You are on page 1of 2

‫املحاضرة العاشرة‪:‬‬

‫الذاتية في الدراسات التاريخية‬

‫املنهج العلمي عادة مايكرس املوضوعية‪ ،‬ويتجرد من األهواء والعواطف‪ .‬لكن هل استطاع املنهج‬
‫التاريخي أن يولد حقائق موضوعية؟ وهل االتفاق دليل على املوضوعية في الدراسات التاريخية؟‬

‫إن أحد غايات العلم والفلسفة تحرير العقل من سيطرة األهواء وبلوغ الوعي‪ ،‬وباعتبار التاريخ علما‬
‫يسعى إلى تحقيق هذا الهدف فقد اصطدم هذا العلم بجدار الذاتية أثناء تطبيق هذا العلم ملنهجه من‬
‫خالل ممارسة التحليل والنقد‪،‬ألن املؤرخ يمارس هذا النقد والتحليل على ذاته قبل أن يسقطه على‬
‫األخرين‪ ،‬فيقع في نزاع مع نفسه‪ ،‬واملؤرخ ال يستطيع أن يقيم القطيعة مع ذاته وعواطفه في كثير من‬
‫املواقف ألن الظاهرة التاريخية تعتبر جزء من الذات الدارسة‪ ،‬وهنا تكمن الصعوبة أن املؤرخ مطالب‬
‫بتحديد مذهبه أو وجهته و في غالب األحيان سيختار املؤرخ الشواهد التاريخية التي تؤيد مذهبه ‪،‬‬
‫وبدل أن يصبح املنهج التاريخي أداة لبلوغ الحقيقة يصبح أداة لتبرير حقيقة ما‪ .‬ولذلك فإن املوضوعية‬
‫في التاريخ ال تعني مطالبة املؤرخ بأن تكون روايته لألحداث مستقلة عن كل وجهة نظر خاصة‪ ،‬ألن‬
‫ذلك يبدو في كثير من األحيان مستحيال‪ ،‬وهذا يعني أن التاريخ يضيق من إقليم املوضوعية‪.‬‬

‫أن االختالف في التاريخ هو سيد االتفاق‪ ،‬ألن التاريخ إحياء للهوية وخطاب لآلخر‪ ،‬وهنا مكمن‬
‫االختالف‪ ،‬ذلك أن األنا يأالى أن ينصهر في الغير‪ ،‬ويحاول أن تكون ذاته مميزة عن ذوات اآلخرين‪ ،‬وغال‬
‫فما ضرورة التاريخ؟ فكل من دريدا وفوكو وبختين‪ ،‬تبنوا أن الدراسات التاريخية ليست مطالبة إلى‬
‫السمو إلى مصاف العلوم الطبيعية‪ ،‬ألن هذا غير ممكن‪ ،‬لكن املمكن هو دراسة الظاهرة التاريخية‬
‫بمنهج موضوعي قائم على االختالف‪ .‬فدريدا مثال‪ ،‬يعتقد أن التاريخ يفترض الصيرورة و الصيرورة‬
‫بدورها تفترض اآلخر‪ ،‬لذا يتم دراسة الواقعة التاريخية وفق منهج االختالف‪ .‬أما بختين يعتبر التاريخ‬
‫حركة تواصل بين األنا واآلخر‪ ،‬وال يمكن أن نصفه بالوحدة واالتفاق التام على نحو النموذج الرمزي‬
‫الرياض ي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫أن املؤرخ حتى وإن حاول التخلص من األفكار املسبقة قدر اإلمكان فأن محاولته ضعيفة‪ ،‬وهذه الغاية‬
‫تبدو مستحيلة في كثير من األحيان‪ .‬وعلينا أن نميز بين مؤرخ يتنكر لذاتيته‪ ،‬وبين مؤرخ يكتمها لذا فإن‬
‫الباحث يروض ذاتيته لكن ال يمكن أن يتخلى عنها ‪ ،‬وتظهر املفارقة بين الذاتية لدى الباحث في‬
‫الظواهر الطبيعية‪ ،‬وبين ذاتية الباحث في الظواهر التاريخية‪ ،‬في أن األولى كامنة في ذات الباحث فقط‬
‫بينما الثانية كامنة في ذات الباحث ‪ ،‬وفي ذات صانع الحدث‪ ،‬فإن تمكن املؤرخ من ترويض ذاتيته فإنه‬
‫ال يمكن أن يروض ذاتية صانع الحركة التاريخية‪ .‬وهنا تكمن املفارقة بين علوم الطبيعة وعلم التاريخ‬
‫يجب أن نعترف بأن وجود املوضوعية ال يقترن دائما بالوحدة واالتفاق فقد يكون االختالف داللة على‬
‫املوضوعية‪.‬‬

‫أن تفحصنا للموضوعية في البحث التاريخي تفحصا نقديا يجعلنا نجزم بافتقار الدراسات التاريخية‬
‫لهذه الصفة‪ ،‬إذ أننا ال نستطيع أن ندعي بش يء من املوضوعية ما دمنا خصوما وحكاما في ذات الوقت‬
‫‪ ،‬وما دمنا دارسين ومدرسين‪ ،‬ألن اإلنسان في البحث التاريخي يصبح هو نفسه جزء من دراسته ويؤثر‬
‫بصورة ال شعورية في معطيات البحث‪ .‬وهذا ما حمل الكثير من الفالسفة على اعتبار املوضوعية "‬
‫العدو السري للعلوم اإلنسانية سواء على مستوى الوعي العفوي واملحايد للموضوع أو الوعي‬
‫التأملي أو وعي الوعي عند العلم"‪.‬‬

‫هذا ويمكن القول في النهاية أن الذاتية جزء ال يتجزأ من املوضوعية في الدراسات التاريخية‪،‬‬
‫والتاريخ يجعل من إحياء ذاتية الفرد وهوية الشعوب أحد أهدافه األساسية‪.‬‬

‫‪28‬‬

You might also like