You are on page 1of 4

‫الموضوع ‪ :‬هل تكتشف النمذجة العلمية الواقع أم تبنيه ؟‬

‫‪:‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪:‬‬ ‫تمهيد‬
‫امكانية االنطالق من المفارقة التالية ‪ :‬كثيرا ما تعتبر المعرفة العلمية نموذجية من جهة دقتها وصحتها مقارنة‬
‫بالمعارف االخرى وهو مبرر جعلها ارقى المعارف بل يمكن ان يصل االمر الى حدود اعتبار ان المعرفة التي ليست‬
‫علما ليست معرفة اصال انها ضرب من الجهل او الوهم لكن بالتوازي مع هذا االعتبار الذي يرفع من شان المعرفة‬
‫العلمية يشهد تاريخ العلم بالتطورات والتحوالت والثورات والقطائع االبستمولوجية التي تميز هذا الفكر وهو ما‬
‫يكشف عن وضعية مازقية ‪ /‬احراجية ‪ /‬اشكالية للنمذجة العلمية من خالل هذا التوتر بين نموذجيتها من جهة‬
‫وتاريخيتها من جهة اخرى ‪ .‬ان شروط امكان هذا التوتر ــ التي يمكن ان تكون مرتبطة بطبيعة الواقع الذي يتراوح‬
‫بين البسيط والمركب وهو ما يعقد من وظيفة ‪ /‬مهمة العلم االكتشافية او البنائية كما يمكن ان ترتبط بالمنهج‬
‫‪:‬‬ ‫العلمي وهو ما يبرز من خالل تعدد المناهج وتقاطعها ــ تشرع االسئلة التالية‬

‫‪:‬‬ ‫االشكالية‬
‫هل مهمة النمذجة العلمية تقوم على االكتشاف ام البناء ؟ وهل يمكن الفصل بين المهمتين ام انهما يعبران عن‬
‫لحظات تاريخية لمهمة غير مكتملة من جهة انفتاحها المستمر وطلبها المتواصل للكلي ؟ وهل هذه الوظيفة‬
‫االكتشافية او البنائية تتعالى على قابلية التكذيب او الدحض ؟ وهل يمكن ان نفصل هذا الضرب من التمثل للوقع‬
‫المكتشف ام المبني عن " القوة " ( ادغار موران ) او " السلطة " ( فوكو ) ؟‬

‫العنصر االول ‪ :‬النمذجة العلمية و الواقع‬


‫‪ connaissance .‬وتعني معرفة ‪ Scientia‬الفرنسية متاتية من الكلمة الالتينية ‪science‬العلم ‪ :‬ان‬
‫كلمة العلم حسب روبار هو جملة معارف لها قيمة كلية ولها موضوع ومنهج وتتاسس على عالقات موضوعية‬
‫قابلة للتحقق وعند الحديث عن نمذجة علمية هذا يعني وجود مسار تمثلي او فعل تنظير له ابعاد ثالثة هي مسارات‬
‫العقل العلمي ‪ :‬بعد تركيبي وبعد داللي وبعد تداولي وهذا المسار او التمشي المنهجي الذي يسمح بانتاج النماذج‬
‫وظيفته معرفية من خالل التفسير والفهم والتاويل للواقع لذلك يقول غاستون غرانجي ‪ " :‬يتجه العلم في الحقيقة‬
‫الى الواقع " ‪ .‬ان كلمة الواقع الفرنسية ‪ réel/réalité‬مشتقة من الكلمة الالتينية ‪ res/chose‬تدل في‬
‫االستخدام اليومي على حالة االشياء كما هي موجودة اي ما يوجد بالفعل على خالف الخيالي والوهمي والظاهر‬
‫والممكن والنسبي لكن استخدام هذا المفهوم في العلم له دالالت مختلفة بل ومتناقضة مع االستخدام اليومي ذلك انه‬
‫يمكن ان يحيل على الموجود بالقوة والموجود بالفعل ‪ ،‬ما في االذهان وما في االعيان ‪ .‬ان واقع النمذجة العلمية‬
‫هو مفهوم اشكالي نتيجة التعارض بين الدالالت فعلم الفلك مثال يدرس االفالك السماوية والبيولوجيا تدرس الكائنات‬
‫الحية والسيبارنطيقا تدرس المراقبة واالعالم وبالتالي ‪ ،‬وحسب ارسطو ‪ ،‬كل علم يتميز بفرادة موضوعه لكن‬
‫المشكل في نص الموضوع ال يتعلق بوجود الواقع او عدمه وانما يتعلق اساسا بطريقة معالجة هذا الواقع المميز‬
‫‪.‬‬ ‫علم‬ ‫لكل‬
‫العنصر الثـــــــــــــــــــــــــــــــــاني ‪ :‬النمذجة العلمية واكتشـــــــــــــــــــــــــــــــــاف الواقع‬
‫ان وظيفة او مهمة العلم هي االكتشاف ‪ :‬ان فعل االكتشاف ال يعني الخلق واالبداع بل ازاحة الغطاء او كشف‬
‫الحجاب عن شئ موجود ‪ ،‬قائم في الطبيعة ‪ ،‬ماثل امامنا لكن وجوده ال يدل بالضرورة على الحضور الحسي اذ‬
‫كثيرة هي االشياء الموجودة دون ان تكون محسوسة وهذا يعني ان الواقع ال يختزل في ما هو حسي مثال ان العدد‬
‫خمسة هو شئ موجود لكنه ال يوجد في االعيان وانما يوجد في االذهان ‪ ،‬مثال اخر ال ارى انسانا يمشي في‬
‫الشارع وانما ارى زيد او عمر ذلك ان االنسان اليوجد وجودا ماديا وانما هو مجرد فكرة اي ان االنسان كائن في‬
‫االذهان اما زيد فهو كائن في االعيان ‪ .‬ان االعداد واالطوال واالشكال ‪ ،‬في اطار الرياضيات اليونانية ‪ ،‬هي "‬
‫كائنات " ليست من انشاء العقل بل معطاة لنا وتتمتع بوجود موضوعي مستقل عن الذات العارفة وتفرض نفسها‬
‫فرضا على العقل ‪ ،‬انها ماهيات ذهنية تتمتع بوجود موضوعي مستقل وكامل على خالف العالم الحسي الذي يعتريه‬
‫النقص لذلك كانت الرغبة تتجه اساسا الى عالم المعقول وازدراء عالم المحسوس فما كان يستهوي الرياضي‬
‫اليوناني كما يقول بوترو هو البساطة والتناسق والجمال وهي صفات ذاتية في الموضوعات الرياضية ‪ .‬ان هذه‬
‫الواقعية الموضوعية برزت في هندسة اقليدس ونظرية المثل االفالطونية والصور االرسطية ( المثل مفارقة للمادة‬
‫والصور مالزمة لها ) و " الكليات " التي قال بها الفالسفة " الواقعيين " في القرون الوسطى في مقابل‬
‫"االسميين " الذين كانوا يعتبرون موضوعات الفكر مجرد الفاظ ‪ .‬لقد اعتبر بسكال ان الكائنات الرياضية ‪ ،‬كالمثلث‬
‫مثال ‪ ،‬تتمتع بوجود مستقل كوجود هذا الحجر ‪ ،‬الن فكرة المثلث تصدم فكره بنفس القوة التي يصدم بها الحجر‬
‫جسمه يقول مالبرانش ‪ " :‬اذا فكرت في الدائرة او العدد ‪ ،‬في الوجود او الالمتناهي ‪ ،‬او هذا الشئ المتناهي‬
‫المعين ‪ ،‬فاني افكر في اشياء واقعية ‪ ،‬النه لو كانت الدائرة التي افكر فيها غير موجودة ‪ ،‬فاني اذ افكر فيها أكون‬
‫أفكر في ال شئ ‪...‬واذا كانت افكارنا ازلية ابدية ‪ ،‬ثابتة ضرورية ‪ ،‬فال بد ان تكون موجودة في طبيعة ثابتة كذلك‬
‫" ‪ .‬اذا كان هناك اعتقاد بوجود محتوى خاص بالعقل وهي خاصية مميزة للعقالنية الكالسيكية اي االقرار بوجود‬
‫‪.‬‬ ‫كائنات رياضية فان المنهج يقوم على نوع من الحدس‬
‫ان فعل االكتشاف في اطار النمذجة العلمية الحديثة اليفيد االبداع لكنه ال يفيد ايضا المالحظة البسيطة الساذجة‬
‫للطبيعة الن االنطالق من المشاهدة الحسية والبرهنة عليها ال يمكن ان يؤدي اال الى تمثل خاطئ للواقع وهو ما‬
‫يبرز مثال من خالل نظرية بطليموس حول نظام العالم وهي تمثل نظري لواقع حسي وهو واقع االنسان العادي الذي‬
‫يعمل في الحقل ويشاهد كل يوم شروق الشمس وغروبها ويشعر بثبات االرض بل ان الحديث عن دوران االرض‬
‫ضرب من الجنون النه يتناقض مع المعطى الحسي ‪ .‬ان فعل االكتشاف ‪ ،‬في اطار العلم الحديث ‪ ،‬يعبر عن العقل‬
‫اي ان العقل اوال والواقع ثانيا وهو تحول اعتبره كانط " ثورة منهجية " من خالل االنتقال من منهج حسي " ما‬
‫بعدي " الى منهج عقلي " ما قبلي " ‪ ،‬االنتقال من اسبقية الحسي ‪/‬الطبيعي الى اسبقية العقلي ‪ /‬التمثل الذهني ‪،‬‬
‫من اسبقية الموضوع الى اسبقية الذات التي اصبحت تحتل موقع الصدارة ‪ .‬ان العقل مع كانط يحتل موقع الصدارة‬
‫" ينبغي له ان يحمل الطبيعة على االجابة عن اسئلته ‪ ،‬واال تدعه تقوده كما لو كان مشدودا اليها شدا " ( كانط )‬
‫وهو ما يجعله ال يرى في الطبيعة اال ما ينتجه هو وبالتالي هناك عالقة جدلية بين العلم والواقع الطبيعي ‪ ،‬بين‬
‫التمثل العلمي والواقع التجريبي لذلك يقول كانط ‪ " :‬فينبغي اذن ان يتقدم العقل الى الطبيعة ماسكا بيد مبادئه التي‬
‫تستطيع هي وحدها ان تمنح الظواهر المتطابقة سلطة القوانين ‪ ،‬وباليد االخرى التجريب الذي تخيله وفق تلك‬
‫المبادئ ‪ ،‬حتى يتعلم من الطبيعة ال محالة لكن ال كتلميذ يدع المعلم يقول كل ما يحلو له قوله ‪ ،‬بل على العكس من‬
‫ذلك كالقاضي يجلس للقضاء ‪ ،‬فيحمل الشهود على االجابة عما يطرح عليهم من االسئلة " ‪ .‬ان االبستمية الحديثة‬
‫تقوم على منطق االكتشاف العلمي لما هو معطى في الطبيعة التي استحالت الى " كتاب مفتوح مكتوب باحرف‬
‫‪.‬‬ ‫رياضية " حسب تعبير غاليلي‬
‫العنصر الثــــــــــــــــــــاني ‪ :‬النمذجة العلمية بنــــــــــــــــــــاء الواقع‬
‫ان المعرفة العلمية لم تعد تكتسب عن طريق الكشف واالكتشاف فما يعرف اليوم بالعلوم االصطناعية على غرار علم‬
‫التحكم او السيبارنطيقا وعلوم التنظيم والقرار يؤكد ان المعرفة العلمية بنائية وليست نتاجا للتجربة وهو ما مثل‬
‫نقلة نوعية في االبستمولوجيا ‪ :‬من ابستمولوجيا كالسيكية وضعية الى ابستمولوجيا معاصرة بنائية يقول بشالر ‪:‬‬
‫" ال شئ معطى ‪ ،‬الكل منشا " وبالتالي هناك تحول كبير طرا على مفهوم الواقع الذي تتعامل معه النمذجة العلمية‬
‫فال وجود في هذا التصور المعاصر لمحتوى دائم للعقل ‪ ،‬ال وجود لمعطيات عقلية موضوعية خالصة ‪ .‬ان العقل في‬
‫اطار النمذجة العلمية المعاصرة هو مجرد قوة او فاعلية ‪ ،‬انه مسار او نشاط حسب قواعد معينة يبني منظومات‬
‫فرضية استنتاجية بقدر الظواهر التي يفترضها وهذا يعني ان هذه البناءات الفكرية التي ينشئها العقل العلمي‬
‫المعاصر لم تعد تقاس بمدى مطابقتها للواقع التجريبي بل قد ينجز العقل العلمي بناءات نظرية اكسيومية قد ال‬
‫تنطبق على واقع معين ولكنها تبقى صحيحة ومتماسكة من الناحية المنطقية الن الواقع في اطار هذه االبستمية‬
‫تحول الى واقع افتراضي مثلما افترض ريمان مكانا كروي الشكل بدال من المكان المستوي الذي شيد عليه اقليدس‬
‫هندسته ‪ .‬ان الواقع الذي تعامل معه الهندسي ريمان هو واقع افتراضي وقد توصل الى نتائج هندسية مختلفة تماما‬
‫عن النتائج التي توصل اليها اقليدس الذي تعامل مع واقع موضوعي قريب من واقعنا الحسي ‪ .‬بناء على هذه‬
‫التحوالت في الواقع اصبحت النمذجة العلمية فرضية استنتاجية تنطلق من فرضيات توضع وضعا ولم يعد موضوعها‬
‫" كائنات " ذهنية بل اصبح موضوعها منظومات من العالقات التي ينسجها المنهج من االوليات وهذا يعني ان‬
‫)‬ ‫الواقع تحول من معطى موضوعي الى بنية ( مثال بنية الذرة بوهر‬
‫يقول غستون غرانجي ‪ " :‬ان مفهوم الواقع هو انشاء يتضمن واجهة من الراهنية وواجهة مركبة من االفتراضي‬
‫واالحتمالي " وهو ما يعني ان الواقع في اطار النمذجة العلمية المعاصرة ال يمكن ان يختزل في التجريبي والراهني‬
‫والحتمي وانما يجمع بين ابعاد مختلفة منها النظام والالنظام او الحتمي واالحتمالي وهو ما كان مستبعدا في اطار‬
‫النمذجة التحليلية ‪ .‬ان الواقع لم يعد بسيطا حيث ينمذج بطريقة تحليلية وانما اصبح مركبا لذلك ينمذج بطريقة‬
‫نسقية يقول ادغار موران ‪ " :‬التفكير المركب هو تفكير يعمل في نفس االن على التمييز والوصل ‪ ،‬ان الثقة في‬
‫حتمية كونية قد انهارت والكون ال يخضع الى سيادة نظام مطلقة ‪ ،‬انه لعبة ورهان حوار بين النظام والفوضى "‬
‫العنصر الثـــــــــــــــــــالث ‪ :‬النمذجة العلمية بمـــــــــــــــــــاهي اكتشـــــــــــــــــــاف وانشـــــــــــــــــــاء للواقع‬
‫ان كل هذه االشكال من البراديغم ( االكتشاف والبناء) تمثل لحظات من تاريخ الفكر العلمي بما هو فكر متطور وفي‬
‫بحث مستمر عن حقيقة الواقع ان كان معطى ام مفترض وهو ما يثبت ان النمذجة العلمية ليست وثوقية وال ريبية‬
‫وانما ذات طابع منفتح ونقدي وحواري وفي هذا االطار يجعل كارل بوبر مبدا قابلية التكذيب او الدحض محددا‬
‫‪.‬‬ ‫لعلمية العلم كما يؤكد بشالر حضور الخطا في مسيرة العلم‬
‫ان النمذجة العلمية سواء كانت تحليلية او نسقية اي سواء اكتشفت الواقع او انشاته فانها تتفاعل مع القوة حسب‬
‫منطق ادغار موران " ثمة من االن فصاعدا تفاعل ال مثيل له بين البحث والقوة " وهو ما يعني ضرورة تجاوز‬
‫الرؤية السطحية التي تدين السياسة وتبرا العلم وتعتبره " حسنا جدا ‪ ،‬انه اخالقي " ‪ ،‬ان هذه الرؤية تجهل ان "‬
‫العلماء فاعلون في مجاالت السياسات العسكرية والحكومية " والحجة على ذلك طلب انشتاين اعظم علماء عصره‬
‫من الرئيس االمريكي روزفلت صنع القنبلة النووية الحرارية ‪ .‬ان النمذجة العلمية التي تقوم على استراتيجيا‬
‫االهمال او االغفال ( باسكال نوفال ) من اجل فهم الطبيعة واالنسان لم تعد منفصلة عن استراتيجيات اخرى قد‬
‫تقوم هي ايضا على االهمال لكن اهمال ماهو " انساني " بحثا عن النجاعة والمنفعة والمردودية وهو ما يشرع‬
‫لالمل في استراتيجيات االستحضار لالنساني وااليتيقي‬

‫‪:‬‬ ‫الخاتمة‬
‫ان النمذجة العلمية سواء قامت على االكتشاف او البناء للواقع فهي مسار او مهمة تاريخية محكومة بمنهج جدلي‬
‫اساسه النفي واالثبات مطلبه " وجود حد امثل للمعرفة يستطيع الفكر البشري ان يدركه ويمكن ان يسم هذا الحد‬
‫االمثل بالحقيقة الموضوعية " ( انشتاين وانفيلد ‪ " :‬تطور االفكار في الفيزياء " )‬

You might also like