You are on page 1of 258

‫الرّحل َ ُة ا ْل َ‬

‫ج ّوية‬
‫هوا ِئيّة‬
‫كبة ال َ‬
‫ِ‬ ‫م ْر‬
‫ِفي ال َ‬
‫‪78‬‬
‫مجانًا مع العدد (‪ )121‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬نوفمبر ‪2017 -‬‬
‫يُوَ َّزع ّ‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬الرحلة الجوية في المركبة الهوائية (من شرقي إفريقية إلى غربيها)‬
‫المؤلف‪ :‬جول غابرييل فيرن‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان سركيس‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة ّ‬
‫الثقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫العمل الفني للغالف والصفحات الداخلية‪ :‬للرسام الفرنسي إدوارد ريو (‪)1900 - 1833‬‬
‫ّ‬
‫مجلة الدوحة‬ ‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم الفني ‪-‬‬

‫ّ‬
‫المجلة‪.‬‬ ‫كتابها‪ ،‬وال ُتع ِّبر ‪-‬بالضرورة‪ -‬عن رأي الوزارة أو‬
‫المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ‬
‫الرّحل َ ُة ا ْل َ‬
‫ج ّوية‬
‫هوا ِئيّة‬
‫كبة ال َ‬
‫ِ‬ ‫م ْر‬
‫ِفي ال َ‬
‫(من شرقي إفريقية إلى غربيها)‬

‫يوسف اليان سركيس‬


‫عن كتاب جول غابرييل فيرن «خمسة أسابيع في منطاد»‬

‫(الجزء األول)‬
‫(نسخة ُمطابقة للطبعة األولى بيروت ‪)1875‬‬
‫الفصل األول‬
‫يف مقصد َّ‬
‫العلمة فرغوسن ووقوع املباحثة عن ُه‬

‫‪5‬‬
‫ملا كان اليوم الخامس عرش من شهر كانون الثاني سنة ألف وثمانيمائة‬
‫واثنني وستني أذاعت الصحيفة اإلنكليزية املعروفة باسم داييل تلغراف‬
‫النبذة اآلتي ذكرها‪.‬‬

‫قريب ستنجيل للعيان غيوم الظالم التي تسرت عن الخاص والعام‬ ‫ٍ‬ ‫أنه عن‬
‫ما يف بطون إفريقية وأقفارها الشاسعة من األرسار والخبايا والكنوز‬
‫والخفايا‪ ،‬وقد طاملا جد يف اكتشافها العلماء والسياح وبذلوا وسعهم يف‬
‫الدخول إىل تلك األقاليم والبطاح‪ ،‬ويف األيام السالفة كان ُي َع ُّد رض ًبا من‬
‫الجنون والخرافات التشجي ُع عىل الرحيل بقصد اكتشاف عيون النيل‪.‬‬
‫َّ‬
‫فالعلمة برث رحل إىل بالد السودان يف الطريق التي سلكها دنهام‬
‫وكالبرتون‪ ،‬وبحث َّ‬
‫العلمة ليونكستن عن أحوال بالد إفريقية من رأس‬
‫الرجاء الصالح إىل بحري الزمنزي‪ ،‬وأما القبطانان برتون وأسبيك‬

‫‪7‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ً‬
‫سبيل لنرش راية التمدن‬ ‫فاكتشفا البحريات العظيمة الداخلة‪ ،‬وبذلك فتحا‬
‫يف تلك األقطار‪ ،‬حيث ترفرف إىل اآلن أجنحة ظالم الجهل الدامس‪ .‬أما‬
‫قلب إفريقية فهو القطر الواقع ما بني البحريات املومأ إليها‪ ،‬لذلك لم‬
‫يتمكن سائح من الولوج فيه وبه تنوط اآلمال‪.‬‬

‫فقد صمم َّ‬


‫العلمة ساموئيل فرغوسن أحد السياح املشهورين عىل أن يفك‬
‫عقدة الرحالت السابقة بإقدامه عىل اكتشاف قلب إفريقية من الرشق‬
‫إىل الغرب يف املركبة الهوائية‪ ،‬وبلغنا أن صعود فرغوسن إىل الفسحات‬
‫الجوية يكون من جزيرة زنجبار عند الساحل الرشقي‪ ،‬أما نزوله إىل‬
‫األرض ففي تقدير الله سبحانه وتعاىل وهو يهديه إىل حيث يشاء‪.‬‬

‫وقد عُرضت هذه املسألة نهار البارح يف الجمعية الجغرافية امللوكية‬


‫يف لندرة‪ ،‬وقر رأي أعضائها عىل بذل ألفني وخمسمائة لرية إنكليزية‬
‫ملصاريف هذه الرحلة الجوية‪ .‬وسنطلع قراء صحيفتنا إن شاء املوىل عىل‬
‫وقائع هذه السفرة التي لم يسبق لها مثيل‪.‬‬

‫فلما انترشت هذه النبذة قام الجدال عىل قدم وساق بهذا الخصوص وظن‬
‫الكثريون أن مقصد َّ‬
‫العلمة فرغوسن رضب من الخرافة والحكايات‪،‬‬
‫أشبه به برنوم األمريكاني الشهري ُة خزعبالت ُه وغرائبه املضمحلة‪.‬‬

‫ثم أخذت بعض الصحف تستهزئ بجمعية لندرة الجغرافية‪ ،‬وتسخر بما‬
‫جاء عن فرغوس ورحلته الجوية يف املركبة الهوائية‪ ،‬فنهضت صحيفة‬
‫أملانية وأجربت املياومات املذكورة عىل السكوت‪ ،‬ألن أحد مديريها كان‬
‫يعرف َّ‬
‫العلمة فرغوسن وحذاقت ُه العجيبة وجراءت ُه الغريبة‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫وما مضت برهة َّإل وقع برقع الشك عن أعني الناس‪ ،‬وأوعز إىل معمل‬
‫خاصا بالقبة الهوائية‪ ،‬وأمرت الحكومة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قماشا حرير ًيا‬ ‫ليون أن يشتغل‬
‫اإلنكليزية بأن تقام تحت أمر فرغوسن السفينة املعروفة باسم ريزولوت‬
‫لريكبها وينقل عليها لوازم سفره‪.‬‬

‫وقد أذاعت من َث ّم املياومات كال ًما كثريًا عن هذا املرشوع الغريب؛ فمنها‬
‫ما تنبأ بنجاحه وفالحه‪ ،‬ومنها ما هزأ بفرغوسن وآرائه ومركبته ومنها ما‬
‫أشار عليه أن يندفع بمركبته الهوائية إىل األقطار األمريكانية‪ ،‬وذلك بنية‬
‫الهزء والسخرية‪.‬‬

‫وال حاجة لذكر جميع آراء كتاب الجرائد بهذا الشأن‪ ،‬بل نقول‪ :‬إنه قد‬
‫تشارط أقوام كثريون بعضهم بني بعض‪ ،‬حسب عادة اإلنكليز‪ً ،‬‬
‫أول عىل‬
‫العلمة فرغوسن الحقيقي أو الوهمي‪ ،‬ثانيًا عىل الرحلة ذاتها إذا‬ ‫وجود َّ‬
‫كانت تبارش أو ال تبارش‪ ،‬ثالثًا عىل نجاحه يف مرشوعه أو فشله‪ ،‬رابعًا عىل‬
‫ً‬
‫تنفيذا‬ ‫رجوعه أو بقائه يف تلك األقطار الشاسعة‪ ،‬وأودعوا مبالغ عظيمة‬
‫لهذه الرشوط‪.‬‬

‫ولذلك رأيت الناس جميعًا من العامة والخاصة شاخصني ومحدقني‬


‫األبصا َر بذلك اإلنسان العجيب الذي يتجارس عىل املرور بأواسطِ إفريقية‬
‫ومفاوزها الهائلة‪ ،‬وكثريون هم الذين أقبلوا عليه وأرادوا االشرتاك معه‬
‫يف رحلته فأبى أن يقبل أحدًا دون أن يعطي سببًا عن رفضه‪ ،‬ومن‬
‫املعلمني املاهرين يف صنيع اآلالت وغريها من أرادوا أن يفهموه عن أشكال‬
‫أسا له فأبى أن يصغي ألحد‪ ،‬وكان مهت ًما‬ ‫مركباتهم الهوائية ليتخذها ً‬
‫بشغله ويتأهب للرحيل‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫يف صاحب َّ‬
‫العلمة فرغوسن وجدال ُه مع ُه عىل الرتحال ويف ذلك فوائد‬

‫‪11‬‬
‫للعلمة ساموئيل فرغوسن صاحب حميم مجبول عىل أطباعه‬ ‫َّ‬ ‫وكان‬
‫وخالئقة‪ ،‬وينحو نحوه يف جميع مأربه‪ ،‬وهو من بالد إسكتسيا‪ ،‬يقال له‬
‫ديك كنادي‪ ،‬وكان يقطن مدينة ليط بقرب ايدمربج‪ ،‬ومهنته الصيد وقد‬
‫وخصوصا بالسالح‬
‫ً‬ ‫جاء عنه أنه كان ماه ًرا حاذ ًقا يف رضب الرصاص‪،‬‬
‫املعروف بالقربينة‪ ،‬أما قامته فال تبلغ أقل من ستة أقدام إنكليزية وتلوح‬
‫عىل وجهه تباشري الهشاشة والبشاشة‪ ،‬وهو عىل جانب عظيم من حدة‬
‫الطبع‪ ،‬ذو قوة وبأس وجرأة وجسارة وبسالة طبيعية‪ ،‬وقد اس َم َّر وجهه‬
‫من قبل حرارة الشمس‪ ،‬وكان حاد البرص أسود العينني‪.‬‬
‫صاحب َّ‬
‫العلمة فرغوسن يف البالد الهندية ألنهما كانا من فرقة‬ ‫َ‬ ‫وقد كان‬
‫عسكرية واحدة‪ ،‬وملا كان ديك يف تلك البالد يصيد األفيال والنمورة‪ ،‬وكان‬
‫ساموئيل يبحث عن أنواع النباتات والحشايش وأجناس الدواب والهوام؛‬
‫أصل لهذين الصاحبني أن‬‫ً‬ ‫كل منهما كان ماه ًرا يف حرفته‪ ،‬ولم يعرض‬

‫‪13‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ينشل الواحد اآلخر من تهلكة‪ ،‬ولذا كانت رباطات صحبتهما وثيقة‪ ،‬وإذا‬
‫اتفق لهما أن يتفارقا قربتهما وجمعتهما رسيعًا جاذبية التعطف واملحبة‪.‬‬
‫َّ‬
‫العلمة‬ ‫وعند رجوعهما إىل لندرة كانا يتفارقان دائ ًما لداعي رحالت‬
‫ساموئيل‪ ،‬ولكن عند رجوع هذا من السفر كان يقصد محل صاحبه‪،‬‬
‫ليس ليزوره فقط‪ ،‬بل ليقيض عنده بعض األيام والليايل‪.‬‬

‫وأما ديك فكان ال يحدث ّإل عن املايض‪ ،‬وبالعكس ساموئيل؛ فإنه لم يكن يتبرص‬
‫ّإل يف املستقبل‪ ،‬فهذا ينظر إىل أمامه وذاك إىل ورائه‪ ،‬ولهذا السبب كنت ترى‬
‫ً‬
‫خائضا دائ ًما بحو َر الهمة‪ ،‬وكنادي راتعًا عىل سواحل الراحة‪.‬‬ ‫ساموئيل‬

‫العلمة فرغوسن إىل قطر الطيبة الشاسع استمر سنتني يف‬ ‫وبعد رحلة َّ‬
‫لندرة‪ ،‬وال يتكلم قطعًا عن رحلة أخرى أو مرشوع غري ما عاناه يف حياته‪،‬‬
‫فظن صاحبه املومأ إلي ِه أنه قد خمدت يف قلبه نار الرغبة يف ركوب مطايا‬
‫البحار وغوص البطاح والقفار لكثرة ما قضاه من األسفار‪ ،‬وكثريًا ما حثه‬
‫عىل اإلرضاب عن مثل هذه األفكار بقوله له‪ :‬حسبك ما درست وسافرت‬
‫وبحثت‪ ،‬أما ساموئيل فلم يكن يجيبه بيشء لهذا الكالم‪ ،‬بل كانت تلوح‬
‫عىل وجهه أ َ َما َرات التبحر والتبرص ويهم دائ ًما يف الشغل والعمل‪ ،‬ويسهر‬
‫الليايل يف رضب حسابات وامتحان آالت ال يدركها إنسان‪ ،‬وكأنك به قد‬
‫اتبع رأي الشاعر العربي حيث قال‪:‬‬

‫ومــن طلب العــا ســهر الليايل‬ ‫بقـــدر الكـ ّد ُت ْكتَ َسـ ُ‬


‫ـب املعــايل‬
‫ويحظــى بســيادة والنــوا ِل‬ ‫يغــوص البحر مــن طلــب الآلءَيل‬
‫أضــاع العم ـ َر يف طلــب املحا ِل‬ ‫ومــن طلــب العــا من غــر ك ٍّد‬

‫‪14‬‬
‫وكان يفكر ديك بنفسه بما عساه يتبرص ب ِه َّ‬
‫العلمة فرغوسن‪ ،‬وما الذي‬
‫يشغل منه األفكار يف الليل والنهار‪.‬‬

‫رس املخبأ بقراءت ِه نبذة الصحيفة التي أذاعت مقصد‬


‫فقد اطلع عىل هذا ال ّ‬
‫َّ‬
‫العلمة يف رحلت ِه الجوية‪.‬‬

‫وعند فروغ ِه من تالوة تلك األساطري صاح وقال‪ :‬الله َّم هل أهملت عبدك‬
‫ساموئيل؛ فإن مخاخه قد فرغ من التعقل وتخلله الجنون؛ كيف عساه‬
‫يجوز أقطار إفريقية يف املركبة الهوائية‪ ،‬فال ريب أن ما كان يتبرص ب ِه‬
‫منذ سنتني هو هذه السفرة التي ال يتصورها عقل برش ّإل إذا كان مصا ًبا‬
‫بداء الرسسام‪.‬‬

‫رس ضمنه دعا ٍو ال تدركها‪،‬‬ ‫حينئ ٍذ أتت إلي ِه زوجت ُه وقالت له‪َّ :‬‬
‫لعل ذلك ٌّ‬
‫فأجابها وقال يف الحال‪ :‬إن ِك ال تعرفني خلق هذا اإلنسان؛ فإن ُه إذا رصد‬
‫وجد‪ ،‬وإذا عزم تمم‪ ،‬ولكن ليت شعري ماذا يريد أن يفعل يف طبقات‬
‫الجو؛ هل حسد النسورة عىل طريانها وصمم النية عىل االقتداء بها‪ ،‬فإني‬
‫وإل إذا ترك عىل حاله يخطر‬ ‫سأبذل الجد والجهد ألصده عن ضاللهِ‪َّ ،‬‬
‫بباله أن يرتقي إىل طبقات القمر يف ليل ٍة رائقة‪.‬‬

‫وملا عقب الصباح تلك الليلة ركب ديك املركبة الحديدية النارية قاصدًا‬
‫مدينة لندرة‪ ،‬وما مضت ثالثة أرباع الساعة ّإل وصل إىل بيت صاحبه‬
‫العزيز‪ ،‬فطرق الباب خمس مرات بشد ٍة وعنف فنهض فرغوسن دون أن‬
‫يعرفه‪ ،‬وفتح له الباب بيده وملا برص به قال له‪ :‬أ أنت ديك؟‪ ،...‬وما عساك‬
‫تطلب يف لندرة يف أيام الصيد؟!‬

‫‪15‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وبعد أن تصافحا وقرأ السالم بعضهما ً‬


‫بعضا‪ ،‬قال ديك‪ :‬أتيت ألمنع عمل‬
‫جنون ال اس َم له‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬وما عىس يكون هذا الجنون؟!‬

‫قال ديك‪ :‬وهل ملقال صحيفة داييل تلغراف صحة عن رحلتك الجوية؟‬

‫قال ساموئيل‪ :‬وبهذا تعني؟!‪...‬؛ فمالك والصحف‪ ،‬فإنها قليلة التحسب‪...‬؛‬


‫اجلس هنا ألطلعك عىل حقيقة األمر‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وكيف أجلس قبل أن تخربني أن كنت عىل عزم يف معاناة هذه‬
‫السفرة؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬نعم يا خلييل‪ ،‬وإني متأهب للسفر والحاجات قد‪...‬‬

‫خارجا‬
‫ً‬ ‫فقاطعه ديك‪ ،‬وقال‪ :‬أين هذه الحاجات ألقطعها إر ًبا‪ ،‬وألقيها‬
‫فتذروها الريح كالهباء املنثور‪.‬‬

‫ويف الحقيقة تالعب وقتئ ٍذ عىل ُم َحيَّا ديك أطوار الكدر والحمية‪.‬‬

‫مهل يا صاحبي؛ لو كنت عاملًا بمقاصدي ومآربي ما‬


‫مهل ً‬
‫قال ساموئيل‪ً :‬‬
‫كنت حميت وحنقت‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما هذه املقاصد والنوايا؟!‬

‫فغري ساموئيل الحديث بقوله‪ :‬لوال تراكم األشغال عيلَّ لكنت أطلعتك عىل‬
‫كل ما يختص برحلتي‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫قال ديك‪ :‬وما حاجتي إليهِ؟! قال ساموئيل‪ :‬ألنني مصمم النية عىل أن‬
‫آخذك معي يف مركبتي فلما سمع ديك هذا الكالم قفز قفزة الغالم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫محبوسا وإياك يف منزل بيت لحم؟!‪،...‬‬
‫ً‬ ‫لعمرك وهل أرىض بأن أكون‬
‫«وهو منزل للمجانني يف لندرة»‪.‬‬

‫فقال ساموئيل‪ :‬لو أ َ َ‬


‫ص ْختَ يل سمعًا‪ ،‬عرش دقائق‪ ،‬لشكرت يل معرويف عىل‬
‫اختياري إياك دون غريك ملرافقتي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬هب أني أبيت الذهاب فماذا تفعل؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬ولن تفعل ذلك‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وإن فعلت؟‬

‫قال ساموئيل‪ :‬عند ذلك سأنطلق وحدي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬هات لنا لنرى حديثك لعل فيه ما ُيقنعني‪.‬‬

‫قال ساموئيل ُقم لنتحدث يا صاح ونحن عىل مائدة الفطور‪ ،...‬وبعد أن‬
‫وصال إىل املائدة وجلسا مقابلني قال ديك‪ :‬لعمري‪ ،‬كيفما قلبت مقصدك‬
‫وجدته رض ًبا من الغباوة والوبال‪ ،‬وأراه نوعًا من املحال‪ ،‬وعر ًيا من كل‬
‫تعقل وإفراز‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬سنرى ذلك عند االمتحان؛ إذ عند االمتحان يكرم املرء أو‬
‫يهان‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬لله درك!‪ ...‬كيف تمتحن األمر والواجب عليك عدم االمتحان؟!‬

‫‪17‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ساموئيل‪ :‬ما ترى يمنعني؟!‬

‫قال ديك‪ :‬هل يخفى عليك ما سيحيق بك من املصاعب واألخطار واملهالك؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬إنما املصاعب يجب عىل اإلنسان الظفر بها‪ ،‬وأما األخطار‬
‫فمن تراه يتحاىش عنها ويتنزه؟!‪ ،...‬وقد جاء أن زوايا الدنيا مشحونة‬
‫بالرزايا وإذا جلست عىل املائدة وأدرت تناول الطعام فال يخلو األمر من‬
‫الخطر‪ ،‬فعلينا أن ننظر إىل ما سيجري كأنه جرى‪ ،‬ونعترب املستقبل كأنه‬
‫بحارض مقبل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫حارض‪ ،‬ألن املستقبل ليس ّإل‬

‫قال ديك‪ :‬وهذا قليل لديك؛ ألعلك ممن يتكلون عىل القدر؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن عىل الوجه الحسن؛ فليس لنا أن نهتم بما أعد‬
‫لنا من النصيب‪ ،‬بل الخليق بنا أن نتذكر املثل اإلنكليزي القائل‪« :‬من ُخل َِق‬
‫ل ُي ْشنَ َق لن ُي ْغ َر َق»‪.‬‬

‫فأجاب ديك لذلك املقال بما يطول رشحه ويضيق بنا املجال لذكره‪ ،‬وبعد‬
‫أن فرغ من القيل والقال‪ ،‬والتنازع والجدال‪ ،‬قال‪ :‬وإذا كان ال بد من‬
‫الرتحال فلم ال تسري بالطريق التي سلكها الرجال؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬أتسألني ملاذا ال أسري يف الطريق التي سلكها املسافرون‬


‫من قبيل‪ ،‬وأنت عالم أن جميع السياح الذين قصدوا بطون إفريقية ذهبت‬
‫ش الهَلَكات‪ ،‬وأصيبوا بأ َ َم ِّر الرزايا واآلفات؛ فقد‬
‫مساعيهم هد ًرا‪ ،‬وهلكوا أ َ َ َّ‬
‫ُذ ِبحَ منغوبرك عند نهر النيجر‪ ،‬و ُف ِق َد فوجل يف مفاوز واداي الشاسعة‪،‬‬
‫ومات أودني يف مرمر‪ ،‬وكالبرتون يف سكاتو‪ ،‬وتقطع مزان الفرنيس إ ْر ًبا‪،‬‬
‫و ُقتِل الينك من التوارج‪ ،‬و ُذ ِبحَ الهمبورجي سنة ‪1860‬؛ فهلك جميع هؤالء‬
‫‪18‬‬
‫طويل الجوع والعطش واملشاق‬ ‫ً‬ ‫ألنه رضب من املحال أن يتحمل املرء‬
‫واألمراض‪ ،‬وأن ينازع ويباطح الوحوش الكارسة‪ ،‬واألقوام املتوحشني‬
‫الربابرة؛ فما لم يتم بطريقة عىس أن يتم بطريق ٍة أخرى‪ ،‬وحيث إنه يمتنع‬
‫املرور يف وسط تلك األقطار وجب علينا أن نمر من فوقها‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬والحالة هذه فلنمر من فوقها طائرين‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬وما يل أن أخىش وأرتاب وقد رتبت وهيأت جميع األبواب؛‬
‫فإني جهزت مركبتي الهوائية بنوع ال أخىش به السقوط‪ ،‬وإذا فرضنا‬
‫وسقطت املركبة فأتمم الرحلة عىل ُسنَّة من سبقني يف ذلك‪ ،‬ولكني واثق‬
‫أنه لجهة نظامها وترتيبها ال تسقط وال تنهار‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬كال يا صاحبي؛ ال َتثِ َق َّن بهذه القبة الهوائية‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬كن عىل بصرية أني بعونه تعاىل وتوفيقه ال أفارق‬
‫مركبتي ّإل عند وصويل إىل آفاق إفريقية الغربية‪ ،‬ألن بها يتم كل يشء‪،‬‬
‫وبدونها أقع يف وهاد املخاطر والوبال‪ ،‬وبها ال أخىش الحر وال الرص‪،‬‬
‫وال الزوابع والزعازع‪ ،‬وال الحرور وال السموم‪ ،‬وال األهواء السقيمة وال‬
‫األرياح املشؤومة‪ ،‬وال الحيوانات الكارسة حتى‪ ،‬وال األقوام الغادرة‪ ،‬فإذا‬
‫أ َ ْح َس ْستُ بحرارة أرتقي إىل ع ٍل‪ ،‬وإذا شعرت برب ٍد أنزل إىل أسفل‪ ،‬وإذا‬
‫قابلني جبل أو طوط أم ُّر من فوقه فأقطع الجبال والوديان والبطاح‬
‫والغيطان‪ ،‬وأجوز األنهار والبحريات‪ ،‬وأتنزه عن جميع اآلفات‪ ،‬وأطري يف‬
‫الجو طريان البواشق دون أن يالحقني مالحق‪.‬‬

‫فلما سمع ديك هذا الخطاب ارتاع فؤاده وخالجه االضطراب وأخذ يحدق‬

‫‪19‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫بصاحبه‪ ،‬ويظن بنفسه أنه طائر يف الجو ومرتجرج يف عباب بحور العالء‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬وهل وجدت وسيلة لقيادة املركبة الهوائية؟‬

‫قال ساموئيل‪ :‬كال!‬

‫قال ديك‪ً :‬‬


‫إذا إىل أين تذهب بها؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬أذهب حيث شاء ربك‪ ،‬ولكن من نيتي أن أسافر من الرشق‬
‫وأحط يف الغرب‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولم ذلك؟‬

‫قال ساموئيل‪ :‬ألني أسري مع ريح الصبا التي تهب بثباتٍ من الجهة‬
‫الرشقية إىل الجهة الغربية‪.‬‬

‫تأمل ديك لربهة‪ ،‬ثم قال‪ :‬لست بمنك ٍر أ َ ّن‪ ...‬ريح الصبا‪ ...‬بالحرص‪...‬‬
‫تقدر‪ ...‬تو‪..‬ا‪..‬فق‪ ...‬رحلتك‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬قل رحلتنا!‪...‬؛ هل لك آعرتاض آخر يا ُ‬


‫ديك؟‬

‫اعرتاض؟!‪...‬؛ وقبل كل يشء أطلب إليك أن تقول‬


‫ٍ‬ ‫قال ديك‪ :‬كيف ويل ألف‬
‫يل كيف تريد االرتقاء والنزول والرحيل يف تلك الطلول دون أن يفرغ‬
‫الغاز الذي به تطري املركبة؟‬

‫قال ساموئيل‪ :‬وأنا أقول لك‪ :‬إني ال أفقد ذرة واحدة من الغاز‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وتحط يف األرض كيف ومتى شئت!‬


‫‪20‬‬
‫قال ساموئيل‪ :‬نعم ياصاح؛ فإني أحط كيفما شئت‪ ،‬ومتى شئت‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وكيف ذلك؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬هذا رسي امل ُ َخبَّى فثق بي وكن عىل أ ُ ْهبَة‪ ،‬وقل معي‪ :‬السري‬
‫إىل ما فوق‪.‬‬

‫فحاول ديك أن يظهر رأيه مطاب ًقا لرأي صاحبه‪ ،‬ولكن يف نيته أن يقاومه‬
‫يف مقصده مقاومة األسود‪.‬‬

‫فختم ساموئيل الحديث بقوله‪ :‬قد رخصت يل الحكومة اإلنكليزية يف‬


‫سفين ٍة تكون تحت أمري وتدبريي‪ ،‬فالبد من أن أبلغ جزيرة زنجبار قبل‬
‫ثالثة أشهر؛ فهناك أنظم مركبتي الهوائية‪ ،‬ونطري بها أنا وأنت‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫يف ذكر الرحالت التي عاناها املسافرون يف بطون إفريقية ومفاوزها‬
‫بقصد االكتشافات الجديدة‬

‫‪23‬‬
‫وأما الناحية التي اختارها َّ‬
‫العلمة ساموئيل مرك ًزا لالنتقال منها إىل‬
‫الطبقات العلوية عىل أجنحة املركبة الهوائية فهي زنجبار‪ ،‬وكانت نعم‬
‫الخيار‪.‬‬

‫وزنجبار جزيرة واقعة يف جهة إفريقية الرشقية يف عرض جنوبي ْ‪6‬؛‬


‫أي تحت خط االستواء بأربعمائة وثالثني ً‬
‫ميل إنكليز ًيا أو نحو ‪268‬‬
‫ً‬
‫ميل هاشميًا‪« ،‬وامليل الهاشمي بمقام ‪ 4000‬ذراع»‪ ،‬فيليق بنا أن‬
‫نستطرد لذكر بعض الرحالت التي بارشها املسافرون يف إفريقية بقصد‬
‫االكتشافات الجديدة‪.‬‬
‫وكان من قصد َّ‬
‫العلمة فرغوسن أن يعيدها‪ ،‬وهما اثنتان ذات أهمية‬
‫جزيلة‪ :‬األوىل رحلة برث سنة ‪1849‬م‪ ،‬والثانية رحلة املالزمني برتون‬
‫وأسبيك سنة ‪1858‬م‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أما برث الهمبورجي فقد أوذن بأن ينضم هو وابن وطنه أوفرورك إىل‬
‫اإلنكليزي ريرشدسون الذي كان قاصدًا بالد السودان ببعثة من الحكومة‪،‬‬
‫وبالد السودان واقعة بني ْ‪ 15‬و ْ‪ 10‬من العرض الشمايل‪ ،‬ويقتيض للوصل‬
‫إليها املسري يف مسافة تنيف عن ‪ 1500‬ميل يف وسط إفريقية‪.‬‬

‫وإىل ذلك الوقت لم تكن تعرف تلك البلدان سوى بسفرة دنهام وكالبرتون‬
‫واودناي من سنة ‪1822‬م إىل ‪1824‬م‪ ،‬فتتبع الرفاق املذكورون آثار‬
‫سلفائهم وبعد أن وصلوا إىل تونس وطرابلس تقدموا إىل ما قدام‪ ،‬وبلغوا‬
‫مدينة مرزوق عاصمة الفزان‪.‬‬

‫ثم انثنوا عن الخط املستقيم وداروا نحو غات إىل الغرب‪ ،‬وهم مقودون‬
‫س ُقوا و ُن ِه ُبوا وذاقوا أرش العذاب‪ ،‬واضطروا‬
‫بقوم من التوارج‪ ،‬وبعد أن ُ ِ‬
‫مرا ًرا إىل املناضلة والكفاح‪ ،‬وصلوا أخريًا إىل غوطة األصبان يف شهرت‪،1‬‬
‫وهناك فارق برث رفاقه وتقدم إىل مدينة أغادس‪ ،‬ثم رجع إىل القافلة‬
‫وأخذوا يف املسري يف اليوم الثاني عرش من شهر كانون األول‪ ،‬فوصلوا إىل‬
‫إقليم دامرغو‪ ،‬وتفارق الرفاق هناك‪ ،‬وعمد املعلم برث إىل مدينة كانو‪،‬‬
‫وكان وصوله إليها بعد العناء الجزيل‪ ،‬و َت َح ُّمل الصرب الجميل‪ ،‬ودفع‬
‫املبالغ العظيمة لرؤساء أقوام تلك البلدان الظاملة‪.‬‬

‫خادم واحد‪ ،‬وكان مصا ًبا بداء الحمى‬


‫ٍ‬ ‫ثم هجر مدينة كانو يف ‪ 7‬آذار برفقة‬
‫ومع ذلك قد صمم النية عىل مشاهدة بحرية شاد‪ ،‬وبقي له للوصول إليها‬
‫ميل‪ ،‬فتقدم نحو الجهة الرشقية‪ ،‬ووصل إىل مدينة‬ ‫ثالثمائة وخمسون ً‬
‫زوريكولو يف إقليم برنو‪ ،‬وهذه املدينة محط ملركز أواسط إفريقية وهناك‬
‫بلغه خرب وفاة رفيقه ريرشدسون من شدة الضنك والتعب وقلة القوت‪،‬‬
‫‪26‬‬
‫وملشاق أخرى حلت يف إنسان متعو ٍد الرخاء يف معيشته‪ ،‬ثم رحل إىل كوكا‬
‫عاصمة برنو عند سواحل البحرية‪ ،‬وبعد ثالثة أسابيع بلغ مدينة نغرنو‬
‫يف ‪ 14‬نيسان‪ ،‬بعد هجرة طرابلس الغرب باثني عرش شه ًرا ونصف‪.‬‬

‫ويف ‪ 29‬آذار سنة ‪1851‬م‪ ،‬سافر ورفيقه أوفروك إىل مملكة أداموة يف‬
‫جنوبي البحرية‪ ،‬ووصل إىل مدينة يوال‪ ،‬ثم عاد الكرة يف شهر آب عىل‬
‫مدينة كوكو‪ ،‬وهناك طاف حول مندارا وبرغيمي وكانم وأقىص جهة من‬
‫املرشق‪ ،‬وهناك مدينة مزنا الواقعة ْ‪ 21‬وْ‪ 17‬من الطول الغربي‪.‬‬

‫ويف ‪ 25‬من شهر ترشين الثاني سنة ‪1852‬م‪ ،‬بعد أن قىض رفيقه نحبه‪،‬‬
‫تقدم إىل الجهة الغربية وعرج عىل مدينة سوكوتو وجاز بنهر النيجر‬
‫ووصل أخريًا إىل مدينة تمبكتو‪ ،‬وهناك ألقى الشيخ القبض عليه‪ ،‬ولبث‬
‫ّ‬
‫الفولن‬ ‫يعذبه ويذيقه أم َّر الوبال واملرتبة نحو ثمانية أشهر‪ ،‬أما قوم‬
‫فهاجوا وماجوا ألنهم ال يحتملون زما ًنا بقاء رجل مسيحي يف تلك املدينة‪،‬‬
‫فأفلته الشيخ‪ ،‬ورحل املعلم برث منها يف ‪ 17‬آذار سنة ‪1854‬م‪ ،‬واحتمى‬
‫بتخوم املدينة‪ ،‬ومكث ثالثا وثالثني يو ًما محرو ًما كل رضورياته‪ ،‬ثم رجع‬
‫إىل كانو ودخل كوكا ولبث فيها أربعة أشهر‪ ،‬ومن هناك سار يف الطريق‬
‫التي خطها دنهام حتى عاين أخريًا مدينة طرابلس الغرب يف أواخر شهر‬
‫آب سنة ‪1855‬م‪ ،‬ثم سافر إىل لندرة وحده يف ‪ 6‬أيلول دون رفيق‪ ،‬ولم‬
‫يتجاوز ْ‪ 4‬من العرض الشمايل وال الدرجة ْ‪ 17‬من الطول الغربي‪.‬‬

‫فهذه رحلة املسافر الباسل برث الذي حاز الرشف الخطري لدى أعني‬
‫العلماء وأصحاب الفنون والذكاء‪.‬‬

‫ولكن لم يقدر قط أحد عىل الوصول إىل عيون النيل الرسية‪ ،‬وعىل ما قرره‬

‫‪27‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫الطبيب األملاني فردينند ورن فإن املسافرين الذين بعثهم محمد عيل سنة‬
‫‪1840‬م لم يبلغوا سوى إىل غندوكورو بني ْ‪ 4‬و ْ‪ 5‬يف السمت الشمايل‪.‬‬
‫ً‬
‫قنصل لدولة رسدينيا يف مملكة‬ ‫ويف سنة ‪1855‬م تسمى برون روليت‬
‫السودان الرشقية‪ ،‬خل ًفا ملن مات قبله موت الشقاء والعذاب‪ ،‬وهو واداي؛‬
‫فهذا القنصل الجديد سافر من الخرطوم ودعا نفسه باسم يعقوب‪،‬‬
‫وتقدم إىل ما قدام وهو يتاجر بالصمغ والعاج‪ ،‬حتى وصل إىل بالنيا فوق‬
‫مبتل بمرض عضال بلغ به إىل‬ ‫درجة ْ‪ ،4‬ثم عاد الكرة عىل خرطوم وهو ً‬
‫القرب سنة ‪1857‬م‪.‬‬
‫فلم يقدر أحد عىل مجاوزة الحدود املعلومة؛ ال َّ‬
‫العلمة بنه الذي تقدم إىل‬
‫ض ٍن من التعب وخور‬ ‫قرب غندوكورو‪ ،‬ألنه رجع فمات يف خرطوم وهو َ‬
‫القوى‪ ،‬وال السائح مياني من البندقية‪ ،‬وال التاجر املطايل أندريا دبنو‬
‫الذي اهتم بالوصول إىل عيون النيل‪ ،‬لكنه لم ينل مرامه‪.‬‬

‫ويف سنة ‪1859‬م بعثت الحكومة الفرنسية موسيو غيليوم ليحان إىل‬
‫بالد الخرطوم وأصحبته بواحد وعرشين جند ًيا‪ ،‬فسافر يف البحر األحمر‬
‫ثم نزل إىل ضفة النيل‪ ،‬ومع هذا كله فلم يتمكن من مجاوزة تخوم‬
‫غندوكورو‪ ،‬وحاقت به املخاطر العظيمة لداعي ثورة ما بني الزنج‪.‬‬

‫وطاملا قد أوقف هذا الحد شجاعة املسافرين والسياح‪ ،‬وكثريون أولئك‬


‫الذين أرادوا الوصول إىل عيون النيل برحيلهم إىل جهة إفريقية الرشقية‬
‫فلم يتمكنوا من ذلك؛ فمن سنة ‪1768‬م إىل سنة ‪1772‬م رحل السائح‬
‫بروس االسكتيس من ماص َّوة‪ ،‬وهي مينا بالد الحبشة ووصل إىل خراب‬
‫أكسوم‪ ،‬وشاهد عيون النيل حيث ال وجود لها‪ ،‬ولم تأت أتعابه بثمرة‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫ويف سنة ‪1845‬م سافر السائح الفرنيس مزان إىل بغا مايو قبالة زنجبار‪،‬‬
‫ووصل إىل مدينة دجالمهرا حيث أذاقه سيد قومها أمر العذاب والبالء‪،‬‬
‫ويف سنة ‪1859‬م‪ ،‬يف شهر آب‪ ،‬سافر الشاب رورش الهمربجي صحبة‬
‫نياصا‪ ،‬وهناك ذبح يف رقاده‪.‬‬
‫َّ‬ ‫قافلة تجار أعراب‪ ،‬وبلغ بحرية‬

‫أخريًا‪ ،‬سنة ‪1857‬م‪ ،‬بعثت الجمعية امللوكية الجغرافية يف لندرة الضابطني‬


‫برتون وأسبيك املشهورين ليستقرئا بحريات إفريقية العظيمة؛ ففي‬
‫‪ 17‬حزيران قاما من مدينة زنجبار وتوجها إىل الناحية الغربية‪ ،‬فبعد‬
‫أن قضيا أربعة أشهر يف مفاوز الضيق والعذاب الشديد؛ حيث نهبت‬
‫حوائجهما وقتلت ناقالتهما‪ ،‬وصال إىل مدينة كازه‪ ،‬وهي مركز اجتماع‬
‫التجار والقوافل‪ ،‬وهذه املدينة كائنة يف أواسط بالد القمر‪ ،‬وهناك اكتنزا‬
‫لهما ذخائر الفوائد باالستفحاص عن أخالق أقوام تلك البالد وطبائعهم‬
‫وحكومتهم وديانتهم وخرافاتهم وخزعبالتهم‪ ،‬ثم تقدموا إىل أول‬
‫البحريات العظيمة وهي تنغنايكا الواقعة بني ْ‪ 3‬وْ‪ 8‬من العرض الجنوبي‪،‬‬
‫وكان وصولهما إليها يف ‪ 14‬شباط سنة ‪1858‬م‪ ،‬وهناك شاهدا أقوا ًما‬
‫مختلفة‪ ،‬وأكثرهم برابرة ومتوحشون‪.‬‬

‫ويف ‪ 26‬آيار رجعا إىل كازه‪ ،‬وهناك مرض برتون واعرتاه سقم شديد‪،‬‬
‫فمكث َمبْلُ ًّوا به بضعة أشهر؛ ففي تلك املدة جاز أسبيك ثالثمائة ميل‬
‫إنكليزي يف الجهة الشمالية‪ ،‬ووصل إىل بحرية أوكراوي‪ ،‬لكنه لم يعاين‬
‫ً‬
‫عرضا‪.‬‬ ‫سوى طرفها الواقع يف درجة ‪2ْ 30‬‬

‫ثم رجع إىل كازه يف ‪ 25‬آب‪ ،‬وسافر مع رفيقه إىل زنجبار‪ ،‬فوصال إليها‬
‫يف شهر آذار من السنة الثانية‪ ،‬ومن هناك قصدا لندرة وخصصت لهما‬

‫‪29‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ً‬
‫معاشا سنو ًيا‪.‬‬ ‫الجمعية امللوكية الجغرافية‬

‫العلمة فرغوسن أن املسافرين املذكورين لم يجوزوا درجة‬ ‫وقد الحظ َّ‬


‫ْ‪ 2‬من العرض الشمايل‪ ،‬وال درجة ْ‪ 29‬من الطول الرشقي‪ ،‬ولذا أراد أن‬
‫ً‬
‫عرضا ناف‬ ‫يجمع بني رحلة برتون وأسبيك‪ ،‬ورحلة برث ومن َث ّم يقطع‬
‫عن ‪ 12‬درجة‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫يف أهمية الرحلة اإلفريقية‬

‫‪31‬‬
‫العلمة فرغوسن يهم بتجهيز لوازم السفر العلوي‪ ،‬ويهيئ بناء‬ ‫وكان َّ‬
‫زمان‬
‫ٍ‬ ‫القبة الهوائية بحسب إصالحات اخرتعها ويكتم رسها‪ ،‬وكان منذ‬
‫أخذ بدرس اللّغة العربيّة ولغات الزنج املختلفة ونجح فيه‪ ،‬ليس بيسري‪،‬‬
‫لشدة قوته الذاكرة‪ ،‬وانصبابه عىل كل ما ا ْبتَ َغى قنيته‪.‬‬
‫بتة‪ ،‬كأنه عىل خشية أن َّ‬
‫العلمة يفلت‬ ‫وأما رفيقه ديك فلم يكن يفارقه ً‬
‫ذات يوم خفية عنه‪ ،‬وكان ينتهز كل فرص ٍة مناسبة لريجعه عن مقصده‪،‬‬
‫ّإل أن كالمه ال تأثري له يف عقل صاحبه غري املبايل به‪.‬‬

‫رسا ويقول يف نفسه‪ :‬الب َّد لك يا ديك الب َّد لك من تلك‬


‫وعليه كان يتنهد ًّ‬
‫الرحلة املشؤومة‪ ،‬وعندها يظن بذاته صاعدًا إىل الجو وطائ ًرا يف الفضاء‬
‫لعبة لألرياح‪ ،‬ويضيق صدره ويخفق منه القلب وينتضح عر ًقا‪ ،‬بل إنه‬
‫كان يشعر وقت الرقاد باهتزاز وارتجاج مريعني يقلقان نومه ويرعبان‬

‫‪33‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫جنانه ويعدمانه راحة الليل‪ ،‬ولم تمض ليلة ّإل أحس بسقطة هائلة من‬
‫أعايل طبقات السماء‪ ،‬ويف الحقيقة سقط من فراشه؛ أقله مرتان وهو يف‬
‫هذا الضغط واالضطراب‪.‬‬
‫وقد اعتنى يف أول األمر أن يظهر َّ‬
‫للعلمة فرغوسن الورم الذي طرأ علي ِه‬
‫يف رأسه من ج ّراء سقوطه هذا‪ ،‬وقال له إذا كان من علو أشبار بليت بهذه‬
‫حل بي لو سقطت من طبقات العالء!‬ ‫النائبة فرتى ما لكان قد َّ‬

‫أما فرغوسن فلم يتحرك فؤاده لهذا االضطراب‪ ،‬بل أجاب وقال‪ :‬إننا ال‬
‫نسقط‪ ،‬فقال ديك‪ :‬وإذا سقطنا فما الحيلة‪.‬‬

‫كل؛ فإننا ال نسقط‪ ،‬وكان جوا ًبا قاطعًا با ًتا؛ إذ لم يتفوه‬ ‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫ديك بعد ذلك بكلم ٍة البتة‪.‬‬

‫صه بذاته‪،‬‬ ‫ب َش ْخ َ‬ ‫أ َّما أعظم باعث الغتياظ ديك فكان أن َّ‬


‫العلمة ال َي ْعتَ ِ ُ‬
‫بل كأنه من متعلَّقاته ومن بعض أمالكه‪ ،‬وعىل الخصوص فإنه كان‬
‫ينفعل عندما يسمع من فم فرغوسن التكلم يف الجمع؛ إذ كان يقول دائ ًما‬
‫سنسافر «نحن»‪ ،‬سنتقدَّم «نحن»‪ ،‬ويقول دائ ًما قبتنا ورحلتنا‪ ،‬ولم يقل‬
‫قط قبتي أو رحلتي‪.‬‬

‫فكان األمر مما يزيد ديك جزعًا واضطرا ًبا‪ ،‬ولو أنه عازم عىل ممانعة‬
‫الرحلة أو أقله عىل عدم اشرتاكه فيها‪ ،‬ومع ذلك لم يرد قط أن َيغيِ َظ‬
‫رسا إىل مدينة أدمربج يطلب‬‫صاحبه وخِ له العزيز‪ ،‬وعليه كان قد أرسل ً‬
‫بعض حاجات له ومالبس وأحسن أنواع سالح للصيد‪.‬‬

‫ففي ذات يوم أخذ يفاوض صاحبه عىل هذه الرحلة قصدًا يف منعه عن‬
‫‪34‬‬
‫العلمة عىل مقاصد رحلته؛ فقال‪ :‬أهل من أمر‬ ‫معاناتها‪ ،‬فبدأ يعارض َّ‬
‫رضوري اكتشاف عيون النيل وهل يستفيد بذلك الجنس البرشي؟‪،...‬‬
‫وهل تتمدن أقوام تلك البالد وتحظى بسعادة أوفر مما هي عليه اآلن؟‪،...‬‬
‫وما نفع اإلرساع إىل ذلك؟‪...‬؛ إذ الب َّد أن يأتي يوم يجوز فيه املسافرون‬
‫العلمة فرغوسن‬ ‫بإفريقية كلها دون صعوبة وهلم ج ًّرا‪ ،‬فأجابه حينئ ٍذ َّ‬
‫وقال أتريد يا ديك‪ ،‬بئس األدياك‪ ،‬أن أترك هذا الفخر لغريي وأتوقف عند‬
‫موانع ال أهمية لها البتة؟‪ ،...‬فاعرتض ديك كمألوف عادته‪ ،‬وقال‪ :‬ولكن‪..‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬ولكن أال تعلم أن رحلتي تساعد أن تنجح الرحالت الحالية‬
‫التي يعانيها املسافرون؟‪ ،...‬أيخفى عليك أن مسافرين حديثني متقدمون‬
‫اآلن نحو مركز إفريقية‪ ،‬وأن البحرية املعروفة باسم أوكاراوي الواقعة‬
‫طول ظنها قوم أنها تمتد من الدرجة ‪ 2ْ 30‬من العرض‬ ‫يف الدرجة ْ‪ً 33‬‬
‫الجنوبي إىل الدرجة ْ‪ 2‬من العرض الشمايل‪ ،‬وعىس أن منها تنبجس‬
‫عيون النيل؛ فقد نظرت جمعية لندرة امللوكية إىل هذا األمر بعني األهمية‪،‬‬
‫وبعثت القبطان أسبيك برفقة غرنت‪ ،‬أحد قواد الجنود الهندية‪ ،‬وأصحبوا‬
‫معهما جنودًا‪ ،‬وجهزوا رحلتهما تجهي ًزا بلي ًغا‪ ،‬ويف نيتهم أن يبلغوا‬
‫البحرية املذكورة ثم يرجعوا إىل غندوكورو عىل شاطئ النيل‪ ،‬وقد أمدَّتهم‬
‫الجمعية بخمسة آالف لرية‪ ،‬فرحلوا من زنجبار يف أواخر شهر ترشين‬
‫األول سنة ‪1860‬م‪.‬‬

‫ويف تلك املدة ورد أمر من الحكومة اإلنكليزية إىل جون برتيك يف‬
‫الخرطوم؛ أن ينزل يف سفينة يف الخرطوم ويحملها زادًا وحوائج كثرية‪،‬‬
‫ويذهب لينتظر القافلة يف غندوكورو‪ ،‬وأ ُ ْرسِ َل له لنفقة ذلك سبع ُمائة لرية‬
‫إنكليزية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ِ :‬ن ْع َم ما فعلوا‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬أرأيت اآلن أن الوقت قد ضاق معنا‪ ،‬وأمىس هناك حاجة‬
‫إىل رسعة الرحيل إىل تلك البلدان‪ ،‬وما عدا ما ذكرته لك من عمد البعض‬
‫إىل اكتشاف منبع النيل؛ فقد رحل أناس كثريون إىل أواسط إفريقية‬
‫ليكتشفوا أراضيها وبقاعها وبطاحها؟ قال ديك‪ :‬أفما هم مشاة؟!‬

‫أجاب ساموئيل‪ :‬أي نعم مشاة‪ ،‬وال يخفى عليك ً‬


‫أيضا أن السيد دي‬
‫هكلن‪ ،‬وكيل قنصل النمسا يف الخرطوم‪ ،‬رتب قافلة ذات أهمية للرحيل‬
‫إىل أواسط إفريقية‪ ،‬وجل قصدها أن تطلب املسافر‪ ،‬وجل الذي أ ُ ْرسِ َل إىل‬
‫السودان سنة ‪1853‬م ليشارك َّ‬
‫العلمة برث باكتشافه‪ ،‬ويف سنة ‪1856‬م‬
‫رحل من برنو‪ ،‬وقصد اكتشاف ذلك اإلقليم املجهول الواقع بني بحرية‬
‫شاد ومملكة درفور؛ فمنذ ذلك الوقت لم يسمع عنه خرب‪ ،‬ولم ُي َر له أثر‪،‬‬
‫فأرسل بعض الناس كتبًا إىل اإلسكندرية يقولون فيها إنه قتل بأمر ملك‬
‫الواداي يف بالد السودان‪ ،‬ولكن َكتَ َب َّ‬
‫العلمة هرمان كتا ًبا إىل أبي ُو ِجل‬
‫يقول له فيه إن ابنه لم يمت‪ ،‬بل عىل ما قرره بدوي من برنو أن ً‬
‫رجل‬
‫ألقى القبض عليه يف «دارة» وبقي هناك أسريًا‪ ،‬وقد تألَّ َفتْ جمعية لطلبه‬
‫وسافر وفدها يف شهر حزيران املايض‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وحيث جميع األمور سائرة عىل قدم النجاح واإلتقان فما لنا‬
‫من الشغلة يف تلك األقاليم والبلدان‪.‬‬

‫فلم يجب ساموئيل عن هذا الكالم‪ ،‬بل تحول عنه وانرصف وهو يهز‬
‫بأكتافه‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫يف خادم َّ‬
‫العلمة ساموئيل وزنة املسافرين‬

‫‪37‬‬
‫أوصاف‬
‫ٍ‬ ‫وكان للعالمة ساموئيل خادم اسمه يوسف‪ ،‬وهو شاب أديب ذو‬
‫حسنى‪ ،‬إذا أمره مواله بقضاء حاج ٍة لباه بالنشاط واألمانة‪ ،‬وقد نهج يف‬
‫صدقه نحو سيده طريقة غري مطروقة‪ ،‬وأتاه عىل رغباته بهمة غري همة‬
‫وخليقة غري خليقة‪ ،‬أشبه بالعرباني األمني الذي أرسله يشوع بن نون‬
‫ليجتس أرض الكنعانيني‪ ،‬وكان َّ‬
‫العلمة يرتك له التدبري يف مهامه وخدمه‪،‬‬
‫ذوق لطيف‪ ،‬وال يتهامل يف أمر من األمور‪.‬‬
‫ألنه صاحب ٍ‬
‫ً‬
‫أصل‪ ،‬بل‬ ‫ومن العجب العجاب أن يوسف لم يكن يراجعه يف أحكامه‬
‫إذا تفوه ساموئيل بكلم ٍة رعاها بدقة و َت َح ٍّر وكل ما فكر به ساموئيل‬
‫كان لدى يوسف مصيبًا‪ ،‬وكل ما قاله كان أريبًا‪ ،‬وكلما أمره به كان‬
‫مرعي اإلجراء‪ ،‬وكلما نحا نح ًوا كان مستطاعًا‪ ،‬وكل ما تمم أم ًرا كان لديه‬
‫من العجائب والغرائب فلو تقطع يوسف إ ْربا ما ريض قط يف حياته أن‬
‫يخالف سيده يف أمر البتة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ولهذا ملا خطر ببال فرغوس الرحيل عىل أجنحة املركبة الهوائية‪ ،‬وعلم‬
‫به يوسف‪ ،‬طابق رأيه بذلك دون ممانعة‪ ،‬وتحقق أنه يسافر مع سيده‪،‬‬
‫ألنه كان خفيف الحركات واألطوار‪ ،‬ويساعد ساموئيل يف أمور كثرية‬
‫ذات أهمية جزيلة‪ ،‬وقد طاملا اتبعه يف أسفاره العديدة‪ ،‬وكان من آرائه‬
‫الغريبة استصواب األمور جميعها‪ ،‬واستهوان املصاعب واملتاعب‪ ،‬ولم‬
‫يعلم قط يف زمانه جنس التَّ َش ِّكي والتذمر‪ ،‬ومن صفاته ً‬
‫أيضا القوة يف‬
‫جسمه‪ ،‬والتبرص يف األمور وعدم افتخاره بجميع محاسنه وشمائله؛ فلما‬
‫كان هذا الخادم منقادًا لسيده‪ ،‬وقد طابقه عىل رائه يف رحلته‪ ،‬فال عجب‬
‫فيما جرى من الجدال واملناقشة بينه وبني ديك‪ ،‬ألن أحدهما كان واقعًا‬
‫والعلمة فرغوسن كان بني‬‫َّ‬ ‫يف اليقني األعمى‪ ،‬واآلخر يف الشك واالرتياب‪،‬‬
‫الشك واليقني‪ ،‬غري أنه لم يعبأ ال بهذا وال بذاك‪.‬‬

‫ففي ذات يوم قال الخادم لديك‪ :‬يا سيدي!‪ ،...‬وكيف أحوالك؟‪ ...‬أال ترى‬
‫أننا عن قريب نرتقي إىل طبقات العالء لنبلغ القمر؟!‬

‫قال ديك‪ :‬أتعني عن املرص امللقب بجبال القمر؟‪...‬؛ فإنه أقرب من القمر‪،‬‬
‫ومع ذلك ال يخلو بلوغه من املصاعب واألخطار‪.‬‬
‫العلمة ساموئيل تقوم املصاعب؟!‪َّ ،...‬‬
‫وهل تعلم‬ ‫قال الخادم‪ :‬وهل مع َّ‬
‫أنها تتبدد أمامه كغيم جهام‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬أقول ً‬
‫قول ال يخىش عليه من نكري‪ :‬إن معاناة موالك لهذه الرحلة‬
‫رضب من الجنون‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬كيف ولم تر مركبة سيدي وقبته يف معمل الخواجات متشال‬
‫‪40‬‬
‫الواقعة يف ضاحية هذه املدينة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬معاذ الله أن أنطلق إىل هناك ألشاهد مثل هذا املشهد‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬ولعمري؛ يفوتك منظر جميل جدًا‪ ،‬ألنه ما من يشء أجمل من‬
‫تلك القبة الحريرية‪ ،‬أو أحىل من ذلك القارب املعلّق بها ليحملنا براحة‬
‫تامة‪.‬‬

‫قال ديك‪ً :‬‬


‫إذا من نيتك الثابتة أن ترافق موالك يف رحلته‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬وهل أتركه وحده طائ ًرا يف طبقات العالء؟!‪ ...‬وإلَّم أتبع‬
‫موالي ساموئيل فمن يأتي بيده إذا حاق به الويل؟‪ ،...‬ومن يمد له ساعده‬
‫ليجوز مهواة؟‪ ،...‬ومن ينظر إليه ويرمقه بعني املالطفة واملواساة إذا‬
‫ً‬
‫محيطا‬ ‫أصابه املرض واعرتاه السقم؟!‪ ،..‬ولعمري‪ ،‬ما دمت حيًا‪ ،‬فال أزال‬
‫بموالي ألداره مداراة اإلنسان للعني‪.‬‬

‫شهم فريد عرصك!‪ ،...‬ويوسف وحيد مرصك!‬


‫ٍ‬ ‫قال ديك‪ :‬يالك من‬

‫قال الخادم‪ :‬أليس مرادك مرافقتنا يف هذه الرحلة؟‬

‫قال ديك‪ :‬ال شك يف ذلك؛ قلت ال شك يف أن أرافقكما يف رحلتكما إىل‬


‫زنجبار‪ ،‬وأبذل وسعي يف صد ساموئيل عن ارتكاب هذه الجريرة‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬لعمري إنك لن تصده ً‬


‫بتة عن قصده‪ ،‬ألن موالي ليس بإنسان‬
‫محشو مخاخه بطعم الخزعبالت‪ ،‬بل إذا قصد أم ًرا ترواه من جميع‬
‫أنحائه‪ ،‬وقد فعله ال محالة‪ ،‬واملحتال بنفسه مع حيله ال يوقفه عن إجرائه‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬إن شاء الله عن قريب يخيب أملك‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬وعىل ك ٍل ال يخيب أمل حرضتك‪ ،‬ألنه يكثر الصيد يف بالد‬
‫إفريقية وأنت من الصيادين املشهورين‪ ،‬فالبد من أن تجد هنالك ما‬
‫يرسك ويطربك‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬إن ما يرسني ويطربني هو أن يرجع َّ‬
‫العلمة عن غيه‪ ،‬ويرعوي‬
‫عن ضالله‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬ولكن ال خفي عليك أن اليوم يوم الزنة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما الزنة؟!‬

‫قال الخادم‪ :‬البد أن موالي يزن ثقلنا‪ ،‬لريى ما نعادله من األرطال‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬الحول وال قوة إال بالله العظيم!‬

‫قال الخادم‪ :‬وال تخاف من أنه يطلب منك قلة تناول الطعام لرتق وتخف‬
‫إذا وجدك ً‬
‫ثقيل‪.‬‬

‫قال ديك بعيد أن يزنني؟!‬

‫قال الخادم‪ :‬ولكن الباين أن ذا األمر رضوري ملسري مركبته‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ومايل ومركبته؟!‪ ..‬عىس أن يعرتيها بسببي داء املفاصل أو‬
‫الفالج‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬وإذا أصابها هذا الداء فال يمكنا االرتقاء‪.‬‬


‫‪42‬‬
‫قال ديك‪ :‬هذه رغبتي وطبق منيتي‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬وأنت تقول ذلك ألن موالي ليس هنا‪ ،‬ولكن إذا أتاك يف هذه‬
‫الساعة‪ ،‬وقال لك من بعد أداء اإلكرام‪ :‬تفضل للميزان‪ ،‬فأجيب عنك أنك‬
‫حارض للذهاب يف الساعة والدقيقة‪.‬‬
‫قال ديك‪ :‬حاىش؛ فإني ال أرىض بامليزان ً‬
‫أصل‪.‬‬
‫وفيما هما خائضان بحر هذه املناقشة إذ دخل َّ‬
‫العلمة ونظر إىل ديك‪،‬‬
‫معبسا بوجهه‪ ،‬فقال له‪ :‬تفضل يا ديك‪ ،‬أنت ويوسف‪ ،‬ألن‬ ‫ً‬ ‫فكان هذا‬
‫مرادي أن أرى كم تعادالن اثنانكما من األرطال‪ ،‬فأراد ديك االستدراك‪.‬‬

‫فقال ل ُه ساموئيل‪ :‬ائت والربنيطة عىل رأسك وال تخف‪.‬‬

‫فاتبعه ديك ولم ينطق بكلمة‪ ،‬وسار ثالثتهم إىل معمل الخواجات متشال‬
‫حيث كان امليزان املعروف بامليزان الروماني منتصبًا‪ ،‬ويف الحقيقة كان‬
‫مراده وزن رفقائه ليعرف ميزانية مركبته‪ ،‬فصعد ديك عىل لوح امليزان‬
‫العلمة يقول بصوت منخفض ال بأس بذلك؛ فإن امليزان ال‬ ‫فسمعه َّ‬
‫يقدم وال يؤخر يف املسألة‪ ،‬ثم قال َّ‬
‫العلمة بصوت عا ٍل‪ :‬وزن ديك خمسة‬
‫وعرشون ً‬
‫رطل‪ ،‬وسطر ذلك يف دفرته‪.‬‬

‫فسأل ديك‪ :‬أليس ثقيل بزائدٍ؟‬

‫فأجابه الخادم‪ ،‬وقال‪ :‬كال‪ ،‬وهب أنك ثقيل فأنا خفيف‪ ،‬وهكذا أعوض‬
‫عن ثقلك‪.‬‬
‫ثم صعد يوسف بخفةٍ‪ ،‬ووقف منتظ ًرا الحكم‪ ،‬وإذا بصوت َّ‬
‫العلمة يقول‪:‬‬

‫‪43‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫عرشون ً‬
‫رطل‪.‬‬
‫ثم طلع بنفسه وقال‪ :‬اآلن دوري‪ ،‬وسطر لحسابه اثنني وعرشين ً‬
‫رطل‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬وإذا لزم األمر لرحلتك يا موالي؛ فإني ال أتناول طعا ًما‬
‫ألُ ْنق َ‬
‫ِص من ثقيل ثالثة أو أربعة أرطال‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة متبس ًما‪ :‬ال فائدة يف قلة أكلك يا شا ًبا أمينًا‪ ،‬وعليه خذ؛ فهذه‬
‫ريال‪ -‬لتأكل بها ما شئت وترشب ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫حصتك‪ -‬وأعطاه ً‬

‫‪44‬‬
‫الفصل السادس‬
‫يف تفاصيل املركبة الهوائية من القبة والقارب واآللة الرسية وتجهيز‬
‫حاجات الرحيل الرضورية‬

‫‪45‬‬
‫العلمة ساموئيل ً‬
‫ليل‬ ‫فال غرو يف أن املركبة الهوائية قد أشغلت بال َّ‬
‫ونها ًرا‪ ،‬ومازال عاك ًفا عىل تجهيزها وترتيبها بإتقان‪ ،‬لئال يطرأ عليها يف‬
‫العالء حادث من طوارق الحدثان‪ ،‬فعزم يف أول وهل ٍة عىل أن يقبب القبة‬
‫الحريرية بغاز اإلدروجن‪ ،‬أحد عنرصي املاء‪ ،‬وهو أخف من الهواء بأربع‬
‫عرشة مرة ونصف‪ ،‬وحصول هذا الغاز سهل جدًا‪ ،‬وهو ما أجدى املركبات‬
‫ً‬
‫جزيل يف ارتقائها إىل الطبقات العلوية‪.‬‬ ‫الهوائية نفعًا‬

‫فعىل ما حسب ُه ساموئيل بتدقيق‪ ،‬ظ َّن أن لوازم رحلته التي ينبغي عليه‬
‫رطل‪ ،‬فأخذ يبحث كيف يجهز‬ ‫أخذها يف املركبة تتطلب ثقل نحو ‪ً 666‬‬
‫القبة الهوائية‪ ،‬لتتمكن من حمل هذا الثقل‪ ،‬وما يقتيض أن يكون وسعها‪.‬‬

‫رطل فتوازي وزن ‪ 44848‬قدم هواء مكعب‪ ،‬أو ‪1661‬‬ ‫ً‬ ‫أما ثقل ‪666‬‬
‫مرتًا مكعبًا‪ ،‬فإذا أوسع القبة الهوائية ‪ 1661‬مرتًا مكعبًا‪ ،‬ومألها غاز‬

‫‪47‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫عوضا عن الهواء‪ ،‬وغاز اإلدروجن أخف من الهواء بأربع‬ ‫ً‬ ‫اإلدروجن‬


‫ً‬
‫رطل؛ إذ إن‬ ‫عرشة مرة ونصف‪ ،‬فيبقى خلل يف امليزانية‪ ،‬وقدره ‪620‬‬
‫رطل‪ ،‬وهذا الفرق الكائن بني ثقل الغاز‬ ‫غاز اإلدروجن ال يزن سوى ‪ً 46‬‬
‫الداخل يف القبة وثقل الهواء املحيط بها هو الذي ُي َخ ِّول القبة الهوائية قوة‬
‫الصعود إىل الطبقات العلوية‪.‬‬

‫ومع ذلك؛ إذا أدخل القبة ‪ 1661‬مرت غاز مكعب امتألت بتمامها‪ ،‬وهذا‬
‫ال يوافق بل يأتي بالرضر؛ حيث إن القبة الهوائية بارتقائها إىل الجو‬
‫ثقل من الهواء الكائن عىل سطح األرض‪،‬‬ ‫تصادف يف العالء هواء أقل ً‬
‫فيأخذ الغاز يف االتساع واالمتداد فيشق القبة؛ ففي العموم ال يمأل أصحاب‬
‫الفنون القبب الهوائية غا ًزا سوى بنسبة الثلثني‪.‬‬

‫العلمة ساموئيل فرغوسن فعزم عىل َّأل يمأل قبته ّإل بنسبة النصف‪،‬‬‫أما َّ‬
‫وذلك لقص ٍد خفي كان كامنًا يف ضمريه‪ ،‬وإذ كان يف عزمه أن يأخذ معه‬
‫‪ 1661‬مرتًا مكعبًا من اإلدروجن قد أوسع القبة اتساعًا مضاع ًفا‪.‬‬

‫ثم رتب القبة عىل الهيئة املستطيلة املفضلة عىل غريها‪ ،‬وبلغ قطرها‬
‫األفقي ‪ 75‬قد ًما‪ ،‬وقطرها العمودي ‪ 50‬قد ًما(((‪ ،‬فكان وسع هذه الكرة‬
‫‪ 90‬ألف قدم مكعب‪.‬‬

‫العلمة فرغوسن يف صنيع قبتني هوائيتني مختلفتي الكرب‬‫َّ‬ ‫وقد فكر‬


‫واالتساع‪ ،‬وجعل الواحدة داخل األخرى فالصغرية بلغ قطرها األفقي ‪45‬‬
‫قد ًما‪ ،‬وقطرها العمودي ‪ 68‬قد ًما ووسعها ‪ 67‬ألف قدم مكعب‪ ،‬وقصد أن‬
‫((( ال يتعجب َّن القارئ من هذا الكرب الفاحش‪ ،‬فإن َّ‬
‫العلمة منغلفيه صنع سنة ‪ 1784‬قبة بلغ وسعها‬
‫‪ 20000‬مرت مكعب‪ ،‬وكان من طاقتها أن تحمل ‪ 20‬ألف كيلو غرام‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫يجعل لولبا ينفتح من قب ٍة إىل قبة‪ ،‬ليتصل وقت الحاجة بعضها ببعض‪.‬‬

‫ولهذه الوسيلة فوائد جمة؛ منها إذا أراد إخراج الغاز ليحط عىل األرض‪،‬‬
‫فيخرج الغاز الذي تتضمنه القبة الكربى‪ ،‬حتى وإذا أفرغ بكماله فتبقى‬
‫القبة األخرى عىل حالتها‪ ،‬ويمكن إذا مست الحاجة أن يرمي عنه هذه‬
‫ً‬
‫متمسكا بقوة القبة الثانية‪ ،‬ومنها إذا‬ ‫القبة الكبرية املثقلة عليه‪ ،‬ويمكث‬
‫حدث عارض‪ ،‬أو انخرقت القبة الكربى‪ ،‬فال يمس القبة الصغرية رضر‬
‫البتة‪.‬‬

‫أما القبتان الهوائيتان فصنعتا من القماش الحريري املصلب‪ ،‬ثم دهنتا‬


‫بماد ٍة صمغية يؤتى بها من الهند‪ ،‬وتعرف عند اإلفرنج باسم ُغتَّابركا‪،‬‬
‫وهذه املادة تمنع املوائع من أن تتخلل األقمشة‪ ،‬وال يمسها أنواع الحوامض‬
‫وال أجناس الغاز‪ ،‬وجعل القماش يف األعىل عىل طاقني حيث هناك القوة‬
‫الشديدة‪.‬‬

‫وصنع الحبال لحمل القارب من القنب الشديد الصالبة واملتانة‪ ،‬وقد بذل‬
‫وسعه يف إتقان اللولبني إتقا ًنا محك ًما‪ ،‬كما يعتني أهل السفن يف إحكام‬
‫دفة املركب‪.‬‬

‫أما القارب العتيد أن يحمل املسافرين فبناه من الخيزران عىل هيئ ٍة‬
‫مستديرة‪ ،‬وبلغ قطره خمس عرشة قد ًما‪ ،‬ثم مكنه بلفائف حديدية حوله‪،‬‬
‫فلم يبلغ ثقله مع ثقل الحبال سوى ‪ً 46‬‬
‫رطل‪.‬‬

‫أيضا أربعة صناديق من الصفائح الحديدية‪ ،‬وكانت‬ ‫َّ‬


‫العلمة ً‬ ‫وصنع‬
‫ببعض بمجا ٍر ذات لوالب‪ ،‬وضم إىل هذه الصناديق أنبوبة‬
‫ٍ‬ ‫متصلة بعضها‬

‫‪49‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫يبلغ قطرها باهمني‪ ،‬ويف آخرها فرعان غري متساويني‪ ،‬وطول الفرع األكرب‬
‫خمس وعرشون قد ًما‪ ،‬وطول اآلخر خمس عرشة قد ًما فقط‪ ،‬ثم جعل هذه‬
‫الصناديق يف القارب بنوع مرتب حتى ال تشغل مكا ًنا واسعًا‪ ،‬وحيث إن‬
‫األنبوبة ال ترتتب ّإل وقت صعوده إىل املركبة جعلها يف مكان منفرد‪ ،‬مع‬
‫كر ٍة كهربائية‪ ،‬وجميع هذه الصناديق لم يبلغ ثقلها مع ثقل صندوق‬
‫رطل‪ ،‬أما اآلالت التي أراد استصحابها معه فهي‬‫مملوء ماء سوى ‪ً 116‬‬
‫ميزانان ملعدل الهواء «بارومرت»‪ ،‬وميزانا الحر والربد «ترمومرت»‪ ،‬وإبرة‬
‫ملعرفة الجهة الشمالية «بوصلة»‪ ،‬ومقياسان للوقت «كرونومرت»‪ ،‬وأفق‬
‫صنعي‪ ،‬وآلة لقيس األشياء البعيدة‪.‬‬

‫مراس وسل ًما حرير ًيا متينًا‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫وعدا هذا جميعه فإنه أخذ للقارب ثالثة‬
‫طوله نحو خمسني قد ًما‪.‬‬
‫ً‬
‫وقليل‬ ‫مملحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وكعكا ولح ًما‬ ‫وأما الزاد لألكل والرشب فكان شا ًيا وقهوة‬
‫من العرق وما ًء عذ ًبا ثقل مائة ليرت‪ ،‬ومن الواضح البني أن هذا الزاد يجب‬
‫أن ينقص شيئًا فشيئًا‪ ،‬وبذلك تنقص ميزانية املركبة الهوائية‪ ،‬ألن املركبة‬
‫إذا نقصها أدنى ثق ٍل عما ركبت عليه يأتيها بتأثري‪ ،‬ولم يهمل َّ‬
‫العلمة أن‬
‫يأخذ معه خيمة ليغطي بها جهة القارب‪ ،‬ولح ًفا لتغطيه األجسام وقت‬
‫الرقاد‪ ،‬وبواريد الصياد ديك‪ ،‬مع كمية وافرة من الرصاص والبارود‪.‬‬

‫فهاك خالصة تفصيل األحمال العتيدة‪ ،‬أن تجعل يف املركبة الهوائية عدد‬
‫أرطال‪:‬‬
‫ثقل َّ‬
‫العلمة ساموئيل‬ ‫‪ 22‬‬
‫‪ 25‬ثقل ديك كنادي‬

‫‪50‬‬
‫ثقل يوسف الخادم‬ ‫‪2 0‬‬
‫ثقل القبة الهوائية الكربى‬ ‫‪ 108‬‬
‫ثقل القبة الهوائية الصغرى‬ ‫‪ 85‬‬
‫ثقل القارب والحبال‬ ‫‪ 47‬‬
‫ثقل املرايس واآلالت والبواريد‬ ‫‪ 31‬‬
‫ثقل الخيمة وغري ذلك‬ ‫‪ 37‬‬
‫ثقل املأكل واملرشب‬ ‫‪ 64‬‬
‫ثقل املاء‬ ‫‪ 66‬‬
‫ثقل الصناديق األربعة‬ ‫‪ 116‬‬
‫ثقل اإلدروجن‬ ‫‪ 46‬‬
‫ثقل من رم ٍل ُيستعمل صابور ًة‬ ‫‪ 36‬‬
‫الجملة‬ ‫‪ 703‬‬

‫‪51‬‬
‫الفصل السابع‬
‫يف ركوب السفينة وإيضاح القوة التي ترقي القبة الهوائية وتنزلها‬
‫حسب املراد‬

‫‪53‬‬
‫وملا كان نهار ‪ 16‬شباط وافت السفينة اإلنكليزية التي أتينا بذكرها آن ًفا‪،‬‬
‫العلمة فرغوسن ومركبته‬ ‫ورست بإزاء غرانويش‪ ،‬وهي متأهبة لقبول َّ‬
‫الهوائية فنقلت إليها املركبة يف ‪ 18‬شباط‪ ،‬وذلك بأنظار ساموئيل لئال‬
‫أيضا عرشة براميل مملوءة روح‬ ‫يمس شيئًا رضر البتة‪ ،‬ثم نقل إليها ً‬
‫الكربيت‪ ،‬وعرشة براميل مملوءة قطعًا حديدية عتيقة‪ ،‬وذلك ألجل إحصال‬
‫غاز اإلدروجن‪ ،‬ولم يهمل أن يصحب مع هذا كله الرباميل الالزمة لنرش‬
‫الغاز‪ ،‬وعددها ثالثون‪.‬‬

‫ثم ركب السفينة ورفيقه ديك وخادمه يوسف‪ ،‬أما ديك فمع كونه قسم‬
‫األيامني املربمة أنه ال يريد السفر مع َّ‬
‫العلمة فرغوسن رأيته‪ ،‬يوم ركوب‬
‫مصحوب بخزانة كاملة من سالح الصيد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫السفينة‪ ،‬نزل إليها وهو‬

‫ويف اليوم العرشين صنعت الجمعية الجغرافية امللوكية مأدبة فاخرة‬

‫‪55‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫للمسافرين‪ ،‬وحرض هذه املأدبة رئيس السفينة ورجاله‪ ،‬وقد دارت بينهم‬
‫كأس الندام‪ ،‬فرشبوا املدامة برس األحباء‪ ،‬متمنني لهم أن يعيشوا السنني‬
‫العديدة واأليام املديدة وأما ديك فأتته التهاني لرحلته العلوية من جميع‬
‫الحارضين يف ذلك املحفل؛ فإنهم‪ ،‬بعد أن رشبوا برس فرغوسن ومجد‬
‫إنكلرتة‪ ،‬رشبوا برس رفيقه الشجاع ديك الصياد‪.‬‬

‫وفيما هم جالسون عىل مائدة الطعام إذ وفد رسول من امللكة‪ ،‬وبلغهم‬


‫تهنئتها للمسافرين وتمنيها لنجاح الرحلة الجوية‪ ،‬ففي الحال رشب‬
‫جميعهم تحية لجاللتها املفخمة‪ ،‬وبعد قليل انرصف ٌّ‬
‫كل إىل مكانه‬
‫ليسرتيحوا تلك الليلة‪.‬‬

‫وملا أصبح الصباح‪ ،‬وكان اليوم الواحد والعرشون‪ ،‬قلعت السفينة من‬
‫مرساها‪ ،‬وسارت بقدم الرسعة قاصدة زنجبار يف البحر األحمر‪ ،‬ويف ‪15‬‬
‫صلَتْ إليها باألمن والسالم‪.‬‬
‫نيسان‪ ،‬وبعد أن رست يف أماكن جمة‪َ ،‬و َ‬

‫ويف غضون سفرهم كانت املناقشة قائمة بني الركاب عىل الرحلة الجوية‪،‬‬
‫مبتهجا‪ ،‬ويحدث كثريًا رفاقه َن َوات َِّي السفينة‪،‬‬
‫ً‬ ‫فرحا‬
‫وكان يوسف الخادم ً‬
‫فقال لهم مرة‪ :‬إنه بعد رحلتهم سوف يحذو كثري من الناس حذوهم؛ إذ‬
‫إنه كلما ذاق الناس مثل هذه األمور زاد ولعهم بها‪ ،‬ونما شوقهم ملعاناتها‬
‫ومراجعتها‪ ،‬فكما أنهم اآلن مسافرون يف املركبة بخط منحرف‪ ،‬كذلك‬
‫يسريون فيما بعد بخطٍ مستقيم إىل ما أمامهم‪.‬‬

‫فقال أحد السامعني‪َ :‬أل ترتقون إىل القمر‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬حاىش وكال؛ لست أحب القمر ألنه معروف من الناس‪ ،‬وخال‬
‫‪56‬‬
‫ً‬
‫أيضا من املاء‪ ،‬فيفيض بنا العطش إىل الهالك‪.‬‬

‫فقال أحد محبي العرق‪ :‬وإذا وجدت هناك عر ًقا َأل تستكفي به‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬كال؛ ال نريد شيئًا من القمر‪ ،‬بل مرادنا أن نرتقي إىل تلك‬
‫النجوم السيارات املتأللئة يف البقعة السماوية؛ ففي أول وهلة نمر بزحل‪.‬‬

‫فسأله واحد وقال‪ :‬هل زحل هو الالبس الخاتم؟‬

‫قال يوسف‪ :‬نعم؛ الالبس خاتم الزواج‪ ،‬ولكن إىل اآلن لم ُي ْع َر ْ‬


‫ف ماذا‬
‫أصاب امرأته املسكينة!‬
‫فقفز أحد البحرية الناظر إليه نظرة الدهشة‪ ،‬وقال‪ :‬أيمكنكم ً‬
‫إذا االرتقاء‬
‫إىل هذا العالء؟!‪ ...‬لعمري؛ إن موالك فاق املحتال قدر ًة وحيلة‪.‬‬

‫قال الخادم‪ :‬واملحتال بنفسه ال يستطيع عىل صنيع مثل هذه األمور‪.‬‬

‫فقال بحري‪ ،‬وهو ينتظر فرصة للتكلم‪ :‬وبعد أن تم ُّروا بزحل فإيل أين‬
‫تتوجهون بالسالمة؟!‬

‫قال‪ :‬نم ُّر باملشرتي‪ ،‬ولله د ُّر املشرتي؛ فإنها بالد ال يطول بها النهار سوى‬
‫تسع ساعات ونصف‪ ،‬وهذا مما يوافق الكساىل‪.‬‬

‫وهكذا كان يحدث بعضهم ً‬


‫بعضا باملزاح والهرج‪ ،‬وقد أخذ يوسف يتكلم‬
‫عن نبتون واملريخ والزهرة أحاديث مضحكة‪ ،‬ومع ذلك مطربة لجميعهم‬
‫لرشاقة الخادم يوسف‪ ،‬وسكب عباراته املزاحية‪.‬‬

‫ويف أثناء مناقشته مع البحرية كانت املكاملة سائرة عىل قدم النجاح بني‬

‫‪57‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫الضباط وفرغوسن‪ ،‬بخصوص رحلته ومركبته ومسريها‪ ،‬فسألوه مرة‬


‫ماذا يرتأي عن إدارة املركبات إىل حيث يشاء الراكب‪.‬‬

‫فقال ساموئيل‪ :‬إني ال أظن أن الناس يتوصلون إىل إدارة املركبات إىل‬
‫حيث شاءوا‪ ،‬وقد فحصت جميع الهيئات التي ظهرت إىل اآلن فلم أر‬
‫واحدة منها تصلح لذلك‪.‬‬

‫فأجابه واحد وقال‪ :‬أال يوجد نسبة عظيمة بني إدارة القباب الطيارة‬
‫والسفن البحرية؟‬

‫كل يا سيدي؛ فإن النسبة قليلة جدًا‪ ،‬وربما كال يشء‪،‬‬ ‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫ألن الهواء أخف من املاء بما ال يحد فالسفينة ال تغطس كلها يف املاء بل‬
‫ً‬
‫خوضا تا ًما‪ ،‬وتبقى غري‬ ‫نصفها‪ ،‬وأما القبة الهوائية فتخوض يف الجو‬
‫متحركة بالنسبة للسيال املحيط بها‪.‬‬
‫قال واحد‪ :‬وهل تظن ً‬
‫إذا أنه غري ممكن اخرتاع يشء جديد بهذا الخصوص‪،‬‬
‫بواسطة العلوم الطبيعية؟‬

‫قال‪ :‬كال ثم كال‪ ،‬غري أن أصحاب العلوم يبحثون عن يشء آخر‪ ،‬وهو أن‬
‫يستمر راكب املركبة الهوائية ثابتًا يف الطبقات الهوائية يف الجو املوافقة‬
‫لغرضه‪ ،‬ألن الهواء يف بعض األماكن العالية يكون متساو ًيا وثابتًا يف‬
‫اتجاهه‪ ،‬وال تغريه األودية والجبال املتكاثرة عىل وجه الكرة األرضية‪،‬‬
‫وال يخفى عليكم أن تغيري الهواء وعدم مساواة مهبه هو مسبب عنها‬
‫يف الغالب‪ ،‬فإذا ما عال املرء هذه الطبقات‪ ،‬وتوصل إىل األعايل‪ ،‬فحينئذ‬
‫يتوقف عند الطبقة املوافقة لغرضه كما أرشت‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫فقال رئيس السفينة‪ :‬والحالة هذه لكي يتوصل إليها الراكب ال يقتضيه‬
‫سوى الصعود والنزول وهنا الصعوبة كلها‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وملاذا؟!‬

‫قال الرسدار‪ :‬مآل كالمي أن هذه الصعوبة أو املانع ال يكون َّإل لألسفار‬
‫الطويلة‪ ،‬وليس للرحالت القصرية املقصود بها التنزه وانرشاح الخاطر‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬أكرم عيلَّ بإيرادك سبب ذلك!‬

‫قال الرسدار‪ :‬ألنه إذا أراد املسافر يف هذه القباب الطيارة الصعود إىل‬
‫العال لزمه إلقاء بعض ما يكون حامله من الثقل‪ ،‬وإذا أراد النزول لزمه‬
‫أن يفقد شيئًا من الغاز وعىل هذا املنوال ال تميض مدة َّإل ويفرغ زاده؛ إن‬
‫كان من الغاز أو كان من الثقل‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬هنا معظم املسألة؛ فإن املباحثة ليست واقعة يف هذه األيام‬
‫جل البحث قائم يف الصعود إىل العالء‬‫عن إدارة املركبات حيث يراد‪ ،‬ولك ّن َّ‬
‫والنزول إىل األرض من دون أن ينقص غاز اإلدروجن الذي تحويه القبة؛‬
‫أي من دون أن يخرس شيئًا من قوة القبة الهوائية‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬ولكن ألم يكتشف أحد بعد هذه الواسطة؟‬

‫قال ساموئيل‪ :‬بىل‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬ومنو الذي اكتشفتها؟‬

‫قال هذا الداعي‪ :‬ولو أني اكتشفتها ما كنت حملت نفيس عىل املرور‬

‫‪59‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫بإفريقية؛ ألني ال أسري مدة أربع وعرشين ساعة َّإل ويفرغ الغاز من‬
‫قبتي‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬ألم تتكلم عن ذلك يف بالد إنكلرتة؟‪.‬‬

‫كل؛ بل ما زلت لرسي كات ًما‪ ،‬وقد امتحنت األمر بنفيس وتأكدت‬ ‫قال‪َّ :‬‬
‫الفالح‪ ،‬فما الحاجة للتكلم عنه؟‬

‫قالوا‪ :‬أتكرم علينا بكشفك لنا هذا الرس؟‬

‫قال‪ :‬سمعًا وطاعة‪ ،‬ثم بدأ يف الكالم‪ ،‬وأخذ الحارضون يصيخون سمعًا‬
‫لخطابه‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫يف املعنى املتقدم ذكره‬

‫‪61‬‬
‫قال ساموئيل‪ :‬قد طاملا أراد أصحاب الفنون إيجاد واسطة لالرتقاء‬
‫والنزول يف املركبة الهوائية دون أن يخرس الراكب غا ًزا‪ ،‬أو يرمي من‬
‫الثقل الذي نقله معه فأعياهم تفتيشهم وذهب سعيهم هد ًرا‪.‬‬

‫أما الواسطة التي اكتشفتها أنا فهي متوقفة عىل أن أ َ ْب ُس َط الغاز املوجود‬
‫ضمن القبة‪ ،‬وأضغطه حسبما أريد الطلوع‪ ،‬أو النزول‪ ،‬وذلك بواسطة‬
‫َ‬
‫كيفية العمل‪.‬‬ ‫الحرارة أو الربودة‪ ،‬وهاكم‬

‫البد أنكم برصتم مع املركبة بخمسة صناديق ال تعرفون ماذا يفيد‬


‫استعمالها؛ فإن الصندوق األول يحوي مائة ليرت ماء‪ ،‬وإليها أضيف‬
‫بعض نقط روح الكربيت لتزيد كهربائيتها‪ ،‬وكما ال تجهلون فإن املاء‬
‫مركب من عنرصين‪ :‬عنرص اإلدروجن وعنرص األكسيجن فبواسطة اآللة‬
‫الكهربائية التي أستعملها‪ ،‬وهي معروفة باسم صفائح بنتزن ينرسب‬

‫‪63‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثان‪ ،‬ويدخل اإلدروجن يف صندوق ثالث‪ ،‬وهذان‬ ‫األكسيجن إىل صندوق ٍ‬


‫َ‬
‫صندوق املزج‪ ،‬ووصيلتهما‬ ‫الصندوقان يتصالن بصندوق رابع يدعى‬
‫لولبان مختلفا الضخامة‪ ،‬ويف هذا الصندوق يمتزج الغازان الناشئان عن‬
‫انحالل املاء ووسع هذا الصندوق ‪ 41‬قد ًما مكعبًا‪ ،‬ويف أعاله قصبة من‬
‫النحاس األبيض لها ً‬
‫أيضا لوالب‪.‬‬

‫وليكن معلو ًما عندكم أيها السادة أن آلتي ما هي َّإل شكل قصبة ُي ْح َص‬
‫فيها غاز اإلدروجن واألكسيجن‪ ،‬وترضم نا ًرا مستعرة اللهيب‪ ،‬أشد‬
‫تأججا من نريان أكوار الحدادين‪ ،‬وإذ تق َّرر ذلك نأتي بذكر الجزء الثاني‬
‫ً‬
‫من اآللة‪.‬‬

‫فمن أسفل القبة الهوائية املغلقة غل ًقا محك ًما يخرج أنبوبتان مفرتقتان؛‬
‫الواحدة عن األخرى بمسافة جزئية‪ ،‬فاألوىل تبتدئ من وسط طبقات‬
‫غاز اإلدروجن العليا واألخرى من الطبقات السفىل‪ ،‬وكالهما ينزالن إىل‬
‫صندوق من حديد ذي هيئ ٍة عمودية‪ ،‬اسمه صندوق‬‫ٍ‬ ‫القارب‪ ،‬بل إىل داخل‬
‫الحرارة وهذا الصندوق مغلق بطرفيه بدوائر حديدية ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫فاألنبوبة البارزة من طبقات القبة السفىل تدخل يف هذا الصندوق‬


‫العمودي من الدائرة التحتانية‪ ،‬وتتل َّوى داخله عىل هيئة الربغي‪ ،‬وقبل‬
‫أن تخرج من الصندوق تتوجه إىل مخروط ذي دعائم مجوفة عىل شكل‬
‫كري‪ ،‬ومن أعىل هذا املخروط تخرج األنبوبة الثانية‪ ،‬وهي تتجه‬ ‫طاس ّ‬‫ٍ‬
‫إىل طبقات القبة العليا كما ذكرته آن ًفا‪ ،‬وهذا الطاس الكري معمول من‬
‫الذهب األبيض‪ ،‬لئال يذوب بقوة القصبة؛ حيث إنها موضوعة يف عمق‬
‫الصندوق الحديدي‪ ،‬يف وسط األنبوبة املتل ِّوية عىل هيئة الربغي‪ ،‬وطرف‬
‫‪64‬‬
‫لهيبها يمس هذا الطاس الكري‪.‬‬

‫فكل ما ذكرته لكم أيها السادة ليس هو َّإل شبه املدخنة املعروفة منكم‪،‬‬
‫وهي املستعملة لتدفئة املخادع‪ ،‬وال يخفى عليكم كيف أن هواء املخدع‬
‫يم ُّر باألنابيب ويستح ُّر فيدفأ املخدع‪.‬‬

‫وهكذا يصري يف آلتي؛ فإن القصبة إذا َّ‬


‫سخنت اإلدروجن الكائن يف األنبوبة‬
‫الكري‪ ،‬ويصعد اإلدروجن برسعة إىل األنبوبة املتوصلة‬
‫ّ‬ ‫يسخن الطاس‬
‫إىل وسط القبة الهوائية‪ ،‬ثم يحصل الخال من أسفل‪ ،‬ويجذب بذلك غاز‬
‫الطبقات السفىل‪ ،‬فيسخن هذا بدوره ويصعد إىل أعىل ويقوم مقامه‪،‬‬
‫وهكذا يتكون بني اللوالب واألنابيب مسري غا ٍز رسيع جدًا‪ ،‬يخرج من‬
‫القبة ويرجع إليه فيزيد حرارة‪.‬‬
‫ْ‬
‫‪ 1/480‬يف كل درجة من درجات الحرارة‪،‬‬ ‫والحال أن الغاز يزيد جر ًما‬
‫فإذا تأجج لهيب الحرارة بثماني عرشة درجة ينبسط اإلدروجن بقيمة‬
‫‪ 18/480‬أو ‪ 1664‬قدم مكعب‪ ،‬فهذا يزيد قوة القبة للصعود بست‬ ‫ْ‬
‫وعرشين ً‬
‫رطل‪ ،‬وإذا رفعت الحرارة إىل ‪ 180‬درجة ينبسط الغاز بمعدل‬
‫‪ 18/480‬فيقوم مقام وسع ‪ 1670‬قدم مكعب‪ ،‬وتزيد قوة صعودها‬ ‫ْ‬
‫رطل‪.‬‬‫بمائتني وستة وستني ً‬

‫فمن هذا ترون أنه يحدث فرق عظيم يف ميزانية القبة الهوائية‪ ،‬مع أني‬
‫أزمعت أن أقببها بمعدل النصف بنوع من الهواء الذي يقوم مقامه‬
‫اإلدروجن‪ ،‬يعادل قماش القبة ومحمولها من املسافرين وما يقتضيه‬
‫السفر من اللوازم الرضورية والحالة هذه فإن القبة تساوي ميزانية‬
‫الهواء؛ أي إنها ال تصعد يف العال وال تنزل من تلقاء نفسها‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فلكي أصعد أرفع الغاز إىل درجة حرارة عالية بواسطة القصبة؛ فمن‬
‫زيادة الحرارة يمتد غاز الكرة الهوائية وتتقبب وترتقي إىل العالء‪.‬‬

‫وأما وقت النزول فإني أخفف حرارة القصبة؛ فاالرتقاء كما ترون يكون‬
‫أرسع من النزول‪ ،‬وهذا من الفوائد؛ حيث إن األخطار هي عىل األرض‬
‫وليس يف العالء‪ ،‬ومع هذا كله فإني حملت كمية من الثقل حتى إذا لزم‬
‫خارجا ألرتقي برسعة‪ ،‬وأما اللولب الكائن يف أعىل املركبة فال‬
‫ً‬ ‫األمر ألقيته‬
‫أمسه‪ ،‬بل تبقى القبة الهوائية حافظة الغاز الذي أملؤها به‪ ،‬وما أحدثه‬
‫من الحرارة والربودة يف هذا الغاز هو الذي يرفعني وينزلني‪.‬‬

‫ولزيادة اإليضاح أقول‪ :‬إن من احرتاق اإلدروجن واألكسيجن يف طرف‬


‫ً‬
‫أنبوبة‬ ‫القصبة يحصل بخار املاء‪ ،‬فوضعت يف طرف الصندوق العمودي‬
‫لها لولب‪ ،‬إذا انضغطت ارتفع منها البخار‪.‬‬

‫وهاكم األرقا َم بالتمام‪:‬‬

‫رطل من‬‫ً‬ ‫َّ‬


‫انحل عنرصها أحصلت ‪33‬‬ ‫إن مائة واثني عرش ليرت ماء إذا‬
‫األكسيجن‪ ،‬وأربعة أرطال من اإلدروجن‪ ،‬فيكون ذلك بمعدل ‪ 70‬مرتًا‬
‫مكعبًا من األكسجني و‪ 140‬مرتًا مكعبًا من اإلدروجن‪ ،‬وبمزج العنرصين‬
‫يكون ‪ 210‬أمتار مكعبة‪.‬‬

‫فتحا تا ًما يشعل َقدْر مرت مكعب يف الساعة‪،‬‬ ‫فإذا فتح لولب القصبة ً‬
‫واللهيب يكون أشد سعريًا من لهيب األنوار الغازية بست مرات؛ ففي‬
‫املعدل األوسط إذا لم أرد أن أرتفع إىل علو باسق ال أوقد َّإل قدر ُثلث مرت‬
‫مكعب يف الساعة‪ ،‬فاملائة واالثنا عرش ليرت ماء التي ذكرتها تكفيني ً‬
‫إذا‬
‫‪66‬‬
‫لسفر ستمائة وثالثني ساعة‪ ،‬أو نحو ستة وعرشين يو ًما‪.‬‬

‫والحال بما أني أتمكن من النزول أينما شئت فأستطيع أن أتزود ماء‪،‬‬
‫ويستمر سفري قدر ما أشاء‪.‬‬

‫فهذا هو رسي أيها السادة الكرام؛ فإنه سهل جدًا‪ ،‬ويتكلل بالنجاح إن‬
‫شاء املوىل‪ ،‬وواسطتي الوحيدة هي امتداد الغاز وتقلصه‪ ،‬وهذا ال يلزمه‬
‫آلتي‪ ،‬كاألجنحة أو خالفها‪ ،‬بل إن هي إال مدخنة أغري بها الحرارة‪،‬‬
‫محرك ّ‬
‫وأقيم مقامها الربودة وبالعكس ثم قصبة لتسخني املدخنة وأظن أني‬
‫جمعت بذلك كل ما يلزم لنجاح رحلتي‪.‬‬

‫فإني سيد قبتي وموالها؛ ألني أصعد متى شئت وأنزل متى شئت وأقف‬
‫وخصوصا إذا تهددتني مهبات الرياح باندفاعي إىل أماكن‬
‫ً‬ ‫متى ما شئت‪،‬‬
‫ال توافقني‪.‬‬

‫فقال الرسدار‪ :‬وستلقي منها ما يدفعك يف برهة ساعة إىل مسافة مائتني‬
‫وأربعني ميال‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬فرتى هكذا أنه بهذه الرسعة يجوز اإلنسان إفريقية يف مدة‬
‫صباحا يف زنجبار ويذهب‬
‫ً‬ ‫اثنتي عرشة ساعة فإنه ينهض من فراشه‬
‫لينام يف مدينة سن لويس يف الجهة املقابلة‪.‬‬

‫فقال ضابط‪ :‬وهل يمكن أن تدفع القبة الهوائية برسعة كهذه؟!‬

‫قال فرغوسون‪ :‬وقد جرى ذلك يف االمتحان‪.‬‬

‫قال الضابط‪ :‬وهل لم يمس القبة رضر؟!‬

‫‪67‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫كل‪ ،‬وقد جرى ذلك عند تكليل نابوليون األول سنة‬ ‫قال فرغوسون‪َّ :‬‬
‫العلمة غرنرين رفع قبة هوائية من باريز الساعة الحادية‬ ‫‪1804‬م؛ فإن َّ‬
‫عرشة مساء‪« ،‬قبل نصف الليل بساعة»‪ ،‬وكان مكتو ًبا عىل تلك القبة‬
‫بأحرف ذهبية العبارة اآلتية‪ :‬باريز يف ‪ 25‬فريمري‪« ،‬هو شهر ملشيخة‬
‫أفرنسة‪ ،‬بدؤ ُه من ‪ 21‬ترشين الثاني أو ‪ 22‬حسب السنني» من السنة‬
‫الثالثة عرشة لتكليل اإلمرباطور نابوليون األول‪.‬‬

‫صباحا الساعة الخامسة‪« ،‬قبل الظهر بسبع ساعات»‪ ،‬شاهد‬ ‫ً‬ ‫ففي الغد‬
‫سكان رومة تلك القبة الهوائية تحوم فوق الواتيكان‪ ،‬وبعد أن طافت‬
‫حول الحقول برهة سقطت يف بحرية براشيانو؛ أفرأيتم ً‬
‫إذا أيها السادة‬
‫أن القبة الهوائية تعادل هذه الرسعة العجيبة؟‬
‫فقال ديك‪ :‬نعم يا أيها َّ‬
‫العلمة؛ فإن القبة توازي هذه الرسعة‪ ،‬وأما‬
‫اإلنسان فال يتمكن من ذلك‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وملاذا؟!‪ ...‬فإن القبة الهوائية غري متحركة بالنسبة إىل‬
‫الهواء املحيط بها‪ ،‬وليست هي التي تميش‪ ،‬بل الهواء نفسه‪ ،‬ولو أشعلت‬
‫شمعة وسط القبة املذكورة فلم يكن يرتج الضوء قط فيها‪ ،‬ولو فرضنا‬
‫أن راكبها إنسان فلم يكن يذوق أدنى اضطراب أو اختالج‪ ،‬وأما أنا فليس‬
‫من نيتي أن أمتحن مثل هذه األمور‪ ،‬بل أينما لقيت شجرة عالية أرسيت‬
‫مركبتي عندها‪ ،‬وبت ليلتي كلها‪ ،‬وقد حملنا زادًا يكفينا مدة شهرين‪،‬‬
‫وإذا طالت معنا الرحلة أكثر من ذلك فإن معنا صياد مشهور يغنينا‬
‫بزاده إذا أ ُ ْشغ َِل ً‬
‫قليل‪.‬‬

‫قال أحد الضباط‪ ،‬وهو ينظر إىل ديك‪ :‬سوف تشتهر يف تلك البلدان‬
‫‪68‬‬
‫بصيدك يا سيدي‪.‬‬
‫ً‬
‫وفضل ع َّما تشعر من اللذة وقت الصيد فإن مساعيَك َس ُتتَ ِّوجك‬ ‫فقال آخر‪:‬‬
‫بتاج النرص واملجد‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬أيها السادة أتشكر ‪ ...‬معروفكم ‪ ...‬عىل تهنئتكم إياي‪ ،‬ولكني‬
‫لست أقبلها ‪...‬‬
‫فقال كثريون سوية‪ً :‬‬
‫فإذا لست بعازم عىل الرحيل‪.‬‬
‫قال‪َّ :‬‬
‫كل‪.‬‬
‫فقال واحد‪ :‬وال تصحب َّ‬
‫العلمة فرغوسن‪.‬‬

‫قال‪ :‬ليس فقط ال أصحبه‪ ،‬بل إنني أتيت معه ألصده عن مقاصده‪.‬‬

‫العلمة فرغوسن‪ ،‬كأنهم يستفهمون‬ ‫فنظر جميع الحارضين حينئ ٍذ إىل َّ‬
‫منه عن رائه يف ذلك‪ ،‬فقال ساموئيل‪ :‬ال تلتفتوا إليه وال تجادلوه عن ذلك‪،‬‬
‫ألنه يتظاهر أنه ال يريد السفر‪ ،‬ولكن يف قلبه يعرف جيدًا أنه يسافر بال‬
‫شكٍ‪.‬‬

‫فصاح ديك وقال‪ :‬وحياة رأسك سأفعل ‪ ..‬وأصدك ‪...‬‬


‫فأردف فرغوسن ً‬
‫قائل‪ :‬لن تفعل شيئًا يا ديك ألنك َّ‬
‫معي وموزون بجسمك‬
‫إذا َّأل تقول شيئًا‪.‬‬
‫وبارودك وبواريدك ورصاصك‪ ،‬فأرجوك ً‬

‫فسكت ديك والزم الصمت مذ تلك الدقيقة إىل حني وصوله إىل زنجبار‪،‬‬
‫ولم يعد يتكلم عن رحلته وال عن يشء آخر‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫يف وصول املسافرين إىل زنجبار وارتقاء القبة الهوائية إىل الطبقات‬
‫العلوية‬

‫‪71‬‬
‫وكانت الريح موافقة ملسري السفينة‪ ،‬ومياه البحر رائقة ال يهيجها‬
‫هائج‪ ،‬فكان أهل السفينة يتفاءلون بهذا عىل أن الرحلة الجوية تكون‬
‫رب املالحني لينظروا‬ ‫طبق الرحلة البحرية انتظا ًما وهدوءا‪ ،‬وقد ع َ‬
‫ِيل ص ُ‬
‫تلك الساعة التي فيها يركب َّ‬
‫العلمة ورفقاؤه املركبة الهوائية‪ ،‬وملا دخل‬
‫اليوم الخامس عرش من شهر نيسان أرست السفينة يف مينا زنجبار‪ ،‬وهي‬
‫أيضا‪ ،‬وكان ذلك قبل الظهر بساعة‪.‬‬ ‫مدينة يف جزيرة اسمها زنجبار ً‬

‫أما جزيرة زنجبار ففي زمام إمام َم ْسكات‪ ،‬حليف الدولة الفرنسة‬
‫واإلنكليزية‪ ،‬ويطرق ميناها سفن عديدة من البالد املجاورة لها‪ ،‬وهي‬
‫مفروقة عن َب ِّر إفريقية بربزخ ليس ب ُمتَّسِ ع‪ ،‬وسكانها يتاجرون بالفراء‬
‫والعاج وخاصة بخشب األبنوس وهذه البالد ً‬
‫أيضا مقر ملبيع العبيد‪،‬‬
‫وسوقهم رائج فيها‪ ،‬ألن فيها تحتشد الغنائم التي يكتسبها رؤساء أقوام‬
‫ً‬
‫بعضا‪ ،‬ويعرضونها للبيع‪ ،‬وهذه‬ ‫إفريقية الوسطى بمحاربتهم بعضهم‬

‫‪73‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫التجارة ممتدة جدًا حتى عند أرياف النيل(((‪.‬‬


‫فعند وصول السفينة إىل زنجبار أرسع قنصل اإلنكليز القتبال َّ‬
‫العلمة‬
‫فرغوسن يف منزله‪ ،‬ألنه كان عار ًفا بمقصده بمطالعته الصحف األوربية‪،‬‬
‫وهو من جملة الذين أدخلوا رحلته يف طي الخزعبالت والخرافات وأول‬
‫شك وعىل ريب من رحلتك‪،‬‬‫العلمة وقرأه السالم قال له‪ :‬كنت يف ٍّ‬
‫ما شاهد َّ‬
‫ولكن تبني يل اآلن أنك مزمع عىل تنفيذ إ ْربك فزال مني الشك وتحققت‬
‫نجاح مصلحتك‪.‬‬

‫العلمة من القنصل استعالمات عن القبطان أسبيك السائح‬ ‫َّ‬ ‫فطلب‬


‫اإلنكليزي‪ ،‬فبلغه القنصل تحاريره‪ ،‬ورأى أنه متعذب جوعًا وعياء وبالكاد‬
‫يمكنه أن يقدم يف املسري عىل الهويناء‪.‬‬

‫فقال حينئ ٍذ ساموئيل‪ :‬إننا بحوله تعاىل سنتجنب هذه األخطار والويالت‪،‬‬
‫ص رحلتنا‪.‬‬ ‫وال نرى منها ما ُين ِّغ ُ‬

‫العلمة لتنزيل قبته الهوائية من السفينة بلغ بعض الناس‬ ‫وملا تأهب َّ‬
‫القنصل َّأل يفعل ذلك يف املدينة‪ ،‬ألن سكانها يمانعونها بالقوة الجربية‬
‫ولعمري ال يشء أقبح من الشهوات املتعصبة تعصبًا ال طائل تحته؛ فإنه‬
‫ملا عرف سكان الجزيرة بقدوم رجل مسيحي يريد أن يطري يف الجو‬
‫غضبوا أو حنقوا وهاجوا وماجوا‪ ،‬أما الزنج فأخذ منهم الغضب أشد‬
‫مأخ ٍذ من العربان‪ ،‬ألنهم رأوا بهذه الرحلة ما ينايف دينهم وظنوا أن القبة‬
‫تطري قاصدة الشمس والقمر وترض بهما‪ ،‬ويفعل راكبوها بهما ما شاءوا؛‬

‫((( إن أهل الخري ساعون كثريًا يف هذه األيام يف نسخ هذه العادة السيئة التي يستنكف منها كل قلب‬
‫سليم‪ ،‬وقد نجح مسعاهم؛ إذ ُح ِّرمت تلك التجارة رشعًا‪ ،‬ووضع قصاص عىل املخالفني‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫سام‪ ،‬واعتبا ٍر‬
‫ٍ‬ ‫بمقام‬
‫ٍ‬ ‫فكيف يرتكون ذا األمر‪ ،‬والشمس والقمر لديهما‬
‫فائق‪ ،‬فصمموا النية عىل مقاومة هذا العمل بجميع قواهم وحرفهم‪.‬‬
‫وملا علم القنصل بجميع ذلك أطلع َّ‬
‫العلمة وقبطان السفينة عليه‪ ،‬أما‬
‫قبطان السفينة فقال‪ :‬ال يمانعنا يشء وال نخىش أحدًا‪ ،‬فقال له القنصل‪:‬‬
‫يا صاح!‪ ...‬إننا نفوز بالنرص والغلبة عىل العربان والزنج‪ ،‬وخاصة ألن‬
‫عسكر اإلمام يمدون لنا ساعد اإلسعاف‪ ،‬ولكن ال يخفى عىل حرضتك أن‬
‫سه ًما واحدًا إذا أطلق عىل القبة أذهب بقوتها وفاعليتها وبطلت الرحلة‪،‬‬
‫بتأن واحرتا ٍز‪ ،‬علَّنا نبدد هذه املصاعب ونزيلها‪.‬‬ ‫فيلزم ً‬
‫إذا أن نترصف ٍّ‬

‫قال القبطان‪ :‬وما العمل؛ فأينما أردت أن تركب تجد نفس املانع؟!‬

‫قال القنصل‪ :‬ال يشء أسهل من أن تنقلوا القبة إىل الجزائر الصغرية التي‬
‫ترونها بعيدة عن هذه املدينة‪ ،‬وهناك ال يصدكم أحد البتة‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬هذا رأي صحيح؛ فإننا هناك نبقى أحرا ًرا‪ ،‬ال يستعبدنا‬
‫العبيد بأهوائهم الخسعة‪.‬‬
‫وبعد ذلك الحديث توجهوا ً‬
‫حال ونزلوا جزيرة كمبني‪ ،‬وجعلوا القبة‬
‫يف بقعة فسيحة وسط غاب‪ ،‬ثم صنعوا صاريني كبريين؛ يبلغ طول‬
‫الواحد منهما ثمانني قد ًما‪ ،‬ووضع الواحد بعيدًا عن اآلخر بمسافة طول‬
‫الصاري‪ ،‬وفوقهما البكرات وعليها الحبال‪ ،‬وهكذا رفعوا القبة‪ ،‬وكانت‬
‫إذ ذاك غري منفوخة‪ ،‬والقبة الصغرية داخل القبة الكبرية‪ ،‬وترتفع كما‬
‫ترتفع هذه‪ ،‬وأدخلوا األنبوبة التي منها يدخل اإلدروجن عند طرف كل‬
‫من القبتني‪ ،‬وأما اليوم السابع عرش من الشهر املذكور فقضوه يف تجهيز‬

‫‪75‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ً‬
‫برميل‪ ،‬وفيها يحل املاء‬ ‫اآللة إلحصال الغاز‪ ،‬وكانت مؤلفة من ثالثني‬
‫بربادة الحديد والحمض الكربيتي «اسيد سلفريك» املوضوعني يف كمية‬
‫وافرة من املاء‪ ،‬واإلدروجن يصل ً‬
‫قبل إىل برميل يف وسط الرباميل بعد أن‬
‫يغسل يف طريقه‪ ،‬ومن هناك ينفذ يف األنابيب حتى يصل إىل القبة‪ ،‬وهكذا‬
‫تمتلئ القبتان بكمية محدودة من الغاز‪.‬‬

‫وقد تطلب هذا العمل ثالثة آالف ومائتي ليرت من الحامض الكربيتي‪،‬‬
‫وألفني وستمائة وثالثة وسبعني ً‬
‫رطل من الحديد‪ ،‬وواحدًا وأربعني أل ًفا‬
‫ومائتي ليرت من املاء‪ ،‬فابتدءوا به يف الليلة التابعة‪ ،‬واستمر نحو ثماني‬
‫ساعات‪ ،‬ويف الغد كانت تتمايل القبة يف الهواء فوق الزورق‪ ،‬وقد ثقل‬
‫عليها بأكياس كثرية من الرمل‪.‬‬
‫ثم رفع َّ‬
‫العلمة آلته المتداد الغاز وانقباضه باعتناء جزيل‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫وضعوا يف الزورق لوازم السفر كما ذكرناها ً‬
‫قبل‪.‬‬

‫وقد تم هذا الشغل نحو الساعة العارشة من النهار‪ ،‬وكانت الحراس‬


‫تسهر حول الجزيرة لئال يطرقها أحد من العبيد أو من العربان‪.‬‬

‫أما الزنج يف جزيرة زنجبار فكانوا يصيحون بأصوات الغضب والحنق‪،‬‬


‫ويطوف السحرة فيما بينهم‪ ،‬ويبثون فيهم روح الغضب‪ ،‬وأراد بعض‬
‫املتعصبني أن يأتوا الجزيرة بالسباحة‪ ،‬لكنهم منعوا عن ذلك ً‬
‫حال‪.‬‬

‫وبدأ الرقاؤن والسحرة حينئ ٍذ يف املناداة إىل السماء لتنزيل األمطار‬


‫البَد يف تأويل أهل‬
‫والحجارة الخرارة‪« ،‬والحجارة الخرارة بمعنى َ‬
‫زنجبار»‪ ،‬وإلتمام ذلك أخذوا أورا ًقا من جميع أصناف أشجار املدينة‪،‬‬
‫‪76‬‬
‫وغلوها عىل نا ٍر خفيفة‪ ،‬ويف غضون الغليان ذبحوا خرو ًفا وأدخلوا يف قلبه‬
‫دبوسا كبريًا‪ ،‬لكن السماء ما زالت رائقة رغ ًما عن طقوسهم املضحكة‪،‬‬ ‫ً‬
‫وما ربحوا َّإل خسارة الخروف وأتعابهم الباطلة‪.‬‬
‫فجعلوا وقتئ ٍذ يرشبون املسكرات‪ ،‬ويغني ٌّ‬
‫كل عىل ميله بدون ترتيب وال‬
‫انتظام‪.‬‬

‫وملا كانت الساعة الحادية عرشة من النهار أخذ املسافرون يتناولون‬


‫جالسا معهم القبطان وجميع الضابطة‪ ،‬وأما ديك فكان‬
‫ً‬ ‫الطعام‪ ،‬وكان‬
‫يدمدم يف شفتيه ويتمتم بعض الكلمات غري املفهومة‪ ،‬وعينه كانت‬
‫َّ‬
‫بالعلمة فرغوسن‪.‬‬ ‫شاخصة دائ ًما‬

‫خاطا رسومه عىل وجوه جميع الحارضين‪ ،‬ألن األفكار‬ ‫أما الحزن فكان ً‬
‫أخذت يف االنشغال من دنو الساعة العظيمة‪ ،‬وبدأ جميعهم يرددون يف‬
‫فكرهم ما عىس يحل بهؤالء املسافرين األبطال‪ ،‬وهل يا ترى يعودون إىل‬
‫األوطان ويشاهدون األخدان‪ ،‬وإذا َّ‬
‫حل بهم ويل واضطروا إىل النزول بني‬
‫الربابرة فما تصبح حالتهم‪.‬‬

‫العلمة فرغوسن فكان يحاول أن يتخلص من األسف الذي الحت‬ ‫أما َّ‬
‫لوائحه عىل جميع الوجوه‪ ،‬لكنه لم يستطع ذلك‪ ،‬فتناقل بعض الكالم مع‬
‫رفقائه ولكنها كانت عرية من كل رونق و َزهاء‪.‬‬
‫وملا أمىس املساء ذهب َّ‬
‫العلمة ورفاقه ورقدوا يف السفينة‪ ،‬لئال تصيبهم‬
‫مصيبة‪ ،‬وعند الصباح والشمس إذ ذاك قد بزغت أشعتها‪ ،‬والنسيم رخيم‪،‬‬
‫ً‬
‫عوضا عن‬ ‫مالحا‬
‫ً‬ ‫نزل جميع ركاب السفينة يف الجزيرة‪ ،‬ووقف عرشون‬

‫‪77‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أكياس الرمل التي كانت ماسكة القبة‪.‬‬


‫العلمة وخاطبه ً‬
‫قائل‪ :‬أعزمت عز ًما ثابتًا‬ ‫ويف تلك الساعة وقف ديك أمام َّ‬
‫عىل السفر؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬والشك يف ذلك‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬فإني قد بذلت جهدي ألصدَّك عن رحلتك وما بقي عيلَّ عتاب وال‬
‫الئمة‪ ،‬ولهذا أرافقك يف رحلتك‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كنت مؤكدًا ذلك‪ ،‬فلك الفضل الجزيل يا أيها الخليل‪.‬‬

‫وملا وافت ساعة الوداع تعانق األصحاب مع األصحاب‪ ،‬ثم ركب املسافرون‬
‫َّ‬
‫العلمة القصبة لتمتد‬ ‫املركبة نحو الساعة الثالثة من النهار‪ ،‬فشعل‬
‫الحرارة وسط القبة الطيارة‪ ،‬وللحال ارتفعت هذه القبة عن األرض نحو‬
‫عرشين قد ًما‪ ،‬إذ أرخى َّ‬
‫امللحون شيئًا من الحبال التي كانوا متمسكني‬
‫بها‪.‬‬

‫ثم وقف فرغوسن ورفع الربنيطة عن رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬فلنسم َّ‬


‫ني مركبتنا‬
‫باسم يوليها الحظ والسعادة ونلقيها املنصورة «فكتوريا»‪ ،‬فصاح‬
‫فلتحي إنكلرتة‪.‬‬
‫َ‬ ‫فلتحي امللكة فكتوريا‪...‬‬
‫َ‬ ‫الجميع قائلني‬

‫وإذ نمت قوة الحرارة‪ ،‬وقد ودع املسافرون رفاقهم الوداع األخري‪ ،‬قال‬
‫ساموئيل‪ :‬أرخوا الحبال جميعًا وسوية‪ ،‬فارتفعت املنصورة إىل العالء‪،‬‬
‫وأطلقت السفينة املدافع إكرا ًما لها‪ ،‬وإجالال للمسافرين‪ ،‬فرنت أصواتها‬
‫يف اآلفاق‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫الفصل العارش‬
‫يف مرور املسافرين يف بالد عديدة ومبيتهم عىل شجرة الصبَّار فوق جبل‬
‫دوتومي‬

‫‪79‬‬
‫وملا ارتفعت املنصورة إىل األعايل كانت الريح لطيفة والجو رائ ًقا؛ فعلت‬
‫نحو ألف وخمسمائة قدم فوق األرض بخط مستقيم وقد عرف ذلك‬
‫ساموئيل من انحطاط البارومرت بخمسة سنتمريات تقريبًا(((‪ ،‬وعند‬
‫قليل‪ ،‬ودفعت القبة نحو جنوبي‬ ‫وصولهم إىل ذلك العلو تغريت الريح ً‬
‫غربي إفريقية‪.‬‬

‫وكان يرتاءى ألعينهم مشهد من أجمل املشاهد؛ إذ إن الحقول بانت‬


‫متجنسة األلوان واألشكال‪ ،‬واألشجار املتمائلة األوراق تعجب النواظر‪،‬‬
‫وجزيرة زنجبار كأنها بقعة مستوية األرض‪ ،‬وسكانها كأنهم هوام‪،‬‬
‫وتتصاعد إليهم أصوات رصاخ متواصل من أهل تلك الجزيرة‪.‬‬

‫فسئمت نفس يوسف من السكوت يف تلك الفرصة‪ ،‬فقال‪ :‬ياله من مشهد‬

‫((( كلما انحط البارومرت سنتمرتًا يكون راكب الهواء قد ارتفع مائة مرت تقريبا‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫جميل؛ تطيب له الخواطر‪ ،‬ويروق للناظر!‬


‫َّ‬
‫العلمة كان مهت ًما بمراقبة التغيريات‬ ‫فلم يجبه أحد عىل مقاله‪ ،‬ألن‬
‫البارومرتية‪ ،‬ويدقق الفحص عن تفصيل صعوده وغري ذلك‪ ،‬أما ديك‬
‫فكان يحدق النظر‪ ،‬متأمال ذلك املشهد الغريب العجيب‪ ،‬حال وجوده يف‬
‫الفضاء بني األرض والسماء‪.‬‬

‫وملا كانت أشعة الشمس شديدة الحرارة وازرت قوة القصبة‪ ،‬فعلت القبة‬
‫عن األرض نحو ‪ 2500‬قدم‪.‬‬

‫ولم تعد حينئ ٍذ تبني السفينة لديهم ّإل كقارب صغري‪ ،‬وكانت رغوة البحر‬
‫األحمر تخط وحدها التخوم اإلفريقية الغربية‪ ،‬واألرض اإلفريقية ملطخة‬
‫ببقع خرضاء‪ ،‬فقال يوسف لرفيقيه‪ :‬ما بالكما ال تتكلمان؟‪ ...‬فأخذ‬
‫َّ‬
‫العلمة نظارة‪ ،‬وبدأ يتطلع نحو األرض‪ ،‬وقال‪ :‬اآلن وقت النظر؛ فعلينا‬
‫أن ننظر ما ينبسط ألبصارنا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أما أنا فال أطيق السكوت‪.‬‬

‫فقال له سيده‪ :‬تكلم قدر ما تشاء‪ ،‬فإنك بالكالم جدير‪.‬‬

‫وعليه طفق يوسف يعرب عما أدركه من االنذهال‪ ،‬بإبراز كل ما يعلمه من‬
‫ألفاظ الهتاف والعجب‪.‬‬

‫العلمة أن يلثبوا محافظني عىل ذلك العلو‪،‬‬‫وفيما هم يجوزون البحر‪ ،‬أراد َّ‬
‫وكان أمامه ترمومرت وبارومرت فرياقبهما دائ ًما‪ ،‬ليعرف عىل أية حال ٍة هم‬
‫يف الطبقات الجوية‪ ،‬بل ويمعن النظر يف هيئة جانب إفريقية الرشقي‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫وما مىض ساعتان َّإل أبلغت الريح القبة الطيارة إىل فوق اليابسة‪ ،‬وأراد‬
‫العلمة أن يقرتب من األرض‪ ،‬فخفف حرارة القصبة‪ ،‬ونزل ً‬
‫حال إىل علو‬ ‫َّ‬
‫‪ 300‬قدم فوق األرض‪ ،‬وحينئذ ُو ِجدوا فوق الجهة الرشقية املعروفة باسم‬
‫مريما‪ ،‬وهناك أشجار باسقة‪ ،‬ملتفة األغصان والورق‪ ،‬ومعربسة العروق‪،‬‬
‫ويف الجهة الغربية كان جبل أنغورو‪.‬‬
‫فمرت املنصورة بقرية عرفها َّ‬
‫العلمة؛ قرية َق ْول ْه‪ ،‬سندًا عىل الرسوم‬
‫الجغرافية الواردة يف الخارطة الكبرية التي جلبها معه‪ ،‬وفيما هم فوقها‬
‫ورصاخا عظي ًما من سكانها‪ ،‬ومنهم من رشق القبة‬‫ً‬ ‫ضجيجا‬
‫ً‬ ‫سمعوا‬
‫بالسهام‪ ،‬فكانت تميس بأعينهم عابثة بسهامهم وبروعتهم ساخرة‪.‬‬
‫وما زالت الريح تدفع القبة نحو الجنوب‪ ،‬فرأى َّ‬
‫العلمة ْ‬
‫أن ال بأس بذلك؛‬
‫فإنه تابع الطريق التي سلكها القبطانان بوتون وأسبيك‪.‬‬

‫أما كنادي فحذا أخريًا حذو يوسف‪ ،‬وأحب كثرة الكالم‪ ،‬فأخذا يتناقالن‬
‫األحاديث‪ ،‬ويقول الواحد لآلخر كيفك يا صاح؛ أَلَ ْستَ تكره العربات‬
‫والسفن برؤيتك هذه املركبة الهوائية؟‪ ...‬فقال ديك‪ :‬حتى والسكة‬
‫الحديدية‪َ ،‬فبَ ًّخا عليها‪ٍّ ،‬‬
‫وأف لها‪ ،‬ألن الراكب يسري‪ ،‬لكنه ال يشاهد ما يمر‬
‫أمامه‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬قل ما أحىل القبة الطيارة! فإننا نطري عىل أجنحة الهواء وال‬
‫نتعب‪ ،‬وال يشق علينا املسري‪ ،‬والطبيعة منترشة أمامنا فنعاينها بأبصارنا‬
‫متأملني‪ ،‬و ُن َسبِّحُ رب العاملني‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما أجمل هذا املنظر‪ ،‬وما أحاله!‪ ...‬وما أبهى هذه الطلعة‬

‫‪83‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫البهية!‪ ...‬لعمري أكاد أظن نفيس غري ًقا يف بحر أضغاث األحالم‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬إن عصافري بطني تصيح؛ أفال تريدون أن نتناول طعا ًما؟!‬

‫فقال سيده‪ِ :‬ن ْع َم ما افتكرت به؛ فهاتِ لنا نأكل‪.‬‬


‫فأحرض يوسف الطعام ً‬
‫حال‪ ،‬وهو خبز ولحم مقدَّد‪ ،‬وبعدما انتهوا من‬
‫الطعام قام الخادم وصنع قهوة لذيذة املرشب‪ ،‬حسب معرفته الخاصة‪،‬‬
‫وذاق جميعهم لذة أفراح سليمة تطيب لها الخواطر‪.‬‬

‫كل منهم ينظر إىل تلك البالد ويتأمل بها‪ ،‬فكانت بغاية الخصب‬ ‫ثم أخذ ٌ‬
‫والريعان‪ ،‬ومزدانة بوساد الخرضة واألزهار‪ ،‬ثم مروا بحقول مزروعة‬
‫أيضا قطعان غنم‬ ‫تب ًغا وذرة وشعريًا‪ ،‬وهي بالغة ناضجة‪ ،‬وشاهدوا ً‬
‫كثرية العدد‪ ،‬محفوظة ضمن دائرة لتبقى آمنة من غوائيل الضباع‪ ،‬وكلما‬
‫ضجيجا وأصوات حنق تتصاعد إىل املنصورة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مروا بسكان قرية سمعوا‬
‫أما َّ‬
‫العلمة فما زال مرتفعًا عنهم بمسافة ال تبلغ إليها السهام‪ ،‬وكثريًا‬
‫ما لحقها الناس وهم يقذفونها بالشتائم واللعنات‪ ،‬لكنهم ال يدرون ما‬
‫يفعلون‪ ،‬وما أبلد فعلهم!‬

‫وعند الظهر تطلع ساموئيل برسومه الجغرافية‪ ،‬فرأى أنه فوق مدينة‬
‫أوزارامو‪ ،‬ويف هذه الناحية ً‬
‫أيضا كان الزرع كثريًا‪ ،‬والخضار فارشة تلك‬
‫األرض والطيور تصدح باألنغام عىل األشجار‪ ،‬فتمنى ديك لو أنه استطاع‬
‫أن يصطاد منها شيئًا‪ ،‬ولكن ما الفائدة إذ ال يطيق إحضارها ولو رضبها‬
‫بالرصاص‪.‬‬
‫وكانت القبة الطيارة تسري مسافة ‪ً 12‬‬
‫ميل إفرنجيًا يف الساعة‪ ،‬ولم تمض‬
‫‪84‬‬
‫مدة ّإل وصلوا إىل طول ‪ 38ْ 20‬فوق قرية ُطندا‪.‬‬

‫فقال فرغوسن يا رفاق انظرا!‪ ...‬فإن برتون وأسبيك ابتليا بالحمى يف هذا‬
‫ِّ‬
‫املحل‪ ،‬وظنا أن أتعابهما السالفة ذهبت هد ًرا وال يستفيدان شيئًا من بعد‪،‬‬
‫فإذا كان التعب والضنك أعياهما بوصولهما إىل هنا؛ فكيف ً‬
‫إذا بتقدمهما‬
‫نحو ينابيع النيل‪ ،‬واضطرارهما إىل خوض البطاح واملفاوز التي ال ح َّد‬
‫لها وال قياس؟!‬

‫وكثريًا ما مروا بأقوام متسلحني باملكاحل؛ رأوهم يتبعون املنصورة بقصد‬


‫رشقها بالسهام‪ .‬فأراد ديك مرة أن يقرتب إليهم ليشاهدهم عيا ًنا‪ ،‬فمانعه‬
‫بسهم وخرقوا القبة تبدد الغاز‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫العلمة‪ ،‬وقال‪ :‬أال تعلم أنهم إذا رضبونا‬
‫وسقطنا عىل األرض متهورين؟!‬

‫فقال ديك‪ :‬دعنا ً‬


‫إذا بعيدين عن هؤالء املجانني‪ ،‬ولكن يا ترى ماذا‬
‫يحسبوننا ونحن طائرون يف هذا الفضاء الفسيح؛ فال بد أنهم يعبدوننا؟!‬

‫قال ساموئيل‪ :‬دعهم يعبدونا عن بعدٍ؛ فإننا بذلك نربح األضعاف‪ ،‬ولكن‬
‫قريب نصل إىل جبال ال‬
‫ٍ‬ ‫أال ترى اآلن كيف تمر القرى والضياع؛ فعن‬
‫سكان فيها وال خضار‪.‬‬

‫قال‪ :‬يف الحقيقة إني أرى بعض اآلكام نحو تلك الجهة‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬وعن قريب نرى سالسل جبال أوريزارا‪ ،‬وجبل دوتومي‪،‬‬
‫وأُؤ ِّمل أن نقيض ليلتنا وراءه‪ ،‬ولكن ينبغي لنا اآلن أن نزيد حرارة القصبة‪،‬‬
‫لرتتفع إىل علو خمسمائة أو ستمائة قدم‪ ،‬فنجوز ُذ َرى الجبل بسهولةٍ‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وملا ارتفعوا إىل العالء شاهد يوسف أشجا ًرا باسقة عظيمة‪ ،‬فقال‪ :‬وياله؛‬
‫ما أعظمها وما أجسمها!‪ ...‬فإن عرشة منها تكفي ألن تؤلف غا ًبا أو‬
‫ً‬
‫حرشا‪.‬‬

‫قال فرغوسن هذا شجر البوبات؛ فإن منها ما له جزع تبلغ دائرته نحو‬
‫مائة قدم‪ ،‬وانظرا هذه الشجرة العظيمة؛ فعليها ُر ِب َط الفرنيس مزان‬
‫وأخذ رئيس القوم‪ ،‬الذي أَلْ َقى عليه القبض‪ ،‬يف أن يقطع‬
‫َ‬ ‫سنة ‪1845‬م‪،‬‬
‫مفاصله شيئًا فشيئًا‪ ،‬وكانت الخدام إذ ذاك يرتلون ترتيل الحرب‪ ،‬ثم‬
‫حسم حنجرته‪ ،‬وأخريًا انتشل رأسه‪ ،‬وكان للفرنيس مزان من العمر نحو‬
‫‪ 26‬سنة‪ٍّ ،‬‬
‫فأف لهذه القساوة الرببرية التي تستنكفها القلوب‪ ،‬وال يطاق‬
‫سمعها‪.‬‬

‫فقال كنادي‪ :‬وكيف أن األمة الفرنسية لم تنتقم لهذا اإلثم الفظيع؟!‬

‫قال‪ :‬إن األمة الفرنسية طلبت القاتل‪ ،‬فعمل سعيد زنجبار ما عمل‪ ،‬وبذل‬
‫َ‬
‫يحظ بالقاتل‪.‬‬ ‫أقىص جهده فلم‬

‫وملا كانت الساعة السادسة والنصف بعد الظهر‪ ،‬قابلت املنصورة جبل‬
‫دوتومي‪ ،‬فاضطر َّ‬
‫العلمة إىل أن يرفع القبة إىل علو ثالثة آالف قدم‪،‬‬
‫وهكذا مروا بالجبل ولم يمسهم رض البتة‪.‬‬

‫ويف الساعة الثامنة بعد الظهر‪ ،‬نزلوا املنحدر املقابل للجبل‪ ،‬ورموا حينئ ٍذ‬
‫املرايس فتعلّق إحداها بأغصان شجرة صبار عظيمة وبقيت متمسكة بها‪،‬‬
‫ثم نزل يوسف الخادم بحبل املرىس ومكنه تمكينا‪ ،‬وملا أراد الرجوع إىل‬
‫الزورق أُن ِزل له السلم الحريري فعاد إىل مكانه بكل سهولة‪ ،‬ثم أخذوا‬

‫‪86‬‬
‫يهيئون العشاء‪ ،‬ألن الطبقات الجوية فتحت منهم القابلية‪ ،‬فسأل ديك‬
‫َّ‬
‫العلمة وقال‪ :‬كم جزنا من املسافة يف هذه املدة؟‬

‫العلمة يفحص عن ذلك يف الرسم الجغرايف املسطر من صاحبه‬ ‫فأخذ َّ‬


‫ً‬
‫عرضا‪،‬‬ ‫برتمان‪ ،‬وهو يف غاية الضبط والدقة‪ ،‬فرأى أنه انتقل إىل درجتني‬
‫وهما مسافة مائة وعرشين ً‬
‫ميل‪.‬‬

‫وفيما هم يتناولون الطعام تفاوض بعضهم مع بعض عىل أن يقسموا‬


‫الليل إىل ثالثة أقسام‪ ،‬وكل واحد منهم يسهر يف قسم‪ ،‬واالثنان يرقدان‬
‫براحة‪ ،‬فسهر َّ‬
‫العلمة يف القسم األول‪ ،‬وكنادي يف نصف الليل‪ ،‬ويوسف‬
‫عند الفجر‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الفصل الحادي عرش‬
‫يف ح َّمى ديك ودوائها ونزوله إىل األرض مع يوسف طلبًا للصيد‬

‫‪89‬‬
‫فمىض الليل كله بالهدوء واالستكانة‪ ،‬ولكن ملا أصبح صباح السبت نهض‬
‫أحس بتعب وخمول قوة ورجفة حمى‪ ،‬وكان قد‬
‫َّ‬ ‫ديك من الفراش وقد‬
‫تغري الفلك وتبقعت السماء بالسحب وتهددت األرض بالغيث والعواصف‪،‬‬
‫أما تلك النواحي املعروفة باسم زنغمرو فال تزال فيها األمطار متواصلة‬
‫يف جميع فصول السنة‪َّ ،‬إل يف شهر كانون الثاني؛ فإنها تنقطع مدة نحو‬
‫خمسة عرش يو ًما‪.‬‬

‫وما مضت برهة ّإل هطلت األمطار وسالت السيول يف تلك الوديان‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬وما أدري ما هذه البالد؛ فإني أرى ديك منحرف الصحة‬
‫بعد مرور ليلة عليه؟!‬

‫فقال الصياد‪ :‬يف الحقيقة؛ إني أشعر بحمى شديدة‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فقال ساموئيل‪ :‬ال بدع يف ذلك يا صاح؛ ألن هواء هذه البالد من أسوأ ما‬
‫يكون يف البالد اإلفريقية‪ ،‬وليس مرادنا البقاء فيها‪ ،‬بل هبوا بنا َن ِ ْ‬
‫س إىل‬
‫أعىل الطبقات الجوية‪.‬‬

‫ويف الحال نزل الخادم ورفع املرىس ثم عاد إىل محله‪ ،‬وو َّفر ساموئيل‬
‫حرارة الغاز‪ ،‬فتصاعدت املنصورة إىل األعايل‪ ،‬وهي مدفوعة بريح شديدة‪.‬‬

‫وملا اندفع إىل ما قدام أخذت البالد يف االتسام بهيئة جديدة‪ ،‬ومن األمور‬
‫الكثرية الحدثان يف األقطار اإلفريقية أن بالدًا نظيفة وحسنة األهواء‬
‫تتاخم بالدًا سيئة املناخ واألهواء‪.‬‬
‫وما زالت الحمى تعذب الصياد عذا ًبا ألي ًما‪ ،‬فالتحف باللحاف ً‬
‫قائل‪ :‬اآلن‬
‫ليس وقتَ الضعف؛ فما يل وله؟!‬
‫مهل يا ديك!‪ ...‬عليك أن تعتصم بحبل الصرب ً‬
‫قليل‪ ،‬وعيلَّ‬ ‫فقال فرغوسن‪ً :‬‬
‫أن أبرئك بعد بره ٍة بقدرة املوىل‪.‬‬

‫فتعجب ديك من هذا املقال‪ ،‬وقال‪ :‬لعمري؛ إذا كنت طبيبًا وعندك األدوية‬
‫حال‪ ،‬ألن صربي قد عيل‪ ،‬وأحب أن أكون‬‫والعقاقري فأرجوك أن تداويني ً‬
‫سالم الصحة يف هذا الرحيل‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬سأداويك بدواء ال يكلفني شيئًا‪.‬‬

‫قال‪ :‬وكيف ذلك؟!‬

‫قال‪ :‬وال أسهل من ذلك!‪ ...‬فإني عازم عىل أن أرتقي فوق هذه السحب‪،‬‬
‫وأبتعد عن هذه النقطة الوبائية‪ ،‬فقط أرجوك أن تصرب عيلَّ عرش دقائق‬
‫‪92‬‬
‫ألنرش الغاز‪.‬‬

‫وما مضت الدقائق العرش َّإل ارتقت القبة فوق الطبقة الرطبة‪ ،‬واشتم‬
‫ً‬
‫مقبل عىل‬ ‫ديك نسيم هواء رخيم ينعش الفؤاد‪ ،‬فرتمم حاله ورأى نفسه‬
‫الصحة‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬لعمري؛ إن هذه لَ ِه َي األدوية العجيبة‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬بل هو أمر طبيعي ال عجب فيه‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬جنابك أعلم بذلك‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬كما أن األطباء توعز إىل املرىض أن يرتحلوا من محالت األهواء‬
‫السيئة إىل محالت األهواء السليمة‪ ،‬ليشتموا رائحتها وينتعشوا بها‪ ،‬هكذا‬
‫أنا أرفع ديك إىل طبقات الهواء السليم ليشفى من دائه‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وما أجمل من هذه املركبة الهوائية؛ فإنها كفردوس أريض!‬

‫قال يوسف‪ :‬ال‪ ،‬بل تهدينا إليه‪.‬‬


‫ً‬
‫جميل؛ إذ السحب‬ ‫أما املرأى الذي انبسط ألعني الطائرين فكان بهيًا‬
‫تطوي بعضها عىل بعض‪ ،‬وتنعكس أشعة الشمس عليها فتجمل منظرها‪،‬‬
‫ثم ارتفعت القبة إىل علو أربعة آالف قدم‪ ،‬ولم يعودوا ينظرون األرض‪،‬‬
‫بل شاهدوا يف الناحية الغربية ذرى جبال روبيهو‪ ،‬وهي عىل حدود بالد‬
‫أوغوغو يف درجة ‪ً 36ْ 20‬‬
‫طول‪ .‬أما الريح فكان مهبها شديدًا‪ ،‬وتدفع‬
‫املركبة إىل عرشين ً‬
‫ميل يف كل ساعة‪ ،‬أما هم فلم يشعروا برسعة مسريهم‪،‬‬
‫بل كأنهم جالسون عىل هودج ال يحركه محرك‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وعقب مرور ثالث ساعات تم إنذار َّ‬


‫العلمة فرغوسن‪ ،‬وبرئ ديك من‬
‫سقمه‪ ،‬ثم فطر بقابلية ومرسة‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬هو ذا ما اعتضت به عن سلفات الكينا‪ ،‬وعندي أنه أفخر منه‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬نِعم الهواء هواء هذه الطبقات‪ ،‬وإن شاء املوىل سآتي إليها‬
‫ألقيض فيها آخر أيام حياتي‪.‬‬

‫وملا كانت الساعة الثالثة من النهار‪ ،‬صحت السماء وتبددت السحب يف‬
‫اآلفاق‪ ،‬فرشعت املنصورة تدنو من األرض شيئًا فشيئًا‪ ،‬وأراد ساموئيل‬
‫ريحا تقيده إىل شمايل رشقي إفريقية‪ ،‬فوجدها يف علو ‪ 600‬قدم‬
‫أن يجد ً‬
‫فوق األرض‪ ،‬وعقب مرور برهة َب َ‬
‫ان أمامهم جبل‪.‬‬

‫ويف تلك الساعة أخذت ذرى الصخور يف االرتفاع‪ ،‬واقتىض الحال أن‬
‫يتحذروا يف كل دقيقة من رؤوس بعض الصخور التي كأنها تهددت‬
‫املركبة‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬إن قبتنا فيما بني هذه الصخور كالسفينة التي تسري بني‬
‫الصخور املتوارية يف املياه‪.‬‬

‫رؤوس الصخور‪ ،‬ال تمسنا‪،‬‬


‫َ‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬طمن بالك يا ديك؛ فإن هذه‪،‬‬
‫فأخذت املنصورة تمر بني ذرى الصخور والجالميد‪ ،‬وال يمسها رضر وال‬
‫عارض‪.‬‬

‫ثم قال فرغوسن‪ :‬لو كنا رسنا مشا ًة يف هذه األرايض املائية لخضنا يف‬
‫بحر حماة ال مناص منه وال مفر‪ ،‬ولكانت ترضرت دوابنا عياء وتعبًا‬
‫‪94‬‬
‫مذ خروجنا من زنجبار إىل هذه الناحية‪ ،‬ولَ ُكنَّا أصبحنا ضعفاء الجسم‬
‫نحيفي البدن‪ ،‬وهيهات أن يجلدنا الصرب ويولج فؤادنا التجمل‪ ،‬وأ َ َّنى مني‬
‫من إحصاء املصائب الكثرية‪ ،‬واملشاق العديدة التي تحيق باملسافرين؛‬
‫ففي النهار ح ٌّر الفح مضنك يكاد املرء ال يطيق احتماله‪ ،‬ويف الليل برد‬
‫قارس يلسع الجسم فال يتمكن من مقاساته‪ ،‬ومع هذا كله ال تخلو من‬
‫الذباب الذي قيل عنه إنه يخرق األقمشة‪ ،‬وإذا لسعت البدن خبلت عقل‬
‫اإلنسان‪ .‬هذا‪ ،‬مع قطع النظر عن الوحوش الكارسة واألقوام الربابرة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أسأل لطف املوىل أن ال يرميني يف هذه املهوات‪.‬‬

‫قال ساموئيل‪ :‬لعمرك؛ إني لم أبالغ يف الوصف‪ ،‬بل إذا سمعت قصص‬
‫السواح ورواياتهم يف رحالتهم اإلفريقية‪ ،‬أغرتك عىل سكب بنات العيون‬
‫من الجفون‪.‬‬

‫وملا كانت الساعة الواحدة قبل الظهر مروا ببحرية إيمنجي‪ ،‬واألقوام إذ‬
‫ذاك يف تلك النواحي يتهددون املنصورة بالسالح‪ ،‬فلم يظفروا بالنجاح‪،‬‬
‫ثم وصلوا إىل األرض املع َو َّجة الكاينة قبل جبل روبيهو‪ ،‬وهناك السلسلة‬
‫الثالثة السامية من جبال أوزاغارا‪.‬‬

‫فأخذوا يتأملون جيدًا هيئة تلك الجبال‪ ،‬فكانت األقسام الثالثة مفروقة‬
‫ببطاح فسيحة‪ ،‬وبني الصخور والجالميد ترى الحجارة‬
‫ٍ‬ ‫بعض‬
‫ٍ‬ ‫بعضها عن‬
‫والحىص مشتتة ومبعثرة؛ فالجهة املقابلة لزنجبار هي ذات منحدر وعر‬
‫جدًا‪ ،‬وأما يف الجهة الغربية فاملنحدر ال يشبهه بل هو ساحات منحنية‬
‫ً‬
‫قليل‪ ،‬وال تخلو من الجداول التي تصب يف نهر كنغاني يف الجهة الرشقية‪،‬‬
‫حيث أشجار الجميز وتمر الهندي والنخل والقرع متكاثرة بل عىل هيئة‬

‫‪95‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫رياض‪.‬‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬علينا اآلن أن نأخذ حذرنا من هذا الجبل العايل‪ ،‬وهو جبل‬
‫روبيهو الذي تأويله يف عرف أولئك األقوام «مرور الرياح»‪ ،‬فينبغي لنا أن‬
‫نرتفع إىل العالء‪ ،‬وعىل ظني؛ إذا ما وصلنا إىل علو ‪ 5‬آالف قدم فقط فال‬
‫ننجو من الخطر وال نظفر بالوطر‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬وهل كثريًا ما يقتيض الحال أن نصعد إىل مثل هذا العلو‬
‫الشاهق؟‬
‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫كل‪ ،‬ألن جبال إفريقية ليست بسامية االرتفاع كسائر جبال‬
‫أوربا وآسيا‪ ،‬أما نحن فمالنا ولها؛ إذ إننا نمر بها بقبتنا دون صعوبة‪،‬‬
‫العلمة النار‪ ،‬فازدادت الحرارة ودفعت القبة ً‬
‫هائل حتى‬ ‫وعىل األثر أسعر َّ‬
‫أوصلتها إىل علو ستة آالف قدم‪.‬‬
‫فسأل الخادم سيده ً‬
‫قائل‪ :‬أنجوز هذا الحد من العلو؟‬

‫أجاب ساموئيل‪ :‬إذا كانت القبة كبرية فيتمكن اإلنسان من الصعود إىل‬
‫درجة أسمى من هذه‪ ،‬كما فعله بريوسكي وغاي لوساك‪ ،‬ولكن أخذ الدم‬
‫يمج من أنفيهما وآذانهما وعدما التنفس‪ ،‬ومنذ بضع سنني تجرأ رجالن‬
‫إفرنسيان عىل االرتقاء إىل األعايل فاحرتقت قبتهما‪...‬‬
‫فسأل ديك ً‬
‫حال وقال‪ :‬هل سقطا عىل األرض؟‬

‫قال ساموئيل‪ :‬ال شك يف ذلك‪ ،‬لكنهما سقطا سقوط العلماء الذين ال‬
‫يمسهم رضر البتة يف سقوطهم‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫فقال يوسف‪ :‬سادتي!‪ ...‬إنكم أحرار إذا أردتم تجربة هذا األمر‪ ،‬أما أنا‬
‫بعالم بل جاهل‪ ،‬وأوثر أن أبقى يف الحالة الوسطى‪ ،‬وقد قيل حب‬‫ٍ‬ ‫فلست‬
‫التناهي غلط‪ ،‬وخري األمور الوسط‪ ،‬وال أود أن أبقى يف علو باسق‪ ،‬وال يف‬
‫وطوء دني؛ فإن الطمع َّ‬
‫رض ما نفع‪.‬‬

‫وملا بلغوا علو ستة آالف قدم‪ ،‬أخذ يخف ثقل الهواء‪ ،‬ولم يعد الصوت‬
‫ينتقل َّإل بصعوبة كلية‪ ،‬واختلطت األشياء عىل برصهم؛ فأمسوا ال‬
‫يشاهدون َّإل أجرا ًما غري مخططة‪ ،‬وال تبني الطرق َّإل كشباكٍ ‪ ،‬والبحريات‬
‫كأحواض‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫َّإل‬

‫وكان الهواء الجوي يدفعهم فوق الجبال املكسوة ذراها بالثلوج‪ ،‬كأنها‬
‫باقية عىل حالتها األوىل من يوم خلقها املوىل سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫فرسم فرغوسن هيئتها وجميع ما يجاورها بتمام الضبط والدقة‪.‬‬

‫ثم نزلت املنصورة إىل منحدر جبل روبيهو‪ ،‬وكان هناك غاب وأحراش‬
‫فيها من األشجار أعظمها‪ ،‬والخضار أعجبها وأغربها‪ ،‬فدنا ساموئيل من‬
‫األرض وألقى املرايس فتعلّق إحداها بشجرة جميز‪ ،‬ثم نزل يوسف ومكنه‬
‫باعتناء‪ ،‬وترك ساموئيل القصبة يف حالة الحرارة‪ ،‬ثم قال للصياد‪ :‬اذهب‬
‫للصيد أنت ويوسف؛ فعليكما أن تأخذا سالحكما وتصطادا ما يحلو‬
‫ً‬
‫برهة‪.‬‬ ‫لخاطركما لنغتذى اآلن بني هذه األحراش وننرشح‬
‫حال إىل األرض‪ ،‬وملا خفت القبة ً‬
‫ثقل تمكن فرغوسن من إطفاء نار‬ ‫فنزل ً‬
‫القصبة‪.‬‬

‫فقال له يوسف من أسفل‪ :‬حذار يا سيدي أن تطري وترتكنا!‬

‫‪97‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬كن عىل راحة بال؛ فإن القبة متمكنة جيدًا‪ ،‬فاذهبا‬
‫بالسالم فإني أرجو لكما النجاح والتوفيق‪ ،‬ولكن كونا عىل حذ ٍر دائ ًما‪،‬‬
‫حال فيكون ذلك عالمة القتضاء‬ ‫وإذا ما دهمني دا ٍه فإني أطلق الرصاص ً‬
‫حضوركم الرسيع‪ ،‬وهكذا تم االتفاق وانطلق االثنان للصيد‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫الفصل الثاني عرش‬

‫يف هجوم السعادين عىل القبة الهوائية ووصول املسافرين إىل كازه‬

‫‪99‬‬
‫أما األرض التي كانوا يسريون فيها فكانت من فخار‪ ،‬وهي تتشقق من‬
‫الرمضاء «شدة الح ّر»‪ ،‬وشاهدوا فيها بعض آثار القوافل‪ ،‬وشيئًا من‬
‫عظام الحيوانات والناس معًا‪.‬‬

‫وبعد ما مشوا نحو نصف ساعة‪ ،‬ولج يوسف وديك غا ًبا ذات أشجار‬
‫متنوعة‪ ،‬وهما يرصدان طريًا أو حيوا ًنا آخر ليصطاداه‪ ،‬ولم يكونا يعرفان‬
‫ما هي أجناس الحيوانات والطيور املوجودة يف تلك النواحي‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬إن لنا نفعًا يف مسرينا عىل أقدامنا‪ ،‬ولكن يا ليت هذه األرض‬
‫سهلة وحسنة االنتظام‪.‬‬

‫أما ديك فأومأ إليه بالسكوت والوقوف‪ ،‬ألنه نظر عن بعد بعض الحيوانات‬
‫الشبيهة باأليل‪ ،‬وأراد أن يكمن لها‪ ،‬لكنه لم يكد يدنو منها ً‬
‫قليل ّإل أحست‬
‫بالخطر املحيق بها؛ فكانت واردة مورد املاء لتستقي منه‪ ،‬فعند إحساسها‬

‫‪101‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫بدنو عدوها رشعت تلعق لعقة وتنظر إىل الهواء‪ ،‬أما ديك فتوارى عنها‬
‫ودار حول صخر‪ ،‬ثم أورى زناد سالحه فولت جميعه َّن مدبرات‪ ،‬ولم‬
‫يصب سهمه َّإل واحدة منهن‪ ،‬ف َّ‬
‫رس رسو ًرا بلي ًغا لهذه الغنيمة الفاخرة‪،‬‬
‫وملا اقرتب إليها رأى لونها ضار ًبا عىل الزرق واللون الرمادي‪ ،‬وبطنها مع‬
‫ساقيها ذات لون أبيض أشبه ببياض الثلج‪.‬‬

‫فقال ديك لصاحبه‪ :‬لله هذه األلوان؛ ما أجملها!‪ ...‬فإن مرادي حفظ‬
‫جلدها‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وملاذا يا ديك؟‬

‫قال ديك‪ :‬أما ترى هذا البهاء والجمال؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬أما ترى أنت أن هذا حمل يثقل عىل صاحبنا فرغوسن؛ إذ إنه‬
‫يفسد موازنة قبته؟!‬

‫قال ديك‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬ولكن يشق عيلَّ ترك هذا الحيوان‪.‬‬
‫كل ال نرتكه كله‪ ،‬بل نستنتج منه ً‬
‫أول ما يقيتنا وينفعنا‪ ،‬ثم‬ ‫قال يوسف‪ّ :‬‬
‫نرتك ما تبقى‪ ،‬وإذا شئت هيأت لك اآلن لحمانه‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬افعل ما تشاء وما تريد‪ ،‬وأنا ً‬


‫أيضا ال يصعب عيلَّ تهيئة لحمانه‪،‬‬
‫كما ال يصعب عيلَّ صيده بالرصاص‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ال ريب يف ذلك‪ ،‬ولكن اتركني أتحمل اآلن هذا التعب‪ ،‬فيما‬
‫تهيِّئ يل وجا ًقا عىل ثالثة أحجار‪ ،‬وبعد ذلك تكلف خاطرك بجمع قليل‬
‫من الحطب لنورث النار‪ ،‬ونشوي عليها اللحمان‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫قال ديك‪ :‬عىل الرأس والعني؛ فإن جميع ما أمرت به يتم برمشة عني‪.‬‬

‫وأخذ ً‬
‫حال بإنشاء الوجاق‪ ،‬ولم تمض برهة َّإل جمع الحطب وأشعل‬
‫النار‪ ،‬فصعد لهيبها وطار رشارها‪ ،‬وكان يوسف قد انتشل من جوف‬
‫الحيوان السلسلة وغريها من اللحمان الطرية‪ ،‬وجعلها عىل النار ل ُت ْش َوى‪.‬‬

‫وفيما هما عىل هذه الحال قال ديك لرفيقه‪ :‬أتعرف ما خطر يف ذهني؟‬

‫قال ديك‪ :‬خال يف ذهنك أن اللحمان ستنضج عن قريب‪ ،‬وهي شهية‬


‫للطعام‪.‬‬

‫كل‪ ،‬بل طرق ذهني فكر وهو أنه ما عىس ُّ‬


‫يحل بنا لو ذهبنا‬ ‫قال يوسف‪َّ :‬‬
‫ولم نشاهد القبة الطيارة؟‬

‫قال ديك‪ :‬وما هذا الفكر الذي تفتكر به؟‪ ...‬أتظن فرغوسن يرتكنا يف هذه‬
‫البالد؟‬

‫قال يوسف‪َّ :‬‬


‫كل؛ فليس األمر كذلك‪ ،‬ولكن عىل فرض أن املرساة فلتت من‬
‫الشجرة فرتتفع القبة ويصعد معها موالي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ومن املحال أن يفلت األنجر عىل هذا الحال‪ ،‬وهبه؛ جرى فإن‬
‫َّ‬
‫العلمة سينزل يف مكان آخر لينتظرنا‪ ،‬ولعمري؛ إن آلته من أفخر اآلالت‬
‫وأحكمها ترتيبًا وانتظا ًما‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ولو هبت ريح شديدة فإنها تدفعه إىل حيث ال يمكننا‬
‫الوصول إليه‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬أرجوك الصمت يا مب ً‬


‫رشا بالسوء؛ فإن حديثك هذا ال يبسط‬
‫الخاطر‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬يا سيدي إن جميع ما يحدث يف هذا العالم هو طبيعي‪،‬‬


‫والحال كل أم ٍر قابل الحدوث‪ً ،‬‬
‫فإذا ينبغي عىل املرء أن يأخذ حذره قبل‬
‫فوات الفرصة‪.‬‬

‫ولم ينته يوسف من التفوه بهذه الكلمات َّإل دوت طلقة بارودة يف اآلفاق‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬مه ته يا يوسف؛ ما الذي ناب فرغوسن ليطلق الرصاص؟!‬

‫قال‪ :‬ربما أحاق به خطر؛ هلم إليه راكضني‪.‬‬

‫فجمع الرفيقان ما كان جهزاه من املصيد‪ ،‬وعلقا عىل املسري نحو القبة‬
‫الطيارة‪ ،‬وكانت األشجار املتكاثفة يف ذلك الغاب تمنعهما عن مراقبة‬
‫القبة عن بعدٍ‪ ،‬ولم تمض برهة َّإل أطلقت رصاصة أخرى‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬العجب العجاب؛ الظاهر أن الخطر مبني فيجب علينا‬


‫العجلة كيف ترى يا خلييل؟!‬

‫قال‪ :‬هل َّم فلنرسع‪ ،‬وأظن أنه يدافع عن نفسه‪.‬‬


‫َّ‬
‫والعلمة‬ ‫وملا قطعوا الغاب شاهدوا القبة الهوائية مرتكزة يف محلها‪،‬‬
‫جالسا عىل مركبته‪.‬‬
‫ً‬ ‫ساموئيل‬

‫فقال ديك‪ :‬ربي ما هذا؟!‪ ...‬وما الذي خطر ببال فرغوسن؟!‬

‫فقال يوسف‪ :‬أما ترى هنالك السودان املحيطني بالقبة؟‬


‫‪104‬‬
‫شخصا‪ ،‬يزاحم بعضهم‬‫ً‬ ‫فتطلع ديك جيدًا‪ ،‬فشاهد عن بعد نحو ثالثني‬
‫بعضا‪ ،‬وهم يعرون ويصيحون ويتسلقون عىل شجرة الجميز‪ ،‬ومنهم من‬ ‫ً‬
‫كان قد ارتقى عىل الشجرة‪ ،‬وأخذ يف التقدم نحو األغصان العالية‪ ،‬فكان‬
‫عىل القبة مبينًا‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬أواه؛ ما هذا الخطب لسيدي؟!‬

‫ً‬
‫راكضا؛ فإنا بحوله تعاىل‬ ‫فقال ديك‪ :‬ال تخف‪ ،‬بل ارمع يف مسريك‪ ،‬وهرول‬
‫سنبدد شمل هؤالء األعداء قبل وصولهم إىل فرغوسن؛ فهيا بنا هيا!‬

‫ثم أطلقت رصاصة أخرى فأصابت حبشيًا كان يتسلق عىل حبل املرساة‪،‬‬
‫ويف الحال شاهدوا جس ًما ميتًا تساقط من غصن إىل غصن إىل أن بلغ علو‬
‫عرشين قد ًما من األرض‪ ،‬فتعلّق جسمه يف العالء‪ ،‬ونزلت ذراعاه وفخذاه‪،‬‬
‫يتذبذبن يف الفضاء‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬يا وياله!‪ ...‬وبأي حبل يعتصم هذا القرد الكبري؟!‬

‫قال ديك‪ :‬مالك وله؛ فقد قربنا من القبة؟!‬


‫ً‬
‫ضحكا‪ :‬أما ترى يا ديك أنه معتصم بحبل ذنبه؟‬ ‫قال يوسف‪ ،‬وهو يقهقه‬
‫فإنه سعدان‪ ،‬وجميع هؤالء السود هم سعادين‪.‬‬

‫وفيما هما يتناقالن هذه األحاديث إذ وصال إليه َّن‪ ،‬فدخال فيما بينه َّن‪،‬‬
‫ورياه َّن رشذمة من السعادين البالغة يف التوحش والرببرة‪ ،‬وله َّن أنياب‬
‫هائلة كأنياب الكالب‪ ،‬فأخذا يطلقان عليه َّن الرصاص‪ ،‬فبددا شمله َّن‪،‬‬
‫وطرحا عىل الحضيض كثريًا منه َّن‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم دنا كنادي من القبة وارتقى إىل املركبة عىل السلم‪ ،‬وأما يوسف فتوارى‬
‫بني أغصان الجميز ليحل املرساة‪ ،‬ثم اقرتبت إليه املركبة فدخلها بسهولة‪،‬‬
‫ويف الحال ارتفعت القبة إىل األعايل واتجهت نحو الرشق بقوة هواء لطيف‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬لقد نجونا من معركة شديدة‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬كنا قد ظننا أنك محتاط بقوم من السودان‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وال يختلفون عنهم كثريًا اس ًما وفعال؛ إذ إنهم سعادين‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ال يمكن تمييزهم عن بعد‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬حتى والعن قرب‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وعىل جميع األحوال فإنا نجونا اآلن من خطب جسيم‪ ،‬ألنه‬
‫لو فلتت املرساة من الشجرة بحراك السعادين‪ ،‬فال أعلم إىل أين كانت‬
‫أخذتني الرياح عنكم‪.‬‬

‫قال يوسف لديك‪ :‬أما قلت لك ذلك من برهةٍ؟!‬

‫قال ديك‪ :‬لقد أصبت يف ظنك هذا‪ ،‬ولكن ال يخفى عليك أني كنت وقتئ ٍذ‬
‫مهت ًما بتجهيز لحمان الصيدة‪ ،‬ومشتا ًقا ملناولة ذلك الطعام الشهي‬
‫الناضج‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬بالحقيقة‪ ،‬إن لحم هذا الحيوان الشبيه باأليل لذيذ‪،‬‬
‫وتشتهي النفس أكله‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ذق منه إذا شئت يا سيدي؛ فإنه حارض‪ ،‬واحكم لنا بصحة‬
‫‪106‬‬
‫األمر‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬نعم؛ إن هذه اللحمان وحشية‪ ،‬لكنها أنيسة للحنجرة‪ ،‬وال‬
‫تمجها املعدة‪.‬‬

‫فقال يوسف وهو يأكل‪ :‬لعمري؛ إني أرىض بأن يكون لحم هذا الحيوان‬
‫قوتي اليومي‪ ،‬إىل آخر يوم من حياتي‪ ،‬ولكن ما ألذه إذا كرع معه بعض‬
‫جرعات من العرق اللذيذ ليحسن هضمه يف املعدة!‬

‫ويف الحال أحرض شيئًا من هذا الرشاب‪ ،‬وناول رفاقه ثم تجرع حصته‪،‬‬
‫ويف تلك الساعة سأل فرغوسن صاحبه ديك‪ ،‬وقال‪ :‬قل يا صاح؛ ما رأيك‬
‫اآلن‪ ،‬هل ندمت عىل مرافقتنا؟‬

‫فأجابه ديك‪ ،‬وقال‪ :‬لعمري؛ ما من أح ٍد كان يطيق أن يمنعني عن‬


‫مرافقتكما ومساعدتكما‪.‬‬

‫وكانت تلك الساعة الرابعة بعد الظهر‪ ،‬فهبت ريح وأرسعت املركبة‬
‫مسريها‪ ،‬فكانوا يشاهدون األرض كأنها ترتفع أمام أعينهم‪ ،‬فدلهم‬
‫البارومرت عىل أنهم يف علو ‪ 1500‬قدم فوق مساواة مياه البحر فاضطر‬
‫َّ‬
‫العلمة إىل أن يزيد حرارة القصبة لئال تقرب القبة من األرض‪ ،‬وعند‬
‫الساعة السابعة حامت القبة فوق بحرية كنيامه‪ ،‬وعلم فرغوسن من‬
‫أراض تأسست فيها حديثًا بعض القرى‬ ‫ٍ‬ ‫رسومه الجغرافية أنهم يف‬
‫املشتتة بني أشجار البوبات وغريها‪ ،‬وهناك مقر أحد سالطني أُغوغو‪،‬‬
‫حيث خف التوحش عىل وجه من الوجوه‪ ،‬ألنه قلما باع فيها أحد عضوا‬
‫من عيلته‪ ،‬أما الناس فيسكنون هناك مع البهائم‪ ،‬وليس ملنازلهم ترتيب‬

‫‪107‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وال انتظام‪ ،‬بل كأنها أكواخ حقرية‪ ،‬تشبه كراديس عشب يابس‪.‬‬

‫بأرض صخرية ومحجرة‪ ،‬إىل أن بلغوا‬


‫ٍ‬ ‫وبعد أن جازوا بحرية كنيامه م ُّروا‬
‫رطب‪ ،‬ولكن كان الهواء مستكنًا‪ ،‬ورأيت القبة‬‫ٍ‬ ‫وزرع‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫أرضا ذات خضا ٍر‬
‫واقفة غري متحركة‪.‬‬
‫فانتهز َّ‬
‫العلمة هذه الفرصة املالئمة ليقيم الليل كله يف الجو؛ إذ ليس ما‬
‫يحرك قبته فيسرتيح ورفقاؤه يف الطبقات العلوية باستكانة وطمأنينة‪،‬‬
‫ولذا قد ارتفع عما كان عليه علو ألف قدم‪ ،‬فكانت السماء إذ ذاك رائقة‪،‬‬
‫ويف كبدها تتألأل النجوم والكواكب‪ ،‬فسبح الجميع موالهم عىل عجيب‬
‫خالئقه‪ .‬ورقد الصياد مع يوسف ألن النوبة األوىل كانت عىل فرغوسن‪،‬‬
‫وملا دخل نصف الليل أيقظ فرغوسن ديك وفوض إليه املحافظة‪ ،‬وأوصاه‬
‫حريصا وأمينًا يف وظيفته‪ ،‬وأوعز إليه أن إذا دهمه أدنى عارض‬
‫ً‬ ‫أن يكون‬
‫حال من فراشه‪ ،‬وقال له‪ :‬إياك أن ترفع ألحاظك عن‬ ‫فعليه أن يوقظه ً‬
‫البارومرت‪ ،‬ألنه لنا بمنزلة البوصلة‪.‬‬

‫أما الهواء يف تلك الليلة فكان باردًا‪ ،‬ألن ميزان الحرارة نزل ‪ 28‬درجة‬
‫عن حرارة النهار‪ ،‬وما زالت الحيوانات الخارجة من مرابضها هر ًبا من‬
‫الجوع والعطش تضج وتصيح آناء الليل‪ ،‬والضفادع تنق يف مراقدها‪،‬‬
‫وابن آوى ينبح ويعوي‪.‬‬

‫وملا أصبح الصباح واستفاق الرفاق من الرقاد‪ ،‬نظر فرغوسن إىل البوصلة‬
‫فعلم أن الهواء تبدل‪ ،‬وتغري اتجاه القبة الطيارة‪ ،‬ألنها منذ ساعتني من‬
‫الصباح اختطت مسافة ثالثني ً‬
‫ميل يف الجهة الشمالية الغربية‪ ،‬وتطلع‬
‫برسومه الجغرافية فعلم أنه ما ُّر ببالد مابنغورو املحجرة وقد شاهد‬
‫‪108‬‬
‫املسافرون فيها من حجر السيناء ذات الصقل الجميل‪ ،‬وصخو ًرا كثرية‬
‫محدبة ومتنوعة البناء والخطوط‪ ،‬وعظا ًما مشتتة ومبعثرة من الفيلة‬
‫والجواميس‪ ،‬ولم يشاهدوا فيها شج ًرا‪ ،‬بل عن شمالهم قامت أحراش‬
‫وغابات متسعة‪ ،‬ووراءها بعض القرى والضياع‪.‬‬

‫وعند الساعة السابعة تراءى ألعينهم صخر مستدير ذو مسافة ميلني‪،‬‬


‫شبيه برتس سلحفاة عظيمة‪.‬‬

‫العلمة فرغوسن‪ :‬الحمد لله أننا يف سبيل الهدى وطريقنا مستقيمة‪،‬‬ ‫فقال َّ‬
‫وهاهي ذي بالد جيهوملكوا؛ فيل رغبة يف أن َّ‬
‫أحل بها برهة ألجدد زاد املاء‬
‫إذا أن نتعلّق بمكان‪.‬‬
‫الرضوري آللتي‪ ،‬فلنجرب ً‬

‫فقال ديك‪ :‬قلما يوجد أشجار يف هذا املقر‪.‬‬

‫قال‪ :‬علينا أن نجرب‪ ،‬علنا نتعلق بخلل صخر‪ ،‬وأوعز إىل يوسف أن يلقي‬
‫املرايس‪ ،‬فألقاها وملا كانت القبة قد فقدت شيئًا من قوتها الرافعة دنت‬
‫من األرض‪ ،‬وإذا بمرساة تمسكت بثقب صخ ٍر‪ ،‬فوقفت املنصورة ثابتة‬
‫غري متحركة‪.‬‬

‫فال يظن القاري أنه صاغ للعالمة إخماد الحرارة يف حالة وقوفه‪ ،‬ألن‬
‫مؤونة القبة حسبت عىل مساواة سطح البحر‪ ،‬والحال أن تلك البالد هي‬
‫يف ارتفاع‪ ،‬وقد بلغوا فيها علو ‪ 600‬إىل ‪ 700‬قدم عن سطح البحر‪ ،‬فعىل‬
‫هذا املنوال كانت القبة تميل إىل النزول‪ ،‬وقد التزم َّ‬
‫العلمة أن يرتك الغاز‬
‫مشتعل ً‬
‫قليل‪ ،‬ليحافظ عىل لبوثه يف ذلك العلو من األرض‪.‬‬ ‫ً‬

‫وقد نظر َّ‬


‫العلمة فرغوسن إىل الرسوم الجغرافية فعرف أنه يف الجهة‬

‫‪109‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫الغربية من سفح بلد جيهوملكوا‪ ،‬حيث يوجد بعض غدران ماء‪ ،‬فذهب‬
‫برميل صغريًا‪ ،‬وقد شاهد املحل الذي دله‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حامل‬ ‫إليها الخادم وحده‬
‫عليه فرغوسن فأمأل الربميل وأتى به املركبة بعد مرور نحو ثالثة أرباع‬
‫الساعة‪ ،‬ولم يشاهد يف طريقه شيئًا غريبًا خصوصيًا‪َّ ،‬إل حف ًرا واسعة‬
‫إليقاع الفيلة‪ ،‬وقد كاد يهوي يف إحداه ّن‪.‬‬

‫جنسا من الربسيم‪ ،‬وهو خرضة كانت تأكله السعادين‬ ‫ً‬ ‫وقد أحرض معه‬
‫العلمة أن هذه الخرضة تعرف بإفريقية باسم امبنبو‪،‬‬ ‫بتلهف‪ ،‬فعرف َّ‬
‫وهي كثرية الوجود يف نواحي جيهوملكوا الغربية‪ ،‬وقد انتظر فرغوسن‬
‫خادمه بقلق‪ ،‬ألنه كان يخىش من طارئ يطرأ عليهم يف تلك البلدان التي‬
‫ال يراعى فيها ذمام الغريب‪ ،‬وليس له أمان عىل نفسه‪.‬‬

‫ثم وضعوا الربميل يف املركبة بكل هينة‪ ،‬ألنها كانت قريبة إىل األرض‬
‫كثريًا‪ ،‬وبعد أن رفع يوسف املرساة طلع إىل املركبة‪ ،‬وجلس أمام سيده‬
‫فأرضم القصبة‪ ،‬وامتد الغاز وارتفعت املنصورة سائرة يف طريق الرياح‪،‬‬
‫وكانت املركبة إذ ذاك بعيدة عن مدينة كازه ذات األهمية العظيمة يف‬
‫أواسط إفريقية نحو مائة ميل‪ ،‬وقد رجا املسافرون أن يصلوا إليها يف‬
‫النهار ذاته‪ ،‬نظ ًرا لوجود الرياح الجنوبية الرشقية وكانت املركبة تسري‬
‫ميل يف الساعة‪ ،‬ولكن صعب عىل فرغوسن يف تلك الدقيقة إدارة‬ ‫مسافة ‪ً 14‬‬
‫مركبته‪ ،‬ألنه لم يكن يمكنه أن يرتفع إىل عل ٍّو باسق بدون أن يمد الغاز‬
‫كثريًا‪ ،‬ألن تلك البالد كانت شامخة االرتفاع‪ ،‬وعلوها األوسط ‪ 3000‬قدم‪،‬‬
‫فبذل ساموئيل غاية مجهوده‪ ،‬لِئَ َّل يمد الغاز كثريًا‪ ،‬وقد م َّر بجبال وآكام‬
‫كثرية‪ ،‬ثم بقريتي طمبو وتوراولس‪ ،‬وهذه القرية كانت ببالد أونياوازي‪،‬‬
‫فيها األشجار الباسقة ومنها شجر شبيه بالصبري يرتفع إىل علو شامخ‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫وملا كانت الساعة الثانية بعد الظهر‪ ،‬وكانت السماء صافية حامت‬
‫املنصورة فوق مدينة كازه‪ ،‬الكائنة يف مسافة بعيدة عن ساحل البحر‬
‫بثالثمائة وخمسني ً‬
‫ميل‪.‬‬

‫فتطلع فرغوسن وقتئ ٍذ يف مفكراته‪ ،‬وقال‪ :‬رحلنا من زنجبار الساعة‬


‫صباحا‪ ،‬وبعد أن رسنا يومني طفنا مسافة ‪ 500‬ميل جغرايف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫التاسعة‬
‫أما القبطانان برتون وأسبيك فلبثا مقيمني أربعة أشهر ونص ًفا يسريان‬
‫يف الطريق نفسها التي مررنا بها‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الفصل الثالث عرش‬
‫يف مدينة كازه وسوقها وأوالد القمر وهيئة رقصهم وعبادة قوم تلك البلد‬
‫ليوسف وظهور قمرين يف البقعة السماوية‬

‫‪113‬‬
‫أما كازه فليست‪ ،‬بحرص الكالم‪ ،‬مدينة «ألن ليس مدينة يف أواسط‬
‫إفريقية»‪ ،‬بل هي مركز ذو أهمية جزيلة يف إفريقية الوسطى‪ ،‬لكنها ليست‬
‫َّإل مجموع ست أودية وفيها عدة أكواخ ملأوى أصحابها‪ ،‬وشاهدوا ً‬
‫بعضا‬
‫بصل وبطاطة وباذنجان وجبئًا «شبه‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫محتاطا ببساتني مزروعة‬ ‫منها‬
‫الكمأة» وغري ذلك مما يروق للخاطر‪ .‬أما أونياوازي فهي بالد القمر‪،‬‬
‫وال تخلو من الخصب وجمال املنظر‪ ،‬ويف وسطها مقاطعة أوينه نمبه‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬وهناك يقيم بعض آل عمان من عرب العربان‬ ‫وهي بلد جميلة ً‬
‫الذين يتاجرون بالفراء والعاج والعبيد مع بالد العرب‪ ،‬والقوافل تأتيهم‬
‫ببضاعة الفخفخة وغري ذلك مما هو غايل الثمن‪ ،‬ألنهم عائشون مع‬
‫نسائهم وعبيدهم بصفاء البال وطيبة العيش‪ ،‬وال ينغص عيشهم حادث‬
‫من طوارق الزمان فيتمددون ويمرحون ويدخنون آناء الليل وأطراف‬
‫النهار‪ ،‬ولقد يشاهد أكواخ كثرية حول تلك األودية‪ ،‬وأسواق واسعة لفرش‬

‫‪115‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫البضائع‪ ،‬يحيط بها أشجار كثرية‪ ،‬وهناك محل اجتماع القوافل؛ فإن‬
‫منها ما يأتي من الجنوب مصحو ًبا بالعبيد والعاج‪ ،‬ومنها ما يأتي من‬
‫الجهة الغربية مصحو ًبا باألقطان واألدوات الزجاجية ألقوام البحريات‬
‫العظيمة‪.‬‬
‫ً‬
‫ولغطا‬ ‫وضجيجا وبعا ًقا‬
‫ً‬ ‫ولهذا ترى يف تلك األسواق اضطرا ًبا مستدي ًما‬
‫غريبًا؛ فإنك ال تقف برهة َّإل وتسمع رصاخ املكارين‪ ،‬وطنطنة الطبول‬
‫والزمور‪ ،‬ودقدقة الدواب ونهيق الحمري‪ ،‬وغناء النساء وزقزقة الغلمان‪،‬‬
‫ومدقة الجمدار رئيس القافلة‪.‬‬

‫وشاهدوا تلك البضائع املفروشة من العاج وأسنان الفيلة املتنوعة والعسل‬


‫والقطن‪ ،‬وغري ذلك من األشكال املتجنسة‪.‬‬

‫ففي الساعة والحال عند ظهور القبة الهوائية فوق كازه بطلت الضجة‪،‬‬
‫وزال الرصاخ‪ ،‬وفر كل من ذلك القوم الرجال والنساء والعبيد والتجار‬
‫ً‬
‫مهرول إىل كوخه ليختبئ فيه‪ ،‬ولم يعد أحد ظاه ًرا‬ ‫والعربان والزنج‪،‬‬
‫للوجود‪.‬‬

‫فقال ديك لفرغوسن‪ :‬إذا أتت قبتنا دائ ًما بهذا املفعول فيصعب علينا جدًا‬
‫تمكني العالقات التجارية مع مثل ذلك القوم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ولكن إما تفطن أن لنا اآلن معاملة تجارية سهلة جدًا‪ ،‬وهي‬
‫خف ً‬
‫حمل وغال قيمة‪،‬‬ ‫أن ننزل بهدوء وطمأنينة إىل األسواق‪ ،‬ونحمل ما َّ‬
‫من دون أن نعامل التجار‪ ،‬وبهذا نصبح من األغنياء املورسين‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬سقيًا لك؛ إننا ألقينا الرعبة يف أول وهلة عىل هؤالء األقوام‪،‬‬
‫‪116‬‬
‫ولكن ال نلبث أن نرى الجميع راجعني‪ ،‬سواء أكان باعتقاد باطل أم برغبة‬
‫معرفة ما شاهدوه‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬هذا رأيك يا موالي؟!‬

‫قال‪ :‬الشك يف ذلك‪ ،‬وعن قريب تراهم مقبلني‪ ،‬ولكن حذار من أن نقرب‬
‫إليهم ألن قبتنا ليست قبة مصفحة وال مدرعة‪ ،‬بل إذا أطلق علينا رضبة‬
‫رصاص أو إذا نبلنا بنب ٍل وخرق قبتنا هلكنا ال محالة‪.‬‬

‫قال ديك‪َ :‬أل تعزم عىل أن تخابر هؤالء اإلفريقيني؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬بىل؛ إذا سنحت لنا التقادير‪ ،‬ألن مدينة كازه ال تخلو من‬
‫التجار والعربان املثقفني واملتمدنني نوعًا‪ ،‬وأتذكر جيدًا ما حكي عن‬
‫برتون وأسبيك أنهما ناال ضيافة حسنة من سكان املدينة‪ ،‬فرتى ً‬
‫إذا أنه ال‬
‫يوجد مانع للدخول بينهم واملحادثة معهم‪.‬‬

‫وملا اقرتبت املنصورة من األرض تعلّقت إحدى مراسيها برأس شجرة‬


‫عالية قرب محلة السوق‪.‬‬

‫ويف تلك الساعة ظهر القوم وخرج كل من خبائه‪ ،‬لكنهم لم يخرجوا َّإل‬
‫ً‬
‫فقليل بحرص واحرتاز‪.‬‬ ‫ً‬
‫قليل‬

‫ثم هرول بعض السحرة املعروفني عندهم باسم «وغنغا» وهم حاملون‬
‫القرع املدهون بالشحم واألصداف وغريها من األشياء املشهورة بقلة‬
‫نظافتها‪.‬‬

‫ولم تمض برهة َّإل وازدحم القوم‪ ،‬وأحاطت بهم النساء والغلمان وضجت‬

‫‪117‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫الطبول بضوضائها‪ ،‬ثم رفعت األيدي نحو السماء‪.‬‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬هذه عادتهم يف الدعاء والترضع‪ ،‬وعىل ما أرى فإنه عن‬
‫قريب يصري لنا أهمية جزيلة عند هؤالء اإلفريقيني‪ ،‬وأنت يا يوسف لربما‬
‫ستميس عندهم إلهًا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ال أزهد يف مثل ذلك األمر‪ ،‬وال أكره رائح البخور‪.‬‬

‫ويف تلك الدقيقة قام أحد السحرة املعروف باسم ميانغا وأومأ إىل الناس‬
‫بالسكوت فسكتوا جميعهم‪ ،‬ثم تقدم نحو املسافرين يف املركبة وخاطبهم‬
‫بلغة مجهولة لديهم‪ ،‬فلما لم يفهم فرغوسن كالمه تفوه عىل الفور ببعض‬
‫األلفاظ العربيّة فأجيب عىل كالمه بهذه اللّغة ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل أني ًقا‪ ،‬فلخص فرغوسن من مقاله‬ ‫ثم خطب أمامه الساحر خطا ًبا‬
‫أن هؤالء القوم اتخذوا املنصورة نفس القمر‪ ،‬وأن هذه اإللهة املحبوبة‬
‫تنازلت أن تدنو منهم مع أوالدها الثالثة‪ ،‬وأن هذا لرشف عميم شمل‬
‫لفيف سكان تلك املدينة فأصبحوا لها من املمنونني‪ ،‬ومعروفها هذا ال‬
‫ينىس من تلك األرض املحبوبة من الشمس‪.‬‬

‫فأجاب فرغوسن بأمارات العظمة والكرب‪ ،‬وقال‪ :‬فليكن معلو ًما عندكم أن‬
‫القمر يطوف حول بالده مرة كل ألف سنة؛ إذ إنه يرغب يف الظهور ألعني‬
‫عابديه‪ ،‬ويريد منهم أن يعرضوا لحرضته اإللهية ما لهم من الحاجات‬
‫والرضورات‪ ،‬وال يرتبكوا ويربكوا يف توسالتهم‪ ،‬بل يجب أن تكون غري‬
‫مشوبة بالجزع والخديعة‪.‬‬

‫فقال الساحر‪ :‬إن سلطاننا‪« ،‬ويعرف باسم مواني»‪ ،‬قد أنس فراش‬
‫‪118‬‬
‫املرض منذ سنني عديدة فبالنيابة عنه أتوسل إىل جاللة القمر لريفق‬
‫بحاله ويدعو أوالده يرشفونه بحضورهم إذا شاءوا‪.‬‬

‫فبلغ فرغوسن رفقاءه تلك الدعوة‪ ،‬فقال الصياد‪ :‬وهل مرادك أن تتوجه‬
‫إىل عند هذا امللك الحبيش؟‬

‫قال‪ :‬وما املانع؟ فإني أرى هؤالء القوم حسني االلتفات نحونا‪ ،‬وال يأتوننا‬
‫برضر‪ ،‬وها إن الجو رائق فال نخاف عىل مركبتنا‪.‬‬

‫قال‪ :‬ولكن ماذا تصنع هناك؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال تخف؛ فإني أقيض شغيل بيشء من األدواء الطبية‬
‫املوجودة معي‪.‬‬

‫ثم التفت نحو الجمع‪ ،‬وقال لهم‪ :‬اليوم ح َّن قلب القمر عىل سلطان بني‬
‫أونياوازي‪ ،‬وشاء بخاطره أن يسلمنا دواء شافيًا لدائه‪ ،‬فليكن ً‬
‫إذا متأهبًا‬
‫ملالقاتنا ألننا ذاهبون إليه‪.‬‬

‫فضجت حينئ ٍذ أصوات هؤالء الرهط بالغناء والبعاق‪ ،‬وأخذوا يف املسري إىل‬
‫البيت امللوكي‪.‬‬

‫ثم قال ساموئيل لرفاقه‪ :‬يجب أن نكون عىل حذر وأهبة للرحيل إذا‬
‫ً‬
‫محافظا عىل ما‬ ‫اضطررنا لرتك هذه املدينة ً‬
‫حال؛ فليبق ديك يف املركبة‬
‫يكفي من القوة الرافعة بواسطة القصبة‪ ،‬أما املرساة فهي ممكنة غاية‬
‫التمكني‪ ،‬وال نخىش عليها‪ ،‬وأنا نازل إىل األرض‪ ،‬ويرافقني يوسف إىل عند‬
‫طرف السلم وهناك يسرتيح عىل خاطره‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال الصياد‪ :‬وهل تذهب وحدك لعند ذلك الحبيش؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال اقتضاء لذلك؛ فإن هؤالء القوم ظنوا أن إلههم القمر‬
‫آتٍ لزيارتهم فباعتقادهم هذا الباطل ال يمكنهم مرضتنا فأريحوا بالكم‬
‫ً‬
‫محافظا عىل وظيفته‪.‬‬ ‫وليبق كل منكم‬

‫فقال الصياد‪ :‬سمعًا وطاعة يا أيها املوىل‪.‬‬

‫أما رصاخ القوم فأخذ يف االزدياد وكانوا يطلبون ابن القمر ليقيض‬
‫وطرهم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وما هذا األمر؟!‪ ...‬الظاهر أنهم متجربون نحو إلههم وأبنائه‪.‬‬

‫ثم نزل فرغوسن من مركبته وأخذ معه بعض األدواء املقوية‪ ،‬وسار‬
‫يوسف أمامه ولوائح العظمة والوقار الئحة عىل محياه‪ ،‬ثم جلس عند‬
‫طرف السلم وقعد عىل ركبته حسب الزي الرشقي‪ ،‬فاحتاط به القوم من‬
‫اإلفريقيني باحتشام الئق‪.‬‬

‫العلمة فرغوسن فسار وراء اآلالت املوسيقية الشادية بأنغامها‬ ‫َّ‬ ‫أما‬
‫الشجية «ولله د ُّرها»‪ ،‬وأحاقت به السحرة وغريهم من املعتربين‪ ،‬وما‬
‫قليل َّإل وفد ابن السلطان الذي كان وحيد اإلرث الرشعي دون‬ ‫مشوا ً‬
‫إخوته الرشعيني‪ ،‬فأتى وسجد البن القمر‪ ،‬أما فرغوسن فأنهضه ً‬
‫حال‬
‫بحركة لطيفة ثم مىش معهم يف تلك الطرقات املظللة بأنواع األشجار‬
‫والنباتات‪ ،‬وما مىض نحو ثالثة أرباع الساعة حتى وصلوا إىل رساية‬
‫السلطان الكائنة يف سفح أكمةٍ‪ ،‬وهي نوع من البناء املربع املدعو يف لغة‬
‫أهل تلك البالد باسم «ايتيتينيا» وحول جدرانها قطع فخارية؛ منها عىل‬
‫‪120‬‬
‫هيئة رسم إنسان‪ ،‬ومنها ما كان أحسن انتظا ًما‪ ،‬وهو عىل هيئة الحيات‪،‬‬
‫وأما سقف املنزل فمفصول عن الجدران بعمد‪ ،‬والهواء يتالعب يف املخدع‬
‫من ذلك الفلق ألن الشبابيك غري موجودة فيها والباب يكاد يستحق اسم‬
‫باب لصغره وهيئته الغريبة وملا بلغ فرغوسن إىل ذلك املحل القته الخفراء‬
‫أناسا يمثلون حسنًا هيئة‬
‫ورجال الدولة بمزيد اإلجالل وكانوا جميعهم ً‬
‫أقوام إفريقية الوسطى‪ ،‬ذوي بنية حسنة وقوة مشهورة ومزاج سليم‬
‫وشعورهم مجدولة عىل هيئة الضفائر‪ ،‬منسدلة عىل أكتافهم‪ ،‬وخدودهم‬
‫مخططة بالحمرة والسواد والزرق من املصادغ حتى الفم‪ ،‬وعىل آذانهم‬
‫املمدودة قطع خشب مستديرة وألواح غراء سندرويس‪ ،‬ولباسهم مربقش‬
‫وملون‪ ،‬وكانت الجند واقفة وهي حاملة القيس واألسنة والفؤوس‬
‫والسيوف املتجنسة الهيئات‪.‬‬

‫فدخل َّ‬
‫العلمة ذلك البالط امللوكي‪ ،‬وما زال الرصاخ والضجيج قائ ًما‬
‫عند دخوله رغ ًما عن تدثر السلطان بلحاف السقم‪ ،‬وشاهد عند أسكفة‬
‫الباب أذناب أرانب ونوايص أعيار «جمع عري وهو الحمار الوحيش»‪،‬‬
‫معلّقة نظري طالسم سحرية‪ ،‬فالقاه ج ٌّم غفري من نساء السلطان وه َّن‬
‫يرضبن بالطبول ويزمرن باملزمار‪ ،‬وكثري منهن بديعات يف الجمال‪ُ ،‬‬
‫وك َّن‬
‫يرشبن الدخان بالغاليني الكبرية السود‪ ،‬وه َّن ضاحكات ال يكرتثن بيشء‪،‬‬
‫وقد لبقت به َّن أثوابه َّن املرقعة بقطع من الجوخ واأللياف املنسدلة عىل‬
‫حقويه َّن برخاء‪.‬‬

‫لكنه لحظ منه َّن ستة لم يك َّن فارحات؛ أقل من سائر رفيقاته َّن‪ ،‬وإن ك َّن‬
‫معدات ألن يجعلن يف القرب حيات مع السلطان عند مماته‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وبعد أن رمق فرغوسن بلحظة عني جميع ما تراءى لديه‪ ،‬تقدم نحو‬
‫تخت السلطان املصنوع من خشب‪ ،‬وشاهد ً‬
‫رجل بال ًغا سن األربعني‪ ،‬وقد‬
‫طرحته يف الفراش ودوخته املسكرات املختلفة‪ ،‬وال يمكن إبراء دائه بدواء‪،‬‬
‫وعىل الخصوص ألن املرض قد نابه منذ سنني جمة‪ ،‬وكان هذا السكري‬
‫البايس قد أضاع حواسه وزال إدراكه‪ ،‬ولو جمع له جميع نشادر العالم‬
‫ما كان كافيًا ألن يعيده إىل نفسه‪.‬‬

‫ويف مدة زيارة ابن القمر لجاللة السلطان خرت النساء ساجدات له‪،‬‬
‫وانحنت ظهوره َّن‪ ،‬فأخرج َّ‬
‫العلمة شيئًا من الدواء املقوي الذي كان معه‪،‬‬
‫قليل‪ ،‬وملا كان قد مىض عليه بعض‬‫وسقى منه السلطان فتحرك جسمه ً‬
‫رس القوم‬
‫الساعات ولم يبد أدنى حركة تدل عىل بقائه يف قيد الحياة‪َّ ،‬‬
‫بالحركة التي بدت منه يف تلك الدقيقة وضجوا بالرصاخ عالمة الشكر‬
‫ً‬
‫وإجالل للطبيب السماوي‪.‬‬ ‫واملمنونية‬

‫وعىل اإلثر ارتد فرغوسن عن املريض‪ ،‬وأوسع فسحة بني هؤالء القوم‬
‫املزدحمني حوله‪ ،‬وسار قاصدًا منصورته‪ ،‬ألن الساعة كانت وقتئ ٍذ‬
‫السادسة بعد الظهر‪.‬‬

‫أما يوسف فكان منتظ ًرا سيده بكل طمأنينة وراحة بال عند سفح السلم‪،‬‬
‫وحوله قوم من تلك املدينة يقدمون له واجبات اإلكرام الالئق بابن القمر‪.‬‬

‫وكانت هيئته بشوشة مع عابديه املحدقني به وهو يخاطبهم بأحاديث‬


‫لطيفة؛ من جملتها ما كان يراجعه لهم بلغته اإلنكليزية قوله هذا‪:‬‬
‫اعبدوني اعبدوني يا أيها الرجال ويا أيتها السيدات ألني شيطان لطيف‬
‫رقيق الجانب وإن كنت ابنًا للقمر‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫وقد قدم له هؤالء القوم الهدايا استعطا ًفا بسمو ذاته اإللهية واستغفا ًرا‬
‫ً‬
‫معمول‬ ‫عن ذنوبهم‪ ،‬وكانت تلك الهدايا بعض سنابل من الشعري ورشا ًبا‬
‫قليل من هذا الرشاب‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬فاضط َّر يوسف إىل أن يذوق شيئًا ً‬ ‫من الشعري ً‬
‫وملا كان مما تمجه الحنجرة تأثر منه وكرش عن أسنانه لشدة مرارته‪،‬‬
‫فحسب القوم تلك الكرشة تبس ًما لطي ًفا رائ ًقا‪.‬‬

‫وكانت الشابات يرتنمن بأصواته َّن الرخيمة يف ذلك املحفل الديني‪ ،‬ومنهن‬
‫من ك َّن يرقصن أفخر رقص ٍة عنده َّن‪.‬‬
‫فقال يوسف‪ :‬ما يل أراك َّن ترقصن وأنا ال أرقص؛ فانظرن ً‬
‫إذا لتتعلمن‬
‫كيف الرقصة يف بالدنا‪.‬‬

‫وأخذ من َث ّم يرقص رقصة مضحكة‪ ،‬وهو يدور ويحوم ويه ٌّز برجليه‬
‫ويديه وركبتيه ويتلوى وينعطف ويقف برهة ويكرش عن أسنانه‪ ،‬وهكذا‬
‫أبان للقوم اإلفريقيني كيف ترقص أبناء القمر‪.‬‬
‫ً‬
‫رجال‬ ‫فما فرغ يوسف من حركاته وأطواره الغريبة َّإل نهض كثري منهم‪،‬‬
‫ونساء‪ ،‬وملا كانوا منطويني عىل التقليد بنوع غريب‪ ،‬كما يقلد السعادين‬
‫أطوار اإلنسان‪ ،‬رشعوا يف تقليد أطوار يوسف من الدورات والحركات‬
‫والتكشري عن األسنان ورأيت من َث ّم هؤالء الهمج قد هاجوا وماجوا‬
‫وعربدوا وأزبدوا‪ ،‬وفيما هم عىل تلك الحال إذ أقبل فرغوسن متجهًا‬
‫نحو منصورته‪ ،‬وكان اإلفريقيون حوله يزاحمونه صارخني وسحرتهم‬
‫ورؤساؤهم مضطربون‪ ،‬أما هو فيرسع يف مسريه وقد تعجب يوسف غاية‬
‫العجب‪ ،‬وظ َّن بنفسه عىس أن السلطان هلك من مداواة طبيبه السماوي‪،‬‬
‫وأنهم يتهددونه ليُلحِ قوه به‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أيضا كنادي اضطراب القوم وشغبهم‪ ،‬ولم يفهم السبب‪ ،‬ثم‬ ‫وشاهد ً‬
‫َّ‬
‫املرضة بشخصه‬ ‫العلمة إىل سفح السلم‪ ،‬وكان القوم ضاربني عن‬ ‫اقرتب َّ‬
‫حظا لفرغوسن؛ إذ إنه‬‫العتقا ٍد باطل ما زال يخالج ضمريهم‪ ،‬وكان ذلك ً‬
‫تمكن من البلوغ إىل السلم وبه إىل املركبة‪ ،‬واتبعه خادمه يف الحال‪.‬‬

‫فقال فرغوسن ليوسف‪ :‬هل َّم وأرسع؛ فإن الوقت قد ضاق بنا‪ ،‬وال تكرتث‬
‫بحل املرساة‪ ،‬ألن مرادي أن أقطع الحبل وأترك املرساة‪.‬‬

‫فقال يوسف وهو يتسلق املركبة‪ :‬وما الذي جرى؟‪ ...‬وما عىس ناب هؤالء‬
‫القوم؟!‬

‫ثم قال ديك‪ ،‬وهو حامل سالحه‪ ،‬متأهبًا إلطالق الرصاص إذا لزم األمر‪:‬‬
‫قل يا صاح‪ ،‬وما بال هؤالء الربابرة؟!‬

‫فقال فرغوسن لرفيقيه‪ :‬انظرا إىل األفق‪.‬‬

‫فقاال‪ :‬وما الذي هناك؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬هناك القمر‪ ،‬فأشار إىل القمر الوردي املتأللئ الظاهر يف‬
‫كبد السماء األزوردية؛ فالشك أن ذاك هو القمر املألوف‪.‬‬

‫فاحتار القوم وقالوا يف أنفسهم‪ :‬إما أنه يوجد قمران يف الديباجة الزرقاء‪،‬‬
‫وإما أن الرفاق الثالثة ما هم َّإل خداعون ومكارون‪ ،‬وليسوا بأبناء القمر‬
‫كما توهمنا‪.‬‬

‫العلمة قد تملص من أيديهم وكاد يطري يف الطبقات‬‫ولهذا ملا رأوا أن َّ‬


‫الجوية‪ ،‬رفعوا األسنة والحراب وتأهبوا ليطلقوها عىل القبة‪ ،‬فقام أحد‬
‫‪124‬‬
‫السحرة وأومأ إليهم أن ال يبدو حركة فأنزل جميعهم السالح‪ ،‬ثم تسلق‬
‫الشجرة وعزم عىل أن يمسك حبل املرساة ويجر املركبة إىل األرض‪ ،‬فمسك‬
‫يوسف يف الحال سكينًا‪ ،‬وسأل مواله‪ ،‬وقال‪ :‬هل أقطع الحبل؟‬
‫فقال فرغوسن‪ :‬انتظر ً‬
‫قليل ألني آمل حفظ املرساة‪ ،‬ومتى اضطررنا إىل‬
‫قطع الحبل فال يمنعنا مانع‪ ،‬حتى وال هذا العبد الخادع‪.‬‬

‫ويف تلك الدقيقة كان هذا الساحر يبعد األغصان التي هي حول املرساة‬
‫حال‪ ،‬وملا كانت القبة ذات قوة رافعة جذبت املرساة‬‫فتخلصت هذه ً‬
‫وجرتها إليها‪ ،‬وجرت معها العبد األسود الراكب عىل املرساة كأنه عىل‬
‫حصان ذي أجنحة‪ ،‬وطار املسكني مع املسافرين إىل الطبقات الجوية‪.‬‬

‫ً‬
‫اندهاشا ال مزيد عليه عند معاينتهم أحد سحرتهم طائ ًرا‬ ‫فاندهش القوم‬
‫يف األهوية‪.‬‬

‫وكانت القبة بقوتها الصاعدة قد ارتفعت إىل عل ٍو شاهق‪ ،‬فقال ديك‪ :‬ال‬
‫انرشاحا بتغيري الهواء‪.‬‬
‫ً‬ ‫بأس من رحلته برهة يف هذه البالد‪ ،‬ألنها توليه‬

‫فسأل الخادم سيده‪ ،‬وقال‪ :‬هل نرخي هذا األسود عىل الفور؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬حاشا؛ ليس هذا من دأبنا‪ ،‬ولكنا نقرتب من األرض بعد‬
‫برهة‪ ،‬ونضعه بكل هدوء وراحة‪ ،‬وأرى أنه بعد هذه الحادثة الغريبة‬
‫سيعظم شأنه لدى قومه‪ ،‬وتزيد قوته السحرية عندهم‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬قد بلغت علو ألف قدم‪ ،‬والعبد األسود مستمسك بحبل‬
‫ً‬
‫استمساكا شديدًا‪ ،‬وعيناه شاخصتان باملركبة وهو ساكت ولهان‪.‬‬ ‫املرساة‬

‫‪125‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وملا ابتعدت القبة عن املدينة خفف َّ‬


‫العلمة حرارة القصبة‪ ،‬ودنا من‬
‫األرض‪ ،‬فلما رأى الساحر نفسه قريبًا انتهز الفرصة فرمى بنفسه من‬
‫علو عرشين قد ًما‪َّ ،‬‬
‫وول األدبار قاصدًا مدينة كازه‪ ،‬فخف حينئذ ثقله عن‬
‫املركبة وارتفعت ً‬
‫حال إىل الجو‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫الفصل الرابع عرش‬
‫يف العاصفة الشديدة والنجاة منها ويف أرض بالد القمر األريضة‬
‫ومستقبلها‬

‫‪127‬‬
‫فقال يوسف‪ :‬هوذا؛ قد تبنينا للقمر بال استئذانه فنابنا ما نابنا‪ ،‬وكدنا‬
‫نقع بني أيدي الربابرة ونذهب فريسة لتوحشهم‪ ،‬ولكن لم تقل لنا يا‬
‫موالي؛ هل لم تحسن تطبيبك لجاللة السلطان فخف مقام القمر عندهم؟‬
‫أيضا ديك َّ‬
‫العلمة وقال‪ :‬هات!‪ ...‬أخربنا عن ذلك السلطان الجليل‬ ‫وسأل ً‬
‫الشأن!‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن السلطان رجل نشوان‪ ،‬سيوصله سكره إىل دركات املنية‬
‫بعد برهة وجيزة‪ ،‬وال يتأسف أحد عىل فقده‪ ،‬أما ما ينتج مما جرى إنما‬
‫هو أن كل مجد زمني زائل ال يلزم اإلنسان أن يلتصق به أس ًفا عليه‪.‬‬
‫ً‬
‫وتبجيل فائقي‬ ‫ً‬
‫إجالل‬ ‫فقال يوسف‪ :‬كان ذا أمر يوافقني؛ فإني قد نلت‬
‫الحد‪ ،‬وأصبحت إلهًا عىل خاطري فحسدني القمر عىل ذلك‪ ،‬وظهر ً‬
‫حال يف‬
‫األفق ملو ًنا باألحمر‪ ،‬وهذا مما يدل عىل أنه قد ساءه صنيعنا‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وفيما هم يتناقلون هذه األحاديث إذ شاهدوا عن بع ٍد سحبًا وضبا ًبا‬


‫بعضا‪ ،‬وهو مقبل من الشمال‪ ،‬ثم عصفت‬ ‫كثي ًفا‪ ،‬يرتاكم ويزاحم بعضه ً‬
‫ريح فدفعت القبة إىل ما بني الشمال والرشق‪ ،‬أما الديباجة الزرقاء التي‬
‫فوق املركبة فكانت رائقة ال سحاب فيها وال ضباب‪َّ ،‬إل أن الجو كان‬
‫ليل‪ ،‬وصل املسافرون إىل درجة ‪40‬‬ ‫ثقيل جدًا‪
.‬ونحو الساعة الثامنة ً‬
‫ً‬
‫عرضا وملا كانت الريح متأهبة للعاصفة كانت تدفعهم‬‫ً‬ ‫ْ‪ً 32‬‬
‫طول و ‪4ْ 17‬‬
‫ميل يف الساعة فمروا فوق صحاري أمفوتو األريضة‬ ‫مسافة ‪ 30‬إىل ‪ً 35‬‬
‫ً‬
‫مدهشا يعجب األبصار‪.‬‬ ‫ذات الحضار والنضار‪ ،‬وكان منظرها‬

‫قال فرغوسن‪ :‬هوذا؛ نحن يف أواسط بالد القمر‪ ،‬وقد دعيت هذه البالد‬
‫باسم بالد القمر من األزمنة القديمة لقدمية عهد عبادة القمر فيها‪.‬‬
‫لعمري؛ إنها ألرض رائعة الجمال‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬قلما يشاهد يف العالم أرض ذات نضارة وخصب شبيهة بها‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬لو كان ذلك حول لَنْ َد َر َة ما كان طبيعيًا‪ ،‬غري أن القلوب‬
‫لهامت به وراقت ملشاهدته األبصار‪ ،‬ولكن يا للعجب؛ ملاذا هذا الريعان قد‬
‫جعل يف بالد يسكنها األقوام الربابرة‪ ،‬والوحوش الكارسة؟!‬

‫هل يأتي يوم وتصبح هذه البالد مرك ًزا‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬ومن يعلم َّ‬
‫للتمدن؟‪ ...‬ألنه عندما تكل األرايض اإلفرنجية عن أن تنبت لسكانها زرعًا‬
‫وتفرغ منها وسائط املعيشة‪ ،‬لربما يهجرونها ويقصدون هذه املحالت‬
‫ويجعلونها سكنًا لهم‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وهل تصدق يف قولك هذا‪.‬‬


‫‪130‬‬
‫الخل العزيز؛ أال ترى جريان الحوادث‬ ‫ّ‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬بال شك أيها‬
‫يف العالم منذ ابتدائه إىل اآلن‪ ،‬فإنك إذا اتبعت عىل ممر األجيال مسري‬
‫الشعوب ومعيشتهم ورحيلهم من بالد إىل بالد توصلت إىل نتيجتي‬
‫أول يف املرشق التي كانت مهد الجنس البرشي؛ فإنها قد‬ ‫نفسها؛ تأمل ً‬
‫لبثت مدة أربعة آالف سنة تنمي زرعًا وتنبت نبا ًتا كافيًا ألعواز سكانها‬
‫جميعًا‪ ،‬وملا شاخت وفسدت أكثر أراضيها أخذت األقوام يف االنتزاح عنها‪،‬‬
‫ً‬
‫متهافتة إىل بالد املغرب التي كانت تزهو وقتئ ٍذ بجمال الصبوة‪،‬‬ ‫واندفقت‬
‫وما زالت هذه يف دورها تكفي سكانها مدة ألفي سنة حتى أخذ خصبها‬
‫يف الخمول‪ ،‬وبدأت تنقص قوتها النامية يو ًما فيو ًما‪ ،‬وصارت األمراض‬
‫تبيل محصوالتها وزرعها يف كل سنة‪ ،‬وكأنك بها إنسان قد ذهبت أيام‬
‫صبوته فشاخ وهرم ووهنت قواه الحيوية‪ ،‬وفسد منه الدم يف العروق‪،‬‬
‫ولذاكم السبب جعلت اآلن األقوام اإلفرنجية تهجر بالدها‪ ،‬وتتهافت‬
‫مندفقة إىل البالد األمريكانية لريضع من حليبها املخصب‪ ،‬وال يحسب َّن‬
‫أحد أن ينابيعها غري قابلة النشف بل سيأتي يوم وتنفد كنوزها‪ ،‬وتطعن‬
‫يف السن وتزول أحراشها وغاباتها بفوس الصناعة‪ ،‬وتضعف األرايض‬
‫التي أنبتت زرعًا كثريًا‪ ،‬فحينئ ٍذ تتجه األلحاظ نحو البالد اإلفريقية‪،‬‬
‫ويتهافت الناس القتطاف أثمار كنوزها التي ما زالت تحتشد فيها من‬
‫قديم األزمنة‪ ،‬ويتعودن مناخ إقليمها يف مدة قليلة‪ ،‬وستصبح هذه البالد‬
‫التي نحوم عليها اآلن أكثر ريعا ًنا من غريها‪ ،‬وتقوم فيها املمالك العظيمة‪،‬‬
‫وفيها تكتشف االكتشافات الغريبة التي تفوق لربما النجار والكهربائية‬
‫ً‬
‫ودهشة‪.‬‬ ‫عجبًا‬

‫فقال يوسف‪ :‬سيدي حبذا لو رأيت ذلك!‬

‫‪131‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫مهل ً‬
‫مهل يا يوسف فقد ابتكرت يف رغبتك‪.‬‬ ‫فقال فرغسن‪ً :‬‬

‫قال ديك‪ :‬وقد بان يل أن الجيل الذي فيه تقتني الصناعة جميع الكنوز‬
‫جيل سيئًا‪ ،‬وعندي أنه ال تلذ فيه املعيشة‪ ،‬ألن الناس‬ ‫األرضية سيكون ً‬
‫لكثرة ما يخرتعون من اآلالت واألدوات املجنسة سيكون مصريهم أن‬
‫ُيبْتَلَعوا منها‪ ،‬وقد خال ببايل دائ ًما أن اليوم األخري يكون اليوم الذي فيه‬
‫يسخن الناس ماعو ًنا عظي ًما بنا ٍر تعادل قوتها قوة ثالثة مليارات من‬
‫ً‬
‫متشتتة‬ ‫حرارة الهواء‪ ،‬فتتأثر كرتنا من هذه القوة النارية العجيبة‪ ،‬وتطري‬
‫يف الفضاء الفسيح‪ ،‬وتذهب كالهباء املنثور‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ويكون األمريكان لم يتقاعدوا عن االهتمام يف اخرتاع مثل‬


‫تلك اآللة‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬نعم؛ إن األمريكان قوم يحبون شغل املواعني‪ ،‬أعني بذلك‬
‫اخرتاع اآلالت‪ ،‬ولكن مالنا ولهذه األحاديث علينا أن نتأمل بمناظر هذه‬
‫األرض البهية حيث أوتينا مشاهدتها‪.‬‬

‫فكانت أشعة الشمس األخرية تتألأل يف تلك األرايض املزينة باألشجار‬


‫الباسقة‪ ،‬والحشائش والخضار الجميلة الشاهقة املثمرة ثم ًرا عجيبًا‪،‬‬
‫ولم تخل الغاب واألحراش من فضاء فسيح يف وسطها؛ فكان مبينًا فيها‬
‫بعض القرى‪ ،‬وحولها اآلجام والسياجات العظيمة‪.‬‬

‫ثم شاهدوا نهر امللغزاري الذي يصطب ببحرية تنغانيكا وهو ينثني بني‬
‫الخضار‪ ،‬ويتناول املجاري الكثرية املتجمعة يف األرايض الخزفية وقت‬
‫فيضان املياه‪ ،‬أما الطائرون يف العال فكانوا يشاهدونها كنسيج شالالت‬
‫‪132‬‬
‫ملقاة عىل الجهة الغربية من تلك البقعة‪.‬‬

‫ثم شاهدوا املوايش السمان ترعى يف الغياض األريضة‪ ،‬وتتواري بني‬


‫الحشائش املنتصبة‪ ،‬أما األحراش فرتاءت كباقة زهر تحتمي فيها األسد‬
‫والضباع والنمورة ليأمنوا فيها من رش حرارة النهار‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬ما أحىل هذه البالد للصيد!‪ ...‬فإن رصاصة واحدة إذا أطلقت‬
‫عىل الخرية أصابت طريدة جديرة بها؛ فيا ترى َّ‬
‫هل يمكننا أن نمتحن‬
‫األمر؟‬
‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫كل أيها الخليل؛ فإن الليل يتهددنا بالعاصفة‪ ،‬والعواصف‬
‫شديدة يف هذه البالد‪ ،‬ألن أرضها املسخنة بنريان الشمس تشبه املدافع‬
‫الكهربائية‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬تكلمت يف الصواب أيها املوىل‪ ،‬ألن الح ّر متزايد والهواء فاسد‪،‬‬
‫وكل منا يحس بقرب حدوث يشء خارق العادة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن الج ّو محمل بالكهربائية‪ ،‬وكل ذات حية تشعر بحالة‬
‫الهواء السابقة تناقض العنارص‪ ،‬وأقر معرت ًفا بأني لم أتأثر قط من ذلك‬
‫مثل هذه املرة‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬حيث األمر كذلك؛ أال يوافقنا النزول إىل األرض؟‬

‫أحب إىل الصعود من النزول‪ ،‬وال أخىش سوى أن يدفعني‬


‫فقال فرغوسن‪ُّ :‬‬
‫إىل خارج طريقي تصلب املهبات الجوية‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أتريد أن تسري إىل جهة غري التي رسنا إليها حتى األن؟‬

‫‪133‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إذا استطعت فإني أتجه ذات الشمال مدة سبع إىل ثماني‬
‫درجات لعيل أرتقي إىل عروض ينابيع النيل املوهومة‪ ،‬وأشاهد هنالك‬
‫بعض آثار لرحلة القبطان أسبيك‪ ،‬أو لقافلة دي هلكني‪ ،‬وهوذا؛ نحن اآلن‬
‫يف الدرجة ْ‪ً 32ْ 40‬‬
‫طول‪ ،‬وأرغب يف أن أقفو أثر خط االستواء باستقامة‪.‬‬

‫فقاطعه ديك يف الكالم‪ ،‬وقال له‪ :‬انظر إىل هؤالء الربانق؛ كيف تتسلق‬
‫األرض لتخرج من البحريات‪ ،‬وهؤالء التماسيح التي تصيح ملتمسة الهواء‬
‫لتستنشقه‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬لقد ضاق تنفسها‪ ،‬ولكن أما تنظران إىل هذه الزمرة من‬
‫الحيوانات التي يزاحم بعضها ً‬
‫بعضا يف مسريها‪ ،‬لربما هي ذئاب‪ ،‬وأظن‬
‫أنها تبلغ عدد املائتني‪.‬‬

‫فإن هذه ّإل زمرة كالب وحشية باسلة ال‬‫كل يا يوسف؛ ْ‬ ‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫تخىش مصارعة السباع‪ ،‬وإذا التقى بها مسافر فيا لتعاسته؛ ألنها تمزقه‬
‫إربا يف الساعة والحال‪.‬‬

‫فقال الخادم‪ :‬وأنا ال آخذ عىل نفيس أن أضع له َّن الكمامة‪ ،‬وإذا كانت‬
‫الرشاسة من دأبه َّن فما يل ولهن؟!‬

‫ثم تكاثف الهواء‪ ،‬فأصبح الرفيق ال يسمع صوت رفيقه‪ ،‬واختبأت الطيور‬
‫يف األشجار ودلت الطبيعة كلها عىل أنه عن قريب ستغمر األرض بمياه‬
‫أمطار وابلة‪.‬‬

‫ويف الساعة التاسعة مساء حامت املنصورة فوق ضيع قطر مسنة‪ ،‬وكانت‬
‫بالكاد تمتاز للبرص لتكاثف الظالم‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫فقال ديك وهو يستنشق بملء رئتيه من ذلك الهواء املرتاخي‪ :‬وما هذه‬
‫الحال؛ فإني أوشك أن أختنق؟!‪ ...‬والباين أننا ال نتحرك يف هذا الفضاء؛‬
‫َّ‬
‫هل يوافق نزولنا إىل األرض؟!‬

‫فقال فرغوسن‪ ،‬وهو يف اضطراب‪ :‬أال تبايل بالعاصفة املقبلة؟!‬

‫قال ديك‪ :‬إذا كنت تخىش أن يدفعك عصف الرياح‪ ،‬فال حيلة لك َّإل النزول‬
‫وتطمنئ هناك من كل غائلة‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬وربما ال تبدو العاصفة يف هذه الليلة‪ ،‬ألن السحب عالية‬
‫جدًا‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وهذا األمر مما يجعلني أرتاب يف االرتقاء إىل فوقها؛ حيث‬
‫يلزمنا الصعود إىل علو شاهق جدًا‪ ،‬وال نعود نعرف ليلتنا كلها؛ إذا كنا‬
‫سائرين أم واقفني‪.‬‬

‫قال ديك‪َ :‬بدَا ِر أن تبت رأيك اآلن لئال يفوتك األوان‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬لسوء حظنا سقط الهواء‪ ،‬ولوال ذلك لكان دفعنا بعيدًا عن‬
‫مق ّر العاصفة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن ذا مما يوجب الكدر؛ فإن السحب هي لنا ذات خطر‬
‫مبني؛ حيث إنها حاوية مجاري متضادة‪ ،‬قابلة أن تدمجنا يف هبائها‪،‬‬
‫وبرو ًقا نارية نخىش منها أن تحرقنا‪ ،‬ثم إذا نزلنا إىل األرض وربطنا‬
‫املرساة يف رأس شجرة فإن هبة واحدة من الريح العاصفة ترمينا إىل‬
‫األرض وتوهن قوانا وقوة منصورتنا‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬وما العمل ً‬


‫إذا‪ ،‬وما الحيلة؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬عندي أن نبقى يف طبقة وسطى بني ويالت األرض وأخطار‬
‫السماء‪ ،‬لبينما يفرجها املوىل ويفتح لنا باب الرحمة وله الحمد فإن عندنا‬
‫ماء غزي ًرا إلرضام نار القصبة‪ ،‬وثالثة وثالثني ً‬
‫رطل من ثقل الرمل نلقي‬
‫منه عند الحاجة‪.‬‬

‫فقال الصياد‪ :‬ونسهر معك يف هذه الليلة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال حاجة إىل ذلك يا خلييلَّ‪ ،‬بل ضعا زادنا يف الحمى وناما‬
‫بسالم‪ ،‬وإذا مست الحاجة أوقظكما ً‬
‫حال‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ولكن أال يوافق أن تنام أنت ً‬


‫أيضا؛ إذ ليس ما يتهددنا اآلن؟‬

‫أحب السهاد‪ ،‬ونحن اآلن غري متحركني‪،‬‬ ‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬


‫كل يا يوسف؛ فإني ُّ‬
‫وإذا لم يحدث يشء فنبقى غدًا يف املحل نفسه الذي نحن فيه‪.‬‬

‫فتدثر ديك ويوسف باللحاف وتمددا يف املركبة ورقدا‪ ،‬ومكث فرغوسن‬


‫وحده ساه ًرا يف السماء الوسيعة‪.‬‬

‫ثم أخذت الغيوم بالنزول رويدًا رويدًا‪ ،‬وتكاثفت الظلمات وتراكمت؛‬


‫بعضها فوق بعض‪ ،‬وأحاطت السوداء كدائر ٍة حول الكرة األرضية كأنها‬
‫مزمعة أن تسحقها‪.‬‬

‫وعىل اإلثر أضاء برق رسيع يف ذلك الظالم‪ ،‬ولم ينته من ملعانه َّإل قصف‬
‫الرعد ودوى صوته يف أعماق السماء‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫قال فرغوسن‪ :‬هيا بنا يا رفاق؛ انهضا!‬

‫فللحال نهض ديك ويوسف من قوة قصف الرعد الذي ردفه صوت‬
‫فرغوسن‪ ،‬ووقفا ينتظران أوامر َّ‬
‫العلمة‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وهل ننزل؟‬


‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫كل؛ فإننا ال نطيق النزول‪ ،‬ولكن هيا بنا أن نصعد إىل‬
‫العالء‪ ،‬قبل أن تتحول هذه السحب إىل مياه‪ ،‬وتعصف زوابع الرياح‪.‬‬

‫ثم أرضم نار القصبة بقو ٍة وأخذت املنصورة يف االرتفاع‪.‬‬

‫أما العواصف يف تلك البالد فإنها تمتد رسيعًا وتشتد كثريًا‪ ،‬وما مضت‬
‫برهة َّإل أومض الربق وملع يف الغيوم‪ ،‬ثم ارتدفه عرشون بر ًقا آخر حتى‬
‫أمست السماء مخططة برش ٍر كهربائية‪ ،‬أخذت يف التساقط مع األمطار‬
‫الوابلة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬قد تأخرنا يف تنفيذ مرامنا‪ ،‬وينبغي علينا اآلن املرور‬
‫بمنطقة نارية بقبتنا املفعمة هوا ًء قابل االشتعال‪.‬‬

‫أما ديك فما زال يراجع كالمه ويقول‪ :‬علينا بالنزول‪ ..‬علينا بالنزول!‬

‫قال فرغوسن‪ :‬سواء أصعدنا أم نزلنا فال يزال خطر الصاعقة محي ًقا‬
‫حال بأغصان‬‫بنا‪ ،‬و ِز ْد عىل ذلك أننا إذا نزلنا إىل األرض تشققت قبتنا ً‬
‫األشجار‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬أرى أننا نعلو اآلن‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫طالع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طالع‬
‫ِ‬ ‫قال فرغوسن‪:‬‬

‫وملعان كاألسنة يف القتال‪ ،‬والرعد‬


‫ٍ‬ ‫وما برحت الربوق املتتابعة يف وميض‬
‫يف قصيف وعجيج‪ ،‬وشوهدت السماء كأنها شعلة نارية ماججة اللهيب‬
‫والريح تهب هبو ًبا شديدًا يف دامس الظالم‪ ،‬وتلوي لها السحب املستنرية‬
‫بالربوق وكأن آلة نارية عاملة من العالء عىل إرضام النار ونرشها‪.‬‬
‫ً‬
‫محافظا عىل ق َّوة حرارة القصبة‪ ،‬والقبة تمتد وتصعد‬ ‫ومكث فرغوسن‬
‫إىل العالء‪ ،‬وكان ديك جاثيًا عىل ركبتيه وسط املركبة وهو ماسك بأطراف‬
‫الخيمة‪ ،‬لكن القبة كانت تدور دورانا يدوخ الرأس‪ ،‬وقد اضطرب‬
‫املسافرون من شدة حركتها والرياح تصدم القبة وتجورها يف بعض‬
‫ً‬
‫ضغطا عظي ًما‪ ،‬ثم أخذ الربد يف الهطالن‪ ،‬وأتبعه ضجة‬ ‫األماكن فتنضغط‬
‫ولغط‪ ،‬وأما القبة فما انفكت تسري مرتفعة وحولها تدور الربوق بخطوطٍ‬
‫نارية يالقي بعضها ً‬
‫بعضا‪.‬‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬يف حفظ الله تعاىل؛ هانحن أوالء بني يديه‪ ،‬فليفعل بنا ما‬
‫يشاء‪ ،‬ومنه وحده نرجو نجاتنا من تهلكنا‪ ،‬وعلينا يا صاحبي أن نكون‬
‫عىل حذ ٍر من كل طارق ٍة وبلية‪ ،‬وربما تحرتق قبتنا فال يكون سقوطنا إىل‬
‫األرض رسيعًا جدًا‪.‬‬

‫فيكاد يبلغ صوت فرغوسن آذان الرفيقني‪ ،‬لكنهما كانا يشاهدانه يف‬
‫صفاء وهدء تامني وسط الربوق‪ ،‬وعيناه شاخصتان بأجيج النريان‬
‫املحيقة بقبته‪.‬‬

‫وما انفكت القبة تدور وترتقي إىل فوق‪ ،‬فمضت ربع ساعة وإذا بها قد‬
‫‪138‬‬
‫تجاوزت حدود منطقة السحب‪ ،‬وأخذ املسافرون حينئ ٍذ يف مراقبة تلك‬
‫األشعة الكهربائية تحتهم كإكليل ناري يتوج السحب‪ ،‬وكأن ذلك اإلكليل‬
‫مركوز يف أسفل املركبة‪ ،‬وكان هذا املنظر من أجمل املناظر الطبيعية التي‬
‫يشاهدها اإلنسان؛ ألن العاصفة أسفل والسماء أعىل مرصعة بالنجوم‬
‫والكواكب‪ ،‬وهي صافية ال غيم فيها‪ ،‬والقمر يلقي أشعته عىل تلك الغيوم‬
‫املضطربة‪.‬‬

‫فتطلع فرغوسن يف البارومرت ورأى أنهم يف علو اثني عرش ألف قدم عن‬
‫األرض‪ ،‬ونظر إىل الساعة فكانت الحادية عرشة ً‬
‫ليل‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬شك ًرا ملوالنا؛ فقد زال عنا الخطر وبلغنا منانا‪ ،‬وينبغي علينا أن‬
‫نحافظ برهة عىل هذا العلو‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وياله وياله!‪ ...‬ما كانت أرهب تلك الساعة!‬

‫قال يوسف‪ :‬وقد شاهدنا هذه املرة شيئًا جديدًا يف رحلتنا‪ ،‬وإني مرسور‬
‫الخاطر ملشاهدتي العاصفة من املعايل؛ فإنه مشهد يروق للناظر‪.‬‬

‫‪139‬‬

‫الفصل الخامس عرش‬
‫يف بحر الخرضة ومصارعة الفيل والعشاء يف الربية واملبيت فيها‬

‫‪141‬‬
‫صباحا‪ ،‬تراءت الشمس من وراء األفق‪ ،‬وتبددت‬
‫ً‬ ‫وملا دخلت الساعة الرابعة‬
‫وهب يف تلك الدقيقة نسيم الصباح‪ ،‬وهو نسيم رخيم‬
‫السحب من السماء‪َّ ،‬‬
‫ينعش الفؤاد‪.‬‬

‫ثم ظهرت لديهم األرض املتأرج عرفها؛ إذ إنهم لم يحيدوا عن الناحية‬


‫التي مكثوا فيها مدى الليل كله‪ ،‬فخفف فرغوسن حرارة القصبة‪ ،‬وابتدأت‬
‫َّ‬
‫العلمة‬ ‫القبة بالنزول‪ ،‬وذلك لكي تتجه إىل الناحية الشمالية‪ ،‬فبذل‬
‫مجهوده ليجد طبقة هوائية موافقة لغرضه‪ ،‬فما نجح مسعاه‪ ،‬بل ما‬
‫برح الهواء يدفع املسافرين إىل الجهة الغربية‪ ،‬حتى أتوا عىل مرأى من‬
‫جبال القمر املشهورة‪ ،‬التي هي عىل هيئة نصف دائرة حول رأس بحرية‬
‫تنغانيكا وسلسلتها الظاهرة يف األفق الالزوردي‪ ،‬والوعرة جدًا والصعب‬
‫الصعود عليها‪ ،‬وأشبهت بحصن منيع يصد املسافرين عن املرور‪ ،‬ويف‬
‫بعض ذراها قامت ثلوج مستديمة‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬هوذا‪ ،‬نحن يف بالد لم يأتها املسافرون للفحص عنها‪،‬‬


‫وقد توغل القبطان برتون كثريًا يف الجهة الغربية‪ ،‬لكنه قط لم يتوصل‬
‫إىل هذه الجبال العظيمة‪ ،‬بل إنه أنكر وجودها خال ًفا لرأي رفيقه أسبيك‬
‫الذي أثبت وجودها‪ ،‬وزعم برتون أنها خالت يف عقل رفيقه كشبح خيايل‪،‬‬
‫أما نحن اآلن فقد تأكد لنا وجودها‪ ،‬وال يعرتينا الريب بذلك‪.‬‬

‫فسأل ديك وقال‪ :‬هل نجوز هذه الجبال؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن شاء املوىل فال نفعل ذلك‪ ،‬وأؤمل وجود طبقة هوائية‬
‫يكون فيها مهب ريح تدفعنا إىل خط االستواء‪ ،‬وإذا لزم األمر أنتظر برهة‬
‫إىل أن تهب ريح موافقة لغريض‪ ،‬كما يفعل يف املراكب التي تلقي املرايس‬
‫يف البحار عند هبوب رياح مخالفة ملسريها‪.‬‬

‫وإذ كان يمتحن ساموئيل الطبقات الهوائية صادف ما وافق مسعاه‪،‬‬


‫فسارت القبة يف جنوبي رشقي إفريقية برسعة وسطى‪.‬‬

‫فتطلع يف البوصلة وقال‪ :‬هانحن أوالء سائرون يف الجهة املوافقة‪ ،‬ونعلو‬


‫عىل األرض بنحو مائتي قدم‪ ،‬وليس ما يصدنا عن مشاهدة األصقاع التي‬
‫نمر بها‪ ،‬وملا كان القبطان أسبيك منطل ًقا إىل اكتشاف بحرية أوكروي‬
‫سار إىل الناحية الرشقية؟ وم َّر عىل خط مستقيم فوق مدينة كازه‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وهل يطول مسرينا هكذا؟‬


‫قال فرغوسن‪ :‬ربما يطول ً‬
‫قليل؛ حيث مرادنا أن نتقدم إىل جهة ينابيع‬
‫النيل‪ ،‬ولكي نبلغ الحد الذي بلغه املسافرون املقبلون من الشمال فيجب‬
‫علينا املسري مسافة ستمائة ميل ونيف‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫فقال يوسف‪َّ :‬‬
‫وهل ننزل إىل األرض لنحرك أقدامنا املتخدرة؟!‬

‫قال فرغوسن‪ :‬بىل‪ ،‬ومع ذلك يجب علينا توفري زادنا‪ ،‬ولكن عند نزولنا‬
‫َسيَ ْمأ َ ُننَا ديك لح ًما طريا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ها أنا ذا بني يديك يا خلييل‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ويلزمنا ً‬


‫أيضا أن نجدد زاد املاء‪ ،‬وال أعلم؛ هل تدفعنا الريح‬
‫إىل أصقاع قاحلة‪ ،‬وبناء عليه يلزمنا أن نأخذ احتياطنا من ذلك القبيل‪.‬‬

‫ً‬
‫عرضا‪ ،‬وقد‬ ‫وعند الظهر حامت املنصورة يف درجة ْ‪ً 29ْ 15‬‬
‫طول‪3ْ 15ْ ،‬‬
‫اجتازت بقرية أيوفو‪ ،‬وهي حد أونيام وازي الشمايل‪ ،‬بعد مرورها عىل‬
‫بحرية أوكروي‪.‬‬

‫أما األقوام القريبة من خط االستواء فتفوق تمد ًنا عىل غريها من أواسط‬
‫إفريقية‪ ،‬ويتوالها ملوك ذوو سلطة مطلقة؛ فيجورون عىل رعيتم‪،‬‬
‫ويبغون بغيًا عظي ًما‪ ،‬واإلقليم الذي تكثر فيه السكان املتآلفون بعضهم‬
‫مع بعض هو اإلقليم املعروف بقراغوا‪.‬‬

‫فاجتمع رأي املسافرين الثالثة عىل أن ينزلوا إىل األرض يف أول محلة‬
‫مناسبة لغرضهم‪ ،‬وكان مرادهم أن يمكثوا عليها برهة طويلة‪ ،‬ثم نظر‬
‫فرغوسن إىل القبة وجمع أطرافها لريى إذا كان اعرتاها يشء من الخلل‪،‬‬
‫العلمة حرارة القصبة‪ ،‬وبعده تدلت املرايس‪ ،‬فأخذت تجر عىل‬ ‫فخف َّ‬
‫حشائش كثيفة مساوية السطح يبلغ علوها نحو سبعة إىل ثمانية أقدام‪.‬‬

‫ولم تكن تلوي تلك الخضار ملرور املركبة فوقها‪ ،‬وال تتخللها حجارة وال‬

‫‪145‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أشجار‪ ،‬بل إنها كبح ٍر عرموم ال هادية فيه‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬أرى أننا نسري كثريًا يف هذا املرج الفسيح‪ ،‬ألني ال أرى شجرة‬
‫يمكن أن نتعلّق بها‪ ،‬وأظن أنه قد قامت دون الصيد موانع ومصاعب‬
‫كثرية يف هذه األماكن‪.‬‬
‫مهل يا ديك ً‬
‫مهل؛ أال ترى أنك ال تستطيع الصيد بني‬ ‫فقال فرغوسن‪ً :‬‬
‫خضا ٍر تعلو قامتك؛ فإننا عن قريب نصل إىل مكان يوافقنا‪.‬‬

‫مهب‬
‫ُّ‬ ‫ويف الحقيقة كان مسريهم الهوينا يف ذلك البحر املخرض املفلقه‬
‫رس الخاطر‪ ،‬وقد أتى اسم املركبة طبق‬ ‫النسيم مما يطرب الفؤاد وي ّ‬
‫املسمى‪ ،‬ألنك كنت تراها كأنها تشق األمواج والطيور ذات األلوان البهية‪،‬‬
‫تتطاير أحيا ًنا من تلك الخضار مناغية بأصواتها الشجية يف تلك الروضة‬
‫خطا شبيهًا بالخط الذي ترسمه‬ ‫الزهية‪ ،‬وقد خطت املرايس املتدلية ً‬
‫السفينة يف البحار‪.‬‬

‫وفيما هم سائرون هكذا إذ صدمت القبة شيئًا انتفضت منه‪ ،‬فظن‬


‫املسافرون أن املرساة تعلّقت بإحدى الصخور املتوازية بني تلك الخضار‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬قد تعلّقنا يا موالي‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬عليك بإلقاء السلم‪.‬‬

‫فما تفوه بهذا الكالم َّإل ضجَّ رصاخ حا ّد يف ذلك الفضاء‪ ،‬فاندهش‬
‫املسافرون من ذلك‪ ،‬ورفع جميعهم صو ًتا واحدًا قائلني‪ :‬وما هذا؟!‬

‫فقال واحد‪ :‬هذا صوت غريب‪.‬‬


‫‪146‬‬
‫وقال آخر‪ :‬العجب العجاب؛ إننا سائرون!‬

‫وقال آخر‪ :‬قد انحلت املرساة‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬وهو ماسك بالحبل يحاول جره‪ :‬الباين أنها مستمسكة‬
‫جيدًا‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬ويحك؛ وهل يسري بنا الصخر؟!‬


‫ً‬
‫مستطيل ومتلو ًيا فوق‬ ‫فما مضت برهة ّإل شاهد املسافرون شيئًا‬
‫الخرضة‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬ال ريب يف أنها حية رقطاء تميش بنا‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬أهي حية ‪ ..‬ودك سالحه متأهبًا إلطالق الرصاص عليها‪.‬‬
‫قال فرغوسن‪َّ :‬‬
‫كل‪ ،‬ولم تصيبا يا خلييل؛ فما هذا ّإل خرطوم فيل‪ ،‬والفيل‬
‫هو الذي يجرنا‪.‬‬

‫فتأهب الرفيقان واستعدا إلطالق الرصاص عليه‪.‬‬


‫فقال فرغوسن‪ :‬اصربا ً‬
‫قليل؛ فإن ينطلق بنا إىل ناحية موافقة لنا‪.‬‬

‫وبعد أن سار الفيل يف ذلك البحر األخرض‪ ،‬تراءى ألعينهم يف بقعة خالية‬
‫من الخطوة بأكثر جالء‪ ،‬ومن قامته الشامخة العلو علم فرغوسن أنه ذكر‬
‫ً‬
‫بياضا ذوا انثناء لطيف‪ ،‬ويمكن‬ ‫من طائفة حسنة جدًا‪ ،‬وله نابان يلمعان‬
‫أن طولهما يبلغ ثمانية أقدام‪ ،‬ثم برصوا باملرساة فرأوا أن أطرافها تعلّقت‬
‫بنابيه وتمكنت بهما‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فما برح الفيل يسعى ويحاول التملص منها فذهب سعيه هد ًرا‪.‬‬
‫فقال يوسف وقلبه طافح بالرسور‪ :‬هيا بنا هيا يا ً‬
‫فيل أمينًا؛ فقد تنوعت‬
‫كثريًا هيئة سفرنا يف هذه البالد‪ ،‬إذ أخذ فيل يج ُّر مركبتنا كما تجر أحيا ًنا‬
‫السفن بعضها ً‬
‫بعضا‪ ،‬و ِن ْعم السفر عىل هذا النحو‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وإىل أين ينطلق بنا‪« ،‬وكان سالحه بيده»‪ ،‬وقد عيل صربه من‬
‫انتظار أمر فرغوسن إلطالق الرصاص»‪.‬‬
‫قال فرغوسن‪ :‬اعتصم ً‬
‫قليل بحبل الصرب يا خلييل؛ ألننا منطلقون إىل‬
‫جهة حسنة‪.‬‬

‫أما يوسف فما زال يحث الفيل بكل أنواع األلفاظ والعبارات اللطيفة‪،‬‬
‫وحو هيا يا هجني الرباري اإلفريقية‪ ،‬رس بنا رس‬
‫ويرصخ بأعىل صوته‪ُ :‬ح ُ‬
‫بنا إىل قدام‪.‬‬

‫ثم ابتدأ الفيل يف العدو الرسيع‪ ،‬وهو يلوي خرطومه ذات اليمني وذات‬
‫الشمال‪ ،‬ويف أثناء قفزه كانت تهتز القبة هزة شديدة‪ ،‬فهيأ َّ‬
‫العلمة فأسا‬
‫ليقطع الحبال املعلّقة عليه املرساة إذا ألجأته إىل ذلك الرضورة‪.‬‬

‫لكنه قال‪ :‬ال أرغب يف أن أعتقه َّإل وقت الضيق‪.‬‬

‫فدامت تلك الغارة نحو ساعة ونصف‪ ،‬والفيل ال يحس بتعب وال كد‪ ،‬وقد‬
‫قيل عن هذه الحيوانات ذات الخرطوم إنها تعدو عد ًوا بلي ًغا‪ ،‬ومن يوم إىل‬
‫يوم تشاهد يف أمكنة بعيدة بعضها عن بعض‪ ،‬بمسافات شاسعة‪ ،‬وتشبه‬
‫كثريًا بحيتان البحر العظيمة بجسمها ورسعة عدوانها‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫فقال يوسف‪ :‬يف الحقيقة ما صنيعنا َّإل ويشبه صنيع صيادي الحيتان‬
‫ألننا أدلينا الخطاف فتعلّق به الفيل كما تتعلّق الحيتان بخطاطيف‬
‫صياديها‪.‬‬

‫أما فرغوسن فاضط َّر إىل أن يغري مسريه‪ ،‬وينفك من قائده ملا تراءى أمامه‬
‫يف شمايل املرج من تغيري هيئة تلك األرايض؛ إذ شاهد عن بعد ثالثة أميال‬
‫حرشا فيه األشجار املتكاثفة‪ ،‬فأوعز إىل خليله ديك ً‬
‫قائل‪ :‬دونك والفيل؛‬ ‫ً‬
‫فإنه يجب علينا توقيفه عن مسريه‪ ،‬فرفع ديك سالحه وأطلق الرصاص‪،‬‬
‫وملا كان يف مركز ال يتمكن به من تحكيم طلقته أصابت الرصاصة رأس‬
‫الفيل فانبسطت عىل جلده لكنه لم ينزعج من تلك اللطمة بل عندما طرق‬
‫آذانه دوي تلك الرضبة رمع يف سريه‪ ،‬وأخذ يعدو عد ًوا شبيهًا بسباق‬
‫الخيل‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وياله؛ فإن الرصاص لم يؤثر يف رأسه!‬

‫قال يوسف‪ :‬إن رأسه ألصلب من الصخر‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ومرادي أن أطلق الرصاصة عىل كتفه‪ ،‬ثم دك سالحه وأورى‬
‫الزناد فصاح الفيل بصوت هائل وما برح يعدو‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬سيدي ديك يلزمني أن آتي بأيدك‪َّ ،‬‬


‫وإل ال ينتهي العارض‪،‬‬
‫َّ‬
‫فدك سالحه وأطلقا كالهما رصاصتني فأصابتا جوانب البهيم‪.‬‬

‫فعند ذلك وقف الفيل برهة ورفع خرطومه ثم عاد إىل جريه يهز برأسه‪،‬‬
‫ودمه يسيل من جراحه سيال ًنا واف ًرا‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فقال يوسف‪ :‬علينا أن نجعل نا ًرا دائمة‪.‬‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬ونا ًرا مستعرة اللهيب‪ ،‬ألننا ال نبعد عن الغابة أكثر من‬
‫ستني ذراعًا‪ ،‬فأوقدوا النار الدائمة فقفز الفيل قفزة هائلة ارتجت لها‬
‫ارتجاجا عظي ًما حتى أوشكت أن تت َّمزق قطعًا ووقع الفأس حينئ ٍذ‬
‫ً‬ ‫القبة‬
‫العلمة إىل األرض فأصبح املسافرون حينئ ٍذ يف حالة مخيفة‪،‬‬ ‫من يد َّ‬
‫اضطربت لها أفئدتهم‪ ،‬ألن املرساة كانت ممكنة يف الفيل فال يمكن قطع‬
‫الحبل بالسكاكني التي كانت مع املسافرين‪ ،‬وما انفك الفيل يتقدم نحو‬
‫قليل فأصابته رصاصة فقأت عينه‬ ‫الغاب وعند دنوه منه رفع رأسه ً‬
‫فوقف ساعتئ ٍذ واضطرب‪ ،‬ثم انثنت ركبتاه وكشف جانبه إىل الصياد‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬هاك رصاصة يف قلبك يا فيل السوء ورماه برصاصة أخرية‪.‬‬

‫فزأر الفيل وزمجر وهمهم كمدًا ومنازعة ثم نهض عىل قوائمه وعقف‬
‫خرطومه فسقط بثقله كله إىل األرض‪ ،‬عىل أحد نابيه فتحطم تحطما‪،‬‬
‫وكانت تلك الساعة ساعته األخرية‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬قد تحطم نابه‪ ،‬وهو من العاج الذي َي ْس َوى يف بالدنا؛ كل‬
‫عرشين ً‬
‫رطل ‪ 35‬ذهبًا إنكليز ًيا‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ ،‬وهو نازل إىل األرض‪ ،‬وماسك الحبل يف نزوله‪ :‬فإنه غايل‬
‫الثمن عىل حسابك؟!‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وماذا ينفعك أسفك يا خلييل ديك؟!‪ ...‬هل ترى قد أتينا‬
‫لنتاجر بالعاج‪ ،‬ونلتمس الغنى واألموال يف هذه البالد؟!‪ ...‬فصمت الصياد‪.‬‬
‫‪150‬‬
‫أما يوسف فنظر إىل املرساة‪ ،‬فرآها محكمة التعليق بناب الفيل الباقي‬
‫ساملًا‪ ،‬ثم قفز َّ‬
‫العلمة وديك إىل األرض‪ ،‬ولبثت القبة املنفوخة بنصفها‬
‫مرتكزة عىل جسم الحيوان‪.‬‬

‫فعند نظر ديك إىل الفيل قال‪ :‬وما أجمله وأعظمه!‪ ...‬فإني لم أر يف بالد‬
‫الهند ً‬
‫فيل له قامة شبيهة بهذه القامة النمرودية‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال عجب يف ذلك؛ ألن الفيلة يف البالد اإلفريقية تسمو ظرافة‬
‫ً‬
‫وجمال‪ ،‬وطاملا قد سعى يف صيدها أقوام يف سواحل الجنوب‪ ،‬ولذا قد‬
‫هجروا إىل خط االستواء‪ ،‬حيث سنراهم مجتمعني برشذمات‪.‬‬
‫فقال يوسف‪ :‬أما اآلن فإني عازم عىل أن أطبخ طعا ًما ً‬
‫لذيذا مدهنًا من‬
‫هذا الحيوان‪ ،‬وأنت يا ديك اذهب واصطد ما شئت مدة ساعة أو ساعتني‪،‬‬
‫ريثما سيدي يناظر القبة ويصلح فيها ما شاء‪.‬‬
‫قال فرغوسن‪ :‬هاك أوامر مناسبة؛ فافعل ً‬
‫إذا يا يوسف ماشئت‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أما أنا فإني منطلق ألصطاد مدة الساعتني اللتني سمح يل‬
‫يوسف بهما‪.‬‬

‫حريصا وال تبتعد عنا كثريًا!‬


‫ً‬ ‫فقال فرغوسن‪ :‬انطلق يا صاحبي‪ ،‬ولكن كن‬
‫فتسلح ديك ببارودته ودخل الغاب‪ ،‬وجعل يوسف يهتم بتتميم وظيفته‪،‬‬
‫يابسا‬
‫فاحتفر يف أول األمر ثقبًا يف األرض‪ ،‬يبلغ عمقه قدمني‪ ،‬وأمأله خشبًا ً‬
‫رشا بكثرة عىل األرض‪ ،‬ومحط ًما من فيلة قد مرت من هنالك‪ ،‬كما‬ ‫كان منت ً‬
‫َّ‬
‫دل عليه آثارها‪ ،‬وبعد أن امتأل الثقب‪ ،‬ووضع فوقه حطبًا كثريًا عاليًا عن‬

‫‪151‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫األرض بنحو قدمني وأرضم فيها النار‪ ،‬ثم أقبل إىل الفيل الساقط بعيدًا‬
‫عن الغاب بنحو ثالثني ذراعًا‪ ،‬وحسم خرطومه البالغ عرضه نحو قدمني‬
‫يف مخرجه‪ ،‬ثم فصل فدرة من لحمه‪ ،‬وض َّم إليها إحدى قوائمه اللدنة‬
‫جدًا؛ فإن القوائم يف الفيل هي القطع األفخر واأللطف من جميع لحومه‬
‫كالرجل يف الدب‪ ،‬وكالرأس يف الخنزير الوحيش‪.‬‬

‫وبعد انحالل النريان يف الثقب قام يوسف بإشعال الرماد والحطب‬


‫فلف قدر اللحم بورق العشب‪،‬‬‫منه‪ ،‬فكانت الحرارة قوية وسط الثقب‪َّ ،‬‬
‫ووضعها يف عمق ذلك الثقب املتأجج حرارة‪ ،‬ثم غطاها برماد سخن‪،‬‬
‫ووضع حطبًا فوق الرماد‪ ،‬وبعدما أشعلها مد ًة رفعها‪ ،‬فوجد اللحم قد‬
‫شوي ونضج عىل أحسن أسلوب‪.‬‬

‫فأخذها وجعلها عىل أوراق خرضاء‪ ،‬ثم رتب الطعام عىل الحشيش‬
‫الرطب‪ ،‬وأحرضا الكعك والعرق والقهوة‪ ،‬ثم استقى ما ًء عذ ًبا من ساقي ٍة‬
‫كانت جارية يف تلك الخضار‪.‬‬

‫فأصبحت تلك الوليمة مما يطرب الخاطر لها‪ ،‬وظ َّن يوسف أن تناول‬
‫الطعام شأنه أن يزيد النظر بهجة ورسو ًرا‪.‬‬

‫وقد قال يف نفسه‪ :‬ما أحىل وألذ من هذه املعيشة!‪ ...‬ألننا نسافر يف أقطار‬
‫تعب وال خطر‪ ،‬ونأكل ونرشب يف األوقات الالزمة‪ ،‬فما تراه‬ ‫وسيعة بال ٍ‬
‫خائسا علينا‪ ،‬ومع هذا كله لم يكن الخواجا ديك يشاء مرافقتنا‪.‬‬
‫ً‬
‫أما َّ‬
‫العلمة فرغوسن فانشغل بفحص مدقق عن أدوات القبة الهوائية‪،‬‬
‫فرأى أنها قد قاومت ما حصل لها من الضغط مذ مدة‪ ،‬ولم يحصل لها‬
‫‪152‬‬
‫خلل من ذلك ثم قاس علو تلك األرض املقيم فيها‪ ،‬وحسب قوة القبة‬
‫الرافعة فرس لرؤيته أنها لم تفقد شيئًا من اإلدروجن‪ ،‬ونظر إىل الغطاء‬
‫الخارج فشاهد أن املادة الصمغية املدهون بها الغطاء لم يعرتِها أدنى‬
‫فساد‪ ،‬وال يمكن أن يتخلل القبة بجهة من جهاتها ال الهواء وال املاء‪.‬‬

‫ثم نظر إىل الزاد فكان غزي ًرا‪ ،‬وقد مكثوا يف رحلتهم من زنجبار إىل ذاك‬
‫العلمة إ ِ َّل إىل‬ ‫املكان مدة خمسة أيام ولم ينفد منه َّإل ما َّ‬
‫قل‪ ،‬ولم َي ْحتَج َّ‬
‫التزود باملاء من جديد‪.‬‬

‫أما األنابيب وغريها من أدوات تخفيف الحرارة ونموها فلبثت ساملة من‬
‫كل غائلة‪ ،‬ولم يرض بها قط ما حصل للقبة من االضطراب وقت ارتقائها‬
‫فوق الغيوم وامتطائها الفيل‪.‬‬

‫وبعدما فرغ من الفحص عن منصورته‪ ،‬أخذ يرسم هيئة تلك الربية‬


‫املحيطة بهم مع املرج الواسع والحرش املقابل لهم‪ ،‬ورسم ً‬
‫أيضا القبة‬
‫منتصبة عىل الفيل ذي الجثة‪.‬‬

‫ويف غضون ساعتني من الزمان أقبل ديك ومعه األحجال املدهنة وأفخاذ‬
‫بعض الحيوانات اللذيذة‪ ،‬ففوض إىل يوسف أن يشوي منها شيئًا زياد ًة‬
‫عىل ما هيأه من العشاء‪.‬‬

‫قال لهم يوسف‪ :‬هوذا العشاء حارض‪ ،‬فتفضلوا نأكل‪ ،‬ففي الحال قد‬
‫جلس ثالثتهم عىل ذلك البساط األخرض‪ ،‬وتناولوا الطعام ووجدوا لحم‬
‫ً‬
‫لذيذا جدًا وشهيًا لألكل‪ ،‬ثم رشبوا عىل ذكر األوطان‪ ،‬وأخذوا يف‬ ‫الفيل‬
‫تدخني التبغ يف تلك األرايض الزهية التي لم يسبقهم إىل التدخني فيها أحد‬

‫‪153‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قط منذ نشأتها‪.‬‬

‫وكان ديك يأكل ويرشب بفرح وطرب‪ ،‬ويتكلم كثريًا‪ ،‬وقد بلغ منه مبلغ‬
‫الثمول‪ ،‬حتى إنه عرض عىل رفيقه َّ‬
‫العلمة بج ٍد أن يبنوا لهم هنالك ً‬
‫كوخا‬
‫وأن يمضوا فيها ما بقي لهم من األيام يف الرغد والهناء‪ ،‬وعليه يعيشون‬
‫هكذا عيشة ُربنسون الشهري فيكون يوسف بمنزلة صاحبه امللقب‬
‫بوندردي «أي الجمعة»‪ .‬وملا رأى َّ‬
‫العلمة أن هذا الصقع خا ٍل من سكان‬
‫َّ‬
‫اطمأن‪ ،‬فعزم عىل أن يبيت ليلته مع رفيقيه عىل الثرى‪ ،‬فقام يوسف وهيّأ‬
‫مرتاسا من النريان حول فرشهم‪ ،‬لكي يمنع وثبات الوحوش الكارسة التي‬ ‫ً‬
‫فضل عن أنه يمكن أن رائحة لحم الفيل‬‫ً‬ ‫البد من وجودها يف تلك القفار‪،‬‬
‫بعضا من الضباع وأبناء آوى وغريها من الحيوانات‪،‬‬‫تجتذب يف تلك الليلة ً‬
‫فأطلق كنادي الرصاص مرا ًرا عليه َّن‪ ،‬ولكن مضت ليلتهم كلها دون أن‬
‫يدهمهم عارض سوء البتة‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫الفصل السادس عرش‬
‫يف ما كان من بحرية أو كاروه ومبيت املسافرين عىل جزيرة قفرة‬
‫ومشاهدتهم عيون النيل وإمضاء أندريا ديبنو‬

‫‪155‬‬
‫وملا أصبح الصباح‪ ،‬واستيقظ الرفاق من الرقاد‪ ،‬نحو الساعة الخامسة‪،‬‬
‫أخذوا يتأهبون للرحيل‪ ،‬فحطم يوسف نابي الفيل بالفأس الذي وجده‪،‬‬
‫العلمة كما ذكر وملا جلس ثالثتهم يف املركبة ولم‬‫بعد أن وقع من يد َّ‬
‫يعد يعيقها عائق‪ ،‬ارتفعت إىل ال ُع َل‪ ،‬ودفعت الريح املنصورة إىل الجهة‬
‫الشمالية الرشقية‪ ،‬فقطعت ‪ً 18‬‬
‫ميل بالساعة‪.‬‬

‫وكان قد حسب فرغوسن درجة مركزه من علو النجوم يف الليلة السالفة‬


‫عرضا تحت خط االستواء‪ ،‬أي عىل مدى منه‬ ‫ً‬ ‫فعرف أنه يف درجة ‪2ْ 40‬‬
‫بمائة وستني ً‬
‫ميل جغرافيًا‪ ،‬ثم م ُّروا بقرى عديدة غري مكرتثني بما‬
‫كانوا يسمعون من الرصاخ والضجيج املتصاعد إليهم من الذين كانوا‬
‫يشاهدونهم مارين فوق رؤوسهم‪ ،‬وأخذ فرغوسن رسم تلك األرايض‬
‫مع ما تراءى له من املناظر ثم جاز بربوات روبمهي الوعرة كرؤوس‬
‫جبل أوزاغارا وملا وصل إىل تنغا شاهد بداية ذرى سالسل كراغوه التي‬

‫‪157‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ظنها مشتقة من جبال القمر‪ ،‬وقد قرب إىل الحقيقة ما كان يقال يف‬
‫الحكايات القديمة أن هذه الجبال هي مهد لبحر النيل‪ ،‬ألنها متاخمة‬
‫لبحرية أوكاروه‪ ،‬وقد زعم كثريون أن هذه البحرية هي الجامع الذي منه‬
‫تجري مياه ذاك النهر العظيم‪.‬‬

‫ثم شاهد أخريًا فرغوسن من األفق تلك البحرية املشتهاة‪ ،‬التي برص بها‬
‫القبطان أسبيك بدون تحقيق يف اليوم الثالث من شهر آب سنة ‪1858‬م‪،‬‬
‫العلمة إليها من كافورو‪ ،‬وهي مقاطعة وسيعة لتجار تلك‬‫وكان نظر َّ‬
‫البالد‪.‬‬

‫فتحركت عند ذلك شعائر فؤاده‪ ،‬ألنه قرب إىل مركز إحدى املقاصد ذات‬
‫األهمية الجزيلة التي عانى بشأنها تلك السفرة الجوية‪ ،‬فوضع املنظرة‬
‫عىل عينيه‪ ،‬وج َّد يف التبحر فيها والتأمل بجميع نواحيها وأطرافها‪ ،‬فكانت‬
‫األرض تحت أقدامه جدباء قاحلة‪ ،‬وقلما يصادف فيها بعض الوديان‬
‫النابتة زرعًا‪.‬‬

‫وملا كانت األرض مرتفعة يف جملة أماكن رآها آخذة يف استواء سطحها‬
‫كلما قربت إىل البحرية‪ ،‬ثم بدأت ترتاءى ألعينه حقول األرز‪ ،‬ويليها حقول‬
‫الشعري وغريها من النبات التي يستقطر منه الخمر‪ ،‬ثم املواني وهو نبات‬
‫يقوم مقام القهوة‪ ،‬وهناك عاصمة كراغواه املؤلفة من نحو خمسني ً‬
‫كوخا‬
‫يغطيها القش وتحيط بها بساتني مزدانة بالزهور‪.‬‬

‫وقد برص املسافرون من منصورتهم هيئات القوم الجميلة الباهتة‬


‫الضاربة إىل اللون األصفر املسمر‪ ،‬وشاهدوا ً‬
‫أيضا النساء ذوات الجسم‬
‫الضخم املتماشية يف حقول الزراعة‪ ،‬وقد تعجب يوسف وديك ملا أعلمهما‬
‫‪158‬‬
‫فرغوسن أن سمن هؤالء النساء مسبب عن اتخاذهن اللبن قو ًتا يوميًا‬
‫له َّن‪.‬‬

‫وعند الظهر وصلت املنصورة إىل درجة ‪ 1ْ 45‬من العرض الجنوبي وعقب‬
‫مرور ساعات من الزمن دفعتها الريح إىل ما فوق البحرية‪.‬‬

‫وقد دعا القبطان أسبيك تلك البحرية باسم نيانزا فيتوريا ويف تلك الجهة‬
‫أخذ فرغوسن يقيس البحرية‪ ،‬وكانت ثمانني ألف مرت‪ ،‬وعند طرفها‬
‫الجنوبي لقي القبطان جملة جزائر فسماها جزائر البنغال‪ ،‬ثم تقدم إىل‬
‫موانزا يف الجهة الرشقية وهناك قابل السلطان فآواه باإلكرام وأضافه‬
‫ولطف‪ ،‬ودار حول زوايا البحرية الثالثة لكنه لم يتمكن من وجود‬
‫ٍ‬ ‫بلياقة‬
‫قارب واحد ليعرب به البحرية‪ ،‬ويصل إىل جزيرة أوكاروه الكربى الكثرية‬
‫السكان‪ ،‬وقد قيل عنها إنها مسودة من ثالثة سالطني‪ ،‬مع أنه لم يتحقق‬
‫عنها ّإل أنها شبه جزيرة عند انخفاض املياه املحيطة بها‪.‬‬
‫فانحازت املنصورة إىل البحرية من الجهة الشمالية عىل كره من َّ‬
‫العلمة‬
‫الراغب يف أن يجدد دائرتها عىل جهة الجنوب‪ ،‬أما سواحلها فكانت‬
‫ً‬
‫أدغال كثرية األشواك‪ ،‬وأجمات ملتف بعضها عىل بعض‪ ،‬وتغطيها‬ ‫مملوءة‬
‫ربوات من البعوض الحالة عليها‪ ،‬وهي متحمة اللون‪ ،‬وال يظن عن تلك‬
‫املحالت أنها مسكونة أو قابلة السكنى‪ ،‬وكثريًا ما كانت تتمرغ أفراس‬
‫املاء بأحراش القصب ثم تعود راكضة إىل البحرية لتتوارى يف مياهها‬
‫البيضاء‪.‬‬

‫ً‬
‫عريضا‪ ،‬ولذا يخال للناظر أنها‬ ‫أما األفق املشاهد عىل مدى البحرية فكان‬
‫بحر متسع‪ ،‬واملسافة طويلة بني الطرفني‪ ،‬فال يمكن ملن وقف عىل جهة‬

‫‪159‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أن يبرص شيئًا من الجهة املقابلة‪ ،‬سوى املاء املرتاكم‪ ،‬ولم تتألف العالقات‬
‫وخصوصا ألن األنواء والزوابع فيها شديدة وغالبة‬
‫ً‬ ‫بني سكان كليهما‪،‬‬
‫الحدوث‪ ،‬والرياح فيها عاصفة ألنها عالية ومكشوفة‪.‬‬

‫فشق عىل فرغوسن االتجاه فوق تلك البحرية‪ ،‬وكان يخىش أن تدفعه‬
‫الريح إىل الجهة الرشقية‪ ،‬ولكن وافقه الحظ‪ ،‬ودفع ذات الشمال وملا‬
‫صارت الساعة السادسة حلت املنصورة عىل جزيرة مقفرة يف درجة ‪30‬‬
‫طول‪ ،‬وهي بعيدة عن الساحل بنحو عرشين ً‬
‫ميل‬ ‫عرضا‪ً 32ْ 52 ،‬‬ ‫ً‬ ‫ْ‪1‬‬
‫إفرنجيًا‪.‬‬

‫فعلق املسافرون مرساتهم عىل شجرة‪ ،‬وملا أمىس املساء سكن الهواء‪،‬‬
‫فقضوا الليلة بالهدوء والطمأنينة‪ ،‬ويف تلك الجزيرة ال يستطيعون النزول‬
‫إىل األرض ألن الناموس والربغش تسرت األرض كسحاب متكاثف‪ ،‬وملا‬
‫نزل يوسف إىل الشجرة لتمكني املرساة ثم عاد إىل مركزه أحس بلسع‬
‫الهوام ولدغها من كل جانب‪ ،‬ولكنه لم َي ُسؤه ذلك‪ ،‬بل قال إن اللسع من‬
‫دأب تلك الهوام‪.‬‬
‫أما َّ‬
‫العلمة فرغوسن فلم يستصوب أن تفعل فيه طبيعة تلك الهوام‪ ،‬بل‬
‫رخى ما استطاع من الحبل خشية أن يتصاعد إليه يشء من تلك البعوض‬
‫البالغ إليه هديرها املخيف‪.‬‬

‫وقد عرف فرغوسن علو البحرية فوق مساواة سطح البحر‪ ،‬فكان ثالثة‬
‫آالف وسبعمائة وخمسني قد ًما كما حدده القبطان أسبيك‪.‬‬

‫فقال يوسف وهو يفرك بكفيه‪ :‬هانحن هؤالء مقيمون بجزيرة‪.‬‬


‫‪160‬‬
‫فقال الصياد‪ :‬كنا نستطيع أن نطوف حواليها يف برهة وجيزة‪ ،‬ولكن ال‬
‫يسكنها ساكن َّإل هذه الهوام اللطيفة الرقيقة الجانب‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن جزائر هذه البحرية ليست سوى آكام عالية ومغمورة يف‬
‫املياه‪ ،‬وقد أصابنا حظ بمصادفة هذا امللجأ عىل هذه الجزيرة‪ ،‬ألن سواحل‬
‫البحرية ال يسكنها َّإل أقوام برابرة فارقدا ً‬
‫إذا يا خلييل بسالم‪ ،‬ألن الليلة‬
‫رائقة‪.‬‬
‫قال ديك‪َّ :‬‬
‫وهل تحذو حذونا؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال أستطيع أن أطبق جفوني؛ فإن هواجيس تجلب يل‬
‫السهاد‪ ،‬ويجافيني النعاس من جراها‪ ،‬وأما غدا فإذا وافقتنا الرياح رسنا‬
‫إىل الشمال بخط مستقيم‪ ،‬وربما اكتشفنا الرس املكنون‪ ،‬وهو عيون النيل؛‬
‫فهل تظن أنني أرقد وأنا قريب من ينابيع هذا النهر الشهري؟!‬
‫فرقد ديك ويوسف بمحافظة رفيقهما َّ‬
‫العلمة‪ ،‬ألن االهتمامات العلمية لم‬
‫تكن تسبب لهما الهواجس واألفكار‪.‬‬

‫وملا أصبح صباح األربعاء يف ‪ 23‬نيسان‪ ،‬رفعت املنصورة مرساتها‪،‬‬


‫وكانت وقتئ ٍذ الساعة الرابعة‪ ،‬وكان غيم الظالم املحيق بالبحرية يتبدد‬
‫واض َم َح َّل غيم كثيف كان‬
‫فقليل‪ ،‬ولكن قد هبت الريح بعد برهة ْ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫قليل‬
‫مظلل مياه البحرية‪ ،‬فارتفعت املنصورة إىل املعايل واضطربت يف أول‬ ‫ً‬
‫وهلة‪ ،‬ثم اتجهت نحو الشمال‪.‬‬
‫العلمة بكفيه‪ ،‬عالمة الفرح واالبتهاج‪ ،‬ورصخ ً‬
‫قائل‪ :‬هانحن أوالء‬ ‫فصفق َّ‬
‫يف سبيل مستقيم‪ ،‬وإن شاء املوىل نشاهد اليوم عيون النيل‪ّ ،‬‬
‫وإل فال نعود‬

‫‪161‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫نراها أبدًا ونجوز اآلن بخط االستواء وندخل يف نصف الكرة الشمايل‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وهل تظن يا سيدي أن خط االستواء مار ههنا؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬نعم يا خلييل األمني‪.‬‬


‫إذا أن تأذن يل لكي أرشب عىل صحته ً‬
‫حال؛ إذ إني‬ ‫قال يوسف‪ :‬فأرجوك ً‬
‫أرى ذلك مناسبًا‪.‬‬

‫عرق إذا شئت‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫العلمة وقال‪ :‬افعل ما بدا لك وارشب كاس‬ ‫فضحك َّ‬
‫خاصا بك‪ ،‬لكنه ال يخلو من الفطنة والحكمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ولعمري؛ إن لك فنًا‬

‫وعىل هذا النسق كان احتفال مرورهم بخط نصف الكرة األرضية من‬
‫أعىل مركبتهم الهوائية‪.‬‬
‫ثم عجت الريح فأرسعت املركبة باملسري فسارت ثالثني ً‬
‫ميل بالساعة‬
‫ً‬
‫منخفضا قليل العوج‪ ،‬وسهالت أوغندا‬ ‫فشاهد املسافرون الساحل الغربي‬
‫وأزوغا املرتفعة بعض االرتفاع‪.‬‬

‫بعنف كأمواج البحر واستنتج‬ ‫ٍ‬ ‫وشاهدوا مياه البحرية الهائجة تعلو‬
‫العلمة أن البحرية عميقة جدًا من مشاهدته بعض األمواج ترتجرج مد ًة‬ ‫َّ‬
‫بعد سكون الهواء‪ ،‬فم ُّروا بتلك البحرية كلها ولم يبرصوا فيها سوى قار ًبا‬
‫أو قاربني‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال بدع أن هذه البحرية املرتفعة املركز هي الحوض الطبيعي‬
‫الذي منه تجري مياه األنهر التي يف رشقي إفريقية‪ ،‬وما تجتذبه السماء‬
‫إليها من األبخرة تغشيه باألمطار‪ ،‬وعندي أنه أمر مؤكد أن منبع النيل‬
‫‪162‬‬
‫من هذه البحرية‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وهذا ما سنحققه إن شاء الله‪.‬‬

‫وعند الساعة التاسعة اقرتب املسافرون من الجهة الغربية‪ ،‬فكانت قفرة‬


‫ومخشبة‪ ،‬ثم هبت الريح نحو الرشق فدفعت املنصورة إىل الساحل الثاني‬
‫من البحرية‪ ،‬فكان منحنيًا ويف آخره زاوية مكشوفة يف درجة ‪20ْ 40‬‬
‫من العرض الشمايل‪ ،‬ويف هذه الجهة األخرية جبال شامخة ذات رؤوس‬
‫قاحلة‪ ،‬ويخرتق هذه الجبال مضيق عميق ذو ثنيات عديدة يجري فيه‬
‫نهر مزبد املياه‪.‬‬
‫أما َّ‬
‫العلمة فكنت تراه محد ًقا نظره بتلك املحالت مع اعتنائه بإدارة‬
‫املركبة‪ ،‬وكان ً‬
‫باذل جهده َّأل يفوته يشء مما وجد بتلك النواحي‪.‬‬

‫ثم نادى رفيقيه وقال لهما‪ :‬لقد صدقت حكايات العرب املتداولة بينهم‬
‫بقولهم عن نهر منه تتحول بحرية أوكاروه إىل الشمال ألن هذا النهر‬
‫موجود بالحقيقة‪ ،‬وهانحن أوالء سائرون فوقه‪ ،‬وماؤه يجري رسيعًا‪،‬‬
‫وتحاكي رسعته رسعة منصورتنا‪ ،‬وكل نقط ٍة مما نشاهد من هذه املياه‬
‫الجارية تحت أقدامنا تسري إىل أن تصب يف البحر األبيض‪ ،‬وما هي َّإل من‬
‫مياه النيل‪.‬‬
‫فصاح ديك‪ً :‬‬
‫قائل‪ :‬هاهو ذا النيل‪ ،‬وقد شارك َّ‬
‫العلمة رفيقه بابتهاجه‬
‫وتعجبه معًا‪.‬‬

‫حي الله النيل‪ ،‬ومن عادة يوسف أن يحيي أ ًيا كان وقت‬
‫أما يوسف فقال‪َّ :‬‬
‫طربه ورسوره‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وقد قامت صخور وجالميد بني ضفتي هذا النهر الرسي فأعاقت مسري‬
‫مياهه‪ ،‬ومما حقق َّ‬
‫العلمة يف تخميناته مصادفته كثريًا من مجاري املياه‬
‫الرسيعة والشالالت املحكي عنها‪.‬‬
‫ً‬
‫سيول كثرية ال يحىص عديدها نازلة من أعىل تلك الجبال املحدقة‬ ‫وشاهد‬
‫بالنهر والساقطة فيه‪ ،‬ويف الجهة الغربية كانت تنفجر مياه السواقي‬
‫وتسري جميعها‪ ،‬ويف مسريتها تحتشد سوية وتتسابق يف الوصول إىل ذلك‬
‫النهر اآلخذ يف التعاظم والتجسم شيئًا فشيئًا‪.‬‬
‫َّ‬
‫أشط العلماء بالتفتيش‬ ‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال شك يف أن هذا هو النيل‪ ،‬ولقد‬
‫عن أصل اسمه‪ ،‬كما أشطوا باستقراء منبعه فمنهم من أصله من اللّغة‬
‫أصله من الهندية‬
‫أصله من القبطية‪ ،‬ومنهم من َّ‬‫اليونانية‪ ،‬ومنهم من َّ‬
‫القديمة(((‪ ،‬ولكن مالنا اآلن وألصل اللفظة؛ إذ قد أوتينا مشاهدة منبع‬
‫املياه‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬وكيف نؤكد أن هذا النهر ليس هو َّإل ذاك الذي شاهده‬
‫املسافرون الذين أتوا من الجهة الشمالية وأخربوا عنه؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إذا وافقنا الهواء سنجد بحوله تعاىل عما قريب براهني‬
‫ثابتة مقنعة ال را َّد لها‪.‬‬

‫بعض‪ ،‬وقامت مقامها القرى والضياع‬


‫ٍ‬ ‫ثم افرتقت الجبال بعضها عن‬
‫الكثرية والحقول املزروعة سمس ًما وذرة وقصب سكر‪ ،‬وملا مرت املنصورة‬

‫((( وقد جمع أحد العلماء البيزنتيني أرقام نيلوس عىل ما يف اللّغة اليونانية القديمة فبلغ عددها ‪365‬‬
‫يو ًما وهي عدد أيام السنة بتمامها‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫فوق سكانها هاجوا واضطربوا وأظهروا الغضب والعدوان‪ً ،‬‬
‫عوضا عن أن‬
‫يتأهبوا للعبادة؛ إذ أحسوا أن املسافرين أناس غرباء ال آلهة‪ ،‬وكأن من‬
‫قصد النيل حاول أن يرسق منهم كن ًزا مكنو ًنا أو جوهرة ثمينة‪ ،‬فاضطرت‬
‫املنصورة أن تمكث سامية االرتفاع لئال يبلغ إليها برقيل العبيد «والربقيل‬
‫آلة ُي ْر َمى بها البندق»‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ال نستطيع أن نحط يف هذه األرايض بدون خطر‪.‬‬

‫فجاوبه يوسف وقال‪ :‬إنما هم الخارسون‪ ،‬ألنهم يعدمون لذة محادثتنا‪.‬‬


‫قال فرغوسن‪ :‬البد من النزول يف هذا املكان‪ ،‬ولو ربع ساعة‪َّ ،‬‬
‫وإل فال‬
‫يمكنني أن أثبت رحلتي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وهل ال بد من ذلك؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال بد منه‪ ،‬ولو اضط ّرتنا األمور إىل املحاربة واملناضلة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬هذا مما يرسني‪ ،‬وأخذ يف مالطفة بارودته‪ ،‬وتأهب إلذخارها‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬نحن بني يديك؛ َف ُم ْر بما تشاء‪ ،‬واستعد هو ً‬


‫أيضا للمبارزة‬
‫والقتال‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال تكون هذه املرة األوىل التي استنجد فيها العلم قوة‬
‫لعلمة فرنيس‪ ،‬وهو يقيس ربع‬‫السالح‪ ،‬ألن ذا األمر جرى يف أسبانيا َّ‬
‫الدائرة األرضية‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬طمنئ روعك يا فرغوسن وثق بمحافظني ما هرين‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال يوسف‪ :‬وهل وصلنا يا سيدي؟‬


‫قال فرغوسن‪ :‬كال‪ ،‬وينبغي لنا ً‬
‫أول أن نرتفع إىل العالء لنشاهد رسم هذه‬
‫الناحية حق املشاهدة‪.‬‬

‫فامتد اإلدروجن‪ ،‬وإذا باملنصورة علت برهة عرش دقائق ألفني وخمسمائة‬
‫قدم فوق األرض‪ ،‬ومن هناك برصوا بشبكة لنهر ال يحىص عديدها‪،‬‬
‫ببعض‪ ،‬تصب مياهها يف النهر العظيم وغريه ً‬
‫أيضا كانت‬ ‫ٍ‬ ‫مختلط بعضها‬
‫تجري غر ًبا بني اآلكام الكثرية املحيقة بها الحقول املخصبة‪.‬‬

‫العلمة ينظر إىل الرسم الجغرايف قال‪ :‬لسنا ببعيدين عن‬‫وفيما كان َّ‬
‫غندوكورو تسعني ً‬
‫ميل‪ ،‬بل ال نبعد عن الحد الذي بلغه املسافرون اآلتون‬
‫بتأن واحرتاز‪.‬‬
‫إذا من األرض ٍ‬ ‫من الشمال بخمسة أميال‪ ،‬فلنقرتب ً‬

‫فهبطت املنصورة نحو ألفي قدم ونيف‪.‬‬


‫وحينئ ٍذ قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬يا رفي َق َّي كونا عىل حذر؛ فإننا ال نعلم ماذا يطرأ‬
‫علينا‪.‬‬

‫قال ديك ويوسف‪ :‬هانحن أوالء عىل حذر‪.‬‬

‫وح َس َب‬
‫فسارت املنصورة متتبعة آثار النهر وهي تعلوه نحو مائة قدم‪َ ،‬‬
‫تخمني َّ‬
‫العلمة بلغ عرض النهر يف ذلك املكان مائة مرت‪ ،‬وشاهد املسافرون‬
‫وشغب‪ ،‬ويف الدرجة‬
‫ٍ‬ ‫سكان تلك القرى الكائنة عىل ضفتيه يف اضطراب‬
‫الثانية شاللة قائمة‪ ،‬علوها عرشة أقدام‪ ،‬وال يمكن النزول بها‪.‬‬
‫العلمة‪ :‬هذي هي الشاللة التي َّ‬
‫دل عليها موسيو ديبنو‪.‬‬ ‫فقال َّ‬
‫‪166‬‬
‫وكان حوض النهر آخذا يف االمتداد رويدًا رويدًا‪ ،‬وبدأ املسافرون يشاهدون‬
‫جزائر كثرية منتصبة يف وسطه‪ ،‬أما َّ‬
‫العلمة فما زال محد ًقا بها ومشددًا‬
‫نظره إليها‪ ،‬لكنه كان كاملحتار يف أمره؛ إذ جعل يبحث عن مركز خفي‬
‫ولم يكن يقع برصه عليه‪.‬‬

‫فتقدم بعض السودان يف القارب إىل ما تحت املركبة‪ ،‬فقرأهم ديك سال ًما‬
‫جميل بإطالقه عليهم الرصاص فلم يصب أحدًا بل ألقى يف قلوبهم‬ ‫ً‬
‫الرعب والهلع‪ ،‬ولذا هرولوا راكضني إىل ضفة النهر‪.‬‬
‫فودعهم يوسف وقال‪ :‬بحفظ الله وأمنه يا َّ‬
‫خلن‪ ،‬ولو كنت مكانكم ملا‬
‫تجرأت قط عىل الرجوع إىل هنا لكنت أخاف جدًا من وحش جوي يرمي‬
‫الصواعق من العالء عىل من يشاء‪.‬‬
‫وفيما هم عىل تلك الحال إذ أمسك َّ‬
‫العلمة نظارته عىل الفور ووجه برصه‬
‫إىل جزيرة منتصبه وسط النهر‪.‬‬

‫وقال‪ :‬هاك أربع‪.‬‬

‫ويف الحقيقة كانت أشجار أربع مرتفعة يف طرف تلك الجزيرة‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬هذه جزيرة بنغا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وبعده ماذا يكون؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن شاء املوىل نزلنا هناك‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ولكن أرى أن العبيد حالون عليها‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬إن كالم يوسف طبق واقعة الحال؛ فإني أعاين نحو عرشين‬
‫ً‬
‫رجل مجتمعني يف هذه الجزيرة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وهل يعيقنا هؤالء عن إنفاذ مرغوبنا؟‪ ...‬فإننا نبدد شملهم‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬إذا حسن ذلك لَ َد ْي َك فأنا يف يدك‪.‬‬

‫وعندما اقرتبت املنصورة من الجزيرة كانت الشمس قد وصلت إىل السمت‬


‫وناهزت الغروب‪.‬‬

‫أما العبيد الذين هم من قبيلة مكادو فإذ شاهدوا القبة الهوائية ضجوا‬
‫يف الرصاخ‪ ،‬ورفع واحد منهم قلنسوته عن رأسه وجعل يهزها يف الهواء‪،‬‬
‫فاتخذها ديك هد ًفا له ورماها برصاص ٍة فسقطت من يده متفرقعة‪،‬‬
‫وذهبت شذر مذ َر فولت الشجاعة عن قلوب العبيد مدبرة‪ ،‬وخافوا من تلك‬
‫اللطمة الجوية خوفا عظي ًما‪ ،‬وللحال أرسعوا جميعًا بالنزول إىل النهر‪،‬‬
‫وجاوزوه بالسباحة‪ ،‬ومن هناك أخذوا يرضبون القبة باملجانق والجالهق‬
‫واألسنة‪ ،‬لكنها لم تصبها قط رضبة واحدة‪ ،‬ثم تعلّقت مرساة املنصورة‬
‫بثقب صخر ونزل يوسف إىل األرض يف الساعة والحال‪.‬‬

‫فقال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬انصب لنا السلم‪ ،‬وأنت يا ديك تعال معي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وإىل أين ولم؟!‬

‫ً‬
‫سوية ألنه يعوزني شاهد‪.‬‬ ‫قال‪ :‬هل َّم بنا نذهب‬

‫قال ديك‪ :‬ها أنا ذا بني يديك‪.‬‬


‫‪168‬‬
‫قال فرغوسن‪ :‬وأنت يا يوسف كن أمينًا يف حراستك‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬كن مرتاح البال من هذا القبيل‪ ،‬فإني مسؤول بالجميع‪ ،‬ثم‬
‫العلمة برفيقه إىل مجموع صخور منتصبة عند رأس الجزيرة‪،‬‬ ‫ذهب َّ‬
‫وهناك جدَّا يف الفحص والتفتيش‪ ،‬وأخذ ينبش يف اآلجام حتى تخضبت‬
‫يداه بالدم‪ ،‬ثم مسك فجأة بيد رفيقه وقال له‪ :‬انظر إىل هاهنا‪.‬‬

‫قال‪ :‬أرى حرو ًفا‪.‬‬

‫ويف الحقيقة كان حرفان منقوران يف الصخر‪ ،‬وظاهران للعيان بجالء‬


‫وبيان‪ ،‬وهما ‪A.D‬؛ أي أ‪ .‬د‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬اعلم يا رفيقي‪ ،‬رفقك الله‪ ،‬أن أ‪ .‬د‪ .‬هما أول حريف اسم‬
‫أندريا ديبنو‪ ،‬وهو من سبق جميع الذين قصدوا اكتشاف عيون النيل يف‬
‫التقدم إىل هذا املكان‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬إن ذا أمر ال ر َّد عليه‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وهل عندك إشكال يف األمر اآلن؟‬

‫قال‪ :‬إنما هذا النيل وال ريب فيه‪.‬‬

‫ثم نظر فرغوسن إىل هذين الحرفني الثمينني نظرة أخرية‪ ،‬وأخذ يرسمهما‬
‫بدقة تامة‪.‬‬

‫وبعد ذلك قال لرفيقه‪ :‬هل َّم بنا لنعود إىل قبتنا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬فلنرسع ألن بعض العبيد يتأهبون لعبور النهر‪ ،‬واإلتيان إىل‬

‫‪169‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫هذا املقر‪.‬‬
‫ً‬
‫برهة دفعتنا ذات الشمال‪،‬‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال يهمنا اآلن يشء‪ ،‬إذا دامت الريح‬
‫ونصل إىل غندوكورو ونعاين أبناء األوطان‪.‬‬

‫وما مضت عرش دقائق َّإل خفقت املنصورة بصعودها إىل األعايل‪ ،‬ثم نرش‬
‫ً‬
‫داللة عىل فوزه بالنجاح‪.‬‬ ‫فرغوسن الراية اإلنكليزية يف تلك البطاح‬

‫‪170‬‬
‫الفصل السابع عرش‬
‫يف الجبل املرتجف وأقوام نيام وما كان من أحاديث العرب عن تلك‬
‫البالد‬

‫‪171‬‬
‫فإذ شاهد ديك رفيقه َّ‬
‫العلمة ناظ ًرا إىل البوصلة سأله قائال‪ :‬وما هو‬
‫اتجاهنا؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إننا نسري إىل جهة شمال الشمايل الغربي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وياله؛ إن هذه الجهة ليست الشمالية!‬

‫كل‪ ،‬وأظن أنه يعرس علينا جدا الوصول إىل غندكورو‪ ،‬وذلك‬ ‫العلمة َّ‬
‫قال َّ‬
‫مما يكدرني‪ ،‬غري أننا عىل كل األحوال‪ ،‬قد وصلنا حبل اكتشافات الجهة‬
‫الرشقية بالشمالية‪ ،‬فعليه ال يليق بنا األسف‪.‬‬

‫وأخذت املنصورة تبتعد رويدًا رويدًا عن النيل‪.‬‬


‫والحت من َّ‬
‫العلمة التفاتة إىل درجة العرض التي امتنع عىل أعظم السواح‬
‫قطعها‪ ،‬وقال‪ :‬هاك تلك القبائل العاصية التي ُعن َِي عنها باتريك ودارنو‬

‫‪173‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ومياني والشاب لِجان‪ ،‬الذين تركوا لنا أحسن الفوائد املتعلّقة بالنيل‬
‫األعىل‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬والحالة هذه قد أ َّيدت اكتشافاتنا سابق تخمنات العلماء‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬أي نعم‪ ،‬قد أ َّيدتها كثريًا‪ ،‬فإن ينابيع البحر األبيض مغمورة‬
‫يف بحرية عظيمة كالبحر وكثريًا ما نظمت األشعار بشأنه فحاولت أن‬
‫تؤصله من ينبوع سماوي‪ ،‬وقد دعاه القدماء باسم أوقيانوس‪ ،‬وقرب إىل‬
‫ظنهم أنه جا ٍر من الشمس بخط مستقيم‪ ،‬وال شك أن مثل هذه التخيالت‬
‫الشعرية تخرس شيئًا من رونقها‪ ،‬فعلينا أن نستقي من مياه الفوائد التي‬
‫يأتينا بها العلم فننبذ ما نراه عر ًيا عن الصحة‪ ،‬ونستمسك بما فيه صحة‬
‫الرأي‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وهناك شالالت ً‬


‫أيضا‪.‬‬

‫ً‬
‫عرضا‪ ،‬وال يشء‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬إنما هي شالالت مكدو يف ثالث درجات‬
‫أدق من ذلك‪ ،‬وأتمنى لو كنا تمكنا من الرحيل فوق خط النيل‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬وكأني أرى عن بع ٍد رأس جب ٍل‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬هذا جبل لكويك املعروف عند العرب بالجبل املرتجف‪،‬‬
‫وقد طاف أندريا دبنو حول هذه البالد وهو منتحل لنفسه اسم «لطيف‬
‫لبعض‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أفندي» أما األقوام الساكنون بالقرب من النيل فهم أعداء بعضهم‬
‫وال ينفكون من القتال واملصارعة‪ ،‬وعليه فالب َّد من أن يكون دبنو املذكور‬
‫قد عانى من املشقات واملصاعب واملحذورات معظمها‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫وقد حملت الريح عىل أجنحتها منصورة املسافرين إىل الجهة الشمالية‬
‫الغربية‪ ،‬وج َّد َّ‬
‫العلمة يف أن يجد طبقة هواء منحرفة عن االتجاه إىل جبل‬
‫لكيك للتنحي عنه‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬خلييلَّ!‪ ...‬مذ هذه الساعة تبدأ رحلتنا اإلفريقية‪ ،‬ألننا فيما‬
‫سبق لم نتبع ّإل آثار من سلفنا‪ ،‬وهانحن أوالء اآلن نرمي بأنفسنا يف بحر‬
‫هذه املفاوز املجهولة منا‪ ،‬فقوال يل هل تخمد همتكما ويربد نشاطكما؟‬
‫كل‪ ،‬ثم َّ‬
‫كل‪.‬‬ ‫فصاح الرفيقان بصوتٍ واحد قائلني‪َّ :‬‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬هيا بنا‪ ،‬هيا يا خلييلَّ‪ ،‬ولنَ ِ ْ‬


‫س بحفظ املوىل‪.‬‬

‫وملا دخلت الساعة العارشة‪ ،‬وقد م َّر إذ ذاك املسافرون فوق وهداتٍ‬
‫وأحراش وقرى متفرقة وصلوا أخريًا إىل جانب الجبل املرتجف‪ ،‬ففاتوه‬
‫ومضوا بغري عاقة‪.‬‬

‫ويف ذلك النهار املخلد الذكر؛ أي يف ‪ 23‬نيسان‪ ،‬م ُّروا بربهة خمس عرشة‬
‫ريح‬
‫ميل جغرافيًا‪ ،‬وذلك بقوة ٍ‬ ‫ساعة مسافة ثالثمائة وخمسة عرش ً‬
‫شديدة‪.‬‬

‫ولكنك كنت تراهم يف هذه املدة األخرية ملتحفني بشعار كآب ٍة ال سبب‬
‫ظاه ًرا لها‪ ،‬وقد ملك السكوت املطلق يف أفئدتهم‪ ،‬فهل يا ترى كان‬
‫فرغوسن غار ًقا يف بحر التأمالت من جري اكتشافاته‪ ،‬أم كان رفيقاه‬
‫حاملني عىل عاتقهما عبء االهتمام بالرحلة العتيدة وسط البالد القفرة‬
‫واملفاوز الشاسعة‪ ،‬وهم إذ ذاك ال يعرفون لها بدءًا وال نهاية‪ ،‬فال شك‬
‫يف أن جميع هذه األمور تخللت أفكار املسافرين‪ ،‬وقد خالجها التذكر‬

‫‪175‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫باألوطان والخالن‪.‬‬

‫أما يوسف فما الحت عىل محياه َّإل لوائح عدم االكرتاث بيشء‪ ،‬وإذا خطر‬
‫له عىل بال ذكر هوى األوطان قد قال‪ :‬لم تغب عني األوطان‪ ،‬بل أنا غبت‬
‫عنها‪ .‬وهذه علة غربتي‪ ،‬ومع ذلك قد نظر إىل سكوت رفيقيه بعني الحرمة‬
‫واالعتبار‪.‬‬

‫فعند الساعة العارشة مساء ألقت املركبة مرساتها يف جوار الجبل‬


‫املرتجف‪ ،‬وتناولوا العشاء بالهناء‪ ،‬ثم رقدوا بحراسة كل منهم‪.‬‬

‫ويف الغد طرقت آذانهم األفكار الصافية‪ ،‬وكان الجو رائ ًقا والريح تتالعب‬
‫يف تلك اآلفاق‪ ،‬ومهبها من الجهة املوافقة‪ ،‬فقام يوسف وقدم لرفيقيه‬
‫فطو ًرا ً‬
‫لذيذا‪ ،‬فانتعشت منهم األكباد‪ ،‬وتح َّولت أخالقهم من دار العبوس‬
‫إىل دار اإليناس‪.‬‬

‫وأما البالد التي جابوها يف ذلك اليوم فهي شاسعة جدًا‪ ،‬وتخومها من‬
‫جبال القمر إىل جبال درفور‪ ،‬وتلك املسافة تكاد تبلغ مسافة أوربا من‬
‫أولها إىل آخرها‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إننا مارون اآلن بالبالد التي زعم عنها أنها مملكة أزوغا‪،‬‬
‫وارتأى بعض أهل الجغرافية أن بحرية عظيمة ممتدة يف أواسطها‬
‫فسنعلم إن كان يف هذا األمر بعض الحقيقة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وكيف أمكن افرتاض ذلك الرأي؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إنهم افرتضوه من حكايات العرب الذين يكثرون من‬


‫‪176‬‬
‫األخبار واألحاديث؛ فإن بعض املسافرين عند وصولهم إىل كازه أو إىل‬
‫البحريات العظيمة تالقوا بعبي ٍد من األقاليم املتوسطة‪ ،‬فاستعملوا منهم‬
‫عن بالدهم‪ ،‬ثم شحنوا رزمة أوراق بتلك األخبار‪ ،‬واستنتجوا منها أقيسة‪،‬‬
‫وذهبوا فيها مذاهب شتى‪ ،‬وهي يف جوهرها ال تخلو من بعض الصحة‬
‫والحقيقة‪ ،‬وقد رأيت اآلن أن حكاياتهم عن منبع النيل وقعت موقع‬
‫قبل عىل مجمل الصدق‪.‬‬ ‫الحقيقة‪ ،‬وإن لم تؤخذ ً‬

‫قال ديك‪ :‬يف الحق تكلمت‪.‬‬

‫فاستتىل فرغوسن كالمه‪ ،‬وقال‪ :‬إنه بواسطة هذه األوراق واألخبار‬


‫سطرت الرسوم الجغرافية‪ ،‬ولهذا سأسري يف طريقي طب ًقا لهذه الرسوم‪،‬‬
‫وأصلحها إذا مست الحاجة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬يا موالي!‪ ...‬وهل هذه البالد مسكونة باألهايل‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬ال ريب يف أنها مسكونة‪ ،‬ولكن بئس السكنى‪ ،‬وجميع هؤالء‬‫قال َّ‬
‫األقوام يعرفون بأقوام نيام نيام‪ ،‬وما وضع هذا االسم َّإل مماثلة للمضغ‬
‫والعلك‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬بالتمام والكمال نيام نيام نيام نيام؛ فكأني ضامغ‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬لو كنت سببًا لهذا اللقب ما طابت لديك‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬فرس يل كالمك يا سيدي‪.‬‬


‫ً‬
‫أغوال يأكلون لحم بني‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬اعلم أن هؤالء األقوام معدودون‬
‫آدم‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال يوسف‪ :‬وهل ذا أمر ال يشوبه ريب؟‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وال ريب فيه‪ ،‬من الناس من قال عنهم إن لهم أذنا ًبا كالدواب‬
‫والبهائم ولكن تحقق عندهم فيما بعد أن هذه األذناب خاصة بجلود‬
‫بعض الحيوانات التي كانوا يرت َّد ْون بها‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وما أحىل من الذنب!‪ ...‬فإنه يصلح لطرد الناموس والبعوض‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ربما يصلح لذلك‪ ،‬ولكن ينبغي أن ندخل هذه الحكايات‬
‫يف طي الخرافات مع ما نسبه أحد السواح من رؤوس الكالب إىل بعض‬
‫األقوام اإلفريقيني‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وال أحىل من رؤوس الكالب ً‬


‫أيضا‪ ،‬ألنها تصلح للعواء حتى‪،‬‬
‫وتنفع ألكل بني البرش‪.‬‬

‫أسف إنما هو أن‬


‫ٍ‬ ‫واملوجب كل‬
‫ِ‬ ‫قال فرغوسن‪ :‬إن األمر املثبوتة صحته‪،‬‬
‫بغرام‬
‫ٍ‬ ‫هؤالء األقوام متولعون جدًا يف تلقف برشة اإلنسان وطالبونها‬
‫عظيم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أود َّأل يغرموا يف جسدي‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬وهذا حسبك يا يوسف‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬إذا طرأ علينا يوم قحطٍ وجوع ومست الحاجة إىل أن أؤكل‬
‫فأرغب يف أن تنتفع بي أنت وسيدي‪ ،‬ولكن إذا وقعت يف أيدي هؤالء‬
‫الربابرة وقيض عيلَّ بأن أكون لهم غذاء ال بد من أموت خز ًيا وكمدًا‪.‬‬
‫‪178‬‬
‫قال الصياد‪ :‬حياك الله يا يوسف؛ فقد تم االتفاق بيننا‪ ،‬وع َّولنا عىل أن‬
‫نعتمد عليك وقت الحاجة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬سادتي أنا بالخدمة‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إنه يتفوه بهذا الكالم لنعتني به ونقيته قو ًتا جيدًا فيسمن‬
‫ويضخم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬إن ذا رأي محتمل استحوذ عليه حب الذات املفرط ألن‬
‫اإلنسان حيوان‪.‬‬

‫وملا كان بعد الظهر تظللت السماء بضباب سخن يتصاعد من األرض‪،‬‬
‫ويمنع املسافرين عن تمييز األشياء يف طريقهم‪ ،‬قد ع َّول َّ‬
‫العلمة عىل أن‬
‫يرمي املرساة الساعة الخامسة خشية أن تصدم املركبة رأس صخرة وهم‬
‫ال يشعرون بذلك‪.‬‬

‫فقضوا ليلتهم حيثما كانوا‪ ،‬ولم يطرأ عليهم طارق غري أن مثل ذلك‬
‫الظالم أوجب عليهم مضاعفة السهر واالحرتاز‪.‬‬

‫وعند الصباح قد هبت الريح بشدة‪ ،‬وصار الهواء يدخل متعم ًقا يف أسفل‬
‫القبة‪ ،‬ويحرك اآللة التي كانت تدخل فيها أنابيب امتداد الغاز‪ ،‬فمنعوا‬
‫اضطرابها بحبال شدَّت بها‪ ،‬وقد تمم يوسف هذا األمر بإحكام وفطنة‪.‬‬

‫وتمعن يوسف يف فوهة القبة الهوائية‪ ،‬وحقق أنها مسدودة سدًّا محك ًما‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬لنا فائدة من جهتني بسدادة الفوهة؛ فمن الجهة األوىل ال‬ ‫فقال َّ‬
‫يتلف الغاز الثمني‪ ،‬ومن الجهة الثانية ال نرتك وراءنا ذنبًا قابل االشتعال‪،‬‬

‫‪179‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ألنه يخىش عليه أخريًا أن يلتهب ويحرق القبة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وال أردأ من هذا حادث السوء يف رحلتنا‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وهل إذا ال سمح الله بلينا به ته َّورنا إىل األرض برسعة؟‬
‫العلمة‪َّ :‬‬
‫كل؛ فال نته َّور برسع ٍة بل يأخذ الغاز يف االشتعال رويدًا‬ ‫قال َّ‬
‫فقليل‪ ،‬وهذا ما جرى للسيدة الفرنسية بلنشار وهي‬ ‫ً‬ ‫رويدًا‪ ،‬وننزل ً‬
‫قليل‬
‫راكبة مركبة هوائية‪ ،‬فقد اشتعلت قبتها وهي ترمي باألسهام النارية من‬
‫حال‪ ،‬ولو لم تصدم يف نزولها مدخنة قلبت‬ ‫مركبتها‪ ،‬لكنها لم تسقط ً‬
‫قاربها ما كان أصابها ما أصابها من السوء‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬أؤ ّمل َّأل ينوبنا مثل هذا العارض املشؤوم ألني إىل اآلن لم أر‬
‫خط ًرا يف رحلتنا‪ ،‬وال أرى سببًا يصدنا عن الوصول إىل ربنا‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬واعلم يا صاح أن العوارض التي طرأت عىل‬ ‫العلمة‪ :‬وال أنا ً‬‫قال َّ‬
‫راكبي املركبات كانت دائ ًما مسببة عن قلة فطنتهم‪ ،‬أو من قصور بدا‬
‫منهم يف بناء القبة واآللة ومع هذا كله فلم نسمع عن حوادث سببت املوت‬
‫لراكبي املركبات َّإل ما قل ويكاد يبلغ الواحد يف األلف‪ ،‬ولكن يف العموم‬
‫ليست األخطار َّإل يف االرتفاع فوق األرض والنزول إليها‪ ،‬ولذلك ينبغي‬
‫لنا أن نكون عىل حرص وحذر‪َّ ،‬‬
‫وأل يبدو منا قصور وتوان يف االعتناء‬
‫الكامل‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬هذا وقت الغداء يا سادتي‪ ،‬فنستكفي حاليًا يف أن نتناول‬


‫لح ًما قديدًا‪ ،‬وبعده نرشب القهوة إىل أن يتمكن ديك من أن يصطاد لنا‬
‫بعض الوحوش ذات اللحوم اللذيذة‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫الفصل الثامن عرش‬
‫يف اآلنية السماوية واألشجار السامية االرتفاع واملذبحة الشنيعة التي‬
‫تخللتها الوسائط اإللهية‬

‫‪181‬‬
‫ثم اشتدت الريح وهبت من جهاتٍ مختلفة‪ ،‬ولم يعرف لها اتجاه‪ ،‬ولذا‬
‫كانت املنصورة تثب وثبات شديدة مديدة تارة نحو الشمال‪ ،‬وطو ًرا نحو‬
‫الجنوب‪ ،‬ولم يستطع فرغوسن أن يصادف مهبًا ثابتًا‪.‬‬

‫فلما نظر ديك إىل اإلبرة املغناطيسية ورآها تضطرب وتتذبذب كثريًا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫إننا نسري برسعة هائلة‪ ،‬لكننا نتقدم ً‬
‫قليل إىل ما قدام‪.‬‬
‫العلمة‪ :‬إن املنصورة تسري أقله مسافة ثالثني ً‬
‫ميل يف الساعة‪،‬‬ ‫فقال َّ‬
‫وعليك يا ديك أن تميل بعينك إىل أسفل‪ ،‬فرتى كيف تتوارى الحقول عن‬
‫أبصارك‪ ،‬وانظر إىل هذا الغاب ً‬
‫أيضا‪ ،‬فكأنه مرسع إىل مالقاتنا‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬أما ترى أن ال َف ْد َفد قد قام مقام الغاب؟‪ ...‬فما مضت برهة َّإل‬
‫تكلم يوسف وقال‪ :‬هاك القرية قد قامت مقام الفدفد‪ ،‬فتأمال يف السودان‬
‫كيف أن الدهشة استولت عىل محياهم؛ يا ما أبلدهم!‬

‫‪183‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ومن األمور الطبيعية أن تستويل عليهم البهتة والدهشة؛ فإن‬
‫الفالحني الفرنسيني عند مشاهدتهم القباب الطيارة يف املرة األوىل ظنوا‬
‫أنها وحوش جوية‪ ،‬فأطلقوا عليها الرصاص‪ ،‬ولهذا ال عجب إذا حدقت‬
‫السودان أبصارهم متفرجني عىل قبتنا‪.‬‬

‫وكانت املنصورة مارة فوق قرية‪ ،‬وهي ال تعلوها أكثر من مائة قدم‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬طرق ذهني أن ألقي لهؤالء األنام املتفرجني آنية فارغة‪ْ ،‬‬
‫إن‬
‫إذنت يل يا سيدي‪ ،‬فإذا وصلت إىل األرض ساملة من كل غائلة عبدوها كإله‬
‫رسا اتخذوا تلك الكرس كلمات سحرية‪.‬‬ ‫وإذا تحطمت ك ً‬

‫فما فاه بهذا الكالم َّإل ورمى باآلنية فتكرست آرا ًبا‪ ،‬أما السودان‬
‫فاضطربوا وضجوا يف الرصاخ‪ ،‬ثم طفقوا يأوون إىل كهوفهم خوفا من‬
‫الغوايل الجوية‪.‬‬

‫وبعد أن ساروا برهة قال ديك‪ :‬ها هي ذي شجرة غريبة الشكل ألنها من‬
‫وجنس آخر يف أسفلها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫جنس يف أعالها‬
‫ٍ‬

‫قال يوسف‪ :‬ويحك يا ديك!‪ ...‬إن األشجار يف هذه البالد ينبت بعضها‬
‫فوق بعض‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬إنما حقيقة األمر أن جزع شجرة تني عليه تراب نباتي‪،‬‬ ‫قال َّ‬
‫فهبت الريح يو ًما ودفعت بزرة نخ ٍل عىل ذلك الرتاب فنمت النخلة كأنها‬
‫زرعت يف حقله‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬لعمري؛ إنها لصناعة جميلة‪ ،‬سأهتم بحوله تعايل يف أن‬
‫‪184‬‬
‫أجريها بحدائق لندرة؛ إن ذلك مما يطرب الخاطر ويعجب الناظر‪ ،‬وهي‬
‫وسيلة ظريفة لتكثري األشجار ذات األثمار إلرقاء الحدائق إىل الجو‪ ،‬والب َّد‬
‫أن يرس بهذه الصنيعة أصحاب العقارات واألمالك الصغرية‪.‬‬

‫ثم اضطرت املنصورة إىل أن تعلو األرض كثريًا لتم َّر فوق أشجار باسقة‬
‫يبلغ علوها نحو ثالثمائة قدم ونيف‪ ،‬وهي من جنس البان الطويل العمر‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما أحىل هذه األشجار وما أجملها!‪ ...‬لعمري؛ لم أر يف حياتي‬
‫مشهدًا بهيًا كمشهد هذا الحرش ذي األشجار القديمة األيام‪ ،‬وأرجوك يا‬
‫فرغوسن أن تتمعن فيه ً‬
‫قليل‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬يف الحقيقة إن أشجار هذا الغاب من أعجب العجائب‪،‬‬


‫ولكن األعجب من ذلك هو أنه يف البالد األمريكانية توجد أشجار أشمخ‬
‫وأبسق منها‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬واعجباه!‪ ...‬وهل من شجر أسمى عل ًوا وارتفاعًا من هذه؟!‬

‫العلمة‪ :‬ال شك يف ذلك‪ ،‬وتلك األشجار ندعوها باسم مموث تريس؛‬ ‫قال َّ‬
‫أي أشجار مموث‪ ،‬فقد وجد يف بالد كاليفورنيا أرزة بلغ علوها أربعمائة‬
‫وخمسون قد ًما‪ ،‬وهذا العلو يفوق برج لندرة «وهو من األبراج املشهورة‬
‫يف العلو» حتى وأعظم من أهرام مرص‪ ،‬وأما قاعدتها فبلغت دائرتها مائة‬
‫وعرشين قد ًما‪ ،‬وقد استدل من الطبقات الظاهرة فيها أن عمرها ينوف‬
‫علی األربعة آالف سنة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬والحالة هذه؛ فال عجب يف علوها وشموخها‪ ،‬ألن من عاش‬
‫كثريًا طال كثريًا‪ ،‬والشجرة التي عاشت مدة أربعة آالف سنة فمن الرضورة‬

‫‪185‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫أن يوافق علوها طول عمرها‪.‬‬

‫العلمة وجواب يوسف ّإل توارى الغاب عن‬ ‫َّ‬ ‫ولكن ما تمت حكاية‬
‫أنظارهم‪ ،‬ووصلوا فوق أكواخ مبنية حول ساحة مستديرة‪ ،‬ووسط تلك‬
‫الساحة شجرة وحيدة‪ ،‬فلما نظر يوسف إليها قال‪ :‬وياله؛ إذا كانت هذه‬
‫الشجرة تأتي بمثل تلك األثمار منذ أربعة آالف سنة فال أحييها بالسالم‬
‫وال أ ُ َ ُّ‬
‫س برؤيتها‪.‬‬

‫قال هذا وأومأ إىل جميز ٍة سامية العلو‪ ،‬وقد غطي جزعها بكومة من عظام‬
‫بني آدم‪ ،‬وقد أعنى يوسف باألثمار عن رؤوس مقطوعة حديثًا؛ كانت‬
‫معلّقة عىل خناجر مشكوكة يف قرشة الشجرة‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬يا لها من حرب شنيعة تشبه حرب البسوس؛ فإن الهنود يف‬ ‫قال َّ‬
‫مثل هذه الحروب يسلخون رأس األسري الذي يقع تحت غائلة القتل‪ ،‬وأما‬
‫اإلفريقيون فيقطعون رأسه تما ًما‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬فإن لكل فريق عادته‪.‬‬

‫برهة َّإل تركوا وراءهم تلك القرية ذات الرؤوس املخضبة‬


‫ٌ‬ ‫فما مىض‬
‫بالدماء‪ ،‬غري أنهم وصلوا إىل قرية أخرى شاهدوا فيها منظ ًرا يفتت‬
‫رسا وتأس ًفا؛ إذ برصوا بجثث بعض القتىل املأكولة‬
‫األكباد ويمزقها تح ً‬
‫إىل نصفها‪ ،‬وعظا ًما مجردة عن اللحم‪ ،‬وأعضاء أجسام برشية مبعثرة‬
‫هنا وهناك‪ ،‬وتجذب رائحتها الضباع وأبناء آوى ليتلقفوا منها ما بقي‬
‫من اللحوم‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال ريب يف أن هذه أجسام املجرمني‪ ،‬ويف بالد الحبشة ً‬
‫أيضا‬
‫‪186‬‬
‫يعاقب اآلثمة بعقاب ليس َّ‬
‫أقل شناعة ورداء ًة؛ إذ يلقونهم عرضة للوحوش‬
‫الكارسة فبعد أن خنقتهم هذه بنهشة من نهشاتها املميتة تأخذ يف أن‬
‫تتبطقهم عىل خاطرها وهوائها‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬ليس هذا العقاب أم َّر من املشنقة‪ ،‬بل إنما هو أشنع وأقبح‬
‫كثريًا‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن عقاب املذنبني يف بالد إفريقية الجنوبية هو أنهم يجعلون‬
‫يف أكواخهم مع ماشيتهم‪ ،‬وأحيا ًنا مع عائلتهم ثم ترضم فيها النريان‬
‫ً‬
‫توحشا‪ ،‬لكني أق ُّر معرت ًفا‬ ‫فيحرتق الجميع معًا‪ ،‬وأنا أسمي هذا العقاب‬
‫أيضا‪ ،‬وإن كان أقل قساوة‬ ‫مع صاحبي ديك أن املشنقة عقاب بربري ً‬
‫وشناعة من ذاك‪.‬‬

‫أما يوسف فتوضح الجولة‪ ،‬فلمح برصه بعض رشذماتٍ من الطيور‬


‫الكارسة تحوم يف األفق‪.‬‬

‫فنظر إليها ديك باملنظرة‪ ،‬وقال‪ :‬إنما هي نسور جميلة ورسعة طريانها‬
‫تضاهي رسعة مسرينا الجوي‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وقانا الله من صدمة تصدم بها هذه الطيور قبتنا؛ فإني‬
‫أخشاها أكثر من الوحوش الضاريات واألقوام املتوحشني‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ولم هذه املخافة؟‪ ...‬أال تعلم أننا نبدد شملها بالرصاص؟‬

‫أحب إيل ّأل أحتاج إىل حذقك هذه الدفعة‪ ،‬ألن قماش قبتنا‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ُّ :‬‬
‫ليس من حديد ليقاوم نقرة من نقار منقارها‪ ،‬غري أني أراها قد اختشت‬

‫‪187‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قبتنا ولم تجذبها إلينا غرابة منصورتنا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ولكن طرق ذهني فك ٌر يا خلييلَّ؛ فإن األفكار تداهمني اليوم‬
‫بالعرشات واملئات وهو لو أمكنَّا أن نلقط زمر ًة من النسور الحية ونربطها‬
‫بمركبتنا؛ لقد جرتنا يف الجو عىل أجمل منوال‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وقد عرضت هذه الطريقة بجدٍ‪ ،‬إنما الذي يمنع نفوذ األمر‬
‫هو الخلق الجموح املنفطرة عليه تلك الطيور‪.‬‬

‫ً‬
‫وعوضا عن اللجام تجعل‬ ‫قال يوسف‪َّ :‬‬
‫وهل يمكن ترويضها وتهذيبها؟‪...‬‬
‫عصابة عىل عيونها فإذا حجبت عني اليمني سارت النسور ذات الشمال‬
‫ً‬
‫بغتة الطيور‪.‬‬ ‫والعكس بالعكس‪ ،‬وإذا حجبت العينان وقفت‬

‫ريحا موافقة عىل نسورك‬ ‫قال َّ‬


‫العلمة‪ :‬ائذن يل يا حبيبي أن أفضل ً‬
‫املقطورة‪.‬‬
‫ً‬
‫ضابطا ما رأيته من‬ ‫قال يوسف‪ :‬اإلذن معك يا سيدي‪ ،‬لكني ما زلت‬
‫الرأي‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال بأس يف ذلك‪.‬‬

‫وكان الظهر‪ ،‬واملنصورة أخذت يف سري الهوينا يف تلك البطاح‪ ،‬وعىل الفور‬
‫طرق آذان املسافرين ضجيج وعرير وصفري‪ ،‬فتطلعوا من مركبتهم إىل‬
‫أسفل وإ ِ ْذ تراءى ألعينهم ما حملهم عىل التأسف والكدر وفجع أفئدتهم‬
‫غ ًما وكر ًبا وهو مشهد قبيلتني متهوشتني يف معمعة القتال‪ ،‬يبارز بعضهم‬
‫بعضا ويقتل بعضهم بعضا بمعاند ٍة وضغن شديد‪ ،‬وبينما هم يقاتلون‬
‫‪188‬‬
‫ويتنابحون تنابح الكالب إذ مرت املنصورة فوقهم ولم يشاهدوها‪ ،‬وكانوا‬
‫نحو ثالثمائة نفر محتبكني يف حومة املعركة‪ ،‬وكثري منهم خائض يف دماء‬
‫قتالهم‪ ،‬ومنظرهم مما تمجه األعني وتأنف منه القلوب‪.‬‬

‫ضجيجا وبعا ًقا‪،‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫لحظة وازدادوا‬ ‫فعندما برصوا بالقبة الطيارة وقفوا‬
‫وجعلوا يرمونها بالسهام‪ ،‬فوصلت منها واحدة بالقرب منها وتمكن‬
‫يوسف من إمساكها بيده‪.‬‬

‫فقال حينئ ٍذ فرغوسن‪ :‬فلنرتفع إىل األعايل لئال يصيبنا سهم‪ ،‬وال نكون َّن‬
‫قلييل الفطنة‪ ،‬فإنه ال يجوز لنا أن نستقر يف هذه الدرجة‪ ،‬فأخذت املنصورة‬
‫باالرتفاع‪ ،‬وما زال الذبح والرباز جاريني عىل قدم وساق‪ ،‬فنفدت النبال‬
‫وتكرست األنصال وتحطمت السمر الطوال‪ ،‬واحم َّر بساط األرض من‬
‫هدر الدماء يف ذلك القتال‪ ،‬وكلما تجندل عدو إىل الحضيض قتله خصمه‬
‫برضب ٍة فقطع رأسه للحال‪ ،‬وقد تداخلت النساء يف تلك املعمعة الهائلة‪،‬‬
‫فك َّن يتسابقن عىل جمع الرؤوس السابحة يف الدماء املتفجرة‪ ،‬ويذهبن‬
‫بها إىل آخر ساحة القتال‪ ،‬وكثريًا ما تصارعن للحظوى بغنائم الظفر‬
‫تلك‪ ،‬الكريهة املنظر‪.‬‬

‫فقال ديك‪ ،‬وقد َّ‬


‫شق قلبه سهام الكدر والنفور مما شاهدوه يف تلك امللحمة‬
‫الهائلة‪ :‬وياله؛ ما أفجع هذا املشهد وما أسوأه!‬

‫قال يوسف‪ :‬إن املتحاربني أناس ذوو صور ٍة قبيحة‪ ،‬ولكن لو لبسوا‬
‫الثياب العسكرية لكانوا كسائر الجنود يف الحروب املدنية‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬أرغب جدًا يف أن أتوسط بني هؤالء املتحاربني يف هذه املعركة‬

‫‪189‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫الهائلة‪.‬‬

‫قال هذا ومسك سالحه متأهبًا إلطالق الرصاص‪.‬‬

‫العلمة حذا ِر حذا ِر من هذا الصنيع؛ فإنه ال يأتينا َّإل باألذية والرضر‪،‬‬
‫قال َّ‬
‫أيضا هل تعرف َم ْن ِم َن الطائفني هي املذنبة‬ ‫فلنهتم بما يعنينا‪ ،‬وقل يل ً‬
‫لتتوسط بينهما وتستنرص إلحداه َّن‪ .‬فالخليق بنا أن نف َّر من هذا املنظر‬
‫البشع الذي تنفر منه القلوب‪ ،‬فلو أرشف رؤساء الجنود يف الحروب عىل‬
‫ساحات الحرب وتأملوا ما يجري فيها من سفك الدماء لذهب ذلك املشهد‬
‫برغبتهم يف املحاربة وجني الفتوحات‪.‬‬

‫وكان أحد رؤساء الطائفتني يمتاز بطول القامة وعرض الجسم؛ فإنه‬
‫ً‬
‫لحظة‬ ‫كان يخرتق صفوف العدو ويرضب بالفأس ويشك الرمح‪ ،‬ثم ألقى‬
‫مغمسا يف الدم‪ ،‬ورمى بنفسه عىل أحد الجرحى‪،‬‬
‫ً‬ ‫رمحه بعيدًا عنه‪ ،‬وكان‬
‫ثم جذم ذراعه برضب ٍة واحدة من الفأس‪ ،‬ومسكه بيده رافعًا إياه إىل فمه‬
‫وجعل يعضه بتواتر‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وياله ما هذا الوحش املفرتس؟‪ ...‬لقد عيل اصطباري‪.‬‬

‫قال هذا‪ ،‬وأطلق عليه رصاصة فأصابته يف جبهته ورصعته إىل األرض‬
‫مستلقيًا عىل ظهره‪ ،‬فعند سقوطه استولت الدهشة والرعب عىل قلوب‬
‫أتباعه وارتاعوا من موت رئيسهم العجيب‪ ،‬وهاجت منهم األفكار‪ ،‬أما‬
‫أخصامهم فازدادوا شجاعة وحماسة‪ ،‬وعليه قد ف َّر نصف املتحاربني من‬
‫حومة القتال‪.‬‬

‫ريحا تدفعنا إىل مكان‬ ‫فقال َّ‬


‫العلمة‪ :‬هلموا بنا نرتقي إىل طبق ٍة أعىل لنجد ً‬

‫‪190‬‬
‫بعيد عن مشهد هؤالء الربابرة‪ ،‬ألنه قد بجن يف قلبي حاسة الغم والكدر‬
‫وال عدت أطيق النظر إليه‪.‬‬

‫وبعد أن رحلوا برهة شاهدوا عن بع ٍد الطائفة املستظهرة قد انقضت‬


‫عىل القتىل والجرحى انقضاض الجوارح‪ ،‬وجعلت تتنازع عىل لحومهم‬
‫الساخنة لتأكلها برشاه ٍة وحرص‪.‬‬

‫أف؛ إن ذا ملوجب االستكراه‪ ،‬الفرا َر الفرا َر‪.‬‬


‫أف ٍ‬
‫فقال يوسف‪ٍ :‬‬

‫وأما املنصورة فرشعت يف االرتفاع واالمتداد‪ ،‬وتبعهم قوم من أولئك‬


‫الربابرة املسوخ وهم يضجون يف الرصاخ والعرير‪ ،‬ولكن ملا دفعتها الريح‬
‫إىل الجنوب توارت عن املذبحة الهائلة ومآكلة اللحم البرشي‪.‬‬

‫فكانت األرض يف تلك املحالت مختلفة الهيئة واملنظر‪ ،‬وتخططها مجاري‬


‫املياه الكثرية السائلة إىل الجهة الرشقية‪ ،‬والب َّد أنها تسكب مياهها يف‬
‫مصاب البحرية « ُنو» أو يف نهر الغزالن الذي أتى عنه املسافر «لِجان»‬
‫بفوائد غريبة األشكال واأللوان‪ ،‬وملا أمىس املساء ألقت املنصورة مرساتها‬
‫عرضا شماليًا بعد أن قطعت مسافة ‪150‬‬ ‫ً‬ ‫يف درجة ْ‪ً 27‬‬
‫طول و ‪4ْ 20‬‬
‫ً‬
‫ميل‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫الفصل التاسع عرش‬
‫يف الغارة الليلية والصوت الصارخ وبذل االجتهاد يف نجاة املرسل‬

‫‪193‬‬
‫حالكا لم يسنح ّ‬
‫للعلمة فرغوسن أن يميز تلك البالد‬ ‫ً‬ ‫وكان ظالم الليل‬
‫ويعرف مركزه‪ ،‬وملا كان متعل ّ ًقا بمركبته فوق شجر ٍة عالية فبالكاد تمكن‬
‫من رمق أوراقها املتكاثفة يف ذلك الظالم الدامس‪.‬‬

‫وقد توكل الحراسة بمدة الثالث ساعات التي يليها نصف الليل‪ ،‬فقام ديك‬
‫ليحرس مكانه‪ ،‬فحرصه فرغوسن عىل َّأل يغفل يف حراسته عن مراقبة ما‬
‫يمكن أن يطرأ عليهم من الحوادث‪ ،‬وقال‪ :‬خيل يل أني سمعت تغمغ ًما‬
‫ً‬
‫ولغطا تحتنا وال أدري ما هو!‬

‫قال ديك‪ :‬لربما سمعت أصوات بعض الوحوش الكارسة‪.‬‬

‫العلمة‪َّ :‬‬
‫كل؛ فإني اتخذته شيئًا آخر‪ ،‬وعىل كل حال؛ عليك أن توقظنا‬ ‫قال َّ‬
‫عندما يروعك أدنى يشء‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬ال بد من ذلك‪.‬‬


‫وبعد أن أمال َّ‬
‫العلمة بأذنيه إىل أسفل‪ ،‬ولم يسمع شيئًا‪ ،‬ارتمى عىل‬
‫فراشه وتدثر باللحاف ونام‪.‬‬

‫وكانت السماء مظللة بغيوم كثيفة‪ ،‬ولكن الريح يف استكان ٍة وهدوءٍ‪ ،‬ولم‬
‫ً‬
‫معلقة بمرساة واحدة‪.‬‬ ‫تتذبذب قط املنصورة‪ ،‬وإن تكن‬

‫فلبث ديك مناظ ًرا قصبة القبة وكان ساندًا ذراعه عىل املركبة ويتأمل أحيا ًنا‬
‫بما حوله من السكوت العميق‪ ،‬وينظر تار ًة إىل األفق كمن يستفحص عن‬
‫أمر وهو يف اضطراب وقلق وحسب أنه يشاهد ضياء مبه ًما‪.‬‬

‫ويف لحظة ظ َّن أنه شاهد جليًا ضياء ساطعًا عن بعد نحو مائتي قدم لكنه‬
‫كان كالربق الرسيع؛ إذ توارى عن برصه ولم يبق له أثر‪.‬‬

‫فلم يكن ذلك الضياء َّإل كتلك اإلحساسات املضيئة التي ترتاءى ألعني‬
‫املتأملني يف ظلمات الليل املحتبكة‪.‬‬
‫فسأل ديك يف نفسه ً‬
‫قائل‪ :‬هل هذا هو صوت حيوان أم طري الليل أم هل‬
‫هو رصاخ ابن آدم‪.‬‬

‫وكاد ديك يوقظ رفيقيه لخشيته من خطب يل ٌّم به وهو عىل تلك الحال‬
‫ً‬
‫وحوشا فهم غري قادرين عىل‬ ‫ً‬
‫رجال أو‬ ‫لكنه قال يف نفسه‪ :‬إن كان هؤالء‬
‫الوصول إىل قبتنا‪ ،‬ثم نظر إىل سالحه وأخذ منظرة الليل وجعل يحدق‬
‫برصه يف الفضاء‪.‬‬

‫فخيل له أنه رأى تحت القبة خياالتٍ تتسلق عىل الشجرة ثم أرسل بدر‬
‫‪196‬‬
‫الليل شعاعًا طفي ًفا من بني سحابتني فتمكن ديك من مشاهدة بعض‬
‫أشخاص متحركني ومائجني يف الظالم‪.‬‬

‫فطرق حينئ ٍذ ذهنه تلك السعادين الالتي صارعها َّ‬


‫العلمة وهو إذ ذاك‬
‫مقيم وحده يف املركبة وملساعدته وضع يده عىل كتف َّ‬
‫العلمة‪.‬‬

‫فأستيقظ فرغوسن للحال وقبل أن يستفهم من رفيقه عن واقعة الحال‬


‫قال له ديك‪ :‬صه يا فرغوسن وال تتكلم َّإل بصوتٍ منخفض‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وهل من حادث طرأ‪.‬‬

‫قال نعم فلنوقظ َّن يوسف‪.‬‬

‫فلما استفاق يوسف من الرقاد أخذ الصياد يف التخبري عما تراءى له فقال‬
‫يوسف قبح الله السعادين؛ فإنها تو ُّد أن تقلقنا‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وعلينا بأخذ االحتياط الالزم‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬إني أنزل مع يوسف إىل الشجرة بالسلم لفك املرساة‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬أما أنا يف غضون ذلك سأعد اآللة لتتمكن من الصعود إىل‬
‫العالء برسعة وخفة‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ .‬هل َّم يا ديك ننزل‪.‬‬

‫فقال لهما َّ‬


‫العلمة‪ :‬إياكما أن تستعمال السالح إذا لم تحوجكما إىل ذلك‬
‫الرضورة القصوى‪ ،‬ألن ال فائدة لنا أن يدري بنا أحد يف هذه النواحي‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫العلمة باإلشارة جوا ًبا عن سؤاله‪ ،‬ثم نزال إىل‬‫فأومأ ديك ويوسف إىل َّ‬
‫الشجرة وارتكزا عىل أغصان كبرية كانت املرساة متعلّقة بإحداه َّن‪.‬‬
‫ثم وقفا لحظة ناصتني فسمع يوسف ًّ‬
‫حكا يف قرش الشجرة‪.‬‬

‫فمسك بيد رفيقه‪ ،‬وقال‪ :‬أنصت بأذنيك واسمع‪.‬‬

‫قال‪ :‬إني سامع‪ ،‬وإخال الصوت يقرب منا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬عىس أن يكون ما سمعته صفري حية‪.‬‬


‫قال‪َّ :‬‬
‫كل ألنه كان يشبه صو ًتا برش ًيا‪.‬‬

‫أحب إيل أن يكونوا أقوا ًما برابرة من أن يكونوا أفاعي مسمة؛‬


‫قال يوسف‪ُّ :‬‬
‫فإني ال أطيقها‪.‬‬

‫ثم مضت برهة وقال ديك‪ :‬إن الضجة تزداد رويدًا رويدًا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬نعم؛ فإن اآلتي إلينا يتسلق ويصعد‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أنت قم يف حراسة هذه الجهة وأنا أتوكل حراسة األخرى‪.‬‬

‫فكانا كالهما منفردين عىل ذروة غص ٍن كبري نابت بخط مستقيم يف وسط‬
‫شجرة البوباب تلك‪ ،‬التي تضاهي حرشا بكربها واتساعها فزاد كثيف‬
‫األوراق ظال ًما عىل كثيف الظالم‪ ،‬ولكن قد دنا يوسف من رفيقه وأومأ‬
‫إليه أن ينظر إىل ناحية الشجرة السفىل‪ ،‬وقال‪ :‬إنهم عبيد سود‪.‬‬

‫ثم سمع الرفيقان كال ًما تداولته العبيد من أسفل‪.‬‬


‫‪198‬‬
‫فرفع يوسف له سالحه مستعدًا إليراث النار‪.‬‬
‫فقال له ديك‪ً :‬‬
‫مهل رويدًا يا يوسف‪.‬‬

‫ويف الحقيقة كان بعض العبيد السود قد تسلقوا الشجرة وهم هائجون‬
‫ومائجون‪ ،‬وكانوا ينرسبون عىل األغصان كاألفاعي‪ ،‬وقد تحقق دنوهم‬
‫مما أفاحه أجسادهم من الروائح الكريهة لكونها ممزوجة بالشحم املنتن‪.‬‬

‫ثم تراءى ألبصار ديك ويوسف رأسان وذلك بمسارات الغصن الذي‬
‫يقيمان هما عليه‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬هيا يا يوسف أطلق النار‪.‬‬

‫دوي أشبه بقصيف الرعد ثم‬


‫فأطلقا الرصاص معًا‪ ،‬وسمع لطلقتيهما ٌّ‬
‫خمد الدوي ما بني أصوات االكتئاب‪ ،‬وعقب مرور دقيقة من الزمن غابت‬
‫تلك الرشذمة السوداء‪.‬‬

‫وأما الذي ألقى أصحابنا الثالثة يف بحر القلق والحرية فهو أنهم سمعوا‬
‫صو ًتا تخلل ذلك الضجيج ولم يكن يخطر ببالهم أنهم يسمعونه وظنوه‬
‫مستحيل‪ ،‬وهو صوت برشي نطق الكلمات اآلتية باللّغة الفرنسية‬ ‫ً‬
‫بوضوح وجالء وهي‪ !A moi !A moi! :‬إيلَّ إيلَّ‪.‬‬

‫فانذهل ديك ويوسف عن هذا الصوت العجيب وعادا مرسعني إىل املركبة‪.‬‬
‫قال لهما َّ‬
‫العلمة‪ :‬أسمعتما!‬

‫قال ديك‪ :‬سمعنا الصوت العجيب الصارخ إيلَّ إيلَّ‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬عساه صوت رجل فرنيس رماه التعس يف أيدي هؤالء الربابرة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬ربما هو سائح فرنيس‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أو أحد املرسلني‪.‬‬

‫فقال الصياد‪ :‬واهًا عىل حظه؛ فإنهم يقتلونه ويذيقونه عذاب الشهداء‬
‫األليم‪.‬‬
‫العلمة وقد خالج صدره شعائر االضطراب والتأسف‪ :‬ال َّ‬
‫شك يف‬ ‫فقال َّ‬
‫ذلك‪ ،‬وهو أن أحد الفرنسيس قد أضحى فريسة لتوحش هؤالء القوم‬
‫املكروه‪ ،‬ولكن ال نرحل من هنا َّإل بعد أن نكون بذلنا جدنا وجهدنا‬
‫لننجيه من تهلكته وال ريب أنه لسماعه طلقة البارود يكون قد خطر له‬
‫يف باله أن يدًا غريبة قد أتت ملعونته‪ ،‬ووساطة عجيبة من العناية اإللهية‬
‫أدركته فال نخيب َّن ً‬
‫إذا أمله يا خلييلَّ؛ كيف رأيكما؟‬

‫قال ديك‪ :‬إن ذا الرأي رأينا يا فرغوسن‪ ،‬وهانحن أوالء بني يديك؛ فمرنا‬
‫بما تشاء‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬علينا أن نهيئ مذ اآلن شغلنا‪ ،‬وغدا عند بزوغ الفجر نج ُّد‬
‫يف انتشاله من أيدي قاتليه‪.‬‬
‫فسأل ديك رفيقه ً‬
‫قائل‪ :‬ولكن كيف نبدد شمل الربابرة السودان‪.‬‬

‫لدي اآلن أنهم ال يعرفون األسلحة النارية ألنهم خافوا‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬تحقق َّ‬
‫منها خو ًفا عظي ًما‪ ،‬وذهبوا رائعني مرتعدي الفرائص‪ ،‬فيلزم إذا أن نغتنم‬
‫فرصة اضطرابهم بهذه الواسطة‪ ،‬ولكن ال نبدأ يف أم ٍر َّإل عند الصباح‬
‫‪200‬‬
‫حتى نرى هل يوافقنا املكان‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ال بد من أن يكون هذا املسكني قريبًا منا ألنه‪ ...‬فما فاه‬
‫باللفظة األخرية َّإل أعاد الصارخ صوته قائال‪ :‬إيلَّ إيلَّ‪.‬‬
‫تعسا لهؤالء الربابرة ٍّ‬
‫وبخ لفعالهم؛‬ ‫ً‬ ‫فقال يوسف وهو مختلج الفؤاد‪:‬‬
‫فإنهم ال يزالون يعذبونه وعساهم أن يقتلوه هذه الليلة‪.‬‬
‫فمسك ديك يد َّ‬
‫العلمة وقال له‪ :‬أسمعت ما قاله يوسف عساهم أن يقتلوه‬
‫هذه الليلة‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن ظنكما بعيد عن الحقيقة‪ ،‬ألن هؤالء األقوام املتوحشني‬
‫ال يقتلون أرساهم َّإل يف النهار‪ ،‬ويقتيض إنفاذ فعالهم الرديئة سطوع‬
‫أشعة الشمس املضيئة‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬وهل ترى ال يوافق أن أنتهز فرصة الظالم وأنزل منرس ًقا إليه‬
‫وأنتشله من غائلته ثم آتي به إىل املركبة؟‬

‫فقال يوسف‪ :‬سيدي وأنا أذهب برفقتك‪.‬‬

‫فإن قصدكما هذا هو‬ ‫فقال فرغوسن‪ :‬مكانكما يا خلييلَّ‪ ،‬رويدًا رويدًا؛ َّ‬
‫برهان واضح عىل خلوص طويتكما وشجاعتكما‪ ،‬لكنكما ربما ترضان‬
‫وعوضا عن أن توليا ذلك املبتئس ً‬
‫حظا سعيدًا فإنكما تجعالن‬ ‫ً‬ ‫بنا جميعًا‪،‬‬
‫نصيبه التعس والويل‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وما سبب ذلك؟‪ ...‬فإن هؤالء الربابرة ذهبوا متخوشني مرتعبني‪،‬‬
‫وال عادوا يرجعون إىل هذا املكان‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬أتوسل إليك طالبًا أن تسمع ملقايل وال تنقاد لشعائر حنيتك‬
‫التي تحثك عىل بذل أقىص جهدك يف خالص املتعذب‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أ َّواه!‪ ...‬كيف يكون حال هذا املسكني املضطرب الفؤاد الذي‬
‫ال يجيب أحد سؤاله وال يأتيه معني وال مجري‪ ،‬وربما ظ َّن أن قد خدعته‬
‫حواسه وليس ما سمعه من صوت الطلقة َّإل هباء منثو ًرا وأضغاث‬
‫أحالم؟!‬

‫العلمة‪ :‬فها؛ إنني أطمنئ بالَه اآلن‪.‬‬


‫قال َّ‬

‫صارخا باللّغة الفرنسية‪ ،‬وقال‪:‬‬


‫ً‬ ‫ثم استوى قائ ًما وسط املركبة ورفع‬
‫طمنئ من روعك يا أيها األسري املكتئب‪ ،‬وثق بثالثة أصحاب يحرسونك‪.‬‬

‫ف َّعرت الربابرة بأصواتهم الحادَّة وضج ًوا صارخني‪ ،‬وهكذا منعوا الرفاق‬
‫الثالثة من أن يسمعوا جواب األسري‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬واأسفاه عليه!‪ ...‬فإنهم يذبحونه‪ ،‬أو هم مستعدون لذبحه‪،‬‬


‫وستذهب وساطتنا هد ًرا وال تكون نفعت ّإل لتعجيل ساعة قتله وشدة‬
‫عذابه‪ ،‬فعلينا ً‬
‫إذا أن نشتغل اآلن يف أمر نجاته‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وكيف العمل‪ ،‬وما الحيل‪ ،‬وما الذي تظنه مناسبًا لنعمله‬
‫فيما بني هذا الظالم الدامس؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬آه لو كانت تتبدد هذه الظلمات بنور ساطع!‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وما الذي تصنعه إذا تبدد الظالم واستنار هذا املكان؟!‬
‫‪202‬‬
‫قال الصياد‪ :‬وحينئ ٍذ تسهل علينا األمور؛ فإني أنزل ً‬
‫حال إىل األرض‪،‬‬
‫وأبدد شمل هؤالء األنذال برضب الرصاص وأفعل ما أشاء‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وأنت يا يوسف ما الذي تصنعه؟‬

‫قال يوسف‪ :‬سيدي إني أسري يف الطريق األيمن وأترصف ترص ًفا خاليًا من‬
‫صوب معلوم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الخطر‪ ،‬وهو أني أعلم األسري املبتئس أن يهرب إىل‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وكيف تعلمه ذلك؟‬

‫قال يوسف‪ :‬أعلمه بواسطة هذا السهم الذي مسكته ملا كان طائ ًرا يف‬
‫ً‬
‫واسطة أخرى وهي‬ ‫الجو؛ فإني أربط فيه ورقة وأصلها إليه‪ ،‬أو أستعمل‬
‫أني أخاطبه بصوت مرتفع؛ إذ ال يفهم السودان لغتنا‪.‬‬

‫إن مقاصدكما صعبة النفوذ‪ ،‬وال تصلح لنجاة األسري‬ ‫َّ‬


‫العلمة‪َّ :‬‬ ‫قال‬
‫املضنوك‪ ،‬ألنه كم يصعب عليه الفرار من أيدي معذبيه‪ ،‬وأما قصدك يا‬
‫ديك فإنه ربما ينجح؛ إذ تلقي أسلحتنا النارية الرعب يف قلوب الربابرة‬
‫وتجعلهم يذهبون شذر مذر‪ ،‬ولكن إذا خاب مسعاك وحبط عملك فإنك‬
‫ً‬
‫عوضا عن‬ ‫تميس يف خطر مبني ونعود نضطر إىل االهتمام بنجاة اثنني‬
‫إذا أن نهتم ونجد بدون أن نكون عرضة للخطر‪.‬‬‫الواحد؛ فاألوفق ً‬

‫قال الصياد‪ :‬عليك أن تهتم يف األمر ً‬


‫حال‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬سيدي هل أنت قادر عىل أن تبدد هذه الظلمات؟‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن ذا ليس بمستحيل‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال يوسف‪ :‬إذا تممت هذا األمر دعوتك أول علماء عرصنا‪.‬‬

‫فسكت فرغوسن لحظة وخاض بحر الفكر مرتو ًيا يف أمر النجاة وكان‬
‫رفيقاه محدقني به بعجب وقل ٍق؛ إذ جاشت أنفسهم من موقعهم الخارق‬
‫العادة وما مضت برهة ّإل أخذ فرغوسن يف التكلم‪ ،‬وقال‪ :‬أنصتا ملقايل يا‬
‫رطل من الثقل‬‫خلييلَّ؛ فإني فكرت فك ًرا وهو أنه اليزال عندنا نحو ‪ً 36‬‬
‫باق عىل حاله ولم نمسه قط فأظن أن هذا‬ ‫حيث ما حملناه من الرمل ٍ‬
‫اإلنسان مع شدة ضنكه وتررضضه تحت مطارق العذاب ال يزن أكثر‬
‫رطل يمكننا أن نلقيها لنرتقي‬‫ً‬ ‫من واح ٍد منا فيبقى إذا عندنا نحو ‪12‬‬
‫برسع ٍة إىل األعايل‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وكيف يكون إجراء األمر؟‬

‫العلمة‪ :‬إنك تسلم معي أني إذا تمكنت من وضع األسري يف املركبة‬ ‫قال َّ‬
‫ثقل يوازي زنته فال يحدث خلل يف موازنة القبة‪ ،‬ولكن إذا‬ ‫وألقيت عني ً‬
‫رغبت حينئ ٍذ يف أن أرتقي برسع ٍة إىل الجو ألفر هار ًبا من هؤالء املتوحشني‬
‫فيلزمني أن ألتجئ إىل قو ٍة مضاعفة لقوة القصبة والحال إذا ألقيت ما‬
‫بقي من الثقل يف الوقت املعلوم فال شك أنني أصعد برسعة عجيبة‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬إن األمر بني ال شبهة فيه‪.‬‬


‫ُ‬
‫القول‪ ،‬ولكن هنا محذور‪ ،‬وهو أني عندما أريد النزول‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ِ :‬ن ْع َم‬
‫ً‬
‫كمية من الغاز مقابلة ملا أكون ألقيته من الثقل‬ ‫فيما بعد يلزمني أن أفقد‬
‫الزائد‪ ،‬والحال أن هذا الغاز ثمني جدًا‪ ،‬مع ذلك ال يسوغ لنا أن نأسف عىل‬
‫فقده عندما تمس الحاجة لنجاة إنسان من الهالك‪.‬‬
‫‪204‬‬
‫قال‪ :‬يف الحق تكلمت يا خلييل‪ ،‬ومن الواجب أن نبذل كل ما يف وسعنا‬
‫لنجاته‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬فلنبادر إذا إىل العمل ويف بدء األمر اجعال أكياس الرمل عىل‬
‫طرف املركبة لكي نتمكن من إلقائها دفعة واحدة‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وهذا الظالم الكثيف‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬إن هذا الظالم يسرت استعدادنا وأهبتنا وال يتبدد َّإل عند‬
‫نهاية شغلنا‪ ،‬وأما أنتما فكونا عىل حذر وضعا أسلحتكما بالقرب منكما؛‬
‫عىس أن تمس الحاجة إلرضام النار وعندنا هنا الطبنجة والبارودتان‬
‫فجميعها ترمي سبع عرشة رصاصة نطلقها يف برهة ربع دقيقة إذا شئنا‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن ربما ال نضطر إىل هذه الطريقة القصوى‪ ،‬فلنأخذ اآلن بالعمل‬
‫ألعلكما عىل حرض؟‬

‫قال يوسف‪ :‬هانحن أوالء بني يديك‪ ،‬وقد وضعت األكياس عىل طرف‬
‫املركبة والسالح بالجانب منهم‪.‬‬

‫فإن يوسف مف َّوض بإلقاء أكياس‬ ‫العلمة‪ :‬هيا تحرصا شديدًا؛ َّ‬‫َّ‬ ‫قال‬
‫الرمل‪ ،‬وديك بنشل األسري ووضعه يف املركبة‪ ،‬ولكن ال يفعلن أحد منكما‬
‫شيئًا قبل أن آمره به‪ ،‬وأنت يا يوسف اذهب اآلن وحل املرساة‪ ،‬وارجع‬
‫ً‬
‫حال إىل املركبة‪.‬‬

‫فنزل يوسف متدليًا عىل الحبل وفعل ما أمره به سيده وعاد إىل مكانه يف‬
‫برهة وجيزة‪ ،‬فارتفعت حينئ ٍذ املنصورة يف الهواء وكادت ال تتحرك‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فنظر فرغوسن إىل صندوق املزج وتأكد أن عنده كمية كافية من الغاز‬
‫لكي يرضم القصبة عند الحاجة وال يضطر إىل استعمال كرة بنزن‬
‫الكهربائية‪ ،‬ثم رفع األنبوبتني املتفرقتني عن بعضها وهما املستعملتان‬
‫لحل املاء من عنرصيه وبعده نبش من كيس السفر قطعتي فحم مربيتني‬
‫ويف آخرهما رأس حاد فأحكمهما يف طرف كل من األنبوبتني‪.‬‬

‫فشخص رفيقاه متأملني فيما كان يصنعه دون أن يفهما غايته أما هو؛‬
‫أي َّ‬
‫العلمة فبعد أن قىض شغله استوى عىل قدميه يف وسط املركبة ومسك‬
‫يف كل من يديه قطعة من الفحم وقرب رأسيهما إىل بعضهما‪.‬‬

‫ففي الساعة والحال استنار املكان بضياء عجيب وكانت قطعتا الفحم‬
‫كشعلة نارية فبدد ذلك النور الكهربائي ظلمات الليل الحالكة املحيقة‬
‫بهم‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬متعجبًا‪ :‬يا هي يا سيدي!‬


‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬مه صه يا يوسف ال تقل شيئًا!‬

‫‪206‬‬
‫الفصل العرشون‬
‫يف املرسل العازاري وانتشال ِه من أيدي الربابرة وسريت ِه وأوجاع ِه األليمة‬
‫وحسن مداراة َّ‬
‫العلمة فرغوسن ل ُه‬

‫‪207‬‬
‫فح َّول فرغوسن توجيه شعاع النور الكهربائي من مكان إىل مكان‬
‫ثم وجهه إىل مكان سمع فيه أصوات اضطراب وشغب وجعل رفيقاه‬
‫يتفرسان يف ذلك املكان‪.‬‬

‫فشاهدوا أن شجرة البوبات املتعلّقة بها املرساة مرتفعة بني حقلني؛ حقل‬
‫سمسم وحقل قصب سكر ويتخللهما نحو خمسني ً‬
‫كوخا متشتت املراكز‬ ‫ٍ‬
‫ويطوف حول تلك األكواخ رجال الطائفة الحالة يف تلك البقعة‪.‬‬

‫ثم برص الرفاق الثالثة بخشبة مرتكزة عىل الحضيض نظري الساري‪،‬‬
‫وذلك عن بعد نحو مائة قدم من قبتهم‪ ،‬وعند أسفل الخشبة شاب‬
‫مضطجع يبلغ عمره نحو ثالثني سنة ذو شعر أسود مستطيل وجسده‬
‫عري نصفه عن الثياب نحيف مهزول العافية مخضب بالدماء مثخن‬
‫بالجراح ورأسه مائل إىل صدره كما كان املسيح عىل الصليب‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وشاهدوا يف قمة رأسه شع ًرا محلو ًقا مستدي ًرا أشبه الكهنة‪ ،‬فصاح يوسف‬
‫وقال‪ :‬إنما هو مرسل؛ هو كاهن وال شك‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬واأسفاه! واحرستاه عليه!‬

‫العلمة سننجيه اآلن بحوله تعاىل يا صاح؛ كن مرتاح البال يا خلييل‪،‬‬‫قال َّ‬
‫فلما برصت الطائفة السوداء بالقبة الهوائية الشبيهة بالنجم ذات الذنب‪،‬‬
‫ولها ذنب ذو نور ساطع بلغت منهم الدهشة واالنذهال أشد مبلغ وضجوا‬
‫يف رصاخ الفزع والهلع‪ ،‬فرفع حينئ ٍذ الكاهن رأسه وملع إذ ذاك نور األمل‬
‫عىل محياه‪ ،‬ثم م َّد يداه نحو مخلصيه أنه يتوسل إليهم ضارعًا وهو كمن‬
‫يرى منا ًما‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬حمدًا وشك ًرا لباري الربايا الذي نجاه من الهالك أما نحن‬
‫فال يعرس علينا نشله ألن الرجال السود تكبلوا بسالسل الخوف والرعشة‪،‬‬
‫ومهدوا لنا سبيل الخالص؛ فهل أنتما عىل حرض يا خلييلَّ؟‬

‫قال ديك‪ :‬نعم؛ قل ما تشاء!‬

‫قال فرغوسن‪ :‬أطفئ القصبة يا يوسف!‬

‫فتمم يوسف أمر سيده ودفع النسيم الرخيم قبة املسافرين فوق األسري‬
‫فيما كانت القبة تأخذ يف النزول مع تقلص الغاز‪ ،‬أما فرغوسن فكان يميل‬
‫بنوره نحو أولئك الرهط‪ ،‬ويحركه ً‬
‫قليل لييضء المعًا كوميض الربق‪،‬‬
‫فاضطرب السودان اضطرا ًبا عظي ًما‪ ،‬وبادروا مرسعني إىل أكواخهم‬
‫ومكث األسري منفردًا وحده يف محل عذابه‪ ،‬وقد أصاب فرغوسن ً‬
‫قبل إذ‬
‫وثق بما تلقيه املنصورة مع نورها الكهربائي من الرعشة يف قلوب العبيد‪.‬‬
‫‪210‬‬
‫فلما اقرتبت القبة من األرض رجع بعض العبيد األكثر جسارة وجراءة‬
‫إىل أسريهم؛ إذ دروا أنه عن قريب سينجو من أيديهم‪ ،‬وكانوا يرصخون‬
‫هائل فمسك ديك سالحه لريميهم بالرصاص فمنعهم فرغوسن‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رصاخا‬
‫عن ذلك‪.‬‬

‫وكان الكاهن جاثيًا عىل ركبتيه؛ إذ ليس له قوة أن يستوي قائ ًما وهو‬
‫ً‬
‫مربوطا بها؛ إذ ال حاجة إىل رباط لشدة‬ ‫ليس بمعلّق عىل الخشبة وال‬
‫ضعفه وهزله فلما وصلت املنصورة إىل األرض وضع ديك سالحه يف‬
‫مكانه ومسك الكاهن من تحت إبطيه رافعًا إياه إىل املركبة وألقى يوسف‬
‫وقتئ ٍذ أكياس الرمل التي أرشنا إليها‪.‬‬

‫فكان فرغوسن يؤمل االرتقاء رسيعًا وبخفة عجيبة‪ ،‬ولكن القبة خيبت‬
‫منه اآلمال إذ مكثت يف الجو غري متحركة بعد أن ارتفعت نحو أربعة أو‬
‫خمسة أقدام‪.‬‬

‫فالحت عىل وجهه لوائح الفزع وصاح بصوت يخالجه الرعب وقال‪ :‬ما‬
‫الذي يمسكنا؟!‬

‫وللساعة هرول بعض العبيد وهم يصوتون برصاخ الوحوش الضاريات‪.‬‬

‫فمال يوسف برأسه إىل خارج املركبة وقال‪ :‬سيدي إن أحد هؤالء السود‬
‫تعلّق بمركبتنا‪.‬‬

‫فقال فرغوسن‪ :‬إياك يا ديك وصندوق املاء‪.‬‬


‫ففهم ديك مقصد َّ‬
‫العلمة ويف ساعته أخذ صندو ًقا من صناديق املاء الذي‬

‫‪211‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫رطل ونيف ورماه ً‬


‫حال إىل األرض‪.‬‬ ‫يبلغ وزنه نحو عرشين ً‬

‫فلما خفت القبة فجأة قفزت قفزة هائلة إىل الجو‪ ،‬وبلغ علوها نحو‬
‫ثالثمائة قدم فشمل القوم السود الخزي والخجل؛ إذ فلت األسري من بني‬
‫أيديهم وانتشل ملتح ًفا بشعاع نور ساطع‪.‬‬

‫ثم قفزت القبة قفزة أخرى فجائية وعلت عن األرض نحو ألف قدم‪.‬‬

‫فقال ديك‪ ،‬وقد أوشك أن يفقد موازنة جسمه‪ :‬وما هذا؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ال تخف يا ديك فقد رخى النذل األسود قبتنا‪.‬‬

‫فمال يوسف للحال برأسه إىل أسفل وشاهد العبد األسود نا ً‬


‫رشا ذراعيه‬
‫كدوالب ثم سقط عىل األرض فتهشم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وهو يدور يف الهواء‬
‫فأبعد وقتئ ٍذ َّ‬
‫العلمة السلكني الكهربائيني وعاد الظالم إىل احتباكه وكانت‬
‫الساعة إذ ذاك الواحدة بعد انتصاف الليل‪.‬‬
‫ويف تلك الدقيقة استفاق الفرنيس من غشيانه وفتح عينيه فقال له َّ‬
‫العلمة‪:‬‬
‫أبرشك فإنك نجوت من الهالك‪.‬‬

‫فأجاب املرسل باللّغة اإلنكليزية وقال وهو يبتسم تبسم االكتئاب‪ :‬نعم‬
‫إني قد نجوت من ميت ٍة شنيعة؛ فإني أشكر معروفكم يا إخوتي عىل‬
‫صنيعكم وجميلكم ولكن أرى أن ساعتي قد اقرتبت وأيامي فنيت فعن‬
‫قريب أرحل من هذه الدنيا إىل اآلخرة‪.‬‬
‫ً‬
‫مضنوكا إىل الغاية‪.‬‬ ‫ثم عاد إىل سباته؛ إذ كان جسمه‬
‫‪212‬‬
‫فقال ديك‪ :‬وا أسفاه عليه!‪ ...‬فإنه يف حالة النزاع‪.‬‬
‫كل يا ديك‪ ،‬ثم َّ‬
‫كل‪ ،‬لكنه خائر القوى لشدة العياء والعذاب‪،‬‬ ‫العلمة‪َّ :‬‬
‫قال َّ‬
‫فلنجعله تحت الخيمة لريقد هناك‪.‬‬

‫فمدوا ذلك الجسم النحيف املهزول تحت الخيمة بلطافةٍ‪ ،‬وغطوه بلحفهم‪،‬‬
‫وكان إذ ذاك مغمو ًرا بآثار العذاب والجراح املتثغبة بالدماء‪ ،‬وقد أثر فيها‬
‫العلمة جراحه ثم غطاها بنسا ٍل صنعه‬ ‫الحديد والنار تأثريًا بلي ًغا‪ ،‬فغسل َّ‬
‫من خرق ٍة كتان‪ ،‬وكان حاذ ًقا يف هذه الصنعة‪ ،‬ويداري املريض كطبيب‬
‫قليل من الدواء املقوي من أجزائيته وسكب ً‬
‫نقطا منه عىل‬ ‫ماهر‪ ،‬ثم أخذ ً‬
‫شفتي الكاهن‪.‬‬
‫ً‬
‫داللة عىل املمنونية والحظوى وبالكاد‬ ‫فمسك املريض حينئ ٍذ بيد طبيبه‬
‫تلفظ بكالم الشكران؛ إذ قال له‪ :‬أشكر معروفك ‪ ...‬أيها الفاضل ‪...‬‬

‫ثم رأى فرغوسن مواف ًقا أن يرتك الكاهن لينام ويأخذ راحة تامة لجسده‬
‫فج َّر حواليه ستار الخيمة ورجع إىل مركزه إلدارة القبة الهوائية‪.‬‬
‫ً‬
‫رطل‬ ‫وقد خفت موازنة القبة مع وجود الضيف الجديد ثقل ثالثني‬
‫فوالحالة هذه لم يكن فعل القصبة الز ًما ليستمر املسافرون يف علو‬
‫مناسب وعند بزوغ الفجر هبت ريح لطيفة فدفعتهم نحو غربي شمال‬
‫الغرب‪.‬‬

‫فذهب فرغوسن برهة لينظر إىل الكاهن فرآه مغميًا عليه‪.‬‬

‫فقال ديك‪ :‬حفظ لنا املوىل هذا الضيف الجليل الذي بعثه إلينا؛ قل يا‬

‫‪213‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فرغوسن هل لنا أمل بشفائه؟‬

‫قال فرغوسن‪ :‬األمل به تعاىل‪ ،‬وأظن أنه يربأ باملداراة وطيبة هذا الهواء‬
‫الرائق‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ ،‬وهو مضطرب الفؤاد‪ :‬أواه؛ كم كابد هذا املبتئس من م ّر‬
‫ً‬
‫شجاعة منا؛ إذ تجرأ عىل اإلقدام‬ ‫العذاب‪ ،‬ولكن أتعلمان يا خلييلَّ أنه أكثر‬
‫إىل هذه البالد وحده دون رفيق‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬ال شك يف ذلك‪.‬‬


‫فما أراد َّ‬
‫العلمة يف ذلك النهار أن يقطع رقاد املريض بل تركه تائهًا يف‬
‫مفاور غشيانه العميق‪ ،‬لكنه كان يتأوه أحيا ًنا ويتذمر من أوجاعه وهذا‬
‫ما أقلق بال فرغوسن بشأنه‪.‬‬

‫وعند املساء مكثت القبة ثابتة يف الجو وسط الظالم واستمرت مدى الليل‬
‫كله‪ ،‬وأراد فرغوسن أن يحرسهم جميعًا واعتاض عن الرقاد بالسهاد‪.‬‬
‫ويف الغد عند الصباح كانت القبة قد اتجهت ً‬
‫قليل نحو الغرب واستبان‬
‫النهار رائق الجو خاليًا من كل غاشية ونادى املريض أصحابه بصوت‬
‫رس لذلك الرفاق الثالثة ورفعوا عنه ستار الخيمة فاستنشق ذلك‬
‫حسن ف َّ‬
‫النسيم الرخيم‪ ،‬نسيم الصباح ببهجة قلب وفرح ال مزيد عليه‪.‬‬
‫فسأله فرغوسن ً‬
‫قائل‪ :‬كيف حالك اليوم؟‬

‫قال الكاهن‪ :‬ربما أحسن من البارحة‪ ،‬ولكن أنت من أنتم يا أصحابي‬


‫ألذكركم يف صالتي األخرية‪ ،‬فإني ما شاهدتكم إىل اآلن َّإل كفي حلم‪،‬‬
‫‪214‬‬
‫وبالكاد أعرف ما جرى يل ولكم عندما سعيتم يف تخلييص من التهلكة‪.‬‬

‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬نحن مسافرون إنكليزيون قد قدمنا عىل أن نجوز بالد‬
‫إفريقية بالقبة الهوائية ويف مرورنا ترشفنا بإنقاذك من أيدي معذبيك‪.‬‬

‫ً‬
‫أبطال‪.‬‬ ‫قال املرسل‪ :‬إن للعلم‬

‫قال الصياد‪ :‬وللدين شهداء‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وهل أنت مرسل‪.‬‬

‫قال إني كاهن من رسالة اآلباء العازارية‪ ،‬وقد هداكم املوىل لتأتوا إيلَّ‬
‫وتنتشلوني من العذاب فليتمجد اسمه تعاىل‪ ،‬أما حياتي فقد قدمتها‬
‫وخصوصا عن‬
‫ً‬ ‫ضحية‪ ،‬ولكن أرجوكم أن تخربوني عن أحوال أوربا‬
‫أحوال البالد الفرنسية؛ إذ أنتم قادمون من أوربا‪ ،‬وأنا لم أسمع قط خربًا‬
‫عن تلك البالد منذ خمس سنوات‪.‬‬

‫قال ديك وقد خطت الدهشة رسومها عىل محياه‪ :‬أنت ً‬


‫إذا مقيم وحدك بني‬
‫هؤالء الربابرة منذ نحو ‪ 5‬سنوات يا للعجب؟!‬

‫قال املرسل‪ :‬إنها أنفس ثمينة مات السيد مخلصنا ليفديها‪ ،‬وما هم‬
‫َّإل إخوتنا‪ ،‬لكنهم جهالء متوحشون‪ ،‬وليس ما يعلمهم ويمدنهم سوى‬
‫الديانة وحدها‪.‬‬

‫أما فرغوسن فأخذ يحدث املرسل عن أحوال البالد الفرنسية برشح‬


‫مطول‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫فأصاخ املرسل بأذنيه سمعًا ملقال فرغوسن‪ ،‬وكانت عيونه تسكب العربات‬
‫من اآلماق‪ ،‬ثم هيأ له َّ‬
‫العلمة شيئًا من رشاب الشاي وسقاه إياه فرشبه‬
‫برسور وابتهاج‪ ،‬وحينئ ٍذ تمكن من أن ينهض ً‬
‫قليل من فراشه واستوى‬
‫ً‬
‫محمول عىل أجنحة الرياح يف‬ ‫عليه وتبسم ثغره بلطافة؛ إذ شاهد نفسه‬
‫جو رائق كثري الصفاء‪.‬‬

‫ثم قال ألصحابه‪ :‬إنكم يف الحقيقة مسافرون ذوو شجاعة وبسالة‬


‫وستنجحون يف مسعاكم وتشاهدون األقارب والخالن واألوطان‪.‬‬

‫وللحال أمسك عن التلفظ بكلمة أخرى؛ إذ خارت قواه واضط َّر إىل أن‬
‫ً‬
‫انحطاطا شديدًا حتى إنه ملا‬ ‫ينبسط عىل الفراش‪ ،‬وقد انحطت قواه‬
‫ارتمى بني يدي فرغوسن مدة بعض ساعات كان كامليت ال يبدأ بحركة‬
‫ولم يتماسك َّ‬
‫العلمة عن إظهار جأشه وكدره؛ وقال يف نفسه‪ :‬هل ترى‬
‫يفارقنا رسيعًا هذا املرسل املسكني الذي انتشلناه من ورطة هالكه؟‬

‫ثم ضمد جراحه من جديد واستعمل كثريًا من ذلك املاء الباقي عنده ليربد‬
‫غليل أحشائه امللتهبة وبذل غاية جهده وذكائه يف مداراته ومالطفته‬
‫فكانت تنتعش روح املريض رويدًا‪ ،‬بني يديه وأخذت حواسه‪ ،‬إذا لم نقل‬
‫حياته‪ ،‬يف الرجوع إليه‪.‬‬

‫فأخرب املرسل املسافرين سرية حياته بوجيز العبارة وقد تلقن َّ‬
‫العلمة‬
‫كالم الكاهن من فيه بصعوبة؛ إذ خالجته اللغلغة والهتهتة لشدة ضنكه‬
‫وعيائه‪ ،‬وقد كان طلب إليه فرغوسن أن يتكلم باللّغة الفرنسية لكونها‬
‫أسهل عليه أما هو فيفهم بسهولة ما يقال فيها‪.‬‬
‫‪216‬‬
‫إنما املرسل فكان قد ولد يف قرية أرادون من مقاطعة مربيهان يف شمايل‬
‫فرنسة وقد عطف منذ نعومة أظفاره عىل اعتناق العيشة الكهنوتية فدخل‬
‫رسالة اآلباء العازارية املؤسسة من القديس املجيد منصور دي بول‬
‫قاصدًا بذلك خوض املشاق يف األسفار مع كفره بذاته وزهده يف الدنيا‬
‫وأباطيلها وملا بلغ من العمر زهاء ‪ 24‬سنة هجر وطنه قاد ًما إىل سواحل‬
‫إفريقية ثم أوغل يف البالد حتى وصل إىل القبائل الحالة يف مصبات النيل‬
‫األعىل بعد أن قاىس ما قاساه من املشقات واألتعاب والجوع والعطش‬
‫وهو مع ذلك صابر عىل حاله مرسور القلب والخاطر مترضع إىل ربه‬
‫تعاىل فج َّد يف إرشاد تلك األقوام وهدايتها إىل السبيل املستقيم غري أنه لم‬
‫باطل وعومل سوء املعاملة جزاء عىل‬‫ً‬ ‫ينجح ورذلت ديانته وذهبت غريته‬
‫إحساناته وخرييته فحبس عند قوم بربري من قبائل نيامربَّة وكابد يف‬
‫سجنه م َّر الشتائم واإلهانات والعذاب لكنه ما برح يعلم ويعظ ويبتهل‬
‫إليه سبحانه وتعاىل وإذ يف ذات األيام تبارزت طائفة مع تلك الطائفة‬
‫محبوسا عندها فشتتت شملها ومزقتها خرائق وأذهبتها طرائق‬ ‫ً‬ ‫التي كان‬
‫وأنزلت فيها البوائق كما هي عادة كل األقوام الوحشية ولو لم يحسب‬
‫الكاهن األسري ً‬
‫قتيل لكان نابه التعس والويل‪.‬‬

‫وإذ نجا لم يشأ أن يرجع إىل ورائه بل دخل يف أواسط إفريقية وهو يقيض‬
‫مصلحته يف الرسالة والهداية وكانت أيامه زاهرة حني أ ُ ِع ّد مجنو ًنا‪ ،‬وذلك‬
‫ملواظبته عىل تعليم الدين املسبحي واحتمال ما يلم فيه من املشتقات‬
‫واإلهانات‪ ،‬ثم طاف حول تلك األقاليم الرببرية مدة سنتني مستطيلتني‬
‫متسلحا برتس تلك القوة اإللهية الفائقة الطبيعية التي كانت تدفعه إليها‪،‬‬‫ً‬
‫ومنذ سنة كان قد أقام عند قبيلة من قبائل نيام نيام املدعوة برافري‪،‬‬

‫‪217‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫وهي من البالغات يف التوحش وكان من برهة بعض األيام قد مات كبريهم‬


‫فتظلموا الكاهن وقالوا إنه هو السبب يف موته غري املنتظر‪ ،‬وعزموا عىل‬
‫ذبحه وكانوا يعذبونه منذ نحو أربعني ساعة‪ ،‬وقد قر رأيهم عىل أن يقتلوه‬
‫يف الغد عند الظهر كحسب رأي َّ‬
‫العلمة‪ ،‬وملا سمع طلقة األسلحة النارية‬
‫صاح بصوته وقال‪ :‬إيلَّ إيلَّ وقد خيل له أنه تائه يف مفازة الحلم‪ ،‬وإذا‬
‫العلمة قد أتى وطمأن باله وروعه‪.‬‬ ‫بصوت َّ‬

‫وعندما انتهى من قصته قال‪ :‬ال أتأسف عىل ذهاب روحي إىل خالقها‬
‫ومخلصها‪.‬‬

‫فقال له فرغوسن‪ :‬ال تيأس بعد من الحياة؛ فإننا بالقرب منك وننجيك‬
‫بعونه تعاىل من املوت كما نجيناك من آفة العذاب‪.‬‬

‫فقال الكاهن وهو صابر عىل مصابه‪ :‬حسبي ما نلت من كرم املوىل‪،‬‬
‫أصحاب أفاضل‬
‫ٍ‬ ‫فليتمجد اسمه تعاىل ألني حظوت قبل موتي بمشاهدة‬
‫وسمعت لغة وطني‪.‬‬

‫ثم عادت قواه إىل ضعفها وقىض النهار بني الرجاء والخوف‪ ،‬وكان ديك‬
‫مرتاع الفؤاد‪ ،‬ويوسف يمسح من عينيه الدموع عىل انفراد‪.‬‬

‫وكان مسري املنصورة غري رسيع‪ ،‬وكأنك بالريح قد أرادت مداراة حملها‬
‫النفيس ومالطفته‪.‬‬

‫وملا أمست قد ملح يوسف يف األفق الغربي ضيا ًء عظي ًما فلو وجدوا يف‬
‫عروض أرفع لحسبوه فج ًرا شماليًا؛ إذ تراءت السماء شاعلة نا ًرا فأخذ‬
‫َّ‬
‫العلمة يف الفحص عنه بتدقيق‪ ،‬ثم قال إنما هذا هو بركان يقذف النريان‪.‬‬
‫‪218‬‬
‫فقال الصياد‪ :‬ولكن َأل ترى أن الريح تدفعنا إىل ما فوقه‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هب أنها دفعتنا إليه فإننا نجوزه يف علو نأمن به من غائلة‬
‫نريانه‪.‬‬
‫جبل بدرجة ‪ً 24ْ 15‬‬
‫طول ‪42‬‬ ‫وعقب مرور ثالث ساعات بلغت املنصورة ً‬
‫عرضا وأمامه فوهة الربكان النارية تقذف سيول مواد مذ َّوبة مختلفة‬‫ً‬ ‫ْ‪4‬‬
‫األجناس وتدفع منها قطع صخور إىل علو شاهق ومن املجاري النارية‬
‫ما كان يشبه السالالت املزبدة بتساقطها من الفوهة إىل أسفل‪ ،‬فرقب‬
‫املسافرون ذاك املشهد البهي‪ ،‬لكنه كان ذا خطر عظيم ألن الريح ما زالت‬
‫تهب مهبها وتدفع املنصورة إىل ذلك الجو املضطرم لهيبًا‪.‬‬
‫وملا لم يمكنهم تجنب هذا العائق بل لزمهم أن يجوزوه فأرضم َّ‬
‫العلمة‬
‫حرارة القصبة إىل أن بلغت املنصورة علو ستة آالف قدم وكانت بينهم‬
‫ذراع‪.‬‬
‫وبني الربكان مسافة نحو خمسمائة ٍ‬
‫وقد استطاع الكاهن املريض من فراشه أن يرشف عىل ذلك الجبل الناري‬
‫ويتأمل املزبدة املدفوعة منه بشدة كسهام ملتهبة‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬إنه مشهد بهي فسبحان من ك َّون الكون وأعجب يف خالئقه‬
‫الرفيعة والهائلة معًا‪.‬‬

‫وأما املواد النارية املتدفقة من ذلك الربكان فكانت تنزل متساقطة عىل‬
‫ً‬
‫فراشا من لهيب النار املتقدة واملتأججة‪،‬‬ ‫سفح الجبل‪ ،‬وتبسط عىل األرض‬
‫ويف الليل كنت ترى أسفل القبة مضيئًا من سطوع النريان املتصاعدة‬
‫ومعها كانت تتصاعد إىل القبة حرارة شديدة فما تماسك فرغوسن أن‬

‫‪219‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫بادر بالرتحال هر ًبا من وقوع الويل واألخطار‪.‬‬

‫فقبل انتصاف الليل بساعتني من الزمان لم يعد يبني الجبل الناري َّإل‬
‫كنقطة حمراء يف األفق وما زالت املنصورة سائرة باألمن والسالم يف طبقة‬
‫جوية أقل ارتفاعًا‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫الفصل الحادي والعرشون‬
‫يف موت الكاهن ودفنه والنقر الذهبية واضطراب يوسف يف جمع األموال‬
‫وما حصل له من النكاية‬

‫‪221‬‬
‫وكانت ليلة بهية تطرب الخاطر‪ ،‬فاضطجع الكاهن واهي القوى‪ ،‬ونام‬
‫غائبًا عن حواسه‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬أواه عىل هذا الشاب الذي لم يبلغ بعد من العمر سوى‬
‫ثالثني سنة!‪ ...‬فإن رقاده ربما هو الرقاد األخري‪.‬‬

‫العلمة‪ :‬سينطفئ نور حياته بني أذرعنا‪ ،‬وقد ضاق تنفسه أكثر مما‬‫قال َّ‬
‫كان ً‬
‫قبل‪ ،‬ومايل حيلة ألفرجه‪.‬‬

‫فقال يوسف بغضب وحنق‪ :‬قبحهم الله أولئك الصعاليك املجرمني الذين‬
‫أنزلوا فيه التنكيل‪ ،‬وترى كيف قد وجد هذا الكاهن املبتئس باعثًا ليشفق‬
‫عليهم ويعذرهم ويسامحهم عىل زلتهم وآثامهم!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ها قد أوتي من السماء بليلة بهية عساها ليلته األخرية‪ ،‬ولكن‬

‫‪223‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ال يعود يذوق عذا ًبا شديدًا وال يكون موته َّإل رقادًا رائ ًقا‪.‬‬

‫العلمة ورأى أن نفسه ضاق‬‫ثم تلجلج املنازع ببعض كلمات فدنا منه َّ‬
‫جدًا والتمس الهواء فسحب له ستار الخيمة واستنشق حينئ ٍذ نسيم تلك‬
‫الليلة الشفافة‪ ،‬حيث النجوم والكواكب ترسل إليه نورها املرتجف والقمر‬
‫يحتفه ببياض شعاعه‪.‬‬

‫فقال بصوت ضعيف‪ :‬إني متوجه راحل عنكم اآلن يا أصحابي جزاكم‬
‫الله عىل جميلكم‪ ،‬أسأله تعاىل أن يويف عني إحسانكم ويبلغكم مناكم‪.‬‬

‫فإن هذا َّإل ضعف وقتي زائل‪ ،‬وكيف‬


‫قال له ديك‪ :‬ال تقطع الرجاء بعد؛ ْ‬
‫يأتي املوت يف مثل هذه الليلة املبهجة‪.‬‬

‫عيني‪ ،‬وال منه مناص فدعوني أتأمله؛ فإنه‬


‫َّ‬ ‫قال املرسل‪ :‬إن املوت نصب‬
‫بداية األمور األبدية ونهاية االهتمامات العاملية‪ ،‬أرجوكم يا إخوتي أن‬
‫ركبتي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تجعلوني جاثيًا عىل‬
‫فأنهضه ديك ً‬
‫قائل‪ ،‬وقد استولت الحنية عىل قلبه إذ رأى أعضاءه الخائرة‬
‫الفاقدة القوى قد تررضضت‪.‬‬
‫ثم صاح ً‬
‫قائل‪ :‬إلهي إلهي كن يل راح ًما وشفو ًقا‪.‬‬

‫وقد أضاء وجهه المعًا كأنه البس أنوار الحياة الجديدة وصاعد إىل األعايل‬
‫فرحا وال ملذة‪ ،‬وذلك يف تلك‬
‫بارتفاع عجيب عن الدنيا التي لم يذق فيها ً‬
‫الليلة التي كانت تلقي عليه رونقها اللطيف‪.‬‬

‫ثم منح الربكة لرفقائه الذين لم يوانسهم سوى يوم واحد‪ ،‬وكانت تلك‬
‫‪224‬‬
‫الربكة حركته األخرية‪ ،‬وارتمى بعد ذلك بني أذرع الصياد املغرورقة عيناه‬
‫بالدموع السخينة‪.‬‬
‫فأرشف عليه َّ‬
‫العلمة وقال‪ :‬هذه دقيقته األخرية يقيض فيها نحبه‪ ،‬وللحال‬
‫كل عىل حدة بسكوت تام‪.‬‬ ‫ركع الرفاق الثالثة سجدًا ليصيل ٌّ‬

‫وبعد برهة قال فرغوسن‪ :‬غدًا عند الصباح ندفنه يف هذه األرايض اإلفريقية‬
‫التي سقاها بعرقه ودمه‪.‬‬
‫ويف تلك الليلة أقام ٌّ‬
‫كل من الرفاق الثالثة بحراسة امليت يف األوقات املعينة‬
‫لهم‪ ،‬ولم يتفوه أحد منهم بكلمة‪ ،‬بل اعتاضوا عن التكلم بذرف الدموع‬
‫وصدعة الفؤاد‪.‬‬

‫وملا أصبحت كان مهب الريح من الجنوب واملنصورة سائرة سريًا بطيئًا‬
‫صفصف كائن عىل جب ٍل‪ ،‬وصادفوا يف طريقهم أفواه براكني مطفأة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫فوق‬
‫وخنادق مزروعة‪ ،‬واألرض كلها خالية من نقطة ماء واحدة‪ ،‬وقد اتضح‬
‫لدى املسافرين قحل تلك األرايض وجدبها مما شاهدوا من الجالميد‬
‫املتفاقم بعضها فوق بعض واألرايض املحورة‪.‬‬

‫العلمة عىل دفن امليت عند الظهر أراد النزول إىل خندق بني‬‫وملا عزم َّ‬
‫صخور ذات كن ٍه أصيل‪ ،‬ليكون له ذلك الخندق بمنزلة مال ٍذ يؤوي إليه‬
‫قبته لئال تصدمها الرياح عند نزولها إىل األرض‪ ،‬حيث إن تلك الناحية‬
‫كانت خالية من أشجار يلقي عليها املرساة‪ ،‬ولكن لم يعد يمكنهم النزول‬
‫َّإل بفقد كمية وافرة من الغاز لسبب إلقائهم أكياس الرمل عند انتشال‬
‫الكاهن إىل القبة كما كان أنبأ به َّ‬
‫العلمة رفيقه ديك‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ففتح حينئ ٍذ فرغوسن لولب القبة الخارجة‪ ،‬وإذا باإلدروجن قد أخذ يف‬
‫التنقص‪ ،‬ونزلت املنصورة يف الخندق ً‬
‫نزول بطيئًا‪.‬‬
‫مس القارب أرض الخندق أغلق َّ‬
‫العلمة اللولب‪ ،‬أما يوسف فقفز‬ ‫وعندما َّ‬
‫ً‬
‫ماسكا بيده الواحدة طرف املركبة‪ ،‬ويف اليد‬ ‫إىل الخارج ً‬
‫حال ومازال‬
‫األخرى يلقط من األرض حجارة ويضعها يف املركبة حتى وازت ثقله‪.‬‬
‫ثم جعل يجمع بيديه االثنتني ويكوم حجارة أخرى إىل أن بلغ وزن ما‬
‫رطل‪ ،‬ولساعته استطاع َّ‬
‫العلمة ورفيقه ديك أن ينزال‬ ‫وضعه نحو ثمانني ً‬
‫إىل األرض‪ ،‬ومكثت املنصورة يف موازنة تامة‪ ،‬وكانت قوتها الصاعدة غري‬
‫قادرة عىل رفعها عن األرض يف تلك الحالة‪.‬‬

‫ّإل أنه لم تلجئهم الرضورة إىل وضع حجارة كثرية‪ ،‬ألن ما جمعه يوسف‬
‫من القطع الصخرية كان ً‬
‫ثقيل جدًا‪ ،‬وحمل فرغوسن عىل أن ينتبه إليه‬
‫ثم تطلع يف األرض فكانت مفروشة بالقطع الصخرية الكثرية والجالميد‬
‫الربفريية فقال يف نفسه‪ :‬هذا يشء جديد كشفناه‪.‬‬
‫ً‬
‫محل يصلح لدفن امليت ويف ذلك‬ ‫أما ديك ويوسف فابتعدا ً‬
‫قليل ليجدا‬
‫أحس املسافرون بحرارة زائدة ألن شمس الظهر كانت ترميه‬‫َّ‬ ‫الخندق‬
‫بأشعتها امللتهبة عىل الخط املستقيم‪.‬‬
‫وملا وجدا املحل املناسب رفعا ً‬
‫أول نقر الصخور املفروشة وعزقا األرض‬
‫وحفرا فيها ثقبًا عمي ًقا ال تستطيع الوحوش الكارسات أن تنبشه وتنال‬
‫جثة امليت لتغتذى بها‪.‬‬

‫ثم وضعا فيه جثة الشهيد باحرتام ووقار‪.‬‬


‫‪226‬‬
‫وبعد ذلك ط َّما القرب بالرتاب‪ ،‬ووضعا فوقه حجارة صخرية عىل هيئة‬
‫رضيح‪.‬‬

‫ً‬
‫خائضا بحر الفكر‪ ،‬ولم يصخ سمعًا لصوت رفيقيه لكي‬ ‫أما َّ‬
‫العلمة فكان‬
‫يذهب معهما ويطلب ملجأ يلطي فيه من حرارة الشمس الشديدة‪.‬‬

‫فقال له ديك‪ :‬وبم تفتكر يا عزيزي ساموئيل‪.‬‬

‫قال أتأمل يا ديك بمضادة غريبة يف الطبيعة‪ ،‬وصدفة عجيبة يف القدر؛‬


‫أتعلم يا ديك يف أي أرض دفن هذا املسكني البائس الذي كفر بالعالم‬
‫وأباطيله وبذاته ً‬
‫أيضا؟!‬

‫قال الصياد‪ :‬ما قولك يا صاح؟‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن هذا الكاهن الذي نذر الفقر يرقد اآلن يف معدن ذهب‪.‬‬

‫فصاح ديك ويوسف قائلني بعجب‪ :‬وياله!‪ ...‬كيف يرقد يف معدن ذهب؟!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة نعم يف معدن ذهب؛ ألن الحجارة التي ندوسها كأنها بدون‬
‫قيمة وال ثمن‪ ،‬إنما هي معدن ذهب كيل النقاوة‪.‬‬

‫قال يوسف تكرا ًرا‪ :‬إن ذا ملن املستحيل يا سيدي‪.‬‬


‫العلمة‪ :‬إذا فحصت ً‬
‫قليل فال تلبث أن ترى بني الحجارة الخزفية‬ ‫قال َّ‬
‫والصخرية كثريًا من النقر الذهبية الخالصة‪.‬‬

‫فبادر يوسف للحال كإنسان فاقد العقل وجعل يجمع تلك القطع املتشتتة‪،‬‬
‫َّ‬
‫بالعلمة يقول ليوسف‪ :‬كن رائق‬ ‫وكان ديك راغبًا يف أن يحذو حذوه‪ ،‬وإذا‬

‫‪227‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫البال يا صاح وال تدع الطمع ‪....‬‬

‫قال يوسف‪ :‬تكلم ما تشاء يا سيدي! قال‪ :‬ما هذا وكيف فيلسوف نظريك‬
‫‪....‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ال توجد فلسفة تصدني عن جمع هذه األموال‪.‬‬


‫قال فرغوسن‪ً :‬‬
‫مهل يا يوسف!‪ ...‬تأمل ماذا تنفعنا هذه األموال إذ لسنا‬
‫قادرين أن نحملها معنا؟!‬

‫قال يوسف‪ :‬ولم ال نقدر أن نحملها‪.‬‬

‫قال‪ :‬ألنها تثقل قبتنا‪ ،‬وقد كنت أرغب يف ّأل أطلعك عىل هذا األمر خشية‬
‫أن يجلب عليك األسف والندم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وكيف نرحل تاركني هذه الكنوز املذخورة لنا؟!‪ ...‬نعم هي‬
‫لنا‪ ،‬أيليق ّأل نكرتث بها؟!‬

‫لئل تصاب بحمى املال؛ ألم تعلم من‬ ‫قال‪ :‬احرص عىل ذاتك يا صديقي َّ‬
‫امليت الذي دفناه اآلن أن تحتقر أشياء العالم الباطلة؟‬

‫قال يوسف‪ :‬بالحق قلت‪ ،‬ولكن عىل جميع األحوال هذا ذهب‪ ،‬وأنت يا‬
‫سيدي ديك َأل تساعدني ألجمع ً‬
‫قليل من الكرات والربوات الذهبية‪.‬‬

‫فقال الصياد مبتس ًما‪ :‬وما الذي نفعل بها هل أتينا نطلب الغنى‬
‫والثروة؟‪ ...‬فما لنا ولها؟!‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إن الكرات والربوات ثقيلة وال تودع يف الجيوب بسهولة‪،‬‬
‫‪228‬‬
‫فقال حينئ ٍذ يوسف‪ :‬أفال نستطيع أن نحمل من هذا املعدن ً‬
‫بدل من ثقل‬
‫الرمل؟‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال بأس‪ ،‬فإني أسمح لك بذلك‪ ،‬ولكن عىل رشط أنك ال تعبس‬
‫خارجا عن املركبة‪.‬‬
‫ً‬ ‫عندما نلقي ربواتٍ من ذهبك‬

‫قال يوسف‪ :‬وياله!‪ ...‬كيف نلقي ربوات من الذهب؟!‪ ...‬ولكن هل كل هذا‬


‫ذهب خالص؟‬

‫قال‪ :‬نعم يا أيها العزيز؛ فإن هذا املكان حوض ك َّومت فيه الطبيعة‬
‫كنوزها مذ أجيال‪ ،‬وهنا ما يغني بالدًا وأصقاعًا بتمامها؛ فإن الكنوز التي‬
‫أودعت بطن هذه املفازة القفرة تحاكي كنوز بالد أسرتاليا وكاليفورنيا‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬آهًا لجميع هذه الكنوز!‪ ...‬ستذهب هد ًرا ال ينتفع بها امر ٌؤ‪.‬‬

‫قال‪ :‬إنه من املمكن ّأل ينتفع بها إنسان‪ ،‬ولكن عىل كل حا ٍل فإني أسيل‬
‫عنك الهم والكدر املستحوذين عىل قلبك‪.‬‬

‫قال يوسف‪ ،‬وقد الحت عىل وجهه شعائر الندم‪ :‬لعمري؛ إن ذا أمر عسري‪.‬‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬مرادي أن أرسم لك أعال ًما راهنة تدل إىل مركز هذا املكان‪،‬‬
‫فإذا رجعت إىل األقطار اإلنكليزية أعلمت به رفاقك إذا خيل لك أن األموال‬
‫الغزيرة توليهم السعادة والحظوة‪.‬‬

‫َّ‬
‫الحق يف كالمك‬ ‫قال يوسف‪ :‬دعني من هذا الحديث يا موالي فإني أرى‬
‫ومن الواجب عيلَّ الصرب والتحمل‪ ،‬وأما اآلن فاسمح يل أن أمأل املركبة من‬
‫ربحا لنا‪.‬‬
‫هذا املعدن الثمني‪ ،‬ومهما بقي عند نهاية السفر يكون ً‬

‫‪229‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫ثم أخذ ينقل الحجارة من األرض إىل املركبة ببهجة الفؤاد‪ ،‬وما لبث أن‬
‫جمع نح ًوا من ألف نقرة من النقر الصخرية املذخور فيها الذهب كفي‬
‫صوان ذي صالب ٍة عظيمة‪.‬‬
‫وكان ينظر إليه َّ‬
‫العلمة متبس ًما‪ ،‬ويف غضون ذلك تطلع عىل مركز مدفن‬
‫ً‬
‫عرضا شماليًا ثم رمق‬ ‫الكاهن فوجد أنه يف درجة ْ‪ً 22ْ 23‬‬
‫طول و‪4ْ 55‬‬
‫رمقة أخرية لقرب ذلك الرجل الفرنيس وعاد إىل مركبته‪.‬‬

‫وقد رغب يف أن يرسم صليبًا من خشب ولو غري متق ٍن ليضعه عىل القرب‬
‫وسط تلك القفار لكنه لم يجد شجرة واحدة نابتة يف جوارهم فقال إىل‬
‫رفيقه الصياد إن الله عارف بهذا املكان وكفى‪.‬‬

‫مشغل يف أمر مهم جدًا وهو أنه لكان أكرم بمال‬ ‫ً‬ ‫وكان فكر فرغوسن‬
‫ً‬
‫تعويضا‬ ‫جزيل من تلك الكنوز الثمينة لو أوتي وقتئ ٍذ بيشء من املاء‬
‫لصندوق املاء الذي رماه عند تمسك العبد األسود بالقبة‪ ،‬ولكن ما الحيلة‬
‫وهو مقيم يف تلك املفاوز املاحلة والقفار القاحلة‪ .‬فأشغل هذا األمر باله‬
‫وهيج بلباله؛ إذ إنه مضطر بالرضورة القصوى إىل إرضام نار القصبة‬
‫باملاء‪ ،‬وإذا ما عطشوا فليس عندهم ما يربد غليلهم‪ ،‬ولهذا عزم أن ال‬
‫ً‬
‫فرصة تمكنه من تجديد زاد املاء‪.‬‬ ‫يفوت‬

‫فلما أتى فرغوسن إىل املركبة وجد القطع الصخرية الكثرية التي كان‬
‫كومها يوسف الطميع فطلع إليها ولم يقل شيئًا ثم جلس الصياد يف‬
‫مكانه وتبعهما يوسف وقد أرشق كنوز الخندق بعني الطمع والحرص‪.‬‬
‫فأرضم فرغوسن قصبة القبة فتسخن للحال األنبوب الذي عىل شكل‬
‫الربغي وأخذ اإلدروجن يف الرسيان‪ ،‬وامتد الغاز‪ ،‬أما القبة فلم تتحرك‬
‫‪230‬‬
‫من مكانها‪.‬‬

‫فنظر يوسف إىل سيده بقلق واضطراب‪.‬‬

‫فناداه َّ‬
‫العلمة باسمه‪.‬‬

‫أما هو فكان صامتًا ولم يجب سيده‪.‬‬

‫فقال له َّ‬
‫العلمة‪ :‬أما تسمعني يا يوسف‪.‬‬

‫فأومأ يوسف باإلشارة داللة عىل كونه سمع صوت فرغوسن‪ ،‬لكنه لم يشأ‬
‫أن يفهم ما يقوله له‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬أرجوك أن تتكرم عيلَّ من سخائك وتلقي جانبًا من هذا‬


‫خارجا عن املركبة‪.‬‬
‫ً‬ ‫املعدن‬

‫قال يوسف‪ :‬ولكن أما أذنت يل يا سيدي‪...‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬ما أذنت لك َّإل أن تضع شيئًا مقابل الثقل‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬ومع ذلك‪...‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬أتريد ً‬


‫إذا أن نستقر يف هذه القفار إىل أبد اآلباد؟‬

‫فنظر يوسف حينئ ٍذ إىل الصياد بعني اليأس والقنوط‪ ،‬أما هذا فابتسم‬
‫بسمة من ليس له مقدرة عىل تنفيذ اإلرب‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬وإىل متى يا يوسف؟‬

‫‪231‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال وهو رش عنيد‪َ :‬أل تشتغل قصبتك؟!‬

‫قال فرغوسن‪َ :‬أل ترى أن القصبة مشتغلة وأما القبة فهي لن ترتفع إذا‬
‫لم تلق شيئًا من األحمال التي ثقلت بها املركبة‪.‬‬
‫ففرك يوسف أذنه ثم أخذ نقرة صخرية وهي األصغر واألخف ً‬
‫ثقل‬
‫وجعل يستعربها وينقلها من ي ٍد فكان وزنها نحو ثالثة أو أربعة أرطال‬
‫إنكليزية فرماها وهو ينظر إليها بشوق‪.‬‬

‫أما املنصورة فاستمرت غري متحركة من مكانها‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬واعجبًا من حالتنا؛ لم ال تزال عليها؟!‬

‫قال فرغوسن‪ :‬لم نزل عىل ما نحن عليه؛ فداوم شغلك يا يوسف‪.‬‬

‫وكان ديك ينظر إىل يوسف ويضحك‪ ،‬ثم ألقى يوسف نحو عرشة أرطال‬
‫ولم تتحرك القبة‪ ،‬فعال االصفرار وجهه والحت عليه لوائح الكدر‪.‬‬
‫قال فرغوسن‪َ :‬أل تعلم يا يوسف أن وزن ثالثتنا يبلغ نحو سبعني ً‬
‫رطل‬
‫ونيف‪ ،‬فيجب عليك أن تلقي ً‬
‫ثقل يضاهي ثقلنا ليمكننا االرتفاع‪.‬‬

‫فرصخ يوسف بقلب جريح‪ :‬ال حول وال قوة ّإل بالله‪ ،‬وكيف ألقي سبعني‬
‫ً‬
‫رطل؟!‬

‫أيضا شيئًا لنعلو عن األرض‪.‬‬


‫قال فرغوسن‪ :‬هيا يا بني هيا!‪ ...‬وألق ً‬

‫الص َعدَاء وأخذ يرمي الحجارة من القبة ويف خالل ذلك‬


‫فتنفس يوسف ُّ‬
‫كان ينتظر برهة ويقول‪ :‬هانحن أوالء نرتفع‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫العلمة فكان يجيبه ً‬
‫قائل‪ :‬لسنا يف ارتفاع بل ما زلنا عىل حالتنا‪.‬‬ ‫أما صوت َّ‬

‫ثم قال أخريًا‪ :‬ها القبة قد تحركت‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ارم ثم ارم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬أؤكد لك يا سيدي أن القبة تطلع إىل العايل‪.‬‬


‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ارم وال تنفك عن الرمي‪.‬‬

‫فأخذ يوسف نقرة أخرية بيأس وكدر ودحرجها إىل األرض فارتفعت‬
‫قدم‪ ،‬وجاز املسافرون ذرى ذلك الجبل بمساعدة‬
‫املنصورة نحو مائة ٍ‬
‫حرارة القصبة‪.‬‬
‫ً‬
‫محافظا عىل مال‬ ‫العلمة‪ :‬اعلم يا يوسف وفقك الله أنك ال تزال‬‫قال َّ‬
‫جزيل‪ ،‬وإذا توقفنا وتمكنا من حفظه إىل النهاية كفاك ألن تكون غنيًا إىل‬
‫آخر يوم من عمرك‪.‬‬

‫فسكت يوسف ولم ينطق بكلمة‪ ،‬بل تمدد مضطجعًا عىل فراشه املعدني‪.‬‬

‫فاستتىل فرغوسن كالمه وقال للصياد‪ :‬أَنظرت يا ديك كيف فعلت قوة هذا‬
‫املعدن يف نفس ذات شهامة عجيبة وقلب سليم رائق؛ فكم من الشهوات‬
‫واألهواء بل كم من اآلثام لكان يهيجها معدن مثل هذا؟‪ ...‬لو شاع خرب‬
‫اكتشافه؛ لعمري َّ‬
‫إن ذا مما يحرس الكبد ويفجع الفؤاد‪.‬‬
‫ويف العشية كانت قد تقدمت املنصورة يف الجهة الغربية نحو تسعني ً‬
‫ميل‬
‫وهي بعيدة حينئ ٍذ عن زنجبار بخط مستقيم ألفا وأربعمائة ميل‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫الفصل الثاني والعرشون‬
‫يف دن ّو املسافرين من الصحراء وليايل خط االستواء وتقلقل زاد املاء وما‬
‫صمموا عليه من املقاصد والنوايا‬

‫‪235‬‬
‫فتعلّقت املنصورة يف شجرة قامت منفردة يف أرض قفرة وقد يبست‬
‫نص ًفا وقىض املسافرون ليلتهم بأمان وهدوء وذاقوا فيها لذة الوسن؛ إذ‬
‫إنهم قد تشوقوا إىل الرقاد ملا أثرت يف فؤادهم االهتمامات التي أدركتهم‬
‫يف اليومني السالفني‪.‬‬

‫ويف الغد عند الصباح عادت السماء إىل صفائها وبزغت الشمس متأللئة‬
‫فاورت زناد الحرارة ثم ارتفعت القبة يف الهواء وبعد امتحانات عدة‬
‫وجدوا مهبًا خفي ًفا دفعهم إىل شمال الجهة الغربية‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬إ َّنا ال نتقدم يا رفاق إىل ما قدام‪ ،‬وعىل ظني إننا قد جزنا‬
‫نصف الطريق يف رحلتنا هذه بربهة عرشة أيام‪ ،‬ولكن إذا دامت الحال عىل‬
‫هذا املنوال من السري البطيء لزمت أيام وشهور لنصل آخر املجال ومما‬
‫يزيدنا نكاية عىل نكاية هو أن املاء عندنا سينفد عما قليل‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫قال ديك‪ :‬األمل أن نجد ماء قبل نفاد ما بقي منه‪ ،‬ألنه من املستحيل َّأل‬
‫ً‬
‫جدول أو بحرية يف فسيح هذه الصحراء كلها‪.‬‬ ‫نصادف نه ًرا أو‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هذه رغبتي وغاية مشتهاي‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وهل لم تعوق مسرينا تلك األحمال الباهظة التي ثقل بها‬
‫يوسف مركبتنا‪.‬‬

‫قال هذا قصدًا يف نكاية يوسف من باب املزح؛ إذ إنه قد كاد يصاب بنفس‬
‫مصاب رفيقه عند اطالعه عىل تلك النقر الذهبية‪ .‬ولكن ملا كان قد كظم‬
‫شدة حرصه ولم يتظاهر بما انطوى عليه حينئ ٍذ فؤاده اتسم بسمة‬
‫إنسان ذي تبرص يف األمور‪ ،‬وكان يضحك له ًوا وهزءا من رغبة يوسف يف‬
‫حشد األموال‪.‬‬

‫فرماه يوسف بلحظة مؤثرة‪ ،‬أما فرغوسن فثابر عىل السكوت وأفكاره‬
‫موجهة باضطراب رسي نحو مفاوز الصحراء ومسافتها الشاسعة‪ ،‬فإنه‬
‫يف تلك القفار كثريًا ما تنقيض أسابيع جمة وال تجد فيها القوافل بري ما ٍء‬
‫لرتوي منها غليل العطش‪ ،‬ولهذا كان مشددًا حرصه يف مراقبة األرايض‬
‫املنخفضة َّ‬
‫لعل املاء فيها مجتمع‪.‬‬

‫فهذه االهتمامات مما جرى لهم من الحوادث السالفة غريت منهم القلب‬
‫والجنان‪ ،‬وقلبت مسامرتهم وأحاديثهم إىل السكوت وخوض بحور‬
‫األفكار والهواجس‪.‬‬

‫أما يوسف الخادم الهادي البال فقد تح َّول من هيئ ٍة إىل هيئ ٍة منذ ما‬
‫اطلع عىل تلك الذخرية الثمينة واألموال الجزيلة فالزم الصمت وأخذ‬
‫‪238‬‬
‫بحرص إىل تلك الحجارة املكومة يف املركبة ويتأمل بها كثريًا‬
‫ٍ‬ ‫يحدق برصه‬
‫ويفتكر يف نفسه ً‬
‫قائل‪ :‬اليوم ال قيمة لها أما بعد فيبني عظم أثمانها‪.‬‬
‫ً‬
‫هائل‪ ،‬ومما يكبل املرء يف سالسل القلق‬ ‫كان منظر تلك البقاع والفدافد‬
‫والهلع ويوهيه يف وهدة الهجس والبلبال إذ أخذت الصحراء يف االمتداد‬
‫والتوسع وندر الزرع يف األرض‪ ،‬ولم يعد يرى لألكواخ من أثر بل بانت‬
‫الرمال البيضاء والحجارة املحمرة كجمر النار وبعض األجمات الشائكة‬
‫ثم شاهدوا يف تلك املفازة العقيمة سلسلة صخور ذات رؤوس حادَّة عرية‬
‫تراب وهيئتها هيئة الصوان‪ ،‬فانتبه فرغوسن إىل ذلك الجدب‬ ‫ٍ‬ ‫من كل‬
‫وفكر فيه كثريًا‪.‬‬

‫ولم يتيرس لهم أن يروا أث ًرا لقوافل تجرأت عىل خوض بحور تلك القفار؛‬
‫إذ لم ير عظما من عظام الناس أو الحيوانات‪ ،‬وكان البد من بلوغ بح ٍر‬
‫كأمواج طامة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عظيم من الرمال التي ينقلب بعضها عىل بعض‬

‫ففكروا يف الرجوع إىل الوراء‪ ،‬غري أن ذا من املحال لقلة املاء الفاضل‬


‫أن عاصفة‬ ‫فاقتضت الحال أن يتقدموا إىل قدام‪ ،‬وكان َّ‬
‫العلمة يود لو َّ‬
‫تهب وتدفعهم عن تلك األصقاع‪ ،‬ولكن أين الغيوم والسحب وأين الريح‬ ‫َّ‬
‫العاصفة‪ ،‬فانقىض النهار كله ولم يجوزوا فيه أكثر من ثالثني ً‬
‫ميل‪.‬‬

‫فواهًا لو نفد زاد املاء؛ ترى ما الذي يصيبهم؟‪ ...‬بالحقيقة لم يبق‬


‫عندهم من املاء سوى ثالثة عرش لرتًا ونصف‪ ،‬ولذا وضع فرغوسن ثلثه‬
‫عىل انفرا ٍد لكي يربطوا قلوبهم عند التهابها بنار العطش من جراء تلك‬
‫الحرارة الشديدة البالغة إىل ‪ 90‬درجة إنكليزية‪ ،‬وأبقى الثلثني اآلخرين‬
‫إلرضام نار القصبة‪ ،‬ولكن هذه الكمية ال تحصل سوى ‪ 480‬قد ًما مكعبًا‬

‫‪239‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫من الغاز‪ ،‬والحال أن القبة كانت تنفق نحو تسعة أقدام مكعبة يف برهة‬
‫ساعة من الزمن‪ ،‬فوالحالة هذه كان معهم ما يكفيهم مشيًا مدة أربع‬
‫وخمسني ساعة ال غري‪ ،‬وقد حسب هذا كله بدقةٍ‪.‬‬

‫العلمة لرفيقيه‪ :‬ما بقي لنا غري أربع وخمسني ساعة‪ ،‬وحيث قد‬ ‫فقال َّ‬
‫ً‬
‫جدول أو نبعًا أو‬ ‫صممت النية عىل أن ال نميش يف الليل لعلنا نصادف‬
‫مستنقع ماء نفوته فيكون عدد األيام الذي يتيرس لنا فيها املسري ثالثة‬
‫ونصف وقد اضطررت إىل أن أعلمكما بهذه الحالة املفجعة التي نحن‬
‫عليها‪ ،‬ألنه لم يبق عندنا ّإل القليل من املاء فوضعت شيئًا منه لنربد غليل‬
‫عطشنا؛ فمن الواجب علينا منذ اآلن أن ال نبذره وال أسقيكما َّإل عند‬
‫اللزوم‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬افعل بنا ما تشاء يا فرغوسن‪ ،‬ولكن لم نضطر بعد إىل قطع‬
‫باق لنا ثالثة أيام ونصف؟‬
‫الرجاء؛ ألم تقل أنه ٍ‬
‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬بىل يا عزيزي‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا ترى ما النفع من األسف والتحرس؛ فما لنا ً‬
‫إذا ولهذا الفكر!‪...‬‬
‫تمض وبعدها نفتكر فيما يلزم عمله‪ ،‬وأما اآلن فعلينا أن‬‫ِ‬ ‫دع هذه املدة‬
‫نضاعف سهرنا وانتباهنا‪.‬‬

‫وشح‪ ،‬وأضيف إليه قليل من العرق ألن‬


‫ٍ‬ ‫وعند العشاء توزع املاء باقتصاد‬
‫كثرته ال تفيد تربيدًا بل التها ًبا‪.‬‬

‫صفصف بان كأنه يف انخفاض عظيم‪ ،‬وبالكاد‬


‫ٍ‬ ‫ويف الليل ق َّرت القبة عىل‬
‫كان يبلغ علو سطحه عن مساواة سطح البحر نحو ثمانيمائة قدم فأضاء‬
‫‪240‬‬
‫نور األمل يف قلب فرغوسن لهذه الحادثة‪ ،‬وتذكر ما خمنه أهل الجغرافية‬
‫من وجود بحرية يف قلب إفريقية‪ ،‬ولكن هب أن تلك البحرية موجودة يف‬
‫الحقيقة فكيف الوصول إليها من كون السماء رائقة وال فيها تغيري البتة؟‬

‫فعرب الليل الصايف مع ضياء سمائه املتالمع بأشعة الكواكب والنجوم‬


‫ورواق‪ ،‬وسطعت فيه أشعة الشمس‬ ‫ٍ‬ ‫وردفه النهار الوضاح بأكثر صفاء‬
‫بشدة االحرتاق‪ ،‬وملا كانت الساعة الخامسة قال‪ :‬هبوا عىل الرحيل‪ ،‬ولكن‬
‫استمرت املنصورة برهة جامدة يف ذلك الجو الرصايص ال تميش وال تلوي‪.‬‬

‫العلمة فرغوسن أن يحايد تلك الحرارة الشديدة‬ ‫وقد كان يف إمكان َّ‬
‫بارتفاعه إىل طبقات عالية فلم ُي ِع ْقه عن ذلك سوى قلة املاء‪ ،‬ألنه لو أراد‬
‫الصعود إىل العالء القتىض األمر إنفاق كمية وافية من املاء‪ ،‬وهذا من‬
‫املستحيل فاكتفى بحفظ قبته يف علو مائة قدم عن األرض‪ ،‬وهناك كانت‬
‫تهب ريح خفيفة تدفعها نحو األفق الغربي‪.‬‬
‫ثم فطروا ً‬
‫قليل من اللحم اململح‪ ،‬وعند الظهر كانت القبة قد سارت بعض‬
‫األميال‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة وقتئذٍ‪ :‬إننا ال نستطيع أن نميش بأكثر رسع ٍة من هذه؛ فلسنا‬
‫نحن اآلمرون بل مأمورون ونطيع بصرب جميل‪.‬‬

‫قال الصياد‪ :‬حبذا لو كانت لنا اآللة الدافعة يف هذه الواقعة‪.‬‬

‫شك يف ذلك يا ديك‪ ،‬ولكن عىل رشط أن هذه اآللة ال تنفق‬ ‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬ال َّ‬
‫ما ًء لتفعل حركتها َّ‬
‫وإل فتكون الحالة واحدة؛ فإنه إىل هذا اليوم لم يخرتع‬
‫بعد يشء قابل االستعمال‪ ،‬والقبات الطيارة هي اآلن كما كانت السفن قبل‬

‫‪241‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫اخرتاع البخار‪ ،‬وقد مكث الناس الخرتاع آالته مدة ستة آالف سنة‪ ،‬فلنا‬
‫والحالة هذه وقت طويل لالنتظار‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬تبًا لهذه الحرارة القادحة قال وهو يمسح عرقه الجاري‬
‫من جبينه قاط ًرا‪.‬‬

‫قال فرغوسن‪ :‬لو حوينا املاء لكان لنا فائدة من هذه الحرارة؛ إذ إنها‬
‫تبسط اإلدروجن الذي يف القبة وال يتطلب اللولب الذي عىل هيئة الربغي‬
‫لهيبا شديدًا؛ نعم إنه لو لم يكن املاء عىل وشك الفروغ ما لزمنا أن نجد‬
‫يف توفريها؛ قبح الله العبد الشقي الذي أخرسنا ذاك صندوق املاء الثمني‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬وهل تندم عىل ما فعلت يا صموئيل؟‬

‫كل يا ديك؛ فقد أنقذنا املرسل املبتئس من ميتة شنيعة‪ ،‬ولكن لو بقي‬ ‫قال َّ‬
‫عندنا صندوق املاء الذي رميناه لكفانا مسريًا مدة ثالثة عرش يو ًما‪ ،‬ويف‬
‫هذه املدة ألمكننا أن نجوز القفر كله‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬وهل لم نقطع نصف الطريق يف رحلتنا اإلفريقية؟!‬

‫قال فرغوسن إذا اعتربنا ذلك بالنظر إىل املسافة فنكون قد قطعنا نصف‬
‫الطريق‪ ،‬وأما إذا اعتربناه نظ ًرا إىل املدة ومكث الريح يف سكون فال أعلم‬
‫أين يكون نصف الطريق‪ ،‬وأظن أن الريح مائلة إىل العدم‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬دع عنا هذا الحديث وال تتأسف عىل حالنا؛ فقد نجونا يف مدة‬
‫سفرنا من كل آفةٍ‪ ،‬ومهما جرى لنا فإني ما سك بحبل األمل وال تخيب‬
‫ثقتي‪ ،‬بل أقول لكما إننا سنجد ما ًء عند االقتضاء فليطمنئ منكما البال‬
‫‪242‬‬
‫وليذهب عنكما كل هجس وبلبال‪.‬‬

‫أما األرض فكانت آخذة باالنخفاض من ميل إىل ميل‪ ،‬والعوج الذي‬
‫للجبال كان ينتهي عند الرمال‪ ،‬فقام هناك الحشيش املتفرق مقام‬
‫األشجار الجميلة الكائنة يف الجهة الرشقية‪ ،‬ومن النباتات ما كان قريبًا‬
‫من الغرق يف بحر تلك الرمال‪ ،‬وصخور كثرية متساقطة من جبال بعيدة‬
‫قد تحطمت يف سقوطها‪ ،‬وتبعثرت حىص مسنونة يف تلك البادية وستذوب‬
‫رمل خشنًا‪ ،‬وبعده تحولها حرارة الشمس إىل حب ناعم للغاية‪.‬‬‫وتصري ً‬

‫قال َّ‬
‫العلمة‪ :‬هاك يا يوسف إفريقية كما كنت تتصورها‪ ،‬ولذا قلت لك إنه‬
‫يلزمك أن تشدد حبل صربك وأناءتك‪.‬‬

‫قال يوسف‪ :‬نعم سيدي؛ إن ذا أمر طبيعي حرارة ورمال وهل يليق أن‬
‫ً‬
‫ضاحكا أعلم أني ما كنت أثق كثريًا‬ ‫تطلب شيئًا آخر يف مكان كهذا‪ ،‬ثم قال‬
‫بغابك وأحراشك ألن يف ذلك تناقص‪ ،‬وهل يا ترى تحملنا العذاب والشقاء‬
‫لنأتي من بالدنا ونجد هنا نضارة أراضينا وبساتيننا؛ فهذه هي املرة‬
‫األوىل التي فيها أرى ذاتي مقي ًما يف إفريقية حقيقة‪ ،‬ويرسني أن أذوق‬
‫شيئًا من حالوة مق ّرها‪.‬‬
‫العلمة أن املنصورة لم تخط عرشين ً‬
‫ميل يف ذلك النهار‬ ‫وعند املساء قرر َّ‬
‫الشديدة حرارته‪ ،‬وملا توارت الغزالة يف طي الغسق خيم تلك املفازة ظالم‬
‫مدلهم وسخن معًا‪.‬‬

‫وكان الغد نهار الخميس وهو أول يوم من أيام شهر أيار‪ ،‬أما األيام فكان‬
‫بسياق واحد من شأنه أن يلقي املسافرين يف وهدة‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬
‫بعضا‬ ‫ييل بعضها‬

‫‪243‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫القنوط واليأس‪ ،‬وكل صباح يماثل الصباح الذي عرب‪ .‬وما زالت الشمس‬
‫عند الظهر ترميهم بأشعتها القادحة‪ ،‬والليل يزيد الحرارة ً‬
‫ثقل‪ ،‬والهواء‬
‫تنفسا ال نسمة‪ ،‬وخيل أنه عما قليل سيزول ذلك النفس‬ ‫ً‬ ‫قد أضحى‬
‫الطفيف من تلقاء ذاته‪.‬‬

‫العلمة فرغوسن فأضمر يف قلبه شعائر الكدر تلك التي دهمته من‬ ‫أما َّ‬
‫جراء تلك الحالة املفجعة‪ ،‬وما برح متس ًما بسيما الطمأنينة والرواق‬
‫كإنسان محتنك قد تم َّرن عىل اقتحام األخطار وخوض املنايا‪ ،‬وكان‬
‫ضابطا منظرته ويتطلع يف مراكز األفاق كلها عله يصادف ما يهديه إىل‬ ‫ً‬
‫منبع ماء؛ فما شاهد َّإل انقطاع اآلكام واألرايض النباتية وانبساطة الرمال‬
‫طام ال نهاية له‪.‬‬
‫كبح ٍر ٍ‬
‫ثم هاجمته أفكار املسؤولية التي تحملها عىل عاتقه بسبب اسرتفاقه ديك‬
‫ويوسف أعز أصحابه‪ ،‬اللذان أقادهما بقوة الصحبة أو الخدمة فتالعبت‬
‫يف ميدان دماغه جيوش األفكار وأطرق برهة‪ ،‬وإن لم يظهر عىل نفسه‬
‫أدنى ارتباك‪ ،‬فسأل نفسه هل ترصف حسنًا بإقدامه عىل تلك الرحلة‬
‫الجوية؟ وهل لم يسلك طري ًقا محرمة أو لم يحاول يف سفره مجاوزة‬
‫حدود االستحالة؟ وهل لم يرتك الباري سبحانه وتعاىل ألجيال متأخرة‬
‫معرفة تلك البالد املجهولة؟‬

‫فصدمته هذه الظنون وتخللت عقله يف وقت واحد كما يحدث للمرء يف‬
‫ساعة ييأس فيها من الخالص‪ ،‬وإذ لم يستطيع أن يشتت جيوش الهموم‬
‫الواثبة عليه قد كاد أن يخرج من حدود الرشد والصواب‪ ،‬وبعد أن تقرر‬
‫يف عقله ما وجب عليه إهماله ً‬
‫قبل أخذ يهتم بما يجب عليه فعله ساعتئذٍ‪،‬‬
‫‪244‬‬
‫فقال يف نفسه‪ :‬هل يا ترى هو أمر مستحيل الرجوع إىل الوراء أم هل ليس‬
‫ً‬
‫محول‬ ‫يف طبقات الجو العالية مجاري رياح قادرة أن تدفعه إىل بالد أقل‬
‫وجد ًبا؛ فإنه قد عرف األصقاع التي مر بها‪ ،‬لكنه جاهل باألماكن التي‬
‫يتجه إليها وملا ضايقه ضمريه عزم عىل أن يرشح لرفيقيه واقعة الحال‬
‫كما هي بمطلق الحرية‪ ،‬ففرس لهما األمر جليا‪ ،‬وذكرهما بما قد تم من‬
‫العمل‪ ،‬وأوضح ما بقي عليهم منه‪ ،‬وأكد أنهم‪ ،‬بحرص املعنى‪ ،‬قادرون‬
‫عىل اإلدبار والرجوع إىل الوراء‪ ،‬وبعد أن فرغ من رشحه التمس منهما أن‬
‫يعرضا له رأيهما‪.‬‬

‫فقال يوسف‪ :‬ليس يل رأي سوى رأي سيدي‪ ،‬وما هو مزمع أن يكابده من‬
‫املشقة سأكابد أنا ً‬
‫أيضا بأكثر جراء ٍة وبسالة منه‪ ،‬وإىل حيثما سار أسري‬
‫أنا‪ ،‬وإىل حيثما مىض مضيت معه‪.‬‬
‫فقال َّ‬
‫العلمة‪ :‬وأنت يا ديك‪.‬‬

‫قال ديك‪ :‬أما أنا يا خلييل صموئيل فلست بقاطع حبل اآلمال‪ ،‬ولعمري‬
‫قبل أن أقدم معك عىل السفر لم أغفل قط عن أخطاره ومخاوفه ولكني‬
‫عزمت عىل ّأل أكرتث بهذه األخطار‪ ،‬وال أعتربها طاملا رأيتك قاح ًما فيها؛‬
‫ونفسا‪ ،‬وأما رأيي يف الحالة الحارضة فهو أن نداوم رحلينا‬‫ً‬ ‫فأنا لك جس ًما‬
‫وتنتهي إىل الغاية‪ ،‬وأظن أن أخطار الرجوع إىل الوراء تضاهي أخطار‬
‫إذا عىل املسري‪ ،‬وثق بصداقتنا نحن االثنني‪.‬‬ ‫التقدم إىل ما قدام فهيّا ً‬

‫صاحبي‬
‫َّ‬ ‫فتح َّرك قلب فرغوسن من مثل ذلك الكالم‪ ،‬وقال‪ :‬عافاكما الله يا‬
‫األحقاء؛ فهذا الذي كنت أؤمله من حبكما وتعلّقكما بصداقتي‪ ،‬وقد‬
‫أجداني كالمكما شجاعة وبسالة فأشكر معروفكما وحبكما‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫الرحلة الجوية في المركبة الهوائية‬

‫بعض داللة عىل تجديد مباني املحبة‬


‫ٍ‬ ‫ثم قبض ثالثتهم بعضهم عىل يد‬
‫والوداد واألمانة‪.‬‬

‫رفيقي؛ إنه بموجب‬


‫َّ‬ ‫فاستتىل فرغوسن كالمه‪ ،‬وقال‪ :‬أنصتا ملقايل يا‬
‫تقويمي لسنا بعيدين عن جون غوينه أكثر من ثالثمائة ميل فال يمكن أن‬
‫تكون الصحراء بال نهاية؛ حيث إن ساحل غوينه كثري السكان‪ ،‬ومعروف‬
‫لحد مسافة بعيدة من البحر املحيط‪ ،‬فإذا لزم األمر ذهبنا إىل تلك الجهة‬
‫ومن املستحيل أن ال نصادف يف طريقنا برئا أو غوطة لنجدد زاد املاء‪،‬‬
‫ولكن ما نحن يف احتياج إليه اآلن إنما هو الريح التي بدونها نستقر‬
‫ثابتني وجامدين يف الفضاء‪.‬‬
‫ً‬
‫جميل يا خلييلَّ‪.‬‬ ‫فقال الصياد‪ :‬صربًا‬

‫فعرب ذلك النهار املستطيل‪ ،‬وهم ينتظرون حركة يف الجو‪ ،‬فلم يظفروا‬
‫بعالمة تلقي يف قلوبهم شعاعًا من األمل‪ ،‬بل توارت الشمس وراء األفق‬
‫وهي ترمي رمل الصحراء بأشعتها النارية‪.‬‬

‫فأنفق فرغوسن مائة وخمسة وثالثني قد ًما مكعبًا من الغاز إلرضام نار‬
‫القصبة‪ ،‬مع أنهم لم يسريوا سوى نحو خمسة عرش ً‬
‫ميل‪ ،‬وبردوا لهيب‬
‫عطشهم بكمية من املاء تبلغ نح ًوا من لرتين‪.‬‬

‫ثم جاز الليل بسكون عظيم ولم يطب للعالمة رقاد‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫جول فرين‪:‬‬

‫«جول غابرييل فرين‪ »Jules Verne -‬عام (‪ ،)1905 - 1828‬أديب فرنيس شهري‪،‬‬
‫ترجمت رواياته وانترشت عىل نطاق واسع خالل فرتة الستينيات‪ ،‬التي أكدت قيمة‬
‫فرين األدبية التي تكمن يف كونه رائد أدب الخيال العلمي الحديث‪ ،‬خاصة مع صدور‬
‫رائعته «من األرض إىل القمر» (‪ )1865‬والتي تنبأ فيها بإرسال ثالثة رواد قبل‬
‫حصول ذلك فعالً قرابة قرن من الزمن‪ ،‬كما تحدَّث فرين عن الكهرباء والغواصات‬
‫ومخرتعات علمية كثرية طبعت القرن التاسع عرش والتي كان يتنبأ بها ويتو َّقع‬
‫ظهورها لخدمة اإلنسانية قبل ظهورها بعرشات السنني‪.‬‬

‫كتب فرين أوىل رواياته «خمسة أسابيع يف منطاد» (بالفرنسية‪Cinq semaines en :‬‬
‫‪ ،ballon‬وباإلنجليزية‪ ،)Five Weeks in a Balloon :‬تضم مغامرات استكشافية‬
‫يف إفريقيا قام بها ثالثة إنجليز‪ .‬وبعد رفضها من أحد النارشين قدَّمها للنارش بيري‪-‬‬
‫جو الذي بادر بإصدارها عام ‪ ،1863‬فالقت نجاحا ً لم يكن متو َّقعا عند الفرنسيني‪،‬‬
‫فشكلت يف زمنها تذكرة سفر نحو قارة مجهولة بالنسبة لألوروبيني‪ .‬لتتواىل بعدها‬ ‫َّ‬
‫روايات أخرى منها‪( :‬من األرض إىل القمر‪ ،‬عرشون ألف فرسخ تحت املاء‪ ،‬الجزيرة‬
‫الغامضة‪ ،‬حول العالم يف ثمانني يوماً…)‪ .‬تويف جول فرين يف أول القرن الذي تح َّققت‬
‫فيه ّ‬
‫كل تنبؤاته‪.‬‬
‫يوسف رسكيس‪:‬‬

‫يوسف بن اليان بن موىس رسكيس (‪1351 - 1272‬هـ = ‪1932 - 1856‬م)‪ .‬ذكره‬


‫خري الدين الزركيل يف قاموس األعالم‪ :‬صاحب «معجم املطبوعات العربية واملعربة‪-‬‬
‫يف أحد عرش جزءاً‪ .‬ولد بدمشق‪ ،‬وانتقل إىل بريوت طفالً‪ ،‬وقىض ‪ 35‬عاما ً يف خدمة‬
‫البنك العثماني‪ ،‬كاتباً‪ ،‬فمديراً‪ ،‬يف بريوت ودمشق وقربص وأنقرة واآلستانة‪ .‬واستقر‬
‫بمرص سنة ‪ 1912‬فاشتغل بتجارة الكتب‪ ،‬وصنّف كتابه «معجم املطبوعات»‪ ،‬وله‬
‫«جامع التصانيف الحديثة»‪ ،‬و«أنفس اآلثار يف أشهر األمصار» و«الرحلة الجوية يف‬
‫املركبة الهوائية» ترجمه عن الفرنسية‪ ،‬واألصل للكاتب الفرنيس «جول فرين ‪Jules‬‬
‫‪ ،»Verne‬وكتب مقاالت بالفرنسية عن اآلثار يف تركيا كافأته عليها الحكومة الروسية‬
‫(القيرصية) بتعيينه عضو رشف يف معهد اآلثار الرويس‪ ،‬وكان معنيا ً بجمع النقود‬
‫القديمة واآلثار‪ ،‬وتويف بالقاهرة‪.‬‬
‫الفهرس‬

‫الفصل األول‬
‫‪5‬‬ ‫يف مقصد َّ‬
‫العلمة فرغوسن ووقوع املباحثة عن ُه‬
‫الفصل الثاني‬
‫‪11‬‬ ‫يف صاحب َّ‬
‫العلمة فرغوسن وجدال ُه مع ُه عىل الرتحال ويف ذلك فوائد‬
‫الفصل الثالث‬
‫‪23‬‬ ‫يف ذكر الرحالت التي عاناها املسافرون يف بطون إفريقية ومفاوزها بقصد االكتشافات‬
‫الجديدة‬
‫الفصل الرابع‬
‫‪31‬‬ ‫يف أهمية الرحلة اإلفريقية‬
‫الفصل الخامس‬
‫‪36‬‬ ‫يف خادم َّ‬
‫العلمة ساموئيل وزنة املسافرين‬
‫الفصل السادس‬
‫‪45‬‬ ‫يف تفاصيل املركبة الهوائية من القبة والقارب واآللة الرسية وتجهيز حاجات الرحيل‬
‫الرضورية‬
‫الفصل السابع‬
‫‪53‬‬ ‫يف ركوب السفينة وإيضاح القوة التي ترقي القبة الهوائية وتنزلها حسب املراد‬
‫الفصل الثامن‬
‫‪61‬‬ ‫يف املعنى املتقدم ذكره‬
‫الفصل التاسع‬
‫‪71‬‬ ‫يف وصول املسافرين إىل زنجبار وارتقاء القبة الهوائية إىل الطبقات العلوية‬
‫الفصل العارش‬
‫‪79‬‬ ‫يف مرور املسافرين يف بالد عديدة ومبيتهم عىل شجرة الصبَّار فوق جبل دوتومي‬
‫الفصل الحادي عرش‬
‫‪89‬‬ ‫يف ح َّمى ديك ودوائها ونزوله إىل األرض مع يوسف طلبًا للصيد‬
‫الفصل الثاني عرش‬
‫‪99‬‬ ‫يف هجوم السعادين عىل القبة الهوائية ووصول املسافرين إىل كازه‬
‫الفصل الثالث عرش‬
‫‪113‬‬ ‫يف مدينة كازه وسوقها وأوالد القمر وهيئة رقصهم وعبادة قوم تلك البلد ليوسف‬
‫وظهور قمرين يف البقعة السماوية‬
‫الفصل الرابع عرش‬
‫‪127‬‬ ‫يف العاصفة الشديدة والنجاة منها ويف أرض بالد القمر األريضة ومستقبلها‬
‫الفصل الخامس عرش‬
‫‪141‬‬ ‫يف بحر الخرضة ومصارعة الفيل والعشاء يف الربية واملبيت فيها‬
‫الفصل السادس عرش‬
‫‪155‬‬ ‫يف ما كان من بحرية أوكاروه ومبيت املسافرين عىل جزيرة قفرة ومشاهدتهم عيون‬
‫النيل وإمضاء أندريا ديبنو‬
‫الفصل السابع عرش‬
‫‪171‬‬ ‫يف الجبل املرتجف وأقوام نيام نيام وما كان من أحاديث العرب عن تلك البالد‬
‫الفصل الثامن عرش‬
‫‪181‬‬ ‫يف اآلنية السماوية واألشجار السامية االرتفاع واملذبحة الشنيعة التي تخللتها الوسائط‬
‫اإللهية‬
‫الفصل التاسع عرش‬
‫‪193‬‬ ‫يف الغارة الليلية والصوت إيلَّ إيلَّ وبذل االجتهاد يف نجاة املرسل‬
‫الفصل العرشون‬
‫‪207‬‬ ‫يف املرسل العازاري وانتشال ِه من أيدي الربابرة وسريت ِه وأوجاع ِه األليمة وحسن مداراة‬
‫َّ‬
‫العلمة فرغوسن ل ُه‬
‫الفصل الحادي والعرشون‬
‫‪221‬‬ ‫يف موت الكاهن ودفنه النقر الذهبية واضطراب يوسف يف جمع األموال وما حصل له‬
‫من النكاية‬
‫الفصل الثاني والعرشون‬
‫‪235‬‬ ‫يف دنو املسافرين من الصحراء وليايل خط االستواء وتقلقل زاد املاء وما صمموا عليه‬
‫من املقاصد والنوايا‬
‫صدر من سلسلة كتاب الدوحة‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬


‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫ح ّرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدن ّية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياس ّية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل ال ّلغة العرب ّية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنّان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة “العصفور الصغري”‬ ‫‪43‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫ا ُملعتمدُ بنُ ع َّباد يف سنواته األخرية باألرس‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف َذنّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫بني الج ْزر وامل ّد (صفحات يف ال ّلغة واآلداب والفنّ والحضارة)‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫ظل ال ّذاكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مج ّلة الدوحة»‬ ‫الرحلة الفنّية إىل الديار املرصية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫اعم األمل ( ُمختارات شِ ْعر ّية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫بر ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫التّوت ا ُمل ّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ملحمة جلجامِش‬ ‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬
‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫مح ّمد فريد سيالة‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬ ‫فنّ َ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫أَ ْق َو ُم ا ْل َم َسالِكِ ِف َم ْع ِر َف ِة أَ ْح َوالِ ا ْل َم َملِكِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫كتاب َ‬
‫األخلق‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْح َل ٌة َج َب ِل َّي ٌة ر ِْح َل ٌة َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ِـطاف ( ُمختَا َرات مِن اَ ْلق َِّص ُة ا ْلقَصِ َري ُة ِف َق َطر)‬ ‫ق ْ‬ ‫‪77‬‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like