Professional Documents
Culture Documents
-2المشكالت
القطيعة
إذا كانت اإلبستيمولوجية مبحثًا موضوعه المعرفة العلمية ،وهدفه التحليل النقدي لها ،فما
هي مشكالت العلم التي تتطلب تدخًال إبستيمولوجيا؟
تعد مشكلة المسار الذي تسلكه المعرفة العلمية واحدة من أهم مشكالت االبستيمولوجيا ،ولقد
انقسم اإلبستيمولوجيون -في النظر إلى هذه المشكلة -إلى فريقين :فريق نظر إلى مسار العلم
على أنه سيرورة متصلة مستمرة ال انقطاع فيها وال انفصال ،وفريق آخر رأى أن مسار
العلم مسار انقطاع واضطرابات وأزمات وثورات .ويعد "إميل
ميرسون" Emil Meyersonو"ليون برنشفيك" Léon Brunschvicgأهم دعاة االتجاه الذي يقول
باالستمرارية،والمعرفة العلمية -من وجهة نظر هذا االتجاه-استمرار وتطور للمعرفة
العادية .كما أن كل معرفة علمية جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة فتاريخ العلم
سلسلة يتولد بعضها من بعض ،وما التغير الذي يحدث في العلم إال تغير تدريجي ،ويدللون
على صحة رأيهم بالتطور التدريجي للمنهج العلمي وطريقة انتشاره.
G.Bachelard أما االتجاه الثاني الذي يقول بالالاستمرارية وأهم ممثليه "غاستون باشالر"
و"توماس كوهن" .Th
على صعيد آخر ،من أهم المشكالت التي واجهت العديد من الفالسفة وكانت مسارا للخالفات
النظرية والفلسفية بينهم على مر العصور هي هل للمعرفة قيمة؟ وهل يمكن التوصل إلى
معرفة مطابقة للواقع فيحصل عنها العلم واليقين؟ وإذا تم رسم تلك المدارس على خط
معياري فإننا سوف نرى اختالفات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ،من شدة إنكار
المعرفة إلى اعتبار المعرفة أنها هي الحقيقة الموضوعية خارج الذهن وليس هناك مجاال
للشك.
من أبرز المدارس الفلسفية القديمة التي أنكرت المعرفة بالكلية كانت المدرسة السفسطائية
والتي أكد أحد أبطالها "غورغياس" على عدة قضايا ،األولى أنه ال يوجد شيء ،والثانية أنه
إذا وجد شيء فاإلنسان قاصر عن إدراكه ،والثالثة أنه في حالة إدراكه من قبل اإلنسان فإنه
لغيره. لن يستطيع أن يبلغه
يأتي بعدها في الدرجة مرحلة الشك في المعرفة ،وهي التي مفادها أنها تقوم بالتشكيك في
مصادر المعرفة المختلفة ،فهي ترى أنه ال يمكن االعتماد على الحس في معرفة األشياء ألنه
ال يصدق دائما ،فكان البشر على اعتقاد أن األرض مسطحة بناء على الحواس ولكن
بالقواعد العقلية والفيزيائية بعد ذلك ثبت حقيقة أن األرض كروية ،وأيضا الحكم على حجم
األشياء ربما ال يكون دقيقا أو معبرا عن حقيقتها فاألشياء كلما اقتربت ظهرت بحجم أكبر
مما هي عليه في الواقع والعكس صحيح مثل القمر ،فالقمر يرى من بعيد حجمه على أنه
الكبير. صغير ولكن عندما اقترب منه رواد الفضاء اكتشفه حقيقة حجمه
من أبرز الفالسفة الذين أثاروا مسألة الشك من الفالسفة القدامى هم "بيرون" ،Peronفلقد قال
بالشك المطلقأي أن كل قضية تحتمل قولين ،ويمكن اثباتها ونفيها بقوة متعادلة .ثم في الفلسفة
الحديثة "ديكارت" الذي بدأ فلسفتهونظرته إلى المعرفة بالشك ثم انتقل من الشك إلى اليقين
إلى حد ما ،ويعتبر" ديكارت" من المدرسة العقلية حيث التصديق أن هناك قواعد عقلية
أولية ضرورية من خاللها يستطيع اإلنسان الحصول على المعارف والوصول إلى األحكام
وذلك لوجود حقائق موضوعية خارج األذهان ،ولعل ما دفع "ديكارت" إلى التسليم بهذا
النوع من المع رفة وقيمتها هو بحثه في األفكار الفطرية التي تبدو في غاية الوضوح
والنفس. والجالء مثل هللا والحركة
ومن الشكاكين أيضا "جون لوك" الفيلسوف االنجليزي الذي ينتمي إلى المدرسة الحسية
التجريبية التي تصدق بأن الحس هو المصدر الرئيسي لمعرفة اإلنسان ولكن في نفس الوقت
هذا الحس ال يمكن التصديق له في كافة األحيان وتعتمد هذه المدرسة أن الحقائق ما هي إال
مدركات حسية باطنية كانت أو ظاهرية لإلنسان فهي انعكاس لهذا الحس الذي قد ال يصدق
تلك المدرسة. في بعض األحيان األمر الذي يضعف من قيمة المعرفة في
وإلى أقصى اليمين نرى المثل األفالطونية في المدرسة المثالية ،تلك المثالية التي لم ينكر
أن يشكك في أن هناك حقائق موضوعية خارج الذهن ،بل اعتقد بموضوعية االدراكات
العقلية وموضوعية اإلحساس أيضا "بمعنى إدراك المعاني الخاصة بالحس" إال أن
الفيلسوف "باركلي" كان له رأي آخر في مسألة المثالية التي من خاللها قام بتغيير مفهوم
المثالية في أمر المعرفة ،فهو لم ينكر الوجود الخارجي ولكنه أكد على أن وجود الشيء
متوقف على إدراك اإلنسان له إذ أن حقيقة اإلدراك عنده هي الذات المدركة لدى اإلنسان
والتي أشار إليها بالعقل ،والمصدر اآلخر هو هللا الذي يخلق داخل اإلنسان اإلحساس
باألشياء ففي هذه المثالية تصبح المعرفة ال قيمة لها فليس هناك اعتراف بالحقيقة
لإلنسان. الموضوعية للفكر واالدراك ووجود حقائق خارج الذهن واالدراك الذاتي
تأتي المدرسة العقلية لتكون بمثابة الميزان الذي يقع في منتصف خط هذه النظريات ،فهذه
المدرسة ال تنكر وتشكك وفي نفس الوقت ال تؤكد على تمام اليقين والحقيقة إال في أمور
معينة بالدليل والبرهان .فتعتمد هذه المدرسة على أن اإلنسان يكتسب معرفته عن طريق
مصادر أولية ضرورية عقلية وهي التي مصدرها العقل والذهن واالدراك والتي يدرك بها
قوانين يستطيع من خاللها الوصول إلى المعرفة وحقائق األشياء مثل أن التناقض مستحيل
مثل اجتماع الوجود والعدم في نفس الزمان والمكان والمحل "المادة أو الجسد" ،ومثل
استحالة أن يكون الجزء أكبر من الكل ،ومن الناحية الرياضية " الواحد هو نصف االثنين
مثال" وغيرها من األمور التي ال تحتاج إلى الحس والتجربة .وهناك معارف أخرى ثانوية
يستطيع اإلنسان التوصل إليها بالتجربة والحس مع إعمال طاقته الذهنية باستخدام القواعد
األولية أيضا ،فتحدث التجربة في نفس وإدراك اإلنسان اليقين إذا طابقت الواقع ،أو الظن إن
لم تطابقه .واألساس الفلسفي لتلك النظرية العقلية هو اليقين الذي أسسه "أرسطو" ردا على
السفسطائية قديما فيما يخص إنكار الحقائق مستعينا بالقاعدة الفلسفية أن "حقائق األشياء ثابتة
والعلم بها متحقق" أي أن هناك موجودات خارج الذهن لها طبيعةوحقيقة خاصة سواء
أدركها اإلنسان أم لم يدركها ،ومعرفتها ممكنة ومتحققة من خالل العديد من الطرق
والمصادر.
وأخيرا من اإلشكاليات الهامة في مسألة المعرفة في الفلسفة والتي لها انطباع كبير في
النهضة العلمية الحديثة" الطبيعية واإلنسانية" هي المدرسة النسبية والتي ال تنكر الحقائق
أو المعرفة ولكنها ترى أن تلك الحقائق ليست موضوعية مطلقة بل كافة الحقائق والمعارف
تشوبها ألوان من الذاتية فهي نسبية من إنسان إلى آخر فليس هناك حقائق مطلقة ،وفي سياق
آخر يمكن التطرق بشكل مفصل إلى إشكالية النسبية في العلوم وخاصة العلوم اإلنسانية
واالجتماعية ،ومن أهم فالسفة النسبية هو "إمانويل كانت".
اإلبستمولوجيا: أهمية
إذا كانت اإلبستمولوجيا تبدو اليوم كضرورة ،وإذا كان العلماء وكذا الفالسفة منذ وجد العلم،
عن وعي منهم أو بدونه ،لم يتوقفوا عن ممارستها؛ فذلك ألن المعرفة اإليجابية ،أي تلك التي
ننظر إليها كما لو كانت نهائية وال يمكن المساس بها ،بمقدار ما ال يمكن أيضا أن تكون في
يوم من األيام موضوع تساؤل أو إعادة بناء على قواعد جديدة ،هي أبعد عن أن تكون كل
المعرفة العلمية التي ليست حقال مغلقا ،وإنما هي على العكس من ذلك مجال مفتوح بشكل
واسع أمام عمليات الدحض والتفنيد.
يقول" روبرت بالنشي" ): (Robert Blanché, 1972, p123
" ...إن العلم ذاته هو أبعد ما يكون عن أن يكون علميا بشكل كلي،
متى ما كانت هذه الكلمة تعني معرفة موضوعية بإحكام ،معرفة ال
تدع أي مجال لالعتراض .إننا ال نلمح هنا للعديد من المشاكل التي لم
تحل بعد ،والتي تشكل بالنسبة لكل حقبة تاريخية ،ميدان البحث
العلمي .إننا نريد أن نقول بأنه تبعا للطريقة ذاتها التي يضع بها العالم
بعض المشاكل ويعالجها ،يجد نفسه غارقا ـ طوعا أو كرها ـ في
أسئلة بادية خصائصها وسماتها الفلسفية .إنه ال يوجد ـ اللهم إال إذا
كانت المسألة تشوفا لتحقيق مثال ما ـ علم إيجابي بشكل تام وكلي،
علم تقصى منه كل مناظرة ذات طبيعة فلسفية ،علم يتوصل بصدده
العلماء األكفاء إلى إجماع حقيقي ،علم ال يظل مشكوكا فيه وبالنسبة
له ،إال المشاكل اللحظية التي ال يمكن آجال حلها بواسطة مناهج من
شأنها أن تسكت أي نزاع".