Professional Documents
Culture Documents
ج ّوية
هوا ِئيّة
كبة ال َ
ِ م ْر
ِفي ال َ
78
مجانًا مع العدد ( )121من مج َّلة «الدوحة» -نوفمبر 2017 -
يُوَ َّزع ّ
عنوان الكتاب :الرحلة الجوية في المركبة الهوائية (من شرقي إفريقية إلى غربيها)
المؤلف :جول غابرييل فيرن ،ترجمة :يوسف اليان سركيس
الناشر :
وزارة ّ
الثقافة والرياضة -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية :
الترقيم الدولي (ردمك) :
العمل الفني للغالف والصفحات الداخلية :للرسام الفرنسي إدوارد ريو ()1900 - 1833
ّ
مجلة الدوحة اإلخراج والتصميم :القسم الفني -
ّ
المجلة. كتابها ،وال ُتع ِّبر -بالضرورة -عن رأي الوزارة أو
المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ
الرّحل َ ُة ا ْل َ
ج ّوية
هوا ِئيّة
كبة ال َ
ِ م ْر
ِفي ال َ
(من شرقي إفريقية إلى غربيها)
(الجزء األول)
(نسخة ُمطابقة للطبعة األولى بيروت )1875
الفصل األول
يف مقصد َّ
العلمة فرغوسن ووقوع املباحثة عن ُه
5
ملا كان اليوم الخامس عرش من شهر كانون الثاني سنة ألف وثمانيمائة
واثنني وستني أذاعت الصحيفة اإلنكليزية املعروفة باسم داييل تلغراف
النبذة اآلتي ذكرها.
قريب ستنجيل للعيان غيوم الظالم التي تسرت عن الخاص والعام ٍ أنه عن
ما يف بطون إفريقية وأقفارها الشاسعة من األرسار والخبايا والكنوز
والخفايا ،وقد طاملا جد يف اكتشافها العلماء والسياح وبذلوا وسعهم يف
الدخول إىل تلك األقاليم والبطاح ،ويف األيام السالفة كان ُي َع ُّد رض ًبا من
الجنون والخرافات التشجي ُع عىل الرحيل بقصد اكتشاف عيون النيل.
َّ
فالعلمة برث رحل إىل بالد السودان يف الطريق التي سلكها دنهام
وكالبرتون ،وبحث َّ
العلمة ليونكستن عن أحوال بالد إفريقية من رأس
الرجاء الصالح إىل بحري الزمنزي ،وأما القبطانان برتون وأسبيك
7
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ً
سبيل لنرش راية التمدن فاكتشفا البحريات العظيمة الداخلة ،وبذلك فتحا
يف تلك األقطار ،حيث ترفرف إىل اآلن أجنحة ظالم الجهل الدامس .أما
قلب إفريقية فهو القطر الواقع ما بني البحريات املومأ إليها ،لذلك لم
يتمكن سائح من الولوج فيه وبه تنوط اآلمال.
فلما انترشت هذه النبذة قام الجدال عىل قدم وساق بهذا الخصوص وظن
الكثريون أن مقصد َّ
العلمة فرغوسن رضب من الخرافة والحكايات،
أشبه به برنوم األمريكاني الشهري ُة خزعبالت ُه وغرائبه املضمحلة.
ثم أخذت بعض الصحف تستهزئ بجمعية لندرة الجغرافية ،وتسخر بما
جاء عن فرغوس ورحلته الجوية يف املركبة الهوائية ،فنهضت صحيفة
أملانية وأجربت املياومات املذكورة عىل السكوت ،ألن أحد مديريها كان
يعرف َّ
العلمة فرغوسن وحذاقت ُه العجيبة وجراءت ُه الغريبة.
8
وما مضت برهة َّإل وقع برقع الشك عن أعني الناس ،وأوعز إىل معمل
خاصا بالقبة الهوائية ،وأمرت الحكومة
ً ً
قماشا حرير ًيا ليون أن يشتغل
اإلنكليزية بأن تقام تحت أمر فرغوسن السفينة املعروفة باسم ريزولوت
لريكبها وينقل عليها لوازم سفره.
وقد أذاعت من َث ّم املياومات كال ًما كثريًا عن هذا املرشوع الغريب؛ فمنها
ما تنبأ بنجاحه وفالحه ،ومنها ما هزأ بفرغوسن وآرائه ومركبته ومنها ما
أشار عليه أن يندفع بمركبته الهوائية إىل األقطار األمريكانية ،وذلك بنية
الهزء والسخرية.
وال حاجة لذكر جميع آراء كتاب الجرائد بهذا الشأن ،بل نقول :إنه قد
تشارط أقوام كثريون بعضهم بني بعض ،حسب عادة اإلنكليزً ،
أول عىل
العلمة فرغوسن الحقيقي أو الوهمي ،ثانيًا عىل الرحلة ذاتها إذا وجود َّ
كانت تبارش أو ال تبارش ،ثالثًا عىل نجاحه يف مرشوعه أو فشله ،رابعًا عىل
ً
تنفيذا رجوعه أو بقائه يف تلك األقطار الشاسعة ،وأودعوا مبالغ عظيمة
لهذه الرشوط.
9
الفصل الثاني
يف صاحب َّ
العلمة فرغوسن وجدال ُه مع ُه عىل الرتحال ويف ذلك فوائد
11
للعلمة ساموئيل فرغوسن صاحب حميم مجبول عىل أطباعه َّ وكان
وخالئقة ،وينحو نحوه يف جميع مأربه ،وهو من بالد إسكتسيا ،يقال له
ديك كنادي ،وكان يقطن مدينة ليط بقرب ايدمربج ،ومهنته الصيد وقد
وخصوصا بالسالح
ً جاء عنه أنه كان ماه ًرا حاذ ًقا يف رضب الرصاص،
املعروف بالقربينة ،أما قامته فال تبلغ أقل من ستة أقدام إنكليزية وتلوح
عىل وجهه تباشري الهشاشة والبشاشة ،وهو عىل جانب عظيم من حدة
الطبع ،ذو قوة وبأس وجرأة وجسارة وبسالة طبيعية ،وقد اس َم َّر وجهه
من قبل حرارة الشمس ،وكان حاد البرص أسود العينني.
صاحب َّ
العلمة فرغوسن يف البالد الهندية ألنهما كانا من فرقة َ وقد كان
عسكرية واحدة ،وملا كان ديك يف تلك البالد يصيد األفيال والنمورة ،وكان
ساموئيل يبحث عن أنواع النباتات والحشايش وأجناس الدواب والهوام؛
أصل لهذين الصاحبني أنً كل منهما كان ماه ًرا يف حرفته ،ولم يعرض
13
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ينشل الواحد اآلخر من تهلكة ،ولذا كانت رباطات صحبتهما وثيقة ،وإذا
اتفق لهما أن يتفارقا قربتهما وجمعتهما رسيعًا جاذبية التعطف واملحبة.
َّ
العلمة وعند رجوعهما إىل لندرة كانا يتفارقان دائ ًما لداعي رحالت
ساموئيل ،ولكن عند رجوع هذا من السفر كان يقصد محل صاحبه،
ليس ليزوره فقط ،بل ليقيض عنده بعض األيام والليايل.
وأما ديك فكان ال يحدث ّإل عن املايض ،وبالعكس ساموئيل؛ فإنه لم يكن يتبرص
ّإل يف املستقبل ،فهذا ينظر إىل أمامه وذاك إىل ورائه ،ولهذا السبب كنت ترى
ً
خائضا دائ ًما بحو َر الهمة ،وكنادي راتعًا عىل سواحل الراحة. ساموئيل
العلمة فرغوسن إىل قطر الطيبة الشاسع استمر سنتني يف وبعد رحلة َّ
لندرة ،وال يتكلم قطعًا عن رحلة أخرى أو مرشوع غري ما عاناه يف حياته،
فظن صاحبه املومأ إلي ِه أنه قد خمدت يف قلبه نار الرغبة يف ركوب مطايا
البحار وغوص البطاح والقفار لكثرة ما قضاه من األسفار ،وكثريًا ما حثه
عىل اإلرضاب عن مثل هذه األفكار بقوله له :حسبك ما درست وسافرت
وبحثت ،أما ساموئيل فلم يكن يجيبه بيشء لهذا الكالم ،بل كانت تلوح
عىل وجهه أ َ َما َرات التبحر والتبرص ويهم دائ ًما يف الشغل والعمل ،ويسهر
الليايل يف رضب حسابات وامتحان آالت ال يدركها إنسان ،وكأنك به قد
اتبع رأي الشاعر العربي حيث قال:
14
وكان يفكر ديك بنفسه بما عساه يتبرص ب ِه َّ
العلمة فرغوسن ،وما الذي
يشغل منه األفكار يف الليل والنهار.
وعند فروغ ِه من تالوة تلك األساطري صاح وقال :الله َّم هل أهملت عبدك
ساموئيل؛ فإن مخاخه قد فرغ من التعقل وتخلله الجنون؛ كيف عساه
يجوز أقطار إفريقية يف املركبة الهوائية ،فال ريب أن ما كان يتبرص ب ِه
منذ سنتني هو هذه السفرة التي ال يتصورها عقل برش ّإل إذا كان مصا ًبا
بداء الرسسام.
رس ضمنه دعا ٍو ال تدركها، حينئ ٍذ أتت إلي ِه زوجت ُه وقالت لهَّ :
لعل ذلك ٌّ
فأجابها وقال يف الحال :إن ِك ال تعرفني خلق هذا اإلنسان؛ فإن ُه إذا رصد
وجد ،وإذا عزم تمم ،ولكن ليت شعري ماذا يريد أن يفعل يف طبقات
الجو؛ هل حسد النسورة عىل طريانها وصمم النية عىل االقتداء بها ،فإني
وإل إذا ترك عىل حاله يخطر سأبذل الجد والجهد ألصده عن ضاللهَِّ ،
بباله أن يرتقي إىل طبقات القمر يف ليل ٍة رائقة.
وملا عقب الصباح تلك الليلة ركب ديك املركبة الحديدية النارية قاصدًا
مدينة لندرة ،وما مضت ثالثة أرباع الساعة ّإل وصل إىل بيت صاحبه
العزيز ،فطرق الباب خمس مرات بشد ٍة وعنف فنهض فرغوسن دون أن
يعرفه ،وفتح له الباب بيده وملا برص به قال له :أ أنت ديك؟ ،...وما عساك
تطلب يف لندرة يف أيام الصيد؟!
15
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :وهل ملقال صحيفة داييل تلغراف صحة عن رحلتك الجوية؟
قال ديك :وكيف أجلس قبل أن تخربني أن كنت عىل عزم يف معاناة هذه
السفرة؟!
خارجا
ً فقاطعه ديك ،وقال :أين هذه الحاجات ألقطعها إر ًبا ،وألقيها
فتذروها الريح كالهباء املنثور.
ويف الحقيقة تالعب وقتئ ٍذ عىل ُم َحيَّا ديك أطوار الكدر والحمية.
فغري ساموئيل الحديث بقوله :لوال تراكم األشغال عيلَّ لكنت أطلعتك عىل
كل ما يختص برحلتي.
16
قال ديك :وما حاجتي إليهِ؟! قال ساموئيل :ألنني مصمم النية عىل أن
آخذك معي يف مركبتي فلما سمع ديك هذا الكالم قفز قفزة الغالم ،وقال:
محبوسا وإياك يف منزل بيت لحم؟!،...
ً لعمرك وهل أرىض بأن أكون
«وهو منزل للمجانني يف لندرة».
قال ساموئيل ُقم لنتحدث يا صاح ونحن عىل مائدة الفطور ،...وبعد أن
وصال إىل املائدة وجلسا مقابلني قال ديك :لعمري ،كيفما قلبت مقصدك
وجدته رض ًبا من الغباوة والوبال ،وأراه نوعًا من املحال ،وعر ًيا من كل
تعقل وإفراز.
قال ساموئيل :سنرى ذلك عند االمتحان؛ إذ عند االمتحان يكرم املرء أو
يهان.
قال ديك :لله درك! ...كيف تمتحن األمر والواجب عليك عدم االمتحان؟!
17
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ساموئيل :إنما املصاعب يجب عىل اإلنسان الظفر بها ،وأما األخطار
فمن تراه يتحاىش عنها ويتنزه؟! ،...وقد جاء أن زوايا الدنيا مشحونة
بالرزايا وإذا جلست عىل املائدة وأدرت تناول الطعام فال يخلو األمر من
الخطر ،فعلينا أن ننظر إىل ما سيجري كأنه جرى ،ونعترب املستقبل كأنه
بحارض مقبل.
ٍ حارض ،ألن املستقبل ليس ّإل
قال ديك :وهذا قليل لديك؛ ألعلك ممن يتكلون عىل القدر؟!
قال ساموئيل :نعم ،ولكن عىل الوجه الحسن؛ فليس لنا أن نهتم بما أعد
لنا من النصيب ،بل الخليق بنا أن نتذكر املثل اإلنكليزي القائل« :من ُخل َِق
ل ُي ْشنَ َق لن ُي ْغ َر َق».
فأجاب ديك لذلك املقال بما يطول رشحه ويضيق بنا املجال لذكره ،وبعد
أن فرغ من القيل والقال ،والتنازع والجدال ،قال :وإذا كان ال بد من
الرتحال فلم ال تسري بالطريق التي سلكها الرجال؟!
قال ساموئيل :وما يل أن أخىش وأرتاب وقد رتبت وهيأت جميع األبواب؛
فإني جهزت مركبتي الهوائية بنوع ال أخىش به السقوط ،وإذا فرضنا
وسقطت املركبة فأتمم الرحلة عىل ُسنَّة من سبقني يف ذلك ،ولكني واثق
أنه لجهة نظامها وترتيبها ال تسقط وال تنهار.
قال ساموئيل :كن عىل بصرية أني بعونه تعاىل وتوفيقه ال أفارق
مركبتي ّإل عند وصويل إىل آفاق إفريقية الغربية ،ألن بها يتم كل يشء،
وبدونها أقع يف وهاد املخاطر والوبال ،وبها ال أخىش الحر وال الرص،
وال الزوابع والزعازع ،وال الحرور وال السموم ،وال األهواء السقيمة وال
األرياح املشؤومة ،وال الحيوانات الكارسة حتى ،وال األقوام الغادرة ،فإذا
أ َ ْح َس ْستُ بحرارة أرتقي إىل ع ٍل ،وإذا شعرت برب ٍد أنزل إىل أسفل ،وإذا
قابلني جبل أو طوط أم ُّر من فوقه فأقطع الجبال والوديان والبطاح
والغيطان ،وأجوز األنهار والبحريات ،وأتنزه عن جميع اآلفات ،وأطري يف
الجو طريان البواشق دون أن يالحقني مالحق.
فلما سمع ديك هذا الخطاب ارتاع فؤاده وخالجه االضطراب وأخذ يحدق
19
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
بصاحبه ،ويظن بنفسه أنه طائر يف الجو ومرتجرج يف عباب بحور العالء،
ثم قال :وهل وجدت وسيلة لقيادة املركبة الهوائية؟
قال ساموئيل :أذهب حيث شاء ربك ،ولكن من نيتي أن أسافر من الرشق
وأحط يف الغرب.
قال ساموئيل :ألني أسري مع ريح الصبا التي تهب بثباتٍ من الجهة
الرشقية إىل الجهة الغربية.
تأمل ديك لربهة ،ثم قال :لست بمنك ٍر أ َ ّن ...ريح الصبا ...بالحرص...
تقدر ...تو..ا..فق ...رحلتك.
قال ساموئيل :وأنا أقول لك :إني ال أفقد ذرة واحدة من الغاز.
قال ساموئيل :هذا رسي امل ُ َخبَّى فثق بي وكن عىل أ ُ ْهبَة ،وقل معي :السري
إىل ما فوق.
فحاول ديك أن يظهر رأيه مطاب ًقا لرأي صاحبه ،ولكن يف نيته أن يقاومه
يف مقصده مقاومة األسود.
21
الفصل الثالث
يف ذكر الرحالت التي عاناها املسافرون يف بطون إفريقية ومفاوزها
بقصد االكتشافات الجديدة
23
وأما الناحية التي اختارها َّ
العلمة ساموئيل مرك ًزا لالنتقال منها إىل
الطبقات العلوية عىل أجنحة املركبة الهوائية فهي زنجبار ،وكانت نعم
الخيار.
25
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أما برث الهمبورجي فقد أوذن بأن ينضم هو وابن وطنه أوفرورك إىل
اإلنكليزي ريرشدسون الذي كان قاصدًا بالد السودان ببعثة من الحكومة،
وبالد السودان واقعة بني ْ 15و ْ 10من العرض الشمايل ،ويقتيض للوصل
إليها املسري يف مسافة تنيف عن 1500ميل يف وسط إفريقية.
وإىل ذلك الوقت لم تكن تعرف تلك البلدان سوى بسفرة دنهام وكالبرتون
واودناي من سنة 1822م إىل 1824م ،فتتبع الرفاق املذكورون آثار
سلفائهم وبعد أن وصلوا إىل تونس وطرابلس تقدموا إىل ما قدام ،وبلغوا
مدينة مرزوق عاصمة الفزان.
ثم انثنوا عن الخط املستقيم وداروا نحو غات إىل الغرب ،وهم مقودون
س ُقوا و ُن ِه ُبوا وذاقوا أرش العذاب ،واضطروا
بقوم من التوارج ،وبعد أن ُ ِ
مرا ًرا إىل املناضلة والكفاح ،وصلوا أخريًا إىل غوطة األصبان يف شهرت،1
وهناك فارق برث رفاقه وتقدم إىل مدينة أغادس ،ثم رجع إىل القافلة
وأخذوا يف املسري يف اليوم الثاني عرش من شهر كانون األول ،فوصلوا إىل
إقليم دامرغو ،وتفارق الرفاق هناك ،وعمد املعلم برث إىل مدينة كانو،
وكان وصوله إليها بعد العناء الجزيل ،و َت َح ُّمل الصرب الجميل ،ودفع
املبالغ العظيمة لرؤساء أقوام تلك البلدان الظاملة.
ويف 29آذار سنة 1851م ،سافر ورفيقه أوفروك إىل مملكة أداموة يف
جنوبي البحرية ،ووصل إىل مدينة يوال ،ثم عاد الكرة يف شهر آب عىل
مدينة كوكو ،وهناك طاف حول مندارا وبرغيمي وكانم وأقىص جهة من
املرشق ،وهناك مدينة مزنا الواقعة ْ 21وْ 17من الطول الغربي.
ويف 25من شهر ترشين الثاني سنة 1852م ،بعد أن قىض رفيقه نحبه،
تقدم إىل الجهة الغربية وعرج عىل مدينة سوكوتو وجاز بنهر النيجر
ووصل أخريًا إىل مدينة تمبكتو ،وهناك ألقى الشيخ القبض عليه ،ولبث
ّ
الفولن يعذبه ويذيقه أم َّر الوبال واملرتبة نحو ثمانية أشهر ،أما قوم
فهاجوا وماجوا ألنهم ال يحتملون زما ًنا بقاء رجل مسيحي يف تلك املدينة،
فأفلته الشيخ ،ورحل املعلم برث منها يف 17آذار سنة 1854م ،واحتمى
بتخوم املدينة ،ومكث ثالثا وثالثني يو ًما محرو ًما كل رضورياته ،ثم رجع
إىل كانو ودخل كوكا ولبث فيها أربعة أشهر ،ومن هناك سار يف الطريق
التي خطها دنهام حتى عاين أخريًا مدينة طرابلس الغرب يف أواخر شهر
آب سنة 1855م ،ثم سافر إىل لندرة وحده يف 6أيلول دون رفيق ،ولم
يتجاوز ْ 4من العرض الشمايل وال الدرجة ْ 17من الطول الغربي.
فهذه رحلة املسافر الباسل برث الذي حاز الرشف الخطري لدى أعني
العلماء وأصحاب الفنون والذكاء.
ولكن لم يقدر قط أحد عىل الوصول إىل عيون النيل الرسية ،وعىل ما قرره
27
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
الطبيب األملاني فردينند ورن فإن املسافرين الذين بعثهم محمد عيل سنة
1840م لم يبلغوا سوى إىل غندوكورو بني ْ 4و ْ 5يف السمت الشمايل.
ً
قنصل لدولة رسدينيا يف مملكة ويف سنة 1855م تسمى برون روليت
السودان الرشقية ،خل ًفا ملن مات قبله موت الشقاء والعذاب ،وهو واداي؛
فهذا القنصل الجديد سافر من الخرطوم ودعا نفسه باسم يعقوب،
وتقدم إىل ما قدام وهو يتاجر بالصمغ والعاج ،حتى وصل إىل بالنيا فوق
مبتل بمرض عضال بلغ به إىل درجة ْ ،4ثم عاد الكرة عىل خرطوم وهو ً
القرب سنة 1857م.
فلم يقدر أحد عىل مجاوزة الحدود املعلومة؛ ال َّ
العلمة بنه الذي تقدم إىل
ض ٍن من التعب وخور قرب غندوكورو ،ألنه رجع فمات يف خرطوم وهو َ
القوى ،وال السائح مياني من البندقية ،وال التاجر املطايل أندريا دبنو
الذي اهتم بالوصول إىل عيون النيل ،لكنه لم ينل مرامه.
ويف سنة 1859م بعثت الحكومة الفرنسية موسيو غيليوم ليحان إىل
بالد الخرطوم وأصحبته بواحد وعرشين جند ًيا ،فسافر يف البحر األحمر
ثم نزل إىل ضفة النيل ،ومع هذا كله فلم يتمكن من مجاوزة تخوم
غندوكورو ،وحاقت به املخاطر العظيمة لداعي ثورة ما بني الزنج.
ويف 26آيار رجعا إىل كازه ،وهناك مرض برتون واعرتاه سقم شديد،
فمكث َمبْلُ ًّوا به بضعة أشهر؛ ففي تلك املدة جاز أسبيك ثالثمائة ميل
إنكليزي يف الجهة الشمالية ،ووصل إىل بحرية أوكراوي ،لكنه لم يعاين
ً
عرضا. سوى طرفها الواقع يف درجة 2ْ 30
ثم رجع إىل كازه يف 25آب ،وسافر مع رفيقه إىل زنجبار ،فوصال إليها
يف شهر آذار من السنة الثانية ،ومن هناك قصدا لندرة وخصصت لهما
29
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ً
معاشا سنو ًيا. الجمعية امللوكية الجغرافية
30
الفصل الرابع
يف أهمية الرحلة اإلفريقية
31
العلمة فرغوسن يهم بتجهيز لوازم السفر العلوي ،ويهيئ بناء وكان َّ
زمان
ٍ القبة الهوائية بحسب إصالحات اخرتعها ويكتم رسها ،وكان منذ
أخذ بدرس اللّغة العربيّة ولغات الزنج املختلفة ونجح فيه ،ليس بيسري،
لشدة قوته الذاكرة ،وانصبابه عىل كل ما ا ْبتَ َغى قنيته.
بتة ،كأنه عىل خشية أن َّ
العلمة يفلت وأما رفيقه ديك فلم يكن يفارقه ً
ذات يوم خفية عنه ،وكان ينتهز كل فرص ٍة مناسبة لريجعه عن مقصده،
ّإل أن كالمه ال تأثري له يف عقل صاحبه غري املبايل به.
33
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
جنانه ويعدمانه راحة الليل ،ولم تمض ليلة ّإل أحس بسقطة هائلة من
أعايل طبقات السماء ،ويف الحقيقة سقط من فراشه؛ أقله مرتان وهو يف
هذا الضغط واالضطراب.
وقد اعتنى يف أول األمر أن يظهر َّ
للعلمة فرغوسن الورم الذي طرأ علي ِه
يف رأسه من ج ّراء سقوطه هذا ،وقال له إذا كان من علو أشبار بليت بهذه
حل بي لو سقطت من طبقات العالء! النائبة فرتى ما لكان قد َّ
أما فرغوسن فلم يتحرك فؤاده لهذا االضطراب ،بل أجاب وقال :إننا ال
نسقط ،فقال ديك :وإذا سقطنا فما الحيلة.
كل؛ فإننا ال نسقط ،وكان جوا ًبا قاطعًا با ًتا؛ إذ لم يتفوه قال فرغوسنَّ :
ديك بعد ذلك بكلم ٍة البتة.
فكان األمر مما يزيد ديك جزعًا واضطرا ًبا ،ولو أنه عازم عىل ممانعة
الرحلة أو أقله عىل عدم اشرتاكه فيها ،ومع ذلك لم يرد قط أن َيغيِ َظ
رسا إىل مدينة أدمربج يطلبصاحبه وخِ له العزيز ،وعليه كان قد أرسل ً
بعض حاجات له ومالبس وأحسن أنواع سالح للصيد.
ففي ذات يوم أخذ يفاوض صاحبه عىل هذه الرحلة قصدًا يف منعه عن
34
العلمة عىل مقاصد رحلته؛ فقال :أهل من أمر معاناتها ،فبدأ يعارض َّ
رضوري اكتشاف عيون النيل وهل يستفيد بذلك الجنس البرشي؟،...
وهل تتمدن أقوام تلك البالد وتحظى بسعادة أوفر مما هي عليه اآلن؟،...
وما نفع اإلرساع إىل ذلك؟...؛ إذ الب َّد أن يأتي يوم يجوز فيه املسافرون
العلمة فرغوسن بإفريقية كلها دون صعوبة وهلم ج ًّرا ،فأجابه حينئ ٍذ َّ
وقال أتريد يا ديك ،بئس األدياك ،أن أترك هذا الفخر لغريي وأتوقف عند
موانع ال أهمية لها البتة؟ ،...فاعرتض ديك كمألوف عادته ،وقال :ولكن..
قال ساموئيل :ولكن أال تعلم أن رحلتي تساعد أن تنجح الرحالت الحالية
التي يعانيها املسافرون؟ ،...أيخفى عليك أن مسافرين حديثني متقدمون
اآلن نحو مركز إفريقية ،وأن البحرية املعروفة باسم أوكاراوي الواقعة
طول ظنها قوم أنها تمتد من الدرجة 2ْ 30من العرض يف الدرجة ًْ 33
الجنوبي إىل الدرجة ْ 2من العرض الشمايل ،وعىس أن منها تنبجس
عيون النيل؛ فقد نظرت جمعية لندرة امللوكية إىل هذا األمر بعني األهمية،
وبعثت القبطان أسبيك برفقة غرنت ،أحد قواد الجنود الهندية ،وأصحبوا
معهما جنودًا ،وجهزوا رحلتهما تجهي ًزا بلي ًغا ،ويف نيتهم أن يبلغوا
البحرية املذكورة ثم يرجعوا إىل غندوكورو عىل شاطئ النيل ،وقد أمدَّتهم
الجمعية بخمسة آالف لرية ،فرحلوا من زنجبار يف أواخر شهر ترشين
األول سنة 1860م.
ويف تلك املدة ورد أمر من الحكومة اإلنكليزية إىل جون برتيك يف
الخرطوم؛ أن ينزل يف سفينة يف الخرطوم ويحملها زادًا وحوائج كثرية،
ويذهب لينتظر القافلة يف غندوكورو ،وأ ُ ْرسِ َل له لنفقة ذلك سبع ُمائة لرية
إنكليزية.
35
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ساموئيل :أرأيت اآلن أن الوقت قد ضاق معنا ،وأمىس هناك حاجة
إىل رسعة الرحيل إىل تلك البلدان ،وما عدا ما ذكرته لك من عمد البعض
إىل اكتشاف منبع النيل؛ فقد رحل أناس كثريون إىل أواسط إفريقية
ليكتشفوا أراضيها وبقاعها وبطاحها؟ قال ديك :أفما هم مشاة؟!
فقال ديك :وحيث جميع األمور سائرة عىل قدم النجاح واإلتقان فما لنا
من الشغلة يف تلك األقاليم والبلدان.
فلم يجب ساموئيل عن هذا الكالم ،بل تحول عنه وانرصف وهو يهز
بأكتافه.
36
الفصل الخامس
يف خادم َّ
العلمة ساموئيل وزنة املسافرين
37
أوصاف
ٍ وكان للعالمة ساموئيل خادم اسمه يوسف ،وهو شاب أديب ذو
حسنى ،إذا أمره مواله بقضاء حاج ٍة لباه بالنشاط واألمانة ،وقد نهج يف
صدقه نحو سيده طريقة غري مطروقة ،وأتاه عىل رغباته بهمة غري همة
وخليقة غري خليقة ،أشبه بالعرباني األمني الذي أرسله يشوع بن نون
ليجتس أرض الكنعانيني ،وكان َّ
العلمة يرتك له التدبري يف مهامه وخدمه،
ذوق لطيف ،وال يتهامل يف أمر من األمور.
ألنه صاحب ٍ
ً
أصل ،بل ومن العجب العجاب أن يوسف لم يكن يراجعه يف أحكامه
إذا تفوه ساموئيل بكلم ٍة رعاها بدقة و َت َح ٍّر وكل ما فكر به ساموئيل
كان لدى يوسف مصيبًا ،وكل ما قاله كان أريبًا ،وكلما أمره به كان
مرعي اإلجراء ،وكلما نحا نح ًوا كان مستطاعًا ،وكل ما تمم أم ًرا كان لديه
من العجائب والغرائب فلو تقطع يوسف إ ْربا ما ريض قط يف حياته أن
يخالف سيده يف أمر البتة.
39
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ولهذا ملا خطر ببال فرغوس الرحيل عىل أجنحة املركبة الهوائية ،وعلم
به يوسف ،طابق رأيه بذلك دون ممانعة ،وتحقق أنه يسافر مع سيده،
ألنه كان خفيف الحركات واألطوار ،ويساعد ساموئيل يف أمور كثرية
ذات أهمية جزيلة ،وقد طاملا اتبعه يف أسفاره العديدة ،وكان من آرائه
الغريبة استصواب األمور جميعها ،واستهوان املصاعب واملتاعب ،ولم
يعلم قط يف زمانه جنس التَّ َش ِّكي والتذمر ،ومن صفاته ً
أيضا القوة يف
جسمه ،والتبرص يف األمور وعدم افتخاره بجميع محاسنه وشمائله؛ فلما
كان هذا الخادم منقادًا لسيده ،وقد طابقه عىل رائه يف رحلته ،فال عجب
فيما جرى من الجدال واملناقشة بينه وبني ديك ،ألن أحدهما كان واقعًا
والعلمة فرغوسن كان بنيَّ يف اليقني األعمى ،واآلخر يف الشك واالرتياب،
الشك واليقني ،غري أنه لم يعبأ ال بهذا وال بذاك.
ففي ذات يوم قال الخادم لديك :يا سيدي! ،...وكيف أحوالك؟ ...أال ترى
أننا عن قريب نرتقي إىل طبقات العالء لنبلغ القمر؟!
قال ديك :أتعني عن املرص امللقب بجبال القمر؟...؛ فإنه أقرب من القمر،
ومع ذلك ال يخلو بلوغه من املصاعب واألخطار.
العلمة ساموئيل تقوم املصاعب؟!َّ ،...
وهل تعلم قال الخادم :وهل مع َّ
أنها تتبدد أمامه كغيم جهام.
قال ديك :أقول ً
قول ال يخىش عليه من نكري :إن معاناة موالك لهذه الرحلة
رضب من الجنون.
قال الخادم :كيف ولم تر مركبة سيدي وقبته يف معمل الخواجات متشال
40
الواقعة يف ضاحية هذه املدينة.
قال ديك :معاذ الله أن أنطلق إىل هناك ألشاهد مثل هذا املشهد.
قال الخادم :ولعمري؛ يفوتك منظر جميل جدًا ،ألنه ما من يشء أجمل من
تلك القبة الحريرية ،أو أحىل من ذلك القارب املعلّق بها ليحملنا براحة
تامة.
قال الخادم :وهل أتركه وحده طائ ًرا يف طبقات العالء؟! ...وإلَّم أتبع
موالي ساموئيل فمن يأتي بيده إذا حاق به الويل؟ ،...ومن يمد له ساعده
ليجوز مهواة؟ ،...ومن ينظر إليه ويرمقه بعني املالطفة واملواساة إذا
ً
محيطا أصابه املرض واعرتاه السقم؟! ،..ولعمري ،ما دمت حيًا ،فال أزال
بموالي ألداره مداراة اإلنسان للعني.
41
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال الخادم :وعىل ك ٍل ال يخيب أمل حرضتك ،ألنه يكثر الصيد يف بالد
إفريقية وأنت من الصيادين املشهورين ،فالبد من أن تجد هنالك ما
يرسك ويطربك.
قال ديك :إن ما يرسني ويطربني هو أن يرجع َّ
العلمة عن غيه ،ويرعوي
عن ضالله.
قال الخادم :وال تخاف من أنه يطلب منك قلة تناول الطعام لرتق وتخف
إذا وجدك ً
ثقيل.
قال ديك :ومايل ومركبته؟! ..عىس أن يعرتيها بسببي داء املفاصل أو
الفالج.
قال الخادم :وأنت تقول ذلك ألن موالي ليس هنا ،ولكن إذا أتاك يف هذه
الساعة ،وقال لك من بعد أداء اإلكرام :تفضل للميزان ،فأجيب عنك أنك
حارض للذهاب يف الساعة والدقيقة.
قال ديك :حاىش؛ فإني ال أرىض بامليزان ً
أصل.
وفيما هما خائضان بحر هذه املناقشة إذ دخل َّ
العلمة ونظر إىل ديك،
معبسا بوجهه ،فقال له :تفضل يا ديك ،أنت ويوسف ،ألن ً فكان هذا
مرادي أن أرى كم تعادالن اثنانكما من األرطال ،فأراد ديك االستدراك.
فاتبعه ديك ولم ينطق بكلمة ،وسار ثالثتهم إىل معمل الخواجات متشال
حيث كان امليزان املعروف بامليزان الروماني منتصبًا ،ويف الحقيقة كان
مراده وزن رفقائه ليعرف ميزانية مركبته ،فصعد ديك عىل لوح امليزان
العلمة يقول بصوت منخفض ال بأس بذلك؛ فإن امليزان ال فسمعه َّ
يقدم وال يؤخر يف املسألة ،ثم قال َّ
العلمة بصوت عا ٍل :وزن ديك خمسة
وعرشون ً
رطل ،وسطر ذلك يف دفرته.
فأجابه الخادم ،وقال :كال ،وهب أنك ثقيل فأنا خفيف ،وهكذا أعوض
عن ثقلك.
ثم صعد يوسف بخفةٍ ،ووقف منتظ ًرا الحكم ،وإذا بصوت َّ
العلمة يقول:
43
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
عرشون ً
رطل.
ثم طلع بنفسه وقال :اآلن دوري ،وسطر لحسابه اثنني وعرشين ً
رطل.
قال الخادم :وإذا لزم األمر لرحلتك يا موالي؛ فإني ال أتناول طعا ًما
ألُ ْنق َ
ِص من ثقيل ثالثة أو أربعة أرطال.
قال َّ
العلمة متبس ًما :ال فائدة يف قلة أكلك يا شا ًبا أمينًا ،وعليه خذ؛ فهذه
ريال -لتأكل بها ما شئت وترشب ً
أيضا. حصتك -وأعطاه ً
44
الفصل السادس
يف تفاصيل املركبة الهوائية من القبة والقارب واآللة الرسية وتجهيز
حاجات الرحيل الرضورية
45
العلمة ساموئيل ً
ليل فال غرو يف أن املركبة الهوائية قد أشغلت بال َّ
ونها ًرا ،ومازال عاك ًفا عىل تجهيزها وترتيبها بإتقان ،لئال يطرأ عليها يف
العالء حادث من طوارق الحدثان ،فعزم يف أول وهل ٍة عىل أن يقبب القبة
الحريرية بغاز اإلدروجن ،أحد عنرصي املاء ،وهو أخف من الهواء بأربع
عرشة مرة ونصف ،وحصول هذا الغاز سهل جدًا ،وهو ما أجدى املركبات
ً
جزيل يف ارتقائها إىل الطبقات العلوية. الهوائية نفعًا
فعىل ما حسب ُه ساموئيل بتدقيق ،ظ َّن أن لوازم رحلته التي ينبغي عليه
رطل ،فأخذ يبحث كيف يجهز أخذها يف املركبة تتطلب ثقل نحو ً 666
القبة الهوائية ،لتتمكن من حمل هذا الثقل ،وما يقتيض أن يكون وسعها.
رطل فتوازي وزن 44848قدم هواء مكعب ،أو 1661 ً أما ثقل 666
مرتًا مكعبًا ،فإذا أوسع القبة الهوائية 1661مرتًا مكعبًا ،ومألها غاز
47
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ومع ذلك؛ إذا أدخل القبة 1661مرت غاز مكعب امتألت بتمامها ،وهذا
ال يوافق بل يأتي بالرضر؛ حيث إن القبة الهوائية بارتقائها إىل الجو
ثقل من الهواء الكائن عىل سطح األرض، تصادف يف العالء هواء أقل ً
فيأخذ الغاز يف االتساع واالمتداد فيشق القبة؛ ففي العموم ال يمأل أصحاب
الفنون القبب الهوائية غا ًزا سوى بنسبة الثلثني.
العلمة ساموئيل فرغوسن فعزم عىل َّأل يمأل قبته ّإل بنسبة النصف،أما َّ
وذلك لقص ٍد خفي كان كامنًا يف ضمريه ،وإذ كان يف عزمه أن يأخذ معه
1661مرتًا مكعبًا من اإلدروجن قد أوسع القبة اتساعًا مضاع ًفا.
ثم رتب القبة عىل الهيئة املستطيلة املفضلة عىل غريها ،وبلغ قطرها
األفقي 75قد ًما ،وقطرها العمودي 50قد ًما((( ،فكان وسع هذه الكرة
90ألف قدم مكعب.
48
يجعل لولبا ينفتح من قب ٍة إىل قبة ،ليتصل وقت الحاجة بعضها ببعض.
ولهذه الوسيلة فوائد جمة؛ منها إذا أراد إخراج الغاز ليحط عىل األرض،
فيخرج الغاز الذي تتضمنه القبة الكربى ،حتى وإذا أفرغ بكماله فتبقى
القبة األخرى عىل حالتها ،ويمكن إذا مست الحاجة أن يرمي عنه هذه
ً
متمسكا بقوة القبة الثانية ،ومنها إذا القبة الكبرية املثقلة عليه ،ويمكث
حدث عارض ،أو انخرقت القبة الكربى ،فال يمس القبة الصغرية رضر
البتة.
وصنع الحبال لحمل القارب من القنب الشديد الصالبة واملتانة ،وقد بذل
وسعه يف إتقان اللولبني إتقا ًنا محك ًما ،كما يعتني أهل السفن يف إحكام
دفة املركب.
أما القارب العتيد أن يحمل املسافرين فبناه من الخيزران عىل هيئ ٍة
مستديرة ،وبلغ قطره خمس عرشة قد ًما ،ثم مكنه بلفائف حديدية حوله،
فلم يبلغ ثقله مع ثقل الحبال سوى ً 46
رطل.
49
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
يبلغ قطرها باهمني ،ويف آخرها فرعان غري متساويني ،وطول الفرع األكرب
خمس وعرشون قد ًما ،وطول اآلخر خمس عرشة قد ًما فقط ،ثم جعل هذه
الصناديق يف القارب بنوع مرتب حتى ال تشغل مكا ًنا واسعًا ،وحيث إن
األنبوبة ال ترتتب ّإل وقت صعوده إىل املركبة جعلها يف مكان منفرد ،مع
كر ٍة كهربائية ،وجميع هذه الصناديق لم يبلغ ثقلها مع ثقل صندوق
رطل ،أما اآلالت التي أراد استصحابها معه فهيمملوء ماء سوى ً 116
ميزانان ملعدل الهواء «بارومرت» ،وميزانا الحر والربد «ترمومرت» ،وإبرة
ملعرفة الجهة الشمالية «بوصلة» ،ومقياسان للوقت «كرونومرت» ،وأفق
صنعي ،وآلة لقيس األشياء البعيدة.
فهاك خالصة تفصيل األحمال العتيدة ،أن تجعل يف املركبة الهوائية عدد
أرطال:
ثقل َّ
العلمة ساموئيل 22
25ثقل ديك كنادي
50
ثقل يوسف الخادم 2 0
ثقل القبة الهوائية الكربى 108
ثقل القبة الهوائية الصغرى 85
ثقل القارب والحبال 47
ثقل املرايس واآلالت والبواريد 31
ثقل الخيمة وغري ذلك 37
ثقل املأكل واملرشب 64
ثقل املاء 66
ثقل الصناديق األربعة 116
ثقل اإلدروجن 46
ثقل من رم ٍل ُيستعمل صابور ًة 36
الجملة 703
51
الفصل السابع
يف ركوب السفينة وإيضاح القوة التي ترقي القبة الهوائية وتنزلها
حسب املراد
53
وملا كان نهار 16شباط وافت السفينة اإلنكليزية التي أتينا بذكرها آن ًفا،
العلمة فرغوسن ومركبته ورست بإزاء غرانويش ،وهي متأهبة لقبول َّ
الهوائية فنقلت إليها املركبة يف 18شباط ،وذلك بأنظار ساموئيل لئال
أيضا عرشة براميل مملوءة روح يمس شيئًا رضر البتة ،ثم نقل إليها ً
الكربيت ،وعرشة براميل مملوءة قطعًا حديدية عتيقة ،وذلك ألجل إحصال
غاز اإلدروجن ،ولم يهمل أن يصحب مع هذا كله الرباميل الالزمة لنرش
الغاز ،وعددها ثالثون.
ثم ركب السفينة ورفيقه ديك وخادمه يوسف ،أما ديك فمع كونه قسم
األيامني املربمة أنه ال يريد السفر مع َّ
العلمة فرغوسن رأيته ،يوم ركوب
مصحوب بخزانة كاملة من سالح الصيد.
ٌ السفينة ،نزل إليها وهو
55
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
للمسافرين ،وحرض هذه املأدبة رئيس السفينة ورجاله ،وقد دارت بينهم
كأس الندام ،فرشبوا املدامة برس األحباء ،متمنني لهم أن يعيشوا السنني
العديدة واأليام املديدة وأما ديك فأتته التهاني لرحلته العلوية من جميع
الحارضين يف ذلك املحفل؛ فإنهم ،بعد أن رشبوا برس فرغوسن ومجد
إنكلرتة ،رشبوا برس رفيقه الشجاع ديك الصياد.
وملا أصبح الصباح ،وكان اليوم الواحد والعرشون ،قلعت السفينة من
مرساها ،وسارت بقدم الرسعة قاصدة زنجبار يف البحر األحمر ،ويف 15
صلَتْ إليها باألمن والسالم.
نيسان ،وبعد أن رست يف أماكن جمةَ ،و َ
ويف غضون سفرهم كانت املناقشة قائمة بني الركاب عىل الرحلة الجوية،
مبتهجا ،ويحدث كثريًا رفاقه َن َوات َِّي السفينة،
ً فرحا
وكان يوسف الخادم ً
فقال لهم مرة :إنه بعد رحلتهم سوف يحذو كثري من الناس حذوهم؛ إذ
إنه كلما ذاق الناس مثل هذه األمور زاد ولعهم بها ،ونما شوقهم ملعاناتها
ومراجعتها ،فكما أنهم اآلن مسافرون يف املركبة بخط منحرف ،كذلك
يسريون فيما بعد بخطٍ مستقيم إىل ما أمامهم.
قال يوسف :حاىش وكال؛ لست أحب القمر ألنه معروف من الناس ،وخال
56
ً
أيضا من املاء ،فيفيض بنا العطش إىل الهالك.
فقال أحد محبي العرق :وإذا وجدت هناك عر ًقا َأل تستكفي به.
قال الخادم :كال؛ ال نريد شيئًا من القمر ،بل مرادنا أن نرتقي إىل تلك
النجوم السيارات املتأللئة يف البقعة السماوية؛ ففي أول وهلة نمر بزحل.
قال الخادم :واملحتال بنفسه ال يستطيع عىل صنيع مثل هذه األمور.
فقال بحري ،وهو ينتظر فرصة للتكلم :وبعد أن تم ُّروا بزحل فإيل أين
تتوجهون بالسالمة؟!
قال :نم ُّر باملشرتي ،ولله د ُّر املشرتي؛ فإنها بالد ال يطول بها النهار سوى
تسع ساعات ونصف ،وهذا مما يوافق الكساىل.
ويف أثناء مناقشته مع البحرية كانت املكاملة سائرة عىل قدم النجاح بني
57
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال ساموئيل :إني ال أظن أن الناس يتوصلون إىل إدارة املركبات إىل
حيث شاءوا ،وقد فحصت جميع الهيئات التي ظهرت إىل اآلن فلم أر
واحدة منها تصلح لذلك.
فأجابه واحد وقال :أال يوجد نسبة عظيمة بني إدارة القباب الطيارة
والسفن البحرية؟
كل يا سيدي؛ فإن النسبة قليلة جدًا ،وربما كال يشء، قال فرغوسنَّ :
ألن الهواء أخف من املاء بما ال يحد فالسفينة ال تغطس كلها يف املاء بل
ً
خوضا تا ًما ،وتبقى غري نصفها ،وأما القبة الهوائية فتخوض يف الجو
متحركة بالنسبة للسيال املحيط بها.
قال واحد :وهل تظن ً
إذا أنه غري ممكن اخرتاع يشء جديد بهذا الخصوص،
بواسطة العلوم الطبيعية؟
قال :كال ثم كال ،غري أن أصحاب العلوم يبحثون عن يشء آخر ،وهو أن
يستمر راكب املركبة الهوائية ثابتًا يف الطبقات الهوائية يف الجو املوافقة
لغرضه ،ألن الهواء يف بعض األماكن العالية يكون متساو ًيا وثابتًا يف
اتجاهه ،وال تغريه األودية والجبال املتكاثرة عىل وجه الكرة األرضية،
وال يخفى عليكم أن تغيري الهواء وعدم مساواة مهبه هو مسبب عنها
يف الغالب ،فإذا ما عال املرء هذه الطبقات ،وتوصل إىل األعايل ،فحينئذ
يتوقف عند الطبقة املوافقة لغرضه كما أرشت.
58
فقال رئيس السفينة :والحالة هذه لكي يتوصل إليها الراكب ال يقتضيه
سوى الصعود والنزول وهنا الصعوبة كلها.
قال الرسدار :مآل كالمي أن هذه الصعوبة أو املانع ال يكون َّإل لألسفار
الطويلة ،وليس للرحالت القصرية املقصود بها التنزه وانرشاح الخاطر.
قال الرسدار :ألنه إذا أراد املسافر يف هذه القباب الطيارة الصعود إىل
العال لزمه إلقاء بعض ما يكون حامله من الثقل ،وإذا أراد النزول لزمه
أن يفقد شيئًا من الغاز وعىل هذا املنوال ال تميض مدة َّإل ويفرغ زاده؛ إن
كان من الغاز أو كان من الثقل.
قال فرغوسن :هنا معظم املسألة؛ فإن املباحثة ليست واقعة يف هذه األيام
جل البحث قائم يف الصعود إىل العالءعن إدارة املركبات حيث يراد ،ولك ّن َّ
والنزول إىل األرض من دون أن ينقص غاز اإلدروجن الذي تحويه القبة؛
أي من دون أن يخرس شيئًا من قوة القبة الهوائية.
قال هذا الداعي :ولو أني اكتشفتها ما كنت حملت نفيس عىل املرور
59
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
بإفريقية؛ ألني ال أسري مدة أربع وعرشين ساعة َّإل ويفرغ الغاز من
قبتي.
كل؛ بل ما زلت لرسي كات ًما ،وقد امتحنت األمر بنفيس وتأكدت قالَّ :
الفالح ،فما الحاجة للتكلم عنه؟
قال :سمعًا وطاعة ،ثم بدأ يف الكالم ،وأخذ الحارضون يصيخون سمعًا
لخطابه.
60
الفصل الثامن
يف املعنى املتقدم ذكره
61
قال ساموئيل :قد طاملا أراد أصحاب الفنون إيجاد واسطة لالرتقاء
والنزول يف املركبة الهوائية دون أن يخرس الراكب غا ًزا ،أو يرمي من
الثقل الذي نقله معه فأعياهم تفتيشهم وذهب سعيهم هد ًرا.
أما الواسطة التي اكتشفتها أنا فهي متوقفة عىل أن أ َ ْب ُس َط الغاز املوجود
ضمن القبة ،وأضغطه حسبما أريد الطلوع ،أو النزول ،وذلك بواسطة
َ
كيفية العمل. الحرارة أو الربودة ،وهاكم
63
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وليكن معلو ًما عندكم أيها السادة أن آلتي ما هي َّإل شكل قصبة ُي ْح َص
فيها غاز اإلدروجن واألكسيجن ،وترضم نا ًرا مستعرة اللهيب ،أشد
تأججا من نريان أكوار الحدادين ،وإذ تق َّرر ذلك نأتي بذكر الجزء الثاني
ً
من اآللة.
فمن أسفل القبة الهوائية املغلقة غل ًقا محك ًما يخرج أنبوبتان مفرتقتان؛
الواحدة عن األخرى بمسافة جزئية ،فاألوىل تبتدئ من وسط طبقات
غاز اإلدروجن العليا واألخرى من الطبقات السفىل ،وكالهما ينزالن إىل
صندوق من حديد ذي هيئ ٍة عمودية ،اسمه صندوقٍ القارب ،بل إىل داخل
الحرارة وهذا الصندوق مغلق بطرفيه بدوائر حديدية ً
أيضا.
فكل ما ذكرته لكم أيها السادة ليس هو َّإل شبه املدخنة املعروفة منكم،
وهي املستعملة لتدفئة املخادع ،وال يخفى عليكم كيف أن هواء املخدع
يم ُّر باألنابيب ويستح ُّر فيدفأ املخدع.
فمن هذا ترون أنه يحدث فرق عظيم يف ميزانية القبة الهوائية ،مع أني
أزمعت أن أقببها بمعدل النصف بنوع من الهواء الذي يقوم مقامه
اإلدروجن ،يعادل قماش القبة ومحمولها من املسافرين وما يقتضيه
السفر من اللوازم الرضورية والحالة هذه فإن القبة تساوي ميزانية
الهواء؛ أي إنها ال تصعد يف العال وال تنزل من تلقاء نفسها.
65
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فلكي أصعد أرفع الغاز إىل درجة حرارة عالية بواسطة القصبة؛ فمن
زيادة الحرارة يمتد غاز الكرة الهوائية وتتقبب وترتقي إىل العالء.
وأما وقت النزول فإني أخفف حرارة القصبة؛ فاالرتقاء كما ترون يكون
أرسع من النزول ،وهذا من الفوائد؛ حيث إن األخطار هي عىل األرض
وليس يف العالء ،ومع هذا كله فإني حملت كمية من الثقل حتى إذا لزم
خارجا ألرتقي برسعة ،وأما اللولب الكائن يف أعىل املركبة فال
ً األمر ألقيته
أمسه ،بل تبقى القبة الهوائية حافظة الغاز الذي أملؤها به ،وما أحدثه
من الحرارة والربودة يف هذا الغاز هو الذي يرفعني وينزلني.
فتحا تا ًما يشعل َقدْر مرت مكعب يف الساعة، فإذا فتح لولب القصبة ً
واللهيب يكون أشد سعريًا من لهيب األنوار الغازية بست مرات؛ ففي
املعدل األوسط إذا لم أرد أن أرتفع إىل علو باسق ال أوقد َّإل قدر ُثلث مرت
مكعب يف الساعة ،فاملائة واالثنا عرش ليرت ماء التي ذكرتها تكفيني ً
إذا
66
لسفر ستمائة وثالثني ساعة ،أو نحو ستة وعرشين يو ًما.
والحال بما أني أتمكن من النزول أينما شئت فأستطيع أن أتزود ماء،
ويستمر سفري قدر ما أشاء.
فهذا هو رسي أيها السادة الكرام؛ فإنه سهل جدًا ،ويتكلل بالنجاح إن
شاء املوىل ،وواسطتي الوحيدة هي امتداد الغاز وتقلصه ،وهذا ال يلزمه
آلتي ،كاألجنحة أو خالفها ،بل إن هي إال مدخنة أغري بها الحرارة،
محرك ّ
وأقيم مقامها الربودة وبالعكس ثم قصبة لتسخني املدخنة وأظن أني
جمعت بذلك كل ما يلزم لنجاح رحلتي.
فإني سيد قبتي وموالها؛ ألني أصعد متى شئت وأنزل متى شئت وأقف
وخصوصا إذا تهددتني مهبات الرياح باندفاعي إىل أماكن
ً متى ما شئت،
ال توافقني.
فقال الرسدار :وستلقي منها ما يدفعك يف برهة ساعة إىل مسافة مائتني
وأربعني ميال.
قال فرغوسن :فرتى هكذا أنه بهذه الرسعة يجوز اإلنسان إفريقية يف مدة
صباحا يف زنجبار ويذهب
ً اثنتي عرشة ساعة فإنه ينهض من فراشه
لينام يف مدينة سن لويس يف الجهة املقابلة.
67
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
كل ،وقد جرى ذلك عند تكليل نابوليون األول سنة قال فرغوسونَّ :
العلمة غرنرين رفع قبة هوائية من باريز الساعة الحادية 1804م؛ فإن َّ
عرشة مساء« ،قبل نصف الليل بساعة» ،وكان مكتو ًبا عىل تلك القبة
بأحرف ذهبية العبارة اآلتية :باريز يف 25فريمري« ،هو شهر ملشيخة
أفرنسة ،بدؤ ُه من 21ترشين الثاني أو 22حسب السنني» من السنة
الثالثة عرشة لتكليل اإلمرباطور نابوليون األول.
صباحا الساعة الخامسة« ،قبل الظهر بسبع ساعات» ،شاهد ً ففي الغد
سكان رومة تلك القبة الهوائية تحوم فوق الواتيكان ،وبعد أن طافت
حول الحقول برهة سقطت يف بحرية براشيانو؛ أفرأيتم ً
إذا أيها السادة
أن القبة الهوائية تعادل هذه الرسعة العجيبة؟
فقال ديك :نعم يا أيها َّ
العلمة؛ فإن القبة توازي هذه الرسعة ،وأما
اإلنسان فال يتمكن من ذلك.
قال فرغوسن :وملاذا؟! ...فإن القبة الهوائية غري متحركة بالنسبة إىل
الهواء املحيط بها ،وليست هي التي تميش ،بل الهواء نفسه ،ولو أشعلت
شمعة وسط القبة املذكورة فلم يكن يرتج الضوء قط فيها ،ولو فرضنا
أن راكبها إنسان فلم يكن يذوق أدنى اضطراب أو اختالج ،وأما أنا فليس
من نيتي أن أمتحن مثل هذه األمور ،بل أينما لقيت شجرة عالية أرسيت
مركبتي عندها ،وبت ليلتي كلها ،وقد حملنا زادًا يكفينا مدة شهرين،
وإذا طالت معنا الرحلة أكثر من ذلك فإن معنا صياد مشهور يغنينا
بزاده إذا أ ُ ْشغ َِل ً
قليل.
قال أحد الضباط ،وهو ينظر إىل ديك :سوف تشتهر يف تلك البلدان
68
بصيدك يا سيدي.
ً
وفضل ع َّما تشعر من اللذة وقت الصيد فإن مساعيَك َس ُتتَ ِّوجك فقال آخر:
بتاج النرص واملجد.
فقال ديك :أيها السادة أتشكر ...معروفكم ...عىل تهنئتكم إياي ،ولكني
لست أقبلها ...
فقال كثريون سويةً :
فإذا لست بعازم عىل الرحيل.
قالَّ :
كل.
فقال واحد :وال تصحب َّ
العلمة فرغوسن.
قال :ليس فقط ال أصحبه ،بل إنني أتيت معه ألصده عن مقاصده.
العلمة فرغوسن ،كأنهم يستفهمون فنظر جميع الحارضين حينئ ٍذ إىل َّ
منه عن رائه يف ذلك ،فقال ساموئيل :ال تلتفتوا إليه وال تجادلوه عن ذلك،
ألنه يتظاهر أنه ال يريد السفر ،ولكن يف قلبه يعرف جيدًا أنه يسافر بال
شكٍ.
فسكت ديك والزم الصمت مذ تلك الدقيقة إىل حني وصوله إىل زنجبار،
ولم يعد يتكلم عن رحلته وال عن يشء آخر.
69
الفصل التاسع
يف وصول املسافرين إىل زنجبار وارتقاء القبة الهوائية إىل الطبقات
العلوية
71
وكانت الريح موافقة ملسري السفينة ،ومياه البحر رائقة ال يهيجها
هائج ،فكان أهل السفينة يتفاءلون بهذا عىل أن الرحلة الجوية تكون
رب املالحني لينظروا طبق الرحلة البحرية انتظا ًما وهدوءا ،وقد ع َ
ِيل ص ُ
تلك الساعة التي فيها يركب َّ
العلمة ورفقاؤه املركبة الهوائية ،وملا دخل
اليوم الخامس عرش من شهر نيسان أرست السفينة يف مينا زنجبار ،وهي
أيضا ،وكان ذلك قبل الظهر بساعة. مدينة يف جزيرة اسمها زنجبار ً
أما جزيرة زنجبار ففي زمام إمام َم ْسكات ،حليف الدولة الفرنسة
واإلنكليزية ،ويطرق ميناها سفن عديدة من البالد املجاورة لها ،وهي
مفروقة عن َب ِّر إفريقية بربزخ ليس ب ُمتَّسِ ع ،وسكانها يتاجرون بالفراء
والعاج وخاصة بخشب األبنوس وهذه البالد ً
أيضا مقر ملبيع العبيد،
وسوقهم رائج فيها ،ألن فيها تحتشد الغنائم التي يكتسبها رؤساء أقوام
ً
بعضا ،ويعرضونها للبيع ،وهذه إفريقية الوسطى بمحاربتهم بعضهم
73
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال حينئ ٍذ ساموئيل :إننا بحوله تعاىل سنتجنب هذه األخطار والويالت،
ص رحلتنا. وال نرى منها ما ُين ِّغ ُ
العلمة لتنزيل قبته الهوائية من السفينة بلغ بعض الناس وملا تأهب َّ
القنصل َّأل يفعل ذلك يف املدينة ،ألن سكانها يمانعونها بالقوة الجربية
ولعمري ال يشء أقبح من الشهوات املتعصبة تعصبًا ال طائل تحته؛ فإنه
ملا عرف سكان الجزيرة بقدوم رجل مسيحي يريد أن يطري يف الجو
غضبوا أو حنقوا وهاجوا وماجوا ،أما الزنج فأخذ منهم الغضب أشد
مأخ ٍذ من العربان ،ألنهم رأوا بهذه الرحلة ما ينايف دينهم وظنوا أن القبة
تطري قاصدة الشمس والقمر وترض بهما ،ويفعل راكبوها بهما ما شاءوا؛
((( إن أهل الخري ساعون كثريًا يف هذه األيام يف نسخ هذه العادة السيئة التي يستنكف منها كل قلب
سليم ،وقد نجح مسعاهم؛ إذ ُح ِّرمت تلك التجارة رشعًا ،ووضع قصاص عىل املخالفني.
74
سام ،واعتبا ٍر
ٍ بمقام
ٍ فكيف يرتكون ذا األمر ،والشمس والقمر لديهما
فائق ،فصمموا النية عىل مقاومة هذا العمل بجميع قواهم وحرفهم.
وملا علم القنصل بجميع ذلك أطلع َّ
العلمة وقبطان السفينة عليه ،أما
قبطان السفينة فقال :ال يمانعنا يشء وال نخىش أحدًا ،فقال له القنصل:
يا صاح! ...إننا نفوز بالنرص والغلبة عىل العربان والزنج ،وخاصة ألن
عسكر اإلمام يمدون لنا ساعد اإلسعاف ،ولكن ال يخفى عىل حرضتك أن
سه ًما واحدًا إذا أطلق عىل القبة أذهب بقوتها وفاعليتها وبطلت الرحلة،
بتأن واحرتا ٍز ،علَّنا نبدد هذه املصاعب ونزيلها. فيلزم ً
إذا أن نترصف ٍّ
قال القبطان :وما العمل؛ فأينما أردت أن تركب تجد نفس املانع؟!
قال القنصل :ال يشء أسهل من أن تنقلوا القبة إىل الجزائر الصغرية التي
ترونها بعيدة عن هذه املدينة ،وهناك ال يصدكم أحد البتة.
قال ساموئيل :هذا رأي صحيح؛ فإننا هناك نبقى أحرا ًرا ،ال يستعبدنا
العبيد بأهوائهم الخسعة.
وبعد ذلك الحديث توجهوا ً
حال ونزلوا جزيرة كمبني ،وجعلوا القبة
يف بقعة فسيحة وسط غاب ،ثم صنعوا صاريني كبريين؛ يبلغ طول
الواحد منهما ثمانني قد ًما ،ووضع الواحد بعيدًا عن اآلخر بمسافة طول
الصاري ،وفوقهما البكرات وعليها الحبال ،وهكذا رفعوا القبة ،وكانت
إذ ذاك غري منفوخة ،والقبة الصغرية داخل القبة الكبرية ،وترتفع كما
ترتفع هذه ،وأدخلوا األنبوبة التي منها يدخل اإلدروجن عند طرف كل
من القبتني ،وأما اليوم السابع عرش من الشهر املذكور فقضوه يف تجهيز
75
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ً
برميل ،وفيها يحل املاء اآللة إلحصال الغاز ،وكانت مؤلفة من ثالثني
بربادة الحديد والحمض الكربيتي «اسيد سلفريك» املوضوعني يف كمية
وافرة من املاء ،واإلدروجن يصل ً
قبل إىل برميل يف وسط الرباميل بعد أن
يغسل يف طريقه ،ومن هناك ينفذ يف األنابيب حتى يصل إىل القبة ،وهكذا
تمتلئ القبتان بكمية محدودة من الغاز.
وقد تطلب هذا العمل ثالثة آالف ومائتي ليرت من الحامض الكربيتي،
وألفني وستمائة وثالثة وسبعني ً
رطل من الحديد ،وواحدًا وأربعني أل ًفا
ومائتي ليرت من املاء ،فابتدءوا به يف الليلة التابعة ،واستمر نحو ثماني
ساعات ،ويف الغد كانت تتمايل القبة يف الهواء فوق الزورق ،وقد ثقل
عليها بأكياس كثرية من الرمل.
ثم رفع َّ
العلمة آلته المتداد الغاز وانقباضه باعتناء جزيل ،وبعد ذلك
وضعوا يف الزورق لوازم السفر كما ذكرناها ً
قبل.
خاطا رسومه عىل وجوه جميع الحارضين ،ألن األفكار أما الحزن فكان ً
أخذت يف االنشغال من دنو الساعة العظيمة ،وبدأ جميعهم يرددون يف
فكرهم ما عىس يحل بهؤالء املسافرين األبطال ،وهل يا ترى يعودون إىل
األوطان ويشاهدون األخدان ،وإذا َّ
حل بهم ويل واضطروا إىل النزول بني
الربابرة فما تصبح حالتهم.
العلمة فرغوسن فكان يحاول أن يتخلص من األسف الذي الحت أما َّ
لوائحه عىل جميع الوجوه ،لكنه لم يستطع ذلك ،فتناقل بعض الكالم مع
رفقائه ولكنها كانت عرية من كل رونق و َزهاء.
وملا أمىس املساء ذهب َّ
العلمة ورفاقه ورقدوا يف السفينة ،لئال تصيبهم
مصيبة ،وعند الصباح والشمس إذ ذاك قد بزغت أشعتها ،والنسيم رخيم،
ً
عوضا عن مالحا
ً نزل جميع ركاب السفينة يف الجزيرة ،ووقف عرشون
77
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :فإني قد بذلت جهدي ألصدَّك عن رحلتك وما بقي عيلَّ عتاب وال
الئمة ،ولهذا أرافقك يف رحلتك.
قال َّ
العلمة :كنت مؤكدًا ذلك ،فلك الفضل الجزيل يا أيها الخليل.
وملا وافت ساعة الوداع تعانق األصحاب مع األصحاب ،ثم ركب املسافرون
َّ
العلمة القصبة لتمتد املركبة نحو الساعة الثالثة من النهار ،فشعل
الحرارة وسط القبة الطيارة ،وللحال ارتفعت هذه القبة عن األرض نحو
عرشين قد ًما ،إذ أرخى َّ
امللحون شيئًا من الحبال التي كانوا متمسكني
بها.
وإذ نمت قوة الحرارة ،وقد ودع املسافرون رفاقهم الوداع األخري ،قال
ساموئيل :أرخوا الحبال جميعًا وسوية ،فارتفعت املنصورة إىل العالء،
وأطلقت السفينة املدافع إكرا ًما لها ،وإجالال للمسافرين ،فرنت أصواتها
يف اآلفاق.
78
الفصل العارش
يف مرور املسافرين يف بالد عديدة ومبيتهم عىل شجرة الصبَّار فوق جبل
دوتومي
79
وملا ارتفعت املنصورة إىل األعايل كانت الريح لطيفة والجو رائ ًقا؛ فعلت
نحو ألف وخمسمائة قدم فوق األرض بخط مستقيم وقد عرف ذلك
ساموئيل من انحطاط البارومرت بخمسة سنتمريات تقريبًا((( ،وعند
قليل ،ودفعت القبة نحو جنوبي وصولهم إىل ذلك العلو تغريت الريح ً
غربي إفريقية.
((( كلما انحط البارومرت سنتمرتًا يكون راكب الهواء قد ارتفع مائة مرت تقريبا.
81
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وملا كانت أشعة الشمس شديدة الحرارة وازرت قوة القصبة ،فعلت القبة
عن األرض نحو 2500قدم.
ولم تعد حينئ ٍذ تبني السفينة لديهم ّإل كقارب صغري ،وكانت رغوة البحر
األحمر تخط وحدها التخوم اإلفريقية الغربية ،واألرض اإلفريقية ملطخة
ببقع خرضاء ،فقال يوسف لرفيقيه :ما بالكما ال تتكلمان؟ ...فأخذ
َّ
العلمة نظارة ،وبدأ يتطلع نحو األرض ،وقال :اآلن وقت النظر؛ فعلينا
أن ننظر ما ينبسط ألبصارنا.
وعليه طفق يوسف يعرب عما أدركه من االنذهال ،بإبراز كل ما يعلمه من
ألفاظ الهتاف والعجب.
العلمة أن يلثبوا محافظني عىل ذلك العلو،وفيما هم يجوزون البحر ،أراد َّ
وكان أمامه ترمومرت وبارومرت فرياقبهما دائ ًما ،ليعرف عىل أية حال ٍة هم
يف الطبقات الجوية ،بل ويمعن النظر يف هيئة جانب إفريقية الرشقي.
82
وما مىض ساعتان َّإل أبلغت الريح القبة الطيارة إىل فوق اليابسة ،وأراد
العلمة أن يقرتب من األرض ،فخفف حرارة القصبة ،ونزل ً
حال إىل علو َّ
300قدم فوق األرض ،وحينئذ ُو ِجدوا فوق الجهة الرشقية املعروفة باسم
مريما ،وهناك أشجار باسقة ،ملتفة األغصان والورق ،ومعربسة العروق،
ويف الجهة الغربية كان جبل أنغورو.
فمرت املنصورة بقرية عرفها َّ
العلمة؛ قرية َق ْول ْه ،سندًا عىل الرسوم
الجغرافية الواردة يف الخارطة الكبرية التي جلبها معه ،وفيما هم فوقها
ورصاخا عظي ًما من سكانها ،ومنهم من رشق القبةً ضجيجا
ً سمعوا
بالسهام ،فكانت تميس بأعينهم عابثة بسهامهم وبروعتهم ساخرة.
وما زالت الريح تدفع القبة نحو الجنوب ،فرأى َّ
العلمة ْ
أن ال بأس بذلك؛
فإنه تابع الطريق التي سلكها القبطانان بوتون وأسبيك.
أما كنادي فحذا أخريًا حذو يوسف ،وأحب كثرة الكالم ،فأخذا يتناقالن
األحاديث ،ويقول الواحد لآلخر كيفك يا صاح؛ أَلَ ْستَ تكره العربات
والسفن برؤيتك هذه املركبة الهوائية؟ ...فقال ديك :حتى والسكة
الحديديةَ ،فبَ ًّخا عليهاٍّ ،
وأف لها ،ألن الراكب يسري ،لكنه ال يشاهد ما يمر
أمامه.
فقال يوسف :قل ما أحىل القبة الطيارة! فإننا نطري عىل أجنحة الهواء وال
نتعب ،وال يشق علينا املسري ،والطبيعة منترشة أمامنا فنعاينها بأبصارنا
متأملني ،و ُن َسبِّحُ رب العاملني.
قال ديك :وما أجمل هذا املنظر ،وما أحاله! ...وما أبهى هذه الطلعة
83
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
البهية! ...لعمري أكاد أظن نفيس غري ًقا يف بحر أضغاث األحالم.
فقال يوسف :إن عصافري بطني تصيح؛ أفال تريدون أن نتناول طعا ًما؟!
كل منهم ينظر إىل تلك البالد ويتأمل بها ،فكانت بغاية الخصب ثم أخذ ٌ
والريعان ،ومزدانة بوساد الخرضة واألزهار ،ثم مروا بحقول مزروعة
أيضا قطعان غنم تب ًغا وذرة وشعريًا ،وهي بالغة ناضجة ،وشاهدوا ً
كثرية العدد ،محفوظة ضمن دائرة لتبقى آمنة من غوائيل الضباع ،وكلما
ضجيجا وأصوات حنق تتصاعد إىل املنصورة. ً مروا بسكان قرية سمعوا
أما َّ
العلمة فما زال مرتفعًا عنهم بمسافة ال تبلغ إليها السهام ،وكثريًا
ما لحقها الناس وهم يقذفونها بالشتائم واللعنات ،لكنهم ال يدرون ما
يفعلون ،وما أبلد فعلهم!
وعند الظهر تطلع ساموئيل برسومه الجغرافية ،فرأى أنه فوق مدينة
أوزارامو ،ويف هذه الناحية ً
أيضا كان الزرع كثريًا ،والخضار فارشة تلك
األرض والطيور تصدح باألنغام عىل األشجار ،فتمنى ديك لو أنه استطاع
أن يصطاد منها شيئًا ،ولكن ما الفائدة إذ ال يطيق إحضارها ولو رضبها
بالرصاص.
وكانت القبة الطيارة تسري مسافة ً 12
ميل إفرنجيًا يف الساعة ،ولم تمض
84
مدة ّإل وصلوا إىل طول 38ْ 20فوق قرية ُطندا.
فقال فرغوسن يا رفاق انظرا! ...فإن برتون وأسبيك ابتليا بالحمى يف هذا
ِّ
املحل ،وظنا أن أتعابهما السالفة ذهبت هد ًرا وال يستفيدان شيئًا من بعد،
فإذا كان التعب والضنك أعياهما بوصولهما إىل هنا؛ فكيف ً
إذا بتقدمهما
نحو ينابيع النيل ،واضطرارهما إىل خوض البطاح واملفاوز التي ال ح َّد
لها وال قياس؟!
قال ساموئيل :دعهم يعبدونا عن بعدٍ؛ فإننا بذلك نربح األضعاف ،ولكن
قريب نصل إىل جبال ال
ٍ أال ترى اآلن كيف تمر القرى والضياع؛ فعن
سكان فيها وال خضار.
قال :يف الحقيقة إني أرى بعض اآلكام نحو تلك الجهة.
قال ساموئيل :وعن قريب نرى سالسل جبال أوريزارا ،وجبل دوتومي،
وأُؤ ِّمل أن نقيض ليلتنا وراءه ،ولكن ينبغي لنا اآلن أن نزيد حرارة القصبة،
لرتتفع إىل علو خمسمائة أو ستمائة قدم ،فنجوز ُذ َرى الجبل بسهولةٍ.
85
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وملا ارتفعوا إىل العالء شاهد يوسف أشجا ًرا باسقة عظيمة ،فقال :وياله؛
ما أعظمها وما أجسمها! ...فإن عرشة منها تكفي ألن تؤلف غا ًبا أو
ً
حرشا.
قال فرغوسن هذا شجر البوبات؛ فإن منها ما له جزع تبلغ دائرته نحو
مائة قدم ،وانظرا هذه الشجرة العظيمة؛ فعليها ُر ِب َط الفرنيس مزان
وأخذ رئيس القوم ،الذي أَلْ َقى عليه القبض ،يف أن يقطع
َ سنة 1845م،
مفاصله شيئًا فشيئًا ،وكانت الخدام إذ ذاك يرتلون ترتيل الحرب ،ثم
حسم حنجرته ،وأخريًا انتشل رأسه ،وكان للفرنيس مزان من العمر نحو
26سنةٍّ ،
فأف لهذه القساوة الرببرية التي تستنكفها القلوب ،وال يطاق
سمعها.
قال :إن األمة الفرنسية طلبت القاتل ،فعمل سعيد زنجبار ما عمل ،وبذل
َ
يحظ بالقاتل. أقىص جهده فلم
وملا كانت الساعة السادسة والنصف بعد الظهر ،قابلت املنصورة جبل
دوتومي ،فاضطر َّ
العلمة إىل أن يرفع القبة إىل علو ثالثة آالف قدم،
وهكذا مروا بالجبل ولم يمسهم رض البتة.
ويف الساعة الثامنة بعد الظهر ،نزلوا املنحدر املقابل للجبل ،ورموا حينئ ٍذ
املرايس فتعلّق إحداها بأغصان شجرة صبار عظيمة وبقيت متمسكة بها،
ثم نزل يوسف الخادم بحبل املرىس ومكنه تمكينا ،وملا أراد الرجوع إىل
الزورق أُن ِزل له السلم الحريري فعاد إىل مكانه بكل سهولة ،ثم أخذوا
86
يهيئون العشاء ،ألن الطبقات الجوية فتحت منهم القابلية ،فسأل ديك
َّ
العلمة وقال :كم جزنا من املسافة يف هذه املدة؟
87
الفصل الحادي عرش
يف ح َّمى ديك ودوائها ونزوله إىل األرض مع يوسف طلبًا للصيد
89
فمىض الليل كله بالهدوء واالستكانة ،ولكن ملا أصبح صباح السبت نهض
أحس بتعب وخمول قوة ورجفة حمى ،وكان قد
َّ ديك من الفراش وقد
تغري الفلك وتبقعت السماء بالسحب وتهددت األرض بالغيث والعواصف،
أما تلك النواحي املعروفة باسم زنغمرو فال تزال فيها األمطار متواصلة
يف جميع فصول السنةَّ ،إل يف شهر كانون الثاني؛ فإنها تنقطع مدة نحو
خمسة عرش يو ًما.
وما مضت برهة ّإل هطلت األمطار وسالت السيول يف تلك الوديان.
فقال يوسف :وما أدري ما هذه البالد؛ فإني أرى ديك منحرف الصحة
بعد مرور ليلة عليه؟!
91
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال ساموئيل :ال بدع يف ذلك يا صاح؛ ألن هواء هذه البالد من أسوأ ما
يكون يف البالد اإلفريقية ،وليس مرادنا البقاء فيها ،بل هبوا بنا َن ِ ْ
س إىل
أعىل الطبقات الجوية.
ويف الحال نزل الخادم ورفع املرىس ثم عاد إىل محله ،وو َّفر ساموئيل
حرارة الغاز ،فتصاعدت املنصورة إىل األعايل ،وهي مدفوعة بريح شديدة.
وملا اندفع إىل ما قدام أخذت البالد يف االتسام بهيئة جديدة ،ومن األمور
الكثرية الحدثان يف األقطار اإلفريقية أن بالدًا نظيفة وحسنة األهواء
تتاخم بالدًا سيئة املناخ واألهواء.
وما زالت الحمى تعذب الصياد عذا ًبا ألي ًما ،فالتحف باللحاف ً
قائل :اآلن
ليس وقتَ الضعف؛ فما يل وله؟!
مهل يا ديك! ...عليك أن تعتصم بحبل الصرب ً
قليل ،وعيلَّ فقال فرغوسنً :
أن أبرئك بعد بره ٍة بقدرة املوىل.
فتعجب ديك من هذا املقال ،وقال :لعمري؛ إذا كنت طبيبًا وعندك األدوية
حال ،ألن صربي قد عيل ،وأحب أن أكونوالعقاقري فأرجوك أن تداويني ً
سالم الصحة يف هذا الرحيل.
قال :وال أسهل من ذلك! ...فإني عازم عىل أن أرتقي فوق هذه السحب،
وأبتعد عن هذه النقطة الوبائية ،فقط أرجوك أن تصرب عيلَّ عرش دقائق
92
ألنرش الغاز.
وما مضت الدقائق العرش َّإل ارتقت القبة فوق الطبقة الرطبة ،واشتم
ً
مقبل عىل ديك نسيم هواء رخيم ينعش الفؤاد ،فرتمم حاله ورأى نفسه
الصحة.
فقال ديك :وما أجمل من هذه املركبة الهوائية؛ فإنها كفردوس أريض!
93
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ثم قال :هو ذا ما اعتضت به عن سلفات الكينا ،وعندي أنه أفخر منه.
قال يوسف :نِعم الهواء هواء هذه الطبقات ،وإن شاء املوىل سآتي إليها
ألقيض فيها آخر أيام حياتي.
وملا كانت الساعة الثالثة من النهار ،صحت السماء وتبددت السحب يف
اآلفاق ،فرشعت املنصورة تدنو من األرض شيئًا فشيئًا ،وأراد ساموئيل
ريحا تقيده إىل شمايل رشقي إفريقية ،فوجدها يف علو 600قدم
أن يجد ً
فوق األرض ،وعقب مرور برهة َب َ
ان أمامهم جبل.
ويف تلك الساعة أخذت ذرى الصخور يف االرتفاع ،واقتىض الحال أن
يتحذروا يف كل دقيقة من رؤوس بعض الصخور التي كأنها تهددت
املركبة.
فقال ديك :إن قبتنا فيما بني هذه الصخور كالسفينة التي تسري بني
الصخور املتوارية يف املياه.
ثم قال فرغوسن :لو كنا رسنا مشا ًة يف هذه األرايض املائية لخضنا يف
بحر حماة ال مناص منه وال مفر ،ولكانت ترضرت دوابنا عياء وتعبًا
94
مذ خروجنا من زنجبار إىل هذه الناحية ،ولَ ُكنَّا أصبحنا ضعفاء الجسم
نحيفي البدن ،وهيهات أن يجلدنا الصرب ويولج فؤادنا التجمل ،وأ َ َّنى مني
من إحصاء املصائب الكثرية ،واملشاق العديدة التي تحيق باملسافرين؛
ففي النهار ح ٌّر الفح مضنك يكاد املرء ال يطيق احتماله ،ويف الليل برد
قارس يلسع الجسم فال يتمكن من مقاساته ،ومع هذا كله ال تخلو من
الذباب الذي قيل عنه إنه يخرق األقمشة ،وإذا لسعت البدن خبلت عقل
اإلنسان .هذا ،مع قطع النظر عن الوحوش الكارسة واألقوام الربابرة.
قال ساموئيل :لعمرك؛ إني لم أبالغ يف الوصف ،بل إذا سمعت قصص
السواح ورواياتهم يف رحالتهم اإلفريقية ،أغرتك عىل سكب بنات العيون
من الجفون.
وملا كانت الساعة الواحدة قبل الظهر مروا ببحرية إيمنجي ،واألقوام إذ
ذاك يف تلك النواحي يتهددون املنصورة بالسالح ،فلم يظفروا بالنجاح،
ثم وصلوا إىل األرض املع َو َّجة الكاينة قبل جبل روبيهو ،وهناك السلسلة
الثالثة السامية من جبال أوزاغارا.
فأخذوا يتأملون جيدًا هيئة تلك الجبال ،فكانت األقسام الثالثة مفروقة
ببطاح فسيحة ،وبني الصخور والجالميد ترى الحجارة
ٍ بعض
ٍ بعضها عن
والحىص مشتتة ومبعثرة؛ فالجهة املقابلة لزنجبار هي ذات منحدر وعر
جدًا ،وأما يف الجهة الغربية فاملنحدر ال يشبهه بل هو ساحات منحنية
ً
قليل ،وال تخلو من الجداول التي تصب يف نهر كنغاني يف الجهة الرشقية،
حيث أشجار الجميز وتمر الهندي والنخل والقرع متكاثرة بل عىل هيئة
95
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
رياض.
فقال فرغوسن :علينا اآلن أن نأخذ حذرنا من هذا الجبل العايل ،وهو جبل
روبيهو الذي تأويله يف عرف أولئك األقوام «مرور الرياح» ،فينبغي لنا أن
نرتفع إىل العالء ،وعىل ظني؛ إذا ما وصلنا إىل علو 5آالف قدم فقط فال
ننجو من الخطر وال نظفر بالوطر.
فقال يوسف :وهل كثريًا ما يقتيض الحال أن نصعد إىل مثل هذا العلو
الشاهق؟
قال فرغوسنَّ :
كل ،ألن جبال إفريقية ليست بسامية االرتفاع كسائر جبال
أوربا وآسيا ،أما نحن فمالنا ولها؛ إذ إننا نمر بها بقبتنا دون صعوبة،
العلمة النار ،فازدادت الحرارة ودفعت القبة ً
هائل حتى وعىل األثر أسعر َّ
أوصلتها إىل علو ستة آالف قدم.
فسأل الخادم سيده ً
قائل :أنجوز هذا الحد من العلو؟
أجاب ساموئيل :إذا كانت القبة كبرية فيتمكن اإلنسان من الصعود إىل
درجة أسمى من هذه ،كما فعله بريوسكي وغاي لوساك ،ولكن أخذ الدم
يمج من أنفيهما وآذانهما وعدما التنفس ،ومنذ بضع سنني تجرأ رجالن
إفرنسيان عىل االرتقاء إىل األعايل فاحرتقت قبتهما...
فسأل ديك ً
حال وقال :هل سقطا عىل األرض؟
قال ساموئيل :ال شك يف ذلك ،لكنهما سقطا سقوط العلماء الذين ال
يمسهم رضر البتة يف سقوطهم.
96
فقال يوسف :سادتي! ...إنكم أحرار إذا أردتم تجربة هذا األمر ،أما أنا
بعالم بل جاهل ،وأوثر أن أبقى يف الحالة الوسطى ،وقد قيل حبٍ فلست
التناهي غلط ،وخري األمور الوسط ،وال أود أن أبقى يف علو باسق ،وال يف
وطوء دني؛ فإن الطمع َّ
رض ما نفع.
وملا بلغوا علو ستة آالف قدم ،أخذ يخف ثقل الهواء ،ولم يعد الصوت
ينتقل َّإل بصعوبة كلية ،واختلطت األشياء عىل برصهم؛ فأمسوا ال
يشاهدون َّإل أجرا ًما غري مخططة ،وال تبني الطرق َّإل كشباكٍ ،والبحريات
كأحواض.
ٍ َّإل
وكان الهواء الجوي يدفعهم فوق الجبال املكسوة ذراها بالثلوج ،كأنها
باقية عىل حالتها األوىل من يوم خلقها املوىل سبحانه وتعاىل.
ثم نزلت املنصورة إىل منحدر جبل روبيهو ،وكان هناك غاب وأحراش
فيها من األشجار أعظمها ،والخضار أعجبها وأغربها ،فدنا ساموئيل من
األرض وألقى املرايس فتعلّق إحداها بشجرة جميز ،ثم نزل يوسف ومكنه
باعتناء ،وترك ساموئيل القصبة يف حالة الحرارة ،ثم قال للصياد :اذهب
للصيد أنت ويوسف؛ فعليكما أن تأخذا سالحكما وتصطادا ما يحلو
ً
برهة. لخاطركما لنغتذى اآلن بني هذه األحراش وننرشح
حال إىل األرض ،وملا خفت القبة ً
ثقل تمكن فرغوسن من إطفاء نار فنزل ً
القصبة.
97
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال فرغوسن :كن عىل راحة بال؛ فإن القبة متمكنة جيدًا ،فاذهبا
بالسالم فإني أرجو لكما النجاح والتوفيق ،ولكن كونا عىل حذ ٍر دائ ًما،
حال فيكون ذلك عالمة القتضاء وإذا ما دهمني دا ٍه فإني أطلق الرصاص ً
حضوركم الرسيع ،وهكذا تم االتفاق وانطلق االثنان للصيد.
98
الفصل الثاني عرش
يف هجوم السعادين عىل القبة الهوائية ووصول املسافرين إىل كازه
99
أما األرض التي كانوا يسريون فيها فكانت من فخار ،وهي تتشقق من
الرمضاء «شدة الح ّر» ،وشاهدوا فيها بعض آثار القوافل ،وشيئًا من
عظام الحيوانات والناس معًا.
وبعد ما مشوا نحو نصف ساعة ،ولج يوسف وديك غا ًبا ذات أشجار
متنوعة ،وهما يرصدان طريًا أو حيوا ًنا آخر ليصطاداه ،ولم يكونا يعرفان
ما هي أجناس الحيوانات والطيور املوجودة يف تلك النواحي.
فقال يوسف :إن لنا نفعًا يف مسرينا عىل أقدامنا ،ولكن يا ليت هذه األرض
سهلة وحسنة االنتظام.
أما ديك فأومأ إليه بالسكوت والوقوف ،ألنه نظر عن بعد بعض الحيوانات
الشبيهة باأليل ،وأراد أن يكمن لها ،لكنه لم يكد يدنو منها ً
قليل ّإل أحست
بالخطر املحيق بها؛ فكانت واردة مورد املاء لتستقي منه ،فعند إحساسها
101
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
بدنو عدوها رشعت تلعق لعقة وتنظر إىل الهواء ،أما ديك فتوارى عنها
ودار حول صخر ،ثم أورى زناد سالحه فولت جميعه َّن مدبرات ،ولم
يصب سهمه َّإل واحدة منهن ،ف َّ
رس رسو ًرا بلي ًغا لهذه الغنيمة الفاخرة،
وملا اقرتب إليها رأى لونها ضار ًبا عىل الزرق واللون الرمادي ،وبطنها مع
ساقيها ذات لون أبيض أشبه ببياض الثلج.
فقال ديك لصاحبه :لله هذه األلوان؛ ما أجملها! ...فإن مرادي حفظ
جلدها.
قال يوسف :أما ترى أنت أن هذا حمل يثقل عىل صاحبنا فرغوسن؛ إذ إنه
يفسد موازنة قبته؟!
قال ديك :هذا صحيح ،ولكن يشق عيلَّ ترك هذا الحيوان.
كل ال نرتكه كله ،بل نستنتج منه ً
أول ما يقيتنا وينفعنا ،ثم قال يوسفّ :
نرتك ما تبقى ،وإذا شئت هيأت لك اآلن لحمانه.
قال يوسف :ال ريب يف ذلك ،ولكن اتركني أتحمل اآلن هذا التعب ،فيما
تهيِّئ يل وجا ًقا عىل ثالثة أحجار ،وبعد ذلك تكلف خاطرك بجمع قليل
من الحطب لنورث النار ،ونشوي عليها اللحمان.
102
قال ديك :عىل الرأس والعني؛ فإن جميع ما أمرت به يتم برمشة عني.
وأخذ ً
حال بإنشاء الوجاق ،ولم تمض برهة َّإل جمع الحطب وأشعل
النار ،فصعد لهيبها وطار رشارها ،وكان يوسف قد انتشل من جوف
الحيوان السلسلة وغريها من اللحمان الطرية ،وجعلها عىل النار ل ُت ْش َوى.
وفيما هما عىل هذه الحال قال ديك لرفيقه :أتعرف ما خطر يف ذهني؟
قال ديك :وما هذا الفكر الذي تفتكر به؟ ...أتظن فرغوسن يرتكنا يف هذه
البالد؟
قال ديك :ومن املحال أن يفلت األنجر عىل هذا الحال ،وهبه؛ جرى فإن
َّ
العلمة سينزل يف مكان آخر لينتظرنا ،ولعمري؛ إن آلته من أفخر اآلالت
وأحكمها ترتيبًا وانتظا ًما.
قال يوسف :ولو هبت ريح شديدة فإنها تدفعه إىل حيث ال يمكننا
الوصول إليه.
103
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ولم ينته يوسف من التفوه بهذه الكلمات َّإل دوت طلقة بارودة يف اآلفاق.
فجمع الرفيقان ما كان جهزاه من املصيد ،وعلقا عىل املسري نحو القبة
الطيارة ،وكانت األشجار املتكاثفة يف ذلك الغاب تمنعهما عن مراقبة
القبة عن بعدٍ ،ولم تمض برهة َّإل أطلقت رصاصة أخرى.
ً
راكضا؛ فإنا بحوله تعاىل فقال ديك :ال تخف ،بل ارمع يف مسريك ،وهرول
سنبدد شمل هؤالء األعداء قبل وصولهم إىل فرغوسن؛ فهيا بنا هيا!
ثم أطلقت رصاصة أخرى فأصابت حبشيًا كان يتسلق عىل حبل املرساة،
ويف الحال شاهدوا جس ًما ميتًا تساقط من غصن إىل غصن إىل أن بلغ علو
عرشين قد ًما من األرض ،فتعلّق جسمه يف العالء ،ونزلت ذراعاه وفخذاه،
يتذبذبن يف الفضاء.
فقال يوسف :يا وياله! ...وبأي حبل يعتصم هذا القرد الكبري؟!
وفيما هما يتناقالن هذه األحاديث إذ وصال إليه َّن ،فدخال فيما بينه َّن،
ورياه َّن رشذمة من السعادين البالغة يف التوحش والرببرة ،وله َّن أنياب
هائلة كأنياب الكالب ،فأخذا يطلقان عليه َّن الرصاص ،فبددا شمله َّن،
وطرحا عىل الحضيض كثريًا منه َّن.
105
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ثم دنا كنادي من القبة وارتقى إىل املركبة عىل السلم ،وأما يوسف فتوارى
بني أغصان الجميز ليحل املرساة ،ثم اقرتبت إليه املركبة فدخلها بسهولة،
ويف الحال ارتفعت القبة إىل األعايل واتجهت نحو الرشق بقوة هواء لطيف.
قال فرغوسن :وال يختلفون عنهم كثريًا اس ًما وفعال؛ إذ إنهم سعادين.
قال فرغوسن :وعىل جميع األحوال فإنا نجونا اآلن من خطب جسيم ،ألنه
لو فلتت املرساة من الشجرة بحراك السعادين ،فال أعلم إىل أين كانت
أخذتني الرياح عنكم.
قال ديك :لقد أصبت يف ظنك هذا ،ولكن ال يخفى عليك أني كنت وقتئ ٍذ
مهت ًما بتجهيز لحمان الصيدة ،ومشتا ًقا ملناولة ذلك الطعام الشهي
الناضج.
قال فرغوسن :بالحقيقة ،إن لحم هذا الحيوان الشبيه باأليل لذيذ،
وتشتهي النفس أكله.
قال يوسف :ذق منه إذا شئت يا سيدي؛ فإنه حارض ،واحكم لنا بصحة
106
األمر.
قال الصياد :نعم؛ إن هذه اللحمان وحشية ،لكنها أنيسة للحنجرة ،وال
تمجها املعدة.
فقال يوسف وهو يأكل :لعمري؛ إني أرىض بأن يكون لحم هذا الحيوان
قوتي اليومي ،إىل آخر يوم من حياتي ،ولكن ما ألذه إذا كرع معه بعض
جرعات من العرق اللذيذ ليحسن هضمه يف املعدة!
ويف الحال أحرض شيئًا من هذا الرشاب ،وناول رفاقه ثم تجرع حصته،
ويف تلك الساعة سأل فرغوسن صاحبه ديك ،وقال :قل يا صاح؛ ما رأيك
اآلن ،هل ندمت عىل مرافقتنا؟
وكانت تلك الساعة الرابعة بعد الظهر ،فهبت ريح وأرسعت املركبة
مسريها ،فكانوا يشاهدون األرض كأنها ترتفع أمام أعينهم ،فدلهم
البارومرت عىل أنهم يف علو 1500قدم فوق مساواة مياه البحر فاضطر
َّ
العلمة إىل أن يزيد حرارة القصبة لئال تقرب القبة من األرض ،وعند
الساعة السابعة حامت القبة فوق بحرية كنيامه ،وعلم فرغوسن من
أراض تأسست فيها حديثًا بعض القرى ٍ رسومه الجغرافية أنهم يف
املشتتة بني أشجار البوبات وغريها ،وهناك مقر أحد سالطني أُغوغو،
حيث خف التوحش عىل وجه من الوجوه ،ألنه قلما باع فيها أحد عضوا
من عيلته ،أما الناس فيسكنون هناك مع البهائم ،وليس ملنازلهم ترتيب
107
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وال انتظام ،بل كأنها أكواخ حقرية ،تشبه كراديس عشب يابس.
أما الهواء يف تلك الليلة فكان باردًا ،ألن ميزان الحرارة نزل 28درجة
عن حرارة النهار ،وما زالت الحيوانات الخارجة من مرابضها هر ًبا من
الجوع والعطش تضج وتصيح آناء الليل ،والضفادع تنق يف مراقدها،
وابن آوى ينبح ويعوي.
وملا أصبح الصباح واستفاق الرفاق من الرقاد ،نظر فرغوسن إىل البوصلة
فعلم أن الهواء تبدل ،وتغري اتجاه القبة الطيارة ،ألنها منذ ساعتني من
الصباح اختطت مسافة ثالثني ً
ميل يف الجهة الشمالية الغربية ،وتطلع
برسومه الجغرافية فعلم أنه ما ُّر ببالد مابنغورو املحجرة وقد شاهد
108
املسافرون فيها من حجر السيناء ذات الصقل الجميل ،وصخو ًرا كثرية
محدبة ومتنوعة البناء والخطوط ،وعظا ًما مشتتة ومبعثرة من الفيلة
والجواميس ،ولم يشاهدوا فيها شج ًرا ،بل عن شمالهم قامت أحراش
وغابات متسعة ،ووراءها بعض القرى والضياع.
العلمة فرغوسن :الحمد لله أننا يف سبيل الهدى وطريقنا مستقيمة، فقال َّ
وهاهي ذي بالد جيهوملكوا؛ فيل رغبة يف أن َّ
أحل بها برهة ألجدد زاد املاء
إذا أن نتعلّق بمكان.
الرضوري آللتي ،فلنجرب ً
قال :علينا أن نجرب ،علنا نتعلق بخلل صخر ،وأوعز إىل يوسف أن يلقي
املرايس ،فألقاها وملا كانت القبة قد فقدت شيئًا من قوتها الرافعة دنت
من األرض ،وإذا بمرساة تمسكت بثقب صخ ٍر ،فوقفت املنصورة ثابتة
غري متحركة.
فال يظن القاري أنه صاغ للعالمة إخماد الحرارة يف حالة وقوفه ،ألن
مؤونة القبة حسبت عىل مساواة سطح البحر ،والحال أن تلك البالد هي
يف ارتفاع ،وقد بلغوا فيها علو 600إىل 700قدم عن سطح البحر ،فعىل
هذا املنوال كانت القبة تميل إىل النزول ،وقد التزم َّ
العلمة أن يرتك الغاز
مشتعل ً
قليل ،ليحافظ عىل لبوثه يف ذلك العلو من األرض. ً
109
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
الغربية من سفح بلد جيهوملكوا ،حيث يوجد بعض غدران ماء ،فذهب
برميل صغريًا ،وقد شاهد املحل الذي دله ً ً
حامل إليها الخادم وحده
عليه فرغوسن فأمأل الربميل وأتى به املركبة بعد مرور نحو ثالثة أرباع
الساعة ،ولم يشاهد يف طريقه شيئًا غريبًا خصوصيًاَّ ،إل حف ًرا واسعة
إليقاع الفيلة ،وقد كاد يهوي يف إحداه ّن.
جنسا من الربسيم ،وهو خرضة كانت تأكله السعادين ً وقد أحرض معه
العلمة أن هذه الخرضة تعرف بإفريقية باسم امبنبو، بتلهف ،فعرف َّ
وهي كثرية الوجود يف نواحي جيهوملكوا الغربية ،وقد انتظر فرغوسن
خادمه بقلق ،ألنه كان يخىش من طارئ يطرأ عليهم يف تلك البلدان التي
ال يراعى فيها ذمام الغريب ،وليس له أمان عىل نفسه.
ثم وضعوا الربميل يف املركبة بكل هينة ،ألنها كانت قريبة إىل األرض
كثريًا ،وبعد أن رفع يوسف املرساة طلع إىل املركبة ،وجلس أمام سيده
فأرضم القصبة ،وامتد الغاز وارتفعت املنصورة سائرة يف طريق الرياح،
وكانت املركبة إذ ذاك بعيدة عن مدينة كازه ذات األهمية العظيمة يف
أواسط إفريقية نحو مائة ميل ،وقد رجا املسافرون أن يصلوا إليها يف
النهار ذاته ،نظ ًرا لوجود الرياح الجنوبية الرشقية وكانت املركبة تسري
ميل يف الساعة ،ولكن صعب عىل فرغوسن يف تلك الدقيقة إدارة مسافة ً 14
مركبته ،ألنه لم يكن يمكنه أن يرتفع إىل عل ٍّو باسق بدون أن يمد الغاز
كثريًا ،ألن تلك البالد كانت شامخة االرتفاع ،وعلوها األوسط 3000قدم،
فبذل ساموئيل غاية مجهوده ،لِئَ َّل يمد الغاز كثريًا ،وقد م َّر بجبال وآكام
كثرية ،ثم بقريتي طمبو وتوراولس ،وهذه القرية كانت ببالد أونياوازي،
فيها األشجار الباسقة ومنها شجر شبيه بالصبري يرتفع إىل علو شامخ.
110
وملا كانت الساعة الثانية بعد الظهر ،وكانت السماء صافية حامت
املنصورة فوق مدينة كازه ،الكائنة يف مسافة بعيدة عن ساحل البحر
بثالثمائة وخمسني ً
ميل.
111
الفصل الثالث عرش
يف مدينة كازه وسوقها وأوالد القمر وهيئة رقصهم وعبادة قوم تلك البلد
ليوسف وظهور قمرين يف البقعة السماوية
113
أما كازه فليست ،بحرص الكالم ،مدينة «ألن ليس مدينة يف أواسط
إفريقية» ،بل هي مركز ذو أهمية جزيلة يف إفريقية الوسطى ،لكنها ليست
َّإل مجموع ست أودية وفيها عدة أكواخ ملأوى أصحابها ،وشاهدوا ً
بعضا
بصل وبطاطة وباذنجان وجبئًا «شبه ً ً
محتاطا ببساتني مزروعة منها
الكمأة» وغري ذلك مما يروق للخاطر .أما أونياوازي فهي بالد القمر،
وال تخلو من الخصب وجمال املنظر ،ويف وسطها مقاطعة أوينه نمبه،
أيضا ،وهناك يقيم بعض آل عمان من عرب العربان وهي بلد جميلة ً
الذين يتاجرون بالفراء والعاج والعبيد مع بالد العرب ،والقوافل تأتيهم
ببضاعة الفخفخة وغري ذلك مما هو غايل الثمن ،ألنهم عائشون مع
نسائهم وعبيدهم بصفاء البال وطيبة العيش ،وال ينغص عيشهم حادث
من طوارق الزمان فيتمددون ويمرحون ويدخنون آناء الليل وأطراف
النهار ،ولقد يشاهد أكواخ كثرية حول تلك األودية ،وأسواق واسعة لفرش
115
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
البضائع ،يحيط بها أشجار كثرية ،وهناك محل اجتماع القوافل؛ فإن
منها ما يأتي من الجنوب مصحو ًبا بالعبيد والعاج ،ومنها ما يأتي من
الجهة الغربية مصحو ًبا باألقطان واألدوات الزجاجية ألقوام البحريات
العظيمة.
ً
ولغطا وضجيجا وبعا ًقا
ً ولهذا ترى يف تلك األسواق اضطرا ًبا مستدي ًما
غريبًا؛ فإنك ال تقف برهة َّإل وتسمع رصاخ املكارين ،وطنطنة الطبول
والزمور ،ودقدقة الدواب ونهيق الحمري ،وغناء النساء وزقزقة الغلمان،
ومدقة الجمدار رئيس القافلة.
ففي الساعة والحال عند ظهور القبة الهوائية فوق كازه بطلت الضجة،
وزال الرصاخ ،وفر كل من ذلك القوم الرجال والنساء والعبيد والتجار
ً
مهرول إىل كوخه ليختبئ فيه ،ولم يعد أحد ظاه ًرا والعربان والزنج،
للوجود.
فقال ديك لفرغوسن :إذا أتت قبتنا دائ ًما بهذا املفعول فيصعب علينا جدًا
تمكني العالقات التجارية مع مثل ذلك القوم.
قال يوسف :ولكن إما تفطن أن لنا اآلن معاملة تجارية سهلة جدًا ،وهي
خف ً
حمل وغال قيمة، أن ننزل بهدوء وطمأنينة إىل األسواق ،ونحمل ما َّ
من دون أن نعامل التجار ،وبهذا نصبح من األغنياء املورسين.
قال فرغوسن :سقيًا لك؛ إننا ألقينا الرعبة يف أول وهلة عىل هؤالء األقوام،
116
ولكن ال نلبث أن نرى الجميع راجعني ،سواء أكان باعتقاد باطل أم برغبة
معرفة ما شاهدوه.
قال :الشك يف ذلك ،وعن قريب تراهم مقبلني ،ولكن حذار من أن نقرب
إليهم ألن قبتنا ليست قبة مصفحة وال مدرعة ،بل إذا أطلق علينا رضبة
رصاص أو إذا نبلنا بنب ٍل وخرق قبتنا هلكنا ال محالة.
قال فرغوسن :بىل؛ إذا سنحت لنا التقادير ،ألن مدينة كازه ال تخلو من
التجار والعربان املثقفني واملتمدنني نوعًا ،وأتذكر جيدًا ما حكي عن
برتون وأسبيك أنهما ناال ضيافة حسنة من سكان املدينة ،فرتى ً
إذا أنه ال
يوجد مانع للدخول بينهم واملحادثة معهم.
ويف تلك الساعة ظهر القوم وخرج كل من خبائه ،لكنهم لم يخرجوا َّإل
ً
فقليل بحرص واحرتاز. ً
قليل
ثم هرول بعض السحرة املعروفني عندهم باسم «وغنغا» وهم حاملون
القرع املدهون بالشحم واألصداف وغريها من األشياء املشهورة بقلة
نظافتها.
ولم تمض برهة َّإل وازدحم القوم ،وأحاطت بهم النساء والغلمان وضجت
117
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال فرغوسن :هذه عادتهم يف الدعاء والترضع ،وعىل ما أرى فإنه عن
قريب يصري لنا أهمية جزيلة عند هؤالء اإلفريقيني ،وأنت يا يوسف لربما
ستميس عندهم إلهًا.
قال يوسف :ال أزهد يف مثل ذلك األمر ،وال أكره رائح البخور.
ويف تلك الدقيقة قام أحد السحرة املعروف باسم ميانغا وأومأ إىل الناس
بالسكوت فسكتوا جميعهم ،ثم تقدم نحو املسافرين يف املركبة وخاطبهم
بلغة مجهولة لديهم ،فلما لم يفهم فرغوسن كالمه تفوه عىل الفور ببعض
األلفاظ العربيّة فأجيب عىل كالمه بهذه اللّغة ً
أيضا.
ً
طويل أني ًقا ،فلخص فرغوسن من مقاله ثم خطب أمامه الساحر خطا ًبا
أن هؤالء القوم اتخذوا املنصورة نفس القمر ،وأن هذه اإللهة املحبوبة
تنازلت أن تدنو منهم مع أوالدها الثالثة ،وأن هذا لرشف عميم شمل
لفيف سكان تلك املدينة فأصبحوا لها من املمنونني ،ومعروفها هذا ال
ينىس من تلك األرض املحبوبة من الشمس.
فأجاب فرغوسن بأمارات العظمة والكرب ،وقال :فليكن معلو ًما عندكم أن
القمر يطوف حول بالده مرة كل ألف سنة؛ إذ إنه يرغب يف الظهور ألعني
عابديه ،ويريد منهم أن يعرضوا لحرضته اإللهية ما لهم من الحاجات
والرضورات ،وال يرتبكوا ويربكوا يف توسالتهم ،بل يجب أن تكون غري
مشوبة بالجزع والخديعة.
فقال الساحر :إن سلطاننا« ،ويعرف باسم مواني» ،قد أنس فراش
118
املرض منذ سنني عديدة فبالنيابة عنه أتوسل إىل جاللة القمر لريفق
بحاله ويدعو أوالده يرشفونه بحضورهم إذا شاءوا.
فبلغ فرغوسن رفقاءه تلك الدعوة ،فقال الصياد :وهل مرادك أن تتوجه
إىل عند هذا امللك الحبيش؟
قال :وما املانع؟ فإني أرى هؤالء القوم حسني االلتفات نحونا ،وال يأتوننا
برضر ،وها إن الجو رائق فال نخاف عىل مركبتنا.
قال فرغوسن :ال تخف؛ فإني أقيض شغيل بيشء من األدواء الطبية
املوجودة معي.
ثم التفت نحو الجمع ،وقال لهم :اليوم ح َّن قلب القمر عىل سلطان بني
أونياوازي ،وشاء بخاطره أن يسلمنا دواء شافيًا لدائه ،فليكن ً
إذا متأهبًا
ملالقاتنا ألننا ذاهبون إليه.
فضجت حينئ ٍذ أصوات هؤالء الرهط بالغناء والبعاق ،وأخذوا يف املسري إىل
البيت امللوكي.
ثم قال ساموئيل لرفاقه :يجب أن نكون عىل حذر وأهبة للرحيل إذا
ً
محافظا عىل ما اضطررنا لرتك هذه املدينة ً
حال؛ فليبق ديك يف املركبة
يكفي من القوة الرافعة بواسطة القصبة ،أما املرساة فهي ممكنة غاية
التمكني ،وال نخىش عليها ،وأنا نازل إىل األرض ،ويرافقني يوسف إىل عند
طرف السلم وهناك يسرتيح عىل خاطره.
119
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال فرغوسن :ال اقتضاء لذلك؛ فإن هؤالء القوم ظنوا أن إلههم القمر
آتٍ لزيارتهم فباعتقادهم هذا الباطل ال يمكنهم مرضتنا فأريحوا بالكم
ً
محافظا عىل وظيفته. وليبق كل منكم
أما رصاخ القوم فأخذ يف االزدياد وكانوا يطلبون ابن القمر ليقيض
وطرهم.
قال يوسف :وما هذا األمر؟! ...الظاهر أنهم متجربون نحو إلههم وأبنائه.
ثم نزل فرغوسن من مركبته وأخذ معه بعض األدواء املقوية ،وسار
يوسف أمامه ولوائح العظمة والوقار الئحة عىل محياه ،ثم جلس عند
طرف السلم وقعد عىل ركبته حسب الزي الرشقي ،فاحتاط به القوم من
اإلفريقيني باحتشام الئق.
العلمة فرغوسن فسار وراء اآلالت املوسيقية الشادية بأنغامها َّ أما
الشجية «ولله د ُّرها» ،وأحاقت به السحرة وغريهم من املعتربين ،وما
قليل َّإل وفد ابن السلطان الذي كان وحيد اإلرث الرشعي دون مشوا ً
إخوته الرشعيني ،فأتى وسجد البن القمر ،أما فرغوسن فأنهضه ً
حال
بحركة لطيفة ثم مىش معهم يف تلك الطرقات املظللة بأنواع األشجار
والنباتات ،وما مىض نحو ثالثة أرباع الساعة حتى وصلوا إىل رساية
السلطان الكائنة يف سفح أكمةٍ ،وهي نوع من البناء املربع املدعو يف لغة
أهل تلك البالد باسم «ايتيتينيا» وحول جدرانها قطع فخارية؛ منها عىل
120
هيئة رسم إنسان ،ومنها ما كان أحسن انتظا ًما ،وهو عىل هيئة الحيات،
وأما سقف املنزل فمفصول عن الجدران بعمد ،والهواء يتالعب يف املخدع
من ذلك الفلق ألن الشبابيك غري موجودة فيها والباب يكاد يستحق اسم
باب لصغره وهيئته الغريبة وملا بلغ فرغوسن إىل ذلك املحل القته الخفراء
أناسا يمثلون حسنًا هيئة
ورجال الدولة بمزيد اإلجالل وكانوا جميعهم ً
أقوام إفريقية الوسطى ،ذوي بنية حسنة وقوة مشهورة ومزاج سليم
وشعورهم مجدولة عىل هيئة الضفائر ،منسدلة عىل أكتافهم ،وخدودهم
مخططة بالحمرة والسواد والزرق من املصادغ حتى الفم ،وعىل آذانهم
املمدودة قطع خشب مستديرة وألواح غراء سندرويس ،ولباسهم مربقش
وملون ،وكانت الجند واقفة وهي حاملة القيس واألسنة والفؤوس
والسيوف املتجنسة الهيئات.
فدخل َّ
العلمة ذلك البالط امللوكي ،وما زال الرصاخ والضجيج قائ ًما
عند دخوله رغ ًما عن تدثر السلطان بلحاف السقم ،وشاهد عند أسكفة
الباب أذناب أرانب ونوايص أعيار «جمع عري وهو الحمار الوحيش»،
معلّقة نظري طالسم سحرية ،فالقاه ج ٌّم غفري من نساء السلطان وه َّن
يرضبن بالطبول ويزمرن باملزمار ،وكثري منهن بديعات يف الجمالُ ،
وك َّن
يرشبن الدخان بالغاليني الكبرية السود ،وه َّن ضاحكات ال يكرتثن بيشء،
وقد لبقت به َّن أثوابه َّن املرقعة بقطع من الجوخ واأللياف املنسدلة عىل
حقويه َّن برخاء.
لكنه لحظ منه َّن ستة لم يك َّن فارحات؛ أقل من سائر رفيقاته َّن ،وإن ك َّن
معدات ألن يجعلن يف القرب حيات مع السلطان عند مماته.
121
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وبعد أن رمق فرغوسن بلحظة عني جميع ما تراءى لديه ،تقدم نحو
تخت السلطان املصنوع من خشب ،وشاهد ً
رجل بال ًغا سن األربعني ،وقد
طرحته يف الفراش ودوخته املسكرات املختلفة ،وال يمكن إبراء دائه بدواء،
وعىل الخصوص ألن املرض قد نابه منذ سنني جمة ،وكان هذا السكري
البايس قد أضاع حواسه وزال إدراكه ،ولو جمع له جميع نشادر العالم
ما كان كافيًا ألن يعيده إىل نفسه.
ويف مدة زيارة ابن القمر لجاللة السلطان خرت النساء ساجدات له،
وانحنت ظهوره َّن ،فأخرج َّ
العلمة شيئًا من الدواء املقوي الذي كان معه،
قليل ،وملا كان قد مىض عليه بعضوسقى منه السلطان فتحرك جسمه ً
رس القوم
الساعات ولم يبد أدنى حركة تدل عىل بقائه يف قيد الحياةَّ ،
بالحركة التي بدت منه يف تلك الدقيقة وضجوا بالرصاخ عالمة الشكر
ً
وإجالل للطبيب السماوي. واملمنونية
وعىل اإلثر ارتد فرغوسن عن املريض ،وأوسع فسحة بني هؤالء القوم
املزدحمني حوله ،وسار قاصدًا منصورته ،ألن الساعة كانت وقتئ ٍذ
السادسة بعد الظهر.
أما يوسف فكان منتظ ًرا سيده بكل طمأنينة وراحة بال عند سفح السلم،
وحوله قوم من تلك املدينة يقدمون له واجبات اإلكرام الالئق بابن القمر.
وكانت الشابات يرتنمن بأصواته َّن الرخيمة يف ذلك املحفل الديني ،ومنهن
من ك َّن يرقصن أفخر رقص ٍة عنده َّن.
فقال يوسف :ما يل أراك َّن ترقصن وأنا ال أرقص؛ فانظرن ً
إذا لتتعلمن
كيف الرقصة يف بالدنا.
وأخذ من َث ّم يرقص رقصة مضحكة ،وهو يدور ويحوم ويه ٌّز برجليه
ويديه وركبتيه ويتلوى وينعطف ويقف برهة ويكرش عن أسنانه ،وهكذا
أبان للقوم اإلفريقيني كيف ترقص أبناء القمر.
ً
رجال فما فرغ يوسف من حركاته وأطواره الغريبة َّإل نهض كثري منهم،
ونساء ،وملا كانوا منطويني عىل التقليد بنوع غريب ،كما يقلد السعادين
أطوار اإلنسان ،رشعوا يف تقليد أطوار يوسف من الدورات والحركات
والتكشري عن األسنان ورأيت من َث ّم هؤالء الهمج قد هاجوا وماجوا
وعربدوا وأزبدوا ،وفيما هم عىل تلك الحال إذ أقبل فرغوسن متجهًا
نحو منصورته ،وكان اإلفريقيون حوله يزاحمونه صارخني وسحرتهم
ورؤساؤهم مضطربون ،أما هو فيرسع يف مسريه وقد تعجب يوسف غاية
العجب ،وظ َّن بنفسه عىس أن السلطان هلك من مداواة طبيبه السماوي،
وأنهم يتهددونه ليُلحِ قوه به.
123
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أيضا كنادي اضطراب القوم وشغبهم ،ولم يفهم السبب ،ثم وشاهد ً
َّ
املرضة بشخصه العلمة إىل سفح السلم ،وكان القوم ضاربني عن اقرتب َّ
حظا لفرغوسن؛ إذ إنهالعتقا ٍد باطل ما زال يخالج ضمريهم ،وكان ذلك ً
تمكن من البلوغ إىل السلم وبه إىل املركبة ،واتبعه خادمه يف الحال.
فقال فرغوسن ليوسف :هل َّم وأرسع؛ فإن الوقت قد ضاق بنا ،وال تكرتث
بحل املرساة ،ألن مرادي أن أقطع الحبل وأترك املرساة.
فقال يوسف وهو يتسلق املركبة :وما الذي جرى؟ ...وما عىس ناب هؤالء
القوم؟!
ثم قال ديك ،وهو حامل سالحه ،متأهبًا إلطالق الرصاص إذا لزم األمر:
قل يا صاح ،وما بال هؤالء الربابرة؟!
قال فرغوسن :هناك القمر ،فأشار إىل القمر الوردي املتأللئ الظاهر يف
كبد السماء األزوردية؛ فالشك أن ذاك هو القمر املألوف.
فاحتار القوم وقالوا يف أنفسهم :إما أنه يوجد قمران يف الديباجة الزرقاء،
وإما أن الرفاق الثالثة ما هم َّإل خداعون ومكارون ،وليسوا بأبناء القمر
كما توهمنا.
ويف تلك الدقيقة كان هذا الساحر يبعد األغصان التي هي حول املرساة
حال ،وملا كانت القبة ذات قوة رافعة جذبت املرساةفتخلصت هذه ً
وجرتها إليها ،وجرت معها العبد األسود الراكب عىل املرساة كأنه عىل
حصان ذي أجنحة ،وطار املسكني مع املسافرين إىل الطبقات الجوية.
ً
اندهاشا ال مزيد عليه عند معاينتهم أحد سحرتهم طائ ًرا فاندهش القوم
يف األهوية.
وكانت القبة بقوتها الصاعدة قد ارتفعت إىل عل ٍو شاهق ،فقال ديك :ال
انرشاحا بتغيري الهواء.
ً بأس من رحلته برهة يف هذه البالد ،ألنها توليه
فسأل الخادم سيده ،وقال :هل نرخي هذا األسود عىل الفور؟
قال فرغوسن :حاشا؛ ليس هذا من دأبنا ،ولكنا نقرتب من األرض بعد
برهة ،ونضعه بكل هدوء وراحة ،وأرى أنه بعد هذه الحادثة الغريبة
سيعظم شأنه لدى قومه ،وتزيد قوته السحرية عندهم.
فقال يوسف :قد بلغت علو ألف قدم ،والعبد األسود مستمسك بحبل
ً
استمساكا شديدًا ،وعيناه شاخصتان باملركبة وهو ساكت ولهان. املرساة
125
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
126
الفصل الرابع عرش
يف العاصفة الشديدة والنجاة منها ويف أرض بالد القمر األريضة
ومستقبلها
127
فقال يوسف :هوذا؛ قد تبنينا للقمر بال استئذانه فنابنا ما نابنا ،وكدنا
نقع بني أيدي الربابرة ونذهب فريسة لتوحشهم ،ولكن لم تقل لنا يا
موالي؛ هل لم تحسن تطبيبك لجاللة السلطان فخف مقام القمر عندهم؟
أيضا ديك َّ
العلمة وقال :هات! ...أخربنا عن ذلك السلطان الجليل وسأل ً
الشأن!
قال فرغوسن :إن السلطان رجل نشوان ،سيوصله سكره إىل دركات املنية
بعد برهة وجيزة ،وال يتأسف أحد عىل فقده ،أما ما ينتج مما جرى إنما
هو أن كل مجد زمني زائل ال يلزم اإلنسان أن يلتصق به أس ًفا عليه.
ً
وتبجيل فائقي ً
إجالل فقال يوسف :كان ذا أمر يوافقني؛ فإني قد نلت
الحد ،وأصبحت إلهًا عىل خاطري فحسدني القمر عىل ذلك ،وظهر ً
حال يف
األفق ملو ًنا باألحمر ،وهذا مما يدل عىل أنه قد ساءه صنيعنا.
129
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال فرغوسن :هوذا؛ نحن يف أواسط بالد القمر ،وقد دعيت هذه البالد
باسم بالد القمر من األزمنة القديمة لقدمية عهد عبادة القمر فيها.
لعمري؛ إنها ألرض رائعة الجمال.
قال ديك :قلما يشاهد يف العالم أرض ذات نضارة وخصب شبيهة بها.
قال يوسف :لو كان ذلك حول لَنْ َد َر َة ما كان طبيعيًا ،غري أن القلوب
لهامت به وراقت ملشاهدته األبصار ،ولكن يا للعجب؛ ملاذا هذا الريعان قد
جعل يف بالد يسكنها األقوام الربابرة ،والوحوش الكارسة؟!
هل يأتي يوم وتصبح هذه البالد مرك ًزا قال فرغوسن :ومن يعلم َّ
للتمدن؟ ...ألنه عندما تكل األرايض اإلفرنجية عن أن تنبت لسكانها زرعًا
وتفرغ منها وسائط املعيشة ،لربما يهجرونها ويقصدون هذه املحالت
ويجعلونها سكنًا لهم.
131
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
مهل ً
مهل يا يوسف فقد ابتكرت يف رغبتك. فقال فرغسنً :
قال ديك :وقد بان يل أن الجيل الذي فيه تقتني الصناعة جميع الكنوز
جيل سيئًا ،وعندي أنه ال تلذ فيه املعيشة ،ألن الناس األرضية سيكون ً
لكثرة ما يخرتعون من اآلالت واألدوات املجنسة سيكون مصريهم أن
ُيبْتَلَعوا منها ،وقد خال ببايل دائ ًما أن اليوم األخري يكون اليوم الذي فيه
يسخن الناس ماعو ًنا عظي ًما بنا ٍر تعادل قوتها قوة ثالثة مليارات من
ً
متشتتة حرارة الهواء ،فتتأثر كرتنا من هذه القوة النارية العجيبة ،وتطري
يف الفضاء الفسيح ،وتذهب كالهباء املنثور.
ثم شاهدوا نهر امللغزاري الذي يصطب ببحرية تنغانيكا وهو ينثني بني
الخضار ،ويتناول املجاري الكثرية املتجمعة يف األرايض الخزفية وقت
فيضان املياه ،أما الطائرون يف العال فكانوا يشاهدونها كنسيج شالالت
132
ملقاة عىل الجهة الغربية من تلك البقعة.
فقال ديك :ما أحىل هذه البالد للصيد! ...فإن رصاصة واحدة إذا أطلقت
عىل الخرية أصابت طريدة جديرة بها؛ فيا ترى َّ
هل يمكننا أن نمتحن
األمر؟
قال فرغوسنَّ :
كل أيها الخليل؛ فإن الليل يتهددنا بالعاصفة ،والعواصف
شديدة يف هذه البالد ،ألن أرضها املسخنة بنريان الشمس تشبه املدافع
الكهربائية.
قال يوسف :تكلمت يف الصواب أيها املوىل ،ألن الح ّر متزايد والهواء فاسد،
وكل منا يحس بقرب حدوث يشء خارق العادة.
قال فرغوسن :إن الج ّو محمل بالكهربائية ،وكل ذات حية تشعر بحالة
الهواء السابقة تناقض العنارص ،وأقر معرت ًفا بأني لم أتأثر قط من ذلك
مثل هذه املرة.
فقال ديك :حيث األمر كذلك؛ أال يوافقنا النزول إىل األرض؟
قال ديك :أتريد أن تسري إىل جهة غري التي رسنا إليها حتى األن؟
133
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال فرغوسن :إذا استطعت فإني أتجه ذات الشمال مدة سبع إىل ثماني
درجات لعيل أرتقي إىل عروض ينابيع النيل املوهومة ،وأشاهد هنالك
بعض آثار لرحلة القبطان أسبيك ،أو لقافلة دي هلكني ،وهوذا؛ نحن اآلن
يف الدرجة ًْ 32ْ 40
طول ،وأرغب يف أن أقفو أثر خط االستواء باستقامة.
فقاطعه ديك يف الكالم ،وقال له :انظر إىل هؤالء الربانق؛ كيف تتسلق
األرض لتخرج من البحريات ،وهؤالء التماسيح التي تصيح ملتمسة الهواء
لتستنشقه.
قال يوسف :لقد ضاق تنفسها ،ولكن أما تنظران إىل هذه الزمرة من
الحيوانات التي يزاحم بعضها ً
بعضا يف مسريها ،لربما هي ذئاب ،وأظن
أنها تبلغ عدد املائتني.
فإن هذه ّإل زمرة كالب وحشية باسلة الكل يا يوسف؛ ْ قال فرغوسنَّ :
تخىش مصارعة السباع ،وإذا التقى بها مسافر فيا لتعاسته؛ ألنها تمزقه
إربا يف الساعة والحال.
فقال الخادم :وأنا ال آخذ عىل نفيس أن أضع له َّن الكمامة ،وإذا كانت
الرشاسة من دأبه َّن فما يل ولهن؟!
ثم تكاثف الهواء ،فأصبح الرفيق ال يسمع صوت رفيقه ،واختبأت الطيور
يف األشجار ودلت الطبيعة كلها عىل أنه عن قريب ستغمر األرض بمياه
أمطار وابلة.
ويف الساعة التاسعة مساء حامت املنصورة فوق ضيع قطر مسنة ،وكانت
بالكاد تمتاز للبرص لتكاثف الظالم.
134
فقال ديك وهو يستنشق بملء رئتيه من ذلك الهواء املرتاخي :وما هذه
الحال؛ فإني أوشك أن أختنق؟! ...والباين أننا ال نتحرك يف هذا الفضاء؛
َّ
هل يوافق نزولنا إىل األرض؟!
قال ديك :إذا كنت تخىش أن يدفعك عصف الرياح ،فال حيلة لك َّإل النزول
وتطمنئ هناك من كل غائلة.
فقال يوسف :وربما ال تبدو العاصفة يف هذه الليلة ،ألن السحب عالية
جدًا.
قال فرغوسن :وهذا األمر مما يجعلني أرتاب يف االرتقاء إىل فوقها؛ حيث
يلزمنا الصعود إىل علو شاهق جدًا ،وال نعود نعرف ليلتنا كلها؛ إذا كنا
سائرين أم واقفني.
قال يوسف :لسوء حظنا سقط الهواء ،ولوال ذلك لكان دفعنا بعيدًا عن
مق ّر العاصفة.
قال فرغوسن :إن ذا مما يوجب الكدر؛ فإن السحب هي لنا ذات خطر
مبني؛ حيث إنها حاوية مجاري متضادة ،قابلة أن تدمجنا يف هبائها،
وبرو ًقا نارية نخىش منها أن تحرقنا ،ثم إذا نزلنا إىل األرض وربطنا
املرساة يف رأس شجرة فإن هبة واحدة من الريح العاصفة ترمينا إىل
األرض وتوهن قوانا وقوة منصورتنا.
135
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال فرغوسن :عندي أن نبقى يف طبقة وسطى بني ويالت األرض وأخطار
السماء ،لبينما يفرجها املوىل ويفتح لنا باب الرحمة وله الحمد فإن عندنا
ماء غزي ًرا إلرضام نار القصبة ،وثالثة وثالثني ً
رطل من ثقل الرمل نلقي
منه عند الحاجة.
قال فرغوسن :ال حاجة إىل ذلك يا خلييلَّ ،بل ضعا زادنا يف الحمى وناما
بسالم ،وإذا مست الحاجة أوقظكما ً
حال.
وعىل اإلثر أضاء برق رسيع يف ذلك الظالم ،ولم ينته من ملعانه َّإل قصف
الرعد ودوى صوته يف أعماق السماء.
136
قال فرغوسن :هيا بنا يا رفاق؛ انهضا!
فللحال نهض ديك ويوسف من قوة قصف الرعد الذي ردفه صوت
فرغوسن ،ووقفا ينتظران أوامر َّ
العلمة.
أما العواصف يف تلك البالد فإنها تمتد رسيعًا وتشتد كثريًا ،وما مضت
برهة َّإل أومض الربق وملع يف الغيوم ،ثم ارتدفه عرشون بر ًقا آخر حتى
أمست السماء مخططة برش ٍر كهربائية ،أخذت يف التساقط مع األمطار
الوابلة.
قال فرغوسن :قد تأخرنا يف تنفيذ مرامنا ،وينبغي علينا اآلن املرور
بمنطقة نارية بقبتنا املفعمة هوا ًء قابل االشتعال.
أما ديك فما زال يراجع كالمه ويقول :علينا بالنزول ..علينا بالنزول!
قال فرغوسن :سواء أصعدنا أم نزلنا فال يزال خطر الصاعقة محي ًقا
حال بأغصانبنا ،و ِز ْد عىل ذلك أننا إذا نزلنا إىل األرض تشققت قبتنا ً
األشجار.
137
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
طالع.
ِ طالع
ِ قال فرغوسن:
فقال فرغوسن :يف حفظ الله تعاىل؛ هانحن أوالء بني يديه ،فليفعل بنا ما
يشاء ،ومنه وحده نرجو نجاتنا من تهلكنا ،وعلينا يا صاحبي أن نكون
عىل حذ ٍر من كل طارق ٍة وبلية ،وربما تحرتق قبتنا فال يكون سقوطنا إىل
األرض رسيعًا جدًا.
فيكاد يبلغ صوت فرغوسن آذان الرفيقني ،لكنهما كانا يشاهدانه يف
صفاء وهدء تامني وسط الربوق ،وعيناه شاخصتان بأجيج النريان
املحيقة بقبته.
وما انفكت القبة تدور وترتقي إىل فوق ،فمضت ربع ساعة وإذا بها قد
138
تجاوزت حدود منطقة السحب ،وأخذ املسافرون حينئ ٍذ يف مراقبة تلك
األشعة الكهربائية تحتهم كإكليل ناري يتوج السحب ،وكأن ذلك اإلكليل
مركوز يف أسفل املركبة ،وكان هذا املنظر من أجمل املناظر الطبيعية التي
يشاهدها اإلنسان؛ ألن العاصفة أسفل والسماء أعىل مرصعة بالنجوم
والكواكب ،وهي صافية ال غيم فيها ،والقمر يلقي أشعته عىل تلك الغيوم
املضطربة.
فتطلع فرغوسن يف البارومرت ورأى أنهم يف علو اثني عرش ألف قدم عن
األرض ،ونظر إىل الساعة فكانت الحادية عرشة ً
ليل.
ثم قال :شك ًرا ملوالنا؛ فقد زال عنا الخطر وبلغنا منانا ،وينبغي علينا أن
نحافظ برهة عىل هذا العلو.
قال يوسف :وقد شاهدنا هذه املرة شيئًا جديدًا يف رحلتنا ،وإني مرسور
الخاطر ملشاهدتي العاصفة من املعايل؛ فإنه مشهد يروق للناظر.
139
الفصل الخامس عرش
يف بحر الخرضة ومصارعة الفيل والعشاء يف الربية واملبيت فيها
141
صباحا ،تراءت الشمس من وراء األفق ،وتبددت
ً وملا دخلت الساعة الرابعة
وهب يف تلك الدقيقة نسيم الصباح ،وهو نسيم رخيم
السحب من السماءَّ ،
ينعش الفؤاد.
143
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال فرغوسن :إن شاء املوىل فال نفعل ذلك ،وأؤمل وجود طبقة هوائية
يكون فيها مهب ريح تدفعنا إىل خط االستواء ،وإذا لزم األمر أنتظر برهة
إىل أن تهب ريح موافقة لغريض ،كما يفعل يف املراكب التي تلقي املرايس
يف البحار عند هبوب رياح مخالفة ملسريها.
قال فرغوسن :بىل ،ومع ذلك يجب علينا توفري زادنا ،ولكن عند نزولنا
َسيَ ْمأ َ ُننَا ديك لح ًما طريا.
ً
عرضا ،وقد وعند الظهر حامت املنصورة يف درجة ًْ 29ْ 15
طول3ْ 15ْ ،
اجتازت بقرية أيوفو ،وهي حد أونيام وازي الشمايل ،بعد مرورها عىل
بحرية أوكروي.
أما األقوام القريبة من خط االستواء فتفوق تمد ًنا عىل غريها من أواسط
إفريقية ،ويتوالها ملوك ذوو سلطة مطلقة؛ فيجورون عىل رعيتم،
ويبغون بغيًا عظي ًما ،واإلقليم الذي تكثر فيه السكان املتآلفون بعضهم
مع بعض هو اإلقليم املعروف بقراغوا.
فاجتمع رأي املسافرين الثالثة عىل أن ينزلوا إىل األرض يف أول محلة
مناسبة لغرضهم ،وكان مرادهم أن يمكثوا عليها برهة طويلة ،ثم نظر
فرغوسن إىل القبة وجمع أطرافها لريى إذا كان اعرتاها يشء من الخلل،
العلمة حرارة القصبة ،وبعده تدلت املرايس ،فأخذت تجر عىل فخف َّ
حشائش كثيفة مساوية السطح يبلغ علوها نحو سبعة إىل ثمانية أقدام.
ولم تكن تلوي تلك الخضار ملرور املركبة فوقها ،وال تتخللها حجارة وال
145
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال ديك :أرى أننا نسري كثريًا يف هذا املرج الفسيح ،ألني ال أرى شجرة
يمكن أن نتعلّق بها ،وأظن أنه قد قامت دون الصيد موانع ومصاعب
كثرية يف هذه األماكن.
مهل يا ديك ً
مهل؛ أال ترى أنك ال تستطيع الصيد بني فقال فرغوسنً :
خضا ٍر تعلو قامتك؛ فإننا عن قريب نصل إىل مكان يوافقنا.
مهب
ُّ ويف الحقيقة كان مسريهم الهوينا يف ذلك البحر املخرض املفلقه
رس الخاطر ،وقد أتى اسم املركبة طبق النسيم مما يطرب الفؤاد وي ّ
املسمى ،ألنك كنت تراها كأنها تشق األمواج والطيور ذات األلوان البهية،
تتطاير أحيا ًنا من تلك الخضار مناغية بأصواتها الشجية يف تلك الروضة
خطا شبيهًا بالخط الذي ترسمه الزهية ،وقد خطت املرايس املتدلية ً
السفينة يف البحار.
فما تفوه بهذا الكالم َّإل ضجَّ رصاخ حا ّد يف ذلك الفضاء ،فاندهش
املسافرون من ذلك ،ورفع جميعهم صو ًتا واحدًا قائلني :وما هذا؟!
فقال يوسف :وهو ماسك بالحبل يحاول جره :الباين أنها مستمسكة
جيدًا.
فقال ديك :أهي حية ..ودك سالحه متأهبًا إلطالق الرصاص عليها.
قال فرغوسنَّ :
كل ،ولم تصيبا يا خلييل؛ فما هذا ّإل خرطوم فيل ،والفيل
هو الذي يجرنا.
وبعد أن سار الفيل يف ذلك البحر األخرض ،تراءى ألعينهم يف بقعة خالية
من الخطوة بأكثر جالء ،ومن قامته الشامخة العلو علم فرغوسن أنه ذكر
ً
بياضا ذوا انثناء لطيف ،ويمكن من طائفة حسنة جدًا ،وله نابان يلمعان
أن طولهما يبلغ ثمانية أقدام ،ثم برصوا باملرساة فرأوا أن أطرافها تعلّقت
بنابيه وتمكنت بهما.
147
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فما برح الفيل يسعى ويحاول التملص منها فذهب سعيه هد ًرا.
فقال يوسف وقلبه طافح بالرسور :هيا بنا هيا يا ً
فيل أمينًا؛ فقد تنوعت
كثريًا هيئة سفرنا يف هذه البالد ،إذ أخذ فيل يج ُّر مركبتنا كما تجر أحيا ًنا
السفن بعضها ً
بعضا ،و ِن ْعم السفر عىل هذا النحو.
فقال ديك :وإىل أين ينطلق بنا« ،وكان سالحه بيده» ،وقد عيل صربه من
انتظار أمر فرغوسن إلطالق الرصاص».
قال فرغوسن :اعتصم ً
قليل بحبل الصرب يا خلييل؛ ألننا منطلقون إىل
جهة حسنة.
أما يوسف فما زال يحث الفيل بكل أنواع األلفاظ والعبارات اللطيفة،
وحو هيا يا هجني الرباري اإلفريقية ،رس بنا رس
ويرصخ بأعىل صوتهُ :ح ُ
بنا إىل قدام.
ثم ابتدأ الفيل يف العدو الرسيع ،وهو يلوي خرطومه ذات اليمني وذات
الشمال ،ويف أثناء قفزه كانت تهتز القبة هزة شديدة ،فهيأ َّ
العلمة فأسا
ليقطع الحبال املعلّقة عليه املرساة إذا ألجأته إىل ذلك الرضورة.
فدامت تلك الغارة نحو ساعة ونصف ،والفيل ال يحس بتعب وال كد ،وقد
قيل عن هذه الحيوانات ذات الخرطوم إنها تعدو عد ًوا بلي ًغا ،ومن يوم إىل
يوم تشاهد يف أمكنة بعيدة بعضها عن بعض ،بمسافات شاسعة ،وتشبه
كثريًا بحيتان البحر العظيمة بجسمها ورسعة عدوانها.
148
فقال يوسف :يف الحقيقة ما صنيعنا َّإل ويشبه صنيع صيادي الحيتان
ألننا أدلينا الخطاف فتعلّق به الفيل كما تتعلّق الحيتان بخطاطيف
صياديها.
أما فرغوسن فاضط َّر إىل أن يغري مسريه ،وينفك من قائده ملا تراءى أمامه
يف شمايل املرج من تغيري هيئة تلك األرايض؛ إذ شاهد عن بعد ثالثة أميال
حرشا فيه األشجار املتكاثفة ،فأوعز إىل خليله ديك ً
قائل :دونك والفيل؛ ً
فإنه يجب علينا توقيفه عن مسريه ،فرفع ديك سالحه وأطلق الرصاص،
وملا كان يف مركز ال يتمكن به من تحكيم طلقته أصابت الرصاصة رأس
الفيل فانبسطت عىل جلده لكنه لم ينزعج من تلك اللطمة بل عندما طرق
آذانه دوي تلك الرضبة رمع يف سريه ،وأخذ يعدو عد ًوا شبيهًا بسباق
الخيل.
قال ديك :ومرادي أن أطلق الرصاصة عىل كتفه ،ثم دك سالحه وأورى
الزناد فصاح الفيل بصوت هائل وما برح يعدو.
فعند ذلك وقف الفيل برهة ورفع خرطومه ثم عاد إىل جريه يهز برأسه،
ودمه يسيل من جراحه سيال ًنا واف ًرا.
149
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقال فرغوسن :ونا ًرا مستعرة اللهيب ،ألننا ال نبعد عن الغابة أكثر من
ستني ذراعًا ،فأوقدوا النار الدائمة فقفز الفيل قفزة هائلة ارتجت لها
ارتجاجا عظي ًما حتى أوشكت أن تت َّمزق قطعًا ووقع الفأس حينئ ٍذ
ً القبة
العلمة إىل األرض فأصبح املسافرون حينئ ٍذ يف حالة مخيفة، من يد َّ
اضطربت لها أفئدتهم ،ألن املرساة كانت ممكنة يف الفيل فال يمكن قطع
الحبل بالسكاكني التي كانت مع املسافرين ،وما انفك الفيل يتقدم نحو
قليل فأصابته رصاصة فقأت عينه الغاب وعند دنوه منه رفع رأسه ً
فوقف ساعتئ ٍذ واضطرب ،ثم انثنت ركبتاه وكشف جانبه إىل الصياد.
فقال ديك :هاك رصاصة يف قلبك يا فيل السوء ورماه برصاصة أخرية.
فزأر الفيل وزمجر وهمهم كمدًا ومنازعة ثم نهض عىل قوائمه وعقف
خرطومه فسقط بثقله كله إىل األرض ،عىل أحد نابيه فتحطم تحطما،
وكانت تلك الساعة ساعته األخرية.
فقال ديك :قد تحطم نابه ،وهو من العاج الذي َي ْس َوى يف بالدنا؛ كل
عرشين ً
رطل 35ذهبًا إنكليز ًيا.
فقال يوسف ،وهو نازل إىل األرض ،وماسك الحبل يف نزوله :فإنه غايل
الثمن عىل حسابك؟!
قال فرغوسن :وماذا ينفعك أسفك يا خلييل ديك؟! ...هل ترى قد أتينا
لنتاجر بالعاج ،ونلتمس الغنى واألموال يف هذه البالد؟! ...فصمت الصياد.
150
أما يوسف فنظر إىل املرساة ،فرآها محكمة التعليق بناب الفيل الباقي
ساملًا ،ثم قفز َّ
العلمة وديك إىل األرض ،ولبثت القبة املنفوخة بنصفها
مرتكزة عىل جسم الحيوان.
فعند نظر ديك إىل الفيل قال :وما أجمله وأعظمه! ...فإني لم أر يف بالد
الهند ً
فيل له قامة شبيهة بهذه القامة النمرودية.
قال فرغوسن :ال عجب يف ذلك؛ ألن الفيلة يف البالد اإلفريقية تسمو ظرافة
ً
وجمال ،وطاملا قد سعى يف صيدها أقوام يف سواحل الجنوب ،ولذا قد
هجروا إىل خط االستواء ،حيث سنراهم مجتمعني برشذمات.
فقال يوسف :أما اآلن فإني عازم عىل أن أطبخ طعا ًما ً
لذيذا مدهنًا من
هذا الحيوان ،وأنت يا ديك اذهب واصطد ما شئت مدة ساعة أو ساعتني،
ريثما سيدي يناظر القبة ويصلح فيها ما شاء.
قال فرغوسن :هاك أوامر مناسبة؛ فافعل ً
إذا يا يوسف ماشئت.
قال ديك :أما أنا فإني منطلق ألصطاد مدة الساعتني اللتني سمح يل
يوسف بهما.
151
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
األرض بنحو قدمني وأرضم فيها النار ،ثم أقبل إىل الفيل الساقط بعيدًا
عن الغاب بنحو ثالثني ذراعًا ،وحسم خرطومه البالغ عرضه نحو قدمني
يف مخرجه ،ثم فصل فدرة من لحمه ،وض َّم إليها إحدى قوائمه اللدنة
جدًا؛ فإن القوائم يف الفيل هي القطع األفخر واأللطف من جميع لحومه
كالرجل يف الدب ،وكالرأس يف الخنزير الوحيش.
فأخذها وجعلها عىل أوراق خرضاء ،ثم رتب الطعام عىل الحشيش
الرطب ،وأحرضا الكعك والعرق والقهوة ،ثم استقى ما ًء عذ ًبا من ساقي ٍة
كانت جارية يف تلك الخضار.
فأصبحت تلك الوليمة مما يطرب الخاطر لها ،وظ َّن يوسف أن تناول
الطعام شأنه أن يزيد النظر بهجة ورسو ًرا.
وقد قال يف نفسه :ما أحىل وألذ من هذه املعيشة! ...ألننا نسافر يف أقطار
تعب وال خطر ،ونأكل ونرشب يف األوقات الالزمة ،فما تراه وسيعة بال ٍ
خائسا علينا ،ومع هذا كله لم يكن الخواجا ديك يشاء مرافقتنا.
ً
أما َّ
العلمة فرغوسن فانشغل بفحص مدقق عن أدوات القبة الهوائية،
فرأى أنها قد قاومت ما حصل لها من الضغط مذ مدة ،ولم يحصل لها
152
خلل من ذلك ثم قاس علو تلك األرض املقيم فيها ،وحسب قوة القبة
الرافعة فرس لرؤيته أنها لم تفقد شيئًا من اإلدروجن ،ونظر إىل الغطاء
الخارج فشاهد أن املادة الصمغية املدهون بها الغطاء لم يعرتِها أدنى
فساد ،وال يمكن أن يتخلل القبة بجهة من جهاتها ال الهواء وال املاء.
ثم نظر إىل الزاد فكان غزي ًرا ،وقد مكثوا يف رحلتهم من زنجبار إىل ذاك
العلمة إ ِ َّل إىل املكان مدة خمسة أيام ولم ينفد منه َّإل ما َّ
قل ،ولم َي ْحتَج َّ
التزود باملاء من جديد.
أما األنابيب وغريها من أدوات تخفيف الحرارة ونموها فلبثت ساملة من
كل غائلة ،ولم يرض بها قط ما حصل للقبة من االضطراب وقت ارتقائها
فوق الغيوم وامتطائها الفيل.
ويف غضون ساعتني من الزمان أقبل ديك ومعه األحجال املدهنة وأفخاذ
بعض الحيوانات اللذيذة ،ففوض إىل يوسف أن يشوي منها شيئًا زياد ًة
عىل ما هيأه من العشاء.
قال لهم يوسف :هوذا العشاء حارض ،فتفضلوا نأكل ،ففي الحال قد
جلس ثالثتهم عىل ذلك البساط األخرض ،وتناولوا الطعام ووجدوا لحم
ً
لذيذا جدًا وشهيًا لألكل ،ثم رشبوا عىل ذكر األوطان ،وأخذوا يف الفيل
تدخني التبغ يف تلك األرايض الزهية التي لم يسبقهم إىل التدخني فيها أحد
153
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وكان ديك يأكل ويرشب بفرح وطرب ،ويتكلم كثريًا ،وقد بلغ منه مبلغ
الثمول ،حتى إنه عرض عىل رفيقه َّ
العلمة بج ٍد أن يبنوا لهم هنالك ً
كوخا
وأن يمضوا فيها ما بقي لهم من األيام يف الرغد والهناء ،وعليه يعيشون
هكذا عيشة ُربنسون الشهري فيكون يوسف بمنزلة صاحبه امللقب
بوندردي «أي الجمعة» .وملا رأى َّ
العلمة أن هذا الصقع خا ٍل من سكان
َّ
اطمأن ،فعزم عىل أن يبيت ليلته مع رفيقيه عىل الثرى ،فقام يوسف وهيّأ
مرتاسا من النريان حول فرشهم ،لكي يمنع وثبات الوحوش الكارسة التي ً
فضل عن أنه يمكن أن رائحة لحم الفيلً البد من وجودها يف تلك القفار،
بعضا من الضباع وأبناء آوى وغريها من الحيوانات،تجتذب يف تلك الليلة ً
فأطلق كنادي الرصاص مرا ًرا عليه َّن ،ولكن مضت ليلتهم كلها دون أن
يدهمهم عارض سوء البتة.
154
الفصل السادس عرش
يف ما كان من بحرية أو كاروه ومبيت املسافرين عىل جزيرة قفرة
ومشاهدتهم عيون النيل وإمضاء أندريا ديبنو
155
وملا أصبح الصباح ،واستيقظ الرفاق من الرقاد ،نحو الساعة الخامسة،
أخذوا يتأهبون للرحيل ،فحطم يوسف نابي الفيل بالفأس الذي وجده،
العلمة كما ذكر وملا جلس ثالثتهم يف املركبة ولمبعد أن وقع من يد َّ
يعد يعيقها عائق ،ارتفعت إىل ال ُع َل ،ودفعت الريح املنصورة إىل الجهة
الشمالية الرشقية ،فقطعت ً 18
ميل بالساعة.
157
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ظنها مشتقة من جبال القمر ،وقد قرب إىل الحقيقة ما كان يقال يف
الحكايات القديمة أن هذه الجبال هي مهد لبحر النيل ،ألنها متاخمة
لبحرية أوكاروه ،وقد زعم كثريون أن هذه البحرية هي الجامع الذي منه
تجري مياه ذاك النهر العظيم.
ثم شاهد أخريًا فرغوسن من األفق تلك البحرية املشتهاة ،التي برص بها
القبطان أسبيك بدون تحقيق يف اليوم الثالث من شهر آب سنة 1858م،
العلمة إليها من كافورو ،وهي مقاطعة وسيعة لتجار تلكوكان نظر َّ
البالد.
فتحركت عند ذلك شعائر فؤاده ،ألنه قرب إىل مركز إحدى املقاصد ذات
األهمية الجزيلة التي عانى بشأنها تلك السفرة الجوية ،فوضع املنظرة
عىل عينيه ،وج َّد يف التبحر فيها والتأمل بجميع نواحيها وأطرافها ،فكانت
األرض تحت أقدامه جدباء قاحلة ،وقلما يصادف فيها بعض الوديان
النابتة زرعًا.
وملا كانت األرض مرتفعة يف جملة أماكن رآها آخذة يف استواء سطحها
كلما قربت إىل البحرية ،ثم بدأت ترتاءى ألعينه حقول األرز ،ويليها حقول
الشعري وغريها من النبات التي يستقطر منه الخمر ،ثم املواني وهو نبات
يقوم مقام القهوة ،وهناك عاصمة كراغواه املؤلفة من نحو خمسني ً
كوخا
يغطيها القش وتحيط بها بساتني مزدانة بالزهور.
وعند الظهر وصلت املنصورة إىل درجة 1ْ 45من العرض الجنوبي وعقب
مرور ساعات من الزمن دفعتها الريح إىل ما فوق البحرية.
وقد دعا القبطان أسبيك تلك البحرية باسم نيانزا فيتوريا ويف تلك الجهة
أخذ فرغوسن يقيس البحرية ،وكانت ثمانني ألف مرت ،وعند طرفها
الجنوبي لقي القبطان جملة جزائر فسماها جزائر البنغال ،ثم تقدم إىل
موانزا يف الجهة الرشقية وهناك قابل السلطان فآواه باإلكرام وأضافه
ولطف ،ودار حول زوايا البحرية الثالثة لكنه لم يتمكن من وجود
ٍ بلياقة
قارب واحد ليعرب به البحرية ،ويصل إىل جزيرة أوكاروه الكربى الكثرية
السكان ،وقد قيل عنها إنها مسودة من ثالثة سالطني ،مع أنه لم يتحقق
عنها ّإل أنها شبه جزيرة عند انخفاض املياه املحيطة بها.
فانحازت املنصورة إىل البحرية من الجهة الشمالية عىل كره من َّ
العلمة
الراغب يف أن يجدد دائرتها عىل جهة الجنوب ،أما سواحلها فكانت
ً
أدغال كثرية األشواك ،وأجمات ملتف بعضها عىل بعض ،وتغطيها مملوءة
ربوات من البعوض الحالة عليها ،وهي متحمة اللون ،وال يظن عن تلك
املحالت أنها مسكونة أو قابلة السكنى ،وكثريًا ما كانت تتمرغ أفراس
املاء بأحراش القصب ثم تعود راكضة إىل البحرية لتتوارى يف مياهها
البيضاء.
ً
عريضا ،ولذا يخال للناظر أنها أما األفق املشاهد عىل مدى البحرية فكان
بحر متسع ،واملسافة طويلة بني الطرفني ،فال يمكن ملن وقف عىل جهة
159
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
أن يبرص شيئًا من الجهة املقابلة ،سوى املاء املرتاكم ،ولم تتألف العالقات
وخصوصا ألن األنواء والزوابع فيها شديدة وغالبة
ً بني سكان كليهما،
الحدوث ،والرياح فيها عاصفة ألنها عالية ومكشوفة.
فشق عىل فرغوسن االتجاه فوق تلك البحرية ،وكان يخىش أن تدفعه
الريح إىل الجهة الرشقية ،ولكن وافقه الحظ ،ودفع ذات الشمال وملا
صارت الساعة السادسة حلت املنصورة عىل جزيرة مقفرة يف درجة 30
طول ،وهي بعيدة عن الساحل بنحو عرشين ً
ميل عرضاً 32ْ 52 ، ً ْ1
إفرنجيًا.
فعلق املسافرون مرساتهم عىل شجرة ،وملا أمىس املساء سكن الهواء،
فقضوا الليلة بالهدوء والطمأنينة ،ويف تلك الجزيرة ال يستطيعون النزول
إىل األرض ألن الناموس والربغش تسرت األرض كسحاب متكاثف ،وملا
نزل يوسف إىل الشجرة لتمكني املرساة ثم عاد إىل مركزه أحس بلسع
الهوام ولدغها من كل جانب ،ولكنه لم َي ُسؤه ذلك ،بل قال إن اللسع من
دأب تلك الهوام.
أما َّ
العلمة فرغوسن فلم يستصوب أن تفعل فيه طبيعة تلك الهوام ،بل
رخى ما استطاع من الحبل خشية أن يتصاعد إليه يشء من تلك البعوض
البالغ إليه هديرها املخيف.
وقد عرف فرغوسن علو البحرية فوق مساواة سطح البحر ،فكان ثالثة
آالف وسبعمائة وخمسني قد ًما كما حدده القبطان أسبيك.
قال فرغوسن :إن جزائر هذه البحرية ليست سوى آكام عالية ومغمورة يف
املياه ،وقد أصابنا حظ بمصادفة هذا امللجأ عىل هذه الجزيرة ،ألن سواحل
البحرية ال يسكنها َّإل أقوام برابرة فارقدا ً
إذا يا خلييل بسالم ،ألن الليلة
رائقة.
قال ديكَّ :
وهل تحذو حذونا؟
قال فرغوسن :ال أستطيع أن أطبق جفوني؛ فإن هواجيس تجلب يل
السهاد ،ويجافيني النعاس من جراها ،وأما غدا فإذا وافقتنا الرياح رسنا
إىل الشمال بخط مستقيم ،وربما اكتشفنا الرس املكنون ،وهو عيون النيل؛
فهل تظن أنني أرقد وأنا قريب من ينابيع هذا النهر الشهري؟!
فرقد ديك ويوسف بمحافظة رفيقهما َّ
العلمة ،ألن االهتمامات العلمية لم
تكن تسبب لهما الهواجس واألفكار.
161
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
نراها أبدًا ونجوز اآلن بخط االستواء وندخل يف نصف الكرة الشمايل.
وعىل هذا النسق كان احتفال مرورهم بخط نصف الكرة األرضية من
أعىل مركبتهم الهوائية.
ثم عجت الريح فأرسعت املركبة باملسري فسارت ثالثني ً
ميل بالساعة
ً
منخفضا قليل العوج ،وسهالت أوغندا فشاهد املسافرون الساحل الغربي
وأزوغا املرتفعة بعض االرتفاع.
بعنف كأمواج البحر واستنتج ٍ وشاهدوا مياه البحرية الهائجة تعلو
العلمة أن البحرية عميقة جدًا من مشاهدته بعض األمواج ترتجرج مد ًة َّ
بعد سكون الهواء ،فم ُّروا بتلك البحرية كلها ولم يبرصوا فيها سوى قار ًبا
أو قاربني.
فقال َّ
العلمة :ال بدع أن هذه البحرية املرتفعة املركز هي الحوض الطبيعي
الذي منه تجري مياه األنهر التي يف رشقي إفريقية ،وما تجتذبه السماء
إليها من األبخرة تغشيه باألمطار ،وعندي أنه أمر مؤكد أن منبع النيل
162
من هذه البحرية.
ثم نادى رفيقيه وقال لهما :لقد صدقت حكايات العرب املتداولة بينهم
بقولهم عن نهر منه تتحول بحرية أوكاروه إىل الشمال ألن هذا النهر
موجود بالحقيقة ،وهانحن أوالء سائرون فوقه ،وماؤه يجري رسيعًا،
وتحاكي رسعته رسعة منصورتنا ،وكل نقط ٍة مما نشاهد من هذه املياه
الجارية تحت أقدامنا تسري إىل أن تصب يف البحر األبيض ،وما هي َّإل من
مياه النيل.
فصاح ديكً :
قائل :هاهو ذا النيل ،وقد شارك َّ
العلمة رفيقه بابتهاجه
وتعجبه معًا.
حي الله النيل ،ومن عادة يوسف أن يحيي أ ًيا كان وقت
أما يوسف فقالَّ :
طربه ورسوره.
163
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وقد قامت صخور وجالميد بني ضفتي هذا النهر الرسي فأعاقت مسري
مياهه ،ومما حقق َّ
العلمة يف تخميناته مصادفته كثريًا من مجاري املياه
الرسيعة والشالالت املحكي عنها.
ً
سيول كثرية ال يحىص عديدها نازلة من أعىل تلك الجبال املحدقة وشاهد
بالنهر والساقطة فيه ،ويف الجهة الغربية كانت تنفجر مياه السواقي
وتسري جميعها ،ويف مسريتها تحتشد سوية وتتسابق يف الوصول إىل ذلك
النهر اآلخذ يف التعاظم والتجسم شيئًا فشيئًا.
َّ
أشط العلماء بالتفتيش فقال َّ
العلمة :ال شك يف أن هذا هو النيل ،ولقد
عن أصل اسمه ،كما أشطوا باستقراء منبعه فمنهم من أصله من اللّغة
أصله من الهندية
أصله من القبطية ،ومنهم من َّاليونانية ،ومنهم من َّ
القديمة((( ،ولكن مالنا اآلن وألصل اللفظة؛ إذ قد أوتينا مشاهدة منبع
املياه.
قال الصياد :وكيف نؤكد أن هذا النهر ليس هو َّإل ذاك الذي شاهده
املسافرون الذين أتوا من الجهة الشمالية وأخربوا عنه؟
قال فرغوسن :إذا وافقنا الهواء سنجد بحوله تعاىل عما قريب براهني
ثابتة مقنعة ال را َّد لها.
((( وقد جمع أحد العلماء البيزنتيني أرقام نيلوس عىل ما يف اللّغة اليونانية القديمة فبلغ عددها 365
يو ًما وهي عدد أيام السنة بتمامها.
164
فوق سكانها هاجوا واضطربوا وأظهروا الغضب والعدوانً ،
عوضا عن أن
يتأهبوا للعبادة؛ إذ أحسوا أن املسافرين أناس غرباء ال آلهة ،وكأن من
قصد النيل حاول أن يرسق منهم كن ًزا مكنو ًنا أو جوهرة ثمينة ،فاضطرت
املنصورة أن تمكث سامية االرتفاع لئال يبلغ إليها برقيل العبيد «والربقيل
آلة ُي ْر َمى بها البندق».
قال فرغوسن :ال بد منه ،ولو اضط ّرتنا األمور إىل املحاربة واملناضلة.
قال ديك :هذا مما يرسني ،وأخذ يف مالطفة بارودته ،وتأهب إلذخارها.
قال فرغوسن :ال تكون هذه املرة األوىل التي استنجد فيها العلم قوة
لعلمة فرنيس ،وهو يقيس ربعالسالح ،ألن ذا األمر جرى يف أسبانيا َّ
الدائرة األرضية.
165
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فامتد اإلدروجن ،وإذا باملنصورة علت برهة عرش دقائق ألفني وخمسمائة
قدم فوق األرض ،ومن هناك برصوا بشبكة لنهر ال يحىص عديدها،
ببعض ،تصب مياهها يف النهر العظيم وغريه ً
أيضا كانت ٍ مختلط بعضها
تجري غر ًبا بني اآلكام الكثرية املحيقة بها الحقول املخصبة.
العلمة ينظر إىل الرسم الجغرايف قال :لسنا ببعيدين عنوفيما كان َّ
غندوكورو تسعني ً
ميل ،بل ال نبعد عن الحد الذي بلغه املسافرون اآلتون
بتأن واحرتاز.
إذا من األرض ٍ من الشمال بخمسة أميال ،فلنقرتب ً
وح َس َب
فسارت املنصورة متتبعة آثار النهر وهي تعلوه نحو مائة قدمَ ،
تخمني َّ
العلمة بلغ عرض النهر يف ذلك املكان مائة مرت ،وشاهد املسافرون
وشغب ،ويف الدرجة
ٍ سكان تلك القرى الكائنة عىل ضفتيه يف اضطراب
الثانية شاللة قائمة ،علوها عرشة أقدام ،وال يمكن النزول بها.
العلمة :هذي هي الشاللة التي َّ
دل عليها موسيو ديبنو. فقال َّ
166
وكان حوض النهر آخذا يف االمتداد رويدًا رويدًا ،وبدأ املسافرون يشاهدون
جزائر كثرية منتصبة يف وسطه ،أما َّ
العلمة فما زال محد ًقا بها ومشددًا
نظره إليها ،لكنه كان كاملحتار يف أمره؛ إذ جعل يبحث عن مركز خفي
ولم يكن يقع برصه عليه.
فتقدم بعض السودان يف القارب إىل ما تحت املركبة ،فقرأهم ديك سال ًما
جميل بإطالقه عليهم الرصاص فلم يصب أحدًا بل ألقى يف قلوبهم ً
الرعب والهلع ،ولذا هرولوا راكضني إىل ضفة النهر.
فودعهم يوسف وقال :بحفظ الله وأمنه يا َّ
خلن ،ولو كنت مكانكم ملا
تجرأت قط عىل الرجوع إىل هنا لكنت أخاف جدًا من وحش جوي يرمي
الصواعق من العالء عىل من يشاء.
وفيما هم عىل تلك الحال إذ أمسك َّ
العلمة نظارته عىل الفور ووجه برصه
إىل جزيرة منتصبه وسط النهر.
167
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :إن كالم يوسف طبق واقعة الحال؛ فإني أعاين نحو عرشين
ً
رجل مجتمعني يف هذه الجزيرة.
قال فرغوسن :وهل يعيقنا هؤالء عن إنفاذ مرغوبنا؟ ...فإننا نبدد شملهم.
أما العبيد الذين هم من قبيلة مكادو فإذ شاهدوا القبة الهوائية ضجوا
يف الرصاخ ،ورفع واحد منهم قلنسوته عن رأسه وجعل يهزها يف الهواء،
فاتخذها ديك هد ًفا له ورماها برصاص ٍة فسقطت من يده متفرقعة،
وذهبت شذر مذ َر فولت الشجاعة عن قلوب العبيد مدبرة ،وخافوا من تلك
اللطمة الجوية خوفا عظي ًما ،وللحال أرسعوا جميعًا بالنزول إىل النهر،
وجاوزوه بالسباحة ،ومن هناك أخذوا يرضبون القبة باملجانق والجالهق
واألسنة ،لكنها لم تصبها قط رضبة واحدة ،ثم تعلّقت مرساة املنصورة
بثقب صخر ونزل يوسف إىل األرض يف الساعة والحال.
فقال له َّ
العلمة :انصب لنا السلم ،وأنت يا ديك تعال معي.
ً
سوية ألنه يعوزني شاهد. قال :هل َّم بنا نذهب
قال يوسف :كن مرتاح البال من هذا القبيل ،فإني مسؤول بالجميع ،ثم
العلمة برفيقه إىل مجموع صخور منتصبة عند رأس الجزيرة، ذهب َّ
وهناك جدَّا يف الفحص والتفتيش ،وأخذ ينبش يف اآلجام حتى تخضبت
يداه بالدم ،ثم مسك فجأة بيد رفيقه وقال له :انظر إىل هاهنا.
قال فرغوسن :اعلم يا رفيقي ،رفقك الله ،أن أ .د .هما أول حريف اسم
أندريا ديبنو ،وهو من سبق جميع الذين قصدوا اكتشاف عيون النيل يف
التقدم إىل هذا املكان.
ثم نظر فرغوسن إىل هذين الحرفني الثمينني نظرة أخرية ،وأخذ يرسمهما
بدقة تامة.
وبعد ذلك قال لرفيقه :هل َّم بنا لنعود إىل قبتنا.
قال ديك :فلنرسع ألن بعض العبيد يتأهبون لعبور النهر ،واإلتيان إىل
169
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
هذا املقر.
ً
برهة دفعتنا ذات الشمال، قال َّ
العلمة :ال يهمنا اآلن يشء ،إذا دامت الريح
ونصل إىل غندوكورو ونعاين أبناء األوطان.
وما مضت عرش دقائق َّإل خفقت املنصورة بصعودها إىل األعايل ،ثم نرش
ً
داللة عىل فوزه بالنجاح. فرغوسن الراية اإلنكليزية يف تلك البطاح
170
الفصل السابع عرش
يف الجبل املرتجف وأقوام نيام وما كان من أحاديث العرب عن تلك
البالد
171
فإذ شاهد ديك رفيقه َّ
العلمة ناظ ًرا إىل البوصلة سأله قائال :وما هو
اتجاهنا؟
قال َّ
العلمة :إننا نسري إىل جهة شمال الشمايل الغربي.
كل ،وأظن أنه يعرس علينا جدا الوصول إىل غندكورو ،وذلك العلمة َّ
قال َّ
مما يكدرني ،غري أننا عىل كل األحوال ،قد وصلنا حبل اكتشافات الجهة
الرشقية بالشمالية ،فعليه ال يليق بنا األسف.
173
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ومياني والشاب لِجان ،الذين تركوا لنا أحسن الفوائد املتعلّقة بالنيل
األعىل.
قال فرغوسن :أي نعم ،قد أ َّيدتها كثريًا ،فإن ينابيع البحر األبيض مغمورة
يف بحرية عظيمة كالبحر وكثريًا ما نظمت األشعار بشأنه فحاولت أن
تؤصله من ينبوع سماوي ،وقد دعاه القدماء باسم أوقيانوس ،وقرب إىل
ظنهم أنه جا ٍر من الشمس بخط مستقيم ،وال شك أن مثل هذه التخيالت
الشعرية تخرس شيئًا من رونقها ،فعلينا أن نستقي من مياه الفوائد التي
يأتينا بها العلم فننبذ ما نراه عر ًيا عن الصحة ،ونستمسك بما فيه صحة
الرأي.
ً
عرضا ،وال يشء قال فرغوسن :إنما هي شالالت مكدو يف ثالث درجات
أدق من ذلك ،وأتمنى لو كنا تمكنا من الرحيل فوق خط النيل.
قال فرغوسن :هذا جبل لكويك املعروف عند العرب بالجبل املرتجف،
وقد طاف أندريا دبنو حول هذه البالد وهو منتحل لنفسه اسم «لطيف
لبعض،
ٍ أفندي» أما األقوام الساكنون بالقرب من النيل فهم أعداء بعضهم
وال ينفكون من القتال واملصارعة ،وعليه فالب َّد من أن يكون دبنو املذكور
قد عانى من املشقات واملصاعب واملحذورات معظمها.
174
وقد حملت الريح عىل أجنحتها منصورة املسافرين إىل الجهة الشمالية
الغربية ،وج َّد َّ
العلمة يف أن يجد طبقة هواء منحرفة عن االتجاه إىل جبل
لكيك للتنحي عنه.
فقال َّ
العلمة :خلييلَّ! ...مذ هذه الساعة تبدأ رحلتنا اإلفريقية ،ألننا فيما
سبق لم نتبع ّإل آثار من سلفنا ،وهانحن أوالء اآلن نرمي بأنفسنا يف بحر
هذه املفاوز املجهولة منا ،فقوال يل هل تخمد همتكما ويربد نشاطكما؟
كل ،ثم َّ
كل. فصاح الرفيقان بصوتٍ واحد قائلنيَّ :
وملا دخلت الساعة العارشة ،وقد م َّر إذ ذاك املسافرون فوق وهداتٍ
وأحراش وقرى متفرقة وصلوا أخريًا إىل جانب الجبل املرتجف ،ففاتوه
ومضوا بغري عاقة.
ويف ذلك النهار املخلد الذكر؛ أي يف 23نيسان ،م ُّروا بربهة خمس عرشة
ريح
ميل جغرافيًا ،وذلك بقوة ٍ ساعة مسافة ثالثمائة وخمسة عرش ً
شديدة.
ولكنك كنت تراهم يف هذه املدة األخرية ملتحفني بشعار كآب ٍة ال سبب
ظاه ًرا لها ،وقد ملك السكوت املطلق يف أفئدتهم ،فهل يا ترى كان
فرغوسن غار ًقا يف بحر التأمالت من جري اكتشافاته ،أم كان رفيقاه
حاملني عىل عاتقهما عبء االهتمام بالرحلة العتيدة وسط البالد القفرة
واملفاوز الشاسعة ،وهم إذ ذاك ال يعرفون لها بدءًا وال نهاية ،فال شك
يف أن جميع هذه األمور تخللت أفكار املسافرين ،وقد خالجها التذكر
175
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
باألوطان والخالن.
أما يوسف فما الحت عىل محياه َّإل لوائح عدم االكرتاث بيشء ،وإذا خطر
له عىل بال ذكر هوى األوطان قد قال :لم تغب عني األوطان ،بل أنا غبت
عنها .وهذه علة غربتي ،ومع ذلك قد نظر إىل سكوت رفيقيه بعني الحرمة
واالعتبار.
ويف الغد طرقت آذانهم األفكار الصافية ،وكان الجو رائ ًقا والريح تتالعب
يف تلك اآلفاق ،ومهبها من الجهة املوافقة ،فقام يوسف وقدم لرفيقيه
فطو ًرا ً
لذيذا ،فانتعشت منهم األكباد ،وتح َّولت أخالقهم من دار العبوس
إىل دار اإليناس.
وأما البالد التي جابوها يف ذلك اليوم فهي شاسعة جدًا ،وتخومها من
جبال القمر إىل جبال درفور ،وتلك املسافة تكاد تبلغ مسافة أوربا من
أولها إىل آخرها.
فقال َّ
العلمة :إننا مارون اآلن بالبالد التي زعم عنها أنها مملكة أزوغا،
وارتأى بعض أهل الجغرافية أن بحرية عظيمة ممتدة يف أواسطها
فسنعلم إن كان يف هذا األمر بعض الحقيقة.
العلمة :ال ريب يف أنها مسكونة ،ولكن بئس السكنى ،وجميع هؤالءقال َّ
األقوام يعرفون بأقوام نيام نيام ،وما وضع هذا االسم َّإل مماثلة للمضغ
والعلك.
قال يوسف :بالتمام والكمال نيام نيام نيام نيام؛ فكأني ضامغ.
قال َّ
العلمة :لو كنت سببًا لهذا اللقب ما طابت لديك.
177
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال َّ
العلمة :وال ريب فيه ،من الناس من قال عنهم إن لهم أذنا ًبا كالدواب
والبهائم ولكن تحقق عندهم فيما بعد أن هذه األذناب خاصة بجلود
بعض الحيوانات التي كانوا يرت َّد ْون بها.
قال يوسف :وما أحىل من الذنب! ...فإنه يصلح لطرد الناموس والبعوض.
قال فرغوسن :ربما يصلح لذلك ،ولكن ينبغي أن ندخل هذه الحكايات
يف طي الخرافات مع ما نسبه أحد السواح من رؤوس الكالب إىل بعض
األقوام اإلفريقيني.
قال يوسف :إذا طرأ علينا يوم قحطٍ وجوع ومست الحاجة إىل أن أؤكل
فأرغب يف أن تنتفع بي أنت وسيدي ،ولكن إذا وقعت يف أيدي هؤالء
الربابرة وقيض عيلَّ بأن أكون لهم غذاء ال بد من أموت خز ًيا وكمدًا.
178
قال الصياد :حياك الله يا يوسف؛ فقد تم االتفاق بيننا ،وع َّولنا عىل أن
نعتمد عليك وقت الحاجة.
قال يوسف :إن ذا رأي محتمل استحوذ عليه حب الذات املفرط ألن
اإلنسان حيوان.
وملا كان بعد الظهر تظللت السماء بضباب سخن يتصاعد من األرض،
ويمنع املسافرين عن تمييز األشياء يف طريقهم ،قد ع َّول َّ
العلمة عىل أن
يرمي املرساة الساعة الخامسة خشية أن تصدم املركبة رأس صخرة وهم
ال يشعرون بذلك.
فقضوا ليلتهم حيثما كانوا ،ولم يطرأ عليهم طارق غري أن مثل ذلك
الظالم أوجب عليهم مضاعفة السهر واالحرتاز.
وعند الصباح قد هبت الريح بشدة ،وصار الهواء يدخل متعم ًقا يف أسفل
القبة ،ويحرك اآللة التي كانت تدخل فيها أنابيب امتداد الغاز ،فمنعوا
اضطرابها بحبال شدَّت بها ،وقد تمم يوسف هذا األمر بإحكام وفطنة.
وتمعن يوسف يف فوهة القبة الهوائية ،وحقق أنها مسدودة سدًّا محك ًما.
العلمة :لنا فائدة من جهتني بسدادة الفوهة؛ فمن الجهة األوىل ال فقال َّ
يتلف الغاز الثمني ،ومن الجهة الثانية ال نرتك وراءنا ذنبًا قابل االشتعال،
179
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :وهل إذا ال سمح الله بلينا به ته َّورنا إىل األرض برسعة؟
العلمةَّ :
كل؛ فال نته َّور برسع ٍة بل يأخذ الغاز يف االشتعال رويدًا قال َّ
فقليل ،وهذا ما جرى للسيدة الفرنسية بلنشار وهي ً رويدًا ،وننزل ً
قليل
راكبة مركبة هوائية ،فقد اشتعلت قبتها وهي ترمي باألسهام النارية من
حال ،ولو لم تصدم يف نزولها مدخنة قلبت مركبتها ،لكنها لم تسقط ً
قاربها ما كان أصابها ما أصابها من السوء.
قال الصياد :أؤ ّمل َّأل ينوبنا مثل هذا العارض املشؤوم ألني إىل اآلن لم أر
خط ًرا يف رحلتنا ،وال أرى سببًا يصدنا عن الوصول إىل ربنا.
أيضا ،واعلم يا صاح أن العوارض التي طرأت عىل العلمة :وال أنا ًقال َّ
راكبي املركبات كانت دائ ًما مسببة عن قلة فطنتهم ،أو من قصور بدا
منهم يف بناء القبة واآللة ومع هذا كله فلم نسمع عن حوادث سببت املوت
لراكبي املركبات َّإل ما قل ويكاد يبلغ الواحد يف األلف ،ولكن يف العموم
ليست األخطار َّإل يف االرتفاع فوق األرض والنزول إليها ،ولذلك ينبغي
لنا أن نكون عىل حرص وحذرَّ ،
وأل يبدو منا قصور وتوان يف االعتناء
الكامل.
181
ثم اشتدت الريح وهبت من جهاتٍ مختلفة ،ولم يعرف لها اتجاه ،ولذا
كانت املنصورة تثب وثبات شديدة مديدة تارة نحو الشمال ،وطو ًرا نحو
الجنوب ،ولم يستطع فرغوسن أن يصادف مهبًا ثابتًا.
فلما نظر ديك إىل اإلبرة املغناطيسية ورآها تضطرب وتتذبذب كثريًا ،قال:
إننا نسري برسعة هائلة ،لكننا نتقدم ً
قليل إىل ما قدام.
العلمة :إن املنصورة تسري أقله مسافة ثالثني ً
ميل يف الساعة، فقال َّ
وعليك يا ديك أن تميل بعينك إىل أسفل ،فرتى كيف تتوارى الحقول عن
أبصارك ،وانظر إىل هذا الغاب ً
أيضا ،فكأنه مرسع إىل مالقاتنا.
قال الصياد :أما ترى أن ال َف ْد َفد قد قام مقام الغاب؟ ...فما مضت برهة َّإل
تكلم يوسف وقال :هاك القرية قد قامت مقام الفدفد ،فتأمال يف السودان
كيف أن الدهشة استولت عىل محياهم؛ يا ما أبلدهم!
183
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال َّ
العلمة :ومن األمور الطبيعية أن تستويل عليهم البهتة والدهشة؛ فإن
الفالحني الفرنسيني عند مشاهدتهم القباب الطيارة يف املرة األوىل ظنوا
أنها وحوش جوية ،فأطلقوا عليها الرصاص ،ولهذا ال عجب إذا حدقت
السودان أبصارهم متفرجني عىل قبتنا.
وكانت املنصورة مارة فوق قرية ،وهي ال تعلوها أكثر من مائة قدم.
فقال يوسف :طرق ذهني أن ألقي لهؤالء األنام املتفرجني آنية فارغةْ ،
إن
إذنت يل يا سيدي ،فإذا وصلت إىل األرض ساملة من كل غائلة عبدوها كإله
رسا اتخذوا تلك الكرس كلمات سحرية. وإذا تحطمت ك ً
فما فاه بهذا الكالم َّإل ورمى باآلنية فتكرست آرا ًبا ،أما السودان
فاضطربوا وضجوا يف الرصاخ ،ثم طفقوا يأوون إىل كهوفهم خوفا من
الغوايل الجوية.
وبعد أن ساروا برهة قال ديك :ها هي ذي شجرة غريبة الشكل ألنها من
وجنس آخر يف أسفلها.
ٍ جنس يف أعالها
ٍ
قال يوسف :ويحك يا ديك! ...إن األشجار يف هذه البالد ينبت بعضها
فوق بعض.
العلمة :إنما حقيقة األمر أن جزع شجرة تني عليه تراب نباتي، قال َّ
فهبت الريح يو ًما ودفعت بزرة نخ ٍل عىل ذلك الرتاب فنمت النخلة كأنها
زرعت يف حقله.
قال يوسف :لعمري؛ إنها لصناعة جميلة ،سأهتم بحوله تعايل يف أن
184
أجريها بحدائق لندرة؛ إن ذلك مما يطرب الخاطر ويعجب الناظر ،وهي
وسيلة ظريفة لتكثري األشجار ذات األثمار إلرقاء الحدائق إىل الجو ،والب َّد
أن يرس بهذه الصنيعة أصحاب العقارات واألمالك الصغرية.
ثم اضطرت املنصورة إىل أن تعلو األرض كثريًا لتم َّر فوق أشجار باسقة
يبلغ علوها نحو ثالثمائة قدم ونيف ،وهي من جنس البان الطويل العمر.
قال ديك :وما أحىل هذه األشجار وما أجملها! ...لعمري؛ لم أر يف حياتي
مشهدًا بهيًا كمشهد هذا الحرش ذي األشجار القديمة األيام ،وأرجوك يا
فرغوسن أن تتمعن فيه ً
قليل.
العلمة :ال شك يف ذلك ،وتلك األشجار ندعوها باسم مموث تريس؛ قال َّ
أي أشجار مموث ،فقد وجد يف بالد كاليفورنيا أرزة بلغ علوها أربعمائة
وخمسون قد ًما ،وهذا العلو يفوق برج لندرة «وهو من األبراج املشهورة
يف العلو» حتى وأعظم من أهرام مرص ،وأما قاعدتها فبلغت دائرتها مائة
وعرشين قد ًما ،وقد استدل من الطبقات الظاهرة فيها أن عمرها ينوف
علی األربعة آالف سنة.
قال يوسف :والحالة هذه؛ فال عجب يف علوها وشموخها ،ألن من عاش
كثريًا طال كثريًا ،والشجرة التي عاشت مدة أربعة آالف سنة فمن الرضورة
185
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
العلمة وجواب يوسف ّإل توارى الغاب عن َّ ولكن ما تمت حكاية
أنظارهم ،ووصلوا فوق أكواخ مبنية حول ساحة مستديرة ،ووسط تلك
الساحة شجرة وحيدة ،فلما نظر يوسف إليها قال :وياله؛ إذا كانت هذه
الشجرة تأتي بمثل تلك األثمار منذ أربعة آالف سنة فال أحييها بالسالم
وال أ ُ َ ُّ
س برؤيتها.
قال هذا وأومأ إىل جميز ٍة سامية العلو ،وقد غطي جزعها بكومة من عظام
بني آدم ،وقد أعنى يوسف باألثمار عن رؤوس مقطوعة حديثًا؛ كانت
معلّقة عىل خناجر مشكوكة يف قرشة الشجرة.
العلمة :يا لها من حرب شنيعة تشبه حرب البسوس؛ فإن الهنود يف قال َّ
مثل هذه الحروب يسلخون رأس األسري الذي يقع تحت غائلة القتل ،وأما
اإلفريقيون فيقطعون رأسه تما ًما.
قال الصياد :ليس هذا العقاب أم َّر من املشنقة ،بل إنما هو أشنع وأقبح
كثريًا.
قال َّ
العلمة :إن عقاب املذنبني يف بالد إفريقية الجنوبية هو أنهم يجعلون
يف أكواخهم مع ماشيتهم ،وأحيا ًنا مع عائلتهم ثم ترضم فيها النريان
ً
توحشا ،لكني أق ُّر معرت ًفا فيحرتق الجميع معًا ،وأنا أسمي هذا العقاب
أيضا ،وإن كان أقل قساوة مع صاحبي ديك أن املشنقة عقاب بربري ً
وشناعة من ذاك.
فنظر إليها ديك باملنظرة ،وقال :إنما هي نسور جميلة ورسعة طريانها
تضاهي رسعة مسرينا الجوي.
قال َّ
العلمة :وقانا الله من صدمة تصدم بها هذه الطيور قبتنا؛ فإني
أخشاها أكثر من الوحوش الضاريات واألقوام املتوحشني.
قال ديك :ولم هذه املخافة؟ ...أال تعلم أننا نبدد شملها بالرصاص؟
أحب إيل ّأل أحتاج إىل حذقك هذه الدفعة ،ألن قماش قبتنا قال َّ
العلمةُّ :
ليس من حديد ليقاوم نقرة من نقار منقارها ،غري أني أراها قد اختشت
187
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :ولكن طرق ذهني فك ٌر يا خلييلَّ؛ فإن األفكار تداهمني اليوم
بالعرشات واملئات وهو لو أمكنَّا أن نلقط زمر ًة من النسور الحية ونربطها
بمركبتنا؛ لقد جرتنا يف الجو عىل أجمل منوال.
قال َّ
العلمة :وقد عرضت هذه الطريقة بجدٍ ،إنما الذي يمنع نفوذ األمر
هو الخلق الجموح املنفطرة عليه تلك الطيور.
ً
وعوضا عن اللجام تجعل قال يوسفَّ :
وهل يمكن ترويضها وتهذيبها؟...
عصابة عىل عيونها فإذا حجبت عني اليمني سارت النسور ذات الشمال
ً
بغتة الطيور. والعكس بالعكس ،وإذا حجبت العينان وقفت
وكان الظهر ،واملنصورة أخذت يف سري الهوينا يف تلك البطاح ،وعىل الفور
طرق آذان املسافرين ضجيج وعرير وصفري ،فتطلعوا من مركبتهم إىل
أسفل وإ ِ ْذ تراءى ألعينهم ما حملهم عىل التأسف والكدر وفجع أفئدتهم
غ ًما وكر ًبا وهو مشهد قبيلتني متهوشتني يف معمعة القتال ،يبارز بعضهم
بعضا ويقتل بعضهم بعضا بمعاند ٍة وضغن شديد ،وبينما هم يقاتلون
188
ويتنابحون تنابح الكالب إذ مرت املنصورة فوقهم ولم يشاهدوها ،وكانوا
نحو ثالثمائة نفر محتبكني يف حومة املعركة ،وكثري منهم خائض يف دماء
قتالهم ،ومنظرهم مما تمجه األعني وتأنف منه القلوب.
فقال حينئ ٍذ فرغوسن :فلنرتفع إىل األعايل لئال يصيبنا سهم ،وال نكون َّن
قلييل الفطنة ،فإنه ال يجوز لنا أن نستقر يف هذه الدرجة ،فأخذت املنصورة
باالرتفاع ،وما زال الذبح والرباز جاريني عىل قدم وساق ،فنفدت النبال
وتكرست األنصال وتحطمت السمر الطوال ،واحم َّر بساط األرض من
هدر الدماء يف ذلك القتال ،وكلما تجندل عدو إىل الحضيض قتله خصمه
برضب ٍة فقطع رأسه للحال ،وقد تداخلت النساء يف تلك املعمعة الهائلة،
فك َّن يتسابقن عىل جمع الرؤوس السابحة يف الدماء املتفجرة ،ويذهبن
بها إىل آخر ساحة القتال ،وكثريًا ما تصارعن للحظوى بغنائم الظفر
تلك ،الكريهة املنظر.
قال يوسف :إن املتحاربني أناس ذوو صور ٍة قبيحة ،ولكن لو لبسوا
الثياب العسكرية لكانوا كسائر الجنود يف الحروب املدنية.
فقال ديك :أرغب جدًا يف أن أتوسط بني هؤالء املتحاربني يف هذه املعركة
189
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
الهائلة.
العلمة حذا ِر حذا ِر من هذا الصنيع؛ فإنه ال يأتينا َّإل باألذية والرضر،
قال َّ
أيضا هل تعرف َم ْن ِم َن الطائفني هي املذنبة فلنهتم بما يعنينا ،وقل يل ً
لتتوسط بينهما وتستنرص إلحداه َّن .فالخليق بنا أن نف َّر من هذا املنظر
البشع الذي تنفر منه القلوب ،فلو أرشف رؤساء الجنود يف الحروب عىل
ساحات الحرب وتأملوا ما يجري فيها من سفك الدماء لذهب ذلك املشهد
برغبتهم يف املحاربة وجني الفتوحات.
وكان أحد رؤساء الطائفتني يمتاز بطول القامة وعرض الجسم؛ فإنه
ً
لحظة كان يخرتق صفوف العدو ويرضب بالفأس ويشك الرمح ،ثم ألقى
مغمسا يف الدم ،ورمى بنفسه عىل أحد الجرحى،
ً رمحه بعيدًا عنه ،وكان
ثم جذم ذراعه برضب ٍة واحدة من الفأس ،ومسكه بيده رافعًا إياه إىل فمه
وجعل يعضه بتواتر.
قال هذا ،وأطلق عليه رصاصة فأصابته يف جبهته ورصعته إىل األرض
مستلقيًا عىل ظهره ،فعند سقوطه استولت الدهشة والرعب عىل قلوب
أتباعه وارتاعوا من موت رئيسهم العجيب ،وهاجت منهم األفكار ،أما
أخصامهم فازدادوا شجاعة وحماسة ،وعليه قد ف َّر نصف املتحاربني من
حومة القتال.
190
بعيد عن مشهد هؤالء الربابرة ،ألنه قد بجن يف قلبي حاسة الغم والكدر
وال عدت أطيق النظر إليه.
191
الفصل التاسع عرش
يف الغارة الليلية والصوت الصارخ وبذل االجتهاد يف نجاة املرسل
193
حالكا لم يسنح ّ
للعلمة فرغوسن أن يميز تلك البالد ً وكان ظالم الليل
ويعرف مركزه ،وملا كان متعل ّ ًقا بمركبته فوق شجر ٍة عالية فبالكاد تمكن
من رمق أوراقها املتكاثفة يف ذلك الظالم الدامس.
وقد توكل الحراسة بمدة الثالث ساعات التي يليها نصف الليل ،فقام ديك
ليحرس مكانه ،فحرصه فرغوسن عىل َّأل يغفل يف حراسته عن مراقبة ما
يمكن أن يطرأ عليهم من الحوادث ،وقال :خيل يل أني سمعت تغمغ ًما
ً
ولغطا تحتنا وال أدري ما هو!
العلمةَّ :
كل؛ فإني اتخذته شيئًا آخر ،وعىل كل حال؛ عليك أن توقظنا قال َّ
عندما يروعك أدنى يشء.
195
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وكانت السماء مظللة بغيوم كثيفة ،ولكن الريح يف استكان ٍة وهدوءٍ ،ولم
ً
معلقة بمرساة واحدة. تتذبذب قط املنصورة ،وإن تكن
فلبث ديك مناظ ًرا قصبة القبة وكان ساندًا ذراعه عىل املركبة ويتأمل أحيا ًنا
بما حوله من السكوت العميق ،وينظر تار ًة إىل األفق كمن يستفحص عن
أمر وهو يف اضطراب وقلق وحسب أنه يشاهد ضياء مبه ًما.
ويف لحظة ظ َّن أنه شاهد جليًا ضياء ساطعًا عن بعد نحو مائتي قدم لكنه
كان كالربق الرسيع؛ إذ توارى عن برصه ولم يبق له أثر.
فلم يكن ذلك الضياء َّإل كتلك اإلحساسات املضيئة التي ترتاءى ألعني
املتأملني يف ظلمات الليل املحتبكة.
فسأل ديك يف نفسه ً
قائل :هل هذا هو صوت حيوان أم طري الليل أم هل
هو رصاخ ابن آدم.
وكاد ديك يوقظ رفيقيه لخشيته من خطب يل ٌّم به وهو عىل تلك الحال
ً
وحوشا فهم غري قادرين عىل ً
رجال أو لكنه قال يف نفسه :إن كان هؤالء
الوصول إىل قبتنا ،ثم نظر إىل سالحه وأخذ منظرة الليل وجعل يحدق
برصه يف الفضاء.
فخيل له أنه رأى تحت القبة خياالتٍ تتسلق عىل الشجرة ثم أرسل بدر
196
الليل شعاعًا طفي ًفا من بني سحابتني فتمكن ديك من مشاهدة بعض
أشخاص متحركني ومائجني يف الظالم.
قال َّ
العلمة :وهل من حادث طرأ.
فلما استفاق يوسف من الرقاد أخذ الصياد يف التخبري عما تراءى له فقال
يوسف قبح الله السعادين؛ فإنها تو ُّد أن تقلقنا.
قال َّ
العلمة :وعلينا بأخذ االحتياط الالزم.
قال ديك :إني أنزل مع يوسف إىل الشجرة بالسلم لفك املرساة.
قال َّ
العلمة :أما أنا يف غضون ذلك سأعد اآللة لتتمكن من الصعود إىل
العالء برسعة وخفة.
197
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
العلمة باإلشارة جوا ًبا عن سؤاله ،ثم نزال إىلفأومأ ديك ويوسف إىل َّ
الشجرة وارتكزا عىل أغصان كبرية كانت املرساة متعلّقة بإحداه َّن.
ثم وقفا لحظة ناصتني فسمع يوسف ًّ
حكا يف قرش الشجرة.
ثم مضت برهة وقال ديك :إن الضجة تزداد رويدًا رويدًا.
قال ديك :أنت قم يف حراسة هذه الجهة وأنا أتوكل حراسة األخرى.
فكانا كالهما منفردين عىل ذروة غص ٍن كبري نابت بخط مستقيم يف وسط
شجرة البوباب تلك ،التي تضاهي حرشا بكربها واتساعها فزاد كثيف
األوراق ظال ًما عىل كثيف الظالم ،ولكن قد دنا يوسف من رفيقه وأومأ
إليه أن ينظر إىل ناحية الشجرة السفىل ،وقال :إنهم عبيد سود.
ويف الحقيقة كان بعض العبيد السود قد تسلقوا الشجرة وهم هائجون
ومائجون ،وكانوا ينرسبون عىل األغصان كاألفاعي ،وقد تحقق دنوهم
مما أفاحه أجسادهم من الروائح الكريهة لكونها ممزوجة بالشحم املنتن.
ثم تراءى ألبصار ديك ويوسف رأسان وذلك بمسارات الغصن الذي
يقيمان هما عليه.
وأما الذي ألقى أصحابنا الثالثة يف بحر القلق والحرية فهو أنهم سمعوا
صو ًتا تخلل ذلك الضجيج ولم يكن يخطر ببالهم أنهم يسمعونه وظنوه
مستحيل ،وهو صوت برشي نطق الكلمات اآلتية باللّغة الفرنسية ً
بوضوح وجالء وهي !A moi !A moi! :إيلَّ إيلَّ.
فانذهل ديك ويوسف عن هذا الصوت العجيب وعادا مرسعني إىل املركبة.
قال لهما َّ
العلمة :أسمعتما!
199
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال َّ
العلمة :عساه صوت رجل فرنيس رماه التعس يف أيدي هؤالء الربابرة.
فقال الصياد :واهًا عىل حظه؛ فإنهم يقتلونه ويذيقونه عذاب الشهداء
األليم.
العلمة وقد خالج صدره شعائر االضطراب والتأسف :ال َّ
شك يف فقال َّ
ذلك ،وهو أن أحد الفرنسيس قد أضحى فريسة لتوحش هؤالء القوم
املكروه ،ولكن ال نرحل من هنا َّإل بعد أن نكون بذلنا جدنا وجهدنا
لننجيه من تهلكته وال ريب أنه لسماعه طلقة البارود يكون قد خطر له
يف باله أن يدًا غريبة قد أتت ملعونته ،ووساطة عجيبة من العناية اإللهية
أدركته فال نخيب َّن ً
إذا أمله يا خلييلَّ؛ كيف رأيكما؟
قال ديك :إن ذا الرأي رأينا يا فرغوسن ،وهانحن أوالء بني يديك؛ فمرنا
بما تشاء.
قال فرغوسن :علينا أن نهيئ مذ اآلن شغلنا ،وغدا عند بزوغ الفجر نج ُّد
يف انتشاله من أيدي قاتليه.
فسأل ديك رفيقه ً
قائل :ولكن كيف نبدد شمل الربابرة السودان.
لدي اآلن أنهم ال يعرفون األسلحة النارية ألنهم خافوا قال َّ
العلمة :تحقق َّ
منها خو ًفا عظي ًما ،وذهبوا رائعني مرتعدي الفرائص ،فيلزم إذا أن نغتنم
فرصة اضطرابهم بهذه الواسطة ،ولكن ال نبدأ يف أم ٍر َّإل عند الصباح
200
حتى نرى هل يوافقنا املكان.
قال يوسف :ال بد من أن يكون هذا املسكني قريبًا منا ألنه ...فما فاه
باللفظة األخرية َّإل أعاد الصارخ صوته قائال :إيلَّ إيلَّ.
تعسا لهؤالء الربابرة ٍّ
وبخ لفعالهم؛ ً فقال يوسف وهو مختلج الفؤاد:
فإنهم ال يزالون يعذبونه وعساهم أن يقتلوه هذه الليلة.
فمسك ديك يد َّ
العلمة وقال له :أسمعت ما قاله يوسف عساهم أن يقتلوه
هذه الليلة.
قال فرغوسن :إن ظنكما بعيد عن الحقيقة ،ألن هؤالء األقوام املتوحشني
ال يقتلون أرساهم َّإل يف النهار ،ويقتيض إنفاذ فعالهم الرديئة سطوع
أشعة الشمس املضيئة.
فقال ديك :وهل ترى ال يوافق أن أنتهز فرصة الظالم وأنزل منرس ًقا إليه
وأنتشله من غائلته ثم آتي به إىل املركبة؟
فإن قصدكما هذا هو فقال فرغوسن :مكانكما يا خلييلَّ ،رويدًا رويدًا؛ َّ
برهان واضح عىل خلوص طويتكما وشجاعتكما ،لكنكما ربما ترضان
وعوضا عن أن توليا ذلك املبتئس ً
حظا سعيدًا فإنكما تجعالن ً بنا جميعًا،
نصيبه التعس والويل.
قال ديك :وما سبب ذلك؟ ...فإن هؤالء الربابرة ذهبوا متخوشني مرتعبني،
وال عادوا يرجعون إىل هذا املكان.
201
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال َّ
العلمة :أتوسل إليك طالبًا أن تسمع ملقايل وال تنقاد لشعائر حنيتك
التي تحثك عىل بذل أقىص جهدك يف خالص املتعذب.
قال ديك :أ َّواه! ...كيف يكون حال هذا املسكني املضطرب الفؤاد الذي
ال يجيب أحد سؤاله وال يأتيه معني وال مجري ،وربما ظ َّن أن قد خدعته
حواسه وليس ما سمعه من صوت الطلقة َّإل هباء منثو ًرا وأضغاث
أحالم؟!
ف َّعرت الربابرة بأصواتهم الحادَّة وضج ًوا صارخني ،وهكذا منعوا الرفاق
الثالثة من أن يسمعوا جواب األسري.
فقال َّ
العلمة :وكيف العمل ،وما الحيل ،وما الذي تظنه مناسبًا لنعمله
فيما بني هذا الظالم الدامس؟!
قال َّ
العلمة :وما الذي تصنعه إذا تبدد الظالم واستنار هذا املكان؟!
202
قال الصياد :وحينئ ٍذ تسهل علينا األمور؛ فإني أنزل ً
حال إىل األرض،
وأبدد شمل هؤالء األنذال برضب الرصاص وأفعل ما أشاء.
فقال َّ
العلمة :وأنت يا يوسف ما الذي تصنعه؟
قال يوسف :سيدي إني أسري يف الطريق األيمن وأترصف ترص ًفا خاليًا من
صوب معلوم.
ٍ الخطر ،وهو أني أعلم األسري املبتئس أن يهرب إىل
قال يوسف :أعلمه بواسطة هذا السهم الذي مسكته ملا كان طائ ًرا يف
ً
واسطة أخرى وهي الجو؛ فإني أربط فيه ورقة وأصلها إليه ،أو أستعمل
أني أخاطبه بصوت مرتفع؛ إذ ال يفهم السودان لغتنا.
قال َّ
العلمة :إن ذا ليس بمستحيل.
203
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :إذا تممت هذا األمر دعوتك أول علماء عرصنا.
فسكت فرغوسن لحظة وخاض بحر الفكر مرتو ًيا يف أمر النجاة وكان
رفيقاه محدقني به بعجب وقل ٍق؛ إذ جاشت أنفسهم من موقعهم الخارق
العادة وما مضت برهة ّإل أخذ فرغوسن يف التكلم ،وقال :أنصتا ملقايل يا
رطل من الثقلخلييلَّ؛ فإني فكرت فك ًرا وهو أنه اليزال عندنا نحو ً 36
باق عىل حاله ولم نمسه قط فأظن أن هذا حيث ما حملناه من الرمل ٍ
اإلنسان مع شدة ضنكه وتررضضه تحت مطارق العذاب ال يزن أكثر
رطل يمكننا أن نلقيها لنرتقيً من واح ٍد منا فيبقى إذا عندنا نحو 12
برسع ٍة إىل األعايل.
العلمة :إنك تسلم معي أني إذا تمكنت من وضع األسري يف املركبة قال َّ
ثقل يوازي زنته فال يحدث خلل يف موازنة القبة ،ولكن إذا وألقيت عني ً
رغبت حينئ ٍذ يف أن أرتقي برسع ٍة إىل الجو ألفر هار ًبا من هؤالء املتوحشني
فيلزمني أن ألتجئ إىل قو ٍة مضاعفة لقوة القصبة والحال إذا ألقيت ما
بقي من الثقل يف الوقت املعلوم فال شك أنني أصعد برسعة عجيبة.
قال َّ
العلمة :فلنبادر إذا إىل العمل ويف بدء األمر اجعال أكياس الرمل عىل
طرف املركبة لكي نتمكن من إلقائها دفعة واحدة.
قال فرغوسن :إن هذا الظالم يسرت استعدادنا وأهبتنا وال يتبدد َّإل عند
نهاية شغلنا ،وأما أنتما فكونا عىل حذر وضعا أسلحتكما بالقرب منكما؛
عىس أن تمس الحاجة إلرضام النار وعندنا هنا الطبنجة والبارودتان
فجميعها ترمي سبع عرشة رصاصة نطلقها يف برهة ربع دقيقة إذا شئنا
ذلك ،ولكن ربما ال نضطر إىل هذه الطريقة القصوى ،فلنأخذ اآلن بالعمل
ألعلكما عىل حرض؟
قال يوسف :هانحن أوالء بني يديك ،وقد وضعت األكياس عىل طرف
املركبة والسالح بالجانب منهم.
فإن يوسف مف َّوض بإلقاء أكياس العلمة :هيا تحرصا شديدًا؛ ََّّ قال
الرمل ،وديك بنشل األسري ووضعه يف املركبة ،ولكن ال يفعلن أحد منكما
شيئًا قبل أن آمره به ،وأنت يا يوسف اذهب اآلن وحل املرساة ،وارجع
ً
حال إىل املركبة.
فنزل يوسف متدليًا عىل الحبل وفعل ما أمره به سيده وعاد إىل مكانه يف
برهة وجيزة ،فارتفعت حينئ ٍذ املنصورة يف الهواء وكادت ال تتحرك.
205
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فنظر فرغوسن إىل صندوق املزج وتأكد أن عنده كمية كافية من الغاز
لكي يرضم القصبة عند الحاجة وال يضطر إىل استعمال كرة بنزن
الكهربائية ،ثم رفع األنبوبتني املتفرقتني عن بعضها وهما املستعملتان
لحل املاء من عنرصيه وبعده نبش من كيس السفر قطعتي فحم مربيتني
ويف آخرهما رأس حاد فأحكمهما يف طرف كل من األنبوبتني.
فشخص رفيقاه متأملني فيما كان يصنعه دون أن يفهما غايته أما هو؛
أي َّ
العلمة فبعد أن قىض شغله استوى عىل قدميه يف وسط املركبة ومسك
يف كل من يديه قطعة من الفحم وقرب رأسيهما إىل بعضهما.
ففي الساعة والحال استنار املكان بضياء عجيب وكانت قطعتا الفحم
كشعلة نارية فبدد ذلك النور الكهربائي ظلمات الليل الحالكة املحيقة
بهم.
206
الفصل العرشون
يف املرسل العازاري وانتشال ِه من أيدي الربابرة وسريت ِه وأوجاع ِه األليمة
وحسن مداراة َّ
العلمة فرغوسن ل ُه
207
فح َّول فرغوسن توجيه شعاع النور الكهربائي من مكان إىل مكان
ثم وجهه إىل مكان سمع فيه أصوات اضطراب وشغب وجعل رفيقاه
يتفرسان يف ذلك املكان.
فشاهدوا أن شجرة البوبات املتعلّقة بها املرساة مرتفعة بني حقلني؛ حقل
سمسم وحقل قصب سكر ويتخللهما نحو خمسني ً
كوخا متشتت املراكز ٍ
ويطوف حول تلك األكواخ رجال الطائفة الحالة يف تلك البقعة.
ثم برص الرفاق الثالثة بخشبة مرتكزة عىل الحضيض نظري الساري،
وذلك عن بعد نحو مائة قدم من قبتهم ،وعند أسفل الخشبة شاب
مضطجع يبلغ عمره نحو ثالثني سنة ذو شعر أسود مستطيل وجسده
عري نصفه عن الثياب نحيف مهزول العافية مخضب بالدماء مثخن
بالجراح ورأسه مائل إىل صدره كما كان املسيح عىل الصليب.
209
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وشاهدوا يف قمة رأسه شع ًرا محلو ًقا مستدي ًرا أشبه الكهنة ،فصاح يوسف
وقال :إنما هو مرسل؛ هو كاهن وال شك.
العلمة سننجيه اآلن بحوله تعاىل يا صاح؛ كن مرتاح البال يا خلييل،قال َّ
فلما برصت الطائفة السوداء بالقبة الهوائية الشبيهة بالنجم ذات الذنب،
ولها ذنب ذو نور ساطع بلغت منهم الدهشة واالنذهال أشد مبلغ وضجوا
يف رصاخ الفزع والهلع ،فرفع حينئ ٍذ الكاهن رأسه وملع إذ ذاك نور األمل
عىل محياه ،ثم م َّد يداه نحو مخلصيه أنه يتوسل إليهم ضارعًا وهو كمن
يرى منا ًما.
قال فرغوسن :حمدًا وشك ًرا لباري الربايا الذي نجاه من الهالك أما نحن
فال يعرس علينا نشله ألن الرجال السود تكبلوا بسالسل الخوف والرعشة،
ومهدوا لنا سبيل الخالص؛ فهل أنتما عىل حرض يا خلييلَّ؟
فتمم يوسف أمر سيده ودفع النسيم الرخيم قبة املسافرين فوق األسري
فيما كانت القبة تأخذ يف النزول مع تقلص الغاز ،أما فرغوسن فكان يميل
بنوره نحو أولئك الرهط ،ويحركه ً
قليل لييضء المعًا كوميض الربق،
فاضطرب السودان اضطرا ًبا عظي ًما ،وبادروا مرسعني إىل أكواخهم
ومكث األسري منفردًا وحده يف محل عذابه ،وقد أصاب فرغوسن ً
قبل إذ
وثق بما تلقيه املنصورة مع نورها الكهربائي من الرعشة يف قلوب العبيد.
210
فلما اقرتبت القبة من األرض رجع بعض العبيد األكثر جسارة وجراءة
إىل أسريهم؛ إذ دروا أنه عن قريب سينجو من أيديهم ،وكانوا يرصخون
هائل فمسك ديك سالحه لريميهم بالرصاص فمنعهم فرغوسن ً ً
رصاخا
عن ذلك.
وكان الكاهن جاثيًا عىل ركبتيه؛ إذ ليس له قوة أن يستوي قائ ًما وهو
ً
مربوطا بها؛ إذ ال حاجة إىل رباط لشدة ليس بمعلّق عىل الخشبة وال
ضعفه وهزله فلما وصلت املنصورة إىل األرض وضع ديك سالحه يف
مكانه ومسك الكاهن من تحت إبطيه رافعًا إياه إىل املركبة وألقى يوسف
وقتئ ٍذ أكياس الرمل التي أرشنا إليها.
فكان فرغوسن يؤمل االرتقاء رسيعًا وبخفة عجيبة ،ولكن القبة خيبت
منه اآلمال إذ مكثت يف الجو غري متحركة بعد أن ارتفعت نحو أربعة أو
خمسة أقدام.
فالحت عىل وجهه لوائح الفزع وصاح بصوت يخالجه الرعب وقال :ما
الذي يمسكنا؟!
فمال يوسف برأسه إىل خارج املركبة وقال :سيدي إن أحد هؤالء السود
تعلّق بمركبتنا.
211
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فلما خفت القبة فجأة قفزت قفزة هائلة إىل الجو ،وبلغ علوها نحو
ثالثمائة قدم فشمل القوم السود الخزي والخجل؛ إذ فلت األسري من بني
أيديهم وانتشل ملتح ًفا بشعاع نور ساطع.
ثم قفزت القبة قفزة أخرى فجائية وعلت عن األرض نحو ألف قدم.
قال فرغوسن :ال تخف يا ديك فقد رخى النذل األسود قبتنا.
فأجاب املرسل باللّغة اإلنكليزية وقال وهو يبتسم تبسم االكتئاب :نعم
إني قد نجوت من ميت ٍة شنيعة؛ فإني أشكر معروفكم يا إخوتي عىل
صنيعكم وجميلكم ولكن أرى أن ساعتي قد اقرتبت وأيامي فنيت فعن
قريب أرحل من هذه الدنيا إىل اآلخرة.
ً
مضنوكا إىل الغاية. ثم عاد إىل سباته؛ إذ كان جسمه
212
فقال ديك :وا أسفاه عليه! ...فإنه يف حالة النزاع.
كل يا ديك ،ثم َّ
كل ،لكنه خائر القوى لشدة العياء والعذاب، العلمةَّ :
قال َّ
فلنجعله تحت الخيمة لريقد هناك.
فمدوا ذلك الجسم النحيف املهزول تحت الخيمة بلطافةٍ ،وغطوه بلحفهم،
وكان إذ ذاك مغمو ًرا بآثار العذاب والجراح املتثغبة بالدماء ،وقد أثر فيها
العلمة جراحه ثم غطاها بنسا ٍل صنعه الحديد والنار تأثريًا بلي ًغا ،فغسل َّ
من خرق ٍة كتان ،وكان حاذ ًقا يف هذه الصنعة ،ويداري املريض كطبيب
قليل من الدواء املقوي من أجزائيته وسكب ً
نقطا منه عىل ماهر ،ثم أخذ ً
شفتي الكاهن.
ً
داللة عىل املمنونية والحظوى وبالكاد فمسك املريض حينئ ٍذ بيد طبيبه
تلفظ بكالم الشكران؛ إذ قال له :أشكر معروفك ...أيها الفاضل ...
ثم رأى فرغوسن مواف ًقا أن يرتك الكاهن لينام ويأخذ راحة تامة لجسده
فج َّر حواليه ستار الخيمة ورجع إىل مركزه إلدارة القبة الهوائية.
ً
رطل وقد خفت موازنة القبة مع وجود الضيف الجديد ثقل ثالثني
فوالحالة هذه لم يكن فعل القصبة الز ًما ليستمر املسافرون يف علو
مناسب وعند بزوغ الفجر هبت ريح لطيفة فدفعتهم نحو غربي شمال
الغرب.
فقال ديك :حفظ لنا املوىل هذا الضيف الجليل الذي بعثه إلينا؛ قل يا
213
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال فرغوسن :األمل به تعاىل ،وأظن أنه يربأ باملداراة وطيبة هذا الهواء
الرائق.
فقال يوسف ،وهو مضطرب الفؤاد :أواه؛ كم كابد هذا املبتئس من م ّر
ً
شجاعة منا؛ إذ تجرأ عىل اإلقدام العذاب ،ولكن أتعلمان يا خلييلَّ أنه أكثر
إىل هذه البالد وحده دون رفيق.
وعند املساء مكثت القبة ثابتة يف الجو وسط الظالم واستمرت مدى الليل
كله ،وأراد فرغوسن أن يحرسهم جميعًا واعتاض عن الرقاد بالسهاد.
ويف الغد عند الصباح كانت القبة قد اتجهت ً
قليل نحو الغرب واستبان
النهار رائق الجو خاليًا من كل غاشية ونادى املريض أصحابه بصوت
رس لذلك الرفاق الثالثة ورفعوا عنه ستار الخيمة فاستنشق ذلك
حسن ف َّ
النسيم الرخيم ،نسيم الصباح ببهجة قلب وفرح ال مزيد عليه.
فسأله فرغوسن ً
قائل :كيف حالك اليوم؟
فقال َّ
العلمة :نحن مسافرون إنكليزيون قد قدمنا عىل أن نجوز بالد
إفريقية بالقبة الهوائية ويف مرورنا ترشفنا بإنقاذك من أيدي معذبيك.
ً
أبطال. قال املرسل :إن للعلم
قال َّ
العلمة :وهل أنت مرسل.
قال إني كاهن من رسالة اآلباء العازارية ،وقد هداكم املوىل لتأتوا إيلَّ
وتنتشلوني من العذاب فليتمجد اسمه تعاىل ،أما حياتي فقد قدمتها
وخصوصا عن
ً ضحية ،ولكن أرجوكم أن تخربوني عن أحوال أوربا
أحوال البالد الفرنسية؛ إذ أنتم قادمون من أوربا ،وأنا لم أسمع قط خربًا
عن تلك البالد منذ خمس سنوات.
قال املرسل :إنها أنفس ثمينة مات السيد مخلصنا ليفديها ،وما هم
َّإل إخوتنا ،لكنهم جهالء متوحشون ،وليس ما يعلمهم ويمدنهم سوى
الديانة وحدها.
215
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فأصاخ املرسل بأذنيه سمعًا ملقال فرغوسن ،وكانت عيونه تسكب العربات
من اآلماق ،ثم هيأ له َّ
العلمة شيئًا من رشاب الشاي وسقاه إياه فرشبه
برسور وابتهاج ،وحينئ ٍذ تمكن من أن ينهض ً
قليل من فراشه واستوى
ً
محمول عىل أجنحة الرياح يف عليه وتبسم ثغره بلطافة؛ إذ شاهد نفسه
جو رائق كثري الصفاء.
وللحال أمسك عن التلفظ بكلمة أخرى؛ إذ خارت قواه واضط َّر إىل أن
ً
انحطاطا شديدًا حتى إنه ملا ينبسط عىل الفراش ،وقد انحطت قواه
ارتمى بني يدي فرغوسن مدة بعض ساعات كان كامليت ال يبدأ بحركة
ولم يتماسك َّ
العلمة عن إظهار جأشه وكدره؛ وقال يف نفسه :هل ترى
يفارقنا رسيعًا هذا املرسل املسكني الذي انتشلناه من ورطة هالكه؟
ثم ضمد جراحه من جديد واستعمل كثريًا من ذلك املاء الباقي عنده ليربد
غليل أحشائه امللتهبة وبذل غاية جهده وذكائه يف مداراته ومالطفته
فكانت تنتعش روح املريض رويدًا ،بني يديه وأخذت حواسه ،إذا لم نقل
حياته ،يف الرجوع إليه.
فأخرب املرسل املسافرين سرية حياته بوجيز العبارة وقد تلقن َّ
العلمة
كالم الكاهن من فيه بصعوبة؛ إذ خالجته اللغلغة والهتهتة لشدة ضنكه
وعيائه ،وقد كان طلب إليه فرغوسن أن يتكلم باللّغة الفرنسية لكونها
أسهل عليه أما هو فيفهم بسهولة ما يقال فيها.
216
إنما املرسل فكان قد ولد يف قرية أرادون من مقاطعة مربيهان يف شمايل
فرنسة وقد عطف منذ نعومة أظفاره عىل اعتناق العيشة الكهنوتية فدخل
رسالة اآلباء العازارية املؤسسة من القديس املجيد منصور دي بول
قاصدًا بذلك خوض املشاق يف األسفار مع كفره بذاته وزهده يف الدنيا
وأباطيلها وملا بلغ من العمر زهاء 24سنة هجر وطنه قاد ًما إىل سواحل
إفريقية ثم أوغل يف البالد حتى وصل إىل القبائل الحالة يف مصبات النيل
األعىل بعد أن قاىس ما قاساه من املشقات واألتعاب والجوع والعطش
وهو مع ذلك صابر عىل حاله مرسور القلب والخاطر مترضع إىل ربه
تعاىل فج َّد يف إرشاد تلك األقوام وهدايتها إىل السبيل املستقيم غري أنه لم
باطل وعومل سوء املعاملة جزاء عىلً ينجح ورذلت ديانته وذهبت غريته
إحساناته وخرييته فحبس عند قوم بربري من قبائل نيامربَّة وكابد يف
سجنه م َّر الشتائم واإلهانات والعذاب لكنه ما برح يعلم ويعظ ويبتهل
إليه سبحانه وتعاىل وإذ يف ذات األيام تبارزت طائفة مع تلك الطائفة
محبوسا عندها فشتتت شملها ومزقتها خرائق وأذهبتها طرائق ً التي كان
وأنزلت فيها البوائق كما هي عادة كل األقوام الوحشية ولو لم يحسب
الكاهن األسري ً
قتيل لكان نابه التعس والويل.
وإذ نجا لم يشأ أن يرجع إىل ورائه بل دخل يف أواسط إفريقية وهو يقيض
مصلحته يف الرسالة والهداية وكانت أيامه زاهرة حني أ ُ ِع ّد مجنو ًنا ،وذلك
ملواظبته عىل تعليم الدين املسبحي واحتمال ما يلم فيه من املشتقات
واإلهانات ،ثم طاف حول تلك األقاليم الرببرية مدة سنتني مستطيلتني
متسلحا برتس تلك القوة اإللهية الفائقة الطبيعية التي كانت تدفعه إليها،ً
ومنذ سنة كان قد أقام عند قبيلة من قبائل نيام نيام املدعوة برافري،
217
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
وعندما انتهى من قصته قال :ال أتأسف عىل ذهاب روحي إىل خالقها
ومخلصها.
فقال له فرغوسن :ال تيأس بعد من الحياة؛ فإننا بالقرب منك وننجيك
بعونه تعاىل من املوت كما نجيناك من آفة العذاب.
فقال الكاهن وهو صابر عىل مصابه :حسبي ما نلت من كرم املوىل،
أصحاب أفاضل
ٍ فليتمجد اسمه تعاىل ألني حظوت قبل موتي بمشاهدة
وسمعت لغة وطني.
ثم عادت قواه إىل ضعفها وقىض النهار بني الرجاء والخوف ،وكان ديك
مرتاع الفؤاد ،ويوسف يمسح من عينيه الدموع عىل انفراد.
وكان مسري املنصورة غري رسيع ،وكأنك بالريح قد أرادت مداراة حملها
النفيس ومالطفته.
وملا أمست قد ملح يوسف يف األفق الغربي ضيا ًء عظي ًما فلو وجدوا يف
عروض أرفع لحسبوه فج ًرا شماليًا؛ إذ تراءت السماء شاعلة نا ًرا فأخذ
َّ
العلمة يف الفحص عنه بتدقيق ،ثم قال إنما هذا هو بركان يقذف النريان.
218
فقال الصياد :ولكن َأل ترى أن الريح تدفعنا إىل ما فوقه.
قال َّ
العلمة :هب أنها دفعتنا إليه فإننا نجوزه يف علو نأمن به من غائلة
نريانه.
جبل بدرجة ً 24ْ 15
طول 42 وعقب مرور ثالث ساعات بلغت املنصورة ً
عرضا وأمامه فوهة الربكان النارية تقذف سيول مواد مذ َّوبة مختلفةً ْ4
األجناس وتدفع منها قطع صخور إىل علو شاهق ومن املجاري النارية
ما كان يشبه السالالت املزبدة بتساقطها من الفوهة إىل أسفل ،فرقب
املسافرون ذاك املشهد البهي ،لكنه كان ذا خطر عظيم ألن الريح ما زالت
تهب مهبها وتدفع املنصورة إىل ذلك الجو املضطرم لهيبًا.
وملا لم يمكنهم تجنب هذا العائق بل لزمهم أن يجوزوه فأرضم َّ
العلمة
حرارة القصبة إىل أن بلغت املنصورة علو ستة آالف قدم وكانت بينهم
ذراع.
وبني الربكان مسافة نحو خمسمائة ٍ
وقد استطاع الكاهن املريض من فراشه أن يرشف عىل ذلك الجبل الناري
ويتأمل املزبدة املدفوعة منه بشدة كسهام ملتهبة.
ثم قال :إنه مشهد بهي فسبحان من ك َّون الكون وأعجب يف خالئقه
الرفيعة والهائلة معًا.
وأما املواد النارية املتدفقة من ذلك الربكان فكانت تنزل متساقطة عىل
ً
فراشا من لهيب النار املتقدة واملتأججة، سفح الجبل ،وتبسط عىل األرض
ويف الليل كنت ترى أسفل القبة مضيئًا من سطوع النريان املتصاعدة
ومعها كانت تتصاعد إىل القبة حرارة شديدة فما تماسك فرغوسن أن
219
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فقبل انتصاف الليل بساعتني من الزمان لم يعد يبني الجبل الناري َّإل
كنقطة حمراء يف األفق وما زالت املنصورة سائرة باألمن والسالم يف طبقة
جوية أقل ارتفاعًا.
220
الفصل الحادي والعرشون
يف موت الكاهن ودفنه والنقر الذهبية واضطراب يوسف يف جمع األموال
وما حصل له من النكاية
221
وكانت ليلة بهية تطرب الخاطر ،فاضطجع الكاهن واهي القوى ،ونام
غائبًا عن حواسه.
فقال يوسف :أواه عىل هذا الشاب الذي لم يبلغ بعد من العمر سوى
ثالثني سنة! ...فإن رقاده ربما هو الرقاد األخري.
العلمة :سينطفئ نور حياته بني أذرعنا ،وقد ضاق تنفسه أكثر مماقال َّ
كان ً
قبل ،ومايل حيلة ألفرجه.
فقال يوسف بغضب وحنق :قبحهم الله أولئك الصعاليك املجرمني الذين
أنزلوا فيه التنكيل ،وترى كيف قد وجد هذا الكاهن املبتئس باعثًا ليشفق
عليهم ويعذرهم ويسامحهم عىل زلتهم وآثامهم!
قال َّ
العلمة :ها قد أوتي من السماء بليلة بهية عساها ليلته األخرية ،ولكن
223
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ال يعود يذوق عذا ًبا شديدًا وال يكون موته َّإل رقادًا رائ ًقا.
العلمة ورأى أن نفسه ضاقثم تلجلج املنازع ببعض كلمات فدنا منه َّ
جدًا والتمس الهواء فسحب له ستار الخيمة واستنشق حينئ ٍذ نسيم تلك
الليلة الشفافة ،حيث النجوم والكواكب ترسل إليه نورها املرتجف والقمر
يحتفه ببياض شعاعه.
فقال بصوت ضعيف :إني متوجه راحل عنكم اآلن يا أصحابي جزاكم
الله عىل جميلكم ،أسأله تعاىل أن يويف عني إحسانكم ويبلغكم مناكم.
وقد أضاء وجهه المعًا كأنه البس أنوار الحياة الجديدة وصاعد إىل األعايل
فرحا وال ملذة ،وذلك يف تلك
بارتفاع عجيب عن الدنيا التي لم يذق فيها ً
الليلة التي كانت تلقي عليه رونقها اللطيف.
ثم منح الربكة لرفقائه الذين لم يوانسهم سوى يوم واحد ،وكانت تلك
224
الربكة حركته األخرية ،وارتمى بعد ذلك بني أذرع الصياد املغرورقة عيناه
بالدموع السخينة.
فأرشف عليه َّ
العلمة وقال :هذه دقيقته األخرية يقيض فيها نحبه ،وللحال
كل عىل حدة بسكوت تام. ركع الرفاق الثالثة سجدًا ليصيل ٌّ
وبعد برهة قال فرغوسن :غدًا عند الصباح ندفنه يف هذه األرايض اإلفريقية
التي سقاها بعرقه ودمه.
ويف تلك الليلة أقام ٌّ
كل من الرفاق الثالثة بحراسة امليت يف األوقات املعينة
لهم ،ولم يتفوه أحد منهم بكلمة ،بل اعتاضوا عن التكلم بذرف الدموع
وصدعة الفؤاد.
وملا أصبحت كان مهب الريح من الجنوب واملنصورة سائرة سريًا بطيئًا
صفصف كائن عىل جب ٍل ،وصادفوا يف طريقهم أفواه براكني مطفأة،
ٍ فوق
وخنادق مزروعة ،واألرض كلها خالية من نقطة ماء واحدة ،وقد اتضح
لدى املسافرين قحل تلك األرايض وجدبها مما شاهدوا من الجالميد
املتفاقم بعضها فوق بعض واألرايض املحورة.
العلمة عىل دفن امليت عند الظهر أراد النزول إىل خندق بنيوملا عزم َّ
صخور ذات كن ٍه أصيل ،ليكون له ذلك الخندق بمنزلة مال ٍذ يؤوي إليه
قبته لئال تصدمها الرياح عند نزولها إىل األرض ،حيث إن تلك الناحية
كانت خالية من أشجار يلقي عليها املرساة ،ولكن لم يعد يمكنهم النزول
َّإل بفقد كمية وافرة من الغاز لسبب إلقائهم أكياس الرمل عند انتشال
الكاهن إىل القبة كما كان أنبأ به َّ
العلمة رفيقه ديك.
225
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ففتح حينئ ٍذ فرغوسن لولب القبة الخارجة ،وإذا باإلدروجن قد أخذ يف
التنقص ،ونزلت املنصورة يف الخندق ً
نزول بطيئًا.
مس القارب أرض الخندق أغلق َّ
العلمة اللولب ،أما يوسف فقفز وعندما َّ
ً
ماسكا بيده الواحدة طرف املركبة ،ويف اليد إىل الخارج ً
حال ومازال
األخرى يلقط من األرض حجارة ويضعها يف املركبة حتى وازت ثقله.
ثم جعل يجمع بيديه االثنتني ويكوم حجارة أخرى إىل أن بلغ وزن ما
رطل ،ولساعته استطاع َّ
العلمة ورفيقه ديك أن ينزال وضعه نحو ثمانني ً
إىل األرض ،ومكثت املنصورة يف موازنة تامة ،وكانت قوتها الصاعدة غري
قادرة عىل رفعها عن األرض يف تلك الحالة.
ّإل أنه لم تلجئهم الرضورة إىل وضع حجارة كثرية ،ألن ما جمعه يوسف
من القطع الصخرية كان ً
ثقيل جدًا ،وحمل فرغوسن عىل أن ينتبه إليه
ثم تطلع يف األرض فكانت مفروشة بالقطع الصخرية الكثرية والجالميد
الربفريية فقال يف نفسه :هذا يشء جديد كشفناه.
ً
محل يصلح لدفن امليت ويف ذلك أما ديك ويوسف فابتعدا ً
قليل ليجدا
أحس املسافرون بحرارة زائدة ألن شمس الظهر كانت ترميهَّ الخندق
بأشعتها امللتهبة عىل الخط املستقيم.
وملا وجدا املحل املناسب رفعا ً
أول نقر الصخور املفروشة وعزقا األرض
وحفرا فيها ثقبًا عمي ًقا ال تستطيع الوحوش الكارسات أن تنبشه وتنال
جثة امليت لتغتذى بها.
ً
خائضا بحر الفكر ،ولم يصخ سمعًا لصوت رفيقيه لكي أما َّ
العلمة فكان
يذهب معهما ويطلب ملجأ يلطي فيه من حرارة الشمس الشديدة.
فصاح ديك ويوسف قائلني بعجب :وياله! ...كيف يرقد يف معدن ذهب؟!
قال َّ
العلمة نعم يف معدن ذهب؛ ألن الحجارة التي ندوسها كأنها بدون
قيمة وال ثمن ،إنما هي معدن ذهب كيل النقاوة.
فبادر يوسف للحال كإنسان فاقد العقل وجعل يجمع تلك القطع املتشتتة،
َّ
بالعلمة يقول ليوسف :كن رائق وكان ديك راغبًا يف أن يحذو حذوه ،وإذا
227
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال يوسف :تكلم ما تشاء يا سيدي! قال :ما هذا وكيف فيلسوف نظريك
....
قال :ألنها تثقل قبتنا ،وقد كنت أرغب يف ّأل أطلعك عىل هذا األمر خشية
أن يجلب عليك األسف والندم.
قال يوسف :وكيف نرحل تاركني هذه الكنوز املذخورة لنا؟! ...نعم هي
لنا ،أيليق ّأل نكرتث بها؟!
لئل تصاب بحمى املال؛ ألم تعلم من قال :احرص عىل ذاتك يا صديقي َّ
امليت الذي دفناه اآلن أن تحتقر أشياء العالم الباطلة؟
قال يوسف :بالحق قلت ،ولكن عىل جميع األحوال هذا ذهب ،وأنت يا
سيدي ديك َأل تساعدني ألجمع ً
قليل من الكرات والربوات الذهبية.
فقال الصياد مبتس ًما :وما الذي نفعل بها هل أتينا نطلب الغنى
والثروة؟ ...فما لنا ولها؟!
قال َّ
العلمة :إن الكرات والربوات ثقيلة وال تودع يف الجيوب بسهولة،
228
فقال حينئ ٍذ يوسف :أفال نستطيع أن نحمل من هذا املعدن ً
بدل من ثقل
الرمل؟
قال َّ
العلمة :ال بأس ،فإني أسمح لك بذلك ،ولكن عىل رشط أنك ال تعبس
خارجا عن املركبة.
ً عندما نلقي ربواتٍ من ذهبك
قال :نعم يا أيها العزيز؛ فإن هذا املكان حوض ك َّومت فيه الطبيعة
كنوزها مذ أجيال ،وهنا ما يغني بالدًا وأصقاعًا بتمامها؛ فإن الكنوز التي
أودعت بطن هذه املفازة القفرة تحاكي كنوز بالد أسرتاليا وكاليفورنيا.
قال يوسف :آهًا لجميع هذه الكنوز! ...ستذهب هد ًرا ال ينتفع بها امر ٌؤ.
قال :إنه من املمكن ّأل ينتفع بها إنسان ،ولكن عىل كل حا ٍل فإني أسيل
عنك الهم والكدر املستحوذين عىل قلبك.
قال يوسف ،وقد الحت عىل وجهه شعائر الندم :لعمري؛ إن ذا أمر عسري.
قال َّ
العلمة :مرادي أن أرسم لك أعال ًما راهنة تدل إىل مركز هذا املكان،
فإذا رجعت إىل األقطار اإلنكليزية أعلمت به رفاقك إذا خيل لك أن األموال
الغزيرة توليهم السعادة والحظوة.
َّ
الحق يف كالمك قال يوسف :دعني من هذا الحديث يا موالي فإني أرى
ومن الواجب عيلَّ الصرب والتحمل ،وأما اآلن فاسمح يل أن أمأل املركبة من
ربحا لنا.
هذا املعدن الثمني ،ومهما بقي عند نهاية السفر يكون ً
229
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
ثم أخذ ينقل الحجارة من األرض إىل املركبة ببهجة الفؤاد ،وما لبث أن
جمع نح ًوا من ألف نقرة من النقر الصخرية املذخور فيها الذهب كفي
صوان ذي صالب ٍة عظيمة.
وكان ينظر إليه َّ
العلمة متبس ًما ،ويف غضون ذلك تطلع عىل مركز مدفن
ً
عرضا شماليًا ثم رمق الكاهن فوجد أنه يف درجة ًْ 22ْ 23
طول و4ْ 55
رمقة أخرية لقرب ذلك الرجل الفرنيس وعاد إىل مركبته.
وقد رغب يف أن يرسم صليبًا من خشب ولو غري متق ٍن ليضعه عىل القرب
وسط تلك القفار لكنه لم يجد شجرة واحدة نابتة يف جوارهم فقال إىل
رفيقه الصياد إن الله عارف بهذا املكان وكفى.
مشغل يف أمر مهم جدًا وهو أنه لكان أكرم بمال ً وكان فكر فرغوسن
ً
تعويضا جزيل من تلك الكنوز الثمينة لو أوتي وقتئ ٍذ بيشء من املاء
لصندوق املاء الذي رماه عند تمسك العبد األسود بالقبة ،ولكن ما الحيلة
وهو مقيم يف تلك املفاوز املاحلة والقفار القاحلة .فأشغل هذا األمر باله
وهيج بلباله؛ إذ إنه مضطر بالرضورة القصوى إىل إرضام نار القصبة
باملاء ،وإذا ما عطشوا فليس عندهم ما يربد غليلهم ،ولهذا عزم أن ال
ً
فرصة تمكنه من تجديد زاد املاء. يفوت
فلما أتى فرغوسن إىل املركبة وجد القطع الصخرية الكثرية التي كان
كومها يوسف الطميع فطلع إليها ولم يقل شيئًا ثم جلس الصياد يف
مكانه وتبعهما يوسف وقد أرشق كنوز الخندق بعني الطمع والحرص.
فأرضم فرغوسن قصبة القبة فتسخن للحال األنبوب الذي عىل شكل
الربغي وأخذ اإلدروجن يف الرسيان ،وامتد الغاز ،أما القبة فلم تتحرك
230
من مكانها.
فناداه َّ
العلمة باسمه.
فقال له َّ
العلمة :أما تسمعني يا يوسف.
فأومأ يوسف باإلشارة داللة عىل كونه سمع صوت فرغوسن ،لكنه لم يشأ
أن يفهم ما يقوله له.
فنظر يوسف حينئ ٍذ إىل الصياد بعني اليأس والقنوط ،أما هذا فابتسم
بسمة من ليس له مقدرة عىل تنفيذ اإلرب.
231
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال فرغوسنَ :أل ترى أن القصبة مشتغلة وأما القبة فهي لن ترتفع إذا
لم تلق شيئًا من األحمال التي ثقلت بها املركبة.
ففرك يوسف أذنه ثم أخذ نقرة صخرية وهي األصغر واألخف ً
ثقل
وجعل يستعربها وينقلها من ي ٍد فكان وزنها نحو ثالثة أو أربعة أرطال
إنكليزية فرماها وهو ينظر إليها بشوق.
قال فرغوسن :لم نزل عىل ما نحن عليه؛ فداوم شغلك يا يوسف.
وكان ديك ينظر إىل يوسف ويضحك ،ثم ألقى يوسف نحو عرشة أرطال
ولم تتحرك القبة ،فعال االصفرار وجهه والحت عليه لوائح الكدر.
قال فرغوسنَ :أل تعلم يا يوسف أن وزن ثالثتنا يبلغ نحو سبعني ً
رطل
ونيف ،فيجب عليك أن تلقي ً
ثقل يضاهي ثقلنا ليمكننا االرتفاع.
فرصخ يوسف بقلب جريح :ال حول وال قوة ّإل بالله ،وكيف ألقي سبعني
ً
رطل؟!
فأخذ يوسف نقرة أخرية بيأس وكدر ودحرجها إىل األرض فارتفعت
قدم ،وجاز املسافرون ذرى ذلك الجبل بمساعدة
املنصورة نحو مائة ٍ
حرارة القصبة.
ً
محافظا عىل مال العلمة :اعلم يا يوسف وفقك الله أنك ال تزالقال َّ
جزيل ،وإذا توقفنا وتمكنا من حفظه إىل النهاية كفاك ألن تكون غنيًا إىل
آخر يوم من عمرك.
فسكت يوسف ولم ينطق بكلمة ،بل تمدد مضطجعًا عىل فراشه املعدني.
فاستتىل فرغوسن كالمه وقال للصياد :أَنظرت يا ديك كيف فعلت قوة هذا
املعدن يف نفس ذات شهامة عجيبة وقلب سليم رائق؛ فكم من الشهوات
واألهواء بل كم من اآلثام لكان يهيجها معدن مثل هذا؟ ...لو شاع خرب
اكتشافه؛ لعمري َّ
إن ذا مما يحرس الكبد ويفجع الفؤاد.
ويف العشية كانت قد تقدمت املنصورة يف الجهة الغربية نحو تسعني ً
ميل
وهي بعيدة حينئ ٍذ عن زنجبار بخط مستقيم ألفا وأربعمائة ميل.
233
الفصل الثاني والعرشون
يف دن ّو املسافرين من الصحراء وليايل خط االستواء وتقلقل زاد املاء وما
صمموا عليه من املقاصد والنوايا
235
فتعلّقت املنصورة يف شجرة قامت منفردة يف أرض قفرة وقد يبست
نص ًفا وقىض املسافرون ليلتهم بأمان وهدوء وذاقوا فيها لذة الوسن؛ إذ
إنهم قد تشوقوا إىل الرقاد ملا أثرت يف فؤادهم االهتمامات التي أدركتهم
يف اليومني السالفني.
ويف الغد عند الصباح عادت السماء إىل صفائها وبزغت الشمس متأللئة
فاورت زناد الحرارة ثم ارتفعت القبة يف الهواء وبعد امتحانات عدة
وجدوا مهبًا خفي ًفا دفعهم إىل شمال الجهة الغربية.
فقال َّ
العلمة :إ َّنا ال نتقدم يا رفاق إىل ما قدام ،وعىل ظني إننا قد جزنا
نصف الطريق يف رحلتنا هذه بربهة عرشة أيام ،ولكن إذا دامت الحال عىل
هذا املنوال من السري البطيء لزمت أيام وشهور لنصل آخر املجال ومما
يزيدنا نكاية عىل نكاية هو أن املاء عندنا سينفد عما قليل.
237
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
قال ديك :األمل أن نجد ماء قبل نفاد ما بقي منه ،ألنه من املستحيل َّأل
ً
جدول أو بحرية يف فسيح هذه الصحراء كلها. نصادف نه ًرا أو
قال َّ
العلمة :هذه رغبتي وغاية مشتهاي.
قال ديك :وهل لم تعوق مسرينا تلك األحمال الباهظة التي ثقل بها
يوسف مركبتنا.
قال هذا قصدًا يف نكاية يوسف من باب املزح؛ إذ إنه قد كاد يصاب بنفس
مصاب رفيقه عند اطالعه عىل تلك النقر الذهبية .ولكن ملا كان قد كظم
شدة حرصه ولم يتظاهر بما انطوى عليه حينئ ٍذ فؤاده اتسم بسمة
إنسان ذي تبرص يف األمور ،وكان يضحك له ًوا وهزءا من رغبة يوسف يف
حشد األموال.
فرماه يوسف بلحظة مؤثرة ،أما فرغوسن فثابر عىل السكوت وأفكاره
موجهة باضطراب رسي نحو مفاوز الصحراء ومسافتها الشاسعة ،فإنه
يف تلك القفار كثريًا ما تنقيض أسابيع جمة وال تجد فيها القوافل بري ما ٍء
لرتوي منها غليل العطش ،ولهذا كان مشددًا حرصه يف مراقبة األرايض
املنخفضة َّ
لعل املاء فيها مجتمع.
فهذه االهتمامات مما جرى لهم من الحوادث السالفة غريت منهم القلب
والجنان ،وقلبت مسامرتهم وأحاديثهم إىل السكوت وخوض بحور
األفكار والهواجس.
أما يوسف الخادم الهادي البال فقد تح َّول من هيئ ٍة إىل هيئ ٍة منذ ما
اطلع عىل تلك الذخرية الثمينة واألموال الجزيلة فالزم الصمت وأخذ
238
بحرص إىل تلك الحجارة املكومة يف املركبة ويتأمل بها كثريًا
ٍ يحدق برصه
ويفتكر يف نفسه ً
قائل :اليوم ال قيمة لها أما بعد فيبني عظم أثمانها.
ً
هائل ،ومما يكبل املرء يف سالسل القلق كان منظر تلك البقاع والفدافد
والهلع ويوهيه يف وهدة الهجس والبلبال إذ أخذت الصحراء يف االمتداد
والتوسع وندر الزرع يف األرض ،ولم يعد يرى لألكواخ من أثر بل بانت
الرمال البيضاء والحجارة املحمرة كجمر النار وبعض األجمات الشائكة
ثم شاهدوا يف تلك املفازة العقيمة سلسلة صخور ذات رؤوس حادَّة عرية
تراب وهيئتها هيئة الصوان ،فانتبه فرغوسن إىل ذلك الجدب ٍ من كل
وفكر فيه كثريًا.
ولم يتيرس لهم أن يروا أث ًرا لقوافل تجرأت عىل خوض بحور تلك القفار؛
إذ لم ير عظما من عظام الناس أو الحيوانات ،وكان البد من بلوغ بح ٍر
كأمواج طامة.
ٍ عظيم من الرمال التي ينقلب بعضها عىل بعض
239
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
من الغاز ،والحال أن القبة كانت تنفق نحو تسعة أقدام مكعبة يف برهة
ساعة من الزمن ،فوالحالة هذه كان معهم ما يكفيهم مشيًا مدة أربع
وخمسني ساعة ال غري ،وقد حسب هذا كله بدقةٍ.
العلمة لرفيقيه :ما بقي لنا غري أربع وخمسني ساعة ،وحيث قد فقال َّ
ً
جدول أو نبعًا أو صممت النية عىل أن ال نميش يف الليل لعلنا نصادف
مستنقع ماء نفوته فيكون عدد األيام الذي يتيرس لنا فيها املسري ثالثة
ونصف وقد اضطررت إىل أن أعلمكما بهذه الحالة املفجعة التي نحن
عليها ،ألنه لم يبق عندنا ّإل القليل من املاء فوضعت شيئًا منه لنربد غليل
عطشنا؛ فمن الواجب علينا منذ اآلن أن ال نبذره وال أسقيكما َّإل عند
اللزوم.
قال الصياد :افعل بنا ما تشاء يا فرغوسن ،ولكن لم نضطر بعد إىل قطع
باق لنا ثالثة أيام ونصف؟
الرجاء؛ ألم تقل أنه ٍ
قال َّ
العلمة :بىل يا عزيزي.
قال :يا ترى ما النفع من األسف والتحرس؛ فما لنا ً
إذا ولهذا الفكر!...
تمض وبعدها نفتكر فيما يلزم عمله ،وأما اآلن فعلينا أنِ دع هذه املدة
نضاعف سهرنا وانتباهنا.
العلمة فرغوسن أن يحايد تلك الحرارة الشديدة وقد كان يف إمكان َّ
بارتفاعه إىل طبقات عالية فلم ُي ِع ْقه عن ذلك سوى قلة املاء ،ألنه لو أراد
الصعود إىل العالء القتىض األمر إنفاق كمية وافية من املاء ،وهذا من
املستحيل فاكتفى بحفظ قبته يف علو مائة قدم عن األرض ،وهناك كانت
تهب ريح خفيفة تدفعها نحو األفق الغربي.
ثم فطروا ً
قليل من اللحم اململح ،وعند الظهر كانت القبة قد سارت بعض
األميال.
فقال َّ
العلمة وقتئذٍ :إننا ال نستطيع أن نميش بأكثر رسع ٍة من هذه؛ فلسنا
نحن اآلمرون بل مأمورون ونطيع بصرب جميل.
شك يف ذلك يا ديك ،ولكن عىل رشط أن هذه اآللة ال تنفق قال َّ
العلمة :ال َّ
ما ًء لتفعل حركتها َّ
وإل فتكون الحالة واحدة؛ فإنه إىل هذا اليوم لم يخرتع
بعد يشء قابل االستعمال ،والقبات الطيارة هي اآلن كما كانت السفن قبل
241
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
اخرتاع البخار ،وقد مكث الناس الخرتاع آالته مدة ستة آالف سنة ،فلنا
والحالة هذه وقت طويل لالنتظار.
فقال يوسف :تبًا لهذه الحرارة القادحة قال وهو يمسح عرقه الجاري
من جبينه قاط ًرا.
قال فرغوسن :لو حوينا املاء لكان لنا فائدة من هذه الحرارة؛ إذ إنها
تبسط اإلدروجن الذي يف القبة وال يتطلب اللولب الذي عىل هيئة الربغي
لهيبا شديدًا؛ نعم إنه لو لم يكن املاء عىل وشك الفروغ ما لزمنا أن نجد
يف توفريها؛ قبح الله العبد الشقي الذي أخرسنا ذاك صندوق املاء الثمني.
كل يا ديك؛ فقد أنقذنا املرسل املبتئس من ميتة شنيعة ،ولكن لو بقي قال َّ
عندنا صندوق املاء الذي رميناه لكفانا مسريًا مدة ثالثة عرش يو ًما ،ويف
هذه املدة ألمكننا أن نجوز القفر كله.
قال فرغوسن إذا اعتربنا ذلك بالنظر إىل املسافة فنكون قد قطعنا نصف
الطريق ،وأما إذا اعتربناه نظ ًرا إىل املدة ومكث الريح يف سكون فال أعلم
أين يكون نصف الطريق ،وأظن أن الريح مائلة إىل العدم.
قال يوسف :دع عنا هذا الحديث وال تتأسف عىل حالنا؛ فقد نجونا يف مدة
سفرنا من كل آفةٍ ،ومهما جرى لنا فإني ما سك بحبل األمل وال تخيب
ثقتي ،بل أقول لكما إننا سنجد ما ًء عند االقتضاء فليطمنئ منكما البال
242
وليذهب عنكما كل هجس وبلبال.
أما األرض فكانت آخذة باالنخفاض من ميل إىل ميل ،والعوج الذي
للجبال كان ينتهي عند الرمال ،فقام هناك الحشيش املتفرق مقام
األشجار الجميلة الكائنة يف الجهة الرشقية ،ومن النباتات ما كان قريبًا
من الغرق يف بحر تلك الرمال ،وصخور كثرية متساقطة من جبال بعيدة
قد تحطمت يف سقوطها ،وتبعثرت حىص مسنونة يف تلك البادية وستذوب
رمل خشنًا ،وبعده تحولها حرارة الشمس إىل حب ناعم للغاية.وتصري ً
قال َّ
العلمة :هاك يا يوسف إفريقية كما كنت تتصورها ،ولذا قلت لك إنه
يلزمك أن تشدد حبل صربك وأناءتك.
قال يوسف :نعم سيدي؛ إن ذا أمر طبيعي حرارة ورمال وهل يليق أن
ً
ضاحكا أعلم أني ما كنت أثق كثريًا تطلب شيئًا آخر يف مكان كهذا ،ثم قال
بغابك وأحراشك ألن يف ذلك تناقص ،وهل يا ترى تحملنا العذاب والشقاء
لنأتي من بالدنا ونجد هنا نضارة أراضينا وبساتيننا؛ فهذه هي املرة
األوىل التي فيها أرى ذاتي مقي ًما يف إفريقية حقيقة ،ويرسني أن أذوق
شيئًا من حالوة مق ّرها.
العلمة أن املنصورة لم تخط عرشين ً
ميل يف ذلك النهار وعند املساء قرر َّ
الشديدة حرارته ،وملا توارت الغزالة يف طي الغسق خيم تلك املفازة ظالم
مدلهم وسخن معًا.
وكان الغد نهار الخميس وهو أول يوم من أيام شهر أيار ،أما األيام فكان
بسياق واحد من شأنه أن يلقي املسافرين يف وهدة ٍ ً
بعضا ييل بعضها
243
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
القنوط واليأس ،وكل صباح يماثل الصباح الذي عرب .وما زالت الشمس
عند الظهر ترميهم بأشعتها القادحة ،والليل يزيد الحرارة ً
ثقل ،والهواء
تنفسا ال نسمة ،وخيل أنه عما قليل سيزول ذلك النفس ً قد أضحى
الطفيف من تلقاء ذاته.
العلمة فرغوسن فأضمر يف قلبه شعائر الكدر تلك التي دهمته من أما َّ
جراء تلك الحالة املفجعة ،وما برح متس ًما بسيما الطمأنينة والرواق
كإنسان محتنك قد تم َّرن عىل اقتحام األخطار وخوض املنايا ،وكان
ضابطا منظرته ويتطلع يف مراكز األفاق كلها عله يصادف ما يهديه إىل ً
منبع ماء؛ فما شاهد َّإل انقطاع اآلكام واألرايض النباتية وانبساطة الرمال
طام ال نهاية له.
كبح ٍر ٍ
ثم هاجمته أفكار املسؤولية التي تحملها عىل عاتقه بسبب اسرتفاقه ديك
ويوسف أعز أصحابه ،اللذان أقادهما بقوة الصحبة أو الخدمة فتالعبت
يف ميدان دماغه جيوش األفكار وأطرق برهة ،وإن لم يظهر عىل نفسه
أدنى ارتباك ،فسأل نفسه هل ترصف حسنًا بإقدامه عىل تلك الرحلة
الجوية؟ وهل لم يسلك طري ًقا محرمة أو لم يحاول يف سفره مجاوزة
حدود االستحالة؟ وهل لم يرتك الباري سبحانه وتعاىل ألجيال متأخرة
معرفة تلك البالد املجهولة؟
فصدمته هذه الظنون وتخللت عقله يف وقت واحد كما يحدث للمرء يف
ساعة ييأس فيها من الخالص ،وإذ لم يستطيع أن يشتت جيوش الهموم
الواثبة عليه قد كاد أن يخرج من حدود الرشد والصواب ،وبعد أن تقرر
يف عقله ما وجب عليه إهماله ً
قبل أخذ يهتم بما يجب عليه فعله ساعتئذٍ،
244
فقال يف نفسه :هل يا ترى هو أمر مستحيل الرجوع إىل الوراء أم هل ليس
ً
محول يف طبقات الجو العالية مجاري رياح قادرة أن تدفعه إىل بالد أقل
وجد ًبا؛ فإنه قد عرف األصقاع التي مر بها ،لكنه جاهل باألماكن التي
يتجه إليها وملا ضايقه ضمريه عزم عىل أن يرشح لرفيقيه واقعة الحال
كما هي بمطلق الحرية ،ففرس لهما األمر جليا ،وذكرهما بما قد تم من
العمل ،وأوضح ما بقي عليهم منه ،وأكد أنهم ،بحرص املعنى ،قادرون
عىل اإلدبار والرجوع إىل الوراء ،وبعد أن فرغ من رشحه التمس منهما أن
يعرضا له رأيهما.
فقال يوسف :ليس يل رأي سوى رأي سيدي ،وما هو مزمع أن يكابده من
املشقة سأكابد أنا ً
أيضا بأكثر جراء ٍة وبسالة منه ،وإىل حيثما سار أسري
أنا ،وإىل حيثما مىض مضيت معه.
فقال َّ
العلمة :وأنت يا ديك.
قال ديك :أما أنا يا خلييل صموئيل فلست بقاطع حبل اآلمال ،ولعمري
قبل أن أقدم معك عىل السفر لم أغفل قط عن أخطاره ومخاوفه ولكني
عزمت عىل ّأل أكرتث بهذه األخطار ،وال أعتربها طاملا رأيتك قاح ًما فيها؛
ونفسا ،وأما رأيي يف الحالة الحارضة فهو أن نداوم رحليناً فأنا لك جس ًما
وتنتهي إىل الغاية ،وأظن أن أخطار الرجوع إىل الوراء تضاهي أخطار
إذا عىل املسري ،وثق بصداقتنا نحن االثنني. التقدم إىل ما قدام فهيّا ً
صاحبي
َّ فتح َّرك قلب فرغوسن من مثل ذلك الكالم ،وقال :عافاكما الله يا
األحقاء؛ فهذا الذي كنت أؤمله من حبكما وتعلّقكما بصداقتي ،وقد
أجداني كالمكما شجاعة وبسالة فأشكر معروفكما وحبكما.
245
الرحلة الجوية في المركبة الهوائية
فعرب ذلك النهار املستطيل ،وهم ينتظرون حركة يف الجو ،فلم يظفروا
بعالمة تلقي يف قلوبهم شعاعًا من األمل ،بل توارت الشمس وراء األفق
وهي ترمي رمل الصحراء بأشعتها النارية.
فأنفق فرغوسن مائة وخمسة وثالثني قد ًما مكعبًا من الغاز إلرضام نار
القصبة ،مع أنهم لم يسريوا سوى نحو خمسة عرش ً
ميل ،وبردوا لهيب
عطشهم بكمية من املاء تبلغ نح ًوا من لرتين.
246
جول فرين:
«جول غابرييل فرين »Jules Verne -عام ( ،)1905 - 1828أديب فرنيس شهري،
ترجمت رواياته وانترشت عىل نطاق واسع خالل فرتة الستينيات ،التي أكدت قيمة
فرين األدبية التي تكمن يف كونه رائد أدب الخيال العلمي الحديث ،خاصة مع صدور
رائعته «من األرض إىل القمر» ( )1865والتي تنبأ فيها بإرسال ثالثة رواد قبل
حصول ذلك فعالً قرابة قرن من الزمن ،كما تحدَّث فرين عن الكهرباء والغواصات
ومخرتعات علمية كثرية طبعت القرن التاسع عرش والتي كان يتنبأ بها ويتو َّقع
ظهورها لخدمة اإلنسانية قبل ظهورها بعرشات السنني.
كتب فرين أوىل رواياته «خمسة أسابيع يف منطاد» (بالفرنسيةCinq semaines en :
،ballonوباإلنجليزية ،)Five Weeks in a Balloon :تضم مغامرات استكشافية
يف إفريقيا قام بها ثالثة إنجليز .وبعد رفضها من أحد النارشين قدَّمها للنارش بيري-
جو الذي بادر بإصدارها عام ،1863فالقت نجاحا ً لم يكن متو َّقعا عند الفرنسيني،
فشكلت يف زمنها تذكرة سفر نحو قارة مجهولة بالنسبة لألوروبيني .لتتواىل بعدها َّ
روايات أخرى منها( :من األرض إىل القمر ،عرشون ألف فرسخ تحت املاء ،الجزيرة
الغامضة ،حول العالم يف ثمانني يوماً…) .تويف جول فرين يف أول القرن الذي تح َّققت
فيه ّ
كل تنبؤاته.
يوسف رسكيس:
الفصل األول
5 يف مقصد َّ
العلمة فرغوسن ووقوع املباحثة عن ُه
الفصل الثاني
11 يف صاحب َّ
العلمة فرغوسن وجدال ُه مع ُه عىل الرتحال ويف ذلك فوائد
الفصل الثالث
23 يف ذكر الرحالت التي عاناها املسافرون يف بطون إفريقية ومفاوزها بقصد االكتشافات
الجديدة
الفصل الرابع
31 يف أهمية الرحلة اإلفريقية
الفصل الخامس
36 يف خادم َّ
العلمة ساموئيل وزنة املسافرين
الفصل السادس
45 يف تفاصيل املركبة الهوائية من القبة والقارب واآللة الرسية وتجهيز حاجات الرحيل
الرضورية
الفصل السابع
53 يف ركوب السفينة وإيضاح القوة التي ترقي القبة الهوائية وتنزلها حسب املراد
الفصل الثامن
61 يف املعنى املتقدم ذكره
الفصل التاسع
71 يف وصول املسافرين إىل زنجبار وارتقاء القبة الهوائية إىل الطبقات العلوية
الفصل العارش
79 يف مرور املسافرين يف بالد عديدة ومبيتهم عىل شجرة الصبَّار فوق جبل دوتومي
الفصل الحادي عرش
89 يف ح َّمى ديك ودوائها ونزوله إىل األرض مع يوسف طلبًا للصيد
الفصل الثاني عرش
99 يف هجوم السعادين عىل القبة الهوائية ووصول املسافرين إىل كازه
الفصل الثالث عرش
113 يف مدينة كازه وسوقها وأوالد القمر وهيئة رقصهم وعبادة قوم تلك البلد ليوسف
وظهور قمرين يف البقعة السماوية
الفصل الرابع عرش
127 يف العاصفة الشديدة والنجاة منها ويف أرض بالد القمر األريضة ومستقبلها
الفصل الخامس عرش
141 يف بحر الخرضة ومصارعة الفيل والعشاء يف الربية واملبيت فيها
الفصل السادس عرش
155 يف ما كان من بحرية أوكاروه ومبيت املسافرين عىل جزيرة قفرة ومشاهدتهم عيون
النيل وإمضاء أندريا ديبنو
الفصل السابع عرش
171 يف الجبل املرتجف وأقوام نيام نيام وما كان من أحاديث العرب عن تلك البالد
الفصل الثامن عرش
181 يف اآلنية السماوية واألشجار السامية االرتفاع واملذبحة الشنيعة التي تخللتها الوسائط
اإللهية
الفصل التاسع عرش
193 يف الغارة الليلية والصوت إيلَّ إيلَّ وبذل االجتهاد يف نجاة املرسل
الفصل العرشون
207 يف املرسل العازاري وانتشال ِه من أيدي الربابرة وسريت ِه وأوجاع ِه األليمة وحسن مداراة
َّ
العلمة فرغوسن ل ُه
الفصل الحادي والعرشون
221 يف موت الكاهن ودفنه النقر الذهبية واضطراب يوسف يف جمع األموال وما حصل له
من النكاية
الفصل الثاني والعرشون
235 يف دنو املسافرين من الصحراء وليايل خط االستواء وتقلقل زاد املاء وما صمموا عليه
من املقاصد والنوايا
صدر من سلسلة كتاب الدوحة