Professional Documents
Culture Documents
المقدمة:
إن مسألة الحقيقة من البحوث الشائكة التي تطرق إليها اإلنسان و اهتم بها ،بدافع الفضول والتطل ًع
لكشف المجهول ،فمشكلة الحقيقة في واقع األمر ال يمكن تصورها إال إذا رجعنا إلى اإلنسان ال ذي
يتعامل معه ،و كشف عالقتـه بما يحيط به ،و الغايات ال تي يص بو إليه ا ألن اإلنس ان ه و المع ني
األول بأمر الحقـيقة ،كما أن الحقيقة ال يمكننـا أن تصورها إال في عالقـتها ب ه ،و تش ترك في ذل ك
كل من الحقيقة الفلسفية و الحقيقة العلمية ،فهل هذا التشابه الحاصل بينهما يمن ع من وج ود م واطن
اختالف بينهما ؟ ومواطن التكامل بينهما ؟
التحليل:
أوجه التشابه:
من أهم أوجه االتـفاق و التشـابه بين الفلسفة و العلوم هو سعيها نحو المعرفة ف إذا ك انت الفلس فة ال
تنـثني عن االستقصاء و البحث و التساؤل ،و مضاعفة الرص يد المعرفـي ،ف إن العلم ب دوره يق وم
بنفس الدور و يسعى إلى نفس الغاية ،و المتمثلة في تحقيـق الغاية ،المتمثل ة في تحقيـق المزي د من
المعرفة بحقائق الظواهر التي يدرسها.
إن الحقيقة العلمية مثل الحقيقة الفلسفية ،نتاج العقل المتأمل الباحث المص مم على كش ف المجه ول،
و هما مًعـا من إنتاج فعالية الشك و التساؤل ،و وضع المعارف السابقة أمام مح ك النق د و التنقيب،
و إعادة النظر في المعارف القائمة؛ مع العمل على تجاوز لما تشكله من عوائق معرفية.
هذا و نجد من جهة أخرى أن الحقيقـتين تستندان إل فكرة الس ببية ،و لكن من خالل و جه تي نظ ر
مختلفـتين ،وفيهما يقوم العقل بالتجريد و التعميم و لكن انطالقًـ ا من مج الين مختلـفين؛ كم ا أنهمـا
مًعـا يعتمدان على الذات ،أي ذات اإلنسان ،وينصبان مًعـا على الواق ع الط بيعي من خالل ظ واهر
الحسية ،وعلى الواقع اإلنساني و تعقيداته .فالعلم منذ نشأته مهتم بالواقع ،و الفلسفة من ذ نش أتها له ا
اهتمام بالعلم الطبيعي و بالواقع كـكل ،مع التركيز أكثر على الواقع اإلنس اني في حركت ه و نم وه و
تغيره.
ثم إن التوصل إليه مع العلم و الفلسفة من حقائق يشكل اقتراًبـا و من الحقيقة في مطلقتيه ا ،و يش ير
إلى أن حقائق العلم مثل حق ائق الفلس فة تق وم كش واهد و عالم ات أم ام ال وعي اإلنسـاني ال ذي ال
يتوقف عن البحث الحقيقة المطلقة في كل شيء قدر طاقة اإلنسان و حسب م ا يتس ع ل ه المج ال أو
يضيق.
إن اإلنسان نفسه يعد دليًال قاطًعـا على وحدة منش أ ك ل من العلم و الفلس فة ،و الس ؤال يعت بر أم ًر ا
مشتركًـا بينهمـا أو بين العالم و الفيلسوف ،و الحـقيقة التي يمسك بها هذا أو ذاك ت ؤدي دوره ا ،و
تؤثر في بنية عقل العالم و عقل الفيلسوف.
إذا كانت الحقيقية الفلسفية و الحقيقة موض وعية كم ا يق ال ع ادة فإن ه من الص عب ج ًد ا وض ع ح د
فاصل بين ما ه و ذاتي و م ا ه و موض وعي من المعرف ة ،ألن هن اك دائُمـا شيئًـ ا من الذاتي ة في
المعرفة الموضوعية ،و شيئًـ ا من الموض وعية في المعرف ة الذاتي ة؛ ب دليل أن معارفنـا هي دائم ا
وليدة قدراتـنا العقليـة المتوجهة نحو العالم.
أوجه االختالف :
رغم ما نالحظه من اتفاق و تشابه بين الحقيقتين العلمية و الفلسفية ،فإننا نجدهما تختلفان في العدي د
من األوجه ،من بينها أن الحقيقـة الفلسفـية هي البحث عن ما وراء الطبيـعة و التغاض ي عن البحث
عن الطبيعة الحسية إذ يعد ما وراء الطبيعة مجال الحقيقة األولى التي تحكم األشياء و تنطل ق منه ا
فالغـاية القصوى من الحقيقة الفلسفية إدراك األسباب األولى و البعيدة ،و هي أقصى م ا يطمح إلي ه
الفيلسوف و الحكيم و ابعد م ا يس تطيع بلوغ ه عن طري ق العق ل؛ أم ا الحقيق ة العلمي ة فهي البحث
العالقات الـثابتة بين الظواهر و يقصد ب ذلك الكش ف عن العل ل القريب ة لظ واهر و هي أقص ى م ا
يطمح إليه العالم ،ال يقتصر االختالف بينهما عند هذا الحّد بل يتجاوز إلى كون الحقيقة الفلسفية هي
الغاية و المبدأ في آن واحد ،مبدأ ينطلق من ه الفيلس وف لتفـسير الك ون و غاي ة ألنه ا النهاي ة ال تي
يتطلع إليها ،بينما الحقيقة العلميـة نجدها غاية فقط ،يسعى العالم لبلوغها و الوص ول إليه ا ،كم ا أن
الحقيقة الفلس فية تتخ ذ من التأم ل و النظ ر العقلـي مس تعملة الش ك المنهجي و التحلي ل المنطقي و
االستنتاج أدواًت لتحقيق الغاية و ذلك راجع لطبـيعة المسائل التي تبحث فيها ،فهي تتن اول المس ائل
ذات الطابع الميتافيزيقي؛ بينما تتخذ الحقيق ة العلمي ة أدوات أخ رى لتحقي ق غايته ا تعتم د بالدرج ة
األولى على المنطق االستقرائي الذي يستخدم المالحظة و التجربة كآلية بحث .هذا ما يجعل معي ار
صدق الحقيـقة الفلسفية انطباق الفكر مع نفس ه لوض وحها ،أم ا معي ار ص دق الحقيق ة العلمي ة فه و
انطباق الفكر مع الواقع ذلك ألن الظواهر التي تبحث فيها مستمدة من الواقع المادي ط بيعي من ه و
اإلنساني فاليقين الحسي و الواقعي هو المح ك له ذه الحقيـقة ،و يتع دى االختالف بينهم ا إلى َك ْو ن
الحقيقة الفلسفية تقوم على اإلدراك الكيفي الذي ينشأ عليه العقل اعتمادا على ما يش ده نح و المطل ق
المتعري من كل قيد ،التام و الكامل الموجود في ذاته .هذا م ا يجعله ا أبدي ة أزليـة فهي واح دة في
ذاتها و ليس ت متكـثرة إذ ال تقب ل التغيـيـر و تص دق في ك ل زم ان و مك ان على خالف الحقيق ة
العلمية التي يتوقف وجودها على غيرها ،فهي تابعة لمؤثرات طبيعيـة و بشرية و عوام ل الحركي ة
في الزمان و المكان مشروطة بطرق البحث و الوسائل المستخدمة فيها لهذا تتميز بكونه ا تقريبي ة،
احتمالية ،متغيرة؛ يقول غاستون باشالر << الحقيقة العلمية معرف ة تقريـبـيـة >> ،و يق ول كـلود
برنارد << يجب أن نكـون مقتنعين بأنن ا ال نمل ك العالق ات الض رورية الموج ودة بين األش ياء إال
بوجه تقريـبي كـثيًر ا أو قليًال >> ؛ و أخ يًر ا تتم يز الحقيق ة العلمي ة بقيامه ا على الق انون العلمـي
المعبر عنه بصيغة رياضية ،تس مح بتفس ير الظ واهر تفس يًر ا موضوعًيـا و التنب ؤ ب الحوادث قب ل
وقوعها ،اعتماًد ا على فكرة الحتمية و انتظام الطبيعة.
أوجه التداخل :
إن هذا االختالف ال يمنع من وجود مواطن تكامل ،يؤديان إلى الكشف عن جوانب المختلفة للحقيقة
المطلقة من خالل المظاهر التــي تـظهر بها لهذا المستـوى أو ذلك ،أو بهذا الموقف العلمي أو بذلك
الموقف الفلسفي .
إن تـاريخ الحقيقتيـن مًعـا و واقعهًمـا الح الي يثبتـان أن الفالس فة كث يًر ا م ا يس تندون إلى العلم في
صياغة إشكالياتهم ،و تبرير مواقـفهم ،أو نقد مذاهب بعضهم البعض .و كثيًر ا ما تنطلق الفلسفة من
الحقائق التي ينتـهي إليها العـلم و من تطورات ه المتالحق ة ،و خصوًصـا تل ك ال تي اتخ ذت ص يغة
ثورات عرفها تاريخ العلم << فقد منحت هذه التط ورات الفلس فة م ادة لتأم ل من جه ة ،و فرص ة
للتجديد في المفاهيم و طرح المشكالت من جهة أخرى >>.
أما أثر الفلسفة في العلم ،فيـبـدو في اعتماد العلم في كثير من الحاالت على نتائج النظريات الفلسفية
و مبادئها و مقدماتها و تساؤالتها ،لالنطالق منها و بناء تجارب ه .كم ا يعتم د على االنتق ادات ال تي
توجهها الفلسفة لنتائجه و مناهجه و مبادئه ليعمـل على تصحيح نفسه ،و على جهودها منصبو على
الوعي بالظاهرة العلمية كظاهرة تاريخية و كفعالية إنس انية دائم ة النم و و التط ور و التغ ير ع بر
الزمن ،مما يؤكد نس بية نت ائج العلم ،و يح رره من ثقت ه المطلق ة بحقائق ه ،و اعتم اده على النزع ة
االستقرائية التي ال تتجاوب مع الفكر المعاصر.
الخاتمة:
إن تميز الحقيقة الفلسفية تميًز ا نوعًيـا عن الحقيق ة العلمي ة راج ع إلى اختالف وجه ة نظ ر ك ل من
العالم و الفيلسوف ،من حيث ارتباط كل واحدة منها بمستوى معين من المس تويات ه ذا الع الم ،ألن
وجهة نظر الفيلسوف أعم و أشمل من نظرة العالم ،لكن ذلك ال يلغي تكام ل النظ رتين في س عيهما
نحو الحقيقة المطلق