحية األنطولوج َّية بحيث ال ُيتوي ى
وعل
ى عرب عن هذا الوجود ه
الفذ واملختلف لإلنسان بالـ دازاين. موجود آخر! َّ
إن هايدغر ُي ه
الرغم من توضيح هايدغر (املتقده م) ألد َّلة اختيار الـ دازاين -اإلنسان -من أجل معرفة
أي تشابه يمكن للـ دازاين -الذي خيتلف
وعل أساس وجود ه
ى الوجودَّ ،إال أ َّنه مل ي َّتضح كيف
مدى يمكنه ْ
أن يكون ى أي
وإل ه نمط وجوده عن أنامط مجيع املوجودات األُ ى
خرى ،-وملاذا ى
عل الوجود دون سائر املوجودات األُ ى
خرى؟! وحده الدليل ى
إل صدر ه
املتأِّلني -هو التأمل واألهم يف معرفة الوجود -بالنسبة ى
ّ األول
فإذا كان الطريق َّ
يف ذات الوجود ،فإ َّنه يتم َّثل -بالنسبة إ ىل هايدغر -يف التأمل يف اإلنسان بوصفه متسائال عن
املتأِّلني من خالل اعتباره ه
االحتاد بني اهلل والوجود ينظر إ ىل معرفة الوجود .وإذا كان صدر ه
اإلنسان بوصفها طريقا ثانيا ومن أرشف الط ُرق -بعد التأمل يف ذات الوجود -من أجل
أهم أو أفضل طريق
جمرد ّ عل الوجود واهللَّ ،
فإن هايدغر ال يعترب معرفة اإلنسان َّ التعرف ى
أي
إل ه
يتطرق ى
إل معرفة الوجود .بل إ َّنه يف األساس ال َّفحسب ،بل يراه الطريق الوحيد ى
حديث يتع َّلق بمعرفة اهلل من طريق معرفة اإلنسان أبدا.
وإذا كانت الفلسفة من وجهة نظر صدر ه
املتأِّلني تنقسم إ ىل قسمني :الفلسفة النظر َّية،
وأن الغاية من حتصيل الفلسفة هي استكامل النفس اإلنسان َّية والوصولوالفلسفة العمل َّيةَّ ،
سوى
ى فإن الفلسفة من وجهة نظر هايدغر ال تعني إ ىل السعادة الدنيو َّية واألُخرو َّيةَّ ،
أحيى
ى َّ
وظل منسيًّا إ ىل أ ْن أهم رموز اإلصالح اللوثري ،ولك َّن شهرته خفتت بعد ذلك ظل إكهرت أحد ّ َّ
الثيوصويف (فرانز بيفايفر) فكره األفالطوين اجلديد ،وقام بنرش مقاطع كثرية من أفكاره َّ
بالالتينيَّة واألملانيَّة.
املعرب.
ه
❖ 50دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
يرى َّ
أن من بني اخلصائص اإلجياب َّية للفلسفة، االنحراف الفكري( .)1وإذا كان صدر ه
املتأِّلني ى
وأّنا تعمل -بالتناظر مع
تقسيمها إ ىل قسمني ،وها :الفلسفة النظر َّية ،والفلسفة العمل َّيةَّ ،
عل تكميل واستكامل األبعاد النظر َّية والعمل َّية لإلنسان،
القوى النظر َّية والعمل َّية لإلنسان -ى
ى
مستوى الفلسفة ،وتقسيم التفكري -الفلسفي -إ ىل
ى َّ
فإن هايدغر يعترب خفض التفكري إ ىل
مؤرشات وعالمات االنحراف عن التفكري األصيل، تفكري نظري وتفكري عميل ،واحدا من ه
إل االعتقاد َّ
بأن هذا التقسيم للتفكري إ ىل نظري وعميل بمثابة إبعاد التفكري عن ويذهب ى
دائرته احلقيق َّية(.)2
وعل حده زعم هايدغر مل يكن للتفكري األصيل حيث َّية عمل َّية( ،)3ولكن منذ ْ
أن ظهر نوع ى
من البيان والتفسري التقني للتفكري يف كلامت أفالطون و ُأرسطو ،اكتسب التفكري نوعا من
()4
بمعنى أ َّنه أصبح عبارة عن «التقن َّية»( ،)6وأصبحت «التقن َّية» عبارة عن ت ّيار
ى احليث َّية العمل َّية(،)5
فكري من أجل العمل والبناء( .)7يف حني مل يكن هناك قبل ذلك أي تقسيم للتفكري إ ىل نظري
وعميل ،ومل تكن هناك عناوين مثل :األخالق ،واملنطق ،واألنطولوجيا ،والفيزيقا.
وعليه َّ
فإن هايدغر يذهب إ ىل التصور قائال:
للمرة األُوىل يف -تفكري -
إن األخالق املقرونة باملنطق والفيزيقا إ َّنام ظهرت َّ
َّ
وإن هذه األنظمة الفلسف َّية -األفالطون َّية -إ َّنام تبلورت عندما انخفض
أفالطونَّ .
( )2هايدغر ،مارتني ،پرسش در باب تكنولوژي (سؤال يف حقل التكنولوجيا) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّةّ :
حممد رضا
أسدي ،ص ،5مقدّ مة املرتجم ،نرش انديشه ،طهران1375 ،هـ ش.
(3) practice
(ُ )4أرسطو أو ُأرسطوطاليس ( 322 - 384ق .م) :فيلسوف يوناين ،تلميذ أفالطون ومع هلم اإلسكندر األكرب ،واحد
من عظامء املف هكرينُ ،تغ ّطي كتاباته جماالت عدَّ ة ،منها :الفيزياء وامليتافيزيقا والشعر واملِّسح واملو ى
سيقى واملنطق
مؤسيس
أهم ه
والبالغة واللغو ّيات والسياسة واحلكومة واألخالق ّيات وعلم األحياء وعلم احليوان ،وهو واحد من ّ
املعرب.
الفلسفة الغربيَّة .ه
(5) practical
(6) techne
(7) Heidegger, Letter on Humanism, P. 194.
مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ 51
التفكري إىل مستوى الفلسفة ،وانخفضت الفلسفة إىل مستوى العلم ،وانخفض العلم
إىل مستوى البحث املدريس(.)1
َّإال َّ
أن اإلغريق الذين سبقوا سقراط( )2وأفالطون ،والذين كانوا ُيف هكرون يف عرصهم
املجيد -دون االستعانة بمصطلحات (من قبيل :املنطق واألخالق والفيزيقا) ،-فقد
عل التفكري عنوان الفلسفة أيضا(.)3
اصطلحوا ى
فإن ظهور الفلسفة ،وتقسيم التفكري الفلسفي إ ىل نظري وعميل ،وكذلك ظهور وعليه َّ
عناوين من قبيل :املنطق واألخالق والفيزيقا يف عرص أفالطون و ُأرسطو ،وهكذا االهتامم
عل َّ
أن التفكري بمعنى التفكري من أجل العمل والبناء ،تدل بأمجعها ى
ى بال ُبعد العمالين للتفكري
أن خيدم الوجود كي يكشف عن حقيقته. قد ابتعد عن دائرته احلقيق َّية ،ومل يعد بمقدوره ْ
إن التفكري املنحرف ،أو بعبارة ُأ ى
خرى :التفكري التقني ،كان تفكريا يف خدمة املوجود، َّ
وينشط من أجل املوجود .ومل يعد بمقدور هذا التفكري ْ
أن يكون واسطة بني الوجود
عل نسبة الوجود لذات اإلنسان .كان التفكري التقني يعني
واإلنسان ،و ُيؤ هدي إ ىل احلصول ى
تثمري النسبة التقن َّي ة بني اإلنسان والعامل .ويف مثل هذه احلالة حيل بني اإلنسان والتفكري
األصيل ،ومل يعد يامرس التفكري ،وإ َّنام أخذ ي ِ
شغل نفسه بالفلسفة(َّ .)4إال َّ
أن هذا االنشغال مل ُ
يكن يعني ّناية األمر يف املرحلة اجلديدة ،وإ َّنام كانت الفلسفة بدورها تقرتب من ّناية
بمعنى َّ
أن الفلسفة قد ذابت يف العلوم التجريب َّية اإلنسان َّية(.)5 ى مرحلتها،
ه
املتأِّلني ،أو انكشاف الوجود من وجهة نظر هايدغر.
أن تكون أن هايدغر عمد -من جهة ُأ ى
خرى -إ ىل طرح مدَّ عيات وحتليالت ال يمكن ْ بيد َّ
املتأِّلني جيب القولَّ :
إن املتأِّلني .وعليه بالنظر إ ىل مدَّ عيات صدر ه
مقبولة يف ضوء مباين صدر ه
أن تقسيم التفكري إ ىل نظري وعميل ،وظهور عناوين من قبيل :املنطقعى َّ
هايدغر قد ا َّد ى
واألخالق والفيزيقاُ ،يش هكل عالمة أو ع َّلة النحراف التفكري عن مساره الصحيح وحتول
أن املنطق ال يصلح ْ
أن يكون معيارا لتشخيص وتقييم التفكري إ ىل ميتافيزيقا .يدَّ عي هايدغر َّ
عى هايدغر َّ
أن الربهان العقيل ليس منهجا ملعرفة احلقيقة ،وال يمكنه ْ
أن يكون كذلك .لقد ا َّد ى
حقيقة الوجود ،بل ال بدَّ من توظيف واستخدام املنهج الظاهرات الوجودي ملعرفة الوجود.
أن احلقيقة ال تكمن يف مطابقة احلكم مع األمر الواقع ،بل تكمن يف عى هايدغر َّ
وقد ا َّد ى
أن حمور التفكري هو معرفة الوجود ،وليس معرفةعى هايدغر َّ
انكشاف الوجود .لقد ا َّد ى
أن االلتفات إ ىل اهلل بوصفه ع َّلة وجود مجيع املوجودات
فإن هايدغر يدَّ عي َّ
املوجود ،وبالتال َّ
ُيول دون االهتامم والتأمل يف حقيقة الوجود.
كل واحد من اال هدعاءات املذكورة أعاله قابلة للبحث والنقاش اجلا هد أن َّ
إل َّ
باإلضافة ى
عل رؤية صدر ه
املتأِّلني -بل املتأِّلني بشكل مستقلَّ ،إال أ َّنه بناء ى
ه عل أساس مباين صدر ى
عل مجيع كيل ى ُ
كل ميتافيزيقي عقيل يؤمن باملنطق األرسطي -يمكن إيراد نقد ّ ورؤية ه
أن مجيع هذه اال هدعاءات -وبطبيعة احلال املدَّ عيات املطروحة من ِق َبل مارتني هايدغر ،وهو َّ
يتم
تم إثباهتا بواسطة الربهان العقيل أو مل ّ أهم مدَّ عيات هايدغر -إ َّما قد َّ
مجيعها أو ح َّت ىى ّ
عل أساس منهج الربهان العقيل من ِق َبل
تم إثبات املدَّ عيات أعاله يف ّناية املطاف ى إثباهتا؛ لو َّ
أن هايدغر قد عمد إ ىل توظيف منهج ينفيه يف عل َّ
فإن هذا اإلثبات العقيل دال ى هايدغرَّ ،
إثبات مدَّ عياته ،وهذا تناقض وهتافت واضح .وأ َّما إذا عمد هايدغر إ ىل إثبات هذه
اال هدعاءات دون تقديم أد َّلة عقل َّية أو ب ُأسلوب مغاير ملنهج اإلثبات العقيل ،ففي كلتا احلالتني
لن يكون مقبوال من وجهة نظر أصحاب التفكري الفلسفي الذين يعتربون املالك يف قبول
األفكار والعقائد قيامها واستنادها إ ىل الربهان العقيل.
عل األُسلوب وقد ُجياب عن ذلك َّ
بأن املنهج الفكري ِّلايدغر حيث ال يقوم يف األساس ى
❖ 54دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
يتم
أن َّامليتافيزيقي السائد ،فال ينبغي البحث عن إثبات عقيل يف هذا الشأن .أو من املمكن ْ
إل إثبات مدَّ عياته أو آرائه يف
أن يعمد هايدغر ى تقديم إجابة ُأ ى
خرى تقول :ما هو اإلشكال يف ْ
أي منهج آخر غري منهج الربهان العقيل .وعليه يمكن ِّلايدغر ْ
أن ضوء املنهج الظاهرات أو ه
ُي ِثبت ما يعتقده ب ُأسلوب مغاير ألُسلوب اإلثبات العقيل.
األول جيب القولَّ :أوال :أ َّن هايدغر مل يستفد يف معرض بيان آرائه من لغة
يف نقد اجلواب َّ
تتجاوز اللغات املوجودة واملتداولة يف امليتافيزيقا .وثانيا :حيث إ َّن َّ
أهم أصل يف التفكري
امليتافيزيقي السائد هو أصل امتناع التناقض ،كيف يمكن ِّلايدغر ْ
أن ُيف هكر دون االستناد ى
إل
أن ُي هبني أو ُي ِثبت مدَّ عياته وراء االستناد إ ىل هذا األصل ،وبلغة
هذا األصل ،ناهيك عن ْ
عل أصل امتناع التناقض؟! ُأ ى
خرى تفوق اللغة التي تقوم ى
إن ُأسلوب التفكري الفلسفي يف مقام مجع املوا هد
ويف نقد اجلواب الثاين جيب القول إمجاالَّ :
اإلنشائ َّية املعرف َّية ومعرفة احلقيقة مهام كانت،ال يمكن -يف مقام احلكم بني تلك املوا هد التي
أن يكون غري الربهان العقيل .ومن هنا َّ
فإن أساليب من قبيل :املنهج التجريبي يتم مجعها ْ -
أو األُسلوب الظاهرات ونظائره التي ُيدَّ ى
عى أحيانا َّأّنا أساليب ومناهج معرفة احلقائق
الفلسف َّية ،ال ُت َعد أساليب يف عرض ُأسلوب الربهان العقيل ،بل َّ
إن هذه األساليب هي يف
األقىص إ َّنام تكون جمدية يف مقام مجع املوا هد اإلنشائ َّية ،وليس يف مقام إصدار األحكام.
ى احلده
«أن هايدغر نفسه قد حتدَّ ث مرارا وقالَّ :
إن ما يقوم به أن ال ننس ىى َّ
وعلينا بطبيعة احلال ْ
يرقى
وإن تفكريه ى «إن جوهر الفلسفة ميتافيزيقاَّ ،
ليس من الفلسفة يف يشء»( .)1وقال أيضاَّ :
إ ىل ما وراء امليتافيزيقا»( .)2ولكن هل مت َّك ن هايدغر من إثبات آرائه بلغة وراء لغة االستدالل
وعل الرغم من َّ
أن هايدغر -والس ّيام ى أن ُي ِثبتها؟
ح ًّقا أم أ َّنه قد رشح أكثر أفكاره دون ْ
عل مواقفه الفكر َّية ،ويقترص يف بيان أفكاره ه
املتأخر -ال ُيقده م استدالال عقل ًّيا ى هايدغر
يرى أ َّنه ال يمكن لنا ْ
أن نستفيد عل التعابري االستعار َّية وامللغزة ،ولكن هناك من ىوعقائده ى
(2) Macan, Christopher (ed.), Martin Heidegger, Critical Assessments, London, Routledge,
ولكن ما هو وجه الشبه القائم بني الظاهرات َّية واِّلرمنيوطيقا ح َّت ىى جعل هذين األمرين
عرب -من وجهة نظر هايدغر - إن َّ
كل ظاهرة ُت ه بالنسبة إ ىل هايدغر شيئا ومنهجا واحدا؟ قلناَّ :
فِّسه لنا ،وهذا هو شأن عن الوجود بنحو من األنحاء .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :إّنا ترشح الوجود و ُت ه
ألّنا تعني تفسري اليشء وجعله مفهوما بالنسبة لنا .ويف هذه احلالة عندما
اِّلرمنيوطيقا أيضا؛ َّ
نقوم بتوظيف الظاهرات َّية الوجود َّية يف حتليل الـ دازاين ،ونكشف الستار عن الـ دازاين ،كي
نصل إ ىل معرفة وفهم حقيقة وخصائص الوجود ،إ َّنام نقوم يف الواقع بنوع من النشاط
عل فهم الوجود أيضا.
بمعنى أ َّننا نعمل -من خالل فهم الـ دازاين -ى
ى اِّلرمنيوطيقي أيضا،
وعل هذا األساس كام َّ
أن الظاهرات َّية بالنسبة إ ىل هايدغر تعني ظاهراتية الـ دازاين من ى
أن يكون اليشء قابال للفهم ،أو جعل أجل معرفة الوجود ،كذلك اِّلرمنيوطيقا بدورها تعني ْ
الـ دازاين قابال للفهم من أجل فهم الوجود .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
إن الظاهرات َّية واِّلرمنيوطيقا
واألنطولوجيا ترتبط وت َّتحد فيام بينها من طريق الـ دازاين( ،)1بل وتنصهر يف بعضها.
تم التعبري عن ُأسلوب هايدغر إن هذه التعابري جيب ْ
أن ال ُتؤ هدي إ ىل تضليلنا؛ إذ سواء َّ َّ
بوصف الظاهرات َّية ،أو اِّلرمنيوطيقا ،أو معرفة الوجود واألنطولوجياَّ ،
فإن الوجه املشرتك
عل يشء من االستدالل والربهان ِّلذه األساليب أو العناوين الثالثة هو َّأّنا ال حتتوي ى
أي حاجة إ ىل السلوك العقيل والقلبي وهتذيب النفس،العقيل ،وليست هناك لالستفادة منها ّ
املتأِّلني الذي يقوم منهجه و ُأسلوبه النهائي
ه عل خالف ما يذهب إليه صدر وهذا متاما ى
جمرد الربهان العقيل ،بل إ َّنه يعتقد يف األساس أ َّن النجاح يف سلوك
عل َّ
واحلاسم للحكم ى
ُأسلوب االستدالل العقيل ومعرفة احلقيقة إ َّنام ُيتاج إ ىل ممارسة يف الرياضات العقل َّية
ّ
والتحيل بالفضائل األخالق َّية والتنزه عن الرذائل األخالق َّية. والرشع َّية والقلب َّية
النتيجة:
أن نستخلصه يف ختام هذه املقالة كنتيجة ِّلذا البحث ،هو َّ
أن صدر إن الذي يمكن لنا ْ
َّ
يسعى إ ىل الوصول إ ىل السعادة يف الدنيا ويف اآلخرة،
ى ه
املتأِّلني حيث كان يف تفكريه الفلسفي
(1) Heidegger M., Being and Time, trans. J. Macquarrie and E. Robinson, Oxford, Blackwell,
1990. Pp. 61 - 62.
مقارنة موضوع ومنهج وغاية الفلسفة ❖ 57
فإ َّنه يعمل -من خالل التامهي مع الده ين ،واالستفادة من األُسلوب الربهاين والرياضات
يسعى يف
ى عل معرفة حقيقة الوجود واكتشافها .وأ َّما مارتن هايدغر فحيث ال
النفس َّية -ى
يرى نفسه بحاجة إ ىل مواءمة تفكريه مع الده ين
تفكريه الفلسفي إ ىل السعادة ،فإ َّنه ال ى
يرى يف الده ين عقبة حتول دون التفكري ،ويف هذا اإلطار يلجأ إ ىل توظيف
واملسيح َّية ،بل ى
ملجرد معرفة الوجود ال أكثر.
املنهج الظاهرات َّ
* * *
❖ 58دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املصادر:
حممد بن إبراهيم ،األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية ،ج ،1ص ،23تصحيح :غالم رضا أعواين ،بنياد صدر ه
املتأِّلنيّ ،
حكمت اسالمي صدرا ،طهران1383 ،هـ ش.
حممد بن إبراهيم ،األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية ،ج .9 صدر ه
املتأِّلنيّ ،
مصطفى حم هقق داماد ،بنياد حكمت
ى حممد بن إبراهيم ،الشواهد الربوبيَّة ،ص ،66تصحيح :السيهد صدر ه
املتأِّلنيّ ،
اسالمي صدرا ،طهران1382 ،هـ ش.
حممد بن إبراهيم ،املبدأ واملعاد ،ج ،1ص ،7 - 5تصحيحّ :
حممد ذبيحي وجعفر شاه نظري ،بنياد صدر ه
املتأِّلنيّ ،
حكمت اسالمي صدرا ،طهران1381 ،هـ ش.
هايدغر ،مارتني ،پرسش در باب تكنولوژي (سؤال يف حقل التكنولوجيا) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّةّ :
حممد رضا
أسدي ،ص ،5مقدّ مة املرتجم ،نرش انديشه ،طهران1375 ،هـ ش.
Heidegger M., Being and Time, trans. J. Macquarrie and E. Robinson, Oxford,
Blackwell, 1990.
Heidegger, M., Letter on Humanism in Martin Heidegger: Basic Writings, ed.
Davis Fareel, trans. Frank A. Caquzzi, New York, Harper and Row.
The End of Philosophy and the Task of Thinking in Martin Heidegger: Basic
Writings.
Wyschogrod, M., Keirkegaard and Heidegger, The Ontology of Existence,
London, Routledge, 1945.
Macan, Christopher (ed.), Martin Heidegger, Critical Assessments, London,
Routledge, 1992, Vol. 2.
May, R., Heidegger’s Hidden Sources, London and New York, Routledge,
1996.
* * *
املال صدرا ومعرفة الوجود
(أُسلوب جديد لإلجابة عن السؤال األساسي هلايدغر)
()1
()2
زهري أنصاريان
()3
رضا أكربيان
اخلالصة:
أن الفلسفة هي العلم بالوجود؛ معتربين َّ
أن تساؤالهتا املحور َّية يرى الفالسفة املسلمون َّ
ى
خاصة للوجود؛ جاعال
عل رؤية َّ تدور حول الوجود .ويف هذا الصدد يتو َّفر صدر ه
املتأِّلني ى
أن هذه املسألة قد ُأودعت يف الغرب يف غياهب
الفلسفي؛ يف حني نجد َّ
ه إ ّياه أساسا لنظامه
النسيان ،وابتعدت عن مِّسح الفلسفة ،أو َّأّنا وقعت كحد ّ
أقل عرضة للتفسريات اخلاطئة،
مرة
نرى إعادة طرح هذا السؤال َّ وفقدت عمل ًّيا مكانتها املعرف َّية .لكن يف القرن األخري ى
عل يد هايدغر كسؤال فلسفي جوهري .فعند دراستنا ملصنَّفات هذين الفيلسوفني، ُأ ى
خرى ى
أن نستنتج -بمعزل عن اخلالفات األساس َّية القائمة بينهام َّ -أّنام ش ّقا معا طريقا
ُيمكننا ْ
الفلسفي؛ وذلك من خالل
ه منفصال عن الفلسفات السائدة ،وسلكا مسارا جديدا يف البحث
انتقاِّلام من املوجود إ ىل الوجود ،وعبورها من مفهوم الوجود إ ىل احلقيقة العين َّية للوجود.
ويتم َّثل اخلالف اجلوهري القائم بني هذين الرأيني يف اعتقاد هايدغر َّ
بأن بعض أحكام مفهوم
الوجود ش َّكلت أرض َّية إلصدار الفالسفة السابقني عددا من األحكام املسبقة يف باب معرفة
( )1املصدر :أنصاريان ،زهري وأكربيان ،رضا« ،مال صدرا وشناخت هستي :راهي نو در پاسخ به پرسش بنيادين
املتأِّلني ومعرفة الوجود :طريقة جديدة يف اإلجابة عن السؤال األصيل ِّلايدغر) ،يف جم َّلة :نامه
هايدگر» (صدر ه
حكمت ،العدد :الثاين18 ،صفحة ،السنة السابعة ،إيران ،خريف وشتاء عام 1388هـ ش.
مدرس ،فرع احلكمة املتعالية.
( )2طالب يف مرحلة الدكتوراة بجامعة تربيت ه
(ُ )3أستاذ حمارض بقسم الفلسفة ،جامعة تربيت ه
مدرس.
❖ 60دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
يرى َّ
أن ذلك وأّنا قطعت الطريق أمام اجلواب الصحيح عن سؤال الوجود ،حيث ى
الوجودَّ ،
ألن الطريق إ ىل هكذا معرفة ينحرص يف الدراسة املفهوم ال ُيفيض بنا إ ىل معرفة الوجود؛ َّ
املال صدرا ،فرغم انتقاله من مفهوم الوجود إ ىل حقيقة الوجودَّ ،إال
الظاهرات َّية للوجود؛ وأ َّما َّ
أ َّنه اعتقد يف الوقت ذاته بالقيمة املعرف َّية ِّلذا املفهوم؛ معتربا إ ّياه كمدخل للعلم بالوجود؛
هذا مع َّ
أن اإلشكاالت التي أثارها هايدغر للفالسفة السابقني ال ترد عليه.
مقدّمة:
يتع َّلم كل طالب للفلسفة اإلسالم َّية يف املرحلة األُو ىل من دراسته للفلسفة َّ
أن قاطبة احلكامء
املسلمني ي َّتفقون حول َّ
أن املوجود والوجود بدهي ّيان تصورا وتصديقا ،حيث ُيشري هؤالء
أعم املفاهيم وأعرفها؛ احلكامء يف الفصول األُو ىل من مصنَّفاهتم إ ىل َّ
أن هذين املفهومني من ه
وِّلذا ال ُيتاجان إ ىل تعريف ،بل ال ُيمكن تعريفهام من األساس؛ كام يعتقدون أيضا َّ
بأن
السعي نحو إقامة الربهان إلثبات حتقق الوجود هو سعي بال طائل(.)1
الوسطى ،كان االعتقاد
ى ويف بالد الغرب الس ّيام يف الفلسفات املدرس َّية السائدة يف القرون
أن الوجود أمر بدهيي ومستغن عن التعريف واإلثبات ،أو َّ
أن تعريفه والتدليل عل َّ
قائام أيضا ى
عليه حمال ،حيث ورثت تلك اجلامعة من الفالسفة هذا االعتقاد من الفلسفة اليونان َّية ،ومن
خالل مطالعة مصنَّفات املتقدّ مني ،الس ّيام الفالسفة املسلمني.
طرح علينا التساؤل اآلتَّ :أال يصد القول ببداهة هذا املفهوم عن التحقيق العميق وهنا ُي َ
بشأن حقيقته يف الفلسفة؟ أي :إذا اع ُت ِ َ
رب الوجود عند الفالسفة أمرا بدهي ًّيا ،فلامذا نجدهم
وخي هصصون قسام كبريا من مصنَّفاهتم للبحث عن الوجود
العلم بالوجودُ ،
َ يعدون امليتافيزيقا
عل الدوام لدراسة ع َّلة وجود األشياء؟ فإذا
وجهون اهتاممهم ى
وأحكامه؟ وملاذا نجدهم ُي ه
معنى الوجود؟» ،أو
ى هية البحث عن تساؤالت من قبيل« :ما هو
كان الوجود بدهي ًّيا فام هي أ ّ
«ملاذا هذا اليشء موجود اآلن ،مع أ َّنه كان بوسعه َّأال يكون موجودا؟»؟ فهذه تساؤالت
عى راجع :ابن سينا ،1404 ،ص 29؛ نفسه ،1379 ،ص 496؛ فخر الده ين ( )1لال هطالع أكثر ى
عل مفاد هذا املدَّ ى
الرازي ،1411 ،ج ،1ص 11؛ قطب الده ين الرازي ،بدون تاريخ ،ص .10
َّ
املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ 61
معنى -للوجود
ى درك بنحو مناسب؛ إذ الريب يف َّ
أن هناك مفهوما -ذا ميتافيزيقا؛ ولو مل ُي َ
ُيش هكل الطبقات التحتان َّية للمعرفة التي نمتلكها عن احلقيقة.
معنى الوجود
ى سعى الفالسفة املتقده مون للبحث عن السؤال املطروح بشأن
ى وباعتقاده
فإّنم مل يتم َّكنوا من تقديم جواب
(الكينونة)؛ لكن بام َّأّنم سقطوا يف جمموعة من األخطاء َّ
أفىض للتخ ّيل عنه ،وعده السعي لإلجابة عنه من دون طائل .لقد كان ى
يرى ى تام ِّلذا السؤال؛ مم َّا
فإّنم َّ
أن الفالسفة السابقني -الس ّيام املدرس هيني -طرحوا سؤال الوجود بنحو خاطئ؛ وِّلذا َّ
إل اِّلدف املنشود؛ فبدال من طرح السؤال بالنحو السابق ،فقد طرحوه
عجزوا عن الوصول ى
توسلوا باملوجودات لكي
هبذا النحو« :ما هي حقيقة املوجودات كام هي عليه؟» أي إ َّّنم َّ
عل الوجود؛ يف حني َّ
أن هذا السؤال صار قاطعا للطريق أمامهم ،وصا ًّدا ِّلم عن يتعرفوا ى
َّ
ملعنى الوجود.
املعرفة احلقيق َّية ى
فرغم أ َّنه كان ُجيِل كثريا اجلهود التي بذِّلا املتقده مون يف اجلواب عن سؤال الكينونة ،لكنَّه
ويرى هايدغر َّ
أن هذا السؤال كان مطروحا ى اعتقد بعجزهم عن الفهم الصحيح للوجود؛
ح َّت ىى يف اليونان ،وأ َّنه انتقل من فالسفة ذلك العرص إ ىل الفالسفة يف العصور الالحقة ،الس ّيام
نسب ألُرسطو أ َّنه َّأول من أطلق ى
عل امليتافيزيقا اسم «علم الوسطى ،حيث ُي َ
ى فالسفة القرون
عل سقراط استعملوا بدورهم بعض أن الفالسفة املتقده مني ى الوجود»()1؛ هذا مع َّ
املصطلحات -نظري «اليشء» -لإلشارة إ ىل «املوجود» أو «ما هو كائن»؛ وِّلذا َّ
فإن هايدغر
عل ُأرسطو وبعض قدماء اليونان هيني؛ ففي الدروس التي عقدها سنة ُير هكز كثريا يف مصنَّفاته ى
1920حول رسالة «السفسطائي» ألفالطون ،نجده يصف ُأرسطو بالفيلسوف الذي ف َّكر يف
أن ُأرسطو ومن خالل طرحه ملفهوم أوسيا( ،)3()2قد ق َّيد نفسه بمعرفة
يرى َّ
الوجود؛ لكنَّه ى
(1) Science of being as such OR science of being qua being. (Aristotle, 1966, 1025b & 1064b.
(2) Ousia
عل مقاربات فوفقا ِّلذا التحليل لتاريخ الفلسفة يعتقد هايدغر َّ
أن هذه الرؤية املبتنية ى
معنى الكينونة
ى يونان َّية خاطئة أفضت يف العصور األخرية إ ىل اعتبار السؤال املطروح يف باب
والتخيل عنه؛ أي بسبب سلوك ّ عل إهالهأمرا زائدا وغري سليم ،بل وساعدت أيضا ى
الفالسفة لطريق خاطئ يف بحثهم عن هذا السؤال فقد عجزوا عن التوصل إ ىل جواب عنه؛
وبالتال سقطوا يف جمموعة من األخطاء واألحكام املسبقة بشأن الوجود ،حيث ساقتهم هذه
األحكام املسبقة إ ىل عده السؤال عن الوجود خاطئا وزائدا؛ ويتم َّثل هذا النوع من األحكام
يف:
« - 1الوجود» أكثر املفاهيم ك ّل َّية؛ ويقول هايدغر يف هذا املجال :كان املتقده مون يرون َّ
أن
خيفى َّ
أن املراد من متضم ٌن ُمسبقا يف ه
كل ما نحصل عليه من املوجودات»؛ وال ى َّ «فهم الوجود
كل ك ّل َّية ُتقاس باجلنس(.)3
أعل من ه
ك ّل َّية الوجود ليست هي الك ّل َّية اجلنس َّية ،بل هي ى
- 2مفهوم «الوجود» ال يقبل التعريف؛ فبحسب التعبري املتداول ،بام َّ
أن التعريف ُيصل
أعم من مفهوم الوجود من اجلنس والفصل َّ
فإن الوجود ال تعريف له؛ وذلك أل َّنه ال يشء ّ
ح َّت ىى ُجي َعل جنسا له .فمع أ َّنه قد يصح لنا ذكر هذا الكالم عن مفهوم الوجود ،لكنَّنا ال
( )1أمحدي ،بابك ،هايدگر و پرسش بنيادين ،دار النرش مركز ،طهران ،الطبعة الثانية1382 ،هـ ش ،ص .190
(2) Heidegger, Martin (1996), Being and Time, Trans. by John Macquarrie & Edward
Robinson, Oxford: Blackwell, 15th Edition.p.43 - 44.
(3) Ibid.p.22.
❖ 64دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Ibid.p.23.
(2) Ibid.p.23.
(3) Ibid.p.23 - 24.
( )4أمحدي ،بابك ،هايدگر و پرسش بنيادين ،ص .226
(5) Heidegger, Martin (1982), Nietzsche IV: Nihilism, Ed. by David F. Krell, Trans. by Frank
A. Capuzzi, New York: Harper & Row.p. 228.
َّ
املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ 65
استعملتم لفظ «موجود» ،فإ َّنكم كنتم عاملني بام تريدونه حقيق ًة من هذا اللفظ؛ لكن
ٍ
زمان ما هذا اللفظ ،رصنا اآلن منه يف حرية وحرج(.)2()1 نحن الذين ظننَّا أ َّننا فهمنا يف
أن هايدغر يعترب القول بك ّل َّية مفهوم
أن نخ ُلص إ ىل َّ
فبمقتىض الكالم السابق بوسعنا ْ
ى
الوجود وبداهته عامال يف تغايض الفالسفة عن دراسة معناه وكنه حقيقته؛ معتقدا َّ
بأن هذه
الفلسفي باملوجود؛
ه األحكام املنسوبة إ ىل الوجود تس َّببت يف تعلق بحثهم عرب تاريخ الفكر
بدال عن الوجود؛ وبعبارة ُأ ى
خرى :بام َّأّنم عدوا الوجود أمرا ك ّل ًّيا وبدهي ًّيا َّ
فإّنم مل يتناولوا
خضم جواهبم عن التساؤالت
ه عل «املوجود» يف
هذه احلقيقة بالدراسة والبحث ،وعكفوا ى
إل
عل نفس الوجود ألجل التوصل ى يرى وجوب العكوف ى األساس َّية ،خالفا ِّلايدغر الذي ى
عل جواب لسؤال الكينونة؛ وعليه وألجل بلوغ هذا اِّلدف فإ َّنه يعتقد
معناه ،والعثور ى
برضورة العبور َّأوال من املوجود إ ىل الوجود؛ وِّلذا الغرض ينبغي أيضا جتاوز مفهوم
يتطرق يف فلسفته إ ىل مفهوم أسايس
عل نفس الوجود؛ ومن هنا فإ َّننا نجده َّ
الوجود والرتكيز ى
يتم َّثل يف «االختالف األنطولوجي»( ،)3والذي يتع َّلق باختالف املوجود عن الوجود،
يرى تبلور هذا االنتقال خارج فلسفة هايدغر ،وأ َّنه خيفى َّ
أن البعض ى واالنتقال منه إليه .وال ى
أن يعتني باملوجود()4؛ وِّلذا بوسعنا ْ
أن عل دراسة الوجود من دون ْ
اقترص يف هذه الفلسفة ى
بأن القول بك ّل َّية مفهوم الوجود وبداهته صاد عن االنتقال من املفهوم ى
إل نخ ُلص إ ىل اعتقاده َّ
احلقيقة؛ وبالتال عن العبور من املوجود إ ىل الوجود.
أن هايدغر جتاوز عند حديثه عن مسألة فبالنظر إ ىل هذه األبحاث بمقدورنا اال هدعاء َّ
الكينونة مفهوم الوجود؛ واضعا قدمه -بنحو ما -يف دائرة حقيقة الوجود؛ وِّلذا السبب
املفِّسين لكالمه ُ -يعا ِرض بشدَّ ة العقالن َّية االنتزاع َّية؛ معتقدا
نجده -بحسب تعبري بعض ه
( )4أكربيان ،رضا ،حكمت متعاليه وتفكر اسالمى معارص ،نرش َّ
مؤسسة صدرا للحكمة اإلسالميَّة ،طهران ،الطبعة
األو ىل 1386 ،هـ ش ،ص .192
❖ 66دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
حممد سعيد حنايي كاشاين ،دار النرش گروس ،طهران ،الطبعة األُو ىل،
( )1مك كواري ،جان ،مارتني هايدگر ،ترمجة ّ
ص .48
َّ
املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ 67
حتليل املفهوم إ ىل املقوالت العرش ،بل من املمكن كذلك تعريف املفاهيم باللوازم األعرف؛
أي مفهوم أعرف من الوجودَّ ،
فإن الوجود ال يقبل ويف هذا الصدد أيضا نظرا لعدم وجود ه
التعريف أبدا؛ وبذلك ُي َعد مفهوما بدهي ًّيا(.)1
بأن اعتقاد َّ
املال صدرا ببداهة مفهوم الوجود وهبذا البيان ينبغي علينا االعرتاف ظاهرا َّ
وك ّل َّيته قد أسقطه يف األحكام املسبقة التي نسبها هايدغر إ ىل الفالسفة املدرس هيني؛ كام ي َّ
توجب
إدراج صدر ه
املتأِّلني يف ضمن هذه الطائفة من الفالسفة كام ُ علينا بحسب التحليالت السائدة
ُ
واإلذعان -بالنظر إ ىل قوله ببداهة الوجود وإبائه عن التعريف -بأ َّنه فعل بعض املعارصين،
معنى الوجود سؤاال خاطئاَّ ،
وبأن املساعي التي بذِّلا ألجل معرفة الوجود ى اعترب السؤال عن
عل معرفة املوجود أو مفهوم الوجود؛ وِّلذا فإ َّنه سيكون -من منظور هايدغر -من
انص َّبت ى
املتخ هلفني عن قافلة معرفة احلقيقة(.)2
لكن ويف مقابل هذا الرأي ينبغي علينا القول :مل يسقط أي واحد من الفالسفة املسلمني
املال صدرا -يف هذا اإلشكال؛ أي إ َّن إرصاره ى
عل مسألة البداهة مل تقريبا -وليس فقط َّ
يسقه إ ىل البحث عنيصده عن التحقيق والتدقيق يف باب السؤال عن الوجود ،ومل ُ
يبقى َّ
أن الفالسفة املسلمني سلكوا «املوجود» أو «مفهوم الوجود» بدال عن «الوجود»؛ أجل ى
ُط ُرقا خمتلفة من أجل بلوغ هذا اِّلدف ،حيث نجد َّ
أن هذه الط ُرق واملناهج امل َّتبعة يف حتليل
مسألة الوجود قد بلغت ذروهتا يف أفكار صدر ه
املتأِّلني الشريازي ومصنَّفاته.
عل
وقد عمل ابن سينا من خالل التفريق بني ميتافيزيقا الوجود وميتافيزيقا املاه َّية ى
تقسيم أبحاثه الفلسف َّية إ ىل قسمني :قسم خيتص بمسائل املاه َّية ،وقسم آخر بمسائل الوجود؛
وبيان ذلك َّ
أن الشيخ الرئيس الذي يعد موضوع الفلسفة «املوجود بام هو موجود» حتدث
( )1ابن سينا ،احلسني بن عبد اهلل ،النجاة من بحر الغرق والضالالت ،تصحيح ّ
حممد تقي دانش بجوه ،نرش جامعة
طهران ،طهران ،الطبعة الثانية1379 ،هـ ،ص .29
حممد بن إبراهيم ،احلاشية عىل إهلييات الشفاء ،دار النرش بيدارّ ،
قم ،بدون تاريخ ،ص .14 (َّ )2
املال صدراّ ،
َّ
املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ 69
( )1أكربيان ،رضا ،حكمت متعاليه وتفكر اسالمى معارص ،ص .192
( )2جوادي آميل ،عبد اهلل ،رحيق خمتوم (ج ،) 1دار النرش إرساء ،ق ّم ،الطبعة الث انية1382 ،هـ ش184 ،
و .185
❖ 70دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
درك يف الذهن عن طريق العلم احلصول كام هو الشأن بالنسبة للامه َّية ،للزم أحد
الوجود ُي َ
إل الذهن ليس الوجود ،بل شبح وعنوان له فقط ،ممَّا يعني عدم
أتى ى أمرين :إ َّما ْ
أن يكون ما ى
إل الذهن واقعا هو حقيقة الوجود والعين َّية ،ممَّا
أتى ى
أن يكون ما ى حصول العلم بكنهه؛ وإ َّما ْ
سيلزم منه انقالب الوجود وفقدانه لذاته وهو َّيته ،أي العين َّية واخلارج َّية؛ هذا مع َّ
أن
االنقالب يرجع أيضا إ ىل اجتامع النفي واإلثبات ،وهو حمال؛ إذ سيلزم من الفرض املذكور
أن ُحتافظ هذه احلقيقة ى
عل ذاهتا -أي اخلارج َّية -يف عني كوّنا وحضور الوجود إ ىل الذهن ْ
ذهن َّية؛ وهذا ليس َّإال اجت ٌ
امع للنقيضني؛ أي :ينبغي ْ
أن تكون تلك احلقيقة عين َّية يف نفس
املاهوي
ه (أعم من
ّ العلم احلصول املفهومي
ُ أن يتح َّقق بتاتا
كوّنا غري عين َّية؛ وِّلذا ال ُيمكن ْ
املاهوي) بكنه الوجود وحقيقته(.)1
ه وغري
فوفقا ِّلذا التحليل ال ُي َعد املفهوم الذي ُيصل يف الذهن عن الوجود مرآة تعكس متام
حقيقة الوجود وكنهه ،بل حتكي فقط عن وجه من وجوه هذه احلقيقة ،وعنوان من عناوينها،
وحيث َّية من حيث ّياهتا()2؛ وِّلذا َّ
فإن العلم بحقيقة الوجود -والتي هي عني اخلارج َّية وال تأت
احلضوري ،بل ح َّت ىى مفهوم الوجود -باعتباره
ه يتيِّس َّإال عن طريق العلم
إ ىل الذهن أبدا -ال َّ
احلضوري؛ هذا ويعتقد َّ
املال صدرا ه نوعا من أنواع العلم احلصو هل -ال يتح َّقق َّإال بعد العلم
جردة(.)3
عل هذا املفهوم يف الذهن هو العلم احلضوري بالنفس امل َّ َّ
بأن أبرز طريق للحصول ى
إل
أن هذا املفهوم بسيط أيضا ،وبالتال بدهيي ،وال ُيتاج العلم به ىاملتأِّلني َّ
ويرى صدر ه
ى
وسائط كالتعريف واالستدالل ،غاية األمر َّ
أن بداهته تأت بعد إثبات أصالة الوجود؛ إذ لوال
جمرد مفهوم
هذه األصالة ملا حظي هذا املفهوم بأ َّية مكانة يف نظامه الفكر هي ،بل سيكون َّ
فارغ.
املال صدرا ال ُيمكن العلم بكنه حقيقة الوجود عن طريق عل ذلك برأي َّ وعالوة ى
املفاهيم غري املاهو َّية كاملوجود والوجود ،بل وفضال عن ذلك ال ُيمكن احلصول عليه ح َّت ىى
عن طريق املفاهيم املاهو َّية ،فبام َّ
أن الوجود ليس من سنخ املاه َّية وغري مر َّكب من جنس
ه
متعذرة؛ ولقد املاهوي
ه وفصل أو من ما َّدة وصورةَّ ،
فإن معرفته عن طريق العلم احلصو هل
أعم من ْ
أن وكرات إ ىل َّ
أن حقيقة الوجود ليست ِّلا أجزاء ماهو َّيةّ ، مرات ّ أشار َّ
املال صدرا ّ
تكون هذه األجزاء خارج َّية -أي املا َّدة والصورة ،-أو عقل َّية -أي اجلنس والفصل ،-
وأّنا ال تندرج حتت أ َّية مقولة من املقوالت ،وبالتال ال حدَّ ِّلا وال برهان عليها .كام َّ
أن َّ
أي نوع من أنواع املاه َّية الك ّل َّية ،أي اجلنس والفصل والنوع؛ وِّلذا عالوة
الوجود ال ُيم هثل َّ
اهوي بكنه حقيقة الوجود -واحلاصل عن طريق
ه عل عدم إمكان َّية العلم احلصو هل غري امل
ى
املعقوالت الثانية الفلسف َّية كاملوجود والوجود َّ ،-
فإن العلم احلصول املاهوي بكنه هذه
احلقيقة ه
متعذر أيضا(.)1
نأى َّ
املال صدرا بنفسه عن عل هذا البيان بمقدورنا القول ه
بكل رصاحة :لقد ى فباال هتكاء ى
أن الفالسفة املدرس هيني قد وقعوا رأى هايدغر َّ اإلشكاالت النامجة عن األحكام املسبقة التي ى
فيها؛ أي :مع أ َّنه اعترب الوجود مفهوما ك ّل ًّيا وبدهي ًّيا وغري قابل للتعريفَّ ،إال أ َّنه مل ُُي ِجم عن
أي طريق للمعرفة التا َّمة بالوجود،
عل سؤال الوجود؛ وذلك العتقاده بعدم وجود ه اإلجابة ى
أن الطريق الوحيد هو شهود للم ِ
درك بحقيقة الوجود ،مم َّا يعني َّ التامس املبارش ُ
ه سوى طريق
ى
عل أن َّ
املال صدرا وهايدغر ي َّتفقان يف القول بعدم إمكان َّية التعرف ى هذه احلقيقة .فصحيح َّ
هذه احلقيقة بنحو كامل عن طريق املوجودات (املاه ّيات) ،وكذلك عن طريق مفاهيم
سنتطرق له فيام ييل من
َّ كن هناك خالفا جوهر ًّيا بينهام يف الرأي
كاملوجود والوجود ،ل َّ
أبحاث.
حممد بن إبراهيم ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة ،ج ،6ص 137و.138 (َّ )1
املال صدراّ ،
َّ
املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ 73
(1) Dasein
❖ 74دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
من قبيل« :املوجود» و«الوجود» ،ومن خالل املاهيات أيضا؛ وِّلذا َّ
فإن اإلشكاالت الناشئة
من القول بك ّل َّية الوجود وبدهي َّيته ال ُترخي بظالِّلا ى
عل فلسفته.
1 - 3معرفة الوجود عن طريق مفهوم «الوجود»:
علم باليشء بوجه خاص منه ،وليس علم بوجه العلم بالوجود عن طريق مفهومه ٌ
اليشء ،حيث نجد البعض قد اعترب َّ
أن وجه اليشء هو اليشء بوجه ،وبالتال عدَّ العلم هبام
واحدا .وأ َّما َّ
املال صدرا فقد َّفرق بني العلم بوجه اليشء ،والعلم باليشء بوجه ،فوجه اليشء
مصححا للتصديق يف هذا النوع من
ه يقع موضوعا يف القض َّية الطبيع َّية ،ويكون العلم به
مصححا
ه القضايا ،بينام يكون العلم باليشء بوجه -واملراد به العلم اإلمجال هبذا اليشء -
للتصديق بالقضايا احلقيق َّية .ففي العلم بوجه اليشء ال يِّسي احلكم من املفهوم إ ىل األفراد،
بل وال ح َّت ىى إ ىل لوازمه القريبة والبعيدة ،خالفا للعلم باليشء بوجه والذي يِّسي فيه احلكم
إل األفراد ،كام يِّسي أيضا عن طريقها -وبالعرض -إ ىل أفراده
من مفهوم املوضوع ى
العرض َّية ولوازمه؛ وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
فإن امللحوظ يف العلم بوجه اليشء نفس العنوان بنحو
مستقل وبالذات ومن دون اإلشارة إ ىل معنونه ،وأ َّما يف العلم باليشء بوجه َّ
فإن امللحوظ هو
أن املُ َ
درك يف كلتا احلالتني هو املفهوم ،وهو العنوان من حيث كونه مرآة للمعنون( .)1فرغم َّ
وجه اليشء ال كنههَّ ،إال َّ
أن هذين العلمني خيتلفان معا يف جانب املرآت َّية وعدمها(.)2
يبقى عاجزا
أي تقدير سواء كان مفهوم الوجود وجه اليشء أو اليشء بوجه ،فإ َّنه ى
وعل ه
ى
أن َّ
املال صدرا أذعن بإمكان َّية حصول العلم عن عكس كنه حقيقة الوجود؛ لكن بام َّ
يتعني علينا عد مفهوم الوجود بمنزلة اليشء
اصة َّ ،-
التصوري بالوجود -برشوطه اخل َّ
بوجه ،والعلم التصوري بالوجود عن طريق مفهوم الوجود علام باليشء بوجه؛ وِّلذا فإ َّننا
رصح بإمكان َّية العلم بالوجود عن طريق هذا املفهوم؛ غاية األمر أ َّنه يعكس وجها
نراه ُي ه
حممد بن إبراهيم ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة ،ج ،1ص 388و.389 (َّ )1
املال صدراّ ،
حممد بن إبراهيم ،تفسري القرآن الكريم (ج ،)4دار النرش بيدارّ ،
قم ،الطبعة الثانية1366 ،هـ ش، (َّ )2
املال صدراّ ،
ج ،4ص 33و.34
َّ
املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ 75
أن العلم هبذا املفهوم ليس علام بكنه الوجودَّ ،إال أ َّنه ٌ
علم بكنه وجه وعنوانا للوجود؛ ومع َّ
إل العلم بكنه ذلك
العلم باليشء بوجه إ ىل العلم بكنه هذا الوجه ،ال ى
ُ للوجود()1؛ إذ يرجع
اليشء(.)2
2 - 3معرفة الوجود عن طريق املوجودات (املاه ييات):
عل أصالة الوجود والقول
املاه َّية يف احلكمة الصدرائ َّية عبارة عن حده الوجود ،فبناء ى
أوصاف ذات َّية للوجود ،ومعان عقل َّية ينتزعها
ٌ املال صدرا َّ
أن املاهيات يرى َّ
بتحققها العين هيي ى
اخلاصة ُأمورا «جمهولة
َّ العقل من نفاد الوجود ؛ ومن ناحية ُأ ى
خرى فإ َّنه يعد الوجودات ()3
األسامي»؛ إذ َّ
إن مجيع التعاريف املطروحة بشأن الوجود عبارة -بحسبه -عن تعاريف
برشح االسم( ،)4بحيث نقول مثال :هذا وجود إنسان ،وذاك وجود فلك ،واآلخر وجود بال
سبب؛ وبذلك فإ َّننا ُنشري إ ىل الوجودات بامه ّيات منتزعة منها ،وهي عبارة عن ُأمور «معلومة
علاألسامي» حتكي عن خواص ب هينة ِّلذه الوجودات؛ هذا مع أ َّنه ينبغي علينا التأكيد جمدَّ دا ى
عرف باالسم وال بالصفة()5؛ أي وكام ذكرنا مرارا وتكرارا َّ
فإن َّ
أن كنه حقيقة الوجود ال ُي َ
العلم بالوجود عن طريق املاه ّيات ال يكشف َّإال وجها وحيث َّية من الوجود ،شأنه يف ذلك
شأن العلم عن طريق املفاهيم غري املاهو َّية.
علم بحقيقة الوجود تنعكس من خالله
املاهوي هو أيضا ٌ
َّ ومن هنا َّ
فإن العلم احلصو َّل
لدى النفس،
خصائص الوجود املق َّيد .وبام أ َّنه ليس باإلمكان حضور األشياء املاهو َّية املا ّد َّية ى
كام أ َّنه من الالزم يف العلم وجو ُد عالقة وارتباط بني العامل واملعلومَّ ،
فإن النفس ترتبط
حس َّية نتيجة
احلس َّية للبدن؛ فتحصل فيها صورة ّ
باألشياء املا ّد َّية بواسطة اآلالت والقو ىى ّ
حممد بن إبراهيم ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة ،ج ،1ص .391 (َّ )1
املال صدراّ ،
حممد بن إبراهيم ،املبدأ واملعاد ،تصحيح السيهد جالل الده ين اآلشتياين ،األكاديميَّة اإليرانيَّة للحكمة (َّ )2
املال صدراّ ،
والفلسفة ،طهران1354 ،هـ ش ،ص .289
حممد بن إبراهيم ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة ،ج ،1ص 58؛ ج ،2ص .310 (َّ )3
املال صدراّ ،
( )4املراد منها التعاريف اللفظيَّة ،وليست التعاريف املنطقيَّة التي تقع جوابا عن ما الشارحة .املرتجم.
حممد بن إبراهيم ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة ،ج ،1ص 49؛ نفسه ،احلاشية عىل إهلييات (َّ )5
املال صدراّ ،
الشفاء ،ص 24؛ نفسه ،املشاعر ،ص .12
❖ 76دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
وتتحول إ ىل صورة
َّ لتمر من مرتبة اخليال،
ثم تتعا ىل هذه الصورة َّ
علمها احلضوري بالبدن؛ ّ
معقولة.
أن هذا هو السبب الذي دفع امل َّال صدرا للقول بإمكان َّية العلم بالوجودات املق َّيدة
ويبدو َّ
احلس( ،)1فال ُيمكن ْ
أن يكون املراد من العلم احلضوري ،وكذلك عن طريق ه
ه عن طريق العلم
احلس متع هلقا باالرتباط املبارش بوجود هذه املوجودات
ه بالوجودات الشخص َّية عن طريق
العين َّية؛ أل َّننا أثبتنا سابقا است حالته ،بل املراد منه العلم بتلك الوجودات عن طريق املفاهيم
احلس َّية.
املاهو َّية ،واحلاصل بواسطة املبادئ ّ
النتيجة:
العيني للوجود سبب لرفضه املال صدرا َّ
أن االعتقاد بالتحقق عل خالف هايدغر ،مل َير َّ ى
املعرفة املاهو َّية أو املفهوم َّية ،بل ومع تصحيحه ِّلذين النوعني من املعرفة فقد اعترب الشهود
أرقى من اإلدراك املعريف ،وهو املرجع لكا َّفة املعارف املاهو َّية واملفهوم َّية،
ى الوجودي مرتبة
َّ
معنى من دون هذا الشهود؛ ويف احلقيقة
ى بحيث ال يكون ملعرفة العامل -كيفام حصلت -أي
املتأِّلني يف فلسفته من املعرفة املاهو َّية واملفهوم َّية ،ليضع قدمه يف حريم ه فقد انتقل صدر
املعرفة الوجود َّية.
ِ
املتأِّلني تتم َّثل يف أ َّنه مل ينف أبدا
املهمة التي نستخلصها من حتليلنا لرأي صدر ه والنتيجة َّ
ه َّيتها يف التوصل للحقائق عل أ ّقيمة التعاريف والقياسات املنطق َّية ،بل نراه ُيؤ هكد دائام ى
أن هذا القسم من املعرفة يقع -من ناحية سري اإلنسان الفلسف َّية ،لكنَّه يعتقد يف الوقت ذاته َّ
أن املعارف اجلوهري يف مراتب الوجود -يف مرتبة دانية من شهود حقيقة الواقع؛ ولو َّ
أن يتح َّقق
ألي شهود ْاملاهو َّية واملفهوم َّية ُت َعد كبذور للمشاهدة احلضور َّية بحيث ال ُيمكن ه
من دون حلاظ حيث َّيتها اإلعداد َّية(.)2
أن َّ
املال صدرا مل يسقط يف اإلشكاالت التي أثارها هايدغر وبناء عليه بوسعنا اال هدعاء َّ
عل الرغم من قوله ببداهة مفهوم الوجود ،واعتقاده بقيمته املعرف َّية،
ضدَّ املتقده مني ،وذلك ى
حممد بن إبراهيم ،احلاشية عىل إهلييات الشفاء ،ص .216 (َّ )1
املال صدراّ ،
(َّ )2
املال صدرا ،حممد بن إبراهيم ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقليية األربعة ،ج ،3ص .386
َّ
املال صدرا ومعرفة الوجود ❖ 77
علوحديثه عن إمكان َّية معرفته عن طريق املاه ّيات؛ والسبب يف ذلك أ َّنه مل يدَّ ِع أبدا القدرة ى
ارتأى َّ
أن ى احلقيقي للوجود بواسطة املفاهيم واملاه ّيات ،بل ه املعنى واملضمون
ى الوصول إ ىل
احلضوري ،لكنَّه مل يعترب يف الوقت ذاته
ه اكتناه الوجود ال ُيمكن أساسا َّإال من خالل العلم
مفهوم الوجود -بصفته معقوال ثانيا فلسف ًّيا -واملاه َّية من األُمور الباطلة التي ال قيمة ِّلا؛
ه َّية من حيث حكايتها عن حقيقة الوجود؛ ولو َّ
أن املفهوم بام هو حتظى باأل ّ
ى َّ
ألن هذه املفاهيم
املال صدرا ومع اعتقاده َّ
بأن فإن َّ
مفهوم ال يتم َّتع بأ َّية مكانة أو دور يف الفلسفة؛ ونتيجة لذلك َّ
املفاهيم الوجود َّية واملاهو َّية ُتتيح إمكان َّية العلم بالوجودَّ ،إال أ َّنه ى
يرى عدم كفايتها للوصول
إ ىل كنه حقيقة الوجود ،واضعا يف سبيل بلوغ ذلك منهجا آخر؛ وِّلذا ال ُيمكننا اإلذعان بأ َّنه
عل حده قول هايدغر -سقط نتيجة إليامنه ببداهة مفهوم الوجود واعتقاده بقيمته املعرف َّية
-ى
ملعنى
املاهوي يف أحكام مسبقة ،وعجز عن املعرفة احلقيق َّية ى
ه وكذلك بالقيمة املعرف َّية للمفاهيم
األسايس للكينونة.
ه عل السؤال
الوجود ،واجلواب ى
* * *
❖ 78دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املصادر:
ابن سينا ،احلسني بن عبد اهلل ،النجاة من بحر الغرق والضالالت ،تصحيح ّ
حممد تقي دانش بجوه ،نرش جامعة طهران،
طهران ،الطبعة الثانية1379 ،هـ ش.
العظمى املرعيش النجفي1404 ،هـ.
ى نفسه ،الشفاء (اإلِّل ّيات) ،تصحيح سعيد زايد ،نرش مكتبة آية اهلل
أتشيك كنج ،ألب أرسالن ،مطالعه اى در هستى شناسى تطبيقى؛ وجود از ديدگاه صدر الدين شريازى و مارتني
مؤسسة الدراسات اإلسالميَّة التابعة جلامعتي طهران ومكغيل ،الطبعة األُو ىل، هايدگر ،ترمجة ّ
حممد رضا جوزي ،نرش َّ
1378هـ ش.
أمحدي ،بابك ،هايدگر و پرسش بنيادين ،دار النرش مركز ،طهران ،الطبعة الثانية1382 ،هـ ش.
أكربيان ،رضا ،حكمت متعاليه وتفكر اسالمى معارص ،نرش َّ
مؤسسة صدرا للحكمة اإلسالميَّة ،طهران ،الطبعة
األُو ىل1386 ،هـ ش.
جوادي آميل ،عبد اهلل ،رحيق خمتوم (ج ،)1دار النرش إرساءّ ،
قم ،الطبعة الثانية1382 ،هـ ش.
حممد بن حممد ،رشح اإلشارات والتنبيهات (ج ،)3دار النرش كتاب ،بدون مكان ،الطبعة الثانية،
الطويسّ ،
1403هـ.
حممد بن عمر ،املباحث املرشقي َّة (ج ،)1دار النرش بيدارّ ،
قم ،الطبعة الثانية1411 ،هـ. فخر الده ين الرازيّ ،
حممد ،رشح مطالع األنوار ،منشورات كتبي نجفيّ ،
قم ،بدون تاريخ. حممد بن ّ
قطب الده ين الرازيّ ،
مك كواري ،جان ،مارتني هايدگر ،ترمجة ّ
حممد سعيد حنايي كاشاين ،دار النرش گروس ،طهران ،الطبعة األو ىل.
حممد بن إبراهيم ،احلاشية عىل إهلييات الشفاء ،دار النرش بيدارّ ،
قم ،بدون تاريخ. َّ
املال صدراّ ،
نفسه ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة ،نرش مكتبة املصطفويّ ،
قم ،الطبعة الثانية1368 ،هـ ش.
نفسه ،الشواهد الربوبي َّة ،تصحيح السيهد جالل الده ين اآلشتياين ،مركز النرش اجلامعي ،طهران ،الطبعة األُو ىل،
1360هـ ش.
نفسه ،املبدأ واملعاد ،تصحيح الس هيد جالل الده ين اآلشتياين ،األكاديميَّة اإليرانيَّة للحكمة والفلسفة ،طهران،
1354هـ ش.
نفسه ،املشاعر ،تصحيح هنري كوربان ،دار النرش طهوري ،طهران ،الطبعة الثانية1363 ،هـ ش.
نفسه ،تفسري القرآن الكريم (ج ،)4دار النرش بيدارّ ،
قم ،الطبعة الثانية1366 ،هـ ش.
هايدغر ،مارتن ،هستى وزمان ،ترمجة سياوش مجادي ،دار النرش ققنوس ،طهران ،الطبعة األُو ىل1386 ،هـ ش.
Aristotle (1966), Metaphysics, Trans. by W. D. Ross, in The basic works of
Aristotle, Ed. by Richard McKeon, New York: Random house, 20th Edition.
Frede, Dorothea (1998), The question of being: Heidegger's project, in The
Cambrige Companion to Heidegger, ed. by Charles Guignon, Cambrige university
press, 7th Edition.
َّ
79 ❖ املال صدرا ومعرفة الوجود
* * *
العالقة بني النظر والعمل
(دراسة مقارنة بني مال صدرا وهايدغر)
()1
()2
حممد رضا أسدي
ي
اخلالصة:
بقوتني :إحداها نظر َّية والثانية عمل َّية ،ولكلتيهام تأثري ّى
يتحل اإلنسان بحسب اخللقة األصل َّية َّ
طرح الطبيعي ْ
أن ُي َ ه يف طريقة عيش اإلنسان ،كام ُتؤ ّديان دورا يف حياته .ومن هنا كان من
عل األُ ى
خرى؟ وقد عالج القوتني ملعرفة أي منهام تتقدَّ م ى
السؤال عن العالقة بني هاتني َّ
الفالسفة املسلمون والغربيون هذا السؤال وقدَّ موا أجوبة خمتلفة عنه .حيث اخرتنا يف هذه
الدراسة الفيلسوف املسلم صدر الده ين الشريازي والفيلسوف األملاين مارتن هايدغر لنقارن
عل الرغم من اشرتاكهام يف بعض املبادئ
بينهام ،وقد تبن ىّى كل منهام جوابا خمتلفا عن اآلخر ،ى
الفلسف َّية ويف بعض ُأ ُسس نظرهتام إ ىل اإلنسان.
عل اخلاص للعمل والنظر َّ -
أن العمل متقده م وجودا ى ه عل تعريفه
يرى هايدغر -بناء ى ى
اخلاص
ه مال صدرا -وانطالقا من تعريفهيرى َّ
النظر ،يف مقا ِم تشكيل املعرفة البرش َّية .بينام ى
عل العمل يف مقام تشكل املعرفة ملفهومي النظر والعمل َّ -
أن النظر واملعرفة متقده مان ى
عل غريه من الكائنات.البرش َّية وتفضيل اإلنسان ى
مدخل:
خيتلف املوقف من حتديد طبيعة العالقة بني النظر والعمل باختالف تعريف كل من
( )1املصدر :أسدي ،حممد رضا« ،مقايسه نگاه مال صدرا وهايدگر در باب نسبت نظر وعمل» (مقارنة بني رؤية صدر
األول ،ص - 21 ه
املتأِّلني وهايدغر يف باب النسبة بني التنظري والتطبيق) ،فصليَّة جامعة قم العلميَّة البحثيَّة ،العدد َّ
،32السنة العارشة.
حممد حسن زراقط.
تعريبّ :
(ُ )2أستاذ مساعد يف قسم الفلسفة يف جامعة َّ
العالمة الطباطبائي ،إيران.
❖ 82دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ّى
يتحل بمجموعة من املفهومني .ولكن ر َّبام يمكن القول بكلمة عا َّمة :لـ َّام كان اإلنسان
القوى العلمية عند اإلنسان هو الوعي والفهم ،ويف ى القوى العلم َّية والعمل َّية ،وأبرز مصاديق
ى
العام
ه وعل ضوء هذا التحديد
ى القوى العمل َّية العزم واإلرادة،
ى اجلهة املقابلة َّ
فإن أبرز مصاديق
املتصورة بني النظر والعمل ،وبعبارة ُأ ى
خرى :بني َّ ُيتاح لنا احلديث عن أشكال أربعة للعالقة
الوعي واإلرادة عند اإلنسان ،وهذه األشكال األربعة املحتملة هي:
عل العمل قيمته عل العملَّ ،
وأن املعرفة هي التي تضفي ى َّأوالً :تقدم العلم واملعرفة ى
واعتباره ،واإلرادة أداة خادمة لتكامل فهم اإلنسان.
ثاني ًا :تقد م العمل ،وكون الوعي والعلم يف خدمة تنمية اإلرادة والعمل عند اإلنسان،
تتطور.
وما مل يصدر العمل من اإلنسان ال تظهر قواه العلم َّية وال تنمو أو َّ
ماهوي بينهام ،وعليه ال
َّ ثالث ًاْ :
أن يكون العلم والعمل حيث َّيتان حلقيقة واحدة ،وال متايز
عل هذا االحتامل َّ
أن الوعي عل اآلخر .وحقيقة احلال بناء ى
يصح احلديث عن تقدم أحدها ى
ِ ٌ
أشكال من العمل الذي ُتنجزه النفس اإلنسان َّية يف مسرية كشف والفهم والتفكري والتعقل
اإلنساين ،وال يمكن ْ
أن ه نوع من الوعي
احلقيقة والوصول إليها .يف املقابل العمل والفعل ها ٌ
عمل أو يصدر عن اإلنسان من دون ْ
أن يكون مقرونا ومشوبا بالعلم واملعرفة. يتح َّقق ٌ
رابع ًا :احليث َّية العمل َّية واحليث َّية النظر َّية عند اإلنسان تعمل إحداها بموازاة األُ ى
خرى دون
وكأن ًّ
كال منهام جزيرة معزولة عن اجلزيرة الثانية ال عالقة تربط َّ أن تتأ َّثر إحداها بالثانية،
ْ
إحداها ب ُأختها.
اخلاص
ه وعل ضوء تعريفه
ى من بني االحتامالت األربعة املذكورة أعاله خيتار هايدغر -
عل
ى
()2
لكل من العمل والنظر ،-خيتار تقدم العمل (املامرسة)( )1والفعل (التطبيق العميل)
(1) Practice
( )2يستخدم الكاتب كلمتي عمل ( )practiceوپراكسيس ( ،)praxisوالرتمجة العرب َّية احلرف َّية ِّلاتني الكلمتني يف
اللغة اإلنجليز َّية هي املامرسة والتطبيق العميل .وقد وجدت َّ
أن ترمجتهام هبذه الطريقة ترض بجامل الرتمجة وتعيق
الوضوح ود َّقة نقل املصطلح إ ىل اللغة العرب َّية .ولذلك َّ
فضلت استخدام كلمة عمل كمعادل لـ ( )practiceالتي
عل املامرسة بمعناها العا هم ،وكلمة فعل كمعادل لـ ( )praxisالتي تدل يف
تدل بحسب بعض املعاجم اإلنجليز َّية ى
عل مفهوم التطبيق العميل املستند إ ىل نظر َّية .هذا مع التفات إ ىل َّ
أن هذا التمييز ال ي َّتفق كثريا مع اللغة اإلنجليز َّية ى
الفرق الذي تذكره معاجم اللغة العرب َّية بني كلمتي عمل وفعل( .املرتجم).
العالقة بني النظر والعمل ❖ 83
عل تعريفه املختلف لكل من النظر يف مقام تشكيل املعرفة اإلنسان َّية .وأ َّما َّ
مال صدرا -وبناء ى
عل العمل يف
والقيمي للعلم واملعرفة ى
ه الوجودي
ه هذين املفهومني ،-فإ َّنه خيتار القول بالتقدم
عل سائر الكائنات .وسوف نحاول توضيح
مقام تشكل املعرفة اإلنسان َّية وترجيح اإلنسان ى
نظر َّية كل من الفيلسوفني يف النظر والعمل.
قوى النفس الناطقة اإلنسان َّية إ ىل قسمني ،ها :النظر َّية والعمل َّية(،)1
مال صدرا ى قسم َّ
ُي ه
كل واحدة من هذه خاصة ،والوصول إ ىل آخر مراتب ه وى ِّلا مراتب َّ
وكل واحدة من هذه الق ى
عل املالئكة
القوى النظر َّية والعمل َّية هو كامل اإلنسان .وما يوجب كامل اإلنسان وفضله ى
()2
ى
قوته النظر َّية وليس كامل عمله بالقياس إ ىل عمل سائر
وسائر موجودات العامل هو كامل َّ
الكائنات(.)3
َ
اإلنسان عن غريه من الكائنات هو أعامله وأفكاره ،ولكن أعامل اإلنسان وما ُيم هيز
تكتسب قيمتها واعتبارها من العلم واملعرفة اللذان تستند إليهام .وبناء عليه ال يشء أفضل
من العلم واملعرفة(.)4
وقد وصل اإلنسان إ ىل مقام اخلالفة اإلِّل َّية بعد ا هتصافه بالعلم باألسامء اإلِّل َّية ،وهبذا
استحق سجود املالئكة له.
َّ العلم
عل ه
كل يشء يف العامل عل العمل ،بل ُتقدَّ م املعرفة ى و ُي هبني َّ
مال صدرا فكرة تقدم العلم ى
يرى َّ
أن السعادة اإلنسان َّية تنقسم إ ىل عل موضوع (السعادة) .فهو ى بطريقة ُأ ى
خرى مبن َّية ى
قسمني ،ها :السعادة البدن َّية والسعادة العقل َّية.
درك باملشاعر اجلسامن َّية كالسمع للمسموعات والبرص للمبرصات،...
والبدن َّية هي ما ُي َ
بالقوة العاقلة كإدراك العقل للمفارقات كذات الباري وصفاته وأسامئه
َّ درك
والعقل َّية ما ُي َ
وأرقى بمراتب من السعادة البدن َّية؛ وذلك َّ
ألن ى ومالئكته العلو َّية .والسعادة العقل َّية أفضل
هذه تظهر يف قوالب تلك املفاهيم القبل َّية وهي التي ُتش هكل فهمي ملوضوع َّ
معني .فبام أ َّنني
إل اجلمباز من وراء تلك السالمة وهاتيك أتو َّقع العيش مع سالمة اجلسم َّ
وقوته ،فإ َّنني أنظر ى
والقوة ،ففي هذه احلالة أشك
َّ القوة ،فإذا مل ّتدم تلك الرياضة أهدايف أي مل ُحت هقق ل السالمة
َّ
يف فهمي للجمباز بوصفه رياضة.
إذا ،أنا أصوغ القض َّية العلم َّية التي تقول:
قوته ،عىل ضوء الفهم
الرياضة تسهم يف احلفاظ عىل سالمة اجلسم وتزيد من َّ
أن
وبناء عىل هذا العرض للتصور اهلايدغري ي َّتضح َّ
ً بطبقاته الثالثة املشار إليها آنف ًا.
الفهم متقدِّ م عىل النظر َّية أو القض َّية العلم َّية ،ويف إطار الفهم حتدث حوادث عدَّ ة ،ما
صياغة القض َّية العلم َّية أو النظر َّية َّإال يشء منها.
وبناء عليه الفهم ليس نوعا من الوعي واملعرفة ،بل هو أساس ه
كل وعي ومعرفة ،وعليه
نوع من الكينونة والوجود،
يقوم بنياّنام .وكذلك الفهم ليس من جنس املعرفة فقط ،بل هو ٌ
ونوع من العمل أيضا .والفهم وفق التبيني اِّلايدغري موجود ذو وجهني .فضال عن أ َّنه نحو
وجود للـ دازاين .وهذا الوجود للـ دازاين ذو وجهان ها املعرفان َّية والعمالن َّية.
عريض يف شعاع وجوده يمكن رؤية ما ليس مرئ ًّيا،
ٌ عرض وبناء عليه َّ
فإن الفهم له ٌ
وألجل هذا عدَّ ه هايدغر من جنس الوعي واملعرفة ،ومن حيث إ َّنه خيرج الظواهر من ظلمة
َّ
الالفهم هو من جنس العمل والنشاط.
وعل ضوء ما عرضناه من رؤية هايدغر ونظرته إ ىل الفهم ي َّتضح َّ
أن النظر ّيات والقضايا ى
العلم َّية تنمو يف أحضان الفهم ،وهذه النظر ّيات والقضايا العلم َّية هي بدورها يف مقابل
اإلنساين .فالفهم من جهة أشبه ما يكون باألُ هم التي ُت ّ
رب يف أحضاّنا طفلني ه العمل والسلوك
ولكن هذه اِّلو َّية
َّ أحدها النظر واآلخر العمل ،ومن جهة ُأ ى
خرى ِّلا وجهة وهو َّية عمالن َّية،
ال تقع يف مقابل الطفل اآلخر الذي هو النظر الذي بدوره نجم عن الفهم .وبعبارة ُأ ى
خرى:
عل نوعني :أحدها توأم الفهم ،واآلخر يف مقابل النظر.
العمل واملامرسة ى
هذا ولكن هل املاه َّية العمالن َّية للفهم ّتتلف عن العمل الذي جيعله هايدغر يف مقابل
أي جواب
ولكن هايدغر ال ُيبدي َّ
َّ النظر أو ال ّتتلف؟ إ َّنه سؤال قمنيٌ بالبحث والدراسة،
العالقة بني النظر والعمل ❖ 87
عل النظر عن طريق العمل والتعامل مع املحيط وهذه الف ّعال َّية يكسبها اإلنسان بشكل مقدَّ م ى
والبيئة التي ُييا فيها .ولكن عندما خيِّس اإلنسان ُأنسه باألشياء وصلته العمل َّية هبا يبدأ
بالنظر إليها بام هي موضوعات خارج َّية يتعامل معها بطريقة نظر َّية وتنظري َّية .ومن هنا نجد
العمالين لإلنسان بام هو نشاط انكشايف وأسايس
َّ أن هايدغر يطرح العمل والنشاط َّ
للـ دازاين وأخريا حلقيقة الوجود ،ولع َّله يمكن القولَّ :
إن أحد أهداف كتاب الكينونة
عل النظر .بل ر َّبام ال يكون جمانبا للحقيقة وال مبالغة القول
والزمان هو إثبات تقدم العمل ى
أهم مراكز الثقل يف
الظواهري حليثية العمل واملامرسة يف الـ دازاين هو أحد ّ
ه َّ
بأن حتليل
التحليل الفينومينولوجي اِّلايدغري.
أن يكون نظرا؛ وذلك َّ
ألن نظره وعلمه له فإن الـ دازاين هو عمل وممارسة قبل ْ
وعليه َّ
عل
جذور يف الفهم ،وهذا األخري ينتمي إ ىل مقولة العمل أكثر من انتامئه إ ىل النظر .هذا ى
وعل الرغم من ذلك
ى الرغم من كون الفهم أمرا إمكان ًّيا وبالتال خارج دائرة الفعل َّية ،غري أ َّنه
عل ما تقدَّ م ك هله يمكن استنتاج َّ
أن عل ضوء العمل واملامرسة .وبناء ى
يصل إ ىل حالة الفعل َّية ى
ألن َّ
كل عالقة نظر َّية املتأِّلني .وذلك َّ
ه آل َّية الوصول إ ىل الفهم ّتتلف بني هايدغر وصدر
املسيحي والفيزياء احلديثة كل ناشئة عن نوع من جتربة
ه بالعامل من امليتافيزيقا إ ىل َّ
الالهوت
عميل للـ دازاين .وفهم الـ دازاين هو إسقاط وجتل لذاته يف صور عدَّ ة .وأ َّما بالنسبة
العيش ال ه
والتقوى وهتذيب
ى مال صدرا َّ
فإن الوصول إ ىل الفهم ال يمر بالرضورة بالعمل .واألخالق إ ىل َّ
النفس ُأ ٌ
مور عمل َّية يمكن ْ
أن تساعد يف الوصول إ ىل مراحل من املعرفة والعلم ،ولك هن الفهم
ٌ
نشاط نظري كام هو معلو ٌم. -بحسب َّ
مال صدرا -ال بدَّ له من املرور عرب الربهان الذي هو
ُيضاف إ ىل هذا َّ
أن الفهم أو العلم بحسب صدر الده ين الشريازي هو من مقولة حصول
الصورة يف الذهن ،وبحسب تعبري بعض املعارصين( )1كل علم حصول ال بدَّ من ْ
أن ينتهي
يرى أ َّنه إذا قيل :العلم فإن َّ
مال صدرا ى وبغض النظر عن تفسري الفهم وتعريفه َّ
ه إ ىل احلضور.
عبارة عن الصورة احلاصلة من اليشء عند ِ
املدركُ ،أريد باملعلوم به األمر اخلارج من َّ
القوة
عنى به العلم الذي هو ِ
للمدرك ،ى ِ
املدركة ...وإذا قيل :العلم عبار ٌة عن حضور صورة يشء
نفس املعلوم ال يشء غريه ،ويف كل من القسمني املعلوم باحلقيقة واملكشوف بالذات هو
الصورة التي وجودها وجود نوري إدراكي خالص عن الغوايش املا ّد َّية غري خملوط باألعدام
والظلامت()1؛ وعليه إذا كان الفهم عند هايدغر من مقولة العمل ،وإذا كان فهم الـ دازاين
عل فإن العلم والفهم عند َّ
مال صدرا من الناحية املتيافيزيق َّية مبتن ى نحوا من أنحاء كينونته َّ
العقيل والنظر ،وماه َّية الفهم يف ّناية األمر تؤول إ ىل الوجود ،ولكن وجود الصورة
ه الربهان
مال صدرا يزعم يف تقرير آخر له َّ
بأن العلم أن َّ
املنزَّ هة عن ظلامت عامل املا َّدة ،فضال عن َّ
باليشء ووجوده حقيقة واحدة(.)2
يرى يف حمل آخر َّ
أن اإلدراك والفهم من مقولة االلتفات ولكن َّ
مال صدرا ى َّ هذا
احلضوري) أم كانت
ّ واملشاهدة( .)3سواء كانت ذات املعلوم حارضة عند العامل (العلم
صورته هي احلارضة (العلم احلصو ّل) ،ففي احلالتني تلتفت النفس وتشاهد إ َّما صورة
احلارض أو عينه.
ربر الفهم و ُيب هينه عن طريق كينونة الـ دازاينَّ ،
فإن أي تقدير فإذا كان هايدغر ُي ه
وعل ه
ى
مال صدرا يفعل ذلك أي تبيني احليثية الوجودية للفهم واإلدراك ،عن طريق احليث َّية َّ
الوجود َّية للصورة احلارضة عند نفس العامل ،وعن طريق املساوقة بني العلم والوجود .وال
مال صدرا يف ما يرتبط ه
باحتاد العاقل واملعقول وكيف َّية أن األبحاث التي يطرحها َّ
نغفل عن َّ
إنشاء املعلوم بواسطة النفس ،ال جمال ِّلا وال َّ
حمل يف الفلسفة اِّلايدغرية؛ وذلك أل َّنه ال ينظر
إ ىل الـ دازاين بعني العالقة بني النفس واجلسد .بل إ َّنه ال يقبل التمييز والتفكيك بني النفس
واجلسد ،كام ال يقبل تفسري الـ دازاين انطالقا من التقابل بينه وبني العامل .ومن األُمور التي
تستحق الذكر يف مقام املقارنة بني َّ
مال صدرا وهايدغر يف ما يرتبط بالعالقة بني العلم
( )1يذكر صدر الده ين الشريازي مثل هذا الكالم يف أكثر من موضع من كتابه األسفار ،ومن ذلك :املج َّلد الثامن،
املتأِّلني يف هذا الصفحة 155من هذا املج َّلد ،يف معرض بيان
ص .152األسفار ،ج ،6ص .151يقول صدر ه
الفرق بني العلم احلصول والعلم احلضوريَّ :
«إن العلم بيشء هو ذات الصورة الذهنيَّة لذلك اليشء ،وتارة تكون
هذه الصورة هي عني املعلوم اخلارجي».
( )2املصدر السابق ،ج ،2ص .150
( )3املصدر السابق ،ص .162
❖ 90دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
والعملَّ ،
أن دائرة العمل عند هايدغر أوسع بكثري مم َّا هي عند صدر الده ين الشريازي .وذلك
وسع دائرة العمل لتشمل كثريا من األُمور التي ِّلا بعدٌ نظري مثل العلم َّ
أن هايدغر ُي ه
احلديث ،فضال عن شموِّلا ه
لكل ما هو عميل بشكل أو بآخر مثل التقانة ،فهذه األشياء
يرى شيئا من التقابل بني العلم وغريها ّترج من قلب الفعل واملامرسة .وأ َّما َّ
مال صدرا فإ َّنه ى
عل هذا األمراملؤرشات الدا َّلة ى
التوالدي بينهام .ومن ه
ه عل الرغم من إمكان َّية الرتابط
والعمل ى
أ َّنه جيعل الفلسفة األُو ىل يف مقابل األخالق ،والعمل عنده مفهوم أقرب ما يكون إ ىل األعامل
األخالقي ويف بعض احلاالت ُيستفاد من تتبع أفكاره أ َّنه يدخل األعامل
ه الفرد َّية والسلوك
االجتامع َّية والعا َّمة يف هذه الدائرة.
وينظر هايدغر إ ىل مقولة الفهم والعمل بعني األنطولوجياَّ ،
ومال صدرا ينظر إ ىل العلم
ولكن هذا األخري ال ينظر إ ىل العمل من الناحية األنطولوج َّية
َّ والفهم هبذه النظرة أيضا،
إل تبيني
عل هذه الناحية .فهو بعد حتليله األنطولوجي للعلم ينتهي ى
املحضة وال يقرص حتليله ى
األنطولوجي
ه ويتحول إ ىل البحث
َّ عل ضوء املعارف الده ين َّية
العالقة بني العلم والعمل ى
عل ضوء
والقيمي .وأ َّما هايدغر فإ َّنه يعمد إ ىل معاجلة مسألة الفهم والعمل والنظر ى
ه
وعل الرغم من إرصار
ى األنطولوجيا بعيدا عن املعاجلة الده ين َّية أو ح َّت ىى القيم َّية .هذا ولكن
عرب عن هذا التجنب يف عدد من
عل حتايش امليل نحو املعاجلة القيم َّية والده ين َّية ،و ُي ه
هايدغر ى
املواضع يف كتابه الكينونة والزمان ،فإ َّنه ال ُيو َّفق يف الوفاء هبذا التعهد.
يني للمعاجلة الصدرائ َّية للعلم والعمل(،)1
والقيمي والده ه
ه األنطولوجي
ه عل التوجه
وبناء ى
إل
قسم العلم ى عل العمل .ويف بعض حتليالته ُي ه مال صدرا إ ىل ترجيح العلم والنظر ى ينتهي َّ
سمي
عل بعضها اآلخر و ُي ّ فضل بعضها ى أقسام عدَّ ة و ُي هبني قيمة ه
كل واحد من هذه األقسام و ُي ه
العلوم املمدوحة واألُ ى
خرى املذمومة ،وذلك بطريقة ال ُتفيض إ ىل قطيعة كاملة بني الدائرتني،
مال صدرا ،تفسري القرآن الكريم ،املج َّلد الثاين ،ص .362 - 331فهو يف هذا املوضع من تفسريه يتحدَّ ث عن
(َّ )1
فضل علم
إل حممودة ومذمومة ،و ُي ه
قسم العلوم ى
احلقيقي ،و ُي ه
ه فضل العلم ورشفه ،وعن منزلة العامل ،ومعيار العلم
معنى احلكمة واحلكيم .ويتحدَّ ث عن ُأمور قريبة من هذه املوضوعات من صفحة 55
ى عل علم املالئكة ،و ُي هبني
آدم ى
83 -من الكتاب نفسه أيضا.
العالقة بني النظر والعمل ❖ 91
(َ )1ث َّمة نقطتان تستح ّقان الذكر يف جمال احلديث عن نظرة هايدغر إ ىل العمل واملامرسة:
األُوىل :يتحدَّ ث هايدغر يف مواضع عدَّ ة ومناسبات خمتلفة بطريقة مبارشة وغري مبارشة عن دور العمل وعن احليثيَّة
وبخاصة الكينونة والزمان .ففي هذا الكتاب األخري يتحدَّ ث عن أ ّ
ه َّية َّ العمالن َّية للـ دازاين ،وذلك يف عدد من ُكتُبه
العمل يف سياق معاجلته ملفهومي ما هو حتت اليد ( ،)ready to handواحلارض يف اليد (،)present to hand
هيَّة املامرسة والتطبيق العمليَّة دون
يف الصفحات 408 ،142 ،141 ،140 ،136 ،135 :و ،409يتحدَّ ث عن أ ّ
اخلاصة به يف هذا السياق ،وكل ذلك يصب
َّ ْ
أن يستخدم كلمة ( )praxisويطرح كثريا من املفاهيم واملصطلحات
عل هو َّية اإلنسان وكينونته.
يف خدمة بيان املوقف اِّلايدغري من العمل وأثره ى
أن هايدغر وكام أرشنا من قبل متأ هثر بدرجة كبرية بالعارف األملاين إكهارت ،ويظهر هذا التأثر كثريا يف كتاب
الثانيةَّ :
العمالين لإلنسان ُنذ هكر َّ
بأن هذه املعاجلة اِّلايدغرية ليست -كام ه الكينونة والزمان .وهنا يف سياق احلديث عن البعد
سوى إعادة تدوين للكتاب السادس من رسالة األخالق إ ىل نيكوماخوس ألُرسطو،
ى رشاح هايدغر -
يرى عد ٌد من ُ ّ
ى
ْ
وإن كان ذلك بلغة هايدغر َّية.
❖ 92دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
بمعنى هتذيب النفس أو دور ى يقصد من حديثه عن دوره العمل يف فهم احلقيقة ،العمل
اِّلايدغري ليس هو الذات العاملِة
َّ األخالق يف معرفة احلقيقة .أضف إ ىل هذا َّ
أن الـ دازاين
عند ديكارت وال األنا املتعالية عند كانط ،بل هو نوع من العمل وكيف َّية العيش واحلياة.
والـ دازاين اِّلايدغري ليس منزويا بل هو يف اجلمع واملجتمع ،وليس يف اخلالء بل يف العامل،
وهو يتف َّتح بواسطة العمل وعن طريق املامرسة واالختيار والتصميم .ومعرفته وتفتحه
نرى َّ
أن العمل مقدَّ م توأمان وها حاصل عمالن َّية اإلنسان وليسا حاصل علمو َّيته ،ومن هنا ى
عل النظر من الناحية القيم َّية ،وذلك
عل العلم وجود ًّيا وليس قيم ًّيا .فليس العمل متقده ما ى
ى
َّ
ألن املعاجلة اِّلايدغر َّية للعمل معاجلة أنطولوح َّية.
ويف ختام هذا القسم من هذه املقالة ال ينبغي غض النظر عن مالحظة نقد َّية لفكر
يرى يف كتابه رسالة يف اإلنسانو َّية َّ
أن هايدغر ،وهي أ َّننا ال نعلم كيف يمكن ِّلايدغر الذي ى
يرى
تقسيم التفكري إ ىل نظري وعميل هو أساس انحطاط الفكر األصيل ،كيف يمكن ملن ى
عل هذا الرأي ْ
أن يعود إ ىل الفكر األصيل الذي ُيلم به من خالل احلكم بتقدم العمل ى
النظر؟ َأال يبتني هذا التقديم ى
عل ذاك التقسيم؟! فهل يمكن فتح ُط ُرق جديدة يف الفكر
عل نتائجه؟ وهل يصح دعوة اآلخرين إ ىل معرفة
عى ،أو ى
عل منشإ االنحطاط املدَّ ى
باالعتامد ى
عل ضوء العمل واملامرسة؟
احلقيقة وانكشافها ى
* * *
العالقة بني النظر والعمل ❖ 93
املصادر:
اسميث ،كركوري بروس ،1380 ،نيچه ،هيدگر ،وگذار به پسامدرنيته ،الرتمجة الفارسيَّة ّ
عيل رضا سيهد أمحديان،
آبادان ،به نرش پرسش.
شريازي ،صدر الده ين ،1981 ،احلكمة املتعالية يف األسفار العقلي َّة األربعة ،بريوت ،دار إحياء الرتاث العرب ،ج .9
،------------الشواهد الربوبي َّة ،مقدّ مة وتصحيح س هيد جالل الده ين آشتياين ،قم ،بوستان كتاب ،قم.
،------------تفسري قرآن كريم ،1364 ،تصحيح ّ
حممد خواجوئي ،قم ،انتشارات بيدار ،ج 2و.3
Heidgger, M. (1990), Being and Time, trans, J. Macquarrie and E. Robinson,
Blackwell, Oxfard.
Heidegger, M. (1977), ‘Letter on Humanism’, in Basic writings, pp189 - 243.
Heidegger, M. (1977), Basic Writings. Ed. Davis Farrell krell, trans. Frank
A.Capuzzi, with J.Glenn Gray and David Farrell Krell. New york:Harper and Row.
Macann, CHR (ed) (1992), Martin Heidegger, critical Assessments, 4Vols, 1.
Routledge London and New York.
* * *
حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل (املُبتذل)
يف األنطولوجيا األساسيَّة هلايدغر وفشله يف جتاوزالفهم امليتافيزيقي
()1
()2
رضا دهقانی
()3
محيد رضا آية اللهي
اخلالصة:
معنى للوجود من خالل حتليله
ى سعى هايدغر يف كتاب الوجود والزمان إ ىل تقديم
ى لقد
املعنى
ى األول من الكتاب «القلق» بعنوانه الوجودي لزمان َّية الـ دازين ،فطرح يف القسم َّ
سعى يف القسم
ى الوجودي للـ دازين ،وعرض ُبنيته الثالث َّية الوجوه امل ُتك هثرة واملتجزه ئه ،وقد
الثاين من خالل طرحه ملسألة الزمان َّية إ ىل عرض الزمان َّية كأساس لوحدة هذه ال ُبنية املتك هثرة
ُيربز املعن ىى الوجودي للـ دازين ،ومنشأ حتليل هايدغر هو تقسيم وجود الـ دازين إ ىل أصيل
يرى
ثم ىوغري أصيل ،وهو يذهب يف الزمان َّية كذلك إ ىل حتليلها إ ىل زمان َّية أصيلة وغري أصيلةّ ،
بأن املفهوم امليتافيزيقي للزمان عبار ٌة عن توال لآلنات املتامثلة واملس َّطحة،
هايدغر فيام بعد َّ
أساس موجو ٌد يف الزمان َّية غري األصيلة ،وهذه
ٌ وهو مفهو ٌم غري أصيل ( ُمبتذل) ،ويعترب أ َّنه
أن مساعي هايدغر يف جتاوز الفهم امليتافيزيقي مل تكن مو َّفقة؛ َّ
ألن املقالة هي بصدد بيان َّ
عل رغبة الـ دازين يف جتاوز عدم األصالة نحو األصالة ،كام أ َّنه يقع يف
حتليله هو اآلخر مبني ى
دائرة أصالة فاعل املعرفة (املذهب الذات) ،ويقع بتبعه يف دائرة امليتافيزيقيا ،ويف النهاية سوف
( )1املصدر :دهقاين ،رضا ،آيةاللهی ،محيدرضا« ،بررسی مفهوم زمان نااصيل (مبتذل) در هستی شناسی بنيادين
هايدگر و ناكامی وی در فراروی از فهم مابعدالطبيعی»،پژوهشهای هستی شناختی =[ ،بحوث يف الفلسفة
الوجود َّية] ،فصلي َّتان علمي َّتان وبحثي َّتان ،السنة الرابعة ،رقم ،7ربيع وصيف 1394ش ،الصفحات .21 - 1
(ُ )2أستاذ فلسفة مقارن ،جامعة َّ
العالمة الطباطبائي.
(ُ )3أستاذ فلسفة ،جامعة َّ
العالمة الطباطبائي.
❖ 96دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
مقدّمة:
يع َترب هايدغر من أشهر الفالسفة وأكثرهم احرتاما يف القرن العرشين( ،)2ومنذ ْ ِ
رش كتاب
أن ُن َ ُ
الوجود والزمان(1927( )3م) أصبح العديد من املعارصين متأ هثرين هبذا الكتاب( ،)4وهدف
هايدغر يف هذا الكتاب هو عرض الزمان بمثابة ُأفق لفهم الوجود ى
عل أساس الزمان َّية
إن الزمان َّية ُمت هثل ُأفقا ،وهي هنا عبار ٌة عن رشط إلمكان فهم
بعنواّنا وجود الـ دازين(َّ ،)5
الوجود ،فاملسألة الرئيس َّية ليست هي الزمان ،بل زمان َّية( )6الـ دازين( ،)7ومصطلح هايدغر
الذي استعمله للزمان َّية هو ،Zeitlichkeitلكنَّه استعمل أيضا كلمة Temporalitätيف
عل أساس الوجود ،بل َّ
إن هذا الوجود هو خرى ،وهذا الزمان ال ُيمكن إدراكه ى مواضع ُأ ى
()8
(1) Heidegger, Martin, (1973), Kant und das Problem der Metaphysik (GA. 3), F.-W. von
Herrmann(Hrsg.), Frankfurt am Main,Vittorio Klosstermann. P. 218.
(2) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 17.
(3) Streubel, Thorsten, (2006), Das Wesen der Zeit. Zeit und Beweußtsein bei Augustinus,
Kant und Husserl, Würtzburg, Königshausen & Neumann. P. 10f.
(4) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 7.
(5) Safranski, Rüdiger, (2013), Ein Meister aus Deutschland. Heidegger und seine Zeit,
München, Fischer Taschenbuc. P. 172.
(6) Reijen, Willem van, (2009), Martin Heidegger, Wien, UTB. P. 8.
❖ 98دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
َّ
إن دائرة النقاش يف هذه املقالة حمدود ٌة بالوجود والزمان واملرحلة املتقده مة من التفكري،
األول من كتاب
حيث سنبدأ يف هذه املقالة بتحليل متهيدي ل ُبنية وجود الـ دازين طبقا للقسم َّ
معنى وجود الـ دازين ،وسنقوم بعرض بنيته
ى الوجود والزمان ،وسوف نطرح القلق بعنوانه
معنى القلق ،وكأساس لوحدة بنيته
ى املتنوعة واملتك هثرة ،وبعد ذلك سنعرض الزمان َّية بعنواّنا
ه
املتنوعة وك ّل َّيته ،وهذا التعريف سيقوم ى
عل أساس تقسيم الزمان َّية إ ىل أصيلة وغري أصيلة، ه
مبنى
عل ى ولكنَّنا سنقوم يف القسم الرابع بتعريف مفهوم الزمان العاملي يف فكر هايدغر بناء ى
الزمان َّية غري األصيلة ،وبعد ذلك سنطرح مفهوم الزمان غري األصيل (املبتذل) بعنوانه زمانا
مبنى الزمان َّية غري األصيلة ،وسنعرض نقد هايدغر للسنَّة ى عل
تم تسطيحه بناء ى عامل ًّيا َّ
امليتافيزيق َّية ،وبعد ذلك سنقوم بدراسة نقد َّية لنقد هايدغر للسنَّة امليتافيزيق َّية ،وسنُ هبني هناك
أن خيرج أن هايدغر كان بصدد جتاوز الذات َّية (أصالة املوضوع) ولكنَّه هو بنفسه مل يستطع ْ َّ
عنها ،وهذا هو السبب الرئييس لفشل الوجود والزمان والدوران يف فكر هايدغر.
عل السؤال ولديه إمكان َّية الـ دازين كموجود مثلام أ َّننا موجودون ،وكموجود يمتلك القدرة ى
سميه يف ساحة الطبيعة باسم ّ
األقل كل ما ُن ّ عل
السؤال عن الوجود ،ومجيع األشياء ،أو ى
()4
املوجود ،فجميع هذه األشياء جواهر طبيع َّية وزمان َّية ،ولكن اإلنسان لوحده يمتلك اختالفا
ملبنى زمان َّيته ،والـ دازين بسبب
سبق للوجود ،وهو يعمل طبقا ى
فهم ُم ٌ عن البق َّيةَّ ،
إن لإلنسان ٌ
(1) Dasein
(2) Da
(3) Müller, Marx & Hadler, Alois, (1965), Herders Kleines Philosophisches Wörterbuch,
عل أساس
ويترصف ى
َّ فهمه املُسبق للوجود َف َص َل نفسه عن باقي املوجودات ،وهو يتعا ىل
أن يصدر َّإال من كينونة ومعرفة وتأمل واحد ،بحيث
زمان َّيته يف عامل ،وهذا التعال ال ُيمكن ْ
خاصة مع نفسه ،ويتأ َّمل يف نفسهَّ ،
إن الـ دازين هو عبار ٌة عن موجود يمتلك يف يمتلك نسبة َّ
هم وجود نفسه ،وبالتال فاملوضوع املحوري لكتاب الوجود والزمان هو حتليل نفسه َّ
عل َّأّنا هرمونطيقيا
الـ دازين ُ ،يمكن تعريف فكرة هايدغر يف كتاب الوجود والزمان ى
()2()1
(1) Daseinsanalyse
(2) Tugendhat, Ernst, (2001a), Heidegger und Bergson über die Zeit. In Aufsätze (1992 -
عل الدوام ْ
أن عل الدوام ًّ
كال من« :املا قبل -النفس -الوجود» ،وبإمكان الـ دازين ى
()1
حالة ى
سمي هايدغر هذه البنية الوجود َّية «املا قبل -النفس -
يذهب أبعد من كينونة قدرته ،و ُي ّ
سمي هايدغر «املا قبل -النفس -الكينونة» الذين ُيمكن فهمهم يف ذلك
الكينونة» ،و ُي ّ
()2
األول للقلق،
الـ دازين الذي للوجود نفسه بعنواّنم إمكانا :وجودا ،وهذا هو الركن َّ
()4()3
وبسبب هذا القلق ُيصبح الـ دازين يف حالة من الفهم( )5للعامل ،ومراد هايدغر من هذا
املُصطلح هو وجود الـ دازين ،ومن جهة ُأ ى
خرى فإ َّن للـ دازين يف كينونة نفسه ى
عل ()6
تول هذا التقدم لكينونة الـ دازين أو الدوام تقدما -كينونة -كونا يف العامل ،وجيب أ ْن ُي ّ ى
()7
ِ
سمي مرر ،لقد ُجع َل وجودنا وديعة لدينا ،وال بدَّ أ ْن ُي ّ ى
تول أمره ،و ُي ه تحمل ومن َث َّم ُي ه
أ ْن ُي َّ
هايدغر هذا الوجود املودع :الواقع َّية( ،)8وهو ُيش هك ل الركن الثاين للقلق ،والـ دازين ُمق َّيدٌ
عل الدوام( ،)10ولكن كينونة الـ دازين مضافا إ ىل هذا ،دائام ما تكون بنحو
ى
( )9
بسببه باحلال
ٌ
مرتبط تظهر فيه وتبدو مع انشغال قلب بالكينونات املوجودة يف داخل العامل ،والـ دازين
()11
هبذا االنشغال للقلب؛ إ َّن الدازين متقده ٌم دائام بنحو يظه ر يف العامل املشرتك مع اآلخرين
ومع العامل املحيط( ،)13()12وهذه املاقبل نفسها تكون بعنواّنا وجودا( )14للكينونة السابقة -
(1) Sich-Vorweg-Sein.
(2) Heidegger, Martin (1967) ,Ibid . P. 192.
(3) Existenz
(4) Existencep
(5) Verstehen
(6) Tugendhat, Ernst, (2001b), Ibid. P. 187.
(7) Schon-Sein-in Einer Welt.
(8) Faktizität
(9) Gestimmt-Sein
(10) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 340.
(11) Mitwelt
(12) Umwelt
(13) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 14.
(14) Existence
حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ 101
وعل الدوام هناك كينونة -عند (الكينونة التي يف داخل ى يف العامل( )1بعنواّنا وجود َّية،
العامل)( ،)2وهي نفس الركن الثالث للـ دازين ،وغالبا ما يكون الـ دازين (وبالطبع ليس دائام)
عل التحليل السابق ُيمكِن بيان
بنحو ما غري أصيل يف إمكاناته بسبب العامل املشرتك ،وبناء ى
()3
إن اليشء الذي ُيفظ هذا الـ دازين يف الك ّل َّية هو نفس الزمان َّية؛ «الوحدة األُو ىل لبنية القلق
َّ
ثم يقول فيام بعد« :الزمان َّية ُيمكن ِّلا ْ
أن تبني وحدة الوجود والواقع َّية عل الزمان َّية» ّ .
()4
تبتني ى
قوم َّأول ك ّل َّية ل ُبنية القلق»(،)5 والسقوط (األركان الثالثة للقلق) ،وبنحو ما ُيمكنها ْ
أن ُت ه
أن يكون وجود الـ دازين املعنى األنطلوجيا القلق ،ولذلك جيب ْ
ى وبرأي هايدغر الزمان َّية هي
ممكنا بواسطة الزمان َّية ،وبيان الزمان َّية كرشط َّأول إلمكان القلق ُيم هثل رشطا لتفسري َّأول َّية
الـ دازين( ،)6ويدَّ عي هايدغر َّ
بأن الزمان َّية تعني القلق ،وبالتال هي تعني وجود الـ دازين،
وبالطبع ال تعني الوجود بشكل ّ
كيل(.)7
(1) Chin, Chin - Chien, (2014(, Zeit verstehen, Würzburg, Königshausen & Neumann. P. 79.
عل االنفصال عن يشء واالبتعاد عنه ،ويف باب صور الزمان ُيمكن يف الواقع القول
القدرة ى
بأ َّنه كل واحد منها يف نفس الوقت تقوم بتجاوز نفسها وتعود إ ىل صور ُأ ى
خرى من الزمان،
وال يوجد أحدٌ منها بدون اآلخر( ،)1ويقول هايدغر:
ُسمي الظواهر املستقبل َّية( ،)2الكائنة( )3واحلال َّية واحلارضة( )4خارج ًة عن ذات
إ َّننا ن ي
الزمان َّية(.)5
وقد استعمل هايدغر كلمة الكائن بدال من كلمة املايض( ،)6فالكائن صفة للـ دازين ،يف
أن املايض صفة للزمان ،وهو يتع َّلق باألحداث التي ُي َ
بحث عنها بشكل جمزَّ أ( ،)7وهنا حني َّ
خروج عن الذات يف ه
كل واحد من أركان القلق.
مثال يف املزاج( )8هناك تقد ٌم للكائن ،وبالتال جيب ْ
أن تكون مجيع األمزجة زمان َّية بنحو
َّأول يف الكون املايض(.)9
ويف التحليل الثالثي األوجه الذي ُقده م للقلق ،متتلك الوجوه الثالثة خصوص َّية واحدة
وهي تشري إ ىل أ َّن الـ دازين يف حال حركة نحو يشء خارج نفسه أو غري نفسه املحدَّ دة،
جمرد «غري -النفس»( ،)10فإ َّن
وطبعا هذه املغايرة للنفس ليست موجودة يف نفسها ،بل هي َّ
ًّ
كال من «املاقبل -النفس -الكينونة»« ،التقدم -الكينونة» و«الكينونة -إ ىل جانب» ُتشري
إ ىل أمر خارج عن الـ دازين( ، )11ولكن اللواحق الثالثة «املاقبل» و«التقدم» و«الـ إ ىل
(1) Figal, Günter, (2000), Heidegger. Zur Einführung, Hamburg, Junius. P. 87.
(2) Zukunft
(3) Gewesenheit
(4) Gegenwart
(5) Heidegger, Martin (1967) ,Ibid. P. 329.
(6) Vergangenheit
(7) Figal, Günter, (2000), Ibid. P. 85.
(8) Befindlichkeit
(9) Thomä, Dieter, (1990), Ibid. P. 290f.
(10) Außer - Sich.
(11) Marjanovic, Teodor, (1996), Der Zeitbegriff in Martin Heideggers Weken, Sein und Zeit
und Zeit und Sein, Helmut Vetter (Betreuer) Diplomarbeit, Universität Wien. P. 25.
❖ 104دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
مرة ُأ ى
خرى نفسه أن يسرتجع َّ«ألي شخص»( ،)3و ُيمكن للـ دازين ْ
ه قلب به ،وأصبح جمذوبا
التي فقدها بالعزم واإلرادة( ،)4لقد كان الـ دازين قبل هذه االستعادة غري أصيل ،وأصبح
أي شخص ويضيع ْ
أن ُيستعاد من هذا عل الـ دازين الذي يسقط يف ه
أصيال بعدها ،جيب ى
()5
إ َّنه يفهم نفسه من خالل إمكانات وجوده()7؛ تلك اإلمكانات «الشائعة» يف تعبري احلالة
«متوسط»( )2وعموم( )3الـ دازين يف أ ّيامنا هذه( ،)4لقد سقط الـ دازين يف الوهلة
ه احلاصلة( )1لـ
األُو ىل يف العامل ،وهذا العامل مملو ٌء بالكينونات التي للـ دازين انشغال قلب هباَّ ،
إن الـ دازين
أي شخص،
مغلوب عليه بفهم ه
ٌ ٌ
مشغول بفهم هذه الكينونات وبفهم العامل ،ولكن فهمه
وغارق يف عدم األصالة ،ولكن ُيمكن للـ دازين غري األصيل ْ
أن ُيصبح أصيال ،وال ُيمكن ٌ
نى وجود الـ دازين َّإال يف األصالة(َّ ،)5
إن هذا الرجوع يعني :تغيري الوجه الوجودي فهم مع ى
وخيار باالسرتجاع ،وهذا
ٌ قرار
أن ُيصل ٌ األي شخص يف جهة أصالته ،فيجب ْ ّ لنفس
عل اختيار أحد اخليارات ،يعني :هاّتاذ تصميم جازم من أجل ْ
أن خيار مبني ى
االسرتجاع هو ٌ
عل عزم الـ دازين عل أساس نفس الشخص(َّ ،)6
إن نفس تأكيد هايدغر هذا ى حتصل الكينونة ى
وتصميمه يف األصالة ،هو األساس األصيل لنقد املنتقدين ولفشل كتاب الوجود والزمان،
سنتعرض له فيام بعد.
َّ وهو ما
األول من الوجود والزمان ،هو كون عل أساس القسم َّ ولكن إذا كان نوعا الكينونة ى
معنى وجود الـ دازين ،فبالتبع سوف
ى الكينونة أصيلة أو غري أصيلة ،وكانت الزمان َّية هي
يكون لدينا نوعني من الزمان َّية :أصيلة وغري أصيلة ،لقد ذكرنا َّ
بأن للقلق ثالثة أركان ،ولكن
معنى القلق هو الزمان َّية ،وكان هناك زمان َّية أصيلة أو غري أصيلة بالنسبة لكينونة
ى إذا كان
الـ دازين ،إذن فسوف يكون لدينا يف حتليل وجود َّية الزمان َّية س َّتة ظواهر زمان َّية( ،)7والظواهر
الثالثة األُو ىل مرتبطة باألركان الثالثة للخوف يف ساحة األصالة ،وهناك تقد ٌم يف خصوص
الزمان َّية األصيلة للمستقبل ،فاملستقبل األصيل هو نفس رجوع الـ دازين إ ىل نفسه ،وكذلك
التقدم يف أكثر األماكن اختصاصا ،يعني :املوت(.)8
(1) Ausgelegtheit
(2) Durchschnittlich
(3) Öffentlich
(4) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 338.
(5) Pöggeler, Otto, (1994), Der Denkweg Martin Heideggers; Stuttgart, Neske. P. 59.
(6) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 268.
(7) Fleischer, Margot, (1991), Ibid. P. 34.
(8) Marx, Werner, (1961), Heidegger und die Tredition, Stuttgart, Kohlhammer. P. 109.
❖ 106دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
من الناحية الزمان َّية. األمر الذي ُح هلل يف فلسفة هايدغر يف ذيل مقولة االضطراب
()4
سميه ٌ
أصيل ،وهو الذي ُي ه والظاهرة الثالثة ،هي َّ
أن توسيع املقام يف عمل الـ دازين املوجود
وصف اليشء الذي يكون أصيال بعنوانه ًّ
حاال وحارضا من خالل حلظة( ،)6()5جيب ْ
أن ُي َ
مفهوم اللحظة( ،)7ويف مجيع الظواهر الثالثة:
الزمان َّية األُوىل واألصيلة للمستقبل التي تتزامن ...الظاهرة األُوىل هي الزمان َّية
األُوىل واألصيلة للمستقبل(.)8
يعني :يف الزمان َّية األصيلة وكذلك األُو ىل يكون اخلروج عن ذات املستقبل الذي له
تقدم(ُُ ،)9ي هلل ها يدغر الظواهر الثالثة (القرار املسبق ،االضطراب ،اللحظة) يف حتليل
بمحتوى هذه
ى الزمان َّية ومقدار نسبها إ ىل بعضها ،وحيث إ َّن موضوع هذه املقالة ال يتع َّلق
الظواهر ،لذا سنرصف النظر عن حتليلها الفيمونوجلي.
اخلاصة،
َّ وهناك ثالثة ظواهر ُأ ى
خرى تتع َّلق بالزمان َّية غري األصيلة التي ترتبط مع مسائلها
مبنى اخلروج عن ذات احلال احلارض( ،)10و ُتظهر الزمان َّية
عل ى تتزامن الزمان َّية غري األصيلة ى
غري األصيلة نفسها يف مقام زمان َّية الفهم غري األصيل ،ويف زمان َّية احلال واملزاج غري األصيل،
وبمجرد ْ
أن حصل عليها الـ دازين (اكتسب الشأن الوجودي) سقط مطابق شأن َّيته َّ السابق،
ول وبشكل أسايس( ،)2لقد استطاع ألن الـ دازين غري أصيل يف الوهلة األُ ىالوجود َّية؛ َّ
الـ دازين يف الوهلة األُو ىل ودائام بشكل قبل نفسه ْ
أن جيعل األصيل يتنزَّ ل يف مقام الوجود،
ْ
وأن يسقط يف «العامل»(.)3
وهذه املسألة واضحة جدًّ ا يف السقوط ،والسقوط ُيصل بشكل طبيعي يف احلال
احلارض( ،)4و ُي هبني هايدغر تزامن السقوط يف اخلروج عن الذات يف احلال احلارض من خالل
ولكن هايدغر يقول يف باب الوجود غريَّ حتليل أنطولوجي وجودي استطالعي(،)6()5
األصيل أو الفهم غري األصيل:
أن الفهم غري األصيل لكينونة اإلمكان مطروح عىل أساس األُمور القابلة
طاملا َّ
أن هذا الفهم نفسه يتزامن عىل أساس بناء ألن تكون انشغال ٍ
قلب ،فمعنى ذلك هو َّ
احلارض(.)7
وصف فيام بعد الفهم غري األصيل بأ َّنه «توقع النايس إلصالح احلارض»( ،)9()8وهذا ثم ُي ه
ّ
عل التوقع بعنوانه
خرى -رغم عدم األصالة -ىمرة ُأ ى األمر ُيشري إ ىل َّ
أن هايدغر ُيؤ هكد هنا َّ
أمرا متقده ما ،يعنيُ :يؤ هكد ى
عل املستقبل بعنوانه أمرا متقده ما ،ولكن اخلروج عن الذات اآلخر
عل املايض ،والكينونة أو األمر الذي كان
إ ىل جانب مستقبل الكائن ،فالـ «كان» هنا تدل ى
()10
(1) Existenziel
(2) Thomä, Dieter, (1990), Ibid. P. 290f.
(3) Heidegger, Martin (1967), Ibid. P. 175.
(4) Gegenwart
(5) Neugier
(6) Ibid: 346.
(7) Ibid: 338.
(8) Vergessend - gegenwärtigende Gegenwart.
(9) Ibid: 339.
(10) Gewesenheit
❖ 108دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(كذلك) تنهض ب ُأسلوب ما من عليه الـ دازين إ َّنام يتع َّلق بمستقبله(« ،)1الكينونة
()2
املستقبل»( )3خيتار هايدغر يف حتليل ركن الواقع َّية أو نفس املزاج يف الوجه غري األصيل َّ
بأن
احلالة غري األصيلة من اخلوف( )4بالنسبة إ ىل االضطراب عنوانه مزاج أصيل« ،فالقلق هو
تم تغطية
واِّلوى غري األصيل ،القلق هو نفس االضطراب غري األصيل الذي َّ
ى نفس احلال
نفسه بام هو نفسه( .)5ويلعب املستقبل دورا مم َّيزا يف حتليل هايدغر للزمان َّية ،وهذا هو أحد
املهمة لتاميز فهم هايدغر يف باب الزمان َّية واجلهود امليتافيزيق َّيةَّ ،
إن املستقبل واملايض الوجوه َّ
ال ينتجان عن احلارض ،وهذا يعني أ َّنه بالنسبة ِّلايدغر املستقبل احلال ليس بحيث مل ِ
يأت
بعد ،واملايض ليس بعضا من احلارض بحيث مل يعد موجودا( ،)6وبالتال هناك ثالثة ظواهر
زمان َّي ة أصيلة تتزامن يف املستقبل ،وثالثة ظواهر غري أصيلة يف احلال احلارض ،ولكن يف
النهاية ح َّت ىى يف هذه الثالثة ظواهر غري األصيلة ُيشري هايدغر إ ىل نوع من تقدم املستقبل ،فهو
يقول« :إ َّننا يف تعداد اخلروجات عن الذات دائام ما نضع املستقبل يف املرتبة األُو ىل»(.)7
ثم يذكر هايدغر مجلة فيام بعد ،وهي باعتقادي ُمت هثل ُل َّ
ب ولباب رأيه يف باب الزمان ونسبة ّ
اخلروجات عن ذات الزمان ،إ َّنه يقول:
ُسمي هذه الظاهرة الواحدة التي ّتعل األمر الكائن أمر ًا حارض ًا بعنواّنا إ َّننا ن ي
مستقب ً
ال( :)8الزمان َّية(.)9
(2) Gewesenheit
(4) Furcht
الزمان العاملي(:)2
عل ذلك فمنشؤه هو انشغال القلب؛ ولذا
أساس يف انشغال القلب ،وبناء ى
ٌ للزمان العاملي
وضارب يف
ٌ فهو أساس للحياة اليوم َّية وعدم األصالة( ،)3أ َّما َّ
أن الـ دازين مشغول القلب،
فهم بالنسبة إ ىل الزمان العاملي )Ebd58( ،النشغال القلب من عدم األصالة ،فيجب ْ
أن ُي َ
ناحية التزامن جذورا يف خروج عن ذات احلال احلارض ،لقد ُدفِ َع الـ دازين يف طرحه
كموجود فصار مشغول القلب بالعامل ،وسقط فيه ،وهو كرشيك يف املوجود َّية مع اآلخرين،
املتوسط الذي يتم إبرازه يف اللسان ،وهذا اإلظهار يف الواقع عبار ٌة
ه ينظر إ ىل نفسه يف التعبري
إن الزمانأساس النشغال قلبه يف الزمان َّية(َّ ،)4 عن حوار عن األُمور التي ُت ِ
شغل قلبه ،وهناك
ٌ
العاملي عبار ٌة عن الزمان الذي ُُياسب الـ دازين وُيكم من خالله ،وهذا الوجه من الزمان
سميه هايدغر الزمان العاملي(،)5
يرتبط بالعامل ،وهو ُيطرح بالنسبة إ ىل عامل َّية الـ دازين ،ولذا ُي ّ
وهو ذو أربعة خصائص.
وخصوص َّيته األُو ىل هي أ َّنه يقبل التوقيت( ،)6ويستعمل هايدغر من أجل حتليل الزمان
«ثم» بنحو من األنحاء ...وينطوي يف ذات الـ «آنذاك»«اآلن وليس ال يزال» منطوية يف ّ
()6
(1) Zuvor
(2) Dann
(3) Früher
(4) Jetzt
(5) Damals
(6) Jetzt Noch Nicht
(7) Jetzt NichtŞehir
(8) Sogleich
(9) Soeben
(10) Späterhin
(11) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 406f.
حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ 111
و«السابق» و«فورا» التي ُتش هكل يف جمموعها ُأفق «الحقا» ،واملايض كذلك ينقسم ى
إل
«آنذاك» و«الحقا» و«اآلن حاال» التي ُتش هكل يف جمموعها ُأفق «سابقا» ،وهذه اآلفاق ُت َ
طرح
«ثم» و«السابق» و«فورا» ومجيع ُأفق «الحقا» ُت ه
فِّس بأمجعها بنحو بأمجعها بالنسبة إ ىل اآلنَّ ،
إن ّ
فهم الـ «آنذاك» والبق َّية كـ «اآلن وليس اآلخر»،
َّأول كـ «اآلن وليس ح َّت ىى اآلن» ،كام ُت َ
وهذه القيود يف اللغة اليوم َّية ليست شكال أو صورة خالية ،وإ َّنام رشط العمل يف ه
كل يوم
سمي هايدغر هذه اخلصوص َّية :قابل َّية التوقيت ،ويقول من
موجود يف احلياة اليوم َّية ،و ُي ّ
()1
جهة ُأ ى
خرى:
يفهم توقع إصالح احلارض «إ ىل ذلك الزمان»( ،)2والتعبري ُي هبني هذا الـ «إ ىل ذلك الزمان»،
اخلاص هبا التي ِّلا بدورها نسب ٌة إ ىل قبول
ّ وهذا يعني َّ
أن الـ «إ ىل ذلك الزمان» ِّلا زماّنا
خرى ،من خالل املفهم املقرتن مع توقع صانع التوقيت بمثابة الـ «يف ما بني» ،ومن جهة ُأ ى
واضح يف
ٌ ٌ
زمان عرب عنها بـ «املواكبة»( ،)4وهذا التأخر له بدوره
احلارض «يف احلني» التي ُي ه
()3
الزمان أنفس ًّيا َّإال أ َّنه يقع يف ضمن هذا اإلطار أيضا ،وإذا كان من املُ َّ
قرر ْ
أن ُنقارن بني ()1
(1) Anzenbacher, Arno, (1987), Einführung in die Philosophie, Wien, Herder. P. 120.
(2) Unterthurner, Gerhard, (1993), Bemerkungen zu Heideggers Analyse der Stimmungen,
Helmut Vetter (Betreuer), Diplomarbeit: Universität Wien. P. 34.
(3) Uhr
حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ 115
املعارصة ،ففي الواقع «الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان يربز بشكل رصيح يف الوهلة
األُو ىل يف استعامل ساعته ،وال فرق يف ذلكَّ ،
أن الساعة أي تكامل تكاملت(َّ .)2(»)1
إن الفهم
تابع جلعل األُمور والزمان مكان ّيان ،ويف الواقع نحن نميل من
غري األصيل (املبتذل) للزمان ٌ
أن جعل ُأمور العامل
خالل املفهوم غري األصيل (املبتذل) بدال من فهم العامل يف سيالنه إ ىل ْ
ثابتة وبعد ذلك نفهمها(.)3
وأ َّما الوجه الصوري للزمان غري األصيل (املبتذل) فهو يعود إ ىل من يقوم بعده اآلنات،
إن فاعل املعرفة (املوضوع) يقوم بمزامنة الزمان ،فيأخذ فاعل املعرفة جمموعة من األُمور َّ
ويبقى منتظرا ل ُ
ألمور املستقبل َّية، ى وروتني األُمور املتع هلقة باملايض يف نطاق سيطرته واختياره،
عل األمر املايض ،وانتظار األمر يرى مرور األُمور بام هي من خالل السيطرة ى إن فاعل املعرفة ى َّ
املستقبيل ،ومشاهدة هذا املرور ُيصل من خالل روح أو نفس فاعل املعرفة (املوضوع)
عل هذه النقطة ،وهي أ َّنه بدون احلركة البعنوانه مدركا ،والوجود املا ّدي للزمان ُيؤ هكد ى
عل أ َّنه بدون النفس التي تعد الزمان بمثابة
زمان ،والوجه الصوري للزمان ُيشده د ىٌ يوجد
ٌ
زمان ،ويف هذا الفهم امليتافيزيقي اليشء الوحيد الذي جيعل إدراك توال اآلنات فال يوجد
كمقوم للوجه الصوري ه الزمان ممكنا هو إدراك «العده » للحركة ،ونحن ننظر إ ىل الساعة
عل هذا ُنربز و ُن هبني إدراكنا املبني
للزمان ،ونقول :كم الساعة (الوجه املا ّدي) اآلن؟ وبناء ى
عل اإلدراك املكاين للزمان ،واليشء املوجود يف هذا الزمان الذي جعله مكان ًّيا ،ليس
بأكمله ى
تم حذف حميط أو نطاق مايض
جمرد احلال احلارض ،ويف الواقع َّ
()4
املايض أو املستقبل ،وإ َّنام َّ
املوجودات أو مستقبلها يف هذا الفهم املكاين للزمان ،وال يوجد أي فهم وإدراك غري إنساين
للزمان ،وحتقق الزمان إ َّنام ُيصل يف نطاق عده اإلنسان ،ومن املس َّلم أ َّن هذا التقييم يف
(1) Vollkommenheit.
(2) Heidegger, Martin, (1997a), Ibid. P. 363.
(3) Sandbothe, Ernst, (2003), „Zeit von der Grundverfassung des Daseins zur Vielfalt der
Zeit - Sprachspiele. In Heidegger Handbuch, Leben - Werk - Wirkung, Dieter Thomä
(Hrsg.), Stuttgart, J. B. Metzler.p. 88.
(4) Marjanovic, Teodor, (1996), Ibid. P. 21.
❖ 116دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
عل
عل بعض اآلراء التي ى تقييم ّ
كيل ،و ُيمكن العثور ى ٌ النظريات امليتافيزيق َّية يف باب الزمان هو
أن هذه ه
االجتاهات ال تنسجم األقل ال تنطبق مع هذا البيان متاما ،ولكن جيب االلتفات إ ىل َّ ّ
مع الت ّيار الغالب للفكر امليتافيزيقي( ،)1وأ َّم ا ما ذكرناه يف باب مفهوم الزمان غري األصيل
عل املسائل األساس َّية لعلم الظواهر (الفينومينولوجيا)( )2من املج َّلد
(املُبتذل) ،ينطبق أكثر ى
21من جمموعة آثار هايدغر ،والتي هي عبارة عن كالم هايدغر يف الدرس الصيفي من عام
1927م.
ملبنى الزمان غري األصيل يف كتاب الوجود والزمان ،يعتقد هايدغر َّ
بأن سنتعرض ى
َّ واآلن
عرب عن انشغال القلب بالزمان ،وهو ذو زمان أيضا ،ويف ضمن ذلك يفهم الزمان
الـ دازين ُي ه
العاملي وكذلك الزمان الذي يقع فيه املوجود( ،)3ويعتقد هايدغر َّ
أن زمان َّية الـ دازين « ُتعرف
يف الوهلة األُو ىل ويف الغالب فقط يف هذا التعبري املضطرب للقلب املشغول»( ،)4ويعتقد
بأن الـ دازين حينام يتأ َّمل يف الزمان الذي ُيعرف من خالله يف الوهلة األُو ىل ويف هايدغر َّ
الغالب( ،سواء أكان الزمان ما قبل العلم ،أم كان ِعلم ًّيا ،أو ح َّت ىى لو كان عبارة عن فيلسوف
إن الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان هو يف كالسيكي) ،فسوف يقوم بتسطيح الزمانَّ ،
الواقع عبار ٌة عن نفس تسطيح الزمان العاملي هذا( ،)5ويف الواقع الفهم غري األصيل (املُبتذل)
للزمان هو عبارة عن فهم الزمان كسيالن لآلناتَّ ،
إن املفهوم غري األصيل (املبتذل) للزمان
يف الواقع عبارة عن سرت تسطيح الزمان العاملي( ،)6والـ دازين ينزل يف فهمه غري األصيل
إل نفس هذه اآلنات املتساوية ،ولكن هذا التسطيح
(املبتذل) للزمان إ ىل توال اآلنات أو ى
أمر رضوي متاما( ،)7ولكن ملاذا الفهم
للزمان الذي يقوم به الـ دازين ال ُيصل صدفة ،بل هو ٌ
(1) Die Zahl der Bewegung im Sinne des Früher und Später.
وتتزامن مجيع أركان القلق يف خروج الذات يف احلال احلارض ،ولكن يف هذا الفهم غري
عل فهم الـ دازين الساقط والشائع ،املستقبل عبار ٌة عن
األصيل (املبتذل) للزمان الذي يبتني ى
«جمرد آنات انقضت» ،واحلال وعل وشك ْ
أن تصل» ،واملايض هو َّ ى جمردة مل تصل بعد،
«آنات َّ
ٌ
حامل لـ «ال -مل ُيصل بعد -اآلن»( ،)1بينام الزمان َّية األصيلة متتلك ثالث ساحات احلارض
عل وجود الـ دازين ،ففي الزمان َّية األصيلة املستقبل ال ُيمكن ْ
أن ُي َعدَّ ساحة مل حتصل تعتمد ى
عى فيام يتع َّلق باملايض أيضا ،فاملايض بعد ،وإ َّنام املستقبل موجو ٌد ،وهذا اال هدعاء ُيمكن ْ
أن ُيدَّ ى
انقىض ،بل هو موجو ٌد يف
ى أو بتعبري كتاب الوجود والزمان األكثر د َّقة :الكون ،ليس ٌ
أمر
نى الزمان العاملي بحسب االصطالح
وجود الـ دازين ،وبرأي هايدغر مجيع اخلصائص أو ُب ى
()2
والتي تعني قابل َّية التوقيت واالمتداد والعموم َّية واالختصاص خمف َّي ٌة يف الفهم غري األصيل
(املبتذل) للزمان(.)3
عل أساس التعريف ذكرت لقد َّبني هايدغر ماه َّية الزمان غري األصيل (املبتذل) ى
ُ وكام
يتعرض للدفاع
أن هايدغر َّ األُرسطي للزمان ،ولكن التنبيه ى
عل هذه النقطة يف مكانه ،وهو َّ
عن ُأرسطو بوجه من الوجوه يف املسائل األساس َّية من علم الظواهر (الفينومينولوجيا) ،فهو
يقول :يف التعريف األُرسطي للزمان ليس مفهوم القبل والبعد واحدا ،و ُأرسطو من خالل
عل ضغط األُمور( ،)4وبالتال فالتعريف عل القبل َّية والبعد َّية ُيؤ هكد ى
عل اجلرب أو ى التأكيد ى
مهام عن الفهم املدريس للزمان ،إذ يف الفهم املدريس األُرسطي للزمان خيتلف اختالفا ًّ
ولكن ُأرسطو التفت إ ىل حمدود َّية الزمان من خالل تأكيده
َّ أمر غري متناهي،
للزمان الزمان هو ٌ
عل جرب األُمور ،وبالتال ففكر ُأرسطو ليس باطال من األساس ،رغم أ َّنه بقي يف سطح ى
املفهوم غري األصيل (املبتذل) للزمان ،ويف الواقع الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان
()5
تناهي الزمان(.)1
عل أ َّنه ال ينبغي ْ
أن نفهم مصطلح ووصف غري األصيل (املبتذل) وهنا ال بدَّ من التنبيه ى
بنحو أخالقي واحلكم عليه مع الغضب أو السخرية ،إذ مل يعترب هايدغر َّ
بأن الفهم غري
األصيل (املبتذل) للزمان خطأ فكر ًّيا ،فهذا الفهم هو بنفسه جز ٌء من تاريخ عامل الفكر ،مثلام
أن الوجود الساقط يتع َّلق بالـ دازين ،والـ دازين قد سقط يف الوهلة األُو ىل ويف الغالب(،)2
َّ
فهم كذلك يف الوهلة األُو ىل بنحو غري أصيل ،وعدم األصالة ليست
عل هذا فالزمان ُي َ
وبناء ى
أن يكون أصيال َّإال إذا استعاد
شيئا ُيمكن فصله عن الـ دازين أو فصله« ،ال ُيمكن للـ دازين ْ
أن يكون أصيال َّإال إذا جعل نفسه تتعا ىل دائام
دائام أصالته من جديد ،وال ُيمكن للـ دازين ْ
من داخل الزمان الكائن من جديد إ ىل نفس مزامنة الزمان»( ،)3واملفهوم غري األصيل
غارق يف جمال «ال ُبنية املكان َّية» ،وهذا الفهم يف الواقع يتع َّلق بحياتنا اليوم َّية،
ٌ (املبتذل) للزمان
عل أساس احلركةكيل ىعل أساس الساعة وبشكل ّ وفهمنا للزمان يف احلياة اليوم َّية يتش َّكل ى
املكان َّية ،فام يقوله ُأرسطو يف تعريف الزمان ينطبق مع الفهم العلمي غري األصيل للزمان(،)4
ويف الواقع لقد قام ُأرسطو يف تعريف واحد ببيان عدد من اجلُ َمل التي ُمت هثل الفهم ّ
الكيل الذي
يفهمه الناس من الزمان.
املحتوى
ى املعروف لألذهان يستبعد
ٌ عل َّ
أن «الزمان غري األصيل (املبتذل) ُيؤ هكد هايدغر ى
لكن مل ُيصل التأمل يف الزمان َّية
اخلاص بأنفسها الذي هو نفس الزمان َّية» َّ ،
()5
َّ الفينومينولوجي
عل نطاق املوجودات ألن امليتافيزيقيا ُتر هكز دائام ى باعتبارها منشأ للزمان غري األصيل؛ َّ
ه َّية
اخلاص َّية امليتافيزيق َّية هي أ َّنه دائام ما ُيعطي األولو َّية واأل ّ
ّ املحدودة والسابقة ،وع َّلة هذه
أن الزمان غري األصيل يقع يف نطاق املوجودات ولكن لوجه الـ دازين الساقط ،ولكن رغم َّ
إل الـ دازين ،ولكن يف الفهم غري األصيل (املبتذل) للزمان فالزمان
فالزمان حمدو ٌد بالنسبة ى
أمر غري متناهيَّ ،
إن التصور غري األصيل (املبتذل) للزمان يتجاهل ال ُبنية الثالث َّية الوجوه هو ٌ
ويرى َّ
أن الزمان سلسلة ال ّناية ِّلا من اآلنات، ى للقلق (الوجود( )4والواقع َّية( )5والسقوط(،))6
إل
إن «اآلن» الذي ُيشري ىواليشء الوحيد الذي له حتقق وواقع َّية فيها هو اآلن أو اللحظة(َّ ،)7
الساعة هو املتح َّقق فقط؛ يف حني أ َّنه يف الزمان َّية مجيع الوجوه الثالثة للقلق تتع َّلق بوجود
الـ دازين يف نسبته مع الزمان َّيةَّ ،
إن القلق موجو ٌد يف مجيع الوجوه الثالث املذكورة ،يف إطار
خاصة للقلق ال تقبل البيان،
الفهم غري األصيل (املبتذل) خلصوص ّيات الزمان هناك جوانب َّ
عل واقع َّية كل من
ولك َّن الزمان َّية األصيلة تتض َّمن خالفا للمفهوم غري األصيل للزمان ى
الساحات الثالثة للزمان ،وبالتال فهي تتطابق مع بنية جتردات الـ دازين ،والوجوه الثالثة
و«إل
ى للقلق يعني« :البعد» (الوجود) أساس املستقبل« ،القبل» (الواقع َّية) أساس املايض
جانب»( ...السقوط) أساس احلال احلارض ،هي التي جتعل الـ دازين يتجاوز نفسه أو غريه،
وهي نوعا ما ثالثة خروجات عن الذات ُتش هكل الساحات الثالثة للزمان َّية(.)8
يطرح هايدغر بحثه من خالل تناهي الـ دازين وقابل َّيته لالنتهاء؛ أل َّنه الـ دازين يمتلك
قفزة يف املوت ،وبالطبع َّ
فإن لوجوده ّناية ،واملستقبل األصيل ُيزامن الزمان َّية من األساس،
(4) Existenz.
(5) Faktizität
(6) Verfallen
(7) Kettering, Emil, (1987), NÄHE. Des Denken Martin Heideggers, Pfullingen. P. 296.
(8) Marx, Werner, (1961), Heidegger und die Tredition, Stuttgart, Kohlhammer. P. 109.
حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ 121
فهم
و ُيظهر نفسه كأمر يقبل االنتهاء ،إذا كان للزمان َّية أساسا يف املستقبل فام دام املستقبل ُي َ
()1
(4) Ibid.
(5) Subjektivismus.
(6) Reijen, Willem van, (2009), Martin Heidegger, Wien, UTB. P. 16.
❖ 122دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Subjectivism.
(2) Marjanovic, Teodor, (1996), Ibid. P. 21.
(3) Heidegger, Martin, (1997b), Ibid. P. 194f.
(4) Pöggeler, Otto, (1994), Ibid. P. 171.
(5) Gründenwollen
(6) Tugendhat, Ernst, (2001b), Ibid. P. 189.
حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ 123
(1) Kisiel, Theodore, (1983), „Der Zeitbegriff beim früheren Heidegger. In Zeit und. P. 192.
(2) Martin , Heidegger (1967), Ibid. P. 437.
(3) Torso
(4) Kommerell, Max, (1967), Briefe und Aufzeichnungen (1919 - 1944), Inge Jens (Hrsg.),
Freiburg am Main, Olten. P. 405.
(5) Transzendenz
(6) Ekstasis
(7) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Ibid. P. 82.
❖ 124دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Heidegger, Martin, (1978), „Vom Wesen des Grundes, In Wegmarken (GA. 9); F.-W.
von Herrmann (Hrsg.), Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann. P. 123f.
(2) Volkmann - Schluck, Karl - Hainz, (1996), Ibid. P. 83.
(3) Sinn von Sein
(4) Wahrheit des Seins
(5) Lichtung des Seins
حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل ❖ 125
إل
إل انفتاح الوجود» .وانتقال التأكيد هذا من توسع الـ دازين للوجود ى
()1
من خالل االلتفات ى
إل َّ
أن حتليل الـ دازين املعنى ّ
الكيل للدوران ،وهذا التغيري ُيشري ى ى توسع نفس الوجود ليس شيئا َّإال
يمكن ْ
أن جيد فمعنى الوجود ال ُ
ى يف ُأفق الزمان َّية من أجل فهم الوجود مل يكن مو َّفقا ،وبالتال
أساسه بشكل عام يف تعال الـ دازين ،وكام يقول بوغلرَّ :
إن التجربة الزمان َّية لنفس الوجود يف
إل نتيجة .ومل يكن هايدغر مو َّفقا يف قفزته من أجل إظهار زمان َّية
كتاب الوجود والزمان ال تصل ى
يسعى خلف طريق
ى معنى الوجود والسعي من أجل إبراز وحدة الزمان َّية( ،)2كان جيب عليه ْ
أن ى
يضع الزمان َّية التي بمثابة ُأفق الوجود جانبا متاما ،ومن أجل فهم الزمان يف فلسفة هايدغر ه
املتأخرة
إل حمارضة الوجود(َّ ،)3
إن هدف هايدغر من الوجود والزمان كان هو اإلجابة ال بدَّ من الرجوع ى
سعى هايدغر ْ
أن يقوم أمر مل َّ
يتحقق يف ذلك الكتاب ،وقد ى عل سؤال الـ دازين عن الوجود ،وهو ٌ
ى
إحدى حمارضاته سنة 1962م ،وعنوان هذه املحارضة بالد َّقة هو
ى هبذا العمل بعد 35سنة يف
صمم للقسم الثالث من املج َّلد َّ
األول من الوجود والزمان(.)4 نفس العنوان ا ُمل َّ
النتيجة:
معنى الوجود ،ذلك
ى سعى هايدغر يف كتاب الوجود والزمان إ ىل ْ
أن يطرح سؤاال عن ى لقد
تعرض
سوى الزمان ،وقد َّ
ى يرى ُأفقا لفهم الوجود
تم نسيانه ،ولكنَّه ال ى
املعنى للوجود الذي َّ
ى
األول من الوجود والزمان يطرح
للتحليل الفلسفي الوجودي للـ دازين ،ويف القسم َّ
()5
(3) Heidegger, Martin, (1976), „Zeit und Sein, In Zur Sache des Denken, Tübingen, Max
Niemezer, S. 1- 26.
(5) Existential
❖ 126دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
* * *
127 ❖ حتقيق يف مفهوم الزمان غري األصيل
:املصادر
Anzenbacher, Arno, (1987), Einführung in die Philosophie, Wien, Herder.
Chin, Chin - Chien, (2014(, Zeit verstehen, Würzburg, Königshausen &
Neumann.
Figal, Günter, (2000), Heidegger. Zur Einführung, Hamburg, Junius.
Fleischer, Margot, (1991), Zeitanalysen in Heideggers„Sein und Zeit, Aporien,
Probleme und Ausblick. Würtzburg, Könnigshausen & Neumann.
Heidegger, Martin, (1967), Sein und Zeit, Elfte unveränderte Auflage,
Tübingen, Max Niemeyer.
Heidegger, Martin, (1973), Kant und das Problem der Metaphysik (GA. 3), F.-
W. von Herrmann(Hrsg.), Frankfurt am Main,Vittorio Klosstermann .
Heidegger, Martin, (1976), „Zeit und Sein, In Zur Sache des Denken,
Tübingen, Max Niemezer, S. 1- 26.
Heidegger, Martin, (1978), „Vom Wesen des Grundes, In Wegmarken (GA. 9);
F.-W. von Herrmann (Hrsg.), Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann .
Heidegger, Martin, (1997a), Die Grundprobleme der Phänomenologie (GA.
24), F.-W. von Herrman (Hrsg.), Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann .
Heidegger, Martin, (1997b), Nietzsche 2. (GA. 6.2), B. Schillbach (Hrsg.),
Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann.
Heidegger, Martin, (2005), Phänomenologische Interpretation ausgewälter
Abhandlungen des Aristoteles zu Ontologie und Logik. G. Neumann (Hrsg.),
Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann.
Inwood, Michael, (2004), Heidegger, David Bernfeld (Übers.), Wien, Herder.
Kettering, Emil, (1987), Nähe Des Denken Martin Heideggers, Pfullingen.
Kisiel, Theodore, (1983), „Der Zeitbegriff beim früheren Heidegger. In Zeit
und
Zeitlichkeit bei Husserl und Heidegger. Phänomenologische Forschungen. Bd.
14, Ernst Wolfgang Orth (Hrsg.), Freiburg/ Alber, München.
Kommerell, Max, (1967), Briefe und Aufzeichnungen (1919- 1944), Inge Jens
(Hrsg.), Freiburg am Main, Olten.
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب128
* * *
دراسة مقارنة بني
تأويل صدر املتألِّهني وهرمنيوطيقا هايدغر
()1
()2
حممد بيدهندي
ي
اخلالصة:
يرى َّ
أن التأويل هو املرتبة إن التأويل ُيم هثل رضورة يف املنظومة الفكر َّية لصدر ه
املتأِّلني .فهو ى َّ
الالمرئ َّية من األُمور.
األكمل لـ التفسري ،ويرتبط بالباطن والصورة َّ
وإن دراسة النسبة بنياملتأِّلني للتأويل متأ هثر بشدَّ ة بـ أنطولوج َّيتهَّ .
ه َّ
إن فهم صدر
اختص باملسألة األُو ىل من هذه
َّ واجتاهه الوجودي إ ىل التأويل قداملتأِّلني ه
أنطولوج َّية صدر ه
عل أصالته ،واعتباره ذا مراتب ،باإلضافة الدراسةَّ .
إن االهتامم اجلذري بالوجود ،والتأكيد ى
إ ىل األصلني الفلسف َّيني ،وها :احلركة اجلوهر َّية ،ه
واحتاد العاقل واملعقول ،من املم هيزات
املتأِّلني ،والتي كانت مؤ هثرة يف هاجتاهه ى
إل التأويل .وفيام األصل َّية للتفكري الفلسفي لصدر ه
املعنى من التاويل -التأويل الوجودي -هناك تناغم كامل بني ُك ُتبه الثالثة،
ى يتع َّلق هبذا
كل واحد من مراتب وهي :التكوين ،والتدوين ،والنفس ،بحيث إ َّن انكشاف وظهور ه
وعوامل الوجود والبطون القرآن َّية رهن بانكشاف املراتب والدرجات الوجود َّية لإلنسان.
املتأِّلني وهرمنيوطيقا هايدغر ُمت هثل املسألة َّ
إن الدراسة املقارنة لـ التأويل الوجودي لصدر ه
الثانية يف هذه املقالةَّ .
إن االهتامم بـ الوجود بدال من املوجود أو ماه َّية وفهم احلقيقة بام هي
انكشاف الوجود وتبيني اإلنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي ليس له حد وجودي خاص،
( )1بررسى تطبيقى تاويل مالصدرا و هرمونوتيک هيدگر ،درخرد نامهی صدرا ،1387 ،شامرهی ،53
ص .72 - 61
(ُ )2أستاذ مساعد يف قسم اإلِّل َّيات من جامعة أصفهان.
عيل مطر.
تعريب :حسن ّ
❖ 130دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
إ ىل جانب االهتامم بمسألة العامل ،من بني العنارص اِّلا َّمة ،التي ُتش هكل أرض َّية مناسبة
لألبحاث املقارنة بشأن التأويل الوجودي لصدر ه
املتأِّلني وهرمنيوطيقا هايدغر.
عل الرغم من انطالقهام من مبادئ خمتلفة ومن طريقني إن كال هذين الفيلسوفني ى َّ
خمتلفنيَّ ،إال أ َّّن ام قد اقرتبا يف منتصف الطريق من بعضهام يف بعض املوارد ،وحيث إ َّن غايتهام
فإّنام عادا ليبتعدا عن بعضهام يف ّناية الطريقَّ .
إن حتليل وبيان املوارد مل تكن واحدةَّ ،
أهم أهداف هذه املقالة.
املذكورة ُي َعد من ّ
املقدّمة:
َّ
إن كلمة التأويل مصطلح شائع يف التاريخ والثقافة الده ين َّية ،والس َّيام يف الرتاث اإلسالمي.
تم استعامل كلمة التأويل
بمعنى العود والرجوع إ ىل األصل .وقد َّ
ى األول
والتأويل مأخوذ من َّ
املفِّسين الده ين هيني يف مورد ال ُك ُتب السامو َّية ،بحيث لو َّ
تم استعامل هذه الكلمة يف مصطلح ه
بشكل مطلقَّ ،
فإن الذهن لن ينرصف إ ىل غري تأويل ال ُك ُتب السامو َّية ،يف حني َّ
تم استعامل
كلمة التأويل يف ال ُك ُتب السامو َّية والنصوص الده ين َّية ومن بينها القرآن الكريم ،يف تأويل
الرؤيا أيضا ،باإلضافة إ ىل استعامِّلا يف نصوص ال ُك ُتب املقدَّ سة.
لقد كان التأويل ك ُأسلوب ومنهج موجود بني األُ َمم ى
عل الدوام ،حيث يتم توظيفه غالبا
يف إثبات العقائد واآلراء اجلديدة وغري املسبوقة ،وكذلك لتوجيه ظاهر كالم ال ُك ُتب املقدَّ سة،
مقتىض العقل أو الذوق .وقد انتبه أشخاص -من
ى والس َّيام املوارد التي تتوافق يف ظاهرها مع
األول للميالد) يف الرتاث اليهودي ،و ُأورجين(،)2
أمثال فيلون اإلسكندراين (يف القرن َّ
()1
( )1فيلون السكندري أو فيلو السكندري ( 20ق .م 50 -م) :فيلسوف هيودي عاش يف الفرتة اِّللنستيَّة.
املعرب.
استخدم الرمز ملواءمة الفلسفة اليونان َّية واليهود َّية .ه
ِ
تم تنصيبه من ق َبل أساقفة ُأورشليم (ُ )2أورجين (حوال عام - 185؟ م) :فيلسوف وقس مسيحيَّ .
عل اإلسكندر َّية ،ولكن األُسقف السابق رفض ذلك ونفاه إ ىل قيصار َّية ،وهناك َّ
تفرغ قسا ى وقيصار َّية ًّ
معذبا يف سجون اإلمرباطور قىض العقدين األخريين من حياته َّ
للتأليف يف حقل التفسري ور هد الشبُهات .ى
وعل الرغم من أ َّنه مل ُيقتَل ،ولكنَّه عاش بق َّية حياته ًّ
معتال يعاين من الضعف واملرض ،حتَّ ىى ى (دكيوس)،
املعرب.وافته املن َّية حوال سنة 253م .ه
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 131
(الزنديق َّية) املجوس َّية يف تفسري و ُأوغسطني( )1يف الرتاث املسيحيِ ،
والف َرق الزنديك َّية
()2
أن املسلمني قد عمدوا بدورهم -ضمن بيان اآلل َّية ه َّية آل َّية التأويل .كام َّ
األفستا -إ ىل أ ّ
املتنوعة ،من قبيل :الفلسفة ،والعرفان،
املمتازة واإلثبات املعريف لـ التأويل يف خمتلف احلقول ه
والتفسري ،و ُأصول الفقه ،والكالم -إ ىل االستفادة من التأويل بوصفه وسيلة الكتشاف
احلقيقة.
ه َّية الكبرية التي ُيو هليها علامء اإلسالم لـ التأويل
عل الرغم من األ ّ
ولألسف الشديد فإ َّنه ى
يف الرتاث اإلسالمي ،وما قدَّ موه من األبحاث والدراسات الواسعة يف هذا الشأن ،ال يزال
هناك نوع من االضطراب والغموض يف هذا الشأن ،وقد أ ّد ىى ذلك إ ىل الكثري من سوء الفهم
وإن هذا االضطراب يصل إ ىل حد بحيث حتدَّ ث بعض العلامء واملف هكرينواملخالفات اِّلا َّمةَّ .
املسلمني عن التأويل بوصفه ُأسلوبا أصيال لفهم آيات القرآن والنصوص الده ين َّية( ،)3وذهب
آخرون إ ىل حده اعتبار التأويل نوعا من التحريف.
بمعنى :الكالم ،والرشح،
ى إن مفردة اِّلرمنيوطيقا مشت َّقة من الفعل هرمنيوين ،
()4
َّ
والتفسري ،والتأويل ،والرتمجة .ويبدو من املستحيل تقديم تعريف جامع لعلم اِّلرمنيوطيقا،
متاما كام هو احلال بالنسبة إ ىل التأويل .وقد قدَّ م ريتشارد باملر( - )5بالنظر إ ىل املسار التارخيي
عل النحو اآلت:
لعلم اِّلرمنيوطيقا -ست تعريفات خمتلفة نسب ًّيا ،وهي ى
- 1نظر َّية تفسري الكتاب املقدَّ س.
( )1القده يس ُأوغسطني (430 - 354م) :كاتب وفيلسوف من أصل نوميدي -التينيُ .ولِدَ يف طاغاست
أهم الشخص َّيات املؤ هثرة يف املسيح َّية الغرب َّية .تعتربه الكنيستان
(سوق أهراس حال ًّيا يف اجلزائر)ُ .ي َعد أحد ّ
(الكاثوليكيَّة واإلنجيليكانيَّة) قده يسا وأحد آباء الكنيسة البارزين ،وشفيع املسلك الرهباين األُوغسطيني.
كام يعده العديد من الربوتستانتيني -والسيَّام الكالفانيون -أحد املصادر َّ
الالهوتيَّة لتعاليم اإلصالح
املعرب.
الربوتستانتي حول النعمة واخلالص .ه
( )2نسبة إ ىل (زند) ،يف الديانة املجوس َّية.
َّ
والعالمة الطباطبائي ،إ ىل ( )3لقد ذهب كل من حميي الده ين بن عرب ،وصدر ه
املتأِّلني ،والفيض الكاشاين،
القول َّ
بأن التأويل منهج أصيل يف فهم القرآن والنصوص الده ينيَّة.
)4( hermeneuein
املعرب.
( )5ريتشارد باملر بالكمور (1965 - 1904م) :ناقد وشاعر وأديب أمريكي .ه
❖ 132دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
حممد سعيد حنائي ( )1باملر ،ريتشارد ،علم هرمنوتيک (علم اهلرمنيوطبيقا) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّيةّ :
كاشاين ،ص ،41نرش هرمس ،طهران1377 ،هـ ش.
( )2بول ريكور (2005 - 1913م) :فيلسوف فرنيس وعامل إنسانيَّات معارص .من مم هثيل التيّار التأوييلّ ،
ثم
اهتم بعد ذلك بالبنيو َّيةُ .ي َعد امتدادا لـ (فرديناند دي سيسور) .من أشهر أعامله( :نظر َّية التأويل)،
َّ
املعرب.
ه ). املعنى
ى وفائض و(اخلطاب
(3) Ricoeur, Paul, Hermeneutics and the Human Sceince, trans. John Tompson, Cambridge
University Press, 1992, p. 43.
( )4فريدريك دانيال إرنست شاليرماخر (1834 - 1768م) :الهوت وفيلسوف أملاينُ .يعتَرب زعيام مب هكرا
املعرب.
للمسيح َّية الليربال َّية .ه
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 133
ذلك يف املرحلة الثانية إ ىل البحث يف رؤية هايدغر بوصفه شخص َّية بارزة يف اِّلرمنيوطيقا
اجلديدة .ويف اخلتام عمدنا -ضمن توصيف هاتني الرؤيتني -إ ىل تناول إمكان َّية املقارنة
بينهام بالدراسة والتحليل .ومن الواضح َّ
أن البيان التفصييل لنظر َّية هذين الفيلسوفني ُيتاج
يف حده ذاته إ ىل رسالة مستق َّلة.
حممد بن إبراهيم ،مفاتيح الغيب ،تصحيح :نجف قيل حبيبي ،ج ،1ص ،15 ( )1صدر ه
املتأِّلني الشريازيّ ،
بنياد حكمت اسالمي صدرا ،طهران1386 ،هـ ش.
حممد ،برريس وحتليل هستي شنايس تأويل مال صدرا (دراسة وحتليل
( )2للمزيد من التوضيح بيدهنديّ ،
املتأِّلني) ،جم َّلة مطالعات وپژوهشهاى دانشكده ادبيات وعلوم انسانى
ه األنطولوجيا التأويل َّية لصدر
دانشگاه اصفهان ،العدد املزدوج 34 :و1382 ،35هـ ش.
❖ 134دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
فالعلم هبا َّإما أن يكون باملشاهدة احلضور َّية أو باالستدالل عليها بآثارها
عرف هبا َّإال معرفة ضعيفة(.)1
ولوازمها ،فال ُت َ
بأن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات املتأِّلني إ ىل االعتقاد َّ
ه يذهب صدر
األعم من اإلنسان والعامل والقرآن -
ّ كل حقيقة - أن َّ
يرى َّ
متعده دة ومتك هثرة ،ومن هنا فإ َّنه ى
أن َّ
كل عل هذه النقطة ،وهي َّ
ذات مراتب ودرجات متناظرة ومتطابقة فيام بينها .وهو ُيؤ هكد ى
ما هو موجود يف هذا العامل املا ّدي ،له يف الواقع ما يضاهيه يف عامل املثالَّ ،
وإن املوجود يف عامل
املثال هو يف احلقيقة مثال لذلك اليشء املتح هقق يف العامل العقالين أو ما فوق املثال .إ َّنه نتيجة
يتطرق إليه أصل وحقيقة وروح ورس ه
كل يشء موجود يف العامل العقالين ،وهو العامل الذي ال َّ
أي نوع من أنواع الكثرة والتغري واحلجم واملقدار أبدا.
املتأِّلني فيام يتع َّلق باإلنسان -بوصفه الكائن الوحيد الذي ليس له حد
كام يذهب صدر ه
أن يكون له حضور يف مجيع عوامل الوجودْ ،
وأن يكتب التحقق وجودي خاص ،ويمكن ْ
عل مراتب وعوامل ثالثة ،وهي:
جلميع عوامل الوجود يف داخله -إ ىل اشتامله ى
احلس واإلحساس.
- 1عامل ه
- 2عامل اخليال واملثال.
- 3عامل العقل وما فوق املثال.
سؤال :ما هو التأثري الذي تركه هذا األُسلوب من الرؤية الكون َّية واألنثروبولوج َّية ى
عل
املتأِّلني متأ هثرا يف تفسري
أي حد كان صدر ه املتأِّلني للتأويل؟ وبعبارة ُأ ى
خرى :إ ىل ه فهم صدر ه
اخلاصة إ ىل الوجود والكون واإلنسان؟َّ وتأويل القرآن وغريه من النصوص الده ين َّية ،برؤيته
إل القول لقد ذهب صدر ه
املتأِّلني من خالل تصويره للمراتب الوجود َّية للعامل واإلنسان ى
بوجود مراتب ودرجات للقرآن الكريم ،وقارن بني ظاهره وظاهر اإلنسان وظاهر العامل،
عل عامل املا َّدة
حواسه الظاهر َّية فقط ،وما دام مقترصا ى
ه عل وقال َّ
بأن اإلنسان ما دام يعتمد ى
واملحسوسات ،فإ َّنام يمكنه االستفادة من الظاهر اجلسامين للقرآن فقطَّ ،
وإن إدراك باطن
حممد بن إبراهيم ،األسفار األربعة ،تصحيح :غالم رضا أعواين ،ج ؟ ،ص ( )1صدر ه
املتأِّلني الشريازيّ ،
،62بنياد حكمت اسالمي صدرا ،طهران1383 ،هـ ش.
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 135
سوى خفضا
ى والعبارات الظاهر َّية للقرآن ،بحثا عن املعاين الظاهر َّية والفوائد األدب َّية ،ليس
وعل هذا األساس ُي َعد السعي يف املنظومة
ى النص األدب البحت(.)1
ه مستوى
ى للقرآن إ ىل
الفكر َّية لصدر ه
املتأِّلني من أجل الوصول إ ىل املعاين الكامنة وراء الظواهر -التي ال يمكن
للمفِّس من تأويل
ه احلصول عليها من طريق التفسري اللفظي -أمرا رضور ًّيا .ال مندوحة
معنى
ى عل
يسعى إ ىل احلصول ى
ى اآليات القرآن َّية ،ومن خالل الدخول يف البطون العميقة للقرآن
وأسمى للقرآن الكريم.
ى جديد
سوى اهلل تعا ىل واملعصومني املصداق البارز لإلنسان
ى ال يعلم تأويل القرآن الكريم
الكامل ،وأ َّما سائر أفراد اإلنسان فإ َّنام يمكنهم الوصول يف بعض املوارد -من خالل
األسمى واالستعانة باملكاشفة واإلرشاق والعقل
ى ه
واالحتاد مع العوامل االرتقاء الوجودي
يرى َّ
أن الوصول إ ىل املتحرر من قيود عامل املا َّدة -إ ىل التأويل الصحيح لآليات القرآن َّية .إ َّنه ى
ه
شرتط يف ذلك امتالك االستعداد الذات والعلوم كل أحد ،بل ُي َباطن األُمور ليس بمقدور ه
صحة ه
كل َّ يرى ه
املتأِّلني ال ى اللد ّن َّية وعدم التبع َّية للدنيا وهبارجها .من الواضح أ َّن صدر
يتناىف مع ظاهر اآليات(.)2
ى تأويل ،بل يشرتط يف التأويل ْ
أن ال
َّ
إن األمر األخري الذي جتدر اإلشارة إليه هنا ،هي املقارنة التي أقامها صدر ه
املتأِّلني بني
عرب عنهاإل املقارنة بني هذه احلقائق الثالثة التي ُي ه
العامل والقرآن واإلنسان .وقد عمد ى
سوى انطباق وإجياد التوازن بني اإلنسان والعامل
ى بـ الكتاب ،ويعتقد َّ
أن حقيقة التأويل ليست
أن غاية الفلسفة ُحت هول اإلنسان إ ىل عامل عقيل
يرى من جهة َّ
وعل هذا األساس ى ى والقرآن.
يرى َّ
أن خرى حيث يتطابق القرآن مع العامل واإلنسان ،ى يضاهي العامل العيني ،ومن ناحية ُأ ى
انكشاف مراتب العامل وبواطن القرآن رهن بانكشاف الوجود َّية لذات الفرد(.)3
هرمنيوطيقا هايدغر:
فإن للهرمنيوطيقا صور خمتلفةَّ ،
وإن أقدم صورة ِّلا ت َّتصل بتفسري وتأويل أن ذكرنا َّ
كام سبق ْ
الكتاب املقدَّ س ،حيث كانت اِّلرمنيوطيقا حتتوي ع ىل ُأصول وقواعد تساعد ه
املفِّس يف
النص .وقد َّاّتذت هذه الصورة من اِّلرمنيوطيقا الحقا صيغة
ه معنى
ى الوصول إ ىل
عل ُأصول
عل يد بعض املف هكرين من أمثال شالير ماخر ،حيث اشتمل ى
اِّلرمنيوطيقا العا َّمة ى
وقواعد عا َّمة للتفسري بحيث أصبح الكتاب املقدَّ س واحدا من املوضوعات التي تقع موردا
لتفسري هذه القواعد الك ّل َّية.
ويبدو َّ
أن الكثري من القواعد اللغو َّية املوجودة يف هذه الصيغة من اِّلرمنيوطيقا قابلة
ملفِّسي القرآن الكريم ،وكذلك بعض مباحث للتطبيق مع األُصول والقواعد التفسري َّية ه
حتظى بسابقةى إن هذا القسم من املباحث التي ُأصول الفقه ،والس ّيام منها مباحث األلفاظَّ .
قديمة يف تاريخ الثقافة اإلسالم َّية ،رغم قبوِّلا من ِق َبل صدر ه
املتأِّلني ،ولكنَّها مل حتظ باهتاممه
املتأِّلني ليس له وجه مشرتك مع هذا فإن التأويل املنشود لصدر ه كثريا .ومن ناحية ُأ ى
خرى َّ
تم تقديمها خرى للهرمنيوطيقا التي َّاملعنى من اِّلرمنيوطيقا .بيد أ َّنه يف خصوص الصور األُ ى
ى
أن إمكان املقارنة بني صدر ه
املتأِّلني من ِق َبل دلتاي ،وهايدغر ،وغادامري ،وبول ريكور ،يبدو َّ
بقوة أكرب .ومن هنا فإ َّننا سوف نتناول يف هذا القسم دراسة املباين وهايدغر يتم َّتع َّ
عل نحو اإلمجال.
اِّلرمنيوطيق َّية ِّلايدغر ى
لقد ا َّتبع هايدغر يف بحث الوجود ُأسلوبا أطلق عليه عنوان الظاهرات َّية اِّلرمنيوطيق َّية،
أي بحث بشأن هرمنيوطيقا وقام بتوضيح وبيان األُسلوب املذكور .وهنا قبل الدخول يف ه
هايدغر ،من الرضوري التذكري هبذه النقطة ،وهي َّ
أن هايدغر من خالل ربطه اِّلرمنيوطيقا
عل اِّلرمنيوطيقا .ال ش َّك يف َّ
أن هرمنيوطيقا أضفى معنى جديدا ى
ى اخلاصة،
َّ برؤيته الفلسف َّية
وإّنا -بترصُيه -عبارة عن هرمنيوطيقا
هايدغر هي يشء آخر غري هرمنيوطيقا النصوصَّ ،
معنى
ى أن يكون ذا فإن الـ دازاين وحده الذي يمكن له ْ
الـ دازاين .طبقا ِّلرمنيوطيقا هايدغر َّ
معنى .وكام نالحظ َّ
فإن هايدغر -من خالل التحليل الذي ُيقده مه للـ دازاين ى أو ال يكون ذا
بوصفه كينونة يف العامل ُ -يقده م رؤية خمتلفة متام االختالف عن اِّلرمنيوطيقا .ويف األساس
❖ 138دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
أن الفهم ُيم هثل الوجه الوجودي للـ دازاين ،ال أ َّنه
ورأى َّ
ى َّ
فإن هايدغر قدَّ م فهام آخر لـ الفهم،
وعل هذا األساس َّ
فإن اِّلرمنيوطيقا -من وجهة نظر ى واحد من خصائص الـ دازاين.
جمرد فرع من الفروع اِّلامش َّية للفلسفة ،بل أصبحت الفلسفة بنفسها
هايدغر -مل تعدّ ُتع َترب َّ
هرمنيوطيقا.
ظاهراتيَّة اهلرمنيوطيقا:
يرى هايدغر َّ
أن األنطولوجيا ال تكون َّ
إن ظاهرات َّية هايدغر مرتبطة بالوجود بشكل كامل .ى
ممكنة َّإال من طريق الظاهرات َّيةَّ .
إن الظاهرات َّية التي عمد هايدغر إ ىل التعريف هبا بوصفها علام
أن ُتربز األشياء كام هي: بمعنى األنطولوجيا ،يستلزم ْى بوجود املوجودات
ِ
يكتف بعدم َّ
إن هايدغر يف الطريق الذي ُيؤ ّدي به إ ىل الظاهرات َّية شبه املتعالية واملثال َّية ،مل
عل كتاب التحقيقات املنطق َّية أيضا ،حيث قال :إ َّنه مل
لـهورسل فحسب ،بل وأشكل ى
ّ التبع َّية
أي اهتامم
يتحرر من علم النفس كام ينبغي ،وغرقت يف وصف أفعال الوعي الذات ،ومل يعر َّ
َّ
إ ىل املسألة احلقيق َّية ،ونعني هبا الوجود .وقال يف كتاب الكينونة والزمان:
إن األنطولوجيا والظاهرات َّية وصفان للفلسفة ،حيث ينظر أحدها إىل املوضوع
َّ
واآلخر إىل طريقة البحث والتحقيق فيه(.)1
أن ُأسلوبه الفكري هو الظاهرات َّية
لقد ذكر هايدغر يف كتاب الكينونة والزمان رصاحة َّ
هورسل يريده اِّلرمنيوطيق َّيةَّ .
إن مراد هايدغر من الظاهرات َّية غري ذلك اليشء الذي كان ّ
منها .والسؤال املطروح هنا يقول:
إن فهم هايدغر للظاهرات َّية
ما هي العالقة القائمة بني اهلرمنيوطيقا والظاهرات َّية؟ َّ
يقوم عىل الـ الظاهر والـ لوغوس(.)2
( )1الكوست ،جان ،فلسفه در قرن بيستم (الفلسفة يف القرن العرشين) ،ص ،75ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية:
رضا داورى أردكانى ،نرش سمت ،طهران1375 ،هـ ش.
هيَّة وأكثرها غموضا يف التفكري الغرب الده يني والفلسفي؛ إذ
( )2الـ لوغوس ( :)logosمن أشدّ املفاهيم أ ّ
اهتم عل مدلوالت متعده دة ،كاخلطاب ،واللغة ،والعقل ّ
الكيل ،وكلمة اإلله .وقد َّ تدل يف سياقات شتّ ىى ى
الفيلسوف اإلغريقي القديم (هرقليطس) بالـ لوغوس بشكل كبري حيث اعتربه (القانون ّ
الكيل للكون).
القوى الصادرة عن اهلل).
ى وقال فيلون اليهودي عن الـ لوغوس( :إ َّنه َّأول
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 139
()2
يشري هايدغر هنا إ ىل اجلذور اإلغريق َّية ملفردات من قبيل :فاينامنون( )1أو فاينستاي
والـ لوغوس( ،)3ويقول:
وإن الفاينستاي من ي
ويتجىل بنفسهَّ ، إن الفاينامنون يعني ذلك اليشء الذي يظهر
َّ
مفردة فاينو بمعنى التنوير.
وعل هذا األساس َّ
فإن الظاهرات عبارة عن جمموعة من األشياء التي تظهر يف ضوء ى
عرفَّ .
وإن الحقة الـ لوجيا يف كلمة الـ الفينومينولوجيا( )4بدورها النهار ،أو يمكن ِّلا ْ
أن ُت َ
يرى هايدغر َّ
أن الـ لوغوس هو ذلك اليشء الذي يتم تعود إ ىل كلمة لوغوس اليونان َّية .ى
باملعنى األعمق هو السامح ليشء بالظهور.
ى إظهاره وبيانه من خالل التكلمَّ .
إن الـ لوغوس
إن منطق الـ (لوجك)(ُ )5يم هثل
تتجل حقيقة الوجود يف املوجوداتَّ .
ّى إ َّنه بواسطة الـ لوغوس
عل وعل هذا األساس َّ
فإن تركيب الفاينستاي والـ لوغوس ى ى بيانا مفهوم ًّيا لـ الـ لوغوس.
شكل الفينومينولوجيا ،يعني السامح لألشياء بالظهور -كام هي -دون ْ
أن نفرض مقوالتنا
نسعى نحن إ ىل
ى عليها .يف الظاهرات َّية املقصودة ِّلايدغر تظهر األشياء لنا بنفسها ،ال ْ
أن
إن الظاهرات َّية ُمت هثل ُأسلوبا وطريقا لظهور وانكشاف ذات اكتشافها بأنفسنا .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
عل
تتحول األنطولوجيا إ ىل ظاهرات َّية ،واإلقبال من الناحية العمل َّية ى
َّ األشياء .وعليه جيب ْ
أن
ّى
تتجل تلك احلالة والناحية الفهم والتفسري الذي تظهر األشياء من خالله .وهنا جيب ْ
أن
الوجود َّية من اإلنسان ،وينكشف البنية َّ
الالمرئ َّية الكينونة -يف -العامل.
ويف العهد القديم كان الـ لوغوس (الكلمة) هو الذي جعل فيه إله إرسائيل َّ
كل األشياء ،كام كان الـ
لوغوس هو الكلمة التي ُمت هثل فاحتة األناجيل يف عبارة( :يف البدء كان الكلمة) .وقد ذهب الدكتور حسن
وإّنا مشت َّقة من كلمة (لوغوس) التي تعني ظاظا إ ىل القول َّ
بأن أصل كلمة (لغة) يوناين غري عربَّ ،
باليونان َّية الكلمة أو الكالم.
(1) phainomenon
(2) phainesthai
(3) logos
(4) phenomenology
(5) logic
❖ 140دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
أن األنطولوجيا يف مقام ظاهرات َّية الوجود قد ُحت َّول إ ىل هرمنيوطيقا الوجودَّ .
إن الحظ َّ
ُي َ
هذا النوع من اِّلرمنيوطيقا خيتلف بالكامل قطعا عن علم املنهج اللغوي القديم ،بل وخيتلف
ح َّت ىى عن علم املنهج العا هم املنشود لدلتاي يف العلوم اإلنسان َّية أيضا.
قوة ظهور الوجود يف الفهم والتفسري ،وهو يرى هايدغر َّ
أن حقيقة اِّلرمنيوطيقا تعني َّ ى
سعى يف هرمنيوطيقا ى اليشء الذي تظهر فيه حقيقة الوجود وبالتال ذات الـ دازاين .وقد
الوجود إ ىل اإلجابة عن أكثر املسائل أصالةَ ،أال وهو السؤال عن الوجود .إ َّنه يروم العبور
عل تفسري وتأويل ذات الوجود ،ويعمل يف هذا املسار إ ىل هاّتاذ من املوجود ،والعمل ى
الـ دازاين مرآة ينظر من خالِّلا إ ىل الوجودَّ .
إن الـ دازاين هو الكائن الوحيد الذي يسأل عن
الوجود ،و ُيع َترب الوجود بالنسبة إليه مسألة.
يرى
حتول علم اِّلرمنيوطيقا بخطوة واحدة إ ىل تفسري وجود الـ دازاين .ى وعل هذا النحو َّ
ى
املهمة األساس َّية واجلوهر َّية لعلم اِّلرمنيوطيقا تتم َّثل يف اإلظهار حيث يعمل
َّ هايدغر َّ
أن
عل إظهار حقيقة الوجود لنفسه.
الـ دازاين ى
سوى الفهم -
ى أهم ما يف البنية األساس َّية للـ دازاين ليس ومن ناحية ُأ ى
خرى حيث إ َّن َّ
يتحول علم اِّلرمنيوطيقا إ ىل أنطولوجيا الفهم
َّ بحيث يشكل الفهم طريقة وجود الـ دازاين -
يرى حقيقة علم اِّلرمنيوطيقا شيئا آخر غري والتفسري .ويف ّناية املطاف َّ
فإن هايدغر ال ى
أنطولوجيا الف هم والتفسري ،وهي األنطولوجيا التي جتعل من انكشاف وجود األشياء
وعل هذا األساس َّ
فإن ى بالقوة لوجود الـ دازاين أمرا ممكنا.
َّ وبالتال االستعدادات الكامنة
يبقى بوصفه نظر َّية للفهم ،مع فارق َّ
أن الفهم هنا علم اِّلرمنيوطيقا من وجهة نظر هايدغر ى
تم تعريفه بطريقة أنطولوج َّية.
قد َّ
خرى يكتسب يف املنظومة الفلسف َّية إن مصطلح الفهم مثل الكثري من املفردات األُ ى َّ
إن الفهم يف أنطولوجيا هايدغر ُيم هثل حالة أو جزءا ال ينفك عن خاصاَّ .
ًّ ِّلايدغر مفهوما
فإن الكينونة -يف -العامل بدورها ُمت هثل البنية األساس َّية يف الـ دازاين .ومن ناحية ُأ ى
خرى َّ
أن تنفصل عنه .وبعبارة ُأ ى
خرى :وحده الـ دازاين الذي يمتلك عاملا الـ دازاين وال يمكن ِّلا ْ
الحظ َّ
أن العامل والفهم أجزاء ال تنفك عن قوام أنطولوجيا ويكون يف العامل .وعليه ُي َ
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 141
( )1للمزيد من التوضيح ،كوزنر هوي ،ديفد ،هيدگر وچرخش هرمنوتيكى در هرمنوتيک مدرن (هايدغر
واالستدارة اِّلرمنيوطيق َّية يف اِّلرمنيوطيقا احلديثة) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :بابک أمحدى وآخرون،
ص ،337نرش مركز ،طهران1377 ،هـ ش.
❖ 142دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
َّ
إن تفسري أفكار فالسفة من أمثال إيامنوئيل كانط وح َّت ىى شعراء من أمثال هولدرلني( ،)1كان
وعل هذا األساس يمكن القولَّ :
إن ى يعكس هاجتاهه اِّلرمنيوطيقي إ ىل النصوص بشكل دقيق.
تفسري الـ دازاين وتفسري الوجود بشكل عام يستلزم تفسري النصوص أيضا.
( )1يوهان كريستيان فريدريش هولدرلني (1843 - 1770م) :شاعر وفيلسوف أملاينُ .ي َعد من بني أشهر
عل كتاباته سواء األدبيَّة منها أو
الشعراء يف تاريخ األدب األملاين .تركت الثورة الفرنسيَّة تأثريا عميقا ى
كمدرس خاص يف منزل ه الفلسف َّية آت وضعها باالشرتاك مع زمالئه من أمثال هيجل وشيلينغ .عمل
اضطر إ ىل مغادرة املنزل بعد افتضاح
َّ املرصيف ياكوب غونتارد؛ حيث ُأغرم هناك بزوجته زوزيت ،وقد
عل َّأّنا ثم ُأصيب باّنيار عصبي بعد تل هقيه خرب وفاهتاَّ ،
وتم تشخيص حالته املرض َّية ى عالقته مع زوزيتّ .
عل
وخصص له مكانا ى
َّ نجار تك َّفل برعايته
مرض عقيل .عاش الشاعر هولدرلني إ ىل حني وفاته يف بيت ّ
ّنر النيكار ،وقد ُأطلق عليه الحقا (برج هولدرلني) أو (صومعة هولدرلني) .ه
املعرب.
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 143
النص ْ
أن نذهب إ ىل ما هو أبعد من معاين يتم َّكن من قوله( .)1إ َّنه يقولَّ :
إن علينا لفهم ه
أن يكون ناقضا بأن َّ
كل تفسري أو تأويل جيب ْ رصح َّ
للنص .وقد َّ
املفردات والقواعد اللغو َّية ه
النص
عل ظاهر العبارات واألقوال املرصح هبا يف ه
النص الرصُية ،واعترب اجلمود ى
لضوابط ه
وجها من وجوه الصنم َّية والسطح َّية التارخي َّية.
باملعنى الكامن واألصيل واملفردات
ى َّ
إن هايدغر يف تفسري النصوص ُيبدي تعلقا شديدا
إل
يسعى جاهدا ى ى فِّس النصوص الفلسف َّية اإلغريق َّية
األول َّية .ومن هنا نجد أ َّنه عندما ُي ه
َّ
املفِّسين -بفهم املعن ىى السائد
أن يكتفي -مثل سائر ه املعنى األصيل ه
لكل مفردة ،ال ْ ى استكناه
خاصة للكثري من املفردات اجلوهر َّية
واملعارص للمفردات .ويف هذا اإلطار فإ َّنه جيد مفاهيم َّ
يف النصوص الفلسف َّية ،من قبيل :الفوزيس( ،)2واألليثيا ،والـ لوغوس ،ونظائر هذه املفردات
تعرضت للتحريف طوال تاريخ الفلسفة. التي َّ
معنى واحد وثابت مستقل عن استعامِّلا.
ى كام أ َّنه يذهب إ ىل االعتقاد َّ
بأن املفردة ليس ِّلا
عل
معنى يف حده ذاهتا ،وإ َّنام حتصل هذه املفردة ى
ى وقد م َّثل لذلك باملطرقة ،حيث ال يكون ِّلا
املعنى واملفهوم يف حقل خاص يشمل الطاولة واملخترب واملسامري واخلشب واملصنع والصانع ى
عل دائرة
بأن املفردة تقوم ى وما إ ىل ذلك .وبشكل عام يذهب مارتن هايدغر إ ىل االعتقاد َّ
النص من جتاوز معاين املفردات ِ
استعامِّلا من ق َبل من يستخدمها .وعليه ال بدَّ لفهم وتفسري ه
وعل هذا
ى ه
واالجتاه مبارشة إ ىل عامل املؤ هلف وأدواته. واملعاجم اللغو َّية والقواعد النحو َّية
عل إعادةعل سبيل املثال -هو أ َّننا نعمل ى
النص األدب -ى فإن ما ُيدث يف تفسري ه األساس َّ
اخلاصة
َّ صوره املؤ هلف ونعيش جتربته ،بعيدا عن حاالته الذهن َّية ون ّياته
صياغة العامل الذي ُي ه
وغري املتعارفة(.)3
يسعى إ ىل البحث
ى املفِّس احلقيقي يف عمل َّية التفسري ال
أن ه يرى َّ يمكن القول َّ
إن هايدغر ى
يسعى يف
ى عن مراد ون َّية املؤ هلف ،فهو ال يتمحور حول املؤ هلف -بحسب املصطلح -وإ َّنام
طرح هذا السؤال عادة ،وهو :هل
املعنى املكنون .وهنا ُي َ
ى النص لكي يفهم
ذهابه إ ىل ما وراء ه
( )1هوالب ،روبرت ،يورغن هابرماس ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسية :حسني بشرييه ،ص ،84نرش ين ،طهران،
1375هـ ش.
( )2رودولف بولتامن (1976 - 1884م) :الهوت أملاين بروتستانتي من خلفيَّة لوثر َّيةُ .أستاذ دراسات
العهد اجلديد لثالثة عقود .قام بفصل كامل تقريبا بني التاريخ وبني اإليامن .تأ َّثر بالفيلسوف األملاين
عل هذا األساس.(مارتن هايدغر) يف هرمنيوطيقا الكتاب املقدَّ س ،وطرح نظر َّية النزع األُسطوري ى
املعرب.
انتقد االشرتاك َّية الوطن َّية ،وسوء معاملة اليهود ،والتطرف الوطني .ه
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 145
عل فرض ّيات الفهم والتفسري يبلغ حدًّ ا بحيث جيعل من َّ
إن تأكيد هرمنيوطيقا هايدغر ى
أي نوع من أنواع التأويل والتفسري دون وجود جمموعة من الفرض ّيات أمرا إمكان َّية فهم ه
شك يف َّ
أن الكثري من فالسفة اِّلرمنيوطيقا الذين قالوا ببعض الرشائط لفهم مستحيال .ال َّ
املفِّس،
لدى ه عل الفرض ّيات البدهي َّية واألحكام املسبقة ىالنص ،والس ّيام منهم الذين أ َّكدوا ى
ه
النص ،قد تأ َّثروا بآراء هايدغر .وليس األمر -بطبيعة احلال
وحتدَّ ثوا عن تعدد األفهام حول ه
بالنص فقط ،بل وله مدخل َّية يف فهم وتفسري مجيع الواقع ّياته -بحيث يتع َّلق هذا األمر
األعم من اإلنسان والعامل .يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد بأ َّن أكثر ه
املفِّسين تبنّيا للفرض ّيات ّ
يتم
أن َّ البدهي َّية ي َّتخذ ح َّت ىى من األشعار الغنائ َّية بوصفها فرض ّيات بدهي َّية ومس َّلامت مسبقة .ما ْ
النص ،ويضع ه املفِّس نفسه يف وضع متناسب مع فهم وتفسري هذا اختيار نص ،ويضع ه
أنشك يف َّ
املفِّس .ال َّ
فإن ذلك يمتد بجذوره يف فرض ّيات فهم ه النصوص األُ ى
خرى جانباَّ ،
عل هذا
املفِّس ألثر ما ال خيرج عن إطار جتاربه وعالقاته الشخص َّية ،وهذا كله يدل ى
مواجهة ه
كل تفسري مسبوق ومصطبغ بفرض ّيات املعنى ،وهو أ َّنه ليس هناك فهم ينشأ من فراغ ،وأ َّن َّ
ى
املفِّس.
لدى ه ومعلومات َّأول َّية ى
أن األشياء واألُمور يف عامل ه
املفِّس إ َّنام تكتسب معناها ومفهومها إل َّ
املهم االلتفات ى َّ
إن من ه
املفِّس بوصفه فاعال معرف ًّيا يف مواجهة األشياء
بواسطة الفهم ،وليس األمر بحيث يقف ه
عل هذا معنى األشياء متع َّلقا لفهم ه
املفِّس .لقد كان هايدغر ى ى بوصفها متع َّلق املعرفة ،ويكون
إن توصيف الفهم النحو خمالفا بشدَّ ة ملالحظة الفهم ،ويعتربه تراثا للميتافيزيقا التقليد َّيةَّ .
عل التقسيم الثنائي للذهن واخلارجَّ ،
وإن له -كام سبق والتفسري عند هايدغر بحيث يتقدَّ م ى
رصح هايدغر يف كتابه الكينونة والزمان َّ
بأن ملقدّ مات الفهم ْ
أن ذكرنا -بنية أنطولوج َّية .لقد َّ
وأّنا تتأ َّلف من ثالثة أقسام ،وهي :اخللف َّية أو األرض َّية ،والرؤية
البنيوية ثالث طبقاتَّ ،
عل
كل واقع َّية نعمل َّأوال ى املسبقة أو املشهد ،واألُسلوب أو املنهج .ومراده هو أ َّننا يف فهم ه
خاصة،
ثم ننظر إليها من زاوية َّ
خاصة -وهي أرض َّية كينونتنا الواقع َّية ّ -
وضعها يف أرض َّية َّ
وبالتال فإ َّننا نفهم تلك الواقع َّية ب ُأسلوب وطريقة َّ
خاصة(.)1
(1) Hiedegger, M, Being and Time, trans. By John Maequarrie and Edward Robinson,
Oxford, Blackwell, 1962, p. 191.
❖ 146دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
النتيجة:
أن هايدغر حيث كان بصدد تفسري الوجود من خالل االهتامم بحقيقة وجود شك يف َّال َّ
ه َّية لتفسري النصوصَّ ،
فإن ذلك قد ش َّكل أرضية مناسبة لطرح ِ
اإلنسان ،ومل يول تلك األ ّ
مفِّسا مل وأن صدر ه
املتأِّلني -بوصفه ه املتأِّلني .الس ّيام َّ
البحوث املقارنة بني هايدغر وصدر ه
يكتف -كام أسلفنا -بتفسري النصوص ،بل عمد -من خالل معرفة مراتب الوجود ِ
عل كشفه
ويسعى إ ىل الربهنة ىى ه
املتأِّلني يواصل الكالم يف إطار امليتافيزيقا التقليد َّية ،بل
أن هايدغر منفصل متام االنفصال عن امليتافيزيقا التقليد َّية ،ومنغمس وشهوده أيضا ،يف حني َّ
متام االنغامس يف الظاهرات َّية اِّلرمنيوطيق َّية.
إل الكشفه َّية األكرب يف تفسري وتأويل الوجود ى ه
املتأِّلني األ ّ أعطى صدر
ى - 5لقد
والشهود ،بحيث مل َير إمكان َّية ملعرفة بواطن األُمور يف األساس َّإال من خالل الشهود
يرى َّ
أن ه َّية العقل والتأمالت العقالن َّية .فهو ى
واملشاهدة ،ولكنَّه يف الوقت نفسه مل يتجاهل أ ّ
الفيلسوف ما ْ
أن يصل إ ىل مشاهدة احلقيقة ،ح َّت ىى جيب عليه العودة إ ىل مرتبة العقل ،ليعمل
عل بيان وتعريف ما رآه وشاهده بحسب املفاهيم العقل َّية والفلسف َّية .يف حني يبدو َّ
أن ى
ه َّية إ ىل العقل الفلسفي ،بل وكان يراه خمالفا للتفكري األصيل ،ومن ِ
هايدغر مل يول تلك األ ّ
اخلاص.
ه عل الشعر بتعريفه
هنا فقد أقبل ى
إن اآلراء الفلسف َّية األنطولوج َّية ِّلايدغر يف حقل الفهم ،ليس ِّلا َّإال تطابق قليل مع
َّ - 6
املتأِّلني قد تأ َّثر تفسري وتأويل النصوص ،يف حني َّ
أن تفسري وتأويل النصوص يف تفكري صدر ه
عل نحو كامل.
بأنطولوج َّيته وأنثروبولوج َّيته ى
- 7يذهب كل من صدر ه
املتأِّلني ومارتن هايدغر إ ىل القول بتعدد األفهام حول حقيقة
يرى َّ
أن تعدد األفهام بشأن أن صدر ه
املتأِّلني ى بالنص) ،مع فارق َّ
ه واحدة (والتي تتم َّثل هنا
القرآن الكريم ناشئ من أمرين ،وها َّأوال :تعدد وكثرة طبقات وبطون القرآن الكريم
فِّسين والنور (وسائر النصوص الده ين َّية األُ ى
خرى) .وثانيا :الدرجات الوجود َّية املتعده دة للم ه
عل ذلك الفرد بام يتناسب مع تلك الدرجة وتعال ى
ى الذي ُيفاض من ِق َبل اهلل سبحانه
بأن تعدد القراءات واختالف األفهام حول إل القول َّالوجود َّية ،يف حني يذهب هايدغر ى
املفِّس يف ذاكرته.
النص الواحد ،ينشأ من الفرض ّيات املسبقة واملعلومات التي خيتزّنا ه
ه
عل إقحام التارخي َّية ه
املتأِّلني يف تفسري وتأويل النصوص الده ين َّية ى - 8مل يعمل صدر
ه َّية العامل الزمنيوالعرص الزمني بشكل مبارش ،يف حني يذهب هايدغر إ ىل اعتبار أ ّ
والتارخيي يف الوصول إ ىل الفهم والتفسري الصحيح.
بمعنى
ى املتأِّلني فيام يتع َّلق بالتفسري والتأويل متمحورا حول املؤ هلف،
- 9لقد كان صدر ه
دراسة مقارنة بني تأويل صدر ِّ
املتأهلني وهرمنيوطيقا هايدغر ❖ 149
املعنى
ى عل مراد وقصد املؤ هلف ،وثانيا :كان ى
يرى يف اختيار يسعى إ ىل احلصول ى
ى أ َّنه كان َّأوال:
صحة ذلك،النص تفسريا بالرأي وكان يقول بعدم َّعل ه املعنى الذي يرتأيه ى
ى من عنده وحتميل
ومن هنا فإ َّنه كان خيالف مجيع أنواع النسب َّية يف التفسريات الده ين َّية .يف حني يؤمن هايدغر
وأتباعه بعدم االهتامم بقصد املؤ هلف ومراده ،و ُي ه
صحح التفسري بالرأي ،والنسب َّية يف التفسري،
للنص ،وغياب املعيار واملالك الواضح لفهم
ه وعدم الوصول إ ىل الفهم الصحيح والعيني
النصوص ،وما إ ىل ذلك من األُمور األُ ى
خرى.
* * *
❖ 150دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املصادر:
باملر ،ريتشارد ،علم هرمنوتيک (علم اهلرمنيوطبيقا) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّةّ :
حممد سعيد حنائي كاشاين ،نرش هرمس،
طهران1377 ،هـ ش.
حممد ،برريس وحتليل معناشناسى تأويل واعتبار معرفتى آن در انديشه مال صدرا (دراسة وحتليل مفاهيم
بيدهنديّ ،
التأويل واعتباره املعريف يف املنظومة الفكر َّية لصدر ه
املتأِّلني) ،نامه مفيد ،العدد 1383 ،41 :هـ ش.
حممد ،برريس وحتليل هستي شنايس تأويل مال صدرا (دراسة وحتليل األنطولوجيا التأويليَّة لصدر
بيدهنديّ ،
املتأِّلني) ،جم َّلة مطال عات وپژوهشهاى دانشكده ادبيات وعلوم انسانى دانشگاه اصفهان ،العدد املزدوج 34 :و،35
ه
1382هـ ش.
حممد بن إبراهيم ،مفاتيح الغيب ،تصحيح :نجف قيل حبيبي ،ج ،1بنياد حكمت اسالمي صدر ه
املتأِّلني الشريازيّ ،
صدرا ،طهران1386 ،هـ ش.
حممد بن إبراهيم ،األسفار األربعة ،تصحيح :غالم رضا أعواين ،بنياد حكمت اسالمي صدر ه
املتأِّلني الشريازيّ ،
صدرا ،طهران1383 ،هـ ش.
حممد بن إبراهيم ،تفسري القرآن الكريم ،تصحيحّ :
حممد خواجوي ،ج ،4نرش بيدار ،قم، ه
املتأِّلنيّ ، صدر
1360هـ ش.
حممد بن إبراهيم ،رشح ُأصول الكايف ،تصحيح :سيهد مهدي رجائي ،ج ،2بنياد حكمت اسالمي صدر ه
املتأِّلنيّ ،
صدرا ،طهران1385 ،هـ ش.
الكوست ،جان ،فلسفه در قرن بيستم (الفلسفة يف القرن العرشين) ،ترمجه ى
إل اللغة الفارسيَّة :رضا داورى
أردكانى ،نرش سمت ،طهران1375 ،هـ ش.
كوزنر هوي ،ديفد ،هيدگر وچرخش هرمنوتيكى در هرمنوتيک مدرن (هايدغر واالستدارة اِّلرمنيوطيقيَّة يف
اِّلرمنيوطيقا احلديثة) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :بابک أمحدى وآخرون ،نرش مركز ،طهران1377 ،هـ ش.
هوالب ،روبرت ،يورغن هابرماس ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسية :حسني بشرييه ،ص ،84نرش ين ،طهران1375 ،هـ
ش.
Hiedegger, M, Being and Time, trans. By John Maequarrie and Edward
Robinson, Oxford, Blackwell, 1962.
Ricoeur, Paul, Hermeneutics and the Human Sceince, trans. John Tompson,
Cambridge University Press, 1992.
* * *
هايدغر بالعربيَّة
(هل ميكن أنْ تقال :اهلايدغريَّة بلغة العرب؟ وكيف ميكن لقوهلا أنْ يكون؟)
()1
موسى وهبه
أن بعض «الفالسفة الذين يتك َّلمون بالعرب َّية» وضعوا لفظة «هو مكان هست
َّ
وأن آخرين استعملوا بدل الـ هو لفظة املوجود» و«استعملوا الوجود يف
وأستنيَّ ،
العرب َّية حيث ُتس َتعمل «هستي» بالفارس َّية ،واستعملوا وجد ويوجد وسيوجد مكان
كان ويكون وسيكون(.)1
عل استعامل أيس وليس بدال مم َّا سيشيع بعده من وجود وعدم بل سبق ْ
أن أقدم الكندي ى
(عل ما يذكر أنطوان سيف :مصطلحات الفيلسوف الكندي ،بريوت ،اجلامعة اللبنان َّية،
ى
،2003ما َّدة أيس وكون ووجود) ،وصوال إ ىل ما أثاره ناصيف نصار يف وجه شارل مالك
الذي مال إ ىل نقل( )2بـ كيان َّية ودافع عن ميله يف فصل طويل من املقدّ مة(.)3
أقول :يف هذه اللغة التي ُ
حال الكون والوجود واأليس هي تلك احلال ،هل يمكن قول
و«املؤسس احلقيقي
ه عمم بالعرب َّية «فيلسوف الوجود»،
عل ما ُيشاع و ُي َّ
هايدغر وهو ى
عل
عل ما يقول عبد الرمحن بدوي ،أو هو صاحب «نصوص نسيان الكينونة» ى
()4
للوجود َّية» ى
ما ُي َعن ِْون مطاع صفدي()5؟
إل
ب ىالبنيوي مل ُيش هكل عائقا ُيذ َكر أمام الطموح العر ه
َّ اللغوي
َّ الواقعَّ ،
إن هذا اإلشكال
إل:قول :هايدغر ،أو التوق العرب املضطرم وصوال إ ىل الدعوة ى
مرة وصرب ًا بعد صرب ،ح َّتى الدخول
مرة بعد َّ
معارشته واكتشاف هلجاته املضمرة َّ
معه يف العشق األخري(.)6
عل ما يذكر عبد الرمحن بدوي:
فمنذ بدايات األربعينات ،ى
ن َّبهنا طه حسني إىل إمكان استعامل لفظ اآلن َّية ترمجة للكلمة األملان َّية .Dasein
( )1الفاراب أبو النرص ،كتاب احلروف ،حتقيق حمسن مهدي ،بريوت ،دار املرشق الطبعة الثانية ،1990 ،ص
112و.113
(2) Existentialism
( )3ناصيف نصار ،مقالة يف الوجود ،بريوت ،دار النهار.2001 ،
( )4موسوعة الفلسفة ،بريوتَّ ،
املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش.1984 ،
( )5العرب والفكر العاملي ،العدد الرابع ،بريوت ،خريف .1988
( )6العرب والفكر العاملي م.ن رئيس حترير.
هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال :اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ 153
بل قدَّ م بدوي ُأطروحته للدكتوراة يف الفلسفة بالعرب َّية بعنوان «الزمان الوجودي»،
وناقشها بالعرب َّية أمام مجهور ضخم جتاوز األلف شخص يف 29مايو سنة .1944وفيها
يقول بدوي:
إسهامي يف الوجود َّية إ َّنام يرتبط مبارش ًة بوجود َّية هايدغر ،و ُي َعد إكامالً ملذهبه يف
عدَّ ة نواحٍ (.)1
أن بدوي انرصف بعد ذلك إ ىل حتقيقات تراث َّية وتأليفات َّإال أ َّنه نرش يف القاهرة
وصحيح َّ
خصص فيها فصال من ثامين صفحات بعنوان
منذ 1960دراسات يف الفلسفة الوجود َّيةَّ ،
«هايدغر زعيم الوجود َّية» ،وفصال آخر يف موسوعته من ثالث عرشة صفحة «موسوعة
األملاين وقدَّ م ِّلا يف
ه عل األصل
اج َع نصوصا مرتمجة ِّلايدغر ى
الفلسفة ،اجلزء الثاين» ،ور َ
.)2(1964
أن ننتظر 1986لصدور مارتن هايدغر :معضلة احلقيقة( ،ترمجة شهاب وسيكون علينا ْ
الده ين اللعالعي ،الدار التونس َّية للنرش) ،فاحتة لسلسلة فلسف َّية مل تصلنا حلقاهتا األُ ى
خرى.
والحقا ،سوف ُّت هص ص العرب والفكر العاملي يف خريف 1988حمورا يضم حوال 90
صفحة مليئة من «نصوص نسيان الكينونة» بإرشاف فريق الرتمجة واملراجعة يف مركز اإلنامء
القومي -بريوت.
حممد سبيال
يليه بتأخر نسبي كتاب :مارتن هايدغر ،التقن َّية -احلقيقة -الوجود (ترمجة ّ
وعبد اِّلادي مفتاح نرش املركز الثقايف العرب ،بريوت -الدار البيضاء )1995يف أكثر من
مائتي صفحة نقال عن الرتمجة الفرنس َّية.
أن َث َّمة كتابا واحدا ُخي َّصص ِّلايدغر بالعرب َّية لكنَّه ليس كتابا عموم ًّيا عن
وصحيح َّ
هايدغر وال تعريفا مدرس ًّيا ،بل كتاب -حماولة essai :بعنوان هايدغر ومشكل امليتافيزيقا
حممد حمجوب عن دار اجلنوب ،تونس ( ،1995وسأتو َّقف الحقا عنده بالنظر ى
إل تأليف ّ
تفرده).
هذا برصف النظر عن االستناد إ ىل هايدغر أو اإلحالة إليه يف بطون املؤ َّلفات واملقاالت
املنثورة يف طول العرب َّية وعرضها ومشاريع الرتمجات املعلنة لنصوص أساس َّية له.
ليس هايدغر غريبا عن قوله بالعرب َّية ،إذن ْ -
وإن كان اسمه نفسه ُيك َتب بأشكال أربعة
أو مخسة :باجليم ،والقاف ،والغني ،وبألف أو من دون ألف بعد اِّلاء ،وبألف أو من دون
ألف يف ما قبل األخري -ليس هايدغر غريبا ،بل هو مقيم بالعرب َّيةْ ،
وإن بتقطع ،منذ س هتني
عل ّ
األقل. عاما ى
لكن هذا القيام الواقعي (الوقائعي) ال يثبت أمام «النقد» .والنص اِّلايدغري بالعرب َّية
ّ
أقل ما ُيقال فيه إ َّنه:
معمم وابتدائي
قلق املصطلح ومضطرب العبارة وبعيد املنال يف الرتمجات .والقول فيه ه
َ
اإلمعان ُ
القول وأحيانا متغاير يف معظم مقدّ مات نصوصه واإلشارات إليه ح َّت ىى إذا ما حاول
حممد حمجوب
اضطر إ ىل االستعانة بالفرنس َّية كام فعل ّ
َّ والغوص يف التفاصيل،
َ يف التخصيص
َّ
وكأن العرب َّية مل تعد ُتل ّبي.
هكذا ،ليس يف العرب َّية هايدغر واحد بل كثرة ،يتحدَّ د الواحد منها بمصطلحاته وبعض
ما انكشف منه.
وأتفل قلق املصطلح يف ما يعادل Seinومشت ّقاته من مصطلحات عرب َّية .ويف ما يعادل
ّى
Zeitومشت ّقاته ولواحقه وحسب ،مهمال اآلن النظر يف مصطلحات املنهج الفيميائي
وملحقاته.
- 2وأبدأ بالزوج العرب :الوجود واملوجود بإزاء ( Seinو Seiend Etre et
سوى فريق الرتمجة
ى .)Etantويرد هذا الزوج عند معظم النقلة واملؤ هلفني ،فال يشذ عنه
نص مديره
واملراجعة يف مركز اإلنامء القومي (العرب والفكر العاملي ،العدد الرابع) ويف ه
العا هم مطاع صفدي (يف نقد العقل الغرب ،بريوت ،مركز اإلنامء القومي ،1990 ،ص )271
حيث ُيستبدَ ل بزوج الكينونة والكائن.
هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال :اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ 155
(1) Vorhanden
(2) Zuhandensein
❖ 156دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Sorge
هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال :اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ 157
مسوغ ،بل هو موضع شك بسبب من شيوعه بالذات ،وهو ال يصلح يف األحوال مجيعا
َّ
عل مقصد هايدغر .فالوجود واملوجود تَع َّلق به فكرة اللقيا واملصادفة واملعرفة كام
للداللة ى
نصه الشهري (الفصل اخلامس عرش :املوجود) (فقرة
يذكر الفاراب نفسه يف كتاب احلروف يف ه
عرب عن هذه عرب عن Seiendوليس عن .Seinإضافة إ ىل َّ
أن الفاراب ُي ه ،)80أي يف ما ُي ه
اللفظة الدا َّلة يف سائر األلسن -من فارس َّية ورسيان َّية وسغد َّية -ى
عل:
ٍ
ماض أو مستقبل استعملوا الكلم حمصل
رباط اخلرب باملخرب عنه؛ إذا أرادوا َّ
الوجود َّية وهي :كان أو يكون أو سيكون أو اآلن.
حمل الكلم الكائنة كلام وجود َّية( .ص .)113 ويشري الفاراب إ ىل فريق آخر ُُيِل َّ
أن الفعل من وجود هو َو َجدَ ،وهو متعد ال يقع الوجود فيه أو عليه ،بل ُأضيف إ ىل ذلك َّ
يف ما هو أمامه .أو مبني للمجهول من ُو ِجدَ ،وحامله موجود أي اسم مفعول ،وهو ما ال
عل Etantالدا َّلني ع ىل اسم الفاعل participe présent
عل Seiendوال ى
ينطبق ال ى
عل لفظ كائن كام انتبه إ ىل ذلك بدوي من معنى احلارض إذا يف حني َّ
أن ذلك ينطبق ى ى املتضمن
ه
ثمره أو ْ
أن ُيعده ل ذلك من اصطالح َّيته. زمان من دون ْ
أن ُي ه
ولع َّله باإلمكان االستفادة من الوجود واملوجود َّية لقول Anwesen
و Anwesenheitإذا استثقلنا َتكْوان و َت ْكوانية وإتاحة االكتوان .وإذا ما راجعنا قليال حميط
املحيط حيث نقرأ :كان اليشء كونا وكيانا وكينونة ،أي حدث فهو كانَّ .
وإن الكون عند
املتك هلمني مرادف للوجودَّ ،
وإن الثبوت والوجود والكون والتحقق مرتادفةَّ .
وإن الثبوت
عند املعتزلة أعم من الوجود.
إذا ما راجعنا ذلك قليال ال يعود بوسعنا -خجال من املعتزلة -إطالق لفظ الوجود
و َث َّمة ما هو أعم منه ،ى
عل .das Sein
إ ىل ذلك أقول :يمكن ملستعمل كان ومشت ّقاهتا ْ
أن يستغني عن وجود وموجود يف التعبري
عن مجيع أحوال كان وكون .يف حني ال يستغني مستعمل وجد ،إذ هو مضطر يف املايض
واملستقبل لالستعانة بفعل الكون ليقول مثال :كنت موجودا ،وسأكون موجودا للقائك .يف
حني يكتفي مستعمل كان بالقول :كنت هناك ،وسأكون هناك إ ىل آخره...
❖ 162دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
( )1مارتن هايدغر ،التقني َّة -احلقيقة -الوجود ،ص .135 - 87
(2) Zur Sache des Denken.
هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال :اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ 163
أو مثل:
إن العطاء -الذي حيصل معطاه عىل الزمن -
الزمان ال يكون ،بل هناك زمانَّ .
يتحدَّ د انطالق ًا من اجلوار َّية التي ُحت ِّول وتدَّ خرَّ .إّنا هي بالضبط التي ُت ِّ
زود الفضاء
احلر للزمان بفسحته وانفتاحه وحتصل عليه .فتصون ما يظل من املايض متنع ًا .ومن
َّ
احلق بـ: املجيء واإلقبال مدَّ خر ًا .وعليه ،سنُ ي
سمي هذا العطاء -الذي ُيعطي الزمان َّ
املثول املفسح :-املستضيف( .ص .)1()118
أو:
احلق هو قرابة حصول الوجود وانتشاره انطالق ًا من احلارض م َّا كان وم َّا
إن الزمان َّ
َّ
سوف يكون .مقارب ًة ُت ِّ
وحد مثوهلا الذي يفسح املجال ألبعاد الزمان الثالثة .لقد
أصاب الزمن هبيمنته عىل اإلنسان بام هو كذلك .وبكيف َّية ال يمكنه معها أن يكون
إنسان ًا َّإال بإقامته يف قلب املثول الثالثي ،انوجاد مقارب حيلولة ،ا ِّدخار ،الذي يتحدَّ د
به .فال الزمان من صنيع اإلنسان ،وال اإلنسان من صنيع الزمان .فليست هناك من
سميناه آنف ًا .ذلك
صناعة أو صنعة .بل كل ما هناك هو العطاء بمعنى املثول الذي َّ
détermine depuis la proximité qui empêche et réserve. C’est elle qui procure l’Ouvert de
l’espace libre du temps et sauvegarde ce qui demeure empêché dans l’avoir - été،et ce qui
dans le survenir demeure réservé. Nous nommons le donner qui donne le temps véritable:
بإزاء األملانيَّة:
Die Zeit ist nicht. Es gibt die Zeit. Das Geben،das Zeit gibt،bestimmt sich aus der
verweigernd-vorenthaltenden Nähe. Sie gewährt das Offene des Zeit - Raumes and
nennen das Geben،das die eigentliche Zeit gibt،das lichtend - verbergende Reichen.
(p16).
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب166
سميه هذا الكالم ال يمكننا أن ُنف ِّكر فيه اآلن َّإال انطالق ًا م َّا قيل
ِّ وما ُي.LEreignis
حيث.يف النظر املحرتز واملتي ِّقظ حول الوجود والزمان كتجميع للمصري وكمثول
والـ. الوجود والزمان) بـ سؤالني: وها مع ًا اصطلحنا عليهام (أي.كل منهام يف مكانه
ٍّ والذي يربط بينهام يرتك عالقة
.)1()125 و124 (ص.كل منهام باآلخر غري حمدَّ دة
. أتو َّقف إذن. فكيف باملستمع، وال يستطيع القارئ متابعة القراءة أبعد من هذا احلده
بل رأيناه يلجأ إ ىل فعل،عل وجود وموجود ِ و ُأ ه
َّ سجل
أن املرتجم إ ىل العرب َّية مل يستطع احلفاظ ى
. يكون وكون وكينونة:وكأن ذلك جيري عفو اخلاطر حني يقول َّ ،الكون ومشت ّقاته
النص الفرنيس الذي حجب األصل وأبعده ما يزال قابال للقراءة جلهة ا هتساقه مع
َّ إنَّ
du temps comme région de l’Ouvert - en leur propre. Ce qui détermine et accorde tous
deux en leur propre،et cela veut dire dans leur convenance réciproque-nous le nommons:
das Ereignis. Ce que nomme cette parole،nous ne pouvons maintenant la penser qu’à
partir de ce qui s’annonce dans le circonspect regard sur l’être et sur le temps comme
place. Les deux،l’être aussi bien que le temps،nous les avons nommés des questions. Le
«et»،entre les deux،laissait leur relation l’un à l’autre dans l’indéterminé. (p219).
:بإزاء األملان َّية
Im Schicken des Geschikes von Sein،im Reichen der Zeit zeigt sich ein Zueignen،ein
Übereignen، nämlich ،von Sein als Anwesenheit und von Zeit als Bereich des Offenen in
ihr Eigenes. Was beide ،Zeit und Sein،in ihr Eigenes ،d.h. in ihr
Zusammengehören،bestimmt، nennen wir: das Ereignis. Was dieses Wort nennt، können
wir jetzt nur aus dem her denken،was sich inder Vor-Sicht auf Sein und auf Zeit als
Geschick und als Reichen bekundet،wohin Zeit und Sein gehören. Beide ،Sein sowohl
wie Zeit، nannten wir Sachen. Das und zwischen beiden lieβ ihre Beziehung zueinander
im Unbestimmten. (p20).
❖ 168دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ّ
األقل يمتنع فهمه عل
النص العرب متتنع قراءته أو ى
أن َّنفسه وخروجه بتأويل ما ،يف حني َّ
تم النقل :الفرنس َّية أو األملان َّية.
لغو ًّيا من دون العودة إ ىل ما عنه َّ
عل وحدة خياراته االصطالح َّية وال يستفيد
إل العرب َّية ال ُيافظ ى
فناقل «الزمان والوجود» ى
سوغ ما خيتار بإزاء ما يرتك .وهو -شأنه شأن عا َّمة املرتمجني ُ -يسب َّ
أن الفلسفة ممَّن سبق أو ُي ه
إل سبك وجممع). إل أفكار ومعاين ال ى جممع أفكار أو سبك معان (ويف هذا ينشد االنتباه ى
وجتري األُمور كام لو َّ
أن ناقل هايدغر إ ىل العرب َّية ،وناقيل الفلسفة بعا َّمة ال يبني أحد منهم
عل شكل
اخلاصة فيأت القول الفلسفي بالعرب َّية مبعثرا ى
َّ عل أحد ،بل ينشئ كل منهم خيمته
ى
البدوي
َّ كأن املتفلسف بالعرب َّيةَّ ،
كأن هذا خيم يف صحراء تتع َّثر املواصالت يف ما بينهاَّ ،
خيشى اإلقامة يف العامرة.
ى األصيل
فال تنضوي الفلسفة ضمن خ َّطة ،بل تأت مبعثرة متع هثرة حسب الطلب ،كام لو َّ
أن منطق
السوق العرب َّية قد سبق منطق السوق العامل َّية يف التحكم ببذل األقوال الفلسف َّية واألقوال بعا َّمة.
- 5فهل يمكن قول هايدغر بالعرب َّية أصال؟
حممد عابد اجلابري وطول باعه لتحدَّ ثت إذن عن بنية العقل العرب
لو كانت ل مهارة ّ
إل قول إن َث َّمة نزوعا طبيع ًّيا ى
لدى «العقل العرب» ى وتكوينه ،ولقلت باالستعارة من كنطَّ :
أن يقالَّ ،
وإن لذلك هايدغر بالعرب َّية لكنَّه ما يزال يفتقر إ ىل النقد كي يقول هايدغر كام وجيب ْ
عل هذا القدر من املهارة
وإين لست ى
رشوطا يمكن تعدادها وحدودا ال يمكن تعده هيا .أ َّما ّ
إل قول هايدغر بالعرب َّية ،هذا امليل الذي يعتمل بنا
وطول الباع ،فسأكتفي بتسجيل هذا امليل ى
إ ىل حده العشق كرافد من روافد احلاجة التي تلوب بنا ونلوب هبا إ ىل قول الفلسفة.
وعل افرتاض أ َّّنا حاجة حقيق َّية أي ليست حاجة
ى ْ
فإن صدقت هذه احلاجة إ ىل الفلسفة،
وأن قول الفلسفة بالعرب َّية ال ُحت هركه مصالح العرب َّية ،بل
تسترت بالفلسفة لرتيد أمرا آخرَّ .
يتوجه فقط بمصالح الفلسفة ،يصري باإلمكان التساؤل :كيف يمكن لقول هايدغر بالعرب َّية
َّ
اليوم ْ
أن يكون؟
جمرد جممع أفكار ،إذا كانت يف األساس نحوا وبادرة م َّتسقة يف وإذا مل تكن الفلسفة َّ
ُ
الفلسفة املبنى اللغوي .لن تتك َّلم
ى باملعنى عن
ى باألحرى عدم االنشغال
ى حركتها ،فيجدر
هايدغر بالعرب َّية هل يمكن أن تقال :اهلايدغر َّية بلغة العرب؟ ❖ 169
العرب َّي َة ما مل يتك َّلمها املشتغلون بالفلسفة بدءا .وواضح َّأّنم لن يستطيعوا قول هايدغر
عل اليشء أو احلديث عنه إ ىل قول اليشء نفسه ،ما مل ينتقل
بالعرب َّية ما مل نعرب من الكالم ى
القول َّأوال من الِّسد واإلخبار إ ىل حماولة السرب والكشف .ولنستعمل عبارة قديمة غري
يتم ثانيا املكوث يف آثاره يف
متأ َّمل فيها بعد :من اخلرب إ ىل اإلنشاء ،من النثر إ ىل الشعر ،وما مل ّ
وجد آثاره كاملة أو شبه كاملة بالعرب َّية يف سياق م َّتسق املصطلحات
العرب َّية أي ما مل ُت َ
والرتاكيب أي قابلة للقراءة عرب ًّيا.
وهذه «القابلة للقراءة عرب ًّيا» هبا حاجة إ ىل تفلية ،فهايدغر أو سواه من الفالسفة ال يوجد
منقطعا عن الرتاث الفلسفي نفسه .من دون كنط وديكارت و ُأرسطو ،بل أيضا من دون
هيغل وأفالطون وسواريز وهوسريل ،من دون وجود نصوصهم شبه الكاملة ال جمال
عل قراءة عرب َّية منتجة أي متيحة للتفكري والنقد واإلضافة.
للكالم ى
مستقبل القول الفلسفي بالعرب َّية ،إمكان قول الفلسفة بالعرب َّية منوط إذن باستيضاح
احلاجة العرب َّية إ ىل الفلسفة :هل هي حاجة الستخدام الفلسفة أم خلدمة التفلسف (لراحة
سوى إحضارى العقل كانت القدماء تقول)؟ وبتأمني املناخ اللغوي املناسب الذي ليس
احلي ،إ ىل العرب َّية .هذا اإلمكان منوط بنا إذن. الرتاث الفلسفي ،وما ُأ ه
سميه جسد الفلسفة ه
متوحد؟ أليست الـ نا عائقا
ه لكن من هذه الـ «نا»؟ يقول املعرتض :أليست الفلسفة تدبري
آخر ،حجابا ضدَّ التفلسف؟
متوحد بالرضورة ،لكنَّه
ه صح َّ
أن الفيلسوف املتوحد ْ
إن َّ ه جواب :هذا ممكن يف حال وجود
غري قائم اآلن.
متى وكيف ،ال
كالنبي ،وهو كذلك ،يأت ال أحد يعرف ى ه فإذا كان الفيلسوف كاملَلِك ،أو
عسى ْ
إن جاء ى سوى هتيئة املقام ومتهيد األرض لقدومه
ى عل األحياء مثلنا القائمني هاهنا
يبقى ى
ى
ْ
أن يستطيب اإلقامة بيننا...
ِ
أن نختار بني ْ
أن نكون -إلكامل االستعارة سوى ْ
ى يبقى لسنا ا َمللك بعد ،ال وال َّ
النبي .فال ى
بحريى .األعور الدَّ جال أو ُيوحنّا املعمدانْ ،
فإن اخرتنا ما ى ّ
الكذاب أو راهب -مسيلمة
أن رأسنا س ُيق َطع بالتأكيد ،لكن الفيلسوف يكون قد ى
أتى. أن نختار ،نعرف َّ
ينبغي ْ
* * *
❖ 170دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املصادر:
الفاراب أبو النرص ،كتاب احلروف ،حتقيق حمسن مهدي ،بريوت ،دار املرشق الطبعة الثانية.1990 ،
األول. بدوي ،عبدالرمحن ،سرية حيايت ،امل َّ
ؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش ،2000 ،اجلزء َّ
وحممد رجب
ّ مارتن هايدغر :ما الفلسفة ،ما امليتافيزيقا ،هيلدرلني وماه َّية الشعر ،ترمجة فؤاد كامل عبد العزيز
السيهد ،القاهرة ،دار النهضة العربيَّة.1964 ،
مارتن هادقار ،معضلة احلقيقة ،تونس ،الدار التونسيَّة للنرش.1984 ،
موسوعة الفلسفة ،بريوتَّ ،
املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش.1984 ،
العرب والفكر العاملي ،العدد الرابع ،بريوت ،خريف .1988
ناصيف نصار ،مقالة يف الوجود ،بريوت ،دار النهار.2001 ،
* * *
القسم الثاني
هايدغر والغرب
هوسرل وكاسرير يف مواجهة هايدغر
(انتقادات إدموند هوسرل وإرنست كاسرير على الوجود والزمان،
()1
وكانط ومسألة ما بعد الطبيعة هلايدغر)
أمري ع يباس الصاحلي
املقدّمة:
عمد يورغن هابرماس( )2يف الصفحات األُو ىل من مقالته األثر والرؤية العقد َّية ،إ ىل مناقشة
مارتن هايدغر( )3من وجهة نظر أملان َّية( .)4وبدأ هربرت شيندلباخ( )5عرضه للفلسفة األملان َّية -
مصيبا -هبذه النقطة ،إذ يقول:
إن فلسفتنا املعارصة قد بدأت عىل نحو القطع واليقني بالرسالة املنطق َّية
َّ
لغيوريغ ()3
للودفيغ فيتغنشتاين( ،)2والتاريخ والوعي الطبقي ()1
(الفلسف َّية)
لوكاتش( ،)4والوجود والزمان( )5ملارتن هايدغر(.)6
عل َّ
أن مارتن هايدغر ُي َعد واحدا من أكرب وأكثر الفالسفة شك يف َّ
أن هناك إمجاعا ى ال َّ
تأثريا يف عرصنا الراهن .فقد مت َّكن بشكل أصيل من حتريك عجلة هرمنيوطيقا دلتاي(،)7
وعل نحو
ى وفينومينولوجيا هورسل( ،)8واملضامني الظاهرات َّية ملاكس شيللر( ،)9يف مسار جديد
عل طاولة البحث والتفكري الفلسفي ضمن إطار مبدع ،كام مت َّكن من وضع الوجود ى
املعطى
ى عل الفلسفة األملان َّية املتمحورة حول املوضوع .وهذا
ويتفوق ى
َّ فوميتافيزيقي وتأرخيي،
من هايدغر عميق بطبيعة احلال؛ أل َّنه بنحو من األنحاء نتاج حل ورفع العنارص الوجود َّية
واإلشكال َّية امليتافيزيق َّية التقليد َّية .ومن هنا يقول يورغن هابرماس:
فإن نقطة االنطالق اجلديدة هلايدغر حيتمل َّأّنا ال تزال -
من وجهة نظر معارصة َّ
كام كانت -متُ ِّثل أعمق استدارة( )1فلسف َّية قد ظهرت يف الفلسفة األملان َّية منذ عرص
فريدريتش هيجل(.)3()2
ُولِدَ مارتن هايدغر سنة (1889م) يف مسكريخ وهي مدينة صغرية وحمافظة .ويمكن
القولَّ :
إن السؤال األسايس الذي شغل ذهن مارتن هايدغر طوال حياته االحرتاف َّية هو
السؤال عن الوجود .لسنا يف هذا املقال بصدد السعي إ ىل بيان وتبويب اإلبداعات الفلسف َّية
املتعده دة ِّلايدغر؛ إذ هناك الكثري من ال ُك ُتب واملقاالت الصادرة يف حقل انتقاد هايدغر
للميتافيزيقا التقليد َّية ،وماه َّية الـ دازاين ،والكينونة -يف -العامل ،والتارخي َّية ،ونقد
تم تقديم
خرى َّالتكنولوجيا ،وغري ذلك من املعطيات الفلسف َّية ملارتن هايدغر .ومن ناحية ُأ ى
عل خمتلف أنحاء آرائه وأعامله الفكر َّية من ِق َبل املف هكرين البارزين.
الكثري من اآلراء النقد َّية ى
إن املسألة الرئيسة التي أنشدها يف هذه املقالة هي ّأين -بدال من الدخول يف تفاصيل فلسفته َّ
إل تعقب عموم املسائل واِّلواجس األصلية ِّلايدغر يف مرحلته
أسعى ى
ى ه
واملتأخرة - املتقده مة
سم ىى
ومؤرخ فلسفة ينتمي إ ىل ما ُي ّ
ه ( )2إرنست كاسرير (1945 - 1874م) ( :)Ernst Cassirerفيلسوف أملاين
بمدرسة ماربورج يف (الفلسفة الكانط َّية اجلديدة) ،اشتهر كأبرز شارح للفلسفة النقد َّية الكانط َّية يف القرن العرشين.
من أشهر أعامله( :اجلوهر والوظيفة) ،و(احلُ ّر َّية والشكل) ،و(فلسفة األشكال الرمز َّية) ،و(األُسطورة والدولة)،
و(اللغة األُسطور َّية) .ه
املعرب.
( )3رينيه ديكارت (1650 - 1596م) :فيلسوف وريايض وفيزيائي فرنيسُ ،يل َّقب بـ (أب الفلسفة احلديثة)َّ .
إن الكثري
من األُطروحات الفلسف َّية الغرب َّية التي جاءت بعده هي انعكاسات ألُطروحاته.
هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ 177
ِ
يكتف بعدم اليقني يف حقل املعرفة فحسب ،بل إقامة ارتباط مقنع بني هذين األمرين ،ومل
وأضاف إ ىل ذلك جمموعة كبرية من األزمات التي َّ
متخضت من صلب هذه الثنائ َّية.
حتولت ثنائ َّية الذهن واخلارج إ ىل الرؤية العقد َّية الغالبة يف العامل الغرب بعد رينيه
لقد َّ
ديكارت ،فلم تكن الواقع َّية االستعالئ َّية إليامنوئيل كانط( )1منتجة يف تأليف هذين املفهومني،
سعى هورسل بدوره -من خالل االستعانة
ى وال مرشوع الواقع َّية املطلقة ِّليجل .كام
إل رفع هذا الرشخ
بمقتضيات من قبيل القصد َّية يف صلب مرشوعه الفينومينولوجي -ى
()2
كام َّ
أن لديكارت تأثريا واضحا يف علم الرياضيّات ،وقد اخرتع نظاما رياضيًّا ُس ّمي باسمه وهو (نظام اإلحداثيّات
الديكارت َّية) الذي ش َّكل النواة األُو ىل لـ (اِّلندسة التحليل َّية) ،فكان بذلك من الشخص ّيات الرئيسة يف تاريخ الثورة
العلميَّة .كام كان ديكارت الشخصيَّة الرئيسة ملذهب العقالنيَّ ة يف القرن السابع عرش للميالد .وهو صاحب املقولة
الشهرية( :أنا ُأف هكر؛ إذن أنا موجود) .ه
املعرب.
( )1إيامنوئيل كانط ( 1804 - 1724م) :فيلسوف أملاينُ ،ي عتَرب آخر الفالسفة املؤ هث رين يف الثقافة األُوروبيَّة
احلديثة ،وأحد أه ّم الفالسفة الذين كتبوا يف نظر َّي ة املعرفة الكالسيكيَّ ة ،وهو آخر فالسفة عرص التنوير يف
املجر د) ،و(نقد
َّ أُ وروبا والذي بدأ بجون لوك وجور ج بريكيل وديفد هيوم .من أشهر أعامله( :نقد العقل
املعر ب.
العقل العميل) .ه
(2) intentionality
(3) givenness
❖ 178دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
إل االعتقاد
ما نفكر فيه ،وهذا هو املفهوم اإلغريقي ح َّت ىى عرص أفالطون .يذهب هايدغر ى
()1
بتحقق حادثة بعد أفالطون ،حيث تنخفض الرؤية األنطولوج َّية( )2إ ىل رؤية التعريف
عل طول تاريخ امليتافيزيقا الغرب َّية ،وبدال من االهتامم بذات بالوجود ،حيث هتيمن ى
()3
( )1أفالطون أو أرستوكليس بن ارستون ( 347 - 427ق .م) :فيلسوف يوناين كالسيكي ،كاتب لعدد من احلوارات
مؤسسا ألكاديم َّية أثينا التي كانت َّأول معهد للتعليم العال يف العامل الغرب ،وقد وضع األُ ُسس
الفلسف َّيةُ ،يعتَرب ه
األُو ىل للفلسفة الغربيَّة والعلومُ .أستاذه سقراط وتلميذه ُأرسطو .وقد ظهر نبوغ أفالطون و ُأسلوبه ككاتب واضح
يف حماوراته السقراط َّية التي تناول فيها مواضيع فلسف َّية خمتلفة ،من قبيل :نظرية املعرفة ،واملنطق ،واللغة،
املعرب.
والرياض ّيات ،وامليتافيزيقا ،واألخالق ،والسياسة .ه
(2) ontological
(3) ontic
(4) Being
(5) Heidegger, M, Being and Time, translated by Joan Stambaugh, State University of New
(1) Heidegger, M, Kant and the Problem of Metaphysics, translated by Richard Taft, Indiana
University Press; 1997. 76, note 7.
(2) M. Heidegger, Kant and the Problem of Metaphysics, translated by Overgaard, 2002: 76,
note 7.
❖ 180دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ّى
تتجل أو ىل انتقادات إدموند يكون قد أنشأ شكال من أشكال امليتافيزيقا .ويف هذه النقطة
عل
أهم الشخص ّيات التي تورد نقدا تفصيل ًّيا ى
إن هورسل من ّ هورسل ملارتن هايدغرَّ .
تم تنظيم هذه املجوعة من انتقادات هورسل ِّلايدغر بشأن الكينونة
الكينونة والزمان .وقد َّ
والزمان ،وكانط ومسألة ما بعد الطبيعة ،يف كتاب الظاهرات َّية النفس َّية واالستعالئ َّية ومواجهة
هايدغر(1931 - 1927( )1م)(.)2
إل
أن باإلمكان فتح ثغرة من قناة متابعة انتقادات ومواقف هورسل بالنسبة ى يبدو َّ
الكينونة والزمان ،وكانط ومسألة ما بعد الطبيعة ،يف سياق اإلجابة عن السؤال األخري يف
حقل نسبة تفكري هايدغر إ ىل امليتافيزيقا بشكل خاص والفلسفة بشكل عام.
لقد ذهب هايدغر يف مقدّ مة الكتاب -حيث يعمد إ ىل التعريف بالـ دازاين بوصفه نقطة
انطالق لفهم الوجود -إ ىل القول:
إن املالحظة ،والفهم ،واحلصول ،واالنتخاب ،وإمكان َّية الوصول ،هي هيئات َّ
فإّنا متُ ِّثل يف حدِّ ذاهتا ومن تلقائها حاالت لوجود
مقومة للبحث والتنقيب .ومن هنا َّ ِّ
خاص .ومن ٍ خاص ،وهو املوجود الذي يوجد يف ذواتنا الباحثة يف ِّ ٍ
كل مورد ٍّ موجود ٍّ
فإن تنقيح السؤال عن الوجود يعني أن نعمل عىل توضيح وبيان كيف َّية وجود هنا َّ
إن التساؤل عن مثل هذا السؤال -بمثابة ُأسلوب وجود املوجود الذي يتساءلَّ .
يتعني يف نفسه رضورة بواسطة ما ُيس َئل عنه يف السؤال عن ذلك موجود ما -إ َّنام َّ
ٍ
واحد م ينا ،ويشمل البحث يف ٍ
واحد إن هذا املوجود( )3الذي يتم َّثل يف ِّ
كل الوجودَّ .
إن
حقل إمكان ييات وجوده ،نعمل عىل تبويبه من الناحية اللغو َّية باسم الـ دازاينَّ .
التبويب الواضح والرصيح للسؤال عن معنى الوجود يستلزم مسبق ًا ترشحي ًا مناسب ًا
( )1عنوان الكتاب يف ترمجته الفارسيَّة( :پديدارشناسى روانشناختى و استعاليى و مواجهه با هايدگر).
(2) Husserl, E, Psychological and Transcendental Phenomenology and the Confrontation with
Heidegger (1927 - 1931): The Encyclopaedia Britannica Article, The Amsterdam
Lectures, Phenomenology and Anthropology, Translated and Edited by Thomas Sheehan
and Richard E. Palmer, Springer Science + Business Media Dordrecg, 1997.
(3) Seiende
هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ 181
(1) Heidegger, M, Being and Time, translated by Joan Stambaugh, State University of New
York Press, Albany: 2010. P. 6 - 7.
(2) dieses seiende Dasein.
(3) Husserl, Ibid. p. 278.
(4) preliminary look.
(5) Heidegger, Ibid, p. 7.
❖ 182دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
( )1هايدغر ،مارتن ،الكينونة والزمان ،ص ( 62مقدّ مة املؤ هلف) ،نقله إ ىل اللغة العربية :د .فتحي املسكيني ،دار الكتاب
اجلديد املتَّحدة ،ط ،1بريوت 2012 ،م.
(2) Constitutive - phenomenological clarification.
(3) Husserl, Ibid. p. 281.
(4) Ibid, p. 284.
(5) appearance of.
(6) Whatappears as such.
(7) Ibid. p. 295.
(8) Ibid, p. 287.
❖ 184دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
يرى َّ
أن عن شخصان َّيته الداخل َّية ومواجهته األصل َّية مع العامل واآلخر .ويف احلقيقة فإ َّنه ى
()1
االنتقادات األكثر صراحةً من قِبَل هوسرل على كانط ومسألة ما بعد الطبيعة:
مهمة للغاية كام َّ
أن مواقف هورسل من كانط ومسألة ما بعد الطبيعة ِّلايدغر ،هي بدورها َّ
تم تأليف هذا الكتاب يف سياق
ه َّية من عدَّ ة جهات :لقد َّ
أيضا .ويمكن طرح وتناول هذه األ ّ
مرشوع الكينونة والزمان ،ويف إطار اِّلاجس الرئيس ِّلايدغر املتم هثل بالسؤال عن مفهوم
توصل إ ىل وجود اختالف ماهوي الوجودَّ .
إن هورسل يف الكينونة والزمان مل يكن بعد قد َّ
بينه وبني هايدغر يف توجهه ورؤيته ومسألته؛ ولذلك نجده يلتزم جانب االحتياط والتحفظ
عل الكينونة والزمانَّ ،إال أ َّنه فيام يتع َّلق بكانط ومسألة ما بعد الطبيعة يطرح هذه
يف هتميشه ى
بغض النظر عن
عل أفكار هايدغر ه
الصبغة املحافظة جانبا ،ويورد انتقادات أكثر رصاحة ى
اشرتاكه معه يف معظم املواقف(.)5
ومن ناحية ُأ ى
خرى َّ
فإن هذا الكتاب من حيث تناوله لشخص َّية فلسف َّية بالبحث ،ونعني
خاصة فيام يتع َّلق بتفكري هورسل وربطه بتفكري هايدغر؛
ه َّية َّ
ُيظى بأ ّ
ى بذلك شخص َّية كانط،
عل سؤاله األصيل واملحوري -وهو سؤاله حول نقد العقل املحض وذلك َّ
ألن هايدغر بناء ى
أن سؤال كانط يف هذا الشأن سؤال أنطولوجي .هذا يف حني َّ
أن هورسل يرى َّ
لكانط -ى
يتعرض إ ىل كانط من الناحية املقابلة ،وهو يقرتب من كانط لسبب مغاير متاما ِّلايدغر. َّ
األول هي مسألة معرف َّية أبستيم َّية، يذهب هورسل إ ىل القول َّ
بأن املسألة املحور َّية لنقد كانط َّ
ألهم أعامل كانط جمانب للصواب( .)1فحيث يقول هايدغر:
ّ ويرى َّ
أن فهم هايدغر األنطيقي ى
إ َّن كانط كان يسعى إىل استبدال تسمية أنطولوجيَّ ة تدعو إىل الفخر بفلسفة
استعالئيَّ ة أي االنكشاف الذايت لألمر االستعالئي( ، )2ذهب هورسل من خالل
تأكيده عىل عدم أنطولوجيَّ ة مرشوع كانط ،إىل التامهي مع كانط يف هذه
القراءة(.)4()3
لقد حدَّ د هايدغر هدفه يف القسم األ َّول من الكتاب ،وهو أ َّنه ُيؤ ّدي إ ىل السؤال عن
امليتافيزيقا ورسم اخلطوط املستقبل َّية ملرشوع نقد العقل املحض .ويف الفقرة األُو ىل حيث
يتناول املفهوم التقليدي للميتافيزيقا ،يواصل البحث يف الفقرة الثانية بحيث يسوق املخاطب
عل هذا األساس يكتب هورسل يف نحو القراءة األنطيق َّية ملرشوع كانط بشكل أكرب .و ى
ثم عندما يعمل هايدغر -يف
عل هذا القسم من الكتاب مرشوع الوجود ؟ ّ
()6()5
حاشيته ى
الفقرة اخلامسة من هذا الكتاب -إ ىل التعريف باملعرفة بوصفها شهودا َّأوليا( ،)8()7الذي يعني
عل ذلك:
(التمثل الذي يظهر املوجود يف نفسه ومن دون واسطة) ،يقول هورسل يف حاشيته ى
«هل [هذا] هو كانط؟!»(َّ .)9
إن هذه النقطة ُت هبني ذروة االختالف بني هورسل وهايدغر يف
?(5) Seinsplan
(6) Ibid: p. 438.
(7) primarily intuition.
(8) Heidegger, Ibid. p. 19.
(9) Husserl, Ibid: p. 442.
❖ 186دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
إل التذكري بأ َّن ه إذا كان الذي يريده كانط من مرشوعه النقدي هو إقامة صورة
خمالفة هايدغر ى
بنيو َّية ثابتة للعامل معدَّ ة مسبقا ،فإ َّنه يف مثل هذه احلالة مل يكن بحاجة إ ىل االنطالق من
األنطولوجيا التقليد َّية ،بل كان بإمكانه ْ
أن يطرح هذا السؤال بالطريقة ذاهتا التي قام بطرحها
ثم يواصل مسألته(.)3
ديفد هيوم قبل إيامنوئيل كانطّ ،
()2
يطغى يف هذا الكتاب من بني مجيع انتقادات هورسل هو ما يدعوه ى أن الذيَّإال َّ
األنثروبولوجيا الفلسف َّية ِّلايدغر .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
إن فهم الوجود( )4من وجهة نظر هايدغر
وعل الرغم من أ َّنه ال يروم تقديم مرشوع أنثروبولوجي،
ى يتح َّقق من خالل قناة الـ دازاين،
علاألول ِّلايدغر يتم َّثل يف األنطيق َّية القائمة ى ولكن يمكن القول ه
بكل ثقةَّ :
إن املرشوع َّ
الـ دازاين ،وهو املرشوع الذي يزعم هورسل أ َّنه ليس فلسف ًّيا ،وإ َّنام هو أنثروبولوجياَّ .
إن
هايدغر يف الفقرة الثامنة والثالثني من كانط ومسألة ما بعد الطبيعة ،ضمن عنوان فكرة
جمرد كائن طبيعي ،بل ويراه
األنثروبولوجيا الفلسف َّية ،ال يكتفي بتعريف اإلنسان بوصفه َّ
وخالقا ومبدعا أيضا .وعليه جيب ْ
أن نواصل البحث عن فهم ماه َّية هذا َّ ()5
كائنا فاعال
أن فهم ه
كل يشء يف العامل إ َّنام يأت يف الكائن الفاعل( .)7()6وبالتال فإ َّنه يصل إ ىل نتيجة مفادها َّ
فإن األنثروبولوجيا تشمل ه
االجتاه اجلوهري بالنسبة إ ىل املوقع َّية ضوء فهم اإلنسان ،وعليه َّ
(4) Seinsverständis
(5) handelt
(6) handelnde
(7) Heidegger, Ibid; 1997. p. 146.
هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ 187
عل هذا
الراهنة لإلنسان فيام يربط بنفسه ومجيع الكائنات .وقد عمد هورسل -يف حاشيته ى
()1
عل هذا األصل الوثيق الذي شغل األذهان والعقول الكبرية يف تاريخ الفلسفة.
احلصول ى
إل القول َّ
بأن فهم ماه َّية الوجود رهن بالبحث عن وعل هذا األساس حيث يذهب هايدغر ى
ى
إمكان فهمنا بوصفنا كائنات إنسان َّية خم َّطط ِّلا يف العامل مسبقا ،يذهب هورسل بدوره ى
إل ()7
تم القذف بنا يف هذا العامل ،وأ َّننا نمتلك فهام وعل هذا األساس صحيح أ َّننا قد سبق ْ
أن َّ ى
أي
عل ه مبارشا من هذه اإلحاطة ،بيد َّ
أن السؤال الذي ُيمله هورسل إ ىل هايدغر يقول :ى
أساس يمكن حتويل هذه البداهة البدوية إ ىل أمر يقيني لنفسه ،ليكون يف قبال إمكانية املعرفة
عل تصورنا للوجود أن يكون تصورنا لألشياء واألُمور -املشتملة ى اإلنسان َّية()1؟ من الطبيعي ْ
أيضا -منبثقا عن جتربة مبارشة وما قبل املفهوم َّيةَّ ،إال َّ
أن سؤالنا يقول :كيف يمكن احلصول
عل قوام استعالئي ،بحيث تكون
عل رشائط ت َّتخذ هذه التجربة ذات السبق املفهومي معها ى
ى
عل نحو استعالئي
مفهوما ال بالنسبة إ ىل موضوع فحسب ،بل وكام هو يف نفسه أيضا ،أي ى
ويف األُفق املوضوعي املتع هلق بنا أيضا(.)2
(1) Ibid.
(2) Ibid.
(3) Davos
(4) Krois, J. M, Cassirer's Unpublished Critique of Heidegger in Philosophy and Rhetoric,
Vol. 16, No. 3 1983: p. 147.
(5) Heidegger, M, Davos Lectures in Kant and the Problem of Metaphysics, translated by
Richard Taft, Indiana University Press, 1997: p 191.
هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ 189
لقد عمد كاسرير يف هذه املناظرة إ ىل هاهتام هايدغر بأ َّنه ُيمل رؤية ُأحاد َّية ال ُبعد
سم ىى بالنزعة النيوكانط َّية ،قد وكاريكاتري َّية جتاه الفلسفة الكانط َّية( .)1توضيح ذلك َّ
أن ما ُي ّ
أن مدرسة ماربورغ(ُ )2ت َعد مم هثال بارزا ِّلذه
شك يف َّ
ازدهرت يف عرص هايدغر وكاسرير ،وال َّ
النزعة .يذهب كاسرير إ ىل االعتقاد َّ
بأن هايدغر ُيقده م تعبريا أنطيق ًّيا لفلسفة كانت من جهة،
إل
مبسطة عن النزعة النيوكانط َّية -ىخرى يعمد -من خالل تقديم صورة ه ومن جهة ُأ ى
جمرد نظر َّية للكشف العلمي .ومن هنا فإ َّنه يتساءل بشكل رصيح :من هو املخاطب
اعتبارها َّ
ثم يستطرد بعد ذلك
وطرف النقد ِّلايدغر يف كالمه؟ وما هو مراده من النزعة النيوكانط َّية؟ ّ
قائال بوجوب تقييم النيوكانط هيني -ومن بينهم هرمان كوهني( - )3يف ظرفهم التارخيي .ويف
رصح كاسرير قائال:
إطار هذه الرؤية ُي ه
يتعني من الناحية املاهو َّية ،وإ َّنام من الناحية العمالن َّية. َّ
إن مصطلح النزعة النيوكانط َّية مل َّ
فهي ليست من قبيل نوع من الفلسفة أو النظام التعليمي الدوغامت( ،)4بل هو هاّتاذ موقف
و هاجتاه لطرح السؤال(.)6()5
ثم كام نعلم َّ
فإن هايدغر قد جعل غايته من الكينونة والزمان هي السؤال عن الوجودّ ،
عل موجود يأخذ مثل هذه الرؤية ،ويسأل عن ماه َّيته.
واصل بحثه من خالل الرتكيز ى
(1) Gordon, P, E, Myth and Modernity: Cassirer's Critique of Heidegger in New German
Critique, No. 94, Secularization and Disenchantment (winter, 2005), p. 152.
عل دراسة فرضيّات
( )2مدرسة ماربورغ ( :)Marburg Schoolمدرسة نيوكانطيَّة يف الفلسفة تعمل بشكل رئيس ى
العلوم الطبيع َّية .وكان من بني أعضائها :هرمان كوهني (1918 - 1842م) ،وبول ناتروب (1924 - 1874م)،
املعرب.
وإرنست كاسرير ( 1945 - 1874م) .ه
( )3هرمان كوهني (1918 - 1842م) :فيلسوف وعامل أملاين ّ ،ى
تول إدارة جامعة ماربورغ ،وكان واحدا من أعضاء
املعرب.
مدرسة ماربورغ النيوكانطيَّة إ ىل جانب بول ناتروب وإرنست كاسرير .ه
(4) als dogmatisches Lehrsystem.
(5) eine Richtung der Fragestellung
(6) Heidegger, M and Cassirer, E, Davos Disputation between Ernst Cassirer and Martin
Heidegger in Kant and the Problem of Metaphysics, Translated by Richard Taft, Indiana
University Press: 1997, p. 193.
❖ 190دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
يتامهى
ى وبذلك يتمركز مرشوع الكينونة والزمان ليواصل السؤال عن الـ دازاينَّ .
إن كاسرير
مع هذا املرشوع ِّلايدغر ،كام ي َّتفق مع طريقة بيان هايدغر للـ دازاين والزمان واملكان
أن نواصل البحث يف ه
حمل افرتاق واختالف هذين وعل هذا األساس جيب ْ ى أيضا(.)1
عل مفهوم
عل الرغم من تركيزه ىبأن هايدغر ى إل االعتقاد َّ الفيلسوفني .يذهب كاسرير ى
الـ دازاينَّ ،إال أ َّنه ال ُيقده م لنا شيئا عن ماه َّية هذا الـ دازاين .بعبارة ُأ ى
خرى :ليس من الواضح
نفى مجيع أنواع النزعة الذات َّية إ ىل اإلنسان(.)2 لنا ما هو قوام الـ دازاين ،كام َّ
أن هايدغر قد ى
عل الرغم من اعتباره َّ
أن السؤال عن الوجود والكينونة إ َّنام كان يضاف إ ىل ذلك َّ
أن كاسرير ى
بتأثري كشف لوغوس منذ عرص اإلغريق بوصفه بناء ملسريُ ،يؤ ّدي به يف ّناية املطاف إ ىل
يرى
ويرى نفسه ضمن هذا املسار ،حيث يروم تقديم أرض َّية جديدة لفهمه وتفسريه ،ى
ى املثال َّية،
املعنى احلقيقي
ى أن مسار التفكري من عرص اإلغريق فصاعدا ُيم هثل انحرافا عن
هايدغر َّ
عل تنظيم مرشوعه يف ضوء مسار جديد.
للوجود ،ويعمل ى
إن هذا االختالف يف الرؤية هو الذي ُيؤ ّدي إ ىل لوازم خمتلفة يف جمال رؤية ه
كل واحد من َّ
إن كاسرير يف ُأسطورة الدولة يدافع هذين املف هكرين إ ىل األخالق والسياسة .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
عن مقولة :إ َّن مواجهة أفالطون ل ُ
ألسطورة ُمت هثل بداية للعقالن َّية التي ُتع هلمنا -يف مواصلة
مدى التاريخ -كيف َّية جتاوز الفردان َّية والنسب َّية املنبثقة من التعلق بأهوائنا
ى عل
مسارها ى
فإن هايدغر قد انتسب إ ىل عضو َّيةكل واحد( .)3وكام نعلم َّ وأن ننسجم مع ه وتعلقاتنا اجلزئ َّيةْ ،
وتم تنصيبه رئيسا جلامعة
مدى فرتة حكم احلركة الناز َّية يف أملانياَّ ،
عل ىاحلزب النازي األملاين ى
أن هذه القرارات من ِق َبل هايدغر قد َّ
متخضت عن رؤيته التقدير َّية هامبورغ أيضا .ويبدو َّ
جتاه انفتاح الوجود يف التاريخ .هذا يف حني َّ
أن كاسرير بعد ارتقاء هذا احلزب لسدَّ ة احلكم يف
أملانيا ،ترك هذا البلد قاصدا إنجلرتا كمح َّطة ُأو ىل ،لينتقل منها الحقا ه
ميمام شطر الواليات
(3) Gordon, P, E, Myth and Modernity: Cassirer's Critique of Heidegger in New German
(2) nomos
(3) Heidegger, M, Letter on Humanism in Basic Writings, edited and revised by David Farrell
إل ه
االجتاه التقديري ِّلايدغر نحو الوجودُ ،تؤ هدي إ ىل نقطة َّ
إن الرؤية االنتقاد َّية لكاسرير ى
عل تبلور اإلنسانُ ،يم هثل واحدا من ُأ ى
خرى .يذهب كاسرير إ ىل االعتقاد َّ
بأن تأكيد هايدغر ى
عل سهم فاعل يف بناء وإعادة صياغة
أي أمل باحلصول ى خصائصه األصل َّية .وأ َّنه قد ّ ى
ّتل عن ه
احلياة الثقاف َّية للبرش(.)1
وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
إن الـ دازاين بوصفه موجودا مقذوفا يف العامل ُيؤ هدي إ ىل طريق أخالقي
مسدود؛ أل َّنه يرتك إمكان َّية أي نوع من أنواع املسؤول َّية األخالق َّية أمرا من دون جواب .ويف
إل يتعرض كاسرير يف ُأسطورة الدولة يف ر َّدة فعله ى
عل الرؤية امليكافيل َّية ى هذا السياق َّ
السياسة ،قائال:
إن عليه ْ
أن خيتار مساره واحلظَّ ...
ه عل أمره من قبل البخت َّ
إن اإلنسان ليس مغلوبا ى
َّ
واحلظ عل هدايته ...فإذا مل يتم َّكن من االضطالع بمسؤول َّيتهَّ ،
فإن هذا البخت ويعمل ى
ّى
ويتخل عنه(.)2 سوف يسخر منه
يتجل معناها عندما يعترب الشخص نفسه يف سياق جريان ّى َّ
إن املسؤول َّية األخالق َّية إ َّنام
وعل هذا األساس يذهب ردود األفعال الواعية حارسا ِ
للق َيم البرش َّية واألخالق َّية الثابتة(.)3
ى
بأن حمدود َّية اإلنسان والشعور باإلحباط املنبثق عن إدراك هذه كاسرير إ ىل االعتقاد َّ
املحدود َّية ،يمكن النظر إليه بوصفه فرصة .وهي فرصة االلتفات إ ىل األمر َّ
الالحمدود
وإمكان االنفتاح عليه ،والعودة من األمر َّ
الالحمدود .ويف املقابل يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد
َّ
بأن الطريق الوحيد للخالص والنجاة من هذه املحدود َّية واالضطراب املنبثق عنها يكمن يف
الغفلة واإلعراض عنهاَّ .
إن الفرد املنترش (فردنا( ))4هو العنوان الذي ُيقده مه هايدغر لعدم
وعل الرغم من َّ
أن كاسرير يشرتك مع ى أصالة احلياة الـ دازاين َّية املحدودة امل َّتجهة نحو املوت،
(1) Cassirer, E, The Myth of the State, Yale University Press; 1946. P. 293.
عل ترمجة األُستاذ نجف دريابندرى لكتاب ( ُأسطورة الدولة) ،الذي ُيمل املواصفات
لقد اعتمدنا يف هذه الفقرة ى
اآلتية :كاسرير ،ارنست ،افسانهى دولت ،ترمجهى نجف دريابندری ،هتران ،خوارزمی ،1385 :ص .370
(2) Cassirer, E, The Myth of the State, Yale University Press; 1946. P. 160.
(3) Krois, Ibid: p. 155.
(4) Das Man
هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر ❖ 193
هايدغر يف نفي مجيع أنواع الفهم النوعي عن اإلنسانَّ ،إال أ َّنه يعتقد َّ
بأن الفرد احلقيقي كامن
يف الفرد َّية حيث جيب احرتامه؛ وهذه الفرد َّية ال تعني العزلة ،وإ َّنام يتم احلصول عليها يف
لكل شخص فردان َّيته التي ال تعني يف الوقت نفسه إن ه انضاممه إ ىل اجلمع .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
نفي املحدود َّية ،وإ َّنام حتصل هذه الفردان َّية من قناة املشاركة يف العامل االجتامعي (األخالقي)
أن ينشغل وينهمك يف إل اجلمع ،حيث ُّترجه من العزلة(َّ .)1
إن كاسرير قبل ْ واالنضامم ى
اجلزئ ّيات النظر َّية لتفكري هايدغر يف هذا القسمُ ،يبدي هواجسه جتاه لوازمها العمل َّية
عل نفي ُأ ُسس أهدافه النظر َّية
ونتائجها العين َّية؛ إذ إ َّن هذا النوع من الفلسفة يعمل ى
واألخالقية .وعليه يمكن ْ
أن تكون بمنزلة األداة املرنة والط هيعة يف يد الزعامء السياس هيني(.)2
* * *
:املصادر
Cassirer, E, The Myth of the State, Yale University Press; 1946.
Gordon, P, E, Myth and Modernity: Cassirer's Critique of Heidegger in New
German Critique, No. 94, Secularization and Disenchantment (winter, 2005), pp.
127 - 168.
Habermas, J, Work and Weltanschaung: The Heidegger Controversy from a
German Perspective inHeidegger: A Critical Reader, ed. Hubert L. Dreyfus and
Harrison Hall, Oxford: Blackwell, 1992: 186 - 208.
Heidegger, M, Being and Time, translated by Joan Stambaugh, State University
of New York Press, Albany: 2010.
Heidegger, M and Cassirer, E, Davos Disputation between Ernst Cassirer and
Martin Heidegger in Kant and the Problem of Metaphysics, Translated by Richard
Taft, Indiana University Press: 1997.
Heidegger, M, Davos Lectures in Kant and the Problem of Metaphysics,
Translated by Richard Taft, Indiana University Press: 1997.
Heidegger, M,Kant and the Problem of Metaphysics, translated by Richard Taft,
Indiana University Press; 1997.
Heidegger, M. Letter on Humanism in Basic Writings, edited and revised by
David Farrell Krell, Harper SanFrancisco: 1993.
Husserl, E, Psychological and Transcendental Phenomenology and the
Confrontation with Heidegger (1927 -1931): The Encyclopaedia Britannica Article,
The Amsterdam Lectures, Phenomenology and Anthropology, Translated and Edited
by Thomas Sheehan and Richard E. Palmer, Springer Science+Business Media
Dordrecg, 1997.
Krois, J. M, Cassirer's Unpublished Critique of Heidegger inPhilosophy and
Rhetoric, Vol. 16, No. 3 (1983), pp. 147 - 159.
Palmer, R, E, An Introduction to Husserl's Marginal Remarks in Kant and the
Problem of Metaphysics, in Psychological and Transcendental Phenomenology and
195 ❖ هورسل وكاسرير يف مواجهة هايدغر
* * *
عدم متاميَّة تفسري هايدغر للحقيقة األفالطونيَّة
()1
()2
(قراءة نقديَّة لرؤية أفالطون يف باب احلقيقة)
()3
سعيد بيناي مطلق
()4
س ِّيد جميد كاميل
اخلالصة:
إل متثيل
يعمد مارتن هايدغر يف رسالته رؤية أفالطون يف مسألة احلقيقة -من خالل الرجوع ى
يتعرض إ ىل معنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون َّ
ى كهف أفالطون -إ ىل القول َّ
بأن
عل سقراط من احلقيقة ،إ ىل احلده
إعادة جتسيد باملقارنة إ ىل ما كان يعنيه اإلغريقيون السابقون ى
الذي تنخفض فيه احلقيقة بوصفها أمرا غري مستور إ ىل احلقيقة بوصفها مسألة صدق أو
إل إثبات َّ
أن تفسري هايدغر للحقيقة عند أفالطون ال يشمل مطابقةّ .ندف يف هذه املقالة ى
نسعى -من خالل ى معنى احلقيقة .ومن هنا فإ َّننا
ى مجيع املنظومة الفكر َّية ألفالطون بشأن
الرجوع إ ىل بعض آراء أفالطون يف باب مثال اخلري ،ومثال اجلامل ،والوجود ،واحلقيقة أليثا -
ملعنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون.
ى إ ىل بيان بعض املوارد الناقضة لتفسري هايدغر
( )1املصدر :عنوان املقالة بالفارسيَّة« :نامتامى تفسري هايدگر از حقيقت افالطون؛ خوانشى انتقادى از آموزه افالطون
ِ
ألول ،السنة السابعة ،صيف عام 1395هـ ش. رشت يف جم َّلة :تاريخ فلسفة ،العدد ا َّ
در باب حقيقت» ،وقد ُن َ
تم
مبنى رسالة (رؤية أفالطون يف باب احلقيقة ِّلايدغر) ،فقد َّ
عل ىوحيث إ َّن أساس التحليل يف هذه املقالة يقوم ى
النص األملاين ِّلذه الرسالة وعنواّنا يف األصل ( )Platons Lehre von der Wahrheitاملنشورة
السعي إ ىل جعل ه
يف جمموعة ( )Wegmarkenمصدرا ِّلذه املقالة.
عيل مطر.
تعريب :حسن ّ
( )2أفالطون ،األعامل الكاملة ،ج ،3ترمجه إ ىل اللغة الفارسيةّ :
حممد حسن لطفي ،انتشارات خوارزمي ،طهران،
1367هـ ش.
(ُ )3أستاذ الفلسفة يف جامعة أصفهان ،له مؤ َّلفات يف فلسفة أفالطون واحلكمة اخلالدة.
مستوى الدكتوراة يف حقل الفلسفة من جامعة أصفهان (كاتب مسؤول).
ى عل
( )4طالب ى
❖ 198دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
نسعى يف الوقت نفسه إ ىل إثبات أ َّن مواجهة هايدغر ألفالطون تقليل َّية ،وأ َّن خفض
ى كام
جمرد الصدق واملطابقة قبل أ ْن يكون بشأن مصادر آراء أفالطون ينشأ من
معنى احلقيقة إ ىل َّ
ى
إرادة هايدغر نفسه من أجل تسمية كامل التاريخ الفكري للغرب باسم (امليتافيزيقا
الغرب َّية).
املقدّمة:
عل الرغم من َّ
أن هايدغر يبدأ كتابه الوجود والزمان بنقل نص من حماورة السفسطائي ،أو ى
مرة واحدة بشكل يكون له انعطافة يف بعض النصوص إ ىل أفالطونَّ ،إال أ َّنه َّ
يتعرض له َّ
رصيح فقط ،وذلك يف رسالة أفالطون يف مسألة احلقيقة(َّ .)1
إن التفاسري التي ُيقده مها هايدغر
قصة الفلسفة بعد أفالطون عبارة عن جمموعة عل االعتقاد القائل َّ
بأن َّ يف هذه الرسالة تقوم ى
معنى
ى املحرفة ملسائل ومضامني الفلسفة األفالطون َّية .ويف هذا الشأن ُيش هكل
َّ من األفهام
لدى أفالطون ،والتفسري الذي ُيقده مه هايدغر هبذا الصدد ،أرض َّية مناسبة لتقييم
ى
()2
احلقيقة
رأيه حول أفالطون بشكل خاص وحول تاريخ امليتافيزيقا بنحو عام.
عل دراسة مثال (كهف أفالطون).
يعمل هايدغر يف هذه الرسالة -بشكل خاص -ى
ويسعى يف هذا اإلطار -من خالل التدقيق يف مفاهيم من قبيل :اإلدراك والتمثل واملثال -
ى
معنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون .وهو يعمد إ ىل تعريف
ى إ ىل بيان إعادة قولبة
إل احلقيقة بوصفها مسألة صدق
إعادة القولبة هذه يف تقليل احلقيقة بوصفها أمرا غريخمفي ى
()3
عل َّ
أن تفسري نسعى إ ىل إثباهتا -ى
ى أو مطابقة( .)4تقوم الفرض َّية الرئيسة يف هذه املقالة -التي
(1) Heidegger, Martin (1975), ‘Platons Lehre von der Wahrheit‘, in Wegmarken, vittorio
klostermann.
(2) Alethia
(3) unverborgenheit/unhiddenness.
للمرة األُو ىل يف درسه يف املقطع الشتوي (عام- 1924 :
خفي َّ
ٍّ ( )4لقد قدَّ م هايدغر تفسريه للحقيقة بوصفها أمرا غري
اهتم هايدغر بتحليل الكتاب السادس ألخالق َّ 1925م) حتت عنوان( :سفسطة أفالطون) .ويف هذا الدرس
املفِّسين -ومن بينهم (إنريكو بريت) -إ ىل االعتقاد َّ
بأن مواجهة هايدغر مع نيقوماخوس .ومن هنا يذهب بعض ه
أفالطون ،والس ّيام تفسريه للحقيقة األفالطون َّية ،تأت متأ هثرة بقراءته للكتاب السادس ألخالق نيقوماخوس.
عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ 199
معنى
ى لدى أفالطون بشأن
هايدغر للحقيقة عند أفالطون ال يشمل مجيع املنظومة الفكر َّية ى
نسعى -من خالل الرجوع إ ىل بعض آراء أفالطون يف باب مثالى احلقيقة ،ومن هنا فإ َّننا
اخلري ،ومثال اجلامل ،والوجود ،واحلقيقة (أليثا) -إ ىل بيان بعض املوارد الناقضة لتفسري
ملعنى احلقيقة يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون.
هايدغر ى
عل بيان العنارص األساس َّية يف رسالة رؤية
وسوف نعمل يف هذا اخلصوص َّأوال ى
أفالطون يف باب احلقيقة ِّلايدغر ،لننتقل بعد ذلك إ ىل بيان االنتقادات التي يمكن طرحها
عل تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية.
ى
( )3جانسون ،باتريشيا ،راه مارتني هايدگر (طريق مارتن هايدغر) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :السيهد ّ
حممد كامل،
ص .73
❖ 200دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Idem, Heidegger, Martin (1975), Platons Lehre von der Wahrheit, in Wegmarken, vittorio
klostermann, p. 125.
(2) Ibid. p. 220.
(3) Ibid. p. 218.
(4) Ibid. p. 225.
يرى يف جواب سؤال وهنا ر َّبام ال خيلو ذكر هذا التوضيح من فائدة ،وهو َّ
أن تئيتوس يف حماورة تئاتوس ألفالطون ،ى
أن املعرفة نوع من اإليامن واالعتقاد ( )doxazeinبيشءَّ .
إن هايدغر من خالل تفسري سقراط عن ماهيَّة املعرفة َّ
فِّس الـ ( )doxazeinبـ امتالك مشهدات رؤية عن أو بشأن
اخلاص ملفهوم الـ (ُ ،)ansicht / opinion / viewي ه
ه
بمعنى اإليامن
ى يشء ،وهو اليشء الذي يظهر نفسه بوصفه هذا أو ذلك اليشءَّ .
إن املفردة األملان َّية ()ansicht
أن يكون ناظرا إ ىل رؤيتنا لليشء ،ومن جهة ُأ ى
خرى معنى مبهم وذي حدَّ ين .فهو من جهة يمكن ْ
ى عل
واملشهد حتتوي ى
أن يكون بشأن املشهد الذي يبديه اليشء عن نفسه .يستفيد هايدغر من هذا اإلهبام ليثبت بذلك َّ
أن معرفتنا يمكن ْ
ِ االعتياد َّية لألشياء يستلزم امتالك مشهد ه
واجتاه خاص من قبَلنا بشأّنا ،كام يستلزم ْ
أن يكون لذات األشياء مشهد َّية
عل إظهارها لنا بوصفها شيئا.
خاصة وتعمل ى
َّ
عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ 203
نظر هايدغر هنا يكمن منشأ االنحراف األفالطوين .يف رأي أفالطون:
إن األمر الواضح وغري املستور يتم احلصول عليه يف البداية وبشكل رصف بمثابة َّ
عرف( )1يف الفعل املعريف(.)3()2
فهم بمثابة ما ُي َ
دركه املثال و ُي َ ما ُي ِ
وعل هذا األساس يتم
ى فإن عدم اخلفاء إ َّنام يتح َّقق من طريق الرؤية بالرضورة،
ومن هنا َّ
تسجيلها يف النسبة إ ىل الرؤية وتبعا ِّلا(.)4
فإّنا تشمل املفهوم َّ
إن هذه النسبة تشمل مجيع أبعاد ومستويات احلقيقة ،وبالتال َّ
األول ألفالطون من مثال مجيع األفالطوين للخري (آجاتون)( )5أيضا .يزعم هايدغر َّ
أن املراد َّ
األمثلة ،هو «إمكان َّية الظهور الشامل لألمر احلارض بحيث ُمتكن رؤيته من مجيع جوانبه»(.)6
يرى َّ
أن الرتمجة األص ّح لـ (آجاتون) هو األمر املناسب( )7دون الـ خري(.)8 ومن هنا فإ َّنه ى
معنى
ى معنى أخالقي ،وإ َّنه يف جزء منه -بطبيعة احلال -يفيد
ى عل
إن اخلري ُيتوي ضمنا ى َّ
املعنى؛ وذلك َّ
ألن هذا ى الـ (آجاتون)َّ ،إال َّ
أن الـ (آجاتون) يف حده ذاته أكثر جتذرا من هذا
فإن أنسب ظهور يكمن يف جت ّليه املفهوم «يدفع َّ
كل أمر واضح إ ىل الظهور ،ويف نفسه َّ
وإمكان َّية رؤيته»(.)9
عل النحو اآلت:
املرصح به ملثال الغار ،ى
َّ عل تلخيص املفهوم غري
يعمل هايدغر ى
إن املثال أصل يكشف عن
إن أفالطون من خالل قولهَّ :
إن احلقيقة تنقاد إىل املثالَّ ،
َّ
فإن ذات احلقيقة
عدم اخلفاء ،يعمل عىل نفي [احلقيقة] إىل داخل املسكوت ،وعندها َّ
(1) gignoskein
(2) gignoskomenon
(3) Ibid.
(4) Ibid. p. 225.
(5) to agathon
(6) Ibid.
(7) tauglich / the suitable.
(8) The Good / das Gute.
(9) Ibid. p. 226.
عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ 205
ال تنكشف عن متام َّية الذات التي تقتضيها ،وإ َّنام تسكن يف ذات املثالَّ .
إن ذات احلقيقة
خصيصة عدم اخلفاء اجلوهر َّية(.)1
تعرض عن ِّ
إن للحقيقة بوصفها صفة لقض َّية بالقياس إ ىل احلقيقة بوصفها صفة لعدم خفاء الكائنات َّ
إن الكائنات يف الوهلة األُ ى
ول جيب ْ
أن يكون ِّلا وجود بنحو وجها ثانو ًّيا .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
خاص ،ح َّت ىى يمكن بيان القضايا الصادقة بشأّنا .بيد َّ
أن أفالطون ينقل احلقيقة من نمط
يتم حتديد االنتقال من مرحلة
كينونة األشياء إ ىل نمط ظهور هذه األشياء .ويف مثال الغار مل ّ
خرى بواسطة عدم اخلفاء البحت ،بل يتم حتديد ذلك بنوع من الصدق إ ىل مرحلة ُأ ى
صحة تطابق رؤيتنا املعرفية مع التج ّليات اخلارج َّية ملختلف
والتطابق؛ وهو املعيار الذي ُيق هيم َّ
عل النحو اآلت:
املراحل .وقد عمد هايدغر إ ىل بيان نتيجة هذا التغري يف الرؤية ى
...يتم تبد ل رؤية ومعرفة اليشء الصحيح والصادق ،بحيث إ َّن هذا الصدق
يرتقي دون إبطاء إىل أسمى مثال ،ويكتسب التعني يف هذا التطابق واالنسجام .وهذا
هو ي
ّتل وظهور الكائنات(.)2
تتحول احلقيقة إ ىل الصدق( )3والتطابق( )4بني املعرفة واألمر املتح َّقق(.)5
َّ ويف ّناية املطاف
أن أفالطون قد عمد إ ىل:إن عدم اخلفاء بمعناه البحت ال يزال حارضاَّ ،إال َّ
َّ
نقل مكانه من ي
ّتل ظاهر (املوجود) وبمع َّيته إىل الرؤية املالزمة هلذا الظاهر ،ومن
هذا الطريق نقله إىل دائرة صواب َّية وصدق الرؤية(.)6
إن الذي يسمح له أفالطون يف الوهلة األُو ىل باخلروج من عدم اخلفاء: َّ
سميه مثاالً ،-عبارة عن
حس َّية -و ُي ي
تتجىل بواسطة رؤية غري ي ي ُأمور فوق ي
حس َّية
وجود كائنات ال يمكن إدراكها بواسطة البدن(.)7
إن هذا التبديل األفالطوين الضمني الذي يتح َّقق يف ذات احلقيقة ،يعمل ى
عل تعني كامل َّ
لدى الغرب .يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء قائال:
الرتاث العقالين ى
يتحول إىل معيار
َّ إن إثبات ذات احلقيقة بام هي صدق تصورات (إظهار) القضايا،
َّ
جلميع األفكار الغرب َّية(.)1
إل
عل الدائرة الفلسف َّية .ويذهب هايدغر ى هذا يف حني َّ
أن هذه الفهم للحقيقة ال يقترص ى
االستنتاج قائال:
تم تثبيت هذا التبدل يف ذات احلقيقة منذ فرتة طويلة ،وال يبدو األمر غري ...لقد َّ
كل يشء يف تاريخ العامل وصوالً إىل آخر املرحلة
متأصلة تسود َّ
متعارف ،فهي واقع َّية ِّ
املعارصة(.)2
ترسخ هذا التبدل األفالطوين من احلقيقة بوصفها عدم خفاء إ ىل احلقيقة بوصفها
وهكذا َّ
تطابقا بني حتقق الظهور مع ظاهر الكائنات ،إ ىل داخل مجيع أبعاد ومستويات حياتنا ،بام يف
ذلك حياتنا التكنولوج َّية أيضا.
3 - 1عدم اخلفاء وانتقاد هايدغر لنظر َّية املعرفة األفالطون َّية:
إل ِ َّ
صحة ترمجة هايدغر لكلمة ألثيا ى عل َّ
إن الباحثني يف حقل التفكري اليوناين ال ُجيمعون ى
نتعرض إ ىل ذلك
يتجل نقد فريدلندر جا ًّدا للغاية ،وسوف َّ ّى عدم اخلفاء .ويف هذا الشأن
()3
p. 137.
اخلصيصة اجلوهر َّية لعدم اخلفاء يف الفهم امليتافيزيقي للحقيقة ،ومع حتوِّلا
بسبب الغفلة عن ه
جمرد الصدق والتطابق ،يتم طرد احلقيقة من منزِّلا احلقيقي املتم هثل بذات الكائنات
إ ىل َّ
عل تفسري أحد
واملوجودات ،لتسكن يف القضايا التي تتحدَّ ث عن املوجودات .وهذا -بناء ى
املختصني برشح هايدغر -هو التأثري التارخيي الذي يتحدَّ ث عنه هايدغر بوصفه حتريفا
ه
وانحرافا( .)1طبقا الفرتاضنا يف هذا املقال ال ُي َعد فهم هايدغر للحقيقة األفالطون َّية تا ًّما،
فإن حكمه بشأن احلقيقة عند أفالطون يواجه بعض اإلشكاالتَّ .
وإن هذا اال هدعاء هو وعليه َّ
عل أساس مخسة هاجتاهات نقدية ،وهي
نسعى إ ىل بيانه يف قسم نقد تفكري هايدغر ،وذلك ى
ى ما
كاآلت:
1 - 2احلقيقة عند أفالطون ليست بمعنى التطابق فقط:
يف مقام نقد تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية يمكن لنا اال هدعاء بأ َّننا يف املنظومة
الفكر َّية ألفالطون -يف مواجهتنا للموجودات -نواجه شيئا يتخ ّط ىى َّ
جمرد اإلدراك واملعرفة
إن مواجهة األشكال واألجسام اجلميلة وسلوك الطريق ح َّت ىى الصحيحة واملتطابقة معهاَّ .
األدنى -
ى عل ما ُيثبِته أفالطون يف حماورة املأدبة يف احلده
الوصول إ ىل مثال اجلامل يفتح -ى
عى.
طريقا نحو بيان هذا املدَّ ى
ُيثبِت أفالطون يف حماورة املأدبة أ َّنه ى
عل الرغم من َّ
أن اللقاء مثال اجلامل ،نتاج الـ نوس
عل هذا اللقاء يتم َّثل يف التجربة التي تبدأ واملثالَّ ،إال َّ
أن الطريق الوحيد حلصول الشخص ى
وتتسامى بالتدريج وتغدو أكثر صفاء وخلوصا .وبعبارة
ى ثم تتعا ىل
برؤية األشكال اجلميلةّ ،
األدنى -
ى ْ
(وإن مل يكن كافيا) لفهم أحد األمثلة -يف احلده إن اجلسد رشط رضوري ُأ ى
خرىَّ :
وهو مثال اجلامل .يقول أفالطون يف حماورة املأدبة:
ب رساج ًا حيكي عن أنواع اجلامل األريض ،وكذلك إذا إن الذي جيعل من ُ
احل ِّ َّ
جعل من اجلامل ُس َّل ًام يصل بواسطته إىل اهلدف والغاية درجة درجة ،عندها سوف
يصل من اجلامل إىل مجالني ،ومن هناك يصل إىل مجال اجلسم والبدن ،وبشك ٍل ٍّ
عام
(1) Bernasconi, Robert (1989), The Question of Language in Heidegger’s History of Being,
يصل من هناك إىل مجال األخالق والسلوك احلسن أيض ًا ،وحيث ينتقل من هذه
املرحلة سيصل إىل مجال العقل واحلكمة ،ومن مجال العقل واحلكمة ،يصل إىل مجال
معرفة املطلق َّ
والالّنائي ...يا سقراط العزيز! عندها ستكون الدنيا مكان ًا مناسب ًا حلياة
اإلنسان ،أي عندما يتم َّكن اإلنسان من مشاهدة ذات اجلامل بنفسه(.)1
األدنى من
ى أن الوصول إ ىل مرحلة لقاء اجلامل ال يمكن َّإال بعد جتربة املراحل
من الواضح َّ
اجلامل والتي يمكن إدراكها بواسطة األجسام .وعليه بااللتفات إ ىل أ َّننا كائنات جسامن َّية َّ
فإن
بمعنى
ى حيس لألشياء اجلميلة،
جمرد إحساس وإدراك ّ جزءا من كامل جتربتنا للكامل هو َّ
يرى أفالطون َّ
أن من وعل هذا األساس ى
ى اخلطوة األُو ىل نحو الصعود إ ىل رؤية اجلامل املطلق.
احليس لألشكال
بني التجارب الالزمة والرضور َّية للتعا ىل نحو مثال اجلامل هو اإلدراك ّ
واألشياء اجلميلة ،ومن ناحية ُأ ى
خرى َّ
فإن منشأ اجلامل يف األشكال اجلميلة هو املثال اجلميل.
إ ىل هنا يتم تأييد رأي هايدغر .ولكن علينا االلتفات إ ىل َّ
أن املسار الذي يرسمه أفالطون
إل اإلدراك والفهم املتطابق مع األشياء ،يشمل العشق
عل لقاء اجلامل ،باإلضافة ى
للحصول ى
األدنى يف مورد عشق
ى احلقيقي لألشياء واألجسام اجلميلة أيضاَّ ،
إن هذا العشق -ويف احلده
احليس.
أسمى من اإلدراك ّ
ى اإلنسان اجلميل -يشء
أن هايدغر ُيق هلل هذا اللقاء -الذي يغدو ممكنا بواسطة األمثلة -إ ىل املفاهيم التي
يبدو َّ
تتحول احلقيقة إ ىل التطابق البحت بني اإلظهار (التمثيل)
َّ احليس .وهكذا
نصنعها بإدراكنا ّ
أن أفالطون نفسه ال يعمل ع ىلوالشكل الظاهري لليشء الذي يتم إدراكه .هذا يف حني َّ
األدنى) ،وبيان هذه
ى تعريف النسبة بني التجربة احلاصلة من األمثلة (مثال اجلامل يف احلده
إن مشاهدة احليس .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ : التجربة بام هي انطباق وصدق بني القضايا واإلدراك ّ
احليس الصحيح واملتطابق .وبذلك يمكن
جمرد اإلدراك ّ
أسمى من َّ
ى مثال اجلامل يستلزم شيئا
جمرد تطابق مدركاتنا مع ظواهر األشياء
عل َّ أن نستنتج َّ
أن احلقيقة عند أفالطون ال تقترص ى لنا ْ
يف دائرة القض َّية.
عيل فروغي. ( )1أفالطون ،ضيافت (املأدبة) ،ص ،50ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّيةّ :
حممد ّ
عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ 211
أن اخلري ينقل انفتاحه إ ىل حد ما إ ىل سائر املُ ُثل مصدر لوجود سائر املُ ُثل .كام ُيؤ هكد ى
عل َّ
خرى :إذا كانت احلركة أو اخلفاء وعدم اخلفاء الذات خريا ،فعندها لن خرى .وبعبارة ُأ ى األُ ى
أي بيان أو تفسري قطعي بشأن اخلري .ويف مثل هذه احلالة يبدو َّ
أن يكون من املمكن تقديم ه
أن املُ ُثل
يرى غادامري َّ إن احلركة ستكون ذات َّية بالنسبة إ ىل املُ ُثل األُ ى
خرى .ى باإلمكان القولَّ :
املتعالية ،من قبيل :الوجود والعدم ،احلقيقة واجلامل ،وما إ ىل ذلك ،هي ُم ُثل اخلري ،أي ُمت هثل
إن هذه املُ ُثل ليست متع َّلقا حمضا للنظرية أبدا ،وإ َّنام هي ُأصول
والسموَّ .
ه نوعا من التعال
( )1هانز جورج غادامري ( 2002 - 1900م) :فيلسوف أملاين .اشتهر بعمله الشهري( :احلقيقة واملنهج) ،وكذلك
املعرب.
بتجديده يف النظر َّية التفسري َّية (اِّلرمنيوطيقا) .ه
(2) ontological difference
(3) Wachterhauser, B. (1999), Beyond Being, Gadamer’s Post.Platonic Hermeneutic
(4) Gadamer, Hans – Georg (1986), The Idea of the Good in Platonic – Aristotelian
(1) aporia
(2) Ibid. pp. 265 - 266.
(3) Zeit und Sein.
(4) Sein ohne das seiende / being without beings
عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ 215
إن الوجود والزمان يتع َّينان بحيث يقابل أحدها اآلخر(َّ .)1
إن إفالطون يف وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
يرى َّ
أن املايض واملستقبل املتحركة لألبد َّية .وهو ى
ه سمي الزمان بـ الصورة
حماورة تياموس ُي ّ
أن ننسبهام إ ىل الوجود الِّسمديَّ .
إن الوجود الِّسمدي ثابت أجزاء من الزمن ،وال يصح َّ
عل ما هو عليه ،ومن هنا ال يكون عرضة ألي من احلاالت التي ُتؤ هثر
ويبقى ى
ى متحرك
ه وغري
يرى الوجود بمعناه املتحركة واملحسوسة .وبعبارة ُأ ى
خرى :إ َّن أفالطون ى
()2
ه عل األُمور
ى
يرى الوجود منفصال عن الزمن ،يف حني َّ
أن هايدغر باملرة ،فهو ى
احلقيقي معزوال عن الزمان َّ
يرى الوجود زمن ًّيا بالكامل.
ى
أي الرأيني هو الصحيح؛ َّ
ألن هذا خارج عن موضوع هذا املقال .وإ َّنام لسنا هنا بصدد بيان ه
إل
بحثنا يدور حول بيان االختالف اجلوهري بني هايدغر وأفالطون بشأن الوجود ونسبته ى
عل أفالطون: الزمانَّ .
إن هايدغر من خالل تفسريه املختلف للزمان ،يقول يف االعرتاض ى
تأمل منذ البداية يف الوجود بمعنى احلضور يف عدمإن التفكري الوحيد الذي ََّّ
اخلفاء ،يمكنه اعتبار حضور األُمور احلارضة بوصفها مثاالً(.)3
عل احلضور -بااللتفات إ ىل قرب هذه املفردة من الزمان -يف مواجهة َّ
إن تأكيد هايدغر ى
تفكري أفالطون ،ال صلة له برؤية أفالطون يف حقل الزمان ،أو بعبارة أفضل :ال مكان
عل هايدغر
وعل هذا األساس كان ىى للزمان بوصفه حضورا يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون.
بدال من التعرض إ ىل ما مل يقله أفالطون ْ
أن يأخذ بنظر االعتبار الفهم املختلف ألفالطون
عن الوجودَّ .
إن هايدغر يف تفسريه للحقيقة ونسبتها إ ىل الوجود يف تفكري أفالطون ينسب
أي موقع يف املنظومة الفكر َّية ألفالطون.
موارد إ ىل أفالطون ليس ِّلا َّ
5 - 2ليس لتفسري هايدغر لـ ألثيا اعتبار مطلق:
لقد وجد باول فريدالندر( )4يف تفسري هايدغر للحقيقة ما يستحق النقد من عدَّ ة جهات،
(1) Heidegger, Martin (2007), Zeit und Sein in Zur Sache des Denkens, vittorio klostermann,
p. 28.
( )2سلسلة أعامل أفالطون.1847 ،
(3) Heidegger, Martin (2007), Ibid, p. 17.
(4) Paul Friedlaender.
❖ 216دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
( )1هومريوس (حوال القرن الثامن قبل امليالد) :شاعر ملحمي إغريقي ُأسطوريُ ،يع َتقد أ َّنه مؤ هلف امللحمتني
بأن هومريوس شخص َّية تارخي َّيةَّ ،إال َّ
أن الباحثني القدامى َّ
ى اإلغريقيتني( :اإللياذة) و(األُوديسة) .وقد آمن اإلغريق
ويرى (مارتن وست)
ى املتأخرين ُيش هككون يف ذلك؛ إذ ال تتو َّفر ترمجات موثوقة حلياته باقية من احلقبة الكالسيكية.
ه
املعرب.
جمرد اسم خمتلق .ه َّ
أن هومريوس ليس اسام لشاعر تارخيي ،وإ َّنام هو َّ
صور عرص حكم
( )2هسيودوس أو هسيود أو هزيود (ما بني القرن الثامن والسابع قبل امليالد) :شاعر إغريقي شهريَّ ،
االرستقراط َّية يف بالد اإلغريق .وقد أمدَّ تنا األشعار التي نظمها ببعض املعلومات الضئيلة عن نسبه وأصله
وشخص َّيته .كتب هسيودوس العديد من األسا طري واألناشيد والقصائد يف العصور القديمة ،وكانت أعامله بمثابة
املعرب.
مرجع للتاريخ ،وكانت له أعامل خالدة .ومن قصائده( :األعامل) ،و(األ ّيام) ،و(أنساب اآلِّلة) .ه
(3) Inwood, Michael (1999), A Heidegger Dictionary, Blackwell Publishers Ltd,pp. 14 - 15.
(4) Ibid.
عدم متام َّية تفسري هايدغر للحقيقة األفالطون َّية ❖ 217
االستنتاج:
يسعى إ ىل إثبات
ى ملعنى احلقيقة عند أفالطون
ى واخلاص
ه إن هايدغر من خالل فهمه التقلييل َّ
أن الوجود حيث تكون له نسبة إ ىل احلقيقة فإ َّنه رؤيته بشأن الك ّل َّية امليتافيزيق َّية ،فهو ى
يرى َّ
جمرد املطابقة يتم تصور الوجود واملوجود شيئا واحدا ،وبذلك يتم
بسبب تقليل احلقيقة إ ىل َّ
جتاهل االختالف بني الوجود واملوجود طوال تاريخ الفلسفة ،والتبعة يف ذلك ك هله تقع ى
عل
عاتق أفالطون .إ َّنه من خالل تسمية هذه القض َّية التارخيية بـ التحريف األفالطوين -رغم
ه
املتأخرة من تفكريه جرب َّية وتابعة إ ىل الطريقة التقدير َّية اعتباره هذا التحريف يف املرحلة
وعل هذا األساس
ى عل طرح مفهوم التخريب امليتافيزيقي. النكشاف الوجود -يعمل ى
معنى احلقيقة عنده.
ى ه َّية بحث قراءة هايدغر آلراء أفالطون ،والس ّيام
تتضاعف أ ّ
عل عنارص تفسري هايدغر ،يغلب هذا الظن طبقا لالنتقادات التي قدَّ مناها يف هذا املقال ى
عل آراء أفالطون.
أن هايدغر يف تفسري أفالطون مل يكن يمتلك إطاللة شاملة وكاملة ىالقوي ع ىل َّ
اخلاصة
َّ إل نتيجة مفادها َّ
أن حصيلة القراءة ومع ذلك َّ
فإن هذا اال هدعاء ال ُيؤ هدي بالرضورة ى
أي صلة بآراء هذا الفيلسوف اإلغريقي .بل يمكن القول أيضا: ِّلايدغر عن أفالطون ليس ِّلا َّ
خرى واخلافية من فلسفة أفالطون.
أل ىتتجل إمكان َّية تظهري النواحي ا ُ
من خالل تفسري هايدغر ّ ى
عل ا هدعاء هايدغر ر َّبام كان أفالطون قد شكَّ ل بداية االنحرافات التي ومع ذلك فإ َّنه بناء ى
أن هذا اال هدعاء ال ُي ِثبت َّ
أن املفاهيم الفلسفية ومن شخصها هايدغر يف تاريخ فلسفة الغربَّ ،إال َّ
َّ
تعرضت للجنوح بينها مفهوم احلقيقة والوجود يف ذات املنظومة الفكر َّية ألفالطون قد َّ
األدنى -مل ُيقده م يف هذا الشأن أد َّلة ُتؤ هيد هذا اال هدعاء بشكل
ى واالنحراف ،أو َّ
أن هايدغر -يف احلده
ملعنى احلقيقة والوجود
إل فهم حمدود وتقلييل ى فإن ذهاب الفالسفة ال َّالحقني ى
رضوري ومنطقيَّ .
إل هذا الفهم املحدود ِّلذه املعاين أيضا .ومن
أن أفالطون نفسه كان يذهب ى ال يستلزم بالرضورة َّ
جمرد
إل َّ
معنى احلقيقة ى
ى وإن خفض أن مواجهة هايدغر ألفالطون تقليل َّيةَّ ، هذه الناحية يبدو َّ
الصدق واملطابقة قبل ْ
أن تكون بشأن مستندات آراء أفالطون إ َّنام تنشأ من إرادة هايدغر نفسه من
أجل تسمية جممل التاريخ الفكري الغرب بوصف امليتافيزيق الغرب ،وهو التاريخ الذي عجز -
بزعم هايدغر -منذ أفالطون فالحقا عن مواجهة احلقيقة بوصفها عدم اخلفاء.
* * *
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب218
:املصادر
.عيل فروغي ّ : ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة،50 ص،) ضيافت (املأدبة،أفالطون
ّ حممد
ّ : ترمجها إ ىل اللغة الفارسيَّة، األعامل الكاملة،أفالطون
حممد حسني لطفي
: جم َّلة،) جايگاه اخالق در هرمنوتيک گادامر (مكانة األخالق يف هرمنيوطيق غادامري، زهراء،زينيل مهرآباد
.134 - 129 ص،13 : العدد،)پژوهشهاي فلسفي (أبحاث فلسفيَّة
Heidegger, Martin (1975), ‘Platons Lehre von der Wahrheit‘, in Wegmarken,
vittorio klostermann.
Heidegger, Martin (1962), Being and Time, translated by Macquarrie, John &
Robinson, Edward, San Francisco: Harper.
Heidegger, Martin (1982), On the Way to Language, translated by D. Hertz,
Peter, San Francisco: Harper.
Sadler, Ted (1996), Heidegger and Aristotle: The Question of Being,
Humanities Press.
Bernasconi, Robert (1989), The Question of Language in Heidegger’s History
of Being, Humanities Press.
Wachterhauser, B. (1999), Beyond Being, Gadamer’s Post.Platonic
Hermeneutic Ontology, Evanston, Northwestern University Press.
Gadamer, Hans – Georg (1986), The Idea of the Good in Platonic – Aristotelian
Philosophy, New Haven, Yale University Press.
Lonescu, Cristiana, A Theory of Virtue: Excellence in Being for the Good, in
Dialogue, Vol 49, Issue 2, 2010,.
J. Gonzalez, Francisco (2009), Plato and Heidegger: A Question of Dialogue,
Philadelphia: Penn State Press.
Heidegger, Martin (2007), Zeit und Sein in Zur Sache des Denkens, vittorio
klostermann.
Inwood, Michael (1999), A Heidegger Dictionary, Blackwell Publishers Ltd.
* * *
مصطلح األصالة :مدخل إىل نقد ماركسي هلايدغر
()2()1
()3
غريي ستال
مهمة استئصاِّلا .واألصالة تعبري خاص يف اللغة مصطلح األصالة آفة اجتامع َّية ّ ى
تول أدورنو َّ
االصطالح َّية املشرتكة بني هايدغر وعدد من السياس هيني َّ
والالهوت هيني والعقائد هيني املحافظني.
انتزع هذا املصطلح من قضايا االستياء االجتامعي ،وذلك من خالل إعطاء الشعور املعارص
بالقوى
ى معنى صياغة غري تارخي َّي ة .فكتابات هايدغر التي حتاول إخفاء عالقاهتا امللتبسة َّ
بالال ى
بعدوى اإلقحام األيديولوجي لأللفاظ التي
ى الرجع َّية املوجود َّية فقط( ontical )4مصابة
بأن عبارة أصالة ُمت هثل
هترب هايدغر من مسؤول َّية الزعم املوروث َّ
عل الغموض .لقد َّ
تزدهر ى
عقيدة إجياب َّية باحلياة الكريمة عندما أ َّكد أ َّنه يستعمل الكلمة بوصفها مصطلحا تقن ًّيا خاليا من
كل مبادئ معنى املزعوم للحياة ُيلغي َّ بأن َّ
الق َيم ،ح َّت ىى أثناء استغالل سحرها .واالعتقاد َّ ِ
الال ى
معني .فكتاب أدرنوكيف َّية العيش ،ال ُيؤ هدي يف الواقع َّإال جلذب الناس إ ىل ُأسلوب عيش َّ
()5
ُُي هلل هذه العمل َّية التي تتم َّكن مفاهيم اللغة االصطالح َّية بموجبها من توفري ذريعة للتعامل
( )1املصدر:
Gerry Stahl. “The Jargon of Authenticity: An Introduction to a Marxist Critique of
عندما كنت يف هيدلربغ( )2أدرس الفلسفة األُوروب َّية السائدة يف عرصي ،وهي فلسفة مارتن
عل الفور ،والواضح أ َّنه
عل كتاب أدورنو األزرق الرفيع فأثار اهتاممي ى
هايدغر ،وقع نظري ى
أهم نقد متاح ِّلايدغر .يف احلقيقة كان مم َّيزا يف هذا املجالَّ ،
ألن الدراسة اجلدّ َّية كان ُيوي ّ
متعذرة بسبب السياقات السياسية التي ُق ِر َئت فيها ،وكذلك بسبب ه لكتابات هايدغر كانت
مهمة التفسري غري النقدي،
غموض النصوص .ففي حني كان بعض أتباع هايدغر يتابعون َّ
كان الوضعيون يستهزئون هبايدغر ويعتربونه تافها ،وكان املاركسيون خيلطون بينه وبني
مفِّسون آخرون.
عل دمج املقاصد التي أخطأ يف فهمها ه
سارتر .لكن أدورنو عمل ى
يتعامل أدورنو مع فكر هايدغر بجدّ َّية ،وبطريقة مثمرة بشكل خاص ،ونقد َّية لكن ليس
بإيامن ،و ُي هبني َّ
أن ابتكاراته الفلسف َّية تتناقض مع النتائج االجتامع َّية لتعقيداهتا.
سعيت لرتمجة نقد أدورنو للجمهور األمريكي ،اقرتحت طباعته يف
ُ عندما
املتطورة فوق
ه أن وجدت َّ
أن األملان َّية ،Northwestern University Pressوبعد ْ
الالحقون هبا للحفاظ أن أبالغ يف تقدير املهارة التي عمل املرتمجون َّ
قدرات ،فإ َّنني أستطيع ْ
عل مجال ومضمون ما كتبه أدورنو .وعندما رجعت إ ىل أملانيا كان كتاب Jargonبرفقتي،
ى
ثم ازداد اهتاممي وانضمت إليه ُك ُتب أدورنو األُ ى
خرىّ ، َّ ورسعان ما أخذ مكانه يف مكتبتي
وحسه اجلامل .ويف حماولتي الراهنة لفهم وتقييم البديل الذي
ه بفكره الفلسفي ونقده الثقايف
عرفه ماركس وهايدغر يف الفلسفة األملان َّية ما بعد اِّليغل َّية ،ما زال كتاب أدورنو يلعب الدور
َّ
املركزي.
عل تطوري الفكري ،كان ملوضوعه َّ
إن كتاب Jargonالذي ترك بعض التأثري العريض ى
عالقة َّأول َّية بالعمل الذي ُيش هكل ثمرة عمر أدورنو .لذلك عوضا عن حماولة إعادة صياغة
كتاب أدورنو ،وبالتال إخفاء ما هو فريد فيه ،فإ َّنني س ُأراجع يف هذا املقام السياق األوسع
وهو عالقة أدورنو هبايدغر ،وس ُأشري إ ىل املنظور غري التقليدي الذي اضطلع به أدورنو طوال
نشاطه النقدي ،كام س ُأشري إ ىل مركز َّية نقد أدورنو.
فنومنولوجيا هِّسل وصيغ ببعض املصطلحات الديالكتيك َّية يف كتاب ما بعد نقد نظر َّية
املعرفة( .)5()1956()4الذي يعالج ُأصول عدد من املشاكل التي أشار إ ىل وجودها أدورنو
(1) Horkheimer
(2) Benjamin
للمثال َّية قد ظهرت من خالل طريقته املنهج َّية وعرضه يف الوجود والزمن؛ لقد فهم أدورنو
إل الذات َّية املحضة. َّ
أن اِّلروب باعتزاز من ميتافيزيقا الذات -املوضوع هو حتول ى
َّ
إن بحث أدورنو حول فكرة التاريخ الطبيعي ( ،)6()1932الذي صدر بعد عام ،يدرس
عل الفور -باعتباره
مفهوم التارخيان َّية عند هايدغر -وهو بحث يثري العصب املاركيس ى
مالءمة كاذبة بني التاريخ والطبيعة ،وبني الكيانات األبد َّية واحلقائق اإلمكان َّية .فالنظر َّية
التارخي َّية األنطولوج َّية ال تستطيع إنجاز تفسري كاف للوجود َّإال إذا ّت َّلت عن التوجه نحو
الكيانات اإلمكان َّية لصالح تفسريات ُأصول َّية لواقع َّية املوجودات من حيث تعيناهتا ضمن
التاريخ االجتامعي املا ّدي.
ثالث ًا :أ َّن كتاب ُأطروحة حول لغة الفيلسوف ألدورنو ( )1()1930ينتقد ابتكارات
يرى أدورنو يف حتليله َّ
أن هايدغر اللغو َّية جلهة التفكري بالرشوط التارخي َّية للكتابة الفلسفية .ى
َّ
استغل االبتكار يف اللغة االصطالح َّية عند هايدغر يفر من التاريخ لكنَّه ال يفلت منه .فقد
وأعطى املفاهيم
ى املستوى مفرتضا ِّلا صدقية غري تارخي َّية
ى هايدغر لغة اصطالح َّية عالية
التارخي َّية صفة إطالق َّية ضمن مصري الوجود الذي ال يتأ َّثر بالسياق االجتامعي .وبالتال
عل الشعراء،ورغم شغفه بالتالعب باأللفاظ ومعرفته ب ُأصول الكالم وتارخيه ،وثنائه ى
إل
وتبجيله للغة كوسيط تارخيي للوجود ،كان هايدغر م َّتهام يف كتابات أدورنو بافتقاره ى
باملحتوى االجتامعي للغة ،وهذا الفشل هو الذي تركه عرضة إلغواء مصطلح
ى احلس اجلامل
ه
األصالة وإقليم َّيته غري املنعكسة .ويف توقع أدورنو ملنهج كتاب Jargonختم مقالته حول
كل أنطولوجيا مض هللة عن طريق النقد اللغوي.
اللغة بالقول جيب فضح ه
بيد َّ
أن كتاب جدل التنوير ( )2()1944الذي كتبه مع ماكس هوركهايمر أثناء احلرب،
مهمة مع كتابات هايدغر ،رغم أ َّنه مل يرش أبدا إ ىل الوجود َّية ،واألنطولوجيا،
عرض مقارنات َّ
أو للمتحده ثني األساس هيني باسمهام .كان مرشوع تتبع مفهوم العقل من املرحلة املاقبل
سقراط َّية إ ىل العرص التكنولوجي من جهة النصوص الفلسف َّية واألدب َّية أساس ًّيا ملحاولة
أدورنو فهم الشكل املعارص من العقالن َّية ،التي بلغت ذروهتا يف الفاش َّية .أ َّما بالنسبة ملقاالت
فإّنا تشرتك بنفس اِّلدف .تشري هذه املقارنة إ ىل َّ
أن اخلالف الذي هايدغر يف نفس املرحلة َّ
عل الرغم
الرؤى الكون َّية املتباينة؛ لكن ى
ى عرب عنه يف كتاب Jargonليس تبادال للشتائم بني
َّ
عل
عل االهتاممات الراهنة للفلسفة ،وكذلك ى من ِّلجة أدورنو اجلدل َّية فإ َّنه ي َّتفق مع هايدغر ى
مهمة .تقول األُطروحة التي ُيؤ هكد عليها
بعض املسائل املنهج َّية .ومع ذلك هناك فروقات َّ
القدَ م مصحوبة بـ نزعإن العملية التارخيية لتشكيل الذات كانت منذ ِ كتاب جدل التنويرَّ :
َّ َّ
(1) ‘Thesen ueber die Sprache des Philosophen‘ , Gesammelte Schriften 1.
(2) Dialectic of Enlightenment, with Max Horkheimer (New York: Seabury, 1972).
❖ 224دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) ‘A Portrait of Walter Benjamin’ (1950), Prisms, (London: Neville Spearman, 1967), p.
231.
مصطلح األصالة :مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ 225
فِّس امليزة التقدم َّية أو الرجع َّي ة ِّلذا العمل ،بل الطريقة التي يستجيب فيها هذا
هو الذي ُي ه
عل سبيل املثال يكتب أدورنو يف رسالة لوولرت
العمل للعالقات االجتامع َّية السائدة .ى
بنجامني:
أنا ال أرى مالئمة منهج َّية يف إعطاء اخلصائص الفرد َّية البارزة التي تنتمي إىل
حقل البنية الفوق َّية دور ًا ما يديا من خالل ربطها مبارش ًة ،ور َّبام سببيا ،بخصائص البنية
إن احلتمية املا يد َّية للمعامل الثقاف َّية ال تكون مكنة َّإال إذا حت َّققت عن
التحت َّية املناسبةَّ .
طريق توسط العمل َّية االجتامع َّية الك يل َّية(.)1
تستمر التفسريات الفلسف َّية ألدورنو وفقا للمبادئ ذاهتا ،فالتعامل مع كتاب هايدغر مل
يتم ببساطة وال بطريقة حتم َّية ،فال هو مرفوض ك ّل ًّيا باعتباره أيديولوجيا برجواز َّية ،وال هو
ّ
تستثنى
ى مستقال ،بل إ َّنه مفهوم بوصفه امليدان الذي يمكن ْ
أن ّ مقبول بدون نقد باعتباره تأمال
ألي حقيقة -إذا ُأتيح ِّلا الظهور ْ -
أن القوى العاملة يف املجتمع ،والذي يمكن فيه ه ى منه
القوى بطريقة أو ب ُأ ى
خرى. ى تكون مرشوطة بالرضورة بتلك
يتكشف َّإال
أن َّأن تغلغل العالقات االجتامع َّية إ ىل منظومة هايدغر ال يمكن ْ
من الواضح َّ
فهم كغايات يف ذاهتا، كيل للقضايا الفلسف َّية ،لكن هذه القضايا ال يمكن ْ
أن ُت َ من خالل فهم ّ
خلص أدورنو منهج َّية التفسري
للقوى االجتامع َّية .فقد َّ
ى وهذا يعني وجوب إعادة بناء حقل
الفلسفي هذه أثناء تكريم صديق صباه سيغفريد كراكور( )2بقوله:
يف املستقبل إذا سمحت لنفيس أثناء قراءيت للنصوص الفلسفية أن تكون ي
أقل تأثر ًا
بوحدهتا وترابطها املنهجي ،ويف املقابل شغلت نفيس بتنافس القوى التي أ َّثر بعضها
كل عقيدة مغلقة واعتربت الفلسفات املقنَّنة كام يف ِّ
كل حالة ببعض حتت سقف ِّ
قوة ،بالتأكيد يكون كراكور هو الذي أهلمني هبذا(.)3
حقول َّ
(1) A letter to Benjamin (November 10, 1938), New Left Review, 81 (October 1973), p. 71.
(2) Siegfried Kracauer.
(3) ‘Der wunderliche Realist. Ueber Siegfried Kracauer‘ (1964), Noten zur Literatur III,
(Frankfurt: Suhrkamp, 1965), p. 84.
❖ 226دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
َّ
إن هذه املقاربة املنحرفة للفلسفة -التي تظهر بشكل خاص يف كتاب ،Jargonالذي
يربط هايدغر باملجتمع عن طريق وساطة لعبة اللغة املثقلة سياس ًّيا -جتعل نقد أدورنو
ِّلايدغر عسري الفهم.
قد يكون ِّلذه الدراسة بعض الصالت الواضحة التي ُيستفاد منها .فلو درست النقاش
(1) Kafka
(2) ‘Notes on Kafka’ (1953), Prisms.
(3) Beckett, Versuch, das Endspiel zu verstehen Noten zur Literatur II, (Frankfurt:
Suhrkamp, 1961) .
(4) Negative Dialectics, (New York: Seabury, 1973).
(5) Alban Berg (1968), (New York: Viking), forthcoming.
(6) anti system.
(7) Aesthetische Theorie (incomplete, 1969), Gesammelte Schriften 7 (Frankfurt: Suhrkamp,
1970).
مصطلح األصالة :مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ 227
الفن
ه أن تلحظ الرفض املشرتك لعلم اجلامل الذات ْ
وأن تق ّيم عالقة الفلسفي كان جيب ْ
وألن ذلك مل يتح َّقق َّ
فإن كتاب اجلدل السلبي( )1وكتاب َّ باملجتمع يف النظر ّيات ذات الصلة.
املتفرع عنه ،سيكونان مقبولني بوصفهام بيانات قاطعة لنقد أدورنو
ه
()2
مصطلح األصالة
ِّلايدغر.
املهمة الراهنة للفلسفة هي تغيري التفكري الذات
َّ وفقا ملقدّ مة كتاب اجلدل السلبي َّ
إن
عل اهتامم
عل الذات العارفة تدل ى
القوة الذات َّية للشخص الناقد .فأسبق َّية اجلوهر ى
بواسطة َّ
أن املنهج يمكن ْ
أن َّأول بالواقع ،الذي ُش هوه برضورات الشمول َّية االجتامع َّية اجلرب َّية .ورغم َّ
يتحدَّ د من خالل موضوع البحث ،لكن التحليل ال يستمر بدون مفاهيم .هذه الرضورة
الفلسف َّية تستلزم نقدا للرتاث الفلسفي ،أي للمثال َّية األملان َّية وللنقد غري املالئم للمثال َّية من
عل جانب كبري
خالل الوضع َّية ،والفينومينولوجيا والوجود َّية .بينام سيطرت هذه األهداف ى
من النوايا املعلنة ِّلايدغرَّ ،
فإن هايدغر -وفقا ملا يقوله أدورنو -فشل كام فشل هِّسل قبله يف
التعامل الصحيح مع التعقيدات املتع هلقة بفهم الواقع.
ُي هبني أدورنو يف كتاب اجلدل السلبي كيف غفل املرشوع التبسيطي ِّلايدغر عن الواقع،
وهذا ما عزَّ ز ودعم فكرة الغموض املدروسَّ .
إن الدعائم الثالثة لنظام هايدغر -
املوجودات ،والوجود اإلنساين ،والوجود ،تتداخل فيام بينها شكل ًّيا فقط ،بدون أخذ
باالعتبار هيأهتا الفعل َّية التي ُحتده د مضموّنا .التاريخ االجتامعي الواقعي الذي تتشابك
تطور فيه هذه الدعائم ،بوصفها ديالكتيك َّية ،وفقا ِّليغل وملاركس أيضاّ ،تتفي من عرض
وت َّ
هايدغر .وعيله َّ
فإن صورها الراهنة ليست واقعة يف التاريخ بشكل واضح ،فهي بوصفها
يتحِّس عليها هايدغر يف
َّ وممجدة كام يعتقد أدورنو .فالطمأنينة التي
َّ مقرة
أساس َّية وأبد َّية َّ
ه
املتأخرة ُي هبني أدورنو َّأّنا ليست عارضة ،بل هي نتيجة ملقاربة املرشوع الغالب بكتاباته
األنطولوجي الذي يستثني املضمون االجتامعي من البداية.
إ َّن هذا النقد مثري لالهتامم ،خصوصا َّ
ألن أدورنو كان أيضا م َّتهام بالعجز التطبيقي ،
علعل التأمل كان ر َّدة فعل ى أن ُجييب كام أجاب أدورنو َّ
أن تشديده ى وألن هايدغر يمكن ْ
َّ
تفوق النشاطات الرباغامت َّية الطائشة يف املجتمعات الراهنة .الفرق بني الفلسفتني هو َّ
أن
قابل َّية التأثر يف نظام هايدغر وصلت إ ىل طريق مسدود ،ومل تكن حلظة تصحيح َّية تلغي
تشوهات وقيود الفعل السيايس فحسب .املنشأ الفلسفي لالختالف هو َّ
أن مقاربة هايدغر
تتفاعل ببساطة شديدة مع معضالت الفلسفة ما قبل اِّليغل َّية حماولة جتنب التوسط غري املثال
عل ديالكتيك هيغل
بني الذات واملوضوع ،الفكر واملجتمع ،النظر َّية والتطبيقُ .يكم أدورنو ى
عرفه من حيث عدم تطابق الكلمة واملوضوع و ُيقده م تفسريات للوساطات أكثر
بالتطرف ،و ُي ه
شمول َّية ح َّت ىى من هيغل ،أ َّما هايدغر فقد ّت َّلف عن هيغل باعرتافه بواقع َّية اللغة والوجود
أي تأثري إنساين
جمرى التاريخ خارج نطاق ه
ى خارج تأثري هذا الواقع الذي ُيم هيزانه ،وبرتكه
ممكن.
ِّلذه املسألة النظر َّية نتائج عمل َّية بالنسبة لفلسفة هايدغر حيث إ َّنه فشل يف تبيان عالقة
لغته باملجتمع .وقد يكون فشل هايد غر يف التعامل املالئم مع السياق االجتامعي الراهن
أقوى هاهتامات أدورنو له ،حيث ش َّكلت أنطولوجيا هايدغر ر ًّدا غري مالئم ى
عل ى للفلسفة
الظروف االجتامع َّية التي يشعر اإلنسان بالعجز أمامها .فت َْح َت ستار اإلرادة الذات َّية تستحرض
وهم العجز ،وبالتال ّتدم من هم يف السلطة .بعد التوجه التصاحلي مل يفرتض استحضار
أي حل ،وبالتال ساعد يف استمرار املشاكل األساس َّية .ومن أجل
امللحة َّ
هايدغر للحاجة َّ
تعزيز األيديولوجيا املحافظة سعت مقاربة هايدغر الجتناب املسائل التي تشري إ ىل املجال
االجتامعي ،وهو امليدان الذي يمكن ْ
أن يامرس املرء فيه بعض السيطرة املشرتكة.
عل خالف كتاب اجلدل السلبي الذي يتم َّيز كتاب مصطلح األصالة بشدَّ ة الرتكيز ،ى
يتوجه إ ىل املفهوم األسايس يف جممل فكر هايدغر ،ويبدو َّ
أن كتاب ُ Jargonيق هيد نفسه يف َّ
أتى بنسق من االعتبارات املثرية لإلعجاب التي جيب
ه َّيته ،رغم أ َّنه ى
جمال مشكوك بأ ّ
مراعاهتا .ويف حني يتعامل كتاب Jargonبشكل هاميش مع مسألة الوجود عند هايدغر،
عل املصطلحات صوب مبارشة ى ه َّية لعقيدة اإلنسان املالزمة له .كام أ َّنه ُي ه
تراه ُيول أ ّ
واملوضوعات التي هجرها هايدغر نفسه بعد كتاب الوجود والزمن .وكذلك من بني املقاطع
مصطلح األصالة :مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر ❖ 229
األربعة التي اشتمل عليها بحث أدورنو (تبدأ من الصفحات 92 ، 49 ،3و ،)130يدور
األول حول املصطلحات التي تداوِّلا أسالف هايدغر وزمالؤه وأتباعه ،وال يكاد يذكر
َّ
هايدغر نفسه .أ َّما املقطع الذي يليه فإ َّنه يضع هايدغر يف هذا املشهد ،لكنَّه يشري إ ىل َّ
أن
هايدغر ُيمي نفسه من هتمة اإلساءات التي ُتس هببها املصطلحات ح َّت ىى عندما يستغل
بح ّر َّية جاذب َّيتها .والقسم اآلخر ُخ هصص ملفهوم األصالة ،الذي مل يستعمله هايدغر َّ
مرة ثانية ُ
األول .ويف الصفحات األخرية نجد َّ
أن خيار حتليل عل كتابه َّ
كبرية أبدا بعد ر َّدة الفعل ى
بحجة غري بدهي َّية تقولَّ :
إن اإلنسان َّ املوت باعتباره توضيحا ألُسلوب هايدغر ُيلزم أدورنو
أن يتغ َّلب ى
عل املوت يف تدبري اجتامعي مستقبيل ،ح َّت ىى لو كان هذا ممكنا -وهو يف يمكن ْ
ه َّية التناهي بوصفه يبقى احتامال فارغا َّ -
فإن هايدغر ال يزال يعرب عن أ ّ كتاب Jargonى
ميزة أساس َّية من مم هيزات الوضع اإلنساين كام نعرفه .وعندما ُير هكز أدورنو ى
عل النتائج
االجتامع َّية ملفاهيم األصالة واملوت عند هايدغر ،يبدو أ َّنه ال يلتفت إ ىل الدور الذي تلعبه
هذه املفاهيم يف أنطولوجيا هايدغر؛ َّ
ألن الوجود األصيل -نحو -املوت هو موقف أخالقي
يف منظومة هايدغر ،لكنَّه ّ
أقل من رشط إلمكان َّية التأمل األنطولوجي الصحيح.
هكذا يبدو كتاب Jargonعرضة للنقد نفسه الذي ُو هجه للوجود والزمن ،أي إ َّن التأثري
رب ره دليل افرتايض .وكام نسب أدورنو شهرة كتاب هايدغر بشكل
عل القارئ ال ُي ه
الفعيل ى
كبري إ ىل املضامني األخالق َّية املستبعدة بشكل واضح من اخلطاب اإلبستيمولوجي
عل فلسفة هايدغر عندما ّتتار اِّلايدغري ،يبدو َّ
أن بحث أدورنو يثري انطباعا بالقضاء التا هم ى
موضوعات عارضة فحسب بدون ْ
أن تفهم مضموّنا.
لكن عندما ننظر إ ىل حتليل هايدغر للوجود اإلنساين من منظور كتاب اجلدل السلبي،
فإ َّنه من أعراض حتقيقاته َّ
الالحقة حول األدوات ،واألعامل الفنّ َّية ،واألشياء والكلامت
وح َّت ىى الوجود بحده ذاته .ووفقا لتفسري هايدغر -رغم َّ
أن لكيان اإلنسان واليشء والوجود
فإن التاريخ االجتامعي املا ّدي الذي تتأ َّثر ى
عل أساسه بعضها ببعض عالقة بعضها ببعض َّ ،-
املعنى
ى املجر دة بقي خارج االعتبار .يمكن إظهار هذا اخلطأ بنفس
َّ من خالل هذه العالقات
❖ 230دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
من جهة كتاب حتليل الـ دازاين( )1املب هكر ِّلايدغر كام يف كتاب سؤال الوجود( )2ه
املتأخر ،ومن
األول .باختصار َّ
إن اِّلجوم الواضح َّ
أن التبعات السياس َّية الناجتة عن الكتابني نتجت عن َّ
عل العنرص اللغوي من القسم األخالقي
االجتامعي املنحرف الذي شنَّه كتاب Jargonى
املفرتض من فكر هايدغر املب هكر ،نجح يف جعل عدد من اخلصائص املركز َّية ملنهج هايدغر
العا هم ونظامه إشكال َّية شاملة.
ه َّية أ َّن نقد أدورنو االجتامعي ِّلايدغر ال ينفصل عن نقده الفلسفي له ،بل
واألكثر أ ّ
عل األبعاد االجتامع َّية جعل ُيؤ هكد ى
عل الفشل الفلسفي لفكر هايدغر :عدم تركيز االهتامم ى
نتيجته عكس َّية .وقد أ ّد ىى هذا الفشل اخلاص إ ىل مواجهة بني فلسفة هايدغر والنظر َّية
االجتامعية املاركس َّية النقد َّية .وعندما يرسم أدورنو حدودا اجتامع َّية لفكر هايدغر فإ َّنه ال
ينبذ هايدغر ،بل يوائم بني أهداف مفاهيم فلسفة هايدغر ومضموّنا االجتامعي ،و ُيقده ر
رؤى هايدغر يف
فِّس ى املسافة بني مزاعمها وإنجازاهتا .بعد ذلك فقط يمكن للامركس َّية ْ
أن ُت ه
القوى التقدم َّية والرجعية ملسار تفكري هايدغر الذي
ى اخلاص ،وتفهم
ه سياق منهج املاركس َّية
ي َّتخذ موقعا اجتامع ًّيا مثمرا.
َّ
إن االعرتاف بقيمة النقد املاركيس ِّلايدغر وحدوده هو خطوة رضور َّية ملالءمة آراء
الفن واملجتمع واحلقيقة ه ماركس ،وهايدغر ،وأدورنو النقد َّية مع املشاكل املرتبطة بتفسري
يسعى لرفض املوضوع َّية العلم َّية
ى التي برزت يف زمنهم .لذا إذا كان الفكر مابعداحلداثي
عل أيدي هؤالء
عل حد سواء ،فإ َّنه سيجد مطلبه فعال متقده ما جدًّ ا ى
والذات َّية الرومنطيق َّية ى
مهد الطريق للتوفيق بني املؤ هلفني الثالثةَّ .
إن كتاب ُ The Jargon of Authenticityي ه
مظاهر التطور عند هايدغر ومظاهر التطور يف الرتاث املاركيس غري الدوغامئي ،ويعرض
متطور وحيوي.
ه القضايا املركز َّية يف نقاش
* * *
(1) Daseinsanalytik
(2) Seinsfrage
231 ❖ مدخل إىل نقد ماركيس هلايدغر:مصطلح األصالة
:املصادر
Adorno, T, ‘Die Transcendence des Dinglichen und Noematischen in Husserls
Phaenomenologie‘, Gesammelte Schriften, 1 (Frankfurt: Suhrkamp, 1970).
------------, Gesammelte Schriften 5 (Frankfurt: Suhrkamp, 1970).
------------, Kierkegaard. Konstruktion des Aesthetischen (Frankfurt: Suhrkamp,
1962).
------------, ‘Die Aktualitaet der Philosophie‘, Gesammelte Schriften, 1.
------------, ‘Die Idee der Naturgeschichte‘, Gesammelte Schriften 1.
------------, ‘Thesen ueber die Sprache des Philosophen‘ , Gesammelte Schriften
1.
------------, Dialectic of Enlightenment, with Max Horkheimer (New York:
Seabury, 1972).
------------, ‘A Portrait of Walter Benjamin’ (1950), Prisms, (London: Neville
Spearman, 1967).
------------, ‘Der wunderliche Realist. Ueber Siegfried Kracauer‘ (1964), ----------
-------, Noten zur Literatur III, (Frankfurt: Suhrkamp, 1965.
------------,‘Notes on Kafka’ (1953), Prisms.
* * *
()1
هايدغر ونقد األسس النظريَّة هلرم الوجود األكرب
()2
عل أصغر مصلح
ي
()3
جمتبى اعتامدي نيا
اخلالصة:
لقد آل كل واحد من األفهام التقليد َّية ِّلرم الوجود األكرب يف املرحلة اجلديدة من التفكري
الغرب ،والس ّيام بعد القرن الثامن عرش [للميالد] إ ىل الضعف واألُفول بشكل وآخر ،األمر
الذي أ ّد ىى إ ىل تعرض هذا األساس األنطولوجي للتفكري ما قبل احلداثوي إ ىل النسيان
والتجاهل أو اإلنكار .ومن بني جمموع أنواع النقض واإلنكار الناظرة إ ىل هرم الوجود األكرب
عل هذا األُسلوب منيف املرحلة اجلديدة ،كان النقد اجلوهري الذي أورده مارتن هايدغر ى
الفهم للوجود ومراتبه ،خمتلفا بشكل جذري عن هاجتاه سائر املنتقدين اآلخرين .فهو خالفا
ألكثر الناقدين ِّلرم الوجود األكرب -الذين ي َّتجهون يف الغالب إ ىل رفضه من خالل النقد
يرى بشكل عام عدم صواب َّية ومتام َّية هذا
املوضعي للتقريرات التقليد َّية يف هذا الشأن -ى
معنى وحقيقة ى األُسلوب لفهم الوجود ،من حيث إ َّنه ُيؤ ّدي إ ىل نسيان وجتاهل السؤال عن
أن النظر إ ىل الوجود بوصفه أصال -وهو الذي ُيم هثل أحد أكثر املباين
الوجود .يزعم هايدغر َّ
النظر َّية أصالة بالنسبة إ ىل الكثري من التقارير املدرس َّية عن هرم الوجود األكرب -ينفي
األول -يف
املواجهة مع حقيقة الوجود بوصفه ذات عدم اخلفاء .ويف هذه التقارير ُيل املبدأ َّ
معنى وحقيقة يتامهى فيها الوجود مع املاه َّية َّ -
حمل البحث والسؤال عن ى ى املنصة احلقيق َّية التي
َّ
أن جتاهل االختالف األنطولوجي يف التقارير الفلسف َّية ِّلرم إل ذلك َّ الوجود .يضاف ى
عل منظومة املقوالت الوجود األكرب يف املاه َّية َّ
الالهوت َّية ِّلذه التقارير ،وقيام أغلبها ى
األُرسط َّية واألبستيمولوج َّية اإلظهار َّية وتقديم صورة منقوصة وغري أصيلة عن اإلنسان يف
أغلبهاُ ،يش هكل ّ
أهم حماور نقد هايدغر ِّلذه األفهام التقليد َّية واجلديدة ِّلرم الوجود األكرب.
املقدّمة:
َّ
إن هرم الوجود األكرب ُيكي نوعا من الطرح األنطولوجي املتسلسل املراتب ،والذي عمد
عل أساسه ،وخضعوا إ ىل لوازمه املنطق َّية
إل تنظيم آرائهم وأعامِّلم ى
الناس طوال قرون ى
والنفس َّية يف حقل الثقافة والسياسةَّ .
إن التقارير املختلفة ِّلذا الطرح األنطولوجي -الذي
يتم التعبري عنه منذ العقد الثالث من القرن العرشين للميالد إ ىل هذه اللحظة يف أروقة
مدى القرون املتامدية جتسيدا
عل ىالعظمى -كان ى
()1
ى اجلامعات الغرب َّية بعنوان سلسلة الوجود
إن َّأول من استعمل عبارة سلسلة ملعنى احلياة املعقولة للكثري من ُس ّكان الكرة األرض َّيةَّ .
ى
واملؤرخ األمريكي من ُأصول أملان َّية (آرثور لوفجوي) ،
()2
ه العظمى هو الفيلسوف
ى الوجود
وكان ذلك سنة 1936م يف كتاب له هبذا العنوان ،يف إشارة منه إ ىل اإلطار الفكري الذي
الوسطى.
ى حكم املرحلة القديمة والقرون
عل حده تعبري لوفجوي ُ -يم هثل أكثر
الكربى -ى
ى َّ
إن هرم الوجود األكرب أو سلسلة الوجود
األُطروحات األنطولوج َّية أصالة يف التفكري التقليدي ،والذي ى
عل أساسه يتأ َّلف الوجود من
سلسلة عظيمة من الروابط املتوالية التي تنتظم فيها الكائنات يف سلسلة تراتب َّية تبدأ من
املتنوعة ِّلذا الطرح األنطولوجي
إل أكملها .هناك الكثري من القراءات ه
أضعف الكائنات ى
عل أساس األفهام املختلفة للوجود ومراتبه ،وقد أضحت تلوُيا أو ترصُيا فرض َّية القائم ى
جلميع األنظمة األُسطور َّية والفلسف َّية والده ين َّية والسياس َّية واالجتامع َّية يف مرحلة ما قبل
احلداثة .وقد وجد كني ويلرب( - )1وهو الفيلسوف األمريكي وعامل النفس والباحث يف حقل
العظمى أمرا بالغ اجلدّ َّية والتأمل ،بحيث مال
ى العرفان -يف االنتشار الشامل لسلسلة الوجود
عل
بأن اإليامن هبذه السلسلة إ َّما أن يكون هو اخلطأ األكرب الذي ارتكبه اإلنسان ىإ ىل االعتقاد َّ
أن يكون من ّ
أدق األفكار البرش َّية بشأن عامل الواقع والتي أمكن ِّلا الظهور ح َّت ىى نحو فذ ،أو ْ
هذه اللحظة ،وتستحق االهتامم من هذه الناحية(َّ .)2
إن سلسة مرتب الوجود -التي يراها
املتنوعة
عل التقريرات ه
أهم مواريث التفكري البرشي العريق -إ َّنام تقوم ى
()3
البعض بحق من ّ
بني املدارس الفكرية التي تنتمي إ ىل حضارات كانت سائدة ومعتربة يف مراحله ما قبل
احلداثة.
لعظمى والتي كانت -بحسب
ى إن االعتقاد هبرم الوجود األكرب أو سلسلة الوجود ا َّ
ترصيح لوفجوي -ح َّت ىى ّناية القرن الثامن عرش للميالد من األُمور التي ال يمكن التشكيك
فيها من وجهة نظر أغلب املف هكرين والعلامء( ،)4أخذت بعد هذه املرحلة يطوهيا النسيان
األهم يف هرم
ّ والتجاهل أو اإلنكار يف الفلسفة وخمتلف فروع العلوم بالتدريجَّ .
إن الرشخ
الفذ الذي ح َّققه اإلنسان الغرب يف العلوم التجريب َّية، الوجود األكرب إ َّنام ينشأ من التطور ه
أي نوع من الواقع َّية ِ
حتول يف ّناية املطاف إ ىل نوع من اإلمربيال َّية العلم َّية التي ُتنكر َّ
والذي َّ
()5
( )1كني ويبلر ( - 1949( )Ken Wilber؟ م) :كاتب وفيلسوف أمريكي.
(2) Wilber, Ken. 1993, ‘The Great Chain of Being’, in: Journal of Humanistic Psychology, 3
(33). p. 53.
(3) Cassirer, Ernst. 1963. The Individual and the Cosmos in Renaissance Philosophy,
translated with an introduction by Mario Domandi, New York: Harper & Row, P. 9.
(4) Lovejoy, Arthur O. 1936. The Great Chain of Being: The History of an Idea,
Cambridge, MA: Harversity Press. P. 59.
) )scientific imperialism( (5استعرت هذا التعبري من كني ويلرب.
Wilber, Ken. 2000. The Marriage of Sense and Soul: Integrating Science and Religion, in:
The Collected Works of Ken Wilber, Boston: Shambhala, 8: p. 97.
❖ 236دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
العين َّية غري املا ّد َّية وغري التجريب َّية .بيد َّ
أن من بني أنواع النقض واإلنكار الناظرة إ ىل هرم
الوجود األكرب يف املرحلة اجلديدة والس ّيام عند الت ّيار املعروف بام بعد احلداثة الفلسف َّيةُ ،ي َعد
عل هذا النمط من الفهم للوجود ومراتبه خمتلفا اختالفا جذر ًّيا عن
النقد اجلوهري ِّلايدغر ى
هاجتاهات سائر الناقدين .فهو خالفا ألكثر الناقدين ِّلرم الوجود األكرب -الذي ي َّتجهون يف
يرى بشكل
الغالب إ ىل رفضه من خالل النقد املوضعي للتقريرات التقليد َّية يف هذا الشأن -ى
عام عدم صواب َّية ومتام َّية هذا األُسلوب لفهم الوجود ،من حيث إ َّنه ُيؤ ّدي إ ىل نسيان وجتاهل
معنى وحقيقة الوجود(.)1
السؤال عن ى
معنى وحقيقة الوجود َّ
أن ى يرى هايدغر من خالل انتقاده ل ُ
ألسلوب التقليدي للسؤال عن ى
تاريخ التفكري الفلسفي يف الغرب بعد أفالطون قد أخذ باالنحطاط( ،)2وهو انحطاط مستمد
-بزعمه -من نسيان الوجود( .)3وقد عمد هايدغر يف أعامله املكتوبة وحمارضاته املتعده دة بعد
كتاب الوجود والزمان ،إ ىل بحث ومناقشة آل ّيات هذا االنحطاط من خمتلف األبعاد والزوايا
مرارا وتكرارا( .)1فهو تارة يبحث عن آثار هذا االنحطاط يف حتول مفهوم الـ ()aletheia
اليونان َّية إ ىل الـ (َّ )veritas
الالتين َّية ،حيث ال تعود ُتظهر عدم اخلفاء بوصفه جوهر احلقيقة،
خرى كان يبحث عنها يف حتوالت مفهوم الـ ( ،)phusisوالذي ينخفض يف ّناية وتارة ُأ ى
معنى وحقيقة
ى املطاف إ ىل الـ ( )naturaو(َّ )physica
الالتين َّية ،وبذلك أدخل السؤال عن
وأحل حم َّل ها البحث يف وجود الكائنات والطبيعة .ويف بعض األحيان
َّ الوجود يف املحاق،
كان حتويل الـ ( )logosاليونان َّية إ ىل الـ (َّ )ratio
الالتين َّية أو وضع املعادل لـ ()theorien
اليونان َّية مع الـ (ُ )contemplatiيم هثل بالنسبة إ ىل هايدغر تذكريا بالنسيان التدرجيي
للوجود الذي كان يميض بنشاطه قدما بواسطة اللغة .يف مجيع هذه األمثلة والنامذج فقدت
اللغة بالتدريج خاص َّيتها البيان َّية والكشف َّية يف قبال الوجود ،وبدال من ذلك من خالل
عل اإلظهار ،ال تعود ترمجانا لتجربة الـ دازين املعاشة(.)2
استنادها إ ىل التفكري القائم ى
إن السؤال عن الوجود -كام هو منظور بالنسبة إ ىل هايدغر -سؤال عن ع َّلة ومنشأ عدم َّ
أن الفهم اليوناين القديمخفاء الوجود ،ال ما هو املوجود كام هو موجود .يزعم هايدغر َّ
يستدعي مفهوم احلضور يف اإلجابة عن هذا السؤال ،وحيث إ َّن احلضور قد ارتبط باللحظة
الراهنة أو اآلن ،فقد كان اجلواب عن هذا السؤال يرتبط بالزمان .وأ َّما بعد ُأرسطو فقد كان
املعني
يتم تعريف الزمان -الذي كانوا يرونه عبارة عن مقدار احلركة -يف ضوء الكائن َّ
بأّنم فيام يتع َّلق
الذي كان مقدار احلركة ناظرا إليه ،ومن هنا يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ
عل سقراط( - )3تنرصف أذهاّنم من
معنى الوجود كانوا -خالفا للمتقده مني ى
ى بإدراك
(ُ )1يشري هايدغر يف مقدّ مة (ما هي امليتافيزيقا؟) -من خالل التذكري َّ
بأن مسألة نسيان الوجود ال تزال مطروحة يف
كتاب الوجود والزمان إ ىل وجود ارتباط دقيق بني كلتا مرحلتيه الفكر َّيتني ،وإ َّنه جيب عد نسيان الوجود بوصفه
احللقة الرئيسة يف االرتباط بني هاتني املرحلتني.
Heidegger, Martin. 1998 c, Introduction to What Is Metaphysics/ in: Pathmarks, edited
by William McNeill, UK: Cambridge University Press. p. 287.
( )2أمحدي ،بابك ،هيدگر وتاريخ هستي ،ص ،82 - 78نرش مركز ،ط ،6طهران1391 ،هـ ش.
( )3سقراط ( 399 - 470ق .م) :فيلسوف يوناينُ .يع َترب هو وأفالطون و ُأرسطو واضعو ُأ ُسس التفكري العاملي.
املعرب.
ه
❖ 238دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
الوجود إ ىل املوجود(.)1
إل تطبيق سؤال اليبنتس( )2الشهري القائل« :ملاذا تكون الكائنات بدال من
يعمد هايدغر ى
أن ال تكون؟» خالفا للفهم املتعارف .فهو يذهب -خالفا لاليبنتس وشيلينغ( )3وسائر ْ
الذين طرحوا هذا السؤال -إ ىل القول بأ َّنه ال يروم السعي إ ىل تتبع ُأصول الكائنات ،وإ َّنام هو
عل شكل« :ملاذا يكون املوجود موجودا أصال وال أكثر من ذلك؟» .ويف
يطرح هذا السؤال ى
هذه الطريقة من طرح السؤال نجد هايدغر يسأل عن سبب تقدم املوجود وجتاهل الوجود
معنى
ى يف املواجهة مع املوجودات ،وبذلك فإ َّنه من هذه الناحية يستعمل هذا السؤال يف
اخلاص لطرح هذا السؤال إ َّنام يسأل
ه فإن هايدغر من خالل األُسلوب
خمتلف .ويف احلقيقة َّ
عن سبب نسيان الوجود ،وكذلك العدم الذي يراه مواكبا للوجود(.)4
يرى -من خالل استعراض تاريخ النسيان التدرجيي الذي يبدأ من وبذلك َّ
فإن هايدغر ى
أفالطون ،ويبلغ ذروته يف املرحلة اجلديدة مع رينيه ديكارت ،وخيتتم يف ّناية املطاف عند
أن األفهام التقليد َّية للوجود ومراتبه ُمت هثل بشكل وآخر مصداقا لنسيان
فريدريك نيتشه(َّ - )5
( )1هايدغر ،مارتني ،گفت وگوي ريشارد ويَّس با مارتن هيدگر ،ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :رشف الده ين خراساين،
منشور يف جم َّلة :بخارا ،العدد ،5 :ص 1378 ،67هـ ش.
( )2غوتفريد اليبنتس (1716 - 1646م) :فيلسوف وعامل طبيعة وعامل رياض ّيات ودبلومايس وحمام أملاين اجلنسيَّة.
املعرب. ِ
ُيشغل موقعا مرموقا يف تاريخ الرياضيّات والفلسفة .ه
( )3فريدريك شيلينغ (1854 - 1775م) :أحد أكرب الذين صاغوا النظرة الديالكتيك َّية لتطوير املجتمع .جعل من
فلسفة الطبيعة أحد اهتامماته قبل ْ
أن ينتقل إ ىل فلسفة الروح .تراجع عن الكثري من آرائه السابقة ،وأبطل مرشوعه
القايض بدراسة الده ين دراسة تارخييَّة ،وصار يدعو إ ىل فلسفة األُسطورة بكثري من الثقة ،ولكنَّه مل جيد مريدين له يف
املعرب.
هذا الشأن .ه
( )4املصدر السابق.
وملحن ولغوي وباحث يف ه ( )5فريدريك فيلهيلم نيتشه (1900 - 1844م) :فيلسوف أملاين وناقد ثقايف وشاعر
عل الفلسفة الغرب َّية وتاريخ الفكر احلديث .بعمر الرابعة والعرشين َّ
الالتين َّية واليونان َّية .كان ألعامله تأثري عميق ى
الصح َّية التي ابتيل هبا معظم
ّ أصبح ُأستاذ كريس اللغة يف جامعة بازل ح َّت ىى استقال يف عام 1869م بسبب املشاكل
أهم ُكتُبه .ويف الس هن الرابع واألربعني ى
عانى من اّنيار وفقدان لكامل حياته ،وأكمل العقد التال من عمره يف تأليف ّ
أن يكون سعيدا ح ًّقا؟) ،و(مولد
قواه العقل َّية .من أعامله( :اإلرادة احلُ َّرة والقدر) ،و(هل يستطيع احلسود ْ
والرش) ،و( ُأفول األصنام) ،و(إنسان مفرط يف إنسان َّيته) .ه
املعرب. ه الرتاجيديا) ،و(ما وراء اخلري
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 239
(1) Heidegger, Martin. 1991, Nietzsche, Translated by David Farrell Krell, USA: Harper One,
vol. 3, p. 7.
املختصني هبايدغر ،من أمثال :األُستاذ األُسرتال
ه ( )2باإلضافة إ ىل األبحاث الشخصيَّة لكاتب هذه السطورَّ ،
فإن آراء
هانز كوتشلر (ُ - )Hans Kochlerأستاذ الفلسفة يف جامعة انسربوك ( - )Innsbruckوكذلك األُستاذ األمريكي
جوليان يونغ (ُ - )Julian Youngأستاذ الفلسفة يف جامعة ويك فورست (ُ - )Wake Forestتؤ هيد أبحاثي يف
هذا الشأن.
Young ,Julian. 2015, Re: Question about Heidegger’s Teaching, Email to the Author, 12
July; Kochler, Hans. 2014, , Re: Question about Heidegger’s Teaching, Email to the
Author, 25 December.
( )3جوليان بادريك يانغ ( - 1943؟ م) :فيلسوف أمريكي.
❖ 240دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Young, Julian. 2015, Re: Question about Heidegger’s Teaching, Email to the Author, 12 July.
وأن األنطولوجيا املستأصلة أن َّ
كل أنطولوجيا تغفل عن حقيقة الوجود هي أنطولوجيا مستأصلةَّ ، يرى هايدغر َّ
( )2ى
وعل هذا األساس فإ َّنه يعمد إ ىل تلقيب أنطولوج َّيته املنشودة التي هتتفى سوف ّتفق يف أنطولوج َّيتها أيضا.
بالوجود بدال من التخبط يف زمحة املوجودات بـ األنطولوجيا اجلوهر َّية.
Fundamental ontology .Heidegger, Martin. 1993 a, Letter on Humanism in: Basic
Writings: from Being and Time (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David
Farrell Krell, Harper San Francisco. p. 258 .
إن األنطولوجيا اجلوهرية ِّلايدغر -طبقا لترصُيه -ليست فكرة نظر َّية أو عمليَّة ،بل َّ
إن هذا النمط من التفكري َّ
يكتسب املوضوعية قبل ثنائيَّة النظر َّية -العمليَّة ،وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :إّنا ُمتثهل رشط اكتساهبا للموضوعيَّة ،وتضع
األرضيَّة التي يظهر فيها كل واحد منهاَّ .
إن األنطولوجيا اجلوهر َّية حترس حقيقة الوجود التي مت َّت دعوهتا لتحقيق
هذه الرسالة من ِق َبل الوجود.) Ibid, p. 259( .
( )3هايدغر ،مارتني ،مسائل أسايس پديدارشنايس (املسائل األساسي َّة للظاهراتي َّة) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :پرويز
ضياء شهاب ،ص 27و ،28نرش :مينوي خرد ،ط ،1طهران1392 ،هـ ش.
(4) ontological differentiation.
تكرر يف هذا الكتاب مرارا وتكرارا، ( )5مل يرد استخدام هذا املصطلح يف كتاب الوجود والزمان ،بيد َّ
أن مضمونه قد َّ
وكان َّأول ظهور له يف املسائل األساسيَّة للفينومينولوجيا( .هايدغر ،مارتني ،مسائل أسايس پديدارشنايس (املسائل
تم بحث هذه املفهوم األساسي َّة للظاهراتي َّة) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :پرويز ضياء شهاب ،ص 285فام بعد)ّ .
ثم َّ
بشكل جاد يف القسم الثاين من رسالة التامثل واالختالف..
(.)Identität und Differenz / Identity and Difference
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 241
عل احليلولة دون اخلفض اخلاطئ للوجود إ ىل موجود خاص .لقد عدَّ هايدغر
وبذلك يعمل ى
عل
التاميز األنطولوجي مدخال إ ىل ساحة املسائل الفلسف َّية .يضاف إ ىل ذلك أ َّنه يذكر ى
()1
خاصة
َّ معنى الوجود واإلجابة عنه بحاجة إ ىل منظومة مفهوم َّيةى الدوام َّ
بأن السؤال عن
ّتتلف متام االختالف وبشكل ماهوي عن املنظومة املفهوم َّية الرضور َّية للبحث والتأمل يف
حقل املوجودات( ،)3()2وهذا يف حده ذاته ُيش هكل واحدا من أسباب تعقيد وغموض أدب ّيات
يرى هايدغر
كتاب الوجود والزمان ،ور َّبام الكثري من األعامل واآلثار البارزة ملارتن هايدغر .ى
إل جتاهل ُأسلوب مواجهة الفالسفة مع َّ
أن االلتفات إ ىل هذا التاميز قد أ ّد ىى بالتدريج ى
معنى الوجود َّ
حمط اهتامم من خالل اإلطار الوجودي ى الوجود ،وبدال من ذلك صار
للكائنات(.)4
أن طريقة فهم السلسلة الرتاتب َّية للوجود املتج ّلية يف إطار هرم الوجود األكرب ،تقع
ويبدو َّ
-باعتبار ما -يف معرض هذا النقد الذي ُيقده مه هايدغرَّ .
إن اإلحالة امل َّتصلة واملتسلسلة
للكائنات ببعضها يف هرم الوجود األكرب ُتؤ ّدي يف ّناية املطاف إ ىل رأس اِّلرم الذي ُي َعد مبدأ
اخلضم تتو َّفر أرض َّية مالئمة ومناسبة لتجاهل حقيقة
ه ومنشأ الكائنات ومراتبها ،ويف هذا
إن أصل الديمومة( )5بوصفه عنرصا مشرتكا خرىَّ :الوجود والسؤال عن مفهومه .وبعبارة ُأ ى
ألغلب تقريرات هرم الوجود األكربُ ،يم هثل حممال مناسبا لتجاهل ونسيان سؤال الوجود،
يسعى هايدغر يف هذا األثر -من خالل التحاور مع هيجل -إ ىل إظهار ما ال يتم التفكري فيه من امليتافيزيقا،
ى أيضا
إل التاميز بمعنى التأمل يف باب حقيقة الوجود .يزعم هايدغر َّ
أن التأمل يف باب هذه احلقيقة يستلزم االلتفات ى ى
األنطولوجي.
( )1هايدغر ،مارتني ،مسائل أسايس پديدارشنايس (املسائل األساسي َّة للظاهراتي َّة) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :پرويز
ضياء شهاب ،ص .33
(2) Heidegger, Martin. 1962, Being and Time, Translated by John Macquarrie & Edward
Robinson, Britain: Blackwell Publisher Ltd. P.6.
( )3األعداد يف اإلحالة إ ىل كتاب الوجود والزمان ،تشري إ ىل رقم الفقرة.
(4) Ibid.
إن أصل الديمومة الذي يعود بجذوره إ ىل أفكار ُأرسطو ،ينفي إمكانيَّة وجود رشخ أو انقطاع بني خمتلف أنواع
(َّ )5
بحيث يتم نسيان وجتاهل أخذ الوجود بوصفه أصال ليس فيه موضع آخر لنوع ما ،وال
وعل هذا األساس َّ
فإن هرم الوجود األكرب ى يمكن حدوث تبدل يف سلسلة مراتب الوجود.
قبل ْ
أن يكون مب هينا للتامي ز األنطولوجي ،سوف يذكر باإلحالة واالرتباط املتسلسل للكائنات
والطبقات املشتملة عليها ببعضها ،األمر الذي يعتربه هايدغر بداية لتجاهل التاميز
واالختالف األنطولوجي.
قبيل :املا َّدة ،واإلرادة ،واجلوهر ،والطاقة ،واملوضوع ،والعرض والتقديم( ،)2أو العودة
عل العالقة بني
اخلالدة للذات َّية ،حمور َّية فيها .ويف مجيع هذه األحوال من خالل الرتكيز ى
()3
(1) spirit
(2) representation
(3) the eternal recurrence of the same.
(4) Heidegger, Martin. 1998 c, Introduction to What Is Metaphysics/ in: Pathmarks, edited by
William McNeill, UK: Cambridge University Press, p. 278.
❖ 244دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ويرى أغلب امليتافيزيق هيني الوجود أمرا بدهي ًّيا وغري قابل للتعريف ،ال نعودى من الكائنات،
الكم اِّلائل من الكائنات ،يف حني أ َّن
ه نأخذه مأخذ اجلده ،وكأ َّننا نعتربه ال يشء بالقياس إ ىل
هذا الكائن َّ
الاليشء (العدم) هو منشأ وأصل مجيع الكائنات ،ومن هذه الناحية يعد أصل
امليتافيزيقا( .)2يقول هايدغر يف هذا الشأن يف املسائل الفينومينولوج َّية األساس َّية:
نحن نواجه املوجود سواء عىل املستوى النظري أو العمل .فام سوى هذا املوجود
هو العدم .ور َّبام ُعدَّ من بني املوجودات ما هو كائن ال يشء ،ولكن مع ذلك ر َّبام
يكون هناك يشء موجود ،وهو وإن كان موجود ًا َّإال أ َّنه معدوم .وعىل الرغم من ذلك
ك ِّله فهو موجود بمعنى أ َّنه ال يزال جيب تعيينه(.)3
أبدى
ى أن بعض القارئني آلثار هايدغر قد اعتربوه هاجتاها عدميًّا .وقد ِ
مقرصنا من جهة َّ ( )1لقد كان استعامل هذا املفهوم
توميو توسكا ُ -أستاذ الفلسفة الياباين -يف حوار له مع هايدغر ،باإلشارة إ ىل الدور املحوري للعدم ()Das Nichts
يف رسالة ما هي امليتافيزيقا؟ تعج به من هذا الفهم اخلاطئ ملفهوم العدم يف هذه الرسالة .وقد قال ِّلايدغر يف هذا الشأن:
عندما وصلت إلينا ترمجة رسالة ما هي امليتافيزيقا؟ سنة 1930م يف اليابان ،أدركنا معانيها يف ذات الوقت .فقد كان
نتعجب
عل يدك ،وامتلك اجلرأة وقام برتمجتها .ولذلك فإ َّننا َّ هناك طالب ياباين قد درس يف تلك الفرتة هذه الرسالة ى
توصل األُوروبي ون يف مقام تفسري مفهوم العدم املذكور يف تلك الرسالة إ ىل العدم َّية .إ َّن كلمة اخلأل
اليوم ونقول :كيف َّ
تشري يف ثقافتنا إ ىل االسم األعظم لذلك اليشء الذي تروم بيانه من خالل كلمة الوجود (( .)Seinهايدغر ،مارتني،
زبان ،خانه وجود؛ گفت وگوى هيدگر با ي ک ژاپنی (اللغة :بيت الوجود ،حوار هايدغر مع شخص ياباين) ،ترمجه ى
إل
اللغة الفارس َّية :جهانبخش نارص ،ص 48و ،49نرش هرمس ،ط ،1طهران1391 ،هـ ش.
(2) Ibid, p. 290.
( )3هايدغر ،مارتني ،مسائل اسايس پديدارشنايس (املسائل الفينومينولوجي َّة األساسي َّة) ،ص ،25ترمجه إ ىل اللغة
النص.
الفارس َّية :پرويز ضياء شهاب ،نرش مينوي خرد ،ط ،1طهران1392 ،هـ ش .التأكيدات موجودة يف أصل ه
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 245
(1) Ek-sistenze.
(2) Heidegger, Martin. 1993 a Letter on Humanism in: Basic Writing: from Being and Time
(1927) to the Task of thinking (1964), edited by Bavid Farrell Krell, Harper San
Francisco. p. 252.
(3) Mitwelt
ُمت هثل أمامنا داخل تلك األشياء بوصفها من متع َّلقات اإلدراك -وقام أغلب الفالسفة
إل االعتقاد
عل هذه املواجهة -مواجهة املاثل يف اليد .يذهب هايدغر ى
()3
بدراسة األشياء بناء ى
بأن املواجهة النظر َّية البحتة مع األشياء التي ُمت هثل األُسلوب الشائع بالنسبة ى
إل الفالسفة َّ
خاص َّية كينونة الـ دازين يف العامل و ُأنسه العلمي
املتقده مني والس ّيام بعد ديكارت ،قد جتاهلت ّ
مع األشياء ( ُأسلوب املواجهة اليدو َّية).
إل حدث لغوي هام يسود مع لقد أشار هايدغر يف رسالة الظاهر ّيات َّ
والالهوت بذكاء ى
الوسطى -يقع بعد
ى وعل أساسه -خالفا ملنهج الفالسفة املدرس هيني يف العصور
ى ديكارت،
وعل
ى الالتين هيني ( )obiectumو(،)subiectum ديكارت تبادل مفهومي بني املصطلحني َّ
األول -الذي كان يف البداية ُيط َلق بشأن متع َّلقات اإلدراكات
أساس ذلك أخذ املصطلح َّ
احلس َّية واخلياالت والتمنّيات واألحكام والشهود البرشي ،ويعني لفظا املطروح نسقا - ّ
عل األشياء العين َّية واخلارج َّية ،واملصطلح الثاين -الذي كان يف البداية ُيط َلق ى
عل ُيط َلق ى
اإلشارة إ ىل األعيان االنضامم َّية املاثلة أمامنا ،وتعني لفظا املطروح أسفال ُ -يط َلق ى
عل
احلج َّية واألصالة التي كان ديكارت وأنصاره يروّنا
ّ انتزاعاتنا الذهنية عن األشياءَّ .
إن
ملتع َّلقات اإلدراك يف دائرة ذهن الفاعل املعريف ،قد أ َّدت يف ضوء هذا التحول والتبادل بني
ّ
التخيل عن األلفاظ باملاه َّية املستق َّلة والعين َّية لألشياء -بوصفها أساسا ه
لكل إدراك -إ ىل
موضعها لصالح انعكاسات الذهن البرشي(َّ .)1
إن انتشار هذه الوترية وضع نسيان الوجود
أمام حالة جديدة ،بحيث ظهر اجلشتال بوصفه ذات التكنولوجيا احلديثة من صلبها.
عل َّ
أن مواجهتنا الرئيسة مع األشياء مواجهة مآل َّية يذهب هايدغر -من خالل تأكيده ى
بأن جهود الفالسفة عل األُنس العلمي باملوجودات والكائنات -إ ىل القول َّ
التفكري وتقوم ى
عل منهج يدويُ ،مت هثل جهودا فاشلة ،إذ ال
الرامية إ ىل اكتشاف حقيقة األشياء التي تقوم ى
تأخذ نسبة األشياء إ ىل اإلنسان وكذلك فيام بينها بنظر االعتبار كام ينبغي .ويف مسار املعرفة
ترى اإلنسان كائنا متخ هلفا عن األشياء ويف مواجهتها ،يف حني يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء َّ
بأن ى
عل الدوام أمام اإلنسان ضمن أرض َّية وسياق واحدَّ ،
وإن ظهور األشياء أمام األشياء حترض ى
اإلنسان ُيم هثل يف حده ذاته واحدا من األنحاء الوجود َّية لإلنسان حيث تنشأ من كينونته يف
العامل .ويف هذا البني يمكن لإلنسان من خالل توظيف إمكاناته الوجود َّية من جهة َّ
أن
يتعامل مع األشياء بشكل ما بحيث تقوم تلك األشياء بإظهار نفسها له كام هي ،ومن جهة
يتعاطى اإلنسان مع األشياء بحيث إ َّنه بدال من إظهار حقيقتها
ى أن ُأ ى
خرى يمكن لإلنسان ْ
يرى َّ
أن امليتافيزيقا من خالل أخذ ُيسهم يف إخفائهاَّ .
إن هايدغر يف كلتا مرحلتيه الفكر َّيتني ى
عل تنظيم مثل هذه املواجهة (أي األشياء بنظر االعتبار يف ضوء مفهوم اجلوهر ،تعمل ى
املواجهة املضمرة).
فإن اإلدراك املقول للموجودات -الذي ُيم هثل واحدا من األُ ُسس
عل هذا الرأي َّ
بناء ى
(1) Heidegger, Martin. 1998 b, Phenomenology and Theologyin: Pathmarks, edited by
البنيو َّية للكثري من تقارير هرم الوجود األكرب -حيث ال ُتو هفر جماال للمواجهة مع املوجودات
بوصفها جت ّليات وانكشافات ه
متنوعة للوجودُ ،يؤ ّدي إ ىل رسم صورة غري أصيلة للعامل
عنى وحقيقة الوجود .يف هذه الطريقة من مواجهة
واإلنسان ،وبالتال فإ َّنه خيفي السؤال عن م ى
ّ
التجيل عل
الوجود ،يقوم اإلنسان -من خالل االستناد إ ىل آليات التفكري املفهومي القائم ى
عل وجودها األصيل ،ولكن بدال من احلصول عليها
المتالك أقسام املوجودات -باِّلجوم ى
عل تغطية وجودها األصيل.جمرد فرض األبنية املقول َّية عليها ،والعمل ى
يتم َّ
إن الفصل املشرتك يف املرحلة األُو ىل من تفكري هايدغر واملرحلة َّ
الالحقة ِّلا جيب البحث َّ
معنى
ى معنى الوجود يف املرحلة األُو ىل مع السؤال عن
ى عنه يف االرتباط القائم بني السؤال عن
عل
سعى هايدغر يف هذا الشأن -من خالل الرتكيز ى ى احلقيقة يف املرحلة َّ
الالحقة ِّلا( .)1وقد
معنى مفردة الـ أليثايا( )2التي زعم َّ
أن أوائل فالسفة اإلغريق كانوا يستعملوّنا يف ما يساوق ى
ملعنى
والتجيل -إ ىل رسم فهم خمتلف ىّ وبمعنى الظهور
ى احلقيقة وما يرتبط مع مفهوم الوجود
عل هذا الفهم املختلف حيث إ َّن َّ
كل نوع من أنواع املواجهات األنطولوج َّية الكينونة .بناء ى
واألبستيمولوج َّية مع الكائنات يتو َّقف َّأوال ى
عل خروجها من االحتجاب واخلفاء ،وهو أمر
مستوى الربط
ى يذهب هايدغر معه إ ىل االعتقاد بأ َّنه قد انخفض بعد أفالطون و ُأرسطو إ ىل
والنسبة بني ذهن اإلنسان والواقع ّيات اخلارج َّية ،واقرتب من ذروته يف املرحلة اجلديدة من
الفلسفة الغرب َّية مع انتشار الكوجيتو( )3عند ديكارت.
يتم التفكري فيه يف الفكر اليوناين وخصوص ًا
إن جوهر احلقيقة بوصفه (أليثايا) مل ي
َّ
املتأخرة .فالكشف بالنسبة إىل التفكري هو أخفى اخلفاء يف الوجود اآلين
ِّ يف الفلسفة
( )1بيمل ،والرت ،برريس روشنگرانه انديشههاى مارتني هيدگر (دراسة تنويريَّة ألفكار مارتن هايدغر) ،ص 41و،42
ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :بيژن عبد الكريمي ،نرش رسوش ،ط ،2طهران1387 ،هـ ش.
(2) Aletheia
( )3الكوجيتو َّ
(بالالتين َّية :)Cogito, ergo sum :هو املبدأ الذي انطلق منه ديكارت إلثبات احلقائق بالربهان ،وهو
عبارة عن قضيَّة منطقيَّة ترمجتها بالعربيَّة (أنا أشك؛ إذن أنا موجود) ،وهذه هي ترمجتها الصحيحة؛ َّ
ألن البعض
يرتمجها خطأ (أنا ُأف هكر؛ إذن أنا موجود) .ه
املعرب.
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 249
( )1هايدغر ،مارتن ،رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي) ،مع رشح :ويلهامل فان هريمان ،ص ،34ترمجه إ ىل اللغة
الفارسيَّة :پرويز ضياء شهاب ،نرش هرمس ،ط ،5طهران1392 ،هـ ش .نقال عن الرتمجة العربيَّة التي هي من
عمل( :د .أبو العيد دودو) ،ص ،112نرش :دار اجلمل.
(2) Heidegger, Martin. 1998 c, Introduction to What Is Metaphysics/ in: Pathmarks, edited by
15.
(2) Heidegger, Martin. 1993 b, The End of Philosophy and the Task of Thinking in: Basic
Writings: from (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David Farrell Krell,
Harper San Francisco, p. 446 - 447.
(3) Ibid, p. 438.
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 251
األصيل ،وحتقق التطلعات الفينومينولوج َّية لـدعوة إ ىل األشياء ذاهتا( ،)1يف حني َّ
أن اإلغريق
األوائل قبل بداية تاريخ امليتافيزيق كانوا يواجهون األشياء والظواهر بطريقة ُأ ى
خرىَّ .
إن هذه
نرى شذرات منها ح َّت ىى يف آثار
الطريقة غري امليتافيزيق َّية من التعاطي مع املوجودات والتي ى
ُأرسطو أيضا -بدال من الوقوف أمامها يف مسار معرفة املوجودات بتحميل املقوالت
عل السامح ِّلا باحلضور الذهن َّية للفاعل املعريف ،وحتويلها إ ىل متع َّلق معرفتها -تعمل ى
والظهور من خالل وضع ذاهتا يف الدائرة التي ُتو هفر للموجودات إمكان َّية الظهور .بيد أ َّنه مع
عل اإلثارات مالحظة األبنية املقول َّية يف التعاطي مع املوجوداتَّ ،
فإن وجودها األصيل يقوم ى
مستوى مفهوم اجلوهر ،ويتم تبويب سائر
ى املقول َّية لذهن الفاعل املعريف ،يتم خفضه إ ىل
العرض ،وهذا املنهج يتم توظيفه -بوصفه
عل هامش مفهوم َ أبعادها وأضالعها الوجود َّية ى
معيارا لتبديل أقسام املوجودات (أنواع اجلواهر واألعراض) -يف بنية هرم الوجود األكرب.
عل إخفاء الظهور واجلالء األصيل لألشياء
وهو أمر يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء بأ َّنه يعمل ى
والظواهر ،وُيرشها يف اإلطار املحدود لذهن الفاعل املعريف.
احلقيقة تعني اليوم ومنذ زمن طويل تطابق املعرفة مع اليشء .ولكن لكي تستطيع
املعرفة واجلملة التي ُتش ِّكل املعرفة وتصوغها أن تتناسبا مع اليشء ح َّتى َّ
ينم اليشء
يتم ظهور اليشء نفسه بوصفه شيئ ًا .وكيف يظهر
نفسه عن ارتباطه باجلملة ،جيب أن َّ
نفسه إذا كان هو نفسه مل خيرج من اخلفاء ،إذا مل يقف هو نفسه يف الكشف؟ فاجلملة
تكون حقيقية عندما ت َّتجه إىل الكشف ،أي إىل احلقيقة .حقيقة اجلملة هي دائ ًام ودائ ًام
هذا الصدق وحده(.)1
وعل هذا الشكل يكون حتقق ه
كل نوع من أنواع التطابق رهن انفتاح الـ دازين أو ثباته ى
اخلارجي يف معرض ساحة من الوضوح الذي تعمل فيه املوجودات (أو الوجود بعبارة ّ
أدق)
عل إظهار نفسها بنحو من األنحاءَّ .
إن ارتباط ذلك االنفتاح وهذا الوضوح ُيش هكل أساسا ى
يرى هايدغر رصاحة َّ
أن مجيع أنواع امليتافيزيق ومنتقديه ،من ه
لكل إدراك أبستيمولوجي .ى
()2
()3
قبيل الفلسفة الوضعية ،مواكبة لكالم أفالطون ،حيث تضع املفهوم اجلوهري للفكرة
بوصفها أساسا لوجود املوجودات بمختلف األنحاء يف صلب اهتاممهاَّ .
إن هذا األصل
اجلوهري الذي يظهر بنحو من األنحاء يف ه
كل واحد من املدارس الفلسف َّية والفالسفة
إل بعض الثنائ ّيات ،من قبيل :املعقول /
املنتسبني إليها ،باإلضافة إ ىل استلزامها من جهة ى
الظل ،واجلوهر /العرض ،والوجود الذهني /الوجود اخلارجي، املحسوس ،والنور ّ /
وهذا العامل /العامل اآلخر ،وما إ ىل ذلك من الثنائ ّيات األُ ى
خرىُ ،يؤ ّدي من جهة ُأ ى
خرى إ ىل
اهتم به
َّ عل الوضوح الذي أن هذا الظهور يتو َّقف ى الظهور اخلارجي للموجوداتَّ .إال َّ
أن الذي عجزت مجيع أقسام امليتافيزيق دائام عن اخلوض فيه هو امليتافيزيق بشكل وآخرَّ ،إال َّ
التأم ل يف حقل ساحة االنفتاح التي جتعل من قناة احلضور ظهور الوضوح واخلفاء أمرا
( )1هايدغر ،مارتن ،رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي) ،مع رشح :ويلهامل فان هريمان ،ص 34و ،35ترمجه ى
إل
اللغة الفارس َّية :پرويز ضياء شهاب ،نرش هرمس ،ط ،5طهران1392 ،هـ ش .نقال عن الرتمجة العرب َّية التي هي من
عمل( :د .أبو العيد دودو) ،ص 112و ،113نرش :دار اجلمل.
(2) Heidegger, Martin. 1962, Being and Time, Translated by John Macquarrie & Edward
Robinson, Britain: Blackwell Publisher Ltd. p. 213 - 220.
(3) eidos
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 253
ممكنا ،والذي مل يقع موردا لالهتامم أبدا َّإال يف املراحل األُو ىل من تبلور األفكار الفلسف َّية يف
اليونان القديمة وعند فالسفة من أمثال بارمنيدس.
يف البحث عن القناة األصل َّية لإلدراكات األبستيمولوج َّية لإلنسانُ ،يع َترب حضور هذه
قوى اإلدراك َّية لإلنسان أمام انفتاح سائر املوجودات
الساحة من االنفتاح -الذي يضع ال ى
والكائنات -هو املفتاح الرئيس لفهم املسألة .لقد أطلق هايدغر يف رسالة له بعنوان :يف باب
احلر َّية
()1
عل انفتاح الـ دازين يف قبال وضوح وعدم خفاء املوجودات مصطلح ّ
ذات الصدق ى
التي ُتش هكل ماه َّية الصدق .يذهب هايدغر -خالفا إليامنوئيل كانط الذي يبحث يف إطار
إل اعتبارها بمثابة احلضور يف
احلر َّية يف حقل الفاهة -ى
عل التفكري البرشي عن ّ
إضفاء اِّلو َّية ى
عل جتسيد وجودها األصيل ،وبذلك جتعله
انفتاح املساحة التي تعمل فيها املوجودات ى
مقرتنا بذات احلقيقة بوصفها عدما للخفاء.
احلر َّية
أن ّ بمعنى َّ
ى جمرد لوازم سلب َّية فقط،
عل َّ
احلر َّية املنشودة ملارتن هايدغر ال حتتوي ى
إن ّ َّ
إل ال تتح َّقق من خالل َّ
جمرد التجاهل والتغافل عن األشياء ،بل تستلزم عمال إجياب ًّيا وناظرا ى
خاصة معها أيضا ،بحيث يظهر عدم
َّ عل إعداد مواجهة االحتكاك باملوجودات والعمل ى
عل الرتاجع وسحب أنفسنا كي
خفاء الوجود وال احتجابه من قناهتا .ويف هذه احلالة نعمل ى
ي َّتضح الوجود احلقيقي للموجودات كام هيَّ .
إن القضايا التي تتبلور من قناة هذا النوع من
املواجهة ،بدال من ْ
أن تستخرج مالك صدقها من ذهن َّية الفاعل املعريف وإحراز مطابقته مع
احلر َّية وعل هذا األساس َّ
فإن حتقق ّ ى تبقى رهينة الوضوح احلقيقي للموجودات(.)2
اخلارج ،ى
بوصفها أمرا أنطولوجيا ،سوف ُيش هكل أساسا جلميع أنواع التطابق .وبطبيعة احلال جيب
مدركات
أن مجيع َ احلر َّية ال يعني بالرضورة َّ
أن حتقق ّ أن ال نغفل عن َّ
علينا يف هذا البني ْ
إن وضوح املوجودات ّتفي ك ّل َّيتها من بعض أن تكون صادقة حتام ،بل َّ
اإلنسان جيب ْ
اجلهات ،وهذا بدوره قد ُيؤ ّدي إ ىل عدم احلقيقة.
جوهر احلقيقة ،أي جوهر الكشف (وعم اخلفاء) يسيطر عليه الرفض .ولكن هذا
أن احلقيقة كانت كشف ًا حمض ًا يتخ َّلص من ِّ
كل ما الرفض ليس نقص ًا وال عيب ًا ،كام لو َّ
فإّنا ما كانت لتكون هي نفسها .فهذا الرفض ٍّ
متخف .فلو َّأّنا استطاعت ذلك َّ هو
ينتمي إىل جوهر احلقيقة بوصفها كشف ًا عىل نحو من اإلخفاء املزدوج .احلقيقة يف
أن
جوهرها ال حقيقة .فلنقل هذا هكذا لنظهر وقد يتم ذلك بنوع من احلدَّ ة الغريبةَّ ،
الرفض عىل طريقة اإلخفاء ينتمي إىل الكشف بوصفه بقعة مضاءة(.)1
فإن عدم احلقيقة خفاء الوجود وراء وضوح املوجوداتَّ .
إن السقوط وعل هذا األساس َّ
ى
يف ورطة عدم احلقيقة يدفع الـ دازين بدال من مواجهة الوجود نحو االنشغال باملوجودات.
إن هذه اخلصوص َّية التي ُيطلِق عليها هايدغر تسمية الوقوف يف الداخل( ،)2عندما متتزج
َّ
بوقوف الـ دازين يف اخلارج ال ُيؤ ّدي إ ىل سقوط الوجود يف ورطة اخلفاء فحسب ،بل َّإّنا
عل هذا اخلفاء
ّتفي سقوط الوجود يف هذه الورطة عن الـ دازين أيضا .وقد أطلق هايدغر ى
األخري -الذي هو يف احلقيقة خفاء األمر الذي َّ
ظل خافيا( - )3مصطلح الِّس( )4أيضا(َّ .)5
إن
عل توريط اإلنسان يف التخبط والضياع وانشغال الفكر عل الدوام ىالِّس يعمل ى
نسيان ه
باملوجودات .وجيب علينا ْ
أن نبحث عن منشأ أخطاء الـ دازين يف هذا التيه والضياع.
علأن صدق قض َّية موقوف ى عل َّ
إن هايدغر -من خالل تأكيده ى وعل هذا األساس ف َّ
ى
عل األبستيمولوجيا اإلظهار َّية يف فهم
يرى عدم متام َّية امليتافيزيق القائم ى
واقعة وجود َّية -ى
ومهمة التفكري قائالَّ « :
إن َّ الواقع َّية .وقد َّنوه هايدغر رصاحة يف كلمة له بعنوان ّناية الفلسفة
( )1هايدغر ،مارتن ،رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي) ،مع رشح :ويلهامل فان هريمان ،ص ،37ترمجه إ ىل اللغة
النص).
الفارس َّية :پرويز ضياء شهاب ،نرش هرمس ،ط ،5طهران1392 ،هـ ش (التأكيدات موجودة ضمن أصل ه
نقال عن الرتمجة العربيَّة التي هي من عمل( :د .أبو العيد دودو) ،ص ،117نرش :دار اجلمل.
(2) In - sistenz.
(5) Heidegger, Martin. 1998 a, On the Essence of Truth in: Pathmarks, edited by William
الفلسفة رغم التفاهتا إ ىل إضاءة العقل َّإال َّأّنا ال تفهم شيئا عن االنفتاح أبدا»( .)1ومن هنا
َّ
فإن هرم الوجود األكرب املنبثق عن هذا النوع من املواجهة مع أنواع املوجودات لن يكون
أهم رشط يف معربا عن التصوير والتصور الواقعي ألقسام املوجودات .ويف هذا البني ف َّ
إن َّ ه
عل تصور وتصوير صائب للموجودات هو الكينونة يف مساحة مفتوحة يواجه فيها
احلصول ى
انفتاح الـ دازين مع وضوح املوجوداتَّ .
إن القضايا املنبثقة عن هذه املواجهة ستكون مظهرة
عرب عن نسبتها الواقع َّية مع املوجود أو املوجودات التي ُتظهر ذواهتا.
بمعنى َّأّنا ُت ه
ى للحقيقة،
(1) Heidegger, Martin. 1993 b, The End of Philosophy and the Task of Thinking in: Basic
Writings: from (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David Farrell Krell,
(2) Heidegger, Martin. 1998 c, ‘Introduction to What Is Metaphysics’ in: Pathmarks, edited
عل املوجودات التي هي بدورها عني الظهور واالنفتاح من أكثر عد انفتاح اإلنسان ى
()1
(1) Lichtung
( )3هايدغر ،مارتن ،رسآغاز كار هنرى (أصل العمل الفنيي) ،مع رشح :ويلهامل فان هريمان ،ص ،35ترمجه إ ىل اللغة
النص).
الفارسيَّة :پرويز ضياء شهاب ،نرش هرمس ،ط ،5طهران1392 ،هـ ش (التأكيدات موجودة ضمن أصل ه
نقال عن الرتمجة العرب َّية التي هي من عمل( :د .أبو العيد دودو) ،ص 113و ،114نرش :دار اجلمل.
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 257
(1) Heidegger, Martin. 1993 b, ‘The End of Philosophy and the Task of Thinking’ in: Basic
Writings: from (1927) to the Task of thinking (1964), edited by David Farrell Krell,
التحليالت امليتافيزيق َّية التقليد َّية ،و التي انعكست يف أغلب تقريرات هرم الوجود األكرب -
يفتح ُأفقا جديدا يف فهم وحتليل األبعاد الوجود َّية لإلنسان ،حيث يتم من ورائها التفكري
املستمر
ه اخلاصة لظهور اإلنسان بدال من االنشغال
َّ بأنحاء ظهور املوجودات والطريقة
باملوجود والضياع والتيه والتعلق الدائم بأقسام املوجودات.
النتيجة:
عل األنطولوجيا التقليد َّية تثبت أ َّنه قد مت َّت َّ
إن النقد األكثر جوهر َّية الذي يورده هايدغر ى
الغفلة عن مفهوم وحقيقة الوجود يف أغلب املنظومات الفكر َّية املنبثقة عن األنطولوجيا
عل
التقليد َّية ،وبدال من ذلك كان االلتفات إ ىل املوجودات والبحث عن املوجود يقع أبدا ى
ُس َّلم األولو ّيات األُو ىل للفالسفة .يذهب هايدغر إ ىل اال هدعاء َّ
بأن الغفلة عن الوجود ونسيانه
عل آل ّيات خمتلفة ،ومن بينها إصدار األحكام املسبقة يف بابيف الرتاث امليتافيزيقي يقوم ى
مفهوم الوجودَّ .
إن هذه األحكام امل سبقة مع أخذ الوجود بنظر االعتبار بوصفه من أكثر
عل ما
املفاهيم شمول َّيةُ ،ت َعد بدهي َّية وغري قابلة للتعريف ،وبذلك يلقي بالسؤال عن الوجود ى
يبدو وبشكل منطقي ومستدل يف املحاق ،وبدال من ذلك يمنح موضوع َّية للسؤال عن ماه َّية
وعل هذا األساس َّ
فإن ى وطريقة وجود املوجودات أو السؤال عن املوجودات بشكل عام.
أي واحد من أقسام املوجودات ،وال ي َّتصف
الوجود عند هايدغر حيث ال يندرج ضمن ه
مدركاتناَّ .
إن الوجود بمثابة جمال للرؤية أي واحد منها ،فإ َّنه ال يقع ضمن متناول َ
بخصائص ه
ُيم هثل رشط ه
كل أنواع مواجهاتنا األنطولوج َّية واألبستيمولوج َّية مع املوجودات .ومن هنا
فإن إمكان َّية التبويب إ َّنام ّتص املوجودات فقطَّ ،
وإن الوجود بوصفه أصال ال يمكن أن َّ
وعل هذا
ى جمرى النهر.
ى عل املنبع من
أي إطار أو تبويب؛ إذ ال يمكن احلصول ى
يندرج ضمن ه
فإن تقريرات هرم الوجود األكرب التي عملت ع ىل إدراج ح َّت ىى ُأصول ومناشئ
األساس َّ
املوجودات ضمن بنية الوجود الرتاتب َّية ،قد غفلت عن هذه الفطنة التي مت َّكن هايدغر من
أن النظر إ ىل الوجود بوصفه أصال -وهو الذي ُيم هثل
التوصل إليها بجدارة .يزعم هايدغر َّ
أحد أكثر املباين النظر َّية أصالة بالنسبة إ ىل الكثري من التقارير املدرس َّية عن هرم الوجود األكرب
-ينفي املواجهة مع حقيقة الوجود بوصفه ذات عدم اخلفاء .ويف هذه التقارير ُيل املبدأ
هايدغر ونقد األُسس النظر َّية هلرم الوجود األكرب ❖ 259
* * *
()1
نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارتيَّة
()2
حممد جواد س ِّيدي
الس ِّيد ي
()3
عل حيدري
أمحد ي
اخلالصة:
عل أساس
هيدف هذا املقال إ ىل بيان نقد هايدغر ملفهوم العامل عند ديكارت .يأت هذا النقد ى
عل بسطه وتفصيله يف
املفهوم اجلديد للعامل الذي أوجده هايدغر يف الوجود والزمان ،وعمل ى
الالحقة .يقوم ُأسلوب هذا املقال ى
عل حتليل مفهوم الوجود عند هذين الفيلسوفني أعامله َّ
إن العامل الديكارت عبارة عن االمتداد ،يف حني َّ
أن عامل (ديكارت وهايدغر) ،واملقارنة بينهامَّ .
هايدغر ُ -يم هثل يف احلقيقة -شبكة من العالقات تتبلور الكينونة( )4يف إطارهاَّ .
إن الكينونة
إن العامل أرض َّية يمكن يف ضوئها إقامةموجودة يف العامل ،وليس العامل يف ذهن الكينونةَّ .
ه
املتأخرة إ ىل نقد ثم يعمد هايدغر يف عدد من آثار املرحلة
النسبة مع الكينونة حتت اليد ّ .
()5
املفهوم الديكارت للعامل أيضا .يتحدَّ ث هايدغر يف مؤ َّلفات من قبيل :عرص تصوير العامل
وسؤال عن التكنولوجيا ،عن حتول العامل إ ىل صورة ومصدر للطاقة ،والذي هو يف احلقيقة
نتاج التصور الديكارت للعامل .تشري نتيجة هذا املقال إ ىل َّ
أن اِّليمنة التكنولوج َّية يف املرحلة
املعارصة ُمت هثل امتدادا للتصور الديكارت للعامل.
( )1املصدر :نقد هايدگر بر مفهوم جهان در فلسفه ى دكارت (نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارتيَّة) ،س هيد
عيل حيدري ،پژوهش های فلسفی -كالمی ،السنة الثامنة عرشة ،العدد ،2 :شتاء عام
حممد جواد سيهدي ،أمحد ّ
ّ
،95العدد املتتابع.70 :
عيل مطر.
تعريب :حسن ّ
حممد جواد س هيدي ،من جامعة َّ
العالمة الطباطبائي يف إيران. ( )2الس هيد ّ
عيل حيدري ُأستاذ مساعد يف الفلسفة من جامعة َّ
العالمة الطباطبائي ،مؤ هل ف ومرتجم الفلسفة يف إيران. ( )3الدكتور أمحد ّ
(4) Dasein
(5) Zuhanden/ ready-to-hand.
❖ 262دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املقدّمة:
األول يف تبلور الفلسفة احلديثة ،أو احلداثو َّية
لقد كانت فلسفة ديكارت قد شكَّلت املنعطف َّ
بعبارة ُأ ى
خرى .وإذا أردنا التمييز بني مرحلة ما قبل احلداثة ومرحلة احلداثة من زاوية حمور َّية
املفهوم أو احلضور الفلسفي ،وجب القول دون ترددَّ :
إن املفهوم املحوري واحلاسم يف
مرحلة ما قبل احلداثة هو اهلل ،يف حني َّ
أن املفهوم املحوري يف مرحلة احلداثة هو اإلنسان(.)1
سجل هذه املنزلة لإلنسان أو الوجود الذهني(.)2
وقد كان رينه ديكارت هو َّأول فيلسوف ُي ه
لقد كانت الفلسفة ما قبل الديكارت َّية تبحث موقع اإلنسان فيام يتع َّلق باالرتباط مع اهلل ،بينام
حتولت الفلسفة الديكارت َّية لتبحث نسبة العامل إ ىل ذهن اإلنسان أو الوجود الذهني.
َّ
تم جتاهله يف حمور َّية اإلنسان عند بااللتفات إ ىل هذه املقدّ مات يمكن القولَّ :
إن الذي َّ
ديكارت ،وحمورية اهلل يف مرحلة ما قبل احلداثة ،هو البحث يف ذات العامل الذي ُيش هكل يف
خضم هذا الوضع عمد مارتن
ه احلقيقة األرض َّية لوقوع مجيع أنواع العالقات والروابط .يف
عل الفلسفة احلديثة -إ ىل نقد
هايدغر -إثر االنتقادات التي أوردها فالسفة ما بعد نيتشه ى
تم طرحه يف فلسفة ديكارت ،وجاء بمفهوم جديد للعامل .وفيام ييل
مفهوم العامل كام كان قد َّ
سنواصل البحث من خالل بيان أوجه التاميز وانفصال هايدغر عن العامل الديكارت،
استمرت
َّ ومناقشة الوصول إ ىل مفهوم الكينونة -يف -العامل( .)3لنُثبِت بعد ذلك كيف
عل ما هي عليه إ ىل آخر تأمالته ،والس ّيام عند تناوله
هواجس هايدغر بشأن العامل ،وبقيت ى
للتكنولوجيا احلديثة.
(1) Human
(2) subject / sujet.
(3) In-der-Welt-sein (being-in-the-world).
(4) Meditationes de Prima Philosophia (1641) (English: Meditations on first philosophy).
نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ 263
(1) ontological
( )2ديكارت ،رينيه ،تأمالت در فلسفه أوىل (تأمالت يف الفلسفة ُ
األوىل) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :أمحد أمحدي ،ص
،23انتشارات سمت ،طهران1385 ،هـ ش.
(3) cogito
❖ 264دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
بأي
القائلة :أنا أشك؛ إذن أنا موجود .ال يمكن عند النطق هبذه العبارة الشك يف صدقها ه
()1
عل ممارسة اخلداع بح ّقي .ولو كانت آل َّية اإلدراك يف واقع األمر شيئا
شيطان ماكر يعمل ى
مغايرا لذلكَّ ،
فإن هذا اإلله سيكون ماكرا؛ إذ جعل يف مركوز ذات ميال شديدا كي أخضع
للتأثر الذهني الناشئ من األجسام املوجودة يف خارج الذهن(.)1
ه َّية ومنزلة مفهوم العامل يف من األُ ُسس األُو ىل يف أنطولوج َّيته احلديثة .ولكي ُن ِ
درك أ ّ
عل منزلة هذا البحث يف كتاب الوجود أنطولوج َّية هايدغر ،من األفضل ْ
أن ُنلقي نظرة ى
يسعى هايدغر يف هذا الكتاب -من خالل بحث مناشئ مجيع أنواع األنطولوجيا -
ى والزمان.
عل أطالِّلا يف ّناية املطاف أنطولوجيا
عل األنطولوجيا امليتافيزيق َّية ،ليبني ى
إ ىل إيراد نقد ى
جديدة اسمها األنطولوجيا األساس َّية(.)1
يرى هايدغر أ َّن نا يف املرحلة املعارصة ال نستطيع تأسيس أنطولوجيا جديدة دون االلتفات
ى
إ ىل الرتاث األنطولوجي القديم ،ابتداء من أفالطون إ ىل العرص الراهنَّ .إال َّ
أن هذا الرتاث قد
أ ّد ىى -من وجهة نظر هايدغر -إ ىل ترسخ جمموعة من األخطاء التي يعترب القضاء عليها
وإزالتها رشطا للدخول الصحيح يف األنطولوجيا ومعرفة الوجود .وقد أشار هايدغر يف
الفقرة األُو ىل من كتابه إ ىل ثالثة من هذه األخطاء .ويف احلقيقة فقد َّ
توصل إ ىل نتيجة مفادها
أي نوع من األخطاء ،وجب علينا إزاحة مجيع الفرض ّيات،
أ َّننا إذا أردنا جتنب الوقوع يف ه
يرى هايدغر َّ
أن العنرص الرئيس يف السؤال عن الوجود ،أي عل ذات السؤال فقط .ى
والرتكيز ى
عل وجود خاص يتبلور يف
السؤال القائل :ما هو الوجود؟ ،يكمن يف طرح هذا السؤال ى
سياق حياته:
إن للتساؤل ذاته من جهة ما هو سلوك كائن ما ،سلوك السائل ،طابع ًا خاصا
َّ
بالكينونة(.)2
فإن طريقة ه
حل هايدغر ه
لفك لغز الوجود يكمن يف اخلوض يف ذات السؤال ويف احلقيقة َّ
عل جواب عن سؤال الوجود(،)4
والكائن الذي يطرح السؤال ،أي الكينونة ،وللعثور ى
()3
جيب قبل ه
كل يشء حتليل اخلصائص األنطولوج َّية لكائن ما ،والذي ال يكون طرح السؤال
ّ
مستقال عن كينونته .وهذا التحليل يف الواقع هو ذات التحليل الوجودي املذكور شيئا
للكينونة:
مرة(.)1 كونه يف ِّ
كل َّ مهمة برأسها ،نحن أنفسنا ُن ِّ
إن الكائن الذي صار حتليله َّ
َّ
لقد عمد هايدغر يف الفقرة التاسعة من كتابه إ ىل بيان هذه املسألة قبل ه
كل يشء ،وهي أ َّننا
أن نستعني يف حتليل الكينونة بمصطلحات ومفاهيم من قبيل املاه َّية .وذلك َّ
ألن ال نستطيع ْ
سوى وجوده ،ويف ذلك يقول:
ى ماه َّية الكينونة ليست
إن ماه َّية هذا الكائن تكمن يف أ َّن عليه أن يكون()2؛ إذ إ َّن ماه َّية [أو ذات]( )3هذا
َّ
ُتصور انطالق ًا من الكائن ،إ َّنام ينبغي -بقدر ما يمكن أن ُيتك َّلم يف ذلك َّ
بعامة -أن ت َّ
كينونته(.)5()4
وعل هذا األساس جيب االستعانة بعنارص ُأ ى
خرى لتحليل الكينونة التي هي من وجهة ى
أهم العنارص .لو كانت املاه َّية أو الذات يف األنطولوجيا التقليد َّية ،حتكي
نظر هايدغر من ّ
عل أساس الكينونة -
عن تعني كائن ما ،جيب من وجهة نظر هايدغر حتليل تعينات الكينونة ى
يف -العامل ،حيث ال يكون مفهوما ماهو ًّيا ،بل تقويام أنطولوج ًّياَّ :
«إن نقطة االنطالق
الصحيح لتحليل الكينونة سوف يكون تعبريا ِّلذا التقويم»( .)6ويف احلقيقة يمكن القولَّ :
إن
منزلة مفهوم الكينونة -يف -العامل يف فلسفة هايدغر مساوية ملنزلة الذات يف الفلسفة
تم جتاهلها يف
أهم املفاهيم التي َّ
وعل هذا األساس يكون مفهوم العامل من ّ ى امليتافيزيق َّية.
أن سبب هذا التجاهل يكمن يف االهتامم يرى هايدغر َّ
الفلسفة امليتافيزيق َّية ح َّت ىى اآلن .ى
بالكينوانات الداخل َّية من العامل:
( )1املصدر السابق ،ص .57مارتني هايدغر ،الكينونة والزمان ،ص ،111ترمجة وتقديم وتعليق :فتحي املسكيني،
2012م.
(2) Zu-sein
(3) Essentia
(4) Existentia
( )5املصدر السابق ،ص .57مارتني هايدغر ،الكينونة والزمان ،ص 111و.112
( )6املصدر السابق ،ص .72
❖ 268دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
حيث يبدأ تفسري العامل يف الوهلة األُوىل بكائن ما داخل العامل ،يتم ّتاهل ظاهرة
العامل بشكل كامل(.)1
وقد ذهب هايدغر يف هذه الفقرة إ ىل اعتبار فلسفة ديكارت والتصور الديكارت للعامل
مصداقا ِّلذه الغفلة(.)2
تم تقديمها لـ العامل يف املنظومة الفكر َّية ِّلذين
بااللتفات إ ىل هذه املقدّ مة والصورة التي َّ
الفيلسوفني ،نجد اآلن من املناسب ْ
أن نبحث موقف هايدغر من الفهم الديكارت للعامل،
عل املقارنة بني املفهومني املختلفني عن العامل يف فلسفة هذين الفيلسوفني.
ونعمل ى
(1) Zuhandenheit
( )2هايدغر ،مارتني ،هستي وزمان (الوجود والزمان) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :عبد الكريم رشيديان ،ص ،94
1389هـ ش.
( )3املصدر السابق ،ص .96
❖ 270دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
تتجرد األدوات عن أدات َّيتها وكينونتها اليدو َّية ،وتقف أمامنا بوصفها موضوعا ذهن ًّيا،
عندما َّ
وتكتسب خصلة إدراك َّية ،عندها ُنطلِق عليه مصطلح احلضور يف اليد( )1أو اليدو َّية أو بعبارة
فإّنا سوف
أن األداة عاطلة عن العمل َّ ُأ ى
خرى الكينونة اليدو َّية( .)2يف املوارد التي يثبت فيها َّ
فإن اليشء الذي يكشف عدم تتجرد عن أدات َّيتها أو تنسحب .ولكن ح َّت ىى يف هذه احلالة َّ
َّ
ِ
جدوائ َّيتها ،ليس هو حتديد خصوص ّياهتا من طريق النظر إليها ،أي من قبيل إدراكها من ق َبل
مستوى الكينونة اليدو َّية .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
إن ى عل
ذهن املوضوع ،بل هو كون األداة حارضة ى
ُأسلوب تعاطينا مع األداة ح َّت ىى يف مثل هذه احلالة بحيث كام لو كنّا نروم من خالل إصالحها
ْ
أن نعيد إليها كينونتها اليدو َّية( .)3وح َّت ىى يف هذه احلالة ال تكون األداة الذهن َّية واقعة يف مكان.
إن األُسلوب اآلخر لرشح مفهوم العامل عند هايدغر ،هو ْ
أن ُند هقق يف نسبة األرض َّية َّ
ه
املتأخر ِّلايدغر أيضا .وقد بدأ واليشء املتح َّقق فيها ،وهو ما لعب دورا ها ًّما يف التفكري
وصل هايدغرأن النقطة األُول واألهم التي ُت ِ
هايدغر بحثه من خالل االهتامم باألدواتَّ .إال َّ
ّ ى
إل سائر
عل الدوام يف نسبتها ى إل العامل ،هي اخلصوصية اآلل َّية املوجودة ى من األدوات ى
ّى
يتجل يف داخلها مفهوما آل ًّيا عل الدوام ك ّل َّية آل َّية أو أرض َّية يف البني
األدوات .هناك ى
أن األداة موجودة من أجل( )5يشء أو أهم خصوص َّية يف األداة تكمن يف َّ واحدا(َّ .)4
إن َّ
عملَّ .)6(...
إن هذا التوصيف يضع األداة اِّلايدغر َّية يف اليد يف قبال املوضوع الديكارت
مستوى
ى عل سبيل املثال) الذي تنخفض مجيع خصائصه إ ىل(يطرح ديكارت اليشء الشمعي ى
األُمور املحسوسة والذهن َّية .ويف احلقيقة َّ
فإن األشياء عند ديكارت بمثابة اجلواهر اجلسامن َّية
عل جوهر َّيتها .وأ َّما عند هايدغر
متفرعا ى
خرى هواملستق َّلة التي يكون ارتباطها باألشياء األُ ى
فإن ذات األداة أو احلالة اليدوية هي التي ُمت هثل االرتباط باليشء اآلخر.
َّ
عل إقحام النقطة .إذا كان يشء مثل املنشار ينشغل يف فعل القطعَّ ،
فإن القطع نفسه يعمل ى
يشء من قبيل خشب الكريس اخلشبي ،والكريس اخلشبي بدوره وسيلة يتم هاّتاذها جللوس
الشخص واسرتاحته عليه .ويف احلقيقة َّ
فإن عموم هذه الشبكة من الروابط والعالقات هو
وعل
ى عل شيئ َّية يشء ما.
عل تعيني نوع مواجهة الكينونة اليدو َّية ،وهذا متقده م ى
الذي يعمل ى
اخلصيصة اِّلامة يف األداة أو الكينونة اليدو َّية
ه إل استنتاج َّ
أن هذا األساس يذهب هايدغر ى
تكمن يف أ َّنه ال يمكن احلديث أبدا عن أداة منفردة(َّ .)3
إن آلية اآللة رهن بوجود جمموعة من
الروابط التي تكتسب اآللية معناها داخلهاَّ ،
وإن هذه املجموعة املتكاملة ترتبط بحياة
عل إحالة ذاهتا من خالل الكينونة (الـ دازاين) يف ّناية املطافَّ .
إن الكينونة تعمل مسبقا ى
وإن هذه املواجهة هي مواجهة مع الكينونة اليدو َّيةَّ .
إن العامل هو تلك املواجهة مع يشءَّ ،
الظاهرة التي تكتسب اإلحالة معناها داخل ذلك املفهوم وتغدو ممكنة ،وتصبح مواجهة
الكائن الذي يمكن مواجهته أمرا ممكنا(.)4
عرف من ِق َبل الذهن بشكل يذهب ديكارت إ ىل االعتقاد َّ
بأن الوجود الذهني إ َّنام ُي َ
فإن العالقة األُو ىل للموجود الذهني عند ديكارت ُمت هثل ارتباطا
وعل هذا األساس َّ ى منفرد(.)1
إن األشياء ال ُت ِ
ظهر نفسها بأمر جزئي .ولكن هنا متاما يبادر هايدغر إ ىل طرح هذا االنتقادَّ :
بشكل منفصل:
إن هذه األشياء ال ُت ِ
ظهر نفسها لذاهتا بدو ًا ،كي تعمل بعد ذلك جمموعة من َّ
األشياء عىل الرتاكم يف ح ِّيز من املكان(.)2
فإن إدراك ك ّل َّية ما تكمن فيها األشياء -بوصفها أدوات -متقدّ مة دائام ى
عل ويف احلقيقة َّ
يتم إدراك جمموعة ك ّل َّية من
إدراك يشء جزئي .وقبل تشخيص أداة منفردة جيب َّأوال أ ْن َّ
األدوات(.)3
(1) singular
( )2هايدغر ،مارتني ،هستي وزمان (الوجود والزمان) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :عبد الكريم رشيديان ،ص ،93
1389هـ ش.
( )3املصدر السابق.
(4) extension
نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ 273
( )1خامتي ،حممود ،جهان در انديشه هيدگر (العامل يف رؤية هايدغر) ،ص 251و ،252انتشارات انديشه معارص،
طهران1384 ،هـ ش( .مصدر فاريس).
( )2هايدغر ،مارتني ،هستي وزمان (الوجود والزمان) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :عبد الكريم رشيديان ،ص ،128
1389هـ ش.
( )3املصدر السابق ،ص .129
❖ 274دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
الـ دازين والعامل نسبة بني موضوع ومكان بحيث يكون املوضوع بمثابة يشء واقعا يف
ضمنه:
تم فتحه
ال املكان يف املوضوع ،وال العامل يف املكان ،بل املكان (يف) العامل ما دام املكان قد َّ
املقوم للـ دازينَّ .
إن املكان ال يتم العثور عليه يف املوضوع، بواسطة الكينونة -يف -العامل ه
واملوضوع بدوره ال ينظر إ ىل العامل بحيث َّ
كأن العامل يف مكان ،بل (املوضوع) يف الفهم
بمعنى الـ دازين ،يعني املتم هكن َّ
األول(.)2 ى األنطولوجي الصحيح له
بأن ديكارت -من خالل جتاهله جلميع خصائص العامل - يذهب هايدغر إ ىل االعتقاد َّ
جمرد امتداد( .)3وحيث إ َّن االمتداد ال يناسب إدراك العامل ،بل هو
يعمد إ ىل خفضة واعتباره َّ
يناسب فهم الكينونة داخل العامل والكائن اليدوي ،جيب القولَّ :
إن ديكارت ُيقده م تعينا
أن سبب خطأ ديكارت ال يكمن يف شغفه بعلم يرى هايدغر َّخاطئا عن العامل .ى
()4
عل خفض الوجود لدى ديكارت يعمل ى الرياض ّيات ،بل هناك نوع من التوجه األنطولوجي ى
أن هذا ه
االجتاه الديكارت هو الذي ُيؤ ّدي -من سنرى َّ
ى إ ىل كينونة يدو َّية دائمة( .)5وفيام يأت
وجهة نظر هايدغر -إ ىل حتول العامل إ ىل صورة.
- 2يف عرص تصوير العامل:
فأوال َّ
إن هذه املقالة تشتمل َّ
إن ملقالة عرص تصوير العامل مكانة ها َّمة يف تفكري هايدغرَّ .
عل
أهم مضامني املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر يف كتاب الوجود والزمان ،أي إ َّّنا تعمل ى
عل ّى
تكميل البحث عن مفهوم العامل .ومن ناحية ُأ ى
خرى يبحث هايدغر يف هذا املقال عن التبعات
عل ربط
فإن هذا املقال يعمل ى والتداعيات األكثر ضمن َّية يف الفكر الديكارت .وبالتال َّ
(1) Heidegger, Martin. 2002, The Age of The World Picture. Off the Beaten Track. Edited
and translated by Julian Young and Kenneth Haynes. Cambridge University press. p. 57.
(2) Forschung / Research.
(3) Ibid, p. 59.
(4) Ibid, p. 59.
(5) Ibid, p. 60.
نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ 277
َّ
إن املعضلة الناشئة من املوضوع املحوري الديكارت واملفهوم الديكارت للعامل من وجهة
لدى ذهن املوضوع وحتوله إ ىل ما َّدة للنشاط اإلنساين املنتج، نظر هايدغر هو َّ
أن ظهور العامل ى
دركه املوضوع من العاملَّ .
إن العامل إل ذلك اليشء الذي ُي ِ
بمنزلة خفض وتقليل العامل ى
الديكارت ليس شيئا آخر غري الصورة يف ذهن املوضوع .كام يعمد هايدغر إ ىل ربط مسألة
اإلظهار هذه إ ىل مسألة إنتاج التكنولوجيا أيضاَّ .
إن املنظومة الفكر َّية الديكارت َّية واملفهوم
عل العامل ،وتصوره
الديكارت للعامل هو ذلك التفكري الذي ُيؤ ّدي إ ىل بسط اإلنسان سيطرته ى
له بوصفه وجودا ذهن ًّيا ،وبالتال يتم اإلعداد ملقدّ مات اِّليمنة التكنولوج َّية يف العامل بوصفه
إن ديكارت من خالل طرحه ملفهوم اإلظهار ُأ ُسس ملرحلة جديدة يف تاريخ كال متكامالَّ . ّ
إن اإلظهار التصويري هو ذات املرحلة احلديثة، اإلنسان ُمت هيزها من سائر املراحل األُ ى
خرىَّ .
«إن احلداثة تتبلور يف األساس من خالل تصوير العامل»(.)1 وعل حده تعبري هايدغرَّ : ى
والنقطة اِّلا َّمة األُ ى
خرى من وجهة نظر هايدغر يف هذا البحث هو أ َّنه ح َّت ىى ما قبل املرحلة
عل العاملَّ .
إن احلديث ة مل يكن هناك يف األساس فهم لسيطرة اإلنسان أو الوجود الذهني ى
«متضمنا لالنخراط يف دائرة
ه املرحلة احلديثة هي املرحلة التي يكون فيها وجود الكينونة
معنى وجود
ى «جمرد
عل بلورة َّ معلومات اإلنسان والوقوع حتت اختيارها» وهذا يعمل ى
الكينونة»( . )2يشري هايدغر من خالل مقارنة هذا الفهم للعامل بالرؤية اليونان َّية -كام هي
عل الرؤية القائلةَّ :
«إن العامل يف عرص إل نقطة ها َّمة تقوم ى
لدى بارمنيدس -ى
مطروحة ى
يتحول إ ىل صورة»( .)3يواصل هايدغر كالمه يف هذه املقالة ليقول
َّ اإلغريق ال يستطيع ْ
أن
يرى هايدغر رصاحةَّ :
إن حتول العامل إ ىل صورة يساوي حتول اإلنسان إ ىل موجود ذهني .ى
()4
أن ديكارت ُيم هثل املرحلة التي أضحت فيها نسبة اإلنسان والعامل نسبة معكوسة .لقد َّ
حتول َّ
(3) Heidegger, Martin. 2002, The Age of The World Picture. Off the Beaten Track. Edited
and translated by Julian Young and Kenneth Haynes. Cambridge University press. p. 69.
أن هايدغر يف كتاب الوجود والزمانالعامل إ ىل جزء من إدراك الوجود الذهني ،يف حني َّ
يسعى إ ىل تقديم مفهوم عن العامل يكون فيه اإلنسان (الـ دازين) جزءا منه.
ى
- 3يف السؤال عن التكنولوجيا:
وجه هايدغر اهتاممه يف هذه املقالة إ ىل مسألة نسبة اإلنسان والعامل أيضاَّ .إال َّ
أن البحث ُي ه
فإن السؤال الذيعل دراسة مفهوم اإلنتاج .ويف احلقيقة َّ يف هذا املقال ينصب بالتحديد ى
يطرحه هايدغر يف هذه املقالة يقول :ما هي النسبة بني اإلنتاج البرشي والعاملي الذي يتح َّقق
اإلنتاج يف داخله؟
يبدأ هايدغر بحثه من اإلنتاج عند اإلغريق .لقد كان اإلغريق عند البحث يف حقل
اإلنتاج يستخدمون مصطلح الـ بويسس( )1أو التكونَّ .
إن للـ بويسس دائرة مفهوم َّية واسعة
جمرد إنتاج اآلثار الفنّ َّية واإلنتاج اليدوي فقط ،بل تشمل ح َّت ىى اإلنتاج الف ّني
عل َّ
ال تقترص ى
ومجيع أنواع اإلنتاج األُ ى
خرى أيضا .ويف احلقيقة فإ َّنه من خالل هذه الدائرة املفهوم َّية الواسعة
وعل حده تعبري
ى يسعى هايدغر إ ىل حتديد نسبة اإلنتاج والعامل الطبيعي.
ى ملفردة الـ بويسس
فإن الطبيعة أو الـ فوسيس( )2هي نوع من اإلنتاج والتكوين أو الـ بويسس( .)3بيد َّ
أن هايدغر َّ
النواة األصلية لبحث هايدغر -أي نسبة اإلنتاج والتكنولوجيا إ ىل العامل ّ -ى
تتجل من خالل
طرح مفهوم عدم اخلفاء أو االنكشاف( )4الظاهر .وقد أشار هايدغر يف بداية األمر إ ىل َّ
أن
َّ
«كل منتج يمتد بجذوره عند اإلغريق يف اإلنكشاف أو (عدم اخلفاء)»( .)5ويف احلقيقة َّ
فإن
إن هذهثم أجاب بالقولَّ : هايدغر قد تقدَّ م بالسؤال َّأوال :ما هي الذات التكنولوج َّية؟ ّ
إن االنكشاف ُيم هثل رشطا يف مجيع أنواع التصنيع(.)6
الذات هي االنكشاف أو عدم اخلفاءَّ .
وعليه يمكن القول :ح َّت ىى التكنولوجيا احلديثة نفسها ُمت هثل نمطا من اإلنكشاف أيضا .ولكن
(1) Poiesis
(2) Phusis
( )3هايدغر ،مارتني ،هستي وزمان (الوجود والزمان) ،ص 1389 ،12هـ ش.
(4) Aletheia
( )5هايدغر ،مارتني ،هستي وزمان (الوجود والزمان) ،ص 1389 ،12هـ ش.
( )6املصدر السابق ،ص .13
❖ 280دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
أن هذا املسار ُيؤ ّدي إ ىل تدمرياملطاف ويف سؤال عن التكنولوجيا ُيعلِن هايدغر رصاحة َّ
ظهور العامل وحمو نسبة اإلنسان والعامل ،والذي يتم التعبري عنه يف املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر
حتت عنوان ترشد( )1اإلنسان احلديث .ويف مجيع هذه املوارد الثالثة ُيرصح هايدغر بشكل
واضح بتصوره للعامل يف قبال التصور الديكارت.
جمرد موضوع خارجي ممتد يف قبال املوجود الذهني .يتم خفض العامل َّ
إن العامل الديكارت َّ
إ ىل موضوع خارجي ،وهذا ُيش هكل من وجهة نظر هايدغر مقدّ مة لتحول العامل ى
إل مصدر
ه َّي ة املفهوم الديكارت للعامل عند هايدغر من حيث إ َّنه طبقا
للطاقة .ويف احلقيقة تكمن أ ّ
لتصور هايدغر للتكنولوجيا جيب إعداد املقدّ مات األنطولوج َّية واملفهوم َّية لسيطرة
التكنولوجيا بشكل مسبق يف الفلسفة وامليتافيزيق.
(1) Unheimlichkeit
❖ 282دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
يرى اختالفا بني األجسام ونفس العامل ،فاجلوهر فيها مجيعا هو االمتداد. بمعنى أ َّنه ال ى
ى العامل،
أ َّما من وجهة نظر هايدغر فال ينبغي اخللط بني العامل واألُمور اليدو َّيةَّ .
إن العامل ُيش هكل
أرض َّية ملفهوم َّية هذه األُمور ،وليس واحدا منها .ى
يرى هايدغر أ َّننا قبل التفكري والتأمل يف
ماه َّية يشء ما ،نستفيد منه بوصفه أداة .ال ْ
أن نعتربها مزجيا من اجلواهر واألعراض ،وال
عل
احلس َّية املتعده دة وال ارتباطا بني املا َّدة والصورة .بل نحن إ َّنام نعمل ى
وحدة للكيف ّيات ّ
إن االمتداد هو اخلصلة الوحيدة املتو هفرة يف متناول اليد،
االستفادة منها وتوظيفها ال أكثرَّ .
خصيصة األمر اليدوي .والعامل بنفسه ليس يف متناول اليد ،بل ُيش هكل أرض َّية يكتسب
وليس ه
يرى متايزا بني العامل واألشياء األمر اليدوي مفهومه فيها ويغدو ممكنا .بيد َّ
أن ديكارت ال ى
املاثلة فيه.
ج -العامل جزء من الذهن أم الذهن جزء من العامل:
عند ديكارت يبدأ البحث من داخل الذهن ح َّت ىى نصل إ ىل عامل اخلارج .وأ َّما يف الواقع
عل الدوام .وأ َّما من َّ
فإن العامل الذي يصفه ديكارت هو جزء من ذهن املوضوع ،ومرتبط به ى
وجهة نظر هايدغر فإ َّن الـ دازين وذهنه وجسمه وأفعاله بر َّمتها تقع داخل العامل ،وبعبارة
مهمة عل الـ دازين والكينونة وذهن َّيتهاَّ .
إن الكينونة -يف -العامل َّ إن العامل مقدَّ م ى ُأ ى
خرىَّ :
ه َّية بالنسبة إ ىل ديكارت هو تفكري املوضوع بالنسبة إ ىل هايدغر ،بيد َّ
أن الذي يكتسب أ ّ
بالعامل.
د -العامل االمتدادي يف قبال العامل الشبكي:
بمعنى َّ
أن العامل عند ديكارت ى اخلصيصة األصل َّية يف العامل هي االمتداد.
أن ه يرى ديكارت َّ
ى
عامل ممتدَّ ،
وإن معرفتنا وعلمنا بجميع األشياء املوجودة داخل العامل تنحرص بإدراكنا ِّلذا
فإن العامل ُيم هثل خصلة شبك َّية ال يمكن اخللط بينها وبني
االمتداد .وأ َّما بالنسبة إ ىل هايدغر َّ
إن االمتداد ُيم هثل واحدا من خصائص األشياء املوجودة داخل العاملَّ ،إال َّأّنا َّأوال:
االمتدادَّ .
فإن االمتداد إ َّنام هو أهم تلك اخلصائص ،وثانيا :ال تقبل التعميم إ ىل ه
كل العاملَّ . ليست من ّ
اخلصيصة األصل َّية يف العامل عند
أن ه من خصائص األمر الذي يكون يف متناول اليد .يف حني َّ
هايدغر تكمن يف شبك َّيتهَّ .
إن العامل من هذه الناحية عبارة عن شبكة من العالقات التي تعثر
نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ 283
النتيجة:
ُيظى
ى إن التصور الديكارت للعامل كانبااللتفات إ ىل املسار الفكري ِّلايدغر ،يمكن القولَّ :
ه َّية يف مجيع مراحل النشاط الفكري ِّلايدغر .وبالنظر إ ىل جمموع هذا املسار جيب القول:
بأ ّ
إن ديكارت -من وجهة نظر هايدغر ُ -يم هثل التوجه األساس للتفكري وامليتافيزيق احلديث
َّ
❖ 284دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
* * *
نقد هايدغر ملفهوم العامل يف الفلسفة الديكارت َّية ❖ 285
املصادر:
ديكارت ،رينيه ،تأمالت در فلسفه أوىل (تأمالت يف الفلسفة ُ
األوىل) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :أمحد أمحدي ،ص ،23
انتشارات سمت ،طهران1385 ،هـ ش.
كابلستون ،فريدريك ،تاريخ فلسفه (تاريخ الفلسفة) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :غالم رضا أعواين ،ص ،127
رشكت انتشارات علمي وفرهنگي ،طهران1380 ،هـ ش.
هايدغر ،مارتني ،هستي وزمان (الوجود والزمان) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :عبد الكريم رشيديان ،ص ،9نرش ين،
طهران1389 ،هـ ش .وانظر أيضا :مارتني هايدغر ،الكينونة والزمان ،ص ،54ترمجة وتقديم وتعليق :فتحي املسكيني،
نرش :دار الكتاب اجلديد املتَّحدة ،ط ،1بريوت2012 ،م.
خامتي ،حممود ،جهان در انديشه هيدگر (العامل يف رؤية هايدغر) ،ص 251و ،252انتشارات انديشه معارص،
طهران1384 ،هـ ش( .مصدر فاريس).
Heidegger, Martin. 2002, The Age of The World Picture. Off the Beaten Track.
Edited and translated by Julian Young and Kenneth Haynes. Cambridge University
press.
* * *
هايدغر ناقداً هيغل
(الكينونة والزمان كمنفسحٍ للمساجلة النقديَّة)
()1
فرانك درويش
عل ذلك،
عل الرغم من حتفظ البعض ى
ما انتقده هايدغر يف أعامل هيغل ر َّبام أصبح معروفا ،ى
ومن تشابه فكر الفيلسو َفني يف بعض النواحي هذا التشابه شمل عدَّ ة موضوعات أ ّ
هها: ()2
الكينونة ،الزمان ،التاريخ ،احلقيقة ،والفلسفة .لقد ر َف َض هايدغر جتاوز الكينونة بالطريقة
باألحرى أكثر يشء يستحق التفكر به.
ى التي أوردها هيغل يف بداية علم املنطق ،معتربا َّأّنا
بأن الزمان ُيم هثل ُأفق سؤال الكينونة
وانتقد اعتبار هيغل الزمان وحدة اخلارج السلب َّية ،فقال َّ
حرى ثم فنَّد مقولته القائلة َّ
بأن التاريخ هو عودة الروح إ ىل ذاهتا ،فأعاده باأل ى الرتانسندنتالّ ،
العقالين للكينونة .أ َّما احلقيقة ،فدحض حتديدها اِّليغيل كنتيجة
ه إ ىل البعث الدهري ،وغري
اليوناين ككشف أو انكشاف ذات( .)3وأخريا ،ليست الفلسفة
ه نظر َّية وأعادها إ ىل أصلها
وعل العكس ْ -
أن تعود إ ىل البساطة، األعل ،بل عليها - بالنسبة ِّلايدغر بناء علم أو ِ
العلم
ى ى َ
. 1977.
)3( Unverborgenheit
❖ 288دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
)1( Armut
( )2راجع:
Dominique Janicaud„ ,Hegel -Heidegger ‘: un ? dialogue ’impossible “Heidegger et
l’idée de la phénoménologie, (Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 1988), p.8 - 145.
)3( Der deutsche Idealismus (Fichte, Schelling, Hegel) und die philosophische Problemlage
der Gegenwart (1929), GA, Bd. 28 ; ; Hegels Phenomenologie des Geistes, GA, Bd. 32
„Die Negativität“ 39 / 1938„ ,Erläuterung der„ Einleitung “zu Hegels Phänomenologie
des Geistes “1942, in Hegel, GA, Bd. 68 ; ; Seminare : Hegel-Schelling, GA, Bd. 86
„Hegel und die Griechen“ 1958 ,in Wegmarken, GA, Bd. 7„ ; Hegels Begriff der
Erfahrung“ 43 / 1942 ,in Holzwege, GA, Bd. 5.
( 2017 - 2016 )4للطبعة األملان َّية يف األعامل الكاملة.
“ Hegel und das Problem der Metaphysik ,”in Vorträge, GA, Bd. 80.
هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ 289
النقد:
عندما يقرأ هايدغر هيغل ناقدا ،ال يقوم بذلك يف سبيل «جتديد» الفلسفة ،فالفيلسوف -مهام
إن ُنجده ده بطريقة أو ب ُأ ى
خرى»( )5نقد هايدغر ال قوته -يف جوهره -ما ْ
يكن « -خيتنق وخيِّس َّ
يسعى إ ىل التوفيق بني فكر هيغل وتطور الفكر أو املجتمع أو العلم احلديث ،وال يريد ْ
أن ى
يموضعه بشكل يتناسق مع تفاعالت جديدة ،فيخنق التجديد عمق فكر موضوعه .ال
يبحث هايدغر عن هيغل َّية حديثة كام كان هناك أفالطون َّي ٌة حديث ٌة .ما هو النقد هنا إذا؟
عل حتديد سؤال هيغل ،بل يبحث ٌ
متسائل مع هيغل ،والتساؤل ال يقترص ى حوار
ٌ هو َّأوال
عام مل ُيس َئل يف فلسفة هيغل ،ليس أل َّنه ال خيصها ،بل أل َّنه يف صميمها كسؤال حصل تغييبه،
َّ
سعى إ ىل إمتامه يف
ى ال فقط عند هيغل ،بل يف تاريخ امليتافيزيقا بأمجعه ،تاري ٌخ أمت َّه هيغل أو
)2( Hermann
نقص تساؤل خيص األساس الذي تقوم عليه وال تدخل يف ٌ ويف هذا ال َقلب
ِ
ُأصوله« :امليتافيزيقا التي تب ُلغ متامها هي التي ى
يبقى سؤال امليتافيزيقا األساس خارجا عنها(»)2
إل السؤال األساس وتفسري غيابه الحقا يف هذه املقالة.
سننظر إذا ى
قمة
انتظار متفك ٌهر لتجل كاشف ،يبدأ من البداية ،وهذه البداية هي َّ
ٌ والنقد ثانيا ،هو
العمل ،أي االبتداء بالفعل
إل اخرتاق هذا َنسعى ى
ى فلسفة هيغل ،أي املنطق اِّليغيل :علينا أ ْن «
من بداية هذا املنطق»( )3عند ذلك ،وعنده فقط« ،ما ُيش هكل خصوص َّيته يظهر بوضوح بشكل
يكفي لقراءته»( )4الفكر الذي يرافق هيغل متسائال ،يبدأ تساؤ َله مع هيغل ،ح َّت ىى يظهر له يف
سياق عمله ما هو موجو ٌد يف البدء ،ما يستحق السؤال لكونه أساس ًّيا ،وقد غاب و ُغ هيب .هذا
ِ
املنرصم. مرشوع هايدغر يف وقتها ،وقد تابعه ح َّت ىى أواخر مخسينات القرن
اخلالق نكشف عنه هنا ونتابعه يف طريقه ،لنجد ما ُيو هلده و ُيب هينه .سنتناول ما ُيم هيزه
النقد َّ
من خالل النظر يف تشعباته املرتابطة يف توجهها نحو فكر جديد هو الفكر اِّلايدغري ،فنبدأ
ثم ننظر يف مشكلة الروح ،فالسؤال األساس يف أصل الفلسفة، بمفهوم إمتام الفلسفةّ ،
ثم سؤال ماه َّية اإلنسانُ .تش هكل كل من هذه املح َّطات يف الوقت ذاته
فانفتاح سؤال الزمان ّ
مراحل نقد َّية وانطالقا واجبا نحو فكر فلسفي جديد.
اإلمتام:
املعروف عن هيغل ما رفعه هو نفسه كشعار وما ارتفع به من بعده اِّليغليون اليساريون
واليمينيونَ ،أال وهو َّ
أن فلسفة هيغل أمت َّت الفلسفة ،أي امليتافيزيقا وتارخيها ،بأمجعها.
)1( Wissenschaft
(2) GA, Bd. 80, p. 300“ : sich die Metaphysik vollendet, in der die Grundfrage ausgeblieben
ist”.
“(3) GA, Bd. 80, p. 284 : in das Werk einzudringen, d.h. wirklich mit dem Anfang dieser
Logik beginnen.”.
(4) GA, Bd. 80, p. 284“ : Dabei springt uns schon hinreichend deutlich ihre Eigentümlichkeit
in die Augen.”.
هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ 291
َّأوال ليس إمتام الفلسفة مرادفا لنهاية التاريخ ،كام عند فوكوياما مثال( ،)1وليس اِّلدف هنا
الدخول يف املناظرات العديدة التي أ َّد ىى إليها هذا املوضوع وال يزال .ما هيم هايدغر هو
التمعن بام جيعل من فلسفة هيغل إمتاما للميتافيزيقا ،كام أبرزه الحقا يف حمارضة «هيغل
واإلغريق(ِّ »)2لذا السبب ينظر بالتحديد ،يف حمارضة «هيغل ومشكلة امليتافيزيقا» ،إ ىل علم
«منطق» وكوّنا منطقا هو بالضبط ما جيعل منها إمتاما مليتافيزيقا
ٌ املنطق« :ميتافيزيقا هيغل هي
الغرب»( )3هذا اإلمتام يعني به هايدغر «الوصول ه
بكل املحاوالت واملواضيع األساس َّية ،التي
ظهرت يف سياق تاريخ امليتافيزيقا ،إ ىل أبعد ّناياهتا واجلمع بينها وصياغتها يف جمموعة
متوازنة ومتامسكة( »)4هذا بالفعل ما ُيؤ هكده هيغل نفسه يف علم املنطق« :علم املنطق ،الذي
ُيش هكل امليتافيزيقا األصيلة أو الفلسفة التأمل َّية املحضةَّ ،
تم جتاهله ح َّت ىى اليوم»( )5ال ُيمل
املنطق هنا معناه التقليدي« :ليس من املسموح( )6التفكري هنا بذلك الفرع التقليدي من
عل هذا املنطق ْ
أن يزول»( )7وذلك أل َّنه «علم قوانني الذهن والعقل الرضور َّية… املعرفة ،بل ى
(1) Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man (New York : Macmillan,
1992).
(2) “Hegel und die Griechen ,”in GA, Bd. 9, p. 362 - 365.
“(3) GA, Bd. 80, p. 283 : Hegels Metaphysik ist Logik und gerade als diese Vollendung der
abendländischen Metaphysik”.
„(4) GA, Bd. 80, p. 224 : Unter Vollendung der abendländischen Metaphysik verstehen wir
das einheitlich gestaltende Zum-Austrag-bringen der wesentlichen Ansätze und Motive,
(5) G.W.F. Hegel, Wissenschaft der Logik (Meiner : Leipzig, 2008) p. 6...„ : die logische
Wissenschaft, welche die eigentliche Metaphysik oder reine spekulative Philosophie
ausmacht, hat sich bisher noch sehr vernachlässigt gesehen“.
“(7) GA, Bd. 80, p. 284 : Bei dem Titel Logik aber dürfen wir nicht an die überlieferte
Schuldisziplin denken. Diese überlieferte Logik soll gerade zum Werschwinden gebracht
werden”...
❖ 292دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
علم شكل الفكر فقط»( )1يعني هايدغر بذلك طبعا ،يف هذا التذكري بتعريف كانط لهَّ ،
أن
يني .من هنا االنقالب الكامل
املنطق التقليدي ال هيتم بام َّدة الفكر ،أي بالكائن يف وجوده ال َع ه
املنطق
ُ للمنطق عند هيغل ،من ابتعاده عن الكائن يف التقليد « -مبدئ ًّيا وّنائ ًّيا يستبعد
[التقليدي/املدريس] الكائن»( - )2إ ىل توجهه الرضوري نحوهُ :يؤ هكد هيغل منذ بداية علم
«املبارش َّ
الالحمدَّ د»( )3انتقل املنطق مع هيغل إذا من َ املنطق أ َّن كتابه خيص «الكينونة» التي هي
الشكل إ ىل الكائن .ولكن ،ما هو هذا الكائن؟ هل هو الكائن العيني كام نجده يف املقطع 29
من ( )Sein und Zeitمثال()4؟ يمكننا اإلجابة بوضوحَّ :
كال .وهنا بيت القصيد.
أن انتقال املنطق هبذا الشكل مع هيغل مس هلطا أنظاره ى
عل مسألة الكينونة ُيذ هكرنا هايدغر َّ
ْ -
وإن يكن يف صلبها العدَ م والتغري ُ -يبقيه يف امليتافيزيقا بامتياز:
ِّ
املستقل عن الكيان يف املنطق التقليدي] هذا املنطق ال يتناول الفكر [بمعنى الفكر
ولكن الكينونة هي موضوع امليتافيزيقا .ما أن يبدأ املنطق ح َّتى
َّ بل الكينونة .نعم!
نجد أنفسنا معه يف صلب امليتافيزيقا(.)5
وضعه يف جمال الكينونة كام حدَّ دهتا
تبدل املنطق مع هيغل مل يوصله إذا إ ىل العين َّية ،بل َ
الوسطي أو منطق بور امليتافيزيقا .قد ترك هيغل فكر املنطق املدريس ،سواء األُرسطي منه أو َ
روايال( ،)6ولكنَّه دخل بمنطقه يف فكر بقي يف كون َّية مفاهيم امليتافيزيقا« .موضوع» منطق
«ُي هول نظره إ ىل ما
يتصور [املفاهيم]» ،أي الذي ُ
َّ بمعنى «الفكر الذي
ى هيغل «هو الفكر»،
(1) GA, Bd. 80, p. 285 …„ : die Wissenschaft von den notwendigen Gesetzen des
Verstandes und der Vernunft…oder …von der bloßen Form des Denkens“.
(2) GA, Bd. 80, p. 286“ : Das Seiende …ist grundsätzlich und für immer aus der Logik
ausgeschlossen”.
(3) Hegel, Wissenschaft der Logik, p. 101“ : Das Sein ist das unbestimmte Unmittelbare”.
(4) GA, Bd. 2, 29.
“(5) GA, Bd. 80, p. 286 : Nicht vom Denken handelt diese Logik, sondern vom Sein. Das
Sein aber ist das Thema der Metaphysik. Mit dem Anfang der Logik stehen wir schon in
der Metaphysik”.
)6( Port Royal
293 ❖ هايدغر ناقد ًا هيغل
- بحسب قول هيغل- أي، أي حقيقة الكائن،) هذه اجلواهر هي حقيقة األشياء6(»املنطق
هو ليس.فكر ُيم هكن كينونة الكائن
ٌ - باختصار- املنطق، » عقالن َّية املوجود،«الـ لوغوس
)7(
)1( Begriffene
)2( Dinge
(3) GA, Bd. 80, p. 286“ : Das Denken als begreifendes, d.h. im Hinblick auf das Begriffene ;
aber nicht dieses oder jenes Begriffene, sondern das Begreifen der Dinge, des Seienden
als solchen ”.
(4) GA, Bd. 80, p. 286“ : Der Begriff der Dinge, jenes, das den Begriff der Dinge denkt, das
ist für Hegel die Sache …in der Bedeutung … realitas der Dinge, was die überlieferte
Metaphysik auch essentia, Wesenheit, nennt”.
)5( Wesenheiten
(6) Hegel, Wissenschaft der Logik, p. 9...“ : die Entwicklung alles natürlichen und geistigen
Lebens, auf der Natur der reinen Wesenheiten, die den Inhalt der Logik ausmachen ”.
(7) Hegel, Wissenschaft der Logik, p. 27 … : der Logos, die Vernunft dessen, was ist”...
)8( ens realissimum
(9) GA, Bd. 80, p. 296 …“ : ens realissimum, das, all Realitäten, Wesenheiten in sich
einigend, die Ermöglichung der Wiklichen ist. Damit ist die Metaphysik als Logik der
absoluten Vernunft zur spekulativen Theologie geworden”.
❖ 294دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
األعظم ،ذروة الكائنات( ،)1وسبب ذاته( ،)2كام سيقول هايدغر الحقا يف تفكيكه لتاريخ
امليتافيزيقا(.)3
بمعنى ْ
أن تكون كل األسئلة ى نستخلص اآلن َّ
أن إمتام امليتافيزيقا مع نظام هيغل« ،ليس...
وو َجدَ ت جوابا ّنائ ًّيا ِّلا» ،بل هو -وهنا نقد هايدغر الواضح امللح « -إمتام
قد ُحده َدت َ
املرجوة»( )4مع هيغل تصل امليتافيزيقا إ ىل ذروهتا،
َّ تساؤل مل يكن ملوقفه يف البداية َّ
كل األصالة
دخل يف الـ ( ،)Λόγοςلوغوس (الكالم/اللغة) ،الذي يقفل احللقة ،أي النظام ح َّتى إّنا ُت ِ
ى َّ
يبقى خارج أسئلة ككل الكينونة .ىكل املوجودات ،فيصبح اسم الكائنات ه عل ذاتهَّ ،
بأرسه ،ىِ
أن تسأل ما هيامليتافيزيقا السؤال عن التوجه الذي قد َّاّتذته منذ البداية نحو الكائن ،دون ْ
()5
معني للسؤال األُرسطي عن كينونة الكائن
كينونة الكائن .إمتام امليتافيزيقا هو إمتام توجه َّ
معنى الكينونة
ى األعل والفكر احلاضن ه
لكل الكائنات ،تاركا السؤال عن ى يصل إ ىل الكائن
التحري عن الكينونة ومعناها
ّ وراءه ،ملتحفا بالنسيان .دفع هذا االكتشاف هايدغر إ ىل
وتوجهاهتا ،وعن الفارق األنطولوجي بني الكينونة والكائن( ،)6وحقيقة الكينونة(.)7
الروح:
دخل املنطِق -كام رأينا -يف ديناميك َّية جتعل منه مسألة حتول وتغري .هذه
اإلمتام عملي ٌة هو ي ِ
ُ َّ
الديناميك َّية التي م َّكنَت حتريك املفاهيم املنطق َّية هي من عمل الروح ،ف ُت ه
وجب تناول هذا
املفهوم وتبيني تداعيات النقد اِّلايدغري له.
الروح كام يريدها هيغل هي فعل الفكر الـ لوغوس ديناميك َّيته ا َّ
خلالقة عرب التاريخ ُتعطي
الفن .الروح يف فعلها حتل التناقض بني الفاعل/الذات
التاريخ والفكرة أوجههام كام تظهر يف ه
واملفعول/املوضوع:
عرف نفسه يف ِ
عرف نفسه كعالقة العامل باملعلومُ ،ي ِّ
جوهر العقل روح ...الروح ُي ِّ
التناقض الذي ُتش ِّكله الكينونة الواعية ...يأخذ التناقض إىل قلب ذاته ...يف الروح
يتم ّتاوز التناقض بني الذات واملوضوع(.)1
هذا احلل هو يف ّناية املطاف تصالح اِّلو َّية املتمزه قة مع ذاهتا ،ما يعني اكتشاف وتعزيز
رتك( )2لألنا َّ
والالأنا ،للفكر والطبيعة ،للذات واملوضوع( ،»)3يكون هيغل بذلك «االنتامء املش َ
قد ارتفع بالتناقضات يف تاريخ املعرفة وامليتافيزيقا وح َّقق التوافق بني الداخل واخلارج،
وأخرج الفكر من عزلته املنطق َّية وامليتافيزيق َّية واإلبستيمولوج َّية.
ينتقل الروح ،يف تارخيه امل َّت جه نحو التوفيق بني التناقضات املذكورة ،من الوعي بشكله
إل ومعناه العا َّمني ،وهو ُير هكز ى
عل الكائن املوجود أمامه« ،يف نفسه» ،وهو الوعي ككينونة ،ى
ثم
الوعي بالنفس ،أي التفكري العكيس بالنفس ،التفكري «لنفسه» ،وهو الوعي كجوهرّ ،
أخريا إ ىل العقل ،وهو التوحيد بني الوعي والوعي بالنفس ،هو «يف نفسه ولنفسه» ،وهو
الوعي كمفهوم( .)4يعني كل ذلك يف ّناية املطاف َّ
أن الروح «قد ارتفع عن نسب َّية التنافر بني
(1) GA, Bd. 80, p. 288„ : Das Wesen der Vernunft …ist Geist …Der Geist … Weiß… sich
als das Verhältnis des Wissenden gegen das Gewußte ; er weiß sich in diesem Gegensatz
des Bewußtseins. In diesem Sichwissen hat er den Gegensatz in sich …
zurückgenommen. Der Gegensatz von Subjekt und Objekt ist im Geist aufgehoben“.
(2) Zusammengehörigkeit
(3) GA, Bd. 80, p. 292 „ : Zusammengehörgkeit von Ich und Nicht-Ich, Intelligenz und
Natur, Subjekt und Objekt“.
(4) GA, Bd. 80, p. 288 .
راجع أيضا:
Der deutsches Idealismus (Fichte, Schelling, Hegel) und die philosophische Problemlage
der Gegenwart (1929), GA, Bd. 28, p. 218 .
❖ 296دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ِ
توص َل إ ىل أنبل الق َمم الوجود َّية والفكر َّية ،أي ّ
احلر َّية ،بل الذات واملوضوع» ،أي هو قد َّ
()1
احلر َّية بذاهتا ،يف عمله املتواصل نحو التجاوز والوصول واإلمتام للذات« :تصور
وهو ّ
اِّليغيل ،هناك -
ه احلر َّية»( ،)2ولكن -يف ه
كل ذلك -يف صلب فعل الروح الذات لنفسها ،هو ّ
مفر منه لكونه من صميم املنهج اِّليغيل.
سنرى -تناس أسايس ال َّ
ى كام
حل التناقض بني الذات واملوضوع ليس ًّ
حال ّنائيا أو إجيادا ملا ُيل مكاّنام أن َّ
نلمح َّأوال َّ
فكر ًّيا بشكل يتجاوز املقوالت امليتافيزق َّية وامليتافيزيقا عا َّمة ،بل هو حل يضع التناقض
موحدا( .)3أ َّما هذا الوضع جانبا
ه العلوُ ،يتفظ به،
ه جانبا ،فريتفع به ،وبالتال ،يف هذا
ثمرة إدخال السلب الفاعل يف املنطق األنطولوجي .نلمح مشكلة واالرتفاع الذي ي َّتبعه فهام َ
سميه هيغل «بالسلب
وُيده دها بشكل أوضح هايدغر يف سنة :1958ما ُي ه
هذا السلب هناُ ،
باألحرى ذلك املوقع الذي
ى الذي ي َّتصل بنفسه» ،ليس باحلقيقة سلب ًّيا« .سلب السلب هو
عل الرغم منآخر :هذا الروح -ى بمعنى َ
ى يفرض الروح نفسه فيه كمط َلق ،بفضل عمله»(.)4
ِ
ديناميك َّيته املو هفقة بني الثبات واحلركة ،املقوالت واملوجودات ُ -يؤ ّدي يف آخر املسار ى
إل
املُط َلق بوصفه غايته ال ُعليا« :جوهر العقل ،ماه َّيته ،حقيقته ،هو الروح» ،وهو -يف جتاوزه
لنسب َّية التعارض بني الذات واملوضوع « -مل ي ُعد خيص واحدا دون َ
اآلخر ،بل ما جيعل
ِ
النسب َّية ممكنَة ،وهو إذا املُط َلق» ،مفاد ذلك أ َّنه ى
عل الرغم من إقحامه التغري ،أي التاريخ ،يف ()5
(1) GA, Bd. 80, p. 288„ : Der Geist hat sich über die Relativität des Gegensatzes von Subjekt
und Objekt erhoben“.
(2) GA, Bd. 80, p. 290„ : Sichselbstbegreifen ist Freiheit“.
(3) GA, Bd. 80, p. 288.
„(4) GA, Bd. 9, p. 437 : Wenn die Thesis durch die Antithesis negiert, diese ihrerseits durch
die Synthesis negiert wird, wo waltet in solchem Verneinen das, was Hegel die sich auf
sich beziehende Negativität nennt. Sie ist nichts Negatives. Die Negation der Negation ist
vielmehr diejenige Position, in der sich der Geist durch seine Tätigkeit selbst als das
Absolute setzt“.
„(5) GA, Bd. 80, p. 288 : Das Wesen der Vernunft, das, was sie ist, ihre Wahrheit, ist
Geist …nicht mehr relativ, nicht mehr etwas Beziehungsweises, aber zugleich
Ermöglichung der Relativität, ist er das Absolute“.
هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ 297
(1) GA, Bd. 32, p. 42“ : Hegels» Phänomenologie des Geistes «ist …sie die aus dem Leit -
und Grundproblem der abendländischen Philosophie geforderte …in eine bestimmte
Richtung gezwungene absolute Selbstdarstellung der Vernunft (ratio )- λόγος...
Wirklichkeit Hegel im absoluten Geist gefunden hat”.
(2) GA, Bd. 32, p. 16 …„ : das endliche Wissen zu überwinden in der Gewinnung des
unendlichen Wissens“.
(3) GA, Bd. 32, p. 108“ :Die Zusammengehörigkeit von Unglück und Glück”...
❖ 298دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
السؤال األساس:
هذا االنكامش احلاد الذي تفرضه امليتافيزيقا يف تارخيها ،بقي فيه هيغل كذروة وكون َّية ،أل َّنه مل
تتضمنه .هنا تكمن حقيقة التساؤل عن
َّ يسأل السؤال األساس ،الـ ( )Grundfrageالذي
هيغل كتساؤل مرافق له ،كام حدَّ دنا يف البداية« :مع هيغل ،نسأل هذا السؤال
معنى ذلك؟ ما هو هذا السؤال؟ وما الذي حصل له يف
ى األساس…»( ،)1ونسأل اآلن :ما
امليتافيزيقا كام نعرفها؟
ما ُيم هيز السؤال األساس هو أ َّنه «ما ْ
أن نسأله بالفعل ،ح َّت ىى جيعل من امليتافيزيقا مشكلة،
املؤسس فقط، ما ُيؤ ّدي إ ىل حتويل الفلسفة بكاملها» .السؤال األساس ،ليس إذا السؤال ه
()2
(1) GA, Bd. 80, p. 282“ : Wir fragen mit Hegel jene Grundfrage”...
(2) GA, Bd. 80, p. 282 …“ : wenn sie wirklich gestellt wird, die Metaphysik zum Problem
werden läßt, d.h. die Philosophie im Ganzen verwandelt”.
(3) GA, Bd. 80, p. 281 …“ : innerste Not der Existenz des Menschen”.
هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ 299
إل كينونة الكائن… سؤال امليتافيزيقا األساس ليس «ما هو الكائن ككائن؟» ،بل «ما
هيدُ ف ى
هي الكينونة ككينونة؟» باختصار :سؤال امليتافيزيقا األساس هو الذي يسأل عن جوهر
وعمق جوهر ما جيعل الكائن يكون ككائن ،مهام يكن الكائن ومهام تكن طريقة وجوده»(.)1
عام ُيمل جواهبا هذا السؤال مل تسأله امليتافيزيقا منذ بدايتها ،أو جاوبت عنه دون ْ
أن تسأل َّ
من تساؤل هو يف صلب الكينونة ،فكان جواهبا انحجابا أكرب للسؤال األساس .جاوبت
امليتافيزيقا« :الكينونة هي ( οὐσίαأوسيا/جوهر)[ ،و]هذا اجلواب بقي خارج التساؤل؛ ال
سؤال بعد ذلك َّإال عن معرفة ما هي الـ ( οὐσίαأوسيا/جوهر) ،وكيف يمكن حتديدها
بشكل أكثر د َّقة»( ،)2فبقيت الكينونة بذاهتا خارج السؤال طوال تاريخ الفلسفة .أ َّما يف إمتام
الفلسفة يف ميتافيزيقا هيغل ،فبقي «يف احلقيقة هذا السؤال بالضبط غري مسؤول ،كام كانت
احلال يف ه
كل امليتافيزيقا من قبله»( ،)3قد بقي هيغل يف السؤال عن الـ οὐσία
عل الـ οὐσία أن ُ
يدخل يف الكينونة بذاهتا .بقيت الكينونة عنده مبن َّية ى (أوسيا/جوهر) دون ْ
(أوسيا/جوهر) ،واضعا هيغل إ ّياها كموضوع للمعرفة اخلالصة ،أي املط َلق ،الذي -كام
عل التاريخ ،وينهيه.
عل املتناهي ،أي ى رأينا ُ -يتوي فيه َّ
الالمتناهي ى
إل تكرار وإعادة السؤال ،بدءا من ه
االجتاه الذي أخذته الـ من هنا بالطبع احلاجة ى
مرة ما هو خمفي يف ِ
ألول َّ
املوجه/املرشد) ،وذلك بشكل ُي هبني َّ َّ (( )Leitfrageالسؤال
املوجه التقليدي -ما هو الكائن؟ -
َّ باطنها« :اإلمكان َّية الوحيدة املتبق َّية هي إعادة السؤال
(1) GA, Bd. 80, p. 303, 304 …„ : gefragt ist nach dem Seienden als Seienden, nach dem Sein
des Seienden …Die Grundfrage der Metaphysik lautet nicht : Was ist das Seiende als
? solches ,sondern : Was ist das Sein als solches ? ,kurz : Die Grundfrage der
Metaphysik ist die nach Wesen und Wesensgrund dessen, was das Seiende, was und wie
immer es sein mag, als Seiendes sein läßt“.
„(2) GA, Bd. 80, p. 303 : Die gefallene Antwort selbst, daß Sein οσία sei, bleibt außer
Frage ; gefragt wird nur noch, was die οσία sei und wie sie näher zu bestimmen sei.
(3) GA, Bd. 80, p. 282 …“ : die Frage, die …in der Metaphysik Hegels - und damit aller
Metaphysik vor ihm - ungefragt geblieben ist”.
❖ 300دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) GA, Bd. 80, p. 317„ : Es bleibt nur die Wiederholung der überlieferten Leitfrage : Was ist
? das Seiende ,aber so, daß sich dieses Fragen auf den ihr verborgenen
zugrundeliegenden Grund zurückbringt, d.h. so, daß die konkrete Frage nach dem Wesen
und Wesensgrund des Seins zur Ausarbeitung und wirklichem Geschehen gelangt .
„(2) GA, Bd. 32, p. 59 ?: Das Leitproblem aber der antiken Philosophie ist die Frage τί τν
Was ist das Seiende? Und diese Leitfrage können wir verwandeln zunächst in die
(1) “Hegel und die Griechen ,”in Wegmarken, GA, Bd. 9, p. 440 …“ : die ἀλήθεια ist das
Rätsel selbst – die Sache des Denkens ”.
«الـ λήθειαهي اللغز بذاته -مسألة الفكر».
خصصها هايدغر ألُسطورة الكهف:(ُ )2أشري هنا بالطبع إ ىل الدراسة التي َّ
“Platons Lehre von der Wahrheit ,”in Wegmarken, GA, Bd. 9.
(3) GA, Bd. 9, p :441 .Hegel erfährt das Sein, wenn er es als das unbestimmte Unmittelbare
begreift, als das vom bestimmenden und begreifenden Subjekt Gesetzte. Er kann
demgemäß das Sein im griechischen Sinne, das εναι nicht aus dem Bezug zum Subjekt
loslassen und es in sein eigenes Wesen freigeben. Das aber ist das Anwesen, d. h. das aus
der Verborgenheit her in die Unverborgenheit vor-Währen“.
❖ 302دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
تاريخ له صفتان أساس َّي تان ،ها االختفاء املتزايد وراء تراكم املفاهيم ٌ للكينونة
فهم تقوم عليه ويسود يفامليتافيزيق َّية ،والفهم املحدَّ د ِّلا يف كل من املذاهب الفلسفية ،وهو ٌ
«املبارش غري املحدَّ د»( .)1هذا يعود إ ىل تكرار ما ذكرناه
َ ك هل ثناياها .فهم هيغل للكينونة هو
العيني يف
ه اهتامم بالعين َّية والكائن
ٌ أعاله ،أي َّ
إن إقحام التاريخ يف الكينونة عند هيغل مل يرافقه
حتديداته ،بل كان وبقي اهتامما مثابرا يف ما هو غري حمدَّ د ،فتو َّجه املذهب وروحه -يف ّناية
املطاف -نحو املط َلق.
ُ
السؤال األساس يبقى مع ذلك ،يف جوهر الكينونة كـ ( εἶναιفِعل الكينونةَ /
كان) ،ى
موجودا ،فيظهر ملن يسأل ابتداء من أصل الكينونة ،يف حتديدها كـ .Anwesenما يقوله
هايدغر هنا ،يف سنة ،1958هو امتدا ٌد ملا أ َّكده يف سنة .1930فلن ُعد إذا إ ىل «هيغل ومشكلة
امليتافيزيقا»!
أن الكينونة هي الـ ( οὐσίαأوسيا/جوهر) بقي نفسه خارج السؤال… اجلواب القائل َّ
أن يأخذ أصالة أكرب فيذهب أبعد سائال :لِـ َم قول :كينون ٌة ،يعود ولكن َأال جيب ى
عل السؤال ْ
دائم؟ إل ِ
حضور ٌ
ٌ قول: ى
تم تصوره ،يف الزمن القديم وما تبعه ،كجوهر
()3
إذا كان جوهر كينونة الكائن قد َّ
()2
(1) immer
(2) Anwesenheit ist Gegenstand
“(3) GA, Bd. 80, p. 305 : Beständig ist das“ Immer .”Anwesenheit ist Gegenwart. Immer
und Gegewart sind bestimmte Charaktere der Zeit”.
(4) GA, Bd. 32, p. 116“ : Hegel spricht zwar zuweilen... vom Gewesensein”...
“(5) GA, Bd. 32, p. 116 : Hegel die Zeit ebenso bestimmt wie er das Ich bestimmt, d. h.
logisch-dialektisch, aus der schon vorausentschiedenen Idee des Seins”.
(6) GA, Bd. 80, p. 305“ : Oder ist gerade diese Frage nach dem Zusammenhang von Sein und
Zeit die Grundfrage in der Tat ”.
«أو قد يكون بالفعل هذا السؤال عن العالقة الوطيدة بني الكينونة والزمان هو السؤال األساس».
(7) GA, Bd. 32, p. 116.
❖ 304دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) GA, Bd. 32, p. 89„ : Aber indem es dergleichen verlangt, kehrt es sich doch gerade nie an
das Diesige selbst, das je das Hiesige ist. Das Hier verlangt das Hiesige und stößt es doch als
je dieses von sich. Es bleibt das leere und gleichgültige Hier, die vermittelte Einfachheit, d.
h. die Allgemeinheit - wie das Jetzt“.
(2) GA, Bd. 80, p. 305 - 306.
(3) GA, Bd. 80, p. 311.
(4) GA, Bd. 80, p. 311.
(5) GA, Bd. 80, p. 313.
(6) GA, Bd. 80, p. 315“ : Ist am Ende der Begriff der Ewigkeit nicht der Begriff der tiefsten
”?Endlichkeit, der Endlichste aller Begriffe
هايدغر ناقد ًا هيغل ❖ 305
وبأي طريقة؟ هو الـ «بِدون»( ،)2(»)1هو الـ «بدون» ،أي هو ما جيعل من َّ
الالمتناهي ه الداخل.
المتناهيا ،هو يعطي الـ «بدون» ّناية .وهذا العطاء أو اإلعطاء هو بالضبط ما مل َيره هيغل ومل
أن يراه من داخل ُن ُظم امليتافيزيقا .إعطاء الزمان لذاته هو السؤال
يكن من املمكن له ْ
األساس ،وهو أصل األنطولوجيا املخفي .الزمان إذا هو أصل ومفتاح الفهم والكشف
األنطولوجي هو مركز الكينونة وجوهرها .من هنا انطلق هايدغر ،ومن هنا ظهرت إشكال َّية
الكينونة والزمان.
جممل هذه العمل َّية النقد َّية التي دخلنا فيهاَّ ،
أن من يتبني بوضوح يف َ نضيف أخرياَّ ،
أن ما َّ
سأل ويسأل ويسائل جوهر الكينونة هبذه الطريقة الكاشفة ،الفينومينولوج َّية ،هو املتناهي
بامتياز .ينتمي أو يعود جوهر الكينونة إ ىل املتناهي« :املط َلق ال يعرف كينونة الكائن .ليس
عل الوعيهناك من كينونة وفهم للكينونة َّإال حيث هناك تناه للـ دازَين . »...ليس ى
()4 ()3
(1) ohne
(2) GA, Bd. 80, p. 315“ : Darin die Zeit und gerade sie. In welcher Weise ? Das ohne.
(3) Dasein
(4) GA, Bd. 80, p. 319 : Das Absolute kennt kein Sein des Seienden. Sein und
Seinsverständnis nur, wo Endlichkeit des Daseins.
(5) GA, Bd. 80, p. 305 - 306 : Zeit aber kein Ding, sondern Seele, Subjekt.
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب306
بل هو بالعكس، ولكن إذا كان… الزمان ليس شيئا هنا أمامنا أو موضوعا،الشكل
بمعنى
ى فبلورة السؤال األساس للميتافيزيقا، يف قلب الذات،) يف نفس اإلنسان1(يتخ َّبط
.)2(مشكلة الكينونة والزمان تصبح سؤاال خيص اإلنسان
هذا، ولكن.السؤال األساس خيص إذا اإلنسان ومفتاح فهمه والتوسع به هو يف اإلنسان
،عل أنواعها
اإلنسان ليس موضوع األنثروبولوجيا أو ح َّت ىى البسيكولوجيا أو علوم الطبيعة ى
هو، أي اإلنسان، الذات- السؤال عن كينونة الكائن.وليس بالطبع ما يدرسه علم االجتامع
تصبح الذات (الوعي) مركز
ُ غائب عن ه
أل َّنه «يف الفلسفة احلديثة،كل أوجه الذات احلديثة ٌ
َّ ذلك،)3(»«اإلشكال َّية
) حتت ضغط سؤال جوهر الكينونة4(ألن ديكارت ال يصل إ ىل األنا
إل
وجه طريقة تساؤله يأت من سعيه إ ىل الوصول ى
ما ُي ه،وعل العكس
ى بل،»وبالتال… الزمان
fundamentum - «أساس حتمي مطلق للعلم وبالتال للمعرفة الفلسف َّية
السعي إ ىل اليقني املط َلق هو الذي وضع األنا يف.)5(»inconcussum et absolutum
.)6(» فتكون «الكائن احلتمي بامتياز،عل املوضوعات واألشياء
املوقع املركزي الذي ُيكم ى
(1) treibt
(2) GA, Bd. 80, p. 307„ : Wenn Sein aus der Zeit verstanden wird, ja vielleicht notwendig
verstanden werden muß ,Zeit aber nicht …ein vorhandenes Ding und Objekt ist, sondern
in der Seele des Menschen, im Subjekt ihr Wesen treibt, dann wird die Ausarbeitung der
eigentlichen Grundfrage der Metaphysik als das Problem von Sein und Zeit einer Frage
القيام بوثبة نوع َّية فوق الفراغ الذي ترتكه ّناية امليتافيزيقا ،وهي وثب ٌة تتط َّلب شجاعة
الدخول يف املجهول ،الذي هو بالذات القول احلق للكينونة الزمان َّية يف جمال الكائن -هاهنا،
(1) Fichte
(2) Schelling
(3) GA, Bd. 80, p. 309 - 310.
دعى بالـ .Kant Buch
خصصه هايدغر لكانط والذي صدر سنة ،1929ما ُي ى
( )4يف الكتاب الذي َّ
Kant und das Problem der Metaphysik, GA, Bd. 3.
راجع.GA, Bd. 80, p. 309 :
(5) Land
(6) ausgemessen hat
(7) GA, Bd. 5, p. 201 …„ :das Bewußtsein das Land der neuzeitlichen Metaphysik ist, welches
Land jetzt sich selbst als System der Wissenschaft in den Besitz genommen und sich
vollständig ausgemessen hat“.
(8) GA, Bd. 2. 40.
❖ 308دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
الـ دازَين .هذه الوثبة نراها يف الكتاب األسايس الثاين ِّلايدغر بعد الكينونة والزمان ،أي
مساهات يف الفلسفة :يف احلدث ،حيث يرافقها ما ُيم هكن حصوِّلا :القرار الشجاع ،خطر
عل القيام هبا وبناء تاريخ جديد للكينونة(.)1
خسارة العامل واإلنسان ،القالئل القادرون ى
لحة( ،)2إ ىل القيام بورشة نرى اآلن بوضوح َّ
أن مرافقة هيغل الناقدة كشفت عن حاجة م َّ ى
عمل فلسف َّية ّترج بالفكر إ ىل حقول جديدة خارج امليتافيزيقا ومن خالل الفينومينولوجيا
يتوج ب جتاوزها بدورها .مل يعد حتديد الوعي وجماله هو شغل الفلسفة الشاغل ،بلَّ الذي
اكتشاف الـ دازَين وإيقاظه ،دون تفكر انعكايس( ،)3كفضاء ل ه
كل الفلسفات( .)4لورشة العمل
هذه اسم ،هو الكينونة والزمان.
عل فكر يعيد النظر باإلنسان وعالقته بالعامل .إذا كان
التجربة تأت أحيانا كثرية كشاهد ى
كانط قد جدَّ د مفهوم التجربة يف نقد َّيته التي ب َّينَت أخطاء التجريب َّية والعقالن َّية وو َّفقت بينهام،
فأصبح للتجربة رشطان أساسيان ،ماقبيل -عقيل وجتريبي؛ فقد قام هايدغر بتجديد التجربة
يتم بدوره لتكون يف عين َّية الـ دازَين التارخيي ويف زمن َّيته ،أي يف املتناهي .مل يكن لذلك ْ
أن َّ
دون إعادة النظر بالتجربة كام وجدَ ت ذروهتا امليتافيزيق َّية عند هيغل ،أي دون مرافقة هيغل
ميكي ويف املتناهي الذي ارتفعت به الروح نحو َّ
الالمتناهي ،فوصلت إ ىل أبعد يف منطقه الدينا ه
أن تسقط ْ
وأن ُيف هكك هايدغر أسباب وأشكال أن تصل إليه ،قبل ْ
ما أمكن للميتافيزيقا ْ
سقوطها وتداعياته .كشفت لنا حمارضة «هيغل ومشكلة امليتافيزيقا» أ َّنه مل يكن ِّلذه العمل َّية
أن حتصل لوال القراءة النقد َّية اجلديدة ِّليغل ،التي ّت َّلصت من تاريخ طويل ال
التفكيك َّية ْ
نزال نتخ َّبط فيه هو تاريخ اِّليغل َّية اليمين َّية واِّليغل َّية اليسار َّية يف أوجهها الفوضو َّية
واملاركس َّية.
* * *
:املصادر
Dominique Janicaud„ ,Hegel – Heidegger :un‘ dialogue ’impossible? “ Heidegger
et l’idée de la phénoménologie, (Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 1988).
Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man (New York :
Macmillan, 1992).
Heidegger, M, Kant und das Problem der Metaphysik, GA, Bd. 3.
Heidegger„ ,Protocole d’un séminaire sur la conférence“ temps et être ,”
“Questions IV, trans. J. Beaufret and C. Roëls (Paris: Gallimard, 1990).
Hegel, Wissenschaft der Logik. (Meiner : Leipzig, 2008).
“Hegel und die Griechen ,”GA, Bd. 9.
“Hegel und das Problem der Metaphysik ,”in Vorträge, GA, Bd. 80.
„Hegels Begriff der Erfahrung“ 43 / 1942 ,in Holzwege, GA, Bd. 5.
„Hegel und die Griechen“ 1958 ,in Wegmarken, GA, Bd. 7
Der deutsche Idealismus (Fichte, Schelling, Hegel) und die. philosophische
Problemlage der Gegenwart (1929), GA, Bd. 28.
Hegels Phenomenologie des Geistes, GA, Bd. 32.
32„ ; Die Negativität“ 39 / 1938„ ,Erläuterung der„ Einleitung “zu Hegels
Phänomenologie des Geistes “1942, in Hegel, GA, Bd. 68.
* * *
هايدغر ناقداً نيتشه
(إرادة القوَّة وميتافيزيقا الذاتيَّة)
()1
آالن دي بينوا
ور ْفض «العامل فوق املحسوس» لصالح العامل املحسوس الذي ُأعلِن بإعالن «موت اهلل» َ
َر ْسم ًّيا أ َّنه وحده احلقيقي ،بدا نيتشه وكأ َّنه ُهياجم جمال األفكار األفالطون َّية و ُيعلِن عدم
وجود عوامل َخفية( .ح َّتى لو مل تكن رصخة «مات اهلل» رصخة م ِ
لحد وإ َّنام املالحظة اجلل َّية ُ ى َّ
للموت الطارئ والقديم ،وح َّت ىى رصخة ُم َّتسمة بالندم ،تشجب هؤالء املؤمنني باعتبارهم
إن نيتشه رب عن إيامّنم بطريقة ال ينتج عنها َّإال موت اهلل) .يف الواقع َّ ِ
« ُملحدين» حقيقيني ُع ه َ
بعجب بنفسه رصاحة ،أل َّنه قام بـ « َق ْلب» الفكر األفالطوين .وهو يعني بذلك أ َّنه َق َل َ م ِ
ُ
مصطلحات إشكال َّيته .لكن َأال ُيوازي هذا ال َق ْلب( )2التجاوز()3؟ َأال يمكن تفسريه بشكل
إن َو ْصف العامل املحسوس كـ «عامل حقيقي» ،والعامل ما فوق أدق كاكتامل ؟ بعبارة ُأ ى
خرىَّ : ّ
()4
املصدر :جم َّلة االستغراب ،العدد اخلامس ،السنة الثانية1437 ،هـ ،خريف ،2016ص .340 - 328
العنوان األصيل للمقال:
Heidegger،critique de Nietzsche،volonté de puissance et métaphysique de la subjectivité.
اخلاص لكاتبه:
ّ نقال عن املوقع
s3-eu-west-1.amazonaws.com/alaindebenoist/pdf/Heidegger-critique-de-nietzsche.pdf.
(3) Überwindung
(4) Vollendung
❖ 312دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املحسوس كوهم زائفَ ،أال يكفي هذا للخروج من األفالطون َّية؟ و ُيضيف جان بوفريه(:)1
القلب النيتشوي لألفالطون َّية بدوره -يف األفالطون َّية -ليشء ما
ُ َأال يستجيب
خاص باألفالطون َّية التي أصبحت أكثر وضوح ًا يف ضوء عمل َّية َقلبها؟(.)2
عل َّ
أن ُمعارضة يشء ما تعني َحتْام مشاركة هذا اليشء نفسه يف ما لقد شدَّ د هايدغر مرارا ى
أن «ال َق ْلب» األفالطوين الذي يقوم به نيتشه يمتاز بشكل رئيس
ُنعارضه .س ُيؤ هكد إذن َّ
خاصة بام ُيريد «قلبه» ،وهذا ما سيقوده
عل ترسيامت مفهوم َّية أو إِّلامات جوهر َّية َّ
باحلفاظ ى
عرفه
يبقى يف النهاية يف «املوقع امليتافيزيقي األسايس» ،الذي ُي ه عل َّ
أن نيتشه ى إ ىل التأكيد ى
هايدغر بأ َّنه:
الطريقة التي يعتمدها ذلك الذي يطرح السؤال املَبدئي كي يبقى هو نفسه ُمندجم ًا
طورة للسؤال املَبدئي(.)3
بالبنية غري املُ َّ
أ َّما عن كيف َّية إجراء برهنته؟ فذلك سيكون بشكل أسايس انطالقا من تفكري نقدي حول
مفهوم القيمة.
ه َّية ،و ُي َعد عنرصا أساس ًّيا يف نقده ومرشوعه
ُيتل هذا املفهوم عند نيتشه مكانة بالغة األ ّ
أن القيم العليا( )4تفقد قيمتها ( La السواء .كتب نيتشه :ماذا تعني العدم َّية؟ َّ عل ّ ى
ِ
إن العدمية نامجة عن التغلب التدرجيي لبعض الق َيم volontéde puissanceالفقرة َّ .)2
ِ
عل ق َيم ُأ ى
خرى كانت األكثر ُس ُم ًّوا (أو األكثر التي يعتربها نيتشه األكثر دناءة (أو زَ ْيفا) ى
اخلاص ثم ُيبلور يف جمال وجوده ِ أدق يعتقد نيتشه َّ
أصالة) .بتعبري ّ
ه أن اإلنسان ُيسقط تدرجييا ّ
عل العدول ِ ِق َيام ُمستعارة أصل ًّيا من العامل
اخلفي .يف التحليل األخري ارتكز «ّتفيض الق َيم» ى
()5
ه
سوى أعل ما ورائي (أو فوق العامل املا ّدي) الذي ليس ِ
ى عن ق َيم العامل املحسوس باسم مثل ى
(5) arrière-monde
هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ 313
(1) dualism
(2) Jean Beaufret
(3) Logos
(4) Jean Beaufret،op. cit،.pp. 184 - 185.
(5) Agathon
❖ 314دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املطروحة بوصفها الفكرة األُو ىل ،أي القيمة بامتياز .ينتج من ذلك َّ
أن حقيقة الكينونة،
احلقيقة الضعيفة متاما ،ال ُتساوي شيئا بذاهتا -كام كان احلال عند فالسفة ما قبل سقراط
أن احلقيقة الكافية نفسها بنفسها مل تكن بحاجة أبدا إ ىل ْ
أن تكون مكفولة مم َّا الذين يعتربون َّ
عرب عن الـ «أغاثون» الذي ترتبط به« .هكذا هو أرفع منها ،-وإ َّنام فقط باعتبارها ُجت هسد أو ُت ه
يفتتح أفالطون -حتت اسم الفلسفة -إخضاع احلقيقة»(َّ .)1
إن التاريخ الفلسفي ملفهوم
القيمة سيكون تاريخ إخضاع احلقيقة.
تتامهى ُم ْذ ذاك مع وجهة نظر ،وكل قيمة يطرحها هدف ما ،ونظرة ى
عل ما َّقررنا ى كل قيمة
لدى ديكارت الذي
عل نحو أكمل ى أ َّنه ذو قيمةَّ .
إن هذا التعريف احلديث لـ «القيمة» يظهر ى
ُيم هك ن ممارسة الفلسفة من بلوغ أوجها يف تعيني «القيمة الصحيحة» للخريات التي ال ترتبط
َّإال بنا ،وهذا انطالقا من مصدر وحيد للتعيني هو «األنا املُف هكر»(َ .)2ث َّمة نتيجتان رئيس َّيتان
لذلك.
()3
األُو ىل هي ظهور صورة جديدة للحقيقة .مع ديكارت احلقيقة ليست االنكشاف
شفى ا ُملع هلقون القدماء ُغ َّلتهم منها
القدامى ،وال ح َّت ىى «املطابقة» التي ى
()4
ى لدى اإلغريق
القديم ى
تتحول احلقيقة إ ىل «يقني» -
َّ «احلقيقة هي تطابق األشياء والعقل» .من املطابقة البسيطة
نصبة نفسها «بوصفها أمان الوجود»( .)7ال يتساءل تتحول إ ىل «يقني» ُ -م َّ
()6
َّ
()5
«احلقيقة»
ديكارت بشأن الكينونة( ،)8وإ َّنام فقط بشأن الكائن( )9الذي يمكن ْ
أن يعرض نفسه يف ُبعد
(3) aléthèia
(4) adaequatio
(5) verum
(6) certum
(7) Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 20.
(8) Être
(9) Etant
هايدغر ناقد ًا نيتشه ❖ 315
اليقني .وهذا يعني أ َّنه ال هيتم َّإال باملعرفة القابلة ِأل ْن تطرح نفسها كمعرفة للذات .وال يمكن
كل معرفة هي َّأوال خرى ،حيث طرح ُأرسطو -مثال َّ -
أن َّ أن حتدث من دوّنا أي معرفة ُأ ى ْ
زودنا به ِ
عل هذا النحو يمكن ملاه َّية احلقيقة االقرتاب .لليقني الذي ُي ه
معرفة يشء آخر ،وأ َّنه ى
سامها توما األكويني( ))1يستجيب يقني الـ اإليامن يف ما خيص األُمور الغائبة (التي ّ
« »intuitis mentisالذي سيحل َّ
حمل السلطة اإلِّل َّية.
أن تأويل احلقيقة كيقني يتأت ىّى من وجود الذات املُف هكرة التي متتحن نفسها.
ُيؤ هكد ديكارت َّ
إن طرح وجود الذات كحقيقة ُأو ىل أكيدة يقود ى
إل لكن هايدغر ُي هبني يف الواقع عكس ذلكَّ :
َف ْهم ه
كل حقيقة كيقني.
سميه هايدغر «ميتافيزيقا ألول َّية القيمة هي انبجاس ما ُي ه
النتيجة الثانية للتأكيد احلديث َّ
إل «ذات» -أو لِنقل ذلك بلغة هايدغرَّ :
إن تتحول مع ديكارت ى َّ
()2
الذات» .فـ «األنا»
اإلنسان «بوصفه موضوعا( )3يتن َّظم و ُيو هفر األمان لنفسه ُمراعيا استقراره يف مجلة الكائن(.)5()4
مع ديكارت الذات هي التي يصبح علمها التفكري ،أي العلم بذاهتا ،معيار احلقيقة .هذا
يعني بتعبري هايدغر َّ
أن:
أن
ألي عمل َّية استحضار للكائن وحقيقته [ ]...م َّا يعني َّ اإلنسان هو الع َّلة َ ِ
اخلف َّية ِّ
َّ
كل كائن غري إنساين يصبح موضوع ًا هلذه الذات(.)6
أن َث َّمة دورا
باجتاه تصور ذات حمض للحقيقة يعني َّ لكن هذا االنزياح الذي نراه يتس َّلل ه
أساس ًّيا يعود إ ىل القرار ،وبالتال إ ىل اإلرادة .و ُيفيد الكوجيتو الديكارت «أنا ُأف هكر إذا أنا
وأن كينونتي ُيع هينها هذا التمثيل الذي ُأ ه
كونه لذات ،لكنَّه موجود» أ َّنني ُأو َجد ما ُد ْم ُت ُأف هكرَّ ،
أن طريقتي يف متثيل األشياء تبت أيضا يف حضورها أو حضور ما َحتويه يف ذاهتا.
ُيفيد أيضا َّ
(1) Absentibus
(2) le moi
(3) subjectum
(4) Ibid،.p. 23.
(5) Etant
(6) Ibid،.p. 136.
❖ 316دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ك هلها له ى
عل هذه األرض»(.)4
لكن عقيدة العودة األبدية ،أي الصيغة النيتشو َّية لألبد َّية -التي تتجاوز التصور
املسيحي لألبدية كثبات لـ «اآلن»( )5احلارضة لتجعل من األبد َّية العودة الدائمة للمتطابق -
إن الكائن يف جممله هو -يف آن ُتش هكل هي أيضا «إعالنا حول الكائن يف جممله» (هايدغر)َّ .
إن ما ُت ُفك َهر فيه انطالقا من (ويف منظور) العودة
القوة والعودة األبد َّيةَّ ،...
واحد -إرادة َّ
وجهة دائام وفقط نحو ما هو
القوة إرادة بال موضوع ،إرادة ُم َّ
األبد َّية هو ما جيعل من إرادة َّ
أكثر منها.
القوة يف النسيان اجلذري للكينونة لصالح إن إرادة اإلرادة ترتكز عىل حقيقة إرادة َّ َّ
الفعل ،وهذا بدوره ليس له معنى آخر سوى إعادة الفعل أيض ًا ،ودائ ًام يف االنشغال
فضاء جديد ًا(.)6
ً كل مكان عامل ًا فاحت ًا فيه اخلاص ل ُ
ألفق الذي ُيع ِّبئ يف ِّ ِّ
لذلك يقول هايدغر عن العودة األبد َّية إ َّّنا «أعظم انتصار مليتافيزيقا اإلرادة من حيث َّ
إن
اخلاصة» .و ُيضيف هايدغر:
َّ اإلرادة تريد إرادهتا
القوة -
إن الكائن -من حيث هو كائن ولديه امليزة األساس إلرادة َّ
إليكم ما هيمَّ :
ليس بمقدوره أن يكون يف جممله غري عودة أبد َّية لـ «لذات النفس»(.)1
وبالعكس:
جيب عىل الكائن -الذي هو يف جممله عودة أبد َّية لـ «ذات النفس» -أن يتو َّفر من
القوة(.)2 ِ
حيث هو كائن عىل امليزة األساس َّية إلرادة َّ
القوة والعودة األبد َّية
إن هايدغر وهو يذهب بعيدا بتفكريه حول العالقة بني إرادة َّ َّ
أن هذه العالقة ُتقده م من النظرة األُو ىل متييزا ميتافيزيق ًّيا ،أي التمييز بني املاه َّية
الحظ َُّي َ
القوة هي عند نيتشه ماه َّية جممل الكائن ،كينونة الكائن يف جممله ،بينام والوجودَّ .
إن إرادة َّ
املظهر «احليات» له طابع العودة ،فالعودة األبد َّية ُتش ِبه تغيري وجه [أو هيأة] الوجود .كتب
هايدغر:
إن
القوة إىل كينونة الكائن من حيث هو كائن ،ماه َّية( )3الكائن [َّ ]...
تُشري إرادة َّ
ُعرب عن الطريقة التي يكون هبا الكائن يف جممله«العودة األبد َّية لذات النفس» ت ِّ
وجود( )4الكائن»(َّ .)5أما بالنسبة لـ «اإلنسان األعىل» فهو «االسم ا ُملعطى لكينونة
اإلنسان التي تُطابق كينونة الكائن(.)6
عني الكائن يف جممله من خالل ِ ِ يرى هايدغر َّ
أن نيتشه ُيربهن بالرضورة بلغة الق َيم ،أل َّنه ُي ه ى
القوة»(.)7
كمل رضوري من ميتافيزيقا إرادة َّ إن مفهوم القيمة هو «جزء ُم ه القوةَّ .
إرادة َّ
(1) Même
(2) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 228.
(3) essentia
(4) existential
(5) Ibid.،p. 209.
(6) Martin Heidegger،Essais et conférences،op. cit،.p. 144.
(7) Nietzsche،op. cit،.vol. 2،p. 80.
❖ 320دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
عل ُجم َمل الكائن .بالتال كام الحظ هايدغر: جي َع َل من هذه اإلرادة املنظور املفتوح قطعا ى ْ
بأن ُ ْ
تنكشف إرادة القوة من حيث هي الذاتية القصوى التي تُف ِّكر من منظور ِ
الق َيم(.)5 َّ َّ
ِ
َيؤول تعيني ماه َّية احلقيقة عند نيتشه إذن إ ىل تثمني الق َيم ( .)...لكن -وبشكل بالغ
خرى ،كتلك إن استبدال قيمة ب ُأ ى
الد َّقة -نجد إخضاع احلقيقة بواسطة القيمة عند أفالطونَّ .
بالقوة أو بالـ «حياة» ،بالقيمة املُم َّثلة بـ «أغاثون»َّ ،
إن هذا االستبدال ال يعني القطيعة املُم َّثلة َّ
عل إخضاع عل العكس إ َّنه يعني البقاء بداخل األفالطون َّية التي تقوم ى
مع األفالطون َّية .ى
احلقيقة لتعيني ما بواسطة القيمةُ ،مكتفية بإحالل قيمة ُأ ى
خرى ُتع َترب أعظم حمل قيمة ُتع َترب
يبقى هو نفسه.
تتغري القيمة ،لكن تصور احلقيقة ى
ضارةَّ .
أدنى أو َّ
ى
اكتفى األخري بوضع احلقيقة يف وضع َّية
ى لكن نيتشه يذهب أبعد من أفالطون ،ففي حني
خضوع للقيمة ،قام نيتشه بإحالل القيمة َّ
حمل احلقيقةَّ .
إن احلقيقة عند أفالطون خاضعة فقط
القوة ،وإ َّنام
والقوة وإرادة َّ
َّ للخري (أغاثون) .أ َّما عند نيتشه فهي ليست فقط خاضعة للحياة
ُّتتَزل يف ذاهتا وتتطابق معها .ليست احلقيقة هي ما له قيمة َّ
ألّنا «صاحلة» ،بل َّ
إن ما له قيمة
أو نعتربه ذا قيمة فوق ه
كل يشء هو احلقيقةَّ .
إن مفهوم القيمة يتم َّكن أخريا من اخرتاق
مفهوم احلقيقة .فالقيمة ُتف هتش احلقيقة ،بحيث جتنح احلقيقة نفسها ل ُتصبِح قيمة .هذه هي
اخلاصة بانقالب احلقيقة إ ىل قيمة ،والتي -بحسب هايدغر -قد أنجزها نيتشه.
َّ العمل َّية
ِ
إن نيتشه وهو يقرتح تأسيس ق َيم جديدة يظل يف الظاهر ضمن املنظور الديكارت حيث َّ
أن تكون لديه حقيقة اليشء املعروف .بعد ْ
أن ُحت هتم الذات العارفة بواسطة اإلدراك نفسه ْ
عرب عن عامل قيد التحول ،ال يستطيع َّإال االعتامد ى
عل يرفع نيتشه األقنعة عن الفكرة التي ُت ه
وباألحرى كيقني ذات َّ
ألن «ماه َّية الذات َّية جتنح بالرضورة إ ىل الذات َّية ى تأويل احلقيقة كيقني -
غري املرشوطة»( .)1و ُيعلِن هايدغر قائال« :ينبغي علينا َف ْهم فلسفة نيتشه من حيث هي
ميتافيزيقا الذات َّية»( .)2وإذا كانت القيمة وجهة نظر وِّلا امل ُ
دلول نفسه الذي لـ «احلقيقة -التي
سوى مسألة وجهة نظر .لكن يف الوقت عينه َّ
إن ى -صارت -قيمة»َّ ،
فإن احلقيقة مل ُت َعدّ
القيمة من حيث هي وجهة نظر:
ِ
مرة ُحمدَّ دة من خالل طريقة النظر [ ]...بالتايل ،ليست الق َيم شيئ ًا ما هي يف ِّ
كل َّ
موجود ًا بذاته بادئ ذي َبدء ،بحيث ُيمكنها عند احلاجة أن تُصبِح وجهات نظر(.)3
عرب عن إلحدى وجهات النظر ُ -ت ه
ى القوة -من حيث هي َع ْرض غري مرشوط َّ
إن إرادة َّ
عل تعطيلها« :الكائن ُمبت َلع كهدف يف ُمثول َّية
املاه َّية نفسها للذات َّية التي ال يشء قادر ى
الذات َّية»(.)4
ويكتب هايدغر:
فإن َقلب ِ
الق َيم( )5الذي أنجزه نيتشه ال يقوم عىل إحالل أن َّ
كل خري قد ُت ُف ِّحص َّ بام َّ
حمل قِيم متفوقة إىل اآلن ،بل تقوم عىل ما يفهمه منذ اآلن ِ ِ
كق َيم «الكينونة» ق َيم جديدة َّ َ ُ ِّ
«النهاية» «احلقيقة» ،وال يشء َّإال من حيث هو قِيم .يعود قلب ِ
الق َيم النيتشوي يف َ
ِ ()6
كل رضوب تعيني الكائن إىل ق َيم . العمق إىل حتويل ِّ
عى نيتشه بحق َق ْلب األفالطون َّية« ،لكن عمل َّية ال َق ْلب هذه ال ُتلغي املوقف
لقد ا َّد ى
عل العكس َّإّنا تدعمه من خالل املظهر الذي ُتو هلده إللغائه»(.)1األفالطوين األسايس ،بل ى
إن فكر نيتشه ينتمي إ ىل امليتافيزيقا التي ُيم هثل انتهاءها واكتامِّلا.
َّ
ويكتب جان بوفريه:
نيتشه أقرب ما يكون إىل ديكارت بمقدار ما تُفيض زعزعة احلقيقة لصالح اإلرادة
التي ُيش ِّغلها ديكـارت إىل تأويـل نيتيش للحقيقـة كــ ( )wertschätzungيف
القوة .لكنَّه -رسا أيض ًا -أقرب إىل أفالطون منظور اإلرادة نفسها ا ُمل ِّ
جذرة يف إرادة َّ
مرة خاضعة ملا هو أعظم منها ،حيث ألول َّ
بمقدار ما تظهر احلقيقة مع أفالطون َّ
ُيش ِّكل إخضاع احلقيقة حالة أفالطون َّية للميتافيزيقا الغرب َّية التي َيصدر نيتشه عنها
بقدر ما يزداد ُغ ُلوا يف تفحص األفالطون َّية من مجيع النواحي(.)2
للمعنى» ،غياب يربطهى ف هايدغر ِمرارا العامل احلديث بأ َّنه «زمن الغياب الكامل َو َص َ
هايدغر بـ «غياب احلقيقة» الناجم عن نسيان الكينونة وصعود ميتافيزيقا الذات َّية .نفهم
«تتوصل عربه
َّ إل فكر نيتشه كفكرأن باستطاعة هايدغر النظر ى بشكل أفضل منذ ذلك الوقت َّ
ّ
التخيل اخلاصة»( ،)3إكامل امليتافيزيقا التي ُتق هيم الكائن يف
َّ األزمنة احلديثة إ ىل هيأهتا
األنطولوجي الذي ينتج من النسيان وأيضا من ترك الكينونة.
صحة أو صواب َّية نقد هايدغر لفكر نيتشه .وجيب باملقابل
لسنا هنا بوارد النقاش حول َّ
عل الطابع الفريد جدًّ ا لفكره .لطاملا كان لـ نيتشه أعداء ُك ُثر سواء يف حياته أو بعد
التشديد ى
مماته .وهؤالء أخذوا عليه عموما ال عقالن َّيته وعداوته للمسيح َّية و«نزعته البيولوج َّية»
()4
املُ َ
فرتضة ،أو انتاهبم القلق من النتائج التي قد تنجم عن «تطبيق» عقيدته .وال نجد شيئا من
هذا القبيل عند هايدغر الذي ُيعارضه برباهني ُخمتلفة متاما .يعرتف هايدغر بفضل نيتشه
(4) Biologisme
❖ 324دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) kampf
❖ 326دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ينسى املُستمع بصعوبة هنا ربط املسألة بكتاب كفاحي( - )1ليس [ ]...يف حقيقته أي
يشء آخر سوى هذه العدم َّية التي ال يمكنها االستيالء عىل فئة احلقيقة َّإال بصفة أداة
القوة والكفاح(.)2
يف خدمة َّ
بفضل قراءة نيتشه إذن مت َّكن هايدغر من وضع ُأ ُسس نقد أسايس لفكر َّ
القوة املحض،
وكأّنا ُمم هثل
َّ فكر اِّليمنة والتفتيش ّ
الكيل الذي تبدو االشرتاك َّية (القوم َّية) -برأي هايدغر -
أن ذلك الفكر -بعيدا عن الرايخ الثالث نفسه ُ -يم هيز َّ
كل احلداثة يرى َّ
نموذجي له ،لكنَّه ى
بوصفها سببا لقيام إنسان َّية ُمطابقة للامه َّية األساس َّية للتقن َّية احلديثة وحقيقتها امليتافيزيق َّية ،أي
شك يف َّ
أن االندفاع أي جمال كان .بنظر هايدغر ال َّ
قيام إنسان َّية ال يش َء كاف ًّيا بنظرها يف ه
القوة كام نجدها ُجم َّسدة يف االشرتاك َّية
عل هيجان إرادة َّ ؤسس ى الالإرادي الك ّلياين املُ َّ
َّ
(القوم َّية) ،يرتبط بميتافيزيقا الذات َّية ،م يتافيزيقا التفتيش البعيدة عن االختفاء مع الرايخ
كرسة لتدوم ما دامت العدم َّية الناجتة عن نسيان الكينونة .يف
عل العكس ُم َّ
الثالث ،لكنَّها ى
املعنى ُيم هثل درس نيتشه انتقاال بني نقد االشرتاك َّية (القوم َّية) ونقد التقن َّية الذي ليس
ى هذا
األول َّإال ْ
أن يكون مرحلة من مراحله. بمقدور َّ
* * *
:املصادر
Alfred Bäumler،Nietzsche Der Philosoph und Politiker ،Reclam ،Leipzig 1931.
Friedrich Nietzsche, Le crépuscule des idoles، XII2،e partie.
Friedrich Nietzsche،La généalogie de la morale،3.
Friedrich Nietzsche،La Volontéde puissance.
Jean Beaufret،Dialogue avec Heidegger،vol. 2،Philosophie moderne,
Minuit،1973.
Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit. vol. 1.
Martin Heidegger،Essais et conférences،op. Cit.
Martin Heidegger،Chemins qui ne mènent nulle part،op. cit،.
Silvio Vietta ،Heidegger ،critique du national .socialisme et de la technique
،Pardès ،Puiseaux 1993.
* * *
األصل يف التقنيَّة
(دراسة يف نقد أبعادها األنطولوجيَّة)
()1
عل جعفر
صفاء عبد السالم ي
قدر
السؤال عن التقن َّية هو من أبرز حمارضات الفيلسوف األملاين مارتن هايدغر التي يكتنفها ٌ
أن املحارضة -موضوع هذا البحث -ليست إل َّ
غري ضئيل من الغموض .ر َّبام يرجع ذلك ى
كام قرأها عد ٌد من املف هكرين الغرب هيني وصفا للتقن َّية يف عرصنا احلال ،وكذلك ليست بحثا
عل إنسان هذا
تارخي ًّيا يف تطور التقن َّية احلديثة ،كام َّأّنا ليست حماولة لتفادي ويالهتا املد همرة ى
العرص(.)2
إن حمارضة (السؤال عن التقن َّية) غامض ٌةَّ ،
ألن موضوعها ليس التقن َّية ،وإ َّنام األصل يف َّ
أن السؤال عن التقن َّية عند هايدغر ليس ٌ
سؤال عن األصل أو املاه َّية .ويبدو َّ التقن َّية ،فهي
سوى السؤال عن الوجود( ،)3والسؤال عن حركة التحول( )4من نسيان الوجود إ ىل حضور
ى
سنرى يف سياق البحث.
ى الوجود كام
عل التقن َّية احلديثة ،فهو عندما إن موقف هايدغر من التقن َّية أبعد من ْ
أن يكون هجوما ى َّ
يسعى إ ىل مواجهة التحدّ ي
ى يتناول مسألة التقن َّية بدءا من اليونان وح َّت ىى العرص احلديث ،إ َّنام
عل إنسان اليوم ،وهو ينشد يف سعيه هبذا التفكري التأميل احلقيقي يف الوجود ْ
أن الذي تفرضه ى
يتجاوز ميتافيزيقا الذات الكالسيك َّية( ،)5بحيث يكون هذا التفكري هو االستجابة الوحيدة
(ُ )1أستاذة الفلسفة احلديثة ،رئيس قسم الفلسفة -ك ّل َّية اآلداب جامعة اإلسكندر َّية -مجهور َّية مرصالعرب َّية.
(2) Sallis, J. Heidegger and the Path of Thinking Duquese, Uni. Press, U.S.A., 1970, P. 158.
(3) Ibid, p. 159.
(4) Kehre rcturning
(5) Langan, T .The Meaning of Heidegger; Aceitical Study of the Existentialist
Phenomenology, Routledge & Kegan Paul Ltd, London, Great Britain, 1959, p, 192 - 193.
❖ 330دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
حرة فقط إذا ح َّققت لوجودنا اإلنساين فإن عالقتنا بالتقن َّية سوف تصبح عالقة َّ إذا َّ
عل ماه َّية التقن َّية( .)1ويف ذلك أشار هايدغر إ ىل الوهم املض هلل َّ
بأن التقن َّية احلديثة هي االنفتاح ى
أن التقن َّية جيب َّأال ُيساء تفسريها بوصفها َّ
جمرد تطبيق للعلم ورأى َّ
ى تطبيق للعلم الفيزيائي(،)2
ٌ
عل ماه َّية التقن َّية ،ذلك َّ
أن يتأسس ى الطبيعي الريايض ،فضال عن رأيه ب َّ
أن العلم احلديث ذاته َّ
النظر َّية الفيزيائ َّية احلديثة عن الطبيعة ُمت ههد السبيل ال للتقن َّية وإ َّنام ملاه َّية التقن َّية احلديثة ،كام َّ
أن
العلوم احلديثة تنتمي إ ىل تلك املاه َّية ،وهذه املاه َّية ليست تعبريا عن العالقة املتبادلة بني
العلم والتقن َّية ،وإ َّنام هي بمثابة الكشف عن املاه َّية املشرتكة الت يتسيطر عليهام(.)3
تطبيق لنتائج العلم احلديث -أ ًّيا كان
ٌ أن القول الشائع َّ
بأن التقن َّية هي نستخلص مم َّا سبق َّ
صحته -يبتعد متاما عن حمور اهتامم هايدغر الرئييس وهو السؤال عن ماه َّية التقن َّية
من أمر َّ
ٌ
سؤال عن ماه َّية الوجود. الذي هو بدوره
أمر حمايدٌ ،ويمكن استخدامها بصورة إجياب َّية أو سلب َّية ،وع ىل َّ
إن التقن َّية -يف حده ذاهتا ٌ -
عرفنا ماه َّية
أن هذا األمر احليادي ال ُي هأن ي َّتخذ قراره بشأن هذا االستخدامَّ ،إال َّاإلنسان ْ
يرى هايدغر.
التقن َّية كام ى
()4
(1) Ibid.
(2) Heidegger, M .Die Frage ,..p.13.
(3) Sallis J.Heidegger and the path of Thinking , P.161.
(4) Kockelmans, J,J .On the Truth of Being, P.230.
(5) Techné
(6) Ibid. P.231.
(7) technology, technicity, technique.
❖ 332دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
بأن املصطلحات اإلنجليز َّية التالية مشت َّقة من الكلمة اليونان َّية ( ،)technéوهي:
( )1يمكن القول َّ
(( ،)machination, enframing, technology, technik, techniqueالفن ،الصناعة اليدو َّية) يف مقابل
كلمة ( )scienceالعلم.
Cp. Inwood, M. A Heidegger Dictionary, P. 209.
(2) Heidegger, M .Die Frage ,p. 20.
(3) technités
يتصرب ،أ َّما عند
َّ ّتنى ( )technéتتَّفق مع ( ،)epistemeوكالها يعني :يعرف أو
( )4قبل أفالطون كانت ى
سيأتى بيانه:
ى ُأرسطو فقد أصبحت ى
تعنى اإلحضار ( )forth-a bringingكام
Cp. Kockelmans, J :.On the.P.233.
( )5عبد الغ ّفار مكاوي :مقال حذاء فان جوخ يف مدرسة احلكمة ،دار الكاتب العرب للطباعة والنرش،
القاهرة ،1970 ،ص 302و.303
(6) techné
(7) Die schonen Künste. the fine arts.
(8) Poiésis
(9) Poietisches Poetic
(10) Heidegger, M .Die Frage ,p.20.
األصل يف التقن َّية ❖ 333
ّتنى
ى فريى هايدغر أ َّنه ح َّت ىى عرص أفالطون ارتبطت كلمة
ى أ َّما عن األمر الثاين،
أن نشعر باألُلفة مع
وأن كال الكلمتني يعني ْ
( )technéبكلمة ( )epistemeأي املعرفةَّ ،
وأن تتو َّفر لدينا جترب ٌة معه ومعرف ٌة به والكلمتان ُت ه
عربان عن املعرفة ْ يشء ما
()1
(1) das Sichauskennen in etwas, das Sichversehen auf etwas . to be entirely at home in
(5) allétheuein.
(6) Machen making.
(7) Veferting manufacturing.
(8) Ibid. S.21.
(9) Langan, T .the Meaning of Heidegger ,P. 193.
❖ 334دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
َّ
الالحتجب(.)2()1
أن الشعر عند اليونان هو وجو ٌد من العدم حضورَّ ،
وأن هذا احلضور كان يرى هايدغر َّ
ى
واضحا قبل ه
كل يشء يف الطبيعة أو الـ ،Physisوهذا احلضور ّ ى
يتجل من خالل اليشء ذاته.
ّى
يتجل يف يشء ّتنى بدورها صور ٌة من صور (اإلحضار) ،وهذا اإلحضار يرى َّ
بأن الـ ى كام ى
الفن والصناعة ،حيث يشارك اإلنسان يف إعادة تشكيل املا َّدة واملنظور ،ويف
آخر من خالل ه
توصلوا أيضا إ ىل الفنون إحضار اليشء إ ىل الوجودَّ .
إن اليونان -من وجهة نظر هايدغر َّ -
ّتنى ،حيث تلقوا بانفتاح ك َّلام يوجد ،وحاولوا الكشف عن الوجود يف ه
كل ما العقل َّية ى
قابلهم ،كام حاولوا السيطرة عليه ،وتلك السيطرة جت َّلت يف الفلسفة اليونان َّية.
ّتنى هو بمثابة املصدر احلقيقي ي َّتضح مم َّا سبق َّ
أن مفهوم هايدغر ملاه َّية التقن َّية بوصفها ى
نوع من
سلوب لإلحضار وهو بدوره ٌ
ٌ ّتنى معرف ٌة كاشف ٌة و ُأ
لعرص التقن َّية احلديث ،فالـ ى
ّتنى بمعناه اليوناين القديم -من حيث املصدر املنبثقة عنه
الكشف ،والتقن َّية احلديثة مثل الـ ى
ّى
يتجل من خالله ذلك سلوب للكشف ،والوجود عندما يسود كل ما يوجد إ َّنام
ٌ -هي ُأ
الكشف.
عل
فإن اإلنسان يف العرص التقني احلديث مل يعد يفرض سيطرته ى ومن ناحية ُأ ى
خرىَّ ،
اخلاص رافضا ظهور األشياء كام هي
ه بمعنى أ َّنه مل يعد يتم َّثل الواقع وفقا لتصوره
ى الواقع،
عل ه
كل ما يوجد ،فهناك عالق ٌة وألن الكشف الذي ُُي هققه الـ ى
ّتنى يفرض سيطرته ى َّ عليه،
وثيق ٌة بني مصري الوجود والفعل اإلنساين ،كام سيأت بيانه(.)3
تعقيب:
عل تفسري
نحاول يف هذا التعقيب اإلجابة عن السؤال التال :ما النتائج التي تر َّتبت ى
ّتنى؟
هايدغر ملاه َّية التقن َّية بوصفها ى
األعم
ّ باملعنى
ى ّتنى -كام أوضح هايدغر -هو معرف ٌة ورؤي ٌة النتيجة األُوىلَّ :
أن الـ ى
(1) alétheia
(2) Kockelmans, J,J .On the Truth ,..P.233 - 234.
(3) Lovitt, W :.the Question ..PXXIV, XXV, XXVIII.
األصل يف التقن َّية ❖ 335
سلوب
ٌ أي نوع من أنواع الصنعة ،وإ َّنام هو ُأ
للكلمة ،فهو وفقا ملا ذهب إليه اليونان ال يعني َّ
من أساليب املعرفة ،أي إدراك الوجود بام هو موجو ٌد ،وجوهر هذه املعرفة هو احلقيقة أو
ّ
جتيل الوجود وظهوره من اخلفاء.
وإنتاج ،وصور ٌة من صور اإلحضار:
ٌ إبداع
ٌ بمعنى أ َّنه
ى ّتنى هو شعر النتيجة الثانيةَّ :
أن الـ ى
إحضار اليشء إ ىل الوجود ،وإعادة تشكيل املا َّدة واملنظور ،وهذا اإلحضار بدوره ُيم هثل نوعا
من الكشف.
بمعنى معرفته ،وهذه
ى ٌ
ودخول يف جتربة معه ّتنى هو ُألف ٌة مع اليشء النتيجة الثالثةَّ :
أن الـ ى
عل ذلك اليشء ،أو بالكشف عنه.
زودنا باالنفتاح ى املعرفة ُت ه
بمعنى
ى املتحجب
ه نوع من الـ أليثيا أي الكشف عن ّتنى هو ٌ
أن الـ ى النتيجة الرابعةَّ :
احلقيقة ،فالتقن َّية يتم إحضارها يف جمال حدوث احلقيقة أو الكشف.
رأى اليونان - النتيجة اخلامسةَّ :
أن الـ ّتنيس ليس هو الصانع اليدوي ،وإ َّنام هو -كام ى
()1
(1) technités
(2) Seturung regulating
(3) Sicherung securing
(4) das herausfordern Entbergn.the challenging revealing.
(5) Heidegger, M .Die Frage .p. 24.
❖ 336دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
عل ه
كل ما وأساس هذا األُسلوب من الكشف نجده ى
لدى اإلنسان عندما ُياول السيطرة ى
يقع خارج ذاته ،حيث يتم َّثله وجيعله موضوعا يف متناول اليد(.)1
ولكن ما هو األساس الذي يقوم عليه هذا الكشف؟
قوى اإلنسان ،بحيث جيد نفسه مندفعا نحو يرى هايدغر َّ
أن الطاقات الطبيع َّية تستثري ى ى
وجه الكشف الذي يتحدّ ىى ،أي َّ
إن اإلنسان يف غمرة اهتاممه بالكشف الذي يتحدّ ىى قواه ُي ه
يبقى النداء ومصدره حمتجبني(.)2
إليه ندا ُء التحدّ ي بحيث ى
ثم توزيعه ،وجتزئته
يتحول يتم ّتزينه ّ
َّ يرى هايدغر َّ
أن املنفتح( )3يطرأ عليه التحول ،وما ى
أساليب
ٌ وإعادة صياغته من جديد .إذا االنفتاح والتحول والتخزين والتجزئه( )4إ َّنام هي
للكشف ،وهذا الكشف ال يصل إ ىل ّناية ما ،علام َّ
بأن اإلنسان ُياول الكشف عن الواقع عن
طريق تنظيمه بوصفه خمزونا( )5و َّ
أن هايدغر ُيم هيز ما بني املخزون( )6واليشء( ،)7فالطائرة يف
تتحول إ ىل خمزون ،وتدين يف حضورها
َّ حال عدم إقالعها تكون شيئا ،ويف حال إقالعها
الستخدام اإلنسان ِّلا(.)8
ولعل أصل فكرة الطبيعة بوصفها خمزونا يرجع إ ىل النزعة الذات َّية يف امليتافيزيقا َّ
القوى
ى الكالسيك َّية ،ومن َث َّم إ ىل تطور العلم احلديث .فالفيزياء جتعل الطبيعة إطارا م َّتسقا من
ثم السيطرة عليها ،بحيث يمكن القول َّ
بأن كشف التحدّ ي قد التي يمكن حساهبا سلفا ّ
عل الفيزياء قبل ْ
أن ّتضع تقن َّية اآللة للتطور. سيطر ى
َّ
إن مصطلح املخزون الذي يستخدمه هايدغر يف توضيح طريقة حدوث األشياء يف
معنى اإلنشاء أو اإلنتاج املوجود يف الشعر بمعناه األصيل
ى انتامئها إ ىل الكشف ي َّتخذ
( ،)1()Poéssisفضال عن َّ
أن املخزون ي َّتخذ شكل التحدّ ي بحيث تصبح الطبيعة مصدرا
للطاقة يمكن استخراجها وّتزينها وأخريا استخدامها .بعبارة ُأ ى
خرى َّ
فإن الطاقة التي كانت
وتم ّتزينها وتوزيعها واستخدامها ،وهذه الف ّعال َّية
حتولت اآلنَّ ،
حمتجبة يف الطبيعة قد َّ
أن الكشف ال يصل قط إ ىل ّنايته كام سبق عل الرغم من َّ
أساليب للكشف ،ى
ُ اإلنسان َّية إ َّنام هي
بيانه.
تعقيب:
أن ُُي ِدث إنقالبا يف مفهومه عن العلم احلديث ،بحيث أصبح تطور
مت َّكن هايدغر من ْ
عل إدراكه للحقيقة بوصفها كشفا،
العلم احلديث ،والفيزياء الرياض َّية ،وتقن َّية اآلالت ،رهنا ى
وفهمه للطبيعة بوصفها خمزونا للطاقة بعيد األمد .نحاول يف هذا التعقيب اإلجابة عن
عل تفسري هايدغر للكشف بوصفه نداء للتحدّ ي؟
السؤال التا ىل :ما النتائج املرت هتبة ى
أ َّما عن نتائج التفسري فهي كام ييل:
النتيجة األُوىلَّ :
أن النزعة الذات َّية( )2يف امليتافيزيقا الكالسيك َّية هي املسؤولة عن فكرة
الطبيعة بوصفها خمزونا ومن َث َّم تقف وراء تطو ر العلم احلديث ،حيث جتعل الفيزياء من
القوى يمكن حساهبا سلفا والسيطرة عليها.
ى الطبيعة إطارا م َّتسقا من
فِّس طريقة حدوث األشياء يف انتامئها إ ىل النتيجة الثانيةَّ :
أن املخزون يف رأي هايدغر ُي ه
معنى اإلنتاج املوجود يف الـ ( )Poiésisأو الشعر بمعناه األصيل ،وي َّتخذ
ى الكشف ،وي َّتخذ
شكل التحدّ ي بحيث تصبح الطبيعة مصدرا للطاقة يمكن استخراجها وّتزينها لتصبح يف
متناول اليد.
أساليب
ُ عل املوجود ،والتحول والتخزين ،والتجزئة إ َّنام هي النتيجة الثالثةَّ :
أن االنفتاح ى
أن اإلنسان ُياول الكشف عن الواقع عندما يقوم بتنظيمه لكشف ال يتو َّقف ،فضال عن َّ
بوصفه خمزونا.
( )1تعني كلمة Ge.stellباإلنجليزية الوضوع a positionأو جتميع يشء ما ( )something put togetherأو
بمعنى ( )positionأي وضع أو مكان، ى اإلطار ( )a frameworkوالكلمة األملانيَّة مشت َّقة من ()stall
عرب عن أسامء مجعيَّة ِ
والسابقة geتعني ( )Withأو ( )togetherأي معا بالعربيَّة ،واستُخد َمت فيام بعد لتُ ه
بمعنى كل ما يتع َّلق بأفعال
ى مثل ( )Gebirgeأي سلسلة جبل َّية ،و( )Gem..tمن ( ،)mutأو الشجاعة
بمعنى ( ،)giftأو
ى عرب عن نتيجة فعل ما مثل ()Geschenk
املعربة عن الشجاعة ،كام ُت ه
ومشاعر اإلنسان ه
هدية من الفعل هيدي (.)give - schenken
)(Cp. Inwood, m .A Heidegger Dic ,p.210
(2) Ibid. p.31.
(3) Ibid. p.32.
األصل يف التقن َّية ❖ 339
صنع اإلنسان .إذا ماه َّية التقن َّية تستقر يف التجميع بوصفه أحد جت ّليات املصري ،وهي ال
وإن مل تكن من صنعه وحده. بمنأى عن اإلنسانْ ، ى حتدث
عل
ألن اإلنسان أساسا ى أن ماه َّية التقن َّية ليست مسألة إنسان َّية خالصةَّ ،
النتيجة الرابعةَّ :
الطريق إ ىل الكشف الذي ال ُيدث عن طريق اإلنسان وحده ،وإ َّنام يتل ّق ىى اإلنسان نداء
الوجود للقيام هبذا الكشف.
رسل اإلنسان إ ىل طريق الكشف ،وهذا النتيجة اخلامسة :التجميع إرسال للوجود :ي ِ
ُ
التجميع ليس أمرا تقن ًّيا ،إ َّنه األُسلوب الذي ينكشف من خالله ما هو موجو ٌد ،علام ب َّ
أن
وُيده د ماه َّية التاريخ بأرسه ،ليس
إل الكشف ُعل الطريق ى اإلرسال الذي يضع اإلنسان ى
حر َّية اإلنسان بقدر انتامئه إ ىل جمال اإلرسال ،بحيث يصبح
ملزما بجرب اإلنسان ،وإ َّنام تتحدَّ د ّ
منصتا ملا يمليه عليه نداء الوجود.
عل الكشف عن احلقيقة،
احلر َّية عند هايدغر هي جمال املصري الذي يعمل باستمرار ى إذا ّ
ولكن ب ُأسلوب خاص ال يرتبط أساسا باإلرادة أو بالعالقة الع ّل َّية املألوفة.
َّإال بتنظيم املخزون ،ح َّت ىى إ َّنه يعترب نفسه خمزونا ،ويف الوقت نفسه يعترب نفسه س هيد األرض بام
بأن َّ
كل ما يلقاه اإلنسان يوجد فقط أن يسود االنطباع َّ
عل ذلك ْ
يف ذلك من مفارقة ،ويرت َّتب ى
أن اإلنسان يف ه
كل مكان وزمان إ َّنام إل وهم آخر مؤ ّداه َّ
ما دام من صنعه ،و ُيؤ ّدي هذا الوهم ى
أي
عل وجه اخلصوص مل يعد يلتقي بذاته أو بامه َّيته يف ه يلتقي بذاته ،واحلق َّ
أن إنسان اليوم ى
مكان.
َّ
إن اإلنسان يقف دائام يف انتظار حتدّ ي التجميع وهو يف ذلك ال ُيدرك هذا التجميع
أن ُيدرك أ َّنه ذلك املنادي ،وخيفق من َث َّم يف اإلنصات ى
إل بوصفه نداء ،فضال عن أ َّنه خيفق يف ْ
الطريقة التي يوجد هبا من خالل ماه َّيته ،ومن َث َّم ال يلتقي أبدا بامه َّيته.
أن التجميع ُُي هولفريى هايدغر َّ ى أ َّما عن الطريقة الثانية التي يظهر من خالِّلا اخلطر،
عل ف ّعال َّية اإلنسان ،فإنَّه ُيؤ هثر ى
عل اإلنسان إ ىل نوع من التنظيم ،وعندما ُيسيطر هذا التظيم ى
املعنى احلقيقي للكشف بوصفه جت ّليا
ى ه
كل إمكان َّية للكشف( ،)1فضال عن َّ
أن التجميع ُيجب
للظهور ،أي إنَّه ُيجب الكشف ذاته ،واحلقيقة أو الـ أليثيا التي حتدث بحدوثه .إذا ُيجب
جتيل احلقيقة ،و ُيسيطر عليها ،ما يعني َّ
أن املصري الذي يتَّجه يف إرساالته نحو التنظيم التجميع ّ
إ َّنام هو اخلطر احلقيقي.
ِ
ألول وهلة من ق َبل اآلالت أشار هايدغر إ ىل َّ
أن التهديد الذي يواجه اإلنسان ال يأت َّ
عل اإلنسان من حيث ماه َّيته ،استنادا إ ىل َّ
أن التجميع وأجهزة التقن َّية ،فاخلطر احلقيقي ُيؤ هثر ى
عل الدخول يف كشف أصيل( ،)2أو جتربة احلقيقة األصل َّية(.)4()3
ُهيده د بإنكار قدرته ى
أن السؤال عن التقن َّية هو السؤال حول التجميع( )5الذي ُيدث فيه الكشف كام أشار إ ىل َّ
واحلجب معا ،أي الذي حتدث فيه احلقيقة.
يرى هايدغر -إ َّنام ُهتده د الكشف ،حيث يتم استنفاد ويعني ذلك َّ
أن ماه َّية التقن َّية -كام ى
َّ
إن التجميع يف ماه َّية التقن َّية ال ُيجب فقط طريقة الكشف ،وإ َّنام ُيجب أيضا الكشف
ذاته ،أي احلقيقة التي حتدث معه؛ أي َّ
إن التجميع ُيجب بحق نور حقيقة الوجود(.)1
يرى هايدغر -ال صلة له باملخاطر التي حتدق باإلنسان احلديث
إذا اخلطر احلقيقي -كام ى
يف ه
كل مكان وزمان ،وال باخلطر الذي ُتس هببه أكثر األسلحة تدمريا لإلنسانَّ .
إن اخلطر
احلقيقي هو احتجاب الوجود ،فاألمر هنا ليس وصفا للموقف التارخيي للتقن َّية بقدر ما هو
وصف لتجمع الوجود الذي ي َّتجه بذاته إ ىل اإلنسان .كام َّ
أن من تفرض عليه التقن َّية سيطرهتا، ٌ
فهو ال يزال عاجزا عن االستامع أو رؤية أعمق أرسار الوجود حتت سيطرة التجميع أو
ناجم عن ماه َّية التجميع ،حيث
ٌ الـ Ge-stellإ َّن اخلطر احلقيقي -كام يراه هايدغر -
معنى الوجود
ى إل النسيان( ،)2ويف هذا التحول الذي ُيجبيتحول الوجود من احلضور ى َّ
يكمن اخلطر احلقيقي بالنسبة لإلنسان ،حيث يفقد عالقته احلقيق َّية بنفسه وباآلخرين هذا من
جمرد وسيلة لتبادل املعلومات ،بدال من ْ
أن تكون جتربة ناحية ،ومن ناحية ُأ ى
خرى تصبح اللغة َّ
اإلنسان يف الفكر والوجود(َّ .)3
إن أعظم األخطار( )4ليغيش أبصارنا عن أكثر احلقائق أصالة
يف ماه َّيتنا أو يف طبيعتنا األساس َّية واملنقذ( )5هو إدراك ماه َّية ذلك الغياب(.)6
- 2ما ينقذ (حل األزمة):
عل املراحل التالية:
حل األزمة أو االجتاه نحو ما ينقذ يتم ى بأن َّ
يمكن القول َّ
املرحلة األُوىل :السؤال عن ماه َّية التقن َّية ا ِّّتاه نحو ما ينقذ:
يقول هايدغر مقتبسا عن هيلدرلني :لكن هناك حيث يكون اخلطر هناك أيضا ينمو ما
ينقذ(.)7
يرى هايدغر أ َّن الفعل ينقذ يف معناه املألوف إ َّنام يشري إ ىل العمل ى
عل إيقاف ما ُهيده دنا ى
()1
ح َّت ىى يعود األمان والطمأنينة كام كان احلال من قبل؛ ومع ذلك َّ
فإن الفعل ينقذ يعني عند
مرة
ألول َّ
هايدغر أكثر من ذلك .إ َّنه يعني العودة إ ىل األصل أو املاه َّية وذلك إلحضار املاه َّية َّ
يف صورهتا احلقيق َّية( ،)2ففي اللحظة نفسها التي ُيتجب فيها الوجودَّ ،
فإن ما ينقذ ي َّتخذ
عل ماه َّية التقن َّيةَّ ،
فإن التجميع أو الـ Ge- جذوره من هذا االحتجاب ،وإذا ما ط َّبقنا ذلك ى
ُ stellيجب( )3يف ذاته ما ينقذ( ،)4ولكن -يتساءل هايدغر َ -أال يمكن للنظرة الفاحصة يف
مدى يمكن ملا ينقذ ْ
أن أي ى ماه َّية التجميع بوصفها مصريا للكشف ْ
أن ُتظهر ما ينقذ؟ وإ ىل ه
يرى هايدغر أ َّنه وفقا لكلامت الشاعر فليس لدينا احلق يف
ينمو حيث يوجد مكمن اخلطر؟ ى
عل ما ينقذ مبارشة دون ما إعداد ،حيث أن نتو َّقع أ َّننا سوف نكون قادرين ى
عل السيطرة ى ْ
يكون اخلطر(.)5
باألحرى
ى إن األمر املثري للدهشة يف نظر هايدغر ليس َّ
أن عاملنا قد أصبح تقن ًّيا متاما ،وإ َّنام َّ
أ َّننا مل نستعدّ بعد للتحول الكامل نحو ما ينقذ ،وأ َّننا ما زلنا عاجزين عن مواجهته بطريقة
تأمل َّية بحيث نضع التفكري التأميل وجها لوجه أمام التفكري احلساب(.)6
عل إدانه العلم والتقن َّية ،ولن و ُيؤ هكد هايدغر يف هذا السياق َّ
أن التفكري التأميل لن يعمل ى
أن يضع تصورا ألُسلوب التعامل مع التقن َّية ُيول دون يدعو إ ىل التخلص منهام ،وإ َّنام ُياول ْ
أن تسيطر علينا أو ُحت هولنا إ ىل َّ
جمرد عبيد. ْ
يتعني علينا ْ
أن ُنف هكر يف حضور الوجود ذاته بوصفه موضوعا خليقا رى َّ ومن ناحية ُأخ ى
أن نتساءل َّأوال كيف يمكننا ْ
أن ُنف هكر ،أل َّنا لتفكري هو الفعل احلقيقي، بالتفكري ،ولذلك علينا ْ
عل إحضار الوجود إ ىل اللغة .فاللغة تكفل الطريق الذي ينبغي ْ
أن يسلكه كل أل َّنه يعمل ى
يسعى إ ىل فعل التفكري ،وبدوّنا يفتقر كل فعل إ ىل ال ُبعد األصيل الذي عن طريقه
ى إنسان
يتضمنه ذلك من الدخول
َّ يتو َّقف ُأسلوب اإلنسان يف الوجود ،واستجابته لنداء الوجود بام
خاصة هذه االستجابة
َّ يف عالقة انتامء مع ه
كل ما يوجد ،والتفكري التأميل هو بصفة
األصل َّية(.)1
ويمكن القول َّ
بأن التفكري التأميل يتجاوز املبارش والواضح ،ويبحث يف العالقة بني
اإلنسان والوجود من خالل الكشف الذي ُُي هقق االنتامء بينهام ،كام أ َّنه خيتلف عن التفكري
لدى اليونان وغريهم ،واإلفادة مم َّا سبق التفكري
احلساب ،أل َّنه يدور يف فلك الرتاث الفكري ى
ب نحو األمام ينحرص
جمرد عودة إ ىل الوراء ،وإ َّنام هو توث ٌ
حترر من كونه َّ
تفكري قد َّ
ٌ فيه ،وأل َّنه
يف التخطيط والتنظيم والتجهيز لالستخدام( )2الذي ي َّتسم به التفكري احلساب.
عل ذاته أن التفكري التأميل هبدف العودة إ ىل الوجود ال يمكنه ْ
أن يربهن ى وغني عن البيان َّ
ّى
يتجل من مثل املعرفة الرياض َّية ،وليس ذلك أل َّنه ّ
أقل شأنا من العلوم الدقيقة ،وإ َّنام أل َّنه
نتحول من نسيان الوجود إ ىل مصري
َّ املوجه إلينا كي ُنف هكر ،وكي
َّ خالل استجابتنا للنداء
الوجود(.)3
املرحلة الثانية :الكشف وما ينقذ:
أن أن َّ
كل مصري للكشف هو بمثابة منحة( )4تكفل للمنقذ يف هذا املصري ْ ذهب هايدغر إ ىل َّ
ألن هذه املنحة هي َّأول ما ُُي هقق لإلنسان املشاركة يف الكشف.
يزداد وينمو ،ذلك َّ
إل
خرى ى إذا اإلنسان يرتبط بحدوث احلقيقة ،واملنحة التي يتم إرساِّلا بطريقة أو ب ُأ ى
الكشف هي املنقذ من حيث هو كذلك ،ذلك َّ
ألن املنقذ يرتك اإلنسان ليدرك ماه َّيته
الصميمة ،وتلك املاه َّية التي ُمت هكن يف تأمل الكشف وأيضا تأمل احتجاب ه
كل ما هو موجو ٌد.
يقول هايدغرَّ :
إن ماه َّية التقن َّية حتجب يف ذاهتا الظهور املمكن للمنقذ ..ونحن عندما
نتأ َّمل هذا الظهور ،نقوم بالتجميع من جديد ..من خالل ما يتح َّقق له احلضور يف التقن َّية
بدال من النظر يف ما هو تقني(.)1
عل طريقإن التجميع عند هايدغر هو بمثابة إرسال مصري اإلنسان بحيث يضعه ى َّ
زود اإلنسان بمدخل إ ىل يشء ليس من صنعه أو اخرتاعه ،لذا فهو
الكشف ،وهذا اإلرسال ُي ه
أن َّ
كل إرسال يقوم بعمل َّية الكشف ُيدث من اخلطر اجلسيم واملنقذ يف آن واحد ،فضال عن َّ
بأن تلك املنحة ُحت هقق لإلنسان مشاركته يف الكشف الذي هو حدوث
خالل املنحة ،علام َّ
حلقيقة الوجود التي يبحث عنها.
عل ذلك َّ
أن اإلنسان يف ضوء ما ُيتاجه ويستخدمه يتم ّن ىى حدوث احلقيقة ،كام يرت َّتب ى
ألّنا ِ عل ذلك َّ
إل عمل َّية الكشف هي أيضا ما ينقذه َّ
أن املنحة التي ُترسل اإلنسان ى يرت َّتب ى
سمى مراتب وجوده الصميم(.)2
ترتك اإلنسان ليبلغ أ ى
كشف أسايس يمنح ما
ٌ يتساءل هايدغر يف هذا الصدد بقولهَ .. :أال يمكن ْ
أن يكون هناك
األول يف غمرة اخلطر؟ إ َّنه -يف رأي هايدغر -ذلك الكشف الذي ُيجب أكثر
ينقذ انبثاقه َّ
من كونه يكشف يف عرص التقن َّية(.)3
إحدى صور إحضار ى أن اإلرسال الراهن للوجود هو التجميع وهو يرى هايدغر َّ كام ى
خرى من حني إ ىل آخر ،علام َّ
بأن مصري تتحول إ ىل صورة ُأ ى
َّ الوجود ،وهي الصورة التي سوف
رسل نفسه يف كل حال وعندما ُيدث تغري يف الوجود ،فإ َّنه ي ِ الوجود يتحدَّ د يف إرساالته يف ه
ُ ٌ
ول ،وال يتم إلغاؤها(.)4عرب عن حضوره بحيث ال ُتس َتبعد الصورة األُ ى صورة ُأ ى
خرى ُت ه
املرحلة الثالثة :الفن والشعر وما ينقذ:
ّتنى ،وإ َّنام كانت
مىض مل تكن التقن َّية وحدها هي التي حتمل اسم ى
يقول هايدغر .. :فيام ى
ّتنى فيام ّتنى تعني أيضا هذا الكشف الذي ُيرض احلقيقة يف ّ
جتيل الظهور ،وكانت ى كلمة ى
أن ف ّعال َّية اإلنسان وحدها ال ُمت هكنه من مواجهة اخلطر بصورة مبارشةَّ ،
وأن ي َّتضح مم َّا سبق َّ
أسمى ممَّا ُهيدَّ د باخلطر.
ى عليه ْ
أن ُيف هكر يف ما ينقذ بحيث تكون ماه َّيته
إل
ّتنى ال تشري فقط ى
مىض حيث كانت كلمة ى ى عل هذه املاه َّية يف عرص
يعثر هايدغر ى
ّتنى تعني
أن كلمة ىتتجل من خالله احلقيقة ،استنادا إ ىل َّ
ّى التقن َّية ،وإ َّنام إ ىل الكشف الذي
ومتنوع ،قادر
ه فن كشف فريد،
ّتنى بوصفها َّ حدوث احلقيقي يف صورة اجلميل ذلك َّ
أن الـ ى
عل احلقيقة(.)2
عل احلفاظ ى
ى
ومن ناحية ُأ ى
خرى يشري هايدغر إ ىل َّ
أن الشاعر الذي يقول:
لكن هناك حيث يكون اخلطر..
هناك أيضا ينمو ما ينقذ ما ينقذ..
عل هذه األرض.
ى
()3
يقول أيضا .. :سكن اإلنسان شاعري
فالشعر يضع احلقيقي يف أُ فق ما ُي س ّم يه أفالطون يف حماورة فايدروس ما يستيض ء
كل فن َّ
وكل فعل تنكشف من خالله ماهيَّة بمنتهى الصفاء ،فام هو شاعري ينقذ َّ
ى وينري
اجلميل(.)4
إذا كل كشف ي َّتخذ جذوره األساس َّية من التفكري التأميل الذي أطلق هايدغر عليه اسم
(1) Ibid.
حممد سبيال وعبد اِّلادي مفتاح :التقنية ،ص .85
قارنّ :
(2) Kockelmans, J.J. On the Truth ,P. 245 - 246.
(3) dichterisch wohnet der Mensch anf dieser Erde . Poetically dwells man upon this earth .
(4) Heidegger, M .Die Frage .P.43.
حممد سبيال ،التقنية ،احلقيقة ،ص.85
قارن أيضاّ :
األصل يف التقن َّية ❖ 351
كشف شاعري(.)2
ٌ إن َّ
كل كشف أسايس عنده هو الكشف الشاعري( ،)1من حيث َّ
املرحلة الرابعة :االنفتاح عىل ماه َّية التقن َّية:
أوضح هايدغر أ َّنه إذا كان التجميع بني الوجود واإلنسان من خالل عامل التقن َّية رضورة،
عل سيطرة َّ
فإن ذلك التجميع هو بمثابة مقدّ مات للحادث ،ويف هذا احلادث يتم التغلب ى
()3
التجميع ،والتخلص من هيمنة التقن َّية ليعود اإلنسان من جديدس هيدا ِّلا .ويعني ذلك َّ
أن
احلادث هو ذلك املجال الذي يصل من خالله كل من اإلنسان والوجود إ ىل اآلخر من حيث
ماه َّيتهام احلقيقية ،ومن خالله أيضا يتخ َّلصان من ه
كل الصفات التي نسبتها إليهام امليتافيزيقا
بأن يتل ّق ىى التفكري الوسائل الرضور َّية
إن التفكري يف احلادث عند هايدغر يقيض ْ
الكالسيك َّيةَّ .
حرة مع ماه َّية التقن َّية.
ال من عامل التقن َّية وإ َّنام من بنية اللغة ،هبدف الدخول يف عالقة َّ
أعمى أو
ى فإن حتديد املصري ال يلزم اإلنسان ْ
بأن يرتبط بالتقن َّية ارتباطا ومن ناحية ُأ ى
خرى َّ
يتمرد عليها يائسا منها كام لو كانت من عمل الشيطان؛ فالعكس هو الصحيح .إذا َّ
إن ْ
بأن َّ
عل ماه َّية التقن َّية ُُي هررنا لالستجابة لنداء الوجود ،كام ُُي هررنا لإلنصات إ ىل معنى
االنفتاح ى
املعنى مل خيرتعه اإلنسان وليس من صنعه ،فضال عن
ى جديد( )4كامن يف التقن َّية احلديثة ،وهذا
أ َّنه يكشف عن نفسه بطريقة غري مبارشة ،وُيتجب يف الوقت نفسه ،وتلك هي السمة
األساس َّية ملا يطلق عليه هايدغر اسم الِّس( .)1ويصف هايدغر السلوك الذي ُيم هكن اإلنسان
عل الِّس( ،)2علام َّ
بأن املعنى املحتجب يف التقن َّية باالنفتاح ى
ى عل أن َّ
يظل منفتحا ى املعارص من ْ
مستقرا لنا بطريقة خمتلفة جدًّ ا ،كام َّ
أن ًّ عل ْ
أن ن َّتخذ من هذا العامل ذلك االنفتاح يمنحنا القدرة ى
هذا االنفتاح ال يتم َّإال من خالل التفكري التأميل الذي سبقت اإلشارة إليه(.)3
سؤال عن الكشف واحلجب اللذين َحتدُ ث
ٌ ي َّتضح لنا مم َّا سبق َّ
أن السؤال حول التقن َّية هو
نمو ملا وعل ْ
أن نكتشف ما فيه من ه ى عل رؤية اخلطر،
من خالِّلام احلقيقة ،لذا فهو يساعدنا ى
ينقذ أو( )4ما يمكن ْ
أن ينقذنا.
املرحلة اخلامسة :دور اإلنسان يف الكشف (التحول إىل الوجود):
ه َّية دور اإلنسان يف الكشف عن ماه َّية التقن َّية ،ذلك َّ
أن ماه َّية التقن َّية ال مل يذكر هايدغر أ ّ
حتدث تغريا يذكر بمعزل عن اإلنسان من حيث ماه َّيته ،فضال عن َّ
أن حضور الوجود ال يتم
يتم احلفاظ عليه بوصفه وجودا للموجود.
بمنأى عن وجود اإلنسان لكي َّ
ى
أن ماه َّية أن يتغ َّلب ى
عل التقن َّية بذاته ،ذلك َّ فإن اإلنسان ال يمكن ْ
وعل الرغم من ذلك َّ
ى
عل مكمن احلقيقة يف التقن َّية ،كام َّ
أن التقن َّية يمكن جتاوزها فقط إذا أمكن لإلنسان العثور ى
عل التجميع بوصفه إرساال للوجود ال يتم من خالله وصول إرسال ُأخر ال يمكن التغلب ى
حسابه علم ًّيا بصورة مسبقة(.)5
فإّنا
تبقى حمتجبة حتت سيطرة التقن َّيةَّ ،
الالحجب ىوإذا كانت احلقيقة أو الكشف أو َّ
يتم ذلك بدون ّى
ليتجل الوجود بدوره ،ولن َّ سوف ّ ى
تتجل من جديد من خالل ذلك احلجب،
مستحيل بدون اإلنسان ،أو بعبارة ُأ ى
خرى بدون ٌ كل كشف عن الوجود ألن َّ
اإلنسانَّ ،
()6
(1) mystery
(2) Openness to the mystery.
(3) Ibid. P.243.
(4) Ibid. P.245.
(5) Ibid. P.247.
(6) Lovitt, W .The Question .Intro, P.XXXV. XXXVI.
األصل يف التقن َّية ❖ 353
اإلنسان ال يمكن ْ
أن يظهر الوجود يف جمال االنفتاح بوصفه وجو َد ما يوجد.
َّ
إن هايدغر إ َّنام يدعونا هنا إ ىل جتاوز الرتاث امليتافيزيقي الكالسيكي جتاه التقن َّية احلديثة
جمرد يشء مصنوع( )1أو خمزون ليس بمقدوره الفرار من طغياّنا.
التي ترد اإلنسان إ ىل َّ
أوضح هايدغر طبيعة التحول من نسيان الوجود إ ىل حقيقة الوجود ،فحيثام يكون اخلطر
يكون أيضا حترر الوجود ،وهذا التحول إ َّنام ُيدث عن طريق الوجود ذاته ،وبصورة فجائ َّية،
وهو بالتأكيد ال يتم عن طريق عالقة السبب -النتيجة( ،)2فضال عن َّ
أن هذا التحول يتم يف
إطار التجميع ومن خالل ماه َّية التقن َّية بوصفها خطرا.
عل ْ
أن ويف هذا التحول يتح َّقق للوجود احلضور واالنفتاح وحتدث حقيقة الوجود ،ى
أن ننظر إليها َّأوال من خالل الوجود ال من خالل أن كلمة يوجد( )3ال بدَّ ْ
نضع يف االعتبار َّ
ٌ
إرسال أسايس املوجود ذاته ،واليشء نفسه يقال عن التجميع إذ إ َّنه يف التجميع مل يزل هناك
للوجود ،فإذا استجاب اإلنسان يف وجوده إ ىل نداء البصرية( )4استنادا إ ىل َّ
أن التبرص يف ما هو
فإن احلادث ذاته ومن خالله تنكشف حقيقة الوجود يف سم ىى حدثت حول الوجود َّموجو ٌد ُي ّ
صورة( )5إنارة.
ومن ناحية ُأ ى
خرى َّ
ألن اإلنارة الفجائ َّية حلقيقة الوجود التي حتدث يف ماه َّية التقن َّية ،هي
باألحرى كشف
ى رؤي ٌة للوجود ذاته ،وملا يوجد ،وال ُي ه
عرب ذلك عن رؤية اإلنسان ،فإ َّنه
الوجود عن ذاته.
كشف
ٌ وهايدغر يستخدم كلمة احلادث كام سبق اإلشارة للتعبري عن هذه اإلنارة التي هي
إحضار للرؤية بحيث يعيد
ٌ يتحول يف إطار الوجود ذاته ،إ َّنه الكشف الذي ُيدث ،وهو
َّ ذات
الوجود إ ىل ذاته ،ويرد ماه َّية التقن َّية إ ىل ذاهتا بوصفها كشفا بحيث يمكن القول َّ
بأن التجميع
بأن التجميع هو صور ٌة سلب َّي ٌة ِّلذا
املعنى ها التجميع نفسه ،كام يمكن القول َّ
ى والكشف هبذا
الكشف ،حيث يلتقي الوجود واإلنسان يف التجميع لقاء غريبا ،بينام يتج ّليان يف نور الكشف
احلقيقي وينتمي كل منهام إ ىل اآلخر وتظهر ماه َّيتهام الصميمة(.)1
لقد عرف اليونان بالفعل عالقة املع َّية بني اإلنسان والوجود ،ولكن يف عرصنا احلال
عل الكشف الذي ُيدث وجيعل ًّ
كال من اإلنسان والوجود يف عالقة يمكن إلقاء الضوء ى
انتامء يمكن جتربتها دوما من جديد.
يرى هايدغر أ َّنه يف التجميع وخصوصا يف التحدّ ي املتبادل بني اإلنسان والوجودى
للدخول يف عالقة حساب َّية ملا يمكن ْ
أن خيضع للحساب ،ما هو جديدٌ يف هذه العالقة يظهر
عل االنتامء بني اإلنسان والوجود ُأسلوب املع َّية بينهام؛ أي إ َّنه من
ويتجل ،بحيث يتو َّقف ى
ّى
خالل حضور ماه َّية التقن َّية احلديثة تنبثق إمكان َّي ٌة جديد ٌة أكثر ثراء للعالقة بني اإلنسان
وكل ما يوجد أو ما ُو ِجدَ من قبل(.)2 والوجود ،ومن َث َّم بني اإلنسان ه
تعقيب:
عل طريقة التجميع أو الـ Ge-stellيواجهنا نستلخص مم َّا سبق َّ
أن املصريعندما يسيطر ى
عل مفارقة.
اخلطر احلقيقي بحيث تنطوي هذه املواجهة ى
عل مفارقة اخلطر
نحاول يف هذا التعقيب اإلجابة عن السؤال التال :ما النتائج املرت هتبة ى
فِّس من خالِّلا هايدغر ماه َّية التقن َّية؟
هو ما ينقذ التي َّ
عرب عن األزمة التي تواجهنا يف البحث عن ماه َّية التقن َّية -موضوع هذا
اخلطر يف العبارة ُي ه
عل هذا اخلطر النتائج التالية:
األول من املفارقة ،ويرت َّتب ى
البحث -وهو الطرف َّ
النتيجة األُوىل :سيطرة الـ Ge-stellأو التجميع ،حيث ينشغل بتنظيم املخزون ح َّت ىى إ َّنه
بمعنى أ َّنه مل يعد يدرك التجميع بوصفه نداء وخيفق يف إدراك أ َّنه
ى يبتعد عن ماه َّيته الصميمة،
املنادى ،ويف اإلنصات إ ىل نداء الوجود.
ى
املعنى احلقيقي للكشف بوصفه جت ّليا للظهورُ ،
وهيده د بإنكار قدرته ى إذا التجميع ُيجب
عل الدخول يف كشف أصيل أو يف جتربة احلقيقة األصل َّية.
ى
أن يزداد وينمو ،وهذه املنحة هي َّأول ما ُُي هقق لإلنسان املشاركة يف
للمنقذ يف هذا املصري ْ
أسمى مراتب رسله إ ىل الكشف ،وتنقذه عندما ترتكه ليبلغ الكشف ،بمعنى أّنا هي التي ُت ِ
ى ى َّ
وجوده الصميم.
يرى هايدغر متأ هثرا باليونان -هو
النتيجة الثالثة :ما ينقذ هو الفن والشعر ،فالفن -كام ى
انكشاف
ٌ عل احلقيقة ،فضال عن أ َّنه
عل احلفاظ ى
قادر ى
متنو ٌعٌ ،
كشف فريدٌ ،ه
ٌ بمعنى أ َّنه
ى ّتنى
ى
بمعنى الكشف
ى بمعنى التقن َّية املتداول ،وإ َّنام
ى ّتنى ال
بمعنى اإلنتاج ،وهو ى
ى شعر
منتج ،لذا فهو ٌ
ٌ
الذي ّ ى
يتجل من خالله اخلطر ،أو حدوث احلقيقة يف صورة اجلميل.
كل فن َّ
وكل فعل تنكشف من خالله ماه َّية أن ما هو شاعري هو ما ينقذ َّ
ير ىى هايدغر َّ
اجلميل ،أي إ َّنام ينقذ َّ
كل كشف ي َّتخذ جذوره األساس َّية من التفكري التأميل الذي هو بتعبري
هايدغر الكشف الشاعري.
عل سيطرة التجميع
النتيجة الرابعة :ما ينقذ هو احلادث الذي يتم من خالله التغلب ى
وهيمنة التقن َّية .واحلادث هو املجال الذي يلتقي من خالله اإلنسان والوجود من حيث
ماه َّيتهام الصميمة.
وُي هرر اإلنسان من أجل االستجابة لنداء أن احلادث ُُي هقق االنفتاح ى
عل ماه َّية التقن َّيةُ ، كام َّ
باألحرى ُيم هكن اإلنسان من
ى معنى جديد للتقن َّية احلديثة؛ إ َّنه
ى الوجود ،واإلنصات إ ىل
الِّس ،وهذا االنفتاح جيعلنا نتخذ من
عل ه املعنى املحتجب يف التقن َّية أو االنفتاح ى
ى عل
االنفتاح ى
معنى الوجود.
ى عل التفكري التأميل يف
مستقرا لنا بطريقة خمتلفة تقوم ى
ًّ العامل
النتيجة اخلامسة :ما ينقذ هو التحول إ ىل الوجود الذي ُيم هكن اإلنسان من التغلب ى
عل
توصل اإلنسان إ ىل مكمن احلقيقة يف التقن َّية ،أي تغ َّلب ى
عل التجميع بوصفه إرساال اخلطر إذا َّ
للوجود من خالل إرسال آخر ال يمكن حسابه مسبقا بطريقة علم َّية.
ومعنى ذلك أ َّنه بدون اإلنسان لن يظهر الوجود يف جمال االنفتاح بوصفه وجو َد ما
ى
يتم جتاوز امليتافيزيقا الكالسيك َّية والتقن َّية احلديثة التي جتعل من اإلنسان
يوجد ،وبدونه لن َّ
جمرد يشء مصنوع أو خمزون أو حيوان آل.
َّ
َّ
إن ما ينقذ عند هايدغر هو التحول من نسيان الوجود إ ىل حقيقة الوجود ،وهذا التحول
األصل يف التقن َّية ❖ 357
ُيدث عن طريق الوجود ذاته ،وبصورة فجائ َّية وال صلة له بالع ّل َّية ،ومع ذلك فالتحول يتم
يف إطار التجميع ،ومن خالل ماه َّية التقن َّية بوصفها خطرا ،وفيه يتح َّقق للوجود احلضور
واالنفتاح وحتدث حقيقة الوجود.
ويف الكشف الفجائي حلقيقة الوجود -الذي ُيدث يف ماه َّية التقن َّية بتأثري التحول -
رؤي ٌة للوجود ذاته وملا يوجد؛ إ َّنه كشف الوجود عن ذاته.
أ َّما عن التجميع فهو صور ٌة سلب َّي ٌة للكشف ،وفيه يلتقي اإلنسان والوجود لقاء غريبا،
بينام يتج ّليان يف نور الكشف احلقيقي الذي جيمع بينهام يف عالقة انتامء أي إ َّنه من ماه َّية التقن َّية
أي إمكان َّية جديدة أكثر ثراء للعالقة بني اإلنسان والوجود.
احلديثة ينبثق ما ينقذ َّ
اخلامتة:
واآلن ..كيف يمكننا االستجابة للتقن َّية من وجهة نظر هايدغر؟
بالطبع ليس عن طريق الفرار إ ىل التصوف والنزوع إ ىل َّ
الالمعقول( )1وإ َّنام عن طريق
التفكري التأميل الذي سبقت اإلشارة إليه ،ال التفكري احلساب( )2السائد يف هذا العرص .يمكننا
عل وجه اخلصوص ْ
أن ُنف هكر يف ماه َّية التقن َّية ،تلك املاه َّية التي ّتتلف عن التقن َّية و ُتؤ ّدي يف ى
الفن والشعر بوصفهام إنتاجا وكشفا عن احلقيقة.
ّناية املطاف إ ىل التفكري يف ه
عل َّأال هتيمن علينا بحيث نفقد
فلتكن األدوات يف عرص التقن َّية احلديثة يف متناول اليد ى
ماه َّية اإلنسان الصميمة ،وانتامءه للوجود ،فالتقن َّية ليست أداة من صنع اإلنسان ُيسيطر
عل التاريخ الغرب بأرسه(.)3
عليها ،وإ َّنام هي تلك الظاهرة التي ُيسيطر فيها الوجود ذاته ى
عل إنسان العرص احلديث منذ الثورة الصناع َّية،
وإذا كانت التقن َّية قد أحكمت قبضتها ى
عل
والثقة املطلقة يف قدرة العقل ،والصناعة ،والعلم ،بحيث أصبح اإلنسان س هيد مصريه ى
فإن كوارث احلربني العامل َّيتني وحروب ُأ ى
خرى ال حرص ِّلا ،والتدمري الذي ال هذه األرضَّ ،
هوادة فيه للبيئة( )1والعامل املحيط ،قد ساعدت مجيعا يف توجيه انتقادات حا َّدة للتقن َّية احلديثة.
يتم َّإال عن طريق إدراك ماه َّيتها ،وجتاوز سيطرة يرى هايدغر َّ
أن جتاوز السيطرة التقن َّية لن َّ ى
عل املوجود ال الوجودَّ ،
وأن هذا التجاوز هو انصب اهتاممها ى
َّ امليتافيزيقا الكالسيك َّية التي
عل هذه
البداية احلقيق َّية للكشف عن املاه َّية الصميمة لإلنسان بحيث يكون سكن اإلنسان ى
األرض شاعر ًّيا( ،)2كام سبق بيانه.
أهم إسهام ِّلايدغر يف فلسفته عن التقن َّية احلديثة هو أ َّنه ُيذ هكرنا َّ
بأن التقن َّية احلديثة َّ
ولعل َّ
إل
هي املرحلة األخرية من تاريخ حجب الوجود ونسيانه ،واحلل هو التحول من جديد ى
()3
معنى الوجود ،أي التحول من نسيان الوجود إ ىل التفكري يف الوجود( ،)4علام َّ
بأن ى السؤال عن
معنى الوجود إذا فهمناه فهام صحيحا إ َّنام هو السؤال عن ماه َّية التقن َّية( )5يف
ى السؤال عن
كشفها عن العالقة احلميمة بني اإلنسان والوجود.
يقول هايدغر يف ّناية حمارضته السؤال عن التقن َّية :إ َّننا أصبحنا أكثرتساؤالَّ ،
ألن السؤال
تقوى التفكري(.)6
ى هو
وشكر :هو تضحي ٌة أل َّنه ُيل ّبي مطلب الوجود،
ٌ التفكري تضحي ٌة
َ والتقوى هنا تشري إ ىل َّ
أن ى
عل الرغم من ه
كل ما ُيدث لإلنسان (يف عامل التقن َّية)، عل حقيقة الوجود ى
وهو املحافظة ى
عرب عن ذلك الشكر للفضل الذي أغدقه الوجود ه
وكل ما هو موجو ٌد ،ويف هذه التضحية ُن ه
عل عاتقه -يف عالقته بالوجود -محاية الوجود .والشكر
عل طبيعة اإلنسان ح َّت ىى يأخذ ى
ى
صدى املعروف الذي قدَّ مه الوجود هناك حيث يفسح لنفسه مكانا و ُيس هبب هذا
ى احلقيقي هو
(1) Zimmerman, M., E .Heidegger’s Confrontation with Modemity. Technology, Politics and
* * *
( )1فؤاد كامل :احلاشية يف مارتن هايدغر .ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا ،هليدرلني وماهي َّة الشعر ،ترمجة فؤاد
كامل وحممود رجب ،سلسلة النصوص الفلسفيَّة ( ،)2دار الثقافة للطباعة والنرش ،القاهرة 1973م،
ص 134 :و.135
(2) Lovitt, W .A Question Concerning Technology ,Introduction. P. XXXIX.
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب360
:املصادر
ترمجة فؤاد كامل وحممود، هليدرلني وماهيَّة الشعر، ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا. احلاشية يف مارتن هايدغر:فؤاد كامل
.م1973 القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنرش،)2( سلسلة النصوص الفلسفيَّة،رجب
Cp. Heidegger, M .Essays in Metaphysics: Identity & Difference.
Heidegger, M .Die Frage.
Inwood, M .A Heidegger Dictionary.
Kockelmans, J, J. On the Truth of Being.
Langan, T .The Meaning of Heidegger; Aceitical Study of the Existentialist
Phenomenology, Routledge & Kegan Paul Ltd, London, Great Britain, 1959.
Lovitt, W ,The Question Concerning Technology.
Sallis, J. Heidegger and the Path of Thinking Duquese, Uni. Press, U.S.A.,
1970.
Zimmerman, M., E .Heidegger’s Confrontation with Modemity. Technology,
Politics and Art ,Indi. ana Uni. Press, U.S.A., 1990.
* * *
التقنيَّة احلديثة مثرة العقل املِتافيزيائيّ الغربيّ
(التبصُّر اهلايدغريّ يف اختالل العالقة بني الكينونة والكائنات واإلنسان)
()1
مشري باسيل عون
عل أبعاد هي غري استنادا إ ىل مثل هذا الترصيح اخلطري ،يمكن القول َّ
بأن التقن َّية تنطوي ى
معنى التقن َّية أو
ى األبعاد املا ّد َّية اآلل َّية اإلنتاج َّية التي نختربها فيها اختبارا ظاهر ًّيا .فأين إذا يقع
كالَ .أويف الصناعة؟ َّ
كالَ .أويف مضموّنا األعمق الناشب يف ماه َّيتها؟ َأويف اإلتقان؟ َّ
إل الرخاء واِّلناء وإدامة َّ
امللذة وإطالة العمر؟ اإلنتاج؟ َّ
كالَ .أويف الرغبة االبتكار َّية الساعية ى
عل هذا النحو من اإلرساف يف سوغ نشوء التقن َّية احلديثة ى ر َّبام .غري َّ
أن هذه الغاية ال ُت ه
أصل التقن َّية -بحسب هايدغراستنزاف األرض ،واستنفاد الكائنات ،واستخراج الطاقاتُ .
وأحكام َ
رشوط تصورها، عني لألشياء ِ
َ املاورائي ،أي يف املتافيزياء التي ُت ه
ه -يكمن يف الفكر
انعقادها ،وقواعدَ انبساطها ،ومبادئ أدائها ،وقوانني فاعل َّيتها .ومن َث َّم يعترب هايدغر َّ
أن هذه
عل إنشاء عامل ككل متامسك ،باتت ّتضع لسلطان العقل األشياء التي يتواطأ ائتال ُفها ى
أن تفعل فع َلها يف الكائنات:القوة والتسلط ْ املاورائي ،الذي أباح إلرادة َّ
ه
األسايس للظهور الذي فيه تنتظم إراد ُة اإلرادة هي بعينها وحتتسب َّ
كل َّ إن الشكلَّ
املنجزة يمكن تسميته بوضوح «التقن َّية» .وبذلك ِ ِ ٍ
يشء يف التارخيان َّية عامل املتافيزياء َ
جمموع الكائن ،أي
َ مر ٍة يشتمل هذا االسم عىل مجيع ميادين الكائن التي ُّت ِّهز يف ِّ
كل َّ
الطبيعة وقد انقلبت موضوع ًا للتناول ،والثقافة وقد أضحت موضوع ًا لالنشغال،
فإن التقنية ال تعني هنا خمتلف ميادين والسياسة املصنوعة ،واملُ ُثل املتسامية .وعليه َّ
إن تسمية «التقن َّية» تُفهم هنا فه ًام مشتقا من
اآليلَّ ]...[ .ِّ اآليل والتجهيز
ِّ اإلنتاج
ِ
ماه َّيتها بحيث تُوافق عنوان املتافيزياء املنجزة(.)1
das Ganze des Seienden zurüsten : die vergegenständliche Natur, die betriebene Kultur,
die gemachte Politik und dieübergebauten Ideale‘ .Die Technik ’meint hier also nicht die
gesonderten Bezirke der maschinenhaften Erzeugung und Zurüstung ]…[ .Der Name‘ die
Technik ’ist hier so wesentlich, daßer sich in seiner Bedeutung deckt mit dem Titel : die
vollendete Metaphysik) Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 76(.
الغريب ❖ 363 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
ٌ
مقرتن اقرتانا وثيقا بإرادة اإلرادة تافيزيائيأن أصل التقنية املِ
عل َّ
ّ َّ يدل مثل هذا الكالم ى
احلساب ،واإلغالق ّ ساين
عنيت هبا العقل اإلن ّ
ُ املنبثقة من تواطؤ ثالث مرجع ّيات،
الطوعي يف زمن اِّليمنة االنحجاب حر َّية الكينونة ،وارتضاء الكينونة عينها املِ
ّ َ عل ّ
تافيزيائي ى
ّ
الكون َّية القص َّية .فالذات اإلنسان َّية الساعية إ ىل إدراك الكائنات والكينونة أفضت إ ىل تعظيم
الفكر
ُ حمض إرادهتا .والتصورات املاورائ َّية التي أغلق فيها
اقتدارها ح َّت ىى غدت تريد َ
االضطراري من أجل أضحى هو السبيل الوحيد عل رحابة الكينونة، املِ
ّ ى ب ىتافيزيائي الغر ّ
ّ
جراء عدوان الذات اإلنسان َّية عليها ،ومن
معنى الكينونة ،والكينونة عينها ،من ّ
ى البلوغ إ ىل
إل
أن تنكفئ ىجراء انحباسها يف قفص املقوالت املِتافيزيائ َّيةَّ ،قررت -بحسب هايدغر ْ -
ّ
أصحاب السلطان.
ُ اخلاص الذي ال يدنو منه
ه هيكلها
عل
يرسم هايدغر هذا املشهد يف تصوره ماه َّية التقن َّية احلديثة ،ويف يقينه أ َّنه يواظب ى
معنى
ى رسالته الفكر َّية التي اخت َّطها لنفسه يف كتابه الكينونة والزمان ( )1927حني أعلن َّ
أن
وأن الفكر اجلديد ينبغي له ْ
أن يقف ذاته يف خدمة ساقط اليوم يف النسيانَّ ،
ٌ الكينونة
عنيت به استذكار حقيقة الكينونة التي هبا
ُ االستذكار الوحيد الذي يليق بكرامة الكائنات،
أن البلوغ إ ىل حقيقة الكينونة ال يته َّيأ الكائنات يف حقول جت ّلياهتا احليو َّية َّ
احلرة .بيد َّ ُ تنبسط
القصوى أو
ى تأول تاريخ املِتافيزياء الغرب َّية تأوال يبلغ هبا إ ىل حدودهاللفكر اجلديد َّإال إذا َّ
فكر الكينونة فكر الذات اإلنسان َّية املتس هلطة ،بل َ الفكر عينُه يغدو ،ال َ ُ ُأصوِّلا األُو ىل حيث
السامت احلقيق َّية التي تنطوي عليها
ُ الرتميمي تَظهر
ّ اِّلدمي
ّ جراء هذا التأويل
نفسها .من ّ
ُ
نضال التاريخ بأرسه ينعقد القصوى .هو
ى الوجودي إ ىل معاينة حقيقتها
ه الكائنات يف كدحها
ُ
مسعى الفكر اجلديد إ ىل االنعتاق من أرس املِتافيزياء الغرب َّية من أجل استعادة كرامة
ى يف
استفسارات الوجود
ُ كائن الكائنات الذي فيه تعتمل
ُ الكينونة وكرامة الكائنات ،ومن بينها
القصوىَ ،أال وهو الـ دازاين ،ذاك اإلنسان الكائن يف معرتك التاريخ ،املنفطر كيا ُنه ى
عل ى
()1
عل ْ
أن أن ينقله إ ىل الفرنسيَّة يف هذه الصورة :كينونة .ال .هنا ( ،)être.le.làى عل ِ
بوفره ْ ولذلك يقرتح ى
تكون الـ ُهنا ( )le.làهي موضع الـ أليثيا (احلقيقة اإلغريق ّية) ،أي موضع االنكشاف الذي تأتينا به
بوفره 23 ،ترشين الثاين ،1945يف هايدغر :أسئلة ،3.4 الكينونة عينُها( .رسالة هايدغر إ ىل جان ِ
باريس ،غا ّليامر ،2005 ،ص .)130
Heidegger, Lettre à Jean Beaufret (Fribourg, 23 novembre 1945), dans Heidegger ,
& (1) Margreiter R .éd ., Heidegger. Technik . Ethik . Politik, Würzburg, Königshausen
Neumann, 1991.
الغريب ❖ 365 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
ِ
الكائنات ،ومن ورائها الكينونة، واستنطاقا واستثامرا واستنفادا .مثل هذا االستفحال جيعل
عل الفور ُمكرهة ما ّتتزنه من مضامنيَ خاضعة جلميع ألوان التعذيب اآل هل ح َّت ىى تَستحرض ى
ألّنا هي األُفق الوحيد املمكن
وطاقات وإُياءات .ال مناص وال فكاك من هذه التقن َّيةَّ ،
االستذكاري حني يتأ َّمل يف اإلشارات واإليامءات واإلُياءات املنبثقة من
َّ حال ًّيا .بيد َّ
أن الفكر
أن خيضع خضوعا مميتا ألحكامه أن جيتاز هذا األُفق من غري ْاحلرة ،يمكنه ْ
صميم الكينونة َّ
ومراسيمه وشعائره.
ُ
احلديث عنها( .)1فاملكتوم يف تاريخ الفلسفة هو الذي يسرتعي انتباه املنحجبة التي انكتم
هايدغر ،يف حني َّ
أن قراءة هيغل للتاريخ تستطلع املنجز ،وتصهره يف بوتقة اجلدل َّية الشاملة.
اِّلايدغري هو البحث عن إرادة القول أو مشيئة القول التي
ّ النهج الناظم يف هذا التأويل
تستوطن كتابات الفالسفة الغرب هيني .يف صميم هذه املشيئة تنحجب ماه َّية املقاصد األُ ى
ول،
التي يبحث عنها هايدغر يف استذكاره اجلريء املقدام .أ َّما املعيار األسايس الذي يقيس به
هايدغر مقدار التوافق بني ما قاله الفالسفة الغربيون وما كانوا يرومون قوله (مشيئة القول)،
فهو السؤال املركزي عن الكينونة .سؤال الكينونة -بحسب ال ُبعدين اللذين تنطوي عليهام
املسعى
ى دالل ُة اإلضافة يف فقه اللغة (الكينونة هي عينها ُتسأل وتَسأل) -هو الذي استوطن
أفىض إ ىل مباين النظر ّيات املِتافيزيائ َّية
ى ب منذ البداية ح َّت ىى النهاية ،وهو الذي
تافيزيائي الغر ّ
ّ
املِ
تافيزيائي وليس املتعاقبة التي اختربهتا الفلسفة الغربية .فاملعيار مستخرج من صلب املسعى املِ
ّ ى ٌ َّ
أن مجيع الفالسفة الغرب هيني -ما أن ُيظهر َّ
هابطا عليه من فوق .لذلك كان مقصد هايدغر ْ
خال بعض االستثناءات النادرة -أهلوا سؤال الكينونة وسؤال معناها ،واكت َفوا بمساءلة
جراء هذا نوعان من اإلشكال ،إشكال االنحراف عن إصابة كائن َّية الكائن .فنشأ من ّ
()2
(1) Jules Maidika Asana Kalinga, Métaphysique et technique moderne chez Martin
الفكر حقيقة الكينونة بام هي عنيُ االختالف بني ُ إل الوراء( )1به يستعيد
اِّلايدغري خطوا ى
ّ
ِ
األنطولوجي الذي سهت عنه املتافيزياء الغرب َّية هو التباين الكينونة والكائنات .فاالختالف
ّ
عل
الرقيق بني الكينونة يف ذاهتا والكائنات يف اعتالّنا .وحني أك َّبت الفلسفة الغرب َّية ى
استنطاق كائن َّية الكائن مل تستطع ْ
أن تتد َّبر الكينونة يف ذاهتا ،بل يف اقرتاّنا القِّس ّي
بالكائنات.
أن املِتافيزياء التي سادت يف الفلسفة الغرب َّية منذ أفالطون
فإن هايدغر يعتقد َّ
ومن َث َّم َّ
ح َّت ىى األزمنة املعارصة كانت جتتهد يف معاجلة مسألة واحدةَ ،أال وهي مسألة تعريف
الكائن( .)2فكانت تروم ْ
أن تتجاوز الكائن( )3إ ىل كائن َّيته ح َّت ىى تفوز بإدراك قويم لكائن َّية
ظل -بحسب هايدغر -مأسورا بالبحث عن الكائن وعن أن مثل هذا التجاوز َّ الكائن .غري َّ
كائن َّيته ،مق َّيدا ب ُأفق كائن َّية الكائن ،وعاجزا عن مساءلة الكينونة( )4يف ذاهتا .فإذا باملِتافيزياء
عل نظرهتا يف الكائن ،فتخلط بني االثنني .وال تلبث ْ
أن حتمل الكينونة ى تنظر يف الكينونة َ
عل
األسمى ،ى
ى معنى الكائن ،فتنسب إليها ما تنسبه إ ىل الكائن .فإذا بالكينونة هي تارة الكائن
ى
كامن يف األشياءُ ،يايث
ٌ لصيق
ٌ جوهر
ٌ هيأة املُ ُثل األفالطون َّية العليا ،وهي تارة ُأ ى
خرى
األبقى .وتبلغ مساءلة الكينونة مبلغا خطريا حني
ى الكائنات بوصفه قوا َمها األصلب األمتن
املستمر عل هيأة احلضور الدائم ِ
ه تعمد املتافيزياء إ ىل تصور كينونة الكائن وكينونة الكائنات ى
امل َّط رد القابل للمحارصة واملداهة واإلمساك .يف مجيع األحوال ال تستطيع مثل هذه
عنيت به
ُ تتحسس رضبا آخر من رضوب انبساط الكينونة يف ذاهتا، َّ املِتافيزياء الغرب َّية ْ
أن
الكينونة يف صميم متايزها من الكائن ومن كائن َّيته واختالفها وافرتاقها عنهام .فالتباين
ألّنا منحرص ٌة يف ِ األنطولوجي بني الكينونة والكائن ال يمكن ْ
أن تستجليه هذه املتافيزياء َّ
عل تعاقب استحضاراهتا واستدعاءاهتا .فالكينونة يف املِتافيزياء
استنطاق كائن َّية الكائنات ى
طرا:
أسمى الكائنات ًّ
ى ضم مجيع هذه السامت ونسبها إ ىل إل ه الوجه الثاين فيعتلن يف السعي ى
تتصور
َّ األول تتصور كائن َّي َة الكائن عىل َ
وجهني اثنَني .يف الوجه َّ َّ أن املِتافيزياء
غري َّ
األعم؛ ويف الوقت عينه -يف الوجه
ي ك يل َّي َة الكائن -بام هي كذلك -عىل معنى سامته
تتصور ك يل َّي َة الكائن -بام هي كذلك -عىل معنى الكائن األسمى ،ومن َث َّم
َّ الثاين -
اإلهلي(.)3
ِّ الكائن
أن املِتافيزياء اليونان َّية انقلبت مع أفالطون إ ىل أنطولوجيا تبحث يف
عل َّ
يدل هذا القول ى
ِ
رشت ِ
( )1راجع التوسعات التي استودعها هايدغر أبحاثه يف ماه َّية العدم َّية ورضورة جتاوز املتافيزياء والتي ُن َ
يف جمموعة األعامل الكاملة ( ِاملتافيزياء والعدمي َّة .1 :جتاوز املِتافيزياء؛ .2ماهيَّة العدميَّة):
M. Heidegger, Metaphysik und Nihilismus : 1. Die Überwindung der Metaphysik; 2. Das
Wesen des Nihilismus ,GA 67, Frankfurt, Klostermann, 1999, p. 48 - 50 .
(2) zwiegestaltig
( )3االقتباس مستل من املقدّ مة التي وضعها هايدغر لبحثه يف املِتافيزياء «ما املِتافيزياء؟»:
Aber die Metaphysik stellt die Seiendheit des Seienden in zweifacher Weise vor : einmal
das Ganze des Seienden als solchen im Sinne seiner allgemeinsten Züge (on katholou,
koinon); zugleich aber das Ganze des Seienden als solchen imSinne des höchsten und
darum göttlichen Seienden (on katholou, akrotaton, theion) Heidegger ,Einleitung zu : Was
ist Metaphysik? in Heidegger, Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, p. 378.
الغريب ❖ 369 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
أصل مجيع الكائنات. ِ كائن َّية الكائن وإ ىل تيولوجيا (الهوت) تبحث يف إِّل َّية الكائن املتسامي،
نسب ِ
تتحر ىى عن الصفات أو املحموالت العا َّمة التي ُت َ فاملتافيزياء -بوصفها أنطولوجيا ّ -
أن املِتافيزياء -بوصفها تيولوجيا -جتتهد يف تأصيل حكام إ ىل الكائن بام هو كائن ،يف حني َّ
األول أو الع َّلة األُو ىل ،لتعاينه يففتتحر ىى عن أصله ،أي عن السبب َّ ّ الكائن يف كائن َّيته،
أن مثل هذا االزدواج املثنّ ىى يف املِتافيزياء يعود إ ىل ُأرسطو شك يف َّاألسمى .ال َّ
ى اإلِّلي
ه الكائن
أن هايدغر أسلكه يف مِّس ىى نسيان الكينونة الذي رضب أقر به قبل هايدغر .غري َّ الذي َّ
عل الكينونة بسبب من ِ ٌ
جرته املتافيزياء الغرب َّية ىنسيان َّ تاريخ الفلسفة الغرب َّية بأكملها .هو
إغفال االختالف العميق بني الكنيونة والكائن ،وبسبب من اإلعراض عن مالقاة الكينونة
جراء هذا ك هله كانت املِتافيزياء الغرب َّيةعل استضافة االختالف .من ّ كياّنا ى
يف ذاهتا وقد انعقد ُ
فإن هايدغر يذهب مذهبا مل يسبقه إليه عل ذلك َّ آثار هذا اإلغفال .وعالوة ى الن ََّّساءة حاملة َ
وأن ُّتيل الساحة أن تنحجب ْ أن الكينونة هي أيضا التي َّقررت ْ أحدٌ ،إذ ُيعلِن جهارا َّ
فإن نسيان حقيقة الكينونة يقرتن يف وجه احلسابة .ومن َث َّم َّ ِ
الجتهادات املتافيزياء الغرب َّية ّ
ُ
الكينونة بإغفاالت املِتافيزياء عينها ،ويف وجه آخر بقرار االنحجاب الذي اعتزمت عليه
ومضت فيه من غري ْ
أن تنثني أو ترتاخ ىى.
(1) aletheia
(2) phusis
(3) idea
(4) C. Jamme (Hrsg.), Martin Heidegger. Kunst . Politik . Technik ,München, Wilhelm Fink
Verlag, 1992.
الغريب ❖ 371 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
(1) phusis
(2) aletheia
(3) idea
(4) theoria
❖ 372دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
حرا جيعل الفكر قابال إلدراكها ووصفها وتعريفهاَّ ،إال أ َّنه َّ
ظل مق َّيدا باملثال َّية األفالطون َّية ًّ
احلق يف اعتالن احلقيقة .فاإلرصار التي ترسم َّ
أن التطابق بني األذهان واألعيان هو ضامن ه
عل التطابق جيعل ُأرسطو يميل أكثر إ ىل الذهن ّيات وهيمل الوقائع .ينضاف إ ىل ذلك َّ
أن تعيني ى
مِّسى واحد ال ّترج منه َّإال
ى القوة إ ىل الفعل هو تقييدٌ ِّلا يف
الكينونة يف حركة االنتقال من َّ
وعل قدر ما
ى بالسقوط يف العدم .فالكينونة هي كينون ٌة ى
عل قدر ما ّتضع ملثل هذا االنتقال،
تعتلن فعال منجزا يف تضاعيف الوجود .فاملُ َ
نجز َّية أضحت هي هو َّية الكينونة املح َّققة يف
التاريخ.
األول للكينونة يف أعامل أفالطون و ُأرسطو ُخي ِضع لذلك يمكن القول َّ
بأن االنحجاب َّ
الكينونة ملقولة االستمرار امل َّطرد يف احلضور .ذلك َّ
أن ماه َّية( )1الكينونة تصبح هي استدامتها
يف احلضور القابل للنظر واملعاينة .فاالستدامة يف احلضور( )2هي السبيل األضمن للبلوغ
التقني الذي يستند إ ىل حالة االنتقال امل َّطرد
ه بالكينونة إ ىل موقع التسليم واالستسالم لإلكراه
القوة إ ىل الفعلَ .ث َّمة عالقة وثيقة بني الـ ُأوسيا (ماه َّية الكينونة) والـ باورسيا (االستدامة
من َّ
عل الكينونة ومن خضوع الكينونة
يف احلضور) تنشأ من تسلط الـ إيديا (الفكرة -املثال) ى
ملعادلة الـ ُأومويوسيس( )3أو التطابق بني القول الواصف والواقع املوصوف.
الـ ُأومويوسيس األُرسط َّية (نظر َّية التطابق) ُتطبِق ى
عل الكينونة يف قالب التامهي بني
األول -تستثري يف
اإلغريقي َّ
ه أن الكينونة كانت -يف الزمنالذهن ّيات والعين ّيات ،يف حني َّ
احلر اجلذالن بني االنكشاف واالنحجاب. النظر اإلنساين الرغبة اخلفرة يف اقتبال التعاقب ه
أن سقوط االختبارات اإلغريق َّية األُو ىل يف شباك املثال َّية األفالطون َّية وشباك
شك فيه َّ
وما ال َّ
عل حمارصة الواقع َّية األُرسط َّية َّ
مهد السبيل إ ىل بناء التصورات النظر َّية العقل َّية القادرة ى
األشياء والكائنات واستنطاقها واستجالهبا وإخضاعها ألحكام التقن َّية احلديثة.
ّى
فيتجل -بحسب هايدغر -يف مباين األول .أ َّما االنحجاب الثاين
هذا يف االنحجاب َّ
(1) ousia
(2) Parousia
(3) omoiosis
الغريب ❖ 373 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
التصورات الرومان َّية التي استندت إ ىل مقولة األمر القاطع أو املشيئة املتس هلطة(.)1
وأفىض
ى عل أساس األمر واالئتامر ،أي النظام واخلضوع،
فاإلمرباطور َّية الرومان َّية ّنضت ى
عل هيأة االنضباط أو االستقامة أي القانون ،وقد غدا هو
احلق ى
تطور الفكر فيها إ ىل تصور ه
التعبري األنسب عن مطابقة مضامني األمر .وبذلك تنقلب احلقيقة -حقيقة الكائنات
واألشياء واملوجودات واألحداث -موضعا سن ًّيا لتحقق املطابقة بني األمر واملأمور به .احلق
معايري هذه املطابقة .ينجم عن مثل هذه
ُ أو الواقع ُيضحي هو القانون( )2الذي به تنضبط
تتغري ماه َّي ُتها تغريا خطريا لتصبح هي الواقع وقد احلق والقانون َّ
أن الكينونة َّ املطابقة بني ه
املنجز( .)3يربط هايدغر مثل هذا التغري اخلطري باآلمر َّية َ حت َّققت قابل ّيا ُته يف حقل الفعل
أن ُأرسطو كان املتعمد ،يف حني َّ
َّ الرومان َّية التي تربط الـ إنِرغيا األُرسط َّية( )4بعمل َّية اإلنجاز
الطوعي:
ه يعاين فيها َ
إقبال الواقع املنجحب إ ىل االنكشاف
يرتجم الرومانيون ،أي يتف َّكرون اإلرغون( )5انطالق ًا من العمل َّية( )6وقد أدركوها
عىل معنى العمل( ،)7وجيعلون أكتوس( )8بدالً من الـ إنِرغيا( ،)9والـ أكتوس عبارة
خمتلفة كل االختالف تنسلك يف حقل من الداللة خيتلف اختال ًفا ك يليا(.)10
(1) imperium
(2) rectus
(3) actualitas
(4) energeia
(5) ergon
(6) operatio
(7) action
(8) actus
(9) energeia
( )10يربط هايدغر مثل هذا التغري باآلمر َّية الرومانيَّة:
Die Römerübersetzen, d. h. denken ergon von der operatio als actio her und sagen statt
energeia : actus, ein ganz anderes Wort mit einem ganz anderen Bedeutungsbereich
()1
جراء هذا االنحجاب الثاين ،انقلبت احلقيقة عند الرومان مرادفا لالستقامة
من ّ
والضبط واالئتامر بقوالب الصياغة السليمة واملقوالت املؤاتية .وعليه يغدو التاريخ الغرب
أن ينتمي انتامء رصُيا إ ىل األُصول اإلغريق َّية األُ ى
ول بأرسه تارخي ُا رومان ًّيا ،ويك ّفث عن ْ
الواعدة .ذلك َّ
أن الكينونة -حني تنحرص يف الواقع وقد ارتسمت حدو ُده يف سياق الفعل
حر َّيتها األصل َّية اللصيقة هبا.
املنجز -تفقد مرونتها وحيو َّيتها والس ّيام ّ
()2
َ
عرف احلقيقة باليقني .مثل
يستهل ديكارت ( )1650 - 1596االنحجاب الثالث حني ُي ه
هذا التعريف ال يصح َّإال حني يستغرق اإل ُ
نسان يف متثله الواقع وإخضاعه األشياء وإقحامه
الذات العاقل َة صاحب َة القرار األخري يف
َ الكائنات يف مقوالته العقل َّية .فاإلنسان غدا هو
ت ( ُأف هكر فأنوجد) استنطاق األشياء والكائنات واملوجودات .وبام َّ
أن يقني الكوجيتو الديكار ه
الشكَّ ،
فإن الذات اإلنسان َّية العاقلة التي تعتصم به ه هو احلقيقة املطلقة التي تقهر َّ
كل أصناف
كل فكرة ل ُتضحي هيعل ه
عل العامل بك ّل َّيته ،وتتقدَّ م ى عل ه
كل املوجودات ،وتتقدَّ م ى تتقدَّ م ى
املركز القطب الذي يأت إ ىل الوجود من تلقاء ذاته ،ويستجمع َّ
كل يشء يف بصريته ،وُيكم
كل يشء وفاقا ملرجع َّيته املعيار َّية .الذات املتي هقنة من حقيقتها املعرف َّية تغدو هي ه
املقو َم عل ه
ى
عل هذا النحو ،يصبح أن يتح َّقق ف ُيظهر كائن َّيته .ى
األصيل جلميع الكائنات هبا يمكن الكائن ْ َّ
الذات اإلنسان َّية
ُ جراء تعاظم القدرات التمثل َّية التي تدَّ عي
من اليسري ولوج عرص احلداثة من ّ
امتالكها والترصف هبا « :ح َّت ىى زمن ديكارت كان كل يشء قائم بذاته ُيع َترب «ذاتا» .ولكن
اآلن أصبحت «األنا» هي الذات البارزة التي ال تتحدَّ د األشياء األُ ى
خرى بام هي عليه َّإال
وألن األشياء -رياض ًّيا -تكتسب َّأوالَ شيئ َّيتها من عالقتها التأسيس َّية باملبدأ
َّ بالرجوع إليها.
فإّنا يف ماه َّيتها هي ما يقوم كآخر من جهة
سمى وبالذات املقرتنة هبذا املبدأ (األنا)َّ ،
األ ى
االرتباط بالذات ،أي ما يقابل الذات كموضوع .األشياء عينها تصبح «موضوعة»( .)3كل
(1) rectitude
(2) actualitas
Bis zu Descartes galt es alsSubjektjedes fürsich vorhandene Ding; jetzt aber wird
Dinge erstals solche sich bestimmen. Weil sie-mathematisch-ihre Dingheit erst durch den
begründenden Bezug zum obersten Grundsatz und dessenSubjekt(Ich) erhalten, sind sie
wesentlich solches, was als ein anderes in Beziehung zumSubjektsteht, ihm entgegenliegt
als obiectum. Die Dinge selbst werden zuObjekten Heidegger, Die Frage nach dem Ding
ف إذا بكانط يربط رشوط إمكان املعرفة وأغراض املعرفة برشوط االختبار واملعرفة اللصيقة
عل
بالذات العارفة .بذلك تقترص إمكانات الكينونة -انبساطا وانتشارا وفعال وأثرا -ى
()1
( )1راجع ما قاله هايدغر يف رشوط إمكان املعرفة األنطولوج َّية عند كانط يف كتابه كانط واملشكلة
ِاملتافيزيائي َّة:
Heidegger, Kant und das Problem der Metaphysik, GA 3, Frankfurt, Klostermann, 1991,
p. 88 - 91.
( )2يتحدَّ ث هايدغر عن اإلنيَّة ( )Ichheitاملشت َّقة من األنا واملقرتنة بالذات العارفة .و ُيميهز تصور ديكارت
املعريف التي هي لصيقة ببنية
ه خاصة من تصور كانط لألنا كوعي عام يقرتن برشوط االختبار
لألنا كذات َّ
املعريف العا هم للذات.
ه الوعي
Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 82.
تتجل الديمقراط َّية يف فكر هايدغر مرتبطة بإرادة إثبات الذات التي تستبطنها املِتافيزياء الغرب َّية يف ّى ()3
منتوجها األخري ،عنيت به التقنيَّة احلديثة:
Rolland J ,Technique et invention démocratique , in Le Cahier du Collège International de
Philosophie, Heidegger. Questions ouvertes I, 1988 ,numéro spécial,, 1989, pp. 161 - 172 .
الغريب ❖ 377 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
أن هايدغر ت واإلرادة النيتشو َّية .ذلك َّ من ّتا ُلف أو ُ
ّتارج أو تناقض بني الكوجيتو الديكار ه
مصف آخر الفالسفة الغرب هيني املِتافيزيائ هيني الذين محلوا أمانة اإلرث ه يضع نيتشه يف
أن نيتشه أعلن موت اهلل وّناية املِتافيزياء القصوى .ومع َّ
ى إل خواتيمه
األفالطوين وساقوه ى
ه
إل
احلسابة ىاألفالطون َّيةَّ ،إال أ َّنه يف تعظيمه اإلرادة اإلنسان َّية وإرادة اإلرادة نقل الذات َّية ّ
معنى ذلك أ َّنه قلب املِتافيزياء األفالطون َّية،
ى مستوى السيادة القاهرة يف هيأة اإلرادة املطلقة.
ى
فأسقط الكائن احلقيقي األفالطوين يف وهاد الزيف والوهم والضالل وأفرغه من ه
كل فاعل َّية
مستوى
ى احليس واحلياة والصريورة والفعل التارخيي يف تارخي َّية ملموسة ،وجعل الكائن ّ
ًّ
مستقال للحياة وإلرادة احلياة يف اإلنسان األعظم .ولكنَّه احلق .أراد أ ْن ينشئ قواماالكائن ه
تصور الكينونة قيمة تستلها إرادة االقتدار من معني التدفق ظل أسري املنطق املِ
َّ
تافيزيائي أل َّنه َّ
ه
حب إثبات الذات يف إرادةسوى هى سوغه
عل الوجود فرضا ال ُي ه الف ّياض للحياة ،وتفرضها ى
االقتدار .فإذا بمثل هذه اإلرادة املطلقة ُمتيس هي عينها مريدة َ
ذاهتا ،طالبة عنيَ مطلبها ،راغبة
جوهر
َ عل الكائنات وتنقلب هي إن هذه اإلرادة تستول ى ت ،بحيث َّ يف تكثيف قوامها الذا ه
القصوى.
ى هذه الكائنات وحقيقتها
عل
التقني ى
ه احلسابة وباملِتافيزياء األفالطون َّية إ ىل التسلط
هو نيتشه الذي يبلغ بالعقالن َّية ّ
سوى الس ُبل التي هبا يصون اإلنسان هذه ى الكائنات .فالقيم التي ّتلقها إرادة االقتدار ليست
إن إرادته تصبح هي السمة األساس َّية يف الكائن: اإلرادة و ُيع هظمها ح َّت ىى َّ
الق َيم بام هي رشوط ،أي بام هي رشوط الكائن بام هو كذلك إذا كان نيتشه يتصور ِ
َّ
َ
الكينونة تفك َره للكائن َّية بحسب الواقعي والصائر) ،فإ َّنه يتف َّكر
ِّ (بتعبري أفضل :رشوط
األفالطوين(.)1
ي املعنى
يرى يف
عل قدر ما ى وال غرابة -من َث َّم ْ -
أن ُيضحي نيتشه -يف نظر هايدغر -أفالطون ًّيا ى
كائن َّية الكائن الرشط َّي َة التي ُمت هكن اإلرادة من ن َْسب القيمة إ ىل األشياء .فالكائن َّية هي الرشط َّية
أسري التمكني َ ألّنا هي التي ُمت هكن الكائنات من اخلري والصالح .ولذلك يظل نيتشه َّ
األفالطوين الذي يغرتف للكائنات قوا َمها و ُمكنتَها وقيمتَها من معني املُ ُثل العلياُ ،م ُثل اخلري
ه
والصالح التي هتب الكائنات كائن َّيتها وقيمتها حني ُتعتقها من سالسل املا َّدة وظالل العامل
السفيل .وعليه َّ
فإن نيتشه يصبح -يف نظر هايدغر -الفليسوف الغرب األخري ه احليس
ّ ه
عل الكائنات .ذلك َّ
أن حتويل أقىص درجات التسلط ى
ى للمتافيزياء األفالطون َّية ،وقد بلغت
ت إ ىل أوج
العلمي الديكار َّ
َّ كائن َّية الكائن إ ىل حمض إرادة يف االقتدار والتجاوز أوصل املخ َّطط
جراء هذه اإلرادة موضوعة ليس يف خدمة
عل الكون بأمجعه .فالكائنات ُتضحي من ّ
هيمنته ى
الذات وحسب ،بل أيضا يف خدمة التهيؤ جلميع رضوب االستغالل واالستثامر واالستنفاد.
الكائنات ُمتيس أشبه بأغراض ُتنشئها الذات بقدرة إرادهتا ،ومتنحها ما تستنسبه من قيمة.
عل مضاعفة اقتدار اإلرادة ولكنَّها قيم ٌة غريب ٌة عن الكائنات؛ َّ
ألن وظيفتها الوحيدة تقترص ى
ت ،وينقلب العود األبدي اإلرادي الذا ه
ه الذات َّية .بذلك يسقط كل يشء يف قبضة التملك
النيتشوي تعبريا عن املاه َّية املِتافيزيائ َّية التي تنطوي عليها التقن َّية احلديثة .وها هو ذا هايدغر
األبدي:
ه يستفِّس نيتشه عن أبلغ املقاصد التي طواها يف فكرة العود
األبدي
ِّ املحركة احلديثة؟ أمل يكن غري رسم صورة العود
ِّ ما هي إذ ًا ماه َّية اآللة
لألمر عينه؟(.)1
تعبري بليغٌ عن استزادة إرادة االقتدار وسعيها املحموم إ ىل التولد الذا ه
ت ٌ العود األبدي
ومضاعفة الطاقة طمعا بسلطان ال يأفل هو أشبه بتطلب أبدي لرغبة اِّليمنة عينها.
ال ُيسن ْ
أن ُخي َتم هذا التصاعد املتفاقم يف االقتدار من دون ذكر تواطؤ املاركس َّية املا ّد َّية
التي تنتمي هي أيضا -بحسب هايدغر -إ ىل ِمتافيزياء الذات املقتدرة ،وقد تواطأت تواطؤا
Wiederkehr des Gleichen Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit ,.p. 122.
الغريب ❖ 379 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
احلديث تعري َفه لنظر َّية يف الواقع تستفز الواقع وتنهره وتعيد بناءه بحسب مبادئها وأحكامها
وقضاياها .العلم كنظر َّية يف الواقع يصوغ الواقع صوغا جيعله خاضعا إلرادة االستغالل
املبثوثة يف أحكام النظر َّية( .)2يف صياغته هذه جيتهد أيضا يف ضبط قوانني االعتالن التي ترسم
أن يظهر وفاقا للمعادلة الفيزيائ َّية املوضوعة له .بيد َّ
أن االجتهادات النظر َّية التي ه
لكل كائن ْ
عل
وحر َّيتها ومحيم َّيتها عص َّية ى
عل تقييد الطبيعة التي تظل يف حيو َّيتها ّ
تقوى ى
ى ينشئها العلم ال
القالبي.
ه األحادي واإلدراك
ه التمثل
Die Not.losigkeit besteht darin zu meinen, daßman das Wirkliche und die Wirklichkeit im
Griff habe und wisse, was das Wahre sei, ohne daßman zu wissen brauche, worin die
(1) Lebenswelt.
هورسل ألزمة العلوم األُوروب َّية:
( )2تناول ّ
Husserl, Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die Transzendentale
Phänomenologie. Einleitung in die phänomenologische Philosophie, hrsg. von Walter
Biemel, Husserliana, GW 6, Leuven, 1976.
( )3يستخدم هايدغر العبارة عينها ،أزمة املعرفة ( ،)Krisis des Wissensيف األملية التي ألقاها يف فصل
صيف 1941يف جامعة فرايبورغ ،وعنواّنا :املفاهيم األساسي َّة:
Heidegger, Grundbegriffe, GA 51, Frankfurt, Klostermann, 1991, p. 15.
( )4املصدر السابق ،ص .17
Die neuzeitliche Grundstellung ist dietechnische .Sie ist nicht technisch, weil es da
Dampfmaschinen und dann den Explosionsmotor gibt, sondern dergleichen gibt es auch,
weil das Zeitalter dastechnischeist. Heidegger, Grundbegriffe, op. cit., p. 17.
❖ 382دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) technè
(2) poiesis
( )3هايدغر ،حمارضات ومقاالت ،ص .17
Das Entscheidende der technèliegt somit keineswegs im Machen und Hantieren, nicht im
Verwenden von Mitteln ,sondern in dem genannten Entbergen. Als dieses, nicht aber als
Verfertigen, ist die technèein Her.vor.bringen. Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op.
cit., p. 17.
الغريب ❖ 383 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
(1) Otto Pöggeler ,Kunst und Politik im Zeitalter der Technik ,in Fresco M. (Hrsg.), Heideggers
These vom Ende der Philosophie, Bonn, Bouvier, 1989, pp. 93 - 114.
(2) Ge-stell
(3) stellen
❖ 384دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
( )1الرشوحات التي ساقها هايدغر يف تسويغ هذا التأصيل يف حمارضته «سؤال التقنيَّة» (هايدغر ،حمارضات
ومقاالت ،ص .)24
Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 24.
(2) stellen
(3) her-stellen
(4) dar-stellen
(5) poiesis
عل صيغة االستنهار ،وأصلها عثرت ى
ُ غشتِل
األملاين ْ
ّ ( ،Ge-stell )6يف البحث املضني عن عديل االصطالح
فعل ّنر اليشء ،أي زجره حتَّ ىى ينهر ما فيه .أ َّما الفعل الالزم َ ِ
(ّن َر اليش ُء) ،فيعني كثُر وغزُ ر .فيكون
االستنهار استفزازا للطبيعة ح َّت ىى تستطلق ما فيها من قدرات وطاقات ،وقد تكاثرت وغزرت ،وأضحت
عل اجلهاز أو اإلطار أو املشبَّك أو قابلة لالستغالل .يف االستخدام األملاين املألوف تدل كلمة ْ ِ
غشتل ى ّ
معنى االستجامع والتحشيد ،وُيمل ى عل املنضد .غري َّ
أن هايدغر ُُي هور يف داللتها ،فيحمل البادئة ( )Geى َّ
معنى الوضع والرسم والتصوير واألمر واملطاردة واملالحقة واالستحثاث
ى عل
الفعل ( )stellenى
واالستنهاض واالستجالب.
الغريب ❖ 385 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
الكشف الذي يسود ماه َّية التقن َّية احلديثة من غري أن يكون هو شيئًا تقنيا(.)1
كل نشاطات اإلنسان يف الزمن املعارص ،سواء تلك التي عل ه
مثل هذه املاه َّية هتيمن ى
الصناعي أو تلك التي ترتبط بالصناعة الثقاف َّية .ذلك أ َّنه ُيتكر املا َّدة والعقل
ه تتع َّلق باإلنتاج
احلي الذي ينبغي استثامر طاقاته
يتصور الطبيعة والواقع يف هيأة املستودع ه
َّ وجيعل اإلنسان
املخبوءة وحتويل عنارصه إ ىل أغراض استخدام َّية حمضة .هو العلم احلديث الذي يفرض
عل استحضار مجيع قدراهتا ومواردها .االستنهار
عل الطبيعة يستحثها ى خم َّططه ّ
احلساب ى
ويتامدى يف استثارة دفني أرسارها ح َّت ىى
ى خيترض مكانز الطبيعة ،أي يقتطفها قبل أوان نضجها،
جراء مثل هذا االستفزاز املتامدي تنكشف عارية مستسلمة خاضعة أمام آالته اجل ّبارة .من ّ
يكف اإلنسان عن اختبار الكائنات واألشياء بام هي جت ّليات حلقيقة الكينونة ،فتنقلب مجيع
إل َّ
أن اإلنسان ليس هو من يفتعل هذا النفعي .جتدر اإلشارة هنا ى
ه هذه العنارص أسري َة األخذ
االستنهار أل َّنه هو أيضا حمكوم به .فاالستنهار يستفز أيضا اإلنسان ويدفع به إ ىل الترصف
أن االستنهار هو الكيف َّية احلديثة التي عليها ُيلو للكينونة ْ
أن تنحجب ترصفا عدائ ًّيا .ذلك َّ
احلسابة.
انحجابا ت َّتقي به نوائب العقالن َّية ّ
عل هذا التحول اخلطري يف كائن َّية هذه األشياء والعنارص والكائنات ،يستأنس
تدليال ى
تكومت وتكدَّ ست طاقاهتا ِ
آخر ُيفصح به عن حال الطبيعة وقد َّ هايدغر بتوليد لغوي َ
بعضها فوق وأضحت جاهزة لالستغالل .هو اصطالح املُنت ََضد الذي جيمع َم َ
تاع األشياء َ ()2
بعض وينضدها وخيزّنا يف أهراء التوضيب ح َّت ىى ُتضحي جاهزة لالستخدام واالستثامر
واالستغالل:
للتو يف ُأفق نفع َّية ومأمور َّية ،أو بتعبري أفضل ٍ
كل يشء (الكائن يف ك يل َّيته) يصطف ِّ
يشء عاد يقوى عىل الظهور يف حياد َّيةٍ يف ُأفق مطلوب َّية ما ينبغي اهليمنة عليه .ما من
ٍ ٍ أغراض منت ََض ٍ
واحتياطات خمرونات دة من ٍ ُ التقابل املوضوع َّية .مل يعد هناك سوى
َ
ووسائل(.)1
الكوين تنقلب الطبيعة كلها خزّ انا رحبا من الطاقة املستودعة
ّ جراء هذا االستنهار
من ّ
كل موارد إنتاج َّيتها .الطبيعة ُتضحي هي املُنت ََضد األعظم الذي تنضوي
تغرتف منه التقني ُة َّ
التقني الضارب يف املسكونة قاطبة .أ َّما اإلنسان فينقلب هو أيضا
ه فيه كل خمزونات االقتدار
موردا من املوارد األساس َّية يف العامل ،ومستودعا ضخام للطاقات امله َّيأة الصاحلة لالستخدام.
وبذلك ينتظم الوجود كله يف خم َّطط علمي كوين يستوجب اإلعداد واالستباق والتمهيد
واالستطالع واالسترشاف ح َّت ىى َّ
تظل مستودعات الطاقة جاهزة لالستخدام املبارش وغري
املبارش ،وقابلة للديمومة ح َّت ىى يف حالة انعدام احلاجة املنظورة إليها.
عل معاندة التقن َّية يف جوهرها
يقوى ى
ى عل هذا النحو عاد اإلنسان ال ولـ َّام كان األمر ى
جمرى
ى سري
فالقوى االستغالل َّية التي استثارها االستنهار الكوين أضحت هي التي ُت ه
ى الغالب.
أن جتاوزت حدود عل إرادات الناس .فهي سبق ْاألحداث يف العامل وهي التي هتيمن ى
اإلنسان وخرجت من دائرة سيطرته .السبب األسايس يف ذلك اخلروج َّأّنا أصال ليست
احلضاري الذي فيه
ه الكوين متأ هتي ٌة من زمن الغروب
ه منبثقة من إرادته الذات َّية .هيمنة االستنهار
وكأين هبايدغر ينسب إ ىل الكينونة قرار االستفحالّ سقطت الكينونة يف غياهب النسيان،
حر َّيتها ويف ّى
تتجل يف براءة ّ أن َّقررت الكينونة َّأّنا ال تستطيع ْ
أن التقني يف الكون من بعد ْ
ه
رس َّيتها القص َّية .وعليه َّ
فإن زمن التقن َّية هو زمن اكتامل اِّليمنة صفاء حقيقتها ويف إيامءات ّ
وعل العامل .وليس ينفع اإلنسان ْ
أن يتد َّبر باخلطط وعل اإلنسان عل الكينونة ِ
ى ى املتافيزيائ َّية ى
(1) Geschick
(2) schicken
( )3هايدغر ،حمارضات ومقاالت ،ص .28
Das Ge.stell ist eine Schickung des Geschickes wie jedes Weise des Entbergens
Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 28.
( )4هايدغر ،حمارضات ومقاالت ،ص .76
Das Zeitalter der vollendenten Metaphysik steht vor seinem Beginn Heidegger, Vorträge
und Aufsätze ,op. cit ., p. 76.
❖ 388دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Michael E. Zimmerman ,Heidegger on nihilism and technique ,in Man and World ,1975, 4, 8 ,
( )2التوسعات التي أنشأها هايدغر يف تناوله مسألة جتاوز املِتافيزياء يف زمن العدميَّة األُوروبيَّة:
Heidegger, Nietzsche : Der Metaphysik und Nihilismus, GA 67 ,Frankfurt, Klostermann,
( )3قاِّلا هايدغر يف حمارضته «يف ماه َّية احلقيقة» (هايدغر ،معامل الطريق 197 ،و.)198
Das Dasein ist die Wendung in die Not( Heidegger V
, om Wesen der Wahrheit ,
ملعنى
ى انسدادات املِتافيزياء ،ويتخ ّط ىى إرباكات اإلرصار َّية التقن َّية .فينعطف إ ىل اختبار آخر
التارخيي الراهن .فالتاريخ هو ميدان تعاقب اإليفادات القدَ ر َّية التي ُتفرج عنها
ه االنبساط
األملاين بني عبارة
ه اإلنساين .والصلة ب هين ٌة يف االصطالح
ه الكينون ُة وتضعها يف متناول االختبار
أن التاريخ -يف نظر هايدغر -ينشأ من تراخي احل َقب ،أي
التاريخ( )1وعبارة القدَ ر( .)2ذلك َّ
أن يتب َّلغها اإلنسان من توال اإلرساالت التي تأتينا من الكينونة .ويف ه
كل إرسال رسال ٌة جيب ْ
رس هذه الكينونة:بالقربى احلقيق َّية من ه
ى ح َّت ىى يفوز
إن ِح َقب تاريخ الكينونة املختلفة ،أي خمتلف االنقباضات الذات َّية التي تعاقبت َّ
احلضور قدَ ريا عىل الكينونة يف قدَ رها ،هي ِح َقب الكيفيات املختلفة التي عليها ُأ ِ
رس َل
ُ َّ ُ
الغريب(.)3
ِّ لإلنسان
باخلط املائل أل َّنه يروم ْ
أن يلقي ه ()4
عل رسم كلمة احلضور
النص ى
يرص هايدغر يف هذا ه
ببالنا إ ىل الكيف َّية التارخي َّية الراهنة التي عليها ُندرك الكينونة حضورا دائام قابال لالستمالك
ُ
حممول وتتوارى ،ويف هذا
ى عل ذاهتا
واالستغالل .فالكينونة يف زمن التقن َّية احلديثة تنقبض ى
األملاين ( ،)sich entziehenوتوفد إلينا من صميم توارهيا هذه الكيف َّي َة التارخي َّية ّ الفعل
أن يترصف هبا وفاقا نتبرص يف معناها .ولكنَّها كيف َّي ٌة تبيح لإلنسان ْ
أن َّالتي هبا نستطيع ْ
القوة النيتشو َّية وإرادة اإلرادة
ت وإرادة َّ
اليقيني الديكار ّ
ّ احلسابة والتمثل
ألحكام العقالن َّية ّ
تتكون ما َّد ُة التاريخ وتتك َّثف وتتواطأ
َّ جراء تعاقب هذه الكيف َّيات املرسلةالكون َّية .من ّ
التقني اجلارف يف الزمن الراهن.
ه عل منارصة االقتدار
عنارصها ى
ُ
(1) Geschichte
(2) Geschick
( )3هايدغر ،حلقات (حلقة طور 11 ،أيلول ،)1969ص .367
Die verschiedenen Epochen der Geschichte des Seins - das unterschiedliche und
aufeinander folgende Sichentziehen des Seins in seinem Geschick - sind die Epochen der
zuschickt Heidegger, Seminare ,GA 15, Frankfurt, Klostermann, 1986, p. 367 .
(4) Anwesenheit
الغريب ❖ 391 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
أن تنغمر انغامرا يف حقبة اكتامل املِتافيزياء ،فتنحجب وتصمت صمتا بليغا.
لإلنسان َّية ،وإ َّما ْ
ويالت االقتدار األعظم:
ُ قبل ذلك ينبغي لألرض ْ
أن جتتاحها
ُكَّس الكينون ُة بام هي إرادة،
قبل أن تنبسط الكينون ُة يف حقيقتها األصل َّية ،جيب أن ت َ
اإلنسان عىل العمل
ُ كره
ُكتسح األرض ،وجيب أن ُي َ
رصع العامل ،وجيب أن ت َ
وجيب أن ُي َ
وحسب(.)1
اخلالص يف إرساالت الكينونة .وهو حتو ٌل ي َّتخذ هيأة
ه حينئذ يمكن استرشاف التحول
االنسالك يف حقبة تارخي َّية جديدة.
عل قدر ما ينظر نظرا حصيفا يف اخلطر« :إ َّننا يستطيع اإلنسان ْ
أن يشارك يف هذ التحول ى
عل الرتقب نمو ما به اخلالص»( .)2ومع َّ
أن هايدغر ُُي هرض اإلنسان ى نبرص اخلطر فنستبرص َّ
أن الرتقب ال يعني اإلذعان واخلضوع .نصيحة هايدغر َّأال ينجر اإلنسان وراء
الفطنَّ ،إال َّ
اإلرادي ،فيظن نفسه قادرا بوسائل التقن َّية احلديثة ْ
أن يصارع التقن َّية احلديثة .الرتقب ه الفعل
يعني ْ
أن ينعطف اإلنسان إ ىل الكينونة ح َّت ىى يصغي إ ىل ندائها اجلديد .لذلك غالبا ما يتحدَّ ث
ت القديم يف هايدغر عن التوبة واالرتداد ،وقد يكون يف حتدثه هذا يش ٌء من األثر َّ
الالهو ه
تنشئته الكاثوليكية .توب ُة اإلنسان هي توب ٌة إل الكينونة ،ي ِ
كسبه إ ّياها حتس ٌس آخر ملعاين ُ ى َّ
رس الكون الفسيح .هي القرى من األشياء ،ومعاين التامس ه ى عل األرض ،ومعاين السكن ى
دعو ُة الفكر إ ىل الذكر أو االستذكار حيث ينجيل لإلنسان َّ
أن اخلالص إ َّنام يأت املائتني من
«إن اخلالص جيب ْ
أن يأت من حيث يصيب موقع توبتهم العميقة الناشبة يف عمق ماه َّيتهم َّ :
Mensch zur bloßen Arbeit gezwungen werden Heidegger, Vorträge und Aufsätze, op. cit.,
p. 69.
( )2املصدر السابق ،ص .37
Wir blicken in die Gefahr und erblicken das Wachstum des Rettenden Heidegger,
Vorträge und Aufsätze, op. cit., p. 37.
الغريب ❖ 393 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
إل الكينونة تستوجب التزاما فكر ًّيا املائتني حتو ٌل يف ماه َّيتهم»( .)1ال ريب َّ
أن توبة اإلنسان ى
االستذكاري ال
َّ أن مثل هذا التحول ال ُيدركه َّإال الفكر املستذكر .ذلك َّ
أن الفكر رصُيا ،غري َّ
عل غرار التقن َّية احلديثة .الفعل اإلنساين الصحيح هو فعل الفكر ِ
يفعل وال يصنع وال ُينجز ى
قيقي» .أ َّما َّأول التزامات الفكر ،فهو االلتفات إ ىل االلتباس الذي
ألن «الفكر هو الفعل احل َّّ
يصيب الكينونة يف زمن التقن َّية .فزمن التقن َّية احلديثة هو يف الوقت عينه زمن الضيق وهو
عل سبيل التجوز -الصورة املجاز َّية التي
زمن االرتداد إ ىل الكينونة .ولذلك يصح فيه -ى
رأس إيانوسيوس(.)2
ينطوي عليها ُ
ومن َث َّم َّ
فإن االرتداد إ ىل الكينونة يكون يف رعايتها ال حارضا قابال لإلمساك ،بل إقباال
غنى الغياب .الكينونة -إقباال إ ىل احلرضة -تأت إلينا( )3يف صورة
إ ىل احلرضة به ُيتجب كل ى
الكوين ،ولكنَّها أيضا
ه ري ،يف زمن التقن َّية قد ت َّتخذ الكينونة اسم االستنهار
اإليفاد القدَ ّ
وتتامهى وإ ّياها َّ
ألن الكينونة تستكره اِّلو ّيات ى خرى من غري ْ
أن متاثلها تلتحف بأسامء ُأ ى
األربعي(( )4األرض
ّ الرباعي أو
ّ وهب ،وتارة ُأ ى
خرى إرأيغنيس ،وطورا ٌ الصلبة ،فهي تارة
والسامء ،واملائتون واآلِّلة) ،وأطوارا لعبة األشياء والعامل .فاالرتداد يتح َّقق باستذكار مجيع
األسامء التي ال تناسب الكينونة بحيث َّ
إن الكينونة تصاب بأزمة عميقة يف هو َّيتها .لذلك
الروماين ذو الوجهني ( ،)Janusيرمز إ ىل املايض ويرمز إ ىل املستقبل .يفتح الرومان معبده يف
ّ ( )2هو اإلله
زمن احلرب ويغلقونه يف زمن السلم .ومنه اشتُ َّقت يف اللغة َّ
الالتين َّية تسمية الشهر الذي به ُخيتم العام
تيني ُأوفيدُ س ( 43ق.م. اللغوي يعثر الشاعر َّ
الال ّ ّ املنرصم و ُيستهل العام اجلديد ( .)Januariusيف أصله
عل داللة العبور واالنتقال .وقد يكون هايدغر قد استهوته دالل ُة الرتدد بني زمنني ،وقابل َّية
14 -ب .م ).ى
التلبث واالنتقال ،واحتامل السلب واإلجياب يف شخصيَّة هذا اإلله حتَّ ىى يعتمده وصفا حلقبة التقنيَّة
احلديثة.
(3) An-wesen
(4) Geviert
❖ 394دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Ereignis
ت (.)ereignen ت أو التخصيص الذا ّ ت أو االستدخال الذا ّ ( )2كلمة مشت َّق ٌة من فعل االستمالك الذا ّ
اخلاصة وبلوغ الكينونة إ ىلَّ األولَّ ،
فإن الـ إرأيغْنيس تعني بلوغ الكائنات إ ىل كينونتها املعنى َّ
ى وبحسب هذا
ِ
إعراض هايدغر عن املقاربة املتافيزيائ َّية للكينونة ربر
َ املسعى الذي ُي ه
ى أصالتها الذات َّية .ويف هذا جوهر
أسمى .واالستمالك ال يعني يف ى نصب الكينون َة ع َّلة أو ىل وجوهرا صمدا وكائنا
احلساب ُي ه
حيث العقل ّ
اخلاصة واستدخاله لكينونته يف عمق ذاته.
َّ عل اليشء ،بل بلوغ اليشء إ ىل ذاته
هذا السياق االستحواذ ى
عل حدوث معنى يدل ى
ى املتضمن للفاعل ( .)sich ereignenوهو
ه و َث َّمة ى
معنى آخر للكلمة يف صيغة الفعل
األملاين القديم احلامل لداللة النظر
ّ املعنى األخري املشتق من الفعل
ى اليشء وتأ هتيه يف الوجود .أ َّما
( ،)eräugnenفيشري إ ىل اعتالن حقيقة اليشء واستدعائها لنظر الـ دازاين حتَّ ىى يستدخلها يف موضع
«معنى الـ إرأيغْنيس يف الزمن والكينونة» ،الدراسات الفلسفي َّة،
ى اختباره للكينونة ( .)daف .فرشرتاتن،
كانون الثاين (آذار) ،1986 ،ص 133 - 113؛ ج .غريش« ،اهلو َّية واالختالف يف فكر مارتن هايدغر.
والالهوتي َّة ،عدد ،1973 ،57ص 111 - 71؛ سبيل الـ إرأيغنيس» ،جم َّلة العلوم الفلسفي َّة َّ
ج .كوكلامنس ،يف حقيقة الكينونة .رضوب من التفكر يف فلسفة هايدغر األخرية ،منشورات جامعة
إنديانا.1984 ،
Ph. Verstraeten ,Le sens de l’Ereignis dans Temps etÊtre , LesÉtudes philosophiques ; J.
العفوي بني الكينونة واإلنسان به ُتقبل الكينونة إ ىل اإلنسان ومن َث َّم اإلنسان إ ىل الكينونة من
غري استدعاء رشعي أو استجالب منفعي .ولكن -قبل ذلك ك هله -أي قبل التوبة واالرتداد
الضالل
ه أن خيترب حالة الترشد إ ىل حقيقة الكينونة املتج ّلية يف الـ إرأيغنيس ،جيب ى
عل اإلنسان ْ
احلقيقي .ذلك َّ
أن التقن َّية احلديثة هي يف ه ( )1()Irreباحثا عن الكينونة من أجل الفوز باالنتامء
عل االنعطاف وجه من الوجوه «تنظيم الفاقة»( ،)2متتحن اإلنسان امتحانا قبل ْ
أن جيرؤ ى
والتحول.
ما السبيل العميل إذا إ ىل االستذكار الذي جيعل اإلنسان يتجاوز الضيق ويتجاوز نسيان
أن املسألة تستلزم خطوتني اثنتَني :األُو ىل تبادر إليها الكينونة ،والثانية يضطلع
الضيق .يبدو َّ
أن نرت َّقب فضال من أفضال الكينونة أو نعمة( )3من هبا اإلنسان .يف اخلطوة األُو ىل علينا ْ
عل إسعاف اإلنسان، عل حده تعبري هايدغر .ذلك َّ ِ
أن الكينونة هي وحدها قادر ٌة ى ن َعمها ،ى
ويرىض بمعاينة الضيق وما
ى فكره باستعداد إصغائي جيعله «خيترب الترشد الضال َّل»، ف ُتز هين َ
وراء الضيق من انفراج تنسل إ ىل منفسحاته الكينونة يف خفر عظيم .أ َّما اخلطوة الثانية فهي
الريض بالضيق وبام يستتليه من انعطاف نحو احلقيقة
ّ أشبه بارتداد ُهي هيئ اإلنسان لالضطالع
عل
أن مثل هذا االضطالع ال يعني ى املتأللئة من وراء االنسداد الكالح يف األُفق .غري َّ
يتحرر بنزع حمدود َّيته
اإلطالق اخلضوع حلتم َّية التقن َّية وإلزام َّية الترشد الضال هل .فاإلنسان ال َّ
يرىض
ى عل قدر ما
يتحرر ىالتلقائي يف كائن َّية الكون والعامل والكائنات ،بل َّ
ه الناشئة من انسالكه
بالقسمة ،قسمة مقامه بني الكائنات ،وبالنصيب ،نصيب إحرازه اإلدراك املالئم ،وباملصري،
Geschick der Entbergung. So halten wir uns schon im Freien des Geschickes auf
ُين حنينا أن خياصم التقن َّية و ُيعرض عن مكتسباهتا ويدين جهودها السليمة ،وال ْ
أن َّ هايدغر ْ
هه كان الفوز بفهم أعمق ملاه َّية التقن َّية
مرض ًّيا إ ىل العصور القديمة أو البدائ َّية املنرصمة .جل ه
َ
عل الكون. موضع اعتالن ملنحجبات اإلرساالت التي متن هبا الكينون ُة ى ُ احلديثة بام هي
إل املايض ،جيب مواجهة التقن َّية يف أخطر منزلقاهتا ح َّت ىى نستطيع ْ
أن نتد َّبر عوضا من احلنني ى
عل استشعار اخلطر الداهم ُ
اإلنسان ى يقوى
ى عل قدر ما وجها آخر للكينونة يف األزمنة املقبلة .ى
يتخل ّت ّليا وه ًّيا عن الوسائل السليمة التي تتيحها التقن َّية ،بل ْ
أن ّى يف التقن َّية ،يته َّيأ له ال ْ
أن
غري موقفه منها ومن وعودها الزائفة .اللجوء السليم إ ىل التقن َّية ليس هو اخلطيئة املميتة ،بل
ُي ه
اخلطيئة األعظم هي يف اخلضوع املنسحق لسلطان التقن َّية ويف تشويه عالقة اإلنسان باألشياء،
ومن وراء األشياء بالكينونة .مسؤول َّية اإلنسان ْ
أن ينهج إ ىل األشياء سبيال آخر غري سبيل
وأمىض
ى أن يساعد اإلنسان يف مثل هذا النهج أنجع االستنهار .وليس من تدبري عميل يستطيع ْ
االستذكاري« :الفكر ُينجز عالقة الكينونة بامه َّية اإلنسان»( .)1هو
ه وأرقى من تدبري الفكر
ى
الفكر عينه الذي يامرسه هايدغر عندما يستذكر رضوب االعتالن ورضوب االحتجاب التي
فكر يروم ْ ِ
أن يضع اإلنسان يف اختربهتا الكينون ُة ى
عل تراخي عصور املتافيزياء الغرب َّية .هو ٌ
الوهاب .فإذا كانت التقن َّية
العفوي ّ
ه قربى الكينونة ْ
وأن ُهي هيئ للكينونة املوضع األمثل لتفتحها ى
فإن الفنون واألعامل الفنّ َّية يمكنها ْ
أن هتب الكينونة املنفسح احلديثة تعيق مثل هذا التفتحَّ ،
اإلغريقي
ه الفجري
ه إل التقن َّية يف مدلوِّلا األنسب العتالناهتا .غري َّ
أن العمل الفن َّّي هو عو ٌد ى
بالفن استلهاما حلضور حر تأت إليه الكينون ُة يف ثنايا العمل ه األول حيث كان اإلنسان يلوذ
َّ
الفن هّي املتقن.
; (1) Luc Ferry, Le nouvel ordreécologique : l’arbre, l’animal et l’homme, Paris, Grasset, 1992
Id., La révolution transhumaniste : comment la technomédecine et l’uberisation du monde
vont bouleverser nos vies ,Paris, Plon, 2016.
األملاين كارل أوتّو أ هبل ( )2017 - 1922يف العقالنيّات احلديثة:
ّ ( )2راجع البحث الذي أنشاه الفيلسوف
K. O. Apel ,Esquisse d’une théorie philosophique des types de rationalité ,Le Débat,
mars.avril 1988, 49, pp. 142 - 163.
الغريب ❖ 401 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
القصوى واملعاين
ى أن انتقاد العقالن َّية الغائ َّية التي تستجيل املقاصد العقالن َّية احلديثة .غري َّ
جرى هناكى جراء انحراف حدث هنا والتواء القوامة واملُ ُثل العليا ،فال جيوز إبطاِّلا من ّّ
ِ
عل نقده الشمو هل للعقالن َّية يف مجيع وجوهها، وتشويه اف ُتع َل هناك .قد يعاتب املرء هايدغر ى
عل التبرص والتمييز
كل قدرة ى اإلنساين من ه
َّ وتعميامته املجحفة الظاملة التي ُجت هرد العقل
واحلكم واإلفتاء .استجالء ِّلذه اخللف ّيات التارخي َّية التي أ َّثرت تأثريا ب هينا يف فِسارة هايدغر
التفكيك َّية ،ال بدَّ من اإلشارة املقتضبة يف هذا السياق إ ىل النقد الذي عقده ماكس ِ
فيرب
( )1920 - 1864حني ف َّكك األُنظومة التقنيَّة التي تنطوي عليها الرأسامليَّة املعارصة،
وأبان أ َّن األصل يقرتن بالنظرة الشاملة إ ىل الكون .وهي نظر ٌة فلسف َّية أخالق َّية ُتعزه ز مقولة
الربوتستانتي.
ه االستثامر ،فتُظهر الوشائج اخلف َّية التي تصل الرأسامل َّية بروح املذهب
األول من فالسفة مدرسة فرنكفورت ،والسيّام ِهربِ ْرتوُيسن أيضا االلتفات إ ىل اجليل َّ
عل
ماركوزه ( )1979 - 1898وتيودور أدورنو ( )1969 - 1903اللذين عابا ى
العقالن َّية الغرب َّية مطاحم َها التسلط َّية وانحرافاهتا األخالق َّية .ويمكن أيضا احلديث عن
يونغر ( )1998-1895الذي نظر إ ىل شكل( )1أو هيأة العامل نظرتَه إ ىل الصورة إرنست ِ
املتفوق
ه الشكل يف ُأفق اإلنسان
ُ النافذة املهيمنة يف العامل املعارص( ،)2ولئن ارتسمت هذا
تبقى هذا الشكل -بحسب هايدغر -
املتجاوز لذاته والعابر للمحدود َّية اإلنسان َّية .لذلك ى
مق َّيدا بإرادة اِّليمنة التي تنطوي عليها إراد ُة االقتدار النيتشو َّية التي ُحت هولتفي حقبة
املنجزة إ ىل إرادة اإلرادة. ِ
املتافيزياء َ
اِّلايدغري ملِّس ىى املِتافيزياء الغرب َّية واالنتقاد
ه واضح بني التفكيك
ٌ أن الفرق ال جرم َّ
البنيوي الذي ساقه هؤالء مجيعا يف سياق تقويم العقالن َّية الغرب َّية احلديثة .فالتفكيك يبلغ
ه
هبايدغر حدود االرتياب من مطالب العقل عينه ومن مطاحمه ومقاصده( .)3فالعقل هو
(1) Gestalt
(2) Ernst Jünger, Der Arbeiter. Herrschaft und Gestalt, Stuttgart, Klett.Cotta,1982.
اِّلايدغري،
ّ أن ُث َّلة نابغة من الفالسفة الغرب هيني تأ َّثروا ُتأثرا محيدا باالنتقاد
( )3ال بدَّ من اإلشارة إ ىل َّ
فاستلهموه وأنشأوا منه مذهبا فلسف ًّيا يراعي خصوص َّية الطبيعة والبيئة ،ولكن من غري ْ
أن يطرد اإلنسان
من موقعه املتد هبر املسؤول.
❖ 402دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
السلطان الذي ينبغي تقويضه عند هايدغر ،فيام هو امليزان الذي جيب ضبطه وتقويمه
كل التواءات العقالن َّية احل ّسابة يفعل افتضاح ه وتأهيله عند اآلخرين .وحني يرص هايدغر ى
أن أفضل الس ُبل للنجاة من سلطان العقل هو عزل يتبني له َّ ِ
مطاوي املتافيزياء الغرب َّيةَّ ،
العفوي
ه الكوين
ه اإلنسان عن مقام الصدارة والركون إ ىل الطبيعة وإ ىل األشياء وإ ىل اجلريان
خرىسوى االعتصام بلغة ُأ ى ى وإل األقدار واألرسار .ومن َث َّم ال ى
يبقى لإلنسان وإ ىل الكينونة ى
أدنى ريب -لغة
هي غري لغة العقل والتمثل والتصور واملحاسبة واملحاكمةَّ .إّنا -بال ى
السفيل .بيد َّ
أن املشكلة الكأداء تظل ه العلوي أو
ه الشعر والتصوف والعرفان واالنخطاف
ري الذي تبته الكينون ُة ى
عل تعاقب عل أعظم َّية القرار القدَ ه
ناشبة يف هذا اإلرصار الرهيب ى
اإلغريقي االستهال هل.
ه الفجري
ه اإلنساين يف الزمن
ه إرساالهتا الكون َّية منذ انفطار التفكر
أن اإلنسان ينزع إ ىل االنحراف ويميل إ ىل اِّليمنة ويبتهج باالستبداد ،وقد فإذا ثبت َّ
تعاظم هذا كله يف زمن التقنية الكون َّية ،فالوسيلة األنجع ال تكون بعزله ،بل بتقويمه وهتذيبه
اخلالق .ال ريب يف َّ
أن الركون إ ىل الكينونة يظل من النقدي َّ
ه ت
وتأهيله ملقام يليق بوعيه الذا ه
حمفوف بمخاطر االستقالة واالعتزال والتلبث ٌ ٌ
سبيل َّ
األخاذة .ولكنَّه احللول الصوف َّية
خوة. إل حياة الكرامة واملساواة والعدل واألُ َّ بي ،يف حني َّ
أن الناس يتوقون ى الوجداين الرتق ه
ه
بمجرد البنى القانون َّية والترشيع َّية الكون َّية ِ
َّ وهي ق َي ٌم ال يمكن منارصهتا وتعزيزها وإنشاهبا يف ى
اخللييل بني الكينونة واإلنسان .فالتحدّ يات العلم َّية واإلشكال ّيات التقن َّية ه التامس البوح
اإلنساين ال يستطيع اإلنسان ْ
أن ه واالستصالحات اجلين َّية يف كائنات الطبيعة ويف الكائن
القديس
ه الِّس َّية التي تومئ إليها الكينونة من مقامها
يضطلع هبا اضطالع املتأ همل يف املشورات ّ
وعل سالمة
ى عل كرامة الكائنات وكرامة الكينونة
اِّلايدغري ى
َّ أن احلرصصحيح َّ
ٌ املقتدر.
البيئة وسالمة اإلنسان واإلنسان َّية يظل هو األُفق السليم الذي ينبغي ْ
أن تنسلك فيه كل
Jacques Ellul, La technique ou l’enjeu du siècle, Paris, Armand Colin, 2008 ; Hans Jonas,
Technik, Medizin und Ethik : Zur Praxis des Prinzips Verantwortung, Frankfurt a.
Main, Suhrkamp, 1985 ; Andrew Feenberg, Questioning Technology, New York and
London, Routledge, 1999.
الغريب ❖ 403 تافيزيائيالتقنية احلديثة ثمرة العقل امل ِ
ي ي َّ
اِّلايدغري من َّ
أن التوسعة ه املعاين إطالقا .يأت االمتحان األشدّ إرباكا يف مثل هذا التأول
املضموين الذي يالمس العدم .فتصبح
ه املطلقة يف ترسم قوام الكينونة قد ُيفيض إ ىل اخلواء
بالقهقرى إ ىل زمن التحسس
ى الكينونة والعدم مرتادفني متصاحبني متالزمني ،ونعود
رضب من رضوب العدم .وما أثبت
ٌ األول حيث استحالة القول يف الكينونة هو
اإلغريقي َّ
ه
للمعنى البنّاء.
ى ٌ
موثوق نجب التاريخ اإلنساين قط َّ
أن العدم ُم ٌ
* * *
405 ❖ الغريب تافيزيائيِ التقنية احلديثة ثمرة العقل امل
ي ي َّ
:املصادر
َّ جم َّلة العلوم الفلسفيَّة،» سبيل الـ إرأيغنيس. «اهلو َّية واالختالف يف فكر مارتن هايدغر، غريش.ج
،57 عدد،والالهوتيَّة
.1973
.1986 ،) كانون الثاين (آذار، الدراسات الفلسفيَّة،»«معنى الـ إرأيغْنيس يف الزمن والكينونة
ى ، فرشرتاتن.ف
.1984 ، منشورات جامعة إنديانا، رضوب من التفكر يف فلسفة هايدغر األخرية. يف حقيقة الكينونة،كوكلامنس
، ترمجة وحتقيق وتعليق إسامعيل املصده ق،»«مشكالت» خمتارة من «املنطق
ٌ : األسئلة األساسيَّة للفلسفة،هايدغر
.2018 ، بريوت، دار الكتاب اجلديد املتَّحدة،مراجعة مشري عون
.1969 أيلول11 ، حلقة طور، حلقات،هايدغر
.1977 ، كلوسرتمان، فرانكفورت،5 اجلزء، األعامل الكاملة، دروب الغابة،هايدغر
. معامل الطريق،» «رسالة يف اإلنسيَّة،هايدغر
. حمارضات ومقاالت،هايدغر
ُ العدميَّة: نيتشه،هايدغر
.األوروبيَّة
ِ
.1959 ،بفولتنغن ، غونرت ِنسكه، العزوفيَّة،هايدغر
Andrew Feenberg, Questioning Technology, New York and London, Routledge,
1999.
C. Jamme (Hrsg.), Martin Heidegger. Kunst . Politik . Technik ,München,
Wilhelm Fink Verlag, 1992.
Ernst Jünger, Der Arbeiter. Herrschaft und Gestalt, Stuttgart, Klett.Cotta,1982.
Hans Jonas, Technik, Medizin und Ethik : Zur Praxis des Prinzips
Verantwortung, Frankfurt a. Main, Suhrkamp, 1985.
Heidegger, Beiträge zur Philosophie Vom Ereignis, GA 65, Frankfurt,
Klostermann, 1989.
Heidegger, Die Frage nach dem Ding : Zu Kants Lehre von den
transzendentalen Grundsätzen ,GA 41, Frankfurt, Klostermann, 1984.
Heidegger ,Einleitung zu : Was ist Metaphysik? in Heidegger, Wegmarken, GA
9, Frankfurt, Klostermann, 1976.
Heidegger, Gelassenheit ,Günther Neske, Pfultingen, 1959.
Heidegger, Grundbegriffe, GA 51, Frankfurt, Klostermann, 1991.
Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977.
Heidegger, Identität und Differenz, GA 11, Frankfurt, Klostermann, 2006.
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب406
* * *
منهجيَّة هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا
()2()1
()3
خشايار برومند
()4
الس ِّيد حسني احلسيني
اخلالصة:
أهم املوضوعات التي حظيت باالهتامم يف املنظومة الفكر َّية َّ
إن التكنولوجيا وماه َّيتها من ّ
وعل الرغم من االختالف الكبري بني توجه (هايدغر) وما نالحظه يف فلسفة
ى لـ (هايدغر).
التكنولوجيا السائدة ،بيد َّ
أن باإلمكان مشاهدة آثار األفكار املوجودة يف تفكري (هايدغر) يف
فلسفة التكنولوجيا املعارصة ،وح َّت ىى يف الفلسفة التحليل َّية بشكل واضح أيضا .سوف نعمد
عل أساس املنهج الفكري يف هذا املقال َّأوال إ ىل إيضاح ماه َّية التكنولوجيا احلديثة ى
لـ (هايدغر)َّ .
إن حتليل (هايدغر) للتكنلوجيا احلديثة وماه َّيتها ُيش هكل مقدّ مة لفهم املخاطر
التي ُهتده د اإلنسان املعارص .وبعد ا هتضاح مفهوم الـ (جشتال)( )5بوصفه ماه َّية للتكنولوجيا
( )1عنوان املقال باللغة الفارسيَّة (برريس رويكرد هايدگر در مواجهه با تكنولوژى) ،منشور يف جم َّلة( :غرب
األول ،ربيع
شناسى بنيادى) ،پژوهشگاه علوم انسانى ومطالعات فرهنگى ،السنة اخلامسة ،العدد َّ
وصيف عام 1393هـ ش ،ص .22 - 1
عيل مطر.
( )2تعريب :حسن ّ
مستوى الدكتوراة يف حقل الفلسفة ،جامعة َّ
العالمة الطباطبائي( .كاتب مسؤول). ى عل
( )3باحث ى
( )4باحث مساعد يف حقل فلسفة العلم ،من جامعة رشيف الصناعيَّة.
( )5اجلشتال أو اجلشتالت ( :)gestaltبنية أو صورة من الظواهر الطبيع َّية أو البيولوج َّية أو السيكولوج َّية
ضم
بمجرد ه َّ املتكاملة بحيث ُتؤ هلف وحدة وظيف َّية ذات خصائص ال يمكن استمدادها من أجزائها
بعضها إ ىل بعضَّ .
وإن مفهوم الـ (جشتال) يف املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر جمموع املوا هد والعنارص الدخيلة
ويرى هايدغر َّ
أن اجلشتال بمنزلة خلفيَّة ى يف عمليَّة اإلنتاج ،وكذلك اإلطار الذي ُييط بحياتنا املعارصة،
فإن مفهوم اجلشتال عند هايدغر هو الذي يمنح عل أساسها َّ -
كل األشياء ،وعليه َّ الفلم التي نشاهد -ى
املعرب.
األشياء مفهومه ومعناها .ه
❖ 410دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
عل العامل الذي نعيش فيه ،يتم طرح رؤية هايدغر بشأن التحرر من
احلديثة ،وخماطر سيادته ى
يرى هايدغر َّ
أن نجاة اإلنسان املعارص إ َّنام تكون ممكنة من خالل عامل التكنولوجيا العبث َّية .ى
قيام نموذج جديد يغلب فيه إدراك جديد عن الكائناتَّ .
إن التحرر من األشياء يف اال هتصال
أن ُُي هقق استعداد اإلنسان لظهور وتبلور هذا النموذج.
بالتفكري املعنوي والروحي ،من شأنه ْ
عل منهج َّية هايدغر فيام يتع َّلق بالتكنولوجيا
ويف اخلتام نستعرض االنتقادات امل َّتجهة ى
احلديثة.
املقدّمة:
إن السؤال عن التكنولوجيا يف املنظومة الفكرية لـ (هايدغر) ُيم هثل سؤاال عن الفكر الذي
َّ
عل كا َّفة أنحاء احلياة البرش َّية يف عرصنا ،بحيث ال نبالغ لو قلنا باستحالة التعرف ى
عل خ َّيم ى
العامل الراهن -الذي ُيش هكل التفكري التكنولوجي أحد أركانه الرئيسة -دون التأمل يف حقل
أن املالحظات التارخي َّية تشري إ ىل َّ
أن نسبة التقن َّية لإلنسان إ ىل وعل الرغم من َّ ى التكنولوجيا.
كل ما هو قائم وموجود قد ظهرت يف بداية األمر يف ُأوروبا ،و«بقيت جمهولة يف ّ
القارات ه
أن الرؤية التقن َّية حاليا -كام أشار (مارتن هايدغر) األُ ى
خرى إ ىل فرتات زمن َّية طويلة»(َّ ،)1إال َّ
-هي التي حتكم الكرة األرضية من أقصاها إ ىل أقصاها(َّ .)2
إن عدم االهتامم الفكري هبذه
الرؤية ،يمنعنا من االستعداد إ ىل التحول اآلخذ بالتبلور والظهور يف هذا العرص(.)3
إل إظهار الرؤية التكنولوجية من
يسعى ى
ى إن هايدغر فيام يتع َّلق بالسؤال عن التكنولوجيا
َّ
حرة مع خالل السؤال عن ماه َّية التكنولوجيا .ويف هذا اإلطار ُيؤ هكد هايدغر ى
عل إقامة نسبة َّ
التكنولوجيا ،حيث يقول:
إ َّننا نعمل عىل طرح السؤال بشأن التكنولوجيا ،ونسعى من خالل ذلك إىل إقامة
( )1هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( .التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،أعدَّ ه وترمجه
حممد رضا جوزي وآخرون ،ص ،126منشور يف فلسفة وبحران غرب ،نرش:
إ ىل اللغة الفارس َّيةّ :
هرمس ،طهران1378 ،هـ ش.
( )2املصدر السابق.
( )3املصدر السابق ،ص .127
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 411
عل القوالب النظر َّية املسبقة ،ال يسمح بظهور ماه َّية
لناصية احلقيقة ،ومن خالل إرصاره ى
التكنولوجيا.
رصح هايدغر بأ َّنه غالبا ما يتم طرح تعاريف آل َّية وإنسان َّية يف معرض السؤال عن
لقد َّ
ماه َّية التكنولوجيا .وطبقا ِّلذه التعاريف نجد َّ
أن «التكنولوجيا عبارة عن وسيلة ونشاط
بأن هذه التعاريف ْ
وإن كانت صحيحة ،ولكنَّها برشي»( .)3وقد ذهب هايدغر إ ىل القول َّ
إل
عل السطح ،ومتنعنا من الوصول ى
أن هذه التعاريف ُتبقينا ىبمعنى َّ
ى ليست حقيق َّية(.)4
يرى التعريف وعل الرغم من َّ
أن هايدغر ال ى ى الطبقات األعمق التي ُمت هثل ماه َّية التكنولوجيا.
اآلل للتكنولوجيا مب هينا حلقيقة التكنولوجياَّ ،إال أ َّنه يف الوقت ذاته ال يراه تعريفا خاطئا .بيد
يسعى إليه هايدغر هو بيان هذه النقطة ،وهي َّ
أن ماه َّية التكنولوجيا تكشف عن ى َّ
أن الذي
حقيقة أعمق بكثري من التعريف اآلل واإلنساين للتكنولوجيا .ويف احلقيقة َّ
فإن الذي جيعل
( )1هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى ( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،املنشور يف فلسفة التكنولوجيا،
ص ،4أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :شاپور اعتامد ،نرش :مركز ،طهران1389 ،هـ ش.
( )2املصدر السابق ،ص .5
( )3املصدر السابق.
( )4املصدر السابق ،ص 6و.7
❖ 412دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
من مجيع أنواع النشاط التقني أو إنتاج اليشء التكنولوجي أمرا ممكنا هو نمط النظر إ ىل
األشياء ،والذي يتح َّقق من خالل ظهور اليشء لإلنسان ،وهذه الرؤية هي التي جتعل من
باملعنى
ى إن التكنوجليا التكنولوجيا أمرا ممكنا بوصفها أداة ونشاطا إنسانيا .وبعبارة ُأ ى
خرىَّ :
اخلاص بالوجود احلقيقي( )2أو حقيقة
ه املعنى
ى األنطولوجي(ُ ،)1مت هثل أساسا للتكنولوجيا يف
عل سطح وظاهر التعريف الصحيح للتكنولوجيا أو التكنولوجيا إن الوقوف ى الوجود(َّ .)3
اخلاص بالوجود احلقيقي ،يعني عدم وصولنا إ ىل الطبقة اجلوهر َّية ،أو التكنولوجيا
ه باملعنى
ى
عل العنارص األساس َّية يف
نتعرض -بعد جولة ى
باملعنى األنطولوجي .ويف هذه املقالة سوف َّ
ى
املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر فيام يتع َّلق بموضوع التكنولوجيا -إ ىل اشتامل منهج هايدغر ى
عل
بعض النواقص فيام يتع َّلق بطريقة تعاطيه مع األدوات التكنولوج َّية.
(1) ontological
(2) ontic
( )3آيدي ،دن ،هنر وتكنولوژى :فلسفه پديدارشناختى هايدگر در باب تكنولوژى (الفن والتكنولوجيا:
الفلسفة الظاهراتيَّة ِّلايدغر يف حقل التكنولوجيا) ،منشور يف فلسفة التكنولوجيا ،أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة
الفارسية :شاپور اعتامد ،ص ،50نرش :مركز ،طهران1389 ،هـ ش.
( )4عن اللغة األملانيَّة ( ،)Ge-Stellويف اللغة اإلنجليز َّية (.)gestalt
(5) Pattison, George (2000). The Later Heidegger, New York: Routledge. P.66.
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 413
إن ماه َّية التكنولوجيا احلديثة -طبقا لرؤية هايدغر -تتع َّلق بنمط خاص من ظهور
َّ
ه
املتأخرة( )1أو عرص األشياء لإلنسان ،والتي أضحت هي الغالبة مع ظهور املرحلة احلديثة
التكنولوجياَّ .
إن األساس األنطولوجي للتكنولوجيا احلديثة هو ذات النمط اخلاص لظهور
مستوى املصدر القابل لالستهالك
ى عل أساسه ينخفض اليشء إ ىل
األشياء لإلنسان ،والذي ى
اخلاصة،
َّ أو احلفظ واخلزن أو النبذ ،حيث يعمد اإلنسان إ ىل اختيار أي منهام طبقا حلساباته
القصوى من ِق َبل اإلنسان(.)2
ى ويتم فهم ه
كل يشء بوصفه كائنا أو مصدرا لالنتفاع واالستفادة
عل حده تعبري (درايفوس)، كل يشء -طبقا للتفكري التكنولوجي -ى فإن َّ
وعل هذا األساس َّ
ى
ثم يتم نبذه واالستغناء
ُيع َترب بمثابة مصدر تتم االستفادة منه ما دامت هناك حاجة إليه ّ
عل أساسها ما هو موجود -بفقدان معناه -إ ىل مصدر عنه(َّ .)3
إن هذه الرؤية التي ينخفض ى
الستهالك اإلنسان يمكن مشاهدته يف اللغة املعارصة بوضوح .يف عامل التكنولوجيا ُيط َلق
ويتحول الكتاب إ ىل مصدر لتخزين َّ عل األشياء الطبيع َّية عنوان املصادر الطبيع َّية،
ى
وإن ما قاله (بيل غيتس) بشأن عدم املعلومات ،ويتم حتديد القيمة ح َّت ىى للوقت أيضاَّ .
إن هذه املسألة ُت ِثبت
جدوائ َّية الده ين بحسب ّتصيص املصادر الزمن َّية يعكس هذه الرؤية(َّ .)4
َّ
أن الده ين يف مثل هذا التفكري بدوره يتم فهمه بحسب املفاهيم التكنولوج َّية من قبيل
االستثامر.
للمعنى وقابل
ى كل يشء يف إطار مصدر استهالكي فاقد أن ظهور ه
وال بدَّ من االلتفات إ ىل َّ
للتقدير ،يقرتن بنوع من التعرض من ِق َبل اإلنسان جتاه الطبيعة .وقد أشار (مارتني هايدغر)
إ ىل هذه النقطة قائال:
إن االنكشاف احلاكم عىل التكنولوجيا احلديثة ُي َعد نوع ًا من التعرض؛ وهو
َّ
التعرض الذي يضع الطبيعة يف مواجهة هذا التوقع االعتباطي يف أن يكون ضامن ًا
للطاقة ،كي يغدو باإلمكان استخراج الطاقة بام هي طاقة من ُصلب الطبيعة
وا ِّدخارها .ولكن َأال يصدق هذا األمر بالنسبة إىل الطواحني القديمة التي تعمل َّ
بقوة
وأّنا تتو َّقف
بقوة الرياحَّ ،
فإن مراوح هذه الطواحني وإن كانت تعمل َّ الرياح؟ َّ
كالَّ ،
بالكامل عىل هبوب الرياح ،ولك َّنها ال تعمل عىل حبس الطاقة احلاصلة بفعل الرياح،
كي تتم َّكن من ا ِّدخارها(.)1
إل
عل استقالِّلا ،وال تنخفض ى
لقد كانت الطبيعة يف التكنولوج ّيات القديمة حتافظ ى
مصدر للطاقةَّ .
إن الطاحونة اِّلوائ َّية هي التي تتناغم مع الرياح ،وبذلك تكون حاجتها
أن الطبيعة يف التكنولوجيا احلديثة هي عل الدوام ،يف حني َّ
املبارشة إ ىل الرياح حمسوسة ى
مصدر الط اقة الوحيد اخلاضع لسيطرة اإلنسان .وإذا كانت الزراعة يف يوم ما تعني املراقبة
فإن التعرض للطبيعة يف الوقت الراهن قد أحدث تغريا يف الزراعة أيضاَّ .
إن هذا والرعايةَّ ،
عل االستفادة منها يف ختام هذه املقالة
النوع من عبارات (هايدغر) من املوارد التي سنعمل ى
إل توصيف نموذج من هذا
يف إطار نقد طريقة تعاطيه مع التكنولوجيا .وقد عمد هايدغر ى
التعرض ،قائال:
إن الزراعة ليست اليوم سوى تصنيع الطعام آليا .حيث يتم حالي ًا معاجلة اهلواء
َّ
ل ُيخرج ما فيه من النيرتوجني ،ويتم معاجلة األرض ويتم استخراج معادّنا ،كام يتم
التعرض للموا ِّد املعدن َّية بدوره ،ومن ذلك -عىل سبيل املثال -معاجلة اليورانيوم،
( )1هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى (السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص .15
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 415
حيث تتم االستفادة منه بوصفه مصدر ًا للطاقة التي يمكن توظيفها يف املجاالت
السلم َّية ،كام يمكن توظيفها يف تدمري احلياة(.)1
ويف كلمة واحدة يتم فهم ه
كل يشء -يف التفكري التكنولوجي -بوصفه مصدرا
عل املفردة
لالستهالك البرشي .وقد أشار (ريتشارد رويتسويتش) -من خالل تركيزه ى
()2
األساس َّ
فإن مصطلح الـ (جشتال) يشري يف احلقيقة إ ىل نوع من اجلمع واحلرص الشامل يف
عل
املعنى ينسجم مع االنكشاف احلاكم ى
ى اإلطار الذي يتح َّقق فيه التحميل والتعرض ،وهذا
يتم العرص التكنولوجي الذي مت َّت اإلشارة لهَّ .
إن اجلشتال يدعو الناس إ ىل املعارضة ،كي َّ
عل ضبطه وتنظيمه .وبطبيعة احلال
الكشف عن األمر الواقع بوصفه ( )Bestandوالعلم ى
معنى الضبط والتنظيم هنا -بااللتفات إ ىل االرتباط اجلوهري بني الـ ()bestellen
ى َّ
فإن
وعل هذا األساس جيب
ى عل نوع من احلمل واخلوض أيضا.
والـ ( - )stellenيدل بدوره ى
اعتبار الضبط والتنظيم نوعا من احلمل والتعرض املقرون بالسيطرة والترصف يف الطبيعة
واملعنى اآلخر ِّلذا النوع من التنظيم عبارة عن
ى ه
لكل نوع من االستهالك الذي يريده اإلنسان.
وعل هذا األساس وبواسطة التنظيم واالنضباط
ى ترتيب األشياء من طريق احلساب(.)1
ومتى ما
ى عل ُأهبة االستعداد ،كي ينطلق الطلب مبارشة
«يكون كل يشء ويف مجيع األمكنة ى
عل وعل هذا األساس َّ
فإن خصوص َّية التنظيم يف التكنولوجيا احلديثة تدل ى ى اقتىض األمر»(.)2
ى
تتم تلبية حاجات اإلنسان االستهالك َّية
عل ما هو موجود من طريق احلساب ،كي َّ السيطرة ى
أن ذكرنا -بالتعرض إن هذه السيطرة تقرتن -كام سبق ْ كل زمان ويف ه
كل مكان مبارشةَّ . يف ه
ه َّية إل ه
كل يشء بوصفه شيئا عديم األ ّ والترصف يف الطبيعة؛ وهو التعرض الذي ُين َظر فيه ى
وال ينفع َّإال بوصفه شيئا ُيل ّبي احلاجة االستهالك َّية للبرش فقط.
أن نستنتج ما ييلَّ :
إن سؤال هايدغر حول وعل أساس ما حتدَّ ثنا عنه ح َّت ىى اآلن ،يمكن لنا ْ
ى
خاصة إ ىل ما هو موجود،
التكنولوجيا ناظر إ ىل ماه َّية التكنولوجيا احلديثة ،وهو يرتبط برؤية َّ
والفن وسائر
َّ وهذه الرؤية ال تستوعب األدوات والوسائل فحسب ،بل وتشمل الده ين
سمي هذه النتيجة بالنقطة (أ) ،كي نستفيد
املساحات املرتبطة باحلياة البرشية أيضا .وسوف ُن ّ
منه يف ختام هذه املقالة.
التكنولوجيا بوصفها وديعة تارخي َّية أو قدَ ر ًا:
األول فيام يتع َّلق بطريقة تعاطي هايدغر مع التكنولوجيا -والذي مت َّت َّ
إن العنرص َّ
اإلشارة إليه يف هذه املقالة -هو ماه َّية التكنولوجيا احلديثة أو اجلشتال .وأ َّما العنرص الثاين
فهو فهم التكنولوجيا بوصفها وديعة تارخي َّية أو قدرا( .)1طبقا للرؤية الفكر َّية ِّلايدغر َّ
فإن هذا
النوع من التعاطي مع الطبيعة والرؤية االستهالك َّية والفاقدة للمفهوم اإلنساين جتاه
الكائنات ،ليست إبداعا برش ًّياَّ .
إن هذه الرؤية ناشئة من طريقة ظهور الوجود ( )beingيف
عل تظهريها بوصفها
عرص التكنولوجيا ،حيث ينظر إ ىل الكائنات ( ،)beingsويعمل ى
ه َّية وقابال للحساب الستهالك
ُيظى باأل ّ
ى للمعنى وال
ى مصدرا قابال لال هدخار وفاقدا
اإلنسان .وذلك إذ يقول:
إن اإلنسان حيث يسوق التكنولوجيا إىل األمام ،فإ َّنه يشارك يف هذا االنضباط
َّ
بوصفه نوع ًا من االنكشاف .بيد َّ
أن ذلك العدم املسترت الذي يزدهر هذا االنضباط يف
إطاره ،مل يكن من صنع البرش أبد ًا ...وك َّلام عمد األمر غري املستور إىل دعوة اإلنسان
اخلاص ،يكون عدم استتاره قد حدث مسبق ًا ...وعىل هذا
ِّ إىل أنحاء االنكشاف
األساس عندما يعمد اإلنسان أثناء التحقيق واملشاهدة متابعة الطبيعة بوصفها مَّسح ًا
لتصوراته ،يكون قد ُدعي مسبق ًا إىل نحو من االنكشاف يدعوه إىل املعارضة ،كي
يواجه الطبيعة بوصفها موضوع ًا للتحقيق ،ح َّتى إىل احلدِّ الذي ينمحي معه هذا
فإن التكنولوجيا
املوضوع يف فقدان موضوع َّية املصدر األزيل ...وعىل هذا األساس َّ
احلديثة بوصفها انكشاف ًا يمنح االنضباط ،ليست صناعة برش َّية(.)2
وعل هذا األساس َّ
فإن التعاطي التكنولوجي مع األشياء والكائنات ليس أمرا اعتباط ًّيا ى
جتيل الوجود يف عرص خيتاره اإلنسان ،بل يتم وضع اإلنسان -بااللتفات إ ىل طريقة ّ
التكنولوجيا -يف هذ النوع من املواجهة والتعاطي(َّ .)3
إن النظرة التكنولوج َّية إ ىل األشياء
ليس إبداعا برش ًّيا .وإ َّن ام هذه الرؤية هي حصيلة نمط من تبلور الوجود ،حيث تظهر
(1) destining
( )2هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص 20و.21
( )3بيمل ،فالتري ،برريس روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيحيَّة ألفكار مارتني هايدغر)،
مصدر سابق ،ص .199
❖ 418دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
الكائنات إ ىل اإلنسان ،وأ َّما كيف َّية ا هتضاح الوجود وإظهار ما هو موجود إ ىل اإلنسان ،فهو
عل كيف َّية ظهور ليس باختيار اإلنسان .وبعبارة ُأ ى
خرى :إ َّننا ال نمتلك السلطة والسيطرة ى
()1
وتبلور الكائنات(.)2
إن العمل املسترت الذي يظهر فيه األمر الواقع نفسه يف ِّ
كل حلظة أو يعمل عىل َّ
أن اإلنسان قد سبق
وملجرد اعتبار َّ
َّ سحبها وانحسارها ال يقع حتت اختيار اإلنسان ...
له أن ُد عي ليقوم باملعارضة بدوره ليستفيد من طاقة الطبيعة ،يمكن ملثل هذا
االنكشاف املنضبط أن يتح َّقق(.)3
إل إحالة تارخي َّية من ناحية الوجود ،حيث ينكشف طريق
ويف هذا الشأن ُيشري هايدغر ى
عل هذه اإلحالة مصطلح ال َقدَ ر .يقول هايدغرَّ :
«إن ماه َّية جمموع إ ىل البرش .وقد أطلق ى
ّى
تتجل الكائنات لإلنسان كل ُأفق تارخييالتاريخ يتم تعيينها من صلب هذا القدَ ر»( .)4ويف ه
اخلاص
ه بنحو من األنحاء يف ضوء النسبة التي يقيمها مع الوجود ،حيث تكون الغلبة للتفسري
عن اليشء املوجودَّ .
إن الذي ُُيال إليه اإلنسان يف ضوء نسبته إ ىل الوجود ،هو ذلك النحو
عل الفهم املسيطر والغالب عن الكائنات واملوجودات يف ه
كل من االنكشاف الذي يشتمل ى
وعل هذا األساس َّ
فإن هيمنة اجلشتال يرتبط -مثل سائر أنحاء االنكشاف -بدائرة ى مرحلة.
( )1هايدغر ،مارتني ،نامه در باب انسان گرائى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسانيَّة) ،ص 294و ،295املنشور
ضمن نصوص خمتارة من احلداثة إ ىل ما بعد احلداثة ،ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :عبد الكريم رشيديان
وآخرون ،نرش ين ،طهران1388 ،هـ ش؛ هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن
التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص 20و .21وانظر أيضا:
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State
University of New York Press. P. 91.
(2) O'Brien, Mahon (2004). ‘Commentary on Heidegger's ‘The Question Concerning
'Technology’’, in Thinking Together, Proceedings of the IWM Junior Fellows
Conference, Winter 2003, A. Cashin and J. Jirsa (ed.), Vienna: IWM Junior Visiting
Fellows Conferences, Vol. 16. P. 22.
( )3هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص 19و.20
( )4املصدر السابق ،ص .28
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 419
باملرة(.)1
َّ
عل تفكري هايدغر -إ ىل هذا
وقد أشار (ريدلينغ) -بالنظر إ ىل التحول الذي طرأ ى
()2
النقطة «ب».
املخاطر:
يمكن رشح خماطر التكنولوجيا احلديثة من وجهة نظر هايدغر من عدَّ ة وجوه خمتلفة.
( )1مجادى ،سياوش ،زمينه وزمانه پديدارشناسى :جستاري در زندگي وانديشه هاى هورسل وهايدگر (األرضية
واجل ذور التارخيية لعلم الظاهرات :بحث يف مسار وأفكار هورسل وهايدغر) ،مصدر سابق ،ص .530
(2) Turning/Kehre
(3) Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of Heidegger's
Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri. P.198.
( )4مجادى ،سياوش ،زمينه وزمانه پديدارشناسى :جستارى در زندگي وانديشه هاى هورسل وهايدگر
(األرض َّية واجلذور التارخي َّية لعلم الظاهرات :بحث يف مسار وأفكار هورسل وهايدغر) ،مصدر سابق،
ص .694
( )5هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص .21
( )6هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( ،التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،مصدر
سابق ،ص .128
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 421
( )1هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص .33
( )2هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( ،التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،مصدر
سابق ،ص .127
(3) Dreyfus, Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’ in
Heidegger Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus (ed.),
New York: Routledge. P. 165.
❖ 422دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
إل
إن هايدغر من خالل إشارته ى القصوى(َّ .)1
ى سوى مصدر لالستغالل واالستفادةى وليس
ه َّيته تكمن يف جم َّرد تلبيته حلاجات اإلنسان
حتول ّنر الراين إ ىل مصدر لالستهالك ،واعتبار أ ّ
االعتباط َّية ،عمد إ ىل التذكري بزوال ّنر َّية النهر واستقالله يف عامل التكنولوجيا ،إذ يقول:
مصب ّنر الراين ،وفرض عىل الراين أن
ِّ تم وضع حمطَّة للطاقة املائ َّية يف
لقد َّ
ُيو ِّفر ضغطاً مائيا ،ليعمل بدوره عىل حتريك توربينات املحطَّ ة ،وهذه احلركة تقوم
قوهتا إىل إنتاج الكهرباء ،ولتوزيع هذه الكهرباء يتم تأسيس
بتحريك آالت ُتؤ يدي َّ
ظ مة .ويف إطار هذه املسارات املرتابطة فيام طة مركز َّية للطاقة ذات شبكات من َّ حم َّ
مرة ُأخرى ي
يتجىل ّنر الراين َّ بينها ولغاية االستفادة املنظَّمة من الطاقة الكهربائ َّية،
بوصفه عنرص ًا خاضعاً للسيطرة أيضاً .إ َّن طريقة حرش حمطَّة الطاقة املائ َّية عىل ّنر
الراين ،ليس من قبيل اجلَّس اخلشبي الذي كان يربط بني ضفتي النهر ملئات السنني.
بل عىل العكس من ذلك متاماً حيث يتم دمج النهر بمح َّطة الطاقة من خالل إقامة
فإن ماه َّية النهر من اآلن فصاعد ًا تكتسب من ماه َّية
سدٍّ يقف يف طريقه .وعليه َّ
كون ولو صورة مص َّغرة عن حمطَّة الطاقة ،فالنهر حاليا يضمن ضغط املاء .ولكي ُن ِّ
سلطة هذا املوجود املهول ،يكفي أن نلتفت للحظة إىل التقابل بني العنوانني
ماء يصب يف حمطية الطاقة (كأثر فني ي) ،و«الراين» بوصفه
اآلتيني« :الراين» بوصفه ً
ما يتم بيانه يف األثر الفنيي لـ (هولدرلني) يف مناجاة هبذا االسم .قد ُجي يب أحدكم:
َّإال َّ
أن الراين يبقى بوصفه ّنر ًا يف عني الطبيعة .ر َّب ام كان األمر كذلك ،ولكن كيف؟
جمرد يشء حارض ومعدٍّ تعرضه صناعة السياحة عىل قوافل السائحني ال
عىل شكل َّ
أكثر(.)2
( )1مك وورتر ،ليدل ،گناه تكنولوژى مديريت :دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة :دعوة
هايدغر إ ىل التفكري) ،ص ،171مقال منشور يف (فلسفه وبحران غرب) ،أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة
حممد رضا جوزي وآخرون ،نرش :هرمس ،طهران1378 ،هـ ش .وانظر أيضا:
الفارسيةّ :
Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge University
Press. P. 19 - 22.
( )2هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص .17
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 423
ألقىص
ى خالل دراسة معطيات اِّلندس َّية اجلين َّية ،ر َّبام أمكن مشاهدة حتول اإلنسان إ ىل مصدر
حدود االستغالل بشكل أفضلَّ .
إن اإلنسان يف عامل التكنولوجيا بمنزلة الروبوت الذي ليس
القصوى من سائر
ى سوى التوظيف األفضل لطاقاته وقواه يف إطار االستفادة
ى له من غاية
املصادر .ويف املدارس واجلامعات مل يعد الطالب أو اجلامعي بوصفه إنسانا مث َّقفا ومف هكرا
يتم َّتع بخصائص وقابل ّيات َّ
فذة جيب التعرف عليه وتطويره ،بل جيب تطوير وحتسني مجيع
الكم َّيةَّ .
إن عبارة ّ الطالب واجلامع هيني بوصفهم منافذ للنظام التعليم بحسب املعايريَّ
«املصادر اإلنسان َّية»( )3الشائعة تشري بوضوح إ ىل تقليل اإلنسان إ ىل مصدر لالستغالل يف
قصوى ُي َعد هو اِّلدف الوحيد ِّلذا النوع
ى عل نسبة إنتاج َّية التفكري التكنولوجيَّ .
إن احلصول ى
من التفكري(.)4
أي نوع من أنواع االنكشاف
ويكمن هناك خطر آخر أيضا ،وهو خطر زوال إمكان َّية ه
يرى َّ
كل يشء -يف التفكري التكنولوجي -قابال للسيطرة األُ ى
خرىَّ .
إن اإلنسان حيث ى
ومستعدًّ ا للتوظيف:
(1) adderall
(2) ritalin
(3) Human resources
( )4هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى (السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص 18و .31وانظر
أيضا:
Pattison, George (2000). The Later Heidegger, New York: Routledge. P. 64; Dreyfus,
Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus (ed.), New York:
Routledge. P. 166 - 167; Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity,
P. 150 - 158; Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of
يبلغ به الغرور والتكرب إىل أن جيعل نفسه يف مقام اإلله يف األرض .وعىل هذه
بأن َّ
كل ما يصادفه اإلنسان أمامه إ َّنام هو موجود يرتسخ هذا التوهم القائل َّ
الشاكلة َّ
باعتبار أ َّنه من صنعهَّ .
إن هذا التوهم ُيؤ يدي بدوره إىل توسيع دائرة رساب ال ّناية
وكأن اإلنسان أبد ًا ال يرى َّإال نفسه ...ويف احلقيقة َّ
فإن اإلنسان مل يعد يرى َّ ألمده،
إن اإلنسان قد نذر نفسه بشكل قاطع يف خدم منازلة ٍ
مكانَّ . أي
نفسه وماه َّيته يف ِّ
اجلشتال بحيث مل يعد ُيدرك اجلشتال بوصفه خطاب ًا ،وال يرى نفسه خماطب ًا هبذا
اخلطاب(.)1
متورطا ضمن شبكة من
يرى نفسه من جهة ه ومن هنا َّ
فإن اإلنسان يف عامل التكنولوجيا ى
مستوى إنتاج َّيته يف
ى اخلاصة لرفع
َّ العالقات التقن َّية ،وألسباب متعده دة من قبيل تناول األدوية
عل
العمل والدراسة يف الفضاء التكنولوجي -الذي تقدَّ مت اإلشارة له -يفقد القدرة ى
االنتقاد والتفكري بالواقع الذي وضع نفسه فيه ،وال يعود ُيف هكر باخلروج من هذا الواقع.
كل يشء من صنعه وخلق يده ،يغفل عن كونه خماطبا ،أو يرى َّ
خرى حيث ى ومن ناحية ُأ ى
عل نداء الوجود .إ َّن هذا ِ إمكان ْ
دعى من ق َبل الوجود بطريق آخر ،ويفقد انفتاحه ىأن ُي ى
إل هذه احلقيقة ،وهي َّ
أن التكنولوجيا احلديثة ُت َعد نمطا من االنكشاف اإلنسان ال يلتفت ى
الذي جعله وضوح الوجود أمرا ممكنا .إذا كان كامل تاريخ امليتافيزيقا عبارة عن تاريخ
الفج
فإن هذه الغفلة يف عرصنا قد بلغت ذروهتا مقرونة بالغرور والتكرب ه الغفلة عن الوجودَّ ،
من ِق َبل اإلنسان(َّ .)2
إن عدم االلتفات إ ىل َّ
أن اإلنسان قد فقد شيئا يف عامل التكنولوجيا ،يعني
خرى :تسمية احلطام واألطالل واألنقاض مدينة فاضلة ،وجتاهل اخلطر ،ي َّتسع بعبارة ُأ ى
ه َّية سائر ُط ُرق فهم ما هو موجود يف عامل
بالتوازي مع اعتبار ال عقالن َّية وعدم أ ّ
( )1هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص .31
املهم أيضا ْ
أن نلتفت إ ىل هذه النقطة أيضا ،وهي أ َّنه طبقا لرؤية هايدغر ال ينبغي ربط ( )2ويف هذا الشأن من ه
هذه الغفلة بعدم التفات اإلنسان فقط ،وذلك َّ
ألن الوجود ذاته من خالل عدم االرتباط يفاقم بدوره من
هذه الغفلة .ومن هنا َّ
فإن ابتعاد الوجود -كام ُينبهه كيتريينغ ( - )Emil Ketteringيرتبط من جهة بنفس
الوجود ،كام ينبثق من جهة ُأ ى
خرى عن النسيان اإلنساينَّ .
إن النسيان اإلنساين يفاقم من ابتعاد الوجود.
❖ 426دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
( )1كرتينغ ،إيميل ،نيست انگارى در نگاه نيچه وهيدگر (النهليستيَّة يف رؤية نيتشه وهايدغر) ،ص 191
و ،192املقال املنشور يف جم َّلة (نيست انگارى اروپايى) ،أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّةّ :
حممد باقر
هوشيار وأصغر تفنگسازي ،نرش پرسش ،طهران1382 ،هـ ش؛ مك وورتر ،ليدل ،گناه تكنولوژى
مديريت :دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة :دعوة هايدغر إ ىل التفكري) ،مصدر سابق،
ص 164؛ هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( ،التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي)،
مصدر سابق ،ص 125؛ هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر
سابق ،ص .33 - 31وانظر أيضا:
Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of Heidegger's
Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri. P. 578; Thomson, Iain D. (2011).
;Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge University Press. P. 150, 199 - 200
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State
University of New York Press. P. 10, 145 - 148.
( )2هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( ،التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،مصدر
سابق ،ص 127و.129
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 427
بمعنى
ى وإن كانت مشرتكة يف األصل مع التكنولوجيا ،ولكن جيب عدم اعتبارها ّتنة ْ
التكنولوجيا بوصفها من َّظمة وضابطة ميكانيك َّيةَّ .
إن التخنة أو التقن َّية تعني نوعا من املعرفة
أن ُينتج .ومن هنا َّ
فإن إن التخنة فهم عن املوجود بمثابة ما مل ُينتج نفسه وجيب ْ اإلنتاج َّيةَّ .
التخنة ترتبط باإلنتاج واإلجياد ،وهي أمر شاعري .وبعبارة ُأ ى
خرى :ال يوجد يف التخنة إجلاء
فن يف (السؤال عن أن مراد هايدغر من اإلشارة إ ىل ال ه وفرض من ِق َبل اإلنسان .ويبدو َّ
الفن
الفن كان يف يوم بمنزلة ه التكنولوجيا) ،هيدف إ ىل لفت االنتباه إ ىل هذه النقطة ،وهي َّ
أن َّ
الشعري .ومن هنا عندما ُخييل الفن القديم مكانه للتكنولوجيا امليكانيك َّية التي ال يعود ُيفهم
ه َّية له وخيضع للضغوط اإلنسان َّية،
فيها املوجود بمثابة ما يتم إنتاجه ،بل بوصفه مصدرا ال أ ّ
أن يكون ًّ
حال(.)1 بالفن ْ
ه يمكن لالهتامم
وقال (بيمل) يف هذا الشأن:
الفن ليست يف تنظيم املوجودات من أجل حتويل يف احلقيقة إ َّن النقطة األساس َّية يف ِّ
أن ما هو موجود كان قد ُو ِجدَ (.)2
اليشء إىل كائن أو ثروة ،بل ال بدَّ من أن ي َّتضح َّ
جيهد الفنّان من خالل توظيف مقدرته لكي ُيظهر ما أعطي له يف عمله الفنّي .ومن هنا
فإ َّنه ُيدرك دوره يف عمله الفنّي بوصفه متل ّقيا ومنتجا ،وهو الدور الذي نسيه اإلنسان يف
يتحول إ ىل تابع للحضارة
َّ الفن يف عرص التكنولوجيا َّ عرص التكنولوجيا .ومع ذلك َّ
فإن
ويتحول الفنّان بدوره إ ىل تابع ألهداف ومقاصد صناعة
َّ العامل َّية اخلاضعة لسيطرة اجلشتال،
الفن -من وجهة نظر هايدغر -ال يستلزم بالرضورة خروجا الفن( )3أيضا( .)4ومن هنا َّ
فإن َّ ه
( )1هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص 13و ،14و40
.42 -وانظر أيضا:
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State
University of New York Press. P. 9.
( )2بيمل ،فالتري ،برريس روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيح َّية ألفكار مارتني هايدغر)،
مصدر سابق ،ص .208
(3) Art industry
( )4كوكلامنس ،جوزيف .ي هيدگر وهنر (هايدغر والف ّن) ،ص 359و ،361ترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية:
حممد جواد صافيان ،نرش :پرسش ،ع ّبادان1388 ،هـ ش .وانظر أيضا:
ّ
❖ 428دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge University
Press. P. 60.
( )1كوكلامنس ،جوزيف .ي هيدگر وهنر (هايدغر والف ّن) ،مصدر سابق ،ص 359؛ هايدغر ،مارتني،
پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص 41و .42وانظر أيضا:
Wrathall, Mark (2002). ‘Volume Introduction’, in Heidegger Reexamined Volume 3: Art,
Poetry, and Technology, Hubert Dreyfus and Mark Wrathall (ed.). New York: Routledge.
وإن ترصُيات مايكل آنش بشأن دوره أن الشعراء والفنّانني احلقيقيهني ال يعتربون أنفسهم َّ
كل يشءَّ . ( )2كام َّ
عل هذه املسألة .انظر املصدرين أدناه:
يف إبداع األثر الفنّي خري شاهد ى
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State
University of New York Press. P. 26; Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and
Postmodernity, Cambridge University Press. P.21.
(3) Letter on Humanism.
( )4هايدغر ،مارتني ،نامه در باب انسان گرايى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسانيَّة) ،ص ،286املنشور ضمن
نصوص خمتارة من احلداثة إ ىل ما بعد احلداثة ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة :عبد الكريم رشيديان وآخرون،
نرش ين ،طهران1388 ،هـ ش.
(5) Conradin Kreutzer.
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 429
عن «اخلالص من األشياء»( ،)1كمقدّ مة لتوفري إمكان َّية اخلروج من عرص التكنولوجيا(.)2
وقال يف ذلك:
ولكن ال يزال هناك أمامنا م َّتسع للعمل عىل نحو آخر .يمكن لنا أن نستخدم
الوسائل الف ين َّية ،ويف الوقت نفسه نتخ َّلص من قيودها من خالل التوظيف الصحيح،
بمعنى أن نتم َّكن من اخلالص من أغالهلا متى أردنا ذلك ...سوف نسمح
للتكنولوجيا بأن تقتحم حياتنا اليوم َّية ،عىل أن نتم َّكن يف الوقت نفسه من إخراجها
وطردها ،متام ًا كام هو الشأن بالنسبة إىل األشياء غري املطلقة والتابعة ألُمور أسمى
عرب عن هذا التعاطي احليادي مع التكنولوجيا املستلزم لقول «أجل»منها .وأنا ُأ ِّ
َّ
و«كال» يف الوقت نفسه ،باستخدام عبارة قديمة ،وهي :اخلالص من األشياء(.)4()3
إن التحرر من األشياء يعني يف احلقيقة ْ
أن نستخدم الوسائل واألدوات التكنولوج َّية ،ويف َّ
الوقت نفسه ال نعترب هذا النمط من احلياة أمرا مطلقا( .)5وإذا أردنا بيان مراد هايدغر يف هذا
مبسطة ،ر َّبام أمكن القولَّ :
إن التحرر من األشياء يعني االستفادة من الوسائل الشأن بلغة َّ
التكنولوج َّية وعدم الغرق يف مستنقعهاَّ .
إن فهم هذا األمر ي َّت ضح من خالل مالحظة حياة
هايدغر نفسه بشكل أوضح .مل يمتلك هايدغر جهاز تلفزيون يوما أبدا ،وكان يف الوقت
نفسه يستمتع بمشاهدة املسابقات الرياض َّية عرب تلفزيونات اآلخرين .وكان يكره الطباعة
ه
بخط يده إ ىل أخيه عل الورق ،وكان يدفع ما كتبه
عل اآللة الكاتبة ،وكان يكتب نصوصه ى
ى
كي يطبعه له( .)6ويف احلقيقة كان هايدغر يطالب باخلالص من خمالب التكنولوجيا ،رغم
( )2هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( ،التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،مصدر
سابق ،ص 119و.131 - 129
(3) Glassenheit
(1) Dreyfus, Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’ in
Heidegger Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus (ed.),
New York: Routledge. P. 170; Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A
Comprehensive Study of Heidegger's Thought, Access Foundation Kansas City,
Missouri. P. 580.
(2) meditative thinking.
(3) calculative thinking.
( )4هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( .التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،مصدر
سابق ،ص ،123 - 121وص 129 - 127و .131وانظر أيضا:
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State
University of New York Press. P. 226.
( )5هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( ،التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،مصدر
سابق ،ص .128
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 431
( )1بيمل ،فالتري ،بررسى روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيحيَّة ألفكار مارتني هايدغر)،
مصدر سابق ،ص 208و ،281وص ،184وص ،209 - 206وص 224و225؛ مك وورتر،
ليدل ،گناه تكنولوژى مديريت :دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة :دعوة هايدغر إ ىل
التفكري) ،مصدر سابق ،ص 171؛ مولر ،ماكس ،ما بعد الطبيعة وتاريخ تفكر مارتني هيدگر (ما بعد
حممد رضا
الطبيعة وتاريخ تفكري مارتني هايدغر) ،ص 204و ،210أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّةّ :
جوزي وآخرون ،ص ،126منشور يف فلسفة وبحران غرب ،نرش :هرمس ،طهران1378 ،هـ ش؛
هايدغر ،مارتني ،نامه در باب انسان گرايى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسان َّية) ،مصدر سابق ،ص 294
و ،295وص ،299وص 303 - 301؛ هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن
التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص ،21وص ،38وص 40؛ هايدغر ،مارتني ،راه بازگشت به درون
رسزمني ما بعد الطبيعة (طريق العودة إ ىل واحة ما بعد الطبيعة) ،ص ،106أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة
حممد رضا جوزي وآخرون ،ص ،126منشور يف فلسفة وبحران غرب ،نرش :هرمس، الفارسيةّ :
طهران 1378 ،هـ ش؛ هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( ،التحرر :مقالة يف
التفكري املعنوي) ،مصدر سابق ،ص .130وانظر أيضا:
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of Heidegger, State
University of New York Press. P. 216 – 226; Heidegger, Martin (1977). ‘The Turning’, in
The Question Concerning Technology and Other Essays (in English), William Lovitt
(trans.), New York: Garland Publishing. P. 41 - 42.
( )2وحيث كان هايدغر قد اشرتط عدم نرش هذا احلوار َّإال بعد وفاته ،ر َّبام أمكن القولَّ :
إن هذه الكلمة كان
املوجهة إ ىل ُق ّراء ُكتُبه وأعامله.
هي الكلمة األخرية ه
( )3مك كواري ،جان ،فقط خدا مىتواند ما را نجات دهد (اهلل وحده هو القادر ى
عل إنقاذنا) ،ص ،136
حممد رضا جوزي وآخرون ،منشور يف فلسفة
وص 148و ،149أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارس َّيةّ :
وبحران غرب ،نرش :هرمس ،طهران1378 ،هـ ش.
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 433
عل ما يدَّ عيه هايدغر يف تقابل مع احللول اإلدار َّية واملتمحورة حول ِ
وسوف ُنطلق ى
السيطرة ،والتفكري املعنوي ،واخلالص ،وتوقع إله منقذ ،عنوان النقطة «د».
( )1هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،مصدر سابق ،ص .15
( )2املصدر السابق ،ص .16
❖ 434دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املفِّسين ِّلايدغر هاهتامه باخلوف من التكنولوجيا يف معناها املتعارف ،يف حني َّ
أن الكثري من ه
قد رفضوا هذا التفسريَّ .
إن هذه الثنائ َّي ة يف التفاسري ترتبط بدورها بذلك الغموض املوجود
يف فكر هايدغر بشأن النسبة بني املاه َّية التكنولوج َّية احلديثة واألدوات والوسائل
التكنولوج َّية.
عل رؤية هايدغر فيام يتع َّلق أ َّما األمر اآلخر الذي ْ
وإن أمكن عدم اعتباره نقدا جا ًّدا ى
بالتكنولوجيا احلديثة ،بيد أ َّنه يستحق التأمل ،وهو َّ
أن املفاهيم املستعملة يف املنظومة الفكر َّية
ِّليادغر ،من قبيل :الوجود ،واالنكشاف ،واإلحالة التارخي َّية ،واجلشتال ،تعمل بشكل وآخر
وعل الرغم من إمكان القول
ى عل استحالة قيام االرتباط بني املجتمع الفلسفي واملهندسني.
ى
َّ
بأن الفالسفة يف الكثري من املوارد ال يراعون يف طرح أفكارهم وتأمالهتم فهم اآلخرين ِّلا
كثريا ،وهذا األمر يرتبط إ ىل حد ما بامه َّية التفكري الفلسفي ،ولكن فيام يتع َّلق بمسائل من
قبيل التكنولوجيا التي خيوض فيها املهندسون وسائر الباحثني يف هذا احلقل ،يبدو َّ
أن
باإلمكان اعتبار إمكان َّي ة االرتباط بني أفكار الفالسفة وغري الفالسفة من الناشطني يف هذا
قوة .ويف غري هذه احلالة سيحدث رشخ عميق بني التأمالت الفلسف َّية يف حقل
احلقل نقطة َّ
امللحة يف هذا احلقل ،األمر الذي ُيؤ ّدي بدوره إ ىل عزل
التكنولوجيا واملسائل امللموسة و َّ
عل عدد حمدود من
أفكار الفيلسوف وحرشها يف زاوية األبحاث الفلسفية التي تقترص ى
األشخاص .ويبدو َّ
أن هذا النقص يصدق يف مورد رؤية هايدغر جتاه التكنولوجيا بشكل
املفِّس والشارح إ ىل بيان رؤية هايدغر فيام يتع َّلق بإقامة
يسعى فيها ه
ى كامل .ويف املوارد التي
وعل هذا
ى املعنى الذي يرومه الفيلسوف.
ى االرتباط بني حقلني بلغة ُأ ى
خرى ،قد يشط بعيدا عن
األساس عندما يتحدَّ ث مف هكر عن التكنولوجيا ،ال يبدو توقع ْ
أن ُيمل هاجس االرتباط مع
الباحثني يف حقل التكنولوجيا ،أمرا اعتباط ًّيا.
عل الرغم من َّ
أن مسألة هايدغر تكمن يف النظرة ويف اخلتام ال بدَّ من االلتفات إ ىل أ َّنه ى
التقن َّية بشكل عام ،وليس يف مسائل فلسفة التكنولوجيا املتعارفةَّ ،إال َّ
أن اإلنسان ُيتاج يف
حياته يف عامل التكنولوجيا املعارصة إ ىل هاّتاذ القرار املناسب للعمل .ويف هذا الشأن سيواجه
املف هكر التابع ِّلايدغر بعض املشاكل ،ومن ذلك ى
عل سبيل املثال :هل جيب التخطيط للسيطرة
منهج َّية هايدغر يف التعاطي مع التكنولوجيا ❖ 437
االستنتاج:
َّ
إن التكنولوجيا احلديثة -طبقا لرؤية هايدغر -هي باختصار يشء يفوق املاكنات واآلالت
إن التكنولوجيا احلديثة هي يف احلقيقة عبارة عن رؤية يكون كل يشء مو َّظف ى
عل الصناع َّيةَّ .
أساسها خلدمة اإلنسان ال غري ،وهي الرؤية التي سيغدو فيها اإلنسان بنفسه أسريا وسط
شبكة من العالقات التقن َّيةَّ .
إن هايدغر يعترب هذه الرؤية إحالة تارخي َّية للوجود من جهة ،وال
فحوى
ى فهم من كل حال َّ
فإن الذي ُي َ وعل ه
ى يعترب الوضع القائم مصريا حتم ًّيا من جهة ثانية.
كالمه ال ُيم هثل خروجا من الفضاء التكنولوجي احلاكم عن طريق اإلرادة اإلنسان َّية أبداَّ .
وإن
اخلالص والتحرر من هذا الفضاء إ َّنام يتم عرب التحول الذي يعد اإلنسان نفسه له .ومن هنا
❖ 438دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
َّ
فإن اخلالص من األشياء والتفكري املعنوي إ َّنام ُيش هكل مقدّ مة لظهور عرص آخر .وقد َّ
رصح
هايدغر يف آخر حوار له مع جم َّلة (شبيغل) َّ
بأن التفكري إ َّنام يمكنه التمهيد لظهور هذا اإلله
فقط ،وال يمكنه ح َّت ىى تقريب ظهور هذا اإلله(.)1
تم -بااللتفات إ ىل املسائل املتقده مة -توجيه بعض االنتقادات حول طريقة تعاطي
كام َّ
هايدغر مع التكنولوجيا احلديثة ،وهي انتقادات تدور حول الغموض يف بيان النسبة بني
عل التكنولوجيا احلديثة والوسائل التكنولوج َّية ،وعدم العمالن َّية، االنكشاف احلاكم ى
وفقدان االرتباط مع الباحثني يف حقل التكنولوجيا ،ويف اخلتام ُتساق األمثلة املنتقاة من ِق َبل
وعل الرغم من ذلك َّ
فإن املوارد ى هايدغر يف مورد األدوات والوسائل التكنولوج َّية احلديثة.
املذكورة ال ُتق هلل من تأثري املعلومات املوجودة يف املنظومة الفكر َّية ِّلايدغر يف حقل
التكنولوجيا احلديثة ،بل يمكن ِّلذه املعلومات ْ
أن ُتش هكل أرض َّية لنوع من إعادة التفكري يف
هذا النمط من طريقة التعاطي مع التكنولوجيا يف إطار تبلور وبسط ه
االجتاهات اِّلايدغر َّية
اجلديدة يف هذا احلقل.
* * *
املصادر:
آيدي ،دن ،هنر وتكنولوژى :فلسفه پديدارشناختى هايدگر در باب تكنولوژى (الفن والتكنولوجيا :الفلسفة
الظاهراتيَّة ِّلايدغر يف حقل التكنولوجيا) ،منشور يف فلسفة التكنولوجيا ،أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسية :شاپور اعتامد،
ص ،50نرش :مركز ،طهران1389 ،هـ ش.
بيمل ،فالتري ،بررسى روشنگرانه انديشه هاى مارتني هايدگر (دراسة توضيحيَّة ألفكار مارتني هايدغر) ،ترمجه إ ىل
اللغة الفارسيَّة :بيژن عبد الكريمي ،ص ،196انتشارات :صدا وسيامى مجهورى اسالمى ايران ،نرش :رسوش ،طهران،
1387هـ ش.
مجادى ،سياوش ،زمينه وزمانه پديدارشناسى :جستارى در زندگى وانديشه هاى هورسل وهايدگر (األرض َّية
واجلذور التارخييَّ ة لعلم الظاهرات :بحث يف مسار وأفكار هورسل وهايدغر) ،ص ،692نرش :ققنوس ،طهران،
1389هـ ش.
كرتينغ ،إيميل ،نيست انگارى در نگاه نيچه وهيدگر (النهليستيَّة يف رؤية نيتشه وهايدغر) وترمجه إ ىل اللغة
حممد باقر هوشيار وأصغر تفنگسازي ،نرش پرسش ،طهران1382 ،هـ ش.
الفارس َّيةّ :
كوكلامنس ،جوزيف .ي هيدگر وهنر (هايدغر والف ّن) ،ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّةّ :
حممد جواد صافيان ،نرش:
پرسش ،ع ّبادان1388 ،هـ ش.
عل إنقاذنا) ،أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة
مك كواري ،جان ،فقط خدا مىتواند ما را نجات دهد (اهلل وحده هو القادر ى
حممد رضا جوزي وآخرون ،منشور يف فلسفة وبحران غرب ،نرش :هرمس ،طهران1378 ،هـ ش.
الفارس َّيةّ :
مك وورتر ،ليدل ،گناه تكنولوژى مديريت :دعوت هيدگر به تفكر (ذنب تكنولوجيا اإلدارة :دعوة هايدغر ى
إل
حممد رضا جوزي
التفكري) ،ص ،171مقال منشور يف (فلسفه وبحران غرب) ،أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة الفارسيةّ :
وآخرون ،نرش :هرمس ،طهران1378 ،هـ ش.
مولر ،ماكس ،ما بعد الطبيعة وتاريخ تفكر مارتني هيدگر (ما بعد الطبيعة وتاريخ تفكري مارتني هايدغر) ،أعدَّ ه
حممد رضا جوزي وآخرون ،ص ،126منشور يف فلسفة وبحران غرب ،نرش :هرمس،
وترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّةّ :
طهران1378 ،هـ ش.
هايدغر ،مارتني ،پرسش از تكنولوژى( ،السؤال عن التكنولوجيا) ،املنشور يف فلسفة التكنولوجيا ،ص ،4أعدَّ ه
وترمجه إ ىل اللغة الفارس َّية :شاپور اعتامد ،نرش :مركز ،طهران1389 ،هـ ش.
هايدغر ،مارتني ،راه بازگشت به درون رسزمني ما بعد الطبيعة (طريق العودة إ ىل واحة ما بعد الطبيعة) ،أعدَّ ه
حممد رضا جوزي وآخرون ،منشور يف فلسفة وبحران غرب ،نرش :هرمس ،طهران،
وترمجه إ ىل اللغة الفارسيةّ :
1378هـ ش.
هايدغر ،مارتني ،وارستگى :گفتارى در تفكر معنوى( .التحرر :مقالة يف التفكري املعنوي) ،أعدَّ ه وترمجه إ ىل اللغة
حممد رضا جوزي وآخرون ،ص ،126منشور يف فلسفة وبحران غرب ،نرش :هرمس ،طهران،
الفارسيَّةّ :
1378هـ ش.
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب440
املنشور ضمن،295 و294 ص،) نامه در باب انسان گرائى (رسالة يف حقل النزعة اإلنسانيَّة، مارتني،هايدغر
، طهران، نرش ين، عبد الكريم رشيديان وآخرون: ترمجه إ ىل اللغة الفارسيَّة،نصوص خمتارة من احلداثة إ ىل ما بعد احلداثة
.هـ ش1388
Dreyfus, Hubert (2002). ‘Heidegger on Gaining a Free Relation to Technology’
in Heidegger Reexamined Volume 3: Art, Poetry and Technology, Hubert Dreyfus
(ed.), New York: Routledge.
Heidegger, Martin (1977). ‘The Turning’, in The Question Concerning
Technology and Other Essays (in English), William Lovitt (trans.), New York:
Garland Publishing.
Heidegger, Martin (1968). What Is Called Thinking, Fred D. Wieck and J.
Glenn Grey (trans.), New York: Harper and Row.
O'Brien, Mahon (2004). ‘Commentary on Heidegger's ‘The Question Concerning
Technology’’, in Thinking Together, Proceedings of the IWM Junior Fellows'
Conference, Winter 2003, A. Cashin and J. Jirsa (ed.), Vienna: IWM Junior Visiting
Fellows Conferences, Vol. 16.
Pattison, George (2000). The Later Heidegger, New York: Routledge.
Ridling, Zaine (2001). The Lightness of Being: A Comprehensive Study of
Heidegger's Thought, Access Foundation Kansas City, Missouri.
Rojcewicz, Richard (2006). The Gods and Technology: A Reading of
Heidegger, State University of New York Press.
Thomson, Iain D. (2011). Heidegger, Art and Postmodernity, Cambridge
University Press.
Thomson, Iain D. (2005). Heidegger on Ontotheology: Technology and the
Politics of Education, Cambridge University Press.
* * *
هايدغر واملوت (نقد إفراغي)
()1
()2
باول إدواردز
يتحدَّ ث الفيلسوف الياباين هاجيم تاناب( )3يف مقالة كتبها بمناسبة ميالد هايدغر السبعني
تناول فيها فلسفة هايدغر واصفا إ ّياها بـاملع هلم الشامخ والفريد الذي ال يمكن ْ
أن ُيضاهيه
إن تأثري هايدغر (مل يعد أي إنجاز من إنجازات معارصيه( .)4قال تاناب بفرحة واضحةَّ :
حمصورا يف ُأوروبا ،بل وصل إ ىل اليابان) ،وليس إ ىل اليابان فحسب ،بل إ ىل العامل بأرسه .فقد
كل مكان من العامل(َّ .)5
إن التأثر العميق الذي شعر به ُأخربنا َّ
بأن تالميذ هايدغر ناشطون يف ه
األول به كان َّ
ألن اهتاممه باملوت أصبح مركز الفلسفة ودعامتها( .)6ويمكن تاناب أثناء لقائه َّ
ْ
أن نجد تعابري مشاهبة عن اإلعجاب بنقاشات هايدغر ملسألة املوت يف كتابات كثري من
تالميذه .سنُعطي مثالني فقطُ ،يؤ هكد ويليام باريت -يف سياق ثنائه الكبري ى
عل هايدغر - ()7
َّ
أن:
( )1املصدر:
Edwards, Paul (1976), ‘HEIDEGGER AND DEATH: A DEFLATIONARY CRITIQUE’ in
The Monist, Vol. 59, No. 2, Philosophical Problems of Death, (April, 1976), pp. 161 - 186.
فإن َّ
كل وجود إىل جانب األشياء التي تثري عندما يكون (املوت هو القض َّية) َّ
اهتاممنا ،وكل وجود مع اآلخرين سيفشل(.)1
عندما يواجه الـ دازاين (اإلنسان) موته ،أي عندما يكون وجه ًا لوجه أمام (إمكان
بأي دازاين ُأخر باتت
أ َّنه مل -يعد -قادر ًا -عىل -الوجود هناك) ،إذ ًا كل عالقاته ِّ
باطلة(.)2
امليزة َّ
الالعالئق َّية للموت -كام تفهم مسبق ًا -ترد فردان َّية الـ دازاين إىل ذاته(.)3
يف هذه اإلمكان َّية املتم ِّيزة لذاهتاَّ ،إّنا اإلمكان َّية التي يكون فيها وجودها ذاته هو
القض َّية ،ان ُت ِز َع الـ دازاين من الـ ُهم (الناس اآلخرين)( .)4املوت جيب أن يستحوذ
عليه الـ دازاين وحده(.)5
()7
استعمل أتباع هايدغر الذين كتبوا باللغة اإلنجليز َّية مفردات مثل :وحيد( )6ومنعزل
للتعبري عن هذا املبدأ ،وأعتقد َّأّنم كانوا -بفعلهم هذا -خملصني متاما ملقاصد هايدغر.
فبالنسبة جلون ماكواري(« )8املوت يعزل الفرد ،وجيب أ ْن يموت وحيدا»( .)9وقال جون
ثم قالَّ :
إن أن أفعله بمفردي» ّ .
()11
عل ه
األقل جيب ْ ويلد متحده ثا عن املوت« :هذا اليشء ى
()10
(1) Being and Time, trans. John Macquarrie and Edward Robinson (London, 1962), p.
308.Being and Time will hereafter be cited as BT.
( )2الكينونة والزمن ( (Sein und Zeitص .294
( )3الكينونة والزمن ( (Sein und Zeitص .308
( )4الكينونة والزمن ( (Sein und Zeitص .307
(5) BT, p. 308. Heidegger's original is “einzig von ihm selbst her... übernehmen” which
means “taken over by [Dasein] itself exclusively”. The M.R translation is idiomatically
quite correct in using “alone”.
(6) Alone
(7) Isolated
(8) John Macquarrie
(9) An Existentialist Theology (hereafter cited as ET) (London, 1955), p. 118.
(10) John Wild
(11) The Challenge of Existentialism (hereafter cited as CE) (Bloomington, 1959), p. 82.
❖ 444دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املوت «فعل حقيقي يعيشه املرء بمفرده»( .)1وبتعبري كالفن و .رشاغ(« :)2كل فرد جيب ْ
أن
يموت وحيدا»( .)3ويقول األب دمسك:
ك َّلام تقدَّ منا بثبات نحو املوت ك َّلام رأينا بصورة أوضح جوانب الوحدة التي يتم َّيز
أن َّ
كل كينونة -مع هبا الـ دازاين يف وجوده -ح َّتى -املوت .يكشف هذا التقدم َّ
الكينونات األُخرى ...تتالشى يف حمِّض املوت(.)4
عل
يقول األب الديسالوس بوروس -وهو من تالميذ هايدغر الكاثوليك « :-جيب ى
()5
(3) Existence and Freedom (hereafter cited as EF) (Evanston, 1961), p. 108.
(6) The Moment of Truth (hereafter cited as MT) (London, 1965), p. 1.
(10) ‘The Problem of Death in Modern Philosophy’ (hereafter cited as PD) in N. A. Scott, Jr.
أقره
أن اإلنسان سيموت وحيدا .فقد َّ عى َّ
أن َث َّمة شيئا معقوال جدًّ ا حول مدَّ ى
دائام»( .)1الظاهر َّ
عدد من أكثر الفالسفة انتقادا لفلسفة هايدغر يف سياقات ُأ ى
خرى ،كام أ َّكده آخرون ر َّبام مل
مهمة جدًّ ا
رأى مارجوري غرن يف دراسة َّ
()2
يسمعوا هبايدغر ،واعتربوه أمرا بدهي ًّيا .كذلك ى
«أن َّ
كل إنسان يواجه املوت وحيدا ِّلايدغر أكثر فيها من الثناء عليه بخصوص هذه املسألةَّ :
()5
بذهول وعجز»( .)3وكذلك ع َّلق ليونار برنشتاين( )4حديثا يف خطبة جنائز َّية جلني توريل
خاصان إ ىل حد نجمة امليزو سوبرانو املتم هيزة َّأّنا «عرفت َّ
أن الوالدة واملوت فعالن فرد ّيانّ ،
مؤمل ،وغري قابلني للمشاركة»(.)6
أن السؤال الذي سنسأله حيال هذا االعتقاد ليس فقط (هل هذا صحيح؟) ،فاحلكم بيد َّ
أن يت َّم من خالل تعريفات تتالءم معها .لذلك علينا ْ
أن نطرح أي قض َّية يمكن ْ
بصحة هَّ
بمعنى أ َّنه ُيش هكل اكتشافا أو علام ًّ
مهام. ى عل الشكل التال :هل هذا االعتقاد صحيح؟
السؤال ى
عل َّ
أن هايدغر وأتباعه ُيقده مون لنا وقبل ْ
أن نحاول اإلجابة عن هذا السؤال ينبغي التأكيد ى
قض َّية ك ّل َّية ،وب ى
معنى ما رضورية .فهم ال ُيؤ هكدون ما ال جدال فيه فحسب ،أي إ َّن بعض
عل مجيع البرش يف مجيع البرش أو كثريا من البرش يموتون وحدهم ،بل ُيؤ هكدون َّ
أن هذا ينطبق ى
ملجرد قابل َّيتهم للموت .وسوف أبدأ
عل مجيع البرش نتيجة َّاألعامر ،وأ َّنه يصح بالرضورة ى
فهم بثالثة
أن ُت َ أن قض َّية ه
كل البرش يموتون وحدهم يمكن ْ إل َّ
مالحظات االنتقاد َّية باإلشارة ى
وأّنا كاذبة متاما يف ه
كل هذه املعاين .فأكثر هذه املعاين وضوحا، معان واضحة بشكل معقولَّ ،
أن الشخص يموت وحيدا إذا مل يكن معه إنسان آخر عندما يموت .واإلنسان الذي يقود َّ
املعنى .منذ سنوات قليلة تاه
ى س ّيارة بنفسه ويتعرض لنوبة قلب َّية مميتة سيموت وحيدا هبذا
املطران بايك( ،)7وهو واحد من أكثر املستنريين يف الكنيسة األُسقف َّية ،وزوجته يف الصحراء
بإرسائيل .بقي األُسقف إ ىل جانب س ّيارة اجليب املع َّطلة بينام ذهبت زوجته لطلب املساعدة،
لكنَّه مات قبل وصول املنقذين .إ َّنه أيضا مات وحيدا باملعني الذي نناقشه .من الواضح متاما
وأن كثريين آخرين ال يموتونأن كثريا من الناس يموتون وحدهمَّ ، املعنى َّ -
ى -هبذا
وحدهم.
أن نتك َّلم به عن شخص يموت وحيدا أو يف عزلة عن
معنى آخر من الطبيعي ْ
ى وهناك
املعنى يموت
ى غريه ،ح َّت ىى لو كان البرش اآلخرون معه جسد ًّيا خالل حلظاته األخرية .وهبذا
املستوى النفيس ،أي إذا مل يكن للبرش املوجودين حوله
ى عل
الشخص وحيدا إذا كان معزوال ى
أي روابط عاطف َّية قو َّية معه .وقد وصفت اليزابيث كيبلر روس( )1وغريها من علامء النفس
املرىض الذين يموتون ،وكيف يعانون ،باإلضافة إ ىل عذاهبم اجلسدي ،من
ى بشكل مؤ هثر معاناة
للممرضات واألط ّباء ،وعدم إظهار الصدق
ه الوحدة الشديدة نتيجة للربودة العاطف َّية
عل أ َّنه بينام يموت عدد كبري من الناس وحدهم
املهم التأكيد ى
واالنفتاح من األقارب .ومن ه
باملعنى
ى املعنى الثاينَّ ،إال َّأّنم ليسوا مجيعا كذلك؛ ومن املؤ َّكد أ َّنه ليس من الرضوري ،ال
ى هبذا
أن ُيصل هذا جلميع البرش. بمعنى الرضورة الواقع َّيةْ ،ى املنطقي وال
َأال يكون رضور ًّيا ى
عل اإلطالق ،ي َّتضح يف مِّسح َّية جرهردت هوبتامن( ،)2قبل
قصة السنة األخرية من حياة ماتياس كالوزن ،العجوز صاحب املصنع
الغروب ،التيرتوي َّ
()3
(1) ‘My Own Life,’ reprinted in Norman Kemp Smith (ed.), Hume's Dialogues Concerning
Natural Religion (Edinburgh, 1935), p. 239. The same volume contains the remarkable
letter from Adam Smith to William Strahan describing Hume's last month. Both these
documents are also reprinted in J.Y.T. Greig (ed.),The Letters of David Hume, vol. II
(Oxford, 1932).
(2) A. Alvarez.
(1) The Savage God (London and New York, 1971), p. 190.
( )2كان فاشيه يف الثالثة والعرشين من عمره عندما انتحر .هناك معلومات مه َّمة جدًّ ا عنه يف:
Hans Richter, Dada (London and New York, 1965), on which Alvarez's account is based and
in Maurice Nadau, The History of Surrealism (London, 1968).
(3) Vaché.
هايدغر واملوت ❖ 449
قض َّيتهم ليست رصُية الكذب) ،كام لو كان من املستحيل منطق ًّيا ْ
أن يموت الشخص وال
يكون موته وحيدا .وإذا كان لعبارة :وحيد داللة إضاف َّية ،فسيكون من املمكن وصف كيف
تكون احلال بالنسبة لشخص يموت دون ْ
أن يموت وحيدا؛ ولكن عندما يستعمل أتباع
هايدغر هذه العبارات ،ال يكون هذا الوصف ممكنا .تشري الطريقة التي يكتبون هبا إ ىل َّ
أن
العالقة املنطق َّية بني املوت واملوت وحيدا كالعالقة بني املوت واملوت فقريا أو املوت واملوت
يف الِّسير .واضح يف كال احلالني َّ
أن هناك عالقة توليف َّية :املوت يف فقر يعني أكثر من املوت،
عل املوت وحيدا بأي من
عل املوت يف الِّسير .واألمر نفسه ينطبق ى واألمر نفسه ينطبق ى
عل أتباع هايدغر
عل املوت وحيدا كام جيب ى
املعاين الثالث املذكورة سابقا ،ولكنَّه ال ينطبق ى
استعامل هذه العبارات إذا مل تكن قض َّيتهم :كل الناس يموتون وحيدين كاذبة .وكام يلتزمزن
باستخدام هذه العباراتَّ ،
فإن العالقة بيت املوت واملوت وحيدا تشبه العالقة بني األب
فِّس بأ َّنه يقول شيئا مثريا واألهل .والنتيجة التي نصل إليها بنقاشناَّ :
أن تعبري اِّلايدغر هيني ُي َّ
ثم ي َّتضح أ َّنه كذب ،أ َّما إذا ُف هِّس بطريقة بدا فيها صحيحا ،فلن يكون أكثر من
لالهتاممّ ،
بأن َّ
كل الناس سيموتون ذات يوم .ال تظهر تفاهة عل احلقيقة الشائعة َّ
طريقة خطاب َّية ُتؤ هكد ى
عقيدة هايدغر فورا للجميع ،فقط َّ
ألن املوت وحيدا -بأي من املعاين املألوفة -ال يعني أكثر
وألن القارئ مل يعرف (ور َّبام اِّلايدغريون أنفسهم مل يدركوا) َّ
أن عبارة (وحده) َّ من املوت،
اكتسبت داللة جديدة.
وصف به ح ًّقا ،ي َّتضح بوجه َّ
إن خواء املعتقد اِّلايدغري ،والطابع الزائف الذي قد ُي َ
أي أثر .دعونا خاص عندما يتأ َّمل املرء َّ
أن له يف الظاهر آثارا عمل َّية ،لكنَّه يف الواقع ليس له َّ
نفرتض َّ
أن مؤمنا هبذه النظر َّية لديه زوجة وأوالد مرتبط هبم بنفس الطريقة التي يرتبط فيها
املستشفى ،وبات
ى تعرض حلادث وأدخل
غري اِّلايدغر هيني بزوجاهتم وأوالدهم .ولنفرض أ َّنه َّ
لديه سبب لالعتقاد بأ َّنه سيموت قريبا .فلو استخدمت كلمة وحيد بأي من معانيها املألوفة
يف القض َّية اِّلايدغر َّية :كل البرش يموتون وحيدين ،وإذا كانت القض َّية صحيحة ،إذا ال ينبغي
اجلدوى نظرا َّ رسل اِّلايدغري بطلب عائلتهَّ ، أن ي ِ
ألن مجيع البرش ى ألن هذا سيكون عديم ْ ُ
كأي ِ
سريسل يف طلب زوجته وأوالده متاما ه يموتون وحيدين .لكنَّه من الناحية العمل َّيةُ ،
❖ 450دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
( )1األصل األملاين هو ( ،)Tod ist je nur eigenerوقد ترمجها ./ر .خطأ إ ىل (.)Death is just one's own
(2) John Wild
(3) CE, p. 239.
(4) Glenn Gray, PD, pp. 54 - 55.
(5) Schrag, EF, p .114.
هايدغر واملوت ❖ 453
اخلاص .ال
َّ خاص يب ،فهو مويت ...كل إنسان يموت موته
ٍّ إذا كان من يشء
يمكن أن يشارك به أحد أو يستويل عليه أحد(.)1
بمعنى واضح إ ىل حد ما -إ ىل خطأ القولَّ :
إن املرء ال يستطيع - ى املهم ْ
أن نشري - ومن ه
أن جيعل شخصا آخر يموت مكانه .يف قصيد شيلر( )2القيد حكم دائام أو من حيث املبدأ ْ -
أن ُي ِ
مهل توسل موروس ْ عل موروس باإلعدام صلبا بتهمة حماولة اغتيالهَّ . الطاغية ديونيس ى
أن ُيتجز أفضل أصدقاء موروس عل رشط ْزوج شقيقته .وافق ديونيس ى ثالثة أ ّيام ح َّت ىى ُي ه
رهينة .وإذا مل يعد موروس يف الوقت املحدَّ د َّ
فإن صديقه يموت بدال منه .لقد حصلت قض َّية
واقع َّية شبيهة مثرية لالهتامم شارك فيها توماس باين( )3أثناء الثورة الفرنس َّية .كان باين منف ًّيا
من إنكلرتا ،وحينها طلبت احلكومة كفالة لتوقيفه ،وأطلقت محلة خبيثة من االفرتاء
عل الرغم من حكم اإلعدام الذي صدر بح هقه فيام بعد ،فإ َّنه كان يف املراحل والتحريض .ى
عل رجل اإلنجليزي األُو ىل من الثورة عضوا مؤ هثرا يف اجلمع َّية التأسيس َّية .وكان قد حكم ى
أن (باين جيبدعى زكر ّيا ويلكس( )4يف اعتداء آخر ،طلب ويلكس املساعدة من باين ،رغم َّ ُي ى
رض َب ،و ُأهني ،واض ُط ِهدَ ُ ،
وافرتي عليه) أي رجل اإلنجليزي؛ أل َّنه ُ ِ أن يكره ويمقت اسم ّ ْ
عل يد احلكومة اإلنجليزي .طلب باين إطالق رصاح ويلكس ،واح ُت ِجزَ رهينة بدال منه، ى
يستغل ويلكس ثقة باين ،بل رجع يف الوقت املحدَّ د حامال ّ بينام غادر ويلكس إ ىل إنكلرتا .مل
دليل براءته .يف هذه احلاالت مل يمت الرهائن يف احلقيقة بدال من الناس الذين نابوا عنهم.
وباملعنى
ى معرضني لذلك بسهولة .يف املبدأ َّ
إن استبداال من هذا النوع ممكن متاما، لكنَّهم كانوا َّ
شك يف َّ
أن بعض البرش ماتوا يف بعض املناسبات بدال من برش آخرين. للتو ال َّ
الذي رشحناه ه
كان هايدغر مدركا ِّلذه احلقائق ،لكنَّه يستبعدها لعدم عالقتها بفكرته:
أن جيعل غريه يموت مكانه .طبعا يمكن إلنسان ْ
أن يذهب للموت من ال يمكن إلنسان ْ
أجل غريه .لكن هذا يعني دائام التضحية بالنفس من أجل اآلخر يف قض َّية حمدَّ دة .لكن هذا
(2) Schiller
(1) Trotzky
هايدغر واملوت ❖ 455
عل ّ
األقل من حيث املبدأ - عندما يتع َّلق األمر باملوت .عمل ًّيا هذا يعني َّ
أن املحارض يقدر -ى
عل
أن ُيصلوا ى أن جيعل شخصا آخر َّ
ُيل مكانه ،أي إ َّن املغنني ،واألط ّباء ،واملحامني يمكن ْ ْ
أن نجعل شخصا اخلاصة هبم ،لكن يستحيل -من حيث املبدأ ْ - َّ بدائل لوظائفهم املهن َّية
يموت بدال من شخص آخر .ولو كان هذا اال هدعاء صحيحا ،لكان األكثر إثارة لالهتامم،
لكنَّنا رأينا أ َّنه ليس صحيحا .فهايدغر يعرتف بذلك وينتقل إ ىل ( )2و( .)3غري أ َّنه ُيتفظ
باللغة األصل َّية مم َّا ُيوحي خطأ َّ
بأن القض َّية ( )1صحيحة.
َث َّمة فائدة يف عرضنا لبعض التفاصيل يف مسألة التمثيل َّية أو االستبدال َّية .إذ هناك وجه
شبه دقيق بني املوت من جهة ،وبني هذه األنشطة كإلقاء املحارضات ،واألداء يف األُوبرا،
أتصور أرضا
َّ املرىض ،أو الدفاع عن مو هكل ،من جهة ُأ ى
خرى .لتوضيح الفكرة سوف ى ومعاجلة
غريبة وشا َّذة ُت ى
دعى الربتقالة اآلل َّية ،يوجد فيها جمتمع من الساد هيني املستبدّ ين يعرفون
خاصة تسمح ِّلم بقتل شخص يف اجتامعهم َّ َّ
بـاجلالدين .متنح احلكومة هذا املجتمع ميزة
كل شهر .ورشط ذلك ،جيب َّأال يكون الفرد الذي
كل َّأول مساء يوم اثنني من ه
الذي ُيع َقد يف ه
وبمجرد ْ
أن خيتاروا ضح َّيتهم ،يطلب َّ أي عضو من أعضاء املجتمع.
قررون قتله قد أهان َّ
ُي ه
وأن احلكومة أصدرت أمرا أن ُتس هلمه ح ًّيا .لنفرض أ َّنني ُ
اخرتت لالثنني القادمَّ ، من الرشطة ْ
املرة َّأّنم يريدون فيلسوفا حمرتفا ،فاختاروين بطريقة باعتقال .وقد َّقرر َّ
اجلالدون هذه َّ
عشوائ َّية من الئحة تضم أعضاء الرابطة الفلسف َّية يف الربتقالة اآلل َّية .ولنفرض أيضا َّ
أن ل
دعى سموئيل بلو( ،)1وكان بلو ينوب عنّي دائام
مساعدا خملصا ،وهو أيضا فيلسوف حمرتف ُي ى
يف صفويف باملدرسة الرائدة لتعليم الكبار يف الربتقالة اآلل َّية ،وهي املدرسة اجلديدة
أن أموت االثنني القادم حتديدا ،ليس أل َّنني أكره املوت ،بلللدراسات اإلنسان َّية .أنا ال أريد ْ
أن أتركه غري مكتمل .لذلك أسأل سموئيل بلو إذا أل َّنني أكتب مقاال عن هايدغر وال ُأريد ْ
رس َّ
اجلالدين الذي ال يعرتض أن يتل َّطف باحللول مكاين ،وهو يوافق .فأ َّتصل بأمني ه
أمكن ْ
أن بلو هو أيضا فيلسوف حمرتف وأنا متأ هكد من هذا .وأخريا يوافق رئيس الرشطة ى
عل طاملا َّ
عل بلو و ُيق َتل يف اجتامع يوم االثنني .واآلن ُأريد التأكيد
االستبدال .وبناء عليه ُيلقي القبض ى
هذه النظرة اخلارج َّية عادة بالقول الشهري ألبيقور( :عندما أكون ال يكون املوت ،وعندما
متضمن يف املفهوم العا هم لـ «املوت بوصفه ما ُيصل عندما
ه يكون املوت ال أكون) .وهو
يتناول املرء جرعة من حامض الكربيت ،أو عندما يغرق ،أو عندما ينام يف مكان امتأل هواؤه
بغاز الفخم»( .)3يف وجهة النظر اخلارجية هذه خلل أسايس ،فرشاغ ُخيربنا َّ
أن (الوثن َّية
الكالسيك َّية مل تصل مطلقا إ ىل فهم أصيل حلقيقة املوت الوجودية) .وهي:
تفشل -كاملثال َّية املوضوع َّية اهليغل َّية -يف حتقيق (التغلغل الذايت) للموت.
واليشء نفسه يصح عن املفهوم اليومي للموت .يف فهمنا العا ِّم اليومي البسيط ،ما
يشتمل عليه املوت من الناحية الوجود َّية ال يمكن أن يكون ش يفاف ًا(.)4
جمرد حدث ما ّدي َّ
إن اعتبار املوت حقيقة خارج َّية ال يسفر عن فهم سليم .ففرض َّية أ َّنه َّ
()5
وطبيعي هي فرض َّية كاذبة( .)6ومقابل هذه النظرة اخلارج َّية نحن متأ هكدون َّ
أن كريكغارد
توصلوا إ ىل هذا من خالل توصلوا إ ىل فهم سليم للموتَّ .وهايدغر وغريها من الوجود هيني َّ
جعل املوت داخل ًّيا ،أي من خالل إظهار َّ
أن املوت «إمكان داخيل للنفس البرش َّية ،إ َّنه انفعال
أو قلق»(.)7
يوافق الفالسفة الوجوديون عىل إمكان تفسري املوت أو وصفه بأ َّنه بنية قوام َّية يف
اخلاص(.)1
ِّ الطابع اإلنساين
اختص هايدغر بتطوير أنطولوجيا املوت التي تدخلن فيها املوت بوصفه شكال من َّ
أشكال الوجود بحده ذاته( .)2يقول األب دمسك :إ َّننا -بفضل هايدغر ُ -ندرك َّ
أن املوت بنية
أن املوت ليس حدثا يضع ّناية حلياة إل َّوجود َّية داخل َّية لوجود الـ دازاين .إضافة ى
()3
درك فيه اإلنسان ...إ َّنه ال يكمن يف املستقبل ،بل يف الـ ُهنا واآلنُ ،يؤ هثر يف ه
كل فعل ُي َ
الوجود( .)4املوت بوصفه وجود ًّيا هو ...صيغة وجود َّية ،طريقة كينونة ،ويف احلقيقة إ َّنه
الطريقة التي يوجد فيها الـ دازاين( .)5ووفقا لـويليام باريت( )6املوت ليس حقيقة عا َّمة تظهر
اخلاص( .)7يكتب غلن غراي :إ َّنه ظاهرة
ه هناك يف العامل؛ إ َّنه يشء ُيصل يف داخل وجودي
داخل احلياة ،ويضيف أ َّنه إذا أدخل يف احلياة بطريقة شخص َّية سيحدث ثورة يف سلوكنا(.)8
كربى ،فهي أحد األسباب املتع هلقة بـ الصعوبات
ى ه َّية
ُتع َترب هذه الدخلنة للموت ذات أ ّ
املنهج َّي ة التي نواجهها عندما نحاول حتديد طبيعة املوت .ولإلجابة عن سؤال :ما هو املوت؟
بوجوب االستعامل الذهني« ،لنفس املنهج الفينومينولوجي الذي ()9
خيطرنا مكواري
مهمة يف
يستعمله هايدغر يف باقي التحليل الوجودي» .فقد أسفر هذا املنهج عن نتائج َّ
()10
بأي
واقعا خارج ًّيا ،ال نستطيع اكتشافه فينومينولوج ًّيا طاملا أ َّننا لن نكون موجودين للقيام ه
يرى َّ
أن اكتشاف عندما ُيدث .وقد أ َّكد األب بوروس هذه الصعوبات املنهج َّية .فهو ى
جرب املوت مبارشة»( ،)1فمراقبة الناس اآلخرين
«التفكر الفلسفي يف املوت مل يثمر أل َّننا مل ُن ه
لن ُّتربنا ما هو املوتَّ .
ألن ما نراه:
عندما نراقب إنسان ًا عىل فراش املوت ليس بالتأكيد احلقيقة الداخلية املوت ،إ َّنه
الوجه اخلارجي للموت(.)2
أن نأمل (تل ّقي إجابة حاسمة كاشفة من ُأناس كانوا قريبني من املوت،
كام أ َّننا ال نستطيع ْ
عل جواب حاسم أو أن نحصل ى أو الذين تركهم املوجودون حوِّلم للموت) .ال نستطيع ْ
كاشف من ُأناس كانوا قريبني من املوتَّ ،
ألّن م كانوا قريبني من املوت فقط ،وبالتال مل
أي
عل ه خيتربوا املوت الذي خيتلف عن القرب من املوت .وللسبب عينه ال يمكننا ْ
أن نحصل ى
رؤى عميقة
أن «كثريا منهم قد اكتسب ى(مساعدة من املعن هيني مهن ًّيا بالذين يموتون) .رغم َّ
احلظ استطاعت (الفلسفة احلديثة ْ
أن تتقدَّ م كثريا) ه حيال الرصاع مع املوت»( .)3لكن حلسن
عل هذه الصعوبات .وليس مستغربا َّ
أن الفلسفة احلديثة التي أشار إليها من أجل التغلب ى
األب بوروس هي التي رشحها مارتن هايدغر يف كتاب الوجود والزمن .ب َّينت هذه الفلسفة
وأن «املوت يكون حارضا يف ه
كل فعل وجود من أن «املوت وسيلة أساس َّية للعيش»(َّ ،)4
َّ
البداية»( .)5ويقول مكواري ما يشبه ذلك :إ َّن «الوجود هو املوت ،وإ َّن املوت حارض عندنا،
(بمعنى ما ،موجود يف احلارض بالفعل) وبالتال «يمكن
ى وبطريقة ما ،إ َّنه يف متناولنا»( .)6إ َّنه
للمح هلل الوجودي ْ
أن يصل إليه ...من خالل التحقيق»( .)7هبذه الطريقة نكون قد جتاوزنا
(3) Ibid.
(4) Ibid. p. 8.
(5) Ibid. p. 9.
(6) SCE, p .51.
(7) Ibid., p. 55.
هايدغر واملوت ❖ 461
هناك حديث عن اإلنجاز يف هذه املرحلة .ليس واضحا إذا كان جيب اعتبار اإلنجاز
معنى االنتهاء .فهايدغر يعترب اإلنجاز صيغة ملا ُيس ّميه ى معنى جديدا أو تغيريا يف
fertigwerdenالتي يرتمجها قاموس M-Rبـاالنتهاء ،وهي تعني باللغة األملان َّية العاد َّية
اإلكامل .يقول هايدغرَّ :
إن «اإلنجاز نوع من اإلّناء ،ويقوم عليه» .لكنَّهام -هو ورشاغ -
بمعنى اإلكامل أو اإلمتام ال يعني بالرضورة
ى عل َّ
أن االنتهاء يرصان -وهذا صحيح -ى ّ
اإلنجاز .فكام يقول رشاغ:
املرشوع قد ينتهي بمعنى أ َّنه َّ
تم ثم ُيق َّيم باعتباره منجز أو غري منجز ،كام عندما
إن اإلنجاز انتهى بشكل ج ِّيد أو انتهى بشكل ضعيف(.)1
نقولَّ :
معنى من هذه املعاين يشكل موت الـ دازاين ّنايته؟ اجلواب :ليس بأي منهاَّ .
إن ى بأي
ه
كثريا من ال ُق ّراء م َّطلعون ى
عل التمييز األسايس الذي يضعه هايدغر بني الـ دازاين من جهة،
والكيانات اجلاهزة يف املتناول واحلارضة يف املتناول من جهة ُأ ى
خرى .هذا التمييز شبيه
لدى العديد من غري الوجود هيني وهو يشبه إ ىل حد
بالتمييز بني األشخاص واألشياء املوجود ى
كبري متييز سارتر بني لذاته ويف ذاته .يمتلك البرش بعض اخلصائص التي ال متلكها اجلامدات
عل امتالكهم لتلك اخلصائص .هنا
سم ىى البرش دازاين للداللة ى
والنباتات واحليوانات؛ و ُي ّ
أن معاين وصيغ أو تغريات االنتهاء التي عدَّ دناها سابقا ال تنطبق َّإال ى
عل غري يدَّ عي هايدغر َّ
وألن البرش خيتلفون جذر ًّيا عن اخلبز ،والرسوم أو الطرقات ،واملطرَّ ،
فإن ّنايتهم َّ الـ دازاين.
كل تلك الكيانات األُ ى
خرى: خمتلفة جذر ًّيا عن ّناية ه
خاص َّية مناسبة لنهاية الـ دازاين. ال يمكن للموت بأي من هذه الصيغ لالنتهاء ْ
أن يكون ّ
بمعنى االنتهاء الذي ناقشناه -إذا سيكون التعامل
ى فاملوت بوصفه كونا يف النهاية -إذا ُف ِه َم
مع الـ دازاين كيشء حارض باملتناول أو جاهز باملتناول .يف املوت ،الـ دازاين مل ينجز ومل
ِ
خيتف فقط ،مل يصبح منتهيا ،وال هو بالكامل يف ترصف املرء بوصفه شيئا جاهزا يف املتناول.
عل وجود الـ دازاين َّ
إن تغريات االنتهاء التي ناقشناها ح َّت ىى اآلن -بتعبري رشاغ « -ال تنطبق ى
الفريد ،وبالتال ال يمكن استعامله لوصف املوت باعتباره ّناية لوجوده -يف -العامل».
بأي معنى يكون املوت ّناية الـ دازاين؟ لإلجابة عن هذا السؤال علينا ْ
أن نرشح بإجياز ه
سميه رشاغ
مفهوما أساس ًّيا من مفاهيم كتاب الوجود والزمن ،الوجود َّية أو االستباق أو ما ُي ّ
بمعنى َّأّنم قلقون وال يسعهم َّإال
ى التوقع -وفقا ِّلايدغر -يكون البرش دائام أمام أنفسهم،
ْ
أن يبدوا قلقهم حيال مستقبلهم .ولتفسري سلوك أو حركة األشياء غري احل َّية ومعظم أو مجيع
ألّنا ال األشياء احل َّية غري اإلنسان ،ال نحتاج ْ
أن نأخذ بنظر االعتبار قلقها ع ىل املستقبلَّ ،
أن نفهم سلوكهم الراهن أو تشعر هبذا القلق .من جهة ُأ ى
خرى -يف حال البرش -ال نستطيع ْ
أن نأخذ قلقهم حيال املستقبل بنظر االعتبار .قد أضطر يف األثناء ْ
أن أقول أحواِّلم من دون ْ
عل االستخدامات املختلفة التي وضع ِّلا هايدغر هذا املفهوم ،فإ َّنني ال رغم اعرتايض ى
ُأناقش مطلقا حقيقة َّ
أن البرش يتم َّيزون بالوجود َّية أو االستباق .يعتقد هايدغر أ َّننا لو احتفظنا
املعنى املحدَّ د الذي خيتلف جذر ًّيا عن مجيع
ى هبذه الصفة الك ّل َّية لالستباق ،فسوف نكتشف
أن املوت هو ّناية الـ دازاين:خرى للموت ،الذي يعني َّ املعاين األُ ى
عل - االنتهاء الذي نقصده عندما نتحدَّ ث عن املوت ال يعني َّ
أن الـ دازاين وجود -ى
النهاية ،بل وجود -نحو ّ -ناية هذا الكيان.
املوت -بوصفه ّناية الـ دازاين -هو يف وجود هذا الكيان نحو ّنايته.
يقول رشاغ:
خاص َّية التوقع عند الـ دازاين أو يف استباقه .وهذا
ي إن ظاهرة املوت تنكشف يف
َّ
ُيقدِّ م فه ًام وجوديا للموت ،وإذا فهم املوت وجوديا ال يعني وجود ًا -يف -النهاية.
التوضيح الوجودي ملعنى النهاية يسمح لنا باعتبار املوت وجد ح َّتى النهاية(.)1
بالنسبة للمف ِّكر الذايت( )2املوت حقيقة حارضة(.)3
املوت نوع من القلق اإلنساين ...الذي ينكشف فيه زوال الوجود(.)4
ومن جديد:
يف التوقع الوجوديُ ،جي َلب املستقبل إىل احلارض(.)1
والـ دازاين بوصفه وجود ًا مليئ ًا بالنشوة يمتد إىل ...مستقبل يكون فيه بالفعل(.)2
ووفقا لـ غلن غراي:
يتحرر املستقبل إذا ُف ِه َم كجزء من احلارض ...سريى املستقبل منتمي ًا
َّ يمكن أن
للحارض بشكل أسايس ...جيب النظر إىل املستقبل بطريقة جديدة ،بوصفه جزء ًا من
اللحظة الوجود َّية ...نحن نفهم مصطلح املستقبل بوصفه ُبعد ًا من أبعاد احلارض(.)3
اخلاص
َّ كل الوقت ،ويقولَّ :
إن الـ دازاين كل البرش يموتون َّ «إن َّ
كرر هايدغر قولهَّ :
ُي ه
باملرء يف حالة موت دائم»َّ .
(إن الـ دازاين يف حالة موت طاملا أ َّنه موجود .ومتاما) الـ دازاين
يف حالة موت واقعا وفعال دائام ،طاملا أ َّنه مل يصل إ ىل حتفه .من الواضح َّ
أن هذه التعابري هي
بأن احلياة اإلنسان َّية هي وجود -نحو -املوت .وعندماخرى للتعبري عن االعتقاد َّطريقة ُأ ى
كل البرش يموتون َّ
كل الوقت ،فإ َّنه ال يشري إ ىل حقيقة أ َّن اخلاليا متوت دائام أن َّ
ُيؤ هكد هايدغر َّ
أن تكون حياة اإلنسان يف أجسام البرش .فهايدغر غري مهتم هبذه التفاصيل البيولوج َّيةْ .
عرف (وأنا أفرتض َّ
أن هايدغر يقول :إ َّنه معروف وجودا -نحو -املوت أمر كان يمكن ْ
أن ُي َ
بالفعل ،رغم أ َّنه ليس بالطريقة الواضحة التي ُيق هنن فيها كتاب الوجود والزمن هذه املعرفة)
أن يعرف علامء البيولوجيا بوقت طويل َّ
أن اخلاليا متوت باستمرار ح َّت ىى قبل اكتشاف قبل ْ
وجود اخلاليا بوقت طويلُ .يصنهف هايدغر احلقائق البيولوج َّية بخانة املوجود َّية(ْ .)4
وأن
معنى
ى وعل الرغم من َّ
أن ى تكون احلياة البرش َّية وجودا -نحو -املوت هو أمر وجودي(.)5
رشح بوضوح ،يبدو َّ
أن هايدغر ال يعترب خصائص الكائن البرشي أنطولوج َّية أنطولوجي مل ُي َ
إذا مل تكون بشكل ما مرتبطة بالرضورة بجزء من دستور إنسان َّيتها؛ والوجود -نحو -املوت
اخلصوص مبهمة ،لكن عددا من أتباعه كانوا أكثر وضوحا ،وأعتقد َّ
أن فهم ما كان يدور يف
عرب األب دمسك َّ
إن: خلده سهل جدًّ ا .إذ كام َّ
الكائنات احل َّية غري البرش َّية يصلون إىل النهاية بالفعل ،لكنَّهم ال ي َّتخذون موقف ًا
يتع َّلق بتوقفهم ،وبالتايل ليس لدهيم وجود ح َّتى النهاية(.)1
وكام يف املقطع الذي اقتبسناه سابقا ،يتحدَّ ث رشاغ عن الوجود -نحو -املوت باعتباره
املعنى ،-ال تعرف النباتات واحليوانات
ى ُأسلوب قلق .فالبرش يعرفون َّأّنم سيموتون -هبذا
لدى احليوانات خوف غريزي من املوت ،لكن هذا ليس كالوعي الواضح
َّأّنا ستموت .ى
باملوت ،وهذا بالتأكيد ليس ما يقصده هايدغر عندما يتحدَّ ث عن القلق الذي خيتلف عن
اخلوف ،أي إدراك َّ
أن املوت يعني االنقراض التا ّم أو البطالن التا ّم .ما يعرفه البرش عن موهتم
وعل عواطفهم .باختصار
ى عل سلوكهم أن يكون له َّ -
كل أنواع التأثري اِّلا هم ى له -أو يمكن ْ
إن البرش خالفا للنباتات واحليوانات ُيف هكرون بموهتم ،وقلقون حيال موهتم ،وأحيانا ى
عل َّ
ليترصفوا هبا لو مل يكونوا مدركني ملوهتم .ووفقا ِّلايدغر
َّ يترصفون بطريقة مل يكونوا
َّ األقل
بأي شكل عل َّ
أن الوجود -نحو -املوت ليس أمرا نستطيع منعه ،وليس -ه ال بدَّ من التأكيد ى
أن يكون وجودنا -نحو -من األشكال -خاضعا لسيطرتنا اإلراد َّية .ما خيضع إلرادتنا هو ْ
أن سري إن الـ دازاين ُيزم أمره دائام بطريقة أو ب ُأ ى
خرى .والشائع َّ املوت أصيل أو غري أصيلَّ .
الـ دازاين نحو املوت هو من النوع غري األصيل .تقريبا ويف أغلب األحوال خيفي الـ دازاين
أقىص ما يملك من وجوده -نحو -املوت ،هاربا من وجهه .اِّلروب الساقط يوم ًّيا من وجه
ى
املوت هو وجود -نحو -املوت غري أصيل .لكن هذا السلوك اِّلروب ال يقل بوجوده -
نحو -املوت عن احلقيقة األصيلة:
ويف سقوطه وهروبه من وجه املوت هكذا ،تشهد يوم َّية الـ دازاين َّ
أن الـ ُهم( )2نفسها
خاص َّية حمده دة للوجود -نحو -املوت ح َّت ىى عندما ال ينشغل رصاحة بالتفكري
ّ متلك فعال
باملوت.
املوت هو قض َّية دائمة للـ دازاين ح َّت ىى يف كليومعادي.الـ دازاين اليومي ليس ّ
أقل من
(2) they
❖ 468دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
دازاين أصيل هو نحو ّنايته ،أي ي َّتجه باستمرار نحو مواجهة موته ْ
وإن كان ذلك يف حالة
هروب َّية .ليس الوجود -نحو -املوت أمرا ُُي هصله الـ دازاين لذاته ...أحيانا يف مسار
وجودهَّ .
إن الوجود -نحو -املوت ُيم هيز الـ دازاين من البداية .ينتمي أساسا إ ىل قذف
الـ دازاين الذي يكشف نفسه يف حالة ذهن َّية بطريقة أو ب ُأ ى
خرى.
أن حياة اإلنسان وجود -نحو - أن َّ
كل املقصود بتعبري هايدغر َّ وضح الكالم السابق َّ
ُي ه
عل خالف النباتات واحليوانات إ َّن البرش قلقون حيال املوتَّ ،أوال َّ
أن البرش يموتون ،وثانيا ى
عل هذا الكالم ليس
موهتم ،بطريقة هروب َّية أو غري هروب َّية ،وهم يعرفون ذلك .االعرتاض ى
أ َّنه كاذب ،بل إ َّنه تافه .أعلن هايدغر وتالمذته هذا االعتقاد بنوع من اللغط الذي ُيدَّ خر
تكون هو أ َّنه اكتشاف كبري أو بصرية
كربى باملعرفة اإلنسان َّية .االنطباع الذي َّ
ى عادة ملساهة
صحح وجهة نظر املف هكرين الوثن هيني القدماء، ّ
األقل َّ عل نافذة؛ وفهمنا َّ
أن هايدغر فنَّد ،أو ى
والفالسفة الطبيعان هيني ،وعوا هم الناس ،التي تعترب املوت حقيقة خارج َّية .من السهل ْ
أن ُن هبني
بأي شكل ،أو ِ َّ
أن مبدأ هايدغر ليس اكتشافا ليشء ،وال ُجي هسد بصرية نافذة ،وأ َّنه ال ُيدحض ه
صحح ،وجهة النظر التي تعترب املوت حقيقة خارج َّية .ما ينص عليه هذا املبدأ هو يف الغالب
ُي ه
من احلقائق الشائعة التي ال خيتلف عليها الوثنيون ،والطبيعيون أو عوام الناس ،لكنَّه يصوغه
بلغة طنّانة ومض هللة بشكل خيال .قدَّ م لنا تفاهات ،مصحوبة ببعض االفرتاءات وبعض
األول َّية وجمموعة من التعريفات اجلديدة اخلاطئة.
الفروقات َّ
ولكي ُن هبني خواء املعتقد اِّلايدغري وامليزة السلب َّية أللعاب هايدغر اللفظ َّية من املفيد
(باملعنى العادي)
ى عل متييز بسيط ال جيادل فيه أي إنسان عاقل .وهو التمييز بني املوت التأكيد ى
باملعنى العادي ليس طريقة للكون أو ُأسلوب قلق ى واملعرفة باملوت والقلق حياله .املوت
إنساين أو ُأسلوب حياة ،إ َّنه غياب احلياة .قد تكون معرفة املوت والقلق حياله ُأسلوب حياة
مكونات ُأسلوب احلياة .أنا حي أثناء كتابتي ِّلذه الكلامت (كانون الثاين أو عنارص أو ه
،)1974وموت أمر مل ُيصل بعدُ .يصل قلقي حيال موت عندما أكون ح ًّيا وهو يسبق
باملعنى العادي ،وأستعمل الرمز cd ى موت .للمناسبة سأستعمل الرمز d0لإلشارة إ ىل املوت
أن املوت إذا ُف ِه َم وجود ًّيا
لإلشارة إ ىل املعرفة باملوت والقلق حياله .أخربنا هايدغر وتالميذه َّ
هايدغر واملوت ❖ 469
وبشكل صحيح فهو وجود -نحو -املوت .وهذا الفهم الصحيح والوجودي للموت ،من
وُي هوله إ ىل حقيقة حارضة .قيل :إ َّنه ُي هبني زيف أو قصور الرؤية املفروض ْ
أن يدخلن املوت ُ
بمعنى جديد ك ّل ًّيا ليصدق
ى الطبيعان َّية .لكن هايدغر وأتباعه يقرتحون استعامل كلمة موت
عل . d0فإذا رغب شخص يف الكالم هبذه الطريقة ال يوجد قانون يمنعه،
عل cdوليس ى
ى
أن يقول :إ َّنه ال ُُي هقق شيئا ،أو إ َّنه ال ُُي هقق شيئا له قيمةَّ .
إن اإلشارة إ ىل cd لكن يمكن للمرء ْ
صححها .عندما قال بكلمة موت ليس اكتشافا ليشء .وال هي ُت ه
كذب النظر َّية األبيقور َّية أو ُت ه
أبيقور :عندما يكون املوت ال أكون ،كان يتحدَّ ث عن d0وليس عن .cdولتكذيب d0
عل َّأّنا حقيقة داخل َّية وحارضة؛ وهذا ما مل ُيصل .لقد
األبيقورية وليس cdجيب الربهان ى
دافع أبيقور عن موقف جتاه املوت شديد االختالف عن املوقف الذي يبدو َّ
أن اِّلايدغر هيني
عل يصادقون عليه .لكن يمكننا افرتاض أ َّنه مل يكن جاهال أو غافال عن حقيقة َّ
أن اإلنسان ى
خالف النباتات واحليوانات ،يعي موته ويقلق حياله .كام َّ
أن التعريف اِّلايدغري اجلديد
للموت مل يتغ َّلب ى
عل الصعوبات املنهج َّية التي اشتكا منها مكويري وبوروس .إذا كان عدم
عل جتربة املوت كام نخترب القلق أو الوحدة صعوبة منهج َّيةَّ ،
فإن دخلنة هايدغر - القدرة ى
وبصورة قاطعة -ال تستطيع التغلب عليها .فام نختربه ،وما هو متاح للتحليل
الفينومينولوجي ،وما يصبح ش ّفافا ليس موتا ،d0 ،بل هو cdأو األفكار واألمزجة املتع هلقة
باملوت؛ وهذه متو هفرة دائام ،ح َّت ىى قبل حتليل هايدغر الوجودي .ما مل يكن متاحا لالستكشاف
الفنومنولوجي قبل دخلنة هايدغر ما زال غري متو هفر بعده .وباملناسبة َّ
إن الصعوبة املنهج َّية
جمرد غياب للحياة ،يعتربونه حالة حمض كذب .الناس الذين ال ُيدركون بوضوح َّ
أن املوت َّ
غريبة ،خيوض املرء خالِّلا جتربة خوض َّ
الالجتربة ،ويميل هؤالء لإليامن بتلك الصعوبة
أن ُأ ه
جرب َّأال يكون عندي جتربة؟ هذه معنى ْ
ى املنهج َّية .لكن كيف يمكنني ْ
أن أكتشف ما
جرب َّأال يكون لدينا جتربة .لكن ال يوجدصعوبة أل َّننا -بحكم التعريف -يستحيل أ ْن ُن ه
جمرد غياب للحياة ،إذا سبب وجيه للتفكري باملوت هبذه الطريقة .فإذا ُف ِه َم املوت ى
عل أ َّنه َّ
ليس َث َّمة صعوبة .ليس رضور ًّيا ْ
أن أكون م هيتا كي أفهم املقصود بعبارة أ َّنني يف القرن احلادي
والعرشين سأكون م هيتا حتام ،فأنا أفهم ذلك متاما كام أفهم املقصود بالقول :إ َّنني يف القرن
❖ 470دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) For a detailed discussion of the confusions discussed in this paragraph, see my article,ED,
أصيل ،-أنا لست متأ هكدا من موقفه جتاه موته .سرتد والدة بوب -إذا حافظت ى
عل رباطة
املعنى الذي تقصده .وأنا
ى جأشها -بام يتناسب مع الوضع :ارحتت لسامع َّ
أن بوب يموت هبذا
املعنى أيضاَّ .
إن كالم الدكتور أدملن عن موت بوب مبتذل، ى أمتنّ ىى ْ
أن يكون زوجي يموت هبذا
بمعنى غري مألوف .ظاهر قول
ى عل الفور ،أل َّنه يستعمل عبارة مألوفة
وطبيعة ابتذاله ال تظهر ى
عل نحو مميت مثل سموئيل بلو .وهذا بالفعل كل إنسان يف ه
كل زمان مريض ى إن َّ
هايدغرَّ :
سيكون اكتشافا هائال وساحقا ،لكنَّه زائف ،وإ َّنه ليس ما ُيؤ هكد عليه هايدغر يف احلقيقة .بدا
توصل إ ىل اكتشاف مفاجئ بالنسبة لبوب لكن هذا مل ُيصل يف كأن الطبيب اِّلايدغري َّ َّ
أن َّ
كل إنسان يف موت الواقع ،وبدا كأ َّن هايدغر أضاف شيئا إ ىل معرفتنا وفهمنا عندما أعلن َّ
مستمر لكنَّه يف احلقيقة مل يفعل شيئا.
حجة هايدغر بأ َّننا ال نعني بـ النهاية عندما نتحدَّ ث عن ّناية حياة إنسان ،نفس ما
إن َّ َّ
حجة
أي يشء غري حي ،هي َّ نعنيه عندما نتحدَّ ث عن ّناية حياة نبتة أو حيوان أو ّناية ه
مض هللة متاما .فعندما نتحدَّ ث عن ّناية النوع الثاين من الكيانات نقصد أ َّنه يتو َّقف أو تو َّقف
عن الوجود .لكنَّه يزعم أ َّننا ال نقصد هذا عندما نتك َّلم عن ّناية حياة إنسان .تقوم احلجة
أن اإلنسان خيتلف عن الكيانات األُ ى
خرى ،إ َّنه دازاين - دعوى َّ
ى عل
الداعمة ِّلذه النتيجة ى
عل ِ
يتم َّيز بخصائص أو قدرات كاالستباق أو الوجود َّية .هذا صحيح ،غري أ َّنه ال ُيربهن ى
علأن ما ينطبق ى أن نستنتج من حقيقة أ َّن البرش هم دازاين مبارشةَّ ،
فكرة هايدغر .ال نستطيع ْ
أن الكلمة نفسها عندما أن نستنتج َّ
غري الـ دازاين ال ينطبق عليهم أيضا .وكذلك ال نستطيع ْ
عل غري
املعنى نفسه يف احلالني .مقولة السببية تنطبق بوضوح ى ى عل
عل االثنني ،ال تدل ى
حتمل ى
الـ دازاين .قد يكون هذا صحيحا ،لكنَّنا ال نستطيع أ ْن نستنتج بطريقة آل َّية َّ
أن أفعال البرش
املعنى الذي نتك َّلم فيه عن سبب َّية احلوادث املا ّد َّية والظواهر
ى ألّنم دازاين ال تتس َّبب بنفس
َّ
البيولوج َّية البحتة .يف الواقع -وبرصف النظر عن هايدغر ورشاغ -من الواضح متاما أ َّننا
املعنى متاما الذي نستعمله
ى عندما نتحدَّ ث عن ّناية حياة إنسان إ َّننا نستعمل كلمة ّناية بنفس
عندما نتحدَّ ث عن ّناية غري الـ دازاين .فعندما ينهدم منزل أو ُيرتق يكون وجوده قد وصل
إ ىل النهاية .لقد تو َّقف وجوده ومنع من البقاء بعد املوت ،وهذا ليس ما هيتم به هايدغر
ورشاغ ،واألمر نفسه يكون صحيحا متاما عندما يموت إنسانْ .
أن تكون موضوعات هذه
❖ 472دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Vorlaufen
(2) Erstrecken
(3) Einholen
(4) Vorwegnehmen
❖ 474دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
حريف لكنَّه بالفعل من أجل مقصد هايدغر دخلنة املوت( .)1إذا كنت سأموت حقيقة بعد
وأن أمتدَّ د و ُأالقي
عرش سنوات من كتابة هذه الكلامت ،فإ َّنني ال أستطيع االستباق فعل ًّياْ ،
موت .ليس صحيحا ه
بكل املعاين غري الشا َّذة ،أ َّنني ّنايتي بينام أنا حي؛ وعموما ليس صحيحا
فإّنا لن جتعل األمر
خاصتي .ومهام كان قدر الشعوذة اللفظ َّيةَّ ،
أ َّنني بالفعل كل ما ليس بعد َّ
خالف ذلك.
* * *
:املصادر
Heidegger, M, Being, Man, and Death (Lexington: The University of Kentucky
Press, 1970).
___________, Being and Time, trans. John Macquarrie and Edward Robinson
(London, 1962).
Greig, J.Y.T. (ed.), The Letters of David Hume, vol. II (Oxford, 1932).
Kemp Smith, Norman (ed.), ‘My Own Life,’ reprinted in, Hume's Dialogues
Concerning Natural Religion (Edinburgh, 1935).
Maurice Nadau, The History of Surrealism (London, 1968).
C. M. Sherover in Heidegger, Kant and Time (Bloomington, 1971)
Morgenbesser. S, et al., Absurdities in Philosophy, Science and Method -
Essays in Honor of Ernest Nagel (New York, 1969).
Scott, N. A. Jr. (ed.), ‘The Problem of Death in Modern Philosophy’ in The
Modern Vision of Death (Richmond, Virginia, 1967).
‘Todesdialektik‘, in Martin Heidegger zum 70. Geburtstag (Pfullingen, 1959).
A Commentary on Heidegger's Being and Time (New York, 1970).
An Existentialist Theology (London, 1955).
Existence and Freedom (Evanston, 1961).
Heidegger (London, 1957).
The Challenge of Existentialism (Bloomington, 1959).
The Moment of Truth (London, 1965).
The Savage God (London and New York, 1971).
What is Existentialism? (New York, 1964).
* * *
من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة
()2()1
()3
ديفيد تشاي
أن يذكر الفلسفة الرشق َّية يف اجلملة حني يتحدَّ ث الواحد م ّنا عن هايدغر فمن النادر له ْ
أن تأثر فيلسوفنا بالفلسفة الرشق آسيو َّية قد جيد توثيقا دقيقاَّ ،إال َّ
أن وعل الرغم من َّ
ى نفسها.
النظر إ ىل هذه العالقة من زاوية الفلسفة املقارنة ال يزال يتط َّلب الكثري من البحث .من
مستمرا عرب مسار حياة هايدغر
ًّ اصة ،والتي شهد معناها تطورا ه َّية خ َّ
املفاهيم التي حتمل أ ّ
عل أ َّنه يعني املوقع الذي تنكشف فيه
كفيلسوف ،مفهوم اجلالء .فإذا أخذنا هذا املفهوم ى
فإن نظر َّية هايدغر القائلة َّ
بأن طبيعة اجلالء السحيقة يف عمقها الذي ال يسرب حقيقة الوجودَّ ،
إل
وخاصة الفلسفة الطاوية .سوف نرجع ىَّ غوره ،قد تأ َّثرت دون ريب بالفلسفة الرشق َّية،
املسم ىى :تاو ت تشنغ وكتاب تشوانغتيس
ّ كتاب الوتيس (حوال القرن السادس قبل امليالد)
حجة مفادهاَّ :
أن هايدغر عجز يف الواقع ( 300 - 375قبل امليالد) الذي ُيمل اسمه لنبني َّ
ملعنى العدم يف اجلالء.
عن فهم املضامني الكون َّية ى
عل اجلالء ،فلن تعود عالقتهام عالقة اعتامد متبادل ،بل ستخضع
فإذا محلنا مفهوم العدم ى
معنى اجلالء هو معانقة العدم لذاته كام تفعل
ى إ ىل حقيقة جوهر الوجود ،فلو اعترب هايدغر َّ
أن
الطاوية ،لر َّبام مت َّكن من رأب الصدع ه
املفرق بني العدم والوجود ،وهذه البداية اجلديدة التي
عل ْ
أن يقارب مفهوم الوجود من خالِّلا. متنّ ىى الوصول إليها كانت ستمنحه القدرة ى
()1
إل تبيان
سيسعى هذا املقال ى
ى عل عمل هايدغر «إسهامات يف الفلسفة»،
من خالل الرتكيز ى
ثم ل ُيس هلط الضوء ى
عل مفهوم هايدغر للجالء وكيف خيتلف هذا املفهوم عن نظريه الطاويّ ،
ه َّية دعوة هايدغر إ ىل القيام «بقفزة إ ىل هاوية اجلالء» العالقة بني الوجود والعدم و ُير هكز ى
عل أ ّ
خاصة َّ
وأن هذه النقطة األخرية تفسح َّ إذا ما كان لنا ْ
أن نصل إ ىل معرفة حقيقة الوجود،
ترى َّ
أن العدم هو مصدر املجال أمام مقارنات غن َّية باملضامني مع الفلسفة الطاوية التي ى
حر َّية الوجود.
الوجود ،وكذلك يف الوقت ذاته هو األساس الذي تقوم عليه ّ
مفهوم اجلالء:
عل الكلمة األملان َّية للجالء ،Lichtung ،فهي مشت َّقة من الفعل:لنبدأ بإلقاء نظرة ى
lichtenالذي يمكن له ْ
أن يرتجم كتسوية األرض ،أ َّما كاسم فهي تعني اإلنارة واالنفتاح
عنى فتحة يف الغابة خاوية من املوانع ،مم َّا
من غري حجب وموانع .يستخدم هايدغر الكلمة بم ى
يتيح ِّلا املجال كي تلعب دور فضاء موجود باستقالل عن التأثري املتبادل بني وجودها يف
وجهيه :املسترت والظاهر( .)2أ َّما بالنسبة إ ىل اإلنارة ،فمع َّ
أن هايدغر كان قد ربط بني الوجود
وخاصة عمله األشهر« :الوجود والزمن»( ،)3فيبدو أ َّنه قد عاد
َّ والنور يف أعامله املب هكرة
(1) Lichtung
(2) Thomas Prufer ،Glosses on Heidegger’s Architectonic WordPlay :Lichtung and Ereignis
،Bergung and Wahrnis, The Review of Metaphysics 44 ،no. 3 (March 1991): 607.
«إن قولنا :إ َّن الوجود «يرشق» يعني أ َّنه ينجيل يف ذاته ى
عل أ َّنه الكينونة يف العامل .ليس هذا من ( )3حيث قالَّ :
خالل وجود آخر ،بل إ َّنه هو نفسه هذا اجلالء .فقط يف كينونة تنجيل وجود ًّيا هبذا الشكل يمكن لألشياء
أن تسترت عنه يف الظالم».أن تصبح يف متناول اإلدراك يف النور أو ْ احلارضة موضوع ًّيا ْ
Martin Heidegger ،Being and Time: A Translation of Sein und Zeit،trans. Joan
Stambaugh (Albany: SUNY Press 125 - 196).
من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ 479
لريفض هذا التشبيه يف بعض أعامله التي كتبها بعد احلرب العامل َّية الثانية ،مثل الفقرة التالية يف
حمارضته حول هرياقليطس:
أن األمر ليس كذلك! اجليل َّ
ه أي عالقة مع بعضهام بعضا؟ من هل للجالء والنور ّ
يتضمن املعاين التالية :اإليضاح ،إرساء األُ ُسس ،الكشف والبيان؛ لكن هذا ال
َّ «اجلالء»
«جي هيل اجلالء» سيوجد لدينا بالرضورة اإلرشاق والسطوع ،فام ينجيل هو احلر
يعني أ َّنه حيث ُ
واملنفتح .ويف الوقت ذاته ،ما ينجيل هو بعينه ما يسرت نفسه وخيفيها(.)1
بحسبام ذكرته األُست اذة «لني ما» ،والتي درست الرابطة بني فكر هايدغر والفلسفة
الرشق آسيو َّية بتفصيل دقيق ،فقد استخدم هايدغر مخسة فصول من جمموع 81فصال تؤ هلف
كتاب «تاو ت تشنغ» خالل مسار حياته كفيلسوف( .)2من بني هذه الفصول ،يربز الفصل
ه َّية لنقاشنا هذا ،فحني يتك َّلم الوتيس يف هذا الفصل عن
اخلامس عرش كالفصل األكثر أ ّ
املقربة بالطاو (أو املطلق)( ،)3يعود ليتسا َءل« :من
حكامء العصور القديمة أصحاب املعرفة َّ
عل تسكني املاء املوحل ،ليعيده ببطء إ ىل الصفاء ،ومن يقدر ْ
أن ُُي هرك املياه الساكنة، يقدر ى
ليعيدها ببطء إ ىل احلياة()4؟» ،وقد عاد هايدغر لرياجع هذه اجلملة وإعادة كتابتها بالشكل
التال:
اجلالء جيلب أخري ًا شيئ ًا ما حتت النور ،واحلركة اخلف َّية يف الساكن والصايف يمكن
هلا أن ّتلب شيئ ًا إىل الوجود(.)5
(1) Martin Heidegger ،Heraclitus Seminar 67,1966 ،trans. Charles Seibert (Alabama: The
University of Alabama Press ،1979 ،161).
(2) Lin Ma ،Heidegger on East. West Dialogue: Anticipating the Event (New York:
Routledge،2008،119).
أن ُنقده م تفسريا ِّلذا املصطلح ،إِذ الطاو ليس ال مبدأ وال عمل َّية ،ولكنَّه أصل مجيع ( )3من الصعب جدًّ ا ْ
عرفه بأ َّنه إِّلي ،فمع َّ
أن مجيع األشياء تأت منه ومع أ َّنه أبعد عن الزمان املبادئ والعمليّات .ال يمكننا ْ
أن ُن ه
واملكان َّإال أ َّنه حارض فيهام وال يتأ َّثر بالتغريات التي َّ
يمران هبا.
(4) Wang Bi Jijiao Shied. Lou Yulie، (Beijing: Zhonghua Shuju ،1980, 34.
(5) Ma ،Heidegger on East. West Dialogue، 140.
❖ 480دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Zhuangzi Jishied. Guo Qingfan (Beijing: Zhonghua Shuju ،1997), 150.
من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ 481
متعني الذي ال فرق وال حتديد فيه ،حيث يسري بني األشياء يف العامل يف حالة من الوجود َّ
الال َّ
اِّلم عليها واالهتامم هبا.
متحررا من ه
ه
البساطة احملضة:
عل الدخول يف البساطة املحضة والعودة
الرجل صاحب اإلرشاق والطهارة احلقيق َّيني قادر ى
األول من خالل َّ
الالعملُ ،حميال اجلسد إ ىل طبيعته الفطر َّية ،معانقا روحه ،وهبذه إ ىل الكيان َّ
الطريقة يسري عرب عامله اليومي(.)1
بأن ما ينجيل حر ومنفتحَّ ،
وأن ما ينجيل هو بعينه ما يسرت وهكذا حني يقول هايدغر َّ
احلر َّية والتناغم
صدى مفاهيم طاوية مثل ّ ى أن نجد نفسه ،يمكننا يف هذه العبارات ْ
باألحرى «زوال
ى األنطولوجي؛ َّإال َّ
أن توجه هايدغر إ ىل ربط اجلالء مع حالة انكشاف ،أو
مدى تأثره
عل ىسم ىى بالكلمة اليونان َّية )Alêtheia :يدل ى
خفاء» ما هو حارض بالفعل (ما ُي ّ
بالرتاث الفلسفي اليوناين رغم اهتاممه بالفلسفة الرشق َّية .يف حمارضة ألقاها هايدغر حتت
رصح بالتال:عنون «حول الزمان والوجود» نجده ُي ه
ال يمكن لليشء الذي يرشق أن ُي ِ
ظهر نفسه ،أو أن يش َّعَّ ،إال من خالل النور ،من
خالل السطوع .لكن السطوع بدوره يعتمد عىل يشء منفتح ،يشء حر يمكنه أن
ٍ
ووقتئذ(.)2 جيعله يرشق هنا وهناك ،اآلن
القوة ه
بكل تأكيد ،وقد َّ
إن متثيل هذا االنفتاح بأ َّنه فسحة يف غابة ِّلو صورة برص َّية يف غاية َّ
فإّنا تسدل الغموض جعلت الكثري من الباحثني يتش َّبثون هباَّ .
فألن الغابة مكان مظلم كثيف َّ
عل حضور مجيع األشياء فيها ،ولكن وبمقابل هذا املكان املظلمَّ ،
فإن تناول والظالم ى
الفسحة كتمثيل جمازي ألمر يف غاية املنطق َّية ،ذلك َّ
ألن هذا اجلالء الذي متنحه هذه الفسحة
عرب
هو ما يقابل املوجودات عند رؤية انفتاحها األنطولوجي -الفينومينولوجي .ولقد َّ
هايدغر عن هذه الفكرة بالشكل التال:
تتم جتربة فسحة الغابة بمقابل الغابة الكثيفة التي كان ُيط َلق عليها اسم «الكثافة»( )1يف
االستخدامات اللغو َّية القديمة .ترجع هذه «الفسحة» اجلوهر َّية إ ىل فعل« :فسح أو فتح»،
وحرا ومنفتحا ،مثال :هو جيعل الغابة وكذلك َّ
فإن الصفة »licht« :جيعل من اليشء خفيفا ًّ
خا لية عن األشجار يف مكان واحد .هذا االنفتاح إذن ينبع من الفسحة ...لكن هذه الفسحة،
والصدى،
ى أو هذا اجلالء ،غري مق َّيد ال بالسطوع وال بالظالم ،وكذلك فهو غري حمدَّ د بالرنني
عل ه
كل يشء حارض وغائب(.)2 أي الصوت وتضاؤل الصوت .اجلالء هو األمر املفتوح ى
من الصحيح إذن َّ
أن اجلالء يفتح نفسه أمام اإلرشاق والظالم ،وكذلك أمام الصوت
والصمت ،لكنَّه ليس هو ما يقوم باجلالء أو الفسح أو التحرير .فقط «الطاو» عرب قدرته
سهل عل إنتاج هذه الصفات ،وفقط العدم املرتبط به يمكن له ْ
أن ُي ه التوليد َّية لديه الطاقة ى
جمرد نفي احلضور أو حتقيقها .سبب هذا هو َّ
أن العدم -كام يفهمه فالسفة الطاوية -ليس َّ
االفتقاد إ ىل احلضور ،بل هو اجلوهر الكوزمولوجي الذي يتأ َّلف منه الواقع ،احل هيز الكامل
الذي يوجد الطاو من خالله وتتم جتربته فيه .وهكذا َّ
فإن جالء هايدغر ليس أكثر من
فإن طاقته َّ
اخلالقة أي طبيعة «شيئ َّية»َّ ،
السطوع الذي ُيع هبئ فراغه ،أما الطاو فأل َّنه ليس لديه ّ
إل
تتفجر من خالل العدم بطريقة ال تشبه النهلست َّية (العدم َّية) يف يشء ،وِّلذا فلطاملا أرشت ى
َّ
ه َّية العدم هبذه الطريقة:
بأّنا ميونطولوج َّية .يصف التاو ت تشينغ أ ّ
()4()3
الفلسفة الطاوية َّ
يتهاوى ال توجد ظلمة .فهو دائام كذلك :ال اسم
ى حني يسمو ال يوجد سطوع نور ،وحني
(1) Dickung
( )2املصدر السابق.65 ،
( )3امليونطولوجيا ( :)Meontologyهي الدراسة الفلسفية للعدم[ .املرتجم].
( )4للمزيد حول نظر َّيتي هذه حول امليونطولوجيا
David Chai ،Meontology in Early Xuanxue Thought, Journal of Chinese Philosophy
37.1 (March 2010): 91 - 102 ibid. ،Meontological Generativity: A Daoist Reading of the
Thing, Philosophy East & West 64، no. 2 (April 2014): 18 - 303 ;ibid. Zhuangzi’s
Meontological Temporality, Dao: A Journal of Comparative Philosophy (forthcoming
2014).
من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ 483
بأّنا تشري
وقد فهم مارك راثول فكرة هايدغر حول «جعل الذات حارضة أنطولوج ًّيا» َّ
إ ىل أوجه خمتلفة من الوجود متنعها طبيعتها التي ُيكمها السياق من الربوز آن ًّيا يف الوقت
ذاته(.)3
حقيقة الكشف:
َّإال َّ
أن هذا التفسري ُيؤ ّدي إ ىل إشكال َّية حول الكيف َّية التي جتعل أوجه مع َّينة من الوجود نفسها
معروفة للعامل يف الوقت الذي تقوم هبا بفعل ذلك .وكانت استجابة راثولَّ :
أن «اجلالء» ليس
إظهارا إلمكان ّيات الوجود ،وال هو حجب بعض اإلمكان ّيات وكشف ُأ ى
خرى ،بل َّ
إن لديه
عل أ َّنه ال تتو َّفر أي إمكان ّيات حتم َّية ُأخ ى
رى» بحيث «ُيجب اجلالء مهمة التأكيد والبيان ى
َّ
إل َّ
أن خرى للوجود» .وصل راثول إ ىل هذه النتيجة من خالل اإلشارة ى إمكان َّية أفهام ُأ ى
()1
احلر َّية تتع َّلق فقط بظروف عيش اإلنسان وليس بجميع األشياءَّ ،
وأن العدم الذي ُيجب ّ
والِّس َّية ليس هو ما يقوم باحلجب نفسه .مجيع هذه
ّ الوجود بحيث ُيعطيه هالة من الغموض
بأن الوجود قد ُولِدَ من
ألّنا تقول َّ
الفرض ّيات إشكال َّية من وجهة نظر الفلسفة الطاوية َّ
العدم ،ولكن ليس العدم هو ما ّ ى
يتول أمر الوجود ،بل هذا مرتوك للطاو .وهكذا ،إذا كان لنا
إل
أي إشارة ى ْ
أن نتحدَّ ث عن اجلالء من حيث إ َّنه يعكس طبيعة الطاو امليونطولوج َّية متجنهبني َّ
عل كشف أصل احلقيقة من حيث احل هر وغري أن نصف قدرته ى «اإلجياد من العدم» فال يمكننا ْ
تترصف بشكل منفصل عن كل من العدم والطاو.
احلر َّية َّ
أن ّ فإن هذا سيعني َّ
احلرَّ ،
ه
إذا ما عدنا إ ىل نقاش التاو ت تشينغ ،فاملاء املوحل حينام يكون ساكنا وهادئا فإ َّنه وبطبيعة
احلال سيصبح صافيا ،لكن صفاءه هذا ليس نتيجة حقيقة وجوده األنطولوج َّية ،بل يأت من
فتحه لذاته للعدم؛ وطبيعة املياه العكرة من حيث هي ماء ال تتأ َّثر بتخ هليها عن تعكرها ،بل
أن ُحت هقق التوازن الداخيل من خالل حتررها من احلاجة إ ىل حتقيق صفائها اخلارجي
يمكن ِّلا ْ
أن طبيعتها التي أضفاها عليها «الطاو» هي ْ
أن تكون مع َّكرة الذي يتح َّقق حني تتق َّبل حقيقة َّ
بالوحل وصافية يف الوقت ذاته .يرمز الطاويون إ ىل حاالت الوجود الس ّيالة هذه بصور كثرية
املجوف( ،)1فكام هو احلال يف حمور الدوالب وطرفه
َّ لعل أشهرها هو حمور الدوالب وطرفه َّ
املجوف َّ
فإن املاء الساكن النقي يبدو وكأ َّنه فارغ ال حياة فيه ،ولكن إذا حركته فسوف تلتف َّ
عل
احلياة فيه كام ُُي هرك املحور الدائر عصا الدوالب .تنعكس دورة السكون واحلركة هذه ى
البوابة التي
املستوى األنطولوجي -الكوزمولوجي من خالل اجلالء الذي يلعب دور ّ ى
عرب الوتيس عن هذا يف كلامته التالية:
يتامزج فيها العدم والوجود بحيث يكونان واحدا ،وقد َّ
بينام تزدهر األشياء الكثرية ،يعود كل واحد منها إىل أصله .تعرف العودة إىل
اجلذور بـ «السكون» ،ويعرف كون املرء ساكن ًا بأ َّنه العودة إىل مصريه وقدره(.)2
إذن ،يمكننا القول َّ
بأن املاء الصايف قد أمسك بحقيقة وجوده اجلوهر َّية ،أ َّما املاء العكر
أن نزيد هذه النقطة بيانا بقولناَّ :
إن احلركة ّتفي فوىض عجاج حركته .يمكننا ْ
ى فقد فقدها يف
جذور األشياء و ُأصوِّلا ،أ َّما اِّلدوء الساكن فيظهر إرشاق هذه األُصول؛ اليشء الساكن
عل مصفوفة العدم َّ
اخلالقة ،أ َّما اليشء العكر فيسرت هذا اللقاء وُيجبه. يفتح أشياء ُأ ى
خرى ى
هنا ويف هذه النقطة يكمن الفرق الرئييس بني التعريف الطاوي والتعريف اِّلايدغري
عل فكرة َّ
أن العدم يكشف أصل األشياء احلقيقي يف الطاو، األول يقوم ى
للجالء ،فالتعريف َّ
إل التعريف األخري َّ
فإن اجلالء مربوط بشكل ال يقبل االنفصام مع الوجود .لكن أ َّما بالنسبة ى
يتوجه
َّ فإن علينا ْ
أن نسأل أنفسنا :كيف مستوى أعمق َّ
ى إذا ما شئنا ْ
أن نأخذ نقاشنا هذا إ ىل
اجلالء إ ىل رعاية حقيقة األشياء األنطولوج َّية -الفينومينولوج َّية؟ وح َّت ىى نتم َّكن من اإلجابة
أن نستكشف كيف يتم َّكن اجلالء من تسهيل انكشاف األشياء. عن ذلك السؤال علينا ْ
عل تأطري اجلالء
فإذا ما كانت معانقة الطاو للعدم -كام ناقشنا ح َّت ىى اآلن -جتعله قادرا ى
للحر َّية الكوزمولوج َّية من خالل إعادة ترتيب أولو َّية ثنائ َّية العدم -الوجود ،فعلينا
ّ كخلف َّية
إن أوضح حل يربز للعقل هو َّ
أن اجلالء -ومن أن نعالج اآلن كيف َّية كشفه حلقيقة األشياءَّ ، ْ
خالل فعل كشفي ُ -يس هلط الضوء ى
عل احلقيقة كي نفهم أبعادها ،ولكن إشكال َّية ا هتباع مقاربة
عل يشء مبهم بطبيعته لن يفعل الكثري إليضاحه ،ويف مثال آخر أن تسليط النور ىكهذه هي َّ
من التفكري املتأ هثر بالطاوية ُيقده م لنا هايدغر الفقرة التال َّية:
جمرد سطوع» أكثر سطوعا من ألف
ليتحول إ ىل َّ
َّ «ال يظل النور جالء مرشقا حني ينترش
ننأى من مزيج
أن ى شمس .يظل من الصعب علينا محاية وضوح التفكري ،أو بكلامت ُأ ى
خرىْ :
السطوع الذي ال ينتمي ،لنجد السطوع الذي يناسب وهو الظالم وحده .يقول الوتيس:
«من عرف سطوعه قد ألبس نفسه ظلمته» ،ونضيف إ ىل هذه املقولة حقيقة يعلمها اجلميع
ولكن ال يتح َّقق هبا َّإال القليلون:
عىل تفكري األشخاص احلادثني الذين حيفهم الفناء أن يدعوا أنفسهم هيوون إىل
أعامق البئر املظلمة كي يروا النجوم يف النهار .سيظل من األصعب علينا املحافظة عىل
ألن ما يريد
صفاء الظلمة من احلصول عىل سطوع يرغب باإلرشاق هبذه الطريقةَّ ،
فقط أن يرشق ال يمكن له أن ييضء األشياء األُخرى(.)1
(1) Martin Heidegger ،Contributions to Philosophy (Of the Event)، trans. Richard Rojcewicz
and Daniela Vallega. Neu (Bloomington: Indiana University Press، 2012 ،88 - 89).
من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ 487
الظالم ،ومن خالل فعله لذلك يزيل اخلفاء عن جوهر الظالم الباطني .عند هايدغر يعتمد
تتصورها الفلسفة
َّ عل بعضهام بعضا ولكن ليس بالطريقة التي
كل من النور والظلمة ى
الطاوية ،فسطوع اجلالء بالنسبة إ ىل هايدغر هو «زوال خفاء ما هو حارض بالفعل
احلر َّية احلاصلة من فعل
اخلاصة به ،فهو ّ
َّ جترد هذا احلضور من ظلمته
( »)Alêtheiaإذا ما َّ
ترك األشياء تكون .وترك األشياء تكون يف انعدام خفاء اجلالء هيدف إ ىل حترير الوجود من
النزوع التارخيي الذي ُي ِ
بهم الوجود ويعزله عن نفسه(.)1
األول قد ّ ى
ّتل عن َّ
وكأن ذلك َّ قد يبدو اعتامد هايدغر للتمثيل الذي استخدمه الوتيس
عل أ َّنه سلب َّية حمضة من ناحية ،وكأ َّنه قد تبنّ ىى املوقف امليونطولوجي
التصور الغرب للعدم ى
الذي تعتمده الطاوية من ناحية ُأ ى
خرى ،ولكنَّنا إذا درسنا مقوالت هايدغر بد َّقة أكرب سنجد
فروقات كبرية بني النظرتني:
عل العدم؛ فبينام يقول أهم هذه الفروقات هو َّ
أن هايدغر يعطي األولو َّية للوجود ى ّ
فإن الفلسفة الطاوية تقولَّ :
إن اجلالء ال عل انكشاف الوجودَّ ، هايدغرَّ :
إن اجلالء يدل ى
عل انكشاف اجلالء نفسه وال يشء آخر ،فاألشياء حتجب الـ «ال أشياء» أن َّ
يدل ى يمكن َّإال ْ
كام جتتذب أغصان الشجرة انتباهنا بعيدا عن جذورها حتت أقدامنا .اجلالء عند الطاوية هو
البوابة الغامضة إ ىل العدم الذي ُييط ه
بكل يشء ويصبغه بصبغتهِّ .لذا يقول الطاويون :إ َّنه ّ
أن نحاول ْ
أن أن نالحق جذور األشياء مجيعا إ ىل مصدرها األصيل بدال من ْ من األفضل لنا ْ
النص التال يف
كل يشء يف ذاته ،سواء أكان ذلك اجلالء أم الوجودِّ .لذا نجد َّنصل إ ىل معرفة ه
التاوت تشنغ:
إذا ما أراد الواحد منيا أن ُحيدِّ د أصل األشياء -رغم قرهبا! -فعليه ومن مسافة أن
ال عىل بدايتها! وإذا أراد الواحد منيا أن ُيس ِّلط الضوء عىل سبب األشياء -
ُيقدِّ م دلي ً
رغم بداهته! -فعليه أن يبدأ من خفائها ح َّتى يناقش أصلها(.)2
فإن علينا ْ
«أن نقفز إ ىل حقيقة عل االنقسام األنطولوجي بني الوجود واملوجود َّ نتغ َّلب ى
حرر أنفسنا من إساءة تفسريه»(.)1 أن علينا ْ
«أن ُن ه إل درجة َّ
الوجود نفسه» ،بل إ َّننا نحتاج هذا ى
كام سي َّتضح قريباَّ ،
فإن مرشوع هايدغر هذا ليس خاليا من املشاكل حيث يستخدم العدم
كغطاء جمازي بني املوجود والوجود جاعال من هذا األخري مفهوما عميقا سحيقا ال ُُياط به
وال يدخل حتت الفهم .بدال من القفز من املوجود إ ىل الوجود من خالل اخرتاق العدم الذي
ُيجب الواحد عن اآلخر يمكننا ْ
أن ن َّتبع أثر الفلسفة الطاوية عرب القفز من الوجود إ ىل العدم
الذي ُيش هكل لنا األُ ّس واألساس الوجودي الدائم لنا.
أن نشت قليال عن املوضوع لننظر يف فإن علينا ْ
ح َّت ىى نفهم ما تعنيه هذه القفزة َّ
املحارضات التي ألقاها هايدغر يف أربعين ّيات ومخسين ّيات القرن املايض ،والتي حتدَّ ث فيها
إل األرض والسامء واإلِّل ّيات والفانني -كجوهر للوجود احلقيقي. عن التقسيم الرباعي -ى
للمرة األُو ىل،
فحني حتصل العمل َّية املسترتة التي ُنش هكل فيها العامل يف مداركنا بشكل صحيح َّ
أن نتغ َّلب ى
عل النهلست َّية (العدم َّية) خيتفي الوجود ومعه العدم يف هذه العمل َّية ،وال يمكن لنا ْ
اختفى كل من العدم وجوهر حقيقة الوجود يف العامل( .)2وهكذا َّ
فإن عمل َّية حتويل ى َّإال إذا
العامل إ ىل عامل ،تربز من خالل التضايف بني العدم والوجود .فالعدم إذن جزء ال يتجزَّ أ من
عل احلضور كحقيقة الوجود يف
إل عامل ،وقدرة هذه العمل َّية ى
العامل من خالل عمل َّية حتويله ى
صورة اجلالء .وكام رأينا َّ
فإن اجلالء يعمل كموقع حقيقة الوجود أل َّنه ومن خالل جالئه
فإن اجلالء من حيث إ َّنه العدم يعكس طبيعة الوجود نعرف مقدار ما يمده العدم ،وهكذا َّ
بمقدار ما ي ِ
مدد العدم إمكان َّية صريورة الوجود ح َّت ىى يصل الوجود إ ىل آن َّية( )3احلضور ُ
احلق العريب يف االختالف الفلسفي ،املركز الثقايف العرب ،بريوت، لكن يقول طه عبد الرمحن يف مؤ َّلفه ( ِّ
،2002ص :)158 :يبدو أنَّ اللفظ العريب الكينونة أقرب عىل أداء معنى الـ دازاين من غريه .واحلقيقة
عل صعوبة ضبط هذا موحد دليل ى عل ترمجة مصطلح Daseinإ ىل اللغة العرب َّية بلفظ َّ َّ
أن عدم االتهفاق ى
املصطلح يف اللغة العرب َّية ضبطا دقيقا.
(1) Heidegger، Contributions to Philosophy،(34) 59 - 60.
❖ 492دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
املستوى
ى العدم ،وهو ما اعتربه كل من هايدغر وفالسفة الطاوية املفتاح الذي سيفتح أغالق
األعل من احلقيقة امليتافيزيق َّية.
ى
ه َّية العدم ،دعونا ننظر إ ىل الفقرة التالية:
ح َّت ىى نفهم فكرة هايدغر حول أ ّ
تتط َّلب [العودة إىل] حدوث الوجود اجلوهري النظر يف انتامء العدم إىل الوجود،
أن الوجود
وهبذه الطريقة فقط حتصل عالقة الـ يإما -الـ أو عىل جدَّ هتا وأصالتها .بام َّ
فإن املحافظة عىل حقيقته يتط َّلب استمرار النفي هذا .وبذلك يتغلغل فيه «الـ َّال» َّ
فإن السلب الذايت يف يتط َّلب ما ال وجود له ،أي املضاد السالب ِّ
لكل يشء .وهكذا َّ
الوجود يقتيض أن يتط َّلب املوجود وحيتاج إىل ذلك الذي يظهر نفسه يف الـ دازاين
كالـ َّإما -أو ،الواحد أو اآلخر ،وفقط هؤالء(.)1
ويمكننا ْ
أن نقارن هذه الفقرة بفكرة مشاهبة أطلقها تشوانغتيس:
ال يمكن للوجود أن يستخدم الوجود خللق الوجود ،ولذا فال بدَّ له أن ينشأ من
الالوجود ،ولكن َّ
الالوجود هو نفسه العدم(.)2 َّ
املتضمنة بني العدم والوجودَّ ،إال أ َّنه ُيد حركة َّ
األول بحركة ه مع َّ
أن هايدغر يقر باجلمع َّية
األخري ،أ َّما بالنسبة إ ىل تشوانغتيس فالعدم هو الوسيلة امليونطولوج َّية التي ُي ه
شخص فيها
عل تعاليه وتنزهه .من خالل كون الطاو نفسه يف األشياء الكثرية ضمن العامل بينام ُيافظ ى
الطاو مظلم ومبهم فهو ُيؤ هلف إبداع العدم َّ
اخلالق الذات والسالب؛ ومن خالل كون الطاو
ال عالمة له ،فهو يشري إ ىل رابط أنطولوجي َّ
خالق مع الوجود أيضا.
بأن الوجود متخ هلل بالعدم،
حمقا بشكل جزئي حني يقول َّ
أن هايدغر كان ًّ
نرى َّ
وهكذا ى
عل حقيقته الوجود َّية .لكن -ومن زاوية طاوية -فال ّتلو عبارة ويتط َّلبه ح َّت ىى ُيافظ ى
أي يشء َّإال الـ إ َّما -أو يف أو
يرى يف العدم َّ هايدغر من اإلشكال نتيجة رفض هايدغر ْ
ألن ى
احلضور اإلنساين مع الوجود (الـ دازاين)َّ .
إن تقلب الوجود يف هاوية اجلالء السحيقة يشري
بشكل صحيح إ ىل انقالب بعيدا عن َّ
الالوجود ،لكن هذا التقلب الذات للوجود ،ومن
السامء واألرض .ال أعلم ما اسمه ولذلك ُأطلق عليه اسم :الطاو(.)1
وكأّنا غري
عل فتق ورتق كتلة املوجودات التي تبدو َّبالنسبة إ ىل الوتيس ،ذاك الذي يقدر ى
قابلة للخرق ليس الوجود ،بل العدم .بام َّ
أن الطاو يعكس سكون العدم الفارغ الفرداين فإ َّنه
اص ،مشكال األرض َّية األساس التي ينبثق منها وفيها الوجود.رس ال -وجوده اخل ّ
يسكن يف ه
حر َّيته تظل غري متأ هثرة رسمدا .هنا نجد سبب ا هتصال وبام أ َّنه وجودي ف ّياض يف توجهه َّ
فإن ّ
الطاو بالعدم ،إذ َّ
إن العدم فقط هو ما يمكنه لعب دور األرض َّية األصيلة للوجود ،ومن هذا
ومتفردا بالذات.
ه الوجه يظل منزَّ ها عن األصل
عرب هايدغر عن مشاعر مشاهبة حني يقول:
ُي ه
ُتش ِّكل فردان َّية الوجود أصل أحد َّيته ،وبحسب هذا ال يلقي الوجود حول ذاته َّإال
بالعدم الذي تظل جماورته أصيلة إىل أقىص درجة والذي يظل أكثر احلرس أمانة يف
محاية هذه األحد َّية(.)2
أن ذكر هايدغر ذلك عاد بعد قسمني من كتابه ليقول: بعد ْ
ُيذ ِّكرنا الوجود بـ َّ
«الال يشء» ،ولذلك فالعدم ينتمي إىل الوجود .نحن نعلم
القليل القليل حول هذا االنتامء ،ولكنَّنا نعلم إحدى نتائجه التي تبدو يف مظهرها
أن
سطح َّية بالقدر الذي تدَّ عي فيه َّأّنا سطح َّية :نحن نخشى «العدم» ونمقته ،ونعتقد َّ
بحق ليس َّإال َّ
الالشيئ َّية أن العدم ٍّ علينا دائ ًام أن ُن ِّ
كرس أنفسنا بكامل احلامسة إلدانته بام َّ
املحضة(.)3
كالالوجود إذا ما تذ َّكرنا بأ َّنه يقول أيضاَّ :
إن العدم فام الذي يعنيه هايدغر إذن بالعدم َّ
مدى
عل ىه َّية تعتمد كيف َّية إجابتنا عنه ى ُيذ هكرنا بالوجود؟ يبدو ل َّ
أن هذا سؤال يف غاية األ ّ
تقبلنا ألخذ العدم كعامل مساو للوجود يف إسهامه يف تنظرينا امليتافيزيقي وكيف تِّسي هذه
املساهة .بعبارة ُأ ى
خرى :هل ثنائ َّية العدم -الوجود ذات هاجتاه واحد أم هل هي مزدوجة
فِّس فيها القفزة؟
عل الطريقة التي ُن ه ه
االجتاه؟ وهل ُيؤ هثر هذا بدوره ى
مع أ َّننا قدَّ منا بعض اإلرشادات بالنسبة إ ىل اإلجابةَّ ،إال َّأّنا يف الواقع تبدو أكثر تعقيدا ممَّا
فأوال يقول الوتيسَّ :
إن.. قد يفرتضه املرء! َّ
الرجوع هو حركة الطاو ،والضعف هو عمل َّيته .تو َّلدت األشياء الكثرية من
الوجود ،لكن الوجود ينشأ من العدم(.)1
اخلالقة ،هو يف الوقت ذاته الوجود َّ
والالوجود، أن الطاو كإمكان َّية الكون َّ
هذا يعني َّ
بأي جزء منها
وتتآلف املوجودات من خالل إحاطته يف وحدة واحدة ،لكن الطاو ال ُيتفظ ه
لنفسه ،وبالتال يظل غري متأ هثر بتامزج املوجودات وانقسامها .فالعودة إ ىل الطاو إذن إ َّنام هي
املعنى يمكن للواحد ْ
أن يمتزج من ى استيعاب فائدة َّ
الالوجود ،وحني يتم االستيعاب هبذا
الالمتع هينة ،أو ْ
إن شئت قلت :من ضعفها. وحدة األشياء َّ
يرى َّ
بأن امليتافيزيقا الغرب َّية لطاملا أخطأت يف تفسري العدم ،معتربة إ ّياه ضدَّ لكن هايدغر ى
األدنى منه:
ى الوجود
جمرد نفي تعني املوجودات ووساطتها كام فعل هيغل ومجيع حا ِّطني إ يياه إىل َّ
كمتوجه إىل حقيقة
ِّ امليتافيزيق ِّيني من قبله[ ...ولذلك فام نحتاج إليه هو] ّتربة العدم
الوجود ،وعىل أساس هذا التوجه الوصول إىل معرفة ثابتة بحصول الوجود
اجلوهري(.)2
إن السبب الذي جعل هيغل ومن سبقه يرون َّ
بأن العدم حمدود بدور التوسط هو َّ
عل ما هو كائن وما ليس بكائن ،ما هو توجههم إ ىل التفكري بطريقة تشعب َّية ثنائ َّية تقوم ى
صحيح وما ليس بصحيح ،وهكذا دواليك .ينظر هايدغر إ ىل هذه املسلك ّيات حني ُيتج َّ
بأن
علينا ْ
أن نتق َّبل:
إمكان َّية أن يكون النفي من جوهر ح َّتى أعمق من كلمة «نعم» ،خصوص ًا َّ
وأن
ؤخذ هبا
أي نوع من القبول ،وبالسطح َّية ذاهتا الذي ُت َ
ؤخذ بَّسعة بمعنى ِّ
الـ «نعم» ُت َ
الـ «ال»(.)3
إن أكثر القفزات أصال ًة وا ِّتساع ًا هي تلك التي ي َّتخذها الفكر ،وال يعني هذا َّ
أن َّ
جوهر الوجود يمكن له أن يتحدَّ د عىل أساس الفكر (التوكيد) ،بل أل َّنه هنا ويف
معرفة احلدث يتم اخرتاق وهدة الوجود إىل املدى األبعد ويمكننا استخراج
إمكان ييات إيواء احلقيقة يف املوجودات بالشكل األكرب(.)1
معنى
ى الالتفكري ال تعني َّأال ُيف هكر اإلنسان ،بل حتمل
فإن حالة َّ
من وجهة النظر الطاويةَّ ،
أيأن ُيف هكر دون ه أن يتع َّلم التفكري دون عقل ،أو بكلامت ُأ ى
خرىْ : يعج باملفارقات وهوْ :
أن الطاو هو ما ُجي هيل احلقيقة َّ
وكل جذر بالذات واألنا .إذا ما اعتنق اإلنسان فكرة َّ
شعور مت ه
يشء حتتويه فأي حاجة تكون لدينا عندها للتفكري من حيث ّيات البرص أو السمع أو أي من
احلواس األُ ى
خرى ما دام الطاو هو الدليل املرشد؟ ُُي هذرنا كتاب التشوانغتيس مرارا وتكرارا ه
أن نتفاعل بشكل صادق حقيقي مع العامل ،وذلك َّ
ألن حواسنا إذا ما أردنا ْ
ه عل
من االعتامد ى
العامل يف مجع َّيته هو جمموع املوجودات ومقابالهتا من َّ
الالموجودات ،وبينام ينتظم الطاو
وينترش بحسب طبيعته الذات َّية (والتي ُيطلِق عليها الطاويون اسم زيران ،وهي كلمة صين َّية
تعني حرف ًّيا :هو كذلك) َّ
فإن اإلنسان من حيث هو الـ دازاين نفسه -أي احلضور الواعي
مع الوجود -هو ليس َّإال واحدا من إمكان ّيات ال حرص ِّلا يمكن هبا للطاو ْ
أن ينتقل فيها.
عني
عل يشء مت ه
إن هذا احلدث ممكن فقط بسبب ال تعني العدم ،فلو كان الطاو يعتمد ى َّ
ه
متشخص حمدَّ د فلن يكون هو مصدر ذاته ،ناهيك عن كونه احلامل حلقيقة الوجود.
لكن هايدغر يعود ليكتب:
الوجود دائ ًام يف حالة شديدة من اخلفاء وينتقل إىل ما ليس باحلسبان وهو الفريد
من نوعه عند أعىل ِ
الق َمم وأحدها والتي ُتؤ ِّلف ما حياذي جذر العدم السحيق وهو
نفسه ما ُيش ِّكل أساس العدم(.)2
باملعنى السالب متثيل ًّياَّ :
إن هدفه ى ُياول هايدغر هبذا الكالم ْ
أن يتجنَّب التوجه إ ىل العدم
فرق بني الوجود واملوجود ،وبني البداية األُو ىل للتفكري يف هو ْ
أن يتبنّ ىى العدم كحاجز ُي ه
تردُّد هايدغر:
إل وحدة أنطولوج َّية -
يدل عجز هايدغر عن محل حتليله إ ىل خطوة أبعد ،وحتويل القفزة ى
رى ّ
التخيل بالكامل عن املعايري امليتافيزيق َّية الغرب َّية؛ فهل ُت ى عل تردده يف
كوزمولوج َّية كاملة ،ى
أقوى
ى أ َّدت دراسته الفاشلة للنصوص الطاوية مثل التاو ت تشينغ والتشوانغتيس إ ىل اعتقاد
لديه بقدرة الـ دازاين التحويل َّية؟ لر َّبام كان األمر كذلك ،ولكن بالرغم من ذلك َّ
فإن
استعداده ح َّت ىى للتفكري يف العدم كام فعل يف «مساهات للفلسفة» ِّلو أمر مثري لإلعجاب.
عل ُأحاد َّية العدم التي خشيها هايدغر أشدّ
إن الوقوف عند حمور الطاو هو ما يتغ َّلب ى
متفردا حمضا ،بل نسيج الواقع بأرسه .العدم بمفهومه الطاوي
اخلشية ،فالعدم مل يعد ال شيئا ه
أقىص صورها ،وسيلة اإلمكان ّيات املصبوغة بدهشة الطاو والتي تقع يف
ى هو خالق َّية احلياة يف
ثم مل يعد كائنا ،أو هو كائن اآلن ،أو سيكون الحقاَّ .
إن شمول َّيتها هي جوهر ه
كل موجود كان ّ
اكتامِّلا ،ومن خالل هذا االكتامل يدع الطاو األشياء تكون كام يف استعدادها الطبيعي ْ
أن
إن القفزة إ ىل هاوية العدم ليست قفزة من هذه الذات إ ىل ذات ُأ ى
خرى ،بل تكون؛ وِّلذا أقولَّ :
املتجرد الذي ُيم هيز األشياء التي تتناغم مع الطاو(.)1
ه عودة باطن َّية إ ىل السكون البسيط الفارغ
وهكذا يتم جتاوز «حدث الوجود» يف اجلالء من خالل «ال حدث» الطاو؛ وهو «ال حدث»
َّ
ألن الطاو يعمل كاملحور جلميع التحوالت ويف الوقت ذاته يعمل كأساس حقيقتها يف حال
كونه دون أساس سابق له.
َّ
إن القفزة مم َّا له جذر وأساس (الوجود) إ ىل ما ال جذر له وال أساس (الطاو) إ َّنام هو
حترير للمحدود بأصله وأساسه من خالل االلتجاء إ ىل العدم الذي ال أساس له ،وهبذه
الطريقة ال يرتكنا اجلالء أبدا أل َّنه دائام مرافق لنا يف داخلنا.
األول ال يتع َّلق بتحويل مسار تاريخ التفكري َّ إذن فالبحث عن اجلالء األصيل
عل العكس :فهو يتع َّلق باستهداف الرشاكة اخلف َّية املسترتة بني العدم امليتافيزيقي ،بل ى
والطاو؛ لقد أظهرنا استعداد هايدغر لتقبل فكرة أ َّنه من املمكن لنا ْ
أن نعرف آن َّية الـ دازاين
إل العدم كان ومنذ البداية حمكوما
من خالل عالقتها مع ليس َّية الوجود ،لكن هذا التوجه ى
عليها ْ
أن تستسلم للحاجة األنان َّية إ ىل الوجود.
وكخالصة ملا سبق ،فقد قلت يف النقاش الذي سبق :إ َّننا وإذا أردنا ْ
أن نعيد التفكري يف
إن سبب كوّنا بسيطة وفارغة وساكنة هو بسبب انعدام األسامء والصفات يف ح هقها ،وهي نعوت تضفيها
(َّ )1
عليهم اإلنسان َّية ولكنَّها يف احلقيقة أجنب َّية عن حقيقتها اجلوهر َّية يف ذاهتا.
من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة ❖ 501
طبيعة الوجود فلدينا بديل بناء وقابل للحياة .من خالل استخدام ميول الطاوية
امليونطولوج َّية ر َّكزت ى
عل مثال اجلالء ومتثيل هايدغر له كمكان تنكشف فيه حقيقة الوجود.
أ َّما الطاوية فتجعل العدم كاملوئل الذي ُُي هقق فيه الطاو َّ
خالق َّيته ،ومن خالل ذلك تنسب إليه
صفات تفتقد إ ىل الوجود متاما للتأكد من َّ
أن رفعته ستظل أبعد من تطفل أيدي اإلنسان َّية؛
بالنسبة إ ىل كل من الوتيس وتشوانغتيس فليس اجلالء «زوال خفاء» (أو)Alêtheia :
الـ دازاين ،بل انكشاف َّ
أن الوجود م َّتحد دائام مع العدم يف دورة التولد وإعادة التولد
سهل انجالء
حر َّيتنا الكوزمولوج َّية التي ُت ه
والربوز والكمون .لذلك يشري اجلالء إ ىل موقع ّ
جوهر احلقيقة نفسها ،وهي حقيقة ترتبط دون ريب مع تعايش الطاو مع العدم واستخدامه
له.
* * *
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب502
:املصادر
David Chai ،Meontology in Early Xuanxue Thought, Journal of Chinese
Philosophy 37.1 (March 2010).
_________, Zhuangzi’s Meontological Temporality, Dao: A Journal of
Comparative Philosophy (forthcoming 2014).
________, Meontological Generativity: A Daoist Reading of the Thing,
Philosophy East & West 64، no. 2 (April 2014).
Graham Parkes ،Heidegger and Asian Thought (Honolulu: University of Hawaii
Press،1987).
Ma Lin ،Heidegger on East. West Dialogue: Anticipating the Event (New
York: Routledge ،2008).
Mark Wrathall، Heidegger and Unconcealment: Truth، Language، and
History ،New York: Cambridge University Press،2011.
Martin Heidegger، The Question Concerning Technology، in Basic Writings، ed.
D. Krell (New York: Harper Collins ،1993.
Martin Heidegger ،Being and Time: A Translation of Sein und Zeit،trans. Joan
Stambaugh (Albany: SUNY Press 125 - 196).
Martin Heidegger ،Bremen and Freiburg Lectures: Insight into That Which Is
and Basic Principles of Thinking، trans. Andrew J. Mitchell (Bloomington: Indiana
University Press ,2012).
Martin Heidegger ،Contributions to Philosophy (Of the Event)، trans. Richard
Rojcewicz and Daniela Vallega. Neu (Bloomington: Indiana University Press،
2012).
Martin Heidegger ،Heraclitus Seminar ،67/1966 ،trans. Charles Seibert
(Alabama: The University of Alabama Press ،1979( .
Martin Heidegger ، Time and Being ،trans. Joan Stambaugh (New York: Harper
Row،1972).
Reinhard May،Heidegger’s Hidden Sources ،trans. Graham Parkes (New York:
Routledge،1996).
Thomas Prufer ،Glosses on Heidegger’s Architectonic WordPlay :Lichtung and
503 ❖ من العدم إىل البحث عن جالء الفطرة
* * *
هل كان هايدغر صوفيًّا؟
(ال تُفهَم الكينونة كشيء بل هي ما يتسامى فوق األشياء)
()1
جيف غيلفورد
الصوفي ون من ه
كل الثقافات بجد للوصول إليه.
قبل البدء باملقارنة علينا ْ
أن نقف حلظة لتوضيح ماذا نعني بكلمة تصوف .عادة يف دائرة
الفلسفة ُتس َتعمل الكلمة كإهانة لنظام ُقده ر له ْ
أن يكون غامضا ووجدان ًّيا أكثر ممَّا ينبغي .يف
عل اسم
أي ازدراء من هذا النوع ،وبالفعل -عندما ُيصل نظام ى هذه الورقة ال أقصد َّ
عل مشاركة هذا الصوف َّية -وإذا أردنا ْ
أن نعتربه شيئا فإ َّننا نعتربه رشفا .فهذا االسم قد يدل ى
النظام يف واحد من أقدم أنظمة الفكر اإلنساين العقيل والروحي وأكثرها وقارا .ر َّبام يكون
أن ُي ْط َلق عليه ُ
لقب صويف ،لكنَّه بالتأكيد مل يكن معاديا للتسمية ،أل َّنه هايدغر نفسه قد رفض ْ
إن َّ
«كل العمق والد َّقة الفكر َّية موجود يف التصوف احلقيقي العظيم»(.)1 مرة قالَّ :
هو ذات َّ
ويبقى السؤال :ما هو التصوف؟ ال َّ
شك أ َّنه سينتج من خالل تعريف موجز ِّلذه ى
احلظ تتط َّلب حدود هذه
ه الظاهرة الغن َّية واملتعده دة الثقافات تعميم مبالغ فيه ،لكن لسوء
الورقة ْ
أن نطرق املوضوع بإجياز ،وبالتال أعرض التعريف الذي طرحته خبرية بارزة يف
سميه العامل «تصوفا» هو علم املطلقات... املوضوع أفلني أندرهل( ،)2التي تقولَّ :
إن «ما ُي ّ
احلق الواضح بذاته ،الذي ال يمكن «التفكري فيه بالعقل» ،»...الصويف هو من يتوق إ ىل علم ه
أن املطلق قد ال يمكن معرفته من خاللدرك َّول بام هو مطلق ،لكنَّه ُي ِ
معرفة من الدرجة ُاأل ى
إل
فاملتصوفة ال يرون يف التفكري العقيل -كقاعدة عا َّمة -دليال كافيا ى
ه استخدام العقل فقط.
املحري .ه
لكل ه خرى من النشاط العقيل لكي يقاربوا املطلق الروح ،ولذلك يستعملون أنواعا ُأ ى
ثقافة نصيبها من التصوف ،ورغم اختالف األسامء التي ُأطلقت ى
عل املطلق والط ُرق التي
يبقى جوهر ه
كل ثقافة متوافقا مع تعريف أندرهل .يبحث فيدنت ُيس َلك إليه من خالِّلا ،ى
يوغيس عن املوكشا (إدراك هاحتاد األمتن بالرباهن) من خالل ممارسات تأمل َّية وزهد َّية؛
وتسعى بوذ َّية الزن إ ىل الوصول إ ىل ساتوري (الوعي الكوين) من خالل تأمل صارم تزول
ى
يسعى الصوفيون إ ىل جتربة «انتقال
ى من خالله ثنائ َّية التفكري ك ّل ًّيا وإراد ًّيا من ذهن السالك؛
والتقوى ،التي
ى الروح» (جتربة مبارشة للمقدَّ س) من خالل العيش بعزلة ،ومن خالل الفقر
ويسعى القده يسون الكاثوليك إ ىل هاحتاد
ى يقصد منها (حترر) القلب من ه
كل ما هو غري اهلل»()1؛
الروح باهلل من خالل الصالة والتأمل والصوم .هذه فقط ع هينة قليلة من فروع التصوف
يسعى
ى األكثر شهرة ،ولكن يمكن َّلالئحة ْ
أن تطول بشكل غري حمدَّ د .السؤال اآلن :هل
اِّلايدغريون إ ىل خوض جتربة حقيقة الكينونة من خالل «التفكري التأميل» واالنفكاك عن عامل
األشياء ،والتاميز عن اإلنسان ،ويشاركون أيضا يف التقليد الصويف()2؟ املقارنة األكثر تفصيال
بني اِّلايدغر َّية والفكر الصويف قد جتيب عن سؤالنا.
َّأول َش َبه قوي موجود بني الطلب الصويف للمطلق والطلب اِّلايدغري للكينونة هو أ َّنه
ح َّت ىى قبل الوصول إ ىل فهم حقيقي للمتعال وجتربته ،يمكن استشعاره بطريقة َّأول َّية وجزئ َّية.
األول للمتعال هو الذي ُُي هفز البحث َّ
الالحق واحلاميس وأحيانا املدهش عن َّ
إن «التذوق» َّ
اإلدراك ّ
الكيل له .يوجد يف الرتاث الصويف ويف الفكر اِّلايدغري مستويان من هذه التجارب
األول َّية للمطلق ،أق ّلهام هي جتربة لطيفة لكن ّتترب بشكل عام ،وأعظمهام َّ
يتغري من خالِّلا َّ
فهم الشخص ّ
الكيل للعامل ،وتشتعل رغبة جاحمة ح َّت ىى لتجربة أكثر كامال.
عل فهم احلقيقة املتعالية» قدرة
سمي أفلني أندهرل يف دراستها العا َّمة للتصوف «القدرة ى
ُت ّ
كامنة يف داخل اجلنس البرشي .وتقول« :ق َّلة من الناس يمرون يف احلياة من دون معرفة
معنى التأثر بالشعور الصويف»( .)3قد يكون مشهد الشمس من ِق َمم جبال بعيدة ،أو صوت ى
سمفون َّية معانقة حبيب مفقود من فرتة طويلة ،أو مشهد فقري ه
متأمل ،سببا ِّلذا «الشعور املتعال
يشء ما».
بأّنم غافلون عن ْ
واحلواس َّ
ه الذي يتد َّفق من جزء آخر من النفس وهيمس للفهم
هذا الشعور مألوف لكثريين ،لكن ما ُيم هيز الصوف هيني عن العا َّمة هو االنسجام االستثنائي
ويبقى
ى معه .أ َّما بالنسبة للشخص العادي فيمكن ِّلذا الشعور ْ
أن يكون تثقيف ًّيا لفرتة قصرية،
تتمة حلياة قائمة يف صميم العامل الطبيعي .من جهة ُأ ى
خرى -بالنسبة يف أحسن األحوال َّ
للصويف -تكون جتربة هذا الشعور مك َّثفة جدًّ ا بحيث إ َّنه عندما ُيصل يبدأ بإعادة تنظيم
كاملة لرؤيته العاملية وإعادة توجيه ألولو ّياته ح ول احلقيقة املتعالية التي تكشفها له التجربة.
تدعو أندرهل هذه التجربة التبرص َّية صحوة ،وتقول :هذا هو تقريبا دائام الباعث للسفر
الصويف من «اجلسد املا ّدي ...إ ىل األُمور الروح َّية» .وتصفها بالطريقة التالية:
متبرص حلقيقة العامل العظيمة والبديعة -أو
عل إدراك مفاجئ ه تشتمل الصحوة عادة ى
أحيانا لوجهها اآلخر ،األُ ُسس اإلِّلي يف قلب األشياء -التي مل ُت َ
فهم من قبل .بقدر معرفتي
بمصادر اللغة ،ال يوجد كلامت يمكن ْ
أن تصف هذا اإلدراك( .)1عامل املدركات املاضية يف
أن يكون َّإال ضباب ًّيا يف أحسن األحوالَّ ،
غري الوعي إيقاعه فجأة وانبثق وجه واقعه ال يمكن ْ
آخر من وجوه الوعي ،وانقشع الضباب وكشف املعامل الواضحة للتالل اخلالدة.
عل ثالثة أوجه أساس َّية لتجربة الصحوةَّ :إّنا مفاجئة وقو َّية؛
ُيلقي هذا االقتباس الضوء ى
تم كشفه يف
قوة دفع شديدة نحو معرفة إضاف َّية بام َّ
ُتؤ ّدي إ ىل ترك العالئق الدنيو َّية؛ وتثري َّ
حمررة وتثري شعورا بالسعادة،
بأّنا ه
وصف جتربة اليقظة َّ التجربة .هيمنا ْ
أن نتذ َّكر أ َّنه بينام ُت َ
يمكن ْ
أن تكون أيضا إدراك خميفا وحمزنا .هاك مثالن ،واحد مفرح ،وواحد حمزن ،سوف
األول هو جتربة راهب غري مشهور اسمه األخ لورانس،
يساعدان يف تصوير هذه الظاهرةَّ .
تتعر ىى من أوراقها وكان يتأ َّمل يف كيف َّية
الذي أخرب أ َّنه يف شبابه ،عندما كان «ينظر إ ىل شجرة ّ
جتدد األوراق خالل فرتة قصرية ...انكشفت له عنائ َّية اهلل وقدرته التي من حينها مل ُمت َح أبدا
من نفسه»َّ ،
وأن «هذه املكاشفة فصلته بشكل كامل عن الدنيا .)191 - 10( »...الثاين هو
ما حصل مع القده يسة كاترينا اجلينوية ،التي مت َّيزت «إِّلاماهتا الداخل َّية» بـ « ...حزّنا وقلقها،
احلي للفقر املتناهي للذات» ،تصف كاترينا بذاهتا
ومتزيق األنسجة الصلبة لألنا والكشف ّ
()2
( )1قلق هايدغر هو أيضا ظاهرة حتصل خارج إطار اللغة .فهو يقول :إ َّن «القلق يسلب منّا الكالمَّ ،
ألن
سوى َّ
الاليشء مرتاكام حولنا ،ففي وجه القلق كل اشتقاقات ى يبقى
الكينونات ككل تنزلق ،بحيث ال ى
«كون» تصمت».)What is Metaphysics? 103( .
(2) I-hood
❖ 510دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
رأى التج ّليات األرض َّية للعمر واملرض واملوت ،أدرك الطبيعة
أن ىغرب هو البوذا ،الذي بعد ْ
ّى
فتخل عن حياته املرتفة كـأمريل يامرس التصوف يف غابات اِّلند. ّ
للملذات الدنيو َّية الفانية
أن تكون مفرحة أو مزعجة، أن جتربة الصحوة حتصل فجأة ،ويمكن ْ ُت هبني هذه األمثلة الثالثة َّ
امللذات املا ّد َّية والدنيو َّية وتدفع ه
باجتاه الفعل الروحي. بعد املرء عن ّ و ُت ِ
ّى
تتجل فيها الكينونة ،والتي أن هايدغر أيضا يصف مستويني للتجربة التي يمكن ْ
أن كام َّ
أن ُتع َترب شبيهة بتجارب الصحوة التي وصفتها أندرهل .يقول من التجارب العا َّمة يمكن ْ
عرف الكينونة ّ
األقل شأنا :إ َّن «الفهم العادي واملبهم للكينونة هو واقع» و ُي َّ األُ ى
خرى
بأّنا الكينونة ذات «العالقة بمسألة الكينونة ذاهتا»( .)2يقول يف مكان آخر :العناية
هناك َّ
()1
من غري توقع ،وهذا ما ُيس هبب انسحابا من الشؤون الدنيو َّية وينتج عادة خالل الرتتيبات
البعيدة األمد ألنشطة الشخص جتاه األهداف املتعالية .يقول هايدغرَّ :
إن القلق األسايس
أي حدث غري اعتيادي إليقاظه».
أي حلظة وال ُيتاج إ ىل ه «يمكن ْ
أن يستيقظ يف الوجود يف ه
خالل هذه التجربة «تصبح الكينونات بكاملها غري رضورية»« ،تنزلق» و«الـ دازاين اخلالص
هو كل ما هنالك»( .)1وخالل هذا النوع من التجربة هناك فقط الكينونة -هناك .وبالتحديد
إل فهم جديد خالل هذا احلصول املفاجئ واملقلق ،عندما تنزلق الكينونة ،يستفيق الـ دازاين ى
للمرة األُو ىل خيترب
للحقيقة وما هو كامن بني جنباهتا« .يف الليل الصايف لاليشء القلق» َّ
الـ دازاين الكينونات كام هي واقعا ،كأشياء متاميزة عن ا َّلالشيئ َّية التي شهدها ه
للتو .إضافة
جمر د كينونة ،بل هو بدل ذلك تعال كينونات وهو
إ ىل َّأّنا تكشف للـ دازاين أ َّنه بذاته ليس َّ
عرب عنه هايدغر يف كتابات الحقة« ،بروز يف فضاء هبذا «كينونة ثابتة يف َّ
الالشيئ َّية» ،أو كام ُي ه
للمرة أن ُي ِ
درك الكينونة َّ الكينونة»( ،)2وهكذا فقط من خالل القلق األسايس يمكن لإلنسان ْ
األُو ىلُ ،ي ِ
درك وقوعه يف رشك بني الكينونات املتعده دة و«نسيانه للكينونة» ،وبعدها يرشع
سميه هايدغر أن يكون واضحا َّ
أن ما ُي ّ بعالقة «أصل َّية» بالكينونة ذاهتا .من ه
كل هذا جيب ْ
«القلق األصيل» يمكن تسميته بد َّقة جتربة صحوة كام تصفها أندرهل:
َّإّنا ّتربة مفاجئة وشديدة؛ تكشف َّ
الالحقيقة النسب َّية لكينونات العامل؛ وتفتح
املرء عىل احلقيقة املتعالية ،وعاد ًة حتث املرء عىل حماولة وصل نفسه هبذه احلقيقة بشكل
كامل.
هذا ما يوصلنا إ ىل النقطة التالية من املامثلة بني اِّلايدغر َّية والفكر الصويف .يفهم يف نمطي
أن احلقيقة املتعالية التي تكشف عنها الصحوة ال يمكن بلوغها عرب وسائل التفكري التفكري َّ
يسعى هذا النوع من التفكري حلبسه يف
ى ألّنا تتجاوز َّ
كل مفهوم عقيل قد العقيل امليتافيزيقيَّ ،
«احلق»
ه الداخل .تقول أندرهل :ال جيد الصوفيون طريقتهم يف املنطق ،بل يف احلياة ،يف وجود
( )1هناك جتربة شبيهة بتجربة القده يسة كاترينا ،هي جتربة القلق اخلالص «األناو َّية» حيث يقول هايدغر:
«نحن ننزلق من ذواتنا .لكن يف القعر ليس كأ َّنام «أنت» أو «أنا» من يشعر بالقلق؛ بل هو كذلك بالنسبة
لـ «أحد» ما.)What is Metaphysics? 103( .
(2) Letter on Humanism. Ibid. P. 2480: What is Metaphysics، 105.
❖ 512دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
القابل لالكتشاف ،هو بريق كينونة حقيق َّية يف قلب السالك ،الذي ُيمكِنه يف تلك التجربة
أن يصهر نفسه ويفهم حقيقة كل وصف والتي ُي َسموّنا بـ «فعل ه
االحتاد» ْ التي تفوق َّ
يسعى إليه ...يف التصوف حيث حب احلقيقة الذي اعتربناه بداية ه
كل الفلسفة ى املوضوع الذي
يرتك الدائرة العقل َّية ويتبنّ ىى الوجه الثابت للعشق الشخيص ،حيث ُخي همن الفيلسوف
يبقى مطلق امليتافيزيقي رسام بيان ًّيا -غري
ويناقش ،وينظر الصويف ويعايش ...من هنا ،فيام ى
شخيص وبعيد املنال َّ -
فإن مطلق الصويف حمبوب ،وحقيقي يمكن الوصول إليه(.)1
ويف كالم شبيه يناشد الفالسفة نيابة عن مجيع الصوف هيني ،يقول كوفرتي بامتور(:)2
أن ُّت ِربنا عن
باحلواس ،ولغتها احلرف َّية ،التي يمكن ْ
ه دع ثقتك العميقة واملنافية للعقل
فإّنا ع َّلمتك طول قيدها
أن تبلغ الشخص َّية .فلو ع َّلمتك الفلسفة شيئا َّ
الواقع لكن ال يمكن ْ
إل األرض اخلصبة ،التي ال ريب َّأّنا بديعة ،التي تكمن وراءها .أثار
واستحالة الوصول ى
حر َّية مقاربتهم؛ فقط
عل حبل املشنقة أعلنوا للعامل ّ املثاليون واحدا تلو اآلخر َّ
أن من يتلوون ى
عل
مؤسسة ىمن أجل الرجوع أخريا إ ىل عامل األحاسيس ...تقول لك الفلسفة :إ َّّنا ليست َّ
احلواس واملفاهيم الرتاث َّية .هي بالتأكيد ناقصة ،ور َّبام كانت وها؛ يف ه
كل ه يشء أفضل من
األحوال ال تالمس أساس األشياء(.)3
أي تراث متوافقني مع االقتباسني السابقني ،وهم يعرتفون
املتصوفة من ه
ه يمكن اعتبار
بعجز التفكري املفهومي يف إيصال الفرد لال هت صال مع املطلق .يقول الكاتب الصويف
الغزال:
وعلمت أ َّن طريقتهم إ َّن ام تتم بعلم وعمل ،وكان حاصل علمهم قطع
يتوص ل هبا
َّ عقبات النفس ،والتنز ه عن أخالقها املذمومة ،وصفاهتا اخلبيثة ،حتَّ ى
إىل تلية القلب عن غري اهلل وحتليته بذكر اهلل ..وأ َّن العقل طور من
أطوار اآلدمي حيصل فيه عني يبرص هبا أنواعاً من املعقوالت ،احلواس معزولة
فالنبو ة أيضاً عبارة عن طور حيصل فيه عني هلا نور يظهر من نورها
َّ عنها،
مهتام إ ىل حد كبري بالطاوية حتَّ ىى إ َّنه يف حلظة حاول ترمجتها .)Te Ching 14جيب معرفة َّ
أن هايدغر كان ًّ
وضح التآلف الكبري بني ّتل عن املرشوع بعد ْ
أن أكمل َّأول ثامنية فصول .وهذا ما ُي ه إ ىل األملان َّية ،لكنَّه ّ ى
تفكري هايدغر يف املراحل األخرية والطاوية.
(4) Letter on Humanism. Ibid. P. 246 - 263.
❖ 514دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ويقول هايدغر يف مكان آخر عن هذا النوع من التفكري الذي يسمح بالدخول إ ىل حقيقة
الكينونة ،ذلك:
ألن هناك شيئ ًا بسيط ًا ال بدَّ من التفكري فيه ،هذا التفكري يبدو أ َّنه صعب للفكر
َّ
حتول إىل فلسفة ،لكن هذه الصعوبة ليست مسألة تساهلَّ ،إّنا نوع
التمثل الذي َّ
خاص من العمق ومن بناء املفاهيم املع َّقدة؛ بل َّإّنا مسترتة يف الرجوع الذي يدع
التفكري يدخل يف االستفهام الذي حيصل من خالل التجربة.)1(...
يف عمل آخر يصف هايدغر نوع التفكري الذي يسمح لوحده بالوصول إ ىل الكينونة،
كنوع من انتظار مسلوب اإلرادة ،أو كام يقول :نوع من «االنعتاق» ،ويقول :إ َّنه فقط من
خالل هذا النوع من التفكري يمكن للمطلق ْ
أن ُخي َترب(.)3()2
أن يكون واضحا من هذه التوصيفات القليلة َّ
أن نوع التفكري الذي يقرتح هايدغر جيب ْ
ْ
أن يكون الوسيلة التي يمكن اختبار الكينونة من خالِّلا شديدة الشبه بالطريقة الصوف َّية
التأمل َّية.
تم تأسيسه .يوجد ثالثة أوجه من التصوف هي :صحوة مفاجئة ِِ
دعنا اآلن ُنعد النظر بام َّ
عل
بأن الفكر املنطقي غري قادر ىإ ىل املتعال تتساقط فيها الكينونات الدنيو َّية ،االعرتاف َّ
عل إحداث جتربة تا َّمة للمتعال ،ووصفة نموذج النشاط الذهني َّ
الالمفهومي ،التي ُتشده د ى
التقبل َّية ،كوسيلة يمكن الوصول إ ىل املتعال من خالِّلا .يمكن اعتبار فكر هايدغر شديد
الشبه بالفكر الصويف يف النقاط الثالثة مجيعها ،فهو يتحدَّ ث عن القلق األصيل بوصفه
عل نفسه يف التعال؛ وهو يدين الفكر امليتافيزيقي
التجربة التي ينكشف الـ دازاين من خالِّلا ى
التمثيل الذي ال يقدر َّإال ى
عل التفكري بالكينونات ال بالكينونة ،وهو يقرتح انفتاحا تأمل ًّيا
أن نستنتج َّ
أن كوسيلة يمكن من خالِّلا اختبار الكينونة .من هذه التشاهبات الشديدة يمكن ْ
* * *
( )1توجد نقطة اختالف بني هايدغر والصوف هيني تستحق مزيدا من الدراسة ،هي أ َّنه يف حني ُيؤ هكد مجيع
نرى َّ
أن أحد أهداف هايدغر الرئيس َّية هو التعبري عن حقيقة الكينونة أن املطلق يفوق الوصف ،ىالصوف هيني َّ
أن هدف هايدغر خيتلف عن هدف الصوفيهني؟ ممكن ،لكنَّني أعتقد من خالل اللغة .لكن هل هذا يعني َّ
عرب عن حقيقة الكينونة، عى إلعادة بناء اللغة بحيث تستطيع ْ
أن ُت ه أن هايدغر يس ىجمرد تفكري يف واقع َّ
أ َّنه َّ
أن يقوم هبا .أ َّما يف ما يتع َّلق باللغة العاد َّية فهام متَّفقان َّ
أن الكالم هبا مهمة بسيطة مل ُيف هكر أي صويف ْ
وهذه َّ
عرب عن املطلق. بأي حال ْ
أن ُي ه ال يمكن ه
) مارتن هايدغر3( ❖ دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب518
:املصادر
Heidegger, Martin, Being and Time. Translated by John Macquarrie1960 Harper &
Row Edition.
Letter on Humanism. Translated by E.Lohner, in: Philosophy Twentieth
Century. Edited.W. Barrett and HAiken, Random House, New York, 1962.
What is Metaphysics?
Discourse on Thinking.
* * *
مارتن هايدغر أو عبور الليل
()2()1
موجهة إىل إيامنويل فاي .غايتن بيني ،بياتريس فورتني وميشال كوهني .هليميُ .ن ِرش
( )1املصدر :أسئلة َّ
للمرة األُو ىل يف السفينة الشبح ،العدد ،5الليل ،خريف العام 2005هايدغر ،الصفحات .36 - 8
َّ
مستخرج من جم َّلة االستغراب ،العدد اخلامس ،السنة الثانية1437 ،هـ ،خريف .2016
العنوان األصيل لالستطالع:
Martin Heidegger ou La Traversée De La Nuit. Question à Emmanuel Faye. Gaëtan
تكن تتع َّلق فقط بضامنة ُحت َمل ملامرسات اجتامع َّية كانت موجودة من قبل ،ولكنَّها تتع َّلق
عل
أي حماولة للمقارنة إشكال َّية .لنأخذ مثاال ىباخرتا ِع هج َّية ال اسم ِّلا .وهذا جيعل من ه
ذلك يف تعليمه الطريقة ،التي جيعل هايدغر فيها تشبيه الكهف ناز ًّيا بشكل كامل ،مرعبة،
وذلك يف دورته يف شتاء العام 1934 - 1933الذي صدرت َّ
مؤخرا بعنوان «من جوهر
احلقيقة» ،بينام ُيف هكر أفالطون بـ نسآل َّية [تَوليد (استخراج ه
احلق من النفس بتوجيه األسئلة يف
القومي -
ه منهج سقراط)] يشري هايدغر -من جهته -برصاحة إ ىل هتلر وإ ىل «رؤية العامل
االشرتاكي» .هذه الـ ِّ Weltanschauungلتلر (الرؤية اِّلتلر َّية للعامل)ُ ،يقده مها بعبارات
ه
سميه -يف الدورة نفسها « :-التحول ِ
م َّتقدة كـ «التحول الكامل» ،الذي يتزامن مع ما ُي ّ
()1
بأن هايدغر يف هذهأن ُأذكهر باإلضافة إ ىل ذلك َّ الكبري يف وجود( )2اإلنسان»( .)3هل ينبغي ع َّيل ْ
للعدو الكامن يف جذور الشعب؟ هذا االعتذار
ه الدورة نفسها يوص بـ «التدمري الكامل»
اِّلايدغري لرؤية العامل معاديا للسام َّية ،وعنرص ًّيا وإباد ًّيا ،والذي تزامن بالنسبة إليه مع
أي فلسفة أو ح َّت ىى بشكل خاص إذا كان قد استخدم
عل خالف مع ه
«جوهر احلقيقة» ،يضعه ى
هبذه املناسبة -ولكن بطريقة منحرفة -مفردات اللغة الفلسف َّية كـ «جوهر» و«حقيقة».
غ .ب :أنت ُتؤ هيد القياس َّية الناز َّية ،وهذا ما يقودنا إ ىل التساؤل الكثري والعميق حول
مىض ،ولكن يف الوقت
أي وقت ى مسألة التفرد هذه .ومن املؤ َّكد أ َّنه َّ
تم جتاوز احلدود أكثر من ه
ثم
القوة التي ظهرت من قبل ّ
االجتاهات وأشكال َّ نفسه كان هناك أيضا نسخة ُمفرطة من ه
عادت الحقا يف أشكال هي من دون شك ّ
أقل كثافة ولكنَّها مع ذلك مرعبة.
األول :هناك استمرار َّية يف التزام بعض الفالسفة يف
ولكنَّني أعود إ ىل قض َّية سؤال َّ
أشكال السلطة ،وبني أكثرها عنفا .من خالل التخلص من هايدغر ،نتخ َّلص من مشكلة
الفلسفة ومن أجل الفلسفة ،هي مشكلة عالقته بالسلطة.
(1) Gesamtwandel
(2) Dasein
( )3هايدغر[ ،Sein und Wahrheit ،الكينونة واحلقيقة][ Gesamtausgabe ،األعامل الكاملة] ،GA 36/37
ص 119و.225
مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ 523
عالقات الفيلسوف واألمري -كام هي عليه ،بام يف ذلك األسوأ ومن َث َّم تتع َّقد -ك َّلام كان
خاصة بالفالسفة ،مشكلة استخدام الصالح ّيات التي َّ هنالك مشكلة حقيق َّيةَّ .إّنا مشكلة
بعد هذه املشكلة. ُتعطيها ِّلم الفلسف ُة .ومن خالل إنكار «فلسفية» هايدغر ُن ِ
َّ
الحظت -منذ صدور الكتاب َّ -
أن إعادة النظر باملكانة الفلسف َّية لكتاب هايدغر ُ إ.ف:
لدى البعض ر َّدات فعل قو َّية بشكل خاص .كان جيب توقع ذلك مع القداسة التي
أثارت ى
أن هذه االستنتاجات هومجت أحيانا إن ما أفهمه قليال ،هو َّ
أحاطت باسم هايدغر يف فرنساَّ .
عل ما يبدو اخلمسامئة صفحة تقريبا من الرباهني التي سبقتها ِ
من ق َبل أشخاص مل يقرأوا ى
ه
وبكل صدق ،مناقشة وري أيضا،
أس ست ِّلا .إذا أرادوا نقد استنتاجات ،من الرض ه والتي َّ
بالتحديد النصوص املقتبسة من هايدغر والتحليالت النقد َّية التي اقرتحتها.
لدي بالنسبة إ ىل اجلوهر ،أنا أفهم َّ
أن استنتاجات تثري النقاش ،وهذا هدفها الرئييس .ليس َّ
للبت يف املكانة املعرتف هبا لكتاب هايدغر يف جمتمعاتنا ويف تعليمنا.
أي سلطة ه
يف الواقع َّ
عل دعوة من الزمالء املع هلمني يف املدرسة الثانو َّية،
عندما حتدَّ ثت يف جامعة السوربون بناء ى
احلر َّية الرتبو َّية ل ُ
ألساتذة .كل ما يمكنني فعله هو أخذ النتائج الفكر َّية قلت كم كنت أحرتم ّ
فعلت -إلجراء مناقشة موضوع َّية .بمقدار ما يأخذ املؤ هلف
ُ ألبحاثي والتوجه -كام
مسؤول َّية مواقف حمدَّ دة ومربهنة يمكن للمساحة العا َّمة للنقاش ْ
أن تنفتح.
فإن استنتاجات احلرجة ،حيث ُأش هك ُك يف املكانة الفلسف َّية املمنوحة فضال عن ذلكَّ ،
ِ ِ
سم ىى «األعاملكل معناها َّإال بالنسبة إ ىل الواقع احلا هل للمؤ َّلف املـُ ّ
لكتاب هايدغر ،ال تأخذ َّ
رش منه اليوم 66جم َّلدا من أصل 102حديث. ِ
الكاملة» أو ،Gesamtausgabeالذي ُن َ
نرش بعنوان إن هايدغر نفسه هو الذي أراد ْ
أن ُت َ نحن نواجه بالفعل واقعا حترير ًّيا وحيداَّ ،
نصوص مثل العرشين
ٌ « Être et tempsالكينونة والزمن» نفسه ويف املجموعة نفسها،
رشت يف ه ِ
ظل الرايخ الثالث من العام 1933إ ىل العام ،1944والتي جم َّلدا للدروس التي ُن َ
الفلسفي،
ه نجد فيها أقواال ناز َّي ة بنسبة ملحوظة .هذه حالة فريدة من نوعها يف تاريخ النرش
ِ
إن كارل سميث مل ُيربمج إعادة نرش مقاالته ومؤ َّلفاته الناز َّية التي تعود ى
إل األعوام من ح َّت ىى َّ
التحريري وهذه حقيقة ،ولكن منذ
ه 1933إ ىل .1944قد أكون َّأو َل َمن َقلِ َق من هذا الوضع
❖ 524دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
أن نتذ َّكرها :تقديس الشخص َّية -مماثلة لتلك التي تتع َّلق بستالني - نقطة ُأ ى
خرى تستحق ْ
لدى البعض باسم هايدغر .وصل هذا التقديس يف فرنسا إ ىل درجة غري طبيع َّية.
التي حتيط ى
لذلك فقد عدَّ الكثريون لألسف النقدَ الواعي واملربهن ِّلايدغر غري ممكن تصوره ،يف حني
مؤخراُ ،أف هكر ى
عل تطور خارج فرنسا منذ سنوات .كي ال نذكر فقط ال ُك ُتب التي صدرت َّ إ َّنه َّ
سبيل املثال بأعامل غريغوري فرايد ويوهانس فريتش عن «الكينونة والزمن» و«االشرتاك َّية
االجتامعي» ِّلايدغر حيث
ه القوم َّية» ،أو راينهارد ليند عن «التفكري الشمو هل» و«التوحد
أردت -من
ُ االنتقادات لبعض وجهات النظر أكثر قسوة من تلك التي يف كتاب .وهكذا
قطع سلسلة اإلكبار هذه التي منعت يف أكثر األحيان َّ
كل خالل حتليالت واستنتاجات َ -
نقاش نقدي يف فرنسا.
كانت الـ [ Gesamtausgabeاألعامل الكاملة] قد ُأ ِعدَّ ت بغية دعم تقرير ليس فكر ًّيا
مربهن ونقدي ،ولكنَّه -نستخدم هنا كلمة ُُيِبها جونغر -طقويس أو ٌ وال فلسف ًّيا ،أي
املنسقة من ِق َبل هايدغر
«شعائري» بالنسبة إ ىل هايدغر وكتابه .هذه العالقة من التبجيلَّ ،
أن نتجاوزها اليوم. ومن أكثر تالميذه راديكال َّية ،هي التي جيب علينا ْ
عل العكس
نتحرر» من هايدغر ،ولكن ى عيل َّأال أدعو -كام تقول أنت -إ ىل ْ
«أن َّ أينبغي َّ
املؤر ُخ الذي ينرش تارخيا نقد ًّيا للرايخ الثالث
معمقة أكثر؟ ال ُيالم ه
إ ىل القيام بأبحاث نقد َّية َّ
عل نقده القايس
فيلسوف -مبدئ ًّيا -ى
ٌ بغية «التحرر» من هتلر .ملاذا -منذ ذلك احلني ُ -يالم
البعض -وحلسن
ُ وى املشاكل التي يطرحها علينا بالتحديد؟
عل مست ى
ِّلايدغر ،الذي هو ى
لست كذلك -ذهبوا إ ىل درجة ْ
أن يعزوا إ َّل ن َّية تنظيم إعدامات باحلرق! هذه َ ه
احلظ
عل العكس
نزيل كتابات هايدغر .أنا ىأن َ أي مكان ْاال هدعاءات غري مقبولة .أنا مل أطلب يف ه
أدعو اجلمهور إ ىل قراءة ما هو من ح هقهم وقد أخفيناه عنهم دائام ،أدعوهم ملعرفة
الربوتوكوالت التي أعاد قراءهتا بنفسه ،يف ندوته عن الرتب َّية السياس َّية اِّلتلر َّية يف شتاء العام
.1934 - 1933
الفلسفي
ه ولكن أنتقل إ ىل املسألة األساس َّية التي طرحتَها ،مسألة العالقات بني الفكر
أن هذه املسألة هي مركز َّية بالنسبة لبعض الفلسفات كفلسفة هيغل، والسلطات .أعتقد َّ
❖ 526دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) Selbsbehauptung
مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ 527
أن ُنثبِت اخلطأ فيها أو الصواب .ولكن َث َّمة فرض ّيات رفض مكانته كفلسوف ،كان جيب ْ
أن تكون فيها خلف َّية فلسف َّية ومجال َّية .هل ُتنكِر إمكان َّية احلوار مع هايدغر؟
هايدغر َّية يمكن ْ
أل َّنه موجود عمل ًّياَ .ث َّمة هايدغريون ِّلم معه عالقة ليست فقط ثقاف َّية ولكن نقد َّية أيضا.
ح َّت ىى إ َّنه ميول قوي! ُأفك ُهر بـ فيليب الكو البارت -ى
عل سبيل املثال -يف كتابه «هايدغر
وسياسة الشعر».
إ َّنه ُين هظم فيه حوارا نقد ًّيا مع هايدغر حول قراءة هولدرلني ،ويف حمارضته «جيب» ،يذهب
إ ىل حده الكالم عن سخافة بعض القراءات السياس َّية للغاية ِّلايدغرَّ .إال َّ
أن ذلك مل يمنعه من
لدى
عل ذلك ،وبالتالزم ،ح َّت ىى لو كان ى
عل الرغم من ذلك فيلسوفا عظيام؟ عالوة ى اعتباره ى
الفلسفي
َّ أن احلوارهايدغر صفحات وح َّت ىى ُك ُتب ال يمكن عدها فلسف َّيةَ ،أال يمكن تصور َّ
لدى
مؤرخي الناز َّية) مع ما هو ال فلسفي ى
عل هعل الفالسفة ،وال فقط ى
ب ىمتوج ٌ
ه (والذي هو
هايدغر ،مل يكن ليحصل َّإال َّ
ألن مساره ينادينا؟ وهكذا كتب ليفيناس مقاال عن الفلسفة
اِّلتلر َّية ،وحتدَّ ث أفالطون و ُأرسطو مع السفسطائ هيني أو عنهم يف حني َّأّنم ُيم هثلون كام يبدو
نقيض الفلسفة.
َ
قلت حرجا بالنسبة إليه ويستمر باالنتشار.
اِّلايدغري؟ إ َّنه كام ُ
ه إذا ماذا تفعل باإلرث
إ .ف :أنت تذكر خلف َّية هايدغر يف اجلامل َّية والشعرَ .ث َّمة يشء مرعب هنا ،هو التعمية
الفني»،
ه مؤمتره يف نوفمرب 1935حول «أصل العمل
ُ أن تزول اليوم .لقد ُقده ر كثريا
التي جيب ْ
الشعب إقامتَه
ُ ؤسس فيه من دون النظر إ ىل املعبد املذكور ،الذي عدَّ ه هايدغر كمركز ُي ه
اليوناين .يف املدينة اليونان َّية -يف
ه التارخيي للمعبد
ه املعنى
ى التارخي َّية ،بأ َّنه ال يتوافق أبدا مع
يتجمعون يف األغورا [ساحة عا َّمة كانت املجالس السياس َّية تنعقد فيها]
َّ الواقع -كان الناس
وليس يف املعبد .يف احلقيقة بعد شهرين من مؤمتر نورمربغ حيث ُسنَّت أسوأ القوانني العرق َّية
معنى هذا
ى النازي يف نورمربغ.
ه عل املعبد للرايخ الثالث ،ذلك وقبل ه
كل يشء اعتمد هايدغر ى
املرضة
َّ املؤمتر سيايس وليس مجال ًّيا ،واملقارنة اليوم ممكنة بني النسخ الثالث للمؤمتر ،بتطوراهتا
املقاصة التي
َّ للمقاصة -هذه
َّ األملاين الذي ُنؤ هيده بالكامل .أ َّما بالنسبة
ه عل مصري الشعب
ى
بأّنا يف البداية إشار ٌة نحو معبد النور يف نورمربغ،
ُيش هيد هبا هايدغر كثريا -باإلمكان التفكري َّ
❖ 528دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
وج ُه إ ىل السامء أعمد َة أضواء ترسم -يف الليل حيث كان ّ 150
كشافا ضوئ ًّيا من الـ ُ DCAي ه
يتجمع «الشعب» ُمصغني إ ىل الفوهرر .جيب أيضا احلديث - َّ -حدو َد املساحة حيث
الشعري
ه مسودة رسالة إ ىل هايدغر -عن هذا الضعف َّ بحسب كلمة لـ بول سيالن يف
َ
احلديث عن السطح َّية املطلقة لــ والفلسفي املسؤول عنه هايدغر بشكل كبري .لن ُأ َ
طيل ه
ِ
استصالح سيالن الذي ُجي هر ُبه ُ
مراسل حنَّة أرندت .أنا مستاء من «القصائد» التي تركها لنا
عل صعيد آخر الطريقة التي يمزج فيها مع هل ٌق كـ
بعض اِّلايدغر هيني الراديكال هيني .ى
اليو َم ُ
مكسانسكارون شعرا َء فرنس هيني مثل ماالرمي وكلوديل وسوبرفيل يف إعادة صياغته ِّلايدغر
حمري ،حيث مل ُُي هلل ح َّت ىى ومل يذكر الدروس والكتابات السياس َّية ِّلايدغر التي ُتش هكل
بشكل ه
مدونة من عدَّ ة آالف من الصفحات املنترشة تقريبا يف الكتاب ك هله .هذا املوقف ليس
اليوم َّ
املؤسسة اجلامع َّية الفرنس َّية ،الذين
َّ لدى أكثر من هايدغري واحد من
منفردا ،إ َّنه موجود ى
ع َّلموا خالل عقود هايدغر كام ُع هلم ُأرسطو أو كانط من دون مواجهة األبعاد السياس َّية
الناز َّية لكتابه .لكنَّ نا نعرف اليوم الكثري من ذلك ،عن طريق نرش «األعامل الكاملة» ،كي ال
ُيعاد النظر يف هذا املوقف.
يبقى بالفعل من الفلسفة بالعودة إ ىل الفلسفة ،أنا يف احلقيقة أكثر تشددا مم َّا يبدو لك .ماذا ى
ِ
عل الذات لشعب أو لعرق ،يامثل لدى مؤ هلف يفهم السؤال« :ما هو اإلنسان؟» ،بالتأكيد ى ى
الوجو َد بالوطن ويزعم أ َّنه يستخلص من الوجود نفسه «مبدأ العرق َّية»؟ أ َّما بالنسبة للمسألة
الشهرية «مسألة الوجود» ،ح َّت ىى لو حاولنا جتريدها من ناز َّية هايدغر -وهذا ما يبدو ل
الفلسفي التال :كيف يمكن يف
ه مستحيال لألسباب التي ذكرهتا -سوف نصطدم بالتناقض
الوقت نفسه حتويل الفعل (كان) إ ىل موصوف ،كام فعل هايدغر عند حديثه لنا دائام عن
«الكينونة» ،والزعم بالتحرر بشكل كامل من فئة ُأرسطو َّية «املا َّدة»؟ ْ
إن مل نعد نريد املا َّدة ،ال
يمكن بعد ذلك الكالم عن «الكينونة» .يف احلقيقة ،االستخدام اِّلايدغري لـ «االختالف
عل األنتولوجي [املختص بعلم الوجود]» للوجود واملوجود سمح له بترص ِ
يف -كام َّ
دل ى ه ه
ِ
وبأرس أكرب عدد من ذلك ج هيدا كارل لويت يف العام - 1946اجلذر َّية األكرب واألكثر إهباما،
احلقيقي ْ
بأن ُيؤ هكد بخشونة أمام ه أن ُيني الوقت الذي تسمح له فيه فعل َّي ُة التاريخ
العقول إ ىل ْ
مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ 529
بأن حالة الفوهرر هي الوجود نفسه الذي جيب ع ىل املوجود الذي هو الشعب ْ
أن مستمعيه َّ
إل
أن يصل تعليم هايدغر -يف ندوته يف العام - 1934 - 1933ى ُيل َبس ُح َّبه منذ اآلنْ .
عل َّ
أن ذلك مل ي ُعد من الفلسفة. عل العقول ،فهذا يدل ى
درجة اخلداع واالستيالء ى
مهمة رضور َّيةَّ .
إن كلمة «نقد» الفلسفي ملجموعة أعامل هايدغر هو اليوم َّ
َّ َّ
إن النقد
تعرف فيه ياسربز نفسه لدى هايدغر - ،الذي َّ مالئمة أكثر من كلمة «حوار»َّ ،
ألن عامل الفكر ى
حرة للحوار.
الديكتاتوري -ليس هو عامل َم ْن يفتحون مساحة َّ
ه عل صفة
ى
خرى ،أنت أرشت إ ىل عنوان مقالة لـ إمانويل ليفيناس حول «الفلسفة ُ
من ناحية أ ى
باملعنى الدقيق
ى الشعبي وليس
ه باملعنى
ى اِّليتلر َّية» ،لكن من الواضح أ َّنه يستخدم هنا العبارة
لـ «رؤية العامل»ِّ .لذا مل جيعل ليفيناس من هيتلر فيلسوفا .إذا ال يمكن االحتجاج هبذا
العنوان لوصف هيتلر َّية هايدغر بالفلسف َّية.
عل التمييز بني مسألة ُأ ُسس
تلقي هايدغر .أنا أحرص ى أثرهتا عن ّ
تبقى املسألة التي َ
ى
معمقة أكثر الكتاب -الذي هو موضوع كتاب -ومسألة تل هقيه التي تتط َّلب أبحاثا ُأ ى
خرىَّ ،
ونقد َّية أكثر من تلك التي -فضال عن كوّنا مفيدة -سبق ْ
أن قام هبا دومنيك جانيكود من
طرح اليوم السؤال التال :إذا كان كتاب هايدغر ناز ًّيا هبذا الطبيعي ْ
أن ُي َ ه أجل فرنسا .من
أن هذا العدد الكبري من ال ُكتّاب ،وليس أق ّلهم
تفسري َّ
ُ القدر الذي ُي ِ
ظهره كتاب ،فكيف يمكن
نفسه. َ
السؤال َ عل نفيس
مل يقعوا حتت تأثريها؟ من هذه الناحية أنا مثلك أطرح ى
عل اسرتاتيج َّيات التلميح ِّلايدغر
أعتقد أ َّنني قد أجبت جزئ ًّيا من خالل تسليط الضوء ى
والتقديس غري املعتاد كثريا الذي ُييط باسمه ،ولكن أ ًّيا كانت اإلجابات -هي ّتتلف
عل كتاب .لقد كل مؤ هلف -وأنا ال أعتقد َّ
أن هذا السؤال يمكن اعتباره اعرتاضا ى بالنسبة إ ىل ه
رتجم عل نصوص ظهرت َّ
مؤخرا ومل ُت َ اعتمدت خالِّلا ى
ُ معمقة،
احتجت إ ىل أبحاث َّ
بالفرنس َّية ،وتقريبا مل يأخذها أحدٌ باحلسبان ،من دون الكالم أيضا عن الندوات غري املطبوعة
التي مت َّكنت من الوصول إليها .إذا نحن حال ًّيا يف وضع مستجد ،إدراك مستحدَ ث للكتاب
أن يستخلص االستنتاجات .ولكن الكل واحد ْ عل ه
الفلسفي .ى
ه وحالة جديدة من النقد
يمكن االحتجاج ضدَّ كتاب من التل ّقي السابق للكتاب ،ما عدا الرغبة بنفي وجود وسبب ْ
أن
والتارخيي ،والبلبالت التي ُيملها.
ه الفلسفي
ه يكون من البحث
❖ 530دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
بأن بريمو ليفي يذكرها كـ انتصار اجلنون القاتل للمخ َّيامت .يبدو من الرضور هي التذكري َّ
اخلرقة ،بحسب ما قالته آن -ليز سرتن ،هذا إن س َّلة نفايات املخيامتِ ، اِّلنديسَّ . اجلنون
َّ ه
معنى َّ
أن ى البرشي كان له يف البداية
ه التقلص غري املسبوق لإلنسان إ ىل إنسان آخر ضمن النوع
ملِّسحي ِّلا.
ّ ُت َكون اللغة قد ُأعيد السيناريو ا
ِ
هذه اللغة كانت بالتأكيد اجلبهة التي ُع م َل ت َّ
أو ال ِّلو َّي ة الشخص ،ولكنَّ ها أيضا
التارخيي والناطقة عن الكائنات البرش َّي ة .كذلك ليس
ه اإلنساين
ه َ
للعامل اإلنساين
ه للمشهد
عام استوحته الفلسفة من الناز َّي ة املسؤولة عن السالالت اجلزَّ ارة كثريا السؤال َّ
(ليجاندر) وعن عار اجلريمة غري املسبوقة ،بأ َّن ما يشري يف اللغة إ ىل العامل يشري إ ىل
ت الذي يستند إ ىل مواكبة لغة ،وبالتال إ ىل مواكبة
الوجود املحايد بدال من الوجود الذا ه
عل هزيمة الفكرة اإلنسانيَّ ة لإلنسان .ما هي إذا الدالالت الكبرية التي
مشهد يقوم ى
ظروف -كام قال فرويد -إخراج ليس
َ تظهر يف الفلسفة اِّلايدغر َّي ة وتبدو لك تنافس
احللم ،ولكن هذا اجلنون املن َّظ م هندسيًّا؟
باألحرى أيضا حياد األنتولوجيا التي
ى لنُر هكز قليال ى
عل مشكلة احلياد والتحييد .احلياد ،أو
يمكن استخالصها من «[ »es gibt ein Daseinهذا يكون ،الوجود]die Welt« ،
َ
[العامل] ،إلخ ،يساهم يف تقلص اإلنسان إ ىل يشء موجود .التحييد من خالل هذا احلياد الذي
ت وتارخيي لألشخاص ،وهذا أيضا يطبع حرف ًّيا اللغة يف املخ َّيامت ،مساها بذلك بتدمري هو َّيا ّ
املفرغة من إشارهتا إ ىل احلالة النفس َّية وإ ىل اجلسد ِ
نوع من الرعب العجيب الذي ُيمسك اللغة َّ
اإلنساين .هناك جسد البطل ،ولكن هناك أيضا نظريه ،اجلسد األسري .هذه اللغة التي ال نزال ه
البرشي وبشكل عام أكثر كره للنفس َّية بعنوان فرد َّيتها
ه عل كره للظرف
ورثتها الفكر هيني تدل ى
بمستوى املطالبة
ى الشخص َّية[ »Ein geistig Toter« .امل هيت روح ًّيا] ،يقول هوش« :مل ي ُعد
الشخيص؟» (السامح بتدمري احلياة ال يستحق احلياة )1920 ،هل حتمل
ه بحق احلياة
داخل ًّيا ه
لغ ُة هايدغر بصامهتا؟ وفقا أل َّية أنامط؟
تطورت األُ ُطر الدالل َّية يف لغة فلسفة هايدغر،
عل نمط «احلياد هيني» ،الذي من خالله َّ
ى
يضاف بعدُ تنكر اللغة ،الذي أصبح كام نعرف أحد لوازم الواقعية احلديثة املُعدَّ ة إلجازةِ
َّ ُْ ُ
❖ 534دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
معجم «اللغة
ُ اإلبادة اجلامع َّية .سمة االنحراف هذه املُشار إليها يف اللغة الناز َّية ،جعل منها
صدى ( )Süskind، Storz ،Strenbergernدار أولستاين للنرش .)1989
ى الإلنسان َّية»
تشري هذه النقطة إ ىل استبدال الكلامت خلدمة الواقع َّية اجلديدة التي أصبحت مشهدا لقتل
«مزيت آليا» يقول كريتيش ،حيث األمثلة املعروفة أكثر هي «االستحامم»ِ ،
«اخل َرق» أو ًّ ُ َّ
املوتى :هل تعتقد أ َّننا نجد فيه مبدأ «إعادة دالل َّية» مماثلة يف كتابات هايدغر؟ إذا كان
ى «وجوه»
يتكون هذا املبدأ وما هي جماالت الواقع التي يالمسها؟ فمام َّ األمر كذلكَّ ،
عرب عن القلق ِ
تتسجل يف منطق لغة «إعادة الدالل َّية» من ق َبل النتز َّية و ُت ه
َّ إذا هي ثالثة أسئلة
الفلسفي ،املسألة تتع َّلق
ه عل هايدغر وطريقة تفكريه جمرد تأثري واضح للناز َّية ى
نفسه ،إ َّنه ليس َّ
األسايس للتفكري وأيضا بتأثري الدالالت التي ن َّظمت تدمري َّ
قوة تظن نفسها شخص ًّيا ه باجلذر
خارج هذه احلاشية من اللغة التي أورثتنا منذ ذلك احلني شكال من أشكال الفكر ،وبالتال
شكال للغة َس َم َح بام ال يمكن تصوره.
سوى اقرتاح
ى إيامنويل فايَّ :
إن أسئلتك تفتح جماال لر هد فعل مهم ال يمكنني جتاهه حال ًّيا
بضعة ميادين .مع هايدغر ليس هنالك فقط حتيد َّية ،ولكن هنالك تدمري شامل للوجود
التعليمي يف جامعة فريبورغَّ :
إن ه ت .هو نفسه يقول يف رسالة بتاريخ 1933إ ىل اجلسم
الذا ه
«الفرد ،حيث يقف ،ال قيمة له»َّ .إال َّ
أن هذه التحيد َّية للنفس َّية وهذا اإللغاء لإلنسان الذي
وصفتَه ج هيدا ،أراد هايدغر تسجيله يف لغة الفلسفة .كان اإللغاء التدرجيي لكلمة «اإلنسان»
بد َلت بكلمة الـ )1(Menschكلمة ( Daseinالوجود). منذ «الكينونة والزمن» .لقد اس ُت ِ
يسعى إ ىل فرض
ى من خالل هذا اللفظ ،Daseinكل ما هو أكثر استخداما يف اللغة األملان َّية
-يف الصفحة 74من «الكينونة والزمن» خالل ثالثينات القرن العرشين -مفهوم الـ Sein
سوى يف مجاعة من شعب م َّتحد يف مصريه ى أن ُيدث [له]« ،الوجود» ،الذي ال يمكن ْ
و«مهمته [العرق َّية]» .يف ندوة له يف العام 1934 - 1933وهي غري منشورة ،مل َّ التارخيي
ه
متأصلة ،كام بالنسبة إ ىل ه
كل الناز هيني ،يف وحدة الدم والعرق، ف هايدغر َّ
أن هذه الوحدة ُخي ِ
ه
ِ
بـفوهررهم. ويف العالقة احل َّية للشعب
يفرض ْ
أن نتجاوز ُ املسألة تتع َّلق بالنضال لتأكيد الذات( )1يف وجه اِّليمنة العامل َّية .هذا
شبه واقع َّي ِة «فلسفة الوجود»
إن ما كان يقوله غوترأندارس عن ِ زمن الـ أنا إ ىل زمن الـ نحنَّ .
ف يف «الكينونة والزمن» ال يعرف اجلوع. إن الوجود الذي ُو ِص َ
يالمس الصوابَّ :
ُ ِّلايدغر،
احلب أيضا .كل ما بقي له من اخلصوص َّية هو املوت،
َّ كام أشار ماسكولو ،هو ال يعرف
«األرقى واألصعب» ،إ َّنه موت
ى بالنسبة إ ىل الش َّبان األملان املنضوين حتت الناز َّية ،هو املوت
التضحية[ Opfer ،الضح َّية] ،الذي لطاملا أشا َد به هتلر يف كتابه Mein Kampf
إل هايدغر يف مناسبة تأبني الناز هيني لـ ألربت ليو شالغرت الذي مات
[كفاحي] ،وبالنسبة ى
شهيدا؛ بالنسبة إ ىل األعداء الذين ينبغي طردهم من بني الشعب ،هي اإلبادة الشاملة التي
كان هايدغر يدعو ِّلا علنا يف دورته يف شتاء العام .1934 - 1933
عل النفس البرش َّية .يف
يوجد يف كتاب هايدغر حلظات كثرية يف اسرتاتيج َّيته للقضاء ى
عل امتالك حقيقي للنفس البرش َّية من خالل ندوة غري منشورة ُ ،1934 - 1933يض ى
حل َك ِم ا ُ
حل هر ،ولكنَّهام «احلر َّية» و«القرار» مل تعودا تعنيان استخدام ا َ
ّ القيادة اِّلتلر َّية .مفردتا
لـفوهررهم .وهكذا دارت كل مفردات الفلسفة إ ىل نقيضها .يف ِ تعنيان والء للشعب التا هم
قوة
عل اإلفراط يف َّ
دورات عن نيتشه ،حتت اسم «امليتافيزيقا» كان تعريف شمول َّية املوجود ى
تم حتديده .أ َّما بالنسبة إ ىل كلمة «الذات َّية» ،فهي ال تعني الـ أنا ،ولكنَّها تعني
الوجود هو ما َّ
عل الذات للمجتمع وللشعب وللعرق الذي َّ
تواله هايدغر متاما يف دروسه حول التأكيد ى
نيتشه كام يمكن ْ
أن نقرأها اليوم يف [ Gesamtausgabeاألعامل الكاملة] -من دون
األقىص للذات َّية
ى يرى َّ
أن اإلنجاز املتعمد يف طبعة العام ،- 1961لدرجة َّ
أن هايدغر ى َّ التزييف
تبقى النصوص التي ال ُحت َتمل أكثر من غريها هي ندوات برام يف
يكمن يف اختيار العرق َّية! ى
َ
الزراعة اآلل َّية وغُ َرف الغاز ،وطرح -بالنسبة عل املخ َّطط نفسه
العام ،1949وضع هايدغر ى
إ ىل ضحايا خم َّيامت اإلبادة -نقاش إمكان َّية املوت نفسها .املسألة ال تتع َّلق -كام حتاول
أن جتعله مقبوال -باستنكار الظروف الوحش َّية إلعدامهم ،ولكنَّها التفسريات التعديل َّية ْ
«ُيِب جوهر أن فقط الذين يمكنهم املوت هم ُأولئك الذين جوهرهم ُ تتع َّلق بالتأكيد ى
عل َّ
(1) Selbstbehauptung
❖ 536دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
َّ
وجتذر يف ما منأى من الوجود» .تواصل التمييز املوت» ،والذين من خالل اجلوهر هم «يف ى
اإلنساين
ه النهائي» .هذا ما ُتطلِقون عليه الكر َه للظرف
ه ه
«احلل هو أبعد من تطبيق تارخيي لـ
طلقت
ُ يسكن هايدغر ح َّت ىى ما بعد العام .1945تبلغ إراد ُة اإلبادة ذروهتا يف ما ُأ
ُ استمر
َّ الذي
عليه اإلنكار َّية األنطولوج َّية.
ميشال كوهني -حليمي :عندما نتساءل -كام تفعلون -عن مسؤول َّية هايدغر املف هكر،
بالتحري عنها يف Sein ه أي عن تسوية خمزية بني الفلسفة اِّلايدغر َّية والناز َّية والتي ُب ِد َئ
[ und Zeitالكينونة والزمن] ،1927نواج ُه الكثري من األسئلة .بالتأكيد املسألة ال تتع َّلق
وفق حركة جيل
حتركت َ
أن الناز َّية َّ أبدا بتربئة ه
كل فكرة قبل العام ،1933وال باعتبار َّ
عفوي ...ولكن ر َّبام جيب حتديد ما تقصدونه من «املبادئ اِّلتلر َّية» ،عند وجود مثل هذه
املبادئ يف أساس [ Sein und Zeitالكينونة والزمن] .كان هابرماس قد حدَّ د « َم ْذ َه َب َة
إل ما أبعد من ذلك ،أفضل، ِ
اِّلايدغري بالعودة إ ىل العام ،1929وأنتم ُترجعوّنا ى
ّ الفكر»
أنتم ال تدافعون عن فرض َّية «ا َمل ْذهبة» هذه ولكن عن تلك الراديكال َّية احلرف َّية للترشيب
املبدئي .إذا ينبغي رشح شيئن ورشحهام بطريقة متالزمة :كيف مت َّكن فالسفة حذرين جدًّ ا
ه
مثل ك .لويت وإ .ليفيناس من االستمرار بتربئة الـ [ Sein und Zeitالكينونة والزمن]،
ح َّت ىى بعد صياغة أصعب التشخيصات عن الفيلسوف امللتزم بالناز َّية؟
مواقف إيامنويل ليفيناس وكارل لويت خمتلفة جدًّ ا .يبدو من التناقض
ُ إيامنويل فاي:
االستناد إل ليفيناس لصالح هايدغر .بالطبع ليفيناس مل ُخي ِ
ف أبدا أ َّنه كان يكن نوعا من ى
نرى ما الذي أعجبه يف هذا الكتاب. اإلعجاب بـ «الكينونة والزمن» .ولكن جيب ْ
أن ى
كتاب ثقيل وغري ش ّفاف ،ذو طريقة إعداد سكوالستيك َّية [مدرسان َّية] ُتذك ُهر
ٌ الكينونة والزمن
الالهوت َّية الدرسان َّية يف فريبورغ ،كام أ َّن
غالبا بأبحاث كارم بريغ الذي تابع هايدغر دروسه َّ
كرسها
تبقى الدراسة التي َّ
أن يكون بطيئا وصعبا .ى استيعاب مثل هذا الكتاب ال يمكن َّإال ْ
اهتم باألوصاف األُو ىل للتحليل
َّ ليفيناس يف العام 1932عند عتبة هذا املؤ َّلف .لقد
املركزي للتارخيان َّية ،مع تصور مصري أصيل ُأعيدَ ى
إل ه الوجودي ،ولكن مل يقل شيئا عن القسم
ه
مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ 537
ّى
تتجل الدنيو َّية( )1ج هيدا يف اِّلايدغري للتجذر والرتبة،
ه جمتمع الشعب (ص )74والسحر
التجميع الفقر َة األخرية حول التارخي َّية (ص
ُ جتميع اقتباسات كونت يورك حيث ُيشك ُهل هذا
وسعه ليفيناس احتجاجا إثن ًّيا
والالمتناهي الذي َّ .)77فضال عن ذلك ُيشك ُهل ُ
فكر اآلخر َّ
ضدَّ أولو َّية األنتولوجيا.
ِ عندما فهم ليفيناس ما ُيم هث ُله هايدغر واقع ًّيا ،أ َّلف بضع صفحات هي
أقسى ما ُكت َ
ب عنه. ى
إل ما قاله يف العام ،1957يف الفلسفة والفكرة َّ
والالمتناهي هايدغر موجود كـ «نتيجة انظر ى
لتقليد طويل من األنَفة والبطولة واِّليمنة والقسوة» .إ َّنه «يدعم نظا َم سلطة أكثر الإنسان َّية
من املكننة» ،و«العبادة اإلقطاع َّية حيث الناس عبيد لألسياد واألعيان الذين يأمروّنم» ،التي
تستند إليها -بحسب قول ليفيناس -القوم َّية االشرتاك َّيةَّ .إّنا « ُأمومة األرض التي ُحتده د
«الديكتاتور َّية السياس َّية» و«احلرب» .يف األساس هذا التشخيص النقدي بعيدٌ عن تربئة
«الكينونة والزمن»َّ ،
ألن العقيدة اِّلايدغر َّية للتأصيل هي بالفعل يف هذا الكتاب.
كرسها ليفيناس لـ «هايدغر وللهايدغر هيني» يف «هايدغر ،غاغارين ونحن» والصفحات التي َّ
أظهر رشت يف س هتينات القرن العرشين حول هايدغر: ِ
َ هي من بني األكثر وضوحا التي ُن َ
مؤ هلفها «قسوة» «انقسام البرش َّية إ ىل ُسكّان أصل هيني وأجانب» ،التي ُتؤ ّدي إليها ُأسطورة
األقسى أيضا ،ر َّبام أل َّنه كان
ى النقدي هو
ه موقف كارل لويت
ُ هايدغر عن الطبيعة والكينونة.
يعرف تاريخ هايدغر الطويل وقد تو َّغل ج هيدا يف عقيدة الكينونة والزمن .لويت ال ُي ه
ربئ هذا
عل غرار ما أ َّكده يف مقالته
نصه يف العام ( 1940حيات يف أملانيا )...ى
الكتاب أبداُ .يؤكهدُ يف ه
لدى
عل فلسفة الوجود ى التي صدرت يف «العصور احلديثة» عن «اآلثار السياس َّية املرت هتبة ى
طور يف الكينونة والزمن هو الذي دفع التارخيي املُ َّ
ه عل َّ
أن تصور الوجود هايدغر» ( ،)1946ى
هايدغر لاللتزام باحلركة اِّلتلر َّية .من جهة ُأ ى
خرى ،هذا ما أ َّكده هايدغر نفسه يف روما يف
عل سؤال لويت .استنتج هذا األخري نتيجة منطق َّية عندما أعلن -متاما
العام ،1936يف الر هد ى
الفعيل لصالح قرار
ه بالنسبة إ ىل الكينونة والزمن َّ -
أن «تطبيق املامرسة السياس َّية ،يف االلتزام
(1) Bodenständigkeit
❖ 538دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ربئ أو يدين يف احلقيقة النظر َّية الفلسف َّية التي كانت بمنزلة األساس له» (اآلثار
حمدَّ دُ ،ي ه
عي إدانة الكينونة والزمن التي السياس ّية ،ص .)344باختصار ُيقده ُر لويت َّ
أن من الرش ه
السيايس ِّلايدغر يف الناز َّية .يبدو ل
ه عل ضوء االلتزام
ظهرت يف العام ،1933وذلك ى
لدى لويت الفتا ،أكان حتديدا يف مراسالته مع هايدغر يف العام 1920ويف
وضوح النقد ى
ُ
تشخيصه عن الراديكال َّية وسلطة القرار ملؤ هلف الكينونة والزمن الذي أنا جز ٌء منه (انظروا
خرىُ ،أشري إ ىل َّ
أن َفهم الكينونة والزمن إ ىل بداية القسم ،1ص .)21 - 19من جهة ُأ ى
يفرتض سياقا مل ُي ِعده أحد يف فرنسا ،ويمر من خالل دراسة الروابط بني هايدغر وبركر
عل سبيل املثال ينبغي التذكري َّ
بأن قالب «الكينونة والزمن» هو تقرير بقي وكالب وروثاكر .ى
غري منشور ،للمراسالت بني دلتاي( )1والكونت يورك التي ُن ِرشت يف العام 1923يف
مقررا ملج َّلة جمموعة يديرها أريك روثاكر .كان التقرير باإلضافة إ ىل ذلك من ناحية ُأ ى
خرى ه
أصدرها روثاكر حديثا .كان هايدغر قد أخذ تصوره من التارخيان َّية والتجذر يف الواقع
(الدنيو َّية) التي ال خيفي يورك مفهومها املعادي للسام َّية .يف هذا الصدد ُتش هكل املحارضات
نونَت «الرصاع احلال من أجل رؤية للعامل» التارخيي ،عالمة التي ُألقيت يف العام 1925و ُع ِ
فارقة رئيس َّية .صدرت هذه املحارضات َّ
مؤخرا برتمجة ج هيدة لـ جان كلودجينز .لألسف مل
تظهر قض َّيتها أبدا يف التعريف الذي قدَّ مه النارش ،مل ُي ِقل يش ٌء عن فكر الكونت يورك وال
عل الغالف،
إن عنوان املحارضات مل ُي ْس َت َعدْ ى عن العالقات بني هايدغر وروثاكر .ح َّت ىى َّ
نرش نرش مراسالت هوسلر -دلتاي يف املج َّلد نفسه ،القضايا احلقيق َّية .كان جيب ْ
أن ُت َ وأخفى ُ
ى
يتم حتليلها يف الوقت نفسه.
أن َّ عل ّ
األقل ْ مراسالت دلتاي -يورك ،أو ى
ربطت يف كتاب دراس َة املحارضات بـ دراسة الكينونة والزمن .أنا مل أنطلق من
ُ وهكذا
الكتاب كنوع من املَعامل الفلسف َّية املنفصلة ،ولكن
َ يت ْ
أن ال يعدَّ القارئ هذا العام ،1927متنَّ ُ
كمرحلة يف تأكيد «تارخي َّية» الوجود ،الذي سيدفع هبايدغر لاللتزام علنا بتأييد هتلر يف العام
سوى يف
ى احلقيقي ال ُيصل
َّ الالحقةُ .يؤكهد يف الكينونة والزمن َّ
أن الوجود 1933والسنوات َّ
(1) Delthey
مارتن هايدغر أو عبور الليل ❖ 539
وحدة مصري شعب اختار أبطا َله .يكون ذلك قريبا جدًّ ا من مفاهيم وحدة املصري ووحدة
ِ ِ
عل
ب و ُنرش هبدف احلصول ى الشعب اللتني ها أساس الناز َّية .يف هذا الكتاب الذي ُكت َ
ولكن ما قاله كان
َّ كريس؟ هورسل يف فريورغ ،مل يتم َّكن هايدغر من ْ
أن يقول فيه املزيد،
كاف ًّيا.
أنا ال أعتقد أ َّنه كان هنالك نقطة حتول يف العام .1929هي ُأسطورة ابتدعها من بوغلر
ولألسف ر َّددها هابرماس ،من دون تدعيمها بالتحليل الدقيق .بالتأكيد انفتح هايدغر أكثر
عل املفاهيم األساس َّية للميتافيزيقا (بام يف ذلك الصفحة 38
يف دورة العام 1930 - 1929ى
السيايس» جلمهور َّية فايامر) ،ويف نقاش دافوس مع كاسرييه .يف
ه الشهرية حيث ندَّ د بـ «التيه
إل
األسايس برأيه ،تدل رسال ُته يف 2ت /1أكتوبر ى َّ استمر بإخفاء ما ُيشكهل
َّ الوقت نفسه
عل َّ
أن معاداته للسام َّية الراديكال َّية ،ونضاله ضدَّ ما ال يرت َّدد بتسميته املستشار شوارير ى
املعنى الواسع» ،يبقيان
ى «باملعنى الض هيق كام يف
ى «التهويد املتزايد» للحياة الروح َّية األملان َّية،
عل سبيليترصف هايدغر كأعضاء بعض «الدوائر العرق َّية»ُ ،أف هكر ى َّ رتين إ ىل حد كبري.
مست َ
املثال بـ «[ »Bund des Artamanenرابطة أرتامانن] التي يمدحها جونغر -ومنها
انطلق هيملر وداريه -والتي ُّتفي عداء للسام َّية القاتلة ،حتت ستار منح لقب الترشيف من
خالل العمل والعودة إ ىل األرض.
مهام كان عليه األمر ،اليوم ونحن نمتلك دروس العرق َّية للعام ،1934 - 1933مل يعد
عل
إل تالميذه .نراه ى
بإمكاننا جتاهل التفسري الذي قدَّ مه هايدغر نفسه لـ «الكينونة والزمن» ى
اِّلم -التعبري املركزي أكثر يف «الكينونة والزمن» -كـ
سبيل املثال ُيقده م يف العام َّ 1934
«رشط اإلمكان َّية كي يتم َّكن اإلنسان ْ
أن يكون ذاتا سياس َّية» ([ GAاألعامل الكاملة]
،)218 ،37/36كل هذا يف درس حتدَّ ث فيه عن «هيمنة االحتامالت األساس َّية جلوهر
األملاين األصيل» (م .ن ،ص ُ .)89يؤ هكد هايدغر يف ذلك التاريخ -بعد سنة ى
عل ه العرق
عل «أ َّننا أنفسنا» ،أي الشعب األملاين
وصول احلركة القوم َّية االشرتاك َّية إ ىل السلطة -ى
نتمسك «بعزيمة أكرب أيضا» مم َّا كانت عليه يف السابق،
املنضوي حتت الـ فوهرر َّية اِّلتلر َّيةَّ ،
«تم التعبري عنها يف كتاب الكينونة والزمن».
بأصل الفلسفة اليونان َّية! هذه العزيمة كام حدَّ دها َّ
❖ 540دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
للفن وللعلوم
الفلسفي ِّ
ِّ حيدث هذا يف احلضن نفسه ِّ
لكل هذا العرف َ أمكن أن
َ إن
بأن العرف والروح مل يصبحا قادرين عىل مالمسة الناس
التنوير َّية ،فهذا ال يعني فقط َّ
وتغيريهم.
ت .كل ثقافة َت َلت
املنمقة باالكتفاء الذا ه
يف هذه املقاطع نفسها يكمن الكذب يف املطالبة ه
سوى كومة
ى أوشفيتز [معسكر أوشفيتز لالعتقال واإلبادة] ،بام يف ذلك نقدها الِّسيع ،ليس
جرى من دون مقاومة يف أثناء عبورها ،أصبحت
ى من القاممة .من خالل ترميم نفسها بعد ما
هذه اإليديولوج َّية قو َّية بشكل كامل منذ ْ
أن سمحت لنفسها -يف أثناء معارضتها للوجود
إن َم ْن ُيرافعاجلسديَّ .
ه املادي -بإعطائه الضوء الذي حرمه منه انفصال الروح والعمل
ه
يتحول إ ىل متعاون ،يف حني أ َّن َم ْن يمتنع
َّ عل ثقافة مذنبة بشكل جذري ومتهالكة
للحفاظ ى
عن الثقافة يساهم فورا باِّلمج َّية التي َّ
تتكشف الثقافة عنها .ح َّت ىى الصمت ال خيرج عن هذه
سوى بتأصيل عجزه ى الدائرة .إ َّنه ال يقوم -من خالل استغالله حلالة احلقيقة املوضوع َّية -
[مستوى] الكذب» ،أدورنو ُيس هلمنا معضلة
ى مرة ُأ ى
خرى هذه احلقيقة إ ىل الشخيص ،مق هلصا َّ
ه
امللحة للخروج منها .كيف ُحتده د حتليل كتابك بالنسبة إ ىل هذه اللفتة
َّ يائسة مع احلاجة
األدورنو َّية املزدوجة؟
عل العكس .أدورنو ّ
للتخيل عن عمل نقد الفكر ،بل ى النص دعوة
أ .ف :أنا ال أعد هذا َّ
السلبي -انغمس يف النقده نفسه -يف «مصطلحات األصالة» كام هو احلال يف الديالكتيك
ِ
ب عن هايدغر .بعد قولنا هذا ال يمكننا عبور الناز َّية من األكثر حسام واألكثر تبرصا الذي ُكت َ
عرب عنه أدورنو .ولكنهني ال أعتقد أ َّنه الالحمدود .يبدو َّ
أن هذا هو ما ُي ه دون معرفة اليأس َّ
اِّلايدغري ْ
وأن ه ينبغي علينا مع ذلك -كام كانت احلال مثال مع دريدا -الوقوع يف ه
الفخ
ُن َح هم ُل الفلسفة نفسها ،أو «امليتافيزيقا الغرب َّية» كام َّ
فِّسها هايدغر مسؤول َّي َة االنحرافات
واحلس
ه عل عكس انحراف الفلسفة وتدمري الفكر االستبداد َّية يف القرن العرشينَّ .إّنا تنشأ ى
عل وجه التحديد هو ُأنموذج هايدغر. يبقى ُأنموذجه األكثر تطرفا ىاإلنساين الذي ى
ه
* * *
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر
(وحده اهلل بإمكانه أنْ مينحنا النجاة)
()2()1
عل
عل أعاملك الفلسف َّية من خالل اإلضاءة ى دير شبيغلُ :أستاذ هايدغر ،الحظنا مرارا تعتيام ى
وضحها ،إ َّما أل َّنك كنت
بعض األحداث من حياتك التي مع َّأّنا مل تدم طويال ،فإ َّنك مل ُت ه
شديد الغرور ،أو أل َّنك مل جتد فيها ما يستحق التعليق.
هايدغر :تعني عام 1933؟
نتوجه من هناك لطرح
ثم َّ دير شبيغل :نعم قبل وبعد ،نريد ْ
أن نضعها يف سياق أوسعّ ،
عل
مهمة بالنسبة لنا ،مثل :ما هي إمكانات الفلسفة يف التأثري ى
بعض األسئلة التي تبدو َّ
الواقع ،بام يف ذلك الواقع السيايس؟ وهل احتامل التأثري ما زال موجودا أصال؟ وإذا كان
فمم يتش َّكل؟
األمر كذلكَّ ،
مهمة .هل بمقدوري اإلجابة عنها ك هلها؟ لكن دعني أبدأ بالقول:
هايدغر :هذه أسئلة َّ
أتول رئاسة اجلامعة .يف شتاء - 1932 بأي حال ناشطا سياس ًّيا قبل ْ
أن ّ ى ّإين مل أكن ه
1933كنت يف إجازة وقضيت معظم وقتي يف مكتبي.
دير شبيغل :إذا كيف رصت رئيسا جلامعة فرايبورغ()3؟
ب جاري فون مولندورف( ،)4وهو ُأستاذ ِ
األول من عام ،1932ان ُتخ َ
هايدغر :يف كانون َّ
( )1املصدر :جم َّلة االستغراب ،العدد اخلامس ،السنة الثانية1437 ،هـ ،خريف ،2016ص .448 - 422
Der Spiegel, 31 mai 1976, Nur noch ein Gott kann uns retten, pp. 193 - 219 link:
https://www.spiegel.de/spiegel/print/d-41238349.html.
عيل العسييل ،مراجعة د .جاد مقديس.
( )2ترمجةّ :
(3) Freiburg
( )4كان رئيسا جلامعة فرايبورغ يف السنة األكاديم َّية .Wilhelm von Möllendorff.34.1933
❖ 544دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
يف الترشيح ،رئيسا للجامعة .وكام جتري العادة يف جامعة فرايبورغ ،رئيس اجلامعة يتس َّلم
منصبه يف اخلامس عرش من نيسان .خالل الفصل الدرايس الشتوي سنة 1933 - 1932
إل
الطالب ،التي كانت إ ىل حد ما تدعو ى حتدَّ ثنا مرارا عن وضع اجلامعة ،وعن أوضاع ّ
فإن اإلمكان َّية الوحيدة الباقية هي ْ
أن عل األشياء َّ
اليأس .كان رأيي :بقدر ما أستطيع احلكم ى
نحاول إقامة توازن بني التطورات املقبلة وبني القدرات البنّاءة التي ما زالت حيو َّية.
دير شبيغل :إذا أنت من أشار إ ىل َّ
أن هناك عالقة بني وضع اجلامعة األملان َّية والوضع
السيايس يف أملانيا عموما؟
جمرى الوقائع السياس َّية ،بني كانون الثاين (يناير) وشباط
ى هايدغر :بالتأكيد لقد تت َّبعت
(فرباير) ،1933وأحيانا كنت أحتدَّ ث عنها مع زمالء شباب أيضا .لكن يف الوقت الذي
عل تفسري مك َّث ف للتفكري ما بعد السقراطي ،ومع بداية الفصل الدرايس
كنت أعمل فيه ى
تول األُستاذ فون مولندورف منصب
إل فرايبورغ .يف هذا الوقت بالذات ّ ى الصيفي عدت ى
أقل من ُأسبوعني بقليل مت َّت إقالته منرئيس اجلامعة يف اخلامس عرش من نيسان .وبعد ّ
منصبه بأمر من وزير الثقافة يف بادن( )1حينها ويكر( .)2أ َّما سبب اإلقالة فيعود إ ىل َّ
أن
عرف باإلشعار املتع هلق باليهود يف اجلامعة( ،)3وهذا سبب كان
مولندروف منع نرش إعالن ما ُي َ
ينتظره الوزير ه
الّتاذ القرار.
دير شبيغل :كان فون مولندورف اشرتاك ًّيا ديمقراط ًّيا .ماذا فعل بعد رصفه من اخلدمة؟
هايدغر :جاءين يف يوم رصفه وقال« :هايدغر ،اآلن عليك ْ
أن ّ ى
تتول إدارة اجلامعة» .قلت:
ّإين ال أملك خربة يف اإلدارة .لكن املدير السابق يف ذلك احلني سوور ح َّثني أيضا ى
عل ()4
الرتشح النتخابات رئيس اجلامعة؛ بسبب خطورة اإلتيان بمو َّظف عادي مديرا للجامعة.
إ ىل ذلك َّ
فإن الزمالء الشباب -الذين ناقشت معهم مسائل بنية اجلامعة لعدَّ ة سنوات -
عيل بالطلبات من أجل ّ
تول اإلدارة .لقد تأ َّنيت لوقت طويل. أحلوا َّ
(1) Baden
(2) Waker
(3) »See note 1 to Hermann Heidegger’s« Preface.
(4) Sauer
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 545
ويف النهاية أعلن ت بنفيس القبول باملنصب ،لكن فقط من أجل مصلحة اجلامعة ،وفقط
إذا ضمنت املوافقة التا َّمة والكاملة .لكن الشكوك حول قدرات اإلدار َّية بقيت .ويف صباح
يوم االنتخاب ذهبت إ ىل مكتب املدير وقلت لزمالئي فون مولندورف (الذي ُأقيل من
منصب املدير كان حارضا) واملدير األسبق سوور :إ َّنني لن استطيع ّ
تول املنصب .أجاب
الزميالن :إ َّن التحضريات لالنتخابات قد ُأنجزت بطريقة ال تسمح ل بسحب ترشيحي.
تطورت عالقتك مع االشرتاك هيني
دير شبيغل :بعد ذلك أعلنت جاهز َّيتك .إذا ،كيف َّ
القوميني؟
الطالب مع اثنني آخرين يف املكتب هايدغر :يف اليوم التال لتعييني ،جاءين مدير شؤون ّ
الذي َّاّتذته مركزا لإلدارة ،وطلبوا ثانية تعليق اإلشعار املتع هلق باليهود .رفضت .خرج
التالميذ الثالثة مع مالحظة َّأّنم سوف ُيعلِمون قيادة ّ
الطالب القوم َّية بالرفض .بعد أ ّيام
قليلة تل َّقيت ا هتصاال هاتف ًّيا من مكتب الت عليم العال يف القيادة العليا يف اجليش النازي من
قائد املجموعة الناز َّية الدكتور بومان( .)1وأمر بنرش اإلشعار املشار إليه الذي ُن ِرش يف
أن أتو َّقع أ َّنني س ُأقال من منصبي أو ح َّت ىى إغالق
عيل ْ اجلامعات األُ ى
خرى ،فرفضت ،وكان َّ
عل مساعدة من وزير الثقافة يف بادن ِّلذا الرفض .رشح
اجلامعة .رفضت وحاولت احلصول ى
ل أ َّن ه ال يستطيع فعل يشء يعارض احلزب النازي .مع ذلك مل أتنازل عن رفيض.
دير شبيغل :هذا مل يكن معروفا هبذا الشكل من قبل.
وسميت الدافع األسايس الذي جعلني ُأ هقرر ّ
تول اإلدارة يف املحارضة َّ هايدغر :سبق
االفتتاح َّية «ما هي امليتافيزيقا؟» التي ألقيتها يف فرايبورغ عام « :1929جماالت العلوم
تتباعد ،والطرائق التي تعالج فيها موضوعاهتا خمتلفة أساسا .وهذه التعدد َّية املترشذمة
للحقول العلم َّية جتتمع اليوم من خالل املن َّظمة التقن َّية للجامعات وك ّل ّياهتا فقط ،وتكتسب
املعنى فقط بسبب األغراض العمل َّية املوضوعة لألقسام .لكن جذور العلوم يف
ى بعض
أساسها اجلوهري مل تعد موجودة»( .)2ما حاولت فعله خالل فرتة ّ
تول اإلدارة بالنسبة
(1) Baumann
(2) What Is Metaphysics? trans. by David Farrell Krell،Basic Writings،ed. by David Farrell
Krell (New York: Harper & Row،1977) p. 96.
❖ 546دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ألوضاع اجلامعة (التي ما زالت يف حالة متدهورة ح َّت ىى اآلن) مرشوح يف خطاب ّ
تول
اإلدارة.
دير شبيغل :نحاول اكتشاف كيف وإذا كانت هذه اجلملة التي أطلقتها عام
1929تتناسب مع ما قلته يف خطاب تو ّل يك املنصب كمدير سنة . 1933سنأخذ
«حر َّي ة أكاديميَّ ة» سوف تُ ف َق د من اجلامعة
ّ أسمى
ى مجلة واحدة من سياقها هنا« :إ َّن
احلر َّي ة ليست أصيلة فهي كانت سلبيَّ ة فحسب» ( .)1أعتقد أ نَّ ه ّ األملانيَّ ة؛ أل َّن هذه
ّ ِ
األقل -عن بعض اآلراء التي ليست غريبة عل
عرب -ىُي مك ننا الظن أ َّن هذه اجلملة تُ ه
عنك حتَّ ىى راهنا .
«احلر َّية األكاديم َّية» كانت بأساسها سلب َّية
ّ عل موقفيَّ ،
ألن هذه هايدغر :نعم ما زلت ى
بالكامل ،التحرر من جمهود االنخراط يف التفكري والتأمل الذي حتتاجه الدراسة العلم َّية.
وضع يف سياقها .عندها ي َّتضح ما اجلملة التي انتقيتها باملصادفة ال جيوز عزِّلا ،بل جيب ْ
أن ُت َ
«احلر َّية السلب َّية».
ّ أردت ْ
أن تفهمه بـ
دير شبيغل :ج هيد ،هذا مفهوم .لكنَّنا نعتقد أ َّننا سمعنا ِّلجة جديدة يف خطاب تنصيبك
عندما تك َّلمت ،بعد أربعة أشهر من تسمية هتلر مستشارا ألملانيا ،حول «عظمة وجمد هذه
االنطالقة اجلديدة»(.)2
هايدغر :نعم كنت مقتنعا بذلك أيضا.
دير شبيغل :هل يمكنك رشح األمر قليال؟
هايدغر :بِّسور .يف الوقت الذي مل َأر فيه خيارا آخر .ويف اإلرباك العا هم يف اآلراء وامليول
وخاصة اشرتاك َّية،
َّ السياس َّية الثنني وثالثني حزبا ،كان من الرضوري إجياد وجهة نظر وطن َّية
(2) Die Selbstbehauptung der deutschen Universität،p . 19 ;The Self. Assertion of the
(1) Friedrich Naumann (1860 - 1919) was a minister and a political and social theorist who
called for social reform as well as for German economic and political imperialism. After
his own party failed،he joined the Freisinnige Vereinigung in 1903،which merged with the
Progressive People’s Party in 1910. He was elected to the Reichstag in 1907 ،and in 1919
he was one of the founders of the German Democratic Party.
(2) Eduard Spranger.
(3) The essay appeared in the magazine Die Erziehung،edited by A. Fischer،W. Flitner،Th.
Litt،H .Nohl،and Ed. Spranger .März 1933 ,Die Erziehung.
❖ 548دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
(1) führer
(2) This is a quote from an article Heidegger published in the Freiburger Studentenzeitung on
3 November 1933. Reprinted in Guido Schneeberger ،Nachlese zu Heidegger (Bern:
1962): 135 - 136. An English translation byWilliam S. Lewis،may be found under the title
, ew German Critique 45 (Fall 1988): 101 - 102. This translation is
German Students N
،however،mine.
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 549
ن َّظمها ّ
طالب شباب أو شباب هتلر.
هايدغر :أنا منعت حرق ال ُك ُتب الذي كان خم َّططا أمام مدخل اجلامعة الرئييس.
دير شبيغل :اهتمت أيضا أ َّنك أزلت ال ُك ُتب التي أ َّلفها هيود من مكتبة اجلامعة أو من قسم
الفلسفة يف اجلامعة.
هايدغر :بوصفي مديرا للقسم كنت مسؤوال عن مكتبته فقط .مل أجتاوب مع مطالب
❖ 550دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
متكررة إلزالة ال ُك ُتب التي أ َّلفها هيود .يمكن ملشارك سابق يف ندوات ْ
أن يشهد اليوم أ َّنه ليس ه
هورسل،
وخاصة ّ
َّ تتم إزلة الكتب التي أ َّلفها اليهود فحسب ،بل إ َّن كتابات هؤالء املؤ هلفني
مل ّ
كانت ُتق َتبس وتناقش متاما كام كان عام .1933
دير شبيغل :سوف نأخذ مالحظة عن ذلك .ولكن كيف ترشح صدور هذا النوع من
الشائعات؟ هل هو نوع من اخلبث؟
يبقى أعمق.
هايدغر :مم َّا أعلمه من املصدر ،أميل لالعتقاد بذلك .لكن الدافع للتشهري ى
فإن اِّلجائني ي ِ
بدعون عندما ُ تول لإلدارة حافزا وليس السبب املحدَّ د لذلك .وعليه َّ ّ
ر َّبام كان ه ّ
يكون َث َّمة حافز.
دير شبيغل :كان لديك تالميذ هيود بعد عام .1933عالقتك مع بعضهم -ر َّبام ليس
مجيعهم -كان من املفرتض ْ
أن تكون محيمة .ح َّت ىى بعد 1933؟
وأذكى تالميذي هيلني
ى إحدى أقدم
ى عل حاله بعد عام .1933 هايدغر :موقفي بقي ى
فايس( )1التي سافرت يف ما بعد إ ىل سكوتالندا ،نالت شهادة الدكتوراة من جامعة بازل (بعد
عل ُأطروحة َّ
مهمة جدًّ ا عن «السبب َّية والصدفة أن مل يعد بمقدورها نيلها من ك ّل َّية فرايبورغ) ى
ْ
يف فلسفة ُأرسطو»ُ ،طبِ َعت يف بازل عام .1942يف ّناية املقدّ مة تكتب املؤ هلفة« :املحاولة
األول منه هنا ،صار ممكنا بفضل تأويالت الفلسفة
لتأويل فينومنولوجي ،الذي ُنقده م اجلزء َّ
اليونان َّية غري املنشورة ملارتن هايدغر».
واملرسلة من املؤ هلفة عام .1948لقد زرت
َ ترى النسخة املخطوطة املهداة ل
هنا ى
مرات عدَّ ة يف بازل قبل وفاهتا.
الدكتورة فايس ّ
دير شبيغل :كنت صديقا لياسربز( )2فرتة طويلة ،لكن العالقة بدأت بالتوتر بعد عام
بأن هذا التوتر كان مرتبطا بحقيقة َّ
أن زوجة ياسربز كانت هيود َّية. .1933انترشت إشاعة َّ
عل هذا؟
هل تريد التعليق ى
هايدغر :ما تذكره هنا كذب .فأنا وياسربز صديقان منذ .1919زرته وزوجته خالل
الفصل الدرايس الصيفي لعام ،1933عندما ألقيت حمارضة يف هيدلربغ .وأرسل ل ياسربز
كل مؤ َّلفاته بني 1934و ،1938وكتب عليها« :مع حت ّيات َّ
احلارة» .ويمكنك رؤيتها هنا. َّ
«حارة» لو
َّ احلارة» .حسنا ،التح ّيات ر َّبام ال تكون
َّ دير شبيغل :مكتوب هنا« :مع حت ّيات
هورسل ،سلفك السابق كان َث َّمة توتر يف العالقة .سؤال آخر شبيه :كنت تلميذا لـ إدموند ّ
()1
(1) The book Heidegger shows his interviewers is Vernunft und Existenz. Heidegger also
presents Jaspers ’book Descartes und die Philosophic، which has a dedication from
Jaspers to Heidegger written in 1937.
(2) Heinrich Muhsam.
❖ 552دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
طلبت إقالة -اليهود هيني -مدير العيادة الط ّب َّية ،الربوفسور ثاّناوزر( ،)1وفون هفزي(،)2
عل ْ
أن ُأستاذ الكيمياء الفيزيائ َّية والفائز املستقبيل بجائزة نوبل .وخالل رئاستي كنت قادرا ى
ُأبقي هذين الرجلني من خالل اللقاء مع الوزير .وفكرة ّأين استبقيتهام ويف الوقت نفسه قمت
اخلاص ،بالطريقة التي ُأشيعت ،مناف ّ هورسل ،األُستاذ املتقاعد و ُأستاذي
ّ بعمل ضدَّ
ثم ّإين منعت تظاهرة ضدَّ الربوفسور ثاّنوزر كان التالميذ واملحارضون قد خ َّططوا
للعقلّ .
إلجرائها أمام عيادته .جاء يف النعوة التي نرشهتا عائلة ثاّنوزر يف اجلريدة املح ّل َّية« :لغاية
1943كان املدير املو َّقر للعيادة الط ّب َّية يف جامعة فرايبورغ» .وكتبت جريدة فرايبورغر اونيفر
ستاتبالتر يف شباط 1966عن الربوفسور فون هفزي( :)3خالل السنوات ،1934 - 1926
كان فون هفزي رئيسا ملعهد الكيمياء -الفيزياء يف جامعة فرايبورغ برايسغو( .»)4بعد
استقالتي من رئاسة اجلامعة ،مت َّت إقالة املديرين من منصبيهام .يف الوقت نفسه ،كان هناك
ثم اعتقدوا يف حينه َّ
أن حمارضون يعملون من دون مقابل مال ،وقد تركوا مراكزهم لفرتةّ ،
وقت التحرك قد حان .ولـ َّام جاؤوا للحديث معي رفضت مطلبهم.
هورسل عام .1938ما سبب ذلك؟ دير شبيغل :مل تشارك يف مأتم ّ
هبورسل ال هايدغر :دعني َأ ُق ْل التال حول املوضوع :ه
االهتام الذي س َّبب إّناء عالقتي ّ
عربنا فيها عن
هورسل يف أيار َّ 1933
أساس له .كتبت زوجتي رسالة باسمينا إ ىل الس هيدة ّ
هورسل «إقرارنا الثابت بفضله» ،وأرسلنا مع الرسالة باقة ورد إ ىل منزِّلم .ر َّدت الس هيدة ّ
بإجياز عرب رسالة شكر رسم َّية ،وكتبت َّ
أن العالقات بني عائلتينا قد انتهت .كان فشال إنسان ًّيا
هورسل وبعد مىض عن إعجاب وعرفاين باجلميل خالل مرض ّ ى حيث إ َّنني مل ُأ ه
عرب يف ما
هورسل.
وفاته .اعتذرت عن ذلك يف ما بعد يف رسالة للس هيدة ّ
هورسل عام .1938وكنت قد استقلت من رئاسة اجلامعة يف شباط
دير شبيغل :مات ّ
.1934كيف حصل ذلك؟
أن أجتاوز أتوسع قليال يف هذه النقطة .كان قصدي يف ذلك الوقت ْ َّ هايدغر :سوف
أن ُأجده د الك ّل ّيات من الداخل ،من جهة مها همها العلم َّية .مع
بمعنى ْ
ى التنظيم التقني للجامعة؛
وبخاصة الزمالء املم َّيزين يف حقول
َّ هذا املقصد يف البال ،اقرتحت تعيني الزمالء الشباب
عملهم عمداء للك ّل ّيات يف الفصل الدرايس الشتوي ،1934 - 1933بمعزل عن موقعهم
يف احلزب .وهكذا صار الربوفسور إرك وولف عميدا لك ّل َّية احلقوق ،والربوفسور سويرغل
عميدا لك ّل َّية العلوم الطبيع َّية ،والربوفسور فون مولندورف -الذي كان قد ُأقيل من منصبه
الطب .لكن يف فرتة امليالد من عام 1933كان قد
ه كرئيس للجامعة يف الربيع -عميدا لك ّل َّية
ا َّتضح ل أ َّن ني لن أستطيع حتقيق رغبتي يف جتديد اجلامعة مقابل اعرتاضات الزمالء واحلزب.
ألين أدخلت تالميذ ووضعتهم يف مراكز إدارة اجلامعة -
فمثال مل يكن الزمالء مِّسورينّ ،
عل طلب من
بالضبط كام هي احلال راهنا .-اس ُتدعيت يف أحد األ ّيام إ ىل كارلِّسوه ،بناء ى
()1
(1) Karlsruhe
(2) Albert Leo Schlageter (1894 - 1923) a former student at the University of Freiburg ،was
shot by the French occupation army in the Ruhr on 26 May 1923. For one of Heidegger’s
speeches on Schlageter ،see Schneeberger، Nachlese zu Heidegger: 47 - 49. An English
translation can be found in Martin Heidegger and Politics: A Dossier, New German
Critic،45 (Fall 1988): 96 - 97.
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 555
عل الوزير باقتضاب وبشكل رسمي .لكن الوزير مل بلدته ،شونو إم فيزنتال ،س َّلمت ى
()1
(1) Hanckle
(2) Volk im Werden.
(3) E. Krieck
(4) See note 16 to Martin Heidegger’s The Rectorate 1933/34.
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 557
فرفضت .واملحارضات «ما هي امليتافيزيقا؟» و«يف ماه َّية احلقيقة» بيعت باخلفاء من دون
ب من األسواق بإيعاز من ِ
عناوين .وبعد 1934بقليل ،كان خطاب التنصيب قد ُسح َ
أن ُينا َقش فقط يف مراكز أساتذة احلزب النازي( )1كموضوع جدل احلزب .كان مسموحا ْ
للحزب.
دير شبيغل :يف عام ،1939عندما كانت احلرب...
هايدغر :يف آخر سنوات احلرب ُأعفي مخسامئة من األساتذة البارزين والفنّانني من ه
أي
نوع من اخلدمة العسكر َّية( .)2مل أكن من بني الذين ُأعفوا .بالعكس ،يف صيف ُ 1944أمرت
ْ
أن أحفر اخلنادق قرب ّنر الرين يف كيزرستول.
دير شبيغل :يف اجلانب اآلخر ،اجلانب السويِّسي ،حفر كارل بارث خنادق.
هايدغر :الطريقة التي حصل فيها األمر مثرية .دعا املدير مجيع الك ّل ّيات ملحارضة يف
ألقى كلمة مقتضبة قال فيها :إ َّن ما سيقوله اآلن متوافق مع القائد النازي
القاعة رقم .5ى
قسم الك ّل َّية بمجملها إ ىل ثالث للمنطقة ومع قائد احلزب النازي يف غو .وإ َّنه س ُي ه
()3
جمموعاتَّ :أوال من ال رضورة ِّلم الب َّتة ،ثانيا الذين ال رضورة ِّلم جزئ ًّيا ،وثالثا الذين ال
يمكن االستغناء عنهمَّ .أوال يف الئحة الذين يمكن االستغناء عنهم بالكامل يأت هايدغر،
ويليه ج .ريرت( .)4يف الفصل الدرايس الشتائي من عام ،1945 - 1944وبعد ْ
أن أّنيت
العمل يف حفر اخلنادق قرب ّنر الرين ،ألقيت حمارضة بعنوان «الشعر والتفكري» كانت
text. Heidegger accepted it in the final version ،probably because it was factually accurate.
(3) Gau
(4) Professor Dr. Gerhard Ritter (author of Carl Goerdeler und die deutsche
Widerstandsbewegung ،at the time full professor of modern history at the University of
assassination of Hitler on 20 July 1944. He was freed on 25 April 1945 by the Allied
troops. The historian became professor emeritus in 1956 and died in 1967.
❖ 558دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
استكامال لندوت حول نيتشه ،بكالم آخر كانت يف مواجهة الناز هيني .بعد الدرس الثاين،
ُجنهدت إلزام ًّيا يف «عاصفة الشعب»( ،)1وكنت أكرب أعضاء الك ّل َّية الذين استدعوا للخدمة.
جمرى
ى دير شبيغل :ال أعتقد أ َّننا ملزمون باالستامع للربوفسور هايدغر حول موضوع
األحداث إ ىل حلظة تل هقيه مرتبة الرشف فعل ًّيا وقانون ًّيا ،فهذا معروف ج هيدا.
هايدغر :واقعا ،األحداث نفسها غري معروفة ج هيدا ،هذه ليست قض َّية ّ
جذابة.
دير شبيغلَّ :إال إذا أحببت ْ
أن تقول شيئا عنها.
هايدغر :ال.
باملعنى الض هيق للكلمة،
ى دير شبيغل :ر َّبام يمكننا التلخيص .بوصفك شخصا غري سيايس،
باملعنى الواسع ،وقعت يف ه
فخ تسيس هذه االنطالقة اجلديدة عام ...1933 ى ال
هايدغر :عن طريق اجلامعة...
ديرشبيغل ... :عن طريق اجلامعة يف سياسة هذه االنطالقة اجلديدة املفرتضة .بعد سنة
تركت الوظيفة التي تو َّليتها يف هذه العمل َّية َّ
للمرة الثانية .لكن يف املحارضة التي ألقيتها َ تقريبا
رشت عام 1953بعنوان «مقدّ مة ملا بعد الطبيعة» قلت« :األعامل ِ
عام ،1935والتي ُن َ
املنترشة اليوم» ،أي عام « 1935كفلسفة القوم َّية االشرتاكية ،لكن ال عالقة ِّلا مع احلقيقة
الداخل َّية وعظمة هذه احلركة (بالتحديد مع مواجهة التكنولوجيا املحدَّ دة عامل ًّيا واإلنسان
املعارص) يسعون للحصول عل الصيد األكرب يف مياه ِ
«الق َيم» و«الك ّل ّيات» املوحلة(« .)2هل ى
أضفت الكلامت التي بني قوسني يف عام ،1953عندما ُطبِ َعت -ر َّبام لرشح ما اعتقدت أ َّنه
لقراء 1935؛ أي حركة االشرتاك هيني القوم هيني ،يف «احلقيقة الداخل َّية وعظمة هذه احلركة» ّ
1935أو َّ
أن هذه األقواس كانت موجودة مسبقا عام 1935؟
هايدغر :كانت يف خمطوطتي وهي تتناسب بالضبط مع مفهومي للتكنولوجيا يف حينه،
(1) The Volkssturm،an army for home defense،was organized toward the end of the Second
World War and consisted of men and boys unable to serve in the regular military .
(2) See Martin Heidegger،Einführung in die Metaphysik،2nd. ed. Tubingen: Max
Niemeyer،1958 ،p. 152. English translation: An Introduction to Metaphysics،trans. Ralph
Mannheim (Garden City،N.Y.: Doubleday ،1961 ،p. 166. The translation is my own.
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 559
ولكن ليس مع تأوييل يف ما بعد جلوهر التقن َّية كـ «بنية»( .)1سبب عدم قراءت ِّلذا املقطع
بصوت عال كان أل َّنني كنت مقتنعا َّ
بأن املستمعني إ َّل كانوا س ُيحسنون فهمي .أ َّما األغبياء
واجلواسيس واملتط هفلني فكانوا سيفهمون بطريقة مغايرة.
دير شبيغل :بالتأكيد يمكنك تصنيف احلركة الشيوع َّية هبذه الطريقة أيضا؟
هايدغر :نعم ،بال ريب ،كام هو حمدَّ د من خالل التقن َّية الكوكب َّية.
دير شبيغل :ور َّبام قد ُتصنهف مجيع املحاوالت األمريك َّية هبذه الطريقة أيضا؟
أن يكون قد ا َّتضح خالل األعوام الثالثني املاضيةَّ ،
أن حركة هايدغر :أقول أيضا :جيب ْ
ه َّيته يف صناعة
قوة ال يمكن جتاهل دورها العظيم والتقليل من أ ّ
التقن َّية الكوكب َّية احلديثة هي َّ
التاريخ .وبالنسبة ل يوجد سؤال حاسم اليوم هو :كيف يمكن حتديد نظام سيايس لعرص
لدي إجابة عن هذا السؤال .وأنا غري
التقن َّية الراهن ،وأي نظام سيايس سيكون هذا؟ ليس َّ
مقتنع أ َّنه الديمقراط َّية.
جمرد مصطلح مشرتك يمكن ْ
أن ُيوي مفاهيم خمتلفة جدًّ ا. دير شبيغل :الديموقراط َّية َّ
والسؤال :هل ما زال تشكيل هذا النظام ممكنا .بعد عام 1945أبديت آراءك يف املطامح
السياس َّية للعامل الغرب ،ويف السياق أيضا حتدَّ ثتم عن الديمقراط َّية ،وعن التعبري السيايس عن
كل هذه املطامح وسميت َّ
َّ املؤسسات،
َّ وجهات النظر املسيح َّية حول العامل ،وعن دولة
«أنصافا»(.)2
وكل األُمور التي ذكرهتا .أنا
هايدغر :دعني أسالك َّأوال :أين حتدَّ ثت عن الديمقراط َّية ه
بالفعل قد أصفهم باألنصاف أل َّنني ال أعتقد َّأّنم يواجهون أصال العامل التقني .وأعتقد َّأّنم
عل فكرة َّ
أن التقن َّية يف جوهرها أمر يسيطر عليه البرش .برأيي ،هذا غري ممكن. يرتكزون ى
التقن َّية بجوهرها أمر ال يستطيع البرش السيطرة عليه كيفام يشاؤون.
دير شبيغل :أي من ه
االجتاهات السياس َّية التي حتدَّ ثنا عنها أكثر مالءمة لزمننا؟
أرى سؤاال حاسام هناَّ .أوال علينا توضيح
هايدغر :هذا ال أستطيع حتديده .ولكنَّني ى
(1) Renéchar
(2) Provence
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 561
(1) Dasein
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 563
(1) cybernetics
(2) Martin Heidegger، Die Frage nach der Technik ,Vorträge und Aufsätze Pfullingen: Neske،
1954 ،p. 44; English translation :The Question Concerning Technology T
, he Question
& ConcerningTechnology and other Essays،trans. by William Lovitt New York: Harper
Row، 1977 ،p. 35.
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 565
هايدغر :انتهت ولكنَّها مل تصبح باطلة بالنسبة لنا؛ بل هي حارضة يف احلديث .فكل ما
قدَّ مته يف املحارضات والندوات خالل السنوات الثالثني املاضية ،كان بشكل أسايس رشحا
للفلسفة الغرب َّية .العودة إ ىل األُ ُسس التارخي َّي ة للتفكري ،والتفكري من خالل األسئلة التي مل
تعد ُتس َئل منذ الفلسفة اليونان َّية ،هذا ليس ابتعادا عن التقليد .لكن أقولَّ :
إن طريقة التفكري
امليتافيزيقي التقليد َّي ة التي انتهت مع نيتشه ،مل يعد بوسعها توفري إمكان جتريب املواصفات
األساس َّية لعرص التقن َّية الذي ما زال يف بدايته ،من خالل التفكري.
حتدثت عن «منهج جديد ك ّل ًّيا
َ دير شبيغل :يف حديث مع راهب بوذي من سنتني تقريبا،
يف التفكري» ،وقلت :إ َّنه «يف الوقت الراهن ال يستطيع َّإال عدد قليل من الناس تطبيق» هذا
أن فقط ق َّلة قليلة من الناس -برأيك -يمكن ْ
أن يكون املنهج اجلديد يف التفكري .هل تقصد ْ
ِّلا البصرية املمكنة والرضور َّية؟
هايدغر :يمكنك ْ
أن تقول ذلك.
دير شبيغل :نعم ،لكن يف احلديث مع الراهب البوذي ،مل تصف بوضوح كيف يمكن
حتقيق ذلك.
هايدغر :ال أستطيع التوضيح .ال أعرف كيف يكون هذا التفكري «مؤ هثرا» .يمكن أيضا
عل التفكري من اإلبعاد يف ّ
أقل ْ
أن يوصل التفكري اليوم إ ىل الصمت ،بذلك يمكن املحافظة ى
أن يستغرق ثالثامئة سنة لكي يصبح «مؤ هثرا».
من سنة .ويمكن أيضا ْ
دير شبيغل :نحن نفهم ذلك ج هيدا .لكن أل َّننا لن نعيش ثالثامئة سنة ،فنحن هنا واآلن،
وأنصاف السياس هيني ،واملواطنني ،والصحفيني...
َ ممنوعون من الصمت .فنحن ،الساس هيني،
إلخ ،نحن مضطرون ه
الّتاذ قرار من نوع أو من آخر .ينبغي ْ
أن ُنك هيف أنفسنا مع النظام الذي
نعيش يف ظ هله ،علينا ْ
أن نحاول تغيريه ،علينا ارتقاب الباب الض هيق لإلصالح والباب الذي
ما زال أضيق للثورة .نحن نتو َّقع مساعدة من الفيلسوف ،ح َّت ىى لو بالطبع ،مساعدة غري
مبارشة ،مساعدة ب ُط ُرق ملتوية .واآلن نسمع :أنا ال أستطيع مساعدتكم.
هايدغر :ال أقدر.
دير شبيغل :هذا س ُيق هلل من عزيمة من هم ليسوا بفالسفة.
❖ 566دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
مهمة التفكري هذه مناقضامعنى َّ ى هايدغر :ال أقدر َّ
ألن األسئلة صعبة جدًّ ا فقد يكون
لظهورها العلني ،وللوعضا ،ولتوزيع الدرجات األخالق َّية .ور َّبام س ُأخاطر هبذه العبارةَّ :
إن
رس هيمنة ماه َّية التقن َّية الكوكب َّية َّ
الالمف هكر فيها يوازي أسبق َّية وعدم وضوح التفكري الذي َّ
ُياول التأمل يف هذه املاه َّية َّ
الالمف هكر فيها.
أن ي ِ
رشدوا دير شبيغلَ :أال تعد نفسك من بني ُأولئك الذين يمكن -لو ُأصغي إليهم ُ ْ -
إ ىل الطريق؟
عل فرض َّ
أن هايدغر :ال! أنا ال أعرف طريقا إ ىل تغيري مبارش للوضع الراهن يف العامل ،ى
وضح، أن حماولة التفكري يمكن ْ
أن توقظ ،و ُت ه أرى َّ
تغيريا مثل هذا ممكن إنسان ًّيا .لكنَّني ى
قوي االستعداد الذي ذكرناه سابقا.
و ُت ّ
دير شبيغل :إجابة واضحة ،لكن هل يمكن للمف هكر ْ
أن يقول :لتنتظر فقط ،فسوف
ُيصل يشء ما لنا يف الثالثامئة سنة القادمة؟
جمرد مسألة انتظار ح َّت ىى ُيصل يشء ما للبرش بعد مرور ثالثامئة
هايدغر :املسألة ليست َّ
سنة؛ َّإّنا تتع َّلق بالتفكري يف املستقبل ،من دون ا هدعاءات نبو َّية ،التفكري يف الوقت اآلت
يتم التفكري فيها َّإال نادرا .التفكري ليس
انطالقا من اخلصائص األساس َّية لعرصنا ،الذي مل ّ
مجودا ،لكنَّه بذاته الفعل الذي يتحاور مع مصري العامل .ويبدو ل َّ
أن التمييز -الصادر من
امليتافيزيقا -بني النظر َّية والتطبيق ،ومفهوم االنتقال بني االثنني ،يعرتض الطريق إ ىل التبرص
ِ
رشت عام 1954حتت عنوان أن ُأشري هنا إ ىل حمارضات التي ُن َ
يف ما أفهم أ َّنه تفكري .يمكنني ْ
ّ
األقل قراءة بني منشورات ،ور َّبام هذه أيضا دعى تفكريا؟»( ،)1هذه القطعة هي «ما الذي ُي ى
سمة عرصنا.
دير شبيغل :بالطبع ،دائام كان هناك سوء فهم للفلسفة ،وهو االعتقاد أ َّنه جيب ْ
أن يكون
(1) Martin Heidegger، Was Heisst Denken? 2nd ed. Tubingen: Niemeyer ،1961. An English
translation by Fred Wieck and J. Glenn Gray has been published with the title What Is
Called Thinking? New York: Harper & Row ،1968 .A selection from it is published in
Basic Writings as What calls for Thinking ,pp. 345 - 367.
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 567
للفيلسوف تأثري مبارش بفلسفته .فلنعد إ ىل البداية .ال يمكن فهم كيف يمكن لالشرتاك َّية
خرى كاحتجاج رى من جهة كتحقق لتلك «املواجهة الكوكب َّية» ،ومن جهة ُأ ى القوم َّية ْ
أن ُت ى
أخري ،أقوى أكثر ،ويف الوقت ِ
نفسه ،أكثر يأسا يف مواجهة «التقن َّية الكوكب َّية املحتومة» ى
أن عددا من واإلنسان احلديث؟ يبدو أ َّنك تتعامل مع متعارضات يف شخصك كام لو َّ
النتاجات الثانو َّية ألنشطتك يمكن ْ
أن ترشح واقعا يف أ َّنك -يف أجزاء خمتلفة من وجودك
تتمسك بأشياء كثرية تعرف هبا أنت كفيلسوف َّأّنا ليس
الذي ال يالمس جوهر الفلسفة َّ -
تتمسك بمفاهيم مثل «البيت»« ،التجذر» وأشياء مشاهبة .فكيف تتوافق
ِّلا استمرار َّية ،مثال َّ
التقن َّية الكوكب َّية مع «البيت»؟
معنى .أنا ال
ى هايدغر :ال ُأريد قول ذلك .يبدو ل أ َّنك تأخذ التقن َّية ه
بكل ما يف الكلمة من
أعتقد َّ
أن وضع البرش َّية يف عامل التقن َّية الكوكب َّية هو قدر كارثي وحمتوم؛ بل بخالف ذلك
مهمة التفكري بالتحديد هي مساعدة اإلنسان ،ضمن احلدود ،يف الوصول إ ىل عالقة أعتقد َّ
أن َّ
أن االشرتاك َّية القوم َّية سارت يف هذا ه
االجتاه ،فهؤالء الناس كافية مع ماه َّية التقن َّية .رغم َّ
كانوا إ ىل حد ما حمدودي التفكري للوصول إ ىل عالقة واضحة وواقع َّية مع ما ُيصل راهنا
ومع ما هو يف طور احلصول لثالثة قرون من الزمن.
دير شبيغل :هذه العالقة الواضحة ،هل هي موجودة عند األمريك هيني؟
يرعى
ى هايدغر :هم أيضا ال يملكوّناَّ .إّنم ما زالوا واقعني يف شباك تفكري براغامت
العمالت َّية واستخدام التقن َّية ،لكن يف الوقت نفسه يعيقون طريق التفكري بخصائص التقن َّية
احلديثة .يف الوقت نفسه ،جرت حماوالت لالبتعاد عن التفكري الرباغامت اإلجياب يف أماكن
من الواليات امل َّتحدة األمريك َّية .ومن منّا يستطيع القول ما إذا كان يف يوم ما يف تراث روسيا
حرة مع
والصني القديمني «تفكري» قد يوقظ ما سوف يساعد البرش يف إمكان إنشاء عالقة َّ
عامل التقن َّية؟
دير شبيغل :لو فقدوا هذا التفكريَ ،أال يمكن للفيلسوف ْ
أن ُيقده م ِّلم شيئا...؟
وبأي طريقة
ه أي حد يمكن ْ
أن أصل يف حماولتي يف التفكري قرر إ ىل ه
هايدغر :لست أنا من ُي ه
يمكن تل ّقيها وحتويلها بشكل منتج يف املستقبل .يف عام 1957ألقيت حمارضة بعنوان «مبدأ
❖ 568دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
مرة بتبيني أ َّنه بخطوات اِّلو َّية» يف املناسبة السنو َّية جلامعة فرايبورغ .خاطرت فيها آلخر َّ
األهم للتقن َّية
ّ مدى يمكن ْ
أن تصل جتربة التفكري بام ُيش هكل امليزة أي ى قليلة من التفكري ،إ ىل ه
أن جتربة التفكري هذه يمكن ْ
أن تصل إ ىل حده فتح إمكان َّية اختبار احلديثة .لقد حاولت إظهار َّ
إنسان عرص التكنولوجيا العالقة بمطلب ال يسمعونه فقط ،بل خيصهم أيضا .كان لتفكريي
جمرد شاعر ،يعالج شعره صلة جوهر َّية بشعر هولدرلن( .)1لكنَّني ال أعتقد َّ
أن هولدرلن هو َّ
ملؤرخي األدب .أعتقد َّ
أن هولدرلن هو الشاعر موضوعا من بني كثري من املواضيع بالنسبة ه
جمرد موضوع
يبقى َّ
أن ىالذي يشري إ ىل املستقبل ،الذي يتو َّقع اإلله ،وبالتال الذي ال يمكنه ْ
لبحث هولدرلن يف اخليال التارخيي األدب.
مرة ُأ ى
خرى) ،يف حمارضاتك عن دير شبيغل :باحلديث عن هولدرلن (نعتذر أ َّننا سنقتبس َّ
إن «الرصاع املفهوم ب ُط ُرق خمتلفة بني ُأبولو وديونيسيوس ،حيث ُيش هكل الشغف
نيتشه قلتَّ :
املقدَّ س والرواية الرصينة قانونا نموذج ًّيا للمصري التارخيي لألملان ،ويوما ما ينبغي ْ
أن جتدنا
جاهزين وحارضين لتشييده .هذا االعرتاض ليس صيغة يمكن بمساعدهتا ْ
أن نصف
مهمة األملان إلجياد
«احلضارة» .مع هذا الرصاع وضع هولدرلن ونيتشه عالمة استفهام أمام َّ
ماه َّيتهم التارخي َّية .فهل بمقدورنا فهم هذه اإلشارة ،عالمة االستفهام هذه؟ هناك أمر واحد
كتبت هذا ،لكنَّنا ُنقده ر أ َّنه كان
أي سنة َ
أكيد :إذا مل نفهمه ،سوف ينتقم التاريخ منّا» .ال نعرف َّ
عام .1935
القوة بوصفها فنًّا» عام
هايدغر :ر َّبام كان االقتباس من حمارضة عن نيتشه بعنوان« :إرادة َّ
أن تكون قد ُألقيت يف السنوات التي تلت.
.1937 - 1936ويمكن أيضا ْ
اخلاص
ه دير شبيغل :هل يمكنك رشح ذلك قليال؟ هذا جيرنا من التعميم إ ىل املصري
باألملان.
هايدغر :أستطيع إعادة صياغة ما جاء يف االقتباس كام ييل :أنا مقتنع أ َّنه يمكن حتضري
التغيري من املكان ِ
نفسه يف العامل الذي صدرت منه التقن َّية احلديثة .ال يمكن ْ
أن يأت من خالل
خرى .ونحن نحتاج ملساعدة الرتاث األُوروب ِ
تبنّي بوذ َّية الذن أو من جتارب رشق َّية ُأ ى
(1) Holderlin
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 569
يمكن ترمجة املراسالت التجار َّية إ ىل مجيع اللغات .ويمكن ترمجة العلوم (علوم اليوم تعني
أصح:
ّ إل مجيع لغات العامل .قل بشكل
العلوم الطبيع َّية ،الفيزياء الرياض َّية العلم األسايس) ى
رتجم ،لكن اللغة الرياض َّية نفسها ُتس َتعمل للكالم .وصلنا هنا إ ىل منطقة واسعة
َّإّنا ال ُت َ
ويصعب تغطيتها.
دير شبيغل :ر َّبام كان ِّلذا صلة باملوضوع أيضا ،يوجد حاليا -بدون مبالغة -أزمة يف
خاصة يف أملانيا،
النظام الربملاين الديمقراطي ،واألزمة ما زالت قائمة منذ زمن .هناك أزمة َّ
وأزمة يف البلدان الديمقراط َّية التقليد َّية ،يف إنكلرتا ويف أمريكا .يف فرنسا مل يعد َث َّمة أزمة.
اآلن ،سؤال :هل بوسع املف هكرين َّأال ُيقده موا النصح ،ح َّت ىى لو كانت نتيجة تفكريهم رضورة
استبدال هذا النظام بنظام جديد؟ وكيف يمكن ْ
أن يكون النظام اجلديد ،أو رضورة
أن الشخص غري املث َّقف فلسف ًّيااإلصالح وإسداء النصح ،كيف يكون اإلصالح ممكنا؟ غري َّ
عل األُمور(رغم أ َّنه ال ُُيده دها) -هذا
-وهذا يكون بشكل طبيعي الشخص الذي يسيطر ى
الشخص سيظل يصل إ ىل نتائج زائفة ،ور َّبام إ ىل أسوا نتائج وأكثرها تِّسعا .إذا :أال ينبغي ْ
أن
يكون الفيلسوف جاهزا للتفكري بكيف َّية تنظيم تعايش البرش يف هذا العامل ،الذي جعلوه تقن ًّيا
هم بأنفسهم والذي ر َّبام أخضعهم لسلطانه؟ أال ُيتو َّقع بحق من الفيلسوف ْ
أن ُيسدي
نصيحة بام يعتربه ُط ُرق عيش ممكنة؟ أال ُي ه
قرص الفيلسوف عن جزء ولو صغريا من مهنته
ودعوته إذا مل يوصل شيئا عنها؟
عل فهم العامل ككل من خالل التفكري إ ىل درجة
هايدغر :بقدر ما أعرف ،الفرد ال يقدر ى
مهمة إجياد َّأول لركيزة من أجل
عل إعطاء تعليامت عمل َّية ،خصوصا يف مواجهة َّ
القدرة ى
التفكري بذاته مرة ُأخرى .وبقدر ما يكون األمر ِجدّ يا من منظور الرتاث العظيم ،ي ِ
رهق ُ ًّ ى َّ
أي سلطة يمكن ِّلذا ْ
أن ُيصل؟ التفكري إذا وجب عليه حتضري نفسه إلعطاء التعليامت .حتت َّ
يف عامل التفكري ،ليس َث َّمة عبارات سلطو َّية .االشرتاط الوحيد للتفكري يأت من املسألة التي
ينبغي التفكري فيها .لكن هذا -يف بادئ األمر -يستحق البحث .ولنجعل هذه املسألة قابلة
للفهم ،يبدو َّ
أن النقاش حول العالقة بني الفلسفة والعلوم التي جتعل نجاحاهتا التقن َّية -
جدوى .فالوضع الصعب
ى باملعنى الفلسفي يبدو بالفعل أكثر فأكثر غري ذي
ى العمل َّية التفكري
يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر ❖ 571
القوي
ه ملهمته التي تتالءم مع اغرتاب ّ
يتغذ ىى من املوقع الذي وضع فيه التفكري بالنسبة َّ
للعلوم ،من تفكري جيب ْ
أن يمنع ذاته من اإلجابة عن أسئلة عمالن َّية وأيديولوج َّية يطرحها
راهنا اليوم.
دير شبيغل :برفسور ،يف عامل التفكري ال يوجد عبارات جازمة .كذلك ال يمكن يف
الفن احلديث وجد صعوبة يف إطالق عبارات جازمة أيضا .مع ذلك أن نتفاجأ َّ
بأن َّ احلقيقة ْ
سميه «هدَّ اما» .فعادة ُيف هكر الفن احلديث بذاته كفن جتريبيَّ .
ألن نتاجاته حماوالت... ُت ه
هايدغر :سأتع َّلم بسعادة.
دير شبيغل ... :حماوالت نتجت عن حالة عزلة البرش والفنّانني ،ومن ه
كل مائة حماولة،
يوجد بني احلني واآلخر واحدة تستحق اللقب.
هايدغر :هنا يكمن السؤال الكبري .أين يقف الفن؟ ما هو املكان الذي ي ِ
شغله؟ ُ
الفن مل تعد تطلبه من التفكري.
دير شبيغل :حسنا ،لكن ها أنت تطلب شيئا من ه
الفن .أنا أقول فقط :إ َّنه سؤال عن املكانة التي ُيتلها
هايدغر :أنا ال أطلب شيئا من ه
الفن.
دير شبيغل :إذا كان الفن ال يعرف مكانته ،فهل هذا يعني أ َّنه هدَّ ام؟
الفن احلديث يرسم لنا
أن َّأن ُأعلِن أ َّنني ال أعتقد َّ
هايدغر :حسنا ،احمها .غري أ َّنني ُأريد ْ
الفن. عل ّ
األقل البحث عن خصائص ه يبقى األمر مبهام جلهة الرؤية أو ى
خاصة عندما ى
طريقاَّ ،
دير شبيغل :الفنّان أيضا ،ينقصه التزام بالرتاث .قد جيده مجيال ويمكنه القول :نعم ،هذه
هي الطريق التي كان يمكن للمرء رسمها من س ّتامئة سنة أو من ثالثامئة سنة أو ح َّت ىى من
ثالثني سنة .ولكن مل يعد يفعل ذلك .ح َّت ىى لو أراد ذلك ،فهو لن يستطيع .يمكن ألكرب فنّان
أن يكون املق هلد البارع هانس فان ميغرن ،الذي كان بإمكانه حينئذ ْ
أن يرسم «أفضل» من إذا ْ
غريه .لكن ما الفائدة اآلن .إذا الفنّان والكاتب والشاعر يف وضع شبيه لوضع املف هكر .فكم
غمض عينيك. أن نقولَ :أ ِ
مرة علينا َّْ
الفن والشعر والفلسفة ،تكون ِ
هايدغر :إذا اّت َذت «صناعة الثقافة» كإطار لتصنيف
ه
سم ىى ثقافة موضع شك، ربرة .لكن ،إذا مل تكن الصناعة فقط ،بل صار أيضا ما ُي ّ املساواة م َّ
❖ 572دراسات نقد َّية يف أعالم الغرب ( )3مارتن هايدغر
ه
الشك أيضا جزءا من عامل مسؤول َّية التفكري ،برأيي ال يوجد ح َّت ىى اآلن يكون التفكري يف هذا
مف هكر يستطيع حتديد من هو العظيم باملقدار الكايف الذي يمكن ْ
أن يضع التفكري مبارشة أمام
عل طريقهَّ .
إن عظمة ما جيب التفكري فيه اليوم عظيم جدًّ ا بالنسبة إلينا. موضوعه وبالتال ى
نشق طريقا ونبني جسورا ض هيقة وقليلة االمتداد من أجل العبور. فقد نستطيع ْ
أن َّ
دير شبيغلُ :أستاذ هايدغر ،نشكرك ى
عل هذه املقابلة.
* * *
573 ❖ يف احلوار األخري مع مارتن هايدغر
:املصادر
Martin Heidegger, Being and Time ،trans. by John Macquarrie and Edward
Robinson New York: Harper & Row،1962.
Martin Heidegger، Die Frage nach der Technik ,Vorträge und Aufsätze
Pfullingen: Neske، 1954.
Martin Heidegger،Die Selbstbehauptung der deutschen Universität (1933;
Frankfurt: Klostermann،1983).
Martin Heidegger،Einführung in die Metaphysik،2nd. ed. Tubingen: Max
Niemeyer،1958.
Martin Heidegger،Nietzsche،vol. II Pfullingen: Neske،1961.
____________,What Is Metaphysics? trans. by David Farrell Krell،Basic
Writings،ed. by David Farrell Krell (New York: Harper & Row،1977).
Martin Heidegger ،Unterwegs zur Sprache (Pfullingen: Neske،1959).
Guido Schneeberger ،Nachlese zu Heidegger (Bern: 1962).
Martin Heidegger، Was Heisst Denken? 2nd ed. Tubingen: Niemeyer ،1961.
* * *