Professional Documents
Culture Documents
91
مجانًا مع العدد ( )134من مج َّلة «الدوحة» -ديسمبر 2018 -
يُوَ َّزع ّ
ترجمة:
رشيد بنحدو
مقدِّ مة
5
الرواية الجديدة والواقع
فبعــد أن كانــت لغــة الســرد ،فــي الروايــة الواقعية الســائدة ،لغة تســجيلية
تقريريــة تنقــل معرفــة الك ّتــاب المباشــرة بالواقــع ،وذلــك بمــا يقتضيه مبدأ
وحرفيــة ،مــن جانــب ،وبمــا يتط َّلبــه الوفــاء بمعياريــة
الصــدق مــن أمانــة َ
اللغــة الفرنســية مــن صيانــة لبنيتهــا التركيبيــة ،الكالســيكية المســكوكة،
مــن جانــب آخــر ،أصبحــت (أعنــي لغــة الســرد) ،فــي الروايــة الجديــدة،
«بيضــاء» ترصــد الواقــع فــي درجتــه الصفــر ،وهــو مــا يفضــي ،حتم ـ ًا،
6
إلــى إعــادة نظــر جذريــة فــي عالقــة الكلمــات بأشــياء العالــم ،حيــث لــم
تعــد عالقــة ارتــداد مــرآوي ،بــل أضحــت عالقــة اســتعالء تباعــدي.
تعاقبيته
َّ أ ّمــا الزمــن الحكائــي ،فــي الروايــة الجديــدة ،فقــد تخ َّلــص مــن
الكرونولوجيــة القياســية فــي الروايــة الواقعيــة ،ليتحــ َّول إلــى ســيرورة
تزامنيــة تتحابــك فيهــا أزمنــة االســتذكار (الماضــي) ،واالستشــراف
التيــار الســريع
(المســتقبل) ،والكتابــة (الحاضــر) .فلــم يعــد الزمــن ذلــك ّ
الــذي يدفــع الحبكــة الروائيــة إلــى األمــام ،بــل أصبــح مثــل مــاء راكــد،
تحــدث تحــت ســطحه تق ُّلبــات وتح ُّلــات بطيئــة .إنــه زمــن الحيــاة
الديماســية للــذوات ،واألصــوات المتناوبــة علــى الســرد.
7
الرواية الجديدة والواقع
8
للقــارئ أشــكا ً
ال جديــدة ومُ لغــزة ،ال يمكــن مقاربتهــا بطرائــق التــذوُّق
ـص بغيــاب ّ
كل تعليــق أو تفســير، والفهــم التقليديــة .ويســتفحل إلغــاز النـ ّ
يتعيــن علــى القــارئ أن يعثــر ،بنفســه ،علــى قانــون اللعبــة الســردية،
بحيــث َّ
وأن يلملــم عناصــر البنيــة الدراميــة المتناثــرة.
9
الرواية الجديدة والواقع
ِّ
الروائييــن الجــدد مــن أجــل أن يعــرف القــارئ العربــي كيفيــة تعاطــي
مهمــة ،انعقــدت ُ
قمــت بترجمــة أشــغال نــدوة علميــة ّ التحــدي،
ّ لذلــك
فــي مسـ ّ
ـتهل ســتينات القــرن الفــارط ،فــي بروكســيل (بلجيــكا) ،حــول
موضــوع «الروايــة الجديــد والواقــع» ،شــارك فيهــا كاتبــان ينتميــان
إلــى «الروايــة الجديــدة» الفرنســية همــا،Alain Robbe-Grillet :
ــم مــا يُعــ َرف فــي
تزع َ
و ،Nathalie Sarrauteوكــذا ناقــد أدبــي ّ
مناهــج النقــد المعاصــر بـ«البنيويــة التكوينيــة» (le structuralisme
،)génétiqueوهــو .Lucien Goldmannوقــد ارتأيــت أن
أضيــف إلــى عــروض الثالثــة ترجم ـ َة بحــث ،أنج َز ْتــه إحــدى تلميــذات
«غولدمــان» ،هــي ُ ،Geneviève Mouillaudتعــ ّرف فيــه بالروايــة
تعريفـ ًا سوســيولوجي ًا؛ مــا يعنــي أنهــا ســتعالج ،أيضـ ًا ،وبالضــرورة ،عالقــة
الروايــة بالواقــع.
10
بــل إن مــن الروائييــن (وهــذا أخطــر) مــن أســاؤوا تقديــر الرهانــات
الجماليــة ،والفكريــة التــي قامــت عليهــا تجربــة الروايــة الجديــدة ،وفــي
مقدمتهــا رهــان التجريــب ،حصر ّيـ ًا .فقــد أمكــن لــي مالحظــة أن بعــض ِّ
قرائيــ ًا ،بنصــوص
ّ َــن لــم يتم َّرســوا،
(خاصــة منهــم م ْ
ّ الروائييــن العــرب
الروائييــن الجــدد ،إنمــا ســمعوا عنهــا ،فقــط ،وهــم كثــر) قــد انبهــروا
بفكــرة التجريــب الســحرية هــذه ،فطفقــوا يجترحــون ،مثلهــم ،تقنيــات
فــي الســرد والوصــف ،وطرائــق فــي التخييــل زعزعــت ،فعــ ً
ا ،ثوابــت
المعيــار الف ّنــي الــذي ك َّرســته ،مث ـ ً
ا ،روايــات نجيــب محفــوظ .لكــن،
مضــن ومســتم ّر،
ٍ عــوض أن يفهمــوا أن رهــان التجريــب هــو بحــث
تحدهــا ضفــاف ،اســتفرد ّ
كل منهــم بتقنيــة أو طريقة، ّ ومغامــرة مفتوحــة ال
أدمــن تنفيذهــا فــي جميــع نصوصــه ،علــى نحــو ،أصبحــت معــه عنوان ـ ًا
ومميــز ًا لــه عــن باقــي الروائييــن اآلخريــن؛ مــا يعنــي ،ال
ِّ خاصـ ًا دا ّل ًا عليــه
ّ
محالــة ،وال غرابــة ،االجتــرار والتكــرار والجمــود.
وألن األد ّلــة علــى مــا أقــول كثيــرة ،وحيــث إن موضــوع هــذا الكتــاب
ِّ
الروائييــن فــي هــو العالقــة مــع الواقــع ،فســأقتصر علــى حــال بعــض
العجــب
المشــرق والمغــرب ،الذيــن يحلــو لهــم أن يزعمــوا ،بمنتهــى ُ
والخيــاء ،أنهــم تأ ّثــروا بموجــة الروايــة الجديــدة فــي فرنســا ،والحــال
أنهــم يظ ّلــون أوفيــاء للحساســية الجماليــة التقليديــة؛ فكــم روائــي عندنــا
يوحــي ،فــي الصفحــات األولــى لروايتــه ،بأنــه ،علــى منــوال الروائييــن
أي شــيء ســيكتب ،بحيــث الجــدد ،ســيكتب مــن غيــر أن يعــرف عــن ّ
تبــدو الكتابــة ،منــذ البدايــة ،مســتنفِدة ذاتهــا فــي سلســلة غيــر متجانســة
مــن التداعيــات الحــ ّرة واالســتيهامات الهوجــاء ذات الصلــة بالزمــن
ـي مــا،
الداخلــي! لكنــه ،وفــي مــا يشــبه حركــة تكفيــر عــن ذنــب أو غـ ّ
ســرعان مــا ينكفــئ إلــى حمــأة الواقــع المعيــش لينصــت إلــى أصدائــه
الهــادرة فــي وجدانــه ،تســتح ّثه علــى أن ي ّتخــذ ،بالكتابــة وفــي الكتابــة،
11
الرواية الجديدة والواقع
ـي ،Sarraute
وإذا كان ،Goldmannوهــو بصــدد مناقشــة مداخل َتـ ْ
مهم َت ْيــن تســاعدان
ـد َّ
و ،Robbe-Grilletقــد اعتبرهمــا «وثيقتيــن جـ ّ
علــى فهــم األدب المعاصــر» ،وتوضحــان مــا يكتنــف إشــكالية عالقــة
الروايــة بالواقــع ،مــن تعقُّ ــد وغمــوض ،فإننــي ،مــن جهتــي ،أعتبــر
مجمــوع المداخــات وثيقــة أساســية ،يمكــن أن يســتفيد منهــا ّ
كل
وإن فــي ارتباطهــا بالواقــع؛ ذلــك
ــد ذاتهــاْ ،
إن فــي َح ّ
مهتــم بالروايــةْ ،
ّ
ـي
قطب ْيــن كبي َر ْيــن ينتميــان إلــى الحقــل نفســه المعنـ ّ
أنهــا تشــمل شــهادة َ
12
خاصــة .كمــا تشــمل اعترافـ ًا
ّ بالمســاءلة؛ أي الروايــة ،والروايــة الجديــدة
ضمنيـ ًا بمشــروعية «الروايــة الجديــدة « ،خصوصـ ًا وأن هــذا االعتــراف
لمــدة طويلــة ،بمناهضتــه
ّ تميــز،
صــادر عــن محفــل فكــري وفلســفيَّ ،
لـ ّ
ـكل كتابــة متجــاوزة ومخلخلــة للعرفــي والمتــوارث؛ أال وهــو محفــل
ِّ
الماديــة التاريخيــة ،التــي تح َّولــت ،علــى أيــدي بعــض التبســيطيين
كل مشــروع مغايــر يبحــث عــن واالختزالييــن ،إلــى لعنــة قدريــة تطــارد ّ
كينونــة إبداعيــة خــارج اإلجمــاع الدوكســولوجي .ويتع َّلــق األمــر هنــا،
طبع ـ ًا ،بـــ ،Goldmanالفيلســوف والناقــد األدبــي الماركســي ،وكــذا
ِّ
الماديــة ببعــض تالمذتــه األوفيــاء المعروفيــن بســعيهم إلــى تخليــص
ومدهــا
التاريخيــة ،كنقــد ميكانيكــي ودوغمائــي ،مــن عنــق الزجاجــةّ ،
بمــا ِ ّ
يؤهلهــا لفتــح حــوار ب ّنــاء مــع مــا اع ُتبــر ،إلــى حيــن ،تحريفي ًا وســلبي ًا.
ترصــد النصــوص األربعــة المؤ ِ ّلفــة لهــذا الكتــاب ،إذن ،الروايــة عا ّمــة،
خاصــة ،فــي ارتباطهــا بالواقــع ،مثيــر ًة جملــة
ّ والروايــة الفرنســية الجديــدة
مــن األســئلة اإلشــكالية ،مــن بينهــا:
13
الرواية الجديدة والواقع
مضــاد
ّ التناقــض الضمنــي األزلــي بيــن وعــي ممتثــل وثابــت ،وآخــر
ومتحــ ِ ّول.
14
ناتالي ساروت
)Nathalie Sarraute (1900-1999
-نحو ُّ
تفكك الشخصية الروائية
ضد التقليد
-صراع تقليدي ّ
الكتابة الروائية بحث دائم
كثيــر ًا مــا يتســاءل النــاس ،اليــوم :مــا هــذه الروايــة الجديــدة ،بالــذات؟
ولعـ َّ
ـل الذيــن قــرأوا إنتاجاتنــا الروائيــة قــد الحظــوا أن هنــاك اختالفـ ًا فــي
ـم ،يتســاءلون عــن حقيقــة مــا يجمعنــا.
تجاربنــا ،ومــن َثـ َّ
أعتقــد أن تصــ ُّور ًا مــا ،لــأدب ،هــو مــا يجمعنــا ،وأن هــذا التصــ ُّور
ال ،مــن مبــدأ أساســي ،هــو أننــا نؤمــن بــأن األدب،المشــترك ينبــع ،أ َّو ً
كســائر الفنــون ،ينبغــي أن يرتكــز علــى بحــث (.)recherche
وأن يكــون األدب بحثــ ًا ،فهــذا األمــر يبــدو بديهيــ ًا ،بــل أعتقــد أنــه
17
الرواية الجديدة والواقع
ـد بديهــي ،لدرجــة أنــه يبــدو لــي ،وأنــا أقــول هــذا ،أننــي أقـ ّر حقيقــة،
جـ ّ
لــم تعــد فــي حاجــة إلــى إقــرار.
والرســامين
ّ ولكــن كلمــة «بحــث» ،وهــي فــي قواميــس الموســيقيين
عاد ّيــة ،بشــكل نغبطهــم عليــه ،ماتــزال تغيــظ بعــض النــاس ،حيــن يتع َّلــق
األمــر بالروايــة ،إذ يبــدو أن لهــذه الكلمــة مظهــر ًا متك ّلفـ ًا وذهنيـ ًا وإراديـ ًا
ولعــل هــذا راجــع إلــى تلــك الصــورة َّ ال يناســب الكاتــب الروائــي؛
ِّ
يقــدم بهــا بعــض المشــينة التــي يك ِ ّرســها بعــض النقّ ــاد ،بــل التــي
الروائييــن أنفســهم للقــ ّراء؛ وهــي أن الكاتــب الروائــي مخلــوق تح ِ ّركــه
خفــي ،اليــدري أيــن يســير ،وال يعــرف
ّ بوحــي
ٍ قــوى غامضــة ،يكتــب
كنــه مــا يفعــل ،هــو مخلــوق يكتــب مثلمــا تغـ ِ ّرد العصافيــر ،بــل أ كثــر مــن
ـي يجتــرح المعجــزات.
ذلــك ،هــو خالــق عوالــم اســتثنائية ،ونبـ ٌّ
أعتقــد أنــه قــد حــان وقــت نبــذ مثــل هــذه المواقــف الرومانســية .ولعــل
هــذا مــا يب ـ ِ ّرر حــرص روائييــن كبــار مثــل Henry Jamesو Virgina
Woolfو ...Macel Proustعلــى كتابــة ِ ّ
مقدمــات طويلــة لرواياتهــم،
يعرضــون فيهــا آراءهــم فــي األدب ،ويشــرحون فيهــا معاناتهــم فــي
الكتابــة الروائيــة.
18
واقع الناس وواقع الروائي
أعــرف أنكــم ســتقاطعوني بخصــوص هــذه النقطــة .ســيقاطعني
تتحدثــون؟ مــا هــو الواقــع ،فــي
َّ الفالســفة قائليــن :عــن ّ
أي واقــع
تص ُّوركــم؟ لســت فيلســوفة ،كمــا قلــت لكــم؛ لذلــك ،ســأ كون حــذرةً،
بحيــث لــن أغامــر بنفســي فــي مجالهــم .أمــا فــي مجالــي أنــا( ،مجــال
ـد واضــح ،وهــي ذات الكتابــة الروائيــة) فكلمــة «واقــع» تعنــي شــيئ ًا جـ ّ
داللــة صريحــة لــدى ّ
كل كاتــب روائــي.
هــذا الواقــع ليــس ،أبــد ًا ،واقــع الكاتــب الروائــي ،فهــو مج ـ َّرد مظهــر
يوهــم بالواقــع .الواقــع ،بالنســبة إلــى الروائــي ،هــو المجهــول والالمرئــي،
هــو مــا رآه بمفــرده ،ومــا يبــدو لــه أنــه أوَّل مــن يســتطيع رصــده .الواقــع
19
الرواية الجديدة والواقع
مــا هــو ،إذن ،هــذا الواقــع ،الــذي ينافــي الواقــع المباشــر والمبتــذل
والمكشــوف ،الواقــع المعــروف والمــدروس الــذي يمكــن ّ
ألي أحــد أن
يدركــه ،فــور ًا؟ يتشـ َّ
ـكل الواقــع ،لدينــا مــن عناصــر متناثــرة فــي فضــاء
العــدم ،نحزرهــا ،ونحدســها بشــكل غامــض ،عناصــر ذات تشــابك معقَّ ــد
وســديمي ،ال تنبــض بالحيــاة ،فــي كتلــة االفتراضــات واالحتمــاالت
الالمتناهيــة ..هــي تائهــة ،ووراء حجــب المرئــي والمبتــذل واال ِ ّتفاقــي
هــي كامنــة.
ـص األدبــي الــذي يكشــف وبقــدر مــا يكــون الواقــع جديــد ًا ،يكــون النـ ّ
ّ
شــاذ وغيــر مألــوف ،مثلمــا يكــون ذا تأثيــر عــن هذاالواقــع ،ذا شــكل
عميــق يســمح بهتــك ذلــك الســتار الســميك ،الــذي يقــي طرائــق إدراكنــا
كل أنــواع التشــويش واالنحــراف.وإحساســنا مــن ّ
َّ
يتشــكل مــن تلــك الرؤيــة الخادعــة التــي توهــم هــذا الســتار الواقــي
بالواقــع ،ومــن مجمــوع الكليشــيهات اال ِ ّتفاقيــة والصــور الجاهــزة التــي
َتحــول ،فــي ّ
أي وقــت ،بيــن القــارئ والواقــع الجديــد الــذي يكشــف
ـص ،مثلمــا تحــول بيــن الكاتــب والواقــع الــذي يريــد أن يكشــف
عنــه النـ ّ
عنــه.
هــذه الكتلــة مــن الكليشــيهات الجاهــزة ،والصــور الم َّتفَ ــق عليهــا،
واإلحساســات المتبذلــة ..هــي مــا يصــدم آذاننــا وأعيننــا فــي ّ
كل
20
مــكان ،هــي مــا ترشــح بــه سلســلة مــن األغانــي واألشــرطة الســينمائية
واإلعالنــات التجاريــة والصحافــة ،واإلذاعــة ،واألحاديــث والثرثــرات،
والمعــارف الســيكولوجية االبتدائيــة التــي نكتســبها مــن قراءتنــا للكتــب
التبســيطية والمؤلّفــات الرخيصــة.
ممــا تختزنــه أذهــان النــاس مــن روائــع ـكل ،أيض ـ ًاّ ،هــذه الكتلــة تتشـ َّ
ـكلالماضــي الخالــدة ،كمــا فهموهــا ،أو كمــا أفهمــت لهــم ،ســابق ًا ..تتشـ َّ
يترســب فــي ذاكراتهــم مــن هــذه الروائــع ،بعــد أن انقطعــت صلتهــم
َّ ممــا
بهــا مــن زمــن بعيــد :بضــع شــخصيات مســطّ حة ،مشــاهد باهتــة ،انطبــاع
ـام يتــاءم والــذوق االعتيــادي الســائد.
عـ ّ
إن الواقــع المبتــذل (واقــع القــارئ وواقــع الكاتــب) هــو صــورة للعالــم،
ّ
وكل اآلثــار التــي تكــ ّون التجربــة ِّ
يقدمهــا لنــا رصيــد معارفنــا وثقافتنــا
ّ
لــكل واحــد منــا ،صــورة معروفــة وتافهــة األدبيــة ،والفلســفية ،والف ّن ّيــة
ّ
للمجتمــع وللطبيعــة وللعالقــات االجتماعيــة ،كمــا تصوغهــا آراؤنــا
المســبقة والجاهــزة عــن علــم النفــس واألخــاق ،والميتافيزيقــا ،والشــعر،
وعمــا ا ّتفــق،
ّ عمــا اعتدنــا اعتبــاره كذلــك، والجمــال ،أو ،علــى األقـ ّ
ـلّ ،
خاصــة فــي مجــال األدب.
ّ فــي فتــرة مــا ،علــى اعتبــاره كذلــك،
ـكل مــن هــذه المجموعــة مــن المفاهيــم هــذا الواقــع العــادي ،المتشـ ِ ّ
كل واحــد منــا للعالــم ،يصمــد ،بعنــف ،أمــام الواقــعالتــي تصــوغ رؤيــة ّ
كل قوانــا لــردع ال ،بــل إننــا نكـ ِ ّرس ّخفيـ ًا ومجهــو ً
ّ الجديــد الــذي يبقــى
هــذا الواقــع الجديــد ،باعتبــاره جســم ًا غريب ـ ًا ومزعج ـ ًا ،وربَّمــا ،ضــا ّر ًا،
يذكــر بالجرثومــة يعكــر واقعنــا المألــوف والمريــح حيــث نعيــش ،جســم ًا ِ ّ ِّ
التــي يحاصرهــا عــدد ال يحصــى مــن الكريّــات البيضــاء بمجــ َّرد أن
تتس ـ َّرب إلــى جســد اإلنســان .أحيان ـ ًا ،يســتعين الروائــي بواقــع عــادي،
مهمتــه الكشــف عــن واقــع جديــد ،أو هــو يســتهدف واقعـ ًا جديــد ًا
تكــون َّ
21
الرواية الجديدة والواقع
مــن خــال رصــده للواقــع العــادي .حينئــذ ،يكــون هــذا الواقــع العــادي
هــو مــا يلتقطــه الق ـ ّراء وأغلــب النقّ ــاد .إنــه واقــع يخفــي ،فــي رأيهــم،
واقع ـ ًا جديــد ًا.
وحيــن تكشــف الروايــة عــن واقــع جديــد ،فــإن هــؤالء القـ ّراء والنقّ ــاد
ينزعــون إلــى اختزالــه وإدماجــه ضمــن أنســاق أصبحــت معروفــة ،باحثيــن
لــه عــن نمــاذج وأنمــاط تماثلــه ،إنهــم ،بذلــك ،يشــ ّلون هــذا الواقــع
الجديــد ،ويمســخونه بواســطة مــا تفــرزه ذكرياتهــم وتص ُّوراتهــم المبتســرة
مــن عصــارة مبتذلــة ،ثــم يســتهلكونه ،دبق ـ ًا ،مخنوق ـ ًا ،ال نبــض فيــه.
ـص الجديــد ،ذلــك الــذي ينبــض بواقــع جديد، كيــف يمكــن ،إذن ،للنـ ّ
أن يقهــر مــا يبديــه هــؤالء القـ ّراء والنقّ ــاد مــن مقاومــة ورفــض لواقــع يشـ ّ
ـذ
عــن المألوف؟
ّ
ظــل بــكل بســاطة ،يمكنــه ذلــك باإلمعــان فــي البحــث عــن واقــع
النــص مــن ولــوج
ّ ال حتــى اآلن ،وهــذا البحــث ،الــذي يمنــعمجهــو ً
دائــرة إدراك القــارئ ،وتذوُّقــه ،بطريقــة مباشــرة وفوريــة هــو ،بالــذات،
مــا ســيمنح لهــذا القــارئ قــوة االنتصــار علــى ّ
كل مقاوماتــه للواقــع
الجديــد ،إمّــا بواســطة تعــ ُّوده المثابــر عليــه ،أو عــن طريــق اقتحامــه
بالعنــف.
22
جدلية الواقع الجديد والتجريب
مــادة جديــدة
ّ ّ
يحــث الروائــي علــى اســتغالل هــذا البحــث ،الــذي
ومجهولــة وذات صمــود أمامــه ،هــو مــا يثيــر فضولــه وانفعالــه ،ويغريــه
كل األعــراف بالتجريــب .إنــه يرغمــه علــى أن يرفــض ،باســتمرارّ ،
المــادة الجديــدة،
ّ والمعاييــر والطرائــق التــي تحــول بينــه وبيــن هــذه
مانعــ ًة إيّــاه مــن إدراك كنههــا.
إن البحــث ِ ّ
يحفــز الكاتــب الروائــي إلــى تجــاوز األشــكال المســتهلكة
حيــة ،كمــا
والعقيمــة ،وإلــى تجريــب أدوات جديــدة وخلــق أشــكال ّ
المجانيــة والالمســؤولية ،ومــن اســتنفاد الجهــد
ّ يمنعــه مــن العمــل وســط
توخــي «أشــكال جميلــة» ،أي أشــكال ت َّتفــق مــع مقاييــس جماليــة فــي ّ
فاعليــة تلــك
ّ الفاعليــة وحدهــا:
ّ مقـ َّررة ســلف ًا .إنــه يســتح ّثه علــى التمــاس
الحركــة التــي ،بواســطتها ،ينكشــف الواقــع الخفــي ،ويتشـ َّ
ـكل.
23
الرواية الجديدة والواقع
الفاعليــة هــذا ،هــو مــا َضمِ ــن لكبــار روّاد الواقــع الخفــي
ّ التِمــاس
ـد ًة ومباشــرةً ،كمــا ضمــن لهــم أقــرب
وحـ ّ ّ
أدق األســاليب وأكثرهــا أصالـ ًة ِ
الســبل وأنجــع التقنيــات لتجليــة هــذا الواقــع الخفــي ،الــذي كانــوا
يهمهــم ،أساسـ ًا ،هــو موضــوع
يطمحــون إلــى إعــادة خلقــه ،ألن مــا كان ّ
ّ
بأقــل األدوات. البحــث الــذي كانــوا يجهــدون أنفســهم فــي تجليتــه،
وهكــذا ،بقــدر مــا يكــون البحــث عســير ًا ،يكــون الواقــع الــذي
يستكشــفه الكاتــب جديــد ًا ،ويكــون شــكله جديــد ًا كذلــك ،وبقــدر مــا
يكــون الواقــع باهتـ ًا ومبتــذ ً
ال وســطحي ًا ،يكــون الشــكل ،أيضـ ًا ،مســطّ ح ًا
ومبتــذ ً
ال وباهتــ ًا.
ِّ
روائيــي القــرن الماضــي ،مــن ســعي موفَّــق إن مــا برهــن عنــه كبــار
وجــرأة وحيويــة وقـ ّوة مواجهـ ٍة ،هــو ،بالــذات ،مــا يكفــل خلــود أعمالهم،
ألن أعمالهــم ،حتــى حينمــا يتحـ َّول الواقــع الجديــد ،الــذي كشــفوا عنــه،
بالفاعليــة والدقّ ــة وقــ ّوة تأثيــر األســلوب
ّ إلــى واقــع مبتــذل ،تحتفــظ
وصرامــة البنــاء التــي اقتضاهــا الجهــد المنجــز ،مــن أجــل الكشــف عــن
واقــع مجهــول وإعــادة خلقــه.
هــذا االنتقــال الدائــم مــن المعلــوم إلــى المجهــول ،مــن المرئــي إلــى
الخفــي ،يجعــل األدب ،كســائر الفنــون ،فــي حالــة تحـ ُّول مســتم ّر .لكــن
الغريــب أن هــذه الفكــرة ،رغــم بســاطتها وبداهتهــا ،تغيــظ معظــم النقّ ــاد،
بحيــث ال يكفّ ــون عــن الســؤال« :مــا تخريفاتكــم هــذه عــن البحــث
تتحدثــون؟»( .قلــت لكــم ،قبــل
َّ والتجريــب؟ ومــا هــذه اللغــة التــي بهــا
قليــل ،إن لغتنــا ال تروقهــم!)
24
إنهــم يعتقــدون أن «األدب هــو العالــم ،منظــور ًا إليــه مــن خــال مــزاج
عــدة «أمزجــة» متناثــرة عبــر
معيــن» ،قاصديــن بذلــك إلــى أن هنــاك ّ
َّ
مســيرة األدب« ،أمزجــة» تعايــن ،بالطريقــة نفســها ،الواقــع الثابــت
ـمّ ِ ،
تعبــر عنــه بالكيفيــة نفســها. نفســه ،ومــن َثـ َّ
إننــا كثيــر ًا مــا نســمع بعــض النقّ ــاد والقـ ّراء يه ِ ّنئــون أنفســهم بكــون هــذه
ـجلت بــزوغ كاتــب موهــوب ،لــه حـ ّ
ـظ التوفُّ ــر علــى الســنة أو تلــك قــد سـ َّ
ـم ،هــو
مــزاج ،Benjamin Constantأو ،Stendhalأو غيرهمــا ،ومــن َثـ َّ
يمتلــك رؤيــة للعالــم تماثــل رؤيتهــم لــه ،ويكتــب روايــات تشــبه رواياتهــم!.
إن ّ
كل روائــي ،حيــن يشــرع فــي الكتابــة ،ينطلــق مــن هــذا الواقــع
معينــة ،والــذي تصوغــه إســهامات الروائييــن الذيــن
المعــروف فــي فتــرة َّ
ســبقوه؛ وألجــل ذلــك ،هــو ال يحتــاج إلــى قــراءة ّ
كل الروايــات ،ألن الواقع
الــذي يكتنفــه يمــور باألحــداث التــي تص ِ ّورهــا هــذه الروايــات .وكمــا
قــال ،يومـ ًا ،أحــد ُ
الك ّتــاب الشــباب ،فــي نــدوة شــاركت فيهــا« :لنصــارح
أي واحــد م ّنــا لــم يقــرأ ،Joyceلكنــه َأ ّثــر فينــا جميع ـ ًا!».
أنفســنا :إن ّ
تغيــر علــى
وهكــذا ،حيــن بدأنــا نكتــب ،كان الواقــع الــذي نعــرف قــد َّ
أيــدي ُ
الك ّتــاب الذيــن ســبقونا.
25
الرواية الجديدة والواقع
26
التقليــد الروائــي الصــرف الــذي أصبــح يم ِ ّثلــه بطــل الروايــة ،بحيــث أن
ـكك ،لدرجــة أنهــاالشــخصية الروائيــة بــدأت ،تدريجي ـ ًا ،تتق َّلــص وتتفـ َّ
ـادة الجديــدة التــي
هشــة وغيــر ثابتــة للمـ ّ ـكل إال دعامــة ّأضحــت ال تشـ ِ ّ
ـادة الجديــدة بلغــت درجــة كل جانــب .بــل إن هــذه المـ ّتطفــح بهــا مــن ّ
مــن التعقيــد ،بحيــث أصبــح بطــل الروايــة التقليديــة عاجــز ًا عــن احتوائها
داخــل حــدوده المرســومة بصرامــة ودقّ ــة .وإذا كان بعــض ُ
الك ّتــاب مــا
يزالــون ،اليــوم ،يعتمــدون ،فــي رواياتهــم ،علــى الشــخصية ،فليــس ذلــك
إ ّلا باعتبارهــا دعام ـ ًة تمليهــا الصدفــة ،أو عنصــر ًا يوهــم بالواقــع.
ـجل الرســم مثــل هــذا التحـ ُّول الــذي عرفــه األدب ،حيــث اقتنــع
لقــد سـ َّ
ـادة التشــكيلية
الف ّنانــون بضــرورة إهمــال الــذات مــن أجــل اســتجالء المـ ّ
مهــدت لــه،
فــي حالتهــا الخالصــة الناصعــة .غيــر أن هــذا التحـ ُّول ،الــذي َّ
الك ّتــاب الذيــن ذكــرت أســماءهم ،لــم يحـ َ
ـظ فــي مجــال األدب ،روايــات ُ
باعتــراف النقّ ــاد وقبــول القـ ّراء الذيــن مايزالون ،فــي أغلبيتهــم ،يحكمون
علــى الروايــات وفــق مقاييــس مســتهلكة ،ومبتذلــة ،محتكميــن ،بغبــاء،
الحيــة» العتيــق ،وكأن عجلــة التطـ ُّور قــد توقّ فــت!
ّ إلــى مبــدأ «الشــخصية
إن حكــم بعــض القــراء أو النقّ ــاد علــى شــخصية روائيــة مــا بأنهــا
27
الرواية الجديدة والواقع
ِّ
وتفكــر وتتك َّلــم وفق ـ ًا «حيــة» يرجــع ،باألســاس ،إلــى كونهــا تتص ـ َّرف
ّ
للطريقــة التــي يــرون بهــا (أو يعتقــدون أنهــم يــرون بها) مجمــوع النماذج
ّ
وتفكــر وتتك َّلــم ،نمــاذج يســهل التعـ ُّرف البشــرية المحيطــة بهــم تتصـ َّرف
ترددهــا فــي نــوع مــن األدب ،بــل حتــى فــي بعــض الروائــع
إليهــا لكثــرة ُّ
المنتميــة إلــى الماضــي ،بــل إن حكــم هــؤالء علــى شــخصية مــا بأنهــا
كل واحــد حيــة مق ّلــدة وا ِ ّتفاقيــة) يختلــف بحســب مقاييــس ّ
حيــة (وهــي ّ
ّ
حيــة .أمّــا بالنســبة
شــخصياته الروائيــة ّ
ّ منهــم .فقــ ّراء Dellyيجــدون
إلــى المعجبيــن بـــ ،Georges Ohnetفليســت هنــاك شــخصية تنبــض
بالحيــاة أ كثــر مــن شــخصية السـ ِ ّـيد .!de Forges
ال ،إننــي أعتقــد أن الحيــاة التــي تســتحقّ أن يكتــب عنهــا ،هــي ،بــدون
منــازع ،حيــاة الواقــع الجديــد ،حيــاة جانــب مجهــول مــن العالــم ،يمكــن
للقــارئ أن يكتشــفه بــدوره ،وذلــك بفضــل مجهــود يخ ِ ّلصــه مــن جميــع
طرائــق الرؤيــة واإلحســاس الم َّتفــق عليهــا ،ومــن ّ
كل األوهــام التــي بهــا
يطفــح وعيــه.
ـادة
إن هــذا الموقــف الحديــث ،الــذي يقضــي بتركيــز البحــث علــى مـ ّ
مجهولــة ،ال علــى الشــخصية ،كان ،بالق ـ ّوة ،موقــف كبــار ُك ّتــاب بدايــة
هــذا القــرن ،بحيــث إن هاجــس ّ
كل مــن ،Proustو ،Joyceو ،Kafka
كان الكشــف عــن واقــع جديــد ،وليــس خلــق نمــاذج جديــدة مرصــودة
لمنافســة الحالــة المدنيــة ،مثــل أبطــال الروايــة البلزاكيــة.
28
29
الرواية الجديدة والواقع
ٌ
ــارات كانــت لكــن العكــس هــو مــا حــدث ،إذا عطّ لــت التحــ َّو َل ّ
تي
تعمــل فــي ا ِ ّتجــاه معاكــس ،فخمــدت الثــورة الرائعــة التــي اجتاحــت
الروايــة ،فبعــد الحــرب ،ارتــادت الروايــة آفاقـ ًا أخــرى ،وأنتــم تعرفــون أن
الســنوات التــي تلــت الحــرب شــهدت ســيادة مطلقــة لــأدب الســلوكي،
يســمى ،فــي الواليــات الم َّتحــدة األميركيــة« ،البيهافيوريــة».
ّ أي مــا
30
التع ُّلــق بمثــل هــذه التجــارب.
وقيــل ،أيض ـ ًا ،إن اإلنســان ،فــي الواقــع ،تكشــف عنــه أفعالــه كام ـ ً
ا
غيــر مجـ َّزء ،وإن هــذه األفعــال ،وهــي غريبــة وغيــر مألوفــة ،فــي الغالــب،
كل الكلمــاتتعكــس ،بمفردهــا ،الواقــع الجديــد ،بــل هــي أقــدر مــن ّ
علــى التعبيــر عــن هــذا الواقــع ،مهمــا يكــن معقَّ ــد ًا ،وإن علــى القــارئ أن
يستكشــف جوانــب هــذا الواقــع بواســطة مــا يختزنــه ال وعيــه مــن ذخائــر.
كل هــذه المواقــف كانــت تجــازف بمصيــر الروايــة .فهــي ،وإن أدت،
فــي أقـ ّ
ـل األحــوال ،إلــى نتائــج مقبولــة ،قــد جعلــت القــارئ ،فــي أغلبها،
الســيما أن وعــي
ّ يجهــد نفســه فــي مــلء فــراغ الشــخصيات الروائيــة،
القــارئ لــم يكــن يلتقــط عــن هــذه الشــخصيات ،وهــي تتصـ َّرف ،ســوى
انطباعــات بســيطة.
كان القــارئ ،إذن ،يمــأ فــراغ الشــخصيات بواســطة مــا يتو َّفــر عليــه
مــن وســائل ،تلــك التــي بســطتها أمامكــم ،قبــل قليــل ،فــكان ،بطريقــة
مــا ،يؤ ِ ّثــث ذلــك الفــراغ بمــا تك َّونــت لديــه مــن معــارف ســيكولوجية
رخيصــة ،ومــن تصـ ُّورات مبتســرة وإحساســات مبتذلــة ،كمــا كان يصطنــع
نمــاذج ،تح ِ ّركهــا عواطــف فــي منتهــى التبســيط.
ِّ
روائيــي بدايــة القــرن ،ثــم كانــت موجــة األدب الملتــزم. تجــارب كبــار
وأنتــم تعرفــون ســبب احتقــار أنصــار هــذا األدب للبحــث عــن واقــع
ـادة روائيــة جديــدة؛ فهــم يعتقــدون أن هــذا البحــث يفضي جديــد ،عــن مـ ّ
ـادة مجهولــة ،ومتماثلــة عنــد الجميــع ،وأنــه ال يقيــم وزنـ ًا
إلــى اكتشــاف مـ ّ
ـدم المجتمعــي ،وأن
للمواقــف والفــوارق الطبقيــة ،وأنــه يســيء إلــى التقـ ُّ
31
الرواية الجديدة والواقع
ّ
كل أدب يســتند إلــى بحــث ،هــو أدب يكتبــه بورجوازيــون ،ويخاطــب
بورجوازييــن ،وأن المطلــوب أدب يصــف الصراعــات االجتماعيــة،
ويص ـ ِ ّور اإلنســان ملتزم ـ ًا ومنخرط ـ ًا فــي الفعــل االجتماعــي.
هكــذا ،فــإن األدب الملتــزم ،عجــز ًا منــه عــن تحقيــق كال الهدفيــن،
وفض َ
ــل تربيــة َّ قــد اختــار األخــاق علــى حســاب الواقــع المجهــول،
ـكلـي هــو ،أساسـ ًا ،يشـ ّ
الجماهيــر ،وتثقيفهــا علــى استكشــاف عالــم خفـ ّ
جوهــر األدب ووظيفتــه.
ومهمــا تكــن مثــل هــذه النوايــا قابلــة للتأويــل ،فإنهــا كانــت تعنــي
المخاطــرة بتــرك الغنيمــة والتع ُّلــق بالطيــف .والطيــف ،هنــا ،ليــس ســوى
تلــك الشــخصية الروائيــة العتيقــة التــي ال تتوانــى فــي االســتجابة ألوَّل
نــداء ،مســتعيد ًة مكانهــا ،ومســترجع ًة امتيازاتهــا ..بــل الطيــف ،هنــا ،هــو
نمــط مــن الشــخصيات تنعــدم فيــه أبســط مســتويات الدقّ ــة والتعقيــد
اللذيــن يَسِ ــمان شــخصيات الروايــات التقليديــة ،بحيــث ســاد الروايــات
أبطـ ٌ
ـال إيجابيــون أو ســلبيون ،لــم يكونــوا ،فــي الغالــب ،ســوى صــورة لـــ
،Epinalأو تمثــال مــن متحــف .!Grèvin
يؤطــر هــؤالء األبطــال ،ويمنحهــم نوعــ ًا مــن أمّــا الشــكل الــذي كان ِ ّ
الحيــاة ،فهــو أكثــر األشــكال مباشــر ًة وبســاطةً ،معتمــد ًا علــى لغــة مبتذلــة،
بشــكل عفــوي .إنــه الشــكل الواقعــي كمــا أورثــه ،Tolstoiواقعيــة
منحطــة عاشــت عصرهــا الذهبــي فــي القــرن الماضــي.
أدى مثــل هــذا الموقــف إلــى إيجــاد وضعيــة غيــر معقولــة ،وهــي
وقــد ّ
ال منتميــة إلــى األدب البورجــوازي ،أشــكا ً
ال منحطّ ــة وجامــدة أن أشــكا ً
رصــد ،رغــم ذلــك ،لخدمــة الثــورة أو لصيانــة المكتســبات
وعتيقــةُ ،ت َ
الحيــة هــي مــا
ّ األدبيــة
ّ الثوريــة ،بينمــا المفــروض أن تكــون األشــكال
32
المهمــة!
ّ ُرصــد إلنجــاز هــذه
ي َ
هــل أ كــون فــي حاجــة ،إذن ،إلــى تكــرار مــا تعرفونــه ،وهــو أن روائييــن
رجعييــن مثــل ،Blazacو Flaubertو Dostoievskyقــد ســاهموا،
ِّ
المتحجــرة ،ألن كشــفهم بقــ ّوة ،فــي تحطيــم الهيــاكل االجتماعيــة
ـي كان يحمــل ،فــي ذاتــه ،بــذور ًا ثوريــة حقيقيــة
وحـ ّ
عــن واقــع جديــد َ
عملــت علــى تعريــة الواقــع المز ُّيــف ،وفضــح األحــكام المســبقة ،وهــدم
ـي وح ـ ّر،
األعــراف االجتماعيــة ،مثلمــا عملــت علــى تجليــة مــا هــو حـ ّ
وفــرض مــا هــو صــادق وجديــر باالحتــرام؟
تســببا فــي تعطيــل المســيرة التحويليــةَّ تحدثــت ،إذن ،عــن عائقَ ْيــن َّ
للروايــة الحديثــة ،وأرانــي ،هنــا ،ملزمـ ًا باإلشــارة إلــى نمــط روائــي مايــزال
ا ،هــو اآلخــر ،مســيرة الروايــة نحــو البحــث يحظــى بســلطة قويّــة ،معرقــ ً
والتغيــر ،وأقصــد بــه الروايــة ذات الشــكل الكالســيكي الجديــد ،التــي لــم
ُّ
ِّ
روائييــن كبــار مثــل ،Queeneauفــي تخليــص األدب منهــا. تفلــح جهــود
وقــد بلغــت نســبة ُ
الك ّتــاب الذيــن ِ ّ
يوظفــون هــذا الشــكل النيوكالســيكي،
القائــم علــى التحليــل ،درجــةً ،أصبحــت معهــا رواياتهــم ذات اســتهالك
ماهيــة األدب الثابتــة ،لدرجــة أنّ واســع .بــل إن هــذا الشــكل أصبــح يعتبــر
ِّ
روائيــي القــرن الثامــن كل روائــي مبتــدئ يتب ّنــاه فــي كتابتــه ،مســتعير ًا مــن ّ
تذكــر بلغــة الفــروض المدرســية ،ينــال التشــجيع والتنويــه. عشــر لغتهــم التــي ِ ّ
إن هــذا الصنــف مــن الروائييــن يكتبــون وكأنهــم لــم يســمعواّ ،
قــط،
33
الرواية الجديدة والواقع
نفســيات
ّ وقــد يحــدث لهــؤالء الروائييــن أن يتخ ّلــوا عــن تحليــل
شــخصياتهم ،اعترافــ ًا منهــم بتفاهــة هــذه التقنيــة ،غيــر أن ولعهــم
ّ
باألســلوب الجميــل ،ذلــك األســلوب الكالســيكي الرفيــع والرقيــق
التخ ُّلــف ،الــذي يبــدو لهــم ،وللنقّ ــاد أيضـ ًا ،بأنــه ســمة العبقريــة والموهبة
والــذوق المرهــف والثقافــة األصلية.أقــول :غيــر أن ولعهــم ذلــك ِ ّ
يحفزهم
إلــى صيانــة هــذا األســلوب وترســيخه ،لكــن بمحاولــة تســخيره لغايــات
ُصــد لــه ،فــي األصــل.
أخــرى ،غيــر ذلــك التحليــل العتيــق الــذي ر ِ
يتواخاهــا
ّ إنهــم يعتقــدون أنهــم قــادرون علــى تســخيره ألنبــل غايــة
الكاتــب الروائــي الحقيقــي ،وهــي ارتيــاد آفــاق البحــث والتجريــب
األكثــر حداثــةً ،ناســين أن الشــكل والمضمــون شــيء واحــد ،وأنــه ال
يمكــن خلــق واقــع جديــد واستكشــافه بــاألدوات واألســاليب نفســها
التــي اســتخدمت فــي الكشــف عــن واقــع ســابق ،أصبــح اليــوم متجــاوز ًا.
34
صراع تقليدي ضدّ التقليد
لكــن ،يبــدو أن األدب قــد أدرك ،منــذ ســنوات ،درجــة مهولــة مــن
مهم ًا
التيــارات المحافظــة ،حيــث إن قطاعـ ًا ّ
الشــبع والتخمــة بســبب هــذه ّ
مــن الك ّتــاب والقـ ّراء ِ ّ
يعبــرون عــن النفــور نفســه مــن األشــكال العتيقــة،
وعــن التقــ ُّزز نفســه مــن بعــض التقاليــد ،ويستشــعرون الحاجــة نفســها
إلــى التحــ ُّرر مــن بعــض الترســيمات الجاهــزة التــي يتعاطــف معهــا،
باســتمرار ،معظــم النقّ ــاد ،فيطمحــون إلــى الكشــف ّ
عمــا هــو أساســي؛
أي ذلــك الجــزء الخفــي مــن العالــم ،الواقــع الجديــد ،الــذي تعجــز عــن
تجليتــه األحــداث والشــخصيات الروائيــة القليديــة.
إن هــذه المواقــف الجديــدة هــي مــا حفَّ ــ َز الروايــة إلــى «ضــرورة
تيــار جديــد َّ
ـد تعبيــر ،)Sartreفتشــكل ّ التفكيــر فــي نفســها» (علــى حـ ّ
اجتــاح ،كذلــك ،المســرح ،وهــو بصــدد اجتيــاح الســينما.
وهكــذا ،ال يحــاول الروائيــون الجــدد تقليــد كبــار ُ
الك ّتــاب الباحثيــن
35
الذيــن ظهــروا فــي بدايــة القرن ،بــل إنهم يحــذون حذوهــم ليتجاوزوهم،
ـادة
خاصــة ،إلــى تجديــد المـ ّ
ّ كل فــي ا ِ ّتجــاه خـ ّ
ـاص ،وبــأدوات ســاعينٌّ ،
الروائية.
طبعــ ًا ،ليــس اعتقــادي هــذا حكمــ ًا علــى القيمــة الداخليــة للروايــات
المنتميــة إلــى هــذه الحركــة؛ لذلــك ،أنــا أتســاءل :مــا طبيعــة الواقــع الجديد
الــذي تكشــف عنــه هــذه الروايــات؟ ومــا ميــزة ذلــك الشــكل الــذي يعطــي
ـل المســتقبل كفيــل باإلجابــة. الحيــاة لهــذا الواقــع الجديــد؟ لعـ ّ
ِّ
أقــدم لكــم بيانــ ًا عامّــ ًا آلرائــي الشــخصية حــول الروايــة ،بــل لــن
ســأقتصر ،اليــوم ،علــى مناقشــة نقطــة دقيقــة ،ألنهــا ،بالــذات ،كانــت
الخصــوم وحدهــم ،بــل ،أحيانــ ًا،
ُ إلــي
َّ مثــار انتقــادات ،لــم ِ ّ
يوجههــا
التشــيؤ
ُّ بعــض أصدقائــي أنفســهم؛ هــذه النقطــة هــي الموضوعيــة،
والموضوعيــة فــي الروايــة المعاصــرة.
39
الرواية الجديدة والواقع
عــن ّ
أي حضــور إنســاني ،لدرجــة أنــه قيــل عــن رواياتــي إنهــا الإنســانية،
وإنهــا طــردت اإلنســان مــن العالــم لفائــدة األشــياء.
وذهــب بعــض القـ ّراء إلــى أبعــد مــن ذلــك ،فقالــوا عــن رواياتــي إنهــا
تم ِ ّثــل محاولــة تأســيس أدب موضوعــي ،لكنهــم ســرعان مــا انتبهــوا
علــي ذلــك ،مــا حفّ زنــي
َّ إلــى أنهــا لــم تكــن موضوعيــةّ ،
قــط ،فعابــوا
إلــى اإلجابــة بــأن األمــر صحيــح ،وبأننــي أعتقــد ،كذلــك ،بــأن رواياتــي
ليســت موضوعيــة ،وبأننــي لــم أقــل ،أبــد ًا ،إن علــى رواياتــي أن تكــون
موضوعيــة.
لقــد فطــن بعــض الق ـ ّراء إلــى أنــه مــن البدهــي أ ّلا يكــون هــذا الــزوج
موضوعيـ ًا؛ فهــو يمســخ بنفســه ّ
كل مــا يــراه .أ ّمــا ســرده لحــركات زوجتــه
تســتبد بــه
ّ وتنقُّ التهــا وكالمهــا ،فهــو ،دومــ ًا ،مشــتبه فيــه .إنــه زوج،
الغيــرة؛ لذلــك ،هــو يراقــب زوجتــه ،ومــا ينقلــه عــن العالــم هــو تجربتــه
الشــخصية ،أي تجربتــه الذاتيــة ،الالموضوعيــة.
40
ومشــيأ.
َّ تترصــد ،باســتمرار ،مــا هــو موضــوع
َّ غيــر أن تجربتــه هــذه
يتضمــن مــا يمكــن تســميته بـ(تحليــل ســيكولوجي للغيــرة)، َّ فكتابــي ال
يفكــر البطــل نفســه فــي عوامــل غيرتــه ،بــل هنــاك ،فقــط ،نــوع بحيــث ِ ّ
مــن الوصــف المباشــر النفعــال البطــل بالعالــم حولــه ،وهــو بداهــة عالــم
أشــياء .وبطبيعــة الحــال ،أنــا أحيــل ،هنــا ،علــى المعنــى الرحــب لكلمــة
«موضــوع» .إن الموضــوع ،بالنســبة إلــى هــذه الــذات ،ذات الســارد ،أي
كل مــا يوجــد أمامــه ،وضمنــه زوجتــه .وإذا بحثتــم فــي الــزوج الغيــور ،هــو ّ
القامــوس عــن تعريــف لكلمــة «موضــوع» ،فســتجدون أنهــا تعنــي ّ
كل مــا
يؤثــر فــي الحــواس ،بــل يقــال كذلــك :إن موضــوع االنفعــال ،في مســرحية
،Racineهــو كــذا؛ لذلــك ،ليــس فــي كلمــة «موضــوع» مــا يشــير إلــى
فكــرة الفتــور أو عــدم االنفعــال ،بــل هنــاك ،فقــط ،فكــرة «الخرجنــة»
( ،)Extènontèأي كــون العالــم خارجي ـ ًا ،بالنســبة إلــى البطــل.
41
الرواية الجديدة والواقع
42
بخــاف ذلــك ،يبــدو لقــارئ روايتنــا أن مــا تطفــح بــه هــذه مــن أشــياء
تنتمــي إلــى عالــم غريــب ومقلــق وغيــر عــادي ،كمــا لــو كان هــو نفســه ال
يعيــش فــي هــذا العالــم ،وذلــك رغــم كــون هــذه األشــياء موصوفــة مــن
طــرف إنســان متــو ِ ّرط فــي أحــداث إنســانية.
43
الرواية الجديدة والواقع
لهــذه األنســية المتعاليــة والجوهريــة ،فالعالــم حولنــا لــم يعــد ملــك ًا لنــا،
كمــا لــم يعــد ممكنـ ًا أن نعتبــر أنفســنا محــور ًا أو تفســير ًا نهائيـ ًا لــه ،رغم أن
تمكننــا ،تدريجيـ ًا ،مــن فهــم أســراره ،ومــن اســتعماله. المنجــزات العلميــة ِ ّ
44
45
الرواية الجديدة والواقع
46
مــن اكتشــاف دالالت مــا ،لكنهــا ســتكون ،حتم ـ ًا ،روايــة بــدون قيمــة،
إذا كان كاتبهــا يعــرف ،س ـ َلف ًا ،هــذه الــدالالت ،بــل أعتقــد أن كتابتهــا
عبــث.
ِّ
يحــدد هنــا ،أيضــ ًا ،يبــدو االختــاف واضحــ ًا بيــن العالــم الــذي
ممارســاتنا الروائيــة وعالــم .Balzacفمنــذ مئــة ســنة خلت ،كان اإلنســان
يحيــا ،وهــو واثــق مــن معنــاه النهائــي ،ومتأ ِ ّكــد مــن موقعــه فــي العالــم.
أمــا اليــوم ،فلع َّلنــا أجهــل بموقعنــا نحــن مــن العالــم ،مــن إنســان القــرن
الماضــي ،بحيــث يبــدو أن فــي روايتنــا شــيئ ًا مــا يبعــث علــى الحيــرة،
ممــا هــو فــي روايــات ،Balzacبالنســبة بالنســبة إلــى عصرنــا ،أ كثــر ّ
إلــى عصــره .وهــذا مــا أراد بعــض النقّ ــاد تأويلــه بالقطيعــة المتزايــدة
بيــن الكاتــب والجمهــور .لكــن ،أليــس هــذا الطــاق بينهمــا صــورة
لطــاق أعمــق يوجــد ،بالضبــط ،بيــن اإلنســان والعالــم (أو ،كمــا ســيقول
،Lucien Goldmannبــدون شــك ،بيــن اإلنســان والمجتمــع)؟
ال جاهــزةً؛ فهــو يبحــث ،لكنــه إن الكاتــب نفســه ال يملــك حلــو ً
ا ،دعــوة يجهــل حقيقــة مــا يبحــث عنــه .لذلــك ،نحــن نرفــض ،مثــ ً
تحدثــت عنــه Nathalie َّ Sartreإلــى االلتــزام السياســي ،ذلــك الــذي
،Sarrauteونختــار االلتــزام فــي الكتابــة التزام ـ ًا بســيط ًا ،يــكاد يكــون
حرفي ـ ًا ( ،)Artisanalبمــا تطرحــه الممارســة الروائيــة مــن مشــكالت.
وإذا كان هــذا االلتــزام علــى مســتوى الكتابــة الروائيــة ،ومــا تطرحــه
ـم بنزاهــة كافيــة ،وبح ّريــة غيــر مشــروطة إزاء األفــكار مــن مشــكالت ،يتـ ّ
كل أنــواع االلتــزام الممكنــة ،بحيــث الجاهــزة ،فســيكون التزامـ ًا يشــمل ّ
يســتطيع العالــم النفســي أو الفيلســوف الميتافيزيقــي ا ِ ّتخــاذ رواياتنــا
ـام للكلمــة ،أي ا ألبحاثهمــا ،مثلمــا يســتطيع السياســي (بالمعنــى العـ ّ حقـ ً
ـم بحيــاة المدينــة) أن يعثــر فيهــا علــى مواقــف تؤ ِ ّيــد تحليالتــه.
الــذي يهتـ ّ
47
ـدم لــه األشــياء ســائغة ،يســتاء
لكــن الجمهــور الــذي اعتــاد علــى أن ُتقـ َّ
مــن كــون رواياتنــا غيــر مفهومــة ،فهــو يســألنا :مــاذا يعنــي ّ
كل هــذا؟ مــاذا
أردت أن تقــول فــي روايتــك «»La jalousie؟ مــا الهــدف مــن كتابتــك
لشــريط « »L`annèe dernière à Marienbadوالحــرب ملتهبــة فــي
تهمــك مباشــرة،
الجزائــر!؟ وقيــل لــي« :إننــا نعانــي ،هنــا ،مشــاكل كثيــرة ّ
ملحــة ،يلــزم ح ّلهــا اليــوم .فــي حيــن تختلــي بنفســك فــي بيتــك،
مشــاكل ّ
لتكتــب روايــة ال نعــرف الزمــن الــذي تنتمــي إليــه ،وال المــكان الــذي
تنتســب إليــه ،وال الواقــع الــذي تســتوحيه!».
بــكل بســاطة ،تنتمــي رواياتنــا إلــى الحاضــر ،ألننــا نكتب فــي الحاضر.
شــك ،بــل لع َّلهــا ّ
أدق تفســير ًا لــه ّ تفســره ،فهــو عصرنــا ،بــدون أمّــا مــا ِ ّ
ـم حشــرهم فــي فنــدق ليدلــوا بآرائهــم فــي العمــال ،يتـ ّ
ّ مــن مجموعــة مــن
الحــرب .إن لنــا ،نحــن ،أيض ـ ًا ،أجوبــة جاهــزة علــى مشــكالت الحــرب
أو الوعــي االجتماعــي ،أو غيــر ذلــك .فحيــن يُطلــب م ّنــا رأينــاّ ِ ،
نعبــر
عنــه بطريقــة صريحــة .وهــذا شــيء تفرضــه علينــا حقــوق المواطنــة ،التــي
تبتــدئ بلحظــة إيداعنــا لبطاقــة التصويــت فــي صنــدوق االقتــراع ،وقــد
تمتــد إلــى ممارســة النضــال السياســي ،الــذي يلتــزم بــه كثيــرون منــا؛ ّ
لذلــك حيــن يتع َّلــق األمــر بالممارســة الروائيــة ،ننطلــق مــن ال شــيء،
ـص بحثـ ًا عــن شــيء مــا ،لــن
ـص ،باعتبــار النـ ّ
بحيــث ينتفــي مــا قبــل النـ ّ
يوجــد إ ّلا بعــد االنتهــاء مــن الكتابــة.
لوسيان جولدمان
)Lucien Goldmann (1913-1970
ِّ -
أهم ّية التحوّ الت االجتماعية ،واإلنسانية
الرواية الجديدة :شكالنية أم واقعية؟
51
الرواية الجديدة والواقع
بإواليــة
ّ االنتصــار ،مثلمــا قــد اليكــون الكاتــب واعيــ ًا ّ
كل الوعــي
ّ
يخــل هــذا وذاك بنوعيــة انتصــار األوَّل ،وبقيمــة إبداعــه ،دون أن
إبــداع الثانــي.
َ
العرض ْيــن هــو أنهمــا يجهــران ،معـ ًا ،بعقيــدة أدبيــة ـم مــا ِ ّ
يميــز لعـ ّ
ـل أهـ ّ
واحــدة ،وهــي الواقعيــة .ففــي حيــن يعتبــر كثيــر مــن الق ـ ّراء والنقّ ــاد
أن الروايــة الجديــدة ال تعــدو كونهــا مجموعــة مــن تجــارب شــكلية،
أو ،فــي أحســن الحــاالت ،محاولــة لإلفــات مــن الواقــع االجتماعــي،
يعلــن كاتبــان مــن أبــرز مم ِ ّثلــي هــذا اال ِ ّتجــاه األدبــي أن رواياتهمــا،
خالفــ ًا لذلــك ،هــي ثمــرة مجهــود صــارم وجــذري يــروم التقــاط مــا
هــو أساســي فــي واقــع عصرنــا؛ لذلــك ،ســأحاول إثبــات ســداد هــذا
الكاتب ْيــن ،وعلــى
َ ــي َ
عرض ّ ِّ
وأهم ّيتــه مــن خــال تعليقــي علــى الــرأي
رواياتهمــا.
52
َ
العرض ْيــن ،وهــي تأ كيدهمــا علــى ِّ
خاصيــة أخــرى مشــتركة بيــن وهنــاك
أن الروايــة الجديــدة تختلــف ،مــن حيــث الشــكل الف ّنــي ،عــن روايــة
القــرن التاســع عشــر؛ ألنهــا ترصــد وتصــف واقعــ ًا إنســاني ًا (أو واقعــ ًا
كل واقــع إنســاني هــو اجتماعيـ ًا ،بحســب تعبيــر علمــاء االجتمــاع ،ألن ّ
اجتماعــي ،فــي رأيهــم) يختلــف عــن الواقــع اإلنســاني الــذي رصدتــه
روايــة القــرن الماضــي ووصفتــه.
53
الرواية الجديدة والواقع
54
ـدم األبحــاث األدبيــة ،لكنهــا تبالــغ ،فــي إنهــا ِ ّ
تؤكــد (بحــقّ ) علــى تقـ ُّ
اعتقــادي ،فــي اعتبــار هــذه األبحــاث وكأنهــا ظواهــر فيزيائيــة /كيماويــة،
محــدد تحديــد ًا
َّ بحيــث يبــدو لــي أنهــا تؤمــن بوجــود واقــع إنســاني
نهائيــ ًا ،يستكشــفه الك ّتــاب ،الواحــد بعــد اآلخــر (مثلمــا يستكشــف
العلمــاء الواقــع الكونــي) ،متسـ ِ ّ
ـببين ،عبــر تعاقــب األجيــال ،فــي مج ـ َّرد
يتعيــن ارتيادهــا ،بعــد
َّ تحويــل لالهتمــام نحــو مجــاالت جديــدة ،أصبــح
ا ،أن إفــراط تمــت تصفيــة المشــاكل القديمــة؛ فهــي تعتقــد ،مثــ ً أن َّ
،Balzacو Stendhalفــي تحليــل نفسـ ّـيات الشــخصيات الروائيــة إلــى
درجــة االبتــذال ،هــو مــا حفُّ ــز ُك ّتابـ ًا الحقيــن ،مثــل ،Kafkaو،Joyce
و Proustإلــى ارتيــاد أشــكال أخــرى مــن الواقــع اإلنســاني أ كثــر إغــراءً،
فاتحيــن ،بذلــك ،آفاق ـ ًا جديــدة ،يتح َّتــم علــى ك ّتــاب اليــوم أن يتابعــوا
استكشــافها.
55
الرواية الجديدة والواقع
56
الشكل الروائي والبنيات االقتصادية
َ
العرض ْيــن ،اللذيــن يعتبــران ،فــي بعــد هــذه المالحظــات التمهيديــة حــول
مهم َت ْيــن تســاعدان علــى فهــم األدب المعاصــر،
جــد َّ
ّ تقديــري ،وثيق َت ْيــن
اســمحوا لــي ،باعتبــاري ،كذلــك ،باحثــ ًا سوســيولوجي ًا ،أن أثيــر مســألة
نوعيــة التحــ ّوالت االجتماعيــة التــي فرضــت ،بالفعــل ،ضــرورة إيجــاد
عبــرت أعمــال Alain شــكل روائــي جديــد ،وأن َّ
أوضــح ،أيضــ ًا ،كيــف َّ
،Robbe-Grilletو ،Sarrauteعــن بعــض الســمات األساســية لهــذا
الواقــع االجتماعــي الجديــد.
57
الرواية الجديدة والواقع
أوضــح ٌّ
كل مــن ،Robbe-Grilletو Sarrauteأن التحــ َّول األساســي،
فــي مجــال األدب ،يتنــاول هــذه الوحــدة البنيويــة :الشــخصية الروائيــة/
ـم تعديلهــا با ّتجــاه اندثــار للشــخصية ،تتفــاوت جذريَّتــه،
األشــياء ،بحيــث َتـ َّ
ـل ِ ّ
أهم ّيــة. ـط الســتقالل األشــياء ،ال يقـ ّ ـم مترابـ ٍ
وتدعيـ ٍ
58
بين البنيات التشييئية والبنيات الروائية
والحــقّ أن الســؤال الــذي يفــرض ذاتــه هــو اآلتــي :هــل توجــد بيــن
تاريــخ البنيــات التشــييئية ( )Structures réificationnellesوتاريــخ
البنيــات الروائيــة ،عالقــة واضحــة أو تشــاكل مــا؟ فــي تقديــري أن
اإلجابــة علــى هــذا الســؤال تســتلزم اعتبــار أربعــة عناصــر ،يجــدر بنــا
تعريــف طبيعتهــا ،بإيجــاز ،وهــي:
(أ) التشـ ُّـيؤ ،بمــا هــو ســيرورة ســيكولوجية دائمــة تؤ ِ ّثــر ،بإطــراد ،ومنــذ
قــرون ،فــي المجتمعــات الغربيــة المنتجــة للســوق.
59
الرواية الجديدة والواقع
60
متعـ ِ ّ
ـددة ،إ ّلا أن هــذه المظاهــر ،غالب ـ ًا مــا تنتــج عــن اختــاف جوهــري
أوَّل ،وهــو عــدم توفُّ ــر المجتمــع الرأســمالي الليبرالــي علــى ّ
أي جهــاز
يســتطيع ،بوعــي ،وفــي الوقــت نفســه ،أن ينظّ ــم اإلنتــاج والتوزيــع داخــل
معينــة.
وحــدة اجتماعيــة َّ
المؤسســات موجــودة فــي ّ
كل َّ وقــد كانــت مثــل هــذه األجهــزة أو
شــكل مــن أشــكال المجتمعــات مــا قبــل الرأســمالية ،ســواء أتع َّلــق األمــر
بمجتمــع بدائــي يقتــات بقنــص الحيوانــات أو بصيــد األســماك ،أم
تع َّلــق بعائلــة قرويــة فــي القــرون الوســطى ،أو كذلــك بوحــدة تتشـ َّ
ـكل مــن
األســر الفلّاحيــة فــي القريــة المفــروض عليهــا؛
َ قصــر إقطاعــي وعــدد مــن
إ ّمــا أداء أشــغال مرهقــة ،أو أداء ضرائــب ،بــل حتــى إذا تع َّلــق األمــر ،إلــى
ـد مــا ،باقتصــاد الســوق فــي المدينــة األوروبيــة ،فــي بداياتهــا األولــى
َحـ ّ
(رغــم أن التخطيــط ،هنــا ،قــد وجــد فــي شــكل نــوع مــن الالوعــي
معمقــة مــن شــأنها ،علــى األرجــح ،أن تعثــر المضبــب ،ورغــم أن دراســة َّ
َّ
فــي هــذا الالوعــي علــى أوَّل تج ِ ّليــات ظاهــرة التشـ ُّـيؤ).
لقــد كان بإمــكان تنظيــم اإلنتــاج هــذا أن يكــون تقليدي ـ ًا أو ديني ـ ًا أو
ـل ،كمــا مضبــب ،علــى األقـ ّ
َّ تعســف ًا ..إلــخ ،بيــد أنــه كان ذا طابــع ٍ
واع (أو ُّ
واع فــي
هــو الحــال بالنســبة إلــى مدينــة القــرون الوســطى) ،مثلمــا هــو ٍ
مجتمــع اشــتراكي أو ذي صبغــة اشــتراكية ،حيــث ِ ّ
تنظــم اإلنتــاج لجنــة
مركزيــة للتخطيــط.
61
الرواية الجديدة والواقع
ِّ
األهم ّيــة والخطــورة بحيــث ال يســعنا، إن نتائــج هــذا التحــ ُّول مــن
تتضمــن مظاهــر إيجابيــة،
َّ هنــا ،أن نح ِ ّللهــا((( .وهــي ،مــن جهــة أخــرى،
(ومــن بينهــا أفــكار التســاوي والتســامح فــي الح ّريــة الفرديــة) .لكنهــا
ق ـ َّوت ،بالتدريــج ،نم ـ ّو ســلبية الوعــي الشــخصي لـ ّ
ـكل األفــراد ،وإلغــاء
العنصــر النوعــي فــي العالقــات الســائدة بيــن النــاس ،مــن جهــة ،وبينهــم
والطبيعــة ،مــن جهــة أخــرى.
ِّ
األهم ّيــة مــن الوعــي إن هذيــن :االختــزال ،واإللغــاء لقطــاع بالــغ
بخاصيــة جديــدة ،ذات أصــل اجتماعــي، ِّ الشــخصي لألفــراد ،وتعويضــه
ليتــم إبدالهــا ،ومــا
ّ تخــص األشــياء الجامــدة ،بقــدر مــا تغــزو الســوق
ّ
ينتــج عــن ذلــك مــن إبطــال لوظائــف النــاس الفعليــة ،وتحويلهــا إلــى
أشــياء ...ثــم إن هــذا الوهــم العجيــب (الــذي يشــبهه Marxببعــد
((( راجع يف املوضوع ،G. Lukacs J (Histoire et conscience de classe( :منشورات ،Minuitباريس،
وكذلك )La Reification( :يف ،Recherches dia L.Goldmann Jlectiques :منشورات ،Gallimard
باريس.
63
الرواية الجديدة والواقع
خاصيــة
ّ الشــخصية الشيكســبيرية ،التــي تعتبــر معرفتهــا للقــراءة والكتابــة
طبيعيــة ،والجمــال نتيجــة قيمــة واســتحقاق) هــو مــا اصطلــح علــى نعتــه،
أوَّل األمــر ،بهــذه العبــارة البليغــة اإليحــاء« :فيتيشـ ّـية الســلعة» ،ثــم بعــد
«التشــيؤ».
ُّ ذلــك بكلمــة
إن عالم ـ ًا متوازن ـ ًا مطابق ـ ًا لهــذه البنيــة يمكنــه ،آخــر األمــر ،أن يكــون
ِّ
المتوحــد إزاء عالــم مــن عالــم ،Robinson Crusoëذلــك الفــرد
األشــياء والنبــات والحيــوان (عالــم ال وجــود فيــه لباقــي النــاس إ ّلا
باعتبارهــم مأجوريــن ،وهــذا مــا ِ ّ
تعبــر عنــه شــخصية .Vendrediغيــر
أن اإلنســان ،كمــا الحــظ ذلــك ،Lukacsفــي تحليــل أ كثــر طليعيــة ،ال
يملــك أن يبقــى كائنـ ًا بشــري ًا ،ويقبــل ،فــي اآلن نفســه ،غيــاب عالقــات
ملموســة ومشــتركة مــع باقــي النــاس اآلخريــن ،بحيــث إن اإلبــداع
اإلنســي ( )créationhumanisteالــذي كان ،فعــ ً
ا ،يطابــق البنيــة
ـم التعبير
التشــييئية للمجتمــع الليبرالــي هــو ســيرة الفــرد اإلشــكالي ،كمــا َتـ ّ
عنهــا فــي األدب الغربــي ،منــذ non Quichotteإلــى Flaubert et
،Stendhalمــرور ًا بـــ ( ،Goetheبــل إلــى ،Proustكمــا أوضــح
ذلــك ،René Girardمــع بعــض التعديــات ،وإلــى ،Dostoïevsky
بالنســبة إلــى روســيا)(((.
((( راجع ،يف املوضوع ،دراستنا.)introduction aux problemes dune sociologie du roman( :
64
لقــد أشــار Robbe-Grilletإلــى أن الروايــة الكالســيكية تكتســي
فيهــا األشــياء ِ ّ
أهم ّيــة أساســية ،لكــن هــذه األشــياء ال يكتمــل وجودهــا،
يتعيــن إ ّلا بعالقاتهــا مــع األفــراد .وعلــى المســتوى الهيكلــي،َّ وال
إن المرحل َت ْيــن الالحق َت ْيــن للمجتمــع الرأســمالي الغربــي (المرحلــة
اإلمبرياليــة (التــي تقــع ،تقريبــ ًا ،بيــن 1912و )1945والرأســمالية
تتحــددان؛ األولــى باالختفــاء التدريجــي للفــرد َّ التنظيميــة المعاصــرة)
ـم ،باســتقالل األشــياء المتزايــد ،والثانيــة
بمــا هــو واقــع جوهــري ،ومــن َثـ َّ
كل واقــع جوهــري، بتح ـ ُّول عالــم األشــياء هــذا -حيــث فقــد اإلنســاني ّ
الخاصــة
ّ ســواء باعتبــاره فــرد ًا أو جماعــة -إلــى عالــم مسـ ّ
ـتقل ،لــه بنيتــه
التــي ماتــزال ،وحدهــا ،أحيان ـ ًا ،وبصعوبــة ،تســمح لإلنســاني بــأن ِ ّ
يعبــر
عــن نفســه.
65
الرواية الجديدة والواقع
ّ
ولعــل التعــارض بيــن Robbe-Grilletو ،Sarrauteيكمــن فــي
ممــا يكمــن فــي مــا يرصدانــه؛ يهتمــان بــه ،ومــا يســعيان إليــه أ كثــر ّ
ّ مــا
تقدمـ ًا وتط ُّرفـ ًا ،كاتبــة روائيــة
فماتــزال ،Sarrauteفــي أ كثــر األشــكال ُّ
تنتمــي إلــى الحقبــة التــي وصفناهــا بأنهــا تتميــز بذوبــان الشــخصية
الروائيــة .فالبنيــات الك ّل ّيــة للمحيــط االجتماعــي ال ّ
تهمهــا .إنهــا حريصــة
علــى البحــث عــن اإلنســاني األصيــل ،وعــن المعيــش المباشــر ،فــي
حيــن يبحــث ،Robbe-Grilletأيض ـ ًا ،عــن اإلنســاني ،لكــن باعتبــاره
مجســد ًا ،أي واقع ـ ًا مندرج ـ ًا فــي بنيــة ك ِ ّل ّيــة.
َّ تعبيــر ًا
67
الرواية الجديدة والواقع
شــكل ،تســتحدث لــه ،دون ريــب ،نمطــ ًا جديــد ًا ،لكنــه مايــزال نمــط
ك ّتــاب ذوبــان الشــخصية الروائيــة باالنتســاب إليهــم.
68
بأعمالــه األدبيــة إ ّلا فــي حــدود إمكانيــة ارتباطهــا بتحليــل جوهــري آخــر
للبنيــات الشــاملة للواقــع االجتماعــي.
إضافـ ًة إلــى ذلــك ،ومــع احتمــال إزعــاج معظــم النقّ ــاد الذيــن اهتمــوا
ـي ،لــدى قراءتــي لكتابــات يخيــل إلـ َّ
بالجوانــب الشــكلية فــي أعمالــهَّ ،
أهم َّيتهــا القصــوى ،ال ،Robbe-Grilletأن هــذه الجوانــب ،رغــم ِ ّ
ت َّتســم ،أبــد ًا ،باالســتقالل :فمــادام لـــ Robbe-Grilletشــيء يقولــه،
الك ّتــاب الحقيقييــن ،يبحــث عــن أنســب فهــو ،بطبيعــة الحــال ،وكســائر ُ
األشــكال لقولــه ،فــا يمكــن لمضمــون رواياتــه أن ينفصــل عــن اإلبــداع
ّ
يســتقل عــن مجمــوع األدبــي ،مثلمــا ال يمكــن إلبداعــه األدبــي أن
أعمالــه.
69
الرواية الجديدة والواقع
ّ
اســتهل Robbe-Grilletكتاباتــه ،فــي ،1953بنــوع مــن لقــد
الروايــة البوليســية .فالمالحــظ فــي روايتــه « »Les Gommesأنهــا
ماتــزال وفيــة ،بنســبة كبيــرة ،إلــى الترســيمة التقليديــة لهــذا النــوع األدبــي
(جريمــة قتــل لكنهــا محبطــة ،تحقيــق الشــرطة ..وغيــر ذلــك) ،غيــر
أنهــا ذات مضمــون جديــد يســتدعي ،بالطبــع ،جملــة مــن التعديــات
70
ـد ًا .ويبــدو لــي ،مــع ذلــك ،أن هــذا التفــاوت بيــن
المهمــة جـ ّ
ّ الشــكلية
المضمــون الجديــد والشــكل الــذي لــم يلحقــه ســوى تجديــد جزئــي ،هــو
مــا دفــع ،Robbe-Grilletفــي مجموعــة مــن التفاصيــل الهامشــية ،إلــى
التذكيــر بمــا أراد أن يقولــه؛ وهــذا مــا ِ ّ
يفســر تلميحاتــه الكثيــرة إلــى عقــدة
مقحــم ،نســبي ًا ،علــى بنيــة النـ ّ
ـص ذاتهــا (ن ُُســج ســتائر َ «أوديــب» بشــكل
النافــذة ،زخــرف المدفــأة ،لغــز أبــي الهول ،مقطــع متع ِ ّلق باحتمــال وجود
ابــن للضحيــة ،وغيــر ذلــك) ،ســعي ًا منــه إلــى تنبيه القــارئ إلــى أن األمر ال
ـص ينتمــي مضمونــهيتع َّلــق بروايــة بوليســية مــن النــوع المألــوف ،بــل بنـ ّ
ّ
شــك فــي أن هــذه األساســي إلــى مضمــون التراجيديــا القديمــة .وال
التلميحــات كانــت ســتغدو عديمــة الجــدوى (وقــد انعدمــت ،فعـ ً
ا ،فــي
كتابــات Robbe-Grilletالالحقــة) لــو أن نســبة مالءمــة شــكل الروايــة
أي أســاس يريــد Robbe- كانــت كافيــة لتوضيــح مضمونهــا؛ فعلــى ِ ّ
Grilletأن يربــط « »Les Gommesبأســطورة أوديــب؟ يبــدو لــي أن
ـد ضعيــف ،بــل قابــل للنقــاش ،فالروايــة ،يقينـ ًا ،ال وجــه الشــبه بينهمــا جـ ّ
ـل مــن األكيــد أن Daniel Dupontلــم تســتوحي األســطورة نفســها .ولعـ ّ
يقتلــه ابنــه ،فليــس فــي الروايــة ،علــى ّ
كل حــال ،مــا يجعــل هــذه الفرضيــة
مقبولــة ظاهــر ًا .إن العالقــة بينهمــا تكمــن فــي كــون تسلســل األحــداث
ـم ،فــي كلتــا الحالتيــن ،وفــق ضــرورة ،ال ســبيل إلــى الخــاص منهــا،
يتـ ّ
بحيــث ال تســتطيع نوايــا الشــخصيات وأفعالهــم تغييرهــا .غيــر أن ضــرورة
التراجيديــا القديمــة ،مــن الناحيــة البنيويــة ،تنشــأ مــن الصــراع بيــن إرادة
ممــا
اآللهــة وجهــود البشــر ،صــراع يح ـ ِ ّول الحيــاة اإلنســانية إلــى قــدرّ ،
ـل ،Robbe-Grilletالــذي تخ َّلــى ،فيمــا بعــد ،عــن التلميــح ينفــي (ولعـ ّ
إلــى هــذه التراجيديــا ،قــد انتبــه إلــى ذلــك بنفســه) أ ّيــة صلــة بالحركــة
اآلليــة والمحتومــة التــي تســري فــي عالــم ،فقــد فيــه األفــراد ،وكــذا
َّ
وكل ِ ّ
أهم ّيــة. بحثهــم عــن الح ِ ّريــةَّ ،
كل حقيقــة
71
الرواية الجديدة والواقع
72
إن مضمــون الروايــة هــو ،بالضبــط ،هــذه الضــرورة اآلليــة والمحتومــة
ـدد ،فــي الوقــت نفســه ،عالقــات الناس فيمــا بينهــم ،وعالقاتهم التــي تحـ ِ ّ
مــع األشــياء ،فــي عالــم يشــبه جهــاز ًا حديثــ ًا مــزوَّد ًا ّ
بآليــات التنظيــم
َّ
بمنظمــة س ـ ِ ّرية مناهضــة للحكومــة الذاتــي .فاألمــر ،فــي الروايــة ،يتع َّلــق
تهاجــم المدعـ ّو ،Daniel Dupontتنفيــذ ًا لقرارهــا بقتــل رجــل فــي ّ
كل
اآلليــات دق ـ ًة وإتقان ـ ًا لســوء
ّ يــوم .لكــن ،وكمــا تتع ـ َّرض ،أحيان ـ ًا ،أ كثــر
تدبيــر مــا ،يحــدث شــيء غيــر متو َّقــع :لقــد أشــعل Dupontالمصبــاح
فــي مكتبــه ،قبــل األوان؛ مــا جعــل القاتــل المذعــور يخطــئ الهــدف،
فيصيبــه بجــرح بســيط فــي ذراعــه .وحمايــ ًة لنفســه ،يعمــد ،Dupont
الــذي أدرك أن حياتــه فــي خطــر ،والــذي تربطــه بالحكومــة صــات
متينــة ،إلــى اإليهــام بنجــاح الجريمــة ،ثــم يختبــئ بعــض الوقــت،
ـم إيفــاد شــرطي سـ ِ ّري إلــى المكان مؤ ّمـ ً
ا ،بذلــك ،اســتغفال القاتــل .ويتـ ّ
ا .ومــا يبــدو قــد حصــل عينــه للتحقيــق فــي جريمــة قتــل ،لــم تقــع فع ـ ً
ــم اإلخــال بهــا ،وأن
واآلليــة للعمليــة قــد َت َّ
ّ ِّ
الخاصيــة الحتميــة هــو أن
تشويشــ ًا فــي الســير الطبيعــي لألمــور قــد طــرأ .لكــن مــا حصــل ،فــي
واآلليــة مضبوطــة .ذلــك أن
ّ ـدر،
فسـ ْـير األمــور مقـ َّ
الواقــع ،مج ـ َّرد وهــم؛ َ
مجــرى األحــداث جعــل الشــرطي ،ودون أن يعــي ذلــك أحــد أو يريــده،
ضحيــة حقيقيــة؛ مــا يســمح بمتابعــة
ّ يقتــل الضحيــة المزعومــة ،فتصبــح
التحقيــق حــول جريمــة قتــل فعليــة .أ ّمــا العصابــة ،فستســتم ّر فــي عملهــا،
ا آخــردون علــم بالخطــأ المرتكــب ،وســتقتل ،فــي اليــوم التالــي ،رج ـ ً
اســمه .Albert Dupont
73
الرواية الجديدة والواقع
وعلــى مســتوى أدبــي أرفــع ،ســتتك َّرر التيمــات نفســها فــي روايــة
Robbe-Grilletالثانيــة « ،»Le Voyeurالتــي أثــارت بيــن النقــاد
َّ
يتذكــرون المقالــة األولــى ،العنيفــة ّ
ولعــل بعضكــم حــاد ًا.
ّ جــد ً
ال
والناقمــة ،التــي نشــرها E. Henriotفــي جريــدة ،Le Mondeثــم
تراجــع الناقــد نفســها ،بعــد ذلــك ،ليقتــرح تصنيــف الروايــة ضمــن
أحســن عشــرة كتــب ُتقــرأ فــي العطلــة.
74
علــى غيــره ،فيمكــن االعتــراض ،بق ـ ّوة ،عليهــا ،بــأن هــذه الشــخصية ال
يمكــن ،بـ ّ
ـأي حــال ،أن تكــون الشــخصية المحوريــة فــي الروايــة.
ويش ـ ِ ّوه هــذا الخــوف البنيــة القصديــة للحكايــة ،ويمنعهــا مــن ا ِ ّتبــاع
مســار مطابــق للبنيــة األصليــة ،ويعيدهــا ،باســتمرار ،إمّــا إلــى جريمــة
يتعيــن إخفاؤهــا ،وإ ّمــا إلــى بعــض األحــداث التــي وقعــت
َّ القتــل التــي
فــي طفولــة ،Mathiasوالتــي ترتبــط فــي حياتــه الشــخصية (ويبــدو
ــد مــا ،بالتحليــل النفســي)
هنــا أن Robbe-Grilletيســتعين ،إلــى َح ّ
بجريمــة القتــل ،مــا يمنحهــا (أي الحكايــة) داللــة ســيكولوجية.
75
الرواية الجديدة والواقع
ـيتحدد،
َّ ـم مــا يكتشــفه ( Mathiasهــذا االكتشــاف الــذي سـ غيــر أن أهـ ّ
تدريجيــ ًا ،عبــر الحكايــة((( ليــس ،فقــط ،اســتحالة التســ ُّتر علــى
يذكــره بهــا ،باســتمرار ،خوفــه المتســ ِ ّلط ،بــل ،كذلــك ،وعلــى
جريمــة ّ
الخصــوص ،كــون مجهــوده عديــم الجــدوى ،بمــا أنــه يســتند إلــى تصـ ُّور
مغلــوط للواقــع االجتماعــي .وبالفعــل ،إن أوَّل مــا سيكتشــفه Mathias
ـاهديْن علــى الجريمــة
هــو وجــود شــخصين فــي الجزيــرة كانــا ،بداهـةً ،شـ َ
(وهــو أمــر أ كيــد ،بالنســبة إلــى أحدهمــا ،وراجــح بالنســبة إلــى اآلخــر)،
شــخصين يحرصــان ،مع ـ ًا ،وبإصــرار ،علــى إثبــات زيــف روايتــه ،ك ّلمــا
حــاول إخفــاء جريمتــه .ويولّــد هــذا االكتشــاف نوعــ ًا مــن القلــق فــي
نفســه ،لكنــه قلــق عابــر ،إذ ســرعان مــا الحــظ أنــه إذا كان الشــاهدان
ـك ْين ،دون شـ ّ
ـك ،بتصحيــح روايتــه ،فــإن حافزهمــا إلــى ذلــك هــو متمسـ َ
ِّ
توضيــح حقيقــة األمــر ،وليــس ،أبــد ًا ،فــي َّ
نيتهمــا الوشــاية بــه ،واألمــر
«رائي ْيــن» .وسيكتشــف ،Mathiasبســرعة ،أن
َ بمتابعتــه :إنهمــا مجـ َّرد
((( خالفا ً ملا يقوله ،Robbe-Grilletغالباً ،عن رواياته ،فإن الحكاية ال تتحدَّد ،تدقيقاً ،يف مستوى الشخصية
املحورية ،بل ،إىل حَ ّد ما ،يف مستوى يتجاوزها ،كما عند جميع الروائيني الكالسيكيني.
76
ّ
يشــكلون فــي هــذه الروايــة، ّ
ســكان الجزيــرة (الذيــن ال باســتطاعة ّ
كل
كمــا فــي كل عمــل فنــي ،ســوى قطــاع جزئــي مــن عالــم شــامل ،بــل
هــذا العالــم الشــامل نفســه) أن يكتشــفوا القاتــل بســهولة ،وبأدنــى
ـاب ،Marekوالطفلــة
جهــد ،لكنهــم ال يبالــون بذلــك عــدم مبــاالة الشـ ّ
الصغيــرة .Mariaوالواقــع أن هــذه الجريمــة ،مثــل جريمــة روايــة
« ،»Les Gommesال تخــرج عــن منطــق األشــياء ،وأن قتــل الطفلــة
ســيريحهم ،مادامــت ال تشــبه أحــد ًا مــن سـ ّ
ـكان الجزيــرة ،وتم ِ ّثــل عنصــر
تلقائيــة وتشــويش(((.
َّ
ِّ
ســلبيين ،ال يتشــكل العالــم ،فقــط ،مــن أشــخاص رائيــن وهكــذا،
ليغيــروه نوعي ـ ًا،
يتدخلــوا فــي شــؤون المجتمــع ِ ّ
َّ ينــوون ،وال يملكــون أن
ويجعلــوه أ كثــر إنســانيةً .والشــخص الوحيــد الــذي أمكنــه أن يعتقــد
بــأن قتــل الطفلــة فعــل يســتحقّ العقــاب ،ويعــ ِ ّرض مرتكبــه لإلقصــاء
مــن الحيــاة االجتماعيــة هــو Mathiasنفســه ،الــذي رفــض ،فــي نهايــة
الروايــة ،وبعــد أن فهــم غلطتــه ،إمكانــات الفــرار التــي كانــت أمامــه،
وانتظــر ،فــي هــدوء ،حلــول الصبــاح ليركــب الباخــرة التــي تربــط،
بانتظــام ،بيــن الجزيــرة والقــارّة.
وبذلــك ،تكــون الجريمــة مندمجــة فــي النظــام الك ّلــي ،الــذي يطبعــه،
فــي روايــة « ،»Les Gommesمبــد ُأ التنظيــم الذاتــي الــذي يلغــي
ّ
كل إمكانيــة للتغييــر تتو ّلــد عــن عنصــر غيــر متو َّقــع مــن عناصــر المــزاج
الفــردي ،وعــن خطــأ فــردي غيــر منتظــر ،وتطبعــه ،فــي روايــة «Le
ثانية إىل مضمون الرواية األسايس ،رغم أن هذا العنرص يرتبط ً لعل هناك عنرصا ً خارجيا ً أخرياً ،مضافا ً((( ّ
بمضمون الرواية أكثر مما ترتبط التلميحات إىل أسطورة «أوديب» بمضمون الرواية السابقة .فبالنسبة إىل مسألة
الطبيعة أو العالم البرشي ،الذي يتخيَّله ( Robbe-Grilletعالم يطابق كثرياً ،كما قلنا آنفاً ،جوهر املجتمع
الصناعي الغربي) فإن كون الضحية قد كانت إىل ح ّد ما كائنا ً هامشيا ً وغريباً ،وأن يف قتلها إبادة لعنرص مش َّوش،
يبقى ،مع ذلك ،أنيكدوتياً.
77
الرواية الجديدة والواقع
ّ
لــكل ســوء فهــم ممكــن ،ينبغــي اإلشــارة ،هنــا (ربّمــا رغــم وتج ُّنبــ ًا
عــدم جــدوى ذلــك) إلــى أن موضــوع هاتيــن الروايتيــن ،أي فقــدان
ـكل ِ ّ
أهم ّيــة ومعنــى ،يجعــل منهمــا ،فــي رأيــي ،اثنتيــن العمــل الفــردي لـ ّ
مــن أ كثــر الروايــات واقعيـ ًة فــي األدب المعاصــر .ومــن الممكــن ،طبعـ ًا،
بحجــة يبــدو أنهــا
ّ أن يوجــد ق ـ ّراء أو نقّ ــاد يعترضــون علــى رأيــي هــذا،
اآلليــة
ّ تتدخــل
َّ مــن إمــاء العقــل الســليم؛ هــي أنــه ليــس صحيحــ ًا أن
ضحيتــه ،لتصلــح خطــأه ،مثلمــاَّ كل م ـ ّرة يخطــئ قاتـ ٌ
ـل المجتمعيــة ،فــي ّ
ّ
يظــل الجيــران غيــر مكترثيــن ،حيــن يقتــل تاجــ ٌر ليــس صحيحــ ًا أن
متجـ ِ ّول طفلـ ًة صغيــرة ،وأ ّلا تعبــأ الســلطات بالقبــض عليــه وتقديمــه إلــى
العدالــة.
إن لهــذا االعتــراض ،بطبيعــة الحــال ،مــا يبــرره بشــكل مباشــر ،غيــر
أن المشــكل يطــرح علــى مســتوى أ كثــر جذريّــة ،فمــا أكثــر الجرائــم
التــي ُترتكــب ،يومي ـ ًا ،ضـ ّ
ـد مــا هــو إنســاني ،والتــي تنتمــي إلــى النظــام
المجتمعــي نفســه ،ويقبلهــا ،أو يتســامح بشــأنها قانــون المجتمــع والبنيــة
ـل أشــكال اجتماعية ســالفة (ويكفي النفســية ألعضائــه .وقديمـ ًا ،وفــي ظـ ّ
أن ِ ّ
نفكــر ،هنــا ،فــي االمتيــازات اإلقطاعيــة أو فــي رقيــم العقــاب) ،كان
بإمــكان ،بــل مــن واجــب هــذه العناصــر الالنســانية ،فــي فتــرة تط ُّورية ما،
ِّ
والمفكريــن أن تغيــظ أفــراد بعــض الفئــات االجتماعيــة ،وكــذا الك ّتــاب
الناطقيــن باســمهم (مثــال ذلــك Voltaireو ،)Lessingوكان بإمكانها،
أيض ـ ًا ،أن ُتحــدث انقالب ـ ًا اجتماعي ـ ًا يجعــل اســتمرارها مســتحي ً
ال ،مــع
احتمــال ارتــكاب مظالــم وأفعــال ال إنســانية أخــرى ســتنتهي ،أيضــ ًا،
بإغاظــة البعــض ..وهكــذا دواليــك.
ِّ
ويشــكل موضــوع رواي َت ْيــه إن مــا يالحظــه ،Robbe-Grillet
78
األو َل َي ْيــن ،هــو التحــ ُّول االجتماعــي واإلنســاني الكبيــر المتر ِ ّتــب عــن
ِّ
األهم ّيــة .فهنــاك ،مــن جهــة، بــروز ظاهر َت ْيــن جديد َت ْيــن ،وفــي منتهــى
التنظيمــات الذاتيــة للمجتمــع ،ومــن جهــة ثانيــة ،صفــة «الرائــي» التــي
يتقمصهــا األفــراد ،تدريجيـ ًا ،فــي المجتمــع الحديــث وغيــاب المشــاركة
َّ
ّ ِ
يســميه علمــاء االجتمــاع الفعليــة فــي الحيــاة االجتماعيــة ،وهــذا مــا
المحدثــون «ال َت َس ُّيس ـ ًا» ( ،)dépolitisationلكنــه ،فــي حقيقــة األمــر،
ظاهــرة أ كثــر جوهريــة يمكننــا تعيينهــا ،وفــق تــدرُّج تعاقبي ،بكلمــات مثل:
ــيس» (« )dépolitisationال َأ ْن َســنة» (،)déshumanisation «ال َت َس ُّ
«تشــيؤ» (.)réification
ُّ «ال تقديــس» (،)désacralisation
((( يالحظ أحد االقتصاديني املعارصين الظاهرة نفسها ،مشريا ً إىل أن األفراد لم تعد لهم ،يف الحياة االقتصادية،
تسجل يف البورصة.
َّ تلك القيمة التي تسمح لوفاتهم بأن
79
الرواية الجديدة والواقع
ّ
بــأي وجــود للعالقــات البشــرية ،ولإلحساســات أن تتم َّتــع ،خارجهــا،
ـتقل .ومــن تج ِ ّليــات هــذه الظاهــرة ،فــي الروايــة ،أن مــا يشــير إلــى
مسـ ّ
وجــود الشــخص الغيــور هــو وجــود مقعــد ثالــث وكأس ثالثــة ..إلــخ.
«ينبغــي النظــر إلــى صحنهــا الفــارغ ،لكــن المل ـ َّوث ،لالقتنــاع بأنهــا
تسـ ُه عــن تقديــم الطعــام لنفســها ( .)...يخلــي النــادل ،اآلن ،المائــدة لــم ْ
ـذر التأ ُّكــد ،مـ ّر ًة أخــرى ،مــن اآلثــار التــي ِ ّ
تلطخ مــن األطبــاق ،بحيــث يتعـ َّ
صحــن أ ،....أو مــن غيابهــا ،إذا كانــت لــم تقـ ِ ّ
ـدم الطعــام لنفســها».
ـم مــن مثــل هــذه التفاصيــل هــو بنيــة عالــم ،تكتســب فيــه إ ّلا أن األهـ ّ
خاصــ ًا ومســتق ً
ال ،ويتم َّثــل فيــه النــاس بهــذه األشــياء ّ األشــياء واقعــ ًا
لعجزهــم عــن الســيطرة عليهــا ،وترتهــن فيــه العواطــف بقدرتهــا علــى
التشــيؤ.
ُّ التمظهــر عبــر
80
محافظيــن علــى نزعــة إنســانية ،صريحــة أو ضمنيــة؛ مــا جعــل رواياتهــم،
َع َلنــ ًا ،روايــات غيــاب .أمّــا عالــم Robbe-Grilletالبــارد ،فيحيــل
معاينــة الغيــاب إلــى الخلفيــة ،إلــى مســتوى الضمنــي ،إلــى درجــة أنهــا
تــكاد تغيــب عــن النقــاد الذيــن يحاولــون إدراك الداللــة الشــاملة لعالمــه.
81
الرواية الجديدة والواقع
إن مســألة معرفــة مــدى وقــوع شــيء فــي الســنة الماضيــة أو عــدم
وقوعــه ،هــي مســألة تطابــق للعالمــات والشــهادات والذكريــات .ففــي
82
عالــم ،Robbe-Grilletال يمكــن أل ّيــة ذكــرى أو شــهادة أن تق ـ ِ ّرر هــل
ا ،أم ،علــى العكــس ،لــم يقــع الســنة الماضيــة فــي التقــى البطــان ،فع ـ ً
أي شــيء ،عــدا بعــض األحــداث العاديــة العديمــة المعنــى ّ Marienbad
كل تلــك التــي تقــع فــي القصــرّ ،
كل والمجـ َّردة مــن الزمــن؛ أحــداث تشــبه ّ
لحظــة .فــا يمكــن لصــورة ،أو لكعــب حــذاء منكســر ،أو لذكــرى إحســاس
مشــترك ببــرد قــارس ،أن تكــون ذات ِ ّ
أهم ّيــة حاســمة .إن مســألة التقــاء
الرجــل والمــرأة أو عــدم التقائهمــا ،فــي الســنة الماضية ،فــي Marienbad
تتع َّلــق ،فقــط ،بالخاصيــة الثابتــة أو الوهميــة لألمــل الــذي مــازال موجــود ًا
ـكل حقيقتــه مضمــون الشــريط .فــإذا حالفهمــا فــي وعيهمــا ،والــذي تشـ ِ ّ
النجــاح ،ال فــي مغــادرة القصــر ،فحســب ،بــل ،أيض ـ ًا ،فــي الحيــاة فــي
مــكان آخــر (فــي الحديقــة ،كمــا ورد فــي الشــريط) حيــاة أصيلــة ،كمــا
ا ،فــي يمكــن فيهــا لألحــداث أن تقــع ،فســيكون َّ
مؤكــد ًا أنهمــا التقيــا ،فعـ ً
.Marienbadأ ّمــا فــي حالــة العكــس ،فــا الصــور وال أ كثــر الشــهادات
صح ـ ًة بقــادرة علــى تعديــل كونهمــا لــم يلتقيــا.
ّ
83
(كمــا يقــوالن ذلــك فــي الشــريط) ال يتصــ َّوران ،بوضــوح ،طبيعــة هــذه
الحيــاة .ذهبــا إلــى الحديقــة ،مؤمّليــن أن تكــون عالمــ ًا جديــد ًا ،عالمــ ًا
يمكــن فيــه للنــاس أن يكونــوا علــى حقيقتهــم ،لكنهمــا لــم يجــدا شــيئ ًا،
ألن الحديقــة وكــذا القصــر ،لــم يكونــا ســوى مقبــرة:
«كان متنـ َّزه هــذا الفنــدق نوعـ ًا مــن الحديقــة ،علــى الطريقــة الفرنســية،
أي نبــات ...كان الحصــى والحجر والمرمر الأشــجار فيهــا ،وال أزهــار ،وال ّ
ـدد فضــاءات جاســئة ومســاحات بــدون ألغــاز .مــن ـط المســتقيم تحـ ِ ّوالخـ ّ
أوَّل وهلــة ،يبــدو غيــر ممكــن أن يتلــف فيهــا المــرء ...مــن أوَّل وهلــة...
علــى طــول الممــ ّرات المســتقيمة ،بيــن تماثيــل ذات حــركات جامــدة
وبالطــات صوانيــة ،حيــث كنــت ،اآلن ،بــدأت تتلفيــن ،إلــى األبــد ،فــي
ســكينة الليــل ،وحيــدة معــي».
كل دراســة سوســيولجية للروايــة ،مشــكل ٌة مبدئيــة؛ هــي تعريــف تعتــرض َّ
ـدد األشــكال ،الدائــم التح ـ ُّول ،والــذي الهــذا الجنــس األدبــي ،المتعـ ِ ّ
تضبطــه قواعــد ثابتــة .بــل يبــدو أن أغلــب كتــب التأريــخ األدبــي أو
ِّ
تقــدم ،للباحــث النقــد األدبــي التتعــ َّرض لهــذه المشــكلة ،بحيــث ال
السوســيولوجي ،ســوى مجموعــة متف ِ ّرقــة مــن المعلومــات أو الخالصــات،
ال برنامج ـ ًا متماســك ًا مــن األبحــاث.
ّ
لحــل مشــكلة التعريــف هــذه، ولعــل أوَّل اقتــراح ،يالمــس الدقّ ــة،
ـص علــى اعتمــاد االســتعماليقدمــه ، (((Henri couletوينـ ّ هــو الــذي ِ ّ
العــادي لكلمــة «روايــة» ،وعلــى محاولــة تحديــد الخصائــص المشــتركة
((( راجع:
Geneviève Mouillaud: (Sociologie des romans de stendhal). in Revue Internationale des
Sciences Sociales. Avril.1968.
87
الرواية الجديدة والواقع
بيــن ّ
كل األعمــال التــي تندرج،عامّــةً ،تحــت التســمية الفرنســية
«.»romans
-عمل نثري،
رغــم كــون هــذه الخصائــص أ كيــدة ،فــي العمــل الروائي ،ت َّتســم ببعض
العموميــة ،بــل ال يجمــع بينهــا ناظــم منهجــي يســمح بتقديــم داللــة نظريــة
لكلمــة «روايــة» .إنهــا مقاييــس تغفــل األســاس فــي الرواية.
88
ـددة ،وترابــط داخلــي ،مــن ضمــن
مجموعــات روائيــة ذات أشــكال محـ َّ
تســمى «روايــات».
ّ محــددة األشــكالَّ مجموعــة مــن األعمــال غيــر
وي َّتســم هــذا المســعى بالســهولة ،حيــن يتع ّلــق األمــر بجنســيات أدبيــة
( )des sousgenresذات صبغــة نعتيــة ،وثانويــة ،مثــل «الروايــة
الســوداء» ،أو «الروايــة البوليســية».
كل المحــاوالت لكــن األعمــال الرائعــة تأبــى دائمــ ًا ،فيمــا يبــدوّ ،
ــدة كتــاب « G.Lucàcsنظريــة الروايــة» التصنيفيــة؛ لذلــك فــإن ِج ّ
( ،)1920وهــي ِج ّ
ــدة ماتــزال معاصــرة ،تكمــن ،بالــذات ،فــي إثباتــه
ـد متباعدة في الزمان والمــكان ،مثل Don Quichotte
انتمــاء أعمــال جـ ّ
و« »Oblomovو« »Meister Wilhelmأو «L`Education
»Sentimentaleإلــى البنيــة الدالليــة نفســها ،وذلــك باعتمــاده علــى
أهــم تحليــات ،Hegelوتطويــره لهــا.
ّ
ومــع ذلــك ،فالكتــاب ليــس سوســيولوجي ًا ،ولعـ ّ
ـل أهــم المآخــذ عليــه
وتعســفه فــي اختيار
ُّ ـام،
الطابــع القبلــي لتعريفاتــه ،ومنحــاه التجريــدي العـ ّ
األمثلــة ،وهــذا ،بالــذات ،مــا دفــع Lukàcsإلــى ممارســة نقــد ذاتــي فــي
ِّ
مقدمــة اســتعادية لكتابــه هــذا ،ســنة .1962
89
الرواية الجديدة والواقع
(2) (Introduction à l`analyse structurale des romans de Malraux). in. (pour une Sociologie
du romans).
90
إراديـ ًا ،باعتبــاره ظاهــرة غريبــة أو نــادرة .غيــر أن ك ّل ّيــة الروايــة هــي ك ّل ّيــة
ـد أمــر ًا وهميـ ًا ،بينمــا مصدوعــة ( ،)une totalitè brisèeوتحقُّ قهــا ي َُعـ ّ
تصـ ِ ّور الملحمــة عا َلمـ ًا ،يكــون فيــه البطل والمجتمــع ،والناس واألشــياء،
والحيــاة ومعناهــا ،فــي عالقــة وفــاق مبدئيــة .ففــي الروايــة ،يصبــح البطل
فــرد ًا ،والقــدر البشــري ســيرة حيــاة .أ ّمــا المجتمــع ،فيتحـ ّول إلــى خلفيــة
سوســيولوجية .كمــا أن األشــياء تصبــح مجــ َّرد إطــار أو آنيــة منزليــة،
فتفقــد ،بذلــك ،عالقتهــا المباشــرة بالحيــاة اإلنســانية.
ولئــن كانــت هنــاك وحــدة نســبية ،ماتــزال تربــط هــذا البطــل الجديــد
أي محكــي ممكنـ ًا بدونهــا ،فإنهــا وحــدة تدهــوربالمجتمــع ،إذ ال يكــون ّ
( )dègradationوضيــاع للمعنــى ،بالمقارنــة مــع الداللــة الكاملــة
والثابتــة للملحمــة .لذلــك ،يتعــارض هــذا البطــل مــع الشــخصيات
يحــس ،عمقــ ًا ،بهــذا الضيــاع؛ ضيــاع معنــى
ّ المحيطــة بــه فــي كونــه
الحيــاة ،وفــي كونــه يســعى إلــى البحــث عــن هــذا المعنــى ،مــادام يرفض
القيــم العرفيــة التــي بهــا يرضــى اآلخــرون .لكــن هــذا البحــث ،فــي عالــم
األعــراف ،ي َّتخــذ ،بالضــرورة ،شــكل الوهــم .أ ّمــا البطــل ،الباحــث عــن
قيــم ،ال اســم لهــا وال واقــع ،فيبــدو كأنــه شــخصية مجنونة أو «إشــكالية»
( :)Problèmatiqueمجــرم ،أو مهــووس ،أو أحمــق.
91
الرواية الجديدة والواقع
إن هــذا النــوع مــن األدب ،باعتبــاره توفيق ـ ًا رخيص ـ ًا بيــن المتط َّلبــات
الحــب..
ّ الحديثــة للروايــة ذات البطــل المفــرد (العالــم الداخلــي،
إلــخ ).وبيــن االندمــاج االجتماعــي الســعيد الــذي تتط َّلبــه الملحمــة،
هــو أقــدر مــن غيــره علــى إشــباع رغبــات القــارئ االســتهالكية .لذلــك،
ِّ
الكميــة علــى فمــن البديهــي أن تكــون لــه ،وباالعتبــار نفســه ،الســيطرة
الروايــة ،كمــا ســبق فــي تعريفنــا لهــا .بــل إن الروايــة تطـ َّورت فــي إطــار
عالقــة «تجادليــة» ( )polémiqueمــع هــذا النــوع مــن األدب الــذي
92
فتمخضــت عــن هــذه
َّ وابتذاليتهــا،
ّ كشــف عــن وهميــة الظاهــرة الروائيــة،
العالقــة روايــات رائعــة كثيــرة ،هــي ،صراح ـ ًة وضمن ـ ًا« ،الروايــات» أو
«روايــات مضادة» (« )»Anti-romansمثل،»Don Quichotte« :
و« ،»Madame Bovaryو«.»La Maison de rendez-vous
كمــا توجــد عالقــة مماثلــة مــن التشــابه والتعــارض بيــن الروايــة ،مــن
جهــة ،وبيــن األدب ذي اإللهــام الرومانســي ،الــذي يمكــن أن يأخــذ
شــكل الشــعر الغنائــي والمســرحية ،بــل كذلــك ،فــي الخصائــص
الخارجيــة ،شــكل الروايــة ،مــن جهــة ثانيــة .وهكــذا ،ت َّتفــق الرؤيــة
الرومانســية للعالــم ،مــع الروايــة ،فــي كونهــا تقابــل بــادة الحيــاة العرفيــة
متميــز ًا عــن األبطــال
ِّ بطموحــات وحيــاة البطــل الداخليــة ،باعتبــاره بطـ ً
ا
خاصتــان فــي الروايــة :أوالهمــا
َّ اآلخريــن .لكــن هــذه الرؤيــة تعوزهــا
التميــز نســبي ال غيــر ،وبــأن البطــل يتأ ّثــر ،فــي ذات
ُّ الوعــي بــأن هــذا
كيانــه بالواقــع المحيــط بــه ،إن طوعــ ًا أو كرهــ ًا«( ،ومــع ذلــك ،فمــن
تميــز ًا
متميــز ًا عــن باقــي الرجــال ُّ
ِّ أجــل هــذا الرجــل ،الــذي اعتبرتــه
ِّ
متميــزة عنهــم» مــن روايــة جــد
ّ شــديد ًا ،أجدنــي ،مثــل ســائر النســاء،
« ،»La prin-cesse de Clévesوثانيتهمــا الســخرية التــي ي َّتســم بهــا
تكيفــه.
جنــون البطــل ،وال ُّ
إن ،Don Quichotteبالنســبة إلــى الرومانســية ،بطــل إيجابــي،
كمــا أن القيمــة ك ّلهــا تكمــن فــي البطــل ،وفــي «إخفاقــه الرائــع» .أ ّمــا
الروايــة ،فهــي تصــارع ،عبث ـ ًا ،لكــن حتــى النهايــة ،ومــن أجــل مالقــاة
المطلب ْيــن .إن
َ مســتحيلة للقيمــة وللواقــع ،دون أن تتخ ّلــى عــن ّ
أي مــن
األدب الرومانســي ،رغــم كــون اســتهالكه المباشــر ضعيفـ ًا ،بالقيــاس إلــى
رواج األدب «الروائــي» ،هــو أكثــر اســتهالك ًا مــن الروايــة ،ذلــك ألن
ـل ،بإمكانيــة القــارئ فــيتشــاؤم صورتــه عــن الحيــاة ال يضـ ّر ،علــى األقـ ّ
93
الرواية الجديدة والواقع
إن الروايــة جنــس محــدود االســتهالك ،ذو شــكل مفــارق ،وروائعــه لــم
ِّ
متأخــر ،أو مــن خــال أنــواع كثيــرة ـظ باالعتــراف بهــا إ ّلا فــي وقــت
تحـ َ
مــن ســوء الفهــم .لكنهــا قاومــت ،بحيويــة عجيبــة ،اختبــارات الزمــن
والتغيــر التاريخــي؛ لذلــك ،تأبــى الروايــة ّ
كل التأويــات السوســيولوجية ُّ
الســهلة ،لكــن شــرط أن ترفــض ذلــك اإلغــراء الــذي يم ِ ّثلــه شــكلها،
بالــذات؛ وهــو تأويلهــا علــى مســتوى المضمــون والتفاصيــل.
إن Lukàcsنفســه ،بعــد أن أصبــح ماركســي ًا ،وعــاد إلــى ممارســة النقد
األدبــي فــي فتــرة الجليــد الســتاليني ،لــم يتفــاد ،دائمـ ًا ،هــذا النــوع مــن
التأويــل .فدراســاته عــن الروايــة التاريخيــة (منشــورات ،)Payotوعــن
Balzacوالواقعيــة النقديــة (منشــورات ،)Maspéroلــم تســتطع تطويــر
سوســيولوجية الروايــة بشــكل حاســم ،رغــم انطوائهــا ،فــي الغالــب ،علــى
آراء عميقــة.
لكــن كتابـ ًا آخــر ،ال ينتمــي إلــى السوســيولوجية مباشــر ًة هــو «Men-
songe romantique et vérité romanesqueلـــ René
94
(»Girardمنشــورات ،)Grassetهــو الــذي أضــاف عناصــر جديــدة
إلــى سوســيولوجية الروايــة .وأوَّل هــذه العناصــر هــو مقولــة «الوســاطة»
( )Médiationاألساســية :يعتقــد Girardأن الحقيقــة التــي تكشــف
عنهــا الروايــة هــي أن ّ
كل رغبــة تعنــي محــاكاة رغبــة اآلخــر ،ومحاولــة
تقمــص نفســية اآلخــر .وهكــذا ،وضمــن بنيــة «مثلثيــة» ،يبــدو اآلخــر
ُّ
وكأنــه وســيط بيــن الفــرد وموضــوع رغبتــه؛ فيكــون ،Amadisمثــ ً
ا،
وســيط ًا بيــن Don Quichotteوالمغامــرة ،مثلمــا يكــون العاشــق
فــي « »ĽEtérnel mariلـــ « »Dostoïevskyوســيط ًا بيــن الــزوج
ـميه « »Girardوعي ـ ًا
الغيــور والمــرأة .أ ّمــا الوعــي الخاطــئ ،الــذي يسـ ّ
رومانســي ًا ،فهــو يجهــل هــذه الســيرورة ،العتقــاده بأنــه يرغــب بطريقــة
ّ
مســتقل ،فتكــون الروايــة كاشــفة لوهمــه. مباشــرة ،والعتقــاده بأنــه
95
الرواية الجديدة والواقع
ّ
وكل مــا ينتجــه وهكــذا ،تطغــى وســاطة المــال الك ّل ّيــة بيــن ّ
كل فــرد
عملــه ورغبتــه ،مــن أشــياء ،بحيــث ال تظهــر العالقــة المباشــرة بيــن
األفــراد واألشــياء بمظهرهــا الخالــص البــريء إ ّلا خلسـةً؛ أي فــي شــكل
حضــور /غيــاب ،أو فــي شــكل لهــب خافــت يخفــق بيــن الخشــب
والرمــاد ،حســب إحــدى االســتعارات البلزاكيــة .وهــذا ،بالــذات ،مــا
يميــز القيــم األصيلــة فــي الروايــة .أ ّمــا البطــل الــذي يســعى باحث ـ ًا عــن
ِّ
هــذه القيــم ،فهــو عبث ـ ًا يحــاول اإلفــات مــن قانــون الوســاطة الك ّلــي.
96
وينضــاف إلــى هــذا التماثــل بيــن بنيــة الروايــة ،وبيــن أحــد المظاهــر
الجوهريــة للبنيــة االجتماعيــة ،االقتصاديــة والرأســمالية ،تطابــق آخــر،
لكنــه تاريخــي ،بيــن تطــ ُّور البني َت ْيــن .وبالفعــل ،تتطابــق الروايــة ذات
البنيــة البيوغرافيــة مــع فتــرة الرأســمالية الليبراليــة ،حيــث ماتــزال ِ ّ
أهميــة
الفــرد فــي ا ِ ّتســاع شــامل ،وذلــك رغــم ّ
كل التحديــدات التــي تفرضهــا
عليــه األعــراف المكتوبــة وغيــر المكتوبــة ،للمجتمــع البورجــوازي الــذي
خلقــه .وفــي هــذا النمــط الروائــي ،بالــذات ،الــذي يســود القــرن التاســع
مهــددة أ كثــر فأ كثــر ،وفــي
َّ عشــر ،تكــون اســتقاللية البطــل النســبية
الوقــت نفســه ،الــذي تتط ـ َّور فيــه الرأســمالية نحــو شــكلها االحتــكاري
األمبريالــي ،هــذا الشــكل الــذي تتناقــض فيــه إمكانــات المبــادرة
الفرديــة.
وفــي بدايــة القــرن العشــرين ،عرفــت الرواية أ كبــر أزماتها ،التــي أثَّرت،
ويميــز « »Goldmannبيــن مرحلتين ِّ أساسـ ًا ،فــي مظهرهــا البيوغرافــي.
فــي هــذه األزمــة (دون أن يغفــل ،طبعـ ًا ،تعقُّ داتهمــا فــي الزمــن)؛ حيــث
تكــون المرحلــة األولــى موســومة بمحــاوالت تســتهدف إعــادة التماســك
للفــرد ،وذلــك بربطــه بوحــدة مشــتركة تتجــاوزه (أســرة ،جماعــة ثوريــة،
أ ّمــة ،)...وتتطابــق هــذه المرحلــة مــع أزمــة الرأســمالية الشــاملة ،ومــع
أثــر األيديولوجيــات االشــتراكية فــي المجتمعــات الرأســمالية الغربيــة
(مث ـ ً
ا :الروايــة االجتماعيــة فــي أميــركا ،خــال الثالثينــات ،وروايــات
.)...Malraux
كل مــن «»Joyce دشــنتها أعمــال ٍ ّأمّــا المرحلــة الثانيــة ،التــي َّ
ـدت إلــى موجــة «الروايــة الجديــدة» الفرنســية،
و« ،»Kafkaوالتــي امتـ َّ
فــي الخمســينات ،مــرور ًا بروايــات « »Sartreو« ،»Camusفهــي
مرحلــة االندثــار التدريجــي للشــخصية الروائيــة التــي فقــدت ،بالتوالــي،
97
الرواية الجديدة والواقع
اســمها (مختــز ً
ال إلــى حرفــه األوَّل) ،كمــا فقــدت هويَّتهــا ،ووحدتهــا ،بــل
تأ ُّكدهــا مــن وجودهــا.
وتوافــق هــذا التح ـ ُّول فــي الروايــة الفتــرة التــي تبتــدئ بنهايــة الحــرب
العالميــة الثانيــة ،والتــي بــدت فيهــا الرأســمالية كأنهــا اكتســبت قــدرات
تنظيــم اقتصــادي تصونهــا مــن األزمــات ،وال تتيــح ،واقعي ـ ًا ،إمكانيــة ّ
أي
تحـ ُّول تاريخــي .أ ّمــا فــي الواقــع ،وفــي الوعــي االجتماعــي ،فقــد كانــت
ييــن تعــوض أ كثــر فأ كثــر بقيــم االمتثــال
الفرد ْ
َّ قيــم المبــادرة والتماســك
والنظــام (راجــع O. Riesmann :وتغيــرات النظــام التربــوي بالواليــات
الم َّتحــدة) .لقــد كانــت الروايــة الجديــدة حكايــة بــدون موضــوع ،لعالــم
بــدون حكايــة ،عالــم ،ربَّمــا ،تعـ َّرض ألولــى ه ّزاتــه بانــدالع أزمــة «مايــو»
االجتماعيــة لســنة ،1968فــي فرنســا.
98
أدبــي ،ونمــ ّو البورجوازيــة منــذ النهضــة .كمــا يتيــح
ّ كجنــس
ٍ الروايــة،
بــروز أســئلة جديــدة ،لكنهــا أســئلة تشـ ِ ّ
ـكل ،هــذه المـ ّرة ،برنامــج أبحــاث
سوســيولوجية ملموســة :بأ ّيــة وســاطات تحققــت هــذه التطابقــات؟ أيــن
تشــكل هــذا الجنــس األدبــي الــذي يفتــرض ،فــي آن واحــد ،قبــو ً
ال َّ
نســبي ًا للقيــم البورجوازيــة الجوهريــة ( الفــرد وح ِ ّريَّتــه) ،وموقفـ ًا انتقاديـ ًا
وواضح ـ ًا مــن هــذه القيــم ذاتهــا؟
ولعـ ّ
ـل األبحــاث األولــى التــي أنجــزت مــن هــذه الزاويــة ،حــول الروايــة
الفرنســية فــي القــرن التاســع عشــر ( ،J.L. Diazو ،G.Mouillaud
((( يحال عىل مقاالت أخرى ،أو عىل G. Lukàcsيف كتابه .Histcire et conscience de classe. Ed. Minuit
99
الرواية الجديدة والواقع
ِّ
ألهم ّيــة التحـ ُّول) ،يمكن وبتبســيط أ كثــر (وهــو تبســيط مشــروع ،نظــر ًا
الك ّتــاب ،إلــى ذلــك الحيــن ،كان بوســعهم أن يتك َّلمــوا مــن القــول إن ُ
وضعيتهــم
َّ أجــل (إلــى ،ونيابــة عــن) فئــات اجتماعيــة ال عالقــة لهــا مــع
كك ّتــاب ،دون أن تؤثّــر هــذه الوضعيــة فــي أنمــاط فكرهــم المبدئيــة. ُ
ـص ،أساسـ ًا،
وتميــز ،تختـ ّ
ُّ فمادامــت هنــاك طبقــة اجتماعيــة ،ذات ِ ّ
أهم ّيــة
الماد ّيــة» ،فــإن ُ
الك ّتــاب، ِّ ـميه «J.B. Sayإنتــاج الخبــرات غيــر بمــا يسـ ّ
يتحــددون ،كذلــك،
َّ مهمــا تكــن عالقاتهــم بفئــات اجتماعيــة أخــرى،
وضعيتهــم مج ـ َّرد ميــزة
َّ ـم ،ال تعــود
بانتمائهــم إلــى هــذه الطبقــة ،ومــن َثـ َّ
فرديــة ،بــل تكتســب بعــد ًا أعـ ّ
ـم.
100
ـت ،داخــل الليبراليــة ،فكــر ًا نقديـ ًا؛ بحيــث إن مواجهــة
نمـ ْ
لكنهــا وضعيــة َّ
مطالــب الليبراليــة ،باالســتقالل وتحقُّ ــق الــذات ،بالواقــع اليومــي
للمجتمــع ،تكشــف عــن تناقضاتهــا الداخليــة.
إن هــذه المظاهــر تختلــف مــن كاتــب إلــى آخــر؛ فنســبة االندمــاج
االجتماعــي تتفــاوت بيــن ،Balzacو ،Stendhalوال تشــترك بيئاتهمــا
ســوى فــي مالمــح بســيطة .وهــي ،علــى مســتوى آخــر ،تختلــف مــن حقبــة
ا، تغيــر ًا كام ـ ً
تغيــرت الوضعيــة االجتماعيــة للمثقَّ فيــن ُّ
إلــى أخــرى؛ فقــد َّ
101
الرواية الجديدة والواقع
ِّ
تقــدم مجــا ً
ال خصبــ ًا لألبحــاث، ّ
ولعــل األشــكال الجديــدة للروايــة
وذلــك بفضــل مــا تراكــم ،اليــوم ،مــن معطيــات علــم االجتمــاع التجريبــي،
يتــم ،بعــد ،اســتغالله .فقــد يســاعد تعريــف E.S ّ إ ّلا أنــه مجــال لــم
-Sanguenettiللطليعــة ،باعتبارهــا محاولــة لإلفــات مــن ظــروف
قافيــة الحديثــة ،وهــي محاولــة مــا تــزال مؤقَّتــة وغيــر مجديــة،
الصناعــة ال ّث ّ
علــى موضعــة الروايــة الجديــدة بجانــب التظاهــرات المثيــرة للرســم
والمســرح ،وعلــى فهمهــا فهمــ ًا نقديّــ ًا :أ ّلا يم ِ ّثــل ســعي العمــل األدبــي
ـد ذاتــه ،وكذلــك وعيــه بإخفاقــه ،الشـ َ
ـكل الحديــث إلــى أن يوجــد فــي َحـ ّ
للبحــث الروائــي؟
كمــا يمكــن ،فــي مجــال آخــر ،التســاؤل حــول ظاهــرة مثيــرة فــي
خاص َت ْيــن بالروايــات الجديــدة
َّ الخمســينيات ،وهــي وجــود سلســل َت ْين
مؤسســة للنشــر ،ذات
وبأهــم المطبوعــات المناهضــة لالســتعمار ،لــدى َّ ّ
محــدد ،هــي «دار .»Minuitفقــد كانــت َّ وعــي وذات اختصــاص
منشــورات هــذه الــدار ،المحظــورة رســمي ًاُ ،ت َتــداول ،صراحـةً ،بيــن أوســاط
معزولــة مــن المثقّ فيــن ،فيمــا كانــت الطبقــات األخــرى تعيــش فــي ال
102
ا ،ســوى وســائل اإلعــام، مبــاالة شــاملة ،والحكومــات ال تراقــب ،فعــ ً
ِّ
تقــدم مواقــف المعارضــة المتذبذبــة .لقــد اســتطاع التــي ق َّلمــا كانــت
هــذا العجــز الجــذري ،وهــذه الحر ّيــة الوهميــة لفئــة قليلــة ،لكــن أساســية،
يشــكال أرضيــة مالئمــة آلخــر تظاهــرة كبــرى عرفتهــا ِّ مــن المثقَّ فيــن ،أن
النــص.
ّ زمنيــ ًا ،باعتبــار تاريــخ كتابــة هــذا
ّ المفارقــة الروائيــة ،آخرهــا
103
Portrait des ecrivains du Nouveau Roman : de gauche a droite : Alain Robbe-Grillet (Robbe Grillet),
Claude Simon, Claude Mauriac, Jerome Lindon, Robert Pinget, Samuel Beckett, Nathalie Sarraute,
Claude Ollier devant le siege de la maison díedition ìLes editions de Minuitî, 1959. ©Dondero/Ed.
Minuit/Leemage
الفهرس
5 -تقديم
ناتالي ساروت
17 -الكتابة الروائية بحث دائم
19 -واقع الناس وواقع الروائي
23 -جدلية الواقع الجديد والتجريب
26 -نحو ُّ
تفكك الشخصية الروائية
29 -المجازفة بمصير الرواية
35 ضد التقليد
-صراع تقليدي ّ
لوسيان جولدمان
51 -الرواية الجديدة :شكالنية أم واقعية؟
54 -سلطة الواقع االجتماعي ،والتاريخي
57 -الشكل الروائي والبنيات االقتصادية
59 -بين البنيات التشييئية والبنيات الروائية
66 -بين ذوبان الشخصية الروائية والتش ُّيؤ
70 ِّ -
أهم ّية التحوّالت االجتماعية ،واإلنسانية
جينفياف مويلو
87 -تماثل بين بنية الرواية والبنية االجتماعية -االقتصادية
إصدارات سلسلة كتاب الدوحة