Professional Documents
Culture Documents
املنهج العلمي عادة مايكرس املوضوعية ،ويتجرد من األهواء والعواطف .لكن هل استطاع املنهج
التاريخي أن يولد حقائق موضوعية؟ وهل االتفاق دليل على املوضوعية في الدراسات التاريخية؟
إن أحد غايات العلم والفلسفة تحرير العقل من سيطرة األهواء وبلوغ الوعي ،وباعتبار التاريخ علما
يسعى إلى تحقيق هذا الهدف فقد اصطدم هذا العلم بجدار الذاتية أثناء تطبيق هذا العلم ملنهجه من
خالل ممارسة التحليل والنقد،ألن املؤرخ يمارس هذا النقد والتحليل على ذاته قبل أن يسقطه على
األخرين ،فيقع في نزاع مع نفسه ،واملؤرخ ال يستطيع أن يقيم القطيعة مع ذاته وعواطفه في كثير من
املواقف ألن الظاهرة التاريخية تعتبر جزء من الذات الدارسة ،وهنا تكمن الصعوبة أن املؤرخ مطالب
بتحديد مذهبه أو وجهته و في غالب األحيان سيختار املؤرخ الشواهد التاريخية التي تؤيد مذهبه ،
وبدل أن يصبح املنهج التاريخي أداة لبلوغ الحقيقة يصبح أداة لتبرير حقيقة ما .ولذلك فإن املوضوعية
في التاريخ ال تعني مطالبة املؤرخ بأن تكون روايته لألحداث مستقلة عن كل وجهة نظر خاصة ،ألن
ذلك يبدو في كثير من األحيان مستحيال ،وهذا يعني أن التاريخ يضيق من إقليم املوضوعية.
أن االختالف في التاريخ هو سيد االتفاق ،ألن التاريخ إحياء للهوية وخطاب لآلخر ،وهنا مكمن
االختالف ،ذلك أن األنا يأالى أن ينصهر في الغير ،ويحاول أن تكون ذاته مميزة عن ذوات اآلخرين ،وغال
فما ضرورة التاريخ؟ فكل من دريدا وفوكو وبختين ،تبنوا أن الدراسات التاريخية ليست مطالبة إلى
السمو إلى مصاف العلوم الطبيعية ،ألن هذا غير ممكن ،لكن املمكن هو دراسة الظاهرة التاريخية
بمنهج موضوعي قائم على االختالف .فدريدا مثال ،يعتقد أن التاريخ يفترض الصيرورة و الصيرورة
بدورها تفترض اآلخر ،لذا يتم دراسة الواقعة التاريخية وفق منهج االختالف .أما بختين يعتبر التاريخ
حركة تواصل بين األنا واآلخر ،وال يمكن أن نصفه بالوحدة واالتفاق التام على نحو النموذج الرمزي
الرياض ي.
27
أن املؤرخ حتى وإن حاول التخلص من األفكار املسبقة قدر اإلمكان فأن محاولته ضعيفة ،وهذه الغاية
تبدو مستحيلة في كثير من األحيان .وعلينا أن نميز بين مؤرخ يتنكر لذاتيته ،وبين مؤرخ يكتمها لذا فإن
الباحث يروض ذاتيته لكن ال يمكن أن يتخلى عنها ،وتظهر املفارقة بين الذاتية لدى الباحث في
الظواهر الطبيعية ،وبين ذاتية الباحث في الظواهر التاريخية ،في أن األولى كامنة في ذات الباحث فقط
بينما الثانية كامنة في ذات الباحث ،وفي ذات صانع الحدث ،فإن تمكن املؤرخ من ترويض ذاتيته فإنه
ال يمكن أن يروض ذاتية صانع الحركة التاريخية .وهنا تكمن املفارقة بين علوم الطبيعة وعلم التاريخ
يجب أن نعترف بأن وجود املوضوعية ال يقترن دائما بالوحدة واالتفاق فقد يكون االختالف داللة على
املوضوعية.
أن تفحصنا للموضوعية في البحث التاريخي تفحصا نقديا يجعلنا نجزم بافتقار الدراسات التاريخية
لهذه الصفة ،إذ أننا ال نستطيع أن ندعي بش يء من املوضوعية ما دمنا خصوما وحكاما في ذات الوقت
،وما دمنا دارسين ومدرسين ،ألن اإلنسان في البحث التاريخي يصبح هو نفسه جزء من دراسته ويؤثر
بصورة ال شعورية في معطيات البحث .وهذا ما حمل الكثير من الفالسفة على اعتبار املوضوعية "
العدو السري للعلوم اإلنسانية سواء على مستوى الوعي العفوي واملحايد للموضوع أو الوعي
التأملي أو وعي الوعي عند العلم".
هذا ويمكن القول في النهاية أن الذاتية جزء ال يتجزأ من املوضوعية في الدراسات التاريخية،
والتاريخ يجعل من إحياء ذاتية الفرد وهوية الشعوب أحد أهدافه األساسية.
28