Professional Documents
Culture Documents
لقد بذل اإلنسان جهداً كبرياً من أجل أن يرتبط ويعيش يف عامل مفهوم ومنظم ،حيث تتغلب عليه حالة
الفوضى والقلق ألول مواجهة مع الطبيعة.كما إنه دائم البحث عن مربرات وجوده الذي ال يستطيع أن يفهمه
حىت هذه اللحظة ،وال يتوقف اجتهاده ملعرفة وكشف حقيقة العامل واحلياة وبداياهتا ،وتشغله الغايات
.والنهايات ،وتقصيه املعريف دائماً مرتبط بتطوره النفسي والعقلي عرب التاريخ
وما حبثه املضين عن مربرات وجوده والعامل الذي حييط فيه إال لكي جيعل حلياته معىن وهدف وغاية وسبب
يعيش من أجله ،بعد ما كانت حياته البدائية شبيه حبياة احليوانات حتركه غرائزه القوية إلرضاء متطلباهتا ،ومل
يكن عقله إال تابع يضع اخلطط والتدابري إلشباع حاجة اجلسد وغرائزه .لكن عقل اإلنسان مل يتوقف عن
التقاط وخزن والتعلم مما يصله عن طريق املالحظة والتجربة ،ملا حيدث حوله من ظواهر يتكرر بعضها ،ومما
حيدث من مصادفات تنمي وعيه وترتقي بإنسانيته وتنتشله تدرجيياً من بدائيته وتروض غرائزه ،وتنشط قدرته
.الفكرية وجتدد وتوسع معارفه
ألن الفكر اإلنساين يف وثبته الدائمة ال يقف عند إطار ،وال يهدأ يف مستقر يطمئن إليه ،أو يركن ملعرفة يظنها
.مطلقة ال يأتيها اخلطأ .فهو يف حركة دائبة تتجاوز دائماً ما وصلت إليه معرفته
لقد امتاز اإلنسان بقدرته العقلية يف تنمية معارفه وتنوعها ،اليت نقلت اإلنسان من احلياة البدائية إىل التطور
العلمي ألفاق واسعة ،منتفعاً من اكتشافاهتا يف علوم الطب والعمران والطاقة ،والفضاء وجزئيات الكون
والنجوم املقزمة واملنطفئة ،ويف العلوم الذرية والرياضية الفيزيائية ،والبيولوجية وهندستها الوراثية واالستنساخ،
.ويف علوم الكمبيوتر ودراسة واستكشاف أعماق البحار واحمليطات وغريها من العلوم األخرى
أن دميومة هذه املعارف ،وقدرة اإلنسان على اإلبداع واخللق الدائم ،بدأت عرب دهشته اليت تستفز منابع فكره،
.ليطرح سؤاله الفلسفي ماذا؟ أو ملاذا؟ ومن أين أو من هو؟ وغريها من األسئلة
فمن ال يسأل ويتساءل ويندهش ماذا ميكنه أن يعرف وأن يتعلم .لذلك جيتهد اإلنسان يف البحث عن أجوبة
وتأويالت ألسئلته ،اليت أخذت يف مراحلها األوىل تعليالً وتأويالً أسطورياً دينياً .يعتقد بعض املفكرين أن
ميول اإلنسان ،لتعليل ما حيدث يف الوجود تعلياً دينياً ،ألن اإلنسان متدين بفطرته .على سبيل املثال يرى
هيجل -إن اإلنسان وحده الذي ميكن أن يكون له دين ،وأن احليوانات تفتقر إىل الدين مبقدار ما تفتقر إىل
القانون واألخالق .-ويقول ولرت ستيس أيضاً -أن التدين عنصر أساسي يف تكوين اإلنسان ،واحلس الديين
-.امنا يكمن يف أعماق كل إنسان ،بل هو يدخل يف صميم ماهية اإلنسان
ورمبا هذا أحد أهم األسباب برأي ،اليت أجد أن الكثري من الناس مدفوعني دائماً بفطرهتم ،يف البحث عن رمز
يؤمنون به ،أي كان هذا الرمز والصفة اليت حيملها .لذلك جند أن اإلنسان بدأ يتجه إىل الدين بعد إمعانه النظر
يف حقيقة الوجود اجملرد واعتباره سراً غامضا ،جيب تفسريه .ومىت ما عجز عن تقدمي تفسرياً طبيعياً له ،فهو
سوف يلتمس تفسرياً يكون ما ورائي من خارج الوجود يفسر به سبب وجود األشياء .كما أن ميل العقل
.الفطري لإلنسان للبحث عن شيء يكمن وراء حقائق اخلربة ويكون مشويل وكلي
يف الوقت الذي جند أن األسئلة قد رافقت اإلنسان يف كل مكان ،لكنه أخذ طابعاً دينياً يف أجوبته ،يف الوقت
الذي كان مع اليونانيني قد حنا منحاً فلسفياً يف أجوبته .فظهرت تفسريات عقلية ألصل الوجود وعلى أسس
طبيعية .وقد مسيت حب احلكمة ،حىت أطلق عليها فيثاغورس كلمة الفلسفة ،وعلى كل من يبحث يف معارف
الكون أو الوجود يدعى فيلسوف .فظهر مفهوم الفلسفة كأسلوب ومنهج يف املعرفة .والفلسفة بوصفها معرفة
عقلية معارضة للتجريد ،تسعى لبيان احلقيقة أو الفكرة ،وال حتتوي على عموميات فارغة ،وتعترب هي الكلي
الذي يشمل اجلزئي وال ينفصل عن الفردي .وكلما تطورت الفلسفة تنتقل مبعرفتها من اجملرد إىل العيين .وعن
طريق قوة العقل نفذ الفكر وتغلغل يف ماهية األشياء وماهية الطبيعة والروح وطبيعة اهلل .وقد أمثر هذا يف
.اتساع وعمق املعرفة العقلية
لقد مسيت الفلسفة أم العلوم يف بداياهتا ،ألهنا احتوت يف مباحثها على مجيع العلوم واملعارف I،ومنها قد
تطورت واشتقت مثل الفيزياء والكيمياء واهلندسة والرياضيات وعلم احليوان والقانون والتاريخ واجلغرافية
.واالجتماع والنفس وغريها من العلوم
لقد بدأت الفلسفة يف اليونان حسب تصنيف املؤرخني الغربيني ،اليت هتدف ملعرفة العلل األوىل يف الوجود،
وقد أعترب اليونانيني الفلسفة شكل من أشكال الوعي ،والتفلسف نوع من التبصري ،كما كانوا يعتقدون أن
الفلسفة مدارها ترشيد الناس .فكانت على يد طاليس الذي قال أن -املاء أصل كل األشياء -ومن بعده
اناكسمندريس الذي قال -بالالمتناهي -وهو املادة األوىل اليت جتمع األضداد احلار والبارد واليابس والرطب،
وغريها أما أنكسمانس فقال -أن أصل العامل مادة أوىل هي اهلواء ،وهو متجانس ال متناه حييط بالعامل وحيمل
األرض وتولد منه األشياء بفعل التكاثف والتخلخل .وقال هريقليطس -أن جوهر األشياء هو قانون تغريها
وأن هذا القانون يتمثل يف النار ،وال يوجد شيء يف الوجود ال يدركه التغري إال قانون التغري ذاته ،والذي هو
حكمة الكون(اللوغوس) ،ألنه الشيء الوحيد الثابت يف اجلوهر .وأن العامل كله صراع بني األضداد ،احلياة
واملوت ،اخلري والشر ،البداية والنهاية .والفيثاغوريون الذين قالوا أن العدد والنغم أساس الكون واصالً ملادته،
ألن كل ما تقع عليه العني مركب من أعداد وأكسنوفانس الذي كان ذو نزعة دينية توحيدية ،وأن العامل
يتحرك بقوة تفكري اهلل وحده .وأما بارمنيذس وتلميذه زينون فاحلقيقة الوحيدة لديهم هي الوجود وهو وحده
املوجود احلقيقي ،فالوجود واحد والواحد هو املوجود ،فقد أنكروا الصريورة والتغري والتعدد ،فهي غري
موجودة ووهم .والوجود ال يعرف إال بالعقل وحده ،وال ميكن للحواس أن تعرفه .وبعدهم أنباذوقليس الذي
قال بالعناصر األربعة املاء واهلواء والنار والرتاب ،والعامل يتكون عن طريق االحتاد واالنفصال بفعل قوتني احملبة
والكراهية .ومث جاء دميقريطس الذي قال بنظرية الذرة اليت طورها عن أستاذه لوقيبوس ،فقد أعترب أن العامل
حيفل بوحدات متجانسة غري حمسوسة متناهية الدقة هي الذرات ،والذرة ال تتجزأ وهي قدمية ،ألن العامل ال
خيرج ويولد من الالوجود .وترتكب األشياء من الذرات ،واختالف األشكال يرجع الختالف مقدار الذرات
.يف الشكل وليس الطبيعة ،وختلق األشياء عن طريق التجاذب والتنافر
وقد تطورت الفلسفة على يد السوفسطائيني وسقراط وأفالطون وأرسطو وغريهم ،لكنها احنسرت وضيق
عليها اخلناق يف العصور الوسطى املظلمة ،حىت أحياها الفالسفة املسلمني وقد سعوا كثرياً للتوفيق بينها وبني
اإلسالم ،وكما أهنم أبدعوا جبانب ذلك فلسفة وفكراً إسالمياً ،مستنريين مبناهج الفالسفة اليونانيني وخصوصاً
أفالطون وأرسطو وأفلوطني ،باإلضافة للفالسفة اآلخرين لكن بشكل متفاوت .فقد حبثت الفلسفة حينها يف
.مجيع املعارف والعلوم
لقد كان للفلسفة والعلم دوراً كبرياً يف كشف اخللل والعقم وضيق األفق واستبداد الرأي الواحد بسلطة
الكنيسة .حينما أخذ بعض أصحاب العقول املستنرية من الفالسفة والعلماء احلديثني ،يف نقد وتشخيص مظامل
حماكم التفتيش والفساد املتفشي يف اجملتمع ،باإلضافة لعدم جدوى ما تطرحه الكنيسة من حلول وأجوبة
.أصبحت بالية ومستهلكة ال تنهض بالناس بقدر ما تشل تفكريهم وحركتهم وتلغي مبادراهتم التنويرية
فكان السؤال الفلسفي فعاالً ،يف حبثه عن األسباب وما خفي .ويكفي مراجعة سريعة لتاريخ الفكر البشري،
سنكتشف أن مجيع احلركات الثورية والتنويرية النهضوية ،اليت غريت مسار الناس وارتقت بإنسانيتهم،
وروضت نفوسهم على أسس ومفاهيم وقيم أخالقية ومجالية وعقلية وعلمية .كانت على يد الفالسفة
.وباإلضافة لعلماء وفنانني وأدباء ورجال دين متفلسفني
فبدون السؤال والتساءل ماذا سوف نعرف ،وبدون الدهشة واحلرية والقلق ،ما الذي سوف يستفز يف نفوسنا
وعقولنا السؤال؟ وإذا تردد السؤال يف التجربة اليومية لإلنسان العادي ،فهو استفهام حول موضوع يستشعره
السائل ،ولكن ال يدري ما هو .قد يسأل عن رجل مثالً من هو ليعرفه ،وعن شيء مل يعرفه أو يراه ليستطيع
استخدامه .لكن السؤال الفلسفي خيتلف عن السؤال العادي يف كونه ال غاية نفعية مباشرة له .مث أن موضوع
السؤال يظل فائضاً ما وراء حدوده ،أي يصعب تعيينه أو جتسيده .مث أن كل إنسان ميكنه أن يطرح أهم
األسئلة الفلسفية دون أن يكون عارفاً بتاريخ الفلسفة وال بتقنيتها وأفكارها وأجوبتها .كما أن السؤال
الفلسفي ليس حكراً على الفالسفة وحدهم .ويستطيع كل إنسان أن يطرح أسئلته اليت تقلقه ويسعى يف
البحث عن أجوبتها ،اليت ستكون هي أجوبته الذاتية واكتشافاته ،كما يعتقد ويتصور .والسؤال الفلسفي ليس
طلباً ملعلومة معينة يضيفها الفرد إىل ذاكرته من املعلومات األخرى I،بل طلباً لتلك احلقيقة اليت ختصين أنا
.وحدي
لكن يف الوقت الذي مينع السؤال أو يستبعد فهو يتساوى مع منع الفرد عن حتقيق وجوده ،وهذا سيظهر خطر
األنظمة املتسلطة كاأليديولوجيات حني حتاصر العقل حبلوهلا وأجوبتها .فهي تعمل بتعمد يف إجهاض والدة
السؤال وبالتايل ستقضي على إمكانية مد اجلسر بني الفرد وكيانه .ويف حالة انعدام ذلك اجلسر أو اهنياره
كيف يستطيع اإلنسان أن يستمر بدون كيانه .وكيف يستطيع الفرد العريب املمنوع من السؤال واملستبعد من
.قبل اخلطاب األيديولوجي والديين والعصيب السائد أن حيس ،أن له مثة كياناً
ألنه من املمكن لإلنسان أن يوجد ككل األشياء األخرى يف الطبيعة ،ولكن أن يكون ،فذلك يتطلب جتربة
أخرى يصري فيها الكائن ال يعيش جمرد عيش يف الزمان ،ولكن يعيش الزمان .وأن حيقق ويوجد كيانه املستقل،
.ويكون هو
حنن حباجة حلركة تنوير تنتشلنا من الوحل والتخلف والكسل وأحالم اليقظة واإلتيكالية على عوامل خارجية
غيبية أو دولية أو املساومة مع دكتاتور خرب كل شيء مجيل ،من اجل منافع شخصية .ألن التنوير يتعقب
املخفي وليس اجملهول .واملخفي هو ما كان جمهوالً مث جرى العلم به .وأن التنوير إذا مل يكشف عن املخفي،
عجز العلم عن كشف اجملهول .وكذلك التنوير سيضيء العتمة والظالم ويكشف عن املخفي ،من أجل إعادة
.بنائه أو إبداعه وتكوينه .وقد نعثر على اجملهول حتت عباءة أو عمامة أو قبعة عسكري أو حتت حد السيف
كما أن التنوير هو السعي الدائم حنو حرية التفكري ،وإطالق سراح العقل واالعرتاف باآلخر ،سعياً وراء مزيد
من التقدم ،وختطي كل احلواجز اليت تفرتض خيمة اليقني القدمي ،وتفرتض له مطلق الصحة ،وحتصر إمكانية
الفهم يف تفهمه كما كان ،وحتصر إمكانية التعليم يف تعلمه كما هو .فالتنوير فعالية اجتماعية كفاحية تتطلب
قتال الظالم يف وضح النهار ،وضرورة Iتعلم العلم .ألن التعليم ليس بتلقني املعلومات ،بل تعلم مناهج البحث
العلمي ،ومعرفة ماهية املعرفة والعلم .ألن مبعرفتها يستطيع الفرد أن يغري وضعه Iويرتقي بكيانه الفردي
املستقل ،ويساهم بعدها يف نقد وجتديد البنية املعرفية للمجتمع .فمن الضروري لبناء جمتمع مستنري ومتحضر
أن يتعلم أفراده الذين ميتلكون فضوالً معرفياً وعمق أخالقي صادق ومبدئي ،أن يُفعلوا السؤال والتساءل
.الفلسفي ،ويعيدوا قراءة تارخيهم ،ونقده وتشريح كل جوانبه حىت املقدس الذي فيه
.ألن هنضة الشعوب ال تأيت بالدعوات الصاحلة والتمين ،بل يف املعرفة والعلم والكفاح