You are on page 1of 82

‫إهداء‬

‫إلى كل مناضل من أجل الحرية‬


‫إلى كل من يسكنه هاجس األدب‬
‫إلى سندي‪ ،‬أمي الغالية‪ ،‬أطال هللا عمرها‬
‫إلى ملهمي‪ ،‬والدي العزيز‬
‫إلى أخت ّي الغاليتين‪ :‬نسرين وآية‬
‫إلى مالذي وسكني‪ :‬كوثر‬
‫إلى أستاذي المشرف يوسف الفهري الذي أشكره جزيل الشكر‬
‫إلى كل األصدقاء وكل من يسعى إلى البحث والمعرفة‬
‫أهدي هذا البحث المتواضع وأسأل هللا التوفيق والسداد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مقدمة‬
‫توخينا في هذا البحث القيام بمحاولة لإللمام بالتوظيف السياسي في الرواية المغاربية‪،‬‬
‫وهي بالنسبة لنا بمثابة مجهود ينطلق أساسا من ضرورة ممارسة قراءة نقدية ترتكز‬
‫على سند منهجي متكامل يجمع بين المنهج الوصفي والتحليلي‪ ،‬والمنهج الجمالي الفني‪،‬‬
‫من أجل اإلحاطة بالتوظيف السياسي في الرواية المغربية‪ ،‬باعتبارها نوعا أدبيا متميزا‬
‫له خصوصيته‪ ،‬وجماليته المتميزة‪ ،‬وطريقته الخاصة في إيصال المعاني والرموز‬
‫والمقاصد‪.‬‬

‫غير أن هدفنا‪ ،‬ليس هو اإلحاطة الشاملة بالخطاب السياسي في الرواية المغاربية‪ ،‬لتعدد‬
‫ال ُكتّاب وكثرة األعمال وصعوبة مقاربة نصوصهم جميعا‪ ،‬ولذلك‪ K‬ارتأينا تحديد رواية‬
‫"سينترا" للكاتب المغربي حسن أوريد كنموذج للمقاربة والتحليل‪ ،‬وليس تهميشا‬
‫لآلخرين وإقصائهم‪ .‬إن هدفنا ال يروم اقتطاع هذه التجربة من سيرورة السرد العربي‬
‫عموما‪ ،‬والسرد‪ K‬المغاربي خصوصا‪ ،‬ألنه عبارة عن سلسلة ال تقبل التمفصل‪ ،‬والتجزئ‪،‬‬
‫والتحقيب‪ ،‬وما تحديدنا لهذا الموضوع إال خطة منهجية وإجرائية‪ ،‬قد تسعفنا في مقاربة‬
‫هذه الرواية والكشف عن أبعادها السياسية‪ ،‬وخصائصها الفنية والجمالية‪.‬‬

‫وفي سبيل تحقيق هذه الغاية اعترضتنا صعوبات ج ّمة‪ ،‬نظرا لقلة المراجع التي تحيط‬
‫بهذا الصنف الروائي‪ ،‬والمعدودة على رؤوس األصابع‪ .‬ولذلك‪ K‬عمدنا إلى الوصف‬
‫والتحليل واستخالص السمات الفنية والجمالية من الرواية‪ ،‬واإلحاطة بموضوعها‬
‫ودالالتها ومقاصدها السياسية‪ .‬وهو مجهود ال يروم االنبهار بهذه التجربة‪ ،‬وال يستخف‬
‫بعطاءاتها‪ ،‬كما ال يدعي القراءة الموضوعية والمتكاملة‪ ،‬ألن أ ّ‬
‫ي قراءة كيفما كان نوعها‬
‫ليست بريئة وال كاملة‪ ،‬وإنما تسعى في مقاربتها نحو الحياد والموضوعية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫بناء على هذه القاعدة المنهجية‪ ،‬سيناقش هذا البحث موضوع السياسة في الرواية‬
‫المغربية‪ ،‬كما سيناقش تناص الرواية مع الخطاب التاريخي والسياسي‪ ،‬بوصف هذا‬
‫الخطاب أصبح وسيلة للتعبير عن ضروب من المعاناة تجاه الواقع المرير‪ ،‬ومتنفسا‬
‫للتفريج عن الهموم‪ K‬واألحزان‪ ،‬ومنقذا من الضياع والتيه‪ ،‬ورسالة هادفة من أجل تغيير‬
‫الواقع والتطلع إلى مستقبل مشرق‪.‬‬

‫وقد‪ K‬ارتأيت تقسيم البحث إلى فصلين‪ ،‬الفصل األول؛ أفردته للتعريف بالمفاهيم النظرية‬
‫للرواية السياسية المغاربية‪ ،‬من نشأة ومرتكزات وتصوير للواقع المعاش‪ ،‬وتناص‬
‫روائي مع الخطابين السياسي والتاريخي‪ ،‬وتحليل للبناء السردي من حدث وشخصيات‬
‫وبنية زمكانية وحوار ورؤية سردية‪ ،‬وقد اختتمته بنبذة مختصرة عن حياة الكاتب حسن‬
‫أوريد وعالقته بالرواية والسياسة‪.‬‬

‫أما الفصل الثاني؛ فقد خصصته لتحليل نموذج تطبيقي من الرواية السياسية المغربية‪،‬‬
‫وإبراز سماتها الفنية والجمالية‪ ،‬وقد‪ K‬وقع اختياري على رواية ذات أبعاد سياسية‬
‫وتاريخية معنونة ب "سينترا"‪ ،‬للكاتب والمفكر المغربي "حسن أوريد"؛ إذ ابتدأت‬
‫المقاربة بإشكال التجنيس‪ ،‬وتحديد اإلشكاالت‪ K‬التي تطرحها الرواية‪ ،‬ث ّم انتقلت إلى تتبع‬
‫سيرورة األحداث‪ ،‬وإبراز دالالتها وأبعادها السياسية ومقاصدها ورموزها‪ ،‬وكذا بيان‬
‫أهمية الفضاء المكاني "سينترا" والوظائف التي يضطلع بها في تشييد صرح الرواية‪.‬‬
‫إضافة إلى تحديد الرواة وتداخل أصواتهم والتباسها أحيانا بصوت الكاتب أو بأصوات‬
‫شخصيات أخرى‪ ،‬والوظائف التي تضطلع بها‪ .‬واختتمت الفصل بطرح إشكال الحدود‬
‫بين السرد والتاريخ في الرواية‪ ،‬وتحليل بعض تجليات الخطاب السياسي والتاريخي‪،‬‬
‫وإبراز دالالته ووظائفه‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫قامت هذه المقاربة النقدية في حقيقتها‪ ،‬على المالحظة والوصف‪ K‬واالستقراء والتحليل‪،‬‬
‫إلبراز البنيات الدالة على المتن‪ ،‬وجماليته الفنية‪ ،‬وحاولت‪ K‬االبتعاد ما أمكن عن األحكام‬
‫الجاهزة والمسبقة‪ .‬ولعل اختياري للمتن المدروس كموضوع‪ K‬للبحث‪ ،‬ناتج باألساس عن‬
‫اهتمامي بالرواية والسياسة‪ ،‬والشغف الذي أستشعره في قراءتهما‪ .‬وقد تطلبت مني هذه‬
‫الدراسة مجهودا لم يسلس إال بفضل توجيهات ومالحظات والدي‪ K‬الدكتور سليمان الطالي‬
‫الذي أتوجه إليه بأعمق الشكر وأجزله‪.‬‬

‫بهاء الدين الطالي‬

‫في تطوان ‪ 25‬ماي ‪.2022‬‬

‫‪4‬‬
‫الفصل األول‪ :‬التعريف بالرواية السياسية‪ :‬نشأتها وتطورها‬
‫وخصائصها‬

‫‪5‬‬
‫استطاعت الرواية أن تحتل مكانة متميزة ضمن األجناس السردية في األدب العربي الحديث‪،‬‬
‫وتفرض وجودها على الرغم من حداثة النشأة‪ ،‬والصعوبات التي واجهتها أثناء ذلك‪ ،‬وتستأثر‬
‫باهتمام النقاد المحدثين‪ ،‬أكثر من اهتمامهم بالشعر‪ ،‬الذي انتقل من المركز إلى الهامش‪.‬‬
‫والرواية جنس أدبي سردي‪ ،‬يختلف باختالف مناهج كتابتها واتجاهاتها‪ ،‬فهناك الرواية‬
‫التاريخية‪ ،‬والرومانسية‪ ،‬والواقعية‪ ،‬والحداثية‪ ،‬وغيرها‪ .‬غير أن ما يهمنا من هذه االتجاهات‬
‫هي الرواية الواقعية التي تصور مشاكل الواقع واختالالته بهدف التجاوز واإلصالح‪ ،‬ومن‬
‫بين أهم الروائيين المغاربة الذين مثلوا هذا االتجاه في الكتابة عبد الكريم غالب وعبد المجيد‬
‫بن جلون ومحمد برادة وعبد القادر الشاوي وحسن أوريد‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫وتعد السياسة محورا هاما في السرد العربي المعاصر‪ ،‬إذ لجأ المثقف العربي إلى فنون‬
‫الحكي‪ ،‬للتعبير عن همومه ومعاناته‪ ،‬واستشراف غد مشرق‪ .‬فبعد هزيمة ‪ 1967‬تبدت‬
‫مظاهر أساسية في الهم القومي والصراع‪ K‬الطبقي واالستبداد‪ ،..‬وتغيرت المناخات السياسية‬
‫والنفسية للجماهير واألنظمة الحاكمة‪ ،‬مما أدى إلى تراجع وسقوط األفكار والقَناعات التي‬
‫كانت سائدة قبل الهزيمـة؛ إذ لم تكن حدثا عسكريا فحسب‪ ،‬بـل كانت ر ّجة في وجدان اإلنسان‬
‫العربي‪ ،‬ظهرت آثارهـا واضـحة علـى الفكـر واألدب‪ ،‬بحيث زعزعت عديدا من المفاهيم‬
‫والتصورات‪ K،‬وتبخرت على إثرها آمال وأحالم الشعوب العربية‪ ،‬بعد نضال مرير ضد‬
‫االستعمار لتحقيق االستقالل والحرية‪.‬‬

‫ونتيجة للنكسة وخيبة آمال المثقفين والروائيين‪ K‬في التغيير والتطور‪ ،‬اتسع مجال التجريب في‬
‫أنواع السرد والرواية بهدف الخروج عن األنماط التقليدية السردية‪ ،‬والمراهنة على التحديث‬
‫والتجديد والتجريب‪ ،‬بحيث كثر توظيف األسطورة والخرافة والرموز واألقنعة والشخصيات‬
‫التراثية والتاريخية‪ ،‬وغيرها من الوسائل الفنية للتخفي من رقابة السلطة‪ ،‬وتالفي السجون‬
‫والمنافي‪ ،‬ومصادرة األعمال األدبية ومنعها‪ ،‬وذلك بنسج حكي مواز للواقع المعاش‪.‬‬

‫الرواية العربية والواقع‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ .1-1‬الوضع االجتماعي‪:‬‬

‫جاءت االضطرابات السياسية األخيرة والتي تُسمى بالربيع العربي‪ ،‬تعبيرا عن المجتمع الذي‬
‫عاش الخذالن والهزائم في العقود األخيرة‪ ،‬لذلك انشغلت الرواية العربية باالرتكاز على‬
‫المجتمع في بنيته الداخلية وتشابك عالقاته ومآل األحداث فيه؛ فعالقة الرواية بالمجتمع مثار‬
‫قديم في شكل ِه ونوع ِه‪ ،‬يقول شوقي ضيف‪" :‬األدب في حقيقته إنّما هو تعبير‬
‫وجدل ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ق‬
‫ث عمي ٍ‬
‫بح ٍ‬
‫عن المجتم‪K‬ع وك‪ّ K‬ل م‪K‬ا يج‪K‬ري في‪K‬ه من نُظم وعقائ‪K‬د وأفك‪K‬ار"‪ ،1‬ويؤ ّك‪K‬د ذل‪K‬ك ق‪K‬ول ج‪K‬ورج لوك‪K‬اش‪:‬‬
‫"التنميط منسوب بمهار ٍة في الكتابة إلى التطورات االجتماعية والتاريخية"‪ ،2‬ومن هنا نشأ علم‬
‫اجتماع الرواية الذي يتميز "بأنّه يشغل مساحةً أكبر من العلوم األخرى المنبثقة عن علم‬
‫اجتماع األجناس األدبية‪ ،‬ألن الرواية تمثل مواقف وأفعاال اجتماعية وتاريخية‪ ،‬وإن مساحته‬
‫المرجعي‪K‬ة والتوثيقي‪K‬ة أك‪K‬ثر وض‪K‬وحا من الفن‪K‬ون األخ‪K‬رى"‪ ،3‬كم‪K‬ا يش‪K‬ير س‪K‬يد بح‪K‬راوي في مقدمت‪K‬ه‬
‫لكتاب النقد االجتماعي‪.‬‬

‫لذلك ال غرو أن تنحو الرواية العربية إلى محاولة إصالح عيوب المجتمع ومحاربة القهر‬
‫والظلم‪ ،‬تقول سلمى الجيوسي إن‪" :‬هناك قضيتين داخليتين انعكستا على أغلب إنتاج األدباء‬
‫الع‪K‬رب من المحي‪K‬ط إلى الخليج‪ ،‬وهم‪K‬ا القه‪K‬ر السياس‪K‬ي والظلم االجتم‪K‬اعي"‪ .4‬باإلض‪K‬افة إلى ذل‪K‬ك‬
‫ركزت الرواية العربية الحديثة على مشاكل المجتمع من الداخل‪ ،‬من خالل النظر إلى شبكة‬
‫العالقات االجتماعية وما آلت إليه‪ ،‬وتصوير الحياة االجتماعية بكافة مشاكلها وأسبابها‪،‬‬
‫والتركيز على ظواهر االستالب واالغتراب والقهر‪.‬‬

‫وتشير الرواية العربية المعاصرة إلى ظواهر المجتمع السلبية من عدة زوايا‪ ،‬لتصل إلى نتائج‬
‫شبه متقاربة‪ .‬فهي تجاوزت مقولة تصوير جانب واحد من الواقع والتعبير عنه‪ ،‬التي أشار‬

‫‪ - 1‬شوقي ضيف‪ ،‬البحث االدبي‪ :‬طبيعته ‪-‬مناهجه‪ -‬أصـوله‪ -‬مـصادره‪ ،‬دار المعـارف‪ ،‬ط‪ ،6 .‬ص‪.1 :‬‬
‫‪ - 2‬جورج لوكاش‪ ،‬معنى الواقعية االشتراكية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬أمين العيوطي‪ ،‬دار المعارف بمـصر‪ :‬د‪ .‬ت‪ ،‬ص‪177 :‬‬
‫‪ -3‬بيير زيما‪ ،‬النقد االجتماعي‪ :‬نحو علم اجتماع للنص األدبي‪ ،‬ترجمة عايدة لطفي‪ ،‬دار الفكـر للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1991 ،‬ط‪.‬‬
‫‪ ،1‬ص‪.1 :‬‬
‫‪ -4‬سلمى الخضراء الجيوسي‪ ،‬البطل في االدب العربي المعاصر‪ :‬الشخصية البطولية والضحية‪ ،‬الكاتب‪ ،‬العدد ‪ ،200‬نوفمبرـ ‪ ،1977‬ص‪-44 :‬‬
‫‪.45‬‬

‫‪7‬‬
‫إليها محمود العالم في دراسته إليديولوجيا الرواية العربية‪ ،5‬إلى تصوير جوانب متعددة من‬
‫هذا الواقع‪ ،‬وضرورة‪ K‬اعتماد تعدد زوايا النظر إلى الواقع المصور في الرواية‪ ،‬التي أصبحت‬
‫تُقدم الحلول‪ ،‬بعدما أمضت عقودا تثير التساؤالت واإلشكاالت في الغالب‪ ،‬حيث أوضحت‬
‫عجز قادة المجتمع وحكومته عن تحمل مسؤولياتهم‪ ،‬واالرتقاء بالمجتمع‪ ،‬لتحصر حلولها في‬
‫قيام الثورة‪.‬‬

‫لقد حاولت الرواية العربية الحديثة أن تسير في ركب المقارنة بين العالم العربي والعالم‬
‫الغربي‪ ،‬إذ عكست ظاهرة التحدي الحضاري بين هذين العالمين‪ ،‬لكنها أيضا وبطريق ٍة أخرى‪،‬‬
‫حاولت المقارنة بين الشعوب العربية نفسها‪ ،‬وأصبحت قضية التحدي الحضاري تقتصر على‬
‫دو ٍل عربي ٍة متقاربة أو متجاورة‪.‬‬

‫‪ .2-1‬الوضع االقتصادي‪:‬‬

‫يعد البعد االقتصادي من أهم العوامل المؤثّرة في المجتمع وتكوينه‪ ،‬فـ"لوسيان غولدمان"‬
‫مجتمع يطبق نظام‬
‫ٍ‬ ‫يرى أن الرواية "هي العمل األدبي‪ ،‬الذي يعكس الحياة اليومية في‬
‫الس‪K‬وق"‪ .6‬ومن هن‪K‬ا تظه‪K‬ر أهميته‪K‬ا في دراس‪K‬ة الث‪K‬ورات المجتمعي‪K‬ة وحرك‪K‬ة المواط‪K‬نين داخ‪K‬ل‬
‫الدولة‪ ،‬والرواية – أي رواية ‪-‬ال تستطيع أن تنأى بنفسها عن الصراعات االقتصادية وشكلها؛‬
‫فلكي نفهم ‪-‬على سبيل التمثيل‪ -‬التطور الصناعي الذي وصل إليه الغرب علينا بالرجوع إلى‬
‫بعض الروايات التي ُكتبت منذ منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬فهي تقدم صورةً واضحة عن‬
‫مظاهر الحياة في مجتمع صناعي يفتقد إلى االستقرار‪.‬‬

‫عمل الناقد المجري) جورج لوكاش) ‪-‬انطالقا من اتجاهه الماركسي‪ -‬على ربط أشكال الوعي‬
‫كافة بالبنية االقتصادية المحددة لها‪ ،‬ففي كتاباته عن بلزاك وإميل زوال كشف عن العالقة‬
‫الجدلي‪K‬ة بين دالالت األعم‪K‬ال اإلبداعي‪K‬ة الك‪K‬برى ودالالت البني‪K‬ات االجتماعي‪K‬ة‪" ،7‬ونظ‪K‬ر إلى‬

‫‪ - 5‬محمود أمين العالم‪ ،‬ويمنى العيد‪ ،‬وسليمان نبيل؛ الرواية العربية بين الواقع واإليـديولوجيا‪ ،‬دار الحوار للنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،1986 ،‬ط‪.‬‬
‫‪ ،1‬ص‪.19 :‬‬
‫الطليعة‪ ،‬ط‪ ،1993 ،2.‬ص‪.83-82 :‬‬ ‫‪ - 6‬عبد السالم ابن عبد العالي‪ ،‬النص والسلطة والمجتمع‪ :‬الميتافيزيقيا‪-‬العلم‪-‬األيديولوجيا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار ّ‬
‫‪ - 7‬محمد خرماش‪ ،‬إشكالية المناهج في النقد األدبي المغربي المعاصر‪ )III :‬البنيويـة التكوينيـة بـين النظرية والتطبيق)‪ ،‬ط‪ ،2001 :‬ص‪.7 :‬‬

‫‪8‬‬
‫ت لمنظوم ٍة ظاهر ٍة‪ ،‬واالنعكاس عنده يعني تكوين بنية ذهنية‬
‫األعمال األدبية بوصفها انعكاسا ٍ‬
‫يتم التعبير عنها بالكلمات"‪.8‬‬

‫وإذا كانت الرواية االجتماعية والنقد االجتماعي يبحثان دوما عن الطبقات االجتماعية التي‬
‫خلقتها الظروف االقتصادية‪ ،‬وباألخص البورجوازية‪ K،‬لرفضها وبيان مساوئها في الغالب‪،‬‬
‫ومهاجمتها وإظهار العداء لها أحيانا أخرى‪ .‬فإننا هنا ال ندرس تأثير المجتمع على الرواية‪،‬‬
‫سواء كان انعكاسا أو تماهيا أو غيره‪ ،‬وإنما حسبنا اإلشارة إلى رفض الروايات العربية‬
‫للبرجوازية‪ ،‬وانتقادها وانتصارها لطبقة العمال تأثرا باالتجاه الماركسي الذي تخلّت عنه منذ‬
‫زمن بعي ٍد‪.‬‬
‫ٍ‬

‫ّ‬
‫إن الرواية العربية "لم تراوح مكانها‪ ،‬ولم تعد أسيرة ارتباطها بالطبقة الوسطى‪ ،‬بل تعددت‬
‫ت اجتماعي‪K‬ة أخ‪K‬رى‪ ،‬مع‪K‬برةً عن همومه‪K‬ا وأحواله‪K‬ا"‪ ،9‬إذ أص‪K‬بحت‬
‫وتن‪K‬وعت‪ ،‬وط‪K‬وقت طبق‪K‬ا ٍ‬
‫"تاريخ من ال تاريخ لهم من الفقراء والمسحوقين‪ ،‬الذين يحلمون بغ ٍد أفضل"‪.10‬‬

‫لم تقف الرواية العربية الحديثة "عند حد وجود مظاهر غياب العدالة االجتماعية‪ ،‬بل ذهبت‬
‫إلى شرح األسباب التي تؤدي إلى هذا الوضع المخت ّل‪ ،‬وحصرتها في سوء توزيع العوائد‬
‫المادية الناجم عن تنامي النزعة االستغاللية لدى أصحاب رأس المال‪ ،‬واستغالل بعض الناس‬
‫ت‬
‫لنفوذهم ومناصبهم الرسمية في اختالس أو نهب المال العام‪ ،‬والبطر الذي يصيب ثروا ٍ‬
‫طائل ٍة دون وجه حق من األثرياء‪ ،‬فينفقون بال حساب‪ ،‬على السلع والملذات‪ ،‬وسط حالة من‬
‫ت حقيقي ٍة"‪.11‬‬
‫االستسالم لنزع ٍة استهالكي ٍة‪ ،‬ال تقوم على حاجا ٍ‬

‫إن ما يهمنا في الرواية العربية الحديثة هو شكل الصورة المش ّوهة المق ّد َمة عن الواقع‬
‫االقتصادي‪ ،‬وتتبع أسباب ذلك التشوه‪ ،‬ومدى تأثيره في المجتمع‪ ،‬ودفعه نحو الرفض والتثوير‬

‫‪ - 8‬رامان سلون‪ ،‬ال ّنظرية األدبية المعاصرة‪ ،‬ت سعيد الغانمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1 .‬ص ‪- 51. 50‬‬
‫‪ - 9‬محمود أمين العالم‪ ،‬الرواية بين زمنيتهاـ وزمنها مقاربة مبدئية عامة‪ ،‬فـصول ربيـع ‪ ،1993‬المجلد‪ ،12 :‬العدد‪ :‬األول‪ ،‬ص‪.17-16 :‬‬
‫‪ - 10‬عبد الرحمان منيف‪ ،‬الكاتب والمنفى‪ :‬هموم وآفاق الرواية العربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.43 :‬‬
‫‪ - 11‬عمار علي حسن‪ ،‬ال ّن ص والسلطة والمجتمع‪ :‬القيم السياسية في الرواية العربية‪ ،‬وكالة األهرام للتوزيع‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2003 :‬ص‪.12 :‬‬

‫‪9‬‬
‫ومحاولة الخروج من الواقع المعاش‪ .‬وهذا ما يدل على أن الرواية الحديثة قد اهتمت بتصوير‬
‫بشكل متكام ٍل‪ ،‬دون االقتصار على جوانب الفقر والظلم فقط‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫النظام االقتصادي للمجتمع‬

‫قد يبدو أن بعض الروائيين‪ K‬العرب عبروا في رواياتهم المختلفة المصورة لواقع دول مختلفة‪،‬‬
‫ومن زوايا نظر متعددة عن هم واحد‪ ،‬وكأنهم‪" :‬يكتبون رواية واحدة رغم اختالف العناوين‪،‬‬
‫ألنهم كتبوه‪K‬ا انطالقً‪K‬ا من الت‪K‬اريخ وارتك‪K‬ازا علي‪K‬ه"‪ .12‬فه‪K‬ذه الرواي‪K‬ات ال تنتق‪K‬د مظه‪K‬را أو اختالالً‬
‫اقتصاديا محددا كالفقر والتهميش‪ K،..‬بل إنّها تصف النظام االقتصادي القائم بالعجز‪ ،‬وتحيل‬
‫الالئمة على من أوجد هذا التناقض في المجتمع وذلك االنهيار المتوالي‪ K‬في بنياته االقتصادية‪،‬‬
‫ومن هنا يتداخل البعد االقتصادي والسياسي في هذا الصنف من الرواية‪.‬‬

‫‪ .3-1‬الوضع السياسي‪:‬‬

‫لم تكن الحرية وحدها هي الدافع وراء الثورات العربية‪ ،‬بل كانت هناك عوامل أخرى متعددة‬
‫ومتداخلة كالقهر والظلم والديكتاتورية وغياب الحرية والفقر والتهميش‪ ...‬وقد جاءت المفارقة‬
‫وسخرية الوضع القائم في بلدان الربيع العربي كغطا ٍء استراتيجي لمطالبات الشعوب الثائرة‬
‫بالحرية وإسقاط الفساد والعدالة االجتماعية وغيرها‪ .‬لذلك فإن هنالك "قضيتين داخليتين‬
‫انعكستا على أغلب إنتاج األدباء العرب من المحيط إلى الخليج‪ ،‬وهما القهر السياسي والظلم‬
‫االجتماعي"‪.13‬‬

‫إن تداخل الرواية مع الحدث السياسي‪ ،‬ال يعد عيبا أو إغراقًا في الواقعية‪ ،‬ألن حديث الكاتب‬
‫وإفصاحه أحيانا عن إيديولوجيته السياسية دليل على "دخوله في الصراع ومؤشر على‬
‫السياسي‪ .‬الكاتب معني‪ ،‬طبعا‪ ،‬بهذه الهوية‪ ،‬وإن نجح فنيا بتلبيسها لبوس الحيادية‪ ،‬وتوسل‬
‫تقني‪K‬ات الخف‪K‬اء"‪ ،14‬وهن‪K‬ا ال نج‪K‬د الروائ‪K‬يين‪ K‬الع‪K‬رب ق‪K‬د اتخ‪K‬ذوا رواي‪K‬اتهم مع‪K‬برا فج‪K‬ا للح‪K‬ديث عن‬
‫اإليديولوجية السياسية؛ فالرواية العربية تنطلق من رفضها للخلل السياسي القائم في المجتمع‪،‬‬
‫وتسعى لتصويره‪ ،‬ومن هنا يتجلى تورطها في ُأتون السياسة‪ ،‬وتغدو الحيادية شيئا صعب‬
‫‪ - 12‬ادريس ال ّن اقوري‪ ،‬المصطلح المشترك‪ ،‬دراسات في االدب المغربي المعاصـر‪ ،‬دار ال ّنـشر المغربية‪ ،1997 ،‬ط‪ ،2 :‬ص‪.29-28 :‬‬
‫‪ -13‬سلمى الخضراء الجيوسي‪ ،‬البطل في األدب العربي المعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.45-44‬‬
‫‪ - 14‬محمود أمين العالم‪ ،‬ويمنى العيد‪ ،‬وسليمان نبيل؛ الرواية العربية بين الواقع وااليديلوجية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.27 :‬‬

‫‪10‬‬
‫المنال‪ ،‬فـ "الرواية العربية ترفض القهر السياسي واإلرهاب الفكري والتعذيب المادي‬
‫والمعنوي‪ ،‬وتنطلق من هذا الرفض الفني المصور ألزمة الحرية إلى المناداة بالحرية‬
‫والتطلع إلى تجاوز هذا الواقع المدان إلى مستقبل أفضل"‪.15‬‬

‫وحاولت بعض الروايات العربية تصوير زعماء الدول التي تتحدث عنها ووصف أشكالهم‪،‬‬
‫بصور واقعية أحيانًا‪ ،‬وبصور كاريكاتورية ساخرة أحيانًا أخرى؛ إذ صورت شكل السلطة‬
‫ٍ‬
‫الحاكمة‪ ،‬واتخذت من حقوق اإلنسان موضوعا‪ ،‬إلى درجة أن أصبح من أكثر الموضوعات‬
‫المتطرق إليها في الرواية العربية الحديثة‪ .‬لذا تح ّول الخطاب السياسي العربي في هذا النوع‬
‫ب عن الديمقراطية والمطالبة بالحرية الفردية واالجتماعية والسياسية‪...‬‬
‫من الرواية إلى خطا ٍ‬
‫ولعل السبب في ذلك يؤول إلى غياب العدالة االجتماعية‪ ،‬والديمقراطية‪ K‬وحقوق اإلنسان‬
‫وتراجع هامش حرية التعبير‪...‬‬

‫تفصح الرواية السياسية المغاربية عن غضب عارم تجاه الممارسات االنتهازية بوصفها‬
‫مزيفة للديمقراطيات‪ .‬لكن المالحظ مما تعرضه أن الوطن يأخذ شكال مليئا بالتناقضات‬
‫الداخلية‪ ،‬يكون أبرز مظاهره هو التزييف الذي يقع فيه أغلب أبناء الوطن من جهة‪ ،‬حينما‬
‫يمدحون نظاما يظلمهم ويخافونه‪ ،‬ومن جهة أخرى يسعون إلى الهرب منه‪ ،‬وتركه ألسباب‬
‫اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية‪ .‬فهذه من المواقف التي جعلت من الرواية العربية حدثًا‬
‫جماعيا يوجه مشاعر المواطنين‪ K‬والقراء ومواقفهم‪ ،‬ويعمل على التأثير فيهم؛ "المواقف التي‬
‫كان فيها األشخاص يشعرون أنهم في قارب واحد وينسون خلفياتهم االجتماعية والثقافية من‬
‫ظرف عام يحتم ذلك"‪.16‬‬
‫ٍ‬ ‫هدف أو‬
‫ٍ‬ ‫أجل‬

‫نشأة الرواية السياسية عند الغرب‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫ظهرت الرواية السياسية في الغرب نتيجة الصراعات اإليديولوجية والسياسية المتطاحنة‪ ،‬بين‬
‫الرأسمالية واالشتراكية‪ ،‬وصدحت هذه الرواية بموقع اإلنسان الغربي ومصيره في ظل أنظمة‬
‫‪ - 15‬أحمد محمد عطية‪ ،‬الرواية السياسية‪ :‬دراسة نقدية في الرواية الـسياسية العربيـة‪ ،‬مكتبـة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ط‪ ،1 .‬ص‪.17 :‬‬
‫‪ - 16‬عمار علي حسن‪ ،‬ال ّن ص والسلطة والمجتمع‪ :‬القيم السياسية في الرواية العربية‪ ،‬وكالة األهرام للتوزيع‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1998 :‬ص‪.244 :‬‬

‫‪11‬‬
‫الحكم المعاصرة‪ .‬ومن أهم الروايات الغربية السياسية نجد ‪-‬على سبيل التمثيل‪ -‬رواية‬
‫"الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي التي تعبر عن الواقع السائد الطافح بالتناقضات ومن فقر‬
‫وبؤس وربا واستغالل وجريمة‪...‬‬

‫وقد عرفت فترة العشرينات والثالثينيات من القرن العشرين‪ ،‬بعد نجاح االشتراكية والقضاء‬
‫على النظام اإلقطاعي‪ ،‬روايات تدافع عن هذا النظام وتلتزم بتصوره وقناعاته وذكر إيجابياته‪،‬‬
‫على الرغم من وجود روايات معارضة تستهدف اضطهاد المثقفين وقمعهم‪ .‬ومن أبرز كتاب‬
‫الرواية السياسية في األدب الغربي والعالمي‪ :‬ألكسي تولستوي‪ ،‬وموبسان‪ ،‬وإرنست‬
‫هيمنغواي‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬الذين عاصروا كل الهزات االقتصادية واالجتماعية والسياسية المختلفة‬
‫داخل النظام الرأسمالي‪ ،‬وهناك من شارك منهم في النضال جسديا وسياسيا‪.‬‬

‫تمتلك الرواية القدرة الفنية على طرح أزمات الواقع‪ ،‬وإشكاليات الفكر‪ ،‬وصراع‬
‫اإليديولوجيات‪ ،‬والحوار مع األنا واآلخر‪ .‬كما أنها قادرة على طرح أه ّم القضايا وأخطرها‬
‫بطريقة فنية أخاذة‪ ،‬من خالل بنيتها السردية‪ .‬لقد حاولت الرواية منذ نشأتها كملحمة للطبقة‬
‫الوسطى‪ ،‬أن "تحل محل الفنون األدبية جميعا‪ ،‬وأن تستمد من خصائص كل فن ما يزيدها‬
‫عمقا وقدرة على استيعاب خصائص الفنون األخرى"‪.17‬‬

‫نشأة الرواية السياسية عند العرب‪:‬‬ ‫‪-3‬‬

‫لم تظهر الرواية العربية السياسية حسب حسين مروة إال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مع‬
‫انطالق حرك‪K‬ة التح‪K‬رر الوط‪K‬ني وانحص‪K‬ار الم‪K‬د االس‪K‬تعماري الت‪K‬دريجي‪ .18‬وق‪K‬د ت‪K‬وقفت عن‪K‬د عدي‪K‬د‬
‫من القضايا والظواهر المجتمعية والسياسية‪ ،‬كواقع االستعمار‪ ،‬واالستقالل‪ ،‬وفترة ما بعد‬
‫االستقالل والصراع اإليديولوجي والحزبي‪ ،‬والحروب العسكرية والسياسية والنكبات‬
‫والهزائم‪ ،‬والصراعات القومية‪ ،‬والثورات المناصرة لألنظمة الحاكمة أو المضادة لها‪،‬‬
‫وقضايا مصادرة حقوق اإلنسان العربي‪ ،‬واالعتقال السياسي‪ ،‬واستبداد السلطة‪ ،‬وانعدام‬
‫‪ -‬ألبير يس‪ ،‬تاريخ الرواية الحديثة‪ ،‬ترجمة جورج سالم‪ ،‬بيروت‪ ،‬مكتبة الفكر‪ ،‬ص‪.6 :‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪ -‬حسين مروة‪ ،‬عالقة السياسة باألدب في المجتمع العربي‪ ،‬الموقف األدبي‪ ،‬دمشق سوريا‪ ،‬كتاب العرب‪ ،‬العدد ‪ ،171‬سنة ‪ ،1985‬ص‪.18‬‬ ‫‪18‬‬

‫‪12‬‬
‫الديموقراطية‪ ،‬والفساد‪ ،‬وتزوير االنتخابات وتزييفها‪ ،‬وغيرها‪ .‬ويمكن حصر الرواية العربية‬
‫المعاصرة في ثالث رؤى‪:‬‬

‫الرؤية السياسية المحلية‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫الرؤية السياسية الوطنية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الرؤية السياسية القومية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وتعد هذه الرؤى توجهات نقدية لتعرية الفساد االقتصادي واالجتماعي والسياسي‪ ،‬وفضح‬
‫االستالب والقهر‪ ،‬والفساد اإلداري والسياسي‪ ،‬والتنديد بالتسلط‪ ،‬والدعوة إلى الحرية‬
‫والديموقراطية وحقوق اإلنسان‪...‬‬

‫تصور الروايات السياسية العربية تردي وانحطاط الواقع العربي على عدة مستويات‪،‬‬
‫وباألخص الوضع السياسي؛ كغياب الحرية والديموقراطية وحقوق اإلنسان‪ ،‬وتوالي الهزائم‬
‫العربية‪ ،‬واستشراء الفساد‪ ،‬وانتشار القمع والتسلط‪ ...‬وقد دفع هذا الوضع الروائيين إلى‬
‫تصوير الواقع أو إعادة تشكيله اعتمادا على المحاكاة الساخرة التي تقوم على السخرية والنقد‬
‫والفضح والهجاء؛ إذ بعد هزيمة ‪ 1967‬ركز عديد من الروائيين على تصوير الفضاء‬
‫السياسي الواقعي بكل كوابيسه الدموية اليومية‪ ،‬وهو فضاء يسيطر على راهن الرواية العربية‬
‫كتابة وقراءة وتمثال‪ ،‬ويختصر بكل مقوماته الواقعية والرمزية عذاب اإلنسان المستلب‬
‫والمقموع والمقهور في بعض الدول العربية‪ ،‬وذلك عبر تصوير صراعه في المجتمع‪ ،‬ضد‬
‫إحباطاته الذاتية ومشاكله‪ ،‬وضد قمع السلطة وعدوانية اآلخرين‪.‬‬

‫واعتبر عبد الرحمان منيف أن الرواية هي المسلك الوحيد للتعبير عن تجربة المنفى والسجن‬
‫السياسي وغياب المناخ الديموقراطي والتنديد باالستبداد والتسلط العربي والسخرية من هزائم‬
‫العرب وخضوعهم‪ .‬وقد قال عن الرواية السياسية التي كتبها رغبة منه في إرساء مجتمع‬
‫ديموقراطي عادل‪" :‬يمكن التعبير عن االهتمام بالسياسة وعن القناعة السياسية‪ ،‬من خالل‬
‫الرواية‪ ،‬ومن خالل السلوك والمواقف التي يلتزم بها الكاتب‪ ...‬وقد كنّا في وقت سابق نتعامل‬

‫‪13‬‬
‫مع السياسة بمعناها المباشر واليومي كما يتعامل األطفال بألعابهم‪ ،‬وهذا ما دعاني إلى هجر‬
‫العمل السياسي وااللتفات إلى الرواية‪ .‬وإن كانت رواياتي تتصف بالهموم السياسية فألني‬
‫أتصور أو أفترض أن الرواية بمعناها المغير المكتشف‪ ،‬لها أولويات معينة وجديدة ومختلفة‬
‫عن المناورات والمزايدة‪ .‬ومن هنا فإن أي كاتب وحتى أي إنسان البد وأن يكون له موقف‬
‫سياسي وأن يكون سياسيا بمعنى ما‪ .‬لكن هذا ال يعني بالضرورة أنه امتداد لحركة سياسية أو‬
‫أنه مضطر للعمل في السياسية اليومية"‪.19‬‬

‫ويرى منيف في مقام آخر أن الرواية مرآة تعكس الواقع‪ ،‬وأنها أداة فعالة لتنوير وتوعية‬
‫الجماهير وتحريضهم على التغيير واالرتقاء إلى عالم أفضل‪ .‬ومهمة الرواية ليست "تقديم‬
‫برنامج سياسي‪ ،‬إنما وجب قراءتها قراءة حقيقية وصادقة للواقع من أجل الوصول إلى واقع‬
‫أفضل‪ ،‬وحياة أقل شقاء‪ ،‬ولذلك‪ ،‬فإن مهمة الرواية هي أن توصل ك ّما من المعلومات والوقائع‬
‫وأن تجعل الناس أكثر قدرة ووعيا لواقعهم وأن تحرض أقوى ما فيهم من المشاعر‪ ،‬من أجل‬
‫أن يكونوا بشرا فاعلين‪ .‬إن الرواية أو أي عمل أدبي ال يمكنه تغيير الواقع‪ ،‬إن اإلنسان من‬
‫يغيره حين يكون أكثر إدراكا وأكثر حساسية يكون بالنتيجة أكثر فاعلية‪ ،‬ومهمة الرواية أن‬
‫تساهم في خلق هذا اإلنسان"‪.20‬‬

‫الرواية السياسية العربية‪:‬‬ ‫‪-4‬‬

‫ظل العالم العربي بعد نكسة ‪ ،1967‬وتوالي األزمات السياسية الحادة التي تعرض لها‬
‫كاألزمة البترولية سنة ‪ ،1973‬وقضايا الحرب والسالم مع إسرائيل‪ K،...‬يعاني من أنظمة القهر‬
‫واالستبداد وطغيان جهاز المخابرات وانعدام حقوق اإلنسان‪ ،‬وتراجع هامش الحرية‪ ،‬فلجأ‬
‫عديد من الروائيين إلى استعمال الرموز واألقنعة واستلهام التراث واتخاذه قناعا للتعريض‬
‫والنقد‪ ،‬ودرءا لمراقبة السلطة‪ .‬وهذا االستخدام الرمزي لما هو سياسي‪ ،‬موجود اليوم في كل‬

‫‪ - 19‬عبد الرحمان منيف‪ ،‬الكاتب والمنفي‪ ،‬هموم وآفاق الرواية العربية‪ ،‬دار الفكر الجديد‪ ،‬بيروت‪ ،1992 ،‬ص‪.359-358 :‬‬
‫‪ - 20‬نفسه‪ ،‬ص‪.359 :‬‬

‫‪14‬‬
‫األنظمة المتسلطة التي تغيب فيها الديمقراطية والعدالة االجتماعية والحرية وحقوق اإلنسان‪،‬‬
‫وتفرض ضغوطاتها ورقابتها على وسائل اإلعالم‪ ،‬وتوجهها الغاية التي تنشدها‪.‬‬

‫إن العالقة التي تجمع الرواية بالقضايا السياسية‪ ،‬بدأت عقب الحرب العالمية الثانية مع ظهور‬
‫الرواية الواقعية‪ ،‬وهو المذهب السائد الذي يعكس الواقع‪ ‬ويصور أزمات المجتمع العربي‬
‫واختالالته خاصة السياسية منها‪ ،‬بحيث صارت السياسة مسيطرة وحاضرة في كل القضايا‬
‫المرتبطة بالتعليم والفكر والصناعة واإلعالم والسفر‪ ..‬ومن ث ّم أصبحت الرواية مسيسة‪.‬‬

‫إن كاتب الرواية السياسية ينبغي أن يكون ذا ثقافة واسعة مل ّما بالوسائل الفنية والجمالية‬
‫للرواية لتشييد عالمه الروائي‪ ،‬معايشا لألحداث‪ ،‬وذا رؤية واقعية تستوعب ظروف العصر‬
‫وتل ّم بمالبساته السياسية والسوسيوثقافية‪ ،‬وغنية بالتجارب‪ .‬كما يلزم أن يكون مل ّما‬
‫بالموضوعات السياسية التي لها ارتباط باألفكار والبرامج واألحزاب وتوزيع السلط‪،‬‬
‫والعالقات بين الحكام والمحكومين‪ ...‬وبهذه الموضوعات ونحوها يتحدد األفق العام الذي‬
‫تدور حوله الرواية السياسية‪ .‬فالسياسة تعد المحرك األول لمسيرة البشر فـي أي مجتمع‪ ،‬فهي‬
‫التي تحدد أصول الحكم‪ ،‬وتنظم شؤون الدولة‪ ،‬على أساس من الوعي بهذا الدور الخطير‬
‫والمؤثر‪.‬‬

‫وإذا كانت الرواية مجموعة من التقنيات واألدوات الفنية والجمالية التي تساهم في إثراء‬
‫التعبير اإلنساني عن األفكار والمشاعر وتجارب الواقع والذات‪ ،‬فإن السياسة باعتبارها نسقا‬
‫اجتماعيا‪ ،‬عملية معقدة تقوم على تصورات نظرية تخالف الفهم التقليدي لها‪ ،‬كما أنها لم تعد‬
‫تهتم بقضية معينة‪ ،‬وإنما اتسع مجالها لتتناول كل مكونات النظام السياسي كأسلوب الحكم‪،‬‬
‫وطريقة تشكيل الحكومة‪ ،‬وصنع القرار السياسي وكيفية تنفيذه‪ ،‬وموقف الهيئة الحاكمة من‬
‫القوى المعارضة‪...‬‬

‫أما على مستوى الممارسة العملية‪ ،‬فتبدو السياسة عملية أكثر تعقيدا وشموال‪ ،‬تمتد لتشمل عدة‬
‫مستويات‪ ،‬قد تبدو في الظاهر بعيدة ع ّما هو سياسي‪ ،‬لكنها في حقيقة األمر خاضعة لقرار‬

‫‪15‬‬
‫سياسي مثل‪ :‬أسلوب توزيع الثروة االقتصادية‪ ،‬ونظام التعليم‪ ،‬وحركة القوى العاملة‪ ،‬وقوانين‬
‫اإلسكان‪ ...‬إن السياسة تتدخل في كل أمور الحياة المعاصرة‪ ...‬وتهيمن على كل مجاالتها‬
‫المختلفة‪ .‬ونتيجة لذلك فإن األدب "حين يعكس رؤية تقدمية للواقع‪ ،‬فإنه يعد ممارسة سياسية‬
‫بمعنى من المعاني‪ .‬والريب أن األدب الجيد ملتزم بالضرورة‪ ،‬وااللتزام يقوده تبعا لذلك إلى‬
‫صف المعارضة"‪.21‬‬

‫تهتم الرواية السياسية بالقضايا السياسة التي لها تأثيرها الواضح‪ K‬على حياة الناس"‪ .22‬وترصد‬
‫جدلية الصراع‪ K‬بين الحاكم والمحكوم‪ ،‬وتناقش األفكار السياسية‪ ،‬وبرامج األحزاب‪،‬‬
‫وتصورات‪ K‬المذاهب والتيارات واألحزاب والنقابات‪ ...‬وتبرز مواطن اختالفها وتشابهها‬
‫بشكل صريح أو رمزي‪ ،‬وتركز غالبا على القضايا السياسية المحلية والوطنية والقومية‪،‬‬
‫مستوعبة المراحل المتنوعة التي مرت بها قضية معينة‪ ،‬مع الوقوف عند خصوصية أحداث‬
‫متميزة‪.‬‬

‫كما يصور هذا النوع من الرواية التي تندرج ضمنها ما يسمى بــ "أدب السجون" االستبداد‬
‫وانتهاك حقوق اإلنسان والتعذيب من خالل الزج بالمعتقلين السياسيين في سجون الظلم‬
‫والقهر‪ ،‬ويعمل على تقديم وجهة نظر سياسية تالئم أهداف المجتمع وطموحاته‪ .‬فالروائي إما‬
‫أن يتماهى مع خطاب السلطة ويدافع عنه‪ ،‬ويصفق له‪ ،‬أو يناوئه ويعارضه‪ ،‬أو أن يكون‬
‫مهادنا في منزلة بين المنزلتين‪ .‬والروائي‪ K‬قلّما يدخل في مغامرة غير مأمونة العواقب‪ ،‬فهو‬
‫يوظف الرموز لتالفي ما قد يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة‪ ،‬وليجنب نفسه خطر السجن أو‬
‫النفي أو القتل أو مصادرة الروايات ومنعها‪ ،‬كما وقع لنجيب محفوظ وعبد الرحمان منيف‬
‫وغسان كنفاني‪ ،‬على سبيل التمثيل ال الحصر‪.‬‬

‫‪ .1-4‬الرواية السياسية المغربية‪:‬‬

‫‪ - 21‬طه وادي‪ ،‬السياسة والفن في الرواية المعاصرة‪ ،‬مجلة كلية اآلداب‪ ،‬مصر‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬العدد ‪ ،1‬المجلد ‪ ،50‬ماي ‪1990‬م‪ ،‬ص‪.59 :‬‬
‫‪ -22‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬الشركة المصرية العالمية للنشر‪ ،‬لونجمان‪ ،2003 ،‬ط‪ .‬ص‪.6 :‬‬

‫‪16‬‬
‫لدى ال ُكتَّاب المغاربة خبرة بالسياسة على مستوى الرؤية والتشكيل‪ ،‬حيث نجد كتّابا أمثال‪:‬‬
‫محمد زفزاف والميلودي شغموم ومحمد برادة وعبد القادر الشاوي‪ ...‬يدمجون القالب‬
‫السياسي في رواية اجتماعية أو ذاتية‪ ،‬حيث تساهم في فك الرمزية عن المثقف والسياسي‪،‬‬
‫وعن أنساق التفكير األسطورية والسلفية والخرافية‪ ،‬وتشكك في نزاهة المؤسسات‬
‫الديموقراطية‪ ،‬وفي الوقت نفسه تعقد تصالحا خفيا مع اإليديولوجيا السائدة عن طريق التقاء‬
‫في ثوابت التنظيم االجتماعي‪ ،‬الذي يتجلى في شكل قيم ضائعة إما مبحوث عنها أو مأسوف‬
‫على تالشيها‪ ،‬الشيء الذي يجعل الرواية في موقف البين بين‪.‬‬

‫ويتمحور الموضوع السياسي في الرواية المغربية حول مجموعة من القضايا‪ ،‬التي يمكن أن‬
‫نجملها وفق تمظهراتها اآلتية‪:‬‬

‫التعبير عن مرحلة المطالبة باالستقالل‪ :‬وهو معنى سياسي في جوهره‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫التطرق لمرحلة البناء واإلصالح لمرحلة ما بعد االستقالل‪ :‬وهو معنى يتداخل فيه البعد‬ ‫‪‬‬
‫االجتماعي والسياسي‪ ،‬نظرا لصعوبة الفصل بين البنية االجتماعية والسياسية من منطلق‬
‫التداخل الذي يرى أن كل بناء اجتماعي يتحدد وفق القناعات السياسية‪.‬‬
‫تمثل الغرب‪ :‬وهو معنى يستحضر مسألة التقدم والتفوق الغربي‪ ،‬وكأن األمر يتعلق‬ ‫‪‬‬
‫بتخييل ذهني روائيا‪ ،‬بناء على فكرة "لماذا تأخر المسلمون وتقدم الغرب؟"‪.‬‬

‫إن الموضوعات‪ K‬المحددة سابقا‪ ،‬تختصر في‪ :‬االستقالل‪ ،‬والبناء والتقدم‪ .‬بيد أن ما كشفت عنه‬
‫الروايات التي كتبت الحقا‪ ،‬وباألخص تجارب الروائيين‪ :‬عبد هللا العروي‪ ،‬ومحمد زفزاف‪،‬‬
‫ومحمد عز الدين التازي‪ ،‬ومحمد برادة‪ ،‬وسعيد علوش‪ ،‬وأحمد المديني‪ ،‬ومحمد صوف‪،‬‬
‫وحسن أوريد بعدهم‪ K،...‬أن الموضوع‪ K‬السياسي الذي أصبح مهيمنا على الرواية السياسية‬
‫الجديدة يتمثل في تصوير اإلخفاق؛ فشل مشاريع اإلصالح والبناء‪ ،‬وإخفاق نهضة المغرب‬
‫المتوقعة‪ .‬من هنا بالضبط تولد الوعي السياسي المغاير في الكتابة الروائية السياسية المغربية‪،‬‬
‫إال أنه لم يكن وعيا يتم اإلفصاح عنه بشكل مباشر‪ ،‬وإنما يكتفى بالتلميح واإلشارة إليه‪ ،‬إ ّما‬

‫‪17‬‬
‫إذعانا لمقتضيات البعد الجمالي للكتابة الروائية أحيانا‪ ،‬وإ ّما بسبب انتفاء الحرية وحرية‬
‫التعبير أحيانا أخرى‪ .‬ولعل ذلك يؤول إلى التسلط والقهر واالستبداد الذي يتلون بتغير‬
‫الظروف ويصعب الفكاك منه‪.‬‬

‫تضطلع الرواية السياسية بدور هام يتمثل في تعرية الواقع االجتماعي والسياسي وفضح‬
‫اختالالته وأعطابه‪ ،‬بهدف التجاوز واإلصالح‪ ،‬ومن هنا تكمن وظيفتها التعليمية اإلصالحية‪.‬‬
‫في هذا اإلطار يقول محمود السمرة عن الكاتب الواقعي‪ ،‬أنه "مؤمن بمجتمعه وإنسانيته‪،‬‬
‫ويقابل عصره بجرأة وشجاعة وواقعية‪ ،‬وهو يعرض علينا اإلنسان في حيرته وانهزامه‪،‬‬
‫وصراعه وكفاحه من أجل تحسين واقعه دون التقيد بقانون أخالقي صارم يفرض نفسه عليه‪.‬‬
‫واالنهزامات المتعاقبة ال تفقد هذا اإلنسان ثقته بنفسه‪ ،‬بل يؤمن دائما أنه بكفاحه المستمر‬
‫يستطيع خلق مجتمع جديد"‪.23‬‬

‫إذا كانت الرواية السياسية تراهن على االنعتاق من القهر والظلم‪ ،‬وتستشرف مستقبال مشرقا‪،‬‬
‫تغيب فيه اختالالت ومشاكل الواقع‪ ،‬فإن العقد األخير من القرن العشرين‪ ،‬والعقدين األولين‬
‫من القرن الواحد والعشرين‪ ،‬عرف انهيارات كبيرة على مستوى العالم العربي‪ ،‬وخصوصا‬
‫تراجع هامش حرية التعبير وحقوق اإلنسان‪ ،‬بعد ما سمي بالربيع العربي‪ .‬ولع ّل هذا الوضع‬
‫سيفضي ال محالة إلى بروز موضوعات وقضايا جديدة في الرواية السياسية‪ ،‬كأحداث الربيع‬
‫العربي‪ ،‬وموضوع اإلرهاب‪ ،‬وقضية تطبيع بعض الدول العربية مع الكيان اإلسرائيلي‪،‬‬
‫وصراعات بعض الدول العربية مع بعضها البعض على الحدود اإلقليمية‪ ،‬وقضايا التحديث‬
‫ومقاومات اإلصالح واإلسالم السياسي‪ .‬إضافة إلى تصوير معاناة بعض المعتقلين‬
‫والمضطهدين‪ K‬والمظلومين‪ ،...‬وغيرها من الموضوعات والقضايا‪.‬‬

‫خالصة القول‪ ،‬صارت الرواية بعد هذه األزمات والعديد من االنتكاسات األخرى‪ ،‬خطابا‬
‫مالئما للتعبير عن المقموعين والمعذبين في العالم العربي‪ ،‬كما حاولت ضمنيا الدعوة إلى‬

‫‪ -‬محمود السمرة‪ ،‬مقاالت في النقد األدبي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ص‪.15 :‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪18‬‬
‫تجاوز اختالالت الواقع واإلصالح وتحرير الوطن وتنوير الفكر‪ .‬وهي في هذا المسعى‬
‫تضطلع بمهمة إصالحية واضحة‪.‬‬

‫مرتكزات الرواية السياسية وخصائصها الفنية والجمالية‪:‬‬ ‫‪.2-4‬‬

‫أضحت السياسة محورا فكريا في الرواية المعاصرة‪ ،‬فبالرغم من تنوع الموضوعات‪ K‬واألبعاد‬
‫االجتماعية والواقعية والحداثة الشكلية والتنويع الفني‪ ،‬فإن الرواية تعبر عن األطروحة‬
‫السياسية إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة‪ .‬لذلك يمكن القول‪ ،‬إن السياسة حاضرة في كل‬
‫الخطابات والفنون واألجناس األدبية‪ ،‬ويتضح لنا ذلك في الرواية التي تصور الواقع‪ ،‬ويحضر‬
‫فيها صراع الذات مع الموضوع‪ ،‬والصراع الطبقي والسياسي‪ ،‬والتفاوت االجتماعي‪ ،‬وتقاطع‬
‫العقائد واإليديولوجيات والتصورات‪ ،‬وتعدد األصوات‪ K،..‬والتركيز على الرهان السياسي من‬
‫خالل نقد الواقع السائد‪.‬‬

‫وتوظف الرواية السياسية أيضا الحجاج وبالغة اإلقناع وتعتمد التحريض والدعاية وتبلغ‬
‫مقصديتها ورسائلها بشتى الوسائل الفنية والجمالية‪ ،‬كما تعتمد اإلثارة والتحريض لتحريك‬
‫الشعور السياسي في المتلقين والتأثير فيهم‪ ،‬وتلجأ إلى السرد التفصيلي‪ ،‬والحوار الذي يصور‬
‫مواقف الشخصيات ونزعاتهم‪ ،‬وتعتمد المنحى الواقعي لتسجيل الحدث أو الظاهرة‪ ،‬وتعمد إلى‬
‫تهويله وتصويره سلبا وإيجابا‪ ،‬وتشحن بنزعة سياسية أو مذهبية أو عقائدية تلقينية‬
‫ومونولوجية‪ ،‬وتصبح تعاليم هذه النزعات بؤرة تعكس مفهوم األطروحة في الرواية‪.‬‬

‫ويجبر الروائي في هذا النوع من الروايات إلى خلق شخصيات متصارعة ومتناقضة‪ ،‬وتهيئة‬
‫مواقف سردية متعارضة ومتطاحنة خدمة ألفكار وتوجهات القارئ السياسية واإليديولوجية‪.‬‬
‫كما تصور هذه الرواية الشخصيات وهم يناضلون من أجل الدفاع عن الحرية‪ ،‬والعدالة‪،‬‬
‫والكرامة‪ ...‬وهي في الغالب شخصيات مضطهدة فقيرة ومغتربة‪ ،‬تناصر الفقراء وتدين‬
‫الطغاة والمستبدين‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وتتأرجح الرواية السياسية بين الجانبين الروائي والسياسي‪ ،‬وتزدهر هذه الرواية "من خالل‬
‫ارتباطها بسياق تاريخي وطني مليء بالصراعات اإليديولوجية التي تلزم كل روائي بالخوض‬
‫فيها‪ ...‬ويظهر من خالل كل ارتباط رواية األطروحة السياسية بوظائف تلقينية وعقائدية‬
‫مونولوجية‪ .‬وهي وظائف تملك سلطة إنتاج األمر والتلقين والمعرفة"‪.24‬‬

‫إن العمل األدبي والفني المتكامل والناضج‪ ،‬هو الذي تذوب داخله الرؤية السياسية وتتظافر مع‬
‫النسيج العام للرواية‪ ،‬وتصبح جزءا منه وأداة من أدواته‪ .‬فحضور السياسة في الرواية‬
‫السياسية‪ ،‬ليست فكرة مجردة أو مجرد إشارات متباعدة ال رابط بينها‪ ،‬وليست مضافا عرضا‬
‫ال قيمة له يمكن االستغناء عنه "وإنما يجب أن تكون السياسة محورا أساسيا في إطار الخيوط‬
‫الفنية المختلفة‪ ،‬التي تك ّون نسيج الحدث الروائي من البدء حتى الختام‪ .‬كذلك ينبغي أن تكون‬
‫بعض شخصيات الرواية مؤهلة فكريا وإنسانيا‪ ،‬لكي تكون السياسة في الفن كما في الواقع ه ّما‬
‫أصليا من همومها الذاتية‪ ،‬وشاغال مل ّحا من مشاغل حياتها االجتماعية"‪.25‬‬

‫ولعل القضية االجتماعية المعالجة من طرف الروائي‪ K،‬ينبغي أن تكون قضية محورية في‬
‫المجتمع‪ ،‬لتلهب مشاعرهم‪ ،‬وتفتح بصيرتهم من أجل محاربة الظلم والقهر والفساد‬
‫واالستبداد‪ ،‬وهنا تصبح شاهدة ومعبّرة عن واقع العصر‪ .‬كما ينبغي على الروائي أن يقحم‬
‫المشاعر واألحاسيس والعواطف اإلنسانية حتى ال تتقادم موضوعاتها مع مرور الزمن‪ ،‬وتظل‬
‫نابضة بالحياة على الدوام‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن الرؤية الواقعية للحياة وللقضايا واألزمات السياسية في الرواية السياسية‪ ،‬ينبغي أن تعكس‬
‫أفكار الكاتب وتوجهاته السياسية واإليديولوجية بشكل مب ّرر في سياق النسيج الروائي‪ ،‬أما‬
‫الشخصيات التي تقوم بهذا الدور‪ ،‬يجب أن تكون مؤهلة فكريا واجتماعيا لذلك حتى تقنع‬
‫القارئ فنيا في إطار أحداث الرواية وتصل لوجدانه وتؤرقه‪.‬‬

‫‪ - 24‬سعيد علوش‪ :‬رواية األطروحة والرواية المغربية‪ ،‬مجلة‪ :‬األقالم‪ ،‬العراق‪ ،‬العددان‪ ،1986 ،12-11 :‬ص‪.60 :‬‬
‫‪ - 25‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.59 :‬‬

‫‪20‬‬
‫ويتحتم على الروائي الملتزم أن يدرك الفروق بين الدعاية‪ ،‬وبين التحريض عند خوضه في‬
‫القضايا السياسية‪ ،‬ويراعي الوظيفة الجمالية والفنية للرواية‪ .‬وعلى الناقد أو متلقي العمل‬
‫السياسي أن يدرك تعامله مع النص األدبي بمعاييره الجمالية الخاصة‪ ،‬بعيدا عن رؤية الكاتب‬
‫السياسية وعقيدته اإليديولوجية‪ ،‬ومن حقه موافقة الروائي أو مخالفته‪.‬‬

‫أضحت الرواية السياسية تمثل ظاهرة أدبية عامة‪ ،‬ال في العالم العربي فحسب‪ ،‬وإنما في‬
‫معظم اآلداب العالمية‪ ،‬وصارت معظم األنواع األدبية تحتفي بالسياسة وقضاياها حفاوة بالغة؛‬
‫إذ أصبحت السياسة تتحكم في مصائر الشعوب تحكما جليا‪ ،‬وأصبح من المعروف أن مكانة‬
‫الكاتب وقيمته الفنية‪ ،‬ال تتشكالن بعيدا عن رؤيته السياسية وموقفه الفكري‪:‬‬

‫"تكمن الخطورة التي تواجه األدب السياسي في "التحدي"‪ ،‬الذي يتعرض له الكاتب بمواجهته‬
‫قراء يخالفونه الرأي‪ ،‬ويعارضونه الفكر السياسي‪ ،‬ويعتنقون إيديولوجيات غير إيديولوجيته‪.‬‬
‫وفي هذه الحالة فالخطاب األدبي السياسي مطالب بإقناع معارضيه في ذلك الرأي السياسي من‬
‫خالل األدب‪ ،‬أي أن الكاتب مطالب بمبادئ الفن وقضايا السياسة في آن واحد‪ ،‬فالمسؤولية‬
‫الملقاة على عاتقه أوسع أفقا وأكثر التزاما من األديب العادي"‪.26‬‬

‫على الروائي الذي يكتب الرواية السياسية أن يمتلك أدوات الكتابة‪ ،‬وأن يكون مل ّما بالخطابة‬
‫وداعية سياسية‪ ،‬ويعرف جيدا طريقة إقناع المتلقي بقضية ما‪ ،‬حتى إن لم يشاركه الرأي فيها‪،‬‬
‫كما ّ‬
‫أن على هذا الروائي أن ال يقدم آراءه بشكل تقريري مجرد‪ ،‬وإنما بخلق شخصية يحملها‬
‫وجهة نظره التي يريد تأكيدها أو نفيها‪" ،‬والشخصية الروائية التي تحمل رؤية الكاتب‬
‫السياسي تتحقق من خالل تصوير نموذج إنساني واضح المعالم‪ ،‬تتشكل مالمحه من كافة‬
‫العناصر الفنية‪ ،‬التي يعتمد عليها الكاتب في تقديم نموذج فني مقنع يعيش في إطار عالم رواية‬
‫جيدة"‪.27‬‬

‫‪ - 26‬نفسه‪ ،‬ص‪.236 :‬‬

‫‪ -‬طه وادي‪ ،‬دراسات في نقد الرواية‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ ،1994‬ص‪.31-27:‬‬ ‫‪27‬‬

‫‪21‬‬
‫قد تمزج الرواية السياسية في طياتها موضوعا بوليسيا أو دراميا أو رومانسيا أو نفسيا أو‬
‫تاريخيا أو واقعيا‪ ،...‬غير أن الثابت الذي ال مف ّر منه‪ ،‬هو تركيزها على تحليل قضية تصف‬
‫فيها ظاهرة سياسية ما‪ ،‬ترتبط بالمجتمع الذي تصوره‪ .‬كما أن الشخصيات فيها ال بد أن تكون‬
‫مؤهلة فكريا‪ ،‬لكي تحمل قضية إيديولوجية‪ ،‬وتتحرك في وسط سياسي‪ .‬وهذا يعني بالضرورة‪K‬‬
‫حضور موقف سياسي للشخصيات‪ ،‬يفرضه وضعها وفكرها اإليديولوجي‪ ،‬لذلك عليها أن‬
‫تجادل وتصارع ‪-‬في الرواية‪ -‬من أجل ما تؤمن به وتدعو إليه‪ .‬وينبغي أن تكون القضية‬
‫السياسية ذات صلة بطبقة أو أكثر من المجتمع‪ ،‬لكي تش ّد وتجذب اهتمام شرائح واسعة من‬
‫المجتمع‪ ،‬وأناسا تشغلهم نفس القضية‪.‬‬

‫تحاول الرواية السياسية تصوير مأساة الشخصيات بعد النكسة‪ ،‬وتصور غربتها ويأسها‬
‫وضياعها بعد الهزيمة‪ ،‬لكنها تجتاز مأساة الخسارة واليأس‪ ،‬إلى فضاء األمل‪ ،‬وتُقدِّم صورا‬
‫لمقاومة العدو‪ ،‬يغلب عليها التفاؤل واألمل‪ ،‬على الرغم من الصعاب التي تواجهها‬
‫الشخصيات الرئيسة‪ .‬وبهذا ترتفع الرواية السياسية التي تصور الهزيمة والحرب والمقاومة‬
‫إلى فضاء السرد الفسيح‪ ،‬وال تقع في قبضة الخطابية والتقريرية‪.‬‬

‫نستخلص مما سبق أن الرواية السياسية رواية أدبية‪ ،‬تناقش قضية سياسية‪ .‬والشخصية‬
‫السياسية‪ ،‬شخصية روائية تحمل رؤية إيديولوجية‪:‬‬

‫"الرواية معتقد‪ ،‬تدعو إلى إيديولوجية خاصة‪ ،‬قد تعادي غيرها من االتجاهات السياسية في‬
‫المجتمع‪ ،‬بل قد تعادي الحاكم والحكومة‪ .‬وتحاول الرواية السياسية أن تطرح رؤية تقدمية‬
‫للواقع‪ ،‬ال تخلو أحيانا من مغامرات فكرية مواكبة للموضوعات‪ K‬السياسية الساخنة‪ ،‬مثل الدعوة‬
‫إلى حرية المرأة وطرح رؤى جديدة لطبيعة العالقة بينها وبين الرجل في المجتمع‪ ،‬وقد يتعدى‬
‫األمر ذلك أيضا إلى مناقشة بعض قضايا التراث والفكر السلفي والوضع االقتصادي‪ .‬كل هذا‬
‫وغيره يجعل الرواية السياسية عمال أدبيا‪ ،‬ليس من السهل إبداعه وتقديم أمثلة ناجحة منه"‪.28‬‬

‫‪ - 28‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.247 :‬‬

‫‪22‬‬
‫ولعل أهم مبدأ جمالي يمكن أن نقرره من خالل الروايات السياسية‪ ،‬أن جماليتها وسماتها الفنية‬
‫تكمن في قدرة صاحبها أن يبرز محاور ومكامن الخالف في الرؤية أو زاوية النظر‪،‬‬
‫وعناصر المعارضة في الموقف‪ ،‬دون التورط في الخطابية والتقريرية والوعظ والتوجيه‪،‬‬
‫ودون تحريض أو دعوة مباشرة لما يعتقده أو يرمي إليه‪ ،‬وحين يتمكن أديب موهوب من ذلك‪،‬‬
‫فإنه يوسع قاعدة قرائه من األنصار والخصوم‪ ،‬وهذا راجع إلى استطاعته إذابة جمود الفكر‬
‫السياسي في سيولة اإلبداع األدبي‪ " .‬إن الرواية الجيدة بالضرورة‪ ،‬تقدم بعض آراء مخالفة‪،‬‬
‫ومبادئ معارضة للفكر السائد والجمهور القارئ‪ ،‬فإذا استطاع الكاتب أن يشكلها بفنية‬
‫واقتدار‪ ،‬فإنه بهذا يستطيع أن يكون من نقاط الخالف وتعارضات الرؤية‪ ،‬وتقابالت‬
‫الخصومة‪ ،‬مظاهر جمالية وسمات فنية‪ ،‬تعطي أدبه جودة وخلودا‪ ،‬في إطار النوع األدبي‬
‫الذي يبدع فيه"‪.29‬‬

‫إن الدور اإلنساني النبيل الذي تقوم به الرواية منذ نشأتها هو الخوض في المسكوت عنه‬
‫وإنطاقه‪ ،‬وانتقاد ميراث التخلف‪ ،‬واألخذ بأسباب التقدم‪" .‬وكان على الرواية في أدائها لهذا‬
‫الدور‪ ،‬أن تتعلم مراوغة القمع الخاص بعصرها‪ ،‬واكتساب الخبرة من الماضي اإلبداعي‬
‫بمخاتل‪K‬ة التم‪K‬ثيالت الكنائي‪K‬ة وم‪K‬داورة التوري‪K‬ات الس‪K‬ردية"‪ .30‬واله‪K‬دف من ه‪K‬ذه الرواي‪K‬ات‪ ،‬ه‪K‬و‬
‫تشكيل خطاب نضالي من أجل تنوير وتغيير وتحرير األفراد والمجتمع‪.‬‬

‫"إن بنية الرواية تحاول لمس الجرح في مكمنه واستخراج ما به من قيح ودم فاسد‪ ،‬من أجل‬
‫التطهير الجسدي والنفسي‪ .‬إنها باختصار تعكس مأساة اإلنسان العربي المعاصر‪ ،‬المشتت بين‬
‫ماض ذهبي يصعب بعثة وإحياؤه‪ ،‬وحاضر كابوسي يعجز عن اللحاق بما يطرحه العصر من‬
‫تقدم تكنو‪-‬إلكتروني‪ ،‬ومستقبل قريب أو بعيد ال يتخيل له مكانا أو مكانة فيه"‪.31‬‬

‫على هذا األساس‪ ،‬فإن الرواية السياسية الجديدة تطرح قضية ضياع اإلنسان العربي‬
‫المعاصر‪ ،‬واغترابه إزاء القوى التي تتحداه من الماضي‪ ،‬وتعاديه من الحاضر‪ ،‬ومن الداخل‬
‫‪ - 29‬نفسه‪ ،‬ص‪.248 :‬‬
‫‪ - 30‬جابر عصفور‪ ،‬تقديم رواية "غابة الحق" لفرنسيس فتح هللا مراكش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة المصرية‪ ،2000 ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪ - 31‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬ص‪.276 :‬‬

‫‪23‬‬
‫والخارج في الوقت نفسه‪ ،‬وتسعى للتعبير عن االستالب والضياع‪ .‬عالوة على أنها تحمل بعدا‬
‫تحريضيا ونضاليا‪ ،‬كي ال يتوه المواطنون فيما يعيشونه من فساد وخراب وزيف‪.‬‬

‫خالصة القول‪" ،‬إن أزمات اإلبداع هي في جوهرها أزمة حرية‪ ،‬أزمة صراع بين الكشف‬
‫والفعل‪ ،‬بين الرؤية والمواجهة‪ ،‬بين تحرير اإلنسان وبطش السلطان‪ ،‬من أجل تشكيل أسطورة‬
‫تقهر الضرورة‪ ،‬وتبشر بميالد جديد‪ ،‬ومجد مشرق سعيد غير بعيد"‪.32‬‬

‫البنية الفنية للرواية السياسية‪.‬‬ ‫‪-5‬‬


‫شخصية البطل‪:‬‬ ‫‪.1-5‬‬

‫تهتم الرواية غالبا بالشخصيات النامية أو الرئيسة وتكون عماد الرواية وتسمى أحيانا ب‪-‬‬
‫شخصيات األبطال‪ ،-‬ويقوم بعض الشخوص بأدوار هامشية أو سطحية لتطوير مسيرة الحدث‬
‫الروائي‪.‬‬

‫وقد استعار النقد الروائي مصطلح ‪-‬البطل‪ -‬من النقد المسرحي‪ ،‬الذي تعود جذوره إلى كتاب‬
‫"فن الشعر" ألرسطو في القرن الرابع قبل الميالد‪ .‬ويقصد بالبطل ذلك المناضل الحامل للقوة‬
‫المعنوية واألخالقية‪ ،‬والهادف للقيم السامية والمعاني النبيلة‪ ،‬وينشد البراءة والصدق والعدل‬
‫بعيدا عن إطار الغش والزيف والظلم‪ ،‬ويذكر بمعاني الفتوة في التراث العربي‪ .‬وتضطلع‬
‫وظيفة البطل بدور هام؛ فهو يشغل مساحة واسعة في بنية النص‪ ،‬ويقوم بأداء دور فعال في‬
‫تحريك الحدث الروائي وتناميه‪ ،‬وتشكيل الصراع‪.‬‬

‫استلهاما لتنظيرات النقد المسرحي يمكن اإلقرار بوجود نموذجين لشخصية البطل‪ ،‬هما‪:‬‬
‫البطل الخير والبطل الشرير‪.‬‬

‫‪ - 32‬نفسه‪ ،‬ص‪.278 :‬‬

‫‪24‬‬
‫ينقسم البطل الخيِّر إلى نوعين‪ :‬بطل إيجابي يحاول أن يتصدى للظلم والصعوبات‪ K،‬من أجل‬
‫تحقيق هدف نبيل‪ ،‬ويمكن أن ينجح في بلوغ هدفه ويمكنه الفشل‪ .‬وبطل سلبي عاجز ومغترب‪،‬‬
‫وواع س ّر آالمه ومصدر متاعبه‪ ،‬وفي الوقت نفسه عاجز عن اتخاد خطوات لرفع الظلم‬
‫ٍ‬ ‫مدرك‬
‫وال ّشر‪ ،‬فهو إنسان يملك الرؤية لكنه يفتقد القدرة‪ ،‬وبهذا يتحول إلى بطل مغترب مأزوم‬
‫ومهمش‪ .‬أما البطل الشرير أو البطل الضد فهو شخص مخادع أو فاسد يقاوم الشخصية‬
‫النبيلة‪ ،‬ويقف ن ّدا وخصما وس ّدا منيعا ضد تحقيق العدل والخير‪.‬‬

‫أما مصطلح البطل اإلشكالي فهو مصطلح نقدي جديد ق ّدمه نقاد علم اجتماع األدب‪ ،‬منهم‬
‫لوسيان غولدمان‪ ،‬وهو "شخصية تبحث عن القيم األصيلة في واقع اجتماعي مضطرب من‬
‫حيث السلوك والقيم‪ ،‬وهو يتصف بقدر من الوعي الفكري العميق‪ ،‬لكنه عاجز عن إصالح‬
‫مجتمعه‪ ،‬وعن القدرة على التعامل معه‪ .‬إنه مثقف فكريا‪ ،‬لكنه غير قادر على الحركة سلوكيا؛‬
‫ومن ثم ينتهي ب‪K‬ه الح‪K‬ال إلى أن يص‪K‬بح شخص‪K‬ية مهمش‪K‬ة مغترب‪K‬ة"‪ .33‬ويق‪K‬دم ط‪K‬ه وادي في كتاب‪K‬ه‬
‫"الرواية السياسية" نموذجين للبطل اإلشكالي في الرواية العربية الحديثة‪ :‬األول هو اإلشكالي‬
‫الحضاري الذي تثقف في الغرب مباشرة‪ ،‬أما الثاني وهو اإلشكالي الثوري الذي تمثل الغرب‬
‫وقيمه من خالل قراءاته‪.‬‬

‫إن البطل اإلشكالي بطل نظري ال عملي‪ ،‬وهو غالبا ما يكتفي باإلشارة إلى الخطأ دون أن‬
‫يشارك في إزالته‪ .‬وهذا الموقف الدقيق يجعل اإلشكالي مع وضد في آن واحد‪ .‬إنه مع الرغبة‬
‫في األحالم لكن دون أن يتعدى ذلك إلى الممارسة‪ .‬وتتضح صورته أنه "شخصية إنسان‬
‫مثقف‪ ،‬يدفعه الوعي بدوره إلى التص ّدي لتغيير واقعه وإصالحه‪ ،‬لكنه يعجز بسبب وجود كثير‬
‫من المع ّوقات المادية والمعنوية‪ ،‬فيسقط نتيجة الصراع الحاد بين الرغبة وعدم القدرة‪،‬‬
‫ويصبح شخصية مأزومة مهمشة أو متشيئة أو مغتربة"‪.34‬‬

‫‪- Lucien goldman towards a society of the novel, tr. By alan sheridan. London, 1975. P:20 33‬‬
‫‪ - 34‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬ص‪.22 :‬‬

‫‪25‬‬
‫تع ّد الشخصية العمود الفقري الذي تبنى عليه كل مقومات الرواية الحديثة‪ ،‬وعلى الكاتب أن‬
‫يحدد العمر الزمني لشخصياته‪ :‬فتى ‪ -‬شاب – صبية – امرأة – عجوز‪ ...‬ليوضح إلى القارئ‬
‫انسجام العمر الزمني مع طبيعة الدور الذي تقوم به‪ .‬كما ينبغي أن يحدد الصفات الجسدية‬
‫والنفسية وتعريض شخصيات البطولة إلى مواقف مأزومة‪ ،‬ليبين ردود أفعالهم تجاه ذلك‪،‬‬
‫ويلزم أن يقدم هذه الصفات بشكل متسلسل مع نمو الحدث‪ ،‬من أجل إضفاء عنصر التشويق‬
‫على الرواية‪ ،‬وحتى تصبح الشخصية جديرة بكلمة ‪-‬البطولة‪ -‬ومقنعة فنيا‪ ،‬وقريبة لمحاكاة‬
‫الواقع‪.‬‬

‫يختلف الكتاب في تشكيل الشخصيات حسب الرؤية الفنية لكل واحد منهم‪ ،‬وحسب كل نوع‬
‫روائي؛ الرواية التاريخية‪ ،‬والرومانسية‪ ،‬والواقعية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والبوليسية‪ ...‬ومن صفات‬
‫شخصية البطل في الرواية السياسية أن يمثل النموذج اإليجابي‪ ،‬مناضال‪ ،‬خيّرا‪ ،‬يحاول جلب‬
‫النصر للفئة أو القضية ال ُمناضل من أجلها‪ ،‬أو النموذج السلبي‪ ،‬ظالما‪ ،‬شريرا‪ ،‬مناهضا‬
‫لمبادئ الحرية والعدل‪ ،‬وكال المثالين يشكالن عنصرا سرديا مهما في تحريك أحداث الرواية‪،‬‬
‫وتناميها‪ .‬فهدف الروائي في كتابته رواية سياسية ليس "تسجيل بعض األحداث كما وقعت في‬
‫التاريخ‪ ،‬وإنما تكمن مهمته في اختيار ما يعكس رؤيته السياسية على مستوى األحداث‬
‫والشخصيات‪ .‬وهذا االختيار المقصود ال يساعد على بيان العناصر السردية الفارقة بين كاتب‬
‫وآخر فحسب‪ ،‬وإنما يساعد أيضا على توضيح الرؤية‪ ،‬ووجهة النظر‪ ،‬أو نقطة التبئير‪ ،‬التي‬
‫تميز بين كاتب وآخر"‪.35‬‬

‫الحدث‪:‬‬ ‫‪.2-5‬‬

‫تعد السياسة محورا فكريا أساسيا في عالم الثقافة الحديثة‪ ،‬لذلك حاول عديد من األدباء توجيه‬
‫الرأي العام نحو قضية معينة‪ ،‬أو المساهمة في حل مشكلة ما‪ ،‬من خالل صراع فكري سلمي‬
‫"مثالي"؛ فالكاتب يناقش أفكارا شديدة الخصوصية في روايته السياسية‪ ،‬وبلغة أدبية‪ ،‬ومن‬
‫خالل حبكة فنية‪ ،‬وشخصيات مشابهة للواقع أو واقعية‪.‬‬
‫‪ - 35‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬ص‪.126 :‬‬

‫‪26‬‬
‫ومن المعروف "أن القصة تروي خبراً‪ ،‬ولكن ال يمكن أن نع ّد كل خبر أو مجموعة من‬
‫األخبار قصة‪ ،‬فألجل أن يصبح‪ ‬الخبر‪ ‬قصة يجب أن تتوافر فيه خصائص معينة‪ ،‬أولها أن‬
‫يكون له أثر كلي‪ .‬وهذا يعني أن مجموعة األخبار التي تُروى ينبغي أن يتصل بعضها مع‬
‫البعض اآلخر‪ ،‬ليُحدث أثراً كليا‪ .‬وهذه األخبار التي تُحدث أثراً كليا‪ ،‬تكون حول موضوع‬
‫واحد"‪.36‬‬

‫والحدث في القصة ينبغي أن "يخدم الغرض الذي يرمي إليه الكاتب من تأليف قصته‪ ،‬فبقدر ما‬
‫يُساعد على تحقيق وحدة االنطباع التي ال بد من تحققها في القصة الجيدة‪ ،‬بقدر ما يكون حدثا ً‬

‫فنيا‪ .‬والحدث عنصر هام من عناصر القصة ‪ ...‬ولكنه ال ينبغي أن يكون كل شيء فيها‪ ،‬ألن‬
‫الكاتب لو ر ّكز عليه لتحولت القصة إلى مجرد خبر‪ .‬وال بد أن تُوظف األحداث ألداء مواقف‬
‫له‪K‬ا دالالته‪K‬ا الخاص‪K‬ة‪ ،‬ح‪K‬تى تتحق‪K‬ق للقص‪K‬ة ص‪K‬فتها الفني‪K‬ة"‪ .37‬وتتوق‪K‬ف الق‪K‬درة على الس‪K‬رد في‬
‫طريقة اختيار الروائي لألحداث‪ ،‬وجعلها "سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع‪ ،‬تسير نحو غاية‬
‫محددة"‪ ،38‬إضافة إلى مدى تعبيرها عن الرسالة التي يُريد إيصالها للمتلقي‪.‬‬

‫ومعروف أن "الحدث هو الموضوع الذي تدور حوله القصة‪ ،‬وهو مجموعة من الوقائع‬
‫الجزئية المترابطة‪ ،‬وهذا الترابط هو الذي يميز العمل القصصي عن أ ّ‬
‫ي حكاية يروي فيها‬
‫شخص لصديقه ما وقع له من أحداث‪ ،‬فأحداث القصة الفنية لها إطار عام‪ ،‬يدفعها في تسلسل‬
‫إلى غاية محددة"‪.39‬‬

‫إن األحداث ينبغي أن تكون جزءاً من الحكاية التي تسردها الرواية‪ ،‬ف"الحكاية هي التي تحدد‬
‫األحداث في إطارها المادي‪ ،‬وتشكلها في فكرة نامية متآزرة ترتبط بالزمان‪ ،‬والمكان‪ ،‬والقيم‪،‬‬
‫بغي‪K‬ة إح‪K‬داث أث‪K‬ر كلي يش‪K‬عر ب‪K‬ه المتلقي‪ ،‬وينفع‪K‬ل ل‪K‬ه‪ ،‬ويقتن‪K‬ع ب‪K‬ه"‪ .40‬وق‪K‬د يم‪K‬تزج الح‪K‬دث بالوص‪K‬ف‬
‫ليكون أكثر تأثيراً‪ ،‬ويقوم الوصف في الفنون السردية‪ ،‬بوصفه وسيلة فنية أداتها اللغة‪ ،‬بدور‬

‫‪ - 36‬علي محمد حسين‪ ،‬التحرير األدبي‪ :‬دراسات نظرية ونماذج تطبيقية‪ ،‬ط‪ ،2 .‬الرياض‪1421  ‬هـ ‪2000-‬م‪ ،‬ص‪.291 ،290 :‬‬
‫‪ - 37‬عبد الحميد القط‪ ،‬يوسف إدريس والفن القصصي‪ ، ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1980  ،1 .‬ص‪.244 :‬‬
‫‪ - 38‬علي محمد حسين‪ ،‬التحرير األدبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.305 ،304 :‬‬
‫‪ - 39‬عزيزة مريدن‪ :‬القصة والرواية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪1400 ‬ه‪1980-‬م‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ - 40‬عبد الفتاح عثمان‪ ،‬بناء الرواية‪ :‬دراسة في الرواية المصرية‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1982 ،1 .‬م‪ ،‬ص‪.43 :‬‬

‫‪27‬‬
‫بالغ التأثير‪ ،‬حيث يستطيع "أن يعكس جميع الدالالت الفكرية والظالل النفسية والشعورية التي‬
‫تسبح في عوالم الوعي والالوعي إزاء المواقف المن ّوعة‪ ،‬وعن طريق الوصف أيضا ً كما هو‬
‫معروف يُمكن رسم األشكال واألبعاد الخارجية التي تُ َحسُّ بوسيلة من وسائل اإلحساس"‪.41‬‬

‫ويرى أحد الدارسين أن الحدث هو أهم عناصر القص و" ّ‬


‫أن كل ما في نسيج القصة يجب أن‬
‫يقوم على خدمة الحدث‪ ،‬فيساهم في تصوير الحدث وتطويره‪ ،‬بحيث يُصبح كالكائن الحي له‬
‫شخصية مستقلة‪ ،‬يُمكن التعرف عليها؛ فاألوصاف في القصة ال تُصاغ لمجرد الوصف‪ ،‬بل‬
‫ألنها تُساعد الحدث على التطور‪ ،‬ألنها في الواقع جزء من الحدث نفسه"‪.42‬‬

‫‪ .3-5‬الفضاء الزمكاني‪:‬‬

‫أ‪ -‬الزمن‪:‬‬

‫على ُكتاب الرواية السياسية تحديد الزمن في رواياتهم‪ ،‬بوصف هذا الزمن يحمل داللة يتوجه‬
‫بها إلى القارئ ليستكشفها‪ .‬ولع ّل "من أهم غايات الفن الروائي اإليهام بالواقع‪ ،‬ولكي يتحقق‬
‫للكاتب ذلك إما أن يحدد الزمان التاريخي لروايته تحديدا دقيقا‪ ،‬أو يتجه إلى عدم تحديد الزمان‬
‫وإنما يترك تحديده للقضايا المطروحة داخل العمل الروائي"‪.43‬‬

‫اجتهد النقاد البنيويون‪ ،‬وقدموا لنا وجهات نظرهم عند دراسة زمن الرواية‪ ،‬وحددوا ثالث‬
‫زوايا‪:‬‬

‫"الحركة المتجاوزة‪ :‬وفيها يكون زمان الحدث أكبر من زمان القص‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الحركة المتوازية‪ :‬وفيها يكون زمان الحدث القصصي‪ K‬في الواقع مساويا لزمان النص في‬ ‫‪‬‬
‫الكتابة‪.‬‬
‫حالة السكون‪ :‬وفيها يكون زمان الحدث أصغر من زمان النص‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ - 41‬محمد أبو األنوار‪ ،‬دور الوصف في البناء الفني القصصي‪ ،‬مجلة «الثقافة العربية» (ليبيا)‪ ،‬مارس ‪1976‬م‪ ،‬ص‪.78 :‬‬
‫‪ - 42‬رشدي رشاد‪ ،‬فن القصة القصيرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪  ،‬ط‪1964 ،2 .‬م‪ ،‬ص‪.116 ،115 :‬‬
‫‪ - 43‬حسين حمدي‪ ،‬الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪2019 ،‬م‪ ،‬ص‪-328 :‬‬
‫‪.329‬‬

‫‪28‬‬
‫كما درسوا أيضا أنواع األزمنة في المتن الروائي‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫السرد االستذكاري‪ :‬القائم على االسترجاع أو التذكر‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫السرد االستشرافي‪ :‬القائم على التنبؤ واالستشراف المستقبلي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تسريع السرد‪ :‬الذي يتم عبر التلخيص أو الحذف‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تعطيل السرد‪ :‬من خالل تقديم مشهد درامي أو وقفة وصفية"‪.44‬‬ ‫‪‬‬

‫ب‪ -‬المكان‪:‬‬

‫طور البنيويون‪ K‬موضوع المكان أو الفضاء الروائي‪ ،‬وع ّدوه مثل بقية المكونات األخرى‬
‫للسرد‪ ،‬فهو ال يوجد إال من خالل فضاء لغوي‪ ،‬وما دام أنه يتشكل من كلمات‪ ،‬يجعله يتضمن‬
‫كل المشاعر والتصورات‪ K‬المكانية‪ ،‬التي تستطيع اللغة التعبير عنها‪45‬؛ فالمكان ال يظهر إال من‬
‫خالل وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو تخترقه‪ ،‬وليس لديه استقالل إزاءها‪ .‬وعلى مستوى‬
‫السرد‪ ،‬فإن المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي وتماسكه‬
‫اإليديولوجي‪ ،‬وبوسع الخطاب الروائي أن يعرض علينا المكان سواء بشكل مجزأ أو مفكك‪،‬‬
‫حين يستعمل وجهة النظر المتقطعة‪ ،‬أو على نحو كلي‪ ،‬وإذا كانت الرؤية متسعة أو مبتورة‪.‬‬
‫وفي كلتا الحالتين سيكون الفضاء السردي للمكان هو المتحكم في بناء الفضاء ومنحه طابعه‬
‫المميز‪.‬‬

‫في البنية السردية كما في تشكيل الفضاء الروائي‪ ،‬تلعب وجهات النظر دورا حاسما في إعداد‬
‫الخطاب الروائي والربط بين أجزائه‪ ،‬وذلك عن طريق إقامة صالت بينها وبين األجزاء‬
‫والمظاهر التي يتضمنها الشكل الحكائي‪ ،‬بحيث تصبح كلها تعبيرا عن كيفية تنظيم "الفضاء‬
‫الروائي‪ ،‬الذي يتشكل من خالل وجهات نظر متعددة‪ ،‬ألنه يعاش على عدة مستويات‪ :‬من‬
‫طرف الراوي بوصفه كائنا مشخصا وتخيّليّا أساسا‪ ،‬ومن خالل اللغة التي يستعملها‪ ،‬فلكل لغة‬
‫صفات خاصة لتحديد المكان‪ :‬غرفة – منزل – حي‪ ...‬ثم من طرف الشخصيات األخرى التي‬
‫‪ - 44‬حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،1986 ،‬ص‪ 100‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ - 45‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.98 :‬‬

‫‪29‬‬
‫يحتويها المكان‪ ،‬وفي المقام األخير من طرف القارئ الذي يدرج بدوره وجهة نظر غاية في‬
‫الدقة"‪.46‬‬

‫تأسيسا على ذلك يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العالقات والرؤى ووجهات النظر‪،‬‬
‫التي تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء لروائي‪ ،‬الذي ستجري فيه األحداث‪ ،‬فالمكان يكون‬
‫منظما بنفس الدقة التي نظمت بها العناصر األخرى في الرواية‪ ،‬لذلك فهو يؤثر فيها‪ ،‬ويقوي‬
‫من نفوذها‪ ،‬كما يعبر عن مقاصد المؤلف‪ ،‬وتغيير األمكنة الروائية سيؤدي إلى نقطة تحول‬
‫حاسمة في الحبكة‪ ،‬وبالتالي في تركيب السرد والمنحى الدرامي الذي يتخذه"‪.47‬‬

‫ويرتبط المكان في الرواية بالزمان ارتباطا وثيقا‪ ،‬وهو ما دعا "باختين" إلى أن يدرسهما على‬
‫أنهما قضية واحدة‪ ،‬تحت مصطلح "الزمكانية" تأكيدا على االرتباط الشديد بينهما‪.‬‬

‫اللغة الروائية‪:‬‬ ‫‪.5-4‬‬

‫"اللغة هي مادة اإلبداع وجماله ومرآة خياله‪ ،‬فال خيال إال باللغة‪ ،‬وال عاطفة إال باللغة‪ ،‬وال‬
‫قضايا إال باللغة"‪ .48‬إن اللغة في الرواية هي الركيزة األولى واألهم لبنائها الفني‪ ،‬فاللغة تصف‬
‫الشخصية أو تمكن الشخصية من الوصف‪ ،‬كما تحدد وتبني العناصر األخرى للرواية من‬
‫زمان ومكان وحدث‪ .‬وكما يؤكد عبد الملك مرتاض‪ ،‬فإن الباحثين والنقاد لم يُعطوا اللغةَ‬
‫الروائية حقها من البحث والدرس‪ ،‬فإنهم ‪ -‬تقليديّا ً ‪ -‬كانوا يقسمون اللغة الروائية إلى شكلين‬
‫اثنين هما‪ :‬لغة السرد ولغة الحوار‪ ،‬فيبسطون الفكرة ويُسطحونها بالقول إن لغة السرد يجب‬
‫أن تكون فصيحة بينما يجب أن تكون لغة الحوار باللهجة العامية‪.‬‬

‫ويشاطره طه وادي الرأي‪ ،‬بقوله‪" :‬بعض الكتاب المعاصرين يتساهلون في أمر اللغة األدبية‪،‬‬
‫لذلك يخلو التركيب اللغوي أحيانا من ومضة بالغية‪ ،‬بل إن األمر قد يتعدى ذلك إلى وجود‬

‫‪ - 46‬نفسه‪ ،‬ص‪.99 :‬‬


‫‪ - 47‬حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،1986 ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ - 48‬عبد الملك مرتاض‪ ،‬في نظرية الرواية "بحث في تقنيات السرد"‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويتـ ‪ ،1998‬ص‪.111 :‬‬

‫‪30‬‬
‫بعض األخطاء النحوية وربما اإلمالئية‪ .‬إن الرواية نوع أدبي‪ ،‬واألدب فن القول الجميل‪ ،‬ولغة‬
‫األدب يجب أن تتجاوز مستوى الصحة والسالمة إلى مستوى الحسن والجمال‪.‬‬

‫إن المضمون‪ K‬مهما كان نبيال‪ ،‬والفكرة مهما كانت سامية‪ ،‬يظالن في حاجة ماسة إلى لغة أدبية‬
‫راقية على مستوى السرد والحوار‪ .‬األدب هو اللغة‪ ،‬واللغة هي نحن‪ ،‬لذلك يجب أن نحرص‬
‫على جمال اللغة وبالغتها بقدر حرصنا على مبدأ االلتزام‪ ،‬ألن االلتزام بقضايا الواقع يفرض‬
‫في الوقت نفسه االلتزام بقضايا الفن أيضا"‪.49‬‬

‫الراوي ودوره في بناء الرواية السياسية‪:‬‬ ‫‪.5-5‬‬

‫يعد الراوي الشخصية األساس في البناء القصصي‪ K،‬ألنه الوسيط الذي اختاره الكاتب لينوب‬
‫عنه في سرد األحداث من البدء إلى الختام‪ .‬يمكن للراوي أن يُنجح ويعطي للعمل القصصي‬
‫والروائي‪ K‬شهادة ميالد وخلود‪ ،‬أو تصريحا بالدفن والفناء‪ ،‬كما شهرزاد في "ألف ليلة وليلة"‪.‬‬

‫وعلى القارئ أن يفرق بين الروائي والراوي؛ فالراوي قد يظهر أو يتخفى داخل العمل‬
‫القصصي‪ K،‬وهو أسلوب صياغة أو بنية من بنيات النص‪ ،‬وهو أسلوب تقديم المادة القصصية‪.‬‬
‫أما الروائي‪ K‬فهو صانع العالم ال ُمتخيّل‪ ،‬وهو من يختار األحداث والشخصيات والزمكان‬
‫والراوي أيضا‪" .‬وإذا كان الراوي يعد عنصرا من عناصر البناء السردي‪ ،‬فإنه عنصر أكثر‬
‫أهمية‪ ،‬وال يمكن وضعه من حيث التعادل الوظيفي مع بقية العناصر األخرى مثل الشخصية‬
‫أو الزمان أو المكان‪ .‬فالراوي عنصر متميز ومختلف الوظيفة‪ ،‬فهو الذي يمسك بكل عناصر‬
‫لعبة القص؛ أي أنه عنصر مهيمن في حركة العالقات بين كل عناصر القص"‪.50‬‬

‫يعبر الراوي عن رؤية الكاتب إزاء ما يروي‪ ،‬ألنه هو ال ُمحدِّد لزاوية الرؤية‪ ،‬التي يريد أن‬
‫يطرحها الكاتب من خالل الخطاب الروائي‪ .‬إذن فهو الصَّاقل ألسلوب صياغة العالم‬
‫القصصي‪ K،‬وطريقة تقديم عناصر المادة القصصية عن طريق التعبير اللغوي‪ ،‬ويَنظر إليه‬
‫النُّقاد جماليا أنه قناع‪ ،‬يتخفى وراءه الكاتب لتقديم عمله في الرواية السياسية خصوصا‪.‬‬
‫‪ - 49‬طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.191 :‬‬
‫‪ - 50‬يمنى العيد‪ ،‬تقنيات السرد الروائي‪ ،‬مطبعة الفارابي‪ ،‬بيروتـ ‪ ،1990‬ص‪.118 :‬‬

‫‪31‬‬
‫ويمكن تقسيم العالقة بين الراوي والشخصيات إلى ثالثة أقسام‪ ،‬طبقا لتقسيم الناقد الفرنسي‬
‫جان بويون‪:‬‬

‫الرؤية من الخلف‪ :‬الراوي < الشخصية – الراوي يعلم أكثر من الشخصية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الرؤية مع‪ :‬الراوي = الشخصية – الراوي يعلم ما تعلمه الشخصية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الرؤية من الخارج‪ :‬الراوي > الشخصية – الراوي يعلم أق َّل م ّما تعلمه الشخصية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫تمثل األنماط الثالثة أكثر األنواع شيوعا وتداوال في معظم أساليب القص‪ ،‬وتنحصر في‪:‬‬

‫"الراوي الغائب أو العليم بكل شيء‪ :‬وهذا النمط هو أقدم أنواع الرواة وأكثرها شيوعا‬ ‫‪‬‬
‫حتى اليوم‪ .‬تقوم وظيفته بالرؤية من خلف‪ ،‬ألنه يعلم أكثر مما تعلمه أية شخصية من‬
‫شخصيات العالم الروائي‪ .‬وهو الذي يحرك الشخصيات‪ .‬وقد يظهر أحيانا من خالل بعض‬
‫اآلراء التي يقدمها واألحكام التي يطلقها‪ .‬وهذا النمط من الرواة يالئم أسلوب القص‬
‫التقليدي الشفاهي والمكتوب‪ ،‬وتروى األحداث من خالله بضمير الغائب "هو"‪ .‬يتمتع هذا‬
‫الراوي بقدر من المساواة والحياد في تصوير الشخصيات والتعبير عن المنظور‪ .‬فهو مثل‬
‫أب رحيم يهتم بأبنائه جميعا‪ :‬ذكورا وإناثا‪ ،‬طيبين وأشرارا‪ ،‬كبارا وصغارا‪ ،‬رئيسيين‬
‫وثانويين‪ ،‬فهو يعلم أمورا كثيرة عن أفراد علمه الروائي‪ ،‬أو عائلته القصصية‪ .‬لذلك يصفه‬
‫بعض النقاد األوربيين مثل "إله" له مطلق الحرية في خلق عالمه الروائي‪ K،‬وتصوير‬
‫شخصياته بالطريقة التي يراها‪.‬‬
‫الراوي المشارك‪ :‬ويقوم هذا النمط بدورين‪ :‬الراوي والشخصية‪ .‬ولهذا يكون التداخل بين‬ ‫‪‬‬
‫الراوي وإحدى الشخصيات الروائية (غالبا ما تكون شخصية رئيسة(‪ ،‬لذلك يتشكل‬
‫المنظور من "الرؤية مع"‪ ،‬أي أن الراوي والشخصية متساويان في العلم والمعرفة فيما‬
‫يتصل بكل قضايا المبنى القصصي‪ .‬ويستخدم ضمير "أنا" في التعبير‪ .‬وهو راو متحيز‬
‫أو منحاز‪ ،‬يقدم العالم الذي يروي عنه من منظوره الخاص ورؤيته الذاتية‪ .‬فهو يتبنى‬
‫شخصية‪ ،‬ويرى ما تراه‪ ،‬ويعرف ما تعرفه‪ ،‬ويالحظ ما تالحظه‪ .‬ويعد هذا الراوي أكثر‬

‫‪32‬‬
‫حداثة من الراوي الغائب وأقرب إلى طبيعة القص المعاصر‪ ،‬ألنه يلغي المسافة بين‬
‫الكاتب والراوي‪ ،‬ويصبح من السهل على الكاتب أن يسقط بعض آرائه على لسان الراوي‬
‫أو إحدى الشخصيات النعدام المسافة الفارقة بين الروائي والراوي وشخصيات الرواية‪.‬‬
‫الراوي المتعدد‪ :‬ويتناوب أكثر من راو في تأليف عملية القص‪ ،‬ويشكل بناء الحدث أكثر‬ ‫‪‬‬
‫من سارد‪ .‬يُعطي هذا النوع من الرواة المتعدِّدين لبناء الرواية تميزا وخصوبة‪ ،‬ويعد من‬
‫سمات قص الحداثة‪ .‬وأول من توقف عنده وقفة نقدية متأملة هو ميخائيل باختين في كتابه‬
‫"شعرية دوستويفسكي"‪ ،‬حيث يذهب إلى أن دوستويفسكي هو خالق الرواية متعددة‬
‫األصوات‪ .‬ففي أعماله يظهر البطل الذي يبني صوته بطريقة تشبه بناء صوت المؤلف في‬
‫رواية ذات نمط اعتيادي‪ ،‬والرواية‪ K‬متعددة األصوات تشبه تعددية األصوات في‬
‫الموسيقى‪ ،‬حيث تمتزج العناصر والشخصيات في تناغم غنائي‪ ،‬كأنها وحدة غنائية‬
‫وتصبح البطولة للفكرة التي تدور حولها الرواية‪ .‬ويعد أكثر األنواع وأشدها مالءمة‬
‫لطبيعة قص الحداثة‪ ،‬لذلك ال نجده بشكل واضح إال في مرحلة معاصرة متأخرة‪.‬‬
‫تكمن وظيفة هذا الراوي أنه يقدم الحدث المسرود من خالل وجهات نظر متباينة أو‬
‫متعارضة أحيانا على المستوى اإلنساني والفكري‪ .‬وهذا ال يجعل الرواية حزمة من‬
‫األوراق الجافة‪ ،‬وإنما شريحة حية من الواقع المعاش بصراعاته وجدله وتناغمه‪ ،‬وتصبح‬
‫الرواية بانوراما شاملة لموقف إنساني مركب ومتنوع االتجاهات‪ ،‬ألن تعدد األصوات في‬
‫الراوية يفترض كثرة في األصوات الكاملة القيمة في عمل أدبي واحد‪.51‬‬
‫التعريف بالكاتب حسن أوريد‪:‬‬ ‫‪-6‬‬

‫يعد حسن أوريد شخصية سياسية وفكرية بارزة‪ ،‬ولج قصور السلطة من بابها الواسع كأول‬
‫ناطق باسم القصر الملكي في‪ ‬المغرب‪ ،‬ثم عاد الرجل الذي تقاسم صف الدراسة مع‬

‫‪ - 51‬ميخائيل باختين‪ :‬شعرية دوستويفسكي‪ ،‬ترجمة جميل التكريتي‪،‬ـ مراجعة حياة شرارة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار توبقال‪ ،1986 ،‬ص‪.51 :‬‬

‫‪33‬‬
‫الملك‪ ‬محمد السادس‪ ‬إلى الساحة العامة‪ ،‬مستقال عن السلطة‪ ،‬بإسهام أدبي وفكري وتاريخي‬
‫غزير ‪ ،‬وبنقد حاد لبنيات الدولة في المغرب‪ ،‬مما وضعه في مناسبات كثيرة في قلب الجدل‪.‬‬

‫الميالد والنشأة‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬

‫ولد حسن أوريد يوم ‪ 14‬يوليوز ‪ 1962‬بقرية "تازموريت" األمازيغية‪ ،‬قريبا من مدينة‬
‫الراشيدية المغربية‪ ،‬جنوب شرق البالد‪ .‬ينحدر من أب صحراوي وأم أمازيغية من منطقة‬
‫ميدلت (وسط البالد)‪ .‬نشأ في حضن أسرة متواضعة‪.‬‬

‫الدراسة والتكوين‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬

‫تجري العادة في المعهد المولوي الذي يدرس فيه األمراء أن يتم استقطاب تالميذ متفوقين من‬
‫مختلف أنحاء المملكة لاللتحاق بهذه المدرسة التي تفتح لطالبها آفاقا واعدة‪ .‬فكان من حظ‬
‫حسن أوريد أن يتم اختياره لاللتحاق بالرباط في يناير‪/‬كانون الثاني‪ 1977 ‬ومجاورة الملك‬
‫محمد السادس (ولي العهد آنذاك) على مقاعد الدراسة‪.‬‬

‫وقد تواصلت هذه الزمالة بعد التخرج من المعهد بشهادة الثانوية العامة‪ ،‬عبر االلتحاق بكلية‬
‫الحقوق بجامعة‪ ‬محمد الخامس‪ ‬بالرباط‪ ،‬التي حصل فيها على شهادة اإلجازة في القانون العام‪،‬‬
‫ودبلوم الدراسات المعمقة‪ .‬ونال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية سنة ‪ 1999‬بأطروحة‬
‫معنونة بـــ "الخطاب االحتجاجي للحركات اإلسالمية واألمازيغية في المغرب"‪.‬‬

‫ج‪ -‬الوظائف والمسؤوليات‪:‬‬

‫عين‪ ‬حسن أوريد موظفا بوزارة الخارجية عام ‪ ،1987‬وانتقل الى واشنطن سنة ‪ 1995‬حيث‬
‫شغل مهمة المستشار السياسي للسفارة المغربية‪ .‬لم يطل مقامه‪ ‬بأميركا كثيرا حيث عاد ليزاول‬
‫التدريس الجامعي في المدرسة الوطنية لإلدارة وفي كلية الحقوق بالرباط ما بين‪ ‬عامي ‪1995‬‬
‫و‪ ،1999‬وهو العام الذي‪ ‬تم فيه‪ ‬تعيينه ناطقا رسميا باسم القصر الملكي‪ .‬وفي يونيو ‪،2005‬‬
‫‪34‬‬
‫عين أوريد محافظا على جهة مكناس تافياللت‪ ،‬قبل أن يعود إلى القصر الملكي بصفة مؤرخ‬
‫للمملكة منذ ‪ 13‬نوفمبر ‪ 2009‬وإلى غاية ديسمبر ‪.2010‬‬

‫د‪ -‬التجربة السياسية‪:‬‬

‫تضافر التفوق الدراسي والحظ لينقل حسن أوريد من فضائه القروي البسيط إلى‬
‫العاصمة‪ ، ‬وبالضبط المعهد المولوي‪ ،‬الذي يدرس فيه األمراء‪ .‬وهكذا انفتحت ألوريد مبكرا‬
‫آفاق واعدة‪ ،‬ذلك أنه‪ ‬تقاسم مقاعد الدراسة مع‪ ‬ولي العهد آنذاك‪ ،‬الملك محمد السادس‪ ،‬في‬
‫أطوار الدراسة وإلى غاية التخرج من جامعة محمد الخامس بالرباط‪.‬‬

‫اختار حسن أوريد العمل في السلك الدبلوماسي فالتحق بمكتب وزير الخارجية المغربي‬
‫السابق‪ ‬عبد اللطيف الفياللي‪ ،‬كمكلف بالدراسات‪ ،‬وذلك من ‪ 1987‬إلى ‪.1992‬‬

‫أما مهمته الدبلوماسية األولى خارج المملكة فكانت بالعاصمة واشنطن حيث شغل مستشارا‬
‫سياسيا حتى‪ ‬عام ‪ .1995‬ويبدو أن الخالف الذي خرج إلى العلن بينه وبين سفير المغرب‬
‫سابقا بواشنطن‪ ‬محمد بن عيسى‪- ‬وزير خارجية سابق‪ -‬عجل بعودته إلى المغرب‪ ،‬حيث‬
‫اشتغل مدرسا‪ ‬بالمدرسة الوطنية لإلدارة وفي كلية الحقوق بالرباط‪.‬‬

‫وضمن النخب الجديدة التي صعدت إلى هرم السلطة في المغرب بعد اعتالء محمد السادس‬
‫العرش‪ُ  ،‬عين أوريد كأول ناطق رسمي باسم القصر الملكي‪ ،‬في خطوة اعتبرت من قبل‬
‫المراقبين محاولة إلعطاء وجه حداثي لمؤسسة ملكية تتواصل بشكل مؤسساتي‪.‬‬

‫ظل يشغل ذلك‪ ‬المنصب حتى شهر يونيو ‪ ،2005‬حيث عين محافظا على جهة مكناس‬
‫تافياللت‪ .‬ولم تكن مهمته الميدانية هاته سهلة‪ ،‬بحيث تميزت واليته بنوع من التوتر مع مجلس‬
‫المدينة الذي كان يهيمن عليه‪ ‬حزب العدالة والتنمية المغربي‪ ‬ذي التوجه اإلسالمي‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫عاد أوريد إلى القصر الملكي بصفة مؤرخ للمملكة في ‪ 13‬نوفمبر ‪ .2009‬ومارس هذه‬
‫المهمة إلى غاية ديسمبر ‪ 2010‬حيث تؤرخ مغادرته للمنصب لمرحلة جديدة طبعها اعتماد‬
‫أوريد لخطاب نقدي حاد تجاه ممارسات الدولة العميقة (المخزن) إذ تفرغ للكتابة والبحث‬
‫وتنشيط الندوات والمحاضرات‪.‬‬

‫وقد جعلته مواقفه النقدية في قلب الجدل حول إشكاليات اإلصالح والنخب‪ .‬وقدم أوريد‬
‫اجتهادات لقيت متابعة قوية حول قضايا ساخنة مثل التحديث ومقاومات اإلصالح واإلسالم‬
‫السياسي واألمازيغية‪ .‬وتدريجيا كرس الرجل استقالليته عن دوائر السلطة وانخرط بعمق في‬
‫النقاش العمومي السياسي والثقافي‪.‬‬

‫وخالل تواجده في مدار السلطة‪ ،‬يقول المراقبون إنه قام بمحاوالت إلرساء جسور الحوار بين‬
‫النظام وبعض الشخصيات والجماعات التي توجد خارج اللعبة السياسية من قبيل‪ ‬جماعة‬
‫العدل واإلحسان‪ ‬وشخصيات من الحركة األمازيغية‪ .‬وبعد خروجه من دواليب القصر‪ ،‬ركز‬
‫على الجوانب الثقافية والبحثية بصفته رئيسا لمركز الدراسات واألبحاث "طارق بن زياد"‬
‫ومستشارا علميا بمجلة "زمان" المتخصصة في البحث التاريخي‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬مؤلفاته‪:‬‬

‫في مجال التأليف‪ ،‬تنوعت كتابات حسن أوريد الذي يتقن العربية والفرنسية واإلنجليزية‬
‫بين البحث التاريخي واالجتهادات الفكرية واإلبداعات األدبية‪ .‬وتميزت كتاباته بأسلوب‬
‫مميز باللغتين‪ ‬العربية‪ ‬والفرنسية‪ .‬وقد شهد له الجميع بفصاحته واحترامه لقواعد اللغة‬
‫وكذلك رقي أسلوبه والتفاصيل الجميلة في كل مؤلفاته‪ .‬ومن أهم كتبه التاريخية والفكرية‪:‬‬
‫"اإلسالم السياسي في إيران"‪" ،‬اإلسالم والغرب والعولمة"‪" ،‬مرآة الغرب المنكسرة"‬
‫وهو دراسة نقدية لبعض األفكار الغربية االقتصادية والسياسية والدينية‪ ،‬أصدره بالعربية‬
‫والفرنسية‪" .‬الفكر السياسي في إيران"‪ ،‬ترجمة من اإلنجليزية إلى العربية‪" .‬تلك‬

‫‪36‬‬
‫األحداث"‪ ،‬كتاب يضم عدة مقاالت كتبها المؤلف ونصوص لمحاضرات ألقاها‪" .‬مأزق‬
‫اإلسالم السياسي"‪ ،‬سنة ‪" .2016‬من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"‪ ،‬سنة ‪" .2018‬أفول‬
‫الغرب"‪ ،‬سنة ‪" .2019‬السياسة والدين في المغرب"‪ ،‬كتاب يناقش جدلية السلطان‬
‫والفرقان‪ ،‬سنة ‪ .2020‬أما دواوينه الشعرية‪ ،‬فأهمها‪" :‬يوميات مصطاف"‪ ،‬و"فيروز‬
‫المحيط"‪ ،‬و"زفرة الموريسكي"‪ ،‬الصادر عن دار األمان سنة ‪ .2014‬و"صرخة‬
‫تينهينان"‪ .2014 ،‬ومن أهم رواياته‪" :‬الحديث والشجن"‪ :‬وقد حظيت بتتبع واهتمام‬
‫كبيرين من طرف جمهور القراء في المغرب‪" .‬الموريسكي"‪ ،‬كتبت بالفرنسية قبل أن تتم‬
‫ترجمتها للعربية من طرف الكاتب المغربي عبد الكريم جويطي‪" .‬صبوة في خريف‬
‫العمر"‪ ،‬صدرت في طبعتين‪".‬األجمة"‪ ،‬صدرت عن دار األمان سنة ‪" .2014‬سيرة‬
‫حمار"‪ ،‬صدرت عن دار األمان سنة ‪ِ " .2014‬سينترا"‪ ،‬صادرة عن مطبعة المعارف‬
‫الجديدة في الرباط سنة ‪" .2015‬رواء مكة"‪ ،‬صدرت سنة ‪" .2017‬ربيع قرطبة"‪،‬‬
‫صدرت عن المركز الثقافي العربي‪ ،‬سنة ‪" .2018‬رباط المتنبي"‪ ،‬صدرت سنة ‪.2018‬‬
‫"عالم بال معالم"‪ ،‬صدرت سنة ‪" .2021‬زينة الدنيا"‪ ،‬صدرت سنة ‪.52"2021‬‬

‫‪ - 52‬معرف الجريدة الرسمية للدولة اإلسبانية ‪.http://www.boe.es/buscar/act.php?id=BOE-A-2000-16883‬‬

‫‪37‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬التوظيف السياسي في رواية "سينترا" لحسن أوريد‬

‫‪38‬‬
‫يتمحور هذا الفصل حول تطور الرواية المغربية التي اعتمدت استراتيجيات تجريبية‬
‫وتناصية‪ .‬فمنذ العقدين األخيرين من القرن الماضي إلى اليوم‪ ،‬أصبح الكتّاب أكثر وعيا بطرق‬
‫كتابة الرواية وبتطوير مشاريعهم األدبية‪ ،‬من خالل إقامة عالقة تناص مع التراث والتاريخ‪،‬‬
‫وابتداع تقنيات جديدة تتمثل في إشراك القارئ في إبداعهم السردي‪ ،‬ومن ث ّم نأوا عن الطرق‬
‫التقليدية في كتابة الرواية‪ .‬وتمثل رواية "سينترا" للكاتب والمفكر المغربي حسن أوريد‬
‫أنموذجا ثريا لدراسة الخطاب السياسي في الرواية‪ ،‬وتناصها مع التاريخ والشعر وبعض‬
‫الفنون الشعبية‪ ،‬التي تمثل الهوية الثقافية للمغاربة‪ ،‬والذاكرة الجماعية لمغرب متعدد الروافد‬
‫الثقافية‪ .‬واستنادا إلى ذلك‪ ،‬يتغيا هذا البحث تتبع الخطاب السياسي الذي تستدعيه الرواية‪،‬‬
‫وتقاطعه مع خطابات وفنون أخرى‪ ،‬ومعنى هذا أن هذا النوع من الخطابات الذي يحضر في‬
‫متنها‪ ،‬له وظيفة معينة يلزم كشفها وتحليلها‪ ،‬ما دام يرد في سياق نصي محدد‪ ،‬ويتداخل‬
‫ويتفاعل مع البناء الكلي للرواية‪ .‬فحضور مثل هذه الخطابات ينتج عن اختيار واع من لدن‬
‫المؤلف‪ ،‬وما دام األمر كذلك‪ ،‬فهو اختيار يؤدي وظيفة‪ ،‬ويُنجز غرضا‪ ،‬ويُحدث ال ريب أثرا‬
‫في المتلقي‪ .‬وهو ما سنعمل على توضيحه من خالل مقاربة هذه الرواية‪.‬‬

‫من اإلشكاليات التي اعترضتنا في دراسة موضوع هذا البحث إبراز مظاهر التوظيف‬
‫السياسي في الرواية‪ ،‬وكشف العالقة القائمة بينه وبين التاريخ‪ ،‬وهي وإن كانت عالقة ملتبسة‬
‫تندرج في اإلشكاالت التي يعز الحسم فيها‪ ،‬غير أننا نؤثر خوض هذه المغامرة آملين الكشف‬

‫‪39‬‬
‫عن جانب منها‪ ،‬دون إغفال التقنيات التي اعتمدها الكاتب والتي وسمت الرواية بالجمالية‪،‬‬
‫وساهمت في إثراء بعدها التدليلي‪ .‬من هنا يحق لنا التساؤل‪ :‬ما حدود السياسي والتاريخي‬
‫والتخييلي في رواية "سينترا"؟ وما وظيفة الخطاب السياسي فيها؟ وما أثره على القارئ؟ وما‬
‫التقنيات التي توسل بها الكاتب في تشييد عالمه الروائي؟‬

‫‪" -1‬سينترا" وإشكال التجنيس‪:‬‬

‫يجب اإلقرار بدءا أننا أمام نص سردي عميق‪ ،‬ومعنى ذلك أنه ليس نصا عاديا يقدم نفسه‬
‫بتلقائية لقرائه‪ ،‬وإنما يتطلب بذل الجهد في قراءته وفهمه وتأويله‪ ،‬كما يستحث القارئ على‬
‫قراءته أكثر من مرة واحدة حتى يستكنه عوالمه‪ ،‬ويهتدي إلى فك بعض رموزه وغموضه‪.‬‬

‫تواجه القارئ العادي صعوبات في فهم هذا العمل السردي‪ ،‬تتمثل في التساؤل عن عالقة‬
‫االستهالل بالقسمين األول والثاني‪ ،‬وكذا عالقته بالبناء العام‪ .‬كما يجد بعض الصعوبة في فهم‬
‫دالالت رموز بعض الشخصيات‪ ،‬ال سيما وإذا علمنا ّ‬
‫أن الكاتب يوظف ثالثة أصناف منها؛‬
‫األولى‪ ،‬شخصيات حقيقية من قدماء المناضلين والمثقفين كالمهدي بن بركة وعمر بن جلون‬
‫وعبد الخالق الطريس وعبد الصمد الكنفاوي‪ ،‬والثانية‪ ،‬شخصيات ُح ّور اسمها الشخصي‪،‬‬
‫واحتفظت بنسبها كطارق أوريد‪ ،‬والثالثة‪ ،‬شخصيات "ورقية" متخيّلَة‪ .‬لقد تداخلت خصائص‬
‫بعد الشخصيات وتقاطعت إلى درجة تح ّولت فيها ‪-‬مثال‪ -‬شخصية "مليكة" إلى شخصية‬
‫"الموتشو" لحظة مواجهتها لعمر بنمنصور‪ ،‬كما تداخلت شخصية حسن أوريد مع بطل‬
‫الرواية عمر بنمنصور‪.‬‬
‫ال يقف غموض الرواية عن عالقة استهاللها ببنائها العام وتداخل شخصياتها‪ ،‬بل بالفضاء‬
‫العام الذي تجري فيها األحداث وتتحرك فيه الشخصيات‪ ،‬وباألخص فضاء "سينترا" العصي‬
‫على الفهم‪ ،‬والحامل لرمز الوعي المستعاد‪ ،‬وغيرها من الدالالت والرموز التي سنتطرق‬
‫إليها‪ .‬إضافة إلى تداخل األزمنة وتعدد الرواة وتداخل األصوات‪ .‬ولع ّل اعتماد الكاتب على‬
‫هذه التقنيات قي بناء عالمه السردي‪ ،‬يجسد روح الرواية بتعبير ميالن كونديرا التي هي روح‬

‫‪40‬‬
‫التعقيد؛ فكل رواية تقول لقارئها إن األشياء ليست سهلة كما تبدو لك‪ ،‬وهذه هي الحقيقة األبدية‬
‫للرواية‪.‬‬
‫من الصعوبات التي تواجه القارئ أيضا في قراءته لهذا العمل السردي غياب تجنيسه؛ فحسن‬
‫أوريد لم يحدد لهذا النص انتماءه األجناسي‪ ،‬وآثر عدم تحديده إلشراك القارئ في عملية‬
‫التجنيس‪ ،‬وحثه على التفاعل وطرح األسئلة عن طبيعة العمل األجناسية‪ .‬لقد تع ّمد الكاتب ذلك‬
‫وخرق أفق انتظار القارئ‪ ،‬وجعل عمله ‪-‬في غياب تجنيسه‪ -‬خارج الميثاق السردي المتبع‬
‫والمألوف ضمن نظرية األجناس األدبية‪ ،‬لكن اختيار الكاتب هذا ال يشذ عن القاعدة المطّردة‪،‬‬
‫ألننا نجد غياب تحديد اإلطار األجناسي في عدة نصوص روائية متميزة‪ .‬فهل يكون هذا‬
‫المنجز السردي سيرة ذاتية أم سيرة غيرية أم تخييل ذاتي أم رواية؟ وهل في اإلضمار وعدم‬
‫التصريح‪ K‬محاولة للدفع بالقراءة والنقد إلى مغامرة السؤال والبحث عن المعايير التكوينية‬
‫والجمالية لهذا النص؟ أم أن التمرد على عدم التصريح‪ K‬بالتجنيس يحمل مقصدية الكاتب التي‬
‫تبيّن إشكالية تحديد هويته؟‪.‬‬
‫لن نخوض في الفروق الدقيقة بين هذه األنواع‪ ،‬ألنه ليس موضوع بحثنا‪ ،‬وحسبنا اإلشارة إلى‬
‫أننا سنتعامل مع هذا النص السردي بوصفه رواية العتبارين اثنين‪ :‬أولهما أن هذا النص‬
‫يتضمن العناصر والخصائص السردية الفنية والجمالية لجنس الرواية؛ من أحداث‪ ،‬وسرد‪،‬‬
‫وشخصيات‪ ،‬وحوار‪ ،‬ووصف‪ ،‬وفضاء مكاني‪ ،‬وزمان‪ ،‬ورؤى سردية‪ ،‬وتعدد الرواة‬
‫واألصوات‪ K‬واللغات‪ ،...‬وهي عناصر مترابطة ومنسجمة داخل هذا النص الروائي‪ ،‬بفضل‬
‫بنية سردية من العالمات المنطقية أضفت على األحداث تسلسال واتساقا منذ البداية إلى‬
‫النهاية‪ ،‬وأسندت إليها شخصيات تقوم بها‪ ،‬وأطرتها في زمان ومكان معيّنين‪ ،‬ليكون المحكي‬
‫قابال للقراءة والفهم والتأويل‪ .‬ثانيهما‪ّ :‬‬
‫أن الكاتب حسن أوريد تعامل مع هذا المنجز السردي‬
‫بوصفه رواية‪ ،‬في اللقاءات الثقافية والنقدية التي شارك فيها إلى جانب دارسين قدموا مقاربات‬
‫حولها‪.53‬‬

‫‪ 53‬سبق لحسن أوريد بعد صدور روايته "سينترا"‪ ،‬أن شارك في لقاء ثقافي لتقديم هذا العمل ومقاربته‪ ،‬بمتحف التراث الثقافي اليهودي المغربي‬
‫الذي يحتضن جزءا من الذاكرة الوطنية‪ ،‬وذلك تكريماـ لذكرى المرحوم "شمعون ليفي" الذي كان يعرفه عن كثب‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ -2‬إشكاالت رواية "سينترا"‬

‫صدرت للروائي والمفكر المغربي حسن أوريد رواية جديدة تحمل اسم "سينترا"‪ ،‬أغنت‬
‫منجزه الروائي الذي يغوص في ثنايا التنقيب في الذاكرة والتاريخ‪ ،‬مع التركيز على فترة‬
‫استعمار المغرب‪ ،‬وخصوصا الفترة الممتدة ما بين ‪ 1946‬و‪ ،1948‬ليسائل قضايا سياسية‬
‫عالقة‪ ،‬مازجا البوح والسرد والهزل والسؤال‪ ،‬حول لغز تتشابك خيوطه‪ ،‬وال تنحل عقدته إال‬
‫حينما يمتزج العقل والوعي التاريخي والعاطفة‪ ،‬فتفصح عنه الصدفة‪ .‬أسلوب غير مسبوق‬
‫فيما دأب عليه الروائي من مساءلة التاريخ‪ ،‬ودفع الذاكرة الى االفصاح عن جوانبها المستترة‪.‬‬

‫لماذا فكر حسن أوريد في كتابة رواية "سينترا"؟ ما داللة هذا المقصف الرمزي لرواية‬
‫تخترق الزمن جيئة وذهابا‪ ،‬بين الماضي والحاضر؟ لماذا استعاد ذاكرة بعض المناضلين‬
‫السياسيين في هذه اللحظة بالذات؟ لماذا أنطقهم من جديد؟ ماذا يعني انبعاث فكر عالل‬
‫الفاسي‪ ،‬المهدي بن بركة‪ ،‬عبد الرحيم بوعبيد‪ ،‬عمر بنجلون من داخل الرواية؟ إلى ماذا يحيل‬
‫تعدد األصوات واللغات؟ ثم لماذا تحضر شخصيته في تماه مع شخصية البطل عمر‬
‫بنمنصور؟ أيكون حسن أوريد هو عمر بنمنصور رجل االستخبارات الذي اصطف إلى جانب‬
‫الوطن ونأى بنفسه ضد ‪Les pieds noirs‬؟ ثم ماذا يعني فقدانه لذاكرته في نهاية الرواية؟‬
‫وإصرار‪ K‬الدكتورة فيفاني على متابعة حالته الصحية أمال في ترميم ذاكرة سائرة نحو الضياع؟‬

‫‪ -3‬المتن الحكائي‪:‬‬

‫تعد رواية "سينترا" لحسن أوريد من بين النصوص السردية المغربية المعاصرة‪ ،‬التي سعت‬
‫إلى التجريب والتطوير‪ ،‬وهي من بين النصوص الغنية التي تفرض نفسها على النقاد والقراء‪،‬‬
‫وتستحثهم على القراءة والتحليل والتأويل‪ ،‬وهي العمل السردي السادس الذي صدر للكاتب في‬
‫مجال الرواية‪ ،54‬وهو تراكم دال يؤكد أن الروائي ماض في تطوير العوالم التخييلية التي يشيد‬
‫بها أعماله السردية‪.‬‬
‫‪ 54‬ألف حسن أوريد قبل رواية "سينترا"ـ خمس روايات‪ ،‬األولى معنونة بـ "الحديث والشجن"‪ ،‬تلتها رواية "الموريسكي"‪،‬ـ والثالثة معنونة بـ "صبوة‬
‫في خريف العمر"‪ ،‬والرابعة بـ "األجمة"‪ ،‬والخامسة بـ "سيرة حمار"‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫تحاول رواية “سينترا” أن تغوص في ثنايا الذاكرة الجماعية لمغرب متعدد ومنفتح‪ ،‬بروافده‬
‫الثقافية والفنية المتنوعة ومكونات هويته الغنية‪ ،‬وتعيد قراءة مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب‬
‫(ما بين ‪ 1946‬و‪ ،)1948‬حينما كان خاضعا لالحتالل الفرنسي واإلسباني‪ ،‬من خالل‬
‫استحضار التعايش الذي طبع حياة المغاربة المسلمين واليهود خالل تلك الفترة‪.‬‬

‫فبدقة وأناة وبصيرة يستلهم حسن أوريد شخصياته من التاريخ ويمنحها بعدا فلسفيا وسياسيا‪،‬‬
‫من خالل استحضار فضاء “سينترا” الذي كان يشكل مجلسا للنقاش وطرح قضايا ته ّم مستقبل‬
‫الوطن‪ ،‬من قبيل‪ :‬العدالة والذات واآلخر والتحرر والتعايش‪ .‬كما تخوض في قضايا عربية‬
‫ودولية‪.‬‬

‫تتقاطع الشخصية المحورية المتخيلة “عمر بنمنصور” مع شخصيات حقيقية وواقعية من‬
‫قبيل‪ :‬عبد الخالق الطريس‪ K‬والمهدي بن بركة وعبد الصمد الكنفاوي وزعماء من الحركة‬
‫الوطنية‪ ،‬الذين أثروا في مساره ووعيه الوطني‪ .‬‬

‫تحيط "سينترا" بحياة عمر بنمنصور المفكر الوطني والمؤرخ‪ ،‬وتعود بنا ‪-‬على لسان حفيدته‬
‫بشرى‪ -‬ألصوله الجزائرية‪ ،‬وإلى مكان يسمى بعين الحوت قرب تلمسان‪ ،‬غير ّ‬
‫أن أصوله‬
‫الحقيقية أندلسية‪ ،‬عندما نزحت أسرته‪ ،‬بعد هزيمة معركة العُقاب سنة ‪ 1212‬من األندلس إلى‬
‫بالد المغرب‪" ،‬وحملت معها طرائقها وثقتها وحنينها إلى ما تعتبره الفردوس المفقود‪،‬‬
‫وحاولت أن تبعثه هنا في بالد المغرب"‪ .55‬عاشت أسرته نكبة أخرى حينما ح ّل الفرنسيون‬
‫بالجزائر‪ ،‬وانكسرت إثرها حركة األمير عبد القادر‪ ،‬فنزحت كثير من األسر من تلمسان‬
‫ومعسكر ووهران نحو المدن المغربية‪ ،‬كما نزحت عائلته إلى فاس‪ ،‬وبها ُولد‪ ،‬ومن المرجح‬
‫أن تكون ما بين سنة ‪ 1915‬و ‪" ،1918‬درس بثانوية موالي ادريس‪ ،‬وكانت على شاكلة ثانوية‬
‫الصّادقية بتونس‪ ،‬تُزاوج بين تعليم عصري مع الحفاظ على اللغة العربية‪ .‬حصل بنمنصور‬
‫على شهادة البكالوريا‪ ،‬ورحل إلى الجزائر ليستكمل تكوينه في اآلداب‪ ،‬وهناك عانق بعث‬

‫حسن أوريد‪ ،‬سينترا‪ ،‬نشر‪ :‬توسنا‪ ،‬طبع‪ :‬مطبعة المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ ،2015 ،‬ص‪.241 :‬‬ ‫‪55‬‬

‫‪43‬‬
‫أندلس جديدة‪ ،‬في ركاب مفكرين على شاكلة جاك بيرك‪ .‬ارتبط دوما بحنين إلى حيث استق ّر‬
‫أجداده‪ ،‬وحيث درس"‪.56‬‬

‫بأن تص ّدعا وقع في المنطقة‪:‬‬


‫عندما وقعت أحداث سطيف بالجزائر‪ ،‬في ‪ 8‬ماي ‪ ،1945‬شعر ّ‬
‫"كانت احتفاالت الهُدنة فخرج على إثرها مواطنون جزائريون يحملون العلم الجزائري‬
‫فأطلقت عليهم الق ّوات الفرنسية النار‪ ،‬وتحولت المظاهرات السلمية إلى مجزرة‪ ،‬وانتقل‬
‫األمر‪ ...‬إلى ك ّل مناطق الجزائر‪ .‬كان بنمنصور يؤمل‪ ،‬خفية‪ ،‬أن تتطور األمور بشكل مغاير‬
‫في المغرب‪."57‬‬

‫بعد هذه األحداث‪ ،‬عمل بنمنصور مترجما لدى إدارة المراقب المدني بالدار البيضاء‪ ،‬وانغمر‬
‫في الحركة الوطنية‪ ،‬مما دفعه للمنفى إلى مدريد ث ّم القاهرة‪ ،‬التي تعرّف فيها على زوجته‬
‫"سوليكا" اليهودية‪ ،‬التي تنحدر من أسرة موريسكية باألندلس‪ .‬ولم يعد إلى المغرب إال بعد‬
‫االستقالل ليشغل مناصب سامية‪ ،‬من بينها تدريسه األدب العربي لألمير الحسن وأخيه عبد‬
‫هللا‪ ،‬إضافة إلى حضور السلطان محمد الخامس بنفسه لدروس عمر بنمنصور‪ ،‬من أجل تفقد‬
‫مسار دراسة ابنيه‪ ،‬واالستزادة معرفة‪" :‬تكررت زيارات السلطان‪ ،‬واستأنس بالدرس كما‬
‫استأنس األستاذ بالسلطان‪ .‬ولقد أدرك بنمنصور ّ‬
‫أن السلطان لم يكن يحضر الدروس فقط ليتفقد‬
‫سير دراسة ابنيه‪ ،‬موالي الحسن وموالي عبد هللا‪ ،‬بل ليستزيد معرفة"‪.58‬‬

‫على الرغم من إنجازات بنمنصور ووطنيته‪ ،‬لم يسلم من الغمز والنبز‪ " :‬لطالما نُعت‪..‬‬
‫بالعمالة للسلطات االستعمارية لفترة‪ ،‬وبماض شيوعي‪ ،‬وبأصول جزائرية‪ ،‬وبخدمة للمخزن‪،‬‬
‫وبعالقات مشبوهة مع أوساط صهيونية‪ .‬والحقيقة خالف ذلك أو أعقد من ذلك‪ ،‬أو تبدي جانبا‬
‫‪59‬‬
‫خارج السياق لتخفي الحقيقة أو لتَشينها"‪.‬‬

‫‪ 56‬نفسه‪ ،‬ص‪.142 :‬‬


‫‪ 57‬نفسه‪.‬‬
‫‪ 58‬نفسه‪ ،‬ص‪.110 :‬‬
‫‪ 59‬نفسه‪.217 ،‬‬

‫‪44‬‬
‫يُصاب بنمنصور ذات يوم بوعكة صحية أدخلته في غيبوبة لم يستفق منها‪ ،‬إال بعد جهد جهيد‬
‫تضافر فيه عمل الطبيبة "الدكتورة فيفاني"‪ ،‬والمثقف "الدكتور طارق أوريد"‪.‬‬

‫تركز الرواية باهتمام كبير على المرحلة الزمنية من ‪ 1946‬إلى ‪ ،1948‬ومتابعة حياة عمر‬
‫بنمنصور وهو يتحرك في فضاءات موشومة باشتداد الصراع بين الحركة الوطنية والقوات‬
‫االستعمارية‪ ،‬ومشدود لعالقته بكازالطا الضابط في االستعالمات الذي يكلفه بمهمة متابعة‬
‫أخبار "سينترا"‪ ،‬ويهيئ له المقام ليصبح مدرسا لألمير الحسن‪ ،‬لترصّد أخبار الوطنيين‬
‫والعائلة الملكية‪ ،‬وتتبع سيرة األمير موالي الحسن وكذلك أستاذ الرياضيات بن بركة‪ ،‬الذي‬
‫اعتبره كازالطا عنصرا خطرا‪ .60‬وقد كان متزوجا من "سوليكا" اليهودية وصارع من أجل‬
‫أن تحبل منه‪ ،‬غير أنه أخفق في األخير حيث سترحل س ّرا هي وجماعتها إلى إسرائيل في‬
‫غفلة عنه‪ ،‬تاركة رسالة توضح فيها أسباب ذلك الرحيل‪.‬‬

‫وبعد أن دخل في شبه غيبوبة‪ ،‬وصارت حياته وراءه‪ ،‬اختار أن ينهي هذا المسار ساعيا لسد‬
‫ثقوب ذاكراته‪ ،‬مصارعا من أجل لملمة تفاصيلها المعقدة‪ ،‬واسترجاع بعض ذكرياتها‪ .‬وقد‬
‫اختتمت آخر صفحة من الرواية‪ ،‬باإلشارة إلى الفرحة الغامرة التي عبّرت عنها حفيدته‬
‫بشرى‪ ،‬عندما تفاجأت باسترجاع َج ّدها ذاكرته‪:‬‬
‫" في تلك األثناء سمعا (الدكتورة فيفاني والدكتور طارق أوريد) وقع خطوات‪ ..‬أخذ وقعها‬
‫يقترب‪ .‬فتحت بشرى باب المصلحة وهي متهللة الوجه‪:‬‬
‫دكتورة‪ ،‬شكرا‪ ،‬شكرا‪ ..‬ج ّدي استرجع ذاكرته‪ ..‬شكرا الفضل يرجع لك"‬
‫‪61‬‬
‫‪-‬‬
‫لكن هل تعلق األمر حقا بذاكرة فردية أم ذاكرة جماعية؟ استيقظت بصعوبة بالغة‪ ،‬بعد أن‬
‫تعطلت في اللحظات األخيرة من عمر البطل؟‪.‬‬
‫إذا كانت هذه هي المفاصل الكبرى للسرد‪ ،‬فإن أحداث الرواية وعوالمها لن تتوضح للقارئ‬
‫بجالء‪ ،‬إال بالوقوف على الفضاء المكاني مقصف "سينترا" بوصفه الفضاء الذي جرت فيه‬

‫‪ 60‬حسن أوريد‪ ،‬سينترا‪ ،‬ص‪.105:‬‬


‫‪ 61‬نفسه‪ ،‬ص‪.285 :‬‬

‫‪45‬‬
‫األحداث‪ ،‬وتحركت فيه الشخصيات‪ ،‬وقد لعب دورا محوريا وهاما في تشييد البناء العام‬
‫للرواية‪.‬‬

‫الفضاء المكاني "سينترا"‪ ‬وأبعاده الداللية والرمزية‪.‬‬ ‫‪.1-3‬‬

‫ليست "سينترا" عتبة نصية تؤدي وظيفة عابرة في الرواية‪ ،‬ولكنها ق ّوة فاعلة‪ 62‬تضطلع بدور‬
‫أساس في مسارها‪ ،‬ومكون ثابت ينهض عليه بناؤها العام‪ ،‬ويتغلغل في عمق نسيجها‬
‫السردي‪ ،‬ولع ّل السبب في ذلك راجع إلى ما حظيت به من حضور ووصف على امتداد المتن‬
‫الحكائي‪ ،‬وما حازته من دالالت وتأويالت سواء عند شخصيات الرواية‪ ،‬أو من لدن المتلقين‬
‫والدارسين بعد قراءتهم لها‪.‬‬

‫"سينترا" على مستوى دالالت الفضاء هو كابريه أو مقصف من طابقين ترتاده نخبة من‬
‫المثقفين والمدمنين على ارتياد هذ المكان‪ ،‬لها شغف في الخوض في نقاشات تتعلق بقضايا‬
‫وطنية وعربية ودولية‪ ،‬كما تخوض في أمور شتى‪ .‬تعبّر هذه النخبة عن آرائها ومواقفها‬
‫الشخصية والسياسية‪ ،‬وأملها في الحرية واالستقالل والتحديث‪ .‬وهي مجموعة تتوحد على‬
‫مستوى القناعات اإليديولوجية‪ ،‬واإليمان بالمبادئ االشتراكية‪ ،‬إلى درجة شكلت تهديدا خفيا‬
‫للقوى االستعمارية الفرنسية‪ ،‬التي سارعت إلى إرسال عمر بنمنصور إليها ليقوم بمهمة‬
‫استخباراتية‪ ،‬وينقل إلى الجهات المعنية كل كبيرة وصغيرة عنها‪.‬‬

‫في هذا الفضاء يعبِّر الشعر والزجل بشكل قوي على خصوصية المرحلة ومخاضاتها‬
‫العسيرة‪ .‬نخبة تستأنس ببعضها وتتأثر لغياب فرد من أفرادها؛ عبد الصمد الكنفاوي محتضن‬
‫مسرح الشعب‪ ،‬والشاعر المنتصر للكادحين موال مليانة‪ ،‬والعالم وعنيبة والشاعرة مليكة‬
‫وعاللو الح ّجام ومصطفى بوعزيز‪ ،‬إضافة إلى الشخصية المتعالية على الزمان "الموتشو"‬
‫حامل النبوءة وسر األسرار‪ .‬أجواء يحضر فيها الفن الراقي سواء ما يصدح به فنان الملهى‬
‫حسن السقاط‪ ،‬وهو ير ّدد أغاني محمد عبد الوهاب أو الحسين السالوي أو خربوشة أو ناس‬
‫‪ 62‬القوة الفاعلة كل ذات لها حضور في القصة سواء كانت إنسانا أو حيوانا أو شيئا‪ ،‬وتسمى بهذا االسم عندما تضطلع بدور أساس في مسار‬
‫القصة‪ .‬انظر‪،‬‬
‫‪Greimas, Les actants, les acteurs et les figures, in Du Sens II Essais de Sémiotique, Seuil, 1983, p 49.‬‬

‫‪46‬‬
‫الغيوان‪ ،‬الذين تم استحضارهم عبر القفز في الزمن‪ ،‬من خالل اعتماد السرد االستشرافي؛‬
‫القائم على التنبؤ واستشراف المستقبل‪.‬‬

‫حينما عاد بنمنصور إلى الدار البيضاء‪ ،‬كلفه "كازالطا" الضابط في االستعالمات بتتبع‬
‫ومراقبة كل ما يدور في "سينترا"‪ ،‬والطريف ما حكاه له عن هذا الفضاء؛ إذ أخبره أنه‬
‫"مقصف يرتاده األهالي أصبح بؤرة للتمرد‪ ،‬قطبها شاب لم تستطع اإلدارة أن تحيط‬
‫بشخصيته‪ ،‬سوى ما تعلم عنه من أنه من منطقة الشمال‪ ،‬ويزعم أشياء غريبة منها ّ‬
‫أن فرنسا‬
‫سترحل عن المغرب‪ّ ،‬‬
‫وأن الوطنيين سيقودون البالد‪ ..‬ومنها أن الباشا الكالوي سيأفل نجمه‪،‬‬
‫بل إنه تحدث عن أشياء عميقة ستعتمل بداخل العالم العربي‪ ،‬ومنها ّ‬
‫أن الجزائر ستنفصل عن‬
‫فرنسا جرّاء حرب دامية‪ ،‬وسيُقطع دابر ال َملكية في مصر وتدخل أرض ال ِكنانة غمار تجربة‬
‫فريدة‪ ..‬والطريف أنه يتحدث عنها في صيغة الماضي"‪.63‬‬

‫حاول بنمنصور تهدئة الضابط‪ ،‬معربا أنه ليس "من الضروري إعطاء هذه الهلوسات حجما‬
‫أكبر م ّما تستحقه"‪ ،64‬فمثل هؤالء األشخاص ال يشكلون خطرا على فرنسا‪ ،‬وطمأنه قائال ‪" :‬‬
‫ال‬
‫تنس ّ‬
‫أن كثيرا من الزوايا والمتصوفة والمجاذيب كانوا دعما إلدارة الحماية وما يزالون"‪.65‬‬

‫اطمأن كازالطا نسبيا من حيرته‪ ،‬وأعرب لبنمنصور أنه مصدر ثقة بالنسبة إليه‪ ،‬وأنه ال يمكن‬
‫أن يعتمد إال على أصدقائه‪ ،‬وهو واحد منهم‪ .‬وقد فسر لجوءه إليه بحكم ارتباطه باإلدارة‬
‫الفرنسية كواحد من خيرة مساعديها‪ ،‬وبحكم معرفته بتاريخ المنطقة وعوائدها‪.66‬‬

‫على الرغم من تظاهر عمر بنمنصور بعدم القلق من "سينترا" ومن بعض روادها‪ ،‬إال أنه‬
‫كان في قرارة نفسه قلقا تجاهها‪ّ ،‬‬
‫ألن المه ّمة "المخابراتية" التي أوكلت إليه مهمة عويصة‬
‫تجشم عناءها بعد ذلك‪ ،‬وبعثرت تناسق حياته؛ "وهو ما عبّرت عنه زوجته بالسحر أو ّ‬
‫أن‬
‫المكان مسكون‪ .‬ليتأ ّود‪ 67‬األهالي على أنغام محمد عبد الوهاب إن شاؤوا‪ ،‬وليستمعوا لهلوسات‬
‫‪ 63‬حسن أوريد‪ ،‬سينترا‪ ،‬نشر‪ :‬توسنا‪ ،‬طبع‪ :‬مطبعة المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ ،2015 ،‬ص‪.24 ،23 :‬‬
‫‪ 64‬نفسه‪ ،‬ص‪.24 :‬‬
‫‪ 65‬نفسه‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫‪ 66‬نفسه‪.‬‬
‫إعوجّ‪ .‬و َتأوّ دَ الشيءُ‪ :‬تعوّ جَ ‪ .‬انظر‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مادة ِ‬
‫(أودَ)‪.‬‬ ‫وأودَ الشيءُ‪ ،‬ي ََأو ُد ْأو ًدا‪ ،‬أي َ‬
‫التأوّ د‪ :‬التثني‪ِ ،‬‬
‫‪67‬‬

‫‪47‬‬
‫مح ّدثيهم بالغيب والحالمين بالمهدي المنتظر الذي سيمأل الدنيا عدال بعد أن ملئت جوْ را‪،‬‬
‫وليرقصوا على أغانيهم الشعبية‪ ،‬وليتسلّوا بطرائفهم التي ال تسمن وال تغني من جوع‪ ،‬فخيار‬
‫بنمنصور ال يتقاطع وسينترا أو عالمها‪ .‬خيار بنمنصور ليس مع الهامشيين وال مع الحالمين‪.‬‬
‫خياره هو ذاك الذي ينغمر في خضم التجربة اإلنسانية‪ ،‬في عمل التحديث هذا الذي تقوده‬
‫فرنسا ببالد المغرب‪ ،‬رغم عثراته واختالالته وعيوبه"‪.68‬‬

‫سينترا عبارة عن مجتمع صغير يؤمه نخبة من المثقفين‪ ،‬وال يرتاده األوربيون‪ .‬فهي ‪-‬في‬
‫حقيقتها‪ -‬وكما وردت على لسان شخصياتها ليست مكانا بل ظاهرة‪ ،‬تجسد رمزا للوعي‬
‫السياسي أو للوعي المستعاد‪ ،69‬أي كلمة السر التي توقظ بنمنصور من غيبوبته‪ ،‬وتفتح عينيه‬
‫على عوالم متداخلة‪ .‬بينما يجسد بطل هذا الفضاء "الموتشو" رمزا مرادفا للوعي التاريخي‪.‬‬

‫‪" -‬من يكون "الموتشو" في اعتقادك‪ ،‬سألت فيفاني أوريد؟‬

‫‪-‬ال أدري ‪.‬ال يمكن إال أن أخمن‪ :‬نحن هنا سنعتمده كمرادف للوعي التاريخي‪.‬‬

‫‪ -‬وسينترا؟‬

‫‪ -‬الجماعة الراقصة اعتبرتها فكرة تحيل إلى الوعي السياسي"‪.70‬‬

‫إن المهم في هذا الفضاء هو أنه جسّد نقطة عبور وانتقال من الوعي المسطح الذي انطلق منه‬
‫عمر بنمنصور نحو وعي تاريخي مؤمن بقضية التحرير والتحديث‪ ،‬ساهم فيه لقاؤه مع‬
‫المهدي بن بركة وعبد الخالق الطريس وأقطاب من الحركة الوطنية وزعماء المغرب الذين‬
‫التقاهم بالقاهرة‪ ،‬كعبد الكريم الخطابي وعالل الفاسي‪. ‬‬

‫ينشد أحد رواد المقصف زجال احتفاء بفضاء سينترا‪ ،‬ومفصحا عن الشخصيات التي ترتاده‪:‬‬
‫"سينترا كتجْ معْنا ‪ /‬سينترا ماشي عرصة ‪ /‬سينترا ماشي ُخرصة ‪ /‬سينترا ماشي حانة ‪.... /‬‬

‫‪ 68‬حسن أوريد‪ ،‬سينترا‪ ،‬ص‪.102 :‬‬


‫‪ 69‬نفسه‪ ،‬ص‪.15 :‬‬
‫‪ 70‬نفسه‪ ،‬ص‪.273 :‬‬

‫‪48‬‬
‫سينترا هي حالة" ‪ .71‬فضاء محصن ضد أصحاب السلط والخونة والجواسيس والمتآمرين‬
‫والمستعمرين‪ ،‬وذلك ما تفصح عنه القصيدة الزجلية التي أنشدها عنيبة مقارنا بين المتواجدين‬
‫في الحانة‪ ،‬باعتبارهم رموز الشرف والمروءة والنخوة والوطنية‪ ،‬وغير المتواجدين‪ ،‬أي‬
‫الذين ال يرتادونها‪ ،‬بوصفهم ممثلين للخونة أو "أوالد الحرام"‪:‬‬

‫(بّا حسن ف سينترا ‪ /‬والحسين حتى هو ‪ /‬مليكة ف سينترا ‪ /‬الكنفاوي ف سينترا ‪ /‬الملياني‬
‫ف سينترا ‪ /‬العالّم ف سينترا ‪ /‬عنيبة ف سينترا ‪ /‬الح ّجام ف سينترا ‪ /‬كاع لجواد في‬
‫سينترا‪ .../‬الكالوي ما ف سينترا ‪ /‬المتوكي ما ف سينترا ‪ /‬البغدادي ما ف سينترا‪ /‬‬
‫بونيفاس‪ ‬ما ف سينترا ‪ /‬الخونة ما ف سينترا ‪ /‬أوالد الحرام ما ف سينترا ‪ /‬البيّاعة ما ف‬
‫سينترا ‪ .../‬سينترا قالت ‪ :‬أوهو ‪ /‬للحمارة قالت‪ :‬أوهو ‪ /‬للد ّجال قال‪ :‬أوهو ‪ /‬للقائد قالت‪:‬‬
‫أوهو ‪ /‬للمخازني قالت‪ :‬أوهو ‪... /‬لسيد الحاكم قالت‪ :‬أوهو ‪ /‬لبيرو عراب قالت‪ :‬أوهو ‪/‬‬
‫والكراشطة االستعمارية ‪ /‬أوهو‪ ،‬أوهو (جماعة) ‪ /‬أوهو‪ ،‬أوهو‪ /‬للنخوة‪ ،‬سينترا قالت‪:‬‬
‫واخا ‪ /‬للمر ّوة‪ ،‬واخا سيدي‪ /‬للثباتة واخا الال‪ /‬لل ّرجلة واخا خويا‪ /‬للفهامة إيه إيه‪ /‬للمعقول‬
‫ْن َعم أسيدي (جماعة(‪ْ /‬ن َعم أسيدي‪. 72).‬‬

‫إن سينترا فضاء ال تنام إدارة الحماية عن بث عيونها فيه‪ ،‬ومتابعة كل صغيرة وكبيرة تقع‬
‫بداخله‪ ،‬وتتبع كل كلمة يتفوه بها رواده‪ ،‬وباألخص الموتشو وأصدقاؤه‪ ،‬ومنهم عبد الصمد‬
‫الكنفاوي الذي اختفى منذ ليلة الغيوان‪ ،‬ولم يعد إلى سينترا‪ ،‬فبحث عنه أصدقاؤه فلم يعثروا له‬
‫عن أثر‪ .‬لقد تغيرت حينئذ أشياء ومظاهر كثيرة؛ فغياب الكنفاوي‪ ،‬ترك مكانا شاغرا ال يمأله‬
‫أحد سواه في هذا الفضاء‪ ،‬كما ترك مكانا شاغرا في وجدانهم‪ ،‬ولم يجرؤ أحد أن يجهر بسبب‬
‫رحيله‪ ،‬واختلفوا في تفسير هذا الغياب‪ ،‬وهناك من جنح إلى تأويله تأويال خارقا ومدهشا؛ إذ‬
‫تح ّول في نظر بعضهم إلى "مالك"‪ ،‬أو رجل يطير في السماء‪ ،‬وعند آخرين إلى شخصية‬
‫"مقدسة" تغيب بجسدها عن سينترا‪ ،‬لكنها تسكن وجدان هذا الفضاء على الدوام‪:‬‬

‫‪ 71‬نقسه‪ ،‬ص‪.71 ،70 ،69 :‬‬


‫‪ 72‬نقسه‪ ،‬ص‪.69 ،68 :‬‬

‫‪49‬‬
‫" منذ ليلة ناس الغيوان‪ ،‬تغيرت أشياء كثيرة في كابريه سينترا‪ .‬لم يعد الكنفاوي بعدها‪ .‬خلّف‬
‫غيابه حزنا عميقا لدى مرتادي المكان‪ ،‬ولم يجرؤ أحد أن يسـأل عن علة رحيله‪ ،‬وال وجهته‪،‬‬
‫واقترح العالّم أن يبث إجراءات البحث عنه‪ ،‬وزعمت مليكة أنه خرج من باب موارب مع‬
‫فرقة ناس الغيوان‪ ،‬وأنها شاهدته في عناق مع عناصرها‪ ،‬وأنهم ذهبوا وجهة واحدة‪ ،‬وأنهم‬
‫كانوا يرتادون البياض‪ ،‬وأضافت أنهم بعدها حلّقوا في السماء‪ ،‬وقد حاولت أن تستمسك‬
‫بتالبيبهم‪ ،‬وص ّدها الكنفاوي بالقول وهو يطير في السماء‪" ،‬الب ّد أن تُكملي رسالتك لكي تلتحقي‬
‫بنا"‪ .‬أ ّما موال مليانة فقد ص ّد العالّم عن السعي في البحث عنه بالقول ّ‬
‫إن الكنفاوي ْ‬
‫إن غاب‬
‫بحسده فهو يسكن وجدان سينترا‪ .‬أدرك بنمنصور ّ‬
‫أن المكان ساحة وعي وليس قصف‬
‫ولهو"‪.73‬‬

‫كما تح ّول موقف جميع مرتادي سينترا إزاء شخصية الموتشو‪ ،‬فلم يعد في نظرهم أخرق‬
‫يتفكهون بكالمه‪ ،‬أو يتسلون بحكاياته‪ ،‬بل مناضال وزعيما حقيقيا‪ ،‬وشخصية "خارقة للعادة"؛‬
‫ألنها تتوقع وتحدس ما سيقع من أحداث سياسية‪ ،‬قبل وقوعها بم ّدة طويلة‪.‬‬

‫سينترا إذن "حالة وليس مجرد حانة"‪ ،‬حالة تجري فيها مداعبة الزمن وتحريكه بين الماضي‬
‫والحاضر‪ ،‬كما أنها ساحة وعي أيضا‪ .‬هكذا تصبح سينترا فضاء يبعثر تناسق الحياة العادية‪،‬‬
‫وتتداخل فيه األزمنة‪ ،‬كما تتداخل فيه الشخصيات‪ ،‬وتشحن فيه العالمات اللغوية بدالالت‬
‫جديدة‪.‬‬

‫‪ .2-3‬داللة رواية "سينترا" وأبعادها السياسية‪:‬‬

‫تدعو الرواية المتلقي إلى التفكير‪ ،‬سواء من خالل استهاللها أو من خالل شخصياتها‬
‫وفضاءاتها وبنائها وتعدد أصواتها ولغاتها‪ ،‬وإلى طرح األسئلة وعدم االستكانة إلى اليقينيات‬
‫وإلى األجوبة الجاهزة والمتداولة‪ ،‬ومن هنا يظهر لنا عمقها وغناها‪.‬‬

‫‪ 73‬نفسه‪ ،‬ص‪.141 :‬‬

‫‪50‬‬
‫راهنت رواية‪" ‬سينترا"‪ ‬على الحلم واستعادة األمل‪ ،‬وهي تمثل رمزا للوعي السياسي‬
‫المستعاد‪ .‬شخصياتها مزيج من أسماء معروفة‪ ،‬حافظت على االسم والنسب‪ ،‬وأخرى ُح ّور‬
‫فيها االسم الشخصي وحافظت على النسب فقط‪ ،‬وثالثة من عالم التخييل الروائي‪.‬‬

‫تتزيا الرواية بعباءة التاريخ‪ ،‬وتستنطق الماضي‪ ،‬وتكتب ع ّما هو آت‪ ،‬وتستشرف المستقبل‪،‬‬
‫وتبحث عن أجوبة لبلد يترنح بين قديم لم يمت وجديد لم يولد‪ ،‬عن مغرب ينزع نحو التقليد‬
‫حينا‪ ،‬والتحديث حينا آخر‪.‬‬

‫تسائل الرواية المنجز الكولونيالي‪ ،‬وتغوص في ثنايا الثقافة المغربية‪ ،‬وتستقرئ تنوع‬
‫مكوناتها وروافدها‪ ،‬وترصد مأساة الفلسطينيين‪ ،‬وتفضح الغرب الذي ظل صامتا ومتفرجا ال‬
‫يحرك ساكنا أمام مجازر إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني‪ .‬كما تفضح سياسة فرنسا‬
‫االستعمارية للمغرب‪ ،‬من خالل استنزاف الثروات‪ ،‬وممارسة الميز العنصري‪ ،‬ومتابعة‬
‫وتصفية رواد الحركة الوطنية‪" ...‬لماذا لم تستطع فرنسا‪ ،‬وقد شقت الطّرقات‪ ،‬وم ّدت السّكك‬
‫الحديدية‪ ،‬وبنت مدنا عصرية‪ ،‬أن ترتقي باإلنسان المغربي؟ إنسان محصور في مدينته‬
‫القديمة‪ ،‬وتعليمه العتيق‪ ،‬والدرجة الرابعة في القطار‪ ،‬وثقافته القروسطوية من شعوذة وطرقية‬
‫واتكالية ال ترى فرنسا االستعمارية ضيرًا أن تتعامل معها‪ ،‬بَ ْلهَ أن تبقي عليها وتُرسّخها؟ أين‬
‫يكمن الخلل؟ هل ّ‬
‫أن فرنسا لم تبذل جهدا معرفيا يوازي الجهد المادي الذي بذلته؟ هل بذلته و‬
‫ُووجه بالرفض؟ أم أنها غير قادرة على ذلك‪ّ ،‬‬
‫ألن التغيير ينبغي أن يأتي من أبناء البلد؟"‪.74‬‬

‫كان عمر بنمنصور إلى عهد قريب يؤمن بإمكانية التحديث في ركاب فرنسا‪ ،‬ولكن واقع‬
‫الحال أبدى له شيئا آخر‪" :‬نظام أبارتايد‪ ،‬استغالل ممنهج للثروات‪ ،‬احتقار لألهالي‪ ،‬وإبقاؤهم‬
‫قي وضع التابع‪ ،‬النظر إليهم بازدراء‪ .75"...‬ظل بنمنصور يؤمن بإإلنجازات المادية لفرنسا‬
‫بالمغرب‪ ،‬في مقابل غياب إنجازاتها التربوية والثقافية‪ .‬عالوة على أنها فضلت المقاربة‬

‫‪ 74‬نفسه‪ ،‬ص‪.177 :‬‬


‫‪ 75‬نفسه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫العسكرية واألمنية‪ ،‬واعتمدت على الخونة وسائط للدفاع عنها‪ .‬وكل نظام ال يستند إلى‬
‫العناصر الجيدة‪ ،‬ويعتمد بدل ذلك على "الخونة" و"الحثالة" مهدد ال شك في ذلك‪:‬‬

‫"العمل الما ّدي الذي قامت به فرنسا عمل جبّار‪ ،‬ولكن العمل التربوي يكاد أن يكون صفرًا إال‬
‫من فلتات أنشأت نفسها بنفسها‪ ،‬من خالل االحتكاك باآلخر‪ ،‬ومن خالل سعيها رفع التحدي‪.‬‬
‫فضلت فرنسا المقاربة األمنية من خالل الميل إلى مع ّمريها ورأسمالييها‪ ،‬واتخذت من حثالة‬
‫"األهالي" وسائط لها‪ ،‬ومعبّرين عنها ومدافعين عليها وعلى مصالحها‪ .‬كل منظومة تعدم‬
‫الشرعية ال يمكن إال تستنجد بسقط المتاع أو الحثالة ‪.‬ال يمكن أن تعتمد على العناصر الجيدة‬
‫وال يمكنها أن تفرزها‪ ..‬كل منظومة ال تستند على العناصر الجيدة‪ ،‬مهددة ْ‬
‫إن آجال أم‬
‫عاجال"‪.76‬‬

‫لقد صاغت سينترا محكيها ارتكازا على نقد السياسة والممارسة االستعمارية تجاه المغاربة‪،‬‬
‫ضباط الجهات العسكرية أو المراقبين المدنيين للجهات‬
‫فقد " كانت إدارة الحماية من خالل ُ‬
‫المدنية ترصد الحركات العميقة في جسم المجتمع المغربي التي من شأنها أن تهدد المنظومة‬
‫‪77‬‬
‫إضافة إلى ما ارتكبته من فظاعات تجاه الحركة الوطنية‪ ،‬من متابعات‬ ‫االستعمارية"‪.‬‬
‫ومالحقات ومحاكمات‪ ،‬وما اقترفته من مجازر في حق المطالبين بالحرية أو بالكرامة‪ ،‬كما‬
‫حدث في مجزرة بنمسيك التي تحدث عنها مصطفى بوعزيز لرفاقه في الحانة‪ ،‬أو على‬
‫مستوى توجه سياستها العامة نحو إبقاء الشعب غارقا في جهله وتخلفه‪.‬‬

‫حاول أوريد في روايته "سينترا" أن ينقل هواجسه حول المغرب السياسي إبّان مرحلة‬
‫االستقالل وبعدها‪ ،‬من خالل االتكاء على حوارات متوترة بين شخصيات مختلفة‪ .‬وقد نجح‬
‫في إبراز قضية غاية في األهمية‪ ،‬وهي أن كل ما ظهر من مشاكل وقالقل بعد اتفاقية "إيكس‬
‫ليبان"‪ ،‬تعود باألساس إلى عدم القدرة في حسم الخيارات السياسية الكبرى للبلد‪ ،‬إال أن‬

‫‪ 76‬نفسه‪ ،‬ص‪.179 ،178 :‬‬


‫‪ 77‬نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬

‫‪52‬‬
‫السياسي الثاوي في أوريد‪ ،‬والراغب في مغرب مختلف عن الذي عاشه في السلطة‪ ،‬انتصر‬
‫في األخير‪.‬‬

‫رواية تفتح تأويال جديدا للتاريخ‪ ،‬وتعمل على مساءلته‪ ،‬وتخوض في قضايا سياسية عالقة ته ّم‬
‫المغرب‪ ،‬وتراهن على أن يكون هذا البلد أفضل م ّما هو عليه اآلن‪ ،‬كما تنتقد التحديث الذي ت ّم‬
‫من دون دليل عمل‪ ،‬فكانت المحصلة ‪-‬على لسان الكاتب‪ -‬أن ورثنا تحديثا فوضويا‪.‬‬

‫تعد الرواية بمثابة استقراء لتاريخ "الذهنيات" المغربية وتنقيب في الذاكرة‪ ،‬ومساءلة لقضايا‬
‫شائكة تتداخل فيها العاطفة بالعقل والوعي التاريخي‪ ،‬نقرأ من الغالف الخلفي للرواية‪:‬‬
‫“سينترا مكان ال يتغير‪ ،‬وشخوص تسكن أدوارا‪ ،‬أو أدوار تسكن شخوصا‪ ،‬لتطرح قضايا‬
‫ملحة‪ ،‬حول العدالة والذات واآلخر والتحرر والتمرد‪ ،‬حملها الجيل الذي قارع االستعمار‪،‬‬
‫وانسلت في غفلة من الزمن‪ ،‬بعد جيلين‪ ،‬في لبوس اإلبداع‪ ،‬والهزل‪ ،‬والفكر‪ ،‬عادت مع ما‬
‫اكتنفها من مناطق ظل مستترة أو متواطأ بشأنها"‪.‬‬

‫رواية تستنطق رموزا‪ ،‬وتقتحم سراديب السياسة‪ ،‬وتخوض في مكونات الهوية المغربية‪،‬‬
‫حينما تعود بالذاكرة الشعبية إلى رائدة فن العيطة الشيخة "خربوشة" في مواجهتها الستبداد‬
‫القواد‪ ،‬تتغنى بمأثورات "ناس الغيوان"‪ ،‬وتتابع بشعف روائع الحسين السالوي‪ ،‬وعيساوة‬
‫وحمادشة‪.‬‬
‫رواية عميقة تقف عند أهم مطبات المجتمع المغربي‪ ،‬مطب العيش الكريم ضمن نفس الفضاء‬
‫بأزمنة مختلفة‪ ،‬كما تقف عند إشكالية التذبذب الزمني التاريخي‪ ،‬بين من يعيش بذهنية ما قبل‬
‫‪ ،1912‬وبين من يعيش زمن الحماية‪ ،‬وثالث يعيش قبل ‪.1999‬‬

‫وتخوض الرواية أيضا في بعض األحداث التاريخية والسياسية كإبراز دور عبد الخالق‬
‫الطريس وأهميته في زيارة السلطان محمد الخامس لطنجة‪ ،‬والكلمة التي ألقاها مؤكدا أن ال‬
‫يمكن فصل شمال المغرب عن جنوبه‪ ،‬ث ّم تقديمه لهدية رمزية للسلطان من تربة ضريح‬
‫القطب موالي عبد السالم بن مشيش‪ .‬كما تعرض الرواية إلى خطاب السلطان محمد الخامس‪،‬‬

‫‪53‬‬
‫وخطاب األمير موالي الحسن‪ ،‬الذي ر ّكز فيه على الدور التاريخي للمغرب ولألمة المغربية‪،‬‬
‫وكان حرّره باحنيني‪ ،78‬وخطاب األميرة لال عائشة التي دعت إلى تحرير المرأة‪ ،‬ودعت‬
‫المجتمع لالنفتاح على الحضارة العصرية‪ ،‬وتعلم اللغات األجنبية‪ ،‬وكان حرّره المهدي بن‬
‫بركة‪.79‬‬

‫تتداخل في الرواية الشخصيات واألزمنة بحثا عن هوية مخصوصة‪ ،‬وعبر أحد أبطالها‬
‫"الموتشو"‪ ،‬يبدو رواد "سينترا" مثل أهل الكهف‪ ،‬يحتاجون لمن يوقظهم من سباتهم‪،‬‬
‫ويخرجهم من غفلتهم‪ ،‬فيتحول هذا البطل الحاضر‪ /‬الغائب في الرواية إلى ما يشبه صحوة‬
‫الضمير وصوته الذي يشحذ الهمم‪ ،‬ويبعث األمل‪ ،‬ولو باالستعانة بناس الغيوان إذا لزم األمر‪.‬‬
‫تصور الرواية باإلضافة إلى أبعادها السياسية الواضحة تداخل الحياة االجتماعية المغربية بين‬
‫المسلمين واليهود‪ّ ،‬‬
‫ألن تلك المرحلة عرفت زواج بعض المغاربة المسلمين بيهوديات‬
‫مغربيات‪ ،‬حافظ أغلبهن على عقيدتهن‪ ،‬ومنهن من اعتنقت اإلسالم‪ .‬ولم يتأثر التعايش بين‬
‫المغاربة المسلمين واليهود إال بسبب خارجي هو الصراع العربي اإلسرائيلي‪ ،‬الذي أدى إلى‬
‫رحيل اليهود المغاربة إلى إسرائيل العتبارات سياسية وإيديولوجية‪ .‬من هنا‪ ،‬تدعو الرواية‬
‫إلى ّ‬
‫أن البعد اليهودي ال يجب أن يكون قصرا على معتنقي الديانة اليهودية المغاربة‪ ،‬ألنه إرث‬
‫لكل المغاربة‪.‬‬

‫تتمحور “سينترا” حول فكرة األندلس‪ ،‬وحلم استرجاع الفردوس المفقود‪ ،‬من خالل الشخصية‬
‫أوحيّون"‪ ،‬وكان‬
‫المحورية "عمر بنمنصور" الذي كان متزوجا من يهودية مغربية "سوليكا َ‬
‫يشتغل مع اإلدارة االستعمارية‪ ،‬ويعتقد بأنه يستطيع من خالل مرجعيته أن يتجاوز االختالفات‬
‫الثقافية والدينية القائمة بينهما‪ ،‬لكن الظرفية العالمية وقتئذ كسرت هذه التوافقات‪ ،‬حيث رحلت‬
‫"سوليكا" نحو إسرائيل‪.‬‬

‫‪ 78‬نفسه‪ ،‬ص‪.185 :‬‬


‫‪ 79‬نفسه‪ ،‬ص‪.186 ،185 :‬‬

‫‪54‬‬
‫يرتبط زواج عمر بنمنصور بسوليكا بموضوع زواج العرب المسلمين باليهوديات أو‬
‫المسيحيات‪ ،‬الذي حظي بالحضور على مستوى التناول الروائي العربي والمغربي؛ زواج لم‬
‫تستسغه األسرتان إال بعد مدة‪ ،‬ولكنه ظل مسنودا بعالقة الحب العميق بين االزوجين‪ ،‬صارع‬
‫من أجل تجاوز عنصرية الفرنسيين‪ ،‬ومن أجل أن تحبل سوليكا‪ ،‬غير أنه أخفق في األخير‪،‬‬
‫حيث سترحل سرا هي وجماعتها إلى إسرائيل في غفلة عنه‪ ،‬تاركة له رسالة تس ّوغ فيها‬
‫أسباب ذلك‪.‬‬

‫تراهن الرواية على الذاكرة ذاكرة جيل‪ ،‬يحمل هموما وقيما وأماال وأحالما‪ .‬ذاكرة أمكنة‪،‬‬
‫كسينترا واألندلس‪ ،‬وفاس‪ ،‬وفضاءات عمومية أخرى‪ ،‬تعايشت على أرضها الثقافات‬
‫والديانات‪ .‬غير ّ‬
‫أن أه ّم األمكنة التي شغف به عمر بنمنصور‪ ،‬وارتبط إزاءها بحنين جارف‬
‫على الدوام‪ ،‬هي األمكنة التي درس فيها كفاس والجزائر‪ ،‬والتي استقر فيها أجداده كاألندلس‬
‫والجزائر والمغرب‪ ،‬فهو عندما حصل‪" :‬على شهادة البكالوريا‪ ،‬ورحل إلى الجزائر ليستكمل‬
‫تكوينه في اآلداب‪ ،‬وهناك عانق بعث أندلس جديدة‪ ،‬في ركاب مفكرين على شاكلة جاك بيرك‪.‬‬
‫ارتبط دوما بحنين إلى حيث استقر أجداده‪ ،‬وحيث درس"‪.80‬‬

‫على هذا األساس‪ ،‬فالحلم ببعث النموذج األندلسي‪ ،‬واستنبات الفردوس المفقود مجددا على‬
‫أرض المغرب‪ ،‬حلم شكل بؤرة الرواية‪ ،‬وأمل كل من عمر بنمنصور‪ K‬وحسن أوريد من‬
‫خالله‪ ،‬باعتبار ّ‬
‫أن البطل يتماهى في أحيان كثيرة مع الكاتب‪ ،‬لكن اختالالت الواقع وإكراهاته‪،‬‬
‫خيبت آمال وأحالم كليهما‪ّ ،‬‬
‫ألن التحديث الذي ت َّم اتسم بالفوضوية‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن التحديث الذي تراهن عليه الرواية‪ ،‬ال ينكر اإلنجازات التي تحققت‪ ،‬لكنها تقترح تحديثا‬
‫ينبثق من التفاعل مع اآلخر‪ ،‬ومن التغيير الجذري للبنيات االجتماعية والسياسية واالقتصادية‬
‫والثقافية القائمة‪ ،‬وإحالل بنيات جديدة محلّها‪ ،‬ومحاربة الفساد‪ ،..‬وهي الدالالت المجازية‬
‫واإليحاءات الرمزية والمقاصد التي تتوخى الرواية تبليغها إلى القارئ‪ ،‬وذلك عبر وسيط‬
‫يحمل رسالة مجازية رامزة هو الراوي‪ " :‬هل يمكن أن نُقبل على الزهور من دون أشواكها؟‬
‫‪ 80‬حسن أوريد‪ ،‬سينترا‪ ،‬ص‪.242 :‬‬

‫‪55‬‬
‫هل ينبغي للذهن أال يرى سوى األشواك ويُعرض على األريج المنبعث منها؟ وهل يُقبل على‬
‫الزهور واألريج المنبعث منها ويذهل عن شوكها؟ كان بنمنصور يؤمن أن التربة العربية لم‬
‫تعد تنبت إال السدر والطلح والنباتات الطفيلية‪ ،‬وأنه ينبغي التماس الزهور حيث تنبت‪ ،‬وبعدها‬
‫تُطهّر األرض من أشواكها وطلحها وأعشابها الطفيلية‪ ،‬عسى أن تنبت يوما زهورا"‪.81‬‬

‫‪ .3-3‬من يحكي في سينترا؟‬

‫بعيدا عن الجدل النظري الذي صاغته نظرية الرواية حول من يحكي الرواية وراكمت فيه‬
‫اجتهادات ودراسات عديدة‪ ،‬فإن ما يلفت انتباهنا هو أن حسن أوريد يق ّدم تجربة ينسج خيوطها‬
‫وحبكتها بإحكام‪ ،‬وبصنعة روائية غاية في المهارة والدقة؛ تبدأ من االستهالل الذي يتكفل فيه‬
‫"المفكر" بسرد حالة سينترا نيابة عن رفاقه الذين تخلوا عنه‪ .‬ث ّم تنتقل لتوزع الحكي على‬
‫أصوات مختلفة‪ ،‬يستأثر السارد الخالق الفعلي لهذا العالم الروائي بنصيب وافر من الحكي‪ ،‬ث ّم‬
‫يليه في المرتبة السارد‪ /‬البطل عمر بنمنصور‪ ،‬وبعد مرضه‪ ،‬سيتناوب كل من طارق أوريد‪،‬‬
‫الذي هو رمز لحسن أوريد‪ ،‬و"بشرى" حفيدة بنمنصور على الحكي‪ ،‬والتدقيق في كثير من‬
‫التفاصيل واألحداث‪ ،‬لملء فجوات سرد بنمنصور‪ ،‬وترميم ذاكرته التي اعتراها النسيان‪،‬‬
‫فتداخلت عنده األزمنة واألحداث والشخصيات‪.‬‬

‫ال يكتف الحكي بأصوات هذه الشخصيات فقط‪ ،‬بل يتقاطع أيضا مع صوت أحد أبطال الرواية‬
‫"مصطفى بوعزيز"‪ ،‬الذي تكفل بحكي بعض تفاصيل الرواية‪ ،‬كما ورد على لسان بعض‬
‫إن المظهر التركيبي للمحكي في "سينترا" مو ّزع بين‬
‫الشخصيات كخربوشة‪ ،‬والموتشو‪ّ .‬‬
‫أصوات سردية تتقاسم األدوار بين السارد العليم بكل شيء‪ ،‬وبين حسن أوريد وبشرى حفيدة‬
‫بنمنصور التي تتكفل بسرد جزء مهم من حياته‪ ،‬وعمر بنمنصور ذاته وهو يلملم شتات حكيه‬
‫مستعيدا وعيه‪ ،‬ومحاوال ملء فجوات ذاكرته التي اعتراها النسيان‪.‬‬

‫‪ 81‬نفسه‪ ،‬ص‪.36 :‬‬

‫‪56‬‬
‫وقد ساهم تعدد الرواة‪ ،‬وتداخل األصوات‪ ،‬في التخلص من وثوقية الحكي وتكسير خطيته‬
‫ورتابته‪ ،‬بل إن حسن أوريد يقوم بتصحيح مسارات الحكي‪ ،‬وتصحيح نسبة إسناد األفعال إلى‬
‫الشخصيات‪ ،‬والتدقيق في تواريخ األحداث‪ ،‬من خالل ربطها بزمن محدد تقلدت فيه بعض‬
‫الشخصيات السياسية لمهمة أو منصب معيّن؛ وهو بذلك يعيد ترميم آثار انثلمت‪ ،‬وتصحيح‬
‫انحرافات سياسية وقعت‪ ،‬وتأريخ لمرحلة تاريخية ‪-‬حاسمة في تاريخ المغرب الحديث‪-‬‬
‫انصرمت‪ .‬وقد حاكى في عمله هذا عمل األركيولوجي في بحثه وتنقيبه‪ ،‬فجمع مادة عمله في‬
‫قالب محبوك يتسم باالتساق والعمق‪.‬‬

‫‪ .4-3‬تعدد األصوات واللغات في "سينترا"‪.‬‬

‫إن الميزة األساس في "سينترا" أنها رواية بوليفونية‪ ،‬رواية تقوم على تع ّدد األصوات واللغات‬
‫ووجهات النظر‪ ،‬رواية حوارية متح ّررة من سلطة الراوي الواحد‪ ،‬ومن المنظور الواحد‪،‬‬
‫وديمقراطية في توزيع الحكي‪ ،‬وثرية بتعدد لغاتها فيما يس ّميه باختين باألسلبة والتهجين؛ إذ‬
‫حضرت لغات ولهجات وشخصيات من مختلف مناطق المغرب‪ :‬شماله‪ ،‬ووسطه‪ ،‬وجنوبه‪،‬‬
‫برجاله ونسائه ومثقفيه ومختلف طبقاته االجتماعية‪ ،‬بحيث أضفت على الرواية طابعا حواريا‬
‫استنادا إلى أصوات مختلفة‪ ،‬وتشكيالت لغوية متنوعة‪ :‬عربية وفرنسية وأمازيغية وإسبانية‬
‫وعامية‪ ،‬مع ما تحمله بعض الكلمات من اختالف في الداللة والمعنى بين منطقة وأخرى‪.82‬‬
‫ولع ّل هذا االختالف يدعو القارئ ويستحثه على االستعانة بالقواميس المتخصصة‪ ،‬أو بالتحليل‬
‫اللساني‪ -‬السيميائي لفك رموزها ودالالتها وفهمها‪.‬‬
‫لم تكتف الرواية بتعدد اللغات واألسلبة‪ ،‬بل احتفت بالشعر القديم والحديث‪ ،‬وأحاطت‬
‫بالموروث الثقافي للمغرب كالزجل والعيطة والغناء‪ ،...‬ومزجت بين الروائي والتوثيقي‪.‬‬
‫ولع ّل حضور هذه الفنون واندغامها في النسيج العام للرواية‪ ،‬يع ّد مظهرا من المظاهر‬
‫التناصية الذي أسهم في ثرائها‪.‬‬
‫‪ 82‬للتــدليل على اختالف دالالت بعض الكلمــات باللســان الــدارج من منطقــة إلى أخــرى داخــل المغــرب‪ ،‬نشــير إلى كلمــة "السبايســية" المتداخلــة‬
‫والمتماهية مع كلمة "اإلصباحية" – انظر‪ :‬سينترا‪ ،‬ص‪ -166 :‬التي تعني الجنود الخيّالة المعروفين بلباســهم المتمــيز‪،‬ـ الــذي اشــتق منــه اســم ثــوب‬
‫جلباب فاخر يدعى "جالبة السبايسية"‪ ،‬والكلمة نفسها تحيل في منطقة المغرب الشرقي إلى حركة من حركــات "رقصــة العالوي"‪ ،‬وإذا أضــفنا لهــا‬
‫كلمة أخرى وردت في الرواية‪ ،‬وهي "الخماسية"‪ ،‬التي تدل على حركة أخرى ضمن الرقصة نفسها‪ ،‬التي عادة ما تت ّم بحمل البنادق‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫احتفت "سينترا" بخربوشة وناس الغيوان والحسين السالوي‪ ،‬وعيساوة وحمادشة‪ ،‬وفي‬
‫فضائها التقى الفقيه المعمري ولويس ماسينيون ومحمد الفاسي والحاج أحمد باحنيني وعمر‬
‫بن جلون ومحمد الخامس واألمير الحسن والمعطي مول النوالة وموال مليانة والمهدي بن‬
‫بركة وغيرهم‪ ...‬كما حضرت شخصيات أخرى كحسن السقاط وعبد الصمد الكنفاوي‬
‫والمصطفى‪ K‬بوعزيز وشمعون ليفي وعمر بمنصور وطارق أوريد والمعطي وعنيبة‬
‫والعالّم…‪ K،‬وبين هذه الشخصيات كانت "سوليكا أوحيّون" مكثفة لواقع االختالف العص ّي على‬
‫الفهم واالستيعاب‪ ،‬خاصة حين يتقاطع ثقل التاريخ مع متغيرات الزمن‪ ،‬فيما كانت شخصية‬
‫"الموتشو" حاملة ألكثر من داللة؛ فهو المحدًث بالغيب‪ ،‬وصاحب الوقت و"مول الساعة"‪،‬‬
‫وهو رمز مرادف للوعي التاريخي‪.‬‬
‫كما تداخلت خصائص بعد الشخصيات وتقاطعت؛ عندما تداخلت شخصية عمر بنمنصور مع‬
‫شخصية حسن أوريد عند مليكة الشاعرة "المختلة" (خربوشة)‪ ،‬لحظة استرسالها في نظم‬
‫الكالم " وهي تُح ّدق في بمنصور‪:‬‬
‫" خربوشة كنيتي ‪ /‬وبويا س ّماني ‪ /‬عيشة بنت حامي ‪ /‬قبر النبي زرتو ‪ /‬بيت هللا طفتو ‪ /‬وبه‬
‫غسلت ذنوبي ‪ /‬الولي سيدي بليوط يحن علي ‪ /‬ورجال البالد ما يفرطو ف ّي ‪ /‬ولد أوريد‬
‫بغيتو‪/‬‬
‫وهو ما بغاني ‪ /‬رب يغفر لو ‪ /‬ويكون معاه ‪ /‬أنا إال راك فاهم ‪ /‬في اآلخرة‪ ،‬تنادي ‪ /‬وأنت في‬
‫ال ّدنيا ق ّدامي‪..‬‬
‫لم ترفع خربوشة عينيها عن بنمنصور‪ .‬كانت كما لو هي تح ّدثه‪ .‬كما لو هو هذا الشخص الذي‬
‫نطقت اسمه ويُكنى بأوريد؟ من يكون أوريد هذا الذي تتحدث عنه خربوشة؟ لم يسبق له أن‬
‫ح ّل بسينترا‪ ،‬وال هو اسم متداول‪ ،‬وتركيبه بربري‪ ،‬وال عالقة لبنمنصور وهذا االسم وما‬
‫يُحيل إليه"‪.83‬‬
‫عندما توقفت خربوشة عن النظم‪ ،‬استدار بنمنصور فوجد األنظار منصبّة عليه‪ ،‬وكأنه أحبها‪،‬‬
‫فخربوشة أفصحت عن جانب من حياتها‪ ،‬وتطلب منه الصفح أمام المأل‪" :‬هو بنمنصور وليس‬
‫‪ 83‬حسن أوريد‪ ،‬سينترا‪ ،‬ص‪.151 ،150 :‬‬

‫‪58‬‬
‫ما زعمت خربوشة‪ ،‬فلماذا تنادي عليه باسم غير اسمه‪ ،‬ولم تتركز األنظار عليه؟ تُرى أيكون‬
‫عرفها حقا؟ ومتى يكون ذلك؟ أيكون ْ‬
‫أن كان له اسم آخر‪ ،‬في زمان ما‪ ،‬أو سيكون له اسم آخر‬
‫في زمان ما؟ األسماء متغيرات‪ ،‬مثل األزمنة‪ ،‬مثل األشخاص‪ ،‬مثل األمكنة‪ ،‬والحقيقة ثابتة‪،‬‬
‫تنتقل من زمان لزمان‪ ،‬ومن شخص لشخص‪ ،‬ومن مكان آلخر"‪.84‬‬
‫تضاربت اآلراء واألحكام حول شخصية خربوشة‪ ،‬وحول تحديد حقيقة شخصيتها؛ فهي‬
‫تناضل بالكلمة‪ ،‬وال تكتف بنظم الكالم والزجل فحسب‪ ،‬بل تبدع القصائد‪ ،‬وتتحف رواد‬
‫سينترا بها‪ ،‬موحية بمجموعة من المقاصد‪ ،‬التي تضمر دعوة إلى مزيد من النضال‪ ،‬لتحقيق‬
‫الحلم‪ ،‬الذي هو الحرية واالستقالل‪ ،‬وكل ما يغير حياة الشعب إلى ما هو أفضل أو أحسن‪.‬‬
‫قالت في مقطع من شعرها‪:‬‬
‫" سُلبت أشياؤنا أسما َءنا‬
‫وقد يستغرق استردا ُدها‬
‫ك ّل تفاصيل الحلم‬
‫وقد نموت دون الحلم‪،‬‬
‫ولكن حسبُنا أنّا‪...‬‬
‫‪85‬‬
‫نحاول‪ ،‬عبر هذا الغياب"‬
‫تتعدد أصوات شخصية "مليكة"‪ ،‬وتختلف حولها اآلراء؛ فهناك من تمنى أن تكون صوت‬
‫المحرومين‪ ،‬وهناك من اعتبرها جوهرة‪ ،‬تخفي ما في باطنها من عمق‪ ،‬وهناك من اعتبرها‬
‫ضرورة ملحة ال تستقيم "مسرحية" المجتمع من دونها‪:‬‬
‫" تمنى عنيبة لو ّ‬
‫أن مليكة ح ّولت شعرها قبالت ومداعبات ورفث لفائدة كل المحرومين‪،‬‬
‫وعقّب موال مليانة ّ‬
‫أن المرأة كحجر الماس‪ ،‬لها جوانب متعددة من شخصيتها‪ّ ،‬‬
‫وأن الظاهر‬
‫منها يخفي الباطن الذي يتسم بالعمق‪ .‬واعتبر الكنفاوي الشاعرة ممثلة لدور ال تستقيم مسرحية‬

‫‪ 84‬نفسه‪ ،‬ص‪.152 :‬‬


‫‪ 85‬نفسه‪ ،‬ص‪.124 :‬‬

‫‪59‬‬
‫المجتمع من دونه"‪ .86‬ولع ّل اختالف اآلراء حول شخصية مليكة وتضاربها‪ ،‬يجسد بوضوح‬
‫تعدد األصوات في الرواية‪ ،‬وحواريتها‪ ،‬وهو ما يسهم في إغناء دراميتها‪.‬‬
‫ومن مظاهر تداخل أصوات الرواة والشخصيات‪ ،‬وتداخل األزمنة؛ ما وقع لبطل الرواية عمر‬
‫بنمنصور ‪-‬عندما مرض‪ -‬من خلط والتباس وتداخل في األزمنة‪ ،‬وفي األحداث والوقائع‪ ،‬وفي‬
‫الرواية ونسبة األقوال إلى أصحابها‪ .‬إضافة إلى تداخل شخصية البطل نفسها مع شخصية‬
‫باحنيني‪ ،‬وهذا ما استنجته الدكتورة فيفاني المشرفة على عالجه‪ ،‬وطارق أوريد مساعدها‬
‫الذي استنجدت به بهدف دفع المريض إلى البوْ ح‪ ،‬واعتماد شهادته كحقيقة تاريخية‪:‬‬
‫" كان المريض في حاالت معينة يبدي صفاء ذهن خارق‪ ،‬وفي حاالت أخرى كان مضطربا‪.‬‬
‫كان لديه تداخل في األزمنة‪ ،‬إذ يخلط بين فترة ‪ 1947 -1946‬والحاضر‪ ،‬مثلما ّ‬
‫أن هناك أشياء‬
‫غير دقيقة أثبتها الدكتور أوريد‪ ،‬ولذلك حذر الطبيبة فيفاني أن تعتبر سرد المريض وثيقة‬
‫تاريخية‪ ..‬هناك شخصيات تاريخية حقيقية‪ ،‬ولكن ما ورد في حكي المريض ال ينطبق تماما‬
‫على مجريات األحداث‪ ،‬أو يكون حدث فعال‪ ،‬ولكن ليس في الفترة الزمنية التي وردت في‬
‫حكي المريض‪ .‬مثال يشير إلى أنه كان ُمد ّرسا لألمير موالي الحسن في المدرسة المولوية في‬
‫فترة ‪ ،1947 -1946‬والثابت تاريخيا ّ‬
‫أن األمير في تلك الفترة كان بالكلية يدرس الحقوق‪ ،‬كما‬
‫يشير في حكيه أنه د ّرس األمير مختارات األغاني ألبي الفرج األصفهاني‪ ،‬والثابت ّ‬
‫أن األستاذ‬
‫امحمد باحنيني هو من د ّرسها‪ ..‬أو ما يُنسبه للسلطان محمد بن يوسف من قول في المدرسة‪،‬‬
‫والثابت ّ‬
‫أن السلطان قال ذلك‪ ،‬ولكن في سياق آخر ولشخص آخر‪.‬‬
‫‪-‬ال يمكن أن نركن لشهادته كحقيقة تاريخية‪ ،‬قال أوريد للدكتورة فيفاني‪.‬‬
‫‪ -‬يمكن أن نعتمدها كحقيقة وجدانية‪ ،‬ر ّدت فيفاني‪ .‬ربما تع ّمد التمويه‪.‬‬
‫‪ -‬في ال وعيه؟‬
‫‪ -‬أو أنت؟ أنت من استخلص بوْ حه"‪.87‬‬

‫‪ 86‬نفسه‪ ،‬ص‪.125 ،124 :‬‬


‫‪ 87‬نفسه‪ ،‬ص‪.173 ،172 :‬‬

‫‪60‬‬
‫غير ّ‬
‫أن الطريف في الرواية هي خرق خطية الزمن‪ ،‬وتقطيع سيرورته‪ ،‬وذلك بالمراوحة بين‬
‫البطل‬
‫َ‬ ‫الماضي والحاضر؛ إذ يقفز السارد من األربعينيات إلى بداية األلفية الجديدة‪ ،‬فيصور‬
‫عمر بنمنصور شيخا هرما بعكاز جاء في سيارة لمقابلة المدير العام لالستخبارات‪ ،‬عقب‬
‫االحداث اإلرهابية التي ه ّزت الدار البيضاء‪:‬‬

‫" كان المدير العام لالستعالمات العامة قد دعا السيد عمر بنمنصور للغذاء للحديث معه في‬
‫شأن تداعيات أحداث ‪ 16‬ماي ‪ 2003‬التي هزت الدار البيضاء‪ .‬كان السيد بنمنصور سلطة‬
‫أكاديمية مرموقة‪ ،‬فضال عن تجربة سياسية طويلة جعلت تحليالته تتميّز بالحصافة والعمق‪،‬‬
‫م ّما جعله محطّ احترام غالبية األطياف السياسية والفكرية‪ ،‬رغم بعض األصوات النشاز التي‬
‫تزعجها مكانته األكاديمية وسلطته المعنوية"‪.88‬‬

‫ال تكتف الرواية بتداخل األحداث والشخصيات واألزمنة‪ ،‬بل تمعن في توظيف مزيد من هذا‬
‫التداخل بين الرواة والشخصيات‪ ،‬وقد ت ّم بين الروائي حسن أوريد والشخصية الموظفة في‬
‫الرواية‪ ،‬التي تحمل نسبه وتختلف عنه في االسم الشخصي هي شخصية طارق أوريد‪ ،‬لكن‬
‫المفارقة ّ‬
‫أن هذه الشخصية تتسم باألوصاف والسمات نفسها التي تنطبق على حسن أوريد‪،‬‬
‫وهو ما يسلمنا إلى القول‪ ،‬إن الشخصيتين متطابقتان على الرغم من التمويه الذي اعتمده‬
‫الكاتب‪:‬‬
‫" ‪...‬األدهى‪ K‬واألم ّر‪ ،‬أن الشخص الذي فكرت فيه الدكتورة فيفاني ليست له عالقات جيدة مع‬
‫السلطات‪ ،‬فهي ال ترتاح لمواقفه‪ ،‬وال هي تطمئن لرؤاه وال تستحبّ كتاباته‪ .‬ولع ّل ذلك هو ما‬
‫دفع الدكتورة فيفاني أن تفكر في قرارة نفسها في الدكتور طارق أوريد‪ .‬المشكل هو أن‬
‫الدكتور أوريد لم يكن طبيبا‪ ،‬وإنما أستاذا للعلوم السياسية‪ ،‬ومن العسير أن تتقبل السلطات‬
‫حلول أستاذ في العلوم السياسية‪ ،‬ومثقف مثار جدل‪ ،‬كما يقال‪ ،‬بمصلحة بالمستشفى كي يُكبّ‬
‫على سرير مريض يشكو فقدان الذاكرة"‪.89‬‬

‫‪ 88‬نفسه‪ ،‬ص‪.214 :‬‬


‫‪ 89‬نفسه‪ ،‬ص‪.256 ،255 :‬‬

‫‪61‬‬
‫تتطابق شخصية الكاتب مع الشخصية الروائية طارق أوريد‪ ،‬وتتماهى معها‪ ،‬كما تتماهى مع‬
‫شخصية عمر بنمنصور تارة أخرى‪ .‬ويقع التداخل واضحا بين أصوات الشخصيات‪ ،‬عندما‬
‫تتقمص الدكتورة فيفاني شخصية سوليكا‪ ،‬وهي تتحدث مع بنمنصور‪ ،‬الذي كان مريضا‬
‫وفاقدا لجزء من ذاكرته‪ ،‬م ّدعية أنها زوجته‪ .‬كما يتقمص طارق أوريد شخصية الموتشو‪ ،‬وهو‬
‫يحدث بنمنصور أيضا‪ .‬وقد نطقت الدكتورة اسم حسن أوريد في سياق حديثها مع بنمنصور‪K،‬‬
‫مستنكرة أن يكون مح ّدثها هو حسن أوريد‪ ،‬أي ّ‬
‫أن خربوشة كانت توجه خطابها إلى بنمنصور‬
‫‪-‬سابقا‪ -‬في سينترا‪ ،‬وتقصد حسن أوريد‪ .‬وهو ما يد ّل داللة صريحة ّ‬
‫أن طارق أوريد هو‬
‫الكاتب نفسه‪ ،‬وهو البطل بنمنصور أحيانا أخرى‪ .‬والمقطع الذي يؤشر على ذلك‪ ،‬هو الحوار‬
‫الذي دار بين بنمنصور وبين الدكتورة فيفاني الم ّدعية أنها زوجته سوليكا‪:‬‬
‫ُ‬
‫ذهبت إلى الح ّج‪.‬‬ ‫"–‬
‫إلى الحجّ؟‬ ‫‪-‬‬
‫نعم يا سوليكا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ليس األمر عقالنيا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ُ‬
‫كنت في حاجة إلى عالمات كي‬ ‫أعرف‪ ،‬وحتى أنت كنت تأتين أمورا غير عقالنية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أهتدي‪.‬‬
‫ولكن هذا ال يشرح إقدامك على الحج‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫خربوشة قالت لي مرّة بأن أطوف بالكعبة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ي شيء‪ ،‬خربوشة كانت تتح ّدث من خاللك إلى شخص آخر‪.‬‬
‫خربوشة لم تقل لك أ ّ‬ ‫‪-‬‬
‫أعرف‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أنت لست حسن أوريد‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ال أدري‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫أين هي عقالنيتك؟‬ ‫‪-‬‬

‫‪62‬‬
‫ال أدري‪ ،‬ساعديني يا سوليكا‪ .‬لقد اختلط عل ّي ك ّل شيء‪ ،‬ال أدري من أنا‪ ،‬وأريد أن أتدارك‬ ‫‪-‬‬
‫ما فات‪.‬‬
‫(‪ )....‬خرج طارق أوريد وفيفاني على رؤوس أصابع رجليهما‪ ..‬استدارت فيفاني في اتجاه‬
‫أوريد وهما ينزعان لفافة الرأس والقدمين‪ ،‬وهي ترفع إبهامها نحو السماء عالمة على التنويه‪.‬‬

‫برافو الموتشو‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫ت برافو سوليكا‪.‬‬
‫وأن ِ‬ ‫‪-‬‬
‫أنا فيفاني‪ ،‬سوليكا فكرة ُأجهضت‪ ،‬أنا فكرة تحمل أمال"‪.90‬‬ ‫‪-‬‬

‫وتتداخل األزمنة بين الحاضر والماضي في الحكي بشكل مثير لالنتباه‪ ،‬ويمكن التمثيل على‬
‫ذلك بتداخل األزمنة في خطاب "الموتشو" الذي وجهه لرواد سينترا؛ إذ تض ّمن أزمنة متباعدة‬
‫من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر‪ ،‬فحضرت سنة ‪ ،1946‬وهي الفترة التي كان المغرب‬
‫يرزح فيها تحت نير االحتالل الفرنسي واإلسباني في فترة السلطان محمد الخامس‪ ،‬وسنة‬
‫‪ 1974‬وهي فترة حكم الملك الحسن الثاني‪ ،‬وسنة ‪ 2014‬وهي فترة حكم ملك المغرب محمد‬
‫السادس‪ ،‬كما قد تؤشر على فترة شروع الروائي في كتابة روايته‪ .‬ولع ّل تداخل هذه األزمنة‬
‫يربك حسابات القارئ العادي‪ ،‬بينما يستوقف القارئ الفطن‪ ،‬ويستحثه على التساؤل لفك‬
‫الرموز والدالالت‪ ،‬وملء فجوات النص‪:‬‬
‫" ‪...‬تو ّجه (الموتشو) بالحديث إلى جموع سينترا‪:‬‬
‫شحال ن هي الساعة عندكم؟‬ ‫‪-‬‬
‫باستثناء الكنفاوي الذي اعتزل في طاولة بعيدة عن الجموع‪ ،‬وقد بدا تلك الليلة مهموما‪ ،‬أجابت‬
‫الجماعة‪:‬‬
‫الحداش الالرُب (الحادية عشرة إال ربعا)‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫آش من نهار حنا؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ 31‬دجنبر‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ 90‬نفسه‪.285 -282 ،‬‬

‫‪63‬‬
‫أش من سنة؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ 1946‬من عام النصارى‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫والّ‪ ،‬احنا ‪ ،2014‬دبا ماش تحققوا الماكانة (الساعة) على الليلة د ‪ .1974‬ترجعو ‪ْ 40‬سنَة‬ ‫‪-‬‬
‫ن اللور‪.‬‬
‫ور ّدت الجماهير‪:‬‬
‫هللا ير ّد بك ألموتشو‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وبخرولو‪ ..‬راه تشيّر‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وعز ّموا عليه‪ ،‬ديروله الشبّة والحرمل‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أفِ ْق من القلبة‪ 91‬ألموتشو‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هللا يكون لنا ولك ألموتشو‪."92‬‬ ‫‪-‬‬
‫لم يعر الموتشو اهتماما لما اتّهم به‪ ،‬وعقب داعيا جموع سينترا إلى الصحوة واليقظة‬
‫والتحلي بالوعي‪ ،‬وكأنه يستحثهم على النضال من أجل التغيير‪ ،‬والثورة على األوضاع‬
‫القائمة ومحاربة المستعمر وإجالئه‪ ،‬وأخذ العبر من أغاني "ناس الغيوان"‪ ،‬ومسرح الشعب‬
‫لعبد الصمد الكنفاوي؛ فهذا الضرب من الفنون من وظائفه نقد الواقع وفضحه‪ ،‬بهدف‬
‫اإلصالح والتجاوز‪ ،‬وليس فنا مبتذال "كالطبالة والغيّاطة‪:"..‬‬
‫" عقب الموتشو‪:‬‬
‫إال فقتو ا ْنتُ َم‪ ،‬بحال إال فقت أنا‪ ..‬غير فيقوا ا ْنتُ َم‪ .‬إال ما فيّقوكم ش ناس الغيوان ومسرح‬ ‫‪-‬‬
‫الشعب د الكنفاوي شوفو مع الطبّالة والغيّاطة والنفّارة د العيد واألعراس‪ ،‬لعل وعسى‪.‬‬
‫ألعواويل د ‪ ...‬حاشا السامعين‪ .‬وهللا وما شي ناس الغيوان كنت نقول ذيك الكلمة القبيحة‬
‫ب ّزاااف" ‪.93‬‬
‫ّ‬
‫إن المالحظة التي تسترعي االنتباه أن الرواية على الرغم من أنها مسكونة بهاجس التاريخ‬
‫والسياسة إال أنها تنفتح على الموروث الثقافي المغربي‪ ،‬وتركز على مجموعة ناس الغيوان‬
‫‪ 91‬ينطق القاف جيما مصرية‪.‬‬
‫‪ 92‬سينترا‪ ،‬ص‪.128 ،127 :‬‬
‫‪ 93‬نفسه‪ ،‬ص‪.128 :‬‬

‫‪64‬‬
‫بوصفها مجموعة غنائية شعبية تناضل بالكلمة‪ ،‬ويجمعها مع الموتشو حس نضالي و"ثوري"‬
‫واحد‪ ،‬وفضاء واحد "سينترا"‪ ،‬وعالقات إنسانية قائمة على الو ّد والمحبة المتبادلة‪:‬‬

‫" تو ّجه (الموتشو) إلى فرقة كانت بالكواليس‪:‬‬

‫خاي بوجميع‪ ،‬باكو‪ ،‬باطمة‪ ،‬عالل يعلى‪ ..‬تفضلوا‪ ..‬ما ت ّدويش عليهم‪ ،‬نساوكم ولكن‬ ‫‪-‬‬
‫يتفكروكم دَغية‪ ...‬أجي خاي بوجميع توحشتك بزاف بزاف‪ ..‬وانتين باطمة‪ ،‬كيف ن هي‬
‫‪94‬‬
‫الصحة ديالك‪ ،‬عبد الرحمن باكو‪ ،‬أجي ذرعني‪ ،‬الخوادري‪ ،‬شفت‪ ،‬تعلمت كالم كازا"‬

‫لع ّل الطريف في هذا الحوار‪ ،‬والمفارقة الصارخة الكامنة فيه‪ ،‬تتجلى في تداخل األزمنة بين‬
‫الماضي والحاضر؛ فالمرحلة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية هي بين ‪ 1946‬و‪،1948‬‬
‫وهي فترة زمنية لم تكن قد ظهرت فيه فرقة "ناس الغيوان" بعد‪ ،‬وإنما ظهرت بعد أكثر من‬
‫عقد على استقالل المغرب‪ .‬فما داللة هذا الحضور ورمزيته؟‬

‫ال شك أن الكاتب يعتمد على تقنية السرد االستشرافي‪ ،‬وكأنه يلمح إلى نضال هذه الفرقة‬
‫بالكلمة‪ ،‬وما تنطوي عليه من دالالت تضمر دعوة إلى النضال‪ ،‬والتمرد على الواقع البئيس‪،‬‬
‫وتغيير ما هو قائم إلى ما هو أفضل وأحسن‪.‬‬

‫تتداخل أزمنة الحكي في الرواية‪ ،‬بين الماضي والحاضر والمستقبل‪ ،‬وتدعو إلى الوعي بكل‬
‫األزمنة‪ ،‬بوصف ذلك السبيل إلى بناء المستقبل‪ .‬كما تنتقد على لسان الموتشو العادات‬
‫والتقاليد‪ ،‬وتسلط األضواء على المفارقة القائمة في اإلنسان المغربي والعربي؛ إذ الظاهر أنه‬
‫"حداثي" على مستوى مواكبة تكنولوجيا العصر‪ ،‬لكن الذهنية قديمة‪ .‬إضافة إلى انتقاد‬
‫االنتهازيين والخونة‪ .‬والمقطع الذي سنورده خير شاهد على ذلك‪:‬‬

‫فبعد أن مسح الموتشو خده‪ ،‬بظاهر يده‪ ،‬عندما و ّدع أفراد فرقة ناس الغيوان‪ ،‬معانقا لهم‬
‫ومعربا أنه سيشتاق إليهم‪ .‬تو ّجه بعدها للجموع بنبرة حازمة لم يعهدها مرتادو سينترا بقول‬
‫حيّرهم كثيرا‪:‬‬

‫‪ 94‬نفسه‪ ،‬ص‪.129 ،128 :‬‬

‫‪65‬‬
‫" – شوفو هللا يرضي عليكم‪ ،‬قا ّدوا المكانات ديالكم‪ ،‬ما يمكنش نمشيو بعيد‪ ،‬وكل واحد عايش‬
‫في زمان‪ ..‬شي ق ‪ ،1946‬وشي مع سيف ذي يزن وعنتر بن شداد‪ ،‬شي يامن بالتوكال‬
‫والتشيار والعين وي ّداوا بكسكسو مفتول بيد الميّت‪ ،‬وما عرفت شنّو‪ ،‬وشي في العصر‬
‫الحجري‪ ،‬ما مسوقش كاع‪ ،‬وشي ف عالم النترتيت وبزنس كارت‪ .‬وشي معنا وما معنا ويدير‬
‫بحال إال هو معانا‪ ،‬وإالّ تزبلت إمشي من حدانا‪.‬‬

‫أجالوا النظر فيما بينهم‪ ،‬ولم يعرفوا أ ّ‬


‫ي زمن يكونون‪ .‬ظاهرا‪ ،‬هم في فاتح ‪ 1947‬ولكن‬
‫الموتشو‪ ،‬بعد حلقة ناس الغيوان‪ ،‬أثار فيهم الشك‪ ،‬أو هم في وضع ال زمن فيه‪ ،‬يقتضي‬
‫استيعاب ك ّل األزمنة‪ ،‬ليتحقق ما أسماه العالّم بالوعي التاريخي كي يتأتى بناء المستقبل"‪.95‬‬

‫"سينترا" هي حياة في رواية أو هي رواية في حياة‪ ،‬نظرا لعمقها وثرائها‪ ،‬وتعدد أصواتها‬
‫ولغاتها وتداخل الحكي فيها‪ ،‬وتناصها مع خطابات تنضوي تحت أجناس وأنواع أدبية مختلفة؛‬
‫كالرسالة‪ ،‬والشعر‪ ،‬والزجل‪ ،‬والغناء ‪ ...‬وهي مظاهر تناصية تسهم في إثراء الرواية‪،‬‬
‫وإضفاء طابع حواري ودرامي عليها‪ .‬كما تظهر قيمتها في مساءلتها للتاريخ‪ ،‬وتصويرها‬
‫لمرحلة تاريخية حافلة بالتضحيات والنضاالت والرجاالت والتطلعات واالنكسارات‪ .‬فهل‬
‫كانت الروايات األخرى السابقة عليها مجرد محطات عبور نحوها؟ أم أنها رواية حياة كاملة‬
‫ن ََحتَ بها حسن أوريد اسمه وزمنه؟‪.‬‬

‫‪ -4‬حدود السرد والتاريخ في رواية "سينترا"‪.‬‬

‫تطرح سينترا على مستوى بنائها العام تلك اإلشكالية النقدية التقليدية عن عالقة الرواية‬
‫بالتاريخ‪ ،‬أي عالقة المتخيل بالواقع‪ ،‬وأين تبدأ مهمة المؤرخ وأين تنتهي؟ وماهي الحدود‬
‫الفاصلة بين الروائي والمؤرخ في التعامل مع الحقائق التاريخية؟ وهل يملك األديب الحرية‬
‫الكاملة في التعامل مع التاريخ والتصرف في أحداثه؟‬

‫‪ 95‬نفسه‪ ،‬ص‪.139 ،138 :‬‬

‫‪66‬‬
‫والحق أن "زواج" التاريخ واألدب غاية تنتج المتعة واإلبداع والخلق الفني‪ ،‬أي البحث فيما‬
‫س ّماه "جورج لوكاتش" نظرية التفاعل بين الروح التاريخية واألنواع األدبية الكبيرة التي‬
‫تصور كلية التاريخ‪ .‬وقد حضر هذا التفاعل والتداخل في نصوص بعض الروائيين المغاربة‬
‫كبنسالم حميش وحسن أوريد وغيرهما‪.‬‬

‫تغذت الرواية‪ ،‬من وقائع الماضي وأحداثه‪ ،‬لكنها ال تزعم أنها تكتب التاريخ؛ فالرواية‬
‫والتاريخ وإن كانا حقلين مختلفين ومنفصلين عن بعضهما‪ ،‬يتقاطعان ويتداخالن على مستوى‬
‫الحكي‪ ،‬كما قد يتقاطعان على مستوى استنباط العبر والحكم والمواعظ‪.‬‬
‫لقد أبدع الروائي في التعامل مع المصادر والوثائق التاريخية‪ ،‬وعمل على استلهامها في‬
‫الكتابة‪ ،‬وتصريفها في وعاء أدبي ممتع إبداعيا وجماليا‪ .‬ولعل رواية‪" ‬سينترا"‪ ‬تنتمي إلى هذا‬
‫الصنف من الروايات‪ ،‬فهل الرواية فعال مسكونة بهاجس الذاكرة والسياسة والتاريخ؟‬
‫عندما يكون التاريخ "الوطني" موضوعا للكتابة السردية‪ ،‬فمعنى ذلك أن الروائي أو الكاتب‬
‫أو السارد على وعي بهامش الحرية الذي يتيح له التعبير عن أطروحاته السياسية والفكرية‬
‫التي يدافع عنها‪ ،‬أو يناضل من أجل تثبيتها وترسيخها في ذهن المتلقي‪ .‬فمع ازدياد الوعي‬
‫بالحاضر‪ ،‬يزداد االهتمام بالتاريخ‪ ،‬بوصفه خلفية الحاضر أو تاريخ الحاضر؛ وذلك هو‬
‫مس ّوغ العودة القصدية للكاتب‪ ،‬أي نسج عوالم تخييلية مستلهمة من تاريخ المغرب في‬
‫"سينترا"‪ ،‬فهناك جزء من التاريخ لم يكتبه المؤرخون‪ ،‬فتكلفت الرواية بترميم األعطاب‬
‫واالختالالت وسد الثغرات واالنتباه إلى ما يجب االنتباه إليه‪.‬‬

‫لقد أفلحت "سينترا" في استحضار مغرب (‪ )1948-1946‬روائيا‪ ،‬وذلك بتصوير التفاصيل‬


‫الدقيقة والمهمة التي ميزت تاريخ تلك المرحلة‪ ،‬من خالل وصلها بين زمنين‪ :‬الماضي‬
‫والحاضر‪ ،‬وتسليط الضوء على األخطاء واالختالالت بطريقة تبئر الحاضر بعيدا عن الوعظ‬
‫والخطابية‪ .‬فهل يكون ما ُكتب استكتابا لتاريخ المغرب الحديث من وجهة نظر حسن أوريد؟‬
‫وهل أراد من خالل إعادة تشكيله لمجموعة من الصور الروائية المتعلقة‪ ،‬بالحركة الوطنية‬

‫‪67‬‬
‫والمقاومة والمؤسسة الملكية‪ ،‬ترسيخها في الوجدان المغربي؟ وربما مراهنته على تقريبها من‬
‫جيل غير مهتم بذلك سوى ما تردده القنوات اإلعالمية الرسمية‪.‬‬

‫تفضي بنا هذه التساؤالت إلى استحضار لعبة التداخل الزمني‪ ،‬أي المقصدية التي هيأت للنص‬
‫قول ما يريد باالستعانة بالموتشو الذي يتحول إلى شخصية خارقة لها قدرة على التنبؤ‬
‫بالمستقبل‪ ،‬وكممثلة للوعي التاريخي الذي يستنهض الهمم‪ .‬فالموتشو له عالقة بالزعيم‬
‫الوطني المهدي بن بركة‪ ،‬وهذا ما اكتشفه عمر بنمنصور‪ K‬الذي وجده في سينترا‪ ،‬وتساءل في‬
‫قرارة نفسه غير مص ّدق من أن تكون أفكار الحركة الوطنية تس ّربت إلى هذا الفضاء‪:‬‬

‫"نظر بنمنصور مليّا فوجد على المصطبّة زميال يعرفه‪ ،‬زميل يدرّس في ذات المؤسسة التي‬
‫يد ّرس بها‪ .‬إنه هو‪ ،‬إنه المهدي بن بركة‪ ،‬بعينه‪ .‬ما الذي أتى به إلى سينترا؟ هل أخذت أفكار‬
‫الحركة الوطنية تتغلغل في سينترا؟ لم يُعر الخطيب أدنى اهتمام لحركة الجمهور فأخذ يخاطب‬
‫الجمع في ثقة وعزم" ‪.96‬‬

‫بعد الخطبة المط ّولة للمهدي بن بركة في حانة سينترا‪ ،‬التي امتدت عبر خمس صفحات من‬
‫الرواية‪ ،‬دعا بن بركة بخطاب حجاجي حماسي‪ ،‬على غرار خطابات رواد النهضة العربية‪،‬‬
‫إلى مجموعة من القيم التي ينبغي التشبع بها‪ ،‬منها‪ :‬دعوة مختلف طبقات المجتمع إلى االتحاد‬
‫من أجل بناء دولة موحدة‪ ،‬وأمة متالحمة‪ ،‬ودعا إلى االعتبار بتردينا الحضاري والتاريخي‪،‬‬
‫بسبب التشبث بالخرافة والتقاليد والحجر على العقل‪ ،‬وتقديس االتباع ومحاربة اإلبداع‪،‬‬
‫واالستبداد‪ .‬ولفت االنتباه إلى الدول األوربية التي حاربت الخرافة‪ ،‬وأعلت من شأن العقل‪،‬‬
‫وعبر التاريخ‪ ،‬وذلك بتجنب الحروب‬
‫فبلغت الرقي والتقدم‪ .‬ودعا إلى االستفادة من دروس ِ‬
‫الداخلية‪ّ ،‬‬
‫ألن ذلك كان سببا في ضعفنا واحتاللنا‪ .‬كما حذر من التبعية الفكرية لآلخر الغربي‪،‬‬
‫ودعا إلى اإلعالء من شأن الفكر‪ ،‬وجعل التربية والتعليم أسّ األولويات‪ ،‬بهدف تكوين أطر‬
‫"ذات وعي تاريخي‪ ،‬وذات ثقة في شعبها وأمل في مستقبل أمتها"‪.97‬‬

‫‪ 96‬نفسه‪ ،‬ص‪.116 :‬‬


‫‪ 97‬نفسه‪ ،‬ص‪.118 :‬‬

‫‪68‬‬
‫كما دعا بن بركة كذلك إلى التحلي بالقيم الفاضلة في أخالقنا وسلوكنا‪ ،‬من بذل وتضحية‬
‫وتضامن‪ ،‬وتجنب المنفعة الشخصية وحبّ المال والحُظوة‪ ،‬وضرورة‪ K‬إذعان قيادة األمة "لثلة‬
‫من ذوي العزم من أبنائها ليُعبّدوا لها الطريق ويهدوها سواء السبيل‪ ..‬ليس لهذه النخبة أن‬
‫تكون ذات رؤية فقط‪ ،‬بل أن تعبّر عن تلك القيم‪ ،‬وترمز لها وتجسدها في سلوكها وحالها‬
‫وشؤونها"‪.98‬‬

‫ّ‬
‫استحث الجمهور إلى اإلجابة عن‬ ‫لم يكتف بن بركة بالدعوة إلى القيم السامية والنبيلة‪ ،‬بل‬
‫ّ‬
‫فحث على تعرّف‬ ‫ي شيء نريد أن نكون؟‪ّ ،‬‬
‫ألن من عرف الغاية عرف الوسيلة؛‬ ‫سؤال بسيط‪ :‬أ ّ‬
‫الوسيلة‪ ،‬التي تتمثل في إعادة النهوض بعد السقوط‪ ،‬وعدم اليأس‪ ،‬وإعادة الكرّة والمحاولة‬
‫حتى يسهل كل أمر صعب وعسير‪ّ ،‬‬
‫وأن السبيل إلى ذلك التربية واالنضباط والصرامة‪.‬‬
‫إضافة إلى الوفاء بروح النضال الذي حركت الزعيم‪ /‬بن بركة‪ ،‬والتضحية‪ ،‬والتحلي باألمل‪:‬‬

‫"إنني ابن زماني‪ ،‬وأريد أن تكونوا أبناء زمانكم‪ .‬ليس عليكم أن تتأثروا خياراتي‪ ،‬وليس عليكم‬
‫أن تتعقبوا أخطائي‪ .‬ولكني أريدكم أن تكونوا أوفياء للروح التي حرّكتني‪ ،‬وللتضحية التي‬
‫بذلتها وللحرمان الذي بلوته واألمل الذي استحثني‪ ،‬فشف َع لي هذه المشاعر‪ ،‬جميعُها إن أنا‬
‫أخطأت الخيار أو ج ُ‬
‫ُرت عن القصد"‪.99‬‬

‫وحذر بلهجة شديدة من مصدر الداء الذي هو عبادة المال‪ ،‬وانقالب القيم‪ ،‬فـ "يصبح ما ينبغي‬
‫أن تهوى النفس ممجوجا‪ ،‬ويصبح ك ّل قمئ مقصودا‪ ،‬وك ّل مدخول محمودا"‪ .100‬كما حذر من‬
‫تح ّول الوسيلة إلى غاية‪ ،‬والمبادئ عن قصدها‪ .‬ودعا إلى فضح محبي المال‪ ،‬والفاسدين‪ّ ،‬‬
‫ألن‬
‫ذلك هو سبيل بناء الدولة الوطنية الموحدة‪:‬‬

‫" ّ‬
‫إن المال وأصحابه ليتلبّسون بكل لبوس‪ ،‬بما فيه الزهد والتجرد والتقوى والنضال والنبل‪.‬‬
‫فاحذروهم‪ ،‬وإن وقفتم على أمرهم فافضحوهم‪ ،‬وأبينوا على حقيقتهم في غير صخب وال‬

‫‪ 98‬نفسه‪.‬‬
‫‪ 99‬نفسه‪ ،‬ص‪.119 :‬‬
‫‪ 100‬نفسه‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫انفعال‪ ،‬وإنّما في رويّة وأناة‪ ،‬إذاك تخلص لكم الحقيقة وتنجاب لكم السبيل ال ُمفضية للحق‬
‫والكرامة والرفعة‪ .‬وإن لم تفعلوا‪ ،‬فلن تبلغوا ما ت ْدعون له وما ت ّدعون"‪.101‬‬

‫في ختام هذه الخطبة‪ ،‬نبّه بن بركة إلى ّ‬


‫أن معركة القيم سابقة على ك ّل شيء‪ ،‬تستلزم رصّ‬
‫بنيان هذا البلد العريق حتى يجمع كل أبنائه مهما اختلفت مشاربهم‪ ،‬ودعا إلى االتحاد مهما‬
‫اختلفت الرؤى واألفكار‪ ،‬وصراع ومحاربة "أصحاب النفوس المريضة والضمائر‬
‫ق ليس باألمر الهيّن‪ّ ...‬‬
‫إن السبيل لشاق‪ ،‬ولكن ال مندوحة من‬ ‫ألن سبيل الح ّ‬
‫المدخولة‪ّ ...،‬‬
‫خوضها‪ ،‬عن بيّنة ومعرفة وتنظيم ُمحكم ‪.‬ال تنسوا أنّكم حفدة ابن رشد وابن خلدون‪ .‬أذكروا‬
‫ذلك جيدا" ‪.102‬‬

‫ّ‬
‫إن ما يس ّوغ إيراد مفاصل وأفكار خطبة بن بركة المط ّولة‪ ،‬هي تقنية تداخل األزمنة التي‬
‫وظفها الروائي‪ ،‬ووردت على لسان الراوي؛ فعمر بنمنصور يصف ارتياد بن بركة لسينترا‪،‬‬
‫بعد أن هيّأ له الموتشو ذلك‪ ،‬وإلقائه خطبة أمام جمهور‪ ،‬لكن المفارقة الطريفة ّ‬
‫أن نهاية الخطبة‬
‫تؤشر على زمن آخر متخيّل مفارق للزمن الحقيقي‪ ،‬يحيل على ّ‬
‫أن الخطبة التي ألقاها الزعيم‬
‫من عالم آخر بعيد‪ ،‬أي من قبره بعد وفاته‪:‬‬

‫"هذه كلمتي إليكم من عالمي البعيد‪ ..‬أريدكم أن تسمعوها وتعوها‪ .‬لم تغيبوا عن ذهني قط ولن‬
‫تغيبوا‪ .‬المجد والخلود لشعبنا األب ّي وألمتنا الماجدة" ‪.103‬‬

‫وتتجسد المفارقة صارخة حينما تمعن الرواية في تعميق مفارقة تداخل األزمنة واألحداث؛‬
‫فبعد أن يتوضح للمتلقي ّ‬
‫أن خطبة بن بركة متخيلة من عالمه البعيد‪ ،‬أي قبره‪ ،‬تتعالى الهتافات‬
‫بعد انتهائه‪ ،‬وتزدحم الجماهير على المنصة تسلّم عليه وتعانقه وتهتف بحياته‪ .‬وبعد أن ّ‬
‫خف‬
‫الهتاف‪ ،‬بدأ الموتشو يح ّدث المهدي‪:‬‬

‫خَي‪ ،‬شكرا بزاف بزاف‪ ،‬ودبا سرْ ترتاح‪.‬‬


‫"‪ْ -‬‬

‫‪ 101‬نفسه‪.‬‬
‫‪ 102‬نفسه‪ ،‬ص‪.120 :‬‬
‫‪ 103‬نفسه‪ ،‬ص‪.120 :‬‬

‫‪70‬‬
‫وأ َس ّر المهدي للموتشو بشيء تب ّدد وسط جلبة الحضور‪ ،‬وتناهى إلى بنمنصور تعليق الموتشو‪:‬‬

‫أالّ‪ ،‬أبدا‪ ،‬مانسيتشي‪ .‬وماش نعمل لك نصب تذكاري‪ ،‬العواويل يسولوا عليك‪ ،‬بزاف‬ ‫‪-‬‬
‫بزاف‪ ،‬وحبيت نع ّدل لك مح ّل فين نستقبلهم"‪.104‬‬

‫كان بنمنصور يرمق المشهد باهتمام كبير‪ ،‬وحاول أن يقنع نفسه بأالّ يبقى متفرجا‪ ،‬وأالّ يكتفي‬
‫بدور المخبر‪ ،‬وعليه أن يكون أذكى من إدارة االستعالمات‪ ،‬مادام أنه اكتشف العالقة التي‬
‫تربط المهدي بن بركة والموتشو‪ ،‬الذي يهيئ له محل اجتماع الستقبال "العواويل"‪ ،‬أي‬
‫"المناضلين"‪.‬‬

‫يتبيّن لنا من خالل ما سبق‪ّ ،‬‬


‫أن الروائي يتعمد توظيف تقنية تداخل األزمنة واألصوات في‬
‫الرواية‪ ،‬وهو ما يوحي بأهميّة خطاب المناضل الوطني بن بركة ورؤيته وقناعاته في‬
‫التحديث‪ ،‬وتأسيس الدولة الديمقراطية الحديثة‪ .‬كما توحي الرواية ّ‬
‫بأن الوعي السياسي‬
‫والرؤية التحديثية التي كان يناضل من أجلها هذا الزعيم‪ ،‬ستظل حيّة في نفوس المناضلين‬
‫وعلى صفحات تاريخ المغرب الحديث‪ ،‬لن تبلى ولن يطالها النسيان‪ ،‬على الرغم من إخراس‬
‫صوته‪ ،‬وقتله‪ّ ،‬‬
‫ألن كلمة الحق لن تموت‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن المالحظة التي تسترعي االنتباه أن هاجس القيم حاضر بقوة في‪" ‬سينترا"‪ ،‬ليس فقط لدى‬
‫النخبة كما على لسان المهدي بن بركة مثال‪ ،‬بل حضر أيضا لدى المحسوبين على الهامش‪،‬‬
‫كما في أشعار العالّم وعنيبة ومليكة‪ ،‬ونظم خربوشة‪ ،‬ومسرح عبد الصمد الكنفاوي‪ .‬فهذه‬
‫والعبر‪ ،‬وليس هدفها المتعة فحسب‪ ،‬بل شحذ الهمم والتحلي‬
‫الخطابات والفنون تعج بالحكم ِ‬
‫بالوعي‪ .‬ومن األمثلة الدالة على ذلك‪ ،‬ما ورد على لسان موال مليانة عندما سأله عنيبة‪:‬‬
‫" ‪ ... -‬باش نبداو بالطريق وال بالرّفيق؟‬

‫‪ 104‬نفسه‪ ،‬ص‪.121 :‬‬

‫‪71‬‬
‫كليهما‪ .‬الرّفيق يعبّد الطريق‪ ،‬والطّريق يصوغ ال ّرفيق‪ .‬حبيبي عنيبة صاحب الكلمة‬ ‫‪-‬‬
‫الهادفة والشعر الملتزم‪ .‬حبيبي العالم‪ ،‬صاحب الفكر الثاقب‪ ،‬الكنفاوي من أمسك ناصية‬
‫الدراما ال لتكون متعة‪ ،‬بل وعيا‪ ..‬يا كادحي سينترا اتّحدوا‪ ،‬ال َح فجرنا فتأهّبوا‪.105 "..‬‬
‫يحضر التاريخ‪ ،‬من خالل تقاطع حكي أحد أبطال الرواية "مصطفى بوعزيز" الراوي‬
‫لتفاصيلها‪ ،‬مع تاريخ األكاديمي "مصطفى بوعزيز" لهذا الحدث التاريخي‪ ،‬الذي فصّل فيه‬
‫بشكل دقيق في أطروحته المعنونة بــ "الوطنيون المغاربة في القرن العشرين"‪ .‬كما يحضر‬
‫التاريخ عند ُمساءلة تجربة الحماية الفرنسية بالمغرب‪ ،‬من زاويتي التحديث والحداثة‪ ،‬أو‬
‫التقني والذهني‪ ،‬أو بلغة الرواية المادي والتربوي؛ فبين لقاء عمر بمنصور بالمطعم اإلسباني‬
‫للضابط في االستعالمات كازالطا‪ ،‬والشاب ال ّ‬
‫صحافي‪ ،‬وبين لقائه بفندق رويال مرة أخرى‬
‫بكازالطا وصحافي آخر جرت مياه كثيرة تحت جسر مغرب النصف الثاني من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬في مسار تدبير تركة االستعمار‪.‬‬
‫تخط سينترا‪ ،‬بيقظة المؤرخ وفنية الروائي‪ ،‬بداية انهيار المنظومة االستعمارية انطالقا من‬
‫مؤشرات تاريخية ترصدها ضمن جدلية تطور وعي بنمنصور قبل انخراطه الكلي في العمل‬
‫الوطني‪:‬‬

‫" لقد كان عمر بنمنصور يدرك أن بنيان الحماية أصبح مهددا‪ ،‬وخاصة بعد‬
‫انهزام‪ ‬فرنسا‪ ‬أمام‪ ‬ألمانيا‪ ،‬وتأكد له األمر عقب زيارة الرئيس روزفلت ولقائه بونستن تشرشل‬
‫بالدار‪ ‬البيضاء‪ ،‬ثم لقائهما بعده بالسلطان سيدي محمد بن يوسف على مائدة عشاء‪ ،‬فيما يعرف‬
‫بلقاء أنفا مستهل سنة ‪ ،1943‬لذلك حينما ق ّدم الوطنيون عريضة االستقالل‪ ،‬أدرك أن تح ّوال‬
‫عميقا يعتمل قد يتهدد المنظومة االستعمارية" ‪.106‬‬

‫تنتقد الرواية بح ّدة سياسة فرنسا التي قست على مستعمراتها في شمال إفريقيا‪ ،‬تونس‬
‫والجزائر والمغرب‪ ،‬وبدأت بتشريع فيشي القاضي بمعاداة السامية‪ ،‬بإيحاء من ألمانيا النازية‬
‫التي هزمتها بعد غزوها لها في ماي ‪ ،1940‬وقسّمتها‪ ،‬وفرضت شروطها عليها‪ .‬وكانت من‬
‫‪ 105‬نفسه‪ ،‬ص‪.62 :‬‬
‫‪ 106‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬

‫‪72‬‬
‫نتائج ذلك‪ ،‬هجرة اليهود من هذه البلدان‪ ،‬على الرغم من رفض السلطان المغربي محمد‬
‫الخامس خضوع اليهود المغاربة ألحكام فيشي‪ .‬لقد ح ّدث بنمنصور نفسه وباح لها ببعض‬
‫األسرار‪ ،‬التي لم يجرأ للبوح بها حتى لزوجته اليهودية "سوليكا"‪:‬‬

‫" منذ توقيع فرنسا لمعاهدة فيشي مع هيتلر لم تعد فرنسا كما كانت‪ ،‬خرجت من دائرة الكبار‪،‬‬
‫وتتحايل لكي تلعب في ساحة الكبار‪ ،‬وتقسو على ال ّ‬
‫صغار مثلما قست في سطيف‪ ،‬وقبلها حين‬
‫عزلت باي تونس‪ ،‬ومثلما تفعل في الدار البيضاء‪ .‬لن يجرؤ بنمنصور أن يجهر بذلك حتى‬
‫لزوجته رغم أنها تلظت هي وذووها حينما تعقبت حكومة فيشي اليهود‪ .‬ورغم موقف السلطان‬
‫الذي رفض أن يخضع اليهود المغاربة ألحكام فيشي‪ ،‬فقد كان الواقع شيئا آخر‪ ،‬واضطُ َّر كثير‬
‫من اليهود أن يبيعوا أمالكهم بأثمان بخسة‪ ،‬ومنهم من تحايل ووضع أمالكه في اسم متعاملين‬
‫مسلمين أو مسيحيين‪ ،‬وحينما هُزمت ألمانيا ووضعت الحرب أوزارها‪ ،‬تن ّكر هؤالء‬
‫لليهود"‪.107‬‬

‫‪ 107‬نفسه‪ ،‬ص‪.38 :‬‬

‫‪73‬‬
‫خاتمة‬
‫انطلقنا في هذا البحث من محاولة لمقاربة التوظيف السياسي في الرواية المغربية‪ ،‬وبيان‬
‫تجلياته وموضوعاته وأبعاده ورموزه‪ .‬وفي سبيل هذه الغاية اعتمدنا رواية "سينترا" لحسن‬
‫أوريد نموذجا للبحث‪ ،‬وقد دفعنا إلى هذا االختيار عاملين اثنين‪ :‬عامل ذاتي‪ ،‬يتمثل في شغفي‬
‫العارم بقراءة الروايات‪ ،‬والدراسات السياسية‪ .‬وعامل موضوعي‪ K،‬يتمثل في اقتناعي باختيار‬
‫عمل كاتب مغربي كان مثار جدل في األوساط األدبية والسياسية‪ ،‬وال يزال‪ ،‬بمواقفه السياسية‬
‫والفكرية الجريئة‪ ،‬التي جعلته يعتزل العمل السياسي والمناصب السامية التي تقلدها‪ ،‬ويتفرغ‬
‫لإلبداع األدبي والفكري‪ .‬إضافة إلى ما راكمه في السنوات األخيرة من إبداع روايات حضر‬
‫فيها التاريخ والسياسة بقوة‪ ،‬واستقطبت اهتمام الدارسين‪.‬‬

‫وقد ت ّم اختيار هذه الرواية كنموذج للبحث‪ ،‬نظرا لهيمنة ما هو تاريخي وسياسي على متنها‪،‬‬
‫وكل ما هو متعلق بالذاكرة‪ .‬إضافة إلى تصويرها لمرحلة قاتمة وحاسمة من تاريخ المغرب‬
‫الحديث في عهد الحماية‪ ،‬وخصوصا الفترة التاريخية ما بين ‪ ،1948 -1946‬وبعض الفترات‬
‫األخرى التي أعقبتها‪ .‬فالرواية تصور جزءا من التاريخ المغربي الحديث والمعاصر لم يكتبه‬

‫‪74‬‬
‫المؤرخون‪ ،‬لهذا تكلفت هي بكتابته ونسجه تخييليا‪ ،‬من خالل ترميم األعطاب‪ ،‬وتصحيح‬
‫االختالالت‪ ،‬وتعرية ما هو قائم بهدف التجاوز واإلصالح‪.‬‬
‫وإذا كانت أ ّ‬
‫ي مقاربة نقدية لعمل أدبي‪ ،‬تعتمد منهجا معيّنا بالضرورة‪ .‬فقد آثرنا اعتماد منهج‬
‫متكامل يجمع بين الوصف والتحليل‪ ،‬واستقصاء ما هو جمالي فني في الرواية‪ ،‬بهدف‬
‫اإلحاطة بالتوظيف السياسي في الرواية‪ ،‬باعتبار الرواية السياسية نوعا أدبيا متميزا له‬
‫خصوصيته الفريدة‪ ،‬وجماليته المتميزة‪ ،‬ولهذا ارتأينا تقسيم البحث إلى فصلين‪:‬‬

‫تناولنا في الفصل األول المعنون بـ "التعريف بالرواية السياسية‪ :‬نشأتها وتطورها‬


‫وخصائصها"‪ ،‬وخصصناه لتحديد المفاهيم النظرية الموظفة في الرواية العربية عموما‪،‬‬
‫والرواية السياسية المغاربية خصوصا‪ ،‬وخلصنا إلى ثراء هذا النوع الروائي ‪-‬السياسي منه‪-‬‬
‫وغناه من حيث المرتكزات‪ K‬والخصائص السردية وتقنيات الحكي الموظفة‪ .‬كما استنتجنا ّ‬
‫أن‬
‫الرواية‪ ،‬على الرغم من تمحورها حول موضوعات متشابهة تصور القهر والظلم واالستبداد‬
‫واالعتقال والتعذيب ‪ ،...‬إال أنها تتباين في طرائق بنائها ومعالجتها لهذه الموضوعات‪ .‬كما‬
‫حاولنا إبراز جماليات الرواية السياسية ومرتكزاتها‪ ،‬وإبراز أنواع الرؤى السردية‪ .‬ثم انتقلنا‬
‫إلى تحديد مفهوم البطل السياسي وأنواعه‪ ،‬كنموذج البطل اإليجابي‪ ،‬المناضل والخيّر‪ ،‬أو‬
‫النموذج السلبي الظالم والشرير‪ .‬وكال النموذجين يسهمان في تحريك أحداث الرواية‪،‬‬
‫وتناميها‪ .‬وتطرقنا كذلك إلى تحديد داللة الفضاء الزمكاني‪ ،‬وبيان أهميته في نسج نص سياسي‬
‫محبوك‪ .‬كما أبرزنا الدور الفعّال الذي تضطلع به لغة الرواية في تخييل المتن‪ ،‬ونسج العمل‬
‫الروائي‪ ،‬ومنحه جمالية‪ .‬وكذا أنواع الرواة‪ ،‬الذين تكفلوا بسرد األحداث من البدء إلى الختام‪،‬‬
‫وتشييد بناء الرواية؛ فالراوي هو القناع الذي يتخفى وراءه الكاتب لتقديم عمله‪.‬‬

‫وأفردنا الفصل الثاني المعنون بـ "التوظيف السياسي في رواية "سينترا" لحسن أوريد "‪،‬‬
‫للمقاربة النقدية ‪-‬التطبيقية‪ -‬للرواية؛ إذ استهللنا هذا الفصل‪ ،‬بالحديث عن إشكال تجنيس هذا‬
‫العمل السردي‪ ،‬وتحديد اإلشكاالت التي يطرحها‪ ،‬ث ّم تد ّرجنا إلى متابعة سيرورة األحداث‪،‬‬
‫وبيان الدور الفعّال الذي يضطلع به الفضاء المكاني "سينترا" في بناء الرواية‪ ،‬وأبعاده الداللية‬
‫‪75‬‬
‫والرمزية‪ ،‬مع تفصيل القول في دالالت الرواية بصفة عا ّمة وأبعادها السياسية‪ .‬إضافة إلى‬
‫المحور المعنون بــ "من يحكي في سينترا؟"‪ ،‬الذي حددنا فيه الرواة الذين اضطلعوا بعملية‬
‫الحكي‪ ،‬كما أوضحنا تداخل أصواتهم مع بعض الشخصيات‪ .‬وهو محور يتكامل وينسجم مع‬
‫المحور الذي أعقبه والمعنون بــ" تعدد األصوات واللغات في سينترا"‪ .‬واختتمنا هذ الفصل‬
‫ببيان حدود السرد والتاريخ في الرواية‪ ،‬واإلشكاالت التي يطرحها تداخلهما‪ ،‬وبعض‬
‫تجلياتهما وأبعادهما‪.‬‬
‫وقد خلصنا أن رواية سينترا تعيدنا إلى مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب‪ ،‬ما بعد الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬من خالل استحضار التعايش الذي طبع حياة المغاربة المسلمين واليهود في‬
‫تلك الفترة‪ ،‬ومن خالل استحضار فضاء “سينترا” الذي كان يشكل ملتقى للنقاش وطرح‬
‫قضايا ته ّم مستقبل الوطن من قبيل العدالة والذات واآلخر والتحرر والتعايش‪.‬‬
‫لم نكتف في هذا البحث بالوصف والتحليل‪ ،‬واستخالص السمات والخصائص الفنية‬
‫والجمالية‪ ،‬وتحليل بعض المقاطع والصور الروائية التي حضر فيها الخطاب السياسي‬
‫والتاريخي‪ ،‬وإبراز دالالتها ومقاصدها‪ ،‬بل اعتمدنا على الشرح والتفسير‪ ،‬كما اعتمدنا أحيانا‬
‫التأويل‪ ،‬عندما واجهتنا بعض العبارات والجمل والمقاطع التي ال تصرح بالمعنى والداللة‪ ،‬بل‬
‫تكتفي بالتلميح واإليحاء والرمز‪ .‬ولع ّل اتكاءنا على الوصف والتحليل والتأويل‪ ،‬كان سندا لنا‬
‫لتجنب قدر اإلمكان الذوق واالنطباعية‪ ،‬وتحرّي الموضوعية‪ K‬والحياد‪.‬‬
‫نعتقد أننا بهذا العمل المسنا بعض اإلشكاليات التي يثيرها المتن المدروس‪ ،‬وحللنا بعض‬
‫البنيات التي تشكله‪ ،‬ورمينا حجرا في ماء هذا النوع األدبي‪ ،‬الذي يحتاج مزيدا من الدراسة‬
‫والتمحيص‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬
‫المصادر‪.‬‬
‫ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪.‬‬

‫المراجع‪.‬‬
‫ادريس النّاقوري‪ ،‬المصطلح المشترك‪ ،‬دراسات في االدب المغربي المعاصـر‪ ،‬دار النّـشر‬ ‫‪-‬‬
‫المغربية‪ ،‬ط‪.1997 ،2 .‬‬

‫أحمد محمد عطية‪ ،‬الرواية السياسية‪ :‬دراسة نقدية في الرواية الـسياسية العربيـة‪ ،‬مكتبـة مدبولي‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪( ،1 .‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫جابر عصفور‪ ،‬تقديم رواية "غابة الحق" لفرنسيس فتح هللا مراكش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة المصرية‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2000‬‬
‫حسن أوريد‪ ،‬سينترا‪ ،‬نشر‪ :‬توسنا‪ ،‬طبع‪ :‬مطبعة المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪.2015 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫حسين حمدي‪ ،‬الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪.2019 ،‬‬
‫حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪.1986 ،‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪77‬‬
‫رشدي‪ K‬رشاد‪ ،‬فن القصة القصيرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬ط‪ ،2 .‬القاهرة‪.1964 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫شوقي‪ K‬ضيف‪ ،‬البحث االدبي‪ :‬طبيعته ‪-‬مناهجه‪ -‬أصـوله‪ -‬مـصادره‪ ،‬دار المعـارف‪ ،‬ط‪( ،6 .‬د‪.‬ت)‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫محمد خرماش‪ ،‬إشكالية المناهج في النقد األدبي المغربي المعاصر‪ )III :‬البنيويـة التكوينيـة بـين‬ ‫‪-‬‬
‫النظرية والتطبيق)‪ K،‬ط‪.2001 :‬‬
‫محمود‪ K‬أمين العالم‪ ،‬ويمنى‪ K‬العيد‪ ،‬وسليمان نبيل؛ الرواية العربية بين الواقع واإليـديولوجيا‪ K،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫الحوار للنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪.1986 .1 .‬‬
‫محمود‪ K‬السمرة‪ ،‬مقاالت في النقد األدبي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الثقافة‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫طه وادي‪ ،‬دراسات في نقد الرواية‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1994 ،3 .‬‬ ‫‪-‬‬
‫طه وادي‪ ،‬الرواية السياسية‪ ،‬الشركة المصرية العالمية للنشر‪ ،‬لونجمان‪ ،‬ط‪.2003 .‬‬ ‫‪-‬‬
‫عبد الحميد القط‪ ،‬يوسف إدريس والفن القصصي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1980  ،1 .‬‬ ‫‪-‬‬
‫عبد الرحمان منيف‪ ،‬الكاتب والمنفي‪ ،‬هموم وآفاق‪ K‬الرواية العربية‪ ،‬دار الفكر الجديد‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.1992‬‬
‫عبد السالم ابن عبد العالي‪ ،‬النص والسلطة والمجتمع‪ :‬الميتافيزيقيا‪ -‬العلم ‪ -‬األيديولوجيا‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫دار الطّليعة‪ ،‬ط‪.1993 ،2.‬‬
‫عزيزة مريدن‪ :‬القصة والرواية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪.1980-1400 ‬‬ ‫‪-‬‬
‫عمار علي حسن‪ ،‬النّص والسلطة والمجتمع‪ :‬القيم السياسية في الرواية العربية‪ ،‬وكالة األهرام‬ ‫‪-‬‬
‫للتوزيع‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.2003 :‬‬
‫عبد الفتاح عثمان‪ ،‬بناء الرواية‪ :‬دراسة في الرواية المصرية‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1 .‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.1982‬‬

‫علي محمد حسين‪ ،‬التحرير‪ K‬األدبي‪ :‬دراسات نظرية ونماذج‪ K‬تطبيقية‪ ،‬ط‪ ،2 .‬الرياض‪1421  ‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪2000‬م‪.‬‬
‫يمنى العيد‪ ،‬تقنيات السرد الروائي‪ ،‬مطبعة الفارابي‪ ،‬بيروت ‪.1990‬‬ ‫‪-‬‬
‫المراجع المترجمة‪.‬‬
‫ألبير يس‪ ،‬تاريخ الرواية الحديثة‪ ،‬ترجمة جورج سالم‪ ،‬بيروت‪ ،‬مكتبة الفكر‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫بيير زيما‪ ،‬النقد االجتماعي‪ :‬نحو علم اجتماع للنص األدبي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عايدة لطفي‪ ،‬دار الفكـر‬ ‫‪-‬‬
‫للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1991 ،1 .‬‬

‫‪78‬‬
‫جورج لوكاش‪ ،‬معنى الواقعية االشتراكية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬أمين العيوطي‪ ،‬دار المعارف‪ K‬بمـصر‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سعيد علوش‪ :‬رواية األطروحة والرواية المغربية‪ ،‬مجلة‪ :‬األقالم‪ ،‬العراق‪ ،‬العددان‪.12-11 :‬‬ ‫‪-‬‬
‫ميخائيل باختين‪ :‬شعرية دوستويفسكي‪ ،‬ترجمة جميل التكريتي‪ ،‬مراجعة حياة شرارة‪ ،‬الدار‬ ‫‪-‬‬
‫البيضاء‪ ،‬دار توبقال‪.1986 ،‬‬
‫الدوريات‪.‬‬
‫حسين مروة‪ ،‬عالقة السياسة باألدب في المجتمع العربي‪ ،‬الموقف‪ K‬األدبي‪ ،‬دمشق سوريا‪ ،‬كتاب‬ ‫‪-‬‬
‫العرب‪ ،‬العدد‪ ،171 :‬سنة ‪.1985‬‬
‫رامان سلون‪ ،‬النّظرية األدبية المعاصرة‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعيد الغانمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.1996 ،1 .‬‬ ‫‪-‬‬
‫سلمى الخضراء الجيوسي‪ ،‬البطل في االدب العربي المعاصر‪ :‬الشخصية البطولية والضحية‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫الكاتب‪ ،‬العدد ‪ ،200‬نوفمبر‪.1977 K‬‬
‫طه وادي‪ ،‬السياسة والفن في الرواية المعاصرة‪ ،‬مجلة كلية اآلداب‪ ،‬مصر‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬العدد‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ ،1‬المجلد ‪ ،50‬ماي ‪.1990‬‬
‫عبد الملك مرتاض‪ ،‬في نظرية الرواية "بحث في تقنيات السرد"‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون‬ ‫‪-‬‬
‫واآلداب‪ ،‬الكويت ‪.1998‬‬
‫محمود‪ K‬أمين العالم‪ ،‬الرواية بين زمنيتها‪ K‬وزمنها مقاربة مبدئية عامة‪ ،‬فـصول المجلد‪ ،12 :‬العدد‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫األول‪ .‬ربيـع ‪.1993‬‬

‫المراجع األجنبية‪.‬‬
‫‪- Greimas, Les actants, les acteurs et les figures, in Du Sémiotique Sens II‬‬
‫‪Essais de, Seuil, 1983.‬‬
‫‪- http://www.boe.es/buscar/act.php?id=BOE-A-2000-16883.‬‬
‫‪- Lucien goldman towards a society of the novel, tr. By alan‬‬
‫‪sheridan. .London, 1975.‬‬

‫‪79‬‬
‫الفهرس‪:‬‬

‫مقدمة ‪2 .............................................................................................................‬‬

‫الفصل األول‪ :‬التعريف بالرواية السياسية‪ :‬نشأتها وتطورها وخصائصها ‪5 ................‬‬

‫الرواية العربية والواقع ‪7 .....................................................................................‬‬ ‫‪‬‬


‫الوضع االجتماعي ‪7 ..............................................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫الوضع االقتصادي ‪8 ..............................................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫الوضع السياسي ‪10 ..............................................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫نشأة الرواية السياسية عند الغرب ‪12 .................................................................................‬‬ ‫‪‬‬


‫نشأة الرواية السياسية عند العرب ‪13 ......................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫الرواية السياسية العربية ‪15 .................................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫الرواية السياسية المغربية ‪17 ...............................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫مرتكزات الرواية السياسية وخصائصها الفنية والجمالية ‪19 ............................................‬‬ ‫‪‬‬
‫البنية الفنية للرواية السياسية ‪25 ...........................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫شخصية البطل ‪25 .............................................................................................. .‬‬ ‫‪‬‬

‫‪80‬‬
‫الحدث ‪27 .......................................................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫الفضاء الزمكاني‪ ،‬الزمن ‪........................................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫‪29‬‬
‫المكان ‪29 ........................................................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫اللغة الروائية ‪31 .................................................................................................‬‬ ‫‪‬‬


‫الراوي ودوره في بناء الرواية السياسية ‪..................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫‪32‬‬
‫التعريف بالكاتب حسن أوريد ‪34 ............................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬التوظيف السياسي في رواية "سينترا" لحسن أوريد ‪39 ...........................‬‬

‫"سينترا " وإشكال التجنيس ‪40 ..............................................................................‬‬ ‫‪‬‬


‫إشكاالت رواية "سينترا " ‪..................................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫‪42‬‬
‫المتن الحكائي ‪...............................................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫‪43‬‬
‫الفضاء المكاني "سينترا"‪ ‬وأبعاده الداللية والرمزية ‪46 ...................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫داللة رواية "سينترا" وأبعادها السياسية ‪51 ...............................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫من يحكي في سينترا؟ ‪......................................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫‪57‬‬

‫تعدد األصوات واللغات في "سينترا " ‪58 ...................................................................‬‬ ‫‪‬‬


‫حدود السرد والتاريخ في رواية "سينترا " ‪68 ..............................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫خاتمة ‪76 ............................................................................................................‬‬

‫قائمة المصادر والمراجع ‪79 .................................................................... .................‬‬

‫‪81‬‬
‫المملكة المغربية‬

‫جامعة عبد المالك السعدي‬

‫المدرسة العليا لألساتذة بتطوان‬

‫شعبة اللغة العربية‬

‫بحث لنيل شهادة اإلجازة التربوية في اللغة العربية‬


‫بعنوان‪:‬‬

‫التوظيف السياسي في الرواية المغاربية‬


‫رواية "سينترا" لحسن أوريد أنموذجا‬

‫إشراف‬ ‫إعداد‬
‫د‪ .‬يوسف الفهري‬ ‫بهاء الدين الطالي‬

‫السنة الدراسية ‪2022\2021‬‬

‫‪82‬‬

‫‪ENS TÉTOUAN: ÉCOLE NORMALE SUPÉRIEURE Av. Hassan II, BP : 209 Poste‬‬
‫‪Principale – Martil‬‬
‫‪TÉL :    +212 539 97 91 75 / FAX +212 539 97 91 80‬‬
‫‪Site Web: http://enstetouan.ma/‬‬ ‫‪EMAIL  contact@enstetouan.ma‬‬

You might also like