Professional Documents
Culture Documents
1
مقدمة
توخينا في هذا البحث القيام بمحاولة لإللمام بالتوظيف السياسي في الرواية المغاربية،
وهي بالنسبة لنا بمثابة مجهود ينطلق أساسا من ضرورة ممارسة قراءة نقدية ترتكز
على سند منهجي متكامل يجمع بين المنهج الوصفي والتحليلي ،والمنهج الجمالي الفني،
من أجل اإلحاطة بالتوظيف السياسي في الرواية المغربية ،باعتبارها نوعا أدبيا متميزا
له خصوصيته ،وجماليته المتميزة ،وطريقته الخاصة في إيصال المعاني والرموز
والمقاصد.
غير أن هدفنا ،ليس هو اإلحاطة الشاملة بالخطاب السياسي في الرواية المغاربية ،لتعدد
ال ُكتّاب وكثرة األعمال وصعوبة مقاربة نصوصهم جميعا ،ولذلك Kارتأينا تحديد رواية
"سينترا" للكاتب المغربي حسن أوريد كنموذج للمقاربة والتحليل ،وليس تهميشا
لآلخرين وإقصائهم .إن هدفنا ال يروم اقتطاع هذه التجربة من سيرورة السرد العربي
عموما ،والسرد Kالمغاربي خصوصا ،ألنه عبارة عن سلسلة ال تقبل التمفصل ،والتجزئ،
والتحقيب ،وما تحديدنا لهذا الموضوع إال خطة منهجية وإجرائية ،قد تسعفنا في مقاربة
هذه الرواية والكشف عن أبعادها السياسية ،وخصائصها الفنية والجمالية.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية اعترضتنا صعوبات ج ّمة ،نظرا لقلة المراجع التي تحيط
بهذا الصنف الروائي ،والمعدودة على رؤوس األصابع .ولذلك Kعمدنا إلى الوصف
والتحليل واستخالص السمات الفنية والجمالية من الرواية ،واإلحاطة بموضوعها
ودالالتها ومقاصدها السياسية .وهو مجهود ال يروم االنبهار بهذه التجربة ،وال يستخف
بعطاءاتها ،كما ال يدعي القراءة الموضوعية والمتكاملة ،ألن أ ّ
ي قراءة كيفما كان نوعها
ليست بريئة وال كاملة ،وإنما تسعى في مقاربتها نحو الحياد والموضوعية.
2
بناء على هذه القاعدة المنهجية ،سيناقش هذا البحث موضوع السياسة في الرواية
المغربية ،كما سيناقش تناص الرواية مع الخطاب التاريخي والسياسي ،بوصف هذا
الخطاب أصبح وسيلة للتعبير عن ضروب من المعاناة تجاه الواقع المرير ،ومتنفسا
للتفريج عن الهموم Kواألحزان ،ومنقذا من الضياع والتيه ،ورسالة هادفة من أجل تغيير
الواقع والتطلع إلى مستقبل مشرق.
وقد Kارتأيت تقسيم البحث إلى فصلين ،الفصل األول؛ أفردته للتعريف بالمفاهيم النظرية
للرواية السياسية المغاربية ،من نشأة ومرتكزات وتصوير للواقع المعاش ،وتناص
روائي مع الخطابين السياسي والتاريخي ،وتحليل للبناء السردي من حدث وشخصيات
وبنية زمكانية وحوار ورؤية سردية ،وقد اختتمته بنبذة مختصرة عن حياة الكاتب حسن
أوريد وعالقته بالرواية والسياسة.
أما الفصل الثاني؛ فقد خصصته لتحليل نموذج تطبيقي من الرواية السياسية المغربية،
وإبراز سماتها الفنية والجمالية ،وقد Kوقع اختياري على رواية ذات أبعاد سياسية
وتاريخية معنونة ب "سينترا" ،للكاتب والمفكر المغربي "حسن أوريد"؛ إذ ابتدأت
المقاربة بإشكال التجنيس ،وتحديد اإلشكاالت Kالتي تطرحها الرواية ،ث ّم انتقلت إلى تتبع
سيرورة األحداث ،وإبراز دالالتها وأبعادها السياسية ومقاصدها ورموزها ،وكذا بيان
أهمية الفضاء المكاني "سينترا" والوظائف التي يضطلع بها في تشييد صرح الرواية.
إضافة إلى تحديد الرواة وتداخل أصواتهم والتباسها أحيانا بصوت الكاتب أو بأصوات
شخصيات أخرى ،والوظائف التي تضطلع بها .واختتمت الفصل بطرح إشكال الحدود
بين السرد والتاريخ في الرواية ،وتحليل بعض تجليات الخطاب السياسي والتاريخي،
وإبراز دالالته ووظائفه.
3
قامت هذه المقاربة النقدية في حقيقتها ،على المالحظة والوصف Kواالستقراء والتحليل،
إلبراز البنيات الدالة على المتن ،وجماليته الفنية ،وحاولت Kاالبتعاد ما أمكن عن األحكام
الجاهزة والمسبقة .ولعل اختياري للمتن المدروس كموضوع Kللبحث ،ناتج باألساس عن
اهتمامي بالرواية والسياسة ،والشغف الذي أستشعره في قراءتهما .وقد تطلبت مني هذه
الدراسة مجهودا لم يسلس إال بفضل توجيهات ومالحظات والدي Kالدكتور سليمان الطالي
الذي أتوجه إليه بأعمق الشكر وأجزله.
4
الفصل األول :التعريف بالرواية السياسية :نشأتها وتطورها
وخصائصها
5
استطاعت الرواية أن تحتل مكانة متميزة ضمن األجناس السردية في األدب العربي الحديث،
وتفرض وجودها على الرغم من حداثة النشأة ،والصعوبات التي واجهتها أثناء ذلك ،وتستأثر
باهتمام النقاد المحدثين ،أكثر من اهتمامهم بالشعر ،الذي انتقل من المركز إلى الهامش.
والرواية جنس أدبي سردي ،يختلف باختالف مناهج كتابتها واتجاهاتها ،فهناك الرواية
التاريخية ،والرومانسية ،والواقعية ،والحداثية ،وغيرها .غير أن ما يهمنا من هذه االتجاهات
هي الرواية الواقعية التي تصور مشاكل الواقع واختالالته بهدف التجاوز واإلصالح ،ومن
بين أهم الروائيين المغاربة الذين مثلوا هذا االتجاه في الكتابة عبد الكريم غالب وعبد المجيد
بن جلون ومحمد برادة وعبد القادر الشاوي وحسن أوريد ،وغيرهم.
وتعد السياسة محورا هاما في السرد العربي المعاصر ،إذ لجأ المثقف العربي إلى فنون
الحكي ،للتعبير عن همومه ومعاناته ،واستشراف غد مشرق .فبعد هزيمة 1967تبدت
مظاهر أساسية في الهم القومي والصراع Kالطبقي واالستبداد ،..وتغيرت المناخات السياسية
والنفسية للجماهير واألنظمة الحاكمة ،مما أدى إلى تراجع وسقوط األفكار والقَناعات التي
كانت سائدة قبل الهزيمـة؛ إذ لم تكن حدثا عسكريا فحسب ،بـل كانت ر ّجة في وجدان اإلنسان
العربي ،ظهرت آثارهـا واضـحة علـى الفكـر واألدب ،بحيث زعزعت عديدا من المفاهيم
والتصورات K،وتبخرت على إثرها آمال وأحالم الشعوب العربية ،بعد نضال مرير ضد
االستعمار لتحقيق االستقالل والحرية.
ونتيجة للنكسة وخيبة آمال المثقفين والروائيين Kفي التغيير والتطور ،اتسع مجال التجريب في
أنواع السرد والرواية بهدف الخروج عن األنماط التقليدية السردية ،والمراهنة على التحديث
والتجديد والتجريب ،بحيث كثر توظيف األسطورة والخرافة والرموز واألقنعة والشخصيات
التراثية والتاريخية ،وغيرها من الوسائل الفنية للتخفي من رقابة السلطة ،وتالفي السجون
والمنافي ،ومصادرة األعمال األدبية ومنعها ،وذلك بنسج حكي مواز للواقع المعاش.
6
.1-1الوضع االجتماعي:
جاءت االضطرابات السياسية األخيرة والتي تُسمى بالربيع العربي ،تعبيرا عن المجتمع الذي
عاش الخذالن والهزائم في العقود األخيرة ،لذلك انشغلت الرواية العربية باالرتكاز على
المجتمع في بنيته الداخلية وتشابك عالقاته ومآل األحداث فيه؛ فعالقة الرواية بالمجتمع مثار
قديم في شكل ِه ونوع ِه ،يقول شوقي ضيف" :األدب في حقيقته إنّما هو تعبير
وجدل ٍ
ٍ ق
ث عمي ٍ
بح ٍ
عن المجتمKع وكّ Kل مKا يجKري فيKه من نُظم وعقائKد وأفكKار" ،1ويؤ ّكKد ذلKك قKول جKورج لوكKاش:
"التنميط منسوب بمهار ٍة في الكتابة إلى التطورات االجتماعية والتاريخية" ،2ومن هنا نشأ علم
اجتماع الرواية الذي يتميز "بأنّه يشغل مساحةً أكبر من العلوم األخرى المنبثقة عن علم
اجتماع األجناس األدبية ،ألن الرواية تمثل مواقف وأفعاال اجتماعية وتاريخية ،وإن مساحته
المرجعيKة والتوثيقيKة أكKثر وضKوحا من الفنKون األخKرى" ،3كمKا يشKير سKيد بحKراوي في مقدمتKه
لكتاب النقد االجتماعي.
لذلك ال غرو أن تنحو الرواية العربية إلى محاولة إصالح عيوب المجتمع ومحاربة القهر
والظلم ،تقول سلمى الجيوسي إن" :هناك قضيتين داخليتين انعكستا على أغلب إنتاج األدباء
العKرب من المحيKط إلى الخليج ،وهمKا القهKر السياسKي والظلم االجتمKاعي" .4باإلضKافة إلى ذلKك
ركزت الرواية العربية الحديثة على مشاكل المجتمع من الداخل ،من خالل النظر إلى شبكة
العالقات االجتماعية وما آلت إليه ،وتصوير الحياة االجتماعية بكافة مشاكلها وأسبابها،
والتركيز على ظواهر االستالب واالغتراب والقهر.
وتشير الرواية العربية المعاصرة إلى ظواهر المجتمع السلبية من عدة زوايا ،لتصل إلى نتائج
شبه متقاربة .فهي تجاوزت مقولة تصوير جانب واحد من الواقع والتعبير عنه ،التي أشار
- 1شوقي ضيف ،البحث االدبي :طبيعته -مناهجه -أصـوله -مـصادره ،دار المعـارف ،ط ،6 .ص.1 :
- 2جورج لوكاش ،معنى الواقعية االشتراكية ،ترجمة د .أمين العيوطي ،دار المعارف بمـصر :د .ت ،ص177 :
-3بيير زيما ،النقد االجتماعي :نحو علم اجتماع للنص األدبي ،ترجمة عايدة لطفي ،دار الفكـر للدراسات والنشر والتوزيع ،القاهرة ،1991 ،ط.
،1ص.1 :
-4سلمى الخضراء الجيوسي ،البطل في االدب العربي المعاصر :الشخصية البطولية والضحية ،الكاتب ،العدد ،200نوفمبرـ ،1977ص-44 :
.45
7
إليها محمود العالم في دراسته إليديولوجيا الرواية العربية ،5إلى تصوير جوانب متعددة من
هذا الواقع ،وضرورة Kاعتماد تعدد زوايا النظر إلى الواقع المصور في الرواية ،التي أصبحت
تُقدم الحلول ،بعدما أمضت عقودا تثير التساؤالت واإلشكاالت في الغالب ،حيث أوضحت
عجز قادة المجتمع وحكومته عن تحمل مسؤولياتهم ،واالرتقاء بالمجتمع ،لتحصر حلولها في
قيام الثورة.
لقد حاولت الرواية العربية الحديثة أن تسير في ركب المقارنة بين العالم العربي والعالم
الغربي ،إذ عكست ظاهرة التحدي الحضاري بين هذين العالمين ،لكنها أيضا وبطريق ٍة أخرى،
حاولت المقارنة بين الشعوب العربية نفسها ،وأصبحت قضية التحدي الحضاري تقتصر على
دو ٍل عربي ٍة متقاربة أو متجاورة.
.2-1الوضع االقتصادي:
يعد البعد االقتصادي من أهم العوامل المؤثّرة في المجتمع وتكوينه ،فـ"لوسيان غولدمان"
مجتمع يطبق نظام
ٍ يرى أن الرواية "هي العمل األدبي ،الذي يعكس الحياة اليومية في
السKوق" .6ومن هنKا تظهKر أهميتهKا في دراسKة الثKورات المجتمعيKة وحركKة المواطKنين داخKل
الدولة ،والرواية – أي رواية -ال تستطيع أن تنأى بنفسها عن الصراعات االقتصادية وشكلها؛
فلكي نفهم -على سبيل التمثيل -التطور الصناعي الذي وصل إليه الغرب علينا بالرجوع إلى
بعض الروايات التي ُكتبت منذ منتصف القرن التاسع عشر ،فهي تقدم صورةً واضحة عن
مظاهر الحياة في مجتمع صناعي يفتقد إلى االستقرار.
عمل الناقد المجري) جورج لوكاش) -انطالقا من اتجاهه الماركسي -على ربط أشكال الوعي
كافة بالبنية االقتصادية المحددة لها ،ففي كتاباته عن بلزاك وإميل زوال كشف عن العالقة
الجدليKة بين دالالت األعمKال اإلبداعيKة الكKبرى ودالالت البنيKات االجتماعيKة" ،7ونظKر إلى
- 5محمود أمين العالم ،ويمنى العيد ،وسليمان نبيل؛ الرواية العربية بين الواقع واإليـديولوجيا ،دار الحوار للنشر والتوزيع ،سوريا ،1986 ،ط.
،1ص.19 :
الطليعة ،ط ،1993 ،2.ص.83-82 : - 6عبد السالم ابن عبد العالي ،النص والسلطة والمجتمع :الميتافيزيقيا-العلم-األيديولوجيا ،بيروت ،دار ّ
- 7محمد خرماش ،إشكالية المناهج في النقد األدبي المغربي المعاصر )III :البنيويـة التكوينيـة بـين النظرية والتطبيق) ،ط ،2001 :ص.7 :
8
ت لمنظوم ٍة ظاهر ٍة ،واالنعكاس عنده يعني تكوين بنية ذهنية
األعمال األدبية بوصفها انعكاسا ٍ
يتم التعبير عنها بالكلمات".8
وإذا كانت الرواية االجتماعية والنقد االجتماعي يبحثان دوما عن الطبقات االجتماعية التي
خلقتها الظروف االقتصادية ،وباألخص البورجوازية K،لرفضها وبيان مساوئها في الغالب،
ومهاجمتها وإظهار العداء لها أحيانا أخرى .فإننا هنا ال ندرس تأثير المجتمع على الرواية،
سواء كان انعكاسا أو تماهيا أو غيره ،وإنما حسبنا اإلشارة إلى رفض الروايات العربية
للبرجوازية ،وانتقادها وانتصارها لطبقة العمال تأثرا باالتجاه الماركسي الذي تخلّت عنه منذ
زمن بعي ٍد.
ٍ
ّ
إن الرواية العربية "لم تراوح مكانها ،ولم تعد أسيرة ارتباطها بالطبقة الوسطى ،بل تعددت
ت اجتماعيKة أخKرى ،معKبرةً عن همومهKا وأحوالهKا" ،9إذ أصKبحت
وتنKوعت ،وطKوقت طبقKا ٍ
"تاريخ من ال تاريخ لهم من الفقراء والمسحوقين ،الذين يحلمون بغ ٍد أفضل".10
لم تقف الرواية العربية الحديثة "عند حد وجود مظاهر غياب العدالة االجتماعية ،بل ذهبت
إلى شرح األسباب التي تؤدي إلى هذا الوضع المخت ّل ،وحصرتها في سوء توزيع العوائد
المادية الناجم عن تنامي النزعة االستغاللية لدى أصحاب رأس المال ،واستغالل بعض الناس
ت
لنفوذهم ومناصبهم الرسمية في اختالس أو نهب المال العام ،والبطر الذي يصيب ثروا ٍ
طائل ٍة دون وجه حق من األثرياء ،فينفقون بال حساب ،على السلع والملذات ،وسط حالة من
ت حقيقي ٍة".11
االستسالم لنزع ٍة استهالكي ٍة ،ال تقوم على حاجا ٍ
إن ما يهمنا في الرواية العربية الحديثة هو شكل الصورة المش ّوهة المق ّد َمة عن الواقع
االقتصادي ،وتتبع أسباب ذلك التشوه ،ومدى تأثيره في المجتمع ،ودفعه نحو الرفض والتثوير
- 8رامان سلون ،ال ّنظرية األدبية المعاصرة ،ت سعيد الغانمي ،بيروت ،ط ،1996 ،1 .ص - 51. 50
- 9محمود أمين العالم ،الرواية بين زمنيتهاـ وزمنها مقاربة مبدئية عامة ،فـصول ربيـع ،1993المجلد ،12 :العدد :األول ،ص.17-16 :
- 10عبد الرحمان منيف ،الكاتب والمنفى :هموم وآفاق الرواية العربية ،مرجع سابق ،ص.43 :
- 11عمار علي حسن ،ال ّن ص والسلطة والمجتمع :القيم السياسية في الرواية العربية ،وكالة األهرام للتوزيع ،لبنان ،ط ،2003 :ص.12 :
9
ومحاولة الخروج من الواقع المعاش .وهذا ما يدل على أن الرواية الحديثة قد اهتمت بتصوير
بشكل متكام ٍل ،دون االقتصار على جوانب الفقر والظلم فقط.
ٍ النظام االقتصادي للمجتمع
قد يبدو أن بعض الروائيين Kالعرب عبروا في رواياتهم المختلفة المصورة لواقع دول مختلفة،
ومن زوايا نظر متعددة عن هم واحد ،وكأنهم" :يكتبون رواية واحدة رغم اختالف العناوين،
ألنهم كتبوهKا انطالقًKا من التKاريخ وارتكKازا عليKه" .12فهKذه الروايKات ال تنتقKد مظهKرا أو اختالالً
اقتصاديا محددا كالفقر والتهميش K،..بل إنّها تصف النظام االقتصادي القائم بالعجز ،وتحيل
الالئمة على من أوجد هذا التناقض في المجتمع وذلك االنهيار المتوالي Kفي بنياته االقتصادية،
ومن هنا يتداخل البعد االقتصادي والسياسي في هذا الصنف من الرواية.
.3-1الوضع السياسي:
لم تكن الحرية وحدها هي الدافع وراء الثورات العربية ،بل كانت هناك عوامل أخرى متعددة
ومتداخلة كالقهر والظلم والديكتاتورية وغياب الحرية والفقر والتهميش ...وقد جاءت المفارقة
وسخرية الوضع القائم في بلدان الربيع العربي كغطا ٍء استراتيجي لمطالبات الشعوب الثائرة
بالحرية وإسقاط الفساد والعدالة االجتماعية وغيرها .لذلك فإن هنالك "قضيتين داخليتين
انعكستا على أغلب إنتاج األدباء العرب من المحيط إلى الخليج ،وهما القهر السياسي والظلم
االجتماعي".13
إن تداخل الرواية مع الحدث السياسي ،ال يعد عيبا أو إغراقًا في الواقعية ،ألن حديث الكاتب
وإفصاحه أحيانا عن إيديولوجيته السياسية دليل على "دخوله في الصراع ومؤشر على
السياسي .الكاتب معني ،طبعا ،بهذه الهوية ،وإن نجح فنيا بتلبيسها لبوس الحيادية ،وتوسل
تقنيKات الخفKاء" ،14وهنKا ال نجKد الروائKيين KالعKرب قKد اتخKذوا روايKاتهم معKبرا فجKا للحKديث عن
اإليديولوجية السياسية؛ فالرواية العربية تنطلق من رفضها للخلل السياسي القائم في المجتمع،
وتسعى لتصويره ،ومن هنا يتجلى تورطها في ُأتون السياسة ،وتغدو الحيادية شيئا صعب
- 12ادريس ال ّن اقوري ،المصطلح المشترك ،دراسات في االدب المغربي المعاصـر ،دار ال ّنـشر المغربية ،1997 ،ط ،2 :ص.29-28 :
-13سلمى الخضراء الجيوسي ،البطل في األدب العربي المعاصر ،مرجع سابق ،ص .45-44
- 14محمود أمين العالم ،ويمنى العيد ،وسليمان نبيل؛ الرواية العربية بين الواقع وااليديلوجية ،مرجع سابق ،ص.27 :
10
المنال ،فـ "الرواية العربية ترفض القهر السياسي واإلرهاب الفكري والتعذيب المادي
والمعنوي ،وتنطلق من هذا الرفض الفني المصور ألزمة الحرية إلى المناداة بالحرية
والتطلع إلى تجاوز هذا الواقع المدان إلى مستقبل أفضل".15
وحاولت بعض الروايات العربية تصوير زعماء الدول التي تتحدث عنها ووصف أشكالهم،
بصور واقعية أحيانًا ،وبصور كاريكاتورية ساخرة أحيانًا أخرى؛ إذ صورت شكل السلطة
ٍ
الحاكمة ،واتخذت من حقوق اإلنسان موضوعا ،إلى درجة أن أصبح من أكثر الموضوعات
المتطرق إليها في الرواية العربية الحديثة .لذا تح ّول الخطاب السياسي العربي في هذا النوع
ب عن الديمقراطية والمطالبة بالحرية الفردية واالجتماعية والسياسية...
من الرواية إلى خطا ٍ
ولعل السبب في ذلك يؤول إلى غياب العدالة االجتماعية ،والديمقراطية Kوحقوق اإلنسان
وتراجع هامش حرية التعبير...
تفصح الرواية السياسية المغاربية عن غضب عارم تجاه الممارسات االنتهازية بوصفها
مزيفة للديمقراطيات .لكن المالحظ مما تعرضه أن الوطن يأخذ شكال مليئا بالتناقضات
الداخلية ،يكون أبرز مظاهره هو التزييف الذي يقع فيه أغلب أبناء الوطن من جهة ،حينما
يمدحون نظاما يظلمهم ويخافونه ،ومن جهة أخرى يسعون إلى الهرب منه ،وتركه ألسباب
اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية .فهذه من المواقف التي جعلت من الرواية العربية حدثًا
جماعيا يوجه مشاعر المواطنين Kوالقراء ومواقفهم ،ويعمل على التأثير فيهم؛ "المواقف التي
كان فيها األشخاص يشعرون أنهم في قارب واحد وينسون خلفياتهم االجتماعية والثقافية من
ظرف عام يحتم ذلك".16
ٍ هدف أو
ٍ أجل
ظهرت الرواية السياسية في الغرب نتيجة الصراعات اإليديولوجية والسياسية المتطاحنة ،بين
الرأسمالية واالشتراكية ،وصدحت هذه الرواية بموقع اإلنسان الغربي ومصيره في ظل أنظمة
- 15أحمد محمد عطية ،الرواية السياسية :دراسة نقدية في الرواية الـسياسية العربيـة ،مكتبـة مدبولي ،القاهرة( ،د.ت) ،ط ،1 .ص.17 :
- 16عمار علي حسن ،ال ّن ص والسلطة والمجتمع :القيم السياسية في الرواية العربية ،وكالة األهرام للتوزيع ،لبنان ،ط ،1998 :ص.244 :
11
الحكم المعاصرة .ومن أهم الروايات الغربية السياسية نجد -على سبيل التمثيل -رواية
"الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي التي تعبر عن الواقع السائد الطافح بالتناقضات ومن فقر
وبؤس وربا واستغالل وجريمة...
وقد عرفت فترة العشرينات والثالثينيات من القرن العشرين ،بعد نجاح االشتراكية والقضاء
على النظام اإلقطاعي ،روايات تدافع عن هذا النظام وتلتزم بتصوره وقناعاته وذكر إيجابياته،
على الرغم من وجود روايات معارضة تستهدف اضطهاد المثقفين وقمعهم .ومن أبرز كتاب
الرواية السياسية في األدب الغربي والعالمي :ألكسي تولستوي ،وموبسان ،وإرنست
هيمنغواي ،وغيرهم ،الذين عاصروا كل الهزات االقتصادية واالجتماعية والسياسية المختلفة
داخل النظام الرأسمالي ،وهناك من شارك منهم في النضال جسديا وسياسيا.
تمتلك الرواية القدرة الفنية على طرح أزمات الواقع ،وإشكاليات الفكر ،وصراع
اإليديولوجيات ،والحوار مع األنا واآلخر .كما أنها قادرة على طرح أه ّم القضايا وأخطرها
بطريقة فنية أخاذة ،من خالل بنيتها السردية .لقد حاولت الرواية منذ نشأتها كملحمة للطبقة
الوسطى ،أن "تحل محل الفنون األدبية جميعا ،وأن تستمد من خصائص كل فن ما يزيدها
عمقا وقدرة على استيعاب خصائص الفنون األخرى".17
لم تظهر الرواية العربية السياسية حسب حسين مروة إال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مع
انطالق حركKة التحKرر الوطKني وانحصKار المKد االسKتعماري التKدريجي .18وقKد تKوقفت عنKد عديKد
من القضايا والظواهر المجتمعية والسياسية ،كواقع االستعمار ،واالستقالل ،وفترة ما بعد
االستقالل والصراع اإليديولوجي والحزبي ،والحروب العسكرية والسياسية والنكبات
والهزائم ،والصراعات القومية ،والثورات المناصرة لألنظمة الحاكمة أو المضادة لها،
وقضايا مصادرة حقوق اإلنسان العربي ،واالعتقال السياسي ،واستبداد السلطة ،وانعدام
-ألبير يس ،تاريخ الرواية الحديثة ،ترجمة جورج سالم ،بيروت ،مكتبة الفكر ،ص.6 : 17
-حسين مروة ،عالقة السياسة باألدب في المجتمع العربي ،الموقف األدبي ،دمشق سوريا ،كتاب العرب ،العدد ،171سنة ،1985ص.18 18
12
الديموقراطية ،والفساد ،وتزوير االنتخابات وتزييفها ،وغيرها .ويمكن حصر الرواية العربية
المعاصرة في ثالث رؤى:
وتعد هذه الرؤى توجهات نقدية لتعرية الفساد االقتصادي واالجتماعي والسياسي ،وفضح
االستالب والقهر ،والفساد اإلداري والسياسي ،والتنديد بالتسلط ،والدعوة إلى الحرية
والديموقراطية وحقوق اإلنسان...
تصور الروايات السياسية العربية تردي وانحطاط الواقع العربي على عدة مستويات،
وباألخص الوضع السياسي؛ كغياب الحرية والديموقراطية وحقوق اإلنسان ،وتوالي الهزائم
العربية ،واستشراء الفساد ،وانتشار القمع والتسلط ...وقد دفع هذا الوضع الروائيين إلى
تصوير الواقع أو إعادة تشكيله اعتمادا على المحاكاة الساخرة التي تقوم على السخرية والنقد
والفضح والهجاء؛ إذ بعد هزيمة 1967ركز عديد من الروائيين على تصوير الفضاء
السياسي الواقعي بكل كوابيسه الدموية اليومية ،وهو فضاء يسيطر على راهن الرواية العربية
كتابة وقراءة وتمثال ،ويختصر بكل مقوماته الواقعية والرمزية عذاب اإلنسان المستلب
والمقموع والمقهور في بعض الدول العربية ،وذلك عبر تصوير صراعه في المجتمع ،ضد
إحباطاته الذاتية ومشاكله ،وضد قمع السلطة وعدوانية اآلخرين.
واعتبر عبد الرحمان منيف أن الرواية هي المسلك الوحيد للتعبير عن تجربة المنفى والسجن
السياسي وغياب المناخ الديموقراطي والتنديد باالستبداد والتسلط العربي والسخرية من هزائم
العرب وخضوعهم .وقد قال عن الرواية السياسية التي كتبها رغبة منه في إرساء مجتمع
ديموقراطي عادل" :يمكن التعبير عن االهتمام بالسياسة وعن القناعة السياسية ،من خالل
الرواية ،ومن خالل السلوك والمواقف التي يلتزم بها الكاتب ...وقد كنّا في وقت سابق نتعامل
13
مع السياسة بمعناها المباشر واليومي كما يتعامل األطفال بألعابهم ،وهذا ما دعاني إلى هجر
العمل السياسي وااللتفات إلى الرواية .وإن كانت رواياتي تتصف بالهموم السياسية فألني
أتصور أو أفترض أن الرواية بمعناها المغير المكتشف ،لها أولويات معينة وجديدة ومختلفة
عن المناورات والمزايدة .ومن هنا فإن أي كاتب وحتى أي إنسان البد وأن يكون له موقف
سياسي وأن يكون سياسيا بمعنى ما .لكن هذا ال يعني بالضرورة أنه امتداد لحركة سياسية أو
أنه مضطر للعمل في السياسية اليومية".19
ويرى منيف في مقام آخر أن الرواية مرآة تعكس الواقع ،وأنها أداة فعالة لتنوير وتوعية
الجماهير وتحريضهم على التغيير واالرتقاء إلى عالم أفضل .ومهمة الرواية ليست "تقديم
برنامج سياسي ،إنما وجب قراءتها قراءة حقيقية وصادقة للواقع من أجل الوصول إلى واقع
أفضل ،وحياة أقل شقاء ،ولذلك ،فإن مهمة الرواية هي أن توصل ك ّما من المعلومات والوقائع
وأن تجعل الناس أكثر قدرة ووعيا لواقعهم وأن تحرض أقوى ما فيهم من المشاعر ،من أجل
أن يكونوا بشرا فاعلين .إن الرواية أو أي عمل أدبي ال يمكنه تغيير الواقع ،إن اإلنسان من
يغيره حين يكون أكثر إدراكا وأكثر حساسية يكون بالنتيجة أكثر فاعلية ،ومهمة الرواية أن
تساهم في خلق هذا اإلنسان".20
ظل العالم العربي بعد نكسة ،1967وتوالي األزمات السياسية الحادة التي تعرض لها
كاألزمة البترولية سنة ،1973وقضايا الحرب والسالم مع إسرائيل K،...يعاني من أنظمة القهر
واالستبداد وطغيان جهاز المخابرات وانعدام حقوق اإلنسان ،وتراجع هامش الحرية ،فلجأ
عديد من الروائيين إلى استعمال الرموز واألقنعة واستلهام التراث واتخاذه قناعا للتعريض
والنقد ،ودرءا لمراقبة السلطة .وهذا االستخدام الرمزي لما هو سياسي ،موجود اليوم في كل
- 19عبد الرحمان منيف ،الكاتب والمنفي ،هموم وآفاق الرواية العربية ،دار الفكر الجديد ،بيروت ،1992 ،ص.359-358 :
- 20نفسه ،ص.359 :
14
األنظمة المتسلطة التي تغيب فيها الديمقراطية والعدالة االجتماعية والحرية وحقوق اإلنسان،
وتفرض ضغوطاتها ورقابتها على وسائل اإلعالم ،وتوجهها الغاية التي تنشدها.
إن العالقة التي تجمع الرواية بالقضايا السياسية ،بدأت عقب الحرب العالمية الثانية مع ظهور
الرواية الواقعية ،وهو المذهب السائد الذي يعكس الواقع ويصور أزمات المجتمع العربي
واختالالته خاصة السياسية منها ،بحيث صارت السياسة مسيطرة وحاضرة في كل القضايا
المرتبطة بالتعليم والفكر والصناعة واإلعالم والسفر ..ومن ث ّم أصبحت الرواية مسيسة.
إن كاتب الرواية السياسية ينبغي أن يكون ذا ثقافة واسعة مل ّما بالوسائل الفنية والجمالية
للرواية لتشييد عالمه الروائي ،معايشا لألحداث ،وذا رؤية واقعية تستوعب ظروف العصر
وتل ّم بمالبساته السياسية والسوسيوثقافية ،وغنية بالتجارب .كما يلزم أن يكون مل ّما
بالموضوعات السياسية التي لها ارتباط باألفكار والبرامج واألحزاب وتوزيع السلط،
والعالقات بين الحكام والمحكومين ...وبهذه الموضوعات ونحوها يتحدد األفق العام الذي
تدور حوله الرواية السياسية .فالسياسة تعد المحرك األول لمسيرة البشر فـي أي مجتمع ،فهي
التي تحدد أصول الحكم ،وتنظم شؤون الدولة ،على أساس من الوعي بهذا الدور الخطير
والمؤثر.
وإذا كانت الرواية مجموعة من التقنيات واألدوات الفنية والجمالية التي تساهم في إثراء
التعبير اإلنساني عن األفكار والمشاعر وتجارب الواقع والذات ،فإن السياسة باعتبارها نسقا
اجتماعيا ،عملية معقدة تقوم على تصورات نظرية تخالف الفهم التقليدي لها ،كما أنها لم تعد
تهتم بقضية معينة ،وإنما اتسع مجالها لتتناول كل مكونات النظام السياسي كأسلوب الحكم،
وطريقة تشكيل الحكومة ،وصنع القرار السياسي وكيفية تنفيذه ،وموقف الهيئة الحاكمة من
القوى المعارضة...
أما على مستوى الممارسة العملية ،فتبدو السياسة عملية أكثر تعقيدا وشموال ،تمتد لتشمل عدة
مستويات ،قد تبدو في الظاهر بعيدة ع ّما هو سياسي ،لكنها في حقيقة األمر خاضعة لقرار
15
سياسي مثل :أسلوب توزيع الثروة االقتصادية ،ونظام التعليم ،وحركة القوى العاملة ،وقوانين
اإلسكان ...إن السياسة تتدخل في كل أمور الحياة المعاصرة ...وتهيمن على كل مجاالتها
المختلفة .ونتيجة لذلك فإن األدب "حين يعكس رؤية تقدمية للواقع ،فإنه يعد ممارسة سياسية
بمعنى من المعاني .والريب أن األدب الجيد ملتزم بالضرورة ،وااللتزام يقوده تبعا لذلك إلى
صف المعارضة".21
تهتم الرواية السياسية بالقضايا السياسة التي لها تأثيرها الواضح Kعلى حياة الناس" .22وترصد
جدلية الصراع Kبين الحاكم والمحكوم ،وتناقش األفكار السياسية ،وبرامج األحزاب،
وتصورات Kالمذاهب والتيارات واألحزاب والنقابات ...وتبرز مواطن اختالفها وتشابهها
بشكل صريح أو رمزي ،وتركز غالبا على القضايا السياسية المحلية والوطنية والقومية،
مستوعبة المراحل المتنوعة التي مرت بها قضية معينة ،مع الوقوف عند خصوصية أحداث
متميزة.
كما يصور هذا النوع من الرواية التي تندرج ضمنها ما يسمى بــ "أدب السجون" االستبداد
وانتهاك حقوق اإلنسان والتعذيب من خالل الزج بالمعتقلين السياسيين في سجون الظلم
والقهر ،ويعمل على تقديم وجهة نظر سياسية تالئم أهداف المجتمع وطموحاته .فالروائي إما
أن يتماهى مع خطاب السلطة ويدافع عنه ،ويصفق له ،أو يناوئه ويعارضه ،أو أن يكون
مهادنا في منزلة بين المنزلتين .والروائي Kقلّما يدخل في مغامرة غير مأمونة العواقب ،فهو
يوظف الرموز لتالفي ما قد يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة ،وليجنب نفسه خطر السجن أو
النفي أو القتل أو مصادرة الروايات ومنعها ،كما وقع لنجيب محفوظ وعبد الرحمان منيف
وغسان كنفاني ،على سبيل التمثيل ال الحصر.
- 21طه وادي ،السياسة والفن في الرواية المعاصرة ،مجلة كلية اآلداب ،مصر ،جامعة القاهرة ،العدد ،1المجلد ،50ماي 1990م ،ص.59 :
-22طه وادي ،الرواية السياسية ،الشركة المصرية العالمية للنشر ،لونجمان ،2003 ،ط .ص.6 :
16
لدى ال ُكتَّاب المغاربة خبرة بالسياسة على مستوى الرؤية والتشكيل ،حيث نجد كتّابا أمثال:
محمد زفزاف والميلودي شغموم ومحمد برادة وعبد القادر الشاوي ...يدمجون القالب
السياسي في رواية اجتماعية أو ذاتية ،حيث تساهم في فك الرمزية عن المثقف والسياسي،
وعن أنساق التفكير األسطورية والسلفية والخرافية ،وتشكك في نزاهة المؤسسات
الديموقراطية ،وفي الوقت نفسه تعقد تصالحا خفيا مع اإليديولوجيا السائدة عن طريق التقاء
في ثوابت التنظيم االجتماعي ،الذي يتجلى في شكل قيم ضائعة إما مبحوث عنها أو مأسوف
على تالشيها ،الشيء الذي يجعل الرواية في موقف البين بين.
ويتمحور الموضوع السياسي في الرواية المغربية حول مجموعة من القضايا ،التي يمكن أن
نجملها وفق تمظهراتها اآلتية:
إن الموضوعات Kالمحددة سابقا ،تختصر في :االستقالل ،والبناء والتقدم .بيد أن ما كشفت عنه
الروايات التي كتبت الحقا ،وباألخص تجارب الروائيين :عبد هللا العروي ،ومحمد زفزاف،
ومحمد عز الدين التازي ،ومحمد برادة ،وسعيد علوش ،وأحمد المديني ،ومحمد صوف،
وحسن أوريد بعدهم K،...أن الموضوع Kالسياسي الذي أصبح مهيمنا على الرواية السياسية
الجديدة يتمثل في تصوير اإلخفاق؛ فشل مشاريع اإلصالح والبناء ،وإخفاق نهضة المغرب
المتوقعة .من هنا بالضبط تولد الوعي السياسي المغاير في الكتابة الروائية السياسية المغربية،
إال أنه لم يكن وعيا يتم اإلفصاح عنه بشكل مباشر ،وإنما يكتفى بالتلميح واإلشارة إليه ،إ ّما
17
إذعانا لمقتضيات البعد الجمالي للكتابة الروائية أحيانا ،وإ ّما بسبب انتفاء الحرية وحرية
التعبير أحيانا أخرى .ولعل ذلك يؤول إلى التسلط والقهر واالستبداد الذي يتلون بتغير
الظروف ويصعب الفكاك منه.
تضطلع الرواية السياسية بدور هام يتمثل في تعرية الواقع االجتماعي والسياسي وفضح
اختالالته وأعطابه ،بهدف التجاوز واإلصالح ،ومن هنا تكمن وظيفتها التعليمية اإلصالحية.
في هذا اإلطار يقول محمود السمرة عن الكاتب الواقعي ،أنه "مؤمن بمجتمعه وإنسانيته،
ويقابل عصره بجرأة وشجاعة وواقعية ،وهو يعرض علينا اإلنسان في حيرته وانهزامه،
وصراعه وكفاحه من أجل تحسين واقعه دون التقيد بقانون أخالقي صارم يفرض نفسه عليه.
واالنهزامات المتعاقبة ال تفقد هذا اإلنسان ثقته بنفسه ،بل يؤمن دائما أنه بكفاحه المستمر
يستطيع خلق مجتمع جديد".23
إذا كانت الرواية السياسية تراهن على االنعتاق من القهر والظلم ،وتستشرف مستقبال مشرقا،
تغيب فيه اختالالت ومشاكل الواقع ،فإن العقد األخير من القرن العشرين ،والعقدين األولين
من القرن الواحد والعشرين ،عرف انهيارات كبيرة على مستوى العالم العربي ،وخصوصا
تراجع هامش حرية التعبير وحقوق اإلنسان ،بعد ما سمي بالربيع العربي .ولع ّل هذا الوضع
سيفضي ال محالة إلى بروز موضوعات وقضايا جديدة في الرواية السياسية ،كأحداث الربيع
العربي ،وموضوع اإلرهاب ،وقضية تطبيع بعض الدول العربية مع الكيان اإلسرائيلي،
وصراعات بعض الدول العربية مع بعضها البعض على الحدود اإلقليمية ،وقضايا التحديث
ومقاومات اإلصالح واإلسالم السياسي .إضافة إلى تصوير معاناة بعض المعتقلين
والمضطهدين Kوالمظلومين ،...وغيرها من الموضوعات والقضايا.
خالصة القول ،صارت الرواية بعد هذه األزمات والعديد من االنتكاسات األخرى ،خطابا
مالئما للتعبير عن المقموعين والمعذبين في العالم العربي ،كما حاولت ضمنيا الدعوة إلى
-محمود السمرة ،مقاالت في النقد األدبي ،بيروت ،دار الثقافة ،ص.15 : 23
18
تجاوز اختالالت الواقع واإلصالح وتحرير الوطن وتنوير الفكر .وهي في هذا المسعى
تضطلع بمهمة إصالحية واضحة.
أضحت السياسة محورا فكريا في الرواية المعاصرة ،فبالرغم من تنوع الموضوعات Kواألبعاد
االجتماعية والواقعية والحداثة الشكلية والتنويع الفني ،فإن الرواية تعبر عن األطروحة
السياسية إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .لذلك يمكن القول ،إن السياسة حاضرة في كل
الخطابات والفنون واألجناس األدبية ،ويتضح لنا ذلك في الرواية التي تصور الواقع ،ويحضر
فيها صراع الذات مع الموضوع ،والصراع الطبقي والسياسي ،والتفاوت االجتماعي ،وتقاطع
العقائد واإليديولوجيات والتصورات ،وتعدد األصوات K،..والتركيز على الرهان السياسي من
خالل نقد الواقع السائد.
وتوظف الرواية السياسية أيضا الحجاج وبالغة اإلقناع وتعتمد التحريض والدعاية وتبلغ
مقصديتها ورسائلها بشتى الوسائل الفنية والجمالية ،كما تعتمد اإلثارة والتحريض لتحريك
الشعور السياسي في المتلقين والتأثير فيهم ،وتلجأ إلى السرد التفصيلي ،والحوار الذي يصور
مواقف الشخصيات ونزعاتهم ،وتعتمد المنحى الواقعي لتسجيل الحدث أو الظاهرة ،وتعمد إلى
تهويله وتصويره سلبا وإيجابا ،وتشحن بنزعة سياسية أو مذهبية أو عقائدية تلقينية
ومونولوجية ،وتصبح تعاليم هذه النزعات بؤرة تعكس مفهوم األطروحة في الرواية.
ويجبر الروائي في هذا النوع من الروايات إلى خلق شخصيات متصارعة ومتناقضة ،وتهيئة
مواقف سردية متعارضة ومتطاحنة خدمة ألفكار وتوجهات القارئ السياسية واإليديولوجية.
كما تصور هذه الرواية الشخصيات وهم يناضلون من أجل الدفاع عن الحرية ،والعدالة،
والكرامة ...وهي في الغالب شخصيات مضطهدة فقيرة ومغتربة ،تناصر الفقراء وتدين
الطغاة والمستبدين.
19
وتتأرجح الرواية السياسية بين الجانبين الروائي والسياسي ،وتزدهر هذه الرواية "من خالل
ارتباطها بسياق تاريخي وطني مليء بالصراعات اإليديولوجية التي تلزم كل روائي بالخوض
فيها ...ويظهر من خالل كل ارتباط رواية األطروحة السياسية بوظائف تلقينية وعقائدية
مونولوجية .وهي وظائف تملك سلطة إنتاج األمر والتلقين والمعرفة".24
إن العمل األدبي والفني المتكامل والناضج ،هو الذي تذوب داخله الرؤية السياسية وتتظافر مع
النسيج العام للرواية ،وتصبح جزءا منه وأداة من أدواته .فحضور السياسة في الرواية
السياسية ،ليست فكرة مجردة أو مجرد إشارات متباعدة ال رابط بينها ،وليست مضافا عرضا
ال قيمة له يمكن االستغناء عنه "وإنما يجب أن تكون السياسة محورا أساسيا في إطار الخيوط
الفنية المختلفة ،التي تك ّون نسيج الحدث الروائي من البدء حتى الختام .كذلك ينبغي أن تكون
بعض شخصيات الرواية مؤهلة فكريا وإنسانيا ،لكي تكون السياسة في الفن كما في الواقع ه ّما
أصليا من همومها الذاتية ،وشاغال مل ّحا من مشاغل حياتها االجتماعية".25
ولعل القضية االجتماعية المعالجة من طرف الروائي K،ينبغي أن تكون قضية محورية في
المجتمع ،لتلهب مشاعرهم ،وتفتح بصيرتهم من أجل محاربة الظلم والقهر والفساد
واالستبداد ،وهنا تصبح شاهدة ومعبّرة عن واقع العصر .كما ينبغي على الروائي أن يقحم
المشاعر واألحاسيس والعواطف اإلنسانية حتى ال تتقادم موضوعاتها مع مرور الزمن ،وتظل
نابضة بالحياة على الدوام.
ّ
إن الرؤية الواقعية للحياة وللقضايا واألزمات السياسية في الرواية السياسية ،ينبغي أن تعكس
أفكار الكاتب وتوجهاته السياسية واإليديولوجية بشكل مب ّرر في سياق النسيج الروائي ،أما
الشخصيات التي تقوم بهذا الدور ،يجب أن تكون مؤهلة فكريا واجتماعيا لذلك حتى تقنع
القارئ فنيا في إطار أحداث الرواية وتصل لوجدانه وتؤرقه.
- 24سعيد علوش :رواية األطروحة والرواية المغربية ،مجلة :األقالم ،العراق ،العددان ،1986 ،12-11 :ص.60 :
- 25طه وادي ،الرواية السياسية ،مرجع سابق ،ص.59 :
20
ويتحتم على الروائي الملتزم أن يدرك الفروق بين الدعاية ،وبين التحريض عند خوضه في
القضايا السياسية ،ويراعي الوظيفة الجمالية والفنية للرواية .وعلى الناقد أو متلقي العمل
السياسي أن يدرك تعامله مع النص األدبي بمعاييره الجمالية الخاصة ،بعيدا عن رؤية الكاتب
السياسية وعقيدته اإليديولوجية ،ومن حقه موافقة الروائي أو مخالفته.
أضحت الرواية السياسية تمثل ظاهرة أدبية عامة ،ال في العالم العربي فحسب ،وإنما في
معظم اآلداب العالمية ،وصارت معظم األنواع األدبية تحتفي بالسياسة وقضاياها حفاوة بالغة؛
إذ أصبحت السياسة تتحكم في مصائر الشعوب تحكما جليا ،وأصبح من المعروف أن مكانة
الكاتب وقيمته الفنية ،ال تتشكالن بعيدا عن رؤيته السياسية وموقفه الفكري:
"تكمن الخطورة التي تواجه األدب السياسي في "التحدي" ،الذي يتعرض له الكاتب بمواجهته
قراء يخالفونه الرأي ،ويعارضونه الفكر السياسي ،ويعتنقون إيديولوجيات غير إيديولوجيته.
وفي هذه الحالة فالخطاب األدبي السياسي مطالب بإقناع معارضيه في ذلك الرأي السياسي من
خالل األدب ،أي أن الكاتب مطالب بمبادئ الفن وقضايا السياسة في آن واحد ،فالمسؤولية
الملقاة على عاتقه أوسع أفقا وأكثر التزاما من األديب العادي".26
على الروائي الذي يكتب الرواية السياسية أن يمتلك أدوات الكتابة ،وأن يكون مل ّما بالخطابة
وداعية سياسية ،ويعرف جيدا طريقة إقناع المتلقي بقضية ما ،حتى إن لم يشاركه الرأي فيها،
كما ّ
أن على هذا الروائي أن ال يقدم آراءه بشكل تقريري مجرد ،وإنما بخلق شخصية يحملها
وجهة نظره التي يريد تأكيدها أو نفيها" ،والشخصية الروائية التي تحمل رؤية الكاتب
السياسي تتحقق من خالل تصوير نموذج إنساني واضح المعالم ،تتشكل مالمحه من كافة
العناصر الفنية ،التي يعتمد عليها الكاتب في تقديم نموذج فني مقنع يعيش في إطار عالم رواية
جيدة".27
-طه وادي ،دراسات في نقد الرواية ،دار المعارف ،القاهرة ،الطبعة الثالثة ،1994ص.31-27: 27
21
قد تمزج الرواية السياسية في طياتها موضوعا بوليسيا أو دراميا أو رومانسيا أو نفسيا أو
تاريخيا أو واقعيا ،...غير أن الثابت الذي ال مف ّر منه ،هو تركيزها على تحليل قضية تصف
فيها ظاهرة سياسية ما ،ترتبط بالمجتمع الذي تصوره .كما أن الشخصيات فيها ال بد أن تكون
مؤهلة فكريا ،لكي تحمل قضية إيديولوجية ،وتتحرك في وسط سياسي .وهذا يعني بالضرورةK
حضور موقف سياسي للشخصيات ،يفرضه وضعها وفكرها اإليديولوجي ،لذلك عليها أن
تجادل وتصارع -في الرواية -من أجل ما تؤمن به وتدعو إليه .وينبغي أن تكون القضية
السياسية ذات صلة بطبقة أو أكثر من المجتمع ،لكي تش ّد وتجذب اهتمام شرائح واسعة من
المجتمع ،وأناسا تشغلهم نفس القضية.
تحاول الرواية السياسية تصوير مأساة الشخصيات بعد النكسة ،وتصور غربتها ويأسها
وضياعها بعد الهزيمة ،لكنها تجتاز مأساة الخسارة واليأس ،إلى فضاء األمل ،وتُقدِّم صورا
لمقاومة العدو ،يغلب عليها التفاؤل واألمل ،على الرغم من الصعاب التي تواجهها
الشخصيات الرئيسة .وبهذا ترتفع الرواية السياسية التي تصور الهزيمة والحرب والمقاومة
إلى فضاء السرد الفسيح ،وال تقع في قبضة الخطابية والتقريرية.
نستخلص مما سبق أن الرواية السياسية رواية أدبية ،تناقش قضية سياسية .والشخصية
السياسية ،شخصية روائية تحمل رؤية إيديولوجية:
"الرواية معتقد ،تدعو إلى إيديولوجية خاصة ،قد تعادي غيرها من االتجاهات السياسية في
المجتمع ،بل قد تعادي الحاكم والحكومة .وتحاول الرواية السياسية أن تطرح رؤية تقدمية
للواقع ،ال تخلو أحيانا من مغامرات فكرية مواكبة للموضوعات Kالسياسية الساخنة ،مثل الدعوة
إلى حرية المرأة وطرح رؤى جديدة لطبيعة العالقة بينها وبين الرجل في المجتمع ،وقد يتعدى
األمر ذلك أيضا إلى مناقشة بعض قضايا التراث والفكر السلفي والوضع االقتصادي .كل هذا
وغيره يجعل الرواية السياسية عمال أدبيا ،ليس من السهل إبداعه وتقديم أمثلة ناجحة منه".28
22
ولعل أهم مبدأ جمالي يمكن أن نقرره من خالل الروايات السياسية ،أن جماليتها وسماتها الفنية
تكمن في قدرة صاحبها أن يبرز محاور ومكامن الخالف في الرؤية أو زاوية النظر،
وعناصر المعارضة في الموقف ،دون التورط في الخطابية والتقريرية والوعظ والتوجيه،
ودون تحريض أو دعوة مباشرة لما يعتقده أو يرمي إليه ،وحين يتمكن أديب موهوب من ذلك،
فإنه يوسع قاعدة قرائه من األنصار والخصوم ،وهذا راجع إلى استطاعته إذابة جمود الفكر
السياسي في سيولة اإلبداع األدبي " .إن الرواية الجيدة بالضرورة ،تقدم بعض آراء مخالفة،
ومبادئ معارضة للفكر السائد والجمهور القارئ ،فإذا استطاع الكاتب أن يشكلها بفنية
واقتدار ،فإنه بهذا يستطيع أن يكون من نقاط الخالف وتعارضات الرؤية ،وتقابالت
الخصومة ،مظاهر جمالية وسمات فنية ،تعطي أدبه جودة وخلودا ،في إطار النوع األدبي
الذي يبدع فيه".29
إن الدور اإلنساني النبيل الذي تقوم به الرواية منذ نشأتها هو الخوض في المسكوت عنه
وإنطاقه ،وانتقاد ميراث التخلف ،واألخذ بأسباب التقدم" .وكان على الرواية في أدائها لهذا
الدور ،أن تتعلم مراوغة القمع الخاص بعصرها ،واكتساب الخبرة من الماضي اإلبداعي
بمخاتلKة التمKثيالت الكنائيKة ومKداورة التوريKات السKردية" .30والهKدف من هKذه الروايKات ،هKو
تشكيل خطاب نضالي من أجل تنوير وتغيير وتحرير األفراد والمجتمع.
"إن بنية الرواية تحاول لمس الجرح في مكمنه واستخراج ما به من قيح ودم فاسد ،من أجل
التطهير الجسدي والنفسي .إنها باختصار تعكس مأساة اإلنسان العربي المعاصر ،المشتت بين
ماض ذهبي يصعب بعثة وإحياؤه ،وحاضر كابوسي يعجز عن اللحاق بما يطرحه العصر من
تقدم تكنو-إلكتروني ،ومستقبل قريب أو بعيد ال يتخيل له مكانا أو مكانة فيه".31
على هذا األساس ،فإن الرواية السياسية الجديدة تطرح قضية ضياع اإلنسان العربي
المعاصر ،واغترابه إزاء القوى التي تتحداه من الماضي ،وتعاديه من الحاضر ،ومن الداخل
- 29نفسه ،ص.248 :
- 30جابر عصفور ،تقديم رواية "غابة الحق" لفرنسيس فتح هللا مراكش ،القاهرة ،الهيئة المصرية ،2000 ،ص.23 :
- 31طه وادي ،الرواية السياسية ،ص.276 :
23
والخارج في الوقت نفسه ،وتسعى للتعبير عن االستالب والضياع .عالوة على أنها تحمل بعدا
تحريضيا ونضاليا ،كي ال يتوه المواطنون فيما يعيشونه من فساد وخراب وزيف.
خالصة القول" ،إن أزمات اإلبداع هي في جوهرها أزمة حرية ،أزمة صراع بين الكشف
والفعل ،بين الرؤية والمواجهة ،بين تحرير اإلنسان وبطش السلطان ،من أجل تشكيل أسطورة
تقهر الضرورة ،وتبشر بميالد جديد ،ومجد مشرق سعيد غير بعيد".32
تهتم الرواية غالبا بالشخصيات النامية أو الرئيسة وتكون عماد الرواية وتسمى أحيانا ب-
شخصيات األبطال ،-ويقوم بعض الشخوص بأدوار هامشية أو سطحية لتطوير مسيرة الحدث
الروائي.
وقد استعار النقد الروائي مصطلح -البطل -من النقد المسرحي ،الذي تعود جذوره إلى كتاب
"فن الشعر" ألرسطو في القرن الرابع قبل الميالد .ويقصد بالبطل ذلك المناضل الحامل للقوة
المعنوية واألخالقية ،والهادف للقيم السامية والمعاني النبيلة ،وينشد البراءة والصدق والعدل
بعيدا عن إطار الغش والزيف والظلم ،ويذكر بمعاني الفتوة في التراث العربي .وتضطلع
وظيفة البطل بدور هام؛ فهو يشغل مساحة واسعة في بنية النص ،ويقوم بأداء دور فعال في
تحريك الحدث الروائي وتناميه ،وتشكيل الصراع.
استلهاما لتنظيرات النقد المسرحي يمكن اإلقرار بوجود نموذجين لشخصية البطل ،هما:
البطل الخير والبطل الشرير.
24
ينقسم البطل الخيِّر إلى نوعين :بطل إيجابي يحاول أن يتصدى للظلم والصعوبات K،من أجل
تحقيق هدف نبيل ،ويمكن أن ينجح في بلوغ هدفه ويمكنه الفشل .وبطل سلبي عاجز ومغترب،
وواع س ّر آالمه ومصدر متاعبه ،وفي الوقت نفسه عاجز عن اتخاد خطوات لرفع الظلم
ٍ مدرك
وال ّشر ،فهو إنسان يملك الرؤية لكنه يفتقد القدرة ،وبهذا يتحول إلى بطل مغترب مأزوم
ومهمش .أما البطل الشرير أو البطل الضد فهو شخص مخادع أو فاسد يقاوم الشخصية
النبيلة ،ويقف ن ّدا وخصما وس ّدا منيعا ضد تحقيق العدل والخير.
أما مصطلح البطل اإلشكالي فهو مصطلح نقدي جديد ق ّدمه نقاد علم اجتماع األدب ،منهم
لوسيان غولدمان ،وهو "شخصية تبحث عن القيم األصيلة في واقع اجتماعي مضطرب من
حيث السلوك والقيم ،وهو يتصف بقدر من الوعي الفكري العميق ،لكنه عاجز عن إصالح
مجتمعه ،وعن القدرة على التعامل معه .إنه مثقف فكريا ،لكنه غير قادر على الحركة سلوكيا؛
ومن ثم ينتهي بKه الحKال إلى أن يصKبح شخصKية مهمشKة مغتربKة" .33ويقKدم طKه وادي في كتابKه
"الرواية السياسية" نموذجين للبطل اإلشكالي في الرواية العربية الحديثة :األول هو اإلشكالي
الحضاري الذي تثقف في الغرب مباشرة ،أما الثاني وهو اإلشكالي الثوري الذي تمثل الغرب
وقيمه من خالل قراءاته.
إن البطل اإلشكالي بطل نظري ال عملي ،وهو غالبا ما يكتفي باإلشارة إلى الخطأ دون أن
يشارك في إزالته .وهذا الموقف الدقيق يجعل اإلشكالي مع وضد في آن واحد .إنه مع الرغبة
في األحالم لكن دون أن يتعدى ذلك إلى الممارسة .وتتضح صورته أنه "شخصية إنسان
مثقف ،يدفعه الوعي بدوره إلى التص ّدي لتغيير واقعه وإصالحه ،لكنه يعجز بسبب وجود كثير
من المع ّوقات المادية والمعنوية ،فيسقط نتيجة الصراع الحاد بين الرغبة وعدم القدرة،
ويصبح شخصية مأزومة مهمشة أو متشيئة أو مغتربة".34
- Lucien goldman towards a society of the novel, tr. By alan sheridan. London, 1975. P:20 33
- 34طه وادي ،الرواية السياسية ،ص.22 :
25
تع ّد الشخصية العمود الفقري الذي تبنى عليه كل مقومات الرواية الحديثة ،وعلى الكاتب أن
يحدد العمر الزمني لشخصياته :فتى -شاب – صبية – امرأة – عجوز ...ليوضح إلى القارئ
انسجام العمر الزمني مع طبيعة الدور الذي تقوم به .كما ينبغي أن يحدد الصفات الجسدية
والنفسية وتعريض شخصيات البطولة إلى مواقف مأزومة ،ليبين ردود أفعالهم تجاه ذلك،
ويلزم أن يقدم هذه الصفات بشكل متسلسل مع نمو الحدث ،من أجل إضفاء عنصر التشويق
على الرواية ،وحتى تصبح الشخصية جديرة بكلمة -البطولة -ومقنعة فنيا ،وقريبة لمحاكاة
الواقع.
يختلف الكتاب في تشكيل الشخصيات حسب الرؤية الفنية لكل واحد منهم ،وحسب كل نوع
روائي؛ الرواية التاريخية ،والرومانسية ،والواقعية ،والنفسية ،والبوليسية ...ومن صفات
شخصية البطل في الرواية السياسية أن يمثل النموذج اإليجابي ،مناضال ،خيّرا ،يحاول جلب
النصر للفئة أو القضية ال ُمناضل من أجلها ،أو النموذج السلبي ،ظالما ،شريرا ،مناهضا
لمبادئ الحرية والعدل ،وكال المثالين يشكالن عنصرا سرديا مهما في تحريك أحداث الرواية،
وتناميها .فهدف الروائي في كتابته رواية سياسية ليس "تسجيل بعض األحداث كما وقعت في
التاريخ ،وإنما تكمن مهمته في اختيار ما يعكس رؤيته السياسية على مستوى األحداث
والشخصيات .وهذا االختيار المقصود ال يساعد على بيان العناصر السردية الفارقة بين كاتب
وآخر فحسب ،وإنما يساعد أيضا على توضيح الرؤية ،ووجهة النظر ،أو نقطة التبئير ،التي
تميز بين كاتب وآخر".35
الحدث: .2-5
تعد السياسة محورا فكريا أساسيا في عالم الثقافة الحديثة ،لذلك حاول عديد من األدباء توجيه
الرأي العام نحو قضية معينة ،أو المساهمة في حل مشكلة ما ،من خالل صراع فكري سلمي
"مثالي"؛ فالكاتب يناقش أفكارا شديدة الخصوصية في روايته السياسية ،وبلغة أدبية ،ومن
خالل حبكة فنية ،وشخصيات مشابهة للواقع أو واقعية.
- 35طه وادي ،الرواية السياسية ،ص.126 :
26
ومن المعروف "أن القصة تروي خبراً ،ولكن ال يمكن أن نع ّد كل خبر أو مجموعة من
األخبار قصة ،فألجل أن يصبح الخبر قصة يجب أن تتوافر فيه خصائص معينة ،أولها أن
يكون له أثر كلي .وهذا يعني أن مجموعة األخبار التي تُروى ينبغي أن يتصل بعضها مع
البعض اآلخر ،ليُحدث أثراً كليا .وهذه األخبار التي تُحدث أثراً كليا ،تكون حول موضوع
واحد".36
والحدث في القصة ينبغي أن "يخدم الغرض الذي يرمي إليه الكاتب من تأليف قصته ،فبقدر ما
يُساعد على تحقيق وحدة االنطباع التي ال بد من تحققها في القصة الجيدة ،بقدر ما يكون حدثا ً
فنيا .والحدث عنصر هام من عناصر القصة ...ولكنه ال ينبغي أن يكون كل شيء فيها ،ألن
الكاتب لو ر ّكز عليه لتحولت القصة إلى مجرد خبر .وال بد أن تُوظف األحداث ألداء مواقف
لهKا دالالتهKا الخاصKة ،حKتى تتحقKق للقصKة صKفتها الفنيKة" .37وتتوقKف القKدرة على السKرد في
طريقة اختيار الروائي لألحداث ،وجعلها "سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع ،تسير نحو غاية
محددة" ،38إضافة إلى مدى تعبيرها عن الرسالة التي يُريد إيصالها للمتلقي.
ومعروف أن "الحدث هو الموضوع الذي تدور حوله القصة ،وهو مجموعة من الوقائع
الجزئية المترابطة ،وهذا الترابط هو الذي يميز العمل القصصي عن أ ّ
ي حكاية يروي فيها
شخص لصديقه ما وقع له من أحداث ،فأحداث القصة الفنية لها إطار عام ،يدفعها في تسلسل
إلى غاية محددة".39
إن األحداث ينبغي أن تكون جزءاً من الحكاية التي تسردها الرواية ،ف"الحكاية هي التي تحدد
األحداث في إطارها المادي ،وتشكلها في فكرة نامية متآزرة ترتبط بالزمان ،والمكان ،والقيم،
بغيKة إحKداث أثKر كلي يشKعر بKه المتلقي ،وينفعKل لKه ،ويقتنKع بKه" .40وقKد يمKتزج الحKدث بالوصKف
ليكون أكثر تأثيراً ،ويقوم الوصف في الفنون السردية ،بوصفه وسيلة فنية أداتها اللغة ،بدور
- 36علي محمد حسين ،التحرير األدبي :دراسات نظرية ونماذج تطبيقية ،ط ،2 .الرياض1421 هـ 2000-م ،ص.291 ،290 :
- 37عبد الحميد القط ،يوسف إدريس والفن القصصي ، ،دار المعارف ،القاهرة ،ط ،1980 ،1 .ص.244 :
- 38علي محمد حسين ،التحرير األدبي ،مرجع سابق ،ص.305 ،304 :
- 39عزيزة مريدن :القصة والرواية ،دار الفكر ،دمشق1400 ه1980-م ،ص.25
- 40عبد الفتاح عثمان ،بناء الرواية :دراسة في الرواية المصرية ،مكتبة الشباب ،القاهرة ،ط1982 ،1 .م ،ص.43 :
27
بالغ التأثير ،حيث يستطيع "أن يعكس جميع الدالالت الفكرية والظالل النفسية والشعورية التي
تسبح في عوالم الوعي والالوعي إزاء المواقف المن ّوعة ،وعن طريق الوصف أيضا ً كما هو
معروف يُمكن رسم األشكال واألبعاد الخارجية التي تُ َحسُّ بوسيلة من وسائل اإلحساس".41
.3-5الفضاء الزمكاني:
أ -الزمن:
على ُكتاب الرواية السياسية تحديد الزمن في رواياتهم ،بوصف هذا الزمن يحمل داللة يتوجه
بها إلى القارئ ليستكشفها .ولع ّل "من أهم غايات الفن الروائي اإليهام بالواقع ،ولكي يتحقق
للكاتب ذلك إما أن يحدد الزمان التاريخي لروايته تحديدا دقيقا ،أو يتجه إلى عدم تحديد الزمان
وإنما يترك تحديده للقضايا المطروحة داخل العمل الروائي".43
اجتهد النقاد البنيويون ،وقدموا لنا وجهات نظرهم عند دراسة زمن الرواية ،وحددوا ثالث
زوايا:
"الحركة المتجاوزة :وفيها يكون زمان الحدث أكبر من زمان القص.
الحركة المتوازية :وفيها يكون زمان الحدث القصصي Kفي الواقع مساويا لزمان النص في
الكتابة.
حالة السكون :وفيها يكون زمان الحدث أصغر من زمان النص.
- 41محمد أبو األنوار ،دور الوصف في البناء الفني القصصي ،مجلة «الثقافة العربية» (ليبيا) ،مارس 1976م ،ص.78 :
- 42رشدي رشاد ،فن القصة القصيرة ،مكتبة األنجلو المصرية ،القاهرة ،ط1964 ،2 .م ،ص.116 ،115 :
- 43حسين حمدي ،الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،الطبعة الثانية2019 ،م ،ص-328 :
.329
28
كما درسوا أيضا أنواع األزمنة في المتن الروائي ،وهي:
ب -المكان:
طور البنيويون Kموضوع المكان أو الفضاء الروائي ،وع ّدوه مثل بقية المكونات األخرى
للسرد ،فهو ال يوجد إال من خالل فضاء لغوي ،وما دام أنه يتشكل من كلمات ،يجعله يتضمن
كل المشاعر والتصورات Kالمكانية ،التي تستطيع اللغة التعبير عنها45؛ فالمكان ال يظهر إال من
خالل وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو تخترقه ،وليس لديه استقالل إزاءها .وعلى مستوى
السرد ،فإن المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي وتماسكه
اإليديولوجي ،وبوسع الخطاب الروائي أن يعرض علينا المكان سواء بشكل مجزأ أو مفكك،
حين يستعمل وجهة النظر المتقطعة ،أو على نحو كلي ،وإذا كانت الرؤية متسعة أو مبتورة.
وفي كلتا الحالتين سيكون الفضاء السردي للمكان هو المتحكم في بناء الفضاء ومنحه طابعه
المميز.
في البنية السردية كما في تشكيل الفضاء الروائي ،تلعب وجهات النظر دورا حاسما في إعداد
الخطاب الروائي والربط بين أجزائه ،وذلك عن طريق إقامة صالت بينها وبين األجزاء
والمظاهر التي يتضمنها الشكل الحكائي ،بحيث تصبح كلها تعبيرا عن كيفية تنظيم "الفضاء
الروائي ،الذي يتشكل من خالل وجهات نظر متعددة ،ألنه يعاش على عدة مستويات :من
طرف الراوي بوصفه كائنا مشخصا وتخيّليّا أساسا ،ومن خالل اللغة التي يستعملها ،فلكل لغة
صفات خاصة لتحديد المكان :غرفة – منزل – حي ...ثم من طرف الشخصيات األخرى التي
- 44حسن بحراوي ،بنية الشكل الروائي ،الدار البيضاء ،المركز الثقافي العربي ،1986 ،ص 100وما بعدها.
- 45طه وادي ،الرواية السياسية ،مرجع سابق ،ص.98 :
29
يحتويها المكان ،وفي المقام األخير من طرف القارئ الذي يدرج بدوره وجهة نظر غاية في
الدقة".46
تأسيسا على ذلك يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العالقات والرؤى ووجهات النظر،
التي تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء لروائي ،الذي ستجري فيه األحداث ،فالمكان يكون
منظما بنفس الدقة التي نظمت بها العناصر األخرى في الرواية ،لذلك فهو يؤثر فيها ،ويقوي
من نفوذها ،كما يعبر عن مقاصد المؤلف ،وتغيير األمكنة الروائية سيؤدي إلى نقطة تحول
حاسمة في الحبكة ،وبالتالي في تركيب السرد والمنحى الدرامي الذي يتخذه".47
ويرتبط المكان في الرواية بالزمان ارتباطا وثيقا ،وهو ما دعا "باختين" إلى أن يدرسهما على
أنهما قضية واحدة ،تحت مصطلح "الزمكانية" تأكيدا على االرتباط الشديد بينهما.
"اللغة هي مادة اإلبداع وجماله ومرآة خياله ،فال خيال إال باللغة ،وال عاطفة إال باللغة ،وال
قضايا إال باللغة" .48إن اللغة في الرواية هي الركيزة األولى واألهم لبنائها الفني ،فاللغة تصف
الشخصية أو تمكن الشخصية من الوصف ،كما تحدد وتبني العناصر األخرى للرواية من
زمان ومكان وحدث .وكما يؤكد عبد الملك مرتاض ،فإن الباحثين والنقاد لم يُعطوا اللغةَ
الروائية حقها من البحث والدرس ،فإنهم -تقليديّا ً -كانوا يقسمون اللغة الروائية إلى شكلين
اثنين هما :لغة السرد ولغة الحوار ،فيبسطون الفكرة ويُسطحونها بالقول إن لغة السرد يجب
أن تكون فصيحة بينما يجب أن تكون لغة الحوار باللهجة العامية.
ويشاطره طه وادي الرأي ،بقوله" :بعض الكتاب المعاصرين يتساهلون في أمر اللغة األدبية،
لذلك يخلو التركيب اللغوي أحيانا من ومضة بالغية ،بل إن األمر قد يتعدى ذلك إلى وجود
30
بعض األخطاء النحوية وربما اإلمالئية .إن الرواية نوع أدبي ،واألدب فن القول الجميل ،ولغة
األدب يجب أن تتجاوز مستوى الصحة والسالمة إلى مستوى الحسن والجمال.
إن المضمون Kمهما كان نبيال ،والفكرة مهما كانت سامية ،يظالن في حاجة ماسة إلى لغة أدبية
راقية على مستوى السرد والحوار .األدب هو اللغة ،واللغة هي نحن ،لذلك يجب أن نحرص
على جمال اللغة وبالغتها بقدر حرصنا على مبدأ االلتزام ،ألن االلتزام بقضايا الواقع يفرض
في الوقت نفسه االلتزام بقضايا الفن أيضا".49
يعد الراوي الشخصية األساس في البناء القصصي K،ألنه الوسيط الذي اختاره الكاتب لينوب
عنه في سرد األحداث من البدء إلى الختام .يمكن للراوي أن يُنجح ويعطي للعمل القصصي
والروائي Kشهادة ميالد وخلود ،أو تصريحا بالدفن والفناء ،كما شهرزاد في "ألف ليلة وليلة".
وعلى القارئ أن يفرق بين الروائي والراوي؛ فالراوي قد يظهر أو يتخفى داخل العمل
القصصي K،وهو أسلوب صياغة أو بنية من بنيات النص ،وهو أسلوب تقديم المادة القصصية.
أما الروائي Kفهو صانع العالم ال ُمتخيّل ،وهو من يختار األحداث والشخصيات والزمكان
والراوي أيضا" .وإذا كان الراوي يعد عنصرا من عناصر البناء السردي ،فإنه عنصر أكثر
أهمية ،وال يمكن وضعه من حيث التعادل الوظيفي مع بقية العناصر األخرى مثل الشخصية
أو الزمان أو المكان .فالراوي عنصر متميز ومختلف الوظيفة ،فهو الذي يمسك بكل عناصر
لعبة القص؛ أي أنه عنصر مهيمن في حركة العالقات بين كل عناصر القص".50
يعبر الراوي عن رؤية الكاتب إزاء ما يروي ،ألنه هو ال ُمحدِّد لزاوية الرؤية ،التي يريد أن
يطرحها الكاتب من خالل الخطاب الروائي .إذن فهو الصَّاقل ألسلوب صياغة العالم
القصصي K،وطريقة تقديم عناصر المادة القصصية عن طريق التعبير اللغوي ،ويَنظر إليه
النُّقاد جماليا أنه قناع ،يتخفى وراءه الكاتب لتقديم عمله في الرواية السياسية خصوصا.
- 49طه وادي ،الرواية السياسية ،مرجع سابق ،ص.191 :
- 50يمنى العيد ،تقنيات السرد الروائي ،مطبعة الفارابي ،بيروتـ ،1990ص.118 :
31
ويمكن تقسيم العالقة بين الراوي والشخصيات إلى ثالثة أقسام ،طبقا لتقسيم الناقد الفرنسي
جان بويون:
الرؤية من الخلف :الراوي < الشخصية – الراوي يعلم أكثر من الشخصية.
الرؤية مع :الراوي = الشخصية – الراوي يعلم ما تعلمه الشخصية.
الرؤية من الخارج :الراوي > الشخصية – الراوي يعلم أق َّل م ّما تعلمه الشخصية.
تمثل األنماط الثالثة أكثر األنواع شيوعا وتداوال في معظم أساليب القص ،وتنحصر في:
"الراوي الغائب أو العليم بكل شيء :وهذا النمط هو أقدم أنواع الرواة وأكثرها شيوعا
حتى اليوم .تقوم وظيفته بالرؤية من خلف ،ألنه يعلم أكثر مما تعلمه أية شخصية من
شخصيات العالم الروائي .وهو الذي يحرك الشخصيات .وقد يظهر أحيانا من خالل بعض
اآلراء التي يقدمها واألحكام التي يطلقها .وهذا النمط من الرواة يالئم أسلوب القص
التقليدي الشفاهي والمكتوب ،وتروى األحداث من خالله بضمير الغائب "هو" .يتمتع هذا
الراوي بقدر من المساواة والحياد في تصوير الشخصيات والتعبير عن المنظور .فهو مثل
أب رحيم يهتم بأبنائه جميعا :ذكورا وإناثا ،طيبين وأشرارا ،كبارا وصغارا ،رئيسيين
وثانويين ،فهو يعلم أمورا كثيرة عن أفراد علمه الروائي ،أو عائلته القصصية .لذلك يصفه
بعض النقاد األوربيين مثل "إله" له مطلق الحرية في خلق عالمه الروائي K،وتصوير
شخصياته بالطريقة التي يراها.
الراوي المشارك :ويقوم هذا النمط بدورين :الراوي والشخصية .ولهذا يكون التداخل بين
الراوي وإحدى الشخصيات الروائية (غالبا ما تكون شخصية رئيسة( ،لذلك يتشكل
المنظور من "الرؤية مع" ،أي أن الراوي والشخصية متساويان في العلم والمعرفة فيما
يتصل بكل قضايا المبنى القصصي .ويستخدم ضمير "أنا" في التعبير .وهو راو متحيز
أو منحاز ،يقدم العالم الذي يروي عنه من منظوره الخاص ورؤيته الذاتية .فهو يتبنى
شخصية ،ويرى ما تراه ،ويعرف ما تعرفه ،ويالحظ ما تالحظه .ويعد هذا الراوي أكثر
32
حداثة من الراوي الغائب وأقرب إلى طبيعة القص المعاصر ،ألنه يلغي المسافة بين
الكاتب والراوي ،ويصبح من السهل على الكاتب أن يسقط بعض آرائه على لسان الراوي
أو إحدى الشخصيات النعدام المسافة الفارقة بين الروائي والراوي وشخصيات الرواية.
الراوي المتعدد :ويتناوب أكثر من راو في تأليف عملية القص ،ويشكل بناء الحدث أكثر
من سارد .يُعطي هذا النوع من الرواة المتعدِّدين لبناء الرواية تميزا وخصوبة ،ويعد من
سمات قص الحداثة .وأول من توقف عنده وقفة نقدية متأملة هو ميخائيل باختين في كتابه
"شعرية دوستويفسكي" ،حيث يذهب إلى أن دوستويفسكي هو خالق الرواية متعددة
األصوات .ففي أعماله يظهر البطل الذي يبني صوته بطريقة تشبه بناء صوت المؤلف في
رواية ذات نمط اعتيادي ،والرواية Kمتعددة األصوات تشبه تعددية األصوات في
الموسيقى ،حيث تمتزج العناصر والشخصيات في تناغم غنائي ،كأنها وحدة غنائية
وتصبح البطولة للفكرة التي تدور حولها الرواية .ويعد أكثر األنواع وأشدها مالءمة
لطبيعة قص الحداثة ،لذلك ال نجده بشكل واضح إال في مرحلة معاصرة متأخرة.
تكمن وظيفة هذا الراوي أنه يقدم الحدث المسرود من خالل وجهات نظر متباينة أو
متعارضة أحيانا على المستوى اإلنساني والفكري .وهذا ال يجعل الرواية حزمة من
األوراق الجافة ،وإنما شريحة حية من الواقع المعاش بصراعاته وجدله وتناغمه ،وتصبح
الرواية بانوراما شاملة لموقف إنساني مركب ومتنوع االتجاهات ،ألن تعدد األصوات في
الراوية يفترض كثرة في األصوات الكاملة القيمة في عمل أدبي واحد.51
التعريف بالكاتب حسن أوريد: -6
يعد حسن أوريد شخصية سياسية وفكرية بارزة ،ولج قصور السلطة من بابها الواسع كأول
ناطق باسم القصر الملكي في المغرب ،ثم عاد الرجل الذي تقاسم صف الدراسة مع
- 51ميخائيل باختين :شعرية دوستويفسكي ،ترجمة جميل التكريتي،ـ مراجعة حياة شرارة ،الدار البيضاء ،دار توبقال ،1986 ،ص.51 :
33
الملك محمد السادس إلى الساحة العامة ،مستقال عن السلطة ،بإسهام أدبي وفكري وتاريخي
غزير ،وبنقد حاد لبنيات الدولة في المغرب ،مما وضعه في مناسبات كثيرة في قلب الجدل.
ولد حسن أوريد يوم 14يوليوز 1962بقرية "تازموريت" األمازيغية ،قريبا من مدينة
الراشيدية المغربية ،جنوب شرق البالد .ينحدر من أب صحراوي وأم أمازيغية من منطقة
ميدلت (وسط البالد) .نشأ في حضن أسرة متواضعة.
تجري العادة في المعهد المولوي الذي يدرس فيه األمراء أن يتم استقطاب تالميذ متفوقين من
مختلف أنحاء المملكة لاللتحاق بهذه المدرسة التي تفتح لطالبها آفاقا واعدة .فكان من حظ
حسن أوريد أن يتم اختياره لاللتحاق بالرباط في يناير/كانون الثاني 1977 ومجاورة الملك
محمد السادس (ولي العهد آنذاك) على مقاعد الدراسة.
وقد تواصلت هذه الزمالة بعد التخرج من المعهد بشهادة الثانوية العامة ،عبر االلتحاق بكلية
الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط ،التي حصل فيها على شهادة اإلجازة في القانون العام،
ودبلوم الدراسات المعمقة .ونال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية سنة 1999بأطروحة
معنونة بـــ "الخطاب االحتجاجي للحركات اإلسالمية واألمازيغية في المغرب".
عين حسن أوريد موظفا بوزارة الخارجية عام ،1987وانتقل الى واشنطن سنة 1995حيث
شغل مهمة المستشار السياسي للسفارة المغربية .لم يطل مقامه بأميركا كثيرا حيث عاد ليزاول
التدريس الجامعي في المدرسة الوطنية لإلدارة وفي كلية الحقوق بالرباط ما بين عامي 1995
و ،1999وهو العام الذي تم فيه تعيينه ناطقا رسميا باسم القصر الملكي .وفي يونيو ،2005
34
عين أوريد محافظا على جهة مكناس تافياللت ،قبل أن يعود إلى القصر الملكي بصفة مؤرخ
للمملكة منذ 13نوفمبر 2009وإلى غاية ديسمبر .2010
تضافر التفوق الدراسي والحظ لينقل حسن أوريد من فضائه القروي البسيط إلى
العاصمة ، وبالضبط المعهد المولوي ،الذي يدرس فيه األمراء .وهكذا انفتحت ألوريد مبكرا
آفاق واعدة ،ذلك أنه تقاسم مقاعد الدراسة مع ولي العهد آنذاك ،الملك محمد السادس ،في
أطوار الدراسة وإلى غاية التخرج من جامعة محمد الخامس بالرباط.
اختار حسن أوريد العمل في السلك الدبلوماسي فالتحق بمكتب وزير الخارجية المغربي
السابق عبد اللطيف الفياللي ،كمكلف بالدراسات ،وذلك من 1987إلى .1992
أما مهمته الدبلوماسية األولى خارج المملكة فكانت بالعاصمة واشنطن حيث شغل مستشارا
سياسيا حتى عام .1995ويبدو أن الخالف الذي خرج إلى العلن بينه وبين سفير المغرب
سابقا بواشنطن محمد بن عيسى- وزير خارجية سابق -عجل بعودته إلى المغرب ،حيث
اشتغل مدرسا بالمدرسة الوطنية لإلدارة وفي كلية الحقوق بالرباط.
وضمن النخب الجديدة التي صعدت إلى هرم السلطة في المغرب بعد اعتالء محمد السادس
العرشُ ،عين أوريد كأول ناطق رسمي باسم القصر الملكي ،في خطوة اعتبرت من قبل
المراقبين محاولة إلعطاء وجه حداثي لمؤسسة ملكية تتواصل بشكل مؤسساتي.
ظل يشغل ذلك المنصب حتى شهر يونيو ،2005حيث عين محافظا على جهة مكناس
تافياللت .ولم تكن مهمته الميدانية هاته سهلة ،بحيث تميزت واليته بنوع من التوتر مع مجلس
المدينة الذي كان يهيمن عليه حزب العدالة والتنمية المغربي ذي التوجه اإلسالمي.
35
عاد أوريد إلى القصر الملكي بصفة مؤرخ للمملكة في 13نوفمبر .2009ومارس هذه
المهمة إلى غاية ديسمبر 2010حيث تؤرخ مغادرته للمنصب لمرحلة جديدة طبعها اعتماد
أوريد لخطاب نقدي حاد تجاه ممارسات الدولة العميقة (المخزن) إذ تفرغ للكتابة والبحث
وتنشيط الندوات والمحاضرات.
وقد جعلته مواقفه النقدية في قلب الجدل حول إشكاليات اإلصالح والنخب .وقدم أوريد
اجتهادات لقيت متابعة قوية حول قضايا ساخنة مثل التحديث ومقاومات اإلصالح واإلسالم
السياسي واألمازيغية .وتدريجيا كرس الرجل استقالليته عن دوائر السلطة وانخرط بعمق في
النقاش العمومي السياسي والثقافي.
وخالل تواجده في مدار السلطة ،يقول المراقبون إنه قام بمحاوالت إلرساء جسور الحوار بين
النظام وبعض الشخصيات والجماعات التي توجد خارج اللعبة السياسية من قبيل جماعة
العدل واإلحسان وشخصيات من الحركة األمازيغية .وبعد خروجه من دواليب القصر ،ركز
على الجوانب الثقافية والبحثية بصفته رئيسا لمركز الدراسات واألبحاث "طارق بن زياد"
ومستشارا علميا بمجلة "زمان" المتخصصة في البحث التاريخي.
هـ -مؤلفاته:
في مجال التأليف ،تنوعت كتابات حسن أوريد الذي يتقن العربية والفرنسية واإلنجليزية
بين البحث التاريخي واالجتهادات الفكرية واإلبداعات األدبية .وتميزت كتاباته بأسلوب
مميز باللغتين العربية والفرنسية .وقد شهد له الجميع بفصاحته واحترامه لقواعد اللغة
وكذلك رقي أسلوبه والتفاصيل الجميلة في كل مؤلفاته .ومن أهم كتبه التاريخية والفكرية:
"اإلسالم السياسي في إيران"" ،اإلسالم والغرب والعولمة"" ،مرآة الغرب المنكسرة"
وهو دراسة نقدية لبعض األفكار الغربية االقتصادية والسياسية والدينية ،أصدره بالعربية
والفرنسية" .الفكر السياسي في إيران" ،ترجمة من اإلنجليزية إلى العربية" .تلك
36
األحداث" ،كتاب يضم عدة مقاالت كتبها المؤلف ونصوص لمحاضرات ألقاها" .مأزق
اإلسالم السياسي" ،سنة " .2016من أجل ثورة ثقافية بالمغرب" ،سنة " .2018أفول
الغرب" ،سنة " .2019السياسة والدين في المغرب" ،كتاب يناقش جدلية السلطان
والفرقان ،سنة .2020أما دواوينه الشعرية ،فأهمها" :يوميات مصطاف" ،و"فيروز
المحيط" ،و"زفرة الموريسكي" ،الصادر عن دار األمان سنة .2014و"صرخة
تينهينان" .2014 ،ومن أهم رواياته" :الحديث والشجن" :وقد حظيت بتتبع واهتمام
كبيرين من طرف جمهور القراء في المغرب" .الموريسكي" ،كتبت بالفرنسية قبل أن تتم
ترجمتها للعربية من طرف الكاتب المغربي عبد الكريم جويطي" .صبوة في خريف
العمر" ،صدرت في طبعتين".األجمة" ،صدرت عن دار األمان سنة " .2014سيرة
حمار" ،صدرت عن دار األمان سنة ِ " .2014سينترا" ،صادرة عن مطبعة المعارف
الجديدة في الرباط سنة " .2015رواء مكة" ،صدرت سنة " .2017ربيع قرطبة"،
صدرت عن المركز الثقافي العربي ،سنة " .2018رباط المتنبي" ،صدرت سنة .2018
"عالم بال معالم" ،صدرت سنة " .2021زينة الدنيا" ،صدرت سنة .52"2021
37
الفصل الثاني :التوظيف السياسي في رواية "سينترا" لحسن أوريد
38
يتمحور هذا الفصل حول تطور الرواية المغربية التي اعتمدت استراتيجيات تجريبية
وتناصية .فمنذ العقدين األخيرين من القرن الماضي إلى اليوم ،أصبح الكتّاب أكثر وعيا بطرق
كتابة الرواية وبتطوير مشاريعهم األدبية ،من خالل إقامة عالقة تناص مع التراث والتاريخ،
وابتداع تقنيات جديدة تتمثل في إشراك القارئ في إبداعهم السردي ،ومن ث ّم نأوا عن الطرق
التقليدية في كتابة الرواية .وتمثل رواية "سينترا" للكاتب والمفكر المغربي حسن أوريد
أنموذجا ثريا لدراسة الخطاب السياسي في الرواية ،وتناصها مع التاريخ والشعر وبعض
الفنون الشعبية ،التي تمثل الهوية الثقافية للمغاربة ،والذاكرة الجماعية لمغرب متعدد الروافد
الثقافية .واستنادا إلى ذلك ،يتغيا هذا البحث تتبع الخطاب السياسي الذي تستدعيه الرواية،
وتقاطعه مع خطابات وفنون أخرى ،ومعنى هذا أن هذا النوع من الخطابات الذي يحضر في
متنها ،له وظيفة معينة يلزم كشفها وتحليلها ،ما دام يرد في سياق نصي محدد ،ويتداخل
ويتفاعل مع البناء الكلي للرواية .فحضور مثل هذه الخطابات ينتج عن اختيار واع من لدن
المؤلف ،وما دام األمر كذلك ،فهو اختيار يؤدي وظيفة ،ويُنجز غرضا ،ويُحدث ال ريب أثرا
في المتلقي .وهو ما سنعمل على توضيحه من خالل مقاربة هذه الرواية.
من اإلشكاليات التي اعترضتنا في دراسة موضوع هذا البحث إبراز مظاهر التوظيف
السياسي في الرواية ،وكشف العالقة القائمة بينه وبين التاريخ ،وهي وإن كانت عالقة ملتبسة
تندرج في اإلشكاالت التي يعز الحسم فيها ،غير أننا نؤثر خوض هذه المغامرة آملين الكشف
39
عن جانب منها ،دون إغفال التقنيات التي اعتمدها الكاتب والتي وسمت الرواية بالجمالية،
وساهمت في إثراء بعدها التدليلي .من هنا يحق لنا التساؤل :ما حدود السياسي والتاريخي
والتخييلي في رواية "سينترا"؟ وما وظيفة الخطاب السياسي فيها؟ وما أثره على القارئ؟ وما
التقنيات التي توسل بها الكاتب في تشييد عالمه الروائي؟
يجب اإلقرار بدءا أننا أمام نص سردي عميق ،ومعنى ذلك أنه ليس نصا عاديا يقدم نفسه
بتلقائية لقرائه ،وإنما يتطلب بذل الجهد في قراءته وفهمه وتأويله ،كما يستحث القارئ على
قراءته أكثر من مرة واحدة حتى يستكنه عوالمه ،ويهتدي إلى فك بعض رموزه وغموضه.
تواجه القارئ العادي صعوبات في فهم هذا العمل السردي ،تتمثل في التساؤل عن عالقة
االستهالل بالقسمين األول والثاني ،وكذا عالقته بالبناء العام .كما يجد بعض الصعوبة في فهم
دالالت رموز بعض الشخصيات ،ال سيما وإذا علمنا ّ
أن الكاتب يوظف ثالثة أصناف منها؛
األولى ،شخصيات حقيقية من قدماء المناضلين والمثقفين كالمهدي بن بركة وعمر بن جلون
وعبد الخالق الطريس وعبد الصمد الكنفاوي ،والثانية ،شخصيات ُح ّور اسمها الشخصي،
واحتفظت بنسبها كطارق أوريد ،والثالثة ،شخصيات "ورقية" متخيّلَة .لقد تداخلت خصائص
بعد الشخصيات وتقاطعت إلى درجة تح ّولت فيها -مثال -شخصية "مليكة" إلى شخصية
"الموتشو" لحظة مواجهتها لعمر بنمنصور ،كما تداخلت شخصية حسن أوريد مع بطل
الرواية عمر بنمنصور.
ال يقف غموض الرواية عن عالقة استهاللها ببنائها العام وتداخل شخصياتها ،بل بالفضاء
العام الذي تجري فيها األحداث وتتحرك فيه الشخصيات ،وباألخص فضاء "سينترا" العصي
على الفهم ،والحامل لرمز الوعي المستعاد ،وغيرها من الدالالت والرموز التي سنتطرق
إليها .إضافة إلى تداخل األزمنة وتعدد الرواة وتداخل األصوات .ولع ّل اعتماد الكاتب على
هذه التقنيات قي بناء عالمه السردي ،يجسد روح الرواية بتعبير ميالن كونديرا التي هي روح
40
التعقيد؛ فكل رواية تقول لقارئها إن األشياء ليست سهلة كما تبدو لك ،وهذه هي الحقيقة األبدية
للرواية.
من الصعوبات التي تواجه القارئ أيضا في قراءته لهذا العمل السردي غياب تجنيسه؛ فحسن
أوريد لم يحدد لهذا النص انتماءه األجناسي ،وآثر عدم تحديده إلشراك القارئ في عملية
التجنيس ،وحثه على التفاعل وطرح األسئلة عن طبيعة العمل األجناسية .لقد تع ّمد الكاتب ذلك
وخرق أفق انتظار القارئ ،وجعل عمله -في غياب تجنيسه -خارج الميثاق السردي المتبع
والمألوف ضمن نظرية األجناس األدبية ،لكن اختيار الكاتب هذا ال يشذ عن القاعدة المطّردة،
ألننا نجد غياب تحديد اإلطار األجناسي في عدة نصوص روائية متميزة .فهل يكون هذا
المنجز السردي سيرة ذاتية أم سيرة غيرية أم تخييل ذاتي أم رواية؟ وهل في اإلضمار وعدم
التصريح Kمحاولة للدفع بالقراءة والنقد إلى مغامرة السؤال والبحث عن المعايير التكوينية
والجمالية لهذا النص؟ أم أن التمرد على عدم التصريح Kبالتجنيس يحمل مقصدية الكاتب التي
تبيّن إشكالية تحديد هويته؟.
لن نخوض في الفروق الدقيقة بين هذه األنواع ،ألنه ليس موضوع بحثنا ،وحسبنا اإلشارة إلى
أننا سنتعامل مع هذا النص السردي بوصفه رواية العتبارين اثنين :أولهما أن هذا النص
يتضمن العناصر والخصائص السردية الفنية والجمالية لجنس الرواية؛ من أحداث ،وسرد،
وشخصيات ،وحوار ،ووصف ،وفضاء مكاني ،وزمان ،ورؤى سردية ،وتعدد الرواة
واألصوات Kواللغات ،...وهي عناصر مترابطة ومنسجمة داخل هذا النص الروائي ،بفضل
بنية سردية من العالمات المنطقية أضفت على األحداث تسلسال واتساقا منذ البداية إلى
النهاية ،وأسندت إليها شخصيات تقوم بها ،وأطرتها في زمان ومكان معيّنين ،ليكون المحكي
قابال للقراءة والفهم والتأويل .ثانيهماّ :
أن الكاتب حسن أوريد تعامل مع هذا المنجز السردي
بوصفه رواية ،في اللقاءات الثقافية والنقدية التي شارك فيها إلى جانب دارسين قدموا مقاربات
حولها.53
53سبق لحسن أوريد بعد صدور روايته "سينترا" ،أن شارك في لقاء ثقافي لتقديم هذا العمل ومقاربته ،بمتحف التراث الثقافي اليهودي المغربي
الذي يحتضن جزءا من الذاكرة الوطنية ،وذلك تكريماـ لذكرى المرحوم "شمعون ليفي" الذي كان يعرفه عن كثب.
41
-2إشكاالت رواية "سينترا"
صدرت للروائي والمفكر المغربي حسن أوريد رواية جديدة تحمل اسم "سينترا" ،أغنت
منجزه الروائي الذي يغوص في ثنايا التنقيب في الذاكرة والتاريخ ،مع التركيز على فترة
استعمار المغرب ،وخصوصا الفترة الممتدة ما بين 1946و ،1948ليسائل قضايا سياسية
عالقة ،مازجا البوح والسرد والهزل والسؤال ،حول لغز تتشابك خيوطه ،وال تنحل عقدته إال
حينما يمتزج العقل والوعي التاريخي والعاطفة ،فتفصح عنه الصدفة .أسلوب غير مسبوق
فيما دأب عليه الروائي من مساءلة التاريخ ،ودفع الذاكرة الى االفصاح عن جوانبها المستترة.
لماذا فكر حسن أوريد في كتابة رواية "سينترا"؟ ما داللة هذا المقصف الرمزي لرواية
تخترق الزمن جيئة وذهابا ،بين الماضي والحاضر؟ لماذا استعاد ذاكرة بعض المناضلين
السياسيين في هذه اللحظة بالذات؟ لماذا أنطقهم من جديد؟ ماذا يعني انبعاث فكر عالل
الفاسي ،المهدي بن بركة ،عبد الرحيم بوعبيد ،عمر بنجلون من داخل الرواية؟ إلى ماذا يحيل
تعدد األصوات واللغات؟ ثم لماذا تحضر شخصيته في تماه مع شخصية البطل عمر
بنمنصور؟ أيكون حسن أوريد هو عمر بنمنصور رجل االستخبارات الذي اصطف إلى جانب
الوطن ونأى بنفسه ضد Les pieds noirs؟ ثم ماذا يعني فقدانه لذاكرته في نهاية الرواية؟
وإصرار Kالدكتورة فيفاني على متابعة حالته الصحية أمال في ترميم ذاكرة سائرة نحو الضياع؟
-3المتن الحكائي:
تعد رواية "سينترا" لحسن أوريد من بين النصوص السردية المغربية المعاصرة ،التي سعت
إلى التجريب والتطوير ،وهي من بين النصوص الغنية التي تفرض نفسها على النقاد والقراء،
وتستحثهم على القراءة والتحليل والتأويل ،وهي العمل السردي السادس الذي صدر للكاتب في
مجال الرواية ،54وهو تراكم دال يؤكد أن الروائي ماض في تطوير العوالم التخييلية التي يشيد
بها أعماله السردية.
54ألف حسن أوريد قبل رواية "سينترا"ـ خمس روايات ،األولى معنونة بـ "الحديث والشجن" ،تلتها رواية "الموريسكي"،ـ والثالثة معنونة بـ "صبوة
في خريف العمر" ،والرابعة بـ "األجمة" ،والخامسة بـ "سيرة حمار".
42
تحاول رواية “سينترا” أن تغوص في ثنايا الذاكرة الجماعية لمغرب متعدد ومنفتح ،بروافده
الثقافية والفنية المتنوعة ومكونات هويته الغنية ،وتعيد قراءة مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب
(ما بين 1946و ،)1948حينما كان خاضعا لالحتالل الفرنسي واإلسباني ،من خالل
استحضار التعايش الذي طبع حياة المغاربة المسلمين واليهود خالل تلك الفترة.
فبدقة وأناة وبصيرة يستلهم حسن أوريد شخصياته من التاريخ ويمنحها بعدا فلسفيا وسياسيا،
من خالل استحضار فضاء “سينترا” الذي كان يشكل مجلسا للنقاش وطرح قضايا ته ّم مستقبل
الوطن ،من قبيل :العدالة والذات واآلخر والتحرر والتعايش .كما تخوض في قضايا عربية
ودولية.
تتقاطع الشخصية المحورية المتخيلة “عمر بنمنصور” مع شخصيات حقيقية وواقعية من
قبيل :عبد الخالق الطريس Kوالمهدي بن بركة وعبد الصمد الكنفاوي وزعماء من الحركة
الوطنية ،الذين أثروا في مساره ووعيه الوطني .
تحيط "سينترا" بحياة عمر بنمنصور المفكر الوطني والمؤرخ ،وتعود بنا -على لسان حفيدته
بشرى -ألصوله الجزائرية ،وإلى مكان يسمى بعين الحوت قرب تلمسان ،غير ّ
أن أصوله
الحقيقية أندلسية ،عندما نزحت أسرته ،بعد هزيمة معركة العُقاب سنة 1212من األندلس إلى
بالد المغرب" ،وحملت معها طرائقها وثقتها وحنينها إلى ما تعتبره الفردوس المفقود،
وحاولت أن تبعثه هنا في بالد المغرب" .55عاشت أسرته نكبة أخرى حينما ح ّل الفرنسيون
بالجزائر ،وانكسرت إثرها حركة األمير عبد القادر ،فنزحت كثير من األسر من تلمسان
ومعسكر ووهران نحو المدن المغربية ،كما نزحت عائلته إلى فاس ،وبها ُولد ،ومن المرجح
أن تكون ما بين سنة 1915و " ،1918درس بثانوية موالي ادريس ،وكانت على شاكلة ثانوية
الصّادقية بتونس ،تُزاوج بين تعليم عصري مع الحفاظ على اللغة العربية .حصل بنمنصور
على شهادة البكالوريا ،ورحل إلى الجزائر ليستكمل تكوينه في اآلداب ،وهناك عانق بعث
حسن أوريد ،سينترا ،نشر :توسنا ،طبع :مطبعة المعارف الجديدة ،الرباط ،2015 ،ص.241 : 55
43
أندلس جديدة ،في ركاب مفكرين على شاكلة جاك بيرك .ارتبط دوما بحنين إلى حيث استق ّر
أجداده ،وحيث درس".56
بعد هذه األحداث ،عمل بنمنصور مترجما لدى إدارة المراقب المدني بالدار البيضاء ،وانغمر
في الحركة الوطنية ،مما دفعه للمنفى إلى مدريد ث ّم القاهرة ،التي تعرّف فيها على زوجته
"سوليكا" اليهودية ،التي تنحدر من أسرة موريسكية باألندلس .ولم يعد إلى المغرب إال بعد
االستقالل ليشغل مناصب سامية ،من بينها تدريسه األدب العربي لألمير الحسن وأخيه عبد
هللا ،إضافة إلى حضور السلطان محمد الخامس بنفسه لدروس عمر بنمنصور ،من أجل تفقد
مسار دراسة ابنيه ،واالستزادة معرفة" :تكررت زيارات السلطان ،واستأنس بالدرس كما
استأنس األستاذ بالسلطان .ولقد أدرك بنمنصور ّ
أن السلطان لم يكن يحضر الدروس فقط ليتفقد
سير دراسة ابنيه ،موالي الحسن وموالي عبد هللا ،بل ليستزيد معرفة".58
على الرغم من إنجازات بنمنصور ووطنيته ،لم يسلم من الغمز والنبز " :لطالما نُعت..
بالعمالة للسلطات االستعمارية لفترة ،وبماض شيوعي ،وبأصول جزائرية ،وبخدمة للمخزن،
وبعالقات مشبوهة مع أوساط صهيونية .والحقيقة خالف ذلك أو أعقد من ذلك ،أو تبدي جانبا
59
خارج السياق لتخفي الحقيقة أو لتَشينها".
44
يُصاب بنمنصور ذات يوم بوعكة صحية أدخلته في غيبوبة لم يستفق منها ،إال بعد جهد جهيد
تضافر فيه عمل الطبيبة "الدكتورة فيفاني" ،والمثقف "الدكتور طارق أوريد".
تركز الرواية باهتمام كبير على المرحلة الزمنية من 1946إلى ،1948ومتابعة حياة عمر
بنمنصور وهو يتحرك في فضاءات موشومة باشتداد الصراع بين الحركة الوطنية والقوات
االستعمارية ،ومشدود لعالقته بكازالطا الضابط في االستعالمات الذي يكلفه بمهمة متابعة
أخبار "سينترا" ،ويهيئ له المقام ليصبح مدرسا لألمير الحسن ،لترصّد أخبار الوطنيين
والعائلة الملكية ،وتتبع سيرة األمير موالي الحسن وكذلك أستاذ الرياضيات بن بركة ،الذي
اعتبره كازالطا عنصرا خطرا .60وقد كان متزوجا من "سوليكا" اليهودية وصارع من أجل
أن تحبل منه ،غير أنه أخفق في األخير حيث سترحل س ّرا هي وجماعتها إلى إسرائيل في
غفلة عنه ،تاركة رسالة توضح فيها أسباب ذلك الرحيل.
وبعد أن دخل في شبه غيبوبة ،وصارت حياته وراءه ،اختار أن ينهي هذا المسار ساعيا لسد
ثقوب ذاكراته ،مصارعا من أجل لملمة تفاصيلها المعقدة ،واسترجاع بعض ذكرياتها .وقد
اختتمت آخر صفحة من الرواية ،باإلشارة إلى الفرحة الغامرة التي عبّرت عنها حفيدته
بشرى ،عندما تفاجأت باسترجاع َج ّدها ذاكرته:
" في تلك األثناء سمعا (الدكتورة فيفاني والدكتور طارق أوريد) وقع خطوات ..أخذ وقعها
يقترب .فتحت بشرى باب المصلحة وهي متهللة الوجه:
دكتورة ،شكرا ،شكرا ..ج ّدي استرجع ذاكرته ..شكرا الفضل يرجع لك"
61
-
لكن هل تعلق األمر حقا بذاكرة فردية أم ذاكرة جماعية؟ استيقظت بصعوبة بالغة ،بعد أن
تعطلت في اللحظات األخيرة من عمر البطل؟.
إذا كانت هذه هي المفاصل الكبرى للسرد ،فإن أحداث الرواية وعوالمها لن تتوضح للقارئ
بجالء ،إال بالوقوف على الفضاء المكاني مقصف "سينترا" بوصفه الفضاء الذي جرت فيه
45
األحداث ،وتحركت فيه الشخصيات ،وقد لعب دورا محوريا وهاما في تشييد البناء العام
للرواية.
ليست "سينترا" عتبة نصية تؤدي وظيفة عابرة في الرواية ،ولكنها ق ّوة فاعلة 62تضطلع بدور
أساس في مسارها ،ومكون ثابت ينهض عليه بناؤها العام ،ويتغلغل في عمق نسيجها
السردي ،ولع ّل السبب في ذلك راجع إلى ما حظيت به من حضور ووصف على امتداد المتن
الحكائي ،وما حازته من دالالت وتأويالت سواء عند شخصيات الرواية ،أو من لدن المتلقين
والدارسين بعد قراءتهم لها.
"سينترا" على مستوى دالالت الفضاء هو كابريه أو مقصف من طابقين ترتاده نخبة من
المثقفين والمدمنين على ارتياد هذ المكان ،لها شغف في الخوض في نقاشات تتعلق بقضايا
وطنية وعربية ودولية ،كما تخوض في أمور شتى .تعبّر هذه النخبة عن آرائها ومواقفها
الشخصية والسياسية ،وأملها في الحرية واالستقالل والتحديث .وهي مجموعة تتوحد على
مستوى القناعات اإليديولوجية ،واإليمان بالمبادئ االشتراكية ،إلى درجة شكلت تهديدا خفيا
للقوى االستعمارية الفرنسية ،التي سارعت إلى إرسال عمر بنمنصور إليها ليقوم بمهمة
استخباراتية ،وينقل إلى الجهات المعنية كل كبيرة وصغيرة عنها.
في هذا الفضاء يعبِّر الشعر والزجل بشكل قوي على خصوصية المرحلة ومخاضاتها
العسيرة .نخبة تستأنس ببعضها وتتأثر لغياب فرد من أفرادها؛ عبد الصمد الكنفاوي محتضن
مسرح الشعب ،والشاعر المنتصر للكادحين موال مليانة ،والعالم وعنيبة والشاعرة مليكة
وعاللو الح ّجام ومصطفى بوعزيز ،إضافة إلى الشخصية المتعالية على الزمان "الموتشو"
حامل النبوءة وسر األسرار .أجواء يحضر فيها الفن الراقي سواء ما يصدح به فنان الملهى
حسن السقاط ،وهو ير ّدد أغاني محمد عبد الوهاب أو الحسين السالوي أو خربوشة أو ناس
62القوة الفاعلة كل ذات لها حضور في القصة سواء كانت إنسانا أو حيوانا أو شيئا ،وتسمى بهذا االسم عندما تضطلع بدور أساس في مسار
القصة .انظر،
Greimas, Les actants, les acteurs et les figures, in Du Sens II Essais de Sémiotique, Seuil, 1983, p 49.
46
الغيوان ،الذين تم استحضارهم عبر القفز في الزمن ،من خالل اعتماد السرد االستشرافي؛
القائم على التنبؤ واستشراف المستقبل.
حينما عاد بنمنصور إلى الدار البيضاء ،كلفه "كازالطا" الضابط في االستعالمات بتتبع
ومراقبة كل ما يدور في "سينترا" ،والطريف ما حكاه له عن هذا الفضاء؛ إذ أخبره أنه
"مقصف يرتاده األهالي أصبح بؤرة للتمرد ،قطبها شاب لم تستطع اإلدارة أن تحيط
بشخصيته ،سوى ما تعلم عنه من أنه من منطقة الشمال ،ويزعم أشياء غريبة منها ّ
أن فرنسا
سترحل عن المغربّ ،
وأن الوطنيين سيقودون البالد ..ومنها أن الباشا الكالوي سيأفل نجمه،
بل إنه تحدث عن أشياء عميقة ستعتمل بداخل العالم العربي ،ومنها ّ
أن الجزائر ستنفصل عن
فرنسا جرّاء حرب دامية ،وسيُقطع دابر ال َملكية في مصر وتدخل أرض ال ِكنانة غمار تجربة
فريدة ..والطريف أنه يتحدث عنها في صيغة الماضي".63
حاول بنمنصور تهدئة الضابط ،معربا أنه ليس "من الضروري إعطاء هذه الهلوسات حجما
أكبر م ّما تستحقه" ،64فمثل هؤالء األشخاص ال يشكلون خطرا على فرنسا ،وطمأنه قائال " :
ال
تنس ّ
أن كثيرا من الزوايا والمتصوفة والمجاذيب كانوا دعما إلدارة الحماية وما يزالون".65
اطمأن كازالطا نسبيا من حيرته ،وأعرب لبنمنصور أنه مصدر ثقة بالنسبة إليه ،وأنه ال يمكن
أن يعتمد إال على أصدقائه ،وهو واحد منهم .وقد فسر لجوءه إليه بحكم ارتباطه باإلدارة
الفرنسية كواحد من خيرة مساعديها ،وبحكم معرفته بتاريخ المنطقة وعوائدها.66
على الرغم من تظاهر عمر بنمنصور بعدم القلق من "سينترا" ومن بعض روادها ،إال أنه
كان في قرارة نفسه قلقا تجاههاّ ،
ألن المه ّمة "المخابراتية" التي أوكلت إليه مهمة عويصة
تجشم عناءها بعد ذلك ،وبعثرت تناسق حياته؛ "وهو ما عبّرت عنه زوجته بالسحر أو ّ
أن
المكان مسكون .ليتأ ّود 67األهالي على أنغام محمد عبد الوهاب إن شاؤوا ،وليستمعوا لهلوسات
63حسن أوريد ،سينترا ،نشر :توسنا ،طبع :مطبعة المعارف الجديدة ،الرباط ،2015 ،ص.24 ،23 :
64نفسه ،ص.24 :
65نفسه ،ص.25 :
66نفسه.
إعوجّ .و َتأوّ دَ الشيءُ :تعوّ جَ .انظر ،ابن منظور ،لسان العرب ،مادة ِ
(أودَ). وأودَ الشيءُ ،ي ََأو ُد ْأو ًدا ،أي َ
التأوّ د :التثنيِ ،
67
47
مح ّدثيهم بالغيب والحالمين بالمهدي المنتظر الذي سيمأل الدنيا عدال بعد أن ملئت جوْ را،
وليرقصوا على أغانيهم الشعبية ،وليتسلّوا بطرائفهم التي ال تسمن وال تغني من جوع ،فخيار
بنمنصور ال يتقاطع وسينترا أو عالمها .خيار بنمنصور ليس مع الهامشيين وال مع الحالمين.
خياره هو ذاك الذي ينغمر في خضم التجربة اإلنسانية ،في عمل التحديث هذا الذي تقوده
فرنسا ببالد المغرب ،رغم عثراته واختالالته وعيوبه".68
سينترا عبارة عن مجتمع صغير يؤمه نخبة من المثقفين ،وال يرتاده األوربيون .فهي -في
حقيقتها -وكما وردت على لسان شخصياتها ليست مكانا بل ظاهرة ،تجسد رمزا للوعي
السياسي أو للوعي المستعاد ،69أي كلمة السر التي توقظ بنمنصور من غيبوبته ،وتفتح عينيه
على عوالم متداخلة .بينما يجسد بطل هذا الفضاء "الموتشو" رمزا مرادفا للوعي التاريخي.
-ال أدري .ال يمكن إال أن أخمن :نحن هنا سنعتمده كمرادف للوعي التاريخي.
-وسينترا؟
إن المهم في هذا الفضاء هو أنه جسّد نقطة عبور وانتقال من الوعي المسطح الذي انطلق منه
عمر بنمنصور نحو وعي تاريخي مؤمن بقضية التحرير والتحديث ،ساهم فيه لقاؤه مع
المهدي بن بركة وعبد الخالق الطريس وأقطاب من الحركة الوطنية وزعماء المغرب الذين
التقاهم بالقاهرة ،كعبد الكريم الخطابي وعالل الفاسي.
ينشد أحد رواد المقصف زجال احتفاء بفضاء سينترا ،ومفصحا عن الشخصيات التي ترتاده:
"سينترا كتجْ معْنا /سينترا ماشي عرصة /سينترا ماشي ُخرصة /سينترا ماشي حانة .... /
48
سينترا هي حالة" .71فضاء محصن ضد أصحاب السلط والخونة والجواسيس والمتآمرين
والمستعمرين ،وذلك ما تفصح عنه القصيدة الزجلية التي أنشدها عنيبة مقارنا بين المتواجدين
في الحانة ،باعتبارهم رموز الشرف والمروءة والنخوة والوطنية ،وغير المتواجدين ،أي
الذين ال يرتادونها ،بوصفهم ممثلين للخونة أو "أوالد الحرام":
(بّا حسن ف سينترا /والحسين حتى هو /مليكة ف سينترا /الكنفاوي ف سينترا /الملياني
ف سينترا /العالّم ف سينترا /عنيبة ف سينترا /الح ّجام ف سينترا /كاع لجواد في
سينترا .../الكالوي ما ف سينترا /المتوكي ما ف سينترا /البغدادي ما ف سينترا /
بونيفاس ما ف سينترا /الخونة ما ف سينترا /أوالد الحرام ما ف سينترا /البيّاعة ما ف
سينترا .../سينترا قالت :أوهو /للحمارة قالت :أوهو /للد ّجال قال :أوهو /للقائد قالت:
أوهو /للمخازني قالت :أوهو ... /لسيد الحاكم قالت :أوهو /لبيرو عراب قالت :أوهو /
والكراشطة االستعمارية /أوهو ،أوهو (جماعة) /أوهو ،أوهو /للنخوة ،سينترا قالت:
واخا /للمر ّوة ،واخا سيدي /للثباتة واخا الال /لل ّرجلة واخا خويا /للفهامة إيه إيه /للمعقول
ْن َعم أسيدي (جماعة(ْ /ن َعم أسيدي. 72).
إن سينترا فضاء ال تنام إدارة الحماية عن بث عيونها فيه ،ومتابعة كل صغيرة وكبيرة تقع
بداخله ،وتتبع كل كلمة يتفوه بها رواده ،وباألخص الموتشو وأصدقاؤه ،ومنهم عبد الصمد
الكنفاوي الذي اختفى منذ ليلة الغيوان ،ولم يعد إلى سينترا ،فبحث عنه أصدقاؤه فلم يعثروا له
عن أثر .لقد تغيرت حينئذ أشياء ومظاهر كثيرة؛ فغياب الكنفاوي ،ترك مكانا شاغرا ال يمأله
أحد سواه في هذا الفضاء ،كما ترك مكانا شاغرا في وجدانهم ،ولم يجرؤ أحد أن يجهر بسبب
رحيله ،واختلفوا في تفسير هذا الغياب ،وهناك من جنح إلى تأويله تأويال خارقا ومدهشا؛ إذ
تح ّول في نظر بعضهم إلى "مالك" ،أو رجل يطير في السماء ،وعند آخرين إلى شخصية
"مقدسة" تغيب بجسدها عن سينترا ،لكنها تسكن وجدان هذا الفضاء على الدوام:
49
" منذ ليلة ناس الغيوان ،تغيرت أشياء كثيرة في كابريه سينترا .لم يعد الكنفاوي بعدها .خلّف
غيابه حزنا عميقا لدى مرتادي المكان ،ولم يجرؤ أحد أن يسـأل عن علة رحيله ،وال وجهته،
واقترح العالّم أن يبث إجراءات البحث عنه ،وزعمت مليكة أنه خرج من باب موارب مع
فرقة ناس الغيوان ،وأنها شاهدته في عناق مع عناصرها ،وأنهم ذهبوا وجهة واحدة ،وأنهم
كانوا يرتادون البياض ،وأضافت أنهم بعدها حلّقوا في السماء ،وقد حاولت أن تستمسك
بتالبيبهم ،وص ّدها الكنفاوي بالقول وهو يطير في السماء" ،الب ّد أن تُكملي رسالتك لكي تلتحقي
بنا" .أ ّما موال مليانة فقد ص ّد العالّم عن السعي في البحث عنه بالقول ّ
إن الكنفاوي ْ
إن غاب
بحسده فهو يسكن وجدان سينترا .أدرك بنمنصور ّ
أن المكان ساحة وعي وليس قصف
ولهو".73
كما تح ّول موقف جميع مرتادي سينترا إزاء شخصية الموتشو ،فلم يعد في نظرهم أخرق
يتفكهون بكالمه ،أو يتسلون بحكاياته ،بل مناضال وزعيما حقيقيا ،وشخصية "خارقة للعادة"؛
ألنها تتوقع وتحدس ما سيقع من أحداث سياسية ،قبل وقوعها بم ّدة طويلة.
سينترا إذن "حالة وليس مجرد حانة" ،حالة تجري فيها مداعبة الزمن وتحريكه بين الماضي
والحاضر ،كما أنها ساحة وعي أيضا .هكذا تصبح سينترا فضاء يبعثر تناسق الحياة العادية،
وتتداخل فيه األزمنة ،كما تتداخل فيه الشخصيات ،وتشحن فيه العالمات اللغوية بدالالت
جديدة.
تدعو الرواية المتلقي إلى التفكير ،سواء من خالل استهاللها أو من خالل شخصياتها
وفضاءاتها وبنائها وتعدد أصواتها ولغاتها ،وإلى طرح األسئلة وعدم االستكانة إلى اليقينيات
وإلى األجوبة الجاهزة والمتداولة ،ومن هنا يظهر لنا عمقها وغناها.
50
راهنت رواية" سينترا" على الحلم واستعادة األمل ،وهي تمثل رمزا للوعي السياسي
المستعاد .شخصياتها مزيج من أسماء معروفة ،حافظت على االسم والنسب ،وأخرى ُح ّور
فيها االسم الشخصي وحافظت على النسب فقط ،وثالثة من عالم التخييل الروائي.
تتزيا الرواية بعباءة التاريخ ،وتستنطق الماضي ،وتكتب ع ّما هو آت ،وتستشرف المستقبل،
وتبحث عن أجوبة لبلد يترنح بين قديم لم يمت وجديد لم يولد ،عن مغرب ينزع نحو التقليد
حينا ،والتحديث حينا آخر.
تسائل الرواية المنجز الكولونيالي ،وتغوص في ثنايا الثقافة المغربية ،وتستقرئ تنوع
مكوناتها وروافدها ،وترصد مأساة الفلسطينيين ،وتفضح الغرب الذي ظل صامتا ومتفرجا ال
يحرك ساكنا أمام مجازر إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني .كما تفضح سياسة فرنسا
االستعمارية للمغرب ،من خالل استنزاف الثروات ،وممارسة الميز العنصري ،ومتابعة
وتصفية رواد الحركة الوطنية" ...لماذا لم تستطع فرنسا ،وقد شقت الطّرقات ،وم ّدت السّكك
الحديدية ،وبنت مدنا عصرية ،أن ترتقي باإلنسان المغربي؟ إنسان محصور في مدينته
القديمة ،وتعليمه العتيق ،والدرجة الرابعة في القطار ،وثقافته القروسطوية من شعوذة وطرقية
واتكالية ال ترى فرنسا االستعمارية ضيرًا أن تتعامل معها ،بَ ْلهَ أن تبقي عليها وتُرسّخها؟ أين
يكمن الخلل؟ هل ّ
أن فرنسا لم تبذل جهدا معرفيا يوازي الجهد المادي الذي بذلته؟ هل بذلته و
ُووجه بالرفض؟ أم أنها غير قادرة على ذلكّ ،
ألن التغيير ينبغي أن يأتي من أبناء البلد؟".74
كان عمر بنمنصور إلى عهد قريب يؤمن بإمكانية التحديث في ركاب فرنسا ،ولكن واقع
الحال أبدى له شيئا آخر" :نظام أبارتايد ،استغالل ممنهج للثروات ،احتقار لألهالي ،وإبقاؤهم
قي وضع التابع ،النظر إليهم بازدراء .75"...ظل بنمنصور يؤمن بإإلنجازات المادية لفرنسا
بالمغرب ،في مقابل غياب إنجازاتها التربوية والثقافية .عالوة على أنها فضلت المقاربة
51
العسكرية واألمنية ،واعتمدت على الخونة وسائط للدفاع عنها .وكل نظام ال يستند إلى
العناصر الجيدة ،ويعتمد بدل ذلك على "الخونة" و"الحثالة" مهدد ال شك في ذلك:
"العمل الما ّدي الذي قامت به فرنسا عمل جبّار ،ولكن العمل التربوي يكاد أن يكون صفرًا إال
من فلتات أنشأت نفسها بنفسها ،من خالل االحتكاك باآلخر ،ومن خالل سعيها رفع التحدي.
فضلت فرنسا المقاربة األمنية من خالل الميل إلى مع ّمريها ورأسمالييها ،واتخذت من حثالة
"األهالي" وسائط لها ،ومعبّرين عنها ومدافعين عليها وعلى مصالحها .كل منظومة تعدم
الشرعية ال يمكن إال تستنجد بسقط المتاع أو الحثالة .ال يمكن أن تعتمد على العناصر الجيدة
وال يمكنها أن تفرزها ..كل منظومة ال تستند على العناصر الجيدة ،مهددة ْ
إن آجال أم
عاجال".76
لقد صاغت سينترا محكيها ارتكازا على نقد السياسة والممارسة االستعمارية تجاه المغاربة،
ضباط الجهات العسكرية أو المراقبين المدنيين للجهات
فقد " كانت إدارة الحماية من خالل ُ
المدنية ترصد الحركات العميقة في جسم المجتمع المغربي التي من شأنها أن تهدد المنظومة
77
إضافة إلى ما ارتكبته من فظاعات تجاه الحركة الوطنية ،من متابعات االستعمارية".
ومالحقات ومحاكمات ،وما اقترفته من مجازر في حق المطالبين بالحرية أو بالكرامة ،كما
حدث في مجزرة بنمسيك التي تحدث عنها مصطفى بوعزيز لرفاقه في الحانة ،أو على
مستوى توجه سياستها العامة نحو إبقاء الشعب غارقا في جهله وتخلفه.
حاول أوريد في روايته "سينترا" أن ينقل هواجسه حول المغرب السياسي إبّان مرحلة
االستقالل وبعدها ،من خالل االتكاء على حوارات متوترة بين شخصيات مختلفة .وقد نجح
في إبراز قضية غاية في األهمية ،وهي أن كل ما ظهر من مشاكل وقالقل بعد اتفاقية "إيكس
ليبان" ،تعود باألساس إلى عدم القدرة في حسم الخيارات السياسية الكبرى للبلد ،إال أن
52
السياسي الثاوي في أوريد ،والراغب في مغرب مختلف عن الذي عاشه في السلطة ،انتصر
في األخير.
رواية تفتح تأويال جديدا للتاريخ ،وتعمل على مساءلته ،وتخوض في قضايا سياسية عالقة ته ّم
المغرب ،وتراهن على أن يكون هذا البلد أفضل م ّما هو عليه اآلن ،كما تنتقد التحديث الذي ت ّم
من دون دليل عمل ،فكانت المحصلة -على لسان الكاتب -أن ورثنا تحديثا فوضويا.
تعد الرواية بمثابة استقراء لتاريخ "الذهنيات" المغربية وتنقيب في الذاكرة ،ومساءلة لقضايا
شائكة تتداخل فيها العاطفة بالعقل والوعي التاريخي ،نقرأ من الغالف الخلفي للرواية:
“سينترا مكان ال يتغير ،وشخوص تسكن أدوارا ،أو أدوار تسكن شخوصا ،لتطرح قضايا
ملحة ،حول العدالة والذات واآلخر والتحرر والتمرد ،حملها الجيل الذي قارع االستعمار،
وانسلت في غفلة من الزمن ،بعد جيلين ،في لبوس اإلبداع ،والهزل ،والفكر ،عادت مع ما
اكتنفها من مناطق ظل مستترة أو متواطأ بشأنها".
رواية تستنطق رموزا ،وتقتحم سراديب السياسة ،وتخوض في مكونات الهوية المغربية،
حينما تعود بالذاكرة الشعبية إلى رائدة فن العيطة الشيخة "خربوشة" في مواجهتها الستبداد
القواد ،تتغنى بمأثورات "ناس الغيوان" ،وتتابع بشعف روائع الحسين السالوي ،وعيساوة
وحمادشة.
رواية عميقة تقف عند أهم مطبات المجتمع المغربي ،مطب العيش الكريم ضمن نفس الفضاء
بأزمنة مختلفة ،كما تقف عند إشكالية التذبذب الزمني التاريخي ،بين من يعيش بذهنية ما قبل
،1912وبين من يعيش زمن الحماية ،وثالث يعيش قبل .1999
وتخوض الرواية أيضا في بعض األحداث التاريخية والسياسية كإبراز دور عبد الخالق
الطريس وأهميته في زيارة السلطان محمد الخامس لطنجة ،والكلمة التي ألقاها مؤكدا أن ال
يمكن فصل شمال المغرب عن جنوبه ،ث ّم تقديمه لهدية رمزية للسلطان من تربة ضريح
القطب موالي عبد السالم بن مشيش .كما تعرض الرواية إلى خطاب السلطان محمد الخامس،
53
وخطاب األمير موالي الحسن ،الذي ر ّكز فيه على الدور التاريخي للمغرب ولألمة المغربية،
وكان حرّره باحنيني ،78وخطاب األميرة لال عائشة التي دعت إلى تحرير المرأة ،ودعت
المجتمع لالنفتاح على الحضارة العصرية ،وتعلم اللغات األجنبية ،وكان حرّره المهدي بن
بركة.79
تتداخل في الرواية الشخصيات واألزمنة بحثا عن هوية مخصوصة ،وعبر أحد أبطالها
"الموتشو" ،يبدو رواد "سينترا" مثل أهل الكهف ،يحتاجون لمن يوقظهم من سباتهم،
ويخرجهم من غفلتهم ،فيتحول هذا البطل الحاضر /الغائب في الرواية إلى ما يشبه صحوة
الضمير وصوته الذي يشحذ الهمم ،ويبعث األمل ،ولو باالستعانة بناس الغيوان إذا لزم األمر.
تصور الرواية باإلضافة إلى أبعادها السياسية الواضحة تداخل الحياة االجتماعية المغربية بين
المسلمين واليهودّ ،
ألن تلك المرحلة عرفت زواج بعض المغاربة المسلمين بيهوديات
مغربيات ،حافظ أغلبهن على عقيدتهن ،ومنهن من اعتنقت اإلسالم .ولم يتأثر التعايش بين
المغاربة المسلمين واليهود إال بسبب خارجي هو الصراع العربي اإلسرائيلي ،الذي أدى إلى
رحيل اليهود المغاربة إلى إسرائيل العتبارات سياسية وإيديولوجية .من هنا ،تدعو الرواية
إلى ّ
أن البعد اليهودي ال يجب أن يكون قصرا على معتنقي الديانة اليهودية المغاربة ،ألنه إرث
لكل المغاربة.
تتمحور “سينترا” حول فكرة األندلس ،وحلم استرجاع الفردوس المفقود ،من خالل الشخصية
أوحيّون" ،وكان
المحورية "عمر بنمنصور" الذي كان متزوجا من يهودية مغربية "سوليكا َ
يشتغل مع اإلدارة االستعمارية ،ويعتقد بأنه يستطيع من خالل مرجعيته أن يتجاوز االختالفات
الثقافية والدينية القائمة بينهما ،لكن الظرفية العالمية وقتئذ كسرت هذه التوافقات ،حيث رحلت
"سوليكا" نحو إسرائيل.
54
يرتبط زواج عمر بنمنصور بسوليكا بموضوع زواج العرب المسلمين باليهوديات أو
المسيحيات ،الذي حظي بالحضور على مستوى التناول الروائي العربي والمغربي؛ زواج لم
تستسغه األسرتان إال بعد مدة ،ولكنه ظل مسنودا بعالقة الحب العميق بين االزوجين ،صارع
من أجل تجاوز عنصرية الفرنسيين ،ومن أجل أن تحبل سوليكا ،غير أنه أخفق في األخير،
حيث سترحل سرا هي وجماعتها إلى إسرائيل في غفلة عنه ،تاركة له رسالة تس ّوغ فيها
أسباب ذلك.
تراهن الرواية على الذاكرة ذاكرة جيل ،يحمل هموما وقيما وأماال وأحالما .ذاكرة أمكنة،
كسينترا واألندلس ،وفاس ،وفضاءات عمومية أخرى ،تعايشت على أرضها الثقافات
والديانات .غير ّ
أن أه ّم األمكنة التي شغف به عمر بنمنصور ،وارتبط إزاءها بحنين جارف
على الدوام ،هي األمكنة التي درس فيها كفاس والجزائر ،والتي استقر فيها أجداده كاألندلس
والجزائر والمغرب ،فهو عندما حصل" :على شهادة البكالوريا ،ورحل إلى الجزائر ليستكمل
تكوينه في اآلداب ،وهناك عانق بعث أندلس جديدة ،في ركاب مفكرين على شاكلة جاك بيرك.
ارتبط دوما بحنين إلى حيث استقر أجداده ،وحيث درس".80
على هذا األساس ،فالحلم ببعث النموذج األندلسي ،واستنبات الفردوس المفقود مجددا على
أرض المغرب ،حلم شكل بؤرة الرواية ،وأمل كل من عمر بنمنصور Kوحسن أوريد من
خالله ،باعتبار ّ
أن البطل يتماهى في أحيان كثيرة مع الكاتب ،لكن اختالالت الواقع وإكراهاته،
خيبت آمال وأحالم كليهماّ ،
ألن التحديث الذي ت َّم اتسم بالفوضوية.
ّ
إن التحديث الذي تراهن عليه الرواية ،ال ينكر اإلنجازات التي تحققت ،لكنها تقترح تحديثا
ينبثق من التفاعل مع اآلخر ،ومن التغيير الجذري للبنيات االجتماعية والسياسية واالقتصادية
والثقافية القائمة ،وإحالل بنيات جديدة محلّها ،ومحاربة الفساد ،..وهي الدالالت المجازية
واإليحاءات الرمزية والمقاصد التي تتوخى الرواية تبليغها إلى القارئ ،وذلك عبر وسيط
يحمل رسالة مجازية رامزة هو الراوي " :هل يمكن أن نُقبل على الزهور من دون أشواكها؟
80حسن أوريد ،سينترا ،ص.242 :
55
هل ينبغي للذهن أال يرى سوى األشواك ويُعرض على األريج المنبعث منها؟ وهل يُقبل على
الزهور واألريج المنبعث منها ويذهل عن شوكها؟ كان بنمنصور يؤمن أن التربة العربية لم
تعد تنبت إال السدر والطلح والنباتات الطفيلية ،وأنه ينبغي التماس الزهور حيث تنبت ،وبعدها
تُطهّر األرض من أشواكها وطلحها وأعشابها الطفيلية ،عسى أن تنبت يوما زهورا".81
بعيدا عن الجدل النظري الذي صاغته نظرية الرواية حول من يحكي الرواية وراكمت فيه
اجتهادات ودراسات عديدة ،فإن ما يلفت انتباهنا هو أن حسن أوريد يق ّدم تجربة ينسج خيوطها
وحبكتها بإحكام ،وبصنعة روائية غاية في المهارة والدقة؛ تبدأ من االستهالل الذي يتكفل فيه
"المفكر" بسرد حالة سينترا نيابة عن رفاقه الذين تخلوا عنه .ث ّم تنتقل لتوزع الحكي على
أصوات مختلفة ،يستأثر السارد الخالق الفعلي لهذا العالم الروائي بنصيب وافر من الحكي ،ث ّم
يليه في المرتبة السارد /البطل عمر بنمنصور ،وبعد مرضه ،سيتناوب كل من طارق أوريد،
الذي هو رمز لحسن أوريد ،و"بشرى" حفيدة بنمنصور على الحكي ،والتدقيق في كثير من
التفاصيل واألحداث ،لملء فجوات سرد بنمنصور ،وترميم ذاكرته التي اعتراها النسيان،
فتداخلت عنده األزمنة واألحداث والشخصيات.
ال يكتف الحكي بأصوات هذه الشخصيات فقط ،بل يتقاطع أيضا مع صوت أحد أبطال الرواية
"مصطفى بوعزيز" ،الذي تكفل بحكي بعض تفاصيل الرواية ،كما ورد على لسان بعض
إن المظهر التركيبي للمحكي في "سينترا" مو ّزع بين
الشخصيات كخربوشة ،والموتشوّ .
أصوات سردية تتقاسم األدوار بين السارد العليم بكل شيء ،وبين حسن أوريد وبشرى حفيدة
بنمنصور التي تتكفل بسرد جزء مهم من حياته ،وعمر بنمنصور ذاته وهو يلملم شتات حكيه
مستعيدا وعيه ،ومحاوال ملء فجوات ذاكرته التي اعتراها النسيان.
56
وقد ساهم تعدد الرواة ،وتداخل األصوات ،في التخلص من وثوقية الحكي وتكسير خطيته
ورتابته ،بل إن حسن أوريد يقوم بتصحيح مسارات الحكي ،وتصحيح نسبة إسناد األفعال إلى
الشخصيات ،والتدقيق في تواريخ األحداث ،من خالل ربطها بزمن محدد تقلدت فيه بعض
الشخصيات السياسية لمهمة أو منصب معيّن؛ وهو بذلك يعيد ترميم آثار انثلمت ،وتصحيح
انحرافات سياسية وقعت ،وتأريخ لمرحلة تاريخية -حاسمة في تاريخ المغرب الحديث-
انصرمت .وقد حاكى في عمله هذا عمل األركيولوجي في بحثه وتنقيبه ،فجمع مادة عمله في
قالب محبوك يتسم باالتساق والعمق.
إن الميزة األساس في "سينترا" أنها رواية بوليفونية ،رواية تقوم على تع ّدد األصوات واللغات
ووجهات النظر ،رواية حوارية متح ّررة من سلطة الراوي الواحد ،ومن المنظور الواحد،
وديمقراطية في توزيع الحكي ،وثرية بتعدد لغاتها فيما يس ّميه باختين باألسلبة والتهجين؛ إذ
حضرت لغات ولهجات وشخصيات من مختلف مناطق المغرب :شماله ،ووسطه ،وجنوبه،
برجاله ونسائه ومثقفيه ومختلف طبقاته االجتماعية ،بحيث أضفت على الرواية طابعا حواريا
استنادا إلى أصوات مختلفة ،وتشكيالت لغوية متنوعة :عربية وفرنسية وأمازيغية وإسبانية
وعامية ،مع ما تحمله بعض الكلمات من اختالف في الداللة والمعنى بين منطقة وأخرى.82
ولع ّل هذا االختالف يدعو القارئ ويستحثه على االستعانة بالقواميس المتخصصة ،أو بالتحليل
اللساني -السيميائي لفك رموزها ودالالتها وفهمها.
لم تكتف الرواية بتعدد اللغات واألسلبة ،بل احتفت بالشعر القديم والحديث ،وأحاطت
بالموروث الثقافي للمغرب كالزجل والعيطة والغناء ،...ومزجت بين الروائي والتوثيقي.
ولع ّل حضور هذه الفنون واندغامها في النسيج العام للرواية ،يع ّد مظهرا من المظاهر
التناصية الذي أسهم في ثرائها.
82للتــدليل على اختالف دالالت بعض الكلمــات باللســان الــدارج من منطقــة إلى أخــرى داخــل المغــرب ،نشــير إلى كلمــة "السبايســية" المتداخلــة
والمتماهية مع كلمة "اإلصباحية" – انظر :سينترا ،ص -166 :التي تعني الجنود الخيّالة المعروفين بلباســهم المتمــيز،ـ الــذي اشــتق منــه اســم ثــوب
جلباب فاخر يدعى "جالبة السبايسية" ،والكلمة نفسها تحيل في منطقة المغرب الشرقي إلى حركة من حركــات "رقصــة العالوي" ،وإذا أضــفنا لهــا
كلمة أخرى وردت في الرواية ،وهي "الخماسية" ،التي تدل على حركة أخرى ضمن الرقصة نفسها ،التي عادة ما تت ّم بحمل البنادق.
57
احتفت "سينترا" بخربوشة وناس الغيوان والحسين السالوي ،وعيساوة وحمادشة ،وفي
فضائها التقى الفقيه المعمري ولويس ماسينيون ومحمد الفاسي والحاج أحمد باحنيني وعمر
بن جلون ومحمد الخامس واألمير الحسن والمعطي مول النوالة وموال مليانة والمهدي بن
بركة وغيرهم ...كما حضرت شخصيات أخرى كحسن السقاط وعبد الصمد الكنفاوي
والمصطفى Kبوعزيز وشمعون ليفي وعمر بمنصور وطارق أوريد والمعطي وعنيبة
والعالّم… K،وبين هذه الشخصيات كانت "سوليكا أوحيّون" مكثفة لواقع االختالف العص ّي على
الفهم واالستيعاب ،خاصة حين يتقاطع ثقل التاريخ مع متغيرات الزمن ،فيما كانت شخصية
"الموتشو" حاملة ألكثر من داللة؛ فهو المحدًث بالغيب ،وصاحب الوقت و"مول الساعة"،
وهو رمز مرادف للوعي التاريخي.
كما تداخلت خصائص بعد الشخصيات وتقاطعت؛ عندما تداخلت شخصية عمر بنمنصور مع
شخصية حسن أوريد عند مليكة الشاعرة "المختلة" (خربوشة) ،لحظة استرسالها في نظم
الكالم " وهي تُح ّدق في بمنصور:
" خربوشة كنيتي /وبويا س ّماني /عيشة بنت حامي /قبر النبي زرتو /بيت هللا طفتو /وبه
غسلت ذنوبي /الولي سيدي بليوط يحن علي /ورجال البالد ما يفرطو ف ّي /ولد أوريد
بغيتو/
وهو ما بغاني /رب يغفر لو /ويكون معاه /أنا إال راك فاهم /في اآلخرة ،تنادي /وأنت في
ال ّدنيا ق ّدامي..
لم ترفع خربوشة عينيها عن بنمنصور .كانت كما لو هي تح ّدثه .كما لو هو هذا الشخص الذي
نطقت اسمه ويُكنى بأوريد؟ من يكون أوريد هذا الذي تتحدث عنه خربوشة؟ لم يسبق له أن
ح ّل بسينترا ،وال هو اسم متداول ،وتركيبه بربري ،وال عالقة لبنمنصور وهذا االسم وما
يُحيل إليه".83
عندما توقفت خربوشة عن النظم ،استدار بنمنصور فوجد األنظار منصبّة عليه ،وكأنه أحبها،
فخربوشة أفصحت عن جانب من حياتها ،وتطلب منه الصفح أمام المأل" :هو بنمنصور وليس
83حسن أوريد ،سينترا ،ص.151 ،150 :
58
ما زعمت خربوشة ،فلماذا تنادي عليه باسم غير اسمه ،ولم تتركز األنظار عليه؟ تُرى أيكون
عرفها حقا؟ ومتى يكون ذلك؟ أيكون ْ
أن كان له اسم آخر ،في زمان ما ،أو سيكون له اسم آخر
في زمان ما؟ األسماء متغيرات ،مثل األزمنة ،مثل األشخاص ،مثل األمكنة ،والحقيقة ثابتة،
تنتقل من زمان لزمان ،ومن شخص لشخص ،ومن مكان آلخر".84
تضاربت اآلراء واألحكام حول شخصية خربوشة ،وحول تحديد حقيقة شخصيتها؛ فهي
تناضل بالكلمة ،وال تكتف بنظم الكالم والزجل فحسب ،بل تبدع القصائد ،وتتحف رواد
سينترا بها ،موحية بمجموعة من المقاصد ،التي تضمر دعوة إلى مزيد من النضال ،لتحقيق
الحلم ،الذي هو الحرية واالستقالل ،وكل ما يغير حياة الشعب إلى ما هو أفضل أو أحسن.
قالت في مقطع من شعرها:
" سُلبت أشياؤنا أسما َءنا
وقد يستغرق استردا ُدها
ك ّل تفاصيل الحلم
وقد نموت دون الحلم،
ولكن حسبُنا أنّا...
85
نحاول ،عبر هذا الغياب"
تتعدد أصوات شخصية "مليكة" ،وتختلف حولها اآلراء؛ فهناك من تمنى أن تكون صوت
المحرومين ،وهناك من اعتبرها جوهرة ،تخفي ما في باطنها من عمق ،وهناك من اعتبرها
ضرورة ملحة ال تستقيم "مسرحية" المجتمع من دونها:
" تمنى عنيبة لو ّ
أن مليكة ح ّولت شعرها قبالت ومداعبات ورفث لفائدة كل المحرومين،
وعقّب موال مليانة ّ
أن المرأة كحجر الماس ،لها جوانب متعددة من شخصيتهاّ ،
وأن الظاهر
منها يخفي الباطن الذي يتسم بالعمق .واعتبر الكنفاوي الشاعرة ممثلة لدور ال تستقيم مسرحية
59
المجتمع من دونه" .86ولع ّل اختالف اآلراء حول شخصية مليكة وتضاربها ،يجسد بوضوح
تعدد األصوات في الرواية ،وحواريتها ،وهو ما يسهم في إغناء دراميتها.
ومن مظاهر تداخل أصوات الرواة والشخصيات ،وتداخل األزمنة؛ ما وقع لبطل الرواية عمر
بنمنصور -عندما مرض -من خلط والتباس وتداخل في األزمنة ،وفي األحداث والوقائع ،وفي
الرواية ونسبة األقوال إلى أصحابها .إضافة إلى تداخل شخصية البطل نفسها مع شخصية
باحنيني ،وهذا ما استنجته الدكتورة فيفاني المشرفة على عالجه ،وطارق أوريد مساعدها
الذي استنجدت به بهدف دفع المريض إلى البوْ ح ،واعتماد شهادته كحقيقة تاريخية:
" كان المريض في حاالت معينة يبدي صفاء ذهن خارق ،وفي حاالت أخرى كان مضطربا.
كان لديه تداخل في األزمنة ،إذ يخلط بين فترة 1947 -1946والحاضر ،مثلما ّ
أن هناك أشياء
غير دقيقة أثبتها الدكتور أوريد ،ولذلك حذر الطبيبة فيفاني أن تعتبر سرد المريض وثيقة
تاريخية ..هناك شخصيات تاريخية حقيقية ،ولكن ما ورد في حكي المريض ال ينطبق تماما
على مجريات األحداث ،أو يكون حدث فعال ،ولكن ليس في الفترة الزمنية التي وردت في
حكي المريض .مثال يشير إلى أنه كان ُمد ّرسا لألمير موالي الحسن في المدرسة المولوية في
فترة ،1947 -1946والثابت تاريخيا ّ
أن األمير في تلك الفترة كان بالكلية يدرس الحقوق ،كما
يشير في حكيه أنه د ّرس األمير مختارات األغاني ألبي الفرج األصفهاني ،والثابت ّ
أن األستاذ
امحمد باحنيني هو من د ّرسها ..أو ما يُنسبه للسلطان محمد بن يوسف من قول في المدرسة،
والثابت ّ
أن السلطان قال ذلك ،ولكن في سياق آخر ولشخص آخر.
-ال يمكن أن نركن لشهادته كحقيقة تاريخية ،قال أوريد للدكتورة فيفاني.
-يمكن أن نعتمدها كحقيقة وجدانية ،ر ّدت فيفاني .ربما تع ّمد التمويه.
-في ال وعيه؟
-أو أنت؟ أنت من استخلص بوْ حه".87
60
غير ّ
أن الطريف في الرواية هي خرق خطية الزمن ،وتقطيع سيرورته ،وذلك بالمراوحة بين
البطل
َ الماضي والحاضر؛ إذ يقفز السارد من األربعينيات إلى بداية األلفية الجديدة ،فيصور
عمر بنمنصور شيخا هرما بعكاز جاء في سيارة لمقابلة المدير العام لالستخبارات ،عقب
االحداث اإلرهابية التي ه ّزت الدار البيضاء:
" كان المدير العام لالستعالمات العامة قد دعا السيد عمر بنمنصور للغذاء للحديث معه في
شأن تداعيات أحداث 16ماي 2003التي هزت الدار البيضاء .كان السيد بنمنصور سلطة
أكاديمية مرموقة ،فضال عن تجربة سياسية طويلة جعلت تحليالته تتميّز بالحصافة والعمق،
م ّما جعله محطّ احترام غالبية األطياف السياسية والفكرية ،رغم بعض األصوات النشاز التي
تزعجها مكانته األكاديمية وسلطته المعنوية".88
ال تكتف الرواية بتداخل األحداث والشخصيات واألزمنة ،بل تمعن في توظيف مزيد من هذا
التداخل بين الرواة والشخصيات ،وقد ت ّم بين الروائي حسن أوريد والشخصية الموظفة في
الرواية ،التي تحمل نسبه وتختلف عنه في االسم الشخصي هي شخصية طارق أوريد ،لكن
المفارقة ّ
أن هذه الشخصية تتسم باألوصاف والسمات نفسها التي تنطبق على حسن أوريد،
وهو ما يسلمنا إلى القول ،إن الشخصيتين متطابقتان على الرغم من التمويه الذي اعتمده
الكاتب:
" ...األدهى Kواألم ّر ،أن الشخص الذي فكرت فيه الدكتورة فيفاني ليست له عالقات جيدة مع
السلطات ،فهي ال ترتاح لمواقفه ،وال هي تطمئن لرؤاه وال تستحبّ كتاباته .ولع ّل ذلك هو ما
دفع الدكتورة فيفاني أن تفكر في قرارة نفسها في الدكتور طارق أوريد .المشكل هو أن
الدكتور أوريد لم يكن طبيبا ،وإنما أستاذا للعلوم السياسية ،ومن العسير أن تتقبل السلطات
حلول أستاذ في العلوم السياسية ،ومثقف مثار جدل ،كما يقال ،بمصلحة بالمستشفى كي يُكبّ
على سرير مريض يشكو فقدان الذاكرة".89
61
تتطابق شخصية الكاتب مع الشخصية الروائية طارق أوريد ،وتتماهى معها ،كما تتماهى مع
شخصية عمر بنمنصور تارة أخرى .ويقع التداخل واضحا بين أصوات الشخصيات ،عندما
تتقمص الدكتورة فيفاني شخصية سوليكا ،وهي تتحدث مع بنمنصور ،الذي كان مريضا
وفاقدا لجزء من ذاكرته ،م ّدعية أنها زوجته .كما يتقمص طارق أوريد شخصية الموتشو ،وهو
يحدث بنمنصور أيضا .وقد نطقت الدكتورة اسم حسن أوريد في سياق حديثها مع بنمنصورK،
مستنكرة أن يكون مح ّدثها هو حسن أوريد ،أي ّ
أن خربوشة كانت توجه خطابها إلى بنمنصور
-سابقا -في سينترا ،وتقصد حسن أوريد .وهو ما يد ّل داللة صريحة ّ
أن طارق أوريد هو
الكاتب نفسه ،وهو البطل بنمنصور أحيانا أخرى .والمقطع الذي يؤشر على ذلك ،هو الحوار
الذي دار بين بنمنصور وبين الدكتورة فيفاني الم ّدعية أنها زوجته سوليكا:
ُ
ذهبت إلى الح ّج. "–
إلى الحجّ؟ -
نعم يا سوليكا. -
ليس األمر عقالنيا. -
ُ
كنت في حاجة إلى عالمات كي أعرف ،وحتى أنت كنت تأتين أمورا غير عقالنية. -
أهتدي.
ولكن هذا ال يشرح إقدامك على الحج. -
خربوشة قالت لي مرّة بأن أطوف بالكعبة. -
ي شيء ،خربوشة كانت تتح ّدث من خاللك إلى شخص آخر.
خربوشة لم تقل لك أ ّ -
أعرف. -
أنت لست حسن أوريد. -
ال أدري.. -
أين هي عقالنيتك؟ -
62
ال أدري ،ساعديني يا سوليكا .لقد اختلط عل ّي ك ّل شيء ،ال أدري من أنا ،وأريد أن أتدارك -
ما فات.
( )....خرج طارق أوريد وفيفاني على رؤوس أصابع رجليهما ..استدارت فيفاني في اتجاه
أوريد وهما ينزعان لفافة الرأس والقدمين ،وهي ترفع إبهامها نحو السماء عالمة على التنويه.
وتتداخل األزمنة بين الحاضر والماضي في الحكي بشكل مثير لالنتباه ،ويمكن التمثيل على
ذلك بتداخل األزمنة في خطاب "الموتشو" الذي وجهه لرواد سينترا؛ إذ تض ّمن أزمنة متباعدة
من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر ،فحضرت سنة ،1946وهي الفترة التي كان المغرب
يرزح فيها تحت نير االحتالل الفرنسي واإلسباني في فترة السلطان محمد الخامس ،وسنة
1974وهي فترة حكم الملك الحسن الثاني ،وسنة 2014وهي فترة حكم ملك المغرب محمد
السادس ،كما قد تؤشر على فترة شروع الروائي في كتابة روايته .ولع ّل تداخل هذه األزمنة
يربك حسابات القارئ العادي ،بينما يستوقف القارئ الفطن ،ويستحثه على التساؤل لفك
الرموز والدالالت ،وملء فجوات النص:
" ...تو ّجه (الموتشو) بالحديث إلى جموع سينترا:
شحال ن هي الساعة عندكم؟ -
باستثناء الكنفاوي الذي اعتزل في طاولة بعيدة عن الجموع ،وقد بدا تلك الليلة مهموما ،أجابت
الجماعة:
الحداش الالرُب (الحادية عشرة إال ربعا). -
آش من نهار حنا؟ -
31دجنبر. -
63
أش من سنة؟ -
1946من عام النصارى. -
والّ ،احنا ،2014دبا ماش تحققوا الماكانة (الساعة) على الليلة د .1974ترجعو ْ 40سنَة -
ن اللور.
ور ّدت الجماهير:
هللا ير ّد بك ألموتشو. -
وبخرولو ..راه تشيّر. -
وعز ّموا عليه ،ديروله الشبّة والحرمل. -
أفِ ْق من القلبة 91ألموتشو. -
هللا يكون لنا ولك ألموتشو."92 -
لم يعر الموتشو اهتماما لما اتّهم به ،وعقب داعيا جموع سينترا إلى الصحوة واليقظة
والتحلي بالوعي ،وكأنه يستحثهم على النضال من أجل التغيير ،والثورة على األوضاع
القائمة ومحاربة المستعمر وإجالئه ،وأخذ العبر من أغاني "ناس الغيوان" ،ومسرح الشعب
لعبد الصمد الكنفاوي؛ فهذا الضرب من الفنون من وظائفه نقد الواقع وفضحه ،بهدف
اإلصالح والتجاوز ،وليس فنا مبتذال "كالطبالة والغيّاطة:"..
" عقب الموتشو:
إال فقتو ا ْنتُ َم ،بحال إال فقت أنا ..غير فيقوا ا ْنتُ َم .إال ما فيّقوكم ش ناس الغيوان ومسرح -
الشعب د الكنفاوي شوفو مع الطبّالة والغيّاطة والنفّارة د العيد واألعراس ،لعل وعسى.
ألعواويل د ...حاشا السامعين .وهللا وما شي ناس الغيوان كنت نقول ذيك الكلمة القبيحة
ب ّزاااف" .93
ّ
إن المالحظة التي تسترعي االنتباه أن الرواية على الرغم من أنها مسكونة بهاجس التاريخ
والسياسة إال أنها تنفتح على الموروث الثقافي المغربي ،وتركز على مجموعة ناس الغيوان
91ينطق القاف جيما مصرية.
92سينترا ،ص.128 ،127 :
93نفسه ،ص.128 :
64
بوصفها مجموعة غنائية شعبية تناضل بالكلمة ،ويجمعها مع الموتشو حس نضالي و"ثوري"
واحد ،وفضاء واحد "سينترا" ،وعالقات إنسانية قائمة على الو ّد والمحبة المتبادلة:
خاي بوجميع ،باكو ،باطمة ،عالل يعلى ..تفضلوا ..ما ت ّدويش عليهم ،نساوكم ولكن -
يتفكروكم دَغية ...أجي خاي بوجميع توحشتك بزاف بزاف ..وانتين باطمة ،كيف ن هي
94
الصحة ديالك ،عبد الرحمن باكو ،أجي ذرعني ،الخوادري ،شفت ،تعلمت كالم كازا"
لع ّل الطريف في هذا الحوار ،والمفارقة الصارخة الكامنة فيه ،تتجلى في تداخل األزمنة بين
الماضي والحاضر؛ فالمرحلة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية هي بين 1946و،1948
وهي فترة زمنية لم تكن قد ظهرت فيه فرقة "ناس الغيوان" بعد ،وإنما ظهرت بعد أكثر من
عقد على استقالل المغرب .فما داللة هذا الحضور ورمزيته؟
ال شك أن الكاتب يعتمد على تقنية السرد االستشرافي ،وكأنه يلمح إلى نضال هذه الفرقة
بالكلمة ،وما تنطوي عليه من دالالت تضمر دعوة إلى النضال ،والتمرد على الواقع البئيس،
وتغيير ما هو قائم إلى ما هو أفضل وأحسن.
تتداخل أزمنة الحكي في الرواية ،بين الماضي والحاضر والمستقبل ،وتدعو إلى الوعي بكل
األزمنة ،بوصف ذلك السبيل إلى بناء المستقبل .كما تنتقد على لسان الموتشو العادات
والتقاليد ،وتسلط األضواء على المفارقة القائمة في اإلنسان المغربي والعربي؛ إذ الظاهر أنه
"حداثي" على مستوى مواكبة تكنولوجيا العصر ،لكن الذهنية قديمة .إضافة إلى انتقاد
االنتهازيين والخونة .والمقطع الذي سنورده خير شاهد على ذلك:
فبعد أن مسح الموتشو خده ،بظاهر يده ،عندما و ّدع أفراد فرقة ناس الغيوان ،معانقا لهم
ومعربا أنه سيشتاق إليهم .تو ّجه بعدها للجموع بنبرة حازمة لم يعهدها مرتادو سينترا بقول
حيّرهم كثيرا:
65
" – شوفو هللا يرضي عليكم ،قا ّدوا المكانات ديالكم ،ما يمكنش نمشيو بعيد ،وكل واحد عايش
في زمان ..شي ق ،1946وشي مع سيف ذي يزن وعنتر بن شداد ،شي يامن بالتوكال
والتشيار والعين وي ّداوا بكسكسو مفتول بيد الميّت ،وما عرفت شنّو ،وشي في العصر
الحجري ،ما مسوقش كاع ،وشي ف عالم النترتيت وبزنس كارت .وشي معنا وما معنا ويدير
بحال إال هو معانا ،وإالّ تزبلت إمشي من حدانا.
"سينترا" هي حياة في رواية أو هي رواية في حياة ،نظرا لعمقها وثرائها ،وتعدد أصواتها
ولغاتها وتداخل الحكي فيها ،وتناصها مع خطابات تنضوي تحت أجناس وأنواع أدبية مختلفة؛
كالرسالة ،والشعر ،والزجل ،والغناء ...وهي مظاهر تناصية تسهم في إثراء الرواية،
وإضفاء طابع حواري ودرامي عليها .كما تظهر قيمتها في مساءلتها للتاريخ ،وتصويرها
لمرحلة تاريخية حافلة بالتضحيات والنضاالت والرجاالت والتطلعات واالنكسارات .فهل
كانت الروايات األخرى السابقة عليها مجرد محطات عبور نحوها؟ أم أنها رواية حياة كاملة
ن ََحتَ بها حسن أوريد اسمه وزمنه؟.
تطرح سينترا على مستوى بنائها العام تلك اإلشكالية النقدية التقليدية عن عالقة الرواية
بالتاريخ ،أي عالقة المتخيل بالواقع ،وأين تبدأ مهمة المؤرخ وأين تنتهي؟ وماهي الحدود
الفاصلة بين الروائي والمؤرخ في التعامل مع الحقائق التاريخية؟ وهل يملك األديب الحرية
الكاملة في التعامل مع التاريخ والتصرف في أحداثه؟
66
والحق أن "زواج" التاريخ واألدب غاية تنتج المتعة واإلبداع والخلق الفني ،أي البحث فيما
س ّماه "جورج لوكاتش" نظرية التفاعل بين الروح التاريخية واألنواع األدبية الكبيرة التي
تصور كلية التاريخ .وقد حضر هذا التفاعل والتداخل في نصوص بعض الروائيين المغاربة
كبنسالم حميش وحسن أوريد وغيرهما.
تغذت الرواية ،من وقائع الماضي وأحداثه ،لكنها ال تزعم أنها تكتب التاريخ؛ فالرواية
والتاريخ وإن كانا حقلين مختلفين ومنفصلين عن بعضهما ،يتقاطعان ويتداخالن على مستوى
الحكي ،كما قد يتقاطعان على مستوى استنباط العبر والحكم والمواعظ.
لقد أبدع الروائي في التعامل مع المصادر والوثائق التاريخية ،وعمل على استلهامها في
الكتابة ،وتصريفها في وعاء أدبي ممتع إبداعيا وجماليا .ولعل رواية" سينترا" تنتمي إلى هذا
الصنف من الروايات ،فهل الرواية فعال مسكونة بهاجس الذاكرة والسياسة والتاريخ؟
عندما يكون التاريخ "الوطني" موضوعا للكتابة السردية ،فمعنى ذلك أن الروائي أو الكاتب
أو السارد على وعي بهامش الحرية الذي يتيح له التعبير عن أطروحاته السياسية والفكرية
التي يدافع عنها ،أو يناضل من أجل تثبيتها وترسيخها في ذهن المتلقي .فمع ازدياد الوعي
بالحاضر ،يزداد االهتمام بالتاريخ ،بوصفه خلفية الحاضر أو تاريخ الحاضر؛ وذلك هو
مس ّوغ العودة القصدية للكاتب ،أي نسج عوالم تخييلية مستلهمة من تاريخ المغرب في
"سينترا" ،فهناك جزء من التاريخ لم يكتبه المؤرخون ،فتكلفت الرواية بترميم األعطاب
واالختالالت وسد الثغرات واالنتباه إلى ما يجب االنتباه إليه.
67
والمقاومة والمؤسسة الملكية ،ترسيخها في الوجدان المغربي؟ وربما مراهنته على تقريبها من
جيل غير مهتم بذلك سوى ما تردده القنوات اإلعالمية الرسمية.
تفضي بنا هذه التساؤالت إلى استحضار لعبة التداخل الزمني ،أي المقصدية التي هيأت للنص
قول ما يريد باالستعانة بالموتشو الذي يتحول إلى شخصية خارقة لها قدرة على التنبؤ
بالمستقبل ،وكممثلة للوعي التاريخي الذي يستنهض الهمم .فالموتشو له عالقة بالزعيم
الوطني المهدي بن بركة ،وهذا ما اكتشفه عمر بنمنصور Kالذي وجده في سينترا ،وتساءل في
قرارة نفسه غير مص ّدق من أن تكون أفكار الحركة الوطنية تس ّربت إلى هذا الفضاء:
"نظر بنمنصور مليّا فوجد على المصطبّة زميال يعرفه ،زميل يدرّس في ذات المؤسسة التي
يد ّرس بها .إنه هو ،إنه المهدي بن بركة ،بعينه .ما الذي أتى به إلى سينترا؟ هل أخذت أفكار
الحركة الوطنية تتغلغل في سينترا؟ لم يُعر الخطيب أدنى اهتمام لحركة الجمهور فأخذ يخاطب
الجمع في ثقة وعزم" .96
بعد الخطبة المط ّولة للمهدي بن بركة في حانة سينترا ،التي امتدت عبر خمس صفحات من
الرواية ،دعا بن بركة بخطاب حجاجي حماسي ،على غرار خطابات رواد النهضة العربية،
إلى مجموعة من القيم التي ينبغي التشبع بها ،منها :دعوة مختلف طبقات المجتمع إلى االتحاد
من أجل بناء دولة موحدة ،وأمة متالحمة ،ودعا إلى االعتبار بتردينا الحضاري والتاريخي،
بسبب التشبث بالخرافة والتقاليد والحجر على العقل ،وتقديس االتباع ومحاربة اإلبداع،
واالستبداد .ولفت االنتباه إلى الدول األوربية التي حاربت الخرافة ،وأعلت من شأن العقل،
وعبر التاريخ ،وذلك بتجنب الحروب
فبلغت الرقي والتقدم .ودعا إلى االستفادة من دروس ِ
الداخليةّ ،
ألن ذلك كان سببا في ضعفنا واحتاللنا .كما حذر من التبعية الفكرية لآلخر الغربي،
ودعا إلى اإلعالء من شأن الفكر ،وجعل التربية والتعليم أسّ األولويات ،بهدف تكوين أطر
"ذات وعي تاريخي ،وذات ثقة في شعبها وأمل في مستقبل أمتها".97
68
كما دعا بن بركة كذلك إلى التحلي بالقيم الفاضلة في أخالقنا وسلوكنا ،من بذل وتضحية
وتضامن ،وتجنب المنفعة الشخصية وحبّ المال والحُظوة ،وضرورة Kإذعان قيادة األمة "لثلة
من ذوي العزم من أبنائها ليُعبّدوا لها الطريق ويهدوها سواء السبيل ..ليس لهذه النخبة أن
تكون ذات رؤية فقط ،بل أن تعبّر عن تلك القيم ،وترمز لها وتجسدها في سلوكها وحالها
وشؤونها".98
ّ
استحث الجمهور إلى اإلجابة عن لم يكتف بن بركة بالدعوة إلى القيم السامية والنبيلة ،بل
ّ
فحث على تعرّف ي شيء نريد أن نكون؟ّ ،
ألن من عرف الغاية عرف الوسيلة؛ سؤال بسيط :أ ّ
الوسيلة ،التي تتمثل في إعادة النهوض بعد السقوط ،وعدم اليأس ،وإعادة الكرّة والمحاولة
حتى يسهل كل أمر صعب وعسيرّ ،
وأن السبيل إلى ذلك التربية واالنضباط والصرامة.
إضافة إلى الوفاء بروح النضال الذي حركت الزعيم /بن بركة ،والتضحية ،والتحلي باألمل:
"إنني ابن زماني ،وأريد أن تكونوا أبناء زمانكم .ليس عليكم أن تتأثروا خياراتي ،وليس عليكم
أن تتعقبوا أخطائي .ولكني أريدكم أن تكونوا أوفياء للروح التي حرّكتني ،وللتضحية التي
بذلتها وللحرمان الذي بلوته واألمل الذي استحثني ،فشف َع لي هذه المشاعر ،جميعُها إن أنا
أخطأت الخيار أو ج ُ
ُرت عن القصد".99
وحذر بلهجة شديدة من مصدر الداء الذي هو عبادة المال ،وانقالب القيم ،فـ "يصبح ما ينبغي
أن تهوى النفس ممجوجا ،ويصبح ك ّل قمئ مقصودا ،وك ّل مدخول محمودا" .100كما حذر من
تح ّول الوسيلة إلى غاية ،والمبادئ عن قصدها .ودعا إلى فضح محبي المال ،والفاسدينّ ،
ألن
ذلك هو سبيل بناء الدولة الوطنية الموحدة:
" ّ
إن المال وأصحابه ليتلبّسون بكل لبوس ،بما فيه الزهد والتجرد والتقوى والنضال والنبل.
فاحذروهم ،وإن وقفتم على أمرهم فافضحوهم ،وأبينوا على حقيقتهم في غير صخب وال
98نفسه.
99نفسه ،ص.119 :
100نفسه.
69
انفعال ،وإنّما في رويّة وأناة ،إذاك تخلص لكم الحقيقة وتنجاب لكم السبيل ال ُمفضية للحق
والكرامة والرفعة .وإن لم تفعلوا ،فلن تبلغوا ما ت ْدعون له وما ت ّدعون".101
ّ
إن ما يس ّوغ إيراد مفاصل وأفكار خطبة بن بركة المط ّولة ،هي تقنية تداخل األزمنة التي
وظفها الروائي ،ووردت على لسان الراوي؛ فعمر بنمنصور يصف ارتياد بن بركة لسينترا،
بعد أن هيّأ له الموتشو ذلك ،وإلقائه خطبة أمام جمهور ،لكن المفارقة الطريفة ّ
أن نهاية الخطبة
تؤشر على زمن آخر متخيّل مفارق للزمن الحقيقي ،يحيل على ّ
أن الخطبة التي ألقاها الزعيم
من عالم آخر بعيد ،أي من قبره بعد وفاته:
"هذه كلمتي إليكم من عالمي البعيد ..أريدكم أن تسمعوها وتعوها .لم تغيبوا عن ذهني قط ولن
تغيبوا .المجد والخلود لشعبنا األب ّي وألمتنا الماجدة" .103
وتتجسد المفارقة صارخة حينما تمعن الرواية في تعميق مفارقة تداخل األزمنة واألحداث؛
فبعد أن يتوضح للمتلقي ّ
أن خطبة بن بركة متخيلة من عالمه البعيد ،أي قبره ،تتعالى الهتافات
بعد انتهائه ،وتزدحم الجماهير على المنصة تسلّم عليه وتعانقه وتهتف بحياته .وبعد أن ّ
خف
الهتاف ،بدأ الموتشو يح ّدث المهدي:
101نفسه.
102نفسه ،ص.120 :
103نفسه ،ص.120 :
70
وأ َس ّر المهدي للموتشو بشيء تب ّدد وسط جلبة الحضور ،وتناهى إلى بنمنصور تعليق الموتشو:
أالّ ،أبدا ،مانسيتشي .وماش نعمل لك نصب تذكاري ،العواويل يسولوا عليك ،بزاف -
بزاف ،وحبيت نع ّدل لك مح ّل فين نستقبلهم".104
كان بنمنصور يرمق المشهد باهتمام كبير ،وحاول أن يقنع نفسه بأالّ يبقى متفرجا ،وأالّ يكتفي
بدور المخبر ،وعليه أن يكون أذكى من إدارة االستعالمات ،مادام أنه اكتشف العالقة التي
تربط المهدي بن بركة والموتشو ،الذي يهيئ له محل اجتماع الستقبال "العواويل" ،أي
"المناضلين".
ّ
إن المالحظة التي تسترعي االنتباه أن هاجس القيم حاضر بقوة في" سينترا" ،ليس فقط لدى
النخبة كما على لسان المهدي بن بركة مثال ،بل حضر أيضا لدى المحسوبين على الهامش،
كما في أشعار العالّم وعنيبة ومليكة ،ونظم خربوشة ،ومسرح عبد الصمد الكنفاوي .فهذه
والعبر ،وليس هدفها المتعة فحسب ،بل شحذ الهمم والتحلي
الخطابات والفنون تعج بالحكم ِ
بالوعي .ومن األمثلة الدالة على ذلك ،ما ورد على لسان موال مليانة عندما سأله عنيبة:
" ... -باش نبداو بالطريق وال بالرّفيق؟
71
كليهما .الرّفيق يعبّد الطريق ،والطّريق يصوغ ال ّرفيق .حبيبي عنيبة صاحب الكلمة -
الهادفة والشعر الملتزم .حبيبي العالم ،صاحب الفكر الثاقب ،الكنفاوي من أمسك ناصية
الدراما ال لتكون متعة ،بل وعيا ..يا كادحي سينترا اتّحدوا ،ال َح فجرنا فتأهّبوا.105 "..
يحضر التاريخ ،من خالل تقاطع حكي أحد أبطال الرواية "مصطفى بوعزيز" الراوي
لتفاصيلها ،مع تاريخ األكاديمي "مصطفى بوعزيز" لهذا الحدث التاريخي ،الذي فصّل فيه
بشكل دقيق في أطروحته المعنونة بــ "الوطنيون المغاربة في القرن العشرين" .كما يحضر
التاريخ عند ُمساءلة تجربة الحماية الفرنسية بالمغرب ،من زاويتي التحديث والحداثة ،أو
التقني والذهني ،أو بلغة الرواية المادي والتربوي؛ فبين لقاء عمر بمنصور بالمطعم اإلسباني
للضابط في االستعالمات كازالطا ،والشاب ال ّ
صحافي ،وبين لقائه بفندق رويال مرة أخرى
بكازالطا وصحافي آخر جرت مياه كثيرة تحت جسر مغرب النصف الثاني من القرن
العشرين ،في مسار تدبير تركة االستعمار.
تخط سينترا ،بيقظة المؤرخ وفنية الروائي ،بداية انهيار المنظومة االستعمارية انطالقا من
مؤشرات تاريخية ترصدها ضمن جدلية تطور وعي بنمنصور قبل انخراطه الكلي في العمل
الوطني:
" لقد كان عمر بنمنصور يدرك أن بنيان الحماية أصبح مهددا ،وخاصة بعد
انهزام فرنسا أمام ألمانيا ،وتأكد له األمر عقب زيارة الرئيس روزفلت ولقائه بونستن تشرشل
بالدار البيضاء ،ثم لقائهما بعده بالسلطان سيدي محمد بن يوسف على مائدة عشاء ،فيما يعرف
بلقاء أنفا مستهل سنة ،1943لذلك حينما ق ّدم الوطنيون عريضة االستقالل ،أدرك أن تح ّوال
عميقا يعتمل قد يتهدد المنظومة االستعمارية" .106
تنتقد الرواية بح ّدة سياسة فرنسا التي قست على مستعمراتها في شمال إفريقيا ،تونس
والجزائر والمغرب ،وبدأت بتشريع فيشي القاضي بمعاداة السامية ،بإيحاء من ألمانيا النازية
التي هزمتها بعد غزوها لها في ماي ،1940وقسّمتها ،وفرضت شروطها عليها .وكانت من
105نفسه ،ص.62 :
106نفسه ،ص.22 :
72
نتائج ذلك ،هجرة اليهود من هذه البلدان ،على الرغم من رفض السلطان المغربي محمد
الخامس خضوع اليهود المغاربة ألحكام فيشي .لقد ح ّدث بنمنصور نفسه وباح لها ببعض
األسرار ،التي لم يجرأ للبوح بها حتى لزوجته اليهودية "سوليكا":
" منذ توقيع فرنسا لمعاهدة فيشي مع هيتلر لم تعد فرنسا كما كانت ،خرجت من دائرة الكبار،
وتتحايل لكي تلعب في ساحة الكبار ،وتقسو على ال ّ
صغار مثلما قست في سطيف ،وقبلها حين
عزلت باي تونس ،ومثلما تفعل في الدار البيضاء .لن يجرؤ بنمنصور أن يجهر بذلك حتى
لزوجته رغم أنها تلظت هي وذووها حينما تعقبت حكومة فيشي اليهود .ورغم موقف السلطان
الذي رفض أن يخضع اليهود المغاربة ألحكام فيشي ،فقد كان الواقع شيئا آخر ،واضطُ َّر كثير
من اليهود أن يبيعوا أمالكهم بأثمان بخسة ،ومنهم من تحايل ووضع أمالكه في اسم متعاملين
مسلمين أو مسيحيين ،وحينما هُزمت ألمانيا ووضعت الحرب أوزارها ،تن ّكر هؤالء
لليهود".107
73
خاتمة
انطلقنا في هذا البحث من محاولة لمقاربة التوظيف السياسي في الرواية المغربية ،وبيان
تجلياته وموضوعاته وأبعاده ورموزه .وفي سبيل هذه الغاية اعتمدنا رواية "سينترا" لحسن
أوريد نموذجا للبحث ،وقد دفعنا إلى هذا االختيار عاملين اثنين :عامل ذاتي ،يتمثل في شغفي
العارم بقراءة الروايات ،والدراسات السياسية .وعامل موضوعي K،يتمثل في اقتناعي باختيار
عمل كاتب مغربي كان مثار جدل في األوساط األدبية والسياسية ،وال يزال ،بمواقفه السياسية
والفكرية الجريئة ،التي جعلته يعتزل العمل السياسي والمناصب السامية التي تقلدها ،ويتفرغ
لإلبداع األدبي والفكري .إضافة إلى ما راكمه في السنوات األخيرة من إبداع روايات حضر
فيها التاريخ والسياسة بقوة ،واستقطبت اهتمام الدارسين.
وقد ت ّم اختيار هذه الرواية كنموذج للبحث ،نظرا لهيمنة ما هو تاريخي وسياسي على متنها،
وكل ما هو متعلق بالذاكرة .إضافة إلى تصويرها لمرحلة قاتمة وحاسمة من تاريخ المغرب
الحديث في عهد الحماية ،وخصوصا الفترة التاريخية ما بين ،1948 -1946وبعض الفترات
األخرى التي أعقبتها .فالرواية تصور جزءا من التاريخ المغربي الحديث والمعاصر لم يكتبه
74
المؤرخون ،لهذا تكلفت هي بكتابته ونسجه تخييليا ،من خالل ترميم األعطاب ،وتصحيح
االختالالت ،وتعرية ما هو قائم بهدف التجاوز واإلصالح.
وإذا كانت أ ّ
ي مقاربة نقدية لعمل أدبي ،تعتمد منهجا معيّنا بالضرورة .فقد آثرنا اعتماد منهج
متكامل يجمع بين الوصف والتحليل ،واستقصاء ما هو جمالي فني في الرواية ،بهدف
اإلحاطة بالتوظيف السياسي في الرواية ،باعتبار الرواية السياسية نوعا أدبيا متميزا له
خصوصيته الفريدة ،وجماليته المتميزة ،ولهذا ارتأينا تقسيم البحث إلى فصلين:
وأفردنا الفصل الثاني المعنون بـ "التوظيف السياسي في رواية "سينترا" لحسن أوريد "،
للمقاربة النقدية -التطبيقية -للرواية؛ إذ استهللنا هذا الفصل ،بالحديث عن إشكال تجنيس هذا
العمل السردي ،وتحديد اإلشكاالت التي يطرحها ،ث ّم تد ّرجنا إلى متابعة سيرورة األحداث،
وبيان الدور الفعّال الذي يضطلع به الفضاء المكاني "سينترا" في بناء الرواية ،وأبعاده الداللية
75
والرمزية ،مع تفصيل القول في دالالت الرواية بصفة عا ّمة وأبعادها السياسية .إضافة إلى
المحور المعنون بــ "من يحكي في سينترا؟" ،الذي حددنا فيه الرواة الذين اضطلعوا بعملية
الحكي ،كما أوضحنا تداخل أصواتهم مع بعض الشخصيات .وهو محور يتكامل وينسجم مع
المحور الذي أعقبه والمعنون بــ" تعدد األصوات واللغات في سينترا" .واختتمنا هذ الفصل
ببيان حدود السرد والتاريخ في الرواية ،واإلشكاالت التي يطرحها تداخلهما ،وبعض
تجلياتهما وأبعادهما.
وقد خلصنا أن رواية سينترا تعيدنا إلى مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب ،ما بعد الحرب
العالمية الثانية ،من خالل استحضار التعايش الذي طبع حياة المغاربة المسلمين واليهود في
تلك الفترة ،ومن خالل استحضار فضاء “سينترا” الذي كان يشكل ملتقى للنقاش وطرح
قضايا ته ّم مستقبل الوطن من قبيل العدالة والذات واآلخر والتحرر والتعايش.
لم نكتف في هذا البحث بالوصف والتحليل ،واستخالص السمات والخصائص الفنية
والجمالية ،وتحليل بعض المقاطع والصور الروائية التي حضر فيها الخطاب السياسي
والتاريخي ،وإبراز دالالتها ومقاصدها ،بل اعتمدنا على الشرح والتفسير ،كما اعتمدنا أحيانا
التأويل ،عندما واجهتنا بعض العبارات والجمل والمقاطع التي ال تصرح بالمعنى والداللة ،بل
تكتفي بالتلميح واإليحاء والرمز .ولع ّل اتكاءنا على الوصف والتحليل والتأويل ،كان سندا لنا
لتجنب قدر اإلمكان الذوق واالنطباعية ،وتحرّي الموضوعية Kوالحياد.
نعتقد أننا بهذا العمل المسنا بعض اإلشكاليات التي يثيرها المتن المدروس ،وحللنا بعض
البنيات التي تشكله ،ورمينا حجرا في ماء هذا النوع األدبي ،الذي يحتاج مزيدا من الدراسة
والتمحيص.
76
قائمة المصادر والمراجع
المصادر.
ابن منظور ،لسان العرب.
المراجع.
ادريس النّاقوري ،المصطلح المشترك ،دراسات في االدب المغربي المعاصـر ،دار النّـشر -
المغربية ،ط.1997 ،2 .
أحمد محمد عطية ،الرواية السياسية :دراسة نقدية في الرواية الـسياسية العربيـة ،مكتبـة مدبولي، -
القاهرة ،ط( ،1 .د.ت).
جابر عصفور ،تقديم رواية "غابة الحق" لفرنسيس فتح هللا مراكش ،القاهرة ،الهيئة المصرية، -
.2000
حسن أوريد ،سينترا ،نشر :توسنا ،طبع :مطبعة المعارف الجديدة ،الرباط.2015 ، -
حسين حمدي ،الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر ،الهيئة المصرية العامة للكتاب، -
القاهرة ،الطبعة الثانية.2019 ،
حسن بحراوي ،بنية الشكل الروائي ،الدار البيضاء ،المركز الثقافي العربي.1986 ، -
77
رشدي Kرشاد ،فن القصة القصيرة ،مكتبة األنجلو المصرية ،ط ،2 .القاهرة.1964 ، -
شوقي Kضيف ،البحث االدبي :طبيعته -مناهجه -أصـوله -مـصادره ،دار المعـارف ،ط( ،6 .د.ت). -
محمد خرماش ،إشكالية المناهج في النقد األدبي المغربي المعاصر )III :البنيويـة التكوينيـة بـين -
النظرية والتطبيق) K،ط.2001 :
محمود Kأمين العالم ،ويمنى Kالعيد ،وسليمان نبيل؛ الرواية العربية بين الواقع واإليـديولوجيا K،دار -
الحوار للنشر والتوزيع ،سوريا ،ط.1986 .1 .
محمود Kالسمرة ،مقاالت في النقد األدبي ،بيروت ،دار الثقافة( ،د.ت). -
طه وادي ،دراسات في نقد الرواية ،دار المعارف ،القاهرة ،ط.1994 ،3 . -
طه وادي ،الرواية السياسية ،الشركة المصرية العالمية للنشر ،لونجمان ،ط.2003 . -
عبد الحميد القط ،يوسف إدريس والفن القصصي ،دار المعارف ،القاهرة ،ط.1980 ،1 . -
عبد الرحمان منيف ،الكاتب والمنفي ،هموم وآفاق Kالرواية العربية ،دار الفكر الجديد ،بيروت، -
.1992
عبد السالم ابن عبد العالي ،النص والسلطة والمجتمع :الميتافيزيقيا -العلم -األيديولوجيا ،بيروت، -
دار الطّليعة ،ط.1993 ،2.
عزيزة مريدن :القصة والرواية ،دار الفكر ،دمشق.1980-1400 -
عمار علي حسن ،النّص والسلطة والمجتمع :القيم السياسية في الرواية العربية ،وكالة األهرام -
للتوزيع ،لبنان ،ط.2003 :
عبد الفتاح عثمان ،بناء الرواية :دراسة في الرواية المصرية ،مكتبة الشباب ،القاهرة ،ط ،1 . -
.1982
علي محمد حسين ،التحرير Kاألدبي :دراسات نظرية ونماذج Kتطبيقية ،ط ،2 .الرياض1421 هـ - -
2000م.
يمنى العيد ،تقنيات السرد الروائي ،مطبعة الفارابي ،بيروت .1990 -
المراجع المترجمة.
ألبير يس ،تاريخ الرواية الحديثة ،ترجمة جورج سالم ،بيروت ،مكتبة الفكر( ،د.ت). -
بيير زيما ،النقد االجتماعي :نحو علم اجتماع للنص األدبي ،ترجمة :عايدة لطفي ،دار الفكـر -
للدراسات والنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط.1991 ،1 .
78
جورج لوكاش ،معنى الواقعية االشتراكية ،ترجمة د .أمين العيوطي ،دار المعارف Kبمـصر( ،د.ت). -
سعيد علوش :رواية األطروحة والرواية المغربية ،مجلة :األقالم ،العراق ،العددان.12-11 : -
ميخائيل باختين :شعرية دوستويفسكي ،ترجمة جميل التكريتي ،مراجعة حياة شرارة ،الدار -
البيضاء ،دار توبقال.1986 ،
الدوريات.
حسين مروة ،عالقة السياسة باألدب في المجتمع العربي ،الموقف Kاألدبي ،دمشق سوريا ،كتاب -
العرب ،العدد ،171 :سنة .1985
رامان سلون ،النّظرية األدبية المعاصرة ،ترجمة :سعيد الغانمي ،بيروت ،ط.1996 ،1 . -
سلمى الخضراء الجيوسي ،البطل في االدب العربي المعاصر :الشخصية البطولية والضحية، -
الكاتب ،العدد ،200نوفمبر.1977 K
طه وادي ،السياسة والفن في الرواية المعاصرة ،مجلة كلية اآلداب ،مصر ،جامعة القاهرة ،العدد: -
،1المجلد ،50ماي .1990
عبد الملك مرتاض ،في نظرية الرواية "بحث في تقنيات السرد" ،المجلس الوطني للثقافة والفنون -
واآلداب ،الكويت .1998
محمود Kأمين العالم ،الرواية بين زمنيتها Kوزمنها مقاربة مبدئية عامة ،فـصول المجلد ،12 :العدد: -
األول .ربيـع .1993
المراجع األجنبية.
- Greimas, Les actants, les acteurs et les figures, in Du Sémiotique Sens II
Essais de, Seuil, 1983.
- http://www.boe.es/buscar/act.php?id=BOE-A-2000-16883.
- Lucien goldman towards a society of the novel, tr. By alan
sheridan. .London, 1975.
79
الفهرس:
مقدمة 2 .............................................................................................................
80
الحدث 27 .......................................................................................................
29
المكان 29 ........................................................................................................
الفصل الثاني :التوظيف السياسي في رواية "سينترا" لحسن أوريد 39 ...........................
81
المملكة المغربية
إشراف إعداد
د .يوسف الفهري بهاء الدين الطالي
82
ENS TÉTOUAN: ÉCOLE NORMALE SUPÉRIEURE Av. Hassan II, BP : 209 Poste
Principale – Martil
TÉL : +212 539 97 91 75 / FAX +212 539 97 91 80
Site Web: http://enstetouan.ma/ EMAIL contact@enstetouan.ma