Professional Documents
Culture Documents
نمذجة
نمذجة
مقدمة
إذا كان العلم يسعى قدر اإلمكان إلى تحقيق أكثر ما يمكن من الصرامة والموضوعية سواء من جهة
النظريات والحقائق -التي يكتشفها أو من جهة النتائج التي يبرهن عليها أو من جهة المبادئ التي يؤسس
عليها قوانينه أو المناهج التي يعتمدها لبناء مشاريعه المعرفية ،فإن استخدام النمذجة اليوم فرض على
العقل العلمي خاصة وعلى االبستيمولوجي -بصفة عامة كثيرا من المراجعات ولعل أهمها تلك المراجعة
التي اقتضتها -عالقة النموذج العلمي بالواقع الذي يدرسه العلم
فهل أن استخدام النماذج العلمية يسمح للعلم بدراسة ما هو معطى من الواقع الموضوعي إم يفرض عليه
إضافة أبعاد جديدة إلى هذا الواقع كالبعد الخيالي والبعد االفتراضي -؟
نالحظ أن هذا الموضوع يحتمل زوجا -مفهوميا ،طرف -أول يتمثل في "النموذج " وطرف -ثاني يتمثل في
" الواقع " .والمقصود بالنموذج -حسب هذا السياق هو النموذج العلمي باعتباره صياغة تبسيطية
وتجسيمية يقوم بها المنمذج لظاهرة علمية مدروسة أو لنسق طبيعي ما سواء من أجل فهم هذه الظاهرة
.أو من أجل فهم النظرية أو من أجل بنائها .أما "الواقع" فهو يعني الموضوع الذي يدرسه
من المتعارف عليه أ ن العلم يدرس الواقع الموضوعي -سواء كان معطى في الطبيعة أو منشأ في
المخبر .ولكن اذا كان العلم يستخدم النماذج العلمية فهل يعني ذلك انه قادر على تجاوز المعطى وإضافة
أبعاد جديدة للواقع؟
قد يدفعنا -االستخدام العلمي للنمذجة إلى الكشف عن األبعاد الجديدة للواقع الذي يدرسه العلم الن عملية
النمذجة ليست نمذجة لما هو معطى فحسب ،خاصة و أنها فرضت علينا تجديد مفهومنا للمعرفة ،إذ لم
يعد األمر يتعلق بالمعرفة الموضوع -فحسب أي المعرفة التي تكتفي بدراسة الوقائع الطبيعية بل كذلك
بالمعرفة المشروع .كما أن النمذجة حررت العلم من شرط الموضوع ،ونعني بذلك أنه لم يعد هذا
الشرط ضروري؛ ألنه في القديم ال يكون العلم علما إال إذا نجح في تحديد موضوعه بدقة وبضرب من
.االستقاللية
وباإلضافة إلى ذلك نجحت النمذجة في أن تفرض علينا مفهوم مراجعة الحقيقة العلمية ،فبعد أن كانت
تخضع إلى قيمتي الصواب والخطأ بحسب مدى مطابقتها للواقع المعطى .الن الحقيقة بهذا المعنى تعني
المطابقة بين القانون أو التصور -أو الحكم المعرفي وبين الواقع أي الموضوع -بصفة عامة .وكأن هذا
الواقع معيار الحقيقة والتجربة هي القول الفصل أي النهائي في القبول بهذه الحقيقة أو تكذيبها -.ولكن مع
النمذجة وقع استبدال مفهوم الحقيقة بمفهوم الصالحية بحسب ما تقتضيه الشروط -االكسيومية
وعندئذ فكل هذه المعطيات تكشف لنا عن مدى فاعلية النموذج العلمي في الواقع المدروس .إذ أن هذا .
الواقع لم يعد مختزل في بعد واحد وهو المعطى بل هناك أبعاد أخرى يجب إضافتها -،فالنمذجة العلمية قد
تهتم بظواهر معطاة في الطبيعة وتصوغها في نماذج مختلفة من أجل فهمها -ومن أجل اكتشاف قوانينها-
الفيزيائية والرياضية والبيولوجية وغيرها من القوانين .
اذ لم تكتف النمذجة بدراسة ما هو معطى من المواضيع الن ذلك يحصرها في ما يعرف بالمعرفة -
الموضوع ، -بل إنها أضافت أبعادا جديدة للواقع .فالنموذج -العلمي ليس نمذجة للمعطى فحسب بل هو
كذلك نمذجة لما هو خيالي .فمثال عندما نعود إلى الفيزياء النظرية وخاصة نظرية النسبية ألينشتاين
نكتشف أنها نشأت من الخيال ثم وقع تدعيمها بحسابات منطقية ورياضية دقيقة ؛ ولم تجد ما يعاضدها-
في التجربة سواء بالنفي أو باإلثبات .ثم أن المنمذج ال يكتفي بما هو معطى بل يستطيع أن يتخيل
مشاريع -معرفية مختلفة ويجسمها -في نماذج ثم يحولها إلى واقع بحسب ما تقتضيه الحاجات االجتماعية
واإلنسانية ومن هنا فالنمذجة العلمية ال تكتفي بالواقع المعطى بل تضيف إليه وتوسع من دائرته و إذا
عدنا إلى واقعنا الراهن فهناك بعدا هاما من الواقع ال يمكن أن نغض عليه الطرف -وهو البعد االفتراضي-
الذي يتعلق باألنظمة المعلوماتية
نستنتج إذن أن النموذج العلمي ال يكتفي بما هو معطى من الواقع بل و سع من دائرته وأضاف إليه أبعادا
مختلفة كالبعد المفترض والبعد االفتراضي وحتى البعد الخيالي .الن هذا البعد كان لوقت طويل يعتبر من
الالمعقول الذي ال يحق للعلم أن يتخذ منه موضوعا لدراسته .فهذا االستنتاج يجعلنا ندحض ما ألفناه لدى
المدرسة الوضعية .الن الوضعية اختزلت العلم في ما هو تجريبي و فرضت عليه أن يكتفي بدراسة ما
هو معطى إلى درجة أنها اعتبرت مسألة تحديد الموضوع -شرطا -أساسيا من شروط علمية العلم
فالنموذج العلمي إذن قد نجح في تحرير -الواقع من الشروط -العقالنية الكالسيكية .ولذلك نتبين تفوقه
الواضح على التجربة .فالتجربة التي تعتمد الفرضية والمالحظة والتثبت التجريبي ثم االستنتاج ال يمكن
أن تستخدم في شأن ما هو معطى بينما النموذج العلمي ال يكتفي ال بما يمكن مالحظته فقط .ولكن هل
يمكن أن نختزل دور النموذج في التعبير عن الواقع؟
ال يمكن أن نختزل عالقة النموذج بالواقع -في ما تضيفه النمذجة للواقع المدروس من أبعاد مختلفة ،بل
كذلك قد ينجح النموذج في التعبير عن هذا فالنموذج العلمي له تركيب معين وبنية اكسيومية معينة تتألف
وكل متغير -من هذه المتغيرات يعبر عن جزء من متغيرات أساسية ومتغيرات -وسيطية
من الواقع سواء كان واقعا -موضوعيا أو مفترضا -أو افتراضيا -أو خياليا
فمثال عندما نعود إلى البنية االكسيومية لنظرية النسبية الينشتاين نتبين أن كل متغير من بنيتها
االكسيومية له داللة معينة وتعبر -عن شيء ما في الواقع
ومن هنا نتبين أن كل نموذج علمي له بعد داللي بقدر ما يجعله قادرا على أن يعبر عن النظرية العلمية
.أو النسق العلمي ال ويعبر بنفس الكيفية على الواقع المدروس-
نستنتج إذن أن النموذج العلمي يضفي أبعادا مختلفة للواقع ويوسع -من دائرته كما يستطيع -أيضا أن يعبر
عنه ضمن بنية اكسيومية وبحسب ما تقتضيه المتغيرات الوسيطية التي هي إبداعات حرة يختارها
.المنمذج
ولكن إذا كانت النماذج إبداعات حرة أال يمكن تخل هذه االختيارات بموضوعية العلم على مستوى
دراسته للواقع وفي نفس الوقت يحوله إلى مجرد لهو فكري ؟
إذا كان العلم يسعى إلى دراسة الواقع وفهمه ووضع قوانين قادرة على تفسيره والتحكم فيه ،فالبد من
االلتزام بشرط -الموضوعية ،لكن ما يعاب على استخدام النماذج لبناء القوانين والنظريات -العلمية هو
غياب الموضوعية .وإذا كانت النماذج اختيارات حرة فيعني ذلك أن تتحول إلى مجرد لهو فكري ال
يخضع إلى أي شروط -سواء الشروط -االكسيومية ،وهو األمر الذي يجعلها فيحل من كل واقعية .وفضال
عن ذلك ،إذا كان المنمذج يتبع استراتيجيا -اإلغفال في تعامله مع الواقع المدروس ،فذلك يعني أن
الخصائص الواقعية للظاهرة المدروسة التي ال يستطيع المنمذج إقحامها -في النموذج يكتفي بإهمالها ،فإنه
.بهذه الكيفية يفقد العلم موضوعيته ويتحول النموذج إلى عائق معرفي-
فكل هذه االعتراضات قد توحي بمحدودية قدرة النموذج على مساعدة العلم في فهم الواقع ومحدودية
قدرته على بناء القوانين و النظريات تم ك ها علميا العلمية .وهذه المحدودية ن التجربة باعتبارها منهج
كالسيكيا -من أن تستعيد دورها في بناء القوانين والنظريات -العلمية و لكن ذلك ال يعني االستغناء عن
النموذج العلمي تماما ،وبنفس الكيفية ال يمكن االستغناء على التجربة تماما؛ الن كالهما يساعد العلم
على بناء القوانين والنظريات و على فهم الواقع بالكيفية التي تكون عليها أبعاد الواقع .أي إذا سعى العلم
إلى فهم وقائع -تجريبية ومعطيات -في الطبيعة ،فالتجربة تكون أكثر صرامة وأكثر دقة من النموذج ،ولكن
إذا سعى العلم إلى فهم وقائع مفترضة أو افتراضية يستطيع النموذج أن يكون أكثر نجاعة ،وأقل كلفة
.اقتصادية من التجربة
إن اعتماد النمذجة في بناء العقل العلمي يسمح للنماذج بتبسيط الواقع وفهمه وتفسيره ،كما يسمح لها
بإضافة أبعاد جديدة له .وفي -نفس الوقت يدفعنا -الى مراجعة مفاهيم أساسية مثل مفهوم الحقيقة التي لم تعد
تعني المطابقة للواقع بل تعني الصالحية التي تقتضي االلتزام بالشروط -االكسيومية .ولكن إذا افترضنا-
أن الواقع توقع" فهل يستطيع النموذج العلمي أن يحقق توقعا -صارما ودقيقا بشأن الظواهر التي يدرسه
العلم في الواقع وما ستؤول -إليه في المستقبل؟ أم أن دوره يتوقف عند التبسيط واالستكشاف فقط؟