Professional Documents
Culture Documents
الزمان والسرد الفصل الخامس
الزمان والسرد الفصل الخامس
لكن كيف يكون هذا االستشراف ممكًنا؟ لن يكون هذا األمر ممكًنا إال انطالًق ا من اللغ$$ة بوص$$فها الواس$$طة
بين الزمان والكينونة .وذلك يتم عند ريكور انطالًقا من تحويله السرد إلى ضرب من المعرف$$ة ،وليس فق$$ط
مجرد حكي .من هنا يتنزل السرد منزل$$ة أساس$$ية في تش$$كيل ال$$زمن في عالقت$$ه بالت$$اريخ ،وبمج$$ال الفع$$ل
البشري ،وبالمخيال وبالمستقبل مًعا .والسرد هنا هو بمثاب$$ة المعم$$ار الخي$$الي للغ$$ة .ولق$$د تم االش$$تغال من$$ذ
الفلسفة التأويلية على النصوص بوصفها ما تبقى بعد موت الك$$اتب في أف$$ق تأويلي$$ة كوني$$ة خاص$$ة ب$$العلوم
اإلنسانية (غادامار نموذًج ا) ،أو على تفكيك النصوص خارج أسوار األنطولوجي$$ا ،وذل$$ك في أف$$ق لغ$$ة بال
ذات (دريدا) .لكن ريكور يقترح تجاوز هذه اإلِّم ية بين ذات تأويلية ولغ$$ة تفكيكي$$ة تأك$$ل نفس$$ها باس$$تمرار،
وذلك نحو عالقة تأويلية مغايرة بين الزمن والسرد ،هدفه تجديد الخطاب الفلس$في ح$ول االس$تعارة وح$ول
السرد القصصي وحول الزمان المروي مًعا .وإن األدب في ذلك هو الواسطة الوحيدة لتحري$$ر الزم$$ان من
اْل تباسه بتسريح الماضي ،وفتح الحاضر على مستطاع الكينونة السردية.
لقد خَّص ص بول ريكور الجزء الثاني من كتابه الزمان والسرد ،لمناقشة إمكاني$$ة التأس$$يس لنظري$$ة تأويلي$$ة
جديدة حول م$$ا يس$$ميه «التجرب$$ة القصص$$ية لل$$زمن» .ومن أج$$ل مقارب$$ة ه$$ذه التجرب$$ة القصص$$ية لل$$زمن
بوصفها تمل$ك «أفقه$ا في ع$الم تخ$ييلي يبقى ه$و ع$الم النص» ،ينطل$ق الكت$اب من مناقش$ة مت$وعرة ألهم
النظري$$ات المعاص$$رة في األدب من$$ذ الفهم الب$$نيوي إلى النظري$$ة الس$$يميائية ،وص $واًل إلى ألع$$اب ال$$زمن،
واشتباك تأويلي مع مفهوم جي$$نيت للعب$$ة ال$$زمن ،والف$$رق بين زمن الس$$رد وزمن األفع$$ال النحوي$$ة ،بحيث
تعلق األمر باستشكال لما يس$$ميه «طموح$$ات علم الس$$رد الس$$اعي إلى العقلن$$ة» ،انطالًق ا من رس$$م لح$$دود
الحبكة األرسطية ،على ضوء مكتسبات الرواية الحديثة ،حيث تم «توسيع فك$$رة فع$$ل يح$$اكي أو يمِّث ل إلى
النقطة التي نستطيع معها أن نقول إن مبدأ شكلًّيا للتأليف يحكم سلسلة التغيرات التي تؤِّثر في كائنات شبيهة
بنا».
يتوقف بنا الكتاب منذ فصله األول عند مسألة شائكة ،تتعلق بالقول ب$$أفول الس$$رد ،ونهاي$$ة الرواي$$ة الحديث$$ة
نفسها .وهو قول يجده ريكور بخاصة لدى والتر بنيامين الذي يذهب ،وفق تعبير ريكور نفسه ،إلى «أننا قد
نكون نحيا حقبة لم يعد فيها للسرد مكان؛ إذ لم يعد لدى البشر تجربة يشتركون به$$ا .وه$$و ي$$رى في تجرب$$ة
اإلعالنات العالمة الدالة على تراجع السرد هذا ،تراجع الالعودة ».ويتم تنزيل ه$$ذه المس$$ألة ض$$من نق$$اش
حول عالقة القصص بالالهوت ،كما لو كان األمر يتعلق بض$$رب من الترحي$ل لألس$طورة اإلس$$كاتولوجية
إلى األدب ،وه$$و ترحي$$ل أفض$$ى إلى تحوي$$ل الس$$رد إلى «أس$$طورة محطم$$ة» تجع$$ل األديب في ش$$خص
بيكيت ،ذاك «الالهوتي الضال لعالم عانى من السقوط ،لكنه لن يحصل على الخالص ».ومن جهة أخرى،
يحيلنا ريكور على تصور نيتشه الداعم للمأساة ،بوصفها حاجة حيوية من أجل مقاومة الموت ،وذل$$ك ع$$بر
«االفتتان الديونيزي بالفوضى» .وخالصة القول في هذا السياق هو استعادة اإليمان بقوة الوظيفة الس$$ردية
رغم نهاية الرواية الحديثة ،بحيث يعترف ريك$ور ب$ذلك ق$ائاًل « :ربم$ا كن$ا بالفع$ل ش$هود — وص$ناع —
موت معين ،هو موت فن سرد القصص ،وربما كانت الرواي$ة أيًض ا ُتحتَض ر كش$كل س$ردي ،ولكن ربم$ا
كان من الضروري أن أشكااًل سردية جديدة ،ال نعرف كيف نسميها ،تمر في طور ال$$والدة ،وأنه$$ا ستش$$هد
على حقيقة أن الوظيفة السردية ال تزال قابلة للتحول ،لكن تحُّو لها لن يصل إلى حد الموت».
«دفاعات عن السرد» ،ذاك هو إذن مشروع ريكور في ثالثية الزمان والس$$رد ،م$$ا ي$$ؤِّر ق الفيلس$$وف ليس
العالقة بين الكينونة والزمان ،كما كتب هيدغر اعتباًر ا ،وأن السؤال المنسي هو السؤال عن الكينونة ،إنم$$ا
هو السؤال عن مستطاع السرد في المصالحة بين الت$$اريخ والش$$عر .كي$$ف نفهم التأوي$$ل الس$$ردي للت$$اريخ؟
يعود بنا ريكور إلى الفلسفة التحليلية ،بحيث ظهر أول شكل من الدفاع عن السرد الت$اريخي م$ع الفيلس$وف
األمريكي آرثور دانتو الذي لم يكن هدف$$ه االنخ$$راط في مقارب$$ة إبس$$تمولوجية للت$$اريخ ،ب$$ل االش$$تغال على
«اإلطار المفهومي الذي يحكم استخدامنا لنوع معين من الجمل الس$$ردية» .والمقص$$ود ب$$ه اش$$تغال الفلس$$فة
التحليلية على اللغة التي بها نصوغ تصوراتنا حول العالم في قالب أفعال في صيغة الماض$$ي .األم$$ر ال$$ذي
تدحض$$$ه الفلس$$$فة التحليلي$$$ة ،وتق$$$ترح فلس$$$فة مغ$$$ايرة للت$$$اريخ «ال تتعام$$$ل إال م$$$ع أفع$$$ال بص$$$يغة
الحاضر ».والهدف من هذه المقاربة الوصفية التجريبية هو تجاوز فلسفة هيغل القائمة على «فلسفة ت$$اريخ
ثابتة» .وهذه الفلسفة تقوم في مجملها على الفرضية التالية التي يعِّب ر عنه$ا ريك$ور كم$ا يلي« :الكالم على
مجمل التاريخ يعني تشكيل ص$$ورة كامل$$ة عن الماض$$ي والمس$$تقبل ،ولكن اإلعالن عن رأي في المس$$تقبل
يعني التقدير االستقرائي انطالًقا من تصورات الماضي ومتوالياته باتجاه ما ُينتظر أن يأتي ،ولكن ليس ثمة
تاريخ للمستقبل؛ وذلك بسبب طبيعة الُجمل السردية ،التي ُتعاود وصف األحداث الماضية في ضوء أحداث
الحقة غير معروفة من قبل الفاعلين أنفسهم».
إن النقاش الذي يهمن$$ا هن$$ا ح$$ول فك$$رة العالق$$ة بين الس$$رد والمس$$تقبل ،هي إمكاني$$ة أن يتح$$ول الس$$رد إلى
براديغم لكتابة التاريخ من جهة ،بحيث لن يكون التاريخ مجرد علم ،بل هو تأويل سردي لما يح$$دث ،وه$$و
أيًض ا براديغم للزمن المروي ،كما يحدث في كل أش$$كال القص$$ص تعل$$ق األم$$ر باألس$$طورة أو الملحم$$ة أو
المأساة أو الملهاة أو الرواية الحديث$$ة .لكن ه$$ل يمكن اخ$$تزال الس$$رد الت$$اريخي في مقارب$$ة نظري$$ة الجم$$ل
السردية؟
تقوم هذه النظرية على نقد الفكرة القائلة إن الماضي ساكن وأزلي ،بينما المستقبل هو مفتوح وغير متوق$$ع،
وهي فكرة تف$$ترض أن «األح$$داث تس$$قط في وع$$اء ت$$تراكم في$$ه دون أن يك$$ون تب$$ديلها متاًح ا ،فال ت$$رتيب
ظهورها قابل للتغيير ،وال يمكن إضافة أي شيء إلى مضمونها إال عبر اإلض$$افة إلى م$$ا يتبعه$$ا ».إن ه$$ذا
النقاش الذي يجريه ريك$$ور ح$$ول عالق$$ة الس$$رد بالق$درة على الحكي عن زمن يك$$ون في$$ه الماض$$ي أزلًّي ا،
والمستقبل مفتوًحا؛ يفترض إمكانية وصف تام لما حدث وفق الترتيب الذي حدث به .وهو أمر مستحيل إال
متى أدخلنا في اعتبارنا مفهوم «الراوي المثالي» القادر على سرد ما حدث كما ح$$دث؛ وذل$$ك ألن الحقيق$$ة
المتعلقة بهذا الحدث ال يمكن معرفتها إال بعد الوقائع ،لكننا — يقول ريكور — في ضرب من السخرية قد
«نسينا أن نجِّهز الراوي المثالي بمعرفة المستقبل ».والنتيجة النهائية من ه$$ذا النق$$اش ح$$ول عالق$$ة الس$$رد
بالمستقبل هي« :ال يوَج د تاريخ للحاضر ،بالمعنى الس$$ردي حصً$$را له$$ذا المص$$طلح .مث$$ل ه$$ذا الش$$يء لن
يكون إال استشراًفا ِلما يمكن أن يكتب المؤرخون مستقباًل ».
ثمة حدود للسرد إزاء اْلتباسية الزم$$ان ،وهي ح$$دود تج$$د مص$$درها في كونن$$ا «ال نع$$رف أبً$$دا م$$ا س$$يكتبه
المؤرخون عنا مستقباًل ،كما أننا ليس فقط ال نعرف أي األحداث سيكون مهًّما».
كيف يمكن التفكير بالتوافق بين السرد التاريخي والسرد القصصي؟ أي :ب$$أِّي معًنى يمكن للط$$ابع الس$$ردي
للغة أن يقاوم اْلتباسية الزمان ،وأن ي$$رتقي بالزم$$ان إلى اللغ$$ة؟ تل$$ك هي اإلش$$كاليات ال$$تي يعالجه$$ا الج$$زء
الثالث من كتاب الزمان والسرد تحت عنوان دقيق ،هو «الزمان المروي» .وهو زم$$ان يمنح ال$$زمن ش$$كاًل
عبر القارئ كهوية سردية تتوسط بين العالم المتخَّيل والعالم الَم عيش ،أي :بين زمن السرد التاريخي وزمن
السرد القصصي.
ضمن دفاعه عن السرد بما هو قدرة على مواجهة سر الزمان ال$ذي يحي$ط بن$ا ،يق$ترح علين$ا ب$ول ريك$ور
ضمن الجزء الثالث من الزمان والسرد مفهوًم ا يغير عميًقا تصورنا التقلي$$دي لهوياتن$$ا ،ه$$و مفه$$وم الهوي$$ة
السردية .وهو مفهوم نَح َته ريكور في أفق براديغم أدبي جديد يختلف عن براديغم الفضاء األدبي (بالنشو)،
والنص (البنيوية) ،والرواية (لوكاتش) ،واألدب بوصفه التزاًم ا (سارتر).
لكن ما معنى الهوية السردية؟ يتم التمييز هنا بين داللتين لمفهوم الهوية؛ الهوية في مع$$نى اله$$و نفس$$ه ،أي:
«الهو هو» ،التي ُتقال على كل موضوع يستمر في الزمن على شاكلة الحجر أو الشجر .والهوية في معنى
«الهو عينه» ،أي :القدرة على التماسك أو الثبات اإلرادي للذات أمام اآلخر ع$$بر النم$$ط ال$$ذي َو ْفق$$ه يس$$لك
شخص ما ،بحيث بُو سع الغير أن يعِّو ل عليه .وهذا النوع من الهوية يجِّس د مفه$$وم الوع$$د ال$$ذي أل$$تزم ب$$ه،
«أنا الذي يوَج د» ،وليس فقط «ما أنا كائن بعُد» .فأنا لست مجرد هوية مغلقة عما كنت عليه ،إنما أنا هوي$$ة
مفتوحة على وعد ألتزم باإليف$$اء ب$$ه .وهن$$ا يظه$$ر مفه$$وم الهوي$$ة الس$$ردية بوص$$فه المكِّ$و ن الث$$الث للهوي$$ة
الشخص$$ية ،أي :ق$$درة الش$$خص على س$$رد أح$$داث وج$$وده على نح$$و منتظم .لكن ه$$ذا الن$$وع من الهوي$$ة
السردية غير ممكن إال عبر االشتغال على قصص التاريخ والمخيال .وهو م$$ا جع$$ل ريك$$ور يقِّس م ثالثيت$$ه
المعروفة تحت عنوان الزمان والسرد ،بحيث يقع تقسيم هذا االشتغال التأويلي على ب$راديغم جدي$د للهوي$ة،
إلى ثالث مراحل؛ الس$$رد الت$$اريخي (الج$$زء ،)١الس$$رد القصص$$ي (الج$$زء )٢وأخ$$يًرا الزم$$ان الم$$روي
(الجزء .)٣وإن ما يحرك مكنة التأويل هنا سؤال أساسي :هل يمكن القول بنهاي$$ة فن الحكي بك$$ل أش$$كاله؛
األسطورة والقصص الديني والرواية نفسها؟ وكيف بوسعنا تصُّو ر عالم بدون قصص؟ وماذا تبقى لن$$ا —
نحن الذين ننتمي إلى عالم فلسفات النهايات ،أي :نهاية الذات والتاريخ واإلنسان ونهاي$$ة الس$$رديات — من
أجل أن يقول كل منا« :أنا كائن» أو «أنا موجود»؟ إن ما هو مزعج هنا هو تحطيم فكرة الشكل نفسها إلى
حد نصير فيه هيولى ،كتل من الغرائز االستهالكية ،أشبه بالسلع في عالم البضاعة المطلقة ،وهو م$$ا يه$$دد
بحسب ريكور فكرة «العيش مًعا» .ومن أجل تحصين هذا األف$$ق اإلتيقي والسياس$$ي مًع ا علين$$ا أن نس$$تعيد
فكرة الحكي والقصص والسرد .وفي هذا المعنى يكتب ريكور« :ليس لدينا أدنى فكرة عما ستكونه ثقافة ال
نعرف فيها ما يعنيه الحكي».
إنه من أجل التأسيس ثانية لثقافة السرد يستعيد ريكور نظرية أرسطو في المحاكاة بوص$$فها «منبًع ا للس$$رد
التاريخي وللسرد القصصي مًعا» ،وذل$ك في ثالث$ة مع$اٍن ؛ «المحاك$اة ،»١بوص$فها فهًم ا مس$بًقا للتجرب$ة
البشرية ،أي :شبكة الرموز ال$تي يجس$دها ال$تراث والتقالي$د والقيم الع$ابرة لألجي$ال .و«المحاك$اة ،»٢أي:
جملة األعمال األدبية التي تتنزل ضمن دائرة «التفس$$ير» .و«المحاك$$اة ،»٣ال$$تي تتعل$$ق بإع$ادة التص$$ور،
أي :بفعل القراءة ،وذلك باعتبار القارئ قطًبا أساسًّيا ضمن حقل الوظيف$ة الس$$ردية ال$$تي تخ$$رج من الرم$$ز
إلى النص إلى الفعل .وضمن هذا الحقل التأويلي للهوية السردية كنموذج أدبي مغاير ينِّش ط ريك$$ور مفه$$وم
الحبكة ،وُيدِر ج هذا المفهوم ضمن جدلية خاصة بين التاريخ واألحداث السردية .ف$$إذا ك$$ان الت$$اريخ يح$$دث
وفق «مبدأ انتظام تتاَلى فيه األحداث» ،فإن الحدث السردي ال$$ذي يح$$دث بمحض الص$$دفة إنم$$ا يس$$اهم في
إنجاز معقولية الحبكة نفسها؛ ذلك أنه من دون أح$$داث س$$ردية ،أي :مفاج$$آت وطف$$رات ،يفق$$د الت$$اريخ ك$$ل
دينامية زمنية .ومن جهة أخرى ،من دون نظام تاريخي تتح$ول األح$داث العرض$ية إلى مج$رد مص$ادفات
دون أي أمل في توحيدها .وهنا تتدخل «الجدلية التشكيلية» القائمة بين أشكال االنس$جام الت$اريخي وأش$كال
التنافر السردي ،وهي جدلية تمنح هيئة لألحداث ،وهو معنى إنجاز الحبكة نفسها .وهنا يوَلد مفه$$وم الس$$رد
بوصفه تلك القدرة على تشكيل األحداث بمنحها حبكة سردية تخلق االنسجام بين التاريخ الكلي ،واألح$$داث
التي قد تحدث فتعِّر ض الحبكة إلى الخطر.
ما يهمنا في هذا السياق هو هذا «التناظر الفعلي بين السرد التاريخي والس$$رد القصص$$ي» ،ال$$ذي يكمن في
قدرة السرد على تصوير ما يمنعه التاريخ؛ وذلك ألنه «في السرد القصصي فقط يضاعف صانع الحبك$$ات
االلتواءات التي تسمح بإقامة تقسيم إلى زمن يستغرقه زمن الس$$رد وزمن األش$$ياء ال$$تي ُتس$$رد ».والج$$دير
بالذكر هنا هو أن السرد القصصي ال يكتفي بإعادة تصوير الزمان ومضاعفة اْلتواءات$$ه ،إنم$$ا ه$$و ال ينف$$ك
في كل مرة عن أن «يفتح فضاء ال محدوًدا أمام تمظُهر الزمن» .وهنا يتجلى االنفتاح على ال$$زمن بوص$$فه
انفتاًح ا على المستقبل ،ما دام المستقبل تخيياًل لزمني$$ة مغ$$ايرة دوًم ا؛ ل$$ذلك ينتص$$ر الس$$رد القصص$$ي على
السرد التاريخي انتصار المستقبل على الماضي .ف$$إذا ك$$ان الت$$اريخ ه$$و الق$$درة على الكالم على الماض$$ي،
أي :تصُّو ر للزمان الفعلي ،فإن السرد القصص$$ي يعي$$د تص$$ور الزم$$ان وه$$و ي$$دخل تحت راي$$ة نظري$$ة في
الفعل ،أي :في تغيير تصُّو ر الناس ألنفسهم ولعالمهم الَم عيش .وهو ما يكتب$ه ريك$ور من$ذ الج$زء األول من
الكتاب قائاًل ما يلي« :إن السرد يدل من جديد على العالم في ُبعده الزم$$ني ،بق$$در م$$ا يك$$ون القص والحكي
واإلنشاد إعادة تكوين للفعل متابعة لدعوة القصيدة».
لكن السرد القصصي ال يمنح األحداث شكاًل فقط ،إنما هو يقترح عالًم ا .وه$$و م$$ا عَّب ر عن$$ه ريك$$ور« :إن
العالم عندي هو الشبكة الكاملة من اإلحاالت التي تفتحها جميع أنواع النصوص الوصفية والش$$عرية ،ال$$تي
قرأتها وفهمتها وأحببتها ».كيف العبور من النص إلى العالم؟ إن وساطة القارئ فق$$ط هي ال$$تي تجع$$ل ه$$ذا
األمر ممكًنا ،القارئ ليس فقط بوصفه مصاحًبا للتخيي$$ل ال$$ذي يقترح$$ه النص ،ب$$ل بم$$ا ه$$و «متمل$$ك» له$$ذا
العالم نفسه .يتعل$$ق األم$$ر بإنج$$از العب$$ور من الس$$رد الت$$اريخي إلى الس$$رد القصص$$ي ،وه$$و أم$$ر ال يمكن
تصوره إال عبر القارئ ،أي« :عندما يواجه ع$$الم النص ع$$الم الق$$ارئ .عن$$دها فق$$ط يكتس$$ب العم$$ل األدبي
معًنى بكل ما تعنيه الكلمة ،عند التقاطع بين العالم الذي يسقطه النص ،والعالم الَم عيش للقارئ».
وهنا يقع تحرير السرد من النص المغلق وفتحه على عالم القراءة .إننا نكتب من أجل القراء ،وتبًع ا ل$$ذلك،
فما نكتبه يخرج عن حدود األسوار الداخلية للنصوص .إن السرد يؤرخ للحياة ،وبم$$ا ه$$و ك$$ذلك فه$$و يعي$$د
تشكيل الذات التي تسرد نفسها أو تمنح حياتها للسرد .والسرد هنا هو األدب بما هو هذه الورش$$ة الوس$$يعة،
حيث يختبر السرد مصادر تنوع الهوية السرديةُ ،رب هوية هي الشكل الوحيد لمس$$تقبل الهوي$$ات ،ال$$تي لن
يكون بوسعها المكوث في علبة الماضي المغلق على استعارات ميتة ،بل هي مطالبة بتجديد س$$ردياتها بم$$ا
يجعل الزمان يرتقي إلى مصاِّف اللغة ،من أجل تصميم معمار الخيال .وحده الخيال الذي يتغذى من السرد
القصصي بوسعه أن يسِّر ح الماضي من أسره ،وأن يفتح لغة ما على الممكن المستقبلي الذي بحوزتها.
ثمة إذن نوع من النضال السردي الدائم من أجل تجديد الهوية وإثرائها ،وتحويلها إلى هوية مرنة ودينامي$$ة
تقِّو ي من مناعة األشخاص ضد التحُّج ر في حدود الهويات المغلقة .لكن وفق أِّي نموذج يسلك هذا النض$$ال
السردي؟ إن التعامل مع الحياة بوصفها نسيًجا من القصص المحكي إنم$$ا يوِّق ع إمكاني$$ة تأويلي$$ة للمص$$الحة
بين التاريخ والتخييل .فنحن نحكي من أجل أن نتعرف على أنفسنا ،ومن أجل أن نفهم أنفسنا ،ومن أج$ل أن
نتقاسم التجربة المعيشة مع اآلخرين كما لو كانوا أنفس$$نا ،أو كم$$ا ل$$و كن$$ا نحن آخ$$رين أيًض ا .فعن الس$$ؤال
الفلسفي الكبير :من أكون؟ يمكننا أن ننتهي مع ريكور إلى اإلجابة التالية« :أنا سردية فحسب» .لكن بشرط
أن أكون قادًر ا على إنجاز الحبكة الخاص$$ة بي ،أي :على منح مب$$دأ انس$$جام لك$$ل األح$$داث العارض$$ة ال$$تي
تحدث في وجودي .أنا سردية نفسي ،بشرط أن أكون قادًر ا على منح المعنى ألفق$$ر األح$$داث الخاص$$ة بي،
أي :إلى درجة قدرتي على تحويل الصدفة إلى قدر .لكن الهوي$$ة الس$$ردية ال تحي$$ل هن$$ا إلى أي ض$$رب من
الذاتوية الميتافيزيقية على طريقة ديكارت وكانط ،أو ظاهراتية على طريقة هوسرل ،أو النرجسية الفردي$$ة
على طريقة فرويد ،بل هي هوية زمنية تاريخية مًعا .إن الزمن نفسه هو زم$$ان م$$روي أو ال يك$$ون ،وه$$ذا
هو عنوان الجزء الثالث من كتاب الزمان والسرد .كيف يمكن للس$$رد القصص$$ي أن يخ$$ترع الزم$$ان نفس$$ه
صلب التاريخ الكلي؟ وهنا نجد أنفسنا أمام إحراج فلسفي عميق؛ من جهة ال يوَج د الزم$$ان بالنس$$بة إلين$$ا إال
بوصفه حدًثا سردًّيا يحتاج كي يكون إلى الرموز والعالمات والنصوص ،ومن جه$$ة أخ$$رى يه$$زم الزم$$ان
السرد نفسه بأن يبقى مستغلًقا عن اللغة .وهنا يظهر مدى «اْلتباس الزمان» إزاء «ق$$وة الس$$رد في االرتق$$اء
به إلى اللغة»؛ وذلك ألن الزمان يمكن الحديث عنه بطرق أخ$$رى ،مم$$ا يجعل$$ه «يظل مس$$تغلًقا ح$$تى على
السرد نفسه» ألنه يفلت من ح$$دود التش$$كيل .وفي ه$$ذا الس$$ياق يظه$$ر مفه$$وم الهوي$$ة الس$$ردية في ن$$وع من
النت$$ائج األخ$$يرة ال$$تي يرس$$مها ريك$$ور لورش$$ته الك$$برى عن الس$$رد الت$$اريخي ،ثم عن الس$$رد القصص$$ي،
وأخيًر ا عن الزمان المروي نفسه .ويكتب ريكور في آخر فقرة من كتاب$$ه م$$ا يلي« :والحقيق$$ة أن$$ه ال ش$$يء
ُيلزمنا باالنتقال من فكرة الهوية السردية إلى فكرة وحدة التاريخ ،ثم االعتراف بح$$دود الس$$رد وه$$و يواج$$ه
سر الزمان الذي يحيط بنا ».ها هن$$ا نج$$د أنفس$$نا أم$$ام مفارق$$ة عجيب$$ة بين ق$$وة الس$$رد في تش$$كيل الزم$$ان،
واستغالق الزمان نفسه ،وكأنه يخرج منتصً$$ر ا رغم وقوع$$ه أس$$يًر ا في حبك$$ة الس$$رد .إن الزم$$ان الم$$روي
يضعنا إذن أمام ضرب من إخفاق السرد عن السطو على الزمان نفسه .غير أن ما يخفق هنا ليس التفك$$ير،
بل هو الغرور ،الذي يحِّر ض فكرنا على اعتبار نفسه سيد المعنى وسلطانه .إن الهوية الس$$ردية إذن ليس$$ت
حرة تماًم ا من هذا الضرب من االدعاء الُم الِز م لها بوصفها «ذاًتا فاعلة تهيمن على المعنى كل$$ه» لكن ه$$ذا
االدعاء الذي يخفق عبره السرد في أن يستنفد قوة التكلم التي تعيد تصوير الزمان؛ ليس أمًرا مذموًم ا ،إنم$$ا
هو محِّر ض على مزيد من البحث من لدن األف$$راد والجماع$ات عن «هوي$$اتهم الس$$ردية الخاص$$ة» .يتعل$$ق
األمر إذن بوضعية تأويلية تسمح باللقاء بين ما يسميه ريكور في آخر صفحة من الج$$زء الث$$الث من ثالثي$$ة
الزمان والسرد «اْلتباسية الزمان وشعرية السرد».
هكذا يقع التجديد في مفهوم الهوية عبر براديغم الهوي$ة الس$ردية ال$ذي يفتح ب$ه ريك$ور أفًق ا تأويلًّي ا وإتيقًّي ا
جديًدا يحرر الهوي$ات من الهوي$ة الثقافي$ة المغلق$ة على دين أو ع$رق أو قومي$ة م$ا .فالهوي$ة الس$ردية تمنح
األفراد والجماعات الثقافية القدرة على تمُّل ك س$$ردياتها الخاص$$ة ،وعلى تجدي$$دها على ال$$دوام مًع ا ،وذل$$ك
باعتبارها سرديات تحدث صلب الزمن ،وهي في نفس الوقت تمنحه شكاًل مغايًرا مًعا .والزمن ها هن$$ا ه$$و
زمن القارئ الذي بوسعه إعادة تشكيل السرد وتجديد ال$زمن الم$روي ع$بر تجرب$ة الق$راءة والتأوي$ل .نحن
إذن هويات سردية في معًنى يمنحنا فيه السرد — بأشكاله أدًبا أو شعًرا أو أساطير — الزمَن الخ$$اص بن$$ا
في كل مرة .فالزمان نفسه ال يحدث إال على نحو سردي ،رغم كونه يهزم السرد باستغالقه عليه ،واْلتباسه
صلب استعارات القصص وطياته الرمزية .لكن الزمان المروي هنا هو زمان مس$$تقبلي في ج$$وهره؛ ألن$$ه
ينبع من التخييل من جهة ،وبما هو زمن الفعل ،أي :تجديد تأويلنا للعالم عبر وساطة القارئ من جهة ثانية.
هكذا تتكون هوياتنا الشخصية نفسها عبر تفاعل دينامي بين السرديات الخاصة وقصص المخي$$ال الجمعي.
لكن الهوية السردية ليست ثابتة وال مغلقة حول نفسها؛ ألنها زمنية تنسج نفسها صلب نسيج الحكايات ال$$تي
تندمج ضمنها على نحو متجدد على الدوام.
تمِّثل العالقة بين الزمان والسرد — التي بسطنا أهم مالمحها من خالل ثالثي$$ة ب$$ول ريك$$ور — ال$$براديغم
السردي الكبير إلمكانية الحديث عن قدرة األثر الف$$ني األدبي نموذًج ا على اخ$$تراع ع$$الم الزمني$$ة ،وفتح$$ه
على المجال العملي للتجارب الرمزية عموًم ا .فالسرد بوصفه «ينقل إلى اللغة تجربة» يمِّثل نموذج نظري$$ة
الفعل ،وهو ما يعِّبر عنه ريك$ور ق$ائاًل « :وهك$ذا ف$األدب الس$ردي ،من بين جمي$ع األعم$ال الش$عرية ،ه$و
نموذج للفعلية العملية ،من خالل انحرافاته ونماذجه أيًضا ».فكل تجربة قصص$ية تخ$ترع عالمه$ا الخ$اص
وتمنحه للقارئ كما لو كانت ضرًبا من مضاعفة تجاربنا عن «األبدي$$ة» ،ب$$ل كم$$ا ل$$و ك$$ان «الزم$$ان ي$$تيح
لنفسه أن تتخطاه األبدية في عالم ممكن ».والممكن ها هنا هو إحال$$ة على مفه$$وم المس$$تقبل بوص$$فه مج$ااًل
سردًّيا وأدبًّيا يكلف األدب بمهمة مواجهة قوة الزمان المدِّم رة بقدرة األدب على بسط ع$$والم تخييلي$$ة ،حيث
يجعل «الخيال من اللغة ذلك الخطر األدهى» .وهو خطر يدفعنا إلى االعتراف بهشاشة الحياة وقوة الزمان
على تدمير كل شيء.
ماذا يحدث في حالة اإلعالن عن نهاية فن القص$$ص؟ وكي$$ف يمكن تص$$ور مس$$تقبل بال قص$$ص؟ س$$يخرج
الزمان يومئٍذ منتصًر ا ،وسيعلن الشاعر عن عبثي$$ة الش$$عر في أزمن$$ة الب$$ؤس ،حيث ق$$د نتح$$ول عندئٍ$ذ إلى
مسوخ تعبر السوق الكبيرة للعالم ،مسوخ ال تتقن غير االستهالك والقتل .لكن حذاِر من السرديات المغلق$$ة؛
ألنها ال تنتج سوى كائنات فقدت عالقتها بالزمن ،وتحولت إلى مسوخ تراثية ال تتقن غير التحديق بالظالم.
إن سردية تشتق نفسها من هوية مغلقة على ماٍض أزلي غيُر قادرة على تخيل مستقبل ممكن.