You are on page 1of 9

‫‪ .

3‬اإلبستمولوجيا ‪ :‬دراسة المناهج‬

‫نقد املناهج ـ وجيب أن نفهم من هذا اللفظ بطبيعة احلال ‪ ،‬معىن الدراسة النقدية ‪ ،‬وليس التشهري أو القدح‬
‫ـ يبدو يف ميدان اإلبستمولوجيا على صورتني ‪:‬‬

‫‪ .1‬صورة فلسفية بشكل أكثر خصوصية‪ :‬ويتعلق األمر يف نفس اآلن بوصف للمسعى العلمي عموما ‪،‬‬
‫أو ملنهجية علمية خاصة ( حيث يبني الفيلسوف من وجهة نظره كيف ميارس العامل علمه) ومبوقف حول‬
‫وسائل امتالك املعرفة ‪ ،‬حيث يستطيع إبستمولوجي معني على سبيل املثال وصف نشاط العامل بألفاظ‬
‫عقالنية ( حيث يوضح الدور املركزي للعقل يف اختيار وبناء الوقائع العلمية ) ‪ ،‬أو بألفاظ جتريبية ( حيث‬
‫سيحاول حينذاك أن يربهن على أن كل املعارف املوضوعية هي مستخلصة من التجربة ‪ ،‬أي من املعطيات‬
‫احملسوسة ) ‪ ،‬وبنفس الطريقة سيتخذ موقفا حول طبيعة املعرفة‪ .‬هذا النمط من اإلبستمولوجيا الذي يأنف‬
‫بعض اإلبستمولوجيني أن يسميه إبستمولوجيا ‪ ،‬ينحدر من نظرية املعرفة أو ‪ ، Gnoséologie‬وهبذا‬
‫املعىن نعتربهم إبستمولوجيني أولئك الذين نسميهم ” الفاعلون الكبار ” يف الفلسفة الكالسيكية كأرسطو‬
‫وديكارت وكانط وهوسرل ‪ ،‬وبعض افبستمولوجيني املعاصرين أمثال جاستون باشالر‪ .‬وما عدا هذا‬
‫األخري ‪ ،‬نستطيع أن نقول إن خطأهم الذي يؤدي أحيانا إىل النظر إليهم باستخفاف من طرف من‬
‫يسمون بـ ” اإلبستمولوجيني احلقيقيني ” هو حماولتهم إنشاء نظرية عامة للمعرفة بدون أي اعتبار‬
‫للمشاكل اجلزئية املطروحة داخل كل ميدان معريف خاص ‪ ،‬وهو تعريفهم هلذه النظرية انطالقا من‬
‫تعميمات مبكرة مستخلصة من علم خاص ( التاريخ الطبيعي بالنسبة ألرسطو ـ الرياضيات بالنسبة‬
‫لديكارت ـ الفيزياء بالنسبة لكانط ـ املنطق بالنسبة هلوسرل)‪ .2 .‬صورة أخرى ما فوق ـ علمية (تستخدم‬
‫مفاهيم تعميمها أكرب من تعميم املفاهيم العلمية اخلالصة) بشكل أكثر خصوصية ‪ :‬ويتعلق األمر بتعريف أو‬
‫تأسيس ملنهج ما ‪ ،‬ويستهدفان بالنسبة للعامل توجيه أحباثه أو جعلها مشروعة‪ .‬هذا النوع من الدراسة‬
‫يشكل حقيقة جزءا مما أمسيناه ” اإلبستمولوجية التكوينية ” ‪ ،‬يف حني الدراسة األوىل واألكثر نزوعا حنو‬
‫نظرية املعرفة ‪ ،‬ترتبط أكثر باإلبستمولوجيا النقدية‪ .‬ومع ذلك فإن مدرسة بكاملها من اإلبستمولوجيني‬
‫ذوي املشارب األمربيقية والوضعية مكونة أساسا من مناطقة ( حلقة فيينا املؤسسة سنة ‪ 1929‬من طرف‬
‫موريتز شليك ) أجهدت و ال تزال جتهد نفسها يف صياغة قواعد منطقية ( ومنها جاء إسم الوضعية‬
‫املنطقية اللصيق هبذا التيار) ملنطق قابل للتطبيق على جمموع العلوم‪ .‬حماولة التوحيد هاته للغة العلم ‪ ،‬وليس‬
‫للعلوم ذاهتا بطبيعة احلال ‪ ،‬تسمى “النزعة الفيزياوية ” ألهنا تقرتح التعبري عن املفاهيم البيولوجية ومفاهيم‬
‫علم النفس واالجتماع وغريها بقضايا لغة الفيزياء من جهة ‪ ،‬وتفرض رمبا على كل العلوم منهجا مشاهبا‬
‫ملنهج الفيزياء ‪ :‬ولو أن هذا ليس هو هم العلماء كلهم ‪ ،‬فإن هذه اإلبستمولوجيا هي حقا تكوينية على‬
‫املستوى الذي تفرض فيه على العلم منهجا علميا معينا تعتربه متمتعا بالشرعية‪ .‬سنعطي هنا أسفله مثالني‬
‫هلذين النوعني من اإلبستمولوجيا باعتبارها دراسة للمناهج‪ .‬بالنسبة للنوع األول من اإلبستمولوجيا سنرى‬
‫كيف ميكن أن يوصف املنهج يف العلوم الفيزيائية بطريقة متعارضة كليا من طرف كل من ديكارت‬
‫ونيوتن‪.‬‬

‫األول بإرادته االنطالق من املبادئ حنو النتائج يستعمل منهجا استنتاجيا قبليا ( مؤسسا على‬ ‫‪‬‬

‫احلدس أي على املعرفة املباشرة بواسطة العقل ال على التجربة)‪،‬‬


‫أما الثاين ‪ ،‬والذي أعجبه أن يعيد النظر ‪ ،‬وبدون سخرية ‪ ،‬يف قسمة خصمه الرفيع‬ ‫‪‬‬

‫ديكارت للقواعد إىل أربعة قواعد أساسية ‪ ،‬فادعى على العكس إمكانية االستخالص الكلي لقوانني‬
‫الطبيعة من التجارب احلسية‪ ،‬لكي يصعد هكذا من حىت يصل إىل املبادئ العامة اليت حتكمها‪ ،‬أي‬
‫باتباع منهج استقرائي بعدي‪ .‬إن العقالنية الديكارتية تستخلص منهجيتها من الرياضيات ؛ ففي‬
‫علوم الطبيعة تلعب املبادئ املعروفة عن طريق احلدس دور األكسيومات ‪ ،‬والقوانني اليت ميكن‬
‫استنتاجها منها هي مشاهبة للمربهنات‪ .‬أما النيوتونية ‪ ،‬وعلى العكس من ذلك ‪ ،‬فإن املنهج اخلاص‬
‫بعلوم الطبيعة يعترب كما لو كان خمتلفا بشكل جذري عن الرياضيات ‪ ،‬ما دامت التجربة حسب‬
‫نيوتن ‪ ،‬وليس احلدس ‪ ،‬هي اليت من املفروض أن تقود خطواتنا دون أن يكون من الضروري‬
‫اللجوء إىل احلدس بصياغة فرضيات ‪ :‬وهذا هو معىن قولة نيوتن املشهورة ‪ ” :‬أنا ال أضع‬
‫الفرضيات “‪.‬‬

‫‪ .5‬المنهج االستنتاجي في أربعة قواعد‪.‬‬

‫” … بدل هذا العدد اهلائل من املبادئ املكونة للمنطق ‪ ،‬اعتقدت أنه ميكنين االكتفاء‬
‫منها باملبادئ األربعة التالية ‪ ،‬آمال يف أنين سأختذ قرارا قاطعا وثابتا يف أنين لن أمهل ولو مرة واحدة‬
‫مالحظة أي منها‪.‬‬
‫األولى ‪ :‬أن ال أتلقى على اإلطالق شيئا على أنه حق ما مل أتبني بالبداهة أنه كذلك ‪ ،‬أي أن أعىن‬
‫بتجنب التعجل والتشبث باألحكام السابقة ‪ ،‬وأن ال أدخل يف أحكامي إال ما يتمثل لعقلي يف وضوح‬
‫ومتيز ال يكون لدي معهما أي جمال لوضعه موضع الشك‪.‬‬

‫والثانية ‪ :‬أن أقسم كل واحدة من املعضالت اليت أحبثها إىل عدد من األجزاء املمكنة والالزمة حللها على‬
‫أحسن وجه‪.‬‬

‫والثالثة ‪ :‬أن أرتب أفكاري ‪ ،‬فأبدأ بأبسط األمور وأيسرها معرفة ‪ ،‬وأتدرج يف الصعود شيئا فشيئا حىت‬
‫أصل إىل معرفة أكثر األمور تركيبا ‪ ،‬بل أن أفرض ترتيبا بني األمور اليت ال يسبق بعضها بعضا بالطبع‪.‬‬

‫واألخيرة ‪ :‬أن أقوم يف مجيع األحوال بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة جتعلين على ثقة من أنين مل أغفل‬
‫شيئا‪‘ .‬ن هذه السالسل الطويلة من احلجج البسيطة والسهلة اليت تعود علماء اهلندسة استعماهلا للوصول‬
‫إىل أصعب براهينهم ‪ ،‬أتاحت يل أن أختيل أن مجيع األشياء اليت ميكن أن تقع يف متناول املعرفة اإلنسانية ‪،‬‬
‫تتعاقب على صورة واحدة ‪ ،‬وأنه إذا حتاشى املرء أن يتلقى ما ليس منها حبق على أنه حق ‪ ،‬وحافظ دائما‬
‫على الرتتيب الالزم الستنتاجها بعضها من بعض ‪ ،‬فإنه ال جيد بني تلك األشياء بعيدا ال ميكن إدراكه ‪ ،‬و‬
‫ال خفيا ال يستطاع كشفه‪ .‬ومل أجد كبري عناء يف البحث عن األمور اليت جيب االبتداء هبا ‪ ،‬ألنين كنت‬
‫أعرف من قبل أن االبتداء إمنا يكون بأبسط األشياء وأسهلها معرفة‪ .‬وملا رأيت أن بني الذين حبثوا من قبل‬
‫عن احلقيقة يف العلوم مل يستطع أحد غري الرياضيني أن يهتدي إىل بعض الرباهني ‪ ،‬أي إىل بعض احلجج‬
‫اليقينية والبديهية ‪ ،‬مل أشك أبدا يف أن ذلك مل يتيسر هلم إال بطريق األمور اليت عاجلوها ‪ ،‬ومل أؤمل منها‬
‫فائدة أخرى سوى تعويد عقلي مؤالفة احلقائق البديهية ونبذ احلجج الباطلة”‪.‬‬

‫رونيه ديكارت ‪ ،‬املقال يف املنهج ‪1637‬‬

‫اجلزء الثاين ترمجة ‪ :‬مجيل صليبا بريوت ‪.1970‬‬

‫إقرأ الكتاب‬

‫‪.5‬مكرر‬
‫” بالنسبة للفيزياء ‪ ،‬اعتقدت أنين ال أعرف شيئا عنها ‪ ،‬إذا مل أكن أعرف أن أقول كيف ميكن أن توجد‬
‫األشياء‪ ،‬بدون القدرة على الربهنة بأهنا ال ميكن أن توجد بشكل مغاير؛ ذلك أن إرجاعها واختزاهلا إىل‬
‫قوانني الرياضيات هو شيء ممكن “‪.‬‬

‫رونيه ديكارت‬

‫رسالة إىل مرسن ‪ 11‬مارس ‪.1640‬‬

‫‪ .6‬المنهج االستقرائي في أربعة قواعد‪.‬‬

‫” القاعدة األولى ‪ :‬لا جيب اعتبارها أسبابا إال تلك اليت هي ضرورية لتفسري‬
‫الظواهر‪ .‬إن الطبيعة ال تقوم بأي فعل سدى ‪ ،‬وسيكون فعال ألشياء تافهة ممارسة فعل بواسطة عدد كبري‬
‫من األسباب ‪ ،‬يف الوقت الذي ميكن حدوثه فيه بعدد أقل منها‪.‬‬

‫القاعدة الثانية ‪ :‬جيب عزو التأثريات اليت هي من نفس النوع دائما ‪ ،‬وكلما أمكن ذلك ‪ ،‬لنفس السبب‪.‬‬
‫هكذا فإن عملية التنفس لدى اإلنسان واحليوان‪ ،‬وسقوط حصاة يف أوربا أو أمريكا‪ ،‬وضوء النهار هنا‬
‫[ على األرض] وضوء الشمس‪ ،‬وانعكاس الضوء على األرض والكواكب‪ [ ،‬هي أفعال ] جيب أن تعزى‬
‫على التوايل لنفس األسباب‪.‬‬

‫القاعدة الثالثة ‪ :‬جيب أن ننظر خلصائص األجسام اليت ال تقبل الكرب وال النقصان ‪ ،‬واليت حتوزها كل‬
‫األجسام اليت ميكن إجراء التجارب عليها ‪ ،‬كخصائص مرتبطة بكل األجسام عموما‪ .‬ال ميكن أن نعرف‬
‫خواص األجسام إال عن طريق التجربة‪ ،‬وهكذا ميكننا أن ننظر إليها كخصائص عامة ‪ ،‬اخلصائص املوجودة‬
‫يف كل األجسام ‪ ،‬واليت ال ميكن أن تشكو من التناقص؛ ذلك ألنه من املستحيل إفراغ األجسام من‬
‫خصائصها اليت ال ميكن إنقاصها‪ .‬كما ال ميكن أن تعارض التجارب باألحالم ‪ ،‬و ال جيب إمهال التماثل‬
‫يف الطبيعة ‪ ،‬والذي هو دائما بسيط ومشابه لذاته‪ .‬إن تعني األجسام وامتدادها ال يعرف إال عن طريق‬
‫احلواس ‪ ،‬و ال ميكن اإلحساس به يف كل األجسام (االمتداد ) ‪ ،‬وإمنا كتعني أو امتداد لصيق بتلك اليت‬
‫توجد حتت حواسنا ‪ ،‬وحنن نؤكد أن هذا االمتداد مرتبط بكل األجسام عموما‪ .‬إننا جند أن كثريا من‬
‫األجسام صلبة ‪ :‬بيد أن صالبة الكل متأتية من صالبة األجزاء‪ ،‬وهكذا نعرتف هبذه اخلاصية ‪ ،‬ال فقط يف‬
‫األجسام اليت مكنتنا حواسنا من اختبارها ‪ ،‬ولكننا نستدل بواسطة العقل على األجزاء غري القابلة للقسمة‬
‫هي أجزاء ميكن أن تكون صلبة‪ .‬نستنتج بنفس الطريقة أن كل األجسام غري قابلة لالخرتاق‪ ،‬وذلك ألن‬
‫كل األجسام اليت نلمسها ال تقبله‪ ،‬لذلك ننظر لعدم القابلية لالخرتاق كخاصية تسري على كل األجسام‪.‬‬
‫كل األجسام اليت نعرفها متحركة ‪ ،‬ومتميزة بقوة معينة ( نسميها قوة العطالة ) تدوم وتستمر بفضلها يف‬
‫حالة حركة أو حالة سكون ‪ .‬نستنتج أن كل األجسام عموما متتلك هذه اخلصائص‪ .‬االمتداد ‪ ،‬الصالبة ‪،‬‬
‫عدم القابلية لالخرتاق ‪ ،‬احلركية ‪ ،‬العطالة يف كل األجسام تتأتى إذن من امتداد وصالبة وعدم القابلية‬
‫لالخرتاق وحركية وعطالة األجزاء‪ :‬وهو ما نستنتج منه أن كل األجزاء الدقيقة يف مجيع األجسام هي ممتدة‬
‫وصلبة وغري قابلة لالخرتاق ومتحركة وممتلكة لقوة العطالة‪ ،‬وهذا هو أساس كل الفيزياء‪ .‬وأكثر من ذلك‬
‫نعرف أيضا عن طريق الظواهر أنه ميكن لألجزاء املتالصقة لألجسام أن تنفصل ‪ ،‬وتطلعنا الرياضيات على‬
‫أنه ميكن متييز األجزاء غري القابلة للقسمة واألكثر صغرا أحدها عن اآلخر عن طريق العقل‪.‬إننا ال زلنا‬
‫جنهل ما إذا كانت هذه األجزاء املتميزة وغري املنقسمة تقبل العزل واالفرتاق عن طريق قوى الطبيعة ‪،‬‬
‫ولكن إذا كان من املؤكد وعن طريق جتربة واحدة أن واحدة من هذه األجزاء اليت نعاينها كوحدة قابلة‬
‫للقسمة عانت نوعا من أنواع القسمة بعزل أو بكسر جسم صلب كيفما كان ‪ ،‬فيمكن أن نستنتج عن‬
‫طريق هذه القاعدة أنه ليست األجزاء املنقسمة قابلة للعزل فقط ‪ ،‬وإمنا قابلة األجزاء غري املنقسمة للقسمة‬
‫إىل ما ال هناية‪ .‬وأخريا ‪ ،‬وما دام من الثابت من التجارب ومن املالحظات الفلكية أن لكل األجسام‬
‫القريبة من سطح األرض وزن فوق األرض حسب كمية مادهتا ‪ ،‬وأن القمر يثقل على األرض بسبب‬
‫كمية مادته‪ ،‬وأن حبرنا يثقل بدوره على القمر ‪ ،‬وأن كل الكواكب تثقل على بعضها البعض بشكل‬
‫متبادل ‪ ،‬وأن املذنبات تثقل أيضا على الشمس ‪ ،‬فإننا نستطيع أن نستنتج تبعا هلذه القاعدة الثالثة أن كل‬
‫األجسام تسبح بشكل متبادل بعضها حنو البعض اآلخر‪ ،‬وسيكون هذا االستدالل بفضل اجلاذبية الكونية‬
‫لألجسام املستخلصة من الظواهر أقوى من ذلك الذي نستنتج منه عدم قابليتها لالخرتاق‪ :‬وذلك ألنه‬
‫ليست لدينا أية جتربة أو أية مالحظة تؤكد لنا أن األجسام األرضية هي أجسام غري قابلة لالخرتاق‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فأنا ال أؤكد أبدا أن اجلاذبية [ خاصية ] جوهرية لألجسام‪ ،‬و ال أعين بالقوة الكامنة يف األجسام إال‬
‫قوة العطالة اليت هي قوة ثابتة ‪ :‬بدال من أن اجلاذبية تتناقص كلما ابتعدنا عن األرض‪.‬‬

‫القاعدة الرابعة ‪ :‬يف الفلسفة التجريبية ‪ ،‬جيب أن ينظر إىل القضايا املستخلصة عن طريق االستقراء ‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من الفرضيات املضادة ‪ ،‬على أهنا قضايا صادقة بشكل تام أو تقرييب ‪ ،‬يف انتظار أن تؤكدها بعض‬
‫الظواهر األخرى كليا ‪ ،‬أو تطلعنا على أهنا معرضة الستثناءات ‪ .‬ذلك ألن فرضية ما ال ميكنها إضعاف‬
‫االستدالل املؤسس على االستقراء املستخلص من التجربة‪ .‬ال ميكنين أن أعتقد إال أنه إجراء فعال لتحديد‬
‫احلقيقة‪ ،‬وأن أفحص خمتلف الطرق اليت ميكن وفقها تفسري الظواهر ‪ ،‬ما عدا يف احلالة اليت ال ميكن فيها‬
‫سرد وتعداد كل هذه الطرق بشكل كلي وتام‪ .‬إن املنهج احلقيقي ‪ ،‬كما تعلمون ‪ ،‬لالستخبار واالستعالم‬
‫عن خصائص األشياء ‪ ،‬هو استنتاجها من التجارب‪ .‬وقد قلت لكم أن النظرية اليت اقرتحتها ‪ ،‬جاءتين ال‬
‫عن طريق االستدالل [ واملسألة هكذا ألهنا ليست بشكل مغاير ] ‪ ، ،‬أي ليس عن طريق استدالهلا بكل‬
‫بساطة من رفض الفرتاض مضاد ‪ ،‬ولكن باشتقاقها من التجارب ‪ ،‬حيث تستنتج منها إجيابيا وبشكل‬
‫مباشر‪ .‬ولذلك فإن الطريقة اليت جيدر هبا فحصها ‪ ،‬هي اعتبار ما إذا كانت التجارب اليت مت اقرتاحها‬
‫تربهن بالفعل على أجزاء النظرية اليت تفسر األجزاء بفضلها ‪ ،‬أي أيضا باتباع جتارب أخرى ميكن التفكري‬
‫فيها إلخضاع النظرية للفحص‪ . . .‬ذلك ألنه إذا كانت التجارب اليت أستدعيها ناقصة ومعابة ‪ ،‬فلن يكون‬
‫صعبا توضيح وعرض نواقصها ‪ ،‬ولكن إذا كانت صاحلة ‪ ،‬فإهنا وبواسطة تلك اليت تربهن على النظرية‬
‫ذاهتا ‪ ،‬ستحيل بالضرورةـ كل االعرتاضات اعرتاضات ال قيمة هلا”‪.‬‬

‫إسحاق نيوتن ‪ :‬املبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية‬

‫الكتاب ‪ 3‬ورسالة إىل أولدنربغ يوليوز ‪1672‬‬

‫مذكور من قبل روبري بالنشي يف ‪ :‬املنهج التجرييب وفلسفة الفيزياء‬

‫أرمان كوالن ‪ 1969‬ص ص ‪ 99 :‬ـ ‪. 102‬‬

‫‪ .7‬توجهان فكريان كبيران ‪ ،‬منهجان‪.‬‬

‫” لقد مت وصف هذا التمييز األساسي بني املفاهيم والتصورات العلمية لدى كل من‬
‫ديكارت ونيوتن من قبل فونتونيل ‪ Fontenelle‬وهو إذ ذاك سكرتري دائم لدى أكادميية العلوم ‪،‬‬
‫وذلك عندما كان بصدد مدح السري إسحاق نيوتن ‪ ،‬فقال ‪ ” :‬لقد كانت بني الرجلني اللذين مها على‬
‫طريف نقيض عالقات وثيقة ؛ فكل منهما كان عبقريا من الطراز األول ‪ ،‬وقد ولد كل منهما للهيمنة على‬
‫العقول األخرى ولتأسيس اإلمرباطوريات‪ .‬كالمها رياضي بارع رأى ضرورة نقل اهلندسة إىل ميدان‬
‫الفيزياء‪ ،‬وكالمها أسس فيزياءه على اهلندسة (‪ .). . .‬غري أن أحدمها أراد ‪ ،‬وبقفزة جريئة ‪ ،‬التموضع يف‬
‫منبع كل شيء‪ ،‬وأن يغدو سيد كل املبادئ األوىل عن طريق بعض األفكار الواضحة واألساسية ‪ ،‬وذلك‬
‫حىت ال حيتاج إىل النزول من تلك املبادئ إىل ظواهر الطبيعة كنتائج ضرورية هلذا النزول ‪ .‬أما اآلخر‪ ،‬وهو‬
‫أكثر خجال وتواضعا‪ ،‬فإنه بدأ سريه باالستناد إىل الظواهر صعودا حنو املبادئ اجملهولة‪ ،‬وانتهى إىل أن‬
‫اعتبارها كما هي‪ ،‬ميكنه أن يعطينا تسلسال للنتائج‪ .‬أحدمها ينطلق مما يفهم بوضوح للعثور على سبب ما‬
‫يراه أو يالحظه‪ ،‬أما اآلخر فينطلق مما يراه ويالحظه للعثور على سبب ما يراه ويالحظه”‪.‬‬

‫ب ‪ .‬دي فونتونيل ” مدح العلماء ” ‪1697‬‬

‫مذكور من قبل ج‪ .‬و‪ .‬شارون يف ‪ ” :‬من الفيزياء إىل اإلنسان “‬

‫وساطات ‪ . 1965‬ص ‪. 47 :‬‬

‫هاك اآلن مثاال عن نقد املناهج املمارس من قبل العلماء لتأسيس علمهم اخلاص وتعريف موضوعه ‪ ،‬وهو‬
‫مثال مستعار من ميدان الفيزيولوجيا‪ .‬ينتقد كلود برينار تطبيق املنهج التجرييب املستخدم يف ميدان الفيزياء‬
‫والكيمياء على الوقائع البيولوجية ‪ ،‬وهو يوضح أوال كيف أنه خالفا ملا اعتقده سابقوه ‪ ،‬بيشا على‬
‫اخلصوص ‪ ،‬فإنه من املشروع اعتبار الظواهر احلية كما لو كانت ظواهر فيزيائية ـ كيميائية ‪ ،‬ولو يف‬
‫اللحظة األوىل على األقل ‪ ،‬مث حيدد يف نفس اآلن حدود وعدم كفاية هذا املنهج الذي ال يسمح بتفسري‬
‫وظائف األعضاء املدروسة‪ ،‬و ال تراتبية تلك الوظائف‪.‬وبتقرير مشروعية املنهج التجرييب يف البيولوجيا ‪،‬‬
‫أي بالرتخيص له بتحليل وتفكيك املكونات العضوية لـ ” مركب فيزيولوجي ” مث إعادهتا إىل أماكنها‬
‫ووظائفها ‪ ،‬يؤسس كلود برينار منهج الفيزيولوجيا املعاصرة ‪ ،‬وبذلك يعرف موضوع هذا العلم بطريقة‬
‫جديدة‪.‬‬

‫‪ .8‬مشروعية وحدود المنهج التجريبي في الفيزيولوجيا‪.‬‬


‫“ ‪ . . .‬إن هدف املنهج التجرييب هو اإلمساك باحلتمية يف الظواهر‪ ،‬كيفما‬
‫كانت طبيعة هذه الظواهر‪ ،‬حيوية كانت أم معدنية‪ .‬وحنن نعلم يقينا أن ما نسميه حتمية يف ظاهرة ما ال‬
‫يعين شيئا آخر غري ” السبب الفاعل ” أو ” السبب القريب ” املؤدي حلدوث الظواهر ‪ ،‬حيث حنصل‬
‫بالضرورةـ تبعا لذلك على شروط وجود الظواهر ‪ ،‬تلك الشروط اليت يطالب اجملرب مبعاجلتها لتنويع‬
‫الظواهر‪ .‬سنرى إذن التفسريات السابقة كتعبريات مماثلة ملفهوم احلتمية‪ ،‬واليت يلخصها كلها هذا األخري‪.‬‬
‫من األكيد ‪ ،‬كما قلنا ذلك سابقا ‪ ،‬أن احلياة ال تتطلب مطلقا أي تغيري يف املنهج العلمي التجرييب الذي‬
‫يتحتم تطبيقه يف دراسة الظواهر الفيزيولوجية ‪ ،‬مما يؤدي إىل أن العلوم الفيزيولوجية وكذا الكيميائية ـ‬
‫الفيزيائية تقوم بالضبط على نفس مبادئ االكتشاف والبحث‪ .‬لكن جيب االعرتاف مع ذلك بأن احلتمية يف‬
‫ظواهر احلياة ليست أكثر تعقيدا فقط ‪ ،‬وإمنا هي يف نفس الوقت حتمية تراتبية بشكل متناسق‪ ،‬وبالشكل‬
‫الذي جيعل من الظواهر الفيزيولوجية املعقدة ظواهر مشكلة عن طريق منظومة من الظواهر البسيطة اليت‬
‫حيدد بعضها البعض اآلخر ‪ ،‬باالشرتاك يف حتقيق هدف غائي مشرتك‪ ،‬يف حني أن اهلدف اجلوهري لدى‬
‫الفيزيولوجي هو حتديد الشروط األوىل للظواهر الفيزيولوجية وفهم تعالقها الطبيعي‪ ،‬من أجل استيعاب ‪،‬‬
‫وبالتايل ‪ ،‬تتبع خمتلف املنظومات يف امليكانيزمات األكثر تنوعا يف العضويات احليوانية(‪.). . .‬ـ يتوجب على‬
‫الفيزيولوجي والطبيب أن ال يغفل كون الكائن احلي عضوية حية متفردة؛ فالفيزيائي والكيميائي اللذان ال‬
‫يستطيعان التواجد خارج الكون ( العامل ) يدرسان األجسام والظواهر بذاهتا وبشكل منفصل ‪ ،‬بدون أن‬
‫يكرها على إحلاقها ضرورة بالطبيعة يف كليتها‪ .‬لكن الفيزيولوجي الذي جيد ذاته بالعكس من ذلك متواجدا‬
‫خارج العضوية احلية اليت يراها يف كليتها ‪ ،‬يفرض عليه أن يفسر هذا التناغم يف هذا الكل‪ ،‬يف الوقت‬
‫الذي حياول فيه أن ينفذ لداخله لفهم آلية كل عنصر من عناصره‪.‬ـ وينتج عن ذلك قدرة الفيزيائي‬
‫والكيميائي على رفض أية فكرة غائية يف الوقائع اليت يالحظاهنا ‪ ،‬يف حني جيد الفيزيولوجي ذاته مكرها‬
‫على االعرتاف بغائية متناغمة وقبلية يف اجلسم املنظم واملتضامنة كل أفعاله اجلزئية واملولدة لبعضها البعض‪.‬‬
‫جيب إذن أن نعلم جيدا أننا إذا فككنا العضوية احلية بعزل مكوناهتا املختلفة عن بعضها ‪ ،‬فإن ذلك ال يتم‬
‫إال بغرض تبسيط التحليل التجرييب ‪ ،‬ال بغرض تناوهلا كأجزاء منفصلة‪ .‬وبالفعل ‪ ،‬فلكي مننح خلاصية‬
‫فيزيولوجية ما قيمتها ومعناها احلقيقي ‪ ،‬ينبغي دائما ربطها بالكل ‪ ،‬وعدم استخالص النتيجة النهائية إال‬
‫بعالقة هذه اخلاصية بتأثرياهتا داخل هذا الكل‪ .‬وبدون شك فإن هذا الشعور بالتضامن الضروري فيما بني‬
‫أجزاء العضوية احلية هو ما دفع ” كوفييه ” إىل اعتبار استحالة تطبيق التجريب على الكائنات احلية ‪،‬‬
‫ألنه يفصل األجزاء املنظمة اليت يتوجب إبقاؤها جمتمعة‪ .‬وهبذا املعىن أيضا حرم بعض الفيزيولوجيني‬
‫واألطباء اآلخرين الذين يسمون ” احليويني ” ‪ ،‬أو ال زالوا حيرمون التجريب يف ميدان الطب‪ .‬إن‬
‫وجهات النظر هاته ‪ ،‬واليت ال ختلو من الصواب ‪ ،‬هي مع ذلك خاطئة من حيث استنتاجاهتا العامة‪ ،‬وهي‬
‫تضايق تقدم العلم بشكل ملحوظ”‪.‬‬

‫كلود برينار ‪ :‬مدخل لدراسة املنهج التجرييب ‪1865‬‬

‫كارنيي ـ فالماريون ‪ 1966‬ص ص ‪.138 – 135‬‬

You might also like