You are on page 1of 9

‫جامعة السلطان موالي سليمان‬

‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بني مالل‬

‫مختبر السرد واألشكال الثقافية‪ :‬األدب واللغة والمجتمع‬

‫ماستر السرد والثقافة بالمغرب‬


‫الفوج الرابع‬
‫الفصل الثالث‬
‫ملخص كتاب ‪:‬‬

‫الزمان والسرد‪ :‬الحبكة والسرد التاريخي‬


‫الفصل الخامس‬

‫تحت إشراف األستاذ‪:‬‬ ‫من إعداد الطالب ‪:‬‬


‫األستاذ رشاق‬ ‫طارق الملياني‬

‫الموسم الجامعي‪2024-2023 :‬‬


‫ليس ثمة من مجال أفضل الختراع المستقبل صلب تشكيل الزمان وتنض‪$$‬يد الق‪$$‬درة على الالمتوق‪$$‬ع‬
‫كما التخييل والسرد؛ فإيقاع الزمن في مجال الفع‪$‬ل البش‪$‬ري يعِّدل‪$‬ه األدب واالس‪$‬تعارات والط‪$‬ابع الش‪$‬عري‬
‫للغة‪ ،‬وهو ما يمنحنا هوية سردية مفتوحة على العوالم التخييلية الممكنة فيما أبع‪$$‬د من ك‪$$‬ل أش‪$$‬كال الهوي‪$$‬ات‬
‫األخرى‪ .‬فالممكن التخييلي الذي يمنحه لنا السرد ها هنا هو معنى المس‪$‬تقبل بوص‪$‬فه مواجه‪$‬ة لق‪$‬وة الزم‪$‬ان‬
‫المدمرة‪ ،‬وهشاشة الحياة مًعا‪ .‬لكن الهوية التي تخترعها القصص ليست هوية ف‪$$‬وق الزم‪$$‬ان‪ ،‬ب‪$$‬ل هي هوي‪$$‬ة‬
‫تاريخية زمنية تجيز العبور من التاريخ إلى الس‪$‬رد‪ ،‬وتنتص‪$$‬ر لهوي‪$‬ة التخيي‪$‬ل األدبي على هوي‪$‬ات العقي‪$‬دة‪،‬‬
‫وهكذا يتم المرور من هوية تتأسس على ماٍض كسول جاهز وقابل لالستعمال في جَّبة تجار الاله‪$$‬وت‪ ،‬إلى‬
‫هوية تاريخية تتملك الزمن بالشعر واألدب‪ ،‬وترتقي به إلى مصاِّف اللغة المنفتحة على كل ع‪$$‬والم التخيي‪$$‬ل‬
‫الممكنة‪ .‬هذا ما نَّظر له كتاب الزمان والسرد‪ ،‬للفيلسوف الفرنسي ب‪$$‬ول ريك‪$$‬ور‪ ،‬في أجزائ‪$$‬ه الثالث‪$$‬ة‪ .‬وه‪$$‬و‬
‫تنظير يقوم على اشتباك فلسفي مت‪$$‬وعر م‪$$‬ع ت‪$$‬اريخ التص‪$$‬ورات الفلس‪$$‬فية للزم‪$$‬ان من‪$$‬ذ أرس‪$$‬طو‪ ،‬إلى ح‪$$‬دود‬
‫هيدغر‪ ،‬مروًرا بأوغسطين وكان‪$‬ط وهيج‪$‬ل‪ .‬وفي الحقيق‪$‬ة يتعل‪$‬ق األم‪$‬ر بثالث‪$‬ة براديغم‪$‬ات ك‪$‬برى لل‪$‬زمن؛‬
‫أرسطو الذي يعتبر الزمان كسمولوجًّيا في عالق‪$$‬ة بالحرك‪$$‬ة وبالقب‪$$‬ل والبع‪$$‬د‪ ،‬أي‪ :‬بوص‪$$‬فه ترتيًب ا لألح‪$$‬داث‬
‫واألفعال‪ ،‬وأوغسطين الذي يعتقد أن الزمان ه‪$$‬و زمن األبدي‪$$‬ة‪ ،‬وه‪$$‬و ثالثي األبع‪$$‬اد‪ ،‬وهي‪$$‬دغر ال‪$$‬ذي أَّس س‬
‫لزمن الكينون‪$$‬ة ال‪$$‬تي ت‪$$‬أتي من المس‪$$‬تقبل‪ ،‬بوص‪$$‬فه التجرب‪$$‬ة األص‪$$‬يلة للزمني‪$$‬ة‪ .‬ويتلخص الص‪$$‬راع بين ه‪$$‬ذه‬
‫النماذج الثالثة بخاصة في السؤال عن المستقبل من أين يأتي؟ فهو عند أوغس‪$$‬طين يب‪$$‬دأ من الحاض‪$$‬ر‪ ،‬لكن‬
‫عند هيدغر كل شيء يأتي من المستقبل‪ ،‬حتى الماضي نفسه‪ .‬ومن أجل معالجة هذا النق‪$$‬اش الفلس‪$$‬في ح‪$$‬ول‬
‫مسألة الزمان في عالقته بالسؤال عن المستقبل‪ ،‬يقترح بول ريكور وساطة السرد‪ ،‬ق‪$$‬ائاًل م‪$$‬ا يلي‪« :‬يص‪$$‬ير‬
‫الزمن إنسانًّيا بقدر م‪$‬ا يتم التعب‪$‬ير عن‪$‬ه من خالل طريق‪$‬ة س‪$‬ردية‪ ،‬ويت‪$‬وفر الس‪$‬رد على معن‪$‬اه الكام‪$‬ل حين‬
‫يصير شرًطا للوجود الزمني‪ ».‬بهذا المعنى يقيم ريكور ضمن هذا الكتاب ضرًبا من الوس‪$$‬اطة بين تص‪$$‬ور‬
‫أوغسطين للزمن‪ ،‬ومفهوم أرسطو للحبكة‪ ،‬وهو ما يمثل عن‪$‬ده‪ ،‬وعلى ح‪$‬د تعب‪$‬يره «مفت‪$‬اح مش‪$‬كلة العالق‪$‬ة‬
‫بين الزمان والسرد»‪ ،‬وذل‪$‬ك انطالًق ا من أن «أرس‪$‬طو ق‪$$‬د تجاه‪$‬ل الج‪$‬وانب الزمني‪$‬ة للحب‪$‬ك»‪ ،‬في حين أن‬
‫«مفارقات أوغسطين عن تجربة الزمن ال َتدين بش‪$$‬يء لفعالي‪$$‬ة رواي‪$$‬ة قص‪$$‬ة‪ ».‬أم‪$$‬ا عن التحلي‪$$‬ل الوج‪$$‬ودي‬
‫للزمان الذي نجده لدى هيدغر‪ ،‬فيخِّص ص ل‪$‬ه ريك‪$‬ور الفص‪$$‬ل الث‪$‬الث من الج‪$‬زء الث‪$‬الث من كت‪$‬اب ال‪$‬زمن‬
‫والسرد‪ ،‬مشتبًك ا مع هذا التصور الفلسفي البراديغماتي الذي جعل الوجود في الع‪$‬الم يم‪$‬ر ع‪$‬بر الس‪$‬ؤال عن‬
‫الزم‪$$‬ان‪ ،‬وأن ليس من زم‪$$‬ان إال ص‪$$‬لب الكينون‪$$‬ة‪ ،‬وذل‪$$‬ك ع‪$$‬بر مفه‪$$‬وم المس‪$$‬تقبل بوص‪$$‬فه ه‪$$‬و ال‪$$‬ذي يص‪$$‬نع‬
‫الحاضر‪ ،‬وهو ال‪$$‬ذي يجع‪$$‬ل الوج‪$$‬ود في الع‪$$‬الم ممكًن ا أيًض ا‪ .‬وهن‪$$‬ا ينطل‪$$‬ق ريك‪$$‬ور من الفق‪$$‬رة رقم ‪ ٦٥‬من‬
‫كتاب الكينونة والزمان‪ ،‬حيث نقرأ ما يلي‪« :‬فالكانَّية تنبثق من المستقبل‪ ،‬بحيث إن المستقبل الذي ق‪$$‬د‪-‬ك‪$$‬ان‬
‫(وبعبارة أفضل‪ :‬الذي كان‪-‬يكون) قد سَّرح الحاضر انطالًقا من ذاته‪ .‬وإن هذا النحو من الظاهرة الموِّح دة‪،‬‬
‫من جهة ما هي مستقبل يكون‪-‬ما‪-‬كان‪-‬على‪-‬سبيل‪-‬االستحضار‪ ،‬نحن نسميها الزماني<<ة‪ ».‬وانطالًق ا من هن‪$$‬ا‬
‫نصبح كائنات مفتوح‪$‬ة على المس‪$‬تقبل بوص‪$$‬فنا «اعتزاًم ا مس‪$‬تبًقا»‪ ،‬وق‪$$‬درة على االستش‪$‬راف‪ ،‬واس‪$‬تطاعة‬
‫لإلقبال على الممكن‪ ،‬وهو معنى أن نوَج د على نحو أصيل‪.‬‬

‫لكن كيف يكون هذا االستشراف ممكًنا؟ لن يكون هذا األمر ممكًنا إال انطالًق ا من اللغ‪$$‬ة بوص‪$$‬فها الواس‪$$‬طة‬
‫بين الزمان والكينونة‪ .‬وذلك يتم عند ريكور انطالًقا من تحويله السرد إلى ضرب من المعرف‪$$‬ة‪ ،‬وليس فق‪$$‬ط‬
‫مجرد حكي‪ .‬من هنا يتنزل السرد منزل‪$$‬ة أساس‪$$‬ية في تش‪$$‬كيل ال‪$$‬زمن في عالقت‪$$‬ه بالت‪$$‬اريخ‪ ،‬وبمج‪$$‬ال الفع‪$$‬ل‬
‫البشري‪ ،‬وبالمخيال وبالمستقبل مًعا‪ .‬والسرد هنا هو بمثاب‪$$‬ة المعم‪$$‬ار الخي‪$$‬الي للغ‪$$‬ة‪ .‬ولق‪$$‬د تم االش‪$$‬تغال من‪$$‬ذ‬
‫الفلسفة التأويلية على النصوص بوصفها ما تبقى بعد موت الك‪$$‬اتب في أف‪$$‬ق تأويلي‪$$‬ة كوني‪$$‬ة خاص‪$$‬ة ب‪$$‬العلوم‬
‫اإلنسانية (غادامار نموذًج ا)‪ ،‬أو على تفكيك النصوص خارج أسوار األنطولوجي‪$$‬ا‪ ،‬وذل‪$$‬ك في أف‪$$‬ق لغ‪$$‬ة بال‬
‫ذات (دريدا)‪ .‬لكن ريكور يقترح تجاوز هذه اإلِّم ية بين ذات تأويلية ولغ‪$$‬ة تفكيكي‪$$‬ة تأك‪$$‬ل نفس‪$$‬ها باس‪$$‬تمرار‪،‬‬
‫وذلك نحو عالقة تأويلية مغايرة بين الزمن والسرد‪ ،‬هدفه تجديد الخطاب الفلس‪$‬في ح‪$‬ول االس‪$‬تعارة وح‪$‬ول‬
‫السرد القصصي وحول الزمان المروي مًعا‪ .‬وإن األدب في ذلك هو الواسطة الوحيدة لتحري‪$$‬ر الزم‪$$‬ان من‬
‫اْل تباسه بتسريح الماضي‪ ،‬وفتح الحاضر على مستطاع الكينونة السردية‪.‬‬

‫لقد خَّص ص بول ريكور الجزء الثاني من كتابه الزمان والسرد‪ ،‬لمناقشة إمكاني‪$$‬ة التأس‪$$‬يس لنظري‪$$‬ة تأويلي‪$$‬ة‬
‫جديدة حول م‪$$‬ا يس‪$$‬ميه «التجرب‪$$‬ة القصص‪$$‬ية لل‪$$‬زمن»‪ .‬ومن أج‪$$‬ل مقارب‪$$‬ة ه‪$$‬ذه التجرب‪$$‬ة القصص‪$$‬ية لل‪$$‬زمن‬
‫بوصفها تمل‪$‬ك «أفقه‪$‬ا في ع‪$‬الم تخ‪$‬ييلي يبقى ه‪$‬و ع‪$‬الم النص»‪ ،‬ينطل‪$‬ق الكت‪$‬اب من مناقش‪$‬ة مت‪$‬وعرة ألهم‬
‫النظري‪$$‬ات المعاص‪$$‬رة في األدب من‪$$‬ذ الفهم الب‪$$‬نيوي إلى النظري‪$$‬ة الس‪$$‬يميائية‪ ،‬وص ‪$‬واًل إلى ألع‪$$‬اب ال‪$$‬زمن‪،‬‬
‫واشتباك تأويلي مع مفهوم جي‪$$‬نيت للعب‪$$‬ة ال‪$$‬زمن‪ ،‬والف‪$$‬رق بين زمن الس‪$$‬رد وزمن األفع‪$$‬ال النحوي‪$$‬ة‪ ،‬بحيث‬
‫تعلق األمر باستشكال لما يس‪$$‬ميه «طموح‪$$‬ات علم الس‪$$‬رد الس‪$$‬اعي إلى العقلن‪$$‬ة»‪ ،‬انطالًق ا من رس‪$$‬م لح‪$$‬دود‬
‫الحبكة األرسطية‪ ،‬على ضوء مكتسبات الرواية الحديثة‪ ،‬حيث تم «توسيع فك‪$$‬رة فع‪$$‬ل يح‪$$‬اكي أو يمِّث ل إلى‬
‫النقطة التي نستطيع معها أن نقول إن مبدأ شكلًّيا للتأليف يحكم سلسلة التغيرات التي تؤِّثر في كائنات شبيهة‬
‫بنا‪».‬‬
‫يتوقف بنا الكتاب منذ فصله األول عند مسألة شائكة‪ ،‬تتعلق بالقول ب‪$$‬أفول الس‪$$‬رد‪ ،‬ونهاي‪$$‬ة الرواي‪$$‬ة الحديث‪$$‬ة‬
‫نفسها‪ .‬وهو قول يجده ريكور بخاصة لدى والتر بنيامين الذي يذهب‪ ،‬وفق تعبير ريكور نفسه‪ ،‬إلى «أننا قد‬
‫نكون نحيا حقبة لم يعد فيها للسرد مكان؛ إذ لم يعد لدى البشر تجربة يشتركون به‪$$‬ا‪ .‬وه‪$$‬و ي‪$$‬رى في تجرب‪$$‬ة‬
‫اإلعالنات العالمة الدالة على تراجع السرد هذا‪ ،‬تراجع الالعودة‪ ».‬ويتم تنزيل ه‪$$‬ذه المس‪$$‬ألة ض‪$$‬من نق‪$$‬اش‬
‫حول عالقة القصص بالالهوت‪ ،‬كما لو كان األمر يتعلق بض‪$$‬رب من الترحي‪$‬ل لألس‪$‬طورة اإلس‪$$‬كاتولوجية‬
‫إلى األدب‪ ،‬وه‪$$‬و ترحي‪$$‬ل أفض‪$$‬ى إلى تحوي‪$$‬ل الس‪$$‬رد إلى «أس‪$$‬طورة محطم‪$$‬ة» تجع‪$$‬ل األديب في ش‪$$‬خص‬
‫بيكيت‪ ،‬ذاك «الالهوتي الضال لعالم عانى من السقوط‪ ،‬لكنه لن يحصل على الخالص‪ ».‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫يحيلنا ريكور على تصور نيتشه الداعم للمأساة‪ ،‬بوصفها حاجة حيوية من أجل مقاومة الموت‪ ،‬وذل‪$$‬ك ع‪$$‬بر‬
‫«االفتتان الديونيزي بالفوضى»‪ .‬وخالصة القول في هذا السياق هو استعادة اإليمان بقوة الوظيفة الس‪$$‬ردية‬
‫رغم نهاية الرواية الحديثة‪ ،‬بحيث يعترف ريك‪$‬ور ب‪$‬ذلك ق‪$‬ائاًل ‪« :‬ربم‪$‬ا كن‪$‬ا بالفع‪$‬ل ش‪$‬هود — وص‪$‬ناع —‬
‫موت معين‪ ،‬هو موت فن سرد القصص‪ ،‬وربما كانت الرواي‪$‬ة أيًض ا ُتحتَض ر كش‪$‬كل س‪$‬ردي‪ ،‬ولكن ربم‪$‬ا‬
‫كان من الضروري أن أشكااًل سردية جديدة‪ ،‬ال نعرف كيف نسميها‪ ،‬تمر في طور ال‪$$‬والدة‪ ،‬وأنه‪$$‬ا ستش‪$$‬هد‬
‫على حقيقة أن الوظيفة السردية ال تزال قابلة للتحول‪ ،‬لكن تحُّو لها لن يصل إلى حد الموت‪».‬‬
‫«دفاعات عن السرد»‪ ،‬ذاك هو إذن مشروع ريكور في ثالثية الزمان والس‪$$‬رد‪ ،‬م‪$$‬ا ي‪$$‬ؤِّر ق الفيلس‪$$‬وف ليس‬
‫العالقة بين الكينونة والزمان‪ ،‬كما كتب هيدغر اعتباًر ا‪ ،‬وأن السؤال المنسي هو السؤال عن الكينونة‪ ،‬إنم‪$$‬ا‬
‫هو السؤال عن مستطاع السرد في المصالحة بين الت‪$$‬اريخ والش‪$$‬عر‪ .‬كي‪$$‬ف نفهم التأوي‪$$‬ل الس‪$$‬ردي للت‪$$‬اريخ؟‬
‫يعود بنا ريكور إلى الفلسفة التحليلية‪ ،‬بحيث ظهر أول شكل من الدفاع عن السرد الت‪$‬اريخي م‪$‬ع الفيلس‪$‬وف‬
‫األمريكي آرثور دانتو الذي لم يكن هدف‪$$‬ه االنخ‪$$‬راط في مقارب‪$$‬ة إبس‪$$‬تمولوجية للت‪$$‬اريخ‪ ،‬ب‪$$‬ل االش‪$$‬تغال على‬
‫«اإلطار المفهومي الذي يحكم استخدامنا لنوع معين من الجمل الس‪$$‬ردية»‪ .‬والمقص‪$$‬ود ب‪$$‬ه اش‪$$‬تغال الفلس‪$$‬فة‬
‫التحليلية على اللغة التي بها نصوغ تصوراتنا حول العالم في قالب أفعال في صيغة الماض‪$$‬ي‪ .‬األم‪$$‬ر ال‪$$‬ذي‬
‫تدحض‪$$$‬ه الفلس‪$$$‬فة التحليلي‪$$$‬ة‪ ،‬وتق‪$$$‬ترح فلس‪$$$‬فة مغ‪$$$‬ايرة للت‪$$$‬اريخ «ال تتعام‪$$$‬ل إال م‪$$$‬ع أفع‪$$$‬ال بص‪$$$‬يغة‬
‫الحاضر‪ ».‬والهدف من هذه المقاربة الوصفية التجريبية هو تجاوز فلسفة هيغل القائمة على «فلسفة ت‪$$‬اريخ‬
‫ثابتة»‪ .‬وهذه الفلسفة تقوم في مجملها على الفرضية التالية التي يعِّب ر عنه‪$‬ا ريك‪$‬ور كم‪$‬ا يلي‪« :‬الكالم على‬
‫مجمل التاريخ يعني تشكيل ص‪$$‬ورة كامل‪$$‬ة عن الماض‪$$‬ي والمس‪$$‬تقبل‪ ،‬ولكن اإلعالن عن رأي في المس‪$$‬تقبل‬
‫يعني التقدير االستقرائي انطالًقا من تصورات الماضي ومتوالياته باتجاه ما ُينتظر أن يأتي‪ ،‬ولكن ليس ثمة‬
‫تاريخ للمستقبل؛ وذلك بسبب طبيعة الُجمل السردية‪ ،‬التي ُتعاود وصف األحداث الماضية في ضوء أحداث‬
‫الحقة غير معروفة من قبل الفاعلين أنفسهم‪».‬‬

‫إن النقاش الذي يهمن‪$$‬ا هن‪$$‬ا ح‪$$‬ول فك‪$$‬رة العالق‪$$‬ة بين الس‪$$‬رد والمس‪$$‬تقبل‪ ،‬هي إمكاني‪$$‬ة أن يتح‪$$‬ول الس‪$$‬رد إلى‬
‫براديغم لكتابة التاريخ من جهة‪ ،‬بحيث لن يكون التاريخ مجرد علم‪ ،‬بل هو تأويل سردي لما يح‪$$‬دث‪ ،‬وه‪$$‬و‬
‫أيًض ا براديغم للزمن المروي‪ ،‬كما يحدث في كل أش‪$$‬كال القص‪$$‬ص تعل‪$$‬ق األم‪$$‬ر باألس‪$$‬طورة أو الملحم‪$$‬ة أو‬
‫المأساة أو الملهاة أو الرواية الحديث‪$$‬ة‪ .‬لكن ه‪$$‬ل يمكن اخ‪$$‬تزال الس‪$$‬رد الت‪$$‬اريخي في مقارب‪$$‬ة نظري‪$$‬ة الجم‪$$‬ل‬
‫السردية؟‬

‫تقوم هذه النظرية على نقد الفكرة القائلة إن الماضي ساكن وأزلي‪ ،‬بينما المستقبل هو مفتوح وغير متوق‪$$‬ع‪،‬‬
‫وهي فكرة تف‪$$‬ترض أن «األح‪$$‬داث تس‪$$‬قط في وع‪$$‬اء ت‪$$‬تراكم في‪$$‬ه دون أن يك‪$$‬ون تب‪$$‬ديلها متاًح ا‪ ،‬فال ت‪$$‬رتيب‬
‫ظهورها قابل للتغيير‪ ،‬وال يمكن إضافة أي شيء إلى مضمونها إال عبر اإلض‪$$‬افة إلى م‪$$‬ا يتبعه‪$$‬ا‪ ».‬إن ه‪$$‬ذا‬
‫النقاش الذي يجريه ريك‪$$‬ور ح‪$$‬ول عالق‪$$‬ة الس‪$$‬رد بالق‪$‬درة على الحكي عن زمن يك‪$$‬ون في‪$$‬ه الماض‪$$‬ي أزلًّي ا‪،‬‬
‫والمستقبل مفتوًحا؛ يفترض إمكانية وصف تام لما حدث وفق الترتيب الذي حدث به‪ .‬وهو أمر مستحيل إال‬
‫متى أدخلنا في اعتبارنا مفهوم «الراوي المثالي» القادر على سرد ما حدث كما ح‪$$‬دث؛ وذل‪$$‬ك ألن الحقيق‪$$‬ة‬
‫المتعلقة بهذا الحدث ال يمكن معرفتها إال بعد الوقائع‪ ،‬لكننا — يقول ريكور — في ضرب من السخرية قد‬
‫«نسينا أن نجِّهز الراوي المثالي بمعرفة المستقبل‪ ».‬والنتيجة النهائية من ه‪$$‬ذا النق‪$$‬اش ح‪$$‬ول عالق‪$$‬ة الس‪$$‬رد‬
‫بالمستقبل هي‪« :‬ال يوَج د تاريخ للحاضر‪ ،‬بالمعنى الس‪$$‬ردي حص‪ً$$‬را له‪$$‬ذا المص‪$$‬طلح‪ .‬مث‪$$‬ل ه‪$$‬ذا الش‪$$‬يء لن‬
‫يكون إال استشراًفا ِلما يمكن أن يكتب المؤرخون مستقباًل ‪».‬‬
‫ثمة حدود للسرد إزاء اْلتباسية الزم‪$$‬ان‪ ،‬وهي ح‪$$‬دود تج‪$$‬د مص‪$$‬درها في كونن‪$$‬ا «ال نع‪$$‬رف أب‪ً$$‬دا م‪$$‬ا س‪$$‬يكتبه‬
‫المؤرخون عنا مستقباًل ‪ ،‬كما أننا ليس فقط ال نعرف أي األحداث سيكون مهًّما‪».‬‬

‫كيف يمكن التفكير بالتوافق بين السرد التاريخي والسرد القصصي؟ أي‪ :‬ب‪$$‬أِّي معًنى يمكن للط‪$$‬ابع الس‪$$‬ردي‬
‫للغة أن يقاوم اْلتباسية الزمان‪ ،‬وأن ي‪$$‬رتقي بالزم‪$$‬ان إلى اللغ‪$$‬ة؟ تل‪$$‬ك هي اإلش‪$$‬كاليات ال‪$$‬تي يعالجه‪$$‬ا الج‪$$‬زء‬
‫الثالث من كتاب الزمان والسرد تحت عنوان دقيق‪ ،‬هو «الزمان المروي»‪ .‬وهو زم‪$$‬ان يمنح ال‪$$‬زمن ش‪$$‬كاًل‬
‫عبر القارئ كهوية سردية تتوسط بين العالم المتخَّيل والعالم الَم عيش‪ ،‬أي‪ :‬بين زمن السرد التاريخي وزمن‬
‫السرد القصصي‪.‬‬

‫ضمن دفاعه عن السرد بما هو قدرة على مواجهة سر الزمان ال‪$‬ذي يحي‪$‬ط بن‪$‬ا‪ ،‬يق‪$‬ترح علين‪$‬ا ب‪$‬ول ريك‪$‬ور‬
‫ضمن الجزء الثالث من الزمان والسرد مفهوًم ا يغير عميًقا تصورنا التقلي‪$$‬دي لهوياتن‪$$‬ا‪ ،‬ه‪$$‬و مفه‪$$‬وم الهوي‪$$‬ة‬
‫السردية‪ .‬وهو مفهوم نَح َته ريكور في أفق براديغم أدبي جديد يختلف عن براديغم الفضاء األدبي (بالنشو)‪،‬‬
‫والنص (البنيوية)‪ ،‬والرواية (لوكاتش)‪ ،‬واألدب بوصفه التزاًم ا (سارتر)‪.‬‬
‫لكن ما معنى الهوية السردية؟ يتم التمييز هنا بين داللتين لمفهوم الهوية؛ الهوية في مع‪$$‬نى اله‪$$‬و نفس‪$$‬ه‪ ،‬أي‪:‬‬
‫«الهو هو»‪ ،‬التي ُتقال على كل موضوع يستمر في الزمن على شاكلة الحجر أو الشجر‪ .‬والهوية في معنى‬
‫«الهو عينه»‪ ،‬أي‪ :‬القدرة على التماسك أو الثبات اإلرادي للذات أمام اآلخر ع‪$$‬بر النم‪$$‬ط ال‪$$‬ذي َو ْفق‪$$‬ه يس‪$$‬لك‬
‫شخص ما‪ ،‬بحيث بُو سع الغير أن يعِّو ل عليه‪ .‬وهذا النوع من الهوية يجِّس د مفه‪$$‬وم الوع‪$$‬د ال‪$$‬ذي أل‪$$‬تزم ب‪$$‬ه‪،‬‬
‫«أنا الذي يوَج د»‪ ،‬وليس فقط «ما أنا كائن بعُد»‪ .‬فأنا لست مجرد هوية مغلقة عما كنت عليه‪ ،‬إنما أنا هوي‪$$‬ة‬
‫مفتوحة على وعد ألتزم باإليف‪$$‬اء ب‪$$‬ه‪ .‬وهن‪$$‬ا يظه‪$$‬ر مفه‪$$‬وم الهوي‪$$‬ة الس‪$$‬ردية بوص‪$$‬فه المك‪ِّ$‬و ن الث‪$$‬الث للهوي‪$$‬ة‬
‫الشخص‪$$‬ية‪ ،‬أي‪ :‬ق‪$$‬درة الش‪$$‬خص على س‪$$‬رد أح‪$$‬داث وج‪$$‬وده على نح‪$$‬و منتظم‪ .‬لكن ه‪$$‬ذا الن‪$$‬وع من الهوي‪$$‬ة‬
‫السردية غير ممكن إال عبر االشتغال على قصص التاريخ والمخيال‪ .‬وهو م‪$$‬ا جع‪$$‬ل ريك‪$$‬ور يقِّس م ثالثيت‪$$‬ه‬
‫المعروفة تحت عنوان الزمان والسرد‪ ،‬بحيث يقع تقسيم هذا االشتغال التأويلي على ب‪$‬راديغم جدي‪$‬د للهوي‪$‬ة‪،‬‬
‫إلى ثالث مراحل؛ الس‪$$‬رد الت‪$$‬اريخي (الج‪$$‬زء ‪ ،)١‬الس‪$$‬رد القصص‪$$‬ي (الج‪$$‬زء ‪ )٢‬وأخ‪$$‬يًرا الزم‪$$‬ان الم‪$$‬روي‬
‫(الجزء ‪ .)٣‬وإن ما يحرك مكنة التأويل هنا سؤال أساسي‪ :‬هل يمكن القول بنهاي‪$$‬ة فن الحكي بك‪$$‬ل أش‪$$‬كاله؛‬
‫األسطورة والقصص الديني والرواية نفسها؟ وكيف بوسعنا تصُّو ر عالم بدون قصص؟ وماذا تبقى لن‪$$‬ا —‬
‫نحن الذين ننتمي إلى عالم فلسفات النهايات‪ ،‬أي‪ :‬نهاية الذات والتاريخ واإلنسان ونهاي‪$$‬ة الس‪$$‬رديات — من‬
‫أجل أن يقول كل منا‪« :‬أنا كائن» أو «أنا موجود»؟ إن ما هو مزعج هنا هو تحطيم فكرة الشكل نفسها إلى‬
‫حد نصير فيه هيولى‪ ،‬كتل من الغرائز االستهالكية‪ ،‬أشبه بالسلع في عالم البضاعة المطلقة‪ ،‬وهو م‪$$‬ا يه‪$$‬دد‬
‫بحسب ريكور فكرة «العيش مًعا»‪ .‬ومن أجل تحصين هذا األف‪$$‬ق اإلتيقي والسياس‪$$‬ي مًع ا علين‪$$‬ا أن نس‪$$‬تعيد‬
‫فكرة الحكي والقصص والسرد‪ .‬وفي هذا المعنى يكتب ريكور‪« :‬ليس لدينا أدنى فكرة عما ستكونه ثقافة ال‬
‫نعرف فيها ما يعنيه الحكي‪».‬‬

‫إنه من أجل التأسيس ثانية لثقافة السرد يستعيد ريكور نظرية أرسطو في المحاكاة بوص‪$$‬فها «منبًع ا للس‪$$‬رد‬
‫التاريخي وللسرد القصصي مًعا»‪ ،‬وذل‪$‬ك في ثالث‪$‬ة مع‪$‬اٍن ؛ «المحاك‪$‬اة ‪ ،»١‬بوص‪$‬فها فهًم ا مس‪$‬بًقا للتجرب‪$‬ة‬
‫البشرية‪ ،‬أي‪ :‬شبكة الرموز ال‪$‬تي يجس‪$‬دها ال‪$‬تراث والتقالي‪$‬د والقيم الع‪$‬ابرة لألجي‪$‬ال‪ .‬و«المحاك‪$‬اة ‪ ،»٢‬أي‪:‬‬
‫جملة األعمال األدبية التي تتنزل ضمن دائرة «التفس‪$$‬ير»‪ .‬و«المحاك‪$$‬اة ‪ ،»٣‬ال‪$$‬تي تتعل‪$$‬ق بإع‪$‬ادة التص‪$$‬ور‪،‬‬
‫أي‪ :‬بفعل القراءة‪ ،‬وذلك باعتبار القارئ قطًبا أساسًّيا ضمن حقل الوظيف‪$‬ة الس‪$$‬ردية ال‪$$‬تي تخ‪$$‬رج من الرم‪$$‬ز‬
‫إلى النص إلى الفعل‪ .‬وضمن هذا الحقل التأويلي للهوية السردية كنموذج أدبي مغاير ينِّش ط ريك‪$$‬ور مفه‪$$‬وم‬
‫الحبكة‪ ،‬وُيدِر ج هذا المفهوم ضمن جدلية خاصة بين التاريخ واألحداث السردية‪ .‬ف‪$$‬إذا ك‪$$‬ان الت‪$$‬اريخ يح‪$$‬دث‬
‫وفق «مبدأ انتظام تتاَلى فيه األحداث»‪ ،‬فإن الحدث السردي ال‪$$‬ذي يح‪$$‬دث بمحض الص‪$$‬دفة إنم‪$$‬ا يس‪$$‬اهم في‬
‫إنجاز معقولية الحبكة نفسها؛ ذلك أنه من دون أح‪$$‬داث س‪$$‬ردية‪ ،‬أي‪ :‬مفاج‪$$‬آت وطف‪$$‬رات‪ ،‬يفق‪$$‬د الت‪$$‬اريخ ك‪$$‬ل‬
‫دينامية زمنية‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬من دون نظام تاريخي تتح‪$‬ول األح‪$‬داث العرض‪$‬ية إلى مج‪$‬رد مص‪$‬ادفات‬
‫دون أي أمل في توحيدها‪ .‬وهنا تتدخل «الجدلية التشكيلية» القائمة بين أشكال االنس‪$‬جام الت‪$‬اريخي وأش‪$‬كال‬
‫التنافر السردي‪ ،‬وهي جدلية تمنح هيئة لألحداث‪ ،‬وهو معنى إنجاز الحبكة نفسها‪ .‬وهنا يوَلد مفه‪$$‬وم الس‪$$‬رد‬
‫بوصفه تلك القدرة على تشكيل األحداث بمنحها حبكة سردية تخلق االنسجام بين التاريخ الكلي‪ ،‬واألح‪$$‬داث‬
‫التي قد تحدث فتعِّر ض الحبكة إلى الخطر‪.‬‬

‫ما يهمنا في هذا السياق هو هذا «التناظر الفعلي بين السرد التاريخي والس‪$$‬رد القصص‪$$‬ي»‪ ،‬ال‪$$‬ذي يكمن في‬
‫قدرة السرد على تصوير ما يمنعه التاريخ؛ وذلك ألنه «في السرد القصصي فقط يضاعف صانع الحبك‪$$‬ات‬
‫االلتواءات التي تسمح بإقامة تقسيم إلى زمن يستغرقه زمن الس‪$$‬رد وزمن األش‪$$‬ياء ال‪$$‬تي ُتس‪$$‬رد‪ ».‬والج‪$$‬دير‬
‫بالذكر هنا هو أن السرد القصصي ال يكتفي بإعادة تصوير الزمان ومضاعفة اْلتواءات‪$$‬ه‪ ،‬إنم‪$$‬ا ه‪$$‬و ال ينف‪$$‬ك‬
‫في كل مرة عن أن «يفتح فضاء ال محدوًدا أمام تمظُهر الزمن»‪ .‬وهنا يتجلى االنفتاح على ال‪$$‬زمن بوص‪$$‬فه‬
‫انفتاًح ا على المستقبل‪ ،‬ما دام المستقبل تخيياًل لزمني‪$$‬ة مغ‪$$‬ايرة دوًم ا؛ ل‪$$‬ذلك ينتص‪$$‬ر الس‪$$‬رد القصص‪$$‬ي على‬
‫السرد التاريخي انتصار المستقبل على الماضي‪ .‬ف‪$$‬إذا ك‪$$‬ان الت‪$$‬اريخ ه‪$$‬و الق‪$$‬درة على الكالم على الماض‪$$‬ي‪،‬‬
‫أي‪ :‬تصُّو ر للزمان الفعلي‪ ،‬فإن السرد القصص‪$$‬ي يعي‪$$‬د تص‪$$‬ور الزم‪$$‬ان وه‪$$‬و ي‪$$‬دخل تحت راي‪$$‬ة نظري‪$$‬ة في‬
‫الفعل‪ ،‬أي‪ :‬في تغيير تصُّو ر الناس ألنفسهم ولعالمهم الَم عيش‪ .‬وهو ما يكتب‪$‬ه ريك‪$‬ور من‪$‬ذ الج‪$‬زء األول من‬
‫الكتاب قائاًل ما يلي‪« :‬إن السرد يدل من جديد على العالم في ُبعده الزم‪$$‬ني‪ ،‬بق‪$$‬در م‪$$‬ا يك‪$$‬ون القص والحكي‬
‫واإلنشاد إعادة تكوين للفعل متابعة لدعوة القصيدة‪».‬‬
‫لكن السرد القصصي ال يمنح األحداث شكاًل فقط‪ ،‬إنما هو يقترح عالًم ا‪ .‬وه‪$$‬و م‪$$‬ا عَّب ر عن‪$$‬ه ريك‪$$‬ور‪« :‬إن‬
‫العالم عندي هو الشبكة الكاملة من اإلحاالت التي تفتحها جميع أنواع النصوص الوصفية والش‪$$‬عرية‪ ،‬ال‪$$‬تي‬
‫قرأتها وفهمتها وأحببتها‪ ».‬كيف العبور من النص إلى العالم؟ إن وساطة القارئ فق‪$$‬ط هي ال‪$$‬تي تجع‪$$‬ل ه‪$$‬ذا‬
‫األمر ممكًنا‪ ،‬القارئ ليس فقط بوصفه مصاحًبا للتخيي‪$$‬ل ال‪$$‬ذي يقترح‪$$‬ه النص‪ ،‬ب‪$$‬ل بم‪$$‬ا ه‪$$‬و «متمل‪$$‬ك» له‪$$‬ذا‬
‫العالم نفسه‪ .‬يتعل‪$$‬ق األم‪$$‬ر بإنج‪$$‬از العب‪$$‬ور من الس‪$$‬رد الت‪$$‬اريخي إلى الس‪$$‬رد القصص‪$$‬ي‪ ،‬وه‪$$‬و أم‪$$‬ر ال يمكن‬
‫تصوره إال عبر القارئ‪ ،‬أي‪« :‬عندما يواجه ع‪$$‬الم النص ع‪$$‬الم الق‪$$‬ارئ‪ .‬عن‪$$‬دها فق‪$$‬ط يكتس‪$$‬ب العم‪$$‬ل األدبي‬
‫معًنى بكل ما تعنيه الكلمة‪ ،‬عند التقاطع بين العالم الذي يسقطه النص‪ ،‬والعالم الَم عيش للقارئ‪».‬‬

‫وهنا يقع تحرير السرد من النص المغلق وفتحه على عالم القراءة‪ .‬إننا نكتب من أجل القراء‪ ،‬وتبًع ا ل‪$$‬ذلك‪،‬‬
‫فما نكتبه يخرج عن حدود األسوار الداخلية للنصوص‪ .‬إن السرد يؤرخ للحياة‪ ،‬وبم‪$$‬ا ه‪$$‬و ك‪$$‬ذلك فه‪$$‬و يعي‪$$‬د‬
‫تشكيل الذات التي تسرد نفسها أو تمنح حياتها للسرد‪ .‬والسرد هنا هو األدب بما هو هذه الورش‪$$‬ة الوس‪$$‬يعة‪،‬‬
‫حيث يختبر السرد مصادر تنوع الهوية السردية‪ُ ،‬رب هوية هي الشكل الوحيد لمس‪$$‬تقبل الهوي‪$$‬ات‪ ،‬ال‪$$‬تي لن‬
‫يكون بوسعها المكوث في علبة الماضي المغلق على استعارات ميتة‪ ،‬بل هي مطالبة بتجديد س‪$$‬ردياتها بم‪$$‬ا‬
‫يجعل الزمان يرتقي إلى مصاِّف اللغة‪ ،‬من أجل تصميم معمار الخيال‪ .‬وحده الخيال الذي يتغذى من السرد‬
‫القصصي بوسعه أن يسِّر ح الماضي من أسره‪ ،‬وأن يفتح لغة ما على الممكن المستقبلي الذي بحوزتها‪.‬‬

‫ثمة إذن نوع من النضال السردي الدائم من أجل تجديد الهوية وإثرائها‪ ،‬وتحويلها إلى هوية مرنة ودينامي‪$$‬ة‬
‫تقِّو ي من مناعة األشخاص ضد التحُّج ر في حدود الهويات المغلقة‪ .‬لكن وفق أِّي نموذج يسلك هذا النض‪$$‬ال‬
‫السردي؟ إن التعامل مع الحياة بوصفها نسيًجا من القصص المحكي إنم‪$$‬ا يوِّق ع إمكاني‪$$‬ة تأويلي‪$$‬ة للمص‪$$‬الحة‬
‫بين التاريخ والتخييل‪ .‬فنحن نحكي من أجل أن نتعرف على أنفسنا‪ ،‬ومن أجل أن نفهم أنفسنا‪ ،‬ومن أج‪$‬ل أن‬
‫نتقاسم التجربة المعيشة مع اآلخرين كما لو كانوا أنفس‪$$‬نا‪ ،‬أو كم‪$$‬ا ل‪$$‬و كن‪$$‬ا نحن آخ‪$$‬رين أيًض ا‪ .‬فعن الس‪$$‬ؤال‬
‫الفلسفي الكبير‪ :‬من أكون؟ يمكننا أن ننتهي مع ريكور إلى اإلجابة التالية‪« :‬أنا سردية فحسب»‪ .‬لكن بشرط‬
‫أن أكون قادًر ا على إنجاز الحبكة الخاص‪$$‬ة بي‪ ،‬أي‪ :‬على منح مب‪$$‬دأ انس‪$$‬جام لك‪$$‬ل األح‪$$‬داث العارض‪$$‬ة ال‪$$‬تي‬
‫تحدث في وجودي‪ .‬أنا سردية نفسي‪ ،‬بشرط أن أكون قادًر ا على منح المعنى ألفق‪$$‬ر األح‪$$‬داث الخاص‪$$‬ة بي‪،‬‬
‫أي‪ :‬إلى درجة قدرتي على تحويل الصدفة إلى قدر‪ .‬لكن الهوي‪$$‬ة الس‪$$‬ردية ال تحي‪$$‬ل هن‪$$‬ا إلى أي ض‪$$‬رب من‬
‫الذاتوية الميتافيزيقية على طريقة ديكارت وكانط‪ ،‬أو ظاهراتية على طريقة هوسرل‪ ،‬أو النرجسية الفردي‪$$‬ة‬
‫على طريقة فرويد‪ ،‬بل هي هوية زمنية تاريخية مًعا‪ .‬إن الزمن نفسه هو زم‪$$‬ان م‪$$‬روي أو ال يك‪$$‬ون‪ ،‬وه‪$$‬ذا‬
‫هو عنوان الجزء الثالث من كتاب الزمان والسرد‪ .‬كيف يمكن للس‪$$‬رد القصص‪$$‬ي أن يخ‪$$‬ترع الزم‪$$‬ان نفس‪$$‬ه‬
‫صلب التاريخ الكلي؟ وهنا نجد أنفسنا أمام إحراج فلسفي عميق؛ من جهة ال يوَج د الزم‪$$‬ان بالنس‪$$‬بة إلين‪$$‬ا إال‬
‫بوصفه حدًثا سردًّيا يحتاج كي يكون إلى الرموز والعالمات والنصوص‪ ،‬ومن جه‪$$‬ة أخ‪$$‬رى يه‪$$‬زم الزم‪$$‬ان‬
‫السرد نفسه بأن يبقى مستغلًقا عن اللغة‪ .‬وهنا يظهر مدى «اْلتباس الزمان» إزاء «ق‪$$‬وة الس‪$$‬رد في االرتق‪$$‬اء‬
‫به إلى اللغة»؛ وذلك ألن الزمان يمكن الحديث عنه بطرق أخ‪$$‬رى‪ ،‬مم‪$$‬ا يجعل‪$$‬ه «يظل مس‪$$‬تغلًقا ح‪$$‬تى على‬
‫السرد نفسه» ألنه يفلت من ح‪$$‬دود التش‪$$‬كيل‪ .‬وفي ه‪$$‬ذا الس‪$$‬ياق يظه‪$$‬ر مفه‪$$‬وم الهوي‪$$‬ة الس‪$$‬ردية في ن‪$$‬وع من‬
‫النت‪$$‬ائج األخ‪$$‬يرة ال‪$$‬تي يرس‪$$‬مها ريك‪$$‬ور لورش‪$$‬ته الك‪$$‬برى عن الس‪$$‬رد الت‪$$‬اريخي‪ ،‬ثم عن الس‪$$‬رد القصص‪$$‬ي‪،‬‬
‫وأخيًر ا عن الزمان المروي نفسه‪ .‬ويكتب ريكور في آخر فقرة من كتاب‪$$‬ه م‪$$‬ا يلي‪« :‬والحقيق‪$$‬ة أن‪$$‬ه ال ش‪$$‬يء‬
‫ُيلزمنا باالنتقال من فكرة الهوية السردية إلى فكرة وحدة التاريخ‪ ،‬ثم االعتراف بح‪$$‬دود الس‪$$‬رد وه‪$$‬و يواج‪$$‬ه‬
‫سر الزمان الذي يحيط بنا‪ ».‬ها هن‪$$‬ا نج‪$$‬د أنفس‪$$‬نا أم‪$$‬ام مفارق‪$$‬ة عجيب‪$$‬ة بين ق‪$$‬وة الس‪$$‬رد في تش‪$$‬كيل الزم‪$$‬ان‪،‬‬
‫واستغالق الزمان نفسه‪ ،‬وكأنه يخرج منتص‪ً$$‬ر ا رغم وقوع‪$$‬ه أس‪$$‬يًر ا في حبك‪$$‬ة الس‪$$‬رد‪ .‬إن الزم‪$$‬ان الم‪$$‬روي‬
‫يضعنا إذن أمام ضرب من إخفاق السرد عن السطو على الزمان نفسه‪ .‬غير أن ما يخفق هنا ليس التفك‪$$‬ير‪،‬‬
‫بل هو الغرور‪ ،‬الذي يحِّر ض فكرنا على اعتبار نفسه سيد المعنى وسلطانه‪ .‬إن الهوية الس‪$$‬ردية إذن ليس‪$$‬ت‬
‫حرة تماًم ا من هذا الضرب من االدعاء الُم الِز م لها بوصفها «ذاًتا فاعلة تهيمن على المعنى كل‪$$‬ه» لكن ه‪$$‬ذا‬
‫االدعاء الذي يخفق عبره السرد في أن يستنفد قوة التكلم التي تعيد تصوير الزمان؛ ليس أمًرا مذموًم ا‪ ،‬إنم‪$$‬ا‬
‫هو محِّر ض على مزيد من البحث من لدن األف‪$$‬راد والجماع‪$‬ات عن «هوي‪$$‬اتهم الس‪$$‬ردية الخاص‪$$‬ة»‪ .‬يتعل‪$$‬ق‬
‫األمر إذن بوضعية تأويلية تسمح باللقاء بين ما يسميه ريكور في آخر صفحة من الج‪$$‬زء الث‪$$‬الث من ثالثي‪$$‬ة‬
‫الزمان والسرد «اْلتباسية الزمان وشعرية السرد»‪.‬‬

‫هكذا يقع التجديد في مفهوم الهوية عبر براديغم الهوي‪$‬ة الس‪$‬ردية ال‪$‬ذي يفتح ب‪$‬ه ريك‪$‬ور أفًق ا تأويلًّي ا وإتيقًّي ا‬
‫جديًدا يحرر الهوي‪$‬ات من الهوي‪$‬ة الثقافي‪$‬ة المغلق‪$‬ة على دين أو ع‪$‬رق أو قومي‪$‬ة م‪$‬ا‪ .‬فالهوي‪$‬ة الس‪$‬ردية تمنح‬
‫األفراد والجماعات الثقافية القدرة على تمُّل ك س‪$$‬ردياتها الخاص‪$$‬ة‪ ،‬وعلى تجدي‪$$‬دها على ال‪$$‬دوام مًع ا‪ ،‬وذل‪$$‬ك‬
‫باعتبارها سرديات تحدث صلب الزمن‪ ،‬وهي في نفس الوقت تمنحه شكاًل مغايًرا مًعا‪ .‬والزمن ها هن‪$$‬ا ه‪$$‬و‬
‫زمن القارئ الذي بوسعه إعادة تشكيل السرد وتجديد ال‪$‬زمن الم‪$‬روي ع‪$‬بر تجرب‪$‬ة الق‪$‬راءة والتأوي‪$‬ل‪ .‬نحن‬
‫إذن هويات سردية في معًنى يمنحنا فيه السرد — بأشكاله أدًبا أو شعًرا أو أساطير — الزمَن الخ‪$$‬اص بن‪$$‬ا‬
‫في كل مرة‪ .‬فالزمان نفسه ال يحدث إال على نحو سردي‪ ،‬رغم كونه يهزم السرد باستغالقه عليه‪ ،‬واْلتباسه‬
‫صلب استعارات القصص وطياته الرمزية‪ .‬لكن الزمان المروي هنا هو زمان مس‪$$‬تقبلي في ج‪$$‬وهره؛ ألن‪$$‬ه‬
‫ينبع من التخييل من جهة‪ ،‬وبما هو زمن الفعل‪ ،‬أي‪ :‬تجديد تأويلنا للعالم عبر وساطة القارئ من جهة ثانية‪.‬‬
‫هكذا تتكون هوياتنا الشخصية نفسها عبر تفاعل دينامي بين السرديات الخاصة وقصص المخي‪$$‬ال الجمعي‪.‬‬
‫لكن الهوية السردية ليست ثابتة وال مغلقة حول نفسها؛ ألنها زمنية تنسج نفسها صلب نسيج الحكايات ال‪$$‬تي‬
‫تندمج ضمنها على نحو متجدد على الدوام‪.‬‬

‫تمِّثل العالقة بين الزمان والسرد — التي بسطنا أهم مالمحها من خالل ثالثي‪$$‬ة ب‪$$‬ول ريك‪$$‬ور — ال‪$$‬براديغم‬
‫السردي الكبير إلمكانية الحديث عن قدرة األثر الف‪$$‬ني األدبي نموذًج ا على اخ‪$$‬تراع ع‪$$‬الم الزمني‪$$‬ة‪ ،‬وفتح‪$$‬ه‬
‫على المجال العملي للتجارب الرمزية عموًم ا‪ .‬فالسرد بوصفه «ينقل إلى اللغة تجربة» يمِّثل نموذج نظري‪$$‬ة‬
‫الفعل‪ ،‬وهو ما يعِّبر عنه ريك‪$‬ور ق‪$‬ائاًل ‪« :‬وهك‪$‬ذا ف‪$‬األدب الس‪$‬ردي‪ ،‬من بين جمي‪$‬ع األعم‪$‬ال الش‪$‬عرية‪ ،‬ه‪$‬و‬
‫نموذج للفعلية العملية‪ ،‬من خالل انحرافاته ونماذجه أيًضا‪ ».‬فكل تجربة قصص‪$‬ية تخ‪$‬ترع عالمه‪$‬ا الخ‪$‬اص‬
‫وتمنحه للقارئ كما لو كانت ضرًبا من مضاعفة تجاربنا عن «األبدي‪$$‬ة»‪ ،‬ب‪$$‬ل كم‪$$‬ا ل‪$$‬و ك‪$$‬ان «الزم‪$$‬ان ي‪$$‬تيح‬
‫لنفسه أن تتخطاه األبدية في عالم ممكن‪ ».‬والممكن ها هنا هو إحال‪$$‬ة على مفه‪$$‬وم المس‪$$‬تقبل بوص‪$$‬فه مج‪$‬ااًل‬
‫سردًّيا وأدبًّيا يكلف األدب بمهمة مواجهة قوة الزمان المدِّم رة بقدرة األدب على بسط ع‪$$‬والم تخييلي‪$$‬ة‪ ،‬حيث‬
‫يجعل «الخيال من اللغة ذلك الخطر األدهى»‪ .‬وهو خطر يدفعنا إلى االعتراف بهشاشة الحياة وقوة الزمان‬
‫على تدمير كل شيء‪.‬‬

‫ماذا يحدث في حالة اإلعالن عن نهاية فن القص‪$$‬ص؟ وكي‪$$‬ف يمكن تص‪$$‬ور مس‪$$‬تقبل بال قص‪$$‬ص؟ س‪$$‬يخرج‬
‫الزمان يومئٍذ منتصًر ا‪ ،‬وسيعلن الشاعر عن عبثي‪$$‬ة الش‪$$‬عر في أزمن‪$$‬ة الب‪$$‬ؤس‪ ،‬حيث ق‪$$‬د نتح‪$$‬ول عندئ‪ٍ$‬ذ إلى‬
‫مسوخ تعبر السوق الكبيرة للعالم‪ ،‬مسوخ ال تتقن غير االستهالك والقتل‪ .‬لكن حذاِر من السرديات المغلق‪$$‬ة؛‬
‫ألنها ال تنتج سوى كائنات فقدت عالقتها بالزمن‪ ،‬وتحولت إلى مسوخ تراثية ال تتقن غير التحديق بالظالم‪.‬‬
‫إن سردية تشتق نفسها من هوية مغلقة على ماٍض أزلي غيُر قادرة على تخيل مستقبل ممكن‪.‬‬

You might also like