You are on page 1of 242

‫الرّحل َ ُة ا ْل َ‬

‫ج ّوية‬
‫هوا ِئيّة‬
‫كبة ال َ‬
‫ِ‬ ‫م ْر‬
‫ِفي ال َ‬
‫‪79‬‬

‫مجانًا مع العدد (‪ )122‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬ديسمبر ‪2017 -‬‬


‫يُوَ َّزع ّ‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‪ ..‬من شرقي إفريقية إلى غربيها (الجزء الثاني)‬
‫المؤلف‪ :‬جول غابرييل فيرن‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان سركيس‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة ّ‬
‫الثقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫العمل الفني للغالف والصفحات الداخلية‪ :‬للرسام الفرنسي إدوارد ريو (‪)1900 - 1833‬‬
‫ّ‬
‫مجلة الدوحة‬ ‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم الفني ‪-‬‬

‫ّ‬
‫المجلة‪.‬‬ ‫كتابها‪ ،‬وال ُتع ِّبر ‪-‬بالضرورة‪ -‬عن رأي الوزارة أو‬
‫المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ‬
‫الرّحل َ ُة ا ْل َ‬
‫ج ّوية‬
‫هوا ِئيّة‬
‫كبة ال َ‬
‫ِ‬ ‫م ْر‬
‫ِفي ال َ‬
‫(من شرقي إفريقية إلى غربيها)‬

‫يوسف اليان سركيس‬


‫عن كتاب جول غابرييل فيرن «خمسة أسابيع في منطاد»‬

‫(الجزء الثاني)‬
‫(نسخة ُمطابقة للطبعة األولى بيروت ‪)1875‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪4‬‬
‫الفصل الثالث والعرشون‬
‫يف مناقشة فلسفية وظهور السحابة يف األفق وظهور قبة ثانية‬
‫ومشاهدة آثار قافلة وبرئ ماء يف الصحراء‬

‫‪5‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪6‬‬
‫فلما أصبح الصباح وأرشق نور الشمس الوضاح ما زالت السماء رائقة‬
‫نقية ال حراك يف الفضاء‪ ،‬فارتفعت املنصورة إىل علو خمسمائة قدم‬
‫وبالكاد انتقلت ً‬
‫قليل إىل الجهة الغربية‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هوذا؛ نحن يف قلب املفازة‪ ،‬وهاهي ذي بحور الرمل الطامة‬
‫تحت أقدامنا؛ فيا للعجب كل العجب لم هذا النظام الغريب يف الطبيعة؟‬
‫ولم يا ترى ينبت الزرع هناك بالقرب من حدود الرمال وهنا هذا القحل‬
‫عرض واحد ومرمية باألشعة نفسها؟!‬
‫ٍ‬ ‫والجدب‪ ،‬مع أن األرايض هي يف خط‬

‫قال ديك‪ :‬أيها الخليل؛ إن علة ذلك ليس من شأنها أن تقلقني‪ ،‬وإن ما‬
‫يهمني إنما هو الحال الذي نحن عليه فال أهمية لخالفه‪.‬‬
‫العلمة‪ :‬دعنا نتفلسف ً‬
‫قليل عىل ذلك؛ فإن التفلسف ال يجلب علينا‬ ‫قال َّ‬
‫أذية‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬هات نتفلسف ما تشاء؛ فإن الوقت طويل وبالكاد نميش يف هذه‬
‫األفالء‪ ،‬فكأن الريح خاشية الهبوب أو راقدة يف رسير الراحة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أما أنا فأبرشكما أنه ال يطول بنا الحال‪ ،‬ألني أرى سحابة يف‬
‫الجهة الرشقية‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬نعم‪ ،‬ويف الصواب تكلم يوسف‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولكن هل ترى نتملك هذه السحابة وتأتينا بمطر وريح نافعني؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬سنرى ذلك يف وقته‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬غري أن اليوم هو الجمعة؛ فقلما أثق بأيام الجمعة‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن شاء املوىل سيذهب عنك اليو َم هذا الوهم الباطل‪.‬‬

‫قال يوسف‪ ،‬وهو يمسح العرق الوافر السائل من وجهه‪ :‬حبذا‪ ،‬ولكن‬
‫وخصوصا يف‬
‫ً‬ ‫أف؛ ما هذه الحرارة الشديدة؟!‪ ...‬نعم إن الحرارة نافعة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫الشتاء‪ ،‬ولكن يف الصيف عىل املرء أن يتحرز منها عىل قدر استطاعته‪.‬‬
‫فسأل الصياد فرغوسن وقال‪َّ :‬‬
‫هل تخاف أن ترض حرارة الشمس القادحة‬
‫بقبتنا؟‬

‫كل يا صديقي ألن املادة الصمغية التي طيل بها القماش الحريري‬ ‫قال َّ‬
‫تحتمل حرارة عظيمة جدًا؛ فقد وصلت أحيا ًنا حرارة القصبة إىل مائة‬
‫وثمان وخمسني درجة إنكليزية‪ ،‬ولم يتأثر منها غطاء القبة الداخلية‬
‫الصغرية‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫أما يوسف فكان برصه حادًا ويرقب األشياء بأحسن تمييز من املنظرات‪،‬‬
‫فقال وهو ينظر إىل السماء‪ :‬إنها سحابة يف الحقيقة يا خلييلَّ‪.‬‬

‫فكانت هذه السحابة متعمقة يف السماء كثيفة متجمعة من غيوم صغرية‪،‬‬


‫ولكن لم تتغري قط هيئتها‪ ،‬ومن ذلك استنتج َّ‬
‫العلمة أن ليس فيها ريح‬
‫تحركها‪.‬‬

‫صباحا‪ ،‬ومع ذلك لم تقم قبالة‬


‫ً‬ ‫وقد تراءت يف األفق منذ الساعة الثامنة‬
‫الشمس َّإل عند الساعة الحادية عرشة‪ ،‬ثم توارت وراء هذا الستار الكث‪،‬‬
‫ويف تلك الساعة انفصل من هذه السحابة الغيم األسفل مبتعدًا عن خط‬
‫األفق الذي تالأل عىل إثر ذلك نو ًرا وبهاء‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن هذه السحابة منفردة فال نثق َّن بها انظر إليها يا ديك؛‬
‫صباحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أليست هيئتها كما كانت‬

‫ريحا وال غيثا؛‬


‫قال ديك‪ :‬لعمري ال تزال كما كانت‪ ،‬وعليه ال أرجو منها ً‬
‫عىس أنها تدخرهما لغرينا‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذا ما أخشاه حالة كونها يف علو شاهق‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أيها الصديق صاموئيل هل َّم بنا نالقي هذا الغيم الذي ال يريد‬
‫أن ينرش علينا لواء سخائه‪.‬‬

‫أظن أننا ال نجني من هذا العمل ثمرة البتة‪ ،‬بل نزيد إنفا ًقا‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ُّ :‬‬
‫للغاز ومن َث َّّم للماء‪ ،‬ولكن نظ ًرا لحالتنا الحارضة فال يسوغ لنا أن نهمل‬
‫شيئًا عىس أن يكون فيه خري لنا فهلموا بنا نطلع‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم أورى زناد لهيب القصبة فانترشت الحرارة‪ ،‬وللحال صعدت القبة‬
‫بقوة اإلدروجن املمدَّد‪.‬‬

‫فوصل إىل السحابة يف علو ألف وخمسمائة قدم ودخل يف ضباب متكاثف‬
‫ريح‬
‫وداوم حفظه برهة يف تلك الطبقة‪ ،‬ولكن لم يجد فيها أدنى مهب ٍ‬
‫حتى‪ ،‬وكانت خالية من الرطوبة وبالكاد ترطبت األشياء التي ملستها‪،‬‬
‫أما املنصورة فإنها ملا التحفت بذلك البخار جرت مشيًا بأكثر رسع ٍة من‬
‫األول‪ ،‬ولكن بنوع زهيد جدًا‪ ،‬وهذه كانت الفائدة الوحيدة من الصعود‬
‫إىل السحابة‪.‬‬
‫وفيما كان َّ‬
‫العلمة يتأمل بكدر ما جناه من النفع الطفيف يف ارتقائه إىل‬
‫األعايل إذا بيوسف يصيح متعجبًا‪ ،‬وقال‪ :‬واعجبا واعجبا!‬

‫فقال له سيده‪ :‬وما الذي تراه؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬موالي وسيدي ديك!‪ ...‬ما بالكما ال تنظران إىل األمر العجيب‬
‫الغريب؟!‬
‫ً‬
‫عاجل!‬ ‫قال ديك‪ :‬وما هو؟‪ ...‬قل‬

‫قال يوسف‪ :‬اعلما أننا لسنا وحدنا يف هذا الخالء؛ بل هنا لصوص سارقة‬
‫قد قلدونا يف صنعتنا!‬

‫قال ديك لفرغوسن‪ :‬وهل يا ترى أصابه جنون؟!‬


‫ً‬
‫متأمل باندهاش وانذهال‪ ،‬فنظر إليه فرغوسن‬ ‫ثم شخص يوسف صامتًا‬
‫وقال‪ :‬هل تكون الشمس قد فعلت يف دماغه واختل منه العقل؟!‬
‫‪10‬‬
‫فقال ديك ليوسف‪َ :‬أل تقول يل أخريًا؟‬

‫قال له يوسف‪ :‬انظر يا ديك!‬

‫ودله عىل مركز يف املسافة الجوية‪.‬‬

‫ً‬
‫مندهشا‪ ،‬وقال‪ :‬لعمري هذا مما يوجب االنذهال؛ تطلع يا‬ ‫فصاح ديك‬
‫صاموئيل!‪ ..‬تطلع!‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة بسكون‪ :‬برصت يا رفيقي بما تنظران إليه‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬قبة مثل قبتنا‪ ،‬ومسافرون مثلنا ً‬


‫أيضا‪.‬‬

‫ففي الحقيقة كانت قبة هوائية تحوم يف الهواء بمركبتها ومسافريها‪،‬‬


‫وذلك بعيدًا عن املنصورة بنحو مائتي قدم‪ ،‬وهي تتبع الطريق التي هم‬
‫سالكونها‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬لم يبق لنا ّإل أن نقرأ عليها السالم بالداليل واإلشارات؛ فخذ‬
‫يا ديك رايتنا وانرش ألوانها بإزائهم‪.‬‬

‫فالظاهر أن املسافرين املقيمني يف تلك املركبة فكروا كما فكر هؤالء يف‬
‫دقيقة واحدة ألن الراية ذاتها أعادت اإلشارات والحركات نفسها التي‬
‫أبداها الصياد‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وما املعنى بذلك يا فرغوسن؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬إنما هم سعادين يهزءون بنا‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ً‬
‫ضاحكا‪ :‬املعنى به أنك تفعل هذه اإلشارات لنفسك يا أيها‬ ‫العلمة‬‫فقال َّ‬
‫الخل الويف‪ ،‬وتأويل ذلك أننا نحن أنفسنا يف تلك املركبة والخالصة ليس‬
‫تلك القبة َّإل منصورتنا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬سيدي من بعد أداء االحرتام الواجب لحرضتك أقول لك إني‬
‫آلخذ كالمك بعني الصدق‪ ،‬بل أعده هزءًا منك‪.‬‬
‫فقال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬قف عىل طرف املركبة يا يوسف‪ ،‬وحرك ذراعيك فتتحقق‬
‫من صدق مقايل‪.‬‬

‫ففعل يوسف ما أمره به سيده‪ ،‬وشاهد حركاته قد أعيدت تما ًما‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬إنما هذا لعلع‪ ،‬وهو حادث بسيط من حوادث انعكاس‬‫فقال َّ‬
‫النور‪ ،‬ومسبب عن تخلخل الهواء غري املتساوي‪ ،‬الحاصل يف طبقات‬
‫الجو‪ ،‬والسالم ختام‪.‬‬

‫أعجب عندي من ذلك‪.‬‬


‫َ‬ ‫قال يوسف‪ :‬وال‬

‫وكأنه لم َي َشأ ْ أن يصدق هذا املقال‪ ،‬فراجع حركاته تكرا ًرا بأنواع مختلفة‪.‬‬

‫أغرب منه؛ فإنه يدهش النظر وقد قرت منا الخواطر‬ ‫َ‬ ‫قال ديك‪ :‬وال‬
‫ملشاهدة منصورتنا وجهًا بإزاء وجه؛ أ َ َل تقران يا صدي َق َّي‪ ،‬وفقكما املوىل‪،‬‬
‫أنها ذات هيئة لطيفة وهيبة ُمنيِ َفة؟‬

‫قال يوسف‪ :‬كيفما فرست ورشحت؛ فإن الحادثة من أعجب العجاب‪.‬‬

‫وما لبثت صورة القبة أن أخذت يف االندثار رويدًا رويدًا‪ ،‬ثم ارتفعت‬
‫‪12‬‬
‫السحابة إىل علو باسق‪ ،‬وهجرت املنصورة فلم تحاول هذه أن تتبعها‪،‬‬
‫ومضت ساعة من الزمان وإذا بالسحابة قد توارت عن العيان‪.‬‬

‫ً‬
‫فقليل‪ ،‬وكادت تدخل حيز العدم‪،‬‬ ‫وأما الريح الطفيفة فانتقصت ً‬
‫قليل‬
‫آيسا‪.‬‬ ‫وعندها اقرتب َّ‬
‫العلمة إىل األرض ً‬

‫وقد كان منظر القبة سال عنهم الهم والفكرة يف أحوالهم‪ ،‬ولكن ملا توارى‬
‫عن البرص رجعوا إىل ما كانوا عليه من األفكار املحزنة وهم يكابدون‬
‫حرارة عظيمة جدًا‪.‬‬

‫وعند الساعة الرابعة بعد الظهر أشار يوسف إىل وجود يشء بارز فوق‬
‫بحر الرمال‪ ،‬وما لبث أن عرفه جيدًا‪ ،‬وهو نخلتان نابتتان عىل مسافة غري‬
‫بعيدة‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إذا وجد نخل فال ب َّد من وجود نبع ماء أو برئ بالقرب منها‪،‬‬
‫ثم أخذ املنظرة وأكد تخمني يوسف‪.‬‬
‫فصاح حينئ ٍذ ً‬
‫قائل‪ :‬هاهو ذا املاء والحمد لله هاهو ذا املاء؛ فال َّ‬
‫شك أنه‬
‫واجد هناك‪ ،‬وكيفما رسنا فسنصل إليه يف نهاية األمر‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬والحالة هذه؛ أيحسن لديك أن نرشب رشبة لبينما نبلغ املاء؛‬
‫ألن الريح قاطعة منا النفس؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فلنرشب ً‬
‫إذا يا صاح‪.‬‬
‫ً‬
‫كامل‪ ،‬ولم يتبق لهم بعد َّإل ثالثة ليرتات ونصف ال‬ ‫فرشب ثالثتهم ليرتًا‬
‫غري‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم قال يوسف‪ :‬يا ما أل َّذ املا َء وأنفعه؛ لعمري لم أذق قط يف حياتي لذة يف‬
‫الرشاب كاللذة الحالية!‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذا ما يجديه االنمساك عن املنافع‪.‬‬

‫وملا كانت الساعة السادسة حامت املنصورة فوق النخلتني‪ ،‬فلما تأملوا‬
‫شبح بال لحم؛ ألنهما‬
‫ٍ‬ ‫بهما رأوهما شجرتني نحيفتني يا بستني شبه‬
‫خاليتان من األوراق‪ ،‬ومائلتان إىل الفناء أكثر منهما إىل البقاء‪.‬‬

‫أما فرغوسن فخالج صدره االضطراب عندما حدق برصه فيهما‪.‬‬

‫ثم أبرصوا تحت أقدامهم بحجارة برئ مركوزة بال ترتيب‪ ،‬وقد رضبت‬
‫أشعة الشمس القادحة تلك الحجارة‪ ،‬فكادت تحولها إىل رمال ناعمة جدًا‪،‬‬
‫ولم يروا للرطوبة من أثر فانقبض قلب صموئيل من ذلك املنظر‪ ،‬وكان‬
‫قد كشف لرفيقيه ما يضمره من الخوف لو لم يسمع تأوههما وهتافهما‬
‫ً‬
‫طويل مرسو ًما من عظام‬ ‫فانتبه ورأى عن بعد يف الجهة الغربية ً‬
‫خطا‬
‫مبيضة وشاهد حول النبع كو ًما من تلك العظام‪ ،‬فعلم من ذلك أن قافلة‬
‫وصلت إىل ذلك الحد من الصحراء؛ فالذين كانوا ضعفاء فيها سقطوا‬
‫ً‬
‫فقليل‪ ،‬وأما األشداء فبعد أن كابدوا أقىص التعب وج ُّروا‬ ‫عىل الرمل ً‬
‫قليل‬
‫أنفسهم إىل تلك العني قضوا عندها نحبهم‪ ،‬وذاقوا كأس حمام املرة‪.‬‬

‫فنظر املسافرون بعضهم إىل بعض‪ ،‬وقد عال االصفرار وجوههم‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬ال ننزلَ َّن إىل هنا؛ بل فلنهرب من هذا املشهد املهيل الكبد فإن‬
‫البرئ هذه ال تحوى نقطة من املاء‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كالّ يا ديك يلزمنا أن نقف عىل الحقيقة لئال تتشوش ضمائرنا‬
‫فيما بعد ويدركنا الندم‪ ،‬فسيان إن قضينا ليلتنا هنا أو يف محل آخر‪ ،‬وقد‬
‫قام نبع ماء من زمن مديد يف هذا املحل‪ ،‬فعىس أن يكون له أثر إىل اآلن‪.‬‬

‫فحطت املنصورة عىل األرض ووضع يوسف وديك كمية من الرمل موازنة‬
‫لوزنهما ونزال عن املركبة مبادرين إىل البرئ‪ ،‬فدخالها بدرج أمىس ً‬
‫رمل‪،‬‬
‫ورأيا أن العني ناشفة من سنني عديدة‪ ،‬وحفرا ً‬
‫قليل يف الرمل الناعم فلم‬
‫ينظرا أث ًرا للرطوبة‪.‬‬

‫ثم طلعا من الجب متوجني بإكليل من العرق عىل جبينيهما مكسوري‬


‫القلب والخاطر‪ ،‬والرمل إذ ذاك قد غطاهما فولت الشجاعة مدبرة وقام‬
‫مقامها القنوط واليأس‪.‬‬
‫فلما نظر إليهما َّ‬
‫العلمة عرف قلة فائدتها من النزول إىل البرئ‪ ،‬وقد كان‬
‫عاملًا بذلك من قبل‪ ،‬وشعر يف ذاته بأنه منذ اآلن تقتضيه الحال أن توازي‬
‫شجاعته ومروءته ثالثة رجال‪.‬‬

‫وكان يوسف قد أتى بقرب ٍة ُم َق َّرنة فرماها وهو غضبان بني العظام‬
‫املشتتة عىل الحضيض‪.‬‬

‫وعند العشاء ُم َّد سماط السكوت التام ولم يتفوه أحد بالكالم بل أكلوا‬
‫جميعًا بكره شديد‪ ،‬مع أنهم لم يقاسوا بعد شدائد العطش ونوائبه‪،‬‬
‫ولكنهم قانطون بالنظر إىل ما أقبل عليهم من املحن‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪16‬‬
‫الفصل الرابع والعرشون‬
‫يف العطش وتندم َّ‬
‫العلمة وانطفاء القصبة ومراقبة الصحراء الشاسعة‬
‫وانفراد َّ‬
‫العلمة وسقطته وما نواه يوسف من القصد الثابت‬

‫‪17‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪18‬‬
‫فلم تبلغ املسافة التي جازوها يف النهار كله أكثر من عرشة أميال‪ ،‬وأنفقوا‬
‫للمسري يف تلك املدة مائة واثنتني وستني قد ًما مكعبًا من الغاز‪.‬‬

‫صباحا تأهب املسافرون للرحيل‪ ،‬وبعد برهة أخذوا‬


‫ً‬ ‫وملا كان السبت‬
‫باملسري‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬عندنا ما يكفينا مشيًا مدة ست ساعات‪ ،‬فإذا عربت هذه املدة ولم‬
‫نكتشف برئًا وال عينًا فالله يعلم ماذا يصيبنا‪ ،‬فقال يوسف‪ :‬إن الريح‬
‫طفيفة جدًا يا موالي‪.‬‬

‫وعندما نظر لوائح الحزن والكدر قد علت وجه سيده قال‪ :‬أؤمل أنها‬
‫ستهب عما قليل‪.‬‬
‫ً‬
‫باطل؛ إذ إن السماء رائقة صافية‪،‬‬ ‫أما أملهم يف مهب الرياح فكان‬

‫‪19‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫واشتدت الحرارة كثريًا حتى إن الرتمومرت اإلنكليزي تحت ظل الخيمة َّ‬


‫دل‬
‫عىل الدرجة املائة والثالثة عرشة‪.‬‬

‫أما يوسف وديك فكانا مضطجعني؛ الواحد بجانب اآلخر‪ ،‬وهما يحاوالن‬
‫الفرار من الفكرة يف تلك الحالة الهائلة‪ ،‬سواء بالرقاد أم بالخدر‪ ،‬وقد‬
‫ممل لقلة شغلهما‪ ،‬وال يشء يجلب الضجر‬ ‫طويل ً‬
‫ً‬ ‫استبان لديهما الزمان‬
‫واالرتباك نظري البطالة؛ إذ ال يستطيع املرء أن يزيل عنه ذكر أكداره‬
‫ورزاياه إال بيشء من االشتغال‪ ،‬ففي ذلك الوقت كان انشغالهما متوق ًفا‬
‫عن التفكر والتبحر يف تلك الواقعة املفجعة األكباد‪ ،‬وليس ما يلهيهما عن‬
‫تصورها نصب أعينهما‪.‬‬

‫ثم َعل َِق العطش يذيقهم م َّر العذاب والشقاء‪ ،‬والعرق الباقي لم يكن من‬
‫شأنه َّإل أن يزيد كبدهم التها ًبا‪ ،‬ويف الحق والصواب يدعونه أهل إفريقية‬
‫حليب النمورة‪ ،‬وبالكاد كان باقيًا نحو لرتين من املاء الساخن‪ ،‬فكان‬
‫ثالثتهم يحدقون برصهم بتلك النقطات الثمينة دون أن يجرس أحد منهم‬
‫أن يبل بها طرف ثغره؛ فيا لها من حالة هائلة ترتعد منها الفرائص‪،‬‬
‫وتلتاع منها القلوب؛ إذ لم يبق معهم من املاء ّإل تلك الكمية الجزئية وهم‬
‫مع ذلك ال يزالون يف قلب الصحراء‪.‬‬

‫فغاص فرغوسن يف لجة األفكار‪ ،‬ودهمته الهواجس والقلق فلم يستطع‬


‫قائل‪ :‬يا ترى هل ترصفت حسنًا‬ ‫أن يشحذ لها األسنة للقتال فسأل نفسه ً‬
‫يف أموري؟‪ ...‬أما كان يوافق غريض لو حفظت ذلك املاء الذي َحلَل ْ ُته هد ًرا‬
‫إىل غاز اإلدروجن لكي ألبث مستم ًرا يف العالء؟‪ ...‬نعم إنني رست بعض‬
‫السري‪ ،‬ولكن ما هي املسافة التي جزتها؛ فإنها ال تستحق الذكر واالعتبار‪،‬‬
‫‪20‬‬
‫ض بنا؛ حيث‬ ‫فلو بقينا يف الوراء بمسافة نحو ستني ً‬
‫ميل فما الذي كان َي ُ ُّ‬
‫إن املاء فرغ اآلن يف هذا املكان‪ ،‬وإن قامت الريح أال يا ترى تهب هناك‬
‫كمهبها هنا؟ ولربما يكون هنا بأقل خف ٍة إذا هبت من الرشق‪َّ .‬إل أني‬
‫مشيت طمعًا يف نوال األرب‪ .‬ولكن ما أنفقته من املاء الكثري كان كافيًا ألن‬
‫أستمر مدة تسعة أيام يف هذه الصحراء؛ فما أطولها من تسعة أيام!‪...‬‬
‫ومن يعلم ماذا كان قد طرأ يف مدتها من الحوادث‪ ،‬غري أنه ربما لو حفظت‬
‫املاء لوجب عيلَّ االرتفاع بإلقاء يشء من الثقل‪ ،‬وعند نزويل كنت أفقد غا ًزا‬
‫ً‬
‫جزيل؛ فغاز القبة هو دم وحياة لها‪.‬‬

‫فتصادمت هذه األفكار يف عقله‪ ،‬فيما أنه يقبض عىل رأسه بيديه‪ ،‬متأمال‬
‫مدة ساعات برمتها‪.‬‬

‫صباحا قال يف ذاته الب َّد أن أمتحن أم ًرا يف آخر‬


‫ً‬ ‫وملا كانت الساعة العارشة‬
‫األمر لعله خري فها أنا ذا أصعد إىل العالء ألستقيص طبقة تحوي مهب‬
‫ريح تدفع قبتنا إىل قدام‪ ،‬والب َّد يل من هذا االمتحان ولو أنفقت املاء الذي‬
‫ٍ‬
‫هو غاية حيلتنا‪.‬‬

‫وفيما كان رفيقاه راقدين أرضم نار القصبة واستدارت القبة المتداد‬
‫اإلدروجن وارتفعت بخط مستقيم بما عظم من الرسعة‪ ،‬فسعى َّ‬
‫العلمة‬
‫يف أن يجد مهبًا من عُلُ ِّو مائة قدم إىل علو خمسة آالف قدم‪ ،‬لك َّن سعيه‬
‫ذهب هد ًرا‪ ،‬ولم يستفد شيئًا وتبني لديه أن الريح عديمة الوجود‪ ،‬حتى‬
‫ويف آخر حدود الجو‪.‬‬

‫وفرغ املاء أخريًا وامتنع حفظ النار وانطفأت القصبة لنفاد الغاز‪،‬‬
‫وأصبحت آلة بنزن ال فاعلية لها‪ ،‬ثم تقلصت القبة الهوائية وأخذت يف‬

‫‪21‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫النزول رويدًا رويدًا عىل الرمل يف نفس املكان الذي طلعت منه‪.‬‬
‫ً‬
‫عرضا بعيدًا عن‬ ‫فانتصف النهار وهم يف درجة ‪ً 19ْ 35‬‬
‫طول و‪6ْ 51‬‬
‫بحرية شاد بنحو خمسمائة ميل‪ ،‬وعن جهات إفريقية الغربية بنحو من‬
‫أربعمائة ميل ونيف‪.‬‬

‫فنزل ديك ويوسف إىل األرض وذهب عنهما الخدر‪.‬‬


‫ثم قال الصياد‪ :‬وقفنا ً‬
‫إذا يا خلييلَّ‪.‬‬
‫فأجاب َّ‬
‫العلمة بصوت الهيبة‪ :‬الب َّد من الوقوف‪.‬‬

‫ففهم الرفيقان مآل كالمه‪ ،‬وكان سطح األرض عىل مساواة سطح البحر‬
‫لسبب انخفاضه هناك‪ ،‬ولهذا وقفت القبة يف موازنة تامة وعدمت الحركة‬
‫عىل اإلطالق‪.‬‬

‫رمل مواز ًيا ثقلهم نزلوا إىل الرب وهم غائصون يف‬‫وبعد أن وضعوا فيها ً‬
‫مفاوز الفكر‪ ،‬ولبثوا ساعاتٍ ال يتحادثون وال يتفاوضون يف أمر ثم هيأ‬
‫كل‬ ‫ً‬
‫وكعكا وعقب أن أكلوا شيئًا يسريًا رشب ّ‬ ‫يوسف العشاء‪ ،‬وكان لح ًما‬
‫منهم جرعة من املاء الساخن‪.‬‬

‫وملا ج َّن الليل وبدد الدجى ضياء النهار لم يسهر أحد لحراسة القبة‪،‬‬
‫ولكن لم يرقد أحد لشدة الحرارة وانشغال الفكر‪ ،‬وملا أصبح الصباح‬
‫أخذ فرغوسن نصف لرت املاء الباقي ووضعه جانبًا وقصد أن ال يمسوه َّإل‬
‫وقت الحاجة القصوى‪.‬‬

‫فما مضت برهة ّإل قال يوسف‪ٍ :‬‬


‫أف أواه لقد ضاق صدري من الحرارة‬

‫‪22‬‬
‫املتزايدة‪.‬‬

‫ثم تطلع يف الرتمومرت وقال‪ :‬ال عجب من ذلك؛ فإن الحرارة يف درجة مائة‬
‫وأربعني‪.‬‬

‫فقال الصياد‪ :‬إن الرمل يلهب األعضاء ويجعل البدن كأنه خارج من أتون‬
‫ناري يا رباه ما هذه الحال؛ فإننا ال نرى أث ًرا لسحاب ٍة يف السماء‪ ،‬لعمري‬
‫إن ذا مما ينزع العقل ويبيل بداء الجنون‪.‬‬

‫رفيقي؛ ألن مثل هذه الحرارة‬


‫َّ‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال نقطع َّن حبل الرجاء يا‬
‫يعقبها دائ ًما رياح عاصفات يف مثل هذه النقطة من الكرة‪ ،‬ويكون‬
‫قدومها رسيعًا كالربق الالمع‪ ،‬وإن كانت اآلن السماء يف صفاء ورواق‬
‫عظيم فمع ذلك يمكن حدوث تغيري مهم بأقل من ساعة‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬ولكن البد من أن يسبق ذلك دليل أو إشارة‪.‬‬


‫العلمة‪ :‬إني أرى ميزان الهواء ً‬
‫مائل إىل انخفاض يف الزيبق‪.‬‬ ‫فقال َّ‬

‫قال ديك‪ :‬أجاب الله دعاءك يا خلييل صموئيل؛ ألننا قد تس َّم ْرنا يف هذه‬
‫األرض كطريٍ مكسور الجناح‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ولكن ههنا فرق بيننا وبني الطيور يا ديك؛ ألن أجنحتنا ال‬
‫تزال غري مسومة‪ ،‬ولم يرض بها يشء‪ ،‬وأؤمل أن يتيرس لنا العمل بها بعد‪.‬‬
‫فصاح يوسف ً‬
‫قائل‪ :‬آه ثم آه من ريح تذهب بنا وتبلغنا إىل عني أو برئ‪،‬‬
‫كاف‪ ،‬وباملاء ننتظر شه ًرا‬
‫فحينئ ٍذ ال نعود نحتاج إىل يشء؛ فإن زادنا ٍ‬
‫بتمامه وال نحتمل عذا ًبا‪ ،‬وأما العطش فهو رش مصيبة وبلية‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ً‬
‫عامل عىل تعذيبهم‪ ،‬بل كان عقلهم مضطر ًبا‬ ‫فلم يكن العطش وحده‬
‫ملراقبة الصحراء مراقبة دائمة‪ ،‬ألن الرمال كبحر غطمطم؛ ليس فيها‬
‫ُّ‬
‫تل وال عوج وال حصاة واحدة لتقف أنظارهم عليها‪ ،‬فقد جرح فؤادهم‬
‫انبساط تلك الفسحة املتساوية السطح‪ ،‬وأصابهم بالداء املعروف بداء‬
‫القفار‪ ،‬ولعمري إن النظر إىل زرقة تلك السماء غري املتغرية والتأمل يف‬
‫اصفرار تلك الرمال الجزيلة املدى مما يفيض باملرء إىل الهلع والرعب‪،‬‬
‫وكانت حرارة الجو امللتهب نامية متزايدة‪ ،‬وكأنها بارتجاف لهيب األتون‬
‫املضطرم‪ ،‬فإذا ما تأمل العقل يف ذلك الرواق البليغ خاب منه كل أم ٍل من‬
‫النجاة‪ ،‬ولم يجد بدًا من الهالك يف هاتيك الطلول‪ ،‬وال يخال بذهنه ما من‬
‫شأنه أن يفرج همه؛ ألن االتساع املديد نوع من األبدية‪.‬‬

‫ولهذا ملا فرغ املاء عند املسافرين الثالثة وهم مقيمون يف تلك الصحراء‬
‫الحارة أخذوا يشعرون بالتصورات الغريبة الخالية من الصواب‪ ،‬وقد‬
‫كربت عيونهم واضطرب برصهم‪.‬‬

‫فلما رفرفت أجنحة الظالم وخيم الغسق عزم َّ‬


‫العلمة عىل أن َينْ ُق َ‬
‫ض تلك‬
‫الحالة املقلقة بسريٍ رسيع؛ فأراد أن يطوف تلك الصحراء مدة ساعات ال‬
‫لالستقراء بل للميش‪.‬‬

‫فقال لرفيقيه‪ :‬هلما بي يا رفيقي لنسري مدة ألن املسري يجدينا نفعًا‬
‫ً‬
‫جزيل‪.‬‬

‫ً‬
‫مستحيل؛ ألني ال أستطيع أن أخطو‬ ‫قال ديك‪ :‬إنك تطلب مني أم ًرا‬
‫خطوة واحدة‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫أحب إيل الرقاد يا موالي‪.‬‬
‫قال يوسف‪ُّ :‬‬
‫قال‪ :‬ولكن سيجلب عليكما الرقاد أو الراحة رض ًرا يا رفي َق َّي فانقضا ً‬
‫إذا‬
‫ش؛ ما بالكما ال تسمعان؟!‬ ‫هذا الخمود واالرتخاء‪ ،‬وتعاليا معي َن ْم ِ‬

‫فلم يجبه رفيقاه عن سؤاله‪ ،‬ولذا ذهب وحده يميش يف تلك الليلة الشفافة‬
‫املتأللئة بالنجوم والكواكب املرصعة يف القبة الالزوردية‪ ،‬فرأى خطواته‬
‫األوىل مضنكة له جدًا؛ إذ إنها خطوات إنسان واهن لم يمارس امليش من‬
‫برهة طويلة‪ ،‬لكنه علم أنه يجني نفعًا من هذه الرياضة فسار بعض‬
‫األميال نحو الجهة الغربية‪ ،‬وأخذ عقله يتشدد وإذا فجأة أصابه داء األوام‪،‬‬
‫«هو دوار الرأس»‪ ،‬فظن يف نفسه أنه عىل حافة الهاوية‪ ،‬وأن ركبتيه انثنتا‪،‬‬
‫وألقت الصحراء يف قلبه رجفة الرعب والهلع‪ ،‬فتوارت املنصورة عن عينيه‬
‫يف حلكة الظالم‪ ،‬وثقلت عىل رأسه أحمال الخوف والفزع‪ ،‬وهو املسافر‬
‫املشهور بالشجاعة والجراءة فحاول الرجوع إىل الوراء ولكن كان سعيه‬
‫باطل‪ ،‬ثم نادى فلم يجبه أحد حتى وال الصدى‪ ،‬وسقط صوته يف الفضاء‬ ‫ً‬
‫كما يسقط حجر يف هوة ال قياس لعمقها‪ ،‬ثم ارتمى عىل الرمل مضطجعًا‬
‫خائر القوى‪ ،‬وليس له رفيق يف وسط ذلك القفر الصامت املخيف‪.‬‬

‫وعند انتصاف الليل عاد إىل حواسه وهو بني يدي يوسف خادمه األمني‬
‫ألنه؛ أي يوسف‪ ،‬ملا رأى أن قد طالت غيبة سيده أخذه القلق وهرول ً‬
‫حال‬
‫يتبع آثاره املطبوعة عىل الرمل بجالء تام فوجده مغشيًا عليه‪.‬‬

‫وملا أفاق قال له‪ :‬ما الذي أصابك يا موالي؟‬


‫فقال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬ليس ذلك شيئًا‪ ،‬بل هو َ‬
‫ض ْع ٌف َو ْقت ٌِّي‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال يوسف‪ :‬نعم ليس ذلك شيئًا‪ ،‬ولكن انهض واستند عيل لنرجع إىل‬
‫منصورتنا‪.‬‬
‫العلمة عىل ذراع يوسف‪ ،‬وعاد يف الطريق التي سلكها ً‬
‫قبل‪.‬‬ ‫فاتكأ َّ‬

‫فقال يوسف‪ :‬لم خاطرت بنفسك يا نفيس بال فطنة؟!‬


‫ً‬
‫ضاحكا‪ :‬وربما كنت تشلحت من اللصوص‪ ،‬ولكن مالنا ولهذا‬ ‫ثم قال‬
‫الحديث فلنتكلم بجدٍ‪.‬‬

‫مصغ لكالمك‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قل يا يوسف ما بدا لك؛ فإني‬

‫قال يوسف‪ :‬ال بد من أن نعمد إىل عمل؛ ألن حالتنا ال تدوم عىل هذا املنوال‬
‫أكثر من عدة أيام وإذا لم َت ُم َّن الريح علينا بمهبها هلكنا ال محالة‪.‬‬
‫فلم يأت َّ‬
‫العلمة بجواب‪.‬‬

‫فاستتىل يوسف كالمه قائال‪ :‬يجب أن واحدًا منا يبذل نفسه حبًا برفيقيه‪،‬‬
‫ومن الصواب أن أكون أنا ذلك الواحد‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وما املراد بقولك؟!‪ ...‬وما هو قصدك يا يوسف؟!‪...‬‬

‫قال يوسف‪ :‬إنما هو قصد سهل جدًا؛ فإني آخذ معي زادًا وأميش دائ ًما‬
‫إىل أن أبلغ مكا ًنا؛ ففي غضون ذلك إذا افتقدكما املوىل بريح موافقة‬
‫فتسافران وال تنتظراني‪ ،‬وأما أنا فإذا وصلت إىل قرية أقيض مصلحتي‬
‫ببعض كلمات عربيّة آخذها منك ً‬
‫خطا؛ فإما أني آتيكما باملساعدة الالزمة‪،‬‬
‫وإما أني أترك جلدي هناك؛ فما قولك دام فضلك؟‬

‫‪26‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن قصدك خا ٍل من التعقل والفطنة لكنه جدير بشهامة‬
‫قلبك يا يوسف؛ فإن ذا األمر مستحيل وال نرتكك تذهب عنا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬سيدي ال بد من أن نمتحن أم ًرا؛ فإن هذا ال يجلب عليك‬


‫مرضة؛ ألني أقول لك تكرا ًرا إنك ال تنتظرني عند هب الريح‪ ،‬ويف حرص‬
‫املعنى أنا أرجو النجاح يف مصلحتي‪.‬‬

‫أصل بعضنا عن بعض؛‬ ‫كل يا يوسف؛ فال يفرتق ً‬ ‫كل‪ ،‬ثم َّ‬ ‫العلمة‪َّ :‬‬
‫قال َّ‬
‫هم‪ ،‬فإنه قد ُكت َِب ما جرى لنا‪ ،‬وربما قد ُكت َِب‬
‫ألن االفرتاق يزيدنا غ ًما عىل ٍ‬
‫إذا أن ننتظر بصربٍ جميل‪.‬‬‫أيضا أنه سيحدث خالفه يف املستقبل؛ علينا ً‬ ‫ً‬

‫لم يلبث النازل أن يرتحال‬ ‫فاصرب لضيق بك يو ًما نزال‬

‫قال يوسف‪ :‬فليكن كما قلت يا موالي ولكن دعني أ َ ُق ْل لك إني ال أصرب‬
‫يوم واحد؛ ها قد بلغنا يوم األحد أو باألحرى االثنني؛ ألنها‬
‫ما ناف عن ٍ‬
‫الساعة الواحدة من بعد انتصاف الليل‪ ،‬فإذا مىض يوم االثنني ودخل يوم‬
‫الثالثاء ولم نمش بارشت قصدي ال محالة‪.‬‬

‫العلمة عن مقال خادمه‪ ،‬وبعد قليل بلغ املنصورة وجلس يف‬‫فما أجاب َّ‬
‫غائصا يف بحر السكوت املطلق‪ ،‬ولو أنه‬
‫ً‬ ‫قاربها بالقرب من ديك الذي كان‬
‫غري نائم حقيقة‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪28‬‬
‫الفصل الخامس والعرشون‬
‫يف اشتداد الحرارة وفروغ آخر نقطة من املاء وليايل اليأس ومحاولة‬
‫ديك قتل نفسه وهبوب السموم‬

‫‪29‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪30‬‬
‫فلما أصبح الصباح يف اليوم الثاني كانت أول نظرة َّ‬
‫العلمة إىل زيبق‬
‫انخفاضا طفي ًفا‪.‬‬
‫ً‬ ‫امليزان فرأى أنه بالكاد انخفض‬

‫فقال يف نفسه‪ :‬ما من يشء جديد‪.‬‬

‫فخرج من املركبة وتطلع يف الجو ليفحص حالة الهواء فلم يجد سوى‬
‫الحرارة نفسها والنقاوة املألوفة يف الجو وثبوت الحال عىل املنوال القديم‬
‫من دون دليل ينبئ عن َت َغ ُّيٍ قريب األمد‪.‬‬
‫فصاح حينئ ٍذ ً‬
‫قائل‪ :‬وهل ً‬
‫إذا يجب علينا قطع األمل عىل اإلطالق‪.‬‬
‫ً‬
‫ومتأمل بما صممه من‬ ‫ً‬
‫خائضا يف عمق أفكاره‬ ‫أما يوسف فكان صامتًا‬
‫القصد الثابت‪.‬‬

‫ً‬
‫مريضا وقد تشددت قواه الحيوية بنوع‬ ‫أما ديك فاستفاق من النعاس‬

‫‪31‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫خارق العادة؛ فكبله العطش بسالسل نوائبه‪ ،‬وصده انتفاخ لسانه‬


‫وشفتيه عن التفوه بالكالم‪.‬‬

‫وقد ذكرنا فيما مىض أن نقطات من املاء كانت ال تزال محفوظة يف آنية‬
‫والرفاق الثالثة لهم علم بها فجعلوا يردونها يف أفكارهم‪ ،‬وقلوبهم مشتاقة‬
‫إليها اشتيا ًقا عظي ًما دون أن يجرس أحد عىل االرتشاف بها‪.‬‬

‫ثم أخذ بعضهم ينظر إىل بعض‪ ،‬وأعينهم زائغة تائهة‪ ،‬وقلوبهم مفعمة‬
‫ً‬
‫خامل كل الخمول الستمساكه‬ ‫حرصا وحشيًا‪ ،‬وكان ديك عىل الخصوص‬
‫ً‬
‫غائصا يف بحر‬
‫ً‬ ‫عما ال يطيق املرء االستمساك عنه‪ ،‬فقىض النهار كله‬
‫الهذيان‪ ،‬وهو ذاهب آيب ويضج بأصوات البحة الخشنة‪ ،‬ويعض قبضة‬
‫كفه وكأنك به قد تأهب لفتح عروقه ومص دمه‪.‬‬
‫ثم صاح ً‬
‫قائل‪ :‬وياله وياله من هذه البالد!‪ ...‬بالد العطش والجفاف‪،‬‬
‫فاألصح أن تدعى بالد اليأس والقنوط‪.‬‬

‫قال هذا وسقط عىل األرض واهنا منحط القوى‪ ،‬ولم ُي ْس َم ْع له سوى‬
‫صفري تنفسه بني شفتيه الظامئتني‪.‬‬

‫وعند املساء ُبيل يوسف ً‬


‫أيضا ببدء داء الجنون؛ فخيل له أن الصحراء‬
‫صاف‪ ،‬فجعل يرتمي‬
‫ٍ‬ ‫الشاسعة تحاكي بحرية عظيمة فيها ماء رائق‬
‫ً‬
‫عاجل وشفتاه‬ ‫مرا ًرا عىل تلك الرمال امللتهبة لريتشف منها‪ ،‬وكان ينهض‬
‫ملوثتان بالرتاب‪.‬‬

‫وتعسا لك يا أيتها البحرية‬


‫ً‬ ‫فحينئ ٍذ كان يقول لها بغضب وحنق‪ً :‬‬
‫ويل‬
‫املشؤومة؛ فإن ماءك مالح للغاية‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫العلمة وديك متمددين ال يبديان حركة طرق يوسف فكر أن‬ ‫وفيما كان َّ‬
‫يأتي ويروي غليل ظمئه بتلك النقطات املحفوظة من َّ‬
‫العلمة إىل ساعة‬
‫الضيق األخرية‪ ،‬فوثب عىل املركبة زاح ًفا عىل ركبتيه وكشف اآلنية الحاوية‬
‫ما فضل من املاء‪ ،‬وإذ حدَّق فيها عينيه أخذها بيده وجعلها عىل ثغره‪.‬‬

‫قادحا منقطعًا يرصخ ويقول‪ :‬اسقني‬


‫ً‬ ‫ففي الساعة والحال سمع صو ًتا‬
‫اسقني‪.‬‬
‫ً‬
‫مقبل‬ ‫فما كان هذا َّإل صوت الصياد الذي رأى يوسف يرشب املاء َّ‬
‫فدب‬
‫ً‬
‫وشفقة‬ ‫إليه وجثا أمامه عىل ركبتيه باكيًا‪ ،‬فتحرك قلب يوسف شجنًا‬
‫وبكى هو ً‬
‫أيضا‪ ،‬وناول ديك اآلنية فأفرغها الصياد يف فيه إىل آخر نقطة‬
‫منها‪.‬‬

‫ثم قال ليوسف‪ :‬أشكر فضلك يا خلييل وعزيزي‪.‬‬

‫أما يوسف فلم يسمعه؛ إذ سقط عىل الرمل واهنًا وغاب عن حواسه‪.‬‬

‫فمن يا ترى يعلم ما جرى يف تلك الليلة الهائلة ‪ ...‬وملا أصبح الثالثاء‬
‫تصب نا ًرا عليهم‪ ،‬فرأوا‬
‫ُّ‬ ‫استيقظ الرفاق الثالثة‪ ،‬وكانت الشمس كمرشة‬
‫أعضاءهم آخذة يف الجف واليبس رويدًا رويدًا‪ ،‬وملا أراد يوسف أن يقوم‬
‫حراكا‪ ،‬ولهذا أضحى لديه من املستحيل أن يتمم‬ ‫ً‬ ‫عىل قدميه لم يستطع‬
‫ما نواه من العمل‪.‬‬

‫جالسا يف املركبة منحط القوى‪،‬‬


‫ً‬ ‫ثم جال بعينيه حوله فشاهد َّ‬
‫العلمة‬
‫مكتف اليدين عىل صدره‪ ،‬وهو يشخص يف املسافة شخصة أبله نظر إىل‬
‫نقط ٍة خيالية‪ ،‬أما ديك فكان منظره يهيل البرص وهو يحرك رأسه ذات‬

‫‪33‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫اليمني وذات الشمال كوحش ضا ٍر منحبس يف القفص‪ ،‬ثم وقف فجأة‬


‫وأحدق بسالحه «القرابينة» املوضوعة يف املركبة بالقرب منه‪.‬‬

‫ً‬
‫راكضا‬ ‫وبعده نهض متشددًا بقوة خارقة للطبيعة وقال‪ :‬آه ثم آه ثم أقبل‬
‫كأبله ومجنون‪ ،‬وأخذ القرابينة‪ ،‬وأحكم فوهتها عىل فيه‪.‬‬

‫فوثب عليه يوسف وقال له‪ :‬سيدي ما بالك؟!‬

‫فقال الصياد شاه ًقا‪ :‬دعني واذهب عني‪.‬‬

‫وأخذ كالهما يتصارعان ويتنازعان‪.‬‬


‫فقال ديك‪ :‬رح رح عني ّ‬
‫وإل لقتلتك‪.‬‬

‫أما يوسف فلبث ناشبًا فيه بيديه وتصارعا برهة‪ ،‬ولم يلتفت إليهما‬
‫العلمة‪ ،‬ويف غضون القتال أطلق الرصاص من السالح بغتة فدوى‬ ‫َّ‬
‫الصوت يف الصحراء‪ ،‬وعندها قام َّ‬
‫العلمة وأجال برصه حواليه‪.‬‬

‫وفيما هو عىل هذه الحال إذ تشدد برصه عىل الفور‪ ،‬وم َّد يده نحو األفق‬
‫ً‬
‫صارخا‪ :‬هناك هناك هناك!‬ ‫وصاح‬

‫وقد خالج تلك األلفاظ حركة حماسة شديدة‪ ،‬حتى افرتق يوسف وديك‬
‫عن بعضها‪ ،‬وجعال يتطلعان إىل بعضهما‪.‬‬

‫فكانت الصحراء مضطربة كما يضطرب البحر ويتموج يوم تقصف‬


‫فيه العاصفة‪ ،‬وقامت أمواج مزبدة من الرمال تنترش ويلتف بعضها عىل‬
‫بعض‪ ،‬وعامود سحابي آتٍ من جنوب الرشق‪ ،‬مستدي ًرا متقلبًا سار ًيا‬
‫‪34‬‬
‫برسعة عجيبة‪ ،‬والشمس إذ ذاك مسترتة وراء سحابة كثيفة‪ ،‬فأرسل‬
‫ظلها بساطه حتى املنصورة‪ ،‬وحبات الرمل الناعمة تكر َك َّر الجزيئات‬
‫مقبل إليهم‪ ،‬فأرشقت أنوار األمل عىل‬ ‫ً‬ ‫املائعة‪ ،‬ولم يزل ذلك املوج الرميل‬
‫قلب فرغوسن وتألألت عىل محياه‪ ،‬ثم صاح ً‬
‫قائل‪ِ :‬ن ِع َّما!‪ِ ...‬ن ِع َّما!‪ ...‬هوذا‬
‫السموم قد أقبلت!‬

‫فقال يوسف‪ :‬ولم يفهم معنى ذلك‪ِ :‬ن ِع َّما ِن ِع َّما السموم!‬

‫فقال ديك بصوت الغضب واليأس‪ :‬دع السموم تهب؛ فإنها تذيقنا كأس‬
‫املنون‪.‬‬
‫فقال له فرغوسن‪َّ :‬‬
‫كل يا ديك؛ فإنها تأتينا بكأس الحياة‪.‬‬

‫وجعل يرمي من املركبة ما كان فيها من الرمال‪.‬‬

‫ففهم أخريًا رفيقاه‪ ،‬ورشعا يساعدانه يف عمله‪ ،‬ثم جلسوا يف املركبة‪.‬‬


‫ً‬
‫رطل من‬ ‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬واآلن يا يوسف أكرم عيلَّ بإلقاء نحو خمسني‬
‫معدنك!‬

‫أسف زائل‪ ،‬وإذا‬


‫ٍ‬ ‫فبادر يوسف إىل إجراء أمر سيده‪ ،‬مع أنه شاعر بأثر‬
‫بالقبة الهوائية تعلو عن األرض وترتفع‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قد حان أوان ارتفاعك يا قبة الخري‪.‬‬

‫فأتت السموم بمهبها الرسيع كالربق الالمع‪ ،‬وكادت لفورتها تسحق‬


‫املنصورة وتالشيها‪ ،‬وقد أمطرت عليها الرمال َكالْ َبَد‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ارم بعد من الثقل يا يوسف‪.‬‬ ‫فصاح َّ‬


‫العلمة إىل يوسف‪ ،‬وقال‪ِ :‬‬
‫فألقى يوسف قطعة كبرية من املعدن الذهبي‪.‬‬

‫وقال ها أنا ذا قد رميت؛ فليطرب منك الخاطر‪.‬‬

‫فارتفعت حينئ ٍذ املنصورة فوق فورة الهواء‪ ،‬وملا وصلت إىل العالء انجذبت‬
‫سابحة عىل ذلك البحر املزبد برسعة ال ح َّد لها‪.‬‬

‫فلم يتكلم أحد من الرفاق الثالثة‪ ،‬بل كانوا شاخصني ومتأملني‪ ،‬وقد‬
‫ب ّردتهم ريح العاصفة‪.‬‬

‫وعند الساعة الثالثة خمد االضطراب‪ ،‬وسقط الرمل عىل األرض‪ ،‬وك َّوم‬
‫فيها الروابي‪ ،‬وعادت السماء إىل رواقها األصيل‪.‬‬

‫عندها وقفت املنصورة عن املسري‪ ،‬فحامت بالقرب من غوطة هي كجزيرة‬


‫خرضاء عائمة عىل سطح ذلك البحر الرميل‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هو ذا املاء!‪ ...‬هو ذا املاء!‪ ...‬وال ريب يف ذلك‪.‬‬

‫وللحال فتح اللولب األعىل فانرسب جانب من اإلدروجن‪ ،‬ونزلت القبة‬


‫حتى لم تبعد عن الغوطة َّإل بنحو مائتي قدم‪.‬‬

‫وأما املسافة التي جازها املسافرون يف برهة أربع ساعات فبلغت مائتني‬
‫ميل؛ أي زهاء مسافة ‪ 100‬ساعة‪.‬‬‫وأربعني ً‬

‫وعند دنو القبة من األرض نزل ديك ويوسف قافزين عن املركبة‪ ،‬فقال‬
‫لهما َّ‬
‫العلمة‪ :‬كونا عىل حذر‪ ،‬وخذا معكما البواريد!‬
‫‪36‬‬
‫فوثب ديك عىل قرابينته‪ ،‬وضبط يوسف بارودته‪ ،‬وتقدما رسيعًا حتى‬
‫وصال إىل األشجار‪ ،‬ودخال تحت تلك الخرضة الرطبة فاستبرشا من ذلك‬
‫بماء غزير‪ ،‬لكنهما لم يكرتثا ببعض آثار حديثة عريضة رسمت يف تلك‬
‫األرض الناعمة‪.‬‬

‫وفيما هما يمشيان إذ سمعا زئريًا عن بعد نحو عرشين قد ًما‪ ،‬فقال‬
‫يوسف‪ :‬إنما هذا زئري أسد!‬
‫ً‬
‫مغتاظا‪ :‬دعه يزأر؛ فإني أود معاركته!‪ ...‬ترى كم أننا أقوياء‬ ‫فقال ديك‬
‫عند القتال‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬ولكن حذا ِر حذا ِر! ولريشدك التأني والحرص‪ ،‬ألن حياتنا‬
‫ببعض بخيط‪ ،‬فإذا ذهبت حياة الواحد‬
‫ٍ‬ ‫نحن الثالثة متعلِّق بعضها‬
‫حصلت حياة اآلخرين يف خطر‪.‬‬

‫ص ِغ ديك لكالم يوسف‪ ،‬بل تقدم كأس ٍد ضا ٍر‪ ،‬ورشا ُر الحماسة‬ ‫فلم ُي ْ‬
‫والجسارة تقدح من عينيه‪ ،‬وسالحه مذخور يف يديه؛ ففي ظل نخل ٍة كان‬
‫سبع ذو ناصية سوداء مستكنًا كامنًا للقتال‪ ،‬فما إ ِ ْن برص بالصياد قفز‬
‫ليثب عليه‪ ،‬ولكن بالكاد استوى قائ ًما حتى بادرته رصاصة خرقت قلبه‬
‫كالصاعقة‪ ،‬وجندلته عىل األرض ميتًا‪.‬‬
‫فصاح يوسف ً‬
‫قائل‪ :‬عافاك الله عافاك يا سيدي! أما ديك فبادر إىل البرئ‬
‫عد ًوا ونزل إليه عىل درج رطب‪ ،‬ثم تمدد أمام عني ماء بارد وغمس شفتيه‬
‫فيه بلهوجة‪ ،‬ثم حذا حذوه رفيقه يوسف‪ ،‬ولم يعد يسمع لهما سوى لعق‬
‫املاء لريتويا من شدة ظمئهما‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فبعد أن رشب يوسف تنفس وقال‪ :‬حذا ِر حذا ِر يا ديك! ال تطمع َّن يف‬
‫الرشب! فإن الطمع ّ‬
‫رض ما نفع!‬

‫أما ديك فلم يلتفت إليه‪ ،‬بل ما زال يروي غليل عطشه‪ ،‬وقد غطس يف ذلك‬
‫املاء اللذيذ رأسه ويديه‪ ،‬وكأنه يحاول الثمل بمثل تلك الخمرة‪.‬‬
‫فقال يوسف‪ :‬وسيدي فرغوسن َّ‬
‫هل نفتكر فيه!‬
‫فما انتبه الصياد َّإل عند ذكر َّ‬
‫العلمة فرغوسن‪ ،‬وللحال مأل آنية كان قد‬
‫أحرضها معه وأراد الطلوع عىل درج البرئ‪.‬‬
‫ً‬
‫اندهاشا عظي ًما؛ إذ وجد نافذة البرئ قد سدها جسم عظيم هائل‬ ‫فاندهش‬
‫كثيف جدًا‪ ،‬ثم ارتد يوسف نظريه؛ إذ كان تابعًا له‪.‬‬

‫فقال حينئذٍ‪ :‬ها قد سجنا يف رش الحبوس!‬

‫قال ديك‪ :‬وياله! ما املعنى بذلك‪ ،‬وما هذا األمر؟!‬

‫فما فرغ من كالمه َّإل سمع زئريًا‪ ،‬فعرف وقتئ ٍذ من هو ذلك العدو الباسل‬
‫السا ُّد مدخل البرئ‪.‬‬

‫فقال له يوسف‪ :‬إنه سبع‪.‬‬


‫كل؛ بل هي لبوة نحس الله طالعها‪ ،‬ولكن فلتصرب ً‬
‫قليل؛ فعيل‬ ‫قال ديك‪َّ :‬‬
‫بتدبريها‪.‬‬

‫ثم جعل يذخر سالحه برسع ٍة ونشاط‪.‬‬

‫وما مضت برهة َّإل أرضم النار‪ ،‬فكان الحيوان قد توارى عن األبصار‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫فقال لرفيقه‪ :‬هيا بنا هيا!‬

‫فقال يوسف‪ :‬كيف نطلع وبعد لم تقتلها رصاصتك؟! ألنها لو كانت‬


‫خارجا‪ ،‬ومتأهبة لتثب عىل من‬
‫ً‬ ‫ماتت لتدحرجت إىل هنا‪ ،‬وهي اآلن واقفة‬
‫أول؛ فهو يكون فريستها ونصيبها‪.‬‬‫يخرج منا ً‬

‫قال الصياد‪ :‬وما الحالة ً‬


‫إذا؟! وهل نلبث يف هذه البرئ محبوسني ورفيقنا‬
‫فرغوسن ينتظرنا بفروغ صرب؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬فلنجذب إلينا الحيوان؛ خذ بارودتي وأعطني سالحك!‬

‫قال ديك‪ :‬وما مرادك أن تصنع؟‬

‫قال‪ :‬سرتى اآلن‪.‬‬

‫فأخذ يوسف بردته وجعلها عىل رأس السالح‪ ،‬وأطلعها إىل فوق كطعمة‬
‫للبوة‪ ،‬فهجمت اللبوة‪ ،‬وكان ديك يرتقبها فرضبها برصاص ٍة أصابت‬
‫كتفها‪ ،‬فتدحرجت حينئ ٍذ عىل الدرج وهي زائرة‪ ،‬وقلبت يوسف فظ َّن هذا‬
‫أنها غرزت يف جسمه براسنها لتفرتسه‪ ،‬وإذا برضب ٍة ثانية أصابت اللبوة‪،‬‬
‫فكان إذ ذاك فرغوسن قد ظهر عىل نافذة البرئ وبارودته معه‪ ،‬والدخان‬
‫منها متأصد‪ ،‬فزحف يوسف من تحت اللبوة‪ ،‬وجاز من فوق جسمها‬
‫وأعطى مواله فرغوسن آنية املاء‪ ،‬ويف رمشة عني رفعها َّ‬
‫العلمة إىل فيه‬
‫ً‬
‫جزيل من صميم‬ ‫وأفرغ نصفها‪ ،‬وحينئذ أسدى املسافرون الثالثة شك ًرا‬
‫الفؤاد إىل عناية الرحمن التي حفظتهم من رش الغوائل‪ ،‬ونجتهم بنوع‬
‫عجيب من كوارث الحدثان‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الفصل السادس والعرشون‬
‫يف الليلة املبهجة وقصة جمس أبروس وانخفاض البارومرت وطلوعه‬
‫والتأهب للرحيل وثوران الزوبعة‬

‫‪41‬‬
‫فكانت ليلة مبهجة تطرب الخاطر؛ إذ قضوها يف روض ٍة أريضة نارضة‬
‫تحت ظل الشجر‪ ،‬بعد أن تناولوا طعا ًما ً‬
‫لذيذا ق َّوى أبدانهم‪ ،‬ولم يهملوا‬
‫رشب الشاي والعرق املمزوج باملاء‪.‬‬

‫وكان قد طاف الصياد تلك الغوطة بجميع آفاقها‪ ،‬واستقرأ سائر أجماتها‬
‫َّ‬
‫اطمأن تما ًما‬ ‫وأدغالها‪ ،‬فلم يجد يف ذلك الفردوس األريض ذا ًتا حيوية‪ ،‬وإذ‬
‫قد رقدوا جميعًا ملتحفني بأغطيتهم‪ ،‬وذاقوا يف وسنهم لذة الراحة‪ ،‬ووىل‬
‫عنهم مدب ًرا ذكر الغموم والباليا الغابرة‪.‬‬

‫وملا كان الغد‪ ،‬وهو السابع من شهر أيار‪ ،‬أرشقت الشمس بأنوارها‬
‫الساطعة‪ ،‬فلم يحرتق كثيف الشجار واآلجام امللتفة املظللتهم بظلها‪،‬‬
‫وقصد املسافرون االسرتاحة يف تلك الروضة‪ ،‬منتظرين هبوب الريح‬
‫ً‬
‫جزيل واف ًرا‪ ،‬أما‬ ‫املوافقة‪ ،‬ولم يصدهم عن ذلك مانع؛ إذ كان زادهم‬

‫‪43‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫يوسف فنقل أدوات مطبخه إىل تلك الجنينة‪ ،‬وكان يشكل طبخ األطعمة‬
‫ويبذر املاء بال توفري وال اكرتاث‪.‬‬

‫فقال الصياد‪ :‬يا للعجب من هذا الفرج العجيب بعد ذلك الضيق! وهذه‬
‫األفراح بعد تلك الغموم واألتراح! وهذا الريعان بعد ذلك املحول! وهذا‬
‫الغنى بعد ذلك الفقر! فلله َد ُّر من قال‪:‬‬

‫فال حزن يدوم وال رسو ُر‬ ‫رأيت الدهر مختل ًفا يدو ُر‬

‫ولعمري؛ لقد ناهزت افتقاد مخيلتي يف تلك الساعة الهائلة!‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬لوال يوسف ما كنت اآلن تحدثنا عن اختالف أحوال الدهر‬
‫وانقالبها‪ ،‬وإقبال الدنيا وإدبارها‪.‬‬

‫فم َّد ديك يده إىل يوسف‪ ،‬وقال له‪ :‬خلييل وصديقي! ال ُشلَّت يداك‬
‫املحسنتان!‬

‫فقال يوسف‪ :‬ال يحمل األمر مثل هذا الشكران؛ فعليك أن ترد يل العوض‬
‫أحب إيل َّأل أحتاج إىل مثل تلك املعاونة‪.‬‬
‫إذا مست الحاجة إىل ذلك‪ ،‬غري أنه ُّ‬
‫َ‬
‫انحطاطنا ألمر طفيف!‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬يا لضعف طبيعتنا! وما أسهل‬

‫قال يوسف‪ :‬ألعلك مشري إىل القليل من املاء الذي نتلف بدونه؛ فهذا دليل‬
‫عىل أن املاء لعنرص كيل الرضورة لحياة اإلنسان‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال ريب يف ذلك‪ ،‬والذين يحرمون األكل يحتملون عدمه أكثر‬
‫من الذين يحرمون الرشب‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫قال يوسف‪ :‬نعم هذا صحيح؛ إذ إنه عند الرضورة يأكل اإلنسان كل ما‬
‫يصادفه‪ ،‬حتى وشبيهه ولو كان ذا الطعام مما ال تحتمله املعدة بسهولة‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬إن الربابرة ال يفوتهم هذا األمر‪ ،‬وال يصعب عليهم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أجل‪ ،‬ولكن هم متوحشون وبرابرة‪ ،‬وقد تعودوا أكل اللحم‬
‫النيِّئ فهذا مما تشمئز منه طبيعتي غاية االشمئزاز‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬يف الحقيقة؛ إن هذا مما تنفر منه الطبيعة نفو ًرا شديدًا‪،‬‬
‫ولهذا ملا حمل إىل أوربا السواح الذين دخلوا بطون إفريقية األخبار عن‬
‫بعض أقوام برابرة كانوا يقتاتون بلحم غري ناضج‪ ،‬فلم يؤخذ كالمهم عىل‬
‫محمل الصدق‪ ،‬ويف مثل هذه الظروف‪ ،‬وقع لجمس بروس حادث غريب‬
‫ومضحك جدًا‪.‬‬

‫فقال يوسف وقد تمدد باسرتخاء عىل الخرضة الغضة‪ :‬احك لنا هذا‬
‫الحادث؛ فإن لنا وقتًا لنسمعه!‬
‫ً‬
‫وطاعة‪ ...‬اعلما‪ ،‬وفقكما املوىل‪ ،‬أن جمس بروس‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬سمعًا‬
‫رجل اسكتلندي من إقليم اسرتلينك‪ ،‬وقد طاف بالد الحبشة كلها حتى‬
‫وصل إىل بحرية تيانا قصدًا يف اكتشاف عيون النيل‪ ،‬وذلك من سنة ‪1768‬‬
‫إىل سنة ‪.1772‬‬

‫ثم رجع إىل بالد اإلنكليز ولم يشهر فيها رحالته َّإل سنة ‪ ،1790‬فلم‬
‫تتصدق أخباره عن أقوام تلك البالد‪ ،‬بل أدخلت يف طي الخرافات‬
‫والخزعبالت‪ ،‬وعىل الخصوص من حيث إن أخالق الحبشة وأطباعهم‬
‫الغريبة تنايف الطباع اإلنكليزية‪ ،‬وتختلف عنها اختال ًفا عظي ًما‪ ،‬ومن جملة‬

‫‪45‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ما رواه جمس بروس أن شعوب إفريقية الرشقية تأكل لح ًما غري ناضج‪.‬‬

‫جزيل‪ ،‬ولم يرتض أحد أن يصدقها‪ ،‬وملا كان‬ ‫ً‬ ‫فهاجت هذه الرواية قو ًما‬
‫بروس عىل جانب من الشجاعة وحدة الطبع اغتاظ كثريًا من شك الناس‬
‫جالسا يف قاعة ادنربج‬
‫ً‬ ‫يف كالمه‪ ،‬ويف ذات يوم كان رجل من بالد وطنه‬
‫فأخذ يعيد عىل سماعه؛ أي سماع بروس‪ ،‬املقاالت نفسها التي اعتاد عىل‬
‫ضحكا عىل روايات بروس‪ ،‬ورصح أمامه‬ ‫ً‬ ‫املزاح بها أهل تلك املحالت‬
‫بصوت عا ٍل أن أكل اللحم النيِّئ هو من املستحيل وال يمكن تصديقه‪ ،‬فلم‬
‫يجاوبه بروس عن كالمه‪ ،‬بل خرج برهة ورجع إليه بقطعة من اللحم‬
‫غري الناضج بعد أن غمسها بامللح والبهار عىل نسق اإلفريقيني‪ ،‬ثم قال‬
‫له‪ :‬سيدي لقد سببت يل إهانة عظيمة‪ ،‬وشتمتني بإظهارك يل ً‬
‫شكا فيما‬
‫رويته‪ ،‬وبزعمك أن ذا من املحال؛ فتأكيدًا لصدق كالمي أجربتك عىل أكل‬
‫هذه القطعة اللحمية غري الناضجة؛ فإما أنك تأكلها َّ‬
‫وإل‪...‬‬

‫فخاف االسكتلندي حينئ ٍذ وأذعن ألمر بروس‪ ،‬وملا تناول قطعة اللحم‬
‫ً‬
‫محافظا‬ ‫كرش عن أسنانه داللة عىل اشمئزازه ونفوره‪ .‬أما بروس فما زال‬
‫عىل استكانته ورواقه‪ ،‬ثم قال‪ :‬ولنفرض سيدي أن القضية التي نحن يف‬
‫صددها غري صادقة؛ فمن اآلن وصاعدًا أقله ال عدت تقول إنها من األمور‬
‫املستحيلة‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬نعم الجواب جواب بروس؛ فلو كان أصاب ذلك الرجل‬
‫تخمة من تناوله اللحم النيِّئ لكان قد نال جزاءه‪ ،‬ولكن يا ترى إذا رجعنا‬
‫إىل بالدنا وشك الناس يف رحلتنا‪...‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬فماذا تصنع حينئذٍ؟!‬


‫‪46‬‬
‫قال يوسف‪ :‬إني سأطعم الذين يشكون يف رحلتنا قطع املنصورة بال ملح‬
‫وال بهار‪.‬‬

‫فضحك الرفيقان من ألفاظ يوسف املزاحية‪ ،‬وهكذا م َّر النهار بأحاديث‬


‫لطيفة‪ ،‬ثم عاد إليهم األمل مع القوة‪ ،‬ومع األمل الجرأة‪ ،‬وأخذ املايض‬
‫باالضمحالل تجاه املستقبل برسعة عجيبة‪.‬‬

‫وقد عز ليوسف السكنى يف ذلك املأوى املطرب‪ ،‬وو َّد لو أنه لم يكن مضط ًرا‬
‫أصل؛ إذ أصبح لديه ذلك املكان كمملكة أحالمه‪ ،‬وظن بنفسه‬ ‫إىل هجرانه ً‬
‫أنه مستق ٌّر يف نفس بيته‪ ،‬ثم طلب من سيده أن ينبئه عن مركزه‪ ،‬وسطر‬
‫ً‬
‫عرضا‪ ،‬أما ديك فلم‬ ‫طول و‪8ْ 32‬‬ ‫يف سجل سفرته أنه يف الدرجة ‪ً 15ْ 43‬‬
‫يحزن سوى عىل أم ٍر واحد‪ ،‬وهو عدم تمكنه من الصيد يف ذلك الغاب‪،‬‬
‫وساءه خلو محطهم من بعض الحيوانات الكارسة‪.‬‬
‫العلمة‪ :‬كأنك يا عزيزي ديك نسيت ً‬
‫حال ذاك األسد وتلك اللبوة؟!‬ ‫فقال َّ‬

‫فقال ديك‪ ،‬بصوت االزدراء‪ :‬هذا يشء ال ُيذكر‪ ،‬ولكن يف الواقع إن وجود‬
‫ذينك الوحشني اللذين أذقناهما كأس املنون مما يجعلنا نخمن بقرب بال ٍد‬
‫أكثر خصبًا وريعا ًنا‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن برهانك يا ديك غري سديد؛ ألن هذه الحيوانات تجوز‬
‫غالبًا مسافات شاسعة لتضورها من الجوع والعطش‪ ،‬واألجدر بنا أن‬
‫نكون عىل حرص وحذر يف الليلة املقبلة ونرضم النريان لئال تدهمنا داهية‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وهل نرضم النريان لتزداد حرارة عىل الحرارة الحارضة‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فال بأس من إرضامها وفا ًقا ملرادك‪ ،‬ولكني عند قطعي وإحراقي تلك‬

‫‪47‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫األشجار البهية الجزيلة النفع فال بد يل من الشعور بغم باطن وتأسف‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬حاشا لنا أن نحرق الغاب بأرسه‪ ،‬فلنحافظ عليه ما أمكنا‪،‬‬
‫حتى إذا بلغه غرينا يجد فيه ملجأ وسط الصحراء‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬نعم القول‪ ،‬ولكن هل تظن يا سيدي أن هذه الروضة عرفت‬
‫من املسافرين؟‬

‫العلمة‪ :‬ال شك يف ذلك؛ ألنها مثوى لقوافل املسافرين يف أواسط‬ ‫قال َّ‬
‫إفريقية‪ ،‬فلو أتونا اآلن زائرين ما رسرت َّإل ما َّ‬
‫قل حسبما ُي َرى يل‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وهل يوجد بعد يف هذه األقطار من أقوام نيام نيام البالغني‬
‫يف التوحش؟!‬

‫العلمة‪ :‬ال ريب يف ذلك؛ إذ إن هذا االسم يعم جميع األقوام الحالِّني يف‬
‫قال َّ‬
‫هذه األقاليم‪ ،‬وجميعهم ذوو عوائد متماثلة‪.‬‬

‫أف‪ ،‬ومع ذلك فإن هذا أمر طبيعي؛ ألنه لو كان أهل‬ ‫أف ٍّ‬ ‫قال يوسف‪ٍّ :‬‬
‫البدو عىل ذوق أهل الحرض فأين يكون الفرق بني كليهما؛ ً‬
‫مثل‪ ...‬إن‬
‫هؤالء األنام األفاضل‪ ،‬أعني بهم الربابرة‪ ،‬ال يقتيض لهم التوسل والرتجي‬
‫ليتلقفوا القطعة اللحمية التي ابتلعها االسكتلندي املذكور آن ًفا‪ ،‬بل‬
‫واالسكتلندي بعينه‪.‬‬

‫وبعد أن قال يوسف هذا ذهب يورث النار لحراستهم يف الليل‪ ،‬لكنه لم‬
‫يشعل َّإل ً‬
‫قليل من الحطب‪ ،‬وذهب ذلك االحتياط هد ًرا؛ إذ لم يقع يشء‬
‫يكدر صفو رقادهم ويقلقهم أدنى قلق‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫ويف الغد لم يتغري الهواء‪ ،‬بل استم َّر عىل استكانته وهدوه‪ ،‬وما برحت‬
‫ً‬
‫أصل لتدل عىل أدنى نسمة‬ ‫القبة الهوائية عديمة الحركة‪ ،‬ولم تتذبذب‬
‫يف الجو‪.‬‬

‫فأخذ الهم يشمل قلب فرغوسن من جراء تلك الحال ألنها إذا طالت عىل‬
‫ذلك املنوال فسينفد زادهم‪ ،‬وفيما كانوا ساب ًقا محتاجني إىل املاء أصبحوا‬
‫حاليًا يف غاية االحتياج إىل الطعام‪ ،‬وذهبوا فريسة الجوع الكلبي‪.‬‬

‫ً‬
‫انخفاضا كثريًا فاطمأن باله وهدأ‬ ‫لكنه نظر إىل ميزان الهواء فرأى فيه‬
‫تغي قريب يف الجو‪ ،‬فعزم‬ ‫روعه‪ ،‬ألن انخفاض الزيبق دليل واضح عىل ُّ‬
‫عىل أن يتأهب للرحيل‪ ،‬وأن يصرب منته ًزا الفرصة األوىل عند مهب الريح؛‬
‫فلذا مأل صندوق إذخار الغاز وصندوق ماء الرشب‪ ،‬ثم أخذ يوازن القبة‬
‫الهوائية‪ ،‬فاضطر يوسف إىل أن يبذل جانبًا عظي ًما من معدنه الغايل‬
‫القيمة‪ ،‬ولو أن الطمع عاوده مع عودة الصحة والقوة فتدلل كثريًا قبل أن‬
‫ُي ْذ ِع َن لسيده‪ .‬أما هذا؛ أي فرغوسن‪ ،‬فبني له أنه ال يستطيع حمالن ثقل‬
‫عظيم‪ .‬وجعله يختار ما بني املاء والذهب‪ ،‬فلم يعتم أن يوسف ألقى عىل‬
‫الرمل كمية وافرة من حجارته العزيزة‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬هذه ذخرية مذخورة ملن يأتي بعدنا من املسافرين؛ فإنهم‬
‫يدهشون عندما يجدون كن ًزا يف مثل هذا املكان‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬وإذا أتى عالم يف الصدفة‪ ،‬وعثر عىل هذه الحجارة املعدنية‪،‬‬
‫فماذا عساه يظن بها؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كن عىل يقني يا صديقي أن تعجبه‪ ،‬وسيكون ذلك عظيما‪،‬‬

‫‪49‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وال بد أنه يشهر ذلك التعجب يف صحف و ُميَا َوماتٍ عدة بكالم مطول‬
‫جدًا‪ ،‬وسيأتي يوم نسمع فيه عن مصادفة طبقة معدنية ذهبية يف وسط‬
‫رمال إفريقية‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ويكون يوسف سبب هذه الحادثة‪.‬‬

‫فتبسم يوسف لهذا املقال‪ ،‬وع َّزى فؤاده عىل ما فقده من املال الوفري؛ إذ‬
‫تصور يف باله أنه يكون سببًا النخداع أحد العلماء‪ ،‬وشحنه كتبًا بأوهامه‬
‫العلمة تغريًا يف الهواء بفروغ الصرب فيما بقي من‬ ‫الباطلة‪ ،‬ثم انتظر َّ‬
‫النهار‪ ،‬لكنه خاب ً‬
‫أمل؛ إذ اشتدت الحرارة‪ ،‬ولوال ظل األشجار لذاقوا ح ًرا‬
‫ال يطاق‪ ،‬ووصل الرتمومرت يف الشمس إىل درجة ‪ 149‬إنكليزية‪ ،‬فكان‬
‫أجيج الرمضاء يجري يف الجو مجرى السيول‪ ،‬وبلغت الحرارة أقىص‬
‫درج ٍة مما صادفه السواح يف الصحراء‪.‬‬

‫فعندما جن الليل أقام يوسف سور الحصار كما يف األمس‪ ،‬وملا كان‬
‫كل منهما يف وقت حراسته‪ ،‬لم يحدث قط يشء‬ ‫العلمة وكنادي ساهرين؛ ّ‬‫َّ‬
‫جديد‪ ،‬ولكن ملا كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل‪ ،‬ويوسف إذ ذاك‬
‫سهران يف دوره انخفضت الحرارة عىل البغتة‪ ،‬وتجلببت السماء بجلباب‬
‫السحاب والغيوم‪ ،‬واحلولك الظالم‪.‬‬
‫ً‬
‫إيقاظا لهما من الرقاد‪ ،‬وقال لهما‪:‬‬ ‫فصاح يوسف يف الحال إىل رفيقيه‬
‫انهضا انهضا؛ فقد أقبل الهواء!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة وهو ينظر إىل السماء‪ :‬حان أخريًا األوان‪ ،‬غري أن هذه زوبعة؛‬
‫فلنرسع إىل املنصورة مبادرين!‬
‫‪50‬‬
‫فكان ال بد من اإلرساع إىل املنصورة؛ ألنها كانت مائلة لشدة الزوبعة‪،‬‬
‫وجارة املركبة عىل الرمال؛ فلو كان قد أُلق َِي يشء مما حوته املركبة من‬
‫الثقل لطارت القبة إىل الجو‪ ،‬ولخيبت منهم كل أم ٍل يف الظفر بها‪.‬‬

‫أما يوسف النشيط فقد عدا عدو خيل السباق وأوقف املركبة‪ ،‬فيما‬
‫كانت القبة متسطحة عىل الرمل‪ ،‬ومناهزة االنخراق‪ ،‬ثم جلس َّ‬
‫العلمة يف‬
‫موضعه‪ ،‬وأرضم القصبة ورمى ما زاد عنده من الثقل‪.‬‬

‫فألقى السواح نظرة أخرية إىل أشجار الغوطة التي كانت تنثني من ثوران‬
‫الزوبعة‪ ،‬وذهبوا متوارين يف ظل ظالم الجو‪ ،‬مع هبوب الريح الرشقية يف‬
‫علو مائتي قدم عن األرض‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪52‬‬
‫الفصل السابع والعرشون‬
‫يف رأي أحد علماء الفرنسيس واملرور بمملكة أداموفا وجبال أتلنتيكا‬
‫ونهر «بنوه» ومدينة يوال وجبل باجلة وجبل منديف‬

‫‪53‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪54‬‬
‫وعندما رحلت القبة أخذت تسري مسريًا رسيعًا جدًا‪ ،‬ولطاملا تمنى السواح‬
‫االبتعاد عن تلك الصحراء التي كادت تدفنهم يف رمالها‪ ،‬وتوليهم الويل‬
‫والتعس‪.‬‬

‫ً‬
‫حشيشا يتمايل يف تلك‬ ‫صباحا شاهدوا‬
‫ً‬ ‫وملا كانت الساعة التاسعة والربع‬
‫َّ‬
‫استدل عىل قرب‬ ‫الرمال‪ ،‬فاستدلوا بها عىل أن األرض قريبة منهم‪ ،‬كما‬
‫األرض ذلك الرجل الشهري الذي اكتشف بالد أمريكا؛ أعني به خرستف‬
‫كوملبو‪ ،‬وبرصوا بنباتات خرضاء تربز ما بني الحىص املشرية إىل قرب‬
‫الصخور والجبال وكانت قصرية جدًا كأنها تخىش الظهور بإزاء الرمال‬
‫املحيطة بها‪.‬‬

‫ثم رقبوا يف األفق آكا ًما معوجة‪ ،‬لكنهم لم يميزوا رسمها ملا عىل قمتها‬
‫من الغيم‪ ،‬وعىل كل حال كان املنظر السابق ً‬
‫آخذا يف الزوال واالضمحالل‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فرحا‬ ‫فقرأ َّ‬


‫العلمة السالم عىل تلك األرض الجديدة‪ ،‬وقلبه إذ ذاك مفعم ً‬
‫وابتهاجا‪ ،‬وكاد يصبح كالبحري الرقيب يف السفينة‪ :‬هو ذا األرض هو ذا‬
‫ً‬
‫األرض! ثم مضت ساعة وتراءت تلك األماكن ألعني َّ‬
‫العلمة بمنظر وحيش‪،‬‬
‫لكنها لم تكن متساوية السطح وجرداء كاألوىل‪ ،‬بل كان أفق السماء‬
‫البعيد ينتقش بصورة بعض أشجار‪.‬‬
‫فقال الصياد‪ :‬قد وصلنا ً‬
‫إذا إىل بال ٍد متمدنة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ما هذا الكالم؟ فإنه بعيد عن اإلصابة؛ إذ لم نر حتى اآلن‬
‫ً‬
‫أهل لهذه البالد‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال يطول بنا املجال حتى نرى سكا ًنا؛ إن بقي سرينا عىل‬
‫ما هو عليه‪.‬‬
‫فقال يوسف‪ :‬سيدي! َّ‬
‫هل نزال يف بالد العبيد والسودان؟!‬

‫قال فرغوسن‪ :‬بىل حتى نبلغ بالد العرب‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ألعلهم العرب العرباء أصحاب اآلبال؟‬


‫كل؛ ليس من اآلبال يف هذه املحال َّإل ما َّ‬
‫قل جدًا‪ ،‬وإذا‬ ‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫طلبتها لوجدتها يف الجهة الشمالية بدرجات‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬قد ساءني هذا الخرب‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وملاذا يا يوسف؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬لو انقلبت الريح وصدتنا عن السري لكانت اآلبال تجدينا‬
‫‪56‬‬
‫ً‬
‫جزيل‪.‬‬ ‫نفعًا‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وكيف نفعتنا؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬سيدي قد طرقني فكر‪ ،‬وهو أننا نقطرها يف املركبة لتجرنا‬
‫ونحن فيها؛ فما قولك يا سيدي؟‬

‫العلمة‪ :‬قد طرق هذا الفكر غريك قبل أن تأتي به؛ فإن أحد علماء‬ ‫قال َّ‬
‫الفرنسيس‪ ،‬أصحاب العقل والذكاء(((‪ ،‬ألف حكاية وذكر فيها مركبة‬
‫َم ُقود ًة بجمال‪ ،‬ثم وثب عليها أسد وافرتسها وابتلع معها الحبل الضخم‬
‫الذي يربطها باملركبة‪ ،‬وأخذ يف جر املركبة‪ ،‬وهل َّم ج ًرا؛ أال ترى يا يوسف‬
‫أن السفر عىل هذا النسق َت َخ ُّيل من الطراز األول‪ ،‬وال مناسبة له من نوع‬
‫مسرينا‪.‬‬

‫فلما رأى يوسف أن رأيه أتى يف بال غريه َقبْلَه َخ ِج َل واختضع‪ ،‬ولكنه أخذ‬
‫يفتكر يف حيوان يستطيع أن يفرتس األسد‪ ،‬وملا لم يجد من له سطوة عىل‬
‫سيد البهائم رجع ينظر إىل البالد ويتأمل هيئتها وشكلها وما تحويه من‬
‫الغرائب‪.‬‬
‫فشاهد بحرية ذات سعة ُو ْس َطى‪ ،‬وحولها آكام ال تستحق أن تدعى ً‬
‫جبال‪،‬‬
‫ورأى أودية كثرية نرضة‪ ،‬وفيها األشجار املتنوعة األجناس ملتفا بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وهناك اإليالنس‪ ،‬وهو جنس من النخل‪ ،‬ذو أوراق عظيمة يبلغ‬
‫طولها نحو خمس عرشة قد ًما‪ ،‬وساقها متنرب باألشواك الحادة‪ ،‬والروائح‬
‫الزكية تفوح من ذلك النبات املشهور بقندة العرب‪ ،‬وهي متصاعدة إىل‬

‫((( وهو العالم مريي‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫طبقة الج ّو السائر فيها السواح بقبتهم‪ ،‬ولم تخل تلك الروضة البهية من‬
‫شجر جوز السودان والبوبات واملوز وخالفها‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وما أحىل هذه الروضة األنيقة!‬

‫قال يوسف‪ :‬ها هي ذي الحيوانات؛ فعما قليل نشاهد الناس‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬كم هي جميلة تلك الفيلة! هل ترى من املمتنع صيدها؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وما الحيلة لنقف يا خلييل‪ ،‬ونحن منجذبون بهذا املهب‬
‫الرسيع الشديد؛ دع عنك هذا املرام‪ ،‬وتمهَّل ً‬
‫قليل‪ ،‬فسوف تجازى عىل‬
‫صربك واحتمالك‪.‬‬

‫ويف الحقيقة أن منظر تلك البهائم كان من شأنه أن يهيج املخيلة‪ ،‬وقد‬
‫أحس ديك بوثب قلبه‪ ،‬وتقلصت أصابعه وهي قابضة عىل السالح‪.‬‬
‫َّ‬

‫وأما حيوانات ذلك الصقع فتضاهي زهارها بهاء ورون ًقا‪ ،‬والثريان‬
‫تتمرغ يف حشيش غليظ‪ ،‬وتتوارى يف خاللها لعل ِّوها وكثافتها‪،‬‬
‫والفيلة الرمادية اللون والسوداء والصفراء ذات القامة الباسقة‬
‫َت ُم ُّر مرور أم زوبعة يف وسط الغابات واألحراش‪ ،‬وهي تحطم‬
‫وتقرض وتجلب الخراب والدمار حيثما جازت‪ ،‬ومجاري املياه‬
‫تخ ُّر يف انحدارها من اآلكام املشجرة هابطة لنحو الجهة الشمال‪،‬‬
‫وهناك خنازير املاء تغتسل وتضج يف اغتسالها‪ ،‬وغريها من البهائم‬
‫ترى مضطجعة عىل شواطئ البحرية‪.‬‬

‫وكان ذلك املكان عجيبًا غريبًا ملا يؤوي من الحيوانات الكثرية املتنوعة‬
‫‪58‬‬
‫األجناس‪ ،‬والطيور غري املحىص عددها وذات األلوان املشكلة‪ ،‬وهي تحوم‬
‫متأللئة فوق النباتات الباسقة والخضار األنيقة‪.‬‬
‫فلما رأى َّ‬
‫العلمة مثل هذا الخصب وهذه النضارة الطبيعية علم أن هذه‬
‫مملكة أداموفا‪.‬‬

‫ثم قال هانحن أوالء نسطو اآلن عىل االكتشافات الحديثة؛ فإني أنهج منهج‬
‫السواح الذين سبقوني‪ ،‬وأسري يف الطريق التي لم يطيقوا تكميلها‪ ،‬فهذا‬
‫من حسن حظي‪ ،‬وإن شاء املوىل سنلحق عن قريب اكتشاف القبطانني‬
‫برتون وأسبيك باكتشافات َّ‬
‫العلمة برث؛ فهناك تركنا اإلنكليز وأتينا إىل‬
‫هنا ملصادفة الهمربجي‪ ،‬وعما قليل نصل إىل آخر محطة وصل إليها هذا‬
‫العالم الجسور‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬يخال يل من املسافة؛ التي جزناها أنه يوجد بون عظيم بني‬
‫األماكن التي قصدها السواح املذكورون‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬تعال نحسب هذه املسافة؛ خذ الخارطة وانظر يف أي طول‬
‫هو رأس البحرية «أوكاروه» حيث وقف السائح أسبيك‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬إنه واقع عىل التقريب يف الدرجة السابعة والثالثني ً‬
‫طول‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وما هو مركز مدينة يوال التي سنصل إليها إن شاء الله يف‬
‫نهاية النهار‪ ،‬وقد بلغها برث الشجاع؟‬
‫قال ديك‪ :‬مركزها يف الدرجة الثانية عرشة ً‬
‫طول‪.‬‬
‫قال فرغوسن‪ً :‬‬
‫فإذا الفرق هو خمس وعرشون درجة‪ ،‬وكل درج ٍة كناية‬

‫‪59‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫عن ستني ً‬
‫ميل‪ ،‬فيكون ً‬
‫إذا الحاصل أل ًفا وخمسمائة ميل‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬لعمري إن ذا فسحة جميلة ملن يو ُّد التنزه ماشيًا‪.‬‬

‫فعل؛ فإن ليونكستون‬‫العلمة‪ :‬ال بد لنا من قطع مثل هذه املسافة ً‬ ‫قال َّ‬
‫ومفات ال يزاالن مقيمني يف قلب إفريقية‪ ،‬وال تبعد نياسا التي اكتشفوها‬
‫كثريًا عن بحرية تنغانيكا املكتشفة من برتون‪ ،‬وال يميض هذا الجيل َّإل‬
‫ف جميع هذه األماكن‪ ،‬ثم نظر َّ‬
‫العلمة إىل البوصلة وقال‪ :‬ولكن أرى‬ ‫و ُت ْع َر ُ‬
‫الريح تدفعنا كثريًا إىل الجهة الغربية‪ ،‬وكنت أود لو دفعتنا إىل الشمال‬
‫ولكن ما الحيلة‪.‬‬

‫وبعد أن سارت املنصورة مدة اثنتي عرشة ساعة وصلت إىل‬


‫حدود بالد النيكريسية؛ أي السودان‪ ،‬وسكان هذه البالد األولون‬
‫من عرب الشول رعاة املوايش البادية‪ ،‬ويف األفق تراءت رؤوس‬
‫جبال أتلنتيكا الشامخة التي لم تدسها بعد قدم رجل إفرنجي‪،‬‬
‫ويقال إن علو تلك الذرى عن سطح البحر يبلغ نحو سبعة آالف‬
‫وثمانيمائة قدم‪.‬‬
‫ثم تراءى ألعني السواح نهر حقيقي فعرف َّ‬
‫العلمة أنه نهر «بنوه» لوجود‬
‫املناهل العظيمة املحيقة به‪ ،‬وهو من أصباب نهر النيجر الكبرية‪ ،‬وقد‬
‫دعاه اإلفريقيون منبع املياه‪.‬‬
‫ً‬
‫سبيل طبيعيًا ملد‬ ‫فقال َّ‬
‫العلمة لرفيقيه‪ :‬سيأتي يوم يكون فيه هذا النهر‬
‫سلك العالقات إىل داخل النيكريسية‪ ،‬وتوايف سفينة إنكليزي تحت رئاسة‬
‫أحد قباطيننا املشهورين يف الحذق واملهارة‪ ،‬فتنزله وتصل به إىل مدينة‬
‫‪60‬‬
‫يوال‪ ،‬وعليه فإننا قائمون يف بالد غري مجهولة‪.‬‬

‫ثم شاهد السواح عبيدًا كثريين يهتمون بحراسة الحقول وزراعة الحبوب‪،‬‬
‫وملا كانت تمر فوقهم املنصورة كشهب الكواكب ترى االندهاش مستوليًا‬
‫عليهم‪ ،‬وبال ًغا أقصاه وأغربه‪ ،‬وملا أ َ ْم َسوا َو َق َ‬
‫ف السواح بعيدًا عن مدينة‬
‫يوال بأربعني ألف ميل‪ ،‬وأمامهم كانت تقوم يف األفق البعيد قمتا جبل‬
‫منديف الحادَّتان‪.‬‬

‫العلمة بإلقاء املرايس فتعلّقت برأس شجرة سامية العلو غري أن‬
‫فأمر َّ‬
‫ريحا شديدة الهبوب أخذت تالطم القبة الهوائية‪ ،‬حتى إنها قد انثنت‬ ‫ً‬
‫وتل َّوت‪ ،‬ووقعت مرا ًرا يف خطر عظيم ألن تتم َّزق‪ ،‬فما نام َّ‬
‫العلمة ليلته‬
‫كلها ّإل وهو يف سهاد‪ ،‬وكاد أحيا ًنا يقطع حبال املرايس ليفر هار ًبا من‬
‫العلمة من‬‫قليل‪ ،‬ولم يعد يخىش َّ‬ ‫الزوبعة‪ ،‬ثم بعد ذلك هدأت الريح ً‬
‫تذبذب املنصورة‪.‬‬

‫ويف الغد كانت الريح أخف مهبًا‪ ،‬لكنها دفعت السواح عن مدينة يوال‪ ،‬وقد‬
‫العلمة إىل رؤيتها ألنها قد بنيت مجددًا من َّ‬
‫الفلن‪ ،‬ولكن إذا لم‬ ‫اشتاق َّ‬
‫يكن له حيلة سوى الصرب سار مع هبوب الريح إىل الجهة الشمالية ً‬
‫مائل‬
‫ً‬
‫قليل إىل الجهة الرشقية‪.‬‬
‫ً‬
‫برهة يف تلك البالد الكثرية الصيد‪ ،‬ووافقه يوسف عىل‬ ‫فسأل ديك أن يحط‬
‫ذلك؛ إذ قال إنهم يف احتياج كيل إىل أكل اللحم الطري‪ ،‬أما َّ‬
‫العلمة فلم‬
‫ً‬
‫مرشوقة‬ ‫َينْ َق ْد إىل بغيتهما؛ ألنه يخىش تلك األقوام الربابرة‪ ،‬ويرى القبة‬
‫بسهامهم‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وكان يمتد تحت املنصورة قرى وضياع كثرية‪ ،‬ذات أكواخ طويلة ما بني‬
‫املروج املنقشة بزهور بنفسجية‪.‬‬

‫وما انفكت الريح تدفع القبة إىل جهة شمال الرشق رغ ًما ع َّما بذله‬
‫فرغوسن من املجهود لتغيريها‪ ،‬فأخذوا يتقدمون إىل جبل منديف املتواري‬
‫بني السحب والغيوم‪ ،‬ورؤوس هذا الجبل الشامخة تفصل حوض النيجر‬
‫من حوض بحرية شاد‪.‬‬

‫ثم شاهدوا الجبل املعروف باسم «باجلة»‪ ،‬ويف جانبه اثنتا عرشة‬
‫أطفال اضطجعوا عىل حضن أمهم‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬ ‫قرية متعلّقة به‪ ،‬تخالها‬
‫جمال إلرشاف السواح عليه من العلو‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫عظم هذا املنظر‬
‫الخنادق ترتاءى لهم مغطاة بالزروع املتنوعة األلوان‪.‬‬

‫وعند الساعة الثالثة بعد الظهر قابلت املنصورة جبل منديف‪،‬‬


‫العلمة من الحيد عنه أخذ يهتم يف مجاوزته؛‬‫َّ‬ ‫وبما أنه لم يتمكن‬
‫فرفع حرارة القصبة إىل مائة وثمانني درجة‪ ،‬وإذا بالقبة تعلو‬
‫عن األرض أكثر من َثمانية آالف قدم‪ ،‬وهذه كانت أعىل طبقة‬
‫يصل إليها السواح يف رحلتهم الجوية‪ ،‬فعندها اعرتاهم الربد‬
‫واضطروا إىل أن يلتحفوا بأغطيتهم خشية من املرضة‪ ،‬ولكن لم‬
‫ً‬
‫برهة هناك َّإل أخذوا بالنزول إىل األرض بواسطة تخفيف‬ ‫يستمروا‬
‫حرارة القصبة‪ ،‬وقد كادت تتم َّزق القبة لشدة تمددها وانتفاخها‪،‬‬
‫ً‬
‫جبل‬ ‫العلمة أن يحقق كون أصل ذلك الجبل‬ ‫َّ‬ ‫واستطاع مع ذلك‬
‫لججا قعرية جدًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نار ًيا أمست فوهاته املطفأة‬

‫ويف الساعة الخامسة لطت املنصورة من ريح الجنوب‪ ،‬فنزلت يف‬


‫‪62‬‬
‫منحدر الجبل نزول الهوينا‪ ،‬ثم وقفت يف بقع ٍة خالية من كل شجر‬
‫أصل‪ ،‬وملا مست األرض مكنها‬ ‫ً‬ ‫غاب‪ ،‬وليس فيها ساكن‬ ‫ٍ‬ ‫بوسط‬
‫يوسف لئال تفلت هاربة‪ ،‬وقفز ديك من املركبة وبارودته يف يده‪،‬‬
‫وعدا يف ذاك الفضاء املنحني‪ ،‬ثم عاد رسيعًا بغنيمة وافرة من البط‬
‫وجنس من دجاج الغاب‪ ،‬فهيأها يوسف للطعام‪ ،‬فأكلوا ورشبوا‬
‫بلذة وانرشاح‪ ،‬ورقدوا بسكون واطمئنان تامني‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪64‬‬
‫الفصل الثامن والعرشون‬
‫يف مدينة مصفية وسجود أحد املشايخ للقبة الهوائية والكالم عن السواح‬
‫دنهام وكالبرتون وأودني وفوجل وما كان من الحمام املشعلة نا ًرا‬
‫املرسلة من وايل قرناق‬

‫‪65‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪66‬‬
‫وملا كان الغد‪ ،‬وهو الحادي عرش من شهر أيار‪ ،‬سارت املنصورة بمهب‬
‫الريح‪ ،‬وكان السواح يثقون بها ثقة النوتية بالسفينة املتينة‪.‬‬
‫ً‬
‫مسافة‬ ‫ولم تكن ثقتهم بها خالية من الدعم؛ إذ إنهم كانوا قد ساروا‬
‫عظيمة‪ ،‬ونجوا من كل ما من شأنه أن يورطهم يف لجج األخطار واملهالك‬ ‫ً‬
‫العلمة كان‬ ‫َّ‬ ‫كالرمض والزوابع واملنازل واملطالع‪ ،‬ويمكن القول‪ :‬إن‬
‫يقيدها كيفما شاء بمج َّرد اإلشارة‪ ،‬ومع أنه لم يكن عار ًفا ما هي البلدة‬
‫بتة سوء العاقبة‪ ،‬غري أنه كان مشددًا‬ ‫التي تنتهي فيها رحلته لم يخش ً‬
‫حرصه وحذره من الوقوع بأيدي األقوام الربابرة املعتصبني الحالِّني يف‬
‫تلك البالد‪ ،‬ويوعز إىل رفيقيه أن يرتقبا دوما كل طارق‪.‬‬

‫قليل نحو الشمال‪ ،‬وملا صارت الساعة التاسعة‬ ‫ثم أخذت الريح تدفعهم ً‬
‫برصوا عن بع ٍد بمدينة مصفية الكبرية‪ ،‬املبنية عىل أكم ٍة مرتفعة بني جبلني‬

‫‪67‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫شامخني يف العلو‪ ،‬وهي يف مركز حصني جدًا؛ إذ ال يستطاع الدخول إليها‬


‫َّإل من طريق ضيقة وقعت بني غاب وغدير‪.‬‬
‫ً‬
‫شيخا مصحو ًبا‬ ‫وفيما كانت املنصورة مارة فوق املدينة شاهد السواح‬
‫بقوم خيالة‪ ،‬وهو مترسبل بثياب ذات ألوان باهرة‪ ،‬وأمامه مبوقون وقوم‬
‫رسعان ما يزيحون األغصان لئال تعيق مسريه يف الطريق‪.‬‬
‫العلمة ً‬
‫قليل ليتأمل هؤالء األقوام عن قرب‪ ،‬ولكن كلما دنت منهم‬ ‫فنزل َّ‬
‫القبة الهوائية الحت عىل وجوههم أمارات الدهشة والهلع‪ ،‬ولم تمض‬
‫برهة َّإل أخذوا يف العدو عىل قدر خفة خيلهم‪.‬‬

‫أما الشيخ فلبث وحده منتصبًا قائ ًما ولم يتحرك من مكانه‪ ،‬ثم أخذ‬
‫متغطرسا‪ ،‬فدنا‪ ،‬منه فرغوسن إىل نحو‬
‫ً‬ ‫قرابينته وأذخرها‪ ،‬وجعل ينتظر‬
‫مائة وخمسني قد ًما وقرأه السالم بالعربيّة‪.‬‬

‫فعندما سمع الشيخ هذا السالم السماوي خ َّر ساجدًا عىل الحضيض‪ ،‬ولم‬
‫يستطع َّ‬
‫العلمة أن يلهيه عن السجود‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬إنه ملن املستحيل َّأل يعتربنا هؤالء األقوام بمنزلة خالئق‬
‫فقال َّ‬
‫فائقة الطبيعة؛ حيث إن اإلفرنج األولني الذين قدموا عىل هذه البالد قد‬
‫حسبوا من نسل فائق الطبيعة البرشية‪ ،‬وإذا ما حدث الشيخ الساجد‬
‫لنا قومه وخالنه عن هذه الصدفة الغريبة فلن يقرص عن تعظيمها‬
‫وزخرفتها‪ ،‬وتجود له القريحة العربيّة بتصوراتها املدهشة‪ ،‬وهكذا يأتي‬
‫يوم تحكى فيه الحكايات الغريبة عنا عىل أساليب شتى‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬هذا مما ال يرس الخاطر؛ ألننا إذا رغبنا يف تمدن هؤالء األقوام‬
‫‪68‬‬
‫أناسا‪ ،‬وهذا من شأنه أن يجعلهم يخالون‬
‫فاألجدر بنا أن نعترب عندهم ً‬
‫حسنًا ما هية قوة التمدن األوربي‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬سلمت معك يف هذه القضية‪ ،‬ولكن ما هي حيلتنا يف ذلك؟‬


‫ً‬
‫باطل إذا أردت أن ترشح لعلماء هذه البالد عن آالت القباب‬ ‫فإنك تتعب‬
‫الطيارة‪ ،‬فال يدركون كالمك‪ ،‬ويرصون عىل زعمهم أن ما رأوه فائق‬
‫الطبيعة‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬سيدي قد أرشت إىل اإلفرنج األولني الذين قدموا عىل هذه‬
‫البالد؛ فهل تتك َّرم علينا بذكر أسمائهم‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬اعلم يا صديقي أننا سائرون اآلن يف الطريق التي سلكها‬
‫الضابط دنهام وقد اقتبله سلطان مندارا يف نفس مصفية‪ ،‬فكان باين‬
‫مملكة الربنو ولحق يغزو بشيخ عىل قبيلة الفالحني‪ ،‬وحرض هناك‬
‫أصل‪ ،‬بل تبدد هو وجنوده‬ ‫ً‬ ‫محارصة املدينة‪ ،‬فلم تنفع بواريد الشيخ‬
‫بقيس الفالحني‪ ،‬فانتهز هؤالء فرصة النرص ليستلوا سيف االنتقام‪،‬‬
‫وخرجوا يقتلون أعداءهم وينتهبونهم ويسلبون أموالهم‪ ،‬وقد جردوا‬
‫الضابط دنهام من أثوابه‪ ،‬ولو لم يختف تحت بطن حصانه ويعدو به‬
‫عدو خيل السباق ما رجع ً‬
‫أصل إىل مدينة كوكا عاصمة الربنو‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ومن يا ترى كان الضابط دنهام؟‬


‫ً‬
‫فرقة وطاف‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬كان إنكليز ًيا ذا شجاعة وبسالة‪ ،‬وقد جلب معه‬
‫إفريقية من سنة ‪ 1822‬إىل سنة ‪ 1824‬قاصدًا مملكة الربنو‪ ،‬وذلك بمعية‬
‫والعلمة أودني‪ ،‬فرحلوا من طرابلس الغرب يف شهر‬‫َّ‬ ‫القبطان كالبرتون‬

‫‪69‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫آذار ووصلوا إىل مورزوق قاعدة ف َّزان‪ ،‬وساروا يف الطريق التي سلكها‬
‫فيما بعد املعلم برث عندما قصد الرجوع إىل أوربا‪ ،‬ثم وصلوا إىل كوكا‬
‫بالقرب من بحرية شاد يف ‪ 16‬شباط سنة ‪ ،1823‬وقد اكتشف دنهام‬
‫أشياء كثرية يف مملكتي الربنو ومندارا وعىل شطوط البحرية الشمالية‪،‬‬
‫ويف غضون ذلك؛ أي يف اليوم الخامس عرش من شهر كانون األول سنة‬
‫َّ‬
‫والعلمة أودني إىل داخل السودان حتى‬ ‫‪ ،1823‬تقدم القبطان كالبرتون‬
‫بلغا صقاتو‪ ،‬وقىض أودني نحبه يف مدينة ُمر ُمر وهو عيان من التعب‬
‫والضناكة‪.‬‬
‫ً‬
‫جزيل بالضحايا‬ ‫خراجا‬
‫ً‬ ‫قال ديك‪ :‬فقد أدَّت ً‬
‫إذا هذه البالد إىل العلم‬
‫النفيسة التي ضحت فيها‪.‬‬
‫قال فرغوسن‪ :‬نعم يا خلييل؛ فإن هذه البالد بالد سوء‪ ،‬والشؤم ٌّ‬
‫حال‬
‫فيها؛ فها إننا سائرون اآلن بخطٍ مستقيم إىل مملكة برغيمي التي قطعها‬
‫فوجل سنة ‪ 1856‬قصد الدخول يف مملكة واداي‪ ،‬وهناك اختفى ولم‬
‫يعرف له أثر‪ ،‬وقد أرسل ذاك الشاب البالغ من العمر ثالثا وعرشين سنة‬
‫فقط ليساعد َّ‬
‫العلمة برث يف أشغاله‪ ،‬وقد تالقيا معًا يف الواحد من شهر‬
‫كانون األول سنة ‪ ،1854‬ثم طفق فوجل يستقرئ عن تلك البالد ويف‬
‫سنة ‪ 1856‬أرسل كتبًا وذكر فيها رغبته يف الدخول إىل مملكة واداي‬
‫والبحث عنها؛ فلم َتد ُْسها بعد قدم إفرنجية؛ فالظاهر أنه بلغ وارة‬
‫عاصمة واداي‪ ،‬فمن الناس من قال عنه إنه أرس هناك‪ ،‬ومنهم من قال إنه‬
‫حال‬‫قتل؛ إذ حاول الصعود إىل جبل مقدس غري أنه ال يسوغ أن يسلم ً‬
‫يف موت املسافرين؛ ألن هذا يصد عن طلبهم‪ ،‬فكثريًا ما شاعت األخبار‬
‫الرسمية عن وفاة َّ‬
‫العلمة برث‪ ،‬فسببت له هذه اإلشاعات حن ًقا وغضبًا؛‬
‫‪70‬‬
‫إذا أن يكون فوجل قد أرس عند سلطان واداي طمعًا يف فديته‪،‬‬ ‫فمن املمكن ً‬
‫فعزم البارون دي نيمنس عىل الذهاب إىل واداي ففاجأته املنية يف القاهرة‬
‫سنة ‪ ،1855‬وأما اآلن فتوجهت جوقة سواح من ليبسيك‪ ،‬ومعهم َّ‬
‫العلمة‬
‫دي هكلني‪ ،‬وقصدوا وجود أثر لفوجل‪ ،‬وعن قريب يتضح لنا ما كان‬
‫نصيب ذاك الشاب الشجيع(((‪.‬‬

‫ثم توارت مصفية عن أبصارهم‪ ،‬وظهرت لهم بالد مندارا الجزيلة‬


‫الخصب والريعان ومنها غابات األقاقيا واملاش ذات الزهور الحمراء‪،‬‬
‫ونباتات القطن والنيل‪ ،‬وهناك تجري مياه نهر شاري املزبدة‪ ،‬وهو ال‬
‫يصب َّإل يف بحرية شاد عن بعد ثمانني ً‬
‫ميل من ذلك املكان‪.‬‬
‫فأخذ َّ‬
‫العلمة يدل رفيقيه عىل ذلك النهر يف الخارطات الجغرافية املرسومة‬
‫من املعلم برث‪.‬‬

‫وقال لهما‪ :‬رأيتما يا خلييلَّ أن أبحاث هذا العالم الحاذق هي يف غاية‬


‫الدقة والضبط؛ ألننا نسري بخط مستقيم إىل إقليم لغوم‪ ،‬وربما إىل قرناق‬
‫عاصمته‪ ،‬وهناك كان نياح أحد اإلنكليزيني املدعو تول‪ ،‬وهو بالغ من‬
‫العمر نحو اثنتني وعرشين سنة فقط‪ ،‬وهذا كان قد لحق بالضابط دنهام‬
‫فتعسا‬
‫ً‬ ‫يف إفريقية منذ بضعة أسابيع‪ ،‬فما لبث أن صادف فيها املنية؛‬
‫ً‬
‫وويل لهذه البالد املشؤومة؛ فإنه بحق يقال عنها إنها مدفن اإلفرنج‪.‬‬

‫فشاهد السواح بعض القوارب نازلة يف مجرى نهر شاري‪ ،‬وهي تبلغ من‬
‫الطول نحو خمسني قد ًما‪ ،‬وإذ كانت املنصورة عالية عن األرض بنحو‬

‫العلمة فرغوسن وردت الرسائل من العبيدية وهي موجهة من منزنجر‬‫((( من بعد أن تمت رحلة َّ‬
‫رئيس الجوقة الجديد‪ ،‬ومنها اتضح الخرب املشؤوم بمبارحة فوجل هذه الدنيا‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ألف قدم لم تجذب إليها انتباه السودان‪ ،‬أما الريح فبعد أن كانت شديدة‬
‫املهب أخذت تنقص وتخف شيئًا فشيئًا‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ويا هل ترى يصيبنا الرواق كما يف سابق الزمان؟‬

‫قال يوسف‪ :‬ال بأس من ذلك؛ إذ ال عدنا نخىش بعونه تعاىل ال قلة املاء وال‬
‫محول الصحراء‪.‬‬
‫ً‬
‫وفظاظة!‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬علينا أن نخىش أقوا ًما برارة فاقوا قساو ًة‬

‫قال يوسف‪ :‬ها هي ذي شبه مدينة!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنما هي مدينة قرناق‪ ،‬وأرى أن النسيم يدفعنا إليها‪ ،‬فإذا‬
‫شئنا رسمنا هيئتها وفصولها‪.‬‬
‫قال ديك‪َّ :‬‬
‫وهل نقرتب من األرض‪.‬‬
‫العلمة‪ :‬هذا أمر سهل؛ ألننا نحن فوق املدينة‪ ،‬دعني أبرم ً‬
‫قليل لولب‬ ‫قال َّ‬
‫القصبة فال نلبث أن نأخذ بالنزول‪.‬‬

‫فعقب مرور نصف ساعة وقفت املنصورة فوق املدينة بعلو مائتي قدم‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إننا أقرب إىل املدينة من إنسان واقف عىل قبة كنيسة القديس‬
‫بولس‪ ،‬ومتفرج منها عىل مدينة لندرة؛ يمكننا ً‬
‫إذا التطلع عىل خاطرنا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬إني أسمع صوت مطارق؛ فما عساها تكون؟!‬

‫فجعل يوسف يحدج ببرصه ويشدد نظره‪ ،‬فرأى أن تلك الضجة صادرة‬
‫‪72‬‬
‫من الحياكني الكثريين‪ ،‬الذين يطرقون نسيجهم املمدود عىل أرواط‬
‫طويلة‪ ،‬وذلك يف وسط الساحات‪.‬‬

‫فرأوا عاصمة لغوم كأنها عىل سطح منبسط‪ ،‬ويحق لها اسم مدينة ألن‬
‫بيوتها متساوية الصفوف‪ ،‬وطرقها عريضة‪ ،‬وكان سوق العبيد قائ ًما يف‬
‫ساح ٍة فسيحة وسط املدينة‪ ،‬وهناك مشرتون كثريون ألن اإلماء املنداريات‬
‫ترغب كثريًا وتباع بقيمة وافية‪.‬‬
‫فعندما برصوا باملنصورة أصابهم ما أصاب غريهم ً‬
‫قبل؛ إذ إنهم رشعوا‬
‫أول بالضجيج‪ ،‬ثم أتبع ذلك الضجيج سكوت الدهشة العظيمة‪ ،‬و ُتركت‬ ‫ً‬
‫األشغال ووقفت وزال صوت املطارق‪ ،‬أما السواح فما برحوا واقفني ال‬
‫يتحركون وهم يتأملون أولئك األقوام الكثريين‪ ،‬ثم نزلوا ً‬
‫أيضا نحو ستني‬
‫قد ًما‪.‬‬

‫فخرج حينئ ٍذ وايل بالد لغوم من مقره وهو حامل رايته الخرضاء‪ ،‬ومعه‬
‫أصحاب املوسيقى الذين كانوا يرضبون يف أبواق من قرون الجاموس‬
‫العلمة أن يسمعهم صوته‬‫ذات صوت أبح‪ ،‬ثم أحاق به قومه‪ ،‬وحاول َّ‬
‫فلم َي ْق َو عىل ذلك‪.‬‬

‫وكان لذلك الشعب جبهة عالية‪ ،‬وشعر متجعد وأنف أقنى‪ ،‬وهم متصفون‬
‫بالعجرفة وال يخلون من الذكاء والفطنة‪ ،‬ولكنهم مضطربون لظهور‬
‫املنصورة‪ ،‬ثم تحقق السواح أن جنود الوايل أخذوا يف االحتشاد والتأهب‬
‫ملحاربة عدو لم يسبق له مثيل؛ إذ شاهدوا الخيالة يتسابقون يف الخيل‪،‬‬
‫ويعدون إىل أنحاء شتّى‪ ،‬فنرش يوسف الرايات املشكلة األلوان فلم يحظ‬
‫بنتيجة البتة‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم مضت فرتة وطلب الشيخ إىل قومه أن يصغوا له فخطب خطبة‬
‫بالعربيّة املمزوجة بلغة البغريمي‪ ،‬فلم يفهم َّ‬
‫العلمة كلمة واحدة‪ ،‬لكنه‬
‫رصيحا‪ ،‬فود‬
‫ً‬ ‫علم بلغة الوماء العمومية أن الوايل يدعوه إىل الذهاب دعاء‬
‫العلمة الذهاب ولكن لم توافقه الريح‪ ،‬ولم يستطع الحراك من مكانه‬ ‫َّ‬
‫فاغتاظ الوايل من هذا الرسوخ‪ ،‬وأخذ زعماؤه ورجاله يع ُّرون ويضجون‬
‫ليحملوا الوحش الجوي عىل االنطالق‪.‬‬

‫ففي الحقيقة كان هؤالء الزعماء مما يوجب االستغراب واالعتجاب؛ فإنهم‬
‫متدثرون عىل جسدهم بخمسة أو ستة قمصان ملونة‪ ،‬وبطونهم بليغة‬
‫انتفاخا‪ ،‬وبعضها ترى كأنها مصنعة ومحض حش ٍو‪ ،‬فقال َّ‬
‫العلمة‬ ‫ً‬ ‫كربًا‬
‫لرفيقيه‪ :‬إن هذه الهيئة واسطة عندهم ملراضاة السلطان والدخول يف‬
‫خاطره‪ ،‬ودوار البطن مما يدل عندهم عىل الطمع‪ ،‬فكان هؤالء الناس‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫الضخام يتحركون ويومئون باأليدي ويرصخون ويضجون‪،‬‬
‫واحدًا منهم كان ضخ ًما جدًا‪ ،‬فظن به أنه وزير أول يف تلك الوالية؛ ألن‬
‫الضخامة كما قيل لها اعتبار عظيم يف تلك الديار‪.‬‬

‫أيضا يضجون مع أرباب الحكومة‪ ،‬ويتحركون‬ ‫وكان العبيد السود ً‬


‫ذراع مرتفعة‬
‫ٍ‬ ‫كالسعادين‪ ،‬وبالجملة كنت ترى نح ًوا من عرشة آالف‬
‫ومتحركة باضطراب الجنون‪.‬‬

‫فلما رأوا أن حركاتهم لم ُت ْج ِد نفعًا‪ ،‬بل ذهبت هد ًرا‪ ،‬وعدوهم راسخ ال‬
‫يتأثر منها جعلوا يتمسكون بوسائط أفعل؛ فاصطف الجنود املتسلحون‬
‫بالقوس والنشاب قاصدين رشق القبة بالسهام‪َّ ،‬إل أن املنصورة أخذت‬
‫لئل يصيبها ٌّ‬
‫رض من القيس‪ ،‬فأخذ الوايل حينئ ٍذ قرابينه‬ ‫ً‬
‫حال باالرتفاع َّ‬
‫‪74‬‬
‫ووجهها نحو القبة الهوائية‪ ،‬فلما رآه ديك مستعدًا إلطالقها‪ ،‬وهو إذ ذاك‬
‫يرصده رماه برصاص ٍة فكرس السالح بني يديه‪.‬‬

‫فعند هذه الرضبة غري املنتظرة اضطرب الكبار والصغار وتفرقوا‬


‫ووجل‪ ،‬ودخل ٌّ‬
‫كل كوخه فمىض النهار بأرسه‬ ‫ً‬ ‫طرائق‪ ،‬وولوا األدبار هلعًا‬
‫ولم يظهر أحد منهم البتة بل أصبحت املدينة خاوية خالية كالصحراء‪.‬‬

‫ثم جن الظالم فدخل الليل ولم تهب الريح مطل ًقا‪ ،‬فاضطر َّ‬
‫العلمة إىل أن‬
‫يلبث قائ ًما بال حركة فوق األرض بعلو ثالثمائة قدم‪ ،‬ولم ير نو ًرا ييضء‬
‫ظالم األكواخ والبيوت‪ ،‬بل كان السكوت املطلق مستوليًا عىل املدينة كما‬
‫ً‬
‫فخاخا يجب‬ ‫هو الحال يف بادية مقفرة‪ ،‬فخمن َّ‬
‫العلمة من هذه النصتة‬
‫التحذر منه‪ ،‬فضاعف انتباهه وسهره‪.‬‬

‫وقد أصاب حق اإلصابة يف حدسه وسهره؛ ألنه ما انتصف الليل َّإل ظهرت‬
‫املدينة كأنها شعلة متأججة نا ًرا‪ ،‬وأخذت الخطوط النارية تتصلب‬
‫كالشبكة‪ ،‬وكأن املدينة قد لبست حلة النار وتشعبت أشعتها يف اآلفاق‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذا أمر غريب فيه العجب العجاب‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬سامحني الله؛ فكأني أرى الحريق يتصاعد إلينا‪.‬‬

‫ويف الحقيقة كانت تلك الحلة امللتهبة واملتأججة نا ًرا ترتفع نحو املنصورة‪،‬‬
‫واألصوات املضجة مرتفعة معها‪ ،‬والقرابينات تطلق يف الجو‪ ،‬فتأهب‬
‫يوسف ألن يلقي ً‬
‫ثقل رغبة يف االرتفاع وما مضت برهة َّإل فهم فرغوسن‬
‫واقعة الحال‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فإن هؤالء القوام كانوا قد أرسلوا حما ًما بعد أن علقوا يف أذنابها موادًا‬
‫مشتعلة‪ ،‬فلما أحست بالنار أخذت تطري هر ًبا منها‪ ،‬وارتفعت يف الجو‬
‫وهي تخط تلك الشعاب النارية‪ ،‬فجعل ديك يطلق الرصاص عىل قدر‬
‫مكنته‪ ،‬ولك َّن أعداءه كثريون ال يحصون عددًا‪ ،‬فكان الحمام قد بلغ القبة‬
‫وأحاق بها فشوهدت جوانب املنصورة كأنها يف شبكة ملتهبة من جراء‬
‫سطوع النور عليها‪.‬‬
‫فما تماسك فرغوسن أن رمى قطعة معدنية ثقيلة وارتفع ً‬
‫حال برسعة‬
‫فوق تلك الطيور املخطرة‪ ،‬وقد حامت الحمام تحت أقدامهم نحو ساعتني‬
‫من الزمان‪ ،‬وهي طائرة إىل أنحاء مختلفة‪ ،‬ثم أخذت تحف وتنقص رويدًا‬
‫رويدًا إىل أن توارت عن البرص بالكلية وانطفأت نارها‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬اآلن يمكننا الرقاد براحة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬إن هذا الفكر مدهش ويدل عىل حذق عند هؤالء الربابرة‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنهم كثريًا ما يستعملون الحمام إلحراق القش املغطى به‬
‫أكواخ القرى‪ ،‬وأما قبتنا فطارت وعلت عن حمامهم‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ح ًقا؛ ليس للقباب الطيارة أعداء يتمكنون من مرضة أصحابها‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬بىل يا صديقي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ومن عساهم يكونون؟!‬

‫العلمة‪ :‬إنما هم أصحابها القليلو الفطنة‪ ،‬الذين يركبونها‪ ،‬ولهذا‬ ‫قال َّ‬
‫أحثكما يا خلييلَّ عىل التيقظ والفطنة؛ فإن الفطنة ال بد منها يف كل أمر‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫الفصل التاسع والعرشون‬
‫يف االرتحال يف الليل والكالم عن نهر الشاري وبحرية شاد ومائها وفرس‬
‫النهر وإطالق الرصاصة عليه عبثًا‬

‫‪77‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪78‬‬
‫وملا كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ويوسف إذ ذاك قائم يف‬
‫حراسة ربعه‪ ،‬رأى املدينة آخذة يف االبتعاد عنه‪ ،‬وسارت املنصورة يف الجو‬
‫واستيقظ حينئ ٍذ َّ‬
‫العلمة والصياد معًا‪.‬‬

‫فتطلع فرغوسن يف البوصلة وعرف أن الريح تدفعه إىل شمال الجهة‬


‫الرشقية فطاب منه الخاطر‪.‬‬

‫فقال‪:‬إن نجم سعدنا مقبل معنا وقد نجحنا يف كل مسعًى‪ ،‬وسنكتشف‬


‫اليوم بحرية شاد نفسها‪.‬‬
‫فسأل ديك ً‬
‫قائل‪ :‬وهل هذه البحرية فسيحة كثريًا؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إنها عظيمة جدًا يا صديقي ديك‪ ،‬ولو قيست يف طولها‬
‫وعرضها األكربين لبلغت مائة وعرشين ً‬
‫ميل‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬إننا نغري املنظر بمسرينا فوق بساط مائع‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬فضال عن املناظر واملشاهد الكثرية التي تراءت ألعيننا‬


‫يف رحلتنا هذه فليس لنا باعث للتشكي‪ ،‬وعىل الخصوص من حيث إننا‬
‫تنزهنا عن املخاطر الجسيمة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬نعم يا سيدي صموئيل‪ ،‬ما خال انمساكنا من املاء يف قلب‬
‫الصحراء؛ فلواله ما عددنا واقعة واحدة مخطرة يف رحلتنا كلها‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن منصورتنا‪ ،‬عافاها الله‪ ،‬حافظت عىل متانتها‪ ،‬ولم يطرأ‬
‫عليها طارئ‪ ،‬فها نحن أوالء اآلن يف اليوم الثاني عرش من شهر أيار‪ ،‬وقد‬
‫رحلنا يف اليوم الثامن عرش من شهر نيسان‪ ،‬فنكون قد مشينا خمسة‬
‫وعرشين يو ًما‪ ،‬وإن شاء املوىل سنصل بعد عرشة أيام‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وإىل أين الوصول؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إىل حيثما شاء ربك‪ ،‬ولكن هذا ال يهمنا كثريًا‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬أصبت؛ فلندع العناية الربانية تبلغنا إىل حيث شاءت معافني‬
‫صحيحني كما نحن اآلن؛ لعمري ال يبني علينا أننا جزنا البالد األكثر وباء‬
‫من العالم‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ولكن كان يف استطاعتنا أن نرتفع إىل العلو لننجو من‬
‫وبائها‪ ،‬وهذا ما عملناه‪.‬‬

‫فصاح يوسف وقال‪ :‬حي الله األسفار الجوية؛ فها إننا رسنا يف هذه‬
‫الرحلة مدة خمسة وعرشين يو ًما‪ ،‬ونحن يف صحة تامة وراحة وانرشاح‪،‬‬
‫‪80‬‬
‫أحس‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫راحة زائدة الحد ولذا‬ ‫ولم يخل من األطعمة الطيبة‪ ،‬غري أننا حزنا‬
‫ساقي آخذتا يف التخدر لقلة الحركة؛ فحبذا لو مشيت مسافة ثالثني‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫ً‬
‫ميل ألنتعش وأتق َّوى‪.‬‬

‫صديقي‬
‫َّ‬ ‫العلمة‪ً :‬‬
‫مهل!‪ ...‬ستفعل ذلك يف أزقة لندرة‪ ،‬ثم اعلما يا‬ ‫قال َّ‬
‫أننا سافرنا ثالثة كما سافر دنهام وكالبرتون وأوفرويك‪ ،‬وكما سافر‬
‫أيضا برث وريرشدسون وفوجل‪ ،‬وأما نحن فلنا حظ وسعد أعظم؛ إذ‬ ‫ً‬
‫لم يفرتق منا أحد‪ ،‬ويهمني أن نبقى ثالثتنا سوية؛ فلو‪ ،‬ال سمح الله‬
‫بذلك‪ ،‬حدث مرة أن واحدًا منا يكون عىل األرض واضطرت املنصورة إىل‬
‫تحرصا من خط ٍر فجائي غري منتظر‪ ،‬فمن يعلم إن كنا نتمكن‬ ‫ً‬ ‫االرتفاع‬
‫من االجتماع عليها‪ ،‬ولهذا أقول لديك بحرية تامة‪ :‬إني ال أود كثريًا أن‬
‫ينطلق إىل الصيد خو ًفا من مثل تلك الرزيئة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولكن أؤمل أن تسمح يل بذلك؛ ألنه ينفعنا لتجديد زاد اللحم‪،‬‬
‫ً‬
‫فضل عن أنك قبل أن نسافر قلت يل‪ :‬إن البالد اإلفريقية بالد صيدٍ‪ ،‬وفيها‬
‫أص َط ْد شيئًا ذا‬
‫من كل ما يروق للخاطر‪ ،‬وها قد جزنا أكثر الطريق ولم ْ‬
‫أهمية!‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬الظاهر يا صاح أنك نسيت ما فعلت‪ ،‬أو باألحرى ال يدعنّك‬
‫اتضاعك أن تفتكر بما أتيت من األفعال املستحقة الذكر الجميل؛ أليست‬
‫فضل عما كنت تصطاده للطعام يف‬ ‫ً‬ ‫ذمتك مثقلة بربقيل وفيل وأسدين‪،‬‬
‫كل فرصةٍ‪ ،‬ولم يكن ً‬
‫قليل؟!‬

‫قال ديك‪ :‬وهل يحسب هذا للصياد اإلفريقي الذي يرى حيوانات الخليقة‬
‫كلها تمر أمامه مرور الطري والعصفور يف بالدنا؟!‪ ...‬وهاك اآلن رسبة‬

‫‪81‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫من الزرايف!‬

‫قال يوسف‪ :‬أتظن أن هذه زرايف؛ إني أراها صغرية ال تزيد حج ًما عن‬
‫قبضة الكف‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬ليس ذلك َّإل ألننا نبعد عنها ألف ميل‪ ،‬وأ َّما إذا دنوت منها‬
‫قال َّ‬
‫شاهدتها تعلوك ثالث مرا ٍر‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما قولك عن هذه الغزالن وتلك النعائم التي تجري جري‬
‫الرياح؟‬

‫قال يوسف‪ :‬وكيف تقول إنها نعائم؛ فإني ال أميزها قطعًا عن الدجاج؛‬
‫إذ ال فرق بينهما ً‬
‫أصل؟!‬

‫قال ديك‪َ :‬أل يمكننا االقرتاب يا سيدي صموئيل؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬نعم يمكننا االقرتاب‪ ،‬ولكن ال نستطيع النزول إىل األرض؛‬
‫فو الحالة هذه ال أرى لك نفعًا بإطالق الرصاص عىل هذه الحيوانات؛ فلو‬
‫ً‬
‫محتمل؛ فإنها من الحيوانات‬ ‫أردت قتل سبع أو نمر أو ضبعة لكان ذلك‬
‫املرضة‪ ،‬وأما الربنيق والغزال فليس لك نفع من ذبحهما؛ إنما يغريك عىل‬
‫ذلك حبك للصيد بل فرط تولعك فيه‪ ،‬ومع هذا فها إننا ندنو من األرض‬
‫حتى ال نعلوها َّإل بعلو مائة قدم‪ ،‬فإذا صادفت حيوا ًنا كا ً‬
‫رسا رميته‬
‫برصاص ٍة يف قلبه‪ ،‬فيقر منك الخاطر‪.‬‬

‫ثم أخذت املنصورة يف النزول رويدًا رويدًا ووقفت يف العلو املومأ إليه‪،‬‬
‫لئل تدهمها داهية؛ ألن أهل تلك البالد كثريون ومتوحشون‪ ،‬ويخىش عىل‬ ‫َّ‬
‫‪82‬‬
‫املسافرين من خط ٍر فجائي‪.‬‬

‫انفك السواح طائرين فوق مجرى نهر شاري‪ ،‬وسواحل هذا النهر‬ ‫َّ‬ ‫وما‬
‫ألوان متنوعة‪.‬‬
‫مغطاة بفيء األشجار املتفننة األجناس‪ ،‬ونباتات كثرية ذات ٍ‬
‫بنزق‬
‫ٍ‬ ‫والتماسيح فمنها ما تختبط عىل الرمل‪ ،‬ومنها ما تغطس يف املياه‬
‫وتتنزه فيها‪ ،‬وتتناهز بعد قليل شط الجزائر الخرضاء القاطعة جريان‬
‫النهر‪.‬‬

‫وهكذا م َّر السواح بمقاطعة مفاتاي بني الخضار والنضارة الطبيعية‪،‬‬


‫صباحا وصلوا إىل شط بحرية شاد الجنوبي‪ ،‬وهذه‬
‫ً‬ ‫وعند الساعة التاسعة‬
‫البحرية تشبه بحر قاف النحصارها يف اليابسة وانفصالها عن البحر‬
‫املحيط‪ ،‬ولطاملا أدخل ذكرها يف سلك الخرافات والحكايات التي ال أصل‬
‫لها‪ ،‬ولم يكتشف عليها سوى دنهام وبرث يف رحالتها اإلفريقية‪.‬‬
‫فحاول َّ‬
‫العلمة أن يأخذ رسمها الحايل املختلف كثريًا عن رسمها املأخوذ‬
‫سنة ‪ ،1847‬ويف الحقيقة ال يمكن تسطري هيئة تلك البحرية؛ فإنها‬
‫محتاطة ببطاح موحلة يشق عربها‪ ،‬وكاد برث يهلك فيها عندما أراد أن‬
‫يقطع إحداها‪ ،‬وال تميض سنة عىل سنة حتى تصبح تلك البطاح املغطاة‬
‫بالقصب ونبات الربدي الطويل قس ًما من البحرية نفسها‪ ،‬وكثريًا ما تعم‬
‫بعضا من البالد املبنية عىل ساحل البحرية‪ ،‬كما جرى يف مدينة‬ ‫ً‬ ‫املياه‬
‫نغرنو سنة ‪ ،1856‬فشاهدوا الربانق أي خنازير املاء تغطس يف املكان‬
‫الذي قامت فيه ً‬
‫قبل مساكن مملكة الربنو‪.‬‬

‫وكانت الشمس ساكبة أشعتها املنرية عىل تلك املياه الصافية الهادية أما‬
‫يف الجهة الشمالية فريى العنرصان مختلطني يف أفق واحدٍ‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فرغب فرغوسن يف أن يحقق طبيعة املاء الذي طاملا قيل عنه إنه مالح‪،‬‬
‫وحيث ليس خطر يف الدنو من سطحه رفرفت املنصورة فوقه كالطري‪،‬‬
‫وعلت عن البحرية نحو خمس أقدام فقط‪.‬‬

‫ثم تناول يوسف آنية وأدىل بها إىل البحرية‪ ،‬فمأل نصفها ماءً‪ ،‬ثم ذاقه‬
‫العلمة فرأى أنه ال يصلح كثريًا للرشب‪ ،‬وأن له طعما يشبه طعمة‬ ‫َّ‬
‫النطرون‪.‬‬

‫فبينما كان فرغوسن يسطر نتيجة اختباراته وامتحاناته د َّوى يف اآلفاق‬


‫طلقة الرصاص‪ ،‬فلم يطق ديك اصطبا ًرا؛ فقد شاهد برني ًقا جسي ًما‪،‬‬
‫وكان الربنيق يف رواق تام‪ ،‬فلما أحس ِب َد ِو ِّي الرصاص رضب يف املاء‬
‫وكأنه لم يضطرب من رصاصة الصياد‪.‬‬

‫بخطاف!‬
‫ٍ‬ ‫قال يوسف‪ :‬كان األوفق لو أمسكناه‬

‫قال ديك‪ :‬وما هو خطافنا؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬إنما هو إحدى مراسينا؛ فإنها املوفقة لهذا الحيوان‪ ،‬وهي‬
‫كثرية‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬يف الحقيقة هذا رأي‪...‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬هذا رأي أرجو َّأل تنفذوه ألننا لو أمسكنا هذا الحيوان‬
‫بمراساتنا لجرنا حيث ال يروق خاطرنا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ما لنا وله؛ فإننا علمنا اآلن كنه ماء البحرية وكفى‪ ،‬ولكن هل‬
‫يؤكل هذا السمك يا سيدي؟‬

‫‪84‬‬
‫العلمة‪ :‬إن سمكك هو حيوان من جنس الفيلة‪ ،‬وقد قيل إن لحمه‬ ‫قال َّ‬
‫لذيذ‪ ،‬ويتاجر به كثريًا سكان سواحل هذه البحرية‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬آه لو أصاب صاحبي ديك يف رضبته!‬

‫العلمة‪ :‬ال يمكن جرح هذا الحيوان َّإل يف بطنه وبني أفخاذه؛ فربما‬
‫قال َّ‬
‫لم تجرحه قط رصاصة الصياد‪ ،‬ولكن إذا وافقني املكان فإني ُّ‬
‫أحط عىل‬
‫جهة البحرية الشمالية‪ ،‬فهناك منزل الوحوش‪ ،‬وعىل ديك أن يفعل ما‬
‫يشاء خاطره‪.‬‬

‫بعضا من هذه الربانق ألذوق لحمها؛‬ ‫ً‬ ‫قال يوسف‪ :‬أو ُّد أن يصطاد ديك‬
‫فإنه ليس من الصواب أن يدخل اإلنسان قلب إفريقية ويعيش فيها‬
‫مقتا ًتا بلحم دجاج الغاب وأحجال الربية كما هو الحال يف بالد اإلنكليز‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪86‬‬
‫الفصل الثالثون‬
‫يف عاصمة الربنو وظهور البواشق ومنازعتها املنصورة وما أظهر‬
‫يوسف من الغرية الخالصة عند انخراق غطاء القبة‬

‫‪87‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪88‬‬
‫مائل إىل الجهة‬ ‫ً‬ ‫وعند وصول املنصورة إىل بحرية شاد صادفت مهبًا‬
‫بغيم خفف حرارة النهار‪ ،‬ولم َت ْخ ُل الريح‬
‫ٍ‬ ‫الغربية‪ ،‬وقد تجلببت السماء‬
‫من الهبوب فوق تلك املسافة املائية الفسيحة‪ ،‬وعند الساعة الواحدة‬
‫قطعت املنصورة قس ًما من البحرية بخطٍ منحرف‪ ،‬وتقدمت إىل فوق‬
‫األرض بمسافة سبعة أو ثمانية أميال‪.‬‬

‫العلمة اتجاهه نحو تلك الناحية‪ ،‬ولكن ملا شاهد مدينة كوكا‬ ‫َّ‬ ‫فساء‬
‫الشهرية‪ ،‬وهي عاصمة مملكة الربنو‪ ،‬قلب كدره إىل رسور‪ ،‬فأخذ ينظر إىل‬
‫بجدران من تراب الفخار‪ ،‬وبيوتها املبنية عىل شكل‬
‫ٍ‬ ‫تلك املدينة املحاطة‬
‫زهر اللعب‪ ،‬وجوامعها القليلة اإلتقان‪ ،‬وأشجار النخل والصمغ املكللة‬
‫ً‬
‫عرضا أكثر من مائة قدم والنابتة بني البيوت‬ ‫بمظلة من األوراق البالغة‬
‫ويف الساحات العمومية‪ ،‬فقال يوسف‪ :‬إن تلك املظال مناسبة جدًا لتلك‬
‫املحال؛ نظ ًرا الشتداد حرارة الشمس فيها‪ ،‬ولخص من ذلك نتائج تشري‬

‫‪89‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫إىل حسن العناية اإللهية‪.‬‬

‫وكوكا مؤلفة من مدينتني متمايزتني‪ ،‬ويشقها طريق واسعة جدًا‪ ،‬يبلغ‬


‫عرضها نحو خمسمائة وثمانني مرتًا‪ ،‬وتعرف عندهم بالدندال‪ ،‬وكانت‬
‫وقتئ ٍذ غاصة بالخيالة واملشاة‪.‬‬

‫فمن جهةٍ‪ ،‬ترى املدينة غنية ذات دور مرتفعة‪ ،‬ومن جهة أخرى ترى‬
‫الفقر ً‬
‫حال فيها‪ ،‬وبيوتها ال تمتاز عن األكواخ الحقرية‪ ،‬وسكانها فقراء‬
‫جدًا؛ كوكا ليست بمدينة تجارية وال صناعية‪.‬‬

‫وقد شبهها ديك بمدينة أدمربج؛ إذ امتدت يف سهلة واسعة‪ ،‬منقسمة إىل‬
‫مدينتني متفرقتني بطريق بينهما‪.‬‬

‫وملا كانت مهبات الرياح يف تلك الناحية متقلبة جدًا هبت ريح فجائية‬
‫دفعت املنصورة إىل ما فوق بحرية شاد بعد أن سارت أربعني ً‬
‫ميل؛‬
‫فبالكاد تمكن السواح من مشاهدة تلك املناظر‪.‬‬

‫فرتاءى لهم حينئ ٍذ مشهد جديد‪ ،‬وهو جزائر البحرية الكثرية التي يسكنها‬
‫البيديوماه‪ ،‬وهم قراصنة مشهورون يخىش منهم يف تلك النواحي كما‬
‫يخاف من التوارج يف الصحراء‪.‬‬

‫ِس والحجارة‪ ،‬أما‬


‫فتأهب هؤالء القراصنة الستقبال املنصورة بالق ِ َّ‬
‫املنصورة فارتفعت عن تلك الجزائر وحامت فوقها‪.‬‬

‫ففي تلك الساعة أرشق يوسف نظره إىل جهة األفق ثم قال لِدِيك‪ :‬سيدي‬
‫ديك أنت الذي تهجس بالصيد ً‬
‫ليل ونها ًرا‪ ،‬وها هو ذا ما يعجب خاطرك‬
‫‪90‬‬
‫ويقيض وطرك!‬

‫قال ديك‪ :‬وما هو يا يوسف؟‬

‫قال يوسف‪ :‬أظن أن سيدي ال يكون هذه الدفعة من املخالفني لك يف‬


‫رضب الرصاص‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬احك ً‬
‫إذا‪ ،‬وما هو؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬أترى يف تلك الناحية البعيدة فرقة الطيور الجسيمة املتجهة‬
‫نحونا؟‬
‫فمسك َّ‬
‫العلمة منظرته‪ ،‬وقال‪ :‬ما عساها تكون هذه الطيور؟!‬

‫قال ديك‪ :‬برصتها برصتها! فإنها تبلغ أقل ما يكون االثني عرش طائ ًرا‪.‬‬
‫ً‬
‫بالغة أربعة عرش‪.‬‬ ‫قال يوسف‪ :‬أظنها‬

‫قال ديك‪ :‬أسأل املوىل أن تكون هذه الطيور من املؤذيات؛ لئال يجد‬
‫ً‬
‫حجة عيلَّ‪ ،‬ويمنعني من رضبها بالرصاص!‬ ‫فرغوسن‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ليس يل إذ ذاك كالم أقوله لك‪ ،‬إن ما أتمنى أن هذه الطيور‬
‫تبتعد عنا بالكلية‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وهل تخاف منها؟‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنها بواشق من الجنس الكبري‪ ،‬وإذا وثبت علينا‪...‬‬

‫قال يوسف‪ :‬فإننا ندافع عن أنفسنا؛ ألن الرصاص والبارود عندنا كثري‬

‫‪91‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫جدًا‪ ،‬وال أظن تلك البواشق مخيفة جدًا‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ومن يعلم بذلك؟‬

‫فما مضت عرش دقائق َّإل اقرتبت الفرقة من املنصورة عن بعد مسافة‬
‫طلقة رصاص‪ ،‬لكنها كانت تضج وتعر بصوتٍ أبح‪ ،‬وال زالت تتقدم نحو‬
‫املنصورة كأنها مغتاظة منها‪ ،‬ولم يعرتها أدنى وجل وال هلع‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ما هذا الرصاخ والضجيج؟‪ ...‬أرى أنه يسوؤها تسلطنا عىل‬
‫أمالكها وطرياننا نظريها‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬يف الحقيقة إن هيئتها مرعبة جدًا‪ ،‬وأظن أنها كانت ترمي الهول‬
‫لو تسلحت بالقرابينة التي اخرتعها بوردي مور‪.‬‬

‫باحتياج إىل تلك القرابينة!‬


‫ٍ‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كن عىل يقني أنها ليست‬

‫فأخذت البواشق تطري وترسم يف طريانها دوائر متسعة جدًا‪ ،‬ثم حامت‬
‫بالقرب من املنصورة‪ ،‬وكانت تخط السماء برسعة طريانها‪ ،‬وتندفع‬
‫اندفاع قلل املدافع‪ ،‬وترجع إىل الوراء رجوعًا بغتيًا‪.‬‬

‫فشمل قلب فرغوسن القلق واالضطراب من هذه الطيور‪ ،‬ولذا عزم عىل‬
‫االرتفاع يف الجو هر ًبا من جوارهم اململوء خط ًرا‪.‬‬

‫أما البواشق فلم يطب لخاطرها أن ترتك القبة الهوائية‪ ،‬بل اتبعت أثرها‬
‫إىل األعايل‪.‬‬

‫فأذخر الصياد سالحه وقال‪ :‬أرى أنها تود مناظرتنا‪.‬‬


‫‪92‬‬
‫ويف الحقيقة كانت تقرتب من السواح؛ فمنها ما دنا نحو خمسني قد ًما‪،‬‬
‫وكأنها تستخف بأسلحة الصياد‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬إني أرغب كثريًا يف أن أرضبها بالرصاص‪.‬‬

‫سبب!‪...‬‬
‫ٍ‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كال يا ديك؛ ال تورث َّن نار غضبها وهيجانها بال‬
‫فإننا نحثها بالرصاص عىل مناظرتنا والوثوب علينا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولكنني ال أخطئ يف رضبي الرصاص‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬أتظن ذلك يا ديك؟‪ ...‬فإنك يف خطأ مبني!‬

‫قال ديك‪ :‬عندنا لك ٍل منها أكثر من رصاصةٍ‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وإذا‪ ،‬ال سمح الله‪ ،‬وثبت عىل جهة القبة العليا فكيف يبلغ‬
‫فاحسِ ْب أنك أمام فرقة من األسود يف البادية‪ ،‬أو بمقابلة‬
‫إليها رصاصك؛ ْ‬
‫كالب بحرية يف قلب املحيط؛ فإن مثل ذاك الخطر يضاهي خطرنا يف‬
‫الجو‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أتتكلم بجدٍ؟!‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬نعم يا ديك‪ ،‬وبج ٍد جاد‪.‬‬

‫ً‬
‫برهة‪.‬‬ ‫قال ديك‪ :‬والحالة هذه؛ فلننتظ َر َّن‬

‫العلمة‪ :‬انتظر برهة‪ ،‬وكن عىل أ ُ ْهبَ ٍة إذا وثبت علينا‪ ،‬ولكن إياك أن‬
‫قال َّ‬
‫تطلق رصاصة قبل أن أبلغك أمري‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم احتشدت الطيور بالقرب من املنصورة‪ ،‬وكانت إذ ذاك مسلوخة‬


‫الحنجرة من شدة رصاخها‪ ،‬وعرفها الغرضويف مرتفع بتعجرف‪ ،‬وعليه‬
‫علوات ذات لون بنفسجي‪ ،‬ويبلغ طول جسمها أكثر من ثالث أقدام‬
‫وأجنحتها متأللئة من أسفل بأشعة الشمس املضيئة‪ ،‬ولها مشابهة‬
‫عظيمة مع الكالب البحرية‪.‬‬
‫فلما شاهدها َّ‬
‫العلمة تلحقه إىل األعايل قال‪ :‬إني أراها تتبعنا‪ ،‬ومهما‬
‫ف فإنها تعلونا كثريًا‪.‬‬ ‫ارتفعنا إىل ُ َ‬
‫ش ٍ‬
‫قال ديك‪ :‬فما الحيلة ً‬
‫إذا وما العمل؟!‬
‫فلبث َّ‬
‫العلمة صامتًا وما تفوه بلفظةٍ‪.‬‬

‫اصغ يل سمعًا يا سيدي صموئيل؛ فإن هذه‬ ‫ِ‬ ‫فأردف الصياد كالمه وقال‪:‬‬
‫الطيور تبلغ األربعة عرش‪ ،‬ونحن عندنا سبع عرشة طلقة رصاص‪ ،‬فإذا‬
‫رضبناها بها َّ‬
‫هل تظن أننا نذيقها كأس املنون‪ ،‬ولك أن تعتمد عيلَّ بجانب‬
‫منها‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬ال ريب عندي يف حذقك ومهارتك‪ ،‬وأؤكد لك أن الطيور التي‬ ‫قال َّ‬
‫تقع هد ًفا لرصاصك تذهب فريسة الحمام‪ ،‬ولكن أقول لك تكرا ًرا إنها إذا‬
‫وثبت عىل دائرة القبة العلياء فكيف يصيبها رصاصك وسالحك‪ ،‬وللحال‬
‫تبعج هذا الغطاء الذي يحملنا‪ ،‬فنهوي يف لجة عميقة‪ ،‬لجة الهالك؛ إذ إننا‬
‫قدم‪.‬‬
‫بعيدون عن األرض مسافة ثالثة آالف ٍ‬
‫ً‬
‫توحشا‪ ،‬ووثب عىل املنصورة‬ ‫ويف تلك الفرتة دنا أحد هؤالء البواشق األكثر‬
‫ومخالبه إذ ذاك مفتوحة ومنقاره‪ ،‬متأهبًا ألن يبعج القماش الحريري‪.‬‬
‫‪94‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬النا َر النا َر يا ديك!‬

‫فما فاه بهذا الكالم إال أصيب الباشق برصاصة الصياد‪ ،‬وسقط وهو‬
‫يدور يف الجو‪.‬‬

‫وقد كان الصياد أخذ البارودة ذات الطلقتني‪ ،‬ومسك يوسف البارودة‬
‫األخرى‪.‬‬

‫فلما دوى صوت الرصاص شمل قلب الطيور الرعدة والهلع‪ ،‬وتنحت‬
‫ً‬
‫قليل ثم عادت بعد بره ٍة وأمارات الغضب الئحة عىل أطوارها‪ ،‬فرمى ديك‬
‫يف الحال الطري القريب برصاصة أصابت عنقه‪ ،‬ورضب يوسف طريًا ثانيًا‬
‫فكرس له جناحيه‪ ،‬ثم قال‪ :‬لم يبق منها سوى أحد عرش طائ ًرا‪.‬‬

‫ففي الساعة والحال غريت الطيور َفنَّها يف مهاجمة السواح‪ ،‬وارتفعت‬


‫باتفاق واح ٍد إىل ما فوق املنصورة‪ ،‬فنظر ديك إىل فرغوسن ورأى‬
‫ٍ‬ ‫جميعها‬
‫وجهه قد عاله االصفرار‪ ،‬رغ ًما عن حماسته وجراءته وقلة اكرتاثه بطروق‬
‫الحدثان‪ ،‬واستوىل عىل ثالثتهم سكوت عميق مشوب باالضطراب والهلع‪،‬‬
‫ثم سمعوا صوت تمزيق أشبه بتمزيق القماش الحريري‪ ،‬ويف الساعة‬
‫هبطت مركبة السواح‪ ،‬وكادت تفلت من تحت أقدامهم وتطرحهم ما بني‬
‫السماء واألرض‪.‬‬

‫ً‬
‫صارخا‪:‬‬ ‫فنظر فرغوسن إىل البارومرت‪ ،‬ورآه يرتفع ارتفاعًا ً‬
‫هائل‪ ،‬فصاح‬
‫ألقوا الثقل ً‬
‫حال ألقوه‪.‬‬

‫ففي رمشة عني توارت الحجارة املعدنية املتبقية يف املركبة‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أيضا‪َ ....‬أل‬ ‫قال َّ‬


‫العلمة الزلنا نسقط ونهوي ‪ ....‬أفرغا صناديق املاء ً‬
‫تسمع يا يوسف؟!‪ ...‬ها!‪ ...‬إننا واقعون يف البحرية‪.‬‬

‫فأذعن يوسف ألمر سيده‪ ،‬ثم مال َّ‬


‫العلمة برأسه ورأى البحرية كأنها آتية‬
‫إليه وترتفع إىل العلو‪ ،‬وشاهد األشياء قد تعظمت يف عينيه‪ ،‬ووصلت القبة‬
‫إىل مسافة مائتي قدم فوق سطح البحرية‪.‬‬

‫العلمة ً‬
‫قائل‪ :‬ألقيا الزاد وال ترتكا منه شيئًا!‬ ‫فصاح َّ‬

‫فرمى الرفيقان الزاد مع صندوقه‪.‬‬

‫فخفت رسعة السقوط‪ ،‬ولكن ما زال سقوطهم مستم ًرا‪ ،‬وهم فوق البحرية‪.‬‬

‫فصاح َّ‬
‫العلمة صيحة أخرية‪ :‬ما بالكما ال ترميان ؟!‪ ..‬ارميا‪ ..‬ارميا!‬

‫فقال ديك‪ :‬ما بقي عندنا يشء‪.‬‬

‫فقال يوسف بعجلة‪ :‬بىل‪.‬‬

‫قال هذا‪ ،‬ورسم عىل ذاته إشارة الصليب وغاب متوار ًيا عن املركبة الجوية‪،‬‬
‫فصاح َّ‬
‫العلمة مرتاعًا‪ :‬يوسف!‪ ...‬يوسف!‬

‫فلم يسمع له يوسف‪ ،‬وملا خف ثقل املركبة انك َّفت عن الهبوط‪ ،‬وارتفعت‬
‫إىل األعايل نحو ألف قدم‪ ،‬وتعبأت الريح بغطاء القبة املخزوقة فدفعتها‬
‫إىل جهات البحرية الشمالية‪.‬‬

‫فقال الصياد أ َ ِي ًسا‪ :‬وا أسفاه عليه؛ فإنه وقع يف لجة الهالك وعدمناه!‬
‫‪96‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬أما هالكه فكان لنجاتنا يا ديك‪.‬‬

‫ثم أذرت عيون هذين الباسلني دمعة سخينة لفراق خليلهما‪ ،‬وأرشفا عىل‬
‫األرض ليجدا له أثرا فما وجدا ألنهما ابتعدا كثريًا‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬ما حيلتنا اآلن؟ وماذا ترى نستطيع أن نصنعه؟‬

‫العلمة‪ :‬مرادي أن أخط يف األرض يف أول فرصة َت َم ُّكنِي من ذلك‪.‬‬


‫قال َّ‬

‫وبعد أن سارت املنصورة مسافة ستني ً‬


‫ميل نزلت يف موضع قفر يف شمايل‬
‫البحرية‪ ،‬وعلقت املرايس يف شجرة قليلة االرتفاع‪ ،‬ثم حكمها الصياد‬
‫تحكي ًما‪.‬‬

‫فدخل الليل وحاول الرفيقان الرقاد فلم يقدرا عىل ذلك‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪98‬‬
‫الفصل الحادي والثالثون‬
‫يف ظنون السواح وإصالح موازنة القبة الهوائية وحساب َّ‬
‫العلمة وصيد‬
‫الصياد واالستقراء يف بحرية شاد‬

‫‪99‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪100‬‬
‫وملا كان غد اليوم الثالث عرش من شهر أيار عرف السواح الجهة التي َّ‬
‫حل‬
‫فيها؛ فكانت شبيهة بجزيرة قائمة يف وسط بطحة عظيمة‪ ،‬وحول هذه‬
‫اليابسة قصب كبري كأشجار أوربا يمتد عىل مدى النظر‪.‬‬

‫وكان مركز املنصورة أمينًا ال يخىش عليها من خط ٍر؛ ألن البطحة صعبة‬
‫املمر‪ ،‬وما لزمهم أن ينتبهوا ّإل لجهة البحرية؛ فإن أملا كان ً‬
‫آخذا يف‬
‫خصوصا يف الجهة الرشقية‪ ،‬وال يرى أمامه أرض وال جزيرة‬
‫ً‬ ‫االنبساط‪،‬‬
‫البتة‪.‬‬

‫ولم يكن الرفيقان قد تجارسا بعد عىل املحادثة عن خليلهم يوسف‬


‫البائس‪ ،‬فافتتح الصياد الحديث عنه‪ ،‬وأخذ يبث تخميناته لرفيقه‪.‬‬

‫فقال‪ :‬عل ظني أن يوسف لم يذق كأس الحمام؛ فإنه شهم شجاع نبيه‪،‬‬
‫وعارف بفن السباحة‪ ،‬بل قليل املثال به‪ ،‬وملا عرب خليج «ادمربج» لم‬

‫‪101‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫يظهر عليه أدنى ارتباك وال يشء من االضطراب‪ ،‬والبد أن نعود لنراه‪،‬‬
‫ولكن ال علم يل؛ وكيف ومتى يكون ذلك‪ ،‬أ َّما نحن فعلينا أن نبذل الجد‬
‫والجهد‪ ،‬وال نهمل واسطة لنمكنه من االجتماع بنا‪.‬‬

‫العلمة بصوتٍ شجن‪ :‬أجاب الله سؤالك يا ديك؛ فإننا نفعل ما يف‬‫فقال َّ‬
‫أول عىل مركزنا‪ ،‬ولكن قبل كل يشء يجب أن نقلع‬‫وسعنا لنجده‪ ،‬فلنهت ِد ً‬
‫عن القبة هذا الغطاء الخارجي الذي ليس له نفع؛ فإن وزنه يبلغ مائة‬
‫وثمانية أرطال‪ ،‬فهذا لعمري ثقل جسيم نلقيه عنا‪.‬‬
‫فبدأ َّ‬
‫العلمة وديك بالعمل‪ ،‬ويف أ َّول األمر تكبدا صعوبة كلية؛ ألنه لزمهما‬
‫أن يقلعا القماش الحريري الصلب قطعة فقطعة‪ ،‬وأن يجزئاه شق ًفا‬
‫صغرية ليخرجاه من بني خيطان الشبكة التي عليه‪ ،‬وقد نظرا إىل خرق‬
‫الباشق يف الغطاء فوجداه كبريًا جدًا‪.‬‬

‫وقد استمرا يف العمل نحو أربع ساعات‪ ،‬ولكن ملا تجردت القبة‬
‫الداخلية من هذا الغطاء العظيم بانت غري ممسوسة‪ ،‬وكانت وقتئ ٍذ‬
‫املنصورة قد خفت من خمس ثقلها‪ ،‬فتعجب ديك كل العجب لهذا‬
‫الفرق الباهظ‪.‬‬
‫العلمة ً‬
‫قائل‪ :‬هل يمكن لهذه القبة الصغرية أن ترفعنا إىل‬ ‫فسأل رفيقه َّ‬
‫الجو؟!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كن عىل طمأنينة وراحة بال من هذا القبيل؛ ألني أصلح‬
‫املوازنة وإذا عاودنا يوسف أخذناه معنا ورجعنا إىل املسري يف طريقنا‬
‫حسب العادة‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫قال ديك‪ :‬أظن يا سيدي صموئيل أننا لم نكن بعيدين عن الجزيرة وقت‬
‫سقوطنا‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬نعم‪ ،‬وأنا أذكر ذلك‪ ،‬وأظن أن هذه الجزيرة كسائر جزائر‬ ‫قال َّ‬
‫بحرية شاد يسكنها نسل قرصان وقتلة‪ ،‬وال ب َّد أنهم دروا بنكبتنا‪ ،‬وإذا‬
‫وقع يوسف بني أيديهم فماذا عىس يحل فيه إن لم يخالجهم اعتقاد باطل‬
‫يصدهم عن قتله‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أقول لك إنه ماهر يف جميع الحرف‪ ،‬وأنا واثق جدًا بفطنته‬
‫ولبابته‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وأنا ً‬
‫أيضا واثق بهما‪ ،‬وأما اآلن يا ديك فاذهب واصطد لنا ما‬
‫يكفي زادنا؛ ألنه قد فرغ من عندنا كل يشء‪ ،‬ولكن إياك أن تبعد كثريًا!‬

‫قال ديك‪ :‬عىل رأيس؛ فال أطيل عليك الغيبة‪.‬‬

‫فأخذ ديك البارودة ذات الطلقتني‪ ،‬وتقدم بني الحشيش املرتفع النابت‬
‫يف غاب ٍة ليست ببعيدة‪ ،‬وملا سمع َّ‬
‫العلمة بعد برهة تكرار دوي الرصاص‬
‫تيقن أن صيده ال يخلو من ثمرة جيدة‪.‬‬
‫ويف غضون ذلك أخذ َّ‬
‫العلمة ينظر إىل ما تبقى يف املركبة‪ ،‬وعزم عىل‬
‫إصالح موازنة القبة الصغرية فرأى فيها نحو خمسة أرطال من اللحم‬
‫ً‬
‫وقليل من الشاي والبن‪ ،‬ونحو خمسة ليرتات من العرق وصندوق‬ ‫اململح‪،‬‬
‫فراغ‪.‬‬
‫ماء ٍ‬
‫ولم يكن خافيًا عىل َّ‬
‫العلمة أن خسارة اإلدروجني الذي َت َ َّ‬
‫س َب من القبة‬

‫‪103‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫نقصا يف قوتها الرافعة نحو تسعمائة ليربة إنكليزية‪.‬‬


‫الكربى سبب لها ً‬
‫ُ‬ ‫فاتخذ َّ‬
‫العلمة هذا الفرق أ ًّسا له ليصلح املوازنة؛ فإن وسع املنصورة‬
‫الصغرية سبعة وسبعون ألف قدم مكعبة‪ ،‬وهي تحوي ثالثة وثالثني‬
‫أل ًفا وأربعمائة وثمانني قدم غا ٍز مكعبة‪ ،‬وأما آلة إمداد الغاز فما زالت‬
‫غري ممسوسة وصحيحة البنيان‪ ،‬وهكذا الكرة واألنبوب الذي عىل هيئة‬
‫الربغي؛ فإنه لم يصبهما رضر البتة‪.‬‬
‫فبلغت ً‬
‫إذا قوة القبة الرافعة نحو ثالثة آالف ليربة إنكليزية‪ ،‬فإذا جمع‬
‫ثقل السواح وزاد املاء واملركبة مع رضورياتها‪ ،‬وأضيف إىل ذلك نحو‬
‫مائتني وخمسة وعرشين لرتا من املاء‪ ،‬ومائة ليربة إنكليزية من اللحم‬
‫الرخص فيكون مجموع ذلك ألفني وثمانيمائة ليربة؛ فو الحالة هذه‬
‫ثقل يبلغ وزنه مائة وسبعني ليربة‪ ،‬فيستعمله عند‬‫يمكنه أن يأخذ معه ً‬
‫الحاجة‪ ،‬وهكذا كانت القبة يف موازنة تامة مع الهواء املحيط‪.‬‬
‫العلمة بالفعل هذا النظام‪ ،‬وأقام مقام وزن يوسف ً‬
‫ثقل زائدًا من‬ ‫فتمم َّ‬
‫ول النهار ُم ْد ِب ًرا‪ ،‬فعاد ديك إىل رفيقه‬ ‫ً‬
‫منشغل إىل أن ّ‬ ‫الرمل‪ ،‬وقد لبث‬
‫وقد صاد صيدًا واف ًرا من اإل ِ َو ِّز والبط الربي ودجاج الغاب وغري ذلك‪،‬‬
‫قضيب رفيع يف كل قطعة‬
‫ٍ‬ ‫فهيأها جميعها وأحماها يف النار بإدخال‬
‫منها‪ ،‬وتعليقها فوق حطب أخرض مرضم بالنار‪ ،‬وبعد أن تدخنت بدرج ٍة‬
‫أعجبت خاطر ديك رفعها ووضعها يف املركبة‪.‬‬

‫وكان الصياد متأهبًا ألن يتمم املؤنة يف الغد‪.‬‬


‫ً‬
‫وكعكا وشا ًيا‪ ،‬وبعد أن‬ ‫مملحا‬
‫ً‬ ‫وملا جن الليل عىل السائحني تعشيا لح ًما‬
‫أكال جيدًا من قبل التعب السابق استوىل عليهما النعاس فناما‪ ،‬وكان كل‬
‫‪104‬‬
‫َ‬
‫يسألن الظالم‬ ‫َ‬
‫سهران بالحراسة يف دوره؛ فكنت تراهما كأنهما‬ ‫منهما‬
‫متفحصني عن رفيقهما يوسف‪ ،‬وكان يخال لهما أحيا ًنا أنهما يسمعان‬
‫صوته‪ ،‬ولكن واحرستاه عىل هذا الصوت الذي تمنيا سماعه؛ فإنه لم‬
‫يطرق آذانهما حقيقة‪.‬‬
‫وملا سطعت أشعة الشمس املنرية أيقظ َّ‬
‫العلمة رفيقه ديك وقال له‪ :‬لقد‬
‫أطلت الفكرى يف ما ينبغي علينا فعله لنجاة رفيقنا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬قل يا سيدي؛ فإني قابل برأيك قبل أن أعلمه‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬من الرضورة أن نطلع يوسف عىل أث ٍر من أحوالنا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬الب َّد من ذلك؛ ألنه إذا تصور أننا تركناه استوىل عليه اليأس‬
‫والقنوط‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال تظن مثل ذلك الظن؛ فإن يوسف يعرفنا حق املعرفة‪ ،‬ومن‬
‫املحال أن يطرقه فكر كهذا؛ غري أنه ينبغي أن يعرف مكاننا ومقرنا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وكيف العمل؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إننا مزمعون أن نجلس يف املركبة ونرتفع إىل العال‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وعىس أن الريح تدفعنا إىل ما أبعد؟ فما حيلتنا حينئذٍ؟!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن الريح ال تدفعنا إىل حيث ال نشاء؛ تأمل مهبها الحايل؛‬
‫فإنها تدفعنا إىل فوق البحرية‪ ،‬وهذا ما نرغبه اآلن ويوافقنا‪ ،‬وسنبذل‬
‫وسعنا يف أن نستمر فوق هذا البساط املائي طول النهار؛ فال َّ‬
‫شك يف أن‬

‫‪105‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫يوسف ينظر إلينا؛ حيث إن عينيه متجهتان دائ ًما إىل العلو‪ ،‬ولربما يجد‬
‫ً‬
‫أيضا وسيلة ليدلنا عىل مقره‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬إذا كان مقي ًما وحده فإنه يدلنا ال محالة‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬ولنفرض أنه أُخِ َذ أسريًا فمن عادة هؤالء األقوام أن يحبسوا‬
‫قال َّ‬
‫املأسورين يف األماكن الجهارية وعليه فإنه يشاهدنا ويفهم غاية تفتيشنا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولكن فلننظر إىل سائر األحوال ولنفرض أننا ما وجدنا له أث ًرا‪،‬‬
‫وال وجد هو منا ً‬
‫دليل؛ فرتى ماذا نصنع؟!‬

‫العلمة‪ :‬إننا نبذل جهدنا يف أن نصل إىل جهة البحرية الشمالية‪،‬‬ ‫قال َّ‬
‫ونلبث منظورين عىل قدر استطاعتنا‪ ،‬وهناك ننتظر ونستقرئ السواحل‬
‫والشواطئ؛ فال ب َّد أن يوسف يج ُّد يف الطلوع إىل إحداها‪ ،‬وال نرتك تلك‬
‫املحالت َّإل من بعد جه ٍد كيل نبذله حبًا فيه‪.‬‬
‫قال الصياد‪ :‬هيا بنا ً‬
‫إذا إىل الرحيل!‬

‫العلمة مركز اليابسة التي أزمع أن يرحل منها‪ ،‬فكانت بموجب‬‫فسطر َّ‬
‫رسومه يف شمايل بحرية شاد؛ بني مدينة الري وقرية أنجميني اللتني‬
‫زارهما القائد دنهام‪ ،‬ويف خالل ذلك أكمل الصياد مصيدته‪ ،‬ولم يصادف‬
‫يف طريقه شيئًا من الوحوش الضارية التي تكثر يف تلك البطاح‪.‬‬

‫بتعب‬
‫ٍ‬ ‫صباحا نشلت املرساة من الشجرة‬ ‫ً‬ ‫وملا كانت الساعة السابعة‬
‫جزيل‪ ،‬مع أن يوسف كان يرفعها دائ ًما بال إعياء‪ ،‬ثم انترش الغاز‬
‫وارتفعت املنصورة الجديدة إىل علو مائتي قدم عن األرض؛ ففي َّ‬
‫أول‬
‫‪106‬‬
‫قليل ودارت عىل ذاتها‪ ،‬لكنها دفعت من َث ّم بمهب شديد‪،‬‬
‫األمر اضطربت ً‬
‫وتقدمت إىل فوق البحرية وهي تسري مسافة عرشين ً‬
‫ميل يف الساعة‪.‬‬

‫العلمة واق ًفا فوق البحرية بعلو مائتني إىل خمسمائة قدم‪ ،‬وديك‬ ‫فما برح َّ‬
‫يفرغ أحيا ًنا قِرابينه‪ ،‬وكانا يأخذان بالوطوء فوق الجزائر ويقرتبان‬
‫كثريًا من األرض‪ ،‬بل يخاطران بنفسيهما ويستقرئان بأعينهما يف اآلجام‬
‫واألدغال ويف كل َط ِو َّي ٍة أو صخر ٍة كان يمكن أن يختبئ بها رفيقهما ونزال‬
‫مرا ًرا إىل قرب القوارب املوجودة يف البحرية‪ ،‬فعندما كان يبرص الصيادون‬
‫بالقبة الهوائية كنت تراهم يبادرون إىل الغطس يف املاء ويسبحون حتى‬
‫يصلوا إىل جزيرتهم وأمارات الجزع والهلع الئحة عىل أطوارهم وهيئاتهم‪.‬‬

‫وبعد أن استقرءوا مدة ساعتني قال ديك‪ :‬ما وجدنا شيئًا‪.‬‬


‫العلمة‪ً :‬‬
‫مهل يا ديك وال تقطع الرجاء منذ اآلن؛ فلسنا بعيدين عن‬ ‫قال َّ‬
‫مقر الحادثة‪.‬‬

‫ميل‪ ،‬ومن َث ّم‬


‫وعند الساعة الحادية عرشة تقدمت املنصورة تسعني ً‬
‫ميل‪ ،‬وحامت‬ ‫صادفت مهبًا دفعها إىل الجهة الرشقية بمسافة ستني ً‬
‫وقتئ ٍذ فوق جزيرة متسعة كثرية السكان‪ ،‬حسبها َّ‬
‫العلمة جزيرة ف َّرام‬
‫حيث توجد عاصمة البيديوماه وعند كل أجمة كان يرجو فرغوسن أن‬
‫يسمع صوت يوسف يناديه‪ ،‬فقال يف نفسه‪ :‬عساه ح ًرا لم تأرسه الربابرة؛‬
‫تعب وال إعياء‪ ،‬وهب أنه أسري فسنفعل بشأنه ما فعلناه‬ ‫فأننا ننشله بال ٍ‬
‫بذلك املرسل العازاري‪ ،‬وهكذا يعود إلينا بالسالمة‪.‬‬

‫ولكن لم يسمعا له صو ًتا‪ ،‬ولم يشاهدا له أث ًرا‪ ،‬فكان ذلك مما يوجب‬

‫‪107‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫اليأس والقنوط‪.‬‬

‫ويف الساعة الثانية والنصف بعد الظهر وصلت املنصورة إىل قبالة قرية‬
‫تنغاليا الكائنة عىل جانب شاد الرشقي‪ ،‬وهي النقطة األخرية التي وصل‬
‫إليها القائد دنهام وقت دخوله يف بطون إفريقية‪.‬‬

‫فشمل قلب فرغوسن القلق واالضطراب من جراء تداوم اتجاه الريح؛ ألنه‬
‫رأى أنها تدفعه إىل الجهة الرشقية حيث مركز إفريقية والقفار والبوادي‬
‫التي ال نهاية لها وال مناص منها‪.‬‬

‫فقال وقتئ ٍذ لرفيقه ديك‪ :‬ال ب َّد من الوقوف ههنا والنزول إىل األرض‪،‬‬
‫وينبغي لنا الرجوع إىل البحرية حبًا يف صالح رفيقنا يوسف‪ ،‬وقبل كل‬
‫يشء فلنجد مهبًا مخال ًفا للمهب الحايل‪.‬‬

‫فلبث مدة ساعة وهو ينتقل من طبق ٍة إىل طبقة يف الجو‪ ،‬وما انفكت‬
‫ريحا شديدة‬
‫املنصورة تنخفض إىل األرض‪ ،‬ولكن بعلو ألف قدم صادفت ً‬
‫دفعتها إىل شمايل الغرب‪.‬‬

‫العلمة ورأى شاطئ البحرية الشمايل أخذ يظن يف نفسه أن‬ ‫وملا عاد َّ‬
‫وإل كان أظهر‬ ‫يوسف ليس بموجود ً‬
‫أصل يف جزيرة من جزائر البحرية‪َّ ،‬‬
‫ذاته لرفيقيه بأي واسط ٍة كانت‪ ،‬ثم قال عىس أن اإلفريقيني ذهبوا به إىل‬
‫الرب‪.‬‬

‫ولم يخطر قط ببال الرفيقني أن يوسف ذهب فريسة الغرق ألنه ماهر‬
‫يف فن السباحة‪ ،‬ولكن هنا طرقهما تصور هائل وهو أن التماسيح كثرية‬
‫الوجود يف تلك النواحي‪ ،‬وقد اعرتى هذا الفكر جنان كليهما‪ ،‬ولكن‬
‫‪108‬‬
‫لم يتجارس أحدهما أن يكاشف به اآلخر‪ ،‬بل إنه دهمهما علنًا‪ ،‬حتى‬
‫العلمة ما تماسك أن قال بدون ديباجة‪ :‬ال تلبث التماسيح َّإل عىل‬‫إن َّ‬
‫شواطئ الجزائر أو البحرية‪ ،‬وليوسف فطنة كافية لتجنبها‪ ،‬وهي ً‬
‫أيضا‬
‫قليلة الخطر؛ ألن أهل ذلك البلد يسبحون يف املاء وال يخافون من وثباتها‪.‬‬

‫فما فاه ديك بجواب‪ ،‬بل آثر السكوت عىل املباحثة يف هذا األمر املكدر‪.‬‬
‫وعند الساعة الخامسة مساء أشار َّ‬
‫العلمة إىل قرب مدينة الري‪ ،‬وملا وصال‬
‫إليها شاهدا سكانها منشغلني يف حصاد األقطان أمام أكواخهم املبنية‬
‫من القصب املجدول وسط حظائر نظيفة ومنتظمة‪ ،‬وكان مجموع تلك‬
‫األكواخ البالغة نحو الخمسني واقعًا يف أرض منخفضة يف وا ٍد متسع قائم‬
‫بني جبال غري مرتفعة‪ ،‬ودفعت الريح لشدتها منصورة الس َّواح أكثر مما‬
‫كان يرغب فيه َّ‬
‫العلمة‪ ،‬ولكن لم تدم عىل ذلك الحال‪ ،‬بل انقلبت مرة‬
‫ثانية وأرجعته إىل مركز سفره؛ أي املوضع الذي قىض فيه ليلته السالفة‪،‬‬
‫ثم تعلّقت املرساة يف رزم من القصب القائم هناك بكثرة عظيمة؛ إذ لم‬
‫تصادف شجرة تلتصق بأغصانها‪.‬‬

‫العلمة صعوبة كلية لتهدئة املنصورة من شدة الريح‪ ،‬لكنها‬ ‫ثم كابد َّ‬
‫خمدت بدخول الليل‪ ،‬وسهر الرفيقان كالهما وهما مكبالن بقيود القنوط‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪110‬‬
‫الفصل الثاني والثالثون‬
‫يف الزوبعة الشديدة وما انشغل به الرفيقان من الفكرة املكدرة وهبوب‬
‫الريح املضادة واملوافِقة والرجوع إىل الجنوب‬

‫‪111‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪112‬‬
‫صباحا هبت نفحة شديدة شبه العاصفة‪ ،‬وكادت‬‫ً‬ ‫وعند الساعة الثالثة‬
‫املنصورة تهوي إىل األرض من تقلبها بأيدي تلك الريح‪ ،‬والقصب الذي‬
‫حولها يتمايل ويهدد القبة بالتمزيق‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هيا بنا إىل الرحيل يا أيها الخليل؛ ألن حالتنا ال توافقنا‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬ويوسف هل نرتكه؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬معاذ الله تعاىل أن أتركه أو أنساه‪ ،‬ولو دفعتني العاصفة إىل‬
‫مائة ميل يف الشمال فإني أعود إليه‪ ،‬ولكن هنا خطر عىل جميعنا‪.‬‬

‫فصاح الصياد بصوت الكآبة وانجراح الفؤاد‪ ،‬وقال‪ :‬كيف نرحل بدونه؟!‬
‫العلمة‪ :‬أتظن يا ديك أن فؤادي ليس بمجروح مثل فؤادك عىل‬ ‫قال َّ‬
‫هل تضطرنا الرضورة القصوى إىل الرحيل من هنا؟‬ ‫فراقه؟‪ ...‬ولكن َّ‬

‫‪113‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فقال الصياد‪ :‬ها أنا ذا بني يديك؛ فلنرحل ً‬


‫إذا!‬

‫ولكن حال دون ارتحالهما صعوبة جزيلة؛ ألن املرساة كانت مشتبكة‬
‫ً‬
‫اشتباكا شديدًا‪ ،‬ولم يق َو الصياد عىل اقتالعها‪ ،‬فكانت الريح تدفع القبة‬
‫وتقلبها عىل وج ٍه مخالف‪ ،‬وأضحى حال ديك يف خطر مبني‪ ،‬ألنه خاف‬
‫أن تفلت املرساة برمشة عني‪ ،‬وترحل القبة إىل املواطن الجوية قبل أن‬
‫يبلغ إليها‪.‬‬
‫فلم يرغب َّ‬
‫العلمة يف أن يعرض رفيقه لهذا الخطر‪ ،‬بل أدخل الصياد إىل‬
‫املركبة‪ ،‬وصمم عىل قطع حبل املرساة‪ ،‬وعندما قطعها قفزت املنصورة‬
‫قفزة هائلة إىل العالء‪ ،‬وسمت عن األرض نحو ثالثمائة قدم‪ ،‬وسارت نحو‬
‫الشمال عىل الخط املستقيم‪.‬‬

‫فانقاد فرغوسن لتلك الزوبعة‪ ،‬وكتف ذراعيه عىل صدره وهو يف املركبة‬
‫غار ًقا يف بح ٍر من األفكار الحزينة‪.‬‬
‫ً‬
‫برهة التفت إىل رفيقه ديك وقال‪ :‬إننا لربما جربنا املوىل ألنه‬ ‫وبعد سكوته‬
‫لم ُي ْع َط لإلنسان أن يرحل بمثل هذا الرحيل!‬

‫الص َعدَاء من قلب جريح‪.‬‬


‫قال هذا وتنفس ُّ‬

‫قال الصياد‪ :‬لقد هنأنا بعضنا البعض من برهة‪ ،‬بعض أيام‪ ،‬لتخلصنا‬
‫من األخطار والويالت الكثرية يف رحلتنا اإلفريقية؛ هل ترانا ننقض اآلن‬
‫املقال؟!‬
‫العلمة ً‬
‫قائل‪ :‬وا أسفاه عىل يوسف البئيس‪ ،‬ذلك الشهم الكريم‬ ‫فصاح َّ‬
‫‪114‬‬
‫املجبول باللطف واملروءة‪ ،‬ذي الطبع السليم الريان من ماء املكارم‬
‫والفت َّوة! فإنه بعدما أخذ عقله بالثروة والغنى من الكنوز الثمينة فما‬
‫تماسك أن ضحى بها جميعا فها هو ذا اآلن بعيد منا‪ ،‬والريح تدفعنا‬
‫برسع ٍة ال ض َّد لها وتقصينا عنه‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولكن فلنفرض سيدي فرغوسن أن يوسف التجأ إىل إحدى‬
‫القبائل الكائنة يف بحرية شاد؛ أما نراه يتمكن من الرجوع إىل بالده كما‬
‫عاد دنهام وبرث إىل األوطان؟!‬

‫العلمة‪ :‬ولكن يا صاحبي ديك؛ َأل تعلم أن يوسف يجهل لغة هؤالء‬‫قال َّ‬
‫األقوام وال يعرف كلمة واحدة منها‪ ،‬وهو وحده ال رفيق له وال حيلة؟‬

‫واعلم أن السواح الذين تكلمت عنهم كانوا قبل أن يتقدموا يف البالد‬


‫يرسلون الهدايا العظام إىل رؤساء األقوام ومعهم ً‬
‫أيضا فرقة من الجنود‬
‫الشاكني بالسالح املستعدين لهذه الرحالت‪ ،‬ومع كل ذلك كان البد لهم‬
‫إذا يحل برفيقنا‬‫من احتمال العذابات واملشقات بأسوأ حال؛ فماذا ترى ً‬
‫املسكني فإن هذا الفكر يقاتلني ويؤملني‪ ،‬ويف حياتي قط لم أتكبد حز ًنا‬
‫أش َّد مرار ًة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولكن سنرجع إليه سيدي صموئيل‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إننا سنرجع ولو ألجأتنا األحوال إىل ترك املنصورة أو العودة‬
‫إىل بحرية شاد راجلني‪ ،‬بل إىل فتح املخابرات مع سلطان الربنو؛ فإني ال‬
‫أظن أن العرب عندهم سوء ذكر نحو اإلفرنج األولني‪.‬‬

‫فأجاب الصياد بعزم وحماسة القلب‪ :‬وسأتبعك إىل حيث رست؛ فلك أن‬

‫‪115‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫تعتمد عيلَّ‪ ،‬وإذا لزم األمر أبينا تتميم سفرتنا‪ ،‬وكما أن يوسف أظهر‬
‫خلوصه نحونا وأوقع نفسه يف املهلكة حبًا فينا فإننا نضحي بأنفسنا‬
‫ألجله‪.‬‬

‫فأحيا هذا الكالم روح الشجاعة والشهامة يف قلب السائحني‪ ،‬وشعرا‬


‫أنهما متشددان بالفكر نفسه‪ ،‬ثم عمل َّ‬
‫العلمة عىل أن يلقى مهبًا مخال ًفا‬
‫يقربه من بحرية شاد‪ ،‬وبذل جهده يف ذلك غري أنه قد تعرس عليه حتى‬
‫النزول إىل تلك األرايض لكون الزوبعة ما زالت شديدة الهبوب‪.‬‬

‫وهكذا مرت املنصورة بإقليم تيبوس‪ ،‬وجازت قف ًرا ذا أشواك يعرف ببلد‬
‫الجريد‪ ،‬وهو عىل تخوم بالد السودان‪ ،‬ثم دخلت بادية الرمال املخططة‬
‫بآثار القوافل‪ ،‬فشاهدوا الروضة التي يف تخوم البادية مكسو ًة بالخضار‬
‫وفيها آبار كثرية تحتاط بها األشجار الجميلة‪ ،‬وهي أعظم روض ٍة يف البالد‬
‫اإلفريقية‪ ،‬لكنهم لم يستطيعوا الوقوف فيها‪ ،‬ولكن لم يخل القفر من قوم‬
‫عربان وبعض الخيام واآلبال املادة رؤوسها فوق الرمال شبه رؤوس‬
‫األفاعي‪ ،‬فم َّرت املنصورة فوقها كنجم خرار‪ ،‬وهكذا طافت مسافة ستني‬
‫ميل بربهة ثالث ساعات‪ ،‬ويف تلك املدة كلها لم يستطع فرغوسن أن يقمع‬ ‫ً‬
‫القبة الهوائية يف مسريها‪.‬‬

‫فقال حينئذٍ‪ :‬ما هذه الحالة التي نحن فيها؟ إننا ال نستطيع الوقوف وال‬
‫النزول؛ إذ ليس شجرة وال صخرة نلقي عليها مرساتنا؛ فهل يا ترى‬
‫أزمعنا أن نجوز الصحراء من أقصاها إىل أقصاها؟ يف الحقيقة إن املوىل‬
‫سبحانه وتعاىل يعارضنا يف نيل منانا‪.‬‬

‫وفيما كان يتفوه بهذا الكالم‪ ،‬وأمارات الغيظ واليأس مستولية عىل‬
‫‪116‬‬
‫َ‬
‫رمال البادية ثائرة يف وسط غبا ٍر كثيف‪،‬‬ ‫محياه‪ ،‬إذ الح له من الشمال ّ‬
‫أن‬
‫وهي تدور محركة من املهبات املتضادة املشتبكة يف الجو‪.‬‬

‫وكان يف وسط تلك الزوبعة قافلة بكاملها مبتلعة من وثوب تلك الرمال‬
‫الطيارة‪ ،‬وقد تبددت شذر مذر؛ إذ لعبت بها أيدي الرياح فكنت تسمع‬
‫حينئ ٍذ أطيط اآلبال وحنينها وتأوه الناس ورصاخ يأسهم وانقطاع قلبهم‪،‬‬
‫وتارة كان يطري عنهم ثوب مشكل األلوان ويحوم مع الرمال‪ ،‬وفوق هذا‬
‫جميعه كان عصف الزوبعة يشبه قصيف الرعد بالهدير والعجيج‪.‬‬

‫وبعد ذلك أخذت الرمال يف التكدس؛ بعضها فوق بعض‪ ،‬وتألفت منها‬
‫آكام وربوات؛ فحيث كانت السهلة املمتدة كالبساط قامت علوة فوق‬
‫س لها‪.‬‬
‫القافلة بمثابة َر ْم ٍ‬

‫فتأمل الرفيقان هذا املشهد املرعب ووجههما مكلل باالصفرار‪ ،‬وما عاد‬
‫يف إمكانهما أن يسوسا القبة الهوائية الدائرة يف وسط مجاري الرياح‬
‫املتضادة حتى لم يعد ينفعها انتشار الغاز وامتداده‪ ،‬وملا وقعت يف شباك‬
‫تلك الفوارة الهوائية أخذت ترتجف وترسع يف مسريها وتذبذبت تذبذ ًبا‬
‫بعضا حتى‬ ‫ً‬ ‫هائل‪ ،‬وجعلت اآلالت املوضوعة يف املركبة يالطم بعضها‬ ‫ً‬
‫كادت تتحطم ومالت األنابيب حتى أوشكت أن تنقطع وصارت صناديق‬
‫املاء تتناقل من مكانها بضجة وحركة شديدة‪ ،‬وتعرس عىل السائحني‬
‫أن يسمع أحدهما صوت اآلخر‪ ،‬مع أنهما غري مفرتق أحدهما عن اآلخر‬
‫ً‬
‫ومحاول أن يمكث ثابتًا‬ ‫ً‬
‫متمسكا بالحبال‬ ‫بمسافة قدمني‪ ،‬وكان ّ‬
‫كل منهما‬
‫رغ ًما عن هياج الزوبعة‪.‬‬

‫وكان شعر الصياد مبعث ًرا وهو ينظر إىل الرياح صامتًا ساكتًا‪ ،‬وأما‬

‫‪117‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫َّ‬
‫العلمة فح َّول هيئته إىل الجسارة والجراءة حسب عادته عندما أملت به‬
‫األخطار‪ ،‬ولم َتلُ ْح عىل وجهه أمارات االضطراب الشديد‪ ،‬بل كان يف رواق‬
‫أيضا عندما وقفت املنصورة فجأ ًة يف الطبقات الجوية‬
‫تام‪ ،‬ولم يضطرب ً‬
‫بعد أن دارت عىل ذاتها دورة أخرية‪ ،‬ثم غلبت ريح الشمال وظفرت بجميع‬
‫الرياح وعكست مسري املنصورة وذلك برسعة زائدة كما جرى يف الصباح‪.‬‬

‫فصاح ديك ً‬
‫قائل‪ :‬وإىل أين نحن ذاهبون؟!‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬دع العناية اإللهية تفعل بنا ما تشاء؛ فإني قد أخطأت بعدم‬
‫اتكايل عليها وهي عارفة بما يوافقنا أكثر منا‪ ،‬وهانحن أوالء راجعون إىل‬
‫األماكن التي أيسنا من العودة إليها‪.‬‬

‫وأما الطريق التي سارت فيها املنصورة فاختلفت ً‬


‫قليل عن الطريق التي‬
‫صباحا‪ ،‬ولذا شاهد السائحان يف خالل الساعة التاسعة فسيح‬
‫ً‬ ‫أتوا منها‬
‫عوضا عن مشاهدة سواحل بحرية شاد‪.‬‬‫ً‬ ‫البادية‬

‫فأشار ديك إىل َّ‬


‫العلمة بهذا األمر‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذا ال يهمنا كثريًا‪ ،‬ويكفينا أن نرجع إىل الجنوب؛ فإننا‬
‫نصادف هناك مدائن الربنو وودية وكوكا ونحط فيها ال محالة‪.‬‬

‫راض بما نحن عليه ومنرشح الخاطر فأنا عىل ما‬


‫فقال ديك‪ :‬حيث أنت ٍ‬
‫أنت عليه‪ ،‬ولكن أرجو املوىل َّأل يدعنا نطوف الصحراء فيحل بنا ما َّ‬
‫حل‬
‫بأولئك األعراب التعييس الحظ‪ ،‬ويف الحقيقة إن ذلك املنظر أثر يف وأرعب‬
‫مني الفؤاد‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن هذا األمر كثري الحدوث؛ فإن أخطار التطواف يف القفار‬
‫يضاهي أخطار السفر يف البحار؛ ألن البادية تتناول جميع أخطار البحر‬
‫حتى واالبتالع نفسه‪ ،‬وزد عىل ذلك أن البادية فيها أتعاب ومشقات ال‬
‫يطاق احتمالها والتجلد لها‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬أرى الريح مائلة إىل الهدوء واالستكانة؛ فإني أشاهد غربة‬
‫الرمال تخف كثافة‪ ،‬وتموجها يقل‪ ،‬واألفق يأخذ يف االنجالء من غشاوته‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬حسنًا تفعل الريح بهدئها؛ فعلينا أن نفحص األفق لئال‬
‫تفوتنا نقطة واحدة ال ننظر إليها‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬دع هذا األمر عيلَّ؛ فإني أنبئك ً‬
‫حال عندما أصادف أول شجرة‪.‬‬

‫قال هذا وأخذ املنظرة‪ ،‬وجلس يف مقدم املركبة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪120‬‬
‫الفصل الثالث والثالثون‬
‫يف قصة يوسف وما كان من عبادة اإلفريقيني ل ُه ووصوله إىل أرياف‬
‫راجل ومكابدته املشقة والتعب والجوع ومرور‬ ‫ً‬ ‫البحرية وسفره‬
‫املنصورة وارتحالها وبأسه ورصاخه األخري‬

‫‪121‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪122‬‬
‫فماذا يا ترى قد أصاب يوسف يف غضون تفتيش َّ‬
‫العلمة عليه وتكبده‬
‫التعب الباطل حبًا فيه‪.‬‬

‫فاعلم وفقك الله أن يوسف يف سقوطه يف البحرية أول ما بدا منه كان‬
‫أنه نظر إىل العالء فرأى املنصورة قد سمت عن البحرية وعلت برسعة إىل‬
‫الجو‪ ،‬ثم غابت عن عينيه باتجاهها إىل جهة الشمال‪ ،‬فأيقن حينئ ٍذ أن‬
‫سيده وصاحبه ديك فازا بالنجاة‪.‬‬

‫ثم قال يف نفسه‪ :‬إنه رضب من السعادة والحظ ما طرقني من الفكر‬


‫أن أرمي بنفيس يف البحرية فدا ًء لرفيقي؛ ألنه ربما كان طرق هذا الفكر‬
‫صاحبي ديك الصياد‪ ،‬فلو خيل بذهنه ما كان تماسك قط عن تتميمه‬
‫بالفعل‪ ،‬وألمر صوابي هو أن يبذل إنسان نفسه رغبة يف نجاة اثنني؛ إذ‬
‫يتفضل االثنان عىل الواحد يف كل حساب‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وملا اطمأن خاطره من هذا القبيل أخذ يهت ُّم بأمر نفسه؛ فإنه كان مقي ًما‬
‫وسط بحرية عظيمة جدًا وحولها أقوام يجهلهم بالكلية وربما هم من‬
‫الربابرة املتوحشني‪ ،‬لكنه قال يف ذاته‪ :‬إن ارتعابي من هذا والفِك َرى‬
‫فيه قبل أوانه ال يجديني نفعًا بل من الواجب عيلَّ أن أضاعف حريص‬
‫وإل كنت أنا الخارس‪.‬‬ ‫وتحذري ألتخلص من حالتي‪َّ ،‬‬

‫وكان قد ملح جزيرة وهو يف األفق قبل أن تحمل الطيور الجوارح عىل‬
‫القبة‪ ،‬وقد زعم يوسف أن تلك البواشق ترصفت ترصفا الئقا برشاستها‬
‫إذا عىل الذهاب إىل تلك الجزيرة‪ ،‬واستعان بجميع معارفه‬ ‫املألوفة‪ ،‬فعزم ً‬
‫يف فن السباحة بعد أن جرد نفسه من الثياب التي تربكه‪ ،‬فكانت سفرة‬
‫سابحا عىل املاء ما افتكر قط‬
‫ً‬ ‫ستة أميال يف البحر ال ترعبه‪ ،‬ولهذا ملا كان‬
‫بيشء سوى أن يسبح بنشاطٍ وأن يتجه ً‬
‫خطا مستقي ًما إىل ما قصده من‬
‫املحطة‪.‬‬

‫وبعد أن مضت نحو ساعة ونصف نقصت كثريًا املسافة الفاصلة ما بينه‬
‫وبني الجزيرة‪ ،‬ولكن يف اقرتابه من األرض دهمه تصور هائل من شأنه‬
‫أن يحمله عىل الهرب وهو أن التماسيح كثريًا ما تألف سواحل البحرية‪،‬‬
‫ولم يكن يخفى عليه ما تنطوي عليه تلك الحيوانات من النهامة وشدة‬
‫الحريص يف تلقف لحمان بني آدم‪.‬‬

‫فاضطرب يوسف من هذا الفكر رغ ًما عما كان متص ًفا به من الخلة املائلة‬
‫به إىل الظن أن كل يشء يف هذه الدنيا يجري مجراه الطبيعي‪ ،‬وخاف أن‬
‫يلذ للتماسيح اللحم األبيض؛ فلذا لم يتقدم إىل الساحل ّإل بحرص كيل‬
‫ريف مظل ٍل بالشجر‬‫وعينه محدقة بكل ما حواليه‪ ،‬وملا وصل إىل قرب ٍ‬
‫‪124‬‬
‫األخرض هب نسيم فاحت منه رائحة املسك الخارقة‪.‬‬

‫فقال‪ :‬هذا ما كنت أخشاه؛ فإن التمساح غري بعيد عني‪ ،‬فغطس يف املاء‬
‫جسم عظيم ذي‬ ‫ٍ‬ ‫غطسا عمي ًقا‪ ،‬ولذا ما تحاىش صدمة‬
‫ً‬ ‫ولكن لم يغطس‬
‫خراشف مسنة فخدشت جسمه يف ممره فحسب يوسف أنه ذهب فريسة‬ ‫َ‬
‫له وجعل يسبح برسعة من ناهز اليأس ثم طلع إىل سطح املاء وتنفس‬
‫ً‬
‫قليل ثم عاد فغاب يف املاء وهكذا قىض برهة كابد فيها ضيقة وغ ًما شديدًا‬
‫رغ ًما عما كان عليه من الجلد الغريزي ففي كل دقيقة كان يخال له‬
‫أنه يسمع حركة ذلك التمساح ويراه فاغ ًرا ماضغيه ليبتلعه بلعة واحدة‬
‫محتفظا عىل ذاته من كل جانب وهو يسبح بلطافة إذا به‬ ‫ً‬ ‫وفيما كان‬
‫ُي ْم َسك من ذراعه ثم من وسطه‪.‬‬

‫فتصور حينئ ٍذ أن قد حاق به التعس والويل‪ ،‬وفكر فكرة أخرية بمواله‪،‬‬


‫وأخذ يصارع وينازع كقاطع الرجاء‪ ،‬وهو مع ذلك مشعر بأن ق َّوة تجره‬
‫إىل سطح املاء وليس إىل القعر‪ ،‬كما هي عادة التماسيح عندما تصطاد‬
‫صيدًا‪.‬‬
‫َ‬
‫ماسك ْي‬ ‫فلما طفا وفتح عينيه نظر ذاته بني عبدين َذ َو ْي لون األبنوس‪،‬‬
‫به وهما يضجان بصوت غريب‪.‬‬

‫فما تماسك أن قال يا للعجب؛ فإني نجوت من شباك التماسيح ووقعت يف‬
‫شباك السودان‪ ،‬فلعمري هذه أحسن من تلك‪ ،‬ولكن كيف يا ترى يتجارس‬
‫هؤالء عىل السباحة يف مثل هذه املحالت؟!‬

‫فكان يوسف يجهل أن سكان جزائر شاد يسبحون يف املياه الحالة‬

‫‪125‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فيها التماسيح بال خوف وال قلق؛ ألن تماسيح تلك البحرية شهرية بقلة‬
‫توحشها وعدم حرصها عىل أذية الناس‪.‬‬

‫فكان يوسف قد نجا من خطر لكنه وقع يف غريه‪ ،‬فرتك للتقادير أن تفعل‬
‫فيه ما تشاء‪ ،‬وحيث لم يستطع الخالف انقاد إىل األسودين اللذين أتيا به‬
‫إىل الساحل‪ ،‬ولم ُي ْظ ِه ْر عىل ذاته ً‬
‫وجل‪.‬‬
‫فأخذ يردد يف أفكاره ً‬
‫قائل‪ :‬ال شك يف أن هؤالء العبيد نظروا إىل املنصورة‬
‫عندما حامت فوق البحرية شبه وحش جوي‪ ،‬وقد شهدوا من بعيد‬
‫سقطتي‪ ،‬فال يبعد أن يبجلوا إنسا ًنا نزل من السماء ويتحفوه بإكرام‬
‫خصويص؛ فلندع الحوادث تجري مجراها‪.‬‬

‫واصرب؛ فقد فاز أقوام بما صربوا‬ ‫نم للخطوب إذا أحداثا طرقت‬
‫ً‬
‫وشيكا بعد ُه ظف ُر‬ ‫وكل صربٍ‬ ‫ُّ‬
‫فكل ضي ٍق سيأتي بعده سعة‬

‫وفيما كان يتحدث بهذه األفكار إذ وصل إىل ساح ٍة وفيها قوم سود من‬
‫كل جنس وعم ٍر‪ ،‬وهي قبيلة من قبائل البيديوماه‪ ،‬ولم يستح من خفة‬
‫ثوبه؛ فإنه كان عىل ِز ِّي سكان ذلك القطر‪.‬‬

‫ولكن قبل أن ينتبه إىل حالته وموقعه رأى العبيد قد أخذوا يف تبجيله‬
‫وتعظيمه‪َ ،‬ف َط ْمأ َ َن روعه من هذا األمر‪ ،‬وإن أتى عىل باله حادثة كازه‬
‫عندما ظهر القمر‪.‬‬

‫ثم قال يف نفسه‪ :‬أرى أني مزمع أن أصبح ثانية إلهًا وابنًا للقمر؛ فال بأس‬
‫من هذه الحرفة ألنها أحسن من غريها عندما تكون إجبارية‪ ،‬وأ َّما الذي‬
‫يهمني فهو أن أربح زما ًنا حتى إذا أتت املنصورة فمرت فوقي أنتهز‬
‫‪126‬‬
‫عابدي يتأملون يف‬
‫َّ‬ ‫الفرصة من حالتي هذه ألصعد صعودًا عجيبًا‪ ،‬وأجعل‬
‫هذا املشهد الغريب‪.‬‬

‫ثم ازدحم القوم حوله وأخذوا يسجدون له ويضجون ويمسونه وأنس‬


‫الجميع به‪ ،‬ولم يتهاملوا أن صنعوا له وليمة فاخرة مؤلفة من الحليب‬
‫ممزوجا بأرز مسحوق يف العسل‪ ،‬فلما‬
‫ً‬ ‫الحامض‪ ،‬وكان ذلك الحليب‬
‫كان من دأب يوسف أن يقبل بكل ما يأتيه تناول الطعام معهم‪ ،‬وأكل‬
‫كثريًا‪ ،‬وهكذا أرى عابديه كيف أن اآللهة يتلقفون األطعمة يف الفرص غري‬
‫االعتيادية‪.‬‬

‫وملا أمىس املساء أتاه سحراء الجزيرة وضبطوا يده باحرتام كيل‪ ،‬وجاءوا‬
‫محتاطا بالطالسم السحرية‪ ،‬وقبل أن يدخله‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كوخا‬ ‫به مخدعًا أشبه‬
‫يوسف شاهد عظا ًما مكومة حول ذلك املعبد‪ ،‬فنظر إليها نظرة قلقة‪،‬‬
‫ثم خلوه فيه وتركوه‪ ،‬فأخذ حينئ ٍذ يجوب بيداء األفكار يف واقعته‪ ،‬ويف ما‬
‫صمم عليه من النية‪.‬‬
‫ً‬
‫وترتيل وأصوا ًتا‬ ‫ففي جانب عظيم من الليل ما برح يوسف يسمع غناء‬
‫شبه أصوات الطبل‪ ،‬وقرقعة حديد تحلو يف آذان اإلفريقيني‪ ،‬وملا كان‬
‫قدم وساق حول الكوخ املقدس كان القوم يع ُّرون‬ ‫الرقص قائ ًما عىل ٍ‬
‫ً‬
‫تبجيل ملقام يوسف الفائق‪.‬‬ ‫بأصواتهم الضخمة‪ ،‬وجميع هذا‬

‫وكان يوسف ناظ ًرا إىل هذه الغوغاء من خالل جدران الكوخ املبنية من‬
‫الطني والقصب‪ ،‬فلو جرت هذه الحادثة يف وقت غري ذلك الوقت فلربما‬
‫فرحا عظي ًما يف تلك الطقوس الغريبة ولكن قد خيل يف باله أمر‬
‫كان فرح ً‬
‫أوقعه يف بلبال؛ ألنه‪ ،‬وإن نظر إىل األشياء بعني رائقة‪ ،‬بل مجردة‪ ،‬قد‬

‫‪127‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ساءه وجوده يف تلك البالد الوحشية وبني أقوام برابرة‪.‬‬

‫وزد عىل ذلك أنه قل السواح الذين تجارسوا فقدموا إىل تلك اآلفاق ثم‬
‫عادوا فرجعوا إىل األوطان‪ ،‬وعليه فإنه لم يثق كثريًا بعبادتهم وتكريمهم‬
‫دواع كثرية‬
‫له؛ ألن عظمات هذا العالم وأمجاده كانت عنده أباطيل‪ ،‬وله ٍ‬
‫ً‬
‫قائل‪ :‬عىس أن‬ ‫الحتقارها وعدم االكرتاث بها‪ ،‬ثم سأل نفسه بنفسه‬
‫عبادتهم تفيض أخريًا بأكل املعبود؟!‬

‫فمع ارتباكه بهذه األفكار التي من شأنها أن تلقيه يف وهاد التأسف‬


‫والكدر غلب عليه التعب ورقد يف سبات لذيذ‪ ،‬ولربما طال معه هذا الرقاد‬
‫حتى الصباح لو لم توقظه رطوبة غري منتظرة‪.‬‬

‫ثم أمست تلك الرطوبة ماء‪ ،‬وازداد ذلك يف كوخ يوسف حتى وصل إىل‬
‫أواسطه‪.‬‬

‫فقال‪ :‬ما هذه الحال؛ أعذاب عىل عذاب؟‪ ...‬هل يا ترى أنا غارق يف غمر‬
‫املياه؟! فلعمري ما كنت يف انتظار هذه الحيلة الغريبة وعىل ٍّ‬
‫كل ال أمكث‬
‫محبوسا حتى تبلغ املياه إىل رقابي‪.‬‬
‫ً‬

‫وبعد أن تفوه بذلك املقال رضب الحائط بكتفه فوجد نفسه يف قلب‬
‫البحرية‪ ،‬ولم يعد يرى أث ًرا للجزيرة‪ ،‬بل إنها غطست يف املاء بالليل وقام‬
‫مقامها سعة البحرية‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬بئس البالد ألصحاب األمالك ألنهم يعدمون رزقهم يف بره ٍة‬
‫وجيزة‪ ،‬ثم شدد قواه وضاعف نشاطه للسباحة من جديد‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫فقد نجا يوسف من أيدي الربابرة بحادث ٍة من الحوادث التي كثريًا ما‬
‫تجري يف بحرية شاد؛ فإن جزائر كثرية تته َّور يف هذه البحرية مع أنها‬
‫قبل صلبة نظري الصخور‪ ،‬وكثريًا ما يأتي األقوام املجاورون لها‬ ‫تشاهد ً‬
‫بغوث املساكني الذين يلجؤون إىل الفرار‪.‬‬

‫سبيل إىل تخلصه‪ ،‬وإذ‬ ‫ً‬ ‫أما يوسف فلم يكن عار ًفا بهذا األمر‪ ،‬لكنه أخذه‬
‫ملح قار ًبا تائهًا يف البحرية قد اقرتب منه فرآه شبه جذع شجرة‪ُ ،‬ح ِف َر َح ْف ًرا‬
‫خشنا‪ ،‬وكان فيه ِم ْق َذا َفان‪ ،‬فطلع عليه ورأى مجرى ماء رسيعًا فانتهز‬
‫الفرصة وأخذ يف املسري‪.‬‬

‫قبل إىل أين نذهب وأرجو من كوكب الصباح أن يأتي‬‫فلننظرن ً‬


‫َّ‬ ‫ثم قال‪:‬‬
‫بعوني ألنه من حسن عادته أن يهدي الناس إىل طريق الشمال‪.‬‬

‫فرأى أن مجرى املاء يبلغه ريف البحرية الشمايل فسار مرسو ًرا‪ ،‬وملا كانت‬
‫الساعة الثانية بعد انتصاف الليل صعد إىل علوة مغطاة بقصب شائ ٍك‬
‫لكنه برص هناك بشجر ٍة وخيل إليه أنه يرقد عىل أغصانها كعىل فراش‪،‬‬
‫فتسلقها يوسف وأخذ هناك يف انتظار الفجر ولو امتنع عليه الرقاد‪.‬‬

‫وإذ واىف الصباح رسيعًا حسب عادته يف بالد خط االستواء ألقى يوسف‬
‫ً‬
‫لحظة عىل الشجرة التي التجأ إليها فأرعبه منظرها رعبًا شديدًا؛ ألن‬
‫الحيات والحرباء تغطي أغصان الشجرة من أعالها إىل أسفلها‪ ،‬وكان‬
‫ورقها إذ ذاك متوار ًيا تحت لفائفها‪ ،‬وإذا ما شاهد أحد تلك الشجرة قال‬
‫عنها‪ :‬إنها تنبت دباباتٍ ‪ ،‬وملا بزغت أشعة الشمس أخذت تدب وتزحف‬
‫وتلتف‪ ،‬فشعر يوسف برعب خالجه النفور ورمى بنفسه إىل األرض بني‬
‫فحيح الحيات‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم قال‪ :‬هذا يشء غريب يصعب تصديقه‪.‬‬

‫فكان َي ْخ َفى عليه أن فوجل يف رساالته األخرية ذكر تلك الغرابة الظاهرة‬
‫يف سواحل بحرية شاد؛ حيث تكثر الذبابات والهوام كثرة ال مثيل لها‪،‬‬
‫وبعدما رأى يوسف ما رآه عزم عىل أن يشدد حرصه يف املستقبل‪ ،‬وأخذ‬
‫يسري إىل الجهة الشمالية الرشقية‪ ،‬وكان يعتني كثريًا بتجنب األكواخ‬
‫والبيوت والخيام‪ ،‬وباإلجمال كل محل قابل لسكن الناس‪.‬‬

‫وكم من مرة قد رفع يوسف ألحاظه إىل العالء وهو يرجو مشاهدة‬
‫املنصورة‪ ،‬غري أنه ذهب تفتيشه عنها هد ًرا‪ ،‬ولم ير لها أث ًرا؛ فمع ذلك‬
‫ً‬
‫جميل وشجاعة‬ ‫لم تنقص ثقته بسيده‪ ،‬أما حالته فكانت تقتيض صربًا‬
‫مضنوكا بالتعب متضو ًرا من الجوع‬ ‫ً‬ ‫عظيمة للتجلد عليها؛ إذ إنه كان‬
‫لكونه لم يغت ِذ سوى بالعروق ولب بعض الشجريات‪ ،‬أو بأثمار من‬
‫جنس النخل؛ فهذه كلها ليس من شأنها أن تقوي املعدة وتقيت املرء‪،‬‬
‫ميل إىل الناحية الغربية‪ ،‬وكان‬ ‫ومع هذا كله فإنه تقدم نحو عرشين ً‬
‫مخدشا باألشواك يف أمكنة كثرية وذلك لطلوعه إىل سواحل‬ ‫ً‬ ‫جسمه‬
‫البحرية‪ ،‬وأرجله كانت مخضبة بالدماء‪ ،‬فأصبح من َث ّم مسريه ع ً‬
‫رسا‬
‫ومؤملًا‪ ،‬فاحتمل هذا العذاب بصرب‪ ،‬وملا أمىس املاء عزم عىل أن يقيض‬
‫ليلته يف سواحل البحرية‪.‬‬

‫فهناك اقتضاه الحال أن يقايس لذع الهوام التي ال تحىص عددًا‪ ،‬وهي من‬
‫أجناس كثرية كالذباب والربغش والبعوض والنمل الذي يبلغ طوله نحو‬
‫نصف باهم‪ ،‬وهي تغطي األرض كالبساط املمدود‪ ،‬فما مىض عليه نحو‬
‫ساعتني ّإل تناثر الثوب الخفيف الذي يكسو جسمه‪ ،‬ولم يبق منه أثر؛‬
‫‪130‬‬
‫فإن الهوام قرضته كله‪ ،‬فكانت ليلة هائلة لم يستطع فيها يوسف رقادًا‬
‫ً‬
‫راحة البتة‪.‬‬ ‫وال‬

‫ويف غضون ذلك كانت الخنازير والجواميس الوحشية وغريها من‬


‫الحيوانات تضج بأصوات الغضب يف اآلجام أو تحت مياه البحرية‪ ،‬وكانت‬
‫أصواتها تدوي يف ظالم الليل فلم يتح َّرك يوسف من مكانه‪ ،‬بل كابد من‬
‫جراء ذلك عذا ًبا ألي ًما كاد أن يذهب صربه ويفيض به إىل اليأس‪.‬‬

‫ثم واىف النهار بعد انتظار طويل فنهض حينئ ٍذ يوسف برسعة وملا نظر‬
‫حواليه نفرت نفسه؛ إذ رأى أن ضفدعة ُمسِ َّمة كبرية وحشية قد ضاجعته‬
‫ليل‪ ،‬ومن مجرد النظر إليها تقز النفس وتحمل عىل التكره‪ ،‬فأحس‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫راكضا إىل البحرية‬ ‫يوسف بتقلب أمعائه‪ ،‬ولكن قد تقوى من كرهه وعدا‬
‫وارتمى يف مياهها‪ ،‬فرطب املاء ً‬
‫قليل ما كان يكابده من الحكاك‪ ،‬ثم عاد‬
‫إىل الرب ومضغ بعض أوراق الشجر‪ ،‬وسار يف طريقه بجل ٍد لم يدركه‪،‬‬
‫وأصبح كأنه ال يدري ما يفعله‪ ،‬بل شعر بقو ٍة تعلو يف قطع الرجاء‪.‬‬

‫ومع ذلك أخذ يضوره الجوع وصاحت عصافري بطنه؛ ألن بطنه ال يمكنه‬
‫االصطبار مثله‪ ،‬فاضطر إىل أن يربط جسمه بحزام نباتي‪ ،‬وأما عطشه‬
‫فكان يرويه يف كل دقيقة‪ ،‬وإذ أتى عىل باله ذكر ما احتمله يف البادية من‬
‫قلة املاء حسب نفسه سعيدًا لخلوه من هذه الحاجة الفائقة الجميع آال ًما‪.‬‬

‫ثم قال يف ذاته‪ :‬أين يا ترى هي املنصورة؛ فإن الريح تهب من الشمال‬
‫وينبغي عليها أن ترجع فوق البحرية‪ ،‬وال ب َّد أن يكون سيدي صموئيل‬
‫إذا‬ ‫ً‬
‫شغل فال يبعد ً‬ ‫رتب القبة بموازنة جديدة‪ ،‬ولكن كفاه النهار البارح‬
‫أترصف كأني‬
‫َّ‬ ‫اليوم الذي فيه املنصورة‪ ...‬ولكن مايل ولها اآلن فعيلَّ أن‬

‫‪131‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫لست بمزمع أن أراها أبدًا‪ ،‬وإذا وصلت إىل مدينة كبرية من مدائن البحرية‬
‫فإني أكون بمقام السواح الذين ذكرهم يل سيدي؛ فلماذا ال أنجو مثلهم؛‬
‫إذا‬ ‫َ‬
‫الشجاعة ً‬ ‫َ‬
‫فالشجاعة‬ ‫فإن كثريين رجعوا إىل األوطان وشاهدوا الخالن‪،‬‬
‫وال اليأس أبدًا‪.‬‬

‫ففيما هو يتفوه بهذا املقال سائ ًرا يف طريقه وصل إىل غاب وشاهد فيه‬
‫قو ًما متوحشني متألِّبًا بعضهم عىل بعض‪ ،‬أما هم فلم يدروا به لكونهم‬
‫عاملني عىل سقي نبلهم بعصري نبات ُمسِ ّم‪ ،‬وهذه مشغلة عظيمة يهتم‬
‫بها قبايل تلك البالد بعيد حافل‪.‬‬

‫فاختبأ يوسف بني اآلجام وهو ال يتنفس لئال يحس به‪ ،‬وفيما هو رافع‬
‫برصه إىل العالء ملح املنصورة بذاتها سارية فوق رأسه بعلو نحو مائة‬
‫قدم ومتجهة نحو البحرية‪ ،‬فو َّد لو استطاع أن يسمع صوته أو يعلم‬
‫رفيقيه بوجوده يف تلك املحال‪ ،‬ولكن أ َ َّنى له من نيل هذا املرام؟!‬

‫ويف تلك الساعة أذرت عينه دمعة سخينة‪ ،‬ولكن ال دمعة اليأس والقنوط‬
‫بل دمعة الرسور ومعرفة الجميل الذي بدا من سيده نحوه؛ فإنه كان‬
‫يستقرئ عنه وال يريد أن يذهب من دونه‪ ،‬فاقتىض حينئ ٍذ أن ينتظر‬
‫ً‬
‫راكضا إىل أرياف البحرية‪.‬‬ ‫رحيل السودان حتى ينطلق‬

‫وأما املنصورة فتوارت عن البرص يف طي اآلفاق‪ ،‬فعزم يوسف عىل‬


‫ً‬
‫حقيقة‪ ،‬وإذ‬ ‫انتظارها هناك؛ ألنه قال يف نفسه‪ :‬ال ب َّد من رجوعها فرجعت‬
‫اتجهت نحو الرشق فركض يوسف وراءها وأومأ بيديه ورصخ وصاح‬
‫ريحا شديدة دفعت القبة الهوائية برسعة‬‫بأعىل صوته‪ ،‬ولكن عبثًا ألن ً‬
‫عظيمة نزعت منه كل أمل ورجاء‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫ففي أول وهلة خارت فيه قوى الشهامة والرجاء‪ ،‬وظن أنه قد تاه يف بيداء‬
‫رحلة أخرية وما عاد يرجع إليه‪ ،‬فذهب‬ ‫ً‬ ‫الهالك‪ ،‬وحسب أن سيده رحل‬
‫ً‬
‫وعقل‪.‬‬ ‫عقله وأضاع كل فكر ٍة وبقي برهة ال حراك له جس ًما‬

‫ثم رشع يف املسري كإنسان فاقد العقل ورجاله مخضبتان بالدماء وجسمه‬
‫مخدش‪ ،‬ولبث ماشيًا كل النهار ومدة من الليل وتارة كان ينسحب عىل‬
‫أقدامه وطو ًرا كان يتوكأ عىل يديه وكان يرى الساعة التي فيها تخور‬
‫قواه ويأتيه األجل ال محالة‪.‬‬

‫ففيما هو يتقدم إىل األمام إذ وصل إىل قرب بطحةٍ‪ ،‬وكان قد جنه الليل‪،‬‬
‫لزج وشعر كأنه يتساقط رويدًا رويدًا يف تلك‬
‫ني ٍ‬‫ثم سقط بال معرفة يف ط ٍ‬
‫أرض الحماء تلك‪ ،‬وما مضت بعض الدقائق حتى رأى نصف جسمه‬
‫مغمسا يف الطني‪.‬‬
‫ً‬

‫فقال حينئذ‪ :‬هوذا املوت‪ ...‬هوذا قد أقبل‪ ،‬ولكن يا لها من ميتة شنيعة!‬
‫فاضطرب واختبط وأراد الخالص فلم يفز به‪ ،‬بل ما زال يتعمق يف الطني‪،‬‬
‫وكان يف حركته كأنه يحفر اله َّوة لنفسه‪ ،‬ولم ير بالقرب منه قصبة أو‬
‫قطعة خشبية ليستند عليها فأيقن أن قد دنت ساعته األخرية وأطبق‬
‫جفونه‪.‬‬
‫ثم صاح ً‬
‫قائل‪ :‬سيدي!‪ ...‬سيدي!‪ ...‬ما بالك ال تأتي إيلَّ؟! تعال!‪ ...‬تعال!‬

‫فتاه ذلك الرصاخ املنفرد؛ رصاخ اليأس والقنوط يف بوادي الظالم املدلهم‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪134‬‬
‫الفصل الرابع والثالثون‬
‫يف ما كان من العربان املجتمعني ومالحقتهم ألحد املهزومني وقتل‬
‫الصياد عربيًا برصاصة وانتشال يوسف من األرض بصناعة وحرفة‬

‫‪135‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪136‬‬
‫فمنذما فوض َّ‬
‫العلمة أمر املراقبة إىل ديك الصياد ما انفك هذا عن التفرس‬
‫يف األفق بحرص وانتباه ال مثيل لهما‪.‬‬
‫وبعد برهة التفت إىل َّ‬
‫العلمة وقال له‪ :‬أرى هناك طائفة من الناس‬
‫والبهائم مجتمعني ولكن ال يتميز يشء منها‪ ،‬بل إني أشاهدهم يف حركة‬
‫عظيمة ألن أمامهم غبار كثيف من الرمال يرتفع من األرض‪.‬‬

‫ريحا مخالفة أو ف َّوارة أزمعت أن‬


‫فقال صموئيل‪ :‬يمكن أن يكون هذا ً‬
‫تدفعنا إىل الشمال‪.‬‬

‫فنهض ديك ليفحص األفق من جديد‪ ،‬ثم قال لرفيقه‪ :‬أظن أنها طائفة من‬
‫الغزالن أو من بقر الربية‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن ذا من املحتمل‪ ،‬ولكن اعلم يا ديك أن هذه الفرقة املتجمعة‬

‫‪137‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫تبعد عنا نحو تسعة أو عرشة أميال؛ فأنا إذا تطلعت بالنظارة الصغرية‬
‫ال أميز فيها شيئًا‪.‬‬
‫فقال ديك‪ :‬عىل ٍّ‬
‫كل ها أنا ذا أراقبها عىل جميع األحوال؛ ألني أرى فيها‬
‫شيئًا غري اعتيادي يشغل بايل‪ ،‬وعىل ما أظن فإن هذا االزدحام إنما هو‬
‫ازدحام خيالة يجارون يف ميدان السباق‪ ...‬هو ذا‪ ...‬قد أصاب تخميني؛‬
‫فإنهم يف الحقيقة خيالة‪ ...‬تطلع يا فرغوسن تطلع!‬
‫فتأمل َّ‬
‫العلمة بانتباه إىل تلك الفرقة املزاحم بعضها ً‬
‫بعضا‪ ،‬ثم قال‪ :‬عىل‬
‫ما أرى قد أصبت يف ظنك؛ فإنها فرقة من عربان أم تيبوسية‪ ،‬والباين‬
‫أنهم يركضون إىل الجهة التي نحن سائرون إليها غري أن عدوهم ال يوازي‬
‫رسعة قبتنا‪ ،‬وال يميض نصف ساعة ّإل ونقف عىل الحقيقة ونعلم ما‬
‫يجب علينا من العمل‪.‬‬

‫ثم أخذ الصياد منظرته وجعل يحدق برصه فرتاءت له الخيالة املزدحمون‬
‫أيضا ً‬
‫بعضا منهم ينفردون عىل جانب‪.‬‬ ‫بأكثر وضوح‪ ،‬وشاهد ً‬

‫ثم قال لفرغوسن‪ :‬يف الحقيقة إن هذا سباق خيل؛ فكأنهم يتعقبون شيئًا‬
‫وأود كثريًا أن أرى ما هو موضوع مطاردتهم‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬صربًا يا ديك؛ فعن قريب نصل إليهم‪ ،‬بل نتجاوزهم إذا‬
‫داوموا الجري يف هذه الطريق نفسها‪ ،‬واعلم أن قبتنا تسري اآلن برسعة‬
‫عرشين ً‬
‫ميل يف الساعة‪ ،‬وال يوجد خيل يمكنها أن تجري بهذه الرسعة‪.‬‬

‫فرجع ديك إىل املراقبة من جديد‪ ،‬ولم تمض بعض الدقائق َّإل قال‪ :‬إنهم‬
‫ً‬
‫ركضا شديدًا وقد ميزتهم حق التمييز وهم يبلغون‬ ‫عربان يركضون‬
‫‪138‬‬
‫الخمسني‪ ،‬وها هي ذي برانسهم تعوم عىل جناح الريح؛ فإنها رياضة‬
‫للخيالة‪ ،‬ورئيسهم يسبقهم عىل بعد مائة قدم وهم يجرون وراءه متتبعني‬
‫آثاره‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪َ :‬من ما كانوا فإني ال أخىش أذيتهم‪ ،‬وإذا اقتضت الحال‬
‫ارتفعنا إىل املعايل‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬اصرب ً‬
‫قليل يا فرغوسن اصرب!‬

‫ثم استتىل ديك كالمه بعد فحص جديد وقال‪ :‬إنه ألمر غريب حريَّ فكري؛‬
‫ألني أرى شيئًا ما تمكنت من معرفته وال تمييزه جيدًا‪ ،‬والباين من كد‬
‫الخيالة وعدم مساواة جريهم أنهم مطاردون أحدًا ال الحقون برئيسهم‬
‫كما ظننت‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وهل تؤكد ذلك يا ديك؟!‬

‫قال ديك‪ :‬ال شك يف هذا؛ ألني أشاهد الخيالة كأنها راكضة وراء صيدٍ‪،‬‬
‫ولكنها ليست مصيدة حيوان بل إنسان‪ ،‬والذي يتقدمهم هو منهزم منهم‬
‫رئيسهم وقد خالجه االضطراب‪.‬‬
‫َ‬ ‫وليس هو‬

‫قال فرغوسن‪ :‬أَلَعَلَّه منهزم؟‬

‫قال ديك‪ :‬أي نعم سيدي‪.‬‬

‫َّ‬
‫ولننتظرن ما يحدث‪.‬‬ ‫إذا برصنا عنهم‪،‬‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال نحول َّن ً‬

‫فسارت القبة مسافة ثالثة أو أربعة أميال فوق هؤالء الخيالة الجارين‬

‫‪139‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫برسعة شديدة‪.‬‬

‫وبعد أن قطعوا هذه املسافة صاح ديك بصوت مرتجف وقال‪ :‬سيدي‬
‫صموئيل!‪ ...‬سيدي فرغوسون!‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ما بالك؟!‪ ....‬احكِ!‬

‫قال ديك‪ :‬هل هو حلم أم خيال؟!‪ ...‬هل هذا ممكن؟!‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وما معنى قولك؟!‬

‫قال ديك‪ :‬تصرب عيلَّ!‬

‫قال هذا ومسح زجاجة املنظرة وجعل يحدق برصه من جديد‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قل ً‬
‫إذا ما هذا!‬

‫قال ديك‪ :‬هو هو بنفسه يا صموئيل!‬

‫العلمة ً‬
‫قائل‪ :‬هو هو بذاته «فقد أعنى بلفظة هو هو عن مراده‬ ‫فصاح َّ‬
‫ولم َي ْحتَ ِج األمر إىل إيضاح»‪.‬‬

‫فرسا ومنهزم من أمام أعدائه ‪ ....‬وهو بعيد عنهم‬


‫ثم قال ديك‪ :‬إنه راكب ً‬
‫نحو مائة قدم‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ ،‬وقد عال وجهه االصفرار‪ :‬عافاك الله يا يوسف!‬

‫قال ديك‪ :‬ال يمكنه أن يرانا يف انهزامه وجريه‪.‬‬


‫‪140‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال بد يا ديك من أن يرانا‪.‬‬

‫قال هذا وخفض حرارة القصبة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وكيف ذلك؟!‬

‫العلمة‪ :‬ال تميض خمس دقائق َّإل ونقرتب من األرض حتى ال نعلوها‬
‫قال َّ‬
‫َّإل ‪ 50‬قد ًما‪ ،‬وبعد خمس عرشة دقيقة نصبح فوق رأسه‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أال يلزم أن ننبهه بطلقة بارودة‪.‬‬


‫العلمة‪ :‬كال؛ فإنه ال يستطيع الرجوع إىل الوراء؛ َّ‬
‫وإل ذهب فريسة‬ ‫قال َّ‬
‫أعدائه‪.‬‬

‫قال‪ :‬وما العمل؟!‬

‫قال‪ :‬الصربَ يا صاح!‪ ...‬الصربَ!‬

‫قال ديك‪ :‬الصربَ!‪ ...‬وهؤالء العربان؛ ما العمل فيهم؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إننا نلحقهم ونسبقهم‪ ،‬ولسنا ببعيدين أكثر من ميلني فقط‬
‫فليبق حصان يوسف جار ًيا مجراه وال نخىش العربان‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬إلهي!‪ ...‬إلهي!‬


‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وما الذي جرى؟!‬

‫فإن ديك صاح بصوت ميئوس منه عندما شاهد يوسف مرصوعًا عىل‬
‫الحضيض ألن حصانه قد أعياه التعب فسقط عىل األرض خائر القوى‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنه برص بنا‪ ،‬ويف نهوضه أشار إلينا بحركة يدٍ‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولكن قد أوشك العربان أن يلحقوا به؛ فما الذي ينتظره؟! لله‬
‫الحمد؛ فإنه شهم باسل‪ ...‬عافاه الله عافاه!‬
‫فكان يوسف بعد سقوطه نهض ً‬
‫حال؛ إذ وثب عليه خيال ثم قفز كالفهد‬
‫وحاد يسريًا عن طريقه ثم انقض عىل فرسه كالباشق ومسكه من عنقه‬
‫طريحا‬
‫ً‬ ‫وخنقه بأصابعه الحديدية ويديه العصبية وجندله عىل األرض‬
‫وأخذ يف انهزامه برسعة الطري‪.‬‬

‫فصاحت العربان بصوت عظيم دوى يف اآلفاق‪ ،‬ولكنهم لم يشاهدوا‬


‫قط املنصورة‪ ،‬التي كانت تبعد عنهم نحو خمسمائة قدم‪ ،‬وهي تعلو‬
‫أن واحدًا منهم قارب يوسف وحاول‬ ‫عن األرض ثالثني قد ًما فقط‪َّ ،‬إل َّ‬
‫شاخصا إياه أوقفه برصاص ٍة‬
‫ً‬ ‫أن يرضبه برمحه‪ ،‬وملا كان ديك الصياد‬
‫واحد ٍة ورصعه عىل األرض‪.‬‬

‫أصل لصوت الرصاص‪ ،‬بل داوم املسري‪ ،‬وأما الخيالة‬ ‫فلم يلتفت يوسف ً‬
‫فوقف بعضهم‪ ،‬ومنهم من خ َّر عىل وجهه يف األرض عند مشاهدة‬
‫املنصورة‪ ،‬ومنهم من داوم معاقبة يوسف‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬ولكن ما الذي يعمله يوسف؛ فإنه ال يقف؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬بل إنه يترصف ترص ًفا أوفق من الوقوف؛ فإني فهمت غايته‪،‬‬
‫وهي أنه ال ينفك من املسري إىل جهة مسري القبة الهوائية‪ ،‬ويثق بفطنتنا‬
‫وتدبرينا‪ ،‬وسننشله من أيدي هؤالء العربان‪ ،‬وهانحن أوالء بعيدون عنه‬
‫نحو مائتي قدم فقط؛ لله دره من شهم فريد!‬
‫‪142‬‬
‫قال ديك‪ :‬ما الذي يجب فعله؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬دع بارودتك جانبًا!‬

‫فرتك الصياد بارودته وقال‪ :‬ها أنا ذا فعلت‪.‬‬


‫العلمة‪ :‬أتستطيع أن تحمل بني ذراعيك ً‬
‫ثقل يوازن مائة وخمسني‬ ‫قال َّ‬
‫ليربة إنكليزية؟‬

‫قال‪ :‬وأكثر من ذلك‪.‬‬

‫كاف‪.‬‬ ‫قال َّ‬


‫العلمة‪ :‬ال لزوم ألكثر‪ ،‬بل هذا ٍ‬
‫فرفع َّ‬
‫العلمة أكياس الرمل وناولها لديك ليحملها بني ذراعيه‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬البَ ْث واق ًفا يف مؤخر املركبة‪ ،‬وكن متأهبًا ألن ترمي هذا الرمل كله‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬ولكن بحياتك ال تفعل ذلك قبل أمري!‬

‫قال ديك‪ :‬ثق بي وكن مطمأن البال‪.‬‬


‫العلمة‪َّ :‬‬
‫وإل خرسنا يوسف وذهب فريسة الهالك‪.‬‬ ‫قال َّ‬

‫وألق عيلَّ هذا الهم‪.‬‬


‫قال الصياد‪ :‬ال تخف يا فرغوسن‪ِ ،‬‬
‫فوصلت املنصورة فوق رؤوس الخيالة الذين ما انفكوا من تتبع أثر‬
‫يوسف‪.‬‬
‫وأما َّ‬
‫العلمة فوقف يف مقدم املركبة وهو ماسك السلم منشو ًرا ومستعدًا‬
‫ألن يلقيه يف الدقيقة املوافقة‪ ،‬وكان يوسف بعيدًا عن أعدائه نحو خمسني‬

‫‪143‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قد ًما‪ ،‬أما املنصورة فتقدمتهم‪.‬‬

‫ثم قال فرغوسن لديك‪ :‬انتبه يا صاح!‬

‫قال ديك‪ :‬ها أنا ذا حارض وعىل أ ُ ْهبَةٍ‪.‬‬


‫ثم صاح َّ‬
‫العلمة بصوته الرنان‪ :‬عليك عليك يا يوسف!‬

‫قال هذا ورمى السلم فوصلت الدرجة األخرية إىل األرض وأثارت غربة من‬
‫الرمال‪.‬‬
‫العلمة يوسف لم يقف هذا يف محله بل التفت ً‬
‫قليل فوصل‬ ‫فعندما نادى َّ‬
‫العلمة إىل ديك ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫السلم بالقرب منه‪ ،‬وفيما كان يتماسك به صاح َّ‬
‫أَلْ ِق الرمل يا ديك!‬

‫فقال ديك‪ :‬قد فعلت‪.‬‬


‫فلما خفت املنصورة من ثقل يفوق ثقل يوسف ارتفعت يف العالء ً‬
‫حال‪،‬‬
‫وبلغت علو مائة وخمسني قد ًما فوق األرض‪.‬‬
‫ً‬
‫متمسكا‬ ‫وعندما ارتفعت املنصورة وتذبذبت كثريًا يف صعودها كان يوسف‬
‫شديد التمسك بحبل السلم‪ ،‬ثم أشار إىل العربان إشارة غريبة وداعًا لهم‪،‬‬
‫وتسلق السلم بخفة البهلوان ووصل إىل رفيقيه فاقتباله بني األحضان‪.‬‬

‫فضجت العربان وقتئ ٍذ بأصوات الدهشة والغضب ألن املنهزم طار من‬
‫بني أيديهم وابتعدت عنهم املنصورة بعدًا شاسعًا‪.‬‬

‫هتف يوسف‪ :‬سيدي!‪ ...‬صاحبي ديك!‬

‫‪144‬‬
‫قال هذا ووقع مغشيًا عليه من شدة االضطراب واإلعياء‪ ،‬فيما كان ديك‬
‫كأنه يف بحر الهذيان يصيح ً‬
‫قائل‪ :‬قد خلص!‪ ...‬قد فاز بالنجاة!‬
‫َ‬
‫حالة‬ ‫أما َّ‬
‫العلمة فرجع إىل رواقه القديم وقال‪ :‬أواه ما هذه الحالة؟!‪...‬‬
‫يوسف؛ فإن يوسف كان متجردًا من أثوابه وليس عىل جسمه َّإل رسم‬
‫من الكسوة‪.‬‬

‫وأما ذراعاه فكانتا مخضبتني بالدم‪ ،‬وجسمه كان مثخنًا بالجراح؛ فكل‬
‫العلمة ً‬
‫حال‪ ،‬وضمد‬ ‫دل عىل ما تكبده من العذاب والشقاء‪ ،‬فنهض َّ‬‫هذا َّ‬
‫جراحه وأنامه داخل الخيمة‪.‬‬
‫وبعد برهة استفاق من غشيانه وطلب كأسا من العرق‪ ،‬فما أراد َّ‬
‫العلمة‬
‫أن يرفض طلبه ألن يوسف لم يكن يطبب كسائر الناس‪ ،‬وبعد أن رشب‬
‫أخذ بأيدي رفيقيه‪ ،‬وقال لهما إنه مستع ٌّد ألن يقص قصته‪.‬‬
‫فلم يسمح له رفيقاه بالتكلم يف تلك الساعة‪ ،‬وعليه عاد فرقد رقادًا ً‬
‫ثقيل‬
‫كان يف غاية االحتياج إليه‪.‬‬
‫فسارت حينئ ٍذ املنصورة ً‬
‫خطا منحر ًفا إىل جهة الغرب وعندما اشتدت‬
‫الريح وصلت إىل حد القفر الشائك فوق النخالت التي قد أحنتها أو‬
‫اقتلعتها الزوبعة‪ ،‬وبعد أن سارت مائتي ميل منذ انتشال يوسف جازت‬
‫مساء الدرجة العارشة من الطول‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪146‬‬
‫الفصل الخامس والثالثون‬
‫يف طريق الغرب ويقظة يوسف وعناده وتتمة قصته ووصول السواح‬
‫إىل تجلة وقلق الصياد واتجاه املنصورة نحو الشمال‬

‫‪147‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪148‬‬
‫ثم سكنت الريح من مهبها الشديد وقرت املنصورة عىل رأس جميزة‬
‫عظيمة‪.‬‬
‫فسهر كل من َّ‬
‫العلمة وكنادي يف حراسة القبة‪ ،‬أما يوسف فانتهز الفرصة‬
‫وغرق يف سبات مريح مدة أربع وعرشين ساعة بغري انقطاع‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذا الدواء النافع ليوسف؛ أعني به الرقاد‪ ،‬فإن الطبيعة‬
‫تأتيه بالشفاء من تلقاء نفسها‪.‬‬

‫وملا كان النهار عادت الريح شديدة متقلبة؛ فكانت تهب تار ًة نحو الرشق‬
‫وتارة أخرى نحو الجنوب‪ ،‬غري أنها هبت أخريًا آخذة املنصورة إىل الجهة‬
‫الغربية‪.‬‬

‫فتطلع فرغوسن إىل الرسوم الجغرافية ورأى أنه قائم يف مملكة دامرغو‪،‬‬

‫‪149‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫خصب وريعان‪ ،‬وبيوتها‬


‫ٍ‬ ‫وأرايض تلك البالد مفوجة السطح‪ ،‬لكنها ذات‬
‫مبنية بقصب تتخلله أغصان شجرة يقال لها اسكابية‪ ،‬وترى فيها‬
‫املطحنات مرتفعة فوق أخشاب متصلبة‪ ،‬وذلك خوفا من هجوم الجرذان‬
‫عليها‪.‬‬

‫وما مضت برهة َّإل وصل السواح إىل مدينة زندر املشهورة بمحل العقاب‬
‫املتسع القائم فيها‪ ،‬فرتى يف وسطه شجرة املوت‪ ،‬وكل من م َّر بفيئها‬
‫يمسكه َّ‬
‫الجلد الجالس دوا ًما عندها ويشنقه عىل تلك الشجرة يف الساعة‬
‫والحال‪.‬‬

‫ثم تطلع الصياد إىل البوصلة وقال لفرغوسن‪ :‬هو ذا؛ رجعنا إىل طريقنا‬
‫الشمالية‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال بأس منها إذا قادتنا إىل تمبوكتو؛ فإن رحلتنا ال تماثلها‬
‫ونجاحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫رحلة توفي ًقا‬

‫فقال يوسف‪ ،‬وقد مد رأسه من خالل ستار الخيمة‪ ،‬وأمارات الرسور عىل‬
‫محياه‪ :‬وال تماثلها رحلة بتوفيق صحة أصحابها‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ها هو ذا صاحبنا الشهم الفريد ومخلصنا الوحيد؛ كيف حالك‬
‫يا يوسف؟‬

‫قال يوسف‪ :‬بألف خري كجاري عادتي وطبيعتي؛ فإني لم أر أبدًا نفيس‬
‫منرشح الصدر أكثر مني يف هذه الساعة‪ ،‬وكيف ال يتنشط من قد تحمم‬
‫ً‬
‫برهة النرشاح صدره؛ فما قولك يا سيدي؟‬ ‫مثيل يف بحرية شاد‪ ،‬ثم مىش‬
‫‪150‬‬
‫فقال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬لله درك من شهم فريد!‪ ...‬ولكن كم سببت لنا من القلق‬
‫والغم والرعب والهم!‬

‫قال يوسف‪ :‬أتظن أني كنت عىل طمأنينة قلب من قبلكم؟‪َّ ...‬‬
‫كل؛ بل‬
‫يمكنكما أن تفتخرا بما سببتما يل من الفزع الشديد‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إذا قلبت املسألة عىل هذا النسق فال نتفق ً‬
‫إذا عىل رأي!‬

‫قال الصياد‪ :‬أرى أنه لم يتغري ً‬


‫أصل من بعد سقطته‪.‬‬

‫خالصا لنا‪ ،‬وهو الذي نجانا من‬


‫ً‬ ‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن حبك يا يوسف كان حبًا‬
‫الهالك ألننا كنا ساقطني يف البحرية برسعة كلية وعىل الخط املستقيم؛ فلو‬
‫غطست املنصورة يف املاء َم ْن تراه كان نشلها ونشلنا!‬

‫قال يوسف‪ :‬ولكن إذا كان انقالبي الذي تنازلت إىل أن تدعوه حبًا قد‬
‫خلصكم ألم يخلصني أنا ً‬
‫أيضا؛ إذ إننا الثالثة ال نزال عىل أحسن حال‬
‫وأجود صحة‪ ،‬وبالنتيجة فليس ألح ٍد أن يعزو التقصري لنفسه أو لخالفه‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬سبحان من ك َّون طبعك يا يوسف!‪ ...‬فإنك ال تسلم معنا‬


‫بيشء‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬أحسن واسطة لالتفاق إنما هي أن ننىس هذه املادة وال‬
‫مليحا فال عودة إليه‪.‬‬
‫ً‬ ‫قبيحا أم‬
‫ً‬ ‫نتكلم عنها؛ لقد جرى ما جرى‪ ،‬إن كان‬

‫ً‬
‫ضاحكا‪ :‬يالك من عنيد! فعىل القليل ال تتماسك أن تحكي‬ ‫فقال َّ‬
‫العلمة‬
‫لنا قصتك‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال يوسف‪ :‬إذا كان ال ب َّد من ذلك فعىل الرأس والعني‪ ،‬ولكن أرغب قبل‬
‫أن أخرب قصتي يف أن أشوي هذا البط املدهن‪ ،‬فإني أرى أن الصياد لم‬
‫ً‬
‫باطل‪.‬‬ ‫يدع زمانه يذهب‬

‫فقال له الصياد‪ :‬إن األمر كما قلت‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬عن قريب نرى كيف يسلك الصيد اإلفريقي مع معدة‬
‫إفرنجية‪.‬‬

‫ويف الحال شوى يوسف البط عىل لهيب القصبة وأخذ كل حصة‪ ،‬أما‬
‫يوسف فكانت حصته وافرة ألنه لم يذق طعا ًما منذ بضعة أيام‪ ،‬وبعد‬
‫أن رشب الشاي والعرق أخذ يقص ما جرى له من الحوادث والوقائع‪،‬‬
‫غري أنه كان يظهر يف كالمه نوع من الهيجان واالضطراب‪ ،‬لكن لم ينفك‬
‫العلمة يرى أن يوسف‬ ‫ً‬
‫مالحظا الحوادث بتفلسفه االعتيادي‪ ،‬وملا كان َّ‬
‫قد اهتم يف خالص سيده أكثر مما يف نجاة نفسه كان يمسكه بيده عالمة‬
‫املعروف والشكران‪ ،‬وعندما جره الحديث إىل التكلم عن غرق جزيرة‬
‫فس له فرغوسن كيف أن هذه الحادثة كثرية الوقوع يف بحرية‬‫البيديوماه َّ‬
‫شاد‪.‬‬

‫ثم وصل يوسف أخريًا بسياق حديثه إىل الساعة التي فيها غطس يف‬
‫البطحة ورصخ رصاخ اليأس األخري‪.‬‬

‫فقال‪ :‬سيدي لقد ظننت أني ولجت لجة الهالك وملا اتجهت أفكاري‬
‫ً‬
‫خبطا شديدًا وقد عزمت عز ًما ثابتًا بأن‬ ‫نحوك أخذت أصارع وأخبط‬
‫ال أترك نفيس عرضة لالبتالع بدون مجاهدة ومعاندة‪ ،‬وإذا بي أبرص‬
‫‪152‬‬
‫شيئًا عن بعد قدمني‪ ،‬وما هذا اليشء ّإل طرف حبل مقطوع حديثًا‪،‬‬
‫فبذلت جهدي وكدي حتى وصلت إىل ذلك الحبل فمسكته ورأيته ال‬
‫ينجر معي فانسحبت عليه فإذا أنا عىل أرض صلبة‪ ،‬وشاهدت مرساة يف‬
‫طرف الحبل‪ ،‬فبالصواب أدعو تلك املرساة «عن إذنك يا سيدي» مرساة‬
‫الخالص؛ فإني عرفتها من مرايس املنصورة‪ ،‬ولهذا تبعت اتجاه الحبل‬
‫الذي دلني إىل اتجاه املنصورة‪ ،‬وبعد أن كابدت شديد العذاب نجوت من‬
‫السبخة‪ ،‬فتشددت قواي وتضاعفت شجاعتي فرست مدة من الليل وأنا‬
‫مبتعد عن البحرية ثم وصلت أخريًا إىل طرف غاب عظيم فشاهدت هناك‬
‫حوشا ترعى فيه خيل وهي ال تفتكر بيشء؛ ففي الحياة أوقات يحسن‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫برهة‬ ‫بها كل إنسان ركوب جياد الخيل ويجري كالخيالة‪ ،‬فما أخذت قط‬
‫للتفكر‪ ،‬بل وثبت عىل جواد ورشعت أجري رسيعًا إىل الجهة الشمالية‪،‬‬
‫فليس يل أن أذكر البالد التي لم أشاهدها وال القرى التي تجنبت املرور‬
‫بها‪ ،‬بل أقول إني جزت الحقول املزروعة وقطعت اآلجام والسياحات‬
‫وسقت حصاني ورضبته‪ ،‬وأفرغت جهدي باالستعجال فوصلت إىل حدود‬
‫األرايض املفلوحة وانتصبت البادية أمامي فقلت‪ :‬وال أحىل منها؛ ألني أرى‬
‫ما أمامي وأراه من بعيد‪ ،‬وكنت أؤمل دائ ًما أن املنصورة تنتظرني فخاب‬
‫أميل ولم أر شيئًا حتى وصلت أخريًا يف برهة ثالث ساعات إىل محطة عرب‬
‫ووقعت وقعة الطري يف أحبولة الصياد وأنا كنت املصيد‪.‬‬

‫اعلم يا سيدي ديك أن الصياد ال يعرف قيمة الصيد حتى ُيصطاد هو‬
‫بالذات‪ ،‬ومع ذلك إذا استطاع فليحرتس من مثل ذلك الصيد‪.‬‬

‫هذا وكانت العربان تجد يف إثري حتى أعيي حصاني واقرتب مني أحد‬
‫العربان فانقضضت عىل فرسه وصارعته وأخنقته‪ ،‬غري أني لم أفعل‬

‫‪153‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ً‬
‫بغضا له‪ ،‬وعليه أؤمل أنه ال يريد يل سوءا من قبل ذلك‪ ،‬وحينئ ٍذ‬ ‫ذلك‬
‫شاهدتكما وأنتما تعرفان بما جرى بعد هذا؛ فقد جرت املنصورة تابعة‬
‫أثري ونشلتني كالطائر من األرض؛ ألم يحق يل أن أثق بكما وبمعروفكما‬
‫ولباقتكما‪ ،‬أما اآلن فأسألك يا سيدي‪ :‬هل ما جرى ليس شيئًا طبيعيًا‬
‫ً‬
‫بسيطا جدًا وكثري الوقوع؟‪ ...‬وها إنني مستعد ألن أعيد العمل إذا أمكنِّي‬
‫أن أنفعكما بأمر من األمور ولكن كما قلت لك ساب ًقا ال تستحق املسألة‬
‫أن نتكلم عنها‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬عافاك الله يا يوسف!‪ ...‬فإنك ذو شمائل وطبائع حسنى ما‬
‫لها من مثيل‪ ،‬ولم نخطئ نحن ً‬
‫أصل باتكالنا عىل ذكائك وفطنتك‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬عىل اإلنسان أن يتبع جري الحوادث فينجو من املهالك‪،‬‬


‫وعندي أن الطريق األيمن لراحة البال هو اقتبال األمور كما تقبل ألينا‪.‬‬

‫وفيما كان يوسف يحكي قصته قطعت املنصورة مسافة بعيدة يف تلك‬
‫البالد‪ ،‬ثم أشار ديك إىل وجود أكواخ يف الجهة األفقية تظهر كأنها مدينة‬
‫العلمة إىل رسومها وعرف أنها قرية «تجلة» يف مملكة دامرغو‪،‬‬‫فنظر َّ‬
‫ثم قال سنجد هناك الطريق التي سلكها برث وفيها انفصل عن رفيقيه‬
‫ريرشدسون وأورويك؛ فكان ريرشدسون متأهبا للمسري يف طريق زندر‪،‬‬
‫وأورويك كان مستعدًا لالنطالق إىل مارادي وكما ال يخ َفى لم يرجع إىل‬
‫أوربا من هؤالء السواح الثالثة سوى برث وحده‪.‬‬

‫فنظر الصياد إىل رسم اتجاه املنصورة وقال‪ً :‬‬


‫فإذا نحن متجهون نحو‬
‫الشمال عىل الخط املستقيم‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬نعم نحن متجهون إىل الشمال قوا ًما‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬أليس من شأن ذلك أن يسبب لك شيئًا من القلق؟‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وملاذا؟!‬

‫قال الصياد‪ :‬ألن هذه الطريق توصلك إىل طرابلس فنضطر من جراء ذلك‬
‫أن نطوف الصحراء الفسيحة‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬أؤمل أننا ال نذهب إىل بع ٍد كهذا وال بهذه الطريق املشؤومة‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬وهل من نيتك أن تحل بمكان؟‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قل يا ديك؛ هل ترغب يف زيارة تمبوكتو؟!‬

‫قال الصياد‪ :‬تمبوكتو؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬أي نعم؛ ال يسوغ ألحد أن يسافر يف أمصار إفريقية وتفوته‬
‫زيارة تمبوكتو‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فتكون الخامس أو السادس بني رجال أوربا الذين زاروا‬
‫هذه املدينة العجيبة يف غوامضها‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬فلنذهب ً‬


‫إذا إىل تمبوكتو!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬والحالة هذه دعنا نصل إىل ما بني الدرجة السابعة عرشة‬
‫ريحا موافقة تقذف بنا نحو‬
‫والثامنة عرشة من العرض‪ ،‬وهناك نتوقع ً‬
‫الغرب‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أجاب الصياد‪ِ :‬ن ْعم الرأي؛ إنما هل بقي علينا مسافة طويلة يف جهات‬
‫الشمال؟‬
‫العلمة‪ :‬علينا مسافة مائة وخمسني ً‬
‫ميل عىل األقل‪.‬‬ ‫قال َّ‬

‫عندها أجاب ديك‪ :‬والحالة هذه أود أن أنام ً‬


‫قليل‪.‬‬

‫اقتف أثر ديك؛ فإنك محتاج‬


‫ِ‬ ‫قال له يوسف‪ :‬نم يا سيدي‪ ،‬وأنت يا معلمي‬
‫إىل الراحة ألنني أسهرتك سه ًرا زائدًا‪.‬‬

‫فاضطجع الصياد يف املظلة‪ ،‬أما فرغوسن فقلما كان يؤثر فيه التعب‪ ،‬ولذا‬
‫لبث راصدًا‪.‬‬

‫ويف برهة ثالث ساعات كانت املنصورة تجوب برسع ٍة ال مزيد عليها ً‬
‫أرضا‬
‫مخصبة تعلوها سالسل جبال شامخة قحلة‪ ،‬وتتخللها بعض أوطاد‬
‫علوها أربعة آالف قدم‪ ،‬وتلعب النعام والزرافة والوعل بخفة ورسعة‬
‫عجيبة يف وسط غابات من السنط ونبات املستحية والهيلج وشجر‬
‫النخيل‪ ،‬ثم تال الفلوات الغامرة أرض كساها ديباج النبات مطر ًزا باألنوار‬
‫واأللوان‪ ،‬وهي بالد الكلواص‪ ،‬وهؤالء يلقون عىل وجوههم براقع من قطن‬
‫نظري جريانهم التوارج الذين من يجاورهم ال يأمن عىل نفسه من الهلكة‬
‫لشدة رشاسة أخالقهم وغلو توحشهم؛ ففي الساعة العارشة مساء بعدما‬
‫قطعت املنصورة تلك املسافة الطويلة وقدرها مائتان وخمسون ً‬
‫ميل‬
‫وقفت فوق مدينة كبرية فكان ُي َرى منها عىل ضوء القمر قسم بني عامر‬
‫وبعض رؤوس مآذن مرتفعة هنا وهناك ترضبها أشعة النور‬ ‫ُ‬ ‫وغامر‪،‬‬
‫فالعلمة قد اطلع من حساب علو الكواكب أنه قائم تحت‬ ‫َّ‬ ‫فتظهر بيضاء‪،‬‬
‫‪156‬‬
‫خط عرض أغاد‪.‬‬

‫فكانت هذه املدينة قدي ًما مرك ًزا لتجارة وسيعة جدًا ّإل أنها قد بدأت‬
‫تتقهقر وتخرب قبل زيارة املعلم برث لها‪.‬‬

‫أما املنصورة فكانت غري منظورة عن بع ٍد فاستوت عىل األرض عىل مسافة‬
‫ميلني من أغاد يف حقل وسيع مزروع ذرة بيضاء‪ ،‬وقضوا الليل بسكون‬
‫وراحة‪ ،‬يف الساعة الثالثة‪ ،‬بينما كانت ريح خفيفة تدفع القبة نحو الغرب‬
‫بجنوب أغاد انبلج الصباح‪.‬‬

‫فأرسع فرغوسن يف اغتنام هذا الطالع السعيد فارتفع رسيعًا وف َّر هار ًبا‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪158‬‬
‫الفصل السادس والثالثون‬
‫يف رسعة سري املنصورة ويف األعمال الصادرة عن حكمة ويف األثقال‬
‫ويف األمطار املرتاكمة ويف غاو والنهر األسود والسواح كلربي وجوفروا‬
‫وغراي ومونغو برك ولينك وراني كالية وكالبرتون وجون وريشار لندر‬

‫‪159‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪160‬‬
‫فقيض اليوم السابع عرش من آيار بهدوء وسكون وبدون عارض مكدر‪،‬‬
‫وعادت تظهر املفازة‪ ،‬وكانت ريح معتدلة تحمل املنصورة ما بني الجنوب‬
‫والغرب بدون أن تميل يمنة أو يرسة‪ ،‬بل كان ظلها يرسم عىل الرمل ً‬
‫خطا‬
‫مستقي ًما لم يشوهه أدنى انحراف أو اعوجاج‪.‬‬

‫وكان َّ‬
‫العلمة قبل سفره قد جدد مؤنتها ماء؛ إذ كان يخىش أنه يمتنع عليها‬
‫النزول إىل األرض يف تلك البقاع املستهدفة لغارات التوارج الكثرية‪ ،‬وكان‬
‫هناك السهل املرتفع أل ًفا وثمانيمائة قدم عن شاطئ البحر ينخفض نحو‬
‫الجنوب‪ ،‬وإذ قطعوا الطريق املؤدية من أغاد إىل مرزوق املمهدة بأقدام‬
‫الجمال بلغوا مساء إىل الدرجة السادسة عرشة من العرض والرابعة‬
‫والنصف من الطول بعد أن يكونوا قد قطعوا مسافة مائة وثمانني ً‬
‫ميل‬
‫من أرض مستوية مملة‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ففي ذاك النهار أتم يوسف إعداد الطعام‪ ،‬آخر ما كان عنده من الصيد‬
‫فأتى للعشاء بيشء من لحم دجاج أريض مشوي مما يهيج شهية اآلكل‬
‫لجودته ولذته‪ ،‬أما الريح فكانت تصلح للسفر فعمد َّ‬
‫العلمة إىل أن يداوم‬
‫السري يف لي ٍل كان البدر فيه تمي ًما ساطعًا‪ ،‬فارتفعت املنصورة إىل علو‬
‫ميل بهدوء وسكينة‬ ‫ليل قاطعة مسافة نحو ستني ً‬ ‫خمسمائة قدم فسارت ً‬
‫ال يقلق فيها طفل خفيف النوم‪.‬‬

‫صباحا فقد انقلبت الريح فكانت تحمل املنصورة إىل ما‬


‫ً‬ ‫أما يف يوم األحد‬
‫بني الشمال والغرب‪ ،‬وكنت ترى بعض الغربان تطري يف الهواء‪ ،‬ورسبة‬
‫من الشوح تطري بعيدة عنها بعدًا عظي ًما‪.‬‬

‫فلما نظر يوسف إىل هذه الطيور الكارسة خطر له عىل بال أن يهنئ‬
‫معلمه عىل ما رآه من الرأي املصيب يف اتخاذ مركبتني هوائيتني؛ الواحدة‬
‫ضمن األخرى‪.‬‬

‫ملف واحد؛ لعمري إن هذه املركبة‬


‫فقال‪ :‬كيف ترى كان حالنا لو كنا يف ٍ‬
‫الثانية هي بمنزلة قارب يف البحر تقي الركب من الغرق عند انكسار‬
‫السفينة‪.‬‬

‫أجابه معلمه‪ :‬أصبت يا صاح!‪ ...‬غري أني ال أركن إىل قاربي كل اإلركان؛‬
‫ألنه ال يساوي املركب‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما معنى قولك هذا؟!‬

‫قال‪ :‬معناه أن املنصورة الجديدة ال تسوى القديمة؛ إما ألن قماشها قد‬
‫ُبري وإما ألن صمغها قد ذاب عىل حرارة األنبوبة؛ فإني تحققت تل ًفا يف‬
‫‪162‬‬
‫الغاز ليس بكثريٍ إىل اآلن‪ ،‬إنما معترب‪ ،‬وقد أخذت القبة بامليل إىل الهبوط‪،‬‬
‫وقد اضطررت إىل تثبيتها إىل أن أزيد اإلدروجن تمددًا‪.‬‬

‫عالجا لهذا الخلل‪.‬‬


‫ً‬ ‫قال ديك‪ :‬ال حول وال قوة َّإل بالله؛ فإني ال أرى‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬يف الحقيقة ال عالج لهذا الداء يا صاحبي ديك‪ ،‬ومن ثم‬
‫يحسن بنا أن نرسع يف املسري ونتحاىش من وقفات الليل‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أنحن بعيدون عن الساحل حتى اآلن؟‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬أي ساحل يا ولدي؟!‪ ...‬وهل نعلم إىل أين تحملنا التقادير؟!‪...‬‬
‫فكل ما يمكنني أن أقول لك هو أن تمبوكتو تبعد عنا مسافة أربعمائة‬
‫ميل نحو الغرب‪.‬‬

‫قال‪ :‬وكم من الزمان يلزمنا للوصول إليها؟‬

‫قال‪ :‬إن ساعدتنا الريح وصلنا إىل تلك املدينة يوم الثالثاء مساء‪.‬‬

‫فعندها أشار يوسف إىل رسبة بهائم وأناس منرسبة يف الفيايف وقال‪ً :‬‬
‫إذا‬
‫نصل إليها قبل هذه الرسب‪.‬‬

‫ثم انحنى فرغوسن وديك ونظرا خليطا كبريًا من كل نوع‪ ،‬فكان هناك‬
‫ً‬
‫فرنكا‬ ‫أكثر من مائة وخمسني ً‬
‫جمل؛ يؤجر الواحد بمائة وخمسة وعرشين‬
‫ً‬
‫حامل قنطا ًرا عىل ظهره‪ ،‬وكل من الجمال تحت‬ ‫من تمبوكتو إىل تافيلة‬
‫ذيله جراب يلقي فيه بعره لكي يشعلوه يف الربية؛ إذ ليس للجمالة وقود‬
‫خالفه يف الفلوات‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أما جمال التوارج فهي من البابة األوىل‪ ،‬وتصرب عىل الظمأ من ثالثة أيام‬
‫إىل سبعة‪ ،‬وتسري يومني بدون أكل‪ ،‬وهي أرسع من الخيل عد ًوا‪ ،‬وتطيع‬
‫بحذاقة صوت الخبري الذي هو قائد القافلة‪ ،‬ف ُت ْع َرف يف البالد باسم مهاري؛‬
‫العلمة فرغوسن يقص هذه القصص كان رفيقاه يحدقان‬ ‫فبينما كان َّ‬
‫بنظريهما إىل ذلك الجمهور الغفري من رجال ونساء وأوالد يسريون بعناء‬
‫عىل كثائب رم ٍل رخو تغرق فيه أقدامهم‪ ،‬وال يتخلله َّإل قليل من العوسج‬
‫واألخشاب الجافة والعليق النابت يف بعض محاله‪ ،‬وكانت الريح تذرو‬
‫حال بعد تخططها‪.‬‬ ‫الرمال وتمحو آثار خطواتهم ً‬

‫فسأل يوسف‪ :‬كيف تتوصل العربان إىل معرفة الطرقات ويتمكنون من‬
‫إيجاد اآلبار املتفرقة يف تلك الفلوات الفسيحة؟!‬

‫أجاب فرغوسن‪ :‬إن العربان قد زينت الطبيعة عقولهم بذكاء غريزي‬


‫يهديهم يف سبيلهم‪ ،‬فاملحال التي يتوقف عن املسري فيها األورباوي‬
‫وارتباكا تطوفها العربان بهدى وطمأنينة‪ ،‬فيتخذون لهم عالئم‬‫ً‬ ‫تحريًا‬
‫يف الطريق وتكفيهم إرشادًا يف املسري‪ ،‬وتكون هذه العالئم أشياء طفيفة‬
‫كحجر أو ضمة عشب أو اختالف لون الرمل‪ ،‬وهل َّم ج ًّرا‪.‬‬

‫ويف الليل يجعلون الكوكب القطبي دليلهم يف الطرقات‪ ،‬فيقطعون مسافة‬


‫أقل من ميلني يف الساعة‪ ،‬ويسرتيحون يف الهاجرة‪ ،‬فانظر اآلن ما يلزمهم‬
‫من الزمن لقطع الصحراء‪ ،‬وهي مفازة طولها أكثر من تسعمائة ميل‪.‬‬

‫أما املنصورة فقد كانت توارت عن أبصار العربان وقد أولتهم الدهشة من‬
‫رسعة مسريها وودُّوا لو ماثلوها جر ًيا؛ فعند املساء بلغت الدرجة الثانية‬
‫وعرشين ثانية من الطول‪ ،‬وقطعت يف الليل مسافة أكثر من درجة‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫واليوم االثنني قد انقلب الفلك انقال ًبا تا ًما؛ فأخذت األمطار تنهمل ً‬
‫وبل‬
‫ثقل أزعج السواح‪ ،‬وعن مثل هذه األمطار الشديدة‬ ‫والقارب ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫القبة‬ ‫فزادت‬
‫قد نشأت البحريات ومستنقعات املياه املغشية سطح تلك البالد‪ ،‬وفيها‬
‫من النبات الشجرة الغناجة والبوبات والتمر الهندي‪.‬‬

‫صنراي وقراها املعممة بأسطحة مقلوبة تماثل القبعات‬ ‫فهذه حالة بالد ُ‬
‫األرمنية؛ َّ‬
‫فقل ما فيها من الجبال‪َّ ،‬إل أنه توجد فيها تالل بينها غدران‬
‫وبرك مياه تخطها طيور الدجاج األريض والغرغرة وهي طائرة عىل‬
‫سيول رسيعة الجري تقطع الطريق فيلتزم‬ ‫ً‬ ‫سطحها‪ ،‬وترى هنا وهنالك‬
‫مركب من أفانني األشجار‬‫َّ‬ ‫املسافرون أن يجوزوها متمسكني بحبل‬
‫القائمة عىل جانبي السيول وممدود من جهة إىل أخرى‪ ،‬وغابات مراتع‬
‫للتماسيح واألوعال والخراطيط‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬أوشكنا أن نرى نهر النيجر؛ أي األسود‪ ،‬فإن البلدان تتغري‬ ‫قال َّ‬
‫هيئتها بقرب األنهار؛ ألن األنهار طرقات جارية كما قيل‪ ،‬وجا َّرة وراءها‬
‫الخصب‪ ،‬وفيما بعد تأتي بالتمدن والفالح؛ هكذا برز عىل جانبي مجرى‬
‫رب مدن إفريقية وأعظ ُمها‬ ‫النهر األسود البالغ ألفني وخمسمائة ميل أك ُ‬
‫أهمية وعمرا ًنا‪.‬‬

‫فأخذت يوسف حركة العجب وقال‪ :‬إن هذا يذكرني بقصة من كان‬
‫يتعجب من حسن العناية اإللهية ويثني عليها جميل الثناء ألنها اهتمت‬
‫فأجرت األنهار يف وسط املدن الكبرية أو بالقرب منها‪ ،‬مع أن األنهار‬
‫جرت مجراها قبل ابتناء املدن‪.‬‬

‫فكانت املنصورة يف الظهرية تسري فوق قرية غاو‪ ،‬وهي اآلن مجموع‬

‫‪165‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أكواخ حقرية‪ ،‬مع أنها كانت يف القديم مدينة معتربة‪ ،‬بل قاعدة البالد‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬هنا قد عرب برث النهر األسود لدى عودته من تمبوكتو‪ ،‬وها‬‫قال َّ‬
‫هو ذا النهر الشهري يف األعصار القديمة بشهرة نهر النيل الذي أع َزى‬
‫الحنفاء منشأه إىل اآللهة‪ ،‬وقد أشغل نظري نهر النيل أفكار الجغرافيني يف‬
‫كل زمان‪ ،‬وتكلف الباحثون عنه مشقات كبرية‪ ،‬وتعرضوا ألخطار وفرية‬
‫كما تكلف الباحثون عن النيل‪.‬‬

‫وكان النهر األسود يجري بني ضفتني منفرجتني‪ ،‬وتنحدر مياهه نحو‬
‫الجنوب انحدا ًرا شديدًا أما السواح فكادوا ال يميزون عرجاته العجيبة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إني أريد أن أخاطبكم عن هذا النهر‪ ،‬ولو كان اآلن بعيدًا‬
‫منا جدًا؛ فإنه يجوب بلدا ًنا شتى ويسمى تارة نهر الدواليب‪ ،‬وتار ًة أخرى‬
‫نهر املايو‪ ،‬وطو ًرا نهر ُق ّرا‪ ،‬ويف بعض محال يدعى بأسماء أخرى وكاد‬
‫يوازي النيل بطول مجراه‪ ،‬وكل هذه األسماء معناها «النهر» يف لغات‬
‫البلدان التي يجتاز بها‪.‬‬
‫قال كنادي‪َّ :‬‬
‫لعل املعلم برث سار هذا املسري‪.‬‬

‫كل؛ بل ملا بارح بحرية شاد م َّر بأكرب مدن الربنو‪ ،‬وأتى‬ ‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫فعرب النهر األسود يف صاي‪ ،‬وهي عىل مسافة أربع درجات تحت غاو‪ ،‬ثم‬
‫ولج أواسط تلك البلدان التي لم يكن تجسسها أحد‪ ،‬وكان النهر يحدق‬
‫بها بعوجاته‪ ،‬وبعدما قاىس أتعا ًبا جديدة مدة ثمانية أشهر وصل إىل‬
‫تمبوكتو‪ ،‬أما نحن فإننا نبلغ إليها بأقل من ثالثة أيام إن ساعدتنا األرياح‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬هل عرفت ينابيع النهر األسود؟‬


‫‪166‬‬
‫العلمة‪ :‬منذ زم ٍن مديد قد رغب رجال كثريون يف االكتشاف عىل‬ ‫أجابه َّ‬
‫النهر األسود والنهريات الصابة فيه‪ ،‬ويمكنني أن أذكر لك أخصهم؛ فمن‬
‫سنة ‪ 1749‬إىل سنة ‪ 1758‬عرف آدمسون النهر وبالد غورا‪ ،‬ومن سنة‬
‫‪ 1785‬إىل سنة ‪ 1788‬جاب غولباري وجوفروا بالد ستيغمبي وصعدا‬
‫حتى بالد املغاربة الذين قتلوا صونية وبريسون وآدم وريالي وكوشله‬
‫حظا وهلكوا يف تلك األمصار‪ ،‬وأُلْحِ َق بهم‬
‫وكثريين غريهم ممن ساؤوا ً‬
‫مونغوبرك الشهري بخليل ولرتسكوت وابن وطنه االكويس؛ فهذا بعثت به‬
‫الرشكة اإلفريقية من لندرة سنة ‪ 1795‬إىل تلك األطراف فبلغ إىل بمبارا‬
‫ونظر النهر األسود وقطع مسافة خمسمائة ميل برفقة أحد تجار العبيد‪،‬‬
‫وعرف نهر غمبيا وعاد إىل لندرة سنة ‪ ،1797‬ثم عاد فسافر يف ‪ 30‬ك ‪1‬‬
‫سنة ‪ 1805‬برفقة صهره آندرسون وسكوت املصور وجماعة من الفعلة‪،‬‬
‫فوصل إىل بالد غورا؛ فهناك ضم إىل جماعته فرقة عددها ‪ 35‬جند ًيا‪،‬‬
‫ورجع ينظر النهر األسود يف ‪ 30‬آب غري أنه لم يبق يف قيد الحياة من‬
‫األربعني أوربيًا ّإل أحد عرش نف ًرا‪ ،‬والباقون قد هلكوا من جراء ما قاسوه‬
‫من املشاق والرزايا وسوء الهواء وقلة الرضوريات؛ ففي ‪ 16‬ت‪ 2‬بلغت‬
‫آخر رسائل مونغوبرك إىل زوجته وعقب سنة أخرب أحد التجار من تلك‬
‫األطراف أنه ملا وصل إىل مدينة بوصا الكائنة عىل النهر األسود يف ‪ 23‬ك‪1‬‬
‫انقلب به القارب بميازيب النهر‪ ،‬ثم نجا من الغرق َّإل أنه وقع بني أيدي‬
‫سكان تلك البالد فقتلوه‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ألم توقف مثل تلك امليتات التعيسة رود الرائدين الراغبني يف‬
‫اكتشافات جديدة؟!‬
‫العلمة‪َّ :‬‬
‫كل؛ بل أضحت لهم مهما ًزا حضهم‪ ،‬ليس عىل البحث عن‬ ‫قال َّ‬

‫‪167‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أيضا‪ ،‬ومن َث ّم أعدُّوا يف لندرة‬


‫النهر فقط بل عىل طلب أوراق املقتول ً‬
‫رسل لتلك البالد وكان من جملتهم الضابط غراي فوصل‬ ‫ً‬ ‫سنة ‪1816‬‬
‫الرسل إىل سنغال ودخلوها يف فوتادجالون‪ ،‬وزاروا شعوب فوال ومندينك‬
‫ثم أخذوا بالعود إىل إنكلرتة بدون نتيجة أخرى‪ ،‬وسنة ‪ 1822‬تجسس‬
‫الضابط لينك كامل أمصار إفريقية الغربية املجاورة أمالك اإلنكليز وهو‬
‫أول من وصل إىل ينابيع النهر األسود؛ فبناء عىل تقريراته ليس ملنبع هذا‬
‫النهر الكبري ّإل عرض قدمني‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وما أيرس قفزه!‬

‫مهل يا صاح!‪ ...‬إن صدقت التقليدات فإن كل من حاول‬ ‫العلمة‪ً :‬‬


‫قال َّ‬
‫مجاز ذاك الينبوع قاف ًزا ابتلعته املياه يف الحال‪ ،‬ومن رام أن يستقي منه‬
‫ماء منعته عن االستقاء يد غري منظورة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬هل يح َّرم علينا عدم االعتقاد بكلمة من مثل تلك التقليدات؟‬

‫العلمة‪ :‬ليس بحرام قط؛ أما الضابط لينك فقطع سنة ‪ 1827‬فسيح‬ ‫قال َّ‬
‫الصحراء‪ ،‬ودخل تمبوكتو ومات مخنو ًقا من أوالد سليمان امللحني عليه‬
‫باإلسالم دون نيل إربهم‪ ،‬وملا قتل لم يبعد عن تمبوكتو َّإل مسافة بعض‬
‫أميال‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬وياله!‪ ...‬هاك ضحية أخرى ضحوها‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فحينئ ٍذ قام واحد من صناديد الشبان وعمد إىل إتمام ما‬
‫كان أعجب وأهول األسفار الحديثة مع قلة ما كان له من الوسائط واملال‬
‫لنفقات السفر وهو الفرنيس راني كاليه؛ فبعدما حاول مرا ًرا مبارشة‬
‫‪168‬‬
‫هذا السفر سنة ‪ 1819‬وسنة ‪ 1824‬أعاده يف ‪ 19‬نيسان سنة ‪1827‬‬
‫ً‬
‫منهوكا من التعب‬ ‫من ريونونياس‪ ،‬ويف ‪ 3‬آب وصل إىل تيمة مضنوكا‬
‫واملرض حتى إنه لم يعاود السفر َّإل يف كانون األول سنة ‪ ،1828‬أي‬
‫بعدما رشع فيه بستة أشهر‪ ،‬فانضم حينئ ٍذ إىل َق َف ٍل ً‬
‫البسا ثيا ًبا رشقية‬
‫تقيه عن أخطار الهلكة‪ ،‬فبلغ النهر األسود يف ‪ 10‬آذار ودخل مدينة‬
‫جنة وركب النهر حتى تمبوكتو‪ ،‬فوصل إليها ونزل فيها يف ‪ 30‬نيسان‪،‬‬
‫وربما كان قد شاهد تلك املدينة العجيبة فرنيس آخر يقال له إيمرب سنة‬
‫‪ ،1670‬وإنكليزي يسمى ووبرث آدم سنة ‪ ،1810‬غري أن راني كاليه‬
‫يعد أ َّول أوربي أتى بأخبار يقين ٍة عنها؛ ففي ‪ 4‬أيار بارح تلك املدينة‬
‫سلطانة الربية‪ ،‬ويف ‪ 9‬منه عرف املحل نفسه الذي فيه قتل الضابط‬
‫لينك‪ ،‬ويف ‪ 19‬وصل إىل الهروان وبارح تلك املدينة العامرة بالتجارة‬
‫وجاز تلك الفيايف الرحيبة الواقعة بني بالد السودان وأمصار إفريقية‬
‫الشمالية مقتح ًما فيها أخطا ًرا شتى؛ أخريًا بلغ إىل تنجر‪ ،‬ويف ‪ 28‬أيلول‬
‫سافر إىل تولون‪.‬‬

‫والحاصل أنه يف مدة تسعة عرش شه ًرا جاب إفريقية من غربيها إىل‬
‫شماليها مع ما قاساه من املرض مدة مائة وثمانني يو ًما‪ ،‬ولعمري لو‬
‫كان كاليه قد ولد يف إنكلرتة لكافؤوه بما يستحق من اإلكرام والرشف‬
‫كما كافأ اإلنكليز ابن وطنهم منغوبرك‪ ،‬لكنه لم يعترب يف فرنسا االعتبار‬
‫الذي َّ‬
‫حق له‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬نعم الرجل‪ ،‬وحبذا لو كان رفي ًقا لنا‪ ،‬ولكن ترى ما ذا َّ‬
‫حل به؟‬
‫َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنه تويف وهو يف عمر ثمان وثالثني سنة من جراء‬ ‫قال‬

‫‪169‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ما قاساه من األتعاب‪ ،‬فظن الفرنسيس أنهم وفوه حق الكرامة‬


‫بمنحهم إياه جائزة الرشكة الجغرافية سنة ‪1828‬؛ فلو كان يف‬
‫إنكلرتة لكان أتحف بجزيل اإلكرام وسامي اإلجالل ونال حسن‬
‫رشا هذا السفر العجيب عمد أحد اإلنكليز‬ ‫السمعة؛ فبينما كان مبا ً‬
‫إىل هذا العمل نفسه وأقدم عليه نظريه ببسالة ولكنه لم ينجح‬
‫نظريه‪ ،‬وكان القبطان كالبرتون رفيق دنهام فتوصل سنة ‪1829‬‬
‫إىل إفريقية من الجهة الغربية يف خليج بانني‪ ،‬وأخذ يسري عىل آثار‬
‫مونغوبرك ولينك‪ ،‬ووجد يف بوصة اإلفادات املتعلّقة بوفاة أولهما‪،‬‬
‫ووصل آب إىل سكاتو‪ ،‬وهناك قبض عليه وحجز أسريًا وقىض‬
‫نحبه بني يدي خادمه األمني ريشار الندر‪.‬‬

‫فسأل يوسف‪ :‬ماذا جرى لالندر؛ ماذا كان يريد؟!‬


‫َّ‬
‫العلمة‪ :‬قد تيرس له اإلتيان إىل الساحل ومن هناك عاد إىل‬ ‫قال‬
‫لندرة ومعه أوراق القبطان وتقرير مدقق عن سفره الخصويص‪،‬‬
‫فعرض حينئ ٍذ خدامته للدولة يف إتمام اكتشاف النهر األسود‬
‫فسافر وأخذ معه أخاه جون‪ ،‬وهو ثاني ولد لعائلة فقرية من بلد‬
‫كورنوايل‪ ،‬فسافر كالهما يف النهر فقطعاه من بوصة حتى مصبه‪،‬‬
‫ً‬
‫فميل‪ ،‬واطلعا عىل أريافه قرية فقرية‪ ،‬وبقيا يف‬ ‫وحررا طوله ً‬
‫ميل‬
‫هذا السفر من سنة ‪ 1829‬إىل سنة ‪.1831‬‬

‫إذا من قولك أن هذين األخوين نجوا من الهلكة‬‫قال ديك‪ :‬فاملفهوم ً‬


‫وعادا إىل أوطانهما ساملني خال ًفا ملا أصاب عموم املسافرين إىل‬
‫تلك الجهات‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫العلمة‪ :‬نعم توفقا يف هذا السفر‪ ،‬غري أن ريشار قد سافر‬‫َّ‬ ‫قال‬
‫مرة ثالثة إىل النهر األسود سنة ‪ ،1833‬وملا وصل إىل قرب مصب‬
‫النهر هلك بطلقة بندقية لم يعرف مطلقها؛ أفرأيتما ً‬
‫إذا يا خلييلَّ‬
‫ً‬
‫ونشاطا‬ ‫أن البالد التي نجتاز بها قد شاهدت من تسا َموا بسالة‬
‫حتى كانت املنية؛ فوا حرستاه عىل الغالب جزاء هممهم الخطرية‬
‫ومروءتهم الكبرية!‬

‫‪171‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪172‬‬
‫الفصل السابع والثالثون‬
‫يف البالد التي يف عرجات النهر األسود ويف منظر جبال أومربي الغريب‬
‫ويف كابرة وتمبوكتو ورسم املعلم برث وسقوط املدينة عن رونقها‬
‫القديم والسري عىل رحمة الهواء‬

‫‪173‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪174‬‬
‫وكان َّ‬
‫العلمة فرغوسن مدة ذاك النهار املكرب‪ ،‬نهار االثنني‪ ،‬يسيل رفيقيه‬
‫قصصا شتى عن البالد التي كانوا يجتازون بها‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫بقصه عليهم‬
‫أرضها مستوية عىل األكثر لم تأتهم بصعوبة يف مسريهم‪ ،‬ولم يكن يشء‬
‫يكدر صفا بال املعلم ّإل تلك الريح املشؤومة التي كانت تهب عاصفة من‬
‫الشمال الرشقي وتبعدهم عن عرض تمبوكتو‪.‬‬

‫شمال حتى يصل تلك املدينة ثم يدور كأنه فوار‬ ‫ً‬ ‫أما النهر األسود فيجري‬
‫خصال منفرجة جدًا؛ أما‬ ‫ً‬ ‫ماء كبري ويصب يف البحر األطلنتيك متفر ًقا‬
‫األرايض التي يكتنفها النهر يف عرجاته فمنها عامرة بهية بالخصب‪ ،‬ومنها‬
‫حقول رحبة يكسوها‬ ‫ً‬ ‫غامرة قاحلة كل القحول؛ فتيل السهول البائرة‬
‫ديباج املزروعات أو بساط الرتم‪ .‬ويف أرياف السئول والبطاح والبحريات‬
‫تعيش بكثرة جميع أنواع الطيور العاشقة املياه كالبجع واأل َو ِّز والبط‬
‫والصنصن وما شاكلها‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ويرى كل مدة محطة من محطات التوارج املضطجعني تحت مظال من‬


‫أديم فيما تتفرغ نساؤهم لألشغال الخارجة ويحلبن نوقهن ويرشبن‬
‫دخان التبغ بغاليني كبرية املواقد‪.‬‬

‫أما املنصورة فكانت نحو الساعة الثامنة مساء قد تقدمت مسافة ما‬
‫ً‬
‫جميل‬ ‫ينيف عن مائتي ميل نحو الغرب‪ ،‬فشاهد حينئ ٍذ السواح مشهدًا‬
‫وابتهاجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أوعب قلوبهم عجبًا‬

‫وهو أن بعض أشعة من القمر نفذت من خالل الغيوم وانبلجت بني‬


‫أهاليل السحب وسطعت عىل جبال همربي فجاءت عليها بمنظر ثياب‬
‫بيضاء كالثلج لم ير كمنظره يف مفاعيل النور‪ ،‬ثم تألفت يف الفضاء القاتم‬
‫بهيئة أشباح كأنها أطالل مدينة كبرية دارسة من بناء العرص املتوسط‪،‬‬
‫كما تظهر يف الليايل الداجية أكداس الجمد يف البحور املجلدة‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ها هو ذا منظر من مناظر أرسار أودلف‪ ،‬لعمري إن املصور‬
‫رد كليف لم يقدر أن يصور هذه الجبال بمنظر أغرب وأهول من املنظر‬
‫الذي نعاينه اآلن‪.‬‬

‫أجابه يوسف‪ :‬وحياتي إني ال أحب أن أسري وحدي مساء يف هذه البالد‬
‫وأشباحا؛ أترى يا معلمي لو لم تكن هذه البقعة ثقيلة‬
‫ً‬ ‫املوعبة أطيا ًفا‬
‫لحملتها إىل بلدي وألقمتها عىل شاطئ بحرية ملوند فيتقاطر إليها‬
‫الناقشون واملتفرجون أجوا ًقا أجوا ًقا‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن قبتنا ال تسعها حتى تشغل بالك بهذا الفكر الشاذ‪ ،‬غري‬
‫أنني أرى اتجاه مسرينا قد انقلب فال عاد عفاريت هذا املكان يعارضوننا‪،‬‬
‫‪176‬‬
‫ريحا لطيفة تهب من الجنوب الرشقي فتحملنا إىل‬
‫بل إنهم ينفخون لنا ً‬
‫طريق حسنة‪.‬‬

‫يف الحقيقة عادت املنصورة تسري يف طري ٍق تميل إىل الشمال‪ ،‬ويف اليوم‬
‫صباحا مرت فوق جديلة أقني ٍة ونهرياتٍ وغدران تصب جميعها‬
‫ً‬ ‫العرشين‬
‫يف األنهار الصابة يف النهر األسود‪ ،‬وكثري من هذه األقنية مغشاة بأعشاب‬
‫مراع دسمة؛ فهناك اهتدى َّ‬
‫العلمة إىل الطريق التي سار‬ ‫ٍ‬ ‫كثيفة كأنها‬
‫فيها برث حينما سافر يف النهر قاصدًا تمبوكتو؛ وعرض النهر ‪4800‬‬
‫قدم وعىل ضفتيه كثري من شجر الصبار والتمر الهندي‪ ،‬فريتع به رسب‬
‫األيل وتتلبك ُقزونها املحلقة بني الكأل فريصدها التمساح ليثب عليها‬
‫ويفرتسها‪.‬‬

‫ً‬
‫أقفال كثرية من حمري وجمال تنرسب تحت األشجار الجميلة‬ ‫وكنت ترى‬
‫ُم َح َّملة ببضائع واردة من جنة‪ ،‬وبعد هنيهة ظهر عىل عوجة من عوجات‬
‫النهر جوقة بيوت منخفضة مبنية يف منحد ٍر وعىل أسطحتها كدسان‬
‫علف للدواب أُتي به من األرايض املجاورة‪.‬‬

‫العلمة أخذته حركة االبتهاج فهتف ً‬


‫قائل‪ :‬هذه «كربى»‪،‬‬ ‫فلما نظرها َّ‬
‫وهي مرفأ تمبوكتو؛ فلم تعد املدينة بعيدة عنا أكثر من خمسة أميال‪.‬‬

‫نفسا يا سيدي!‬ ‫قال يوسف‪ :‬فطبت ً‬


‫إذا ً‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قد انرشح صدري يا ولدي وابتهج فؤادي‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬الحمد لله عىل توفيقه‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وها هي ذي تمبوكتو سلطانة الربية‪ ،‬مدينة الخفايا والغرائب التي حازت‬


‫كأثينا ورومة بمدارس العلماء والفصحاء والفالسفة قد أخذت تنجيل‬
‫شيئًا فشيئًا ألبصار السواح‪.‬‬

‫وكان فرغوسن يتأمل الرسم الذي اتخذه برث نفسه يف سفره‪ ،‬وحقق‬
‫غاية صحته وحقيقته‪.‬‬

‫فرسم املدينة عىل هيئة مثلث الزوايا؛ فهي منبسطة عىل سهل رحيب من‬
‫رمل أبيض‪ ،‬ورأسها املتجه نحو الشمال نافذ يف جهة من الصحراء وكاد‬
‫ال يكون يشء من األغراس يف دوائرها َّإل بعض أشجار ذات زهر ونبات‬
‫الغناجة وغريها من نباتات مهذولة صغرية‪.‬‬

‫أما منظر تمبوكتو فهو كمجموع ك َّرات وكعبات تظهر بديهًا لعني الناظر؛‬
‫فشوارعها ضيقة وعىل جانبيها بيوت ليس لها َّإل طبقة سفلية مبنية‬
‫بآجر ميبس عىل الشمس‪ ،‬وبعض أكواخ من قش وقصب؛ منها بشكل‬ ‫ُ‬
‫بعضا من سكانها مضطجعني‬ ‫مخروط ومنها مربعة‪ ،‬وعىل األسطحة ترى ً‬
‫اضطجاع املرطلني الكساىل مرتدين بكساء بهي ثمني وبأيديهم القناة أو‬
‫القربينة‪ .‬أما النساء فال ُينْ َظ ْرن يف تلك الساعة من النهار؛ قيل إن النساء‬
‫جميالت املنظر‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬لم يبق آثار من املدينة القديمة سوى ثالث مآذن لثالثة‬
‫جوامع؛ ألن املدينة قد سقطت كثريًا عن رونقها السالف ففي الرأس‬
‫املثلث الزوايا ترى جامع سنكور وإيوانه الطويل املسنود عىل قناطر‬
‫ليست بخالي ٍة من جمال البناء ونظامه‪ ،‬وعىل مسافة منها بالقرب من‬
‫حي سانغونغو جامع سيدي يحيى‪ ،‬وبعض من الدور عىل طبقتني؛ فعبثًا‬
‫‪178‬‬
‫تفتش يف املدينة عن قصور وبنايات كبرية‪ ،‬فشيخها تاجر بسيط ومنزله‬
‫امللوكي ما هو َّإل مكتبه التجاري‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬كأني أرى أسوا ًرا مهدومة من باب النصف‪.‬‬


‫أجابه َّ‬
‫العلمة‪ :‬نعم؛ قد دكها الفوالنيون سنة ‪ ،1826‬وكانت املدينة وقتئ ٍذ‬
‫أكرب مما هي اآلن من باب الثلث؛ ألن تمبوكتو كانت منذ القرن الحادي‬
‫عرش هد ًفا لسهام مطامع شعوب كثرية ففتحها التوارج والصنراويون‬
‫واملغاربة والفوالنيون‪ ،‬وكانت مرك ًزا كبريًا للتمدن والفالح‪ ،‬وكان فيها‬
‫َّ‬
‫للعلمة أحمد َبا َبا يف القرن السادس عرش مكتبة تحوي أل ًفا وستمائة‬
‫كتاب بخط اليد‪ ،‬أما اآلن فليست سوى مخزن تجارة إفريقية الداخلية؛‬
‫يدل ظاهر حالها عىل أنها أُسلمت لرحمة املتوانني وأصيبت بداء التهاون‬
‫اآلتي منه زوال املدن واضمحاللها‪ ،‬وتكدّس فيها الردم حتى ال يرى عىل‬
‫سطح أرضها املستوية محال مرتفعة َّإل تلك التي ركم فيها ذلك الردم‬
‫الفاضح‪.‬‬

‫فلما مرت املنصورة فوقها بدا فيها بعض الحركة‪ ،‬بل ورضب بالطبل‪،‬‬
‫غري أن من كان من أهلها عىل يشء من العلم لم تسنح له الفرصة املناسبة‬
‫ملراقبة هذه الحادثة الجديدة؛ إذ دفعت الريح الشديدة الس َّواح نحو‬
‫املفازة فعادوا يسريون فوق مجرى النهر الكثري العرجات‪ ،‬ففي الحال‬
‫توارت عنهم تمبوكتو ولم يبق لهم منها َّإل ذكرها‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬أما اآلن فليذهب بنا املوىل إىل حيث يشاء‪.‬‬

‫أجاب ديك‪ :‬اللهم برشط أن يسري بنا نحو الغرب‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال يوسف‪ :‬لو عدنا إىل زنجبار يف الطريق التي أتينا بها أو جزنا بحر‬
‫األوقيانوس حتى أمريكا ملا كنت أخىش ً‬
‫رضا‪.‬‬
‫ً‬
‫سبيل إىل ذلك‬ ‫العلمة‪ :‬ولكن يا يوسف لكان يلزمنا ً‬
‫أول أن نستطيع‬ ‫قال َّ‬
‫السفر‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ترى ما الذي يعوزنا ملبارشته؟‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬يا ولدي يعوزنا الغاز ألن ق َّوة التصاعد يف القبة أخذت‬
‫تنخفض شيئًا فشيئًا فيلزمنا أخذ احتياطات كبرية لكي تحملنا إىل‬
‫الساحل فأوشكت أن أضطر إىل أن أطرح شيئًا من الصبورة ألننا ثقال‬
‫ً‬
‫ثقل زائدًا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬هاك يا معلمي ثمرة البطالة واملكث يف النهار بطوله كمن‬
‫يضجع يف أرجوحته فنسمن ونضخم ونثقل؛ فإن سفرنا هذا من أعمال‬ ‫َّ‬
‫الكساىل فمتى عدنا إىل إنكلرتة أرعبنا من نظرنا بسمننا وضخامتنا‪.‬‬

‫أجاب الصياد‪ :‬لعمري إن مثل هذه املالحظات ال يأتي بها ّإل يوسف‪،‬‬
‫مهل يا يوسف ً‬
‫مهل‪ ،‬انتظر النهاية؛ أتعلم ماذا يقدره الله علينا؛‬ ‫ولكن ً‬
‫لم نزل بعد بعيدين من منتهى سفرنا‪ ،‬ما رأيك يا صموئيل؛ أين نصادف‬
‫ساحل إفريقية؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنني قارص جدًا عن مجاوبتك يا ديك ألننا مسلمون إىل رحمة‬
‫رياح متقلبة غري أني أحسب نفيس سعيدًا إذا وصلت إىل ما بني سيارة‬
‫ليوني وبورتنديك؛ فهناك بلدان واسعة البد أن نصادف فيها ً‬
‫بعضا من‬
‫األصدقاء‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫قال ديك‪ :‬وما أوفر رسورنا عندما نقابلهم ونهديهم التحيات الودادية‬
‫ولكن هل ترى أننا سائرون إىل الجهة املطلوبة؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬لسنا تما ًما عىل ما ينبغي من املسري؛ هاك البوصلة فرتانا‬
‫سائرين إىل الجنوب وذاهبني إىل ينابيع النهر األسود‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬لكانت هذه فرصة جميلة الكتشافها لو كانت لم تزل‬


‫مجهولة؛ أال سبيل لنا أن نكتشف لها ينابيع أخرى؟‬

‫مة‪:‬كل‪ ،‬ولكن كن مرتاح البال يا يوسف؛ إني أؤمل َّأل نتقدم إىل‬
‫َّ‬ ‫قال َّ‬
‫العل‬
‫ذلك الحد‪.‬‬

‫العلمة بما بقي من أكياس الصبورة ألن القبة‬ ‫فلما أظلم الظالم رمى َّ‬
‫لم تعد تحتملها مع اشتعال آلة الغاز إىل أعىل درجة‪ ،‬فكانت القبة وقتئ ٍذ‬
‫ميل يف جنوب تمبوكتو‪ ،‬ويف اليوم الثاني أصبحت عىل‬ ‫سارت ستني ً‬
‫شاطئ النهر األسود بالقرب من بحرية ديبو‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪182‬‬
‫الفصل الثامن والثالثون‬
‫يف قلق َّ‬
‫العلمة فرغوسن ويف الجراد ويف انقالب الريح‬

‫‪183‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪184‬‬
‫فكان مجرى النهر وقتئ ٍذ منقس ًما إىل فروع ضيقة رسيعة الجري لوجود‬
‫جزائر شتى يف وسطه‪ ،‬وكانت إحداها تحوي بعض أكواخ للرعاة إال أنه‬
‫لم يكن يتيرس للسواح رسم ما كان عىل طريقهم بوجه الضبط والتدقيق‬
‫الزدياد رسعة مسري املنصورة‪ ،‬ولسوء حظهم قد كانت مائلة للجنوب‬
‫أكثر من ذي قبل‪ ،‬وجازت بحرية دابو بربهة وجيزة‪.‬‬

‫أما فرغوسن فكان ينقل القبة إىل درجات مختلفة من العلو ليحكمها يف‬
‫مجاري أرياح غري التي كانت تحملها إال أنه لم ينجح يف عمليته‪ ،‬ومن‬
‫َث ّم ترك ً‬
‫حال هذه املحاولة الزائد من قبلها تلف الغاز بداعي شده عىل‬
‫جوانبها املنهوكة باألرياح‪ ،‬فاستوىل عليه قلق جسيم لكنه وارى أماراته‬
‫صامتًا‪ ،‬وكانت الريح تالزم دفعها إىل جهات جنوبي إفريقية وتوقع ً‬
‫خلل‬
‫يف حساباته‪ ،‬أما هو فلم يعد يدري بمن أو بما يعتمد عليه؛ فإن لم يبلغ‬
‫األرايض اإلنكليزية أو اإلفرنسية وقع يف أيدي الربابرة الشانني اإلغارة عىل‬

‫‪185‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫سواح غويني‪ ،‬والله أعلم بما يصيبه هنالك من الباليا والرزايا؛ فال يعود‬
‫يتيرس له سفينة يعود بها إىل إنكلرتة وكانت الريح تقذف به نحو مملكة‬
‫توحشا وفظاظة فيرتك هناك‬ ‫ً‬ ‫داهوماي يف وسط قبائل فاقت جميع املأل‬
‫إىل رحمة ملك يذبح يف األعياد الجمهورية ألو ًفا من البرش ضحايا آللهته؛‬
‫فمن وقع يف تلك البالد ذهب ال محالة فريسة الهالك‪.‬‬

‫وكانت القبة من جه ٍة أخرى تعيا عياء ظاه ًرا يف مسريها‪ ،‬ولم يخف أمرها‬
‫العلمة لكنه كان يؤمل أنه متى انقشع السحاب وانقطع املطر تنقلب‬ ‫عىل َّ‬
‫مجاري الهواء يف الجو إىل ما يحسن جريها فساءه ً‬
‫إذا ما أنبأه به يوسف‬
‫عن حالة الفلك بقوله‪ :‬ها هو ذا املطر؛ أوشك أن يتضاعف هطله‪ ،‬ويكون‬
‫هذه املرة طوفا ًنا عرمرما عىل ما تبرش به هذه السحب املقبلة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال حول وال قوة ّإل بالله؛ أ َ ُس ُح ٌب هي ح ًقا‪ ،‬وما حاجتنا‬
‫إليها؟! فقال ديك‪ :‬لعمري إنها سحب كثيفة!‬

‫قال يوسف‪ :‬وحياتي لم تر مثلها قط‪ ،‬ولها أطراف حادة كأنها مخططة‬
‫عىل الزيح!‬
‫ثم أخذ َّ‬
‫العلمة النظارة ونظر إليها‪ ،‬وإذ رفع النظارة قال‪ :‬قد اطمأن‬
‫قلبي ألنها ليست بسحب‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬لله العجب؛ أليس هذا بسحاب؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذا ليس بسحاب‪ ،‬بل ضباب‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ما فرق الضباب عن السحاب؟‬


‫‪186‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنما ضباب من جراد‪.‬‬

‫قال يوسف وقد أخذته هزة العجب‪ :‬أهذا جراد؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن مليونات بمليونات من الجراد أوشكت أن تمر بهذه البالد؛‬
‫فالويل لها إن غطت عليها؛ لقد جعلتها إذن فريسة الدمار‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬إني لراغب أن أرى مثل ذلك‪.‬‬


‫العلمة‪ً :‬‬
‫مهل يا يوسف؛ فمن اآلن إىل عرش دقائق يدركنا هذا الضباب‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة فرغوسن بقوله هذا‪ ،‬ألن سحابة هذا‬‫فرتاه بعينيك‪ .‬وقد أصاب َّ‬
‫الجراد الكثيفة املنترشة إىل مسافة أميال كثرية وصلت رسيعًا إىل السواح‬
‫وهي تدوي دو ًيا يصمم اآلذان وتلقي عىل األرض ظلها الطويل؛ فكانت‬
‫جيوشا ال يحىص عددها من جراد ذي أربعة أجنحة؛ فعىل مسافة مائة‬ ‫ً‬
‫قدم من املنصورة انصبت عىل بلد ٍة مخرضة فما مىض ربع ساعة من‬
‫الزمان َّإل وسحابة الجراد عادت تطري فنظر السواح عن أ َم ٍد األشجا َر‬
‫واآلجا َم مجردة من كل خرضاء وتمراء‪ ،‬والحقول معراة‪ ،‬وقد أمست‬
‫املروج ال عشب لها؛ فكأن فصل الشتاء قد فاجأ تلك البقعة فغرقها يف‬
‫أقىص املحل والجذب‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬أرأيت يا يوسف ما كان من هذا الجراد؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬إن ذا غريب‪ ،‬لكنه طبيعي فكما أن جرادة واحدة تتلف يسريًا‬
‫فكذلك ربوات من الجراد تتلف كثريًا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وإنه ملطر وابل‪ ،‬بل مهول‪ ،‬وأهول من الربد الشديد دما ًرا‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫العلمة‪ :‬وأهول من هذا جميعه محال التوقي منه؛ أحيا ًنا يرى‬ ‫َّ‬ ‫قال‬
‫األهلون حرق الغابات حتى واملزروعات لكي يتمكنوا من إهالك هذه‬
‫الهوام ولكن لم ينجحوا كثريًا بهذه الطريقة ألن الرفوف األوىل تنقض عىل‬
‫اللهيب فتغشيه وتطفئه‪ ،‬أما الباقية منها فيمررن فوقها بغري صعوبة وال‬
‫معارضة غري أن األهلني يستفيدون من هذا املصاب بعض العوض عما‬
‫ينالهم من الرزايا‪ ،‬وهو أنهم يلتقطون كثريًا من هذه الهوام ويأكلونها‬
‫ً‬
‫مأكل‪.‬‬ ‫فيستعذبونها‬

‫قال يوسف‪ :‬إني أشبهه بالقريدس الذي يف البحر‪ ،‬وأتأسف لعدم تمكني‬
‫من ذوقه ألعلم كيفية هذا الطعام‪.‬‬

‫ً‬
‫سباخا فلم يعودوا ينظرون غابات‬ ‫وكانوا يرون البالد عند املساء تزداد‬
‫بل بعض شِ ْع ٍب من الشجر‪ ،‬وعىل ضفتي النهر بعض نبات من التبغ‬
‫ومروجا ذات عشب كثيف لرعاية املوايش؛ ففي وسط جزيرة كبرية ملحوا‬ ‫ً‬
‫مدينة جنة ومئذنتي جامعيها‪ ،‬واشتموا الرائحة الكريهة املنبعثة من‬
‫ألوف بألوف من أوكار السنونو املتحرشة يف أسوارها ويف خالل بيوتها‪،‬‬
‫ونظروا رؤوس أشجار البوبات والغناجة والنخيل‪ ،‬أما أهلها فإنهم ذوو‬
‫عزم وهمة ونشاط ال يزالون النهار والليل يف العمل‪ ،‬ومدينتهم جنة‬
‫وسيعة الدائرة وكبرية الحركة التجارية فتأتي تمبوكتو بكل ما يلزمها‬
‫وتنقل إليها عىل القوارب بالنهر وعىل ظهور الجمال يف الطرقات املظللة‬
‫باألشجار جميع محصوالت صنائعها‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فلوال الحذر من إطالة سفرنا لحاولت النزول يف هذه املدينة؛‬
‫فال بد من أن يوجد فيها من العربان من سافروا إىل فرنسا وإنكلرتة‬
‫‪188‬‬
‫فلعلهم ال يستغربون مركبتنا‪ ،‬إنما هذا ال يخلو من خطر‪.‬‬

‫قال يوسف وهو يتبسم‪ :‬فلنأجلن هذه الزيارة إىل سياحتنا القادمة‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وزد عىل الخطر‪ ...‬إني أشعر بميلة خفيفة للريح ليهب من‬
‫الرشق فمن الواجب أن نغتنم هذه الفرصة‪.‬‬

‫العلمة من املنصورة ببعض أشياء أمست غري مفيدة كبعض قناني‬ ‫فرمى َّ‬
‫فارغة وصندو ًقا يوضع فيه لحم لم تعد حاجة إليه‪ ،‬وتوصل إىل أنه أقام‬
‫املنصورة يف منطقة أنسب للمسري إىل حيث يشاء؛ ففي الساعة الرابعة‬
‫صباحا كانت أشعة الشمس تيضء سغو‪ ،‬وهي عاصمة بمبارا املعروفة‬ ‫ً‬
‫جيدًا باألربع املدن التي تتألف منها وبجوامعها املزخرفة وبتوارد القوائق‬
‫الناقلة بال انقطاع سكان املدينة من محل إىل آخر‪ ،‬أما الس َّواح فلم ينظروا‬
‫أكثر مما نظروا فكانوا يفرون برسعة وعىل الخط املستقيم إىل الجهة‬
‫قليل من قلقه وبلباله فقال‪:‬‬‫قليل ً‬
‫العلمة يطمنئ ً‬
‫الشمالية الغربية‪ ،‬فأخذ َّ‬
‫إن بقينا نسري إىل هذه الجهة وبهذه الرسعة وصلنا بعد يومني إىل نهر‬
‫سنغال‪.‬‬

‫فسأله الصياد‪ :‬هل نكون يف بالد أمينة؟‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ليست أمينة بالتمام‪ ،‬إنما إذا نقصتنا املنصورة نستطيع‬
‫بالحرص أن نصل إىل منازل فرنسوية وإن سارت بعد مسافة بعض مئات‬
‫من األميال فإننا نصل آمنني من األتعاب واملخاوف واألخطار إىل الساحل‬
‫الغربي‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أنكون انتهينا من السفر؟‪ ...‬حاشا لنا؛ فلوال رغبتي يف أن‬

‫‪189‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قدمي عىل الثراء؛ هل ترى يا‬


‫َّ‬ ‫أقص قصة سفري ما شئت قط أن ألقي‬
‫معلمي يصدق الناس قصصنا؟‬
‫أجابه َّ‬
‫العلمة‪ :‬ما أدراك يا صاحبي إن كانوا يصدقونها؟ لكنها ال تزال‬
‫صادقة أكيدة إن صدقوها أم ال‪ ،‬فيكون عندنا ألف من شهود عيان‬
‫يشهدون بسفرنا من ساحل إفريقية الرشقي‪ ،‬وألف يروننا واصلني إىل‬
‫الساحل الغربي‪.‬‬
‫رسا َ‬
‫قول قائ ٍل بأننا لم نجز‬ ‫قال ديك‪ :‬والحالة هذه فإني أرى أم ًرا ع ً‬
‫إفريقية من أقصاها إىل أقصاها‪.‬‬

‫الص َعدَاء‪ :‬آه؛ إني متأسف شديد األسف عىل‬ ‫قال يوسف‪ ،‬وهو يتنهد ُّ‬
‫قطع ذاك الذهب الخالص؛ فلو حفظناها لزادت كالمنا اعتبا ًرا وقصصنا‬
‫تصدي ًقا‪ ،‬ولكنت إذا أعطيت كل رج ٍل شيئًا من ذاك الذهب؛ ألفت جمهو ًرا‬
‫أناس يسمعون حكاياتي ويتعجبون لخطبي ويستعظمونني‪.‬‬ ‫كبريًا من ٍ‬

‫‪190‬‬
‫الفصل التاسع والثالثون‬
‫ً‬
‫انخفاضا ويف الدرويش‬ ‫يف دنو السواح من سنغال ويف ازدياد املنصورة‬
‫الحجي وبسكال ومنصور وملربتوس والجبال الشاهقة وسالح ديك‬
‫ولباقة يوسف والوقفة فوق غاب‬

‫‪191‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪192‬‬
‫صباحا ظهر‬
‫ً‬ ‫ففي اليوم السابع والعرشين من أيار نحو الساعة التاسعة‬
‫منظر البالد جديدًا فوىل الدرجات املنبسطة تالل وأوتاد برشت بقرب‬
‫الجبال واآلكام‪ ،‬وأزمع السواح أن يقطعوا سلسلة الجبال الفاصلة بني‬
‫مسيل النهر األسود ومسيل نهر سنغال املؤديني املياه إىل خليج غويني أو‬
‫إىل جون الرأس األخرض‪.‬‬

‫فإن قسم إفريقية هذا حتى سنغال مشهور بتوحش أهله وإيذائهم‬
‫للسواح‪ ،‬وكان َّ‬
‫العلمة فرغوسن يعرف ذلك من أخبار سلفائه الذين قاسوا‬
‫مر العذاب وخاضوا أشد األخطار ما بني أولئك السودان الربابرة وقد هلك‬
‫رفقاء مونغوبرك من تأثري سوء الهواء وشدة الحر يف تلك األطراف فجزم‬
‫بأل يدوس تلك الكورة التي ال تأتي ضيفها ّإل‬
‫فرغوسن جز ًما قطعيًا ّ‬
‫باألهوال واألخطار‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫غري أن ُه لم يرتح له بال ولم يهدأ له بلبال لكون املنصورة لم تزل تنخفض‬
‫ً‬
‫انخفاضا ظاه ًرا فاقتىض أن يخفف حملها بطرحه منها أشياء جمة غري‬
‫الزمة أو غري مفيدة‪ ،‬وال سيّما عندما أوشكت أن تمر فوق قمة من قمم‬
‫الجبال‪ ،‬ولم تربح عىل هذه الحال من العناء ومن الصعود والنزول عىل‬
‫مسافة أكثر من مائة وعرشين ً‬
‫ميل وهي مجندلة تتدحرج دوا ًما كصخر‬
‫سيزيف(((‪ .‬وملا كانت القبة الهوائية قليلة االنتفاخ؛ قد ارتخت جوانبها‪،‬‬
‫عرضا وأخذت الريح تجعل يف ملفها طيات‬ ‫ً‬ ‫فكانت تمتد ً‬
‫طول وتضيق‬
‫وسيعة‪.‬‬

‫قال ديك وقد لحظ ما جرى لها‪ :‬لعل يف القبة ش ًقا من جهة؟!‬

‫أجابه َّ‬
‫العلمة‪ :‬كال‪ ،‬بل إن طليها قد ذاب لشدة الحرارة وأخذ اإلدروجن‬
‫ينرصف من خالل قماشها‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما الحيلة يف منع انرصاف اإلدروجن؟‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال حيلة يف ذلك ّإل أن نخفف حملها‪ ،‬وهذه هي الطريقة‬
‫الوحيدة؛ فلنلق منها كل ما يمكن طرحه!‬

‫قال ديك وهو ينظر إىل قارب القبة‪ :‬ترى ما الذي نطرحه بعدُ؟!‪ ...‬ها!‪...‬‬
‫القارب فارغ من كل ما كان فيه‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فلننزع عنها املظلة ألن ثقلها ليس بيسري‪.‬‬

‫((( زعم الوثنيون القدماء أنه كان محكوما عىل سيزيف أن يصعد من أسفل جب ٍل إىل قمته صخ ًرا‬
‫ويتدحرج به ً‬
‫حال من القمة إىل أسفل‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫وملا كان يوسف ينوط به هذا األمر صعد فوق الحلقة الجامعة حبال‬
‫الشبكة وتيرس له هناك أن فصل عنها أستار املظلة السميكة ورمى بها‬
‫خارجا وهو يقول‪ :‬هاك غنيمة وسعادة لشمل قبيل ٍة من السودان؛ فهذه‬
‫ً‬
‫ألف من األهلني ألنهم يشحون كثريًا عىل القماش‬
‫األقمشة تكفي لكسوة ٍ‬
‫يف مالبسهم‪.‬‬

‫فارتفعت القبة برهة ّإل أنها عادت فيما بعد تهبط وتدنو من األرض‪.‬‬

‫قال ديك‪َ :‬فلْنَنْ ِزلَ َّن َولْنَ َر ما يمكننا عمله إلصالح هذا امللف!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قد قلت لك يا ديك‪ ،‬وأقول ً‬
‫أيضا‪ ،‬أن ال سبيل إلصالحه‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬فما الحيلة ً‬
‫إذا؟!‬

‫العلمة‪ :‬الحيلة أن نضحي كل ما يمكننا أن نستغني عنه من األمتعة؛‬ ‫قال َّ‬


‫فإنني أريد بالب ٍّد أن أتحاىش من الوقفة يف هذه الجهات‪ ،‬ألن الغابات التي‬
‫نحن اآلن فوق رؤوسها غري مأمونة وموعبة أخطار الهلكة‪.‬‬
‫قال يوسف‪ :‬وما أخطارها؟‪َّ ...‬‬
‫لعل فيها أسدًا أو ضباعًا‪ ،‬فال يعبأ بهما‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬إن فيها يا ولدي ما كان ً‬


‫رشا من األسد والضباع؛ أعني به‬ ‫قال َّ‬
‫ً‬
‫وتوحشا‪.‬‬ ‫أناسا برابرة وأسوأ سكان إفريقية قساو ًة‬
‫ً‬

‫قال يوسف‪ :‬ومن أين علمنا ذلك؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قد أخربنا عنهم السواح الذين سلفونا يف هذا القطر‪ ،‬ثم‬
‫اإلفرنسيون سكان مستعمرة سنغال؛ إذ لم يكن لهم ب ُّد من املعاطاة مع‬

‫‪195‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫القبائل املجاورة عىل عهد الكولونيل «فيدرب» فوقفوا عىل اكتشافات‬


‫قاصية بالبالد فطافها بعض الضباط منهم أي بسكال ومنصور‬
‫وملربتوس‪ ،‬وأ َ َت ْونا بإفادات نفيسة عن أسفارهم؛ فإنهم تجسسوا تلك‬
‫الكور الواقفة يف تعريجة نهر سنغال ولم تدعها الحرب والنهب َّإل قاعًا‬
‫صفصا‪.‬‬
‫ً‬

‫قال يوسف‪ :‬وماذا جرى فيها؟‬

‫العلمة‪ :‬هاك ما جرى؛ ظهر سنة ‪ 1854‬شيخ سنغايل من فوطا يقال‬ ‫قال َّ‬
‫له الحجي وادعى النبوة وألقى الفتنة بني القبائل وحملهم عىل محاربة‬
‫الكفار‪ ،‬أي األوربيني‪ ،‬وأنزل ويالت الدمار والخراب فيما بني نهر سنغال‬
‫اب فيه‪ ،‬فأقام ثالث عصابات من أولئك القوم الرفاض‬ ‫الص ِّ‬
‫ونهر فليمة َّ‬
‫وطاف بهم البالد ينهب ويقتل كل من صادفه‪ ،‬ولم يعف عن قرية ولم‬
‫يسلم من رشه دار وال كوخ حتى ولج يف وادي النهر األسود وبلغ مدينة‬
‫طويل بالخراب‪ ،‬وسنة ‪ 1857‬عاد إىل جهات الشمال‬‫ً‬ ‫سغو وتهددها زما ًنا‬
‫برجاله وأحاط بقلعة مدين التي بناها اإلفرنسيون عىل شاطئ النهر‪،‬‬
‫فدافع عن هذه القلعة رجل صنديد يقال له بولس هول عدة أشه ٍر‪ ،‬ولبث‬
‫ثابتًا يحميها من رش الحجي ورجاله‪ ،‬وبالكاد عنده قليل من القوت حتى‬
‫وصل إليه الكولونيل «فيدرب» ونجده وأنقذه من الهلكة‪ ،‬فعندها رجع‬
‫الحجي وجماعته عنه وجازوا سنغال وعادوا إىل كعرتا ينهبون البالد‬
‫ويقتلون العباد‪ ،‬والحاصل أن هذه هي البالد التي لجأ إليها هو وجماعته‬
‫واحتجبوا فيها‪ ،‬ومن الثابت أنه ال يحسن بنا ً‬
‫أصل الوقوع بني أيديهم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ال سمح الله أن نقع بني أيديهم‪ ،‬ولو ا ْق ُت ِض أن نخلع عنا‬
‫‪196‬‬
‫أحذيتنا ونرمي بها إىل الثرى لنرفع املنصورة يف الفضاء‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬لم نبعد عن النهر لكنني أرى أن القبة ال يمكنها حملنا إىل‬
‫ما وراءه‪.‬‬

‫صل َ َّن إىل شاطئه وحسبنا توفي ًقا يف املسري!‬


‫أجاب الصياد‪َ :‬فلَنَ ِ‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذا ما نحاول صنيعه‪ ،‬غري أنه يقلقني أمر واحد‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬وما هو؟‬

‫ً‬
‫جبال ينبغي أن نقطعها ويشق علينا قطعها‪،‬‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن أمامنا‬
‫ألنني ال أقدر أن أزيد قوة التصاعد يف القبة‪ ،‬ولو أتيتها بأعظم ما يمكن‬
‫من الحرارة‪.‬‬

‫ً‬
‫جميل؛ علينا باالنتظار لنرى ما يكون يف آنه‪.‬‬ ‫قال الصياد‪ :‬فصربًا‬

‫قال يوسف وهو يتأسف عىل حالة املنصورة‪ :‬مسكينة املنصورة؛ إنني‬
‫تعلّقت بها تعلّق النوتي بسفينته؛ فال أنفصل عنها بدون ضيم وكدر‪،‬‬
‫ولكن ما الحيلة؛ فإنها ليست كما كانت يف أول سفرنا فال بأس عليها وال‬
‫ينبغي أن نقول فيها سوءا ألنها أتتنا بخدمات سنية‪ ،‬وإن هجرتها فقد‬
‫انفطر فؤادي عليها غ ًما‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كن طيب الخاطر يا يوسف؛ إن تركناها فال عار علينا ألننا‬
‫نرتكها رغم أنفنا فتخدمنا حتى ننزف جميع قواها؛ فإني أطلب منها أن‬
‫تخدمنا بع ُد أربعا وعرشين ساعة‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فأخذ يوسف يتفرس فيها وقال‪ :‬قد خارت قواها وانحلت وكادت روحها‬
‫تزهق؛ وا أسفاه عليها!‬

‫ً‬
‫جبال‪ ،‬لعلها‬ ‫قال الصياد‪ :‬يا معلمي صموئيل انظر إىل األفق؛ إني أرى‬
‫الجبال التي ذكرتها‪.‬‬

‫فأخذ َّ‬
‫العلمة نظارته ونظر بها إىل األفق ثم قال‪ :‬إنها هي بعينها‪ ،‬وأراها‬
‫شامخة فيشق علينا قطعها‪.‬‬

‫قال الصياد‪َ :‬أل يمكننا أن نتحاىش من املسري فوقها؟‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال أظن؛ ألنها تشغل مسافة كبرية من األرض‪ ،‬وهي نحو‬
‫نصف امتداد األفق‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ويرتاءى يل أنها تتزاحم حولنا وتحدق بنا يمنة ويرسة‪ ،‬فال‬
‫ب َّد لنا من املرور فوقها‪.‬‬

‫وكانت هذه الجبال تستبني سائرة ملالقاة السواح وتقرتب منهم برسع ٍة ال‬
‫مزيد عليها‪ ،‬أو بالحري كانت الريح عاصفة تقذف باملنصورة نحو القمم‬
‫وإل صدمت الصخور‬‫الرفيعة فكان ال بد لها من االرتفاع عىل كل حال َّ‬
‫وتلفت‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪َ :‬فل َ ُن ْف ِر َغ َّن صندوق املاء فال يبقى منه إال ما يلزمنا للرشب‬
‫يو ًما واحدًا‪.‬‬

‫فأفرغه يوسف وقال‪ :‬هاك؛ قد أفرغناه‪.‬‬


‫‪198‬‬
‫فسأل الصياد‪ :‬هل ارتفعت القبة؟‬
‫قليل؛ أي مسافة خمسني قدما ولم يكن َّ‬
‫العلمة‬ ‫العلمة‪ :‬قد ارتفعت ً‬ ‫أجابه َّ‬
‫يحول نظره عن ميزان الهواء‪ ،‬غري أن هذا االرتفاع غري كاف ملجانبة خطر‬
‫مصادمة الجبال‪ ،‬ويف الحقيقة إن القمم الشامخة كانت تصادر السواح‬
‫كأنها واثبة عليهم لتطبق عىل رؤوسهم وكانوا يبعدون عن علوها مسافة‬
‫خمسمائة قدم‪.‬‬
‫أيضا بمؤنة املاء الالزمة لألنبوبة‪ ،‬ولم يبقوا منها َّإل ً‬
‫قليل‪.‬‬ ‫فرموا من القبة ً‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فالبد لنا من املرور فوق الجبال؛ فما الحيلة؟!‬

‫فلنلق عنا الصناديق حيث أفرغناها!‬


‫ِ‬ ‫قال ديك‪:‬‬

‫العلمة‪ :‬أَلْ ُقوها‪.‬‬


‫قال َّ‬

‫فألقاها يوسف وقال‪ :‬آهًا عىل الخسارة؛ ما أم َّرها!‬


‫فقال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬يا يوسف ال تخاطرن بحياتك ألجلنا كما صنعت فيما‬
‫مىض!‪ ...‬احلف يل أنك ال تفارقنا!‬

‫نفسا يا معلمي؛ إننا ال يفارق بعضنا ً‬


‫بعضا‪.‬‬ ‫قال يوسف‪ :‬طب ً‬

‫أما املنصورة فقد زادت صعودًا نحو عرشين قامة لكنها لم تزل منخفضة‬
‫عن قمة الجبل‪ ،‬وكانت هذه القمة شبه مسلة منتصبة قائمة يف رأس جبل‬
‫شامخ كأنه مخروط بالبيك‪ ،‬وكانت تعلو السواح مسافة مائتي قدم‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة يف نفسه‪ :‬من اآلن إىل عرش دقائق يصدم القارب هذه الصخور‬

‫‪199‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ويتحطم بها إذا لم يتيرس لنا أن نرتفع فوقها‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬واآلن كيف الحال يا سيدي صموئيل‪.‬‬

‫أجابه َّ‬
‫العلمة‪ :‬اطرح كل هذا اللحم املثقل عىل القبة‪ ،‬وال ُتبْ ِق ّإل مؤنتنا‬
‫من مر ّبى اللحم‪.‬‬

‫فطرحوا اللحم اآلخر وخفت القبة من ثقل خمسة وعرشين ً‬


‫رطل فارتفعت‬
‫ارتفاعًا ظاه ًرا‪ ،‬ولكن ما الفائدة طاملا ال تعلو قمم الجبال‪ ،‬وعليه كانت‬
‫املنصورة يف حال ٍة ُتلْقِي شديد الرعب والهول يف قلوب السواح؛ إذ كانت‬
‫ترسع رسعة الطري فلو لطمت الصخور لذهبت إر ًبا إر ًبا‪.‬‬

‫فنظر َّ‬
‫العلمة إىل ما حوله يف القارب فوجده كأنه فارغ ويكاد ال يكون‬
‫فيه يشء‪.‬‬

‫فقال لديك‪ :‬إن اقتىض األمر!‪ ...‬ينبغي أن تكون مستعدًا لطرح أسلحتك!‪...‬‬
‫فلما سمع ديك هذا الكالم ارتجفت جميع أعصابه‪ ،‬فأجاب‪ :‬هل ترى‬
‫أضحي بأسلحتي؟!‬

‫قال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬يا صاحبي ال يخطرن عىل بالك أن أطلب منك تضحية‬
‫بأسلحتك بدون رضورة قصوى‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬صموئيل صموئيل!‪ ...‬وانقطع كالمه لشدة حركة الكدر‪.‬‬

‫قال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن نجاتنا من الهلكة موكولة بتخفيف القبة من ثقل‬
‫أسلحتك ومؤنة البارود والرصاص‪.‬‬
‫‪200‬‬
‫ثم هتف يوسف ً‬
‫قائل‪ :‬قد قربنا قد قربنا!‪ ...‬عرش قامات فقط؛ هيا يا‬
‫رجال! إن الجبل يعلو املنصورة مسافة عرش قامات ً‬
‫أيضا قال هذا وأخذ‬
‫رصاصا بدون‬
‫ً‬ ‫األغطية ورمى بها إىل الثرى‪ ،‬ثم رمى بجملة جعب مملوءة‬
‫استشارة كنادي‪.‬‬

‫فصعدت القبة وجازت القمة املخطرة‪ ،‬وضاء قطبها األعىل بأشعة‬


‫الشمس‪ ،‬أما القارب فلم يزل أخفض من الصخور العظيمة التي أزمع أن‬
‫يلطمها ويتحطم بها ال محالة‪.‬‬
‫فعندها صاح َّ‬
‫العلمة‪ :‬ديك ديك!‪ ...‬ارم بأسلحتك ّ‬
‫وإل هلكنا!‬
‫مهل يا سيدي ديك ً‬
‫مهل!‬ ‫قال يوسف‪ً :‬‬

‫فالتفت ديك فرآه قد توارى خارج القارب فصاح به‪ :‬يا يوسف يا يوسف!‬
‫ثم صاح َّ‬
‫العلمة‪ :‬وا أسفاه عىل يوسف!‬

‫فكانت مساحة قمة الجبل يف ذاك املكان نحو عرشين قد ًما ومن الجهة‬
‫األخرى كانت منحدرة ً‬
‫قليل فوصل القارب عىل تمام مساواة هذه القمة‬
‫املنبسطة وزحف عىل أرض محصبة فسمعت قعقعة الحىص بمروره‪.‬‬

‫قائل‪ :‬الحمد لله والشكر لله مررنا ونجونا من‬ ‫فصاح واحد من الرفاق ً‬
‫الخطر‪ ،‬فسمعه فرغوسن وطفح قلبه رسو ًرا؛ إذ كان يوسف الشهم‬
‫الشديد البأس الذي رمى بنفسه عىل الثرى ولبث شابث اليدين بطرف‬
‫القارب األسفل‪ ،‬وأخذ يسري بقدميه عىل قمة الجبل مخف ًفا عىل هذا النحو‬
‫عن القبة ثقل جسمه حتى كان مضط ًرا إىل أن يشد يديه عليها لئال تتعاىل‬

‫‪201‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وتفلت من أمامه‪.‬‬
‫ً‬
‫متمسكا‬ ‫فلما وصل إىل منحدر الجبل وأرشف عىل الهاوية قد تسلق‬
‫ً‬
‫تمسكا شديدًا فجاء حذو رفيقيه يف القبة وهو يقول‪ :‬ما أسهل‬ ‫بالحبال‬
‫هذه الحيلة!‪ ...‬وما أحسن ما قاله أحد األدباء‪ :‬وإذا جار عليك الدهر‬
‫فليكن عندك حيلة!‬

‫العلمة وقلبه يخفق بهزة الفرح‪ :‬عافاك الله يا يوسف‬‫فعندها ناداه َّ‬
‫حبيبي!‪ ...‬عافاك الله ال ثكلتك أمك!‬

‫أجابه يوسف وهو يتفكه بالكالم‪ :‬لم أعمل ما عملته لشأنكم يا سيدي‪،‬‬
‫بل لشأن قرابينة املوسيو ديك؛ فإني كنت مدينا له بهذا العمل منذ واقعة‬
‫األعرابي‪ ،‬فأحب وفاء ما عيلَّ من الدين فوفيته وأصبحنا اآلن عىل سوية‬
‫حال وراحة بال؛ قال هذا وقدم للصياد قرابينته التي كانت عنده أع َّز‬
‫يشء يف الدنيا وقال له‪ :‬لكان قد شق عيلَّ جدًا لو رأيتك خاليًا منها‪.‬‬
‫َ‬
‫عالمة الوداد ولم يدعه الفرح يفوه بكلمة‪.‬‬ ‫أما كنادي فش َّد عىل يده‬

‫فمن بعد ذلك لم يكن للمنصورة َّإل أن تهبط منخفضة‪ ،‬وكان انخفاضها‬
‫من أيرس األمور؛ فما مىض برهة من الزمان َّإل وجدت بعيدة عن الثرى‬
‫مسافة مائتي قدم فقط‪ ،‬وحازت تمام موازنتها‪ ،‬وكانت األرض تستبني‬
‫كأنها مصابة بالزلزلة‪ ،‬وكان عدم مساواة سطحها يأتي بعوائق تعرس‬
‫مجانبتها ً‬
‫ليل بمركبة هوائية لم تعد تلبي إدارة مديرها‪ ،‬فلما خيم الليل‬
‫العلمة عىل الوقوف حتى الصباح‪ ،‬رغ ًما عن اشمئزازه من املبيت يف‬‫عزم َّ‬
‫أرض تلك البالد‪.‬‬
‫‪202‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هيا بنا نفتش عن محل مناسب لنقف فيه‪.‬‬

‫أجابه كنادي‪ :‬عجبًا يا سيدي أراك جزمت عىل الوقوف يف هذه األرض!‬

‫العلمة‪ :‬نعم؛ ألنني قد أمعنت فكري بيشء وتبرصت فيه زما ًنا‬ ‫قال َّ‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬فأريد اآلن أن أبرزه إىل حيز الفعل؛ فاآلن الساعة السادسة‪ ،‬فقط‬
‫فألق املرساة يا يوسف!‬
‫إذا لنا زمن للعمل؛ ِ‬ ‫بقي ً‬

‫فامتثل يوسف أمره يف الحال وألقى املرساة‪ ،‬وكانت ُمدْالة تحت القارب‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬إني أرى غابات فسيحة فعلينا أن نرسع إىل فوق قممها‬‫ثم قال َّ‬
‫ونقف متشبثني عىل رأس شجر ٍة من أشجارها؛ ألنني ال أريد قط أن أبيت‬
‫الليل عىل األرض ولو ملكوني هذه البالد برمتها‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أنستطيع النزول؟‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وما الفائدة من نزولنا وقد قلت لكم إن يف انفصالنا خطر‬
‫عىل حياتنا‪ ،‬غري أني أستعني بكم عىل عمل عسري‪.‬‬

‫أما املنصورة فكانت تطفو يف الهواء فوق قمم الغابات املشار إليها‪ ،‬ولم‬
‫تبطؤ أن وقفت فجأة ألن مرساتها قد تعلّقت‪ ،‬وملا سكنت الريح مساء‬
‫لبثت كأنها جامدة فوق تلك الرياض الخرضاء املتألِّفة من رؤوس أشجار‬
‫غاب ٍة من الجميز‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪204‬‬
‫الفصل األربعون‬
‫يف املنازعة بينهم عىل الشهامة وآخر رزئهم وآلة التفسيح ولباقة‬
‫يوسف وما جرى نصف الليل وهجعة َّ‬
‫العلمة وهجعة كنادي وتناعسه‬
‫والحريقة والضجيج والعويل وأخطاء طلقات الرصاص‬

‫‪205‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪206‬‬
‫فأخذ َّ‬
‫العلمة فرغوسن يبحث عن مركز القبة فوجدها بقياس علو النجوم‬
‫بعيدة عن سنغال نحو خمسة وعرشين ً‬
‫ميل فقط‪.‬‬

‫َ‬
‫خليلَّ إنما هو أن نجوز‬ ‫فبعد أن علَّم خارطته قال‪ :‬جل ما يمكننا عمله يا‬
‫النهر‪ ،‬وحيث ال جرس للنهر وال قوارب لنا فقد تحتم علينا أن نجوزه‬
‫بالقبة‪ ،‬ولهذا لزمنا ً‬
‫أيضا أن نخفف حملها‪.‬‬

‫أجاب الصياد‪ ،‬وكان يخاف عىل سالحه‪ :‬ال أدري بأية طريقة نتوصل إىل‬
‫تخفيفها َّإل أن يتهجم أحدنا عىل النزول منها ويبقى وراءنا؛ فأنا مقدم‬
‫ذاتي إىل هذه الخدمة ألن هذه املرة قد جاءت نوبتي‪.‬‬

‫أجابه يوسف‪ :‬قد أخطأ سهمك؛ أنا املعود عىل مثل هذا العمل‪.‬‬

‫قال له الصياد‪ :‬ليس املقصود هنا يا صاح االنحدار من القبة إىل أسفل‬

‫‪207‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫بل السري مشيًا حتى الساحل‪ ،‬أما أنا فصياد متني وأعد نفيس أشد منك‬
‫جر ًيا؛ فهذا عميل‪.‬‬

‫أجابه يوسف‪ :‬وحياتك ال يقدم عىل هذا العمل غريي‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال فائدة يا صاحبي من نزاعكما عىل املروءة‪ ،‬ألني أؤمل أ َ َّل‬
‫تتوصل بنا الحال إىل حد هذه الشدة‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬إذا اقتىض األمر‪ ،‬ال نفرتق‬
‫أبدًا بل ننحدر جميعنا ونجتاز بهذه البالد معًا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ال أ َ ْ‬


‫ص َو َب من هذا الرأي؛ فال بأس من بعض امليش يف هذه‬
‫األرايض‪.‬‬
‫العلمة‪ :‬هلموا نبادر ً‬
‫قبل إىل إجراء آخر ما بقي لنا من الوسائل‬ ‫أجاب َّ‬
‫لتخفيف ثقل املنصورة‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬وما عىس تكون هذه الطريقة؛ يهمني أن أعرفها؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬يلزمنا أن نرفع عن املنصورة ثقل صناديق األنبوبة واآللة‬
‫الكهربائية والحية‪ ،‬وكل هذا يزن نحو نصف قنطار يعرس حمله يف‬
‫الفضاء عىل أجنحة الريح‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬يا صموئيل!‪ ...‬كيف يتيرس لك بعد ذلك نرش الغاز وتوسيعه؟!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال يتيرس يل غري أني أستغني عنه‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬وكيف ذلك؟!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬يا صاحبي!‪ ...‬إنني قد رضبت حساب ما بقي للمنصورة من‬
‫‪208‬‬
‫قوة التصاعد فوجدتها كافية لتحملنا مع ما بقي لنا من األمتعة القليلة‪،‬‬
‫فيكاد ثقلنا يوازي قنطارين مع املرساتني اللتني أبقيهما‪.‬‬

‫أجاب الصياد‪ :‬سيدي الحبيب صموئيل!‪ ...‬إنك أعلم منا يف هذا األمر‬
‫ويعنيك وحدك الجزم والتدبري يف أمر املسري؛ قل لنا ما يجب عمله فإننا‬
‫لك طايعان وألمرك خاضعان‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬قد قلت لكما أيها األحباء ال بد لنا من تضحية آالتنا مهما كان‬
‫ً‬
‫باهظا كبريًا‪.‬‬ ‫االعتماد عليها‬

‫أجابه كنادي‪ :‬ضحها وال بأس!‬

‫قال يوسف‪ :‬هل َّم بنا للعمل!‬

‫عمل من صغار األعمال؛ إذ يلزم تفكيك األدوات قطعة‬ ‫ولم يكن ذلك ً‬
‫فقطعة‪ ،‬فرفعوا صندوق املزج ثم صندوق األنبوبة وأخريًا صندوق حل‬
‫عنرصي املاء‪ ،‬وقد تواطأ الثالثة السواح وجدُّوا بتمام عزمهم حتى تمكنوا‬
‫من خلع األوعية املحبكة بالقارب‪ ،‬فكان كنادي ذا عزم شديد ويوسف‬
‫ذا لباقة ونباهة وصموئيل ذا حذق ودراية حتى انتهوا من عملهم نهاية‬
‫التوفيق والنجاح‪.‬‬

‫فألقوا هذه القطع شيئًا فشيئًا خارج القبة فسقطت عىل أوراق الجميز‬
‫خارقة فيها خرقات فسيحة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬إن السودان يأخذهم العجب لدى مصادفتهم هذه األشياء يف‬
‫الغابات وال يبعد أنهم يصنعون منها أصنا ًما يعبدونها‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم بادروا إىل الشغل بتفكيك األنابيب املشبثة بالقبة واملوصولة بالحية‬
‫اللولبية فتيرس ليوسف أن يقطع الصالت الصمغية عىل علو بعض أقدام‬
‫رسا ألنها كانت موصولة‬‫فوق القارب‪ ،‬أما األنابيب فكان فصلها متع ً‬
‫بطرف القبة األعىل‪ ،‬وممكنة برشائط من نحاس أصفر يف نفس دائرة‬
‫منفذ الغاز‪.‬‬

‫فعندها شمر يوسف عن ذراع لباقته العجيبة وخلع نعليه من رجليه‬


‫حذ ًرا من أن يخطط نسيج القماش بحذائه وتمسك بالشبكة امللتفة بها‬
‫القبة‪ ،‬ورشع يتسلق إىل أن بلغ قمة املنصورة الخارجة‪ ،‬وهناك تمسك‬
‫باليد الواحدة يف ذاك السطح الزلق وباألخرى بعد كد كديد وجهد جهيد‬
‫قلع الرباغي الربانية الضابطة لألنابيب‪ ،‬فحينئ ٍذ تفككت األنابيب بسهولة‬
‫وسحبت من الطرف األسفل الذي سدت ثغرته سدًا محك ًما بعقدة شديدة‪.‬‬

‫فلما تخففت املنصورة من هذا الحمل الكبري استوت يف الهواء وأوترت‬


‫حبل املرساة بشدة‪.‬‬

‫فنجزت كل هذه األشغال نصف الليل بغاية التوفيق‪ ،‬لكنها قد كلفت‬


‫الفعلة أتعا ًبا ومشقات ال مزيد عليها ثم تناولوا عىل وجه الرسعة ما تيرس‬
‫العلمة لم يعد عنده نار يطبخ بها يوسف‬ ‫لهم من الطعام النيِّئ‪ ،‬ألن َّ‬
‫طعا ًما‪.‬‬

‫غري أن يوسف وكنادي قد أعياهما الشغل فقال لهما فرغوسن َّ‬


‫اض ِجعا‬
‫وناما يا صاحبي؛ فأنا أسهر الهجعة األوىل‪ ،‬ويف الهجعة الثانية أوقظ كنادي‬
‫ليسهر هجعته‪ ،‬والهجعة الثالثة كنادي يوقظ يوسف ونسافر الساعة‬
‫السادسة ونسأل باري العباد أن يرمقنا بعني عنايته يف هذا النهار األخري‪.‬‬
‫‪210‬‬
‫فبدون أن يكرر عليهما َّ‬
‫العلمة أمره َّ‬
‫اضجعا وناما يف قعر القارب وأرسع‬
‫إليهما النعاس فاستغرقا يف السبات‪.‬‬

‫وكان ذاك الليل هادئا والفلك صافيًا َّإل أن بعض غيوم كانت تخيم عىل‬
‫القمر البالغ ربعه األخري فكادت أشعته ال تنفذ خاللها وكان فرغوسن‬
‫ً‬
‫متيقظا عىل‬ ‫متمكنًا عىل طرف القارب يجول بنظره إىل ما حوله‪ ،‬ويسهر‬
‫أوراق الشجر الغضة املنبسطة تحت قدميه‪ ،‬حاجبة بظلها منظر األرض‪،‬‬
‫ويجفل من أدنى حركة ويتقىص علة كل حفيف وهزيز‪.‬‬

‫وتشوشا لوجوده يف مفازة مرعبة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكان يف هذه الحال يزداد باله قل ًقا‬
‫فأخذت األهوال تدركه والقالقل تشغل دماغه ألن املخاوف تزداد هيجا ًنا‬
‫والرعشات ثورا ًنا عند ما يكون السائح دنا من نهاية مثل هذه السياحة‬
‫وقاىس مشقات ومخاطر شتى‪ ،‬فحينما يقارب نهاية السياحة ُي َخيَّ ُل إليه‬
‫امليعاد فا ًرا من أمامه‪.‬‬

‫زد عىل ذلك أن حالتهم كانت تنفي االطمئنان؛ إذ إنهم يف وسط بالد‬
‫بربرية ومتعرضون يف كل وقت لخطر فقدان ما كان لهم من الواسطة‬
‫الوحيدة لخروجهم منها؛ ألن َّ‬
‫العلمة لم يكن يركن إركا ًنا قطعيا إىل القبة‬
‫الهوائية؛ إذ لم تعد كما كانت فيما مىض حني كان يديرها بكل طمأنينة‬
‫وهي تلبي إدارته‪.‬‬
‫وفيما كان َّ‬
‫العلمة فريسة لهذه الهواجس تراءى له أحيا ًنا أنه يحس بدوي‬
‫يف تلك الغابات الرحيبة‪ ،‬حتى ُخيِّ َل إليه نار مشبوبة بني األشجار فدقق‬
‫نظره حيث تخيلها ثم تناول نظارته الليلية ونظر بها إىل تلك الجهة فلم‬
‫ير شيئًا‪ ،‬بل ظهر له أنه قد انقطع الدوي وزاد الهدوء والسكينة‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فتحري وخطر عىل باله أن قو ًما يرصدونه خفية ليغدروا به‪ ،‬فلبث يتوجس‬
‫ويتسمع ولم يشعر بأدنى حركة فمىض وقت هجعته وأيقظ كنادي وأمره‬
‫بشديد التيقظ والسهر َّ‬
‫واضجع حذو يوسف املستغرق يف النوم‪.‬‬

‫أما كنادي فأخذ يعبئ غليونه تب ًغا وهو عىل أتم الهدوء والرواق ويفرك‬
‫عينيه؛ إذ كان يشق عليه فتحهما من شدة النعاس‪ ،‬ثم سند رأسه إىل‬
‫كوعه وأخذ يدخن بغليونه مثريًا منه الدخان كالعجاج لكي يطرد من‬
‫صدره عفريت النعاس‪.‬‬

‫وكان كل ما حوله يف هدء وسكينة ّإل نسي ًما لطي ًفا يثني أفانني‬
‫األشجار ويهز القارب ه ًزا خفي ًفا ويزيد عىل الصياد سطوة‬
‫النعاس املستويل عليه رغ ًما عن إرادته فعمد إىل مقاومته بعزم‪،‬‬
‫وكثريًا ما كان يفتح مقلتيه ويطرق حينًا بعد حني بنظره إىل‬
‫الظالم فال يرى فيه شيئًا‪ ،‬وأخريًا تغلب عليه التعب فسلط عليه‬
‫النعاس َّإل أنه لم َي ْد ِر كم من الزمن مكث يف راحة النوم عندما‬
‫أيقظه تكتك حريق فهب من رقاده ففرك عينيه ونهض عىل قدميه‬
‫فشبت حرارة شديدة يف وجهه من النار املضطرمة يف الغاب‪.‬‬

‫فصاح وهو ال يدري علة هذا السعري النا َر النا َر!‬

‫فهب صاحباه من رقادهما‪ ،‬وصاح صموئيل مرتعدًا‪ :‬ما هذا؟!‬


‫َّ‬

‫قال يوسف‪ :‬هذه حريقة ولكن من تراه قد‪...‬‬

‫وضجيجا تحت أوراق الشجر املضية باللهيب‪.‬‬


‫ً‬ ‫وعندها سمع ضوضاء‬
‫‪212‬‬
‫فصاح يوسف‪ :‬قاتل الله هؤالء الربابرة!‪ ...‬فإنهم قد أرضموا النار بالغاب‬
‫ليحرقونا ال محالة‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال شك أن هذا عمل جماعة الطلبة؛ أي مشائخ الحجي‪.‬‬

‫وكانت النار تحدق باملنصورة وتسمع قرقعة الحطب اليابس وعنني‬


‫األغصان الخرضاء‪ ،‬وكل حي من ذاك النبات يقوس ويلتف يف العنرص‬
‫املبيد‪ ،‬ولم يكن يعاين الطرف ّإل بح ًرا من لهيب‪ ،‬واألشجار الكبرية‬
‫تستحيل إىل سواد يف وسط األتون‪ ،‬وأغصانها مغشاة بجمر نار مضطرمة‪،‬‬
‫وكان هذا اللهيب والحريق ينعكس ضياؤه عىل الغيوم حتى خيل للسواح‬
‫أنهم قائمون يف وسط دائرة من نار‪.‬‬

‫فصاح كنادي‪ :‬الفرا َر الفرا َر عىل الثرى‪ .‬ما من سبيل خالفه للنجاة‪.‬‬
‫ً‬
‫مسكا متينًا ووثب عىل حبل املرساة فقطعه‬ ‫أما فرغوسن فمسكه بيده‬
‫برضبة فأس وما زال اللهيب يمتد نحو القبة وكان دنا منها حتى صار‬
‫يلذع جوانبها املضية‪ ،‬فلما تملصت املنصورة من قيدها صعدت يف الهواء‬
‫وتعلت ما نيف عن مسافة ألف قدم‪.‬‬

‫فعندها عال رصاخ وضجيج هائل من قعر الغاب‪ ،‬تاله طلقات بنادق فلم‬
‫تصب القبة بل أخذ الهواء يقذف بها نحو الغرب حتى أصبح الصباح‬
‫وبلغت الساعة الرابعة بعد انتصاف الليل‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪214‬‬
‫الفصل الحادي واألربعون‬
‫يف جماعة الطلبة ومطاردتهم السواح واعتدال الريح وانخفاض‬
‫املنصورة وآخر مؤنتهم ودفاعهم بطلق البنادق ونهر سنغال وشالالت‬
‫غويني والهواء الحار وأمجاز النهر‬

‫‪215‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪216‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬لو لم نخفف حمل املنصورة البارحة مساء لكنا هلكنا ال‬
‫محالة‪.‬‬

‫أجابه يوسف‪ :‬ما أحكم عمل األمور يف أوقاتها! فإن عاقبتها النجاة من‬
‫الهلكة‪ ،‬وما يف ذلك من عجب‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬لم نأمن بعد من الخطر‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ال تخف يا سيدي!‪ ...‬إن املنصورة ال تنحدر عىل الثرى بدون‬
‫إذنك‪ ،‬وإن افرتضنا أنها تنحدر ترى ما تكون غايلتها؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬تسألني ما تكون غائلة انحدارها يا ديك!‪ ...‬انظر إىل ما‬
‫وراءك!‬

‫فنظر ديك وكانت السواح قد جازوا حدود الغاب فرأوا موكبًا من فرسان‬

‫‪217‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫البسني رساويل كبرية وعىل أكتافهم برانس تعوم يف الهواء وجميعهم‬


‫مسلحون؛ بعضهم برماح وبعضهم ببنادق فيجرون إىل جهة مسري‬
‫ً‬
‫معتدل‪.‬‬ ‫املنصورة السائرة يف الهواء سريًا‬

‫فلما نظروا السواح عووا عواء الذئاب الكارسة مرشعني إليهم الرماح وعىل‬
‫سحناتهم السمراء تلوح أمارات الغضب والوعيد ومما يزيد منظرهم‬
‫ً‬
‫توحشا لحى لهم متفرقة الشعر‪ ،‬لكنها مقشعرة‪ ،‬فجازوا بدون عناء تلك‬
‫الهضاب املنخفضة وتلك الدرجات املنفرجة املودية إىل سنغال‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬هؤالء هم جماعة الطلبة؛ القوم القساة؛ شيوخ الحجي‪،‬‬ ‫قال َّ‬
‫الوحوش الكارسة‪ ،‬وإني ألوثر القيام بوسط غاب تحدق به الضباع من‬
‫أن أقع بني أيدي هؤالء األشقياء‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬الحق يقال؛ إن هؤالء القوم ليس عىل وجوههم أمارات الصلح‬
‫والسالم‪ ،‬بل إن هيئتهم تنبئ عن جسارة فيهم وشدة بأس ورش اقتحام‪.‬‬

‫أجاب يوسف‪َّ :‬إل أن هؤالء الوحوش ليسوا بطائرين‪ ،‬وهذا من حسن‬


‫حظنا‪ ،‬ونعم التوفيق‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬انظرا يا خلييلَّ هذه القرى الدارسة والبيوت املحروقة؛ فهذا‬
‫عملهم‪ ،‬وقد أنزلوا الدمار والبوار يف األرايض العامرة والبقاع النارضة‪.‬‬

‫أجاب كنادي‪ :‬مهما كان من أمرهم فإنهم ال يقدرون أن يدركونا‪ ،‬وإذا‬


‫تيرس لنا أن نجعل النهر فيما بيننا وبينهم أمنا من رشهم وعرارهم‪.‬‬
‫أجاب َّ‬
‫العلمة‪ :‬قد أصبت يا ديك؛ إنما األهم ما يكون اآلن‪ ،‬وهو التحايش‬
‫‪218‬‬
‫من الهبوط؛ قال هذا وهو ينظر إىل ميزان الهواء‪.‬‬

‫أجاب كنادي‪ :‬كيفما كان الحال فال بأس من أن نعد أسلحتنا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ما يف ذلك من محذور يا ديك‪ ،‬وقد أصبنا بعدم بذرها عىل‬
‫الطريق‪.‬‬

‫فعندها صاح الصياد‪ :‬وايم الله؛ إن قرابيني لن تفارقني وقد حشاها‬


‫بمزيد االعتناء‪ ،‬وكان بقي عنده من البارود والرصاص كمية وافرة‪ ،‬ثم‬
‫سأل َّ‬
‫العلمة‪ :‬ترى يا فرغوسن ما علو املنصورة؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬نحو سبعمائة وخمسني قد ًما‪ ،‬إنما لم يعد يف مكنتنا أن‬
‫نصادف مجاري أرياح توافقنا صعودًا أو نزوال؛ إننا سائرون عىل رحمة‬
‫القبة‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬ال حول وال قوة ّإل بالله؛ إن الريح خفيفة فلو صادفتنا‬
‫عاصفة مثل تلك العواصف التي أصابتنا يف األيام املاضية لغاب هؤالء‬
‫األشقياء عن نظرنا منذ اآلن‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ها إن هؤالء األرشار تابعون لنا؛ فكأنهم يتنزهون يف متابعتنا‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬لو كنا عىل مسافة رمية رصاص لكنت أتنزه يف رميهم واحدًا‬
‫فواحدًا‪.‬‬

‫أيضا عىل رمية رصاص‬ ‫أجاب فرغوسن‪ :‬أي نعم‪ ،‬ولكن لكانوا هم ً‬
‫منا ولكانت املنصورة أيرس هدف لطلقات بواريدهم‪ ،‬فإذا ما مزقوها‬
‫بالرصاص تأمل أي مصري يصري حالنا‪ ،‬حمانا الله من مثل هذه الدواهي‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أما جماعة الطلبة فلم يزالوا يتابعون السواح يف مدة كل ذاك الصباح‪،‬‬
‫ميل نحو الغرب قبل الساعة‬ ‫وكانت القبة قد قطعت مسافة خمسني ً‬
‫العلمة يراقب الفلك ويدقق النظر يف أدنى الغيوم‬ ‫َّ‬ ‫الخامسة‪ ،‬وكان‬
‫املرتفعة يف األفق‪ ،‬وال يزال يتوجس تغريًا يف الجو ويقول يف ذاته‪ :‬ما يكون‬
‫حالنا إذا ما دفعتنا الرياح نحو النهر األسود؟‬
‫هذا‪ ،‬وكان يرى القبة تميل إىل االنخفاض ً‬
‫ميل ظاه ًرا‪ ،‬وقد كانت‬
‫انخفضت منذ سفرها مسافة أكثر من ثالثمائة قدم‪ ،‬وسنغال تبعد عنهم‬
‫نحو اثنى عرش ً‬
‫ميل فيلزمهم من الوقت للوصول إليها ثالث ساعات عىل‬
‫معدل سريهم الحارض‪.‬‬
‫فطرق سمع َّ‬
‫العلمة حينئ ٍذ صياح وضجيج جديد وتف َّرس فرأى خيالة‬
‫الطلبة يضجون يف تعجيل جري خيلهم‪.‬‬
‫فنظر َّ‬
‫العلمة إىل ميزان الهواء فعلم علة هذا العواء والضوضاء‪.‬‬
‫قال كنادي‪َّ :‬‬
‫لعل القبة تنخفض‪.‬‬

‫أجاب فرغوسن‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬نعوذ بالله من الشيطان الرجيم‪.‬‬

‫وما مىض ربع ساعة من الزمان إال وقد أمىس القارب عىل مسافة مائة‬
‫وخمسني قد ًما من األرض‪ ،‬أما الريح فقد ازدادت قوة‪.‬‬

‫وس ِم َع يف الحال طلقة بواريد يف‬


‫فاستكدت جماعة الطلبة خيولهم جر ًيا‪ُ ،‬‬
‫الفالء‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫فصاح بهم يوسف‪ :‬خطأت طلقتكم يا همج‪ ،‬إنما يحسن بنا أن نبعد عنا‬
‫هؤالء األنذال‪.‬‬

‫قال هذا وصوب بارودته إىل واحد من الخيالة السابقني وأطلقها فأصابه‬
‫الرصاص فسقط يخبط بدمائه عىل الثرى فوقفت أرفاقه وأخذت‬
‫املنصورة باملسري ففاتتهم‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬أراهم ذوي تحفظ‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬نعم؛ ألنهم موقنون قبضهم علينا‪ ،‬وإذا نزلنا بعد لنالوا‬ ‫أجاب َّ‬
‫مأربهم منا‪ ،‬ومن َث ّم ال بد لنا من الصعود‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وما نلقيه من القبة لتخفيف حملها؟‬

‫العلمة‪ :‬ينبغي أن نرمي منها بكل ما بقي من مؤنة مربى اللحم؛ فإن‬‫قال َّ‬
‫وزنه يساوي ثالثني أ ُ َّقة ينبغي أن نتملص منه‪.‬‬
‫العلمة فرمى به ً‬
‫قائل‪ :‬هاك يا معلمي!‪...‬‬ ‫فأرسع يوسف بامتثال أمر َّ‬
‫رميت وال أسف عليه‪.‬‬

‫وكاد القارب يمس الثرى ومن بعد هذا ارتفعت القبة وأخذت جماعة‬
‫الطلبة بالضجيج والرصاخ؛ أما املنصورة فعادت بعد نصف ساعة‬
‫تنخفض برسعة والغاز ينرصف بخالل الغطاء‪.‬‬

‫فانخفض القارب إىل الثرى حتى كاد يمسها بمروره فأرسعت جماعات‬
‫الطلبة نحو القبة وأوشكوا أن يصلوا إليها ولكن قد حدث حينئ ٍذ ما من‬
‫عادته أن يحدث يف مثل هذه الظروف وهو أن القبة بعدما انخفضت‬

‫‪221‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وكادت تقف عىل الثرى قفزت مرتفعة يف الفالء ولم تهبط من جديد إال‬
‫بعدما سارت مسافة ميل واحد‪.‬‬

‫قال كنادي بغيظٍ ‪ :‬ترى هل البد لنا من الهبوط بني أيدي هؤالء القوم؟!‬

‫العلمة بيوسف‪ :‬ارم بما بقي عندنا من مؤنة املاء وباآلالت‬ ‫َّ‬ ‫فصاح‬
‫وبكل ماله أدنى ثقل حتى املرساة نفسها‪ ،‬فمسك يوسف موازين الهواء‬
‫قل من التخفيف‬ ‫وموازين الحرارة ورمى بها‪ ،‬إنما لم يأت هذا َّإل بما َّ‬
‫والقبة التي كانت ارتفعت هنيهة قد عادت رسيعًا فهبطت عىل الثرى‬
‫وجماعة الطلبة ترسع رسعة الطري يف إثرها‪ ،‬ولم يكن بينها وبينهم أكثر‬
‫من مسافة مائتي قدم‪.‬‬
‫فعندها صاح َّ‬
‫العلمة‪ :‬ارم بالبارودتني إىل األرض‪.‬‬

‫أجابه الصياد‪ :‬ال أرمي بهما قبل أن أطلقهما‪.‬‬

‫قال هذا وأطلق بهما أربع طلقات فأصاب أربعة منهم بالرصاص‪ ،‬فع َّرت‬
‫حينئ ٍذ أرفاقهم عرير الوحوش الكارسة‪ ،‬وعوت عواء الذئاب‪.‬‬

‫أما املنصورة فعادت ترتفع وهي تقفز قفزات الكرة املرنة الواقعة عىل‬
‫األرض‪.‬‬

‫والحاصل ما كان أغرب من مشهد هؤالء املساكني املحاولني الفرار من‬


‫الهلكة بمركبة تقفز بهم قفزات الجبابرة‪ ،‬كأنها تستعيد قواها عندما‬
‫تمس الحضيض‪ ،‬إنما لم يكن بد من نهاية هذه الحال‪ ،‬وكان نحو الظهر‬
‫والقبة قد نهكت وتفرغت وتروست وأمىس غطاؤها مرتخيًا دائ ًما يف‬
‫‪222‬‬
‫الهواء وترتاكم الطيات يف القماش متالطما بعضها ببعض‪.‬‬

‫أما يوسف فلم يجب بيشء بل لبث يتفرس بمعلمه ويرقب أمارات محياه‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬ال طريقة للنجاة وال بد من الهبوط‪.‬‬


‫ثم قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال؛ بل بقي علينا أن نخفف حمل املنصورة بأكثر من‬
‫مائة أ ُ َّقة‪.‬‬
‫فتعجب كنادي من كالم َّ‬
‫العلمة هذا‪ ،‬وظن أنه اعرتاه جنون‪.‬‬

‫فقال‪ :‬وما عندنا نلقيه من القبة؟!‬

‫العلمة‪ :‬القارب؛ هلموا نتشبث بالشبكة‪ ،‬فيمكننا أن نتمسك بعراها‬ ‫قال َّ‬
‫ونقطع النهر؛ فالبدا َر إىل هذه الوسيلة!‬

‫فلم يتوقف هؤالء الرجال الجسورون عن البدار إىل هذه الواسطة األخرية‬
‫للنجاة من الهلكة‪ ،‬فتعلّقوا بعرى الشبكة كما أرشدهم َّ‬
‫العلمة‪ ،‬وكان‬
‫متمسكا بيد يف الشبكة وباألخرى يقطع حبال القارب فسقط‬ ‫ً‬ ‫يوسف‬
‫عندما كانت القبة تهوي نازلة إىل الحضيض ال محالة فلما تخففت القبة‬
‫من ثقل القارب تعالت يف الفضاء مسافة ثالثمائة قدم فهتف يوسف‬
‫هتاف الفرح وقال‪ :‬سريي باسم الله مجراك‪.‬‬

‫فدقت الطلبة الركاب وأخذت الخيل باإلهماج‪ ،‬أما املنصورة فقد صادفت‬
‫ريحا شديدة فسبقتهم وأرسعت نحو أكمة تحجب أفق الغرب فكانت‬ ‫ً‬
‫للسواح أكرب توفيق للمسري ألنهم قد تمكنوا من االجتياز فوق رأسها‬
‫أما الطلبة فقد اضطروا أن يأخذوا طريق الشمال ويدوروا عىل أسفل‬

‫‪223‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫الهضبة‪ ،‬فطالت بهم الطريق وتأخر مسريهم‪.‬‬

‫وكانت الثالثة الرفاق متمسكني بالشبكة‪ ،‬وقد تيرس لهم أن يسدوا ثغر‬
‫القبة فجاءوا بها كأنها جيب يعوم يف الهواء‪.‬‬
‫َّ‬
‫بالعلمة يصيح‪ :‬النهر النهر يا أيها‬ ‫فما عتموا أن جازوا الهضبة وإذا‬
‫األحباء؛ نهر سنغال ألنهم نظروا أمامهم عىل مسافة ميلني نهر سنغال‬
‫يجري يف مسيل منفرج جدًا؛ فالشاطئ اآلخر؛ موقعه منخفض وتربته‬
‫مخصبة‪ ،‬كان ملجأ مأمو ًنا من أصحاب التعدي واألذى‪ ،‬ويصلح للسواح‬
‫ً‬
‫محل للنزول‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬بقي علينا مسري ربع ساعة فننجو من أسوأ غائلة‪.‬‬

‫إنما لم يتيرس لهم ما كانوا يبتغونه ألن القبة كانت تنحدر شيئًا فشيئًا‬
‫وهي فارغة حتى استوت عىل أرض كادت تخلو من كل نبات وهي‬
‫حدورات طويلة وسباسب مصخرة ليس فيها َّإل بعض العليق وأعشاب‬
‫كثيفة يبستها حرارة الشمس‪.‬‬

‫واملنصورة انقضت عىل الثرى وقفزت مرا ًرا عديدة‪ ،‬وكانت قفزاتها تقل‬
‫قوة حتى علقت بعد قفزتها األخرية بأطراف الشبكة يف رؤوس أغصان‬
‫شجرة البوبات‪ ،‬وهي الشجرة الوحيدة يف تلك البالد الغامرة‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬قد انتهى األمر‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ولسنا بعيدين عن النهر ّإل مسافة مائة قدم‪.‬‬


‫فحل هؤالء السواح الثالثة املنكودو الحظ عىل األرض‪ ،‬وذهب َّ‬
‫العلمة‬
‫‪224‬‬
‫برفيقيه إىل جهة سنغال‪ ،‬وكان النهر يدوي دو ًيا مديدًا فلما وصل‬
‫فرغوسن إىل شاطئه عرف شالالت غوينا فلم يجد قار ًبا عىل ضفته وال ما‬
‫فيه نسمة حياة‪.‬‬

‫وكانت مياه النهر تنحدر من علو مائة قدم إىل مسيل عرضه ألفا قدم‪،‬‬
‫دوي طنان فتجري من الرشق إىل الغرب ويعرتض مجراها‬ ‫ويسمع لها ٌ‬
‫رصيف صخور ممتدة من الشمال إىل الجنوب‪ ،‬ويف وسط الشالالت‬
‫صخور منتصبة بأشكال غريبة كأنها أسماك جسيمة محجرة‪.‬‬

‫وكان عدم إمكانهم مجاز هذه الوهدة من األمور الواضحة‪ ،‬ومن َث ّم لم‬
‫يتمالك كنادي نفسه من إبداء أمارة اليأس والقنوط‪.‬‬
‫أما َّ‬
‫العلمة فرغوسن فلم ييئس‪ ،‬بل ُس ِم َع عىل الفور يهتف هتاف النشاط‬
‫والجراءة ً‬
‫قائل‪ :‬ثقا؛ لم يزل لنا باب للنجاة!‬

‫قال يوسف‪ :‬هذا كان أميل بلباقتك ودرايتك‪ ،‬وكان يوسف يثق بمعلمه‬
‫العلمة فكان قد شاهد العشب اليابس الكايس‬ ‫ثقة غري متزعزعة‪ ،‬أما َّ‬
‫ضفة النهر وخطر له عىل بال فكر أعده الحيلة الوحيدة لنجاتهم من‬
‫الهلكة‪ ،‬ففي الحال رجع برفيقيه إىل القبة وقال لهما‪ :‬إن بيننا وبني أولئك‬
‫األشقياء مسافة ساعة فأرسعا بجمع كمية وافرة من هذا العشب اليابس؛‬
‫فيلزمني منه عىل األقل مائة لربة‪.‬‬

‫فسأله كنادي‪ :‬ما فائدته لنا؟!‬


‫أجابه َّ‬
‫العلمة‪ :‬ليس عندي غاز فإنني أحمل املنصورة عىل جناح الريح‬
‫بالهواء‪ ،‬والحالة هذه فإني أجوز النهر بقوة هواء ساخن‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فعندها صاح كنادي‪ :‬عافاك الله يا خلييل ح ًقا!‪ ...‬إنك من كرام الرجال!‬

‫كديسا‬
‫ً‬ ‫فانكب يوسف وكنادي عىل العمل‪ ،‬وما مضت برهة إال وجمعا‬
‫كبريًا من العشب فجعلوه تحت شجرة البوبات‪ ،‬وكان َّ‬
‫العلمة وقتئ ٍذ قد‬
‫وسع ثغر القبة بشقه إياه يف أسفله وأخرج من اللولب كل ما كان باقيًا‬
‫من آثار اإلدروجن‪ ،‬ثم ك َّوم كمية من العشب تحت الغطاء وجعل النار‬
‫فيه‪.‬‬

‫فأخذت القبة يف برهة وجيزة تنتفخ بالهواء الحار؛ فيكفي من الحرارة‬


‫مائة وثمانون درجة لتنقيص نصف ثقل الهواء الكاين يف القبة‪ ،‬ومن َث ّم‬
‫رشعت املنصورة تتخذ شكلها الكروي‪ ،‬وكان العشب اليابس كثريًا هناك‬
‫َّ‬
‫والعلمة َي ِج ُّد يف إرضام النار‪ ،‬والقبة تنتفخ وتتدور عىل مرأى العني‪.‬‬

‫وكان مىض من الزمان ثالثة أرباع الساعة فظهرت حينئ ٍذ عىل مسافة‬
‫ميلني للشمال الطلبة وعال ضجيجهم ورصاخهم وسمعت دقة حوافر‬
‫خيولهم املهمجة‪.‬‬

‫قال كنادي‪ :‬من اآلن إىل عرشين دقيقة يصلون إىل هنا‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬العشب العشب يا يوسف!‪ ...‬فبعد عرش دقائق نصبح راكبني‬
‫الريح يف الفضاء‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬هاك يا سيدي!‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فلنتمسكن بالشبكة كما عملنا ساب ًقا!‬

‫قال يوسف‪ :‬ال تخف يا معلم ال تخف!‬


‫‪226‬‬
‫فما مىض عرش دقائق إال وأخذت القبة تميد مبرشة بميلها للصعود وكان‬
‫الطلبة قد دنوا منهم حتى لم يعودوا بعيدين عنهم أكثر من خمسمائة‬
‫خطوة‪.‬‬

‫فصاح فرغوسن تمسكا جيدًا‪.‬‬

‫أجاباه‪ :‬تمسكنا ال تخف‪.‬‬

‫فدفع فرغوسن برجله كمية من العشب إىل املوقد وكانت القبة قد أخذت‬
‫تمام انتفاخها بازدياد الحرارة فارتفعت إىل الفضاء ماسة أغصان‬
‫البوبات‪.‬‬

‫فعندها صاح يوسف‪ :‬فلنرحل فأجابه الطلبة بطلقة بنادقهم فجاءت‬


‫رصاصة يف كتفه فثلمته ثل ًما خفي ًفا‪ ،‬أما كنادي فانحنى وأطلق قرابينته‬
‫بيد واحدة فأصاب واحدًا منهم فرصع عىل الثرى يخبط بدمائه‪ ،‬وكانت‬
‫ً‬
‫وغيظا بما‬ ‫املنصورة ترسع بالصعود والطلبة يضجون ويولولون كيدًا‬
‫يفوق وصف الواصفني إىل أن بلغت القبة يف العالء مسافة ثمانيمائة قدم‬
‫عن األرض‪ ،‬وريح عاصفة تقذف بها فوق مجرى النهر فلما بلغت إىل ما‬
‫العلمة ورفيقاه يتفرسون بلجة امليازيب‬ ‫فوق تلك اللجج‪ ،‬وبينما كان َّ‬
‫ً‬
‫تمايل‬ ‫املفتوحة تحت أقدامهم شعروا بالقبة كأنها تتمايل وتميد بهم‬
‫وميدًا أوعب قلوبهم وج ًفا وقل ًقا‪ ،‬لكن عناية الرحمن قد وفقت مسريها‬
‫إىل خري النهاية فعقب عرش دقائق أخذت القبة بالهبوط شيئًا فشيئًا إىل‬
‫الشاطئ اآلخر‪.‬‬

‫وكان هناك نحو عرشة رجال عليهم مالبس إفرنسية استوىل عليهم ماال‬

‫‪227‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫يوصف من الحرية والدهشة والرعب عند مشاهدتهم تلك القبة ترتفع‬


‫يف الفضاء من جانب شاطئ النهر األيمن‪ ،‬فال يبعد أنهم خالوها يف أول‬
‫ً‬
‫حادثا سماو ًيا‪ ،‬أما رئيسهم وقائمقام البحرية وبريقدار السفينة‬ ‫وهلة‬
‫كانوا عارفني من جرائد أوربا مرشوع سياحة َّ‬
‫العلمة فرغوسن الهمام‬
‫الجسور‪ ،‬فما طال الحال حتى هدأ روعهم ووقفوا عىل حقيقة الواقع‪.‬‬

‫وكانت القبة تنفش شيئًا فشيئًا وتهبط بأولئك السواح األبطال وهم‬
‫متمسكون بعرى الشبكة‪ ،‬إنما لم يكن مؤكدًا أنهم يسقطون عىل‬
‫الحضيض‪ ،‬فمن َث ّم نزل الرجال الفرنسيس يف النهر وتلقوا بني أيديهم‬
‫الثالثة الرجال اإلنكليز عندما كانت القبة نازلة يف النهر عىل مسافة بعض‬
‫باعات من شاطئ سنغال األيرس‪.‬‬

‫فصاح القائمقام‪ :‬ألست َّ‬


‫العلمة فرغوسن؟!‬

‫أجابه َّ‬
‫العلمة‪ ،‬ورفيقاه بتمام الرواق والسكينة‪:‬بىل‪.‬‬

‫فتناول الفرنسيس الس َّواح وأتوا بهم إىل شاطئ النهر‪ ،‬أما القبة فقد كان‬
‫انتفاخها من باب النصف فوقعت يف النهر وجرتها املياه كفقاعة كبرية‬
‫فذهبت غريقة يف شالالت غوينا‪.‬‬

‫قال يوسف وهو يأسف عليها‪ :‬مسكينة املنصورة مسكينة‪.‬‬

‫أما َّ‬
‫العلمة فلم يتمالك نفسه عن البكاء‪ ،‬ففتح ذراعيه وعانق رفيقيه وقد‬
‫خاضت قلوبهم بحر السلوان والحبور‪.‬‬
‫‪228‬‬
‫الفصل الثاني واألربعون‬
‫يف الختام والتقرير والعمائر الفرنسية ومعسكر مدين ومدينة القديس‬
‫لويس والبارجة اإلنكليزية وعودة الس َّواح إىل لندرة‬

‫‪229‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫‪230‬‬
‫إن الرجال اإلفرنسيني الذين ُوجدوا عىل شاطئ النهر كان قد بعث‬
‫بهم وايل سنغال إىل تلك األطراف‪ ،‬وكانوا اثنني من الضباط‪ ،‬وهما‬
‫القائمقام دي فراس والبريقدار رودامل ورئيس عرشة وسبعة‬
‫أنفار من الجنود‪ ،‬وكانوا منذ يومني متشاغلني يف التفتيش عىل‬
‫أوفق محل إلقامة معسكر يف غوينا ووافاهم عىل غري انتظارهم‬
‫العلمة فرغوسن ومن معه‪.‬‬ ‫َّ‬

‫فال حاجة إىل وصف ما جرى من رسوم التهاني واملصافحة للثالثة‬


‫السواح‪ ،‬فحقق الفرنسيس أنفسهم إنجاز ذاك السفر املهول وقد‬
‫أصبحوا شهود عيان لصموئيل فرغوسن‪.‬‬
‫العلمة ً‬
‫أول أن يحققوا تحقي ًقا رسميًا‬ ‫َّ‬ ‫ومن َث َّّم قد رغب إليهم‬
‫وصوله إىل شالالت غوينا‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فسأل القائمقام دي فراس‪َ :‬أل تستحسن جنابك وضع إمضائك‬


‫عىل صك الشهادة بواقعة سفرنا بل بلوغنا إىل هنا‪.‬‬

‫أجابه القائمقام‪ :‬اإلمضاء وكرامة‪.‬‬

‫فأتوا باإلنكليز إىل منزل وقتي أقاموه عىل شاطئ النهر فصادفوا‬
‫هناك؛ الس َّواحَ ‪ ،‬حسن االلتفات واالهتمام ومؤنة غزيرة‪ ،‬وهناك‬
‫سطر بالعبارات اآلتية الشهادة املدرجة اليوم يف سجالت رشكة‬
‫لندرة الجغرافية‪:‬‬

‫«نحن املدونة أسماؤنا بذيله نشهد أننا بتاريخه شاهدنا يف الفالة‬


‫العلمة فرغوسن ورفيقيه ريشار كنادي ويوسف ولصون‬ ‫َّ‬
‫واصلني إلينا وهم متمسكون بعرى شبكة قبة هوائية‪ ،‬وأن القبة‬
‫املذكورة قد سقطت بالقرب منا عىل مسافة بعض خطوات يف‬
‫مجرى النهر‪ ،‬وجرها الغدير إىل شالالت غوينا؛ فهناك ابتلعتها‬
‫الوهدة ولم يعد ُيرى لها أثر وال عني؛ فشهاد ًة بالواقع حررنا هذه‬
‫الوثيقة وأمضيناها مع املذكورين للمصادقة تحري ًرا عند شالالت‬
‫غوينا يف ‪ 24‬أيار سنة ‪:»1862‬‬

‫فرغوسن صموئيل‪ ،‬ريشار كنادي‪ ،‬يوسف ولصون‪ ،‬دي فراس‬


‫قائمقام‪ ،‬مشاة البحرية‪ ،‬رودامل بريقدار السفينة‪.‬‬

‫ومن األنفار‪:‬‬

‫فيلبو‪ ،‬بليسيه‪ ،‬رسكانيه ‪ ،‬مايور‪ ،‬لوروا‪ ،‬غويليون‪ ،‬لبال‪.‬‬


‫‪232‬‬
‫العلمة فرغوسن ورفيقيه الصنديدين‬ ‫َّ‬ ‫فهنا قد انتهت سياحة‬
‫العجيبة الثابتة بشهادة من ال ترد شهادتهم‪ ،‬وكانوا هناك برفقة‬
‫أنسا من تلك التي اجتازوا بها‪ ،‬ولها‬
‫خلن يف بهرة قبائل أوفر ً‬ ‫َّ‬
‫عالقات كثرية مع املحالت الفرنسية‪.‬‬

‫وكان وصولهم سنغال يوم السبت الواقع يف ‪ 24‬أيار‪ ،‬ويف ‪ 27‬منه‬


‫وصلوا إىل محط العسكر يف مدين الواقع عىل شاطئ النهر نحو‬
‫الشمال‪.‬‬

‫وهناك استقبلهم الضباط اإلفرنسيون بمزيد الرتحاب واإلعزاز‬


‫وأبدوا نحوهم واجبات الضيافة عىل ما كان يف مكنتهم‪ ،‬فتمكن‬
‫العلمة ورفيقاه من السفر بح ًرا عقب برهة وجيزة يف بارجة‬ ‫َّ‬
‫يقال لها البازيليك‪ ،‬وكانت تسري يف نهر سنغال قاصدة مصبه‬
‫وعقب خمسة عرش يو ًما أي يف ‪ 10‬حزيران بلغوا إىل سان لويس‬
‫ً‬
‫استقبال فاخ ًرا‪ ،‬وقد كانوا اسرتاحوا غاية‬ ‫حيث استقبلهم الوايل‬
‫االسرتاحة من أتعابهم وأهوالهم‪ ،‬أما يوسف فكان يجاوب من‬
‫يسأله عن سياحته‪ :‬إن سياحتنا أذل السياحات فمن رغب باألمور‬
‫املعجبة ال أشري عليه بأن يبارش مثلها؛ ألنها تميس يف آخر األمر‬
‫مملة‪ ،‬ولوال ما صادفناه من الخطوب يف بحرية شاد ونهر سنغال‬
‫ملتنا ضج ًرا‪.‬‬

‫وكانت بارجة إنكليزية عىل أُهْ بَ ِة االستعداد للسفر فركبوها‪ ،‬ويف‬


‫‪ 23‬غرة حزيران بلغوا إىل بورتسموث ويف اليوم التايل أقبلوا إىل‬
‫لندرة‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فال حاجة إىل وصف الرتحاب واإلعزاز اللذين استقبلتهم بهما‬


‫الرشكة الجغرافية امللوكية؛ فإن ذلك يفوق وصف الواصفني‪،‬‬
‫فسافر كنادي يف الحال إىل أديمبورج ومعه قرابينته الشهرية‬
‫فأرسع إىل خادمته القديمة يخربها عن وصوله بالسالمة‪.‬‬
‫أما َّ‬
‫العلمة فرغوسن ويوسف أمينه فلم يزاال عىل أحوالهما املعروفة‪ّ ،‬إل‬
‫أنه قد حدث فيهما تغري لم يدريا به وهو أنهما قد ارتبطا مذ ذاك بحبل‬
‫الصداقة املتني‪.‬‬

‫ولم تكف جرائد أوربا عن نرش عبري الثناء الجميل عىل أولئك الس َّواح‬
‫الجزييل الشجاعة؛ أ َّما جريدة الداييل تلغراف فقد أنفقت نحو ‪ 3377‬ألف‬
‫نسخة يوم نرشت خالصة سياحتهم‪.‬‬
‫وقد خطب َّ‬
‫العلمة فرغوسن خطبة أنيقة يف جلسة عمومية عقدتها الرشكة‬
‫الجغرافية امللوكية‪ ،‬روى فيها قصة سياحته يف القبة الهوائية‪ ،‬ونال له‬
‫ولرفيقيه نيشان الذهب املعد جائزة ألشهر السياحات التي بورشت سنة‬
‫‪.1862‬‬

‫العلمة فرغوسن من نتائج سياحته هو أنه قد حقق‬‫فأ َّول ما حصل َّ‬


‫تحقي ًقا راهنًا الحوادث واالكتشافات الجغرافية التي أتى بها برث‬
‫وبورتون وأسبيك وغريهم‪.‬‬
‫وكذلك قد قرب اليوم الذي نتمكن فيه من تحقيق اكتشافات َّ‬
‫العلمة‬
‫فرغوسن يف األصقاع الوسيعة الواقعة يف ما بني الدرجة الرابعة عرشة من‬
‫الطول‪ ،‬والثالثة والثالثني منه‪ ،‬وذلك سندًا عىل اكتشافات الساعني اآلن‬
‫‪234‬‬
‫بها؛ أي أسبيك وغرنت ودي هوكلني وموزنجر بصعودهم إىل ينابيع النيل‬
‫وولوجهم أواسط إفريقية‪ ،‬وعليه ال يعود ذلك القسم الكبري من الكرة‬
‫ً‬
‫مجهول لدى ذوي املعارف كما كان يف األيام السالفة لسوء حظ سكانه‬
‫املنفصلني عن باقي بني آدم كأنهم ليسوا من جنسهم وال إخوة لهم‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫الفهرس‬
‫الفصل الثالث والعرشون‬
‫يف مناقشة فلسفية وظهور السحابة يف األفق وظهور قبة ثانية ومشاهدة آثار قافلة‬
‫وبرئ ماء يف الصحراء‬
‫الفصل الرابع والعرشون‬
‫العلمة وانطفاء القصبة ومراقبة الصحراء الشاسعة وانفراد َّ‬
‫العلمة‬ ‫يف العطش وتندم َّ‬
‫وسقطته وما نواه يوسف من القصد الثابت‬
‫الفصل الخامس والعرشون‬
‫يف اشتداد الحرارة وفروغ آخر نقطة من املاء وليايل اليأس ومحاولة ديك قتل نفسه‬
‫وهبوب السموم‬
‫الفصل السادس والعرشون‬
‫يف الليلة املبهجة وقصة جمس أبروس وانخفاض البارومرت وطلوعه والتأهب للرحيل‬
‫وثوران الزوبعة‬
‫الفصل السابع والعرشون‬
‫يف رأي أحد علماء الفرنسيس واملرور بمملكة أداموفا وجبال أتلنتيكا ونهر بنوه ومدينة‬
‫يوال وجبل باجلة وجبل منديف‬
‫الفصل الثامن والعرشون‬
‫يف مدينة مصفية وسجود أحد املشائخ للقبة الهوائية والكالم عن السواح دنهام‬
‫وكالبرتون وودني وفوجل وما كان من الحمام املشعلة نا ًرا املرسلة من وايل قرناق‬
‫الفصل التاسع والعرشون‬
‫يف االرتحال يف الليل والكالم عن نهر الشاري وبحرية شاد ومائها وفرس النهر وإطالق‬
‫الرصاصة عليه عبثًا‬
‫الفصل الثالثون‬
‫يف عاصمة الربنو وظهور البواشق ومنازعتها املنصورة وما أظهر يوسف من الغرية‬
‫الخالصة عند انخراق غطاء القبة‬
‫الفصل الحادي والثالثون‬
‫يف ظنون السواح وإصالح موازنة القبة الهوائية وحساب َّ‬
‫العلمة وصيد الصياد‬
‫واالستقراء يف بحرية شاد‬
‫الفصل الثاني والثالثون‬
‫يف الزوبعة الشديدة وما انشغل به الرفيقان من الفكرة املكدرة وهبوب الريح املضادة‬
‫واملوافقة والرجوع إىل الجنوب‬
‫الفصل الثالث والثالثون‬
‫يف قصة يوسف وما كان من عبادة اإلفريقيني ل ُه ووصوله إىل أرياف البحرية وسفره‬
‫راجل ومكابدته املشقة والتعب والجوع ومرور املنصورة وارتحالها ويأسه ورصاخه‬‫ً‬
‫األخري‬
‫الفصل الرابع والثالثون‬
‫يف ما كان من العربان املجتمعني ومالحقتهم ألحد املهزومني وقتل الصياد عربيًا‬
‫برصاصة وانتشال يوسف من األرض بصناعة وحرفة‬
‫الفصل الخامس والثالثون‬
‫يف طريق الغرب ويقظة يوسف وعناده وتتمة قصته ووصول السواح إىل تجلة وقلق‬
‫الصياد واتجاه املنصورة نحو الشمال‬
‫الفصل السادس والثالثون‬
‫يف رسعة سري املنصورة ويف األعمال الصادرة عن حكمة ويف األثقال ويف األمطار‬
‫املرتاكمة ويف غاو والنهر األسود والسواح كلربي وجوفروا وغراي ومونغوبرك ولينك‬
‫وراني كالية وكالبرتون وجون ريشار لندر‬
‫الفصل السابع والثالثون‬
‫يف البالد التي يف عرجات النهر األسود ويف منظر جبال أومربي الغريب ويف كابرة‬
‫وتمبوكتو ورسم املعلم برث وسقوط املدينة عن رونقها القديم والسري عىل رحمة الهواء‬
‫الفصل الثامن والثالثون‬
‫يف قلق َّ‬
‫العلمة فرغوسن ويف الجراد ويف انقالب الريح‬
‫الفصل التاسع والثالثون‬
‫ً‬
‫انخفاضا ويف الدرويش الحجي وبسكال‬ ‫يف دنو السواح من سنغال ويف ازدياد املنصورة‬
‫ومنصور وملربتوس والجبال الشاهقة وسالح ديك ولباقة يوسف والوقفة فوق غاب‬
‫الفصل األربعون‬
‫يف املنازعة بينهم عىل الشهامة وآخر رزئهم وآلة التفسيح ولباقة يوسف وما جرى‬
‫نصف الليل وهجعة َّ‬
‫العلمة وهجعة كنادي وتناعسه والحريقة والضجيج والعويل‬
‫وأخطاء طلقات الرصاص‬
‫الفصل الحادي واألربعون‬
‫يف جماعة الطلبة ومطاردتهم السواح واعتدال الريح وانخفاض املنصورة وآخر مؤنتهم‬
‫ودفاعهم بطلق البنادق ونهر سنغال وشالالت غويني والهواء الحار وأمجاز النهر‬
‫الفصل الثاني واألربعون‬
‫يف الختام والتقرير والعمائر الفرنسية ومعسكر مدين ومدينة القديس لويس والبارجة‬
‫اإلنكليزية وعودة الس َّواح إىل لندرة‬
‫صدر من سلسلة كتاب الدوحة‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬


‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫ح ّرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدن ّية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياس ّية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل ال ّلغة العرب ّية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنّان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة “العصفور الصغري”‬ ‫‪43‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫ا ُملعتمدُ بنُ ع َّباد يف سنواته األخرية باألرس‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف َذنّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫)‬ ‫والحضارة‬ ‫والفنّ‬ ‫واآلداب‬ ‫غة‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫(صفحات‬ ‫بني الج ْزر وامل ّد‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫«الدوحة»)‬ ‫أرشيف‬ ‫من‬ ‫ونصوص‬ ‫ات‬ ‫ر‬ ‫(حوا‬ ‫ظل ال ّذاكرة‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مج ّلة الدوحة»‬ ‫العفاقي‬ ‫رشيد‬ ‫تحقيق‪:‬‬ ‫(‪)1932‬‬ ‫املرصية‬ ‫الديار‬ ‫إىل‬ ‫ّية‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫الرحلة‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫اعم األمل ( ُمختارات شِ ْعر ّية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫بر ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫ُ‬
‫التّوت امل ّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ملحمة جلجامِش‬ ‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬ ‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫مح ّمد فريد سيالة‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬ ‫فنّ َ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫أَ ْق َو ُم ا ْل َم َسالِكِ ِف َم ْع ِر َف ِة أَ ْح َوالِ ا ْل َم َملِكِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫كتاب َ‬
‫األخلق‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْح َل ٌة َج َب ِل َّي ٌة ر ِْح َل ٌة َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ِـطاف ( ُمختَا َرات مِن اَ ْلق َِّص ُة ا ْلقَصِ َري ُة ِف َق َطر)‬ ‫ق ْ‬ ‫‪77‬‬
‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) الجزء األول املؤلف‪ :‬جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫‪78‬‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like