You are on page 1of 110

‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫‪91‬‬
‫مجانًا مع العدد (‪ )134‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬ديسمبر ‪2018 -‬‬
‫يُوَ َّزع ّ‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬الرواية الجديد والواقع‬


‫تأليف‪ :‬لوسيان جولدمان‪ ،‬ناتالي ساروت‪ ،‬آالن روب غرييه‪ ،‬جينفياف مويلو ‪ -‬ترجمة‪ :‬رشيد بنحدو‬
‫الناشر‪ :‬وزارة ّ‬
‫الثقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك)‪:‬‬
‫ُ‬ ‫العمل َ‬
‫الف ّني للغالف‪ :‬صورة فوتوغرافية (ك ّتاب الرواية الجديدة)‬
‫مجلة الدوحة‬‫ّ‬ ‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم َ‬
‫الف ّني ‪-‬‬
‫الثقافة والرياضة أو ّ‬
‫واليع ِّبر ‪-‬بالضرورة‪ -‬عن رأي وزارة ّ‬ ‫ِّ‬
‫مؤلفه‪ُ ،‬‬
‫مجلة الدوحة‬ ‫هذا الكتاب‪ُ :‬يع ِّبر عن آراء‬
‫الرواية الجديدة‬
‫والواقع‬
‫ناتالي ساروت‬
‫آالن روب غرييه‬
‫لوسيان جولدمان‬
‫جينفياف مويلو‬

‫ترجمة‪:‬‬
‫رشيد بنحدو‬
‫مقدِّ مة‬

‫فــي منتصــف خمســينيات القــرن الماضــي‪ ،‬بــدأت تظهــر‪ ،‬فــي فرنســا‪،‬‬


‫نصــوص ســردية شـ ّ‬
‫ـاذة‪ ،‬تزهــو بتم ُّردهــا علــى نــوع مــن المعيــار الف ّنــي‬
‫الكالســيكي‪ ،‬الــذي ُتع َتبــر الروايــة الواقعيــة (أي البلزاكيــة) أنموذجــ ًا‬
‫تمثيليــ ًا لــه‪ .‬وقــد انفــردت دار باريســية للنشــر‪ ،‬هــي «منشــورات‬
‫مينــوي»‪ ،‬بطباعــة هــذه النصــوص‪ ،‬التــي ســرعان مــا أطلــق عليهــا النقّ ــاد‬
‫هــذه األســماء‪ ،»École de Minuit« :‬و«‪Nouvelle Vague du‬‬
‫‪( »Roman‬الموجــة الجديــدة للروايــة)‪ ،‬و«‪»Nouveau Roman‬‬
‫المضــادة)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(الروايــة الجديــدة)‪ ،‬و«‪(  »Anti-Roman‬الروايــة‬
‫«‪( »Ecole du regard‬مدرســة الرؤيــة)‪ ،‬و«‪»Roman Objectal‬‬
‫(الروايــة الشــيئية)‪ .‬وقــد ألّفهــا‪ ،‬آنــذاك‪ ،‬لفيــف مــن ُ‬
‫الكتــاب المته ّوســين‬ ‫ّ‬
‫بهاجــس التحديــث والتثويــر‪ ،‬هــذه أســماؤهم‪:‬‬

‫‪Nathalie Sarraute (1902 - 1999), Samuel Beckett (1906‬‬

‫‪5‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫‪- 1989), Claude Simon (1913 - 2005), Robert Pinget‬‬


‫‪(1919 - 1997), Claude Ollier (1922 - 2014), Alain Robbe-‬‬
‫‪Grillet (1922 - 2008), Michel Butor (1926 - 2016).‬‬

‫وعلــى رغــم بعــض االختالفــات فــي كيفيــة تدبيــر ّ‬


‫كل واحــد منهــم‬
‫للوســائط األســلوبية‪ ،‬والبالغيــة الكفيلــة بتفعيــل ذلــك الهاجــس‪ ،‬فــإن‬
‫وصيرهــم كتلــة منســجمة‪ ،‬مــن حيــث المنطلــق والغايــة‪ ،‬هــو‬
‫ّ‬ ‫وح َدهــم‪،‬‬
‫مــا َّ‬
‫نــوع مــن الحساســية الجماليــة الحداثيــة‪ ،‬التــي أســهمت فــي تشــكيلها‪،‬‬
‫كل مــن‪ ،G. Flaubert :‬و ‪M.‬‬ ‫منــذ القــرن التاســع عشــر‪ ،‬نصــوص ٍ ّ‬
‫‪ ،Proust‬و ‪ ،F. DOSTOIEVSKI‬و ‪ ،E.A.Poe‬و ‪ ،J. JOYCE‬و‬
‫‪ ،V.WOOLF‬و ‪ ،F. Kafka‬و ‪ ،..J.L.Borges‬وســواهم مــن الك ّتــاب‬
‫الذيــن م َّثلــت نصوصهــم بدايــة للقطيعــة مــع روايــات ‪،H.d.Balzac‬‬
‫لكنهــم (أعنــي ّكتــاب الروايــة الجديــدة فــي فرنســا) أفرطــوا فــي دفــع‬
‫هــذه القطيعــة إلــى أقصــى أمدائهــا عمقــ ًا وجذريّــةً‪ ،‬حيــث ابتدعــوا‬
‫تقنيــات فــي الســرد والتشــخيص والوصــف والحــوار‪ ،‬غيــر مألوفــة؛ مــا‬
‫ع ّرضهــم لحمــات قو ّيــة مــن التشــهير والتشــنيع مــن لــدن «الدوكســا»‬
‫الــرد عليهــا‪ ،‬بإمعانهــم فــي‬
‫ّ‬ ‫قافيــة المحافظــة؛ حمــات بــادروا إلــى‬
‫ال ّث ّ‬
‫كتابــة روايــات هــي‪ ،‬فــي واقــع األمــر‪( ،‬ال‪ -‬روايــات)‪.‬‬

‫وأستطيع أن أوجز مالمح هذه القطيعة الجذرية في ما يأتي‪:‬‬

‫فبعــد أن كانــت لغــة الســرد‪ ،‬فــي الروايــة الواقعية الســائدة‪ ،‬لغة تســجيلية‬
‫تقريريــة تنقــل معرفــة الك ّتــاب المباشــرة بالواقــع‪ ،‬وذلــك بمــا يقتضيه مبدأ‬
‫وحرفيــة‪ ،‬مــن جانــب‪ ،‬وبمــا يتط َّلبــه الوفــاء بمعياريــة‬
‫الصــدق مــن أمانــة َ‬
‫اللغــة الفرنســية مــن صيانــة لبنيتهــا التركيبيــة‪ ،‬الكالســيكية المســكوكة‪،‬‬
‫مــن جانــب آخــر‪ ،‬أصبحــت (أعنــي لغــة الســرد)‪ ،‬فــي الروايــة الجديــدة‪،‬‬
‫«بيضــاء» ترصــد الواقــع فــي درجتــه الصفــر‪ ،‬وهــو مــا يفضــي‪ ،‬حتم ـ ًا‪،‬‬

‫‪6‬‬
‫إلــى إعــادة نظــر جذريــة فــي عالقــة الكلمــات بأشــياء العالــم‪ ،‬حيــث لــم‬
‫تعــد عالقــة ارتــداد مــرآوي‪ ،‬بــل أضحــت عالقــة اســتعالء تباعــدي‪.‬‬

‫كمــا أن الســرد نفســه ‪-‬الــذي كان فــي الروايــة الســائدة‪ ،‬يزاولــه‬


‫المحكيــة‪ ،‬وفــق منطــق‬
‫ّ‬ ‫ســارد ذو معرفــة ك ِ ّل ّيــة بمجريــات األحــداث‬
‫خطّ ــي وســببي رتيــب‪ ،‬تتسلســل فيــه هــذه األحــداث مــن بدايــة ونهايــة‬
‫الروائييــن‬
‫َّ‬ ‫جاهز َت ْيــن‪ ،‬بحكــم كونهمــا مُ فَ َّكــر ًا فيهمــا ســلف ًا‪ -‬أصبــح لــدى‬
‫الجــدد بوليفونيـ ًا‪ ،‬تتنــاوب عليــه أصــوات متداخلــة؛ وهــو مــا يفضــي إلــى‬
‫ـؤدي بعضهــا إلــى‬ ‫ـص إلــى متواليــات حكائيــة متنافــرة‪ ،‬ال يـ ّ‬ ‫تشــظّ ي النـ ّ‬
‫البعــض اآلخــر؛ األمــر الــذي جعــل مــن الســرد نشــاط ًا إشــكالي ًا يك ـ ِ ّرس‬
‫النــص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بنيــات الالتحديــد وااللتبــاس‪ ،‬فــي‬

‫تعاقبيته‬
‫َّ‬ ‫أ ّمــا الزمــن الحكائــي‪ ،‬فــي الروايــة الجديــدة‪ ،‬فقــد تخ َّلــص مــن‬
‫الكرونولوجيــة القياســية فــي الروايــة الواقعيــة‪ ،‬ليتحــ َّول إلــى ســيرورة‬
‫تزامنيــة تتحابــك فيهــا أزمنــة االســتذكار (الماضــي)‪ ،‬واالستشــراف‬
‫التيــار الســريع‬
‫(المســتقبل)‪ ،‬والكتابــة (الحاضــر)‪ .‬فلــم يعــد الزمــن ذلــك ّ‬
‫الــذي يدفــع الحبكــة الروائيــة إلــى األمــام‪ ،‬بــل أصبــح مثــل مــاء راكــد‪،‬‬
‫تحــدث تحــت ســطحه تق ُّلبــات وتح ُّلــات بطيئــة‪ .‬إنــه زمــن الحيــاة‬
‫الديماســية للــذوات‪ ،‬واألصــوات المتناوبــة علــى الســرد‪.‬‬

‫ـاص والنوعي‪ ،‬للزمــن‪ ،‬فــإن طوبوغرافية‬


‫وبالتــازم مــع هــذا التدبيــر الخـ ّ‬
‫الروايــة الجديــدة أصبحــت تتشـ َّ‬
‫ـكل مــن أفضيــة كافكاوية‪ ،‬توحــي بفقدان‬
‫ـكل بوصلــة تحـ ِ ّ‬
‫ـدد لهــا وجهــة مــا‪ ،‬أو تســعفها بالعثــور على‬ ‫الشــخصيات لـ ّ‬
‫ـي‪ ،‬بــدون قيــم‪ .‬وهــي أفضيــة‬ ‫معنــى مــا‪ ،‬لعا َلــم ســديمي‪ ،‬ولوجــود عبثـ ّ‬
‫تفــي بمــا يعتمــل فــي الشــخصيات مــن هواجــس وأحــام وهلســنات‬
‫ممــا تقــول‬ ‫تجعــل منهــا كائنــات غيــر نمطيــة‪ ،‬تقــول ذاتهــا ِ ّ‬
‫النصيــة أ كثــر ّ‬
‫ِّ‬
‫للروائييــن الجــدد أن يج ِ ّردوهــا‬ ‫ذات فاطرهــا (المؤ ِ ّلــف)؛ لهــذا يحلــو‬

‫‪7‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫آدميتهــا‪ ،‬ليكــون مــا ِ ّ‬


‫يوحدهــا هــو أنهــا مجــ َّرد أشــياء‪ ،‬ومــا يفــ ِ ّرق‬ ‫َّ‬ ‫مــن‬
‫ـم أبكــم‪.‬‬ ‫كل واحــدة منهــا بمج ـ َّرد حــرف أبجــدي أصـ ّ‬ ‫بينهــا هــو تســمية ّ‬
‫فينومينولوجيـ ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وإمعانـ ًا فــي تشــييئها‪ ،‬يعمــدون إلــى اإلفــراط فــي وصفهــا‬
‫عمــا وراءهــا مــن حقائــق‬
‫أعنــي كمــا تبــدو فــي ظاهرهــا‪ ،‬بصــرف النظــر ّ‬
‫عمــا توحــي بــه مــن أبعــاد أخالقيــة‪ ،‬أو دالالت نفســية‪،‬‬ ‫أونطولوجيــة‪ ،‬أو ّ‬
‫وغيرهــا‪ ،‬وهــو مــا يعنــي انزياحــ ًا مطلقــ ًا‪ ،‬ال عــن التصــ ُّور التوســيمي‬
‫الواقعــي للشــخصية‪ ،‬الــذي يجعــل منهــا‪ ،‬مثــ ً‬
‫ا‪ ،‬لســان ًا ناطقــ ًا باســم‬
‫يعبئهــا بأفــكار وتص ـ ُّورات ومواقــف تعكــس‪ ،‬دائم ـ ًا‪،‬‬ ‫المؤ ِ ّلــف‪ ،‬حيــث ِ ّ‬
‫قناعتــه اإليديولوجيــة ورؤيتــه للعالــم‪ ،‬فحســب‪ ،‬بــل انزياحــ ًا‪ ،‬كذلــك‪،‬‬
‫عــن التصـ ُّور المــرآوي التقليــدي للفضــاء‪ ،‬الــذي يجعــل منــه صــورة أمينــة‬
‫لمــا يجيــش فــي الشــخصيات مــن مشــاعر واضطرابــات وأهــواء‪.‬‬

‫ولئــن كانــت روايــات النمــط البلزاكــي مونولوجيــة؛ أعنــي منغلقــة علــى‬


‫وخطابيــ ًا‪ ،‬فــإن الروايــة‪ ،‬لــدى الروائييــن‬
‫ّ‬ ‫حكائيــ ًا‬
‫ّ‬ ‫نفســها ومكتفيــة بهــا‪،‬‬
‫الجــدد‪ ،‬تنمــاز ببنيتهــا الديالوجيــة‪ ،‬المتج ِ ّليــة فــي انطــاق الســرد مــن زوايا‬
‫ـددة ومختلفــة‪ ،‬مــن جهــة‪ ،‬وفــي تراكــب نصــوص متن ِ ّوعــة ضمــن‬ ‫نظــر متعـ ِ ّ‬
‫النصــي األصلــي الشــامل مــن جهــة أخــرى؛ ويتع َّلــق األمــر بترصيــع‬
‫ّ‬ ‫النســق‬
‫ـص‪ ،‬فــي مــا يشــبه اإللصــاق التشــكيلي‪ ،‬بمقاطــع مــن نصــوص جاهــزة‬ ‫النـ ّ‬
‫أدبيــة متباينــة‪ ،‬بهــدف إنتــاج ك ِ ّل ّيــة ِ ّ‬
‫نصيــة تنبنــي‬ ‫تنتمــي إلــى أجنــاس ّ‬
‫علــى تقاطعــات وتنافــرات متن ِ ّوعــة األشــكال؛ وهــو مــا يتر َّتــب عنــه وضــع‬
‫ـؤدي إلــى نســف تف ـ ُّرد‬
‫ـص وانغالقــه واكتمالــه موضــع ســؤال يـ ّ‬
‫وحــدة النـ ّ‬
‫ـص الروائــي واكتفائــه الذاتــي‪ ،‬وتكريســه لبنيتــي االنفتــاح والتشــظّ ي‪،‬‬
‫النـ ّ‬
‫والتص ـ ُّرف اللهوانــي فــي نصــوص مــن آفــاق مختلفــة‪ ،‬وغيــر متوقَّعــة‪.‬‬

‫باإلجمــال‪ ،‬تبــدو نصــوص الروايــة الجديــدة مخ ّربــة لـــ «الروائــي» (‪Le‬‬


‫كل قــراءة ســهلة‪ .‬فهــي تقـ ِ ّ‬
‫ـدم‬ ‫‪ .)romanesque‬لذلــك‪ ،‬تســتعصي علــى ّ‬

‫‪8‬‬
‫للقــارئ أشــكا ً‬
‫ال جديــدة ومُ لغــزة‪ ،‬ال يمكــن مقاربتهــا بطرائــق التــذوُّق‬
‫ـص بغيــاب ّ‬
‫كل تعليــق أو تفســير‪،‬‬ ‫والفهــم التقليديــة‪ .‬ويســتفحل إلغــاز النـ ّ‬
‫يتعيــن علــى القــارئ أن يعثــر‪ ،‬بنفســه‪ ،‬علــى قانــون اللعبــة الســردية‪،‬‬
‫بحيــث َّ‬
‫وأن يلملــم عناصــر البنيــة الدراميــة المتناثــرة‪.‬‬

‫يتحصــل مــن هــذا التعريــف الموجــز‪ ،‬بتيــار «الروايــة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬


‫لعــل مــا‬
‫الجديــدة» فــي فرنســا‪ ،‬وكــذا مــن هــذه المقايســة الســريعة بينهــا وبيــن‬
‫الروايــة الواقعيــة‪ ،‬هــو أن لــدى ‪ ،N. Sarraute‬و ‪A. Robbe-‬‬
‫‪ ،Grillet‬وباقــي الروائييــن الجــدد تصــ ُّور ًا مختلفــ ًا‪ ،‬ال لكيفيــة كتابــة‬
‫وبخاصة‪-‬لطبيعــة العالقــة التــي‬
‫ّ‬ ‫النــص الروائــي‪ ،‬فحســب بل‪-‬أيضــ ًا‪،‬‬
‫ّ‬
‫النــص بالواقــع‪ ،‬مــن حيــث هــو مفهــوم تجريــدي وتنفيــذ‬
‫ّ‬ ‫تربــط هــذا‬
‫إجرائــي معــ ًا‪ .‬وأســتطيع أن ّ‬
‫أدعــي أن طريقــة تدبيرهــم لهــذه العالقــة‪،‬‬
‫علــى الخصــوص‪ ،‬هــي مرتبطــة ارتباط ـ ًا وثيق ـ ًا بســؤال ذي شــقَّ ْين‪ ،‬وهــو‬
‫ـردده‬ ‫ِّ‬
‫المقدمــة َفطِ ــن إلــى تـ ُّ‬ ‫ســؤال جوهــري ضمنــي‪ ،‬أخــال أن قــارئ هــذه‬
‫بيــن الســطور؛ أال وهــو‪ :‬مــا هــو «الواقــع» بالنســبة إلــى الروائــي‪ ،‬عا ّمــة؟‬
‫ـك عنــدي فــي‬ ‫خاصــة؟ فــا شـ ّ‬‫ّ‬ ‫ومــا هــو بالنســبة إلــى الروائــي الجديــد‪،‬‬
‫ـدي‪ ،‬وهــو أن الكتابــة‬
‫تيــار «الروايــة الجديــدة» قــد صــادف هــذا التحـ ّ‬
‫أن ّ‬
‫عــن الواقــع الجديــد ‪-‬أعنــي ذلــك الــذي أفرزتــه‪ ،‬فــي أوربــا‪ ،‬حربــان‬
‫نفســي ًا‪ ،‬مــن إحســاس اإلنســان‬
‫ّ‬ ‫كونيتــان مد ِ ّمرتــان‪ ،‬ومــا نتــج عنهمــا‪،‬‬
‫َّ‬
‫ـم علــى منــوال‬
‫القاهــر باليــأس واإلحبــاط والعبــث‪ -‬ال يمكــن لهــا أن تتـ ّ‬
‫الكتابــة الكالســيكية كمــا مارســها «بلــزاك ‪ ،»Balzac -‬أو «زوال ‪-‬‬
‫‪ ،»Zola‬أو «هوغــو ‪ ،»Hugo-‬أو «ســتندال ‪ »Stendhal -‬مثــ ً‬
‫ا‪،‬‬
‫ـد مــن أن‬
‫تلــك التــي اســتهلكت العالــم‪ ،‬وابتذلــت لغــة تشــخيصية‪ .‬فالبـ ّ‬
‫تكــون لـ ّ‬
‫ـكل واقــع جديــد لغــة جديــدة وقوالــب شــكلية مبتكــرة‪ ،‬ووســائط‬
‫أســلوبية مبتدعــة‪ .‬أليــس‪ ،‬بهــذا القانــون‪ ،‬تتطــ َّور اللغــات واألشــكال‬
‫الف ّن ّيــة واألســاليب التعبيريــة؟‬

‫‪9‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ِّ‬
‫الروائييــن الجــدد‬ ‫مــن أجــل أن يعــرف القــارئ العربــي كيفيــة تعاطــي‬
‫مهمــة‪ ،‬انعقــدت‬ ‫ُ‬
‫قمــت بترجمــة أشــغال نــدوة علميــة ّ‬ ‫التحــدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لذلــك‬
‫فــي مسـ ّ‬
‫ـتهل ســتينات القــرن الفــارط‪ ،‬فــي بروكســيل (بلجيــكا)‪ ،‬حــول‬
‫موضــوع «الروايــة الجديــد والواقــع»‪ ،‬شــارك فيهــا كاتبــان ينتميــان‬
‫إلــى «الروايــة الجديــدة» الفرنســية همــا‪،Alain Robbe-Grillet :‬‬
‫ــم مــا يُعــ َرف فــي‬
‫تزع َ‬
‫و ‪ ،Nathalie Sarraute‬وكــذا ناقــد أدبــي ّ‬
‫مناهــج النقــد المعاصــر بـ«البنيويــة التكوينيــة» (‪le structuralisme‬‬
‫‪ ،)génétique‬وهــو ‪ .Lucien Goldmann‬وقــد ارتأيــت أن‬
‫أضيــف إلــى عــروض الثالثــة ترجم ـ َة بحــث‪ ،‬أنج َز ْتــه إحــدى تلميــذات‬
‫«غولدمــان»‪ ،‬هــي ‪ُ ،Geneviève Mouillaud‬تعــ ّرف فيــه بالروايــة‬
‫تعريفـ ًا سوســيولوجي ًا؛ مــا يعنــي أنهــا ســتعالج‪ ،‬أيضـ ًا‪ ،‬وبالضــرورة‪ ،‬عالقــة‬
‫الروايــة بالواقــع‪.‬‬

‫ولــن أعــدم مــن سيتســاءلون عــن جــدوى ترجمتــي ألشــغال النــدوة‬


‫ممــا يجعلهــا‪ ،‬فــي‬
‫ونيــف‪ّ ،‬‬
‫هــذه‪ ،‬وقــد َم ـ َّر علــى انعقادهــا نصــف قــرن ّ‬
‫رأيهــم‪ ،‬متجــاوزة‪ ،‬بالنظــر إلــى مــا راكمتــه الجهــود التنظيريــة‪ ،‬والنقديــة‬
‫ـن الروايــة‪ ،‬مــن تصـ ُّورات واجتهــادات ومواقــف‬
‫المعاصــرة‪ ،‬فــي مجــال فـ ّ‬
‫جديــدة‪ .‬لهــؤالء‪ ،‬يمكــن القــول إن مــا أغرانــي بترجمتهــا ونشــرها هــو‬
‫التحســيس ببعــض القضايــا النظريــة والمنهجيــة الجوهريــة‪ ،‬التــي ارتهــن‬
‫ـن الروايــة فــي فرنســا‪ :‬إنتاجـ ًا ِ ّ‬
‫وتلقيـ ًا‪ ،‬في الخمســينات والســتينات‪،‬‬ ‫بهــا فـ ّ‬
‫وذلــك بمــوازاة تحـ ُّول شــامل وجـ ّ‬
‫ـذري‪ ،‬عرفتــه‪ ،‬فــي الفتــرة ذاتهــا‪ ،‬العلوم‬
‫اإلنســانية عا ّمــة‪ ،‬ومــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬إمــداد العديــد مــن ك ّتــاب الروايــة‬
‫والنقــد الروائــي‪ ،‬فــي العالــم العربــي‪ ،‬ببعــض عناصــر اإلجابــة عــن كثيــر‬
‫َّ‬
‫يتمكنــوا‪ ،‬بعــد‪ ،‬مــن مجاوزتهــا‪ ،‬أو جاوزوهــا‬ ‫مــن التســاؤالت التــي لــم‬
‫مــن غيــر إلمــام بهــا‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫بــل إن مــن الروائييــن (وهــذا أخطــر) مــن أســاؤوا تقديــر الرهانــات‬
‫الجماليــة‪ ،‬والفكريــة التــي قامــت عليهــا تجربــة الروايــة الجديــدة‪ ،‬وفــي‬
‫مقدمتهــا رهــان التجريــب‪ ،‬حصر ّيـ ًا‪ .‬فقــد أمكــن لــي مالحظــة أن بعــض‬ ‫ِّ‬
‫قرائيــ ًا‪ ،‬بنصــوص‬
‫ّ‬ ‫َــن لــم يتم َّرســوا‪،‬‬
‫(خاصــة منهــم م ْ‬
‫ّ‬ ‫الروائييــن العــرب‬
‫الروائييــن الجــدد‪ ،‬إنمــا ســمعوا عنهــا‪ ،‬فقــط‪ ،‬وهــم كثــر) قــد انبهــروا‬
‫بفكــرة التجريــب الســحرية هــذه‪ ،‬فطفقــوا يجترحــون‪ ،‬مثلهــم‪ ،‬تقنيــات‬
‫فــي الســرد والوصــف‪ ،‬وطرائــق فــي التخييــل زعزعــت‪ ،‬فعــ ً‬
‫ا‪ ،‬ثوابــت‬
‫المعيــار الف ّنــي الــذي ك َّرســته‪ ،‬مث ـ ً‬
‫ا‪ ،‬روايــات نجيــب محفــوظ‪ .‬لكــن‪،‬‬
‫مضــن ومســتم ّر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫عــوض أن يفهمــوا أن رهــان التجريــب هــو بحــث‬
‫تحدهــا ضفــاف‪ ،‬اســتفرد ّ‬
‫كل منهــم بتقنيــة أو طريقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومغامــرة مفتوحــة ال‬
‫أدمــن تنفيذهــا فــي جميــع نصوصــه‪ ،‬علــى نحــو‪ ،‬أصبحــت معــه عنوان ـ ًا‬
‫ومميــز ًا لــه عــن باقــي الروائييــن اآلخريــن؛ مــا يعنــي‪ ،‬ال‬
‫ِّ‬ ‫خاصـ ًا دا ّل ًا عليــه‬
‫ّ‬
‫محالــة‪ ،‬وال غرابــة‪ ،‬االجتــرار والتكــرار والجمــود‪.‬‬

‫وألن األد ّلــة علــى مــا أقــول كثيــرة‪ ،‬وحيــث إن موضــوع هــذا الكتــاب‬
‫ِّ‬
‫الروائييــن فــي‬ ‫هــو العالقــة مــع الواقــع‪ ،‬فســأقتصر علــى حــال بعــض‬
‫العجــب‬
‫المشــرق والمغــرب‪ ،‬الذيــن يحلــو لهــم أن يزعمــوا‪ ،‬بمنتهــى ُ‬
‫والخيــاء‪ ،‬أنهــم تأ ّثــروا بموجــة الروايــة الجديــدة فــي فرنســا‪ ،‬والحــال‬
‫أنهــم يظ ّلــون أوفيــاء للحساســية الجماليــة التقليديــة؛ فكــم روائــي عندنــا‬
‫يوحــي‪ ،‬فــي الصفحــات األولــى لروايتــه‪ ،‬بأنــه‪ ،‬علــى منــوال الروائييــن‬
‫أي شــيء ســيكتب‪ ،‬بحيــث‬ ‫الجــدد‪ ،‬ســيكتب مــن غيــر أن يعــرف عــن ّ‬
‫تبــدو الكتابــة‪ ،‬منــذ البدايــة‪ ،‬مســتنفِدة ذاتهــا فــي سلســلة غيــر متجانســة‬
‫مــن التداعيــات الحــ ّرة واالســتيهامات الهوجــاء ذات الصلــة بالزمــن‬
‫ـي مــا‪،‬‬
‫الداخلــي! لكنــه‪ ،‬وفــي مــا يشــبه حركــة تكفيــر عــن ذنــب أو غـ ّ‬
‫ســرعان مــا ينكفــئ إلــى حمــأة الواقــع المعيــش لينصــت إلــى أصدائــه‬
‫الهــادرة فــي وجدانــه‪ ،‬تســتح ّثه علــى أن ي ّتخــذ‪ ،‬بالكتابــة وفــي الكتابــة‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫المواقــف الضروريــة مــن آفــات التخ ُّلــف والجهــل والفســاد والقمــع‬


‫ـدر‪ ،‬بالتخميــن‬
‫يتخبــط فيهــا مجتمعــه‪ .‬وأســتطيع أن أقـ ّ‬
‫َّ‬ ‫واالســتغالل التــي‬
‫والتأويــل‪ ،‬أن هــذا الفهــم لعالقــة الروايــة بالواقــع ينطــوي علــى مغالطــة‬
‫فــي التصـ ُّور‪ ،‬وفــي األداء معـ ًا؛ ذلــك أن الواقــع‪ ،‬لــدى هــذا الروائــي‪ ،‬هــو‬
‫معطــى موضوعــي‪ ،‬موجــود بنفســه‪ ،‬ومكتــف بذاتــه‪ ،‬قبــل فعــل الكتابــة‪،‬‬ ‫ً‬
‫ـم‪ ،‬يكفيــه أن يرهــف الســمع قليـ ً‬
‫ا لنبضــه‪ ،‬ليتج ّلــى أمامــه جاهــز ًا‬ ‫ومــن َثـ ّ‬
‫ومجهــز ًا بمعنــى واحــد‪ ،‬ونهائــي‪ .‬والحــال أن‬ ‫َّ‬ ‫فــي مختلــف صــوره‪،‬‬
‫نصــوص الروايــة الفرنســية الجديــدة‪ ،‬التــي يقولــون‪ ،‬زعمـ ًا وافتــراءً‪ ،‬إنهــم‬
‫تكويني ـ ًا‪ ،‬باســتقاللها عــن عالــم الواقــع‪ ،‬وتقطــع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫متأ ِ ّثــرون بهــا‪ ،‬تجهــر‪،‬‬
‫ـم‪ ،‬مــع نــوع مــن التص ـ ُّور المــرآوي‪ ،‬اآللــي‪ ،‬والمتهافــت‪ ،‬الــذي‬ ‫مــن َثـ َّ‬
‫ينبنــي علــى فكــرة « َت َلوِ َّيـةِ» النـ ّ‬
‫ـص بالنســبة إلــى الواقــع؛ أعنــي أن تكــون‬
‫اللغــة تاليــة وتابعــة لهــذا الواقــع‪ ،‬ال ســابقة لــه‪ .‬ذلــك أن الواقــع بالنســبة‬
‫إلــى تجربــة «الروايــة الجديــدة»‪ ،‬كمــا ســي َّتضح هــذا فــي الكتــاب‪ ،‬ال‬
‫يشــرع فــي الوجــود إ ّلا فــي أثنــاء الكتابــة‪ ،‬وال يصبــح ناجــز ًا إال بعــد‬
‫يتشــكل إال ضمــن الســيرورة‬‫َّ‬ ‫االنتهــاء منهــا‪ ،‬وأن معنــاه‪ ،‬أيضــ ًا‪ ،‬ال‬
‫الالنهائيــة للقــراءة‪ .‬فالرهــان‪ ،‬إذن‪ ،‬وكمــا أقــول دائمـ ًا‪« ،‬ليــس هــو كتابــة‬
‫روايــة عــن الواقــع‪ ،‬بــل هــو كتابــة هــذا الواقــع روائيـ ًا»‪ ،‬بــكل مــا يعنيــه‬
‫وأس ـ َلبة‪ ،‬وتخييــل‪.‬‬
‫ـام وتباعــد‪ْ ،‬‬
‫هــذا مــن تسـ ٍ‬

‫ـي ‪،Sarraute‬‬
‫وإذا كان ‪ ،Goldmann‬وهــو بصــدد مناقشــة مداخل َتـ ْ‬
‫مهم َت ْيــن تســاعدان‬
‫ـد َّ‬
‫و ‪ ،Robbe-Grillet‬قــد اعتبرهمــا «وثيقتيــن جـ ّ‬
‫علــى فهــم األدب المعاصــر»‪ ،‬وتوضحــان مــا يكتنــف إشــكالية عالقــة‬
‫الروايــة بالواقــع‪ ،‬مــن تعقُّ ــد وغمــوض‪ ،‬فإننــي‪ ،‬مــن جهتــي‪ ،‬أعتبــر‬
‫مجمــوع المداخــات وثيقــة أساســية‪ ،‬يمكــن أن يســتفيد منهــا ّ‬
‫كل‬
‫وإن فــي ارتباطهــا بالواقــع؛ ذلــك‬
‫ــد ذاتهــا‪ْ ،‬‬
‫إن فــي َح ّ‬
‫مهتــم بالروايــة‪ْ ،‬‬
‫ّ‬
‫ـي‬
‫قطب ْيــن كبي َر ْيــن ينتميــان إلــى الحقــل نفســه المعنـ ّ‬
‫أنهــا تشــمل شــهادة َ‬
‫‪12‬‬
‫خاصــة‪ .‬كمــا تشــمل اعترافـ ًا‬
‫ّ‬ ‫بالمســاءلة؛ أي الروايــة‪ ،‬والروايــة الجديــدة‬
‫ضمنيـ ًا بمشــروعية «الروايــة الجديــدة‪ « ،‬خصوصـ ًا وأن هــذا االعتــراف‬
‫لمــدة طويلــة‪ ،‬بمناهضتــه‬
‫ّ‬ ‫تميــز‪،‬‬
‫صــادر عــن محفــل فكــري وفلســفي‪َّ ،‬‬
‫لـ ّ‬
‫ـكل كتابــة متجــاوزة ومخلخلــة للعرفــي والمتــوارث؛ أال وهــو محفــل‬
‫ِّ‬
‫الماديــة التاريخيــة‪ ،‬التــي تح َّولــت‪ ،‬علــى أيــدي بعــض التبســيطيين‬
‫كل مشــروع مغايــر يبحــث عــن‬ ‫واالختزالييــن‪ ،‬إلــى لعنــة قدريــة تطــارد ّ‬
‫كينونــة إبداعيــة خــارج اإلجمــاع الدوكســولوجي‪ .‬ويتع َّلــق األمــر هنــا‪،‬‬
‫طبع ـ ًا‪ ،‬بـــ ‪ ،Goldman‬الفيلســوف والناقــد األدبــي الماركســي‪ ،‬وكــذا‬
‫ِّ‬
‫الماديــة‬ ‫ببعــض تالمذتــه األوفيــاء المعروفيــن بســعيهم إلــى تخليــص‬
‫ومدهــا‬
‫التاريخيــة‪ ،‬كنقــد ميكانيكــي ودوغمائــي‪ ،‬مــن عنــق الزجاجــة‪ّ ،‬‬
‫بمــا ِ ّ‬
‫يؤهلهــا لفتــح حــوار ب ّنــاء مــع مــا اع ُتبــر‪ ،‬إلــى حيــن‪ ،‬تحريفي ًا وســلبي ًا‪.‬‬

‫ترصــد النصــوص األربعــة المؤ ِ ّلفــة لهــذا الكتــاب‪ ،‬إذن‪ ،‬الروايــة عا ّمــة‪،‬‬
‫خاصــة‪ ،‬فــي ارتباطهــا بالواقــع‪ ،‬مثيــر ًة جملــة‬
‫ّ‬ ‫والروايــة الفرنســية الجديــدة‬
‫مــن األســئلة اإلشــكالية‪ ،‬مــن بينهــا‪:‬‬

‫‪ -‬ما التص ُّور السائد لعالقة الروائي بالواقع؟‬

‫‪ -‬ما طبيعة الواقع الروائي؟‪ ،‬وما هي داللته؟‬

‫‪ -‬هــل للتحــ ُّوالت االجتماعيــة‪ ،‬واالقتصاديــة‪ ،‬أثــر مــا فــي البنيــات‬


‫الروائيــة؟‬

‫‪ -‬هــل يتنافــى مطلــب البحــث والتجريــب مــع الواقــع‪ ،‬والواقعيــة‪،‬‬


‫وااللتــزام؟‬

‫المثلى للروايات الجديدة؟‬


‫‪ -‬كيف تكون القراءة ُ‬
‫إلــى غيــر ذلــك مــن األســئلة التــي سـ ّ‬
‫ـتظل قائمــة مــا دام قائم ـ ًا ذلــك‬

‫‪13‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫مضــاد‬
‫ّ‬ ‫التناقــض الضمنــي األزلــي بيــن وعــي ممتثــل وثابــت‪ ،‬وآخــر‬
‫ومتحــ ِ ّول‪.‬‬

‫أشــير‪ ،‬أخيــر ًا‪ ،‬إلــى أن جميــع العناويــن الداخلية من وضعي الشــخصي‪،‬‬


‫كمــا أشــير إلــى أننــي ترجمــت النصــوص الثالثــة األولــى عــن أصولهــا‬
‫ـاص بـــ‪:‬‬
‫المنشــورة فــي «‪ »Revue de l’Institut de Sociologie‬خـ ّ‬
‫«‪ ،»Problèmes d’une sociologie du roman‬جامعــة بروكســيل‬
‫ـص الرابــع‪ ،‬فقــد ترجمتــه عــن أصلــه‬ ‫الح ـ ّرة‪ ،‬العــدد ‪ .1963 ،2‬أ ّمــا النـ ّ‬
‫ـاص مــن المج ّلــة نفســها‪ ،‬بمناســبة الذكــرى الثانيــة‬ ‫المنشــور فــي عــدد خـ ّ‬
‫لوفــاة ‪ ،Goldmann‬يحمــل عنــوان‪:‬‬

‫‪Lucien Goldmann et la sociologie du roman»،(1975).‬‬

‫د‪ .‬رشيد بنحدو‬

‫‪14‬‬
‫ناتالي ساروت‬
‫)‪Nathalie Sarraute (1900-1999‬‬

‫‪ -‬الكتابة الروائية بحث دائم‬

‫‪ -‬واقع الناس وواقع الروائي‬

‫‪ -‬جدلية الواقع الجديد والتجريب‬

‫‪ -‬نحو ُّ‬
‫تفكك الشخصية الروائية‬

‫‪ -‬المجازفة بمصير الرواية‬

‫ضد التقليد‬
‫‪ -‬صراع تقليدي ّ‬
‫الكتابة الروائية بحث دائم‬

‫ـب م ّنــا أن نحدثكــم‪ ،‬الليلــة‪ ،‬عــن «الروايــة الجديــدة»‪ .‬وبمــا إننــي‬‫ُطلـ َ‬


‫لســت فيلســوفة وال عالمــة اجتمــاع‪ ،‬فــا يســعني إ ّلا أن أعــرض عليكــم‬
‫ـدم بعــض اآلراء المتع ّلقــة بممارســتي‬‫وجهــة نظــر كاتبــة روائيــة‪ ،‬وأن أقـ ِ ّ‬
‫الشــخصية‪.‬‬

‫كثيــر ًا مــا يتســاءل النــاس‪ ،‬اليــوم‪ :‬مــا هــذه الروايــة الجديــدة‪ ،‬بالــذات؟‬
‫ولعـ َّ‬
‫ـل الذيــن قــرأوا إنتاجاتنــا الروائيــة قــد الحظــوا أن هنــاك اختالفـ ًا فــي‬
‫ـم‪ ،‬يتســاءلون عــن حقيقــة مــا يجمعنــا‪.‬‬
‫تجاربنــا‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬
‫أعتقــد أن تصــ ُّور ًا مــا‪ ،‬لــأدب‪ ،‬هــو مــا يجمعنــا‪ ،‬وأن هــذا التصــ ُّور‬
‫ال‪ ،‬مــن مبــدأ أساســي‪ ،‬هــو أننــا نؤمــن بــأن األدب‪،‬‬‫المشــترك ينبــع‪ ،‬أ َّو ً‬
‫كســائر الفنــون‪ ،‬ينبغــي أن يرتكــز علــى بحــث (‪.)recherche‬‬

‫وأن يكــون األدب بحثــ ًا‪ ،‬فهــذا األمــر يبــدو بديهيــ ًا‪ ،‬بــل أعتقــد أنــه‬

‫‪17‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ـد بديهــي‪ ،‬لدرجــة أنــه يبــدو لــي‪ ،‬وأنــا أقــول هــذا‪ ،‬أننــي أقـ ّر حقيقــة‪،‬‬
‫جـ ّ‬
‫لــم تعــد فــي حاجــة إلــى إقــرار‪.‬‬

‫والرســامين‬
‫ّ‬ ‫ولكــن كلمــة «بحــث»‪ ،‬وهــي فــي قواميــس الموســيقيين‬
‫عاد ّيــة‪ ،‬بشــكل نغبطهــم عليــه‪ ،‬ماتــزال تغيــظ بعــض النــاس‪ ،‬حيــن يتع َّلــق‬
‫األمــر بالروايــة‪ ،‬إذ يبــدو أن لهــذه الكلمــة مظهــر ًا متك ّلفـ ًا وذهنيـ ًا وإراديـ ًا‬
‫ولعــل هــذا راجــع إلــى تلــك الصــورة‬ ‫َّ‬ ‫ال يناســب الكاتــب الروائــي؛‬
‫ِّ‬
‫يقــدم بهــا بعــض‬ ‫المشــينة التــي يك ِ ّرســها بعــض النقّ ــاد‪ ،‬بــل التــي‬
‫الروائييــن أنفســهم للقــ ّراء؛ وهــي أن الكاتــب الروائــي مخلــوق تح ِ ّركــه‬
‫خفــي‪ ،‬اليــدري أيــن يســير‪ ،‬وال يعــرف‬
‫ّ‬ ‫بوحــي‬
‫ٍ‬ ‫قــوى غامضــة‪ ،‬يكتــب‬
‫كنــه مــا يفعــل‪ ،‬هــو مخلــوق يكتــب مثلمــا تغـ ِ ّرد العصافيــر‪ ،‬بــل أ كثــر مــن‬
‫ـي يجتــرح المعجــزات‪.‬‬
‫ذلــك‪ ،‬هــو خالــق عوالــم اســتثنائية‪ ،‬ونبـ ٌّ‬

‫أعتقــد أنــه قــد حــان وقــت نبــذ مثــل هــذه المواقــف الرومانســية‪ .‬ولعــل‬
‫هــذا مــا يب ـ ِ ّرر حــرص روائييــن كبــار مثــل ‪ Henry James‬و ‪Virgina‬‬
‫‪ Woolf‬و ‪ ...Macel Proust‬علــى كتابــة ِ ّ‬
‫مقدمــات طويلــة لرواياتهــم‪،‬‬
‫يعرضــون فيهــا آراءهــم فــي األدب‪ ،‬ويشــرحون فيهــا معاناتهــم فــي‬
‫الكتابــة الروائيــة‪.‬‬

‫ذلــك أن نصيــب الغمــوض والالوعــي واإلبهــام‪ ،‬فــي أيّــة عمليــة‬


‫ِّ‬
‫األهم ّيــة بحيــث ال داعــي‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬لتغميــض مــا يمكــن‬ ‫إبداعيــة‪ ،‬هــو مــن‬
‫أن يكــون واضحــ ًا‪.‬‬

‫سأســتعمل‪ ،‬إذن‪ ،‬كلمــة «بحــث» هــذه‪ ،‬رغــم كونهــا مشــبوهة وصادمــة‬


‫ـدي اقتناعـ ًا راســخ ًا‪ ،‬هــو أن الكتابــة الروائيــة‬
‫لبعــض األذهــان؛ ذلــك أن لـ َّ‬
‫عمليــة بحــث دائــم‪ ،‬وهــذا البحــث يســعى إلــى تعريــة واقــع مجهــول‪،‬‬
‫وإلــى إيجــاد هــذا الواقــع المجهــول‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫واقع الناس وواقع الروائي‬
‫أعــرف أنكــم ســتقاطعوني بخصــوص هــذه النقطــة‪ .‬ســيقاطعني‬
‫تتحدثــون؟ مــا هــو الواقــع‪ ،‬فــي‬
‫َّ‬ ‫الفالســفة قائليــن‪ :‬عــن ّ‬
‫أي واقــع‬
‫تص ُّوركــم؟ لســت فيلســوفة‪ ،‬كمــا قلــت لكــم؛ لذلــك‪ ،‬ســأ كون حــذرةً‪،‬‬
‫بحيــث لــن أغامــر بنفســي فــي مجالهــم‪ .‬أمــا فــي مجالــي أنــا‪( ،‬مجــال‬
‫ـد واضــح‪ ،‬وهــي ذات‬ ‫الكتابــة الروائيــة) فكلمــة «واقــع» تعنــي شــيئ ًا جـ ّ‬
‫داللــة صريحــة لــدى ّ‬
‫كل كاتــب روائــي‪.‬‬

‫هنــاك واقــع يــراه ّ‬


‫كل النــاس‪ ،‬ويدركونــه بشــكل فــوري ومباشــر‪ ،‬واقــع‬
‫ومحــدد‪ ،‬واقــع اجت َّرتــه أشــكال تعبيريــة‪ ،‬أصبحــت‬
‫َّ‬ ‫معــروف ومــدروس‬
‫هــي نفســها معروفــة ومســطّ حة لكثــرة تكرارهــا‪.‬‬

‫هــذا الواقــع ليــس‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬واقــع الكاتــب الروائــي‪ ،‬فهــو مج ـ َّرد مظهــر‬
‫يوهــم بالواقــع‪ .‬الواقــع‪ ،‬بالنســبة إلــى الروائــي‪ ،‬هــو المجهــول والالمرئــي‪،‬‬
‫هــو مــا رآه بمفــرده‪ ،‬ومــا يبــدو لــه أنــه أوَّل مــن يســتطيع رصــده‪ .‬الواقــع‬

‫‪19‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫لديــه هــو ماتعجــز األشــكال التعبيريــة المألوفــة والمســتهلكة عــن التقاطه‪،‬‬


‫ال جديــدةً‪ ،‬ليكشــف عــن نفســه‪.‬‬ ‫مســتلزم ًا طرائــق وأشــكا ً‬

‫مــا هــو‪ ،‬إذن‪ ،‬هــذا الواقــع‪ ،‬الــذي ينافــي الواقــع المباشــر والمبتــذل‬
‫والمكشــوف‪ ،‬الواقــع المعــروف والمــدروس الــذي يمكــن ّ‬
‫ألي أحــد أن‬
‫يدركــه‪ ،‬فــور ًا؟ يتشـ َّ‬
‫ـكل الواقــع‪ ،‬لدينــا مــن عناصــر متناثــرة فــي فضــاء‬
‫العــدم‪ ،‬نحزرهــا‪ ،‬ونحدســها بشــكل غامــض‪ ،‬عناصــر ذات تشــابك معقَّ ــد‬
‫وســديمي‪ ،‬ال تنبــض بالحيــاة‪ ،‬فــي كتلــة االفتراضــات واالحتمــاالت‬
‫الالمتناهيــة‪ ..‬هــي تائهــة‪ ،‬ووراء حجــب المرئــي والمبتــذل واال ِ ّتفاقــي‬
‫هــي كامنــة‪.‬‬

‫ـص األدبــي الــذي يكشــف‬ ‫وبقــدر مــا يكــون الواقــع جديــد ًا‪ ،‬يكــون النـ ّ‬
‫ّ‬
‫شــاذ وغيــر مألــوف‪ ،‬مثلمــا يكــون ذا تأثيــر‬ ‫عــن هذاالواقــع‪ ،‬ذا شــكل‬
‫عميــق يســمح بهتــك ذلــك الســتار الســميك‪ ،‬الــذي يقــي طرائــق إدراكنــا‬
‫كل أنــواع التشــويش واالنحــراف‪.‬‬‫وإحساســنا مــن ّ‬

‫َّ‬
‫يتشــكل مــن تلــك الرؤيــة الخادعــة التــي توهــم‬ ‫هــذا الســتار الواقــي‬
‫بالواقــع‪ ،‬ومــن مجمــوع الكليشــيهات اال ِ ّتفاقيــة والصــور الجاهــزة التــي‬
‫َتحــول‪ ،‬فــي ّ‬
‫أي وقــت‪ ،‬بيــن القــارئ والواقــع الجديــد الــذي يكشــف‬
‫ـص‪ ،‬مثلمــا تحــول بيــن الكاتــب والواقــع الــذي يريــد أن يكشــف‬
‫عنــه النـ ّ‬
‫عنــه‪.‬‬

‫هــذا العالــم الخــادع‪ ،‬عالــم المظاهــر‪ ،‬هــو عالــم ّ‬


‫كل واحــد م ّنــا‪ .‬إنــه‪،‬‬
‫الك ّتــاب الذيــن يســترخون‪ ،‬مطمئنيــن إلــى‬ ‫كذلــك‪ ،‬عالــم صنــف مــن ُ‬
‫الســهولة‪ ،‬وقانعيــن بالحيــاة‪.‬‬

‫هــذه الكتلــة مــن الكليشــيهات الجاهــزة‪ ،‬والصــور الم َّتفَ ــق عليهــا‪،‬‬
‫واإلحساســات المتبذلــة‪ ..‬هــي مــا يصــدم آذاننــا وأعيننــا فــي ّ‬
‫كل‬

‫‪20‬‬
‫مــكان‪ ،‬هــي مــا ترشــح بــه سلســلة مــن األغانــي واألشــرطة الســينمائية‬
‫واإلعالنــات التجاريــة والصحافــة‪ ،‬واإلذاعــة‪ ،‬واألحاديــث والثرثــرات‪،‬‬
‫والمعــارف الســيكولوجية االبتدائيــة التــي نكتســبها مــن قراءتنــا للكتــب‬
‫التبســيطية والمؤلّفــات الرخيصــة‪.‬‬

‫ممــا تختزنــه أذهــان النــاس مــن روائــع‬ ‫ـكل‪ ،‬أيض ـ ًا‪ّ ،‬‬‫هــذه الكتلــة تتشـ َّ‬
‫ـكل‬‫الماضــي الخالــدة‪ ،‬كمــا فهموهــا‪ ،‬أو كمــا أفهمــت لهــم‪ ،‬ســابق ًا‪ ..‬تتشـ َّ‬
‫يترســب فــي ذاكراتهــم مــن هــذه الروائــع‪ ،‬بعــد أن انقطعــت صلتهــم‬
‫َّ‬ ‫ممــا‬
‫بهــا مــن زمــن بعيــد‪ :‬بضــع شــخصيات مســطّ حة‪ ،‬مشــاهد باهتــة‪ ،‬انطبــاع‬
‫ـام يتــاءم والــذوق االعتيــادي الســائد‪.‬‬
‫عـ ّ‬

‫إن الواقــع المبتــذل (واقــع القــارئ وواقــع الكاتــب) هــو صــورة للعالــم‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكل اآلثــار التــي تكــ ّون التجربــة‬ ‫ِّ‬
‫يقدمهــا لنــا رصيــد معارفنــا وثقافتنــا‬
‫ّ‬
‫لــكل واحــد منــا‪ ،‬صــورة معروفــة وتافهــة‬ ‫األدبيــة‪ ،‬والفلســفية‪ ،‬والف ّن ّيــة‬
‫ّ‬
‫للمجتمــع وللطبيعــة وللعالقــات االجتماعيــة‪ ،‬كمــا تصوغهــا آراؤنــا‬
‫المســبقة والجاهــزة عــن علــم النفــس واألخــاق‪ ،‬والميتافيزيقــا‪ ،‬والشــعر‪،‬‬
‫وعمــا ا ّتفــق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عمــا اعتدنــا اعتبــاره كذلــك‪،‬‬ ‫والجمــال‪ ،‬أو‪ ،‬علــى األقـ ّ‬
‫ـل‪ّ ،‬‬
‫خاصــة فــي مجــال األدب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فــي فتــرة مــا‪ ،‬علــى اعتبــاره كذلــك‪،‬‬

‫ـكل مــن هــذه المجموعــة مــن المفاهيــم‬ ‫هــذا الواقــع العــادي‪ ،‬المتشـ ِ ّ‬
‫كل واحــد منــا للعالــم‪ ،‬يصمــد‪ ،‬بعنــف‪ ،‬أمــام الواقــع‬‫التــي تصــوغ رؤيــة ّ‬
‫كل قوانــا لــردع‬ ‫ال‪ ،‬بــل إننــا نكـ ِ ّرس ّ‬‫خفيـ ًا ومجهــو ً‬
‫ّ‬ ‫الجديــد الــذي يبقــى‬
‫هــذا الواقــع الجديــد‪ ،‬باعتبــاره جســم ًا غريب ـ ًا ومزعج ـ ًا‪ ،‬وربَّمــا‪ ،‬ضــا ّر ًا‪،‬‬
‫يذكــر بالجرثومــة‬ ‫يعكــر واقعنــا المألــوف والمريــح حيــث نعيــش‪ ،‬جســم ًا ِ ّ‬ ‫ِّ‬
‫التــي يحاصرهــا عــدد ال يحصــى مــن الكريّــات البيضــاء بمجــ َّرد أن‬
‫تتس ـ َّرب إلــى جســد اإلنســان‪ .‬أحيان ـ ًا‪ ،‬يســتعين الروائــي بواقــع عــادي‪،‬‬
‫مهمتــه الكشــف عــن واقــع جديــد‪ ،‬أو هــو يســتهدف واقعـ ًا جديــد ًا‬
‫تكــون َّ‬

‫‪21‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫مــن خــال رصــده للواقــع العــادي‪ .‬حينئــذ‪ ،‬يكــون هــذا الواقــع العــادي‬
‫هــو مــا يلتقطــه الق ـ ّراء وأغلــب النقّ ــاد‪ .‬إنــه واقــع يخفــي‪ ،‬فــي رأيهــم‪،‬‬
‫واقع ـ ًا جديــد ًا‪.‬‬

‫وحيــن تكشــف الروايــة عــن واقــع جديــد‪ ،‬فــإن هــؤالء القـ ّراء والنقّ ــاد‬
‫ينزعــون إلــى اختزالــه وإدماجــه ضمــن أنســاق أصبحــت معروفــة‪ ،‬باحثيــن‬
‫لــه عــن نمــاذج وأنمــاط تماثلــه‪ ،‬إنهــم‪ ،‬بذلــك‪ ،‬يشــ ّلون هــذا الواقــع‬
‫الجديــد‪ ،‬ويمســخونه بواســطة مــا تفــرزه ذكرياتهــم وتص ُّوراتهــم المبتســرة‬
‫مــن عصــارة مبتذلــة‪ ،‬ثــم يســتهلكونه‪ ،‬دبق ـ ًا‪ ،‬مخنوق ـ ًا‪ ،‬ال نبــض فيــه‪.‬‬

‫نصــ ًا جديــد ًا‪ ،‬ولــم يعثــروا فيــه عــل تلــك‬


‫إذا حــدث أن قــرأ هــؤالء ّ‬
‫كل إبــداع روائــي‪ ،‬فإنهــم‬‫المك ِ ّونــات التــي تبــدو لهــم ضروريــة فــي ّ‬
‫نص ـ ًا مســتهجن ًا ومخالف ـ ًا للمألــوف‪ ،‬واســمين إ ّيــاه بالتجــارب‬ ‫يعتبرونــه ّ‬
‫المخبريــة التــي ال يمكــن أن تنتــج آثــار ًا ف ِ ّن ّيــ ًة حقيقيــةً‪ ،‬مادامــت ال‬
‫تعكــس ذلــك الواقــع المرئــي والمبتــذل‪ ،‬الــذي ال يســتطيعون االســتغناء‬
‫عنــه‪.‬‬

‫ـص الجديــد‪ ،‬ذلــك الــذي ينبــض بواقــع جديد‪،‬‬ ‫كيــف يمكــن‪ ،‬إذن‪ ،‬للنـ ّ‬
‫أن يقهــر مــا يبديــه هــؤالء القـ ّراء والنقّ ــاد مــن مقاومــة ورفــض لواقــع يشـ ّ‬
‫ـذ‬
‫عــن المألوف؟‬

‫ّ‬
‫ظــل‬ ‫بــكل بســاطة‪ ،‬يمكنــه ذلــك باإلمعــان فــي البحــث عــن واقــع‬
‫النــص مــن ولــوج‬
‫ّ‬ ‫ال حتــى اآلن‪ ،‬وهــذا البحــث‪ ،‬الــذي يمنــع‬‫مجهــو ً‬
‫دائــرة إدراك القــارئ‪ ،‬وتذوُّقــه‪ ،‬بطريقــة مباشــرة وفوريــة هــو‪ ،‬بالــذات‪،‬‬
‫مــا ســيمنح لهــذا القــارئ قــوة االنتصــار علــى ّ‬
‫كل مقاوماتــه للواقــع‬
‫الجديــد‪ ،‬إمّــا بواســطة تعــ ُّوده المثابــر عليــه‪ ،‬أو عــن طريــق اقتحامــه‬
‫بالعنــف‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫جدلية الواقع الجديد والتجريب‬
‫مــادة جديــدة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يحــث الروائــي علــى اســتغالل‬ ‫هــذا البحــث‪ ،‬الــذي‬
‫ومجهولــة وذات صمــود أمامــه‪ ،‬هــو مــا يثيــر فضولــه وانفعالــه‪ ،‬ويغريــه‬
‫كل األعــراف‬ ‫بالتجريــب‪ .‬إنــه يرغمــه علــى أن يرفــض‪ ،‬باســتمرار‪ّ ،‬‬
‫المــادة الجديــدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والمعاييــر والطرائــق التــي تحــول بينــه وبيــن هــذه‬
‫مانعــ ًة إيّــاه مــن إدراك كنههــا‪.‬‬

‫إن البحــث ِ ّ‬
‫يحفــز الكاتــب الروائــي إلــى تجــاوز األشــكال المســتهلكة‬
‫حيــة‪ ،‬كمــا‬
‫والعقيمــة‪ ،‬وإلــى تجريــب أدوات جديــدة وخلــق أشــكال ّ‬
‫المجانيــة والالمســؤولية‪ ،‬ومــن اســتنفاد الجهــد‬
‫ّ‬ ‫يمنعــه مــن العمــل وســط‬
‫توخــي «أشــكال جميلــة»‪ ،‬أي أشــكال ت َّتفــق مــع مقاييــس جماليــة‬ ‫فــي ّ‬
‫فاعليــة تلــك‬
‫ّ‬ ‫الفاعليــة وحدهــا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مقـ َّررة ســلف ًا‪ .‬إنــه يســتح ّثه علــى التمــاس‬
‫الحركــة التــي‪ ،‬بواســطتها‪ ،‬ينكشــف الواقــع الخفــي‪ ،‬ويتشـ َّ‬
‫ـكل‪.‬‬

‫إن البطــل الرياضــي ِ ّ‬


‫يفكــر فــي ضــرب الكــرة بـ ّ‬
‫ـأدق طريقــة‪ ،‬وأســرعها‪،‬‬

‫‪23‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ـم‪ ،‬وبــدون إدراك منــه‪،‬‬


‫وأقواهــا‪ ،‬ال فــي إنجــاز حركــة جميلــة‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬
‫تــدرك حركتــه جماليــة عفويــة‪.‬‬

‫الفاعليــة هــذا‪ ،‬هــو مــا َضمِ ــن لكبــار روّاد الواقــع الخفــي‬
‫ّ‬ ‫التِمــاس‬
‫ـد ًة ومباشــرةً‪ ،‬كمــا ضمــن لهــم أقــرب‬
‫وحـ ّ‬ ‫ّ‬
‫أدق األســاليب وأكثرهــا أصالـ ًة ِ‬
‫الســبل وأنجــع التقنيــات لتجليــة هــذا الواقــع الخفــي‪ ،‬الــذي كانــوا‬
‫يهمهــم‪ ،‬أساسـ ًا‪ ،‬هــو موضــوع‬
‫يطمحــون إلــى إعــادة خلقــه‪ ،‬ألن مــا كان ّ‬
‫ّ‬
‫بأقــل األدوات‪.‬‬ ‫البحــث الــذي كانــوا يجهــدون أنفســهم فــي تجليتــه‪،‬‬

‫وهكــذا‪ ،‬بقــدر مــا يكــون البحــث عســير ًا‪ ،‬يكــون الواقــع الــذي‬
‫يستكشــفه الكاتــب جديــد ًا‪ ،‬ويكــون شــكله جديــد ًا كذلــك‪ ،‬وبقــدر مــا‬
‫يكــون الواقــع باهتـ ًا ومبتــذ ً‬
‫ال وســطحي ًا‪ ،‬يكــون الشــكل‪ ،‬أيضـ ًا‪ ،‬مســطّ ح ًا‬
‫ومبتــذ ً‬
‫ال وباهتــ ًا‪.‬‬

‫ِّ‬
‫روائيــي القــرن الماضــي‪ ،‬مــن ســعي موفَّــق‬ ‫إن مــا برهــن عنــه كبــار‬
‫وجــرأة وحيويــة وقـ ّوة مواجهـ ٍة‪ ،‬هــو‪ ،‬بالــذات‪ ،‬مــا يكفــل خلــود أعمالهم‪،‬‬
‫ألن أعمالهــم‪ ،‬حتــى حينمــا يتحـ َّول الواقــع الجديــد‪ ،‬الــذي كشــفوا عنــه‪،‬‬
‫بالفاعليــة والدقّ ــة وقــ ّوة تأثيــر األســلوب‬
‫ّ‬ ‫إلــى واقــع مبتــذل‪ ،‬تحتفــظ‬
‫وصرامــة البنــاء التــي اقتضاهــا الجهــد المنجــز‪ ،‬مــن أجــل الكشــف عــن‬
‫واقــع مجهــول وإعــادة خلقــه‪.‬‬

‫هــذا االنتقــال الدائــم مــن المعلــوم إلــى المجهــول‪ ،‬مــن المرئــي إلــى‬
‫الخفــي‪ ،‬يجعــل األدب‪ ،‬كســائر الفنــون‪ ،‬فــي حالــة تحـ ُّول مســتم ّر‪ .‬لكــن‬
‫الغريــب أن هــذه الفكــرة‪ ،‬رغــم بســاطتها وبداهتهــا‪ ،‬تغيــظ معظــم النقّ ــاد‪،‬‬
‫بحيــث ال يكفّ ــون عــن الســؤال‪« :‬مــا تخريفاتكــم هــذه عــن البحــث‬
‫تتحدثــون؟»‪( .‬قلــت لكــم‪ ،‬قبــل‬
‫َّ‬ ‫والتجريــب؟ ومــا هــذه اللغــة التــي بهــا‬
‫قليــل‪ ،‬إن لغتنــا ال تروقهــم!)‬

‫‪24‬‬
‫إنهــم يعتقــدون أن «األدب هــو العالــم‪ ،‬منظــور ًا إليــه مــن خــال مــزاج‬
‫عــدة «أمزجــة» متناثــرة عبــر‬
‫معيــن»‪ ،‬قاصديــن بذلــك إلــى أن هنــاك ّ‬
‫َّ‬
‫مســيرة األدب‪« ،‬أمزجــة» تعايــن‪ ،‬بالطريقــة نفســها‪ ،‬الواقــع الثابــت‬
‫ـم‪ّ ِ ،‬‬
‫تعبــر عنــه بالكيفيــة نفســها‪.‬‬ ‫نفســه‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬
‫إننــا كثيــر ًا مــا نســمع بعــض النقّ ــاد والقـ ّراء يه ِ ّنئــون أنفســهم بكــون هــذه‬
‫ـجلت بــزوغ كاتــب موهــوب‪ ،‬لــه حـ ّ‬
‫ـظ التوفُّ ــر علــى‬ ‫الســنة أو تلــك قــد سـ َّ‬
‫ـم‪ ،‬هــو‬
‫مــزاج ‪ ،Benjamin Constant‬أو ‪ ،Stendhal‬أو غيرهمــا‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬
‫يمتلــك رؤيــة للعالــم تماثــل رؤيتهــم لــه‪ ،‬ويكتــب روايــات تشــبه رواياتهــم!‪.‬‬

‫يتغيــر باســتمرار؛ فمــا كان‬


‫ومــع ذلــك‪ ،‬الواقــع المرئــي‪ ،‬حيــث يعيشــون‪َّ ،‬‬
‫كل عمــل جديــد‪ ،‬بمجـ َّرد أن‬ ‫ـي ومبتــذل‪ .‬إن ّ‬
‫خفيـ ًا يتحـ َّول إلــى واقــع مرئـ ّ‬
‫ّ‬
‫يغيــر الواقــع الــذي نعرفــه‪ ،‬فيصبــح جــزء ًا مــن‬
‫ـم اســتيعابه واســتهالكه‪ّ ِ ،‬‬
‫يتـ ّ‬
‫ذلــك الواقــع المرئــي الــذي لــم يعــد يغــري باالستكشــاف‪.‬‬

‫إن ّ‬
‫كل روائــي‪ ،‬حيــن يشــرع فــي الكتابــة‪ ،‬ينطلــق مــن هــذا الواقــع‬
‫معينــة‪ ،‬والــذي تصوغــه إســهامات الروائييــن الذيــن‬
‫المعــروف فــي فتــرة َّ‬
‫ســبقوه؛ وألجــل ذلــك‪ ،‬هــو ال يحتــاج إلــى قــراءة ّ‬
‫كل الروايــات‪ ،‬ألن الواقع‬
‫الــذي يكتنفــه يمــور باألحــداث التــي تص ِ ّورهــا هــذه الروايــات‪ .‬وكمــا‬
‫قــال‪ ،‬يومـ ًا‪ ،‬أحــد ُ‬
‫الك ّتــاب الشــباب‪ ،‬فــي نــدوة شــاركت فيهــا‪« :‬لنصــارح‬
‫أي واحــد م ّنــا لــم يقــرأ ‪ ،Joyce‬لكنــه َأ ّثــر فينــا جميع ـ ًا!»‪.‬‬
‫أنفســنا‪ :‬إن ّ‬

‫إن كاتبـ ًا موهوبـ ًا يحظــى بامتالك مــزاج ‪ Stendhal‬أو ‪ ،Balzac‬ويكتب‪،‬‬


‫اليــوم‪ ،‬تبعـ ًا لذلــك‪ ،‬روايــات تماثــل رواياتهمــا‪َ ،‬ل ّ‬
‫يذكــر بعالــم فيزيائــي معاصــر‬
‫يقــوم بأبحــاث وتجــارب‪ ،‬دون أن يعتبر تجــارب ‪ Einstein‬أو ‪.Planck‬‬

‫تغيــر علــى‬
‫وهكــذا‪ ،‬حيــن بدأنــا نكتــب‪ ،‬كان الواقــع الــذي نعــرف قــد َّ‬
‫أيــدي ُ‬
‫الك ّتــاب الذيــن ســبقونا‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫تفكك الشخصية الروائية‬


‫نحو ُّ‬
‫لقــد اجتاحــت األدب ثــورة حقيقيــة فــي الربــع األوَّل مــن هــذا القــرن‪،‬‬
‫ثــورة صنعهــا ‪ ،Proust‬و ‪ ،Joyce‬و ‪ ،Virgina Woolf‬و‪،Kafka‬‬
‫بحيــث إن هــؤالء الروائييــن أعــادوا النظــر فــي الشــخصيات الروائيــة‪،‬‬
‫باعتبارهــا مركــز الثقــل فــي الروايــة التقليديــة‪ ،‬السـ ّـيما حيــن ُت َك َّيــف هــذه‬
‫الشــخصيات بواســطة الحبكــة الروائيــة‪.‬‬

‫لقــد فقــدت الشــخصية الروائيــة التقليديــة ق َّوتهــا اإلقناعيــة‪ ،‬فأصبحــت‪،‬‬


‫فــي العمــق‪ ،‬تجســيد ًا لالبتــذال والوهــم‪ ،‬وذلــك لكثــرة استنســاخها عبــر‬
‫أنمــاط‪ ،‬الحصــر لعددهــا؛ فقــد و ّلــى‪ ،‬منــذ عهــد‪ ،‬ذلــك الوقــت الــذي‬
‫ك ّنــا نؤمــن فيــه بقــدرة الشــخصية الروائيــة علــى أن ِ ّ‬
‫تعبــر وحدهــا‪ ،‬ليــس‪،‬‬
‫فقــط‪ ،‬عــن واقــع مجهــول مــا‪ ،‬بــل‪ ،‬كذلــك‪ ،‬عــن الواقــع المرئــي واليومــي‬
‫الــذي نعــرف‪ ،‬وكمــا ع َّل َمنــا رؤيتــه ‪ ،Reud‬و ‪ ،Proust‬و ‪ ،Joyce‬و‬
‫‪ .Kafka‬لذلــك نالحــظ‪ ،‬فــي الروايــة الراهنــة‪ ،‬نزوع ـ ًا إلــى إهمــال هــذا‬

‫‪26‬‬
‫التقليــد الروائــي الصــرف الــذي أصبــح يم ِ ّثلــه بطــل الروايــة‪ ،‬بحيــث أن‬
‫ـكك‪ ،‬لدرجــة أنهــا‬‫الشــخصية الروائيــة بــدأت‪ ،‬تدريجي ـ ًا‪ ،‬تتق َّلــص وتتفـ َّ‬
‫ـادة الجديــدة التــي‬
‫هشــة وغيــر ثابتــة للمـ ّ‬ ‫ـكل إال دعامــة ّ‬‫أضحــت ال تشـ ِ ّ‬
‫ـادة الجديــدة بلغــت درجــة‬ ‫كل جانــب‪ .‬بــل إن هــذه المـ ّ‬‫تطفــح بهــا مــن ّ‬
‫مــن التعقيــد‪ ،‬بحيــث أصبــح بطــل الروايــة التقليديــة عاجــز ًا عــن احتوائها‬
‫داخــل حــدوده المرســومة بصرامــة ودقّ ــة‪ .‬وإذا كان بعــض ُ‬
‫الك ّتــاب مــا‬
‫يزالــون‪ ،‬اليــوم‪ ،‬يعتمــدون‪ ،‬فــي رواياتهــم‪ ،‬علــى الشــخصية‪ ،‬فليــس ذلــك‬
‫إ ّلا باعتبارهــا دعام ـ ًة تمليهــا الصدفــة‪ ،‬أو عنصــر ًا يوهــم بالواقــع‪.‬‬

‫ـجل الرســم مثــل هــذا التحـ ُّول الــذي عرفــه األدب‪ ،‬حيــث اقتنــع‬
‫لقــد سـ َّ‬
‫ـادة التشــكيلية‬
‫الف ّنانــون بضــرورة إهمــال الــذات مــن أجــل اســتجالء المـ ّ‬
‫مهــدت لــه‪،‬‬
‫فــي حالتهــا الخالصــة الناصعــة‪ .‬غيــر أن هــذا التحـ ُّول‪ ،‬الــذي َّ‬
‫الك ّتــاب الذيــن ذكــرت أســماءهم‪ ،‬لــم يحـ َ‬
‫ـظ‬ ‫فــي مجــال األدب‪ ،‬روايــات ُ‬
‫باعتــراف النقّ ــاد وقبــول القـ ّراء الذيــن مايزالون‪ ،‬فــي أغلبيتهــم‪ ،‬يحكمون‬
‫علــى الروايــات وفــق مقاييــس مســتهلكة‪ ،‬ومبتذلــة‪ ،‬محتكميــن‪ ،‬بغبــاء‪،‬‬
‫الحيــة» العتيــق‪ ،‬وكأن عجلــة التطـ ُّور قــد توقّ فــت!‬
‫ّ‬ ‫إلــى مبــدأ «الشــخصية‬

‫حيــة؟‪ ،‬ولمــاذا يقــال عنهــا‬


‫أتســاءل‪ :‬مــاذا يعنــي أن تكــون الشــخصية ّ‬
‫حيــة؟ هــل يقــال إن مــا يجعــل البــارون ‪ de Charlus‬شــخصية‬
‫إنهــا ّ‬
‫«حيــة»‪ ،‬أو الطبيــب ‪ Cottard‬كذلــك‪ ،‬هــو تلــك الحركيــة الماهــرة‬ ‫ّ‬
‫والمعقَّ ــدة التــي كان ‪ Marcel Proust‬يشــيعها فــي رواياتــه‪ ،‬مــا أكســبها‬
‫خلــود ًا‪ ،‬أم يقــال إن مــا يضفــي الحيــاة علــى البــارون والطبيــب‪ ،‬هــو‬
‫كونهمــا (ومهمــا يفعــل ‪ )Proust‬شــخصيتين تســتجيبان لتلــك الصــورة‬
‫عمــا ينبغــي‬
‫ترســبت فــي أذهاننــا ّ‬
‫المقـ َّررة والم َّتفــق عليهــا‪ ،‬الصــورة التــي َّ‬
‫أن يكــون عليــه سـ ِ ّـيد إقطاعــي ذو شــخصية بــارزة‪ ،‬أو طبيــب نفعــي ّ‬
‫وفظ؟‬

‫إن حكــم بعــض القــراء أو النقّ ــاد علــى شــخصية روائيــة مــا بأنهــا‬

‫‪27‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ِّ‬
‫وتفكــر وتتك َّلــم وفق ـ ًا‬ ‫«حيــة» يرجــع‪ ،‬باألســاس‪ ،‬إلــى كونهــا تتص ـ َّرف‬
‫ّ‬
‫للطريقــة التــي يــرون بهــا (أو يعتقــدون أنهــم يــرون بها) مجمــوع النماذج‬
‫ّ‬
‫وتفكــر وتتك َّلــم‪ ،‬نمــاذج يســهل التعـ ُّرف‬ ‫البشــرية المحيطــة بهــم تتصـ َّرف‬
‫ترددهــا فــي نــوع مــن األدب‪ ،‬بــل حتــى فــي بعــض الروائــع‬
‫إليهــا لكثــرة ُّ‬
‫المنتميــة إلــى الماضــي‪ ،‬بــل إن حكــم هــؤالء علــى شــخصية مــا بأنهــا‬
‫كل واحــد‬ ‫حيــة مق ّلــدة وا ِ ّتفاقيــة) يختلــف بحســب مقاييــس ّ‬
‫حيــة (وهــي ّ‬
‫ّ‬
‫حيــة‪ .‬أمّــا بالنســبة‬
‫شــخصياته الروائيــة ّ‬
‫ّ‬ ‫منهــم‪ .‬فقــ ّراء ‪ Delly‬يجــدون‬
‫إلــى المعجبيــن بـــ ‪ ،Georges Ohnet‬فليســت هنــاك شــخصية تنبــض‬
‫بالحيــاة أ كثــر مــن شــخصية السـ ِ ّـيد ‪.!de Forges‬‬

‫ال‪ ،‬إننــي أعتقــد أن الحيــاة التــي تســتحقّ أن يكتــب عنهــا‪ ،‬هــي‪ ،‬بــدون‬
‫منــازع‪ ،‬حيــاة الواقــع الجديــد‪ ،‬حيــاة جانــب مجهــول مــن العالــم‪ ،‬يمكــن‬
‫للقــارئ أن يكتشــفه بــدوره‪ ،‬وذلــك بفضــل مجهــود يخ ِ ّلصــه مــن جميــع‬
‫طرائــق الرؤيــة واإلحســاس الم َّتفــق عليهــا‪ ،‬ومــن ّ‬
‫كل األوهــام التــي بهــا‬
‫يطفــح وعيــه‪.‬‬

‫ـادة‬
‫إن هــذا الموقــف الحديــث‪ ،‬الــذي يقضــي بتركيــز البحــث علــى مـ ّ‬
‫مجهولــة‪ ،‬ال علــى الشــخصية‪ ،‬كان‪ ،‬بالق ـ ّوة‪ ،‬موقــف كبــار ُك ّتــاب بدايــة‬
‫هــذا القــرن‪ ،‬بحيــث إن هاجــس ّ‬
‫كل مــن ‪ ،Proust‬و ‪ ،Joyce‬و ‪،Kafka‬‬
‫كان الكشــف عــن واقــع جديــد‪ ،‬وليــس خلــق نمــاذج جديــدة مرصــودة‬
‫لمنافســة الحالــة المدنيــة‪ ،‬مثــل أبطــال الروايــة البلزاكيــة‪.‬‬

‫‪28‬‬
29
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫المجازفة بمصير الرواية‬


‫ســاد االعتقــاد بــأن التحـ ُّول النوعــي الــذي عرفتــه الممارســة الروائيــة‪،‬‬
‫فــي بدايــة هــذا القــرن‪ ،‬ســيدفع بالروايــة الحديثــة إلــى آفــاق مســتقبلية‪،‬‬
‫وال شــيء يمكنــه تعطيــل ذلــك‪.‬‬

‫ٌ‬
‫ــارات كانــت‬ ‫لكــن العكــس هــو مــا حــدث‪ ،‬إذا عطّ لــت التحــ َّو َل ّ‬
‫تي‬
‫تعمــل فــي ا ِ ّتجــاه معاكــس‪ ،‬فخمــدت الثــورة الرائعــة التــي اجتاحــت‬
‫الروايــة‪ ،‬فبعــد الحــرب‪ ،‬ارتــادت الروايــة آفاقـ ًا أخــرى‪ ،‬وأنتــم تعرفــون أن‬
‫الســنوات التــي تلــت الحــرب شــهدت ســيادة مطلقــة لــأدب الســلوكي‪،‬‬
‫يســمى‪ ،‬فــي الواليــات الم َّتحــدة األميركيــة‪« ،‬البيهافيوريــة»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أي مــا‬

‫لقــد قيــل إن ‪ Proust‬و‪ ،Joyce‬وغيرهمــا مــن ُك ّتــاب بدايــة القــرن‬


‫قــد تجــاوزوا حــدود البحــث المعقولــة‪ ،‬وإن المغــاالة فــي التدقيــق‬
‫والتحليــل‪ ،‬علــى طريقــة ‪ ،Proust‬بدعــة غيــر مجديــة‪ ،‬وال ينتــج عنهــا‬
‫ســوى تفتيــت ال نهائــي للشــخصيات الروائيــة‪ ،‬فاقتنــع الجميــع بعبثيــة‬

‫‪30‬‬
‫التع ُّلــق بمثــل هــذه التجــارب‪.‬‬

‫وقيــل‪ ،‬أيض ـ ًا‪ ،‬إن اإلنســان‪ ،‬فــي الواقــع‪ ،‬تكشــف عنــه أفعالــه كام ـ ً‬
‫ا‬
‫غيــر مجـ َّزء‪ ،‬وإن هــذه األفعــال‪ ،‬وهــي غريبــة وغيــر مألوفــة‪ ،‬فــي الغالــب‪،‬‬
‫كل الكلمــات‬‫تعكــس‪ ،‬بمفردهــا‪ ،‬الواقــع الجديــد‪ ،‬بــل هــي أقــدر مــن ّ‬
‫علــى التعبيــر عــن هــذا الواقــع‪ ،‬مهمــا يكــن معقَّ ــد ًا‪ ،‬وإن علــى القــارئ أن‬
‫يستكشــف جوانــب هــذا الواقــع بواســطة مــا يختزنــه ال وعيــه مــن ذخائــر‪.‬‬

‫كل هــذه المواقــف كانــت تجــازف بمصيــر الروايــة‪ .‬فهــي‪ ،‬وإن أدت‪،‬‬
‫فــي أقـ ّ‬
‫ـل األحــوال‪ ،‬إلــى نتائــج مقبولــة‪ ،‬قــد جعلــت القــارئ‪ ،‬فــي أغلبها‪،‬‬
‫الســيما أن وعــي‬
‫ّ‬ ‫يجهــد نفســه فــي مــلء فــراغ الشــخصيات الروائيــة‪،‬‬
‫القــارئ لــم يكــن يلتقــط عــن هــذه الشــخصيات‪ ،‬وهــي تتصـ َّرف‪ ،‬ســوى‬
‫انطباعــات بســيطة‪.‬‬

‫كان القــارئ‪ ،‬إذن‪ ،‬يمــأ فــراغ الشــخصيات بواســطة مــا يتو َّفــر عليــه‬
‫مــن وســائل‪ ،‬تلــك التــي بســطتها أمامكــم‪ ،‬قبــل قليــل‪ ،‬فــكان‪ ،‬بطريقــة‬
‫مــا‪ ،‬يؤ ِ ّثــث ذلــك الفــراغ بمــا تك َّونــت لديــه مــن معــارف ســيكولوجية‬
‫رخيصــة‪ ،‬ومــن تصـ ُّورات مبتســرة وإحساســات مبتذلــة‪ ،‬كمــا كان يصطنــع‬
‫نمــاذج‪ ،‬تح ِ ّركهــا عواطــف فــي منتهــى التبســيط‪.‬‬

‫كانــت النتيجــة‪ ،‬إذن‪ ،‬أن شــخصيات الروايــة التقليديــة اســتعادت‪ ،‬خفيةً‪،‬‬


‫ـكلها ومركزهــا فــي األدب‪ ،‬بعــد أن كان وجودهــا قــد تفـ َّ‬
‫ـكك بفضــل‬ ‫تشـ ُّ‬

‫ِّ‬
‫روائيــي بدايــة القــرن‪ ،‬ثــم كانــت موجــة األدب الملتــزم‪.‬‬ ‫تجــارب كبــار‬

‫وأنتــم تعرفــون ســبب احتقــار أنصــار هــذا األدب للبحــث عــن واقــع‬
‫ـادة روائيــة جديــدة؛ فهــم يعتقــدون أن هــذا البحــث يفضي‬ ‫جديــد‪ ،‬عــن مـ ّ‬
‫ـادة مجهولــة‪ ،‬ومتماثلــة عنــد الجميــع‪ ،‬وأنــه ال يقيــم وزنـ ًا‬
‫إلــى اكتشــاف مـ ّ‬
‫ـدم المجتمعــي‪ ،‬وأن‬
‫للمواقــف والفــوارق الطبقيــة‪ ،‬وأنــه يســيء إلــى التقـ ُّ‬

‫‪31‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ّ‬
‫كل أدب يســتند إلــى بحــث‪ ،‬هــو أدب يكتبــه بورجوازيــون‪ ،‬ويخاطــب‬
‫بورجوازييــن‪ ،‬وأن المطلــوب أدب يصــف الصراعــات االجتماعيــة‪،‬‬
‫ويص ـ ِ ّور اإلنســان ملتزم ـ ًا ومنخرط ـ ًا فــي الفعــل االجتماعــي‪.‬‬

‫هكــذا‪ ،‬فــإن األدب الملتــزم‪ ،‬عجــز ًا منــه عــن تحقيــق كال الهدفيــن‪،‬‬
‫وفض َ‬
‫ــل تربيــة‬ ‫َّ‬ ‫قــد اختــار األخــاق علــى حســاب الواقــع المجهــول‪،‬‬
‫ـكل‬‫ـي هــو‪ ،‬أساسـ ًا‪ ،‬يشـ ّ‬
‫الجماهيــر‪ ،‬وتثقيفهــا علــى استكشــاف عالــم خفـ ّ‬
‫جوهــر األدب ووظيفتــه‪.‬‬

‫ومهمــا تكــن مثــل هــذه النوايــا قابلــة للتأويــل‪ ،‬فإنهــا كانــت تعنــي‬
‫المخاطــرة بتــرك الغنيمــة والتع ُّلــق بالطيــف‪ .‬والطيــف‪ ،‬هنــا‪ ،‬ليــس ســوى‬
‫تلــك الشــخصية الروائيــة العتيقــة التــي ال تتوانــى فــي االســتجابة ألوَّل‬
‫نــداء‪ ،‬مســتعيد ًة مكانهــا‪ ،‬ومســترجع ًة امتيازاتهــا‪ ..‬بــل الطيــف‪ ،‬هنــا‪ ،‬هــو‬
‫نمــط مــن الشــخصيات تنعــدم فيــه أبســط مســتويات الدقّ ــة والتعقيــد‬
‫اللذيــن يَسِ ــمان شــخصيات الروايــات التقليديــة‪ ،‬بحيــث ســاد الروايــات‬
‫أبطـ ٌ‬
‫ـال إيجابيــون أو ســلبيون‪ ،‬لــم يكونــوا‪ ،‬فــي الغالــب‪ ،‬ســوى صــورة لـــ‬
‫‪ ،Epinal‬أو تمثــال مــن متحــف ‪.!Grèvin‬‬

‫يؤطــر هــؤالء األبطــال‪ ،‬ويمنحهــم نوعــ ًا مــن‬ ‫أمّــا الشــكل الــذي كان ِ ّ‬
‫الحيــاة‪ ،‬فهــو أكثــر األشــكال مباشــر ًة وبســاطةً‪ ،‬معتمــد ًا علــى لغــة مبتذلــة‪،‬‬
‫بشــكل عفــوي‪ .‬إنــه الشــكل الواقعــي كمــا أورثــه ‪ ،Tolstoi‬واقعيــة‬
‫منحطــة عاشــت عصرهــا الذهبــي فــي القــرن الماضــي‪.‬‬

‫أدى مثــل هــذا الموقــف إلــى إيجــاد وضعيــة غيــر معقولــة‪ ،‬وهــي‬
‫وقــد ّ‬
‫ال منتميــة إلــى األدب البورجــوازي‪ ،‬أشــكا ً‬
‫ال منحطّ ــة وجامــدة‬ ‫أن أشــكا ً‬
‫رصــد‪ ،‬رغــم ذلــك‪ ،‬لخدمــة الثــورة أو لصيانــة المكتســبات‬
‫وعتيقــة‪ُ ،‬ت َ‬
‫الحيــة هــي مــا‬
‫ّ‬ ‫األدبيــة‬
‫ّ‬ ‫الثوريــة‪ ،‬بينمــا المفــروض أن تكــون األشــكال‬

‫‪32‬‬
‫المهمــة!‬
‫ّ‬ ‫ُرصــد إلنجــاز هــذه‬
‫ي َ‬

‫هــل أ كــون فــي حاجــة‪ ،‬إذن‪ ،‬إلــى تكــرار مــا تعرفونــه‪ ،‬وهــو أن روائييــن‬
‫رجعييــن مثــل ‪ ،Blazac‬و ‪ Flaubert‬و ‪ Dostoievsky‬قــد ســاهموا‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المتحجــرة‪ ،‬ألن كشــفهم‬ ‫بقــ ّوة‪ ،‬فــي تحطيــم الهيــاكل االجتماعيــة‬
‫ـي كان يحمــل‪ ،‬فــي ذاتــه‪ ،‬بــذور ًا ثوريــة حقيقيــة‬
‫وحـ ّ‬
‫عــن واقــع جديــد َ‬
‫عملــت علــى تعريــة الواقــع المز ُّيــف‪ ،‬وفضــح األحــكام المســبقة‪ ،‬وهــدم‬
‫ـي وح ـ ّر‪،‬‬
‫األعــراف االجتماعيــة‪ ،‬مثلمــا عملــت علــى تجليــة مــا هــو حـ ّ‬
‫وفــرض مــا هــو صــادق وجديــر باالحتــرام؟‬

‫ال ملتزمــة اســتطاعت‪ ،‬فعـ ً‬


‫ا‪ ،‬أن تح ِ ّرض‬ ‫طبعـ ًا‪ ،‬لســت أنفــي‪ ،‬هنــا‪ ،‬أعمــا ً‬
‫علــى انبثــاق واقــع مجهــول وجديــد مــن صلــب الواقــع االجتماعــي‬
‫الترصــد‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الســيما إذا كانــت هــذه األعمــال ثمــرة العفويــة‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫الســائد‪،‬‬
‫ـل مســرح ‪ Brecht‬أصــدق مثــال علــى ذلــك‪.‬‬ ‫ولعـ ّ‬

‫تســببا فــي تعطيــل المســيرة التحويليــة‬‫َّ‬ ‫تحدثــت‪ ،‬إذن‪ ،‬عــن عائقَ ْيــن‬ ‫َّ‬
‫للروايــة الحديثــة‪ ،‬وأرانــي‪ ،‬هنــا‪ ،‬ملزمـ ًا باإلشــارة إلــى نمــط روائــي مايــزال‬
‫ا‪ ،‬هــو اآلخــر‪ ،‬مســيرة الروايــة نحــو البحــث‬ ‫يحظــى بســلطة قويّــة‪ ،‬معرقــ ً‬
‫والتغيــر‪ ،‬وأقصــد بــه الروايــة ذات الشــكل الكالســيكي الجديــد‪ ،‬التــي لــم‬
‫ُّ‬
‫ِّ‬
‫روائييــن كبــار مثــل ‪ ،Queeneau‬فــي تخليــص األدب منهــا‪.‬‬ ‫تفلــح جهــود‬
‫وقــد بلغــت نســبة ُ‬
‫الك ّتــاب الذيــن ِ ّ‬
‫يوظفــون هــذا الشــكل النيوكالســيكي‪،‬‬
‫القائــم علــى التحليــل‪ ،‬درجــةً‪ ،‬أصبحــت معهــا رواياتهــم ذات اســتهالك‬
‫ماهيــة األدب الثابتــة‪ ،‬لدرجــة أن‬‫ّ‬ ‫واســع‪ .‬بــل إن هــذا الشــكل أصبــح يعتبــر‬
‫ِّ‬
‫روائيــي القــرن الثامــن‬ ‫كل روائــي مبتــدئ يتب ّنــاه فــي كتابتــه‪ ،‬مســتعير ًا مــن‬ ‫ّ‬
‫تذكــر بلغــة الفــروض المدرســية‪ ،‬ينــال التشــجيع والتنويــه‪.‬‬ ‫عشــر لغتهــم التــي ِ ّ‬

‫إن هــذا الصنــف مــن الروائييــن يكتبــون وكأنهــم لــم يســمعوا‪ّ ،‬‬
‫قــط‪،‬‬

‫‪33‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫بإنجــازات ‪ ،Joyce‬أو ‪ Kafka‬فــي مجــال الروايــة‪ ،‬متماديــن فــي تحليــل‬


‫ِّ‬
‫روائيــي القــرن الماضــي أو الــذي قبلــه‪،‬‬ ‫المشــاعر والعواطــف‪ ،‬علــى طريقــة‬
‫فــا يحاولــون نقــل إحساســات بطريقــة مباشــرة‪ ،‬بــل بتأويلهــا بواســطة‬
‫مفاهيــم‪ ،‬وبلغــة مجـ َّردة‪ ،‬مثلمــا كان يفعــل روّاد الواقــع النفســاني األوائــل‪.‬‬

‫نفســيات‬
‫ّ‬ ‫وقــد يحــدث لهــؤالء الروائييــن أن يتخ ّلــوا عــن تحليــل‬
‫شــخصياتهم‪ ،‬اعترافــ ًا منهــم بتفاهــة هــذه التقنيــة‪ ،‬غيــر أن ولعهــم‬
‫ّ‬
‫باألســلوب الجميــل‪ ،‬ذلــك األســلوب الكالســيكي الرفيــع والرقيــق‬
‫التخ ُّلــف‪ ،‬الــذي يبــدو لهــم‪ ،‬وللنقّ ــاد أيضـ ًا‪ ،‬بأنــه ســمة العبقريــة والموهبة‬
‫والــذوق المرهــف والثقافــة األصلية‪.‬أقــول‪ :‬غيــر أن ولعهــم ذلــك ِ ّ‬
‫يحفزهم‬
‫إلــى صيانــة هــذا األســلوب وترســيخه‪ ،‬لكــن بمحاولــة تســخيره لغايــات‬
‫ُصــد لــه‪ ،‬فــي األصــل‪.‬‬
‫أخــرى‪ ،‬غيــر ذلــك التحليــل العتيــق الــذي ر ِ‬

‫يتواخاهــا‬
‫ّ‬ ‫إنهــم يعتقــدون أنهــم قــادرون علــى تســخيره ألنبــل غايــة‬
‫الكاتــب الروائــي الحقيقــي‪ ،‬وهــي ارتيــاد آفــاق البحــث والتجريــب‬
‫األكثــر حداثــةً‪ ،‬ناســين أن الشــكل والمضمــون شــيء واحــد‪ ،‬وأنــه ال‬
‫يمكــن خلــق واقــع جديــد واستكشــافه بــاألدوات واألســاليب نفســها‬
‫التــي اســتخدمت فــي الكشــف عــن واقــع ســابق‪ ،‬أصبــح اليــوم متجــاوز ًا‪.‬‬

‫التيــارات (أدب الســلوك‪ ،‬واألدب الملتــزم‪ ،‬والروايــة‬ ‫ّ‬ ‫كل هــذه‬


‫النيوكالســيكية) عاقــت الروايــة‪ ،‬إذن‪ ،‬عــن االســتمرار فــي مســار التحـ ُّرر‬
‫دشــنه كبــار ثور ِ ّيــي الربــع األوَّل مــن القــرن الحالــي‪.‬‬
‫القــوي‪ ،‬الــذي َّ‬

‫صحيــح أن بعــض الروائييــن ذوي األصالــة‪ ،‬قــد اســتطاعوا تفــادي‬


‫التيــارات المحافظــة ومــا تعتمــده مــن طرائــق مدرســية‪،‬‬
‫مثــل هــذه ّ‬
‫فارتــادوا‪ ،‬بإخــاص‪ ،‬آفاق ـ ًا خصبــة مــن البحــث َّ‬
‫أدت إلــى نتائــج تثيــر‬
‫اإلعجــاب‪ ،‬أحيانــ ًا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫صراع تقليدي ضدّ التقليد‬
‫لكــن‪ ،‬يبــدو أن األدب قــد أدرك‪ ،‬منــذ ســنوات‪ ،‬درجــة مهولــة مــن‬
‫مهم ًا‬
‫التيــارات المحافظــة‪ ،‬حيــث إن قطاعـ ًا ّ‬
‫الشــبع والتخمــة بســبب هــذه ّ‬
‫مــن الك ّتــاب والقـ ّراء ِ ّ‬
‫يعبــرون عــن النفــور نفســه مــن األشــكال العتيقــة‪،‬‬
‫وعــن التقــ ُّزز نفســه مــن بعــض التقاليــد‪ ،‬ويستشــعرون الحاجــة نفســها‬
‫إلــى التحــ ُّرر مــن بعــض الترســيمات الجاهــزة التــي يتعاطــف معهــا‪،‬‬
‫باســتمرار‪ ،‬معظــم النقّ ــاد‪ ،‬فيطمحــون إلــى الكشــف ّ‬
‫عمــا هــو أساســي؛‬
‫أي ذلــك الجــزء الخفــي مــن العالــم‪ ،‬الواقــع الجديــد‪ ،‬الــذي تعجــز عــن‬
‫تجليتــه األحــداث والشــخصيات الروائيــة القليديــة‪.‬‬

‫إن هــذه المواقــف الجديــدة هــي مــا حفَّ ــ َز الروايــة إلــى «ضــرورة‬
‫تيــار جديــد‬ ‫َّ‬
‫ـد تعبيــر ‪ ،)Sartre‬فتشــكل ّ‬ ‫التفكيــر فــي نفســها» (علــى حـ ّ‬
‫اجتــاح‪ ،‬كذلــك‪ ،‬المســرح‪ ،‬وهــو بصــدد اجتيــاح الســينما‪.‬‬
‫وهكــذا‪ ،‬ال يحــاول الروائيــون الجــدد تقليــد كبــار ُ‬
‫الك ّتــاب الباحثيــن‬

‫‪35‬‬
‫الذيــن ظهــروا فــي بدايــة القرن‪ ،‬بــل إنهم يحــذون حذوهــم ليتجاوزوهم‪،‬‬
‫ـادة‬
‫خاصــة‪ ،‬إلــى تجديــد المـ ّ‬
‫ّ‬ ‫كل فــي ا ِ ّتجــاه خـ ّ‬
‫ـاص‪ ،‬وبــأدوات‬ ‫ســاعين‪ٌّ ،‬‬
‫الروائية‪.‬‬

‫وكســائر الحــركات التــي انبثقــت‪ ،‬خــال مســيرة األدب الطويلــة‪،‬‬


‫لتناهــض التقليــد‪ ،‬فــإن هــذه الحركــة الجديــدة‪ ،‬وهــي صــراع تقليــدي‬
‫الحــي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تيــار األدب‬
‫ضــد التقليــد‪ ،‬تأخــذ مكانهــا ضمــن ّ‬
‫ّ‬

‫طبعــ ًا‪ ،‬ليــس اعتقــادي هــذا حكمــ ًا علــى القيمــة الداخليــة للروايــات‬
‫المنتميــة إلــى هــذه الحركــة؛ لذلــك‪ ،‬أنــا أتســاءل‪ :‬مــا طبيعــة الواقــع الجديد‬
‫الــذي تكشــف عنــه هــذه الروايــات؟ ومــا ميــزة ذلــك الشــكل الــذي يعطــي‬
‫ـل المســتقبل كفيــل باإلجابــة‪.‬‬ ‫الحيــاة لهــذا الواقــع الجديــد؟ لعـ ّ‬

‫األهــم‪ ،‬بالنســبة إلــى أصدقائــي‪ ،‬وإلــى نفســي‪ ،‬ليــس هــو إتقــان‬


‫ّ‬ ‫إن‬
‫ـم‪ ،‬فــي اعتقــادي‪ ،‬هــو المجهــود والمجازفــة‬
‫روايــات مكتملــة‪ ،‬بــل األهـ ّ‬
‫والمغامــرة‪ ،‬ألن االكتمــال‪ ،‬كمــا كان يقــول ‪ ،Browing‬يكمــن‪ ،‬أساسـ ًا‪،‬‬
‫فــي البحــث‪.‬‬
‫آالن روب غرييه‬
‫)‪Alain Robbe-Grillet (1922-2008‬‬

‫‪ -‬الرواية والواقع الموضوعي‬

‫‪ -‬عالم غير العالم‬

‫‪ -‬الرواية والداللة الالحقة‬


‫الرواية والواقع الموضوعي‬

‫ِّ‬
‫أقــدم لكــم بيانــ ًا عامّــ ًا آلرائــي الشــخصية حــول الروايــة‪ ،‬بــل‬ ‫لــن‬
‫ســأقتصر‪ ،‬اليــوم‪ ،‬علــى مناقشــة نقطــة دقيقــة‪ ،‬ألنهــا‪ ،‬بالــذات‪ ،‬كانــت‬
‫الخصــوم وحدهــم‪ ،‬بــل‪ ،‬أحيانــ ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫إلــي‬
‫َّ‬ ‫مثــار انتقــادات‪ ،‬لــم ِ ّ‬
‫يوجههــا‬
‫التشــيؤ‬
‫ُّ‬ ‫بعــض أصدقائــي أنفســهم؛ هــذه النقطــة هــي الموضوعيــة‪،‬‬
‫والموضوعيــة فــي الروايــة المعاصــرة‪.‬‬

‫حدثَتكــم ‪ Nathalie Sarraute‬عــن مفهوم الواقــع في رواياتنا‪،‬‬


‫وقــد َّ‬
‫وعــن تطـ ُّور فكــرة الواقــع فــي اآلداب‪ ،‬ومــن ث ََّم‪ ،‬عــن ممارســتنا الروائية‪.‬‬
‫ولعــل أوَّل مــا صــدم قــارئ رواياتــي وروايــات أصدقائــي‪Nathalie :‬‬ ‫ّ‬
‫‪ ،Sarraute‬و ‪ ،Marguerite Duras‬و ‪ ،Michel Butor‬و ‪Claude‬‬
‫خاصـةً‪ ،‬هــو خصوصيــة تعاملنــا مــع الواقــع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ ،Simon‬و‪Claude Ollier‬‬
‫الواقــع الــذي يســوده حضــور مك َّثــف لألشــياء‪ .‬فبــدا للقــارئ أن رواياتنــا‬
‫ـكل‪ ،‬فقــط‪ ،‬مــن حشــد هائــل لألشــياء‪ ،‬توصــف لذاتهــا‪ ،‬وباســتقالل‬ ‫تتشـ َّ‬

‫‪39‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫عــن ّ‬
‫أي حضــور إنســاني‪ ،‬لدرجــة أنــه قيــل عــن رواياتــي إنهــا الإنســانية‪،‬‬
‫وإنهــا طــردت اإلنســان مــن العالــم لفائــدة األشــياء‪.‬‬

‫وذهــب بعــض القـ ّراء إلــى أبعــد مــن ذلــك‪ ،‬فقالــوا عــن رواياتــي إنهــا‬
‫تم ِ ّثــل محاولــة تأســيس أدب موضوعــي‪ ،‬لكنهــم ســرعان مــا انتبهــوا‬
‫علــي ذلــك‪ ،‬مــا حفّ زنــي‬
‫َّ‬ ‫إلــى أنهــا لــم تكــن موضوعيــة‪ّ ،‬‬
‫قــط‪ ،‬فعابــوا‬
‫إلــى اإلجابــة بــأن األمــر صحيــح‪ ،‬وبأننــي أعتقــد‪ ،‬كذلــك‪ ،‬بــأن رواياتــي‬
‫ليســت موضوعيــة‪ ،‬وبأننــي لــم أقــل‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬إن علــى رواياتــي أن تكــون‬
‫موضوعيــة‪.‬‬

‫َــن يصــف عالــم األشــياء الــذي‬ ‫ّ‬


‫لعــل مصــدر ســوء الفهــم هــذا أن م ْ‬
‫تطفــح بــه كتبــي‪ ،‬أو كتــب ‪ ،Butor‬هــو إنســان بالــذات‪ ،‬وهــذا أمــر لــم‬
‫ا‪ ،‬التــي‬ ‫جيــد ًا‪ .‬ففــي روايتــي «‪ ،»La jalousie‬مث ـ ً‬
‫ينتبــه النــاس إليــه ِ ّ‬
‫مهمــة‪ ،‬وهــي‬
‫ـد ّ‬ ‫اعتبرهــا البعــض مجـ َّرد مدوّنــة لألشــياء‪ ،‬هنــاك نقطــة جـ ّ‬
‫المركــز الــذي منــه ينطلــق الســرد ويتشـ َّ‬
‫ـكل؛ بعبــارة أخــرى‪ :‬مــا هــو مرئــي‬
‫ّ‬
‫يحتــل‬ ‫خــاص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال يلتقطــه كائــن نكــرة‪ ،‬مجهــول ومحايــد‪ ،‬بــل إنســان‬
‫فــي الروايــة موقعـ ًا دقيقـ ًا ومضبوطـ ًا‪ ،‬ســواء فــي الزمــان أو فــي المــكان‪:‬‬
‫إنــه الســارد‪ ،‬زوج البطلــة‪ ،‬وهــو يصــف العالــم المحيــط بــه كمــا يــراه‪،‬‬
‫فهــل كنــت ســأختار مثــل هــذا الشــاهد الــردئ‪ ،‬لــو كنــت أروم كتابــة أدب‬
‫موضوعــي؟‬

‫لقــد فطــن بعــض الق ـ ّراء إلــى أنــه مــن البدهــي أ ّلا يكــون هــذا الــزوج‬
‫موضوعيـ ًا؛ فهــو يمســخ بنفســه ّ‬
‫كل مــا يــراه‪ .‬أ ّمــا ســرده لحــركات زوجتــه‬
‫تســتبد بــه‬
‫ّ‬ ‫وتنقُّ التهــا وكالمهــا‪ ،‬فهــو‪ ،‬دومــ ًا‪ ،‬مشــتبه فيــه‪ .‬إنــه زوج‪،‬‬
‫الغيــرة؛ لذلــك‪ ،‬هــو يراقــب زوجتــه‪ ،‬ومــا ينقلــه عــن العالــم هــو تجربتــه‬
‫الشــخصية‪ ،‬أي تجربتــه الذاتيــة‪ ،‬الالموضوعيــة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ومشــيأ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تترصــد‪ ،‬باســتمرار‪ ،‬مــا هــو موضــوع‬
‫َّ‬ ‫غيــر أن تجربتــه هــذه‬
‫يتضمــن مــا يمكــن تســميته بـ(تحليــل ســيكولوجي للغيــرة)‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فكتابــي ال‬
‫يفكــر البطــل نفســه فــي عوامــل غيرتــه‪ ،‬بــل هنــاك‪ ،‬فقــط‪ ،‬نــوع‬ ‫بحيــث ِ ّ‬
‫مــن الوصــف المباشــر النفعــال البطــل بالعالــم حولــه‪ ،‬وهــو بداهــة عالــم‬
‫أشــياء‪ .‬وبطبيعــة الحــال‪ ،‬أنــا أحيــل‪ ،‬هنــا‪ ،‬علــى المعنــى الرحــب لكلمــة‬
‫«موضــوع»‪ .‬إن الموضــوع‪ ،‬بالنســبة إلــى هــذه الــذات‪ ،‬ذات الســارد‪ ،‬أي‬
‫كل مــا يوجــد أمامــه‪ ،‬وضمنــه زوجتــه‪ .‬وإذا بحثتــم فــي‬ ‫الــزوج الغيــور‪ ،‬هــو ّ‬
‫القامــوس عــن تعريــف لكلمــة «موضــوع»‪ ،‬فســتجدون أنهــا تعنــي ّ‬
‫كل مــا‬
‫يؤثــر فــي الحــواس‪ ،‬بــل يقــال كذلــك‪ :‬إن موضــوع االنفعــال‪ ،‬في مســرحية‬
‫‪ ،Racine‬هــو كــذا؛ لذلــك‪ ،‬ليــس فــي كلمــة «موضــوع» مــا يشــير إلــى‬
‫فكــرة الفتــور أو عــدم االنفعــال‪ ،‬بــل هنــاك‪ ،‬فقــط‪ ،‬فكــرة «الخرجنــة»‬
‫(‪ ،)Extènontè‬أي كــون العالــم خارجي ـ ًا‪ ،‬بالنســبة إلــى البطــل‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫عالم غير العالم‬

‫أتســاءل‪ ،‬اآلن‪ :‬لمــاذا هــذا الحضــور الكثيــف والمذهــل لعالــم األشــياء‬


‫فــي رواياتــي؟‪ ،‬فأجيــب بأننــي لســت‪ ،‬فــي الحقيقــة‪ ،‬مختلــقَ عا َلــم‬
‫لألشــياء‪ ،‬فــي الروايــة‪ .‬إنكــم تعرفــون أن الروايــة البلزاكيــة هــي‪ ،‬بالــذات‪،‬‬
‫مــا يطفــح باألشــياء‪ ،‬حيــث تحتشــد فيهــا مجموعــة مــن األوصــاف فــي‬
‫مــادي‪ :‬بيــوت‪ ،‬أثــاث‪ ،‬مالبــس؛ أي‬
‫ّ‬ ‫جــد‬
‫ّ‬ ‫منتهــي الدقّ ــة‪ ،‬تتع َّلــق بعالــم‬
‫ممتلــكات الشــخصيات‪ .‬إن هــذه األوصــاف تلعــب دور ًا يبــدو ثانويــ ًا‪،‬‬
‫بــل إننــا كثيــر ًا مــا نرغــب في تجاوزهــا‪ ،‬عنــد قراءتنــا لروايــات ‪،Balzac‬‬
‫بقيــة الحــدث الروائــي‪ ،‬وذلــك ألنهــا تبــدو لنــا ذات وظيفــة‬
‫مســتعجلين ّ‬
‫ـص‪ ،‬بــل كمــا لــو كانــت صنــو اإلنســان ذاتــه‪،‬‬
‫تزيينيــة أو حشــوية فــي النـ ّ‬
‫ـد مألوفــة للقــارئ؛ فهــو يتعــرف‬
‫وبديلــة لــه‪ .‬ثــم إن هــذه األشــياء تبــدو جـ ّ‬
‫إليهــا كمــا لــو كانــت أشــياءه‪ ،‬فــي حيــن أعتقــد‪ ،‬شــخصي ًا‪ ،‬أنهــا تخـ ّ‬
‫ـص‬
‫إنســان القــرن التاســع عشــر‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫بخــاف ذلــك‪ ،‬يبــدو لقــارئ روايتنــا أن مــا تطفــح بــه هــذه مــن أشــياء‬
‫تنتمــي إلــى عالــم غريــب ومقلــق وغيــر عــادي‪ ،‬كمــا لــو كان هــو نفســه ال‬
‫يعيــش فــي هــذا العالــم‪ ،‬وذلــك رغــم كــون هــذه األشــياء موصوفــة مــن‬
‫طــرف إنســان متــو ِ ّرط فــي أحــداث إنســانية‪.‬‬

‫هنــا‪ ،‬أيض ـ ًا‪ ،‬أجدنــي م َّتفق ـ ًا مــع ‪ ،Nathalie Sarroute‬التــي تعتقــد‬


‫بــأن القــارئ يجــب عليــه أن يتعــ َّرف‪ ،‬فــي مــا يقــرأ‪ ،‬إلــى عالــم ليــس‬
‫عالمــه‪ ،‬لكنــه يرغــب فــي أن يكــون عالمــه‪.‬‬

‫إن عالــم األشــياء البلزاكيــة هــو عالــم البورجوازيــة الظاهــرة‪ ،‬عالــم‬


‫مُ طَ ْم ِئــن‪ ،‬كانــت فيــه األشــياء‪ ،‬باألســاس‪ ،‬ملــك ًا لإلنســان‪ .‬أ ّمــا األشــياء‬
‫التــي يصادفهــا القــارئ فــي روايتنــا‪ ،‬فهي‪ ،‬دومـ ًا‪ ،‬تبدو غيــر منتمية ألحد‪،‬‬
‫بــل إن حضورهــا ذاتــه يبــدو زائــد ًا فــي الروايــة‪ .‬وحتــى حيــن يشــملها‬
‫انفعــال البطــل‪ ،‬وتصطبــغ بــه لحظــة‪( ،‬مثلمــا يحــدث فــي روايتــي «‪La‬‬
‫‪ ،)»jalousie‬حيــث يصــف الــزوج الغيــور‪ ،‬بدقّ ــة‪ ،‬أريكتيــن متقاربتيــن‪،‬‬
‫ألن زوجتــه تجلــس علــى أحداهمــا‪ ،‬والعاشــق المزعــوم يجلــس علــى‬
‫يؤجــج غيرتــه‪ ،‬تبــدو‪ ،‬دائم ـ ًا‪ ،‬كأنهــا‬
‫األخــری‪ ،‬وألن تقــارب األريكتيــن ِ ّ‬
‫منتميــة إلــى عالــم‪ ،‬لــم يعــد لإلنســان فيــه ّ‬
‫أي حضــور مركــزي‪.‬‬

‫أ ّلا تعتقــدون بــأن العالقــات التــي تربطنــا‪ ،‬اليــوم‪ ،‬بالعالــم المحيــط‬


‫بنــا لــم تعــد عالقــات ملكيــة مثلمــا كان األمــر فــي القــرن الماضــي؟ إننــا‬
‫نعيــش فــي عالــم‪ ،‬يمكــن وصفــه بعالــم أشــياء‪ ،‬أشــياء غريبــة‪ ،‬عالــم لــم‬
‫الخاصــة‪ .‬فــي القــرن الماضــي‪ ،‬كانــت‬ ‫ّ‬ ‫يعــد‪ ،‬دومــ ًا‪ ،‬يعكــس تص ُّوراتنــا‬
‫الســيادة ألســطورة الوفــاق الســعيد بيــن العالــم واإلنســان‪ ،‬حيــث كانــت‬
‫األشــياء صــورة أمينــة لــذات اإلنســان‪ .‬وكان اإلنســان نفســه مركــز ًا للكون‪،‬‬
‫كل االســئلة‪.‬‬‫وتبريــر ًا لــه‪ ،‬ومعنــاه الســامي‪ ،‬بــل كان الجــواب الوحيــد عــن ّ‬
‫كل الفلســفات والعلــوم واآلداب المعاصــرة رفضـ ًا‬ ‫ـكل ّ‬ ‫بخــاف ذلــك‪ ،‬تشـ ِ ّ‬

‫‪43‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫لهــذه األنســية المتعاليــة والجوهريــة‪ ،‬فالعالــم حولنــا لــم يعــد ملــك ًا لنــا‪،‬‬
‫كمــا لــم يعــد ممكنـ ًا أن نعتبــر أنفســنا محــور ًا أو تفســير ًا نهائيـ ًا لــه‪ ،‬رغم أن‬
‫تمكننــا‪ ،‬تدريجيـ ًا‪ ،‬مــن فهــم أســراره‪ ،‬ومــن اســتعماله‪.‬‬ ‫المنجــزات العلميــة ِ ّ‬

‫لذلــك‪ ،‬تبــدو األشــياء فــي روايتنــا عرضيــة‪ ،‬عديمــة الجــدوى وزائــدة‪.‬‬


‫لكنهــا‪ ،‬حيــن يشــملها انفعــال البطــل‪ ،‬تصبــح‪ ،‬لفتــرة وجيــزة‪ ،‬ذات داللــة‬
‫مــا (مثــل الجريمــة الســادية فــي «‪ ،»Le voyeur‬أو غيــرة البطــل فــي‬
‫«‪ ،)»La Jalousie‬ثــم اليلبــث هــذا االنفعــال أن يهجرهــا‪ ،‬فتبقــى‬
‫تحــت نظــرة الســارد الالمباليــة‪ ،‬ثاويــ ًة فــي أماكنهــا‪ ،‬مصــ ّر ًة علــى أن‬
‫تكــون‪ ،‬وأن تكــون عديمــة المعنــى‪.‬‬

‫‪44‬‬
45
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫الرواية والداللة الالحقة‬


‫غيــر أننــا‪ ،‬نحــن‪ُ ،‬‬
‫الك ّتــاب‪ ،‬ال ننطلــق مــن تأويــل جاهــز لهــذه الطريقــة‬
‫الخاصــة فــي وصــف األشــياء‪ .‬ومــا علــى الذيــن يســتطيعون شــرح رؤيتهــم‬
‫ّ‬
‫للعالــم إ ّلا أن يكتبــوا دراســ ًة فلســفي ًة أو بحثــ ًا سوســيولوجي ًا‪ .‬أمّــا عمــل‬
‫الروائــي فهــو‪ ،‬دومـ ًا‪ ،‬عمــل معقَّ د وغامــض‪ ،‬أو هو‪ ،‬كما قالــت ‪Nathalie‬‬
‫‪ ،Sarraute‬بحــث متواصــل‪ ،‬لكنــه بحــث عــن شــيء ال يُع ـ َرف كنهــه‪،‬‬
‫اليدعــي الروائــي تقديــم داللــة جديــدة سيكتشــفها‪ ،‬بــل‬
‫ّ‬ ‫وبتعبيــر آخــر‪،‬‬
‫البحــث عــن داللــة هــي‪ ،‬بعــد‪ ،‬مجهولــة لديــه؛ لذلــك إذا كانــت لكتبــي‬
‫بعــض القيمــة‪ ،‬فهــي تأمــل أن تكــون هــذه الداللــة الحق ـ ًة لهــا‪.‬‬

‫ال أعتقــد أن بإمــكان الروايــة أو اللوحــة أو اللحــن أو ّ‬


‫أي أثــر ف ّنــي أن‬
‫يكــون تطبيق ـ ًا لفكــرة معروفــة ســلف ًا‪ .‬إن اإلبــداع بحــث يخلــق نفســه‪،‬‬
‫ِّ‬
‫تشــكل‬ ‫الخاصــة بنفســه‪ .‬ومــن العــادي‪ ،‬طبعــ ًا‪ ،‬أن‬
‫ّ‬ ‫بحــث يفــرز أســئلته‬
‫ا‪،‬‬ ‫ال للبحــث‪ّ ،‬‬
‫يمكــن الدارســين‪ ،‬علمــاء االجتمــاع‪ ،‬مثــ ً‬ ‫الروايــة مجــا ً‬

‫‪46‬‬
‫مــن اكتشــاف دالالت مــا‪ ،‬لكنهــا ســتكون‪ ،‬حتم ـ ًا‪ ،‬روايــة بــدون قيمــة‪،‬‬
‫إذا كان كاتبهــا يعــرف‪ ،‬س ـ َلف ًا‪ ،‬هــذه الــدالالت‪ ،‬بــل أعتقــد أن كتابتهــا‬
‫عبــث‪.‬‬

‫ِّ‬
‫يحــدد‬ ‫هنــا‪ ،‬أيضــ ًا‪ ،‬يبــدو االختــاف واضحــ ًا بيــن العالــم الــذي‬
‫ممارســاتنا الروائيــة وعالــم ‪ .Balzac‬فمنــذ مئــة ســنة خلت‪ ،‬كان اإلنســان‬
‫يحيــا‪ ،‬وهــو واثــق مــن معنــاه النهائــي‪ ،‬ومتأ ِ ّكــد مــن موقعــه فــي العالــم‪.‬‬

‫أمــا اليــوم‪ ،‬فلع َّلنــا أجهــل بموقعنــا نحــن مــن العالــم‪ ،‬مــن إنســان القــرن‬
‫الماضــي‪ ،‬بحيــث يبــدو أن فــي روايتنــا شــيئ ًا مــا يبعــث علــى الحيــرة‪،‬‬
‫ممــا هــو فــي روايــات ‪ ،Balzac‬بالنســبة‬ ‫بالنســبة إلــى عصرنــا‪ ،‬أ كثــر ّ‬
‫إلــى عصــره‪ .‬وهــذا مــا أراد بعــض النقّ ــاد تأويلــه بالقطيعــة المتزايــدة‬
‫بيــن الكاتــب والجمهــور‪ .‬لكــن‪ ،‬أليــس هــذا الطــاق بينهمــا صــورة‬
‫لطــاق أعمــق يوجــد‪ ،‬بالضبــط‪ ،‬بيــن اإلنســان والعالــم (أو‪ ،‬كمــا ســيقول‬
‫‪ ،Lucien Goldmann‬بــدون شــك‪ ،‬بيــن اإلنســان والمجتمــع)؟‬

‫ال جاهــزةً؛ فهــو يبحــث‪ ،‬لكنــه‬ ‫إن الكاتــب نفســه ال يملــك حلــو ً‬
‫ا‪ ،‬دعــوة‬ ‫يجهــل حقيقــة مــا يبحــث عنــه‪ .‬لذلــك‪ ،‬نحــن نرفــض‪ ،‬مثــ ً‬
‫تحدثــت عنــه ‪Nathalie‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ Sartre‬إلــى االلتــزام السياســي‪ ،‬ذلــك الــذي‬
‫‪ ،Sarraute‬ونختــار االلتــزام فــي الكتابــة التزام ـ ًا بســيط ًا‪ ،‬يــكاد يكــون‬
‫حرفي ـ ًا (‪ ،)Artisanal‬بمــا تطرحــه الممارســة الروائيــة مــن مشــكالت‪.‬‬
‫وإذا كان هــذا االلتــزام علــى مســتوى الكتابــة الروائيــة‪ ،‬ومــا تطرحــه‬
‫ـم بنزاهــة كافيــة‪ ،‬وبح ّريــة غيــر مشــروطة إزاء األفــكار‬ ‫مــن مشــكالت‪ ،‬يتـ ّ‬
‫كل أنــواع االلتــزام الممكنــة‪ ،‬بحيــث‬ ‫الجاهــزة‪ ،‬فســيكون التزامـ ًا يشــمل ّ‬
‫يســتطيع العالــم النفســي أو الفيلســوف الميتافيزيقــي ا ِ ّتخــاذ رواياتنــا‬
‫ـام للكلمــة‪ ،‬أي‬ ‫ا ألبحاثهمــا‪ ،‬مثلمــا يســتطيع السياســي (بالمعنــى العـ ّ‬ ‫حقـ ً‬
‫ـم بحيــاة المدينــة) أن يعثــر فيهــا علــى مواقــف تؤ ِ ّيــد تحليالتــه‪.‬‬
‫الــذي يهتـ ّ‬

‫‪47‬‬
‫ـدم لــه األشــياء ســائغة‪ ،‬يســتاء‬
‫لكــن الجمهــور الــذي اعتــاد علــى أن ُتقـ َّ‬
‫مــن كــون رواياتنــا غيــر مفهومــة‪ ،‬فهــو يســألنا‪ :‬مــاذا يعنــي ّ‬
‫كل هــذا؟ مــاذا‬
‫أردت أن تقــول فــي روايتــك «‪»La jalousie‬؟ مــا الهــدف مــن كتابتــك‬
‫لشــريط «‪ »L`annèe dernière à Marienbad‬والحــرب ملتهبــة فــي‬
‫تهمــك مباشــرة‪،‬‬
‫الجزائــر!؟ وقيــل لــي‪« :‬إننــا نعانــي‪ ،‬هنــا‪ ،‬مشــاكل كثيــرة ّ‬
‫ملحــة‪ ،‬يلــزم ح ّلهــا اليــوم‪ .‬فــي حيــن تختلــي بنفســك فــي بيتــك‪،‬‬
‫مشــاكل ّ‬
‫لتكتــب روايــة ال نعــرف الزمــن الــذي تنتمــي إليــه‪ ،‬وال المــكان الــذي‬
‫تنتســب إليــه‪ ،‬وال الواقــع الــذي تســتوحيه!»‪.‬‬

‫بــكل بســاطة‪ ،‬تنتمــي رواياتنــا إلــى الحاضــر‪ ،‬ألننــا نكتب فــي الحاضر‪.‬‬
‫شــك‪ ،‬بــل لع َّلهــا ّ‬
‫أدق تفســير ًا لــه‬ ‫ّ‬ ‫تفســره‪ ،‬فهــو عصرنــا‪ ،‬بــدون‬ ‫أمّــا مــا ِ ّ‬
‫ـم حشــرهم فــي فنــدق ليدلــوا بآرائهــم فــي‬ ‫العمــال‪ ،‬يتـ ّ‬
‫ّ‬ ‫مــن مجموعــة مــن‬
‫الحــرب‪ .‬إن لنــا‪ ،‬نحــن‪ ،‬أيض ـ ًا‪ ،‬أجوبــة جاهــزة علــى مشــكالت الحــرب‬
‫أو الوعــي االجتماعــي‪ ،‬أو غيــر ذلــك‪ .‬فحيــن يُطلــب م ّنــا رأينــا‪ّ ِ ،‬‬
‫نعبــر‬
‫عنــه بطريقــة صريحــة‪ .‬وهــذا شــيء تفرضــه علينــا حقــوق المواطنــة‪ ،‬التــي‬
‫تبتــدئ بلحظــة إيداعنــا لبطاقــة التصويــت فــي صنــدوق االقتــراع‪ ،‬وقــد‬
‫تمتــد إلــى ممارســة النضــال السياســي‪ ،‬الــذي يلتــزم بــه كثيــرون منــا؛‬ ‫ّ‬
‫لذلــك حيــن يتع َّلــق األمــر بالممارســة الروائيــة‪ ،‬ننطلــق مــن ال شــيء‪،‬‬
‫ـص بحثـ ًا عــن شــيء مــا‪ ،‬لــن‬
‫ـص‪ ،‬باعتبــار النـ ّ‬
‫بحيــث ينتفــي مــا قبــل النـ ّ‬
‫يوجــد إ ّلا بعــد االنتهــاء مــن الكتابــة‪.‬‬
‫لوسيان جولدمان‬
‫)‪Lucien Goldmann (1913-1970‬‬

‫‪ -‬الرواية الجديدة‪ :‬شكالنية أم واقعية؟‬

‫‪ -‬سلطة الواقع االجتماعي‪ ،‬والتاريخي‬

‫‪ -‬الشكل الروائي والبنيات االقتصادية‬

‫‪ -‬بين البنيات التشييئية والبنيات الروائية‬

‫‪ -‬بين ذوبان الشخصية الروائية والتش ُّيؤ‬

‫‪ِّ -‬‬
‫أهم ّية التحوّ الت االجتماعية‪ ،‬واإلنسانية‬
‫الرواية الجديدة‪ :‬شكالنية أم واقعية؟‬

‫فــي حديثــي عــن عالقــة الروايــة الجديــدة بالواقــع‪ ،‬ســأنطلق مــن‬


‫َ‬
‫العرض ْيــن اللذيــن‬ ‫زوايــة باحــث سوســيولوجي‪ ،‬وهــي تختلــف عــن زاويــة‬
‫كل مــن ‪ ،Nathalie Sarraute‬و ‪،Alain Robbe-Grillet‬‬ ‫قدمهمــا ٌّ‬‫َّ‬
‫روائي ْيــن‪ ،‬مثلمــا تختلــف وجهــة نظــر البطــل‬
‫َّ‬ ‫كاتب ْيــن‬
‫َ‬ ‫باعتبارهمــا‬
‫الرياضــي عــن وجهــة نظــر العالــم النفســاني أو العالــم الفيزيولوجــي‪،‬‬
‫اللذيــن يدرســان البنيــة النفســية أو الوظائفيــة لســلوكه‪.‬‬

‫غيــر أن بإمــكان المقارب َت ْيــن أن تكونــا‪ ،‬فــي آن واحــد‪ ،‬متعارض َت ْيــن‬


‫ومتكامل َت ْيــن (دون أن أشــير إلــى احتمــال وقوع الباحث السوســيولوجي‬
‫أو الناقــد‪ ،‬مثــل العالــم النفســاني أو العالــم الفيزيولوجــي‪ ،‬فــي أخطــاء‬
‫تنجــم عنهــا نظريــات باطلــة)؛ فمــن الممكــن‪ ،‬فعـ ً‬
‫ا‪ ،‬أ ّلا يكــون البطــل‬
‫الرياضــي مــدرك ًا للبنيــات النفســية والوظائفيــة التــي تســمح لــه بتحقيــق‬

‫‪51‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫بإواليــة‬
‫ّ‬ ‫االنتصــار‪ ،‬مثلمــا قــد اليكــون الكاتــب واعيــ ًا ّ‬
‫كل الوعــي‬
‫ّ‬
‫يخــل هــذا وذاك بنوعيــة انتصــار األوَّل‪ ،‬وبقيمــة‬ ‫إبداعــه‪ ،‬دون أن‬
‫إبــداع الثانــي‪.‬‬

‫الحــظ‪ ،‬يحصــل كثيــر ًا أن تكــون مقاربتــا الباحــث‬


‫ّ‬ ‫ولحســن‬
‫الســويولوجي والكاتــب الروائــي متكامل َت ْيــن‪ ،‬وأن تغتنــي الواحــدة‬
‫باألخــرى؛ وهــذا ماحصــل اليــوم بنســبة كبيــرة مــن النجــاح‪ ،‬حيــث‬
‫كل مــن ‪ ،Sarraute‬و ‪ Robbe-Grillet‬أن يكونــا بــذكاء‬ ‫اســتطاع ٌّ‬
‫أدبي ْيــن‪ ،‬رغــم أنهمــا ال يمارســان علــم االجتماع‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ناقد ْيــن‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫منظّ َر ْيــن‪ ،‬أي‬
‫وال النقــد األدبــي‪.‬‬

‫يتدخــل فــي هــذه النــدوة‪،‬‬


‫َّ‬ ‫ـيولوجي ًا‪ ،‬وآخــر مــن‬
‫ّ‬ ‫وباعتبــاري باحثـ ًا سوسـ‬
‫ــي ‪ ،Sarraute‬و‪Robbe-‬‬ ‫َ‬
‫لعرض ْ‬ ‫ســتكون مســاهمتي مجــ َّرد تكملــة‬
‫صحــة‬
‫ّ‬ ‫تضمنتــه آراؤهمــا مــن‬
‫َّ‬ ‫‪ ،Grillet‬وســأبدأ باإلشــارة إلــى مــا‬
‫خاصــة‪ ،‬عــن تحليــل ‪ ،Sarraute‬رغــم‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫وأهم ّيــة‪ ،‬ثــم إلــى مــا يفصلنــي‪،‬‬
‫أن اختالفــي معهــا ثانــوي‪.‬‬

‫َ‬
‫العرض ْيــن هــو أنهمــا يجهــران‪ ،‬معـ ًا‪ ،‬بعقيــدة أدبيــة‬ ‫ـم مــا ِ ّ‬
‫يميــز‬ ‫لعـ ّ‬
‫ـل أهـ ّ‬
‫واحــدة‪ ،‬وهــي الواقعيــة‪ .‬ففــي حيــن يعتبــر كثيــر مــن الق ـ ّراء والنقّ ــاد‬
‫أن الروايــة الجديــدة ال تعــدو كونهــا مجموعــة مــن تجــارب شــكلية‪،‬‬
‫أو‪ ،‬فــي أحســن الحــاالت‪ ،‬محاولــة لإلفــات مــن الواقــع االجتماعــي‪،‬‬
‫يعلــن كاتبــان مــن أبــرز مم ِ ّثلــي هــذا اال ِ ّتجــاه األدبــي أن رواياتهمــا‪،‬‬
‫خالفــ ًا لذلــك‪ ،‬هــي ثمــرة مجهــود صــارم وجــذري يــروم التقــاط مــا‬
‫هــو أساســي فــي واقــع عصرنــا؛ لذلــك‪ ،‬ســأحاول إثبــات ســداد هــذا‬
‫الكاتب ْيــن‪ ،‬وعلــى‬
‫َ‬ ‫ــي‬ ‫َ‬
‫عرض ّ‬ ‫ِّ‬
‫وأهم ّيتــه مــن خــال تعليقــي علــى‬ ‫الــرأي‬
‫رواياتهمــا‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫َ‬
‫العرض ْيــن‪ ،‬وهــي تأ كيدهمــا علــى‬ ‫ِّ‬
‫خاصيــة أخــرى مشــتركة بيــن‬ ‫وهنــاك‬
‫أن الروايــة الجديــدة تختلــف‪ ،‬مــن حيــث الشــكل الف ّنــي‪ ،‬عــن روايــة‬
‫القــرن التاســع عشــر؛ ألنهــا ترصــد وتصــف واقعــ ًا إنســاني ًا (أو واقعــ ًا‬
‫كل واقــع إنســاني هــو‬ ‫اجتماعيـ ًا‪ ،‬بحســب تعبيــر علمــاء االجتمــاع‪ ،‬ألن ّ‬
‫اجتماعــي‪ ،‬فــي رأيهــم) يختلــف عــن الواقــع اإلنســاني الــذي رصدتــه‬
‫روايــة القــرن الماضــي ووصفتــه‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫سلطة الواقع االجتماعي والتاريخي‬

‫فريد ْيــن‪ ،‬وذلــك‬


‫َ‬ ‫ـم عــن ذكاء ودقّ ــة‬
‫أ ّمــا عــرض ‪ ،N.Sarraute‬فهــو ينـ ّ‬
‫بتوضيحــه كيــف أن العــادات النفســية والبنيــات واألنمــاط الذهنيــة‬
‫القديمــة‪ ،‬التــي مــا تــزال مســتم ّرة فــي وعــي معظــم النــاس‪ ،‬تمنــع هــؤالء‬
‫ِّ‬
‫يحــدد‬ ‫مــن إدراك الواقــع الجديــد‪ ،‬الــذي هــو حقيقــة أساســية‪ ،‬مــادام‬
‫ممارســاتهم اليوميــة‪ ،‬رغــم أن ج َّلهــم غيــر واعيــن بذلــك‪.‬‬

‫لكــن مــا أخشــاه هــو أن يكــون احتــراف ‪ Sarraute‬للكتابــة‬


‫ِّ‬
‫ألهم ّيــة الواقــع االجتماعــي‪ ،‬والتاريخــي؛ لذلــك‬ ‫عائقــ ًا‪ ،‬دون إدراكهــا‬
‫تغيــر الواقــع التــي فرضــت االنتقــال مــن‬
‫أختلــف مــع تص ُّورهــا لســيرورة ُّ‬
‫الروايــة الكالســيكية إلــى الروايــة الجديــدة‪ ،‬وكذلــك لطبيعــة القــوى‬
‫التــي ســاهمت فــي تحقيقــه‪ ،‬حيــث يبــدو لــي أنهــا تبالــغ فــي تقديــر‬
‫دور الك ّتــاب فــي هــذا االنتقــال‪ ،‬وتق ّلــل مــن شــأن دور باقــي النــاس‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ـدم األبحــاث األدبيــة‪ ،‬لكنهــا تبالــغ‪ ،‬فــي‬ ‫إنهــا ِ ّ‬
‫تؤكــد (بحــقّ ) علــى تقـ ُّ‬
‫اعتقــادي‪ ،‬فــي اعتبــار هــذه األبحــاث وكأنهــا ظواهــر فيزيائيــة ‪ /‬كيماويــة‪،‬‬
‫محــدد تحديــد ًا‬
‫َّ‬ ‫بحيــث يبــدو لــي أنهــا تؤمــن بوجــود واقــع إنســاني‬
‫نهائيــ ًا‪ ،‬يستكشــفه الك ّتــاب‪ ،‬الواحــد بعــد اآلخــر (مثلمــا يستكشــف‬
‫العلمــاء الواقــع الكونــي)‪ ،‬متسـ ِ ّ‬
‫ـببين‪ ،‬عبــر تعاقــب األجيــال‪ ،‬فــي مج ـ َّرد‬
‫يتعيــن ارتيادهــا‪ ،‬بعــد‬
‫َّ‬ ‫تحويــل لالهتمــام نحــو مجــاالت جديــدة‪ ،‬أصبــح‬
‫ا‪ ،‬أن إفــراط‬ ‫تمــت تصفيــة المشــاكل القديمــة؛ فهــي تعتقــد‪ ،‬مثــ ً‬ ‫أن َّ‬
‫‪ ،Balzac‬و ‪ Stendhal‬فــي تحليــل نفسـ ّـيات الشــخصيات الروائيــة إلــى‬
‫درجــة االبتــذال‪ ،‬هــو مــا حفُّ ــز ُك ّتابـ ًا الحقيــن‪ ،‬مثــل ‪ ،Kafka‬و‪،Joyce‬‬
‫و‪ Proust‬إلــى ارتيــاد أشــكال أخــرى مــن الواقــع اإلنســاني أ كثــر إغــراءً‪،‬‬
‫فاتحيــن‪ ،‬بذلــك‪ ،‬آفاق ـ ًا جديــدة‪ ،‬يتح َّتــم علــى ك ّتــاب اليــوم أن يتابعــوا‬
‫استكشــافها‪.‬‬

‫والحقيقــة أن ‪ Alain Robbe-Grillet‬كان‪ ،‬فــي تقديــري‪ ،‬أعمــق‬


‫تحلي ـ ً‬
‫ا للظاهــرة مــن ‪Sarraute‬؛ فهــو ال يؤمــن بوجــود واقــع إنســاني‬
‫ثابــت ونهائــي‪ ،‬يجــب علــى أجيــال الف ّنانيــن والك ّتــاب المتالحقــة أن‬
‫تستكشــفه بدقّ ــة متناهيــة‪ ،‬ذلــك أن ماهيــة الواقــع اإلنســاني‪ ،‬هــي نفســها‪،‬‬
‫تغيرهــا ذاتــه هــو‪ ،‬بنســب‬ ‫ِّ‬
‫ومتغيــرة عبــر التاريــخ‪ .‬ثــم إن ُّ‬ ‫ديناميكيــة‬
‫كل النــاس‪ ،‬بمــن فــي ذلــك ُ‬
‫الك ّتــاب‪ ،‬باعتبــار‬ ‫متفاوتــة‪ ،‬طبعـ ًا‪ ،‬مــن صنــع ّ‬
‫مســاهمتهم جــزء ًا مــن مجهــود عـ ّ‬
‫ـام يــروم تغييــر الواقــع‪.‬‬

‫وهكــذا‪ ،‬فــإذا أصبــح مــن العســير‪ ،‬اليــوم‪ ،‬وصــف تاريــخ الشــخصية‬


‫ــي التفاهــة واالبتــذال‪،‬‬
‫ونفســيتها دون الوقــوع فــي آف َت ّ‬
‫َّ‬ ‫الروائيــة‪،‬‬
‫فليــس ألن ‪ ،Balzac‬و‪ ،Stendhal‬و‪ Flaubert‬قــد وصفــوا ذلــك‬
‫فــي رواياتهــم‪ ،‬فحســب‪ ،‬بــل ألننــا نعيــش فــي مجتمــع يختلــف ّ‬
‫كل‬
‫االختــاف عــن المجتمــع الــذي عاشــوا فيــه؛ مجتمــع فقــد فيــه‬

‫‪55‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫أهم ّيــة جوهريــة‪ ،‬وتحـ َّو َل إلــى‬


‫كل ِ ّ‬
‫الفــرد (وضمنيـ ًا‪ ،‬ســيرته ونفسـ َّـيته) ّ‬
‫كائــن تافــه ومبتــذل‪ .‬وكمــا أعلــن ذلــك ‪Alain Robbe-Grillet‬‬
‫فــي عرضــه‪ ،‬فــإذا كانــت الروايــة الجديــدة تصــف‪ ،‬بطريقــة مختلفــة‪،‬‬
‫عالقــة رجــل غيــور بزوجتــه‪ ،‬وكــذا عشــيق هــذه وعا َلــم األشــياء‬
‫المحيــط بهمــا‪ ،‬فليــس ألن الكاتــب يريــد تحقيــق نــوع مــن األصالــة‬
‫كل هــذه‬ ‫الشــكلية‪ ،‬بــل ألن طبيعــة البنيــة االجتماعيــة التــي ِ ّ‬
‫تؤطــر ّ‬
‫تغيــرت‪ .‬فقــد أصبحــت المــرأة‪ ،‬بالفعــل‪ ،‬وكــذا العشــيق‬ ‫العناصــر قــد َّ‬
‫والــزوج نفســه‪ ،‬أشــياء‪ ،‬كمــا أن العواطــف فــي مجمــوع هــذه البنيــة‪،‬‬
‫بــل فــي ســائر البنــى األساســية للمجتمــع المعاصــر‪ ،‬أصبحــت ِ ّ‬
‫تعبــر‪،‬‬
‫اآلن‪ ،‬عــن عالقــات نوعيــة‪ ،‬تتم َّتــع األشــياء‪ ،‬ضمنهــا‪ ،‬بســلطة دائمــة‬
‫ومســتق ّلة‪ ،‬علــى حســاب ســلطة اإلنســان المتالشــية‪ ،‬وذلــك بعــد أن‬
‫كانــت هــذه العواطــف تعبيــر ًا عــن عالقــة اإلنســان بعالــم األشــياء‬
‫ِّ‬
‫الماديّــة‪ ،‬والطبيعيــة‪ ،‬والصناعيــة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫الشكل الروائي والبنيات االقتصادية‬
‫َ‬
‫العرض ْيــن‪ ،‬اللذيــن يعتبــران‪ ،‬فــي‬ ‫بعــد هــذه المالحظــات التمهيديــة حــول‬
‫مهم َت ْيــن تســاعدان علــى فهــم األدب المعاصــر‪،‬‬
‫جــد َّ‬
‫ّ‬ ‫تقديــري‪ ،‬وثيق َت ْيــن‬
‫اســمحوا لــي‪ ،‬باعتبــاري‪ ،‬كذلــك‪ ،‬باحثــ ًا سوســيولوجي ًا‪ ،‬أن أثيــر مســألة‬
‫نوعيــة التحــ ّوالت االجتماعيــة التــي فرضــت‪ ،‬بالفعــل‪ ،‬ضــرورة إيجــاد‬
‫عبــرت أعمــال ‪Alain‬‬ ‫شــكل روائــي جديــد‪ ،‬وأن َّ‬
‫أوضــح‪ ،‬أيضــ ًا‪ ،‬كيــف َّ‬
‫‪ ،Robbe-Grillet‬و‪ ،Sarraute‬عــن بعــض الســمات األساســية لهــذا‬
‫الواقــع االجتماعــي الجديــد‪.‬‬

‫وال يســعني بالطبــع أن أســتعرض‪ ،‬بتفصيــل‪ ،‬فــي هــذه العجالــة‪ ،‬تاريــخ‬


‫المجتمعــات الغربيــة منــذ بدايــة القــرن التاســع عشــر‪ ،‬بــل ســأ كتفي‪ ،‬مرغم ًا‪،‬‬
‫ِّ‬
‫األهم ّيــة القصوى بالنســبة إلى موضــوع ندوتنا‪،‬‬ ‫بتحديــد بعــض النقــط ذات‬
‫أي الروايــة الجديــدة‪ .‬وســأبدأ بالتأ كيــد علــى نقطــة‪ ،‬تبــدو لــي ذات ِ ّ‬
‫أهم ّيــة‬
‫خاصــة‪ ،‬وهــي العالئــق المتبادلــة بيــن الروايــة والبنيــات االقتصاديــة‪ .‬لقــد‬
‫ّ‬

‫‪57‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫أوضــح ٌّ‬
‫كل مــن ‪ ،Robbe-Grillet‬و ‪ Sarraute‬أن التحــ َّول األساســي‪،‬‬
‫فــي مجــال األدب‪ ،‬يتنــاول هــذه الوحــدة البنيويــة‪ :‬الشــخصية الروائيــة‪/‬‬
‫ـم تعديلهــا با ّتجــاه اندثــار للشــخصية‪ ،‬تتفــاوت جذريَّتــه‪،‬‬
‫األشــياء‪ ،‬بحيــث َتـ َّ‬
‫ـل ِ ّ‬
‫أهم ّيــة‪.‬‬ ‫ـط الســتقالل األشــياء‪ ،‬ال يقـ ّ‬ ‫ـم مترابـ ٍ‬
‫وتدعيـ ٍ‬

‫والحــال أن مــا أنجزنــاه مــن أبحــاث‪ ،‬فــي معهــد سوســيولوجية األدب‪،‬‬


‫فــي جامعــة بروكســيل الحــ ّرة‪ ،‬كان قــد قادنــا إلــى فرضيــة‪ ،‬أساســها أن‬
‫الشــكل الروائــي يعتبــر‪ ،‬مــن حيــث المباشــرة والفوريــة‪ ،‬أ كثــر األشــكال‬
‫األدبيــة جميعهــا ارتباط ـ ًا بالبنيــات االقتصاديــة‪ ،‬فــي معناهــا الدقيــق‪ ،‬أي‬
‫بنيــات التبــادل واإلنتــاج للســوق‪ .‬ومــن هــذا المنظــور‪ ،‬يبــدو لــي ذا داللــة‬
‫ـجل‪ ،‬هنــا‪ ،‬أن ‪ ،Karl Marx‬منــذ ‪ ،1967‬بــل منــذ ‪ ،1959‬أي فــي‬ ‫أن أسـ ِ ّ‬
‫يفكر فــي القضايــا األدبيــة التي أثارهــا ‪Robbe-‬‬ ‫وقــت لــم يكــن فيــه أحــد ّ‬
‫أهــم التحــ ُّوالت التــي أحدثهــا فــي‬
‫ّ‬ ‫‪ ،Grillet‬و ‪ ،Sarraute‬حيــن درس‬
‫ـدد هــذه المزدوجة‬
‫بنيــة الحيــاة االجتماعيــة ظهــو ُر االقتصــاد ونمـ ّوه‪ ،‬قــد حـ َّ‬
‫ال لتلــك التحــ ُّوالت‪ ،‬بالــذات‪ ،‬فالحــظ‬ ‫الجامــدة‪ :‬الفــرد ‪ /‬الشــيء‪ ،‬مجــا ً‬
‫انتقــا ً‬
‫ال تدريجيـ ًا ُ‬
‫لمعامــل الواقــع واالســتقالل والحركــة‪ ،‬مــن العنصــر األوَّل‬
‫إلــى العنصــر الثانــي‪ .‬إنهــا النظريــة الماركســية المشــهورة‪ :‬فيتيشــية الســلعة‪،‬‬
‫أو مــا اصطلــح علــى تســميته‪ ،‬فــي األدبيــات الماركســية‪ ،‬منــذ كتابــات‬
‫‪ ،Lukacs‬بـــ «التشـ ُّـيؤ» و«التشــييء» (‪.)Réification‬‬

‫ورغــم كــون هــذا التطابــق بيــن تحليــات ‪ Marx‬النظريــة‪ ،‬فــي القــرن‬


‫مشــجع ًا وذا‬
‫ِّ‬ ‫التاســع عشــر‪ ،‬واكتشــافات عــدد مــن ُ‬
‫الك ّتــاب المعاصريــن‪،‬‬
‫فرضيتنــا‪ ،‬يبــدو لنــا مــن العموميــة بحيــث ال يمكــن‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫أهم ّيــة بالنســبة إلــى‬
‫للبحــث السوســيولوجي أن يقتصــر عليــه‪ ،‬وإ ّلا فكيــف ِ ّ‬
‫نفســر هــذا التفــاوت‬
‫الزمنــي‪ ،‬البالــغ زهــاء قــرن‪ ،‬الــذي يفصــل بيــن َب ْلــورة ظاهــرة التشـ ُّـيؤ وظاهرة‬
‫الروايــة التــي بــدون شــخصيات؟‬

‫‪58‬‬
‫بين البنيات التشييئية والبنيات الروائية‬
‫والحــقّ أن الســؤال الــذي يفــرض ذاتــه هــو اآلتــي‪ :‬هــل توجــد بيــن‬
‫تاريــخ البنيــات التشــييئية (‪ )Structures réificationnelles‬وتاريــخ‬
‫البنيــات الروائيــة‪ ،‬عالقــة واضحــة أو تشــاكل مــا؟ فــي تقديــري أن‬
‫اإلجابــة علــى هــذا الســؤال تســتلزم اعتبــار أربعــة عناصــر‪ ،‬يجــدر بنــا‬
‫تعريــف طبيعتهــا‪ ،‬بإيجــاز‪ ،‬وهــي‪:‬‬

‫(أ) التشـ ُّـيؤ‪ ،‬بمــا هــو ســيرورة ســيكولوجية دائمــة تؤ ِ ّثــر‪ ،‬بإطــراد‪ ،‬ومنــذ‬
‫قــرون‪ ،‬فــي المجتمعــات الغربيــة المنتجــة للســوق‪.‬‬

‫ـادي للبنيات التشــييئية‬


‫ـدد المظهــر المـ ّ‬ ‫خاصــة تحـ ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫وهنــاك ثالثــة عناصــر‬
‫ـم‪ ،‬تمرحلهــا‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫فــي تاريــخ هــذه المجتمعــات‪ ،‬وتحـ ِ ّ‬
‫ـدد‪ ،‬مــن َثـ َّ‬
‫(ب‪ )1 -‬االقتصــاد الليبرالــي الــذي ظـ َّ‬
‫ـل‪ ،‬حتــى بداية القرن العشــرين‪،‬‬
‫يحافــظ علــى الوظيفــة األساســية للفــرد فــي الحيــاة االقتصاديــة‪ ،‬ومــن‬

‫‪59‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ـم‪ ،‬فــي عمــوم الحيــاة االجتماعيــة‪.‬‬


‫َثـ َّ‬
‫(ج‪ )2 -‬نم ـ ّو التروســتات واالحتــكارات والثــروة الماليــة فــي نهايــة‬
‫وخاص ـ ًة فــي بدايــة القــرن العشــرين‪ ،‬وقــد تر َّتـ َ‬
‫ـب‬ ‫ّ‬ ‫القــرن التاســع عشــر‪،‬‬
‫وصفــه المنظّ ــرون‬‫عنــه تحــ ُّول نوعــي فــي طبيعــة الرأســمالية الغربيــة‪َ ،‬‬
‫ال مــن الرأســمالية الليبراليــة إلــى اإلمبرياليــة‪.‬‬‫الماركســيون بكونــه انتقــا ً‬
‫تهمنــا‪ ،‬إن أولــى نتائــج هــذا االنتقــال‪ ،‬الــذي‬
‫وبحســب زاويــة النظــر التــي ُّ‬
‫دشــن منعطفــه النوعــي حوالــي نهايــة العقــد األوَّل مــن القــرن العشــرين‪،‬‬
‫ّ‬
‫كل قيمــة جوهريــة للفــرد‪ ،‬وإبطــال الحيــاة الفرديــة داخــل‬ ‫هــي إلغــاء ّ‬
‫ـم داخــل الحيــاة االجتماعيــة كافّ ــة‪.‬‬
‫البنيــات االقتصاديــة‪َ ،‬ثـ َّ‬
‫تدخــل الدولــة فــي االقتصــاد‪ ،‬خــال الســنوات التــي‬ ‫(د‪ )3 -‬تزايــد ُّ‬
‫خاصـ ًة منــذ نهايــة هــذه الحــرب‪ ،‬ومــا‬
‫ّ‬ ‫ســبقت الحــرب العالميــة الثانيــة‪،‬‬
‫ألواليــات التنظيــم الذاتــي (‪mécanismes‬‬
‫ّ‬ ‫نتــج عــن ذلــك مــن إنشــاء‬
‫‪ ،)ďautorégulation‬التــي تجعــل مــن المجتمــع المعاصــر ثالــث‬
‫مرحلــة نوعيــة فــي تاريــخ الرأســمالية المعاصــرة‪.‬‬

‫وافتراضــ ًا م ّنــا بــأن مفاهيــم االقتصــاد الليبرالــي واالحتــكارات‬


‫وتدخــل الدولــة قــد أصبحــت‪ ،‬إلــى ٍ ّ‬
‫حــد‬ ‫ُّ‬ ‫والتروســتات والثــروة الماليــة‬
‫«التشــيؤ»‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫مــا‪ ،‬معروفــة‪ ،‬فإننــا ســنقصر حديثنــا‪ ،‬هنــا‪ ،‬علــى مفهــوم‬

‫بالتشــيؤ؟ إن هــذه الظاهــرة‪ ،‬التــي تناولهــا ‪ Marx‬فــي‬


‫ُّ‬ ‫مــاذا نقصــد‬
‫«فيتيشــية الســلعة»‪ ،‬بســيطة‬
‫ّ‬ ‫باســم‬
‫البــاب األوَّل مــن «الرأســمال»‪ْ ،‬‬
‫للغايــة‪ ،‬ويســيرة الفهــم‪.‬‬

‫إن المجتمــع الرأســمالي‪ ،‬حيــث ُتن َتــج ّ‬


‫كل المــواد مــن أجــل الســوق‪،‬‬
‫كل أشــكال التنظيــم االجتماعــي لإلنتــاج‬‫يختلــف اختالفـ ًا أساســي ًا عــن ّ‬
‫الســابقة (وربَّمــا الالحقــة)‪ ،‬وهــذه االختالفــات تكتســي‪ ،‬طبعـ ًا‪ ،‬مظاهــر‬

‫‪60‬‬
‫متعـ ِ ّ‬
‫ـددة‪ ،‬إ ّلا أن هــذه المظاهــر‪ ،‬غالب ـ ًا مــا تنتــج عــن اختــاف جوهــري‬
‫أوَّل‪ ،‬وهــو عــدم توفُّ ــر المجتمــع الرأســمالي الليبرالــي علــى ّ‬
‫أي جهــاز‬
‫يســتطيع‪ ،‬بوعــي‪ ،‬وفــي الوقــت نفســه‪ ،‬أن ينظّ ــم اإلنتــاج والتوزيــع داخــل‬
‫معينــة‪.‬‬
‫وحــدة اجتماعيــة َّ‬
‫المؤسســات موجــودة فــي ّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬ ‫وقــد كانــت مثــل هــذه األجهــزة أو‬
‫شــكل مــن أشــكال المجتمعــات مــا قبــل الرأســمالية‪ ،‬ســواء أتع َّلــق األمــر‬
‫بمجتمــع بدائــي يقتــات بقنــص الحيوانــات أو بصيــد األســماك‪ ،‬أم‬
‫تع َّلــق بعائلــة قرويــة فــي القــرون الوســطى‪ ،‬أو كذلــك بوحــدة تتشـ َّ‬
‫ـكل مــن‬
‫األســر الفلّاحيــة فــي القريــة المفــروض عليهــا؛‬
‫َ‬ ‫قصــر إقطاعــي وعــدد مــن‬
‫إ ّمــا أداء أشــغال مرهقــة‪ ،‬أو أداء ضرائــب‪ ،‬بــل حتــى إذا تع َّلــق األمــر‪ ،‬إلــى‬
‫ـد مــا‪ ،‬باقتصــاد الســوق فــي المدينــة األوروبيــة‪ ،‬فــي بداياتهــا األولــى‬
‫َحـ ّ‬
‫(رغــم أن التخطيــط‪ ،‬هنــا‪ ،‬قــد وجــد فــي شــكل نــوع مــن الالوعــي‬
‫معمقــة مــن شــأنها‪ ،‬علــى األرجــح‪ ،‬أن تعثــر‬ ‫المضبــب‪ ،‬ورغــم أن دراســة َّ‬
‫َّ‬
‫فــي هــذا الالوعــي علــى أوَّل تج ِ ّليــات ظاهــرة التشـ ُّـيؤ)‪.‬‬

‫لقــد كان بإمــكان تنظيــم اإلنتــاج هــذا أن يكــون تقليدي ـ ًا أو ديني ـ ًا أو‬
‫ـل‪ ،‬كمــا‬ ‫مضبــب‪ ،‬علــى األقـ ّ‬
‫َّ‬ ‫تعســف ًا‪ ..‬إلــخ‪ ،‬بيــد أنــه كان ذا طابــع ٍ‬
‫واع (أو‬ ‫ُّ‬
‫واع فــي‬
‫هــو الحــال بالنســبة إلــى مدينــة القــرون الوســطى)‪ ،‬مثلمــا هــو ٍ‬
‫مجتمــع اشــتراكي أو ذي صبغــة اشــتراكية‪ ،‬حيــث ِ ّ‬
‫تنظــم اإلنتــاج لجنــة‬
‫مركزيــة للتخطيــط‪.‬‬

‫والحــال أن المجتمــع الليبرالــي يفتقــر‪ ،‬بالــذات‪ ،‬وعلى كافــة األصعدة‪،‬‬


‫واع لإلنتــاج واالســتهالك‪ .‬صحيــح أن اإلنتــاج‪ ،‬فــي‬ ‫أي تنظيــم ٍ‬ ‫إلــى ّ‬
‫ـم‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬وعلــى‬
‫هــذا المجتمــع‪ ،‬خاضــع لنــوع مــن التنظيــم‪ ،‬وأنــه ال يَتـ ّ‬
‫كم ّيــات القمــح واألحذيــة والمدافــع التــي تطابــق‬ ‫التوالــي‪ ،‬ســوى إنتــاج ِ ّ‬
‫المــؤدي إلــى الثمــن‪ ،‬تغطّ ــي االســتهالك الفعلــي للمجتمــع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الطلــب‬

‫‪61‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫َــم‪ ،‬وغريبــة عــن وعــي‬ ‫يتــم بطريقــة ضمنيــة‪ ،‬مــن ث َّ‬


‫لكــن هــذا التنظيــم ّ‬
‫األفــراد‪ ،‬فارض ـ ًا نفســه علــى هــؤالء‪ ،‬كأنــه حركــة آليــة تصــدر عــن ق ـ ّوة‬
‫ـم مــن خــال الســوق‪ ،‬وقانــون العــرض والطلــب‪،‬‬ ‫خارجيــة‪ .‬إنــه تنظيــم يتـ ّ‬
‫كل االختــاالت‪.‬‬ ‫خاص ـ ًة مــن خــال األزمــات التــي تق ـ ّوم‪ ،‬دور ّي ـ ًا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬

‫وعلــى الصعيــد المباشــر للوعــي الشــخصي لألفــراد‪ ،‬ي َّتخــذ النشــاط‬


‫االقتصــادي مظهــر أنانيــة الـــ ‪ Homo economicus‬العقالنيــة‪ ،‬ومظهــر‬
‫البحــث المطلــق عــن الربــح األقصــى الــذي ال يحفــل بمشــاكل األفــراد‬
‫خاصــة‪ّ ،‬‬
‫أي اهتمــام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـام‪،‬‬
‫فــي عالقاتهــم المشــتركة‪ ،‬وال يولــي الصالــح العـ ّ‬
‫وهكــذا‪ ،‬يصبــح النــاس اآلخــرون‪ ،‬بالنســبة إلــى البائــع‪ ،‬وإلــى المشــتري‪،‬‬
‫أشــياء تشــبه باقــي األشــياء‪ ،‬يصبحــون مجــ َّرد أدوات تتم َّثــل قيمتهــا‬
‫المهمــة الوحيــدة فــي قدرتهــا علــى إبــرام العقــود‪ ،‬وإيجــاد‬
‫ّ‬ ‫اإلنســانية‬
‫التزامــات إجباريــة‪.‬‬

‫لكــن‪ ،‬وبمــا أن التنظيمــات التــي تفرضهــا حاجيــات العمــوم هــي ذات‬


‫فاعليــة غيــر قليلــة‪ ،‬فــإن وجودهــا ينبغــي أن يظهــر بشــكل أو بآخــر‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهــي‪ ،‬حيــن تغيــب عــن وعــي النــاس‪ ،‬تعــاود الظهــور فــي المجتمــع بمــا‬
‫ِّ‬
‫خاص ّياتهــا الطبيعيــة‪ ،‬أي‬ ‫ِّ‬
‫خاص ّيــات لألشــياء الجامــدة‪ ،‬تنضــاف إلــى‬ ‫هــي‬
‫قيمــة التبــادل والســعر‪.‬‬

‫وبطبيعــة الحــال‪ ،‬ســتكون األشــجار‪ ،‬كعادتهــا‪ ،‬دائمــ ًا‪ ،‬خضــراء فــي‬


‫الصيــف‪ ،‬ســواء أكانــت كبيــرة أم كانــت صغيــرة‪ ،‬قويــة أم منخــورة‪ ..‬إلــخ‪.‬‬
‫تتميــز‪ ،‬فــي االقتصــاد المنتــج للســوق‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بيــد أنهــا‪ ،‬إضافــ ًة إلــى ذلــك‪،‬‬
‫ِّ‬
‫بخاصيــة لــم تكــن تتم َّتــع بهــا فــي ّ‬
‫أي اقتصــاد طبيعــي‪( ،‬بــل ال تتم َّتــع‬
‫بهــا‪ ،‬رغــم المظاهــر‪ ،‬فــي االقتصــاد القائــم علــى التخطيــط)‪ ،‬وهــي أنهــا‬
‫تســاوي هــذا المبلــغ المالــي أو ذاك‪ ،‬وأنهــا ذات ســعر يرتبــط بالعــرض‬
‫ـدد‪ ،‬فــي نهايــة األمــر‪ ،‬عــدد األشــجار التــي ســتقطع فــي‬
‫والطلــب‪ ،‬ويحـ ّ‬
‫‪62‬‬
‫هــذه الســنة أو تلــك‪ ،‬و ُتس ـ َت ّ‬
‫غل فــي اإلنتــاج‪ ،‬وبالطبــع‪ ،‬إن مــا يقــال عــن‬
‫األشــجار ينطبــق علــى جميــع البضائــع األخــرى‪.‬‬

‫وهكــذا‪ ،‬إن مجموعــة مــن العناصــر األساســية للحيــاة النفســانية‪ ،‬وكــذا‬


‫ّ‬
‫كل الحــاالت التــي كانــت‪ ،‬فــي األشــكال االجتماعيــة مــا قبل الرأســمالية‬
‫تتشــكل مــن العواطــف‬‫َّ‬ ‫(ونتمنــى أن تكــون فــي األشــكال المقبلــة)‪،‬‬
‫المشــتركة بيــن األفــراد‪ ،‬ومــن عالقاتهــم مــع القيــم التــي تتجــاوز الفــرد‬
‫(األخــاق والجمــال والمحبــة واإليمــان‪ ،)...‬إن كل هــذا يختفــي مــن‬
‫الوعــي الشــخصي لألفــراد فــي القطــاع االقتصــادي الــذي يتزايــد وزنــه‬
‫وقيمتــه‪ّ ،‬‬
‫كل يــوم‪ ،‬فــي الحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬ليعهــد‪ ،‬فــي وظائفــه‪ ،‬إلــى‬
‫ِّ‬
‫خاص ّيــة جديــدة لألشــياء الجامــدة‪ ،‬أي إلــى ســعرها‪.‬‬

‫ِّ‬
‫األهم ّيــة والخطــورة بحيــث ال يســعنا‪،‬‬ ‫إن نتائــج هــذا التحــ ُّول مــن‬
‫تتضمــن مظاهــر إيجابيــة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫هنــا‪ ،‬أن نح ِ ّللهــا(((‪ .‬وهــي‪ ،‬مــن جهــة أخــرى‪،‬‬
‫(ومــن بينهــا أفــكار التســاوي والتســامح فــي الح ّريــة الفرديــة)‪ .‬لكنهــا‬
‫ق ـ َّوت‪ ،‬بالتدريــج‪ ،‬نم ـ ّو ســلبية الوعــي الشــخصي لـ ّ‬
‫ـكل األفــراد‪ ،‬وإلغــاء‬
‫العنصــر النوعــي فــي العالقــات الســائدة بيــن النــاس‪ ،‬مــن جهــة‪ ،‬وبينهــم‬
‫والطبيعــة‪ ،‬مــن جهــة أخــرى‪.‬‬

‫ِّ‬
‫األهم ّيــة مــن الوعــي‬ ‫إن هذيــن‪ :‬االختــزال‪ ،‬واإللغــاء لقطــاع بالــغ‬
‫بخاصيــة جديــدة‪ ،‬ذات أصــل اجتماعــي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الشــخصي لألفــراد‪ ،‬وتعويضــه‬
‫ليتــم إبدالهــا‪ ،‬ومــا‬
‫ّ‬ ‫تخــص األشــياء الجامــدة‪ ،‬بقــدر مــا تغــزو الســوق‬
‫ّ‬
‫ينتــج عــن ذلــك مــن إبطــال لوظائــف النــاس الفعليــة‪ ،‬وتحويلهــا إلــى‬
‫أشــياء‪ ...‬ثــم إن هــذا الوهــم العجيــب (الــذي يشــبهه ‪ Marx‬ببعــد‬

‫((( راجع يف املوضوع‪ ،G. Lukacs J (Histoire et conscience de classe( :‬منشورات ‪ ،Minuit‬باريس‪،‬‬
‫وكذلك‪ )La Reification( :‬يف‪ ،Recherches dia L.Goldmann Jlectiques :‬منشورات ‪،Gallimard‬‬
‫باريس‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫خاصيــة‬
‫ّ‬ ‫الشــخصية الشيكســبيرية‪ ،‬التــي تعتبــر معرفتهــا للقــراءة والكتابــة‬
‫طبيعيــة‪ ،‬والجمــال نتيجــة قيمــة واســتحقاق) هــو مــا اصطلــح علــى نعتــه‪،‬‬
‫أوَّل األمــر‪ ،‬بهــذه العبــارة البليغــة اإليحــاء‪« :‬فيتيشـ ّـية الســلعة»‪ ،‬ثــم بعــد‬
‫«التشــيؤ»‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ذلــك بكلمــة‬

‫وهكــذا‪ ،‬ففــي بنيــة المجتمــع الليبرالــي‪ ،‬التــي ح َّل َلهــا ‪ ،Marx‬كان‬


‫التشـ ُّـيؤ يختــزل ّ‬
‫كل القيــم المشــتركة بيــن األفــراد إلــى بعدهــا الضمنــي‪،‬‬
‫ِّ‬
‫خاص ّيــات أشــياء‪ ،‬وال يتــرك مــن الواقــع اإلنســاني‬ ‫محــ ِ ّو ً‬
‫ال إيّاهــا إلــى‬
‫الجوهــري والمباشــر إ ّلا الفــرد محرومــ ًا مــن ّ‬
‫كل صلــة مباشــرة ملموســة‬
‫وواعيــة مــع مجمــوع النــاس‪.‬‬

‫إن عالم ـ ًا متوازن ـ ًا مطابق ـ ًا لهــذه البنيــة يمكنــه‪ ،‬آخــر األمــر‪ ،‬أن يكــون‬
‫ِّ‬
‫المتوحــد إزاء عالــم مــن‬ ‫عالــم ‪ ،Robinson Crusoë‬ذلــك الفــرد‬
‫األشــياء والنبــات والحيــوان (عالــم ال وجــود فيــه لباقــي النــاس إ ّلا‬
‫باعتبارهــم مأجوريــن‪ ،‬وهــذا مــا ِ ّ‬
‫تعبــر عنــه شــخصية ‪ .Vendredi‬غيــر‬
‫أن اإلنســان‪ ،‬كمــا الحــظ ذلــك ‪ ،Lukacs‬فــي تحليــل أ كثــر طليعيــة‪ ،‬ال‬
‫يملــك أن يبقــى كائنـ ًا بشــري ًا‪ ،‬ويقبــل‪ ،‬فــي اآلن نفســه‪ ،‬غيــاب عالقــات‬
‫ملموســة ومشــتركة مــع باقــي النــاس اآلخريــن‪ ،‬بحيــث إن اإلبــداع‬
‫اإلنســي (‪ )créationhumaniste‬الــذي كان‪ ،‬فعــ ً‬
‫ا‪ ،‬يطابــق البنيــة‬
‫ـم التعبير‬
‫التشــييئية للمجتمــع الليبرالــي هــو ســيرة الفــرد اإلشــكالي‪ ،‬كمــا َتـ ّ‬
‫عنهــا فــي األدب الغربــي‪ ،‬منــذ ‪ non Quichotte‬إلــى ‪Flaubert et‬‬
‫‪ ،Stendhal‬مــرور ًا بـــ ‪( ،Goethe‬بــل إلــى ‪ ،Proust‬كمــا أوضــح‬
‫ذلــك ‪ ،René Girard‬مــع بعــض التعديــات‪ ،‬وإلــى ‪،Dostoïevsky‬‬
‫بالنســبة إلــى روســيا)(((‪.‬‬

‫((( راجع‪ ،‬يف املوضوع‪ ،‬دراستنا‪.)introduction aux problemes dune sociologie du roman( :‬‬

‫‪64‬‬
‫لقــد أشــار ‪ Robbe-Grillet‬إلــى أن الروايــة الكالســيكية تكتســي‬
‫فيهــا األشــياء ِ ّ‬
‫أهم ّيــة أساســية‪ ،‬لكــن هــذه األشــياء ال يكتمــل وجودهــا‪،‬‬
‫يتعيــن إ ّلا بعالقاتهــا مــع األفــراد‪ .‬وعلــى المســتوى الهيكلــي‪،‬‬‫َّ‬ ‫وال‬
‫إن المرحل َت ْيــن الالحق َت ْيــن للمجتمــع الرأســمالي الغربــي (المرحلــة‬
‫اإلمبرياليــة (التــي تقــع‪ ،‬تقريبــ ًا‪ ،‬بيــن ‪ 1912‬و ‪ )1945‬والرأســمالية‬
‫تتحــددان؛ األولــى باالختفــاء التدريجــي للفــرد‬ ‫َّ‬ ‫التنظيميــة المعاصــرة)‬
‫ـم‪ ،‬باســتقالل األشــياء المتزايــد‪ ،‬والثانيــة‬
‫بمــا هــو واقــع جوهــري‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬
‫كل واقــع جوهــري‪،‬‬ ‫بتح ـ ُّول عالــم األشــياء هــذا ‪-‬حيــث فقــد اإلنســاني ّ‬
‫الخاصــة‬
‫ّ‬ ‫ســواء باعتبــاره فــرد ًا أو جماعــة‪ -‬إلــى عالــم مسـ ّ‬
‫ـتقل‪ ،‬لــه بنيتــه‬
‫التــي ماتــزال‪ ،‬وحدهــا‪ ،‬أحيان ـ ًا‪ ،‬وبصعوبــة‪ ،‬تســمح لإلنســاني بــأن ِ ّ‬
‫يعبــر‬
‫عــن نفســه‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫بين ذوبان الشخصية الروائية والتشيُّؤ‬

‫واســمحوا لــي بــأن ِ ّ‬


‫أقــدم‪ ،‬هنــا‪ ،‬فرضيــة‪ ،‬يلزمنــا‪ ،‬بطبيعــة الحــال‪ ،‬أن‬
‫ِّ‬
‫ندقــق فيهــا بواســطة أبحــاث الحقــة‪ .‬وهكــذا‪ ،‬يبــدو لــي أن المرحل َت ْيــن‬
‫والتشــيؤ‪ ،‬فــي المجتمعــات الغربيــة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫األخير َت ْيــن مــن تاريــخ االقتصــاد‬
‫تطابقهمــا‪ ،‬بالفعــل‪ ،‬حقبتــان كبيرتــان فــي تاريــخ األشــكال الروائيــة‪:‬‬
‫ت َّتصــف إحداهمــا‪ ،‬فــي رأيــي‪ ،‬بذوبــان الشــخصية الروائيــة‪ ،‬وتم ِ ّثــل هــذه‬
‫ِّ‬
‫األهم ّيــة‪ ،‬مثــل روايــات ‪ ،Joyce‬و‪ ،Kafka‬و‬ ‫الحقبــة أعمــال بالغــة‬
‫‪ ،Musil‬و«‪ »Lā Nausee‬لـــ ‪ ،Sartre‬و«‪ »ĽEtranger‬لـــ ‪،Camus‬‬
‫وعلــى األرجــح‪ ،‬أعمــال ‪ ،Nathalie Sarraute‬باعتبارهــا أحد تج ِ ّليات‬
‫تتلمــس‬
‫هــذه الحقبــة األكثــر جذر ّيــة‪ .‬أ ّمــا الحقبــة الثانيــة‪ ،‬التــي بــدأت َّ‬
‫تعبيرهــا األدبــي‪ ،‬والتــي يعتبــر ‪ Robbe-Grillet‬أحــد مم ِ ّثيلهــا‪ ،‬األكثــر‬
‫فتتميــز‪ ،‬بالضبــط‪ ،‬بظهــور عالــم‪ ،‬مايــزال بإمــكان الواقــع‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫وأهم ّيـةً‪،‬‬ ‫أصالـ ًة‬
‫ـد مــا‪ ،‬أن ِ ّ‬
‫يعبــر مــن خاللــه‪ ،‬وحــده‪ ،‬عــن نفســه‪.‬‬ ‫اإلنســاني‪ ،‬إلــى َحـ ّ‬
‫‪66‬‬
‫وأود‪ ،‬اآلن‪ ،‬وأنــا بصــدد مقاربة روايات ‪ Robbe-Grillet‬و‪،Sarraute‬‬
‫ّ‬
‫أن أبــدأ بتســجيل المالحظــة اآلتيــة؛ وهــي أن مــا يكتبانــه عــن الواقــع‪،‬‬
‫وفــي العصــر نفســه‪ ،‬أي عصرنــا‪ ،‬قــد ال يختلــف اختالفــ ًا كبيــر ًا‪ ،‬وذلــك‬
‫يتميــز بــه ٌّ‬
‫كل منهمــا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫رغــم مــا‬

‫ّ‬
‫ولعــل التعــارض بيــن ‪ Robbe-Grillet‬و ‪ ،Sarraute‬يكمــن فــي‬
‫ممــا يكمــن فــي مــا يرصدانــه؛‬ ‫يهتمــان بــه‪ ،‬ومــا يســعيان إليــه أ كثــر ّ‬
‫ّ‬ ‫مــا‬
‫تقدمـ ًا وتط ُّرفـ ًا‪ ،‬كاتبــة روائيــة‬
‫فماتــزال ‪ ،Sarraute‬فــي أ كثــر األشــكال ُّ‬
‫تنتمــي إلــى الحقبــة التــي وصفناهــا بأنهــا تتميــز بذوبــان الشــخصية‬
‫الروائيــة‪ .‬فالبنيــات الك ّل ّيــة للمحيــط االجتماعــي ال ّ‬
‫تهمهــا‪ .‬إنهــا حريصــة‬
‫علــى البحــث عــن اإلنســاني األصيــل‪ ،‬وعــن المعيــش المباشــر‪ ،‬فــي‬
‫حيــن يبحــث ‪ ،Robbe-Grillet‬أيض ـ ًا‪ ،‬عــن اإلنســاني‪ ،‬لكــن باعتبــاره‬
‫مجســد ًا‪ ،‬أي واقع ـ ًا مندرج ـ ًا فــي بنيــة ك ِ ّل ّيــة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تعبيــر ًا‬

‫الكاتب ْيــن ال ينفــي وجــود تقــارب قـ ّ‬


‫ـوي‬ ‫َ‬ ‫غيــر أن هــذا التعــارض بيــن‬
‫بيــن مالحظاتهمــا؛ فحيــن تبحــث ‪ Sarraute‬عــن المعيــش المباشــر‪،‬‬
‫تســجل أن هــذا المعيــش لــم يعــد يوجــد ضمــن تعبيــرات ك ّلهــا‬ ‫ِّ‬ ‫هــي‬
‫(وبــدون اســتثناء‪ ،‬تقريبـ ًا) غيــر أصيلــة ومم َّوهــة ومشـ َّوهة؛ لذلــك نجدهــا‪،‬‬
‫إزاء هــذا الذوبــان القــوي للشــخصية الروائيــة‪ ،‬تحصــر عالــم رواياتهــا فــي‬
‫المجــال الــذي يســعفها‪ ،‬وحــده‪ ،‬بالعثــور علــى الواقــع‪ ،‬الــذي يبــدو لهــا‬
‫جوهريـ ًا (رغــم كونــه‪ ،‬هنــا‪ ،‬طبعـ ًا‪ ،‬مم َّوهـ ًا أيض ًا‪ ،‬الســتحالة التشــخيص)‪،‬‬
‫تحصــره فــي المعيــش والعواطــف اإلنســانية الســابقة لـ ّ‬
‫ـكل تعبيــر‪ ،‬وهو ما‬
‫ـميه بـ«االنتحــاءات» (‪ )Tropismes‬والــكالم الداخلــي‪ ،‬واإلبــداع‬ ‫تسـ ِ ّ‬
‫الجوانــي‪.‬‬

‫بهــذا المعنــى‪ ،‬تبــدو لــي ‪( Sarraute‬وأرجــو أ ّلا تؤاخذنــي علــى‬


‫ذلــك) كاتبــة ِ ّ‬
‫تعبــر عــن مظهــر أساســي فــي الواقــع المعاصــر‪ ،‬وذلــك فــي‬

‫‪67‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫شــكل‪ ،‬تســتحدث لــه‪ ،‬دون ريــب‪ ،‬نمطــ ًا جديــد ًا‪ ،‬لكنــه مايــزال نمــط‬
‫ك ّتــاب ذوبــان الشــخصية الروائيــة باالنتســاب إليهــم‪.‬‬

‫والحــال أن هــذا الواقــع نفســه هــو مــا يعبــر عنــه ‪،Robbe-Grillet‬‬


‫لكــن فــي شــكل جديــد‪ ،‬باألســاس‪ ،‬فهــو‪ ،‬أيضــ ًا‪ ،‬يؤمــن بــأن اختفــاء‬
‫ِّ‬
‫يســجل أن هــذه الشــخصية ُع ِ ّوضــت‬ ‫الشــخصية أمــر مقــ َّرر‪ ،‬غيــر أنــه‬
‫ـم ‪ ،)Sarraute Nathalie‬هــو‪ :‬عالــم‬ ‫ـتقل (واقــع ال يهـ ّ‬ ‫بواقــع آخــر مسـ ّ‬
‫األشــياء المشـ َّـيأ‪ .‬وحيــث إنــه يبحــث‪ ،‬كذلــك (وهــذه خاصيــة مشــتركة‬
‫بيــن الكاتبيــن)‪ ،‬عــن الواقــع اإلنســاني‪ ،‬فهــو يالحــظ أن هــذا الواقــع‬
‫(الــذي ال يمكــن بعــد العثــور عليــه فــي البنيــات الشــاملة كواقــع عفــوي‪،‬‬
‫ومعيــش‪ ،‬بشــكل مباشــر) ال يمكــن القبــض عليــه إ ّلا إذا تج ّلــى فــي بنيــة‬
‫األشــياء‪ ،‬وخصائصهــا‪.‬‬

‫لع َّلكــم تدركــون‪ ،‬اآلن‪ ،‬لمــاذا أعتقــد‪ ،‬كعالــم اجتمــاع‪ ،‬وبســبب‬


‫الحــدود التــي يفرضهــا تق ُّلــص عالــم اإلنســان علــى ّ‬
‫كل إبــداع ثقافــي‪،‬‬
‫بــأن أعمــال ‪ Robbe-Grillet‬و‪ Sarraute‬تعتبــر‪ ،‬فــي عصرنــا‪ ،‬ظواهــر‬
‫ِّ‬
‫األهم ّيــة‪ ،‬وإن كنــت أعتقــد‪ ،‬مــع ذلك‪ ،‬بأن أعمــال ‪Robbe-‬‬ ‫فــي منتهــى‬
‫‪( Grillet‬وأرجــو أال يؤاخذنــي‪ ،‬أيضــ ًا علــى ذلــك) ليســت ّ‬
‫مهمــة بمــا‬
‫ِّ‬
‫متحقــق فيهــا‪ ،‬فع ـ ً‬
‫ا‪.‬‬ ‫نــوى أن ِ ّ‬
‫يحققــه فيهــا‪ ،‬بــل بمــا هــو‬

‫حددنــاه قبــل قليــل‪ ،‬إطار‬


‫ذلــك أنــه مــن الممكــن‪ ،‬ضمــن اإلطــار الــذي َّ‬
‫العالــم المسـ ّ‬
‫ـتقل‪ ،‬الواقعي‪،‬أساسـ ًا‪ ،‬والغريــب (إنســاني ًا) عــن األشــياء‪ ،‬أن‬
‫يكــون ‪ Robbe-Grillet‬قــد حــاول تنــاول وقائــع ســيكولوجية‪ :‬عقــدة‬
‫أوديــب فــي روايته «‪ ،»Les Gommes‬والهـ َوس في «‪،»Le voyeur‬‬
‫والشــعور بالغيــرة فــي الروايــة نفســها‪ ،‬وربَّمــا‪ ،‬العــاج بالتحليــل النفســي‬
‫مهمـ ًا‬
‫فــي «‪ .»Ľannée dérnière à Marienbad‬لكــن مــا يبــدو لــي ّ‬
‫هــو أن هــذه النوايــا‪ ،‬إذا افترضنــا أنهــا فعليــة‪ ،‬لــم تســتطع أن تمتــزج‬

‫‪68‬‬
‫بأعمالــه األدبيــة إ ّلا فــي حــدود إمكانيــة ارتباطهــا بتحليــل جوهــري آخــر‬
‫للبنيــات الشــاملة للواقــع االجتماعــي‪.‬‬

‫وهكــذا‪ ،‬تبقــى عقدة أوديب زخرف ًا خارجي ًا فــي «‪.»Les Gommes‬‬


‫ــي انطــاق‬
‫أمّــا وســواس ‪ Mathias‬وغيــرة الــزوج‪ ،‬فليســا ســوى نقط َت ْ‬
‫ماد َت ْيــن تســمحان بالتعبيــر عــن بنيــات جوهريــة؛ بوجــه آخــر‪ ،‬كان‬
‫أو َّ‬
‫باإلمــكان التعبيــر عنهــا‪ ،‬أيضــ ًا‪ ،‬انطالقــ ًا مــن عواطــف ومشــاعر‬
‫مختلفــة‪ .‬أمّــا عالقــات الرجــل بالمــرأة فــي «‪Ľannée dérnière à‬‬
‫‪ ،»Marienbad‬فتصبــح تعبيــر ًا عــن عالقــات إنســانية شــاملة‪.‬‬

‫إضافـ ًة إلــى ذلــك‪ ،‬ومــع احتمــال إزعــاج معظــم النقّ ــاد الذيــن اهتمــوا‬
‫ـي‪ ،‬لــدى قراءتــي لكتابــات‬ ‫يخيــل إلـ َّ‬
‫بالجوانــب الشــكلية فــي أعمالــه‪َّ ،‬‬
‫أهم َّيتهــا القصــوى‪ ،‬ال‬‫‪ ،Robbe-Grillet‬أن هــذه الجوانــب‪ ،‬رغــم ِ ّ‬
‫ت َّتســم‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬باالســتقالل‪ :‬فمــادام لـــ ‪ Robbe-Grillet‬شــيء يقولــه‪،‬‬
‫الك ّتــاب الحقيقييــن‪ ،‬يبحــث عــن أنســب‬ ‫فهــو‪ ،‬بطبيعــة الحــال‪ ،‬وكســائر ُ‬
‫األشــكال لقولــه‪ ،‬فــا يمكــن لمضمــون رواياتــه أن ينفصــل عــن اإلبــداع‬
‫ّ‬
‫يســتقل عــن مجمــوع‬ ‫األدبــي‪ ،‬مثلمــا ال يمكــن إلبداعــه األدبــي أن‬
‫أعمالــه‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫أهمِّ يّة التحوُّ الت االجتماعية واإلنسانية‬


‫ـم كثيــر ًا بالقضايــا الشــكلية‪ ،‬في روايــات ‪Robbe-‬‬
‫وبمــا أن النقــد اهتـ َّ‬
‫ـك فــي أن الوقــت قــد حــان للحديث عــن مضمونها‪ .‬ولن‬ ‫‪ ،Grillet‬فــا شـ ّ‬
‫يتع َّلــق األمــر‪ ،‬طبعـ ًا‪ ،‬بالبحــث عــن مضمــون خفـ ّ‬
‫ـي فــي رواياتــه؛ ذلــك أن‬
‫البحــث الشــكلي عنــده محاولــة لجعــل المضمــون فــي منتهــى الوضــوح‪،‬‬
‫وأكثــر قابلي ـ ًة للفهــم‪ .‬وإذا كان الق ـ ّراء والنقّ ــاد يجــدون صعوبــات كثيــرة‬
‫فــي إدراكــه‪ ،‬فليــس هــذا خطــأ الكاتــب‪ ،‬بــل خطــأ العــادات الذهنيــة‬
‫َّ‬
‫تتحكــم فــي قــراءة معظمهــم‪.‬‬ ‫واآلراء المســبقة واألحــكام الجاهــزة التــي‬

‫ّ‬
‫اســتهل ‪ Robbe-Grillet‬كتاباتــه‪ ،‬فــي ‪ ،1953‬بنــوع مــن‬ ‫لقــد‬
‫الروايــة البوليســية‪ .‬فالمالحــظ فــي روايتــه «‪ »Les Gommes‬أنهــا‬
‫ماتــزال وفيــة‪ ،‬بنســبة كبيــرة‪ ،‬إلــى الترســيمة التقليديــة لهــذا النــوع األدبــي‬
‫(جريمــة قتــل لكنهــا محبطــة‪ ،‬تحقيــق الشــرطة‪ ..‬وغيــر ذلــك)‪ ،‬غيــر‬
‫أنهــا ذات مضمــون جديــد يســتدعي‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬جملــة مــن التعديــات‬

‫‪70‬‬
‫ـد ًا‪ .‬ويبــدو لــي‪ ،‬مــع ذلــك‪ ،‬أن هــذا التفــاوت بيــن‬
‫المهمــة جـ ّ‬
‫ّ‬ ‫الشــكلية‬
‫المضمــون الجديــد والشــكل الــذي لــم يلحقــه ســوى تجديــد جزئــي‪ ،‬هــو‬
‫مــا دفــع ‪ ،Robbe-Grillet‬فــي مجموعــة مــن التفاصيــل الهامشــية‪ ،‬إلــى‬
‫التذكيــر بمــا أراد أن يقولــه؛ وهــذا مــا ِ ّ‬
‫يفســر تلميحاتــه الكثيــرة إلــى عقــدة‬
‫مقحــم‪ ،‬نســبي ًا‪ ،‬علــى بنيــة النـ ّ‬
‫ـص ذاتهــا (ن ُُســج ســتائر‬ ‫َ‬ ‫«أوديــب» بشــكل‬
‫النافــذة‪ ،‬زخــرف المدفــأة‪ ،‬لغــز أبــي الهول‪ ،‬مقطــع متع ِ ّلق باحتمــال وجود‬
‫ابــن للضحيــة‪ ،‬وغيــر ذلــك)‪ ،‬ســعي ًا منــه إلــى تنبيه القــارئ إلــى أن األمر ال‬
‫ـص ينتمــي مضمونــه‬‫يتع َّلــق بروايــة بوليســية مــن النــوع المألــوف‪ ،‬بــل بنـ ّ‬
‫ّ‬
‫شــك فــي أن هــذه‬ ‫األساســي إلــى مضمــون التراجيديــا القديمــة‪ .‬وال‬
‫التلميحــات كانــت ســتغدو عديمــة الجــدوى (وقــد انعدمــت‪ ،‬فعـ ً‬
‫ا‪ ،‬فــي‬
‫كتابــات ‪ Robbe-Grillet‬الالحقــة) لــو أن نســبة مالءمــة شــكل الروايــة‬
‫أي أســاس يريــد ‪Robbe-‬‬ ‫كانــت كافيــة لتوضيــح مضمونهــا؛ فعلــى ِ ّ‬
‫‪ Grillet‬أن يربــط «‪ »Les Gommes‬بأســطورة أوديــب؟ يبــدو لــي أن‬
‫ـد ضعيــف‪ ،‬بــل قابــل للنقــاش‪ ،‬فالروايــة‪ ،‬يقينـ ًا‪ ،‬ال‬ ‫وجــه الشــبه بينهمــا جـ ّ‬
‫ـل مــن األكيــد أن ‪ Daniel Dupont‬لــم‬ ‫تســتوحي األســطورة نفســها‪ .‬ولعـ ّ‬
‫يقتلــه ابنــه‪ ،‬فليــس فــي الروايــة‪ ،‬علــى ّ‬
‫كل حــال‪ ،‬مــا يجعــل هــذه الفرضيــة‬
‫مقبولــة ظاهــر ًا‪ .‬إن العالقــة بينهمــا تكمــن فــي كــون تسلســل األحــداث‬
‫ـم‪ ،‬فــي كلتــا الحالتيــن‪ ،‬وفــق ضــرورة‪ ،‬ال ســبيل إلــى الخــاص منهــا‪،‬‬
‫يتـ ّ‬
‫بحيــث ال تســتطيع نوايــا الشــخصيات وأفعالهــم تغييرهــا‪ .‬غيــر أن ضــرورة‬
‫التراجيديــا القديمــة‪ ،‬مــن الناحيــة البنيويــة‪ ،‬تنشــأ مــن الصــراع بيــن إرادة‬
‫ممــا‬
‫اآللهــة وجهــود البشــر‪ ،‬صــراع يح ـ ِ ّول الحيــاة اإلنســانية إلــى قــدر‪ّ ،‬‬
‫ـل ‪ ،Robbe-Grillet‬الــذي تخ َّلــى‪ ،‬فيمــا بعــد‪ ،‬عــن التلميــح‬ ‫ينفــي (ولعـ ّ‬
‫إلــى هــذه التراجيديــا‪ ،‬قــد انتبــه إلــى ذلــك بنفســه) أ ّيــة صلــة بالحركــة‬
‫اآلليــة والمحتومــة التــي تســري فــي عالــم‪ ،‬فقــد فيــه األفــراد‪ ،‬وكــذا‬
‫َّ‬
‫وكل ِ ّ‬
‫أهم ّيــة‪.‬‬ ‫بحثهــم عــن الح ِ ّريــة‪َّ ،‬‬
‫كل حقيقــة‬

‫‪71‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫‪72‬‬
‫إن مضمــون الروايــة هــو‪ ،‬بالضبــط‪ ،‬هــذه الضــرورة اآلليــة والمحتومــة‬
‫ـدد‪ ،‬فــي الوقــت نفســه‪ ،‬عالقــات الناس فيمــا بينهــم‪ ،‬وعالقاتهم‬ ‫التــي تحـ ِ ّ‬
‫مــع األشــياء‪ ،‬فــي عالــم يشــبه جهــاز ًا حديثــ ًا مــزوَّد ًا ّ‬
‫بآليــات التنظيــم‬
‫َّ‬
‫بمنظمــة س ـ ِ ّرية مناهضــة للحكومــة‬ ‫الذاتــي‪ .‬فاألمــر‪ ،‬فــي الروايــة‪ ،‬يتع َّلــق‬
‫تهاجــم المدعـ ّو ‪ ،Daniel Dupont‬تنفيــذ ًا لقرارهــا بقتــل رجــل فــي ّ‬
‫كل‬
‫اآلليــات دق ـ ًة وإتقان ـ ًا لســوء‬
‫ّ‬ ‫يــوم‪ .‬لكــن‪ ،‬وكمــا تتع ـ َّرض‪ ،‬أحيان ـ ًا‪ ،‬أ كثــر‬
‫تدبيــر مــا‪ ،‬يحــدث شــيء غيــر متو َّقــع‪ :‬لقــد أشــعل ‪ Dupont‬المصبــاح‬
‫فــي مكتبــه‪ ،‬قبــل األوان؛ مــا جعــل القاتــل المذعــور يخطــئ الهــدف‪،‬‬
‫فيصيبــه بجــرح بســيط فــي ذراعــه‪ .‬وحمايــ ًة لنفســه‪ ،‬يعمــد ‪،Dupont‬‬
‫الــذي أدرك أن حياتــه فــي خطــر‪ ،‬والــذي تربطــه بالحكومــة صــات‬
‫متينــة‪ ،‬إلــى اإليهــام بنجــاح الجريمــة‪ ،‬ثــم يختبــئ بعــض الوقــت‪،‬‬
‫ـم إيفــاد شــرطي سـ ِ ّري إلــى المكان‬ ‫مؤ ّمـ ً‬
‫ا‪ ،‬بذلــك‪ ،‬اســتغفال القاتــل‪ .‬ويتـ ّ‬
‫ا‪ .‬ومــا يبــدو قــد حصــل‬ ‫عينــه للتحقيــق فــي جريمــة قتــل‪ ،‬لــم تقــع فع ـ ً‬
‫ــم اإلخــال بهــا‪ ،‬وأن‬
‫واآلليــة للعمليــة قــد َت َّ‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫الخاصيــة الحتميــة‬ ‫هــو أن‬
‫تشويشــ ًا فــي الســير الطبيعــي لألمــور قــد طــرأ‪ .‬لكــن مــا حصــل‪ ،‬فــي‬
‫واآلليــة مضبوطــة‪ .‬ذلــك أن‬
‫ّ‬ ‫ـدر‪،‬‬
‫فسـ ْـير األمــور مقـ َّ‬
‫الواقــع‪ ،‬مج ـ َّرد وهــم؛ َ‬
‫مجــرى األحــداث جعــل الشــرطي‪ ،‬ودون أن يعــي ذلــك أحــد أو يريــده‪،‬‬
‫ضحيــة حقيقيــة؛ مــا يســمح بمتابعــة‬
‫ّ‬ ‫يقتــل الضحيــة المزعومــة‪ ،‬فتصبــح‬
‫التحقيــق حــول جريمــة قتــل فعليــة‪ .‬أ ّمــا العصابــة‪ ،‬فستســتم ّر فــي عملهــا‪،‬‬
‫ا آخــر‬‫دون علــم بالخطــأ المرتكــب‪ ،‬وســتقتل‪ ،‬فــي اليــوم التالــي‪ ،‬رج ـ ً‬
‫اســمه ‪.Albert Dupont‬‬

‫وهنــاك ســؤال آخــر‪ ،‬يمكــن أن يُطــرح‪ :‬لمــاذا هــذا العنــوان «‪Les‬‬


‫تــردد‬
‫ُّ‬ ‫‪ ،»Gommes‬الــذي ال يــكاد يربطــه بالحبكــة الروائيــة ســوى‬
‫الشــرطي ‪ Wallace‬المســتم ّر‪ ،‬علــى مكتبــة لشــراء مُ حــاوات؟ وكمــا هــو‬
‫الشــأن‪ ،‬بالنســبة إلــى التلميحــات إلــى أســطورة أوديــب‪ ،‬يبــدو لــي أن‬

‫‪73‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫األمــر‪ ،‬هنــا‪ ،‬يتع َّلــق بإشــارات جـ ّ‬


‫ـد مقحمــة علــى مضمــون الروايــة‪ :‬إشــارة‪،‬‬
‫علــى المســتوى المباشــر‪ ،‬إلــى التنظيمــات الذاتيــة التــي تمحــو الخلــل‪،‬‬
‫وإشــارة علــى المســتوى األعــم‪ ،‬إلــى آلــة المجتمــع التــي تمحــو ّ‬
‫كل أثــر‬
‫للتشــويش البشــري‪ ،‬ولحقيقــة الفــرد‪.‬‬

‫وعلــى مســتوى أدبــي أرفــع‪ ،‬ســتتك َّرر التيمــات نفســها فــي روايــة‬
‫‪ Robbe-Grillet‬الثانيــة «‪ ،»Le Voyeur‬التــي أثــارت بيــن النقــاد‬
‫َّ‬
‫يتذكــرون المقالــة األولــى‪ ،‬العنيفــة‬ ‫ّ‬
‫ولعــل بعضكــم‬ ‫حــاد ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جــد ً‬
‫ال‬
‫والناقمــة‪ ،‬التــي نشــرها ‪ E. Henriot‬فــي جريــدة ‪ ،Le Monde‬ثــم‬
‫تراجــع الناقــد نفســها‪ ،‬بعــد ذلــك‪ ،‬ليقتــرح تصنيــف الروايــة ضمــن‬
‫أحســن عشــرة كتــب ُتقــرأ فــي العطلــة‪.‬‬

‫تثيرهــذه الروايــة مــا أثارتــه «‪ »Les Gommes‬مــن مســائل‪ ،‬ولكــن‬


‫علــى مســتوى أ كثــر جذر ّيـةً‪ ،‬اســتوجب تح ُّوالت شــكلية عميقــة‪ .‬وبطبيعة‬
‫الحــال‪ ،‬إن مــا اســترعى انتبــاه النقّ ــاد هــو هــذه التحــ ُّوالت الشــكلية‪.‬‬
‫أمّــا المضمــون‪ ،‬فلــم يلتفتــوا فيــه إ ّلا إلــى الجانــب األنيكدوتــي‪ ،‬أي‬
‫ــد مــا‪،‬‬
‫ســرد خبــر تافــه‪ ،‬لــم يثــر فيهــم ســوى االســتخفاف‪ ،‬أو إلــى َح ّ‬
‫االســتنكار‪ ،‬وبالطبــع‪ ،‬إن عــدم االنطــاق مــن المضمــون‪ ،‬الــذي يبــ ِ ّرر‬
‫تعســفية أو‬
‫ويفــرض التح ـ ُّوالت الشــكلية‪ ،‬يجعــل هــذه األخيــرة وكأنهــا ُّ‬
‫متك َّلفــة؛ فقليلــون‪ ،‬فــي علمنــا‪ ،‬هــم النقّ ــاد الذيــن تع َّرضــوا إلــى مســألة‬
‫بســيطة مثــل العنــوان‪ ،‬أي «‪ ،»Le Voyeur‬الــذي يشــير‪ ،‬مــع ذلــك‪،‬‬
‫ليتفحصــوه بمــا يســتحقّ مــن عنايــة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وبوضــوح‪ ،‬إلــى مضمــون الكتــاب‪،‬‬
‫فمــن يكــون هــذا الرائــي (= «‪)»Le Voyeur‬؟ إن هــذا الوصــف ال‬
‫ينطبــق إ ّلا بصــورة جزئيــة علــى التاجــر المتجــ ِ ّول‪ ،Mathias ،‬الــذي‬
‫ارتكــب‪ ،‬فعــ ً‬
‫ا‪ ،‬جريمــة القتــل؛ موضــوع الروايــة‪ .‬أمّــا مالحظــة أحــد‬
‫النقّ ــاد بــأن الوصــف ينطبــق علــى الشــاب ‪ Marek‬أ كثــر ّ‬
‫ممــا ينطبــق‬

‫‪74‬‬
‫علــى غيــره‪ ،‬فيمكــن االعتــراض‪ ،‬بق ـ ّوة‪ ،‬عليهــا‪ ،‬بــأن هــذه الشــخصية ال‬
‫يمكــن‪ ،‬بـ ّ‬
‫ـأي حــال‪ ،‬أن تكــون الشــخصية المحوريــة فــي الروايــة‪.‬‬

‫لنتســاءل‪ ،‬مــع ذلــك‪ ،‬عــن مضمــون الروايــة‪ ،‬وســنالحظ أن الجــواب‬


‫يفــرض نفســه‪ ،‬بتلقائيــة‪ ،‬وليــس هــذا المضمــون‪ ،‬طبعــ ًا‪ ،‬مجــ َّرد ذلــك‬
‫الســرد لخبــر تافــه‪ ،‬أي قتــل طفلــة صغيــرة؛ فلــو كان األمــر كذلــك مــا‬
‫تجــاوزت الروايــة كونهــا روايــة تقليديــة‪.‬‬

‫فعلــى المســتوى األكثــر مباشــرةً‪ ،‬ينقــل الكاتــب حكايــة المســافر‬


‫ا‬ ‫َّ‬
‫يتذكــر إقامتــه يوم ـ ًا كام ـ ً‬ ‫المتج ـ ِ ّول ‪ ،Mathias‬التــي يحــاول فيهــا أن‬
‫فــي جزيــرة‪َ ،‬حـ َّ‬
‫ـل بهــا ليبيــع بعــض الســاعات‪ .‬وألن ‪ Mathias‬قتــل طفل ًة‬
‫صغيــرة فــي أثنــاء إقامتــة هــذه‪ ،‬فقــد اســتحوذت عليــه ذكــرى الجريمــة‬
‫وخشــية القبــض عليــه؛ لذلــك ت َّتســم حكايتــه‪ ،‬علــى الفــور‪ ،‬بعنصريــن‪:‬‬
‫رغبتــه‪ ،‬مــن جهــة‪ ،‬فــي تقديــم روايــة عــن إقامتــه فــي الجزيــرة تكــون‬
‫مقبولــة وخاليــة مــن الثغــرات‪ ،‬وذلــك بحذفــه ّ‬
‫كل إشــارة إلــى الجريمــة‪،‬‬
‫قبــض عليــه‪ ،‬هــذا‬
‫في َ‬
‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬خوفــه مــن أن يُك َتشــف أمــره‪ُ ،‬‬
‫الخــوف الــذي يظهــر فــي اســتبداد صــورة األغــال بمشــاعره‪ ،‬وفــي ّ‬
‫كل‬
‫ّ‬
‫الغــل‬ ‫ّ‬
‫تــدل عنــده علــى‬ ‫مــا ِ ّ‬
‫يذكــره بشــكل «ثمانيــة مائلــة» ( ) التــي‬
‫الــذي يوضــع حــول اليديــن‪.‬‬

‫ويش ـ ِ ّوه هــذا الخــوف البنيــة القصديــة للحكايــة‪ ،‬ويمنعهــا مــن ا ِ ّتبــاع‬
‫مســار مطابــق للبنيــة األصليــة‪ ،‬ويعيدهــا‪ ،‬باســتمرار‪ ،‬إمّــا إلــى جريمــة‬
‫يتعيــن إخفاؤهــا‪ ،‬وإ ّمــا إلــى بعــض األحــداث التــي وقعــت‬
‫َّ‬ ‫القتــل التــي‬
‫فــي طفولــة ‪ ،Mathias‬والتــي ترتبــط فــي حياتــه الشــخصية (ويبــدو‬
‫ــد مــا‪ ،‬بالتحليــل النفســي)‬
‫هنــا أن ‪ Robbe-Grillet‬يســتعين‪ ،‬إلــى َح ّ‬
‫بجريمــة القتــل‪ ،‬مــا يمنحهــا (أي الحكايــة) داللــة ســيكولوجية‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫وخاصــ ًة التق ُّلــب الدائــم‬


‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫ويفســر هــذا المضمــون أســلوب الروايــة‪،‬‬
‫داخــل الجملــة نفســها بيــن شــخصيات مختلفــة‪ ،‬وأحــداث تقــع فــي‬
‫فتــرات متفاوتــة‪.‬‬

‫فالرائــي‪ ،‬إذن‪ ،‬وعلــى مســتوى مباشــر‪ ،‬هــو ‪ Mathias‬ذاتــه‪ ،‬بمــا أن‬


‫الحكايــة لــم تقــع فــي وقــت ارتكابــه للجريمــة‪ ،‬بــل بعــد ذلــك‪ ،‬أي فــي‬
‫الخاصــة لليــوم الــذي قضــاه‬
‫ّ‬ ‫الوقــت الــذي يحــاول فيــه أن يقـ ِ ّ‬
‫ـدم روايتــه‬
‫يذكــر بالجريمــة‪ ،‬رغــم أن‬ ‫كل مــا ّ‬‫فــي الجزيــرة‪ ،‬روايــة حــذف منهــا ّ‬
‫ذاكرتــه مشــدودة‪ ،‬دوم ـ ًا‪ ،‬إ ّمــا إلــى الجريمــة نفســها‪ ،‬وإ ّمــا إلــى مختلــف‬
‫األشــياء المتع ِ ّلقــة بهــا‪.‬‬

‫ـيتحدد‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ـم مــا يكتشــفه ‪( Mathias‬هــذا االكتشــاف الــذي سـ‬ ‫غيــر أن أهـ ّ‬
‫تدريجيــ ًا‪ ،‬عبــر الحكايــة((( ليــس‪ ،‬فقــط‪ ،‬اســتحالة التســ ُّتر علــى‬
‫يذكــره بهــا‪ ،‬باســتمرار‪ ،‬خوفــه المتســ ِ ّلط‪ ،‬بــل‪ ،‬كذلــك‪ ،‬وعلــى‬
‫جريمــة ّ‬
‫الخصــوص‪ ،‬كــون مجهــوده عديــم الجــدوى‪ ،‬بمــا أنــه يســتند إلــى تصـ ُّور‬
‫مغلــوط للواقــع االجتماعــي‪ .‬وبالفعــل‪ ،‬إن أوَّل مــا سيكتشــفه ‪Mathias‬‬
‫ـاهديْن علــى الجريمــة‬
‫هــو وجــود شــخصين فــي الجزيــرة كانــا‪ ،‬بداهـةً‪ ،‬شـ َ‬
‫(وهــو أمــر أ كيــد‪ ،‬بالنســبة إلــى أحدهمــا‪ ،‬وراجــح بالنســبة إلــى اآلخــر)‪،‬‬
‫شــخصين يحرصــان‪ ،‬مع ـ ًا‪ ،‬وبإصــرار‪ ،‬علــى إثبــات زيــف روايتــه‪ ،‬ك ّلمــا‬
‫حــاول إخفــاء جريمتــه‪ .‬ويولّــد هــذا االكتشــاف نوعــ ًا مــن القلــق فــي‬
‫نفســه‪ ،‬لكنــه قلــق عابــر‪ ،‬إذ ســرعان مــا الحــظ أنــه إذا كان الشــاهدان‬
‫ـك ْين‪ ،‬دون شـ ّ‬
‫ـك‪ ،‬بتصحيــح روايتــه‪ ،‬فــإن حافزهمــا إلــى ذلــك هــو‬ ‫متمسـ َ‬
‫ِّ‬
‫توضيــح حقيقــة األمــر‪ ،‬وليــس‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬فــي َّ‬
‫نيتهمــا الوشــاية بــه‪ ،‬واألمــر‬
‫«رائي ْيــن»‪ .‬وسيكتشــف ‪ ،Mathias‬بســرعة‪ ،‬أن‬
‫َ‬ ‫بمتابعتــه‪ :‬إنهمــا مجـ َّرد‬

‫((( خالفا ً ملا يقوله ‪ ،Robbe-Grillet‬غالباً‪ ،‬عن رواياته‪ ،‬فإن الحكاية ال تتحدَّد‪ ،‬تدقيقاً‪ ،‬يف مستوى الشخصية‬
‫املحورية‪ ،‬بل‪ ،‬إىل حَ ّد ما‪ ،‬يف مستوى يتجاوزها‪ ،‬كما عند جميع الروائيني الكالسيكيني‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ّ‬
‫يشــكلون فــي هــذه الروايــة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ســكان الجزيــرة (الذيــن ال‬ ‫باســتطاعة ّ‬
‫كل‬
‫كمــا فــي كل عمــل فنــي‪ ،‬ســوى قطــاع جزئــي مــن عالــم شــامل‪ ،‬بــل‬
‫هــذا العالــم الشــامل نفســه) أن يكتشــفوا القاتــل بســهولة‪ ،‬وبأدنــى‬
‫ـاب ‪ ،Marek‬والطفلــة‬
‫جهــد‪ ،‬لكنهــم ال يبالــون بذلــك عــدم مبــاالة الشـ ّ‬
‫الصغيــرة ‪ .Maria‬والواقــع أن هــذه الجريمــة‪ ،‬مثــل جريمــة روايــة‬
‫«‪ ،»Les Gommes‬ال تخــرج عــن منطــق األشــياء‪ ،‬وأن قتــل الطفلــة‬
‫ســيريحهم‪ ،‬مادامــت ال تشــبه أحــد ًا مــن سـ ّ‬
‫ـكان الجزيــرة‪ ،‬وتم ِ ّثــل عنصــر‬
‫تلقائيــة وتشــويش(((‪.‬‬

‫َّ‬
‫ِّ‬
‫ســلبيين‪ ،‬ال‬ ‫يتشــكل العالــم‪ ،‬فقــط‪ ،‬مــن أشــخاص رائيــن‬ ‫وهكــذا‪،‬‬
‫ليغيــروه نوعي ـ ًا‪،‬‬
‫يتدخلــوا فــي شــؤون المجتمــع ِ ّ‬
‫َّ‬ ‫ينــوون‪ ،‬وال يملكــون أن‬
‫ويجعلــوه أ كثــر إنســانيةً‪ .‬والشــخص الوحيــد الــذي أمكنــه أن يعتقــد‬
‫بــأن قتــل الطفلــة فعــل يســتحقّ العقــاب‪ ،‬ويعــ ِ ّرض مرتكبــه لإلقصــاء‬
‫مــن الحيــاة االجتماعيــة هــو ‪ Mathias‬نفســه‪ ،‬الــذي رفــض‪ ،‬فــي نهايــة‬
‫الروايــة‪ ،‬وبعــد أن فهــم غلطتــه‪ ،‬إمكانــات الفــرار التــي كانــت أمامــه‪،‬‬
‫وانتظــر‪ ،‬فــي هــدوء‪ ،‬حلــول الصبــاح ليركــب الباخــرة التــي تربــط‪،‬‬
‫بانتظــام‪ ،‬بيــن الجزيــرة والقــارّة‪.‬‬

‫وبذلــك‪ ،‬تكــون الجريمــة مندمجــة فــي النظــام الك ّلــي‪ ،‬الــذي يطبعــه‪،‬‬
‫فــي روايــة «‪ ،»Les Gommes‬مبــد ُأ التنظيــم الذاتــي الــذي يلغــي‬
‫ّ‬
‫كل إمكانيــة للتغييــر تتو ّلــد عــن عنصــر غيــر متو َّقــع مــن عناصــر المــزاج‬
‫الفــردي‪ ،‬وعــن خطــأ فــردي غيــر منتظــر‪ ،‬وتطبعــه‪ ،‬فــي روايــة «‪Le‬‬

‫ثانية إىل مضمون الرواية األسايس‪ ،‬رغم أن هذا العنرص يرتبط‬ ‫ً‬ ‫لعل هناك عنرصا ً خارجيا ً أخرياً‪ ،‬مضافا ً‬‫((( ّ‬
‫بمضمون الرواية أكثر مما ترتبط التلميحات إىل أسطورة «أوديب» بمضمون الرواية السابقة‪ .‬فبالنسبة إىل مسألة‬
‫الطبيعة أو العالم البرشي‪ ،‬الذي يتخيَّله ‪( Robbe-Grillet‬عالم يطابق كثرياً‪ ،‬كما قلنا آنفاً‪ ،‬جوهر املجتمع‬
‫الصناعي الغربي) فإن كون الضحية قد كانت إىل ح ّد ما كائنا ً هامشيا ً وغريباً‪ ،‬وأن يف قتلها إبادة لعنرص مش َّوش‪،‬‬
‫يبقى‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬أنيكدوتياً‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫‪ ،»Voyeur‬ســلبية جميــع أعضــاء المجتمــع‪.‬‬

‫ّ‬
‫لــكل ســوء فهــم ممكــن‪ ،‬ينبغــي اإلشــارة‪ ،‬هنــا (ربّمــا رغــم‬ ‫وتج ُّنبــ ًا‬
‫عــدم جــدوى ذلــك) إلــى أن موضــوع هاتيــن الروايتيــن‪ ،‬أي فقــدان‬
‫ـكل ِ ّ‬
‫أهم ّيــة ومعنــى‪ ،‬يجعــل منهمــا‪ ،‬فــي رأيــي‪ ،‬اثنتيــن‬ ‫العمــل الفــردي لـ ّ‬
‫مــن أ كثــر الروايــات واقعيـ ًة فــي األدب المعاصــر‪ .‬ومــن الممكــن‪ ،‬طبعـ ًا‪،‬‬
‫بحجــة يبــدو أنهــا‬
‫ّ‬ ‫أن يوجــد ق ـ ّراء أو نقّ ــاد يعترضــون علــى رأيــي هــذا‪،‬‬
‫اآلليــة‬
‫ّ‬ ‫تتدخــل‬
‫َّ‬ ‫مــن إمــاء العقــل الســليم؛ هــي أنــه ليــس صحيحــ ًا أن‬
‫ضحيتــه‪ ،‬لتصلــح خطــأه‪ ،‬مثلمــا‬‫َّ‬ ‫كل م ـ ّرة يخطــئ قاتـ ٌ‬
‫ـل‬ ‫المجتمعيــة‪ ،‬فــي ّ‬
‫ّ‬
‫يظــل الجيــران غيــر مكترثيــن‪ ،‬حيــن يقتــل تاجــ ٌر‬ ‫ليــس صحيحــ ًا أن‬
‫متجـ ِ ّول طفلـ ًة صغيــرة‪ ،‬وأ ّلا تعبــأ الســلطات بالقبــض عليــه وتقديمــه إلــى‬
‫العدالــة‪.‬‬

‫إن لهــذا االعتــراض‪ ،‬بطبيعــة الحــال‪ ،‬مــا يبــرره بشــكل مباشــر‪ ،‬غيــر‬
‫أن المشــكل يطــرح علــى مســتوى أ كثــر جذريّــة‪ ،‬فمــا أكثــر الجرائــم‬
‫التــي ُترتكــب‪ ،‬يومي ـ ًا‪ ،‬ضـ ّ‬
‫ـد مــا هــو إنســاني‪ ،‬والتــي تنتمــي إلــى النظــام‬
‫المجتمعــي نفســه‪ ،‬ويقبلهــا‪ ،‬أو يتســامح بشــأنها قانــون المجتمــع والبنيــة‬
‫ـل أشــكال اجتماعية ســالفة (ويكفي‬ ‫النفســية ألعضائــه‪ .‬وقديمـ ًا‪ ،‬وفــي ظـ ّ‬
‫أن ِ ّ‬
‫نفكــر‪ ،‬هنــا‪ ،‬فــي االمتيــازات اإلقطاعيــة أو فــي رقيــم العقــاب)‪ ،‬كان‬
‫بإمــكان‪ ،‬بــل مــن واجــب هــذه العناصــر الالنســانية‪ ،‬فــي فتــرة تط ُّورية ما‪،‬‬
‫ِّ‬
‫والمفكريــن‬ ‫أن تغيــظ أفــراد بعــض الفئــات االجتماعيــة‪ ،‬وكــذا الك ّتــاب‬
‫الناطقيــن باســمهم (مثــال ذلــك ‪ Voltaire‬و‪ ،)Lessing‬وكان بإمكانها‪،‬‬
‫أيض ـ ًا‪ ،‬أن ُتحــدث انقالب ـ ًا اجتماعي ـ ًا يجعــل اســتمرارها مســتحي ً‬
‫ال‪ ،‬مــع‬
‫احتمــال ارتــكاب مظالــم وأفعــال ال إنســانية أخــرى ســتنتهي‪ ،‬أيضــ ًا‪،‬‬
‫بإغاظــة البعــض‪ ..‬وهكــذا دواليــك‪.‬‬

‫ِّ‬
‫ويشــكل موضــوع رواي َت ْيــه‬ ‫إن مــا يالحظــه ‪،Robbe-Grillet‬‬

‫‪78‬‬
‫األو َل َي ْيــن‪ ،‬هــو التحــ ُّول االجتماعــي واإلنســاني الكبيــر المتر ِ ّتــب عــن‬
‫ِّ‬
‫األهم ّيــة‪ .‬فهنــاك‪ ،‬مــن جهــة‪،‬‬ ‫بــروز ظاهر َت ْيــن جديد َت ْيــن‪ ،‬وفــي منتهــى‬
‫التنظيمــات الذاتيــة للمجتمــع‪ ،‬ومــن جهــة ثانيــة‪ ،‬صفــة «الرائــي» التــي‬
‫يتقمصهــا األفــراد‪ ،‬تدريجيـ ًا‪ ،‬فــي المجتمــع الحديــث وغيــاب المشــاركة‬
‫َّ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫يســميه علمــاء االجتمــاع‬ ‫الفعليــة فــي الحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬وهــذا مــا‬
‫المحدثــون «ال َت َس ُّيس ـ ًا» (‪ ،)dépolitisation‬لكنــه‪ ،‬فــي حقيقــة األمــر‪،‬‬
‫ظاهــرة أ كثــر جوهريــة يمكننــا تعيينهــا‪ ،‬وفــق تــدرُّج تعاقبي‪ ،‬بكلمــات مثل‪:‬‬
‫ــيس» (‪« )dépolitisation‬ال َأ ْن َســنة» (‪،)déshumanisation‬‬ ‫«ال َت َس ُّ‬
‫«تشــيؤ» (‪.)réification‬‬
‫ُّ‬ ‫«ال تقديــس» (‪،)désacralisation‬‬

‫وهــذا التشـ ُّـيؤ هــو مــا يشـ ِ ّ‬


‫ـكل‪ ،‬علــى مســتوى أ كثــر جذر ّي ـةً‪ ،‬موضــوع‬
‫الروايــة الثالثــة لـــ«‪ ،»Robbe-Grillet‬بعنــوان «‪.»La Jalousie‬‬
‫ـكل ِ ّ‬
‫أهم ّيــة‬ ‫وقــد أشــار ‪ Lukàcs‬نفســه إلــى أن فقــدان العمــل الفــردي لـ ّ‬
‫وجــد ســلبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ومعنــى(((‪ ،‬وتحــ ُّول األفــراد إلــى مجــ َّرد كائنــات رائيــة‪،‬‬
‫خارجي ْيــن لظاهــرة جوهريــة هــي‪ ،‬بالضبــط‪ ،‬ظاهــرة‬
‫َّ‬ ‫ليســا ســوى تج ّل َي ْيــن‬
‫«التشـ ُّـيؤ»‪ ،‬أي تحـ ُّول الكائنــات البشــرية إلــى أشــياء طبيعيــة‪ ،‬إلــى درجــة‬
‫صعوبــة التمييــز بينهــا وبيــن هــذه األشــياء‪ .‬والحــال أن ‪Robbe-Grillet‬‬
‫يباشــر‪ ،‬فــي روايتــه «‪ »La Jalousie‬تحلي ـ ً‬
‫ا للمجتمــع المعاصــر علــى‬
‫هــذا المســتوى‪ ،‬بالــذات‪ .‬فقــد ُكتبــت هــذه الروايــة مــن وجهــة نظــر‬
‫شــخص متفـ ِ ّرج غيــور (لع َّلــه الــزوج) ينظــر إلــى العالــم مــن خــال شــعور‬
‫بالغيــرة‪ ،‬ويوحــي العنــوان نفســه باســتحالة فصــل الشــعور عــن الشــيء‪،‬‬
‫فــي هــذا العالــم‪ .‬وتشــير الروايــة‪ ،‬فــي مجموعهــا‪ ،‬إلــى االســتقالل‬
‫ـادي الوحيــد‪ ،‬والتــي اليمكــن‬
‫المتزايــد لألشــياء التــي تعتبــر الواقــع المـ ّ‬

‫((( يالحظ أحد االقتصاديني املعارصين الظاهرة نفسها‪ ،‬مشريا ً إىل أن األفراد لم تعد لهم‪ ،‬يف الحياة االقتصادية‪،‬‬
‫تسجل يف البورصة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تلك القيمة التي تسمح لوفاتهم بأن‬

‫‪79‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ّ‬
‫بــأي وجــود‬ ‫للعالقــات البشــرية‪ ،‬ولإلحساســات أن تتم َّتــع‪ ،‬خارجهــا‪،‬‬
‫ـتقل‪ .‬ومــن تج ِ ّليــات هــذه الظاهــرة‪ ،‬فــي الروايــة‪ ،‬أن مــا يشــير إلــى‬
‫مسـ ّ‬
‫وجــود الشــخص الغيــور هــو وجــود مقعــد ثالــث وكأس ثالثــة‪ ..‬إلــخ‪.‬‬

‫ـدة مقاطــع‪ ،‬فــي الروايــة‪ّ ِ ،‬‬


‫تؤكــد اســتحالة الفصــل بيــن الحيــاة‬ ‫وهنــاك عـ ّ‬
‫النفســية والمعرفــة واإلحســاس‪ ،‬وبين األشــياء‪:‬‬

‫«ينبغــي النظــر إلــى صحنهــا الفــارغ‪ ،‬لكــن المل ـ َّوث‪ ،‬لالقتنــاع بأنهــا‬
‫تسـ ُه عــن تقديــم الطعــام لنفســها (‪ .)...‬يخلــي النــادل‪ ،‬اآلن‪ ،‬المائــدة‬ ‫لــم ْ‬
‫ـذر التأ ُّكــد‪ ،‬مـ ّر ًة أخــرى‪ ،‬مــن اآلثــار التــي ِ ّ‬
‫تلطخ‬ ‫مــن األطبــاق‪ ،‬بحيــث يتعـ َّ‬
‫صحــن أ‪ ،....‬أو مــن غيابهــا‪ ،‬إذا كانــت لــم تقـ ِ ّ‬
‫ـدم الطعــام لنفســها»‪.‬‬

‫ـم مــن مثــل هــذه التفاصيــل هــو بنيــة عالــم‪ ،‬تكتســب فيــه‬ ‫إ ّلا أن األهـ ّ‬
‫خاصــ ًا ومســتق ً‬
‫ال‪ ،‬ويتم َّثــل فيــه النــاس بهــذه األشــياء‬ ‫ّ‬ ‫األشــياء واقعــ ًا‬
‫لعجزهــم عــن الســيطرة عليهــا‪ ،‬وترتهــن فيــه العواطــف بقدرتهــا علــى‬
‫التشــيؤ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫التمظهــر عبــر‬

‫ويحــرص ‪ ،Robbe-Grillet‬ك َّلمــا كانــت هــذه الروايــات الثــاث مثار‬


‫ّ‬
‫وكل محاولــة‬ ‫ـم بيــن عالمــه الروائــي‬
‫نقــاش‪ ،‬علــى التنبيــه إلــى فــرق مهـ ّ‬
‫ـد الــا َأ ْن َســنة‪ ،‬قائ ـ ً‬
‫ا‪ :‬إن الماركســيين‬ ‫ماركســية لتأويلــه بكونــه ثــورة ضـ ّ‬
‫أنــاس ي َّتخــذون مواقــف‪ .‬أ ّمــا أنــا‪ ،‬فكاتــب واقعــي وموضوعــي‪ ،‬أخلــق‬
‫ـجل‬‫عالمـ ًا خياليـ ًا ال أحكــم عليــه‪ ،‬فــا أستحســنه وال أدينــه‪ ،‬لكننــي أسـ ِ ّ‬
‫وجــوده كواقــع جوهــري‪.‬‬

‫وهــذا‪ ،‬بالضبــط‪ ،‬مــا يشـ ِ ّ‬


‫ـكل‪ ،‬فع ـ ً‬
‫ا‪ ،‬أصالــة ‪ Robbe-Grillet‬ضمــن‬
‫المســار الروائــي الحديــث‪ ،‬الــذي جعــل مــن ظاهــرة «التشـ ُّـيؤ»‪ ،‬ومنــذ‬
‫عهــد طويــل‪ ،‬محــور اإلبــداع الف ّنــي‪ .‬لقــد كان ‪ Kafka‬فــي أعمالــه‪،‬‬
‫و‪ Sartre‬فــي «‪ ،»La Nausée‬و ‪ Camus‬فــي «‪،»ĽEtranger‬‬

‫‪80‬‬
‫محافظيــن علــى نزعــة إنســانية‪ ،‬صريحــة أو ضمنيــة؛ مــا جعــل رواياتهــم‪،‬‬
‫َع َلنــ ًا‪ ،‬روايــات غيــاب‪ .‬أمّــا عالــم ‪ Robbe-Grillet‬البــارد‪ ،‬فيحيــل‬
‫معاينــة الغيــاب إلــى الخلفيــة‪ ،‬إلــى مســتوى الضمنــي‪ ،‬إلــى درجــة أنهــا‬
‫تــكاد تغيــب عــن النقــاد الذيــن يحاولــون إدراك الداللــة الشــاملة لعالمــه‪.‬‬

‫ومــع صــور «‪ ،»Le labyrinthe‬آخــر روايــة‪ ،‬يقتحــم الحكم اإلنســاني‬


‫علــى العالــم الموصــوف أعمــال ‪ ،Robbe-Grillet‬ألوَّل مَــ ّرة؛ فمــن‬
‫بدايتهــا إلــى نهايتهــا‪ ،‬يســود الروايــة شــعو ٌر بالقلــق‪ ،‬وهــذا هــو العنصــر‬
‫الجديــد الــذي ينضــاف إلــى التيمــات واألدوات الشــكلية‪ ،‬التــي ســبق‬
‫تهمنــا‬
‫للكاتــب أن اكتشــفها وج ّربهــا فــي نصوصــه األولــى؛ لذلــك‪ ،‬ال ّ‬
‫الخاصــة‪ ،‬بــل بكونهــا حلقــة فــي مســار تطـ ُّوري‪ .‬لقــد‬
‫ّ‬ ‫بجماليتهــا‬
‫َّ‬ ‫الروايــة‬
‫ـد متط ِ ّرف‪،‬‬ ‫ـان ‪ ،Robbe-Grillet‬فــي ّ‬
‫كل أعمالــه‪ ،‬عــن كونــه كاتبـ ًا جـ ّ‬ ‫أبـ َ‬
‫بحيــث ال يقنــع بوجــود إنســاني محاصــر بالقلــق‪ ،‬وهــو موضــوع أصبــح‬
‫شــبه مبتــذل وال يتم َّتــع‪ ،‬فــي العالــم الفــارغ لرواياتــه الســابقة‪ ،‬ســوى‬
‫بداللــة جديــدة محــدودة‪.‬‬

‫لذلــك‪ ،‬نــراه‪ ،‬فــي عملــه الجديــد «‪Ľannée derniere à‬‬


‫‪ ،»Marienbad‬الــذي ليــس روايــة‪ ،‬بــل شــريط ًا ســينمائي ًا‪ ،‬يضيــف إلــى‬
‫القلــق وجهــه اآلخــر‪ ،‬ذلــك الــذي يمكنــه‪ ،‬وحــده‪ ،‬أن يعطــي للحقيقــة‬
‫اإلنســانية‪ ،‬فــي العالــم المعاصــر‪ ،‬بعدهــا الشــمولي‪ ،‬وهــو األمــل؛ ال ألن‬
‫‪ Robbe-Grillet‬أصبــح متفائـ ً‬
‫ا بالنســبة إلــى القيــم التــي تحـ ِ ّرك هــذا‬
‫العمــل الف ّنــي‪ ،‬زيــادة علــى أن التفــاؤل فــي المجتمــع الراهــن ال يمكنــه‬
‫أن يكــون ســوى أ كذوبــة ســهلة ورخيصــة‪ .‬لكــن‪ ،‬حيــن تطــرح مســألة‬
‫الوجــود اإلنســاني األصيــل فــي هــذا المجتمــع بالــذات‪ ،‬كمــا فــي باقــي‬
‫ال كمســألة متعلقــة بطبيعــة الزمــن‪ ،‬الزمــن‬ ‫المجتمعــات‪ ،‬فإنهــا تبــدو أو ً‬
‫الشــخصي والتاريخــي‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫لقــد كانــت الروايــات الثــاث األولــى تـ ّ‬


‫ـدل‪ ،‬مــن بيــن دالالت أخــرى‪،‬‬
‫علــى الطابــع المشـ َّـيأ لعالــم ‪ ،Robbe-Grillet‬وذلــك بواســطة حــذف‬
‫ّ‬
‫كل عنصــر زمنــي‪ .‬فروايــة ‪ ،La Jalousie‬وهــي أ كثرهــا جذر ّيــة‪ ،‬تتموقــع‬
‫فــي حاضــر مســتم ّر‪ ،‬بحيــث إن أربعــة فصــول‪ ،‬مــن ســبعة‪ ،‬تبتــدئ بكلمــة‬
‫«اآلن»‪ .‬وقــد كان القلــق‪ ،‬طبعـ ًا‪ ،‬إحــدى طرائــق إدخــال الزمــن فــي عالــم‬
‫ال زمنــي‪ .‬لكــن وصــف هــذا القلــق‪ ،‬كمــا أســلفنا القــول‪ ،‬كان ســيغدو‬
‫ناقصـ ًا بــدون إضافــة الوجــه اآلخــر للمعيــش الزمنــي‪ ،‬الــذي ليــس ســوى‬
‫ومبــرر ًا‪ ،‬أو وهميـ ًا وخائبـ ًا)‪ .‬ولــم‬
‫مقابلــه الســلبي‪ ،‬وهــو األمــل (حقيقيـ ًا ّ‬
‫ينتبــه أغلــب النقّ ــاد إلــى هــذا الموضــوع‪ ،‬رغــم أنه لــم يكن الزمـ ًا البحث‬
‫عنــه فــي أعمــاق بعيــدة الغــور أو صعبــة اإلدراك‪ ،‬بــل فــي المســتوى‬
‫البســيط للحــدث الحكائــي‪ ،‬كمــا هــو مســرود‪ ،‬مباشــرةً‪ ،‬فــي ‪Ľannée‬‬
‫‪ demiere à Marienbad‬أو فــي الروايــات‪ .‬إن قصــر ‪Marienbad‬‬
‫الباروكــي الشــكل‪ ،‬منقــو ً‬
‫ال إلــى الســينما‪ ،‬هــو عالــم الفــراغ والمــوت‬ ‫ّ‬
‫نفســه‪ ،‬الــذي ال يمكــن‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬أن يحــدث فيــه شــيء‪ ،‬والــذي يتعاطــى‬
‫فيــه النــاس أمــور ًا تفتــرض إمكانيــة اإلخفــاق‪ ،‬وإن كان البعــض يربــح‪،‬‬
‫والبعــض اآلخــر يخفــق دائمــ ًا (رغــم أن الفئــة األخيــرة غيــر حاضــرة‬
‫فــي الشــريط)(((؛ عالــم‪ ،‬يطــرح فيــه شــخصان‪ ،‬أيضــ ًا‪ ،‬مســألة األمــل‪.‬‬
‫ذاتي ْيــن لواقــع يتم َّثــل مظهــره‬
‫وجه ْيــن َّ‬
‫َ‬ ‫فاألمــل والقلــق ال يعــدوان كونهمــا‬
‫الوجــودي فــي الزمــن‪ ،‬ليــس فــي بعــده المســتقبلي‪ ،‬فحســب‪ ،‬بــل فــي‬
‫ّ‬
‫كل أبعــاده‪ ،‬بمــا فــي ذلــك البعــد الماضــي‪.‬‬

‫إن مســألة معرفــة مــدى وقــوع شــيء فــي الســنة الماضيــة أو عــدم‬
‫وقوعــه‪ ،‬هــي مســألة تطابــق للعالمــات والشــهادات والذكريــات‪ .‬ففــي‬

‫خاصة‪ .‬وقد كان ‪ Robbe-Grillet‬مح َّقا ً‬


‫ّ‬ ‫((( أي أن املخفقني ليسوا سوى مقابل للرابحني‪ ،‬وال يتمتَّعون بحقيقة‬
‫يخل ذلك بوحدته‪.‬‬ ‫ً‬
‫حقيقة‪ ،‬يف الحياة‪ ،‬ال يمكن نقلهم إىل هذا الرشيط‪ ،‬دون أن ّ‬ ‫يف ذلك‪ ،‬ألن الذين يخفقون‬

‫‪82‬‬
‫عالــم ‪ ،Robbe-Grillet‬ال يمكــن أل ّيــة ذكــرى أو شــهادة أن تق ـ ِ ّرر هــل‬
‫ا‪ ،‬أم‪ ،‬علــى العكــس‪ ،‬لــم يقــع الســنة الماضيــة فــي‬ ‫التقــى البطــان‪ ،‬فع ـ ً‬
‫أي شــيء‪ ،‬عــدا بعــض األحــداث العاديــة العديمــة المعنــى‬ ‫‪ّ Marienbad‬‬
‫كل تلــك التــي تقــع فــي القصــر‪ّ ،‬‬
‫كل‬ ‫والمجـ َّردة مــن الزمــن؛ أحــداث تشــبه ّ‬
‫لحظــة‪ .‬فــا يمكــن لصــورة‪ ،‬أو لكعــب حــذاء منكســر‪ ،‬أو لذكــرى إحســاس‬
‫مشــترك ببــرد قــارس‪ ،‬أن تكــون ذات ِ ّ‬
‫أهم ّيــة حاســمة‪ .‬إن مســألة التقــاء‬
‫الرجــل والمــرأة أو عــدم التقائهمــا‪ ،‬فــي الســنة الماضية‪ ،‬فــي ‪Marienbad‬‬
‫تتع َّلــق‪ ،‬فقــط‪ ،‬بالخاصيــة الثابتــة أو الوهميــة لألمــل الــذي مــازال موجــود ًا‬
‫ـكل حقيقتــه مضمــون الشــريط‪ .‬فــإذا حالفهمــا‬ ‫فــي وعيهمــا‪ ،‬والــذي تشـ ِ ّ‬
‫النجــاح‪ ،‬ال فــي مغــادرة القصــر‪ ،‬فحســب‪ ،‬بــل‪ ،‬أيض ـ ًا‪ ،‬فــي الحيــاة فــي‬
‫مــكان آخــر (فــي الحديقــة‪ ،‬كمــا ورد فــي الشــريط) حيــاة أصيلــة‪ ،‬كمــا‬
‫ا‪ ،‬فــي‬ ‫يمكــن فيهــا لألحــداث أن تقــع‪ ،‬فســيكون َّ‬
‫مؤكــد ًا أنهمــا التقيــا‪ ،‬فعـ ً‬
‫‪ .Marienbad‬أ ّمــا فــي حالــة العكــس‪ ،‬فــا الصــور وال أ كثــر الشــهادات‬
‫صح ـ ًة بقــادرة علــى تعديــل كونهمــا لــم يلتقيــا‪.‬‬
‫ّ‬

‫إن ‪ Robbe-Grillet‬مــن الصرامــة‪ ،‬بحيــث ال يجهــل أن الجــواب علــى‬


‫معضلــة الشــريط ال يتع َّلــق بــإدارة البط َل ْيــن‪ ،‬بــل يتع َّلــق‪ ،‬أساس ـ ًا‪ ،‬بطبيعــة‬
‫القصــر‪ ،‬وبطبيعــة الحديقــة‪ ،‬وهــذا مــا اكتشــفه علمــاء االجتمــاع منــذ عهــد‬
‫طويــل‪ ،‬حيــث أثبتوا الخاصيــة التاريخيــة‪ ،‬واالجتماعية للداللــة الموضوعية‬
‫لحيــاة األفــراد العاطفيــة‪ ،‬والعقليــة‪ .‬وهنــا‪ ،‬يتأ َّكــد أن ‪Robbe-Grillet‬‬
‫ـل هــذا يعنــي الشــيء‬ ‫مهم ـ ًا‪ ،‬فحســب‪ ،‬بــل هــو‪ ،‬أيض ـ ًا‪( ،‬ولعـ ّ‬ ‫ليــس كاتب ـ ًا ّ‬
‫يقدمــه‬
‫نفســه) كاتــب فــي منتهــى االســتقامة واألمانــة‪ .‬إن الجــواب الــذي ّ‬
‫تيــن؛ مــ ّرة فــي نهايــة الشــريط‪ ،‬وأخــرى فــي بدايتــه‪ ،‬غيــر ملتبــس أو‬ ‫م َّر ْ‬
‫مــوارب (رغــم أن المتفـ ِ ّرج الــذي يشــاهد الشــريط‪ ،‬ألوَّل مـ ّرة‪ ،‬ال ينتبــه إلى‬
‫ذلــك‪ .‬فالبطــان أنجــزا أحســن مــا يمكــن للنــاس أن ينجــزوه فــي المجتمــع‬
‫الــذي نعيــش فيــه‪ :‬لقــد قصــدا عالمـ ًا مغايــر ًا بحثـ ًا عــن الحيــاة‪ ،‬وإن كانــا‬

‫‪83‬‬
‫(كمــا يقــوالن ذلــك فــي الشــريط) ال يتصــ َّوران‪ ،‬بوضــوح‪ ،‬طبيعــة هــذه‬
‫الحيــاة‪ .‬ذهبــا إلــى الحديقــة‪ ،‬مؤمّليــن أن تكــون عالمــ ًا جديــد ًا‪ ،‬عالمــ ًا‬
‫يمكــن فيــه للنــاس أن يكونــوا علــى حقيقتهــم‪ ،‬لكنهمــا لــم يجــدا شــيئ ًا‪،‬‬
‫ألن الحديقــة وكــذا القصــر‪ ،‬لــم يكونــا ســوى مقبــرة‪:‬‬

‫«كان متنـ َّزه هــذا الفنــدق نوعـ ًا مــن الحديقــة‪ ،‬علــى الطريقــة الفرنســية‪،‬‬
‫أي نبــات‪ ...‬كان الحصــى والحجر والمرمر‬ ‫الأشــجار فيهــا‪ ،‬وال أزهــار‪ ،‬وال ّ‬
‫ـدد فضــاءات جاســئة ومســاحات بــدون ألغــاز‪ .‬مــن‬ ‫ـط المســتقيم تحـ ِ ّ‬‫والخـ ّ‬
‫أوَّل وهلــة‪ ،‬يبــدو غيــر ممكــن أن يتلــف فيهــا المــرء‪ ...‬مــن أوَّل وهلــة‪...‬‬
‫علــى طــول الممــ ّرات المســتقيمة‪ ،‬بيــن تماثيــل ذات حــركات جامــدة‬
‫وبالطــات صوانيــة‪ ،‬حيــث كنــت‪ ،‬اآلن‪ ،‬بــدأت تتلفيــن‪ ،‬إلــى األبــد‪ ،‬فــي‬
‫ســكينة الليــل‪ ،‬وحيــدة معــي»‪.‬‬

‫وبطبيعــة الحــال‪ ،‬إن أعمــال ‪ Robbe-Grillet‬تطــرح مســائل كثيــرة‬


‫وخاصــة منهــا الجماليــة‪ ،‬التــي تتع َّلــق‪ ،‬أساس ـ ًا‪ ،‬بالتح ـ ُّوالت التــي‬
‫ّ‬ ‫أخــرى‪،‬‬
‫يلحقهــا المضمــون بالشــكل الروائــي‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬يبــدو لنــا أن هــذا‬
‫التحليــل البســيط الــذي قمنــا بــه للمضمــون المباشــر ألربــع روايــات‬
‫وشــريط ســينمائي واحــد‪ ،‬يكفــي لتوضيــح أن ‪ Robbe-Grillet‬هــو‬
‫أحــد ُ‬
‫الك ّتــاب األكثــر تط ُّرفـ ًا فــي الواقعيــة‪ ،‬فــي األدب الفرنســي المعاصــر؛‬
‫وذلــك إذا فهمنــا الواقعيــة كإبــداع لعالــم‪ ،‬تشــبه بنيتــه البنيــة الجوهريــة‬
‫للواقــع االجتماعــي‪ ،‬الــذي ُكتِــب فــي ظ ِ ّلــه األثــر األدبــي‪.‬‬
‫جينفياف مويلو‬
‫)‪Geneviève Mouillaud (1929-‬‬

‫‪ -‬تماثل بين بنية الرواية والبنية االجتماعية ‪ -‬االقتصادية‬


‫تماثل بين بنية الرواية والبنية االجتماعية‬

‫كل دراســة سوســيولجية للروايــة‪ ،‬مشــكل ٌة مبدئيــة؛ هــي تعريــف‬ ‫تعتــرض َّ‬
‫ـدد األشــكال‪ ،‬الدائــم التح ـ ُّول‪ ،‬والــذي ال‬‫هــذا الجنــس األدبــي‪ ،‬المتعـ ِ ّ‬
‫تضبطــه قواعــد ثابتــة‪ .‬بــل يبــدو أن أغلــب كتــب التأريــخ األدبــي أو‬
‫ِّ‬
‫تقــدم‪ ،‬للباحــث‬ ‫النقــد األدبــي التتعــ َّرض لهــذه المشــكلة‪ ،‬بحيــث ال‬
‫السوســيولوجي‪ ،‬ســوى مجموعــة متف ِ ّرقــة مــن المعلومــات أو الخالصــات‪،‬‬
‫ال برنامج ـ ًا متماســك ًا مــن األبحــاث‪.‬‬

‫ّ‬
‫لحــل مشــكلة التعريــف هــذه‪،‬‬ ‫ولعــل أوَّل اقتــراح‪ ،‬يالمــس الدقّ ــة‪،‬‬
‫ـص علــى اعتمــاد االســتعمال‬‫يقدمــه ‪ ، (((Henri coulet‬وينـ ّ‬ ‫هــو الــذي ِ ّ‬
‫العــادي لكلمــة «روايــة»‪ ،‬وعلــى محاولــة تحديــد الخصائــص المشــتركة‬

‫((( راجع‪:‬‬
‫‪Geneviève Mouillaud: (Sociologie des romans de stendhal). in Revue Internationale des‬‬
‫ ‪Sciences Sociales. Avril.1968.‬‬

‫‪87‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫بيــن ّ‬
‫كل األعمــال التــي تندرج‪،‬عامّــةً‪ ،‬تحــت التســمية الفرنســية‬
‫«‪.»romans‬‬

‫يقترح ‪ Coulet‬المقاييس اآلتية‪ ،‬لتعريف الرواية‪:‬‬

‫‪ -‬عمل نثري‪،‬‬

‫معين‪ ،‬سلف ًا‪،‬‬


‫‪ -‬جنس ليس له شكل َّ‬

‫‪ -‬ال يعكس سوى الملموس‪،‬‬

‫‪ -‬يعتمد على الخيال‪،‬‬

‫محكي (مجموعة أحداث متسلسلة في الزمن)‪،‬‬


‫ّ‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬سرد (يفترض سارد ًا)‪.‬‬

‫رغــم كــون هــذه الخصائــص أ كيــدة‪ ،‬فــي العمــل الروائي‪ ،‬ت َّتســم ببعض‬
‫العموميــة‪ ،‬بــل ال يجمــع بينهــا ناظــم منهجــي يســمح بتقديــم داللــة نظريــة‬
‫لكلمــة «روايــة»‪ .‬إنهــا مقاييــس تغفــل األســاس فــي الرواية‪.‬‬

‫ويحــاول ‪ Coulet‬تنظيــم هــذا الخليــط‪ ،‬فليجــأ إلــى تلــك الطريقــة‬


‫التقليديــة التــي تقســم الروايــة إلــى أحقــاب وا ِ ّتجاهــات‪ ،‬وال يتعــ َّرض‬
‫لمشــكلة الداللــة إ ّلا عنــد تناولــه لـ ّ‬
‫ـكل دراســة مســتق ّلة عــن المجمــوع‪.‬‬
‫ثــم يقــ ّر‪ ،‬فــي األخيــر‪ ،‬بكــون «المحــ ِ ّركات العميقــة» لتطــ ُّور الجنــس‬
‫ـدم بعــض الفرضيــات عــن‬ ‫الروائــي ليســت أدبيــة‪ ،‬لكنــه‪ -‬عــوض أن يقـ ِ ّ‬
‫هــذه المحــ ِ ّركات‪ -‬يقتــرح تفســير ًا يعتمــد علــى األصــول والمؤ ِ ّثــرات‪،‬‬
‫المضــادة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والمؤ ِ ّثــرات‬

‫وينــص علــى اجتــزاء‬


‫ّ‬ ‫وهنــاك مســعى آخــر يحــاول تعريــف الروايــة‪،‬‬

‫‪88‬‬
‫ـددة‪ ،‬وترابــط داخلــي‪ ،‬مــن ضمــن‬
‫مجموعــات روائيــة ذات أشــكال محـ َّ‬
‫تســمى «روايــات»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫محــددة األشــكال‬‫َّ‬ ‫مجموعــة مــن األعمــال غيــر‬
‫وي َّتســم هــذا المســعى بالســهولة‪ ،‬حيــن يتع ّلــق األمــر بجنســيات أدبيــة‬
‫(‪ )des sousgenres‬ذات صبغــة نعتيــة‪ ،‬وثانويــة‪ ،‬مثــل «الروايــة‬
‫الســوداء»‪ ،‬أو «الروايــة البوليســية»‪.‬‬

‫كل المحــاوالت‬ ‫لكــن األعمــال الرائعــة تأبــى دائمــ ًا‪ ،‬فيمــا يبــدو‪ّ ،‬‬
‫ــدة كتــاب ‪« G.Lucàcs‬نظريــة الروايــة»‬ ‫التصنيفيــة؛ لذلــك فــإن ِج ّ‬
‫(‪ ،)1920‬وهــي ِج ّ‬
‫ــدة ماتــزال معاصــرة‪ ،‬تكمــن‪ ،‬بالــذات‪ ،‬فــي إثباتــه‬
‫ـد متباعدة في الزمان والمــكان‪ ،‬مثل ‪Don Quichotte‬‬
‫انتمــاء أعمــال جـ ّ‬
‫و«‪ »Oblomov‬و«‪ »Meister Wilhelm‬أو «‪L`Education‬‬
‫‪ »Sentimentale‬إلــى البنيــة الدالليــة نفســها‪ ،‬وذلــك باعتمــاده علــى‬
‫أهــم تحليــات ‪ ،Hegel‬وتطويــره لهــا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬فالكتــاب ليــس سوســيولوجي ًا‪ ،‬ولعـ ّ‬
‫ـل أهــم المآخــذ عليــه‬
‫وتعســفه فــي اختيار‬
‫ُّ‬ ‫ـام‪،‬‬
‫الطابــع القبلــي لتعريفاتــه‪ ،‬ومنحــاه التجريــدي العـ ّ‬
‫األمثلــة‪ ،‬وهــذا‪ ،‬بالــذات‪ ،‬مــا دفــع ‪ Lukàcs‬إلــى ممارســة نقــد ذاتــي فــي‬
‫ِّ‬
‫مقدمــة اســتعادية لكتابــه هــذا‪ ،‬ســنة ‪.1962‬‬

‫خاصـ ًة أنــه غيــر‬


‫ّ‬ ‫التعســف‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وبإمــكان القــارئ الفرنســي أن يــدرك هــذا‬
‫التعســف الواضــح الــذي يشــمل تراثــه‬
‫ُّ‬ ‫متعــ ِ ّود عليــه‪ .‬بيــد أنــه يــدرك‬
‫الخــاص‪ ،‬فهــو ســيندهش لكــون كتــاب مثــل هــذا‪ ،‬حــول الروايــة‪ ،‬ال‬
‫ّ‬
‫يتعــ َّرض لـــ ‪ ،Mme de la Fayette‬و ‪ ،Rousseau‬و ‪Stendhal‬‬
‫‪.Proust‬‬

‫لكــن‪ ،‬وبمــا أنــه ال يمكــن لكتــاب واحــد أن يســتوفي ّ‬


‫كل إمكانــات‬
‫البحــث التــي ِ ّ‬
‫يقدمهــا‪ ،‬يحــقّ لنــا أن نتســاءل‪ :‬هــل يســاعد تعريــف‬

‫‪89‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ـدث عنها‪ ،‬إن‬


‫أجـ َود النصــوص الروائيــة التــي ال يتحـ َّ‬
‫‪ Lukàcs‬علــى فهــم ْ‬
‫بإدماجهــا فــي نســقه التحليلــي‪ ،‬أو بإبقائهــا خارجــه؟ الجــواب إيجابــي‪،‬‬
‫فــي حالــة كــون الدرســات العينيــة قــد أنجــزت‪ :‬فروايــة «‪Le rouge et‬‬
‫ـح‪ ،‬وفــق التصـ ُّور اللوكاكشــي‪ .‬أ ّمــا‬
‫ـد األنمــوذج الروائــي القـ ّ‬
‫‪ُ »le noir‬ت َعـ ّ‬
‫أعمــال ‪« Malraux‬الروائيــة»‪ ،‬فهــي تتك ـ َّون مــن روايــات‪ ،‬مثــل «‪La‬‬
‫‪ »condition humaine‬ومــن نصــوص تنتمــي‪ ،‬جزئيــ ًا‪ ،‬إلــى بنيــات‬
‫مختلفــة‪ ،‬مثــل «‪ »Le temps du mèpris‬الــذي ينــزع إلــى المقالــة(((‪،‬‬
‫التعســف فــي اختيــار‬
‫ُّ‬ ‫لكــن هــذه الدراســات مــا تــزال قليلــة‪ ،‬كمــا أن‬
‫توضح‪،‬‬ ‫ال‪ :‬فمشــكلة ‪ Balzac‬األساســية‪ ،‬مث ً‬
‫ال‪ ،‬لــم ّ‬ ‫األمثلــة مــا يــزال حاص ً‬
‫بعــد‪ ،‬مــن زاويــة تحليــل لوكاكشــية؛ لذلــك‪ ،‬وانطالقـ ًا مــن تعريــف نظــري‬
‫للجنــس الروائــي‪ ،‬ينبغــي وضــع برنامــج للبحــث السوســيولوجي يتكفَّ ــل‬
‫تحديــد مناطــق االنتمــاء‪ ،‬والالنتمــاء‪ ،‬والجــوار (أي تحديــد مــدى انتمــاء‬
‫نــص مــا إلــى الجنــس الروائــي‪ ،‬أو عــدم انتمائــه إليــه‪ ،‬أو مجاورتــه‬
‫ّ‬
‫لــه)‪ ،‬إذ مــن شــأن هــذا البرنامــج أن يجيــب علــى الســؤال اآلتــي‪ :‬لمــاذا‬
‫ُتــدرَج‪ ،‬فــي الخانــة نفســها‪ ،‬عــادةً‪ ،‬أجنــاس متمايــزة جوهريّــ ًا‪ ،‬لكنهــا‬
‫مترابطــة تاريخي ـ ًا‪ ،‬ومنطقي ـ ًا؟ ولعــل تعريــف ‪ Lukàcs‬للروايــة‪ ،‬يســاعد‬
‫علــى تص ـ ُّور الخطــوط الكبــرى لمثــل هــذا البرنامــج‪.‬‬

‫والقصــة القصيــرة‪ ،‬جنسـ ًا ملحميـ ًا يصــور‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ـد الروايــة‪ ،‬مثــل الملحمــة‬
‫ُت َعـ ّ‬
‫فــي آن واحــد‪ ،‬أقــدار ًا بشــرية‪ ،‬وكــذا المحيــط االجتماعــي والطبيعــي‬
‫القصة‬
‫ّ‬ ‫الــذي تحــدث فيــه هــذه األقــدار‪ .‬لكنهــا‪ ،‬كالملحمــة‪ ،‬تختلــف مــع‬
‫القصيــرة فــي كونهــا تنــزع إلــى تصويــر الحيــاة تصويــر ًا ك ّل ّيــ ًا (‪une‬‬
‫‪ ،)reprè sentation total‬وال تكتفــي بالتقــاط أحــد جوانبهــا‪ ،‬وعزلــه‬

‫‪(2) (Introduction à l`analyse structurale des romans de Malraux). in. (pour une Sociologie‬‬
‫‪du romans).‬‬

‫‪90‬‬
‫إراديـ ًا‪ ،‬باعتبــاره ظاهــرة غريبــة أو نــادرة‪ .‬غيــر أن ك ّل ّيــة الروايــة هــي ك ّل ّيــة‬
‫ـد أمــر ًا وهميـ ًا‪ ،‬بينمــا‬ ‫مصدوعــة (‪ ،)une totalitè brisèe‬وتحقُّ قهــا ي َُعـ ّ‬
‫تصـ ِ ّور الملحمــة عا َلمـ ًا‪ ،‬يكــون فيــه البطل والمجتمــع‪ ،‬والناس واألشــياء‪،‬‬
‫والحيــاة ومعناهــا‪ ،‬فــي عالقــة وفــاق مبدئيــة‪ .‬ففــي الروايــة‪ ،‬يصبــح البطل‬
‫فــرد ًا‪ ،‬والقــدر البشــري ســيرة حيــاة‪ .‬أ ّمــا المجتمــع‪ ،‬فيتحـ ّول إلــى خلفيــة‬
‫سوســيولوجية‪ .‬كمــا أن األشــياء تصبــح مجــ َّرد إطــار أو آنيــة منزليــة‪،‬‬
‫فتفقــد‪ ،‬بذلــك‪ ،‬عالقتهــا المباشــرة بالحيــاة اإلنســانية‪.‬‬

‫ولئــن كانــت هنــاك وحــدة نســبية‪ ،‬ماتــزال تربــط هــذا البطــل الجديــد‬
‫أي محكــي ممكنـ ًا بدونهــا‪ ،‬فإنهــا وحــدة تدهــور‬‫بالمجتمــع‪ ،‬إذ ال يكــون ّ‬
‫(‪ )dègradation‬وضيــاع للمعنــى‪ ،‬بالمقارنــة مــع الداللــة الكاملــة‬
‫والثابتــة للملحمــة‪ .‬لذلــك‪ ،‬يتعــارض هــذا البطــل مــع الشــخصيات‬
‫يحــس‪ ،‬عمقــ ًا‪ ،‬بهــذا الضيــاع؛ ضيــاع معنــى‬
‫ّ‬ ‫المحيطــة بــه فــي كونــه‬
‫الحيــاة‪ ،‬وفــي كونــه يســعى إلــى البحــث عــن هــذا المعنــى‪ ،‬مــادام يرفض‬
‫القيــم العرفيــة التــي بهــا يرضــى اآلخــرون‪ .‬لكــن هــذا البحــث‪ ،‬فــي عالــم‬
‫األعــراف‪ ،‬ي َّتخــذ‪ ،‬بالضــرورة‪ ،‬شــكل الوهــم‪ .‬أ ّمــا البطــل‪ ،‬الباحــث عــن‬
‫قيــم‪ ،‬ال اســم لهــا وال واقــع‪ ،‬فيبــدو كأنــه شــخصية مجنونة أو «إشــكالية»‬
‫(‪ :)Problèmatique‬مجــرم‪ ،‬أو مهــووس‪ ،‬أو أحمــق‪.‬‬

‫إن الطابــع التجريــدي لهــذا البحــث (بالمعنــى األلمانــي لكلمــة‬


‫«تجريــدي»‪ ،‬أي «منفصــل») ِ ّ‬
‫تؤكــد عليــه ظاهــرة الســخرية التــي تــازم‬
‫مهمــة‪ ،‬والتــي تتم َّثــل‪ ،‬فــي آن واحــد‪ ،‬فــي بــادة الحيــاة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كل روايــة ّ‬
‫وفــي حماقــة الصــراع المســتحيل‪ .‬فــا وجــود لحقيقــة نهائيــة أو لحـ ّ‬
‫ـل‬
‫للمعضــات‪ :‬إن البطــل يــدرك تفاهــة محاولتــه‪ ،‬لكــن دون أن ينفــي‬
‫ــد‬ ‫عنهــا ّ‬
‫كل قيمــة‪ .‬لقــد كانــت محاولــة بــدون هــدف‪ ،‬لكنهــا‪ ،‬فــي َح ّ‬
‫ـوع‬
‫ذاتهــا‪ ،‬محاولــة‪ ،‬كان يجــدر القيــام بهــا‪ .‬فســواء أانتهــت الروايــة بخضـ ٍ‬

‫‪91‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ـجاع للبطــل كمــا فــي «‪ ،»Wilhem Meister‬أو لقــي البطــل حتفــه‪،‬‬


‫شـ ٍ‬
‫أو ســعى إليــه‪ ،‬فــي نهايــة تيهانــه كمــا فــي «‪ »Don Quichotte‬و«‪Le‬‬
‫‪ ،»rouge et le noir‬فــإن الروايــة التكــون‪ ،‬أبــد ًا‪ ،‬مجــ َّرد معاينــة‬
‫لإلخفــاق أو إثبــات اإلحبــاط؛ ذلــك ألن أحــداث الروايــة‪ ،‬وكــذا زمــن‬
‫ـدد للكــون‪ ،‬وعــن خصوبــة‬‫وقوعهــا‪ ،‬قــد كشــفا‪ ،‬أيضـ ًا‪ ،‬عــن الواقــع المتعـ ِ ّ‬
‫الحيــاة الباطنيــة‪ .‬فالروايــة‪ ،‬فــي رأي ‪ ،Kàcs‬جنــس أدبــي دياليكتيكــي‪،‬‬
‫أي تتحقَّ ــق فيــه جدليــة «نعــم»‪ ،‬و«ال»‪.‬‬

‫ويمكــن إدراك تشــابه الروايــة‪ ،‬وكــذا تعارضهــا الجوهــري‪ ،‬مــع نــوع‬


‫مــن األدب «الروائــي» الــذي يالحقهــا كالظـ ّ‬
‫ـل‪ ،‬مثــل روايــات الفروســية‬
‫ـم بهــا ‪ ،Don Quichotte‬والروايــات البطوليــة التــي‬ ‫ِّ‬
‫المتأخــرة التــي يهتـ ّ‬
‫ّ‬
‫ولــذة‪ ،‬وكــذا «روايــات‬ ‫تســتمتع بهــا ‪ Mme de Sévigné‬فــي حيــاء‬
‫يتحــدث عنهــا ‪ ،Stendhal‬وتلــك التــي تقرأهــا‬
‫َّ‬ ‫الوصائــف» التــي‬
‫فــي الديــر ‪ Emma Bovary‬اليانعــة‪ ،‬والروايــات المصــ َّورة‪ ،‬وأشــكال‬
‫أخــرى مــن «الكيتــش» الراهــن‪ ...‬فــكل هــذه «الروايــات» تتماثــل فــي‬
‫يتقمــص‬
‫َّ‬ ‫تتضمــن‪ ،‬غالبـ ًا‪ ،‬أبطــا ً‬
‫ال «إيجابييــن»‪ ،‬علــى القــارئ أن‬ ‫َّ‬ ‫كونهــا‬
‫نفسـ ّـياتهم‪ ،‬وهــي‪ ،‬علــى أي حــال‪ ،‬تشــترك فيمــا بينهــا فــي تقديــم نهايات‬
‫ُتطمئــن القــارئ علــى نظــام العالــم‪.‬‬

‫إن هــذا النــوع مــن األدب‪ ،‬باعتبــاره توفيق ـ ًا رخيص ـ ًا بيــن المتط َّلبــات‬
‫الحــب‪..‬‬
‫ّ‬ ‫الحديثــة للروايــة ذات البطــل المفــرد (العالــم الداخلــي‪،‬‬
‫إلــخ‪ ).‬وبيــن االندمــاج االجتماعــي الســعيد الــذي تتط َّلبــه الملحمــة‪،‬‬
‫هــو أقــدر مــن غيــره علــى إشــباع رغبــات القــارئ االســتهالكية‪ .‬لذلــك‪،‬‬
‫ِّ‬
‫الكميــة علــى‬ ‫فمــن البديهــي أن تكــون لــه‪ ،‬وباالعتبــار نفســه‪ ،‬الســيطرة‬
‫الروايــة‪ ،‬كمــا ســبق فــي تعريفنــا لهــا‪ .‬بــل إن الروايــة تطـ َّورت فــي إطــار‬
‫عالقــة «تجادليــة» (‪ )polémique‬مــع هــذا النــوع مــن األدب الــذي‬

‫‪92‬‬
‫فتمخضــت عــن هــذه‬
‫َّ‬ ‫وابتذاليتهــا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كشــف عــن وهميــة الظاهــرة الروائيــة‪،‬‬
‫العالقــة روايــات رائعــة كثيــرة‪ ،‬هــي‪ ،‬صراح ـ ًة وضمن ـ ًا‪« ،‬الروايــات» أو‬
‫«روايــات مضادة» («‪ )»Anti-romans‬مثل‪،»Don Quichotte« :‬‬
‫و«‪ ،»Madame Bovary‬و«‪.»La Maison de rendez-vous‬‬

‫كمــا توجــد عالقــة مماثلــة مــن التشــابه والتعــارض بيــن الروايــة‪ ،‬مــن‬
‫جهــة‪ ،‬وبيــن األدب ذي اإللهــام الرومانســي‪ ،‬الــذي يمكــن أن يأخــذ‬
‫شــكل الشــعر الغنائــي والمســرحية‪ ،‬بــل كذلــك‪ ،‬فــي الخصائــص‬
‫الخارجيــة‪ ،‬شــكل الروايــة‪ ،‬مــن جهــة ثانيــة‪ .‬وهكــذا‪ ،‬ت َّتفــق الرؤيــة‬
‫الرومانســية للعالــم‪ ،‬مــع الروايــة‪ ،‬فــي كونهــا تقابــل بــادة الحيــاة العرفيــة‬
‫متميــز ًا عــن األبطــال‬
‫ِّ‬ ‫بطموحــات وحيــاة البطــل الداخليــة‪ ،‬باعتبــاره بطـ ً‬
‫ا‬
‫خاصتــان فــي الروايــة‪ :‬أوالهمــا‬
‫َّ‬ ‫اآلخريــن‪ .‬لكــن هــذه الرؤيــة تعوزهــا‬
‫التميــز نســبي ال غيــر‪ ،‬وبــأن البطــل يتأ ّثــر‪ ،‬فــي ذات‬
‫ُّ‬ ‫الوعــي بــأن هــذا‬
‫كيانــه بالواقــع المحيــط بــه‪ ،‬إن طوعــ ًا أو كرهــ ًا‪«( ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬فمــن‬
‫تميــز ًا‬
‫متميــز ًا عــن باقــي الرجــال ُّ‬
‫ِّ‬ ‫أجــل هــذا الرجــل‪ ،‬الــذي اعتبرتــه‬
‫ِّ‬
‫متميــزة عنهــم» مــن روايــة‬ ‫جــد‬
‫ّ‬ ‫شــديد ًا‪ ،‬أجدنــي‪ ،‬مثــل ســائر النســاء‪،‬‬
‫«‪ ،»La prin-cesse de Cléves‬وثانيتهمــا الســخرية التــي ي َّتســم بهــا‬
‫تكيفــه‪.‬‬
‫جنــون البطــل‪ ،‬وال ُّ‬
‫إن ‪ ،Don Quichotte‬بالنســبة إلــى الرومانســية‪ ،‬بطــل إيجابــي‪،‬‬
‫كمــا أن القيمــة ك ّلهــا تكمــن فــي البطــل‪ ،‬وفــي «إخفاقــه الرائــع»‪ .‬أ ّمــا‬
‫الروايــة‪ ،‬فهــي تصــارع‪ ،‬عبث ـ ًا‪ ،‬لكــن حتــى النهايــة‪ ،‬ومــن أجــل مالقــاة‬
‫المطلب ْيــن‪ .‬إن‬
‫َ‬ ‫مســتحيلة للقيمــة وللواقــع‪ ،‬دون أن تتخ ّلــى عــن ّ‬
‫أي مــن‬
‫األدب الرومانســي‪ ،‬رغــم كــون اســتهالكه المباشــر ضعيفـ ًا‪ ،‬بالقيــاس إلــى‬
‫رواج األدب «الروائــي»‪ ،‬هــو أكثــر اســتهالك ًا مــن الروايــة‪ ،‬ذلــك ألن‬
‫ـل‪ ،‬بإمكانيــة القــارئ فــي‬‫تشــاؤم صورتــه عــن الحيــاة ال يضـ ّر‪ ،‬علــى األقـ ّ‬

‫‪93‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫تقمــص نفســية البطــل‪ ،‬كمــا أن الحكــم األخالقــي الــذي يســتخلص منــه‬


‫ُّ‬
‫ال يكتنفــه ّ‬
‫أي تناقــض‪.‬‬

‫إن الروايــة جنــس محــدود االســتهالك‪ ،‬ذو شــكل مفــارق‪ ،‬وروائعــه لــم‬
‫ِّ‬
‫متأخــر‪ ،‬أو مــن خــال أنــواع كثيــرة‬ ‫ـظ باالعتــراف بهــا إ ّلا فــي وقــت‬
‫تحـ َ‬
‫مــن ســوء الفهــم‪ .‬لكنهــا قاومــت‪ ،‬بحيويــة عجيبــة‪ ،‬اختبــارات الزمــن‬
‫والتغيــر التاريخــي؛ لذلــك‪ ،‬تأبــى الروايــة ّ‬
‫كل التأويــات السوســيولوجية‬ ‫ُّ‬
‫الســهلة‪ ،‬لكــن شــرط أن ترفــض ذلــك اإلغــراء الــذي يم ِ ّثلــه شــكلها‪،‬‬
‫بالــذات؛ وهــو تأويلهــا علــى مســتوى المضمــون والتفاصيــل‪.‬‬

‫إن الروايــة‪ ،‬باعتبارهــا ســيرة وقائــع‪ ،‬تنطــوي‪ ،‬بالضــرورة‪ ،‬علــى‬


‫تصويــر «واقعــي» للمجتمــع‪ ،‬الــذي هــو مجــ َّرد عنصــر‪ ،‬ال يكتمــل‬
‫ـد‬ ‫معنــاه إ ّلا بالنســبة إلــى المجمــوع‪ .‬لذلــك‪ ،‬فـ ّ‬
‫ـكل دراس ـ ٍة لــه‪ ،‬فــي َحـ ّ‬
‫ـع فــي ذلــك الوهــم الماركســي المزعــوم‪ ،‬أو الوضعــي‪ ،‬وهــو‬
‫ذاتــه‪ ،‬تو ِقـ ُ‬
‫العمــل ‪ /‬االنعــكاس‪ ،‬حيــث إن الخالصــة «السوســيولوجية» الوحيــدة‬
‫التــي تفضــي إليهــا هــذه الدراســة هــي‪ ،‬أن كثيــر ًا أو قليــ ً‬
‫ا‪ ،‬مشــاكلة‬
‫العمــل الروائــي األمينــة للواقــع االجتماعــي‪.‬‬

‫إن ‪ Lukàcs‬نفســه‪ ،‬بعــد أن أصبــح ماركســي ًا‪ ،‬وعــاد إلــى ممارســة النقد‬
‫األدبــي فــي فتــرة الجليــد الســتاليني‪ ،‬لــم يتفــاد‪ ،‬دائمـ ًا‪ ،‬هــذا النــوع مــن‬
‫التأويــل‪ .‬فدراســاته عــن الروايــة التاريخيــة (منشــورات ‪ ،)Payot‬وعــن‬
‫‪ Balzac‬والواقعيــة النقديــة (منشــورات ‪ ،)Maspéro‬لــم تســتطع تطويــر‬
‫سوســيولوجية الروايــة بشــكل حاســم‪ ،‬رغــم انطوائهــا‪ ،‬فــي الغالــب‪ ،‬علــى‬
‫آراء عميقــة‪.‬‬

‫لكــن كتابـ ًا آخــر‪ ،‬ال ينتمــي إلــى السوســيولوجية مباشــر ًة هــو «‪Men-‬‬
‫‪ songe romantique et vérité romanesque‬لـــ ‪René‬‬

‫‪94‬‬
‫‪(»Girard‬منشــورات ‪ ،)Grasset‬هــو الــذي أضــاف عناصــر جديــدة‬
‫إلــى سوســيولوجية الروايــة‪ .‬وأوَّل هــذه العناصــر هــو مقولــة «الوســاطة»‬
‫(‪ )Médiation‬األساســية‪ :‬يعتقــد ‪ Girard‬أن الحقيقــة التــي تكشــف‬
‫عنهــا الروايــة هــي أن ّ‬
‫كل رغبــة تعنــي محــاكاة رغبــة اآلخــر‪ ،‬ومحاولــة‬
‫تقمــص نفســية اآلخــر‪ .‬وهكــذا‪ ،‬وضمــن بنيــة «مثلثيــة»‪ ،‬يبــدو اآلخــر‬
‫ُّ‬
‫وكأنــه وســيط بيــن الفــرد وموضــوع رغبتــه؛ فيكــون ‪ ،Amadis‬مثــ ً‬
‫ا‪،‬‬
‫وســيط ًا بيــن ‪ Don Quichotte‬والمغامــرة‪ ،‬مثلمــا يكــون العاشــق‬
‫فــي «‪ »ĽEtérnel mari‬لـــ «‪ »Dostoïevsky‬وســيط ًا بيــن الــزوج‬
‫ـميه «‪ »Girard‬وعي ـ ًا‬
‫الغيــور والمــرأة‪ .‬أ ّمــا الوعــي الخاطــئ‪ ،‬الــذي يسـ ّ‬
‫رومانســي ًا‪ ،‬فهــو يجهــل هــذه الســيرورة‪ ،‬العتقــاده بأنــه يرغــب بطريقــة‬
‫ّ‬
‫مســتقل‪ ،‬فتكــون الروايــة كاشــفة لوهمــه‪.‬‬ ‫مباشــرة‪ ،‬والعتقــاده بأنــه‬

‫قدمهــا كتــاب «‪ ،»R. Girard‬فــي‬‫وتتم َّثــل ثانــي إضافــة جوهريــة‪َّ ،‬‬


‫الموســطة (‪le désir‬‬
‫ّ‬ ‫مســار الروايــة التاريخــي‪ ،‬فــي ا ِ ّتصــاف الرغبــة‬
‫‪ )mediatisé‬بالتط ـ ُّور‪ .‬فحيــن يكــون الوســيط بعيــد ًا بمــا فيــه الكفايــة‬
‫(فرســان ‪ ،Don Quichotte‬و ‪ Napoléon‬عنــد ‪ ،)Julien‬فــإن‬
‫المحــاكاة ال تــدرَك باعتبارهــا منافســة مباشــرة‪ ،‬بــل إن البطــل يمكنــه‬
‫المتخيــل‪ ،‬والســعي‪ ،‬بــدون كبيــر‬
‫َّ‬ ‫حيــازة كيــان الوســيط‪ ،‬علــى مســتوى‬
‫ـم انجــاء الوهــم نهائي ًا‪ .‬لكــن الوســطاء البعيديــن (الملك‪،‬‬
‫قلــق‪ ،‬حتــى يتـ ّ‬
‫فاعليتهــم فــي المجتمــع الحديــث‪ ،‬وذلــك‬ ‫َّ‬ ‫النبــاء‪ ..‬إلــخ)‪ .‬فقــدوا‬
‫ّ‬
‫فــكل فــرد يصبــح‬ ‫مــع االندثــار التدريجــي للقيــم الفيوداليــة العتيقــة؛‬
‫وســيط ًا بالنســبة إلــى فــرد آخــر‪ .‬وفــي رأي «‪ »Proust‬أن التنفُّ جيــة‬
‫(‪ )Snobisme‬خيــر مــا يم ِ ّثــل هــذه المحــاكاة المتبادلــة والمتنافســة‬
‫الهائلــة‪ ،‬التــي يعانيهــا األبطــال‪ ،‬وســط قلــق متزايــد‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫ـدم فرضيــات ذات طابــع‬ ‫ويعتبــر ‪ (((Lucien Goldmann‬أوَّل مــن قـ َّ‬


‫سوســيولوجي صريــح‪ ،‬حــول الروايــة‪ ،‬وذلــك انطالق ـ ًا مــن آراء ٍ ّ‬
‫كل مــن‬
‫‪ ،Kàcs‬و‪ .Girard‬فهــو يالحــظ‪ ،‬أ َّو ً‬
‫ال‪ ،‬أن تحليالتهمــا متقاربــة أساس ـ ًا‪،‬‬
‫ثــم ينطلــق مــن هــذه التحليــات ليصــف الروايــة بأنهــا «قصــة بحــث‬
‫عــن قيــم أصيلــة‪ ،‬بصيغــة متدهــورة‪ ،‬وفــي مجتمــع متدهــور‪ ،‬ويتج ّلــى‬
‫هــذا التدهــور‪ ،‬أساسـ ًا‪ ،‬وبخصــوص البطــل‪ ،‬فــي الوســاطة‪ ،‬وفــي اختــزال‬
‫القيــم األصيلــة إلــى المســتوى الضمنــي‪ ،‬ثــم اندثارهــا‪ ،‬باعتبارهــا حقائــق‬
‫أ كيــدة»(((‪ .‬والحــال أن هنــاك «تماث ـ ً‬
‫ا مطلق ـ ًا» بيــن هــذه البنيــة وبنيــة‬
‫الحيــاة اليوميــة‪ ،‬فــي المجتمــع البورجــوازي‪ .‬ففــي هــذا المجتمــع‪،‬‬
‫يكــون إنتــاج األشــياء‪ ،‬أو األدوات (‪ ،)Objets‬باعتبــار صفاتهــا‬
‫الخاصــة وعالقاتهــا مــع الحاجيــات اإلنســانية (أو قيمتهــا االســتعمالية‪،‬‬
‫ّ‬
‫«‪ ،»Valeur ďusage‬كمــا يقــول االقتصاديــون)‪ ،‬خاضعــ ًا لقوانيــن‬
‫الســوق‪ ،‬ولســيطرة القيمــة التبادليــة (‪)Valeur déchange‬؛ فالهــدف‬
‫األســاس مــن الشــيء المنتــج هــو كونــه ســلعة قابلــة للبيــع‪ ،‬مثلمــا أن‬
‫االعتبــار األوَّل‪ ،‬فــي الشــيء المســته َلك‪ ،‬هــو كونــه ســلعة قابلــة للشــراء‪.‬‬

‫ّ‬
‫وكل مــا ينتجــه‬ ‫وهكــذا‪ ،‬تطغــى وســاطة المــال الك ّل ّيــة بيــن ّ‬
‫كل فــرد‬
‫عملــه ورغبتــه‪ ،‬مــن أشــياء‪ ،‬بحيــث ال تظهــر العالقــة المباشــرة بيــن‬
‫األفــراد واألشــياء بمظهرهــا الخالــص البــريء إ ّلا خلسـةً؛ أي فــي شــكل‬
‫حضــور ‪ /‬غيــاب‪ ،‬أو فــي شــكل لهــب خافــت يخفــق بيــن الخشــب‬
‫والرمــاد‪ ،‬حســب إحــدى االســتعارات البلزاكيــة‪ .‬وهــذا‪ ،‬بالــذات‪ ،‬مــا‬
‫يميــز القيــم األصيلــة فــي الروايــة‪ .‬أ ّمــا البطــل الــذي يســعى باحث ـ ًا عــن‬
‫ِّ‬
‫هــذه القيــم‪ ،‬فهــو عبث ـ ًا يحــاول اإلفــات مــن قانــون الوســاطة الك ّلــي‪.‬‬

‫‪(3)(Pour une Sociologie du romans).‬‬


‫((( املرجع السابق نفسه‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫وينضــاف إلــى هــذا التماثــل بيــن بنيــة الروايــة‪ ،‬وبيــن أحــد المظاهــر‬
‫الجوهريــة للبنيــة االجتماعيــة‪ ،‬االقتصاديــة والرأســمالية‪ ،‬تطابــق آخــر‪،‬‬
‫لكنــه تاريخــي‪ ،‬بيــن تطــ ُّور البني َت ْيــن‪ .‬وبالفعــل‪ ،‬تتطابــق الروايــة ذات‬
‫البنيــة البيوغرافيــة مــع فتــرة الرأســمالية الليبراليــة‪ ،‬حيــث ماتــزال ِ ّ‬
‫أهميــة‬
‫الفــرد فــي ا ِ ّتســاع شــامل‪ ،‬وذلــك رغــم ّ‬
‫كل التحديــدات التــي تفرضهــا‬
‫عليــه األعــراف المكتوبــة وغيــر المكتوبــة‪ ،‬للمجتمــع البورجــوازي الــذي‬
‫خلقــه‪ .‬وفــي هــذا النمــط الروائــي‪ ،‬بالــذات‪ ،‬الــذي يســود القــرن التاســع‬
‫مهــددة أ كثــر فأ كثــر‪ ،‬وفــي‬
‫َّ‬ ‫عشــر‪ ،‬تكــون اســتقاللية البطــل النســبية‬
‫الوقــت نفســه‪ ،‬الــذي تتط ـ َّور فيــه الرأســمالية نحــو شــكلها االحتــكاري‬
‫األمبريالــي‪ ،‬هــذا الشــكل الــذي تتناقــض فيــه إمكانــات المبــادرة‬
‫الفرديــة‪.‬‬

‫وفــي بدايــة القــرن العشــرين‪ ،‬عرفــت الرواية أ كبــر أزماتها‪ ،‬التــي أثَّرت‪،‬‬
‫ويميــز «‪ »Goldmann‬بيــن مرحلتين‬ ‫ِّ‬ ‫أساسـ ًا‪ ،‬فــي مظهرهــا البيوغرافــي‪.‬‬
‫فــي هــذه األزمــة (دون أن يغفــل‪ ،‬طبعـ ًا‪ ،‬تعقُّ داتهمــا فــي الزمــن)؛ حيــث‬
‫تكــون المرحلــة األولــى موســومة بمحــاوالت تســتهدف إعــادة التماســك‬
‫للفــرد‪ ،‬وذلــك بربطــه بوحــدة مشــتركة تتجــاوزه (أســرة‪ ،‬جماعــة ثوريــة‪،‬‬
‫أ ّمــة‪ ،)...‬وتتطابــق هــذه المرحلــة مــع أزمــة الرأســمالية الشــاملة‪ ،‬ومــع‬
‫أثــر األيديولوجيــات االشــتراكية فــي المجتمعــات الرأســمالية الغربيــة‬
‫(مث ـ ً‬
‫ا‪ :‬الروايــة االجتماعيــة فــي أميــركا‪ ،‬خــال الثالثينــات‪ ،‬وروايــات‬
‫‪.)...Malraux‬‬

‫كل مــن «‪»Joyce‬‬ ‫دشــنتها أعمــال ٍ ّ‬‫أمّــا المرحلــة الثانيــة‪ ،‬التــي َّ‬
‫ـدت إلــى موجــة «الروايــة الجديــدة» الفرنســية‪،‬‬
‫و«‪ ،»Kafka‬والتــي امتـ َّ‬
‫فــي الخمســينات‪ ،‬مــرور ًا بروايــات «‪ »Sartre‬و«‪ ،»Camus‬فهــي‬
‫مرحلــة االندثــار التدريجــي للشــخصية الروائيــة التــي فقــدت‪ ،‬بالتوالــي‪،‬‬

‫‪97‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫اســمها (مختــز ً‬
‫ال إلــى حرفــه األوَّل)‪ ،‬كمــا فقــدت هويَّتهــا‪ ،‬ووحدتهــا‪ ،‬بــل‬
‫تأ ُّكدهــا مــن وجودهــا‪.‬‬

‫«القصــة»‪ ،‬يتعـ َّرض البحــث‪ ،‬الــذي كان يطبــع الروايــة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫وبالترابــط مــع‬
‫لعمليــة انحــال مزدوجــة‪ :‬انحــال الحــدث والفعــل‪ ،‬حيــث تتكـ َّرر هــذه‬
‫العمليــة فــي رتابــة عبثيــة‪ ،‬تــارةً‪ ،‬أو هــي‪ ،‬ربَّمــا‪ ،‬ال تحــدث‪ ،‬تــار ًة أخــرى‪.‬‬
‫وانحــال المعنــى‪ ،‬الــذي يبقــى أوَّل األمــر فــي حالــة نقصــان تســتثير الحنيــن‬
‫والقلــق‪( ،‬مثــال ذلــك‪ »Le Chateau« :‬لـــ ‪ ،Kafka‬و«‪ »La Nausée‬لـــ‬
‫‪ ،Sartre‬ثــم يختفــي بالــذات تحــت هــذا الشــكل‪ ،‬تــارك ًا المجــال للمعاينــة‬
‫ـل مح ّلها‪-‬‬‫الصرفــة‪ .‬وهكــذا‪ ،‬تتــوارى جدليــة الواقع والطمــوح الداخلي‪ ،‬ليحـ ّ‬
‫كمــا هــو الشــأن فــي «‪ »La jalousie‬لـــ «‪- »Alain Robbe-Grillet‬‬
‫عالــم مــن األشــياء (ال فــرق فيــه بيــن الشــخصيات والكراســي والدويبــات‬
‫بواقعيتهــا‪ ،‬ولــم تعــد‬
‫َّ‬ ‫الكثيــرة األرجــل‪ ،)...‬أشــياء ال يمكــن‪ ،‬تمامـ ًا‪ ،‬الجــزم‬
‫تطــرح‪ ،‬بصددهــا‪ ،‬مســألة المعنــى‪.‬‬

‫وتوافــق هــذا التح ـ ُّول فــي الروايــة الفتــرة التــي تبتــدئ بنهايــة الحــرب‬
‫العالميــة الثانيــة‪ ،‬والتــي بــدت فيهــا الرأســمالية كأنهــا اكتســبت قــدرات‬
‫تنظيــم اقتصــادي تصونهــا مــن األزمــات‪ ،‬وال تتيــح‪ ،‬واقعي ـ ًا‪ ،‬إمكانيــة ّ‬
‫أي‬
‫تحـ ُّول تاريخــي‪ .‬أ ّمــا فــي الواقــع‪ ،‬وفــي الوعــي االجتماعــي‪ ،‬فقــد كانــت‬
‫ييــن تعــوض أ كثــر فأ كثــر بقيــم االمتثــال‬
‫الفرد ْ‬
‫َّ‬ ‫قيــم المبــادرة والتماســك‬
‫والنظــام (راجــع‪ O. Riesmann :‬وتغيــرات النظــام التربــوي بالواليــات‬
‫الم َّتحــدة)‪ .‬لقــد كانــت الروايــة الجديــدة حكايــة بــدون موضــوع‪ ،‬لعالــم‬
‫بــدون حكايــة‪ ،‬عالــم‪ ،‬ربَّمــا‪ ،‬تعـ َّرض ألولــى ه ّزاتــه بانــدالع أزمــة «مايــو»‬
‫االجتماعيــة لســنة ‪ ،1968‬فــي فرنســا‪.‬‬

‫إن وجــود هــذه الترابطــات والتطابقــات يتيــح تجــاوز إثبــات جــازم‪،‬‬


‫لكنــه عــادي‪ ،‬وهــو أن هنــاك عالقــة‪ ،‬علــى المســتوى التاريخــي‪ ،‬بيــن‬

‫‪98‬‬
‫أدبــي‪ ،‬ونمــ ّو البورجوازيــة منــذ النهضــة‪ .‬كمــا يتيــح‬
‫ّ‬ ‫كجنــس‬
‫ٍ‬ ‫الروايــة‪،‬‬
‫بــروز أســئلة جديــدة‪ ،‬لكنهــا أســئلة تشـ ِ ّ‬
‫ـكل‪ ،‬هــذه المـ ّرة‪ ،‬برنامــج أبحــاث‬
‫سوســيولوجية ملموســة‪ :‬بأ ّيــة وســاطات تحققــت هــذه التطابقــات؟ أيــن‬
‫تشــكل هــذا الجنــس األدبــي الــذي يفتــرض‪ ،‬فــي آن واحــد‪ ،‬قبــو ً‬
‫ال‬ ‫َّ‬
‫نســبي ًا للقيــم البورجوازيــة الجوهريــة ( الفــرد وح ِ ّريَّتــه)‪ ،‬وموقفـ ًا انتقاديـ ًا‬
‫وواضح ـ ًا مــن هــذه القيــم ذاتهــا؟‬

‫وبمــا أن هــذا الشــكل يفتقــد‪ ،‬فيمــا يبــدو‪ ،‬معــاد ً‬


‫ال مفهوميــ ًا جاهــز ًا‬
‫(بخــاف أجنــاس أدبيــة أخــرى مثــل المأســاة)‪ ،‬وال تربطــه بفئــة‬
‫خاصــة عالقــة بديهيــة‪ ،‬فقــد اعتقــد ‪ ،Goldmann‬بخصــوص‬
‫ّ‬ ‫اجتماعيــة‬
‫هــذه الحالــة الدقيقــة‪ ،‬بضــرورة العــدول عــن مفهــوم الجماعــة‪ ،‬موضــوع‬
‫اإلبــداع األدبــي‪ ،‬والوعــي الجماعــي(((‪ .‬فقــد بــدا لــه تأثيــرات التشـ ُّـيؤ‬
‫والتشــييء (‪ )réifcation‬علــى الوعــي الفــردي‪ ،‬والوعــي الجماعــي‪،‬‬
‫تســمح بحــدوث «أثــر انعكاســي» (‪ ،)effet de reflet‬أي نقــل مــا فــي‬
‫الحيــاة اليوميــة مــن ظواهــر اجتماعيــة ‪ /‬اقتصاديــة‪ ،‬إلــى األدب‪ ،‬نقــ ً‬
‫ا‬
‫التوســط (‪ )mé diation‬بالتجربــة الفرديــة‬ ‫ُّ‬ ‫مباشــر ًا‪ .‬لكنــه قــدم فرضيــة‬
‫للروائــي‪ ،‬الــذي يواجــه‪ ،‬فــي صميــم عملــه‪ ،‬تناقضـ ًا بيــن الهــدف المباشــر‬
‫ـص‪ ،‬باعتبــاره غير ســلعة‪.‬‬
‫ـص المنتــج وبيــن عجــزه عــن إنتــاج هــذا النـ ّ‬
‫للنـ ّ‬
‫قــدم فرضيــة وجــود «مرننــة» (‪)caisse de résonnance‬‬ ‫َّ‬ ‫كمــا‬
‫ِّ‬
‫يشــكلها ســخط بعــض الطبقــات االجتماعيــة‪ ،‬وهــو ســخط كمونــي‪،‬‬
‫وانفعالــي‪ ،‬وغيــر مُ َمفهــم‪.‬‬

‫ولعـ ّ‬
‫ـل األبحــاث األولــى التــي أنجــزت مــن هــذه الزاويــة‪ ،‬حــول الروايــة‬
‫الفرنســية فــي القــرن التاســع عشــر (‪ ،J.L. Diaz‬و ‪،G.Mouillaud‬‬

‫((( يحال عىل مقاالت أخرى‪ ،‬أو عىل ‪ G. Lukàcs‬يف كتابه ‪.Histcire et conscience de classe. Ed. Minuit‬‬

‫‪99‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫عــن ‪ Stendhal‬و‪ ،F. Gaillard‬عــن الروايــة الطبيعيــة) تســمح بتقديــم‬


‫فرضيــة أخــرى؛ فهــذه األبحــاث تكشــف عــن عالقــة امتيازيــة بيــن‬
‫معينــة‪ ،‬تلــك‬
‫مجــاالت تك ـ ُّون الروايــة المدروســة وبيــن طبقــة اجتماعيــة َّ‬
‫التــي لــم تكتســب تســمية «المثقّ فيــن» إ ّلا فــي نهايــة القــرن التاســع‬
‫ا فــي القــدم‪ ،‬وتاريخهــا يبتــدئ‬ ‫عشــر‪ ،‬وإن كان مــا (قبــل) تاريخهــا موغـ ً‬
‫تتدخــل مجموعــة‬
‫َّ‬ ‫حقّ ـ ًا بالثلــث األوَّل مــن القــرن التاســع عشــر‪ .‬حينئــذ‪،‬‬
‫ـدل ســوق الكتــاب‪ ،‬ظهــور الجريــدة‪ ،‬نهضــة‬ ‫مــن الظواهــر الحاســمة‪ :‬تبـ ُّ‬
‫الجامعــة‪ ،‬ا ِ ّتســاع المهــن الح ـ ّرة بدايــة الوضعيــة الحديثــة للطالــب‪.‬‬

‫ِّ‬
‫ألهم ّيــة التحـ ُّول)‪ ،‬يمكن‬ ‫وبتبســيط أ كثــر (وهــو تبســيط مشــروع‪ ،‬نظــر ًا‬
‫الك ّتــاب‪ ،‬إلــى ذلــك الحيــن‪ ،‬كان بوســعهم أن يتك َّلمــوا مــن‬ ‫القــول إن ُ‬
‫وضعيتهــم‬
‫َّ‬ ‫أجــل (إلــى‪ ،‬ونيابــة عــن) فئــات اجتماعيــة ال عالقــة لهــا مــع‬
‫كك ّتــاب‪ ،‬دون أن تؤثّــر هــذه الوضعيــة فــي أنمــاط فكرهــم المبدئيــة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ـص‪ ،‬أساسـ ًا‪،‬‬
‫وتميــز‪ ،‬تختـ ّ‬
‫ُّ‬ ‫فمادامــت هنــاك طبقــة اجتماعيــة‪ ،‬ذات ِ ّ‬
‫أهم ّيــة‬
‫الماد ّيــة»‪ ،‬فــإن ُ‬
‫الك ّتــاب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ـميه ‪«J.B. Say‬إنتــاج الخبــرات غيــر‬ ‫بمــا يسـ ّ‬
‫يتحــددون‪ ،‬كذلــك‪،‬‬
‫َّ‬ ‫مهمــا تكــن عالقاتهــم بفئــات اجتماعيــة أخــرى‪،‬‬
‫وضعيتهــم مج ـ َّرد ميــزة‬
‫َّ‬ ‫ـم‪ ،‬ال تعــود‬
‫بانتمائهــم إلــى هــذه الطبقــة‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬
‫فرديــة‪ ،‬بــل تكتســب بعــد ًا أعـ ّ‬
‫ـم‪.‬‬

‫تتضمــن عناصــر معارضــة وانتقــاد‪ ،‬ال‬


‫َّ‬ ‫والحــال أن هــذه الوضعيــة‬
‫بدافــع بصيــرة اســتثنائية معــزوّة إلــى ممارســة الفكــر‪ ،‬بــل بدافــع موقــف‬
‫ـص‪ ،‬ســريعة التأ ّثــر باســتالب المنتــج وبنفــوذ المــال‪،‬‬
‫يجعلهــا‪ ،‬علــى األخـ ّ‬
‫فــي الوقــت نفســه الــذي يحجــب عنهــا بعــض الظواهــر األساســية فــي‬
‫المجتمــع الرأســمالي (لــم تفهــم مثــ ً‬
‫ا اســتغالل البروليتاريــا إ ّلا فــي‬
‫متأخــر‪ ،‬وعلــى إثــر التحـ ُّركات العماليــة)‪ .‬إنهــا وضعيــة لــم تســمح‬
‫ّ‬ ‫وقــت‬
‫بصياغــة أيديولوجيــة إيجابيــة غيــر األيديولوجيــة الليبراليــة البورجوازيــة‪،‬‬

‫‪100‬‬
‫ـت‪ ،‬داخــل الليبراليــة‪ ،‬فكــر ًا نقديـ ًا؛ بحيــث إن مواجهــة‬
‫نمـ ْ‬
‫لكنهــا وضعيــة َّ‬
‫مطالــب الليبراليــة‪ ،‬باالســتقالل وتحقُّ ــق الــذات‪ ،‬بالواقــع اليومــي‬
‫للمجتمــع‪ ،‬تكشــف عــن تناقضاتهــا الداخليــة‪.‬‬

‫يشــكل الوعــي الجماعــي‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬


‫ولعــل الوعــي بهــذه الفوضويــة هــو مــا‬
‫للمثقَّ فيــن‪ ،‬وهــو‪ ،‬بطبيعــة الحــال‪ ،‬مجــرد وعــي «ممكــن» ال يتحقَّ ــق‬
‫بصرامــة إ ّلا فــي الروايــة‪ .‬يضــاف إلــى ذلــك مــا ي َّتصــف بــه المثقَّ فــون‬
‫مــن تذبــذب أيديولوجــي‪ ،‬ومــن انجــذاب إلــى فئــات اجتماعيــة أخــرى‪،‬‬
‫مثــل تق ُّلبهــم بيــن فضــات األرســتوقراطية والبورجوازيــة الجديــدة‪ ،‬إ ّبــان‬
‫عــودة الملكيــة البوربونيــة إلــى الحكــم (‪ ،)La Restauration‬وبيــن‬
‫البورجوازيــة المهيمنــة والطبقــة الكادحــة‪ ،‬فــي نهايــة القــرن التاســع عشــر‪..‬‬
‫إلــخ‪.‬‬

‫كل حقبــة‪ ،‬تســتهدف‬ ‫لذلــك‪ ،‬يجــب إنجــاز دراســات عينيــة‪ ،‬فــي ّ‬


‫مهمــة‪.‬‬ ‫تحديــد الوضــع الشــامل‪ ،‬وضمنــه وضــع الفئــة الملهمــة لـ ّ‬
‫ـكل روايــة ّ‬
‫آن واحــد‪ ،‬اســتجالء األيديولوجيــات‬ ‫وداخــل هــذه الفئــة‪ ،‬يمكــن‪ ،‬فــي ٍ‬
‫تتضمــن‬
‫َّ‬ ‫المطابقــة للفئــات االجتماعيــة األخــرى (بيئــة ‪ ،Stendhal‬مثـ ً‬
‫ا‪،‬‬
‫نمــاذج بشــرية تعكــس ّ‬
‫كل ِ ّ‬
‫متغيــرات األيديولوجيــة الليبراليــة البورجوازيــة‪،‬‬
‫تعبــر بهــا هــذه‬ ‫ِّ‬
‫المتميــزة التــي ِ ّ‬ ‫والبورجوازيــة الصغيــرة)‪ ،‬وكــذا الطريقــة‬
‫الخاصــة (مثــل احتجاجهــا‪ ،‬فــي بيئــة ‪Stendhal‬‬
‫ّ‬ ‫الفئــات عــن مشــالكها‬
‫ضــد التســويق الحديــث العهــد للجريــدة والكتــاب‪ ،‬والوعــي‬
‫ّ‬ ‫نفســها‪،‬‬
‫النقــدي الذاتــي للكاتــب «بائعــ ًا للكتــب»‪.)...‬‬

‫إن هــذه المظاهــر تختلــف مــن كاتــب إلــى آخــر؛ فنســبة االندمــاج‬
‫االجتماعــي تتفــاوت بيــن ‪ ،Balzac‬و‪ ،Stendhal‬وال تشــترك بيئاتهمــا‬
‫ســوى فــي مالمــح بســيطة‪ .‬وهــي‪ ،‬علــى مســتوى آخــر‪ ،‬تختلــف مــن حقبــة‬
‫ا‪،‬‬ ‫تغيــر ًا كام ـ ً‬
‫تغيــرت الوضعيــة االجتماعيــة للمثقَّ فيــن ُّ‬
‫إلــى أخــرى؛ فقــد َّ‬

‫‪101‬‬
‫الرواية الجديدة والواقع‬

‫بيــن حقبــة ‪ Balzac‬و‪ ،Stendhal‬وحقبــة ُ‬


‫الك ّتــاب الطبيعييــن‪ .‬ثــم إن‬
‫تكاثــر الشـ ّـبان المثقَّ فيــن‪ ،‬خ ِ ّريجــي التعليــم الثانــوي‪ ،‬الذيــن ال يحترفــون‬
‫ســوى وظائــف ثانويــة ‪-‬بحيــث يحكــم عليهــم بــأن يجــاوروا البروليتاريــا‬
‫ـددة‪ -‬يتعــارض تكاثرهــم مــع تلــك الحيــاة الحماســية‪ ،‬الحافلــة‬
‫مجــاورة مهـ ّ‬
‫بالطموحــات وإمكانيــات الفعاليــة واألوهــام والخيبــات القويّــة‪ ،‬التــي‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫هيأهــا النمـ ّو‪ ،‬فــي ‪ ،1830‬لـ«القــدرات» المتخ ِ ّرجــة فــي المعاهــد‬
‫َّ‬
‫القليلــة وفــي كبريــات المــدارس األولــى‪ .‬لذلــك‪ ،‬فــإن مــن شــأن دراســة‬
‫هــذه التحـ ُّوالت أن تحـ ِ ّ‬
‫ـدد تطـ ُّور الجنــس الروائــي فــي ســياقه االجتماعي‪،‬‬
‫نوعي ـ ًا مــن المثقّ فيــن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـدل فرضيــة كــون الروايــة تعبيــر ًا‬ ‫وأن ِ ّ‬
‫تؤكــد أو تعـ ّ‬

‫ِّ‬
‫تقــدم مجــا ً‬
‫ال خصبــ ًا لألبحــاث‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ولعــل األشــكال الجديــدة للروايــة‬
‫وذلــك بفضــل مــا تراكــم‪ ،‬اليــوم‪ ،‬مــن معطيــات علــم االجتمــاع التجريبــي‪،‬‬
‫يتــم‪ ،‬بعــد‪ ،‬اســتغالله‪ .‬فقــد يســاعد تعريــف ‪E.S‬‬ ‫ّ‬ ‫إ ّلا أنــه مجــال لــم‬
‫‪ -Sanguenetti‬للطليعــة‪ ،‬باعتبارهــا محاولــة لإلفــات مــن ظــروف‬
‫قافيــة الحديثــة‪ ،‬وهــي محاولــة مــا تــزال مؤقَّتــة وغيــر مجديــة‪،‬‬
‫الصناعــة ال ّث ّ‬
‫علــى موضعــة الروايــة الجديــدة بجانــب التظاهــرات المثيــرة للرســم‬
‫والمســرح‪ ،‬وعلــى فهمهــا فهمــ ًا نقديّــ ًا‪ :‬أ ّلا يم ِ ّثــل ســعي العمــل األدبــي‬
‫ـد ذاتــه‪ ،‬وكذلــك وعيــه بإخفاقــه‪ ،‬الشـ َ‬
‫ـكل الحديــث‬ ‫إلــى أن يوجــد فــي َحـ ّ‬
‫للبحــث الروائــي؟‬

‫كمــا يمكــن‪ ،‬فــي مجــال آخــر‪ ،‬التســاؤل حــول ظاهــرة مثيــرة فــي‬
‫خاص َت ْيــن بالروايــات الجديــدة‬
‫َّ‬ ‫الخمســينيات‪ ،‬وهــي وجــود سلســل َت ْين‬
‫مؤسســة للنشــر‪ ،‬ذات‬
‫وبأهــم المطبوعــات المناهضــة لالســتعمار‪ ،‬لــدى َّ‬ ‫ّ‬
‫محــدد‪ ،‬هــي «دار ‪ .»Minuit‬فقــد كانــت‬ ‫َّ‬ ‫وعــي وذات اختصــاص‬
‫منشــورات هــذه الــدار‪ ،‬المحظــورة رســمي ًا‪ُ ،‬ت َتــداول‪ ،‬صراحـةً‪ ،‬بيــن أوســاط‬
‫معزولــة مــن المثقّ فيــن‪ ،‬فيمــا كانــت الطبقــات األخــرى تعيــش فــي ال‬

‫‪102‬‬
‫ا‪ ،‬ســوى وســائل اإلعــام‪،‬‬ ‫مبــاالة شــاملة‪ ،‬والحكومــات ال تراقــب‪ ،‬فعــ ً‬
‫ِّ‬
‫تقــدم مواقــف المعارضــة المتذبذبــة‪ .‬لقــد اســتطاع‬ ‫التــي ق َّلمــا كانــت‬
‫هــذا العجــز الجــذري‪ ،‬وهــذه الحر ّيــة الوهميــة لفئــة قليلــة‪ ،‬لكــن أساســية‪،‬‬
‫يشــكال أرضيــة مالئمــة آلخــر تظاهــرة كبــرى عرفتهــا‬ ‫ِّ‬ ‫مــن المثقَّ فيــن‪ ،‬أن‬
‫النــص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫زمنيــ ًا‪ ،‬باعتبــار تاريــخ كتابــة هــذا‬
‫ّ‬ ‫المفارقــة الروائيــة‪ ،‬آخرهــا‬

‫‪103‬‬
Portrait des ecrivains du Nouveau Roman : de gauche a droite : Alain Robbe-Grillet (Robbe Grillet),
Claude Simon, Claude Mauriac, Jerome Lindon, Robert Pinget, Samuel Beckett, Nathalie Sarraute,
Claude Ollier devant le siege de la maison díedition ìLes editions de Minuitî, 1959. ©Dondero/Ed.
Minuit/Leemage
‫الفهرس‬

‫‪5‬‬ ‫‪ -‬تقديم‬

‫ناتالي ساروت‬
‫‪17‬‬ ‫‪ -‬الكتابة الروائية بحث دائم‬
‫‪19‬‬ ‫‪ -‬واقع الناس وواقع الروائي‬
‫‪23‬‬ ‫‪ -‬جدلية الواقع الجديد والتجريب‬
‫‪26‬‬ ‫‪ -‬نحو ُّ‬
‫تفكك الشخصية الروائية‬
‫‪29‬‬ ‫‪ -‬المجازفة بمصير الرواية‬
‫‪35‬‬ ‫ضد التقليد‬
‫‪ -‬صراع تقليدي ّ‬

‫آالن روب غرييه‬


‫‪39‬‬ ‫‪ -‬الرواية والواقع الموضوعي‬
‫‪42‬‬ ‫‪ -‬عالم غير العالم‬
‫‪45‬‬ ‫‪ -‬الرواية والداللة الالحقة‬

‫لوسيان جولدمان‬
‫‪51‬‬ ‫‪ -‬الرواية الجديدة‪ :‬شكالنية أم واقعية؟‬
‫‪54‬‬ ‫‪ -‬سلطة الواقع االجتماعي‪ ،‬والتاريخي‬
‫‪57‬‬ ‫‪ -‬الشكل الروائي والبنيات االقتصادية‬
‫‪59‬‬ ‫‪ -‬بين البنيات التشييئية والبنيات الروائية‬
‫‪66‬‬ ‫‪ -‬بين ذوبان الشخصية الروائية والتش ُّيؤ‬
‫‪70‬‬ ‫‪ِّ -‬‬
‫أهم ّية التحوّالت االجتماعية‪ ،‬واإلنسانية‬

‫جينفياف مويلو‬
‫‪87‬‬ ‫‪ -‬تماثل بين بنية الرواية والبنية االجتماعية ‪ -‬االقتصادية‬
‫إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬


‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫ح ّرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدن ّية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياس ّية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫مجموعة مؤلفني‬ ‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل ال ّلغة العرب ّية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنّان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري»‬ ‫‪43‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫ا ُملعتمدُ بنُ ع َّباد يف سنواته األخرية باألرس‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف َذنّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫بني الج ْزر وامل ّد (صفحات يف ال ّلغة واآلداب والفنّ والحضارة)‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫ظل ال ّذاكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مج ّلة الدوحة»‬ ‫الرحلة الفنّية إىل الديار املرص ّية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫اعم األمل ( ُمختارات شِ ْعر ّية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫بر ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫التّوت ا ُمل ّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ملحمة جلجامِش‬ ‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬ ‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫مح ّمد فريد سيالة‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬ ‫فنّ َ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫أَ ْق َو ُم ا ْل َم َسالِكِ ِف َم ْع ِر َف ِة أَ ْح َوالِ ا ْل َم َملِكِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫كتاب َ‬
‫األخلق‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْح َل ٌة َج َب ِل َّي ٌة ر ِْح َل ٌة َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ِـطاف ( ُمختَا َرات مِن اَ ْلق َِّص ُة ا ْلقَصِ َري ُة ِف َق َطر)‬ ‫ق ْ‬ ‫‪77‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج‪1 :‬‬ ‫‪78‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية‪ .‬ج‪2 :‬‬ ‫‪79‬‬
‫إسحق موىس الحسيني‬ ‫مذكرات دجاجة‬ ‫‪80‬‬
‫نورمان ج‪ .‬فينكلستاين‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد زراقي‬ ‫ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟‬ ‫‪81‬‬
‫د‪ .‬نزار شقرون‬ ‫نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب‬ ‫‪82‬‬
‫إس‪ .‬إس‪ .‬بيو ‪ -‬ترجمة‪ :‬يعقوب رصوف ‪ -‬فارس منر‬ ‫والع َظ َم ِء ال ُقدَماء‬ ‫مِن سِ َي األَ ْب َطال ُ‬ ‫‪83‬‬
‫إغناطيوس كراتشكوفسيك‬ ‫مقاالت ِف األدب العر ّيب‬ ‫ٌ‬ ‫‪84‬‬
‫صوف‬ ‫صموئيل ساميلز ‪ -‬ترجمة‪َ :‬يع ُقوب َ ُّ‬ ‫س الن ََّج ِاح‬ ‫ِ ُّ‬ ‫‪85‬‬
‫ُم َعا ِو َية ُم َح َّمد نُور‬ ‫ِمنْ آ َثا ِر ُم َعا ِو َية ُم َح َّمد نُور‬ ‫‪86‬‬
‫أحمد الهاشمي‬ ‫ص َّية‬‫ات ال َع ْ ِ‬ ‫إِنشَ ا ُء ا ُمل َكا َت َب ِ‬ ‫‪87‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالرحمن الخمييس وآخرين‬ ‫السو ْفييتِّي‬
‫ْ ُّ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫الشِّ‬ ‫نَ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ات‬‫ٌ‬ ‫ر‬ ‫َا‬‫ت‬ ‫خْ‬‫م‬‫أجراس أكتوبر ُ‬
‫‪-‬‬ ‫‪88‬‬
‫اختارها وترجمها‪ :‬جربا إبراهيم جربا‬ ‫حكايات من الفونتني‬ ‫‪89‬‬
‫ألبريطو مانْغيل ‪ -‬ترجمة ‪ :‬إبراهيم الخطيب‬ ‫مع بورخيس‬ ‫‪90‬‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like