You are on page 1of 59

‫الفصل الرابع ‪:‬‬

‫جماليات التضافر السردي مع‬


‫أشكال التعبي‬
‫‪ - 1‬جماليات التضافر السردي واألسطوري في روايات الكوني‪:‬‬
‫تضمنها كتابه ( نصوص اخللق ) – ما جاء عن‬
‫توطئة ‪ :‬أهم أقوال الكوين املأثورة – اليت ّ‬
‫ثنائية ( الرواية واألس طورة‪ .‬إذ ق ال‪ " :‬رواية أس طورة الزم ان احلديث‪ ،‬واألس طورة رواية‬
‫الزمان القدمي " (‪.)1‬‬
‫هنا تكمن عبقرية الك وين‪ ،‬يف فهمه اخلالص هلذه الثنائية امللتحمة منذ ع ابر األزمن ة‪ .‬ثنائية‬
‫(الرواية واألسطورة)‪.‬‬
‫يتوض ح لك جليا ه ذا املع ىن؛ حيث أنك حني تبحث عن‬ ‫فحني تق رأ رواي ات الك وين‪ّ ،‬‬
‫الرواية داخل رواية الك وين جتد األس طورة طاغية متج ربة ت راودك أنت الق ارئ أينما حللت‪.‬‬
‫ابتداء بالعنوان وصوال إىل آخر لبنة يف بنائها‪ .‬وحني تعقد العزم على أنك ستقرأ رواية للكوين‬
‫باحثا عن األسطورة فيها‪ ،‬جتد نفسك أمام رواية عصرية بشخصياهتا‪ ،‬وإشاراهتا‪ ،‬وغريها‪...‬‬
‫فه ذا " أوخيّد " ال ذي يلبس أبلقه أمجل حلّة عص رية من س رج‪ ،‬وف رش وش كيمة‪ .‬يك ون‬
‫(‪)‬‬
‫أخوة ال ّدم‬
‫األبلق طوطمه حيث تربطه به رابطة أقوى وأقدس من رابطة ّ‬
‫وه ذه " الغزالة " اليت ترتع يف س هول احلم ادة وخض رهتا ‪ ،‬وهتاجر اض طرارا إىل سلس لة‬
‫اجلب ال اجملاورة‪ ،‬هربا من بطش بين آدم‪ ،‬هي يف حقيقة األمر طوطما له حيث قطعت منذ‬
‫(‪)‬‬
‫عهود غابرة ميثاقا قويا هو ميثاق الدم‬
‫الس واح األج انب من ّكل‬
‫وه ذا " آس وف " ال ذي حيرس " النصب الوث ين‪ .‬ال ذي ي زوره ّ‬
‫صوب ويتعبّ دون عنده‪ .‬يصلب يف النهاية علية ليكون قربانا جالبا للخصب والنماء‪ .‬ويكون‬
‫سببا يف‬

‫?‪ -‬إبراهيم الكوين‪ " ،‬نصوص اخللق "‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ ط‪ ،1‬بريوت‪ :‬لبنان‪ ،1999 ،‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪.83‬‬
‫(‪ -)‬انظر رواية " الترب " إلبراهيم الكوين‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫(‪ -)‬انظر رواية " نزيف احلجر " إلبراهيم الكوين‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫‪283‬‬
‫اخلالص‪ ،‬بتطهر األرض بالطوفان (‪.)‬‬
‫وهذه " الصحراء الشاسعة " برماهلا الذهبية‪ ،‬واليت مسحت عنوة بدخول أحدث األسلحة‬
‫واآلالت الفتاك ة‪ ،‬من بندقية وخ راطيش والن دروفر وهيليكوب رت‪ .‬تك ون فج أة‪ ،‬مركز ال دنيا‬
‫وجنتها األرضية وتكون مبثابة الفردوس املفقود (‪.)‬‬
‫وتلك " التجمع ات األهلية " ح ول الش اي الص يين األخضر للس مر‪ ،‬تك ون حلقة لق راءة‬
‫أسرار الغيب‪ ،‬وتفسري اإلشارات آخر الزمان‪ ،‬وتفسري‪ /‬للنبوءات (‪.)‬‬
‫وه ذا " آس وف " ال ذي يهديه " قابيل " علبة التون ة‪ ،‬ونق ودا‪ ،‬يك ون حاميا لطوطمه‬
‫ومضحيا بروحه ألجله (‪ .)‬كذلك هو "أوخيّد" الذي يقبض حفنة الترب يكون يف النهاية‬
‫أضحية ألجل طوطمه (‪.)‬‬
‫هذه الشخصيات واإلشارات والتفاصيل‪ ،‬ال تنتمي إىل عصر بعينه‪ .‬حيث عبقرية الكوين‬
‫وسر‬
‫جعلتها خيطا واصال بني املاضي واحلاضر‪ ،‬بني الواقع واألسطورة‪ ،‬بني أسطورة التكوين ّ‬
‫الوج ود‪ ،‬وفلس فة الك وين وأيديولوجيته كمب دع‪ .‬إذن رواياته تنتمي إىل كل زم ان ومك ان‪،‬‬
‫فقد كانت األزمنة يف رواياته متداخلة تداخال عجيبا‪ ،‬غري منطقي لكنه غري خاطئ‪ .! ‬كذلك‬
‫املكان هو مكان بعينه لكنه يف اآلن نفسه هو مكان التيه والبدايات األوىل‪.‬‬
‫وبالت ايل يك ون الك وين قد نقل أح داث املظ اهر األس طورية القدمية إىل عص رنا ال راهن؛‬
‫حيث غ ذاها مبض امني جدي دة وذلك هو اخللق األس طوري عن ده‪ .‬وه ذا ما أكدته الدارسة‬
‫( س امية أس عد ) من خالل تق دميها ملعىن اخللق األس طوري‪ " :‬أثبتت األس طورة أهنا م ادة‬
‫متجددة‪ ،‬يغذيها خيال البشر الذي خلقها مبضامني جديدة‪ ،‬وتتلون بلون زمان العصر الذي‬

‫)‪ -‬انظر رواية " نزيف احلجر " إلبراهيم الكوين‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ - ) ‬انظر رواية " البئر" إلبراهيم الكوين‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ - )‬انظر رواية " نزيف احلجر " إلبراهيم الكوين‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ - ) ‬انظر رواية " نزيف احلجر " إلبراهيم الكوين‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ - )‬انظر‬ ‫‪‬‬

‫‪284‬‬
‫تبعث في ه‪ ،‬ومكان ه‪ .‬واألس طورة إط ار ترسم داخله ه ذه اللوحة أو تل ك‪ ،‬لكن انطالقا من‬
‫اخلط وط العريضة اليت س بق أن رمسها األس الف‪ ،‬وع ادة ما ترتبط األس طورة باملاض ي‪ .‬لكن‬
‫عصر خيلق أساطريه اليت تضاف إىل الرتاث املوروث " (‪.)1‬‬
‫هكذا‪ ،‬أعاد الكوين بعث األساطري القدمية مبظاهرها الثالثة ( أسطورة اخلصب‪ ،‬وأسطورة‬
‫املظهر الطوطمي‪ ،‬وأسطورة اخللود )؛ وخلق منها أعماال جديدة مبتكرة‪ ،‬وهنا تكمن مجالية‬
‫التضافر السردي واألسطوري عنده حيث ال ميكننا أبدا عزل السردي عن األسطوري ألهنما‬
‫يف التح ام وبعث وجتديد منذ البداي ة‪ .‬وه ذا التض افر مت عن طريق جتلي ات األس طورة داخل‬
‫نس يج النص أوال مث مطاوع ات ه ذا التجلي األس طوري داخل ه ذا النس يج‪ .‬وبالت ايل س وف‬
‫نع رض إىل مجالي ات التجلي األس طوري يف رواي ات الك وين وال ذي ّأدى طوعا إىل مجالي ات‬
‫التضافر السردي واألسطوري فيها‪.‬‬
‫أ‪ -‬جماليات التجلي األسطوري في روايات الكوني‪:‬‬
‫أتقن الكوين فنون التجلّي كافّة‪ ،‬فتنوعت تقنياته‪ ،‬وهذا دليل ال حمالة على براعة الروائي‬
‫نص ه‪ ،‬ليس إقحاما وإمنا توظيفا واعي ا‪ ،‬سلسا‬ ‫يف اس رتجاع األس طورة القدمية وتوظيفها يف ّ‬
‫حنس بذلك‪ .‬وكأنّه يروي هو‪ ،‬يف‬ ‫جيعلها تنساب داخل نسيج النص يف تضافر حمكم‪ ،‬دون أن ّ‬
‫مرة‪.‬‬
‫ح ّد ذاته‪ ،‬هذه األسطورة ألول ّ‬
‫فقد اعتمد الكوين على سبيل املثال ال احلصر‪ ،‬تقنية " البناء الفين "‪ ،‬هذه التقنية اليت جتعلنا‬
‫والقص ة اجلدي دة احلاض رة بني‬
‫ّ‬ ‫نق رأ النص ببع دين يف اآلن نفس ه‪ ،‬القصة األس طورية القدمية‪،‬‬
‫أي دينا‪ .‬ومث ال ذلك كثري يف روايات ه‪ ،‬منه على س بيل املث ال تلك " اجلنة األرض ية " أو "‬
‫جمس دة يف‬
‫قص ة بناءها يف ال رتاث األس طوري‪ّ ،‬‬ ‫الف ردوس املفق ود " ال ذي استحضر لنا الك وين ّ‬
‫روايته ( البئر ) جبنته األرضية اليت مساها " أطالنتيدا "؛ ابتداء من اعتماد " تانس " مشيّدهتا؛‬
‫وقراء الغيب وذوي العلم من كل أحناء العامل‪ ،‬يف‬ ‫على عدد هائل من التجار من خرباء الفلك ّ‬
‫الصحراء بتفجري منابع املاء فيها‪ ،‬باإلضافة إىل رعاياها الذين‬ ‫البحث عن املكان األنسب لقهر ّ‬
‫‪ -‬سامية أسعد‪ ،‬األسطورة يف األدب الفرنسي املعاصر‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬اجمللد ‪ ،16‬العدد ‪ ( ،03‬أكتوبر‪،‬‬
‫‪1‬‬

‫نوفمرب‪ ،‬ديسمرب ) ‪ ،1985‬ص‪.133 :‬‬

‫‪285‬‬
‫أم رهتم ب احلفر املس تمر طيلة ع ام كامل من احلفر املس تمر‪ ،‬وجعلت من ه ذه املدينة جنة "‬
‫أطالنتي دا "‪ .‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ولكن ت انس اجلب ارة مل تكتف بتفجري النبع ال ذي‬
‫خيرتق اآلن الص حراء باألهنار واملس تنقعات ويغمرها ب البحريات واألدغ ال‪ .‬فبعد أن أطلقت‬
‫على املنبع اسم " أطالنتي دا " ق ررت أن تش يّد املدن‪ ،‬وتبين اجلس ور والس دود‪ ...،‬وقد‬
‫اس تطاعت أن جتعلها مرك زا ملض اربات التج ار‪ ،‬وتب ادل البض ائع‪ ،‬وجتار الرقيق وال ذهب‬
‫واألحج ار الكرمية والتوابل والص ناعات واجلل ود‪ ،‬وقد ازده رت املدين ة‪ ،‬وش يدت القص ور‬
‫وال بيوت ذات املعم ار الب ديع‪ ،‬وأص بح يرتادها العلم اء واخلرباء واملنجم ون من كل أحناء‬
‫األرض‪ ...‬وقد طبقت ش هرة " أطالنتي دا " اآلف اق‪ ،‬وج اء الن اس من وراء البح ار واألهنار‬
‫واحمليط ات بعد أن أص بحت من ارة للعلم واحلض ارة‪ ،‬وقبلة لكل من ينشد العلم أو يت وق‬
‫للمعرف ة‪ ،‬وأصبح يقال بأ ّن "أطالنتي دا" هي جنّة اهلل على األرض‪ ،‬ومن مل يزرها فإنّه مل يعش‬
‫يف ه ذه ال ّدنيا‪ ،‬فتق اطر الن اس عليها من كل ح دب وص وب‪ ...‬وعن دما م اتت ت انس حدثت‬
‫حركة غريبة يف نظام النجوم‪ ،‬قادت الكواكب األخرى محلة ض ّد القمر‪ ،‬فحدث ما يسمى‬
‫فهبت األعاصري العاتية‪ ،‬والعواصف احململة بالغبار‪ ،‬كنتيجة لصراع الكواكب بعد أربعني يوما‬
‫بالض بط من وف اة س ليلة القمر " ت انس " العظيم ة‪ ،‬واس تمرت العواصف والري اح أربعني يوما‬
‫باالنقط اع‪ ،‬حىت غم رت اإلمرباطورية كثب ان الرم ال‪ ،‬وأغ رقت الغاب ات واألهنار واملدن‬
‫مبوج ات هائلة من األتربة املتص اعدة ليل هنار‪ ،‬وأب ادت املواشي وقطع ان اإلبل واحليوان ات‬
‫الربية‪ ،‬ودمرت املعمار فهرب السكان طلبا للنجاة من طوفان الرمال‪ ،‬جلأوا إىل املدن البعيدة‬
‫الص حراء‪ ...‬أما ق ارة "‬‫الص حراء تزحف على ّ‬ ‫اجملهولة وراء البح ار واحمليط ات‪ .‬وع ادت ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫أطالنتيدا " العتيدة فقد اختفت بعيدا يف جوف األرض‪ ،‬بعد طوفان الرمال الرهيب "‪.‬‬
‫باملقاب ل‪ ،‬وحني نع رض لبن اء اجلنّة األرض ية‪ ،‬اليت ش يّدها ش داد بن ع اد يف ال رتاث‬
‫األس طوري الع ريب وهي " ارم ذات العم اد "‪ ،‬جند نفس لبن ات البن اء القصص ي‪ ،‬قد اتّبعها‬
‫قص ة بن اء جنة " ارم ذات العم اد " ما‬
‫الك وين‪ ،‬حيث ج اء يف ال رتاث األس طوري الع ريب عن ّ‬
‫يلي‪ " :‬نقل األخب اريون وال ّرواة عن بن اء مدينة ارم أس اطري عجيب ة‪ ...‬وي روي ي اقوت يف ه ذا‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " البئر "‪ ،‬ص‪ 56 :‬و‪.57‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪286‬‬
‫نصه‪ " :‬روى آخرون أن ارم وصنعاء‪ ،‬من بناء شداد بن عاد‪ ،‬ورووا‪ :‬أ ّن شداد بن‬ ‫الصدد ما ّ‬
‫والفض ة‬
‫ّ‬ ‫ع اد ك ان جبّ ارا‪ .‬وملا مسع باجلنّة وما أع ّد اهلل فيها ألوليائه من قص ور ال ذهب‬
‫ّ‬
‫واملساكن اليت جتري من حتتها األهنار‪ ،‬والغرف اليت من فوقها غرف‪ ،‬قال لكربائه‪ :‬إين متّخذ‬
‫يف األرض مدينة على ص فة اجلنّ ة‪ ،‬فو ّكل ب ذلك مئة رجل من وكالئه وقهارمت ه‪ ،‬حتت كل‬
‫رجل منهم ألف من األعوان‪ ،‬وأمرهم أن يطلبوا فضاء فالة من أرض اليمن‪ ،‬وخيتاروا أطيبها‬
‫عماله الثالث ة‪ ...‬ي أمرهم أن‬
‫ترب ة‪ ،‬ومكنهم من األم وال‪ ،‬ومثّل هلم كيف يعمل ون‪ ،‬وكتب إىل ّ‬
‫والدر‬
‫والفض ة ّ‬‫ّ‬ ‫يكتبوا إىل عماهلم‪ ،‬يف آفاق بلداهنم أن جيمعوا مجيع ما يف أرضهم من ال ّذهب‬
‫وجه إىل مجيع املع ادن‪ ،‬فاس تخرج ما فيها من‬ ‫والي اقوت واملسك والعنرب والزعف ران‪ ...‬مثّ ّ‬
‫الغواصني إىل البحار‪ ،‬فاستخرجوا اجلواهر فجمعوا‬ ‫عماله الثالثة إىل ّ‬
‫وجه ّ‬‫والفض ة‪ ،‬مثّ ّ‬
‫ّ‬ ‫الذهب‬
‫وجه وا احلف ارين إىل مع ادن الي اقوت‬ ‫منها أمث ال اجلب ال‪ ،‬ومحل مجيع ذلك إىل ش داد‪ ،‬مثّ ّ‬
‫والزبرجد وس ائر اجلواهر‪ ،‬فاس تخرجوا منها أم را املدين ة‪ ...‬مث أج رى حتت املدينة واديا س اقه‬
‫إليها من حتت األرض أربعني فرس خا كهيئة القن اة العظيم ة‪ .‬مثّ أمر ف أجرى يف ذلك ال وادي‬
‫س واق يف تلك الس كك والش وارع واألزقة جتري باملاء الص ايف‪ ...‬وجعل ط ول املدينة إثين‬
‫عشر فرس خا‪ ،‬وعرض ها مثل ذل ك‪ .‬وصري ص ورها عاليا مش رفا‪ ،‬وبىن فيها ثالث مئة ألف‬
‫قص ر‪ ،‬مص ّففا بواطنها وظواهرها بأص ناف اجلواهر‪ ،‬عاليا مش رفا على تلك القص ور كله ا‪...‬‬
‫أمر باختاذ بن ادق من مسك وزعف ران‪ ،‬ف ألقيت يف تلك الش وارع والطّرق ات‪ .‬وجعل ارتف اع‬
‫الس ور مرتفعا ثالث مئة ذراع‬ ‫تلك ال بيوت يف مجيع املدينة ثالث مئة ذراع يف اهلواء‪ ،‬وجعل ّ‬
‫مفصصا خارجه وداخل ه‪ ،‬ب أنواع الي واقيت وظرائف اجلوار‪ ...‬ومكث يف بنائها مخس مئة‬ ‫ّ‬
‫عام‪ ...‬مثّ أ ّن هودا ( عليه السالم ) أتاه فدعاه إىل اهلل تعاىل وأمره باإلميان واإلقرار بربوبية اهلل‬
‫( س بحانه وتع اىل ) يف الكفر والطغي ان‪ ،‬وذلك حني متّ مللكه س بع مئة س نة‪ .‬فأن ذره ه ود‬
‫عما ك ان علي ه‪ ...‬وواف اه املوكل ون ببن اء‬
‫وخوفه زوال ملك ه‪ ،‬فلم يرت دع ّ‬ ‫بالع ذاب‪ ،‬وح ّذره ّ‬
‫املدين ة‪ ،‬وأخ ربوه ب الفراغ منه ا‪ ،‬فع زم عن اخلروج إليها يف جن وده‪ ،‬فخ رج يف ثالث مئة ألف‬
‫من حرسه وشاكريته وملوكه‪ ،‬وسار حنوها‪ ...‬فلما قرب شداد من املدينة‪ ،‬وانتهى إىل مرحلة‬
‫منها جاءت صيحة من السماء‪ ،‬فمات هو وأصحابه أمجعون‪ ،‬حىت مل يبقى منهم خمرب‪ ،‬ومات‬

‫‪287‬‬
‫والص ناع وال وكالء والقهارم ة‪ ،‬وبقيت خالء ال أنيس هلا‪.‬‬ ‫مجيع من ك ان باملدينة من الفعلة ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫وساخت املدينة يف األرض "‬
‫قصة تشييد ش ّداد بن عاد جلنته ( إرم ذات العماد )‪ ،‬وإبادهتا من قبل‬ ‫بعد عرضنا لتفاصيل ّ‬
‫مبادة‬
‫القصة األسطورية من حمتواها وأعاد مألها ّ‬ ‫اهلل تعاىل‪ ،‬فإننا نالحظ كيف أ ّن الكوين أفرغ ّ‬
‫قصته حول بناء اجلنّة األرضية " أطالنتيدا " من قبل املرأة العظيمة " تانس "‪ .‬ومل يرتك لنا أيّة‬
‫ّ‬
‫هوية "إلرم ذات العم اد " لتتسم هبا " أطالنتي دا " س وى بعض اإلحياءات‪ ،‬أو بعض املراحل‬
‫املتبعة يف البن اء الف ين‪ ،‬وال ذي تبعه لزاما البن اء التش ييدي للم دينتني "إرم ذات العم اد"‬
‫و"أطالنتي دا"‪ ،‬حيث متّ التش ييد والبن اء للم دينتني طمعا يف املثالية والتف ّرد على س ائر م دن‬
‫قص ة بناء "‬
‫األرض بالتّشبه املبالغ جبنّة اهلل املوعودة‪ .‬إضافة إىل الاّل زمة اليت تكررت كثريا يف ّ‬
‫قص ة بن اء " أطالنتي دا " ‪ ،‬وهي الع دد " ثالمثائة " على‬‫إرم ذات العم اد " ووج دناها أيضا يف ّ‬
‫القصتني‪ .‬لكن العدد واحد‪.‬‬‫الرغم من أن املعدود اختلف قد اختلف بني ّ‬
‫قص ة أس طورية جدي دة ت روي‬ ‫ويف كل ه ذا وذاك‪ ،‬وضع الك وين ملس ته العبقرية يف جعلها ّ‬
‫وتفرده ا‪ ،‬العلم‬
‫أح داث بن اء جنّة أرض ية؛ حيث جعل الك وين " أطالنتي دا " تنشد يف بناءها ّ‬
‫واملعرفة؛ إذ باتت قبلة لطالبهما‪ ،‬وأن تكون بذلك قبلة للتطور احلضاري القائم على العلمي‬
‫املادي‪ .‬موفرة الوسائل املادية املساعدة يف ذلك‪ .‬يف حني كانت جنّة ش ّداد بن‬ ‫والروحي بدل ّ‬ ‫ّ‬
‫املادي املوغل يف تن وع الكن وز‪ ،‬ورغد العيش‪ ،‬ونعيم املال واجلاه‬
‫ع اد األرض ية تنشد التط ّور ّ‬
‫املادي احملض‪ .‬باستعمال الوسائل املادية الفريدة‪.‬‬
‫التطور ّ‬ ‫والسلطان والبذخ‪ ،‬وغريها من مسات ّ‬
‫واملتحول‪ ،‬وتكون فضائل العلم‬ ‫ّ‬ ‫وبني البعدين املاضي واحلاضر‪ ،‬يكون البعد القائم بني الثابت‬
‫واملعرفة أمسى من فض ائل املادة‪ .‬ه ذا هو الش عار ال ذي ن ادى به الك وين من قبل بطلته‬
‫األسطورية " تانس " إهلة اجلمال واخلصب والذكاء‪ .‬مبقابل البطل الزائل ش ّداد بن عاد‪ ،‬رجل‬
‫واملادة‪ ،‬والكفر‪ .‬ويبقى شعار الكوين القائم على العلم والروح خالدا ألنه أساس كل‬ ‫الش ّدة‪ّ ،‬‬
‫حض ارة خال دة‪ .‬وهنا يكمن أحد أهم أس باب جلوء املب دع إىل األس طورة‪ " ،‬ويتمثل الس بب‬
‫الرئيسي يف االلتج اء إىل األس طورة يف طابعها اخلالد ويف بقائها على م ّر الزم ان‪ ...‬ألهنا تع اجل‬
‫‪ -‬هيثم هالل‪ ،‬أساطري العامل‪ ،‬ص‪ 50 :‬و‪ 51‬و‪.52‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪288‬‬
‫بعض املواقف اخلال دة‪ ،‬مع أ ّن موض وعاهتا ترتبط ارتباطا وثيقا بظ روف بعينه ا‪ ،‬على أ ّن‬
‫االلتج اء إىل األس طورة يف رتض البن اء على م ادة موج ودة س لفا‪ ...‬هلا قيمة أس طورية وأ ّن‬
‫(‪) 1‬‬
‫مضموهنا قابل للتفسري من جديد‪ ،‬واكتساب منحى جديد‪" .‬‬
‫هذا‪ ،‬ولقد اختلفت تقنيات التجلي األسطوري يف أعمال الكوين – كما رأينا يف الفصل‬
‫الث اين‪ -‬ومن أهم تلك التقني ات اليت اعتم دها الك وين يف توظيف لألس طورة يف رواياته –‬
‫وجعل األس طوري يتض افر مع الس ردي يف التح ام مجايل رائ ع‪ ،‬حيث ينحو الس رد من خالله‬
‫إىل أسطرة الواقع أو ما يسمى بصنع األسطورة جند تقنية هامة هي تقنية " اخللفية األسطورية‬
‫"‪ .‬ه ذه التقنية اليت ال يعمد فيها الك وين إىل توظيف عنصر ص ريح‪ ،‬وإمنا يرتكز على عملي ة‪،‬‬
‫حيدث فيها تقاربا بني صوره وأحداثه املعربة عن قضايا معاصرة تبدو واقعية‪ ،‬أو بني أحداث‬
‫النص ببعدين‪ ،‬واحد فيّن مباشر وآخر غري مباشر‪ ،‬ميثل "‬ ‫وصور تتعلق بأسطورة معينة‪ ،‬فيظهر ّ‬
‫اخللفية األس طورية "‪ .‬وقد اس تخدم الك وين يف جتلي ات املظ اهر األس طورية الثالثة كث ريا ه ذه‬
‫التقني ة‪ ،‬كونه ليس بص دد رصد أس اطري بعينها وإمّن ا استحض ار ظالل أس اطري لص نع أس طورة‬
‫جدي دة‪ .‬واألمثلة كثرية على ذلك أوردناها يف الفصل الث اين من ال ّدراسة – ن ذكر منه ا‪ ،‬على‬
‫صور لنا‬
‫سبيل املثال‪ ،‬اعتماده على تقنية " اخللفية األسطورية " يف مظهر " اخلصب "‪ .‬عندما ّ‬
‫الص حراء‬
‫الكوين مشهد صلب " آسوف " على احلجر؛ حيث نزف الدم وارتوت به رمال ّ‬
‫العطش ى‪ ،‬ليك ون ب ذلك " آس وف " مث اال عن "األض حية البش رية" ألجل اخلص ب‪ .‬وقد ن زل‬
‫جراء هذه التضحية وارتوت األرض العطشى‪.‬‬ ‫املطر ّ‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬تق اطرت خي وط ال ّدم على اللّ وح احلج ري‪ .‬ف وق اللّ وح‬ ‫حيث ج اء يف ّ‬
‫املدفون إىل نصفه يف الرتاب كتب ب " التيفيناغ " الغامضة اليت تشبه رموزها تعاويذ السحرة‬
‫يف "ك انو" عب ارة‪ " :‬أنا الك اهن األكرب متخ دنوش أن بئ األجي ال أن اخلالص س يجيء عن دما‬
‫تتطهر األرض‬
‫الودان املق ّدس ويسيل ال ّدم من احلجر‪ .‬تولد املعجزة اليت ستغسل اللعنة‪ّ ،‬‬
‫ينزف ّ‬
‫الص حراء الطوف ان "‪ .‬اس تمر نزيف احلجر على اللّ وح احملف وظ يف حضن الرم ل‪ .‬مل‬ ‫ويغمر ّ‬
‫الص حراء‪ .‬قفز مس عود يف‬ ‫ودت الس ماء وحجبت الس حب مشس ّ‬ ‫يلحظ القاتل كيف اس ّ‬
‫‪ -‬سامية أسعد‪ " ،‬األسطورة يف األدب الفرنسي املعاصر‪ ،‬ص‪.115 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪289‬‬
‫الس يارة‪ .‬أراد املفت اح يف اللّحظة اليت ب دأت فيها قط رات كب رية من املطر تص فع زج اج‬ ‫ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫الصخري "‬
‫الالندروفر وتغسل ال ّدم املصلوب على اجلدار ّ‬
‫القص ة تس تمد أح داثها من عمق احلدث األس طوري يف أس اطري اخلصب القدمية‪،‬‬ ‫ه ذه ّ‬
‫لقصة الكوين اجلديدة‪ .‬حيث يقدم عادة قربانا نباتيا أو حيوانيا‬ ‫والذي يشكل خلفية أسطورية ّ‬
‫أو بشريا ألجل التكفري عن الذنوب املرتكبة‪ ،‬وألجل اسرتضاء الطبيعة واحلصول على اخلصب‬
‫ال ذي فيه اخلالص للطبيعة والنب ات واحلي وان والبش ر‪ .‬وأغلب األض حيات البش رية ك انت يف‬
‫إطار الطقوس والديانات احلقلية األرضية‪ .‬حيث جاء‪ " :‬واألضحيات البشرية سارية عامليا‪ ،‬يف‬
‫إط ار الطق وس وال ديانات احلقلية األرض ية‪ ...‬يف طق وس أمريكي ة‪ ...‬يقطع جسد الض حيّة‪،‬‬
‫وي دفن يف ع ّدة أمكنة من احلق ول‪ ،‬هبدف احلص ول على اإلخص اب‪ .‬وجند الس لوك ذاته يف‬
‫إفريقيا‪ ،‬عند اخلند ‪ Khond‬حتصل األضحية بطحن الطعام‪ ،‬والبرت التدرجيي‪ ،‬والطهو على نار‬
‫خفيف ة‪ ،‬وك انت ش عوب البحر املتوسط تلجأ إىل اخلنق واإلغ راق‪ ،‬أو كما عند اجلرم انيني‬
‫(‪) 2‬‬
‫القدامى‪ ،‬إىل الطمر أو دفن الضحية‪ ،‬وهي ال تزال على قيد احلياة "‬
‫قص ة األضحية البشرية‪ ،‬على خلفية أساطري األضحية كطقوس‬ ‫هذا‪ ،‬وحني سرد الكوين ّ‬
‫ألجل اخلصب‪ ،‬قد أعطاها بعدها الداليل الذي ذهب إليه الكثري من ال ّدارسني‪ ،‬وبالتايل شحن‬
‫املشعة هي " رمزية األضحية يف اجملتمعات احلقلية "‪.‬‬ ‫قص ته بطاقة أسطورية‪ ،‬نواهتا األسطورية ّ‬
‫ّ‬
‫حيث ي رى بعض ال ّدارسني أ ّن األض حية يف اجملتمع ات القدمية تع ّد عنفا منق ذا‪ ،‬وخاليا من‬
‫الفع ال اإلجيايب للعنصر‬
‫خطر الث أر‪ ...‬والعنف يف العي د‪ ،‬أو الش عرية يظهر لنا بوض وح ال دور ّ‬
‫ال ديين‪ ،‬ال ذي ي نزع عن العنف ص فة اإلنس انية‪ ،‬ج اعال منه خط را فوقيا وغيبيا دائم احلض ور‬
‫واهليمن ة‪ ،‬ويتطلب إلرض ائه ش عائر مالئم ة‪ ،‬وس لوكا دينيا متواض عا‪ ،‬وح ذرا‪ ،‬وما ذلك إال‬
‫ليحمي البشر منه‪ ،‬ومن هنا كانت ظاهرة "كبش احملرقة" أو " الغذاء " البالغة األمهية يف حياة‬
‫اجملتمع ات واألنظمة واملؤسس ات‪ .‬و " كبش احملرقة " هو ذلك احلي وان ال ذي ك ان اليه ود‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪ 146 :‬و‪.147‬‬‫‪1‬‬

‫‪ -‬أمحد ديب شعبو‪ " ،‬يف نقد الفكر األسطوري والرمزي – أساطري ورموز وفلكلور يف الفكر اإلنساين "‪،‬‬
‫‪2‬‬

‫ص‪ 257 :‬و‪.258‬‬

‫‪290‬‬
‫حيررهم من ذن وهبم‪ ،‬وجيلب هلم‬ ‫يطاردون ه‪ ،‬بعد أن محّل وه كل خطاي اهم‪ .‬وإ ّن ذحبه يف املعبد ّ‬
‫األمن والسالم‪ .‬إ ّن الشعائر مجيعها تعلّم اجملتمعات االستعمال املنظّم للعنف‪ ،‬الذي بدونه تعود‬
‫(‪) 1‬‬
‫إىل حالة الفوضى واألضحية ختذع العنف‪ ،‬إذ جتد له متنفسا‪"...‬‬
‫نص ه؛‬
‫ه ذا وقد ب رع الك وين يف اس تخدامه لتقنية اخللفية األس طورية إلظه ار بإحياءاته يف ّ‬
‫حيث محّله ش حنة رمزية أس طورية تق ارب ما ذكرن اه عن أ ّن األض حية ختفي العنف وجتد له‬
‫متنفسا‪ .‬حيث جعل الكوين مشهد صلب أضحيته (آسوف) على النصب احلجري من طرف‬
‫األخوة‪ ،‬والنهم للحمه‪ ،‬ستارا خيفي حقيقة هذا العنف املسلط من قبل (‬ ‫(قابيل) املتعطّش لدم ّ‬
‫آدمي ) على ابن جلدت ه؛ حيث جعل من األض حية الدموية املتعس فة‪ ،‬أض حية حالية للخصب‬
‫والنم اء وارت واء األرض العطش ى‪ .‬وهنا تكمن عبقرية الك وين يف إع ادة بعث األس اطري حبلّة‬
‫جديدة مع احلفاظ على خصوصيتها ونواهتا األسطورية‪.‬‬
‫من بالكثري من هذا القبيل وصوال إىل هذه اخلامتة املنغمسة يف التورية‪ .‬فحني قطع‬ ‫والكوين ّ‬
‫رأس ( آسوف ) على اللوح احلجري من قبل ( قابيل ) ناحت اجلنيات عليه وتعالت صيحاهتا‬
‫يف الكهوف‪ ،‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬استجابت اجلنيات بالنّواح يف الكهوف‪ ،‬وتص ّدع‬
‫اسود وجه الشمس وغابت ضفتا الوادي يف املتاهات األبدية " (‪ .)2‬ففي هذا السياق‬ ‫اجلبل‪ّ .‬‬
‫ال روائي يبتكر الك وين أس طورة موازية ومرتبطة ب الرتاث األس طوري نفس ه‪ ،‬وهي ( ن واح‬
‫اجلنيات ) على (آسوف)‪ ،‬واليت تعيد تكوين الرتاث األسطوري وابتكاره يف السياق الروائي‬
‫قص ة "‬
‫مبا يتضافر وهنجه يف الكتابة‪ ،‬مستم ّدا خلفية أسطورية معروفة عند العرب قدميا‪ ،‬وهي ّ‬
‫ن واح اجلني ات على قرب ح امت الط ائي "‪ .‬حيث ج اء يف ال رتاث األس طوري الع ريب‪ ،‬مف اده أن‬
‫اجلني ات أربع قد حتج رن ق رب قرب ح امت الط ائي‪ ،‬املع روف بش دة كرم ه‪ ،‬يالزمنه وينحن عليه‬
‫من حني آلخ ر‪ .‬حيث ج اء‪ " :‬ي روي أبو عبي دة معمر بن املثىن احلارثي رواية اللغ ويني‬
‫نص الرواية ‪ " :‬رأيت قرب حامت الطائي بب ّقة – وهو أعلى جبل‪ ،‬له واد يقال‬ ‫املشهورين‪ ،‬وهذا ّ‬
‫له‪ :‬اخلابل أو احلامل – وإذا قدر عظيمة من بقايا قدور حجر مكفأة يف ناحية من القرب – من‬

‫‪ -‬أمحد ديب شعبو " يف نقد الفكر األسطوري والرمزي "‪ ،‬ص‪.146 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.146 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪291‬‬
‫الق دور اليت ك ان يطعم فيها الن اس – وعن ميني ق ربه كالنائح ات علي ه‪ ،‬مل ير مثل بي اض‬
‫اجلن على ق ربه‪ ،‬ومل يكن قبل ذل ك‪ ،‬واجلواري بالنّه ار‬ ‫مثلهن ّ‬
‫وههن‪ّ ،‬‬ ‫ادهن ومجال وج ّ‬ ‫أجس ّ‬
‫اجلن بالنيّاحة عليه‪ ،‬وحنن يف منازلنا نسمع‬‫كما وصفنا‪ ،‬فإذا هدأت العيون ارتفعت أصوات ّ‬
‫كن وه دأن‪ ،‬ورمبا م ّر املار ف رياهن فيفنت هبن‬ ‫ذلك إىل أن يطلع الفج ر‪ ،‬ف إذا طلع الفجر س ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫وجدهن حجارة"‬
‫ّ‬ ‫منهن‬
‫إهلن عجائبهن‪ ،‬فإذا دنا ّ‬ ‫فيميل ّ‬
‫وهنا تربز ذاكرة الكوين املشبعة باإلرث العريب األسطوري‪ ،‬وغري العريب‪ ،‬وكذا تربز خميلته‬
‫النص األسطوري يف تضافر أسطوري وسردي رائع‪.‬‬ ‫بنصه إىل مستوى ّ‬ ‫يف الرقي ّ‬
‫ه ذا بالنس بة لتقنية " اخللفية األس طورية "‪ ،‬كتقنية جتلي‪ .‬كما وظّف الك وين األس طورة‬
‫واستحض رها يف نصه لتالزم نس يجه اإلب داعي‪ ،‬من خالل تقنية ثالث ة‪ ،‬وهي تقنية " اجلملة‬
‫االستهاللية "‪ .‬حيث أن عبقرية الكوين‪ ،‬ومت ّكنه الثقايف والفكري واملوسوعي مل يقف عند ح ّد‬
‫استحض اره لألس طورة أو تفريقها وإع ادة ملئها من جدي د‪ ،‬وال أن يس رد على منواهلا يف‬
‫ص ناعة أس طورية جدي دة‪ .‬بل زادت عبقريته طغيانا حني جعل لنصوصه الس ردية " عب ارات‬
‫استهاللية "‪ ،‬خمتلفة املصادر‪ ،‬والداللة‪ ،‬واللغة‪ ،‬والثقافة‪ ،‬والزمان‪ ،‬واملكان‪ ...‬وغريها‪ ...‬فمنها‬
‫ما هو مس تمد من (الق رآن الك رمي)‪ ،‬ومنها ما هو مس تمد من ( العهد الق دمي )‪ ،‬ومنها ما هو‬
‫مستمد من ( الرتاث األسطوري العريب القدمي ) ومنها ما هو مستمد من ( الرتاث اإلغريقي )‬
‫ومنها ما هو مس تمد من آراء ( الفالس فة‪ ،‬والكت اب‪ ،‬والدارسني ‪ ) ...‬ومنها ما هو مس تمد‬
‫من خمتلف الفرق الدينية‪ .‬وحني تعددت مصادرها هذه العبارات األسطورية يف جوهرها‪ ،‬فقد‬
‫للنص املت ّوج هبا بع دا ثقافيا أو حض اريا أو دينيا أو معرفي ا‪ .‬زاده ث راء‪ ،‬وهباء ورونقا‬
‫أعطت ّ‬
‫متفردة‪.‬‬
‫ومجاال قيمة حضارية وكانت مبثابة حلقات ربطت بني األسطوري والسردي جبمالية ّ‬
‫ملا حتمله من إحياءات ببعديعا الواقعي واألسطوري‪.‬‬
‫والكوين مبوس وعيته ه ذه يسعى إىل أن جيعل من الق ارئ الع ريب وغري الع ريب قارئا نش طا‪،‬‬
‫قارئا موس وعيا‪ ،‬ومثقف ا‪ ،‬وباحث ا‪ ،‬وعارفا بشىت مص ادر األدب واللغة اليت ميكن أن تغيب عن‬

‫القصة العربية يف العصر اجلاهلي‪ ،‬علي عبد احلليم‬


‫‪ -‬هيثم هالل‪ " ،‬أساطري العامل‪ ،‬ص‪ ،21 :‬عن‪ :‬كتاب ّ‬
‫‪1‬‬

‫حممود‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،1979 /3/،3‬ص ‪.231‬‬

‫‪292‬‬
‫ذهنه أحيان ا‪ .‬بل أك ثر من ذل ك‪ ،‬ف الكوين‪ ...‬حيب أن جيعل الق ارئ نش طا حمبّا للمعرفة‬
‫نصه " مروحة للكساىل ! "‪.‬‬
‫واالكتشاف‪ ،‬بعيدا عن التلقي السليب‪ .‬الذي قد جيعل من ّ‬
‫واألمثلة على " العبارة االستهاللية " كثرية يف رواياته‪ ،‬منها ما تصدرت به الرواية ككل‪،‬‬
‫ومنها ما تصدر به فصل من فصول الرواية‪ ،‬ومنها ما جاءت فردية‪ ،‬ومنها ما جاءت ثنائية يف‬
‫ص فحة واح دة‪ ،‬وبني ه ذه وتلك تن وعت املص ادر وأث ريت الرواي ات وانتشى الق ارئ بل ّذة‬
‫النص‪ .‬ومث ال على ه ذه التقنية اهلام ة‪ ،‬وما تص درت به رواية " نزيف احلجر "‪ .‬من عب ارتني‬ ‫ّ‬
‫اس تهالليتني‪ ،‬مها على الت وايل‪ " :‬وما من راية يف األرض وال ط ائر يطري يف الس ماء إاّل أمم‬
‫أمثالكم " ( القرآن الكرمي )‪ ،‬سورة األنعام‪ /‬آية ‪ ) 37‬كذلك‪ ،‬ويف نفس الصفحة‪ " :‬وحدث‬
‫إذ كانا يف احلقل أ ّن قابيل ق ام على هابيل أخيه وقتل ه‪ .‬فق ال ال ّرب لقابي ل‪ :‬أين هابيل أخوك؟‬
‫إيل من‬
‫فق ال‪ :‬ال أعلم‪ :‬هل أنا ح ارس ألخي؟ فق ال‪ :‬م اذا فعلت؟ ص وت دم أخيك ص ارخ‪ّ .‬‬
‫األرض‪ .‬فاآلن ملعون أنت من األرض اليت فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك‪ .‬مىت عملت‬
‫األرض ال تعود تعطيك قوهتا‪ .‬تائها وهاربا تكون يف األرض " ( العهد القدمي‪ /‬سفر التكوين‪/‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫اإلصحاح الرابع )‪" .‬‬
‫وكعب ارة اس تهاللية لفصل من فص ول الرواية نفس ها ج اء‪ " :‬يف جن وب ليبي ا‪ ،‬أع ايل‬
‫النس امونيني يعيش اجلرامنت يف بالد غنية ب الوحوش‪ .‬وهم يهرب ون من الن اس‪ .‬خيش ون من‬
‫(‪) 2‬‬
‫أي سالح‪ ،‬وال يعرفون الدفاع عن النفس " ( هريودوت ) "‬ ‫طبتهم‪ ،‬ال يستعملون ّ‬
‫هذه " العبارة االستهاللية " اليت أحالت بوضوح ملا جاء بعدها يف الرواية‪ ،‬بأن ( آسوف‬
‫) منعزل يف الصحراء كالودان متام‪ ،‬وهذا ما أكدته ذلك الفصل املعنون ب " البنية "‪ .‬حيث‬
‫أسقط الكوين مقولة ( هريودوت ) على واقع معيش يف صحراءه‪ ،‬حيث يعيش بطل الرواية (‬
‫ب علي ه‪ ،‬إىل درجة أنّه ال يع رف‬ ‫آس وف ) منع زال عن بقية البشر كما علمه وال ده‪ ،‬وش ّ‬
‫التح اور مع األج انب وال املض ايقة ألجل التج ارة‪ ،‬وال حىت النظر إليهم عن ق رب‪ ،‬ما جعل‬
‫والدته تنعته بالبنية‪ ،‬خلجله الزائد عن احل ّد‪ ،‬بل هلروبه من مقابلة رجال القافلة التجارية‪ ،‬الذين‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.05 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.35 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪293‬‬
‫نص الرواية‪ ..." :‬انفصل عنهم أحد الرجال‪ ،‬ومشى باجتاهه‪،‬‬ ‫توفقوا ملضايقته‪ .‬حيث جاء يف ّ‬
‫الودان‪ ،‬بني األحج ار‪،‬‬ ‫الص خور‪ ،‬يتق افز‪ ،‬ك ّ‬‫فهزته الرجف ة‪ ،‬ووجد نفسه يقفز ويت وارى خلف ّ‬ ‫ّ‬
‫قاص دا ال وادي‪ .‬وقف يف الس فح‪ ،‬الهت ا‪ ،‬ملوثا ب العرق‪ ،‬واخلج ل‪ّ -‬أمه معها ح ّق‪ -‬هو بنيّة‬
‫الرجل ال يهرب من لقاء الرجال‪ ،‬احلياء للبنات‪ّ .‬أمه قالت ذلك‪.)1( " ...‬‬
‫ه ذا‪ ،‬وقد ج اءت " عب ارة اس تهاللية " يف مفتتح رواية " الترب "‪ .‬مقتبسة من (العهد‬
‫النص الت ايل‪ " :‬ما حيدث لبين البشر حيدث للبهيم ة‪ .‬وحادثة‬ ‫الق دمي)؛ حيث أورد الك وين ّ‬
‫واح دة هلم‪ .‬م وت ه ذا كم وت ذاك‪ .‬ونس مة واح دة للكل فليس لإلنس ان مزية على البهيمة‬
‫(‪) 2‬‬
‫أل ّن كليهما باطل " (العهد القدمي‪ /‬سفر اجلامعة‪ /‬اإلصحاح الثالث) "‬
‫ه ذه " العب ارة االس تهاللية " اليت أحالتنا مباش رة إىل املذهب الط وطمي القائ ل‪ ،‬بوح دة‬
‫الكائن ات‪ ،‬فال ف رق بني احلي وان واإلنس ان كالمها ك ائن حي جيري بعروقه دم واحد وحييا‬
‫بنفس ش بيهة بنفس اآلخ ر‪ .‬وه ذا املذهب الط وطمي يتجلّى يف الرواية ابت داء هبذه " العب ارة‬
‫جتل أخرى‪ .‬ليوضح لنا أ ّن البطل " أوخيّد " تعامل مع أبلقه‬ ‫االستهاللية " وصوال إىل تقنيات ّ‬
‫مقرا بذلك حني جاء يف الرواية‪" :‬‬ ‫معاملة األخ الذي مجعته به أخوة ال ّدم بل أكثر من ذلك‪ّ .‬‬
‫جلس خلف الس نام‪ ،‬وأح اط خاص رته باللّج ام اجلل دي‪ .‬مل يعجبه الوض ع‪ .‬فتم ّدد ف وق ظهر‬
‫أحس بلزوجة اجللدة احلمراء‪ .‬الدم مل يتيبّس بعد‪ .‬جسده‬ ‫املهري‪ ،‬والتصق باجلسد املسلوخ‪ّ .‬‬
‫أيضا ع ار‪ .‬م ّزقت أش جار الطريق ثياب ه‪ .‬ش عر أ ّن دمهما املتخثّر اللّ زج يتم ازج اآلن وخيتل ط‪.‬‬
‫ه ذا ما تس ميه العج ائز بالت آخي‪ .‬عهد األخ ّوة األب دي‪ .‬التحم اجلسد باجلس د‪ ،‬واختلط ال دم‬
‫بال دم‪ .‬يف املاضي كانا ص ديقني فق ط‪ .‬أما الي وم فإهنما ارتبطا بوث اق أق وى‪ .‬بال ّدم‪ .‬أخ ّو ال ّدم‬
‫األم ش قيقني دون أن يكونا أخ وين‪ .‬ش قيقان يف ال ّرحم‪.‬‬ ‫أق وى من أخ ّوة النس ب‪ .‬فقد تلد ّ‬
‫(‪) 3‬‬
‫األخوة ليست سهلة "‬‫ولكن طاملا مل متتزج دماؤمها فلن يكون أخوين أبدا‪ّ .‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪ 38 :‬و‪.39‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪.05 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪ 46 :‬و‪.47‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪294‬‬
‫املرة البن فضل اهلل العمري‬ ‫ويف نفس الصفحة جاءت (( عبارة استهاللية )) ثانية‪ ،‬هذه ّ‬
‫((مملكة م ايل وما معها ))‪ .‬حيث ج اءت (( العب ارة االس تهاللية )) التالي ة‪ ..." (( :‬يف طاعة‬
‫سلطان هذه اململكة بالد مغازة الترب‪ ،‬حيملون إليه الترب كل سنة‪ .‬وهم كفار‪ ،‬مهج‪ ،‬ولو شاء‬
‫جربوا أهنم ما فتح أحد منهم مدينة من م دن ال ذهب‪،‬‬ ‫أخ ذهم‪ .‬ولكن ملوك ه ذه اململكة قد ّ‬
‫ونشأ هبا اإلس الم‪ ،‬ونطق هبا اآلذان‪ ،‬إال ق ّل وج ود ال ذهب‪ ،‬مثّ يتالشى حىت يع دم‪ ...‬وي زداد‬
‫(‪) 1‬‬
‫فيما يليه من بالد الك ّفار " ( ابن فضل العمري (( مملكة مايل وما معها )) "‬
‫هذه (( العبارة االستهاللية )) أحالتنا مباشرة إىل استحالة اجتماع املادة والروح ‪ /‬الذهب‬
‫وال ّدن‪ .‬يف موضع واحد‪ .‬فحيثما يكون ‪ /‬الذهب‪ /‬الترب تكون املعصية ويكون الكفر‪ .‬ويكون‬
‫دو بطلنا "‬‫معها الش يطان والعكس متام ا‪ .‬وه ذا ما تض منته الرواية من دالل ة؛ حيث ح اول ع ّ‬
‫أوخيّد " أن يشرتيه حبفنة من ذهب لكنه رفض ذلك وتفطّن للعبته القذرة‪ ،‬وقفى عليه‪ ،‬وأعاد‬
‫حريته وص فاء روحه ب أن أزاح عنه ما أحلقه الترب به من ع ار‪.‬‬ ‫إليه ذهبه ال رخيص‪ ،‬واش رتى ّ‬
‫نص الرواي ة‪ ..." :‬لعنة اهلل على املال‪ .‬هل مسعت ب ذلك الرجل ال ذي زوجته‬ ‫حيث ج اء يف ّ‬
‫وول ده يف واحة آدرار مقابل حفنة من الت رب؟ ‪ .‬مجد ال ّدم يف ع روق اوخيّ د‪ ،‬ص رخ‪ :‬م اذا؟‬
‫القصة على كل لسان‪ .‬تنازل ألحد األعزباء عن زوجته وولده مقابل حفنة من الترب‪ .‬الذهب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ال ذهب يعمي البص ر‪ .‬اآلن فقط ص ّدقت أ ّن النح اس ملع ون ح ّق ا‪ .‬س كت أوخيّ د‪ .‬س يل من‬
‫الع رق الب ارد ت دفّق على ظه ره‪ ...‬لقد أخذ الترب وفك ذهن اجلمل وس لّم امرأته وولد لرجل‬
‫الفخ‪ ...‬سيذهب إىل الوغد‪.‬‬ ‫غريب ي ّدعي قرابة رمبا كانت مزعومة‪ .‬لقد وقع ضحيّة سهلة يف ّ‬
‫الص فراء‪ .‬ل ّوث‬
‫ذرات ّ‬ ‫س ينزع من ش فته احلقيقة للنّ اس‪ ...‬وس يعيد له الترب امللع ون‪ ،‬ش ّوهه بال ّ‬
‫يدي ه‪ .‬لطّخ روح ه‪ .‬امت دت ي ده إىل ع رين اللّعن ة‪ .‬اللّعنة الكامنة يف الكن وز‪ .‬فتلطخت ي ده‪،‬‬
‫سيطهرها اآلن من النحاس امللعون؟ كيف سيمسح اإلهانة؟ يف رؤوس‬ ‫ّ‬ ‫تعفنت إىل األبد‪ .‬ماذا‬
‫الن اس؟ ‪ ...‬كيف سيغسل قلبه من احلرام؟ وإذا اس تطاع املوت أن ميسح اللّعنة فهل يس تطيع‬
‫أن يغسل اإلهانة يف رؤوس الن اس؟ ‪ ...‬ش يّع ي ده وارتفعت حنو رأس ه‪ .‬مل يص ّوب ط ويال‪.‬‬
‫بالتوس ل‪ ...‬الطلقة الثانية‬
‫ّ‬ ‫ض غط على الزن اد دون أن حييد عن بص ره‪ ...‬انتفض وفاضت عين اه‬
‫‪-‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪295‬‬
‫اخ رتقت حنره‪ ...‬غ اب حتت املاء مفت وح العي نني والش فتني‪ ...‬فتح ص ّرة الترب وألقى هبا يف‬
‫العني‪ .‬فوق املكان الذي غابت فيه اجلثّة‪ ...‬تألألت املياه‪ ،‬حتت أشعة الشمس الغاربة بذرات‬
‫(‪) 1‬‬
‫الترب الالمعة؛ والدم األمحر! من أقصى الغرب‪ ،‬خلف الغابة‪ ،‬انطلقت زغرودة بعيدة "‬
‫أما بالنس بة لرواية " الب ئر " فقد تص درها (( عب ارة اس تهاللية )) واح دة تفج رت نواهتا‬
‫األس طورية إش عاعا س اطعا على كافة فض اء الرواي ة‪ .‬وهي عب ارة‪ ،‬عن (( ه نري ت ورو )) عن‬
‫كتابه ((احلي اة يف الغاب ة))‪ .‬حيث ج اءت على النحو الت ايل‪ " :‬عن دما أراد ف ايتون أن يق دم‬
‫ال دليل على أص له الس ماوي م دح له ملدة ي وم واحد عجلة الش مس ف انطلق هبا وح رق ع ّدة‬
‫أحياء من املدينة السماوية السفلية‪ ،‬وأضرم النار على وجه األرض‪.‬‬
‫الص حراء الك ربى‪ ،‬هنا ق ام يوترب وص رعه وعلى األرض‬ ‫وج ّفف كل من ابع املاء وك ّون ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫بضربة رعد‪ ،‬فحزنت الشمس ورفضت أن تضيء بعد ذلك ملدة عام كامل "‬
‫هكذا ربط الكوين العبارتني االستهالليتني لرواية (( الترب )) هبامش قرائي واسع‪ ،‬فتضافر‬
‫الس ردي واألس طوري والتحما ليخلقا أس طورة جدي دة تنشد ال روح واحلريّة وص فاء النفس‬
‫وتنبذ املادة واجلشع والطمع‪ .‬فعلى الرغم من أن كل عبارة كانت توحي معىن بعيد متاما عن‬
‫املعىن ال ذي ت رمي إليه العب ارة الثانية إال أهّن ما كانتا مبثابة تلخيص جممل ملا احتوته الرواية من‬
‫دالل ة‪ .‬ويك ون ب ذلك الك وين‪ ،‬قد ص نع من االختالف يف ص دارة الرواية تض افرا س رديا‬
‫وأس طوريا ّأدى إىل داللة إنس انية عميق ة‪ .‬ب أ ّن ال روح ال تش رتى باملادة وأن قيمة اإلنس ان أو‬
‫الس واء أمثن من قيمة املادة‪ .‬وأ ّن الروابط اإلنس انية هي ما أص بحنا ننش ده يف‬ ‫احلي وان على ّ‬
‫زماننا هذا‪ .‬أنّه ولألسف قد طغى عليها اجلانب املادي وجشع اإلنسان هو السبب الرئيس يف‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ه ذا‪ ،‬عن رواية " الترب " أما رواية " الب ئر " وابت داؤها بعب ارة اس تهاللية واح دة‪ ،‬فه ذا هو‬
‫الرغم من أهّن ا واحدة‬ ‫التنوع العبقري يف توزيع (( العبارات االستهاللية )) عند الكوين‪ ،‬وعلى ّ‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪ 130 :‬و‪ 136‬و‪ 137‬و‪ 141‬و‪.142‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪296‬‬
‫إال أهنا ذات طاقة أسطورية رهيبة‪ ،‬أشعت دالالهتا على كافة فضاء الرواية لتجسد لنا ارتباط‬
‫" البئر " كعنصر أسطوري‪ ،‬باخلسوف كظاهرة أسطورية كذلك‪.‬‬
‫وبالتايل يكون الكوين بصدد صناعة أسطرة جديدة التحمت بنسيج السرد التحاما تاما يف‬
‫تضافر رائع‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬عن تقنية (( العبارة االستهاللية ))‪ ،‬كتقنية جتلي أسطوري يف روايات الكوين واليت‬
‫ؤدي إىل‬‫تع ّد حلقة س ردية مرتبط تص دير الرواية أو فصل من الرواية مع ب اقي نس يج النّص فت ّ‬
‫تضافر سردي وأسطوري رائع وحمكم‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬تضاف إىل تقنيات التجلي السابقة‪ ،‬عند الكوين تقنية ال تقل أمهية عن سابقيها‪،‬‬
‫أال وهي تقنية " العن وان " وال ذي قد يشري ص راحة لألس طورة املوظفة يف النص ال روائي‪ ،‬ويف‬
‫النص الس ردي‪ ،‬وهويت ه‪ ،‬فحني حيمل من‬ ‫أحي ان أخرى يكون مض لّال‪ .‬والعنوان مبثابة واجهة ّ‬
‫النص الس ردي يك ون قد س اهم‬ ‫يتفجر على كافة فض اء ّ‬ ‫الطاقة األس طورية ما يكفي ألن ّ‬
‫النص‪ .‬ففي رواية " الترب "‪ ،‬ج اء العن وان‬ ‫بش كل كبري يف تض افر الس ردي واألس طوري يف ّ‬
‫لكن‬
‫دل " "الت رب" على مع دن مثني لطاملا مسعت وراءه النف وس المتالك ه‪ّ ،‬‬ ‫مض لّال‪ ،‬حيث ي ّ‬
‫توحد‬
‫الكوين ك ان يبحث من وراء ه ذا العن وان‪ ،‬إىل شيء نقيض‪ ،‬إىل قيمة روحية متثلت يف ّ‬
‫الكائن ات كائن ات بش رية أو حيوانية وقد حقق العن وان ه ذه القيمة من خالل جتس يد‬
‫(( املذهب الطوطمي ))‪ ،‬الذي يوحي بغلبة الروح ونقاء النفس‪ ،‬ووحدة الكائنات‪ ،‬عكس "‬
‫الترب " الذي رماه بوجه صاحبه اجلشع‪ ،‬وقضى عليه وعلى جشعه‪.‬‬
‫وبالت ايل ك ان العن وان حمظة أوىل أس طورية محلنا بتض ليله إىل بغية الغ وص أك ثر وكشف‬
‫الداللة األسطورية املشعة فيها‪ ،‬وبالتايل أحالنا العنوان من السردي إىل األسطوري يف تضافر‬
‫رائع قلب املوازين وخ رق أفق انتظ ار الق ارئ ليقف على مش ارف قصة أس طورية مغ ايرة‪.‬‬
‫لتحمل مقص دية الك وين يف حبثه عن ه ذه القيمة الروحية العالية يف جمتمع طغت عليه املادة‪.‬‬
‫والنص الت ايل من الرواية جيسد ذل ك‪ ..." :‬أخ رج من ص ندوق احلديد جرابا جل ديا ق دميا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الس حرة‪ ،‬غ رف منه بفنج ان الش اي م رتني‪ ،‬فتألأل الترب وأعمى العي ون‪...‬‬ ‫موس وما بإش ارات ّ‬
‫الص رة‪ ...‬ال أعتقد أين س أحتاج إلي ه‪ .‬يق ال يف قبيلتنا إنه جيلب اللّعن ة‪ ...‬ال حيت اج إليه‬
‫ق ّدم له ّ‬

‫‪297‬‬
‫واجلن بس ببه‪ .‬ص راع الش يطان واإلنس ان بس ببه‪،‬‬
‫اجلن أيض ا‪ .‬ص راع اإلنس ّ‬ ‫اإلنس فقط وإمّن ا ّ‬
‫وص راع اإلنس ان واإلنس ان بس ببه‪ ،‬فكيف ال حتت اج إلي ه؟‪ ...‬ولكن يق ال إنّه ملغ ون وجيلب‬
‫الش ؤم‪ ...‬فتح ص ّرة الترب وألقى هبا يف العني‪ .‬ف وق املك ان ال ذي غ ابت فيه اجلثّ ة‪ ...‬تألألت‬
‫ذرات الترب الاّل مع ة‪ ،‬وال دم األمحر!‪ ...‬األبلق اآلن هو‬
‫املي اه حتت أش ّعة الش مس الغارب ة‪ ،‬ب ّ‬
‫ص ديقة الوحي د‪ ،‬أراد أن يبقى جبوار األبلق فكتب اهلل ج واره األب دي‪ ،‬واألبلق اآلن ل ه‪ .‬لن‬
‫يفرقهما إال الغناء‪ .‬بل حىت الغناء لن يفرقهما‪ .‬سوف يذهبان معا‪ .‬يعودان إىل أصلهما معا‪،‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫كما كانا من قبل أن يولدا "‬
‫غل وحقد‪ ،‬وسطوة املادة من قلوب البشرية ونشر‬ ‫مبدأ الكوين‪ ،‬ومقصديته يف انتزاع كل ّ‬
‫الت آخي بني أبسط الكائن ات حىت اجلم اد‪ ،‬وص وال إىل اإلنس ان‪ .‬ليس ب اخلفي‪ ،‬ف الكوين ن ادى‬
‫بوح دة الكائن ات ص راحة‪ ،‬وس عى إىل ذلك س عيا حثيث ا‪ ،‬أليس هو القائ ل‪ " :‬مل ي رو يل أحد‬
‫الص حراء هي اجل ّدة اليت ربت ين‪ ،‬وهي من روت يل‪ ،‬وهي اليت دفنت يف‬ ‫الص حراء‪ّ ،‬‬ ‫ش يئا غري ّ‬
‫الص حراء مس كونة يب‪ ،‬أش عر ب أنين‬
‫الص حراء‪ ،‬أش عر ب أ ّن ّ‬‫قليب س ّرها وهلذا عن دما أحت ّدث عن ّ‬
‫الص حراء هي اليت تس كنين‪،‬‬
‫الص حراء ولكن ّ‬ ‫بالص حراء‪ ،‬يعين لست أنا من يس كن ّ‬ ‫مس كون ّ‬
‫الص حراء تعلمت أن ال أفقص‬ ‫الص حراء أيضا تعلّمت حترمي أن تنتزع عودا أخضر‪ ،‬يف ّ‬ ‫أل ّن يف ّ‬
‫بيضة طري"(‪.)2‬‬
‫الص حراء "‬
‫وبالت ايل تك ون رس الة الك وين واض حة‪ ،‬يف حماولته اجلادة يف خلق " أس طورة ّ‬
‫هذا الفضاء البكر‪ ،‬فضاء البدايات‪ ،‬فضاء الروح‪.‬‬
‫ه ذا‪ ،‬أما تقنية العن وان يف رواية " الب ئر " فقد أحالتنا مباش رة إىل أس طورة " املاء " ه ذه‬
‫املادة املق ّدسة منذ ق دمي العص ور‪ ،‬حىت أننا جندها كب دايات أوىل لع رش اآلهلة يف ال ديانات‬
‫التطهر وبالعط اء واخلصب‬
‫القدمية‪ ،‬وص وال إىل اآلب ار واألهنار والبح ار وارتباطهما باآلهلة وب ّ‬
‫وغربه ا‪ .‬حيث ج اء‪" ،‬املاء وس ائر العناص ر‪ ،‬وهي الرتبة والن ار واهلواء أصل مجيع املخلوق ات‬
‫ومبدأها يف أساطري بدء اخللق‪ ،‬سواء كان عذبا منريا أو ملحا أجاجا‪ ،‬ما يتنزل من السماء أو‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪ 124 :‬و‪ 142‬و‪.144‬‬ ‫‪1‬‬

‫خاصة " بتاريخ‪27/06/2006 :‬م‪.‬‬


‫‪ -‬سامي كليب‪ " ،‬حوار مع الكوين "‪ ،‬برنامج " زيارة ّ‬
‫‪2‬‬

‫‪298‬‬
‫ما جيري هنرا أو حبرا‪ ،‬أو يف أعم اق ب ئر تفجر يف " واد غري زرع " ف إذا زاخر باحلي اة‪ ،‬بل هو‬
‫األول‪ ،‬أصال جلميع الكائنات احليّ ة‪ ،‬وهو اآلخر‬‫أكثر من ذلك‪ :‬لدى مجيع شعوب العامل فهو ّ‬
‫م اء هائجا مائجا وطوفانا تع اقب به البش رية في أيت على كل ش يء ولكنه يف آن ين بئ بتج دد‬
‫على وجه األرض وخبلق جدي د" (‪ )1‬فكان العنوان ذو طاقة أسطورة هائلة أشعت على فض اء‬
‫الص حراء‪ ،‬وس ببا يف‬
‫النص الس ردي بإحياءات أس طورية واس عة‪ .‬فك ان الب ئر يف الرواية مركز ّ‬
‫شح مباءه عن أهلها‪ ،‬كان مصريهم‬ ‫خصوبتها‪ ،‬وسببا يف بعث احلياة فيها واستمراريتها‪ ،‬وحني ّ‬
‫التي ه‪ ،‬واملوت والفن اء‪ .‬فربط العن وان كتقنية جتل بني الس ردي واألس طوري يف الرواية وك ان‬
‫األول واألخري بصفته رمزا‬
‫مشع ذو طاقة أسطورة هائلة‪ .‬ألن " املاء هو ّ‬ ‫مبثابة رمز أسطوري ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫حسا ومعىن "‬
‫للبدايات ولنهاية الكون‪ ،‬ورمز الطهارة ّ‬
‫أما رواية " نزيف احلجر " فقد ك انت تقنية (( العن وان )) فيها مض لّلة‪ ،‬حيث مل حتلنا‬
‫الس ر ال ذي جعل‬
‫مباش رة إىل أس طورة اخلصب املعروفة منذ الق دمي‪ .‬وإمّن ا جعلتنا نتس اءل عن ّ‬
‫تتكش ف لنا‬
‫ونلح يف اإلجابة عن ه‪ّ ،‬‬
‫الكوين يع ّد من احلجر كائنا ي نزف‪ .‬وحني نطرح السؤال ّ‬
‫احلقيقة اليت يدفعنا إليها الكوين دفعا يف عملية خلقه لألسطورة‪ .‬لنستحضر معه مشهد الصلب‬
‫على النصب احلج ري‪ ،‬وس يالن ال دم علي ه‪ ،‬ليك ون ال نزيف‪ ،‬هو نزيف األض حية اجلالبة‬
‫للخصب والنم اء‪ ،‬نزيف األض حية اليت س يتبعه الطوف ان‪ ،‬ال ذي سيغسل األرض مجيعا من‬
‫الرواي ة‪ " :‬تق اطرت خي وط ال دم على اللّ وح احلج ري‪.‬‬‫نص ّ‬‫ال دنس واخلطاي ا‪ .‬حيث ج اء يف ّ‬
‫ف وق اللّ وح املدفون إىل نص فه يف ال رتاب‪ .‬كتب ب‪" :‬التيفين اغ" الغامضة اليت تش به رم وز‬
‫تعاويذ السحرة يف " كانو " عبارة‪ " :‬أنا الكاهن متخندوش أنبئ األجيال أن اخلالص سيجيء‬
‫تتطهر‬
‫الودان املق ّدس ويسيل الدم من احلجر‪ .‬تولد املعجزة اليت ستغسل اللّعنة‪ّ ،‬‬ ‫عندما ينزف ّ‬
‫الصحراء الطوفان " (‪. )3‬‬
‫األرض ويغمر ّ‬

‫‪ -‬حمفوظ حممد أبو محيدة‪ " ،‬قراءات يف األسطورة "‪ ،‬ص ‪.132‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.133‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬أبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.147 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪299‬‬
‫إذن ه ذا ال نزيف هو مثن األخ ّوة‪ ،‬ومثن التض حية ألجل الط وطم‪ .‬ومثن إخص اب األرض‬
‫وتطهريه ا‪ ،‬وبالت ايل ق ّدم لنا الك وين من العن وان " نزيف احلجر " برتكيبته االعتباطية مظه رين‬
‫من مظ اهر األس طورة‪ (( :‬املظهر الط وطمي )) و (( مظهر أس طورة اخلصب ))‪ .‬يف تض افر‬
‫سردي وأسطوري رائع انطالقا من العنوان‪.‬‬
‫باإلض افة إىل تقني ات التجلي الس ابقة‪ ،‬هنالك تقنية أخ رى اس تخدمها الك وين يف توظيفه‬
‫الس رد‪ ،‬أال وهي تقنية (( التن اص ))‪ .‬ه ذا‬ ‫أهم لبن ات ّ‬
‫لألس طورة يف رواياته وهي تع ّد من ّ‬
‫يقل أمهيّة عن باقي التقنيات األخرى‪ .‬والذي يع ّد " أحد أبرز وسائل‬ ‫النص الذي ال ّ‬ ‫التلقيح ّ‬
‫وللتحرر من وطأة املباشرة‪ ،‬وإلجناز كتابة روائية‬
‫ّ‬ ‫بأقل ما ميكن‪.‬‬
‫الروائيني لقول أكثر ما ميكن ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫تتجنّب التعبري عن املعرّب عنه "‬
‫النص ي ع ادة ما يك ون ألجل إنت اج جدي د‪ .‬فقد استحضر الك وين نصوصا‬ ‫وه ذا التالقح ّ‬
‫طعم هبا نصوصه اإلبداعية بغية ما أمجع عليه الدارس ون ب "‬ ‫عدي دة من أزمة وأمكنة خمتلف ة‪ّ ،‬‬
‫النص املس تورد بطريقة فاعلة داخل النس يج الس ردي‪ ،‬فيولد‬ ‫النص ي " حيث يش تغل ّ‬ ‫التفاعل ّ‬
‫هامشا قرائيا يؤكد مقص دية املب دع ويوض حها‪ .‬وأمثلة ذلك كث رية يف نص وص الك وين‪،‬‬
‫النص الذي استدعاه الكوين‪ ،‬يف رواية " نزيف احلجر " عن‬ ‫نستحضر منها على سبيل املثال‪ّ .‬‬
‫نص‬
‫مؤلف فرنسي مل يذكر من هو‪ ،‬من كتابه (( الصوفية يف مشال إفريقيا ))‪ .‬حيث جاء يف ّ‬
‫النص املثري الذي كان سببا يف إدمانه حلم الغزالن‪،‬‬
‫الرواية‪ ..." :‬يف الكتاب نفسه‪ ،‬وجد ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫رحالة ص ويف مغم ور‪ .‬ق ال‪ (( :‬احلقيقة يف األنع ام‪ ،‬يف الغ زالن‬
‫النص عن ّ‬‫مؤلف الكت اب نقل ّ‬
‫ومزق حجاب‬ ‫السر وبذر املعىن‪ .‬فمن ذاق حلم هذا املخلوق حطّم يف نفسه العجز ّ‬ ‫ط اهلل ّ‬ ‫حّ‬
‫الس وى ووقف على رؤيته يف املن ام )) (‪ .)2‬فك ان ه ذا النص‪ ،‬هو تقنية جتلي للمظهر‬ ‫ّ‬
‫وتذوق‬
‫السر ّ‬‫الطوطمي؛ حيث دفع هبذا املستعمر ( جون باركر )‪ ،‬إىل السعي وراء اكتشاف ّ‬
‫ويف املغم ور ذ ّك ره ب‪:‬‬
‫النص الص ّ‬‫نص الرواي ة‪ّ " :‬‬‫حلم احلي وان األس طوري‪ .‬حيث ج اء يف ّ‬

‫‪ -‬نضال الصاحل‪ " ،‬النزوع األسطوري يف الروايات العربية "‪ 205 ،‬و‪.206‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.116 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪300‬‬
‫ذوق حلم احلي وان‬‫(( اهلذيان ))‪ ...‬ف انتهز عزلته يف اجلبل الغ ريب‪ ،‬وق ّرر أن يكشف الس ّر ويت ّ‬
‫عل اهلل يفتح له الباب‪ .‬فينعم برؤية اهلل يف املقام‪.‬‬
‫األسطوري ّ‬
‫نص ه‬
‫نص ه اإلب داعي‪ ،‬بل أع اد بن اءه داخل ّ‬ ‫النص إلقحامه يف ّ‬‫والك وين هنا مل يستحضر ّ‬
‫النص اجلدي د‪ ،‬وهو خلق األس طورة على أنق اض أس طورة قدمية هي‬ ‫ليحيلنا إىل مقص دية ّ‬
‫( املذهب الط وطمي ) حيث أحالنا إىل كشف س ّر س عي ه ذا املس تعمر إىل ص يد احلي وان‬
‫الس ر اإلهلي فيه‪ ،‬بأن استعان بأحدث‬ ‫وتدليل كل الصعوبات يف سبيل اإلمساك به‪ ،‬وكشف ّ‬
‫اآلالت واألجهزة يف سبيل ذلك من بنادق وخراطيش والندروفر حىت اهليليكوبرت‪.‬‬
‫نص ا آخر عن تعاليم (( الز ّن )) اليت شغف هبا‬ ‫كما استحضر الكوين‪ ،‬ويف نفس السياق‪ّ ،‬‬
‫نص الرواية‪ " :‬ففي اجلامعة ردد أمام كارولني مجلة غامضة‬ ‫هذا املستعمر كثريا‪ ،‬حيث جاء يف ّ‬
‫اس تعارها من تع اليم (( ال ز ّن )) اليت ش غف هبا يف تلك األي ام‪ ،‬وتق ول إ ّن س عي اإلنس ان‬
‫للوص ول إىل مرتبة اإلله لن يتح ّقق إال إذا م ّر اإلنس ان حبالة احلي وان‪ ،‬يع تزل حىّت يس توحش‪،‬‬
‫خيرس حىت يفقد الق درة على النطق ‪ ،‬يقت ات على الش عب حىت ينسى طعم الطّع ام‪ .‬واخلالق‬
‫أك ثر ميال للحل ول يف املخل وق املتو ّغل يف الربي ة‪ ،‬املقط وع يف اخلالء‪ ،‬ويبتعد حىت عن‬
‫احليوانات اليت تستأنس الناس وال ختتار منفى البحرية " (‪.)1‬‬
‫والنص هنا حييلنا مباش رة إىل املذهب الط وطمي‪ ،‬وتيمة احلل ول‪ ،‬حيث ي رمي الك وين من‬ ‫ّ‬
‫حيل ب احليوان املس توحش مث ل‪:‬‬ ‫النص إىل أ ّن اهلل – يف ه ذا املعتقد – ّ‬‫خالل توظيفه هلذا ّ‬
‫جيس دان احلي وان الط وطمي يف الرواية حيث ج اء يف نفس الس ياق‪ ،‬من‬ ‫(( الغ زال )) الل ذان ّ‬
‫الرواي ة‪ " :‬وأدهشه إمجاع املتص ّوفة على االعتق اد أ ّن األنع ام أج در بالوالية وتقمص ال روح‬
‫الس ماوية من بقية املخلوق ات‪ ،‬فوجد س ندا قويا لتع اليم (( ال ّز ّن )) البوذية يف ه ذا ال رأي‪.‬‬
‫فيولون احليوان اهتماما يفوق االهتمام باإلنسان‪ .‬كما فضلوا حيوانا آخر‪ ،‬فاستثنوا الوحوش‬
‫وخصوا احليوانات املساملة بالوالية‪ .‬وقد تذهب ذلك الصويف املغمور‬ ‫واستبعدوها من الرمحة‪ّ .‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.116 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪301‬‬
‫ومبجرد أن‬
‫ّ‬ ‫يف رؤياه فوضع قائمة طويلة لألمراض اخلفية اليت مل يعرف هلا عالجا إال بالغزال‪.‬‬
‫أعلن لألهايل عن رغبته يف الفوز بالغزالن‪ ،‬دلّوه على قابيل آدم " (‪.)2‬‬
‫النص السردي مبا هو أسطوري وتالقح‬ ‫ومن هنا كان التناص‪ ،‬تقنية جتلّي أسطوري‪ ،‬ربط ّ‬
‫النص ال روائي ث راء وموض وعية‪ ،‬وفتحت أم ام الق ارئ ما‬‫معه ف أنتج إحياءات أس طورية زادت ّ‬
‫ك ان مس تغلقا‪ .‬أو ما استعصي عليه فهم ه‪ ،‬فق رب الق ارئ إىل احلقيق ة‪ ،‬وكشف له احلجب‪،‬‬
‫ووقف على حقيقة الطوطم إىل ح ّد ذاته‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد جاءت تقنية التناص‪ ،‬كأداة جتلي أسطوري يف العديد من روايات الكوين‪ ،‬بل‬
‫وتع ّددت مصادرها يف الرواية الواحدة فسامهت يف تضافر السردي واألسطوري كفسيفساء‬
‫من العهد القدمي‪ .‬غ ّذاها الكوين من عبقريته وروحه‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬هكذا يكون الكوين قد مازج بني السردي واألسطوري من خالل هذا التجلي‬
‫الذي يعلن نفسه حينا ويتسرت حينا آخر‪ ،‬وراء تقنيات متعددة أجاد الكوين لعبتها‪.‬‬
‫مرة يظهر ببع دين‪ :‬واقعي‪ /‬أس طوري‪ .‬يك اد الواحد منها يطغى على‬ ‫النص يف ك ّل ّ‬
‫وك ان ّ‬
‫اآلخ ر‪ .‬مث ما يلبث‪ ،‬اآلخر يس تب ّد جم ّددا‪ .‬ويف كل ه ذا جيد الق ارئ نفسه مس تمتعا‪ ،‬وهو‬
‫مش دود هلذا التض افر اجلميل ال ذي أعادنا به الك وين إىل ال زمن اجلمي ل‪ ،‬زمن الب دايات‪ ،‬زمن‬
‫الصفاء والطّهارة‪.‬‬
‫ب‪ -‬جماليات المطاوعات في روايات الكوني‪:‬‬
‫يع ّد الك وين ص انعا لألس طورة‪ ،‬ال موظّفا هلا‪ ،‬فنصوصه مالحم يف ح ّد ذاهتا‪ .‬حيث ال‬
‫ميكن للناقد أب دا أن مييّز بني ما هو أس طوري‪ ،‬وما هو واقعي‪ .‬فقد م زج الك وين بني ال واقعي‬
‫النص‬
‫واألس طوري إىل درجة أننا حني نتح ّدث عن مطاوعة العنصر األس طوري داخل ّ‬
‫نص ه بكل مظهر من املظاهر‬ ‫للنص الواقعي‪ .‬حيث إنّه باقي يف ّ‬
‫اإلبداعي مطاوعات وال وجود ّ‬
‫ختص ه‪ ،‬فمظهر اخلصب ‪ -‬مثال – جعل له ( قربانا ) وجعل له‬ ‫األسطورية‪ ،‬وتبعاته من تيمات ّ‬
‫( ن ذرا ) وجعل لنقض الن ذر ( لعنة ) وجعل من يب أش كال ( العق اب )‪ ( ،‬الطوف ان ) و‬
‫( اخلسوف )‪ ،‬و ( اجلنون ) و (التيه)‪ ،‬وجعل ( للوفاء بالنذر ) ( مكافأة )‪.‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.117 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪302‬‬
‫النص الق دمي واجلدي د‪ ،‬وهل املطابقة تك ون هلذا احل ّد؟ إنّه يص نع بالفعل‬
‫ف أين الف رق بني ّ‬
‫مالحم وليس بص دد استحض ارها‪ .‬وداللتها جتد أنك دخلت حبرا زاخ را ال ميكنك أب دا أنك‬
‫حتصر مكنوناته يف ح وض مسك‪ ،‬وإن خلت أنك فاعل ذل ك‪ ،‬فإنك ره ان على املس تحيل‪.! ‬‬
‫النص الغ ائب ( األس طورة‬‫وهنا تكمن مجالية املطاوع ة‪ ،‬ه ذه املس افة الداللية القائمة ما بني ّ‬
‫القدمية )‪ ،‬واملتح ّول ( األس طورة اجلدي دة ) انطالقا من طبيعة الكلم ة‪ ،‬ه ذه الكلمة اليت قد‬
‫نصا أو صورة ذهنية‪ ...‬اخل‪...‬‬‫تكون رمزا أو امسا أو ّ‬
‫وحني كان الكوين صانعا لألسطورة ال مستحضرا هلا وفقط فقد أتت املطاوعات مناسبة‬
‫نص ه احلاض ر‪ ،‬ح امال‬ ‫النص الغ ائب يف ّ‬
‫هلذا اخللق اجلديد وهلذه األس طرة‪ .‬حيث يستحضر ّ‬
‫جليناته الوراثية‪ ،‬مضيفا خصوصيات جديدة متيزه عن السابق وتبقيه ذو سلطة هو أيضا‪.‬‬
‫نص ه اجلدي د‪ ،‬داخل نس يج س ردي حمكم‪،‬‬ ‫حيث استحضر الك وين املظهر األس طوري يف ّ‬
‫نص ا جديدا قدميا يف آن نفسه‪.‬‬ ‫النص األسطوري الغائب‪ ،‬فيكون ّ‬ ‫ويطعمه تيمات هي صميم ّ‬ ‫ّ‬
‫يف تض افر أس طوري وس ردي رائ ع‪ ..‬وتتالشى الف وارق أحيانا إىل ح ّد املطابقة ولكنه يبه رك‬
‫رعي ي ؤدي ذلك بك إىل‬ ‫أحيانا أخ رى ب أن خيرق أفق انتظ ارك‪ ،‬حيث حيولّك إىل طريق ف ّ‬
‫الوقوف‪ .‬فتكون وكأنك انتقلت من األسطوري إىل الواقعي وليس العكس‪ .‬أل ّن الكوين ليس‬
‫بص دد توظيف أس طورة داخل رواي ة‪ ،‬وإمنا هو بص دد خلق أس طوري جديد داخل نس يج‬
‫سردي‪.‬‬
‫ّفح رواية " نزيف احلجر " وختال نفسك تبحث عن توظيف ( املظهر‬ ‫فحني تتص‬
‫النص الروائي‪ ،‬بل جتد ملحمة أسطورية حمورها الطوطم‪ ،‬بكل‬ ‫الطوطمي ) فيها‪ ،‬فإنّك ال جتد ّ‬
‫جزئياهتا وتفاص يلها وتيماهتا‪ ،‬من ( حترمي ) و ( تق ديس ) و ( لعنة العق اب ) و ( محاية‬
‫للط وطم )‪ .‬وبني ثنايا ه ذا املنت األس طوري تفتّش جي دا لعلّك جتد ال واقعي فيه ا‪ .‬أو ما ميكن‬
‫تس مية مقطعا من رواية ( نزيف احلجر )‪ .‬فتجد بالك اد‪ ،‬فق رات متن اثرة تتخلّل ه ذه امللحمة‬
‫األسطورية‪ ،‬حيث تتحدث هذه الفقرات القالئل عن بعض الفرق الدينية وتناحرها كالتيجانية‬
‫والقادرية‪ .‬أو تتحدث عن املقاومة ضد املستعمر‪ ،‬أو بعض تقاليد الطوارق ال غري‪ .‬وحتتل هذه‬
‫القصة األسطورية فيه‪.‬‬
‫النص باملقارنة مع ّ‬
‫الفقرات مساحة ضئيلة من فضاء ّ‬

‫‪303‬‬
‫هنا تقف على حقيقة أن الك وين ليس بص دد استحض ار األس طورة‪ ،‬وال بص دد توظيفها‬
‫وإمّن ا هو بصدد صناعة األسطورة‪ .‬وهذا ال ينسحب فقط على ( املظهر الطوطمي ) يف رواية‬
‫" نزيف احلجر "‪ .‬وإمّن ا ينسحب أيضا على باقي املظاهر األسطورية يف نفس الرواية وغريها‪.‬‬
‫وهنا تكمن مق درة الكوين يف صناعة األسطورة‪ ،‬حيث يصنع لك أكثر من أسطورة بتيماهتا‬
‫يف الرواية الواح دة‪ .‬فحني تبحث ويف نفس الرواية " نزيف احلجر " عن " مظهر اخلصب "‬
‫قصة أسطورية هلذا املظهر بكل تيماته‪ .‬من ( املاء ) كعنصر أسطوري‪ ،‬عرفته‬ ‫جتد نفسك تقرأ ّ‬
‫الش عوب منذ األزل‪ ،‬وأيضا ثنائية ( احلي اة واملوت ) اليت جيس دها ه ذا املظهر ك ذلك تيمة‬
‫( الن واح على إله اخلصب ) وك ذلك ( إله القحط واجلذب ) املتمثل يف ري اح ( القبلي )‪،‬‬
‫أيضا جتد ( القرب ان ألجل اخلالص ) ومنه ( القرب ان البش ري )‪ ...‬إخل‪ ( ...‬وقد مت دراسة‬
‫مطاوعاهتا يف الفصل الثاين من الدراسة )‪.‬‬
‫ه ذا‪ ،‬ومجالي ات املطاوعة ال تقف عند ه ذا احل ّد من العبقري ة‪ ،‬بل األدهى من ذل ك‪ .‬أن‬
‫العنصر األس طوري الواحد يف الرواية الواح دة‪ ،‬خيدم ع ّدة مظ اهر أس طورية‪ ،‬كاخلصب‬
‫والطوطم واخللود‪.‬‬
‫واألمثلة على ذلك كثرية ج ّدا‪ ،‬حيث جند على سبيل املثال ال احلصر‪ ،‬اإلهلة " تانس " يف‬
‫جير على األه ايل املوت واجلف اف‬ ‫رواية "الب ئر" هي إهلة اخلصب واجلم ال‪ ،‬والتج ّدد‪ ،‬وغياهبا ّ‬
‫واخلس وف‪ .‬وحيكم عليهم بالتيه والفن اء بينما جندها ويف نفس الرواي ة‪ ،‬هي " ت انس " املش يّدة‬
‫للجنة األرضية‪ ،‬ألجل اخللود‪ ،‬والبقاء والنعيم‪ ،‬وجند عاصمة جنتها األرضية " أطالنتيدا " هي‬
‫قبلة للعلم واملعرفة‪ .‬وعاصمة للتجارة‪ .‬وبالتايل خدم العنصر األسطوري " تانس " مظهري "‬
‫اخلصب " و " اخللود "‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬جند‪ ،‬على سبيل املثال العنصر األسطوري " الغزالة " كعنصر أسطوري يف رواية‬
‫"نزيف احلج ر" هي رمز للخل ود وهي ك ذلك رمز للمظهر الط وطمي من جهة أخ رى‪ .‬من‬
‫خالل تيمة واحد وهي ( ميثاق الدم )‪.‬‬
‫ك ذلك‪ ،‬جند‪ ،‬على س بيل املث ال‪ ،‬العنصر األس طوري " اإلهلة ت انيث " يف رواية " الترب " ‪،‬‬
‫هي إهلة اخلصب واحلب والتناس ل‪ ،‬وتك ون ب ذلك رم زا ملظهر اخلص ب‪ ،‬ولكنها من جهة‬

‫‪304‬‬
‫أخ رى هي أيضا رم ز‪ .‬للمظهر الط وطمي حيث تس لط ( اللّعنة والعق اب ) على أوخيّ د‪،‬‬
‫وأبلقه‪ ،‬وبالتايل هي رمز للمظهرين ( اخلصب والطوطم )‪.‬‬
‫وعبقرية الك وين يف ه ذه النق اط مجيع ا‪ ،‬ال تكمن يف كونه اس تطاع أن جيعل العنصر‬
‫األس طوري الواحد خيدم أك ثر من مظهر أس طوري‪ .‬وإمّن ا عبقريته احل ّقة تكمن يف أنّه اس تطاع‬
‫جيس د فعال خاصية من خصائص أسطورة التكوين اليت تشمل على هذه املظاهر الرئيسية‬ ‫أن ّ‬
‫الثالث ة‪ ،‬واليت تتش ابه يف تفاص يلها وتش رتك يف جزئي ات كث رية‪ .‬كوهنا انبثقت من أصل واحد‬
‫هو " أسطورة التكوين "‪.‬‬
‫يقر بأنه بصدد خلق أسطورة بواسطة األسطورة حيث جاء عنه نفسه‪ " :‬الرواية‬ ‫والكوين ّ‬
‫ال تصري رواي ة‪ ،‬إذا مل تتكلم لغة األس طورة‪ .‬غاية األمر يف أساسه هو ق ول األس طورة‪ .‬غاية‬
‫الرواية أساسا خلق األسطورة‪ ،‬أو فلنقل إ ّن نيّة الراوي األوىل هدم البدايات من أساسها وبناء‬
‫البديل خارج املكان مبساعدة األسطورة‪ ،‬أي خلق األسطورة عن األسطورة‪ ،‬تكوين أسطورة‬
‫(‪) 1‬‬
‫عن التكوين‪" .‬‬

‫جماليات التضافر األسطوري مع األشكال التعبيرية األخرى‪:‬‬ ‫‪-1‬‬


‫‪-‬أ‪ -‬جماليات التضافر السردي مع الخرافة‪:‬‬
‫رصع الكوين نصوصه الروائية كلوحة فسيفساء تنوعت ألواهنا‪ ،‬وأهبرت القارئ الذي‬ ‫ّ‬
‫يفك شفرات األسطورة اليت يتداخل نسيجها ويلتحم إىل درجة التضافر اجلميل‪ ،‬الذي‬ ‫ما فتئ ّ‬
‫يبعث فيه نشوة القراءة‪ ،‬اليت تصحبها نشوة التحليق إىل عامل من األساطري البدائية اليت تعيد له‬
‫مو األس طوري‪،‬‬ ‫النص يف حمطّة من حمطّ ات الس ّ‬
‫الص فاء والت وازن واالنطالق‪ ،‬وحني يتواضع ّ‬ ‫ّ‬
‫تقل كثريا عن اجلمالية األوىل‪ ،‬فيجد نفسه أمام لوحة مزركشة هي‬ ‫يرسو بالقارئ يف حمطّة ال ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ " ،‬صحرائي الكربى "‪ ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪305‬‬
‫القص ة الس ردية اليت‬
‫من األقرب اء املق ّربني لألس طورة‪ ،‬وهي اخلراف ة‪ .‬ه ذا الش كل التعب ريي‪ ،‬أو ّ‬
‫املتخص ص‪ .‬يف‬
‫ّ‬ ‫اق رتبت بأس لوهبا وحبكتها كث ريا من األس طورة إىل ح ّد اخللط من قبل غري‬
‫صح التعبري – بني اخلرافة واألسطورة يتمثّل‬‫أحيان كثرية‪ ،‬ولكن هناك ح ّد فاصل منيع – إن ّ‬
‫اخلاص ية‪" .‬‬
‫قص ة مق ّدسة بينما اخلرافة ال متلك ه ذه ّ‬ ‫يف " القدس ية "‪ .‬حيث أ ّن األس طورة ّ‬
‫النص األس طوري‪ ،‬جيب أن تك ون الفيصل‬ ‫اص‪ ،‬ف إ ّن ص فة القداسة اليت يتمتع هبا ّ‬ ‫بش كل خ ّ‬
‫التعرف على النصوص األسطورية لثقافة ما وتفريقها عن بقية النّصوص "‬ ‫األساسي يف عملية ّ‬
‫(‪. ) 1‬‬
‫حيث‪ ،‬جند‪ ،‬ب أ ّن األس طورة حتمل يف طابعها ص فة القداس ة‪ ،‬كوهنا ك انت يف تعاملها‬
‫األول عب ارة عن إجاب ات ألك ثر األس ئلة إحلاح ا‪ ،‬عن خلق الك ون‪ ،‬واآلهلة‪ ،‬وخلق اإلنس ان‬ ‫ّ‬
‫والطبيعة وغريه ا‪ .‬حيث " تتمتع األس طورة بقدس يته وبس لطة عظيمة على عق ول الن اس‬
‫ونفوسهم‪ .‬إ ّن السطوة اليت متتعت هبا األسطورة يف املاضي‪ ،‬ال يداينها سوى سطوة العلم يف‬
‫ف‬‫العلم يف العصر احلديث‪ " ...‬إ ّن األس طورة هي حكاية مق ّدس ة‪ ،‬ذات مض مون عميق يش ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫عن معاين ذات صلة بالكون والوجود وحياة اإلنسان "‬
‫خاص ية " القداسة " حيث أهّن ا جتنح‬
‫أما بالنس بة للخراف ة‪ ،‬فهي بعي دة كل البعد عن ّ‬
‫اخليال البشري اجلامح‪ ،‬البعيد عن جمريات الواقع‪ ،‬وتطرق حىت العامل امليثافيزيقي‪ ،‬رغم قرهبا‬
‫لعل اخلرافة هي أكثر أنواع احلكايات التقليدية شبها باألسطورة‪.‬‬ ‫الشديد من األسطورة‪ .‬إن " ّ‬
‫تقوم اخلرافة على عنصر اإلدهاش ومتتلئ باملبالغات والتهويالت وجتري بني املستوى الطبيعاين‬
‫اجلن‬
‫املنظور‪ ،‬واملستوى فوق الطبيعاين‪ ،‬وتتشابك عالئقها مع كائنات ما ورائية متنوعة مثل ّ‬
‫(‪) 3‬‬
‫والعفاريت واألرواح اهلائمة "‬
‫وطبعا إىل ج انب خاص ية التس لية اليت حتققها اخلرافة لإلنس ان‪ ،‬إال أ ّن ه دفها أبعد‬
‫وأمسى من ذلك‪ ،‬يف الكثري من األحيان‪ ،‬حيث أ ّن هلا مغزى أخالقيا وتعليميا‪ ،‬إذ‪ " :‬قد تنسج‬

‫السواح‪ ،‬األسطورة واملعىن‪ ،‬ص‪.14 :‬‬


‫‪ -‬فراس ّ‬
‫‪1‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.14 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.15 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪306‬‬
‫لغايات أخالقية وتوجيهية كاحلث على التزام اخللق الطيّب والنفور من املساوئ‪ ،‬وقد تتضمن‬
‫جملرد التس لية والرتفيه إال أهّن ا‬
‫رس ائل من مثل متجيد الق وي وص احب الس لطان‪ ،‬وقد ت روى ّ‬
‫تعتمد على مب دأ نسب اخلوارق والبطوالت لعناصر اخلرافة وشخص ياهتا الرئيسية‪ .‬شخصيات‬
‫اجلن أو العفاريت " (‪.)1‬‬
‫اخلرافة هم من البشر واحليوانات أو ّ‬
‫ه ذا‪ ،‬ويف عالقة اخلرافة بالرواي ة‪ ،‬فالعالق ة‪ ،‬عالقة مص در؛ حيث تنسج النص وص‬
‫الروائية عاملها من اخلراف ة‪ ،‬وتتق اطع معها يف ت داخل‪ ،‬يعجز الق ارئ‪ ،‬يف كثري من األحي ان‪،‬‬
‫والقص ة اخلرافية املوظفة‪ ،‬وهذا يف تضافر سردي رائع‪ ،‬تستمد فيه‬ ‫ّ‬ ‫التفرقة بني نسيج الرواية‪،‬‬
‫القص ة اخلرافية طابعها احلك ائي‪ ،‬ك أن تس تمد منها عنصر اإلده اش‪ ،‬أو عاملها‬ ‫الرواية من ّ‬
‫امليث افيزيقي‪ ،‬أو مغزاها اإلرش ادي‪ ،‬وطبعا ه ذه خاص ية يف الرواي ة‪ ،‬حيث أن " الرواية‬
‫اس تلهمت عناصر أس طورية مثلما اس تلهمت عناصر فلكلورية أخ رى " (‪ .)2‬وطبعا ال يت أتّى‬
‫مثل ه ذا االس تلهام البن اء للخرافة يف الرواي ة‪ ،‬إال من ط رف مب دع عبق ري يعي ما يوظ ف‪! ‬‬
‫وكيف يوظف‪ .! ‬إذ‪ " :‬ال ميكن استغالهلا إال بفضل كاتب كبري يفهم مغزاها " (‪.)3‬‬
‫نص ه ال روائي‪،‬‬ ‫النص الفولكل وري يف ّ‬‫اس تطاع الك وين بقدرته اخلارقة على اس تنطاق ّ‬
‫القص األسطورية – كما سبق‬ ‫القص ة اخلرافية إىل جانب ّ‬‫وتفجري طاقته احلكائية‪ .‬بأن يستلهم ّ‬
‫النص ال روائي من طاقتها‬ ‫ورأينا – بغ رض تش ويق الق ارئ‪ ،‬ومراودت ه‪ ،‬وأيضا ألجل انتع اش ّ‬
‫النص‬
‫النص وأبع اده ال ّداللية بنفس مس توى ّ‬ ‫احلكائي ة‪ ،‬وك ذلك ألجل تأص يل مقص دية ّ‬
‫اجلن اليت‬
‫القصة اخلرافية كثرية‪ ،‬منها‪ ،‬ما جاء عن قصص ّ‬ ‫والفولكلوري‪ .‬واألمثلة على استلهام ّ‬
‫الرواية‪..." :‬‬ ‫نص ّ‬‫اجلن وحفيدها؛ وقد ح ّدثه والده عن ذلك مرارا‪ .‬إذ جاء يف ّ‬ ‫أدهشنا سليل ّ‬
‫مث اكتشف رسوما أخرى وهو يتسلق اجلبال خلف املعيز‪ .‬ورأى يف اجلدران الصخرية وجوها‬
‫الص حراء‪ .‬وأدهشه كيف أ ّن ّأمه مل حت ّدثه‬ ‫بشعة كوجوه الغيالن وحيوانات قبيحة ال توجد يف ّ‬

‫‪ -‬مجعية التجديد الثقافية واالجتماعية‪ ،‬األسطورة توثيق حضاري‪ ،‬ص‪.42 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬عبد البديع عبد اهلل؛ اخلرافة واألسطورة يف الرواية العربية‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬ص‪.16 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.177 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪307‬‬
‫عنها من قبل حىت يف اخلراف ات‪ .‬كما مل يس مع عنها من أبيه قبل أن يهلك يف تلك املط اردة‬
‫الودان املسكون ّأمه قالت‪ :‬أهّن م سكان الكهوف القدماء‪ ...‬األجداد األولون‪.‬‬ ‫الفظيعة خلف ّ‬
‫باجلن ؟‬
‫‪ -‬ولكنك قلت أن الكهوف مسكونة ّ‬
‫ختض قربة احلليب بني ي ديها‬
‫رمقته باس تغراب‪ ،‬ابتس مت مثّ متايلت ميينا ويس ارا وهي ّ‬
‫اجلن؟ ‪ -‬كتمت ض حكة‪ ،‬ولكنّه ض بطها يف‬ ‫– ق ال بإحلاح‪ - :‬هل أج دادنا الق دماء ّ‬
‫عينيها‪ .‬عاود سؤاله‪ ،‬فنهرته بضيق‪ - :‬اسأل أباك‪ .‬سأل أباه‪ ،‬فضحك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫اجلن مثل الناس‪ ،‬ينقسمون إىل قبيلتني‪:‬‬
‫اجلن اخلرّي ‪ّ ،‬‬
‫اجلن‪ ،‬ولكن من ّ‬ ‫‪ -‬رمبا كانوا من ّ‬
‫اجلن اليت اخت ارت‬
‫قبيلة اخلري وقبيلة الش ّر‪ ،‬حنن ننتمي إىل القبيلة األخ رى‪ ...‬قبيلة ّ‬
‫اخلري‪.‬‬
‫‪ -‬هل هلذا السبب ال جناور أحدا؟‬
‫يفض ل اخلري‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هلذا الس بب‪ .‬إذا ج اورت األش رار حلقك الش ّر‪ ،‬اإلنس ان ال ذي ّ‬
‫الب ّد أن يه رب من الن اس حىت ال يلحقه األذى‪ .‬وك ذلك يفعل ه ذا الفريق من‬
‫اجلن‪ .‬س كنوا الكه وف هربا من الش ّر منذ ق دمي الزم ان‪ .‬أال تس معهم وهم‬ ‫ّ‬
‫يتحاورون يف الليايل املقمرة؟‪.‬‬
‫اجلن الليلة؟ األجدر أن جتلب الناقة وتأتيين‬
‫تدخلت ّأمه‪ :‬ملاذا‪ - :‬ملاذا ختيفه مبحاورات ّ‬
‫باحلليب قبل العشاء‪ .‬فالتفت آسوف إىل ّأمه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫اجلن يف الكهوف كل يوم‪ .‬يقولون أشياء مدهشة وخيطر بباهلم‬ ‫‪ -‬أنا أمسع حمادثات ّ‬
‫اجلن ض حك وألقى ب أعواد احلطب يف‬ ‫يف بعض األحي ان أن يغنّ وا‪ .‬أنا ال أخ اف ّ‬
‫اجلن يف كهوف اجلبال " ()‬‫النار‪ .‬وواصل التسلّي بوجوه ّ‬
‫اجلن‪ ،‬يف بداية روايت ه‪ ،‬لتك ون‬
‫قص ة خرافية أبطاهلا ّ‬ ‫نالحظ هن ا‪ ،‬أ ّن الك وين‪ ،‬وظّف ّ‬
‫القص ة اليت تعين كث ريا‪ ،‬بطل الرواية‬
‫حج را أساسا يبين عليه هيكل الرواية كك ل‪ .‬ه ذه ّ‬
‫اجلن‪ .‬وه ذا التعزير م ذهب أس طوري‬ ‫( آس وف )‪ ،‬حيث ت زرع يف ذهنه وخميلته أنه حفيد ّ‬
‫الرواية هو (املذهب الط وطمي)‪ .‬فيك ون ب ذلك الك وين‪ ،‬قد انتقل من اخلرافة إىل‬ ‫موظف يف ّ‬
‫اجلن " كائن غييب‬
‫األسطورة يف تضافر سردي وأسطوري وخرايف رائع‪ .‬وجند يف األثر أن " ّ‬

‫‪308‬‬
‫وخ رايف تأس طر مع ال زمن‪ ،‬وأ ّن هن اك العديد من القبائل قد آمنت بقدس يته وبأهنا من نس له‪.‬‬
‫وذهبوا إىل أبعد من ذلك‪ ،‬بأن تزوجوا منها وتناسلوا معها‪ .‬حيث جاء‪ ..." :‬قد "تنزل " إىل‬
‫البشر وتقيم معهم أص نافا من العالق ات ختتلف حبسب ما ميكن أن ينشأ بني اإلنسي واجليّن –‬
‫ويسمى قرينا أو تابعا أو رئيا – من صالت ترتاوح بني قطبني‪ ،‬أحدمها إجيايب‪ ،‬هو االستهواء‬
‫(‪) 1‬‬
‫والزواج واالستفحال وقول الشعر على لسان الشعراء‪ ،‬والثاين هو االختطاف واخلنق‪" ...‬‬
‫‪.‬‬
‫اجلن عند‬
‫اجلن عكس اإلنس فإن موطن ّ‬ ‫اجلن‪ " ،‬ملا كان ّ‬‫وجاء – أيضا – عن مواطن ّ‬
‫العرب هي كل مكان غري آهل وال مسكون‪ .‬وال عجب إذن‪ ،‬أن كانت املفاوز وكل مكان‬
‫ال أنيس به‪ .‬وقد اشتهرت بينهم مواضع ذكروها ونسبوا إليها‪ ،‬ورتبوها راتب‪ ،‬أشهرها وبّار‬
‫(‪) 2‬‬
‫"‬
‫للقص ة اخلرافية‬
‫وبالت ايل‪ ،‬اس تطاع الك وين‪ ،‬أن ميزج تلك الطاقة احلكائية واإلحيائية ّ‬
‫النص؛ حيث‬‫نص الرواية‪ ،‬فأشعت على كافة فضاء ّ‬ ‫اجلن )‪ ،‬داخل نسيج ّ‬ ‫والرمز األسطوري ( ّ‬ ‫ّ‬
‫اجلن‪ ،‬ك ذلك إىل ج انب تعليمي أدته‬‫أحالنا ه ذا التض افر إىل فض اء حك ائي م دهش لع امل ّ‬
‫اجلن لولده ( آسوف ) بعربة ونصح يفيدان أنّه‬ ‫القصة اخلرافية؛ حيث ختم األب سردته لقصة ّ‬
‫عليك أن تع تزل البشر إذا أردت اتّق اء ش ّرهم‪ " :‬إذا ج اورت األش رار حلقك الش ّر‪ .‬اإلنس ان‬
‫الذي يفضل اخلري الب ّد أن يهرب من الناس حىّت ال يلحقه األذى " (‪.)3‬‬
‫ه ذا من جه ة‪ ،‬ومن جهة أخ رى‪ ،‬وصل الك وين هبذا احملكي املس توحى من الفلكل ور‬
‫اجلن هو ط وطم لإلنس ان؛ حيث ك ان‬ ‫الش عيب األديب إىل كنه األس طورة القدمية القائل ة‪ ،‬ب أ ّن ّ‬
‫وتطورت أحداث الرواية وتص ّدعت لتصل إىل‬ ‫اجلن وحفيدهم‪ّ ،‬‬ ‫بطل الرواية (آسوف) سليل ّ‬
‫جمس د يف معلم حجري اكتشفه بطل الرواية ( آسوف ) صدفة‪ ،‬ليكون أحد‬ ‫أ ّن هذا الطوطم ّ‬
‫ودان املق ّدس )‪ .‬حيث ج اء يف‬‫اجلن املقنّع وال ّ‬
‫أهم رم زي املظهر الط وطمي يف الرواي ة‪ :‬ومها ( ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬حممد عجينة‪ ،‬موسوعة أساطري العرب – عن اجلاهلية ودالالهتا‪ ،‬ص‪.381 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪ 378 :‬و‪.379‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪. 10:‬‬‫‪3‬‬

‫‪309‬‬
‫مصب‬
‫ّ‬ ‫الرواية‪ :‬يومها طارد أشقى معزاة يف القطيع‪ ...‬فركض وراءها حىت أدركها عند‬ ‫نص ّ‬
‫ّ‬
‫الض خمة‪.‬‬
‫الص خور ّ‬‫تتوجها ّ‬ ‫ال وادي يف "أينس يس" اجملاور هن اك تق وم جمموعة من الكه وف‪ّ ،‬‬
‫الص خرة العالية اليت تقف كبناء يصعد صوب السماء كنصب وثين‬ ‫الص خور تلك ّ‬ ‫وحي ّد هذه ّ‬
‫القمة حىت‬
‫ودانه املق ّدس‪ ،‬القطعة احلجرية اهلائلة من ّ‬
‫اجلن املقنّ ع‪ ،‬مع ّ‬
‫ش يّده اآلهلة‪ .‬يغطّي ّ‬
‫األسفل " (‪.)1‬‬
‫القص ة‬
‫الس رد ويسرتس ل‪ ،‬وجييد الك وين يف كل ه ذا‪ ،‬التنقل بسالسة من ّ‬ ‫ويت واىل ّ‬
‫القصة الواقعية‪ ،‬وهي يف أغلبها‪ ،‬واقع حياة الطارقي املتمثل‬
‫القصة األسطورية‪ ،‬إىل ّ‬ ‫اخلرافية إىل ّ‬
‫الص فاء والت آخي مع‬
‫حرية وطالق ة‪ ،‬يف عزلة يس ودها ّ‬‫يف (آس وف ) يف ص حراء شاس عة بك ّل ّ‬
‫حريته‬
‫كل ما حييط به من كائنات ومجاد‪ .‬وال ينغّص عليه هذه احلياة اهلنيئة‪ ،‬وال يك ّدر صفو ّ‬
‫هذه سوى جشع اإلنسان النّهم‪ ،‬الظامل‪ ،‬املستب ّد‪ ،‬األناين‪ ،‬الذي سعى بشىت الطّ رق أن خيرق‬
‫احلرية‬
‫الص حراء ونقائها وعذريتها‪ ،‬بآالته الشيطانية‪ .‬وجشعه الاّل متناهي ليخنق أنفاس ّ‬ ‫صفاء ّ‬
‫فيها‪ ،‬ويبيد حيواناهتا‪ ،‬خامتا –الكوين – سرده بصورة صلب ( آسوف ) على النصب الوثين‪،‬‬
‫ودان املق ّدس‪ .‬ليك ون قربانا للخالص‪ .‬ويك ون اإلنس ان اجلشع‬ ‫وهو ملتصق ب اجليّن املقنّع وال ّ‬
‫احلق‪.‬‬
‫املتمثّل يف شخصية ( قابيل ) هو الشيطان البشري ّ‬
‫إضافة إىل ما سبق‪ ،‬فإ ّن استلهام الكوين للقصص اخلرافية يف روايته ال يزال متواصال‪،‬‬
‫القص ة املدهشة للغزال ة‪ ،‬اليت ق ّدمت نفس ها قربانا لبين آدم‪ .‬بغية كسب‬
‫حيث جاءنا بتلك ّ‬
‫مر الزمن‪.‬‬
‫(ميثاق ال ّدم)‪ ،‬ليحفظ العهد بينها‪ ،‬وبينه‪ .‬كي ال يتعرض هلا‪ ،‬ولنسلها باألديّة على ّ‬
‫القص ة اخلرافيّ ة‪ " :‬تق دمت ميّن أمي‪ ،‬وقبلت ين‪ ،‬ومتس حت برقب يت‪ ،‬ومهست يف‬
‫ملخص ّ‬ ‫فك ان ّ‬
‫أذين‪ " :‬إ ّن أفعل ذلك من أجلك‪ .‬لن ميسك اإلنس بعد اليوم "‪.‬‬
‫مث ذهبت وس لمت نفس ها لآلدمي احملطّم ال ذي يغمر وجهه يف ال رتاب حتت ش جرة‬
‫ودس ت الطفل العطش ان يف‬ ‫ال رمت‪ ...‬تكأك أت عليها العائلة يف تلك اللّحظ ة‪ .‬وأقبلت املرأة ّ‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.11:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪310‬‬
‫جوف ّأمي املسكينة كانت ذبيحة‪ ...‬دمها آخى بني ملتنا وملّة آدم‪ .‬حنن اآلن وابن آدم أخوة‬
‫(‪) 1‬‬
‫بالدم‪ .‬هذا احلصن اشرتيناه بثمن قاس "‬
‫القص ة اخلرافي ة‪ ،‬حتمل عظة عن‬ ‫وطبع ا‪ ،‬وأل ّن اخلرافة يف مقص ديتها وعظي ة‪ ،‬ف إن ه ذه ّ‬
‫سر آخر يف التضحية‪ .‬القربان سيفتح‬ ‫نص الرواية‪ " :‬هناك ّ‬
‫قدسية (رباط الدم)‪ ،‬حيث جاء يف ّ‬
‫سيحرم عليه دم ابنتك وأبناء أبناء ابنتك إىل أبد اآلبدين‪ .‬هذا‬
‫عهدا بني نسلك وبني ابن آدم‪ّ ،‬‬
‫تس ول له نفسه أن‬ ‫هو العه د‪ ،‬حصن القرب ان أن خيون رب اط ال دم‪ .‬واللّعنة س وف تالحق من ّ‬
‫خيون رن رباط الدم‪ .‬فال يوجد يف الدنيا كلها أقوى من رباط الدم وليس هناك جرمية أبشع‬
‫من خيانة هذا الرباط"(‪.)2‬‬
‫ه ذه العظ ة‪ ،‬عن قدس ية ( رب اط ال دم )‪ ،‬وردت يف الفلكل ور الع ريب منذ الق دمي‪ ،‬منذ‬
‫املدونة يف الكت اب املق ّدس عن األخ وين األع داء حيث جترا (قابي ل) و قتل أخ اه‬‫األس طورة ّ‬
‫(هابي ل) بفعل الغ رية منه ‪ ،‬خاصة أن قربانه قبلته اآلهلة و مل تتقبل قرب ان اآلخر و حني ك ان‬
‫الك وين ال ي رتك س بيال ملرور أي نص ت راثي يف رواياته م رور الك رام ‪ ،‬فانه انتقل من القصة‬
‫اخلرافية اجملس دة يف قصة (ميث اق ال دم) على لس ان الغزالة ‪ .‬اىل البعد األس طوري ال ذي يعمل‬
‫نفس الرمزي ة‪ ،‬حيث جسد لنا من خالل ه ذه القصة ‪ ،‬البعد األس طوري الق ائم على ع دم‬
‫جمس دا يف قتل ( قابيل ) املتعطّش لل ّدماء‬
‫خاص ة املتمثل يف دم األخ ّوة‪ّ .‬‬
‫اح رتام قداسة ال دم‪ّ ،‬‬
‫القص ة اخلرافي ة‪ ،‬وثاني ا‪ ،‬قتله لبين‬
‫ّأوال‪ ،‬للغ زالن ال ذين ت ربطهم به رابطة ال ّدم – كما ورد يف ّ‬
‫جلدته‪ ،‬الرجل املسامل‪ ،‬الصايف النّفس‪ ( ،‬آسوف ) وصلبه على احلجر الوثين يف هناية الرواية‪.‬‬
‫بالقص ة اخلرافية على لس ان الغزال ة‪،‬‬
‫( قابيل ) ه ذا‪ ،‬ال ذي م ّر يف ص غره حبادثة مش اهبة ّ‬
‫حيث أنقذه ( دم الغزالة ) من املوت احمل ّقق‪ ،‬وهو‪ ،‬رضيع‪ ،‬والقصة اليت أوردها الكوين جاءت‬
‫بالس كني عندما‬‫قص ته مع اللّحم بدأت منذ الرضاعة‪ .‬مات األب مطعونا ّ‬ ‫على النحو التايل‪ّ " :‬‬
‫حبلت به ّأم ه‪ .‬وم اتت األم مت أثرة بلدغة أفعى بعد والدته بأس بوع‪ .‬ورثت تربيته خالت ه‪،‬‬
‫فسقته دم الغزال يف إحدى الرحالت باحلمادة عمال بنصيحة أحد الفقهاء‪ .‬قال إهّن ا التعويذة‬

‫‪ -‬املصدر السابق ‪ ،‬ص‪ 112 :‬و‪.113‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.112‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪311‬‬
‫الوحي دة اليت تس تطيع أن تغس له من النّحس وحتمي بقية أهله وأقاربه من اللّعنة اليت تالحقه‬
‫الرحل ة‪ ،‬والتقطت‬ ‫منذ أن ك ان نطفة يف بطن ّأم ه‪ .‬ولكن اخلالة وزوجها ماتا عطشا يف تلك ّ‬
‫قافلة عابرة الطّفل الرضيع وهو حيشو رأسه يف جوف الغزالة ويلعق ال دماء وال روث يف البطن‬
‫املبقور‪ .‬ويقال إ ّن ال ّدم هو الذي أنقذه من املصري الشقي الذي آلت إليه خالته وزوجها " (‪.)1‬‬
‫حب اللّحم‬‫ب على ّ‬ ‫إذن‪ ،‬ك ان دم الغ زال هو منق ذه من اهلالك‪ ،‬لكنه ما لبث أن ش ّ‬
‫وشراهة أكله‪ ،‬فنقض العهد‪ ،‬ونسي ميثاق ال ّدم‪ ،‬وأكل أخته بال ّدم ( الغزالة ) مث إخوانه بال ّدم‬
‫( الغزالن ) وبرع يف صيدها بل وإبادهتا‪ .‬حيث جاء‪ ..." :‬يف السابق كان يصطاد يف الغزوة‬
‫ظ‪ .‬أما اآلن فانعكس الوضع‪ ،‬أصبح يصرع كل‬ ‫الواحدة غزالة واحدة‪ ،‬اثنتني إذا ابتسم له احل ّ‬
‫القطيع يف غ زوة واح دة‪ .‬وال تنجو س وى غزالة أو غزال تني إذا حصل احلي وان املس كني على‬
‫الصحراء اجلزائرية " (‪.)2‬‬
‫ظ‪ ...‬جبل احلساونة أصبح معقال للغزالن الالجئة إىل ّ‬ ‫ابتسامة ح ّ‬
‫لقد أوصله جشعه إىل نقض ميثاق ال ّدم وخيانة العهد وأكل الغزالن بل إبادهتا‪ .‬وأكثر‬
‫من ذلك أوصله جشعه ودمويته إىل قتل أخيه احلقيقي بال ّدم ( آسوف )‪.‬‬
‫وهبذا‪ ،‬انتقل بنا الك وين من اخلرايف إىل األس طوري عرب نس يج س ردي حمكم‪ ،‬ك انت‬
‫أح داث القصص اخلرافية واألس طورية والواقعية تت واىل وتسرتس ل‪ ،‬لتعطينا يف النهاية رواية‬
‫الص حراء العذراء‪ ،‬ألوانا أو من‬‫جر صفاء ّ‬ ‫ليست كأي رواية‪ .‬هدفها‪ ،‬نقد الواقع املرير‪ ،‬الذي ّ‬
‫االنتهاك ات يتط اول ابن آدم عليه ا‪ ،‬جلش عه وبآالته الفتاك ة‪ .‬فهو ن داء من الك وين‪،‬كن داء‬
‫السابقني‪ ،‬بأن يتآخى اإلنسان مع أخيه اإلنسان‪ ،‬وأيضا مع الكائنات والطبيعة وتعود األرض‬
‫كس ابق األزمن ة‪ .‬ك أرض الف ردوس املفق ود ولكن الق در ال ي رتك الطاغية أب دا‪ ،‬حيث أص يب‬
‫قابيل باجلنون والتيه‪.‬‬
‫خاص ة منها القصص على لس ان احلي وان – كث رية يف‬ ‫ه ذا‪ ،‬والقصص اخلرافية – ّ‬
‫الس رد‪ ،‬ومنها ما جاء قصريا‪ .‬لكنها‬ ‫روايات الكوين‪ ،‬منها ما أخذ مساحة كبرية من مساحة ّ‬
‫مجيعا حتمل يف جوهره ا‪ ،‬نص حا وإرش ادا وتوجيها لإلنس ان‪ ،‬من خالل إعط اء األمثلة‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.91 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪ 99 :‬و‪.100‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪312‬‬
‫ب احليوان‪ ،‬لتجريد الفك رة وترس يخها لدي ه‪ .‬وإلمت اع الق ارئ مبا حتمله من غ ريب وعجيب‬
‫للقص ة اخلرافية‬
‫ط عن استخدام هذا كلّه لوعيه بالوظيفة اجلمالية ّ‬ ‫ومدهش‪ .‬وال يتواىن الكوين ق ّ‬
‫قص ة خرافية قص رية‪،‬‬ ‫يف الس رد وأيضا لوعيه أك ثر بوظيفتها التعليمية واإلرش ادية؛ حيث جند ّ‬
‫نص الرواية‪ " :‬رأت‬ ‫على لسان ( الغزالة )‪ ،‬هتدف إىل تلقني أمثولة عن الوطن‪ ،‬حيث جاء يف ّ‬
‫الغزالة احلكيمة الوحشة يف عيين صغريهتا‪ ،‬فحدثتها عن السبب الذي جعلها جترؤ على البق اء‬
‫وتتخلّف عن طوابري امله اجرين‪ .‬وقبل أن ت دخل يف تفاص يل احلصن احلص ني‪ ،‬رأت أن تلقنها‬
‫وتقص عليه ا‪ ،‬حكاية عن ال وطن‪ .‬ق الت يف إح دى األمس يات إ ّن اخلالق ملا خلق‬‫ّ‬ ‫األمثول ة‪،‬‬
‫ال ّروح‪ ،‬عنّي له حدودا‪ ،‬وحبسه يف ثالثة س جون‪ :‬الزمان واملكان واجلس د‪ .‬وقد ح ّقت اللّعنة‬
‫وهلك كل من ح اول‪ .‬أن خيرج من ه ذه احلدود أل ّن اخلالق ق ّدس ها وجعلها ق درا يف رقبة‬
‫مترد على إرادت ه‪ .‬وح دث أن اغ ّرت الغ زال بقرنيه الكب ريين‪ ،‬وخ رج عن‬‫املخل وق‪ ،‬وخمالفتها ّ‬
‫القمة املهيبة الزرقاء املعممة بالغمام‬
‫قم ة‪ّ ...‬‬
‫القطيع يف السهل‪ .‬تطاول يف اجلبال‪ ،‬واعتلى أعلى ّ‬
‫الودان أن يقرتب منها‪ .‬فماذا كان جزاء خروجه؟ عاقبه اخلالق بطائر متوحش‬ ‫اليت خيشى حىت ّ‬
‫قم ة‪ ،‬فبقر بطنه بض ربة من خملب ه‪ ،‬وص رعه‪ ،‬وت دحرج عرب الس فح وأع اده إىل‬ ‫ال تعلو عليه ّ‬
‫السهل جثّة مبقورة‪ .‬فمن أراد أن خيرج من املكان أراد أن خيرج من بدنه‪ ،‬ومن أراد أن خيرج‬ ‫ّ‬
‫من الب دن أراد أن خيرج من الزم ان‪ ،‬ومن أراد أن خيرج من الزم ان ادعى اخلل ود‪ ،‬ومن ّادعى‬
‫رده إىل‬‫اخلل ود كفر بق دره وتط اول على ؟؟ ونافسه يف األلوهلي ة‪ ،‬ومن نافسه يف األلوهية ّ‬
‫الفن اء‪ .‬فلم اذا هنرب ون ذهب إىل التاس يلي؟ كيف ن رتك س هول احلم ادة‪ .‬مبفاجآهتا وزهورها‬
‫وأعش اهبا وترفاس ها وهوائها وهناجر إىل ما وراء الرمل ة‪ ،‬حيث تزحف الزواحف وتتس كع‬
‫الوحوش؟ " (‪.)1‬‬
‫والصرب‪ .‬وعدم ترك األوطان للغرباء بفعل‬ ‫القصة يزرع فينا الكوين‪ ،‬قيم الوطنية ّ‬
‫وهبذه ّ‬
‫النص الروائي‪ ،‬وكانت‬ ‫فحب الوطن أمسى من كل القيم‪ .‬هذه قيم مشلت كافة فضاء ّ‬ ‫اهلجرة‪ّ .‬‬
‫قص ة ( العظاية )‪،‬‬
‫قص ة خرافية أخ رى‪ ،‬هي ّ‬ ‫أيقونة أساس ية يف نس يجه‪ .‬إىل ج انب ه ذا جند ّ‬
‫وعلى ال ّرغم من قص رها امللح وظ إال أ ّن الك وين جعل ( العظاية ) عنوانا لفصل كامل من‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪ 109 :‬و‪.110‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪313‬‬
‫النص كلّ ه‪.‬‬
‫القص ة اخلرافية ه ذه يف نس يج ّ‬ ‫فص ول روايته وه ذا لقيمتها املعنوي ة‪ ،‬وأيضا لقيمة ّ‬
‫القص ة على النحو التايل‪ " :‬استجمع القوة الباقية‪ ،‬األخرية‪ ،‬من القلب‪ ،‬وزحف‬ ‫حيث جاءت ّ‬
‫حثيثا عرب امت داد ال وادي‪ ...‬ك ان زحفا يائس ا‪ ...‬املع زة تس حب اهلواء وتتنفس ط ويال بعد‬
‫ودان املذبوح فينهض واقفا ب دون رأس‪ ،‬وجيري‬ ‫ذحبه ا‪ ،‬رأس ها مفص ول عن جس دها‪ ،‬أما ال ّ‬
‫مس افة طويلة يف الع راء‪ ،‬قبل أن يستس لم هنائيا ويس لم أم ره للّ ه‪ .‬والعظاي ة‪ ،‬احلال مع العظاية‬
‫الص باح وعن دما تلقيها يف الن ار لتش ويها يف اللّي ل‪ ،‬الب ّد أتقفز من اجلحيم‬
‫أس وأ‪ .‬ت ذحبها يف ّ‬
‫وجتري يف الع راء‪ .‬مثّة حي اة أخ رى بني املوت واحلي اة‪ .‬مثّة حالة ثالثة ليست ع دما وليست‬
‫وج ودا‪ .‬هو اآلن يف احلالة الثالث ة‪ .‬يزحف عرب ال وادي ك األفعى‪ ،‬حمج وب العي نني‪ ،‬ال ي رى‬
‫شيئا‪ ...‬وال يعي شيئا‪ .‬باحثا عن قطرة املاء اليت تركها باألمس يف قاع الوادي بدء املعركة "‬
‫(‪. ) 1‬‬
‫القصة‪ ،‬وعلى قصرها‪ ،‬حتمل مغزى كبريا يف جوهرها‪ .‬إمّن ا فكرة التشبّث باحلياة‪،‬‬ ‫هذه ّ‬
‫بني اهلالك والنّجاة‪ .‬وإهنا فكرة اإلرادة اليت جيب أن يتحلّى هبا املرء‪ .‬وإهنا – كذلك – فكرة‬
‫عدم االستسالم وحماولة النهوض من جديد‪ .‬إهّن ا فكرة عدم االستسالم لعبثية احلياة‪.‬‬
‫مطعمة من حني إىل آخر بقصص حتكي عن التمائم‬ ‫باإلضافة إىل ما سبق‪ ،‬فإ ّن الرواية ّ‬
‫والودان املق ّدس )‪ .‬حيملون‬
‫والتعاويذ‪ ،‬وكيف أ ّن معظم صيادي احليوان األسطوري ( الغزال ّ‬
‫الص حراء يف‬
‫نص الرواية‪ " :‬وبرغم أ ّن ّ‬ ‫هذه احلجب والتعاويذ اتقاء لعنته وأذاه‪ .‬حيث جاء يف ّ‬
‫تعج ب الغزالن إال أ ّن الوالد س ّن لنفسه تقلي دا أال يصطاد أكثر من ش اة‬
‫تلك السنوات ك انت ّ‬
‫واحدة يف الرحلة‪ .‬وكان يؤكد أ ّن روح الغزال تقوى أو تشت ّد إذا زادت عن واحدة‪ ،‬تتغلب‬
‫العرافني وال تعاويذ الفقهاء‪ .‬وقد ح ّذره‬
‫الس حرة‪ .‬ولن تفيد متائم ّ‬ ‫على حصن القرآن وأحجبة ّ‬
‫العرافني املشهورين يف " كانو " من جتاوز احل ّد يف صيد الغزالن‪ ،‬ووصف زمر السحرة‬ ‫أحد ّ‬
‫تستغل العباد م ّدعية أهّن ا تستطيع أن تبتدع متائم ميكن أن تبيح اإلسراف يف قتل احليوانات‬
‫ّ‬ ‫اليت‬
‫الربي ة‪ ،‬ووص فهم باحملت الني ال ذين ال جيدر ب العقالء أن ينخ دعوا بأب اطيلهم " (‪ .)2‬والقصد من‬
‫ّ‬
‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.72 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪ 46 :‬و‪.47‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪314‬‬
‫الربية حىت ال ي ؤدي‬
‫القص ة القص رية أنه على املرء ع دم اإلس راف يف ص يد احليوان ات ّ‬‫ه ذه ّ‬
‫انقراضها‪.‬‬
‫وج اء يف موضع آخ ر‪ " ،‬ليس مس عود وح ده ال ذي أتى حييط عنقه باحلج اب وإمّن ا‬
‫الس حرة الزن وج‪،‬‬
‫ج ون أيض ا‪ .‬تربع جبوار املوق د‪ ،‬وأخ رج احلصن اجلل دي املرس وم بإش ارات ّ‬
‫ولوح به أمام وجهه متباهيا‪ ،‬تناوله قابيل‪ ،‬وقلّبه بني يديه مث قال‪ :‬هذا وشم شياطني " كانو "‬ ‫ّ‬
‫ه ذه خط وطهم‪ .‬ه ذه رم وزهم‪ .‬من أين لنص راين أم ريكي يعيش معلقا يف جبل نفوسة حبصن‬
‫اجلن ه ذا؟ تض احكا ج ون ومس عود‪ ...‬فك أزرار قميص الك اكي‪ ،‬ف ربزت قطعة اجلل د‪.‬‬
‫الس حرية‪ .‬ص اح قابي ل‪ - :‬اس تغفلتموين‪ ،‬مل يقل يل أحد أ ّن األحجبة‬ ‫موش ومة أيضا ب الرموز ّ‬
‫ودان‬ ‫علي أن أك ون الوحيد بينكما ال ذي ي ذوق حلم ال ّ‬
‫ودان‪ ...‬هل كتب ّ‬ ‫ض رورية لوليمة ال ّ‬
‫بدون حصن؟‬
‫والودان‬
‫دم الغزال‪ .‬أنت روح اخلالء‪ّ ،‬‬ ‫‪ -‬ال خوف عليك‪ ،‬أنت الوحيد املفطوم على ّ‬
‫حمصنة من الروح بقدرة ريب " (‪.)1‬‬
‫روح اجلبال‪ ،‬والروح ّ‬
‫الس رد إىل أن بلغ ذروت ه‪ ،‬حيث لقي الوالد حتفه من قبل‬ ‫وفعال‪ ،‬تواصل تص عيد ّ‬
‫ودان) ليس ألنه مل حيمل التعوي ذات واحلجب‪ ،‬بل ألنّه أخلف بالوع د‪ ،‬وهنا تكمن عبقرية‬ ‫(ال ّ‬
‫مرة‪ ،‬حيث وكاملعتاد‪ " :‬ال يتحرك‬ ‫الكوين يف قلب املوازين‪ ،‬وخرق أفق انتظار املتلقي يف كل ّ‬
‫الس حرة‬ ‫باجتاه القمم املهيبة إال بعد أن يق رأ كل آي ات اليت حيفظها من الق رآن وي ردد متائم ّ‬
‫احملص نة يف جل ود الثع ابني اليت جلبها له جتار‬
‫والزن وج بلغة اهلوسا ويعلّق على رقبته التعاويذ ّ‬
‫القوافل من الع رافني يف " ك انو "‪ .‬جيلس يوما قبل الس فر يتمتم بتعاوي ذه ويص وم عن الكالم‬
‫رد على مس اءالهتما‪ ،‬وني ام خ ارج اخليمة حىت ال يض طر إىل تب ادل الكالم مع أح دمها‬ ‫وال ي ّ‬
‫لينطلق يف الفجر على مجله"(‪.)2‬‬
‫ودانا بعد أن أنق ذه ه ذا‬
‫ولكنه أخلف بالن ذر ال ذي قطعه على نفسه ب أن ال يص يد ّ‬
‫األخري يف حادثة اهلاوية‪ .‬ولكنه اض طر إىل س ّد رمق جوع العائل ة‪ ،‬فخرج إىل صيده‪ ،‬ونقض‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ 132 :‬و‪ 133‬و‪.134‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.31 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪315‬‬
‫الودان‬
‫العهد‪ ،‬فكانت عاقبة ذلك املوت احملقق بكسر رقبته‪ " :‬أبوك ال يريدك أن تسفك دماء ّ‬
‫ألنّه ن ذر ن ذرا من زم ان قبل أن تول د‪ .‬ك ان يص طاد يف س فوح اجلب ال " آينس يس " ف زلقت‬
‫رجله ووجد نفسه معلقا بني السماء واألرض‪ ،‬مبسك صخرة ورجاله تتذليان يف اهلاوية‪ .‬فقد‬
‫األمل يف النج اة‪ ،‬فانتش له نفس احلي وان ال ذي ك ان يقاتله وين وي قتله وأنق ذه من اهلالك‪ ،‬هل‬
‫ودان‪ ،‬ووعد أال ي درب نس له على ص يده " (‪ )1‬لكنه‬ ‫تفهم اآلن؟ لقد ن ذر أال يق رتب من ال ّ‬
‫أخلف بالنذر‪ ،‬فكان موته‪ " :‬لقد كسر احليوان املسكون رقبته كما كسر هو يوما رقبة ذلك‬
‫الودان الذي انتحر"(‪.)2‬‬
‫ّ‬
‫القص ة األس طورية اليت‬
‫القص ة اخلرافي ة‪ ،‬إىل ّ‬‫هك ذا ينقلنا الك وين‪ ،‬بكل سالسة من ّ‬
‫تتض من تيم ات (العه د) و (الن ذر) و (نقض العه د) و (خلف الن ذر) و (اللعنة والعق اب)‬
‫وغريها مما يتعلق ب الرمز األس طوري ( الط وطم )‪ .‬وكل ه ذا وذاك يف نس يج س ردي رائ ع‪.‬‬
‫اخلرايف وال أسطوري والواقعي‪ ،‬تضافرا مجاليا رائعا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تضافر فيه‬
‫وخاص ة‬
‫ّ‬ ‫وباملث ل‪ ،‬مل ينس الك وين‪ ،‬عاقبة ( قابيل ) آكل حلم ذوي الق رىب من الغ زالن‪،‬‬
‫الدم‪ .‬واستعاض عن كل هذا‪،‬‬ ‫أنّه استغىن عن احلجب والتعاويذ‪ ،‬ونقض العهد‪ ،‬وخاف ميثاق ّ‬
‫بزعمه أنّه فطم على دم الغ زال‪ ،‬لكنه لقى عقابه احملت وم ب اجلنون والتيه حيث ج اء " ازداد‬
‫تقص د الزبد من فمه‪ .‬تصاعد جنونه " (‪ .)3‬هكذا‪ ،‬استنفذ الكوين الطاقة‬ ‫جحوظ عيين قابيل‪ّ .‬‬
‫احلكائية لكل من القصص اخلرافي ة‪ ،‬والقصص األس طورية القائمة على الن واة األس طورية اليت‬
‫اعتم دها الك وين من حني آلخ ر‪ ،‬كالعهد جتاه الط وطم‪ ،‬و ( نقض العهد )‪ ،‬و ( اللعنة‬
‫والعقاب ) وغريها‪ .‬يف البناء السردي للرواية‪ ،‬وخلق منطا سرديا يقوم على جتاوز هذه األمناط‬
‫الس ردية القدمية وإمّن ا ص هرها يف عامله ال روائي لتش كيل فض اء ق رائي‪ ،‬وه امش ت أويلي ميكن‬
‫الوصول إليه بعد استنطاق هذه اخلطابات السردية املتنوعة بشخصياهتا ورموزها ومقصديتها‪.‬‬
‫وما استحضار هذه النصوص الرتاثية إال لغاية يف نفس الكوين " ليس بوصفها بدائل للواقع‪،‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.48 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.34 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.106 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪316‬‬
‫بل بوص فها وس ائل الس تعادة مناخ ات الب داءة اإلنس انية‪ ،‬وإلث راء التعبري ال ذي حي ّدد فعالي ات‬
‫القراءة والتأويل يف رفع داللية ضيقة " (‪.)1‬‬
‫نص ه هبة للقارئ ليستمتع به دون عناء منه ومباالة‪ ،‬لكنه يبسط له‬ ‫والكوين‪ ،‬ال يقدم ّ‬
‫النص بيد وخيفي تل ّقيه بيده األخرى‪ ،‬وهذا بفضل الغموض ال ّداليل‪ ،‬الناتج عن هذا التوظيف‬ ‫ّ‬
‫النص املقفل على‬‫نص ه جياوز أحبولة ّ‬ ‫لألش كال التعبريية الرتاثي ة‪ .‬إذ يلجأ إليه الك وين " إلنت اج ّ‬
‫دمر ل دى املتلقي واحدية املعىن‬ ‫النص لإلفص اح عن ه‪ ،‬وت ّ‬ ‫مغ زى واحد تتع اون كل عناصر ّ‬
‫وس هولته وانص ياعه لش فرات س هلة مبذول ة‪ ،‬وجتربه على ب دل جهد مل يتع ّود بذله من اجل‬
‫إنتاج قراءة ممكنة بني قراءات ع ّدة " (‪.)2‬‬
‫القص ة اخلرافية حاض رة ك ذلك يف رواية " الترب "؛ حيث تتح ّدث عن‬ ‫ه ذا‪ ،‬وجند ّ‬
‫( اجلن ) وقدرهتا على شفاء ( األبلق ) مهري البطل ( أوخيّد )‪ ،‬من خالل زهرة اجلن‪ ،‬حيث‬
‫تكش فت زهرة صفراء‪ ،‬وفاحت بشذى غامض‪ .‬زهرة‬ ‫نص الرواية‪ " :‬يف قمة الساق ّ‬ ‫جاء يف ّ‬
‫دس ه يف رأسه م رياث‬ ‫اجلن‪ ...! ‬ج ّر اجلمل إىل احلقل مغالبا القش عريرة واخلوف‪ ...‬خ وف ّ‬
‫اجلن‪ .‬خ اطب‬ ‫األجي ال من األس اطري واإلره اب‪ ...‬وقف متف ّك را‪ ،‬حماوال أن يت ذ ّكر جيل ّ‬
‫للجن‪ .‬االختالف يف النبل‪،‬‬ ‫اجلن ليس كاإلنس‪ .‬ال خبث وال جيل ّ‬ ‫نفسه‪ " :‬العجائز تؤ ّكد أ ّن ّ‬
‫اجلن ال‬
‫اجلن أنبل من اإلنس يف املبارزة‪ .‬إذا أسأت له أساء لك‪ .‬وإذا أحسنت له أحسن لك‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫(‪) 3‬‬
‫املهم أن تعرف ما أنت مقدم عليه " ‪.‬‬ ‫اجلن يلتزم بقوانني اللّعبة‪ّ .‬‬
‫يعرف اخليانة‪ّ .‬‬
‫القص ة اخلرافية ليعيد اس تنفاذ طاقتها احلكائية يف البن اء‬‫وظف الك وين ه ذا‪ ،‬ه ذه ّ‬
‫الس ردي للرواي ة‪ ،‬حيث اس تم ّد ه ذا املعتمد من رحم الذهنية الش عبية‪ ،‬ب أ ّن تلك النبتة املعاجلة‬
‫اجلن هم أفضل من البشر حفظا للعهد والوفاء‪.‬‬ ‫اجلن (آسيار) وأ ّن ّ‬
‫هي نبته ّ‬

‫‪ -‬نضال الصاحل‪ ،‬النزوع األسطوري يف الرواية العربية‪ ،‬ص‪.149 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪ .150 :‬عن بدوي‪ ،‬د‪ .‬حممد‪ " ،‬الرواية اجلديدة يف مصر دراسة التشكيل واإليديولوجيا"‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ،‬ص‪82 :‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪ 33 :‬و‪.34‬‬
‫‪3‬‬

‫‪317‬‬
‫النص‪ ،‬وأعطته بع دا مجاليا وإحيائيا ل ه‪،‬‬
‫القص ة تعليمية يف جوهره ا‪ .‬التحمت بنس يج ّ‬ ‫ّ‬
‫النص الس ردي‪ ،‬حيث أثبت الك وين أ ّن اإلنس ان ظ امل‪ ،‬خ ائن‪ ،‬جش ع‪،‬‬ ‫س ار معنا حىت هناية ّ‬
‫الطماع ة‪ ،‬مقابل حفنة من ذهب فيخطئ ( أوخيّد ) ويتن ازل عن زوجته‬ ‫تغلب عليه نفسه ّ‬
‫حولت حياته جحيما جراء اإلشاعات‬ ‫وابنه مقابل أبلقه وحفنة من ذهب قبلها على مضض‪ّ ،‬‬
‫مس ت كرامت ه‪ .‬وال ذهب هو أيضا من قضى على ( أوخيّد ) وأبلقه يف هناية الرواية –‬ ‫اليت ّ‬
‫القص ة اخلرافية بالرواية يف‬
‫بأبشع ط رق التنكيل – طمعا يف اإلرث‪ .‬ويف كل ه ذا التحمت ّ‬
‫نسيج حمكم متازج فيه احملكي اخلرايف مع احملكي السردي يف تضافر سردي رائع‪.‬‬
‫ملونة‬
‫الرواي ة‪ ،‬لتك ون مبثابة حج ارة ّ‬ ‫نص ّ‬
‫ه ذا‪ ،‬وتتن اثر إش ارات خرافية هنا وهن اك يف ّ‬
‫النص السردي؛ حيث حتدث عن ( العرافة )‪ ،‬وبأهنا من تأيت بالنبوءات يف املنام‪ .‬حيث‬ ‫ترصع ّ‬
‫ّ‬
‫أ ّن ( العرافة التابوية ) أتت ( أوخيّد ) يف منام ه‪ ،‬وطالبته بنحر ( أبلقه ) وذ ّكرته بالعهد ال ذي‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬قفز يف‬ ‫ِ‬
‫قطعه على نفسه أم ام نصب اآلهلة ( ت انيث ) إن ُش ف َي أبلق ه‪ .‬ج اء يف ّ‬
‫اللّيل م ذعورا‪ ،‬رأى العرافة ف وق رأسه تطالبه ب أن ينحر األبل ق‪ ...‬يف الص باح ق الت له فالحة‬
‫إ ّن العرافة التباوية ه اجرت‪ .‬جاءها ابنها أوخيّد وأخ ذها معه يف القافلة ع ابرة إىل غ دامس‪.‬‬
‫رآها بعد ثالث ليال عقب رحلتها‪ ،‬وقالت له‪ :‬لست أنا اليت تطلب رأس أبلقك‪ .‬إهنا تانيت‬
‫" مث اختفت إىل األبد " (‪.)1‬‬
‫والعرافة والكهانة معتقد س اد منذ الق دمي‪ ،‬وال ختلو منها معتق دات أي ش عب من‬
‫ختتص العرافة فقط مس ألة كشف املس تقبل‪ ،‬وال يس أل الكهنة فقط عن أم ور‬ ‫الش عوب‪" ،‬وال ّ‬
‫ملح ة‪ ،‬أو تبحث يف‬ ‫الغد‪ ،‬بل ميكن أن تتطرق التنبؤات إىل قضايا حاضرة ومعاصرة‪ ،‬أو حىت ّ‬
‫معضلة ماضية " (‪.)2‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ 83 :‬و‪.84‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬حمفوظ حممد أبو محيدة‪ ،‬قراءات يف األسطورة‪ ،‬ص‪.142 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪318‬‬
‫حيس اإلنس ان املؤمن بالعراف ة‪ ،‬بالراحة النفس ية حني يتغلب على خماوفه اليت‬ ‫وقد ّ‬
‫تس اوره وجيد تفس ريا وحاّل هلا حني يتلقى ذلك من الع ّراف أو الك اهن ف‪ " :‬لع ّل الكهانة‬
‫والعرافة ساعدتا البشرية على إجياد سبيلها يف هذا العامل أمام املستقبل اجملهول واملرعب " (‪.)3‬‬
‫وك ان ه ذا‪ ،‬ب التقريب دور العرافة يف أعم ال الك وين‪ ،‬جتاه املؤمن هبا‪ ،‬حيث س اعدت‬
‫البطل على إجياد تفسري لكوابيسه ومص ائبه‪ ،‬مس اعدة يف ذلك البطل بت ذكريه بالن ذر ال ذي‬
‫قطعه على نفسه‪ ،‬وحثّه على اإلسراع يف الوفاء به‪ .‬لكن (( أوخيّد )) تواىن عن تنفيذه وشغله‬
‫ط عليه وعلى أبلقه‪ .‬وصوال‬ ‫حل بأسرته وعشريته‪ ،‬فتوالت املصائب حت ّ‬ ‫عن ذلك اجلوع الذي ّ‬
‫الرواية "‬
‫إىل النهاية املأساوية هلما االثنني يف خامتة ّ‬
‫وهك ذا‪ ،‬وعلى ال رغم من الومض ات القليلة للعرافة ودورها يف التنبؤ والتغيري وكتابة‬
‫ال رقى واألحجبة " نص حوه بالس حرة الزن وج‪ ،‬ولكن العرافة التباوية اليت ه اجرت قبل اجملاعة‬
‫بوقت قصري آخر من تعاطى الرقية يف الواحة " (‪ .)2‬إال أ ّن هذه الشخصية اخلرافية والثانوية يف‬
‫الس رد بفضل طاقتها احلكائية حىت النهاية اليت أدت بالبطل وأبلق ه‪،‬‬ ‫الرواي ة‪ ،‬دخلت يف نس يج ّ‬
‫جراء ذلك رغم حتذيرات العرافة‪.‬‬ ‫باملوت البشع‪ ،‬ألنه مل يويف بالعهد وحلقت به اللّعنة ّ‬
‫القص اخلرافية ‪ -‬ك ذلك ‪ -‬خباص ية اإلده اش فيه ا‪ .‬وبشخص ياهتا الطبيعية‬ ‫ه ذا وت أيت ّ‬
‫نص ه‬
‫وامليثافيزيقي ة‪ ،‬ومبراميها الرتبوية واإلرش ادية‪ .‬ملتحمة لنفس األس باب الس الفة ال ّذكر يف ّ‬
‫السردي‪ ،‬يف كثري من املواضع‪.‬‬
‫حيث يعمد األه ايل إىل طريقة غريبة ملعرفة ما يف الغ رب‪ ،‬بطريقة االستحض ار‪ ،‬وهي‬
‫صمم الشيخ ( غوما ) بطل رواية " البئر " على رؤية ( أمستان)‬ ‫اجلانب الطقوسي منها‪ ،‬حني ّ‬
‫يكن هلا الضغينة‪ .‬أل ّن الشيخ (غوما)‬
‫اخلائن وحتالفه مع اجلنود الفرنسيني لقتل أفراد القبيلة اليت ّ‬
‫يتأهب للبحث عنه ومعاقبته‪.‬‬ ‫يبحث عن دليل ملموس حىت ّ‬
‫نص الرواية‪ – " :‬خري إن شاء اهلل يا سيدنا الشيخ‪.‬‬‫فقد جاء يف ّ‬
‫شك أنك علمت مبا فعله أماستان‪ ...‬و‪...‬‬ ‫‪ -‬إن شاء اهلل خري‪ .‬ال ّ‬
‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.145 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪.97 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪319‬‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬احلق أنين أريد أن أتأكد بنفسي‪ .‬أريد أن أراه بعيين‪ ...‬أقصد‪...‬‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬أقصد أنين مل أؤمن باخلرافات ولكن عامل الروح عامل عجيب‪...‬‬
‫‪:‬‬
‫س ارعت العج وز تق ول‪ ...‬نعم‪ ،‬نعم – لقد فهمت‪ ،‬تقصد االستحض ار‪ ! ‬استحض ار‬
‫الغائب‪! ‬‬
‫‪:‬‬
‫ابتسمت العجوز وقالت بثقة‪:‬‬
‫الص بية الصادقة " من ضمنها‬
‫‪ -‬ل " االستحضار " طرق وأساليب عديدة‪ .‬طريقة " ّ‬
‫طبع ا‪ ،‬وهناك جتمع النس اء عند قبور األولني لىي‪ ،‬وهن اك طريقة " الطفل الصادق‬
‫"‪ ،‬فلماذا نذهب بعيدا و " آيس " بيتا‪.‬‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬أحت اج إىل قم اش أبيض جدي د‪ .‬وك ذلك أك ثر من ام رأة لق رع الطب ول‪ .‬وم رآة‬
‫جديدة مل يسبق استعماهلا‪.‬‬
‫‪:‬‬
‫احت ّد قرع الطبول وارتفعت أصوات الزجنيات بالرتاتيل وقراءة الطقوس بلغة " اهلوسا‬
‫"‪ ،‬مث هنضت الزجنية العجوز وأتت بلحاف ثقيل وقالت ختاطب الطفل‪:‬‬
‫‪ -‬آيس‪ .‬اآلن عليك أن تتغطّى هبذا‪.‬‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬قال الطفل يف صوت يصف حلما‪:‬‬
‫‪ -‬أرى جباال‪ ،‬جبال هائلة قاحلة‪.‬‬
‫قال الشيخ كأنه خياطب نفسه‪:‬‬

‫‪320‬‬
‫آه‪ ،‬ه ذه جب ال " اهلوج ار " ولكن أنظر حتت اجلب ال‪ ،‬يف األودي ة‪ ...‬م اذا ت رى يف‬
‫األودية؟‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬أرى‪ ...‬زح ام‪ ،‬زح ام من الن اس و‪ ...‬يرت دون مالبس غريبة و‪ ...‬هن اك‬
‫بنادق‪...‬و‪...‬‬
‫قال الشيخ بنفس اللّهجة‪:‬‬
‫‪ -‬آه‪ ،‬إهنم اجلن ود الفرنس يس‪ .‬هل ت رى أماس تان؟ احبث جي دا‪ ...‬هل ت رى أماس تان‬
‫بينهم؟‪.‬‬
‫‪ -‬أماستان‪ ...‬أماستان‪ ،‬نعم‪ ...‬إنه هو‪ ،‬إنه أماستان‪...‬‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬إنه يتحدث مع أحدهم‪.‬‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬إهنم يتهيئون للرحيل‪ ...‬قوافل‪ ،‬و‪ ...‬بنادق كبرية‪ ...‬وصغرية‪...‬‬
‫‪ -‬آه‪ ،‬إهنا املدافه والسيارات‪ ...‬حاول أن تصف أكثر‪ ،‬ماذا ترى أيضا؟‪.‬‬
‫‪:‬‬
‫أومأت الزجنية العجوز للشيخ أن يكف‪...‬‬
‫‪ -‬لقد أرهقته يا سيدي الشيخ‪...‬‬
‫‪ -‬أنه حمموم‪.‬‬
‫‪:‬‬
‫أما الش يخ فقد هنض ووضع الطفل يف فراش ه‪ ،‬حتسس جبينه م ّرة أخ رى مث أمرها‬
‫بإحضار املراهم ومستحضرات األعشاب‪.)1( " .‬‬
‫الص حراء‪ ،‬ملعرفة الط الع‪،‬‬
‫كث رية هي ه ذه الط رق اخلرافية اليت يلجأ إليها األه ايل يف ّ‬
‫القص ة اخلرافية املستلهمة من رحم‬
‫الرؤى‪ ،‬وأيضا الستحضار دالئل ملموسة‪ .‬كهذه ّ‬ ‫ولتفسري ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " البئر "‪ ،‬ص‪ 26 :‬و‪ 27‬و‪ 28‬و‪ 29‬و‪ 30‬و‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪321‬‬
‫نص ه الس ردي هبا‪ .‬حيث س امهت يف اسرتس ال‬ ‫طعم الك وين ّ‬
‫احلي اة اليومية للط وارق‪ ،‬واليت ّ‬
‫السرد وجمريات األحداث‪ .‬إذ‪ ،‬حثّوا يف البحث عن ( أمستان )‪ ،‬وأحضروه إىل الشيخ ( غوما‬ ‫ّ‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬لقد قض ينا‬
‫)‪ ،‬ال ذي أن زل به أش ّد العق اب‪ .‬أم ام كل األه ايل‪ .‬حيث ج اء يف ّ‬
‫الرجل وم ّزق الس روال إىل نص فني‬ ‫عليه وأس رنا معه مائة وعش رين فرنس يا‪ .‬اطمئن‪ ...‬أقبل ّ‬
‫الس رج –‬
‫الرجل الذي أتى جبمل يعلوه ّ‬ ‫فانكشفت عورة أماستان‪ ...‬مث أضاف وهو خياطب ّ‬
‫هيّا اربطه إىل الذيل‪ ...‬ش ّد يديه إىل الذيل حببل متني‪ ...‬هيّ ا‪ ...! ‬انتصب اجلمل واقفا وجلس‬
‫جبر‬
‫املؤدي إىل بيوت األهايل – ّ‬ ‫املرة‪ .‬انطلق عرب املنحدر ّ‬ ‫الس رج هذه ّ‬ ‫الشيخ غوما ثابتا فوق ّ‬
‫أماستان العاري خلفه " (‪.)1‬‬
‫النص ال روائي‪ ،‬من احلكاية اخلرافي ة‪ ،‬طاقتها احلكاي ة‪ ،‬وذلك يف تض افر‬
‫هك ذا‪ ،‬اس تم ّد ّ‬
‫رائع‪ ،‬حيث محل ( أماستان ) الفضيحة إىل غاية هنايته البشعة باالنتحار‪.‬‬
‫إىل ج انب ه ذا‪ ،‬وظف الك وين العديد من احلكاي ات الش عبية االجتماعي ة‪ ،‬حيث‪ ،‬ال‬
‫تنفك تنتهي من األوىل‪ ،‬حىت ندخل يف نسيج احلكاية اليت تليها ويف كثري من األحيان تتداخل‬ ‫ّ‬
‫احلكاي ات ت داخال عنكبوتيا رائع ا‪ ،‬يف نس يج حمكم ومتن اغم‪ ،‬حيث ال تنتهي أح داث احلكاية‬
‫األوىل‪ ،‬حىت يع ّرج بنا الك وين إىل أح داث حكاية ثانية ويتواصل احلكي وتتص اعد األح داث‬
‫ومتتزج بعض ها ببعض يف نس يج الرواية ككل يف تض افر مجيل وممت ع‪ ،‬جيد فيه الق ارئ نفسه‬
‫مشدودا ملعرفة خامتة كل حكاية‪.‬‬
‫وتبهرنا عبقرية الك وين أك ثر‪ ،‬حني جند بداية حكاية جدي دة هي األصل س ابقة على‬
‫لتوها‪ .‬وأمثلة ذلك كثرية يف الرواية‪ ،‬أورد على سبيل التوضيح‪.‬‬ ‫احلكاية اليت انتهت ّ‬
‫قص ة أماس تان‪ ،‬وحبّه لفت اة من قبيلة ( كبل أب اد )‪ ،‬وت أده من قبيلتها مبعية الفرنس يني‬
‫ّ‬
‫ألهنم مل يزوجوها إي اه‪ ،‬مث إمس اك الش يخ ( غوما ) عليه وتس ليط أبشع عقوبة علي ه‪ ،‬مل ت أت‬
‫األول من الرواية ككل يف س طر وحي د‪ ،‬أفجعنا الك وين مبوت‬ ‫هبذا ال رتتيب‪ .‬ففي الس طر ّ‬
‫قص ته؟ فقد‬
‫أماس تان‪ .‬لتُط رح العديد من األس ئلة أمامنا من هو أماس تان؟ وكيف م ات؟ وما ّ‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ 89 :‬و‪ 91‬و ‪ 92‬و‪.93‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪322‬‬
‫أخربنا ق ائال‪ " :‬البارحة م ات أماس تان " (‪ .)1‬مثّ مل ينبس الك وين بكلمة عنه حىت وصل بنا‬
‫ملخص مر ّكز ح ول ت أنيب أماس تان من قبل أخيه بطل الرواية‬ ‫فج أة‪ ،‬ودون س ابق إن ذار إىل ّ‬
‫( الش يخ غوما )‪ ،‬حيث ج اء‪ " :‬أماس تان‪ ،‬األخ األص غر للش يخ غوما من أبي ه‪ .‬اع تزل ال دنيا‬
‫وانط وى على نفسه منذ س نوات‪ .‬منذ " فض يحة غ ات " عن دما ألقى عليه غوما القبض ة‪،‬‬
‫وقيّده‪ ،‬وجرجره‪ ،‬خلف مجل وطاف به شوارع وأحياء الواحة عاريا متاما يتفرج عليه اخللق‪،‬‬
‫الص حراء‪ ،‬أثن اء هج ومهم على غ ات يف تلك‬ ‫عقابا له على حتالفه مع الفرنس يني ضد أهل ّ‬
‫السنوات " (‪.)2‬‬
‫القص ة مل تبدأ من هنا‪ ،‬بل من قبل‪ ،‬عندها يسرد‬‫مثّ‪ ،‬وكأنّه يتدارك‪ ،‬وخيرب القارئ أ ّن ّ‬
‫النص الس ابق‬
‫نص الرواية بعد ّ‬ ‫قص ة حبه للفت اة اجلميلة من قبيلة ( كيل أب اد )‪ .‬حيث ج اء يف ّ‬‫ّ‬
‫القصة من هنا‪ .‬قبل ذلك بسنوات شغف أماستان بفتاة مجيلة من قبيلة " كيل‬ ‫مباشرة‪" :‬ولكن ّ‬
‫الص حارى اجملاورة‪ ...‬يف تلك الليل ة‪ ،‬بعد انته اء املهرج ان‪ ،‬ع رف‬ ‫أب اد "اليت اس توطنت ّ‬
‫تمر حىت فجر الي وم‬ ‫"ت ارات" وأعجب هبا أثن اء احلفل املوس يقي ال ذي أقيم يف اللّيل واس ّ‬
‫التايل‪.)3( "...‬‬
‫ويتواصل احلكي‪ ،‬إىل أن ي رفض األهل تزوجيها ل ه‪ ،‬وتنتحر أخ ريا بعد ط ول انتظ ار‪،‬‬
‫خيص ص مساحة لإلخبار عن النهاية املأساوية‬ ‫وهذا بعد سرد الكوين حلكايات أخرى عديدة‪ّ ،‬‬
‫حب ( أماس تان ) و ( ت ارات )‪ ،‬حيث ج اء‪ " :‬بعد هجومه الفاشل على املنتج بأي ام‬ ‫لقص ة ّ‬‫ّ‬
‫الس حيق‪ .‬ظلت‬ ‫الس در يف ال وادي ّ‬‫بالس كني حتت ش جرة ّ‬ ‫ج اءه خرب قطعها لش ريان ي دها ّ‬
‫مس جاة على األرض‪ ،‬حتت الش جرة‪ ،‬ليلة كاملة وال دم ي نزف من ي دها‪ .‬لقد تركوها وهي‬
‫الدم"(‪.)4‬‬
‫ترقد يف بركة من ّ‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " البئر "‪ ،‬ص‪.07 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.12 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية‪ " ،‬البئر "‪ ،‬ص‪.147 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪323‬‬
‫النص ككل‪ ،‬بفضل النسيج املتداخل‬ ‫مثل هذه اللّعبة السردية‪ ،‬اليت أضفت مجالية على ّ‬
‫ككل‪ .‬كذلك عملية‬ ‫بتناسق بني أحداث احلكايات‪ .‬وبني أحداث احلكايات وأحداث الرواية ّ‬
‫التوقّف عن سرد جمريات حكاية بعينها‪ ،‬مث االسرتسال حم ّددا يف احلكي يف موضع آخر‪ ،‬جندها‬
‫الرواية‪.‬‬
‫نص ّ‬‫خصت معظم احلكايات الواردة يف ّ‬ ‫قد ّ‬
‫قص ة جنون ( أخن وخن ) اليت بدأت هبا الرواي ة‪ ،‬مل تكتمل يف‬ ‫ومث ال ث ان على ذلك‪ّ .‬‬
‫حينه ا‪ ،‬إال بعد اس تنفاد الك وين لطلقتها احلكائية كاملة بارتباطها باخلس وف والقمر والب ئر –‬
‫ه ذه الثالثية اليت تع ّد رم وزا أس طورية متّ تتبعها بالدراسة يف الفصل الث اين – ومل خيتم الك وين‬
‫جن‪ .‬حيث ج اء يف بداية‬ ‫ه ذه احلكاية حىت هناية الرواي ة‪ ،‬حيث أخربنا ب أن ( أخن وخن ) قد ّ‬
‫تمر حىت الفجر‬ ‫كالص الة‪ ،‬يفضح فجيعة مكبوت ه‪ .‬اس ّ‬ ‫الرواي ة‪ " :‬اس تمر الغن اء حزين ا‪ ،‬ص وفيا‪ّ ،‬‬
‫عن دما وقع أخن وخن يف الوجد مت أثّرا بالغن اء‪ ،‬س قط كاملص روع‪ ...‬ال ح رج على اجملذوب‬
‫عقله يف الس ماء وجس ده فقط على األرض‪ – ...‬يب دو أ ّن جذبه حقيقي يا مجاعة ب رغم أ ّن‬
‫عقله مل يسمح له باالعتداء على الشيخ‪ ...‬أوثقوه جيّدا‪ .‬أوثقوه باحلبال وأودعوه بيته‪.)1( "...‬‬
‫سر‬
‫لكننا مل نعرف سبب جنونه حىّت هناية الرواية تقريبا‪ ،‬حني كشف لنا الكوين عن ّ‬
‫بأمها‪ .‬حىت أهّن ا انتحرت يف البئر‪.‬‬
‫هذا اجلنون بأنّه من قهر قلب حبيبته ( زارا ) إذ تزوج ّ‬
‫مرتددا بني‬
‫ظل أخنوخن هائما على وجهه ّ‬ ‫حينها كشف لنا الكوين اللّثام عن احلقيقة‪ّ ،‬‬
‫نص الرواية‪ " :‬عثروا على جثّة طافية‬
‫ساحة القبيلة وقرب ( زارا ) إىل أن حلق هبا حيث جاء يف ّ‬
‫ف وق املاء‪ ...‬أقبلت باتا حنو اجلسد املنف وش املس ّجى على األرض‪ ...‬مث ش رعت تلثم زارا‬
‫الب اردة‪ ...‬مل مير وقت طوي ل‪ ،‬حىت ح دث مع أخن وخن ما ح دث‪ ...‬فش لت كل احملاوالت‬
‫واجلهود إلشفائه وإعادته إىل عقله‪.)2( " ...‬‬
‫هك ذا‪ ،‬أج اد الك وين لعبة التق دمي والت أخري‪ ،‬والتجزئة يف توظيف احلكاية الش عبية‪،‬‬
‫النص الس ردي ومتنحه دالالت أعمق من ص ميم احلي اة االجتماعية‬ ‫وس رد أح داثها‪ ،‬لتخ دم ّ‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ 07 :‬و ‪ 08‬و‪ 10‬و‪.11‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " البئر "‪ ،‬ص‪ 205 :‬و‪ 206‬و‪.208‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪324‬‬
‫للمجتمع الط وارقي‪ .‬حيث أ ّن احلكاية الش عبية تق وم على اهلاجس االجتم اعي‪ .‬إذ أ ّن ‪" :‬‬
‫موض وعاهتا تك اد أن تقتصر على العالق ات االجتماعية واألس رية‪ ،‬مثل زوجة األب‪ ،‬احلق ود‪،‬‬
‫أو غرية اإلخوة من أخيهم الصغري املفضل لدى األب‪.)1( " ...‬‬
‫ورواية " البئر " غنية مبثل هذه احلكايات املتشبعة ذات الطابع االجتماعي واألسرى –‬
‫كما سبق الذكر – فباإلضافة إىل النماذج املذكورة آنفا‪ ،‬هناك حكايات شعبية اجتماعية يف‬
‫قص ة املرأة اجلميلة واللّع وب ( ت اال ) اليت ش غفت الرج ال حبّ ا‪ ،‬وقه رهتم‬
‫جوهره ا‪ ،‬أبرزه ا‪ّ ،‬‬
‫ولعا‪ ،‬حىت وصل هبا املطاف أن تستويل على حبيب ابنتها‪ ،‬فكانت سببا يف انتحارها‪ .‬حيث‬
‫ج اء خنتصر ه ذه احلكاية ما يلي‪ " :‬باتا ام رأة آس رة‪ ،‬س احرة‪ ،‬خارقة اجلم ال‪ ،‬أمجل ام رأة يف‬
‫الصحراء الكربى كلّها‪ .‬ماتت أمها وهي تعاين آالم الوضع أثناء ميالدها‪ ،‬أما أبوها فقد قتلته‬ ‫ّ‬
‫باتا وهي طفلة مل تتج اوز الثالثة بطلقة من البندقي ة‪ ...‬ويق ال إ ّن الزجنية ض بطت فوقها أحد‬
‫أبناء اجلريان وهي يف التاسعة من عمرها عندما كانت ترعى اجلديان ‪ ...‬ويقال يف القبيلة أن‬
‫من ضمن الذين عشقوها كان الشيخ غوما بنفسه‪ ...‬وقد تزوجت باتا بعد هجرة غوما إىل‬
‫الواح ات بش هور فق ط‪ ،‬تزوجها ش اب نبيل من قبائل آي ر‪ ...‬ولكن املفاج أة ك انت ليلة‬
‫الزف اف‪ ،‬أثن اء الدخل ة‪ ،‬إذ مل يتص ور أحد أن تق دم الع روس حلظة تس ليمها للع ريس‪ ...‬إىل‬
‫االع رتاء يف أحض ان الع ريس دون خج ل‪ .‬يف حني تقتضي التقاليد العريقة أن تبكي وهترب‬
‫وختتفي يف اخلالء‪ ...‬أجنبت باتا ابنتها زارا يف آير وهي فتاة مجيلة وهادئة‪ ...‬وملا مات زوجها‬
‫يف معركة‪ ...‬عادت باتا إىل القبيلة مع زارا‪.)2( " ...‬‬
‫قص ة ( باتا )‪ ،‬حىت تصل إىل ذروهتا حيث تستويل على حبيب ابنتها‪،‬‬ ‫تت واىل أحداث ّ‬
‫فتطلق زوجها الث اين ( أماس تان ) ال ذي ينتح ر‪ ،‬وت تزوج ب ( أخن وخن )‪ ،‬وتت واىل األح داث‬
‫وجين ( أخنوخن ) جراء ذلك‪.‬‬‫وتتصعد حىت تنتحر بسببها ابنتها الوحيدة ( زارا )‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫حيث جاء " باتا عشقت أخنوخن بني ليلة وضحاها‪ ...‬باتا سوف تطلق أماستان قبل‬
‫أن ميضي ش هر على زواجهم ا‪ ...‬س ّدد الفوهة حنو رقبت ه‪ ...‬ض غط‪ ...‬أحس بالس ائل اللّ زج‬

‫السواح‪ ،‬األسطورة واملعىن‪ ،‬ص‪.17 :‬‬


‫‪ -‬فراس ّ‬
‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية‪ " ،‬البئر " ‪ ،‬ص‪ 76 :‬و‪ 67‬و ‪.68‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪325‬‬
‫ينبث ق‪ ...‬مل ميض شهر واحد على زواج أخنوخن من باتا حىت أعدت الرتتيبات لعرس أمغار‬
‫وزارا‪ ...‬ع ثروا على اجلثة طافية ف وق املاء‪ ...‬أقبلت باتا حنو اجلسد املنف وش املس ّجي على‬
‫األرض‪.)1( " ...‬‬
‫ه ذه احلكاية الش عبية املس تلهمة من ص ميم يومي ات اجملتمع الط ارقي احتلت مس احة‬
‫الس ردي ككل‪ ،‬حيث أن شخصياهتا هي شخصيات الرواية الرئيسية‪.‬‬ ‫النص ّ‬
‫واسعة من نسيج ّ‬
‫حيث أن "باتا" بطلة هذه احلكاية الشعبية‪ .‬هي شخصية اليت ارتبطت جبفاف البئر‪ ،‬وارتبطت‬
‫بطريقة ما باآلهة ( ت انس )‪ ،‬وك ذلك ارتبطت باخلس وف‪ ،‬فك انت احلكاية لبنة أساس ية من‬
‫نص الرواي ة‪ ،‬التحمت معه وأعطته من طاقتها احلكائية إحياءات اجتماعية‬ ‫لبن ات الس رد يف ّ‬
‫طارقية‪.‬‬
‫ه ذا‪ ،‬وقد اس تلهم الك وين احلكائية الش عبية البطولية ك ذلك يف رواي ة‪ ،‬أمهها حكاية "‬
‫الشيخ غوما "‪ ،‬شيخ القبيلة‪ ،‬الذي تص ّدى بكل بساطة للعدوان الفرنسي‪ ،‬وقاد معارك ضاريه‬
‫معه كانت تفشل أحيانا‪ ،‬ويقع أسريا لديهم‪ ،‬وتكلل بالنصر أحيانا أخرى‪ ،‬فيستويل على عدد‬
‫من أس راهم‪ ،‬وبني ه ذا وذاك‪ ،‬ك ان هلذا البطل مواقفه الش جاعة يف توجيه اجليش‪ ،‬ويف تس يري‬
‫يتزود به غريه من أفراد القبيلة‪ .‬فكان‬
‫شؤون القبيلة‪ ،‬وحىت‪ ،‬أ ّن له من احلكمة واملعرفة ما مل ّ‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬يف ذلك الزم ان البعيد مل يكن غوما‬
‫بطال حتدثت عنه احلكاي ات‪ .‬إذ ج اء يف ّ‬
‫ش يخا بع د‪ .‬أعي اه ال ّركض خلف الفتي ات واملطلق ات من نس اء القبائل اجملاورة‪ .‬فج أة ش عر‬
‫الص حراء أك ثر من ع ام ص ائما عن‬ ‫بالوح دة والف راغ ف اعتزل الن اس وانط وى على نفسه يف ّ‬
‫الطّع ام‪ ،‬واملاء والكالم‪ ،‬ص ام عن الكالم عاما ك امال‪ ،‬ينتقل من واد إىل واد‪ ،‬ومن جبل إىل‬
‫عمه‪ ،‬وقرر أن ينطلق إىل واحات "‬ ‫جبل‪ ...،‬مث عاد إىل جتمع القبيلة وأودع ابنه الوحيد عند ّ‬
‫فزان " طالبا للعلم‪ ...‬يا غوما يكفي أن نسجل ابنك ضمن قائمة احملاربني‪ .‬أما أنت فمهمتك‬
‫أن تق رأ عن الص حراء واجب اجلمي ع‪ .‬وعن دما يعلو ص وت البندقية خترس الكتب وتط وى‬
‫الص حف‪ .‬وختفى بعي دا يف مك ان أمني‪ ...‬ظل يرتاشف معهم حاميا ظهر احملاربني املنس جني‬ ‫ّ‬
‫جيس نبضه‪ .‬لقد مات‪...‬‬ ‫حنو اجلبل‪ ،‬وعندما رأى ابنه منكفئا أقبل حنوه وأمسك بيده وشرع ّ‬
‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ 166 :‬و‪ 167‬و‪ 199‬و‪.205‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪326‬‬
‫باملدرعات واملدافع فش عر غوما ب أن املرتفع‬
‫دو تتق دم حمتمية ّ‬ ‫يف نفس ال وقت ظلت ق وات الع ّ‬
‫الرملي لن حيميه إذا اقرتبت القوات أكثر من ذلك فسارع يدفع جبثة ابنه فوق املرتفع صانعا‬
‫منها مرتاسا صغريا بدأ يطلق منه النار عليهم حىت أحاطوا به من كل جانبا‪ .‬كانت البندقية قد‬
‫هم حبشوها يف يديه القيود وألقوا عليه القبض‪ ...‬بقي يف األسر‬ ‫فرغت من الرصاص وعندما ّ‬
‫شهرا كامال‪ ...‬وقبل إطالق سراحه بأسبوع قابله اجلنرال بالبو احلاكم العسكري لطرابلس‪،‬‬
‫وق ال ل ه‪ " :‬أنت تع رف أ ّن مصري أولئك العص اة ال ذين يقاتلوننا أمثالك هو اإلع دام الف وري‬
‫رميا بالرص اص‪ .‬ولكن ش جاعتك وتض حيتك بابنك أذهلتنا س وف نطلق س راحك ولكن‬
‫مرة أخرى ‪" ...‬‬
‫بشرط أال تقاتلنا ّ‬
‫ج اء آيس إىل غوما راكض ا‪ .‬ق ال من بني أنفاسه املتالحق ة‪ :‬املتقطع ة‪ - :‬يقول ون أ ّن‬
‫مستوى املاء قد اخنفض يف البئر‪ .‬الرجال هناك يطلبون مشورتك! انتفض الشيخ ومههم وهو‬
‫يقفز واقف ا‪ :‬مس تحيل‪ ! ‬جيب توقع ارتف اع املاء اق رتاب فصل الش تاء‪ .‬إذن هو الرحي ل‪ .‬ال‬
‫الص حراء‪ ...‬عاد غوما‬‫أستطيع أن أتصور واهلل كيف ميكننا أن نعيش يف الواحة بعد احلياة يف ّ‬
‫يقول وهو يغرق يف تفكري عميق‪ - :‬أتعلم يا شيخ خليل؟ إ ّن السمك يف البحر ميوت عندما‬
‫الص حراء‪ ...‬ج اء‬‫خيرجه الص يادون من املاء‪ .‬وحنن اآلن مثل الس مك‪ ...‬منوت إذا نزحنا من ّ‬
‫وتوجه إىل الب ئر‪ ...‬احنىن ف وق‬
‫ي وم الرحي ل‪ ...‬اس تيقظ الش يخ غوما مبك را‪ ...‬توضأ وص لّى ّ‬
‫فوهة البئر فلم يبصر سوى الظالم احلالك‪ ...‬غمره حنني حمموم غامض أن يتسلق احلبل‪...‬‬
‫حتركت القافلة الكب رية‪ ...‬ولكنه اس تمر جالسا جيول ببص ره يف متاهة الع راء‪ ...‬غ ابت القافلة‬
‫جير صخرة كبرية سار متثاقال مثل حمكوم‬ ‫حترك كأنّه ّ‬‫عن األنظار فوقف لكي يلحق بالركب‪ّ .‬‬
‫باإلعدام‪ ،‬يدفع‪ ،‬جمبورا‪ ،‬لكي خيطو حنو املشنقة"(‪.)1‬‬
‫النص‪ .‬وك ان البطل غوما هو‬ ‫هك ذا‪ ،‬انص هرت أح داث احلكاية البطولية داخل نسيج ّ‬
‫بطل الرواية كك ل‪ ،‬ه ذا الرجل ال ذي حيكم يف الكثري من املواضع بسري األح داث‪ ،‬والتحم‬
‫نسيج احلكاية البطولية بنسيج السرد يف تضافر رائع‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " البئر "‪ ،‬ص‪ 37 :‬و‪ 38‬و‪ 40‬و‪ 197‬و‪ 220‬و‪ 221‬و‪.223‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪327‬‬
‫العجائبي‪ )The Fantasy( )Le Fantastique( :‬في روايات الكوني‪:‬‬
‫(‪Le‬‬ ‫ب ادئ دي ب دء‪ ،‬جيب أن أشري إىل أن مثّة ترمجات عربية كث رية ملص طلح‬
‫‪ .) The Fantasy ( )Fantastique‬بعد أن صال وجال العديد من الدارسني واملرتمجني يف‬
‫س بيل إجياد الرتمجة األنسب للمص طلح‪ .‬ولكل وجهة نظر هلا مرتكزاهتا‪ .‬ومن ه ذه الرتمجات‬
‫(العج ائيب) وال ذي أفضل تبنّيه كرتمجة للمص طلح‪ ،‬لنفس الس بب ال ذي جعل (حسني عالم)‬
‫يتبنّ اه يف كتابه "العج ائيب يف األدب"؛ حيث ذكر أنّه مييل " إىل األصل الفرنسي للمفه وم‬
‫مستعمال ترمجة (الصديق بوعالم) لكتاب "تودوروف" لسبب منهجي واحد وهو أهنا الرتمجة‬
‫الوحيدة يف ما نعلم للكتاب كامال؛ فهو هبذا يؤسس للمفهوم مندجما يف سياقه اخلاص " (‪.)1‬‬
‫إىل ج انب ه ذه الرتمجة‪ ،‬وردت ترمجات أخ رى عدي دة للمص طلح‪ ،‬منها " (األدب‬
‫الومهي)‪ ،‬ومنها الرتمجة احلرفية ( فانتاسيا ) الذي يعين ( ‪ ) Fantasios‬اليت تعين اخليال‪ ،‬ومنها‬
‫(الغراب ة) ومنها ( الفانط ازي ) ومنها ( فانطاس تيكي ) ومنها ( فانطاسي ) وهن اك لفظة‬
‫اب) اليت استعارها (الطّاهر املناعي) من تونس للداللة على (‪.)2( " )Fantastique‬‬ ‫(العُ َج ْ‬
‫يلخص يف‬‫ومهما اختلفت ترمجة املصطلح‪ ،‬فاملعىن الذي اعتمده تودوروف للعجائيب ّ‬
‫حيس ه ك ائن ال يع رف غري الق وانني الطبيعية فيما يواجه ح دثا ف وق‬
‫رتدد ال ذي ّ‬‫أنّ ه‪ ،‬ذلك " ال ّ‬
‫طبيعي" (‪.)3‬‬
‫وبالتايل جعل تودوروف حالة (( الرتدد )) هي الفيصل بني ما هو عجائيب وغريه من‬
‫مثل (العجيب) و ( الغريب )‪...‬‬
‫ويعترب تودوروف العجائيب جتربة داخل النصوص وخارجها ويعتمد يف ذلك على آراء‬
‫النقاد الذين سبقوه من مثال ذلك‪ ،‬مقولة إلحدى األملانيات تدعى‪ " :‬أولغارميان " تقول فيها‪:‬‬

‫‪ -‬حسني عالم‪ ،‬العجائيب يف األدب – من منظور شعرية السرد – الدار العربية للعلوم‪ ،‬ناشرون‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‬
‫‪1‬‬

‫– لبنان‪ ،2010 ،‬ص‪.74 :‬‬


‫‪ -‬انظر املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪ 72 :‬و‪.73‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬تودوروف‪ ،‬تزفيتني‪ " ،‬مدخل إىل األدب العجائيب ترمجة الصديق بوعالم‪ ،‬الرباط‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪،1994 ،1‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص‪.144 :‬‬

‫‪328‬‬
‫" إن البطل يف احلكاية العجائبية يش عر بش كل متواصل وجبالء‪ ،‬بالتن اقض بني ع املني‪ ،‬الع امل‬
‫الواقعي‪ ،‬وعامل عجائيب وهو نفسه مندهش أمام األشياء اخلارقة اليت حتيط به " (‪.)1‬‬
‫وه ذا نفسه ما يؤك ده (أب رت) حيث يق ول يف نفس الس ياق‪ ،‬وخبص وص احلكاية‬
‫القص احلديث مثّة شك خبصوص العامل الذي تنتمي إليه –‬
‫العجائبية‪ " :‬يف أعماق الفنتازيا يف ّ‬
‫أهو هذا العامل‪ -‬أم علم مغاير متاما ؟ " (‪.)2‬‬
‫النص‪ " ،‬يتعلق األول بالق ارئ‪،‬‬
‫وقد وضع ت ودوروف ثالثة ش روط لتوفر العج ائيب يف ّ‬
‫النص‪ ،‬ويتصل الثالث مبستويات التأويل " (‪.)3‬‬
‫ويرتبط الثاين بشخصية أو شخصيات من ّ‬
‫إذن‪ ،‬بىن ت ودوروف " معظم اس تنتاجاته على خاص ية لفظية واح دة‪ ،‬داخل "ملف وظ‬
‫رتدد " بني التفس ريين العقالين للظ واهر اليت تنسج من رحم الواق ع‪.‬‬
‫خاص ية " ال ّ‬
‫النص" وهي ّ‬
‫ّ‬
‫هذا‬

‫الرتدد جيب أن تشعر به شخصيات احلكاية ومن مثّة القارئ املتماهي مع الشخصية " (‪.)4‬‬
‫النص الق ارئ على اعتب ار ع امل الشخص يات ع امل‬‫وللتوض يع أك ثر فـ" الب ّد أن حيمل ّ‬
‫األشخاص األحياء‪ ،‬وحيمله أيضا على الرتدد يف التفسري الطبيعي لألحداث املروية‪ ،‬مث يكون‬
‫يتوحد القارئ مع الشخصية يف‬ ‫هذا الرتدد ممثال حبيث واحدا من موضوعات األثر‪ .‬والب ّد أن ّ‬
‫حالة الق راءة الس اذجة‪ .‬أي دون اح رتاز للق ارئ جتاه ما يش اهد‪ .‬وليس هلذه املقتض يات قيمة‬
‫متساوية‪ .‬فاألوىل والثالثة تشكال األثر حقا أما الثانية فيمكن أن تكون غري ملبّاة " (‪.)5‬‬

‫‪ -‬نقال عن‪ :‬تودوروف‪ :‬مدخل إىل األدب العجائيب‪ ،‬ص‪.49 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ت – ي – أﭘتر‪ ،‬أدب الفنتازيا – مدخل إىل الواقع‪ ،‬تر‪ :‬صبّار سعدون السعدون‪ ،‬دار املأمون للرتمجة‬
‫‪2‬‬

‫والنشر‪ ،‬بغداد‪ 1989 ،‬ص‪.09 :‬‬


‫‪ -‬نضال الصاحل‪ ،‬النزوع األسطوري يف الرواية العربية‪ ،‬ص‪.20 :‬‬‫‪3‬‬

‫‪ -‬حسني عالم‪ ،‬العجائيب يف األدب‪ ،‬ص‪.29 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬عن‪ :‬تودوروف‪ ،‬مدخل إىل األدب العجائيب‪ ،‬ص‪.54 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪329‬‬
‫رتدد املم زوج ب اخلوف‬ ‫وجممل الق ول أ ّن ت ودوروف على أ ّن العج ائيب يرتكز على ال ّ‬
‫والرهبة‪.‬‬
‫ّ‬
‫النص من‬
‫وحني كان العجائيب جياور العجيب ويفرتق عنه خبيط رفيع ج ّدا‪ ،‬فقد ينتقل ّ‬
‫العجيب إىل العج ائيب‪ ،‬حني ينت اب شخص يات مع الق ارئ احلكاية ال رتدد واحلرية‪ ،‬حيث أ ّن‬
‫الس افر ال ذي حتدثه كائن ات غريبة حم ّددة املع امل وغري مدركة‬ ‫العج ائيب هو " ذلك التع ّدي ّ‬
‫ك‪ ،‬وذلك اخللل ينتهي ب املرء إىل ال رتدد ما‬ ‫بش كل ك اف‪ ،‬ممّا جيعل الع امل املعق ول يته ّدده الش ّ‬
‫بني التفسري العقالين والالعقالين هلذه الظهورات " (‪.)1‬‬
‫ه ذا‪ ،‬ويلجأ األديب إىل العج ائيب‪ ،‬بغية إض فاء مجالية خاصة على إبداعة – ش أنه يف‬
‫ذل ك‪ ،‬ش أن التوظيف األس طوري يف الرواية العربية – وذلك من خالل اس تلهامه نصوصا من‬
‫الرتاث العاملي والعريب واحمللي‪ ،‬بغية تأصيل الرواية من جهة‪ ،‬والوصول هبا إىل العاملية من جهة‬
‫ثانية‪ .‬كذلك بغية التورية أمام السلطة لنقد الواقع السياسي والتارخيي‪.‬‬
‫حتول الكي ان الغ ريب من النض ال السياسي إىل األس ئلة املرعبة ح ول املصري‬ ‫حيث‪ّ " :‬‬
‫والكنه‪ ،‬وأصبحت الرواية توظف هذا النوع من االشتغال الذي ميكن أن نع ّده توظيف جديدا‬
‫حيت اج إىل التبل ور‪ ،‬وال ميكن ع ّده جنسا أدبيا بشخص ياته وفض اءاته املتم يزة‪ .‬ومل يس تثمر‬
‫فع ال ووظيفي يف الرواية العربية إال مع الرواية اجلدي دة اليت ح اولت التج ريب‬ ‫العج ائيب كل ّ‬
‫لتكسري النمط السردي القدمي وتأصيل الرواية العربية ربطها برتاثها العريب القدمي واملشاركة يف‬
‫مو باخلي ال وتغريبه بش كل عج ائب واس تلهام‬ ‫ارتي اد آف اق العاملية عن طريق متويه الواقع والس ّ‬
‫أهم عامل ك ان وراء ظه ور ه ذا‬ ‫النص وص العجائبية املوروثة عن طريق التن اص‪ .‬ه ذا وإ ّن ّ‬
‫األدب العجائيب يف احلقل العريب يتمثل يف طبيعة الواقع املوضوعي‪ :‬التارخيي والسياسي‪.)2( " .‬‬
‫إ ّن البحث عن العج ائيب يف أعم ال الك وين‪ ،‬يع ّد باجملازفة الك ربى؛ حيث أنّه يوظّف‬
‫األس طوري؛ ويص نعه أيض ا‪ ،‬مما جيعل عملية البحث عن العج ائيب خط رة‪ ،! ‬ذلك أل ّن احلدود‬
‫الفاص لة بينه وبني األس طوري تب دو واهن ة‪ ،‬كاخليط الرفي ع‪ .‬حيث أن العج ائيب لص يق‬

‫‪ -‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.66 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬حسني عالم‪ ،‬العجائيب يف األدب‪ ،‬ص‪ 67 :‬و‪.68‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪330‬‬
‫اس مع ه‪،‬‬ ‫باألس طوري‪ ،‬إذ يس تم ّد عوامله من الالمعق ول وف وق الط بيعي‪ .‬وبالت ايل‪ " :‬يتم ّ‬
‫فعالية إجناز ع وامل ما ف وق واقعي ة‪ ،‬ويق رتض منه مسة تع ّدد‬
‫ويت داخل أحيان ا‪ ،‬إذ يش اركه ّ‬
‫املستويات‪ ،‬وميثل أحد جذوره"(‪.)1‬‬
‫الرتدد " اليت متيّز العجائيب عن غريه‪ .‬كذلك‪ ،‬هناك‬
‫ويبقى الفيصل الواضح هو حالة " ّ‬
‫ختتص هبا ع وامل العج ائيب‬
‫م يزة أخ رى أش ار إليها ( نض ال الص احل )‪ ،‬وهي م يزة التجزئة اليت ّ‬
‫مبقابل م يزة الكلية يف ع وامل األس طوري‪ .‬ه ذا العج ائيب " املعرّب – كما يب دو – عن ذهنية‬
‫حمكومة بعمليات التجزيء‪ ،‬والتشطري‪ ،‬والتنضيد فيما بينها من جهة‪ ،‬ومتضادة فيما بينها من‬
‫جهة ثانية‪ .‬على حني ال تبدو الذهنية األسطورية كذلك‪ ،‬فهي تنظر إىل العامل بوصفه ُكاّل ال‬
‫يتج زأ‪ ،‬تش كل مظ اهره نس قا واح دا‪ ،‬مل يكن بالنس بة إىل اجملتمع ات (‪ )‬اليت أنتجت األس اطري‬
‫األوىل‪ " ،‬موضع شك " أو جمال تساؤل " ()‬

‫‪-1‬العجائبي في رواية " البئر "‪:‬‬


‫انطالقا مما سبق حناول الوقوف على العجائيب يف روايات الكوين‪ .‬ونبدأ برواية " البئر‬
‫"‪ ،‬ه ذه الرواية اليت جعلت من القصة األس طورية ( قصة ت انس وأخوها أطالنتس ) حمورا‬
‫تدور أحداثها من خالله وتنعكس على واقع أهل الصحراء وارتباطهم ب " البئر "‪.‬‬
‫قص ة " البئر "‬
‫ففي الرواية تتسلل أحداث وتتابع ليسرد اجل ّد (( غوما )) بطل الرواية ّ‬
‫قص ة أسطورية‬ ‫صرح حلفيده – أهنا ّ‬‫– اليت بطالها ( تانس ) وأخوها ( أطالنتس ) – والذي ّ‬
‫معروفة لدى اجملتمع الطارقي‪ " :‬حاول الشيخ غوما أن يتذكر كل هذه األساطري اليت تتناقلها‬

‫‪ -‬نضال الصاحل‪ ،‬النزوع األسطوري يف الرواية العربية‪ ،‬ص‪ .21 :‬عن خليفي شعيب‪ ،‬شعرية الرواية‬
‫‪1‬‬

‫الفنتاستيكية‪ .‬ص‪.67 :‬‬


‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ،22 ،‬عن‪ :‬جمموعة كتاب‪ " :‬سحر الرمز‪ ،‬خمتارات يف الرمزية واألسطورة "‪ ،‬ص‪.41 :‬‬ ‫‪‬‬

‫‪331‬‬
‫الص حراء ح ول الب ئر عن دما اس تيقظ قليال وس نرى م اذا فعل اهلل ب (( ت انس)) وأخيها‬ ‫ّ‬
‫(( أطالنتس)) يف حكاية البئر‪.)( " ...‬‬
‫القص ة اليت تنجح ع وامل أس طورية‪،‬‬
‫ويسرتسل اجل ّد (( غوما )) يف احلكي ليس رد تلك ّ‬
‫ابتلعه ّن اخلالء وضعن‬
‫وغيبية‪ " ،‬كانت تانس مع أخيها أطالنتس ضمن الفتيات الثالث الاليت ُ‬
‫بصرهن فاقرتحت أماريس مهسا‪ ...‬ليس أمامنا إال‬‫ّ‬ ‫أرجلهن وأعمى‬
‫ّ‬ ‫الصحراء‪ ...‬قيّد اجلوع‬
‫يف ّ‬
‫أن ن ذبح إخوتنا! وافقتها ت اال!‪ ،‬ورفضت ت انس‪ .‬ق الت‪ :‬أم وت جوعا وال أذبح أطالنتس‪...‬‬
‫هلن‪ ...‬رأى األمري وجهها الس احر‪ ...‬ه ذه احلس ناء س تكون‬ ‫تن اولت الس كني وق دمتها ّ‬
‫زوج يت‪ ...‬وخاطبته ت انس‪ :‬لن ت تزوج ت انس حىت يك ون ألخيها أطالنتس مجال أبيض‬
‫ضامرا‪ ...‬وسيفا من ذهب‪ ...‬نصبت تانس نفسها أمرية على الواحة اليت بدأت تنمو وتكرب‬
‫وتصبح مركزا لتجار القوافل‪ ...‬ويف إحدى الرحالت غاب أطالنتس‪ ...‬وجدته حتت سدرة‬
‫الص حراء‪ ...‬ألنه لن يه دأ يل ب ال حىت تغمر‬
‫ض خمة ميت ا‪ ...‬أقسم أنين س وف أنتقم لك من ّ‬
‫الص حراء إىل جنّة خض راء‪ ...‬وق ال أحد‬ ‫املي اه رفاتك يف الق رب‪ ...‬الب ّد أن تتح ّول ق ارة ّ‬
‫املنجمني‪ ...‬وتنبأ هلا بأن املياه سوف تتدفق وتغمر الدنيا طاملا بقي وجهها يدب ويسطع فوق‬
‫األرض‪ ...‬ولكن املي اه س وف ختتفي باختفائها من الوج ود‪ ...‬ق ررت أن تش يد املدن وتبين‬
‫اجلس ور والس دود‪ ...‬وأطلقت عليها اسم ((أطالنتي دا))‪ ...‬وأص بح يق ال ب أن أطالنتي دا هي‬
‫جنّة اهلل على األرض‪ ...‬وعن دما م اتت ح دثت حركة غريبة يف نظ ام النج وم‪ ...‬وق ادت‬
‫الك واكب األخ رى الك واكب األخ رى محلة ضد القم ر‪ ،‬فح دث ما يس مى ب‬
‫((اخلس وف))‪ ...‬بعد أربعني يوما من وف اة س ليلة القمر ت انس العظيم ة‪ ...‬حىت اإلمرباطورية‬
‫الص حراء‪ ،‬وان دثرت (( أطالنتي دا )) من ارة‬
‫الص حراء تزحف على ّ‬ ‫كثب ان الرم ال‪ ...‬ع ادت ّ‬
‫العلم واحلض ارة‪ .‬وبقي (( الب ئر أطالنتس )) رم زا بائسا ملجأ الرع اة ع ابروا الس بيل‪ ،‬ت نرح‬
‫مياهه فيه اجرون إىل الواح ات‪ ...‬تطفو مياهه فيع ودون إلي ه‪ ،‬ويقيم ون حوله دون أن جيدوا‬
‫تفس ريا لظ اهرة اختف اء املي اه اليت حتدث‪ ،‬حسب ما تناقلته األجي ال‪ ،‬كل ثالمثائة ع ام‪ .‬ويؤكد‬
‫البعض يف قصص هم أن الختف اء املي اه يف الب ئر عالقة مباش رة بع دد املرات اليت حيدث فيها‬

‫‪332‬‬
‫خس وف القمر يف العم الواح د‪ .‬أما ق ارة ((أطالنتي دا)) العتي دة فقد اختفت بعي دا يف ج وف‬
‫األرض‪ ،‬بعد طوفان الرمال الرهيب )) (‪.)1‬‬
‫إىل هنا حنن نسلم مع الكوين‪ ،‬وباعرتاف منه ومن راوي احلكاية الشيخ ((غوما)) أهّن ا‬
‫قصة أسطورية‪ ،‬وبالتايل هي تنجح عوامل فوق طبيعية‪ ،‬وأحداثها عجيبة وميثافيقية‪ .‬وأ ّن الشيخ‬ ‫ّ‬
‫قصة خرافية‪.‬‬
‫جملرد التسلية‪ ،‬وأخذ العربة منها ككل ّ‬ ‫حيكيها حلفيده‪ّ ،‬‬
‫العدو الفرنسي يف ع ّدة جبهات‬‫الس رد يف الرواية‪ ،‬وجيابه الشيخ ( غوما ) ّ‬ ‫مثّ يسرتسل ّ‬
‫خمتلف ة‪ ،‬وحتدث أح داث يومية وحكاي ات ش عبية داخل قبيلة الش يخ ( غوما ) فيها من‬
‫املس امرات ح ول الش اي األخض ر‪ ،‬وفيها من االختالف ات بالنصر أحيان ا‪ ،‬ب الزواج أحيانا‬
‫الص حراء املعيش‪ .‬فكل هذا طبيعي وواقعي مقبول‪ .‬وبالتايل‬ ‫أخرى‪ ،‬وغريها من أحداث واقع ّ‬
‫تب دو حكاية الش يخ ((غوم ا)) من العجيب إذ تقتحم الواقع كائن ات تتج اوز الفهم العقالين‬
‫تفس ر على أهنا انش غاالت مت واترة للمخيّلة البش رية‬
‫للوج ود‪ ،‬ميكن القب ول بوجودها عن دما ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫مفس رة أيضا بعض األطروحات الدينية "‬
‫بنيت عليها مجيع قصص عودة األجداد واآلباء‪ّ ،‬‬
‫حيث حتكي لنا احلكاية اجلنّة األرض ية املعروفة يف ال رتاث اليون اين ( الف ردوس املفق ود )‬
‫وك ذلك يف ال رتاث الع ريب الق دمي (ارم ذات العم اد) وغريها من الق ارات اليت أبي دت ب أن‬
‫ابتلعتها األرض بثرواهتا اليت ومل يعثر عليها أحد‪.‬‬
‫ولكن ‪ ،‬فجأة ‪ ،‬يعثر القارئ حني يسرتسل يف القراءة ‪ ،‬على آثار ((أطالنتيدا)) تلك‬
‫اجلنة األرض ية اليت ان دثرت يف القصة األس طورية وابتلعتها الص حراء ‪ .‬ففي خضم ح ديث‬
‫الش يخ ((غوم ا)) مع رفيقه عن نوايا املس تعمر يف االس تيالء على الص حراء الس تخراج خرياهتا‬
‫من النفط ‪ .‬يواصل الشيخ احلديث عن خوفه من أن يعثر املس تعمر على اخلريات املوج ودة يف‬
‫باطن األرض من جرار الذهب واألحجار الكرمية اليت عثر عليها أكثر من عابر سبيل ‪ ،‬واليت‬
‫تعود إىل كنوز قارة ((أطالنتيدا)) اليت ابتلعتها الصحراء‪ .‬حيث جاء ‪ - " :‬كدنا نضيع ‪ ،‬لو‬
‫اس تولوا على غ ات ل ركعت هلم الص حراء وبق وا فيها إىل األبد ‪ .‬لن خيرج وا منها بس هولة إذا‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " البئر " ص‪ 47 :‬حىت ‪.57‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬حسني عالم‪ ،‬العجائيب يف األدب‪ ،‬ص‪.31 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪333‬‬
‫اس تخرجوا منها س ائلهم اجلهنمي اليت تتح دث عنه ‪ .‬مث من ق ال إهنم لن يكتش فوا كن وز‬
‫أطالنتيدا الراقدة يف جوف األرض ؟‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬ال شك أن يف ب اطن الص حراء كن وزا ال حصر هلا اختفت مع اختف اء الق ارة ‪.‬‬
‫وأنت تع رف أمر ج رار ال ذهب واألحج ار الكرمية اليت ع ثر عليها أك ثر من ع ابر‬
‫س بيل ‪ ،‬ولكن الص حراء لن تك ون ص حراء حقا إذا فق دت كنوزها اليت ختفيها‬
‫بعيدا يف أعماقها ‪ .‬إهنا تفقد سرها وسحرها‪ .‬أليس كذلك ؟‬
‫‪ -‬طبعا ‪.‬‬
‫‪ -‬لو اس تخرجوا كنوزها وثرواهتا الس تباحوها ‪ .‬يا ريب ‪ ،‬ك ادجوا يتمكن وا من‬
‫بكارهتا‪ ! ‬ولكن احلمد هلل " (‪. )1‬‬
‫مرتددا بني‬
‫هنا يساور الشك القارئ‪ ،‬وجيد نفسه مندهشا مشدودا إىل معرفة احلقيقة‪ّ .‬‬
‫ما هو واقعي وغري واقعي من خالل توح ده مع الشخص ية يف الرواية يف حالة الق راءة‬
‫النص الق ارئ على اعتب ار ع امل الشخص يات ع امل األش خاص‬ ‫الس اذجة‪ .‬إذ "الب ّد أن حيمل ّ‬
‫يتوحد‬
‫رتدد ممثّال يصري واح دا من موض وعات األث ر‪ .‬والب ّد أن ّ‬ ‫األحي اء وحيمله أيضا على ال ّ‬
‫الق ارئ مع الشخص ية يف حالة الق راءة الس اذجة‪ .‬أي دون اح رتاز للق ارئ جتاه ما يش اهد‪...‬‬
‫الرتدد املشرتك يف الشخصية والقارئ " (‪.)2‬‬
‫فالعجائيب ال يدوم إال حلظة ّ‬
‫رتدد يع رتي الق ارئ وح ده‪ ،‬دون الشخص ية يف الرواية وتك ون م ّرة ثانية‬ ‫ه ذا ال ّ‬
‫قصة أسطورية حيكيها اجل ّد حلفيده‬‫مرة ثانية‪ .‬وليست جمرد ّ‬‫إمرباطورية أطالنتيدا وكأهنا حقيقة ّ‬
‫بغية اسرتجاع شخصيات وعوامل من املاضي‪ .‬يتقبلها العقل على أهنا أحداث وشخصيات ما‬
‫ف وق طبيعي ة‪ .‬يتس اءل الق ارئ هل إمرباطورية ((أطالنتي دا)) وهم أم حقيق ة؟ وهل كنوزها‬
‫تردد‬
‫الص حراء؟ ويزداد القارئ ّ‬ ‫وثرواهتا من تفاصيلها الومهية أم هي موجودة فعال حنت رمال ّ‬
‫ورهبة إزاء ت ردده بني أن تك ون ((أطالنتي دا)) وهم أم خي ال‪ ،‬خاصة حينما تظهر عالمة‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين ‪ ،‬رواية البئر ‪ ،‬ص ‪100‬و‪. 101‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬حسني عالم‪ ،‬العجائيب يف األدب‪ ،،‬ص‪.31 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪334‬‬
‫املرة ليس وح ده ال ذي يص به ه ذا ال رتدد بل الشخص ية يف الرواية‬
‫رددا‪ ،‬وه ذه ّ‬‫أخ رى تزي ده ت ّ‬
‫وحيس (( غوما )) ب اخلوف إزاء‬
‫أيض ا‪ .‬واملتمثلة يف شخص ية الش يخ (( غوما )) ش يخ القبيل ة‪ّ .‬‬
‫جف اف الب ئر‪ ،‬وأن ذلك ح دثا مرتبطا برحيل املرأة واملغرية ( باتا )‪ ،‬مه ددة إي اه ب ذلك عن‬
‫وحيس القارئ معه بكل هذا‪.‬‬
‫طريق التورية‪ّ .‬‬
‫إض افة إىل ما ي ذ ّكر به احلفيد ج ّده عن حكاي ات ( الب ئر ) و ( أطالنتي دا ) فيبقى‬
‫مندهشا مرتددا‪ .‬ويصاحب ذلك كلّه‪ .‬نفس احلالة الشعورية للقارئ‪ ،‬فيحدث هنا العجائيب يف‬
‫الرواية‪.‬‬
‫نص الرواية‪ " :‬جاء آيس إىل غوما راكضا‪ ...‬يقولون أ ّن مستوى املاء‬ ‫حيث جاء يف ّ‬
‫قد اخنفض يف البئر‪ .‬الرجال هناك يطلبون مشورتك‪ ! ‬انتفض الشيخ‪ ...‬مستحيل‪! ‬‬
‫جيب توقع ارتفاع املاء مع اقرتاب فصل الشتاء‪ ...! ‬ولكن يف طريق العودة إىل البيت‬
‫ق ال له آيس‪ - :‬ولكن أمل تقل يا أيب أ ّن الب ئر بنصب كل ثالمثائة ع ام؟ ‪ -‬حدجه غوما بنظ رة‬
‫قل ق‪ .‬ق ال بعد حلظة تفك ري‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن ه ذا يف األس طورة‪ .‬هك ذا تق ول األس طورة‪ .‬ص مت‬
‫الطفل مث عاد يقول وهو يتشبّت بيد ج ّده‪ - :‬قلت أيضا أ ّن ذلك يقاس بعدد مرات خسوف‬
‫القمر‪.‬‬
‫متتم غوما بعد تردد‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أعتقد ذلك‪.‬‬
‫قال آيس بإحلاح‪:‬‬
‫‪ -‬أتذكر اخلسوف األخري؟ رمبا أكمل العدد الالزم فبدأت املياه ترتاجع يف بئرنا‪ .‬لقد‬
‫مر أربعون يوما على اخلسوف األخري‪.‬‬ ‫ّ‬
‫توقف غوما فج أة‪ .‬نظر إىل آيس كأنه ينظر يف الف راغ‪ .‬ع اد ميشي دون أن يعلق‬
‫بكلمة"(‪.)1‬‬
‫هنا يش رتك الق ارئ مع الشخص ية يف الرواي ة‪ ،‬من خالل الق راءة الس اذجة‪ ،‬يف حالة‬
‫ردد الش يخ غوم ا‪ .‬وان دهش من أمر جف اف الب ئر وارتباطه باألح داث‬ ‫رتدد‪ .‬حيث ت ّ‬ ‫ال ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية‪ " :‬البئر "‪ ،‬ص‪ 197 :‬و‪.199‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪335‬‬
‫األس طورية وتط ابق ذلك باألح داث الواقعية من ذلك ارتب اط جف اف الب ئر باحلس وف ال ذي‬
‫جف‬
‫مر عليه أربعون يوما حىت ّ‬ ‫حدث فعال‪ ،‬والذي ابتدأ به الكوين روايته‪ .‬هذا الذي ما إن ّ‬
‫والرتدد هو الذي جعل الشيخ ( غوما ) يتوقف‬ ‫القصة األسطورية‪ّ .‬‬ ‫فعال على منوال ما جاء يف ّ‬
‫فج أة وينظر إىل الصيب ال ذي ي ذ ّكر بكل ه ذه التفاص يل رابطا إياها من األس طوري إىل‬
‫الواقعي‪ ( .‬فينظر إليه الشيخ وكأنّه ينظر إىل فراغ مث يعاود املشي دون أن يعلق بكلمة )‪.‬‬
‫تقرر القبيلة اهلجرة‬‫هذا يكون العجائيب يف رواية " البئر " للكوين‪ ،‬مث يزداد هذا حني ّ‬
‫الص حراء‪ .‬ولكن الدهشة الك ربى وال رتدد األكرب‬ ‫الص حراء س تزحف على ّ‬ ‫إىل الواح ات أل ّن ّ‬
‫سيضطرهم‬
‫ّ‬ ‫يأتيان يف هناية الرواية حيث جيف البئر فعال ويُِقّر الشيخ ( غوما ) أ ّن جفاف البئر‬
‫الص حراء اجلاف ة‪ .‬وأق ّر‬
‫على الرحيل إىل الواحة والعيش هن اك‪ ،‬ألنّه ال حي اة بعد اليوم يف ه ذه ّ‬
‫القص ة األس طورية‬ ‫ك ذلك أ ّن املاء لن يع ود إىل الب ئر إال بعد ثالمثائة ع ام‪ ! ‬على من وال ّ‬
‫إلمرباطورية ( أطالنتيدا )‪.‬‬
‫درب نفسه على احلي اة يف‬ ‫ج اء يف نص الرواية " الش يخ غوما أس عدنا حظّ ا‪ .‬لقد ّ‬
‫املرة‬
‫الص حراء‪ ،‬ولكن األمر هذه ّ‬ ‫الواحات من زمان‪ ...‬ذهبت وانا أعلم مسبقا أنين عائد إىل ّ‬
‫طر يا ش يخ خليل أن هتجرها إىل األب د‪ .‬ش ئت أم أبيت اللّهم إال إذا كنت تطمع‬ ‫خيتلف ستض ّ‬
‫يف عمر ن وح فتنتظر حىت يع ود املاء لالرتف اع بعد ثالمثائة ع ام!‪ ...‬حتركت القافلة الكب رية‪...‬‬
‫ولكنه استمر جالسا جيول ببصره يف متاهة العراء اليت تنبسط ومتت ّد إىل األبد‪.)1( "...‬‬
‫رتدد مطروح ا‪ ،‬هل إمرباطورية أطالنتي دا واقع أم خي ال‪ ،‬وهل جف اف‬ ‫ويبقى س ؤال ال ّ‬
‫الب ئر مرتبط اخلس وف فعال‪ ،‬وهل ع ودة املي اه إىل للب ئر س تكون – فعال – بعد ثالمثائة ع ام‪! ‬‬
‫هنا يفعل العجائيب فعلته بالقارئ الذي يبقى بطرح األسئلة املتوالية برغم انتهاء الرواية‪ .‬وهنا‬
‫تكمن عبقرية الكوين‪.‬‬
‫العجائبي في رواية " نزيف الحجر "‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫يتجلى العج ائيب كخاص ية خطابية يف رواية " نزيف احلجر " من خالل قصة ( الغزالة‬
‫القص ة اليت س ردها الك وين على لس ان الغزالة واليت حتكي أن الغزالة‬
‫) و (ميث اق ال دم)‪ .‬ه ذه ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.220 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪336‬‬
‫األم ق ّدمت نفسها قربانا لبين آدم‪ ،‬ألجل كسب ( ميثاق الدم ) الذي يضمن لنسلها األمان‬
‫سر آخر‬‫األم الكبرية وهي تلتفت إىل ّأمي‪ :‬هناك ّ‬
‫من بطش بين آدم‪ .‬حيث باختصار‪ " :‬قالت ّ‬
‫سيحرم عليه دم ابنتك وأبناء أبناء‬
‫يف التضحية‪ .‬القربان سينفتح عهدا بني نسلك وبني ابن آدم ّ‬
‫ابنتك إىل أبد اآلبدين‪ .‬هذا هو العهد‪ ،‬حصن القربان وميثاق الدم‪ ،‬واللّعنة سوف تالحق من‬
‫تس ّول له نفسه أن خيون رب اط ال دم‪ ،‬فال يوجد يف ال ّدنيا كلّها أق وى من رب اط ال دم وليس‬
‫هناك جرمية أبشع من خيانة هذا الرباط‪ .‬تقدمت مين أمي وقبلتين‪ ،‬ومتسحت برقبيت‪ ،‬ومهست‬
‫ميسك اإلنس بعد اليوم "‪ .‬مث ذهبت وسلمت نفسها‬ ‫يف أذين‪ " :‬إيّن أفعل ذلك من أجلك‪ .‬لن ّ‬
‫لآلدمي احملطّم‪.)1( "...‬‬
‫القص ة اليت أمامنا هي العجيب‪ ،‬حيث شخص ياهتا خرافي ة‪ ،‬وهي عب ارة عن‬ ‫إىل هنا ّ‬
‫حيوان ات تتح ّدث وتعقد ميثتقا مثينا من بين آدم‪ ،‬ه ذا العجيب ال ذي يف وق العقل واملعق ول‪،‬‬
‫ولكن الق ارئ يس توعبه على أنّه من اخلراف ات املت واترة منذ س الف األزم ان ألجل النصح‬
‫واإلرشاد وتقدمي العربة للبشرية‪.‬‬
‫ويسرتسل الس رد يف الرواية إىل حلظة خ روج ( قابيل ) – الش ره ألكل حلم الغ زال –‬
‫يف رحلة ص يد للغ زال‪ .‬مبعيّة ( ج ون ب اركر )‪ ،‬باس تعمال املروحي ة‪ ،‬وكل ش يء ك ان طبيعيا‬
‫أطل قابيل من نافذة " اجلندب " وأشار إىل جرح يكاد يلتئم يف األرض‬ ‫كأي رحلة صيد‪ّ " .‬‬
‫الرمادية املعتمة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هل رأيتم؟ هذا طريق الغزالن املهاجرة‪ .‬فوق الرمال الذهبية‪ ،‬عثر قابيل على آثار‬
‫أخرى‪ :‬الغزالن‪! ‬‬
‫هل هو قطيع؟ أم الغزالن نفسها اليت حت ّدث عنها الرعاة؟‬
‫الصخور وهبط اجلبل كاملأخوذ‪ .‬صاح‪:‬‬ ‫تقافز بني ّ‬
‫‪ -‬الغزالن‪ .‬الغزالن‪ .‬إىل الطائرة‪.‬‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ 112 :‬و‪.113‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪337‬‬
‫‪ -‬ظل واقفا جبوار الطائرة‪ ،‬ميسح العرق عن وجهه‪ ،‬ويلهث من االنفعال واإلعياء "‬
‫(‪. ) 2‬‬
‫إىل هنا‪ ،‬كل شيء معقول‪ ،‬رحلة صيد الغزالن ال تزال متواصلة‪ .‬ولكن فجأة حيدث‬
‫ما خيرق أفق وانتظار الشخصية ( قابيل ) والقارئ أيضا حيث جاء‪ " :‬يف تلك اللّحظة رآها‪.‬‬
‫تظل بص خرة كب رية‪ ،‬من اجلهة اليمىن من الس فح‪ ...‬عيناها كبريت ان‪ ،‬س وداوان‪ ...‬حت ّدثه‬‫تس ّ‬
‫حيس ه‪ ،‬ولكنه ال يدركه‪ ،‬أقسى شيء‪ ،‬أشقى ما‬ ‫سر ّ‬ ‫بسر ما‪ ،‬نعم – نعم‪ّ .‬‬
‫بشيء ما‪ ،‬تبوح له ّ‬
‫حتس بالس ّر وتعجز عن إدراك ه‪ .‬م اذا تريد أن تق ول املخلوقة اجلميل ة؟ تب ادل‬
‫يف الوج ود أن ّ‬
‫معها نظرة طويلة‪ ،‬مل تتحرك‪ .‬جبوارها تقف غزالتها أيضا‪ .‬توافق ّأمها على ما قالته‪ ،‬تؤيدها‪،‬‬
‫بالرهبة فقط ولكن ب اخلوف‪ .‬مل يش عر كيف انتزعه‬ ‫ما أقسى أن جتهل لغة األنع ام‪ ! ‬مل يش عر ّ‬
‫مسعود وسحبه من كمه‪ .‬كان الطيار الزجني يتضاحك كاشفا عن أسنانه النضرية‪ ،‬ويردد‪:‬‬
‫?‪-O، My God، What He’s Waiting for‬‬
‫جلس على املقعد غائبا‪ .‬العرق ينز بغزارة أكرب‪ .‬أنفاسه تتالحق‪ .‬جون يتكلم وكذلك‬
‫مسعود‪ .‬ثالثتهم يتكلمون‪ .‬ويعلّقون‪ ،‬يبدو أهنم مل يشاهدوا ما حدث‪ .‬مل يلحظوا اللقاء‪.‬‬
‫ط ارت الط ائرة ‪ -‬ولكن قابيل مل يف ق‪ .‬ح ارب الغ زال واص طاد منذ أن وعى ال دنيا‪،‬‬
‫ولكنه مل حيدث أن رأى إنسانا يف غزال " (‪.)2‬‬
‫هنا انتاب (قابيل) الرتدد والشك واخلوف والرهبة‪ .‬وانتاب مبعيته القارئ أيضا‪ ،‬كأن‬
‫تتجس د حرفيا وض منيا يف واقع ( قابيل )‬
‫الاّل معق ول ب ات معق وال‪ ،‬وك أ ّن احلكاية اخلرافية ّ‬
‫املعيش‪ .‬وهنا تكمن خاصية العجائيب‪.‬‬
‫والشك والرهبة متواصلني من خالل األحداث‪ ،‬حيث‪ ،‬ورغم كل هذا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويبقى الرتدد‬
‫يتجرأ (قابيل) على أخته (الغزالة) ويصيدها ويأكل حلمها‪ ،‬بل ويصيد قطعان الغزالن فيبيدها‪،‬‬
‫ألنه بات يأكل أكثر من شاة يف الليلة الواحدة‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية " نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪.126 /125 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ،‬رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ،‬ص‪ 126 :‬و‪.127‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪338‬‬
‫بالدم‪،‬‬
‫وهاهو (قابيل) يواصل رحلة صيد (الغزال) لكنه كان مرتددا‪ ،‬بني محايته ألخته ّ‬
‫وبني ص يدها وإش باع السوسة الشرسة اليت تنهش أس نانه‪ " .‬ال أع رف كيف س يتحايل قابيل‬
‫على السوسة يف أسنانه‪ ،‬بني أسنانه ترقد أشرس دودة عرفها اإلنسان‪ .‬انتهز قابيل الفرصة‪- :‬‬
‫نعم ال أثر للغزال‪ .‬حيسن بنا أن نعود‪ .‬يف تلك اللحظة صرخ الزجني‪. O Look ! Look- :‬‬
‫الص خور‪ .‬ط ار ال زجني حنوها وحلّق ف وق التجوي ف‪ ...‬ك انت ترتع د‪.‬‬ ‫ملع زغب األم بني ّ‬
‫صرح‪ .‬الزجني‪ ! Fire- :‬مث تبعه مسعود جون يف صوت واحدة‪ – .‬أطلق النار‪! ‬‬
‫هو أيضا يرتع د‪ .‬ص ّوب الفوهة البندقية حنو التجوي ف‪ ،‬ف التقت نظراهتم ا‪ .‬أش اح‬
‫دوي‪ ،‬ومسح الع رق املت دفق على وجهه‬ ‫بوجه ه‪ ،‬وأغمض عيني ه‪ ،‬وض غط الزن اد‪ .‬انبثق ال ّ‬
‫مبعص مه‪ .‬ف رأى الص غرية تنتفض‪ .‬مثّ ه وت على األرض‪ ،‬ورق دت على جنبها األمين‪ ،‬وم دت‬
‫رأس ها حنو القبل ة‪ .‬بقي التعبري املخيف يف عينيه ا‪ ،‬فلم يس تطع قابيل أن يق رتب‪ ...‬يف تلك‬
‫الليلة‪ ،‬مل يقتل ابن آدم أخته فقط‪ ،‬ولكنه أكل حلمها أيضا " (‪.)1‬‬
‫النص ال روائي‪ ،‬موص ولة بلحظة ال رتدد‬ ‫هك ذا تتضح خاص ية العج ائيب جبالء داخل ّ‬
‫حيس به الق ارئ‪ ،‬حيث يط رح العديد من‬ ‫واخلوف والرهب ة‪ ،‬املص احبة لنفس االنفع ال ال ذي ّ‬
‫األس ئلة وتتواصل األح داث‪ ،‬ليبقى أهم س ؤال مط روح‪ ،‬هل فعال س ؤال مط روح‪ ،‬هل فعال‬
‫هن اك ميث اق دم بني اإلنس ان واحلي وان أم إنه ال وهم؟‪ .‬وبني احلقيقة وال وهم‪ ،‬يط رح الك وين‬
‫قض يته الك ربى‪ ،‬يف س عيه ال دائم إىل نشر الع دل واألخ ّوة والوئ ام بني البشر وبني البشر‬
‫والكائنات األخرى‪.‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫لقد وظف الك وين العج ائيب " بوص فه عنص را مهما إلجالء الواقع واس تنباطه "‬
‫النص‪ ،‬من خالل خلق ع وامل غريبة متص لة‬ ‫فباإلض افة إىل اجلمالية اليت ّأداها داخل نس يج ّ‬
‫يؤص ل للرواية العربية احلديث ة‪ ،‬ومن جهة ثانية ينقد الواقع‬
‫ب الواقع يف نقطة م ا‪ .‬فهو من جهة ّ‬
‫رتدد بني واقع مرير‬
‫املعيش بكل تناقض اته‪ .‬وذلك يعكس ص ورة الف رد – ك الكوين – وهو م ّ‬
‫وأحالم وتطلع ات ص عبة البل وغ‪ .‬وبني ه ذا وذاك‪ ،‬ين أى الك اتب بعمله اإلب داعي من خالل‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪ 128 :‬و‪ 129‬و‪.130‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ت‪.‬ي‪ .‬أﭘتر‪ ،‬أدب الفنتازيا – مدخل إىل الواقع‪ ،‬تر‪ :‬صبّار سعدون السعدون ( تذبيل الكتاب )‬ ‫‪2‬‬

‫‪339‬‬
‫الت أرجح بني املعق ول والالمعق ول‪ ،‬والواقع واخلي ال عن الرقابة الس لطوية سياس ية ك انت أم‬
‫دينية أم غريمها‪.‬‬
‫الرواية‬
‫فع ال ووظيفي يف الرواية العربية إال مع ّ‬ ‫حيث‪ " :‬مل يس تثمر العج ائيب ك ّل ّ‬
‫اجلدي دة اليت حاولت التج ريب لتكسري النمط الس ردي الق دمي وتأصيل الرواية العربية وربطها‬
‫مو باخلي ال‬
‫برتاثها الع ريب الق دمي واملش اركة يف ارتي اد آف اق العاملية عن طريق متويه الواقع والس ّ‬
‫وتغريبه بش كل عج ائيب‪ .‬واس تلهام النص وص العجائبية املوروثة عن طريق التن اص‪ .‬ه ذا‪ ،‬وإ ّن‬
‫أهم عام ل‪ ،‬ك ان وراء ظه ور ه ذا األدب العج ائيب يف احلقل الع ريب يتمثل يف طبيعة الواقع‬ ‫ّ‬
‫املوضوعي التارخيي والسياسي" (‪.)1‬‬
‫وبالتايل استطاع الكوين‪ ،‬من خالل توظيف العجائيب أن " يطرح التساؤالت الكبرية‬
‫– املتعلقة بالوجود اإلنساين وما يتنازعه من هواجس وخماوف وخفايا‪.)2( "! ‬‬
‫هك ذا يك ون الك وين قد ط رح أهم القض ايا املتعلقة مبصري اإلنس ان واحلي وان والطبيعة‬
‫من خالل التوظيف األسطوري والعجائيب‪.‬‬
‫وجعل من ه ذا الثالثي ( اإلنس ان واحلي وان والطبيعة )‪ ،‬كائنا واح دا حييا ويتنفس‬
‫ويطمح‪ .‬فناش د‪ ،‬اخلل ود لإلنس ان‪ ،‬بالرضا باملصري احملت وم مع الك ّد واملث ابرة والتش ييد‪ .‬وناشد‬
‫اخلصب والنم اء والتج ّدد للطبيع ة‪ ،‬باحلف اظ عليها وعلى ال ثروات الباطني ة‪ .‬وع دم إدخ ال‬
‫األي ادي الدخيلة املدنسة لنهب ث روات ص حرائنا البك ر‪ .‬وناشد وح دة الكائن ات وض رورة‬
‫اح رتام احلي وان واحلف اظ على ال ثروات احليوانية وع دم الس ماح لل دخالء بإدخ ال آالهتم‬
‫الشيطانية لصيده‪ .‬وهذا كلّه‪ ،‬يندرج حتت ملحمة اخللق الكربى‪.‬‬
‫ملحمة التكوين‪ ،‬حني خلق إله الكون واإلنسان واحليوان إلعمار األرض‪.‬‬

‫‪ -‬حسني عالم‪ ،‬العجائيب يف األدب‪ :‬ص ‪ 67‬و‪.68‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ت‪.‬ي‪ .‬أﭘتر‪ ،‬أدب الفنتازيا‪ ( ،‬تذبيل الكتاب )‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪340‬‬

You might also like