Professional Documents
Culture Documents
ج ّوية
هوا ِئيّة
كبة ال َ
ِ م ْر
ِفي ال َ
79
عنوان الكتاب :الرحلة الجوية في المركبة الهوائية ..من شرقي إفريقية إلى غربيها (الجزء الثاني)
المؤلف :جول غابرييل فيرن ،ترجمة :يوسف اليان سركيس
الناشر :
وزارة ّ
الثقافة والرياضة -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية :
الترقيم الدولي (ردمك) :
العمل الفني للغالف والصفحات الداخلية :للرسام الفرنسي إدوارد ريو ()1900 - 1833
ّ
مجلة الدوحة اإلخراج والتصميم :القسم الفني -
ّ
المجلة. كتابها ،وال ُتع ِّبر -بالضرورة -عن رأي الوزارة أو
المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ
الرّحل َ ُة ا ْل َ
ج ّوية
هوا ِئيّة
كبة ال َ
ِ م ْر
ِفي ال َ
(من شرقي إفريقية إلى غربيها)
(الجزء الثاني)
(نسخة ُمطابقة للطبعة األولى بيروت )1875
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
4
الفصل الثالث والعرشون
يف مناقشة فلسفية وظهور السحابة يف األفق وظهور قبة ثانية
ومشاهدة آثار قافلة وبرئ ماء يف الصحراء
5
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
6
فلما أصبح الصباح وأرشق نور الشمس الوضاح ما زالت السماء رائقة
نقية ال حراك يف الفضاء ،فارتفعت املنصورة إىل علو خمسمائة قدم
وبالكاد انتقلت ً
قليل إىل الجهة الغربية.
فقال َّ
العلمة :هوذا؛ نحن يف قلب املفازة ،وهاهي ذي بحور الرمل الطامة
تحت أقدامنا؛ فيا للعجب كل العجب لم هذا النظام الغريب يف الطبيعة؟
ولم يا ترى ينبت الزرع هناك بالقرب من حدود الرمال وهنا هذا القحل
عرض واحد ومرمية باألشعة نفسها؟!
ٍ والجدب ،مع أن األرايض هي يف خط
قال ديك :أيها الخليل؛ إن علة ذلك ليس من شأنها أن تقلقني ،وإن ما
يهمني إنما هو الحال الذي نحن عليه فال أهمية لخالفه.
العلمة :دعنا نتفلسف ً
قليل عىل ذلك؛ فإن التفلسف ال يجلب علينا قال َّ
أذية.
7
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :هات نتفلسف ما تشاء؛ فإن الوقت طويل وبالكاد نميش يف هذه
األفالء ،فكأن الريح خاشية الهبوب أو راقدة يف رسير الراحة.
قال يوسف :أما أنا فأبرشكما أنه ال يطول بنا الحال ،ألني أرى سحابة يف
الجهة الرشقية.
قال َّ
العلمة :نعم ،ويف الصواب تكلم يوسف.
قال ديك :ولكن هل ترى نتملك هذه السحابة وتأتينا بمطر وريح نافعني؟
قال َّ
العلمة :سنرى ذلك يف وقته.
قال يوسف ،وهو يمسح العرق الوافر السائل من وجهه :حبذا ،ولكن
وخصوصا يف
ً أف؛ ما هذه الحرارة الشديدة؟! ...نعم إن الحرارة نافعة،
ٍ
الشتاء ،ولكن يف الصيف عىل املرء أن يتحرز منها عىل قدر استطاعته.
فسأل الصياد فرغوسن وقالَّ :
هل تخاف أن ترض حرارة الشمس القادحة
بقبتنا؟
كل يا صديقي ألن املادة الصمغية التي طيل بها القماش الحريري قال َّ
تحتمل حرارة عظيمة جدًا؛ فقد وصلت أحيا ًنا حرارة القصبة إىل مائة
وثمان وخمسني درجة إنكليزية ،ولم يتأثر منها غطاء القبة الداخلية
الصغرية.
8
أما يوسف فكان برصه حادًا ويرقب األشياء بأحسن تمييز من املنظرات،
فقال وهو ينظر إىل السماء :إنها سحابة يف الحقيقة يا خلييلَّ.
قال ديك :أيها الصديق صاموئيل هل َّم بنا نالقي هذا الغيم الذي ال يريد
أن ينرش علينا لواء سخائه.
أظن أننا ال نجني من هذا العمل ثمرة البتة ،بل نزيد إنفا ًقا قال َّ
العلمةُّ :
للغاز ومن َث َّّم للماء ،ولكن نظ ًرا لحالتنا الحارضة فال يسوغ لنا أن نهمل
شيئًا عىس أن يكون فيه خري لنا فهلموا بنا نطلع.
9
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ثم أورى زناد لهيب القصبة فانترشت الحرارة ،وللحال صعدت القبة
بقوة اإلدروجن املمدَّد.
فوصل إىل السحابة يف علو ألف وخمسمائة قدم ودخل يف ضباب متكاثف
ريح
وداوم حفظه برهة يف تلك الطبقة ،ولكن لم يجد فيها أدنى مهب ٍ
حتى ،وكانت خالية من الرطوبة وبالكاد ترطبت األشياء التي ملستها،
أما املنصورة فإنها ملا التحفت بذلك البخار جرت مشيًا بأكثر رسع ٍة من
األول ،ولكن بنوع زهيد جدًا ،وهذه كانت الفائدة الوحيدة من الصعود
إىل السحابة.
وفيما كان َّ
العلمة يتأمل بكدر ما جناه من النفع الطفيف يف ارتقائه إىل
األعايل إذا بيوسف يصيح متعجبًا ،وقال :واعجبا واعجبا!
قال يوسف :موالي وسيدي ديك! ...ما بالكما ال تنظران إىل األمر العجيب
الغريب؟!
ً
عاجل! قال ديك :وما هو؟ ...قل
قال يوسف :اعلما أننا لسنا وحدنا يف هذا الخالء؛ بل هنا لصوص سارقة
قد قلدونا يف صنعتنا!
ً
مندهشا ،وقال :لعمري هذا مما يوجب االنذهال؛ تطلع يا فصاح ديك
صاموئيل! ..تطلع!
فقال َّ
العلمة بسكون :برصت يا رفيقي بما تنظران إليه.
فقال َّ
العلمة :لم يبق لنا ّإل أن نقرأ عليها السالم بالداليل واإلشارات؛ فخذ
يا ديك رايتنا وانرش ألوانها بإزائهم.
فالظاهر أن املسافرين املقيمني يف تلك املركبة فكروا كما فكر هؤالء يف
دقيقة واحدة ألن الراية ذاتها أعادت اإلشارات والحركات نفسها التي
أبداها الصياد.
11
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ً
ضاحكا :املعنى به أنك تفعل هذه اإلشارات لنفسك يا أيها العلمةفقال َّ
الخل الويف ،وتأويل ذلك أننا نحن أنفسنا يف تلك املركبة والخالصة ليس
تلك القبة َّإل منصورتنا.
قال يوسف :سيدي من بعد أداء االحرتام الواجب لحرضتك أقول لك إني
آلخذ كالمك بعني الصدق ،بل أعده هزءًا منك.
فقال له َّ
العلمة :قف عىل طرف املركبة يا يوسف ،وحرك ذراعيك فتتحقق
من صدق مقايل.
العلمة :إنما هذا لعلع ،وهو حادث بسيط من حوادث انعكاسفقال َّ
النور ،ومسبب عن تخلخل الهواء غري املتساوي ،الحاصل يف طبقات
الجو ،والسالم ختام.
وكأنه لم َي َشأ ْ أن يصدق هذا املقال ،فراجع حركاته تكرا ًرا بأنواع مختلفة.
أغرب منه؛ فإنه يدهش النظر وقد قرت منا الخواطر َ قال ديك :وال
ملشاهدة منصورتنا وجهًا بإزاء وجه؛ أ َ َل تقران يا صدي َق َّي ،وفقكما املوىل،
أنها ذات هيئة لطيفة وهيبة ُمنيِ َفة؟
وما لبثت صورة القبة أن أخذت يف االندثار رويدًا رويدًا ،ثم ارتفعت
12
السحابة إىل علو باسق ،وهجرت املنصورة فلم تحاول هذه أن تتبعها،
ومضت ساعة من الزمان وإذا بالسحابة قد توارت عن العيان.
ً
فقليل ،وكادت تدخل حيز العدم، وأما الريح الطفيفة فانتقصت ً
قليل
آيسا. وعندها اقرتب َّ
العلمة إىل األرض ً
وقد كان منظر القبة سال عنهم الهم والفكرة يف أحوالهم ،ولكن ملا توارى
عن البرص رجعوا إىل ما كانوا عليه من األفكار املحزنة وهم يكابدون
حرارة عظيمة جدًا.
وعند الساعة الرابعة بعد الظهر أشار يوسف إىل وجود يشء بارز فوق
بحر الرمال ،وما لبث أن عرفه جيدًا ،وهو نخلتان نابتتان عىل مسافة غري
بعيدة.
فقال َّ
العلمة :إذا وجد نخل فال ب َّد من وجود نبع ماء أو برئ بالقرب منها،
ثم أخذ املنظرة وأكد تخمني يوسف.
فصاح حينئ ٍذ ً
قائل :هاهو ذا املاء والحمد لله هاهو ذا املاء؛ فال َّ
شك أنه
واجد هناك ،وكيفما رسنا فسنصل إليه يف نهاية األمر.
فقال يوسف :والحالة هذه؛ أيحسن لديك أن نرشب رشبة لبينما نبلغ املاء؛
ألن الريح قاطعة منا النفس؟
قال َّ
العلمة :فلنرشب ً
إذا يا صاح.
ً
كامل ،ولم يتبق لهم بعد َّإل ثالثة ليرتات ونصف ال فرشب ثالثتهم ليرتًا
غري.
13
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ثم قال يوسف :يا ما أل َّذ املا َء وأنفعه؛ لعمري لم أذق قط يف حياتي لذة يف
الرشاب كاللذة الحالية!
قال َّ
العلمة :هذا ما يجديه االنمساك عن املنافع.
وملا كانت الساعة السادسة حامت املنصورة فوق النخلتني ،فلما تأملوا
شبح بال لحم؛ ألنهما
ٍ بهما رأوهما شجرتني نحيفتني يا بستني شبه
خاليتان من األوراق ،ومائلتان إىل الفناء أكثر منهما إىل البقاء.
ثم أبرصوا تحت أقدامهم بحجارة برئ مركوزة بال ترتيب ،وقد رضبت
أشعة الشمس القادحة تلك الحجارة ،فكادت تحولها إىل رمال ناعمة جدًا،
ولم يروا للرطوبة من أثر فانقبض قلب صموئيل من ذلك املنظر ،وكان
قد كشف لرفيقيه ما يضمره من الخوف لو لم يسمع تأوههما وهتافهما
ً
طويل مرسو ًما من عظام فانتبه ورأى عن بعد يف الجهة الغربية ً
خطا
مبيضة وشاهد حول النبع كو ًما من تلك العظام ،فعلم من ذلك أن قافلة
وصلت إىل ذلك الحد من الصحراء؛ فالذين كانوا ضعفاء فيها سقطوا
ً
فقليل ،وأما األشداء فبعد أن كابدوا أقىص التعب وج ُّروا عىل الرمل ً
قليل
أنفسهم إىل تلك العني قضوا عندها نحبهم ،وذاقوا كأس حمام املرة.
فقال ديك :ال ننزلَ َّن إىل هنا؛ بل فلنهرب من هذا املشهد املهيل الكبد فإن
البرئ هذه ال تحوى نقطة من املاء.
14
قال َّ
العلمة :كالّ يا ديك يلزمنا أن نقف عىل الحقيقة لئال تتشوش ضمائرنا
فيما بعد ويدركنا الندم ،فسيان إن قضينا ليلتنا هنا أو يف محل آخر ،وقد
قام نبع ماء من زمن مديد يف هذا املحل ،فعىس أن يكون له أثر إىل اآلن.
فحطت املنصورة عىل األرض ووضع يوسف وديك كمية من الرمل موازنة
لوزنهما ونزال عن املركبة مبادرين إىل البرئ ،فدخالها بدرج أمىس ً
رمل،
ورأيا أن العني ناشفة من سنني عديدة ،وحفرا ً
قليل يف الرمل الناعم فلم
ينظرا أث ًرا للرطوبة.
وكان يوسف قد أتى بقرب ٍة ُم َق َّرنة فرماها وهو غضبان بني العظام
املشتتة عىل الحضيض.
وعند العشاء ُم َّد سماط السكوت التام ولم يتفوه أحد بالكالم بل أكلوا
جميعًا بكره شديد ،مع أنهم لم يقاسوا بعد شدائد العطش ونوائبه،
ولكنهم قانطون بالنظر إىل ما أقبل عليهم من املحن.
15
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
16
الفصل الرابع والعرشون
يف العطش وتندم َّ
العلمة وانطفاء القصبة ومراقبة الصحراء الشاسعة
وانفراد َّ
العلمة وسقطته وما نواه يوسف من القصد الثابت
17
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
18
فلم تبلغ املسافة التي جازوها يف النهار كله أكثر من عرشة أميال ،وأنفقوا
للمسري يف تلك املدة مائة واثنتني وستني قد ًما مكعبًا من الغاز.
ثم قال :عندنا ما يكفينا مشيًا مدة ست ساعات ،فإذا عربت هذه املدة ولم
نكتشف برئًا وال عينًا فالله يعلم ماذا يصيبنا ،فقال يوسف :إن الريح
طفيفة جدًا يا موالي.
وعندما نظر لوائح الحزن والكدر قد علت وجه سيده قال :أؤمل أنها
ستهب عما قليل.
ً
باطل؛ إذ إن السماء رائقة صافية، أما أملهم يف مهب الرياح فكان
19
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أما يوسف وديك فكانا مضطجعني؛ الواحد بجانب اآلخر ،وهما يحاوالن
الفرار من الفكرة يف تلك الحالة الهائلة ،سواء بالرقاد أم بالخدر ،وقد
ممل لقلة شغلهما ،وال يشء يجلب الضجر طويل ً
ً استبان لديهما الزمان
واالرتباك نظري البطالة؛ إذ ال يستطيع املرء أن يزيل عنه ذكر أكداره
ورزاياه إال بيشء من االشتغال ،ففي ذلك الوقت كان انشغالهما متوق ًفا
عن التفكر والتبحر يف تلك الواقعة املفجعة األكباد ،وليس ما يلهيهما عن
تصورها نصب أعينهما.
ثم َعل َِق العطش يذيقهم م َّر العذاب والشقاء ،والعرق الباقي لم يكن من
شأنه َّإل أن يزيد كبدهم التها ًبا ،ويف الحق والصواب يدعونه أهل إفريقية
حليب النمورة ،وبالكاد كان باقيًا نحو لرتين من املاء الساخن ،فكان
ثالثتهم يحدقون برصهم بتلك النقطات الثمينة دون أن يجرس أحد منهم
أن يبل بها طرف ثغره؛ فيا لها من حالة هائلة ترتعد منها الفرائص،
وتلتاع منها القلوب؛ إذ لم يبق معهم من املاء ّإل تلك الكمية الجزئية وهم
مع ذلك ال يزالون يف قلب الصحراء.
فتصادمت هذه األفكار يف عقله ،فيما أنه يقبض عىل رأسه بيديه ،متأمال
مدة ساعات برمتها.
وفيما كان رفيقاه راقدين أرضم نار القصبة واستدارت القبة المتداد
اإلدروجن وارتفعت بخط مستقيم بما عظم من الرسعة ،فسعى َّ
العلمة
يف أن يجد مهبًا من عُلُ ِّو مائة قدم إىل علو خمسة آالف قدم ،لك َّن سعيه
ذهب هد ًرا ،ولم يستفد شيئًا وتبني لديه أن الريح عديمة الوجود ،حتى
ويف آخر حدود الجو.
وفرغ املاء أخريًا وامتنع حفظ النار وانطفأت القصبة لنفاد الغاز،
وأصبحت آلة بنزن ال فاعلية لها ،ثم تقلصت القبة الهوائية وأخذت يف
21
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
النزول رويدًا رويدًا عىل الرمل يف نفس املكان الذي طلعت منه.
ً
عرضا بعيدًا عن فانتصف النهار وهم يف درجة ً 19ْ 35
طول و6ْ 51
بحرية شاد بنحو خمسمائة ميل ،وعن جهات إفريقية الغربية بنحو من
أربعمائة ميل ونيف.
ففهم الرفيقان مآل كالمه ،وكان سطح األرض عىل مساواة سطح البحر
لسبب انخفاضه هناك ،ولهذا وقفت القبة يف موازنة تامة وعدمت الحركة
عىل اإلطالق.
رمل مواز ًيا ثقلهم نزلوا إىل الرب وهم غائصون يفوبعد أن وضعوا فيها ً
مفاوز الفكر ،ولبثوا ساعاتٍ ال يتحادثون وال يتفاوضون يف أمر ثم هيأ
كل ً
وكعكا وعقب أن أكلوا شيئًا يسريًا رشب ّ يوسف العشاء ،وكان لح ًما
منهم جرعة من املاء الساخن.
وملا ج َّن الليل وبدد الدجى ضياء النهار لم يسهر أحد لحراسة القبة،
ولكن لم يرقد أحد لشدة الحرارة وانشغال الفكر ،وملا أصبح الصباح
أخذ فرغوسن نصف لرت املاء الباقي ووضعه جانبًا وقصد أن ال يمسوه َّإل
وقت الحاجة القصوى.
22
املتزايدة.
ثم تطلع يف الرتمومرت وقال :ال عجب من ذلك؛ فإن الحرارة يف درجة مائة
وأربعني.
فقال الصياد :إن الرمل يلهب األعضاء ويجعل البدن كأنه خارج من أتون
ناري يا رباه ما هذه الحال؛ فإننا ال نرى أث ًرا لسحاب ٍة يف السماء ،لعمري
إن ذا مما ينزع العقل ويبيل بداء الجنون.
قال ديك :أجاب الله دعاءك يا خلييل صموئيل؛ ألننا قد تس َّم ْرنا يف هذه
األرض كطريٍ مكسور الجناح.
قال فرغوسن :ولكن ههنا فرق بيننا وبني الطيور يا ديك؛ ألن أجنحتنا ال
تزال غري مسومة ،ولم يرض بها يشء ،وأؤمل أن يتيرس لنا العمل بها بعد.
فصاح يوسف ً
قائل :آه ثم آه من ريح تذهب بنا وتبلغنا إىل عني أو برئ،
كاف ،وباملاء ننتظر شه ًرا
فحينئ ٍذ ال نعود نحتاج إىل يشء؛ فإن زادنا ٍ
بتمامه وال نحتمل عذا ًبا ،وأما العطش فهو رش مصيبة وبلية.
23
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ً
عامل عىل تعذيبهم ،بل كان عقلهم مضطر ًبا فلم يكن العطش وحده
ملراقبة الصحراء مراقبة دائمة ،ألن الرمال كبحر غطمطم؛ ليس فيها
ُّ
تل وال عوج وال حصاة واحدة لتقف أنظارهم عليها ،فقد جرح فؤادهم
انبساط تلك الفسحة املتساوية السطح ،وأصابهم بالداء املعروف بداء
القفار ،ولعمري إن النظر إىل زرقة تلك السماء غري املتغرية والتأمل يف
اصفرار تلك الرمال الجزيلة املدى مما يفيض باملرء إىل الهلع والرعب،
وكانت حرارة الجو امللتهب نامية متزايدة ،وكأنها بارتجاف لهيب األتون
املضطرم ،فإذا ما تأمل العقل يف ذلك الرواق البليغ خاب منه كل أم ٍل من
النجاة ،ولم يجد بدًا من الهالك يف هاتيك الطلول ،وال يخال بذهنه ما من
شأنه أن يفرج همه؛ ألن االتساع املديد نوع من األبدية.
ولهذا ملا فرغ املاء عند املسافرين الثالثة وهم مقيمون يف تلك الصحراء
الحارة أخذوا يشعرون بالتصورات الغريبة الخالية من الصواب ،وقد
كربت عيونهم واضطرب برصهم.
فقال لرفيقيه :هلما بي يا رفيقي لنسري مدة ألن املسري يجدينا نفعًا
ً
جزيل.
ً
مستحيل؛ ألني ال أستطيع أن أخطو قال ديك :إنك تطلب مني أم ًرا
خطوة واحدة.
24
أحب إيل الرقاد يا موالي.
قال يوسفُّ :
قال :ولكن سيجلب عليكما الرقاد أو الراحة رض ًرا يا رفي َق َّي فانقضا ً
إذا
ش؛ ما بالكما ال تسمعان؟! هذا الخمود واالرتخاء ،وتعاليا معي َن ْم ِ
فلم يجبه رفيقاه عن سؤاله ،ولذا ذهب وحده يميش يف تلك الليلة الشفافة
املتأللئة بالنجوم والكواكب املرصعة يف القبة الالزوردية ،فرأى خطواته
األوىل مضنكة له جدًا؛ إذ إنها خطوات إنسان واهن لم يمارس امليش من
برهة طويلة ،لكنه علم أنه يجني نفعًا من هذه الرياضة فسار بعض
األميال نحو الجهة الغربية ،وأخذ عقله يتشدد وإذا فجأة أصابه داء األوام،
«هو دوار الرأس» ،فظن يف نفسه أنه عىل حافة الهاوية ،وأن ركبتيه انثنتا،
وألقت الصحراء يف قلبه رجفة الرعب والهلع ،فتوارت املنصورة عن عينيه
يف حلكة الظالم ،وثقلت عىل رأسه أحمال الخوف والفزع ،وهو املسافر
املشهور بالشجاعة والجراءة فحاول الرجوع إىل الوراء ولكن كان سعيه
باطل ،ثم نادى فلم يجبه أحد حتى وال الصدى ،وسقط صوته يف الفضاء ً
كما يسقط حجر يف هوة ال قياس لعمقها ،ثم ارتمى عىل الرمل مضطجعًا
خائر القوى ،وليس له رفيق يف وسط ذلك القفر الصامت املخيف.
وعند انتصاف الليل عاد إىل حواسه وهو بني يدي يوسف خادمه األمني
ألنه؛ أي يوسف ،ملا رأى أن قد طالت غيبة سيده أخذه القلق وهرول ً
حال
يتبع آثاره املطبوعة عىل الرمل بجالء تام فوجده مغشيًا عليه.
25
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :نعم ليس ذلك شيئًا ،ولكن انهض واستند عيل لنرجع إىل
منصورتنا.
العلمة عىل ذراع يوسف ،وعاد يف الطريق التي سلكها ً
قبل. فاتكأ َّ
مصغ لكالمك.
ٍ قال َّ
العلمة :قل يا يوسف ما بدا لك؛ فإني
قال يوسف :ال بد من أن نعمد إىل عمل؛ ألن حالتنا ال تدوم عىل هذا املنوال
أكثر من عدة أيام وإذا لم َت ُم َّن الريح علينا بمهبها هلكنا ال محالة.
فلم يأت َّ
العلمة بجواب.
فاستتىل يوسف كالمه قائال :يجب أن واحدًا منا يبذل نفسه حبًا برفيقيه،
ومن الصواب أن أكون أنا ذلك الواحد.
قال يوسف :إنما هو قصد سهل جدًا؛ فإني آخذ معي زادًا وأميش دائ ًما
إىل أن أبلغ مكا ًنا؛ ففي غضون ذلك إذا افتقدكما املوىل بريح موافقة
فتسافران وال تنتظراني ،وأما أنا فإذا وصلت إىل قرية أقيض مصلحتي
ببعض كلمات عربيّة آخذها منك ً
خطا؛ فإما أني آتيكما باملساعدة الالزمة،
وإما أني أترك جلدي هناك؛ فما قولك دام فضلك؟
26
قال َّ
العلمة :إن قصدك خا ٍل من التعقل والفطنة لكنه جدير بشهامة
قلبك يا يوسف؛ فإن ذا األمر مستحيل وال نرتكك تذهب عنا.
أصل بعضنا عن بعض؛ كل يا يوسف؛ فال يفرتق ً كل ،ثم َّ العلمةَّ :
قال َّ
هم ،فإنه قد ُكت َِب ما جرى لنا ،وربما قد ُكت َِب
ألن االفرتاق يزيدنا غ ًما عىل ٍ
إذا أن ننتظر بصربٍ جميل.أيضا أنه سيحدث خالفه يف املستقبل؛ علينا ً ً
قال يوسف :فليكن كما قلت يا موالي ولكن دعني أ َ ُق ْل لك إني ال أصرب
يوم واحد؛ ها قد بلغنا يوم األحد أو باألحرى االثنني؛ ألنها
ما ناف عن ٍ
الساعة الواحدة من بعد انتصاف الليل ،فإذا مىض يوم االثنني ودخل يوم
الثالثاء ولم نمش بارشت قصدي ال محالة.
العلمة عن مقال خادمه ،وبعد قليل بلغ املنصورة وجلس يففما أجاب َّ
غائصا يف بحر السكوت املطلق ،ولو أنه
ً قاربها بالقرب من ديك الذي كان
غري نائم حقيقة.
27
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
28
الفصل الخامس والعرشون
يف اشتداد الحرارة وفروغ آخر نقطة من املاء وليايل اليأس ومحاولة
ديك قتل نفسه وهبوب السموم
29
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
30
فلما أصبح الصباح يف اليوم الثاني كانت أول نظرة َّ
العلمة إىل زيبق
انخفاضا طفي ًفا.
ً امليزان فرأى أنه بالكاد انخفض
فخرج من املركبة وتطلع يف الجو ليفحص حالة الهواء فلم يجد سوى
الحرارة نفسها والنقاوة املألوفة يف الجو وثبوت الحال عىل املنوال القديم
من دون دليل ينبئ عن َت َغ ُّيٍ قريب األمد.
فصاح حينئ ٍذ ً
قائل :وهل ً
إذا يجب علينا قطع األمل عىل اإلطالق.
ً
ومتأمل بما صممه من ً
خائضا يف عمق أفكاره أما يوسف فكان صامتًا
القصد الثابت.
ً
مريضا وقد تشددت قواه الحيوية بنوع أما ديك فاستفاق من النعاس
31
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وقد ذكرنا فيما مىض أن نقطات من املاء كانت ال تزال محفوظة يف آنية
والرفاق الثالثة لهم علم بها فجعلوا يردونها يف أفكارهم ،وقلوبهم مشتاقة
إليها اشتيا ًقا عظي ًما دون أن يجرس أحد عىل االرتشاف بها.
ثم أخذ بعضهم ينظر إىل بعض ،وأعينهم زائغة تائهة ،وقلوبهم مفعمة
ً
خامل كل الخمول الستمساكه حرصا وحشيًا ،وكان ديك عىل الخصوص
ً
غائصا يف بحر
ً عما ال يطيق املرء االستمساك عنه ،فقىض النهار كله
الهذيان ،وهو ذاهب آيب ويضج بأصوات البحة الخشنة ،ويعض قبضة
كفه وكأنك به قد تأهب لفتح عروقه ومص دمه.
ثم صاح ً
قائل :وياله وياله من هذه البالد! ...بالد العطش والجفاف،
فاألصح أن تدعى بالد اليأس والقنوط.
قال هذا وسقط عىل األرض واهنا منحط القوى ،ولم ُي ْس َم ْع له سوى
صفري تنفسه بني شفتيه الظامئتني.
أما يوسف فلم يسمعه؛ إذ سقط عىل الرمل واهنًا وغاب عن حواسه.
فمن يا ترى يعلم ما جرى يف تلك الليلة الهائلة ...وملا أصبح الثالثاء
تصب نا ًرا عليهم ،فرأوا
ُّ استيقظ الرفاق الثالثة ،وكانت الشمس كمرشة
أعضاءهم آخذة يف الجف واليبس رويدًا رويدًا ،وملا أراد يوسف أن يقوم
حراكا ،ولهذا أضحى لديه من املستحيل أن يتمم ً عىل قدميه لم يستطع
ما نواه من العمل.
33
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ً
راكضا وبعده نهض متشددًا بقوة خارقة للطبيعة وقال :آه ثم آه ثم أقبل
كأبله ومجنون ،وأخذ القرابينة ،وأحكم فوهتها عىل فيه.
أما يوسف فلبث ناشبًا فيه بيديه وتصارعا برهة ،ولم يلتفت إليهما
العلمة ،ويف غضون القتال أطلق الرصاص من السالح بغتة فدوى َّ
الصوت يف الصحراء ،وعندها قام َّ
العلمة وأجال برصه حواليه.
وفيما هو عىل هذه الحال إذ تشدد برصه عىل الفور ،وم َّد يده نحو األفق
ً
صارخا :هناك هناك هناك! وصاح
وقد خالج تلك األلفاظ حركة حماسة شديدة ،حتى افرتق يوسف وديك
عن بعضها ،وجعال يتطلعان إىل بعضهما.
فقال يوسف :ولم يفهم معنى ذلكِ :ن ِع َّما ِن ِع َّما السموم!
فقال ديك بصوت الغضب واليأس :دع السموم تهب؛ فإنها تذيقنا كأس
املنون.
فقال له فرغوسنَّ :
كل يا ديك؛ فإنها تأتينا بكأس الحياة.
35
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فارتفعت حينئ ٍذ املنصورة فوق فورة الهواء ،وملا وصلت إىل العالء انجذبت
سابحة عىل ذلك البحر املزبد برسعة ال ح َّد لها.
فلم يتكلم أحد من الرفاق الثالثة ،بل كانوا شاخصني ومتأملني ،وقد
ب ّردتهم ريح العاصفة.
وعند الساعة الثالثة خمد االضطراب ،وسقط الرمل عىل األرض ،وك َّوم
فيها الروابي ،وعادت السماء إىل رواقها األصيل.
وأما املسافة التي جازها املسافرون يف برهة أربع ساعات فبلغت مائتني
ميل؛ أي زهاء مسافة 100ساعة.وأربعني ً
وعند دنو القبة من األرض نزل ديك ويوسف قافزين عن املركبة ،فقال
لهما َّ
العلمة :كونا عىل حذر ،وخذا معكما البواريد!
36
فوثب ديك عىل قرابينته ،وضبط يوسف بارودته ،وتقدما رسيعًا حتى
وصال إىل األشجار ،ودخال تحت تلك الخرضة الرطبة فاستبرشا من ذلك
بماء غزير ،لكنهما لم يكرتثا ببعض آثار حديثة عريضة رسمت يف تلك
األرض الناعمة.
وفيما هما يمشيان إذ سمعا زئريًا عن بعد نحو عرشين قد ًما ،فقال
يوسف :إنما هذا زئري أسد!
ً
مغتاظا :دعه يزأر؛ فإني أود معاركته! ...ترى كم أننا أقوياء فقال ديك
عند القتال.
فقال يوسف :ولكن حذا ِر حذا ِر! ولريشدك التأني والحرص ،ألن حياتنا
ببعض بخيط ،فإذا ذهبت حياة الواحد
ٍ نحن الثالثة متعلِّق بعضها
حصلت حياة اآلخرين يف خطر.
ص ِغ ديك لكالم يوسف ،بل تقدم كأس ٍد ضا ٍر ،ورشا ُر الحماسة فلم ُي ْ
والجسارة تقدح من عينيه ،وسالحه مذخور يف يديه؛ ففي ظل نخل ٍة كان
سبع ذو ناصية سوداء مستكنًا كامنًا للقتال ،فما إ ِ ْن برص بالصياد قفز
ليثب عليه ،ولكن بالكاد استوى قائ ًما حتى بادرته رصاصة خرقت قلبه
كالصاعقة ،وجندلته عىل األرض ميتًا.
فصاح يوسف ً
قائل :عافاك الله عافاك يا سيدي! أما ديك فبادر إىل البرئ
عد ًوا ونزل إليه عىل درج رطب ،ثم تمدد أمام عني ماء بارد وغمس شفتيه
فيه بلهوجة ،ثم حذا حذوه رفيقه يوسف ،ولم يعد يسمع لهما سوى لعق
املاء لريتويا من شدة ظمئهما.
37
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فبعد أن رشب يوسف تنفس وقال :حذا ِر حذا ِر يا ديك! ال تطمع َّن يف
الرشب! فإن الطمع ّ
رض ما نفع!
أما ديك فلم يلتفت إليه ،بل ما زال يروي غليل عطشه ،وقد غطس يف ذلك
املاء اللذيذ رأسه ويديه ،وكأنه يحاول الثمل بمثل تلك الخمرة.
فقال يوسف :وسيدي فرغوسن َّ
هل نفتكر فيه!
فما انتبه الصياد َّإل عند ذكر َّ
العلمة فرغوسن ،وللحال مأل آنية كان قد
أحرضها معه وأراد الطلوع عىل درج البرئ.
ً
اندهاشا عظي ًما؛ إذ وجد نافذة البرئ قد سدها جسم عظيم هائل فاندهش
كثيف جدًا ،ثم ارتد يوسف نظريه؛ إذ كان تابعًا له.
فما فرغ من كالمه َّإل سمع زئريًا ،فعرف وقتئ ٍذ من هو ذلك العدو الباسل
السا ُّد مدخل البرئ.
وما مضت برهة َّإل أرضم النار ،فكان الحيوان قد توارى عن األبصار.
38
فقال لرفيقه :هيا بنا هيا!
فأخذ يوسف بردته وجعلها عىل رأس السالح ،وأطلعها إىل فوق كطعمة
للبوة ،فهجمت اللبوة ،وكان ديك يرتقبها فرضبها برصاص ٍة أصابت
كتفها ،فتدحرجت حينئ ٍذ عىل الدرج وهي زائرة ،وقلبت يوسف فظ َّن هذا
أنها غرزت يف جسمه براسنها لتفرتسه ،وإذا برضب ٍة ثانية أصابت اللبوة،
فكان إذ ذاك فرغوسن قد ظهر عىل نافذة البرئ وبارودته معه ،والدخان
منها متأصد ،فزحف يوسف من تحت اللبوة ،وجاز من فوق جسمها
وأعطى مواله فرغوسن آنية املاء ،ويف رمشة عني رفعها َّ
العلمة إىل فيه
ً
جزيل من صميم وأفرغ نصفها ،وحينئذ أسدى املسافرون الثالثة شك ًرا
الفؤاد إىل عناية الرحمن التي حفظتهم من رش الغوائل ،ونجتهم بنوع
عجيب من كوارث الحدثان.
39
الفصل السادس والعرشون
يف الليلة املبهجة وقصة جمس أبروس وانخفاض البارومرت وطلوعه
والتأهب للرحيل وثوران الزوبعة
41
فكانت ليلة مبهجة تطرب الخاطر؛ إذ قضوها يف روض ٍة أريضة نارضة
تحت ظل الشجر ،بعد أن تناولوا طعا ًما ً
لذيذا ق َّوى أبدانهم ،ولم يهملوا
رشب الشاي والعرق املمزوج باملاء.
وكان قد طاف الصياد تلك الغوطة بجميع آفاقها ،واستقرأ سائر أجماتها
َّ
اطمأن تما ًما وأدغالها ،فلم يجد يف ذلك الفردوس األريض ذا ًتا حيوية ،وإذ
قد رقدوا جميعًا ملتحفني بأغطيتهم ،وذاقوا يف وسنهم لذة الراحة ،ووىل
عنهم مدب ًرا ذكر الغموم والباليا الغابرة.
وملا كان الغد ،وهو السابع من شهر أيار ،أرشقت الشمس بأنوارها
الساطعة ،فلم يحرتق كثيف الشجار واآلجام امللتفة املظللتهم بظلها،
وقصد املسافرون االسرتاحة يف تلك الروضة ،منتظرين هبوب الريح
ً
جزيل واف ًرا ،أما املوافقة ،ولم يصدهم عن ذلك مانع؛ إذ كان زادهم
43
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
يوسف فنقل أدوات مطبخه إىل تلك الجنينة ،وكان يشكل طبخ األطعمة
ويبذر املاء بال توفري وال اكرتاث.
فقال الصياد :يا للعجب من هذا الفرج العجيب بعد ذلك الضيق! وهذه
األفراح بعد تلك الغموم واألتراح! وهذا الريعان بعد ذلك املحول! وهذا
الغنى بعد ذلك الفقر! فلله َد ُّر من قال:
فال حزن يدوم وال رسو ُر رأيت الدهر مختل ًفا يدو ُر
فقال فرغوسن :لوال يوسف ما كنت اآلن تحدثنا عن اختالف أحوال الدهر
وانقالبها ،وإقبال الدنيا وإدبارها.
فم َّد ديك يده إىل يوسف ،وقال له :خلييل وصديقي! ال ُشلَّت يداك
املحسنتان!
فقال يوسف :ال يحمل األمر مثل هذا الشكران؛ فعليك أن ترد يل العوض
أحب إيل َّأل أحتاج إىل مثل تلك املعاونة.
إذا مست الحاجة إىل ذلك ،غري أنه ُّ
َ
انحطاطنا ألمر طفيف! قال فرغوسن :يا لضعف طبيعتنا! وما أسهل
قال يوسف :ألعلك مشري إىل القليل من املاء الذي نتلف بدونه؛ فهذا دليل
عىل أن املاء لعنرص كيل الرضورة لحياة اإلنسان.
قال فرغوسن :ال ريب يف ذلك ،والذين يحرمون األكل يحتملون عدمه أكثر
من الذين يحرمون الرشب.
44
قال يوسف :نعم هذا صحيح؛ إذ إنه عند الرضورة يأكل اإلنسان كل ما
يصادفه ،حتى وشبيهه ولو كان ذا الطعام مما ال تحتمله املعدة بسهولة.
قال الصياد :إن الربابرة ال يفوتهم هذا األمر ،وال يصعب عليهم.
قال يوسف :أجل ،ولكن هم متوحشون وبرابرة ،وقد تعودوا أكل اللحم
النيِّئ فهذا مما تشمئز منه طبيعتي غاية االشمئزاز.
قال َّ
العلمة :يف الحقيقة؛ إن هذا مما تنفر منه الطبيعة نفو ًرا شديدًا،
ولهذا ملا حمل إىل أوربا السواح الذين دخلوا بطون إفريقية األخبار عن
بعض أقوام برابرة كانوا يقتاتون بلحم غري ناضج ،فلم يؤخذ كالمهم عىل
محمل الصدق ،ويف مثل هذه الظروف ،وقع لجمس بروس حادث غريب
ومضحك جدًا.
فقال يوسف وقد تمدد باسرتخاء عىل الخرضة الغضة :احك لنا هذا
الحادث؛ فإن لنا وقتًا لنسمعه!
ً
وطاعة ...اعلما ،وفقكما املوىل ،أن جمس بروس قال فرغوسن :سمعًا
رجل اسكتلندي من إقليم اسرتلينك ،وقد طاف بالد الحبشة كلها حتى
وصل إىل بحرية تيانا قصدًا يف اكتشاف عيون النيل ،وذلك من سنة 1768
إىل سنة .1772
ثم رجع إىل بالد اإلنكليز ولم يشهر فيها رحالته َّإل سنة ،1790فلم
تتصدق أخباره عن أقوام تلك البالد ،بل أدخلت يف طي الخرافات
والخزعبالت ،وعىل الخصوص من حيث إن أخالق الحبشة وأطباعهم
الغريبة تنايف الطباع اإلنكليزية ،وتختلف عنها اختال ًفا عظي ًما ،ومن جملة
45
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ما رواه جمس بروس أن شعوب إفريقية الرشقية تأكل لح ًما غري ناضج.
جزيل ،ولم يرتض أحد أن يصدقها ،وملا كان ً فهاجت هذه الرواية قو ًما
بروس عىل جانب من الشجاعة وحدة الطبع اغتاظ كثريًا من شك الناس
جالسا يف قاعة ادنربج
ً يف كالمه ،ويف ذات يوم كان رجل من بالد وطنه
فأخذ يعيد عىل سماعه؛ أي سماع بروس ،املقاالت نفسها التي اعتاد عىل
ضحكا عىل روايات بروس ،ورصح أمامه ً املزاح بها أهل تلك املحالت
بصوت عا ٍل أن أكل اللحم النيِّئ هو من املستحيل وال يمكن تصديقه ،فلم
يجاوبه بروس عن كالمه ،بل خرج برهة ورجع إليه بقطعة من اللحم
غري الناضج بعد أن غمسها بامللح والبهار عىل نسق اإلفريقيني ،ثم قال
له :سيدي لقد سببت يل إهانة عظيمة ،وشتمتني بإظهارك يل ً
شكا فيما
رويته ،وبزعمك أن ذا من املحال؛ فتأكيدًا لصدق كالمي أجربتك عىل أكل
هذه القطعة اللحمية غري الناضجة؛ فإما أنك تأكلها َّ
وإل...
فخاف االسكتلندي حينئ ٍذ وأذعن ألمر بروس ،وملا تناول قطعة اللحم
ً
محافظا كرش عن أسنانه داللة عىل اشمئزازه ونفوره .أما بروس فما زال
عىل استكانته ورواقه ،ثم قال :ولنفرض سيدي أن القضية التي نحن يف
صددها غري صادقة؛ فمن اآلن وصاعدًا أقله ال عدت تقول إنها من األمور
املستحيلة.
فقال يوسف :نعم الجواب جواب بروس؛ فلو كان أصاب ذلك الرجل
تخمة من تناوله اللحم النيِّئ لكان قد نال جزاءه ،ولكن يا ترى إذا رجعنا
إىل بالدنا وشك الناس يف رحلتنا...
وقد عز ليوسف السكنى يف ذلك املأوى املطرب ،وو َّد لو أنه لم يكن مضط ًرا
أصل؛ إذ أصبح لديه ذلك املكان كمملكة أحالمه ،وظن بنفسه إىل هجرانه ً
أنه مستق ٌّر يف نفس بيته ،ثم طلب من سيده أن ينبئه عن مركزه ،وسطر
ً
عرضا ،أما ديك فلم طول و8ْ 32 يف سجل سفرته أنه يف الدرجة ً 15ْ 43
يحزن سوى عىل أم ٍر واحد ،وهو عدم تمكنه من الصيد يف ذلك الغاب،
وساءه خلو محطهم من بعض الحيوانات الكارسة.
العلمة :كأنك يا عزيزي ديك نسيت ً
حال ذاك األسد وتلك اللبوة؟! فقال َّ
فقال ديك ،بصوت االزدراء :هذا يشء ال ُيذكر ،ولكن يف الواقع إن وجود
ذينك الوحشني اللذين أذقناهما كأس املنون مما يجعلنا نخمن بقرب بال ٍد
أكثر خصبًا وريعا ًنا.
قال فرغوسن :إن برهانك يا ديك غري سديد؛ ألن هذه الحيوانات تجوز
غالبًا مسافات شاسعة لتضورها من الجوع والعطش ،واألجدر بنا أن
نكون عىل حرص وحذر يف الليلة املقبلة ونرضم النريان لئال تدهمنا داهية.
قال يوسف :وهل نرضم النريان لتزداد حرارة عىل الحرارة الحارضة ،ومع
ذلك فال بأس من إرضامها وفا ًقا ملرادك ،ولكني عند قطعي وإحراقي تلك
47
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :نعم القول ،ولكن هل تظن يا سيدي أن هذه الروضة عرفت
من املسافرين؟
العلمة :ال شك يف ذلك؛ ألنها مثوى لقوافل املسافرين يف أواسط قال َّ
إفريقية ،فلو أتونا اآلن زائرين ما رسرت َّإل ما َّ
قل حسبما ُي َرى يل.
قال يوسف :وهل يوجد بعد يف هذه األقطار من أقوام نيام نيام البالغني
يف التوحش؟!
العلمة :ال ريب يف ذلك؛ إذ إن هذا االسم يعم جميع األقوام الحالِّني يف
قال َّ
هذه األقاليم ،وجميعهم ذوو عوائد متماثلة.
أف ،ومع ذلك فإن هذا أمر طبيعي؛ ألنه لو كان أهل أف ٍّ قال يوسفٍّ :
البدو عىل ذوق أهل الحرض فأين يكون الفرق بني كليهما؛ ً
مثل ...إن
هؤالء األنام األفاضل ،أعني بهم الربابرة ،ال يقتيض لهم التوسل والرتجي
ليتلقفوا القطعة اللحمية التي ابتلعها االسكتلندي املذكور آن ًفا ،بل
واالسكتلندي بعينه.
وبعد أن قال يوسف هذا ذهب يورث النار لحراستهم يف الليل ،لكنه لم
يشعل َّإل ً
قليل من الحطب ،وذهب ذلك االحتياط هد ًرا؛ إذ لم يقع يشء
يكدر صفو رقادهم ويقلقهم أدنى قلق.
48
ويف الغد لم يتغري الهواء ،بل استم َّر عىل استكانته وهدوه ،وما برحت
ً
أصل لتدل عىل أدنى نسمة القبة الهوائية عديمة الحركة ،ولم تتذبذب
يف الجو.
فأخذ الهم يشمل قلب فرغوسن من جراء تلك الحال ألنها إذا طالت عىل
ذلك املنوال فسينفد زادهم ،وفيما كانوا ساب ًقا محتاجني إىل املاء أصبحوا
حاليًا يف غاية االحتياج إىل الطعام ،وذهبوا فريسة الجوع الكلبي.
ً
انخفاضا كثريًا فاطمأن باله وهدأ لكنه نظر إىل ميزان الهواء فرأى فيه
تغي قريب يف الجو ،فعزم روعه ،ألن انخفاض الزيبق دليل واضح عىل ُّ
عىل أن يتأهب للرحيل ،وأن يصرب منته ًزا الفرصة األوىل عند مهب الريح؛
فلذا مأل صندوق إذخار الغاز وصندوق ماء الرشب ،ثم أخذ يوازن القبة
الهوائية ،فاضطر يوسف إىل أن يبذل جانبًا عظي ًما من معدنه الغايل
القيمة ،ولو أن الطمع عاوده مع عودة الصحة والقوة فتدلل كثريًا قبل أن
ُي ْذ ِع َن لسيده .أما هذا؛ أي فرغوسن ،فبني له أنه ال يستطيع حمالن ثقل
عظيم .وجعله يختار ما بني املاء والذهب ،فلم يعتم أن يوسف ألقى عىل
الرمل كمية وافرة من حجارته العزيزة.
ثم قال :هذه ذخرية مذخورة ملن يأتي بعدنا من املسافرين؛ فإنهم
يدهشون عندما يجدون كن ًزا يف مثل هذا املكان.
قال الصياد :وإذا أتى عالم يف الصدفة ،وعثر عىل هذه الحجارة املعدنية،
فماذا عساه يظن بها؟
قال َّ
العلمة :كن عىل يقني يا صديقي أن تعجبه ،وسيكون ذلك عظيما،
49
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وال بد أنه يشهر ذلك التعجب يف صحف و ُميَا َوماتٍ عدة بكالم مطول
جدًا ،وسيأتي يوم نسمع فيه عن مصادفة طبقة معدنية ذهبية يف وسط
رمال إفريقية.
فتبسم يوسف لهذا املقال ،وع َّزى فؤاده عىل ما فقده من املال الوفري؛ إذ
تصور يف باله أنه يكون سببًا النخداع أحد العلماء ،وشحنه كتبًا بأوهامه
العلمة تغريًا يف الهواء بفروغ الصرب فيما بقي من الباطلة ،ثم انتظر َّ
النهار ،لكنه خاب ً
أمل؛ إذ اشتدت الحرارة ،ولوال ظل األشجار لذاقوا ح ًرا
ال يطاق ،ووصل الرتمومرت يف الشمس إىل درجة 149إنكليزية ،فكان
أجيج الرمضاء يجري يف الجو مجرى السيول ،وبلغت الحرارة أقىص
درج ٍة مما صادفه السواح يف الصحراء.
فعندما جن الليل أقام يوسف سور الحصار كما يف األمس ،وملا كان
كل منهما يف وقت حراسته ،لم يحدث قط يشء العلمة وكنادي ساهرين؛ َّّ
جديد ،ولكن ملا كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ،ويوسف إذ ذاك
سهران يف دوره انخفضت الحرارة عىل البغتة ،وتجلببت السماء بجلباب
السحاب والغيوم ،واحلولك الظالم.
ً
إيقاظا لهما من الرقاد ،وقال لهما: فصاح يوسف يف الحال إىل رفيقيه
انهضا انهضا؛ فقد أقبل الهواء!
قال َّ
العلمة وهو ينظر إىل السماء :حان أخريًا األوان ،غري أن هذه زوبعة؛
فلنرسع إىل املنصورة مبادرين!
50
فكان ال بد من اإلرساع إىل املنصورة؛ ألنها كانت مائلة لشدة الزوبعة،
وجارة املركبة عىل الرمال؛ فلو كان قد أُلق َِي يشء مما حوته املركبة من
الثقل لطارت القبة إىل الجو ،ولخيبت منهم كل أم ٍل يف الظفر بها.
أما يوسف النشيط فقد عدا عدو خيل السباق وأوقف املركبة ،فيما
كانت القبة متسطحة عىل الرمل ،ومناهزة االنخراق ،ثم جلس َّ
العلمة يف
موضعه ،وأرضم القصبة ورمى ما زاد عنده من الثقل.
فألقى السواح نظرة أخرية إىل أشجار الغوطة التي كانت تنثني من ثوران
الزوبعة ،وذهبوا متوارين يف ظل ظالم الجو ،مع هبوب الريح الرشقية يف
علو مائتي قدم عن األرض.
51
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
52
الفصل السابع والعرشون
يف رأي أحد علماء الفرنسيس واملرور بمملكة أداموفا وجبال أتلنتيكا
ونهر «بنوه» ومدينة يوال وجبل باجلة وجبل منديف
53
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
54
وعندما رحلت القبة أخذت تسري مسريًا رسيعًا جدًا ،ولطاملا تمنى السواح
االبتعاد عن تلك الصحراء التي كادت تدفنهم يف رمالها ،وتوليهم الويل
والتعس.
ً
حشيشا يتمايل يف تلك صباحا شاهدوا
ً وملا كانت الساعة التاسعة والربع
َّ
استدل عىل قرب الرمال ،فاستدلوا بها عىل أن األرض قريبة منهم ،كما
األرض ذلك الرجل الشهري الذي اكتشف بالد أمريكا؛ أعني به خرستف
كوملبو ،وبرصوا بنباتات خرضاء تربز ما بني الحىص املشرية إىل قرب
الصخور والجبال وكانت قصرية جدًا كأنها تخىش الظهور بإزاء الرمال
املحيطة بها.
ثم رقبوا يف األفق آكا ًما معوجة ،لكنهم لم يميزوا رسمها ملا عىل قمتها
من الغيم ،وعىل كل حال كان املنظر السابق ً
آخذا يف الزوال واالضمحالل.
55
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :ما هذا الكالم؟ فإنه بعيد عن اإلصابة؛ إذ لم نر حتى اآلن
ً
أهل لهذه البالد.
قال فرغوسن :ال يطول بنا املجال حتى نرى سكا ًنا؛ إن بقي سرينا عىل
ما هو عليه.
فقال يوسف :سيدي! َّ
هل نزال يف بالد العبيد والسودان؟!
قال يوسف :لو انقلبت الريح وصدتنا عن السري لكانت اآلبال تجدينا
56
ً
جزيل. نفعًا
قال َّ
العلمة :وكيف نفعتنا؟!
قال يوسف :سيدي قد طرقني فكر ،وهو أننا نقطرها يف املركبة لتجرنا
ونحن فيها؛ فما قولك يا سيدي؟
العلمة :قد طرق هذا الفكر غريك قبل أن تأتي به؛ فإن أحد علماء قال َّ
الفرنسيس ،أصحاب العقل والذكاء((( ،ألف حكاية وذكر فيها مركبة
َم ُقود ًة بجمال ،ثم وثب عليها أسد وافرتسها وابتلع معها الحبل الضخم
الذي يربطها باملركبة ،وأخذ يف جر املركبة ،وهل َّم ج ًرا؛ أال ترى يا يوسف
أن السفر عىل هذا النسق َت َخ ُّيل من الطراز األول ،وال مناسبة له من نوع
مسرينا.
فلما رأى يوسف أن رأيه أتى يف بال غريه َقبْلَه َخ ِج َل واختضع ،ولكنه أخذ
يفتكر يف حيوان يستطيع أن يفرتس األسد ،وملا لم يجد من له سطوة عىل
سيد البهائم رجع ينظر إىل البالد ويتأمل هيئتها وشكلها وما تحويه من
الغرائب.
فشاهد بحرية ذات سعة ُو ْس َطى ،وحولها آكام ال تستحق أن تدعى ً
جبال،
ورأى أودية كثرية نرضة ،وفيها األشجار املتنوعة األجناس ملتفا بعضها
ببعض ،وهناك اإليالنس ،وهو جنس من النخل ،ذو أوراق عظيمة يبلغ
طولها نحو خمس عرشة قد ًما ،وساقها متنرب باألشواك الحادة ،والروائح
الزكية تفوح من ذلك النبات املشهور بقندة العرب ،وهي متصاعدة إىل
57
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
طبقة الج ّو السائر فيها السواح بقبتهم ،ولم تخل تلك الروضة البهية من
شجر جوز السودان والبوبات واملوز وخالفها.
فقال َّ
العلمة :وما أحىل هذه الروضة األنيقة!
قال فرغوسن :وما الحيلة لنقف يا خلييل ،ونحن منجذبون بهذا املهب
الرسيع الشديد؛ دع عنك هذا املرام ،وتمهَّل ً
قليل ،فسوف تجازى عىل
صربك واحتمالك.
ويف الحقيقة أن منظر تلك البهائم كان من شأنه أن يهيج املخيلة ،وقد
أحس ديك بوثب قلبه ،وتقلصت أصابعه وهي قابضة عىل السالح.
َّ
وأما حيوانات ذلك الصقع فتضاهي زهارها بهاء ورون ًقا ،والثريان
تتمرغ يف حشيش غليظ ،وتتوارى يف خاللها لعل ِّوها وكثافتها،
والفيلة الرمادية اللون والسوداء والصفراء ذات القامة الباسقة
َت ُم ُّر مرور أم زوبعة يف وسط الغابات واألحراش ،وهي تحطم
وتقرض وتجلب الخراب والدمار حيثما جازت ،ومجاري املياه
تخ ُّر يف انحدارها من اآلكام املشجرة هابطة لنحو الجهة الشمال،
وهناك خنازير املاء تغتسل وتضج يف اغتسالها ،وغريها من البهائم
ترى مضطجعة عىل شواطئ البحرية.
وكان ذلك املكان عجيبًا غريبًا ملا يؤوي من الحيوانات الكثرية املتنوعة
58
األجناس ،والطيور غري املحىص عددها وذات األلوان املشكلة ،وهي تحوم
متأللئة فوق النباتات الباسقة والخضار األنيقة.
فلما رأى َّ
العلمة مثل هذا الخصب وهذه النضارة الطبيعية علم أن هذه
مملكة أداموفا.
ثم قال هانحن أوالء نسطو اآلن عىل االكتشافات الحديثة؛ فإني أنهج منهج
السواح الذين سبقوني ،وأسري يف الطريق التي لم يطيقوا تكميلها ،فهذا
من حسن حظي ،وإن شاء املوىل سنلحق عن قريب اكتشاف القبطانني
برتون وأسبيك باكتشافات َّ
العلمة برث؛ فهناك تركنا اإلنكليز وأتينا إىل
هنا ملصادفة الهمربجي ،وعما قليل نصل إىل آخر محطة وصل إليها هذا
العالم الجسور.
قال ديك :يخال يل من املسافة؛ التي جزناها أنه يوجد بون عظيم بني
األماكن التي قصدها السواح املذكورون.
قال َّ
العلمة :تعال نحسب هذه املسافة؛ خذ الخارطة وانظر يف أي طول
هو رأس البحرية «أوكاروه» حيث وقف السائح أسبيك.
قال ديك :إنه واقع عىل التقريب يف الدرجة السابعة والثالثني ً
طول.
قال فرغوسن :وما هو مركز مدينة يوال التي سنصل إليها إن شاء الله يف
نهاية النهار ،وقد بلغها برث الشجاع؟
قال ديك :مركزها يف الدرجة الثانية عرشة ً
طول.
قال فرغوسنً :
فإذا الفرق هو خمس وعرشون درجة ،وكل درج ٍة كناية
59
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
عن ستني ً
ميل ،فيكون ً
إذا الحاصل أل ًفا وخمسمائة ميل.
فعل؛ فإن ليونكستونالعلمة :ال بد لنا من قطع مثل هذه املسافة ً قال َّ
ومفات ال يزاالن مقيمني يف قلب إفريقية ،وال تبعد نياسا التي اكتشفوها
كثريًا عن بحرية تنغانيكا املكتشفة من برتون ،وال يميض هذا الجيل َّإل
ف جميع هذه األماكن ،ثم نظر َّ
العلمة إىل البوصلة وقال :ولكن أرى و ُت ْع َر ُ
الريح تدفعنا كثريًا إىل الجهة الغربية ،وكنت أود لو دفعتنا إىل الشمال
ولكن ما الحيلة.
ثم شاهد السواح عبيدًا كثريين يهتمون بحراسة الحقول وزراعة الحبوب،
وملا كانت تمر فوقهم املنصورة كشهب الكواكب ترى االندهاش مستوليًا
عليهم ،وبال ًغا أقصاه وأغربه ،وملا أ َ ْم َسوا َو َق َ
ف السواح بعيدًا عن مدينة
يوال بأربعني ألف ميل ،وأمامهم كانت تقوم يف األفق البعيد قمتا جبل
منديف الحادَّتان.
العلمة بإلقاء املرايس فتعلّقت برأس شجرة سامية العلو غري أن
فأمر َّ
ريحا شديدة الهبوب أخذت تالطم القبة الهوائية ،حتى إنها قد انثنت ً
وتل َّوت ،ووقعت مرا ًرا يف خطر عظيم ألن تتم َّزق ،فما نام َّ
العلمة ليلته
كلها ّإل وهو يف سهاد ،وكاد أحيا ًنا يقطع حبال املرايس ليفر هار ًبا من
العلمة منقليل ،ولم يعد يخىش َّ الزوبعة ،ثم بعد ذلك هدأت الريح ً
تذبذب املنصورة.
ويف الغد كانت الريح أخف مهبًا ،لكنها دفعت السواح عن مدينة يوال ،وقد
العلمة إىل رؤيتها ألنها قد بنيت مجددًا من َّ
الفلن ،ولكن إذا لم اشتاق َّ
يكن له حيلة سوى الصرب سار مع هبوب الريح إىل الجهة الشمالية ً
مائل
ً
قليل إىل الجهة الرشقية.
ً
برهة يف تلك البالد الكثرية الصيد ،ووافقه يوسف عىل فسأل ديك أن يحط
ذلك؛ إذ قال إنهم يف احتياج كيل إىل أكل اللحم الطري ،أما َّ
العلمة فلم
ً
مرشوقة َينْ َق ْد إىل بغيتهما؛ ألنه يخىش تلك األقوام الربابرة ،ويرى القبة
بسهامهم.
61
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وكان يمتد تحت املنصورة قرى وضياع كثرية ،ذات أكواخ طويلة ما بني
املروج املنقشة بزهور بنفسجية.
وما انفكت الريح تدفع القبة إىل جهة شمال الرشق رغ ًما ع َّما بذله
فرغوسن من املجهود لتغيريها ،فأخذوا يتقدمون إىل جبل منديف املتواري
بني السحب والغيوم ،ورؤوس هذا الجبل الشامخة تفصل حوض النيجر
من حوض بحرية شاد.
ثم شاهدوا الجبل املعروف باسم «باجلة» ،ويف جانبه اثنتا عرشة
أطفال اضطجعوا عىل حضن أمهم ،وقد ً قرية متعلّقة به ،تخالها
جمال إلرشاف السواح عليه من العلو ،وكانت ً عظم هذا املنظر
الخنادق ترتاءى لهم مغطاة بالزروع املتنوعة األلوان.
63
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
64
الفصل الثامن والعرشون
يف مدينة مصفية وسجود أحد املشايخ للقبة الهوائية والكالم عن السواح
دنهام وكالبرتون وأودني وفوجل وما كان من الحمام املشعلة نا ًرا
املرسلة من وايل قرناق
65
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
66
وملا كان الغد ،وهو الحادي عرش من شهر أيار ،سارت املنصورة بمهب
الريح ،وكان السواح يثقون بها ثقة النوتية بالسفينة املتينة.
ً
مسافة ولم تكن ثقتهم بها خالية من الدعم؛ إذ إنهم كانوا قد ساروا
عظيمة ،ونجوا من كل ما من شأنه أن يورطهم يف لجج األخطار واملهالك ً
العلمة كان َّ كالرمض والزوابع واملنازل واملطالع ،ويمكن القول :إن
يقيدها كيفما شاء بمج َّرد اإلشارة ،ومع أنه لم يكن عار ًفا ما هي البلدة
بتة سوء العاقبة ،غري أنه كان مشددًا التي تنتهي فيها رحلته لم يخش ً
حرصه وحذره من الوقوع بأيدي األقوام الربابرة املعتصبني الحالِّني يف
تلك البالد ،ويوعز إىل رفيقيه أن يرتقبا دوما كل طارق.
قليل نحو الشمال ،وملا صارت الساعة التاسعة ثم أخذت الريح تدفعهم ً
برصوا عن بع ٍد بمدينة مصفية الكبرية ،املبنية عىل أكم ٍة مرتفعة بني جبلني
67
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أما الشيخ فلبث وحده منتصبًا قائ ًما ولم يتحرك من مكانه ،ثم أخذ
متغطرسا ،فدنا ،منه فرغوسن إىل نحو
ً قرابينته وأذخرها ،وجعل ينتظر
مائة وخمسني قد ًما وقرأه السالم بالعربيّة.
فعندما سمع الشيخ هذا السالم السماوي خ َّر ساجدًا عىل الحضيض ،ولم
يستطع َّ
العلمة أن يلهيه عن السجود.
العلمة :إنه ملن املستحيل َّأل يعتربنا هؤالء األقوام بمنزلة خالئق
فقال َّ
فائقة الطبيعة؛ حيث إن اإلفرنج األولني الذين قدموا عىل هذه البالد قد
حسبوا من نسل فائق الطبيعة البرشية ،وإذا ما حدث الشيخ الساجد
لنا قومه وخالنه عن هذه الصدفة الغريبة فلن يقرص عن تعظيمها
وزخرفتها ،وتجود له القريحة العربيّة بتصوراتها املدهشة ،وهكذا يأتي
يوم تحكى فيه الحكايات الغريبة عنا عىل أساليب شتى.
قال الصياد :هذا مما ال يرس الخاطر؛ ألننا إذا رغبنا يف تمدن هؤالء األقوام
68
أناسا ،وهذا من شأنه أن يجعلهم يخالون
فاألجدر بنا أن نعترب عندهم ً
حسنًا ما هية قوة التمدن األوربي.
فقال يوسف :سيدي قد أرشت إىل اإلفرنج األولني الذين قدموا عىل هذه
البالد؛ فهل تتك َّرم علينا بذكر أسمائهم.
قال فرغوسن :اعلم يا صديقي أننا سائرون اآلن يف الطريق التي سلكها
الضابط دنهام وقد اقتبله سلطان مندارا يف نفس مصفية ،فكان باين
مملكة الربنو ولحق يغزو بشيخ عىل قبيلة الفالحني ،وحرض هناك
أصل ،بل تبدد هو وجنوده ً محارصة املدينة ،فلم تنفع بواريد الشيخ
بقيس الفالحني ،فانتهز هؤالء فرصة النرص ليستلوا سيف االنتقام،
وخرجوا يقتلون أعداءهم وينتهبونهم ويسلبون أموالهم ،وقد جردوا
الضابط دنهام من أثوابه ،ولو لم يختف تحت بطن حصانه ويعدو به
عدو خيل السباق ما رجع ً
أصل إىل مدينة كوكا عاصمة الربنو.
69
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
آذار ووصلوا إىل مورزوق قاعدة ف َّزان ،وساروا يف الطريق التي سلكها
فيما بعد املعلم برث عندما قصد الرجوع إىل أوربا ،ثم وصلوا إىل كوكا
بالقرب من بحرية شاد يف 16شباط سنة ،1823وقد اكتشف دنهام
أشياء كثرية يف مملكتي الربنو ومندارا وعىل شطوط البحرية الشمالية،
ويف غضون ذلك؛ أي يف اليوم الخامس عرش من شهر كانون األول سنة
َّ
والعلمة أودني إىل داخل السودان حتى ،1823تقدم القبطان كالبرتون
بلغا صقاتو ،وقىض أودني نحبه يف مدينة ُمر ُمر وهو عيان من التعب
والضناكة.
ً
جزيل بالضحايا خراجا
ً قال ديك :فقد أدَّت ً
إذا هذه البالد إىل العلم
النفيسة التي ضحت فيها.
قال فرغوسن :نعم يا خلييل؛ فإن هذه البالد بالد سوء ،والشؤم ٌّ
حال
فيها؛ فها إننا سائرون اآلن بخطٍ مستقيم إىل مملكة برغيمي التي قطعها
فوجل سنة 1856قصد الدخول يف مملكة واداي ،وهناك اختفى ولم
يعرف له أثر ،وقد أرسل ذاك الشاب البالغ من العمر ثالثا وعرشين سنة
فقط ليساعد َّ
العلمة برث يف أشغاله ،وقد تالقيا معًا يف الواحد من شهر
كانون األول سنة ،1854ثم طفق فوجل يستقرئ عن تلك البالد ويف
سنة 1856أرسل كتبًا وذكر فيها رغبته يف الدخول إىل مملكة واداي
والبحث عنها؛ فلم َتد ُْسها بعد قدم إفرنجية؛ فالظاهر أنه بلغ وارة
عاصمة واداي ،فمن الناس من قال عنه إنه أرس هناك ،ومنهم من قال إنه
حالقتل؛ إذ حاول الصعود إىل جبل مقدس غري أنه ال يسوغ أن يسلم ً
يف موت املسافرين؛ ألن هذا يصد عن طلبهم ،فكثريًا ما شاعت األخبار
الرسمية عن وفاة َّ
العلمة برث ،فسببت له هذه اإلشاعات حن ًقا وغضبًا؛
70
إذا أن يكون فوجل قد أرس عند سلطان واداي طمعًا يف فديته، فمن املمكن ً
فعزم البارون دي نيمنس عىل الذهاب إىل واداي ففاجأته املنية يف القاهرة
سنة ،1855وأما اآلن فتوجهت جوقة سواح من ليبسيك ،ومعهم َّ
العلمة
دي هكلني ،وقصدوا وجود أثر لفوجل ،وعن قريب يتضح لنا ما كان
نصيب ذاك الشاب الشجيع(((.
فشاهد السواح بعض القوارب نازلة يف مجرى نهر شاري ،وهي تبلغ من
الطول نحو خمسني قد ًما ،وإذ كانت املنصورة عالية عن األرض بنحو
العلمة فرغوسن وردت الرسائل من العبيدية وهي موجهة من منزنجر((( من بعد أن تمت رحلة َّ
رئيس الجوقة الجديد ،ومنها اتضح الخرب املشؤوم بمبارحة فوجل هذه الدنيا.
71
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ألف قدم لم تجذب إليها انتباه السودان ،أما الريح فبعد أن كانت شديدة
املهب أخذت تنقص وتخف شيئًا فشيئًا.
فقال َّ
العلمة :ويا هل ترى يصيبنا الرواق كما يف سابق الزمان؟
قال يوسف :ال بأس من ذلك؛ إذ ال عدنا نخىش بعونه تعاىل ال قلة املاء وال
محول الصحراء.
ً
وفظاظة! قال َّ
العلمة :علينا أن نخىش أقوا ًما برارة فاقوا قساو ًة
فعقب مرور نصف ساعة وقفت املنصورة فوق املدينة بعلو مائتي قدم.
قال َّ
العلمة :إننا أقرب إىل املدينة من إنسان واقف عىل قبة كنيسة القديس
بولس ،ومتفرج منها عىل مدينة لندرة؛ يمكننا ً
إذا التطلع عىل خاطرنا.
فجعل يوسف يحدج ببرصه ويشدد نظره ،فرأى أن تلك الضجة صادرة
72
من الحياكني الكثريين ،الذين يطرقون نسيجهم املمدود عىل أرواط
طويلة ،وذلك يف وسط الساحات.
فرأوا عاصمة لغوم كأنها عىل سطح منبسط ،ويحق لها اسم مدينة ألن
بيوتها متساوية الصفوف ،وطرقها عريضة ،وكان سوق العبيد قائ ًما يف
ساح ٍة فسيحة وسط املدينة ،وهناك مشرتون كثريون ألن اإلماء املنداريات
ترغب كثريًا وتباع بقيمة وافية.
فعندما برصوا باملنصورة أصابهم ما أصاب غريهم ً
قبل؛ إذ إنهم رشعوا
أول بالضجيج ،ثم أتبع ذلك الضجيج سكوت الدهشة العظيمة ،و ُتركت ً
األشغال ووقفت وزال صوت املطارق ،أما السواح فما برحوا واقفني ال
يتحركون وهم يتأملون أولئك األقوام الكثريين ،ثم نزلوا ً
أيضا نحو ستني
قد ًما.
فخرج حينئ ٍذ وايل بالد لغوم من مقره وهو حامل رايته الخرضاء ،ومعه
أصحاب املوسيقى الذين كانوا يرضبون يف أبواق من قرون الجاموس
العلمة أن يسمعهم صوتهذات صوت أبح ،ثم أحاق به قومه ،وحاول َّ
فلم َي ْق َو عىل ذلك.
وكان لذلك الشعب جبهة عالية ،وشعر متجعد وأنف أقنى ،وهم متصفون
بالعجرفة وال يخلون من الذكاء والفطنة ،ولكنهم مضطربون لظهور
املنصورة ،ثم تحقق السواح أن جنود الوايل أخذوا يف االحتشاد والتأهب
ملحاربة عدو لم يسبق له مثيل؛ إذ شاهدوا الخيالة يتسابقون يف الخيل،
ويعدون إىل أنحاء شتّى ،فنرش يوسف الرايات املشكلة األلوان فلم يحظ
بنتيجة البتة.
73
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ثم مضت فرتة وطلب الشيخ إىل قومه أن يصغوا له فخطب خطبة
بالعربيّة املمزوجة بلغة البغريمي ،فلم يفهم َّ
العلمة كلمة واحدة ،لكنه
رصيحا ،فود
ً علم بلغة الوماء العمومية أن الوايل يدعوه إىل الذهاب دعاء
العلمة الذهاب ولكن لم توافقه الريح ،ولم يستطع الحراك من مكانه َّ
فاغتاظ الوايل من هذا الرسوخ ،وأخذ زعماؤه ورجاله يع ُّرون ويضجون
ليحملوا الوحش الجوي عىل االنطالق.
ففي الحقيقة كان هؤالء الزعماء مما يوجب االستغراب واالعتجاب؛ فإنهم
متدثرون عىل جسدهم بخمسة أو ستة قمصان ملونة ،وبطونهم بليغة
انتفاخا ،وبعضها ترى كأنها مصنعة ومحض حش ٍو ،فقال َّ
العلمة ً كربًا
لرفيقيه :إن هذه الهيئة واسطة عندهم ملراضاة السلطان والدخول يف
خاطره ،ودوار البطن مما يدل عندهم عىل الطمع ،فكان هؤالء الناس
وخصوصا
ً الضخام يتحركون ويومئون باأليدي ويرصخون ويضجون،
واحدًا منهم كان ضخ ًما جدًا ،فظن به أنه وزير أول يف تلك الوالية؛ ألن
الضخامة كما قيل لها اعتبار عظيم يف تلك الديار.
فلما رأوا أن حركاتهم لم ُت ْج ِد نفعًا ،بل ذهبت هد ًرا ،وعدوهم راسخ ال
يتأثر منها جعلوا يتمسكون بوسائط أفعل؛ فاصطف الجنود املتسلحون
بالقوس والنشاب قاصدين رشق القبة بالسهامَّ ،إل أن املنصورة أخذت
لئل يصيبها ٌّ
رض من القيس ،فأخذ الوايل حينئ ٍذ قرابينه ً
حال باالرتفاع َّ
74
ووجهها نحو القبة الهوائية ،فلما رآه ديك مستعدًا إلطالقها ،وهو إذ ذاك
يرصده رماه برصاص ٍة فكرس السالح بني يديه.
ثم جن الظالم فدخل الليل ولم تهب الريح مطل ًقا ،فاضطر َّ
العلمة إىل أن
يلبث قائ ًما بال حركة فوق األرض بعلو ثالثمائة قدم ،ولم ير نو ًرا ييضء
ظالم األكواخ والبيوت ،بل كان السكوت املطلق مستوليًا عىل املدينة كما
ً
فخاخا يجب هو الحال يف بادية مقفرة ،فخمن َّ
العلمة من هذه النصتة
التحذر منه ،فضاعف انتباهه وسهره.
وقد أصاب حق اإلصابة يف حدسه وسهره؛ ألنه ما انتصف الليل َّإل ظهرت
املدينة كأنها شعلة متأججة نا ًرا ،وأخذت الخطوط النارية تتصلب
كالشبكة ،وكأن املدينة قد لبست حلة النار وتشعبت أشعتها يف اآلفاق.
فقال َّ
العلمة :هذا أمر غريب فيه العجب العجاب.
ويف الحقيقة كانت تلك الحلة امللتهبة واملتأججة نا ًرا ترتفع نحو املنصورة،
واألصوات املضجة مرتفعة معها ،والقرابينات تطلق يف الجو ،فتأهب
يوسف ألن يلقي ً
ثقل رغبة يف االرتفاع وما مضت برهة َّإل فهم فرغوسن
واقعة الحال.
75
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فإن هؤالء القوام كانوا قد أرسلوا حما ًما بعد أن علقوا يف أذنابها موادًا
مشتعلة ،فلما أحست بالنار أخذت تطري هر ًبا منها ،وارتفعت يف الجو
وهي تخط تلك الشعاب النارية ،فجعل ديك يطلق الرصاص عىل قدر
مكنته ،ولك َّن أعداءه كثريون ال يحصون عددًا ،فكان الحمام قد بلغ القبة
وأحاق بها فشوهدت جوانب املنصورة كأنها يف شبكة ملتهبة من جراء
سطوع النور عليها.
فما تماسك فرغوسن أن رمى قطعة معدنية ثقيلة وارتفع ً
حال برسعة
فوق تلك الطيور املخطرة ،وقد حامت الحمام تحت أقدامهم نحو ساعتني
من الزمان ،وهي طائرة إىل أنحاء مختلفة ،ثم أخذت تحف وتنقص رويدًا
رويدًا إىل أن توارت عن البرص بالكلية وانطفأت نارها.
فقال َّ
العلمة :اآلن يمكننا الرقاد براحة.
قال يوسف :إن هذا الفكر مدهش ويدل عىل حذق عند هؤالء الربابرة.
قال َّ
العلمة :إنهم كثريًا ما يستعملون الحمام إلحراق القش املغطى به
أكواخ القرى ،وأما قبتنا فطارت وعلت عن حمامهم.
قال ديك :ح ًقا؛ ليس للقباب الطيارة أعداء يتمكنون من مرضة أصحابها.
قال َّ
العلمة :بىل يا صديقي.
العلمة :إنما هم أصحابها القليلو الفطنة ،الذين يركبونها ،ولهذا قال َّ
أحثكما يا خلييلَّ عىل التيقظ والفطنة؛ فإن الفطنة ال بد منها يف كل أمر.
76
الفصل التاسع والعرشون
يف االرتحال يف الليل والكالم عن نهر الشاري وبحرية شاد ومائها وفرس
النهر وإطالق الرصاصة عليه عبثًا
77
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
78
وملا كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ويوسف إذ ذاك قائم يف
حراسة ربعه ،رأى املدينة آخذة يف االبتعاد عنه ،وسارت املنصورة يف الجو
واستيقظ حينئ ٍذ َّ
العلمة والصياد معًا.
قال فرغوسن :إنها عظيمة جدًا يا صديقي ديك ،ولو قيست يف طولها
وعرضها األكربين لبلغت مائة وعرشين ً
ميل.
79
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :نعم يا سيدي صموئيل ،ما خال انمساكنا من املاء يف قلب
الصحراء؛ فلواله ما عددنا واقعة واحدة مخطرة يف رحلتنا كلها.
قال فرغوسن :إن منصورتنا ،عافاها الله ،حافظت عىل متانتها ،ولم يطرأ
عليها طارئ ،فها نحن أوالء اآلن يف اليوم الثاني عرش من شهر أيار ،وقد
رحلنا يف اليوم الثامن عرش من شهر نيسان ،فنكون قد مشينا خمسة
وعرشين يو ًما ،وإن شاء املوىل سنصل بعد عرشة أيام.
قال فرغوسن :إىل حيثما شاء ربك ،ولكن هذا ال يهمنا كثريًا.
قال الصياد :أصبت؛ فلندع العناية الربانية تبلغنا إىل حيث شاءت معافني
صحيحني كما نحن اآلن؛ لعمري ال يبني علينا أننا جزنا البالد األكثر وباء
من العالم.
قال فرغوسن :ولكن كان يف استطاعتنا أن نرتفع إىل العلو لننجو من
وبائها ،وهذا ما عملناه.
فصاح يوسف وقال :حي الله األسفار الجوية؛ فها إننا رسنا يف هذه
الرحلة مدة خمسة وعرشين يو ًما ،ونحن يف صحة تامة وراحة وانرشاح،
80
أحس
ُّ ً
راحة زائدة الحد ولذا ولم يخل من األطعمة الطيبة ،غري أننا حزنا
ساقي آخذتا يف التخدر لقلة الحركة؛ فحبذا لو مشيت مسافة ثالثني َّ أن
ً
ميل ألنتعش وأتق َّوى.
صديقي
َّ العلمةً :
مهل! ...ستفعل ذلك يف أزقة لندرة ،ثم اعلما يا قال َّ
أننا سافرنا ثالثة كما سافر دنهام وكالبرتون وأوفرويك ،وكما سافر
أيضا برث وريرشدسون وفوجل ،وأما نحن فلنا حظ وسعد أعظم؛ إذ ً
لم يفرتق منا أحد ،ويهمني أن نبقى ثالثتنا سوية؛ فلو ،ال سمح الله
بذلك ،حدث مرة أن واحدًا منا يكون عىل األرض واضطرت املنصورة إىل
تحرصا من خط ٍر فجائي غري منتظر ،فمن يعلم إن كنا نتمكن ً االرتفاع
من االجتماع عليها ،ولهذا أقول لديك بحرية تامة :إني ال أود كثريًا أن
ينطلق إىل الصيد خو ًفا من مثل تلك الرزيئة.
قال ديك :ولكن أؤمل أن تسمح يل بذلك؛ ألنه ينفعنا لتجديد زاد اللحم،
ً
فضل عن أنك قبل أن نسافر قلت يل :إن البالد اإلفريقية بالد صيدٍ ،وفيها
أص َط ْد شيئًا ذا
من كل ما يروق للخاطر ،وها قد جزنا أكثر الطريق ولم ْ
أهمية!
فقال َّ
العلمة :الظاهر يا صاح أنك نسيت ما فعلت ،أو باألحرى ال يدعنّك
اتضاعك أن تفتكر بما أتيت من األفعال املستحقة الذكر الجميل؛ أليست
فضل عما كنت تصطاده للطعام يف ً ذمتك مثقلة بربقيل وفيل وأسدين،
كل فرصةٍ ،ولم يكن ً
قليل؟!
قال ديك :وهل يحسب هذا للصياد اإلفريقي الذي يرى حيوانات الخليقة
كلها تمر أمامه مرور الطري والعصفور يف بالدنا؟! ...وهاك اآلن رسبة
81
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
من الزرايف!
قال يوسف :أتظن أن هذه زرايف؛ إني أراها صغرية ال تزيد حج ًما عن
قبضة الكف.
العلمة :ليس ذلك َّإل ألننا نبعد عنها ألف ميل ،وأ َّما إذا دنوت منها
قال َّ
شاهدتها تعلوك ثالث مرا ٍر.
قال ديك :وما قولك عن هذه الغزالن وتلك النعائم التي تجري جري
الرياح؟
قال يوسف :وكيف تقول إنها نعائم؛ فإني ال أميزها قطعًا عن الدجاج؛
إذ ال فرق بينهما ً
أصل؟!
ثم أخذت املنصورة يف النزول رويدًا رويدًا ووقفت يف العلو املومأ إليه،
لئل تدهمها داهية؛ ألن أهل تلك البالد كثريون ومتوحشون ،ويخىش عىل َّ
82
املسافرين من خط ٍر فجائي.
انفك السواح طائرين فوق مجرى نهر شاري ،وسواحل هذا النهر َّ وما
ألوان متنوعة.
مغطاة بفيء األشجار املتفننة األجناس ،ونباتات كثرية ذات ٍ
بنزق
ٍ والتماسيح فمنها ما تختبط عىل الرمل ،ومنها ما تغطس يف املياه
وتتنزه فيها ،وتتناهز بعد قليل شط الجزائر الخرضاء القاطعة جريان
النهر.
وكانت الشمس ساكبة أشعتها املنرية عىل تلك املياه الصافية الهادية أما
يف الجهة الشمالية فريى العنرصان مختلطني يف أفق واحدٍ.
83
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فرغب فرغوسن يف أن يحقق طبيعة املاء الذي طاملا قيل عنه إنه مالح،
وحيث ليس خطر يف الدنو من سطحه رفرفت املنصورة فوقه كالطري،
وعلت عن البحرية نحو خمس أقدام فقط.
ثم تناول يوسف آنية وأدىل بها إىل البحرية ،فمأل نصفها ماءً ،ثم ذاقه
العلمة فرأى أنه ال يصلح كثريًا للرشب ،وأن له طعما يشبه طعمة َّ
النطرون.
بخطاف!
ٍ قال يوسف :كان األوفق لو أمسكناه
قال يوسف :إنما هو إحدى مراسينا؛ فإنها املوفقة لهذا الحيوان ،وهي
كثرية.
قال فرغوسن :هذا رأي أرجو َّأل تنفذوه ألننا لو أمسكنا هذا الحيوان
بمراساتنا لجرنا حيث ال يروق خاطرنا.
قال يوسف :ما لنا وله؛ فإننا علمنا اآلن كنه ماء البحرية وكفى ،ولكن هل
يؤكل هذا السمك يا سيدي؟
84
العلمة :إن سمكك هو حيوان من جنس الفيلة ،وقد قيل إن لحمه قال َّ
لذيذ ،ويتاجر به كثريًا سكان سواحل هذه البحرية.
العلمة :ال يمكن جرح هذا الحيوان َّإل يف بطنه وبني أفخاذه؛ فربما
قال َّ
لم تجرحه قط رصاصة الصياد ،ولكن إذا وافقني املكان فإني ُّ
أحط عىل
جهة البحرية الشمالية ،فهناك منزل الوحوش ،وعىل ديك أن يفعل ما
يشاء خاطره.
بعضا من هذه الربانق ألذوق لحمها؛ ً قال يوسف :أو ُّد أن يصطاد ديك
فإنه ليس من الصواب أن يدخل اإلنسان قلب إفريقية ويعيش فيها
مقتا ًتا بلحم دجاج الغاب وأحجال الربية كما هو الحال يف بالد اإلنكليز.
85
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
86
الفصل الثالثون
يف عاصمة الربنو وظهور البواشق ومنازعتها املنصورة وما أظهر
يوسف من الغرية الخالصة عند انخراق غطاء القبة
87
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
88
مائل إىل الجهة ً وعند وصول املنصورة إىل بحرية شاد صادفت مهبًا
بغيم خفف حرارة النهار ،ولم َت ْخ ُل الريح
ٍ الغربية ،وقد تجلببت السماء
من الهبوب فوق تلك املسافة املائية الفسيحة ،وعند الساعة الواحدة
قطعت املنصورة قس ًما من البحرية بخطٍ منحرف ،وتقدمت إىل فوق
األرض بمسافة سبعة أو ثمانية أميال.
العلمة اتجاهه نحو تلك الناحية ،ولكن ملا شاهد مدينة كوكا َّ فساء
الشهرية ،وهي عاصمة مملكة الربنو ،قلب كدره إىل رسور ،فأخذ ينظر إىل
بجدران من تراب الفخار ،وبيوتها املبنية عىل شكل
ٍ تلك املدينة املحاطة
زهر اللعب ،وجوامعها القليلة اإلتقان ،وأشجار النخل والصمغ املكللة
ً
عرضا أكثر من مائة قدم والنابتة بني البيوت بمظلة من األوراق البالغة
ويف الساحات العمومية ،فقال يوسف :إن تلك املظال مناسبة جدًا لتلك
املحال؛ نظ ًرا الشتداد حرارة الشمس فيها ،ولخص من ذلك نتائج تشري
89
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فمن جهةٍ ،ترى املدينة غنية ذات دور مرتفعة ،ومن جهة أخرى ترى
الفقر ً
حال فيها ،وبيوتها ال تمتاز عن األكواخ الحقرية ،وسكانها فقراء
جدًا؛ كوكا ليست بمدينة تجارية وال صناعية.
وقد شبهها ديك بمدينة أدمربج؛ إذ امتدت يف سهلة واسعة ،منقسمة إىل
مدينتني متفرقتني بطريق بينهما.
وملا كانت مهبات الرياح يف تلك الناحية متقلبة جدًا هبت ريح فجائية
دفعت املنصورة إىل ما فوق بحرية شاد بعد أن سارت أربعني ً
ميل؛
فبالكاد تمكن السواح من مشاهدة تلك املناظر.
فرتاءى لهم حينئ ٍذ مشهد جديد ،وهو جزائر البحرية الكثرية التي يسكنها
البيديوماه ،وهم قراصنة مشهورون يخىش منهم يف تلك النواحي كما
يخاف من التوارج يف الصحراء.
ففي تلك الساعة أرشق يوسف نظره إىل جهة األفق ثم قال لِدِيك :سيدي
ديك أنت الذي تهجس بالصيد ً
ليل ونها ًرا ،وها هو ذا ما يعجب خاطرك
90
ويقيض وطرك!
قال يوسف :أترى يف تلك الناحية البعيدة فرقة الطيور الجسيمة املتجهة
نحونا؟
فمسك َّ
العلمة منظرته ،وقال :ما عساها تكون هذه الطيور؟!
قال ديك :برصتها برصتها! فإنها تبلغ أقل ما يكون االثني عرش طائ ًرا.
ً
بالغة أربعة عرش. قال يوسف :أظنها
قال ديك :أسأل املوىل أن تكون هذه الطيور من املؤذيات؛ لئال يجد
ً
حجة عيلَّ ،ويمنعني من رضبها بالرصاص! فرغوسن
قال فرغوسن :ليس يل إذ ذاك كالم أقوله لك ،إن ما أتمنى أن هذه الطيور
تبتعد عنا بالكلية.
قال يوسف :فإننا ندافع عن أنفسنا؛ ألن الرصاص والبارود عندنا كثري
91
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فما مضت عرش دقائق َّإل اقرتبت الفرقة من املنصورة عن بعد مسافة
طلقة رصاص ،لكنها كانت تضج وتعر بصوتٍ أبح ،وال زالت تتقدم نحو
املنصورة كأنها مغتاظة منها ،ولم يعرتها أدنى وجل وال هلع.
قال يوسف :ما هذا الرصاخ والضجيج؟ ...أرى أنه يسوؤها تسلطنا عىل
أمالكها وطرياننا نظريها.
قال ديك :يف الحقيقة إن هيئتها مرعبة جدًا ،وأظن أنها كانت ترمي الهول
لو تسلحت بالقرابينة التي اخرتعها بوردي مور.
فأخذت البواشق تطري وترسم يف طريانها دوائر متسعة جدًا ،ثم حامت
بالقرب من املنصورة ،وكانت تخط السماء برسعة طريانها ،وتندفع
اندفاع قلل املدافع ،وترجع إىل الوراء رجوعًا بغتيًا.
فشمل قلب فرغوسن القلق واالضطراب من هذه الطيور ،ولذا عزم عىل
االرتفاع يف الجو هر ًبا من جوارهم اململوء خط ًرا.
أما البواشق فلم يطب لخاطرها أن ترتك القبة الهوائية ،بل اتبعت أثرها
إىل األعايل.
سبب!...
ٍ قال َّ
العلمة :كال يا ديك؛ ال تورث َّن نار غضبها وهيجانها بال
فإننا نحثها بالرصاص عىل مناظرتنا والوثوب علينا.
قال َّ
العلمة :أتظن ذلك يا ديك؟ ...فإنك يف خطأ مبني!
قال َّ
العلمة :وإذا ،ال سمح الله ،وثبت عىل جهة القبة العليا فكيف يبلغ
فاحسِ ْب أنك أمام فرقة من األسود يف البادية ،أو بمقابلة
إليها رصاصك؛ ْ
كالب بحرية يف قلب املحيط؛ فإن مثل ذاك الخطر يضاهي خطرنا يف
الجو.
قال َّ
العلمة :نعم يا ديك ،وبج ٍد جاد.
ً
برهة. قال ديك :والحالة هذه؛ فلننتظ َر َّن
العلمة :انتظر برهة ،وكن عىل أ ُ ْهبَ ٍة إذا وثبت علينا ،ولكن إياك أن
قال َّ
تطلق رصاصة قبل أن أبلغك أمري.
93
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
اصغ يل سمعًا يا سيدي صموئيل؛ فإن هذه ِ فأردف الصياد كالمه وقال:
الطيور تبلغ األربعة عرش ،ونحن عندنا سبع عرشة طلقة رصاص ،فإذا
رضبناها بها َّ
هل تظن أننا نذيقها كأس املنون ،ولك أن تعتمد عيلَّ بجانب
منها.
العلمة :ال ريب عندي يف حذقك ومهارتك ،وأؤكد لك أن الطيور التي قال َّ
تقع هد ًفا لرصاصك تذهب فريسة الحمام ،ولكن أقول لك تكرا ًرا إنها إذا
وثبت عىل دائرة القبة العلياء فكيف يصيبها رصاصك وسالحك ،وللحال
تبعج هذا الغطاء الذي يحملنا ،فنهوي يف لجة عميقة ،لجة الهالك؛ إذ إننا
قدم.
بعيدون عن األرض مسافة ثالثة آالف ٍ
ً
توحشا ،ووثب عىل املنصورة ويف تلك الفرتة دنا أحد هؤالء البواشق األكثر
ومخالبه إذ ذاك مفتوحة ومنقاره ،متأهبًا ألن يبعج القماش الحريري.
94
فقال َّ
العلمة :النا َر النا َر يا ديك!
فما فاه بهذا الكالم إال أصيب الباشق برصاصة الصياد ،وسقط وهو
يدور يف الجو.
وقد كان الصياد أخذ البارودة ذات الطلقتني ،ومسك يوسف البارودة
األخرى.
فلما دوى صوت الرصاص شمل قلب الطيور الرعدة والهلع ،وتنحت
ً
قليل ثم عادت بعد بره ٍة وأمارات الغضب الئحة عىل أطوارها ،فرمى ديك
يف الحال الطري القريب برصاصة أصابت عنقه ،ورضب يوسف طريًا ثانيًا
فكرس له جناحيه ،ثم قال :لم يبق منها سوى أحد عرش طائ ًرا.
ً
صارخا: فنظر فرغوسن إىل البارومرت ،ورآه يرتفع ارتفاعًا ً
هائل ،فصاح
ألقوا الثقل ً
حال ألقوه.
95
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
العلمة ً
قائل :ألقيا الزاد وال ترتكا منه شيئًا! فصاح َّ
فخفت رسعة السقوط ،ولكن ما زال سقوطهم مستم ًرا ،وهم فوق البحرية.
فصاح َّ
العلمة صيحة أخرية :ما بالكما ال ترميان ؟! ..ارميا ..ارميا!
قال هذا ،ورسم عىل ذاته إشارة الصليب وغاب متوار ًيا عن املركبة الجوية،
فصاح َّ
العلمة مرتاعًا :يوسف! ...يوسف!
فلم يسمع له يوسف ،وملا خف ثقل املركبة انك َّفت عن الهبوط ،وارتفعت
إىل األعايل نحو ألف قدم ،وتعبأت الريح بغطاء القبة املخزوقة فدفعتها
إىل جهات البحرية الشمالية.
فقال الصياد أ َ ِي ًسا :وا أسفاه عليه؛ فإنه وقع يف لجة الهالك وعدمناه!
96
قال َّ
العلمة :أما هالكه فكان لنجاتنا يا ديك.
ثم أذرت عيون هذين الباسلني دمعة سخينة لفراق خليلهما ،وأرشفا عىل
األرض ليجدا له أثرا فما وجدا ألنهما ابتعدا كثريًا.
97
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
98
الفصل الحادي والثالثون
يف ظنون السواح وإصالح موازنة القبة الهوائية وحساب َّ
العلمة وصيد
الصياد واالستقراء يف بحرية شاد
99
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
100
وملا كان غد اليوم الثالث عرش من شهر أيار عرف السواح الجهة التي َّ
حل
فيها؛ فكانت شبيهة بجزيرة قائمة يف وسط بطحة عظيمة ،وحول هذه
اليابسة قصب كبري كأشجار أوربا يمتد عىل مدى النظر.
وكان مركز املنصورة أمينًا ال يخىش عليها من خط ٍر؛ ألن البطحة صعبة
املمر ،وما لزمهم أن ينتبهوا ّإل لجهة البحرية؛ فإن أملا كان ً
آخذا يف
خصوصا يف الجهة الرشقية ،وال يرى أمامه أرض وال جزيرة
ً االنبساط،
البتة.
فقال :عل ظني أن يوسف لم يذق كأس الحمام؛ فإنه شهم شجاع نبيه،
وعارف بفن السباحة ،بل قليل املثال به ،وملا عرب خليج «ادمربج» لم
101
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
يظهر عليه أدنى ارتباك وال يشء من االضطراب ،والبد أن نعود لنراه،
ولكن ال علم يل؛ وكيف ومتى يكون ذلك ،أ َّما نحن فعلينا أن نبذل الجد
والجهد ،وال نهمل واسطة لنمكنه من االجتماع بنا.
العلمة بصوتٍ شجن :أجاب الله سؤالك يا ديك؛ فإننا نفعل ما يففقال َّ
أول عىل مركزنا ،ولكن قبل كل يشء يجب أن نقلعوسعنا لنجده ،فلنهت ِد ً
عن القبة هذا الغطاء الخارجي الذي ليس له نفع؛ فإن وزنه يبلغ مائة
وثمانية أرطال ،فهذا لعمري ثقل جسيم نلقيه عنا.
فبدأ َّ
العلمة وديك بالعمل ،ويف أ َّول األمر تكبدا صعوبة كلية؛ ألنه لزمهما
أن يقلعا القماش الحريري الصلب قطعة فقطعة ،وأن يجزئاه شق ًفا
صغرية ليخرجاه من بني خيطان الشبكة التي عليه ،وقد نظرا إىل خرق
الباشق يف الغطاء فوجداه كبريًا جدًا.
وقد استمرا يف العمل نحو أربع ساعات ،ولكن ملا تجردت القبة
الداخلية من هذا الغطاء العظيم بانت غري ممسوسة ،وكانت وقتئ ٍذ
املنصورة قد خفت من خمس ثقلها ،فتعجب ديك كل العجب لهذا
الفرق الباهظ.
العلمة ً
قائل :هل يمكن لهذه القبة الصغرية أن ترفعنا إىل فسأل رفيقه َّ
الجو؟!
قال َّ
العلمة :كن عىل طمأنينة وراحة بال من هذا القبيل؛ ألني أصلح
املوازنة وإذا عاودنا يوسف أخذناه معنا ورجعنا إىل املسري يف طريقنا
حسب العادة.
102
قال ديك :أظن يا سيدي صموئيل أننا لم نكن بعيدين عن الجزيرة وقت
سقوطنا.
العلمة :نعم ،وأنا أذكر ذلك ،وأظن أن هذه الجزيرة كسائر جزائر قال َّ
بحرية شاد يسكنها نسل قرصان وقتلة ،وال ب َّد أنهم دروا بنكبتنا ،وإذا
وقع يوسف بني أيديهم فماذا عىس يحل فيه إن لم يخالجهم اعتقاد باطل
يصدهم عن قتله.
قال ديك :أقول لك إنه ماهر يف جميع الحرف ،وأنا واثق جدًا بفطنته
ولبابته.
قال َّ
العلمة :وأنا ً
أيضا واثق بهما ،وأما اآلن يا ديك فاذهب واصطد لنا ما
يكفي زادنا؛ ألنه قد فرغ من عندنا كل يشء ،ولكن إياك أن تبعد كثريًا!
فأخذ ديك البارودة ذات الطلقتني ،وتقدم بني الحشيش املرتفع النابت
يف غاب ٍة ليست ببعيدة ،وملا سمع َّ
العلمة بعد برهة تكرار دوي الرصاص
تيقن أن صيده ال يخلو من ثمرة جيدة.
ويف غضون ذلك أخذ َّ
العلمة ينظر إىل ما تبقى يف املركبة ،وعزم عىل
إصالح موازنة القبة الصغرية فرأى فيها نحو خمسة أرطال من اللحم
ً
وقليل من الشاي والبن ،ونحو خمسة ليرتات من العرق وصندوق اململح،
فراغ.
ماء ٍ
ولم يكن خافيًا عىل َّ
العلمة أن خسارة اإلدروجني الذي َت َ َّ
س َب من القبة
103
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :الب َّد من ذلك؛ ألنه إذا تصور أننا تركناه استوىل عليه اليأس
والقنوط.
قال َّ
العلمة :ال تظن مثل ذلك الظن؛ فإن يوسف يعرفنا حق املعرفة ،ومن
املحال أن يطرقه فكر كهذا؛ غري أنه ينبغي أن يعرف مكاننا ومقرنا.
قال ديك :وعىس أن الريح تدفعنا إىل ما أبعد؟ فما حيلتنا حينئذٍ؟!
قال َّ
العلمة :إن الريح ال تدفعنا إىل حيث ال نشاء؛ تأمل مهبها الحايل؛
فإنها تدفعنا إىل فوق البحرية ،وهذا ما نرغبه اآلن ويوافقنا ،وسنبذل
وسعنا يف أن نستمر فوق هذا البساط املائي طول النهار؛ فال َّ
شك يف أن
105
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
يوسف ينظر إلينا؛ حيث إن عينيه متجهتان دائ ًما إىل العلو ،ولربما يجد
ً
أيضا وسيلة ليدلنا عىل مقره.
قال ديك :إذا كان مقي ًما وحده فإنه يدلنا ال محالة.
العلمة :ولنفرض أنه أُخِ َذ أسريًا فمن عادة هؤالء األقوام أن يحبسوا
قال َّ
املأسورين يف األماكن الجهارية وعليه فإنه يشاهدنا ويفهم غاية تفتيشنا.
قال ديك :ولكن فلننظر إىل سائر األحوال ولنفرض أننا ما وجدنا له أث ًرا،
وال وجد هو منا ً
دليل؛ فرتى ماذا نصنع؟!
العلمة :إننا نبذل جهدنا يف أن نصل إىل جهة البحرية الشمالية، قال َّ
ونلبث منظورين عىل قدر استطاعتنا ،وهناك ننتظر ونستقرئ السواحل
والشواطئ؛ فال ب َّد أن يوسف يج ُّد يف الطلوع إىل إحداها ،وال نرتك تلك
املحالت َّإل من بعد جه ٍد كيل نبذله حبًا فيه.
قال الصياد :هيا بنا ً
إذا إىل الرحيل!
العلمة مركز اليابسة التي أزمع أن يرحل منها ،فكانت بموجبفسطر َّ
رسومه يف شمايل بحرية شاد؛ بني مدينة الري وقرية أنجميني اللتني
زارهما القائد دنهام ،ويف خالل ذلك أكمل الصياد مصيدته ،ولم يصادف
يف طريقه شيئًا من الوحوش الضارية التي تكثر يف تلك البطاح.
بتعب
ٍ صباحا نشلت املرساة من الشجرة ً وملا كانت الساعة السابعة
جزيل ،مع أن يوسف كان يرفعها دائ ًما بال إعياء ،ثم انترش الغاز
وارتفعت املنصورة الجديدة إىل علو مائتي قدم عن األرض؛ ففي َّ
أول
106
قليل ودارت عىل ذاتها ،لكنها دفعت من َث ّم بمهب شديد،
األمر اضطربت ً
وتقدمت إىل فوق البحرية وهي تسري مسافة عرشين ً
ميل يف الساعة.
العلمة واق ًفا فوق البحرية بعلو مائتني إىل خمسمائة قدم ،وديك فما برح َّ
يفرغ أحيا ًنا قِرابينه ،وكانا يأخذان بالوطوء فوق الجزائر ويقرتبان
كثريًا من األرض ،بل يخاطران بنفسيهما ويستقرئان بأعينهما يف اآلجام
واألدغال ويف كل َط ِو َّي ٍة أو صخر ٍة كان يمكن أن يختبئ بها رفيقهما ونزال
مرا ًرا إىل قرب القوارب املوجودة يف البحرية ،فعندما كان يبرص الصيادون
بالقبة الهوائية كنت تراهم يبادرون إىل الغطس يف املاء ويسبحون حتى
يصلوا إىل جزيرتهم وأمارات الجزع والهلع الئحة عىل أطوارهم وهيئاتهم.
ولكن لم يسمعا له صو ًتا ،ولم يشاهدا له أث ًرا ،فكان ذلك مما يوجب
107
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
اليأس والقنوط.
ويف الساعة الثانية والنصف بعد الظهر وصلت املنصورة إىل قبالة قرية
تنغاليا الكائنة عىل جانب شاد الرشقي ،وهي النقطة األخرية التي وصل
إليها القائد دنهام وقت دخوله يف بطون إفريقية.
فشمل قلب فرغوسن القلق واالضطراب من جراء تداوم اتجاه الريح؛ ألنه
رأى أنها تدفعه إىل الجهة الرشقية حيث مركز إفريقية والقفار والبوادي
التي ال نهاية لها وال مناص منها.
فقال وقتئ ٍذ لرفيقه ديك :ال ب َّد من الوقوف ههنا والنزول إىل األرض،
وينبغي لنا الرجوع إىل البحرية حبًا يف صالح رفيقنا يوسف ،وقبل كل
يشء فلنجد مهبًا مخال ًفا للمهب الحايل.
فلبث مدة ساعة وهو ينتقل من طبق ٍة إىل طبقة يف الجو ،وما انفكت
ريحا شديدة
املنصورة تنخفض إىل األرض ،ولكن بعلو ألف قدم صادفت ً
دفعتها إىل شمايل الغرب.
العلمة ورأى شاطئ البحرية الشمايل أخذ يظن يف نفسه أن وملا عاد َّ
وإل كان أظهر يوسف ليس بموجود ً
أصل يف جزيرة من جزائر البحريةَّ ،
ذاته لرفيقيه بأي واسط ٍة كانت ،ثم قال عىس أن اإلفريقيني ذهبوا به إىل
الرب.
ولم يخطر قط ببال الرفيقني أن يوسف ذهب فريسة الغرق ألنه ماهر
يف فن السباحة ،ولكن هنا طرقهما تصور هائل وهو أن التماسيح كثرية
الوجود يف تلك النواحي ،وقد اعرتى هذا الفكر جنان كليهما ،ولكن
108
لم يتجارس أحدهما أن يكاشف به اآلخر ،بل إنه دهمهما علنًا ،حتى
العلمة ما تماسك أن قال بدون ديباجة :ال تلبث التماسيح َّإل عىلإن َّ
شواطئ الجزائر أو البحرية ،وليوسف فطنة كافية لتجنبها ،وهي ً
أيضا
قليلة الخطر؛ ألن أهل ذلك البلد يسبحون يف املاء وال يخافون من وثباتها.
فما فاه ديك بجواب ،بل آثر السكوت عىل املباحثة يف هذا األمر املكدر.
وعند الساعة الخامسة مساء أشار َّ
العلمة إىل قرب مدينة الري ،وملا وصال
إليها شاهدا سكانها منشغلني يف حصاد األقطان أمام أكواخهم املبنية
من القصب املجدول وسط حظائر نظيفة ومنتظمة ،وكان مجموع تلك
األكواخ البالغة نحو الخمسني واقعًا يف أرض منخفضة يف وا ٍد متسع قائم
بني جبال غري مرتفعة ،ودفعت الريح لشدتها منصورة الس َّواح أكثر مما
كان يرغب فيه َّ
العلمة ،ولكن لم تدم عىل ذلك الحال ،بل انقلبت مرة
ثانية وأرجعته إىل مركز سفره؛ أي املوضع الذي قىض فيه ليلته السالفة،
ثم تعلّقت املرساة يف رزم من القصب القائم هناك بكثرة عظيمة؛ إذ لم
تصادف شجرة تلتصق بأغصانها.
العلمة صعوبة كلية لتهدئة املنصورة من شدة الريح ،لكنها ثم كابد َّ
خمدت بدخول الليل ،وسهر الرفيقان كالهما وهما مكبالن بقيود القنوط.
109
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
110
الفصل الثاني والثالثون
يف الزوبعة الشديدة وما انشغل به الرفيقان من الفكرة املكدرة وهبوب
الريح املضادة واملوافِقة والرجوع إىل الجنوب
111
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
112
صباحا هبت نفحة شديدة شبه العاصفة ،وكادتً وعند الساعة الثالثة
املنصورة تهوي إىل األرض من تقلبها بأيدي تلك الريح ،والقصب الذي
حولها يتمايل ويهدد القبة بالتمزيق.
فقال َّ
العلمة :هيا بنا إىل الرحيل يا أيها الخليل؛ ألن حالتنا ال توافقنا.
فصاح الصياد بصوت الكآبة وانجراح الفؤاد ،وقال :كيف نرحل بدونه؟!
العلمة :أتظن يا ديك أن فؤادي ليس بمجروح مثل فؤادك عىل قال َّ
هل تضطرنا الرضورة القصوى إىل الرحيل من هنا؟ فراقه؟ ...ولكن َّ
113
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ولكن حال دون ارتحالهما صعوبة جزيلة؛ ألن املرساة كانت مشتبكة
ً
اشتباكا شديدًا ،ولم يق َو الصياد عىل اقتالعها ،فكانت الريح تدفع القبة
وتقلبها عىل وج ٍه مخالف ،وأضحى حال ديك يف خطر مبني ،ألنه خاف
أن تفلت املرساة برمشة عني ،وترحل القبة إىل املواطن الجوية قبل أن
يبلغ إليها.
فلم يرغب َّ
العلمة يف أن يعرض رفيقه لهذا الخطر ،بل أدخل الصياد إىل
املركبة ،وصمم عىل قطع حبل املرساة ،وعندما قطعها قفزت املنصورة
قفزة هائلة إىل العالء ،وسمت عن األرض نحو ثالثمائة قدم ،وسارت نحو
الشمال عىل الخط املستقيم.
فانقاد فرغوسن لتلك الزوبعة ،وكتف ذراعيه عىل صدره وهو يف املركبة
غار ًقا يف بح ٍر من األفكار الحزينة.
ً
برهة التفت إىل رفيقه ديك وقال :إننا لربما جربنا املوىل ألنه وبعد سكوته
لم ُي ْع َط لإلنسان أن يرحل بمثل هذا الرحيل!
قال الصياد :لقد هنأنا بعضنا البعض من برهة ،بعض أيام ،لتخلصنا
من األخطار والويالت الكثرية يف رحلتنا اإلفريقية؛ هل ترانا ننقض اآلن
املقال؟!
العلمة ً
قائل :وا أسفاه عىل يوسف البئيس ،ذلك الشهم الكريم فصاح َّ
114
املجبول باللطف واملروءة ،ذي الطبع السليم الريان من ماء املكارم
والفت َّوة! فإنه بعدما أخذ عقله بالثروة والغنى من الكنوز الثمينة فما
تماسك أن ضحى بها جميعا فها هو ذا اآلن بعيد منا ،والريح تدفعنا
برسع ٍة ال ض َّد لها وتقصينا عنه.
قال ديك :ولكن فلنفرض سيدي فرغوسن أن يوسف التجأ إىل إحدى
القبائل الكائنة يف بحرية شاد؛ أما نراه يتمكن من الرجوع إىل بالده كما
عاد دنهام وبرث إىل األوطان؟!
العلمة :ولكن يا صاحبي ديك؛ َأل تعلم أن يوسف يجهل لغة هؤالءقال َّ
األقوام وال يعرف كلمة واحدة منها ،وهو وحده ال رفيق له وال حيلة؟
فأجاب الصياد بعزم وحماسة القلب :وسأتبعك إىل حيث رست؛ فلك أن
115
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
تعتمد عيلَّ ،وإذا لزم األمر أبينا تتميم سفرتنا ،وكما أن يوسف أظهر
خلوصه نحونا وأوقع نفسه يف املهلكة حبًا فينا فإننا نضحي بأنفسنا
ألجله.
وهكذا مرت املنصورة بإقليم تيبوس ،وجازت قف ًرا ذا أشواك يعرف ببلد
الجريد ،وهو عىل تخوم بالد السودان ،ثم دخلت بادية الرمال املخططة
بآثار القوافل ،فشاهدوا الروضة التي يف تخوم البادية مكسو ًة بالخضار
وفيها آبار كثرية تحتاط بها األشجار الجميلة ،وهي أعظم روض ٍة يف البالد
اإلفريقية ،لكنهم لم يستطيعوا الوقوف فيها ،ولكن لم يخل القفر من قوم
عربان وبعض الخيام واآلبال املادة رؤوسها فوق الرمال شبه رؤوس
األفاعي ،فم َّرت املنصورة فوقها كنجم خرار ،وهكذا طافت مسافة ستني
ميل بربهة ثالث ساعات ،ويف تلك املدة كلها لم يستطع فرغوسن أن يقمع ً
القبة الهوائية يف مسريها.
فقال حينئذٍ :ما هذه الحالة التي نحن فيها؟ إننا ال نستطيع الوقوف وال
النزول؛ إذ ليس شجرة وال صخرة نلقي عليها مرساتنا؛ فهل يا ترى
أزمعنا أن نجوز الصحراء من أقصاها إىل أقصاها؟ يف الحقيقة إن املوىل
سبحانه وتعاىل يعارضنا يف نيل منانا.
وفيما كان يتفوه بهذا الكالم ،وأمارات الغيظ واليأس مستولية عىل
116
َ
رمال البادية ثائرة يف وسط غبا ٍر كثيف، محياه ،إذ الح له من الشمال ّ
أن
وهي تدور محركة من املهبات املتضادة املشتبكة يف الجو.
وكان يف وسط تلك الزوبعة قافلة بكاملها مبتلعة من وثوب تلك الرمال
الطيارة ،وقد تبددت شذر مذر؛ إذ لعبت بها أيدي الرياح فكنت تسمع
حينئ ٍذ أطيط اآلبال وحنينها وتأوه الناس ورصاخ يأسهم وانقطاع قلبهم،
وتارة كان يطري عنهم ثوب مشكل األلوان ويحوم مع الرمال ،وفوق هذا
جميعه كان عصف الزوبعة يشبه قصيف الرعد بالهدير والعجيج.
وبعد ذلك أخذت الرمال يف التكدس؛ بعضها فوق بعض ،وتألفت منها
آكام وربوات؛ فحيث كانت السهلة املمتدة كالبساط قامت علوة فوق
س لها.
القافلة بمثابة َر ْم ٍ
فتأمل الرفيقان هذا املشهد املرعب ووجههما مكلل باالصفرار ،وما عاد
يف إمكانهما أن يسوسا القبة الهوائية الدائرة يف وسط مجاري الرياح
املتضادة حتى لم يعد ينفعها انتشار الغاز وامتداده ،وملا وقعت يف شباك
تلك الفوارة الهوائية أخذت ترتجف وترسع يف مسريها وتذبذبت تذبذ ًبا
بعضا حتى ً هائل ،وجعلت اآلالت املوضوعة يف املركبة يالطم بعضها ً
كادت تتحطم ومالت األنابيب حتى أوشكت أن تنقطع وصارت صناديق
املاء تتناقل من مكانها بضجة وحركة شديدة ،وتعرس عىل السائحني
أن يسمع أحدهما صوت اآلخر ،مع أنهما غري مفرتق أحدهما عن اآلخر
ً
ومحاول أن يمكث ثابتًا ً
متمسكا بالحبال بمسافة قدمني ،وكان ّ
كل منهما
رغ ًما عن هياج الزوبعة.
وكان شعر الصياد مبعث ًرا وهو ينظر إىل الرياح صامتًا ساكتًا ،وأما
117
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
َّ
العلمة فح َّول هيئته إىل الجسارة والجراءة حسب عادته عندما أملت به
األخطار ،ولم َتلُ ْح عىل وجهه أمارات االضطراب الشديد ،بل كان يف رواق
أيضا عندما وقفت املنصورة فجأ ًة يف الطبقات الجوية
تام ،ولم يضطرب ً
بعد أن دارت عىل ذاتها دورة أخرية ،ثم غلبت ريح الشمال وظفرت بجميع
الرياح وعكست مسري املنصورة وذلك برسعة زائدة كما جرى يف الصباح.
فصاح ديك ً
قائل :وإىل أين نحن ذاهبون؟!
فقال َّ
العلمة :دع العناية اإللهية تفعل بنا ما تشاء؛ فإني قد أخطأت بعدم
اتكايل عليها وهي عارفة بما يوافقنا أكثر منا ،وهانحن أوالء راجعون إىل
األماكن التي أيسنا من العودة إليها.
فقال َّ
العلمة :هذا ال يهمنا كثريًا ،ويكفينا أن نرجع إىل الجنوب؛ فإننا
نصادف هناك مدائن الربنو وودية وكوكا ونحط فيها ال محالة.
قال كنادي :أرى الريح مائلة إىل الهدوء واالستكانة؛ فإني أشاهد غربة
الرمال تخف كثافة ،وتموجها يقل ،واألفق يأخذ يف االنجالء من غشاوته.
قال َّ
العلمة :حسنًا تفعل الريح بهدئها؛ فعلينا أن نفحص األفق لئال
تفوتنا نقطة واحدة ال ننظر إليها.
قال ديك :دع هذا األمر عيلَّ؛ فإني أنبئك ً
حال عندما أصادف أول شجرة.
119
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
120
الفصل الثالث والثالثون
يف قصة يوسف وما كان من عبادة اإلفريقيني ل ُه ووصوله إىل أرياف
راجل ومكابدته املشقة والتعب والجوع ومرور ً البحرية وسفره
املنصورة وارتحالها وبأسه ورصاخه األخري
121
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
122
فماذا يا ترى قد أصاب يوسف يف غضون تفتيش َّ
العلمة عليه وتكبده
التعب الباطل حبًا فيه.
فاعلم وفقك الله أن يوسف يف سقوطه يف البحرية أول ما بدا منه كان
أنه نظر إىل العالء فرأى املنصورة قد سمت عن البحرية وعلت برسعة إىل
الجو ،ثم غابت عن عينيه باتجاهها إىل جهة الشمال ،فأيقن حينئ ٍذ أن
سيده وصاحبه ديك فازا بالنجاة.
123
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وملا اطمأن خاطره من هذا القبيل أخذ يهت ُّم بأمر نفسه؛ فإنه كان مقي ًما
وسط بحرية عظيمة جدًا وحولها أقوام يجهلهم بالكلية وربما هم من
الربابرة املتوحشني ،لكنه قال يف ذاته :إن ارتعابي من هذا والفِك َرى
فيه قبل أوانه ال يجديني نفعًا بل من الواجب عيلَّ أن أضاعف حريص
وإل كنت أنا الخارس. وتحذري ألتخلص من حالتيَّ ،
وكان قد ملح جزيرة وهو يف األفق قبل أن تحمل الطيور الجوارح عىل
القبة ،وقد زعم يوسف أن تلك البواشق ترصفت ترصفا الئقا برشاستها
إذا عىل الذهاب إىل تلك الجزيرة ،واستعان بجميع معارفه املألوفة ،فعزم ً
يف فن السباحة بعد أن جرد نفسه من الثياب التي تربكه ،فكانت سفرة
سابحا عىل املاء ما افتكر قط
ً ستة أميال يف البحر ال ترعبه ،ولهذا ملا كان
بيشء سوى أن يسبح بنشاطٍ وأن يتجه ً
خطا مستقي ًما إىل ما قصده من
املحطة.
وبعد أن مضت نحو ساعة ونصف نقصت كثريًا املسافة الفاصلة ما بينه
وبني الجزيرة ،ولكن يف اقرتابه من األرض دهمه تصور هائل من شأنه
أن يحمله عىل الهرب وهو أن التماسيح كثريًا ما تألف سواحل البحرية،
ولم يكن يخفى عليه ما تنطوي عليه تلك الحيوانات من النهامة وشدة
الحريص يف تلقف لحمان بني آدم.
فاضطرب يوسف من هذا الفكر رغ ًما عما كان متص ًفا به من الخلة املائلة
به إىل الظن أن كل يشء يف هذه الدنيا يجري مجراه الطبيعي ،وخاف أن
يلذ للتماسيح اللحم األبيض؛ فلذا لم يتقدم إىل الساحل ّإل بحرص كيل
ريف مظل ٍل بالشجروعينه محدقة بكل ما حواليه ،وملا وصل إىل قرب ٍ
124
األخرض هب نسيم فاحت منه رائحة املسك الخارقة.
فقال :هذا ما كنت أخشاه؛ فإن التمساح غري بعيد عني ،فغطس يف املاء
جسم عظيم ذي ٍ غطسا عمي ًقا ،ولذا ما تحاىش صدمة
ً ولكن لم يغطس
خراشف مسنة فخدشت جسمه يف ممره فحسب يوسف أنه ذهب فريسة َ
له وجعل يسبح برسعة من ناهز اليأس ثم طلع إىل سطح املاء وتنفس
ً
قليل ثم عاد فغاب يف املاء وهكذا قىض برهة كابد فيها ضيقة وغ ًما شديدًا
رغ ًما عما كان عليه من الجلد الغريزي ففي كل دقيقة كان يخال له
أنه يسمع حركة ذلك التمساح ويراه فاغ ًرا ماضغيه ليبتلعه بلعة واحدة
محتفظا عىل ذاته من كل جانب وهو يسبح بلطافة إذا به ً وفيما كان
ُي ْم َسك من ذراعه ثم من وسطه.
فما تماسك أن قال يا للعجب؛ فإني نجوت من شباك التماسيح ووقعت يف
شباك السودان ،فلعمري هذه أحسن من تلك ،ولكن كيف يا ترى يتجارس
هؤالء عىل السباحة يف مثل هذه املحالت؟!
125
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فيها التماسيح بال خوف وال قلق؛ ألن تماسيح تلك البحرية شهرية بقلة
توحشها وعدم حرصها عىل أذية الناس.
فكان يوسف قد نجا من خطر لكنه وقع يف غريه ،فرتك للتقادير أن تفعل
فيه ما تشاء ،وحيث لم يستطع الخالف انقاد إىل األسودين اللذين أتيا به
إىل الساحل ،ولم ُي ْظ ِه ْر عىل ذاته ً
وجل.
فأخذ يردد يف أفكاره ً
قائل :ال شك يف أن هؤالء العبيد نظروا إىل املنصورة
عندما حامت فوق البحرية شبه وحش جوي ،وقد شهدوا من بعيد
سقطتي ،فال يبعد أن يبجلوا إنسا ًنا نزل من السماء ويتحفوه بإكرام
خصويص؛ فلندع الحوادث تجري مجراها.
واصرب؛ فقد فاز أقوام بما صربوا نم للخطوب إذا أحداثا طرقت
ً
وشيكا بعد ُه ظف ُر وكل صربٍ ُّ
فكل ضي ٍق سيأتي بعده سعة
وفيما كان يتحدث بهذه األفكار إذ وصل إىل ساح ٍة وفيها قوم سود من
كل جنس وعم ٍر ،وهي قبيلة من قبائل البيديوماه ،ولم يستح من خفة
ثوبه؛ فإنه كان عىل ِز ِّي سكان ذلك القطر.
ولكن قبل أن ينتبه إىل حالته وموقعه رأى العبيد قد أخذوا يف تبجيله
وتعظيمهَ ،ف َط ْمأ َ َن روعه من هذا األمر ،وإن أتى عىل باله حادثة كازه
عندما ظهر القمر.
ثم قال يف نفسه :أرى أني مزمع أن أصبح ثانية إلهًا وابنًا للقمر؛ فال بأس
من هذه الحرفة ألنها أحسن من غريها عندما تكون إجبارية ،وأ َّما الذي
يهمني فهو أن أربح زما ًنا حتى إذا أتت املنصورة فمرت فوقي أنتهز
126
عابدي يتأملون يف
َّ الفرصة من حالتي هذه ألصعد صعودًا عجيبًا ،وأجعل
هذا املشهد الغريب.
وملا أمىس املساء أتاه سحراء الجزيرة وضبطوا يده باحرتام كيل ،وجاءوا
محتاطا بالطالسم السحرية ،وقبل أن يدخله ً ً
كوخا به مخدعًا أشبه
يوسف شاهد عظا ًما مكومة حول ذلك املعبد ،فنظر إليها نظرة قلقة،
ثم خلوه فيه وتركوه ،فأخذ حينئ ٍذ يجوب بيداء األفكار يف واقعته ،ويف ما
صمم عليه من النية.
ً
وترتيل وأصوا ًتا ففي جانب عظيم من الليل ما برح يوسف يسمع غناء
شبه أصوات الطبل ،وقرقعة حديد تحلو يف آذان اإلفريقيني ،وملا كان
قدم وساق حول الكوخ املقدس كان القوم يع ُّرون الرقص قائ ًما عىل ٍ
ً
تبجيل ملقام يوسف الفائق. بأصواتهم الضخمة ،وجميع هذا
وكان يوسف ناظ ًرا إىل هذه الغوغاء من خالل جدران الكوخ املبنية من
الطني والقصب ،فلو جرت هذه الحادثة يف وقت غري ذلك الوقت فلربما
فرحا عظي ًما يف تلك الطقوس الغريبة ولكن قد خيل يف باله أمر
كان فرح ً
أوقعه يف بلبال؛ ألنه ،وإن نظر إىل األشياء بعني رائقة ،بل مجردة ،قد
127
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وزد عىل ذلك أنه قل السواح الذين تجارسوا فقدموا إىل تلك اآلفاق ثم
عادوا فرجعوا إىل األوطان ،وعليه فإنه لم يثق كثريًا بعبادتهم وتكريمهم
دواع كثرية
له؛ ألن عظمات هذا العالم وأمجاده كانت عنده أباطيل ،وله ٍ
ً
قائل :عىس أن الحتقارها وعدم االكرتاث بها ،ثم سأل نفسه بنفسه
عبادتهم تفيض أخريًا بأكل املعبود؟!
ثم أمست تلك الرطوبة ماء ،وازداد ذلك يف كوخ يوسف حتى وصل إىل
أواسطه.
فقال :ما هذه الحال؛ أعذاب عىل عذاب؟ ...هل يا ترى أنا غارق يف غمر
املياه؟! فلعمري ما كنت يف انتظار هذه الحيلة الغريبة وعىل ٍّ
كل ال أمكث
محبوسا حتى تبلغ املياه إىل رقابي.
ً
وبعد أن تفوه بذلك املقال رضب الحائط بكتفه فوجد نفسه يف قلب
البحرية ،ولم يعد يرى أث ًرا للجزيرة ،بل إنها غطست يف املاء بالليل وقام
مقامها سعة البحرية.
فقال يوسف :بئس البالد ألصحاب األمالك ألنهم يعدمون رزقهم يف بره ٍة
وجيزة ،ثم شدد قواه وضاعف نشاطه للسباحة من جديد.
128
فقد نجا يوسف من أيدي الربابرة بحادث ٍة من الحوادث التي كثريًا ما
تجري يف بحرية شاد؛ فإن جزائر كثرية تته َّور يف هذه البحرية مع أنها
قبل صلبة نظري الصخور ،وكثريًا ما يأتي األقوام املجاورون لها تشاهد ً
بغوث املساكني الذين يلجؤون إىل الفرار.
سبيل إىل تخلصه ،وإذ ً أما يوسف فلم يكن عار ًفا بهذا األمر ،لكنه أخذه
ملح قار ًبا تائهًا يف البحرية قد اقرتب منه فرآه شبه جذع شجرةُ ،ح ِف َر َح ْف ًرا
خشنا ،وكان فيه ِم ْق َذا َفان ،فطلع عليه ورأى مجرى ماء رسيعًا فانتهز
الفرصة وأخذ يف املسري.
فرأى أن مجرى املاء يبلغه ريف البحرية الشمايل فسار مرسو ًرا ،وملا كانت
الساعة الثانية بعد انتصاف الليل صعد إىل علوة مغطاة بقصب شائ ٍك
لكنه برص هناك بشجر ٍة وخيل إليه أنه يرقد عىل أغصانها كعىل فراش،
فتسلقها يوسف وأخذ هناك يف انتظار الفجر ولو امتنع عليه الرقاد.
وإذ واىف الصباح رسيعًا حسب عادته يف بالد خط االستواء ألقى يوسف
ً
لحظة عىل الشجرة التي التجأ إليها فأرعبه منظرها رعبًا شديدًا؛ ألن
الحيات والحرباء تغطي أغصان الشجرة من أعالها إىل أسفلها ،وكان
ورقها إذ ذاك متوار ًيا تحت لفائفها ،وإذا ما شاهد أحد تلك الشجرة قال
عنها :إنها تنبت دباباتٍ ،وملا بزغت أشعة الشمس أخذت تدب وتزحف
وتلتف ،فشعر يوسف برعب خالجه النفور ورمى بنفسه إىل األرض بني
فحيح الحيات.
129
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فكان َي ْخ َفى عليه أن فوجل يف رساالته األخرية ذكر تلك الغرابة الظاهرة
يف سواحل بحرية شاد؛ حيث تكثر الذبابات والهوام كثرة ال مثيل لها،
وبعدما رأى يوسف ما رآه عزم عىل أن يشدد حرصه يف املستقبل ،وأخذ
يسري إىل الجهة الشمالية الرشقية ،وكان يعتني كثريًا بتجنب األكواخ
والبيوت والخيام ،وباإلجمال كل محل قابل لسكن الناس.
وكم من مرة قد رفع يوسف ألحاظه إىل العالء وهو يرجو مشاهدة
املنصورة ،غري أنه ذهب تفتيشه عنها هد ًرا ،ولم ير لها أث ًرا؛ فمع ذلك
ً
جميل وشجاعة لم تنقص ثقته بسيده ،أما حالته فكانت تقتيض صربًا
مضنوكا بالتعب متضو ًرا من الجوع ً عظيمة للتجلد عليها؛ إذ إنه كان
لكونه لم يغت ِذ سوى بالعروق ولب بعض الشجريات ،أو بأثمار من
جنس النخل؛ فهذه كلها ليس من شأنها أن تقوي املعدة وتقيت املرء،
ميل إىل الناحية الغربية ،وكان ومع هذا كله فإنه تقدم نحو عرشين ً
مخدشا باألشواك يف أمكنة كثرية وذلك لطلوعه إىل سواحل ً جسمه
البحرية ،وأرجله كانت مخضبة بالدماء ،فأصبح من َث ّم مسريه ع ً
رسا
ومؤملًا ،فاحتمل هذا العذاب بصرب ،وملا أمىس املاء عزم عىل أن يقيض
ليلته يف سواحل البحرية.
فهناك اقتضاه الحال أن يقايس لذع الهوام التي ال تحىص عددًا ،وهي من
أجناس كثرية كالذباب والربغش والبعوض والنمل الذي يبلغ طوله نحو
نصف باهم ،وهي تغطي األرض كالبساط املمدود ،فما مىض عليه نحو
ساعتني ّإل تناثر الثوب الخفيف الذي يكسو جسمه ،ولم يبق منه أثر؛
130
فإن الهوام قرضته كله ،فكانت ليلة هائلة لم يستطع فيها يوسف رقادًا
ً
راحة البتة. وال
ثم واىف النهار بعد انتظار طويل فنهض حينئ ٍذ يوسف برسعة وملا نظر
حواليه نفرت نفسه؛ إذ رأى أن ضفدعة ُمسِ َّمة كبرية وحشية قد ضاجعته
ليل ،ومن مجرد النظر إليها تقز النفس وتحمل عىل التكره ،فأحس ً
ً
راكضا إىل البحرية يوسف بتقلب أمعائه ،ولكن قد تقوى من كرهه وعدا
وارتمى يف مياهها ،فرطب املاء ً
قليل ما كان يكابده من الحكاك ،ثم عاد
إىل الرب ومضغ بعض أوراق الشجر ،وسار يف طريقه بجل ٍد لم يدركه،
وأصبح كأنه ال يدري ما يفعله ،بل شعر بقو ٍة تعلو يف قطع الرجاء.
ومع ذلك أخذ يضوره الجوع وصاحت عصافري بطنه؛ ألن بطنه ال يمكنه
االصطبار مثله ،فاضطر إىل أن يربط جسمه بحزام نباتي ،وأما عطشه
فكان يرويه يف كل دقيقة ،وإذ أتى عىل باله ذكر ما احتمله يف البادية من
قلة املاء حسب نفسه سعيدًا لخلوه من هذه الحاجة الفائقة الجميع آال ًما.
ثم قال يف ذاته :أين يا ترى هي املنصورة؛ فإن الريح تهب من الشمال
وينبغي عليها أن ترجع فوق البحرية ،وال ب َّد أن يكون سيدي صموئيل
إذا ً
شغل فال يبعد ً رتب القبة بموازنة جديدة ،ولكن كفاه النهار البارح
أترصف كأني
َّ اليوم الذي فيه املنصورة ...ولكن مايل ولها اآلن فعيلَّ أن
131
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
لست بمزمع أن أراها أبدًا ،وإذا وصلت إىل مدينة كبرية من مدائن البحرية
فإني أكون بمقام السواح الذين ذكرهم يل سيدي؛ فلماذا ال أنجو مثلهم؛
إذا َ
الشجاعة ً َ
فالشجاعة فإن كثريين رجعوا إىل األوطان وشاهدوا الخالن،
وال اليأس أبدًا.
ففيما هو يتفوه بهذا املقال سائ ًرا يف طريقه وصل إىل غاب وشاهد فيه
قو ًما متوحشني متألِّبًا بعضهم عىل بعض ،أما هم فلم يدروا به لكونهم
عاملني عىل سقي نبلهم بعصري نبات ُمسِ ّم ،وهذه مشغلة عظيمة يهتم
بها قبايل تلك البالد بعيد حافل.
فاختبأ يوسف بني اآلجام وهو ال يتنفس لئال يحس به ،وفيما هو رافع
برصه إىل العالء ملح املنصورة بذاتها سارية فوق رأسه بعلو نحو مائة
قدم ومتجهة نحو البحرية ،فو َّد لو استطاع أن يسمع صوته أو يعلم
رفيقيه بوجوده يف تلك املحال ،ولكن أ َ َّنى له من نيل هذا املرام؟!
ويف تلك الساعة أذرت عينه دمعة سخينة ،ولكن ال دمعة اليأس والقنوط
بل دمعة الرسور ومعرفة الجميل الذي بدا من سيده نحوه؛ فإنه كان
يستقرئ عنه وال يريد أن يذهب من دونه ،فاقتىض حينئ ٍذ أن ينتظر
ً
راكضا إىل أرياف البحرية. رحيل السودان حتى ينطلق
ثم رشع يف املسري كإنسان فاقد العقل ورجاله مخضبتان بالدماء وجسمه
مخدش ،ولبث ماشيًا كل النهار ومدة من الليل وتارة كان ينسحب عىل
أقدامه وطو ًرا كان يتوكأ عىل يديه وكان يرى الساعة التي فيها تخور
قواه ويأتيه األجل ال محالة.
ففيما هو يتقدم إىل األمام إذ وصل إىل قرب بطحةٍ ،وكان قد جنه الليل،
لزج وشعر كأنه يتساقط رويدًا رويدًا يف تلك
ني ٍثم سقط بال معرفة يف ط ٍ
أرض الحماء تلك ،وما مضت بعض الدقائق حتى رأى نصف جسمه
مغمسا يف الطني.
ً
فقال حينئذ :هوذا املوت ...هوذا قد أقبل ،ولكن يا لها من ميتة شنيعة!
فاضطرب واختبط وأراد الخالص فلم يفز به ،بل ما زال يتعمق يف الطني،
وكان يف حركته كأنه يحفر اله َّوة لنفسه ،ولم ير بالقرب منه قصبة أو
قطعة خشبية ليستند عليها فأيقن أن قد دنت ساعته األخرية وأطبق
جفونه.
ثم صاح ً
قائل :سيدي! ...سيدي! ...ما بالك ال تأتي إيلَّ؟! تعال! ...تعال!
فتاه ذلك الرصاخ املنفرد؛ رصاخ اليأس والقنوط يف بوادي الظالم املدلهم.
133
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
134
الفصل الرابع والثالثون
يف ما كان من العربان املجتمعني ومالحقتهم ألحد املهزومني وقتل
الصياد عربيًا برصاصة وانتشال يوسف من األرض بصناعة وحرفة
135
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
136
فمنذما فوض َّ
العلمة أمر املراقبة إىل ديك الصياد ما انفك هذا عن التفرس
يف األفق بحرص وانتباه ال مثيل لهما.
وبعد برهة التفت إىل َّ
العلمة وقال له :أرى هناك طائفة من الناس
والبهائم مجتمعني ولكن ال يتميز يشء منها ،بل إني أشاهدهم يف حركة
عظيمة ألن أمامهم غبار كثيف من الرمال يرتفع من األرض.
فنهض ديك ليفحص األفق من جديد ،ثم قال لرفيقه :أظن أنها طائفة من
الغزالن أو من بقر الربية.
قال َّ
العلمة :إن ذا من املحتمل ،ولكن اعلم يا ديك أن هذه الفرقة املتجمعة
137
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
تبعد عنا نحو تسعة أو عرشة أميال؛ فأنا إذا تطلعت بالنظارة الصغرية
ال أميز فيها شيئًا.
فقال ديك :عىل ٍّ
كل ها أنا ذا أراقبها عىل جميع األحوال؛ ألني أرى فيها
شيئًا غري اعتيادي يشغل بايل ،وعىل ما أظن فإن هذا االزدحام إنما هو
ازدحام خيالة يجارون يف ميدان السباق ...هو ذا ...قد أصاب تخميني؛
فإنهم يف الحقيقة خيالة ...تطلع يا فرغوسن تطلع!
فتأمل َّ
العلمة بانتباه إىل تلك الفرقة املزاحم بعضها ً
بعضا ،ثم قال :عىل
ما أرى قد أصبت يف ظنك؛ فإنها فرقة من عربان أم تيبوسية ،والباين
أنهم يركضون إىل الجهة التي نحن سائرون إليها غري أن عدوهم ال يوازي
رسعة قبتنا ،وال يميض نصف ساعة ّإل ونقف عىل الحقيقة ونعلم ما
يجب علينا من العمل.
ثم أخذ الصياد منظرته وجعل يحدق برصه فرتاءت له الخيالة املزدحمون
أيضا ً
بعضا منهم ينفردون عىل جانب. بأكثر وضوح ،وشاهد ً
ثم قال لفرغوسن :يف الحقيقة إن هذا سباق خيل؛ فكأنهم يتعقبون شيئًا
وأود كثريًا أن أرى ما هو موضوع مطاردتهم.
فقال َّ
العلمة :صربًا يا ديك؛ فعن قريب نصل إليهم ،بل نتجاوزهم إذا
داوموا الجري يف هذه الطريق نفسها ،واعلم أن قبتنا تسري اآلن برسعة
عرشين ً
ميل يف الساعة ،وال يوجد خيل يمكنها أن تجري بهذه الرسعة.
فرجع ديك إىل املراقبة من جديد ،ولم تمض بعض الدقائق َّإل قال :إنهم
ً
ركضا شديدًا وقد ميزتهم حق التمييز وهم يبلغون عربان يركضون
138
الخمسني ،وها هي ذي برانسهم تعوم عىل جناح الريح؛ فإنها رياضة
للخيالة ،ورئيسهم يسبقهم عىل بعد مائة قدم وهم يجرون وراءه متتبعني
آثاره.
قال َّ
العلمةَ :من ما كانوا فإني ال أخىش أذيتهم ،وإذا اقتضت الحال
ارتفعنا إىل املعايل.
قال ديك :اصرب ً
قليل يا فرغوسن اصرب!
ثم استتىل ديك كالمه بعد فحص جديد وقال :إنه ألمر غريب حريَّ فكري؛
ألني أرى شيئًا ما تمكنت من معرفته وال تمييزه جيدًا ،والباين من كد
الخيالة وعدم مساواة جريهم أنهم مطاردون أحدًا ال الحقون برئيسهم
كما ظننت.
قال َّ
العلمة :وهل تؤكد ذلك يا ديك؟!
قال ديك :ال شك يف هذا؛ ألني أشاهد الخيالة كأنها راكضة وراء صيدٍ،
ولكنها ليست مصيدة حيوان بل إنسان ،والذي يتقدمهم هو منهزم منهم
رئيسهم وقد خالجه االضطراب.
َ وليس هو
َّ
ولننتظرن ما يحدث. إذا برصنا عنهم، قال َّ
العلمة :ال نحول َّن ً
فسارت القبة مسافة ثالثة أو أربعة أميال فوق هؤالء الخيالة الجارين
139
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
برسعة شديدة.
وبعد أن قطعوا هذه املسافة صاح ديك بصوت مرتجف وقال :سيدي
صموئيل! ...سيدي فرغوسون!
قال َّ
العلمة :ما بالك؟! ....احكِ!
قال َّ
العلمة :وما معنى قولك؟!
فقال َّ
العلمة :قل ً
إذا ما هذا!
العلمة ً
قائل :هو هو بذاته «فقد أعنى بلفظة هو هو عن مراده فصاح َّ
ولم َي ْحتَ ِج األمر إىل إيضاح».
قال َّ
العلمة ،وقد عال وجهه االصفرار :عافاك الله يا يوسف!
العلمة :ال تميض خمس دقائق َّإل ونقرتب من األرض حتى ال نعلوها
قال َّ
َّإل 50قد ًما ،وبعد خمس عرشة دقيقة نصبح فوق رأسه.
فإن ديك صاح بصوت ميئوس منه عندما شاهد يوسف مرصوعًا عىل
الحضيض ألن حصانه قد أعياه التعب فسقط عىل األرض خائر القوى.
141
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال َّ
العلمة :إنه برص بنا ،ويف نهوضه أشار إلينا بحركة يدٍ.
قال ديك :ولكن قد أوشك العربان أن يلحقوا به؛ فما الذي ينتظره؟! لله
الحمد؛ فإنه شهم باسل ...عافاه الله عافاه!
فكان يوسف بعد سقوطه نهض ً
حال؛ إذ وثب عليه خيال ثم قفز كالفهد
وحاد يسريًا عن طريقه ثم انقض عىل فرسه كالباشق ومسكه من عنقه
طريحا
ً وخنقه بأصابعه الحديدية ويديه العصبية وجندله عىل األرض
وأخذ يف انهزامه برسعة الطري.
أصل لصوت الرصاص ،بل داوم املسري ،وأما الخيالة فلم يلتفت يوسف ً
فوقف بعضهم ،ومنهم من خ َّر عىل وجهه يف األرض عند مشاهدة
املنصورة ،ومنهم من داوم معاقبة يوسف.
ثم قال :البَ ْث واق ًفا يف مؤخر املركبة ،وكن متأهبًا ألن ترمي هذا الرمل كله
دفعة واحدة ،ولكن بحياتك ال تفعل ذلك قبل أمري!
143
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال هذا ورمى السلم فوصلت الدرجة األخرية إىل األرض وأثارت غربة من
الرمال.
العلمة يوسف لم يقف هذا يف محله بل التفت ً
قليل فوصل فعندما نادى َّ
العلمة إىل ديك ً
قائل: السلم بالقرب منه ،وفيما كان يتماسك به صاح َّ
أَلْ ِق الرمل يا ديك!
فضجت العربان وقتئ ٍذ بأصوات الدهشة والغضب ألن املنهزم طار من
بني أيديهم وابتعدت عنهم املنصورة بعدًا شاسعًا.
144
قال هذا ووقع مغشيًا عليه من شدة االضطراب واإلعياء ،فيما كان ديك
كأنه يف بحر الهذيان يصيح ً
قائل :قد خلص! ...قد فاز بالنجاة!
َ
حالة أما َّ
العلمة فرجع إىل رواقه القديم وقال :أواه ما هذه الحالة؟!...
يوسف؛ فإن يوسف كان متجردًا من أثوابه وليس عىل جسمه َّإل رسم
من الكسوة.
وأما ذراعاه فكانتا مخضبتني بالدم ،وجسمه كان مثخنًا بالجراح؛ فكل
العلمة ً
حال ،وضمد دل عىل ما تكبده من العذاب والشقاء ،فنهض َّهذا َّ
جراحه وأنامه داخل الخيمة.
وبعد برهة استفاق من غشيانه وطلب كأسا من العرق ،فما أراد َّ
العلمة
أن يرفض طلبه ألن يوسف لم يكن يطبب كسائر الناس ،وبعد أن رشب
أخذ بأيدي رفيقيه ،وقال لهما إنه مستع ٌّد ألن يقص قصته.
فلم يسمح له رفيقاه بالتكلم يف تلك الساعة ،وعليه عاد فرقد رقادًا ً
ثقيل
كان يف غاية االحتياج إليه.
فسارت حينئ ٍذ املنصورة ً
خطا منحر ًفا إىل جهة الغرب وعندما اشتدت
الريح وصلت إىل حد القفر الشائك فوق النخالت التي قد أحنتها أو
اقتلعتها الزوبعة ،وبعد أن سارت مائتي ميل منذ انتشال يوسف جازت
مساء الدرجة العارشة من الطول.
145
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
146
الفصل الخامس والثالثون
يف طريق الغرب ويقظة يوسف وعناده وتتمة قصته ووصول السواح
إىل تجلة وقلق الصياد واتجاه املنصورة نحو الشمال
147
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
148
ثم سكنت الريح من مهبها الشديد وقرت املنصورة عىل رأس جميزة
عظيمة.
فسهر كل من َّ
العلمة وكنادي يف حراسة القبة ،أما يوسف فانتهز الفرصة
وغرق يف سبات مريح مدة أربع وعرشين ساعة بغري انقطاع.
فقال َّ
العلمة :هذا الدواء النافع ليوسف؛ أعني به الرقاد ،فإن الطبيعة
تأتيه بالشفاء من تلقاء نفسها.
وملا كان النهار عادت الريح شديدة متقلبة؛ فكانت تهب تار ًة نحو الرشق
وتارة أخرى نحو الجنوب ،غري أنها هبت أخريًا آخذة املنصورة إىل الجهة
الغربية.
فتطلع فرغوسن إىل الرسوم الجغرافية ورأى أنه قائم يف مملكة دامرغو،
149
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وما مضت برهة َّإل وصل السواح إىل مدينة زندر املشهورة بمحل العقاب
املتسع القائم فيها ،فرتى يف وسطه شجرة املوت ،وكل من م َّر بفيئها
يمسكه َّ
الجلد الجالس دوا ًما عندها ويشنقه عىل تلك الشجرة يف الساعة
والحال.
ثم تطلع الصياد إىل البوصلة وقال لفرغوسن :هو ذا؛ رجعنا إىل طريقنا
الشمالية.
قال َّ
العلمة :ال بأس منها إذا قادتنا إىل تمبوكتو؛ فإن رحلتنا ال تماثلها
ونجاحا.
ً رحلة توفي ًقا
فقال يوسف ،وقد مد رأسه من خالل ستار الخيمة ،وأمارات الرسور عىل
محياه :وال تماثلها رحلة بتوفيق صحة أصحابها.
قال ديك :ها هو ذا صاحبنا الشهم الفريد ومخلصنا الوحيد؛ كيف حالك
يا يوسف؟
قال يوسف :بألف خري كجاري عادتي وطبيعتي؛ فإني لم أر أبدًا نفيس
منرشح الصدر أكثر مني يف هذه الساعة ،وكيف ال يتنشط من قد تحمم
ً
برهة النرشاح صدره؛ فما قولك يا سيدي؟ مثيل يف بحرية شاد ،ثم مىش
150
فقال له َّ
العلمة :لله درك من شهم فريد! ...ولكن كم سببت لنا من القلق
والغم والرعب والهم!
قال يوسف :أتظن أني كنت عىل طمأنينة قلب من قبلكم؟َّ ...
كل؛ بل
يمكنكما أن تفتخرا بما سببتما يل من الفزع الشديد.
فقال َّ
العلمة :إذا قلبت املسألة عىل هذا النسق فال نتفق ً
إذا عىل رأي!
قال يوسف :ولكن إذا كان انقالبي الذي تنازلت إىل أن تدعوه حبًا قد
خلصكم ألم يخلصني أنا ً
أيضا؛ إذ إننا الثالثة ال نزال عىل أحسن حال
وأجود صحة ،وبالنتيجة فليس ألح ٍد أن يعزو التقصري لنفسه أو لخالفه.
فقال يوسف :أحسن واسطة لالتفاق إنما هي أن ننىس هذه املادة وال
مليحا فال عودة إليه.
ً قبيحا أم
ً نتكلم عنها؛ لقد جرى ما جرى ،إن كان
ً
ضاحكا :يالك من عنيد! فعىل القليل ال تتماسك أن تحكي فقال َّ
العلمة
لنا قصتك.
151
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :إذا كان ال ب َّد من ذلك فعىل الرأس والعني ،ولكن أرغب قبل
أن أخرب قصتي يف أن أشوي هذا البط املدهن ،فإني أرى أن الصياد لم
ً
باطل. يدع زمانه يذهب
قال يوسف :عن قريب نرى كيف يسلك الصيد اإلفريقي مع معدة
إفرنجية.
ويف الحال شوى يوسف البط عىل لهيب القصبة وأخذ كل حصة ،أما
يوسف فكانت حصته وافرة ألنه لم يذق طعا ًما منذ بضعة أيام ،وبعد
أن رشب الشاي والعرق أخذ يقص ما جرى له من الحوادث والوقائع،
غري أنه كان يظهر يف كالمه نوع من الهيجان واالضطراب ،لكن لم ينفك
العلمة يرى أن يوسف ً
مالحظا الحوادث بتفلسفه االعتيادي ،وملا كان َّ
قد اهتم يف خالص سيده أكثر مما يف نجاة نفسه كان يمسكه بيده عالمة
املعروف والشكران ،وعندما جره الحديث إىل التكلم عن غرق جزيرة
فس له فرغوسن كيف أن هذه الحادثة كثرية الوقوع يف بحريةالبيديوماه َّ
شاد.
ثم وصل يوسف أخريًا بسياق حديثه إىل الساعة التي فيها غطس يف
البطحة ورصخ رصاخ اليأس األخري.
فقال :سيدي لقد ظننت أني ولجت لجة الهالك وملا اتجهت أفكاري
ً
خبطا شديدًا وقد عزمت عز ًما ثابتًا بأن نحوك أخذت أصارع وأخبط
ال أترك نفيس عرضة لالبتالع بدون مجاهدة ومعاندة ،وإذا بي أبرص
152
شيئًا عن بعد قدمني ،وما هذا اليشء ّإل طرف حبل مقطوع حديثًا،
فبذلت جهدي وكدي حتى وصلت إىل ذلك الحبل فمسكته ورأيته ال
ينجر معي فانسحبت عليه فإذا أنا عىل أرض صلبة ،وشاهدت مرساة يف
طرف الحبل ،فبالصواب أدعو تلك املرساة «عن إذنك يا سيدي» مرساة
الخالص؛ فإني عرفتها من مرايس املنصورة ،ولهذا تبعت اتجاه الحبل
الذي دلني إىل اتجاه املنصورة ،وبعد أن كابدت شديد العذاب نجوت من
السبخة ،فتشددت قواي وتضاعفت شجاعتي فرست مدة من الليل وأنا
مبتعد عن البحرية ثم وصلت أخريًا إىل طرف غاب عظيم فشاهدت هناك
حوشا ترعى فيه خيل وهي ال تفتكر بيشء؛ ففي الحياة أوقات يحسن ً
ً
برهة بها كل إنسان ركوب جياد الخيل ويجري كالخيالة ،فما أخذت قط
للتفكر ،بل وثبت عىل جواد ورشعت أجري رسيعًا إىل الجهة الشمالية،
فليس يل أن أذكر البالد التي لم أشاهدها وال القرى التي تجنبت املرور
بها ،بل أقول إني جزت الحقول املزروعة وقطعت اآلجام والسياحات
وسقت حصاني ورضبته ،وأفرغت جهدي باالستعجال فوصلت إىل حدود
األرايض املفلوحة وانتصبت البادية أمامي فقلت :وال أحىل منها؛ ألني أرى
ما أمامي وأراه من بعيد ،وكنت أؤمل دائ ًما أن املنصورة تنتظرني فخاب
أميل ولم أر شيئًا حتى وصلت أخريًا يف برهة ثالث ساعات إىل محطة عرب
ووقعت وقعة الطري يف أحبولة الصياد وأنا كنت املصيد.
اعلم يا سيدي ديك أن الصياد ال يعرف قيمة الصيد حتى ُيصطاد هو
بالذات ،ومع ذلك إذا استطاع فليحرتس من مثل ذلك الصيد.
هذا وكانت العربان تجد يف إثري حتى أعيي حصاني واقرتب مني أحد
العربان فانقضضت عىل فرسه وصارعته وأخنقته ،غري أني لم أفعل
153
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ً
بغضا له ،وعليه أؤمل أنه ال يريد يل سوءا من قبل ذلك ،وحينئ ٍذ ذلك
شاهدتكما وأنتما تعرفان بما جرى بعد هذا؛ فقد جرت املنصورة تابعة
أثري ونشلتني كالطائر من األرض؛ ألم يحق يل أن أثق بكما وبمعروفكما
ولباقتكما ،أما اآلن فأسألك يا سيدي :هل ما جرى ليس شيئًا طبيعيًا
ً
بسيطا جدًا وكثري الوقوع؟ ...وها إنني مستعد ألن أعيد العمل إذا أمكنِّي
أن أنفعكما بأمر من األمور ولكن كما قلت لك ساب ًقا ال تستحق املسألة
أن نتكلم عنها.
قال َّ
العلمة :عافاك الله يا يوسف! ...فإنك ذو شمائل وطبائع حسنى ما
لها من مثيل ،ولم نخطئ نحن ً
أصل باتكالنا عىل ذكائك وفطنتك.
وفيما كان يوسف يحكي قصته قطعت املنصورة مسافة بعيدة يف تلك
البالد ،ثم أشار ديك إىل وجود أكواخ يف الجهة األفقية تظهر كأنها مدينة
العلمة إىل رسومها وعرف أنها قرية «تجلة» يف مملكة دامرغو،فنظر َّ
ثم قال سنجد هناك الطريق التي سلكها برث وفيها انفصل عن رفيقيه
ريرشدسون وأورويك؛ فكان ريرشدسون متأهبا للمسري يف طريق زندر،
وأورويك كان مستعدًا لالنطالق إىل مارادي وكما ال يخ َفى لم يرجع إىل
أوربا من هؤالء السواح الثالثة سوى برث وحده.
قال الصياد :ألن هذه الطريق توصلك إىل طرابلس فنضطر من جراء ذلك
أن نطوف الصحراء الفسيحة.
قال َّ
العلمة :أؤمل أننا ال نذهب إىل بع ٍد كهذا وال بهذه الطريق املشؤومة.
قال يوسف :أي نعم؛ ال يسوغ ألحد أن يسافر يف أمصار إفريقية وتفوته
زيارة تمبوكتو.
قال َّ
العلمة :فتكون الخامس أو السادس بني رجال أوربا الذين زاروا
هذه املدينة العجيبة يف غوامضها.
155
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أجاب الصيادِ :ن ْعم الرأي؛ إنما هل بقي علينا مسافة طويلة يف جهات
الشمال؟
العلمة :علينا مسافة مائة وخمسني ً
ميل عىل األقل. قال َّ
فاضطجع الصياد يف املظلة ،أما فرغوسن فقلما كان يؤثر فيه التعب ،ولذا
لبث راصدًا.
ويف برهة ثالث ساعات كانت املنصورة تجوب برسع ٍة ال مزيد عليها ً
أرضا
مخصبة تعلوها سالسل جبال شامخة قحلة ،وتتخللها بعض أوطاد
علوها أربعة آالف قدم ،وتلعب النعام والزرافة والوعل بخفة ورسعة
عجيبة يف وسط غابات من السنط ونبات املستحية والهيلج وشجر
النخيل ،ثم تال الفلوات الغامرة أرض كساها ديباج النبات مطر ًزا باألنوار
واأللوان ،وهي بالد الكلواص ،وهؤالء يلقون عىل وجوههم براقع من قطن
نظري جريانهم التوارج الذين من يجاورهم ال يأمن عىل نفسه من الهلكة
لشدة رشاسة أخالقهم وغلو توحشهم؛ ففي الساعة العارشة مساء بعدما
قطعت املنصورة تلك املسافة الطويلة وقدرها مائتان وخمسون ً
ميل
وقفت فوق مدينة كبرية فكان ُي َرى منها عىل ضوء القمر قسم بني عامر
وبعض رؤوس مآذن مرتفعة هنا وهناك ترضبها أشعة النور ُ وغامر،
فالعلمة قد اطلع من حساب علو الكواكب أنه قائم تحت َّ فتظهر بيضاء،
156
خط عرض أغاد.
فكانت هذه املدينة قدي ًما مرك ًزا لتجارة وسيعة جدًا ّإل أنها قد بدأت
تتقهقر وتخرب قبل زيارة املعلم برث لها.
أما املنصورة فكانت غري منظورة عن بع ٍد فاستوت عىل األرض عىل مسافة
ميلني من أغاد يف حقل وسيع مزروع ذرة بيضاء ،وقضوا الليل بسكون
وراحة ،يف الساعة الثالثة ،بينما كانت ريح خفيفة تدفع القبة نحو الغرب
بجنوب أغاد انبلج الصباح.
فأرسع فرغوسن يف اغتنام هذا الطالع السعيد فارتفع رسيعًا وف َّر هار ًبا.
157
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
158
الفصل السادس والثالثون
يف رسعة سري املنصورة ويف األعمال الصادرة عن حكمة ويف األثقال
ويف األمطار املرتاكمة ويف غاو والنهر األسود والسواح كلربي وجوفروا
وغراي ومونغو برك ولينك وراني كالية وكالبرتون وجون وريشار لندر
159
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
160
فقيض اليوم السابع عرش من آيار بهدوء وسكون وبدون عارض مكدر،
وعادت تظهر املفازة ،وكانت ريح معتدلة تحمل املنصورة ما بني الجنوب
والغرب بدون أن تميل يمنة أو يرسة ،بل كان ظلها يرسم عىل الرمل ً
خطا
مستقي ًما لم يشوهه أدنى انحراف أو اعوجاج.
وكان َّ
العلمة قبل سفره قد جدد مؤنتها ماء؛ إذ كان يخىش أنه يمتنع عليها
النزول إىل األرض يف تلك البقاع املستهدفة لغارات التوارج الكثرية ،وكان
هناك السهل املرتفع أل ًفا وثمانيمائة قدم عن شاطئ البحر ينخفض نحو
الجنوب ،وإذ قطعوا الطريق املؤدية من أغاد إىل مرزوق املمهدة بأقدام
الجمال بلغوا مساء إىل الدرجة السادسة عرشة من العرض والرابعة
والنصف من الطول بعد أن يكونوا قد قطعوا مسافة مائة وثمانني ً
ميل
من أرض مستوية مملة.
161
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ففي ذاك النهار أتم يوسف إعداد الطعام ،آخر ما كان عنده من الصيد
فأتى للعشاء بيشء من لحم دجاج أريض مشوي مما يهيج شهية اآلكل
لجودته ولذته ،أما الريح فكانت تصلح للسفر فعمد َّ
العلمة إىل أن يداوم
السري يف لي ٍل كان البدر فيه تمي ًما ساطعًا ،فارتفعت املنصورة إىل علو
ميل بهدوء وسكينة ليل قاطعة مسافة نحو ستني ً خمسمائة قدم فسارت ً
ال يقلق فيها طفل خفيف النوم.
فلما نظر يوسف إىل هذه الطيور الكارسة خطر له عىل بال أن يهنئ
معلمه عىل ما رآه من الرأي املصيب يف اتخاذ مركبتني هوائيتني؛ الواحدة
ضمن األخرى.
أجابه معلمه :أصبت يا صاح! ...غري أني ال أركن إىل قاربي كل اإلركان؛
ألنه ال يساوي املركب.
قال :معناه أن املنصورة الجديدة ال تسوى القديمة؛ إما ألن قماشها قد
ُبري وإما ألن صمغها قد ذاب عىل حرارة األنبوبة؛ فإني تحققت تل ًفا يف
162
الغاز ليس بكثريٍ إىل اآلن ،إنما معترب ،وقد أخذت القبة بامليل إىل الهبوط،
وقد اضطررت إىل تثبيتها إىل أن أزيد اإلدروجن تمددًا.
قال َّ
العلمة :يف الحقيقة ال عالج لهذا الداء يا صاحبي ديك ،ومن ثم
يحسن بنا أن نرسع يف املسري ونتحاىش من وقفات الليل.
قال َّ
العلمة :أي ساحل يا ولدي؟! ...وهل نعلم إىل أين تحملنا التقادير؟!...
فكل ما يمكنني أن أقول لك هو أن تمبوكتو تبعد عنا مسافة أربعمائة
ميل نحو الغرب.
قال :إن ساعدتنا الريح وصلنا إىل تلك املدينة يوم الثالثاء مساء.
فعندها أشار يوسف إىل رسبة بهائم وأناس منرسبة يف الفيايف وقالً :
إذا
نصل إليها قبل هذه الرسب.
ثم انحنى فرغوسن وديك ونظرا خليطا كبريًا من كل نوع ،فكان هناك
ً
فرنكا أكثر من مائة وخمسني ً
جمل؛ يؤجر الواحد بمائة وخمسة وعرشين
ً
حامل قنطا ًرا عىل ظهره ،وكل من الجمال تحت من تمبوكتو إىل تافيلة
ذيله جراب يلقي فيه بعره لكي يشعلوه يف الربية؛ إذ ليس للجمالة وقود
خالفه يف الفلوات.
163
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أما جمال التوارج فهي من البابة األوىل ،وتصرب عىل الظمأ من ثالثة أيام
إىل سبعة ،وتسري يومني بدون أكل ،وهي أرسع من الخيل عد ًوا ،وتطيع
بحذاقة صوت الخبري الذي هو قائد القافلة ،ف ُت ْع َرف يف البالد باسم مهاري؛
العلمة فرغوسن يقص هذه القصص كان رفيقاه يحدقان فبينما كان َّ
بنظريهما إىل ذلك الجمهور الغفري من رجال ونساء وأوالد يسريون بعناء
عىل كثائب رم ٍل رخو تغرق فيه أقدامهم ،وال يتخلله َّإل قليل من العوسج
واألخشاب الجافة والعليق النابت يف بعض محاله ،وكانت الريح تذرو
حال بعد تخططها. الرمال وتمحو آثار خطواتهم ً
فسأل يوسف :كيف تتوصل العربان إىل معرفة الطرقات ويتمكنون من
إيجاد اآلبار املتفرقة يف تلك الفلوات الفسيحة؟!
أما املنصورة فقد كانت توارت عن أبصار العربان وقد أولتهم الدهشة من
رسعة مسريها وودُّوا لو ماثلوها جر ًيا؛ فعند املساء بلغت الدرجة الثانية
وعرشين ثانية من الطول ،وقطعت يف الليل مسافة أكثر من درجة.
164
واليوم االثنني قد انقلب الفلك انقال ًبا تا ًما؛ فأخذت األمطار تنهمل ً
وبل
ثقل أزعج السواح ،وعن مثل هذه األمطار الشديدة والقارب ً
َ َ
القبة فزادت
قد نشأت البحريات ومستنقعات املياه املغشية سطح تلك البالد ،وفيها
من النبات الشجرة الغناجة والبوبات والتمر الهندي.
صنراي وقراها املعممة بأسطحة مقلوبة تماثل القبعات فهذه حالة بالد ُ
األرمنية؛ َّ
فقل ما فيها من الجبالَّ ،إل أنه توجد فيها تالل بينها غدران
وبرك مياه تخطها طيور الدجاج األريض والغرغرة وهي طائرة عىل
سيول رسيعة الجري تقطع الطريق فيلتزم ً سطحها ،وترى هنا وهنالك
مركب من أفانني األشجارَّ املسافرون أن يجوزوها متمسكني بحبل
القائمة عىل جانبي السيول وممدود من جهة إىل أخرى ،وغابات مراتع
للتماسيح واألوعال والخراطيط.
العلمة :أوشكنا أن نرى نهر النيجر؛ أي األسود ،فإن البلدان تتغري قال َّ
هيئتها بقرب األنهار؛ ألن األنهار طرقات جارية كما قيل ،وجا َّرة وراءها
الخصب ،وفيما بعد تأتي بالتمدن والفالح؛ هكذا برز عىل جانبي مجرى
رب مدن إفريقية وأعظ ُمها النهر األسود البالغ ألفني وخمسمائة ميل أك ُ
أهمية وعمرا ًنا.
فأخذت يوسف حركة العجب وقال :إن هذا يذكرني بقصة من كان
يتعجب من حسن العناية اإللهية ويثني عليها جميل الثناء ألنها اهتمت
فأجرت األنهار يف وسط املدن الكبرية أو بالقرب منها ،مع أن األنهار
جرت مجراها قبل ابتناء املدن.
فكانت املنصورة يف الظهرية تسري فوق قرية غاو ،وهي اآلن مجموع
165
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أكواخ حقرية ،مع أنها كانت يف القديم مدينة معتربة ،بل قاعدة البالد.
العلمة :هنا قد عرب برث النهر األسود لدى عودته من تمبوكتو ،وهاقال َّ
هو ذا النهر الشهري يف األعصار القديمة بشهرة نهر النيل الذي أع َزى
الحنفاء منشأه إىل اآللهة ،وقد أشغل نظري نهر النيل أفكار الجغرافيني يف
كل زمان ،وتكلف الباحثون عنه مشقات كبرية ،وتعرضوا ألخطار وفرية
كما تكلف الباحثون عن النيل.
وكان النهر األسود يجري بني ضفتني منفرجتني ،وتنحدر مياهه نحو
الجنوب انحدا ًرا شديدًا أما السواح فكادوا ال يميزون عرجاته العجيبة.
قال فرغوسن :إني أريد أن أخاطبكم عن هذا النهر ،ولو كان اآلن بعيدًا
منا جدًا؛ فإنه يجوب بلدا ًنا شتى ويسمى تارة نهر الدواليب ،وتار ًة أخرى
نهر املايو ،وطو ًرا نهر ُق ّرا ،ويف بعض محال يدعى بأسماء أخرى وكاد
يوازي النيل بطول مجراه ،وكل هذه األسماء معناها «النهر» يف لغات
البلدان التي يجتاز بها.
قال كناديَّ :
لعل املعلم برث سار هذا املسري.
كل؛ بل ملا بارح بحرية شاد م َّر بأكرب مدن الربنو ،وأتى قال فرغوسنَّ :
فعرب النهر األسود يف صاي ،وهي عىل مسافة أربع درجات تحت غاو ،ثم
ولج أواسط تلك البلدان التي لم يكن تجسسها أحد ،وكان النهر يحدق
بها بعوجاته ،وبعدما قاىس أتعا ًبا جديدة مدة ثمانية أشهر وصل إىل
تمبوكتو ،أما نحن فإننا نبلغ إليها بأقل من ثالثة أيام إن ساعدتنا األرياح.
قال ديك :ألم توقف مثل تلك امليتات التعيسة رود الرائدين الراغبني يف
اكتشافات جديدة؟!
العلمةَّ :
كل؛ بل أضحت لهم مهما ًزا حضهم ،ليس عىل البحث عن قال َّ
167
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :هل يح َّرم علينا عدم االعتقاد بكلمة من مثل تلك التقليدات؟
العلمة :ليس بحرام قط؛ أما الضابط لينك فقطع سنة 1827فسيح قال َّ
الصحراء ،ودخل تمبوكتو ومات مخنو ًقا من أوالد سليمان امللحني عليه
باإلسالم دون نيل إربهم ،وملا قتل لم يبعد عن تمبوكتو َّإل مسافة بعض
أميال.
والحاصل أنه يف مدة تسعة عرش شه ًرا جاب إفريقية من غربيها إىل
شماليها مع ما قاساه من املرض مدة مائة وثمانني يو ًما ،ولعمري لو
كان كاليه قد ولد يف إنكلرتة لكافؤوه بما يستحق من اإلكرام والرشف
كما كافأ اإلنكليز ابن وطنهم منغوبرك ،لكنه لم يعترب يف فرنسا االعتبار
الذي َّ
حق له.
قال ديك :نعم الرجل ،وحبذا لو كان رفي ًقا لنا ،ولكن ترى ما ذا َّ
حل به؟
َّ
العلمة :إنه تويف وهو يف عمر ثمان وثالثني سنة من جراء قال
169
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
171
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
172
الفصل السابع والثالثون
يف البالد التي يف عرجات النهر األسود ويف منظر جبال أومربي الغريب
ويف كابرة وتمبوكتو ورسم املعلم برث وسقوط املدينة عن رونقها
القديم والسري عىل رحمة الهواء
173
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
174
وكان َّ
العلمة فرغوسن مدة ذاك النهار املكرب ،نهار االثنني ،يسيل رفيقيه
قصصا شتى عن البالد التي كانوا يجتازون بها ،وكانت ً بقصه عليهم
أرضها مستوية عىل األكثر لم تأتهم بصعوبة يف مسريهم ،ولم يكن يشء
يكدر صفا بال املعلم ّإل تلك الريح املشؤومة التي كانت تهب عاصفة من
الشمال الرشقي وتبعدهم عن عرض تمبوكتو.
شمال حتى يصل تلك املدينة ثم يدور كأنه فوار ً أما النهر األسود فيجري
خصال منفرجة جدًا؛ أما ً ماء كبري ويصب يف البحر األطلنتيك متفر ًقا
األرايض التي يكتنفها النهر يف عرجاته فمنها عامرة بهية بالخصب ،ومنها
حقول رحبة يكسوها ً غامرة قاحلة كل القحول؛ فتيل السهول البائرة
ديباج املزروعات أو بساط الرتم .ويف أرياف السئول والبطاح والبحريات
تعيش بكثرة جميع أنواع الطيور العاشقة املياه كالبجع واأل َو ِّز والبط
والصنصن وما شاكلها.
175
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أما املنصورة فكانت نحو الساعة الثامنة مساء قد تقدمت مسافة ما
ً
جميل ينيف عن مائتي ميل نحو الغرب ،فشاهد حينئ ٍذ السواح مشهدًا
وابتهاجا.
ً أوعب قلوبهم عجبًا
أجابه يوسف :وحياتي إني ال أحب أن أسري وحدي مساء يف هذه البالد
وأشباحا؛ أترى يا معلمي لو لم تكن هذه البقعة ثقيلة
ً املوعبة أطيا ًفا
لحملتها إىل بلدي وألقمتها عىل شاطئ بحرية ملوند فيتقاطر إليها
الناقشون واملتفرجون أجوا ًقا أجوا ًقا.
قال َّ
العلمة :إن قبتنا ال تسعها حتى تشغل بالك بهذا الفكر الشاذ ،غري
أنني أرى اتجاه مسرينا قد انقلب فال عاد عفاريت هذا املكان يعارضوننا،
176
ريحا لطيفة تهب من الجنوب الرشقي فتحملنا إىل
بل إنهم ينفخون لنا ً
طريق حسنة.
يف الحقيقة عادت املنصورة تسري يف طري ٍق تميل إىل الشمال ،ويف اليوم
صباحا مرت فوق جديلة أقني ٍة ونهرياتٍ وغدران تصب جميعها
ً العرشين
يف األنهار الصابة يف النهر األسود ،وكثري من هذه األقنية مغشاة بأعشاب
مراع دسمة؛ فهناك اهتدى َّ
العلمة إىل الطريق التي سار ٍ كثيفة كأنها
فيها برث حينما سافر يف النهر قاصدًا تمبوكتو؛ وعرض النهر 4800
قدم وعىل ضفتيه كثري من شجر الصبار والتمر الهندي ،فريتع به رسب
األيل وتتلبك ُقزونها املحلقة بني الكأل فريصدها التمساح ليثب عليها
ويفرتسها.
ً
أقفال كثرية من حمري وجمال تنرسب تحت األشجار الجميلة وكنت ترى
ُم َح َّملة ببضائع واردة من جنة ،وبعد هنيهة ظهر عىل عوجة من عوجات
النهر جوقة بيوت منخفضة مبنية يف منحد ٍر وعىل أسطحتها كدسان
علف للدواب أُتي به من األرايض املجاورة.
177
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وكان فرغوسن يتأمل الرسم الذي اتخذه برث نفسه يف سفره ،وحقق
غاية صحته وحقيقته.
فرسم املدينة عىل هيئة مثلث الزوايا؛ فهي منبسطة عىل سهل رحيب من
رمل أبيض ،ورأسها املتجه نحو الشمال نافذ يف جهة من الصحراء وكاد
ال يكون يشء من األغراس يف دوائرها َّإل بعض أشجار ذات زهر ونبات
الغناجة وغريها من نباتات مهذولة صغرية.
أما منظر تمبوكتو فهو كمجموع ك َّرات وكعبات تظهر بديهًا لعني الناظر؛
فشوارعها ضيقة وعىل جانبيها بيوت ليس لها َّإل طبقة سفلية مبنية
بآجر ميبس عىل الشمس ،وبعض أكواخ من قش وقصب؛ منها بشكل ُ
بعضا من سكانها مضطجعني مخروط ومنها مربعة ،وعىل األسطحة ترى ً
اضطجاع املرطلني الكساىل مرتدين بكساء بهي ثمني وبأيديهم القناة أو
القربينة .أما النساء فال ُينْ َظ ْرن يف تلك الساعة من النهار؛ قيل إن النساء
جميالت املنظر.
قال َّ
العلمة :لم يبق آثار من املدينة القديمة سوى ثالث مآذن لثالثة
جوامع؛ ألن املدينة قد سقطت كثريًا عن رونقها السالف ففي الرأس
املثلث الزوايا ترى جامع سنكور وإيوانه الطويل املسنود عىل قناطر
ليست بخالي ٍة من جمال البناء ونظامه ،وعىل مسافة منها بالقرب من
حي سانغونغو جامع سيدي يحيى ،وبعض من الدور عىل طبقتني؛ فعبثًا
178
تفتش يف املدينة عن قصور وبنايات كبرية ،فشيخها تاجر بسيط ومنزله
امللوكي ما هو َّإل مكتبه التجاري.
فلما مرت املنصورة فوقها بدا فيها بعض الحركة ،بل ورضب بالطبل،
غري أن من كان من أهلها عىل يشء من العلم لم تسنح له الفرصة املناسبة
ملراقبة هذه الحادثة الجديدة؛ إذ دفعت الريح الشديدة الس َّواح نحو
املفازة فعادوا يسريون فوق مجرى النهر الكثري العرجات ،ففي الحال
توارت عنهم تمبوكتو ولم يبق لهم منها َّإل ذكرها.
قال َّ
العلمة :أما اآلن فليذهب بنا املوىل إىل حيث يشاء.
179
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :لو عدنا إىل زنجبار يف الطريق التي أتينا بها أو جزنا بحر
األوقيانوس حتى أمريكا ملا كنت أخىش ً
رضا.
ً
سبيل إىل ذلك العلمة :ولكن يا يوسف لكان يلزمنا ً
أول أن نستطيع قال َّ
السفر.
قال يوسف :هاك يا معلمي ثمرة البطالة واملكث يف النهار بطوله كمن
يضجع يف أرجوحته فنسمن ونضخم ونثقل؛ فإن سفرنا هذا من أعمال َّ
الكساىل فمتى عدنا إىل إنكلرتة أرعبنا من نظرنا بسمننا وضخامتنا.
أجاب الصياد :لعمري إن مثل هذه املالحظات ال يأتي بها ّإل يوسف،
مهل يا يوسف ً
مهل ،انتظر النهاية؛ أتعلم ماذا يقدره الله علينا؛ ولكن ً
لم نزل بعد بعيدين من منتهى سفرنا ،ما رأيك يا صموئيل؛ أين نصادف
ساحل إفريقية؟
قال َّ
العلمة :إنني قارص جدًا عن مجاوبتك يا ديك ألننا مسلمون إىل رحمة
رياح متقلبة غري أني أحسب نفيس سعيدًا إذا وصلت إىل ما بني سيارة
ليوني وبورتنديك؛ فهناك بلدان واسعة البد أن نصادف فيها ً
بعضا من
األصدقاء.
180
قال ديك :وما أوفر رسورنا عندما نقابلهم ونهديهم التحيات الودادية
ولكن هل ترى أننا سائرون إىل الجهة املطلوبة؟
قال َّ
العلمة :لسنا تما ًما عىل ما ينبغي من املسري؛ هاك البوصلة فرتانا
سائرين إىل الجنوب وذاهبني إىل ينابيع النهر األسود.
مة:كل ،ولكن كن مرتاح البال يا يوسف؛ إني أؤمل َّأل نتقدم إىل
َّ قال َّ
العل
ذلك الحد.
العلمة بما بقي من أكياس الصبورة ألن القبة فلما أظلم الظالم رمى َّ
لم تعد تحتملها مع اشتعال آلة الغاز إىل أعىل درجة ،فكانت القبة وقتئ ٍذ
ميل يف جنوب تمبوكتو ،ويف اليوم الثاني أصبحت عىل سارت ستني ً
شاطئ النهر األسود بالقرب من بحرية ديبو.
181
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
182
الفصل الثامن والثالثون
يف قلق َّ
العلمة فرغوسن ويف الجراد ويف انقالب الريح
183
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
184
فكان مجرى النهر وقتئ ٍذ منقس ًما إىل فروع ضيقة رسيعة الجري لوجود
جزائر شتى يف وسطه ،وكانت إحداها تحوي بعض أكواخ للرعاة إال أنه
لم يكن يتيرس للسواح رسم ما كان عىل طريقهم بوجه الضبط والتدقيق
الزدياد رسعة مسري املنصورة ،ولسوء حظهم قد كانت مائلة للجنوب
أكثر من ذي قبل ،وجازت بحرية دابو بربهة وجيزة.
أما فرغوسن فكان ينقل القبة إىل درجات مختلفة من العلو ليحكمها يف
مجاري أرياح غري التي كانت تحملها إال أنه لم ينجح يف عمليته ،ومن
َث ّم ترك ً
حال هذه املحاولة الزائد من قبلها تلف الغاز بداعي شده عىل
جوانبها املنهوكة باألرياح ،فاستوىل عليه قلق جسيم لكنه وارى أماراته
صامتًا ،وكانت الريح تالزم دفعها إىل جهات جنوبي إفريقية وتوقع ً
خلل
يف حساباته ،أما هو فلم يعد يدري بمن أو بما يعتمد عليه؛ فإن لم يبلغ
األرايض اإلنكليزية أو اإلفرنسية وقع يف أيدي الربابرة الشانني اإلغارة عىل
185
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
سواح غويني ،والله أعلم بما يصيبه هنالك من الباليا والرزايا؛ فال يعود
يتيرس له سفينة يعود بها إىل إنكلرتة وكانت الريح تقذف به نحو مملكة
توحشا وفظاظة فيرتك هناك ً داهوماي يف وسط قبائل فاقت جميع املأل
إىل رحمة ملك يذبح يف األعياد الجمهورية ألو ًفا من البرش ضحايا آللهته؛
فمن وقع يف تلك البالد ذهب ال محالة فريسة الهالك.
وكانت القبة من جه ٍة أخرى تعيا عياء ظاه ًرا يف مسريها ،ولم يخف أمرها
العلمة لكنه كان يؤمل أنه متى انقشع السحاب وانقطع املطر تنقلب عىل َّ
مجاري الهواء يف الجو إىل ما يحسن جريها فساءه ً
إذا ما أنبأه به يوسف
عن حالة الفلك بقوله :ها هو ذا املطر؛ أوشك أن يتضاعف هطله ،ويكون
هذه املرة طوفا ًنا عرمرما عىل ما تبرش به هذه السحب املقبلة.
قال فرغوسن :ال حول وال قوة ّإل بالله؛ أ َ ُس ُح ٌب هي ح ًقا ،وما حاجتنا
إليها؟! فقال ديك :لعمري إنها سحب كثيفة!
قال يوسف :وحياتي لم تر مثلها قط ،ولها أطراف حادة كأنها مخططة
عىل الزيح!
ثم أخذ َّ
العلمة النظارة ونظر إليها ،وإذ رفع النظارة قال :قد اطمأن
قلبي ألنها ليست بسحب.
قال يوسف :إن ذا غريب ،لكنه طبيعي فكما أن جرادة واحدة تتلف يسريًا
فكذلك ربوات من الجراد تتلف كثريًا.
قال ديك :وإنه ملطر وابل ،بل مهول ،وأهول من الربد الشديد دما ًرا.
187
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
العلمة :وأهول من هذا جميعه محال التوقي منه؛ أحيا ًنا يرى َّ قال
األهلون حرق الغابات حتى واملزروعات لكي يتمكنوا من إهالك هذه
الهوام ولكن لم ينجحوا كثريًا بهذه الطريقة ألن الرفوف األوىل تنقض عىل
اللهيب فتغشيه وتطفئه ،أما الباقية منها فيمررن فوقها بغري صعوبة وال
معارضة غري أن األهلني يستفيدون من هذا املصاب بعض العوض عما
ينالهم من الرزايا ،وهو أنهم يلتقطون كثريًا من هذه الهوام ويأكلونها
ً
مأكل. فيستعذبونها
قال يوسف :إني أشبهه بالقريدس الذي يف البحر ،وأتأسف لعدم تمكني
من ذوقه ألعلم كيفية هذا الطعام.
ً
سباخا فلم يعودوا ينظرون غابات وكانوا يرون البالد عند املساء تزداد
بل بعض شِ ْع ٍب من الشجر ،وعىل ضفتي النهر بعض نبات من التبغ
ومروجا ذات عشب كثيف لرعاية املوايش؛ ففي وسط جزيرة كبرية ملحوا ً
مدينة جنة ومئذنتي جامعيها ،واشتموا الرائحة الكريهة املنبعثة من
ألوف بألوف من أوكار السنونو املتحرشة يف أسوارها ويف خالل بيوتها،
ونظروا رؤوس أشجار البوبات والغناجة والنخيل ،أما أهلها فإنهم ذوو
عزم وهمة ونشاط ال يزالون النهار والليل يف العمل ،ومدينتهم جنة
وسيعة الدائرة وكبرية الحركة التجارية فتأتي تمبوكتو بكل ما يلزمها
وتنقل إليها عىل القوارب بالنهر وعىل ظهور الجمال يف الطرقات املظللة
باألشجار جميع محصوالت صنائعها.
قال َّ
العلمة :فلوال الحذر من إطالة سفرنا لحاولت النزول يف هذه املدينة؛
فال بد من أن يوجد فيها من العربان من سافروا إىل فرنسا وإنكلرتة
188
فلعلهم ال يستغربون مركبتنا ،إنما هذا ال يخلو من خطر.
قال يوسف وهو يتبسم :فلنأجلن هذه الزيارة إىل سياحتنا القادمة.
قال َّ
العلمة :وزد عىل الخطر ...إني أشعر بميلة خفيفة للريح ليهب من
الرشق فمن الواجب أن نغتنم هذه الفرصة.
العلمة من املنصورة ببعض أشياء أمست غري مفيدة كبعض قناني فرمى َّ
فارغة وصندو ًقا يوضع فيه لحم لم تعد حاجة إليه ،وتوصل إىل أنه أقام
املنصورة يف منطقة أنسب للمسري إىل حيث يشاء؛ ففي الساعة الرابعة
صباحا كانت أشعة الشمس تيضء سغو ،وهي عاصمة بمبارا املعروفة ً
جيدًا باألربع املدن التي تتألف منها وبجوامعها املزخرفة وبتوارد القوائق
الناقلة بال انقطاع سكان املدينة من محل إىل آخر ،أما الس َّواح فلم ينظروا
أكثر مما نظروا فكانوا يفرون برسعة وعىل الخط املستقيم إىل الجهة
قليل من قلقه وبلباله فقال:قليل ً
العلمة يطمنئ ً
الشمالية الغربية ،فأخذ َّ
إن بقينا نسري إىل هذه الجهة وبهذه الرسعة وصلنا بعد يومني إىل نهر
سنغال.
قال يوسف :أنكون انتهينا من السفر؟ ...حاشا لنا؛ فلوال رغبتي يف أن
189
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
الص َعدَاء :آه؛ إني متأسف شديد األسف عىل قال يوسف ،وهو يتنهد ُّ
قطع ذاك الذهب الخالص؛ فلو حفظناها لزادت كالمنا اعتبا ًرا وقصصنا
تصدي ًقا ،ولكنت إذا أعطيت كل رج ٍل شيئًا من ذاك الذهب؛ ألفت جمهو ًرا
أناس يسمعون حكاياتي ويتعجبون لخطبي ويستعظمونني. كبريًا من ٍ
190
الفصل التاسع والثالثون
ً
انخفاضا ويف الدرويش يف دنو السواح من سنغال ويف ازدياد املنصورة
الحجي وبسكال ومنصور وملربتوس والجبال الشاهقة وسالح ديك
ولباقة يوسف والوقفة فوق غاب
191
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
192
صباحا ظهر
ً ففي اليوم السابع والعرشين من أيار نحو الساعة التاسعة
منظر البالد جديدًا فوىل الدرجات املنبسطة تالل وأوتاد برشت بقرب
الجبال واآلكام ،وأزمع السواح أن يقطعوا سلسلة الجبال الفاصلة بني
مسيل النهر األسود ومسيل نهر سنغال املؤديني املياه إىل خليج غويني أو
إىل جون الرأس األخرض.
فإن قسم إفريقية هذا حتى سنغال مشهور بتوحش أهله وإيذائهم
للسواح ،وكان َّ
العلمة فرغوسن يعرف ذلك من أخبار سلفائه الذين قاسوا
مر العذاب وخاضوا أشد األخطار ما بني أولئك السودان الربابرة وقد هلك
رفقاء مونغوبرك من تأثري سوء الهواء وشدة الحر يف تلك األطراف فجزم
بأل يدوس تلك الكورة التي ال تأتي ضيفها ّإل
فرغوسن جز ًما قطعيًا ّ
باألهوال واألخطار.
193
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
غري أن ُه لم يرتح له بال ولم يهدأ له بلبال لكون املنصورة لم تزل تنخفض
ً
انخفاضا ظاه ًرا فاقتىض أن يخفف حملها بطرحه منها أشياء جمة غري
الزمة أو غري مفيدة ،وال سيّما عندما أوشكت أن تمر فوق قمة من قمم
الجبال ،ولم تربح عىل هذه الحال من العناء ومن الصعود والنزول عىل
مسافة أكثر من مائة وعرشين ً
ميل وهي مجندلة تتدحرج دوا ًما كصخر
سيزيف((( .وملا كانت القبة الهوائية قليلة االنتفاخ؛ قد ارتخت جوانبها،
عرضا وأخذت الريح تجعل يف ملفها طيات ً فكانت تمتد ً
طول وتضيق
وسيعة.
قال ديك وقد لحظ ما جرى لها :لعل يف القبة ش ًقا من جهة؟!
أجابه َّ
العلمة :كال ،بل إن طليها قد ذاب لشدة الحرارة وأخذ اإلدروجن
ينرصف من خالل قماشها.
قال َّ
العلمة :ال حيلة يف ذلك ّإل أن نخفف حملها ،وهذه هي الطريقة
الوحيدة؛ فلنلق منها كل ما يمكن طرحه!
قال ديك وهو ينظر إىل قارب القبة :ترى ما الذي نطرحه بعدُ؟! ...ها!...
القارب فارغ من كل ما كان فيه.
قال َّ
العلمة :فلننزع عنها املظلة ألن ثقلها ليس بيسري.
((( زعم الوثنيون القدماء أنه كان محكوما عىل سيزيف أن يصعد من أسفل جب ٍل إىل قمته صخ ًرا
ويتدحرج به ً
حال من القمة إىل أسفل.
194
وملا كان يوسف ينوط به هذا األمر صعد فوق الحلقة الجامعة حبال
الشبكة وتيرس له هناك أن فصل عنها أستار املظلة السميكة ورمى بها
خارجا وهو يقول :هاك غنيمة وسعادة لشمل قبيل ٍة من السودان؛ فهذه
ً
ألف من األهلني ألنهم يشحون كثريًا عىل القماش
األقمشة تكفي لكسوة ٍ
يف مالبسهم.
فارتفعت القبة برهة ّإل أنها عادت فيما بعد تهبط وتدنو من األرض.
قال ديكَ :فلْنَنْ ِزلَ َّن َولْنَ َر ما يمكننا عمله إلصالح هذا امللف!
قال َّ
العلمة :قد قلت لك يا ديك ،وأقول ً
أيضا ،أن ال سبيل إلصالحه.
قال ديك :فما الحيلة ً
إذا؟!
195
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
العلمة :هاك ما جرى؛ ظهر سنة 1854شيخ سنغايل من فوطا يقال قال َّ
له الحجي وادعى النبوة وألقى الفتنة بني القبائل وحملهم عىل محاربة
الكفار ،أي األوربيني ،وأنزل ويالت الدمار والخراب فيما بني نهر سنغال
اب فيه ،فأقام ثالث عصابات من أولئك القوم الرفاض الص ِّ
ونهر فليمة َّ
وطاف بهم البالد ينهب ويقتل كل من صادفه ،ولم يعف عن قرية ولم
يسلم من رشه دار وال كوخ حتى ولج يف وادي النهر األسود وبلغ مدينة
طويل بالخراب ،وسنة 1857عاد إىل جهات الشمالً سغو وتهددها زما ًنا
برجاله وأحاط بقلعة مدين التي بناها اإلفرنسيون عىل شاطئ النهر،
فدافع عن هذه القلعة رجل صنديد يقال له بولس هول عدة أشه ٍر ،ولبث
ثابتًا يحميها من رش الحجي ورجاله ،وبالكاد عنده قليل من القوت حتى
وصل إليه الكولونيل «فيدرب» ونجده وأنقذه من الهلكة ،فعندها رجع
الحجي وجماعته عنه وجازوا سنغال وعادوا إىل كعرتا ينهبون البالد
ويقتلون العباد ،والحاصل أن هذه هي البالد التي لجأ إليها هو وجماعته
واحتجبوا فيها ،ومن الثابت أنه ال يحسن بنا ً
أصل الوقوع بني أيديهم.
قال يوسف :ال سمح الله أن نقع بني أيديهم ،ولو ا ْق ُت ِض أن نخلع عنا
196
أحذيتنا ونرمي بها إىل الثرى لنرفع املنصورة يف الفضاء.
قال َّ
العلمة :لم نبعد عن النهر لكنني أرى أن القبة ال يمكنها حملنا إىل
ما وراءه.
قال َّ
العلمة :هذا ما نحاول صنيعه ،غري أنه يقلقني أمر واحد.
ً
جبال ينبغي أن نقطعها ويشق علينا قطعها، قال َّ
العلمة :إن أمامنا
ألنني ال أقدر أن أزيد قوة التصاعد يف القبة ،ولو أتيتها بأعظم ما يمكن
من الحرارة.
ً
جميل؛ علينا باالنتظار لنرى ما يكون يف آنه. قال الصياد :فصربًا
قال يوسف وهو يتأسف عىل حالة املنصورة :مسكينة املنصورة؛ إنني
تعلّقت بها تعلّق النوتي بسفينته؛ فال أنفصل عنها بدون ضيم وكدر،
ولكن ما الحيلة؛ فإنها ليست كما كانت يف أول سفرنا فال بأس عليها وال
ينبغي أن نقول فيها سوءا ألنها أتتنا بخدمات سنية ،وإن هجرتها فقد
انفطر فؤادي عليها غ ًما.
قال َّ
العلمة :كن طيب الخاطر يا يوسف؛ إن تركناها فال عار علينا ألننا
نرتكها رغم أنفنا فتخدمنا حتى ننزف جميع قواها؛ فإني أطلب منها أن
تخدمنا بع ُد أربعا وعرشين ساعة.
197
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فأخذ يوسف يتفرس فيها وقال :قد خارت قواها وانحلت وكادت روحها
تزهق؛ وا أسفاه عليها!
ً
جبال ،لعلها قال الصياد :يا معلمي صموئيل انظر إىل األفق؛ إني أرى
الجبال التي ذكرتها.
فأخذ َّ
العلمة نظارته ونظر بها إىل األفق ثم قال :إنها هي بعينها ،وأراها
شامخة فيشق علينا قطعها.
قال َّ
العلمة :ال أظن؛ ألنها تشغل مسافة كبرية من األرض ،وهي نحو
نصف امتداد األفق.
قال يوسف :ويرتاءى يل أنها تتزاحم حولنا وتحدق بنا يمنة ويرسة ،فال
ب َّد لنا من املرور فوقها.
وكانت هذه الجبال تستبني سائرة ملالقاة السواح وتقرتب منهم برسع ٍة ال
مزيد عليها ،أو بالحري كانت الريح عاصفة تقذف باملنصورة نحو القمم
وإل صدمت الصخورالرفيعة فكان ال بد لها من االرتفاع عىل كل حال َّ
وتلفت.
قال فرغوسنَ :فل َ ُن ْف ِر َغ َّن صندوق املاء فال يبقى منه إال ما يلزمنا للرشب
يو ًما واحدًا.
قال َّ
العلمة :فالبد لنا من املرور فوق الجبال؛ فما الحيلة؟!
أما املنصورة فقد زادت صعودًا نحو عرشين قامة لكنها لم تزل منخفضة
عن قمة الجبل ،وكانت هذه القمة شبه مسلة منتصبة قائمة يف رأس جبل
شامخ كأنه مخروط بالبيك ،وكانت تعلو السواح مسافة مائتي قدم.
قال َّ
العلمة يف نفسه :من اآلن إىل عرش دقائق يصدم القارب هذه الصخور
199
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أجابه َّ
العلمة :اطرح كل هذا اللحم املثقل عىل القبة ،وال ُتبْ ِق ّإل مؤنتنا
من مر ّبى اللحم.
فنظر َّ
العلمة إىل ما حوله يف القارب فوجده كأنه فارغ ويكاد ال يكون
فيه يشء.
فقال لديك :إن اقتىض األمر! ...ينبغي أن تكون مستعدًا لطرح أسلحتك!...
فلما سمع ديك هذا الكالم ارتجفت جميع أعصابه ،فأجاب :هل ترى
أضحي بأسلحتي؟!
قال له َّ
العلمة :يا صاحبي ال يخطرن عىل بالك أن أطلب منك تضحية
بأسلحتك بدون رضورة قصوى.
قال له َّ
العلمة :إن نجاتنا من الهلكة موكولة بتخفيف القبة من ثقل
أسلحتك ومؤنة البارود والرصاص.
200
ثم هتف يوسف ً
قائل :قد قربنا قد قربنا! ...عرش قامات فقط؛ هيا يا
رجال! إن الجبل يعلو املنصورة مسافة عرش قامات ً
أيضا قال هذا وأخذ
رصاصا بدون
ً األغطية ورمى بها إىل الثرى ،ثم رمى بجملة جعب مملوءة
استشارة كنادي.
فالتفت ديك فرآه قد توارى خارج القارب فصاح به :يا يوسف يا يوسف!
ثم صاح َّ
العلمة :وا أسفاه عىل يوسف!
فكانت مساحة قمة الجبل يف ذاك املكان نحو عرشين قد ًما ومن الجهة
األخرى كانت منحدرة ً
قليل فوصل القارب عىل تمام مساواة هذه القمة
املنبسطة وزحف عىل أرض محصبة فسمعت قعقعة الحىص بمروره.
قائل :الحمد لله والشكر لله مررنا ونجونا من فصاح واحد من الرفاق ً
الخطر ،فسمعه فرغوسن وطفح قلبه رسو ًرا؛ إذ كان يوسف الشهم
الشديد البأس الذي رمى بنفسه عىل الثرى ولبث شابث اليدين بطرف
القارب األسفل ،وأخذ يسري بقدميه عىل قمة الجبل مخف ًفا عىل هذا النحو
عن القبة ثقل جسمه حتى كان مضط ًرا إىل أن يشد يديه عليها لئال تتعاىل
201
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وتفلت من أمامه.
ً
متمسكا فلما وصل إىل منحدر الجبل وأرشف عىل الهاوية قد تسلق
ً
تمسكا شديدًا فجاء حذو رفيقيه يف القبة وهو يقول :ما أسهل بالحبال
هذه الحيلة! ...وما أحسن ما قاله أحد األدباء :وإذا جار عليك الدهر
فليكن عندك حيلة!
العلمة وقلبه يخفق بهزة الفرح :عافاك الله يا يوسففعندها ناداه َّ
حبيبي! ...عافاك الله ال ثكلتك أمك!
أجابه يوسف وهو يتفكه بالكالم :لم أعمل ما عملته لشأنكم يا سيدي،
بل لشأن قرابينة املوسيو ديك؛ فإني كنت مدينا له بهذا العمل منذ واقعة
األعرابي ،فأحب وفاء ما عيلَّ من الدين فوفيته وأصبحنا اآلن عىل سوية
حال وراحة بال؛ قال هذا وقدم للصياد قرابينته التي كانت عنده أع َّز
يشء يف الدنيا وقال له :لكان قد شق عيلَّ جدًا لو رأيتك خاليًا منها.
َ
عالمة الوداد ولم يدعه الفرح يفوه بكلمة. أما كنادي فش َّد عىل يده
فمن بعد ذلك لم يكن للمنصورة َّإل أن تهبط منخفضة ،وكان انخفاضها
من أيرس األمور؛ فما مىض برهة من الزمان َّإل وجدت بعيدة عن الثرى
مسافة مائتي قدم فقط ،وحازت تمام موازنتها ،وكانت األرض تستبني
كأنها مصابة بالزلزلة ،وكان عدم مساواة سطحها يأتي بعوائق تعرس
مجانبتها ً
ليل بمركبة هوائية لم تعد تلبي إدارة مديرها ،فلما خيم الليل
العلمة عىل الوقوف حتى الصباح ،رغ ًما عن اشمئزازه من املبيت يفعزم َّ
أرض تلك البالد.
202
فقال َّ
العلمة :هيا بنا نفتش عن محل مناسب لنقف فيه.
أجابه كنادي :عجبًا يا سيدي أراك جزمت عىل الوقوف يف هذه األرض!
العلمة :نعم؛ ألنني قد أمعنت فكري بيشء وتبرصت فيه زما ًنا قال َّ
ً
طويل ،فأريد اآلن أن أبرزه إىل حيز الفعل؛ فاآلن الساعة السادسة ،فقط
فألق املرساة يا يوسف!
إذا لنا زمن للعمل؛ ِ بقي ً
فامتثل يوسف أمره يف الحال وألقى املرساة ،وكانت ُمدْالة تحت القارب.
العلمة :إني أرى غابات فسيحة فعلينا أن نرسع إىل فوق قممهاثم قال َّ
ونقف متشبثني عىل رأس شجر ٍة من أشجارها؛ ألنني ال أريد قط أن أبيت
الليل عىل األرض ولو ملكوني هذه البالد برمتها.
أما املنصورة فكانت تطفو يف الهواء فوق قمم الغابات املشار إليها ،ولم
تبطؤ أن وقفت فجأة ألن مرساتها قد تعلّقت ،وملا سكنت الريح مساء
لبثت كأنها جامدة فوق تلك الرياض الخرضاء املتألِّفة من رؤوس أشجار
غاب ٍة من الجميز.
203
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
204
الفصل األربعون
يف املنازعة بينهم عىل الشهامة وآخر رزئهم وآلة التفسيح ولباقة
يوسف وما جرى نصف الليل وهجعة َّ
العلمة وهجعة كنادي وتناعسه
والحريقة والضجيج والعويل وأخطاء طلقات الرصاص
205
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
206
فأخذ َّ
العلمة فرغوسن يبحث عن مركز القبة فوجدها بقياس علو النجوم
بعيدة عن سنغال نحو خمسة وعرشين ً
ميل فقط.
َ
خليلَّ إنما هو أن نجوز فبعد أن علَّم خارطته قال :جل ما يمكننا عمله يا
النهر ،وحيث ال جرس للنهر وال قوارب لنا فقد تحتم علينا أن نجوزه
بالقبة ،ولهذا لزمنا ً
أيضا أن نخفف حملها.
أجاب الصياد ،وكان يخاف عىل سالحه :ال أدري بأية طريقة نتوصل إىل
تخفيفها َّإل أن يتهجم أحدنا عىل النزول منها ويبقى وراءنا؛ فأنا مقدم
ذاتي إىل هذه الخدمة ألن هذه املرة قد جاءت نوبتي.
أجابه يوسف :قد أخطأ سهمك؛ أنا املعود عىل مثل هذا العمل.
قال له الصياد :ليس املقصود هنا يا صاح االنحدار من القبة إىل أسفل
207
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
بل السري مشيًا حتى الساحل ،أما أنا فصياد متني وأعد نفيس أشد منك
جر ًيا؛ فهذا عميل.
قال فرغوسن :ال فائدة يا صاحبي من نزاعكما عىل املروءة ،ألني أؤمل أ َ َّل
تتوصل بنا الحال إىل حد هذه الشدة ،ومع ذلك ،إذا اقتىض األمر ،ال نفرتق
أبدًا بل ننحدر جميعنا ونجتاز بهذه البالد معًا.
قال كنادي :يا صموئيل! ...كيف يتيرس لك بعد ذلك نرش الغاز وتوسيعه؟!
قال َّ
العلمة :ال يتيرس يل غري أني أستغني عنه.
أجاب الصياد :سيدي الحبيب صموئيل! ...إنك أعلم منا يف هذا األمر
ويعنيك وحدك الجزم والتدبري يف أمر املسري؛ قل لنا ما يجب عمله فإننا
لك طايعان وألمرك خاضعان.
قال َّ
العلمة :قد قلت لكما أيها األحباء ال بد لنا من تضحية آالتنا مهما كان
ً
باهظا كبريًا. االعتماد عليها
عمل من صغار األعمال؛ إذ يلزم تفكيك األدوات قطعة ولم يكن ذلك ً
فقطعة ،فرفعوا صندوق املزج ثم صندوق األنبوبة وأخريًا صندوق حل
عنرصي املاء ،وقد تواطأ الثالثة السواح وجدُّوا بتمام عزمهم حتى تمكنوا
من خلع األوعية املحبكة بالقارب ،فكان كنادي ذا عزم شديد ويوسف
ذا لباقة ونباهة وصموئيل ذا حذق ودراية حتى انتهوا من عملهم نهاية
التوفيق والنجاح.
فألقوا هذه القطع شيئًا فشيئًا خارج القبة فسقطت عىل أوراق الجميز
خارقة فيها خرقات فسيحة.
قال يوسف :إن السودان يأخذهم العجب لدى مصادفتهم هذه األشياء يف
الغابات وال يبعد أنهم يصنعون منها أصنا ًما يعبدونها.
209
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ثم بادروا إىل الشغل بتفكيك األنابيب املشبثة بالقبة واملوصولة بالحية
اللولبية فتيرس ليوسف أن يقطع الصالت الصمغية عىل علو بعض أقدام
رسا ألنها كانت موصولةفوق القارب ،أما األنابيب فكان فصلها متع ً
بطرف القبة األعىل ،وممكنة برشائط من نحاس أصفر يف نفس دائرة
منفذ الغاز.
وكان ذاك الليل هادئا والفلك صافيًا َّإل أن بعض غيوم كانت تخيم عىل
القمر البالغ ربعه األخري فكادت أشعته ال تنفذ خاللها وكان فرغوسن
ً
متيقظا عىل متمكنًا عىل طرف القارب يجول بنظره إىل ما حوله ،ويسهر
أوراق الشجر الغضة املنبسطة تحت قدميه ،حاجبة بظلها منظر األرض،
ويجفل من أدنى حركة ويتقىص علة كل حفيف وهزيز.
وتشوشا لوجوده يف مفازة مرعبة، ً وكان يف هذه الحال يزداد باله قل ًقا
فأخذت األهوال تدركه والقالقل تشغل دماغه ألن املخاوف تزداد هيجا ًنا
والرعشات ثورا ًنا عند ما يكون السائح دنا من نهاية مثل هذه السياحة
وقاىس مشقات ومخاطر شتى ،فحينما يقارب نهاية السياحة ُي َخيَّ ُل إليه
امليعاد فا ًرا من أمامه.
زد عىل ذلك أن حالتهم كانت تنفي االطمئنان؛ إذ إنهم يف وسط بالد
بربرية ومتعرضون يف كل وقت لخطر فقدان ما كان لهم من الواسطة
الوحيدة لخروجهم منها؛ ألن َّ
العلمة لم يكن يركن إركا ًنا قطعيا إىل القبة
الهوائية؛ إذ لم تعد كما كانت فيما مىض حني كان يديرها بكل طمأنينة
وهي تلبي إدارته.
وفيما كان َّ
العلمة فريسة لهذه الهواجس تراءى له أحيا ًنا أنه يحس بدوي
يف تلك الغابات الرحيبة ،حتى ُخيِّ َل إليه نار مشبوبة بني األشجار فدقق
نظره حيث تخيلها ثم تناول نظارته الليلية ونظر بها إىل تلك الجهة فلم
ير شيئًا ،بل ظهر له أنه قد انقطع الدوي وزاد الهدوء والسكينة.
211
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فتحري وخطر عىل باله أن قو ًما يرصدونه خفية ليغدروا به ،فلبث يتوجس
ويتسمع ولم يشعر بأدنى حركة فمىض وقت هجعته وأيقظ كنادي وأمره
بشديد التيقظ والسهر َّ
واضجع حذو يوسف املستغرق يف النوم.
أما كنادي فأخذ يعبئ غليونه تب ًغا وهو عىل أتم الهدوء والرواق ويفرك
عينيه؛ إذ كان يشق عليه فتحهما من شدة النعاس ،ثم سند رأسه إىل
كوعه وأخذ يدخن بغليونه مثريًا منه الدخان كالعجاج لكي يطرد من
صدره عفريت النعاس.
وكان كل ما حوله يف هدء وسكينة ّإل نسي ًما لطي ًفا يثني أفانني
األشجار ويهز القارب ه ًزا خفي ًفا ويزيد عىل الصياد سطوة
النعاس املستويل عليه رغ ًما عن إرادته فعمد إىل مقاومته بعزم،
وكثريًا ما كان يفتح مقلتيه ويطرق حينًا بعد حني بنظره إىل
الظالم فال يرى فيه شيئًا ،وأخريًا تغلب عليه التعب فسلط عليه
النعاس َّإل أنه لم َي ْد ِر كم من الزمن مكث يف راحة النوم عندما
أيقظه تكتك حريق فهب من رقاده ففرك عينيه ونهض عىل قدميه
فشبت حرارة شديدة يف وجهه من النار املضطرمة يف الغاب.
فصاح كنادي :الفرا َر الفرا َر عىل الثرى .ما من سبيل خالفه للنجاة.
ً
مسكا متينًا ووثب عىل حبل املرساة فقطعه أما فرغوسن فمسكه بيده
برضبة فأس وما زال اللهيب يمتد نحو القبة وكان دنا منها حتى صار
يلذع جوانبها املضية ،فلما تملصت املنصورة من قيدها صعدت يف الهواء
وتعلت ما نيف عن مسافة ألف قدم.
فعندها عال رصاخ وضجيج هائل من قعر الغاب ،تاله طلقات بنادق فلم
تصب القبة بل أخذ الهواء يقذف بها نحو الغرب حتى أصبح الصباح
وبلغت الساعة الرابعة بعد انتصاف الليل.
213
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
214
الفصل الحادي واألربعون
يف جماعة الطلبة ومطاردتهم السواح واعتدال الريح وانخفاض
املنصورة وآخر مؤنتهم ودفاعهم بطلق البنادق ونهر سنغال وشالالت
غويني والهواء الحار وأمجاز النهر
215
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
216
قال َّ
العلمة :لو لم نخفف حمل املنصورة البارحة مساء لكنا هلكنا ال
محالة.
أجابه يوسف :ما أحكم عمل األمور يف أوقاتها! فإن عاقبتها النجاة من
الهلكة ،وما يف ذلك من عجب.
قال ديك :ال تخف يا سيدي! ...إن املنصورة ال تنحدر عىل الثرى بدون
إذنك ،وإن افرتضنا أنها تنحدر ترى ما تكون غايلتها؟
قال َّ
العلمة :تسألني ما تكون غائلة انحدارها يا ديك! ...انظر إىل ما
وراءك!
فنظر ديك وكانت السواح قد جازوا حدود الغاب فرأوا موكبًا من فرسان
217
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فلما نظروا السواح عووا عواء الذئاب الكارسة مرشعني إليهم الرماح وعىل
سحناتهم السمراء تلوح أمارات الغضب والوعيد ومما يزيد منظرهم
ً
توحشا لحى لهم متفرقة الشعر ،لكنها مقشعرة ،فجازوا بدون عناء تلك
الهضاب املنخفضة وتلك الدرجات املنفرجة املودية إىل سنغال.
العلمة :هؤالء هم جماعة الطلبة؛ القوم القساة؛ شيوخ الحجي، قال َّ
الوحوش الكارسة ،وإني ألوثر القيام بوسط غاب تحدق به الضباع من
أن أقع بني أيدي هؤالء األشقياء.
قال كنادي :الحق يقال؛ إن هؤالء القوم ليس عىل وجوههم أمارات الصلح
والسالم ،بل إن هيئتهم تنبئ عن جسارة فيهم وشدة بأس ورش اقتحام.
قال فرغوسن :انظرا يا خلييلَّ هذه القرى الدارسة والبيوت املحروقة؛ فهذا
عملهم ،وقد أنزلوا الدمار والبوار يف األرايض العامرة والبقاع النارضة.
قال يوسف :ما يف ذلك من محذور يا ديك ،وقد أصبنا بعدم بذرها عىل
الطريق.
قال كنادي :ال حول وال قوة ّإل بالله؛ إن الريح خفيفة فلو صادفتنا
عاصفة مثل تلك العواصف التي أصابتنا يف األيام املاضية لغاب هؤالء
األشقياء عن نظرنا منذ اآلن.
قال يوسف :ها إن هؤالء األرشار تابعون لنا؛ فكأنهم يتنزهون يف متابعتنا.
قال الصياد :لو كنا عىل مسافة رمية رصاص لكنت أتنزه يف رميهم واحدًا
فواحدًا.
أيضا عىل رمية رصاص أجاب فرغوسن :أي نعم ،ولكن لكانوا هم ً
منا ولكانت املنصورة أيرس هدف لطلقات بواريدهم ،فإذا ما مزقوها
بالرصاص تأمل أي مصري يصري حالنا ،حمانا الله من مثل هذه الدواهي.
219
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أما جماعة الطلبة فلم يزالوا يتابعون السواح يف مدة كل ذاك الصباح،
ميل نحو الغرب قبل الساعة وكانت القبة قد قطعت مسافة خمسني ً
العلمة يراقب الفلك ويدقق النظر يف أدنى الغيوم َّ الخامسة ،وكان
املرتفعة يف األفق ،وال يزال يتوجس تغريًا يف الجو ويقول يف ذاته :ما يكون
حالنا إذا ما دفعتنا الرياح نحو النهر األسود؟
هذا ،وكان يرى القبة تميل إىل االنخفاض ً
ميل ظاه ًرا ،وقد كانت
انخفضت منذ سفرها مسافة أكثر من ثالثمائة قدم ،وسنغال تبعد عنهم
نحو اثنى عرش ً
ميل فيلزمهم من الوقت للوصول إليها ثالث ساعات عىل
معدل سريهم الحارض.
فطرق سمع َّ
العلمة حينئ ٍذ صياح وضجيج جديد وتف َّرس فرأى خيالة
الطلبة يضجون يف تعجيل جري خيلهم.
فنظر َّ
العلمة إىل ميزان الهواء فعلم علة هذا العواء والضوضاء.
قال كناديَّ :
لعل القبة تنخفض.
وما مىض ربع ساعة من الزمان إال وقد أمىس القارب عىل مسافة مائة
وخمسني قد ًما من األرض ،أما الريح فقد ازدادت قوة.
قال هذا وصوب بارودته إىل واحد من الخيالة السابقني وأطلقها فأصابه
الرصاص فسقط يخبط بدمائه عىل الثرى فوقفت أرفاقه وأخذت
املنصورة باملسري ففاتتهم.
العلمة :نعم؛ ألنهم موقنون قبضهم علينا ،وإذا نزلنا بعد لنالوا أجاب َّ
مأربهم منا ،ومن َث ّم ال بد لنا من الصعود.
العلمة :ينبغي أن نرمي منها بكل ما بقي من مؤنة مربى اللحم؛ فإنقال َّ
وزنه يساوي ثالثني أ ُ َّقة ينبغي أن نتملص منه.
العلمة فرمى به ً
قائل :هاك يا معلمي!... فأرسع يوسف بامتثال أمر َّ
رميت وال أسف عليه.
وكاد القارب يمس الثرى ومن بعد هذا ارتفعت القبة وأخذت جماعة
الطلبة بالضجيج والرصاخ؛ أما املنصورة فعادت بعد نصف ساعة
تنخفض برسعة والغاز ينرصف بخالل الغطاء.
فانخفض القارب إىل الثرى حتى كاد يمسها بمروره فأرسعت جماعات
الطلبة نحو القبة وأوشكوا أن يصلوا إليها ولكن قد حدث حينئ ٍذ ما من
عادته أن يحدث يف مثل هذه الظروف وهو أن القبة بعدما انخفضت
221
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وكادت تقف عىل الثرى قفزت مرتفعة يف الفالء ولم تهبط من جديد إال
بعدما سارت مسافة ميل واحد.
قال كنادي بغيظٍ :ترى هل البد لنا من الهبوط بني أيدي هؤالء القوم؟!
العلمة بيوسف :ارم بما بقي عندنا من مؤنة املاء وباآلالت َّ فصاح
وبكل ماله أدنى ثقل حتى املرساة نفسها ،فمسك يوسف موازين الهواء
قل من التخفيف وموازين الحرارة ورمى بها ،إنما لم يأت هذا َّإل بما َّ
والقبة التي كانت ارتفعت هنيهة قد عادت رسيعًا فهبطت عىل الثرى
وجماعة الطلبة ترسع رسعة الطري يف إثرها ،ولم يكن بينها وبينهم أكثر
من مسافة مائتي قدم.
فعندها صاح َّ
العلمة :ارم بالبارودتني إىل األرض.
قال هذا وأطلق بهما أربع طلقات فأصاب أربعة منهم بالرصاص ،فع َّرت
حينئ ٍذ أرفاقهم عرير الوحوش الكارسة ،وعوت عواء الذئاب.
أما املنصورة فعادت ترتفع وهي تقفز قفزات الكرة املرنة الواقعة عىل
األرض.
أما يوسف فلم يجب بيشء بل لبث يتفرس بمعلمه ويرقب أمارات محياه.
العلمة :القارب؛ هلموا نتشبث بالشبكة ،فيمكننا أن نتمسك بعراها قال َّ
ونقطع النهر؛ فالبدا َر إىل هذه الوسيلة!
فلم يتوقف هؤالء الرجال الجسورون عن البدار إىل هذه الواسطة األخرية
للنجاة من الهلكة ،فتعلّقوا بعرى الشبكة كما أرشدهم َّ
العلمة ،وكان
متمسكا بيد يف الشبكة وباألخرى يقطع حبال القارب فسقط ً يوسف
عندما كانت القبة تهوي نازلة إىل الحضيض ال محالة فلما تخففت القبة
من ثقل القارب تعالت يف الفضاء مسافة ثالثمائة قدم فهتف يوسف
هتاف الفرح وقال :سريي باسم الله مجراك.
فدقت الطلبة الركاب وأخذت الخيل باإلهماج ،أما املنصورة فقد صادفت
ريحا شديدة فسبقتهم وأرسعت نحو أكمة تحجب أفق الغرب فكانت ً
للسواح أكرب توفيق للمسري ألنهم قد تمكنوا من االجتياز فوق رأسها
أما الطلبة فقد اضطروا أن يأخذوا طريق الشمال ويدوروا عىل أسفل
223
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وكانت الثالثة الرفاق متمسكني بالشبكة ،وقد تيرس لهم أن يسدوا ثغر
القبة فجاءوا بها كأنها جيب يعوم يف الهواء.
َّ
بالعلمة يصيح :النهر النهر يا أيها فما عتموا أن جازوا الهضبة وإذا
األحباء؛ نهر سنغال ألنهم نظروا أمامهم عىل مسافة ميلني نهر سنغال
يجري يف مسيل منفرج جدًا؛ فالشاطئ اآلخر؛ موقعه منخفض وتربته
مخصبة ،كان ملجأ مأمو ًنا من أصحاب التعدي واألذى ،ويصلح للسواح
ً
محل للنزول.
قال فرغوسن :بقي علينا مسري ربع ساعة فننجو من أسوأ غائلة.
إنما لم يتيرس لهم ما كانوا يبتغونه ألن القبة كانت تنحدر شيئًا فشيئًا
وهي فارغة حتى استوت عىل أرض كادت تخلو من كل نبات وهي
حدورات طويلة وسباسب مصخرة ليس فيها َّإل بعض العليق وأعشاب
كثيفة يبستها حرارة الشمس.
واملنصورة انقضت عىل الثرى وقفزت مرا ًرا عديدة ،وكانت قفزاتها تقل
قوة حتى علقت بعد قفزتها األخرية بأطراف الشبكة يف رؤوس أغصان
شجرة البوبات ،وهي الشجرة الوحيدة يف تلك البالد الغامرة.
وكانت مياه النهر تنحدر من علو مائة قدم إىل مسيل عرضه ألفا قدم،
دوي طنان فتجري من الرشق إىل الغرب ويعرتض مجراها ويسمع لها ٌ
رصيف صخور ممتدة من الشمال إىل الجنوب ،ويف وسط الشالالت
صخور منتصبة بأشكال غريبة كأنها أسماك جسيمة محجرة.
وكان عدم إمكانهم مجاز هذه الوهدة من األمور الواضحة ،ومن َث ّم لم
يتمالك كنادي نفسه من إبداء أمارة اليأس والقنوط.
أما َّ
العلمة فرغوسن فلم ييئس ،بل ُس ِم َع عىل الفور يهتف هتاف النشاط
والجراءة ً
قائل :ثقا؛ لم يزل لنا باب للنجاة!
قال يوسف :هذا كان أميل بلباقتك ودرايتك ،وكان يوسف يثق بمعلمه
العلمة فكان قد شاهد العشب اليابس الكايس ثقة غري متزعزعة ،أما َّ
ضفة النهر وخطر له عىل بال فكر أعده الحيلة الوحيدة لنجاتهم من
الهلكة ،ففي الحال رجع برفيقيه إىل القبة وقال لهما :إن بيننا وبني أولئك
األشقياء مسافة ساعة فأرسعا بجمع كمية وافرة من هذا العشب اليابس؛
فيلزمني منه عىل األقل مائة لربة.
225
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فعندها صاح كنادي :عافاك الله يا خلييل ح ًقا! ...إنك من كرام الرجال!
كديسا
ً فانكب يوسف وكنادي عىل العمل ،وما مضت برهة إال وجمعا
كبريًا من العشب فجعلوه تحت شجرة البوبات ،وكان َّ
العلمة وقتئ ٍذ قد
وسع ثغر القبة بشقه إياه يف أسفله وأخرج من اللولب كل ما كان باقيًا
من آثار اإلدروجن ،ثم ك َّوم كمية من العشب تحت الغطاء وجعل النار
فيه.
وكان مىض من الزمان ثالثة أرباع الساعة فظهرت حينئ ٍذ عىل مسافة
ميلني للشمال الطلبة وعال ضجيجهم ورصاخهم وسمعت دقة حوافر
خيولهم املهمجة.
قال كنادي :من اآلن إىل عرشين دقيقة يصلون إىل هنا.
قال َّ
العلمة :العشب العشب يا يوسف! ...فبعد عرش دقائق نصبح راكبني
الريح يف الفضاء.
فدفع فرغوسن برجله كمية من العشب إىل املوقد وكانت القبة قد أخذت
تمام انتفاخها بازدياد الحرارة فارتفعت إىل الفضاء ماسة أغصان
البوبات.
وكان هناك نحو عرشة رجال عليهم مالبس إفرنسية استوىل عليهم ماال
227
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وكانت القبة تنفش شيئًا فشيئًا وتهبط بأولئك السواح األبطال وهم
متمسكون بعرى الشبكة ،إنما لم يكن مؤكدًا أنهم يسقطون عىل
الحضيض ،فمن َث ّم نزل الرجال الفرنسيس يف النهر وتلقوا بني أيديهم
الثالثة الرجال اإلنكليز عندما كانت القبة نازلة يف النهر عىل مسافة بعض
باعات من شاطئ سنغال األيرس.
أجابه َّ
العلمة ،ورفيقاه بتمام الرواق والسكينة:بىل.
فتناول الفرنسيس الس َّواح وأتوا بهم إىل شاطئ النهر ،أما القبة فقد كان
انتفاخها من باب النصف فوقعت يف النهر وجرتها املياه كفقاعة كبرية
فذهبت غريقة يف شالالت غوينا.
أما َّ
العلمة فلم يتمالك نفسه عن البكاء ،ففتح ذراعيه وعانق رفيقيه وقد
خاضت قلوبهم بحر السلوان والحبور.
228
الفصل الثاني واألربعون
يف الختام والتقرير والعمائر الفرنسية ومعسكر مدين ومدينة القديس
لويس والبارجة اإلنكليزية وعودة الس َّواح إىل لندرة
229
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
230
إن الرجال اإلفرنسيني الذين ُوجدوا عىل شاطئ النهر كان قد بعث
بهم وايل سنغال إىل تلك األطراف ،وكانوا اثنني من الضباط ،وهما
القائمقام دي فراس والبريقدار رودامل ورئيس عرشة وسبعة
أنفار من الجنود ،وكانوا منذ يومني متشاغلني يف التفتيش عىل
أوفق محل إلقامة معسكر يف غوينا ووافاهم عىل غري انتظارهم
العلمة فرغوسن ومن معه. َّ
231
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فأتوا باإلنكليز إىل منزل وقتي أقاموه عىل شاطئ النهر فصادفوا
هناك؛ الس َّواحَ ،حسن االلتفات واالهتمام ومؤنة غزيرة ،وهناك
سطر بالعبارات اآلتية الشهادة املدرجة اليوم يف سجالت رشكة
لندرة الجغرافية:
ومن األنفار:
233
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ولم تكف جرائد أوربا عن نرش عبري الثناء الجميل عىل أولئك الس َّواح
الجزييل الشجاعة؛ أ َّما جريدة الداييل تلغراف فقد أنفقت نحو 3377ألف
نسخة يوم نرشت خالصة سياحتهم.
وقد خطب َّ
العلمة فرغوسن خطبة أنيقة يف جلسة عمومية عقدتها الرشكة
الجغرافية امللوكية ،روى فيها قصة سياحته يف القبة الهوائية ،ونال له
ولرفيقيه نيشان الذهب املعد جائزة ألشهر السياحات التي بورشت سنة
.1862
235
الفهرس
الفصل الثالث والعرشون
يف مناقشة فلسفية وظهور السحابة يف األفق وظهور قبة ثانية ومشاهدة آثار قافلة
وبرئ ماء يف الصحراء
الفصل الرابع والعرشون
العلمة وانطفاء القصبة ومراقبة الصحراء الشاسعة وانفراد َّ
العلمة يف العطش وتندم َّ
وسقطته وما نواه يوسف من القصد الثابت
الفصل الخامس والعرشون
يف اشتداد الحرارة وفروغ آخر نقطة من املاء وليايل اليأس ومحاولة ديك قتل نفسه
وهبوب السموم
الفصل السادس والعرشون
يف الليلة املبهجة وقصة جمس أبروس وانخفاض البارومرت وطلوعه والتأهب للرحيل
وثوران الزوبعة
الفصل السابع والعرشون
يف رأي أحد علماء الفرنسيس واملرور بمملكة أداموفا وجبال أتلنتيكا ونهر بنوه ومدينة
يوال وجبل باجلة وجبل منديف
الفصل الثامن والعرشون
يف مدينة مصفية وسجود أحد املشائخ للقبة الهوائية والكالم عن السواح دنهام
وكالبرتون وودني وفوجل وما كان من الحمام املشعلة نا ًرا املرسلة من وايل قرناق
الفصل التاسع والعرشون
يف االرتحال يف الليل والكالم عن نهر الشاري وبحرية شاد ومائها وفرس النهر وإطالق
الرصاصة عليه عبثًا
الفصل الثالثون
يف عاصمة الربنو وظهور البواشق ومنازعتها املنصورة وما أظهر يوسف من الغرية
الخالصة عند انخراق غطاء القبة
الفصل الحادي والثالثون
يف ظنون السواح وإصالح موازنة القبة الهوائية وحساب َّ
العلمة وصيد الصياد
واالستقراء يف بحرية شاد
الفصل الثاني والثالثون
يف الزوبعة الشديدة وما انشغل به الرفيقان من الفكرة املكدرة وهبوب الريح املضادة
واملوافقة والرجوع إىل الجنوب
الفصل الثالث والثالثون
يف قصة يوسف وما كان من عبادة اإلفريقيني ل ُه ووصوله إىل أرياف البحرية وسفره
راجل ومكابدته املشقة والتعب والجوع ومرور املنصورة وارتحالها ويأسه ورصاخهً
األخري
الفصل الرابع والثالثون
يف ما كان من العربان املجتمعني ومالحقتهم ألحد املهزومني وقتل الصياد عربيًا
برصاصة وانتشال يوسف من األرض بصناعة وحرفة
الفصل الخامس والثالثون
يف طريق الغرب ويقظة يوسف وعناده وتتمة قصته ووصول السواح إىل تجلة وقلق
الصياد واتجاه املنصورة نحو الشمال
الفصل السادس والثالثون
يف رسعة سري املنصورة ويف األعمال الصادرة عن حكمة ويف األثقال ويف األمطار
املرتاكمة ويف غاو والنهر األسود والسواح كلربي وجوفروا وغراي ومونغوبرك ولينك
وراني كالية وكالبرتون وجون ريشار لندر
الفصل السابع والثالثون
يف البالد التي يف عرجات النهر األسود ويف منظر جبال أومربي الغريب ويف كابرة
وتمبوكتو ورسم املعلم برث وسقوط املدينة عن رونقها القديم والسري عىل رحمة الهواء
الفصل الثامن والثالثون
يف قلق َّ
العلمة فرغوسن ويف الجراد ويف انقالب الريح
الفصل التاسع والثالثون
ً
انخفاضا ويف الدرويش الحجي وبسكال يف دنو السواح من سنغال ويف ازدياد املنصورة
ومنصور وملربتوس والجبال الشاهقة وسالح ديك ولباقة يوسف والوقفة فوق غاب
الفصل األربعون
يف املنازعة بينهم عىل الشهامة وآخر رزئهم وآلة التفسيح ولباقة يوسف وما جرى
نصف الليل وهجعة َّ
العلمة وهجعة كنادي وتناعسه والحريقة والضجيج والعويل
وأخطاء طلقات الرصاص
الفصل الحادي واألربعون
يف جماعة الطلبة ومطاردتهم السواح واعتدال الريح وانخفاض املنصورة وآخر مؤنتهم
ودفاعهم بطلق البنادق ونهر سنغال وشالالت غويني والهواء الحار وأمجاز النهر
الفصل الثاني واألربعون
يف الختام والتقرير والعمائر الفرنسية ومعسكر مدين ومدينة القديس لويس والبارجة
اإلنكليزية وعودة الس َّواح إىل لندرة
صدر من سلسلة كتاب الدوحة