You are on page 1of 155

‫الفصل الثاني ‪:‬‬

‫مظاهر أسطورة التكوين وتجلياتها في‬


‫روايات الكوني‬
‫‪ - 1‬تجليات أسطورة الخصب في روايات الكوني‬
‫‪ - 2‬تجليات أسطورة الخلود في روايات الكوني‬
‫‪ - 3‬تجليات المظهر الطوطمي في روايات الكوني‬

‫الفصل الثاني ‪:‬‬


‫مظاهر أسطورة التكوين وتجلياتها في روايات الكوني‬

‫‪ – I‬تجليات أسطورة الخصب في روايات‪ ,‬إبراهيم‪ ,‬الكوني ‪:‬‬


‫تتف رع " أس طورة اخلصب " عن أس طورة التك وين؛ فهي ‪ -‬أي أس طورة التك وين ‪-‬‬
‫األس طورة األساس ية؛ إذ تتح دث عن قصة اخللق والتك وين‪ ,‬وتتف رع عنها أس اطري أخ رى‬
‫ثانوي ة؛ كأس طورة اخلصب ‪ -‬اليت س نأيت على تناوهلا بش يء من التوس ع‪ -‬وك ذلك أس طورة‬
‫اخلل ود‪ ,‬وأس اطري الط وطم ( احلي واين‪ ,‬والنب ايت)‪...‬وغريها من األس اطري الفرعية اليت تتح دث‬
‫‪ -‬ك ذلك ‪ -‬عن سر الوج ود‪ ,‬وسر تق ديس مظ اهر الطبيع ة‪ ,‬وسر تق ديس احلي وان واجلن‪...‬‬
‫وغريها ‪...‬‬
‫فأس طورة التك وين هي األصل وتتجلى من خالل مظاهرها وهي األس اطري الفرعي ة‪,‬‬
‫كأسطورة اخلصب‪ ,‬وأسطورة اخللود‪ ...‬وأسطورة الطوطم‪ ,‬وغريها‪ .‬وهذا ما وضحه فراس‬
‫الس واح ق ائال‪ " :‬عن أس طورة األصل األساس ية تتف رع جمموعة من أس اطري األص ول الثانوي ة‪,‬‬
‫اليت حتكي ب دايات األش ياء‪ ,‬اليت تلعب دورا أساس يا يف حي اة اإلنس ان‪ ,‬كالزراعة وأدواهتا‪,‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫والكتابة والسدود والقنوات وما إىل ذلك " ‪.‬‬
‫لقد اختلفت تس ميات آهلة اخلصب يف األس اطري من بابلية إىل كنعانية إىل يوناني ة‪,‬‬
‫واختلفت أيضا عن الس ومرية واألكادية وعن املص رية‪ .‬وختتلف تفاص يل كل قصة عن‬
‫األخرى‪ ,‬وعلى الرغم من تشاهبها يف كل املعتقدات املختلفة‪ ,‬فموت إله اخلصب هو القحط‪,‬‬
‫وانبعاثه هو احلياة ‪.‬‬
‫وربة اخلصب ب اختالف تس مياهتا يف خمتلف تلك املعتق دات‪ ,‬هي احملرك األساسي هلذه‬
‫األس طورة‪ ,‬هي " أس تار –" عش رت" – " عش رتت " أو " اس تاريت " و " عش تار " هو امسها‬
‫الب ابلي واآلش وري و " عش رتوت " امسها الكنع اين‪ ,‬وهي ربة اخلصب واحلب يف ال ديانتني‪,‬‬
‫انتقلت عن طريق قربص إىل اليونان فعبدت هناك باسم أفروديت وهو اسم مشتق من آفروس‬
‫مبعىن زبد البح ر‪ ,‬و"عش تار" تس مى " أنانا " يف أس اطري س ومر وأك اد وهي متاثل " إي زيس "‬
‫املص رية يف بعض خصائص ها‪ ,‬وعرفها الع رب باسم "عشرت " ولكنهم جعلوها إهلا ذك را بينما‬
‫هي أنثى لدى غريهم‪ .‬حتكي أسطورهتا عن حبها " لتموز" و " أدونيس "‪ ,‬وكان راعيا شابا‬
‫مولعا بصيد الوحوش والسيما اخلنازير البحرية‪ ,‬وقد متنع عليها يف البداية وانطلق وراء صيده‪,‬‬
‫‪ -‬فراس سواح ‪ ،‬مغامرة العقل األوىل ‪ ،‬ص ‪. 25‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫حىت قتله خ نزير ش رس‪ ,‬ون زلت روحه إىل ع امل املوتى " أرالو " يف البابلية " و " هي دز " يف‬
‫(‪) 1‬‬
‫اليونانية ‪.‬‬
‫وتواصل أسطورة اخلصب قصتها‪ ,‬حيث تسرد لنا جمريات نزول اآلهلة احملبة إىل العامل‬
‫الس فلي باحثة عن حبيبها "متوز" خملفة وراءها قحطا وج ذبا عم كافة األرض حيث تعطلت‬
‫اخلص وبة بس ببه ‪ -‬أي " متوز "‪ -‬حيث ن زلت ألجله "عش تار" إهلة اخلصب إىل الع امل الس فلي‬
‫بعدما قتلته اخلنزير ونزلت روحه إىل العامل السفلي‪ ,‬وختتلف تسميات "متوز" أيضا باختالف‬
‫العقائد املختلف ة‪ ,‬حيث أنه " من أمساءه األخ رى‪ " :‬يعل " ‪ " ,‬آتيس " ‪ " ,‬أدونيس " ‪,‬‬
‫"أوزي ريس"‪ .‬فتم وز هو االسم الس ومري األصل ل ذلك املعب ود الواحد وبعل نظ ريه الكنع اين‬
‫وأدونيس صورته اليونانية ويشبههم أوزيريس املصري يف بعض النواحي وأبوه إله احمليط وهو‬
‫كما تص وره‪ ,‬املاء الع ذب ال ذي يكشف الع امل من جوانبه وهو أصل املوج ودات‪ ,‬انتقل ه ذا‬
‫اإلله إىل ال ديانات القربص ية فاإلغريقية القدمية لكن اإلغريق وقعوا يف خطأ تس ميته إذ أخ ذوا‬
‫أحد األلقاب السامية وهو " أمون " مبعىن السيد أو الرب واعتربوه علما عليه وعاملوه معاملة‬
‫األعالم اإلغريقية فأض افوا إليه " ‪ " es‬فص ار " ‪ " ADONEX‬تص وره الس اميون واإلغريق‬
‫على ش كل ش اب راع مجيل تفتنت به اآلهلة عش تار أو أف روديت‪ ,‬ولكنه يصد عنها حىت ميوت‬
‫وتعي ده إىل احلي اة‪ ,‬فهو ب ذلك رمز لع ودة احلب نتيجة حب األن ثى وعالقتها احلميمة بال ذكر‪.‬‬
‫والرمز املقدس لتموز وأدونيس هو زهرة شقائق النعمان‪ ,‬إذ كانت بيضاء فلما لقي مصرعه‬
‫جبوارها امحرت بدمائه " (‪. )2‬‬
‫فأس اطري اخلصب تتماثل وتتش ابه من حيث املب دأ‪ ,‬لكنها ختتلف يف التفاص يل‪ ,‬وهنا‬
‫يأيت دور االختالف العق دي والثق ايف يف التحوير يف تفاصيل األس طورة‪ ,‬وصبغها بصبغة متيز‬
‫البيئة اليت تعيش فيه ا؛ إذ " ختتلف األس طورتان يف موقف كل من عش تار ونظريهتا "‬
‫أفروديت" فعشتار تقرر اهلبوط إىل العامل السفلي لتستعيد دمع " متوز " وهناك تسلط عليها‬

‫‪ -‬جابر عصفور وآخرون‪ ",‬األسطورة واإلبداع"‪ ,‬دائرة الثقافة واإلعالم – حكومة الشارقة‪ ,‬الدورة األوىل‪,‬‬
‫‪1‬‬

‫أبريل ‪1998‬م‪ ,‬ط‪ ,2005 ,1‬ص‪.191‬‬


‫‪ -‬جابر عصفور وآخرون‪ ",‬األسطورة واإلبداع" املرجع السابق ‪ ,‬ص ‪.192‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫أختها ‪-‬أرش كيجل‪ -‬ربة ذلك الع امل ومنافس تها يف حب متوز‪ ,‬فتحبس نها وتص يبها بشىت‬
‫األمراض‪ .‬ويف فرتة غياب عشتار‪ ,‬تتعطل مظاهر اخلصوبة على األرض سواء يف عامل اإلنسان‬
‫أو احلي وان‪ ,‬وه ذه األس طورة تفسر عقي دة اإلنس ان يف تلك املرحلة وتعليله للخصب واجلذب‬
‫اللذين يتعاقبان على األرض كل عام " (‪. )1‬‬
‫هذا‪ ,‬وقد متثل املصريون اإلله " أوزيريس " رمزا للخصب وكذلك إله للموتى حيث‬
‫" اختذوه رم زا للطبيعة م ادام قد ع اش وم ات وبعث كما تعيش ومتوت وتبعث الطبيع ة‪ .‬مث‬
‫(‪) 2‬‬
‫عرفه املصريون إله املوتى؛ حيث يتوىل حمكمة احلساب بعد البعث "‬
‫أما عش تار فهي أف روديت اإلغريقية وهي نفس ها " أنانا " الس ومرية و " عش تار"‬
‫األكادية و "عن اة" األوغريتي ة‪ ,‬أدت ذات ال دور واتص فت بنفس الص فات الشخص ية يف مجيع‬
‫احلضارات‪ ,‬وهي تعين وجه أو مظهر اخلصب ( أف‪-‬روديت ) أف‪ /‬أنف ( مع اختفاء النون‬
‫يف اللفظ )‪ :‬هو األنف والوجه واملظهر‪ ( ,‬روديت‪ :‬روضة )‪ ,‬فمعناها يكون مظهر الروضة‪.‬‬
‫ومن هنا تظهر اجلذور العربية واض حة من أمساء‪ ,‬وتكشف جبالء األص ول العربية‬
‫(‪) 3‬‬
‫ألصحاب األساطري خالل التاريخ "‬
‫وهك ذا اختلفت أس طورة اخلصب يف أحناء الع امل‪ ,‬واختلفت أمساؤها‪ ,‬لكن جوهرها‬
‫واح د‪ ,‬وهو املوت‪ /‬االنبع اث‪ ,‬اخلري‪ /‬الش ر‪ ,‬القح ط‪ /‬اخلص ب‪ ,‬املكر والغ رية‪ /‬تطهري النفس‬
‫وتنقيته ا‪...‬وغريها من الثنائي ات الض دية اليت حتملها أس اطري الع امل يف ثناياها من خالل رم وز‬
‫أسطورية تشع من حني آلخر‪.‬‬
‫وترتكز أس طورة اخلصب على أهم رمز أس طوري وهو " التطهري " –وال ذي س نراه‬
‫أيضا يف أس اطري أخ رى فرعي ة‪ -‬حيث " تنتفي األس طورة وتغيب تس مياهتا وت واريخ وقائعه ا‪,‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ,‬ص ‪ ( 192‬نفس الصفحة )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬سليمان مظهر" قصة الديانات "‪ ,‬ص ‪.43‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬مجعية التجديد الثقافية واالجتماعية‪ " ,‬األسطورة توثيق حضاري "‪ ,‬قسم الدراسات والبحوث‪ ,‬ط‪ ,1‬دار‬
‫‪3‬‬

‫كيوان للطباعة والنشر والتوزيع‪ ,‬دمشق ‪ ,2009‬ص‪.151 :‬‬

‫‪4‬‬
‫من وق ائع االحتف االت‪ ,‬بل ختتلف تفاص يلها من بلد آلخ ر‪ ,‬ولكن اجلوهر يبقى يف الفك رة‬
‫(‪) 1‬‬
‫األساسية‪ ,‬أال وهي تطهري النفس قبل االنتظام يف دورة سنوية جديدة "‬
‫وظلت أس طورة اخلصب مرتبطة ب أكثر األس ئلة إحلاح ا‪ ,‬واملتعلقة مبوت اإلنس ان‪,‬‬
‫وم وت الطبيعة على الس واء‪ .‬وتظل الطق وس هي اجلانب املم ارس واملتجلي هلذه األس اطري‪.‬‬
‫ه ذه الطق وس اليت ترمز إىل التج دد واس تمرار احلي اة وك ذلك " رغبة يف التجديد الس نوي‬
‫للحي اة وارتب اط ه ذا التجديد مبا يف الطبيعة من حتوالت وانبع اث للربيع والزه ور واكتس اء‬
‫األشجار العارية باالخضرار واألزهار املتناغمة األلوان واألشكال املثرية للبهجة باجلديد " (‪.)2‬‬
‫إن لكل بلد – تقريب ا‪ -‬طقوسا موروث ة‪ ,‬يع ود إليها وميارس ها دون عن اء البحث عن‬
‫أصوهلا‪ ,‬فهذه كذبة األول من أفريل‪ ,‬وذلك احتفال بيوم الطني‪ ,‬واآلخر لباس أقنعة واحتفال‬
‫" كرنف ال "‪...‬وهك ذا متارس الطق وس دون اللج وء إىل معرفة اجلذور‪ ,‬إهنا طاق ات ختتزن يف‬
‫النفس البشرية للجماعة هلا نزعة إنسانية خالصة وال تعرب عن أية أيديولوجيا " وقل من يعرف‬
‫الرابط املنطقي ال ذي يربط الش عائر والطق وس والعقي دة الذهنية اليت ب نيت عليه ا‪ ,‬والقيمة‬
‫اإلنس انية اليت تالزمها أو األثر االجتم اعي ال ذي ك ان ينشأ عنها يف احلض ارات اليت تش كلت‬
‫خالهلا‪ .‬إهنا طقوس وشعائر جتاوزت حواجز اللغة واجلغرافيا والدين‪ ,‬ووصلت إىل حيث هي‬
‫الي وم حبيويتها وجتاوهبا مع مش اعر الن اس‪ .‬وس واء أك انت باسم ال دين أم امليثولوجي ا‪ ,‬فإهنا يف‬
‫النهاية إنسانية خالصة بدواخلها وغاياهتا " (‪. )3‬‬
‫ومسارعة اإلنسان إىل ابتكار الطقوس املساعدة جللب اخلصب وقهر القحط واملوت؛‬
‫ما هو إال دليل واضح على ارتق اء عقله إىل درجة التمي يز والتحليل واالس تخالص‪ .‬والوق وف‬
‫على الثنائية الض دية اليت حتكم الع امل بأس ره وهي ( اخلري والشر ) حيث " مع تن اوب فص ول‬

‫‪ -‬يوسف احلوراين‪ " ,‬يف الفكر األسطوري البابلي "‪ ,‬جملة " الفكر العريب "‪ " ,‬جملة اإلمناء العريب للعلوم‬ ‫‪1‬‬

‫اإلنسانية‪ ,‬متوز‪-‬أيلول ( يوليو‪-‬سبتمرب ) العدد‪ ,73 :‬السنة (‪ ,)3‬معهد اإلمناء العريب‪ ,‬بريوت ‪ ,‬اهليئة القومية‬
‫للبحث العلمي‪ ,‬طرابلس‪ ,‬ليبيا‪ ,‬ص‪.12‬‬
‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 10/11‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املرجع السابق ‪ ,‬ص‪.11‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪5‬‬
‫الس نة‪ ,‬وما يس تتبعه ذلك من م وت وجف اف وع ودة للنمو واخلص ب‪ ,‬بالتن اوب‪ ,‬فقد اف رتض‬
‫العقل البشري‪ ,‬وهو يرتقى درجة أخرى من سلمه التطوري‪ ,‬أن هناك صراعا قائما بني قويت‬
‫اخلري والشر‪ ,‬فقام يشمر السواعد مساعدا قوى اخلري بزيادة اجلهد املثمر يف األرض والتقرب‬
‫إليها بأبكار مثاره وما يشتهي‪ ,‬مع الطقوس وعبادات خاشقه‪ ,‬بينما اجته حنو قوى الشر متزلفا‬
‫بوسائل السحر‪ ,‬اتقاء لشرها وإبعادا لغضبها " (‪. )1‬‬
‫هذا‪ ,‬ومن أشهر أساطري اخلصب كذلك‪ ,‬األسطورة املصرية ( إيزيس وأوزيريس )‪,‬‬
‫واليت سنعرضها فيما يلي‪:‬‬
‫" أسطورة إيزيس وأوزيريس " املصرية‪:‬‬
‫" ووفق األس طورة األوزيري ة‪ ,‬يعترب أوزي ريس –وهو االبن األكرب جلب ون وت‪-‬‬
‫ص احب احلق يف احلكم‪ .‬بيد أن أخ اه س ت‪ ,‬الغي ور‪ ,‬يلجأ إىل الت آمر على أخيه بغية التخلص‬
‫منه واستالم مقدرات حكم العامل‪ .‬ويف سبيل ذلك حيضر يف إحدى املناسبات صندوقا بطول‬
‫أوزي ريس‪ ,‬مث يب دي اس تعداده إلعط اء ه ذا الص ندوق ملن يتناسب طوله مع ط ول الص ندوق‪.‬‬
‫وبعد حماوالت غري جمدية يق وم هبا بعض احلاض رين‪ ,‬جيرب أوزي ريس ذل ك‪ ,‬فيغلق ست‬
‫الصندوق عليه‪ .‬مث يقذف به يف النيل العظيم‪ ,‬فيقوده إىل البحر حيث يرسو به على السواحل‬
‫اللبنانية عند مدينة جبيل ( بيبل وس )‪ .‬ولكن الزوجة الوفية إي زيس تبحث عن ه‪ ,‬فتج ده أخ ريا‪.‬‬
‫مث نع ود به إىل حيث يق وم ملكه اإلهلي‪ ,‬مص ر‪ .‬بيد أن قتله على ي دي ست ال ي ذهب هب اء‪.‬‬
‫ذلك أن ابنه ح ورس ( ابن أوزي ريس ) ينتقم له من عمه القات ل‪ ,‬فينتصر علي ه‪ .‬وبعدئذ يص بح‬
‫امللك اإلله األعلى ملصر " (‪. )2‬‬
‫نالحظ هنا كف اح الزوجة الوفية ( إي زيس ) يف إع ادة زوجها إىل الع رش وأيضا دف اع‬
‫االبن عن أبيه لقتل عمه قاتل أبيه‪ ,‬وهو كفاح من أجل السيادة على الكون‪ ,‬أبعاده اجتماعية‬
‫وسياس ية " تتص اعد " الثنائية " باجتاه كف احي جتس ده العالقة بني ست وأوزيس أوال‪ ,‬وبني‬

‫‪ -‬سيد القمين‪ " ,‬األسطورة والرتاث "‪ ,‬سينا للنشر‪ ,‬املقر العريب‪ ,‬مصر‪ ,‬ص‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬طيب يتزيين‪ ,‬مشروع رؤية جديدة للفكر العريب‪ .‬منذ بدايته حىت املرحلة املعاصرة يف ‪ 12‬جزء‪ ,‬ج‪ ,2‬ص‬
‫‪2‬‬

‫‪ .320‬عن رشيد الناضوري‪" ,‬جمريات األسطورة "‪ ( .‬سيعد لفيما بعد‪) ! ‬‬

‫‪6‬‬
‫ست وحورس من بعد ذلك‪ ,‬إن الكفاح بني هذه األطراف هو من أجل السيادة على الكون‬
‫(‪) 1‬‬
‫(مصر)‪ .‬وهو‪ ,‬بذلك‪ ,‬كفاح سياسي ذو أبعاد اجتماعية واقتصادية وأسطورية ( ثقافية ) "‬
‫وميثل إله اخلص ب‪ ,‬دورة الطبيعة من خصب وج ذب‪ ,‬فبحض وره املتواصل يك ون‬
‫إخصاهبا واخض رارها وجريان ودياهنا‪ ,‬وتكون السعادة ويكون احلب وتعم اخلريات‪ ,‬وبغيابه‬
‫حتزن األرض ويعم القحط وجتف األهنار ويس ود الشر ويغلب احلب‪ .‬وهلذا يس عى الن اس إىل‬
‫إرض اءه بشىت الط رق إلع ادة بعثه من جدي د‪ ,‬وها هي األس طورة الكنعانية تتفق يف مض موهنا‬
‫مع سابقتها املصرية " كان اإلله (أدونيس) رمزا لكل ما يتعلق باخلصب واملاء املقدس‪ ,‬ويعود‬
‫بأص له إىل اإلله الراف دي ( متوز )‪ ,‬واالسم ( متوز ) اسم س ومري يعين االبن املبع وث أو‬
‫اخلال د‪ ,‬وهو إله ذوات كل الق رون من القطع ان‪ ,‬ولقبه ال راعي الطيب‪ ,‬ومملكته هي اخلض رة‬
‫واألهنار‪ ,‬وهو خالد أب دا لكنه يغيب من حني آلخر ألنه إله النب ات‪ ,‬ل ذلك ك ان إله اخلض رة‬
‫حاضرا‪ ,‬غائبا‪ .‬حيضر يف فصل النبات ربيعا وصيفا‪ ,‬ويغيب يف فصل اجلذب خريفا وشتاء‪ ,‬مث‬
‫نعلم أن غيابه يكون يف عامل آخر " (‪. )2‬‬
‫ومل يكتف الن اس بتق ديس إله اخلصب معنوي ا‪ ,‬بل جس دوه مادي ا‪ ,‬ي راءى لألعني‪,‬‬
‫وأح اطوه ب أنواع من الطق وس واالبته االت وال زلفى‪ ,‬ففي ديانة مصر القدمية رم زوا إلله‬
‫اخلصب بكبش ذي ق رنني‪ ,‬وحني اعت ربوا القمر س ببا مباش را للخصب جعل وا له ق رنني رم زا‬
‫إلله اخلصب وتعدوه إىل جتسيده كذلك يف صورة الشمس ذات القرنني‪ ,‬ملاهلا من دور فعال‬
‫يف إم داد احلي اة لل زرع‪ ,‬وقدس وا األمومة ملا تلعبه من دور يف ال والدة واإلنت اج‪ ,‬ودليل ذلك‬
‫(‪) 3‬‬
‫معبوداهتا األنثوية الكثرية ( إيزيس‪ ,‬وإيسه‪)...‬‬
‫وقد ك ان يف مصر يرتكز التق ومي ال زراعي بفيض انات الني ل‪ ,‬وهو مرتبط بأس طورة‬
‫(أوزيريس)‪ ,‬وكان املصريون حيتفون مبوته يف (فصل اهليجان) والذي يسمونه (عيد خوياك)‪,‬‬
‫وبقي هذا االحتفاء من الطقوس اليت ميارسها املصريون لعهود متتالية ما تزال صورها جمسدة‬

‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ,‬ص‪.321‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬سيد القمين‪ " ,‬األسطورة والرتاث "‪ ,‬ص ‪.230‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه ( بتصرف )‪ ,‬ص‪.228 /227‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪7‬‬
‫يف حفري ات املق ابر املرتبطة باإلله أوزي ريس وعائلت ه‪ ,‬وعن ه ذه الطق وس ما يلي‪ " :‬عيد‬
‫خوي اك‪ :‬ه ذا العيد اخلريفي ك ان حيتفل به عن دما يبلغ النيل ذروة مس تواه‪ ,‬وعند ذاك يضعون‬
‫متث اال على هيئة أوزي ريس يف ق الب من ذهب له ش كل مومي اء‪ ,‬وميلئونه بالش عري والرم ل‪,‬‬
‫ويقطعونه بالقصب‪ ,‬ويضعونه يف دن قليل العمق وجيرونه فوق ماء النيل‪ .‬وكانوا ما بني ‪12‬‬
‫و‪ 21‬من ش هر خوي اك يروونه يوميا باملاء ويف الي وم التاسع ك انوا يعرض ونه للش مس قبل‬
‫غروهبا مباش رة مث يرس لونه يف رحلة تس تمر حىت ‪ 24‬أو ‪ 25‬بعد أن يض عوه يف ت ابوت مث‬
‫ي دفنوه يف قرب ن زع منه متث ال الع ام الس ابق‪ .‬ويف الي وم األخري من العيد يف الثالثني من الش هر‬
‫ال ذي يوافق هناية الفيض ان والب ذار‪ ,‬يقوم ون بع رض ميثل ون فيه دفن أوزي ريس‪ ,‬وعن دها ك ان‬
‫امللك والكهنة يرفع ون عم دا يس مى ( داد ) ك ان يرمز إىل قيامة اإلله أو بعث ه‪ .‬ويف مق ربة‬
‫خري اف ق رب طيبة ن رى الفرع ون وامللكة ونباهتما الست عش رة حيمل ون خش اخيش ومزاهر‬
‫ويس اعدهم ك اهن ويرفع ون العم ود حبب ال‪ .‬بينما س كان بوتو ‪ Boutto‬عاص مة ما قبل‬
‫األس رات يف مصر الس فلى يس ريون وراء متث ال للقت ال يف ال وقت ال ذي يط وف فيه امللك‬
‫ورعاياه حول جدران ممفيس مع قطعان من األبقار واحلمري " (‪. )1‬‬
‫وكل هذه الطقوس املمارسة ما هي إال جتسيد لقدرة اإلله أوزيريس على إتيان الطبيعة‬
‫باخلصب‪ ,‬وما اختفاءه فرتة إال جذب بعد وفرة ال تلبث كثريا فتظهر من جديد‪ .‬وقد وجد‬
‫ما جيسد كل ه ذا وذاك يف مق ربة اإلله أوزي ريس‪ ,‬حيث " ويف معبد إي زيس ال ذي يع ود إىل‬
‫عهد البطاملة يف جزيرة فيله‪ ,‬رمز إىل هذه الظاهرة بسيقان قمح خارجة من مومياء اإلله امليت‬
‫يرويها ك اهن جبرة ذات ع روتني‪ .‬وعلى مقدمة الت ابوت يرمز الص ليب ذو الع روة إىل احلي اة‪,‬‬
‫بينما ت ذكرنا الكتاب ة‪ ,‬وتعظن ا‪" :‬انظ روا إىل ش كل ذلك ال ذي ال نق وى على ذكر امسه‪,‬‬
‫أوزي ريس األس رار املنبثق من املي اه الص اعدة "‪ .‬ويف قب ور األس رة ‪ 18‬ك انت متاثيل ص غرية‬

‫‪ -‬إي‪.‬أو ‪ .‬جيمس‪ " ,‬األساطري والطقوس يف الشرق األدىن القدمي –الدراما الشعائرية‪ :‬أعياد اخلصب‪ /‬اآلهلة‬
‫‪1‬‬

‫وامللوك‪ 46 ,‬كتابات معاصرة ( فنون وعلوم ) جملة اإلبداع والعلوم اإلنسانية‪ ,‬شباط‪ ,‬آذار ‪ ,2002‬ص‪.60 :‬‬

‫‪8‬‬
‫ألوزي ريس مص نوعة من الطني وب ذور القمح توضع ف وق ث ابوت‪ ,‬ويس تمر إدواؤها باملاء‬
‫أسبوعا حىت تنتشي البذور‪ ,‬فتعيد احلياة إىل امليت" (‪. )1‬‬
‫كل هذه األساطري املتعلقة باخلصب‪ ,‬واليت تتفرع إىل أساطري أخرى كأساطري الزراعة‬
‫–مثال‪ -‬حتمل يف مض موهنا ص راع اخلري والش ر‪ " ,‬ففي مصر القدمية –وك انت مصر ومل ت زل‬
‫هبة النيل‪ -‬جند ( أوزيريس ) ( ‪ ) osiris‬إهلا للنيل واخلري واخلضرة والنماء‪ ,‬بينما كان ( ست‬
‫‪ )Seth‬إله القف ار والص حراء‪ ,‬وك ان أيضا زعيم األش رار‪ ,‬حياول دائما إحب اط أعم ال أخيه‬
‫النافعة اخلرية " (‪. )2‬‬
‫وهذه األسطورة ومثيالهتا تعود يف جذورها إىل أسطورة األصول؛ حيث كان األصل‬
‫هو املاء‪ ,‬أو الغمر املائي –كما رأينا يف الفصل األول من الدراس ة‪ -‬حيث " فك رة والدة‬
‫الك ون ب الغمر املائي تتك رر يف األس اطري الس ومرية بتعبري الق وة " منو " ويف األس اطري البابلية‬
‫الفك رة –ذاهتا ولكنهم يس موهنا املي اه " تعامة " ويف األس اطري الس ورية جند " مي " تعب ريا عن‬
‫املي اه األوىل‪..‬ويف األس طورة املص رية جندهم يع ربون عن املي اه األوىل ب القوة " رع "‪...‬ويف‬
‫األس اطري اإلغريقية جند اإلله " أوقي انوس " يأخذ دور املي اه األوىل‪ ,‬ومنه نشأ الك ون‪ ,‬ويف‬
‫التوراة أيضا جند فكرة املياه األوىل والرب فوقها‪.)3( "...‬‬
‫ففكرة والدة الكون بالغمر املائي هي نواة أساطري التكوين‪ ,‬وكان املاء رمز اخلصب‬
‫والنم اء هو أصل الك ون والتك وين‪ ,‬ومنه خلقت البش رية واألك وان‪ ,‬ومتتد أس طورة التك وين‬
‫هذه لتتفجر منها أساطري اخلصب كينابيع تروي الكون ومتده باحلياة والنماء‪.‬‬
‫وجند األمر نفسه يف حض ارة الراف دين القدمية "‪...‬اليت حتكي أن ( تيامة ‪) Tiamat‬‬
‫رمز الق وى العمي اء الش ريرة يف الوج ود ك انت هي البحر األول املظلم يف الوج ود‪ -‬ومل ي زل‬
‫امسها على الس هل احلج ازي هتامة –حىت ج اء الن ور ممثال يف ( م ردوك ‪ ) Marduck‬ف رغ‬
‫لتنظيم الس ماوات واألرض‪ ,‬بعد أن باركها لتك ثر خرياهتا‪ .‬واألمر ذاته جنده يف كنع ان‬

‫‪ -‬املرجع نفسه‪.60/61 ,‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬سيد القمين ‪ ،‬األسطورة والرتاث ‪ ،‬ص ‪. 33‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬مجعية التجديد الثقافية االجتماعية ؛ " األسطورة توثيق حضاري " ‪ ،‬ص ‪. 98‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪9‬‬
‫( فلسطني واألردن وسوريا ولبنان ) أن األصل كان غمرا مظلما مسيطرا هو ( مي )‪ ,‬يفرض‬
‫الس كون والفوضى على الوج ود؛ حىت ظهر اإلله ( بعل ) فقضى على ( مي ) من أجل تث بيت‬
‫النظ ام واخلري يف األرض‪ ,‬لكن أتب اع (مي) ق اموا حياربون املوت والس كون لس يادة ال دنيا‪,‬‬
‫فتصدى هلم البعل مرة أخرى‪ ,‬لكن ليدخل مع ( موت ) هذه املرة يف صراع أبدي‪ ,‬ويتناوبان‬
‫اهلزمية‪ ,‬والنصر‪ ,‬فمرة ترجح كفة ( بعل ) فيكسب اجلولة‪ ,‬فتسود الدنيا اخلريات مناء وخصبا‪,‬‬
‫ومرة ترجح كفة موت فيغشى األرض سكون املوت وفوضى اجلفاف " (‪. )1‬‬
‫ويف انتص ار إله اخلصب دالالت عدي دة‪ ,‬تتمثل يف انتص ار اخلري على الش ر‪ ,‬واخلصب‬
‫على العقم‪ ,‬والنظام على الفوضى‪ ,‬واحلب على الكراهية‪.‬‬
‫وقد ق دم اإلنس ان الق رابني تزلفا لآلهلة‪ ,‬كي ترضى عليه وتغ دق عليه اخلريات‪ ,‬فق دم‬
‫أغلى وأنفس ما ميتلك ه‪ ,‬ووصل به احلد أحيانا إىل أعز من ميل ك‪ ,‬فل ذة كب ده فق د‪ " :‬أخلص‬
‫اإلنس ان يف تعب ده فلم يبخل بالعط اء‪ ,‬فك ان ال يت ذوق مثار حماص يله قبل أن يق دم آلهلته أول‬
‫قطوفها‪ ,‬وال ينتفع حبيوانه قبل أن يقرتب بأبكار نسله من أربابه‪ ,‬وتفاىن يف إخالصه إىل املدى‬
‫ال ذي امت دت فيه ي داه باملدي إىل أعن اق فل ذات األكب اد‪ ,‬يس يل دم اء أطفاله على م ذابح‬
‫اآلهلة"(‪.)2‬‬
‫وال خيفى عنا القرب ان ال ذي قدمه ابين آدم قابيل وهابيل فتقبل اهلل من أح دمها ومل‬
‫يتقبله من اآلخ ر‪ ,‬فك انت أول جرمية على وجه البس يطة ب أن قتل قابيل أخ اه هابيل ( والقصة‬
‫مذكورة بالتفصيل يف العهد القدمي ‪) 8...5-4-3 :4‬‬
‫واملالحظ أن تق دمي الق رابني نباتية ك انت أم حيوانية أو حىت بش رية يف أحي ان أخ رى‪,‬‬
‫هو ممارسة ان درجت حتت ل واء أس طورة اخلصب كما رأينا وأيضا تش رتك فيها أس اطري أخ ر‪,‬‬
‫كأس طورة اخلل ود –على س يبل املث ال‪ -‬واليت سنتوسع يف احلديث عنها الحق ا‪ ,‬وكيف يرتبط‬
‫طقس تقدمي القربان هبا‪.‬‬

‫‪ -‬سيد القمين ‪ ،‬األسطورة والرتاث ‪ ،‬ص ‪. 33‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬املرجع السابق ‪( ،‬األسطورة والرتاث) ‪ ،‬ص ‪. 77‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪10‬‬
‫وقد ارتبطت األس طورة منذ الق دمي ب الطقس‪ ,‬فك ان هو الفعل وهي له باملقابل الق ول‬
‫احملكي‪ ,‬فقد جاء يف مقال ملريسيا إلياد على لسان املفكرة الكالسيكية جني هاريسون (‪Jane‬‬
‫‪ )Harrison‬ما يلي‪ " :‬وقد ك انت جني هاريس ون ( ‪ Harrison (Jane‬أك ثر املفك رين‬
‫الكالس يكيني وض وحا‪ ,‬وقد ق الت إن األس طورة ‪ Mythos‬بالنس بة للق دماء اليون ان‪ ,‬ك انت‬
‫"شيئا حمكيا‪ ,‬ينطق به اللسان " ويقابلها " الشيء الذي يفعل‪ ergon ,‬أو العمل " " (‪. )1‬‬
‫طبعا ال تقصد هاريس ون هنا أن األس طورة كالم حمكي وفقط ب ل‪ ,‬هي تركز على‬
‫قديسة ومجاعية احملكي األس طوري لقد " أص ابت جني هاريس ون حني أش ارت إىل القيمة‬
‫الدينية لألس طورة‪ .‬فاحلقيقة أن األس طورة ليست كالما حمكيا فحس ب‪ ,‬بل إهنا ع ادة إلق اء‬
‫مجاعي – أو على األقل إق رار مجاعي‪ -‬وعن دما ترتبط ب الطقس تص بح األس طورة رواية‬
‫مشحونة بالعزم والقوة " (‪.)2‬‬
‫والطقس ال يقل قيمة عن األس طورة‪ ,‬حيث يعيننا يف فهم ثقافة الش عوب اليت متارس ه‪,‬‬
‫وجتعلها أك ثر ص لة مبعتق دها األس طوري‪ ,‬حني تك ون معه يف اتص ال دائم باملمارسة الفعلية‬
‫واجلادة‪ ,‬حىت أبعد احلدود اليت نتخيلها؛ ألنه يف بعض األحيان يقدم ضمن الطقوس بشرا من‬
‫خرية تلك اجملتمعات‪.‬‬
‫وقد أكد ع امل الت اريخ الط بيعي لألجن اس‪.‬أ‪.‬م‪ .‬هو ك ارت أنه ال وج ود لألس طورة‬
‫خ ارج الطقس‪ .‬حيث ج اء عن مريس يا إلي اد قوله – أي هوك ارت‪ " -‬إذا أخ ذنا يف اعتبارنا‬
‫األس طورة احلي ة‪ ,‬أي األس طورة اليت يوجد من ي ؤمن هبا‪ ,‬لوج دنا أنه ال وج ود هلا خ ارج‬
‫الطقس " (‪. )3‬‬

‫‪ -‬مرسيا إلياد ‪ " ،‬األسطورة يف القرنني التاسع عشر والعشرين " ‪ ،‬عربه عدنان فرحة ‪ ،‬عن ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪Jane Harrisson, themis, cambridge, 1912, p. 328.‬‬


‫جملة الفكر العريب (جملة اإلمناء العريب للعلوم اإلنسانية) ‪ ،‬متوز‪ -‬أيلول (يوليو‪-‬سبتمرب) ‪ ،‬العدد ‪ ، 73‬السنة ‪14‬‬
‫(‪ ، )3‬بريوت لبنان ‪ ،‬اهليئة القومية للبحث العلمي ‪ ،‬طرابلس ليبيا ‪ ،‬ص ‪. 45‬‬
‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪ ، 45‬نقال عن ‪Op.cit., p.330 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪ ، 46‬نقال عن ‪Hocart(1933), p.223 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪11‬‬
‫وحني ك ان الطقس واألس طورة وجهني لعملة واح دة‪ ,‬فقد ك ان القرب ان والتطهري‬
‫شقني لوجه واحد من هذه العملة‪ .‬واليت متثل ثقافة الشعوب اليت تكون فيها األسطورة حية‪.‬‬
‫( أي حمل اعتقاد وقداسة )‪ .‬حيث " إن معظم الطقوس اجلماعية عندهم القرابني‪ ,‬بينما أعظم‬
‫الطق وس الفردية أو اخلاصة هي التطهري " (‪ .)1‬وبالت ايل فالقرب ان طقس مجاعي على ال رغم من‬
‫أنه يقدم يف بعض األحيان فرديا‪ ,‬ولكن الشائع أنه من تقدمي اجلماعة بعد اختياره بامتياز‪ ,‬أما‬
‫التطهري فيخص مكنون ات النفس الفردية من حقد أو غل أو خطيئة فيس ارع الف رد إزاءها إىل‬
‫تطهري نفسه الداخلية بطق وس خاصة ميكن أن تك ون مجاعية يف املعتقد لكنها فردية املمارس ة‪.‬‬
‫ومثال ذلك طقوس التطهري باملاء عند اهلندي " أما طقوس التطهري باملاء‪ ,‬فقد كانت تستغرق‬
‫من اهلن دي س اعات يف الي وم‪ ,‬ألن خماوفه من النجاسة ال تك اد حتص ى‪ .‬ومن الطق وس الغريبة‬
‫لديهم‪ ,‬أن يفرض عقاب على من ينتهك قوانني الطبقات‪ ,‬بشرب مزيج فيه مخسة عناصر من‬
‫البقرة املقدسة هي‪ :‬اللنب واخلثارة والسمن والبول والروث " (‪.)2‬‬
‫ه ذا‪ ,‬والفولكل ور الع ريب ال خيلو –أيضا – من مظ اهر تق دمي الق رابني‪ ,‬والتطهري‬
‫كذلك‪ ,‬وقصة الذبيح إمساعيل عليه السالم وفداءه بكبش من لدن تعاىل‪ ,‬معروفة وسأذكرها‬
‫يف موضع آخر‪ ,‬وكذلك أبو سيدنا حممد (ص) ( عبد اهلل بن عبد املطلب) الذي كان سيقدم‬
‫قربانا لآلهلة‪ ,‬وف اء لن ذر أبي ه‪ ,‬لكنه أفت دي مباءة من اإلب ل‪ .‬وهلذا يس مى الرس ول (ص) ابن‬
‫الذبيحني‪ ,‬أو ابن املفديني وكالمها صحيح‪ ,‬وسأذكر احلادثة الثانية الحقا كذلك‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وقد س رد لنا والدي يف م رات عديدة‪ ,‬حادثة غريبة يف تق دمي القربان لنهر النيل‬
‫تفاجأ هبا جيش املس لمني‪ ,‬حني أتوا فاحتني لبالد مص ر‪ ,‬بعد أن غزاها الرومان؛ حيث رأوهم‬
‫يهم ون بتق دمي ع روس للني ل‪ ,‬بعد أن زينوها وق دموها يف أحسن ص ورة‪ ,‬فأرس لوا برس الة إىل‬
‫أمري املؤم نني عمر بن اخلط اب رضي اهلل عن ه‪ ,‬خيربون ه‪ ,‬وكتب هلم كتابا أمر بإلقائه يف هنر‬

‫‪ -‬حممود شعبان ‪" ،‬يف ميثولوجيا شعوب الشرق األقصى" ‪ ،‬جملة الفكر العريب (جملة اإلمناء العريب للعلوم‬ ‫‪1‬‬

‫اإلنسانية) ‪ ،‬متوز‪ -‬أيلول (يوليو‪-‬سبتمرب) ‪ ،‬العدد ‪ ، 73‬السنة ‪ ، )3( 14‬بريوت لبنان ‪ ،‬اهليئة القومية للبحث‬
‫العلمي ‪ ،‬طرابلس ليبيا ‪ ،‬ص ‪. 24‬‬
‫‪ -‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪ .‬ن ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪12‬‬
‫الني ل‪ ,‬حمت واه " بسم اهلل ال رمحن ال رحيم من عمر إىل الني ل‪ ,‬يا نيل إن كنت جتري ب أمر اهلل‬
‫ف اجري‪ ,‬وإن كنت جتري بغري أمر اهلل فال حاجة لنا بك " مث ق ال ألقوها يف الني ل‪ ,‬وف اض‬
‫النيل بأمر اهلل وجنت الفتاة وأبطل اإلسالم ذلك املعتقد اليت ساد زمانا يف تلك البالد‪.‬‬
‫وما حكاية الوالد لنا هذه الطقوس‪ ,‬ومساعنا هلا منذ صغرنا إال داللة واضحة ألمرين‪.‬‬
‫أوهلم ا‪ :‬أن ه ذه الطق وس ظلت متارس زمنا ط ويال حىت بعد جميء اإلس الم –طبع ا‪ -‬يف البالد‬
‫اليت مل يصلها بعد‪.‬‬
‫وثانيهما‪ :‬أن اإلسالم عمل جاهدا على طمس معامل هذه الطقوس اليت ال متت بصلة‬
‫للدين وإىل وحدانية اهلل تعاىل‪ ,‬ألهنا يف األساس تقدم إلله آخر غريه‪.‬‬
‫وطبعا –علينا اإلقرار‪ -‬رغم كل هذا‪ -‬أهنا ممارسات ال تزال حية إىل يومنا هذا‪ ,‬عند‬
‫بعض الش عوب اليت ال ت زال األس طورة حية عن دهم‪ ,‬وهي الش عوب النائي ة‪ ,‬وك ذلك علينا‬
‫اإلقرار أن هذه الطقوس ال تزال متارس حىت يف جمتمعنا اإلسالمي‪ ,‬لكن ليست حبجم الفظاعة‬
‫اليت رأيناها‪ ,‬إمنا تتمثل يف ممارسات أقل وقعا‪ ,‬فقد كنا يف صغرنا نرمي السن اليت نقتلعها إىل‬
‫الشمس ونقول مجلة ال أزال أذكرها إىل اليوم‪ " :‬يا مشيسة بنت عويشة أعطيتك سنني الداب‬
‫وأعطيين سنني الذهب‪ ...‬أعطيتك سنني القطة‪...‬وأعطيين سنني الفضة‪ "...‬أليس هذا مظهرا‬
‫من مظاهر تقدمي قربان بشري ( السن جزء من اجلسم البشري ) وتقدميها إىل إله واهب مانح‬
‫( الش مس) م ادام يف اعتقادنا أهنا هي من س تهبنا ومتنحنا س نا من ذهب أو فضة وه ذا –جماز‬
‫طبعا‪ -‬على أهنا سن ناصعة البياض وسليمة‪.‬‬
‫‪ - 1‬تجلي‪,,‬ات أس‪,,‬طورة الخصب في رواية " الب‪,,‬ئر " من خالل العنصر األس‪,,‬طوري " الب‪,,‬ئر‬
‫"‪:‬‬
‫تتجلى أس طورة اخلصب من خالل رموز أس طورية عدي دة‪ ,‬أمهها " البئر " الذي يع ّد‬
‫رم زا أس طوريا حيمل من اإلحياءات األس طورية ما يش ّع على كافة النص ال ذي يوظف ه؛ حيث‬
‫يعترب " الب ئر "مص در للم اء‪ ,‬ق ّدس منذ الق دمي وتع دى تقديسه حىت األرض احمليطة ب ه‪ ,‬فح ّرم‬
‫صيد حيوان أو طري جبواره‪ ,‬ويرجع هذا التقديس ملا حيويه من ماء‪ ,‬الذي هو رمز احلياة‪ ,‬أو‬
‫م انح احلي اة‪ .‬ليس لإلنس ان فحسب بل للكائن ات وللك ون ( من حيوان ات وطري ونب ات‬

‫‪13‬‬
‫وأرض‪ )..‬واكتسبت اآلبار عند الغرب القدامى أمهية قصوى‪ ,‬حيث " كانت لآلبار‪ ,‬يف بالد‬
‫العرب املمحلة‪ ,‬أمهية ترقى إىل مستوى العبادة‪ ,‬يف زمن اجلاهلية‪ .‬وهي ما بني مشاع‪ ,‬وملك‬
‫رب‬
‫هلا أص حاهبا وأرب اب أو آهلة حتميه ا‪ .‬ومن هنا ج اءت كلمة ( احلمى )‪ ...‬والب ئر اليت ال ّ‬
‫هلا يك ون اإلهلة رهبا وحاميه ا‪ ,‬وهي ما يس موهنا ب أرض بع ل‪ ,‬وك انت ح دود احلمى مخسني‬
‫ذراعا ح ول الب ئر‪ .‬وهن اك ك ان يق ام هيكل الص نم‪ .‬وفيما بعد ق ال الن اس يف ح دوده‪ ,‬وال‬
‫(‪) 1‬‬
‫يقنص الصياد احليوان وال الطري يف هذه األرض املقدسة "‬
‫وتتجلى أس طورة اخلصب من خالل الرمز األس طوري " الب ئر "‪ ,‬وال ذي ج اءت الرواية‬
‫بعنوانه‪ ,‬والعنوان تقنية جتلي هنا‪ ,‬وبالتايل فالتجلي جاء تاما‪ .‬والعنوان مبثابة املصباح الذي ميد‬
‫إشعاعاته على قضاء النص لتتبني تفاصيله كاملة‪ .‬حيث أحالتنا هذه التقنية (العنوان) مباشرة‬
‫إىل أس طورة اخلص ب‪ ,‬ف البئر‪ ,‬هو املك ان املق دس‪ ,‬ال ذي حيوي سر احلي اة‪ ,‬وهو املاء‪ ,‬وهو‬
‫اخلصب‪ .‬فيحيلنا هذا العنوان على منت حكائي يومض من حني آلخر عن الرسول اهلل (صلى‬
‫اهلل عليه وسلم)‪ " :‬ال محى إال هلل ورسوله "‪ .‬وكان من مزايا هذا احلمى أن ال يظلم جزئيات‬
‫هذه األسطورة اليت مارست سيطرهتا على معتقدات العرب منذ القدمي‪ .‬وال يزال املاء جوهر‬
‫احلي اة‪ ,‬ونبض ها‪ ,‬وال ي زال التطهر باملاء يف يومياتنا ش عرية منارس ها عند كل ص الة‪ ,‬وبعد كل‬
‫جنابة‪ .‬واكتسب البئر قداسة منذ القدمي – كما رأينا – ملا أحيط باملاء من قداسة منذ القدمي‪,‬‬
‫وقد أس تخدم يف الطق وس والعب ادات؛ حيث‪ " :‬ق ّدس اإلنس ان املاء أصل احلي اة‪ ,‬وللحاجة‬
‫الض رورية اليومية ل ه‪ .‬فك ان ي راق حتت أق دام اآلهلة‪ ...‬واس تعمل املاء ألغ راض دينية‬
‫وسحرية"(‪ )2‬هذا‪ ,‬ويتجلى العنصر األسطوري " البئر " كذلك من خالل تقنية ( التناص ) مع‬
‫تام ا‪ ,‬حيث أكدت قصة األهايل‬ ‫أسطورة ذكرها الكوين على لسان األهايل ‪ ,‬ليكون التجلي ّ‬
‫أن البئر يع ّد فعال مركز الصحراء الكربى‪ ,‬بل مركز احلياة ( بئر أطالنطس )‪ " :‬وحتت اجلبل‬
‫على مس افة مائة خط وة جتمعت ال بيوت‪ .‬يقع ب ئر أطالنطس العريق ال ذي ال يع رف له أحد‬

‫‪ -‬علي الشوك‪ ,‬اهتمامات ميثولوجية‪ ,‬واستطرادات لغوية " القسم الثالث " – دراسات‪ :‬جملة الكرمل‪ ,‬العدد‬
‫‪1‬‬

‫‪ ,26‬سنة ‪ ,1987‬ص‪.19 :‬‬


‫‪ -‬على الشوك‪ ,‬اهتمامات ميثولوجية واستطرادات لغوية‪ ,‬جملة الكرمل‪ ,‬عدد ‪ ,26‬ص‪.20 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪14‬‬
‫تارخييا‪ .‬وعلى بعد أربعمائة خطوة أخرى تقوم املقربة اجلديدة‪ ...‬أما البئر احملاط باألحياء من‬
‫ج انب واألم وات من اجلانب اآلخر فقد ب نيت جدرانه بص خور هائلة ال يع رف أحد كيف‬
‫األول ون من زحزحته ا ودحرجتها من اجلبل وب أي أدوات متكن وا بواس طتها من ص قلها‬ ‫متكن ّ‬
‫وحنتها هبذا الشكل الرتبيعي املصقول الرائع‪ .‬ويؤكد سكان الصحراء أن حفر البئر كان بداية‬
‫احلي اة أن حفر الب ئر ك ان بداية احلي اة يف الص حراء الك ربى كله ا‪ ,‬وموقعه اختري حبيث يك ون‬
‫مركز الص حراء الك ربى‪ ,‬بل وتؤكد بعض األس اطري أنه مركز ال دنيا وأصل الك ون ومص در‬
‫احلياة يف الزمان القدمي‪ ,‬ولواله ال ندثر الناس واحليوانات يف الصحراء منذ قرون‪ .‬ونتحدث‬
‫أساطري أخرى عن مزاجه الغامض الغريب فنقول أنه يفيض أحيانا ونتدفق مياهه صانعة أهنارا‬
‫وأودية طافحة باملاء تغمر ص حارى الرم ال العطش ى‪ ,‬وتتض اءل مياهه حىت تنضب متاما أحيانا‬
‫أخ رى‪ ,‬وال أحد ي ذكر مىت ح دث ذل ك‪ ,‬ولكن العج ائز تؤكد أن جفافه حيدث عرب أجي ال‬
‫وأجي ال‪ .‬وتؤكد أس اطري أخ رى أنه ينضب كل ثالثة ق رون ويس تمر على ه ذا احلال أعواما‬
‫كاملة مما يض طر س كان الص حراء اهلج رة إىل كل اجله ات هربا من العطش وخوفا من‬
‫(‪) 1‬‬
‫االنقراض‪" .‬‬
‫وحني ك ان التجلي ص رحيا من خالل التن اص مع أس طورة طارقي ة‪ ,‬ك انت بالت ايل‬
‫املطاوعة متقلص ة‪ ,‬عن طريق حالة ( التماثل والتش ابه )‪ .‬ف البئر مص در احلي اة‪ ,‬ول واله ال ن دثر‬
‫الن اس واحليوان ات وال زرع منذ الق دمي‪ ,‬وه ذا التش ابه والتماثل ليس فقط مع األس طورة‬
‫الطارقية‪ ,‬بل أيضا مع أساطري اخلصب العاملية؛ حيث يعترب إله اخلصب‪ ,‬واملتمثل يف املطر‪ ,‬أو‬
‫النه ر‪ ,‬أو يف الب ئر هو خملّص الن اس واحليوان ات والنب ات من املوت احملت وم‪ ,‬وهو م انح للحي اة‬
‫للك ون‪ ,‬وهلذا ق ّدس من ط رف البش ر‪ ,‬وك ان الب ئر إذن هو مركز ال دنيا‪ " :‬وتؤكد بعض‬
‫األساطري أنه مركز الدنيا وأصل الكون ومصدر احلياة يف الزمان القدمي‪ ,‬ولواله ال ندثر الناس‬
‫(‪) 2‬‬
‫واحليوانات يف الصحراء منذ قرون "‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية البئر‪ ,‬ص ‪ 45‬و‪.46‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.46 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪15‬‬
‫مطاوعة العنصر األسطوري ( البئر ) في رواية البئر‪:‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وحني ك ان التجلي تام ا‪ ,‬ج اءت املطاوعة متقلّصة ذلك أهنا تتناسب عكسا مع‬
‫التّجلّي‪ .‬فقد ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " الب ئر "‪ ,‬متقلّصة من خالل حالة ( التماثل‬
‫والتش ابه )‪ ,‬حيث أن الب ئر يف الواحة هي " املركز "‪ ,‬فهي حمور القبيل ة‪ ,‬وس بب عيش ها‬
‫وبقاءه ا‪ .‬وعن دها يلتقي األحبة للس مر‪ ,‬وعن دها ك ذلك جيلس املهم وم‪ ,‬والعاش ق‪ ,‬والي ائس‪,‬‬
‫الراحة األبدية‪ .‬فال جيد خملّصا لعذابه سواها!‬
‫وعندها أيضا‪ ,‬ينتحر من يبحث عن ّ‬
‫الرواي ة‪ ,‬أن " الب ئر " هي مركز لق اء كل من ختاجله نفسه أفك ارا‬ ‫نص ّ‬
‫فقد ج اء يف ّ‬
‫مجيلة أم ش يطانيّة‪ ,‬فها هو " آيس "‪ّ ,‬أول ما يفعله حني يس تفيق من نوم ه‪ ,‬ه ذا العاشق‬
‫يتوجه صوب البئر‪ ,‬ينتعش من ماءها‪ ,‬قبل أن يصعد اجلبل ويهيم حببيبته‪ ..." .‬هكذا‬ ‫الوهلان‪ّ ,‬‬
‫ف ّكر آيس وهو حيوم حول البئر ويالمس بيديه الصغريتني أحجار جدرانه الكبرية امللساء‪ .‬ألقى‬
‫بال ّدلو فسمعه يثري ضجيجا يف املاء‪ ,‬شرب من الدلو مباشرة مث غسل أطرافه ودلق الباقي فوق‬
‫رأسه واجّت ه إىل اجلبل"(‪.)1‬‬
‫الس ياق أيض ا‪ ..." :‬ح دث وأن س أل أحد أبن اء اجلريان ومها يلعب ان‬ ‫وج اء يف نفس ّ‬
‫جبوار البئر‪ " :‬ماذا تشعر عندما تنام جبوار ّأمك؟‪.)2( " ...‬‬
‫ك ذلك‪ ,‬حني ق ّرر ( أمغ ار ) وأخ اه ( أخن وخن ) االنتح ار‪ ,‬إن رفض تهما ( زارا )‪,‬‬
‫نص الرواية‪ – " :‬هل تعلمني؟ قبل أن أذهب‬ ‫كان القرار هو االنتحار يف البئر‪ ,‬حيث جاء يف ّ‬
‫إىل ح رب غ ات كنت قد اتفقت مع أمغ ار على ح ّل حاس م‪ :‬إذ مل ختت اري أح دنا فسنذهب‬
‫معا إىل البئر‪ .‬صمت حلظة مثّ أضاف يهمس‪ - :‬تدركني ما أعين‪ .‬لقد ّقررنا أن نقفز معا"(‪.)3‬‬
‫الرواي ة‪ " :‬بعد العش اء هنض‬ ‫وك ان لقاءمها دوما عند الب ئر‪ ,‬حيث ج اء يف نص ّ‬
‫(أخن وخن) وق ال ألمغ ار‪ - :‬أريد أن أحت ّدث إليك على انف راد‪ .‬س نلتقي عند الب ئر‪ ...‬تق ابال‬
‫جبوار الب ئر فق ال ألخنوخن على الف ور‪ - :‬إنين أختلّى عن لك عن زارا إىل األب د‪ .. ! ‬لقد‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر " ص ‪.72 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر " ص‪.73 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين ‪ ،‬رواية البئر ‪ ،‬ص ‪. 184‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪16‬‬
‫اتفقت مع باتا على ال زواج‪ ...‬ألقى به ناحية الب ئر‪ ...‬هل أخربهتا ب ذلك‪ ...‬ألقى أخنوخن‬
‫(‪) 1‬‬
‫حبجر آخر حنو البئر قبل أن جييب‪" ...‬‬
‫ك ذلك ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري "الب ئر" متقلّصة من خالل حالة ( التماثل‬
‫والتش ابه)‪ ,‬حيث احنصر مس توى املاء يف الب ئر‪ ,‬وقد ارتبط ذلك باخلطيئة اليت اقرتفتها ( باتا )‬
‫الرواي ة‪..." :‬‬
‫يف ح ّق ابنتها إذ ق ّررت ال زواج حببيب ابنته ا‪ ( ,‬أخنوخن ) حيث ج اء يف نص ّ‬
‫أق ول ما تس مع‪ ,‬وأعين ما أق ول‪ .‬لقد اتفقت مع باتا على ال زواج‪ ,‬إنين أختلّى لك عن زارا‬
‫طائع ا‪ ...‬ج اء آيس إىل غوما راكض ا‪ .‬ق ال من بني أنفاسه املتالحقة املتقطّع ة‪ - :‬يقول ون أن‬
‫مستوى املاء قد اخنفض يف البئر‪ .‬الرجال هناك يطلبون مشورتك! انتفض الشيخ ومههم وهو‬
‫يقفز واقف ا‪ - :‬مس تحيل! جيب توقع ارتف اع املاء مع اق رتاب فصل الش تاء‪ ! ‬ص اح غوما دون‬
‫أصح‪ ...‬قال غوما وهو يلقي بطرف‬ ‫أن خيفي قلقه‪ - :‬هذا غري معقول‪ .‬رمّب ا استنزفوه‪ .‬هذا ّ‬
‫احلبل يف البئر ويتشبث بالطّرف اآلخر‪ ...‬قال بصوت حاول أن يكون باردا‪ - :‬مستوى املاء‬
‫(‪) 2‬‬
‫أقل من قامة آيس بقليل‪ .‬بشرب ونصف‪"...‬‬ ‫ّ‬
‫ك ذلك ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري الب ئر‪ ,‬متقلّصة من خالل حالة ( التماثل‬
‫والتّش ابه )‪ ,‬حيث ح اء احنص ار مس توى املاء يف الب ئر مص احبا لظ اهرة اخلس وف‪ .‬كما يف‬
‫القصص األس طورية القدمية؛ حيث تنبّأ ( آيس ) جبف اف الب ئر ملدة ثالمثائ ة ع ام كما يف‬
‫نص الرواي ة‪ ..." :‬ولكن يف طريق الع ودة إىل ال بيت ق ال‬ ‫القصص األس طورية؛ حيث ج اء يف ّ‬
‫له (آيس)‪ - :‬ولكن أمل تقل يا أيب أن البئر ينضب كل ثالمثائة عام؟ حدجه غوما بنظرة قلق‪.‬‬
‫قال بعد حلظة تفكري‪ - :‬نعم‪ .‬ولكن هذا يف األسطورة‪ .‬هكذا تقول األسطورة‪ .‬صمت الطفل‬
‫مرات خسوف القمر‪.‬‬ ‫مثّ عاد يقول وهو يتشبّث بيد ج ّده‪ - :‬قلت أيضا أن ذلك يقاس بعدد ّ‬
‫متتم غوما بعد تردد‪ - :‬نعم‪ .‬أعتقد ذلك‪ .‬قال آيس بإحلاح‪ - :‬أتذكر اخلسوف األخري؟ رمبا‬

‫‪ -‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪. 196 – 195‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪ 195 :‬و‪ 197‬و‪.198‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪17‬‬
‫مر أربعون يوما على اخلسوف األخري‪.‬‬ ‫أكمل العدد الالزم فبدأت املياه ترتاجع يف بئرنا – لقد ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫ّتوقف غوما فجأة‪ .‬نظر إىل آيس كأنه ينظر يف الفراغ‪ .‬عاد ميشي دون أن يعلق بكلمة "‬
‫وت والت اللّعن ات‪ .‬والعق اب ك ان مرتبط دوما ب البئر؛ حيث ج اءت مطاوعة العنصر‬
‫األسطوري البئر متقلّصة من خالل حالة ( التماثل والتشابه )‪ ,‬فقد دارت حول البئر‪ ,‬قصص‬
‫كث رية منها قصص الف رح واالبته ال‪ ,‬ومنها قصص س رية خيتلي هبا أص حاهبا جبانب ه‪ ,‬ومنها‬
‫قصص متعلّقة باالنتحار فيه حيث انتحرت ( زارا ) ابنة ( باتا ) يف البئر ليلة تزوجيها‪ .‬بعد أن‬
‫وزوجتها بأخيه ( أمغار ) بعد شهر من ذلك‪ .‬حيث جاء‬ ‫ت زوجت أمها حببيبها ( أخنوخن )‪ّ ,‬‬
‫يف نص الرواي ة‪ " :‬اق رتح أخنوخن وهو يتّجه حنو الب ئر‪– .‬جيب أن نواصل البحث‪ .‬س نذهب‬
‫ناحية البئر‪ - .‬انتفض أمغار‪ - :‬ناحية البئر؟ وما عساها تفعل ناحية البئر؟‪ ...‬عثروا على اجلثّة‬
‫جتمع وا ح ول الب ئر يف مجه رة كب رية من النس اء والرج ال‪ .‬أقبلت باتا حنو‬ ‫طافية ف وق املاء‪ّ .‬‬
‫املسجى على األرض‪ .‬انكفأت فوقه صامتة زمنا‪ ,‬مث شرعت تلثم أطراف زارا‬ ‫اجلسد املنفوض ّ‬
‫الب اردة الواح دة تل وى األخ رى‪ ...‬اآلن فهمت كل ش يء‪ ...‬اآلن ب دأت أفهم كل ش يء‪...‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫خسارة‪ ...‬خسارة "‬
‫ك ذلك ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري " الب ئر " متقلّصة من خالل حالة ( التماثل‬
‫الرواي ة‪ " :‬وبعد‬‫نص ّ‬
‫والتش ابه )‪ ,‬إذ ك ان الب ئر ش اهدا على م وت أخنوخن‪ ,‬حيث ج اء يف ّ‬
‫ي ومني من مغادرهتا‪ ,‬ع ثر األه ايل على أخنوخن مس ندا ظه ره إىل الب ئر‪ ,‬حيدق يف الف راغ‪ .‬وقد‬
‫(‪) 3‬‬
‫غطّى البياض مقلتيه‪ .‬كان قد مات يف الليل "‬
‫ك ذلك ش هد الب ئر على حماولة انتح ار من ( آيس )‪ ,‬عن دما علم برحيل حبيبته (بات ا)‬
‫مبجرد‬
‫الرواية‪ّ " :‬أما آيس فقد حاول أن يلقي بنفسه يف البئر ّ‬ ‫نص ّ‬
‫دون رجعة‪ ,‬حيث جاء يف ّ‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.199 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.199 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.217 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪18‬‬
‫أن علم اخلرب‪ ,‬فاض طر الش يخ غوما أن يقيّد يديه ورجليه ويرتكه هك ذا ط وال ي ومني‬
‫كاملني"(‪.)1‬‬
‫متقلص ة عرب حالة (التماثل‬
‫ّ‬ ‫ك ذلك ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " الب ئر "‪,‬‬
‫والتش ابه)‪ ,‬حيث ارتبط جف اف الب ئر برحيل باتا اليت هي ( آهلة اخلصب واجلم ال ت انس ) يف‬
‫أس اطري اخلصب القدمية‪ ,‬حيث ال أمل يف ع ودة املي اه إىل الب ئر إالّ بعد ثالمثائة ع ام‪ ,‬ممّا اض طر‬
‫الرحيل إىل الواحة دون رجعة‪.‬‬
‫األهايل إىل ّ‬
‫الرواي ة‪ – " :‬إذن هي اهلج رة يا ش يخ غوم ا؟ ‪ ...‬مل يبقى لنا غري‬ ‫نص ّ‬
‫حيث ج اء يف ّ‬
‫ذل ك‪ .‬الرحيل إىل الواحة هو احلل الوحيد أمامن ا‪ ...‬ستض طر يا ش يخ خليل أن هتجرها إىل‬
‫األبد ش ئت أم أبيت اللّهم إذا كنت تطمع يف عمر ن وح فتنتظر حىت يع ود املاء لالرتف اع بعد‬
‫توض أ وتوجه إىل الب ئر قبل أن يش رب ك وب الش اي‬ ‫الرحي ل‪ّ ...‬‬ ‫ثالمثائة ع ام‪ ... ! ‬ج اء ي وم ّ‬
‫األخض ر‪ .‬دار ح ول الب ئر م ّرتني‪ ,‬وهو حياول أن يت بنّي عرب عتمة الفج ر‪ ,‬كل حجر مثبت يف‬
‫الصماء مث تناول حجرا وألقى به يف‬ ‫الصخري‪ .‬مأل عينيه من األحجار الكبرية املصقولة ّ‬ ‫سوره ّ‬
‫ظل يستمع حماوال أن يتبنّي ضجيج املاء عند سقوط احلجر‪ .‬مل يسمع شيئا كأن‬ ‫متاهة البئر‪ّ .‬‬
‫احلجر مل يس قط‪ ,‬ك أن الب ئر أص بح بال ق اع‪ .‬الب ئر أص بح بال م اء‪ .‬احنىن ف وق فوهة الب ئر فلم‬
‫(‪) 2‬‬
‫يبصر سوى الظالم احلالك‪ .‬ذهب حىت املقربة وقف يتمتم بالفاحتة على أرواح األموات "‬
‫فقد أفضى به جفاف البئر‪ ,‬وحتمية اهلجرة إىل زيارة األموات ألن جفاف البئر رمزيّة‬
‫املوت عينه‪.‬‬
‫‪ - 2‬تجلي ‪,,‬ات أس ‪,,‬طورة الخصب من خالل العنصر األس ‪,,‬طوري ( إلهة الخصب والجم ‪,,‬ال‬
‫"تانس")‬
‫تتجلى أسطورة اخلصب يف رواية " البئر " – كذلك – من خالل العنصر األسطوري‬
‫(إهلة اخلصب واجلم ال "ت انس")‪ .‬حيث جتلّى ه ذا العنصر من خالل تقنية (اخللفية‬
‫األسطورية)؛ إذ جلأ الكوين إىل اعتماد هذه اخللفية األسطورية بغية إنتاج جديد‪ ,‬حيث أفادت‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.217 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪ 119 :‬و‪ 220‬و‪.222‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪19‬‬
‫هذه التقنية يف إبراز شخصية " تانس " حمبوبة أهل الصحراء وجالبة اخلصب والضوء واحلب‬
‫هلم‪ .‬من خالل تبنّيه أس طورة إهلة اخلصب يف املعتق دات القدمية‪ ,‬وحىت يف معتقد س كان‬
‫الص حراء‪ ,‬فهي عش تار البابلي ة‪ ,‬وهي عش رتوت الفينيقي ة‪ ,‬وهي أف روديت اإلغريقي ة‪ ,‬وهي‬
‫فينوس الرومانية‪ ,‬وهي "تانس" عند الطوارق‪.‬‬
‫فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬رأى األمري وجهها الس احر يف ص فحة م اء الب ئر فأذهله‬
‫مجاهلا وصاح خياطب أتباعه وعبيده‪:‬‬
‫‪ -‬هذه احلسناء‪ .‬اليت يعكس وجهها املاء‪ ,‬ستكون زوجيت‪ ..‬حىت ولو كانت يف السماء‪ ,‬حىت‬
‫لو ك انت يف احللم‪ ..‬حىت لو ك انت ومها‪ .‬لقد ع زمت الع زم على أن تك ون زوجيت إىل‬
‫األبد"(‪ )1‬وجاء أيضا يف منت الرواية‪ " :‬كانت امرأة شريرة حاقدة ما لبثت أن كرهت تانس‬
‫(‪) 2‬‬
‫وحسدهتا على مجاهلا األسطورة "‬
‫وج اء أيضا يف نص الرواي ة‪ " :‬أنت مجيلة مثل ت انس‪ .‬مجالك ين افس القمر ووجهك‬
‫(‪) 3‬‬
‫يضيء الصحراء يف الليل‪" ! ‬‬
‫وج اء ك ذلك عن إهلة اخلصب واجلم ال ت انس‪ " :‬آه‪ ,‬تع رف ت انس ابنة القمر وملكة‬
‫(‪)4‬‬
‫الصحراء أيضا‪ .‬من أين تعرف تانس؟ ‪-‬أيب حدثين عنها يف حكاية البئر‪" .‬‬
‫قص ة " ت انس " هي قصة أس طورية‪,‬‬ ‫ك ذلك يأيت يف موضع آخر إق رار اجل ّد غوما ب أن ّ‬
‫نص الرواي ة‪ – " :‬ولكن أمل تقل يا أيب أ ّن الب ئر ينضب كل ثالمثائة ع ام ؟‬ ‫حيث ج اء يف ّ‬
‫حدجه غوما بنظرة قلق‪ .‬قال بعد نظرة تفكري‪ - :‬نعم‪ .‬ولكن هذا يف األسطورة‪ .‬هكذا تقول‬
‫(‪) 5‬‬
‫األسطورة "‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.50‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.51‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.65‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.65‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.199‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪20‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وحني كان التجلي تام ا‪ ,‬ك انت املطاوعة متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه )‪ ,‬إذ أن‬
‫(تانس) تتشابه يف مجاهلا وضيائها آهلة اخلصب واجلمال يف القصص األسطورية القدمية‪ ,‬حيث‬
‫ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬يا ت انس! اكش في عن وجهك وأض يئي لنا الليل البهيم‪ ,‬إننا نريد أن‬
‫حنلب النوق على ضوء وجهك الذي ينافس البدر‪ ! ‬فتزيح تانس اللحاف عن وجهها الساحر‬
‫(‪) 1‬‬
‫وتنري الصحراء جبماهلا "‬
‫كذلك‪ ,‬تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " )‪ ,‬متقلّصة‬
‫عرب حالة (التماثل والتش ابه)‪ ,‬حيث جندها حالبة للخصب والنم اء لألرض‪ ,‬حيث ج اء يف‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬عن دما ن زلت ت انس من ف وق النخلة مع أطالنطس وقبلت أن ت تزوج األمري‬
‫الذي قرر أن يستوطن تلك الواحة‪ ,‬فأمر أتباعه أن يغرسوا النخيل‪ ,‬ويشيّدوا البيوت‪ ,‬ويزرعوا‬
‫القمح والشعري " (‪.)2‬‬
‫نص بت تانس نفسها أمرية على‬ ‫وجاءت املطاوعة نفسها يف موضع آخر من الرواية‪ّ " :‬‬
‫لتجار القوافل الذين يغدون من مدن الشمال يف‬ ‫الواحة اليت بدأت تنمو وتكرب وتصبح مركزا ّ‬
‫حمملني باألقمشة وامللح والتوابل والدقيق ملقايضتها بالذهب وريش‬ ‫طريقهم إىل أدغال إفريقيا ّ‬
‫النّع ام وس ّن الفيل واألحج ار الكرمية وجل ود الزواحف الص غرية وك ربت حىت أص بح يطلق‬
‫عليها " جوهرة الصحراء الكربى " (‪.)3‬‬
‫وعم اخلري على أهله ا‪ .‬فك انت‬ ‫فك انت هبذا ت انس جالبة اخلصب واالخض رار للواحة ّ‬
‫مبثابة إهلة اخلصب واجلم ال‪ .‬وكما هو مع روف يف أس اطري إهلة اخلصب واجلم ال القدمية ف إن‬
‫ارتباط هذه اآلهلة بالقمر هو ضارب يف القدم‪ ,‬ويف نص الكوين جعلها سليلة القمر‪.‬‬
‫حيث ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‬
‫متقلص ة‪ ,‬عرب حالة (التماثل والتش ابه)‪ ,‬إذ ارتبط ارتباطا وثيقا ب القمر‪ ,‬بل هي س ليلته‪ ,‬حيث‬
‫املنجمني الق ادمني من بالد اهلند البعي دة أنه ق رأ ذلك يف‬
‫ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬وق ال أحد ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.52‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.51‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.54‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪21‬‬
‫ص فحة وجهها اجلميل الس احر املرتبط بأمجل ك وكب هو القم ر‪ ,‬برب اط خفي ال تعلمه إال‬
‫دب ويس طع ف وق‬ ‫النج وم‪ ,‬وتنبأ هلا ب أ ّن املي اه س وف تت دفق وتغمر ال دنيا طاملا بقي وجهها ي ّ‬
‫سطح األرض‪ .‬ولكن املياه سوف ختتفي باختفائها من الوجود " (‪.)1‬‬
‫وحني ارتبطت " ت انس " ب القمر‪ ,‬فإهنا تك ون دون من ازع إهلة اخلصب واجلم ال‪ ,‬ملا‬
‫للقمر من داللة أس طورية مرتبط هبذين املعن يني‪ .‬وبالت ايل تك ون " ت انس "‪ ,‬آهلة دون من ازع‪,‬‬
‫فهي ( ظ ّل اهلل يف األرض ) – على ح ّد تعبري الك وين – وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر‬
‫األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس ") متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه )‪ ,‬ألهنا‬
‫آهلة كإالنة أساطري اخلصب القدمية‪.‬‬
‫املنجم قائال أن النجوم أخربته أ ّن الصحراء قدر‬
‫فقد جاء يف نص الرواية‪ " :‬وأضاف ّ‬
‫اإلنس ان يف الوج ود‪ ،‬ومقاومته هي حت ّدي إلرادة اهلل‪ ,‬ألهنا ظلّه على األرض‪ ,‬وال يس مح‬
‫بتح ّدي إرادته إال ملن اصطفاه واختاره ونفخ فيه من روحه من دون الكائنات األخرى " (‪.)2‬‬
‫هذا‪ ,‬وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ممت ّدة‪ ,‬عرب‬
‫حالة (التش وهات واالختالف ات)؛ حيث ع وض أن تك ون ل " ت انس " حبيبا تعش قه‪ ,‬وحتميه‬
‫وتبكيه إن هو تأذى (كما كانت عشتار تعشق متوز ) فإن حبيب " تانس " هو أخوها‪ ,‬الذي‬
‫ق ّدمت له كل احلب والرعاي ة‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬مل أعد أق وى على املش ي‪.‬‬
‫الب ّد أن نس ّد رمقنا بش يء‪ .‬ليس أمامنا إال أن ن ذبح أخوتن ا‪ ! ‬وافقتها ت اال‪ ,‬ورفضت ت انس‪.‬‬
‫قالت‪- :‬أموت جوعا وال أذبح أطالنطس‪ .‬وعندما هجم الليل قبلته يف رأسه‪ ,‬واحتضنته بني‬
‫ذراعيها وحاولت أن تنام عندما مسعت حشرجة مكتومة‪ ...‬أسرعت تانس تلتصق ب أطالنطس‬
‫وحتيطه جبس دها كأهنا حتميه من الس كني ال رهيب ال ذي يلمع حتت ض وء القم ر‪ ...‬لن أذبح‬
‫أخي‪ – .‬وكيف س رتدين لنا القطع تني؟ ‪ -‬س وف ت رين‪ .‬تن اولت الس كني وقطعت قطعة حلم‬
‫هلن‪ ...‬وخاطبته تانس من فوق‬ ‫من فخذها اليمني وقطعة أخرى من فخذها اليسار وقد متهما ّ‬
‫النخلة الفارغة‪ - :‬لن تتزوج تانس حىت يكون ألخيها أطالنطس مجال أبيض ضامرا‪ ...‬وسيفا‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.55‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.55‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪22‬‬
‫من ذهب – لك ما أردت‪ ... ! ‬لن تتزوج تانس حىت يكون حلبيبها أطالنطس سرجا مطرزا‬
‫خبي وط ال ذهب والفض ة‪ -.‬لك ما أردت‪ – .‬لن ت تزوج ت انس حىت تضع حتت تص رف‬
‫أطالنطس مائة من العبيد وعشرة من األتباع‪ -.‬لك ما أردت‪ – .‬لن تتزوج تانس حىت تضع‬
‫حتت تص رف أطالنطس قافلة من الن وق واجلم ال والرع اة‪ – .‬لك ما أردت‪ – .‬لن ت تزوج‬
‫ت انس حىت تتأكد أن أطالنطس س يظل جبوارها ولن يفارقها أب دا ‪...‬لك ما أردت ‪ ..‬عن دها‬
‫ن زلت ت انس من ف وق النخلة مع أطالنطس وقبلت أن ت تزوج األمري ال ذي ق رر أن يس توطن‬
‫تلك الواحة ‪ ..‬وعاشت ت انس مع زوجها س عيدة يرافقها حبيبها أطالنطس يف رحالت‬
‫(‪) 1‬‬
‫الصيد‪"..‬‬
‫ه ذا‪ ,‬ويف موضع آخر ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري (إهلة اخلصب واجلم ال‬
‫"ت انس")‪ ,‬متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه )؛ من خالل تيمة ( الن واح )‪ ,‬الذي كث ريا ما‬
‫جنده يف أس اطري اخلصب القدمية‪ .‬وأمهها مناحة ( عش تار ) على حبيبها ( متوز )‪ ,‬حيث أنه يف‬
‫" اجملتمع ات الرعوي ة‪ ,‬حيث تف رض الث ريان س يطرهتا على القطي ع‪ ,‬واألكب اش على األغن ام‪,‬‬
‫مساوي ذكر يرمز له بالثور أو الكبش‪ .‬وساد االعتقاد بني عباده بأنه مستنزل‬
‫ّ‬ ‫راجت عبادة إله‬
‫املط ر‪ ..‬وك ان اإلله متوز ش بّه ب الثور أو اجلم ل‪ ,‬كمع ادل للخصب واخلريات‪ .‬ويتّضح ه ذا يف‬
‫مناحة عش تار علي ه‪ ,‬يف قوهلا‪ " :‬إلي ك‪ ,‬يا ث وري ال ربي ال ذي يف القف ر‪ ,‬ويا محلي ال ذي يف‬
‫(‪) 2‬‬
‫أتوجه بصاليت "‪".‬‬
‫القفر‪ّ ,‬‬
‫والش يء نفسه عن دما ت اه أطالنتس أخ " ت انس " يف الص حراء‪ ,‬ووجدته ميّتا من‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬وك ان أطالنتس قد أولع بالص يد حىت مل يعد يس تطيع‬ ‫العطش‪ ,‬حيث ج اء يف ّ‬
‫أن يبقى يوما واحدا يف الواحة وميكن هناك أمّي ا وأسابيع متت ّد حىت أشهر أحيانا‪ ..‬ويف إحدى‬
‫ال ّرحالت غ اب أطالنتس ما يزيد على ش هر‪ ..‬ان زعجت ت انس وانطلقت بنفس ها يف م وكب‬
‫الص حاري طوال وعرضا حىت وجدته حتت سدرة ضخمة ميّتا‬ ‫من العبيد واألتباع يبحثون يف ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين ‪ ،‬رواية البئر ‪ ،‬ص ‪. 51-47 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ -‬علي الشوك‪ ,‬اهتمامات ميثولوجية واستطرادات لغوية‪ -‬دراسات‪ ,‬القسم الرابع‪ ,‬الكرمل‪ ,‬العدد ‪/32‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ ,1989‬ص ‪ .14‬عن‪ ( :‬س‪,‬ه‪ .‬ديانة بابل وآشور‪ ,‬ص ‪ ,61‬ترمجة‪ :‬هناد خياط )‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫من العطش بعد أن ت اه يف حميط الرم ال العظيم‪ ..‬ح زنت ت انس وبكته أيّاما وأس ابيع‪ ,‬وعن دما‬
‫دفنته ركعت ف وق ق ربه على ركبتيها وفاضت آالمها وق الت يف بكائيتها الش هرية " أحببتك‬
‫هن‬
‫كما مل حتبك أمك اليت ول دتك‪ ,‬أطعمت ت اال أو أم اريس من حلمي حىت ال ينهش ّ‬
‫حلم ك‪ ! ..‬احتض نتك بني ذراعي عن دما كنت أش رف على املوت جوعا دون أن خيطر أن‬
‫تزوجت األمري بعد أن ن ّفذ شروط حصولك‬ ‫متس بأذى كما فعلت تاال وأماريس بأخويهن‪ّ ..‬‬ ‫ّ‬
‫على ما ش ئت من أدوات الفرس ان والنبالء‪ .‬وم ّزقت زوجته إىل نص فني ألهنا أرادت أن تن ّفذ‬
‫فيك حكم املوت‪ .‬وقطعت رأس األمري ألنه ألق اك لل ذئاب وأراد أن يفتك ب ك‪ .‬فعلت كل‬
‫ولكن الصحراء غلبتين‪,‬‬
‫ميس ك بسوء‪ّ ,‬‬ ‫سولت له نفسه أن ّ‬‫شيء من أجلك‪ ,‬وعاقبت كل من ّ‬
‫وانتزعتك ميّن ‪ .‬فتبّا لك أيّتها الص حراء الك ربى‪ ..‬ما أقس اك ! ولكن أقسم أنين س وف أنتقم‬
‫لك من الصحراء أيضا‪ .‬فاهنأ يف نومك األبدي‪ ,‬ألنه لن يهدأ يل بال حىت تغمر املياه رفاتك‬
‫(‪) 1‬‬
‫يف القرب‪ ..‬وقتها تستطيع أن تقول أ ّن تانس قد وفّت بوعدها "‪" .‬‬
‫ك ذلك‪ ,‬ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪ ,‬ممت دة‬
‫عرب حالة ( التغريات والتشوهات )؛ حيث كان ( متوز ) هو مستنزل املطر‪ ,‬ورمز للخصب‪,‬‬
‫الص حراء‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬وجدته حتت س درة‬ ‫ف إن (أطالنتس) م ات عطشا يف ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫توع دت ( تانس )( إهلة‬‫ضخمة ميّتا من العطش بعد أن تاه يف حميط الرمال العظيم " ‪ .‬وقد ّ‬
‫األولون أن تانس عادت‬ ‫اخلصب الغاضبة ) أن تنتقم ألخيها وتروي الصحراء رفاته‪ " :‬ويقول ّ‬
‫املنجمني والع ّرافني‬
‫إىل الواحة يف ذلك الي وم واجتمعت بتج ار القوافل وأرس لت يف طلب ّ‬
‫وخ رباء الفلك وق ّراء الغيب وذوي العلم من كل أحناء األرض‪ ,‬من س واحل الش مال البعيد‬
‫مشاال ومن وراء هنر ال نيجر جنوب ا‪ ,‬ومن متبكتو غربا حىت وادي النيل ش رقا وقد وع دت أن‬
‫جتزل هلم العط اء‪ ,‬ومحلتهم بأكي اس ال ذهب واألحج ار الكرمية وقطع ان املواشي ج زاء من‬
‫(‪) 3‬‬
‫يستطيع أن يدبر هلا أمر قهر الصحراء بتفجري منابع املاء وفاء بوعدها حلبيبها أطالنتس "‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬البئر "‪ ,‬ص‪.54 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬البئر "‪ ,‬ص‪.54 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬البئر "‪ ,‬ص‪.55 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪24‬‬
‫هذا‪ ,‬ويأيت العقاب بالطوفان س نّة اآلهلة منذ القدمي‪ ,‬حيث كان الطوفان ميحو كل ما‬
‫هو ش ّر وظلم وطغي ان ويس تبد له خبلق جديد وأرض جدي دة‪ ,‬خص بة ومزه رة تك ون مبثابة‬
‫الفردوس األرضي‪.‬‬
‫وهنا تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) متقلصة عرب‬
‫حالة ( التماثل والتش ابه ) من خالل تيمة ( الطوف ان ) حيث ت أمر اآلهلة ( ت انس ) ب أن يغمر‬
‫نص‬
‫الطوفان األرض قهرا للشر والظلم الذي عانت منه هي وأخيها أطالنتس‪ ,‬حيث جاء يف ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫الصحراء بتفجري منابع املاء وفاء بوعدها حلبيبها أطالنتس"‬
‫الرواية‪.." :‬أن يدبّر هلا أمر قهر ّ‬
‫والطوف ان منذ الق دمي هو " الطه ارة املائية للك ون "‪ .‬فهو يف أس اطري اخلصب القدمية "‬
‫رد فعل غاضب من األزيل ال ذي ال يرضى لعب اده الكفر والفوض ى‪ .‬وي رمي ه ذا الغسل‬ ‫مبثابة ّ‬
‫الك وين لتطهري الك ون‪ ,‬وإع ادة بن اءه بعد ال ّدنس ال ذي حلقه من ج ّراء ق وى الشر املتج اوزة‬
‫حلرمات ه‪ ..‬فك ان الطوف ان املائي لتطهري األرض من خبثها وإع ادة الطّهر ألهلها ذوي األص ول‬
‫يتم التاريخ مسريته الطّهرية"‪.‬‬
‫العلوية‪ ,‬فالعود األبدي حلاالت النقاوة األوىل ضرورة إهلية حىت ّ‬
‫(‪) 2‬‬

‫تطهر الص حراء بتفجري‬‫هك ذا هي إهلة اخلصب "ت انس"‪ .‬جعلها الك وين تعد ب أن ّ‬
‫الينابيع‪ ,‬وق ّدمت النفيس يف سبيل ذلك " وقد وعدت أن جتزل هلم العطاء‪ ,‬ومحلتهم بأكياس‬
‫ال ذهب واألحج ار الكرمية وقطع ان املواشي ج زاء من يس تطيع أن ي دبر هلا أمر قهر الص حراء‬
‫بتفجري من ابع املاء وف اءً بوع دها حلبيبها أطالنتس " (‪ )3‬وه ذه الطه ارة بغية خلق جديد جلنة‬
‫أرضية‪.‬‬
‫ك ذلك‪ ,‬ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪ ,‬ممت دة‬
‫عرب حالة ( التشوهات والتغريات ) من خالل تيمة ( الطوفان ) حيث مل يكن الطوفان حدثا‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬البئر "‪ ,‬ص‪.55 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬عز الدين عناية‪ ,‬التوراة اآلن‪ ,‬االستهواء العريب والفكر األسطوري‪ )45 ( ,‬كتابات معاصرة‪ ,‬جملة اإلبداع‬
‫‪2‬‬

‫والفنون والعلوم اإلنسانية‪ ( ,‬تشرين ‪ /2‬كانون ‪ .2001 ) 1‬ص‪124 :‬‬


‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬البئر "‪ ,‬ص‪.55 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪25‬‬
‫دخل ق وى مس اعدة تتمثل يف الرسل واخلرباء‬ ‫ناجتا عن ق ّوة ربّانية وإمّن ا الطوف ان هنا ك ان بت ّ‬
‫خاص ة‪ .‬حيث‬ ‫واملنجمني وق ّراء الغيب وذوي العلم من أص قاع ال دنيا‪ .‬ألجل املال وال ذهب ّ‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬وقد جاءها الرسل واخلرباء واملنجم ون وق راّء الغيب وذوي ال ذهب‬ ‫ج اء يف ّ‬
‫فجمعتهم وق الت هلم‪ " :‬ق ررت أن أغ زو الص حراء الك ربى باملاء‪ .‬وأري دكم أن ت دلّوين‪,‬‬
‫بعلمكم وخربتكم على املكان الذي يصلح ألن يكون نبعا يروي عطش حميط الرمال الرهيبة‪.‬‬
‫وجعل منه جنة خض راء "‪ .‬وع دوها خ ريا‪ ,‬وطلب وا مهلة للتش اور واستش ارة الغيب والنج وم‬
‫حمملني خبرائط األرض ورسوم الفلك والكواكب‬ ‫والكواكب واألفالك‪ ,‬مث جاؤوها بعد زمن‪ّ ,‬‬
‫األخرى وأمجعوا أن يتم احلفر يف نقطة هي قلب العامل ومركز الكون كما حدثتهم الكواكب‬
‫العراف ون وق راء الغيب وأهل‬ ‫والنج وم‪ ..‬انطلقت ت انس على الف ور إىل املك ان ال ذي ح دد ّ‬
‫اخلربة وذوي العلم ليكون مصدرا للنبع الذي سيغمر الصحراء اهلائلة باملاء واحلياة‪ ,‬وأمرت‬
‫رعاياها ب احلفر ليال هنارا بال توق ف‪ .‬انبثقت املي اه بعد ع ام من احلفر املس تمر‪ ,‬وت دفّقت عرب‬
‫الرم ال القاحل ة‪ ,‬وتغ زو البي داء األبدي ة‪ ,‬فتك ونت‬ ‫الس هول اجلرداء وتغمر ّ‬
‫الص حراء‪ ,‬تكتسح ّ‬
‫األهنار‪ ,‬وانتش رت البح ريات‪ ,‬ومنت غاب ات الك روم والزيت ون والعنب وكل أن واع الفواك ه‪,‬‬
‫الس هول املكسوة باخلضرة مثل‬ ‫ونبتت كل املزروعات واألعشاب االستوائية اخلضراء وبدت ّ‬
‫الص حراء‬‫بسط من السجاد العجمي األخضر‪ ,‬فارتوى رفات أطالنتس‪ ,‬وارتوت معه أعماق ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫الكربى العطشى منذ قرون وقرون وقرون‪" .‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪ ,‬متقلّصة‬
‫عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) من خالل تيمة ( الطوف ان ) حيث ح دثت الطّه ارة املائية‬
‫للك ون؛ " فاملاء إىل ج انب ما حيمله من ق وة ت دمري هائلة حبمل مس حة تطه ري‪ ..‬ويبقى املاء‬
‫(‪) 2‬‬
‫ببعده الرمزي العميق‪ ..‬غسل للبشرية من أدران اخلطيئة األزلية اليت تطبعها "‪.‬‬
‫ويف موضع آخر‪ ,‬تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إله اخلصب واجلمال " تانس " )‬
‫ممت دة عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات ) من خالل تيمة ( الطوف ان ) حيث ك ان الطوف ان‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬البئر "‪ ,‬ص‪ 55 :‬و‪.56‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬عز الدين عناية‪ ,‬التوراة اآلن‪ ,‬االستهواء العريب والفكر األسطوري‪ ,‬ص‪.123 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪26‬‬
‫اإلهلي يف األساطري القدمية يف سبعة أيام‪ ,‬بينما طوفان الكوين فكانت م ّدته أطول‪ .‬ففي طوفان‬
‫كل جسد فيه روح‬ ‫نوح التورايت جاء مبا يلي‪ " :‬فها أنا آت لطوفان ماء على األرض ألهلك ّ‬
‫حي اة من حتت الس ماء‪ .‬ك ّل ما يف األرض ميوت‪ .‬ولكن أقيم عه دي مع ك‪ ,‬فت دخل الفلك‬
‫حي من ك ّل ذي جس د‪ ,‬اث نني من ك ّل‬ ‫أنت وبن وك وامرأتك ونس اء بنيك مع ك‪ .‬ومن ك ّل ّ‬
‫ت دخل إىل الفلك الس تبقائها مع ك‪ .‬تك ون ذك را وأن ثى‪ ..‬الس تبقاء نسل على وجه كل‬
‫األرض‪ .‬ألين بعد سبعة أيام أيضا أمطر على األرض أربعني يوما وأربعني ليلة‪ .‬وأحمو عن وجه‬
‫الس بعة األيّام أ ّن مياه الطّوفان صارت على األرض‪..‬‬
‫كل قائم عملته‪ ..‬وحدث بعد ّ‬ ‫األرض ّ‬
‫كل ينابيع الغمر العظيم‪ ,‬وانفتحت طاقات السماء‪ .‬وكان املطر على األرض أربعني‬ ‫انفجرت ّ‬
‫يوما وأربعني ليلة‪ ..‬وتعاظمت املياه كثريا ج ّدا على األرض‪ ,‬فتغطّت‪ .‬مجيع اجلبال الشاخمات‬
‫كل‬
‫كل مساء‪ .‬مخس عشرة ذراعا يف االرتفاع تعاظمت املياه فتغطّت اجلبال‪ .‬فمات ّ‬ ‫اليت حتت ّ‬
‫دب على األرض من الطّي ور والبه ائم والوح وش‪ ..‬ومجيع الن اس‪ ..‬وتب ّقى ن وح‬ ‫ذي جسد ي ّ‬
‫والذين معه يف الفلك فقط‪ .‬وتعاظمت املياه على األرض مئة ومخسني يوما‪ .‬مث ذكر اهلل نوحا‬
‫وكل البهائم اليت معه يف الفلك‪ .‬وأجاز اهلل رحيا على األرض فهدأت املطر من‬
‫وكل الوحوش ّ‬ ‫ّ‬
‫الس ماء‪ ,‬ف امتنع املطر من الس ماء‪ .‬وانس ّدت ين ابيع الغمر وطاق ات الس ماء‪ ,‬ف امتنع املطر من‬
‫الس ماء‪ .‬ورجعت املي اه عن األرض رجوعا متوالي ا‪ .‬وبعد مئة ومخسني يوم ا‪ .‬نقصت املي اه‪..‬‬
‫واستقر الفلك يف الشهر السابع‪ ,‬يف اليوم السابع عشر من الشهر نقصت املياه‪ ..‬وكانت املياه‬
‫تنقص نقصا متواليا إىل الش هر العاش ر‪ ,‬ظه رت رؤوس اجلب ال‪ ..‬وك ان يف الس نة الواح دة‬
‫األول يف ّأول الشهر‪ ,‬أن املياه نشفت على األرض‪ ..‬وكلّم اهلل نوحا‬‫ت مئة‪ ,‬يف الشهر ّ‬ ‫والس ّ‬
‫ّ‬
‫ق ائال‪ " :‬أخ رج من الفلك أنت وامرأتك وبن وك ونس اء بنيك مع ك‪ ..‬ولتتوالد يف األرض‬
‫وتثمر وتك ثره على األرض‪ ..‬أقيم ميث اقي معكم فال ينق رض ك ّل ذي جسد أيضا مبي اه‬
‫(‪) 1‬‬
‫خيرب األرض "‬‫الطّوفان‪ ,‬وال يكون أيضا طوفان ّ‬
‫هذا‪ ,‬وجاء عن الطوفان يف ملحمة جلجامش‪ ,‬ما هو شبيه بطوفان نوح‪ ,‬حيث جاء‪:‬‬
‫"عندما ّقرر األرباب يف قلوهبم إرسال الطوفان‪ :‬ه ّدم دارك‪ ,‬إبن سفينة‪ ،‬أترك ممتلكاتك‪ ,‬فتّش‬
‫‪ -‬العهد القدمي‪ ,‬التكوين‪ ,‬اإلصحاحات‪ 06 :‬و‪ 07‬و‪ 08‬و‪.09‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪27‬‬
‫كل عائليت‬
‫عن احلياة‪ ..‬ويف اليوم السابع اكتملت السفينة مألهتا بكل شيء أمتلّكه‪ ..‬وجعلت ّ‬
‫الرب مشش وقتا حم ّددا عندما متطر عند الفجر محّصا‬‫وأقاريب يصعدون إىل السفينة‪ ..‬وجعل يل ّ‬
‫يء منري إىل ظالم وحطّم األرض كما يتحطّم‬ ‫وحتول كل ش‬ ‫وعند الغسق حنطة املوت‪ّ .‬‬
‫الوع اء‪ .‬وهبّت ال ريح اجلنوبية لي وم واحد وهبّت بس رعة‪ .‬حىت األرب اب خ افوا من الطوف ان‬
‫فكيف أنطق باحلرب لتدمري أميت‪ .‬وحبلول اليوم السابع انسحبت عاصفة الطوفان‪ .‬هدأ البحر‬
‫وخفتت س رعة ال ّريح‪ .‬وت وقّفت عاص فة الطوف ان‪ .‬ووقفت الس فينة على جبل نصري (ملحمة‬
‫(‪) 1‬‬
‫جلجامش اللوح ‪" )11‬‬
‫وحني نطّلع على ( أس طورة الطوف ان ) ال ذي خيصب األرض بعد أن يغربله ا؛ حيث‬
‫يكون يف البدء سببا يف هالك األرض وهالك البشر املفسدين واحليوانات‪ ,‬ويف النهاية‪ ,‬يكون‬
‫س ببا يف إخص اب األرض وتك اثر قلّة من أخي ار البشر وقلّة من احليوان ات‪ .‬ليب دأ عهد جديد‬
‫على األرض يسود فيه اخلري والطمأنينة والسالم‪.‬‬
‫وبالت ايل‪ ,‬يك ون قد حلق بالعنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) من‬
‫خالل تيمة " الطوف ان " مجلة من املطاوع ات‪ ,‬تك ون فاصال بني الث ابت واملتح ّول يف النص‪,‬‬
‫لتفتح لنا يف النهاية هامشا قرائيا واسعا‪.‬‬
‫فطوف ان الك وين مل يقتل البشر ومل يقتل احليوان ات ومل تض طر إهلة اخلصب " ت انس "‬
‫إىل ص نع الفلك واهلروب وأهلها وحيواناهتا بواس طته‪ .‬إمنا طوف ان الك وين ي أيت على قس وة‬
‫الص حراء فيكسر ش وكتها‪ ,‬وي أيت على الي ابس فيص ّريه أخض را‪ ,‬وي أيت على جف اف الرمل‬ ‫ّ‬
‫فريويه‪ ,‬ويصل إىل رفاة أخيها ‪ -‬أطالنتس ‪ -‬فريويه بعد موته عطشا‪.‬‬
‫الص حراء الكربى‬
‫ويكون بالتايل طوفان الكوين سببا يف خلق جنّة أرضية على أرض ّ‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬انبثقت‬
‫املدمرة‪ .‬حيث ج اء يف ّ‬‫العطش اليت أخص بتها مياهه الغزيرة املنتجة ال ّ‬
‫الس هول اجلرداء‪ .‬وتغمر‬
‫املي اه بعد ع ام من احلفر املس تمر‪ ,‬وت دفّقت عرب الص حراء‪ ,‬تكتسح ّ‬
‫الرم ال القاحل ة‪ ,‬وتغ زو البي داء األبدي ة‪ .‬فتك ّونت األهنار‪ ,‬وانتش رت البح ريات‪ .‬ومتّت غاب ات‬
‫ّ‬
‫والزيت ون والعنب وكل أن واع الفواك ه‪ ,‬ونبتت املزروع ات واألعش اب االس توائية‬ ‫الك روم ّ‬
‫‪ -‬عز الدين عناية‪ ,‬التوراة اآلن‪ ,‬ص‪ ,124 :‬عن ( ملحمة جلجامش ‪ :‬اللوح ‪) 11‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪28‬‬
‫الس جاد العجمي‪ ,‬األخضر‪ ,‬فارتوى‬ ‫السهول املكسوة باخلضرة مثل بسط من ّ‬ ‫اخلضراء وبدت ّ‬
‫الص حراء الك ربى العطشى منذ ق رون وق رون‬ ‫رف ات أطالنتس‪ ,‬وارت وت معه أعم اق ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫وقرون‪"..‬‬
‫وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) من خالل تيمة‬
‫(الطوف ان)‪ ,‬متقلصة عرب حالة ( التش ابه والتماثل )؛ حيث ّأدى طوف ان الك ون إىل خلق‬
‫وتش ييد جنّة اهلل على األرض‪ ,‬ه ذا الف ردوس األرضي ال ذي ينش ده ك ّل إنس ان على وجه‬
‫األرض‪ .‬فقد ح ّقق طوفان حمبوبة أهل الصحراء ‪ " -‬تانس " – جنّة أرضية فعلية‪ ,‬حيث جاء‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬ولكن ت انس اجلبّ ارة مل تكتف بتفجري النبع ال ذي خيرتق اآلن الص حراء‬ ‫يف ّ‬
‫باألهنار واملس تنقعات ويغمرها ب البحريات واألدغ ال‪ .‬فبعد أن أطلقت على املنبع اسم‬
‫والس دود‪ ,‬وتصل الواحات بالنبع يف مدينة‬ ‫قررت أن تشيّد املدن وتبين اجلسور ّ‬ ‫( أطالنتس ) ّ‬
‫الرقيق وال ّذهب‬
‫التج ار‪ ,‬وتب ادل ّ‬
‫واح دة هائل ة‪ .‬واس تطاعت أن جتعلها مرك زا ملض اربات ّ‬
‫واألحج ار الكرمية والتوابل والص ناعات واجلل ود‪ .‬وقد ازده رت املدينة وش يّدت القص ور‬
‫وال بيوت ذات املعم ار الب ديع‪ ,‬وأص بح يرتادها العلم اء واخلرباء واملنجم ون من كل أحناء‬
‫األرض‪ ..‬وامت ّدت املدينة من نبع " أطالنتس " حىت الواحة متواصلة على مسافة شهر ونصف‬
‫الص غري الذي غررت به الصحراء‪ .‬وقد طبقت‬ ‫وأطلقت عليها اسم " أطالنتيدا " تيمنا حببيبها ّ‬
‫شهرة " أطالنتيدا " اآلفاق‪ ,‬وجاء الناس من وراء البحار واألهنار واحمليطات بعد أن أصبحت‬
‫منارة للعلم واحلضارة وقبلة لكل من ينشد العلم ويتوق للمعرفة‪ ,‬وأصبح يقال بأن أطالنتيدا‬
‫هي جنّة اهلل على األرض‪ ,‬ومن مل يزرها فإنّه مل يعش يف ه ذه ال دنيا‪ ,‬فتق اطر عليها الن اس من‬
‫كل حدب وصوب حىّت كربت واتّسعت وامت ّدت حدودها حىت احمليط غربا وما وراء النيجر‬ ‫ّ‬
‫الرج ال ال ذين لزم وا‬
‫جنوبا والبحر مشاال وهنر النيل ش رقا‪ .‬وقد جعلت للنس اء س لطة على ّ‬
‫ال بيوت فتلثّم وا خجال‪ ,‬يف حني ق اتلت النّس اء وج اءت باألس رى‪ .‬أخض عت امللكة ت انس‬
‫جبيش ها الق وي اجلب ار األمص ار واألقط ار‪ ,‬الش عوب والقبائ ل‪ ,‬البعي دة والقريبة وت ربّعت على‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر " ص‪.56 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪29‬‬
‫ع رش اإلمرباطوري ة‪ .)1( " .‬باإلض افة إىل ما س بق‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة‬
‫اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ممت دة‪ ,‬عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات )؛ من خالل تيمة "‬
‫الطوفان "؛ حيث مل يقتل طوفان الكوين األرض والزرع واجلبال‪ .‬ولكن موت اإلهلة " تانس‬
‫"‪ ,‬فعل فِعل الطوف ان يف األرض – طوف ان القصص القدمية – حيث مبوهتا ُد ّم رت جنّة‬
‫الصحراء‪ ,‬واختفت‪ ,‬ومات األهايل ومات الزرع‪ ,‬وماتت اخلضرة‪ ,‬وج ّفت الينابيع واألهنار‪,‬‬
‫الرم ال طوف ان املاء‪ ,‬وزحفت الص حراء القاحلة على الص حراء اليانع ة‪ ,‬وح ّل‬ ‫فقهر طوف ان ّ‬
‫احلزن واملوت وال ّدمار‪ .‬وحدث اخلسوف‪.‬‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬وعن دما م اتت ح دثت حركة غريبة يف نظ ام النج وم‪,‬‬ ‫حيث ج اء يف ّ‬
‫مرة كما‬ ‫ألول ّ‬
‫يسمى " باخلسوف " ّ‬ ‫وقادت الكواكب األخرى محلة ض ّد القمر‪ ,‬فحدث ما ّ‬
‫احململة بالغب ار‬
‫املنجم ون من أهل اخلربة والعلم‪ ,‬فهبّت األعاصري العاتية والعواصف ّ‬ ‫يؤ ّكد ّ‬
‫كنتيجة لص راع الك واكب بعد أربعني يوما بالض بط من وف اة س ليلة القمر ت انس العظيم ة‪,‬‬
‫والري اح أربعني يوما بال انقط اع‪ .‬حىت غم رت اإلمرباطورية كثب ان من‬ ‫تمرت العواصف ّ‬ ‫واس ّ‬
‫الرم ال‪ ,‬وأغ رقت الغاب ات واألهنار واملدن مبوج ات هائلة من األتربة املتص اعدة ليل هنار‪,‬‬ ‫ّ‬
‫السكان طلب للنجاة‬ ‫ودمرت املعمار فهرب ّ‬ ‫وأبادت املواشي وقطعان اإلبل واحليوانات الربيّة‪ّ ,‬‬
‫الرمال‪ .‬جلأوا إىل املدن البعيدة اجملهولة وراء البحار واحمليطات‪ .‬وعادت الصحراء‬ ‫من طوفان ّ‬
‫تزحف على الص حراء‪ ,‬قاس ية‪ ,‬متجرّب ة‪ ,‬متس لّطة‪ ,‬تس يطر على ال دنيا كما يف س ابق عه دها‬
‫وظل‬
‫واندثرت " أطالنتيدا " منارة العلم واحلضارة اخلرافية‪ ,‬اليت ملعت فجأة وانطفأت فجأة‪ّ .‬‬
‫للرعاة وعابروا السبيل ما تنزح مياهه فيهاجرون إىل الواحات املتناثرة هنا وهناك‪,‬‬ ‫البئر ملجأ ّ‬
‫تطفو املي اه فيع ودون إلي ه‪ ,‬ويقيم ون حوله دون أن جيدوا تفس ريا لظ اهرة اختف اء املي اه اليت‬
‫حتدث‪ ,‬حسب ما تناقلته األجي ال‪ ,‬كل ثالمثائ ة ع ام‪ .‬ويؤ ّكد البعض يف قصص هم أن الختفاء‬
‫املرات اليت حيدث فيها خسوف القمر يف الع ام الواحد‪ .‬أما‬ ‫املي اه يف البئر عالقة مباشرة بعدد ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫قارة "أطالنتيدا" العتيدة فقد اختفت بعيدة يف جوف األرض‪ ,‬بعد طوفان الرمل الرهيب"‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر " ص ‪ 56‬و‪57‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر " ص ‪.57‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪30‬‬
‫اإلشعاع‪:‬‬
‫‪ - 1‬صحراء الكون – موطنه – جنّة أرضية أو فردوس أرضي‪ ,‬فيه من املاء واخلضرة‬
‫والثورات ما جيعله مركز األرض‪.‬‬
‫الص حراء تعين أهنا بداية التك وين؛ فقد ك انت جنّة اهلل على األرض‪,‬‬
‫‪ - 2‬مركزية ّ‬
‫الرمال‪ ,‬لكنّها يف واقع األمر األصل واملركز‪.‬‬
‫فقط‪ ,‬زحفت عليها ّ‬
‫‪ - 3‬االهتمام بالصحراء يعيدها موطنا خصبا‪ ,‬بل مركز حضاري‪.‬‬
‫ينجر على‬
‫‪ " - 4‬بئر أطالنتس "‪ ,‬أخصب الصحراء وجعلها جنّة على األرض‪ ,‬هذا ّ‬
‫حق استغالل‪.‬‬
‫آبار ومناجم الصحراء‪ ,‬إن هي استغلّت ّ‬
‫‪ - 5‬جف اف " ب ئر أطالنتس "‪ ,‬أخ رج األه ايل من واحتهم كخ روج الس مك من‬
‫يؤدي إىل نزوح األهايل من‬
‫البحر‪ .‬ونفاذ اآلبار واملناجم باستيالء األجانب عليها‪ّ ,‬‬
‫واحلري ة‪ ,‬إىل حي اة الف أس‬
‫حوهلا‪ .‬واالنتق ال اجلربي من حي اة البندقية والص يد ّ‬
‫والزراعة والعبودية‪.‬‬
‫‪ -‬مطاوعة العنصر األسطوري ( تانس ) إلهة الخصب والجمال‪ :‬في رواية " البئر "‬
‫تتب ّدل ح االت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪ .‬من‬
‫حالة (التماثل والتشابه) إىل ( التشهوات والتغريات ) وصوال إىل حالة ثالثة مغايرة متاما يلعب‬
‫فيها خيال املؤلف ومقدرته يف تغليف العنصر األسطوري هبالة من الغموض تنسجم وغموض‬
‫الشخصية األسطورية هي نفسها بل‬ ‫العنصر األسطوري الذي يرتبط بالنّص‪ ,‬حيث ال تصبح ّ‬
‫ممكن أن تك ون شخص ية مناقضة متاما هلا‪ّ ,‬أوال تربطها هبا أي عالقة وحيدث ه ذا ك ذلك مع‬
‫األح داث املرتبطة هبذا العنصر األس طوري وتقع الفوضى املنظمة من قبل املؤلف وي دخل‬
‫ك األلغ از وحماولة ربط الشخص يات واألح داث األس طورية وإس قاطها على‬ ‫الق ارئ متاهة ف ّ‬
‫النص ويف كل هذا وذاك حتدث املتعة أو لذة النص اليت تراود القارئ طيلة فرتة توهانه داخل‬
‫اللعبة املسلية‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫وت أيت ب دءا بيد مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪ ,‬من‬
‫خالل حالة ( التماثل والتش ابه ) حيث عمد الك وين إىل إب راز أهم أوجه التش ابه والتماثل بني‬
‫البطلة األس طورية ( ت انس ) وبطلة روايته ( باتا )‪ .‬من زوايا خمتلفة منها ( األمساء‪ ,‬واملواقف‬
‫واألحداث‪ ,‬واحلاالت ) حيث‪ ,‬تشاهبت صفاهتما‪ ,‬وجزئيات أخرى‪.‬‬
‫فقد نافست ( باتا ) مجال إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " وه ذا ورد يف العديد من‬
‫املواضع يف الرواية‪ ,‬حيث جاء‪ " :‬وقف آيس يف مدخل بيت باتا وقال وهو يتأمل مجال هذه‬
‫املرأة الساحرة‪ ... ,‬حبلقت فيه بعينيها اخلضراوتني اللتني تبدوان كأهنما تنظران يف الفراغ‪...‬‬
‫أنت مجيلة مثل ت انس مجالك ين افس القمر ووجهك يض يء الص حراء يف اللي ل‪ ! ‬ع ادت باتا‬
‫تقهقه نفس قهقهة اإلغراء والرنني اجلذاب قبل أن تقول‪- :‬آه‪ ,‬تعرف تانس ابنة القمر وملكة‬
‫الص حراء أيض ا‪ .‬وأين تع رف ت انس؟ ‪ -‬أيب ح ّدثين عنها يف حكاية الب ئر‪ ...‬ولكن آيس ع اد‬
‫أتزوجك أنت‪ ... ! ‬ولكن باتا لن‬ ‫يقول يف إصرار مدهش‪- :‬ولكيّن ال أريد الفتيات‪ .‬أريد أن ّ‬
‫والفض ة‪,‬‬
‫ّ‬ ‫مطرزا خبيوط الذهب‬ ‫تتزوج حىت يكرب آيس ويصري رجال يركب مجال ضامرا أبيض ّ‬ ‫ّ‬
‫يتمنطق بس يف من ذهب‪ ,‬وميلك مائة عبد وعش رة أتب اع‪ ,‬حتت تص ّرفه قافلة من الن وق‬
‫والرع اة‪ ...‬هتف آيس وقد غم رت وجهه تع ابري الف رح‪ :‬آ‪ ...‬ه ذه ت انس‪ .‬ه ذا ما‬ ‫واجلم ال ّ‬
‫تقوله لألمري عندما جاء خيطبها وهي فوق النخلة‪.‬‬
‫‪-‬طبعا هذا مقطع من تانس‪.‬‬
‫‪-‬إذن‪ .‬لك ما أردت‪! ‬‬
‫قاهلا آيس مقلّدا صوت جده وهو يسرد احلكاية‪ ,‬فضحكت باتا وقالت بلهجة غريبة‪:‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫أنت طفل ذكي حقا‪ ...‬سوف أفكر جديا يف انتظارك حىت تكرب‪ ! ‬أعدك بذلك "‬
‫ه ذا‪ ,‬وج اء يف موضع آخ ر‪ ,‬أهنا بنفس مجال " ت انس "‪ ,‬حيث ج اء‪ " :‬بات ا‪ ,‬ام رأة‬
‫(‪) 2‬‬
‫ساحرة‪ ,‬خارقة اجلمال‪ ,‬أمجل امرأة يف الصحراء الكربى‪ .‬كلها "‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪ 65‬و‪.66‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.66‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪32‬‬
‫وج اء يف موضع آخر عن مجاهلا الس احر‪ " ,‬ت ربت باتا على ي دي ام رأة زجنية حىت‬
‫(‪) 1‬‬
‫شبت ونضجت وطبق مجاهلا آفاق الصحراء "‬
‫وج اء عن مجاهلا الس احر ك ذلك ‪ " ,‬بلغت السادسة والثالثني‪ ,‬ولكن مجاهلا ازداد‬
‫( ‪)2‬‬
‫طغيانا وسحرا ونضارة "‬
‫وج اء ك ذلك‪ " :‬مثل باتا ال ذي ين افس مجاهلا الب در! " (‪ )3‬ك ذلك عن مجاهلا‪..." :‬‬
‫واآلن يوف ميتلك كل ه ذه النس اء جمتمع ة‪ .‬س وف ميتلك أمجل ام رأة يف ال دنيا‪ :‬بات ا‪ ! ‬س تلفه‬
‫(‪) 4‬‬
‫بذراعيها وحتتضنه بشعرها الفاخم الكثيف وتغمره بالقبل على خ ّده وأنفه "‬
‫باإلض افة على مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪ ,‬عرب‬
‫حالة (التماثل والتش ابه)‪ ,‬ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري عرب حالة أخ رى وهي حالة‬
‫( التش وهات والتغ ريات ) حيث ع وض أن تك ون باتا بطل الرواي ة‪ ,‬هي الض حية كما ح دث‬
‫وهتن‪ ,‬واق رتحت ت انس على‬ ‫القص ة األس طورية‪ ,‬حيث ض اعت هي رفيقاهتا وإخ ّ‬ ‫لت انس يف ّ‬
‫للم الشمل بالعودة إىل ال ّديار‪ ,‬ولكن األقدار شاءت أن‬ ‫رفيقاهتا البحث عن األهل واألقارب ّ‬
‫يرحل األهل بعد أن يئس وا من ع ودهتم مجيع ا‪ ,‬فه ّدد اجلوع الفتي ات واإلخ وة‪ ,‬وجنت ت انس‬
‫(‪) 5‬‬
‫أخريا‪ ,‬بأخيها من هالك القتل‪ .‬لس ّد رمق جوع صديقاهتا‪.‬‬
‫بالض حية وال ؟ مجع مشل األس رة وإمنا ك انت هي‬ ‫أما بطلتنا ( باتا ) فلم تكن ّ‬
‫الرواية‪ " :‬ماتت‬ ‫مرتكبة اجلرم واخلطيئة رغم صغر سنّها ( ‪ 03‬سنوات )‪ ,‬حيث جاء يف نص ّ‬
‫أمها وهي تع اين آالم الوضع أثن اء ميالده ا‪ .‬أما أبوها فقد قتلته باتا وهي طفلة مل تتج اوز‬
‫الص دفة‪ ,‬ولكن الزجنية اليت ورثتها باتا‬ ‫الثالثة بطلقة من البندقية‪ .‬ويقال أ ّن ذلك حدث مبحض ّ‬
‫عن أبيها تؤ ّكد أهنا رأهتا ب أم عينها وهي تتن اول البندقيّة خلسة وتس ّدد فوهتها إىل رأس أبيها‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.67‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.68‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.72‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.73‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.47‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪33‬‬
‫الذي كان نائما يف قيلولة أحد أيّام الصيف القائظة وتطلق عليه النار‪ ,‬وعندما هرعت الزجنية‬
‫الص غريتني بال دم املنبثق من‬
‫إىل الرجل ك انت باتا تف رق يف ض حكة هس تريية وتعبث بي ديها ّ‬
‫رأس األب املس كني ال ذي ف ارق احلي اة على الف ور‪ ...‬ومضى اخلبث اء يف اس تنطاق املس كينة‬
‫س ائلني‪ " :‬هل ك انت تغسل ي ديها يف دمه وهي تقهقه أم أ ّن ال دماء املنبثقة لطّختها مبحض‬
‫الصدفة " فأجابت الزجنية بإصرار‪ " :‬لقد كانت تغسل يديها يف الدماء وهي تدري ماذا تفعل‬ ‫ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫يف حني تنطلق ضحكتها الشيطانية الغريبة حىت تستلقي على قفاها "‬
‫كذلك‪ ,‬جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " )‪ ,‬ممتدة‬
‫تزوج هبا‬
‫عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات )‪ ,‬حيث ع وض أن يعش قها األمري فىت أحالمها وي ّ‬
‫القصة األسطورية‪ ,‬عشقها كل شبّان القبيلة‪ ,‬دون أن جيرأ أحد على خطبتها‪ ,‬لسريهتا‬ ‫كما يف ّ‬
‫غري املش ّرفة‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬عش قها كل الش بّان دون أن يتق دم خلطبتها أح د‪.‬‬
‫رتددون يف‬ ‫رمبا ألهنم خيش ون مجاهلا الف اتن‪ ,‬ورمبا ألن س ريهتا الس ابقة أرعبتهم وجعلتهم ي ّ‬
‫االق رتان ب " ابنة الش يطان " اليت كتمت أنف اس أمها وهي هتبها احلي اة وتق ّدمها للوج ود‪,‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫وأقدمت على اغتيال أبيها بيديها عن عمد وسبق ترصد وهي يف الثالثة من عمرها "‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة ممت دة عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات ) يف موضع آخ ر‪ ,‬حيث‬
‫تزوجت تانس أول من تق ّدم خلطبتها ( أي األمري ) بينما جعلت سرية باتا منها املرأة اللعوب‬‫ّ‬
‫كل الشبّان وحني مت ّكنت من الزواج‪ ,‬أحلقت بزوجها العار يف ليلة زفافها‪ ,‬حيث‬ ‫اليت أغوت ّ‬
‫الرواية‪ " :‬ويقال أن الزجنية ضبطت فوقها أحد أبناء اجلريان وهي يف التاسعة من‬ ‫جاء يف نص ّ‬
‫عمره ا‪ ...‬ويق ال يف القبيلة أن من ض من ال ذين عش قوها ك ان الش يخ غوما بنفسه أيّ ام ك ان‬
‫مغرما مبعاش رة النس اء من القبيل ة‪ ...‬وقد ت زوجت باتا بعد هج رة غوما إىل الواح ات بش هور‬
‫فقط‪ .‬تزوجها شاب نبيل من قبائل آير‪ ...‬ولكن املفاجأة كانت ليلة الزفاف‪ ,‬أثناء الدخلة‪,‬‬
‫الص حراء‪ ,‬الع ادات املق ّدس ة‪ .‬إذ مل يتص ّور أحد أن‬
‫عن دما حطّمت بات ا‪ ,‬ألول م رة يف ت اريخ ّ‬
‫تق دم الع روس حلظة تس ليمها للع ريس من قبل النس اء‪ ,‬إىل االرمتاء يف أحض ان الع ريس دون‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.67‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪.67‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪34‬‬
‫خج ل‪ ,‬يف حني تقتضي الع ادات العريقة أن تبكي وهترب وختتفي يف اخلالء بني ثنايا الليّ ل‪...‬‬
‫أجنبت باتا ابنتها زارا يف آير وهي فت اة مجيلة هادئ ة‪ ,‬حاملة‪ ,‬يف عينيها ح زن غ ريب وال تش به‬
‫أمها يف ش يء‪ .‬وملا م ات زوجها يف معركة مع قبائل بامب ارا ع ادت باتا إىل القبيلة مع زارا "‪.‬‬
‫(‪) 1‬‬

‫هكذا‪ ,‬متتد مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " )‪ ,‬عرب حالة‬
‫(التشوهات والتغريات) لتكشف أكثر عن شخصية باتا اللعوب‪ ,‬الفاجرة اليت أوصلها تالعبها‬
‫بالرج ال واس تمالتها هلم مبا متلكه من مقي اس اجلم ال واإلغ راء‪ ,‬أن تن تزع من ابنتها حبيبها‬
‫(أخنوخن) على ال رغم من زواجها للم رة الثانية وأهنا يف عص مة رج ل‪ .‬ي دعى ( آماس تان )‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬يف الص باح انطلقت باتا ت ردد أن أخنوخن هو أكرب ش اعر عرفه‬
‫املعسكر ورمبا الصحراء كلها‪ .‬قالت جلارهتا حبماس ودهشة تفيض من عينيها‪ " :‬إنّه ساحر‪.‬‬
‫إنّه أكثر من شاعر‪ .‬مل أمسع غناء أشجى من غناءه‪ ,‬وصوت أصفى من صوته‪ ,‬وشعرا أل ّذ من‬
‫ش عره‪ .‬وغ زال أرق من غزل ه‪ ,‬وح ديث أع ذب من حديث ه‪ .‬إنه س احر‪ .‬ولن أدعه يفلت مين!‬
‫س وف أتزوج ه‪ ! ‬نعم‪ .‬س أتزوجه ف ورا "‪ ...‬باتا ق ررت ال زواج من أخنوخن‪ .‬باتا عش قت‬
‫أخنوخن بني ليلة وض حاها‪ .‬باتا س وف تطلّق آمس تان قبل أن ميضي ش هر على زواجهما "‬
‫أحس برعشة يف ي ده‪ ,‬قم س رد الرع دة إىل‬ ‫هك ذا رددت األلسن يف ط ول املخيّم وعرض ه‪ّ ...‬‬
‫أحس ب ربودة ش ديدة مفاجئ ة‪ .‬ب دأت أطرافه ترتع د‪ ...‬س ارع ّيوجه الفوهة حنو‬
‫كل جس مه‪ّ .‬‬
‫أحس بالس ائل الل زج ينبث ق‪ .‬وكثل رهيبة من‬‫رقبته عند ال ّذقن‪ ...‬ض غط‪ .‬مل يس مع ال ّدوي‪ّ .‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫الظالم تزحف على عيني ه‪ .‬و‪ ...‬و‪ ...‬أص وات النس اء تنشد اللحن الس ماوي الش جي "‬
‫هكذا كانت باتا سببا يف انتحار زوجها آمستان‪ ,‬وتعاسة ابنتها زارا‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واخلصب " ت انس " ) ممت دة‪,‬‬
‫عرب حالة ( الغموض وتع دد الرؤية )‪ ,‬حيث عمد الكوين إىل إج راء فوضى يف ت رتيب عناصر‬
‫الس احرة‪ ,‬اليت‬
‫القص ة األسطورية األولية‪ ,‬وجعلها تتسم بالغموض حينا‪ .‬فتصبح املرأة اجلميلة ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪ 67‬و‪.68‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪ 185‬و‪ 190‬و‪.191‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪35‬‬
‫تش به اإلهلة‪ ,‬ام رأة لعوب ا‪ ,‬مس تهرتة‪ ,‬تلحق هبا لعنة اآلهلة – ككل البشر – حني تلحق األذى‬
‫بغريه ا‪ ,‬ويف اآلن نفس ه‪ ,‬تلحق هي اللعنة والعق اب ملن تس ول له نفسه أن يقف يف طريق‬
‫سعادهتا وكسر نرجسيتها‪ .‬كاآلهلة " تانس "‪.‬‬
‫فقد جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ممتدة عرب‬
‫حالة ( الغم وض وتع دد الرؤية )‪ ,‬وذلك من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب ) الل ذان حلقا‬
‫بالبطلة ( باتا )؛ حيث أوصلتها نرجسيتها بأن تتزوج بالرجل الذي أحبته ابنتها الوحيدة وقرة‬
‫عينه ا‪ ,‬رغم اكتش افها أمر حبّهم ا‪ ,‬ورغم ح ديث القرية عن دناءهتا‪ ,‬إال أهنا تزوجت ه‪ ,‬وف وق‬
‫زوجت ابنتها أخيه ال ذي ال حتب ه‪ .‬فك انت ( اللعنة والعق اب ) حيث‪ ,‬ج اء يف نص‬ ‫كل ذلك ّ‬
‫الرواية عن انتح ار زوجها من ق وة الص دمة ووقع الفض يحة علي ه‪ ,‬كيف ال‪ ,‬وزوجته تريد‬
‫تطليقه وال زواج برجل آخ ر‪ .‬ومل ختف ذلك أب دا‪ .‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " " :‬ف اض به‬
‫الش قاء وت راءت له األح داث دفعة واح دة‪ .‬لقد تزوجته وب دل أن جتلب له الس عادة ض اعفت‬
‫شقاءه‪ ,‬وزادت على عاره عار آخر جديد‪ .‬اعتقد أن يعزي بقية أيامه بامرأة فاتنة مثلها ولكن‬
‫ه اهي ت نزلق بني ليلة وأخ رى‪ ,‬من بني يديه وتتجه حنو خمدع رجل آخ ر‪ .‬فيا هلا من فض يحة‬
‫أحس برعشة يف‬‫أخرى تضاف إىل فضائحه السابقة اليت حاول أن يتجاهلها طوال الوقت‪ّ ...‬‬
‫أحس ب ربودة ش ديدة مفاجئ ة‪ .‬ب دأت أطرافه ترتع د‪.‬‬‫ي ده‪ ,‬مث س رت الرع دة إىل كل جس مه‪ّ .‬‬
‫س ارع يوجه الفوهة حنو رقبته عند ال ذقن‪ .‬كل أطرافه ترتع د‪ .‬س حب رجله اليمىن واق رتب‬
‫أحس بالس ائل الل زج‬
‫بإهبام الق دم حنو الزن اد‪ .‬احلمى يف أوجه ا‪ .‬ض غط؛ مل يس مع ال دوي‪ّ .‬‬
‫ينبث ق‪ ,‬وكثل رهيبة يف الظالم تزحف على عينيه و‪ ...‬و‪ ...‬أص وات تنشد اللحن الس ماوي‬
‫(‪) 1‬‬
‫الشجي "‬
‫ه ذا‪ ,‬وج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ممت دة‬
‫من خالل حالة ( الغموض وتع دد الرؤية )‪ ,‬عرب تيمة ( اللعنة والعق اب )‪ ,‬حيث ك ان عق اب‬
‫باتا على زواجها حببيب ابنتها الوحي دة وتزوجيها بأخيه ال ذي ال حتب ه‪ ,‬أن فق دت؟ ابنتها‬
‫بفجيعة ليلة تزوجيه ا‪ ,‬حيث انتح رت داخل الب ئر‪ .‬فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬يف الليل حبث وا‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪ 189‬و‪.191‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪36‬‬
‫عن زارا‪ .‬ظل وا يبحث ون حىت انبعثت خي وط الفج ر‪ .‬اق رتح أخنوخن وهو يتجه إىل الب ئر‪ :‬جيب‬
‫نواصل البحث‪ .‬س نذهب ناحية الب ئر‪ .‬انتفض أمغ ار‪ - :‬ناحية الب ئر؟ وما عس اها تفعل ناحية‬
‫الب ئر؟‪ ...‬ع ثروا على اجلثة طافية ف وق املاء‪ .‬جتمع وا ح ول الب ئر يف مجه رة كب رية من النس اء‬
‫املسجى على األرض‪ .‬انكفأت فوقه صامتة زمنا‪ .‬مث‬ ‫ّ‬ ‫والرجال‪ .‬أقبلت باتا حنو اجلسد املنفوش‬
‫شرعت تلثم أطراف زارا الباردة الواحدة تلو األخرى‪ .‬قبلت حىت قدميها‪ ,‬مث تسللت شفتيها‬
‫وقبلت جبينها‪ ,‬ومدت أناملها تعبث بشعرها املعقود يف ضفائر العرس الذي ضفرهتا بنفسها‬
‫رددت بن ربات واض حة يا خس ارة‪ ,‬خس ارة ه ذه الض فائر‪ ,‬خس ارة ه ذا اجلم ال‪,‬‬ ‫ب األمس‪ّ .‬‬
‫خسارة هذه القامة‪ ,‬خسارة‪ .‬خسارة‪ ,‬لقد شجعتك على اهلرب‪ ,‬ولكنك هربت إىل األبد‪...‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫"‬
‫هذا‪ ,‬ومل تلحق ( اللعنة والعقاب ) بباتا لوحدها بل بزوجها أيضا‪ ,‬الذي هو يف األصل حبيب‬
‫زارا‪ ,‬فقد أصيب باجلنون ملوهتا‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬مل مير وقت طويل حىت حدث‬
‫مع أخنوخن ما حدث‪ .‬أصبح صموتا وامجا سامها ال يرد على أسئلة جليسه إىل بكلمة واحدة‬
‫وحي دة‪ " :‬عجيب‪ "...‬يتطلّع إىل األفق البعيد كأنه حي ّدق يف الف راغ‪ .‬هجر الن وم جفني ه‪,‬‬
‫طرت باتا أن هتجر خمدعه وتلجأ للن وم يف بيت املرحومة‬ ‫ف احرتف الس هر يف الليل حىت اض ّ‬
‫زارا‪ ...‬ولكن مثة آخ رون يؤ ّك دون أهنا " لعنة باتا "‪ .‬باتا " ابنة الش يطان " اليت قتلت أبيها‬
‫األول فقتل يف معرك ة‪ ...‬وطمع فيها آمس تان‬ ‫بي ديها‪ ,‬وحنست أمها وحلقت اللعنة زوجها ّ‬
‫ف انتحر‪ .‬وها هي تس تويل على أخنوخن وختطفه من بني ي دي ابنتها الوحي دة فيجازيها اهلل أن‬
‫حيول الرجل الف ارس النبي ل‪ ,‬الش جاع إىل ش بح مس كني ب ائس معق ود اللس ان وال يع رف من‬ ‫ّ‬
‫مفردات اللّغة سوى كلمة واحدة هي‪ " :‬عجيب‪ "...‬يرددها مبناسبة وبال مناسبة حىت أطلقوا‬
‫(‪) 2‬‬
‫عليه اسم‪ " :‬أخنوخن العجيب " ‪.‬‬
‫لقد توالت اللعنات على باتا الواحدة تلوى األخرى‪ ,‬ألنانيتها‪ ,‬ونرجسيتها‪ ,‬ودناءهتا‪,‬‬
‫ملا ال وهي بشر تغضب عليه اآلهلة وتعاقبه كما يف القصص األس طورية القدمية‪ .‬لكن يغرّي‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪ 205‬و‪.206‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص ‪ 206‬و‪.207‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪37‬‬
‫الكوين مسار األحداث والتوقعات وجيعل هلا مق ّدرة كاآلهلة ( تانس ) لتلحق بدورها ( اللعنة‬
‫والعقاب ) بالبشر الذين يرتبّصون هبا ويلحقون هبا العذاب‪.‬‬
‫وتوجه إليها‬
‫فحني اكتشف الش يخ غوما أن حفي ده مولع هبا ويزوره ا‪ ,‬حبسه ّ‬
‫يجف وس يلحق بقبيلته ال ذل واهلوان‪,‬‬ ‫ليطرده ا‪ ,‬حينه ا‪ ,‬أوم أت له باتا بكل ثقة أن الب ئر س ّ‬
‫وهنا‪ ,‬جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ممتدة من خالل‬
‫حالة ( الغم وض وتع دد الرؤية ) عرب تيمة ( اللعنة والعق اب ) حيث ت والت اللعن ات على‬
‫الشيخ غوما وعشريته منذ أن توجه إليها كي يطردها من القبيلة فتوعدته‪ ,‬حيث جاء يف نص‬
‫حتض ري أمتعت ك‪ .‬رمقته بنظ رة خاطف ة‪ .‬ق الت بعد ص مت‪ - :‬إذن هو‬ ‫الرواي ة‪ – " :‬جيب أن ّ‬
‫وهج‪...‬‬ ‫الرحي ل‪ .‬تريد أن تتخلّص م ين؟ ه ّز برأسه موافقا دون أن يرفع عينيه عن اجلمر املت ّ‬ ‫ّ‬
‫عندما ودعته يف مدخل السور اجلريدي قالت‪:‬‬
‫‪-‬جيب أن ت دبر أم رك‪ .‬املاء يف البئر يش رف على اجلف اف‪ )1( " ! ‬ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة‬
‫العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪ ,‬ممت دة‪ ,‬عرب حالة (غم وض وتع دد‬
‫الرؤي ة)‪ ,‬من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب )؛ حيث وجد أخنوخن زوج باتا وعشق زارا‪ ,‬ميتا‬
‫الرواية‪ " :‬وبعد يومني من مغادرهتا عثر األهايل على أخنوخن‬ ‫نص ّ‬
‫قرب البئر‪ ,‬حيث جاء يف ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫مسندا ظهره إىل البئر حيدق يف الفراغ وقد غطّى البياض مقلتيه‪ .‬كان قد مات يف الليل "‬
‫إض افة‪ ,‬إىل ما حلق ب آيس حفيد الش يخ غوم ا‪ ,‬ال ذي ح اول االنتح ار م رتني بس بب‬
‫الرواي ة‪ " :‬أما آيس فقد ح اول أن يلقي بنفسه يف الب ئر مبج رد‬ ‫نص ّ‬
‫رحيل بات ا‪ ,‬حيث ج اء يف ّ‬
‫أن علم باخلرب فاضطر الشيخ غوما أن يقيّد يديه ورجليه ويرتكه هكذا طوال يومني كاملني‪.‬‬
‫وعن دما أطلق س راحه تس لل يف الليل وش رب زجاجة الكريوسني حماوال االنتح ار‪ .‬جلست‬
‫(‪) 3‬‬
‫العجوز فوق رأسه ليلة كاملة تسقيه املراهم والزيوت الاّل زمة لغسل املعدة "‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.116 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.117 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.117 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪38‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وبرحيلها ك ذلك‪ ,‬يرحل معها أمغ ار الص طحاهبا لكنه ال يع ود وينفطر ألجله‬
‫الرواي ة‪ " :‬تط وع أمغ ار‬‫قلب أمه اليت فق دت قبله وال ده وأخ اه أخنوخن‪ ,‬حيث ج اء يف نص ّ‬
‫ملرافقة باتا يف رحلتها إىل دي ار أهل املرح وم زوجها األول يف " آير "‪ ...‬يف حني دفنت أم‬
‫أخنوخن ابنها البكر وطفت تنتظر أمغ ار ش هر‪ ,‬ش هرين‪ ,‬ثالثة أش هر‪ .‬يئست وتلحفت بردائها‬
‫األس ود وجلأت إىل بيت الش يخ غوم ا‪ ...‬س احمين يا س يدنا الش يخ غوم ا‪ ...‬س احمين يا س يدنا‬
‫الش يخ‪ ...‬أنت تع رف‪ ...‬فق دهتم‪ ...‬فق دهتم مجيع ا‪ .‬الواحد تل وى اآلخ ر‪ .‬فق دت أبيهم‪...‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫وفقدت أخنوخن‪ ,‬وها هو أمغار خيتفي إىل األبد‪ .‬إنه لن يعود‪ ...‬أنا أعرف‪" ...‬‬
‫وم ّرة أخ رى ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )‪,‬‬
‫متقلّصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) حيث أ ّن لباتا عالقة وطي دة ب البئر‪ .‬واحنص ار املاء به مثّ‬
‫جف البئر ولن بعود به املاء إال بعد ثالمثائة عام كما‬ ‫انعدامه هو لعنة من لعناته‪ ,‬وأن برحيلها ّ‬
‫مرت علينا (‪ . )‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬بدأ االجتماع يف املساء‪,‬‬ ‫يف أسطورة تانس اليت ّ‬
‫احلل الوحيد‬
‫بعد ص الة املغ رب‪ – .‬مل يبق لنا غري ذل ك؟ الرحي ل‪ .‬ال أس تطيع إىل الواحة هو ّ‬
‫الرحي ل‪ .‬ال أس تطيع أن أتص ّور واهلل كيف ميكننا أن نعيش يف‬
‫ال ذي يبقى أمامن ا‪ ...‬إذن هو ّ‬
‫املر خيتل ف‪ .‬ستض طر يا ش يخ خليل أن‬‫الص حراء‪ ...‬ولكن األمر ه ذه ّ‬ ‫الواحة بعد احلي اة يف ّ‬
‫هتجرها إىل األبد ش ئت أم أبيت‪ .‬اللّهم إذا كنت تطمع يف عمر ن وح فتنتظر حىت يع ود املاء‬
‫(‪) 2‬‬
‫لالرتفاع بعد ثالمثائة عام‪" ! ‬‬
‫قص ة " ت انس "‬‫هي لعنة بات ا‪ /‬ت انس‪ .‬حيث ق ام الك وين ببع ثرة عناصر وس ياقات ّ‬
‫األسطورية‪ .‬فجعل باتا هي تانس‪ ,‬جبماهلا األسطوري‪ ,‬ولعنتها اإلهلية – حينا – وجعلها بشرا‬
‫تغ ري وختدع‪ ,‬وتتجرّب بنرجس يتها‪ ,‬وتط رد من ط رف ش يخ القبيلة – حينا آخر – وه ذا ما‬
‫القص ة األس طورية‬
‫جعل الك وين ليس موظفا لألس طورة‪ ,‬وإمنا ص انع هلا‪ .‬حيث حييلنا إىل ّ‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪ 217 :‬و‪.218‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪.57 :‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪ 219 :‬و‪.220‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪39‬‬
‫قص ته األس طورية أيض ا‪ ,‬واليت توص لنا إىل‬
‫القدمية وحينما تتعطّش للمزيد خيرجنا منها إىل ّ‬
‫توقّعات أخرى‪ ,‬ورؤى جديدة تفتح لنا هامشا قرائيا واسعا‪.‬‬

‫‪ – 2‬تجليات أسطورة الخصب في رواية " التبر "‪:‬‬


‫أ ‪ -‬تجلي أسطورة ( إله الخصب " تانيت " )‪:‬‬
‫تتجلى أسطورة اخلصب يف رواية " الترب " من خالل الرمز األسطوري " تانيت " اليت‬
‫ترمز إىل إهلة احلب واخلصب والتناسل عند قدماء الليبيني‪.‬‬
‫وقد جتلت أس طورة إهلة اخلصب " ت انيت " من خالل تقنية التن اص‪ ,‬فك ان التجلي‬
‫تاما؛ حيث صرح الكوين هبذه األسطورة وعرفها يف ذيل صفحة من صفحات الرواية‪ .‬حيث‬
‫ج اء يف اهلامش " إهلة احلب واخلصب والتناسل عند ق دماء الليب يني‪ .‬وقد اعتنقها البونيقي ون‬
‫(‪) 1‬‬
‫فيما بعد‪ ,‬ويرمز هلا مبثلث على شكل هرم "‬
‫هذا وصرح الكوين بأهنا إهلة اخلصب " تانيت "‪ ,‬اليت يرمز هلا مبثلث على شكل هرم‪,‬‬
‫حيث جاء يف نص الرواية حني سرق ألوخيّد بطل الرواية كيسني من التمر سرقا من املطمور‬
‫بعد ي ومني‪ ,‬ووجد ف وق املخ زن على الرمل إش ارة تركها اللص‪ .‬رسم حبب ات التمر مثلثا‬
‫واضح األض الع واختفى‪ .‬ج اء يف الرم ز‪ ,‬وجلأ إىل عج وز تباوية عمي اء تق رأ الغيب‪ .‬ق الت‬
‫العرافة‪:‬‬
‫‪ -‬قلت مثلث؟ هل نذرت شيئا لآلهلة " تانيت " ؟ انشقت رأسه‪ ,‬وقفز كمن طعنه بسكني‪:‬‬
‫‪-‬اآلهلة تانيت؟ لآلهلة تانيت؟‪ ( )2( " ...‬هنا يأيت ما هو خلف الصفحة )‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪.77‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ ( .77‬املرجع نفسه )‬ ‫‪2‬‬

‫‪40‬‬
‫وحني ك ان التجلي تاما من خالل تقنية التن اص‪ ,‬وأيضا التص ريح بأهنا اآلهلة ت انيت‪,‬‬
‫كانت مطاوعة العنصر األسطوري متقلصة من خالل حالة التماثل والتشابه عرب تيمة (النذر)‬
‫ذلك الن ذر ال ذي ن ذره أوخيّد عند قاع دة نصب اجملوس يف أعلى الرب وة؛ حيث ج اء يف نص‬
‫الرواي ة‪ " :‬أن اح أوخيّد أبلقه األس ود‪ ,‬ووقف ط ويال‪ ,‬حياول أن يق رأ أس رار الص حراء يف هيئة‬
‫الص نم اخلفي‪ .‬أخ ريا ركع ورفع يديه وص اح‪ " :‬يا ويل الص حراء‪ .‬إله األولني‪ .‬أن ذر لك مجال‬
‫مسينا‪ ,‬س ليم اجلسم والعق ل‪ .‬اشف أبلقي من املرض اخلبيث وامحه من جن ون آس يار‪ .‬أنت‬
‫الس ميع‪ .‬أنت العليم "‪ .‬مث عفر جسم امله ري املتآكل ب رتاب الض ريح‪ ,‬وتوس ده ون ام حىت‬
‫ت وجهت الص حراء ببه اء الفج ر‪ .‬ص نع كوبا واح دا من الش اي األخض ر‪ ,‬وواصل رحلته إىل‬
‫(‪) 1‬‬
‫القرعات الغربية "‪.‬‬
‫لقد ن ذر أوخيّد لآلهلة ت انيت ب أن يق دم هلا قربانا مثلثا يف مجل مسني‪ ,‬إن ش في أبلق ه‪.‬‬
‫هذا املهري األبلق الذي لطاملا تباهى به أمام عشريته‪ ,‬ألنه ال مثيل له‪.‬‬
‫ولكن س رعان ما أصيب أبلقه بوب اء جلدي ذهب ببه اءه ومجاله األخ اذين‪ ,‬فقد ج اء‬
‫يف نص الرواية عن األبلق ودائ ه‪ " :‬واصل مغامراته مع الن وق الس ارحة يف م راعي الص حراء‪,‬‬
‫فكلفته الفحولة العمياء داء اجلرب‪ .‬عاد من إحدى الغزوات كئيبا‪ .‬انطفأ بريق املرح يف عينيه‬
‫الكب ريتني ودىل ش فته الس فلى أك ثر‪ .‬وقف يف الع راء هادئ ا‪ ,‬ص امتا‪ ,‬يش يع األفق املرتاقص يف‬
‫ألسنة السراب السماوية‪ ,‬بنظرة حزينة‪ .‬كان خجوال‪ .‬الحظ أوخيّد كآبته‪ ,‬ولكنه مل يكتشف‬
‫السر إال بعد أي ام‪ .‬تفحص وب ره البهي وهو ي نزع ش وك الس در من جل ده املبقع ويتفق ده من‬
‫القراد‪ .‬يف اجللدة‪ ,‬حتت الوبر‪ ,‬متكن املرض وسكن االلتهاب‪ .‬حكه بأصابعه‪ ,‬فتوجع املهري‪,‬‬
‫تعرى املوقع عن املرض‬ ‫وصاح من األمل‪ .‬جاء باملقص‪ ,‬واختار موقعا حلق منه الوبر الكثيف‪ّ ,‬‬
‫الل ئيم‪ .‬اس ودت اجلل دة‪ ,‬وأكلت حلم احلي وان‪ .‬بعد أي ام الحظ أن اجلرب ازداد توس عا والتهم‬
‫مواقع جديدة من جسد األبلق‪ .‬ذهب إىل حكماء القبيلة طلبا للمشورة‪ .‬أمجعوا على أن األمل‬
‫ض عيف يف الش فاء‪ .‬إذا متكن اجلرب من البعري فال أم ل‪ .‬مل يفقد األم ل‪ .‬مل يتص ور أن توجد‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪.30‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪41‬‬
‫ق وة ختطف منه أبلق ه‪ .‬اخلبري ب داء احلي وان األعمى هز رأس ه‪ ,‬وأجابه على اس تنكاره‪ " :‬اييه يا‬
‫(‪) 1‬‬
‫ولدي‪ .‬بعد الضحك يأيت البكاء‪ .‬الفرح يعقبه احلزن‪ ,‬واملوت تأيت يف غفلة احلياة "‪.‬‬
‫هذا‪ ,‬وحني أصيب األبلق بداء اجلرب‪ ,‬أشار الشيخ موسى على أوخيّد بأن يبحث له‬
‫عن نبتة امسها " آس يار " إهنا نبتة اخلالص‪ ,‬اليت س وف تش في أبلق ه‪ ,‬حيث ج اء يف نص‬
‫الرواية‪ " :‬ويقال أنه جاء من غرب الصحراء‪ ...‬من " فاس " بالد الفقهاء وعلماء الشريعة‪.‬‬
‫الشيخ موسى الذي متتم له بالسر وخلص أبلقه‪ .‬قال له‪ " :‬الكالم بيننا ولكن شفاء مجلك يف‬
‫آسيار (‪ . )‬ال تضحك علي وامسع كالمي‪ .‬اذهب إىل قرعات ميمون يف الربيع القادم‪ :‬آسيار‬
‫ال ينبت إىل يف تلك الس هول‪ .‬أوثق امله ري جي دا حىت ال يفر واتركه يرتع يوما أو ي ومني‬
‫وس وف ت رى "‪ .‬مث ك رر له بلغة غامض ة‪ " :‬ال تنس أن تعلقه جي دا "‪ .‬نعم‪ .‬آس يار يف القبيلة‬
‫(‪) 2‬‬
‫مرادف للجن واجلنون‪ .‬من ذاقه سواء أكان ذلك حيوانا أم إنسانا "‪.‬‬
‫وحني ك انت نبتة آس يار هي العالج ب رغم عواقبها املؤدية إىل جن ون األبل ق‪ ,‬إال أ ّن‬
‫أوخيّد ق رر التوجه إىل قرع ات ميم ون حيث توجد ه ذه النبت ة‪ ,‬ون ذر يف طريقه لآلهلة ت انيت‬
‫بأن يقدم مجال مسينا قربانا إن هو شفي من وباءه‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب ت انيت ) متقلصة من خالل‬
‫حالة ( التش ابه والتماثل )‪ ,‬حيث اس تجابت اآلهلة ل دعاء أوخيّد وهدته إىل م وطن النبتة‬
‫(آس يار)‪ ,‬زه رة اجلن‪ .‬وب دأ أبلقه يتماثل للش فاء روي دا روي دا‪ .‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪" :‬‬
‫فوق " قرعات ميمون " تدلت سحب بنفسجية كثيفة وتالمحت على رؤوس اجلبال املتباعدة‬
‫يف اخلالء األبدي املمتد‪ ...‬مث جد يف البحث عن العشبة املوعودة مع األصيل عثر على حقل‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ 19‬و‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬آسيار‪ :‬يعتقد أنه بقايا السلفيوم‪ .‬وهو نبات أسطوري يعطي طاقة هائلة انقرض من ليبيا يف القرن الثالث قبل‬ ‫‪‬‬

‫امليالد‪ .‬وجيمع املؤرخون القدماء أنه كان دواء سحريا لكل األمراض املعروفة يف العامل القدمي‪ ,‬وكان ملوك ليبيا‬
‫يصدرونه إىل مصر وما وراء البحار ويعتقد كثريون أن فيه يكمن سر التحنيط إذا استخدمه الفراعنة هلذا‬
‫الغرض‪.‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ 20‬و‪.21‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪42‬‬
‫كام ل‪ .‬ارتفعت النبتة اخلرافية مس افة ذراع عن األرض‪ ,‬أوراقها خض راء داكن ة‪ ,‬ت دلت‬
‫فروعه ا‪ ,‬ع ادت إىل األرض‪ ,‬وختلت عن الس باق الرقيقة الس احرة‪ ,‬يف قمة الس اق تكش فت‬
‫زه رة ص فراء‪ ,‬وف احت بش ذى غ امض‪ .‬زه رة اجلن‪ ...! ‬ب دأ احلي وان اجلائع يلتهم نبتة اجلن‪,‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫ميأل فمه‪ ,‬ويرفع رأسه حنو األفق‪ ,‬ويلوك طويال قبل أن يبتلع اللقمة "‬
‫وفعال متاثل األبلق للش فاء بعد أكله ه ذه النبتة الس حرية اليت هدته إليها اآلهلة " ت انيت "‪,‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬احلي وان اجلائع يلتهم نبتة اجلن‪ ,‬ميأل فم ه‪ ,‬ويرفع رأسه جيرت‬
‫احملرم‪ .‬خيّل إىل " أوخيّد " أن الربيق عاد إىل عينيه‪ .‬احلياة عادت إىل املقلتني امليتتني‪,‬‬
‫العشب ّ‬
‫مل يت بني احلدقتني متاما بس بب العتم ة‪ ,‬ولكن ال وميض الطيّب‪ ,‬ال ذكي‪ ,‬اهلادئ‪ ,‬ب رق يف ض وء‬
‫ختش ن اجللد اجلدي د‪ ,‬والت أم اجلرح‪ ,‬اختفت احلم رة‪ ,‬ولكن ال وبر مل ينبت‬ ‫الن ار م رارا‪ّ ...‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫بعد‪"...‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وج اءت – ك ذلك – مطاوعة العنصر األس طوري ( ت انيت إهلة اخلصب ) عرب حالة‬
‫التماثل والتش ابه من خالل تيمة ( التكفري والطه ارة )‪ ,‬حيث وعلى من وال أس اطري اخلصب‬
‫القدمية حىت يتغلب اخلري على الشر جيب أن يك ون التكفري والطه ارة‪ ,‬ألن األبلق أخطأ حني‬
‫خالط قطيع الن وق ونسي نفسه ومتيزه فك انت الكارث ة‪ .‬وبالت ايل عليه التكفري والطه ارة لكي‬
‫يشفى‪ .‬فقد جاء يف نص الرواية‪ " :‬هل أطمع أن أرى األبلق يف أصله؟ استفهم الشيخ بإمياءة‪,‬‬
‫فأوضح الشاب‪- :‬هل يسرتد األبلق لونه؟‬
‫‪ -‬اهلل مجيل حيب اجلم ال‪ .‬وإذا اش رتيت له الش فاء هبذا الع ذاب فال بد أن ترقع مقابل‬
‫الكمال أيضا‪.‬‬
‫مل يفهم أوخيّد‪ ,‬فأوضح الشيخ‪:‬‬
‫‪ -‬التكفري‪ ,‬الطهارة‪ ,‬أال تفهم؟‬
‫‪ -‬الطهارة؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ,‬البد من اإلخصاء‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ 33‬و ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ 34‬و ‪.57‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪43‬‬
‫‪ -‬اإلخصاء‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا تظن؟ أمل نتفق أن لكل شيء مثن؟‬
‫‪ -‬البدن آمث‪ .‬البدن كله خطيئة‪ ,‬يلزم نزع السبب من أصله " (‪. )1‬‬
‫وهكذا مت التكفري‪ ,‬على حد زعم الشيخ موسى‪ ,‬ومتت الطهارة‪ ,‬حيث جاءيف نص الرواية‪" :‬‬
‫ولكن البد من الطهارة‪ .‬لن تفوز باجلمال ولن تلقى اهلل بدون طهارة‪ ,‬الطهارة هي الشرط‪.‬‬
‫ذرع أوخيّد بالس فر إىل " القري ات "‬ ‫أع رتف لك أنه عمل ق اس‪ ,‬ولكن ليس ل دينا خي ار‪ ...‬ت ّ‬
‫جللب إبله التائهة هن اك‪ .‬ت رك األبلق ألي دي اجلالدين‪ .‬الش يخ موسى وح ده ع رف أن س فره‬
‫ليس للّح اق باإلبل وإمنا هربا من الي وم املوع ود‪ .‬يف الي وم الت ايل لغياب ه‪ ,‬تكأكأ الرج ال على‬
‫اجلمل املس كني‪ .‬النصف األول من النه ار قض وه يف منازعته وتطه ريه من " البالء " وأنفق ول‬
‫النصف الث اين من النه ار يف إجب اره على ابتالع اخلص يتني تكميال للطق وس‪ ...‬اآلن ض منّنا‬
‫(‪) 2‬‬
‫يسرك أن ترى نفسك أبلق‪ ,‬مجيال‪ ,‬نادرا؟ "‬ ‫عودة اللون‪ .‬اآلن ستعود أبلق كما كنت‪ .‬أال ّ‬
‫وبالت ايل ك ان مثن التكفري والطه ارة مثينا وق اس بالنس بة ألوخيّد واألبل ق‪ ,‬ألنه هو اآلخر يت أمل‬
‫ألمل أبلق ه‪ .‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬إغ رورقت عينا األبلق بال دموع‪ ,‬فاحتض نته أوخيّ د‪.‬‬
‫مكثا طويال يف املدى األبدي قبل أن يتكاثف املساء " (‪.)3‬‬
‫ك ذلك‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " إهلة اخلصب ت انيت " ممت دة عرب حالة‬
‫(التشوهات والتغريات) حيث كان من املفروض وعلى منوال قصص اخلصب األسطورية أن‬
‫استجابة اآلهلة للتضرع تستوجب ( الوفاء بالنذر ) لكن أوخيّد نسي النذر متاما‪ ,‬وعوض أن‬
‫ينحر اجلمل الس مني قربانا لآلهلة ( ت انيت ) حنره ألجل عي ون عروسه يف زفافهم ا‪ .‬فك انت‬
‫أول إش ارة من اآلهلة لت ذكريه بالن ذر ال ذي قطعه على نفسه مث خلفه حيث س رق خمزونة من‬
‫التمر حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬ولكن الكيسني سرقا من املطمور بعد يومني‪ ,‬ووجد فوق‬
‫املخ زن على الرمل إش ارة تركها اللص‪ .‬رسم حبب ات التمر مثلثا واضح األض الع واختفى يف‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪.57‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ 56‬و‪ 57‬و‪ 58‬و‪.59‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪.59‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪44‬‬
‫الرم ز‪ ,‬وجلأ إىل عج وز تباوية عمي اء تق رأ الغيب‪ .‬ق الت العراف ة‪ - :‬قلت مثلث؟ هل ن ذرت‬
‫ش يئا لآلهلة " ت انيت "؟ انشق رأس ه‪ .‬وقفز كمن طعنه بس كني‪ :‬اآلهلة ت انيت؟ لآلهلة ت انيت؟‪.‬‬
‫ت ذكر الن ذر‪ .‬ت ذكر ال ويل‪ .‬ت ذكر قاعدته املثلثة األض الع‪ .‬أكل الن ذر‪ .‬أطعمه للع روس‪ .‬نس يه‬
‫متام ا‪ .‬يا ريب! أهي إش ارة من اإلهلة ت انيت؟ تلك عالمته ا‪ .‬خمتومة بالن ار على س واعد الرج ال‬
‫وحتت س ّرة النس اء‪ .‬رآها يف العتمة على بطن " أي ور " أيض ا‪ .‬على مقبض الس يف ويف وشم‬
‫التمائم‪ ,‬يف مقدمة السروج وفوق اجلعب واجلرابات وزينة اللباس‪ .‬هي يف كل شيء ويف كل‬
‫(‪) 1‬‬
‫مكان‪ .‬فهل اختفاء الغرارتني تذكري وحتذير؟ ‪ -‬أغفري يا تانيت‪"...‬‬
‫وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب ت انيت ) عرب تيمة ( اللعنة‬
‫والعق اب ) حيث وقبل ه ذا‪ ,‬تربأمنه وال ده بس بب زواجه من ( آغي ار ) وحرمه من املرياث‪.‬‬
‫فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ت ربأ من ه‪ .‬ق ال للش يخ موس ى‪ " :‬أبلغ األمحق أن أميوه اغ (‪ )‬على‬
‫حق عن دما س نّوا النسب األم‪ ,‬قل له أن يرافقها إىل بالد الس حرة (‪ ." )*‬مث حرمه من املرياث‪,‬‬
‫فانفصل عن القبيلة‪ .‬مل يذهب إىل بالد السحرة ألن اجلدب هناك دفع إىل الصحراء الشمالية‬
‫مبزيد من امله اجرين‪ ,‬ولكنه ن زح إىل األودية الس فلية املتامخة حلدود " خ ّزان " ‪ ...‬حىت أجنب‬
‫مولوده البكر " (‪.)2‬‬
‫وتوالت اللعنات من اآلهلة تانيت وأيضا العقاب على أوخيّد الذي خلف النذر‪ ,‬حيث‬
‫زحف اجلوع على قبيلت ه‪ ,‬وت ذ ّكر يف قمة ذلك اجلوع القاتل أن له مهريا تركه يرتفع يف‬
‫الوادي ليسمن‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬فطاملا مل تأت الذاكرة باحلقيقة إال بعد سيادة‬
‫اجلوع فمقاومة املكت وب أيضا كف ر‪ .‬فمن أين له جبمل مع اىف‪ ,‬ق وي‪ ,‬عاق ل‪ ,‬يف الس نني‬
‫العجف اء ؟ كيف يس تطيع أن ي دبّر مجال وهو ج ائع وامرأته وطفله مه ددان ب اجلوع أيض ا؟‬
‫ت ذكر كيف ش وى مداسه اجلل دي وأكله منذ أس ابيع يف الص حراء الرملي ة‪ .‬ذهب يقتفي أثر‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص‪.77 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬أميوهاغ‪ :‬الطوارق‪ ,‬الكوين‪ " ,‬الترب "‪ ,‬ص ‪.73‬‬ ‫‪‬‬

‫*‪ -‬بالد السحرة‪ :‬هي كانو ومتبكتو‪ ,‬الكوين‪ " ,‬الترب "‪ ,‬ص ‪.73‬‬ ‫*‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص‪.73 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪45‬‬
‫مجل اش رتاه س نوات الرخ اء وتركه يرتع يف ال وادي الفاصل بني الص حراوين‪ :‬اجلنوبية‬
‫والش مالية‪ .‬قابل أحد الرع اة وأخ ربه أنه رآه منذ أس ابيع يف الش رق‪ .‬س افر على ظهر األبلق‬
‫حىت بلغ " زور زاتني " فقال له رعاة " كيل أبادا " إهنم شاهدوا لصوص الصحراء يقتادون‬
‫اجلمل ويع ربون به الص حراء الش رقية حنو غ دامس مع قافلة من اإلبل املس روقة ليبيعها هن اك‪.‬‬
‫وتضاربت األقوال فادعى آخرون أن قطاع الطرق أكلوه يف مكانه‪ .‬هام بعدها يائسا جائعا‪.‬‬
‫مل يذق طعما لطعام منذ أيام‪ ...‬مل يستطع أن يصمد أكثر‪ ,‬فنزع نعلها اجللدي‪ .‬مجع احلطب‬
‫وأوقد النار‪ ,‬شواه على النار حىت تلوى وانكمش مث هنشه بشراهة‪ .‬كان لذيذا‪ .‬ال فرق بينه‬
‫وبني جلود اإلبل اليت سبق له أن أكلها كثريا‪ ...‬الفارس أيضا خملوق بائس‪ ,‬يأكل نعله عندما‬
‫يشرف على املوت جوعا‪ ...‬اجلوع يهني أنبل املخلوقات‪ .‬السالطني أيضا تركع على األرض‬
‫(‪) 1‬‬
‫إذا جاعت وتزحف ذليلة كالعبيد‪ .‬فاغفر يل‪ .‬أغفر يل! بكى ومترغ يف الرتاب طويال"‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت ك ذلك مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب ت انيت ) متقلصة عرب‬
‫حالة ( التماثل والتشابه )‪ ,‬عرب تيمة ( اللعنة والعقاب ) حيث توالت اللعنات واشتد العقاب‬
‫على أوخيّد كل مرة‪ ,‬وبعد أن فقد مجله الذي تركه بالوادي يرتع‪ ,‬ها هو يكاد ميوت جوعا‬
‫هو وعائلته الص غرية‪ ,‬حىت وصل به احلد إىل أكل مداس ه‪ .‬وأم ّر من ه ذا كل ه‪ ,‬فقد دفع به‬
‫اجلوع احمل ّدق بزوجته وابنه وبه أيضا إىل مد يده لغريه بغية اإلعارة حىت يسد رمقهما‪.‬‬
‫فدفعته اللعنة هذه املرة إىل التدين من اآلخرين‪ ,‬واإلحساس بالذل واملهانة‪ .‬حيث جاء يف نص‬
‫الرواي ة‪ " :‬ب األمس م اتت عائلة من زوج وزوجة وثالثة أطف ال‪ .‬قفلت أب واب ال رزق يف‬
‫وج وههم فحبس وا يف ك وخ ومل ي رهم أحد حىت تعفنت اجلثث ف اقتحم أكرب اجلريان الك وخ‪:‬‬
‫وج دوهم مكم ومني ف وق بعض هم‪ ,‬حتللت األجس اد ودبت عليها الدي دان‪ .‬عي ون األطف ال‬
‫جاحظة‪ ,‬فقال إمام اجلامع إهنم ماتوا خمنوقني‪ ,‬خنقهم األب على ما يبدو حىت مينع صراخهم‬
‫من الوص ول إىل آذان اجلريان‪ .‬يف املس اء‪ ,‬ق الت له " أي ور " ‪ - :‬إذا مل تفعل ش يئا فيحسن أن‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪ 78 :‬و‪.79‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪46‬‬
‫نفعل مثلهم‪ .‬لن نفعل ذلك هنا ولكن يف الص حراء‪ .‬لن يع دم وج ود ثالث رصاص ات يف‬
‫(‪) 1‬‬
‫بندقيتك – مل جيبها "‪.‬‬
‫هك ذا دفع أوخيّد إىل الت دين دفع ا‪ ,‬بعد أن ختلى عن كرامته وعفته املعه ودتني‪ .‬وما دفعه إىل‬
‫ذلك س وى ع دم وف اءه للن ذر‪ ,‬ومن مث لعىن اآلهلة " ت انيت " له باملرص اد‪ .‬فقد ج اء يف نص‬
‫الرواي ة‪ " :‬يف الص باح قصد ب ائع ال زيت كي يق رتض من ه‪ .‬عرفه س نوات الرخ اء وق ايض منه‬
‫الش عري والتمر والس كر مقابل ش رائح الغ زالن وال ودان‪ .‬لن ي رده خائب ا‪ .‬ولكن الب ائع أقسم له‬
‫أنه ال ميلك عش اءه‪ .‬املس مار بن املس مار‪ .‬ال ميلك عش اءه‪ .‬منذ ش هور فقط اس تقبل قافلة من‬
‫متبكتو واش رتى بض ائعها باجلم ل‪ ...‬ت ذكر تلميحها اخلفي‪ ...‬حتقريها اخلفي‪ .‬ال حتتقر املرأة‬
‫ش يئا كما حتتقر الرجل اخلائب‪ ...‬الرجل الفاش ل‪ ...‬قصد أحد الفالحني‪ ,‬أقسم أيض ا‪ .‬يف‬
‫ال زمن العص يب كلهم يقس مون‪ ...‬قطع مس افة قص رية فأدركه الفالح يف عينيه تألألت‬
‫دمعتان‪ .‬بسط راحته عن حبات متر‪ .‬ثالث‪ .‬أربع مترات‪ .‬قال‪ :‬هذا من أطفايل للطفل أعرف‬
‫أن عن دك طفل "‪ )2( .‬تواصل ( اللعنة ) ترص دها ألوخيّ د‪ ,‬ويش دد العق اب عليه يف كل م رة‪,‬‬
‫وه ذه املرة تشد اللعنة خناقها علي ه‪ ,‬ه ذه املرة س يكون العق اب أشد إيالم ا‪ ,‬ألن الره ان‬
‫سيكون على أبلقه الذي يبجله حىت على نفسه‪.‬‬
‫إهنا ( تانيت ) اإلهلة الغاضبة املنتقمة اليت ختيط مسار أوخيّد وأبلقه ‪ -‬الذي شفته ‪,-‬‬
‫وخذالها فيما بعد‪ ,‬ستقودمها باجتاه العذاب والفجيعة والعقاب‪.‬‬
‫وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري إله اخلصب " ت انيت " متقلصة عرب حالة‬
‫(التماثل والتش ابه)‪ ,‬من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب )‪ .‬لقد اس تباح ( أوخيّد ) ه ذه املرة‬
‫احملظور الذي قطع على نفسه عدم جتاوزه‪ ,‬بعدم أذية أبلقه‪ ,‬فهذه املرة سيقرتف رهن األبلق‪! ‬‬
‫فقد جاء يف نص الرواية‪ " :‬مث دخل قريبها ‪ -‬أي زوجته – الغريب الواحة‪ ,‬ذهب إىل السوق‬
‫وق ايض مجلني ببعض البض ائع‪ .‬التقى به يف م دخل الس وق فاهت دى إىل الفتح ال ذي حيفظ به‬
‫م اء الوج ه‪ .‬اإلهلام الس ماوي أنق ذه من ال ذل‪ ...‬س وف ي رهن األبل ق‪ ,‬سيس تدين منه مجال أو‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪.84 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪.84 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪47‬‬
‫مجلني حىت تتوقف احلرب ويفرجها ريب‪ .‬مقابل ذلك سريهن أمجل مهري يف الصحراء كلها‪.‬‬
‫لقد رأى ال ربيق يف عيين ق ريب " آي ور " عن دما حدثه عت ه‪ ,‬وهو بريق ال يلمع إال يف عي ون‬
‫التجار الذين جربوا يف حياهتم التعامل بالذهب‪ .‬بريق الذهب هل هو اجلشع؟ هل هو الرغبة‬
‫يف االمتالك واالس تيالء؟ ه ال لنفسه إنه س يكفل رزقا للعي ال حىت يفتح اهلل‪ ,‬وسيض من يف‬
‫نفس الوقت االحتفاظ باألبلق‪ .‬ولكنه أخطأ يف شيء واحد‪ .‬أوخيّد جيهل ما الذي يعنيه لفظ‬
‫(‪) 1‬‬
‫" رهن " يف لغة التجار "‬
‫إض افة إىل ذل ك‪ ,‬ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري متقلصة عرب حالة ( التماثل‬
‫والتش ابه) من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب )‪ ,‬حيث حلق اهلم واحلزن واألسى أوخيّد وأبلق ه‪.‬‬
‫بعد أن أخلى بن ذره لآلهلة‪ ,‬وبعد أن رهن أبلقه البن عم زوجت ه‪ ,‬ألجلها وألجل ابنه حىت ال‬
‫جيوع ا‪ .‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬فكيف يس مح الي وم أن خيون ه ذه اهلبة اإلهلية اليت‬
‫ربطت مصريمها‪ ,‬ويبيعها بسبب العيال أو اجملاعة؟ ماذا ميكن أن يسمى هذا غري اخليانة؟ كيف‬
‫أعمته املرأة إىل احلد ال ذي أعم اه عن رؤية عمله البش ع؟ نعم – هي املرأة‪ .‬لوالها ملا جتاس ر‪.‬‬
‫لوالها ملا س ها عن اإليف اء بالن ذر ل "ت انيت"‪ .‬لوالها ملا حلت اللعنة اليت أعمته عن رؤية‬
‫يطوق عنق الوالد ويديه ورجليه‬ ‫فعلته‪ .‬لوالها ملا جاء الولد إىل الدنيا‪ .‬الولد الذي جييء كي ّ‬
‫بقيد أق وى من احلدي د‪ ,‬ال يط ّوق أطرافه فقط وإمنا يشل عقله وحيجب قلب ه‪ .‬األبن اء حج اب‬
‫(‪) 2‬‬
‫اآلباء‪ .‬األبناء فناء اآلباء " ‪.‬‬
‫ألجل الولد والزوجة رهن أبلق ه‪ ,‬وملن؟ لل ذي جعلته اآلهلة حليفها يف تس ليط العق اب‬
‫الشديد على أوخيّ د‪ ,‬وجر رهن األبلق وراءه يف تسليط العقاب الشديد على أوخيّ د‪ .‬ومرض‬
‫االثنان هلذا الفراق‪ .‬تفننت " تانيت " هذه املرة يف إحلاق األذى األكرب ألوخيّد وأبلقه بوساطة‬
‫وميرغ أنفه ال رتاب ويس لبه اهلن اء حىت بأبلق ه‪.‬‬
‫ابن عم زوجت ه‪ .‬ه ذا األذى ال ذي يقسم ظه ره ّ‬
‫طلب " أوخيّد " من "دودو" ال ذي رهن عن ده أبلقه أن جيد حال له الس تعادة أبلقه ال ذي‬
‫تقامسه األمر مرارا وكان سببا يف خالصه من اهلالك‪ .‬فكانت الفاجعة " البالء صنع منا خملوقا‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ،‬ص‪ 86 :‬و‪.87‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص‪.99 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪48‬‬
‫يف اث نني‪ ,‬ف أرجو أن ال تس تغرب ق ويل‪ :‬ليس من حقي أن أبتعد عن ه‪ ...‬األمر بني ي ديك‪ .‬لن‬
‫تنسى أنه أخرجين من الب ئر‪ ...‬وهبين احلي اة‪ .‬ص نع نفسك مك اين‪ ...‬غ دا س أبعث لك‬
‫جبوايب‪ ...‬مل يس معه من فمه مباش رة‪ ,‬ولكنه بعث به مع رس وله‪ ,‬يعيد لك األبلق ش رط أن‬
‫تطلق قريبت ه‪ .‬هك ذا ب دون حي اء‪ .‬وب دون إمياء‪ ...‬مل يكلف ال راعي نفسه عن اء اإلمياء‪ ...‬يريد‬
‫أن يتزوجها على س نة اهلل ورس وله‪ ...‬لعنة اهلل عليه وعلى ذهب ه‪ .‬وهل يظن أنه يس تطيع أن‬
‫يشرتيين أنا ويشرتي زوجيت بذهبه؟‪ ...‬لقد اشرتاك يف اليوم الذي رهنت فيه األبلق‪ ...‬وماذا‬
‫عن ول دي؟ الولد ول دي‪ ...‬س يعيش بني يديه مثل ابن ه‪ ,‬يف أرغد عيش‪ ,‬إىل أبد اآلب دين‪ .‬وإذا‬
‫اسرتددته عندما يكرب‪ .‬هكذا قال‪ ..‬يف ذلك اليوم‪ ,‬حاول أيضا أن ميتحن قوته‪ ,‬فقرر أن يهجر‬
‫امله ري إىل األب د‪ .‬ففي الليل فكر أنه إذا مل يفعل ذلك ملا رد على إهانة ( دودو ) اجملن ون‪...‬‬
‫مسع العواء األليم‪ ...‬فكيف يستطيع اآلن التخلي عنه؟ كيف ينزعه من نفسه كما ينزع اخلامت‬
‫مع األصبع ويلقي به بني أبدي األوباش والغرباء يف صحراء " دنبابة "؟ كيف جيرؤ ويرتكب‬
‫ه ذه اجلرمية جملرد وج ود املرأة والولد وش يء س خيف امسه الع ار يف الص حراء القاس ية؟ كيف‬
‫يتخلى عن نصفه اإلهلي بوهم الدنيا؟‪ ...‬وإذا كان العار هو كذلك فإن النبل هو احلرية‪ ,‬هو‬
‫اإلخالص لرفيق عرفه يف الفن اء وعرب امللك وت الص حراء ط وال ه ذه الس نوات‪ ...‬اهنال على‬
‫رأسه بكعب البندقي ة‪ .‬س قطت العمام ة‪ ,‬وواصل ق رع جبينه بالض ربات‪ ...‬ض ربات الكعب‬
‫احلدي دي‪ .‬انفلت الدم‪ ,‬تناثر على يديه‪ ,‬وسقطت قطرات على الرمل وقطعة اخليش‪ ...‬وجد‬
‫نفسه حمموما ملوثا ب العرق إىل ج انب ال دم‪ ...‬ولكن أىّن آلالم الب دن أن تتف وق على آالم‬
‫القلب !‪ ...‬ذهب واغتسل يف عني الكرم ة‪ .‬أخفى اجلرح بلثام ه‪ ...‬وجد القاضي يف حلقة‬
‫حيرر له روقة الطالق‪ ...‬اختلى ب " دودو " وس لم له الوثيق ة‪ ...‬وثيقة‬ ‫الش يوخ‪ ...‬وأصر أن ّ‬
‫التس ليم‪ ...‬اخلالص‪ ...‬التح رر من ال وهن والدمية واألمل‪ ...‬إىل األب د‪ ...‬ال وداع‪ ...‬حس نا‬
‫فعلت‪ .‬كسرت القيد وفزت بالص ّديق زرافا كأبلقك هذا بامرأة حىت لو كانت آهلة يف اجلمال‬
‫مثل " ت انيت "؟‪ ...‬أخ رج من الص ندوق احلدي دي جرابا جل ديا ق دميا‪ ,‬موس ومة بإش ارات‬
‫السحرة‪ ,‬غرف منه بفنجان الشاي مرتني‪ ,‬فتألأل الترب وأعمى العيون‪ .‬أشعة الغسق الصفراء‪,‬‬
‫انعكست على احلبيب ات الص فراء فتالمع ال ذهب‪ ...‬ولكن يق ال إنه ملع ون وجيلب الش ؤم‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫خرافات يشيعها العاجزون على احلصول عليه‪ .‬الذهب هدف كل إنسان منذ أن يولد إىل أن‬
‫(‪) 1‬‬
‫ميوت باستثناء الفاشلني والدراويش‪ ...‬وملع يف عينه بريق "‬
‫هك ذا‪ ,‬ك انت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب " ت انيت " )‪ .‬متقلصة عرب‬
‫حالة ( التماثل والتش ابه )‪ ,‬من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب )‪ ,‬وك ان يف كل م رة يش تد‬
‫خناقها على أوخيّ د‪ ,‬على ال رغم من أنه ك ان يتنفس الص عداء من حني آلخ ر‪ ,‬لكنها س خرية‬
‫اآلهلة " ت انيت "‪ ,‬اليت جعلت منه إنس انا بائسا وش قيا ألنه خلف الن ذر‪ .‬فبعد أن اس رتد‬
‫(أوخيّ د) أبلقه مقابل تطليق زوجته وختليه عن ابن ه‪ ,‬وحص وله على حفنة ت رب‪ .‬عم اخلصب‬
‫املراتع اجملاورة جلبل احلس اونة وظن احلرية والنعيم‪ ,‬املنتظ ران له وألبلق ه‪ ,‬حيث ج اء يف نص‬
‫الرواي ة‪ " :‬يف املراتع اجلنوبية احملاذية جلبل احلس اونة‪ ,‬اس رتد األبلق األبلق عافيت ه‪ .‬ف ازت تلك‬
‫البقعة بأمطار سحابة عابرة يف هناية الربيع املاضي‪ ,‬وخفيت عن الرعاة احملرتفني بسبب فوزها‬
‫املت أخر ب املطر‪ .‬اكتش فها أوخيّد بعد خروجه من " آدرار " متجها إىل الص حراء الش مالية‬
‫فاستقر هناك‪ .‬ترك املهري يف املرعى األخضر‪ ,‬وآوى إىل الكهف يف الطرف الغريب من اجلبل‪,‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫عقد العزم على االستقرار هنا "‪.‬‬
‫إهنا إهلة اخلصب " ت انيت "‪ ,‬متأل الك ون خص با من حول ه‪ ,‬لينعم قليال مث تفاجئه‬
‫بالعقاب تارة أخرى‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬وها هو اهلل يكافئه على الصرب ويهديه إىل ه ذا الك نز‪.‬‬
‫املراعي اخلفي ة‪ ,‬املراعي اليت اخض رت بالس حب الع ابرة هدية مساوية يف الص حراء‪ .‬حىت‬
‫الصحراء العارية تعرف كيف ختبئ املفاجآت لنكافئ هبا الصابرين‪ .‬كافأت املهري بالعشب‬
‫وكافأته هو بالرتفاس‪ ,‬الرتفاس أيضا كنز خمفي‪ .‬وما هو الكنز إن مل يكن ترفاسا؟ مثرة تسقط‬
‫من السماء‪ .‬جيود هبا العدم‪ .‬تتشقق عنها األرض‪ .‬شذى ينطلق تائها يف املطلق‪ ,‬تذروه الرياح‬
‫وتعي ده إىل األرض‪ .‬تلتحم ال ربوق وت تزاوج ب الرعود فتولد الثم رة الس حرية من قلب الفن اء‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬برواية " الترب "‪ ,‬ص‪ 103 :‬حىت ‪.124‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬برواية " الترب "‪ ,‬ص‪.128 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪50‬‬
‫التمتع بالرتف اس يف بداية الص يف‪ .‬ه ذه رمحة من الس ماء‪ .‬ه ذا ف ردوس األرض‪ ,‬ولكن هل‬
‫(‪)1‬‬
‫يدوم الفردوس حىت لألولياء؟ هل يدوم النعيم حىت لألنبياء؟ "‬
‫وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري (إهلة اخلصب "ت انيت") متقلصة م رة أخ رى‪ ,‬عرب‬
‫حالة (التماثل والتش ابه)‪ ,‬من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب )‪ ,‬حيث ال يلبث أوخيّد كث ريا‬
‫حىت يستفيق من حلمه هذا‪ ,‬ونعيمه الزائف على وقع فجيعة الفضيحة والعار اللذان حلقا به‪,‬‬
‫فكل األهايل يسخرون منه ويلعنونه لفعلته‪ ,‬وساق القدر‪ ,‬أحد الرعاة لريوي له احلقيقة البعيدة‬
‫عنه‪ ,‬وخيرجه من الفردوس إىل اجلحيم‪ ,‬الذي دفعته إليه اآلهلة ( تانيت ) دفعا حلنثه بالعهد‪.‬‬
‫فقد جاء يف نص الرواية‪ ... " :‬ولكن خل يدوم الفردوس حىت لألولياء؟ هل يدوم النعيم حىت‬
‫لألنبي اء؟‪ ...‬التقى بأحد الرع اة‪ ...‬استض افه أوخيّد بالش اي‪ ...‬القناع ة‪ .‬كل الفقه اء جيمع ون‬
‫على إدانة الطم ع‪ .‬وأنا أص دقهم‪ .‬لعنة اهلل على املال‪ .‬هل مسعت ب ذلك الرجل ال ذي ب اع‬
‫زوجته وولده يف واحة آدرار مقابل حفنة من الترب؟ ‪ -‬مجد الدم يف عروق أوخيّ د‪ .‬صرخ‪- :‬‬
‫وهل الواقع‪ .‬تبددت احلرية وجاءت األصفاد‪.‬‬ ‫ماذا؟ القصة على كل لسان‪ ...‬توارى الوحي ّ‬
‫فخيّل إليه أن كل ما فكر فيه ط وال رحلته اجلس ور حنو اخلالص ك ان ومها‪ ...‬مل يكن ين ام‪.‬‬
‫اجلم رة يف قلبه مل ت رتك له اجملال للن وم‪ ...‬يا إهلي‪ .‬ه ذا ع ار مل تس مع مبثله الص حراء من قب ل‪.‬‬
‫حىت أك ثر العبيد عبودية مل يبع زوجته وطفله مقابل حفنة من الت رب‪ ...‬آه ك اد ينس ى‪ ,‬الن ذر‪,‬‬
‫نذر تانيت‪ .‬هل هذا هو نذر تانيت؟ أم لعنة األب؟ يا ريب‪ .‬الرأس ينكسر‪ .‬القلب ينفجر‪...‬‬
‫تغمد أن يس لك الطريق ال ذي يلتف ح ول الغابة وي دور ح ول الغابة وي دور خ ارج الط وق‬
‫األخض ر‪ .‬يف املدخل قابل فالح ا‪ .‬س أله‪ ,‬أين ميكنه أن جيد " دودو "‪ ...‬مسع ض جة يف املاء يف‬
‫يتغسل‪ ,‬يتهيأ كي يتسلّل جبوار زوجته‪ ..‬وإمنا يذهب ويقول للناس أنه‬ ‫يتغسل‪ .‬العريس ّ‬ ‫العني‪ّ .‬‬
‫يصوب طويال‪ .‬ضغط على الزناد دون أن حييد عنه بصره‪...‬‬ ‫اشرتاها مباله‪ .‬حبالله‪ .‬بالترب‪ ...‬مل ّ‬
‫صرة الترب وألقى‬
‫أراد أن يقول شيئا‪ ,‬ولكنه مل ينطق‪ .‬ألن الطلقة الثانية اخرتقت حنره‪ ...‬فتح ّ‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص‪.128 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪51‬‬
‫هبا يف العني‪ .‬فوق املكان الذي غابت فيه اجلثة‪ ...‬تألألت املياه‪ ,‬حتت أشعة الشمس الغاربة‪,‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫بذرات الترب الالمعة والدم احلمراء‪" ...‬‬
‫ّ‬
‫رمت به اللعنة إىل دائ رة مغلقة ال خالص منها إال ب املوت‪ ,‬رمته اللعنة ه ذه املرة إىل‬
‫القتل من س لب منه زوجته وابنه‪ ,‬من رم اه ب اجلنب‪ ,‬واخليان ة‪ ,‬وع دم الرجولة‪ ,‬وعدم النخوة‪,‬‬
‫من ألبسه الفض يحة املبيت ة‪ .‬من اهتمه أنه ب اع زوجته وابنه حبفنة من ترب ‪ /‬ت راب‪ ! ‬وظن ه ذه‬
‫املرة أنه اخلالص‪ ,‬وأنه النعيم األب دي ألنه س ينفرد بأبلقه يف ف ردوس األرض وينعما فيها‬
‫بالراحة والطمأنينة والك رباء‪ .‬ولكنه أخطأ جم ّددا وما نعيمه ه ذا‪ ,‬إال لعبه من اآلهلة " ت انيت "‬
‫اليت ما تلبث أن تفاجئه م رة أخ رى بفجيعة أعظم وأمثن مما يك ون قد دفعه من قب ل‪ ,‬ألن‬
‫اخلالص هذه املرة مستحيل‪.! ‬‬
‫طوقته لعنة اآلهلة " تانيت " من كل جانب ومل ترتك له فرصة للنجاة وسوط العذاب‬
‫كل يض ربه م رارا ويزيد من س طوته وقوته ليخ رتق جس ده املتخن ب اجلراح فيزي ده آالم ا‪...‬‬
‫ولكن ه ذه املرة لن يك ون اخلالص من ( اللعنة والعق اب ) إال املوت له وألبلقه ألن ه ذا ما‬
‫حكمت به اآلهلة " تانيت " بعد أن خلف نذره هلا‪ .‬وتنساه‪.‬‬
‫وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب "ت انيت")‪ ,‬متقلصة عرب حالة‬
‫(التماثل والتشابه)‪ ,‬من خالل تيمة (اللعنة والعقاب)‪ ,‬حيث ال خالص من لعنة وعقاب اآلهلة‬
‫" ت انيت " إال اهلالك‪ .‬ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ع اره لن ميح وه ال دم‪ .‬لن ميح وه حىت املوت‪.‬‬
‫س تطارده اللعنة حىت بعد املم ات‪ .‬حكم عليه بالعزلة إىل األب د‪ ...‬األبلق اآلن هو ص ديقه‬
‫الوحيد‪ .‬أراد أن يبقى جبوار األبلق فكتب له اهلل جواره األبدي‪ ,‬األبلق اآلن له‪ ,‬وهو لألبلق‪.‬‬
‫لن يفرقهما إال الفناء‪ .‬بل حىت الفناء لن يفرقهما‪ ,‬سوف يذهبان معا‪ .‬سيعودان إىل أصلهما‬
‫مع ا‪ ,‬كما كانا فبل أن يول دا‪ ,‬فهل ما ح دث نعمة أو لعن ة؟‪ ...‬ولكن اللعنة مل تتوقف عند‬
‫حدود املنفى‪ .‬إذ جاء آير أقارب القتيل‪ ,‬وانتشروا يف الصحراء طلبا لرأسه‪ .‬يف األصل جاؤوا‬
‫القتسام الثروة‪ ...‬ركض النهار كله حىت أشرف على هناية اجلبل شرقا‪ .‬صعد على قمة وخبأ‬
‫وتوس ل إليه‪:‬‬
‫مئونته هناك‪ .‬عاد إىل املهرى وأمسك برقبته‪ .‬نظر يف عينيه العميقتني الرحيمتني ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ 128‬حىت ‪.142‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪52‬‬
‫اآلن سنفرتق‪ .‬البد أن نفرتق سيقتلوننا إن مل نفرتق وعندما ينقشع اهلم سنلتقي مرة أخرى‪.‬‬
‫ولن نف رتق بع دها أب دا‪ .‬هل اتفقن ا؟‪ ...‬جلأ إىل كهف يف أوعر منطق ة‪ .‬مل يكن كهفا مثل‬
‫شق يف جدار صخري يؤدي إىل القمة‪ ...‬ويف الصباح عاد األبلق قبل أن جيد‬ ‫الكهوف ولكنه ّ‬
‫فرص ته يف الف رار‪ ...‬مسع جلبتهم عند الس فح وهم حيوم ون حول ه‪ ,‬مث حياص رونه‪ .‬تع الت‬
‫مر زمن قبل أن يسمع صوته‪ ,‬استغاثته‪ ...‬أهنم يكوونه بالنار‪ ...‬حيرقونه‪ ...‬أزاح‬‫صيحاهتم‪ّ .‬‬
‫األحج ار اليت تس ّد الش ّق فأعم اه الن ور‪ .‬زحف على أربع مغمض العي نني‪ ...‬األبلق خيوض يف‬
‫احلروق وال دم‪ .‬ومسوا وجهه أيض ا‪ .‬ش قوا ف ّكه األيسر بالس كني املش تعل‪ ,‬فتآكل ون ّز منه‬
‫الدم‪ ...‬قال رجل بدين‪ ,‬قصري القامة‪ ,‬تفوح منه رائحة الشياط‪ :‬تعرفون كيف انتقمت تانس‬
‫من ضرهتا الشريرة ‪ ‬؟ قيّ دوا يديه ورجليه باحلبال‪ .‬جاؤوا جبملني‪ .‬ش ّدوا اليد اليمىن والرجل‬
‫اليمىن إىل مجل‪ ,‬وش ّدوا اليد األخ رى والرجل اليس رى إىل اجلمل اآلخ ر‪ ...‬أحرق وا أجس ام‬
‫اجلمل بألس نة الس ياط‪ .‬قفز أح دهم حنو اليمني‪ ,‬وقفز اآلخر يف االجتاه املض اد‪ .‬وجد نفسه يف‬
‫الربزخ‪ .‬سقط من حافّة البئر‪ .‬يف املسافة بني الفوهة واملاء رأى الفردوس‪ .‬زغردت احلوريات‪.‬‬
‫املمزق‪ ,‬ال ّدامي‪ .‬زحفت األشالء ‪.‬‬
‫ون احت اجلني ات يف جبل احلس اونة‪...‬و‪ ...‬زحف اجلسد ّ‬
‫اجتث اجلمل األمين‪ .‬اجلمل األق وى فخذ أوخيّد األمين‪ ,‬وذراعه اليم ىن‪ .‬انتزعتا من املنبت‪.‬‬
‫املمزق‪ ,‬رفع أوخيّد رأسه احلاسر‪ .‬طار السيف يف الفضاء‪ ,‬واغتسل مباء السماء‬ ‫وبرغم البدن ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫بأشعة الشمس القاسية‪ ,‬ونزل على رقبته‪"...‬‬

‫‪ – 3‬تجليات أسطورة الخصب في رواية " نزيف الحجر "‪:‬‬

‫‪ -‬تعرفون كيف انتقمت تانس من ضرهتا الشريرة‪ :‬تقول األسطورة أن تانس أمرت العبيد أن ميزقوا الضرة بني‬ ‫‪‬‬

‫مجلني يقودمها سائسان جمنونان يسريان يف طريقني متعاكسني‪ ,‬عقابا هلا على تدبريها احملاولة اليت استهدفت‬
‫حياهتا ( من أسطورة تانس وأطالنتس )‪.‬‬
‫‪ -‬ابراهيم الكوين‪ " ,‬رواية الترب " ص ‪ 144‬حىت ‪.160‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪53‬‬
‫تتجلى أس طورة اخلصب يف رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬من خالل العنصر األس طورة "‬
‫املاء " ال ذي هو احلي اة‪ ,‬فاملاء واهب احلي اة والبق اء واالس تمرارية‪ ,‬وقد ك ان منذ الب دء‪, ! ‬‬
‫حيث فك رة والدة الك ون ب الغمر املائي هي ن واة أس اطري التك وين‪ ,‬وك ان املاء رمز اخلصب‬
‫والنم اء – أيضا – فهو أصل الك ون والتك وين‪ ,‬ومنه خلقت البش رية واألك وان ( وقد س بق‬
‫التوسع يف هذه النقطة يف مادة " أسطورة التكوين " )‬
‫وقد جتلت أسطورة " اخلصب " من خالل العنصر األسطوري " املاء " يف نص الرواية‬
‫جتليا ظ اهرا؛ حيث ص رح الك وين‪ " :‬ض حك يومها وت ذكر ما قاله له م رة‪ " :‬الرجل يف‬
‫الص حراء البد أن يقتصد يف ش يئني‪ :‬يف املاء‪ ,‬ويف الرص اص"‪ .‬وق ال أيض ا‪ :‬إن املاء والرص اص‬
‫يف اخلالء مثل اهلواء مها عم اد احلي اة‪ .‬إذا فق دت أوهلما مت عطش ا‪ ,‬وإذا فق دت الث اين فتك‬
‫بك عدو ‪ ..‬إنسان أو وحش أو أفعى‪ .‬املاء والرصاص من مقومات الرجل الوحيد‪ .‬ميكن أن‬
‫يتخلى عن أن شيء إال عنهما " (‪.)1‬‬
‫وهنا ك ان " املاء " عنصر جتلي‪ ,‬وك ان ص رحيا؛ وبالت ايل ج اءت مطاوعة العنصر‬
‫األسطوري " املاء " ممتدة من خالل تقنية ( التماثل والتشابه )؛ حيث جاءت مطاوعة العنصر‬
‫األس طوري " املاء " من خالل تيمة ( احلي اة واملوت ) ه ذه الثنائية الض دية اليت ترتكز عليها‬
‫أس اطري اخلصب العاملية واليت جس دت الص راع الق ائم م ابني ( احلي اة واملوت ) أو (املوت‬
‫والبعث ) أو ( اخلصب والقحط ) ‪...‬إخل‪ .‬ه ذه الثنائية الض دية اليت اش رتكت فيها أس اطري‬
‫اخلصب يف احلضارات املختلفة واملتعاقبة‪.‬‬
‫املاء يف الرواية هو وسيلة عيش وبقاء‪ ,‬وهو أيضا هاجس الرجل الصحراوي – األول‬
‫– عنه يبحث يف كل حني‪ ,‬وألجله يتنقل ويكابد مش اق الص حراء؛ ويرحتل وحيل يف رب وع‬
‫عديدة‪ ,‬إنه السالح ذو حدين؛ فهو الذي حيميه من املوت احملدق به‪ ,‬وحيمي الزرع‪ ,‬واحليوان‬
‫والك ون‪ ,‬وهو ال ذي يقتله حني يغيب عنه عطشا وتيه ا‪ ,‬و – حىت أنه – يفق ده كرامته حني‬
‫يتن ازل ألجله مكره ا‪ ,‬وي رتك مملكته يف فض اء الص حراء بيم اجلب ال والودي ان‪ ,‬ويس لم رقبته‬
‫للواحة اليت تطوقه خبنقتها القاتلة‪.‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪54‬‬
‫وتتجلى أس طورة " اخلصب " – ك ذلك – من خالل تيمة " الن واح " على إله‬
‫اخلص ب‪ ,‬عرب تقنية " العب ارة االس تهاللية" اليت تص درت آخر قصة يف الرواي ة‪ ,‬واليت عنوهنا‬
‫الك وين بنفس عن وان الرواية " نزيف احلجر "‪ ,‬حيث ج اءت اجلملة االس تهاللية كالت ايل‪" :‬‬
‫ليبيا تص حرت‪ ,‬القيظ اختلس اخلص وبة‪ ,‬فن احت احلوري ات مه دالت الش عور‪ ,‬ونعني جف اف‬
‫الين ابيع والبح ريات " (‪ ( )1‬الش اعر الروم اين أوفي ديوس‪ " :‬التح والت " ‪ /‬الكت اب الث اين –‬
‫القرن األول ق‪.‬م ) ‪.‬‬
‫والتجلي هنا ص رحيا‪ ,‬حيث اقتبس الك وين مجلته االس تهاللية من كت اب " التح والت "‬
‫للشاعر العاملي أوفيديوس‪ ,‬فكان عن طريق االقتباس جتليا تاما‪ .‬وهذا هو املعتقد السائد قدميا‬
‫خاصة يف أس اطري اخلص ب؛ حيث تربط العقلية البدائية م وت األرض وجفافها ميوت إله‬
‫اخلصب‪ ,‬فتنوح عليه احلوريات‪ ,‬ويتقرب إليه الناس بقرابني وطقوسا ألجله إرضاءه وبعثه من‬
‫جدي د‪ ,‬أو تزلفا إلله الشر ال ذي تس بب يف م وت إله اخلصب وأحلق املوت والعطش بالبشر‬
‫والنب ات واحلي وان واألرض‪ ,‬إبع ادا لش رها وغض بها‪ ,‬و " الن واح "‪ ,‬ورد كث ريا يف أس اطري‬
‫اخلصب القدمية‪ ,‬حيث ناحت أفروديت على حبيبها إله اخلصب متوز‪" :‬‬
‫وحني كان التجلي صرحيا‪ ,‬جاءت املطاوعة متقلصة‪ ,‬عرب حالة (التماثل والتشابه)؛ حيث‬
‫ناحت اجلنيات على " أسوف " جالب اخلصب لألرض‪ ,‬حني سال دمه على األرض العطشى‬
‫فأخص بها؛ إذ مبوته س قط املوت املطر وتطه رت األرض؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة‪" :‬‬
‫استجابت اجلنيات بالنواح يف الكهوف‪ ,‬وتصدع اجلبل‪ .‬أسود وجه الشمس‪ ,‬وغابت ضفتا‬
‫الوادي يف املتاهات األبدية‪ ...‬يف اللحظة اليت بدأت فيها قطرات كبرية من املطر تصفع زجاج‬
‫الالند روفر وتغسل ال دم املص لوب على اجلدار الص خري " (‪ )2‬وانفج رت مطاوعته العنصر‬
‫األسطوري‪ .‬من خالل تيمة "النواح " عن حالة اختالف؛ حيث ناحت اجلنيات على أسوف‬
‫ج الب اخلصب للص حراء بني ما ج اء يف أس اطري اخلصب وما تف وق به الك وين‪ -‬ص انع‬
‫األس طورة – يف نص ه‪ ,‬اجلني ات بال ذات ألهنا احلاض رة يف فض اء ص حراء الع رب منذ الق دمي‪,‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.141‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين املرجع نفسه‪ ,‬ص ‪ 146‬و‪.147‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪55‬‬
‫وهي حاض رة بل راس خة يف معتقد أهل الص حراء الكوني ة‪ ,‬وقد تلقن أس وق الكثري من‬
‫القصص حوهلا من أمه وأبيه‪ ,‬حىت بات حيسها ويراها يف خلواته بني اجلبال ويف الوديان‪.‬‬
‫"‪ ...‬مث اكتشف رسوما أخرى وهو يتسلق اجلبال خلف املغري‪ ,‬رأى يف اجلدران الصخرية‬
‫وجوها بشعة كوجوه الغيالن وحيوانات قبيحة ال توجد يف الصحراء‪ .‬وأدهشه كيف أن أمه‬
‫مل حتدثه هنا من قبل حىت يف اخلراف ات‪ .‬كما مل يس مع عنها من أبيه قبل أن يهلك يف تلك‬
‫املط اردة الفظيعة خلف ال ودان املس كني‪ ,‬أمه ق الت‪ - :‬إهنم س كان الكه وف الق دماء‪...‬‬
‫األجداد األولون‪ – .‬ولكنك قلت إن كهوف مسكونة باجلن؟ رمقته باستغراب‪ .‬ابتسمت مث‬
‫متايلت ميينا ويس ارا وهي ختض قربة احلليب بني ي ديها‪ .‬ق ال بإحلاح‪ - :‬هل أج دادنا الق دماء‬
‫جن؟‬
‫ٌ‬
‫‪ -‬كتمت ضحكة‪ ,‬ولكنه ضبطها يف عينيها‪ .‬عاود سؤاله‪ ,‬فنهرته بضبق‪:‬‬
‫‪ -‬اسأل أباك‪.‬‬
‫‪ -‬سأل أباه‪ ,‬فضحك‪ ,‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬رمبا كانوا من اجلن‪ ,‬ولكن من جن اخلري‪ .‬اجلن مثل الناس‪ ,‬ينقسمون إىل قبيلتني‪ :‬قبيلة‬
‫اخلري وقبيلة الشر‪ .‬حنن ننتمي إىل القبيلة األخرى‪ ...‬قبيلة اجلن اليت اختارت اخلري‪.‬‬
‫‪ -‬هل هلذا السبب‪ .‬ال جناور أحدا ؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ,‬هلذا السبب‪ .‬إذا جاورت األشرار حلقك الشر اإلنسان الذي يفضل اخلري البد أن‬
‫يه رب من الن اس حىت ال يلحقه األذى‪ .‬وك ذلك يفعل ه ذا الفريق من اجلن‪ .‬س كنوا‬
‫الكه وف هربا من الشر منذ الق دمي الزم ان‪ .‬أال تس معهم وهم يتح اورون يف اللي ايل‬
‫املقمرة؟‬
‫‪ -‬تدخلت األم‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ختيفه مبحاورات اجلن الليلية؟ األجدر أن جتلب الناقة وتأتيين باحلليب قبل العشاء‪.‬‬
‫‪ -‬ضحك األب وهو ينهض ليجلب الناقة‪ ,‬فالتفت أسوف إىل أمه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أمسع حمادث ات اجلن يف الكه وف كل ي وم‪ .‬يقول ون أش ياء مدهشة وخيطر بب اهلم يف‬
‫بعض األحيان أن يغنوا‪ .‬أنا ال أخاف اجلن‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ -‬ضحكت‪ ,‬وألقت بأعواد احلطب يف النار‬
‫(‪) 1‬‬
‫‪ -‬وواصل التسلي بوجوه اجلن يف كهوف اجلبال‪" .‬‬
‫وج اءت اجلن يف مواضع أخ رى من النص منه ا‪ " :‬بع دها ع اف اللحم‪ ...‬األم ان زعجت‪,‬‬
‫وقالت إن هذا من تدبري اجلن‪ .‬نصحت باالحتكام إىل متائم الشجرة‪ .‬وخبته غاضبة‪:‬‬
‫‪ -‬كن رجال يف النهاية وحتدث مع جتار القوافل كي ي أتوا لك حبج اب من " ك انوا " أو‬
‫" متبكتو "‬
‫(‪) 2‬‬
‫مل يتنازل ويتحدث مع التجار يف سبيل احلجاب ألنه ال خياف اجلن‬
‫وقد أض فت مطاوعة ه ذا العنصر األس طوري مجالية للنص وث راء‪ ,‬حيث اتضح معتقد‬
‫أهل الص حراء يف اجلن‪ ,‬وأنه يقامسهم املس كن والص حراء‪ ,‬وأن فيهم من مؤمن ون وال ي ؤدون‬
‫ومنهم من ليسوا كذلك فيلحقون األذى بالناس‪ .‬وما عدم خوف أسوف من اجلن وغريها‪.‬‬
‫وأن يعاشر املرء اجلن يف اخلوايل خري له ألف مرة من خمالطة البشر‪ ,‬هذا ما جعل والد أسوف‬
‫يفضل العيش بعائلته بعيدا عن البشر‪ ,‬وهذه خصوصية من خصوصيات الطارقي؟؟ احلر‪.‬‬
‫ه ذا وتتجلى أس طورة اخلصب ‪ -‬أيضا ‪ -‬من خالل تقنية ( البن اء الفين )؛ حيث عمد‬
‫الكوين إىل بناء قصة إخصاب الصحراء على منوال ما جاء يف أساطري اخلصب‪ ,‬حيث خيصب‬
‫إله اخلص ب‪ ,‬األرض املنتج ة‪ ,‬الول ود حبب ات نطافه وهي حب ات املط ر‪ ,‬فتلد زرعا وش جرا‬
‫ومثارا‪...‬اخل‪ .‬وجند ه ذا املفه وم عند ش عوب خمتلف ة‪ ,‬حيث " يس تند منطق الالهوت يني‬
‫القدامى‪ ...‬إىل احلقيقة اآلتية‪ :‬ملا كان املطر هو السبب يف منو احملاصيل‪ ,‬فالبد أن حيتوي على‬
‫ن دوة احلي اة عند البشر هي احليا من املنوي ة‪ .‬اليت تق ذف عند ه زة اجلم اع‪ ،‬وعلى غ رار ذلك‬
‫أعترب املطر حيا من السماء‪ .‬وجاء يف املسرحية اسخيليوس ( الدانيات ) على لسان أفروديت‪:‬‬
‫" يف الس ماء رغبة الخ رتاق األرض ( مبفه وم املض اجعة )‪ ,‬واألرض تتح رق هلذه الرغب ة‪ .‬إن‬
‫املطر املتس اقط من السماء العاشقة يسيل على األرض‪ ,‬فتنبت العشب املاشية البش ر‪ ,‬والغذاء‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 09‬و ‪ 10‬و‪.11‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬املرجع نفسه‪ ,‬ص ‪.75‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪57‬‬
‫ل دميرت ( إله احلبوب )‪ .‬ويف هذا الطقس املفعم بالرطوبة حتني س اعة التالقح بني األش جار وأنا‬
‫(‪) 1‬‬
‫مصدر ذلك كله " "‬
‫وه ذا ما ج اء يف نص الرواي ة؛ حيث أخصب املطر األرض العطشى حلب ات نطافه اليت‬
‫هي حبات املطر‪ ,‬حث جاء‪ " :‬ما أن هتطل األمطار وتعم السيول حىت حتضر األرض العطشى‬
‫القاسية الكئيبة بألف نوع من النبات‪ .‬تنمو النباتات بسرعة‪ ,‬وختضر األشجار الشاحبة اليابسة‬
‫يف أيام قليلة‪ .‬كأن البذور املبثوثة يف العدم‪ ,‬يف ثنايا الرمل‪ ,‬بني الصخور الصماء‪ ,‬تنتظر هذه‬
‫اللحظ ة‪ ,‬تتلهف على لق اء الس ماء ب األرض‪ ,‬حىت إذا مت اللق اء‪ ,‬متلملت النطفة يف الع دم‪,‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫وتنفست الصعداء‪ ,‬وشقت األرض أو احلجر‪ ,‬وأطلت برأسها حبثا عن الشمس واحلياة‪" .‬‬
‫إذن‪ ,‬أخصب إله اخلصب ‪ -‬على من وال األس اطري القدمية‪ -‬األرض العطشى بنطاف ه‪,‬‬
‫ف أخرجت أجنتها الواحد تل وى اآلخ ر‪ ,‬م دفوعا كل واحد منهم بشوق س ري للحي اة؛ حيث‬
‫ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ي روق له أن يتوقف وينحين ليتأمل الوريق ات الص غرية اليت تقلق طبقة‬
‫الطني ل رتفع رأس ها من الع دم مدفوعة بق وة احلي اة‪ .‬هتتك حج اب الظالم لتنعم بالفض اء‬
‫(‪) 3‬‬
‫والعراء"‬
‫وحني ك ان التجلي ص رحيا من خالل تقنية " البن اء الفين "‪ ,‬ك انت املطاوعة متقلص ة‪,‬‬
‫من خالل حالة التماثل والتش ابه‪ ,‬إذ ج اء التش ابه عرب ثنائية الض دية ( احلي اة واملوت ) ‪ -‬اليت‬
‫تش رتك فيها مجيع أس اطري اخلصب يف الع امل ‪ -‬حيث يهب إله اخلصب احلي اة لألرض والنب ات‬
‫واحليوان واإلنسان‪ ,‬وباملقابل يأيت إله املوت أو القحط‪ ,‬فيتعقبه جفاف األرض وموت الزرع‪,‬‬
‫وم وت احلي وان‪ ,‬وع ذاب اإلنس ان وعطشه وتيهه يف الص حراء حبثا عن ملجأ آمن من اجلوع‬

‫‪ -‬علي‪ ,‬دراسات – ميثولوجيا ولغة " القسم الثاين "‪ ,‬جملة الكرمل‪ ( ,‬فصيلة ثقافية )‪ ,‬العدد ‪ ,23‬سنة‬
‫‪1‬‬

‫‪ ,1987‬ص ‪.12‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 79‬و‪.80‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬املرجع نفسه‪ ,‬ص ‪.80‬‬‫‪3‬‬

‫‪58‬‬
‫والعطش؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬املاء يهب احلي اة للص حراء كما وهب املوت ألمه‬
‫(‪) 1‬‬
‫العجوز "‬
‫فإله اخلصب يف الرواية هو " املاء " الذي ميكنه إخصاب األرض‪ ,‬وميكن له كذلك أن‬
‫يك ون س ببا يف موهتا أو م وت من عليه ا‪ .‬ومن جهة أخ رى ‪ ،‬ج اء إله املوت‪ ،‬أو اجلف اف أو‬
‫القحط يف الرواية هو ( رياح القبلي )‪ ,‬اليت تأيت على الصحراء جبفاف شديد وقحط وجذب‪,‬‬
‫وتيه وموت؛ حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬وكما هو احلال دائما‪ ,‬فإن السيول اجلارفة البد أن‬
‫يليها اجلف اف اس تمر اجلف اف ط ويال دام أك ثر من أربع س نوات‪ .‬يف الس نتني األوىل والثانية‬
‫ع اش على نب ات الس يول الس خية‪ .‬ولكن موج ات القبلي اليت هبت على الص حراء يف الس نة‬
‫الثالثة أتلفت ما تبقى من األش جار وامتصت آخر أمل كنبات ات األودية يف احلي اة‪ .‬يف الس نة‬
‫الثالثة ب دأ يهلك القطي ع‪ .‬ما رب اه يف ع امل اخلري من اجلديان واملع يز قضي عليه القبلي‪ .‬كل‬
‫األودية ص فراء‪ ,‬ذابل ة‪ ,‬كئيب ة‪ .‬مل جتد األغن ام ما تأكل ه‪ ,‬فبحثت عن الت وت بني الص خور‪,‬‬
‫وأكلت فض الهتا بس نوات الس يل‪ ...‬ب دأ القطيع يهل ك‪ ,‬يف ص باح أحد األي ام هنض يف الفجر‬
‫ووجد أن املع زاة قد نفقت يف اللي ل‪ .‬مث تبعها معزت ان وتيس وج دي‪ ,‬و‪ ...‬هك ذا ت والت‬
‫(‪) 2‬‬
‫اجلثث‪ ...‬كان الوادي مليئا جبثث األغنام‪"...‬‬
‫هك ذا يقضي إله املوت ‪ -‬ال ذي يقابل إله اخلصب ‪ -‬على اخلض رة اليت منحها إله‬
‫اخلص ب‪ ,‬ويس تبدل هبجة اخلصب واالخض رار‪ ,‬بوحشة اجلف اف والتص حر‪ .‬ه ذا " القبلي "‬
‫الذي ال مفر‪ ‬وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري (إله اخلصب) يف موضع آخر عن طريق حالة‬
‫(التش ابه والتماث ل) ك ذلك ‪ ،‬من خالل تيمة (اخلالص)؛ ال ذي حتدثت عنه أس اطري اخلصب‬
‫القدمية؛ وه ذا اخلالص ال ذي ينقذ الطبيعة من املوت احملق ق‪ ,‬ويبعثها من جدي د‪ ,‬ويبشر حبي اة‬
‫بغيم لكل الكائنات نباتا وحيوانا وإنسانا‪ .‬جاء يف نص الرواية‪ " :‬يف تلك السنوات‪ ,‬كائنات‬
‫احلمادة؟ تفيض باحلياة‪ ,‬وتعج بقاطعان الغزالن‪ .‬األمطار السخية ال تنقطع طويال‪ .‬إذا شحت‬
‫السماء وخبلت باملاء الوفري هذا العام فإن شوق السماء إىل األرض يف السنة التالية ينقذ البذور‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.80‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 80‬و‪.81‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪59‬‬
‫من التلف واالنق راض‪ ,‬وحيمي األش جار الربية من اجلف اف‪ ,‬في أيت اخلالص‪ .‬ختضر الس هول يف‬
‫الربيع‪ ,‬فيكثر الرتفاس والطيور واألرانب والغزالن‪ ,‬حىت إذا أشرفت على السهول العليا على‬
‫حني غفلة ف وجئت بأمجل املخلوق ات ترتع بس الم‪ .‬حىت إذا ش عرت حبركة اإلنس ت أهبت‬
‫للفرار‪ .‬وعندما تتحرك يف فرارها اجلماعي‪ ...‬سبب آخر ساعد يف تكاثر أمجل املخلوقات يف‬
‫(‪) 1‬‬
‫ذاك الزمان "‬
‫وهك ذا ص حراء الك وين‪ ,‬كص حراء الب دايات‪ ,‬كص حراء األس اطري القدمية حيكمها‬
‫ص راع أزيل بني إهلي اخلصب والقح ط‪ ,‬احلي اة واملوت‪ ,‬اخلري والش ر‪ ,‬ويتغلب فيه ا‪ ,‬اخلصب‬
‫واخلري‪ ,‬واحلياة يف كل م رة‪ ,‬لكن بعد صرب طويل وجلد وجد الطارقي نفسه جمبوال عليه حىت‬
‫ال يهزم‪.‬‬
‫ك ذلك‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " إله اخلصب " عرب حالة ( التش ابه‬
‫والتماثل )‪ ,‬وذلك من خالل تيمة (القرب ان)؛ حيث ي أيت ( القرب ان ) ألجل ( اخلالص )؛ إذ‬
‫يق دم من اجل إرض اء إله اخلصب ليج ود بالعط اء‪ ,‬ومن مث الوفري من مطر خمصب لألرض؛‬
‫ومن مث ي أيت اخلصب والنم اء واحلي اة‪ .‬والقرب ان ض ريبة‪ ,‬يق دمها اإلنس ان منذ وج وده األول‬
‫على ه ذه البس يطة ‪ -‬كما رأينا من قبل مع قابيل وهابيل ‪ -‬وغريها من القصص األس طورية‪,‬‬
‫والقربان من أجل اخلصوبة ‪ -‬يف الذهنية البدائية ‪ -‬قد يكون من جسد رب من األرباب ‪ ,‬أو‬
‫كائنا حي ا‪ ,‬حيث حتدثت تلك األس اطري " عن أصل النبات ات الغذائية املتح ررة من القرب ان‬
‫الذايت لرب أو ربة‪ ,‬لضمان حياة اإلنسان‪ ,‬فإن كائنا إهليا ‪-‬امرأة‪ ,‬فتاة شابة‪ ,‬رجال أو طفال‪-‬‬
‫يض حي بنفس ه‪ :‬من جس ده تنبت األص ناف املتنوعة للنبات ات املغذي ة‪ .‬األس طورة تش كل‬
‫النموذج املثايل للطقوس اليت جيب االحتفال هبا دوريا‪ .‬هذا هو معىن التضحيات البشرية ألجل‬
‫احملاص يل‪ :‬تع دم الض حية‪ ,‬تقط ع‪ ,‬وتن ثر القطع على األرض للحص ول على اخلص وبة‪ .‬ولكن‬
‫حسب بعض املأثورات‪ ,‬ينظر إىل املع ادن أيضا كأهنا متح درة من دم أو من حلم ك ائن أوىل‬
‫نصف إهلي مضحى به " (‪ )2‬وقد جاء القربان ألجل اخلصب يف نص الرواية‪ " :‬ويف السنوات‬
‫اليت ت رق فيها قلب الس ماء‪ ,‬وت نزل األمط ار الس خية يغ امرون باملس امهة يف حنر مجل ين ال منه‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر " ص ‪.96‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪60‬‬
‫الفق راء الع اجزون عن دفع نص يبهم‪ ،‬ألن التص دق من الذبيحة يف مثل ه ذه املواسم يف رض‬
‫التق رب إىل الس ماء اليت مل تبخل عليهم باألمط ار "‪ )1( .‬وت أيت املطاوعة العنصر األس طوري‬
‫(القرب ان) يف نص الرواية لتحيلنا على م دى وف اء الرجل الط ارقي لس خاء وج ود اإلله املانع‬
‫للخصب واحلي اة‪ ,‬وأيضا لتفتح لنا هامشا قرائيا آخ ر‪ ,‬عن أن نص يب الفق راء يف أكل اللحم‬
‫مرتبط جبود وكرم الطبيعة‪ ,‬وإال بات عليهم عدم الطمع يف أكل اللحم ولو بلغ ذلك بأحدهم‬
‫أن يغمى علي ه‪ ,‬لش دة اش تياقه للحم‪ ,‬وه ذا ما جعلنا الك وين نقف على حقيقته ‪ -‬النهم ة‪,‬‬
‫الشرهة ألكل اللحم ‪ -‬وهو شخصية قابيل ( أكل حلم الودان )‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬أما الش هور العادية فال يطمع الفق راء يف أن ين الوا‬
‫ال ذبائح‪ ,‬فيوص دون أب واهبم‪ ,‬ويطفئ ون الن ريان يف بي وهتم‪ ,‬وحيبس ون أوالدهم حىت ال تث ريهم‬
‫روائح اللح وم يف ال بيوت األخ رى‪ .‬وب رغم ه ذه الت دابري ف إن الكث ريين من املدمنني يس قطون‬
‫ص رعى املرض اخلفي ال ذي يس ببه احلرم ان من اللحم‪ ..‬وقابيل ال ذي أس رف يف أكل اللحم‪,‬‬
‫ودلل جسمه بألذ األنواع‪ ,‬مل خيطر بباله للحظة أن جييء يوم ينفذ فيه ذلك االحتياطي الرباين‬
‫من الغ زالن ال ذي تعج به احلم ادة‪ .‬مل يق رأ حس ابا ألن يرقد أش رس ص ياد عرفته الص حراء يف‬
‫(‪) 2‬‬
‫فراش املرض عاجزا‪ ,‬يعاين صداع احلرمان من اللحم "‬
‫وحني قطعت كل الس بل أم ام (قابي ل) أكل حلم الغ زالن وال ودان‪ ,‬وحني أوص له‬
‫احتياجه ألكل حلم ال ودان إىل اجلن ون‪ ,‬مل جيد ب دا من أكل حلم اإلنس ان؛ ال ذي تص وره يف‬
‫جسد ال ودان‪ ,‬فك ان أس وف هو القرب ان ال ذي ينح ره قابي ل‪ ,‬ليجلب اخلصب والنم اء‬
‫للصحراء‪.‬‬

‫‪ -‬يوسف احلوراين‪ " ,‬يف الفكر األسطوري البابلي " ملف ‪ ( :1‬يف األسطورة )‪ ,‬جملة الفكر العريب ( جملة‬‫‪2‬‬

‫اإلمناء العريب للعلوم اإلنسانية )‪ ,‬متوز‪ -‬أيلول ( يوليو – سبتمرب )‪ ,‬ع ‪ ,73‬السنة ‪ – )3( 14‬تصدر عن معهد‬
‫اإلمناء العريب يف بريوت‪ ,‬ص ‪.37 :‬‬
‫‪ -‬إبراهيم‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.138‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.138‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪61‬‬
‫فج اءت مطاوعته العنصر األس طوري "القرب ان" متقلصة عرب حالة (التماثل والتش ابه)‪,‬‬
‫من خالل تيمة " اخلالص"؛ حيث القربان هذه املرة هو قربان بشري‪ .‬الذي قد عهدت عليه‬
‫اجلماع ات البدائية وما ف تئت تقدمه إرض اء لآلهلة منذ غ ابر األزم ان‪ ,‬وطقس تق دمي القرب ان‬
‫يتبعه ‪ -‬يف غ الب ‪( -‬اخلالص) باعتب اره مؤش َر قب ول من ط رف اآلهلة‪ ,‬فبعد أن ارت وت‬
‫الص حراء بس خاء املطر وإخص ابه لرتبتها العطش ة‪ ,‬ه اهي ري اح القبلي هتب من جديد آخ ذة‬
‫معها كل عالمات اخلصب واالخضرار‪ ,‬وخملفة وراءها القحط واجلذب والوات‪ .‬جاء يف نص‬
‫الرواي ة‪ " :‬أم ام اجلسد املص لوب على احلجر وفق قابي ل‪ .‬ض رب رأسه بكلتا كي خيفف‬
‫(‪) 1‬‬
‫شعاعات مشس األصيل‪ ,‬وسقط على األرض‪ .‬هب القبلي فازداد جنون قابيل‪"...‬‬
‫وجاء أيضا‪ " :‬وقف قابيل حتت قدمي أسوف املعلق يف اجلدار الصخري‪ ,‬رأسه يتدىل‬
‫(‪) 2‬‬
‫على صدره‪ ,‬وجهه ذابل‪ ,‬ابيضت شفناه‪ ,‬وتشققتا بالعطش والقبلي "‬
‫وحني هبت ري اح القبلي على الص حراء دون رمحة‪ ,‬ك ان البد من قرب ان يق دم إليه ا‪,‬‬
‫ألجل اخلالص‪ .‬وك ان القرب ان البش ري ه ذه املرة هو سيخضب األرض وخيلص ها من املوت‬
‫احملدق بالنب ات واحلي وان والبش ر‪ .‬فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬فقد قابيل ص وابه‪ .‬لدغه‬
‫االس تفزاز‪ ,‬فهجم على ض حيته املقي دة من الي دين وال رجلني‪ ,‬وجرجرمها عرب ال وادي ال رملي‪.‬‬
‫اجته ص وب الص خرة العالي ة‪ ,‬اليت ينتصب فيها ال ودان األس طوري العظيم‪ .‬جبوار الك اهن‬
‫األك رب‪ ...‬شد احلبل بق وة إىل أعلى‪ ,‬فاحتك جسد أس وف باللوحة الص خرية‪ .‬هنشت ظه ره‪,‬‬
‫فتف وه بآهة مكتوم ة‪ ...‬ربط احلبل اجلديد يف اليد اليم ىن‪ ,‬وعلقه يف نت وء يبعد مس افة قص رية‬
‫ميني الص خرة‪ ...‬أوثق الرجل اليمىن باحلبل اجلديد ميين ا‪ ,‬يف م وازاة الي د‪ .‬وع اد إىل الرجل‬
‫اليسرى ‪ ,‬وأحكم تقييدها حببل القنب‪ ,‬وأبعدها عن األخرى بأن شدها إىل نتوء أبعد‪ .‬أصبح‬
‫أسوف اآلن مصلوبا منفرج الساقني والذراعني‪ .‬جسده يغطي الودان األسطوري املهيب ويد‬
‫(‪) 3‬‬
‫الكاهن تالمس رأسه احلاسر من العمامة‪ ,‬تربت على رأسه "‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر"‪ ,‬ص ‪.144‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر " ص‪.14 6‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر " ص ‪ 107‬و‪.108‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪62‬‬
‫حينه ا‪ ,‬وبكل وحش ية‪ ,‬وحش ية من أوص له هنمه إىل اللحم أن جين لفقدان ه‪ ,‬ووحش ية‬
‫طبيعة جذبة قاتلة ميلؤها الشوك واحلجارة‪ ,‬والتصحر واشتياقها إىل مطر يرويها ويفلق من بني‬
‫شقوقها نباتا وزرعا ووديانا‪.‬‬
‫بكل ه ذه الوحش ية‪ ,‬أع دم أس وف على الص خرة جبرة س كني من قابيل " ل وح قابيل‬
‫بالسالح يف اهلواء‪ ...‬تسلق الصخرة من الناحية األفقية‪ ,‬ضحك يف وجه الشمس بوحشية‪ ,‬مث‬
‫احنىن فوق رأس الراعي املعلق‪ .‬أمسك به من حليته‪ ,‬وجر على رقبته السكني حبركة خبرية‪...‬‬
‫خربة من ذبح كل قطعان الغزالن يف احلمادة احلمراء‪ .‬مل يصرخ أسوف‪ ,‬ومل يعرتض ولكن‬
‫(‪) 1‬‬
‫مسعودا هو الذي صرخ‪ ,‬فرتدد صدى الصرخة يف القمم اجملاورة "‬
‫مبوت أس وف ي أيت املوت املخلص‪ ,‬ال ذي ينفذ بالص لب كما يف األس اطري القدمية‪,‬‬
‫واألس اطري اإلفريقية ت روي ‪ -‬كذلك ‪ -‬حادثة الصلب ألجل اخلصب‪ ,‬فقد جاء " أما املوت‬
‫املخلص فيظهر يف أس اطري إفريقية تشري إىل حد بعيد إىل املعتقد املس يحي بص لب املس يح وما‬
‫(‪) 2‬‬
‫يرمز له من تربئة اجلنس البشري "‬
‫وتأيت مطاوعته هذا العنصر األسطوري (القربان) ‪-‬كذلك‪ -‬يف حالة التماثل والتشابه‪,‬‬
‫حيث ج اءت تيمة الن واح هي األخ رى متش اهبة للن واح على إله اخلصب يف األس اطري القدمية‬
‫‪ -‬وقد تط رقت هلذه اجلزئية فيما س بق ‪ -‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬اس تجابت اجلني ات‬
‫بالنواح يف الكهوف‪ ,‬وتصدع اجلبل‪ ,‬اسود وجه الشمس‪ ,‬وغابت ضفتا الوادي يف املتاهات‬
‫األبدية " (‪ )3‬وج اءت مطاوعة العنصر األس طوري اخلصب متقلصة من حالة (التش ابه‬
‫والتماث ل)‪ ,‬حيث ج اءت تيمة (الكس وف) ع ادة ما تص ور القصص األس طورية ظ اهرة ح زن‬
‫على شخصية خرية‪ ,‬حيث حزنت السماء على أسوف جالب اخلصب لألرض إذ صلب بكل‬
‫وحشية من طرف آكل حلم البشر‪ ,‬قابيل‪ .‬حيث جاء يف نص الرواية‪ :‬مل يلحظ القاتل كيف‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية ‪ " ,‬نزيف احلجر " ص ‪.146‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬أمحد ديب شعبو‪ " ,‬املرأة‪ ,‬اجلسد‪ ,‬والطوطم "‪ ,‬إشكالية أسطورة املوت ورموزه يف اجملتمع األفريقي "‪ ,‬جملة‬
‫‪2‬‬

‫الفكر العريب‪ ,‬عدد ‪ ,82‬خريف ‪ ,1995‬الس؟؟ ‪ ,16‬ص‪.59 :‬‬


‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.146‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪63‬‬
‫اس ودت الس ماء وحجبت الس حب مشس الص حراء " (‪ )1‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري‬
‫(اخلص ب) متقلصة ك ذلك من خالل حالة التماثل والتش ابه‪ ,‬حيث ج اءت تيمة (اخلالص)‬
‫مبوت أس وف‪ ,‬ه ذا اخلالص ال ذي منح الطبيعة املطر واخلصب ورضا اآلهلة‪ .! ‬فقد ج اء‬
‫اخلالص مبوت أسوف؛ حيث سال دمه على الرمال العطشى‪ ,‬فامتصته الرتبة اجلافة‪ ,‬العطشى‬
‫بنهم‪ ,‬وحدثت املعجزة‪ ,‬فنزل املطر!‪ .‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬ألقى القاتل بالرأس فوق‬
‫ل وح من احلجر يف واجهة الص خرة‪ ,‬فتح ركت ش فتا أس وف‪ ,‬ومتتم ال رأس املقطوع املفص ول‬
‫عن الرقبة‪ - :‬ال يشبع ابن آدم إال الرتاب!‬
‫تقاطرت خيوط الدم على اللوح احلجري‪ ,‬فوق اللوح املدفون إىل نصفه يف الرتاب‪,‬‬
‫كتب ب " التيفين اغ ‪ "‬الغامضة اليت تش به رم وز تعاويذ الس حرة يف " ك انوا " عب ارة‪ " :‬أنا‬
‫الك اهن األكرب متخن دوش أن بئ األجي ال أن اخلالص س يجيء عن دما ي نزف ال ودان املق دس‬
‫ويس يل ال دم من احلج ر‪ .‬تولد املعج زة اليت ستغسل اللعن ة‪ ,‬تتطهر األرض ويغمر الص حراء‬
‫الطوفان "‪.‬‬
‫اس تمر نزيف احلجر على الل وح احملف وظ يف حصن الرم ل‪ .‬مل يلحظ القاتل كيف‬
‫اس ودت الس ماء وحجبت الس حب مشس الص حراء‪ .‬قفز مس عود يف الس يادة‪ ,‬أدار املفت اح يف‬
‫اللحظة اليت ب دأت فيها قط رات كب رية من املطر تص فع زج اج الالن دروفر وتغسل ال دم‬
‫(‪) 2‬‬
‫املصلوب على اجلدار الصخري "‬
‫هكذا كان أسوف هو تضحية ألجل الطبيعة‪ ,‬ألجل اخلصب‪ ,‬ألجل الص حراء‪ .‬هذا‬
‫القربان البشري الذي قدمه قابيل بكل وحشية للصحراء ومن عليها‪ ,‬وكان بالتايل على منوال‬
‫أساطري اخلصب القدمية وكيف كان يهب اإلله نفسه أو جزءا منه ألجل إخصاب األرض‪ ,‬أو‬
‫يقدم أحدا من أعوانه أو أحدا من البشر ليكون أضحية ألجل اخلصب؛ حيث جاء‪ " :‬وحني‬
‫رأى بعل ( ‪ ) bèl‬أن األرض ص حراوية ولكن خص بة‪ ,‬أص در أم را ألحد اآلهلة‪ ,‬ب أن يطيح‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر " ص ‪.147‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التيفيناغ‪ :‬أجبدية الطوارق‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ " ,‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.147‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪64‬‬
‫رأسه ( أي رأس بعل )‪ ,‬وب أن ميزج األرض بال دم ال ذي سيس يل من ه‪ .‬وب أن يش كل بش را‬
‫وحيوانات قادرة على حتمل اهلواء " (‪.)1‬‬
‫وبالتايل ال خلق بدون تضحية‪ ,‬فباملوت تولد احلياة‪ ,‬ومبدأ أساطري اخلصب هو التضحية‬
‫من أجل اخلل ق‪ ,‬وهك ذا ك ان أس وف هو أض حية الص حراء‪ ,‬وهو ج الب اخلصب للص حراء‪,‬‬
‫فبموته جتسدت أس اطري اخلصب‪ ,‬الطوارقي ة‪ ,‬حيث صدقت مقولة الكاهن األعظم ‪ -‬حسب‬
‫زعم الكوين ‪ " -‬أنا الكاهن األكرب متخندوش أنبئ األجيال أن اخلالص سيجيء عندما ينزف‬
‫الودان املقدس ويسيل الدم من احلجر‪ .‬تولد املعجزة اليت ستغسل اللعنة‪ ,‬تتطهر األرض ويغمر‬
‫الصحراء الطوفان " فكان التجلي هنا صرحيا‪ ,‬حيث صرح الكوين بنص أسطوري للطوارق‪,‬‬
‫وكانت بالتايل مطاوعة العنصر األسطوري متصلقة من خالل التشابه والتماثل‪.‬‬
‫فج اء اخلالص بعد ص لب أس وف وقطع رأس ه‪ ,‬وبعد أن س ال دمه على الرتبة العطشى‬
‫ف ارتوت األرض وس قط املط ر‪ ,‬بل وطهر ك ذلك الطوف ان األرض ه ذه الطه ارة اليت جبلت‬
‫عليها البش رية منذ غ ابر األزم ان‪ ,‬ليخلف األرض الب ور أرضا خص بة منبتة وليخلف الق وم‬
‫الفاسدين أناسا أنقياء خريين حيث " يرمز املطر كعامل إخصايب لألرض إىل املؤشرات اخلرية‬
‫للسماء " (‪ .)2‬فكانت مطاوعة العنصر األسطوري على الرغم من أهنا جاءت متقلصة إال أهنا‬
‫أض فت مجاال على النص‪ ,‬حيث بق در ما ك انت النهاية خمزنة ألس وف الرجل ال ربيء الص ايف‬
‫اجلوهر‪ ,‬النقي النفس‪ ,‬إال أهنا هناية مفرحة لس كان الص حراء‪ ,‬حيث س يأيت الغضب وي نزل‬
‫املطر‪ ,‬وختضر اليابسة‪ ,‬ويطهر الطوفان األرض والبشر من أمثال قابيل – ويفرح البشر‪.! ‬‬
‫بعد ه ذه الرحلة املش وقة اليت أه دانا إياها الك وين‪ ,‬بص دد ق راءة الرواية " نزيف احلج ر"‪,‬‬
‫واليت فعلت فينا فعل الساحر الذي يذهب – بطال مسه – منا العقل والوعي وجند أنفسنا أمام‬
‫ع امل عجيب غ ريب‪ ,‬نتل ذذ بارتي اده‪ ,‬وتعجبنا الرحلة كث ريا‪ .‬مث ما نلبث أن نع ود من ه ذه‬
‫الرحلة يف واقعنا‪ ,‬حمتملني بشيء مثني ليس بالعجيب كله وليس أيضا باحلقيقي‪ ,‬شيء بني هذا‬

‫‪ -‬يوسف احلوراين‪ " ,‬يف الفكر األسطوري البابلي "‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪ .37‬عن‪ :‬كنج‪ ،‬ألواح اخللق السبعة‪,‬‬‫‪1‬‬

‫ص ‪.86‬‬
‫‪ -‬أمحد زين الدين‪ ,‬دالالت ميثولوجية برسم األنثروبولوجيا – ‪ – 6‬ص ‪.111‬‬
‫‪2‬‬

‫‪65‬‬
‫وذاك‪ ,‬هو خالصة فهمنا‪ ,‬وخالصتنا رحلتنا‪ ,‬إنه الكوين الذي يبحرنا يف عامل أسطوري ممتع‬
‫وما يلبث أ ينتشلنا‪ ,‬حمملني حبفنه من الثمار البحرية والآللئ‪ ,‬واألصداف امللونة‪.‬‬
‫هو الك وين ال ذي أعلنها ص راحة‪ " :‬وجودنا لغز ال يكتمل وج وده إال بوج ود الث الوث‪:‬‬
‫الرواية‪ ,‬اخلالء‪ ,‬األسطورة "‪.‬‬
‫وحني كانت األسطورة األدبية‪ ,‬هي انزياح وعدول عن األسطورة األولية‪ ,‬كانت الكتابة‬
‫عند الك وين جتمع بني األس طوري وال واقعي‪ ,‬بني العج ائيب املدهش وال واقعي املؤمل‪ ,‬حمل ذلك‬
‫يف تض افر رائ ع‪ ,‬أجيد س بكه من رجل خب ري‪ ,‬اخترب حي اة الص حراء بأجبدياهتا وفض اءاهتا‪,‬‬
‫وأس رارها‪ ,‬وألغازه ا‪ ,‬واخترب أيضا إرثا أس طوريا زمخا‪ ,‬منذ أن ك ان ط را‪ ,‬فانتشى منه إىل أن‬
‫شب وصار على ما هو عليه‪.‬‬
‫ص حراء الك وين يض حي فيها اإلنس ان ألجل احلي وان والنب ات والطبيع ة‪ ,‬كك ل‪ ,‬ص حراء‬
‫الك وين خالء مليء بالتناقض ات؛ خالء فيه الشر والك ره واالنتق ام ويقابله التض حية واحلب‬
‫والوفاء‪ ,‬صحراء الكوين فيها الدنس وفيها الطهارة‪ .‬فيها الشرير وفيها املضحي‪ ,‬فيها القحط‬
‫وفيها اجلذب وفيها االرتواء وفيها اخلصب‪ .‬صحراء الكوين قاسية جنون؟ ‪ ,‬تلفحك بشمسها‬
‫امللتهبة اليت توص لك إىل اجلن ون‪ ,‬ومتنحك مط را حينو على الرتبة العطشى فيخص بها وينبت‬
‫الزرع والزهور‪.‬‬
‫إهنا الطبيعة بنقيض يها‪ .‬إهنا اآلهلة مبزاجاهتا املتقلب ة‪ ,‬إهنا إله الشر وإله اخلري‪ ,‬إهنا الص راع‬
‫األزيل بني ق وى الشر وق وى اخلري‪ ,‬إهنا الرقعة اجلغرافية واألرض األس طورية األك ثر مالئمة‬
‫لبدء اخللق األسطوري‪ ,‬إهنا األصل‪ ,‬إهنا املركز‪ ,‬إهنا بدء التكوين‪. ! ‬‬
‫ومنه فإننا نلخص ما ج اء يف رواية الك وين‪ ,‬من ه امش ق رائي واس ع‪ ,‬كرحابة الص حراء‬
‫نفسها‪ ,‬وننثره آللئ أمامنا لنفهم أجبدية صحراء الكوين‪ ,‬بل أجبدية أسطورة الكوين‪:‬‬
‫‪ -1‬ص حراء الك وين‪ ,‬فض اء بكر بعاداته وبراءت ه‪ ,‬واحلب ال ذي يربط أهله حبيواناته‬
‫ويربط أهله بطبيعته‪ .‬إهنا أرض طيبة‪ ,‬أرض مقدسة‪ ,‬إهنا نشأة الكون‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫مواجهة الطوارق لألعداء ( املستعمر ) ورفض كل أنواع االستعمار‪ ,‬شبيه مبواجهة‬ ‫‪-2‬‬
‫أهل الص حراء (الط وارق) لري اح ( القبلي ) وجفافه وترص ده للن اس والنب ات‬
‫واحليوان باملوت احملقق‪.‬‬
‫احلفاظ على الثروة الطبيعة بطرد املستعمر من األرض اخلرية‪ ,‬املليئة بالكنوز واآلبار‬ ‫‪-3‬‬
‫واملناجم‪.‬‬
‫احلفاظ على الثروة احليوانية ( كالودان ) الذي انقرض أو يكاد ينقرض‪.‬‬ ‫‪-4‬‬
‫فداء اإلنسان واحليوان وللطبيعة ككل بدمه وروحه‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫موت اإلنسان فداء للوطن‪ ,‬كموته فداء للطبيعة فهي قمة التضحية من أجل احلياة‬ ‫‪-6‬‬
‫واخلصب واالستمرارية والعيش بكرامة‪ ,‬فهو صراع من أجل الوجود‪.‬‬
‫من تسول له نفسه استعمار الصحراء وهنب ثرواهتا فهو عدو جيب أن يصد ويقتل‪.‬‬ ‫‪-7‬‬
‫هكذا هو من تسول له نفسه االعتداء على احليوانات الربية اآليلة لالنقراض ؟؟ له‬
‫املوت أو اجلنون ( كقابيل )‪.‬‬
‫اجملتمع الص حراوي‪ ,‬أو الطارقي‪ ,‬جمتمع رعوي‪ ,‬وعالقة الراعي بالقطيع هي عالقة‬ ‫‪-8‬‬
‫ال رئيس ب املرؤوس‪ .‬وما تض حية ال راعي ( أس وف) ألجل قطيعة ال ودان إال حماولة‬
‫وضع ص ورة طيبة ومنوذجية للم رؤوس وما جيب أن يك ون علي ه‪ .‬ومن هنا ك ان‬
‫النظام االجتماعي والسياسي للمجتمع الطوارقي هو النموذج األمثل ملا يفرتض أن‬
‫تك ون عليه اجملتمع ات املدنية أو األك ثر تط ورا وه ذه حماولة لنقد النظ ام السياسي‬
‫املتسلط السائد يف اجملتمعات املدنية‪.‬‬

‫‪ - II‬تجليات أسطورة الخلود في روايات إبراهيم الكوني‪,:‬‬

‫‪67‬‬
‫تعد أس طورة اخلل ود مظه را من مظ اهر أس طورة التك وين‪ ،‬حيث تتف رع عنها هي‬
‫وأخواهتا؛ أس طورة اخلصب أو أس اطري الط وطم‪...‬وغريه ا‪...‬وما ف تئ اإلنس ان منذ وج وده‬
‫األول يس عى وراء سر اخلل ود يف ه ذه البس يطة‪ .‬واعتقد اعتق ادا جازما أن اآلهلة خال دة ال‬
‫حمال ة‪ ,‬ف راح يبحث عن س بل النج اة من املوت ليخلد كاإلله يف علي اه‪ .‬وفتش عن سر اخلل ود‬
‫يف نبتة اخلل ود‪ ,‬ويف ش جرة احلي اة‪...‬وغريمها‪ .‬وق دم الق رابني كأض احي جللب اخلل ود‪ ,‬ليس له‬
‫فق ط‪ ,‬بل للطبيعة من حوله أيض ا‪ .‬ألن ت وفر اخلصب والنم اء واخلض رة من حوله هو يف حد‬
‫ذاته ض امنا الس تمرار عيشه وبق اءه‪ .‬وحني أجه ده البحث عن سر اخلل ود‪ ,‬وقه ره املوت يف‬
‫أحابني كثرية‪ ,‬فسلب منه الزرع وسلب منه املواشي وسلب منه أقرب الناس إليه؛ فإنه حني‬
‫مل جيد ب دا للخل ود‪ ,‬رأى يف املوت خل ودا لكن بطريقته الطقس ية‪ ,‬وعن ادا منه مل يستس لم‬
‫للم وت‪ ,‬بل رأى يف املوت حي اة أخ رى‪ ,‬ف دفن مع امليت حاجياته من ملبس ومأكل وحلي‪.‬‬
‫واعتقد آخ رون ب أن روح امليت تبقى حتوم غري بعيد من مس كنه حىت تع ود م رة أخ رى عن‬
‫طريق اجلنني اجلديد أو عن طريق حيوان يعد طوطما‪ ,‬وذلك عن طريق معتقد " احللول "‪.‬‬
‫وهك ذا ظل هنا ه اجس اخللود يس كن اإلنس ان من ذ وج وده‪ ,‬على ال رغم من أنه هو‬
‫من أحلق األذى بنفسه وطرد من جنة اخللود‪ ,‬وارتكب احملرمات واقرتب من الشجرة احملرتمة‪,‬‬
‫واق رتف أول جرمية على وجه األرض‪ ,‬ب أن جسد املوت بي ده فقتل أخ اه وأس ال دمه يف‬
‫ال رتاب‪ ,‬وش هدت األرض آن ذاك على أول جرمية قت ل‪ ,‬وأول مش هد للم وت بيد اإلنس ان‬
‫نفسه‪.‬‬
‫جند عند بعض القبائل اإلفريقية فك رة املوت ( الطيب‪ /‬الن افع ) (‪ .)1‬حيث يب دو املوت‬
‫يف معتق دهم هو نقله خاطفه للجسد لتس تعيد ال روح ش باهبا من جديد عن طريق اخلل ود يف‬
‫جسد جدي د‪ ,‬أو هو انس ياب س لس إىل ع امل األرواح‪ ,‬وتبقى ت رف ال روح متجول ة‪ ,‬مرتقبة‬
‫أهلها‪ ,‬إىل حني أن جتد جماال للعودة من جديد‪! ‬‬

‫‪ -‬أمحد ديب شعبو‪ " ,‬املرأة‪ ,‬اجلسد‪ ,‬والط؟؟ إشكالية أسطورة املوت ورموزه يف اجملتمع اإلفريقي‪ ,‬املرأة‬
‫‪1‬‬

‫الوبية؟؟ وتناقضات اجملتمع املختلف‪ ,‬جملم الفكر العريب‪ ,‬العدد ‪ ,82‬خريف ‪ ,1995‬السنة‪ ,16 :‬ص‪.58‬‬

‫‪68‬‬
‫" هكذا تروي لنا أسطورة داغاري األخروية ( قولتا العليا ) أن اإلنسان غري قادر على‬
‫اإلجناب بنفسه‪ ,‬وأن األطفال هم نتاج حتول األسالف‪ ,‬أي عرب نسق احللولية الذي يستغرق‬
‫وقتا طويال كي يتحقق‪ ,‬وقد يصل هذا الزمن التكوين إىل مخسة أجيال متعاقبة‪...‬ولعل روح‬
‫امليت ت رقب املرأة اليت س تحمل يف رمحها من أعلى ش جرة‪ ,‬أو أهنا ت دخل فيها أثن اء اجلم اع‬
‫وتس تقر يف دم اجلنني‪ ,‬وإذا ك ان ه ذا مصري األس الف ال ذين اس تحقوا ميتة طيبة وك انت هلم‬
‫مكانتهم السامقة يف العشرية‪ .‬فإن مصري اآلخرين هو أن يطول مكوثهم يف عامل األطياف إىل‬
‫ما ال هناية‪ ,‬أو حيلون يف جسد حيوان ( ثعبان‪ ,‬طائر بوم ) يصبح رمزا طوطميا‪ .‬وال يتوقف‬
‫هذا النسق عن تكرار نفسه إذ ميكن أن تتحول روح احليوان الطوطم بعد موته إىل طيف قابل‬
‫(‪) 1‬‬
‫للحلول يف جسد حيوان آخر "‬
‫ومذهب احللول هذا أصله هندي لكنه كان معتقدا صدقت به شعوب كثرية‪ ,‬حىت‬
‫ع رب اجلاهلني ال ذين رأوا يف احلي وان‪ ,‬أقواما مس خت‪ ,‬ويبقى ه ذا املعتقد يؤكد فك رة خلود‬
‫اإلنسان واحليوان حىت بعد موته‪.‬‬
‫تتمثل أس طورة اخلل ود أو البحث عن اخلل ود يف قصة آدم وح واء ‪-‬أوال‪ -‬حيث كانا‬
‫ينعم ان حبي اة اخلل ود يف اجلنة وك ان كل ش يء مت اح هلم ا‪ ,‬لكنهما عص يا اإلله فأخرجهما إىل‬
‫دار الفناء‪.‬‬
‫وقد ج اء نص ه ذه القصة يف العهد الق دمي كما يلي‪ " :‬وك انت احلية أصل مجيع‬
‫احليوانات الربية اليت عملها الرب اإلله‪ ,‬فقالت للمرأة‪ " :‬أحقا قال اهلل ال تأكال من كل شجر‬
‫اجلنة ؟‪ .‬فق الت املرأة للحي ة‪" :‬من مثر ش جر اجلنة نأك ل‪ ,‬وأما مثر الش جرة اليت يف وسط اجلنة‬
‫فقال اهلل‪ :‬ال تأكال منه وال متساه لئال متوتا "‪ .‬فقالت احلية للمرأة‪ ":‬لن متوتا‪ ! ‬بل اهلل عامل أنه‬
‫ي وم ت أكالن منه تنفتح أعينكما وتكون ان كاهلل ع ارفني اخلري والشر "‪ .‬ف أت املرأة أن الش جرة‬
‫جي دة لألك ل‪ ,‬وأهنا هبجة للعي ون‪ ,‬وأن الش جرة ش هية للنظ ر‪ ,‬فأخ ذت من مثرها وأكلت‪,‬‬
‫وأعطت رجلها أيضا معها فأك ل‪ .‬ف انفتحت وأعينهما وعلما أهنما عريان ان فخاطا أوراق تني‬
‫وضعا ألنفسهما مآزر‪.‬‬
‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ,‬ص‪.75‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪69‬‬
‫ومسعا صوت الرب اإلله ماشيا يف اجلنة عند هبوب ريح النهار‪ ,‬فاختبأ آدم وامرأته من‬
‫وجه الرب اإلله يف وسط شجر اجلنة‪ .‬فنادى الرب اإلله آدم وقال له‪ " :‬أين أنت؟ " فقال‪" :‬‬
‫مسعت ص وتك يف اجلنة فخش يت‪ ،‬ألين عري ان فاختب أت "‪ ,‬فق ال‪ " :‬من أعلمك أنك عري ان؟‬
‫هل أكلت من الش جرة اليت أوص يتك ال تأكل منه ا؟ " فق ال آدم‪ " .‬املرأة اليت جعلتها معي‬
‫أعطتين من الش جرة ف أكلت "‪ .‬فق ال ال رب اإلله للم رأة‪ " :‬ما ه ذا ال ذي فعلت؟ " فق الت‬
‫املرأة‪ :‬احلية غرتين فأكلت " فقال الرب اإلله للحية‪ " :‬ألنك فعلت هذا‪ ,‬ملعونة أنت من مجيع‬
‫البهائم ومن مجيع الوحوش الربية‪ ,‬على بطنك تسعني وترابا تأكلني كل أيام حياتك‪ .‬وأضع‬
‫ع داوة بينك وبني املرأة‪ ,‬وبني نس لك ونس لها‪ .‬هو يس حق رأس ك‪ ,‬وأنت تس حقني عقبه "‪.‬‬
‫وقال للمرأة " تكثريا أكثر أتعاب رجلك‪ ,‬بالوجع تلدين أوالدا‪ .‬إىل رجلك يكون اشتياقك‬
‫وهو يس ود عليك "‪ .‬وق ال آلدم " ألنك مسعت لق ول امرأتك وأكلت من الش جرة اليت‬
‫أوصيتك قائال‪ " :‬ال تأكل منها‪ ,‬ملعونة األرض بسببك‪ ,‬بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك‪,‬‬
‫وش وكا وحس كا تنبت ل ك‪ ,‬وتأكل عشب احلق ل‪ .‬بع رق وجهك تأكل خ بزا حىت تع ود إىل‬
‫(‪) 1‬‬
‫األرض اليت أخذت منها ألنك تراب‪ ,‬وإىل الرتاب تعود " "‪.‬‬
‫ومن خالل قصة آدم وح واء نستشف أن اإلنس ان ك ان خال دا منذ الب دء‪ ,‬ولكنه هو‬
‫من جلب املوت إليه وإىل نسله وإىل الكون كله‪ ,‬ففي قصة آدم وحواء كما جاءت يف العهد‬
‫الق دمي" ك ان مت اح هلما أن ي أكال من ش جرة اخلل ود لكنهما بعص ياهنما جلبا ألنفس هما‬
‫وللبشرية الفناء " إن اخلالق مل مينع عن البشر األوائل مثر شجرة احلياة‪ ,‬ضف إىل هذا أنه كان‬
‫قد أعلن أن اإلنسان يستطيع أن يأكل من مثر أي شجرة شاء إال مثر شجره معرفة اخلري والشر‬
‫(‪) 2‬‬
‫"‪.‬‬

‫‪ -‬الكتاب املقدس‪ ,‬اإلصدار الثاين ط‪ ,2003 ,1‬دار الكتاب املقدس مبصر ؟؟ ‪3-2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬أبيديل‪ :‬سحر األساطري‪ ,‬املوت وامليالد‪ ,‬خيط الوجود كله‪ ,‬ص‪.267‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪70‬‬
‫والفكرة مما سبق أن اإلنسان خالد منذ البدء‪ ,‬لكنه هو من سار صوب املوت فكانت‬
‫املوت حتمية قاد نفسه إليها " تسمعنا األساطري فكرة أن اإلنسان خالد من حيث املبدأ‪ ,‬أي‬
‫أن اخللود ماهية كامنة فيه‪ ,‬ولكن اإلنسان هذا نفسه أدخل املوت إىل الكون " (‪.)3‬‬
‫وباقرتافه للخطيئة كان عقابه أن يهبط إىل األرض‪ ,‬وأن يشقى فيها وأن يكون إنسانا‬
‫ألجل اخلل ود‪ ,‬وتقدميه زائال للفن اء ال حمال ة‪ .‬واس تمر ص راع اإلنس ان ألجل اخلل ود‪ ,‬وتقدميه‬
‫النفس والنفيس ب ذلك‪...‬فحني ميرض يت داوى ولو بتق دمي النفيس‪ ,‬أو البحث عن ال دواء‪,‬‬
‫وحيافظ ‪-‬أيض ا‪ -‬على التك اثر والتناسل من أجل البق اء‪ , ,‬وقبل كل ه ذا وبع ده ك ان يق دم‬
‫الق رابني ألجل إرض اء اآلهلة واحلد من غض بها وس خطها وطلب املعونة والرضى من ل دهنا‪.‬‬
‫وأول قربان قدم منذ ظهور الشر على األرض مها قربانا قابيل وهابيل فتقبل اإلله القربان قابيل‬
‫ومل يتقبل قرب ان هابي ل‪ ,‬ونتيجة ل ذلك ك انت أول جرمية قتل على وجه األرض واليت ارتكبها‬
‫هابيل يف حق أخيه قابيل‪.‬‬
‫قصة قابيل وهابي ل‪ " :‬وع رف آدم ح واء امرأته فحبلت وول دت ق ايني‪ .‬وق الت‪:‬‬
‫"اقتنيت رجال من عند الرب " مث عادت فولدت أخاه هابيل‪ .‬وكان هابيل راعيا للغنم‪ ,‬وكان‬
‫ق ايني ع امال يف األرض‪ .‬وح دث من بعد أي ام أن ق ايني ق دم من أمثار األرض قربانا لل رب‪.‬‬
‫وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن مساهنا‪ .‬فنظر الرب إىل هابيل وقربانه‪ ,‬ولكن إىل قايني‬
‫وقربانه مل ينظر‪ ،‬فاغتاظ قايني جدا وسقط وجهه‪ .‬فقال الرب لقايني‪ " :‬ملاذا اغتظت؟ وملاذا‬
‫اس قط وجه ك؟ إن أحس نت أفال رف ع؟ وإن مل حتسن فعند الب اب خطية رابض ة‪ ,‬وإليك‬
‫اش تياقها وأنت تس ود عليها "‪ .‬وكلم ق ايني هابيل أخ اه‪ .‬وح دث إذ ك ان يف احلقل أن ق ايني‬
‫قام على هابيل وقتله‪ .‬فقال الرب لقايني‪ " :‬أين هابيل أخوك؟ " فقال‪ " :‬ال أعلم‪ ! ‬أحارس أنا‬
‫ألخي؟ "‪ .‬فق ال‪ " :‬م اذا فعلت؟ ص وت دم أخيك ص ارخ إيل من األرض‪ .‬ف اآلن ملع ون أنت‬
‫من األرض اليت فتحت فاها لتقبل دم أخيك من ي دك‪ .‬مىت عملت األرض ال تع ود تعطيك‬
‫قوهتا‪ .‬تائها وهاربا تكون يف األرض "‪ .‬فقال قايني للرب‪ " :‬ذنيب أعظم من أن يتحمل‪ .‬إنك‬
‫قد طردتين الي وم عن وجه األرض‪ ,‬ومن وجهك أختفي وأك ون تائها وهاربا يف األرض‪,‬‬
‫‪ -‬املرجع نفسه ص‪.268‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪71‬‬
‫فيك ون كل من وج دين يقتلين " فق ال له ال رب‪ " :‬ل ذلك كل من قتل ق ايني فس بعة أض عاف‬
‫ينتقم منه "‪ .‬وجعل ال رب لق ايني عالمة لكي ال يقتل كل من وج ده‪ .‬فخ رج ق ايني من ل دن‬
‫الرب‪ ,‬وسكن يف األرض نود شرقي عدن " (‪.)1‬‬
‫قصة قابيل وهابيل يف القرآن الكرمي‪ :‬سورة املائدة ( اآلية ‪: ) 30...12‬‬
‫أما قصة قابيل وهابيل يف القرآن الكرمي فجاءت كما يلي‪:‬‬
‫يقول تعاىل بعد بسم اهلل الرمحن الرحيم " واتل عليهم نبأ بين آدم باحلق إذ قربا قربانا‬
‫فتقبل من أحدمها ومل يتقبل من اآلخر قال ألقتلنك‪ ,‬قال إمنا يتقبل اهلل من املتقني‪ ،‬لئن بسطت‬
‫إيل يدك لتقتلين ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك إين أخاف اهلل رب العاملني‪ .‬إين أريد أن تبوأ‬
‫ب إمثي وإمثك فتك ون من أص حاب الن ار وذلك ج زاؤه الظ املني‪ ,‬فط وعت له نفسه قتل أخيه‬
‫فقتله فأص بح من اخلاس رين‪ ,‬فبعث اهلل غرابا يبحث يف األرض لرييه كيف ي واري س وءة أخيه‬
‫قال يا ويليت أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخيه فأصبح من النادمني‪ ,‬من‬
‫أجل ذلك كتبنا على بين إس رائيل أن ه‪ ,‬من قتل نفسا بغري نفس أو فساد يف األرض فكأمنا قتل‬
‫الن اس مجيعا ومن أحياها فكأمنا أحيا الن اس مجيع ا‪ ,‬ولقد ج اءهتم رس لنا بالبين ات مث إن كث ريا‬
‫منهم بعد ذلك يف األرض ملس رفون‪ ,‬إمنا ج زاء ال ذين حياربون اهلل ورس وله‪ ,‬ويس عون يف‬
‫األرض فس ادا أو تقطع أي ديهم وأرجلهم من خالف أو ينع وا من األرض ذلك هلم خ زي يف‬
‫الدنيا وهلم يف اآلخرة عذاب عظيم " (‪ )1‬صدق اهلل العظيم‬
‫فالقرب ان ق دم لنيل رضا ال رب‪ ,‬ولكنه جر عقبه خطيئة قتل من أخ ألخي ه‪ ,‬وبالت ايل‬
‫عوض أن ينال رضا الرب واخللود‪ ,‬كان العقاب بالتيه والشقاء يف األرض‪.‬‬
‫ولكن رغم ه ذا ظل طلب اخلل ود والعيش بطمأنينة وس الم هو ه اجس على ه ذه‬
‫البسيطة‪.‬‬
‫ومهمة البحث عن سر اخلل ود‪ ,‬تكفلت هبا اجلماع ة‪ ,‬وق دمت ألجل النفس والنفيس‬
‫من الق رابني‪ ,‬وأحاطتها هبالة من الطق وس والعب ادات‪ ,‬وأيضا ك انت املهمة بطل من األبط ال‬
‫األس طوريني ال ذين تول وا محاية البش رية من أذى الكائن ات الش ريرة ( املوت )‪ ,‬وقد مسي ه ذا‬
‫‪ -‬سورة املائدة‪ ( ،‬اآلية ‪)33...12‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪72‬‬
‫البطل املخلص بالبطل ( الثق ايف أو ال دمييورغوس ) حيث " ك انت أهم وظ ائف البطل الثق ايف‬
‫–ال دمييورغوس يف األس اطري‪ ,‬هي محاية اجلنس البش ري والع امل على وجه العم وم من أذى‬
‫الكائنات الشريرة اليت كانت جتسد فناء العامل أو ترتبص شرا بالعامل الذي خلق لتوه وهتدد‬
‫بإغراقه من جديد يف حالة اخلراب البدئي‪ ,‬فواقع األمران هذا األخري مل يندثر بعد خلق العامل‪,‬‬
‫بل ختفى على أطرافه‪ .‬وهلذا تأتى للبطل أن يقاتل شىت ضروب الكائنات العنيفة‪ ,‬وحيقق املآثر‬
‫اليت يواصل الع امل وج وده بفض لها‪ ,‬والن اس حي اهتم بس ببها‪ .‬وقد اش تهر أك ثر الص يغ البطولية‬
‫ملثل ه ذا الص راع‪ :‬م آثر جلج امش‪ ,‬ورام ا‪ ,‬وهرق ل‪ ,‬ومثة يف امليثولوجيا العاملية من مثل ه ذه‬
‫األعم ال البطولي ة‪ ,‬فاإلله املص ري الق دمي رع قاتل الثعب ان أبوب وب‪ ,‬وج ورس قاتل س ت‪ ,‬ويف‬
‫األساطري السومرية والبابلية يقاتل إنكي كورا " (‪.)1‬‬
‫فالبطل الثقايف متنوع يف أساطري العامل اليت تتحدث عن املخلص من الشرور اليت تلحق‬
‫بالكائن ات‪ ,‬ولكن أش هر ه ؤالء هو " جلج امش "‪ ,‬واليت تعد ملحمته الس ومرية هي " أكرب‬
‫وأمجل شعر بابلي أكتشف مبنطقة دجلة والفرات‪ ,‬وهي إحدى املالحم البطولية للعامل القدمي‪,‬‬
‫وال يوجد نظري هلا بأي لغة قدمية بالشرق األوسط‪ ,‬سواء باملصرية القدمية أو العربية وغريها‪,‬‬
‫وميكن أن يطلق عليها األوديسا البابلي ة‪ .‬وقد أث ارت اهتماما كب ريا يف الع امل الع ريب منذ أن‬
‫أكتشفت " (‪.)2‬‬
‫وجلج امش ليس جمرد بطل قصة مغ امرات فحس ب‪ ,‬بل ميثل رم زا دائما للك ائن‬
‫البشري الذي يبحث عن سر احلياة‪ ,‬أو سر اخللود‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وقد اتفق العلم اء على أنه شخص ية حقيقي ة‪ " ,‬على ال رغم من تأليه الكهن وت‬
‫الس ومري له يف زمن مبك ر‪-‬ك ان جلج امش ملكا لدولة مدنية هي " أوروك " يف جن وب‬
‫بابل‪ .‬وكان من أقوى امللوك السومريني يف فرتة حافلة بالصراعات الدامية بني دول املدينة اليت‬
‫أسسوها‪ .‬تراكم حول شخصية جلجامش مأثور ضخم من القصص واحلكايات العجيبة عن‬

‫‪ -‬ابيديل‪ " ,‬سحر األساطري‪ ,‬املوت وامليالد‪ ,‬خيط الوجود كله "‪ ,‬ص‪.183‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ملحمة جلجامش‪ ,‬ترمجتها عن األملانية‪ ,‬عبد الغفار املكاوي‪ ,‬مراجعتها على األكدية‪ :‬عوين عبد الرؤوف‪,‬‬
‫‪2‬‬

‫جامعة الكويت‪ ,1994 ,‬ص‪.08‬‬

‫‪73‬‬
‫طغيانه واس تبداده بش عبه‪ ,‬وص داقته الن ادرة املؤثرة " ل وحش الربية " أنكي دو‪ ,‬ومغامراته معه‬
‫وأسفاره اليت انطلقت إليها بعد موته حبثا عن سر احلياة واملوت واخللود‪ ,‬مث رجوعه إىل موطنه‬
‫ومس قط رأسه بعد أن أض اع " نبتة " اخلل ود الش ائكة " فتطهر " واقتنع باحلدود اليت ال جيوز‬
‫إلنس ان أن يتخطاه ا‪ ,‬مهما ص ورت له نفسه أو ص ور له الكهن وت أن " ثلثيه إهلي والثلث‬
‫(‪) 1‬‬
‫الباقي بشري"‬
‫وأهم ما نلحظه من امللحمة الس ومرية جللج امش أنه ح رص على اخلل ود هو ش عبه‪,‬‬
‫بس عيه إىل إحض ار نبتة اخلل ود‪ ,‬وعلى ال رغم من أنه أحقق يف ذلك إال أنه أدرك أن اخلل ود‬
‫احلقيقي هو العمل والبن اء ألجل مملكته وش عبه فقد " ح رص جلج امش على الش هرة وخل ود‬
‫االسم –يف أك ثر من موض ع‪ -‬وذلك قبل أن ينتقل من ال دوران ح ول األنا إىل االهتم ام‬
‫ب النحن‪ ,‬وقبل العث ور على " نبتة " اخلل ود اليت عرب عن رغبته يف أن يش اركه ش عب مدينة‬
‫أوروك وش يوخها يف األكل منها لتجديد الس باب واحلي اة‪ ,‬حىت إذا اختطفتها منه احلية‬
‫وج ددت هبا جل دها‪ ,‬ص ورت لنا امللحمة يأسه وض ياعه ال ذي حتول بعد اقرتابه من مش ارف‬
‫مدينته ورؤية س ورها وأبراجها إىل ن وع من الف رح والتص ميم على مش اركة ش عبه يف العمل‬
‫(‪) 2‬‬
‫والبناء "‬
‫وضياع نبتة اخللود من جلج امش وأكلها من ط رف احلية جعل منها كائنا أس طوريا‬
‫يرتبط ب اخللود‪ ,‬حيث يالحظ أن احلية جتدد جل دها‪ ,‬وكأهنا يف كل جتديد تولد من جديد‬
‫وتعيش أط ول وبالت ايل فهي ملكت سر اخلل ود؛ فقد " احتفظت احلية مبق درهتا عرب مئ ات‬
‫الس نني‪ ,‬ابت دءا من ملحمة جلج امش البابلي ة‪ ,‬وامليثولوجيا اإلغريقية حىت عصر‬
‫احلاض ر‪...‬وهك ذا أض اع جلج امش بعد آدم اخلل ود بس بب حيلة احلية وخبثها وجهله‬
‫(‪) 3‬‬
‫الشخصي‪ ,‬من هنا نفهم أن احلية هي عدوة خلود اإلنسان "‬

‫‪ -‬املرجع نفسه ص‪.19 ,18 ،17 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ملحمة جلجامش‪ ,‬ترمجتها عن األملانية‪ ,‬عبد الغفار املكاوي‪ ,‬مراجعتها على األكدية‪ :‬عوين عبد الرؤوف‪,‬‬
‫‪2‬‬

‫جامعة الكويت‪ ,1994 ,‬ص‪.22‬‬

‫‪74‬‬
‫ولروعة قصة جلج امش‪ ,‬وعربهتا اخلال دة أق دم ملخصا لقصة جلج امش وحبثه عن‬
‫اخلل ود ال ذي انتزعته منه احلية "‪...‬عن دما طغى جلج امش وجترب وص ار يس تأثر بكل فت اة أو‬
‫ام رأة حيبه ا‪ ,‬توسل ش عب أوروك إىل اآلهلة أن ختلف منافسا يقه ره‪ ,‬فخلق ال رب أورورو‬
‫شخصا ومساء أنكيدو ولكن أنكيد وجلجامش صارا صديقني بعد املعركة اليت دارت بينهما‪,‬‬
‫ومن أب رز مغامراهتما املش رتكة رحلتهما إىل غاب ة األرز البعي دة‪ ,‬حيث ذحبا ال وحش مخبابا‬
‫وعندما استهان جلجامش حبب الربة عشتار جعلت أنو ختلق ثورا‪ .‬وأوشك الثور أن يصرع‬
‫جلجامش لو مل جيهز صديقه أنكيدو على الثور وينقذه‪ ,‬فذبت الربة املرض يف أنكيد وجعلته‬
‫ميوت يف حضن جلجامش‪ .‬أمال يف إعادة أنكيد وخوفا من املوت على نفسه‪ ,‬ترك جلجامش‬
‫مملكته حبثا عن أوثانيش تيم ليتعلم أس رار احلي اة واخلل ود بعد أن روى أوثانيش تيم قصة الطوف ان‬
‫جللجامش‪ ,‬أخربه بأنه جيد النبتة التوجيية واخللود يف قاع البحر‪ ,‬جنح جلجامش يف العثور على‬
‫الزه رة التوج يز واخلل ود يف ق اع البحر جنح جلج امش يف العث ور على الزه رة لكنه يف عودته‬
‫فقدها إذا أكلتها أفعى‪ ,‬فحازت على سر الشباب الدائم بتغري جلدها وتراءت روح أنكيدو‬
‫(‪) 1‬‬
‫جللجامش وأخربته عن املوت‪ ,‬وعن املكافآت اليت متنح للشباب ولألبطال "‬
‫عرب كث رية ميكننا استخالص ها من ملحمة جلجم اش ه ذه‪ ,‬أمهه ا‪ ,‬أن اهلاجس األكرب‬
‫لإلنس ان منذ الق دمي هو حبثه عن سر اخلل ود؛ ومواجهته للم وت بشىت الط رق كي ال يستس لم‬
‫هلا‪ ,‬وأيضا من العرب املستخلصة أن اخلل ود ليس من هب ات اإلله للبش ر‪ ,‬بل حتمية املوت هي‬
‫املنتصرة يف النهاية‪ ,‬ونستخلص أيضا أن اخللود احلقيقي هو يف جوهر معناه‪ ,‬أن يعمل اإلنسان‬
‫جبد وإخالص ألجل استمرارية عيش األجيال املتعاقبة فريى صورته يف جيل املستقبل وهذا ما‬
‫شرع جلجامش يف العمل به مع شعبه بعد عودته احملزنة مباشرة‪.‬‬
‫فقد امتثل جلجامش للحقيقة الكونية؛ أنه ال خلود للبشر والكائنات‪ ،‬وامتثل هبذا إىل‬
‫" التطهر "؛ هلذا جنده " قد رجع إىل مس قط رأسه وقد تطهر من أوه ام جمده وأنانيته الفردي ة‪,‬‬

‫‪ -‬جان صدقة‪ ,‬رموز وطقوس –دراسات يف امليثولوجيا القدمية‪ -‬د‪.‬ط‪.‬د‪.‬ت‪ ,‬رياض الريس للكتب والنشر‪-‬‬ ‫‪3‬‬

‫مصر‪ ,‬ص‪ :‬ص‪.151‬‬


‫‪ -‬دوداهنركس‪ ,‬ماكس شابري‪ ,‬معجم األساطري‪ ,‬ص‪.106‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪75‬‬
‫وعقد الع زم على مش اركة ش عبه يف صنع اخللود الوحي د‪ ,‬املت اح للبشر على ه ذه األرض‪ ,‬أال‬
‫وهو بناء احلضارة وتأسيس ما ينفع الناس وميكث يف األرض " (‪.)1‬‬
‫وتنتهي امللحمة يف آخر املط اف‪ ,‬مبوت البطل جلج امش واستس المه إىل ع امل املوت‪,‬‬
‫بعد أن مرض ولزم فراش املرض " مث ال نلبث أن نرى جلجامش على فراش املرض الذي لن‬
‫يق وم من ه‪ ,‬وميوت امللك وترتفع أص وات الن واح علي ه‪ ,‬فنجد أنفس نا يف الع امل الس فلي‪ ,‬كما‬
‫نفهم أن جلج امش رفع إىل ص فوف املل وك ال ذين حيكم ون ذلك الع امل‪ ,‬وأص بح واح دا من‬
‫آهلته الذين يسمون " اآلنوناكي " ويقضون قضاءهم يف أرواح املوتى " (‪.)2‬‬
‫فقد ص ورته امللحمة من ملك متج رب‪ ,‬مس تبد‪ ,‬يبحث عن سر اخلل ود‪ ,‬إىل بطل تطهر‬
‫وعاد إىل وطنه ليعمل جبد لصاحل شعبه‪ ,‬وكان جلجامش قد بىن سورا عظيما حول مملكته يف‬
‫السابق –قبل رحلته للبحث عن نبتة اخللود‪ -‬وكان هذا السور إجنازا عظيما واسى به نفسه‪,‬‬
‫وجعله عمال خال دا حيمى به مملكته من كل ع دو وطاغي ة‪ ,‬وفشل جلج امش يف إحض ار نبتة‬
‫اخللود‪ ,‬هو يف حد ذاته جمد حقيقي له‪ ,‬ذلك أن " هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته‬
‫اليت جتعله أق رب إلينا من كثري من أبط ال املآسي القدمية واحلديث ة‪ .‬ومع أن ش اعر امللحمة (*)‬
‫قد ج ارى الكهن وت والتقاليد الدينية واألس طورية للمق اييس البش رية‪ ,‬وص رح أك ثر من م رة‬
‫ب أن ثلثيه إهلي والثلث الب اقي بش ري ف اين‪ ,‬فقد ح رص على تأكيد إنس انيته وفرديت ه‪ ,‬وإب راز‬
‫ض عفه وت ردده يف كثري من مواقفه وه واجس رؤاه وأحالم ه‪ ,‬وعلى تتبع " تطه ره " الت درجيي‬
‫من تأهله وجتربه وتس لطه على ش عبه‪ ,‬بل من مترده املؤمل والعقيم على ق وانني املوت والف راق‬
‫احملت وم‪ ،‬حىت وص وله إىل مرحلة ال وعي بالوضع البش ري وق انون اللحظة الع ابرة والواقع هنا‬
‫واآلن‪ ,‬واالقتناع بأن اخللود الوحيد املتاح للبشر إمنا يكون يف إجناز أعمال حضارية من نوع‬
‫(‪) 3‬‬
‫السور الذي يثين عليه ثناء حارا وهو يف طريق عودته إىل موطنه ومسقط رأسه "‬

‫‪ -‬ملحمة جلجامش‪ ,‬ص‪.26‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬ملحمة جلجامش‪ ,‬ص‪.28‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬ملحمة جلجامش‪ ,‬ص‪.42‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪76‬‬
‫اقتنع جلج امش يف النهاية أن اخلل ود من ص فات اآلهلة‪ ,‬اس تأثرت به لنفس ها‪ ,‬وما‬
‫خلوده هو إال يف تطهره من جتربه وتسلطه على شعبه‪ ,‬وخلوده أيضا يف منجزاته اليت ستخلد‬
‫لصاحل شعبه والبشرية أمجع‪.‬‬
‫وحني يئس اإلنس ان من حص وله على اخلل ود‪ ,‬س عى جاه دا السرتض اء آهلته بتق دمي‬
‫الق رابني من خ رية ما ميل ك‪ ,‬حىت هتبه اآلهلة اخلصب والنم اء والطمأنين ة‪ ,‬وحىت يس لم من‬
‫غضبها وبطشها وعقاهبا‪.‬‬
‫والقربان موجود منذ البدء‪ ,‬ففي بعض األساطري جند العامل قد تكون بفعل قربان قدم‬
‫نفسه ألجل البش رية " ففي األس طورة اهلندية القدمية يص نع الع امل كل ه‪ ,‬مبا فيه اإلنس ان من‬
‫جسم اإلنسان األول بوروشا الذي قدم نفسه قربانا لنفسه " (‪.)1‬‬
‫وهذا يؤكد الفكرة القائلة بأن ال حياة تتجدد إال بعد أن يضحى حبياة أخرى‪ .‬وهذه‬
‫الفكرة جيسدها أكثر القربان الدموي والذي يعد شرطا لكل خلق " إن إعالء شأن القربان‬
‫ال دموي بوص فه ش رطا لكل خلق –خلق الك ون وخلق اإلنس ان‪ -‬يق وي من جهة التم اثالت‬
‫بني اإلنسان والكون ولكن على األخص يدخل الفكرة القائلة بأن احلياة ال ميكن أن تتولد إال‬
‫بدءا من حياة أخرى يضحى هبا " (‪. )2‬‬
‫ومبا أن األس طورة والطقس وجه ان لعملة واح دة‪ ,‬فقد جس دت أس اطري اخلصب‬
‫والنماء من خالل طقوس تقدمي القربان ب " معىن التضحيات البشرية ألجل احملاصيل‪ :‬تقدم‬
‫الض حية‪ ,‬تقط ع‪ ,‬وتن ثر القطع على األرض للحص ول على اخلص وبة‪ ,‬ولكن حسب بعض‬
‫املأثورات‪ ,‬ينظر إىل املع ادن أيضا كأهنا متح درة من دم أو من حلم ك ائن أويل نصف إهلي‬
‫(‪) 3‬‬
‫مضحى به "‬

‫‪ -‬إبيديل‪ ,‬مسر األساطري‪ ,‬ص‪.268‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬مريسيا إلياد‪ " ,‬أسطوريات عصر جديد‪ ,‬تر‪ :‬حسن حيدر‪ ,‬جملة الفكر العريب‪ ,‬متوز‪ ,‬أيلول‪ ,‬سبتمرب‪ ,‬العدد‬‫‪2‬‬

‫الثالث والسبعني‪ ,‬السنة الرابعة عشر(‪ ,)3‬بريوت‪ ,‬تصدر عن معهد اإلمناء العريب يف بريوت‪ ,‬ص ‪.36‬‬
‫‪ -‬املرجع نفسه ص‪.37‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪77‬‬
‫ولعل حتقيق االس تمرار والوص ول إىل اخلل ود‪ ,‬ك ان وال ي زال ه اجر املرء حىت يومنا‬
‫ه ذا‪ ,‬يص در عنه ه ذا اإلص رار على االس تمرارية يف كل حني‪ " ,‬إن ك ان عن طريق اإلجناب‪,‬‬
‫أو األعم ال اخلريي ة‪ ,‬أو زرع األرض‪...‬وغريها من األعم ال اليت تفيد املس تقبل واألجي ال‬
‫الالحقة بش كل أو ب آخر‪ .‬وق دم اإلنس ان ق رابني شىت ت درجت يف القيمة ويف اختي ار اجلنس‬
‫والن وع‪ ,‬فمنهم من ذهب إىل أهنا ك انت ق رابني بش رية يف س ابق العه ود‪ ,‬وص وال إىل القرب ان‬
‫النب ايت بع دها‪ ,‬وهن اك من ي ذهب إىل العكس من ه ذا‪ ,‬حيث يؤكد ب أن القرب ان ت درج من‬
‫نبايت إىل حيواين وصوال إىل القربان البشري‪.‬‬
‫وهو موقف يرى أن " القربان يف بداية أمره اقتصر على مثار النبات‪ ,‬مث رأى اإلنسان‬
‫–زي ادة يف متلق آهلت ه‪ -‬أن ي ذبح هلا من ماش يته‪ ,‬حبس بان اللحم أعلى من النب ات رتب ة‪ ,‬وملا مل‬
‫يكن متيسرا له أن حيمل قربانه ليذحبه عند عروش اآلهلة‪ ,‬فقد عمد إىل ذحبه مث حرقه لتتصاعد‬
‫مادته دخانا تشمه اآلهلة فتهدأ نفوسها‪ ,‬وزيادة يف املغاالة‪ ,‬وإثباتا خللوص ضمريه آلهلته‪ ,‬حتول‬
‫حنو ال دماء البش رية‪ ,‬فأس ال بعض دم اءه جبروح مقص ودة‪ ,‬على م ذابح اآلهلة‪ ,‬تقربا وف داء‬
‫لنفسه وأوالده‪ ,‬وممتلكات ه‪ ,‬مث حتول األمر إىل ما يش به الن ذور فك ان ي ذبح واح دا من أبن اءه‬
‫آلهلته‪ ,‬إن هي استجابت لرجائه يف أمر يرجوه‪ ,‬أو دفعا لشر حمتمل احلدوث " (‪.)1‬‬
‫هذا‪ ,‬وهناك باملقابل من يرى العكس متاما‪ ,‬إذ يذهب البعض إىل أن القربان كان يف‬
‫بداياته بش ريا‪ ,‬مث حيواني ا‪,‬مث اقتصر على النب ات حىت تط ور العقل البش ري وأدرك ض رورة‬
‫استبدال اإلنسان باحليوان لقيمة حياته‪ ,‬واستبدال احليوان بالنبات جلاجته إليه؛ حيث " مسايرة‬
‫لسنة تطور العقل البشري االرتقائية‪ ,‬إذ يذهب إىل أن البداية كانت بالضحايا البشرية‪ ,‬عندما‬
‫كان اإلنسان ال يزال يصارع بدائيته الوحشية‪ ,‬وبالتدرج االرتقائي يف تطور العقل حتول حنو‬
‫احلي وان يس تبدله باإلنس ان‪ ,‬ليقدمه آلهلته م ذبوحا أو حمروقا ف داء لنفسه أو للقبيلة أو املوطن‪,‬‬
‫وأحيانا بتقدمي النبات حال احتياجه للحيوان " (‪.)2‬‬

‫‪ -‬سيد القمين‪ ,‬األدب والرتاث‪ ,‬ص‪.77‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬سيد القمين‪ ,‬ص‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪78‬‬
‫ففي سفر التكوين قدم قايني ( قابيل يف اإلسالم ) قربانا حيوانيا للرب‪ ,‬فتقبل منه ومل‬
‫يتقبل قرب ان أخيه هابي ل‪ ,‬ال ذي هو قرب ان نب ايت‪ ( .‬من أمثار األرض ‪-‬كما س بق وأوردن اه‬
‫بالتفصيل من العهد القدمي‪ -‬ويف سفر التكوين نفسه جاء تقدمي النيب إبراهيم –عليه السالم‪-‬‬
‫لول ده كقرب ان بش ري طاعة لل رب فج اء النص كالت ايل‪ " :‬وح دث بعد ه ذه األم ور أن اهلل‬
‫امتحن إب راهيم‪ ,‬فق ال ل ه‪ " :‬يا إب راهيم‪ ." ! ‬فق ال‪ " :‬هاأنذا "‪ ,‬فق ال‪ " :‬خذ ابنك وحي دك‪,‬‬
‫ال ذي حتب ه‪ ،‬إس حاق‪ ,‬واذهب إىل أرض املريا ‪ ,‬وأص عده هن اك حمرقة على أحد اجلب ال ال ذي‬
‫أق ول لك "‪ .‬فبكر إب راهيم ص باحا وشد على محاره‪ ,‬وأخذ اث نني من غلمانه مع ه‪ ,‬وإس حاق‬
‫ابن ه‪ ,‬وش قق حطبا حملرق ة‪ ,‬وق ام وذهب إىل املوضع ال ذي ق ال له اهلل‪ .‬ويف الي وم الث الث رفع‬
‫إب راهيم عينيه وأبصر املوضع من بعي د‪ .‬فق ال إب راهيم لغالمي ه‪ " :‬اجلسا أنتما هنا مع احلم ار‪,‬‬
‫وأما أنا والغالم فن ذهب إىل هن اك ونس جد‪ ,‬مث نرجع إليكما "‪ .‬فأخذ إب راهيم حطب احملرقة‬
‫ووض عه على إس حاق ابن ه‪ ,‬وأخذ بي ده الن ار والس كني‪ ،‬ف ذهبا كالمها مع ا‪ .‬وكلم إس حاق‬
‫إبراهيم أباه وقال‪ " :‬يا أيب‪ " ! ‬فقال‪ " :‬ها أنذا يا بين "‪ .‬فقال‪ " :‬هو ذا النار واحلطب‪ ,‬ولكن‬
‫أين اخلروف للمحرق ة؟ "‪ .‬فق ال إب راهيم‪ " :‬اهلل ي رى له اخلروف للمحرقة يا اب ين"‪ .‬ف ذهبا‬
‫كالمها مع ا‪ .‬فلما أتيا إىل املوضع ال ذي ق ال له اهلل‪ ,‬بىن هن اك إب راهيم املذبح ورتب احلطب‬
‫وربط إس حاق ابنه ووض عه على املذبح ورتب احلطب‪ .‬مث مد إب راهيم ي ده وأخذ الس كني‬
‫ليذبح ابنه‪ .‬فناداه مالك الرب من السماء وقال‪ " :‬إبراهيم ! إبراهيم ! "‪ .‬فقال‪ " :‬ها أنذا "‪.‬‬
‫فق ال ال متد ي دك إىل الغالم وال تفعل به ش يئا‪ ,‬ألين اآلن علمت أنك خ ائف اهلل‪ ,‬فلم متسك‬
‫ابنك وحي دك عين "‪ .‬فرفع إب راهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممس كا يف الغابة بقرني ه‪,‬‬
‫ف ذهب إب راهيم وأخذ الكبش وأص عده حمرقة عوضا عن ابن ه‪ ...‬ون ادى مالك ال رب إب راهيم‬
‫ثانية من الس ماء‪ .‬وق ال‪ " :‬ب ذايت أقس مت‪ ,‬يق ول ال رب‪ ,‬أين من أجل أنك فعلت ه ذا األم ر‪,‬‬
‫ومل متسك ابنك وحي دك‪ ,‬أباركك مبارك ة‪ ,‬وأك ثر نس لك تكث ريا كنج وم الس ماء وكالرمل‬
‫الذي على شاطئ البحر‪ ,‬ويرث نسلك باب أعدائه‪ ,‬ويتبارك يف نسلك مجيع أمم األرض‪ ,‬من‬
‫أجل أنك مسعت لقويل"‪( .‬سفر التكوين‪)22 ,‬‬

‫‪79‬‬
‫وبالت ايل فالقرب ان البش ري موج ود حىت عهد إب راهيم عليه الس الم وحىت بع ده بكث ري‪.‬‬
‫فقد ك انت ع ادة الع رب –ك ذلك‪ -‬تق دمي القرب ان‪ .‬ففي القصة اإلس المية حني طلب اهلل من‬
‫سيدنا إبراهيم عليه السالم أن يذبح ابنه إمساعيل عليه السالم وفداه بكبش (الق رآن) " وقال‬
‫إين ذاهب إىل ريب س يهدين‪ ,‬رب هب يل من الص احلني‪ ,‬فبش رنه بغالم حليم‪ ,‬فلما بلغ معه‬
‫الس عي ق ال يبين إين أرى يف املن ام أين أذحبك ف انظر م اذى ت رى ق ال يا أبت افعل ما ت ومر به‬
‫س تجدين إن ش اء اهلل من الص ابرين‪ ,‬فلما أس لما وتله للج بني‪ ,‬ونادين اه أن يا إب راهيم‪ ,‬قد‬
‫ص دقت الرؤية إنا ك ذلك جنزي احملس نني‪ ,‬إن ه ذا هلو البالء املبني‪ ,‬وف ديناه ب ذبح عظيم‪,‬‬
‫وتركنا عليه يف اآلخرين‪ ,‬سالم على إبراهيم‪ ,‬كذلك جنزي احملسنني‪ ,‬إنه من عبادنا املؤمنني‪,‬‬
‫وبش رناه بإس حق نبيا من الص احلني‪ ,‬وباركنا عليه وعلى إس حق من ذريتهما حمسن وظ امل‬
‫(‪.)1‬‬
‫لنفسه مبني "‬
‫وهلذا ك ان الرس ول الك رمي (ص لى اهلل عليه وس لم) يفتخر بأنه ابن امله ديني‪ :‬إمساعيل‬
‫عليه الس الم‪ ,‬ووال ده عبد اهلل بن عبد املطلب‪ ,‬ال ذي ن ذر وال ده ( عبد املطلب ) بذحبه‪ ,‬لكنه‬
‫فدي مبائة من اجلمال‪ ,‬وقد جاءت القصة منفصلة يف كتاب السرية البن هشام‪ ,‬خمتصرها ما‬
‫يلي‪ " :‬وك ان عبد املطلب بن هاشم ‪ ,‬يف ما يزعم ون‪ ,‬واهلل أعلم‪ ,‬قد ن ذر‪-‬حني لقي من‬
‫قريش ما لقي عند حفر زمزم‪ -‬لئن ولد له عشرة نفر مث بلغوا معه حىت مينعوه لينحرن أحدهم‬
‫اهلل عند الكعب ة‪ ,‬فلما ت واىف بن وه عش رة‪ ,‬وع رف أهنم س يمنعونه‪ ,‬مجعهم مث أخ ربهم بن ذره‪,‬‬
‫ودع اهم إىل الوف اء هلل ب ذلك فأط اعوه‪ ,‬وق الوا‪ :‬كيف نص نع؟ ق ال‪ :‬ليأخذ كل رجل منكم‬
‫ق دحا‪ ,‬مث يكتب فيه امسه‪ ,‬مث ائت وين‪ ,‬ففعل وا مث أت وه‪ ,‬ف دخل هبم على هبل يف ج وف‬
‫الكعبة‪...‬مث ضرب صاحب القداح خنرج القدح على عبد اهلل فأخذه عبد املطلب بيده وأخذ‬
‫الشفر مث أقبل به إىل إساف فائلة ليذحبه‪...‬فقامت إليه قريش من أنديتها‪ ,‬فقالوا‪ :‬ماذا تريد يا‬
‫عبد اهلل؟ ق ال‪ :‬أذحبه‪ ,‬فق الت له ق ريش وبن وه‪ :‬واهلل ال تذحبه أب دا حىت تع ذر في ه‪ .‬إلن فعلت‬
‫ه ذا ال ي زال الرجل ي أيت ابنه حىت يذحبه فما بق اء الن اس على ه ذا؟ ‪ ...‬واهلل لتذحبه أب دا حىت‬

‫‪ -‬سورة الصافات‪ ,‬اآلية‪)113...,99,100,101,102( :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪80‬‬
‫تعذر فيه‪ .‬فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه‪...‬فبلغت اإلبل مائة فنحرت مث تركت ال يصد عنها‬
‫(‪) 1‬‬
‫إنسان وال مينع "‬
‫وهكذا تكون التضحية وتقدمي القربان داللة على متانة العالقة بني اإلنسان ومعبوده‪,‬‬
‫" ليس تق دمي األض حية س وى جتديد للعالقة ومتتني هلا بني العبد وإهله "‪ .‬وحتمل التض حية يف‬
‫ثناياهها عربة لألفراد واألجيال‪ ,‬ومسعا جادا يف حماولة وضع نظام أسري متآلف‪ " ,‬والتوراة‬
‫عرجت على مسألة التضحية البشرية يف مواضيع عدة‪ ...‬وظهر اهلم مبمارسة هذه الفعلة من‬
‫ط رف إب راهيم مث وقع ال رتاجع عنه ا‪...‬ما فعله إب راهيم مع أحد ابنيه س واء مع إمساعيل أو‬
‫إسحاق‪ ,‬املقصود منه اإلرشاد ملنع إيقاف التضحية باإلنسان ليستقر األمن واألمان بني أفراد‬
‫األس رة‪ ,‬فقد ك ان ارتق اء التفكري اإلنس اين وتص حيح رؤيته لإلله من ال دوافع اليت س امهت يف‬
‫تواري هذه العادة " (‪.)2‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وقد ق دمت الع رب الق رابني يف اجلاهلي ة‪ ,‬كغريها من الش عوب األخ رى‪ ,‬إذ أن‬
‫ظاهرة وأد البنات ما هي إىل تقدمي قربان بشري إلله القمر " ود "‪ .‬فقد كان وأد البنات يف‬
‫اجلاهلية‪...‬تقدمة وقربان إلله القمر " ود "‪ ,‬حيث كانت املوءودة تداس يف رمال الصحراء‪,‬‬
‫العتقاد اجلاهلني أن القمر سوف يأيت ليال فيتقبل الضحية املقربة إليه‪ ..‬إذ أن " ود " الذي هو‬
‫القم ر‪ ,‬وال وأد ال ذي هو عملية التض حية مش تقات من اجلذر عين ه‪ ,‬أو من ج ذرين ملتص قني‪/‬‬
‫ود‪ ,‬وأد‪ /‬يعين ه ذا أن الكلمة تطلق هنا على املعب ود‪ /‬ود‪ ./‬وأن الفعل ال ذي نتق رب به إىل‬
‫املعب ود قد يش تق من امسه‪ .‬فك ان الفعل وأد للداللة علة دش الطفل يف الرم ل‪ .‬ومن بعد ذلك‬

‫‪ -‬ابن هشام " السرية النبوية‪ ,‬ومعه ألفية السرية النبوي‪ ,‬أرجوزة شعرية للحافظ زين الدين عبد الرحيم‬
‫‪1‬‬

‫العراقي املتوىف ‪ ,806‬ج‪ ,1‬تقدمي ومراجعة‪ ,‬صديقي مجيل العطار‪ ,‬حتقيق وتعليق‪ :‬سعد حممد اللحام مكتبة‬
‫البحوث والدراسات‪ ,‬دار الفكر للطباعة‪ ,‬والنشر والتوزيع‪ ,‬بريوت‪ ,‬ص‪.129/130/131/132‬‬
‫‪ -‬عز الدين عناية‪ ,‬الرتاث اآلن‪ ,‬االستهواء العريب والفكر األسطوري‪ ,‬جملة‪ :‬كتابات معاصرة فنون وعلوم‪,‬‬ ‫‪2‬‬

‫جملة اإلبداع والعلوم اإلنسانية‪ ,‬تشرين الثاين‪ /‬كانون ‪ ,2001‬ص‪.125‬‬

‫‪81‬‬
‫تنشأ املودة بني العبد املضحى به واملعبود –وبالتايل‪ -‬فإن ود‪ ,‬مث وأد‪ ,‬مث مودة ( أي قرىب مع‬
‫املعبود ) كلمات ثالث ال تفصح إال إذا أخذت دخل وحدة تعبدية " (‪.)1‬‬
‫وقد أخذت التضحية أشكاال أخرى أقل حدة‪ ,‬فاستبدل احليوان باإلنسان‪ ,‬مث احليوان‬
‫بالنبات‪ ,‬وحىت أنه يف أحيان كثرية أخذ جزء من اإلنسان ليكون بديال عن الكل الذي هو "‬
‫اإلنسان " يف حد ذاته‪ ,‬وبقيت شعرية التضحية قائمة فقد اختلفت قيمتها بفدية أقل ضررا ف‬
‫" األض حية احليوانية هي ب ديل ارتض ته اآلهلة ختفيفا ومواس اة لإلنس ان املك ره على التض حية‬
‫بأحد أوالده ال ذكور أو اإلن اث‪ .‬وقد ح دث الحقا تط ور القرب ان احلي واين ب أن اس تبدل دم‬
‫األض حية بالنبيد " دم الكرمة " واللحم اآلدمي ب اخلبز –مثلما يش هد على ذلك القرب ان‬
‫املس يحي‪ -‬كم ا‪ ..‬أن عملية اخلت ان وهي ظ اهرة وج دت عند كثري من الش عوب هي ش اهد‬
‫آخر على التح ول‪ ,‬ال ذي ط رأ على فك رة التض حية بالبش ر‪ ,‬فقد ك انت فدية لتض حية أخ رى‬
‫(‪.)2‬‬
‫أشد منها قسوة؛ حيث يكتفي اإلله هنا ( يف طقس اخلتان ) بأخذ جزء من الكل "‬
‫هذا‪ ,‬ويف جمتمعاتنا مظاهر عديدة لتقدمي فدية عوض اإلنسان أو احليوان‪ ,‬وذكرت آنفا‬
‫يف عنصر أس طورة اخلصب –أننا كنا يف ص غرنا‪ -‬نق دم يف السن اليت نقتلعها إىل الش مس‬
‫منش دين هلا لكي هتبنا س نا من فضة أو من ذهب وه ذه تعترب فدية ع وض التض حية أي ج زء‬
‫من الكل‪.‬‬
‫ختاما علينا اإلقرار أن سعي اإلنسان منذ القدمي إىل يومنا هذا وراء فكرة اخللود بكل‬
‫أوجهه ا‪ ,‬وتقدميه ملا تتيحه له معتقداته أو أعرافه وجوارحه من نفيس ألجل االس تمرارية‬
‫والبقاء ما هو إال دليل على ارتقاء العقل البشري وذكاؤه‪ ,‬يف حماولة إجياد حل ملواجهة شبح‬
‫املوت بل حتمية املوت والتص دي هلا ومل ي رتاجع اإلنس ان منذ الق دمي إىل يومنا ه ذا –على‬
‫اختالف ال ديانات الوثنية وبع دها الس ماوية‪ -‬عن فك رة مواجهة املوت والبحث عن اخلل ود‪,‬‬
‫مادام فيه نفس ال يزال يبقيه حيا‪.‬‬

‫‪ -‬تركي علي الربيعو‪ ,‬اإلسالم وملحمة الفكر واألسطورة‪ ,‬مراجعة‪ :‬خلف جراد‪ ,‬عن علي زيعور يف كتابه "‬
‫‪1‬‬

‫العقلية الصوفية والنفسانية التصوف‪ ,‬بريوت‪ ,1979 ,‬ص‪.170‬‬


‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ,‬الصفحة نفسها‪.‬‬‫‪2‬‬

‫‪82‬‬
‫ويف ديننا احلنيف ما يثلج صدر من أعياه التصدي للموت والنبش وراء اخللود‪ ,‬بأن ما‬
‫يبقى للميت بعد موته ثالث‪ " ,‬ولد ص احل ي دعو له " ‪ ,‬ص دقة جارية " ‪ " ,‬علم ينتفع به "‬
‫ويبقى بذلك اإلنسان حيا بفعله احلسن‪ ,‬لقول رسوله ( ص ) " إذا مات ابن آدم انقطع عمله‬
‫إال من ثالث‪ ,‬ولد صاحل يدعو له‪ ,‬أو صدقة جارية‪ ,‬أو علم ينتفع به الناس من بعده " (صدق‬
‫رسول اهلل) ‪.‬‬

‫تجليات أسطورة ( الخلود ) في رواية " البئر "‪:‬‬


‫تتجلى أسطورة اخللود يف رواية " البئر " جتليا صرحيا من خالل تقنية ( البناء الفين )‪,‬‬
‫قصة جنّته األرضية ( أطالنتيدا ) على منوال أسطورة ( الفردوس املفقود )‪.‬‬
‫حيث بىن الكوين ّ‬
‫ه ذه اجلنّة األرض ية اليت ش يّدهتا إهلة اخلصب واجلم ال ( ت انس )؛ حيث عملت جب ّد مبعية جتار‬
‫القوافل واملنجمني والعرافني وخرباء الفلك وقراء الغيب وذوي العلم من كل أحناء األرض‪...‬‬
‫الرسل واخلرباء واملنجمون وقراء الغيب وذوي العلم‬ ‫نص الرواية‪ " :‬وقد جاءها ّ‬
‫حيث جاء يف ّ‬
‫من جه ات ال دنيا األربع طمعا يف املال وجريا وراء بريق ال ذهب‪ ,‬فجمعتهم وق الت هلم‪" :‬‬
‫الص حراء الكربى باملاء‪ ,‬وأريدكم أن تدلوين‪ ,‬بعلمكم وخربتكم على املكان‬ ‫قررت أن أغزوا ّ‬
‫الذي يصلح ألن يكون نبعا يروي عطش حميط الرمال الرهيبة‪ ,‬وجيعل منه جنّة خضراء الب ّد‬
‫يتم احلفر يف نقطة تبعد مسافة شهر‬ ‫الص حراء إىل جنّة خضراء‪ ...‬وأمجعوا أن ّ‬‫تتحول قارة ّ‬
‫أن ّ‬
‫ونصف مشال الواح ة‪ ,‬حتت اجلب ل‪ ,‬وأ ّك دوا أن تلك النقطة هي قلب الع امل‪ ,‬ومركز الك ون‪.‬‬
‫كما ح ّدثتهم الك وكب والنج وم‪ ...‬انبثقت املي اه بعد ع ام من احلفر املس تمر‪ ,‬وت دفقت عرب‬
‫الرم ال القاحل ة‪ ,‬وتغ زو البي داء األبدي ة‪ ,‬فتك ّونت‬
‫الس هول اجلرداء وتغمر ّ‬
‫الص حراء تكتسح ّ‬
‫والزيت ون والعنب وكل أن واع الفواك ه‪,‬‬‫األهنار‪ ,‬وانتش رت البح ريات‪ ,‬ومنت غاب ات الك روم ّ‬
‫الس هول املكس وة باخلض رة مثل‬ ‫ونبتت املزروع ات واألعش اب االس توائية اخلض راء‪ ,‬وب دت ّ‬
‫السجاد العجمي األخضر‪ ...‬ولكن تانس اجلبارة مل تكتف بتفجري النبع الذي خيرتق‬ ‫بسط من ّ‬
‫الصحراء باألهنار واملستنقعات ويغمرها بالبحريات واألدغال‪ .‬فبعد أن أطلقت على املنبع‬ ‫اآلن ّ‬
‫والس دود‪ ,‬وتصل الواحة ب النبع يف مدينة‬ ‫اسم (أطالنتس) ق ّررت أن تش يّد وتبين اجلس ور ّ‬

‫‪83‬‬
‫التج ار‪ ,‬وتب ادل البض ائع‪ ,‬وجتارة‬
‫واح دة هائل ة‪ .‬وقد اس تطاعت أن جتعلها مرك زا ملض اربات ّ‬
‫الرقيق وال ذهب واألحج ار الكرمية والتوابل والص ناعات واجلل ود‪ ,‬وقد ازده رت املدينة‬ ‫ّ‬
‫واملنجمون من‬
‫وشيّدت القصور والبيوت ذات املعمار البديع‪ ,‬وأصبح يرتادها العلماء واخلرباء ّ‬
‫كل أحناء األرض‪ ...‬وامت ّدت املدينة من نبع " أطالنتس " حىت الواحة متواص لة على مس افة‬
‫شهر ونصف وأطلقت عليها اسم " أطالنتيدا " اآلفاق‪ ,‬وجاء الناس من وراء البحار واألهنار‬
‫واحمليط ات بعد أن أص بحت من ارة للعلم واحلض ارة وقبلة لكل من ينشد العلم أو يت وق‬
‫للمعرفة‪ ,‬وأصبح يقال بأن أطالنتيدا هي جنّة اهلل على األرض‪ ,‬ومن مل يزرها فإنه مل يعش يف‬
‫ه ذه ال ّدنيا‪ ,‬فتق اطر عليها الن اس من كل ح دب وص وب حىت ك ربت واتس عت وامت دت‬
‫ح دودها حىت احمليط غربا وما وراء ال نيجر جنوبا والبحر مشاال وهنر النيل ش رقا‪ .‬وقد جعلت‬
‫النس اء وجاءت‬
‫الرجال الذين لزموا البيوت فتلثّموا خجال يف حني قاتلت ّ‬ ‫للنس اء سلطة على ّ‬
‫ّ‬
‫باألسرى‪ .‬أخضعت امللكة تانس جبيشها القوي اجلبّار األمصار واألقطار‪ ,‬الشعوب والقبائل‪,‬‬
‫البعيدة والقريبة‪ ,‬وتربعت على عرش اإلمرباطورية أربعني عاما‪ .‬وعندما ماتت حدثت حركة‬
‫غريبة يف نظ ام النج وم‪ ,‬وق ادت ك واكب األخ رى محلة ضد القم ر‪ ,‬فح دث ما يس ّمى ب "‬
‫ألول م ّرة كما يؤ ّكد املنجم ون من أهل اخلربة والعلم‪ ,‬فهبّت األعاصري العاتية‬ ‫اخلس وف " ّ‬
‫احململة بالغبار كنتيجة لصراع الكواكب بعد أربعني يوما بالضبط من وفاة سليلة‬ ‫والعواصف ّ‬
‫والري اح أربعني يوما بال انقط اع‪ ,‬حىت غم رت‬ ‫القمر ت انس العظيم ة‪ ,‬واس تمرت العواصف ّ‬
‫اإلمرباطورية الرم ال‪ ,‬وأغ رقت الغاب ات واألهنار واملدن مبوج ات هائلة من األتربة املتص اعدة‬
‫الس كان‬
‫ودم رت املعم ار فه رب ّ‬ ‫ليل هنار‪ ,‬وأب ادت املواشي وقطع ان اإلبل واحليوان ات الربيّ ة‪ّ ,‬‬
‫الرم ال‪ .‬جلأوا إىل املدن البعي دة اجملهولة وراء البح ار واحمليط ات‪.‬‬‫طلبا للنج دة من طوف ان ّ‬
‫الصحراء‪ ,‬قاسية‪ ,‬متجرّب ة‪ ,‬متسلّطة‪ ,‬تسيطر على الدنيا كما يف‬ ‫الصحراء تزحف على ّ‬ ‫وعادت ّ‬
‫س ابق عه دها وان دثرت " أطالنتي دا " من ارة العلم واحلض ارة‪ .‬وبقى " ب ئر أطالنتس " رم زا‬
‫للرعاة وعابروا‬
‫وظل البئر ملجأ ّ‬‫بائسا هلذه احلضارة اخلرافية اليت ملعت فجأة وانطفأت فجأة‪ّ .‬‬
‫الس بيل‪ ,‬ت نزح مياهه فيه اجرون إىل الواح ات املتن اثرة هنا وهن اك‪ ,‬تطفو املي اه فيع ودون إلي ه‪,‬‬
‫ويقيم ون حوله دون أن جيدوا تفس ريا لظ اهرة اختف اء املي اه اليت حتدث‪ ,‬حسب ما تناقلته‬

‫‪84‬‬
‫كل ثالمثائة عام‪ .‬ويؤ ّكد البعض يف قصصهم أن الختفاء املياه يف البئر عالقة مباشرة‬‫األجيال‪ّ ,‬‬
‫بع دد املراّت اليت حيدث فيها خس وف القمر يف الع ام الواح د‪ .‬أما ق ارة " أطالنتي دا " العتي دة‬
‫(‪) 1‬‬
‫الرهيب "‬
‫الرمال ّ‬‫فقد اختفت بعيدا يف جوف األرض‪ ,‬بعد طوفان ّ‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري " أطالنتي دا‪ ,‬اجلنّة األرض ية " متقلّص ة‪ ,‬عرب‬
‫حالة ( التماثل والتش ابه ) حيث أن النبع ‪ /‬الب ئر هو مركز الص حراء فبوج وه ممتلئ تك ون‬
‫الرحي ل‪,‬‬‫طر األه ايل إىل ّ‬
‫الص حراء جنّة أرض ية‪ ,‬لكن جبفافه ختتفي ه ذه اجلنّة األرض ية ويض ّ‬‫ّ‬
‫الرواية‪:‬‬
‫الرحيل‪ ,‬حيث جاء يف نص ّ‬ ‫حيث أنه حني ج ّفت البئر اضطرت قبيلة الشيخ غوما إىل ّ‬
‫أتصور واهلل كيف ميكننا أن نعيش يف الواحة بعد احلياة يف‬ ‫الرحيل ال أستطيع أن ّ‬
‫"‪ ...‬إذن هو ّ‬
‫طر يا ش يخ أن هتجرها إىل األبد ش ئت أم أبيت‪ .‬اللّهم إالّ إذا كنت تطمع‬ ‫الص حراء‪ ...‬ستض ّ‬
‫يف عمر نوح فتنتظر حىت يعود املاء لالرتف اع بعد ثالمثائة ع ام‪ ... ! ‬أتعلم يا شيخ خلي ل؟ إن‬
‫الس مك‪ ,‬أو‬ ‫خيرجه الص يّادون من املاء‪ ,‬وحنن اآلن مثل ه ذا ّ‬ ‫الس مك يف البحر ميوت عن دما ّ‬ ‫ّ‬
‫الص حراء‪ .‬كيف نس تطيع أن نطيق حي اة أخ رى يا‬ ‫الس مك‪ :‬منوت إذا نزحنا من ّ‬
‫عكس ه ذا ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫ترى؟ كيف نستطيع أن نقلب األرض ونتطاول يف الزراعة؟ جثم صمت كالكابوس "‬

‫اإلشعاع‪:‬‬
‫الصحراء‪ ,‬وبه تكون جنّة أرضيّة‪.‬‬
‫البئر مركز ّ‬ ‫‪-1‬‬
‫سر اخللود‪ ,‬وحني ينعدم الفناء‪.‬‬‫سر احلياة يف املاء‪ ,‬يف وجوده يكمن ّ‬
‫اهلل وضع ّ‬ ‫‪-2‬‬
‫الصحراء الواسعة وخروجه منها فيه فناءه‬
‫الصحراء يف ّ‬‫خلود رجل ّ‬ ‫‪-3‬‬

‫تجليات أسطورة " الخلود " في رواية " التبر " ‪:‬‬
‫تتجلى أسطورة " اخللود " يف رواية الترب‪ ,‬من خالل العنصر األسطوري ( نبتة اخللود‬
‫(آسيار) )‪ ,‬هذه النبتة األسطورية‪ ,‬اليت تعيد احلياة والعافية والنضارة واخللود لإلنسان واحليوان‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ,‬ص‪ 55 :‬و‪ 56‬و‪.57‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " البئر "‪ ،‬ص‪ 220 :‬و‪.221‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪85‬‬
‫على الس واء؛ حيث نصح الش يخ موسى أوخيّد بنبتة (آس يار) اليت فيها ش فاء ألبلق ه‪ ,‬بعد أن‬
‫الرواي ة‪ ..." ،‬الش يخ موسى هو ال ذي‬ ‫نص ّ‬
‫أص يب ب داء جل دي ال ش فاء من ه؛ حيث ج اء يف ّ‬
‫بالسر وخلّص أبلقه‪ .‬قال له‪ " :‬الكالم بيننا ولكن شفاء مجلك آسيار‪ )( .‬ال تضحك‬ ‫متتم له ّ‬
‫علي وامسع كالمي‪ .‬اذهب إىل قرع ات ميم ون يف الربيع الق ادم‪ :‬آس يار ال ينبت يف تلك‬ ‫ّ‬
‫كرر‬
‫يفر واتركه يرتع يوما أو يومني وسوف ترى "‪ ,‬مثّ ّ‬ ‫الس هول‪ .‬أوثق املهري جيّ دا حىت ال ّ‬
‫ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫بلغة غامضة‪ " :‬ال تنس أن تعقله جيّدا " "‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( نبتة اخلل ود " آس يار " من خالل حالة‬
‫(التماثل والتش ابه)‪ ,‬حيث متاثل األبلق للش فاء بعد أكله من النبتة الس حرية (آس يار)؛ حيث‬
‫الرواية‪ " :‬فوق " قرعات ميمون " تولّت سحب بنفسجية كثيفة وتالمحت على‬ ‫جاء يف نص ّ‬
‫رؤوس اجلب ال املتباع دة‪ ...‬مع األص يل ع ثر على حقل كام ل‪ .‬ارتفعت النبتة اخلرافية مس افة‬
‫قمة‬
‫ذراع عن األرض‪ .‬أوراقها خض راء داكن ة‪ ,‬ت دلّت فروعه ا‪ ,‬ع ادت إىل األرض‪ ...‬يف ّ‬
‫الس اق تكتشف زهرة صفراء‪ ,‬وف احت بش ذى غامض‪ .‬زهرة اجلن‪ ... ! ‬ب دأ احليوان اجلائع‬
‫يلتهم نبتة اجلن‪ ,‬ميأل فمه‪ ,‬ويرفع رأسه حنو األفق‪ ,‬ويلوك طويال قبل أن يبتلع اللقمة‪ ...‬احلزن‬
‫اختفى من احلدقتني الس وداوين‪ .‬احلمد هلل‪ ,‬أهي ب ادرة للش فاء‪ ...‬اجلل دة احلرب اء س قطت يف‬
‫الطريق‪ .‬األبلق حترر من جلدته كما يتحرر منها الثعبان‪ .‬املهري مسلوخ متاما‪ .‬مل ير قيحا وال‬
‫صديدا‪ .‬حىت الدم مجد على اجللدة احلمراء‪ ...‬برغم األمل تفتقت نفسه بالفرح‪ .‬هل سيشفى‬
‫(‪) 2‬‬
‫ويل حقا؟‪" ...‬‬
‫األبلق؟ هل حتققت معجزة آسيار؟ هو موسى ّ‬

‫‪ -‬آسيار‪ :‬يعتقد أنه يقايا السلفيوم‪ .‬وهو نبات أسطوري يعطي الطاقة هائلة‪ ,‬انقرض من ليبيا يف القرن الثالث‬ ‫‪‬‬

‫املؤرخون القدماء أنه كان دواء سحريا لكل األمراض املعروفة يف العامل القدمي‪ .‬وكان ملوك‬
‫قبل امليالد‪ .‬وجيمع ّ‬
‫سر التحنيط إذ استخدمه‬ ‫ليبيا القدماء يصدرونه إىل مصر وما وراء البحار‪ ..‬ويعتقد الكثريون أ ّن فيه يكمن ّ‬
‫الفراعنة هلذا الغرض‪.‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب"‪ ,‬ص‪ 20 :‬و‪.21‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص‪ 34 :‬و‪.44‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪86‬‬
‫وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( نبتة اخلل ود آس يار ) متقلصة من خالل حالة‬
‫( التماثل والتش ابه ) عرب تيمة ( التفكري والطّه ارة ) حيث ك ان البد لألبلق أن يك ّفر عن ذنبه‬
‫الرواية‪" :‬‬
‫مبخالطة أنثاه اجلرباء وكذلك التطّهر ألجل امتثاله للشفاء متاما‪ .‬حيث جاء يف نص ّ‬
‫الص حراء مهريا أبل ق؟ ال تلتفت إىل حالته اآلن‪ ...‬فهو‬ ‫هل تعلم أنه أبل ق؟ هل رأيت يف ّ‬
‫م ريض‪ .‬داء ع ابر‪ .‬الب ّد أن يع ود له لونه األص لي‪ ...‬ابتسم موسى يف العتم ة‪ ,‬وق ال‪ - :‬اهلل‬
‫مجيل حيبذ اجلمال‪ .‬وإذا اشرتيت له الشفاء هبذا العذاب فالب ّد أن تدفع مقابل الكمال أيضا‪ .‬مل‬
‫يفهم أوخيّد‪ ,‬فأوضح الشيخ‪:‬‬
‫‪-‬التكفري‪ ,‬الطّهارة‪ ,‬أال تفهم؟‬
‫‪-‬الطّهارة؟‪ .‬نعم‪ ,‬البد من اإلخصاء‪ – .‬اإلخصاء؟‬
‫تظن؟ أمل نتّفق على أن لكل شيء مثنا؟‬ ‫وماذا ّ‬
‫‪ ... -‬البدن آمث‪ .‬البدن كلّه خطيئة‪ :‬يلزم نزع السبب من أصله‪.‬‬
‫اهلم أم‬
‫يف خلوهتما ب املرعى‪ ,‬ق ال ل ه‪ - :‬أعتقد أن ما فعلته بنا فعلتك تكفي‪ .‬ال من النّ وق إال ّ‬
‫املقززة‪ ,‬ولكن الوبر مل‬
‫إنك ترى رأيا آخر؟ ختشن اجللد اجلديد‪ ,‬والتأم اجلرح‪ .‬اختفت احلمرة ّ‬
‫ينبت بع د‪ .‬مل يعلّق امله ري على اقرتاح ه‪ ,‬فواصل الش اب‪ :‬الش يخ غوما يق ول الب ّد من ن زع‬
‫الس بب‪ .‬البه اء ليس س هال أيض ا‪ .‬كل ش يء يط الب بقربان ه‪ .‬لن تت أمل ط ويال‪ ...‬نفض األبلق‬
‫رأسه بعصبية‪ .‬هل هي عالمة رفض؟‪ ...‬ولكن الب ّد من الطهارة‪ .‬لن تفوز باجلمال ولن تلقى‬
‫ذرع أوخيّد بالس فر إىل "‬‫اهلل ب دون طه ارة‪ .‬الطه ارة هي الش رط‪ ...‬مث ح ّل الص يف‪ ...,‬ت ّ‬
‫األول من‬
‫الرج ال على اجلمل املس كني‪ .‬النصف ّ‬ ‫القري ات "‪ ...‬يف الي وم الت ايل لغياب ه‪ ,‬تكأكأ ّ‬
‫النّهار قضوه يف منازعته وتطهريه من "البالء"‪ .‬وأنفقوا النصف الثاين من النهار يف إجباره على‬
‫ابتالع اخلصيتني تكميال للطقوس " ()‬
‫وككل م ّرة‪ ,‬يفاجئنا الك وين بانزي اح عن مس ار األس طورة املع روف‪ ,‬فيخ رق ب ذلك أفق‬
‫انتظارن ا‪ ,‬حيث ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( نبتة اخلل ود آس يار ) ممت دة من خالل‬
‫حالة ( التش وهات والتغ ريات )‪ ,‬حيث ج ّرت النبتة األس طورية الفن اء لألبلق ع وض اخلل ود‪.‬‬
‫فحني عُ ِفي من مرضه وأع اد نض ارته‪ ,‬جلب له ذلك البالء‪ ,‬وقادته نض ارته الفن اء‪ ,‬حيث‬

‫‪87‬‬
‫عم زوجته حني س اومه عليه حىت يتمكن من س ّد رمق‬ ‫اض طر أوخيّد إىل رهنه عند ابن ّ‬
‫طر إىل اس تعادته مقابل تطليق زوجته وختليّه عن‬ ‫ج وعهم‪ ,‬ولكن أوخيّد مل حيتمل بع اده فاض ّ‬
‫ابنه ل ذلك االنته ازي‪ ,‬وبعد أن اس تعاد أبلقه وانطلقا يف ص حراء احلرية ظنّا منهما ب اخلالص‪.‬‬
‫اكتشف أ ّن ذلك االنتهازي قد فضحه يف كل الصحراء بأنه باع زوجته وابنه مقابل حفنة من‬
‫توع ده أهل القتي ل‪ ,‬ف ّفر هارب ا‪ .‬لكن‬
‫الترب ( ال ذهب )‪ .‬فع زم على قتل ه‪ .‬وحني مت ّكن من ذلك ّ‬
‫القدر احملتوم الذي يقضي بالفناء كان هلما باملرصاد‪ .‬حيث ُأح ِرق األبلق بأبشع الطرق ولقي‬
‫أوخيّد حتفه بأبشع جرمية قتل على اإلطالل‪ ,‬وع وض اخلالص واخلل ود‪ ,‬حيث ج اء كحتمية‬
‫الرواية‪ ..." :‬األبلق خيوض يف‬ ‫نص ّ‬
‫حي‪ .‬فكان اخللود الذي جلب الفناء‪ .‬حيث جاء يف ّ‬ ‫لكل ّ‬
‫احلروق وال دم‪ .‬ومسوا وجهه أيض ا‪ .‬ش ّقوا ف ّكه األيسر بالس ّكني املش تعل‪ ,‬فتآكل ون ّز منه‬
‫الشريرة‪ ...‬قيّدوا يديه ورجليه باحلبال‪ .‬جاؤوا‬
‫ضرهتا ّ‬
‫ال ّدم‪ ...‬تعرفون كيف انتقمت تانس من ّ‬
‫والرجل اليمىن إىل مجل‪ ,‬وش ّدوا اليد األخ رى والرجل اليس رى إىل‬‫جبملني‪ .‬ش ّدوا اليد اليمىن ّ‬
‫مجل آخ ر‪ ...‬زحف اجلسد املم ّزق‪ ,‬ال ّدامي‪ ,‬زحفت األش الء‪ ...‬وب رغم الب دن املم ّزق‪ ,‬رفع‬
‫الس يف‬
‫أوخيّد رأسه مستعينا بصدره ويده اليسرى‪ ...‬جاء آخر‪ ,‬أمسك بالرأس احلاسر‪ .‬طار ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫السماء‪ ...‬بأشعة الشمس القاسية‪ ,‬ونزل على الرقبة‪" ...‬‬
‫يف الفضاء‪ .‬واغتسل مباء ّ‬
‫ك ذلك‪ ,‬تتجلّى أس طورة اخلل ود يف رواية " الترب "‪ ,‬من خالل العنصر األس طوري‬
‫الص حراء الشاس عة‪ ,‬فمن ووج دها‪ ,‬بُ ِّش ر ب اخللود‪ ,‬حيث‬‫( الس درة األس طورية ) الض ائعة يف ّ‬
‫جيري حتتها نب ع‪ ,‬هو نبع اخلل ود‪ .‬وقد ج اء التجلي من خالل العنصر األس طوري ( س درة‬
‫تاما من خالل التص ريح هبا‪ .‬حيث ذكرها الك وين يف روايته بأهنا تقف على نبع‬ ‫املنتهى ) ّ‬
‫الرواية‬
‫العراف ون الرؤيا جل ّد بطل ّ‬
‫فس ر ّ‬‫اخلل ود‪ ,‬وك ذلك أح ال هلا الك وين يف اهلامش‪ .‬حيث ّ‬
‫ألمه شيخ حكيم‪ .‬إذا رأى رؤيا يف نومه ال يغادر فراشه حىت يأتوا‬ ‫أوخيّ د‪ ,‬حيث إ ّن‪ " :‬ج ّده ّ‬
‫ويرتدد يف القبيلة من حيلو له أن يقول‪ :‬إذا ح ّذرك اهلل وكشف‬
‫بالعرافني ويفسروا له الرؤيا‪ّ .‬‬
‫له ّ‬
‫ومن إال نفسك "‪ .‬وقد أمن غ در اخلائنني‪:‬‬ ‫تتمهل وتتّعظ وإال فال تل ّ‬
‫الس ر فعليك أن ّ‬ ‫لك ّ‬
‫دو‪ .‬وجيمع اجلميع أن كل حكمته ك انت‬ ‫الزم ان وباإلنس ان‪ ,‬فلم يباغته ح دث ومل يغافله ع ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص‪ 158 :‬و ‪ 159‬و‪.160‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪88‬‬
‫تنبع من اإلش ارات اخلفيّ ة‪ .‬ويق ال إ ّن يقف حتت الس درة األس طورية (‪ )‬الض ائعة يف غ رب‬
‫للرحل ة‪ .‬إهنا‬
‫الص باح‪" :‬أع ّد نفسك ّ‬
‫الص حراء وش رب من م اء البح رية‪ ,‬فق ال له الع ّراف يف ّ‬
‫ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫سدرة املنتهى " (‪" )‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( الس درة األس طورية ) ممت ّدة عرب حالة‬
‫سره‪ .‬ك ان‬ ‫ِ‬
‫( التشوهات والتغ ريات ) حيث‪ ,‬ع وض أن يصل الشيخ إىل نبع اخللود ويكسب ّ‬
‫النبع هو موضع موته وفن اءه‪ .‬وقد ك ان يعلم ذلك حلكمته وذك اءه‪ ,‬حيث ج اء يف نص‬
‫وظل يفعل‬
‫فحضر كفنه‪ ,‬وغسل جسده وارتدى أفخر لباسه‪ ,‬وانتظر ملك املوت‪ّ ,‬‬ ‫الرواية‪ّ " :‬‬ ‫ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫ذلك كل يوم حىت لفظ أنفاسه بعد أسبوع من تاريخ الرؤيا "‬
‫الفن اء عند الك وين‪ ,‬هو اخلل ود‪ ,‬وما ( الس درة األس طورية ) إال رمز دني وي لنم وذج‬
‫آخ روي هو ( س درة املنتهى ) أين يتجلّى اهلل س بحانه وتع اىل اخلال د‪ .‬وال ذي جاللته مينح‬
‫اخللود األبدي لبين آدم‪.‬‬
‫اإلشعاع‪:‬‬
‫سره يف الفناء‪.‬‬
‫‪ -1‬الفناء هو اخللود‪ ,‬واخللود يكمن ّ‬
‫‪ -2‬كل بين آدم فان لكي خيلد‪.‬‬
‫للطارقي هو اخللود عينه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والصحراء‬
‫‪ -3‬اخلروج عن املكان هو الفناء عينه‪ّ ,‬‬
‫الصحراء وخروجه عن حدودها هو فناءه‪.‬‬ ‫‪ -4‬هجرة ابن ّ‬

‫تجليات أسطورة " الخلود " في رواية " نزيف الحجر "‪:‬‬

‫‪ -‬السدرة األسطورية الضائعة‪ :‬أسطورة تتحدث عن سدرة يف مكان ما يف الصحراء‪ ,‬حتتها نبع‪ ,‬من وجدها‬ ‫‪‬‬

‫وشرب من النبع عاش خالدا ال ّدهر‪.‬‬


‫‪   -‬سدرة املنتهى‪ :‬وردت يف القرآن الكرمي يف سورة النجم‪ " :‬ما ك ّذب الفؤاد ما أرى‪ .‬أفتما دونه على ما‬ ‫‪‬‬

‫يُرى‪ .‬ولقد رآه نزلة أخرى‪ .‬عند سدرة املنتهى "‪ ( .‬اآليات من ‪ 11‬إىل ‪) .14‬‬
‫‪‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ :‬ص ‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " الترب "‪ ,‬ص ‪ 31‬و‪.32‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪89‬‬
‫قص ة ( الغزالة ) وكيف ق ّدمت نفس ها قربانا‬ ‫تتجلّى أس طورة ( اخلل ود )‪ ,‬من خالل ّ‬
‫لبين آدم‪ .‬ألجل بق اءه‪ ,‬وألجل كسب صك اخلل ود‪ ,‬من خالل ميث اق ال ّدم‪ .‬وقد جتلّت‬
‫أس طورة اخلل ود هن ا‪ ,‬جتليّا ناقص ا‪ ,‬من خالل تقنية ( اخللفية األس طورية )؛ حيث مل يعمد‬
‫نص ه ال روائي على خلفية أس طورة معروفة دون أن‬ ‫الك وين إىل توظيف عنصر ص ريح وإمّن ا بىن ّ‬
‫قص ته‬
‫ي ذكرها ص راحة‪ .‬حيث جعل من ( الغزالة ) عنص را أس طوريا مباش را بىن على خلفيته ّ‬
‫للوص ول إىل البعد الث اين غري املباش ر‪ ,‬وال ذي ميثل اخللفية األس طورية ( أس طورة اخلل ود ) أو‬
‫صرح ضمنيا باألسطورة احملوريّة وهي ( أسطورة اخللود‬ ‫( معتقد اخللود )‪ .‬فيكون بذلك قد ّ‬
‫)‪.‬‬
‫اجلوال‬
‫الرحالة ّ‬‫ط ّ‬‫الرواي ة‪ " :‬ففي ربيع األع وام البعي دة املاض ية‪ ,‬ح ّ‬
‫نص ّ‬
‫وقد ج اء يف ّ‬
‫الربي ع‪ ,‬وزحف على ركبتيه بني األش جار القص رية‪ .‬ت رك‬ ‫رحاله يف الس هل املف روش بأعش اب ّ‬
‫عائلته ف وق املرتف ع‪ ,‬ومسعنا طفال يص رخ يف أحض ان ام رأة ت رتنّح وتعاند ال وهن والس قوط‪.‬‬
‫الص حراء‬ ‫ق الت أمي احلكيمة إنه العطش‪ .‬عائلة راحلة اختلت هبا الش مس املتغطرسة يف ّ‬
‫وعزته‬
‫األم ّ‬
‫الرض يع رأسه بالش كوى والبك اء‪ ,‬فهدهدته ّ‬ ‫الواس عة وبلتها ب العطش‪ .‬رفع ّ‬
‫هبمهم ات غائب ة‪ .‬واس تمر الرجل يزحف على ركبتيه حنون ا‪ .‬فالتص قت ب أمي‪ ,‬ورجوهتا أن‬
‫تأمله القطيع بفض ول‪ .‬كل أف راد القطيع الكبري اش رتكوا يف الفرج ة‪ ,‬وحزن وا له‬ ‫تنطل ق‪ّ ...‬‬
‫مجيعا‪ – .‬بدأت املشاورات اجلانبية‪ ,‬مث تقدمت أكرب غزالة يف القطيع‪ ,‬وخاطبتنا بالقول‪ :‬كافأ‬
‫الص حراء‪ ,‬وجعل‬ ‫اخلالق املخلوقات فأوجدها يف احلياة‪ ,‬مث رأى أن ميتحن صربها فأوجدها يف ّ‬
‫س ّره يف املاء املع دوم‪ ,‬وجعل س ّرا آخر يف القرب ان القاس ي‪ .‬من ض ّحى بنفسه يف س بيل إنق اذ‬
‫حي اة أخ رى وقف على الس ّر وكسب اخلل ود‪ .‬ابن آدم ميوت عطشا ولن ينق ذه إال ال دم‪ .‬هنا‬
‫شرير وقاتل‪ .‬هل نسيت يا أمنا الكبرية كيف سفح دم‬ ‫اعرتضت غزالة قاسية‪ :‬ولكن ابن آدم ّ‬
‫نضحي بأنفسنا يف سبيل الس ّفاح‬‫عشرات الرؤوس من عشريتنا يف تلك املذحبة الفظيعة؟ كيف ّ‬
‫الرجيم ؟‬
‫ابتسمت األم الكبرية العجفاء‪ ,‬وقالت بصرب وحزن‪ :‬التضحية ال تعرف املساومات‪,‬‬
‫وال تلتفت إىل الذات اليت يذبح على شرفها القربان أل ّن القرابني للخالق العظيم‪ .‬مث ال ترون‬

‫‪90‬‬
‫يا معشر الغزالن الطيبة ذلك املالك الرضيع الذي يرقد بني يدي امرأة وهو مل يرتكب إمثا ومل‬
‫يش رتك يف مذحبة؟‪ ...‬لن نس مح أن تق دم األم الكب رية نفس ها قربانا فنفقد ال ّرأس املدبّر ال ذي‬
‫الص راط املستقيم‪ .‬مثّ إهنا حنيلة‪ ,‬عجفاء‪ ,‬ليس فيها قطرة دم واحدة‪ ...‬فقالت‬ ‫هدانا ويهدينا ّ‬
‫األم الكب رية وهي تلفت إىل أمي‪ - :‬هن اك س ّر آخر يف التض حية‪ .‬القرب ان س يفتح عه دا بني‬
‫يحرم عليه دم ابنتك وأبن اء أبن اء ابنتك إىل األب د‪ .‬ه ذا هو العه د‪,‬‬‫نس لك وبني ابن آدم‪ .‬س ّ‬
‫سول له نفسه أن خيون رباط الدم‪.‬‬ ‫حضي ؟؟ القربان وميثاق ال ّدم‪ ,‬واللّعنة سوف تالحق من تُ ّ‬
‫فال يوجد يف الدنيا كلها أقوى من رباط الدم وليس هناك جرمية أبشع من خيانة هذا الرباط‪.‬‬
‫تق ّدمت مين أمي‪ ,‬وقبلت ين‪ ,‬ومس حت برقب يت‪ ,‬ومهست يف أذين‪ " :‬إين أفعل ذلك من أجل ك‪.‬‬
‫لن ميسك اإلنس بعد الي وم "‪ .‬مث ذهبت وس لمت نفس ها لآلدمي احملطم ال ذي يغمر وجهه يف‬
‫الص غري مل يس مح يل أن أس توعب‬ ‫ال رتاث حتت ش جرة ال رمت ؟؟‪ .‬مل أفهم ما ح دث‪ .‬عقلي ّ‬
‫أحس ب اخلطر إال عن دما رأيت الس ّكني تلمع يف يد اإلنس ان حتت‬ ‫قس اوة ما ح دث‪ .‬ومل ّ‬
‫مزق قليب يف تلك اللحظة أحست أن‬ ‫شعاعات الشمس‪ .‬آه‪ .‬لو تدرين يا صغرييت األمل الذي ّ‬
‫س هما مس موما اخ رتق قل يب‪ .‬ص رخت‪ .‬هجمت على األم الكب رية ونطحتها بق رينّ الناس ئني‪,‬‬
‫ووص فتها ب" اجلنيّة العج وز " وقف زت وراء أمي اليت تكأك أت عليها كل العائلة يف تلك‬
‫ودس ت الطفل العطش ان يف ج وف أمي املس كينة –‬ ‫اللحظة يف تلك اللحظ ة‪ .‬أقبلت املرأة ّ‬
‫كانت ذبيحة – أبعدين اإلنس بضربة طائشة‪ ,‬وال أدري اآلن ملاذا مل يغرس يف رقبيت الس ّكني‬
‫أيض ا؟ ع دت إىل القطي ع‪ ,‬وص عدت الرب وة املقابل ة‪ ,‬وش كوت كل املخلوق ات إىل الس ماء‪.‬‬
‫ش كوت اإلنس والغ زالن واألم الكب رية‪ ,‬وطلبت منها أن تلعنهم مجيعا مقابل أن ما س ببوه من‬
‫أمل‪ ,‬مث بكيت‪ .‬ومهت يف اخلالء وحي دة حىت الي وم‪ .‬وكلما ت ذكرت أمي الذبيحة أحسست‬
‫بالس هم املس موم خيرتق قل يب‪ ,‬مس كينة‪ ,‬فعلت ذلك من أجلي ومن أجلك كي ينعم نس لنا‬
‫باألم ان عرب األجي ال‪ ,‬دمها آخى بني ملتنا وملّة آدم‪ .‬حنن اآلن وابن آدم أخ وة بال دم‪ .‬ه ذا‬
‫قص تها‪ ,‬ف وقفت على قوائمه ا‪ ,‬ورفعت‬ ‫احلصن اش رتيناه بثمن ق اس‪ .‬أهنت الغزالة احلكيمة ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫رأسها حنو قمة اجلبل كأهنا تقرأ تعويذة موجهة إىل السماء‪".‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 110‬و‪ 111‬و‪.112‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪91‬‬
‫فمنذ الق دمي ك انت التض حية هي الثمن الب اهض للخل ود‪ ,‬وبتق دمي القرب ان البش ري أو‬
‫احليواين أو النبايت يكون اخللود‪.‬‬
‫فاخللود هاجس اإلنس منذ وجوده على هذه البسيطة إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( اخللود )‪ ,‬ممتدة من خل حالة ( التشوهات‬
‫الرغم من تقدمي الغزالة األم نفسها‬
‫والتغريات )‪ ,‬عرب تيمة ( التضحية والقربان ) حيث وعلى ّ‬
‫قربانا ألجل ميث اق ال دم مع بين آدم‪ .‬حلماية نس لها‪ ,‬إال أ ّن ابن آدم ال ميأل جوفه إال ال رتاب‪,‬‬
‫وال يثنيه عن انته اك حرمة العهد إال املوت‪ .‬فها هو ( قابيل ) الش ره ألكل حلم الغ زال‬
‫نص الرواي ة‪ " :‬ومع‬
‫ودان‪ ,‬مل يت أخر برهة عن ص يد غ زالن احلم ادة كلّه ا‪ .‬حيث ج اء يف ّ‬ ‫وال ّ‬
‫ويتعش ى شاة ورمبا أكثر‬
‫ّ‬ ‫ازدياد الذبائح ازداد استهالكه للّحم‪ .‬اآلن يفطر شاة‪ ,‬ويتغ ّذى شاة‬
‫الرحل أو جتار القوافل‪.‬‬
‫من شاة‪ ,‬إذ استضاف أحد الضيوف أو عابري السبيل من الرعاة أو ّ‬
‫يتصور أن هذا احليوان الذي‬
‫يتصور يف يوم من األيام أن يتناقص الغزال إىل هذا احلد‪ ,‬مل ّ‬ ‫ومل ّ‬
‫الص حراء ميكن أن ينقرض – عندها فقط تذكر األجنة – اليت يستخرجها من جوف‬ ‫تعج به ّ‬‫ّ‬
‫الص ريعة اليت قتل جنينها يف بطنها‬
‫األن ثى الذبيح ة‪ ...‬وت ذكر – بش كل خ اص – الغزالة ّ‬
‫الس ماء‪ .‬ولكنّه ما لبث أن نسي‪ ,‬وواصل متشيطه للحمادة حبثا عن الشاردة اليت‬ ‫فاشتكته إىل ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫تراجعت إىل اجلنوب واحتمت مبرتفعات جبل احلساونة "‬
‫كذلك‪ ,‬جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( اخللود )‪ ,‬ممتدة عرب حالة ( التشوهات‬
‫والتغ ريات )‪ ,‬حيث مل يصد ابن آدم ( قابيل )‪ ,‬ميث اق ال دم عن قتل أخته بال دم وأكله ا‪ ,‬على‬
‫ال ّرغم من ت ردده يف البداية على اإلق دام على ه ذه اجلرمية‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪..." :‬‬
‫اندهش كيف مل يطلق عليها النار‪ .‬نسي البندقيّة هنائيا‪ .‬نسي أنه جاء يف رحلة صيد‪ .‬نسي أنه‬
‫قابيل ابن آدم اجملب ول على ال ّدم واللّحم‪ .‬مل يص ّدق أن قابيل ميكن أن ميتنع عن الض غط على‬
‫الزن اد وغزالة هيف اء تنتصب أمام ه‪ .‬ولكن هل ك انت تلك غزالة ح ّق ا؟ وهل ك ان هو قابيل‬
‫صوب فوهة البندقية حنو التجويف‪ .‬فالتقت نظراهتما‪ .‬أشاح بوجهه‪ ,‬وأغمض عينيه‪,‬‬ ‫ح ّقا؟‪ّ ...‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.100‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪92‬‬
‫وضغط على الزناد‪ ,‬انبثق ال ّذوي‪ ,‬ومسح العرق املتدفق على وجهه مبعصمه‪ ...‬يف تلك اللّيلة‬
‫(‪) 1‬‬
‫مل يقتل قابيل ابن آدم أخته فقط‪ .‬ولكنه أكل حلمها أيضا ‪".‬‬
‫ك ذلك‪ ,‬ج اءت مطاوعة الرمز األس طوري ( اخلل ود )‪ ,‬ممت ّدة عرب حالة ( التش وهات‬
‫الس هول‬ ‫والتغ ريات )‪ ,‬من خالل تيمة ( التض حية والقرب ان )‪ ,‬ذلك أن م وطن الغ زالن هي ّ‬
‫الشاس عة‪ ,‬ومن تط اول منها يف رؤوس اجلب ال فهو خ ارج عن الطبيعة والق در والعه د‪ .‬وه ذا‬
‫داللة على آخر الزم ان – كما عرب األه ايل – وع وض أن تعيش الغ زالن يف الس هول حيفظها‬
‫عهد الدم‪ .‬هاهي شراهة ابن آدم ت دفعها إىل اخلروج عن قانون الطبيعة اإلهلية‪ .‬حيث هربت‬
‫من بطشه من أع ايل اجلب ال‪ .‬فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬جبل احلس اونة أص بح ِ‬
‫معقال انتقاليا‬
‫للغ زالن الالجئة إىل الص حراء اجلزائري ة‪ .‬الغ زالن اجلرحية اختذت من السلس لة املنيعة ملجأ‬
‫رتدت عافيتها انطلقت يف الطريق الطويل وواص لت املس رية حنو اجلن وب‬ ‫لالستش فاء حىت اس ّ‬
‫الص حراء ط وال‬‫البعي د‪ .‬وقد رأى الص يادون الق دامى يف ه ذا التح ّول الغ امض اليت مل تعه ده ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫تارخيها يف أخالق الغزالن إشارة مساوية "‬
‫وبالت ايل ك انت هج رة الغ زالن إىل سلس لة اجلب ال ما هي إال إش ارة عن نب وءة مساوية‬
‫تقضي‬
‫بأهنا إش ارة ب آخر الزم ان‪ ,‬حيث أن بطش بين آدم ونقضه للعهد هو ال ذي بشر هبا‪,‬‬
‫وهذا ما اعتقده أهل الصحراء واجتمعوا عليه‪ .‬يف مس امراهتم‪ .‬حيث جاء يف نص الرواية‪" :‬‬
‫ومل يفت احلكماء منهم أن يعوذوا باهلل من شيطان اإلنس عقب كل صالة ويستجريوا به من‬
‫الس الح الش يطاين‪ ,‬فه ّددت أمجل‬ ‫ش ّر ابن آدم وش راهة ابن آدم اليت ك انت س ببا يف اخ رتاع ّ‬
‫املخلوقات باإلبادة‪ ,‬وأجربت الرؤوس الباقية على اهلجرة إىل أقصى الدنيا ليس حبثا عن الكأل‬
‫إمنا طلبا للبقاء وإنقاذ للنسل من الفناء‪ .‬يلتقي الصيادون يف الرباري العارية‪ ,‬ويتسامرون حول‬
‫الودان يتطاول يف رؤوس‬ ‫الشاي الصيين األخضر ويعزون بعضهم بعضا‪ " :‬أصبح الغزال مثل ّ‬
‫الص حراء‪ ,‬ال جياريهم‬
‫الزم ان "‪ .‬ال يس تطيع أحد تأويل الظ واهر مثل أهل ّ‬ ‫اجلب ال‪ .‬ه ذا آخر ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 127‬و‪ 129‬و‪.130‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.100‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪93‬‬
‫أحد يف قراءة أسرار الغيب‪ ,‬وال جيتمعون إال لكي يبحثوا عن تفسري إلشارات آخر الزمان "‬
‫(‪) 1‬‬

‫هذا‪ ,‬وتأيت مطاوعة الرمز األسطوري ( اخللود ) ممتدة‪ ,‬عرب حالة ( التماثل والتشابه )‬
‫إذ أنقذ ميث اق ال دم الغ زالن من اللعنة اإلهلية إذ هي تط اولت يف رؤوس اجلب ال وخ رجت عن‬
‫ق انون الطبيعة هربا من بطش اإلنس ان‪ ,‬ذلك ألن ابن آدم هو من نقض العه د‪ ,‬وخ ان ميث اق‬
‫الرواي ة‪ " :‬هنا‬‫ال دم‪ .‬فحص لت هي على التعوي ذة ال ذي حتميها ؟؟ ‪ .‬حيث ج اء يف نص ّ‬
‫جتاسرت وليدهتا الصغرية على االعرتاض وقالت إن الوحوش اليت شهدهتا احلمادة يف السنوات‬
‫األخرية تفوق وحوش الغابة قس اوة ووحش ية‪ ,‬فوافقتها األم هبزة من رأسها‪ ,‬مث أهنلتها بإمياءة‬
‫قبل أن حتكي قصة احلصن املنيع ال ذي ورثته عن األم‪ .‬ق الت إهنا تعوي ذة ال مثيل هلا يف‬
‫الص حراء كلها ومل يس بق لغزالة أن حص لت على نظري هلا‪ .‬ول وال ه ذا احلج اب ملا تش جعت‬ ‫ّ‬
‫على البقاء يف أحضان اجلبل برغم يقينها أن اللعنة سوف تالحق كل املهاجرين ألهنم خالفوا‬
‫أحد األركان الثالثة اليت قوم عليها قانون املخلوقات‪ .‬ال حياة ملهاجر يف أرض الغربة‪ .‬اللعنة‬
‫حل‪ .‬الصرب على البالء هو احلجاب الوحيد الذي حيمي من األشرار‬ ‫السماوية ستدركه أينما ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫والوحوش "‬
‫كذلك‪ ,‬تتجلى أسطورة اخللود يف رواية " نزيف احلجر " جتليا جزئيا‪ ,‬من خالل تقنية‬
‫(اخللفية األس طورية)‪ ,‬وذلك عرب تيمة ( احلل ول ) حيث ح ّل والد آس وف يف جسد ال ّودان‬
‫العظيم‪ ,‬وه ذا احلل ول ألجل اخلل ود وهو معتقد س اد منذ الق دمي‪ ,‬حيث تعتقد الكثري من‬
‫الش عوب البدائية أن املوت ما هو إال جسر عب ور‪ ,‬خلل ود ال روح يف آخر كجسد حي وان –‬
‫مثال –‬
‫الرواي ة‪ ..." :‬مثّ توقف ال ّودان العظيم عن املش ي‪ .‬رآه يرفع رأسه‬ ‫وقد ج اء يف نص ّ‬
‫الضخم املتوج بالقرنني اخلرافيني‪ ,‬ويواجه كذلك اخليط الغامض الذي يبشر بالفجر‪ .‬البصيص‬
‫سر احلياة‪ .‬و‪ ...‬فجأة‪ ,‬يف عتمة هذا البصيص الرباين‪ ,‬رأى أباه‬ ‫حيل فيه دائما ّ‬
‫الباهت الذي ّ‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 100‬و‪.101‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.110‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪94‬‬
‫ودان الص بور‪ ,‬العظيم‪ ,‬رأى عيين الوالد احلزين تني‪ ,‬الطيب تني الل تني مل تفهما ملاذا‬ ‫يف عيين ال ّ‬
‫ي ؤذي اإلنس ان أخ اه اإلنس ان‪ ...‬العين ان اللت ان اختارتا احلرية القاس ية دون أن تعرفا ملاذا‪...‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫صرخ بصوت خمنوق كأنه يناجي ربّه‪ - :‬أنت أيب عرفتك‪ .‬انتظر‪ .‬أريد أن أخربك‪"...‬‬
‫وج اء يف نفس الس ياق‪ ,‬يف موضع آخر من الرواية ما يلي‪ ..." :‬منذ حادثة اهلاوي ة‪.‬‬
‫الودان العظيم الذي أنقذه من املوت مث تس لّل إليه قبل أن يغيب عن‬ ‫منذ أن رأى أباه يف عيين ّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫الوعي "‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( اخلل ود )‪ ,‬متقلصة عرب حالة ( التماثل‬
‫ودان‬‫الودان العظيم‪ ,‬وكسب ال ّ‬ ‫والتش ابه )‪ ,‬حيث كسب والد آس وف اخلل ود‪ ,‬حني ح ّل ب ّ‬
‫اخللود حني اكتشف ذلك‪ .‬فسعى إىل محايته‪ ,‬بل أكثر من ذلك ق ّدم نفسه قربانا ألجل محايته‬
‫الرواي ة‪ ..." :‬يف تلك اللحظة ح دث ما خشي منه‬ ‫نص ّ‬
‫من بطش بين آدم‪ ,‬حيث ج اء يف ّ‬
‫ودان برأس ه‪ ,‬ووقف يتف ّرج‬ ‫الص خرة‪ ,‬أمامه بالض بط‪ ,‬أط ّل ّ‬ ‫آس وف ط وال النه ار‪ ,‬من خلف ّ‬
‫على حركته يف الوادي‪ .‬أشاح بوجهه بسرعة إىل الناحية األخرى‪ .‬محد اهلل أن قابيل ومسعود‬
‫مل يلحظا احلي وان العظيم‪ .‬وكي ي داري ارتكابه ويش غل اهتمامهم ا‪ ,‬رفع رأسه وكرّب‬
‫الودان العظيم الذي أنقذه من املوت‬ ‫للصالة‪ ...‬منذ حادثة اهلاوية‪ ,‬منذ أن رأى أباه يف عيين ّ‬
‫ودان عرفه اآلن‪ ,‬ويريد أن ي أيت وحييي ه‪ ,‬وإذا أتى‬ ‫مث تس لّل إليه قبل أن يغيب عن ال وعي‪ ...‬ال ّ‬
‫والودان‪.‬‬
‫فسيقع يف أيدي الوحوش‪ .‬سيقع يف أيدي الناس الذين ال يأكلون إال حلوم الغزالن ّ‬
‫الويل لك! ابتع د‪ ! ‬اقفز يف ج وف اجلبل يا روح اجلبل ارجع إىل م أواك الس ّري املنيع‪ .‬قل‬
‫حلص نك أن يبتلعك حىت تعرب البل وى‪ .‬أهنى ص الته‪ .‬ك ّرر مناجاته للجبل كي ينجي روح ه‪,‬‬
‫(‪) 3‬‬
‫الودان اختفى "‪.‬‬
‫التفت خلفه‪ّ :‬‬
‫ودان ما يلي‪ – " :‬إذا مل ت دلنا‬
‫وج اء أيضا عن تض حية آس وف بنفسه ألجل خل ود ال ّ‬
‫ودان هنارك أح رف‪ .‬س أريك النّج وم يف الظهر أنا ال أم زح‪ ...‬أال تس تحي؟ عج وز‬ ‫على ال ّ‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.70‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.88‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 88‬و‪.89‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪95‬‬
‫مثلك يك ذب؟ أخربونا يف الواح ات أنك الوحيد ال ذي خيرب معاقله يف ه ذه األراض ي‪ .‬فقد‬
‫قابيل ص وابه‪ .‬لدغه االس تفزاز‪ ,‬فهجم على ض حيته املقيّ دة من الي دين وال رجلني‪ ,‬وجرجرمها‬
‫الص خرة العالية اليت ينتصب فيها ال ّودان األس طوري العظيم‬
‫عرب ال وادي ال رملي‪ .‬اجته ص وب ّ‬
‫جبوار الك اهن األك رب‪ ...‬تكلّم أين يس كن ال ّودان يا عبد العب د؟ فأجابه آس وف بتعويذته يف‬
‫بالس الح يف اهلواء مه ّددا‪...‬‬
‫ويل‪ - :‬لن يش بع ابن آدم إال ال رتاب‪ ...‬ل ّوح قابيل ّ‬
‫إص رار طف ّ‬
‫(‪) 1‬‬
‫وجر على رقبته السكني حبركة خبرية‪" ...‬‬
‫أمسك به من حليته‪ّ ,‬‬
‫اإلشعاع‪:‬‬
‫‪" - 1‬من أراد أن خيرج من الب دن أراد أن خيرج من الزم ان‪ ,‬ومن أراد أن خيرج من‬
‫الزمان‪ ,‬ومن ّادعى اخللود كفر بقدره وتطاول على املعجزة ونافسه يف األلوهية‪ ,‬ومن‬
‫الص حراء‪ ,‬أن يسكن صحراءه‪ ,‬وأن خيلد‬ ‫رده إىل الفناء" ‪ :‬قدر ابن ّ‬
‫نافسه يف األلوهية ّ‬
‫فيها وما إن خرج منها كان مصريه الفناء‪.‬‬
‫الصحراء‪ ,‬أو انقراضها سببه بطش ابن آدم وجشعه‪.‬‬ ‫‪ - 2‬هجرة أمجل املخلوقات يف ّ‬
‫الصحراء حكم على حيواناهتا بالفناء‬ ‫‪ - 3‬حني مسح ابن آدم بدخول األسلحة إىل ّ‬
‫‪ - III‬تجليات المظهر الطوطمي في روايات إبراهيم الكوني‪,:‬‬
‫يعد املظهر الط وطمي – وهو املذهب الط وطمي‪ -‬مظه را من مظ اهر " أس طورة‬
‫التكوين"‪ ,‬حيث جيسد تقديس اإلنسان حليوان بعينه‪ ,‬أو لنبات‪ ,‬أو لكائن غييب‪ ,‬وجعله حمل‬
‫عب ادة‪ ,‬وتبجيله كاآلهلة‪ .‬ويعد الط وطم من خالل ه ذا املذهب مظه را من مظ اهر جتس يد‬
‫األلوهية والتقديس وأصال لفرع؛ هو القبيلة أو العشرية (أي الفرد)‪.‬‬
‫وج اء يف املوس وعة الربيطانية تعريف الطوطمية كالت ايل‪ " :‬الطوطمية كلمة أجبوية (‬
‫‪ )objeway‬من هنود أمريكا دخلت يف اللغة اإلجنليزية سنة ألف وسبعمائة وإحدى وتسعني‬
‫على يد األس تاذ جي النج (‪ )J . Lang‬ال ذي ك ان يق وم بوظيفة الرتمجان بني ال بيض واهلن ود‬
‫احلم راء يف أمريكا الش مالية‪ ,‬وي راد هبا كائن ات حترتمها بعض القبائل املتوحش ة‪ ,‬ويعتقد كل‬
‫ف رد من أف راد القبيلة بعالقة نسب بينه وبني واحد منها يس ميه طوطم ه‪ .‬وقد يك ون الط وطم‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 106 :‬و‪ 107‬و‪.146‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪96‬‬
‫حيوان أو نباتا‪ ,‬وهو حيمي صاحبه ويبعث له األحالم اللذيذة‪ ,‬وصاحبه حيرتمه ويقدسه‪ ,‬فإذا‬
‫كان حيوانا ال يقدم على قتله‪ ,‬أو نباتا فال يقطعه وال يأكله إال يف األزمة الشديدة " (‪.)1‬‬
‫أظه رت حفري ات احلض ارة املص رية القدمية أهنا قدست احليوان ات باختالفه ا‪ ,‬ف‪:‬‬
‫"التعقب الت ارخيي ملا ك ان جيري على أراضي النيل اخلالد منذ أك ثر من مخسة آالف س نة‪.‬‬
‫والعقي دة املص رية القدمية بش كل ع ام ميكن تعقبها من أصوهلا البعي دة املمت دة إىل ع ام ‪4000‬‬
‫قبل امليالد؛ حيث اآلثار واحلفريات كيف كانت بعض احليوانات تعامل وتدفن بتقديس كبري‬
‫(‪) 2‬‬
‫يؤكد أن عبادة احليوانات جزء من العقيدة املصرية "‬
‫وأصبح هلذه املعبودات احليوانية صورا آدمية لتعلق باألذهان‪ ,‬كما أهنا كانت مقاطعة‬
‫من مقاطع ات مصر قبل األس رات‪ ,‬حيواهنا املق دس‪ ,‬يرمز له بص ورة معين ة‪ " ,‬مث ب دأ التوحيد‬
‫حيدث على نطاق أوسع بني املقاطعات مجيعا‪ .‬وأصبحت لبعض هذه املعبودات صفة عاملية‪.‬‬
‫أظه رت بعض ه ذه اآلهلة يف ص ورة آدمية لتقريبها لألذه ان وإن احتفظت ب رأس حي وان أو‬
‫برمز ي ذكر بأصل املعب ود مثل " اإلله من " إله اخلص ب‪ ...‬بينما أخ ذت آهلة أخ رى ص ورة‬
‫آدمية خالصة عن دما تك ون شخص يتها جمردة مث ل‪ " :‬آت وم " يف هيليوب وليس و "آم ون " يف‬
‫واسة و "بت اح" يف من ف‪...‬وآم ون يف طيبة ومن أب رز أمثلة اآلهلة احمللية اليت حتولت إىل آهلة‬
‫عاملي ة‪...‬ارتف اع املعب ود " ص ور " احلي واين األصل من ص ورة الص قر إىل مرتبته ملك الس ماء‬
‫صاحب العينني العظيمتني‪...‬الشمس والقمر" (‪.)3‬‬
‫وهناك بعض املؤرخني من زعم أن قدماء املصريني أقدسوا احليوان والنبات اعتقادا أن‬
‫اآلهلة حتل هبم كما املعتقد الس ائد ل ديهم أن األرواح تس كن األجس اد بعد املوت وتس كن‬
‫احليوان والنبات‪ " :‬فالروح البد هلا من جثمان حتل فيه‪ ,‬حىت أهنا عند املوت ال تفارق اجلسم‬

‫‪ -‬عبد املعيد خان‪ ,‬األساطري واخلرافات عند العرب‪ ,‬سلسلة العلوم االجتماعية‪ ,‬ط‪ ,3‬دار احلداثة للطباعة‬
‫‪1‬‬

‫والنشر والتوزيع‪ ,‬بريوت‪ ,1981 ,‬ص‪ ,64‬عن ‪Encyclopedia Britanica and totemism and‬‬
‫‪exagomy‬‬
‫‪?-‬سليمان مظهر‪ ,‬قصة الديانات‪ ,‬ص‪.35‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املظهر نفسه‪ ,‬ص‪.36‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪97‬‬
‫إال على عودة سريعة إليه‪ ,‬وإذا كان ذلك شأن األرواح فهو أيضا شأن اآلهلة‪ ,‬البد من مأوى‬
‫تأوي إليه يف احلياة وجسم حتل فيه‪ .‬وقد عملوا فكرهم يف األحياء اليت عساها تكون موضع‬
‫حل ول اآلهلة‪ ,‬فزعم وا يف األحي اء اليت تتصل باخلصب واإلنت اج والب ذور واإلمثار‪ ,‬وأحلوها يف‬
‫غريها مليزة الحظوها أو تومهوه ا‪ ,‬ف أحلوا آهلتهم أحيانا يف ث ور وأحيانا يف ق ط‪ ,‬وأحيانا يف‬
‫غريه ا‪ .‬وص اروا يعب دون ه ذه احليوان ات على أهنا أوعية قد حلت فيها اآلهلة‪ .‬فق وام عب ادة‬
‫احليوان على هذا الرأي الراجح‪ ,‬هو اعتقاد احللول عند قدماء املصريني " (‪.)1‬‬
‫وقد تط ورت عقي دة املص ريني يف احلل ول بعد زمن بتعميم احلل ول يف حي وان بعينه إىل‬
‫كل الصنف من هذا احليوان؛ حيث " انتقلت بعد ذلك عقيدة املصريني من اختصاص حيوان‬
‫من بني أح اد نوعه حبل ول اآلهلة فيه إىل اعتق ادهم أن اآلهلة حتل يف الن وع كله فكل البقر‬
‫مقدس‪ ,‬وكل القطط مقدسة‪ ,‬وهكذا جنس كل حيوان نال مرتبة التقديس حبلول اآلهلة فيه‪.‬‬
‫وقد دفعتهم عقي دة احلل ول ه ذه إىل االعتق اد أن احليوان ات املقدسة أوتيت علم الغيب‪,‬‬
‫والتعريف باملستقبل " (‪.)2‬‬
‫أما عند السومريني‪ ,‬فقد قدس الثور واعتربوه إله للخصب‪ " :‬وتطالعنا صور الثور عند‬
‫الس ومريني يف إط ار غ ريب من القداسة والتبجي ل‪ ,‬فهو يرمز إىل الق وة واخلص ب‪ ,‬ومن مث‬
‫عب دوه وعب دوا البق رة إله مع ه‪ ,‬ومن احتادمها يف زواج مق دس فاضت ض فاف دجلة والف رات‬
‫باخلصب على أرض سومر" (‪.)3‬‬
‫هذا‪ ,‬وقد تعدى تقديس البشر للطوطم احليواين‪ ,‬إىل تقديس مظاهر الطبيعة من جبال‬
‫وأش جار وغريمها‪ ,‬فق دميا يف الصني ق دس جبل " تاش يان " لقد عد تاش يان ومعن اه " اجلبل‬
‫العظيم " املكان الذي تقدم فيه الذبائح للسماء‪ ,‬فقد آمنوا قدميا بأن األسفاط اليت حتتوي على‬
‫ص فائح من ال " يشم " املدون عليها زمن عمر كل إنس ان‪ ,‬حمفوظة على ه ذا اجلب ل‪ .‬وك انوا‬

‫‪ -‬اإلمام حممد أبو زهرة‪ ,‬مقارنات األديان –الديانات القدمية‪ ,‬ص‪ .14‬ط جديدة القاهرة‪ :‬دار الفكر العريب‬
‫‪1‬‬

‫‪.2006‬‬
‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ,‬ص‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬مصطفى عبد الشايف الشوري‪ ,‬الشعر اجلاهلي تفسري أسطوري‪ ,‬ص‪.73‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪98‬‬
‫يص نعون من جبل تايش ان على م داخل من ازهلم‪ ,‬ويف أول كل ش ارع‪ ,‬معتق دين ب أن ه ذه‬
‫احلج ارة حتمي املك ان من أذى األرواح الش ريرة‪ ,‬وانتش رت يف شىت أحناء الص ني‪ ,‬املعابد‬
‫املكرسة هلذا اجلبل " (‪.)1‬‬
‫والشيء نفسه بالنسبة لتق ديس الش جر؛ حيث اختذها اإلنس ان قدميا طوطم ه‪ ,‬واعتقد‬
‫بوج ود أرواح فيه ا‪ ,‬بل اختذوها معابد هلم ت زار وتق ام عن دها الطق وس قبل أن يش يدوا املعابد‬
‫"فالبش ر" مل يبدءوا ببناء املعابد إال بعد زمن‪ ,‬وكانت األشجار بالذات أقدم معاب دهم‪ ,‬لقد‬
‫آمن وا ب أن ق وة س حرية خاصة تكمن يف ش جرة‪ ,‬ول ذلك جبل وا ه ذه األخ رية كتجس يد لتلك‬
‫القوة وكرمز هلا " (‪.)2‬‬
‫واألمر نفسه عند الكوريني الذين قدسوا الشجرة اعتقادا منهم أن هلا صلة قرابة هبم‪,‬‬
‫"فالكوريون رأوا يف بعض األشجار أرواحا –أسالفا‪ -‬إذ ما تسلق طفل شجرة سقط عنها‪,‬‬
‫كانت والدته تقول‪ :‬إن روح الشجرة عاقبته‪...‬وكان كثري من الشعوب يؤمن بقدرة الشجرة‬
‫على الش فاء من األم راض‪ ,‬خاصة ش فاء األطف ال‪ ,‬ولتحقيق ذلك يكفي أن يض جع الطفل‬
‫املريض يف جتويف الشجرة‪ ,‬أو العبور به بني شجرتني مربوطتني واحدهتما إىل األخرى " (‪.)3‬‬
‫وما م ذهب تق ديس النبات ات والش جرة إال اعتق اد من الرجل الب دائي أن النب ات عامة‬
‫والش جر خاصة ما هي إال كائن ات حية تتنفس مثل ه‪ ,‬وتتك اثر مثل ه‪ ,‬وتعيش معه جنبا إىل‬
‫جنب على هذه البسيطة وهذا ما ذهب إليه سري جيمس فريزر‪ " :‬فالعامل عموما يعترب بالنسبة‬
‫للرجل اهلمجي كائن ا‪ ,‬وال يس تثين من ذلك الش جر والنب ات‪ ,‬إذ يظن أن هلا نفوسا كنفسه‬
‫ه و‪ ,‬ول ذا فإنه يعاملها على ه ذا األس اس‪...‬وتتمتع األش جار ب النفوس واحلي اة؛ يعين أهنا حتس‬
‫وتش عر وب ذلك يص بح قطعها مبثابة عملية جراحية دقيقة جيب إجراؤها بكثري من الدقة‬

‫‪ -‬م‪.‬ف‪ .‬أبيديل‪ ,‬سحر األساطري‪ ,‬دراسة يف األسطورة‪ ,‬التاريخ‪ ,‬احلياة‪ ,‬ص‪.136‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ف أبيديل‪ ,‬سحر األساطري‪ ,‬ص‪.137‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ,‬ص‪.173‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪99‬‬
‫واللطف ومراع اة ألحاسيس ها وختفيفا آلالمها حىت ال تتقلب عليهم إن هم أجروها بإمهال‬
‫وتفريط"(‪.)1‬‬
‫اختلفت آراء العلم اء والدارسني يف أص ول الطوطمي ة‪ ,‬وب رزت مدرس تان يف ه ذا‬
‫الش أن‪ ,‬مدرسة (برب رت اس تيد)‪ ,‬ومدرسة (فري زر) ورغم االختالف بينهما إال أهنما اتفقتا‬
‫على " كون الطومتية دينية حبثة يف مبدأها‪ ,‬مث تفرعت إىل نوعني؛ نوع ديين وآخر اجتماعي‪,‬‬
‫فمن الوجهة الدينية مسى أفراد القبائل أنفسهم بأمساء الطومت‪ ,‬ويعتقدون أنه أب للقبيلة‪ ,‬وأهنم‬
‫من نس له‪...‬أما الطومتية من الوجهة االجتماعية فمظهرها تعاقد أهل القبيلة فيما بينهم باعتب ار‬
‫عالقتها بالقبائل األخ رى‪ ,‬وك انت الروابط الطوطمية ه ذه أشد ما تك ون بني أف راد العائلة‬
‫الواحدة املبنية على صلة الرحم " (‪.)2‬‬
‫وك انت القبائل اليت ت ؤمن مبذهب الطوطمية وال ت زال تف رد له مكانة خاص ة‪ ,‬وتوليه‬
‫عناية فائقة وتقسه مبا للكلمة من معىن؛ حيث يتجلى هذا التقديس فيما يلي (‪: )3‬‬
‫‪ -1‬فكل من هذه احليوانات كانت حترتم وتقدس‪ ,‬وكانت القبيلة ال تؤذي طوطمها‬
‫وال تقتله وال تأكله‪.‬‬
‫‪ -2‬إذا م ات حي وان من ن وع ط ومت القبيلة احتفل أهلها بدفنه وحزن وا عليه ح زهنم‬
‫على واحد منهم‪.‬‬
‫‪ -3‬ال يقتصر اح رتامهم الط وطم على حترمي أكله وإيذائه ف إن بعض هم ح رم ملسه‬
‫والنظر إليه‪ ,‬وقد حيرمون التلفظ باسم الطومت‪ ,‬وإذا اضطروا إىل ذكره عمدوا إىل‬
‫الكناية أو اإلشارة‪.‬‬
‫‪ -4‬يعتقدون أن من أهان الطومت أو أساء إليه يصاب باملصائب والنكبات‪.‬‬
‫‪ -5‬كذلك يتوهم أصحاب الطوطم‪ ,‬أن الطوطم ينذر باخلطر قبل وقوعه بعالمات‬
‫أو رموز على حنو ما‪.‬‬

‫‪ -‬سري جيمس فريزر‪ " ,‬الغصن الذهيب " – دراسة يف السحر‪ ,‬والدين‪ ,‬والنشر‪ ,1971 ,‬ص‪ 390‬و‪.393‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬عبد املعيد خان‪ ,‬األساطري واخلرافات عند العرب‪ ,‬ص‪ 65‬و‪.67‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬املرجع نفسه‪ ,‬ص‪ 65‬و‪ 66‬و‪.67‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪100‬‬
‫واعتق دت الع رب ق دميا يف الط وطم فس مت بامسه أبناءه ا‪ ,‬ونس بت إليه قبائلها منها‬
‫قبائ ل‪ ,‬بنو أس د‪ ,‬بنو فه د‪ ,‬بنو ضب وغريها من القبائ ل‪ ,‬وإىل ج انب الط وطم احلي واين‪,‬‬
‫اعتقدت العرب –أيضا‪ -‬يف الطوطم النبايت‪ ,‬فقدست بعض األشجار كالنخيل مثال‪ ,‬وشبهتها‬
‫ب املرأة‪ ,‬الول ود‪ ,‬حيث " ك ان الع رب جيعل ون قرابة بينهم وبني النخ ل‪ ,‬كما روي عن النيب‬
‫(ص لى اهلل عليه وس لم )؛ " أكرم وا عم اتكم النخيل "‪ ,‬وق ال القزي وين " إمنا مساها عم اتكم‬
‫ألهنا خلقت من فضلة طني آدم عليه السالم" وأما الضمري يف " عماتكم " فيدل على أن النيب‬
‫عليه الصالة والسالم أراد به إظهار العقلية اجلاهلية فكلم الناس على قدر عقوهلم‪...‬ومل يكن‬
‫غريبا أن يت وهم الع ريب قرابة بينه وبني النخ ل‪ ,‬وذلك ألن عقله البس يط رأى ش به اإلنس ان يف‬
‫النخل ة‪ ,‬فهي تش به اإلنس ان من حيث امتي از ذكرها عن أنثاها ومميزاهتا املخصوصة باللق اح "‬
‫(‪ .)1‬فقد ق ال القزي وين‪ " :‬ولو قطع رأس ها هللكت‪ ,‬وهلا غالف كاملش يمة اليت يك ون اجلنني‬
‫فيه ا‪ ,‬واجلم ار ال ذي على رأس ها لو أص ابته آفة هللكت النخلة كهيئة مخ اإلنس ان إذا أص ابته‬
‫آف ة‪ ,‬ولو قطع منها غصن ال يرجع بدله كعضو اإلنس ان وعليها ليف كش عر يك ون على‬
‫اإلنسان‪...‬وقال أيضا‪ :‬إذا قاربت بني ذكران النخل وإناثها فإهنا يكثر محلها‪ ,‬ألهنا تستأنس‬
‫باجملاورة‪ ,‬وإذا قطع ليفها من ال ذكران فال حتمل ش يئا لفراقه ا‪ ,‬وإذا غرست ال ذكران وسط‬
‫اإلن اث فهبت ال ريح فخ الطت اإلن اث رائحة طلع ال ذكر محلت من تلك الرائحة كل أن ثى‬
‫حوله " (‪.)2‬‬
‫وذهب غلو الع رب يف ه ذا االعتق اد يف الش جرة‪ ,‬جعلهم ش جرة الرسم رقيبا على‬
‫أهلهم بعدهم‪ ,‬حيث " قيل إن العرب يف اجلاهلية كانوا إذا أراد أحدهم أن يسافر عن حليلته‪,‬‬
‫عمد إىل هذه الشجرة وشد غصنا منها إىل اآلخر وتركها‪ ,‬فإذا عاد من سفره ذهب إليها فإن‬

‫‪-‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ -‬عبد املعيد خان‪ ,‬األساطري واخلرافات عند العرب‪ ,‬ص ‪ ,61 /60‬عن القزويين‪ ,‬عجائب املخلوقات‪ ,‬ص‬
‫‪2‬‬

‫‪.232‬‬

‫‪101‬‬
‫وجدمها حباهلما مشدودين استدل هبما على أن حليلته ما خانته يف غيبته وإن وجدمها حملولني‬
‫استدل هبما على خيانتها " (‪.)1‬‬
‫باإلضافة إىل اختاذ العرب للشجر والنبات عامة كطوطم يقدس‪ ,‬فإهنا اعتقدت يف اجلن‬
‫مثل ذل ك‪ ,‬واختلفت أمساء اجلن حبسب درج ات إي ذائها لإلنس ان‪ ،‬حيث إن " اجلن على‬
‫مراتب"‬
‫م ادة كت اب (الغف ران) ص‪/115 /114 /113 /112 /111 /10 /105/:‬‬
‫‪.117 /116‬‬
‫ه ذا عن الع رب‪ ,‬واعتق دت العديد من القبائل األفريقي ة‪ ,‬أن روح امليت ت رف ح ول‬
‫قريت ه‪ ,‬حىت يتسىن له الع ودة للحي اة من جديد عن طريق احلل ول يف دم ج نني جديد –وقد‬
‫ذكرت هذا آنفا يف مادة "أسطورة اخللود " – ولكن حني يكون امليت ذو مكانة عالية ونبيلة‬
‫يف العشرية‪ ,‬بينما حتل روح الشخص ‪-‬وإن كان غري ذلك‪ -‬يف جسد حيوان ويكون بالتايل‬
‫طوطما وتع دى ذلك أن حتل روح احلي وان الط وطم عند موته جبسد حي وان آخر وهك ذا‬
‫دواليك فه ؤالء " حيل ون يف جسد حي وان ( ثعب ان أو ط ائر ب وم ) يص بح رم زا طوطمي ا‪..‬وال‬
‫يتوقف هذا النسق عن تكرار نفسه‪ ,‬إذ ميكن أن تتحول روح احليوان ( الطوطم بعد موته إىل‬
‫طيف قابل للحلول يف جسد حيوان آخر " (‪.)2‬‬

‫الشيطان ‪:‬‬
‫من مظ اهر الطوطمية عند الع رب‪ ,‬تقديس هم للجن‪ ,‬وتلك القداسة اليت حييطونه هبا‪,‬‬
‫وختتلف أمساء اجلن‪ ,‬حبسب درجات إيذائها لإلنسان؛ حيث إن " اجلن على مراتب‪ ,‬قال ابن‬
‫عبد الرب‪ ,‬إذا ذكروا اجلن خالصا قالوا جىن‪ ,‬فإذا أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا عامر‪,‬‬
‫واجلمع عمار‪ ,‬فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا أرواح‪ ,‬فإن خبث ولؤم قالوا شيطان‪ ,‬فإن‬

‫‪ -‬األلوسي‪ ,‬بلوغ األدب يف معرفة أحوال العرب‪ ,‬ص‪.61-60‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬أمحد ديب شعبو‪ ,‬املرأة‪ ,‬اجلسد‪ ,‬والطوطم‪ ,‬إشكالية أسطورة املوت ورموزه يف اجملتمع األفريقي‪ ,‬جملة الفكر‬
‫‪2‬‬

‫العريب‪ ,‬خريف ‪ 1995‬عدد ‪ ,82‬؟؟ ‪ ,16‬ص‪.75‬‬

‫‪102‬‬
‫زاد على ذلك فهو م ارد‪ ,‬ف إن زاد على ذلك وق وى أم ره ق الوا عف ريت‪ ,‬ف إن طهر ولطف‬
‫وصار خريا كله فهو ملك‪ .‬وقال ابن عقيل‪ :‬الشيطان العصاة من اجلن وهم ولد إبليس‪ .‬وقال‬
‫اجلوهري كل عات متمرد من اجلن واإلنس والدواب شيطان " (‪ .)1‬وحيضرين هنا قول العوام‬
‫عن املكان الذي يسكن يف اجلن مع الناس ومنه مكان مسكون ‪ ،‬وقد جاء عن املسعودي يف‬
‫كتابه مروج الذهب أن العرب تقول بأن اهلواء مسكون‪ " :‬ووجدت يف بعض أخبار هارون‬
‫الرش يد خ رج ذات ي وم إىل الص يد ببالد املوص ل‪ ,‬وعلى ي ده ب از أبيض‪ ,‬فاض طرب على ي ده‬
‫فأرسله‪ ,‬فلم يزل خيلق حىت غاب يف اهلواء‪ ,‬مث طلع بعد اإلياس منه‪ ,‬وقد علق شيئا فهوى به‬
‫يشبه احلية أو السمكة‪ ,‬وله ريش كأجنحة السمك‪ ,‬فأمر الرشيد فوضع يف طست‪ ,‬فلما عاد‬
‫من قنصه أحضر العلم اء فس أهلم‪ :‬هل تعلم ون لله واء س اكنا؟ فق ال مقات ل‪ :‬يا أمري املؤم نني‪,‬‬
‫روينا عن جدك عبد اهلل بن عباس‪ ,‬أن اهلواء معمور بأمم خمتلفة اخللق‪ ,‬فيها سكان أقرهبا منا‬
‫دواب ت بيض يف اهلواء تف رخ في ه‪ ,‬يرفعها اهلواء الغليظ ويربيها حىت تنشأ يف هي أة احلي ات أو‬
‫الس مك هلا أجنحة ليست ب ذات ريش تأخ ذها ب زاة بيض تك ون بأرميني ة‪ ,‬ف أخرج الطست‬
‫إليهم‪ ,‬ف أراهم الداب ة‪ ,‬وأج از مق اتال يومئ ذ‪ .‬وقد أخ ربين غري واحد من أهل التحص يل مبصر‬
‫وغريها من البالد أهنم ش اهدوا يف اجلو حي ات تس عى كأس رع ما يك ون ال ربق األبيض‪ ,‬وأهنا‬
‫تقع على احلي وان يف األرض فتقتل ه‪ ,‬ورمبا يس مع لطرياهنا يف الليل وحركتها يف اهلواء ص وت‬
‫كنشر ث وب جدي د‪ ,‬ورمبا يق ول من ال علم له وغ ريه من البش ر‪ :‬ه ذا ص وت س احرة تط ري‪,‬‬
‫ذات أجنحة من قصب " (‪.)2‬‬
‫رأينا من خالل ما تق دم زعم الع رب أن لبعض احليوان ات عالقة ب اجلن‪ ,‬وأن ه ذه‬
‫األخ رية ميكنها أن تتح ول إىل أي جنس من ه‪ .‬وزاد على ذلك األلوس ى‪ " :‬إهنم يعتق دون يف‬
‫ال دين والغ راب واحلمامة وال ورل والقنفذ واألرنب والظيب وال ريبوع والنع ام واحلية اعتق ادات‬
‫عجيبة فمنهم من يعتقد أن للجن هبذه احليوان ات تعلق ا‪ ,‬ومنهم من ي زعم أهنا من ن وع اجلن‪,‬‬

‫‪ -‬األلوسي‪ ,‬بلوغ األرب يف معرفة أحوال العرب‪ ,‬ص‪.251.‬‬‫‪1‬‬

‫‪ -‬املسعودي‪ ,‬مروج الذهب ومعادن اجلوهر‪ ,‬ج‪ ,1‬تج‪ :‬حممد حمي الدين عبد احلميد دار املعرفة – بريوت‪,‬‬
‫‪2‬‬

‫دط‪ ,‬دت‪ ,‬ص‪.188 ,187 :‬‬

‫‪103‬‬
‫ومنهم من يعتقد أن ال ورل والقنفذ واألرنب والظيب وال ريبوع والنع ام م راكب اجلن ميتطوهنا‪,‬‬
‫أي جيعلوهنا مطية هلم ومن أشعارهم يف مراكب اجلن قول بعضهم يف قنفذ رآه ليال‪:‬‬
‫فما يعجب اجلنان منك عدمتهم‬
‫ويف األسد أفراس هلم وجنائب‬
‫أيسرح جربوع ويلجم قنفذ‬
‫(‪) 1‬‬
‫لقد أعوزتكم ما علمت النجائب "‬
‫ومن مظ اهر الطوطمية ه ذه‪ ,‬ما ع رف عن ع رب " وب ار " ال ذين أنس وا ب اجلن حيث‬
‫أهنم " نزل وا أرض اجلن وأنس وا إليه ا‪ ,‬فت ولت محايتهم‪ ,‬حىت أن كل من ك ان يريد أرض هم‬
‫حثت اإلنس يف وجهه ال رتب‪ ,‬ف إذا أراد الرج وع أض لته ورمبا قتلت ه‪ .‬قضى على وب ار مل يبقى‬
‫على أرضهم إال جمموعة من اإلبل ضربت فيها فحول اجلن‪ .‬فهي هنا الوحشية‪...‬ومن مث قال‬
‫الشاعر يصف ناقته اخلارقة السرعة والقوة‪:‬‬
‫كأين على وحشية أو نعامة‬
‫(‪) 2‬‬
‫هلا نسب يف الطري وهو ظليم "‬
‫ه ذا‪ ,‬واجلن هلا مس اكن خاصة هبا‪ ,‬فهي ال تس كن الس هول أو الق رى بل مس اكنها‬
‫خاصة هبا‪ ,‬تثري اخلوف والرهبة يف القل وب؛ حيث ي ذكر األلوسي " قد حكى اهلل تع اىل ذلك‬
‫عنهم قوله ( وأنه كان رجال من اإلنس ويعوذون برجال من اجلن فزادوهم رهقا ) أي كربا‬
‫وعتوا أو غيا بأن أضلوهم حىت استعاذوا هبم‪ ,‬فإن الرجل إذا أمسى بقفر قال‪ " :‬أعوذ بسيد‬
‫ه ذا ال وادي من شر س فهاء قومه " (‪ .)3‬وال دليل على ذلك ما قيل عن اجلن اليت حبس ها‬
‫سليمان القماقم‪ ,‬إذ خرجت من املغاور واجلبال واآلكام واألودية والفلوات‪ ...‬وكلها أماكن‬
‫تلقى الرعب –وخاصة يف هدوء الليل‪ -‬يف قلوب الناس " (‪.)4‬‬

‫‪ -‬األلوسي‪ ,‬بلوغ األرب يف معرفة أحوال العرب‪ ,‬ص‪.360:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬أمحد كمال زكي‪ ,‬دراسات يف النقد الزديب‪ ,‬ص‪.154 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬األلوسي‪ ,‬بلوغ األرب يف معرفة أحوال العرب‪ ,‬ص‪.232 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬حممد سليم احلوت‪ ,‬امليثولوجيا عند العرب‪ ,‬ص‪.212 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪104‬‬
‫وقد ذهب اعتق اد الع رب يف نس بهم مع اجلن وال زواج منهم إىل أبعد احلدود؛ فيب دو‬
‫واضحا يف نسب بلقيس ملكة سبأ‪ ,‬وأمها اجلنية املشهورة " رواحة بنت مسكن "‪ ,‬وهو اسم‬
‫مازال يتواتر على الشفاة يف خرافات اجلن املصرية‪ .‬ومنها جنية جبل ضهر باليمن‪ ,‬واجلنية اليت‬
‫احندر من رمحها امللك احلمريي الصعب " ذو القرنني " والصعب بن ذي مرائد احلمريي‪ ,‬بل‬
‫إن الع رب نس بوا من القبائل العربية احندارهم من أمه ات جني ات مثل قبائل ج رهم‪ ,‬اليت قيل‬
‫أهنا ج اءت إىل الوج ود من نت اج ما بني املالئكة وبن ات آدم‪ .‬وك ذلك قبائل ج ديس ومثود‬
‫والعماليق أو العمالقة يف الشام وفلسطني‪ .‬وهو تصور ليس ببعيد –طبعا‪ -‬عن تصور العربيني‬
‫من أن املالئكة هم أبناء اهلل " بين أيلوهم " (‪.)1‬‬
‫ه ذا‪ ,‬والظن أن الص رع ما هو إال حماولة من اجلىن الس يطرة على اإلنسى على جهة‬
‫التعش ق‪...‬وك ذلك رج ال اجلن لنس اء بىن آدم " (‪ .)2‬وحني بلغ االعتق اد ه ذا احلد‪ ,‬أنتجت‬
‫قصص كث رية ح ول زواج اإلنس واجلن؛ منها ما ع رف عن " عم رو بن يرب وع بن حنظلة‬
‫التميمي‪ ,‬وج ذع بن س نان وعم رو ذي األذع ار بن أبرهة ذي املن ار وأمه اجلنية العي وف ابنة‬
‫الرائ ع‪ .‬بل إن قبائل بأس رها انتس بت إىل اجلن مثل بىن مال ك‪ ,‬وبىن شيص بان‪ ,‬وبىن يرب وع‪,‬‬
‫الذين تسموا ببىن السعالة –السلعوة‪ -‬كما ترجع أساطري اخللق والبدء احلبشية نسبها بكاملها‬
‫دت اجلن‪ ,‬مثل رهط طلحة‬ ‫إىل احلية واحلية تتوحد مع اجلن‪ ,‬كما أن قبائل بكاملها عب‬
‫الطاخلات من خزاعة‪ ,‬ولقد اعتقد يف أن للجن عشائر وقبائل تربط بينها صلة الرحم كما هو‬
‫حادث عند بىن اإلنس القدماء " (‪.)3‬‬
‫وكثر احلادث عن قصص اختطاف اجلن لإلنس منها ما ورد يف كتاب قصص العرب‪,‬‬
‫من أشهرها قصة " جان خيتف فتاة "؛ حيث ورد فيها " حدث زياد بن النظر احلارث يقال‪:‬‬
‫كنا على غ دير لنا يف اجلاهلي ة‪ ,‬ومعا رجل من احلي يق ال ل ه‪ ,‬عم رو بن مال ك‪ ,‬معه بنية له‬
‫شابة‪ ,‬على ظهرها ذؤابة‪ ,‬فقال أبوها‪ :‬خدى هذه الصفحة مث ائيت الغدير‪ ,‬فجيئينا بشيء من‬

‫‪ -‬شوقي عبد احلكيم‪ ,‬الفلكلور واألساطري العربية‪ ,‬ص‪.131 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬اجلاحظ‪ ,‬احليوان‪ ,‬مج‪ ,1‬ج‪ ,1‬ص‪.104:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬شوقي عبد احلكيم‪ ,‬الفلكلور واألساطري العربية‪ ,‬ص‪.141 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪105‬‬
‫مائه‪ .‬فانطلقت فواقفها عليه جان فاختطفها‪ ,‬فذهب هبا‪ ,‬فلما فقدناها نادى أبوها يف احلي‪,‬‬
‫فخرجنا على صعب وذلول‪ ,‬وقصدنا على شعب ونقب‪ ,‬فلم جند هلا أثرا‪ ,‬ومضت على ذلك‬
‫الس نون‪ ,‬حىت ك ان زمن عمر بن اخلط اب‪ ,‬ف إذا هي قد ج اءت‪ ,‬وقد عفا ش عرها وأظافرها‬
‫وتغريت حاهلا‪ ,‬فقد قال هلا أبوها‪ .‬أي بنية‪ ,‬أىن كنت؟ وقام إليها يقبلها ويشم رحيها‪ ,‬فقالت‪,‬‬
‫يا أبت‪ ,‬أتذكر ليلة الغدير؟ قال نعم‪ ! ‬قالت‪ :‬فإنه واقفين عليه جان فاختطفين وذهب يب‪ ,‬فلم‬
‫أزل فيهم حىت إذا ك ان اآلن غ زى هو وأهله قوما مش ركني أو غزاهم قوم مش ركون‪ ,‬فجعل‬
‫اهلل تب ارك وتع اىل ن ذرا إن هم ظف روا بع دوهم أن يعتقين وي ردين إىل أهلي فظف روا‪ ,‬فحملين‬
‫فأص بحت عن دكم‪ ,‬وقد جعل بيين وبينه أم ارة‪ ,‬إن احتجت إليه أن أول ول بص ويت‪ ,‬فإنه‬
‫حيضرين‪ .‬فأخذ أبوها من شعرها وأظافرها‪ ,‬وأصلح من شأهنا‪ ,‬وزوجها رجال من أهله‪ ,‬فوق‬
‫بينها وبني ذات يوم ما يقع بني املرأة وبعلها فعريها‪ ,‬وقال‪ :‬يا جمنونة‪ ! ‬واهلل إن نشأت إال يف‬
‫اجلن‪ .‬فص احت وول ولت ب أعلى ص وهتا‪ ,‬ف إذا ه اتف يهت ف‪ :‬يا معشر بين احلارث اجتمع وا‬
‫وكون وا حيا كرام ا‪ ,‬فاجتمعنا فقلن ا‪ :‬ما أنت رمحك اهلل ؟‪ ! ‬فإنا نس مع ص وتا وال ن رى‬
‫شخص ا‪ ! ‬فق ال‪ :‬أنا راب ( كافل ) فالن ة‪ ,‬رعيتها يف اجلاهلية حبسيب وص نعتها يف اإلس الم‬
‫بديين‪ ,‬واهلل إن نلت منها حمرما قط! واستغاثت يف هذا الوقت‪ ,‬فحضرت فسألتها عن أمرها‪,‬‬
‫فزعمت أن زوجها عريها بأهنا كانت فينا‪ ,‬وواهلل‪ ,‬لو كنت تقدمت إليه لفقأت عينيه‪ ! ‬فقلنا‪:‬‬
‫يا عبد اهلل‪ ,‬لك احلباء واجلزاء واملكافأة‪ ! ‬فقال بذلك إليه ( يعين الزواج )‪.)1( "...‬‬
‫كما بلغ تق ديس اإلنس للجن إىل درجة عب ادهتم؛ حيث ذكر األلوسى عن كت اب‬
‫(أكام املرجان يف أحكام اجلان ) " حدثنا اإلمام أمحد حدثنا حممد بن جعفر حدثنا شعبة عن‬
‫األعمش عن إبراهيم عن أيب معمر قال عبد اهلل بن مسعود؛ كان نفر من اإلنس يعبدون نفرا‬
‫من اجلن فأس لم النفر من اجلن واستمسك ه ؤالء بعب ادهتم ف أنزل اهلل تع اىل‪ ( :‬أولئك ال ذين‬
‫ي دعون يبتغ ون إىل رهبم الوس يلة أيهم أق رب ويرمحون رمحته وخيافون عذابه إن ع ذاب ربك‬

‫‪ -‬حممد أمحد جاد املوىل‪ ,‬علي حممد البجاوي‪ ,‬حممد أبو الفضل إبراهيم‪ ,‬قصص العرب‪ ,‬دار الفكر‪ ,‬بريوت‪,‬‬
‫‪1‬‬

‫دط‪ ,1979 ,‬ج‪ ,4‬ص‪.397 ,396:‬‬

‫‪106‬‬
‫ك ان حمذورا ) ويف رواية عن ابن مس عود رضي اهلل تع اىل عنه ق ال‪ :‬ن زلت يف نفر من الع رب‬
‫كانوا يعبدون نفرا من اجلن فأسلم اجلنيون واإلنس كانوا يعبدوهنم وال يشعرون " (‪.)1‬‬
‫وحتدثت الع رب ك ذلك عن تلقني اجلن الغن اء لإلنس‪ ,‬حيث ج اء يف كت اب قصص‬
‫الع رب‪ ،‬قصة "الغ ريض يتلقى غن اءه عن اجلن "‪ ,‬ورويت كما يلي‪ :‬ق ال م وىل آلل الغ ريض‪:‬‬
‫ح دثين بعض مولي ايت وقد ذك رن الغ ريض ف رتمحن عليه وقلن‪ :‬جاءنا يوما حيدثنا حبديث‬
‫أنكرناه عليه‪ ,‬مث عرفنا بعد ذلك حقيقته‪ ,‬وكان من أحسن الناس وجها صغريا وكبريا‪ ,‬وكنا‬
‫نلقى من الن اس عنتا بس ببه‪ ,‬وك ان ابن س ريج يف جوارنا ف دفعناه إليه فلقن الغن اء‪ ,‬وك ان من‬
‫أحسن الن اس ص وتا ففنت أهل مكة حبسن وجهه مع حسن ص وته‪ ,‬فلما ذلك ابن س ريج حناه‬
‫عنه‪ ,‬وكانت بعض مولياته تعلمه النياحة‪ ,‬فربز فيها‪ ,‬فجاءين يوما فقال‪ :‬هنتين اجلن أن أنوح‪,‬‬
‫وأمسعتين ص وتا عجيب ا‪ ,‬فقد ابت نيت عليه حلنا فامسعيه م ين‪ ,‬وان دفع وغىن بص وت عجيب يف‬
‫شعر املرار األسدي‪:‬‬
‫حلفت هلا باهلل ما بني ذي الغضا‬
‫وهضب القنان من عوان وال بكر‬
‫أحب إلينا منك دال وما نرى‬
‫به عند ليلى من ثواب وال أجر‬
‫فك ذبناه وقلن ا‪ :‬ش يء فكر فيه وأخرجه على ه ذا اللحن‪ ,‬فك ان يف كل ي وم يأتين ا‪,‬‬
‫فيقول‪ :‬مسعت البارحة صوتا من اجلن برتجيع وتقطيع قد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر‬
‫فالن‪ ,‬فلم يزل على ذلك وحنن ننكر عليه‪ ,‬فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع مجاعة من نساء أهل‬
‫مكة يف مجع مسرنا فيه ليلتنا‪ ,‬والغريض يغنينا بشعر عمر بن أيب ربيعة‪:‬‬
‫أمن آل زينب جد البكور‬
‫نعم ألي هواخ تصري‬

‫‪ -‬األلوسي‪ ,‬بلوغ األرب يف معرفة أحوال العرب‪ ,‬ص‪.233 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪107‬‬
‫إذ مسعنا يف بعض الليل عزيفا عجيبا وأص واتا خمتلفة ذعرتنا وأفزعتن ا‪ ,‬فق ال لنا‬
‫الغ ريض‪ ,‬إن يف ه ذه األصوات صوتا إذا منت مسعته‪ ,‬وأصبح فأبىن عليه غن ائي‪ ،‬فأص غينا إليه‬
‫فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها‪ ,‬فصدقناه تلك الليلة " (‪.)1‬‬
‫مل يبلغ االعتق اد يف اجلن وتقديس ها ه ذا احلد فحس ب‪ ,‬بل زعم الع رب ك ذلك أن هلا‬
‫عالقة بالش عر‪ ,‬وأن الش عراء متف اوتون يف الفحولة نظ را لش يطان الش عر ال ذي ينتس بون إلي ه؛‬
‫فجعل وا لكل ش اعر ش يطان ش عر؛ وهلذا أوىل الش عر قداسة خاصة منذ نش أته‪ ,‬حىت وصل إىل‬
‫درجة كتاباته مباء ال ذهب وتعليقه على ج دران الكعب ة‪ ,‬واش رتكت كل من امليثولوجيا العربية‬
‫مبثيلتها اليونانية يف تق ديس والش اعر حيث إن " الش اعر يف اجلاهليتني اليونانية والعربية ك ان‬
‫ميلك قوى علوية يستمد منها فن الشعر‪ .‬وهلذا قالت قريش عن حممد أنه شاعر –كما ذكرنا‬
‫وكما جاء يف القرآن‪ -‬وإن مل يأت بشعر‪ ,‬وإمنا ظنا منهم أنه ذو اتصال مباشر بأرواح علوية‬
‫اعتربوها ش ياطني وتواب ع‪ ,‬وهي يف ع رف الغ ري‪ ,‬مالئك ة‪ ,‬وعلى كل فهي وحي خفي وص لة‬
‫وثيقة بني النيب واهلل‪ ,‬أو بني الشاعر وما وراء الطبيعة " (‪.)2‬‬
‫وما يؤكد االعتق اد بارتب اط الش اعر الش يطان الش عر‪ ,‬تلك ال طق وس اليت ك انت تتم‬
‫فيها عملية إنشاده " ويرى الشريف املرتضى أن الشاعر كان إذا أراد اهلجاء لبس حلة خاصة‬
‫كحلل الكهان‪ ,‬وحلق رأسه وترك ذوابتني‪ ,‬وذهن أحد شقى رأسه‪ ,‬وانتعل نعال واحدا "(‪.)3‬‬
‫ومبا أن هنالك صلة بني الشيطان والشعر فإن العرب نسبت لكل شاعر شيطان يلهمه‬
‫الش عر ويلقنه إي اه‪ ,‬حيث " زعمت األع راب أن مع كل فحل من الش عراء ش يطانا من ه ذه‬
‫الشياطني‪ .‬فقد قال حسان‪:‬‬
‫وىل صاحب من بىن الشيصبان‬
‫فطروا أقول وطورا هو‬
‫دعوت خليلي مسحال ودعوا له‬

‫‪ -‬حممد أمحد جاد املوىل‪ ,‬وآخرون‪ ,‬قصص العرب‪ ,‬ص‪.400 ,399 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬حممد سليم احلوت‪ ,‬امليثولوجيا عند العرب‪ ,‬ص‪.279-278 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬مصطفى عبد الشايف الشوري‪ ,‬الشعر اجلاهلي تفسري أسطوري‪ ,‬ص‪.79,80 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪108‬‬
‫وكان يف العني نبو عين‬
‫فإن شيطاين أمري اجلن‬
‫يذهب يب يف الشعر كل فن‬
‫وافتخر أحدهم بأن شيطانه ذكر فقال‪:‬‬
‫إين وكل شاعر من البشر‬
‫(‪) 1‬‬
‫شيطانه أنثى وشيطاين ذكر "‬
‫كما جند هذا االعتقاد جمسدا يف املقامة اإلبليسية لبديع الزمان اهلمداين‪ ,‬واليت جاءت‬
‫على من وال ال رحالت اخليالي ة؛ حيث اس تقى ص احبها معظم أح داثها من أس طورة ش يطان‬
‫الشعر " وخالصتها أن أبا الفتح اإلسكندري بطل املقامات‪ ,‬فقد إبال فخرج يف طلبها‪ ,‬حىت‬
‫س اقته األق دار إىل واد خص يب فيه أش جار باس قة ومثار يانعة وأزه ار منوع ة‪ ,‬ويلتقى يف ذلك‬
‫ال وادي ش يخا على األرض في أنس حلديثه ويبادله الق ول إىل أن يس أله الش يخ إن ك ان ي روي‬
‫ش يئا من أش عار الع رب فينشد الم رئ القيس وعبيد ولبيد وطرف ة‪ ,‬لكن الش يخ ال يط رب ل ه‪,‬‬
‫فيطلب إىل اإلسكندري أن يسمع فيسمعه قول جرير‪:‬‬
‫بان اخلليط ولو طوعت ما بانا‬
‫وقطعوا من حبال الوصل أقرانا‬
‫فيس تغرب اإلس كندري منه أن ينسب القص يدة لنفسه ويس أل عن س بب ذلك‬
‫اإلدعاء‪...‬فريد عليه الشيخ طويال مسجوعا‪ ,‬على عادة اهلمداين يف رحلته اخليالية من أسطورة‬
‫شيطان الشعر املشهورة‪ ,‬فكانت سابقة فريدة يف األدب العريب تبعتها جتارب مشاهبة‪ ,‬ورمبا‬
‫كانت مستقاة من جوهرها " (‪.)2‬‬
‫هذا‪ ,‬وهنالك الكثري من القصص حول تفضيل اجلن –أنفسها‪ -‬الشعراء واحلكم على‬
‫أفحلهم‪" ,‬ح دث بعض هم ق ال‪ :‬بينما أنا أسري يف ط ريقي ببلقعة من األرض ال أنيس هبا إذا‬
‫رفعت يل نار فدفعت إليها‪ ,‬فإذا خبيمة وإذا بفنائها شيخ كبري ومعه صبية صغار‪ .‬فسلمت مث‬

‫‪ -‬حممد سليم احلوت‪ ,‬امليثولوجيا عند العرب‪ ,‬ص‪.279 ,‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬حممد الصاحل سليمان‪ ,‬الرحالت اخليالية يف الشعر العريب احلديث ‪.)arabia .com( ,1999‬‬
‫‪2‬‬

‫‪109‬‬
‫أخنت راحيت أنسا به تلك الس اعة‪ ,‬فقلت هل من م بيت؟ ق ال نعم يف ال رحب والس عة‪ ! ‬مث‬
‫ألقى إىل طنفسة رحل فقع دت عليه ا‪ .‬مث ق ال‪ :‬ممن رج ل؟ فقلن‪ :‬محريي ش امي‪ .‬ق ال نعم‪! ‬‬
‫أهل الش رف الق دمي‪ .‬مث حتدثنا ط ويال إىل أن قلت‪ :‬أت روي من أش عار الع رب ش يئا؟ ق ال نعم‬
‫سل عن أيها ش ئت‪ ,‬قلت فأنش دين يف للنابغ ة‪ .‬ق ال‪ :‬أحتب أن أنش دك من ش عري أن ا؟ قلت‬
‫نعم‪ ,‬فان دفع ينشد الم رئ القيس والنابغة وعبي د‪ .‬مث ان دفع ينشد لألعش ى‪ ,‬فقلت لقد مسعت‬
‫هبذا الشعر منذ زمان طويل‪ ,‬قال لألعشى؟ قلت نعم‪ .‬قال فأنا صاحبه‪ .‬قلت فما امسك؟ قال‬
‫مس حل الس كران بن جن دل‪ ! ‬فع رفت أنه من اجلن‪ ,‬فبت ليلة اهلل هبا عليم‪ ,‬مث قلت ل ه‪ :‬من‬
‫أش عر الع رب؟ ق ال أرو ق ول الفظ بن الح ظ‪ ,‬وهي اب‪ ,‬وهبيد ه اذر بن م اهر! قلت ه ذه‬
‫األمساء ال أعرفه ا‪ ,‬ق ال أجل أما الفظ فص احب ام رئ القيس‪ ,‬وأما هبيد فص احب عبيد بن‬
‫األب رص‪ ,‬وبش ر‪ ,‬وأما ه ادر فص احب زي اد ال ذبياين‪ ,‬وهو ال ذي اس تنبغه‪ ,‬مث أس فر يل الص بح‬
‫فمضيت وتركته " (‪.)1‬‬
‫خالصة الق ول إذن‪ ,‬أن الع رب جعلت لكل ش اعر ش يطانا يلقنه الش عر‪ ,‬وربطت‬
‫فحولته بفحولة ش يطانه‪ ,‬وقد جتلى ه ذا املعتقد يف رس الة الغف ران من خالل بعض الرم وز اليت‬
‫استحضرها أبو العالء لبلوغ مقصده ضمن مجاليات أضافها هذا التوظيف الرمزي على كافة‬
‫نص الرسالة‪.‬‬

‫‪ - 2‬تجليات العنصر األسطوري " النصب الحجري " ‪:‬‬


‫تتجلى أس طورة املذهب " الط وطمي" يف رواية " نزيف احلجر " من خالل العن وان يف‬
‫حد ذاته وال ذي يعترب أكرب إش ارة تتجلى من خالهلا األس طورة – إذ جعل الك وين مفت اح‬
‫الرواية – أي عنواهنا – جيسد مظه را طوطميا يف حد ذات ه؛ حيث أخرب ب أن احلجر ي نزف‬
‫ليفتح أمام القارئ مجلة من التساؤالت حتيله إىل هامش قرائي واسع‪ .‬حيث جاء العنوان من‬
‫كلمتني غري مرتبطتني منطقيا لكنهما تشكالن ( استعارة مكنية ) حبيث شبه احلجر باإلنسان‬
‫ال ذي ي نزف‪ ,‬فح ذف املش به به (اإلنس ان) وت رك قرينة دالة عليه وهي ( ال نزيف )‪ ,‬وهي يف‬

‫‪ -‬حممد سليم احلوت‪ ,‬امليثولوجيا عند العرب‪ ,‬ص‪.279/280‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪110‬‬
‫علم البالغة ( األنسنة ) حيث استعار للحجر صفة تلحق باإلنسان أو احليوان وهي " النزيف‬
‫" وأحلقها باحلجارة اليت ال تعرف نزيفا أبدا‪ ,‬اللهم إذا تفتتت بإذن اهلل وخرجت منها األهنار‪.‬‬
‫وه ذا ما ج اء يف قوله تع اىل‪ " :‬مث قست قل وهبم من بعد ذلك فهي كاحلج ارة أو أشد قس وة‬
‫وإن من احلج ارة ملا يتفجر منه األهنار وإن منها ملا يش قق فيخ رج منه املاء وإن منها ملا يهبط‬
‫(‪) 1‬‬
‫من خشية اهلل وما اهلل بغافل عما تعملون "‬
‫أما أن ي نزف احلج ر‪ ,‬ف ذلك جنده يف األس اطري القدمية‪ ,‬وهي ما يس مى " ب املظهر‬
‫الط وطمي"‪ ,‬حيث ك ان الن اس يعتق دون يف حيوية مظ اهر الطبيعة من نب ات وحجر وجبل‬
‫وغريه ا‪ ,‬فهي – حسب زعمهم – تتنفس اإلنس ان وتش عر مثل ه‪ .‬فجبل الن اس على تق ديس‬
‫احلجارة انطالقا من هذا املعتقد‪ .‬حيث بلغ هبم ذلك إىل عبادهتا‪ ,‬وتعظيمها‪ ,‬وتقديسها‪.‬‬
‫وقد ق دس ع رب اجلاهلية – على س بيل املث ال – احلج ارة‪ ,‬خاصة تلك اليت ك انوا‬
‫جيلبوهنا معهم بعد موسم احلج أو التج ارة من مك ة‪ ,‬تربكا هبا‪ ,‬وقد وصل هبم احلد إىل جعلها‬
‫حجارة مقدسة تعبد كاألصنام‪.‬‬
‫ومل يعرف عرب اجلاهلية وحدهم هذا التقديس للحجارة بل غريهم من الشعوب منذ‬
‫أزمنة غ ابرة‪ " ,‬وتس مى األعم دة املقدسة ماص يبوت بالعربية أي أنص ابا‪ .‬وباألوغاريتية‬
‫(الكنعانية) (ن ص ب) يقف‪ .‬أما ( ن ص ب ‪ .‬س ك ن ) فتعين؛ يقيم نصبا‪ .‬و (ونص ب) يف‬
‫العربية اجلنوبية‪ :‬لوحة القرب‪ ,‬والنصب يف العربية‪ :‬الشيء املنصوب؛ وما عبد من دون اهلل من‬
‫األصنام والتماثي ل‪ ..‬واألنصاب‪ :‬حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح لغري‬
‫اهلل‪ ...‬وهناك املذابح املقامة من األحجار العادية أو حجر املنليث يف نابلس ( شكيم )‪ ,‬وبيت‬
‫إيل‪ ,‬وجلعاد‪ ,‬واملصفاة‪ ,‬وغريها‪ ,‬يف فلسطني منذ أيام الكنعانيني‪ .‬وفيما بعد صار العمود أو‬
‫النصب ي دعى عند الع ربيني " بيت اهلل "‪ ...‬وك ان يف جلج ال يف أرض كنع ان إثنا عشر‬
‫عم ودا مقدسا رم زا الثين عشر س بطا من أس باط اليه ود‪ ...‬ويغلب الظن أن األعم دة أو‬
‫األنصاب كانت رموزا جنسية يف بادئ األمر‪ ,‬استنادا إىل ما جاء يف سفر حزقيال بالتوراة‬

‫‪ -‬القرآن الكرمي‪ ,‬سورة البقرة‪ ,‬اآلية ‪.74‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪111‬‬
‫(‪ )‬عند خماطبته أورشليم‪ " :‬ووضعت لنفسك صور ذكور وزنيت هبا " كما كانت البغي يف‬
‫اجلاهلية تقيم عم ودا أو س ارية عند خيمتها إعالنا عن مهنته ا‪ ...‬وك ان الع رب يف اجلاهلية‬
‫ينص بون األعم دة‪ ,‬ويرك ون احلج ارة ف وق بعض ها‪ ,‬لت ذبح عن دها األض احي‪ .‬وك انت ه ذه‬
‫األحج ار تس مى أنص ابا‪ ...‬ويف طقوس اجلاهلية ك ان املتعب دون يتض رعون إىل إهلني يرمز هلما‬
‫بنص بني‪ ,‬وميس حون س بعة أحج ار بال دم‪ ,‬مث ي دورون ح ول األحج ار يف حلق ة‪...‬وقد عبد‬
‫الع رب احلج ارة يف اجلاهلي ة‪ .‬ذكر األرزقي يف كتابه ( أخب ار مكة ص ‪ " : )66‬إن أول ما‬
‫ك انت عب ادة احلج ارة يف بين إمساعيل‪ ,‬أنه ك ان ال يظعن من مكة ظ اعن إال احتمل معه من‬
‫حج ارة احلرم‪ ,‬تعظيما للح رم‪ ,‬وص بابة مبكة والكعب ة‪ ,‬حىت س لخ ذلك هبم إىل أن ك انوا‬
‫يعبدون ما استحسنوا من احلجارة وأعجبهم من حجارة احلرم خاصة (‪.)1( " )‬‬
‫هذا‪ ,‬وقد جاءت احلجارة يف نص الرواية‪ ,‬يف العديد من املواطن‪ ,‬منها حجارة عادية‬
‫تشكل بنية حتية للبيئة الصحراوية سهال وجبال‪ ,‬ومنها حجارة أسطورة على شاكلة " النصب‬
‫احلجري " يف املعتقدات األسطورة القدمية‪.‬‬
‫وتتجلى أس طورة "املظهر الط وطمي "‪ ,‬من خالل العنصر األس طوري " النصب‬
‫احلجري "‪ ,‬جتليا صرحيا‪ ,‬حني حاول وصف النصب الذي حيمل رمزين مقدسني نقشا عليه‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬الص خرة تنتصب يف هناية الض فة الغربية لل وادي‪ ,‬عند التقائه‬
‫ب وادي " آينس يس "‪..‬الص خرة العظيمة حتد سلس لة الكه وف‪ ,‬وتقف يف الكهاي ة؟؟ كحجر‬
‫الزاوي ة‪ ,‬لتواجه الش مس القاس ية عرب آالف الس نني‪ ,‬وقد زيت بأب دع رس وم إنس ان ما قبل‬
‫التاريخ يف الصحراء الكربى كلها‪ :‬على الصخرة اهلائلة ينهض الكاهن العمالق‪ ,‬خيفي وجهه‬
‫ب ذلك القن اع الغ امض‪ ,‬ويالمس بي ده اليمىن لل وداَن ال ذي يقف جبواره مهيب ا‪ ,‬عني دا‪ ,‬يرفع‬
‫رأس ه‪ ,‬مثله مثل الك اهن‪ ,‬حنو األفق البعي د‪ ,‬حيث تش رق الش مس وتس كب أش عتها يف‬

‫‪ -‬الكتاب املقدس‪ ,‬العهد القدمي حزقايل‪)18:16 ( ,‬‬


‫‪‬‬

‫‪ -‬عن عبد املعيد خان‪ ,‬األساطري واخلرافات عند العرب‪ ,‬ص ‪.106‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬علي الشوك‪ ,‬اهتمامات ميثولوجية‪ ,‬واستطرادات لغوية‪ " ,‬القسم الثالث "‪ ,‬جملة الكرمل (فصلية ثقافية) ‪,‬‬
‫‪1‬‬

‫العدد ‪ ,26‬سنة ‪ ,1987‬ص ‪ 34‬و‪.35‬‬

‫‪112‬‬
‫ودان املق دس على مالحمهما‬
‫وجهيهما كل ي وم‪ .‬عرب آالف الس نني‪ ,‬حافظ الك اهن العظيم وال َ‬
‫احملفورة‪ ,‬مالحمهما الواضحة‪ ,‬العميقة‪ ,‬اجلليلة الناطقة يف صلب الصخرة الصماء‪ .‬يطل الكاهن‬
‫حمف ورا يف احلجر الص لد‪ ,‬وافقا يف قامته الطبيعي ة‪ ,‬بل يب دو أط ول وأض خم من قامة اإلنس ان‬
‫الودان املقدس الذي يفوق العادي حجما " (‪.)1‬‬‫الطبيعية‪ ,‬ينحين قليال حنو َ‬
‫ك ذلك‪ ,‬تتجلى أس طورة " املظهر الطوطمي من خالل العنصر األس طوري‪ " ,‬النصب‬
‫احلجري "‪ ,‬عرب تقنية العنوان مرة أخرى‪ ,‬وهو عنوان فرعي لقصة فرعية داخل الرواية‪ ,‬حيث‬
‫ج اء ه ذا العن وان موسوم بـ " الصالة أم ام النصب الوثين (العس اس) " (‪ )‬ليحيلنا مباش رة إىل‬
‫وجود هذا النصب احلجري الذي تقام أمامه الصالة وبالتايل كان التجلي صرحيا من خالل‬
‫تقنية العن وان‪ ,‬وحني ك ان التجلي ص رحيا‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري "النصب‬
‫احلجري"‪ .‬متقلصة‪ ,‬عرب حالة (التماثل والتشابه) ؛ من خالل تيمة العبادة حيث تقام الصالة‬
‫أمامه كما يف املعتقد األسطوري القدمي‪ ,‬فقد جاء يف نص الرواية‪ " :‬أهنى صالته وألقى برأسه‬
‫إىل ال وراء متابعا اجلدار العمالق املنتصب ف وق رأس ه‪ .‬كبري اجلن يبارك ه‪ .‬نظرته الغمضة من‬
‫والودان املهيب املتوج بقرنني ملتويتني‪ ,‬أيضا يوافق إهله‬
‫خلف القناع تنطق بالرضا والسكينة‪َ .‬‬
‫وي وحي بأنه قبل الص الة وف از برمحة ال رب املعب د‪...‬مل ي رد " أس وف " أنه أخطأ االجتاه‪ ,‬فلم‬
‫يوجه ركعاته حنو الكعبة وإمنا حنو الص نم احلج ري املنتصب ف وق رأس ه‪ ,‬يف قعر ال وادي‬
‫(‪) 2‬‬
‫العميق"‪.‬‬
‫وت أيت مطاوعته العنصر األس طوري " النصب احلج ري " ك ذلك عرب حالة (التماثل والتش ابه)‬
‫من خالل تيمة ( احلماية ) حيث يوكل ألس وف محاية النصب ألجل قيمته األثرية والروحي ة‪,‬‬
‫ما جيعل الطامعني من سرقته كثر‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬وق ال له موظف اآلث ار‪ " :‬أنت من الي وم ح ارس وادي‬
‫متخن دوش‪ ,‬أنت عيوننا يف ال وادي‪ .‬س وف ي أيت بشر كث ريون من خمتلف األجن اس واألدي ان‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.08‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر " ‪ ,‬ص‪.13 :‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.13 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪113‬‬
‫ملشاهدة اآلثار‪ .‬عليك أن تراقبهم‪ ,‬ال تدعهم يسرقون األحجار‪ ,‬ال تسمح هلم مفخرة بالدنا‪.‬‬
‫افتح عينيك‪ ,‬إهنم هنمون وطماعون يسرقون أحجارنا ليبيعوها يف بالدهم باآلالف‪ ,‬باملاليني‪.‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫ال تغفل عنهم‪ .‬إياك‪ .‬أنت عساس "‪ .‬مث لوح بيده يائسا‪"...‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وج اءت –أيض ا‪ -‬مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري "‪ ,‬متقلصة من‬
‫خالل حالة ( التماثل والتشابه )‪ ,‬عرب تيمة ( التقديس ) حيث كان النصب احلجري حماطا‬
‫هبالة من القدسية من طرف السواح األجانب‪ .‬فقد جاء يف نص الرواية‪ " :‬وبالطبع مل خيطر‬
‫ببال آسوف باملاضي‪ ...‬أن يكون هذا الرسم احملفور يف الصخور ميثل هذه األمهية كما يراه‬
‫الي وم‪ .‬عن دما أص بح قبلة لس ياح النص ارى‪ .‬ي أتون من أبعد البل دان‪ .‬يع ربون الص حراء‬
‫بسيارات الربية ليشاهدوا احلجر‪ ,‬يفتحون أفواههم دهشة أمام عظمته ومجاله وغموضه‪ .‬بل‬
‫إنه رأى يف إح دى املرات ام رأة أوروبية تركع أم ام الص خرة على ركبتيها وتتمتم بكالم‬
‫(‪) 2‬‬
‫مبهم‪ ,‬عرف باحلدس أنه صلوات النصارى "‬
‫ه ذا‪ ,‬ويف موضع آخر من الرواي ة‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري "‪,‬‬
‫متقلصة – ك ذلك – عرب حالة ( التش ابه والتماثل )‪ ,‬من خالل تيمة ( التق ديس )؛ حيث‬
‫وقف النص راين ال ذي ك ان رفقة آس وف ط ويال مت أمال النصب احلج ري‪ ,‬حىت أنه غ اب عن‬
‫الوجود للحظات؛ حيث جاء يف نص الرواية‪..." :‬إحساسه أوحى له أن هذا الشيخ األشيب‬
‫حيب الص حراء‪ .‬لقد رأى ذلك يف عيني ه‪ ,‬ويف معاملته لألحج ار املرس ومة‪ .‬رأى كيف ترجتف‬
‫أصابعه عندما تالمس جدران الكهف املرسوم خبطوط األقدمني‪ .‬يف تلك اللحظة‪ ,‬يفيض من‬
‫عينيه بريق غ امض خيرج منديله من جيب ه‪ ,‬وميسح ال رتاب والطني عن الوج وه احملف ورة يف‬
‫الصخور الصماء حىت تتضح الصورة متاما‪ .‬يرتاجع خطوات إىل الوراء‪ ,‬ويتفرج على الرسم‪.‬‬
‫قد تنفرج عن شفتيه ابتسامة‪ ,‬وقد تغزو مقلتيه مسحة كآبة‪ .‬ويف بعض األحيان‪ ,‬يقف طويال‬
‫أم ام الوشم احلج ري‪ ,‬عاق دا يديه ح ول ص دره‪ ,‬مييل برأسه ميينا ويس ارا‪ ,‬ويف عينيه خش وع‬
‫املس لم عن دما يص لي‪ ,‬يتلفظ برطانة غري مفهوم ة‪ ,‬خياطب رفاقا ال وج ود هلم‪ ,‬يض رب كفا‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 13 :‬و‪.14‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.86 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪114‬‬
‫بك ف‪ ,‬يقفز يف اهلواء كال درويش‪ ,‬ويوجه إليه كالما غري مفه وم‪ ,‬ينسى نفسه متام ا‪ .‬وعن دما‬
‫يع ود من غيبته إىل ال دنيا يبتسم معت ذرا‪ ,‬وي ربت على كتفيه كأنه يريد أن يطمئنه أنه مل جين‬
‫(‪) 1‬‬
‫بعد "‬
‫ك ذلك‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري "‪ - ,‬يف موضع آخ ر‪-‬‬
‫متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه )‪ .‬وذلك من خالل تقنية " التق ديس "‪ .-‬حيث أن‬
‫النصب احلجري املذكور يف الرواية‪ ,‬هو كذلك‪ ,‬للعبادة والتقديس كما يف األساطري القدمية‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬منذ ذلك الي وم‪ ,‬ب دأ ال زوار يتق اطرون على ال وادي املنسي منذ‬
‫آالف السنني‪ ,‬يأتون مجاعات مبعدل كل أسبوعني‪ ,‬وأحيانا كل شهر‪ ,‬وقليال ما يغيبون ألكثر‬
‫من ش هر‪ .‬وك انوا مجيعا من األج انب‪ ,‬رج اال ونس اء‪ ,‬ش يوخا وش بابا‪ .‬من خمتلف أجن اس‬
‫النصارى‪ .‬يركعون أمام اجلين األكرب‪ ,‬ويلتقطون أمام املعبد‪ ,‬ويقضون ليلة يف بعض األحيان مث‬
‫ينطلق ون عائ دين بعد أن ي رتكوا له املعلب ات واجلنب واحلليب اجملفف أو املعلب والش اي‬
‫والس كر والبس كويت‪...‬وكث ريا ما س أل نفسه عن سر اهتم ام النص ارى بالرس وم القدمية‪.‬‬
‫وتوصل إىل قناعة تقول إن النصارى حيجون إىل أوثان متخندوش ألهنم يعتنقون الديانة القدمية‬
‫نفس ها‪ ,‬فهم ال يؤمن ون ب النيب حمم د‪ ,‬وال يس جدون حنو الكعبة كاملس لمني‪ :‬فاخلش وع‪,‬‬
‫والض راعة‪ ,‬واالبته ال‪ ,‬واالستس الم ال ذي تنطق به عي وهنم تفض حه اإلش ارات اجملهولة اليت‬
‫يرمسوهنا على وج وههم وهم يتفحص ون قامة ملك ال وادي العمالقة وودانه املق دس ال ذي‬
‫ينتصب جبواره متأمال األفق البعيد‪ .‬النصارى يقفون أمام العمالق املقنع كما يقف املسلمون‬
‫(‪) 2‬‬
‫بني يدي اهلل "‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وقد ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري "‪ ,‬يف موض وع آخر من‬
‫الرواي ة‪ ,‬عرب حالة " االختالف وتع دد الرؤية "‪ ,‬حيث مل ي أت (النصب الوثين يف الرواية )‬
‫نص با إلله معني يعبد ويق دس وإمنا هو نصب حيمل رمز إهلني مقدسني مها ( اجلين املق دس ) و‬
‫( الودان املقدس )‪ ,‬فلم يرتبط هذا ( النصب احلجري ) بإله واحد يقدس ويعرف بامسه‪ ,‬كما‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.86 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.15 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪115‬‬
‫يف األنصاب الوثنية القدمية ( الالت‪ ,‬العزى‪ ,‬هبل‪ ...‬اخل )‪ ,‬وإمنا إهلني مقدسني ومها طوطمي‬
‫بالت ايل‪ ,‬وس نأيت على دراس تهما الحق ا‪ .‬فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬يطل الك اهن حمف ورا يف‬
‫احلجر الص لد‪ ,‬واقفا يف قامته الطبيعي ة‪ ,‬بل يب دو أط ول وأض خم من قامة اإلنس ان الطبيعي ة‪,‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫ينحين قليال حنو الودان املقدس الذي يفوق الودان العادي حجما "‪.‬‬
‫وجاء أيضا‪ " :‬وحيد هذه الصخور تلك الصخرة العالية اليت تقف كبناء يصعد صوب السماء‬
‫(‪) 2‬‬
‫كنصب وثين شيدته اآلهلة‪ .‬يغطي اجلن املقنع‪ .‬مع ودانه املقدس‪"...‬‬
‫ومنه فإن تتبع جتليات " املظهر الطوطمي " يف رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬البد أن تتبع جتليات "‬
‫اجلن املقدس " كطوطم يف نص الرواية‪.‬‬

‫ب – تجليات العنصر األسطوري " الجن المقدس "‪:‬‬


‫إن "اجلين" يف حد ذاته " طوطم " قدسه اإلنسان منذ القدمي وكانت العرب تعتقد باجلن‪ .‬وأن‬
‫له م واطن تع رف ب ه‪ .‬وأن الع رب كغريها من األمم األخ رى – اعتق دت يف تعامل بعض‬
‫األف راد مع اجلن‪ ,‬حيث اعتق دت يف " ش يطان الش عر "‪ ,‬وأن اجلن تلقن الش اعر الق وايف‬
‫واألوزان‪ ,‬حيث ج اء "‪...‬ك ان جينح الش عراء إىل اعتق اد أن ش عرهم أح رف نارية تلقي هبا‬
‫اجلن على ألس نتهم‪ ,‬وأهنم إمنا يتن اولون من الغيب‪ ,‬فهم ف وق أن يع دوا من الن اس‪ ,‬ودون أن‬
‫حيس بوا من اجلن؛ ف إذا ج اء أح دهم بالقص يدة البارعة ورمى بالكلمة الناف ذة‪ ,‬ض رب قلبه أهنا‬
‫(‪) 3‬‬
‫من هناك‪ ,‬وأنه إمنا يؤديها على لسان قائلها‪"...‬‬
‫وكذلك اعتقدت العرب يف الزواج باجلن‪ ,‬والتناسل معها وكانت تتقي كثريا أذيتها إىل درجة‬
‫أهنا ك انت ال ت نزل م واطن بعينها خوفا من بطش ها‪ .‬وحني اعتق دت الع رب ال تزاوج مع اجلن‬
‫والتناسل معها‪ ,‬كانت اجلن طوطما لإلنسان يعتقد يف احنداره من نسلها‪ .‬ويتجلى هذا املظهر‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.08 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.11 :‬‬


‫‪2‬‬

‫‪ -‬مصطفى صادق الرفاعي‪ ,‬تاريخ آداب العرب‪ ,‬ج‪ ,3‬دار ابن اجلوزي – القاهرة‪ ,‬للطبع والنشر والتوزيع‬ ‫‪3‬‬

‫‪2010‬م‪ ,‬ص ‪.34‬‬

‫‪116‬‬
‫الط وطمي يف الرواية جتليا ص رحيا من خالل تقنية " البن اء الفين "؛ حيث قص والد آس وف‬
‫البنه قصة تناسلهم من اجلن‪ ,! ‬وأن اجلن هو جده‪ .‬وذلك حني شاهد رسوما كثرية لكائنات‬
‫غريبة على اجلدران الص خرية‪ .‬ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬مث اكتشف رس وما أخ رى وهو يتس لق‬
‫اجلبال خلف املعيز‪ .‬رأي يف اجلدران الصخرية وجوها بشعة كوجوه الغيالن وحيوانات قبيحة‬
‫ال توجد يف الصحراء‪ .‬وأدهشه كيف أن أمه مل حتدثه عنها من قبل حىت يف اخلرافات‪ .‬كما مل‬
‫يس مع عنها من أبيه قبل أن يهلك يف تلك املط اردة خلف ال ودان املس كون‪ .‬أمه ق الت إهنم‬
‫سكان الكهوف القدماء‪ ...‬األجداد األولون‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنك قلت إن الكهوف مسكونة باجلن؟‬
‫رمقته باستغراب‪ .‬ابتسمت مث متايلت ميينا ويسارا وهي ختض قربة احلليب بني يديها‪ .‬قال‬
‫بإحلاح‪ - :‬هل أجدادنا القدماء جن؟ كتمت ضحكة‪ ,‬ولكنه ضبطها يف عينيها‪ .‬عاود سؤاله‪,‬‬
‫فنهرته بضيف‪ - :‬اسأل أباك‪ ,‬سأل أباه‪ ,‬فضحك‪ ,‬وقال‪ - :‬رمبا كانوا من قبيلة اخلري وقبيلة‬
‫الشر‪ .‬حنن ننتمي إىل القبيلة األخرى‪...‬قبيلة اجلن اليت اختارت اخلري‪.‬‬
‫‪ -‬هل هلذا الس بب ال جناور أح دا؟ نعم هلذا الس بب‪ .‬إذا ج اورت األش رار حلقك الش ر‪.‬‬
‫اإلنس ان اليت يفضل اخلري البد أن يه رب من الن اس حىت ال يلحقه األذى‪ .‬وك ذلك‬
‫يفعل ه ذا الفريق من اجلن‪ .‬س كنوا الكه وف هربا من الشر منذ ق دمي الزم ان‪ .‬أال‬
‫تسمعهم وهم يتحاورون يف الليايل املقمرة؟‪ .‬تدخلت أمه‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ختيفه مبحاورات اجلن الليلية؟ األجدر أن حتلب الناقة وتأتيين باحلليب قبل العشاء‪.‬‬
‫ض حك األب وهو ينهض ليحلب الناق ة‪ ,‬ف التفت أس وف إىل أمه وق ال‪ - :‬أنا أمسع‬
‫حمادث ات اجلن يف الكه وف كل ي وم‪ .‬يقول ون أش ياء مدهشة وخيطر بب اهلم يف بعض‬
‫األحيان أن يغنوا‪ .‬أنا ال أخاف اجلن‪.‬‬
‫وواصل التسلي بوجوه اجلن يف كهوف اجلبال " (‪.)1‬‬
‫وحني ك ان التجلي ص رحيا‪ ,‬من خالل بن اء الك وين لقصة اجلن يف روايات ه‪ ,‬على نفس املن وال‬
‫قصص اجلن يف األس اطري القدمية‪ ,‬ف إن املطاوعة ج اءت متقلصة من خالل حالة التماثل‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 09 :‬و‪.10‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪117‬‬
‫والتش ابه؛ إذ أن اجلن اليت حتدث عنها والد أس وف هي قبيلة اجلن اليت ينتمي إليه ا‪ ,‬وبالت ايل‬
‫فإن اجلن هي طوطم لوالد أسوف وعائلته‪ ,‬كذلك هؤالء اجلن هم جن مؤمنون‪ ,‬وكأنه إثبات‬
‫على أن هؤالء اجلن هم أجدادهم فعال‪ .‬أيضا للجن وجوه غريبة‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪:‬‬
‫"‪ ...‬رأى يف اجلدران الص خرية وج وه بش عة كوج وه الغيالن وحيوان ات قبيحة ال توجد يف‬
‫(‪) 1‬‬
‫الصحراء "‬
‫وجاء يف موضع آخر من الرواية‪ " :‬ويبدأ يزيح طبقات الغبار حىت يكشف اخلطوط احملفورة‬
‫(‪) 2‬‬
‫يف األحجار‪ .‬يستمر يف مسح اجلدران الصماء حىت تطل الوجوه املقنعة أو املستطيلة "‬
‫ك ذلك ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس "‪ ,‬من خالل تيمة " احلولة أو‬
‫التناسخ " حيث حتل هذه اجلن يف أجساد حيوانات وكذلك يف اجلبال بل وأكثر من ذلك يف‬
‫جسد إنسان‪ ,‬واحلولة أو احللول أو التناسخ هو مذهب اعتقدت به الكثري من الشعوب القدمية‬
‫وأيضا اعتق دت به ديان ات خمتلفة منها اهلندية – على س بيل املث ال – وقد ج اء يف الرواي ة‪" :‬‬
‫ولكن إبليس ي دخل يف اليت وس‪ ,‬فيحلو هلا أن تتن اطح قدامه يف اللحظة اليت يكرب فيها ويتمتم‬
‫بالفاحتة كأهنا تتباهى بقروهنا أو تريد أن تريه فروسيتها يف النطاح "‪.‬‬
‫ك ذلك‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس "‪ ,‬من خالل تيمة " اخلوف‬
‫واهليبة " من اجلن كما يف األس اطري القدمية‪ ,‬وك ذلك اخلوف من مواطنه ا‪ ,‬حيث ج اءت‬
‫مطاوعة العنصر من خالل حالة ( التماثل والتش ابه )‪ ,‬فقد ج اء يف نص الرواية أن أس وف‬
‫حلقه األذى هو ومعزاته ما إن وطئ كهف اجلن األك رب؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬يومها‬
‫ط ارد أش قى مع زاة يف القطي ع‪ ,‬انش قت عن بقية املاش ية‪ ,‬ون زلت وادي متخن دوش املوحش‪,‬‬
‫ف ركض وراءها حىت أدركها عند مصب ال وادي يف‪ " :‬آينس يس " اجملاورة ليكونا معا هنرا‬
‫عميق ا‪ ,‬مهيب ا‪ ,‬واح دا‪ ...‬هن اك تق وم جمموعة من الكه وف تتوجها الص خور الض خمة‪ .‬وحيد‬
‫هذه الصخور تلك الصخرة العالية اليت تقف كبناء يصعد صوب السماء‪ ,‬كنصب وثين شيَده‬
‫اآلهلة‪ .‬يغطي اجلن املقن ع‪ ,‬مع ودانه املق دس‪ ...‬مث ح اول أن يتس لق الص خور كي يلمس قن اع‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.09 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.10 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪118‬‬
‫اجلين الضخم فلم يستطع‪ .‬الطريق إىل الصخرة حمفوف باألحجار الوعرة‪ .‬حاول مرة أخرى‬
‫التش بث بالص خور امللس اء‪ ,‬فاهنارت حتت قدميه جمموعة من األحج ار‪ ,‬فته اوى وس قط يف‬
‫ال وادي على ظه ره‪ .‬ظل يتل وى من األمل‪ ,‬وزحف على األربع حماوال أن يس تظل بش رة طلع‬
‫خض راء عالية تقف يف قلب ال وادي‪ .‬قلبه ي دق بعن ف‪ ,‬وجس مه ب نزف الع رق‪ .‬وصل إىل‬
‫الش جرة‪ ,‬ف اختفى الظل ب رغم دهش ته من اختف اء ظل الش جرة إال أنه اس تلقى حتتها وانتظر‬
‫غروب الشمس بأشعتها القاسية‪ .‬والتايل‪ ,‬واكتشف أن املعزاة الشقية اليت خرجت عن القطيع‬
‫وقادته إىل كهف اجلن األكرب‪ ,‬قد خنقها الذئب يف تلك الليلة‪ ,‬فتذكر كيف الطلحة وهربت‬
‫(‪) 1‬‬
‫ظلها عند جلوءه إليها بعد سقوطه من الصخرة "‬
‫وما س قوط أس وف من الص خرة‪ ,‬وامتن اع الطلحة من تظليل ه‪ ,‬وأكل ال ذئب ملعزات ه‪ ,‬اليت‬
‫أوصلته بشقاوهتا إىل موطن اجلن‪ ,‬إال لعنة وأذى أحلقتها اجلن بأسوف ومعزاته‪.‬‬
‫ه ذا وج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس "‪ ,‬ك ذلك عرب حالة التماثل‬
‫والتش ابه‪ ,‬حيث ج اءت طب اع أس وف ال ذي هو س ليل اجلن كطب اعهم‪ ,‬يفضل اخلل وة مثلهم‬
‫ومثل وال ده‪ ,‬حيث يس كن أس وف اخلل وات‪ .‬أمل خيتلي هبما أب وه وأمه وس كن هبما بعي دا عن‬
‫الناس ؟!‪.‬‬
‫أمل يكرب أس وف وهو حيب الوح دة وجبل عليه ا‪ ,‬إىل درجة أنه مل يع رف يوما كيف يتعامل‬
‫مع الرجال أنفس هم‪ .‬فقد جاء يف نص الرواي ة‪ " :‬إذن هو أنت اجلين أسوف ال ذي آثر العيش‬
‫يف اخلالء اخلايل عن معاش رة الن اس؟ ح دثونا عنك يف وادي آج ال‪ ...‬عاش وا يف ترح اهلم‬
‫وتنقلهم وحي دين يف الص حراء‪ .‬مل ي ذكر منذ أن ولد أهنم ج اوروا إنس يا واح دا‪ .‬ي ذكر يف‬
‫طفولته كيف نزلت عليهم عائلة نزحت من " تاد رارت " واستقرت يف األودية العليا عندما‬
‫أنعمت السماء " مساك " باألمطار السخية من ذلك العام‪ .‬أفاق يف فجر اليوم التايل‪ ...‬فوجد‬
‫وال ده حيزم األمتع ة‪ ,‬ويشد الرح ال‪ ,‬وي روض اجلم ال اس تعدادا للس فر‪ ...‬ومسع الوالد يق ول‬
‫غاض با‪ " :‬أج اور اجلن وال أج اور الن اس‪ .‬أع وذ باهلل من شر الن اس "‪ .‬وكث ريا ما مسعه يف‬
‫املراعي ي ردد م واال ق ال إنه مسعه من أف واه الص وفية يف زوايا " العوين ات "‪ :‬الص حراء ك نز‪,‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.11 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪119‬‬
‫مكاف أة ملن أراد النج اة من اس تعباد العبد وأذى العب اد‪ .‬فيها الص فاء‪ ,‬فيها الغن اء‪ ,‬فيها املراد "‬
‫(‪) 1‬‬

‫وعلى ال رغم من أن املطاوعة ج اءت متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) إال أهنا فتحت‬
‫أمامنا هامشا قرائيا هاما واسعا‪ ,‬حيث دفع والد أسوف مثن عزلته تلك‪ ,‬ففي إحدى رحالت‬
‫ص يده لل ودان – وك ان أع زل لع دم متكنه من احلص ول على رصاص ات لبندقيته – لقى حتفه‬
‫على يد ودان قوي تسبب يف سقوطه وكسر رقبته‪ ,‬ومن مث لفظ أنفاسه؛ حيث جاء يف نص‬
‫الرواية ‪":‬ولكن التمتع بنعيم العزلة يف الص حراء مع األب مل ي دم ط ويال‪ .‬ف ذهب العج وز يف‬
‫رحلة صيد الودان يف جبال " مسيس " الغربية " وقرر أال يعود‪ .‬انتظراه عدة أيام مث أعلنت‬
‫األم عن قلقه ا‪ (... :‬ك ان ) أع زل؛ ف ارغ الي دين‪ ,‬ألن رصاص ات البندقية نف ذت‪ ,‬ومواعيد‬
‫رحالت قوافل التجار إىل السودان أو أغاديس تباعدت‪ .‬متضي شهور دون أن متر قافلة قادمة‬
‫من بالد الس ود أو متجهة إليه ا‪ ,‬وص الته مع أهل الواح ات يف وادي اآلج ال أو غ ات أو‬
‫العوين ات أو م رزق مقطوع ة‪ ...‬لقد كسر احلي وان املس كون رقبته كما كسر هو يوما رقبة‬
‫(‪) 2‬‬
‫ذلك الودان الذي انتحر "‬
‫كما أحالتنا مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس "‪ ,‬إىل طبيعة شخص ية‬
‫( أسوف ) البطل الذي علمه والده حياة العزلة – اليت دفع مثنها غاليا – فكانت منط معيشته؛‬
‫إذ ال يعرف جماورة أحد‪ ,‬حىت أن أمه كانت تنعته " بالبنية "؛ إذ مل يتجرأ يوما أن يتعامل مع‬
‫الرج ال حىت ملض ايقة بعض احملاص يل مقابل مع زاة أوتيس‪ .‬فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬بعد‬
‫غي اب األب ت وىل املس ؤولية‪ ,‬ي رعى األغن ام‪ ,‬ويتفقد اجلم ال يف األودية اجملاورة‪ ,‬وجيلب‬
‫احلطب‪ ,‬وي ذهب إىل طريق القوافل ليق ايض املاعز مقابل أكي اس الش عري والتم ر‪ .‬مل تكن‬
‫املقايضة أمرا سهال لشاب ال ميلك لغة خياطب هبا الناس‪ .‬ال يعرف طباع الناس وال أخالقهم‬
‫وال تصرفاهتم ومن أين وقد عاش طوال عمره معزوال عنهم‪ ,‬بعيدا‪ ,‬خائفا منهم‪ .‬يرعبه العجز‬
‫وخييفه كلما فكر – جمرد التفك ري‪ -‬يف االق رتاب منهم‪ ,‬فكيف مبخ اطبتهم أو خمالطتهم؟ يف‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 17 :‬و‪ 18‬و‪ 23‬و‪.24‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 31 :‬و‪ 32‬و‪.34‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪120‬‬
‫املرة األوىل وقف بعي دا‪ ,‬وراقب القافلة الطويلة وهي تسري عرب الطريق امللت وي ال ذي خيرتق‬
‫األودية ويص عد اجلب ال ال وعرة‪ ...‬ت وارت القافل ة‪ ,‬ومل يس تطع أن يق رب‪ .‬ع اد إىل ال بيت‬
‫مهزوم ا‪ ,‬فس مع اهتام ات قاس ية من األم‪ .‬وص فته بأنه بنت‪ ,‬وبكت وق الت‪ " :‬ال ذنب ليس‬
‫ذنبك‪ .‬املرحوم هو الذي خلق منك بعريا يفزعه ظل اإلنس "‪ .‬مل ينم طوال الليل‪ .‬وكان عليه‬
‫أن ينتظر أس ابيع أخ رى حىت متر قافلة جدي دة ورمبا ش هورا‪...‬أمه معها ح ق‪ .‬هو بني ة‪ .‬الرجل‬
‫ال يهرب من لقاء الرجال‪ .‬احلياء للنساء‪ .‬أمه قالت ذلك‪ .‬هو مل ير البنات‪ ,‬ومل ير يف عيوهنن‬
‫اخلجل‪ .‬تفو! خزي! أحس باحلقد حلظتها‪ ,‬وألول مرة‪ ,‬على أبيه املرحوم‪ .‬لقد رىب فيه خوفا‬
‫(‪) 1‬‬
‫من الناس يكفي كل صبايا الدنيا كي يهربن من الرجال إىل األبد "‬
‫أيضا حتيلنا مطاوعة العنصر‪ " ,‬اجلن املقدس " إىل أن أسوف يعيش وحده يف " مساك صطفت‬
‫" ال جياوره إال اجلن والودان؛ حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬ومن يعيش يف هذه اجلبال غريك؟‬
‫األهايل يف الواحات حدثونا فقالوا إن " مساك صطفت "‪ .‬مسكونة بإنس واحد وقبائل كاملة‬
‫(‪) 2‬‬
‫من اجلن والودان "‬
‫ك ذلك حتيلنا مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس " إىل أن عزلة أس وف فرضت عليه‬
‫ص يد " ال ودان " ألجل إلطع ام نفسه وأم ه؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬وكي يعيش يف‬
‫ص حراء اهلل الواس عة‪ ,‬مل يكن لزاما عليه فحسب أن يغلب نفسه وحيد حيلة خياطب هبا‬
‫ش ياطني اإلنس‪ ,‬ليق ايض ب املعزاة‪ ,‬وي نزع من بني أي ديهم املخيفة اليت تش به خمالب الوح وش‪,‬‬
‫قدر له أن‬
‫وطعامه من القمح والشعري‪ ,‬وإمنا عليه أن خياطر مبهمة أخرى كتبت على جبني من َ‬
‫يولد ويعيش يف الصحراء‪ :‬صيد الودان‪ .‬حيلو للمرحوم أن يقول له يف مسامرات ليايل الصيف‬
‫يف الع راء‪ " :‬إذا ق ررت أن تعيش وحي دا فعليك أن تص طاد ال ودان وحي دا‪ .‬ه ذا ك العطش‪,‬‬
‫(‪) 3‬‬
‫كالتيه‪ ,‬قدر العزلة‪ ,‬قدر الصحراء‪ .‬ربنا جعل لكل شيء مثنا "‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 37 :‬و‪ 38‬و‪.39‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.42 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.45 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪121‬‬
‫ه ذا‪ ,‬وحتيلنا مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس "‪ ,‬إىل تعامل ( أس وف ) معه ا‪,‬‬
‫واستنجادها به يف حلظات خطره‪ ,‬كيف ال وهو سليلها؟ كيف ال وهو جياورها يف اخللوات‪,‬‬
‫ويسمع مهساهتا يف كل مكان‪ .‬فقد جاء يف نص الرواية‪ ..." :‬ال أحد يستطيع أن يتنبأ من أين‬
‫ميكن أن ت أيت النج دة‪ ,‬من الس ماء أم من األرض‪ .‬املهم أن تصرب وتنتظ ر‪ .‬الصرب هو كلمة‬
‫السر" ‪...‬أنصت للسكون حماوال أن يتبني حماورات اجلن‪ .‬أين أخيار اجلن الذين يروق هلم أن‬
‫يتحادثوا بأصوات عالية يف األيام العادية؟ ملاذا ال يأتون إلنقاذه؟ ملاذا ال يأتون حىت من باب‬
‫األنس وط رد الوحشة يف ظلم ات اهلاوي ة؟ أين أنتم يا معشر اجلن؟ ولكن اجلن مل‬
‫يس تجيبوا‪...‬مل يهمهم وا‪ ,‬ومل ي أتوا يف تلك الليل ة‪...‬التقط نفسا عميق ا‪ .‬اجلن‪ ,‬يا معشر اجلن‬
‫الطيب‪ .‬أين أنتم؟ الص رب‪ .‬من مل ي وهب ه ذه النعم ة‪ ,‬ال مك ان له يف الص حراء‪...‬دون إرادة‬
‫وجد نفسه ميزق السكون العميق بصراحة رهيبة‪...‬صرخة يائس‪ :‬آ‪...‬آ‪...‬آ‪...‬آ‪...‬فردت عليه‬
‫قمم اجلبال الغارقة يف الصمت والظلمات بصرخة أحسن منها‪ - :‬آ‪...‬آ‪...‬آ‪...‬آ تردد الصدى‬
‫ط ويال‪...‬ط ويال‪ ,‬مل يس تجب اجلن‪ .‬أما اإلنس فلم يص رخ طمعا يف مس اعدهتم‪ ...‬مث عم‬
‫الصمت مرة أخرى‪ .‬ال مهس‪ .‬ال حركة‪ .‬ال مههمة‪ .‬ال جن‪ .‬ال وجود للجن يف أعايل اجلبال‪.‬‬
‫أين اجلن؟ ‪...‬مسع خط وات ف وق رأس ه‪ .‬هل هو وهم من أوه ام املوت؟ ‪ ...‬ش يء خشن‬
‫المس أص ابع يديه املتخش بة يف قبض تها على نت وء احلي اة‪...‬حب ل‪...‬حبل الليف اخلش ن‪ .‬مل‬
‫يص دق‪ .‬أمسك به بكلتا يدي ه‪ ...‬جسم يتح رك أمامه وحيره بق وة‪ .‬هل هم اجلن؟‪ ...‬جنا‪...‬‬
‫جنا‪ ...‬اجلين ال ذي أنقذ حياته م ازال خيطو يف الع راء املغطى باألحج ار ببطء وص مت‬
‫وه دوء‪ ...‬رأى املالمح‪..‬يا ريب‪ .‬إن ه‪ ...‬ال ودان " (‪ )1‬وعلى ال رغم من أن " ال ودان " هو من‬
‫أنقذ أس وف من املوت احملقق إال أن ه ذا ال ينفي أنه ظن منذ حلظة خط رة األوىل أن اجلن‬
‫ستهب إلنقاذه‪ ,‬وحىت يف حلظة انتشاله من فوهة املوت ظن أن اجلن من ألفت له حببل النجاة‪,‬‬
‫وما ه ذا الظن إال اعتق اد من أسوف أن اجلن اليت ك ان يأنس إليها يف الودي ان واجلب ال‪ ,‬واليت‬
‫هي طوطمه لن ختذله أبدا يف اإلسراع إىل إنقاذه‪ ,‬لكن شاءت األقدار أن تكون جناته على يد‬
‫" ال ودان " ال ذي هو نفسه من أنقذ وال ده يف الس ابق‪ ,‬وهو ك ذلك من لقي وال ده حتفه على‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 65 :‬و‪ 66‬و‪ 67‬و‪ 69‬و‪.70‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪122‬‬
‫يديه حني أخلف بالوعد‪ ,‬كيف ال‪ ,‬والودان هو " الودان املقدس " الذي حفر على " النصب‬
‫املقدس " والذي هو طوطم لبين البشر وهذا ما سنقف عليه يف‪ :‬جتليات " الودان املقدس " يف‬
‫رواية " نزيف احلجر " ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬تجليات العنصر األسطوري " الودان المقدس " ‪:‬‬


‫يتجلى العنصر األس طوري " ال ودان " ال ذي ين درج حتت املظهر الط وطمي من خالل اإلحالة‬
‫إليه وتعريفه يف الرواية ‪ ,‬فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ال ودان هو ( املوفل ون ) أق دم حي وان يف‬
‫الص حراء الك ربى‪ ,‬وهو تيس جبلي انق رض يف أوربا يف الق رن الس ابع عشر " (‪ .)1‬ولكن ه ذا‬
‫الودان أو التيس اجلبلي تأسطر مع الزمن وأصبح طوطما مقدسا حيرم صيده أو أكله‪.‬‬
‫وإذا يس ول ألح دهم ص يده‪ ,‬فعليه أن يتحصن ب الكثري من التم ائم ويق رأ العديد من التعاويذ‬
‫املوضوعة لذلك‪ .‬وهذا التقاء لعنته وشره‪.‬‬
‫وقد ج اء جتلي العنصر األس طوري " ال ودان املق دس "‪ ,‬ص رحيا من خالل تقنية العب ارة‬
‫االستهاللية‪ ,‬اليت تصدرت القصة الفرعية يف الرواية واملعنونة ب ‪ " :‬مثن العزلة "‪ ,‬حيث جاء‪:‬‬
‫"‪ ...‬ويتش اءم أه ايل تاس يلي ص يد املوفل وف ( ال ودان )‪ .‬فيتمتم الص ياد بالتعاويذ الس حرية‬
‫ويضع حجرا على رأسه‪ ,‬ويتقافز على أربعة قبل أن ينطلق يف رحلة الصيد "‪( .‬هنري لوت "‬
‫(‪) 2‬‬
‫لوحات تاسيلي " )‪.‬‬
‫كما يتجلى العنصر األس طوري " ال ودان املق دس " من خالل التص ريح بامسه وأنه " ال ودان‬
‫املق دس " ال ذي رسم على الص خرة العظيم ة‪ ,‬واليت ي ؤم إليها الس واح من كل ص وب؛ حيث‬
‫ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬قطع ص الته‪ ,‬ولعن الش يطان‪ ,‬ذهب لي ؤدي الفريضة يف مواجهة أهم‬
‫ص خرة يف وادي " متخن دوش " الص خرة تنتصب يف هناية الض فة الغربية لل وادي‪ ,‬عند التق اءه‬
‫ب وادي " آينس يس "‪ ...‬الص خرة العظيم ة‪ ...‬تقف يف النهاية كحجر الزاوي ة‪ ,‬لتواجه الش مس‬
‫القاسية عرب آالف السنني‪ .‬وقد زينت بأبدع رسوم ما قبل التاريخ يف الصحراء الكربى كلها‪:‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.08:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.29 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪123‬‬
‫على ط ول الص خرة اهلائلة ينهض الك ائن العمالق‪ ,‬خيفي وجهه ب ذلك القن اع الغ امض‪,‬‬
‫ويالمس بيده اليمىن الودان الذي يقف جبواره مهيبا‪ ,‬عنيدا‪ ,‬ويرفع رأسه‪ ,‬مثله مثل الكاهن‪,‬‬
‫حنو األفق البعي د‪ ...‬عرب آالف الس نني‪ ,‬حافظ الك اهن العظيم وال ودان املق دس على مالحمهما‬
‫احملف ورة‪ ,‬مالحمهما الواض حة‪ ,‬العميق ة‪ ,‬اجلليل ة‪ ,‬الناطقة يف ص لب الص خرة الص ماء‪ .‬يطل‬
‫الك اهن حمف ورا يف احلجر الص لد‪ ,‬واقفا يف قامته الطبيعي ة‪ ,‬بل يب دو أط ول وأض خم من قامة‬
‫اإلنسان الطبيعية‪ ,‬ينحين قليال حنو الودان املقدس الذي يفوق الودان العادي حجما " (‪.)1‬‬
‫ع ود على ب دء‪ ,‬ف إن جتلي العنصر األس طوري " ال ودان املق دس‪ ,‬ج اء ص رحيا من خالل ذكر‬
‫بعض خصائص ه‪ ,‬حيث يه اب‪ ,‬وال جيرأ أحد على ص يده‪ ,‬ومن جترأ على ذل ك‪ ,‬فعليه ممارسة‬
‫بعض الطقوس وتعليق التمائم محاية له من لعنته وبطشه‪ .‬وبالتايل جاء التجلي هنا تاما‪ ,‬حيث‬
‫صرح الكوين بذلك وجاء يف نص الرواية‪..." :‬ذهب العجوز يف رحلة لصيد الودان يف جبال‬
‫" مس يس " الغربي ة‪ ...‬أص بح يتهيب ص يد ال ودان منذ تلك احلادث ة‪ ,‬وال يتح رك باجتاه القمم‬
‫املهيبة إال بعد أن يق رأ كل اآلي ات اليت حيفظها من الق رآن‪ ,‬وي ردد متائم الس حرة الزن وج بلغة‬
‫اهلوسا ‪ 3 2‬ويعلق على رقبته التعاويذ احملص نة يف جل ود الثع ابني اليت جلبها له جتار القوافل من‬
‫الع رافني يف " ك انو " جيلس يوما قبل الس فر يتمتم بتعاوي ذه ويص وم عن الكالم مع أح دمها‬
‫(‪) 4‬‬
‫لينطلق يف الفجر على مجله "‪.‬‬
‫كذلك جاء جتلي العنصر األسطوري " الودان املقدس " صرحيا من خالل تقنية العنوان‪,‬‬
‫هذا العنوان الفرعي الذي عنون به الكوين إحدى قصص الرواية‪ ,‬واملوسومة ب‪ " :‬التمائم "‪.‬‬
‫ليحيلنا العنوان مباشرة على التمائم اليت كانت تعلق قبل التأهب لصيد الودان املقدس‪ ,‬حيث‬
‫ج اء يف منت القصة الفرعية املعنونة ب " التم ائم " م ايلي‪ " :‬يف احلفلة ف وجئ بالتم ائم‪ ,‬ليس‬
‫مس عود وح ده ال ذي أتى حييط عنقه باحلج اب وإمنا ج ون أيض ا‪ .‬تربع جبوار املوق د‪ ,‬وأخ رج‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 07 :‬و‪.08‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.31 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 44‬‬

‫‪124‬‬
‫احلصن اجللدي املوسوم بإشارات السحرة الزنوج‪ ,‬ولوح به أمام وجهه متباهيا‪ ,‬تناوله قابيل‪,‬‬
‫وقلبه بني يديه مث قال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا وشم شياطني " كانو " هذه خطوطهم‪ ,‬هذه رموزهم‪ .‬من أين النصراين أمريكي‬
‫يعيش يف جبل نفوسة حبصن اجلن ه ذا؟ تض احك ج ون ومس عود‪...‬فك أزرار قميص‬
‫الك اكي‪ ,‬ف ربزت قطعة اجلل د‪ ,‬موش ومة أيضا ب الرموز الس حرية‪ .‬ص اح قابي ل‪:‬‬
‫استغفلتموين‪ .‬مل يقل يل أحد أن األحجبة ضرورية لوليمة الودان – قال مسعود‪:‬‬
‫حىت األطف ال يف اجلبل يعرف ون ه ذا‪ .‬ال ودان مس كون‪ .‬روح اجلب ال‪ .‬ومن ذاقه م رة البد أن‬
‫يتسلم باحلجاب‪ .‬األرواح ليست لعبة‪ .‬كل شيء جائز إال اللعب مع األرواح‪ .‬داعب حصنه‬
‫وقبله‪ ,‬مث عاد فأخفاه خلف قميصه " (‪.)1‬‬
‫ه ذا‪ ,‬ويتجلى العنصر األس طوري " ال ودان املق دس " – ك ذلك – جتليا ص رحيا‪ ,‬من خالل‬
‫التصريح بأن أساطري الصحراء حتكي على قوته؛ حيث جاء يف نص الرواية‪ :‬اآلن سنرى من‬
‫مهنا األقوى؟ من األقوى‪ :‬عن قوة الودان حتكي األساطري يف الصحراء " (‪.)2‬‬
‫كذلك يتجلى العنصر األسطوري ( الودان ) من خالل تيمة تقنية ( اجلملة االستهاللية ) اليت‬
‫حتيلنا مباش رة إىل ( ال ودان املق دس ) ال ذي عرفته األس اطري القدمية وقد وردت ه ذه الفق رة‬
‫االس تهاللية عند ( س وفوكليس ) يف ملحمته ( أوديب ملكا )‪ .‬وقد وردت يف نص الك وين‬
‫كالتايل‪ " :‬يتسكع يف األدغال‪ ,‬بني شقوق اجلبال‪ ,‬مثل الودان أهنكته األحزان‪ ,‬يريد أن يفلت‬
‫مما كتب يف الل وح احملف وظ ولكن تظل نب وءات الق در حتوم ف وق رأسه أبد ال دهر " (‪ .)3‬ه ذا‬
‫ال ودان ال ذي يش به إىل حد بعيد اإلنس ان‪ ,‬ال ذي ينق اد مكرها إىل حتميته املق درة له مهما‬
‫حاول االختباء‪.‬‬
‫هذا‪ ,‬وحني كان جتلي العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) تاما‪ ,‬رصينا‪ ,‬وجزئيا حينا آخر‪.‬‬
‫ف إن مطاوعة العنصر األس طوري هي ك ذلك‪ ,‬تك ون متقلصة حينا وممت دة حينا آخ ر‪ ,‬ألهنا‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 31 :‬و‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.59 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.73‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪125‬‬
‫تتناسب عكسا مع التجلي‪ ,‬وفق املنهج املتب ع‪ .‬وحني تك ون املطاوعة ممت دة فإهنا تعطينا بع دا‬
‫كب ريا بني الث ابت واملتح ول يف النص؛ أي بني األس طوري وال واقعي‪ ,‬أو بني األس طورة‬
‫واملتأس طر يف النص‪ .‬وما امت دادها يف النص إىل براعة من الك وين ومق درة على تطويع‬
‫األس طوري يف نصه حين ا‪ .‬ومقدرته على ص نع األس طورة حينا آخ ر‪ .‬وقد ج اءت مجلة‬
‫املطاوعات للعنصر األسطوري ( الودان املقدس ) على النحو التايل‪.‬‬
‫حيث ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة " القدس ية "‪.‬‬
‫فقد صرح الكوين بذلك يف الكثري من املواضع‪ ,‬كما أنه صور لنا قدسية الودان على الصخرة‬
‫العظيمة من خالل بعض املمارس ات والطق وس اليت حتيط به – خاصة – من ط رف ال زوار‬
‫األجانب‪ ,‬واملتعبدين؛ حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬وبالطبع مل خيطر ببال أسوف يف املاضي‪,‬‬
‫عن دما قطع الوادي املوحش يف ش بابه منشغال ب رعي أغنام ه‪ ,‬أن يكون هذا الرسم احملفور يف‬
‫الص خور ميثل ه ذه األمهية كما ي راه اليوم عن دما أصبح قبله السياح النص ارى يأتونه من أبعد‬
‫البل دان‪ ,‬يع ربون الص حراء بس يارات الربية ليش اهدوا احلجر ويفتح ون أف واههم دهشة أم ام‬
‫عظمته ومجاله وغموض ه‪ ,‬بل إنه رأى يف إحدى املرات ام رأة أوربية تركع أم ام الص خرة على‬
‫ركبتيها وتتمتم بكالم مبهم‪ ,‬عرف باحلدس أنه صلوات النصارى " (‪.)1‬‬
‫وجاءت مطاوعة العنصر األسطوري " الودان املقدس " يف موضع آخ ر‪ - ,‬كذلك – خالل‬
‫تيمة " القدس ية " عرب حالة ( التماثل والتش ابه )‪ ,‬حيث ج اء أن ال ودان يقبل ص الة آس وف‬
‫ويباركه كاإلل ه‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬أهنى ص الته‪ ,‬وألقى برأسه إىل ال وراء متابعا‬
‫اجلدار العمالق املنتصب ف وق رأسه املهيب‪ ,‬املت وج بق رنني مل ونني‪ ,‬أيضا يوافق إهله وي وحي‬
‫بأنه قبل الصالة وفاز برمحة رب املعبد‪ .‬مل يدر ( آسوف ) أنه أخطأ االجتاه‪ ,‬فلم ركعاته حنو‬
‫الكعبة‪ ,‬وإمنا حنو الصنم احلجري املنتصب فوق رأسه‪ ,‬يف قعر الوادي العميق " (‪.)2‬‬
‫كما ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) عرب تيمة " القدس ية " من خالل‬
‫حالة ( التماثل والتش ابه )؛ حيث ك ان النص ارى يتق اطرون من كل نصب يركع ون أم ام‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 08 :‬و‪.09‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.13 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪126‬‬
‫النصب ك الوثنيين الق دامى‪ ,‬تقديسا ل ه‪ ,‬ه ذا النصب ال ذي حيمل ( اجلين األكرب املق دس )‬
‫وك ذلك ( ال ودان املق دس)؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬منذ ذلك الي وم‪ ,‬ب دأ ال زوار‬
‫يتقاطرون على الوادي املنسي منذ آالف السنني‪ ,‬يأتون مجاعات مبعدل كل أسبوعني‪ ,‬وأحيانا‬
‫كل ش هر‪ .‬وقليال ما يغيب ون ألك ثر من ش هر‪ .‬وك انوا مجيعا من األج انب‪ ,‬رج اال ونس اء‪,‬‬
‫شيوخا وشبابا من خمتلف أجناس النصارى‪ ,‬يركعون أمام اجلين الكبري‪ ,‬ويلتقطون الصور أمام‬
‫املعب د‪ ,‬ويقض ون ليلة يف بعض األحي ان مث ينطلق ون عائ دين‪ ...‬وكث ريا ما س أل نفسه عن سر‬
‫اهتم ام النص ارى بالرس وم القدمية وتوصل إىل قناعة تق ول إن النص ارى حيج ون إىل أوث ان‬
‫متخن دوش ألهنم يعتنق ون الديانة القدمية نفس ها‪ ,‬فهم ال يؤمن ون ب النيب حمم د‪ ,‬وال يس جدون‬
‫حنو الكعبة كاملس لمني‪ ,‬فاخلش وع‪ ,‬والض راعة‪ ,‬واالبته ال‪ ,‬واالستسالم ال ذي تنطق به عي وهنم‬
‫تفض حه اإلش ارات اجملهولة اليت يرمسوهنا على وج وههم وهم يتفحص ون قامة ملك ال وادي‬
‫(‪) 1‬‬
‫العمالقة وودانه املقدس الذي ينتصب جبواره متأمال األفق البعيد "‬
‫ه ذا‪ ,‬وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( الن ذر )‪ ,‬أي‬
‫الن ذر بع دم ص يد ال ودان‪ ,‬وبع دم أكل حلم ه‪ .‬وقد لعب ( ال ودان املق دس ) دور املنقذ للبش ر‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواية كمنقذ لوالد (آس وف ) – أوال – ومنق ذا ( آلس وف ) م رة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫فقد أنقذ ( ال ودان املق دس ) والد ( آس وف ) يف إح دى رحالت ص يده‪ ,‬رغم حماولة األب‬
‫صيده والقضاء عليه‪ .‬وتقدمي حلمه غداء ألسرته‪ .‬إال أن ( الودان أنقذ هذا الوالد املكره على‬
‫صيده – لسد رمق أسرته – فنذر بأن ال يصيد ودانا بعد ذلك حىت لو مكرها‪ .‬وقد جاء يف‬
‫نص الرواية كيف متاطل األب يف ص يد ال ودان م رات عدي دة‪ ,‬حىت أث ار ذلك فض ول ابنه‬
‫(آس وف)‪ ,‬فع رف احلقيقة من أم ه‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬والس بب يرجع إىل تلك‬
‫العالقة الس رية اليت ربطت األب ب الودان‪ .‬وهي عالقة غامضة وقدمية‪...‬وأحس ألول م رة أن‬
‫يف األمر سرا‪ .‬هم بأن يستفهم من األم وعن السبب لكنها سبقته وقالت له يف أحد األيام‪" :‬‬
‫ملاذا تلح على أبيك أن ي ذهب بك لقتل ال ودان؟ أال ت رى أن ذلك يؤمله؟ "‪ .‬انتهز الفرصة‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.15 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪127‬‬
‫فس أل متلهف ا‪ " :‬ولكن ملاذا يؤمله؟ أنا ال أفهم ش يئا؟ "‪ .‬مل تبح يوما بالسر إال بعد أن ق ام مع‬
‫الوالد بغزوات فاشلة متكررة للفوز بالودان يف اجلبال اجملاورة‪ ...‬بدأت املطاردة‪ ,‬ومل تسفر‬
‫عن ش يء‪ .‬ت وارى القطيع يف ص خور أع ايل اجلب ال واختفى‪ .‬الحظ قبلها أن الوالد مل ي دقق‬
‫التص ويب‪ ,‬فأجفل القطيع عم دا‪ .‬ويف املرة الثانية أدركا أن ثى ممتلئة وقفت قبالته ا‪ ,‬فوقف‬
‫والده‪ ,‬وتبادل معها نظرة خفية‪ ,‬مث التفت إليه قائال إهنا حامل‪ ,‬وصيد احلوامل من األنعام إمث‬
‫كب ري‪ .‬وع ادا على عقبيهم ا‪ ,‬ويف املرة الثالثة اس تطاع هو أن يكشف م أوى ثالثة رؤوس ترتع‬
‫يف ش جريات تش بثت بالس فح‪ ,‬فاض طر أن يعطيه البندقي ة‪ .‬وعن دما ص وب ( آس وف ) س عل‬
‫األب بشدة‪ ,‬فأجفل الودان‪ ,‬وانطلقت الشياه‪ ,‬واحتمت بصخور اجلبال اجملاورة " (‪.)1‬‬
‫ويكون هبذا‪ ,‬قد وىف األب بعدم صيد الودان‪ ,‬وحني أحل ( آسوف ) يف السؤال‪ ,‬أخربته األم‬
‫بالس ر‪ ,‬وكيف أن ( ال ودان املق دس ) أنقذ أب اه وهلذا قطع ذلك ( الن ذر )‪ .‬وقد ج اء يف نص‬
‫الرواية‪ ..." :‬وشرعت متخض يف قربة بني يديها قبل أن تصرح بالسر يف اختصار‪ " :‬أبوك ال‬
‫أن تسفك دماء الودان ألنه نذر نذرا من زمان‪ .‬قبل أن تولد‪ .‬كان يصطاد يف سفوح جبال‬
‫(آينس يس ) ف زلقت رجله ووجد نفسه معلقا بني الس ماء واألرض‪ ,‬ميسك بص خرة ورجاله‬
‫تتدليان يف اهلاوية‪ .‬فانتشلته نفس احليوان الذي كان يقاتله وينوي قتله وأنقذه من اهلالك‪ .‬هل‬
‫(‪) 2‬‬
‫تفهم اآلن؟ لقد نذر أال يقرتب من الودان ووعد أن ال يدرب نسله على صيده؟ "‬
‫كان هذا‪ ,‬نذرا من األب لطوطمه‪ ,‬بأن ال يصيده وال يأكله‪ ,‬وال يعلم نسله صيده‪ .‬والنذر‬
‫على من وال األس اطري القدمية‪ ,‬يس تلزم الوف اء ب ه‪ ,‬وإذا س ولت له نفسه ب أن خيون الن ذر‪ ,‬ف إن‬
‫(اللعنة والعقاب) ستحالن به‪.‬‬
‫ومن ه‪ ,‬فقد ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس )‪ ,‬من خالل تيمة ( خيانة‬
‫الن ذر ) متقلصة عرب حالة ( التش ابه والتماثل )‪ ,‬حني خ ان األب الن ذر‪ ,‬واض طر إىل ص يد‬
‫(الودان) حني هدد اجلوع عائلته‪ ,‬فقد جاء يف نص الرواية‪ " ,‬ولكنه جاع‪ .‬جعنا معا سنوات‬
‫اجلفاف القاسية قبل أن تولد‪ .‬كنت حامال‪ .‬فاضطر أن خيالف النذر ويصطاد‪ ...‬بكى قبل أن‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.48 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 48 :‬و‪.49‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪128‬‬
‫يفعل ذلك‪ .‬مسعته بنفسي يبكي يف الليل‪ .‬يف الصباح ذهب وعاد بودان كبري‪ .‬سلخناه وأكلناه‬
‫بعد جوع طوي ل‪ .‬ق ال أنه خان وستعاقبه روح اجلب ال على ذل ك‪ .‬ولكنه أكد يل أنه لن يعلم‬
‫صيد الودان لنسله إذا رزق مبولود ذكر‪ ,‬هل فهمت اآلن يا معناد؟ قلت لك ال تلح عليه يف‬
‫أمر الودان ألن ذلك يؤمله " (‪.)1‬‬
‫كذلك‪ ,‬تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من خالل تيمة ( اللعنة والعقاب)‬
‫ألن الوالد خ ان الن ذر‪ .‬فكيف ك انت العاقب ة؟ إذ خ رج الوالد بص يد ال ودان رغم ن ذره بع دم‬
‫فعل ذل ك‪ .‬خ رج الوالد ه ذه املرة‪ ,‬لكن دون رجع ه‪ ,‬فاض طر ( آس وف ) أن يتعقب وال ده‪,‬‬
‫ليقف على فجيعة عق اب من س ولت له نفسه خيانة الن ذر‪ .‬وقد ج اء يف نص الرواي ة‪..." :‬‬
‫ولكن التمتع بنعيم العزلة يف الصحراء مع األب مل يدم طويال‪ ,‬فذهب العجوز يف رحلة صيد‬
‫ال ودان يف جب ال " مس يس " الغربي ة‪ ,‬وق رر أال يع ود‪ .‬انتظ راه ع دة أي ام مث أعلنت األم عن‬
‫قلقه ا‪ ...‬ت زود باملاء والتم ر‪ ,‬واقتفى أث ره‪ ...‬قضى أياما يقتفي األث ر‪ .‬وعن دما وجد اآلث ار‬
‫الصراع مع الودان يف وادي " آينسيس " أحس بالقلق‪ .‬تتبع آثار املعركة على طول الوادي‪,‬‬
‫فوجد بقع دم ل وثت األحج ار‪ ...‬خيل إليه أن رائحة غريبة غ زت أنفه فج أة‪ .‬فقفز قلب ه‪...‬‬
‫ووجد العجوز راقدا على ظهره‪ ,‬وجهه يتجه حنو السماء‪ ,‬ومقلتاه فارغتان‪ ,‬ومالحمه زرقاء‪,‬‬
‫حيوم عليه ذب اب أزرق‪ ,‬كبري احلجم‪ ,‬ال أثر ل نزيف‪ ,‬وال بقعة دم‪ ,‬باس تثناء خ دوش يف يديه‬
‫املمدودتني مبوازاة جسده‪ .‬لقد كسر احليوان املسكون رقبته كما كسر يوما رقبة ذلك الودان‬
‫(‪) 2‬‬
‫الذي انتحر "‬
‫هك ذا حلت اللعنة والعق اب بالوالد ال ذي خلف العهد وخ ان الن ذر‪ ,‬فك انت النتيجة موته‬
‫بأبشع صورة‪ .‬هذا الوالد الذي كان خياف الودان كثريا وقد صرح بذلك قائال ‪ ..." :‬الودان‬
‫شيء آخر‪ ...‬أنا أخاف الودان‪.)3( "...‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.49 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬؟؟‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.56 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪129‬‬
‫األب ك ان يع رف جي دا أن لل ودان ( لعنة وعق اب )‪ ,‬ويع رف ك ذلك أن الن ذر ليس مبزح ة‪,‬‬
‫وأنه من خاف النذر نال العقاب‪ .‬فقد جاء يف نص الرواية‪ " :‬النذر حرم على الولد أن يرث‬
‫حرفة الوال د‪ ,‬والوالد مل ميت إال ألنه ال خ الف الن ذر‪ ,‬الن ذور ليست مزح ة‪ ,‬وال ودان يع رف‬
‫ذلك " (‪.)1‬‬
‫ومما س بق يتضح جليا م دى براعة الك وين يف تطويع األس طورة األولية يف نصه األديب‪ ,‬فينتج‬
‫مرارا أشكاال جديدة ختدم نصه‪ ,‬بل جتعل منه صانعا لألسطورة‪ ,‬وبالتايل يساهم من جديدة‬
‫يف خلق األسطورة‪.‬‬
‫وباإلضافة إىل ما سبق‪ ,‬جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من خالل تيمة‬
‫( احللول )‪ ,‬وهو مذهب تقول به الكثري من الشعوب البدائية‪ ,‬كاهلنود وغريها‪ .‬وحىت بعض‬
‫الف رق الدينية كاملتص وفة‪ .‬حيث ي ذهب ه ذا املعتقد إىل أن روح اإلنس ان حتل جبسد آخر من‬
‫احلي وان لتحيا من خالل ه‪ ,‬ولتك ون رقيبا على أهله ا‪ ,‬وعلى قبيلته ا‪ ,‬ومنه ف إن ذاك احلي وان‬
‫فس يكون ( طوطما ) هلذه القبيل ة‪ .‬ال تص يده‪ ,‬وال تقتل ه‪ ,‬وال تأكل حلم ه‪ .‬وقد يتع دى حل ول‬
‫الروح يف جسد احليوان‪ ،‬إىل احللول يف مظهر من مظاهر الطبيعة أو يف جبل أو شجر أو قمر‬
‫وغريها‪.‬‬
‫ففي نص الرواية حيل األب جبسد ( ال ودان ) ويلحظ ابنه ( آس وف )ذل ك‪ ,‬فت أيت مطاوعة‬
‫العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( احلل ول )‪ ,‬متقلصة من خالل حالة‬
‫(التماثل والتش ابه )؛ حيث جاء يف نص الرواي ة‪..." :‬وفج أة‪ ,‬يف عتمة ه ذا البصيص الرب اين‪,‬‬
‫رأى أب اه يف عيين ال ودان الص بور‪ ,‬العظيم‪ ,‬رأى يف عيين الوالد احلزي نني‪ ,‬الطيب تني الل تني مل‬
‫تفهمها ملاذا يؤذي اإلنسان أخاه اإلنسان‪ ,‬ففر إىل الصحراء واختار أن ميوت وحيدا يف اجلبال‬
‫على أن يعود إليهم‪ .‬العينان اللتان اختارتا احلرية القاسية دون أن تعرفا ملاذا‪ .‬يف مكانه املكسو‬
‫باألحج ار الش رهة‪ ,‬ص رخ بص وت خمن وق كأنه ين اجي رب ه‪ :‬أنت ريب‪ .‬لقد عرفت ك‪ .‬انتظ ر‪.‬‬
‫أريد أن أخربك‪ ...‬أغمي عليه " (‪.)2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.57 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.70 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪130‬‬
‫لقد حلت روح األب يف جسد ( ال ودان )‪ ,‬ويف موضع آخر حلت روح اجلب ال يف (ال ودان)‪,‬‬
‫وحلت روح الرمال يف الغزال وهنا جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من‬
‫خالل تيمة ( احللول ) ممتدة‪ ,‬عرب حالة ( التشوهات والتغريات )‪ ,‬حيث سكنت روح اجلبال‬
‫ال ودان وليس العكس‪ ,‬وك ذلك س كنت روح الرم ال الغ زال وليس العكس‪ .‬فع ادة ما تس كن‬
‫روح احلي عند موته جسد احلي وان أو اجلم اد وليس العكس ‪ -‬حسب معتقد احلل ول– ولكن‬
‫هنا ج اءت املطاوعة من خالل حالة ( االختالف )؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬انتظر حىت‬
‫هل القم ر‪ ,‬وحكى له كيف أن ال ودان هو روح اجلب ال‪ .‬ك انت آهلة الس ماء ت نزل إىل األرض‬
‫مع األمطار وتفصل بني الرفيقني وهتدئ من جذور العداوة بينهما وما أن تغادر اآلهلة ساحة‬
‫املعركة وتتوقف األمط ار عن اهلط ول حىت تش تعل احلرب بني الع دوين اخلال دين‪ .‬ويف ي وم‬
‫غضبت اآلهلة يف مسواهتا العليا وأنزلت العقاب املتحاربني‪ .‬مجدت اجلبال يف " مساك صطفت‬
‫"‪ .‬وأوقفت تق دم الرمل العنيد يف ح دود " مس اك ملت "‪ .‬فتحايل الرمل ودخل يف روح‬
‫الغ زالن‪ ,‬وحتايلت اجلبال من جهتها يف الودان‪ .‬منذ ذلك اليوم أصبح الودان مسكونا بروح‬
‫(‪) 1‬‬
‫اجلبال "‬
‫ه ذا‪ ,‬وحني ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) ممت دة من خالل تيمة‬
‫(احللول)‪ ,‬عرب حالة ( االختالفات والتشوهات ) فقد منحت لنا بعدا دالليا جديدا يف النص‪,‬‬
‫حيث انف رج النص عن أن اإلنس ان هو أكرب ع دو للطبيع ة‪ .‬فليس الغ زال وال ال ودان ع دوان‪,‬‬
‫وال مظ اهر الطبيعة ع دوة لبعض ها البعض ( اجلبل والرمل )‪ ,‬ولكن ( اإلنس ان ) هو الع دو‬
‫األول والوحيد هلا مجيعا‪ ,‬هذا اإلنسان الطاغي‪ ,‬واألناين‪ ,‬واملستبد‪ ,‬واملتوحش والذي عرب عنه‬
‫الكوين يف نصه ب ( الشيطان )‪ .‬فقد جاء يف نص الرواية‪ " :‬سأله أسوف يف تلك الليلة معلقا‬
‫على قصة األرواح‪ :‬ولكن الغزال والودان ال يتحاربان اآلن‪...‬ألن اهلل أنزل على األرض بلوى‬
‫أكرب ق اتلت االث نني مع ا‪ .‬ج اء اإلنسان‪ ,‬وأص بح للغ زالن وال ودان ع دو واح د‪ .‬اآلهلة ملت‬
‫الشكاوى الطفولية‪ ,‬تارة تتصاعد الرمال وترفع أمرها إىل السموات مدعية أن اجلبال هي اليت‬
‫بدأت االستفزاز‪ ,‬وتارة تقصدها قمم اجلبال وتشكو غزوات الرمال‪ ,‬فغضبت اآلهلة وعاقبت‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.26 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪131‬‬
‫املتخاصمني بشيطان امسه اإلنسان‪ ,‬أوكلت إليه األمر فجاء وأقام يف الوادي بينهما‪ ,‬هنأ بال‬
‫اآلهلة ومل تسمع شكوى منذ ذلك اليوم " (‪.)1‬‬
‫وحني‪,‬ك ان اإلنس ان هو أكرب طاغية للطبيعة جب اال ورم اال‪ ,‬ونباتا وحيوان ا‪ ,‬وحىت ألخيه‬
‫اإلنس ان فقد فضل والد ( آس وف ) – رغم إحلاح زوجته – أن يعيش وحي دا يف الفض اء‬
‫ال رحب ال جياور إنس يا مطلق ا‪ .‬حىت وافته املنية وهو على تلك احلال من العزل ة‪ .‬حيث ج اء‬
‫على لس ان والد ( آس وف )‪ " :‬فكيف أج اور اإلنسان؟ أمك تع اتبين وتري دين أن أع ود إىل‬
‫ج رية القبيلة يف " أبره وه "‪ .‬تش كو من الوح دة‪ ,‬وتبكي يف اللي ل‪ .‬أنت تع رف أهنا تبكي يف‬
‫الليل وتق ول إين أنا اجلين‪ ...‬أنا الش يطان‪ ,‬وليس الن اس‪ .‬ولكين ال أس تطيع أن أس كن جبوار‬
‫أحد‪ .‬هكذا علمين جدي‪ .‬وهكذا جيب علي أن أعلمك‪ .‬ال أريد سوى األمان‪ .‬هل تفهم؟ مث‬
‫(‪) 2‬‬
‫رفع صوته بذلك املوال احلزين " ‪.‬‬
‫هذا‪ ,‬وحني حلت الروح اجلبل يف الودان‪ ,‬جند ( آسوف ) قد استنجد باجلبل حلماية (الودان)‬
‫روحه من ( قابيل ) ‪ .‬الذي يسعى لصيده وأكله‪ .‬وقد لىب اجلبل النداء‪ ,‬ومحى الودان؛ حيث‬
‫ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ال ودان عرفه اآلن‪ ,‬ويريد أن ي أيت وحييي ه‪ .‬وإذا أتى فس يقع يف أي دي‬
‫الناس الذين ال يأكلون إال حلوم الغزالن والودان‪ .‬الويل لك‪ ! ‬ابتعد‪! ‬اقفز يف جوف اجلبل يا‬
‫روح اجلب ل‪ .‬ارجع إىل م أواك الس ري املنيع‪ ,‬قل حلض نك أن يبتلعك حىت تعرب البل وى‪ .‬أهنى‬
‫صالته‪ .‬كرر مناجاته للجبل كي ينجي روحه‪ .‬التفت خلفه‪ :‬الودان اختفى" (‪.)3‬‬
‫الرائع واملدهش عند الك وين‪ ,‬أن مطاوعة العنصر األس طوري‪ ,‬جتر وراءها مطاوع ات أخ رى‪,‬‬
‫وتفتح أمامها هوامش قرائية واسعة؛ فحني نذر الوالد بعدم صيد ( الودان ) ألنه أنقذه‪ ,‬نذر (‬
‫آس وف ) – ك ذلك – بع دم ص يد ( ال ودان )؛ لكنه وجد نفسه جمرورا لص يده مكرها على‬
‫ذلك‪ ,‬رمبا ألن يف هذا احليوان سر ال ميكن بسببه ألي كان أن يقاوم السعي لصيده‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.27 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.27 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.89 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪132‬‬
‫وبالت ايل س ولت ل ( آس وف ) نفسه أن ينقض الن ذر ال ذي قطعه على نفس ه‪ ,‬فهل س يكون‬
‫مصريه‪ ,‬هو مصري والده؟ وهنا تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من خالل‬
‫تيمة ( نقض النذر )‪ ,‬ممتدة عرب حالة ( التغريات والتشوهات )‪ ,‬حيث‪ ,‬وعلى الرغم من نذر‬
‫(آسوف) بعدم صيد ( الودان )‪ ,‬عندما علم بنذر أبيه‪ ,‬وأصر بعدم صيده – خاصة – حينما‬
‫كسر ( الودان ) رقبة والده وقتله‪ .‬رمبا كان السبب يف ذلك سحر مكنون يف الودان نفسه‪,‬‬
‫حيث ينق اد إىل ص يده كل من ي راه‪ ,‬حىت ( آس وف ) نفس ه‪ .‬فقد ج اء يف نص الرواي ة‪..." :‬‬
‫وملا كسر احلي وان املس كون رقبة الوال د‪ .‬ت ذكر كالم الوال دة عن الوع د‪ ,‬مث ع اد فنس يه م رة‬
‫أخ رى‪ .‬الش يطان ق رين الش باب‪ ,‬وس وس له فنسي وس ها‪ ,‬ودس له يف قطيع األغن ام ثالثة‬
‫رؤوس من ال ودان‪ ,‬وجلس على قمة اجلبل يتف رج‪ ...‬ودان عمالق‪ ,‬رم ادي الل ون‪ ,‬تتالمع‬
‫ش عرات فض ية يف ش عره الك ثيف‪ .‬تت دىل من ذقنه حلية طويل ة‪ .‬رأسه مت وج بق رنني معق وفني‬
‫ه ائلني‪...‬الن ذر ح رم على الولد أن ي رث حرفة الوال د‪ ,‬والوالد مل ميت إال ألنه خ الف الن ذر‪.‬‬
‫الن ذور ليست مزح ة‪...‬وجد نفسه يتن اول عص اه وحبل ه‪ ,‬ويتس لل إىل قلب ال وادي‪ ,‬حيتمي‬
‫بالصخور وأحراش الشجريات الربية حىت أشرف على املوقع حيث يتسكع الودان‪...‬مل يعرف‬
‫كيف هنض وكيف زحف إىل موقع احليوان املسكون‪ .‬بل مل يدرك هدفه ممن هذا العمل قوة‬
‫جمهولة دفعته إليه‪ .‬نسي النذر‪ ,‬ونسي مصري الوالد وإنقاذ إليه مأخوذا‪ ,‬مسلوب اإلرادة‪ .‬يقول‬
‫أب وه‪ ,‬وك ذلك أم ه‪ ,‬إن روح ال ودان جتذب‪ ,‬تض لل‪ ,‬تس لب العق ل‪ ,‬وجترد من اإلرادة‪ ,‬فيجد‬
‫الص ياد نفسه مس لوبا منس اقا‪ ,‬مس كونا‪ ,‬يتق افز على أرب ع‪ ,‬ويط ارده على الص خور الص ماء‪,‬‬
‫امللس اء‪ ,‬القاس ية‪ .‬حقا أن ما أنس اه الن ذر‪ ,‬وس اقه مستس لما خلف ال ودان‪ ,‬يف ذلك الي وم‪,‬‬
‫كاجملذوب بالوجد‪ ,‬سر كبري‪ .‬يف هذا احليوان يسكن سر كبري‪ ,‬ال يوجد مثله حىت يف الغزال‬
‫املسحور‪ .‬الوالد حمق عندما قال‪ ..." :‬أنا أخاف الودان "‪ .‬خيطئ يف إحساسه‪ .‬هنايته كانت‬
‫(‪) 1‬‬
‫على يديه "‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 53 :‬و‪ ,54‬و‪ 55‬و‪ 56‬و‪.57‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪133‬‬
‫هك ذا‪ ,‬س ولت نفس ( آس وف ) أن خيرج لص يد ( ال ودان )‪ ,‬وأن ينقض الن ذر ال ذي قطعه‬
‫على نفس ه‪ ,‬تق وده ق وة س حرية تكمن يف ذاك املخل وق العجيب واملق دس ( ال ودان )‪ .‬وعلى‬
‫منوال أساطري املظهر الطوطمي‪ ,‬فاللعنة والعقاب ستلحقان مبن نقض النذر جتاه طوطمه‪.‬‬
‫فج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) متقلصة من خالل تيمة ( اللعنة‬
‫والعق اب )‪ ,‬عرب حالة ( التماثل والتش ابه )‪ ,‬حيث ن ال ( آس وف ) عقابه ج راء نقض الن ذر‪,‬‬
‫فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬يا ريب‪ ! ‬ما ال ذي دفعه إىل أن يل وح بتلك املش نقة إىل ق رون‬
‫الودان العظيم إن مل يكن اجلنون؟ أية قوة خفية ساقته ألن يشكل حبل اللف يف رأس احليوان‬
‫اجلبار العايت‪ ,‬فريبط مصريه مبصريه إىل األبد؟ هذا أيضا كان مكتوبا يف اللوح القدمي منذ قدمي‬
‫الزمان‪ ,‬قبل أن يتكون يف جوف أمه ويولد يف الدنيا القاسية؟ ‪ ...‬جرجره على األرض‪ ,‬وعرب‬
‫به الوادي يف خفة فسوف يسوقك صوب أقسى الصخور‪ .‬إىل أصعب مناطق اجلبل"‪ ...‬سائل‬
‫يغمر وجه ه‪ :‬الع رق‪ ,‬وس ائل يغمر ركبتيه ويديه ومرفقي ه‪ :‬ال دم‪ ...‬عن ق وى ال ودان حتكي‬
‫األس اطري يف الص حراء‪ ...‬وأي ق در س اقه إىل ه ذا النت وء فتش بث به ف وق فوهة اهلاوية اليت ال‬
‫هناية هلا‪ .‬التقط أنفاس ه‪ ,‬ونظر إىل أس فل حماوال أن يت بني ق اع اهلاوي ة‪ ,‬فلم ي رى س وى‬
‫الظلمة‪ ...‬حبث عن طريقة للخالص‪ .‬حاول أن يصل برجليه إىل القمة فتهاوت األحجار على‬
‫رأسه‪ ...‬خاف وبكى‪ ...‬مل يبك‪ ,‬ولكن سائال حارا كاجلمر‪ ,‬انبثق من عينيه‪ ,‬أحرق وجنتيه‬
‫يف تلك اللحظ ة‪ .‬هل هو القي ظ‪ ,‬هل هو اخلوف؟ هل بس بب اهلزمية؟ أم ألن هنمه وخيانته‬
‫للنذر قاداه إىل هذا الفخ؟ النذر‪ .‬النذر‪ .‬تذكر النذر‪ .‬والده أيضا مات ألنه خان النذر‪ ,‬فهل‬
‫سيموت؟ هل املوت سهل إىل هذا احلد؟ ‪ ...‬أليست محاقة تلك اليت رفعته إىل أن يهجم على‬
‫ال ودان املس كون ويلف احلبل ح ول قرني ه؟ وإال ما معىن تلك اللحظ ة؟ هل ه ذا ما يس مونه‬
‫الق در؟ ‪ ...‬ويس مع خطوات فوق رأس ه‪ ...‬شيء خشن‪ .‬هل هو احلب ل؟‪ ...‬أمسك به بكلتا‬
‫يديه‪ .‬تعلق به‪ ...‬وأي قدر ساقه إىل هذا النتوء‪ ,‬فتشبث به فوق فوهة اهلاوية اليت ال هناية هلا‪.‬‬
‫التقط أنفاس ه‪ ,‬ونظر إىل األس فل حماوال أن يت بني ق اع اهلاوي ة‪ ,‬فلم ير س وى الظلم ة‪ ...‬حبث‬
‫عن طريقة للخالص‪ ,‬حاول أن يصل برجليه إىل القمة فتهاوت أحجار على رأسه‪ ...‬أليست‬
‫محاقة تلك اليت دفعته إىل أن يهجم على ال ودان املس كون ويلف احلبل ح ول قرني ه؟ ‪...‬‬

‫‪134‬‬
‫ويسمع خطوات فوق رأسه‪ ...‬شيء خشن المس أصابع يديه املتخشبة يف قبضتها على نتوء‬
‫احلي اة‪ .‬بش يء خشن هل هو احلب ل؟‪ ...‬قبض على حبل اللف اخلش ن‪ .‬مل يص دق‪ .‬أمسك به‬
‫كلتا يديه‪ ...‬تعلق به‪ ...‬سحبه احلبل‪ ,‬فأطل برأسه فوق العتمة‪ ...‬جسم يتحرك أمامه وجيره‬
‫بق وة‪ ...‬رأى مالمح‪ .‬يا ريب‪ .‬إن ه‪ ...‬ال ودان‪ .‬نفس ال ودان‪ .‬ض حيته‪ .‬جالده‪ .‬من منهما‬
‫الضحية؟ ومن منهما اجلالد؟ من منهما اإلنسان؟ ومن منهما احليوان؟‪ ...‬فجأة يف عتمة هذا‬
‫البص يص الرب اين‪ ,‬رأى أب اه يف عيين ال ودان الص بور‪ ,‬العظيم‪ ,‬رأى عيين الوالد احلزين تني‪,‬‬
‫الطيبتني اللتني مل تفهما ملاذا يؤذي اإلنسان أخاه اإلنسان‪ ,‬ففر إىل الصحراء‪ ,‬واختار أن ميوت‬
‫وحيدا يف اجلبال على أن يعود إليهم‪ .‬العينان اللتان اختارتا احلرية القاسية دون أن تعرفا ملاذا‪.‬‬
‫يف مكانه املكسو باألحجار الشرهة‪ ,‬صرخ بصوت خمنوق كأنه يناجي ربه‪ - :‬أنت أيب‪ .‬لقد‬
‫عرفتك‪ .‬انتظر‪ .‬أريد أن أخربك‪ ...‬أغمي عليه " (‪.)1‬‬
‫هكذا أوصلته خيانته للنذر‪ ,‬إىل اهلاوية‪ .‬كاد أن يلقى حتفه‪ ,‬لقد سحره الودان‪ ,‬ولكنه كان‬
‫سببا يف جناته أيضا‪ .‬فهذه املرة ال ميكن أبدا ألسوف أن خيون العهد‪ ,‬لقد أنقذه الودان‪ ,‬الذي‬
‫هو يف األصل طريدته‪ ,‬وهو يف األصل طوطمه الذي كاد أن حيطم أخطر الطابوهات اجتاهه‪.‬‬
‫ه ذا هو الودان ال ذي رأى يف عينيه والده‪ .‬هذه املرة س ينذر ( آسوف ) بع دم صيد ودانه ‪-‬‬
‫طوطمه – أي منق ذه‪ ,‬أي وال ده ال ذي يس كن جبس ده‪ .‬فمنذ حادثة اهلاوي ة‪ ,‬ع اف (آس وف)‬
‫اللحم‪ ,‬وحرمه على نفسه‪.‬‬
‫وهنا تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) متقلصة من خالل تيمة التحرمي‪ ,‬عرب‬
‫حالة ( التماثل والتش ابه )؛ حيث ح رم ( آس وف ) على نفسه أكل اللحم وخاصة حلم‬
‫(ال ودان)‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواي ة‪ " :‬بع دما ع اف اللحم‪...‬كل اللح وم‪ .‬الحظ ه ذا التغري‬
‫أول م رة عند م وت ج دي‪ ,‬فوجد أمه تق وم بطبخه يف الق در عند م دخل الكه ف‪ .‬ع اد من‬
‫الرعي‪ ,‬فغزت الرائحة أنفه من مسافة بعيدة‪ .‬شعر بالدوار والغثيان‪ ,‬وأفرغ أمعاءه اخلاوية يف‬
‫الع راء ع دة م رات قبل أن يبلغ ال بيت‪ .‬أص بحت اللح وم تثري تق ززه‪ .‬وان دهش كيف ك ان‬
‫يستطيع أن يستطعم أكل اللحم‪ .‬كيف يستطيع املخلوق أن يأكل حلم خملوق؟ ما الفرق بني‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.........53 :‬حىت ‪.70‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪135‬‬
‫حلم احليوان وحلم اإلنسان؟ من يقدر أن يأكل حلم الودان يقدر أن يأكل حلم األنسان أيضا‪,‬‬
‫لقد حل األب يف ال ودان‪ ,‬وال ودان حل في ه‪ .‬هو واملرح وم وال ودان العظيم اآلن يف ش يء‬
‫(‪) 1‬‬
‫واحد‪ .‬لن يفصل بينهم شيء "‬
‫وج اء يف موضع آخر من الرواي ة‪ " :‬ص رخ آس وف يف هل ع‪ :‬ال‪ .‬ال‪ .‬ال‪ .‬أنا مل أذق اللحم‪ .‬أنا‬
‫ال آكل اللحم‪ .‬ال تأكل اللحم؟ وماذا تفعل حبياتك إذن؟ تفكر الرجل قليال مث قال‪ - :‬ولكن‬
‫معك ح ق‪ .‬من ال يأكل اللحم البد أن يبتعد عن الن اس‪ .‬ليس من العبث أنك اخ رتت احلي اة‬
‫(‪) 2‬‬
‫يف هذا اخلالء اخلايل‪ .‬ألن من ال يأكل اللحم ال حييا‪ .‬أنت لست حيا‪ .‬أنت ميت "‬
‫ك ذلك‪ ,‬ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( التح رمي )‪,‬‬
‫عرب حالة ( التماثل والتشابه )‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬كان الوادي مليئا جبثث األغنام‪.‬‬
‫وكان يتفرج دون أن يتحرك حىت لذحبها‪ ,‬فهو ال يذبح وال يأكل اللحم منذ حادثة اهلاوية "‬
‫(‪) 3‬‬

‫ك ذلك ج اء حترمي ( آس وف ) أكل اللحم يف موضع آخر يف الرواي ة‪..." :‬تراجع آس وف‬
‫خطوة إىل الوراء كأنه يهرب من اللحم‪ ,‬وضع يده على صدره شاكرا‪ ,‬ومتتم بامشئزاز‪ - :‬ال‪.‬‬
‫ال‪ .‬أنا ال آكل اللحم‪ ...‬هل أنت جاد؟ وهل هناك يف الدنيا إنسان ال يأكل اللحم‪ ,‬باستثناء‬
‫تلك األش باح اليت يس معنا أهنا تس كن أع ايل اجلب ال يف اهلمالي ا؟‪...‬رفض آس وف ورجع إىل‬
‫اخللف‪ .‬الحقه قابيل‪ ,‬فأوقفه مسعود‪ :‬ال تلح على الرجل‪ .‬رمبا كان صادقا‪ .‬مثة أشباح من "‬
‫(‪) 4‬‬
‫اهلماليا " يف صحرائنا أيضا "‬
‫يف ب ادئ األمر ع اف ( آس وف ) اللحم وحرمه على نفس ه‪ ,‬ألن روح وال ده حلت ب الودان‪.‬‬
‫لكن ه ذه املرة راح الك وين ينسج روايته على من وال القصص األس طورية الطوطمية بل زاد‬
‫عليها فك ان ص انعا لألس طورة‪ .‬إذ حيل امليت جسد احلي فيتح ول إىل ط وطم‪ ,‬وبفعل ص ناعة‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.75‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.20‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.81‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.43‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪136‬‬
‫الك وين لألس طورة‪ ,‬حل احلي يف اجلم اد فحلت ( روح اجلبل ) يف ( ال ودان )‪ ,‬وحلت (روح‬
‫الرمال) يف الغزال‪ .‬وزاد الكوين على ذلك كله أن جعل احلي حيل باحلي؛ إذ حل ( آسوف )‬
‫جبسد ( ال ودان ) وحل ( ال ودان ) جبسد ( آس وف )‪ ,‬وكالمها حي مل ميت‪ .‬وبالت ايل ج اءت‬
‫مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) ممت دة من خالل تيمة ( احلل ول ) عرب حالة‬
‫(التغريات والتشوهات)‪ .‬ومتاهى كل من ( آسوف ) و ( الودان ) وحال يف بعضهما البعض‪,‬‬
‫وأصبحا جسدا واحدا‪.‬‬
‫ففي م رة أعتقل آس وف من قبل رج ال الك ابنت بورديلل و‪ ,‬وأخ ذوه مع جمموعة من الش باب‬
‫املعتقلني إىل رئيسهم‪ ,‬لتدريبهم‪ ,‬حىت حيتل هبم ( احلبشة )‪ ,‬لكن هناك املعجزة‪ ,‬وحل آسوف‬
‫يف جسد الودان‪ ,‬وفر هاربا‪ ,‬هروب الودان من املصيدة‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬هنا‪,‬‬
‫يف الطري ق‪ ,‬قبل أن تبلغ وا العوين ات‪ ,‬ح دث ما تناقله األه ايل ونس جوا حوله األس اطري‪ .‬روى‬
‫هلم الشباب فقالوا أهنم رأوا املعجزة ألول مرة يف حياهتم‪ ,‬شاهدوا إنسانا يفلت من األسر و‬
‫يتح ول إىل ال ودان‪ ,‬يع دو حنو اجلب ل‪ .‬يتق افز ف وق الص خور يف س رعة ال ريح غري ع ابئ مبطر‬
‫الرص اص ال ذي ينه ال عليه من كل ج انب‪ .‬فهل رأيتم إنس انا يتح ول إىل ودان؟ هل رأيتم‬
‫إنس انا ينجو من رص اص الطلي ان وهو جيري على ق دمني حىت خيتفي يف ظلم ات اجلب ل؟‬
‫(‪) 1‬‬
‫الصوفيون يف الواحات هزوا رؤوسهم من الوجد "‬
‫وتفضي مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( احلل ول ) إىل معتقد‬
‫( الوالية واحللول ) الذي تعتقد به ( الصوفية )‪ ,‬حيث تطرق الكوين إىل ذلك‪ ,‬مشريا إىل أن‬
‫ص حراءه تزخر مبجموعة ال يس تهان هبا من الف رق الدينية على خمتلف م ذاهبها‪ .‬ومنها‬
‫(الصوفية) هذه الفرقة الدينية اليت تعتقد هذا املعتقد يف ( احللول )‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬الص وفيون يف الواح ات ه زوا رؤوس هم من الوج د‪ .‬وألق وا‬
‫ب البخور يف الن ار‪ ,‬وأمجع وا‪ :‬ذلك ويل من أولي اء اهلل‪ .‬ويف اللي ل‪ ,‬ذهب وا إىل الزاوي ة‪ ,‬ونظم وا‬
‫حفلة ذك ر‪ ,‬ج دبوا فيها حىت الفج ر‪ ,‬إكراما لل ويل‪ ,‬وفرحا حبل ول ال ذات اإلهلية يف املخل وق‬
‫األرضي الب ائس‪...‬توجه إىل " مس اك ملت "‪ ,‬حيث ت رعى مجال ه‪ .‬هن اك فتح اهلل له بابا ال‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 83‬و‪.84‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪137‬‬
‫يفتحه إال ألوليائه‪ :‬كانت سحابة عابرة قد مرت على األودية السفلية فسالت سهوهلا‪ .‬مكث‬
‫يف الص حراء الرملية مع مجاله حىت رأف قلب الس ماء على الص حراء اجلبلية بعد ع دة ش هور‬
‫فعاد إىل كهوف متخندوش‪ ,‬هل كلن دراويش الصوفية يقرأون الغيب يف رؤياهم عن الوالية‬
‫(‪) 1‬‬
‫واحللول ؟ "‬
‫هذا‪ ,‬وحني كان ( الودان ) طوطما ( آلسوف )‪ ,‬وحني حل ( آسوف ) بالودان و (الودان)‬
‫بآسوف‪ ,‬فقد حرم على نفسه صيده أو قتله أو أكل حلمه‪ ,‬بل أكثر من هذا نذر على نفسه‬
‫أن حيميه من أي خطر حيدق ب ه‪ ,‬فهل الوف اء بالن ذر ه ذه املرة س يجره إىل التهلكة أم أنه‬
‫سينتصر على نفسه ! وعلى الشيطان امسه اإلنسان !‬
‫هكذا‪ ,‬تأيت املطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس )‪ ,‬من خالل تيمة ( الوفاء بالنذر )‬
‫ه ذه املرة ممت دة‪ ,‬من خالل حالة ( التشوهات والتغ ريات )‪ ,‬حيث يع رف يف قصص ( املظه ر‬
‫الط وطمي ) أن الوف اء بالن ذر يشر برضا اآلهلة‪ ,‬وبنج اة من وىف بالن ذر من غض بها وعقاهبا‪.‬‬
‫ولكن يف رواية الك وين الوف اء بالن ذر جر على آس وف ال ويالت‪ ,‬ووض عه يف ش رك ( آكل‬
‫اللحم )‪ ( ,‬قابيل )‪ .‬ه ذا الرجل الش ره إىل أكل حلم الغ زال وال ودان‪ ,‬ال ذي أخربن ا‪ ,‬عنه‬
‫الك وين‪ ,‬أنه فطم على دم الغ زال‪ ,‬وأنه ش ره للغاية ألكل اللحم‪ ,‬وك ذلك‪ ,‬ك ان ن ذير ش ؤم‬
‫على أهله منذ والدته‪ ,‬حىت أنه نذير شؤم على آسوف منذ أن صادفه‪.‬‬
‫فقد ج اء يف نص الرواي ة‪ ,‬عن ش راهة الرجل ألكل حلم الغ زال وال ودان ما يلي‪ " :‬قص ته مع‬
‫اللحم ب دأت منذ الرض اعة‪ .‬م ات األب مطعونا بالس كني حني حبلت به أم ه‪ .‬وم اتت األم‬
‫مت أثرة بلذعة أفعى بعد والدته بأس بوع‪ .‬ورثت تربيته خالت ه‪ ,‬فس قته دم الغ زال يف إح دى‬
‫ال رحالت باحلم ادة عمال بنص يحته أحد الفقه اء‪ .‬ق ال إهنا التعوي ذة الوحي دة اليت تس تطيع أن‬
‫تغس له من النحس وحتمى بقية أهله وأقاربه من اللعنة اليت تالحقه منذ أن ك ان نطفة يف بطن‬
‫أم ه‪ .‬ولكن اخلالة وزوجها ماتا يف تلك الرحل ة‪ ,‬والتقطت قافلة ع ابرة الطفل الرض يع وهو‬
‫حيشو رأسه يف ج وف الغ زال وهو يلعق ال دماء وال روث من البطن املبت ور‪ ...‬ومل يكن رب‬
‫القافلة ليلتقط الطفل لو علم مباضيه‪ .‬ومل خيطر له أن يكون " املالك الصغري " سببا يف نكبته‪,‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.84‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪138‬‬
‫ب ارت جتارت ه؛ واس توىل قط اع الط رق يف الص حراء على قطعان ه‪ ,‬وهنب وا قافلة له متوهجة إىل‬
‫"متبكتو"‪ ...‬فقد ثروته املتنقلة واملنقولة عرب الصحراء الكربى‪ .‬مل يعرف سر البالء‪ ,‬حىت وجد‬
‫ابنه بالتبين يأكل اللحم النيئ من الطبق وأسنانه تقطر بالدماء‪ ...‬عرض أمره على السحرة‪...‬‬
‫متتم حممر العينني‪ - :‬من فطم على دم الغزال يف الصغر لن يستقيم حىت يشبع من حلم آدم يف‬
‫الكرب "‪ ...‬وقصد بعد يومني أشهر العرافني‪ ...‬قال له بصوت واضح‪ " :‬يا قابيل يا ابن آدم‪,‬‬
‫لن تشبع من حلم‪ ,‬ولن تروى من دم‪ ,‬حىت تأكل من حلم آدم‪ ,‬وتشرب من دم آدم "‪ .‬وكرر‬
‫(‪) 1‬‬
‫العبارة الغامضة ثالث مرات "‬
‫هكذا أخربت النبوءة أن قابيل لن يستقيم حىت يشبع من حلم آدم يف الكرب‪ ,‬وأنه لن يشبع من‬
‫حلم ولن ي روى من دم‪ ,‬حىت يأكل حلم آدم‪ .‬فمن هو ( آدم )‪ ,‬ه ذا ال ذي س ريويه بدم ه‪,‬‬
‫ويش بعه بلحم ه‪ ,‬ويك ون قربانا لبين آدم ولكن ( ودان ) و ( غ زال )؟ من هو ( آدم ) ه ذا‬
‫الذي سيحقق للنبوءة‪ ,‬حيث يف صحراء الكوين البد للنبوءة أن تتحقق‪ ,‬كيف ال والصحراء‬
‫م وطن النب وءات‪ ,‬وه ذا ما أك ده الك وين‪ ,‬يف نص الرواي ة‪ " :‬يلتقي الص يادون يف ال رباري‬
‫العارية‪ ,‬ويتسامرون حول الشاري الصيين األخضر‪ ,‬ويعزون بعضهم بعضا ‪ " :‬أصبح الغزال‬
‫مثل الودان يتطاول يف رؤوس اجلبال‪ .‬هذا آخر الزمان "‪ .‬ال يستطيع أحد تأويل الظواهر مثل‬
‫أهل الصحراء‪ ,‬ال جياريهم أحد يف قراءة أسرار الغيب‪ ,‬ال جيتمعون إال لكي يبحثوا عن تفسري‬
‫(‪) 2‬‬
‫إلشارات آخر الزمان "‬
‫هل ستحقق النبوءة يف صحراء النبوءات؟ هل سيلقى ( آسوف ) عقابا ألجله وفاءه بالنذر؟‬
‫هل سيشبع ( قابيل ) أخريا من اللحم‪ ,‬حني يأكل حلم آدم‪ /‬آسوف‪ .‬فجاءت مطاوعة العنصر‬
‫األس طوري ( ال ودان املق دس ) ممت دة من خالل تيمة ( الوف اء بالن ذر ) عرب حالة (التش وهات‬
‫والتغ ريات)‪ ,‬فقد م ارس ( قابيل ) الع ذاب النفسي على آس وف – أوال – بع دها س لط عليه‬
‫الع ذاب اجلس دي وص وال إىل حد ص لبه وقتله بأبشع ط رق القتل يف الت اريخ البش ري‪ .‬ليك ون‬
‫جسده مصلوبا فوق جسد ( الودان املقدس ) على ( اللوح احلجري )‪ ,‬فالعذاب والقتل سلطا‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 91 :‬و‪.92‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.101 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪139‬‬
‫على من وىف بالن ذر من قبل قابيل ‪ /‬آكل حلم ال ودان ‪ /‬آكل حلم البش ر‪ /‬ليك ون ( آس وف )‬
‫قربانا بشريا لطوطمه‪.‬‬
‫فقد ج اء يف نص الرواية ‪ " :‬الع راك نشب فج أة‪ ,‬فبعد ع ودهتم من رحلة االس تطالع اخلائبة‬
‫علق آسوف على شراهة قابيل بعبارة عابرة‪ .‬قال‪ " :‬مسعت أيب يقول إن ابن آدم لن يشبع إال‬
‫ب الرتاب "‪ ...‬هنارك أح رف يا عج وز النحس‪ .‬أتظن أين مغف ل؟ تتغ اىب وت دعي أنك مرابط‬
‫حني تتعمد أن ختبئ عنا مواقع ال ودان‪ .‬هل تظن أين مل أكشف حيل ك؟ ‪ ...‬ب دأ آس وف‬
‫يرجتف‪ ..‬إذا مل ت دلنا على ال ودان هنارك أح رف‪ .‬س أريك النج وم يف الظه ر‪ .‬أنا ال أم زح‪...‬‬
‫ه ات احلبل يا مس عود‪ ...‬أال تس تحي؟ عج وز مثلك يك ذب؟ أخربونا يف الواح ات أنك‬
‫الوحيد ال ذي خيرب معاقله يف ه ذه األرض‪ ...‬فقد قابيل ص وابه‪ ...‬فهجم على ض حيته املقي دة‬
‫من الي دين وال رجلني‪ ,‬وجرجرها عرب ال وادي ال رملي‪ ,‬اجته حنو الص خرة العالية ال ذي ينتصب‬
‫فيها ال ودان األس طوري العظيم جبوار الك اهن األك رب‪ ...‬اش تد اجلن ون يف عيني ه‪ .‬رد كأنه‬
‫خياطب نفسه‪ - :‬عجوز النحس‪ .‬أرين كرامتك واهرب إىل اجلبل يف جلد ودان‪ ,‬أين كرامتك‬
‫وويل اهلل؟ يا عبد العبي د؟! ‪ ...‬أم ام اجلسد املص لوب على احلجر وقف قابي ل‪ .‬ض رب رأسه‬
‫بكلتا يديه كي خيفف من س طوة الص داع‪ ...‬فزع قابيل رأسه بقبض ته‪ ,‬وص اح يف مسعود ‪:‬‬
‫‪ -‬ت ذكرت‪ ,‬اآلن ت ذكرت‪ ,‬ه ذا هو الش يطان ال ذي رم اين يف اهلاوي ة‪ .‬كيف أخ ذتين الغفل ة؟‬
‫كيف نسيت؟ ما الذي جاء يب من هناك إىل هذا اخلالء اخلايل؟ تذكرت‪ .‬كنت أمسك بقرين‬
‫الش يطان ذاك‪ .‬ه ا‪ .‬ه ا‪ .‬ه ا‪ ...‬أنظر باهلل إىل قرني ه‪ .‬أليست تلك ق رون الش يطان ال رجيم اليت‬
‫وص فها الق رآن؟ ه ا‪ .‬ه ا‪ .‬ه ا‪ .‬ل دي ض حييت‪ .‬أنظر! أال ت رى ال ودان املعلق هن اك؟ إنه ودان‪.‬‬
‫كيف مل أنتبه إىل ذلك من قب ل؟ ه ا‪ ..‬ه ا‪ ..‬يا يل من أهبل ! ‪ ..‬وقف قابيل حتت ق دمي‬
‫آس وف املعلق يف اجلدار الص خري‪ ,‬رأسه يت دىل على ص دره‪ .‬وجهه ذاب ل‪ .‬ابيضت ش فتاه‪,‬‬
‫وتشققتا بالعطش والقبلي‪ .‬جسده حمشو يف جوف الصخرة‪ ,‬يتحد جبسد الودان‪ .‬قرنا الودان‬
‫يلتوي ان ح ول رقبته ك األفعى‪ .‬م ازالت يد الك اهن تالمس منكبه كأهنا تب ارك الطق وس‬
‫اخلفية‪ ...‬لوح قابيل بالسالح يف اهلواء مهددا‪ ...‬تسلق الصخرة من الناحية األفقية‪ .‬ضحك‬
‫يف وجه الشمس بوحشيته‪ ,‬مث احنىن فوق رأس الراعي املعلق‪ ,‬أمسك به من حليته‪ ,‬وجر على‬

‫‪140‬‬
‫رقبته السكني حبركة خبرية‪...‬خربة من ذبح كل قطعان الغزالن يف احلمادة احلمراء‪ .‬مل يصرخ‬
‫آسوف ومل يعرتض‪ ,‬ولكن مسعودا هو الذي صرخ‪ ,‬فرتدد صدى الصرخة يف القمم اجملاورة‪.‬‬
‫استجابت اجلنيات بالنواح يف الكهوف‪ ,‬وتصدع اجلبال‪ ,‬اسود وجه الشمس‪ ,‬وغابت ضفتا‬
‫ال وادي يف املتاه ات األبدي ة‪ ...‬ألقى القاتل ب الرأس ف وق ل وح من احلجر يف واجهة الص خرة‪,‬‬
‫فتح ركت ش فتا آس وف‪ ,‬ومتتم ال رأس املقط وع املفص ول عن الرقب ة‪ - :‬ال يش بع ابن آدم إال‬
‫الرتاب‪ .! ‬تقاطرت خيوط الدم على اللوح احلجري‪ .‬فوق اللوح املدفون إىل نصفه يف الرتاب‪.‬‬
‫كتب ب‪ " :‬التيفين اغ " الغامضة اليت تش به رم وز تعاويذ الس حرة يف "ك انوا" عب ارة‪ " :‬أنا‬
‫الك اهن األكرب متخن دوش أن بئ األجي ال أن اخلالص س يجيء عن دما ي نزف ال ودان املق دس‬
‫ويس يل ال دم من احلج ر‪ .‬تولد املعج زة اليت ستغسل اللعن ة‪ ,‬تتطهر األرض ويغمر الص حراء‬
‫(‪) 1‬‬
‫الطوفان "‪ .‬استمر نزيف احلجر على اللوح احملفوظ يف حضن الرمل‪"...‬‬
‫هكذا فتحت لنا مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) ‪ ! ‬هامشا قرائيا واسعا؛ حيث‬
‫أدى ( عدم الوفاء بالنذر ) إىل ( اللعنة والعقاب ) – على منوال أساطري ( املظهر الطوطمي )‬
‫– القدمية – وأصاب اجلنون ( قابيل ) آكل حلم الطوطم والبشر إذ أكل حلم (الغزال) طوطمه‬
‫ال ذي يربطه به ( ميث اق ال دم ) فن ال عقابه ب اجلنون والتي ه‪ ,‬وعلى من وال األس اطري القدمية‬
‫( أوديب ) – مثال ‪ -‬ومن جهة أخ رى‪ ,‬انف رجت املطاوعة على ه امش ق رائي‪ ,‬خ رق أفق‬
‫انتظ ار الق ارئ‪ ,‬وه ذا بفضل عبقرية الك وين يف ص ناعة األس طورة؛ حيث مل ينل ( آس وف )‬
‫بوفائه بالنذر‪ ,‬وال النعيم وال مكافأة‪ .‬بل صلب بأبشع صورة على ( اللوح احلجري )‪ ,‬وسال‬
‫دمه على الرم ال العطشى ون زف احلجر لنزيف ه‪ ..‬ولكن ك ان يف النهاية هو ( املخلص )‬
‫للطبيعة وللبش رية‪ .‬إذ تطه رت األرض بالطوف ان‪ ,‬فال ص يد الغ زال وال ودان‪ ,‬وال بندقية ص يد‬
‫خترق حرمة الص حراء وال اللن دروفز‪ ,‬وال بق اء لقابيل آكل حلم الط وطم والبش ر‪ .‬حيث‬
‫س تتجدد األرض بالطوف ان وتع ود بك را كما ك انت عليه الص حراء منذ البداي ة‪ ,‬أرضا ط اهرة‬
‫للنبوءات‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪...105 :‬حىت‪.147 ...‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ -4‬تجليات العنصر األسطوري ( الغزال ) ‪:‬‬
‫مثل الغ زال يف العقلية األس طورية طوطما لإلنس ان‪ ,‬كبقية احليوان ات األخ رى اليت اختذت‬
‫طوطما‪ ,‬حيرم صيدها‪ ,‬أو قتلها أو أكلها‪.‬‬
‫وقد ج اء العنصر األس طوري ( الغ زال ) يف رواية الك وين مبثابة ط وطم انتهكت حرمته من‬
‫طرف شخصية ( قابيل ) سفاك الدماء‪ ,‬على الرغم من ارتباطه به مبيثاق قوي وهو ( ميثاق‬
‫الدم ) الذي حيرم على اإلنسان صيده وأكله‪ .‬وقد استحضر الكوين قصة ( الغزال ) الطوطم‬
‫يف نص الرواية على من وال القصص األس طورية اخلاصة ب املظهر الط وطمي‪ ,‬ج اعال منها قصة‬
‫تسرد أحداثها يف معظم األحيان على لسان احليوان معروفة يف الرتاث العريب‪ .‬احتذاء مبا جاء‬
‫من قصص يف القرآن الكرمي على لسان احليوان‪.‬‬
‫ويتجلى العنصر األس طوري ( الغ زال ) من خالل تقنية ( البن اء الفين )‪ ,‬وبالت ايل ك ان التجلي‬
‫صرحيا‪ ,‬حيث بىن الكوين قصته على لسان ( الغزالة ) على منوال قصص (املظهر الطوطمي)‬
‫حيث س ردت ( الغزالة ) األم‪ ,‬قصة عن تض حية أمها وتق دمي نفس ها قربانا لبين آدم‪ ,‬ليك ون‬
‫ميثاقا حيرم فيه ابن آدم س فك دم عش ريهتا ونس لها فك ان التجلي جزئي ا‪ ,‬حيث ج اء يف نص‬
‫الرواية ‪ ..." :‬مث أمهلتها بإمياءة قبل أن حتكي قصة احلصن املنيع ال ذي ورثته عن األم‪ .‬ق الت‬
‫إهنا تعوي ذة ال مثيل هلا يف الص حراء كلها ومل يس بق لغزالة أن حص لت على نظري هلا‪ .‬ول وال‬
‫ه ذا احلج اب ملا تش جعت على البق اء يف أحض ان اجلبل ب رغم يقينها أن اللعنة س وف تالحق‬
‫كل امله اجرين ألهنم خ الفوا أحد األرك ان الثالثة اليت يق وم عليها ق انون املخلوق ات‪ .‬ال حي اة‬
‫مله اجر يف أرض الغرب ة‪ .‬اللعنة الس ماوية س تدركه أينما ح ل‪ " ...‬ففي ربيع األع وام البعي دة‬
‫املاض ية‪ ,‬حط الرحالة اجلوال رحاله يف الس هل املف روش بأعش اب الربي ع‪ ,‬وزحف على ركبتيه‬
‫بني األشجار القصرية‪ ,‬ترك عائلته فوق املرتفع‪ ,‬ومسعنا طفال يصرخ يف أحضان امرأة ترتنح‬
‫وتعاند ال وهن والس قوط‪ .‬ق الت أمي احلكيمة إنه العطش‪ .‬عائلة رحالة اختلت هبا الش مس‬
‫املتغطرسة يف الص حراء الواس عة وبلتها ب العطش‪ .‬رفع الرض يع ص وته بالش كوى والبك اء‪,‬‬
‫فهدهدته األم وعزته هبمهم ات غائب ة‪ .‬اس تمر الرجل يزحف على ركبتيه حنون ا‪ ,‬فالتص قت‬

‫‪142‬‬
‫ب أمي‪ ,‬ورجوهتا أن ننطل ق‪ .‬ال أخفي أين كنت خائفة ج دا‪ ...‬ك ان املس كني أع زل‪ .‬لو ك ان‬
‫ميلك س الحا ملا اض طر أن حيتكم إىل ه ذه احليلة اليت مل تنطل علينا منذ أن أش رف على‬
‫السهل‪ .‬تأملته القطيع بفضول‪ .‬كل أفراد القطيع الكبري اشرتكوا يف الفرجة‪ ,‬وحزنوا له مجيعا‪.‬‬
‫ب دأت املش اورات اجلانبي ة‪ ,‬مث تق دمت أكرب غزالة يف القطي ع‪ ,‬وخاطبتنا ب القول‪ :‬كافأ اخلالق‬
‫املخلوقات فأوجدها يف احلياة‪ ,‬مث رأى أن ميتحن صربها فأوجدها يف الصحراء‪ ,‬وجعل سره‬
‫يف املاء املع دوم‪ ,‬وجعل س را آخر يف القرب ان القاس ي‪ .‬من ض حى بنفسه يف س بيل إنق اذ حي اة‬
‫أخرى وقف على السر وكسب اخللود‪ .‬ابن آدم ميوت عطشا ولن ينقذه إال الدم‪.‬‬
‫هنا اعرتضت غزالة قاسية؛ ولكن ابن آدم شرير وقاتل‪ .‬هل نسيت يا أمنا الكبرية كيف سفح‬
‫دم عش رات ال رؤوس من عش ريتنا يف تلك املذحبة الفظيع ة؟ كيف نض حي بأنفس نا يف س بيل‬
‫الس فاح ال رجيم‪ .‬ابتس مت األم الكب رية العجف اء‪ ,‬وق الت بصرب وح زن‪ :‬التض حية ال تع رف‬
‫املس اومات‪ ,‬وال تلتفت إىل ال ذات اليت ي ذبح على ش رفها القرب ان ألن الق رابني للخ الق‬
‫األعظم‪ ...‬هنا رأيت أمي تقفز إىل جوار العجوز احلكيمة‪ ,‬وتصيح يف اجلميع‪ :‬لن نسمح أن‬
‫تقدم األم الكبرية نفسها قربانا فنفقد الرأس املدبر الذي هدانا ويهدينا الصراط املستقيم‪ ...‬أنا‬
‫أرى أن توافق أمنا املبجلة وت دعين أحل حمله ا‪ .‬وتع الت ص يحات االستحس ان‪ ,‬فق الت األم‬
‫الكبرية وهي تلتفت إىل أمي‪ - :‬هناك سر آخر يف التضحية‪ .‬القربان سيفتح عهدا بني نسلك‬
‫ونسل ابن آدم‪ .‬س يحرم عليه دم ابنتك وأبن اء أبن اء ابنتك إىل أبد اآلب دين‪ .‬ه ذا هو العه د‪,‬‬
‫حصن القرب ان وميث اق ال دم‪ ,‬واللعنة س وف تالحق من تس ول له نفسه أن خيون رب اط ال دم‪.‬‬
‫فال يوجد يف الدنيا كلها أقوى من رباط الدم وليس هناك جرمية أبشع من خيانة هذا الرباط‪.‬‬
‫تق دمت مين أمي‪ ,‬وقبلت ين‪ ,‬ومتس حت برقب يت؛ ومهست يف أذين‪ " :‬إين أفعل ذلك من أجل ك‪.‬‬
‫لن ميسك اإلنس بعد الي وم " مث ذهبت وس لمت نفس ها لآلدمي احملطم ال ذي يغمر وجهه‬
‫ال رتاب حتت ش جرة ال رمت‪ ...‬ومل أحس ب اخلطر حىت رأيت الس كني تلمع يف يد اإلنس ان حتت‬
‫شعاعات الشمس‪ ...‬أقبلت املرأة ودست الطفل العطشان يف جوف أمي املسكينة‪ ...‬أبعدين‬
‫اإلنس بض ربة طائش ة‪ ,‬وال أدري اآلن ملاذا مل يغ رس يف رقبيت الس كني أيض ا؟‪ ...‬وكلما‬
‫تذكرت أمي الذبيحة أحسست بالسهم املسموم خيرتق قليب ‪.‬مسكينة‪ .‬فعلت ذلك من أجلي‬

‫‪143‬‬
‫ومن أجلك كي ينعم نسلنا باألمان عرب كل األجيال دمها آخى بني ملتنا وملة آدم‪ .‬حنن اآلن‬
‫وابن آدم أخوة بالدم هذا حصن اشرتيناه بثمن قاس " أهنت الغزالة احلكيمة قصتها‪ ,‬فوقفت‬
‫(‪) 1‬‬
‫على قوائمها ورفعت رأسها حنو قمة اجلبل كأهنا تقرأ تعويذة موجهة إىل السماء"‪.‬‬
‫هك ذا‪ ,‬صنع الك وين أس طورته‪ ,‬على من وال األس اطري القدمية اخلاصة ب املظهر الط وطمي‪ .‬ففي‬
‫أصل األس طورة أهنا تفس ريية تعليلي ة‪ ,‬وأس طورة الك وين هنا أيضا ك ذلك‪ .‬حيث فسر لنا‬
‫الكوين كيف أصبح بني اإلنسان والغزال رابط الدم‪ ,‬وكيف أصبح للغزال حصن منيع حيميه‬
‫من بطش اإلنس ان‪ .‬وكيف أن اللعنة س تلحق بكل من تس ول له نفسه نقض ه ذا العه د‪.‬‬
‫فكانت أسطورته اليت رواها على لسان الغزالة تعليلية‪ ,‬تفسريية‪ ,‬وضحت لنا كيف أن صيد‬
‫احليوان يف الصحراء –خاصة الغزال‪ -‬هو حمرم على بين آدم‪ ,‬وجرمية يعاقب عليها‪ .‬ذلك آلن‬
‫دم الغزالة آخى بني نسلها ونسل بين آدم‪ ,‬فهم وبين آدم إخوة بالدم‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬ويتجلى –أيض ا‪ -‬العنصر األس طوري ( الغ زال ) من خالل تقنية ( االقتب اس )‪ ,‬حيث‬
‫ك ان التجلي هنا تام ا‪ ,‬حيث اقتبس الك وين نصا ملؤلف فرنس ي‪ ,‬ليوضح أك ثر كيف أن‬
‫(الغزال) طوطما لإلنسان‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬وأك ثر ما أث اره ذلك ال رأي ال ذي أورده مؤلف فرنسي يف‬
‫كتاب " الصوفية يف مشال أفريقيا " فقال إن املغرب العريب هو الذي أنزل الصوفية من عرش‬
‫الفلسفة السماوية إىل أرض احلياة اليومية‪ ...‬يف الكتاب نفسه‪ ,‬وجد ذلك يف النص املثري الذي‬
‫ك ان س ببا يف إدمانه حلم الغ زالن‪..." .‬يف الغ زالن حط اهلل السر وب ذر املع ىن‪ .‬فمن ذاق حلم‬
‫هذا املخلوق حطم يف نفسه العجز‪ ,‬ومزق حجاب السوى ووقف على رؤيته يف املقام"‪ .‬ومل‬
‫تكن العب ارة الص وفية لتمس فيه اجلرس الغ امض لو مل يهتم ب آراء الب وذيني اجلس ورة ح ول‬
‫املخلوقات اخلرساء‪ .‬ففي اجلامعة ردد أمام كارولني مجلة غامضة استعارها من تعاليم "الزن"‬
‫(‪ )‬اليت شغف هبا يف تلك األيام‪ ,‬وتقول إن سعي اإلنسان للوصول إىل مرتبة اإلله لن يتحقق‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 110 :‬و‪ 111‬و‪ 112‬و‪.113‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ " -‬الزن " أو " تسن "‪ :‬مدرسة بوذية يابانية أسسها تسن يف القرون الوسطى املتأخرة وتقوم على مبدأ أن‬ ‫‪‬‬

‫احلقيقة خارج الكلمات وال ميكن الوصول إليها إال باإلمياء‪ .‬وقد كانت ملفاهيم هذه املدرسة تأثريات مجالية‬

‫‪144‬‬
‫إال إذا مر اإلنسان حبالة احليوان‪ ,‬يعتزل حىت يستوحش‪ ,‬خيرس حىت يفقد القدرة على النطق‪,‬‬
‫يقتات على العشب حىت ينسى طعم الطعام‪ .‬واخلالق أكثر ميل للحلول يف املخلوق املتوغل يف‬
‫الربية‪ ,‬املقطوع يف اخلالء‪ ,‬ويبتعد حىت عن احليوانات اليت تستأنس الناس وال ختتار منفى الربية‬
‫(‪) 1‬‬
‫"‬
‫هكذا كان التجلي صرحيا‪ ,‬حيث أن النص بني أن اهلل حيل يف املخلوق األكثر عزلة ووحشة‪,‬‬
‫والغزال أكثر خملوقات الربية‪ ,‬الذي مييل إىل ذلك‪ ,‬إذ أنه موغل يف الربية‪ ,‬مقطوع يف اخلالء‪,‬‬
‫يبتعد عن احليوان ات اليت تس تأنس الن اس وبالت ايل هو تص ريح ت ام ب أن الغ زال فيه روح اهلل‪,‬‬
‫وبالتايل فهو طوطم مقدس على اإلنسان تقديسه‪ ,‬وحترمي صيده أو أكله‪.‬‬
‫كذلك‪ ,‬يتجلى العنصر األسطوري ( الغزال ) جتليا صرحيا‪ ,‬من خالل تقنية ( االقتباس )‪ ,‬من‬
‫أقوال الصوفيني وأيضا البوذيني‪ .‬حيث جاء يف نص الرواية‪ ..." :‬فانتهز فرصة عزلته يف اجلبل‬
‫الغ ريب‪ ,‬وق رر أن يكتشف الس ر‪ ,‬ويت ذوق حلم احلي وان األس طوري على اهلل يفتح له الب اب‪,‬‬
‫فينعم برؤية اهلل يف املق ام‪ .‬وأدهشه إمجاع املتص وفة على اعتق اد أن األنع ام أج در بالوالية‬
‫وتقمص الروح السماوية من بقية املخلوقات فوجد سندا قويا لتعاليم ( الزن ) البوذية يف هذا‬
‫الرأي‪ .‬فيولون احليوان اهتماما يفوق االهتمام باإلنسان – كما فضلوا حيوانا آخر‪ ,‬فاستثنوا‬
‫الوحوش واستبعدوها من الرمحة‪ .‬وخصوا احليوانات املساملة بالوالية‪ .‬وقد ذهب ذلك الصويف‬
‫املغم ور يف رؤي اه‪ ,‬فوضع قائمة لألم راض اخلفية اليت مل يع رف هلا عالج إال ب الغزال‪ .‬ومبج رد‬
‫(‪) 2‬‬
‫أن أعلن لألهايل عن رغبته بالفوز بالغزالن‪ ,‬دلوه على قابيل آدم "‬
‫كذلك تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزال ) ممتدة‪ ,‬حيث كشفت أكثر عن شخصية‬
‫(قابي ل) الش ره للح وم‪ .‬حيث حيكي عنه أحد ال دراويش أنه من هنمه للحم إن مل يت وفر لديه‬
‫يوما فبإمكانه أن ينهش نفسه‪ .‬حيث جاء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬ومبجرد أن أعلن األهايل عن‬
‫رغبته يف الف وز ب الغزالن‪ ,‬دل وه على قابيل آدم‪ .‬ق الوا ‪ :‬إذا حلت مص يبة وان دثر الغ زال يف‬

‫وأخالقية على فلسفات أغلب كتاب اليابان يف القرون التالية‪.‬‬


‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.116 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.117 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪145‬‬
‫الصحراء ومل يتبقى سوى شاة واحدة فال شك أن قابيل سيكون آكلها‪ ! ‬وسردوا األساطري‬
‫عن هنمه وحبه للحم‪ .‬ال درويش ق ال بلغة غامض ة‪ " :‬يف فم ه ذا املخل وق‪ .‬دودة جتعله يأكل‬
‫(‪) 1‬‬
‫نفسه إذا مل جيد حلما يأكله "‪.‬‬
‫وتفتح لنا مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزالة ) هوامش قرائية واسعة‪ ,‬إذا طرحت لنا معتقد‬
‫بعض الف رق كاملتص وفة أن اهلل يس كن الغ زالن‪ .‬وكيف أن للمس يحيني رأي من اف متاما هلذا‬
‫املعتق د‪ ,‬وأن اجلدال بني الف رق الدينية وبني معتقد املس يحيني متض ارب‪ ,‬حىت بني أهل‬
‫الصحراء أنفسهم ‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬يف طريق العودة‪ ,‬باغته جون بالسؤال‪-:‬هل‬
‫يس كن اهلل الغ زالن يف ط ريقتكم؟ ص مت ط ويال مث ق ال كأنه حيدث نفس ه‪ - :‬كل األرواح‬
‫مسكونة باهلل‪ .‬وحصره تعاىل يف الغزالن أمر من قبيل الزندقة‪ .‬التفت حنوه وقال‪ - :‬هذا من‬
‫(‪) 2‬‬
‫بدع التيجانية "‪.‬‬
‫ه ذا‪ ,‬ومن جهة أخ رى حتدث الك وين عن خالف القادرية مع املس يحية يف ه ذا األم ر‪ ,‬حيث‬
‫جاء يف نص الرواية‪ " :‬وقد فوجئ جون باركر يف الكائنات األرضية‪ :‬خالفنا معكن يا معشر‬
‫املسيحيني يكمن هنا‪ .‬أنتم تقولون إن املسيح هو اهلل وحتصرون جاللته يف خملوق واحد (‪.)‬‬
‫يف حني نرى أنه موجود يف كل الناس‪ ,‬بل يف كل الكائنات‪ .‬ديننا أعدل من دينكم " (‪.)3‬‬
‫إىل جانب هذه النقطة اهلامة اليت أثارها الكوين حول اآلراء املتضاربة يف معتقد حلول اهلل يف‬
‫الكائنات من متصوفة وتيجانية وقادرية ومسيحية‪ ,‬يفتح لنا الكوين هامشا قرائيا هاما‪ ,‬حيث‬
‫مل يكن ( قابيل ) ابن الصحراء وحده من أباد الغزالن باحلمادة ولكن األجنيب (جون باركر)‬
‫كذلك ساعده يف ذلك‪ ,‬بل حيمل بداخله شراهة أكثر منه‪ ,‬هذا الرجل الدخيل الذي ساهم‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.117 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.118 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬هذا رأي مستمد من فلسفة حمي الدين بن عريب الذي يرى أن اهلل يف كل املوجودات ويعترب أن خطأ‬ ‫‪‬‬

‫املسيحيني ليس يف تأليه املسيح‪ ,‬وإمنا يف حصر اهلل يف ذات إنسان واحد‪.‬‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.118 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪146‬‬
‫يف اقتحام أرض الصحراء أرض الصحراء بآالته الشيطانية‪ .‬ليكشف عن نوايا اخلبث والنفاق‬
‫اليت ترقد يف جوهر الرجل األجنيب ويغطيها بشعاراته الزائفة عن الرفق باحليوان‪ ,‬وغريها‪.‬‬
‫حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬إذا قمت بإب ادة الغ زالن فبفضل مس اعدتك‪ .‬زودتين‬
‫بالس يارات وبن ادق اخلرط وش‪ ,‬وأكلت من الغن ائم نص يبك وأك ثر من نص يبك‪ .‬أنت ال ذي‬
‫أب دت الغ زالن يف الص حراء بعد أن ص دعت رأسي باخلراف ات عن األس رار املدسوسة يف حلم‬
‫احلي وان املس كني‪ .‬أنت أكرب جمرم‪ .‬تغ ازل الغ زالن وتص فها ب الرباءة‪ ,‬وتنهش حلمها م دعيا‬
‫ب البحث عن سر ال وج ود له إال يف رأسك الك افر‪ .‬ت دعي الرفق ب احليوان وأنت أجشع مين‬
‫ومن كل آكلي اللحم يف الص حراء‪ .‬ال دودة اليت تدغ دغ أس نانك أش رس من ال دودة يف‬
‫أسناين‪ ...‬متتم الشيخ بأمل‪ - :‬كيف تدعي الديانة بدين املسيح وهو بريء منك؟ ال أنت منه‬
‫وال هو منك‪...‬حلظتها فقط شعر جون ببشاعة جرميته ضد أمجل املخلوقات‪ ,‬ولكن ماذا يفعل‬
‫(‪) 1‬‬
‫إذا كان حلم الغزالن مثل األفيون‪ ,‬من ذاقه تعود عليه ومن تعود عليه جن بدونه "‪.‬‬
‫ب الرغم من ش راهة ( قابيل ) للحم الغ زال وب الرغم من إص راره على متش يط جبل احلس اونة‬
‫باملروحية مبعية جون باركر‪ ,‬للعثور على غزالن هاربة‪ .‬إال أن الكوين يفاجئنا من حني آلخر‬
‫مبا يغ رق به أفق انتظ ار الق ارئ‪ ,‬حيث ويف حلظة م ا‪ .‬ت واىن ( قابيل ) عن ص يد ذوي قرب اه‬
‫(الغزالة )‪.‬‬
‫فقد جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزالة ) متقلصة هذه املرة‪ ,‬من خالل تيمة (الوفاء‬
‫بالعه د)‪ ,‬عرب حالة ( التماثل والتش ابه )‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ ..." :‬اس تمرت املروحية‬
‫الشيطانية تدور كالطاحونة‪ ...‬فوق الرمال الذهبية‪ .‬عثر قابيل على آثار أخرى‪ :‬الغزالن‪ ! ‬هل‬
‫هو قطيع ؟ أم الغ زالن نفس ها اليت حتدث عنها الرع اة؟‪ ...‬يف تلك اللحظة رآه ا‪ ,‬تس تظل‬
‫بصخرة كبرية‪ ,‬من اجلهة اليمىن من السفح حيث تنشق شعبة ضيقو وتنحدر إىل أسفل حىت‬
‫تفضي إىل الوادي‪ .‬عيناها كبريتان‪ ,‬سوداوان‪ ,‬ذكيتان‪ ,‬تنطقان بلغة جمهولة‪ ,‬حتدثه شيء ما‪,‬‬
‫تب وح له بسر م ا‪ .‬نعم‪ .‬نعم‪ .‬سر حيس ه‪ ,‬ولكن ال يدرك ه‪ .‬أقسى ش يء‪ ,‬أش قى ما يف الوج ود‬
‫أن حتس بالسر وتعجز عن إدراك ه‪ .‬م اذا تريد أن تق ول املخلوقة اجلميل ة؟ تب ادل معها نظ رة‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.121 /120 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪147‬‬
‫طويل ة‪ .‬مل تتح رك‪ .‬جبزارها تقف غزالتها الص غرية‪ ,‬ترمقه أيضا بنظ رة غامضة تنطق أيض ا‪,‬‬
‫توافق أمها على ما قالته‪ ,‬تؤيدها‪ .‬ما أقسى أن جتهل لغة األنعام ! مل يشعر بالرهبة فقط ولكن‬
‫ب اخلوف‪ ,‬ومل يش عر كيف انتزعه مس عود وس حبه من كم ه‪ .‬ك ان الطي ار ال زجني يتض احك‬
‫كاشفا عن أسنانه النضرية‪ ,‬ويردد‪Oh My God ! what’s he’s waiting - :‬‬
‫‪for‬‬
‫جلس على املقعد غائب ا‪ .‬الع رق ي نز بغ زارة أك رب‪ .‬أنفاسه تتالح ق‪ ...‬ولكن قابيل مل يف ق‪.‬‬
‫حارب الغزال واصطاد منذ أن وعى الدنيا‪ ,‬ولكنه مل حيدث أن رأى إنسانا يف غزال‪ .‬اندهش‬
‫كيف مل يطلق النار‪ .‬نسي البندقية هنائيا‪ .‬نسي أنه جاء يف رحلة صيد‪ .‬نسي أنه قابيل ابن آدم‬
‫اجملب ول على ال دم واللحم‪ .‬مل يص دق أن قابيل ميكن أن ميتنع عن الض غط على الزن اد وغزالة‬
‫(‪) 1‬‬
‫هيفاء تنتصب أمامه‪ .‬ولكن هل كانت تلك غزالة حقا؟ وهل كان هو قابيل حقا؟ "؟‪.‬‬
‫يف حلظة ما‪ ,‬أحس ( قابيل ) بقرابة الدم اليت تربطه بالغزالة‪ ,‬وعلى منوال أساطري ( الطوطم )‬
‫مل يق رتف اخلطيئة ومل يص يد ( الغزالة ) ألنه رأى إنس انا مثله وليس غ زاال‪ .‬إنه ذوي الق رىب‬
‫من ه‪ .‬ولكن كعادت ه‪ ,‬ما ف تئ الك وين يدهش نا مبس ار قص ته األس طورية على من وال األس اطري‬
‫الطوطمية القدمية حىت حيول بنا املس ار إىل منع رج آخ ر‪ .‬فبعد أن ظننا أن قابيل اس تفاق أخ ريا‬
‫على حقيقة العهد ال ذي بينه وبني الغ زالن‪ .‬إال أنه ع اد إىل هنم ه‪ ,‬وخطيئت ه‪ ,‬ومترده على كل‬
‫الن واميس والنب وءات فج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( الغزالة ) ممت دة من خالل تيمة‬
‫(نقض العهد) عرب حالة ( االختالفات والتشوهات )‪.‬‬
‫حيث‪ ,‬وعلى ال رغم من حالة ال ذهول اليت أص ابت ( قابيل ) عند رؤيته للغزالة يف جسد‬
‫إنس ان‪ ,‬إال أنه ع اد إىل فهمه ومترده يف ص يد ه ذا املخل وق اجلميل ال ذي يربطه به (ميث اق‬
‫الدم)‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪ ..." :‬قال جون يداعب قابيل‪ - :‬ال أعرف كيف سيتحايل‬
‫قابيل على السوسة يف أس نانه‪ .‬بني أس نانه ترقد أش رس دودة عرفها اإلنس ان‪ ...‬ملع زغب األم‬
‫بني الص خور القائمة واختفت بالس رعة نفس ها اليت ظه رت هبا‪ ...‬حماولة أن حتمي ولي دهتا‬
‫جبس مها‪ .‬ك انت ترتع د‪ ...‬هو أيضا يرتع د‪ .‬ص وب فوهة البندقية حنو التجوي ف‪ ,‬ف التقت‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.127 ,126 ,125‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪148‬‬
‫نظراهتم ا‪ .‬أش اح بوجه ه‪ ,‬وأغمض عيني ه‪ ,‬وض غط على الزن اد‪ .‬انبثق ال ذوي‪ ,‬ومسح الع رق‬
‫املت دفق على وجهه مبعص مه‪ ...‬التفت حنو التجوي ف‪ ,‬ف رأى الص غرية تنتفض على األرض‪ ,‬أما‬
‫األم فتقف فوقه ا‪ .‬تقطر منها ال دماء‪ ,‬تلعق ال دم عن ولي دهتا الص ريعة‪ .‬مث قف زت فج أة‪,‬‬
‫ونطحت ج دار التجويف الص خري برأس ها يف وحش ية‪ .‬يف عينيها اآلن تعبري آخر متام ا‪ :‬هل‬
‫هو الشقاء؟ وثبت إىل العراء‪ ,‬ورفعت رأسها إىل السماء الصافية املمزقة بأشعة الشمس وهي‬
‫تعوي كالذئب‪ .‬مث هوت على األرض‪ ,‬ورقدت على جنبها األمين‪ ,‬ومدت رأسها حنو القبلة‪.‬‬
‫بقى التعبري املخيف يف عينيها مل يس تطع قابيل أن يق رتب‪ .‬تق افزت اجلماعة حنوه ا‪ .‬يف يد‬
‫مس عود‪ ,‬ملع الس كني‪ .‬يف تلك الليل ة‪ ,‬مل يقتل قابيل ابن آدم أخته فق ط‪ ,‬ولكنه أكل حلمها‬
‫(‪) 1‬‬
‫أيضا "‬
‫وحني تط اول ( قابيل ) على أخته بال دم فأباحها ونس لها‪ .‬ك ان البد من ( اللعنة والعق اب )‪.‬‬
‫فه ذان مص ريا كل من تس ول له نفسه العبث بالعهد املق دس‪ ,‬والتم رد على إرادة اآلهلة فك ان‬
‫(اللعنة والعقاب) على قابيل الذي ال يشبعه إال الرتاب‪.‬‬
‫فجاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزالة ) متقلصة‪ ,‬من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب )‪,‬‬
‫عرب حالة ( التماثل والتشابه ) حيث يصاب قابيل بنوبة جنون يفقد هبا عقله ويهيم يف األرض‬
‫تيها وعطشا وجوع ا‪ .‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ش فائي يف اللحم‪ .‬أنت تع رف‪ .‬رأسي‬
‫يتكسر‪ .‬مل أعد أحتمل‪ ...‬وقابيل الذي أسرف يف أكل اللحوم‪ ,‬ودلل جسمه بألذ األنواع‪ ,‬مل‬
‫خيطر بباله حلظة أن جييء ي وم ينفذ فيه ذلك االحتي اطي الرب اين من الغ زالن ال ذي تعج به‬
‫(‪) 2‬‬
‫احلمادة "‬
‫وحني يئس من وج ود ( غزالة ) واح دة باحلم ادة‪ ,‬راح يبحث عن ( ال ودان )‪ .‬ألنه ال ميكن‬
‫أب دا أن يتن ازل ويأكل حلم خرف ان أو تي وس أو عج ول وغريه ا‪ .‬بل دفعته وحش يته يف تقتيل‬
‫ذوي قرباه من الغزالن إىل السعي وراء الودان الذي يرى فيه شفاءه من افتقاده للحم الغزال‪.‬‬
‫وكانت النهاية احملتومة له‪ ,‬واألليق جبرمه‪ .‬فقد عقله وقتل بشرا مثله ظنا منه أنه الودان عينه‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.130 ,129 ,128 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 137‬و‪.138‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪149‬‬
‫وت اه يف األرض جمنون ا‪ .‬فك انت اللعنة والعق اب‪ .‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬ازداد جحوظ‬
‫عيين قابيل‪ .‬تفصد الزبد من فمه‪ .‬تصاعد جنونه‪ ...‬فقد قابيل صوابه‪ ...‬أمام اجلسد املصلوب‬
‫على احلجر وقف قابيل‪ .‬ضرب رأسه بكلتا يديه كي خيفف من سطوة الصداع‪ .‬تدىل من فمه‬
‫خيط طويل من اللعاب‪ ...‬غارت عيناه من احملجرين‪ ,‬فازدادتا شراسة وقوة‪ ...‬ضحك قابيل‬
‫جبن ون مل أعد يف حاجة إىل مجال ك‪ .‬ل دي مجلي‪ .‬ل دي ض حييت أنظر! أال ت رى ال ودان املعلق‬
‫هنا؟ إنه ودان‪ .‬كيف مل أنتبه إىل ذلك من قبل؟ ها‪..‬ها‪ ..‬يا يل من أهبل! ضرب رأسه بنصل‬
‫السكني وترنح‪ ...‬وقف قابيل حتت قدمي آسوف املعلق يف اجلدار الصخري‪ ...‬أمسك به عن‬
‫حليت ه‪ ,‬وجر على رقبته الس كني حبركة خب رية‪ ..‬خ ربة من ذبح كل القطع ان باحلم ادة‬
‫(‪) 1‬‬
‫احلمراء‪ ...‬مل يلحظ القاتل كيف اسودت السماء وحجبت السحب مشس الصحراء "‪.‬‬
‫إن الغزالة هي اليت فرضت على بين آدم‪ .‬تكون طوطما له‪ .‬حىت ال خيرج عن السجون الثالثة‬
‫لل روح‪ ,‬اليت عينها اهلل له كح دود ال ميكنه اخلروج عنه ا‪ ,‬ألن من يريد أن خيرج عن ه ذه‬
‫احلدود حلقته لعنة اخلالق‪ ,‬وه ذا ما ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬رأت الغزالة احلكيمة الوحشة يف‬
‫عيين ص غريهتا‪ ,‬حمدثتها عن الس بب ال ذي جعلها جترؤ على البق اء وتتخلف عن طوابري‬
‫املهاجرين‪ .‬وقبل أن تدخل يف تفاصيل احلصن احلصني‪ ,‬رأت أن تلقنها األمثولة‪ ,‬وتقص عليها‬
‫حكاية عن ال وطن‪ .‬ق الت هلا يف إح دى األمس يات إن اخلالق ملا خلق ال روح عني له ح دودا‬
‫وحبسه يف ثالثة سجون‪ :‬الزمان واملكان واجلسد‪ .‬وقد حقت اللعنة وهلك كل من حاول أن‬
‫خيرج من ه ذه احلدود ألن اخلالق قدس ها وجعلها ق درا يف رقبة املخل وق‪ ,‬وخمالفتها مترد على‬
‫إرادته " (‪.)2‬‬
‫وحني ك ان لزاما على ( الغزالة ) أن حترتم الس جون الثالث ة‪ ,‬ف إن كل من س ولت له‬
‫نفسه خرقها واخلروج عنها‪ ,‬فإن اللعنة وستلحق به‪ ,‬كما حدث للغزال الذي مترد على إرادة‬
‫اهلل‪ ,‬حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬وحدث أن اغرت الغزال بقرنيه الكبريين‪ ,‬وخرج عن القطيع‬
‫يف السهل‪ .‬تطاول يف اجلبال‪ ,‬واعتلى أعلى القم ة‪ ...‬القمة املهيبة الزرقاء املعممة بالغم ام اليت‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 106‬و‪ 144‬و‪ 145‬و‪ 146‬و‪.147‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.109‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪150‬‬
‫خيشى حىت الودان أن يقرتب منها‪ .‬فماذا كان جزاء خروجه؟ عاقبه اخلالق بطائر متوحش ال‬
‫تعلو عليه قمة‪ ,‬فبرت بطنه بضربة من خملبه‪ ,‬وصرعه‪ ,‬وتدحرج عرب السفح وأعاده إىل السهل‬
‫جثة مبت ورة‪ .‬فمن أراد أن خيرج من الب دن أراد أن خيرج من الزم ان‪ ,‬ومن أراد أن خيرج من‬
‫الزمان ادعى اخللود‪ ,‬ومن ادعى اخللود‪ ,‬كفر بقدره وتطاول على املعجزة ونافسه يف األلوهة‪,‬‬
‫ومن نافسه يف األلوهة رده إىل الفناء‪ .‬فلما هنرب من قدرنا ونذهب إىل تاسيلي؟ كيف نرتك‬
‫س هول احلم ادة مبفاجآهتا وزهورها وأعش اهبا وترفاس ها وهوائه ا‪ ,‬وهناجر إىل ما وراء الرمل ة‪,‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫حيث تزحف الزواحف وتتسكع الوحوش؟ "‬
‫إذن‪ ,‬حىت ال تتمرد قطعان الغزال على السجون الثالثة أي‪ ,‬على إرادة اهلل‪ ,‬كان البد من أن‬
‫تبقى يف وطنه ا‪ ,‬وحىت تبقى آمنة يف وطنها من بطش اإلنس ان‪ ,‬ك ان البد هلا من حصن م نيع‬
‫حيميها من ه‪ ,‬وك ان مثنه جد ق اس‪ ,‬لكنها بفضل تض حية الغزالة األم وتق دمي نفس ها قربانا لبين‬
‫آدم حتصلت على ميثاق الدم الذي حيمي نسلها من نسل بين آدم إىل األبد‪ .‬ولكن‪ .‬هنا‪ .‬تأيت‬
‫مطاوعة العنصر األس طوري ( الغ زال )‪ ,‬ممت دة‪ ,‬عرب تيمة ( نقض العهد )‪ ,‬من خالل حالة‬
‫(التشوهات والتغريات) حيث مل حيافظ ( قابيل ) ‪ -‬الشره جدا للحم الغزال والودان ‪ -‬على‬
‫العهد‪ .‬ونقضه‪ ,‬أسرف يف ذبح الغزالن الواحدة تلو األخرى‪ ,‬حىت انتهى به املطاف إىل آخر‬
‫غزالة يف احلم ادة‪ ,‬ومل يت واىن يف ذلك أب دا‪ ,‬ب أن ي دخل إىل أرض الص حراء البك ر‪ ,‬آالت‬
‫ش يطانية ‪ -‬على حد تعبري الك وين ‪ -‬مثل البندقية والالن دروفر واملروحي ة‪ ,‬لتس هيل عملية‬
‫متشيط سهول احلمادة وحباهلا حبثا عن آخر غزالة‪ ,‬فقد جاء يف نص الرواية‪ ..." :‬ولكن قابيل‬
‫ما يهمه أك ثر هو أن يص طاد أكرب ع دد ممكن من الغ زالن ليطفئ هليب أس نانه‪ ,‬ويس كت‬
‫جوف ه‪ ,‬وي بيع الب اقي لض ابط املعس كر األم ريكي‪ ...‬مث أه دى له (ج ون ب اركر) آلة ش يطانية‬
‫أخ رى‪ .‬مع دخ ول بن ادق اخلرط وش إىل الص حراء تض اءلت فرصة الغ زالن يف النج اة‪,‬‬
‫وأشرفت القطعان على االنقراض والفناء‪ .‬يذكر أهنار الدم اليت سفحها بعد حصوله على هذا‬
‫السالح‪ .‬ينحدر إىل السهل املزحوم بالغزالن‪ ,‬ويبدأ يف احلصد‪ .‬طلقة واحدة تسقط جمموعة‬
‫من ال رؤوس‪ .‬يعيد الض غط على الزن اد‪ ,‬فتتس اقط الش ياه كما يتس اقط البلح إثر احتك اك‬
‫‪ -‬إبراهيم الكوين رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪.110‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪151‬‬
‫الع راجني عن دما هتب العاص فة‪ .‬العاص فة جتهض جنينها بض ربة واح دة‪ .‬يف إح دى الغ زوات‬
‫ثقب اخلرطوش غزالة حبلى‪ ,‬فاحتمت برمتة صغرية‪ ,‬وصدرت عنها شكوى أليمة‪ ,‬وأسقطت‬
‫اجلنني‪ ,‬واهنمكت تلعق الدم واملخاط عن جسد وليدها الصغري‪ .‬كانت الغزالة تنزف والوليد‬
‫اجلريح ي نزف‪ ,‬وحياول أن يرفع رأسه املثق وب ب اخلرطوش‪ .‬وعن دما مهد متام ا‪ ,‬أيقنت الغزالة‬
‫بأنه مات‪ ,‬رفعت رأسها حنو السماء الصافية‪ ,‬وصاحت بصوت أليم‪ .‬صوت فجيعة‪ .‬وعندما‬
‫التفتت رأي يف عينيها دموعا كب رية‪ .‬خطت حنو الس يارة خط وتني مث س قطت وم اتت مقلتاها‬
‫(‪) 1‬‬
‫الغامضتان تنطقان بالشفاء وحتدقان يف الفراغ "‪.‬‬
‫هك ذا‪ ,‬بطش قابيل حىت بالغزالة احلبلى‪ .‬ومل يثنه أمل الغزالة احلبلى‪ ,‬وإجهاضه لول دها‪ ,‬واألمل‬
‫ال ذي رآه يف عينيها عن مواص لة حصد أكرب ع دد ممكن من رؤوس الغ زالن‪ ,‬بل ازداد ش راهة‬
‫ألكل اللحم إىل أن بات يفطر بشاة‪ ,‬ويتغذى بشاة ثانية‪ ,‬ويتعشى بشاة ثالثة‪ .‬حيث جاء يف‬
‫نص الرواية‪ " :‬يف السابق كان يصطاد يف الغزوة الواحدة غزالة‪ ,‬اثنني‪ ,‬إذا ابتسم له احلظ‪ ,‬أما‬
‫اآلن ف انعكس الوض ع‪ .‬أص بح يص رع كل القطيع يف غ زوة واح دة‪ ,‬وال تنجو س وى غزالة‬
‫واحدة أو غزالتني إذا حصل احليوان املسكني على ابتسامة من احلظ‪ .! ‬ومع ازدياد الذبائح‪,‬‬
‫زاد اس تهالكه للحم‪ .‬اآلن بفطر بش اة ويتغ ذى بش اة ويتعشى بش اة ورمبا أك ثر من ش اة إذا‬
‫استض اف أحد الض يوف أو ع ابري الس بيل من الرع اة أو الرحل أو جتار القواف ل‪ .‬ومل يتص ور‬
‫يف ي وم من األي ام أن يتن اقص الغ زال إىل ه ذا احلد‪ .‬مل يتص ور أن ه ذا احلي وان ال ذي تعج به‬
‫الص حراء ميكن أن ينق رض‪ .‬عن دها فقط ت ذكر األجنة اليت يس تخرجها من ج وف األن ثى‬
‫الذبيح ة‪ .‬وت ذكر ‪ -‬بش كل خ اص – الغزالة الص ريعة اليت قتل جنينها يف بطنها فاش تكته إىل‬
‫الس ماء‪ .‬ولكنه ما لبث أن نسي وواصل متش يطه للحم ادة حبثا عن ال رؤوس الش اردة اليت‬
‫(‪) 2‬‬
‫تراجعت إىل اجلنوب واحتمت مبرتفعات جبل احلساونة (‪" . )‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية " نزيف احلجر "‪ ,‬ص ‪ 98‬و‪.99‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬جبل احلساونة‪ :‬سلسلة جبلية متتد جنوب احلمادة احلمراء وتفصلها عن الصحراء الرملية يف فزان‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 99 :‬و‪.100‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪152‬‬
‫وقد جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزال ) هنا‪ ,‬عرب حالة (التشوهات واالختالفات)‪,‬‬
‫لتحيلنا على واقع مرير‪ ,‬يهدد الثروة احليوانية بالصحراء‪ .‬وما زاد ذلك اخلطر هو دخول تلك‬
‫اآلالت اليت ينعتها الك وين بالش يطانية‪ .‬فقد حص دت كل ال ثروة احليوانية اليت تزخر هبا‬
‫الص حراء البك ر‪ ,‬ودنست رماهلا الذهبي ة‪ .‬ودفعت ب الكثري من الغ زالن املتبقية إىل اهلج رة حنو‬
‫احلدود الليبية اجلزائري ة‪ ,‬حيث ج اء يف نص الرواي ة‪ " :‬اجلوال ون جتار القوافل ق الوا إهنم رأوا‬
‫الغ زالن تعرب احلدود إىل تاس يلي يف مس ريات طويلة قاس ية تقطع املن اطق املفروشة ب ذلك‬
‫السجاد الفظيع من األحجار السودان‪ .‬قالوا أيضا إن آثار الدماء يف كل مكان ألن األحجار‬
‫الشرسة السوداء هنشت نصيبها من الغنيم ة وسلخت حوافر القطعان املهاجرة بوحشية‪ .‬جبل‬
‫(‪) 1‬‬
‫احلساونة أصبح معقال انتقاليا للغزالن الالجئة إىل الصحراء اجلزائرية "‬
‫حتيلنا مطاوعة العنصر األس طوري ( الغزالة ) إىل أن أكرب ش يطان ي رتبص هبذا احلي وان الفريد‬
‫واملس كني يف اآلن نفس ه‪ ,‬ه ذا اإلنس ان اجملسد يف شخص ية ( قابيل ) – الرجل الش ره – وما‬
‫مسح بدخوله من آالت ش يطانية فتكت هبذه ال ثروة البديعة الن اذرة‪ .‬فقضت على جله ا‪,‬‬
‫وس امهت يف هج رة ما تبقى منه ا‪ .‬وما بقي من رؤوس قليلة ج دا يف ص حراء ليبي ا‪ ,‬أص بح‬
‫كالودان يرتع يف رؤوس اجلبال ال يأنس لبشر وال جيري حرا طليقا يف السهول الشاسعة جراء‬
‫قساوة هذا البشر الشيطاين حيث جاء يف نص الرواية‪ " :‬وقد رأى الصيادون القدامى يف هذا‬
‫التح ول الغ امض ال ذي تعه ده الص حراء ط وال تارخيها يف أخالق الغ زالن إش ارة مساوية‪ .‬ومل‬
‫يفت احلكم اء منهم أن يع وذوا باهلل من الش يطان اإلنس عقب كل ص الة ويس تجريوا به من‬
‫شر ابن آدم وش راهة ابن آدم اليت ك انت س ببا يف اخ رتاع الس الح الش يطاين‪ ,‬فه ددت أمجل‬
‫املخلوقات باإلبادة‪ ,‬وأجربت الرؤوس الباقية على اهلجرة إىل أقصى الدنيا ليس حبثا عن الكأل‬
‫وإمنا طلبا للبقاء وإنقاذا للنسل من الفناء‪ ...‬يلتقي الصيادون يف الرباري العارية‪ ,‬ويتسامرون‬
‫حول الشاي الصيين األخضر‪ ,‬ويعزون بعضهم بعضا‪ " :‬أصبح الغزال مثل الودان يتطاول يف‬
‫رؤوس اجلب ال‪ .‬ه ذا آخر الزم ان " ال يس تطيع أحد تأويل الظ واهر مثل أهل الص حراء‪ ,‬ال‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪.100 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪153‬‬
‫جياريهم أحد يف ق راءة أس رار الغيب‪ ,‬وال جيتمع ون إال لكي يبحث وا عن تفسري إلش ارات آخر‬
‫(‪) 2‬‬
‫الزمان "‬
‫خالصة الق ول وبعد تتبع جتلي ات ( املظهر الط وطمي ) يف رواية ( نزيف احلجر ) للك وين‪,‬‬
‫وبعد تقصي مجلة مطاوعاته اليت ج اءت متقلصة حينا وممت دة حينا آخ ر‪ .‬فإهنا كش فت لنا عن‬
‫ه امش ق رائي واس ه‪ ,‬وظف من أجله الك وين األس طورة حين ا‪ ,‬وص نع ألجله األس طورة حينا‬
‫آخ ر‪ .‬وبني ه ذا وذاك جنمل جمم وع اإلش عاعات اليت أنتجها نص الرواي ة‪ ,‬واليت تطرقنا إليها‬
‫بعد كل مطاوعة‪.‬‬
‫وجنملها يف النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلنس ان‪ /‬الش يطان‪ ,‬هو من مسح بإدخ ال اآلالت الش يطانية‪ ,‬الفتاكة اليت أب ادت‬
‫الثروة احليوانية يف صحراء ليبيا‪.‬‬
‫‪ -2‬شيطانية اإلنسان وشراهته وشره هم من أبادوا الثروة احليوانية يف صحراء ليبيا‪.‬‬
‫‪ -3‬استيالء األجنيب بآالته ومشاريعه وشعاراته الزائفة على صحراء ليبيا دفع باألهايل‬
‫إىل النزوح أو اهلجرة إىل البلدان اجملاورة أو البعيدة‪.‬‬
‫‪ -4‬أهل مكة أدرى بش عاهبا‪ ,‬وأهل ص حراء ليبيا أدرى بأجبديتها وأس رارها‪ .‬ف التبقى‬
‫صحراء ليبيا لطوارقها‪ ,‬وليعد كل من هو أجنيب إىل موطنه‪.‬‬
‫‪ -5‬الصحراء موطن مقدس ال يبقى الدنس‪.‬‬
‫‪ -6‬الط ارقي يق رأ أس رار الغيب‪ ,‬ويفسر النب وءات وليس حمتاجا إىل وس يط أو معني‬
‫أجنيب‪.‬‬
‫‪ -7‬تن احر ط رق املتص وفة ( التيجانية والقادرية ) وحماولة تأثريها على عق ول الن اس‪.‬‬
‫وزادت املسيحية الطني بلة‪.‬‬
‫‪ -8‬الصخور ثروة كبرية ( حبفرياهتا وآثارها ) وال ميكن حراستها ومحايتها إىل من قبل‬
‫ابن الصحراء‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم الكوين‪ ,‬رواية‪ " :‬نزيف احلجر "‪ ,‬ص‪ 100 :‬و‪.101‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪154‬‬
‫" إن املاء يطهر اجلس د‪ ...‬والص حراء تطهر ال روح " ‪ ...‬ومن مل يعشق الص حراء‬ ‫‪-9‬‬
‫يعيش أبد الدهر مدنسا‪.‬‬

‫‪155‬‬

You might also like