Professional Documents
Culture Documents
* تمهيد :واجهت العلوم المهتمة باإلنسان صعوبات عدة من أجل اكتساب صفة العلمية ...لم يعد بإمكان منظومة
المفاهيم السائدة زمن اإلبستمولوجيا الكالسيكية (المعرفة العلمية الكالسيكية) لم يعد بإمكانها استيعاب ما تطرحه
التطورات العلمية من إشكاليات خاصة بعد ما يعرف بـــ"أزمة اليقين" في العلم الرياضي و الفيزيائي لذلك بدت "النمذجة
ّ
" كـــأنها الحل األمثل من خالل استبدال شروط المعرفة العلمية الكالسيكية ( الترييــــــــض و الحتـــمية و الموضوعية)
بأخرى جديدة ،و من خالل تحديد جديد لطبيعة المعرفة ذاتها فماذا نعني بالنمذجة ؟ و ما هو النموذج العلمي ؟
يعرف نوال مولود النموذج قائال " :هو التصميم و الشيء المصغر و الذي يتحقق بالفعل من خالل إعادة تشكيل الواقع
سواء تعلق األمر بمعمار أو بأداة ميكانيكية ..أو غير ذلك" و يفيد النموذج الرسم الهندسي أو الموضوع المختزل في
مثال مصغر أو في شكل تبسيطي للتعبير عن موضوع معين .إذن النموذج ليس فكرة مثالية مثلما هو الحال عند
أفالطون فال يشير إلى () Modèle de perfectionأو إلى معنى ( ) exemplaire, idéalو ال ينبغي أن يفهم
النموذج على معنى المثل األعلى العلمي الذي تتخذه بقية العلوم نموذجا تحاكيه و تقلده إنما هو تمثيل مادي و تجسيم لواقع
نريد أن ندرسه علميا و نطلق على هذا "الواقع" لفظ "نسق" ألنه مبني بشكل مركب
( نسق طبيعي فيزيائي /نسق تقني ميكانيكي /نسق صناعي معماري /نسق إنساني )...
النمذجة ( كفعل إنشاء النماذج ) بهذا الفهم هي عملية تركيب تنطلق من حالة واقعية لتنشئ بشأنها شكال معينا أو مثاال
أو نموذجا يمكن العالم من إعادة بناء الواقع بكيفية مغايرة .
-النموذج ليس هو الواقع المعطى الذي كانت تتحدث عنه المدرســــــة الوضعية (الوضعية اتجاه فلسفي يؤمن بالعلم و
بنجاعته و يقصي المعارف التي ال تتبع التمشي المنهجي للعلوم الصحــــــــــيحة ) .موضوع النموذج هو الواقع و قد
اتخذ أبعادا أخرى لذا فإن الموضوعية العلمية لم تعد موضوعية انطولوجية ،أي لم تعد موضوعية همها الوحــيد التطابق
و االلتصاق بالواقع المعطى و كشف أسراره ...
الموضوعية العلمية مع النمذجة هي بناء نظام لواقع سمته الفوضى لذا نقول أن االنطالق من الواقع المعطى المباشر
ليس من مهام العلم اليوم و إنما مهمة ا لعلم األساسية هي بناء واقع بناء فكــــريا حرا يستند إلى الخيال العلمي .فما يهم
النموذج ليس نسخ الواقع و تكراره أو تحليل أجزائه فهذه مهمة العلم الكالسيكي و إنما تحويل ما هو واقعي إلى
مشروع و برمجته من أجـــــل التحكم فيه .
1
ب /التعبير عن النموذج :
-نعبر عن النموذج بأشكال مختلفة :في صور لفظية (استعمال اللغة األدبية ) ،في شكل تصاميم ،في شكل رسوم بيانية ،
في صور رياضية ...
/2أبعاد النمذجة
إن ما نستنتجه من داللة النموذج أن عناصر هذا األخير ال تشير بالضرورة إلى مشاهد عينية واقعية ،فالمنمذج يعلم
مسبقا أن نموذجه ال يدعي التطابق مع الواقع المعطى تطابقا كليا ،لذا نقول ال وجود لنموذج كامل و نهائي فالنموذج قابل
للتعديل و للتغير ،كما أن ال نموذج ال يقول كل الواقع و إنما يختزله ينتقي منه بعض المظاهر و يهمل أخرى بحسب
أستراتيجية العالم المنمذج و أهدافه فتكون للنمذجة حينئذ أبعاد ثالثة :تركيبي و داللي و تداولي
البعد التركيبي يتعلق بالصياغة الصورية للنموذج إذ يشمل كل ما يتعلق بالعناصر األولية كاألرقام والرموز والقواعد التي
تنظيم هذه الرموز في عالقات باإلضافة إلى الصيغ والقضايا ...في البعد التركيبي للنموذج نتحدث عن استخدام للغة
الصورية الرمزية الرياضية دون أن تكون الرياضيات شرطا ضروريا (بخالف العلم الكالسيكي الذي يعتبر الرياضيات
شرطا ضروريا )
-نتحدث في البعد التركيبي عن تفكير رياضي فالمنمذج يوظف الرياضيات قدر اإلمكان و يحرص العالم على أن تكون
عناصره األولية منتظمة بشكل صارم .هذا االنتظام يعرف بــــ" البنية " .ما هو مفهوم البنية ؟
البنية هي نسق من العالقات المحكمة التي تربط بين عناصر منسجمة داخليا و بمجرد حدوث طارئ على أي عنصر
فــإن باقي العناصر تتأثر و تتفاعل فيما بينها .البنية يقيمها العالم ال استنادا إلى واقع و إنما إلى محض خياله ،فالعلم
اليوم بعد البحوث الميكروفيزيائية تخلص من عبء الواقع المعطى ،تخلص من ضرورة االنطالق من المالحظة (العلم
الكالسيكي :يضع مراحل يعتبرها ضرورية إلنتاج العلم :المالحظة – الفرضية – التجربة – االستنتاج ) (العلم المعاصر
التخلص من " مالحظة بيـّـن أن الواقع المجهري (الذي يدرس الذرة) ال يمكن أن ننشئ بشأنه مالحظة علمية )
الواقع " ألن الواقع يستحيل بلوغه و ال يمكن إدراكه في ذاته .يقول اينشتاين "من الالمفهوم أن يكون العالم مفهوما "
-إذا كان العلم الكالسيكي يقر بأن "الواقع منظم" و على العالم اكتشاف هذا النظام فإن النمذجة لم تعد كشفا لواقع أو اكتشافا
لقوانين عامة و إنما أصبحت معرفة إنشائية بنائية للذات العالمة دور أساسي في ذلك يقول غاستون باشالر ((ال شيء
معطى الكل منشأ ))
2
ب) البعد الداللي (الصالحية التجريبية )
-الصياغة الصورية للنموذج (البعد التركيبي) ليس لها حقيقة واقعية إال بتطبيقها تجريبيا و ذلك بتأويل الرموز المجردة
و إعطائها مضمونا أي بترجمتها فيزيائيا - .البعد الداللي هو البعد الذي تتوافق فيه الحسابات الصورية مع القياسات
العينية فالصالحية المنطقية ل لنموذج تكون بال معنى إن لم ترتبط بصالحية تجريبية أي بمالءمة الواقع الحسي
-المعرفة العلمية أصبحت تعني القدرة على استنتاج حالة واقعية من موضوع تفكير يقول غاستون باشالر ((العلم ال ينطلق
من الواقع و إنما يتجه إليه ))
صالحية النموذج ال تقتصر على مالءمة الواقع ( البعد الداللي ) و إنما تتمثل أيضا في الغايات و األهداف التي يسعى
المنمذج إلى تحقيقها .بعد أن كان العلم الكالسيكي ينكر الحديث حول الغايات و يستبعد الغائية من مجاله المعرفي
المو ضوعي ها هو العلم المعاصر يحدد لنفسه غايات و يعتبر أن العلم ال يقوم إال بعد تثبيت بعد تداولي و اإلجابة عن
سؤال :لماذا نعرف ؟
-العلم الكالسيكي كان يعتبر المعرفة العلمية معرفة من أجل المعرفة (علم من أجل العلم ) يطلب الحقيقة لذاتها ،أما
النمذجة باعتبارها التمشي المنهجي المعاصر للعلم فتعتبر أن صالحية النموذج ينبغي أن تدرك التحكم و السيطرة
المنهجية على الواقع .إن العقالنية العلمية اليوم أصبحت عقالنية مطبقة تنشد الفاعلية و النجاعة بما هي نجاعة التحكم في
الواقع و في الوضعيات الال -متوقعة ( الزالزل و الكوارث الطبيعية و البيئية ) و هذا يعني أن النمذجة ليست إال الفكر
المنظم لتحقيق غاية عملية ،فالنموذج هو بمعنى ما ،نظرية موجهة نحو الفعل
-البعد التداولي للنمذجة هو البعد الذي من خالله يظهر حرص العلم على وصل المعرفة باإلنسان و عدم ترك فراغ بين
"ما نعرفه " و "ما نحتاجه" فالعلم اليوم هو علم يحقق مصالح اإلنسان و يشدد على منفعته .
-انتقلنا من خالل عقالنية النمذجة من معرفة تأملية تنشد الحقيقة لذاتها إلى معرفة تطبيقية تهتم بالغايات العملية و الفعلية
النمذجة ال تهتم بالواقع إال من أجل الفعل فيه . فتظهر النماذج في هذا البعد كوسائل سيطرة و تحكم
)3حدود النمذجــــة
-النمذجة بما هي استراتيجيا إهمال ( تركز على جزء محدد من الواقع و تهمل الباقي ) ليست وفية للواقع المدروس
"فالخريطة ليست األرض"
3
-النمذجة تعتمد آليات اإلخفاء و اإلغفال و اإلختزال عمال بالقاعدة ..يقول (( ال تنظروا إلى ذاك ،انظروا فقط إلى هذا))
-تخلت النمذجة عن "الموضوعية" و حياد العالم تجاه موضوع بحثه و أصبح العلم وجهة نظر المنمذج الشخصية بناء
على خياراته المنهجية و مشروعه
-ا لحقيقة باعتبارها غاية المعرفة عموما و العلمية خصوصا تقتضي المطابقة بين المعرفة وموضوعها هو ما لم تلتزم به
النمذجة ،حيث أنها تعتبر أن صالحية النموذج ليست أبدا إال مقاربة من بين مقاربات أخرى ممكنة ..
-النمذجة تنفي االعتقاد السائد بأن العلم ينشئ تفسيرا شموليا و يقينيا عن الواقع...كما لم يعد من مهام العلم اليوم البحث عن
"قوانين عامة" للواقع
-معيار المالءمة الذي استبدلت به النمذجة معيار المطابقة كان له تبعات على مفهوم "الحقيقة" و "الصواب" فالجدار
الفاصل بين "الخطأ" و "الصواب" قد سقط ليترك المجال للصالحية و للفعل
-استبدلت منطق"التفسير" بمنطق "الفهم" معتبرة أن زمن البحث عن حقائق يأتي بها التفسير قد ولى و انتهى
* الحدود االبستمولوجية تبررها النمذجة بكون "الواقع" ال متناهي التركيب و تصعب عقلنته إال بالتبسيط و اإلختزال
و بأنه يشهد فوضى تعسـّــر عملية فهمه إال بتدخل الذات العارفة التي تنظم تلك الفوضى
هنا المقاربة النقدية تتعلق أساسا بالسؤال التالي :ارتباط العلم اليوم بالغائية هل ورطه في السياسة و االقتصاد ؟
-ارتباط العلم باألهداف و الغايات يجعل العلم اليوم عاجزا عن نقل "الواقع" لنا إال من خالل أهداف العالم المنمذج
و مصالحه و المشروع الذي يشتغل عليه فتصبح المصالح هي المحددة للعلم و ليست المعرفة .
-االرتباط بالغائية نقل العلم من ب حث يجريه العلماء لغايات معرفية إلى شأن تراهن عليه الحكومات و صنـّــــاع القرار من
أجل الحصول على القوة و بسط النفوذ
-من أجل خدمة المصالح السياسية تحول العلم إلى مشروع تدمير للطبيعة (الخطر اإليكولوجي و التلوث )...المنمذج
أصبح اليوم أداة بيد السياسيين و رجال األعمال و القادة الحربيين ...
-االرتباط بالمصالح و الغايات أفضى إلى تغافل اإليتيقي و األخالقي و بالتالي قتل ما هو إنساني ( تورط أينشتاين في
اقتراح صنع القنبلة النووية على الرئيس األمريكي روزفلت سنة 1939لتحقيق توازن الرعب مع األلمان و قد استعملت
القنبلة بعد ذلك في الحرب على اليابان )
" -أالن باديو" :النمذجة ال تمثل السمة المميزة للعلم وإنما هي "الصورة البرجوازية للعلم" ،صورة العلم المعولم الذي ال
يحرجه االرتباط مع الرأسماليين و ال تحرجه سمته البراغماتية النفعية على حساب اإليتيقي و اإلنساني .
هذا ما يدعو العلم اليوم إلى إعادة النظر في رهاناته حيث من الضروري أن يستبدل العلم رهان السيطرة على
الطبيعة برهان آخر هو "تحرير اإلنسان" و هذا الرهان ال يمكن إدراكه إال بإصغاء أهل العلم ألهل التفكير الفلسفي هذا
التفكير النقدي الذي يعكس أبعادا أخرى للوجود اإلنساني يحتاجها العلم ليكون علما إنسانيا .
بالتوفيـــــــق
4