You are on page 1of 2

‫بين الرواية التاريخية ورواية التاريخ‬

‫بقلم ‪ :‬د‪ .‬جمال محمود حجر‬

‫يتشابه المصطلحان اللذان يقفان هنا عنوانا لهذا الموضوع إلي حد كبير‪ ,‬بحيث يصعب علي غير المختصين التمييز بينهما‪,‬‬
‫وقد يكون من بين أهدافنا هنا التمييز بين المصطلحين‪ ,‬لفض الغبار عما يكون مثارا حول رواية' عزازيل' للكاتب الدكتور‬
‫يوسف زيدان‪.‬‬

‫وباديء ذي بدء‪ ,‬البد أن نوضح أن' الرواية التاريخية' من عمل الروائي أو األديب‪ ,‬وتبدو فيها الذاتية والخيال واضحين‬
‫للعيان‪ ,‬بينما' رواية التاريخ' من عمل المؤرخ‪ ,‬وتبدو فيها‪ ,‬أو ينبغي أن تبدو فيها‪ ,‬الموضوعية والواقعية‪ ,‬وهما من عناصر‬
‫التكوين الرئيسية في العرض التاريخي‪ ,‬ومن هنا ينبغي أن نفرق بين طبيعة عمل الروائي وطبيعة عمل المؤرخ‪ ,‬من حيث‬
‫المنهج‪ ,‬ومن حيث الهدف‪ ,‬ومن حيث األسلوب‪.‬‬

‫ومع ذلك فإن مانكتبه من التاريخ هو نفسه الرؤية القصصية الموازية ألحداثه‪ ,‬ولذا فإن' الرواية التاريخية' و'رواية التاريخ'‬
‫تبدوان مصطلحين لموضوع واحد‪ ,‬هو' استدعاء المعاني واألحداث الماضية'‪ .‬وبالتالي فقد يصعب الفصل بينهما إال من‬
‫زاوية واحدة‪ ,‬هي أن التاريخ هو' رواية الماضي' بينما القصة أو الرواية التاريخية هي نوع من' اإلبداع' أو' التأليف'‬
‫المعتمد علي شيء من رصيد ذلك الماضي‪ .‬وبهذا التحديد الواضح لداللة المصطلحين‪ ,‬يتضح أنه بقدر مايكون الكاتب قريبا‬
‫من حقائق الماضي يكون قريبا من' التاريخ'‪ ,‬وبقدر مايكون قريبا من الخيال بعيدا عن الحقائق يكون قريبا من' الرواية'‪,‬‬
‫وفي الحالين فإن مانكتبه هو نوع من' القصص'‪.‬‬

‫وهذا يؤكد أن الحدود بين هاتين الممارستين مائعة ومتحركة‪ ,‬وأكثر من ذلك ان الجسور التي تربط بينهما‪ ,‬بل والعناصر‬
‫المشتركة بينهما‪ ,‬أقوي من أن يجري إهمالها ببساطة عند ممارسة األديب الفعلية في كتابة الرواية التاريخية‪ ,‬أو عند‬
‫ممارسة المؤرخ المنهجية عند كتابة التاريخ‪.‬‬

‫هذا الطرح‪ ,‬الذي يقرب بين' الرواية التاريخية' و'رواية التاريخ'‪ ,‬ال يمس الهدف من كل منهما‪ ,‬بل يبقي كل منهما مختلفا‬
‫ومستقال تماما عن اآلخر عند األكاديميين والمتخصصين‪ ,‬أما عند غير هؤالء فإن مسألة الخلط بينهما كانت والتزال أمرا‬
‫واردا‪ ,‬وهذا الخلط واضح في العصور القديمة‪ ,‬وكذا في العصور الوسطي‪ ,‬حين كانت الرواية أو الحكاية هي أول أنواع‬
‫الطرح التاريخي أو الكتابة التاريخية‪ ,‬وكذا الحال في العصر الحديث‪ ,‬ففي القرنين التاسع عشر والعشرين‪ ,‬ارتبطت الرواية‬
‫التاريخية ارتباطا وثيقا برواية التاريخ‪ ,‬ألن كليهما ارتبط بنشأة مايعرف بـ'اآلداب القومية'‪ ,‬انطالقا من أن كال الفرعين انبني‬
‫نجاحهما علي كونهما يمزجان األحداث الواقعية بالعناصر المتخيلة‪ ,‬بحيث وقع عامة الناس وقتئذ في حيرة بشأن ما إذا كان‬
‫يجب عليهم وضع حد فاصل بين القصص والتاريخ اللذين ينتميان إلي الماضي‪.‬‬

‫وهذه الحيرة التزال لألسف قائمة في أيامنا هذه العتقاد البعض أن القصة مثل التاريخ‪ ,‬أو أن التاريخ مثل القصة‪ ,‬ألن كليهما‬
‫يحاول اإلجابة عن تساؤالت اجتماعية‪ ,‬أو اقتصادية‪ ,‬أو ثقافية‪ ,‬أو سياسية جرت في الماضي‪ ,‬خاصة أن القصة كلما اقتربت‬
‫من قاعدة الحقائق أصبحت أقرب إلي التاريخ‪ ,‬بينما التاريخ كلما اقترب من األسلوب القصصي ابتعد عن نفسه‪.‬‬

‫صحيح أن التاريخ والقصة كليهما يوظف المادة نفسها للكشف عن أحداث الماضي وتعقب مساراته‪ ,‬إال أن القصة قد تغرق‬
‫في التفاصيل الصغيرة لتضفي نوعا من الواقعية‪ ,‬فيلفظها المؤرخون‪ ,‬الذين يبحثون في الماضي وصوال إلي الحقائق‬
‫والنظريات‪ ,‬دون إهمال للغة أو ألسلوب العرض‪ ,‬وإعادة تحريك األحداث من خالل شخصياتها التي انسحبت من الصورة‪.‬‬
‫ولهذا فإن التاريخ قد يصبح أمرا محيرا بصورة كبيرة‪ ,‬ألن المرء اليمكنه رصد أحداثه جميعها‪ ,‬وألننا النملك عند التعامل معه‬
‫إال أن نكون انتقائيين لبعض أحداثه‪ ,‬وهذا االنتقاء في حد ذاته يفسد علي المؤرخ منهجه العلمي‪ ,‬فيقع بين شرين‪ ,‬أحدهما‬
‫انتقاء يؤشر باالنحياز في اللغة والموضوع‪ ,‬واآلخر تعميم تضيع معه التفاصيل‪ ,‬التي ترسم خيوط السدي واللحمة في‬
‫الصورة التاريخية‪.‬‬

‫في الواقع اليمكن تصور التاريخ باعتباره أحداثا جرت عبر الزمان فقط‪ ,‬ولكنه عمل أقرب إلي فك الشفرات والترجمة‪ ,‬ومن‬
‫هنا تتجلي صعوبته‪ ,‬وهي صعوبة يمكن التغلب عليها بتجنب اللبس الواقع بين عناصر السببية وعناصر االستمرارية‪ ,‬فقد‬
‫الندرك تفسيرا لوقوع حدث ما‪ ,‬تسبب في تحويل مسار حدث أو أحداث أخري الحقة‪ ,‬ونجد أنفسنا عاجزين عن الربط بينهما‬
‫رغم استمراريتهما‪ .‬أما في حال القصة فإن المؤلف يتمتع بحرية غير محدودة من أجل اإلبداع والتخيل‪ ,‬وهي ميزة تيسر له‬
‫كثيرا من العقبات‪ ,‬وهي ميزة استثمرها كاتب' عزازيل'‪ .‬صحيح أن المؤرخ بعيد عن رسم صورة الواقع مهما يكن قريبا‪ ,‬بل‬
‫إننا نجزم باستحالة رسم صورة ذلك الواقع‪ ,‬وأن كل ما في وسعه اليتجاوز االقتراب من بعض حقائق ذلك الواقع‪ ,‬التي تمكنه‬
‫من رسم صورة موازية لواقع لن يدركه أبدا‪ ,‬ومع ذلك فنحن حين نقرأ التاريخ نعتقد أن األحداث وقعت كما هي بالفعل‪.‬من هنا‬
‫فإن هذا اإلطار الموازي يكون قد تأسس لغرض أدبي‪ ,‬ومن هنا أيضا يأتي الخلط بين الرواية التاريخية ورواية التاريخ‪,‬‬
‫لماذا؟‬

‫يحدث هذا الخلط ألن كاتب القصة يجعل األحداث تأخذ مجراها علي يديه‪ ,‬ويستطيع التعامل مع كل وجهات النظر التاريخية‬
‫بحيث يدمجها في الدراما الروائية في انسجام تام‪ ,‬وهو انسجام اليستطيع المؤرخ تحقيقه بالدرجة نفسها‪.‬‬

‫وفي كل األحوال فإن الرواية التاريخية ورواية التاريخ تكونان ملتزمتين بالتعيين المتكافيء أو المتناظر لألحداث‪ ,‬وهو‬
‫مايجعل الوصل بين االثنين قائما‪ ,‬ومع اإلبقاء علي عالقة القرابة بين األثنين‪ ,‬يبقي أن التأليف ينسجه الخيال ويبقي أن‬
‫التاريخ ينسجه الواقع‪ ,‬وفي كلتا الحالتين يحاول الكاتب( أديبا كان أو مؤرخا) ربط عناصر الحدث ببناء الحكاية‪ ,‬فتأتي‬
‫منسجمة‪ ,‬أو هكذا نتصور‪.‬‬

‫المؤرخون يتحدثون عادة عن النهايات المتقطعة‪ ,‬فحيثما التوجد واقعية تاريخية مؤكدة‪ ,‬تستخدم الحقائق المتناثرة إلعادة‬
‫بناء الماضي‪ ,‬مع ربطه بالحاضر عبر جسور يألف المؤرخون بناءها‪ .‬وقد شهد القرن التاسع عشر مناهج تزامل فيها التاريخ‬
‫والتأليف الروائي معا‪ ,‬مستخدمين مادة واحدة‪ ,‬فرضت اإلطار الروائي في استدعاء الماضي للواقع الذي يعاصره الكاتب‪.‬‬
‫وبالرغم من ذلك‪ ,‬ال يستطيع المرء أن يخلط بين نوعي القصة‪ ,‬بينما يلبي أحدهما متطلبات األدب‪ ,‬يذيب اآلخر نفسه في‬
‫الحقيقة‪.‬‬

‫وعندما يقدم التاريخ نفسه باعتباره الرواية الحقيقية لألحداث‪ ,‬التستطيع الرواية أن تقدم نفسها كند للحقيقة‪ ,‬ألنها تميز‬
‫نفسها عن طريق التشويق المدروس‪ .‬وتظهر الرواية التاريخية كجنس أدبي هجين يجمع بين صفات األدب وصفات التاريخ‪.‬‬
‫وإذا كان علي كاتب الرواية التاريخية أن يراعي التوازن بين الخيال والحقيقة في عمله األدبي‪ ,‬فإن الكثير من حقائق التاريخ‬
‫قد يقضي علي روايته‪ ,‬وبالمقابل قد يدمر الخيال الزائد الواقعية التاريخية‪ .‬إن روعة وجاذبية الرواية التاريخية تكمن في أنها‬
‫تجذب القراء إلي عالم هو مزيج من الرواية والحقيقة مما يجعل التاريخ حيا‪.‬‬

‫والتاريخ نشاط ذهني يغذي الرغبة في المعرفة‪ ,‬كما تغذيه الرغبة في المعرفة‪ .‬وللمعرفة نهايتها الخاصة التي التتصل بالقيم‬
‫بالضرورة‪ ,‬فالمؤرخ اليسعي لالحتفاء بالتاريخ‪ ,‬واليسعي إلبهار الجمهور‪ ,‬ألن ذلك ليس من بين أهدافه الرئيسية‪ .‬صحيح أن‬
‫للتاريخ طابعا قصصيا كما اتفقنا‪ ,‬مثله مثل الرواية يحقق اإلمتاع‪ ,‬ولكن يبقي أن هدف المؤرخ الرئيسي هو الحقيقة‪ ,‬وبينما‬
‫يكون هذا هو هدف المؤرخ‪ ,‬فإنه يعمل بالضرورة في إطار منهج يكون هو المرشد له‪ ,‬أما الروائي فيعمل بحرية اليتمتع بها‬
‫المؤرخ‪ ,‬فعلي عكس التاريخ الذي يبني علي الحقائق وحدها‪ ,‬يستطيع الروائي إضفاء رؤيته الخاصة بتوسع في اتجاهات‬
‫مختلفة‪ ,‬مستخدما في ذلك كل الوسائط الممكنة لجذب القاريء‪ ,‬فيضفي علي عمله ماال تستطيع الحقيقة وحدها أن تقدمه‪,‬‬
‫وهذا ماقدمه يوسف زيدان في عزازيل‪.‬‬

‫ومن هنا فإن التاريخ واألدب كليهما نتاج بني علي االعتبارات المترسبة في الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية للجمهور‪ .‬لكن‬
‫الرواية التاريخية تتجنب تكرار سرد الحدث التاريخي‪ ,‬أو االعتماد علي تقديم الحقائق فقط‪ ,‬أو علي األقل التلتزم بذلك حرفيا‪,‬‬
‫وإنما تعمل علي إضفاء كل ما له قدرة علي تحفيز الخيال إليها‪ .‬ومهما يكن من أمر‪ ,‬فإن للرواية التاريخية عالقة وثيقة‬
‫بالتاريخ‪ ,‬لكن هذه العالقة قد تكون مبهمة أحيانا‪ ,‬فيحدث الخلط بينهما‪ ,‬وتعلو األصوات دفاعا عن الحقيقة التي هي جزء من‬
‫الواقع‪.‬‬

You might also like