You are on page 1of 5

‫المحاضرة الثالثة‬

‫‪ -2‬المشكالت‬

‫والمدارس االستمرارية مقابل‬

‫القطيعة‬

‫إذا كانت اإلبستيمولوجية مبحثًا موضوعه المعرفة العلمية‪ ،‬وهدفه التحليل النقدي لها‪ ،‬فما‬
‫هي مشكالت العلم التي تتطلب تدخًال إبستيمولوجيا؟‬

‫تعد مشكلة المسار الذي تسلكه المعرفة العلمية واحدة من أهم مشكالت االبستيمولوجيا‪ ،‬ولقد‬
‫انقسم اإلبستيمولوجيون ‪-‬في النظر إلى هذه المشكلة ‪-‬إلى فريقين‪ :‬فريق نظر إلى مسار العلم‬
‫على أنه سيرورة متصلة مستمرة ال انقطاع فيها وال انفصال‪ ،‬وفريق آخر رأى أن مسار‬
‫العلم مسار انقطاع واضطرابات وأزمات وثورات‪ .‬ويعد "إميل‬

‫ميرسون" ‪ Emil Meyerson‬و"ليون برنشفيك" ‪ Léon Brunschvicg‬أهم دعاة االتجاه الذي يقول‬
‫باالستمرارية‪،‬والمعرفة العلمية ‪-‬من وجهة نظر هذا االتجاه‪-‬استمرار وتطور للمعرفة‬
‫العادية‪ .‬كما أن كل معرفة علمية جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة فتاريخ العلم‬
‫سلسلة يتولد بعضها من بعض‪ ،‬وما التغير الذي يحدث في العلم إال تغير تدريجي‪ ،‬ويدللون‬
‫على صحة رأيهم بالتطور التدريجي للمنهج العلمي وطريقة انتشاره‪.‬‬

‫‪G.Bachelard‬‬ ‫أما االتجاه الثاني الذي يقول بالالاستمرارية وأهم ممثليه "غاستون باشالر"‬
‫و"توماس كوهن" ‪.Th‬‬

‫‪ Cohn‬و"لوي ألتوسير" ‪ Louis Althusser‬و"ميشيل فوكو" ‪ Foucault‬فإنه ينطلق ‪-‬على العكس‬


‫من االتجاه السابق‪-‬من أن تاريخ العلم تاريخ قطٍع بين المعارف العلمية البالية والمعارف‬
‫الباقية‪ .‬ويبرهن أصحاب هذا االتجاه على رأيهم بأن لغة العلم ومناهجه معياران أساسيان في‬
‫حدوث القطيعة اإلبستيمولوجية‪ ،‬إذ أن لغة العلم لغة متجددة دائمًا والعلم ص ْو غ مستمر‬
‫للمفاهيم والمصطلحات‪ ،‬إلى حد تغدو معه لغة العلم الجديدة مختلفة عن لغة العلم القديمة‪.‬‬
‫ما بين اليقين والشك‪:‬‬

‫على صعيد آخر ‪،‬من أهم المشكالت التي واجهت العديد من الفالسفة وكانت مسارا للخالفات‬
‫النظرية والفلسفية بينهم على مر العصور هي هل للمعرفة قيمة؟ وهل يمكن التوصل إلى‬
‫معرفة مطابقة للواقع فيحصل عنها العلم واليقين؟ وإذا تم رسم تلك المدارس على خط‬
‫معياري فإننا سوف نرى اختالفات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار‪ ،‬من شدة إنكار‬
‫المعرفة إلى اعتبار المعرفة أنها هي الحقيقة الموضوعية خارج الذهن وليس هناك مجاال‬
‫للشك‪.‬‬

‫من أبرز المدارس الفلسفية القديمة التي أنكرت المعرفة بالكلية كانت المدرسة السفسطائية‬
‫والتي أكد أحد أبطالها "غورغياس" على عدة قضايا‪ ،‬األولى أنه ال يوجد شيء‪ ،‬والثانية أنه‬
‫إذا وجد شيء فاإلنسان قاصر عن إدراكه‪ ،‬والثالثة أنه في حالة إدراكه من قبل اإلنسان فإنه‬
‫لغيره‪.‬‬ ‫لن يستطيع أن يبلغه‬

‫يأتي بعدها في الدرجة مرحلة الشك في المعرفة‪ ،‬وهي التي مفادها أنها تقوم بالتشكيك في‬
‫مصادر المعرفة المختلفة ‪،‬فهي ترى أنه ال يمكن االعتماد على الحس في معرفة األشياء ألنه‬
‫ال يصدق دائما‪ ،‬فكان البشر على اعتقاد أن األرض مسطحة بناء على الحواس ولكن‬
‫بالقواعد العقلية والفيزيائية بعد ذلك ثبت حقيقة أن األرض كروية‪ ،‬وأيضا الحكم على حجم‬
‫األشياء ربما ال يكون دقيقا أو معبرا عن حقيقتها فاألشياء كلما اقتربت ظهرت بحجم أكبر‬
‫مما هي عليه في الواقع والعكس صحيح مثل القمر‪ ،‬فالقمر يرى من بعيد حجمه على أنه‬
‫الكبير‪.‬‬ ‫صغير ولكن عندما اقترب منه رواد الفضاء اكتشفه حقيقة حجمه‬

‫من أبرز الفالسفة الذين أثاروا مسألة الشك من الفالسفة القدامى هم "بيرون" ‪ ،Peron‬فلقد قال‬
‫بالشك المطلقأي أن كل قضية تحتمل قولين‪ ،‬ويمكن اثباتها ونفيها بقوة متعادلة‪ .‬ثم في الفلسفة‬
‫الحديثة "ديكارت" الذي بدأ فلسفتهونظرته إلى المعرفة بالشك ثم انتقل من الشك إلى اليقين‬
‫إلى حد ما‪ ،‬ويعتبر" ديكارت" من المدرسة العقلية حيث التصديق أن هناك قواعد عقلية‬
‫أولية ضرورية من خاللها يستطيع اإلنسان الحصول على المعارف والوصول إلى األحكام‬
‫وذلك لوجود حقائق موضوعية خارج األذهان‪ ،‬ولعل ما دفع "ديكارت" إلى التسليم بهذا‬
‫النوع من المع رفة وقيمتها هو بحثه في األفكار الفطرية التي تبدو في غاية الوضوح‬
‫والنفس‪.‬‬ ‫والجالء مثل هللا والحركة‬
‫ومن الشكاكين أيضا "جون لوك" الفيلسوف االنجليزي الذي ينتمي إلى المدرسة الحسية‬
‫التجريبية التي تصدق بأن الحس هو المصدر الرئيسي لمعرفة اإلنسان ولكن في نفس الوقت‬
‫هذا الحس ال يمكن التصديق له في كافة األحيان وتعتمد هذه المدرسة أن الحقائق ما هي إال‬
‫مدركات حسية باطنية كانت أو ظاهرية لإلنسان فهي انعكاس لهذا الحس الذي قد ال يصدق‬
‫تلك المدرسة‪.‬‬ ‫في بعض األحيان األمر الذي يضعف من قيمة المعرفة في‬

‫وإلى أقصى اليمين نرى المثل األفالطونية في المدرسة المثالية‪ ،‬تلك المثالية التي لم ينكر‬
‫أن يشكك في أن هناك حقائق موضوعية خارج الذهن‪ ،‬بل اعتقد بموضوعية االدراكات‬
‫العقلية وموضوعية اإلحساس أيضا "بمعنى إدراك المعاني الخاصة بالحس" إال أن‬
‫الفيلسوف "باركلي" كان له رأي آخر في مسألة المثالية التي من خاللها قام بتغيير مفهوم‬
‫المثالية في أمر المعرفة‪ ،‬فهو لم ينكر الوجود الخارجي ولكنه أكد على أن وجود الشيء‬
‫متوقف على إدراك اإلنسان له إذ أن حقيقة اإلدراك عنده هي الذات المدركة لدى اإلنسان‬
‫والتي أشار إليها بالعقل‪ ،‬والمصدر اآلخر هو هللا الذي يخلق داخل اإلنسان اإلحساس‬
‫باألشياء ففي هذه المثالية تصبح المعرفة ال قيمة لها فليس هناك اعتراف بالحقيقة‬
‫لإلنسان‪.‬‬ ‫الموضوعية للفكر واالدراك ووجود حقائق خارج الذهن واالدراك الذاتي‬

‫تأتي المدرسة العقلية لتكون بمثابة الميزان الذي يقع في منتصف خط هذه النظريات‪ ،‬فهذه‬
‫المدرسة ال تنكر وتشكك وفي نفس الوقت ال تؤكد على تمام اليقين والحقيقة إال في أمور‬
‫معينة بالدليل والبرهان‪ .‬فتعتمد هذه المدرسة على أن اإلنسان يكتسب معرفته عن طريق‬
‫مصادر أولية ضرورية عقلية وهي التي مصدرها العقل والذهن واالدراك والتي يدرك بها‬
‫قوانين يستطيع من خاللها الوصول إلى المعرفة وحقائق األشياء مثل أن التناقض مستحيل‬
‫مثل اجتماع الوجود والعدم في نفس الزمان والمكان والمحل "المادة أو الجسد"‪ ،‬ومثل‬
‫استحالة أن يكون الجزء أكبر من الكل‪ ،‬ومن الناحية الرياضية " الواحد هو نصف االثنين‬
‫مثال" وغيرها من األمور التي ال تحتاج إلى الحس والتجربة‪ .‬وهناك معارف أخرى ثانوية‬
‫يستطيع اإلنسان التوصل إليها بالتجربة والحس مع إعمال طاقته الذهنية باستخدام القواعد‬
‫األولية أيضا ‪،‬فتحدث التجربة في نفس وإدراك اإلنسان اليقين إذا طابقت الواقع‪ ،‬أو الظن إن‬
‫لم تطابقه‪ .‬واألساس الفلسفي لتلك النظرية العقلية هو اليقين الذي أسسه "أرسطو" ردا على‬
‫السفسطائية قديما فيما يخص إنكار الحقائق مستعينا بالقاعدة الفلسفية أن "حقائق األشياء ثابتة‬
‫والعلم بها متحقق" أي أن هناك موجودات خارج الذهن لها طبيعةوحقيقة خاصة سواء‬
‫أدركها اإلنسان أم لم يدركها‪ ،‬ومعرفتها ممكنة ومتحققة من خالل العديد من الطرق‬
‫والمصادر‪.‬‬

‫وأخيرا من اإلشكاليات الهامة في مسألة المعرفة في الفلسفة والتي لها انطباع كبير في‬
‫النهضة العلمية الحديثة" الطبيعية واإلنسانية" هي المدرسة النسبية والتي ال تنكر الحقائق‬
‫أو المعرفة ولكنها ترى أن تلك الحقائق ليست موضوعية مطلقة بل كافة الحقائق والمعارف‬
‫تشوبها ألوان من الذاتية فهي نسبية من إنسان إلى آخر فليس هناك حقائق مطلقة ‪،‬وفي سياق‬
‫آخر يمكن التطرق بشكل مفصل إلى إشكالية النسبية في العلوم وخاصة العلوم اإلنسانية‬
‫واالجتماعية ‪،‬ومن أهم فالسفة النسبية هو "إمانويل كانت"‪.‬‬

‫اإلبستمولوجيا‪:‬‬ ‫أهمية‬

‫إذا كانت اإلبستمولوجيا تبدو اليوم كضرورة‪ ،‬وإذا كان العلماء وكذا الفالسفة منذ وجد العلم‪،‬‬
‫عن وعي منهم أو بدونه‪ ،‬لم يتوقفوا عن ممارستها؛ فذلك ألن المعرفة اإليجابية‪ ،‬أي تلك التي‬
‫ننظر إليها كما لو كانت نهائية وال يمكن المساس بها‪ ،‬بمقدار ما ال يمكن أيضا أن تكون في‬
‫يوم من األيام موضوع تساؤل أو إعادة بناء على قواعد جديدة ‪،‬هي أبعد عن أن تكون كل‬
‫المعرفة العلمية التي ليست حقال مغلقا‪ ،‬وإنما هي على العكس من ذلك مجال مفتوح بشكل‬
‫واسع أمام عمليات الدحض والتفنيد‪.‬‬
‫يقول" روبرت بالنشي" )‪: (Robert Blanché, 1972, p123‬‬

‫"‪ ...‬إن العلم ذاته هو أبعد ما يكون عن أن يكون علميا بشكل كلي‪،‬‬
‫متى ما كانت هذه الكلمة تعني معرفة موضوعية بإحكام‪ ،‬معرفة ال‬
‫تدع أي مجال لالعتراض‪ .‬إننا ال نلمح هنا للعديد من المشاكل التي لم‬
‫تحل بعد‪ ،‬والتي تشكل بالنسبة لكل حقبة تاريخية ‪،‬ميدان البحث‬
‫العلمي‪ .‬إننا نريد أن نقول بأنه تبعا للطريقة ذاتها التي يضع بها العالم‬
‫بعض المشاكل ويعالجها‪ ،‬يجد نفسه غارقا ـ طوعا أو كرها ـ في‬
‫أسئلة بادية خصائصها وسماتها الفلسفية‪ .‬إنه ال يوجد ـ اللهم إال إذا‬
‫كانت المسألة تشوفا لتحقيق مثال ما ـ علم إيجابي بشكل تام وكلي‪،‬‬
‫علم تقصى منه كل مناظرة ذات طبيعة فلسفية‪ ،‬علم يتوصل بصدده‬
‫العلماء األكفاء إلى إجماع حقيقي‪ ،‬علم ال يظل مشكوكا فيه وبالنسبة‬
‫له‪ ،‬إال المشاكل اللحظية التي ال يمكن آجال حلها بواسطة مناهج من‬
‫شأنها أن تسكت أي نزاع"‪.‬‬

You might also like