Professional Documents
Culture Documents
2
حىت قتله خ نزير ش رس ,ون زلت روحه إىل ع امل املوتى " أرالو " يف البابلية " و " هي دز " يف
() 1
اليونانية .
وتواصل أسطورة اخلصب قصتها ,حيث تسرد لنا جمريات نزول اآلهلة احملبة إىل العامل
الس فلي باحثة عن حبيبها "متوز" خملفة وراءها قحطا وج ذبا عم كافة األرض حيث تعطلت
اخلص وبة بس ببه -أي " متوز " -حيث ن زلت ألجله "عش تار" إهلة اخلصب إىل الع امل الس فلي
بعدما قتلته اخلنزير ونزلت روحه إىل العامل السفلي ,وختتلف تسميات "متوز" أيضا باختالف
العقائد املختلف ة ,حيث أنه " من أمساءه األخ رى " :يعل " " ,آتيس " " ,أدونيس " ,
"أوزي ريس" .فتم وز هو االسم الس ومري األصل ل ذلك املعب ود الواحد وبعل نظ ريه الكنع اين
وأدونيس صورته اليونانية ويشبههم أوزيريس املصري يف بعض النواحي وأبوه إله احمليط وهو
كما تص وره ,املاء الع ذب ال ذي يكشف الع امل من جوانبه وهو أصل املوج ودات ,انتقل ه ذا
اإلله إىل ال ديانات القربص ية فاإلغريقية القدمية لكن اإلغريق وقعوا يف خطأ تس ميته إذ أخ ذوا
أحد األلقاب السامية وهو " أمون " مبعىن السيد أو الرب واعتربوه علما عليه وعاملوه معاملة
األعالم اإلغريقية فأض افوا إليه " " esفص ار " " ADONEXتص وره الس اميون واإلغريق
على ش كل ش اب راع مجيل تفتنت به اآلهلة عش تار أو أف روديت ,ولكنه يصد عنها حىت ميوت
وتعي ده إىل احلي اة ,فهو ب ذلك رمز لع ودة احلب نتيجة حب األن ثى وعالقتها احلميمة بال ذكر.
والرمز املقدس لتموز وأدونيس هو زهرة شقائق النعمان ,إذ كانت بيضاء فلما لقي مصرعه
جبوارها امحرت بدمائه " (. )2
فأس اطري اخلصب تتماثل وتتش ابه من حيث املب دأ ,لكنها ختتلف يف التفاص يل ,وهنا
يأيت دور االختالف العق دي والثق ايف يف التحوير يف تفاصيل األس طورة ,وصبغها بصبغة متيز
البيئة اليت تعيش فيه ا؛ إذ " ختتلف األس طورتان يف موقف كل من عش تار ونظريهتا "
أفروديت" فعشتار تقرر اهلبوط إىل العامل السفلي لتستعيد دمع " متوز " وهناك تسلط عليها
-جابر عصفور وآخرون ",األسطورة واإلبداع" ,دائرة الثقافة واإلعالم – حكومة الشارقة ,الدورة األوىل,
1
3
أختها -أرش كيجل -ربة ذلك الع امل ومنافس تها يف حب متوز ,فتحبس نها وتص يبها بشىت
األمراض .ويف فرتة غياب عشتار ,تتعطل مظاهر اخلصوبة على األرض سواء يف عامل اإلنسان
أو احلي وان ,وه ذه األس طورة تفسر عقي دة اإلنس ان يف تلك املرحلة وتعليله للخصب واجلذب
اللذين يتعاقبان على األرض كل عام " (. )1
هذا ,وقد متثل املصريون اإلله " أوزيريس " رمزا للخصب وكذلك إله للموتى حيث
" اختذوه رم زا للطبيعة م ادام قد ع اش وم ات وبعث كما تعيش ومتوت وتبعث الطبيع ة .مث
() 2
عرفه املصريون إله املوتى؛ حيث يتوىل حمكمة احلساب بعد البعث "
أما عش تار فهي أف روديت اإلغريقية وهي نفس ها " أنانا " الس ومرية و " عش تار"
األكادية و "عن اة" األوغريتي ة ,أدت ذات ال دور واتص فت بنفس الص فات الشخص ية يف مجيع
احلضارات ,وهي تعين وجه أو مظهر اخلصب ( أف-روديت ) أف /أنف ( مع اختفاء النون
يف اللفظ ) :هو األنف والوجه واملظهر ( ,روديت :روضة ) ,فمعناها يكون مظهر الروضة.
ومن هنا تظهر اجلذور العربية واض حة من أمساء ,وتكشف جبالء األص ول العربية
() 3
ألصحاب األساطري خالل التاريخ "
وهك ذا اختلفت أس طورة اخلصب يف أحناء الع امل ,واختلفت أمساؤها ,لكن جوهرها
واح د ,وهو املوت /االنبع اث ,اخلري /الش ر ,القح ط /اخلص ب ,املكر والغ رية /تطهري النفس
وتنقيته ا...وغريها من الثنائي ات الض دية اليت حتملها أس اطري الع امل يف ثناياها من خالل رم وز
أسطورية تشع من حني آلخر.
وترتكز أس طورة اخلصب على أهم رمز أس طوري وهو " التطهري " –وال ذي س نراه
أيضا يف أس اطري أخ رى فرعي ة -حيث " تنتفي األس طورة وتغيب تس مياهتا وت واريخ وقائعه ا,
-مجعية التجديد الثقافية واالجتماعية " ,األسطورة توثيق حضاري " ,قسم الدراسات والبحوث ,ط ,1دار
3
4
من وق ائع االحتف االت ,بل ختتلف تفاص يلها من بلد آلخ ر ,ولكن اجلوهر يبقى يف الفك رة
() 1
األساسية ,أال وهي تطهري النفس قبل االنتظام يف دورة سنوية جديدة "
وظلت أس طورة اخلصب مرتبطة ب أكثر األس ئلة إحلاح ا ,واملتعلقة مبوت اإلنس ان,
وم وت الطبيعة على الس واء .وتظل الطق وس هي اجلانب املم ارس واملتجلي هلذه األس اطري.
ه ذه الطق وس اليت ترمز إىل التج دد واس تمرار احلي اة وك ذلك " رغبة يف التجديد الس نوي
للحي اة وارتب اط ه ذا التجديد مبا يف الطبيعة من حتوالت وانبع اث للربيع والزه ور واكتس اء
األشجار العارية باالخضرار واألزهار املتناغمة األلوان واألشكال املثرية للبهجة باجلديد " (.)2
إن لكل بلد – تقريب ا -طقوسا موروث ة ,يع ود إليها وميارس ها دون عن اء البحث عن
أصوهلا ,فهذه كذبة األول من أفريل ,وذلك احتفال بيوم الطني ,واآلخر لباس أقنعة واحتفال
" كرنف ال "...وهك ذا متارس الطق وس دون اللج وء إىل معرفة اجلذور ,إهنا طاق ات ختتزن يف
النفس البشرية للجماعة هلا نزعة إنسانية خالصة وال تعرب عن أية أيديولوجيا " وقل من يعرف
الرابط املنطقي ال ذي يربط الش عائر والطق وس والعقي دة الذهنية اليت ب نيت عليه ا ,والقيمة
اإلنس انية اليت تالزمها أو األثر االجتم اعي ال ذي ك ان ينشأ عنها يف احلض ارات اليت تش كلت
خالهلا .إهنا طقوس وشعائر جتاوزت حواجز اللغة واجلغرافيا والدين ,ووصلت إىل حيث هي
الي وم حبيويتها وجتاوهبا مع مش اعر الن اس .وس واء أك انت باسم ال دين أم امليثولوجي ا ,فإهنا يف
النهاية إنسانية خالصة بدواخلها وغاياهتا " (. )3
ومسارعة اإلنسان إىل ابتكار الطقوس املساعدة جللب اخلصب وقهر القحط واملوت؛
ما هو إال دليل واضح على ارتق اء عقله إىل درجة التمي يز والتحليل واالس تخالص .والوق وف
على الثنائية الض دية اليت حتكم الع امل بأس ره وهي ( اخلري والشر ) حيث " مع تن اوب فص ول
-يوسف احلوراين " ,يف الفكر األسطوري البابلي " ,جملة " الفكر العريب " " ,جملة اإلمناء العريب للعلوم 1
اإلنسانية ,متوز-أيلول ( يوليو-سبتمرب ) العدد ,73 :السنة ( ,)3معهد اإلمناء العريب ,بريوت ,اهليئة القومية
للبحث العلمي ,طرابلس ,ليبيا ,ص.12
-املرجع نفسه ،ص . 10/11 2
5
الس نة ,وما يس تتبعه ذلك من م وت وجف اف وع ودة للنمو واخلص ب ,بالتن اوب ,فقد اف رتض
العقل البشري ,وهو يرتقى درجة أخرى من سلمه التطوري ,أن هناك صراعا قائما بني قويت
اخلري والشر ,فقام يشمر السواعد مساعدا قوى اخلري بزيادة اجلهد املثمر يف األرض والتقرب
إليها بأبكار مثاره وما يشتهي ,مع الطقوس وعبادات خاشقه ,بينما اجته حنو قوى الشر متزلفا
بوسائل السحر ,اتقاء لشرها وإبعادا لغضبها " (. )1
هذا ,ومن أشهر أساطري اخلصب كذلك ,األسطورة املصرية ( إيزيس وأوزيريس ),
واليت سنعرضها فيما يلي:
" أسطورة إيزيس وأوزيريس " املصرية:
" ووفق األس طورة األوزيري ة ,يعترب أوزي ريس –وهو االبن األكرب جلب ون وت-
ص احب احلق يف احلكم .بيد أن أخ اه س ت ,الغي ور ,يلجأ إىل الت آمر على أخيه بغية التخلص
منه واستالم مقدرات حكم العامل .ويف سبيل ذلك حيضر يف إحدى املناسبات صندوقا بطول
أوزي ريس ,مث يب دي اس تعداده إلعط اء ه ذا الص ندوق ملن يتناسب طوله مع ط ول الص ندوق.
وبعد حماوالت غري جمدية يق وم هبا بعض احلاض رين ,جيرب أوزي ريس ذل ك ,فيغلق ست
الصندوق عليه .مث يقذف به يف النيل العظيم ,فيقوده إىل البحر حيث يرسو به على السواحل
اللبنانية عند مدينة جبيل ( بيبل وس ) .ولكن الزوجة الوفية إي زيس تبحث عن ه ,فتج ده أخ ريا.
مث نع ود به إىل حيث يق وم ملكه اإلهلي ,مص ر .بيد أن قتله على ي دي ست ال ي ذهب هب اء.
ذلك أن ابنه ح ورس ( ابن أوزي ريس ) ينتقم له من عمه القات ل ,فينتصر علي ه .وبعدئذ يص بح
امللك اإلله األعلى ملصر " (. )2
نالحظ هنا كف اح الزوجة الوفية ( إي زيس ) يف إع ادة زوجها إىل الع رش وأيضا دف اع
االبن عن أبيه لقتل عمه قاتل أبيه ,وهو كفاح من أجل السيادة على الكون ,أبعاده اجتماعية
وسياس ية " تتص اعد " الثنائية " باجتاه كف احي جتس ده العالقة بني ست وأوزيس أوال ,وبني
-سيد القمين " ,األسطورة والرتاث " ,سينا للنشر ,املقر العريب ,مصر ,ص.32 1
-طيب يتزيين ,مشروع رؤية جديدة للفكر العريب .منذ بدايته حىت املرحلة املعاصرة يف 12جزء ,ج ,2ص
2
.320عن رشيد الناضوري" ,جمريات األسطورة " ( .سيعد لفيما بعد) !
6
ست وحورس من بعد ذلك ,إن الكفاح بني هذه األطراف هو من أجل السيادة على الكون
() 1
(مصر) .وهو ,بذلك ,كفاح سياسي ذو أبعاد اجتماعية واقتصادية وأسطورية ( ثقافية ) "
وميثل إله اخلص ب ,دورة الطبيعة من خصب وج ذب ,فبحض وره املتواصل يك ون
إخصاهبا واخض رارها وجريان ودياهنا ,وتكون السعادة ويكون احلب وتعم اخلريات ,وبغيابه
حتزن األرض ويعم القحط وجتف األهنار ويس ود الشر ويغلب احلب .وهلذا يس عى الن اس إىل
إرض اءه بشىت الط رق إلع ادة بعثه من جدي د ,وها هي األس طورة الكنعانية تتفق يف مض موهنا
مع سابقتها املصرية " كان اإلله (أدونيس) رمزا لكل ما يتعلق باخلصب واملاء املقدس ,ويعود
بأص له إىل اإلله الراف دي ( متوز ) ,واالسم ( متوز ) اسم س ومري يعين االبن املبع وث أو
اخلال د ,وهو إله ذوات كل الق رون من القطع ان ,ولقبه ال راعي الطيب ,ومملكته هي اخلض رة
واألهنار ,وهو خالد أب دا لكنه يغيب من حني آلخر ألنه إله النب ات ,ل ذلك ك ان إله اخلض رة
حاضرا ,غائبا .حيضر يف فصل النبات ربيعا وصيفا ,ويغيب يف فصل اجلذب خريفا وشتاء ,مث
نعلم أن غيابه يكون يف عامل آخر " (. )2
ومل يكتف الن اس بتق ديس إله اخلصب معنوي ا ,بل جس دوه مادي ا ,ي راءى لألعني,
وأح اطوه ب أنواع من الطق وس واالبته االت وال زلفى ,ففي ديانة مصر القدمية رم زوا إلله
اخلصب بكبش ذي ق رنني ,وحني اعت ربوا القمر س ببا مباش را للخصب جعل وا له ق رنني رم زا
إلله اخلصب وتعدوه إىل جتسيده كذلك يف صورة الشمس ذات القرنني ,ملاهلا من دور فعال
يف إم داد احلي اة لل زرع ,وقدس وا األمومة ملا تلعبه من دور يف ال والدة واإلنت اج ,ودليل ذلك
() 3
معبوداهتا األنثوية الكثرية ( إيزيس ,وإيسه)...
وقد ك ان يف مصر يرتكز التق ومي ال زراعي بفيض انات الني ل ,وهو مرتبط بأس طورة
(أوزيريس) ,وكان املصريون حيتفون مبوته يف (فصل اهليجان) والذي يسمونه (عيد خوياك),
وبقي هذا االحتفاء من الطقوس اليت ميارسها املصريون لعهود متتالية ما تزال صورها جمسدة
7
يف حفري ات املق ابر املرتبطة باإلله أوزي ريس وعائلت ه ,وعن ه ذه الطق وس ما يلي " :عيد
خوي اك :ه ذا العيد اخلريفي ك ان حيتفل به عن دما يبلغ النيل ذروة مس تواه ,وعند ذاك يضعون
متث اال على هيئة أوزي ريس يف ق الب من ذهب له ش كل مومي اء ,وميلئونه بالش عري والرم ل,
ويقطعونه بالقصب ,ويضعونه يف دن قليل العمق وجيرونه فوق ماء النيل .وكانوا ما بني 12
و 21من ش هر خوي اك يروونه يوميا باملاء ويف الي وم التاسع ك انوا يعرض ونه للش مس قبل
غروهبا مباش رة مث يرس لونه يف رحلة تس تمر حىت 24أو 25بعد أن يض عوه يف ت ابوت مث
ي دفنوه يف قرب ن زع منه متث ال الع ام الس ابق .ويف الي وم األخري من العيد يف الثالثني من الش هر
ال ذي يوافق هناية الفيض ان والب ذار ,يقوم ون بع رض ميثل ون فيه دفن أوزي ريس ,وعن دها ك ان
امللك والكهنة يرفع ون عم دا يس مى ( داد ) ك ان يرمز إىل قيامة اإلله أو بعث ه .ويف مق ربة
خري اف ق رب طيبة ن رى الفرع ون وامللكة ونباهتما الست عش رة حيمل ون خش اخيش ومزاهر
ويس اعدهم ك اهن ويرفع ون العم ود حبب ال .بينما س كان بوتو Bouttoعاص مة ما قبل
األس رات يف مصر الس فلى يس ريون وراء متث ال للقت ال يف ال وقت ال ذي يط وف فيه امللك
ورعاياه حول جدران ممفيس مع قطعان من األبقار واحلمري " (. )1
وكل هذه الطقوس املمارسة ما هي إال جتسيد لقدرة اإلله أوزيريس على إتيان الطبيعة
باخلصب ,وما اختفاءه فرتة إال جذب بعد وفرة ال تلبث كثريا فتظهر من جديد .وقد وجد
ما جيسد كل ه ذا وذاك يف مق ربة اإلله أوزي ريس ,حيث " ويف معبد إي زيس ال ذي يع ود إىل
عهد البطاملة يف جزيرة فيله ,رمز إىل هذه الظاهرة بسيقان قمح خارجة من مومياء اإلله امليت
يرويها ك اهن جبرة ذات ع روتني .وعلى مقدمة الت ابوت يرمز الص ليب ذو الع روة إىل احلي اة,
بينما ت ذكرنا الكتاب ة ,وتعظن ا" :انظ روا إىل ش كل ذلك ال ذي ال نق وى على ذكر امسه,
أوزي ريس األس رار املنبثق من املي اه الص اعدة " .ويف قب ور األس رة 18ك انت متاثيل ص غرية
-إي.أو .جيمس " ,األساطري والطقوس يف الشرق األدىن القدمي –الدراما الشعائرية :أعياد اخلصب /اآلهلة
1
وامللوك 46 ,كتابات معاصرة ( فنون وعلوم ) جملة اإلبداع والعلوم اإلنسانية ,شباط ,آذار ,2002ص.60 :
8
ألوزي ريس مص نوعة من الطني وب ذور القمح توضع ف وق ث ابوت ,ويس تمر إدواؤها باملاء
أسبوعا حىت تنتشي البذور ,فتعيد احلياة إىل امليت" (. )1
كل هذه األساطري املتعلقة باخلصب ,واليت تتفرع إىل أساطري أخرى كأساطري الزراعة
–مثال -حتمل يف مض موهنا ص راع اخلري والش ر " ,ففي مصر القدمية –وك انت مصر ومل ت زل
هبة النيل -جند ( أوزيريس ) ( ) osirisإهلا للنيل واخلري واخلضرة والنماء ,بينما كان ( ست
)Sethإله القف ار والص حراء ,وك ان أيضا زعيم األش رار ,حياول دائما إحب اط أعم ال أخيه
النافعة اخلرية " (. )2
وهذه األسطورة ومثيالهتا تعود يف جذورها إىل أسطورة األصول؛ حيث كان األصل
هو املاء ,أو الغمر املائي –كما رأينا يف الفصل األول من الدراس ة -حيث " فك رة والدة
الك ون ب الغمر املائي تتك رر يف األس اطري الس ومرية بتعبري الق وة " منو " ويف األس اطري البابلية
الفك رة –ذاهتا ولكنهم يس موهنا املي اه " تعامة " ويف األس اطري الس ورية جند " مي " تعب ريا عن
املي اه األوىل..ويف األس طورة املص رية جندهم يع ربون عن املي اه األوىل ب القوة " رع "...ويف
األس اطري اإلغريقية جند اإلله " أوقي انوس " يأخذ دور املي اه األوىل ,ومنه نشأ الك ون ,ويف
التوراة أيضا جند فكرة املياه األوىل والرب فوقها.)3( "...
ففكرة والدة الكون بالغمر املائي هي نواة أساطري التكوين ,وكان املاء رمز اخلصب
والنم اء هو أصل الك ون والتك وين ,ومنه خلقت البش رية واألك وان ,ومتتد أس طورة التك وين
هذه لتتفجر منها أساطري اخلصب كينابيع تروي الكون ومتده باحلياة والنماء.
وجند األمر نفسه يف حض ارة الراف دين القدمية "...اليت حتكي أن ( تيامة ) Tiamat
رمز الق وى العمي اء الش ريرة يف الوج ود ك انت هي البحر األول املظلم يف الوج ود -ومل ي زل
امسها على الس هل احلج ازي هتامة –حىت ج اء الن ور ممثال يف ( م ردوك ) Marduckف رغ
لتنظيم الس ماوات واألرض ,بعد أن باركها لتك ثر خرياهتا .واألمر ذاته جنده يف كنع ان
-مجعية التجديد الثقافية االجتماعية ؛ " األسطورة توثيق حضاري " ،ص . 98 3
9
( فلسطني واألردن وسوريا ولبنان ) أن األصل كان غمرا مظلما مسيطرا هو ( مي ) ,يفرض
الس كون والفوضى على الوج ود؛ حىت ظهر اإلله ( بعل ) فقضى على ( مي ) من أجل تث بيت
النظ ام واخلري يف األرض ,لكن أتب اع (مي) ق اموا حياربون املوت والس كون لس يادة ال دنيا,
فتصدى هلم البعل مرة أخرى ,لكن ليدخل مع ( موت ) هذه املرة يف صراع أبدي ,ويتناوبان
اهلزمية ,والنصر ,فمرة ترجح كفة ( بعل ) فيكسب اجلولة ,فتسود الدنيا اخلريات مناء وخصبا,
ومرة ترجح كفة موت فيغشى األرض سكون املوت وفوضى اجلفاف " (. )1
ويف انتص ار إله اخلصب دالالت عدي دة ,تتمثل يف انتص ار اخلري على الش ر ,واخلصب
على العقم ,والنظام على الفوضى ,واحلب على الكراهية.
وقد ق دم اإلنس ان الق رابني تزلفا لآلهلة ,كي ترضى عليه وتغ دق عليه اخلريات ,فق دم
أغلى وأنفس ما ميتلك ه ,ووصل به احلد أحيانا إىل أعز من ميل ك ,فل ذة كب ده فق د " :أخلص
اإلنس ان يف تعب ده فلم يبخل بالعط اء ,فك ان ال يت ذوق مثار حماص يله قبل أن يق دم آلهلته أول
قطوفها ,وال ينتفع حبيوانه قبل أن يقرتب بأبكار نسله من أربابه ,وتفاىن يف إخالصه إىل املدى
ال ذي امت دت فيه ي داه باملدي إىل أعن اق فل ذات األكب اد ,يس يل دم اء أطفاله على م ذابح
اآلهلة"(.)2
وال خيفى عنا القرب ان ال ذي قدمه ابين آدم قابيل وهابيل فتقبل اهلل من أح دمها ومل
يتقبله من اآلخ ر ,فك انت أول جرمية على وجه البس يطة ب أن قتل قابيل أخ اه هابيل ( والقصة
مذكورة بالتفصيل يف العهد القدمي ) 8...5-4-3 :4
واملالحظ أن تق دمي الق رابني نباتية ك انت أم حيوانية أو حىت بش رية يف أحي ان أخ رى,
هو ممارسة ان درجت حتت ل واء أس طورة اخلصب كما رأينا وأيضا تش رتك فيها أس اطري أخ ر,
كأس طورة اخلل ود –على س يبل املث ال -واليت سنتوسع يف احلديث عنها الحق ا ,وكيف يرتبط
طقس تقدمي القربان هبا.
10
وقد ارتبطت األس طورة منذ الق دمي ب الطقس ,فك ان هو الفعل وهي له باملقابل الق ول
احملكي ,فقد جاء يف مقال ملريسيا إلياد على لسان املفكرة الكالسيكية جني هاريسون (Jane
)Harrisonما يلي " :وقد ك انت جني هاريس ون ( Harrison (Janeأك ثر املفك رين
الكالس يكيني وض وحا ,وقد ق الت إن األس طورة Mythosبالنس بة للق دماء اليون ان ,ك انت
"شيئا حمكيا ,ينطق به اللسان " ويقابلها " الشيء الذي يفعل ergon ,أو العمل " " (. )1
طبعا ال تقصد هاريس ون هنا أن األس طورة كالم حمكي وفقط ب ل ,هي تركز على
قديسة ومجاعية احملكي األس طوري لقد " أص ابت جني هاريس ون حني أش ارت إىل القيمة
الدينية لألس طورة .فاحلقيقة أن األس طورة ليست كالما حمكيا فحس ب ,بل إهنا ع ادة إلق اء
مجاعي – أو على األقل إق رار مجاعي -وعن دما ترتبط ب الطقس تص بح األس طورة رواية
مشحونة بالعزم والقوة " (.)2
والطقس ال يقل قيمة عن األس طورة ,حيث يعيننا يف فهم ثقافة الش عوب اليت متارس ه,
وجتعلها أك ثر ص لة مبعتق دها األس طوري ,حني تك ون معه يف اتص ال دائم باملمارسة الفعلية
واجلادة ,حىت أبعد احلدود اليت نتخيلها؛ ألنه يف بعض األحيان يقدم ضمن الطقوس بشرا من
خرية تلك اجملتمعات.
وقد أكد ع امل الت اريخ الط بيعي لألجن اس.أ.م .هو ك ارت أنه ال وج ود لألس طورة
خ ارج الطقس .حيث ج اء عن مريس يا إلي اد قوله – أي هوك ارت " -إذا أخ ذنا يف اعتبارنا
األس طورة احلي ة ,أي األس طورة اليت يوجد من ي ؤمن هبا ,لوج دنا أنه ال وج ود هلا خ ارج
الطقس " (. )3
-مرسيا إلياد " ،األسطورة يف القرنني التاسع عشر والعشرين " ،عربه عدنان فرحة ،عن : 1
11
وحني ك ان الطقس واألس طورة وجهني لعملة واح دة ,فقد ك ان القرب ان والتطهري
شقني لوجه واحد من هذه العملة .واليت متثل ثقافة الشعوب اليت تكون فيها األسطورة حية.
( أي حمل اعتقاد وقداسة ) .حيث " إن معظم الطقوس اجلماعية عندهم القرابني ,بينما أعظم
الطق وس الفردية أو اخلاصة هي التطهري " ( .)1وبالت ايل فالقرب ان طقس مجاعي على ال رغم من
أنه يقدم يف بعض األحيان فرديا ,ولكن الشائع أنه من تقدمي اجلماعة بعد اختياره بامتياز ,أما
التطهري فيخص مكنون ات النفس الفردية من حقد أو غل أو خطيئة فيس ارع الف رد إزاءها إىل
تطهري نفسه الداخلية بطق وس خاصة ميكن أن تك ون مجاعية يف املعتقد لكنها فردية املمارس ة.
ومثال ذلك طقوس التطهري باملاء عند اهلندي " أما طقوس التطهري باملاء ,فقد كانت تستغرق
من اهلن دي س اعات يف الي وم ,ألن خماوفه من النجاسة ال تك اد حتص ى .ومن الطق وس الغريبة
لديهم ,أن يفرض عقاب على من ينتهك قوانني الطبقات ,بشرب مزيج فيه مخسة عناصر من
البقرة املقدسة هي :اللنب واخلثارة والسمن والبول والروث " (.)2
ه ذا ,والفولكل ور الع ريب ال خيلو –أيضا – من مظ اهر تق دمي الق رابني ,والتطهري
كذلك ,وقصة الذبيح إمساعيل عليه السالم وفداءه بكبش من لدن تعاىل ,معروفة وسأذكرها
يف موضع آخر ,وكذلك أبو سيدنا حممد (ص) ( عبد اهلل بن عبد املطلب) الذي كان سيقدم
قربانا لآلهلة ,وف اء لن ذر أبي ه ,لكنه أفت دي مباءة من اإلب ل .وهلذا يس مى الرس ول (ص) ابن
الذبيحني ,أو ابن املفديني وكالمها صحيح ,وسأذكر احلادثة الثانية الحقا كذلك.
ه ذا ,وقد س رد لنا والدي يف م رات عديدة ,حادثة غريبة يف تق دمي القربان لنهر النيل
تفاجأ هبا جيش املس لمني ,حني أتوا فاحتني لبالد مص ر ,بعد أن غزاها الرومان؛ حيث رأوهم
يهم ون بتق دمي ع روس للني ل ,بعد أن زينوها وق دموها يف أحسن ص ورة ,فأرس لوا برس الة إىل
أمري املؤم نني عمر بن اخلط اب رضي اهلل عن ه ,خيربون ه ,وكتب هلم كتابا أمر بإلقائه يف هنر
-حممود شعبان " ،يف ميثولوجيا شعوب الشرق األقصى" ،جملة الفكر العريب (جملة اإلمناء العريب للعلوم 1
اإلنسانية) ،متوز -أيلول (يوليو-سبتمرب) ،العدد ، 73السنة ، )3( 14بريوت لبنان ،اهليئة القومية للبحث
العلمي ،طرابلس ليبيا ،ص . 24
-املرجع نفسه ،ص .ن . 2
12
الني ل ,حمت واه " بسم اهلل ال رمحن ال رحيم من عمر إىل الني ل ,يا نيل إن كنت جتري ب أمر اهلل
ف اجري ,وإن كنت جتري بغري أمر اهلل فال حاجة لنا بك " مث ق ال ألقوها يف الني ل ,وف اض
النيل بأمر اهلل وجنت الفتاة وأبطل اإلسالم ذلك املعتقد اليت ساد زمانا يف تلك البالد.
وما حكاية الوالد لنا هذه الطقوس ,ومساعنا هلا منذ صغرنا إال داللة واضحة ألمرين.
أوهلم ا :أن ه ذه الطق وس ظلت متارس زمنا ط ويال حىت بعد جميء اإلس الم –طبع ا -يف البالد
اليت مل يصلها بعد.
وثانيهما :أن اإلسالم عمل جاهدا على طمس معامل هذه الطقوس اليت ال متت بصلة
للدين وإىل وحدانية اهلل تعاىل ,ألهنا يف األساس تقدم إلله آخر غريه.
وطبعا –علينا اإلقرار -رغم كل هذا -أهنا ممارسات ال تزال حية إىل يومنا هذا ,عند
بعض الش عوب اليت ال ت زال األس طورة حية عن دهم ,وهي الش عوب النائي ة ,وك ذلك علينا
اإلقرار أن هذه الطقوس ال تزال متارس حىت يف جمتمعنا اإلسالمي ,لكن ليست حبجم الفظاعة
اليت رأيناها ,إمنا تتمثل يف ممارسات أقل وقعا ,فقد كنا يف صغرنا نرمي السن اليت نقتلعها إىل
الشمس ونقول مجلة ال أزال أذكرها إىل اليوم " :يا مشيسة بنت عويشة أعطيتك سنني الداب
وأعطيين سنني الذهب ...أعطيتك سنني القطة...وأعطيين سنني الفضة "...أليس هذا مظهرا
من مظاهر تقدمي قربان بشري ( السن جزء من اجلسم البشري ) وتقدميها إىل إله واهب مانح
( الش مس) م ادام يف اعتقادنا أهنا هي من س تهبنا ومتنحنا س نا من ذهب أو فضة وه ذا –جماز
طبعا -على أهنا سن ناصعة البياض وسليمة.
- 1تجلي,,ات أس,,طورة الخصب في رواية " الب,,ئر " من خالل العنصر األس,,طوري " الب,,ئر
":
تتجلى أس طورة اخلصب من خالل رموز أس طورية عدي دة ,أمهها " البئر " الذي يع ّد
رم زا أس طوريا حيمل من اإلحياءات األس طورية ما يش ّع على كافة النص ال ذي يوظف ه؛ حيث
يعترب " الب ئر "مص در للم اء ,ق ّدس منذ الق دمي وتع دى تقديسه حىت األرض احمليطة ب ه ,فح ّرم
صيد حيوان أو طري جبواره ,ويرجع هذا التقديس ملا حيويه من ماء ,الذي هو رمز احلياة ,أو
م انح احلي اة .ليس لإلنس ان فحسب بل للكائن ات وللك ون ( من حيوان ات وطري ونب ات
13
وأرض )..واكتسبت اآلبار عند الغرب القدامى أمهية قصوى ,حيث " كانت لآلبار ,يف بالد
العرب املمحلة ,أمهية ترقى إىل مستوى العبادة ,يف زمن اجلاهلية .وهي ما بني مشاع ,وملك
رب
هلا أص حاهبا وأرب اب أو آهلة حتميه ا .ومن هنا ج اءت كلمة ( احلمى ) ...والب ئر اليت ال ّ
هلا يك ون اإلهلة رهبا وحاميه ا ,وهي ما يس موهنا ب أرض بع ل ,وك انت ح دود احلمى مخسني
ذراعا ح ول الب ئر .وهن اك ك ان يق ام هيكل الص نم .وفيما بعد ق ال الن اس يف ح دوده ,وال
() 1
يقنص الصياد احليوان وال الطري يف هذه األرض املقدسة "
وتتجلى أس طورة اخلصب من خالل الرمز األس طوري " الب ئر " ,وال ذي ج اءت الرواية
بعنوانه ,والعنوان تقنية جتلي هنا ,وبالتايل فالتجلي جاء تاما .والعنوان مبثابة املصباح الذي ميد
إشعاعاته على قضاء النص لتتبني تفاصيله كاملة .حيث أحالتنا هذه التقنية (العنوان) مباشرة
إىل أس طورة اخلص ب ,ف البئر ,هو املك ان املق دس ,ال ذي حيوي سر احلي اة ,وهو املاء ,وهو
اخلصب .فيحيلنا هذا العنوان على منت حكائي يومض من حني آلخر عن الرسول اهلل (صلى
اهلل عليه وسلم) " :ال محى إال هلل ورسوله " .وكان من مزايا هذا احلمى أن ال يظلم جزئيات
هذه األسطورة اليت مارست سيطرهتا على معتقدات العرب منذ القدمي .وال يزال املاء جوهر
احلي اة ,ونبض ها ,وال ي زال التطهر باملاء يف يومياتنا ش عرية منارس ها عند كل ص الة ,وبعد كل
جنابة .واكتسب البئر قداسة منذ القدمي – كما رأينا – ملا أحيط باملاء من قداسة منذ القدمي,
وقد أس تخدم يف الطق وس والعب ادات؛ حيث " :ق ّدس اإلنس ان املاء أصل احلي اة ,وللحاجة
الض رورية اليومية ل ه .فك ان ي راق حتت أق دام اآلهلة ...واس تعمل املاء ألغ راض دينية
وسحرية"( )2هذا ,ويتجلى العنصر األسطوري " البئر " كذلك من خالل تقنية ( التناص ) مع
تام ا ,حيث أكدت قصة األهايل أسطورة ذكرها الكوين على لسان األهايل ,ليكون التجلي ّ
أن البئر يع ّد فعال مركز الصحراء الكربى ,بل مركز احلياة ( بئر أطالنطس ) " :وحتت اجلبل
على مس افة مائة خط وة جتمعت ال بيوت .يقع ب ئر أطالنطس العريق ال ذي ال يع رف له أحد
-علي الشوك ,اهتمامات ميثولوجية ,واستطرادات لغوية " القسم الثالث " – دراسات :جملة الكرمل ,العدد
1
14
تارخييا .وعلى بعد أربعمائة خطوة أخرى تقوم املقربة اجلديدة ...أما البئر احملاط باألحياء من
ج انب واألم وات من اجلانب اآلخر فقد ب نيت جدرانه بص خور هائلة ال يع رف أحد كيف
األول ون من زحزحته ا ودحرجتها من اجلبل وب أي أدوات متكن وا بواس طتها من ص قلها متكن ّ
وحنتها هبذا الشكل الرتبيعي املصقول الرائع .ويؤكد سكان الصحراء أن حفر البئر كان بداية
احلي اة أن حفر الب ئر ك ان بداية احلي اة يف الص حراء الك ربى كله ا ,وموقعه اختري حبيث يك ون
مركز الص حراء الك ربى ,بل وتؤكد بعض األس اطري أنه مركز ال دنيا وأصل الك ون ومص در
احلياة يف الزمان القدمي ,ولواله ال ندثر الناس واحليوانات يف الصحراء منذ قرون .ونتحدث
أساطري أخرى عن مزاجه الغامض الغريب فنقول أنه يفيض أحيانا ونتدفق مياهه صانعة أهنارا
وأودية طافحة باملاء تغمر ص حارى الرم ال العطش ى ,وتتض اءل مياهه حىت تنضب متاما أحيانا
أخ رى ,وال أحد ي ذكر مىت ح دث ذل ك ,ولكن العج ائز تؤكد أن جفافه حيدث عرب أجي ال
وأجي ال .وتؤكد أس اطري أخ رى أنه ينضب كل ثالثة ق رون ويس تمر على ه ذا احلال أعواما
كاملة مما يض طر س كان الص حراء اهلج رة إىل كل اجله ات هربا من العطش وخوفا من
() 1
االنقراض" .
وحني ك ان التجلي ص رحيا من خالل التن اص مع أس طورة طارقي ة ,ك انت بالت ايل
املطاوعة متقلص ة ,عن طريق حالة ( التماثل والتش ابه ) .ف البئر مص در احلي اة ,ول واله ال ن دثر
الن اس واحليوان ات وال زرع منذ الق دمي ,وه ذا التش ابه والتماثل ليس فقط مع األس طورة
الطارقية ,بل أيضا مع أساطري اخلصب العاملية؛ حيث يعترب إله اخلصب ,واملتمثل يف املطر ,أو
النه ر ,أو يف الب ئر هو خملّص الن اس واحليوان ات والنب ات من املوت احملت وم ,وهو م انح للحي اة
للك ون ,وهلذا ق ّدس من ط رف البش ر ,وك ان الب ئر إذن هو مركز ال دنيا " :وتؤكد بعض
األساطري أنه مركز الدنيا وأصل الكون ومصدر احلياة يف الزمان القدمي ,ولواله ال ندثر الناس
() 2
واحليوانات يف الصحراء منذ قرون "
15
مطاوعة العنصر األسطوري ( البئر ) في رواية البئر:
ه ذا ,وحني ك ان التجلي تام ا ,ج اءت املطاوعة متقلّصة ذلك أهنا تتناسب عكسا مع
التّجلّي .فقد ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " الب ئر " ,متقلّصة من خالل حالة ( التماثل
والتش ابه ) ,حيث أن الب ئر يف الواحة هي " املركز " ,فهي حمور القبيل ة ,وس بب عيش ها
وبقاءه ا .وعن دها يلتقي األحبة للس مر ,وعن دها ك ذلك جيلس املهم وم ,والعاش ق ,والي ائس,
الراحة األبدية .فال جيد خملّصا لعذابه سواها!
وعندها أيضا ,ينتحر من يبحث عن ّ
الرواي ة ,أن " الب ئر " هي مركز لق اء كل من ختاجله نفسه أفك ارا نص ّ
فقد ج اء يف ّ
مجيلة أم ش يطانيّة ,فها هو " آيس "ّ ,أول ما يفعله حني يس تفيق من نوم ه ,ه ذا العاشق
يتوجه صوب البئر ,ينتعش من ماءها ,قبل أن يصعد اجلبل ويهيم حببيبته ..." .هكذا الوهلانّ ,
ف ّكر آيس وهو حيوم حول البئر ويالمس بيديه الصغريتني أحجار جدرانه الكبرية امللساء .ألقى
بال ّدلو فسمعه يثري ضجيجا يف املاء ,شرب من الدلو مباشرة مث غسل أطرافه ودلق الباقي فوق
رأسه واجّت ه إىل اجلبل"(.)1
الس ياق أيض ا ..." :ح دث وأن س أل أحد أبن اء اجلريان ومها يلعب ان وج اء يف نفس ّ
جبوار البئر " :ماذا تشعر عندما تنام جبوار ّأمك؟.)2( " ...
ك ذلك ,حني ق ّرر ( أمغ ار ) وأخ اه ( أخن وخن ) االنتح ار ,إن رفض تهما ( زارا ),
نص الرواية – " :هل تعلمني؟ قبل أن أذهب كان القرار هو االنتحار يف البئر ,حيث جاء يف ّ
إىل ح رب غ ات كنت قد اتفقت مع أمغ ار على ح ّل حاس م :إذ مل ختت اري أح دنا فسنذهب
معا إىل البئر .صمت حلظة مثّ أضاف يهمس - :تدركني ما أعين .لقد ّقررنا أن نقفز معا"(.)3
الرواي ة " :بعد العش اء هنض وك ان لقاءمها دوما عند الب ئر ,حيث ج اء يف نص ّ
(أخن وخن) وق ال ألمغ ار - :أريد أن أحت ّدث إليك على انف راد .س نلتقي عند الب ئر ...تق ابال
جبوار الب ئر فق ال ألخنوخن على الف ور - :إنين أختلّى عن لك عن زارا إىل األب د .. ! لقد
16
اتفقت مع باتا على ال زواج ...ألقى به ناحية الب ئر ...هل أخربهتا ب ذلك ...ألقى أخنوخن
() 1
حبجر آخر حنو البئر قبل أن جييب" ...
ك ذلك ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري "الب ئر" متقلّصة من خالل حالة ( التماثل
والتش ابه) ,حيث احنصر مس توى املاء يف الب ئر ,وقد ارتبط ذلك باخلطيئة اليت اقرتفتها ( باتا )
الرواي ة..." :
يف ح ّق ابنتها إذ ق ّررت ال زواج حببيب ابنته ا ( ,أخنوخن ) حيث ج اء يف نص ّ
أق ول ما تس مع ,وأعين ما أق ول .لقد اتفقت مع باتا على ال زواج ,إنين أختلّى لك عن زارا
طائع ا ...ج اء آيس إىل غوما راكض ا .ق ال من بني أنفاسه املتالحقة املتقطّع ة - :يقول ون أن
مستوى املاء قد اخنفض يف البئر .الرجال هناك يطلبون مشورتك! انتفض الشيخ ومههم وهو
يقفز واقف ا - :مس تحيل! جيب توقع ارتف اع املاء مع اق رتاب فصل الش تاء ! ص اح غوما دون
أصح ...قال غوما وهو يلقي بطرف أن خيفي قلقه - :هذا غري معقول .رمّب ا استنزفوه .هذا ّ
احلبل يف البئر ويتشبث بالطّرف اآلخر ...قال بصوت حاول أن يكون باردا - :مستوى املاء
() 2
أقل من قامة آيس بقليل .بشرب ونصف"... ّ
ك ذلك ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري الب ئر ,متقلّصة من خالل حالة ( التماثل
والتّش ابه ) ,حيث ح اء احنص ار مس توى املاء يف الب ئر مص احبا لظ اهرة اخلس وف .كما يف
القصص األس طورية القدمية؛ حيث تنبّأ ( آيس ) جبف اف الب ئر ملدة ثالمثائ ة ع ام كما يف
نص الرواي ة ..." :ولكن يف طريق الع ودة إىل ال بيت ق ال القصص األس طورية؛ حيث ج اء يف ّ
له (آيس) - :ولكن أمل تقل يا أيب أن البئر ينضب كل ثالمثائة عام؟ حدجه غوما بنظرة قلق.
قال بعد حلظة تفكري - :نعم .ولكن هذا يف األسطورة .هكذا تقول األسطورة .صمت الطفل
مرات خسوف القمر. مثّ عاد يقول وهو يتشبّث بيد ج ّده - :قلت أيضا أن ذلك يقاس بعدد ّ
متتم غوما بعد تردد - :نعم .أعتقد ذلك .قال آيس بإحلاح - :أتذكر اخلسوف األخري؟ رمبا
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 195 :و 197و.198 2
17
مر أربعون يوما على اخلسوف األخري. أكمل العدد الالزم فبدأت املياه ترتاجع يف بئرنا – لقد ّ
() 1
ّتوقف غوما فجأة .نظر إىل آيس كأنه ينظر يف الفراغ .عاد ميشي دون أن يعلق بكلمة "
وت والت اللّعن ات .والعق اب ك ان مرتبط دوما ب البئر؛ حيث ج اءت مطاوعة العنصر
األسطوري البئر متقلّصة من خالل حالة ( التماثل والتشابه ) ,فقد دارت حول البئر ,قصص
كث رية منها قصص الف رح واالبته ال ,ومنها قصص س رية خيتلي هبا أص حاهبا جبانب ه ,ومنها
قصص متعلّقة باالنتحار فيه حيث انتحرت ( زارا ) ابنة ( باتا ) يف البئر ليلة تزوجيها .بعد أن
وزوجتها بأخيه ( أمغار ) بعد شهر من ذلك .حيث جاء ت زوجت أمها حببيبها ( أخنوخن )ّ ,
يف نص الرواي ة " :اق رتح أخنوخن وهو يتّجه حنو الب ئر– .جيب أن نواصل البحث .س نذهب
ناحية البئر - .انتفض أمغار - :ناحية البئر؟ وما عساها تفعل ناحية البئر؟ ...عثروا على اجلثّة
جتمع وا ح ول الب ئر يف مجه رة كب رية من النس اء والرج ال .أقبلت باتا حنو طافية ف وق املاءّ .
املسجى على األرض .انكفأت فوقه صامتة زمنا ,مث شرعت تلثم أطراف زارا اجلسد املنفوض ّ
الب اردة الواح دة تل وى األخ رى ...اآلن فهمت كل ش يء ...اآلن ب دأت أفهم كل ش يء...
() 2
خسارة ...خسارة "
ك ذلك ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري " الب ئر " متقلّصة من خالل حالة ( التماثل
الرواي ة " :وبعدنص ّ
والتش ابه ) ,إذ ك ان الب ئر ش اهدا على م وت أخنوخن ,حيث ج اء يف ّ
ي ومني من مغادرهتا ,ع ثر األه ايل على أخنوخن مس ندا ظه ره إىل الب ئر ,حيدق يف الف راغ .وقد
() 3
غطّى البياض مقلتيه .كان قد مات يف الليل "
ك ذلك ش هد الب ئر على حماولة انتح ار من ( آيس ) ,عن دما علم برحيل حبيبته (بات ا)
مبجرد
الروايةّ " :أما آيس فقد حاول أن يلقي بنفسه يف البئر ّ نص ّ
دون رجعة ,حيث جاء يف ّ
18
أن علم اخلرب ,فاض طر الش يخ غوما أن يقيّد يديه ورجليه ويرتكه هك ذا ط وال ي ومني
كاملني"(.)1
متقلص ة عرب حالة (التماثل
ّ ك ذلك ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " الب ئر ",
والتش ابه) ,حيث ارتبط جف اف الب ئر برحيل باتا اليت هي ( آهلة اخلصب واجلم ال ت انس ) يف
أس اطري اخلصب القدمية ,حيث ال أمل يف ع ودة املي اه إىل الب ئر إالّ بعد ثالمثائة ع ام ,ممّا اض طر
الرحيل إىل الواحة دون رجعة.
األهايل إىل ّ
الرواي ة – " :إذن هي اهلج رة يا ش يخ غوم ا؟ ...مل يبقى لنا غري نص ّ
حيث ج اء يف ّ
ذل ك .الرحيل إىل الواحة هو احلل الوحيد أمامن ا ...ستض طر يا ش يخ خليل أن هتجرها إىل
األبد ش ئت أم أبيت اللّهم إذا كنت تطمع يف عمر ن وح فتنتظر حىت يع ود املاء لالرتف اع بعد
توض أ وتوجه إىل الب ئر قبل أن يش رب ك وب الش اي الرحي لّ ... ثالمثائة ع ام ... ! ج اء ي وم ّ
األخض ر .دار ح ول الب ئر م ّرتني ,وهو حياول أن يت بنّي عرب عتمة الفج ر ,كل حجر مثبت يف
الصماء مث تناول حجرا وألقى به يف الصخري .مأل عينيه من األحجار الكبرية املصقولة ّ سوره ّ
ظل يستمع حماوال أن يتبنّي ضجيج املاء عند سقوط احلجر .مل يسمع شيئا كأن متاهة البئرّ .
احلجر مل يس قط ,ك أن الب ئر أص بح بال ق اع .الب ئر أص بح بال م اء .احنىن ف وق فوهة الب ئر فلم
() 2
يبصر سوى الظالم احلالك .ذهب حىت املقربة وقف يتمتم بالفاحتة على أرواح األموات "
فقد أفضى به جفاف البئر ,وحتمية اهلجرة إىل زيارة األموات ألن جفاف البئر رمزيّة
املوت عينه.
- 2تجلي ,,ات أس ,,طورة الخصب من خالل العنصر األس ,,طوري ( إلهة الخصب والجم ,,ال
"تانس")
تتجلى أسطورة اخلصب يف رواية " البئر " – كذلك – من خالل العنصر األسطوري
(إهلة اخلصب واجلم ال "ت انس") .حيث جتلّى ه ذا العنصر من خالل تقنية (اخللفية
األسطورية)؛ إذ جلأ الكوين إىل اعتماد هذه اخللفية األسطورية بغية إنتاج جديد ,حيث أفادت
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص.217 : 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 119 :و 220و.222 2
19
هذه التقنية يف إبراز شخصية " تانس " حمبوبة أهل الصحراء وجالبة اخلصب والضوء واحلب
هلم .من خالل تبنّيه أس طورة إهلة اخلصب يف املعتق دات القدمية ,وحىت يف معتقد س كان
الص حراء ,فهي عش تار البابلي ة ,وهي عش رتوت الفينيقي ة ,وهي أف روديت اإلغريقي ة ,وهي
فينوس الرومانية ,وهي "تانس" عند الطوارق.
فقد ج اء يف نص الرواي ة " :رأى األمري وجهها الس احر يف ص فحة م اء الب ئر فأذهله
مجاهلا وصاح خياطب أتباعه وعبيده:
-هذه احلسناء .اليت يعكس وجهها املاء ,ستكون زوجيت ..حىت ولو كانت يف السماء ,حىت
لو ك انت يف احللم ..حىت لو ك انت ومها .لقد ع زمت الع زم على أن تك ون زوجيت إىل
األبد"( )1وجاء أيضا يف منت الرواية " :كانت امرأة شريرة حاقدة ما لبثت أن كرهت تانس
() 2
وحسدهتا على مجاهلا األسطورة "
وج اء أيضا يف نص الرواي ة " :أنت مجيلة مثل ت انس .مجالك ين افس القمر ووجهك
() 3
يضيء الصحراء يف الليل" !
وج اء ك ذلك عن إهلة اخلصب واجلم ال ت انس " :آه ,تع رف ت انس ابنة القمر وملكة
()4
الصحراء أيضا .من أين تعرف تانس؟ -أيب حدثين عنها يف حكاية البئر" .
قص ة " ت انس " هي قصة أس طورية, ك ذلك يأيت يف موضع آخر إق رار اجل ّد غوما ب أن ّ
نص الرواي ة – " :ولكن أمل تقل يا أيب أ ّن الب ئر ينضب كل ثالمثائة ع ام ؟ حيث ج اء يف ّ
حدجه غوما بنظرة قلق .قال بعد نظرة تفكري - :نعم .ولكن هذا يف األسطورة .هكذا تقول
() 5
األسطورة "
20
ه ذا ,وحني كان التجلي تام ا ,ك انت املطاوعة متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) ,إذ أن
(تانس) تتشابه يف مجاهلا وضيائها آهلة اخلصب واجلمال يف القصص األسطورية القدمية ,حيث
ج اء يف نص الرواي ة " :يا ت انس! اكش في عن وجهك وأض يئي لنا الليل البهيم ,إننا نريد أن
حنلب النوق على ضوء وجهك الذي ينافس البدر ! فتزيح تانس اللحاف عن وجهها الساحر
() 1
وتنري الصحراء جبماهلا "
كذلك ,تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ,متقلّصة
عرب حالة (التماثل والتش ابه) ,حيث جندها حالبة للخصب والنم اء لألرض ,حيث ج اء يف
نص الرواي ة " :عن دما ن زلت ت انس من ف وق النخلة مع أطالنطس وقبلت أن ت تزوج األمري
الذي قرر أن يستوطن تلك الواحة ,فأمر أتباعه أن يغرسوا النخيل ,ويشيّدوا البيوت ,ويزرعوا
القمح والشعري " (.)2
نص بت تانس نفسها أمرية على وجاءت املطاوعة نفسها يف موضع آخر من الروايةّ " :
لتجار القوافل الذين يغدون من مدن الشمال يف الواحة اليت بدأت تنمو وتكرب وتصبح مركزا ّ
حمملني باألقمشة وامللح والتوابل والدقيق ملقايضتها بالذهب وريش طريقهم إىل أدغال إفريقيا ّ
النّع ام وس ّن الفيل واألحج ار الكرمية وجل ود الزواحف الص غرية وك ربت حىت أص بح يطلق
عليها " جوهرة الصحراء الكربى " (.)3
وعم اخلري على أهله ا .فك انت فك انت هبذا ت انس جالبة اخلصب واالخض رار للواحة ّ
مبثابة إهلة اخلصب واجلم ال .وكما هو مع روف يف أس اطري إهلة اخلصب واجلم ال القدمية ف إن
ارتباط هذه اآلهلة بالقمر هو ضارب يف القدم ,ويف نص الكوين جعلها سليلة القمر.
حيث ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " )
متقلص ة ,عرب حالة (التماثل والتش ابه) ,إذ ارتبط ارتباطا وثيقا ب القمر ,بل هي س ليلته ,حيث
املنجمني الق ادمني من بالد اهلند البعي دة أنه ق رأ ذلك يف
ج اء يف نص الرواي ة " :وق ال أحد ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص .52 1
21
ص فحة وجهها اجلميل الس احر املرتبط بأمجل ك وكب هو القم ر ,برب اط خفي ال تعلمه إال
دب ويس طع ف وق النج وم ,وتنبأ هلا ب أ ّن املي اه س وف تت دفق وتغمر ال دنيا طاملا بقي وجهها ي ّ
سطح األرض .ولكن املياه سوف ختتفي باختفائها من الوجود " (.)1
وحني ارتبطت " ت انس " ب القمر ,فإهنا تك ون دون من ازع إهلة اخلصب واجلم ال ,ملا
للقمر من داللة أس طورية مرتبط هبذين املعن يني .وبالت ايل تك ون " ت انس " ,آهلة دون من ازع,
فهي ( ظ ّل اهلل يف األرض ) – على ح ّد تعبري الك وين – وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر
األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس ") متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) ,ألهنا
آهلة كإالنة أساطري اخلصب القدمية.
املنجم قائال أن النجوم أخربته أ ّن الصحراء قدر
فقد جاء يف نص الرواية " :وأضاف ّ
اإلنس ان يف الوج ود ،ومقاومته هي حت ّدي إلرادة اهلل ,ألهنا ظلّه على األرض ,وال يس مح
بتح ّدي إرادته إال ملن اصطفاه واختاره ونفخ فيه من روحه من دون الكائنات األخرى " (.)2
هذا ,وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ممت ّدة ,عرب
حالة (التش وهات واالختالف ات)؛ حيث ع وض أن تك ون ل " ت انس " حبيبا تعش قه ,وحتميه
وتبكيه إن هو تأذى (كما كانت عشتار تعشق متوز ) فإن حبيب " تانس " هو أخوها ,الذي
ق ّدمت له كل احلب والرعاي ة ,حيث ج اء يف نص الرواي ة ..." :مل أعد أق وى على املش ي.
الب ّد أن نس ّد رمقنا بش يء .ليس أمامنا إال أن ن ذبح أخوتن ا ! وافقتها ت اال ,ورفضت ت انس.
قالت- :أموت جوعا وال أذبح أطالنطس .وعندما هجم الليل قبلته يف رأسه ,واحتضنته بني
ذراعيها وحاولت أن تنام عندما مسعت حشرجة مكتومة ...أسرعت تانس تلتصق ب أطالنطس
وحتيطه جبس دها كأهنا حتميه من الس كني ال رهيب ال ذي يلمع حتت ض وء القم ر ...لن أذبح
أخي – .وكيف س رتدين لنا القطع تني؟ -س وف ت رين .تن اولت الس كني وقطعت قطعة حلم
هلن ...وخاطبته تانس من فوق من فخذها اليمني وقطعة أخرى من فخذها اليسار وقد متهما ّ
النخلة الفارغة - :لن تتزوج تانس حىت يكون ألخيها أطالنطس مجال أبيض ضامرا ...وسيفا
22
من ذهب – لك ما أردت ... ! لن تتزوج تانس حىت يكون حلبيبها أطالنطس سرجا مطرزا
خبي وط ال ذهب والفض ة -.لك ما أردت – .لن ت تزوج ت انس حىت تضع حتت تص رف
أطالنطس مائة من العبيد وعشرة من األتباع -.لك ما أردت – .لن تتزوج تانس حىت تضع
حتت تص رف أطالنطس قافلة من الن وق واجلم ال والرع اة – .لك ما أردت – .لن ت تزوج
ت انس حىت تتأكد أن أطالنطس س يظل جبوارها ولن يفارقها أب دا ...لك ما أردت ..عن دها
ن زلت ت انس من ف وق النخلة مع أطالنطس وقبلت أن ت تزوج األمري ال ذي ق رر أن يس توطن
تلك الواحة ..وعاشت ت انس مع زوجها س عيدة يرافقها حبيبها أطالنطس يف رحالت
() 1
الصيد"..
ه ذا ,ويف موضع آخر ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري (إهلة اخلصب واجلم ال
"ت انس") ,متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه )؛ من خالل تيمة ( الن واح ) ,الذي كث ريا ما
جنده يف أس اطري اخلصب القدمية .وأمهها مناحة ( عش تار ) على حبيبها ( متوز ) ,حيث أنه يف
" اجملتمع ات الرعوي ة ,حيث تف رض الث ريان س يطرهتا على القطي ع ,واألكب اش على األغن ام,
مساوي ذكر يرمز له بالثور أو الكبش .وساد االعتقاد بني عباده بأنه مستنزل
ّ راجت عبادة إله
املط ر ..وك ان اإلله متوز ش بّه ب الثور أو اجلم ل ,كمع ادل للخصب واخلريات .ويتّضح ه ذا يف
مناحة عش تار علي ه ,يف قوهلا " :إلي ك ,يا ث وري ال ربي ال ذي يف القف ر ,ويا محلي ال ذي يف
() 2
أتوجه بصاليت "".
القفرّ ,
والش يء نفسه عن دما ت اه أطالنتس أخ " ت انس " يف الص حراء ,ووجدته ميّتا من
نص الرواي ة " :وك ان أطالنتس قد أولع بالص يد حىت مل يعد يس تطيع العطش ,حيث ج اء يف ّ
أن يبقى يوما واحدا يف الواحة وميكن هناك أمّي ا وأسابيع متت ّد حىت أشهر أحيانا ..ويف إحدى
ال ّرحالت غ اب أطالنتس ما يزيد على ش هر ..ان زعجت ت انس وانطلقت بنفس ها يف م وكب
الص حاري طوال وعرضا حىت وجدته حتت سدرة ضخمة ميّتا من العبيد واألتباع يبحثون يف ّ
-إبراهيم الكوين ،رواية البئر ،ص . 51-47 :
1
-علي الشوك ,اهتمامات ميثولوجية واستطرادات لغوية -دراسات ,القسم الرابع ,الكرمل ,العدد /32
2
,1989ص .14عن ( :س,ه .ديانة بابل وآشور ,ص ,61ترمجة :هناد خياط ).
23
من العطش بعد أن ت اه يف حميط الرم ال العظيم ..ح زنت ت انس وبكته أيّاما وأس ابيع ,وعن دما
دفنته ركعت ف وق ق ربه على ركبتيها وفاضت آالمها وق الت يف بكائيتها الش هرية " أحببتك
هن
كما مل حتبك أمك اليت ول دتك ,أطعمت ت اال أو أم اريس من حلمي حىت ال ينهش ّ
حلم ك ! ..احتض نتك بني ذراعي عن دما كنت أش رف على املوت جوعا دون أن خيطر أن
تزوجت األمري بعد أن ن ّفذ شروط حصولك متس بأذى كما فعلت تاال وأماريس بأخويهنّ .. ّ
على ما ش ئت من أدوات الفرس ان والنبالء .وم ّزقت زوجته إىل نص فني ألهنا أرادت أن تن ّفذ
فيك حكم املوت .وقطعت رأس األمري ألنه ألق اك لل ذئاب وأراد أن يفتك ب ك .فعلت كل
ولكن الصحراء غلبتين,
ميس ك بسوءّ , سولت له نفسه أن ّشيء من أجلك ,وعاقبت كل من ّ
وانتزعتك ميّن .فتبّا لك أيّتها الص حراء الك ربى ..ما أقس اك ! ولكن أقسم أنين س وف أنتقم
لك من الصحراء أيضا .فاهنأ يف نومك األبدي ,ألنه لن يهدأ يل بال حىت تغمر املياه رفاتك
() 1
يف القرب ..وقتها تستطيع أن تقول أ ّن تانس قد وفّت بوعدها "" .
ك ذلك ,ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ,ممت دة
عرب حالة ( التغريات والتشوهات )؛ حيث كان ( متوز ) هو مستنزل املطر ,ورمز للخصب,
الص حراء ,حيث ج اء يف نص الرواي ة " :وجدته حتت س درة ف إن (أطالنتس) م ات عطشا يف ّ
() 2
توع دت ( تانس )( إهلةضخمة ميّتا من العطش بعد أن تاه يف حميط الرمال العظيم " .وقد ّ
األولون أن تانس عادت اخلصب الغاضبة ) أن تنتقم ألخيها وتروي الصحراء رفاته " :ويقول ّ
املنجمني والع ّرافني
إىل الواحة يف ذلك الي وم واجتمعت بتج ار القوافل وأرس لت يف طلب ّ
وخ رباء الفلك وق ّراء الغيب وذوي العلم من كل أحناء األرض ,من س واحل الش مال البعيد
مشاال ومن وراء هنر ال نيجر جنوب ا ,ومن متبكتو غربا حىت وادي النيل ش رقا وقد وع دت أن
جتزل هلم العط اء ,ومحلتهم بأكي اس ال ذهب واألحج ار الكرمية وقطع ان املواشي ج زاء من
() 3
يستطيع أن يدبر هلا أمر قهر الصحراء بتفجري منابع املاء وفاء بوعدها حلبيبها أطالنتس ".
24
هذا ,ويأيت العقاب بالطوفان س نّة اآلهلة منذ القدمي ,حيث كان الطوفان ميحو كل ما
هو ش ّر وظلم وطغي ان ويس تبد له خبلق جديد وأرض جدي دة ,خص بة ومزه رة تك ون مبثابة
الفردوس األرضي.
وهنا تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) متقلصة عرب
حالة ( التماثل والتش ابه ) من خالل تيمة ( الطوف ان ) حيث ت أمر اآلهلة ( ت انس ) ب أن يغمر
نص
الطوفان األرض قهرا للشر والظلم الذي عانت منه هي وأخيها أطالنتس ,حيث جاء يف ّ
() 1
الصحراء بتفجري منابع املاء وفاء بوعدها حلبيبها أطالنتس"
الرواية.." :أن يدبّر هلا أمر قهر ّ
والطوف ان منذ الق دمي هو " الطه ارة املائية للك ون " .فهو يف أس اطري اخلصب القدمية "
رد فعل غاضب من األزيل ال ذي ال يرضى لعب اده الكفر والفوض ى .وي رمي ه ذا الغسل مبثابة ّ
الك وين لتطهري الك ون ,وإع ادة بن اءه بعد ال ّدنس ال ذي حلقه من ج ّراء ق وى الشر املتج اوزة
حلرمات ه ..فك ان الطوف ان املائي لتطهري األرض من خبثها وإع ادة الطّهر ألهلها ذوي األص ول
يتم التاريخ مسريته الطّهرية".
العلوية ,فالعود األبدي حلاالت النقاوة األوىل ضرورة إهلية حىت ّ
() 2
تطهر الص حراء بتفجريهك ذا هي إهلة اخلصب "ت انس" .جعلها الك وين تعد ب أن ّ
الينابيع ,وق ّدمت النفيس يف سبيل ذلك " وقد وعدت أن جتزل هلم العطاء ,ومحلتهم بأكياس
ال ذهب واألحج ار الكرمية وقطع ان املواشي ج زاء من يس تطيع أن ي دبر هلا أمر قهر الص حراء
بتفجري من ابع املاء وف اءً بوع دها حلبيبها أطالنتس " ( )3وه ذه الطه ارة بغية خلق جديد جلنة
أرضية.
ك ذلك ,ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ,ممت دة
عرب حالة ( التشوهات والتغريات ) من خالل تيمة ( الطوفان ) حيث مل يكن الطوفان حدثا
-عز الدين عناية ,التوراة اآلن ,االستهواء العريب والفكر األسطوري )45 ( ,كتابات معاصرة ,جملة اإلبداع
2
25
دخل ق وى مس اعدة تتمثل يف الرسل واخلرباء ناجتا عن ق ّوة ربّانية وإمّن ا الطوف ان هنا ك ان بت ّ
خاص ة .حيث واملنجمني وق ّراء الغيب وذوي العلم من أص قاع ال دنيا .ألجل املال وال ذهب ّ
نص الرواي ة " :وقد جاءها الرسل واخلرباء واملنجم ون وق راّء الغيب وذوي ال ذهب ج اء يف ّ
فجمعتهم وق الت هلم " :ق ررت أن أغ زو الص حراء الك ربى باملاء .وأري دكم أن ت دلّوين,
بعلمكم وخربتكم على املكان الذي يصلح ألن يكون نبعا يروي عطش حميط الرمال الرهيبة.
وجعل منه جنة خض راء " .وع دوها خ ريا ,وطلب وا مهلة للتش اور واستش ارة الغيب والنج وم
حمملني خبرائط األرض ورسوم الفلك والكواكب والكواكب واألفالك ,مث جاؤوها بعد زمنّ ,
األخرى وأمجعوا أن يتم احلفر يف نقطة هي قلب العامل ومركز الكون كما حدثتهم الكواكب
العراف ون وق راء الغيب وأهل والنج وم ..انطلقت ت انس على الف ور إىل املك ان ال ذي ح دد ّ
اخلربة وذوي العلم ليكون مصدرا للنبع الذي سيغمر الصحراء اهلائلة باملاء واحلياة ,وأمرت
رعاياها ب احلفر ليال هنارا بال توق ف .انبثقت املي اه بعد ع ام من احلفر املس تمر ,وت دفّقت عرب
الرم ال القاحل ة ,وتغ زو البي داء األبدي ة ,فتك ونت الس هول اجلرداء وتغمر ّ
الص حراء ,تكتسح ّ
األهنار ,وانتش رت البح ريات ,ومنت غاب ات الك روم والزيت ون والعنب وكل أن واع الفواك ه,
الس هول املكسوة باخلضرة مثل ونبتت كل املزروعات واألعشاب االستوائية اخلضراء وبدت ّ
الص حراءبسط من السجاد العجمي األخضر ,فارتوى رفات أطالنتس ,وارتوت معه أعماق ّ
() 1
الكربى العطشى منذ قرون وقرون وقرون" .
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ,متقلّصة
عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) من خالل تيمة ( الطوف ان ) حيث ح دثت الطّه ارة املائية
للك ون؛ " فاملاء إىل ج انب ما حيمله من ق وة ت دمري هائلة حبمل مس حة تطه ري ..ويبقى املاء
() 2
ببعده الرمزي العميق ..غسل للبشرية من أدران اخلطيئة األزلية اليت تطبعها ".
ويف موضع آخر ,تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إله اخلصب واجلمال " تانس " )
ممت دة عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات ) من خالل تيمة ( الطوف ان ) حيث ك ان الطوف ان
-عز الدين عناية ,التوراة اآلن ,االستهواء العريب والفكر األسطوري ,ص.123 : 2
26
اإلهلي يف األساطري القدمية يف سبعة أيام ,بينما طوفان الكوين فكانت م ّدته أطول .ففي طوفان
كل جسد فيه روح نوح التورايت جاء مبا يلي " :فها أنا آت لطوفان ماء على األرض ألهلك ّ
حي اة من حتت الس ماء .ك ّل ما يف األرض ميوت .ولكن أقيم عه دي مع ك ,فت دخل الفلك
حي من ك ّل ذي جس د ,اث نني من ك ّل أنت وبن وك وامرأتك ونس اء بنيك مع ك .ومن ك ّل ّ
ت دخل إىل الفلك الس تبقائها مع ك .تك ون ذك را وأن ثى ..الس تبقاء نسل على وجه كل
األرض .ألين بعد سبعة أيام أيضا أمطر على األرض أربعني يوما وأربعني ليلة .وأحمو عن وجه
الس بعة األيّام أ ّن مياه الطّوفان صارت على األرض..
كل قائم عملته ..وحدث بعد ّ األرض ّ
كل ينابيع الغمر العظيم ,وانفتحت طاقات السماء .وكان املطر على األرض أربعني انفجرت ّ
يوما وأربعني ليلة ..وتعاظمت املياه كثريا ج ّدا على األرض ,فتغطّت .مجيع اجلبال الشاخمات
كل
كل مساء .مخس عشرة ذراعا يف االرتفاع تعاظمت املياه فتغطّت اجلبال .فمات ّ اليت حتت ّ
دب على األرض من الطّي ور والبه ائم والوح وش ..ومجيع الن اس ..وتب ّقى ن وح ذي جسد ي ّ
والذين معه يف الفلك فقط .وتعاظمت املياه على األرض مئة ومخسني يوما .مث ذكر اهلل نوحا
وكل البهائم اليت معه يف الفلك .وأجاز اهلل رحيا على األرض فهدأت املطر من
وكل الوحوش ّ ّ
الس ماء ,ف امتنع املطر من الس ماء .وانس ّدت ين ابيع الغمر وطاق ات الس ماء ,ف امتنع املطر من
الس ماء .ورجعت املي اه عن األرض رجوعا متوالي ا .وبعد مئة ومخسني يوم ا .نقصت املي اه..
واستقر الفلك يف الشهر السابع ,يف اليوم السابع عشر من الشهر نقصت املياه ..وكانت املياه
تنقص نقصا متواليا إىل الش هر العاش ر ,ظه رت رؤوس اجلب ال ..وك ان يف الس نة الواح دة
األول يف ّأول الشهر ,أن املياه نشفت على األرض ..وكلّم اهلل نوحات مئة ,يف الشهر ّ والس ّ
ّ
ق ائال " :أخ رج من الفلك أنت وامرأتك وبن وك ونس اء بنيك مع ك ..ولتتوالد يف األرض
وتثمر وتك ثره على األرض ..أقيم ميث اقي معكم فال ينق رض ك ّل ذي جسد أيضا مبي اه
() 1
خيرب األرض "الطّوفان ,وال يكون أيضا طوفان ّ
هذا ,وجاء عن الطوفان يف ملحمة جلجامش ,ما هو شبيه بطوفان نوح ,حيث جاء:
"عندما ّقرر األرباب يف قلوهبم إرسال الطوفان :ه ّدم دارك ,إبن سفينة ،أترك ممتلكاتك ,فتّش
-العهد القدمي ,التكوين ,اإلصحاحات 06 :و 07و 08و.09 1
27
كل عائليت
عن احلياة ..ويف اليوم السابع اكتملت السفينة مألهتا بكل شيء أمتلّكه ..وجعلت ّ
الرب مشش وقتا حم ّددا عندما متطر عند الفجر محّصاوأقاريب يصعدون إىل السفينة ..وجعل يل ّ
يء منري إىل ظالم وحطّم األرض كما يتحطّم وحتول كل ش وعند الغسق حنطة املوتّ .
الوع اء .وهبّت ال ريح اجلنوبية لي وم واحد وهبّت بس رعة .حىت األرب اب خ افوا من الطوف ان
فكيف أنطق باحلرب لتدمري أميت .وحبلول اليوم السابع انسحبت عاصفة الطوفان .هدأ البحر
وخفتت س رعة ال ّريح .وت وقّفت عاص فة الطوف ان .ووقفت الس فينة على جبل نصري (ملحمة
() 1
جلجامش اللوح " )11
وحني نطّلع على ( أس طورة الطوف ان ) ال ذي خيصب األرض بعد أن يغربله ا؛ حيث
يكون يف البدء سببا يف هالك األرض وهالك البشر املفسدين واحليوانات ,ويف النهاية ,يكون
س ببا يف إخص اب األرض وتك اثر قلّة من أخي ار البشر وقلّة من احليوان ات .ليب دأ عهد جديد
على األرض يسود فيه اخلري والطمأنينة والسالم.
وبالت ايل ,يك ون قد حلق بالعنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) من
خالل تيمة " الطوف ان " مجلة من املطاوع ات ,تك ون فاصال بني الث ابت واملتح ّول يف النص,
لتفتح لنا يف النهاية هامشا قرائيا واسعا.
فطوف ان الك وين مل يقتل البشر ومل يقتل احليوان ات ومل تض طر إهلة اخلصب " ت انس "
إىل ص نع الفلك واهلروب وأهلها وحيواناهتا بواس طته .إمنا طوف ان الك وين ي أيت على قس وة
الص حراء فيكسر ش وكتها ,وي أيت على الي ابس فيص ّريه أخض را ,وي أيت على جف اف الرمل ّ
فريويه ,ويصل إىل رفاة أخيها -أطالنتس -فريويه بعد موته عطشا.
الص حراء الكربى
ويكون بالتايل طوفان الكوين سببا يف خلق جنّة أرضية على أرض ّ
نص الرواي ة " :انبثقت
املدمرة .حيث ج اء يف ّالعطش اليت أخص بتها مياهه الغزيرة املنتجة ال ّ
الس هول اجلرداء .وتغمر
املي اه بعد ع ام من احلفر املس تمر ,وت دفّقت عرب الص حراء ,تكتسح ّ
الرم ال القاحل ة ,وتغ زو البي داء األبدي ة .فتك ّونت األهنار ,وانتش رت البح ريات .ومتّت غاب ات
ّ
والزيت ون والعنب وكل أن واع الفواك ه ,ونبتت املزروع ات واألعش اب االس توائية الك روم ّ
-عز الدين عناية ,التوراة اآلن ,ص ,124 :عن ( ملحمة جلجامش :اللوح ) 11 1
28
الس جاد العجمي ,األخضر ,فارتوى السهول املكسوة باخلضرة مثل بسط من ّ اخلضراء وبدت ّ
الص حراء الك ربى العطشى منذ ق رون وق رون رف ات أطالنتس ,وارت وت معه أعم اق ّ
() 1
وقرون"..
وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) من خالل تيمة
(الطوف ان) ,متقلصة عرب حالة ( التش ابه والتماثل )؛ حيث ّأدى طوف ان الك ون إىل خلق
وتش ييد جنّة اهلل على األرض ,ه ذا الف ردوس األرضي ال ذي ينش ده ك ّل إنس ان على وجه
األرض .فقد ح ّقق طوفان حمبوبة أهل الصحراء " -تانس " – جنّة أرضية فعلية ,حيث جاء
نص الرواي ة " :ولكن ت انس اجلبّ ارة مل تكتف بتفجري النبع ال ذي خيرتق اآلن الص حراء يف ّ
باألهنار واملس تنقعات ويغمرها ب البحريات واألدغ ال .فبعد أن أطلقت على املنبع اسم
والس دود ,وتصل الواحات بالنبع يف مدينة قررت أن تشيّد املدن وتبين اجلسور ّ ( أطالنتس ) ّ
الرقيق وال ّذهب
التج ار ,وتب ادل ّ
واح دة هائل ة .واس تطاعت أن جتعلها مرك زا ملض اربات ّ
واألحج ار الكرمية والتوابل والص ناعات واجلل ود .وقد ازده رت املدينة وش يّدت القص ور
وال بيوت ذات املعم ار الب ديع ,وأص بح يرتادها العلم اء واخلرباء واملنجم ون من كل أحناء
األرض ..وامت ّدت املدينة من نبع " أطالنتس " حىت الواحة متواصلة على مسافة شهر ونصف
الص غري الذي غررت به الصحراء .وقد طبقت وأطلقت عليها اسم " أطالنتيدا " تيمنا حببيبها ّ
شهرة " أطالنتيدا " اآلفاق ,وجاء الناس من وراء البحار واألهنار واحمليطات بعد أن أصبحت
منارة للعلم واحلضارة وقبلة لكل من ينشد العلم ويتوق للمعرفة ,وأصبح يقال بأن أطالنتيدا
هي جنّة اهلل على األرض ,ومن مل يزرها فإنّه مل يعش يف ه ذه ال دنيا ,فتق اطر عليها الن اس من
كل حدب وصوب حىّت كربت واتّسعت وامت ّدت حدودها حىت احمليط غربا وما وراء النيجر ّ
الرج ال ال ذين لزم وا
جنوبا والبحر مشاال وهنر النيل ش رقا .وقد جعلت للنس اء س لطة على ّ
ال بيوت فتلثّم وا خجال ,يف حني ق اتلت النّس اء وج اءت باألس رى .أخض عت امللكة ت انس
جبيش ها الق وي اجلب ار األمص ار واألقط ار ,الش عوب والقبائ ل ,البعي دة والقريبة وت ربّعت على
29
ع رش اإلمرباطوري ة .)1( " .باإلض افة إىل ما س بق ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة
اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ممت دة ,عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات )؛ من خالل تيمة "
الطوفان "؛ حيث مل يقتل طوفان الكوين األرض والزرع واجلبال .ولكن موت اإلهلة " تانس
" ,فعل فِعل الطوف ان يف األرض – طوف ان القصص القدمية – حيث مبوهتا ُد ّم رت جنّة
الصحراء ,واختفت ,ومات األهايل ومات الزرع ,وماتت اخلضرة ,وج ّفت الينابيع واألهنار,
الرم ال طوف ان املاء ,وزحفت الص حراء القاحلة على الص حراء اليانع ة ,وح ّل فقهر طوف ان ّ
احلزن واملوت وال ّدمار .وحدث اخلسوف.
نص الرواي ة " :وعن دما م اتت ح دثت حركة غريبة يف نظ ام النج وم, حيث ج اء يف ّ
مرة كما ألول ّ
يسمى " باخلسوف " ّ وقادت الكواكب األخرى محلة ض ّد القمر ,فحدث ما ّ
احململة بالغب ار
املنجم ون من أهل اخلربة والعلم ,فهبّت األعاصري العاتية والعواصف ّ يؤ ّكد ّ
كنتيجة لص راع الك واكب بعد أربعني يوما بالض بط من وف اة س ليلة القمر ت انس العظيم ة,
والري اح أربعني يوما بال انقط اع .حىت غم رت اإلمرباطورية كثب ان من تمرت العواصف ّ واس ّ
الرم ال ,وأغ رقت الغاب ات واألهنار واملدن مبوج ات هائلة من األتربة املتص اعدة ليل هنار, ّ
السكان طلب للنجاة ودمرت املعمار فهرب ّ وأبادت املواشي وقطعان اإلبل واحليوانات الربيّةّ ,
الرمال .جلأوا إىل املدن البعيدة اجملهولة وراء البحار واحمليطات .وعادت الصحراء من طوفان ّ
تزحف على الص حراء ,قاس ية ,متجرّب ة ,متس لّطة ,تس يطر على ال دنيا كما يف س ابق عه دها
وظل
واندثرت " أطالنتيدا " منارة العلم واحلضارة اخلرافية ,اليت ملعت فجأة وانطفأت فجأةّ .
للرعاة وعابروا السبيل ما تنزح مياهه فيهاجرون إىل الواحات املتناثرة هنا وهناك, البئر ملجأ ّ
تطفو املي اه فيع ودون إلي ه ,ويقيم ون حوله دون أن جيدوا تفس ريا لظ اهرة اختف اء املي اه اليت
حتدث ,حسب ما تناقلته األجي ال ,كل ثالمثائ ة ع ام .ويؤ ّكد البعض يف قصص هم أن الختفاء
املرات اليت حيدث فيها خسوف القمر يف الع ام الواحد .أما املي اه يف البئر عالقة مباشرة بعدد ّ
() 2
قارة "أطالنتيدا" العتيدة فقد اختفت بعيدة يف جوف األرض ,بعد طوفان الرمل الرهيب".
30
اإلشعاع:
- 1صحراء الكون – موطنه – جنّة أرضية أو فردوس أرضي ,فيه من املاء واخلضرة
والثورات ما جيعله مركز األرض.
الص حراء تعين أهنا بداية التك وين؛ فقد ك انت جنّة اهلل على األرض,
- 2مركزية ّ
الرمال ,لكنّها يف واقع األمر األصل واملركز.
فقط ,زحفت عليها ّ
- 3االهتمام بالصحراء يعيدها موطنا خصبا ,بل مركز حضاري.
ينجر على
" - 4بئر أطالنتس " ,أخصب الصحراء وجعلها جنّة على األرض ,هذا ّ
حق استغالل.
آبار ومناجم الصحراء ,إن هي استغلّت ّ
- 5جف اف " ب ئر أطالنتس " ,أخ رج األه ايل من واحتهم كخ روج الس مك من
يؤدي إىل نزوح األهايل من
البحر .ونفاذ اآلبار واملناجم باستيالء األجانب عليهاّ ,
واحلري ة ,إىل حي اة الف أس
حوهلا .واالنتق ال اجلربي من حي اة البندقية والص يد ّ
والزراعة والعبودية.
-مطاوعة العنصر األسطوري ( تانس ) إلهة الخصب والجمال :في رواية " البئر "
تتب ّدل ح االت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) .من
حالة (التماثل والتشابه) إىل ( التشهوات والتغريات ) وصوال إىل حالة ثالثة مغايرة متاما يلعب
فيها خيال املؤلف ومقدرته يف تغليف العنصر األسطوري هبالة من الغموض تنسجم وغموض
الشخصية األسطورية هي نفسها بل العنصر األسطوري الذي يرتبط بالنّص ,حيث ال تصبح ّ
ممكن أن تك ون شخص ية مناقضة متاما هلاّ ,أوال تربطها هبا أي عالقة وحيدث ه ذا ك ذلك مع
األح داث املرتبطة هبذا العنصر األس طوري وتقع الفوضى املنظمة من قبل املؤلف وي دخل
ك األلغ از وحماولة ربط الشخص يات واألح داث األس طورية وإس قاطها على الق ارئ متاهة ف ّ
النص ويف كل هذا وذاك حتدث املتعة أو لذة النص اليت تراود القارئ طيلة فرتة توهانه داخل
اللعبة املسلية.
31
وت أيت ب دءا بيد مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ,من
خالل حالة ( التماثل والتش ابه ) حيث عمد الك وين إىل إب راز أهم أوجه التش ابه والتماثل بني
البطلة األس طورية ( ت انس ) وبطلة روايته ( باتا ) .من زوايا خمتلفة منها ( األمساء ,واملواقف
واألحداث ,واحلاالت ) حيث ,تشاهبت صفاهتما ,وجزئيات أخرى.
فقد نافست ( باتا ) مجال إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " وه ذا ورد يف العديد من
املواضع يف الرواية ,حيث جاء " :وقف آيس يف مدخل بيت باتا وقال وهو يتأمل مجال هذه
املرأة الساحرة ... ,حبلقت فيه بعينيها اخلضراوتني اللتني تبدوان كأهنما تنظران يف الفراغ...
أنت مجيلة مثل ت انس مجالك ين افس القمر ووجهك يض يء الص حراء يف اللي ل ! ع ادت باتا
تقهقه نفس قهقهة اإلغراء والرنني اجلذاب قبل أن تقول- :آه ,تعرف تانس ابنة القمر وملكة
الص حراء أيض ا .وأين تع رف ت انس؟ -أيب ح ّدثين عنها يف حكاية الب ئر ...ولكن آيس ع اد
أتزوجك أنت ... ! ولكن باتا لن يقول يف إصرار مدهش- :ولكيّن ال أريد الفتيات .أريد أن ّ
والفض ة,
ّ مطرزا خبيوط الذهب تتزوج حىت يكرب آيس ويصري رجال يركب مجال ضامرا أبيض ّ ّ
يتمنطق بس يف من ذهب ,وميلك مائة عبد وعش رة أتب اع ,حتت تص ّرفه قافلة من الن وق
والرع اة ...هتف آيس وقد غم رت وجهه تع ابري الف رح :آ ...ه ذه ت انس .ه ذا ما واجلم ال ّ
تقوله لألمري عندما جاء خيطبها وهي فوق النخلة.
-طبعا هذا مقطع من تانس.
-إذن .لك ما أردت!
قاهلا آيس مقلّدا صوت جده وهو يسرد احلكاية ,فضحكت باتا وقالت بلهجة غريبة:
() 1
أنت طفل ذكي حقا ...سوف أفكر جديا يف انتظارك حىت تكرب ! أعدك بذلك "
ه ذا ,وج اء يف موضع آخ ر ,أهنا بنفس مجال " ت انس " ,حيث ج اء " :بات ا ,ام رأة
() 2
ساحرة ,خارقة اجلمال ,أمجل امرأة يف الصحراء الكربى .كلها "
32
وج اء يف موضع آخر عن مجاهلا الس احر " ,ت ربت باتا على ي دي ام رأة زجنية حىت
() 1
شبت ونضجت وطبق مجاهلا آفاق الصحراء "
وج اء عن مجاهلا الس احر ك ذلك " ,بلغت السادسة والثالثني ,ولكن مجاهلا ازداد
( )2
طغيانا وسحرا ونضارة "
وج اء ك ذلك " :مثل باتا ال ذي ين افس مجاهلا الب در! " ( )3ك ذلك عن مجاهلا..." :
واآلن يوف ميتلك كل ه ذه النس اء جمتمع ة .س وف ميتلك أمجل ام رأة يف ال دنيا :بات ا ! س تلفه
() 4
بذراعيها وحتتضنه بشعرها الفاخم الكثيف وتغمره بالقبل على خ ّده وأنفه "
باإلض افة على مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ,عرب
حالة (التماثل والتش ابه) ,ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري عرب حالة أخ رى وهي حالة
( التش وهات والتغ ريات ) حيث ع وض أن تك ون باتا بطل الرواي ة ,هي الض حية كما ح دث
وهتن ,واق رتحت ت انس على القص ة األس طورية ,حيث ض اعت هي رفيقاهتا وإخ ّ لت انس يف ّ
للم الشمل بالعودة إىل ال ّديار ,ولكن األقدار شاءت أن رفيقاهتا البحث عن األهل واألقارب ّ
يرحل األهل بعد أن يئس وا من ع ودهتم مجيع ا ,فه ّدد اجلوع الفتي ات واإلخ وة ,وجنت ت انس
() 5
أخريا ,بأخيها من هالك القتل .لس ّد رمق جوع صديقاهتا.
بالض حية وال ؟ مجع مشل األس رة وإمنا ك انت هي أما بطلتنا ( باتا ) فلم تكن ّ
الرواية " :ماتت مرتكبة اجلرم واخلطيئة رغم صغر سنّها ( 03سنوات ) ,حيث جاء يف نص ّ
أمها وهي تع اين آالم الوضع أثن اء ميالده ا .أما أبوها فقد قتلته باتا وهي طفلة مل تتج اوز
الص دفة ,ولكن الزجنية اليت ورثتها باتا الثالثة بطلقة من البندقية .ويقال أ ّن ذلك حدث مبحض ّ
عن أبيها تؤ ّكد أهنا رأهتا ب أم عينها وهي تتن اول البندقيّة خلسة وتس ّدد فوهتها إىل رأس أبيها
33
الذي كان نائما يف قيلولة أحد أيّام الصيف القائظة وتطلق عليه النار ,وعندما هرعت الزجنية
الص غريتني بال دم املنبثق من
إىل الرجل ك انت باتا تف رق يف ض حكة هس تريية وتعبث بي ديها ّ
رأس األب املس كني ال ذي ف ارق احلي اة على الف ور ...ومضى اخلبث اء يف اس تنطاق املس كينة
س ائلني " :هل ك انت تغسل ي ديها يف دمه وهي تقهقه أم أ ّن ال دماء املنبثقة لطّختها مبحض
الصدفة " فأجابت الزجنية بإصرار " :لقد كانت تغسل يديها يف الدماء وهي تدري ماذا تفعل ّ
() 1
يف حني تنطلق ضحكتها الشيطانية الغريبة حىت تستلقي على قفاها "
كذلك ,جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ,ممتدة
تزوج هبا
عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات ) ,حيث ع وض أن يعش قها األمري فىت أحالمها وي ّ
القصة األسطورية ,عشقها كل شبّان القبيلة ,دون أن جيرأ أحد على خطبتها ,لسريهتا كما يف ّ
غري املش ّرفة ,حيث ج اء يف نص الرواي ة " :عش قها كل الش بّان دون أن يتق دم خلطبتها أح د.
رتددون يف رمبا ألهنم خيش ون مجاهلا الف اتن ,ورمبا ألن س ريهتا الس ابقة أرعبتهم وجعلتهم ي ّ
االق رتان ب " ابنة الش يطان " اليت كتمت أنف اس أمها وهي هتبها احلي اة وتق ّدمها للوج ود,
() 2
وأقدمت على اغتيال أبيها بيديها عن عمد وسبق ترصد وهي يف الثالثة من عمرها "
ه ذا ,وت أيت مطاوعة ممت دة عرب حالة ( التش وهات والتغ ريات ) يف موضع آخ ر ,حيث
تزوجت تانس أول من تق ّدم خلطبتها ( أي األمري ) بينما جعلت سرية باتا منها املرأة اللعوبّ
كل الشبّان وحني مت ّكنت من الزواج ,أحلقت بزوجها العار يف ليلة زفافها ,حيث اليت أغوت ّ
الرواية " :ويقال أن الزجنية ضبطت فوقها أحد أبناء اجلريان وهي يف التاسعة من جاء يف نص ّ
عمره ا ...ويق ال يف القبيلة أن من ض من ال ذين عش قوها ك ان الش يخ غوما بنفسه أيّ ام ك ان
مغرما مبعاش رة النس اء من القبيل ة ...وقد ت زوجت باتا بعد هج رة غوما إىل الواح ات بش هور
فقط .تزوجها شاب نبيل من قبائل آير ...ولكن املفاجأة كانت ليلة الزفاف ,أثناء الدخلة,
الص حراء ,الع ادات املق ّدس ة .إذ مل يتص ّور أحد أن
عن دما حطّمت بات ا ,ألول م رة يف ت اريخ ّ
تق دم الع روس حلظة تس ليمها للع ريس من قبل النس اء ,إىل االرمتاء يف أحض ان الع ريس دون
34
خج ل ,يف حني تقتضي الع ادات العريقة أن تبكي وهترب وختتفي يف اخلالء بني ثنايا الليّ ل...
أجنبت باتا ابنتها زارا يف آير وهي فت اة مجيلة هادئ ة ,حاملة ,يف عينيها ح زن غ ريب وال تش به
أمها يف ش يء .وملا م ات زوجها يف معركة مع قبائل بامب ارا ع ادت باتا إىل القبيلة مع زارا ".
() 1
هكذا ,متتد مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ,عرب حالة
(التشوهات والتغريات) لتكشف أكثر عن شخصية باتا اللعوب ,الفاجرة اليت أوصلها تالعبها
بالرج ال واس تمالتها هلم مبا متلكه من مقي اس اجلم ال واإلغ راء ,أن تن تزع من ابنتها حبيبها
(أخنوخن) على ال رغم من زواجها للم رة الثانية وأهنا يف عص مة رج ل .ي دعى ( آماس تان ).
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :يف الص باح انطلقت باتا ت ردد أن أخنوخن هو أكرب ش اعر عرفه
املعسكر ورمبا الصحراء كلها .قالت جلارهتا حبماس ودهشة تفيض من عينيها " :إنّه ساحر.
إنّه أكثر من شاعر .مل أمسع غناء أشجى من غناءه ,وصوت أصفى من صوته ,وشعرا أل ّذ من
ش عره .وغ زال أرق من غزل ه ,وح ديث أع ذب من حديث ه .إنه س احر .ولن أدعه يفلت مين!
س وف أتزوج ه ! نعم .س أتزوجه ف ورا " ...باتا ق ررت ال زواج من أخنوخن .باتا عش قت
أخنوخن بني ليلة وض حاها .باتا س وف تطلّق آمس تان قبل أن ميضي ش هر على زواجهما "
أحس برعشة يف ي ده ,قم س رد الرع دة إىل هك ذا رددت األلسن يف ط ول املخيّم وعرض هّ ...
أحس ب ربودة ش ديدة مفاجئ ة .ب دأت أطرافه ترتع د ...س ارع ّيوجه الفوهة حنو
كل جس مهّ .
أحس بالس ائل الل زج ينبث ق .وكثل رهيبة منرقبته عند ال ّذقن ...ض غط .مل يس مع ال ّدويّ .
() 2
الظالم تزحف على عيني ه .و ...و ...أص وات النس اء تنشد اللحن الس ماوي الش جي "
هكذا كانت باتا سببا يف انتحار زوجها آمستان ,وتعاسة ابنتها زارا.
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واخلصب " ت انس " ) ممت دة,
عرب حالة ( الغموض وتع دد الرؤية ) ,حيث عمد الكوين إىل إج راء فوضى يف ت رتيب عناصر
الس احرة ,اليت
القص ة األسطورية األولية ,وجعلها تتسم بالغموض حينا .فتصبح املرأة اجلميلة ّ
ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 67و.68 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 185و 190و.191 2
35
تش به اإلهلة ,ام رأة لعوب ا ,مس تهرتة ,تلحق هبا لعنة اآلهلة – ككل البشر – حني تلحق األذى
بغريه ا ,ويف اآلن نفس ه ,تلحق هي اللعنة والعق اب ملن تس ول له نفسه أن يقف يف طريق
سعادهتا وكسر نرجسيتها .كاآلهلة " تانس ".
فقد جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ممتدة عرب
حالة ( الغم وض وتع دد الرؤية ) ,وذلك من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب ) الل ذان حلقا
بالبطلة ( باتا )؛ حيث أوصلتها نرجسيتها بأن تتزوج بالرجل الذي أحبته ابنتها الوحيدة وقرة
عينه ا ,رغم اكتش افها أمر حبّهم ا ,ورغم ح ديث القرية عن دناءهتا ,إال أهنا تزوجت ه ,وف وق
زوجت ابنتها أخيه ال ذي ال حتب ه .فك انت ( اللعنة والعق اب ) حيث ,ج اء يف نص كل ذلك ّ
الرواية عن انتح ار زوجها من ق وة الص دمة ووقع الفض يحة علي ه ,كيف ال ,وزوجته تريد
تطليقه وال زواج برجل آخ ر .ومل ختف ذلك أب دا .حيث ج اء يف نص الرواي ة " " :ف اض به
الش قاء وت راءت له األح داث دفعة واح دة .لقد تزوجته وب دل أن جتلب له الس عادة ض اعفت
شقاءه ,وزادت على عاره عار آخر جديد .اعتقد أن يعزي بقية أيامه بامرأة فاتنة مثلها ولكن
ه اهي ت نزلق بني ليلة وأخ رى ,من بني يديه وتتجه حنو خمدع رجل آخ ر .فيا هلا من فض يحة
أحس برعشة يفأخرى تضاف إىل فضائحه السابقة اليت حاول أن يتجاهلها طوال الوقتّ ...
أحس ب ربودة ش ديدة مفاجئ ة .ب دأت أطرافه ترتع د.ي ده ,مث س رت الرع دة إىل كل جس مهّ .
س ارع يوجه الفوهة حنو رقبته عند ال ذقن .كل أطرافه ترتع د .س حب رجله اليمىن واق رتب
أحس بالس ائل الل زج
بإهبام الق دم حنو الزن اد .احلمى يف أوجه ا .ض غط؛ مل يس مع ال دويّ .
ينبث ق ,وكثل رهيبة يف الظالم تزحف على عينيه و ...و ...أص وات تنشد اللحن الس ماوي
() 1
الشجي "
ه ذا ,وج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ممت دة
من خالل حالة ( الغموض وتع دد الرؤية ) ,عرب تيمة ( اللعنة والعق اب ) ,حيث ك ان عق اب
باتا على زواجها حببيب ابنتها الوحي دة وتزوجيها بأخيه ال ذي ال حتب ه ,أن فق دت؟ ابنتها
بفجيعة ليلة تزوجيه ا ,حيث انتح رت داخل الب ئر .فقد ج اء يف نص الرواي ة " :يف الليل حبث وا
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 189و.191 1
36
عن زارا .ظل وا يبحث ون حىت انبعثت خي وط الفج ر .اق رتح أخنوخن وهو يتجه إىل الب ئر :جيب
نواصل البحث .س نذهب ناحية الب ئر .انتفض أمغ ار - :ناحية الب ئر؟ وما عس اها تفعل ناحية
الب ئر؟ ...ع ثروا على اجلثة طافية ف وق املاء .جتمع وا ح ول الب ئر يف مجه رة كب رية من النس اء
املسجى على األرض .انكفأت فوقه صامتة زمنا .مث ّ والرجال .أقبلت باتا حنو اجلسد املنفوش
شرعت تلثم أطراف زارا الباردة الواحدة تلو األخرى .قبلت حىت قدميها ,مث تسللت شفتيها
وقبلت جبينها ,ومدت أناملها تعبث بشعرها املعقود يف ضفائر العرس الذي ضفرهتا بنفسها
رددت بن ربات واض حة يا خس ارة ,خس ارة ه ذه الض فائر ,خس ارة ه ذا اجلم ال, ب األمسّ .
خسارة هذه القامة ,خسارة .خسارة ,لقد شجعتك على اهلرب ,ولكنك هربت إىل األبد...
() 1
"
هذا ,ومل تلحق ( اللعنة والعقاب ) بباتا لوحدها بل بزوجها أيضا ,الذي هو يف األصل حبيب
زارا ,فقد أصيب باجلنون ملوهتا ,حيث جاء يف نص الرواية " :مل مير وقت طويل حىت حدث
مع أخنوخن ما حدث .أصبح صموتا وامجا سامها ال يرد على أسئلة جليسه إىل بكلمة واحدة
وحي دة " :عجيب "...يتطلّع إىل األفق البعيد كأنه حي ّدق يف الف راغ .هجر الن وم جفني ه,
طرت باتا أن هتجر خمدعه وتلجأ للن وم يف بيت املرحومة ف احرتف الس هر يف الليل حىت اض ّ
زارا ...ولكن مثة آخ رون يؤ ّك دون أهنا " لعنة باتا " .باتا " ابنة الش يطان " اليت قتلت أبيها
األول فقتل يف معرك ة ...وطمع فيها آمس تان بي ديها ,وحنست أمها وحلقت اللعنة زوجها ّ
ف انتحر .وها هي تس تويل على أخنوخن وختطفه من بني ي دي ابنتها الوحي دة فيجازيها اهلل أن
حيول الرجل الف ارس النبي ل ,الش جاع إىل ش بح مس كني ب ائس معق ود اللس ان وال يع رف من ّ
مفردات اللّغة سوى كلمة واحدة هي " :عجيب "...يرددها مبناسبة وبال مناسبة حىت أطلقوا
() 2
عليه اسم " :أخنوخن العجيب " .
لقد توالت اللعنات على باتا الواحدة تلوى األخرى ,ألنانيتها ,ونرجسيتها ,ودناءهتا,
ملا ال وهي بشر تغضب عليه اآلهلة وتعاقبه كما يف القصص األس طورية القدمية .لكن يغرّي
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 205و.206 1
37
الكوين مسار األحداث والتوقعات وجيعل هلا مق ّدرة كاآلهلة ( تانس ) لتلحق بدورها ( اللعنة
والعقاب ) بالبشر الذين يرتبّصون هبا ويلحقون هبا العذاب.
وتوجه إليها
فحني اكتشف الش يخ غوما أن حفي ده مولع هبا ويزوره ا ,حبسه ّ
يجف وس يلحق بقبيلته ال ذل واهلوان, ليطرده ا ,حينه ا ,أوم أت له باتا بكل ثقة أن الب ئر س ّ
وهنا ,جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( إهلة اخلصب واجلمال " تانس " ) ممتدة من خالل
حالة ( الغم وض وتع دد الرؤية ) عرب تيمة ( اللعنة والعق اب ) حيث ت والت اللعن ات على
الشيخ غوما وعشريته منذ أن توجه إليها كي يطردها من القبيلة فتوعدته ,حيث جاء يف نص
حتض ري أمتعت ك .رمقته بنظ رة خاطف ة .ق الت بعد ص مت - :إذن هو الرواي ة – " :جيب أن ّ
وهج... الرحي ل .تريد أن تتخلّص م ين؟ ه ّز برأسه موافقا دون أن يرفع عينيه عن اجلمر املت ّ ّ
عندما ودعته يف مدخل السور اجلريدي قالت:
-جيب أن ت دبر أم رك .املاء يف البئر يش رف على اجلف اف )1( " ! ه ذا ,وت أيت مطاوعة
العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ) ,ممت دة ,عرب حالة (غم وض وتع دد
الرؤي ة) ,من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب )؛ حيث وجد أخنوخن زوج باتا وعشق زارا ,ميتا
الرواية " :وبعد يومني من مغادرهتا عثر األهايل على أخنوخن نص ّ
قرب البئر ,حيث جاء يف ّ
() 2
مسندا ظهره إىل البئر حيدق يف الفراغ وقد غطّى البياض مقلتيه .كان قد مات يف الليل "
إض افة ,إىل ما حلق ب آيس حفيد الش يخ غوم ا ,ال ذي ح اول االنتح ار م رتني بس بب
الرواي ة " :أما آيس فقد ح اول أن يلقي بنفسه يف الب ئر مبج رد نص ّ
رحيل بات ا ,حيث ج اء يف ّ
أن علم باخلرب فاضطر الشيخ غوما أن يقيّد يديه ورجليه ويرتكه هكذا طوال يومني كاملني.
وعن دما أطلق س راحه تس لل يف الليل وش رب زجاجة الكريوسني حماوال االنتح ار .جلست
() 3
العجوز فوق رأسه ليلة كاملة تسقيه املراهم والزيوت الاّل زمة لغسل املعدة "
38
ه ذا ,وبرحيلها ك ذلك ,يرحل معها أمغ ار الص طحاهبا لكنه ال يع ود وينفطر ألجله
الرواي ة " :تط وع أمغ ارقلب أمه اليت فق دت قبله وال ده وأخ اه أخنوخن ,حيث ج اء يف نص ّ
ملرافقة باتا يف رحلتها إىل دي ار أهل املرح وم زوجها األول يف " آير " ...يف حني دفنت أم
أخنوخن ابنها البكر وطفت تنتظر أمغ ار ش هر ,ش هرين ,ثالثة أش هر .يئست وتلحفت بردائها
األس ود وجلأت إىل بيت الش يخ غوم ا ...س احمين يا س يدنا الش يخ غوم ا ...س احمين يا س يدنا
الش يخ ...أنت تع رف ...فق دهتم ...فق دهتم مجيع ا .الواحد تل وى اآلخ ر .فق دت أبيهم...
() 1
وفقدت أخنوخن ,وها هو أمغار خيتفي إىل األبد .إنه لن يعود ...أنا أعرف" ...
وم ّرة أخ رى ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب واجلم ال " ت انس " ),
متقلّصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) حيث أ ّن لباتا عالقة وطي دة ب البئر .واحنص ار املاء به مثّ
جف البئر ولن بعود به املاء إال بعد ثالمثائة عام كما انعدامه هو لعنة من لعناته ,وأن برحيلها ّ
مرت علينا ( . )حيث جاء يف نص الرواية " :بدأ االجتماع يف املساء, يف أسطورة تانس اليت ّ
احلل الوحيد
بعد ص الة املغ رب – .مل يبق لنا غري ذل ك؟ الرحي ل .ال أس تطيع إىل الواحة هو ّ
الرحي ل .ال أس تطيع أن أتص ّور واهلل كيف ميكننا أن نعيش يف
ال ذي يبقى أمامن ا ...إذن هو ّ
املر خيتل ف .ستض طر يا ش يخ خليل أنالص حراء ...ولكن األمر ه ذه ّ الواحة بعد احلي اة يف ّ
هتجرها إىل األبد ش ئت أم أبيت .اللّهم إذا كنت تطمع يف عمر ن وح فتنتظر حىت يع ود املاء
() 2
لالرتفاع بعد ثالمثائة عام" !
قص ة " ت انس "هي لعنة بات ا /ت انس .حيث ق ام الك وين ببع ثرة عناصر وس ياقات ّ
األسطورية .فجعل باتا هي تانس ,جبماهلا األسطوري ,ولعنتها اإلهلية – حينا – وجعلها بشرا
تغ ري وختدع ,وتتجرّب بنرجس يتها ,وتط رد من ط رف ش يخ القبيلة – حينا آخر – وه ذا ما
القص ة األس طورية
جعل الك وين ليس موظفا لألس طورة ,وإمنا ص انع هلا .حيث حييلنا إىل ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 217 :و.218 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 219 :و.220 2
39
قص ته األس طورية أيض ا ,واليت توص لنا إىل
القدمية وحينما تتعطّش للمزيد خيرجنا منها إىل ّ
توقّعات أخرى ,ورؤى جديدة تفتح لنا هامشا قرائيا واسعا.
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب " ,ص ( .77املرجع نفسه ) 2
40
وحني ك ان التجلي تاما من خالل تقنية التن اص ,وأيضا التص ريح بأهنا اآلهلة ت انيت,
كانت مطاوعة العنصر األسطوري متقلصة من خالل حالة التماثل والتشابه عرب تيمة (النذر)
ذلك الن ذر ال ذي ن ذره أوخيّد عند قاع دة نصب اجملوس يف أعلى الرب وة؛ حيث ج اء يف نص
الرواي ة " :أن اح أوخيّد أبلقه األس ود ,ووقف ط ويال ,حياول أن يق رأ أس رار الص حراء يف هيئة
الص نم اخلفي .أخ ريا ركع ورفع يديه وص اح " :يا ويل الص حراء .إله األولني .أن ذر لك مجال
مسينا ,س ليم اجلسم والعق ل .اشف أبلقي من املرض اخلبيث وامحه من جن ون آس يار .أنت
الس ميع .أنت العليم " .مث عفر جسم امله ري املتآكل ب رتاب الض ريح ,وتوس ده ون ام حىت
ت وجهت الص حراء ببه اء الفج ر .ص نع كوبا واح دا من الش اي األخض ر ,وواصل رحلته إىل
() 1
القرعات الغربية ".
لقد ن ذر أوخيّد لآلهلة ت انيت ب أن يق دم هلا قربانا مثلثا يف مجل مسني ,إن ش في أبلق ه.
هذا املهري األبلق الذي لطاملا تباهى به أمام عشريته ,ألنه ال مثيل له.
ولكن س رعان ما أصيب أبلقه بوب اء جلدي ذهب ببه اءه ومجاله األخ اذين ,فقد ج اء
يف نص الرواية عن األبلق ودائ ه " :واصل مغامراته مع الن وق الس ارحة يف م راعي الص حراء,
فكلفته الفحولة العمياء داء اجلرب .عاد من إحدى الغزوات كئيبا .انطفأ بريق املرح يف عينيه
الكب ريتني ودىل ش فته الس فلى أك ثر .وقف يف الع راء هادئ ا ,ص امتا ,يش يع األفق املرتاقص يف
ألسنة السراب السماوية ,بنظرة حزينة .كان خجوال .الحظ أوخيّد كآبته ,ولكنه مل يكتشف
السر إال بعد أي ام .تفحص وب ره البهي وهو ي نزع ش وك الس در من جل ده املبقع ويتفق ده من
القراد .يف اجللدة ,حتت الوبر ,متكن املرض وسكن االلتهاب .حكه بأصابعه ,فتوجع املهري,
تعرى املوقع عن املرض وصاح من األمل .جاء باملقص ,واختار موقعا حلق منه الوبر الكثيفّ ,
الل ئيم .اس ودت اجلل دة ,وأكلت حلم احلي وان .بعد أي ام الحظ أن اجلرب ازداد توس عا والتهم
مواقع جديدة من جسد األبلق .ذهب إىل حكماء القبيلة طلبا للمشورة .أمجعوا على أن األمل
ض عيف يف الش فاء .إذا متكن اجلرب من البعري فال أم ل .مل يفقد األم ل .مل يتص ور أن توجد
41
ق وة ختطف منه أبلق ه .اخلبري ب داء احلي وان األعمى هز رأس ه ,وأجابه على اس تنكاره " :اييه يا
() 1
ولدي .بعد الضحك يأيت البكاء .الفرح يعقبه احلزن ,واملوت تأيت يف غفلة احلياة ".
هذا ,وحني أصيب األبلق بداء اجلرب ,أشار الشيخ موسى على أوخيّد بأن يبحث له
عن نبتة امسها " آس يار " إهنا نبتة اخلالص ,اليت س وف تش في أبلق ه ,حيث ج اء يف نص
الرواية " :ويقال أنه جاء من غرب الصحراء ...من " فاس " بالد الفقهاء وعلماء الشريعة.
الشيخ موسى الذي متتم له بالسر وخلص أبلقه .قال له " :الكالم بيننا ولكن شفاء مجلك يف
آسيار ( . )ال تضحك علي وامسع كالمي .اذهب إىل قرعات ميمون يف الربيع القادم :آسيار
ال ينبت إىل يف تلك الس هول .أوثق امله ري جي دا حىت ال يفر واتركه يرتع يوما أو ي ومني
وس وف ت رى " .مث ك رر له بلغة غامض ة " :ال تنس أن تعلقه جي دا " .نعم .آس يار يف القبيلة
() 2
مرادف للجن واجلنون .من ذاقه سواء أكان ذلك حيوانا أم إنسانا ".
وحني ك انت نبتة آس يار هي العالج ب رغم عواقبها املؤدية إىل جن ون األبل ق ,إال أ ّن
أوخيّد ق رر التوجه إىل قرع ات ميم ون حيث توجد ه ذه النبت ة ,ون ذر يف طريقه لآلهلة ت انيت
بأن يقدم مجال مسينا قربانا إن هو شفي من وباءه.
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب ت انيت ) متقلصة من خالل
حالة ( التش ابه والتماثل ) ,حيث اس تجابت اآلهلة ل دعاء أوخيّد وهدته إىل م وطن النبتة
(آس يار) ,زه رة اجلن .وب دأ أبلقه يتماثل للش فاء روي دا روي دا .حيث ج اء يف نص الرواي ة" :
فوق " قرعات ميمون " تدلت سحب بنفسجية كثيفة وتالمحت على رؤوس اجلبال املتباعدة
يف اخلالء األبدي املمتد ...مث جد يف البحث عن العشبة املوعودة مع األصيل عثر على حقل
-آسيار :يعتقد أنه بقايا السلفيوم .وهو نبات أسطوري يعطي طاقة هائلة انقرض من ليبيا يف القرن الثالث قبل
امليالد .وجيمع املؤرخون القدماء أنه كان دواء سحريا لكل األمراض املعروفة يف العامل القدمي ,وكان ملوك ليبيا
يصدرونه إىل مصر وما وراء البحار ويعتقد كثريون أن فيه يكمن سر التحنيط إذا استخدمه الفراعنة هلذا
الغرض.
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب " ,ص 20و.21 2
42
كام ل .ارتفعت النبتة اخلرافية مس افة ذراع عن األرض ,أوراقها خض راء داكن ة ,ت دلت
فروعه ا ,ع ادت إىل األرض ,وختلت عن الس باق الرقيقة الس احرة ,يف قمة الس اق تكش فت
زه رة ص فراء ,وف احت بش ذى غ امض .زه رة اجلن ...! ب دأ احلي وان اجلائع يلتهم نبتة اجلن,
() 1
ميأل فمه ,ويرفع رأسه حنو األفق ,ويلوك طويال قبل أن يبتلع اللقمة "
وفعال متاثل األبلق للش فاء بعد أكله ه ذه النبتة الس حرية اليت هدته إليها اآلهلة " ت انيت ",
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :احلي وان اجلائع يلتهم نبتة اجلن ,ميأل فم ه ,ويرفع رأسه جيرت
احملرم .خيّل إىل " أوخيّد " أن الربيق عاد إىل عينيه .احلياة عادت إىل املقلتني امليتتني,
العشب ّ
مل يت بني احلدقتني متاما بس بب العتم ة ,ولكن ال وميض الطيّب ,ال ذكي ,اهلادئ ,ب رق يف ض وء
ختش ن اجللد اجلدي د ,والت أم اجلرح ,اختفت احلم رة ,ولكن ال وبر مل ينبت الن ار م راراّ ...
() 2
بعد"...
ه ذا ,وج اءت – ك ذلك – مطاوعة العنصر األس طوري ( ت انيت إهلة اخلصب ) عرب حالة
التماثل والتش ابه من خالل تيمة ( التكفري والطه ارة ) ,حيث وعلى من وال أس اطري اخلصب
القدمية حىت يتغلب اخلري على الشر جيب أن يك ون التكفري والطه ارة ,ألن األبلق أخطأ حني
خالط قطيع الن وق ونسي نفسه ومتيزه فك انت الكارث ة .وبالت ايل عليه التكفري والطه ارة لكي
يشفى .فقد جاء يف نص الرواية " :هل أطمع أن أرى األبلق يف أصله؟ استفهم الشيخ بإمياءة,
فأوضح الشاب- :هل يسرتد األبلق لونه؟
-اهلل مجيل حيب اجلم ال .وإذا اش رتيت له الش فاء هبذا الع ذاب فال بد أن ترقع مقابل
الكمال أيضا.
مل يفهم أوخيّد ,فأوضح الشيخ:
-التكفري ,الطهارة ,أال تفهم؟
-الطهارة؟
-نعم ,البد من اإلخصاء.
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب " ,ص 33و .34 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب " ,ص 34و .57 2
43
-اإلخصاء.
-وماذا تظن؟ أمل نتفق أن لكل شيء مثن؟
-البدن آمث .البدن كله خطيئة ,يلزم نزع السبب من أصله " (. )1
وهكذا مت التكفري ,على حد زعم الشيخ موسى ,ومتت الطهارة ,حيث جاءيف نص الرواية" :
ولكن البد من الطهارة .لن تفوز باجلمال ولن تلقى اهلل بدون طهارة ,الطهارة هي الشرط.
ذرع أوخيّد بالس فر إىل " القري ات " أع رتف لك أنه عمل ق اس ,ولكن ليس ل دينا خي ار ...ت ّ
جللب إبله التائهة هن اك .ت رك األبلق ألي دي اجلالدين .الش يخ موسى وح ده ع رف أن س فره
ليس للّح اق باإلبل وإمنا هربا من الي وم املوع ود .يف الي وم الت ايل لغياب ه ,تكأكأ الرج ال على
اجلمل املس كني .النصف األول من النه ار قض وه يف منازعته وتطه ريه من " البالء " وأنفق ول
النصف الث اين من النه ار يف إجب اره على ابتالع اخلص يتني تكميال للطق وس ...اآلن ض منّنا
() 2
يسرك أن ترى نفسك أبلق ,مجيال ,نادرا؟ " عودة اللون .اآلن ستعود أبلق كما كنت .أال ّ
وبالت ايل ك ان مثن التكفري والطه ارة مثينا وق اس بالنس بة ألوخيّد واألبل ق ,ألنه هو اآلخر يت أمل
ألمل أبلق ه .حيث ج اء يف نص الرواي ة " :إغ رورقت عينا األبلق بال دموع ,فاحتض نته أوخيّ د.
مكثا طويال يف املدى األبدي قبل أن يتكاثف املساء " (.)3
ك ذلك ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " إهلة اخلصب ت انيت " ممت دة عرب حالة
(التشوهات والتغريات) حيث كان من املفروض وعلى منوال قصص اخلصب األسطورية أن
استجابة اآلهلة للتضرع تستوجب ( الوفاء بالنذر ) لكن أوخيّد نسي النذر متاما ,وعوض أن
ينحر اجلمل الس مني قربانا لآلهلة ( ت انيت ) حنره ألجل عي ون عروسه يف زفافهم ا .فك انت
أول إش ارة من اآلهلة لت ذكريه بالن ذر ال ذي قطعه على نفسه مث خلفه حيث س رق خمزونة من
التمر حيث جاء يف نص الرواية " :ولكن الكيسني سرقا من املطمور بعد يومني ,ووجد فوق
املخ زن على الرمل إش ارة تركها اللص .رسم حبب ات التمر مثلثا واضح األض الع واختفى يف
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب " ,ص 56و 57و 58و.59 2
44
الرم ز ,وجلأ إىل عج وز تباوية عمي اء تق رأ الغيب .ق الت العراف ة - :قلت مثلث؟ هل ن ذرت
ش يئا لآلهلة " ت انيت "؟ انشق رأس ه .وقفز كمن طعنه بس كني :اآلهلة ت انيت؟ لآلهلة ت انيت؟.
ت ذكر الن ذر .ت ذكر ال ويل .ت ذكر قاعدته املثلثة األض الع .أكل الن ذر .أطعمه للع روس .نس يه
متام ا .يا ريب! أهي إش ارة من اإلهلة ت انيت؟ تلك عالمته ا .خمتومة بالن ار على س واعد الرج ال
وحتت س ّرة النس اء .رآها يف العتمة على بطن " أي ور " أيض ا .على مقبض الس يف ويف وشم
التمائم ,يف مقدمة السروج وفوق اجلعب واجلرابات وزينة اللباس .هي يف كل شيء ويف كل
() 1
مكان .فهل اختفاء الغرارتني تذكري وحتذير؟ -أغفري يا تانيت"...
وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب ت انيت ) عرب تيمة ( اللعنة
والعق اب ) حيث وقبل ه ذا ,تربأمنه وال ده بس بب زواجه من ( آغي ار ) وحرمه من املرياث.
فقد ج اء يف نص الرواي ة " :ت ربأ من ه .ق ال للش يخ موس ى " :أبلغ األمحق أن أميوه اغ ( )على
حق عن دما س نّوا النسب األم ,قل له أن يرافقها إىل بالد الس حرة ( ." )*مث حرمه من املرياث,
فانفصل عن القبيلة .مل يذهب إىل بالد السحرة ألن اجلدب هناك دفع إىل الصحراء الشمالية
مبزيد من امله اجرين ,ولكنه ن زح إىل األودية الس فلية املتامخة حلدود " خ ّزان " ...حىت أجنب
مولوده البكر " (.)2
وتوالت اللعنات من اآلهلة تانيت وأيضا العقاب على أوخيّد الذي خلف النذر ,حيث
زحف اجلوع على قبيلت ه ,وت ذ ّكر يف قمة ذلك اجلوع القاتل أن له مهريا تركه يرتفع يف
الوادي ليسمن ,حيث جاء يف نص الرواية " :فطاملا مل تأت الذاكرة باحلقيقة إال بعد سيادة
اجلوع فمقاومة املكت وب أيضا كف ر .فمن أين له جبمل مع اىف ,ق وي ,عاق ل ,يف الس نني
العجف اء ؟ كيف يس تطيع أن ي دبّر مجال وهو ج ائع وامرأته وطفله مه ددان ب اجلوع أيض ا؟
ت ذكر كيف ش وى مداسه اجلل دي وأكله منذ أس ابيع يف الص حراء الرملي ة .ذهب يقتفي أثر
* -بالد السحرة :هي كانو ومتبكتو ,الكوين " ,الترب " ,ص .73 *
45
مجل اش رتاه س نوات الرخ اء وتركه يرتع يف ال وادي الفاصل بني الص حراوين :اجلنوبية
والش مالية .قابل أحد الرع اة وأخ ربه أنه رآه منذ أس ابيع يف الش رق .س افر على ظهر األبلق
حىت بلغ " زور زاتني " فقال له رعاة " كيل أبادا " إهنم شاهدوا لصوص الصحراء يقتادون
اجلمل ويع ربون به الص حراء الش رقية حنو غ دامس مع قافلة من اإلبل املس روقة ليبيعها هن اك.
وتضاربت األقوال فادعى آخرون أن قطاع الطرق أكلوه يف مكانه .هام بعدها يائسا جائعا.
مل يذق طعما لطعام منذ أيام ...مل يستطع أن يصمد أكثر ,فنزع نعلها اجللدي .مجع احلطب
وأوقد النار ,شواه على النار حىت تلوى وانكمش مث هنشه بشراهة .كان لذيذا .ال فرق بينه
وبني جلود اإلبل اليت سبق له أن أكلها كثريا ...الفارس أيضا خملوق بائس ,يأكل نعله عندما
يشرف على املوت جوعا ...اجلوع يهني أنبل املخلوقات .السالطني أيضا تركع على األرض
() 1
إذا جاعت وتزحف ذليلة كالعبيد .فاغفر يل .أغفر يل! بكى ومترغ يف الرتاب طويال".
ه ذا ,وت أيت ك ذلك مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب ت انيت ) متقلصة عرب
حالة ( التماثل والتشابه ) ,عرب تيمة ( اللعنة والعقاب ) حيث توالت اللعنات واشتد العقاب
على أوخيّد كل مرة ,وبعد أن فقد مجله الذي تركه بالوادي يرتع ,ها هو يكاد ميوت جوعا
هو وعائلته الص غرية ,حىت وصل به احلد إىل أكل مداس ه .وأم ّر من ه ذا كل ه ,فقد دفع به
اجلوع احمل ّدق بزوجته وابنه وبه أيضا إىل مد يده لغريه بغية اإلعارة حىت يسد رمقهما.
فدفعته اللعنة هذه املرة إىل التدين من اآلخرين ,واإلحساس بالذل واملهانة .حيث جاء يف نص
الرواي ة " :ب األمس م اتت عائلة من زوج وزوجة وثالثة أطف ال .قفلت أب واب ال رزق يف
وج وههم فحبس وا يف ك وخ ومل ي رهم أحد حىت تعفنت اجلثث ف اقتحم أكرب اجلريان الك وخ:
وج دوهم مكم ومني ف وق بعض هم ,حتللت األجس اد ودبت عليها الدي دان .عي ون األطف ال
جاحظة ,فقال إمام اجلامع إهنم ماتوا خمنوقني ,خنقهم األب على ما يبدو حىت مينع صراخهم
من الوص ول إىل آذان اجلريان .يف املس اء ,ق الت له " أي ور " - :إذا مل تفعل ش يئا فيحسن أن
46
نفعل مثلهم .لن نفعل ذلك هنا ولكن يف الص حراء .لن يع دم وج ود ثالث رصاص ات يف
() 1
بندقيتك – مل جيبها ".
هك ذا دفع أوخيّد إىل الت دين دفع ا ,بعد أن ختلى عن كرامته وعفته املعه ودتني .وما دفعه إىل
ذلك س وى ع دم وف اءه للن ذر ,ومن مث لعىن اآلهلة " ت انيت " له باملرص اد .فقد ج اء يف نص
الرواي ة " :يف الص باح قصد ب ائع ال زيت كي يق رتض من ه .عرفه س نوات الرخ اء وق ايض منه
الش عري والتمر والس كر مقابل ش رائح الغ زالن وال ودان .لن ي رده خائب ا .ولكن الب ائع أقسم له
أنه ال ميلك عش اءه .املس مار بن املس مار .ال ميلك عش اءه .منذ ش هور فقط اس تقبل قافلة من
متبكتو واش رتى بض ائعها باجلم ل ...ت ذكر تلميحها اخلفي ...حتقريها اخلفي .ال حتتقر املرأة
ش يئا كما حتتقر الرجل اخلائب ...الرجل الفاش ل ...قصد أحد الفالحني ,أقسم أيض ا .يف
ال زمن العص يب كلهم يقس مون ...قطع مس افة قص رية فأدركه الفالح يف عينيه تألألت
دمعتان .بسط راحته عن حبات متر .ثالث .أربع مترات .قال :هذا من أطفايل للطفل أعرف
أن عن دك طفل " )2( .تواصل ( اللعنة ) ترص دها ألوخيّ د ,ويش دد العق اب عليه يف كل م رة,
وه ذه املرة تشد اللعنة خناقها علي ه ,ه ذه املرة س يكون العق اب أشد إيالم ا ,ألن الره ان
سيكون على أبلقه الذي يبجله حىت على نفسه.
إهنا ( تانيت ) اإلهلة الغاضبة املنتقمة اليت ختيط مسار أوخيّد وأبلقه -الذي شفته ,-
وخذالها فيما بعد ,ستقودمها باجتاه العذاب والفجيعة والعقاب.
وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري إله اخلصب " ت انيت " متقلصة عرب حالة
(التماثل والتش ابه) ,من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب ) .لقد اس تباح ( أوخيّد ) ه ذه املرة
احملظور الذي قطع على نفسه عدم جتاوزه ,بعدم أذية أبلقه ,فهذه املرة سيقرتف رهن األبلق!
فقد جاء يف نص الرواية " :مث دخل قريبها -أي زوجته – الغريب الواحة ,ذهب إىل السوق
وق ايض مجلني ببعض البض ائع .التقى به يف م دخل الس وق فاهت دى إىل الفتح ال ذي حيفظ به
م اء الوج ه .اإلهلام الس ماوي أنق ذه من ال ذل ...س وف ي رهن األبل ق ,سيس تدين منه مجال أو
47
مجلني حىت تتوقف احلرب ويفرجها ريب .مقابل ذلك سريهن أمجل مهري يف الصحراء كلها.
لقد رأى ال ربيق يف عيين ق ريب " آي ور " عن دما حدثه عت ه ,وهو بريق ال يلمع إال يف عي ون
التجار الذين جربوا يف حياهتم التعامل بالذهب .بريق الذهب هل هو اجلشع؟ هل هو الرغبة
يف االمتالك واالس تيالء؟ ه ال لنفسه إنه س يكفل رزقا للعي ال حىت يفتح اهلل ,وسيض من يف
نفس الوقت االحتفاظ باألبلق .ولكنه أخطأ يف شيء واحد .أوخيّد جيهل ما الذي يعنيه لفظ
() 1
" رهن " يف لغة التجار "
إض افة إىل ذل ك ,ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري متقلصة عرب حالة ( التماثل
والتش ابه) من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب ) ,حيث حلق اهلم واحلزن واألسى أوخيّد وأبلق ه.
بعد أن أخلى بن ذره لآلهلة ,وبعد أن رهن أبلقه البن عم زوجت ه ,ألجلها وألجل ابنه حىت ال
جيوع ا .حيث ج اء يف نص الرواي ة ..." :فكيف يس مح الي وم أن خيون ه ذه اهلبة اإلهلية اليت
ربطت مصريمها ,ويبيعها بسبب العيال أو اجملاعة؟ ماذا ميكن أن يسمى هذا غري اخليانة؟ كيف
أعمته املرأة إىل احلد ال ذي أعم اه عن رؤية عمله البش ع؟ نعم – هي املرأة .لوالها ملا جتاس ر.
لوالها ملا س ها عن اإليف اء بالن ذر ل "ت انيت" .لوالها ملا حلت اللعنة اليت أعمته عن رؤية
يطوق عنق الوالد ويديه ورجليه فعلته .لوالها ملا جاء الولد إىل الدنيا .الولد الذي جييء كي ّ
بقيد أق وى من احلدي د ,ال يط ّوق أطرافه فقط وإمنا يشل عقله وحيجب قلب ه .األبن اء حج اب
() 2
اآلباء .األبناء فناء اآلباء " .
ألجل الولد والزوجة رهن أبلق ه ,وملن؟ لل ذي جعلته اآلهلة حليفها يف تس ليط العق اب
الشديد على أوخيّ د ,وجر رهن األبلق وراءه يف تسليط العقاب الشديد على أوخيّ د .ومرض
االثنان هلذا الفراق .تفننت " تانيت " هذه املرة يف إحلاق األذى األكرب ألوخيّد وأبلقه بوساطة
وميرغ أنفه ال رتاب ويس لبه اهلن اء حىت بأبلق ه.
ابن عم زوجت ه .ه ذا األذى ال ذي يقسم ظه ره ّ
طلب " أوخيّد " من "دودو" ال ذي رهن عن ده أبلقه أن جيد حال له الس تعادة أبلقه ال ذي
تقامسه األمر مرارا وكان سببا يف خالصه من اهلالك .فكانت الفاجعة " البالء صنع منا خملوقا
48
يف اث نني ,ف أرجو أن ال تس تغرب ق ويل :ليس من حقي أن أبتعد عن ه ...األمر بني ي ديك .لن
تنسى أنه أخرجين من الب ئر ...وهبين احلي اة .ص نع نفسك مك اين ...غ دا س أبعث لك
جبوايب ...مل يس معه من فمه مباش رة ,ولكنه بعث به مع رس وله ,يعيد لك األبلق ش رط أن
تطلق قريبت ه .هك ذا ب دون حي اء .وب دون إمياء ...مل يكلف ال راعي نفسه عن اء اإلمياء ...يريد
أن يتزوجها على س نة اهلل ورس وله ...لعنة اهلل عليه وعلى ذهب ه .وهل يظن أنه يس تطيع أن
يشرتيين أنا ويشرتي زوجيت بذهبه؟ ...لقد اشرتاك يف اليوم الذي رهنت فيه األبلق ...وماذا
عن ول دي؟ الولد ول دي ...س يعيش بني يديه مثل ابن ه ,يف أرغد عيش ,إىل أبد اآلب دين .وإذا
اسرتددته عندما يكرب .هكذا قال ..يف ذلك اليوم ,حاول أيضا أن ميتحن قوته ,فقرر أن يهجر
امله ري إىل األب د .ففي الليل فكر أنه إذا مل يفعل ذلك ملا رد على إهانة ( دودو ) اجملن ون...
مسع العواء األليم ...فكيف يستطيع اآلن التخلي عنه؟ كيف ينزعه من نفسه كما ينزع اخلامت
مع األصبع ويلقي به بني أبدي األوباش والغرباء يف صحراء " دنبابة "؟ كيف جيرؤ ويرتكب
ه ذه اجلرمية جملرد وج ود املرأة والولد وش يء س خيف امسه الع ار يف الص حراء القاس ية؟ كيف
يتخلى عن نصفه اإلهلي بوهم الدنيا؟ ...وإذا كان العار هو كذلك فإن النبل هو احلرية ,هو
اإلخالص لرفيق عرفه يف الفن اء وعرب امللك وت الص حراء ط وال ه ذه الس نوات ...اهنال على
رأسه بكعب البندقي ة .س قطت العمام ة ,وواصل ق رع جبينه بالض ربات ...ض ربات الكعب
احلدي دي .انفلت الدم ,تناثر على يديه ,وسقطت قطرات على الرمل وقطعة اخليش ...وجد
نفسه حمموما ملوثا ب العرق إىل ج انب ال دم ...ولكن أىّن آلالم الب دن أن تتف وق على آالم
القلب ! ...ذهب واغتسل يف عني الكرم ة .أخفى اجلرح بلثام ه ...وجد القاضي يف حلقة
حيرر له روقة الطالق ...اختلى ب " دودو " وس لم له الوثيق ة ...وثيقة الش يوخ ...وأصر أن ّ
التس ليم ...اخلالص ...التح رر من ال وهن والدمية واألمل ...إىل األب د ...ال وداع ...حس نا
فعلت .كسرت القيد وفزت بالص ّديق زرافا كأبلقك هذا بامرأة حىت لو كانت آهلة يف اجلمال
مثل " ت انيت "؟ ...أخ رج من الص ندوق احلدي دي جرابا جل ديا ق دميا ,موس ومة بإش ارات
السحرة ,غرف منه بفنجان الشاي مرتني ,فتألأل الترب وأعمى العيون .أشعة الغسق الصفراء,
انعكست على احلبيب ات الص فراء فتالمع ال ذهب ...ولكن يق ال إنه ملع ون وجيلب الش ؤم.
49
خرافات يشيعها العاجزون على احلصول عليه .الذهب هدف كل إنسان منذ أن يولد إىل أن
() 1
ميوت باستثناء الفاشلني والدراويش ...وملع يف عينه بريق "
هك ذا ,ك انت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب " ت انيت " ) .متقلصة عرب
حالة ( التماثل والتش ابه ) ,من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب ) ,وك ان يف كل م رة يش تد
خناقها على أوخيّ د ,على ال رغم من أنه ك ان يتنفس الص عداء من حني آلخ ر ,لكنها س خرية
اآلهلة " ت انيت " ,اليت جعلت منه إنس انا بائسا وش قيا ألنه خلف الن ذر .فبعد أن اس رتد
(أوخيّ د) أبلقه مقابل تطليق زوجته وختليه عن ابن ه ,وحص وله على حفنة ت رب .عم اخلصب
املراتع اجملاورة جلبل احلس اونة وظن احلرية والنعيم ,املنتظ ران له وألبلق ه ,حيث ج اء يف نص
الرواي ة " :يف املراتع اجلنوبية احملاذية جلبل احلس اونة ,اس رتد األبلق األبلق عافيت ه .ف ازت تلك
البقعة بأمطار سحابة عابرة يف هناية الربيع املاضي ,وخفيت عن الرعاة احملرتفني بسبب فوزها
املت أخر ب املطر .اكتش فها أوخيّد بعد خروجه من " آدرار " متجها إىل الص حراء الش مالية
فاستقر هناك .ترك املهري يف املرعى األخضر ,وآوى إىل الكهف يف الطرف الغريب من اجلبل,
() 2
عقد العزم على االستقرار هنا ".
إهنا إهلة اخلصب " ت انيت " ,متأل الك ون خص با من حول ه ,لينعم قليال مث تفاجئه
بالعقاب تارة أخرى.
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :وها هو اهلل يكافئه على الصرب ويهديه إىل ه ذا الك نز.
املراعي اخلفي ة ,املراعي اليت اخض رت بالس حب الع ابرة هدية مساوية يف الص حراء .حىت
الصحراء العارية تعرف كيف ختبئ املفاجآت لنكافئ هبا الصابرين .كافأت املهري بالعشب
وكافأته هو بالرتفاس ,الرتفاس أيضا كنز خمفي .وما هو الكنز إن مل يكن ترفاسا؟ مثرة تسقط
من السماء .جيود هبا العدم .تتشقق عنها األرض .شذى ينطلق تائها يف املطلق ,تذروه الرياح
وتعي ده إىل األرض .تلتحم ال ربوق وت تزاوج ب الرعود فتولد الثم رة الس حرية من قلب الفن اء.
-إبراهيم الكوين ,برواية " الترب " ,ص 103 :حىت .124 1
50
التمتع بالرتف اس يف بداية الص يف .ه ذه رمحة من الس ماء .ه ذا ف ردوس األرض ,ولكن هل
()1
يدوم الفردوس حىت لألولياء؟ هل يدوم النعيم حىت لألنبياء؟ "
وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري (إهلة اخلصب "ت انيت") متقلصة م رة أخ رى ,عرب
حالة (التماثل والتش ابه) ,من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب ) ,حيث ال يلبث أوخيّد كث ريا
حىت يستفيق من حلمه هذا ,ونعيمه الزائف على وقع فجيعة الفضيحة والعار اللذان حلقا به,
فكل األهايل يسخرون منه ويلعنونه لفعلته ,وساق القدر ,أحد الرعاة لريوي له احلقيقة البعيدة
عنه ,وخيرجه من الفردوس إىل اجلحيم ,الذي دفعته إليه اآلهلة ( تانيت ) دفعا حلنثه بالعهد.
فقد جاء يف نص الرواية ... " :ولكن خل يدوم الفردوس حىت لألولياء؟ هل يدوم النعيم حىت
لألنبي اء؟ ...التقى بأحد الرع اة ...استض افه أوخيّد بالش اي ...القناع ة .كل الفقه اء جيمع ون
على إدانة الطم ع .وأنا أص دقهم .لعنة اهلل على املال .هل مسعت ب ذلك الرجل ال ذي ب اع
زوجته وولده يف واحة آدرار مقابل حفنة من الترب؟ -مجد الدم يف عروق أوخيّ د .صرخ- :
وهل الواقع .تبددت احلرية وجاءت األصفاد. ماذا؟ القصة على كل لسان ...توارى الوحي ّ
فخيّل إليه أن كل ما فكر فيه ط وال رحلته اجلس ور حنو اخلالص ك ان ومها ...مل يكن ين ام.
اجلم رة يف قلبه مل ت رتك له اجملال للن وم ...يا إهلي .ه ذا ع ار مل تس مع مبثله الص حراء من قب ل.
حىت أك ثر العبيد عبودية مل يبع زوجته وطفله مقابل حفنة من الت رب ...آه ك اد ينس ى ,الن ذر,
نذر تانيت .هل هذا هو نذر تانيت؟ أم لعنة األب؟ يا ريب .الرأس ينكسر .القلب ينفجر...
تغمد أن يس لك الطريق ال ذي يلتف ح ول الغابة وي دور ح ول الغابة وي دور خ ارج الط وق
األخض ر .يف املدخل قابل فالح ا .س أله ,أين ميكنه أن جيد " دودو " ...مسع ض جة يف املاء يف
يتغسل ,يتهيأ كي يتسلّل جبوار زوجته ..وإمنا يذهب ويقول للناس أنه يتغسل .العريس ّ العنيّ .
يصوب طويال .ضغط على الزناد دون أن حييد عنه بصره... اشرتاها مباله .حبالله .بالترب ...مل ّ
صرة الترب وألقى
أراد أن يقول شيئا ,ولكنه مل ينطق .ألن الطلقة الثانية اخرتقت حنره ...فتح ّ
51
هبا يف العني .فوق املكان الذي غابت فيه اجلثة ...تألألت املياه ,حتت أشعة الشمس الغاربة,
() 2
بذرات الترب الالمعة والدم احلمراء" ...
ّ
رمت به اللعنة إىل دائ رة مغلقة ال خالص منها إال ب املوت ,رمته اللعنة ه ذه املرة إىل
القتل من س لب منه زوجته وابنه ,من رم اه ب اجلنب ,واخليان ة ,وع دم الرجولة ,وعدم النخوة,
من ألبسه الفض يحة املبيت ة .من اهتمه أنه ب اع زوجته وابنه حبفنة من ترب /ت راب ! وظن ه ذه
املرة أنه اخلالص ,وأنه النعيم األب دي ألنه س ينفرد بأبلقه يف ف ردوس األرض وينعما فيها
بالراحة والطمأنينة والك رباء .ولكنه أخطأ جم ّددا وما نعيمه ه ذا ,إال لعبه من اآلهلة " ت انيت "
اليت ما تلبث أن تفاجئه م رة أخ رى بفجيعة أعظم وأمثن مما يك ون قد دفعه من قب ل ,ألن
اخلالص هذه املرة مستحيل.!
طوقته لعنة اآلهلة " تانيت " من كل جانب ومل ترتك له فرصة للنجاة وسوط العذاب
كل يض ربه م رارا ويزيد من س طوته وقوته ليخ رتق جس ده املتخن ب اجلراح فيزي ده آالم ا...
ولكن ه ذه املرة لن يك ون اخلالص من ( اللعنة والعق اب ) إال املوت له وألبلقه ألن ه ذا ما
حكمت به اآلهلة " تانيت " بعد أن خلف نذره هلا .وتنساه.
وبالت ايل ت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( إهلة اخلصب "ت انيت") ,متقلصة عرب حالة
(التماثل والتشابه) ,من خالل تيمة (اللعنة والعقاب) ,حيث ال خالص من لعنة وعقاب اآلهلة
" ت انيت " إال اهلالك .ج اء يف نص الرواي ة " :ع اره لن ميح وه ال دم .لن ميح وه حىت املوت.
س تطارده اللعنة حىت بعد املم ات .حكم عليه بالعزلة إىل األب د ...األبلق اآلن هو ص ديقه
الوحيد .أراد أن يبقى جبوار األبلق فكتب له اهلل جواره األبدي ,األبلق اآلن له ,وهو لألبلق.
لن يفرقهما إال الفناء .بل حىت الفناء لن يفرقهما ,سوف يذهبان معا .سيعودان إىل أصلهما
مع ا ,كما كانا فبل أن يول دا ,فهل ما ح دث نعمة أو لعن ة؟ ...ولكن اللعنة مل تتوقف عند
حدود املنفى .إذ جاء آير أقارب القتيل ,وانتشروا يف الصحراء طلبا لرأسه .يف األصل جاؤوا
القتسام الثروة ...ركض النهار كله حىت أشرف على هناية اجلبل شرقا .صعد على قمة وخبأ
وتوس ل إليه:
مئونته هناك .عاد إىل املهرى وأمسك برقبته .نظر يف عينيه العميقتني الرحيمتني ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب " ,ص 128حىت .142 2
52
اآلن سنفرتق .البد أن نفرتق سيقتلوننا إن مل نفرتق وعندما ينقشع اهلم سنلتقي مرة أخرى.
ولن نف رتق بع دها أب دا .هل اتفقن ا؟ ...جلأ إىل كهف يف أوعر منطق ة .مل يكن كهفا مثل
شق يف جدار صخري يؤدي إىل القمة ...ويف الصباح عاد األبلق قبل أن جيد الكهوف ولكنه ّ
فرص ته يف الف رار ...مسع جلبتهم عند الس فح وهم حيوم ون حول ه ,مث حياص رونه .تع الت
مر زمن قبل أن يسمع صوته ,استغاثته ...أهنم يكوونه بالنار ...حيرقونه ...أزاحصيحاهتمّ .
األحج ار اليت تس ّد الش ّق فأعم اه الن ور .زحف على أربع مغمض العي نني ...األبلق خيوض يف
احلروق وال دم .ومسوا وجهه أيض ا .ش قوا ف ّكه األيسر بالس كني املش تعل ,فتآكل ون ّز منه
الدم ...قال رجل بدين ,قصري القامة ,تفوح منه رائحة الشياط :تعرفون كيف انتقمت تانس
من ضرهتا الشريرة ؟ قيّ دوا يديه ورجليه باحلبال .جاؤوا جبملني .ش ّدوا اليد اليمىن والرجل
اليمىن إىل مجل ,وش ّدوا اليد األخ رى والرجل اليس رى إىل اجلمل اآلخ ر ...أحرق وا أجس ام
اجلمل بألس نة الس ياط .قفز أح دهم حنو اليمني ,وقفز اآلخر يف االجتاه املض اد .وجد نفسه يف
الربزخ .سقط من حافّة البئر .يف املسافة بني الفوهة واملاء رأى الفردوس .زغردت احلوريات.
املمزق ,ال ّدامي .زحفت األشالء .
ون احت اجلني ات يف جبل احلس اونة...و ...زحف اجلسد ّ
اجتث اجلمل األمين .اجلمل األق وى فخذ أوخيّد األمين ,وذراعه اليم ىن .انتزعتا من املنبت.
املمزق ,رفع أوخيّد رأسه احلاسر .طار السيف يف الفضاء ,واغتسل مباء السماء وبرغم البدن ّ
() 1
بأشعة الشمس القاسية ,ونزل على رقبته"...
-تعرفون كيف انتقمت تانس من ضرهتا الشريرة :تقول األسطورة أن تانس أمرت العبيد أن ميزقوا الضرة بني
مجلني يقودمها سائسان جمنونان يسريان يف طريقني متعاكسني ,عقابا هلا على تدبريها احملاولة اليت استهدفت
حياهتا ( من أسطورة تانس وأطالنتس ).
-ابراهيم الكوين " ,رواية الترب " ص 144حىت .160 1
53
تتجلى أس طورة اخلصب يف رواية " نزيف احلجر " ,من خالل العنصر األس طورة "
املاء " ال ذي هو احلي اة ,فاملاء واهب احلي اة والبق اء واالس تمرارية ,وقد ك ان منذ الب دء, !
حيث فك رة والدة الك ون ب الغمر املائي هي ن واة أس اطري التك وين ,وك ان املاء رمز اخلصب
والنم اء – أيضا – فهو أصل الك ون والتك وين ,ومنه خلقت البش رية واألك وان ( وقد س بق
التوسع يف هذه النقطة يف مادة " أسطورة التكوين " )
وقد جتلت أسطورة " اخلصب " من خالل العنصر األسطوري " املاء " يف نص الرواية
جتليا ظ اهرا؛ حيث ص رح الك وين " :ض حك يومها وت ذكر ما قاله له م رة " :الرجل يف
الص حراء البد أن يقتصد يف ش يئني :يف املاء ,ويف الرص اص" .وق ال أيض ا :إن املاء والرص اص
يف اخلالء مثل اهلواء مها عم اد احلي اة .إذا فق دت أوهلما مت عطش ا ,وإذا فق دت الث اين فتك
بك عدو ..إنسان أو وحش أو أفعى .املاء والرصاص من مقومات الرجل الوحيد .ميكن أن
يتخلى عن أن شيء إال عنهما " (.)1
وهنا ك ان " املاء " عنصر جتلي ,وك ان ص رحيا؛ وبالت ايل ج اءت مطاوعة العنصر
األسطوري " املاء " ممتدة من خالل تقنية ( التماثل والتشابه )؛ حيث جاءت مطاوعة العنصر
األس طوري " املاء " من خالل تيمة ( احلي اة واملوت ) ه ذه الثنائية الض دية اليت ترتكز عليها
أس اطري اخلصب العاملية واليت جس دت الص راع الق ائم م ابني ( احلي اة واملوت ) أو (املوت
والبعث ) أو ( اخلصب والقحط ) ...إخل .ه ذه الثنائية الض دية اليت اش رتكت فيها أس اطري
اخلصب يف احلضارات املختلفة واملتعاقبة.
املاء يف الرواية هو وسيلة عيش وبقاء ,وهو أيضا هاجس الرجل الصحراوي – األول
– عنه يبحث يف كل حني ,وألجله يتنقل ويكابد مش اق الص حراء؛ ويرحتل وحيل يف رب وع
عديدة ,إنه السالح ذو حدين؛ فهو الذي حيميه من املوت احملدق به ,وحيمي الزرع ,واحليوان
والك ون ,وهو ال ذي يقتله حني يغيب عنه عطشا وتيه ا ,و – حىت أنه – يفق ده كرامته حني
يتن ازل ألجله مكره ا ,وي رتك مملكته يف فض اء الص حراء بيم اجلب ال والودي ان ,ويس لم رقبته
للواحة اليت تطوقه خبنقتها القاتلة.
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .32 1
54
وتتجلى أس طورة " اخلصب " – ك ذلك – من خالل تيمة " الن واح " على إله
اخلص ب ,عرب تقنية " العب ارة االس تهاللية" اليت تص درت آخر قصة يف الرواي ة ,واليت عنوهنا
الك وين بنفس عن وان الرواية " نزيف احلجر " ,حيث ج اءت اجلملة االس تهاللية كالت ايل" :
ليبيا تص حرت ,القيظ اختلس اخلص وبة ,فن احت احلوري ات مه دالت الش عور ,ونعني جف اف
الين ابيع والبح ريات " ( ( )1الش اعر الروم اين أوفي ديوس " :التح والت " /الكت اب الث اين –
القرن األول ق.م ) .
والتجلي هنا ص رحيا ,حيث اقتبس الك وين مجلته االس تهاللية من كت اب " التح والت "
للشاعر العاملي أوفيديوس ,فكان عن طريق االقتباس جتليا تاما .وهذا هو املعتقد السائد قدميا
خاصة يف أس اطري اخلص ب؛ حيث تربط العقلية البدائية م وت األرض وجفافها ميوت إله
اخلصب ,فتنوح عليه احلوريات ,ويتقرب إليه الناس بقرابني وطقوسا ألجله إرضاءه وبعثه من
جدي د ,أو تزلفا إلله الشر ال ذي تس بب يف م وت إله اخلصب وأحلق املوت والعطش بالبشر
والنب ات واحلي وان واألرض ,إبع ادا لش رها وغض بها ,و " الن واح " ,ورد كث ريا يف أس اطري
اخلصب القدمية ,حيث ناحت أفروديت على حبيبها إله اخلصب متوز" :
وحني كان التجلي صرحيا ,جاءت املطاوعة متقلصة ,عرب حالة (التماثل والتشابه)؛ حيث
ناحت اجلنيات على " أسوف " جالب اخلصب لألرض ,حني سال دمه على األرض العطشى
فأخص بها؛ إذ مبوته س قط املوت املطر وتطه رت األرض؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة" :
استجابت اجلنيات بالنواح يف الكهوف ,وتصدع اجلبل .أسود وجه الشمس ,وغابت ضفتا
الوادي يف املتاهات األبدية ...يف اللحظة اليت بدأت فيها قطرات كبرية من املطر تصفع زجاج
الالند روفر وتغسل ال دم املص لوب على اجلدار الص خري " ( )2وانفج رت مطاوعته العنصر
األسطوري .من خالل تيمة "النواح " عن حالة اختالف؛ حيث ناحت اجلنيات على أسوف
ج الب اخلصب للص حراء بني ما ج اء يف أس اطري اخلصب وما تف وق به الك وين -ص انع
األس طورة – يف نص ه ,اجلني ات بال ذات ألهنا احلاض رة يف فض اء ص حراء الع رب منذ الق دمي,
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .141 1
55
وهي حاض رة بل راس خة يف معتقد أهل الص حراء الكوني ة ,وقد تلقن أس وق الكثري من
القصص حوهلا من أمه وأبيه ,حىت بات حيسها ويراها يف خلواته بني اجلبال ويف الوديان.
" ...مث اكتشف رسوما أخرى وهو يتسلق اجلبال خلف املغري ,رأى يف اجلدران الصخرية
وجوها بشعة كوجوه الغيالن وحيوانات قبيحة ال توجد يف الصحراء .وأدهشه كيف أن أمه
مل حتدثه هنا من قبل حىت يف اخلراف ات .كما مل يس مع عنها من أبيه قبل أن يهلك يف تلك
املط اردة الفظيعة خلف ال ودان املس كني ,أمه ق الت - :إهنم س كان الكه وف الق دماء...
األجداد األولون – .ولكنك قلت إن كهوف مسكونة باجلن؟ رمقته باستغراب .ابتسمت مث
متايلت ميينا ويس ارا وهي ختض قربة احلليب بني ي ديها .ق ال بإحلاح - :هل أج دادنا الق دماء
جن؟
ٌ
-كتمت ضحكة ,ولكنه ضبطها يف عينيها .عاود سؤاله ,فنهرته بضبق:
-اسأل أباك.
-سأل أباه ,فضحك ,وقال:
-رمبا كانوا من اجلن ,ولكن من جن اخلري .اجلن مثل الناس ,ينقسمون إىل قبيلتني :قبيلة
اخلري وقبيلة الشر .حنن ننتمي إىل القبيلة األخرى ...قبيلة اجلن اليت اختارت اخلري.
-هل هلذا السبب .ال جناور أحدا ؟
-نعم ,هلذا السبب .إذا جاورت األشرار حلقك الشر اإلنسان الذي يفضل اخلري البد أن
يه رب من الن اس حىت ال يلحقه األذى .وك ذلك يفعل ه ذا الفريق من اجلن .س كنوا
الكه وف هربا من الشر منذ الق دمي الزم ان .أال تس معهم وهم يتح اورون يف اللي ايل
املقمرة؟
-تدخلت األم:
-ملاذا ختيفه مبحاورات اجلن الليلية؟ األجدر أن جتلب الناقة وتأتيين باحلليب قبل العشاء.
-ضحك األب وهو ينهض ليجلب الناقة ,فالتفت أسوف إىل أمه وقال:
-أنا أمسع حمادث ات اجلن يف الكه وف كل ي وم .يقول ون أش ياء مدهشة وخيطر بب اهلم يف
بعض األحيان أن يغنوا .أنا ال أخاف اجلن.
56
-ضحكت ,وألقت بأعواد احلطب يف النار
() 1
-وواصل التسلي بوجوه اجلن يف كهوف اجلبال" .
وج اءت اجلن يف مواضع أخ رى من النص منه ا " :بع دها ع اف اللحم ...األم ان زعجت,
وقالت إن هذا من تدبري اجلن .نصحت باالحتكام إىل متائم الشجرة .وخبته غاضبة:
-كن رجال يف النهاية وحتدث مع جتار القوافل كي ي أتوا لك حبج اب من " ك انوا " أو
" متبكتو "
() 2
مل يتنازل ويتحدث مع التجار يف سبيل احلجاب ألنه ال خياف اجلن
وقد أض فت مطاوعة ه ذا العنصر األس طوري مجالية للنص وث راء ,حيث اتضح معتقد
أهل الص حراء يف اجلن ,وأنه يقامسهم املس كن والص حراء ,وأن فيهم من مؤمن ون وال ي ؤدون
ومنهم من ليسوا كذلك فيلحقون األذى بالناس .وما عدم خوف أسوف من اجلن وغريها.
وأن يعاشر املرء اجلن يف اخلوايل خري له ألف مرة من خمالطة البشر ,هذا ما جعل والد أسوف
يفضل العيش بعائلته بعيدا عن البشر ,وهذه خصوصية من خصوصيات الطارقي؟؟ احلر.
ه ذا وتتجلى أس طورة اخلصب -أيضا -من خالل تقنية ( البن اء الفين )؛ حيث عمد
الكوين إىل بناء قصة إخصاب الصحراء على منوال ما جاء يف أساطري اخلصب ,حيث خيصب
إله اخلص ب ,األرض املنتج ة ,الول ود حبب ات نطافه وهي حب ات املط ر ,فتلد زرعا وش جرا
ومثارا...اخل .وجند ه ذا املفه وم عند ش عوب خمتلف ة ,حيث " يس تند منطق الالهوت يني
القدامى ...إىل احلقيقة اآلتية :ملا كان املطر هو السبب يف منو احملاصيل ,فالبد أن حيتوي على
ن دوة احلي اة عند البشر هي احليا من املنوي ة .اليت تق ذف عند ه زة اجلم اع ،وعلى غ رار ذلك
أعترب املطر حيا من السماء .وجاء يف املسرحية اسخيليوس ( الدانيات ) على لسان أفروديت:
" يف الس ماء رغبة الخ رتاق األرض ( مبفه وم املض اجعة ) ,واألرض تتح رق هلذه الرغب ة .إن
املطر املتس اقط من السماء العاشقة يسيل على األرض ,فتنبت العشب املاشية البش ر ,والغذاء
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 09و 10و.11 1
57
ل دميرت ( إله احلبوب ) .ويف هذا الطقس املفعم بالرطوبة حتني س اعة التالقح بني األش جار وأنا
() 1
مصدر ذلك كله " "
وه ذا ما ج اء يف نص الرواي ة؛ حيث أخصب املطر األرض العطشى حلب ات نطافه اليت
هي حبات املطر ,حث جاء " :ما أن هتطل األمطار وتعم السيول حىت حتضر األرض العطشى
القاسية الكئيبة بألف نوع من النبات .تنمو النباتات بسرعة ,وختضر األشجار الشاحبة اليابسة
يف أيام قليلة .كأن البذور املبثوثة يف العدم ,يف ثنايا الرمل ,بني الصخور الصماء ,تنتظر هذه
اللحظ ة ,تتلهف على لق اء الس ماء ب األرض ,حىت إذا مت اللق اء ,متلملت النطفة يف الع دم,
() 2
وتنفست الصعداء ,وشقت األرض أو احلجر ,وأطلت برأسها حبثا عن الشمس واحلياة" .
إذن ,أخصب إله اخلصب -على من وال األس اطري القدمية -األرض العطشى بنطاف ه,
ف أخرجت أجنتها الواحد تل وى اآلخ ر ,م دفوعا كل واحد منهم بشوق س ري للحي اة؛ حيث
ج اء يف نص الرواي ة " :ي روق له أن يتوقف وينحين ليتأمل الوريق ات الص غرية اليت تقلق طبقة
الطني ل رتفع رأس ها من الع دم مدفوعة بق وة احلي اة .هتتك حج اب الظالم لتنعم بالفض اء
() 3
والعراء"
وحني ك ان التجلي ص رحيا من خالل تقنية " البن اء الفين " ,ك انت املطاوعة متقلص ة,
من خالل حالة التماثل والتش ابه ,إذ ج اء التش ابه عرب ثنائية الض دية ( احلي اة واملوت ) -اليت
تش رتك فيها مجيع أس اطري اخلصب يف الع امل -حيث يهب إله اخلصب احلي اة لألرض والنب ات
واحليوان واإلنسان ,وباملقابل يأيت إله املوت أو القحط ,فيتعقبه جفاف األرض وموت الزرع,
وم وت احلي وان ,وع ذاب اإلنس ان وعطشه وتيهه يف الص حراء حبثا عن ملجأ آمن من اجلوع
-علي ,دراسات – ميثولوجيا ولغة " القسم الثاين " ,جملة الكرمل ( ,فصيلة ثقافية ) ,العدد ,23سنة
1
,1987ص .12
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 79و.80 2
58
والعطش؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة " :املاء يهب احلي اة للص حراء كما وهب املوت ألمه
() 1
العجوز "
فإله اخلصب يف الرواية هو " املاء " الذي ميكنه إخصاب األرض ,وميكن له كذلك أن
يك ون س ببا يف موهتا أو م وت من عليه ا .ومن جهة أخ رى ،ج اء إله املوت ،أو اجلف اف أو
القحط يف الرواية هو ( رياح القبلي ) ,اليت تأيت على الصحراء جبفاف شديد وقحط وجذب,
وتيه وموت؛ حيث جاء يف نص الرواية " :وكما هو احلال دائما ,فإن السيول اجلارفة البد أن
يليها اجلف اف اس تمر اجلف اف ط ويال دام أك ثر من أربع س نوات .يف الس نتني األوىل والثانية
ع اش على نب ات الس يول الس خية .ولكن موج ات القبلي اليت هبت على الص حراء يف الس نة
الثالثة أتلفت ما تبقى من األش جار وامتصت آخر أمل كنبات ات األودية يف احلي اة .يف الس نة
الثالثة ب دأ يهلك القطي ع .ما رب اه يف ع امل اخلري من اجلديان واملع يز قضي عليه القبلي .كل
األودية ص فراء ,ذابل ة ,كئيب ة .مل جتد األغن ام ما تأكل ه ,فبحثت عن الت وت بني الص خور,
وأكلت فض الهتا بس نوات الس يل ...ب دأ القطيع يهل ك ,يف ص باح أحد األي ام هنض يف الفجر
ووجد أن املع زاة قد نفقت يف اللي ل .مث تبعها معزت ان وتيس وج دي ,و ...هك ذا ت والت
() 2
اجلثث ...كان الوادي مليئا جبثث األغنام"...
هك ذا يقضي إله املوت -ال ذي يقابل إله اخلصب -على اخلض رة اليت منحها إله
اخلص ب ,ويس تبدل هبجة اخلصب واالخض رار ,بوحشة اجلف اف والتص حر .ه ذا " القبلي "
الذي ال مفر وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري (إله اخلصب) يف موضع آخر عن طريق حالة
(التش ابه والتماث ل) ك ذلك ،من خالل تيمة (اخلالص)؛ ال ذي حتدثت عنه أس اطري اخلصب
القدمية؛ وه ذا اخلالص ال ذي ينقذ الطبيعة من املوت احملق ق ,ويبعثها من جدي د ,ويبشر حبي اة
بغيم لكل الكائنات نباتا وحيوانا وإنسانا .جاء يف نص الرواية " :يف تلك السنوات ,كائنات
احلمادة؟ تفيض باحلياة ,وتعج بقاطعان الغزالن .األمطار السخية ال تنقطع طويال .إذا شحت
السماء وخبلت باملاء الوفري هذا العام فإن شوق السماء إىل األرض يف السنة التالية ينقذ البذور
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .80 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 80و.81 2
59
من التلف واالنق راض ,وحيمي األش جار الربية من اجلف اف ,في أيت اخلالص .ختضر الس هول يف
الربيع ,فيكثر الرتفاس والطيور واألرانب والغزالن ,حىت إذا أشرفت على السهول العليا على
حني غفلة ف وجئت بأمجل املخلوق ات ترتع بس الم .حىت إذا ش عرت حبركة اإلنس ت أهبت
للفرار .وعندما تتحرك يف فرارها اجلماعي ...سبب آخر ساعد يف تكاثر أمجل املخلوقات يف
() 1
ذاك الزمان "
وهك ذا ص حراء الك وين ,كص حراء الب دايات ,كص حراء األس اطري القدمية حيكمها
ص راع أزيل بني إهلي اخلصب والقح ط ,احلي اة واملوت ,اخلري والش ر ,ويتغلب فيه ا ,اخلصب
واخلري ,واحلياة يف كل م رة ,لكن بعد صرب طويل وجلد وجد الطارقي نفسه جمبوال عليه حىت
ال يهزم.
ك ذلك ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " إله اخلصب " عرب حالة ( التش ابه
والتماثل ) ,وذلك من خالل تيمة (القرب ان)؛ حيث ي أيت ( القرب ان ) ألجل ( اخلالص )؛ إذ
يق دم من اجل إرض اء إله اخلصب ليج ود بالعط اء ,ومن مث الوفري من مطر خمصب لألرض؛
ومن مث ي أيت اخلصب والنم اء واحلي اة .والقرب ان ض ريبة ,يق دمها اإلنس ان منذ وج وده األول
على ه ذه البس يطة -كما رأينا من قبل مع قابيل وهابيل -وغريها من القصص األس طورية,
والقربان من أجل اخلصوبة -يف الذهنية البدائية -قد يكون من جسد رب من األرباب ,أو
كائنا حي ا ,حيث حتدثت تلك األس اطري " عن أصل النبات ات الغذائية املتح ررة من القرب ان
الذايت لرب أو ربة ,لضمان حياة اإلنسان ,فإن كائنا إهليا -امرأة ,فتاة شابة ,رجال أو طفال-
يض حي بنفس ه :من جس ده تنبت األص ناف املتنوعة للنبات ات املغذي ة .األس طورة تش كل
النموذج املثايل للطقوس اليت جيب االحتفال هبا دوريا .هذا هو معىن التضحيات البشرية ألجل
احملاص يل :تع دم الض حية ,تقط ع ,وتن ثر القطع على األرض للحص ول على اخلص وبة .ولكن
حسب بعض املأثورات ,ينظر إىل املع ادن أيضا كأهنا متح درة من دم أو من حلم ك ائن أوىل
نصف إهلي مضحى به " ( )2وقد جاء القربان ألجل اخلصب يف نص الرواية " :ويف السنوات
اليت ت رق فيها قلب الس ماء ,وت نزل األمط ار الس خية يغ امرون باملس امهة يف حنر مجل ين ال منه
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ص .96 1
60
الفق راء الع اجزون عن دفع نص يبهم ،ألن التص دق من الذبيحة يف مثل ه ذه املواسم يف رض
التق رب إىل الس ماء اليت مل تبخل عليهم باألمط ار " )1( .وت أيت املطاوعة العنصر األس طوري
(القرب ان) يف نص الرواية لتحيلنا على م دى وف اء الرجل الط ارقي لس خاء وج ود اإلله املانع
للخصب واحلي اة ,وأيضا لتفتح لنا هامشا قرائيا آخ ر ,عن أن نص يب الفق راء يف أكل اللحم
مرتبط جبود وكرم الطبيعة ,وإال بات عليهم عدم الطمع يف أكل اللحم ولو بلغ ذلك بأحدهم
أن يغمى علي ه ,لش دة اش تياقه للحم ,وه ذا ما جعلنا الك وين نقف على حقيقته -النهم ة,
الشرهة ألكل اللحم -وهو شخصية قابيل ( أكل حلم الودان ).
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :أما الش هور العادية فال يطمع الفق راء يف أن ين الوا
ال ذبائح ,فيوص دون أب واهبم ,ويطفئ ون الن ريان يف بي وهتم ,وحيبس ون أوالدهم حىت ال تث ريهم
روائح اللح وم يف ال بيوت األخ رى .وب رغم ه ذه الت دابري ف إن الكث ريين من املدمنني يس قطون
ص رعى املرض اخلفي ال ذي يس ببه احلرم ان من اللحم ..وقابيل ال ذي أس رف يف أكل اللحم,
ودلل جسمه بألذ األنواع ,مل خيطر بباله للحظة أن جييء يوم ينفذ فيه ذلك االحتياطي الرباين
من الغ زالن ال ذي تعج به احلم ادة .مل يق رأ حس ابا ألن يرقد أش رس ص ياد عرفته الص حراء يف
() 2
فراش املرض عاجزا ,يعاين صداع احلرمان من اللحم "
وحني قطعت كل الس بل أم ام (قابي ل) أكل حلم الغ زالن وال ودان ,وحني أوص له
احتياجه ألكل حلم ال ودان إىل اجلن ون ,مل جيد ب دا من أكل حلم اإلنس ان؛ ال ذي تص وره يف
جسد ال ودان ,فك ان أس وف هو القرب ان ال ذي ينح ره قابي ل ,ليجلب اخلصب والنم اء
للصحراء.
-يوسف احلوراين " ,يف الفكر األسطوري البابلي " ملف ( :1يف األسطورة ) ,جملة الفكر العريب ( جملة2
اإلمناء العريب للعلوم اإلنسانية ) ,متوز -أيلول ( يوليو – سبتمرب ) ,ع ,73السنة – )3( 14تصدر عن معهد
اإلمناء العريب يف بريوت ,ص .37 :
-إبراهيم ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .138 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .138 2
61
فج اءت مطاوعته العنصر األس طوري "القرب ان" متقلصة عرب حالة (التماثل والتش ابه),
من خالل تيمة " اخلالص"؛ حيث القربان هذه املرة هو قربان بشري .الذي قد عهدت عليه
اجلماع ات البدائية وما ف تئت تقدمه إرض اء لآلهلة منذ غ ابر األزم ان ,وطقس تق دمي القرب ان
يتبعه -يف غ الب ( -اخلالص) باعتب اره مؤش َر قب ول من ط رف اآلهلة ,فبعد أن ارت وت
الص حراء بس خاء املطر وإخص ابه لرتبتها العطش ة ,ه اهي ري اح القبلي هتب من جديد آخ ذة
معها كل عالمات اخلصب واالخضرار ,وخملفة وراءها القحط واجلذب والوات .جاء يف نص
الرواي ة " :أم ام اجلسد املص لوب على احلجر وفق قابي ل .ض رب رأسه بكلتا كي خيفف
() 1
شعاعات مشس األصيل ,وسقط على األرض .هب القبلي فازداد جنون قابيل"...
وجاء أيضا " :وقف قابيل حتت قدمي أسوف املعلق يف اجلدار الصخري ,رأسه يتدىل
() 2
على صدره ,وجهه ذابل ,ابيضت شفناه ,وتشققتا بالعطش والقبلي "
وحني هبت ري اح القبلي على الص حراء دون رمحة ,ك ان البد من قرب ان يق دم إليه ا,
ألجل اخلالص .وك ان القرب ان البش ري ه ذه املرة هو سيخضب األرض وخيلص ها من املوت
احملدق بالنب ات واحلي وان والبش ر .فقد ج اء يف نص الرواي ة " :فقد قابيل ص وابه .لدغه
االس تفزاز ,فهجم على ض حيته املقي دة من الي دين وال رجلني ,وجرجرمها عرب ال وادي ال رملي.
اجته ص وب الص خرة العالي ة ,اليت ينتصب فيها ال ودان األس طوري العظيم .جبوار الك اهن
األك رب ...شد احلبل بق وة إىل أعلى ,فاحتك جسد أس وف باللوحة الص خرية .هنشت ظه ره,
فتف وه بآهة مكتوم ة ...ربط احلبل اجلديد يف اليد اليم ىن ,وعلقه يف نت وء يبعد مس افة قص رية
ميني الص خرة ...أوثق الرجل اليمىن باحلبل اجلديد ميين ا ,يف م وازاة الي د .وع اد إىل الرجل
اليسرى ,وأحكم تقييدها حببل القنب ,وأبعدها عن األخرى بأن شدها إىل نتوء أبعد .أصبح
أسوف اآلن مصلوبا منفرج الساقني والذراعني .جسده يغطي الودان األسطوري املهيب ويد
() 3
الكاهن تالمس رأسه احلاسر من العمامة ,تربت على رأسه "
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ص.14 6 2
62
حينه ا ,وبكل وحش ية ,وحش ية من أوص له هنمه إىل اللحم أن جين لفقدان ه ,ووحش ية
طبيعة جذبة قاتلة ميلؤها الشوك واحلجارة ,والتصحر واشتياقها إىل مطر يرويها ويفلق من بني
شقوقها نباتا وزرعا ووديانا.
بكل ه ذه الوحش ية ,أع دم أس وف على الص خرة جبرة س كني من قابيل " ل وح قابيل
بالسالح يف اهلواء ...تسلق الصخرة من الناحية األفقية ,ضحك يف وجه الشمس بوحشية ,مث
احنىن فوق رأس الراعي املعلق .أمسك به من حليته ,وجر على رقبته السكني حبركة خبرية...
خربة من ذبح كل قطعان الغزالن يف احلمادة احلمراء .مل يصرخ أسوف ,ومل يعرتض ولكن
() 1
مسعودا هو الذي صرخ ,فرتدد صدى الصرخة يف القمم اجملاورة "
مبوت أس وف ي أيت املوت املخلص ,ال ذي ينفذ بالص لب كما يف األس اطري القدمية,
واألس اطري اإلفريقية ت روي -كذلك -حادثة الصلب ألجل اخلصب ,فقد جاء " أما املوت
املخلص فيظهر يف أس اطري إفريقية تشري إىل حد بعيد إىل املعتقد املس يحي بص لب املس يح وما
() 2
يرمز له من تربئة اجلنس البشري "
وتأيت مطاوعته هذا العنصر األسطوري (القربان) -كذلك -يف حالة التماثل والتشابه,
حيث ج اءت تيمة الن واح هي األخ رى متش اهبة للن واح على إله اخلصب يف األس اطري القدمية
-وقد تط رقت هلذه اجلزئية فيما س بق -حيث ج اء يف نص الرواي ة " :اس تجابت اجلني ات
بالنواح يف الكهوف ,وتصدع اجلبل ,اسود وجه الشمس ,وغابت ضفتا الوادي يف املتاهات
األبدية " ( )3وج اءت مطاوعة العنصر األس طوري اخلصب متقلصة من حالة (التش ابه
والتماث ل) ,حيث ج اءت تيمة (الكس وف) ع ادة ما تص ور القصص األس طورية ظ اهرة ح زن
على شخصية خرية ,حيث حزنت السماء على أسوف جالب اخلصب لألرض إذ صلب بكل
وحشية من طرف آكل حلم البشر ,قابيل .حيث جاء يف نص الرواية :مل يلحظ القاتل كيف
-أمحد ديب شعبو " ,املرأة ,اجلسد ,والطوطم " ,إشكالية أسطورة املوت ورموزه يف اجملتمع األفريقي " ,جملة
2
63
اس ودت الس ماء وحجبت الس حب مشس الص حراء " ( )1وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري
(اخلص ب) متقلصة ك ذلك من خالل حالة التماثل والتش ابه ,حيث ج اءت تيمة (اخلالص)
مبوت أس وف ,ه ذا اخلالص ال ذي منح الطبيعة املطر واخلصب ورضا اآلهلة .! فقد ج اء
اخلالص مبوت أسوف؛ حيث سال دمه على الرمال العطشى ,فامتصته الرتبة اجلافة ,العطشى
بنهم ,وحدثت املعجزة ,فنزل املطر! .حيث جاء يف نص الرواية " :ألقى القاتل بالرأس فوق
ل وح من احلجر يف واجهة الص خرة ,فتح ركت ش فتا أس وف ,ومتتم ال رأس املقطوع املفص ول
عن الرقبة - :ال يشبع ابن آدم إال الرتاب!
تقاطرت خيوط الدم على اللوح احلجري ,فوق اللوح املدفون إىل نصفه يف الرتاب,
كتب ب " التيفين اغ "الغامضة اليت تش به رم وز تعاويذ الس حرة يف " ك انوا " عب ارة " :أنا
الك اهن األكرب متخن دوش أن بئ األجي ال أن اخلالص س يجيء عن دما ي نزف ال ودان املق دس
ويس يل ال دم من احلج ر .تولد املعج زة اليت ستغسل اللعن ة ,تتطهر األرض ويغمر الص حراء
الطوفان ".
اس تمر نزيف احلجر على الل وح احملف وظ يف حصن الرم ل .مل يلحظ القاتل كيف
اس ودت الس ماء وحجبت الس حب مشس الص حراء .قفز مس عود يف الس يادة ,أدار املفت اح يف
اللحظة اليت ب دأت فيها قط رات كب رية من املطر تص فع زج اج الالن دروفر وتغسل ال دم
() 2
املصلوب على اجلدار الصخري "
هكذا كان أسوف هو تضحية ألجل الطبيعة ,ألجل اخلصب ,ألجل الص حراء .هذا
القربان البشري الذي قدمه قابيل بكل وحشية للصحراء ومن عليها ,وكان بالتايل على منوال
أساطري اخلصب القدمية وكيف كان يهب اإلله نفسه أو جزءا منه ألجل إخصاب األرض ,أو
يقدم أحدا من أعوانه أو أحدا من البشر ليكون أضحية ألجل اخلصب؛ حيث جاء " :وحني
رأى بعل ( ) bèlأن األرض ص حراوية ولكن خص بة ,أص در أم را ألحد اآلهلة ,ب أن يطيح
64
رأسه ( أي رأس بعل ) ,وب أن ميزج األرض بال دم ال ذي سيس يل من ه .وب أن يش كل بش را
وحيوانات قادرة على حتمل اهلواء " (.)1
وبالتايل ال خلق بدون تضحية ,فباملوت تولد احلياة ,ومبدأ أساطري اخلصب هو التضحية
من أجل اخلل ق ,وهك ذا ك ان أس وف هو أض حية الص حراء ,وهو ج الب اخلصب للص حراء,
فبموته جتسدت أس اطري اخلصب ,الطوارقي ة ,حيث صدقت مقولة الكاهن األعظم -حسب
زعم الكوين " -أنا الكاهن األكرب متخندوش أنبئ األجيال أن اخلالص سيجيء عندما ينزف
الودان املقدس ويسيل الدم من احلجر .تولد املعجزة اليت ستغسل اللعنة ,تتطهر األرض ويغمر
الصحراء الطوفان " فكان التجلي هنا صرحيا ,حيث صرح الكوين بنص أسطوري للطوارق,
وكانت بالتايل مطاوعة العنصر األسطوري متصلقة من خالل التشابه والتماثل.
فج اء اخلالص بعد ص لب أس وف وقطع رأس ه ,وبعد أن س ال دمه على الرتبة العطشى
ف ارتوت األرض وس قط املط ر ,بل وطهر ك ذلك الطوف ان األرض ه ذه الطه ارة اليت جبلت
عليها البش رية منذ غ ابر األزم ان ,ليخلف األرض الب ور أرضا خص بة منبتة وليخلف الق وم
الفاسدين أناسا أنقياء خريين حيث " يرمز املطر كعامل إخصايب لألرض إىل املؤشرات اخلرية
للسماء " ( .)2فكانت مطاوعة العنصر األسطوري على الرغم من أهنا جاءت متقلصة إال أهنا
أض فت مجاال على النص ,حيث بق در ما ك انت النهاية خمزنة ألس وف الرجل ال ربيء الص ايف
اجلوهر ,النقي النفس ,إال أهنا هناية مفرحة لس كان الص حراء ,حيث س يأيت الغضب وي نزل
املطر ,وختضر اليابسة ,ويطهر الطوفان األرض والبشر من أمثال قابيل – ويفرح البشر.!
بعد ه ذه الرحلة املش وقة اليت أه دانا إياها الك وين ,بص دد ق راءة الرواية " نزيف احلج ر",
واليت فعلت فينا فعل الساحر الذي يذهب – بطال مسه – منا العقل والوعي وجند أنفسنا أمام
ع امل عجيب غ ريب ,نتل ذذ بارتي اده ,وتعجبنا الرحلة كث ريا .مث ما نلبث أن نع ود من ه ذه
الرحلة يف واقعنا ,حمتملني بشيء مثني ليس بالعجيب كله وليس أيضا باحلقيقي ,شيء بني هذا
-يوسف احلوراين " ,يف الفكر األسطوري البابلي " ,مرجع سابق ,ص .37عن :كنج ،ألواح اخللق السبعة,1
ص .86
-أمحد زين الدين ,دالالت ميثولوجية برسم األنثروبولوجيا – – 6ص .111
2
65
وذاك ,هو خالصة فهمنا ,وخالصتنا رحلتنا ,إنه الكوين الذي يبحرنا يف عامل أسطوري ممتع
وما يلبث أ ينتشلنا ,حمملني حبفنه من الثمار البحرية والآللئ ,واألصداف امللونة.
هو الك وين ال ذي أعلنها ص راحة " :وجودنا لغز ال يكتمل وج وده إال بوج ود الث الوث:
الرواية ,اخلالء ,األسطورة ".
وحني كانت األسطورة األدبية ,هي انزياح وعدول عن األسطورة األولية ,كانت الكتابة
عند الك وين جتمع بني األس طوري وال واقعي ,بني العج ائيب املدهش وال واقعي املؤمل ,حمل ذلك
يف تض افر رائ ع ,أجيد س بكه من رجل خب ري ,اخترب حي اة الص حراء بأجبدياهتا وفض اءاهتا,
وأس رارها ,وألغازه ا ,واخترب أيضا إرثا أس طوريا زمخا ,منذ أن ك ان ط را ,فانتشى منه إىل أن
شب وصار على ما هو عليه.
ص حراء الك وين يض حي فيها اإلنس ان ألجل احلي وان والنب ات والطبيع ة ,كك ل ,ص حراء
الك وين خالء مليء بالتناقض ات؛ خالء فيه الشر والك ره واالنتق ام ويقابله التض حية واحلب
والوفاء ,صحراء الكوين فيها الدنس وفيها الطهارة .فيها الشرير وفيها املضحي ,فيها القحط
وفيها اجلذب وفيها االرتواء وفيها اخلصب .صحراء الكوين قاسية جنون؟ ,تلفحك بشمسها
امللتهبة اليت توص لك إىل اجلن ون ,ومتنحك مط را حينو على الرتبة العطشى فيخص بها وينبت
الزرع والزهور.
إهنا الطبيعة بنقيض يها .إهنا اآلهلة مبزاجاهتا املتقلب ة ,إهنا إله الشر وإله اخلري ,إهنا الص راع
األزيل بني ق وى الشر وق وى اخلري ,إهنا الرقعة اجلغرافية واألرض األس طورية األك ثر مالئمة
لبدء اخللق األسطوري ,إهنا األصل ,إهنا املركز ,إهنا بدء التكوين. !
ومنه فإننا نلخص ما ج اء يف رواية الك وين ,من ه امش ق رائي واس ع ,كرحابة الص حراء
نفسها ,وننثره آللئ أمامنا لنفهم أجبدية صحراء الكوين ,بل أجبدية أسطورة الكوين:
-1ص حراء الك وين ,فض اء بكر بعاداته وبراءت ه ,واحلب ال ذي يربط أهله حبيواناته
ويربط أهله بطبيعته .إهنا أرض طيبة ,أرض مقدسة ,إهنا نشأة الكون.
66
مواجهة الطوارق لألعداء ( املستعمر ) ورفض كل أنواع االستعمار ,شبيه مبواجهة -2
أهل الص حراء (الط وارق) لري اح ( القبلي ) وجفافه وترص ده للن اس والنب ات
واحليوان باملوت احملقق.
احلفاظ على الثروة الطبيعة بطرد املستعمر من األرض اخلرية ,املليئة بالكنوز واآلبار -3
واملناجم.
احلفاظ على الثروة احليوانية ( كالودان ) الذي انقرض أو يكاد ينقرض. -4
فداء اإلنسان واحليوان وللطبيعة ككل بدمه وروحه. -5
موت اإلنسان فداء للوطن ,كموته فداء للطبيعة فهي قمة التضحية من أجل احلياة -6
واخلصب واالستمرارية والعيش بكرامة ,فهو صراع من أجل الوجود.
من تسول له نفسه استعمار الصحراء وهنب ثرواهتا فهو عدو جيب أن يصد ويقتل. -7
هكذا هو من تسول له نفسه االعتداء على احليوانات الربية اآليلة لالنقراض ؟؟ له
املوت أو اجلنون ( كقابيل ).
اجملتمع الص حراوي ,أو الطارقي ,جمتمع رعوي ,وعالقة الراعي بالقطيع هي عالقة -8
ال رئيس ب املرؤوس .وما تض حية ال راعي ( أس وف) ألجل قطيعة ال ودان إال حماولة
وضع ص ورة طيبة ومنوذجية للم رؤوس وما جيب أن يك ون علي ه .ومن هنا ك ان
النظام االجتماعي والسياسي للمجتمع الطوارقي هو النموذج األمثل ملا يفرتض أن
تك ون عليه اجملتمع ات املدنية أو األك ثر تط ورا وه ذه حماولة لنقد النظ ام السياسي
املتسلط السائد يف اجملتمعات املدنية.
67
تعد أس طورة اخلل ود مظه را من مظ اهر أس طورة التك وين ،حيث تتف رع عنها هي
وأخواهتا؛ أس طورة اخلصب أو أس اطري الط وطم...وغريه ا...وما ف تئ اإلنس ان منذ وج وده
األول يس عى وراء سر اخلل ود يف ه ذه البس يطة .واعتقد اعتق ادا جازما أن اآلهلة خال دة ال
حمال ة ,ف راح يبحث عن س بل النج اة من املوت ليخلد كاإلله يف علي اه .وفتش عن سر اخلل ود
يف نبتة اخلل ود ,ويف ش جرة احلي اة...وغريمها .وق دم الق رابني كأض احي جللب اخلل ود ,ليس له
فق ط ,بل للطبيعة من حوله أيض ا .ألن ت وفر اخلصب والنم اء واخلض رة من حوله هو يف حد
ذاته ض امنا الس تمرار عيشه وبق اءه .وحني أجه ده البحث عن سر اخلل ود ,وقه ره املوت يف
أحابني كثرية ,فسلب منه الزرع وسلب منه املواشي وسلب منه أقرب الناس إليه؛ فإنه حني
مل جيد ب دا للخل ود ,رأى يف املوت خل ودا لكن بطريقته الطقس ية ,وعن ادا منه مل يستس لم
للم وت ,بل رأى يف املوت حي اة أخ رى ,ف دفن مع امليت حاجياته من ملبس ومأكل وحلي.
واعتقد آخ رون ب أن روح امليت تبقى حتوم غري بعيد من مس كنه حىت تع ود م رة أخ رى عن
طريق اجلنني اجلديد أو عن طريق حيوان يعد طوطما ,وذلك عن طريق معتقد " احللول ".
وهك ذا ظل هنا ه اجس اخللود يس كن اإلنس ان من ذ وج وده ,على ال رغم من أنه هو
من أحلق األذى بنفسه وطرد من جنة اخللود ,وارتكب احملرمات واقرتب من الشجرة احملرتمة,
واق رتف أول جرمية على وجه األرض ,ب أن جسد املوت بي ده فقتل أخ اه وأس ال دمه يف
ال رتاب ,وش هدت األرض آن ذاك على أول جرمية قت ل ,وأول مش هد للم وت بيد اإلنس ان
نفسه.
جند عند بعض القبائل اإلفريقية فك رة املوت ( الطيب /الن افع ) ( .)1حيث يب دو املوت
يف معتق دهم هو نقله خاطفه للجسد لتس تعيد ال روح ش باهبا من جديد عن طريق اخلل ود يف
جسد جدي د ,أو هو انس ياب س لس إىل ع امل األرواح ,وتبقى ت رف ال روح متجول ة ,مرتقبة
أهلها ,إىل حني أن جتد جماال للعودة من جديد!
-أمحد ديب شعبو " ,املرأة ,اجلسد ,والط؟؟ إشكالية أسطورة املوت ورموزه يف اجملتمع اإلفريقي ,املرأة
1
الوبية؟؟ وتناقضات اجملتمع املختلف ,جملم الفكر العريب ,العدد ,82خريف ,1995السنة ,16 :ص.58
68
" هكذا تروي لنا أسطورة داغاري األخروية ( قولتا العليا ) أن اإلنسان غري قادر على
اإلجناب بنفسه ,وأن األطفال هم نتاج حتول األسالف ,أي عرب نسق احللولية الذي يستغرق
وقتا طويال كي يتحقق ,وقد يصل هذا الزمن التكوين إىل مخسة أجيال متعاقبة...ولعل روح
امليت ت رقب املرأة اليت س تحمل يف رمحها من أعلى ش جرة ,أو أهنا ت دخل فيها أثن اء اجلم اع
وتس تقر يف دم اجلنني ,وإذا ك ان ه ذا مصري األس الف ال ذين اس تحقوا ميتة طيبة وك انت هلم
مكانتهم السامقة يف العشرية .فإن مصري اآلخرين هو أن يطول مكوثهم يف عامل األطياف إىل
ما ال هناية ,أو حيلون يف جسد حيوان ( ثعبان ,طائر بوم ) يصبح رمزا طوطميا .وال يتوقف
هذا النسق عن تكرار نفسه إذ ميكن أن تتحول روح احليوان الطوطم بعد موته إىل طيف قابل
() 1
للحلول يف جسد حيوان آخر "
ومذهب احللول هذا أصله هندي لكنه كان معتقدا صدقت به شعوب كثرية ,حىت
ع رب اجلاهلني ال ذين رأوا يف احلي وان ,أقواما مس خت ,ويبقى ه ذا املعتقد يؤكد فك رة خلود
اإلنسان واحليوان حىت بعد موته.
تتمثل أس طورة اخلل ود أو البحث عن اخلل ود يف قصة آدم وح واء -أوال -حيث كانا
ينعم ان حبي اة اخلل ود يف اجلنة وك ان كل ش يء مت اح هلم ا ,لكنهما عص يا اإلله فأخرجهما إىل
دار الفناء.
وقد ج اء نص ه ذه القصة يف العهد الق دمي كما يلي " :وك انت احلية أصل مجيع
احليوانات الربية اليت عملها الرب اإلله ,فقالت للمرأة " :أحقا قال اهلل ال تأكال من كل شجر
اجلنة ؟ .فق الت املرأة للحي ة" :من مثر ش جر اجلنة نأك ل ,وأما مثر الش جرة اليت يف وسط اجلنة
فقال اهلل :ال تأكال منه وال متساه لئال متوتا " .فقالت احلية للمرأة ":لن متوتا ! بل اهلل عامل أنه
ي وم ت أكالن منه تنفتح أعينكما وتكون ان كاهلل ع ارفني اخلري والشر " .ف أت املرأة أن الش جرة
جي دة لألك ل ,وأهنا هبجة للعي ون ,وأن الش جرة ش هية للنظ ر ,فأخ ذت من مثرها وأكلت,
وأعطت رجلها أيضا معها فأك ل .ف انفتحت وأعينهما وعلما أهنما عريان ان فخاطا أوراق تني
وضعا ألنفسهما مآزر.
-املرجع نفسه ,ص.75 1
69
ومسعا صوت الرب اإلله ماشيا يف اجلنة عند هبوب ريح النهار ,فاختبأ آدم وامرأته من
وجه الرب اإلله يف وسط شجر اجلنة .فنادى الرب اإلله آدم وقال له " :أين أنت؟ " فقال" :
مسعت ص وتك يف اجلنة فخش يت ،ألين عري ان فاختب أت " ,فق ال " :من أعلمك أنك عري ان؟
هل أكلت من الش جرة اليت أوص يتك ال تأكل منه ا؟ " فق ال آدم " .املرأة اليت جعلتها معي
أعطتين من الش جرة ف أكلت " .فق ال ال رب اإلله للم رأة " :ما ه ذا ال ذي فعلت؟ " فق الت
املرأة :احلية غرتين فأكلت " فقال الرب اإلله للحية " :ألنك فعلت هذا ,ملعونة أنت من مجيع
البهائم ومن مجيع الوحوش الربية ,على بطنك تسعني وترابا تأكلني كل أيام حياتك .وأضع
ع داوة بينك وبني املرأة ,وبني نس لك ونس لها .هو يس حق رأس ك ,وأنت تس حقني عقبه ".
وقال للمرأة " تكثريا أكثر أتعاب رجلك ,بالوجع تلدين أوالدا .إىل رجلك يكون اشتياقك
وهو يس ود عليك " .وق ال آلدم " ألنك مسعت لق ول امرأتك وأكلت من الش جرة اليت
أوصيتك قائال " :ال تأكل منها ,ملعونة األرض بسببك ,بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك,
وش وكا وحس كا تنبت ل ك ,وتأكل عشب احلق ل .بع رق وجهك تأكل خ بزا حىت تع ود إىل
() 1
األرض اليت أخذت منها ألنك تراب ,وإىل الرتاب تعود " ".
ومن خالل قصة آدم وح واء نستشف أن اإلنس ان ك ان خال دا منذ الب دء ,ولكنه هو
من جلب املوت إليه وإىل نسله وإىل الكون كله ,ففي قصة آدم وحواء كما جاءت يف العهد
الق دمي" ك ان مت اح هلما أن ي أكال من ش جرة اخلل ود لكنهما بعص ياهنما جلبا ألنفس هما
وللبشرية الفناء " إن اخلالق مل مينع عن البشر األوائل مثر شجرة احلياة ,ضف إىل هذا أنه كان
قد أعلن أن اإلنسان يستطيع أن يأكل من مثر أي شجرة شاء إال مثر شجره معرفة اخلري والشر
() 2
".
-الكتاب املقدس ,اإلصدار الثاين ط ,2003 ,1دار الكتاب املقدس مبصر ؟؟ 3-2 1
-أبيديل :سحر األساطري ,املوت وامليالد ,خيط الوجود كله ,ص.267 2
70
والفكرة مما سبق أن اإلنسان خالد منذ البدء ,لكنه هو من سار صوب املوت فكانت
املوت حتمية قاد نفسه إليها " تسمعنا األساطري فكرة أن اإلنسان خالد من حيث املبدأ ,أي
أن اخللود ماهية كامنة فيه ,ولكن اإلنسان هذا نفسه أدخل املوت إىل الكون " (.)3
وباقرتافه للخطيئة كان عقابه أن يهبط إىل األرض ,وأن يشقى فيها وأن يكون إنسانا
ألجل اخلل ود ,وتقدميه زائال للفن اء ال حمال ة .واس تمر ص راع اإلنس ان ألجل اخلل ود ,وتقدميه
النفس والنفيس ب ذلك...فحني ميرض يت داوى ولو بتق دمي النفيس ,أو البحث عن ال دواء,
وحيافظ -أيض ا -على التك اثر والتناسل من أجل البق اء , ,وقبل كل ه ذا وبع ده ك ان يق دم
الق رابني ألجل إرض اء اآلهلة واحلد من غض بها وس خطها وطلب املعونة والرضى من ل دهنا.
وأول قربان قدم منذ ظهور الشر على األرض مها قربانا قابيل وهابيل فتقبل اإلله القربان قابيل
ومل يتقبل قرب ان هابي ل ,ونتيجة ل ذلك ك انت أول جرمية قتل على وجه األرض واليت ارتكبها
هابيل يف حق أخيه قابيل.
قصة قابيل وهابي ل " :وع رف آدم ح واء امرأته فحبلت وول دت ق ايني .وق الت:
"اقتنيت رجال من عند الرب " مث عادت فولدت أخاه هابيل .وكان هابيل راعيا للغنم ,وكان
ق ايني ع امال يف األرض .وح دث من بعد أي ام أن ق ايني ق دم من أمثار األرض قربانا لل رب.
وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن مساهنا .فنظر الرب إىل هابيل وقربانه ,ولكن إىل قايني
وقربانه مل ينظر ،فاغتاظ قايني جدا وسقط وجهه .فقال الرب لقايني " :ملاذا اغتظت؟ وملاذا
اس قط وجه ك؟ إن أحس نت أفال رف ع؟ وإن مل حتسن فعند الب اب خطية رابض ة ,وإليك
اش تياقها وأنت تس ود عليها " .وكلم ق ايني هابيل أخ اه .وح دث إذ ك ان يف احلقل أن ق ايني
قام على هابيل وقتله .فقال الرب لقايني " :أين هابيل أخوك؟ " فقال " :ال أعلم ! أحارس أنا
ألخي؟ " .فق ال " :م اذا فعلت؟ ص وت دم أخيك ص ارخ إيل من األرض .ف اآلن ملع ون أنت
من األرض اليت فتحت فاها لتقبل دم أخيك من ي دك .مىت عملت األرض ال تع ود تعطيك
قوهتا .تائها وهاربا تكون يف األرض " .فقال قايني للرب " :ذنيب أعظم من أن يتحمل .إنك
قد طردتين الي وم عن وجه األرض ,ومن وجهك أختفي وأك ون تائها وهاربا يف األرض,
-املرجع نفسه ص.268 3
71
فيك ون كل من وج دين يقتلين " فق ال له ال رب " :ل ذلك كل من قتل ق ايني فس بعة أض عاف
ينتقم منه " .وجعل ال رب لق ايني عالمة لكي ال يقتل كل من وج ده .فخ رج ق ايني من ل دن
الرب ,وسكن يف األرض نود شرقي عدن " (.)1
قصة قابيل وهابيل يف القرآن الكرمي :سورة املائدة ( اآلية : ) 30...12
أما قصة قابيل وهابيل يف القرآن الكرمي فجاءت كما يلي:
يقول تعاىل بعد بسم اهلل الرمحن الرحيم " واتل عليهم نبأ بين آدم باحلق إذ قربا قربانا
فتقبل من أحدمها ومل يتقبل من اآلخر قال ألقتلنك ,قال إمنا يتقبل اهلل من املتقني ،لئن بسطت
إيل يدك لتقتلين ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك إين أخاف اهلل رب العاملني .إين أريد أن تبوأ
ب إمثي وإمثك فتك ون من أص حاب الن ار وذلك ج زاؤه الظ املني ,فط وعت له نفسه قتل أخيه
فقتله فأص بح من اخلاس رين ,فبعث اهلل غرابا يبحث يف األرض لرييه كيف ي واري س وءة أخيه
قال يا ويليت أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخيه فأصبح من النادمني ,من
أجل ذلك كتبنا على بين إس رائيل أن ه ,من قتل نفسا بغري نفس أو فساد يف األرض فكأمنا قتل
الن اس مجيعا ومن أحياها فكأمنا أحيا الن اس مجيع ا ,ولقد ج اءهتم رس لنا بالبين ات مث إن كث ريا
منهم بعد ذلك يف األرض ملس رفون ,إمنا ج زاء ال ذين حياربون اهلل ورس وله ,ويس عون يف
األرض فس ادا أو تقطع أي ديهم وأرجلهم من خالف أو ينع وا من األرض ذلك هلم خ زي يف
الدنيا وهلم يف اآلخرة عذاب عظيم " ( )1صدق اهلل العظيم
فالقرب ان ق دم لنيل رضا ال رب ,ولكنه جر عقبه خطيئة قتل من أخ ألخي ه ,وبالت ايل
عوض أن ينال رضا الرب واخللود ,كان العقاب بالتيه والشقاء يف األرض.
ولكن رغم ه ذا ظل طلب اخلل ود والعيش بطمأنينة وس الم هو ه اجس على ه ذه
البسيطة.
ومهمة البحث عن سر اخلل ود ,تكفلت هبا اجلماع ة ,وق دمت ألجل النفس والنفيس
من الق رابني ,وأحاطتها هبالة من الطق وس والعب ادات ,وأيضا ك انت املهمة بطل من األبط ال
األس طوريني ال ذين تول وا محاية البش رية من أذى الكائن ات الش ريرة ( املوت ) ,وقد مسي ه ذا
-سورة املائدة ( ،اآلية )33...12 1
72
البطل املخلص بالبطل ( الثق ايف أو ال دمييورغوس ) حيث " ك انت أهم وظ ائف البطل الثق ايف
–ال دمييورغوس يف األس اطري ,هي محاية اجلنس البش ري والع امل على وجه العم وم من أذى
الكائنات الشريرة اليت كانت جتسد فناء العامل أو ترتبص شرا بالعامل الذي خلق لتوه وهتدد
بإغراقه من جديد يف حالة اخلراب البدئي ,فواقع األمران هذا األخري مل يندثر بعد خلق العامل,
بل ختفى على أطرافه .وهلذا تأتى للبطل أن يقاتل شىت ضروب الكائنات العنيفة ,وحيقق املآثر
اليت يواصل الع امل وج وده بفض لها ,والن اس حي اهتم بس ببها .وقد اش تهر أك ثر الص يغ البطولية
ملثل ه ذا الص راع :م آثر جلج امش ,ورام ا ,وهرق ل ,ومثة يف امليثولوجيا العاملية من مثل ه ذه
األعم ال البطولي ة ,فاإلله املص ري الق دمي رع قاتل الثعب ان أبوب وب ,وج ورس قاتل س ت ,ويف
األساطري السومرية والبابلية يقاتل إنكي كورا " (.)1
فالبطل الثقايف متنوع يف أساطري العامل اليت تتحدث عن املخلص من الشرور اليت تلحق
بالكائن ات ,ولكن أش هر ه ؤالء هو " جلج امش " ,واليت تعد ملحمته الس ومرية هي " أكرب
وأمجل شعر بابلي أكتشف مبنطقة دجلة والفرات ,وهي إحدى املالحم البطولية للعامل القدمي,
وال يوجد نظري هلا بأي لغة قدمية بالشرق األوسط ,سواء باملصرية القدمية أو العربية وغريها,
وميكن أن يطلق عليها األوديسا البابلي ة .وقد أث ارت اهتماما كب ريا يف الع امل الع ريب منذ أن
أكتشفت " (.)2
وجلج امش ليس جمرد بطل قصة مغ امرات فحس ب ,بل ميثل رم زا دائما للك ائن
البشري الذي يبحث عن سر احلياة ,أو سر اخللود.
ه ذا ,وقد اتفق العلم اء على أنه شخص ية حقيقي ة " ,على ال رغم من تأليه الكهن وت
الس ومري له يف زمن مبك ر-ك ان جلج امش ملكا لدولة مدنية هي " أوروك " يف جن وب
بابل .وكان من أقوى امللوك السومريني يف فرتة حافلة بالصراعات الدامية بني دول املدينة اليت
أسسوها .تراكم حول شخصية جلجامش مأثور ضخم من القصص واحلكايات العجيبة عن
-ابيديل " ,سحر األساطري ,املوت وامليالد ,خيط الوجود كله " ,ص.183 1
-ملحمة جلجامش ,ترمجتها عن األملانية ,عبد الغفار املكاوي ,مراجعتها على األكدية :عوين عبد الرؤوف,
2
73
طغيانه واس تبداده بش عبه ,وص داقته الن ادرة املؤثرة " ل وحش الربية " أنكي دو ,ومغامراته معه
وأسفاره اليت انطلقت إليها بعد موته حبثا عن سر احلياة واملوت واخللود ,مث رجوعه إىل موطنه
ومس قط رأسه بعد أن أض اع " نبتة " اخلل ود الش ائكة " فتطهر " واقتنع باحلدود اليت ال جيوز
إلنس ان أن يتخطاه ا ,مهما ص ورت له نفسه أو ص ور له الكهن وت أن " ثلثيه إهلي والثلث
() 1
الباقي بشري"
وأهم ما نلحظه من امللحمة الس ومرية جللج امش أنه ح رص على اخلل ود هو ش عبه,
بس عيه إىل إحض ار نبتة اخلل ود ,وعلى ال رغم من أنه أحقق يف ذلك إال أنه أدرك أن اخلل ود
احلقيقي هو العمل والبن اء ألجل مملكته وش عبه فقد " ح رص جلج امش على الش هرة وخل ود
االسم –يف أك ثر من موض ع -وذلك قبل أن ينتقل من ال دوران ح ول األنا إىل االهتم ام
ب النحن ,وقبل العث ور على " نبتة " اخلل ود اليت عرب عن رغبته يف أن يش اركه ش عب مدينة
أوروك وش يوخها يف األكل منها لتجديد الس باب واحلي اة ,حىت إذا اختطفتها منه احلية
وج ددت هبا جل دها ,ص ورت لنا امللحمة يأسه وض ياعه ال ذي حتول بعد اقرتابه من مش ارف
مدينته ورؤية س ورها وأبراجها إىل ن وع من الف رح والتص ميم على مش اركة ش عبه يف العمل
() 2
والبناء "
وضياع نبتة اخللود من جلج امش وأكلها من ط رف احلية جعل منها كائنا أس طوريا
يرتبط ب اخللود ,حيث يالحظ أن احلية جتدد جل دها ,وكأهنا يف كل جتديد تولد من جديد
وتعيش أط ول وبالت ايل فهي ملكت سر اخلل ود؛ فقد " احتفظت احلية مبق درهتا عرب مئ ات
الس نني ,ابت دءا من ملحمة جلج امش البابلي ة ,وامليثولوجيا اإلغريقية حىت عصر
احلاض ر...وهك ذا أض اع جلج امش بعد آدم اخلل ود بس بب حيلة احلية وخبثها وجهله
() 3
الشخصي ,من هنا نفهم أن احلية هي عدوة خلود اإلنسان "
-ملحمة جلجامش ,ترمجتها عن األملانية ,عبد الغفار املكاوي ,مراجعتها على األكدية :عوين عبد الرؤوف,
2
74
ولروعة قصة جلج امش ,وعربهتا اخلال دة أق دم ملخصا لقصة جلج امش وحبثه عن
اخلل ود ال ذي انتزعته منه احلية "...عن دما طغى جلج امش وجترب وص ار يس تأثر بكل فت اة أو
ام رأة حيبه ا ,توسل ش عب أوروك إىل اآلهلة أن ختلف منافسا يقه ره ,فخلق ال رب أورورو
شخصا ومساء أنكيدو ولكن أنكيد وجلجامش صارا صديقني بعد املعركة اليت دارت بينهما,
ومن أب رز مغامراهتما املش رتكة رحلتهما إىل غاب ة األرز البعي دة ,حيث ذحبا ال وحش مخبابا
وعندما استهان جلجامش حبب الربة عشتار جعلت أنو ختلق ثورا .وأوشك الثور أن يصرع
جلجامش لو مل جيهز صديقه أنكيدو على الثور وينقذه ,فذبت الربة املرض يف أنكيد وجعلته
ميوت يف حضن جلجامش .أمال يف إعادة أنكيد وخوفا من املوت على نفسه ,ترك جلجامش
مملكته حبثا عن أوثانيش تيم ليتعلم أس رار احلي اة واخلل ود بعد أن روى أوثانيش تيم قصة الطوف ان
جللجامش ,أخربه بأنه جيد النبتة التوجيية واخللود يف قاع البحر ,جنح جلجامش يف العثور على
الزه رة التوج يز واخلل ود يف ق اع البحر جنح جلج امش يف العث ور على الزه رة لكنه يف عودته
فقدها إذا أكلتها أفعى ,فحازت على سر الشباب الدائم بتغري جلدها وتراءت روح أنكيدو
() 1
جللجامش وأخربته عن املوت ,وعن املكافآت اليت متنح للشباب ولألبطال "
عرب كث رية ميكننا استخالص ها من ملحمة جلجم اش ه ذه ,أمهه ا ,أن اهلاجس األكرب
لإلنس ان منذ الق دمي هو حبثه عن سر اخلل ود؛ ومواجهته للم وت بشىت الط رق كي ال يستس لم
هلا ,وأيضا من العرب املستخلصة أن اخلل ود ليس من هب ات اإلله للبش ر ,بل حتمية املوت هي
املنتصرة يف النهاية ,ونستخلص أيضا أن اخللود احلقيقي هو يف جوهر معناه ,أن يعمل اإلنسان
جبد وإخالص ألجل استمرارية عيش األجيال املتعاقبة فريى صورته يف جيل املستقبل وهذا ما
شرع جلجامش يف العمل به مع شعبه بعد عودته احملزنة مباشرة.
فقد امتثل جلجامش للحقيقة الكونية؛ أنه ال خلود للبشر والكائنات ،وامتثل هبذا إىل
" التطهر "؛ هلذا جنده " قد رجع إىل مس قط رأسه وقد تطهر من أوه ام جمده وأنانيته الفردي ة,
-جان صدقة ,رموز وطقوس –دراسات يف امليثولوجيا القدمية -د.ط.د.ت ,رياض الريس للكتب والنشر- 3
75
وعقد الع زم على مش اركة ش عبه يف صنع اخللود الوحي د ,املت اح للبشر على ه ذه األرض ,أال
وهو بناء احلضارة وتأسيس ما ينفع الناس وميكث يف األرض " (.)1
وتنتهي امللحمة يف آخر املط اف ,مبوت البطل جلج امش واستس المه إىل ع امل املوت,
بعد أن مرض ولزم فراش املرض " مث ال نلبث أن نرى جلجامش على فراش املرض الذي لن
يق وم من ه ,وميوت امللك وترتفع أص وات الن واح علي ه ,فنجد أنفس نا يف الع امل الس فلي ,كما
نفهم أن جلج امش رفع إىل ص فوف املل وك ال ذين حيكم ون ذلك الع امل ,وأص بح واح دا من
آهلته الذين يسمون " اآلنوناكي " ويقضون قضاءهم يف أرواح املوتى " (.)2
فقد ص ورته امللحمة من ملك متج رب ,مس تبد ,يبحث عن سر اخلل ود ,إىل بطل تطهر
وعاد إىل وطنه ليعمل جبد لصاحل شعبه ,وكان جلجامش قد بىن سورا عظيما حول مملكته يف
السابق –قبل رحلته للبحث عن نبتة اخللود -وكان هذا السور إجنازا عظيما واسى به نفسه,
وجعله عمال خال دا حيمى به مملكته من كل ع دو وطاغي ة ,وفشل جلج امش يف إحض ار نبتة
اخللود ,هو يف حد ذاته جمد حقيقي له ,ذلك أن " هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته
اليت جتعله أق رب إلينا من كثري من أبط ال املآسي القدمية واحلديث ة .ومع أن ش اعر امللحمة (*)
قد ج ارى الكهن وت والتقاليد الدينية واألس طورية للمق اييس البش رية ,وص رح أك ثر من م رة
ب أن ثلثيه إهلي والثلث الب اقي بش ري ف اين ,فقد ح رص على تأكيد إنس انيته وفرديت ه ,وإب راز
ض عفه وت ردده يف كثري من مواقفه وه واجس رؤاه وأحالم ه ,وعلى تتبع " تطه ره " الت درجيي
من تأهله وجتربه وتس لطه على ش عبه ,بل من مترده املؤمل والعقيم على ق وانني املوت والف راق
احملت وم ،حىت وص وله إىل مرحلة ال وعي بالوضع البش ري وق انون اللحظة الع ابرة والواقع هنا
واآلن ,واالقتناع بأن اخللود الوحيد املتاح للبشر إمنا يكون يف إجناز أعمال حضارية من نوع
() 3
السور الذي يثين عليه ثناء حارا وهو يف طريق عودته إىل موطنه ومسقط رأسه "
76
اقتنع جلج امش يف النهاية أن اخلل ود من ص فات اآلهلة ,اس تأثرت به لنفس ها ,وما
خلوده هو إال يف تطهره من جتربه وتسلطه على شعبه ,وخلوده أيضا يف منجزاته اليت ستخلد
لصاحل شعبه والبشرية أمجع.
وحني يئس اإلنس ان من حص وله على اخلل ود ,س عى جاه دا السرتض اء آهلته بتق دمي
الق رابني من خ رية ما ميل ك ,حىت هتبه اآلهلة اخلصب والنم اء والطمأنين ة ,وحىت يس لم من
غضبها وبطشها وعقاهبا.
والقربان موجود منذ البدء ,ففي بعض األساطري جند العامل قد تكون بفعل قربان قدم
نفسه ألجل البش رية " ففي األس طورة اهلندية القدمية يص نع الع امل كل ه ,مبا فيه اإلنس ان من
جسم اإلنسان األول بوروشا الذي قدم نفسه قربانا لنفسه " (.)1
وهذا يؤكد الفكرة القائلة بأن ال حياة تتجدد إال بعد أن يضحى حبياة أخرى .وهذه
الفكرة جيسدها أكثر القربان الدموي والذي يعد شرطا لكل خلق " إن إعالء شأن القربان
ال دموي بوص فه ش رطا لكل خلق –خلق الك ون وخلق اإلنس ان -يق وي من جهة التم اثالت
بني اإلنسان والكون ولكن على األخص يدخل الفكرة القائلة بأن احلياة ال ميكن أن تتولد إال
بدءا من حياة أخرى يضحى هبا " (. )2
ومبا أن األس طورة والطقس وجه ان لعملة واح دة ,فقد جس دت أس اطري اخلصب
والنماء من خالل طقوس تقدمي القربان ب " معىن التضحيات البشرية ألجل احملاصيل :تقدم
الض حية ,تقط ع ,وتن ثر القطع على األرض للحص ول على اخلص وبة ,ولكن حسب بعض
املأثورات ,ينظر إىل املع ادن أيضا كأهنا متح درة من دم أو من حلم ك ائن أويل نصف إهلي
() 3
مضحى به "
-مريسيا إلياد " ,أسطوريات عصر جديد ,تر :حسن حيدر ,جملة الفكر العريب ,متوز ,أيلول ,سبتمرب ,العدد2
الثالث والسبعني ,السنة الرابعة عشر( ,)3بريوت ,تصدر عن معهد اإلمناء العريب يف بريوت ,ص .36
-املرجع نفسه ص.37 3
77
ولعل حتقيق االس تمرار والوص ول إىل اخلل ود ,ك ان وال ي زال ه اجر املرء حىت يومنا
ه ذا ,يص در عنه ه ذا اإلص رار على االس تمرارية يف كل حني " ,إن ك ان عن طريق اإلجناب,
أو األعم ال اخلريي ة ,أو زرع األرض...وغريها من األعم ال اليت تفيد املس تقبل واألجي ال
الالحقة بش كل أو ب آخر .وق دم اإلنس ان ق رابني شىت ت درجت يف القيمة ويف اختي ار اجلنس
والن وع ,فمنهم من ذهب إىل أهنا ك انت ق رابني بش رية يف س ابق العه ود ,وص وال إىل القرب ان
النب ايت بع دها ,وهن اك من ي ذهب إىل العكس من ه ذا ,حيث يؤكد ب أن القرب ان ت درج من
نبايت إىل حيواين وصوال إىل القربان البشري.
وهو موقف يرى أن " القربان يف بداية أمره اقتصر على مثار النبات ,مث رأى اإلنسان
–زي ادة يف متلق آهلت ه -أن ي ذبح هلا من ماش يته ,حبس بان اللحم أعلى من النب ات رتب ة ,وملا مل
يكن متيسرا له أن حيمل قربانه ليذحبه عند عروش اآلهلة ,فقد عمد إىل ذحبه مث حرقه لتتصاعد
مادته دخانا تشمه اآلهلة فتهدأ نفوسها ,وزيادة يف املغاالة ,وإثباتا خللوص ضمريه آلهلته ,حتول
حنو ال دماء البش رية ,فأس ال بعض دم اءه جبروح مقص ودة ,على م ذابح اآلهلة ,تقربا وف داء
لنفسه وأوالده ,وممتلكات ه ,مث حتول األمر إىل ما يش به الن ذور فك ان ي ذبح واح دا من أبن اءه
آلهلته ,إن هي استجابت لرجائه يف أمر يرجوه ,أو دفعا لشر حمتمل احلدوث " (.)1
هذا ,وهناك باملقابل من يرى العكس متاما ,إذ يذهب البعض إىل أن القربان كان يف
بداياته بش ريا ,مث حيواني ا,مث اقتصر على النب ات حىت تط ور العقل البش ري وأدرك ض رورة
استبدال اإلنسان باحليوان لقيمة حياته ,واستبدال احليوان بالنبات جلاجته إليه؛ حيث " مسايرة
لسنة تطور العقل البشري االرتقائية ,إذ يذهب إىل أن البداية كانت بالضحايا البشرية ,عندما
كان اإلنسان ال يزال يصارع بدائيته الوحشية ,وبالتدرج االرتقائي يف تطور العقل حتول حنو
احلي وان يس تبدله باإلنس ان ,ليقدمه آلهلته م ذبوحا أو حمروقا ف داء لنفسه أو للقبيلة أو املوطن,
وأحيانا بتقدمي النبات حال احتياجه للحيوان " (.)2
78
ففي سفر التكوين قدم قايني ( قابيل يف اإلسالم ) قربانا حيوانيا للرب ,فتقبل منه ومل
يتقبل قرب ان أخيه هابي ل ,ال ذي هو قرب ان نب ايت ( .من أمثار األرض -كما س بق وأوردن اه
بالتفصيل من العهد القدمي -ويف سفر التكوين نفسه جاء تقدمي النيب إبراهيم –عليه السالم-
لول ده كقرب ان بش ري طاعة لل رب فج اء النص كالت ايل " :وح دث بعد ه ذه األم ور أن اهلل
امتحن إب راهيم ,فق ال ل ه " :يا إب راهيم ." ! فق ال " :هاأنذا " ,فق ال " :خذ ابنك وحي دك,
ال ذي حتب ه ،إس حاق ,واذهب إىل أرض املريا ,وأص عده هن اك حمرقة على أحد اجلب ال ال ذي
أق ول لك " .فبكر إب راهيم ص باحا وشد على محاره ,وأخذ اث نني من غلمانه مع ه ,وإس حاق
ابن ه ,وش قق حطبا حملرق ة ,وق ام وذهب إىل املوضع ال ذي ق ال له اهلل .ويف الي وم الث الث رفع
إب راهيم عينيه وأبصر املوضع من بعي د .فق ال إب راهيم لغالمي ه " :اجلسا أنتما هنا مع احلم ار,
وأما أنا والغالم فن ذهب إىل هن اك ونس جد ,مث نرجع إليكما " .فأخذ إب راهيم حطب احملرقة
ووض عه على إس حاق ابن ه ,وأخذ بي ده الن ار والس كني ،ف ذهبا كالمها مع ا .وكلم إس حاق
إبراهيم أباه وقال " :يا أيب " ! فقال " :ها أنذا يا بين " .فقال " :هو ذا النار واحلطب ,ولكن
أين اخلروف للمحرق ة؟ " .فق ال إب راهيم " :اهلل ي رى له اخلروف للمحرقة يا اب ين" .ف ذهبا
كالمها مع ا .فلما أتيا إىل املوضع ال ذي ق ال له اهلل ,بىن هن اك إب راهيم املذبح ورتب احلطب
وربط إس حاق ابنه ووض عه على املذبح ورتب احلطب .مث مد إب راهيم ي ده وأخذ الس كني
ليذبح ابنه .فناداه مالك الرب من السماء وقال " :إبراهيم ! إبراهيم ! " .فقال " :ها أنذا ".
فق ال ال متد ي دك إىل الغالم وال تفعل به ش يئا ,ألين اآلن علمت أنك خ ائف اهلل ,فلم متسك
ابنك وحي دك عين " .فرفع إب راهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممس كا يف الغابة بقرني ه,
ف ذهب إب راهيم وأخذ الكبش وأص عده حمرقة عوضا عن ابن ه ...ون ادى مالك ال رب إب راهيم
ثانية من الس ماء .وق ال " :ب ذايت أقس مت ,يق ول ال رب ,أين من أجل أنك فعلت ه ذا األم ر,
ومل متسك ابنك وحي دك ,أباركك مبارك ة ,وأك ثر نس لك تكث ريا كنج وم الس ماء وكالرمل
الذي على شاطئ البحر ,ويرث نسلك باب أعدائه ,ويتبارك يف نسلك مجيع أمم األرض ,من
أجل أنك مسعت لقويل"( .سفر التكوين)22 ,
79
وبالت ايل فالقرب ان البش ري موج ود حىت عهد إب راهيم عليه الس الم وحىت بع ده بكث ري.
فقد ك انت ع ادة الع رب –ك ذلك -تق دمي القرب ان .ففي القصة اإلس المية حني طلب اهلل من
سيدنا إبراهيم عليه السالم أن يذبح ابنه إمساعيل عليه السالم وفداه بكبش (الق رآن) " وقال
إين ذاهب إىل ريب س يهدين ,رب هب يل من الص احلني ,فبش رنه بغالم حليم ,فلما بلغ معه
الس عي ق ال يبين إين أرى يف املن ام أين أذحبك ف انظر م اذى ت رى ق ال يا أبت افعل ما ت ومر به
س تجدين إن ش اء اهلل من الص ابرين ,فلما أس لما وتله للج بني ,ونادين اه أن يا إب راهيم ,قد
ص دقت الرؤية إنا ك ذلك جنزي احملس نني ,إن ه ذا هلو البالء املبني ,وف ديناه ب ذبح عظيم,
وتركنا عليه يف اآلخرين ,سالم على إبراهيم ,كذلك جنزي احملسنني ,إنه من عبادنا املؤمنني,
وبش رناه بإس حق نبيا من الص احلني ,وباركنا عليه وعلى إس حق من ذريتهما حمسن وظ امل
(.)1
لنفسه مبني "
وهلذا ك ان الرس ول الك رمي (ص لى اهلل عليه وس لم) يفتخر بأنه ابن امله ديني :إمساعيل
عليه الس الم ,ووال ده عبد اهلل بن عبد املطلب ,ال ذي ن ذر وال ده ( عبد املطلب ) بذحبه ,لكنه
فدي مبائة من اجلمال ,وقد جاءت القصة منفصلة يف كتاب السرية البن هشام ,خمتصرها ما
يلي " :وك ان عبد املطلب بن هاشم ,يف ما يزعم ون ,واهلل أعلم ,قد ن ذر-حني لقي من
قريش ما لقي عند حفر زمزم -لئن ولد له عشرة نفر مث بلغوا معه حىت مينعوه لينحرن أحدهم
اهلل عند الكعب ة ,فلما ت واىف بن وه عش رة ,وع رف أهنم س يمنعونه ,مجعهم مث أخ ربهم بن ذره,
ودع اهم إىل الوف اء هلل ب ذلك فأط اعوه ,وق الوا :كيف نص نع؟ ق ال :ليأخذ كل رجل منكم
ق دحا ,مث يكتب فيه امسه ,مث ائت وين ,ففعل وا مث أت وه ,ف دخل هبم على هبل يف ج وف
الكعبة...مث ضرب صاحب القداح خنرج القدح على عبد اهلل فأخذه عبد املطلب بيده وأخذ
الشفر مث أقبل به إىل إساف فائلة ليذحبه...فقامت إليه قريش من أنديتها ,فقالوا :ماذا تريد يا
عبد اهلل؟ ق ال :أذحبه ,فق الت له ق ريش وبن وه :واهلل ال تذحبه أب دا حىت تع ذر في ه .إلن فعلت
ه ذا ال ي زال الرجل ي أيت ابنه حىت يذحبه فما بق اء الن اس على ه ذا؟ ...واهلل لتذحبه أب دا حىت
80
تعذر فيه .فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه...فبلغت اإلبل مائة فنحرت مث تركت ال يصد عنها
() 1
إنسان وال مينع "
وهكذا تكون التضحية وتقدمي القربان داللة على متانة العالقة بني اإلنسان ومعبوده,
" ليس تق دمي األض حية س وى جتديد للعالقة ومتتني هلا بني العبد وإهله " .وحتمل التض حية يف
ثناياهها عربة لألفراد واألجيال ,ومسعا جادا يف حماولة وضع نظام أسري متآلف " ,والتوراة
عرجت على مسألة التضحية البشرية يف مواضيع عدة ...وظهر اهلم مبمارسة هذه الفعلة من
ط رف إب راهيم مث وقع ال رتاجع عنه ا...ما فعله إب راهيم مع أحد ابنيه س واء مع إمساعيل أو
إسحاق ,املقصود منه اإلرشاد ملنع إيقاف التضحية باإلنسان ليستقر األمن واألمان بني أفراد
األس رة ,فقد ك ان ارتق اء التفكري اإلنس اين وتص حيح رؤيته لإلله من ال دوافع اليت س امهت يف
تواري هذه العادة " (.)2
ه ذا ,وقد ق دمت الع رب الق رابني يف اجلاهلي ة ,كغريها من الش عوب األخ رى ,إذ أن
ظاهرة وأد البنات ما هي إىل تقدمي قربان بشري إلله القمر " ود " .فقد كان وأد البنات يف
اجلاهلية...تقدمة وقربان إلله القمر " ود " ,حيث كانت املوءودة تداس يف رمال الصحراء,
العتقاد اجلاهلني أن القمر سوف يأيت ليال فيتقبل الضحية املقربة إليه ..إذ أن " ود " الذي هو
القم ر ,وال وأد ال ذي هو عملية التض حية مش تقات من اجلذر عين ه ,أو من ج ذرين ملتص قني/
ود ,وأد /يعين ه ذا أن الكلمة تطلق هنا على املعب ود /ود ./وأن الفعل ال ذي نتق رب به إىل
املعب ود قد يش تق من امسه .فك ان الفعل وأد للداللة علة دش الطفل يف الرم ل .ومن بعد ذلك
-ابن هشام " السرية النبوية ,ومعه ألفية السرية النبوي ,أرجوزة شعرية للحافظ زين الدين عبد الرحيم
1
العراقي املتوىف ,806ج ,1تقدمي ومراجعة ,صديقي مجيل العطار ,حتقيق وتعليق :سعد حممد اللحام مكتبة
البحوث والدراسات ,دار الفكر للطباعة ,والنشر والتوزيع ,بريوت ,ص.129/130/131/132
-عز الدين عناية ,الرتاث اآلن ,االستهواء العريب والفكر األسطوري ,جملة :كتابات معاصرة فنون وعلوم, 2
81
تنشأ املودة بني العبد املضحى به واملعبود –وبالتايل -فإن ود ,مث وأد ,مث مودة ( أي قرىب مع
املعبود ) كلمات ثالث ال تفصح إال إذا أخذت دخل وحدة تعبدية " (.)1
وقد أخذت التضحية أشكاال أخرى أقل حدة ,فاستبدل احليوان باإلنسان ,مث احليوان
بالنبات ,وحىت أنه يف أحيان كثرية أخذ جزء من اإلنسان ليكون بديال عن الكل الذي هو "
اإلنسان " يف حد ذاته ,وبقيت شعرية التضحية قائمة فقد اختلفت قيمتها بفدية أقل ضررا ف
" األض حية احليوانية هي ب ديل ارتض ته اآلهلة ختفيفا ومواس اة لإلنس ان املك ره على التض حية
بأحد أوالده ال ذكور أو اإلن اث .وقد ح دث الحقا تط ور القرب ان احلي واين ب أن اس تبدل دم
األض حية بالنبيد " دم الكرمة " واللحم اآلدمي ب اخلبز –مثلما يش هد على ذلك القرب ان
املس يحي -كم ا ..أن عملية اخلت ان وهي ظ اهرة وج دت عند كثري من الش عوب هي ش اهد
آخر على التح ول ,ال ذي ط رأ على فك رة التض حية بالبش ر ,فقد ك انت فدية لتض حية أخ رى
(.)2
أشد منها قسوة؛ حيث يكتفي اإلله هنا ( يف طقس اخلتان ) بأخذ جزء من الكل "
هذا ,ويف جمتمعاتنا مظاهر عديدة لتقدمي فدية عوض اإلنسان أو احليوان ,وذكرت آنفا
يف عنصر أس طورة اخلصب –أننا كنا يف ص غرنا -نق دم يف السن اليت نقتلعها إىل الش مس
منش دين هلا لكي هتبنا س نا من فضة أو من ذهب وه ذه تعترب فدية ع وض التض حية أي ج زء
من الكل.
ختاما علينا اإلقرار أن سعي اإلنسان منذ القدمي إىل يومنا هذا وراء فكرة اخللود بكل
أوجهه ا ,وتقدميه ملا تتيحه له معتقداته أو أعرافه وجوارحه من نفيس ألجل االس تمرارية
والبقاء ما هو إال دليل على ارتقاء العقل البشري وذكاؤه ,يف حماولة إجياد حل ملواجهة شبح
املوت بل حتمية املوت والتص دي هلا ومل ي رتاجع اإلنس ان منذ الق دمي إىل يومنا ه ذا –على
اختالف ال ديانات الوثنية وبع دها الس ماوية -عن فك رة مواجهة املوت والبحث عن اخلل ود,
مادام فيه نفس ال يزال يبقيه حيا.
-تركي علي الربيعو ,اإلسالم وملحمة الفكر واألسطورة ,مراجعة :خلف جراد ,عن علي زيعور يف كتابه "
1
82
ويف ديننا احلنيف ما يثلج صدر من أعياه التصدي للموت والنبش وراء اخللود ,بأن ما
يبقى للميت بعد موته ثالث " ,ولد ص احل ي دعو له " ,ص دقة جارية " " ,علم ينتفع به "
ويبقى بذلك اإلنسان حيا بفعله احلسن ,لقول رسوله ( ص ) " إذا مات ابن آدم انقطع عمله
إال من ثالث ,ولد صاحل يدعو له ,أو صدقة جارية ,أو علم ينتفع به الناس من بعده " (صدق
رسول اهلل) .
83
التج ار ,وتب ادل البض ائع ,وجتارة
واح دة هائل ة .وقد اس تطاعت أن جتعلها مرك زا ملض اربات ّ
الرقيق وال ذهب واألحج ار الكرمية والتوابل والص ناعات واجلل ود ,وقد ازده رت املدينة ّ
واملنجمون من
وشيّدت القصور والبيوت ذات املعمار البديع ,وأصبح يرتادها العلماء واخلرباء ّ
كل أحناء األرض ...وامت ّدت املدينة من نبع " أطالنتس " حىت الواحة متواص لة على مس افة
شهر ونصف وأطلقت عليها اسم " أطالنتيدا " اآلفاق ,وجاء الناس من وراء البحار واألهنار
واحمليط ات بعد أن أص بحت من ارة للعلم واحلض ارة وقبلة لكل من ينشد العلم أو يت وق
للمعرفة ,وأصبح يقال بأن أطالنتيدا هي جنّة اهلل على األرض ,ومن مل يزرها فإنه مل يعش يف
ه ذه ال ّدنيا ,فتق اطر عليها الن اس من كل ح دب وص وب حىت ك ربت واتس عت وامت دت
ح دودها حىت احمليط غربا وما وراء ال نيجر جنوبا والبحر مشاال وهنر النيل ش رقا .وقد جعلت
النس اء وجاءت
الرجال الذين لزموا البيوت فتلثّموا خجال يف حني قاتلت ّ للنس اء سلطة على ّ
ّ
باألسرى .أخضعت امللكة تانس جبيشها القوي اجلبّار األمصار واألقطار ,الشعوب والقبائل,
البعيدة والقريبة ,وتربعت على عرش اإلمرباطورية أربعني عاما .وعندما ماتت حدثت حركة
غريبة يف نظ ام النج وم ,وق ادت ك واكب األخ رى محلة ضد القم ر ,فح دث ما يس ّمى ب "
ألول م ّرة كما يؤ ّكد املنجم ون من أهل اخلربة والعلم ,فهبّت األعاصري العاتية اخلس وف " ّ
احململة بالغبار كنتيجة لصراع الكواكب بعد أربعني يوما بالضبط من وفاة سليلة والعواصف ّ
والري اح أربعني يوما بال انقط اع ,حىت غم رت القمر ت انس العظيم ة ,واس تمرت العواصف ّ
اإلمرباطورية الرم ال ,وأغ رقت الغاب ات واألهنار واملدن مبوج ات هائلة من األتربة املتص اعدة
الس كان
ودم رت املعم ار فه رب ّ ليل هنار ,وأب ادت املواشي وقطع ان اإلبل واحليوان ات الربيّ ةّ ,
الرم ال .جلأوا إىل املدن البعي دة اجملهولة وراء البح ار واحمليط ات.طلبا للنج دة من طوف ان ّ
الصحراء ,قاسية ,متجرّب ة ,متسلّطة ,تسيطر على الدنيا كما يف الصحراء تزحف على ّ وعادت ّ
س ابق عه دها وان دثرت " أطالنتي دا " من ارة العلم واحلض ارة .وبقى " ب ئر أطالنتس " رم زا
للرعاة وعابروا
وظل البئر ملجأ ّبائسا هلذه احلضارة اخلرافية اليت ملعت فجأة وانطفأت فجأةّ .
الس بيل ,ت نزح مياهه فيه اجرون إىل الواح ات املتن اثرة هنا وهن اك ,تطفو املي اه فيع ودون إلي ه,
ويقيم ون حوله دون أن جيدوا تفس ريا لظ اهرة اختف اء املي اه اليت حتدث ,حسب ما تناقلته
84
كل ثالمثائة عام .ويؤ ّكد البعض يف قصصهم أن الختفاء املياه يف البئر عالقة مباشرةاألجيالّ ,
بع دد املراّت اليت حيدث فيها خس وف القمر يف الع ام الواح د .أما ق ارة " أطالنتي دا " العتي دة
() 1
الرهيب "
الرمال ّفقد اختفت بعيدا يف جوف األرض ,بعد طوفان ّ
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري " أطالنتي دا ,اجلنّة األرض ية " متقلّص ة ,عرب
حالة ( التماثل والتش ابه ) حيث أن النبع /الب ئر هو مركز الص حراء فبوج وه ممتلئ تك ون
الرحي ل,طر األه ايل إىل ّ
الص حراء جنّة أرض ية ,لكن جبفافه ختتفي ه ذه اجلنّة األرض ية ويض ّّ
الرواية:
الرحيل ,حيث جاء يف نص ّ حيث أنه حني ج ّفت البئر اضطرت قبيلة الشيخ غوما إىل ّ
أتصور واهلل كيف ميكننا أن نعيش يف الواحة بعد احلياة يف الرحيل ال أستطيع أن ّ
" ...إذن هو ّ
طر يا ش يخ أن هتجرها إىل األبد ش ئت أم أبيت .اللّهم إالّ إذا كنت تطمع الص حراء ...ستض ّ
يف عمر نوح فتنتظر حىت يعود املاء لالرتف اع بعد ثالمثائة ع ام ... ! أتعلم يا شيخ خلي ل؟ إن
الس مك ,أو خيرجه الص يّادون من املاء ,وحنن اآلن مثل ه ذا ّ الس مك يف البحر ميوت عن دما ّ ّ
الص حراء .كيف نس تطيع أن نطيق حي اة أخ رى يا الس مك :منوت إذا نزحنا من ّ
عكس ه ذا ّ
() 2
ترى؟ كيف نستطيع أن نقلب األرض ونتطاول يف الزراعة؟ جثم صمت كالكابوس "
اإلشعاع:
الصحراء ,وبه تكون جنّة أرضيّة.
البئر مركز ّ -1
سر اخللود ,وحني ينعدم الفناء.سر احلياة يف املاء ,يف وجوده يكمن ّ
اهلل وضع ّ -2
الصحراء الواسعة وخروجه منها فيه فناءه
الصحراء يف ّخلود رجل ّ -3
تجليات أسطورة " الخلود " في رواية " التبر " :
تتجلى أسطورة " اخللود " يف رواية الترب ,من خالل العنصر األسطوري ( نبتة اخللود
(آسيار) ) ,هذه النبتة األسطورية ,اليت تعيد احلياة والعافية والنضارة واخللود لإلنسان واحليوان
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ,ص 55 :و 56و.57 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " البئر " ،ص 220 :و.221 2
85
على الس واء؛ حيث نصح الش يخ موسى أوخيّد بنبتة (آس يار) اليت فيها ش فاء ألبلق ه ,بعد أن
الرواي ة ..." ،الش يخ موسى هو ال ذي نص ّ
أص يب ب داء جل دي ال ش فاء من ه؛ حيث ج اء يف ّ
بالسر وخلّص أبلقه .قال له " :الكالم بيننا ولكن شفاء مجلك آسيار )( .ال تضحك متتم له ّ
علي وامسع كالمي .اذهب إىل قرع ات ميم ون يف الربيع الق ادم :آس يار ال ينبت يف تلك ّ
كرر
يفر واتركه يرتع يوما أو يومني وسوف ترى " ,مثّ ّ الس هول .أوثق املهري جيّ دا حىت ال ّ
ّ
() 1
بلغة غامضة " :ال تنس أن تعقله جيّدا " "
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( نبتة اخلل ود " آس يار " من خالل حالة
(التماثل والتش ابه) ,حيث متاثل األبلق للش فاء بعد أكله من النبتة الس حرية (آس يار)؛ حيث
الرواية " :فوق " قرعات ميمون " تولّت سحب بنفسجية كثيفة وتالمحت على جاء يف نص ّ
رؤوس اجلب ال املتباع دة ...مع األص يل ع ثر على حقل كام ل .ارتفعت النبتة اخلرافية مس افة
قمة
ذراع عن األرض .أوراقها خض راء داكن ة ,ت دلّت فروعه ا ,ع ادت إىل األرض ...يف ّ
الس اق تكتشف زهرة صفراء ,وف احت بش ذى غامض .زهرة اجلن ... ! ب دأ احليوان اجلائع
يلتهم نبتة اجلن ,ميأل فمه ,ويرفع رأسه حنو األفق ,ويلوك طويال قبل أن يبتلع اللقمة ...احلزن
اختفى من احلدقتني الس وداوين .احلمد هلل ,أهي ب ادرة للش فاء ...اجلل دة احلرب اء س قطت يف
الطريق .األبلق حترر من جلدته كما يتحرر منها الثعبان .املهري مسلوخ متاما .مل ير قيحا وال
صديدا .حىت الدم مجد على اجللدة احلمراء ...برغم األمل تفتقت نفسه بالفرح .هل سيشفى
() 2
ويل حقا؟" ...
األبلق؟ هل حتققت معجزة آسيار؟ هو موسى ّ
-آسيار :يعتقد أنه يقايا السلفيوم .وهو نبات أسطوري يعطي الطاقة هائلة ,انقرض من ليبيا يف القرن الثالث
املؤرخون القدماء أنه كان دواء سحريا لكل األمراض املعروفة يف العامل القدمي .وكان ملوك
قبل امليالد .وجيمع ّ
سر التحنيط إذ استخدمه ليبيا القدماء يصدرونه إىل مصر وما وراء البحار ..ويعتقد الكثريون أ ّن فيه يكمن ّ
الفراعنة هلذا الغرض.
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب" ,ص 20 :و.21 1
86
وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( نبتة اخلل ود آس يار ) متقلصة من خالل حالة
( التماثل والتش ابه ) عرب تيمة ( التفكري والطّه ارة ) حيث ك ان البد لألبلق أن يك ّفر عن ذنبه
الرواية" :
مبخالطة أنثاه اجلرباء وكذلك التطّهر ألجل امتثاله للشفاء متاما .حيث جاء يف نص ّ
الص حراء مهريا أبل ق؟ ال تلتفت إىل حالته اآلن ...فهو هل تعلم أنه أبل ق؟ هل رأيت يف ّ
م ريض .داء ع ابر .الب ّد أن يع ود له لونه األص لي ...ابتسم موسى يف العتم ة ,وق ال - :اهلل
مجيل حيبذ اجلمال .وإذا اشرتيت له الشفاء هبذا العذاب فالب ّد أن تدفع مقابل الكمال أيضا .مل
يفهم أوخيّد ,فأوضح الشيخ:
-التكفري ,الطّهارة ,أال تفهم؟
-الطّهارة؟ .نعم ,البد من اإلخصاء – .اإلخصاء؟
تظن؟ أمل نتّفق على أن لكل شيء مثنا؟ وماذا ّ
... -البدن آمث .البدن كلّه خطيئة :يلزم نزع السبب من أصله.
اهلم أم
يف خلوهتما ب املرعى ,ق ال ل ه - :أعتقد أن ما فعلته بنا فعلتك تكفي .ال من النّ وق إال ّ
املقززة ,ولكن الوبر مل
إنك ترى رأيا آخر؟ ختشن اجللد اجلديد ,والتأم اجلرح .اختفت احلمرة ّ
ينبت بع د .مل يعلّق امله ري على اقرتاح ه ,فواصل الش اب :الش يخ غوما يق ول الب ّد من ن زع
الس بب .البه اء ليس س هال أيض ا .كل ش يء يط الب بقربان ه .لن تت أمل ط ويال ...نفض األبلق
رأسه بعصبية .هل هي عالمة رفض؟ ...ولكن الب ّد من الطهارة .لن تفوز باجلمال ولن تلقى
ذرع أوخيّد بالس فر إىل "اهلل ب دون طه ارة .الطه ارة هي الش رط ...مث ح ّل الص يف ...,ت ّ
األول من
الرج ال على اجلمل املس كني .النصف ّ القري ات " ...يف الي وم الت ايل لغياب ه ,تكأكأ ّ
النّهار قضوه يف منازعته وتطهريه من "البالء" .وأنفقوا النصف الثاين من النهار يف إجباره على
ابتالع اخلصيتني تكميال للطقوس " ()
وككل م ّرة ,يفاجئنا الك وين بانزي اح عن مس ار األس طورة املع روف ,فيخ رق ب ذلك أفق
انتظارن ا ,حيث ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( نبتة اخلل ود آس يار ) ممت دة من خالل
حالة ( التش وهات والتغ ريات ) ,حيث ج ّرت النبتة األس طورية الفن اء لألبلق ع وض اخلل ود.
فحني عُ ِفي من مرضه وأع اد نض ارته ,جلب له ذلك البالء ,وقادته نض ارته الفن اء ,حيث
87
عم زوجته حني س اومه عليه حىت يتمكن من س ّد رمق اض طر أوخيّد إىل رهنه عند ابن ّ
طر إىل اس تعادته مقابل تطليق زوجته وختليّه عن ج وعهم ,ولكن أوخيّد مل حيتمل بع اده فاض ّ
ابنه ل ذلك االنته ازي ,وبعد أن اس تعاد أبلقه وانطلقا يف ص حراء احلرية ظنّا منهما ب اخلالص.
اكتشف أ ّن ذلك االنتهازي قد فضحه يف كل الصحراء بأنه باع زوجته وابنه مقابل حفنة من
توع ده أهل القتي ل ,ف ّفر هارب ا .لكن
الترب ( ال ذهب ) .فع زم على قتل ه .وحني مت ّكن من ذلك ّ
القدر احملتوم الذي يقضي بالفناء كان هلما باملرصاد .حيث ُأح ِرق األبلق بأبشع الطرق ولقي
أوخيّد حتفه بأبشع جرمية قتل على اإلطالل ,وع وض اخلالص واخلل ود ,حيث ج اء كحتمية
الرواية ..." :األبلق خيوض يف نص ّ
حي .فكان اخللود الذي جلب الفناء .حيث جاء يف ّ لكل ّ
احلروق وال دم .ومسوا وجهه أيض ا .ش ّقوا ف ّكه األيسر بالس ّكني املش تعل ,فتآكل ون ّز منه
الشريرة ...قيّدوا يديه ورجليه باحلبال .جاؤوا
ضرهتا ّ
ال ّدم ...تعرفون كيف انتقمت تانس من ّ
والرجل اليمىن إىل مجل ,وش ّدوا اليد األخ رى والرجل اليس رى إىلجبملني .ش ّدوا اليد اليمىن ّ
مجل آخ ر ...زحف اجلسد املم ّزق ,ال ّدامي ,زحفت األش الء ...وب رغم الب دن املم ّزق ,رفع
الس يف
أوخيّد رأسه مستعينا بصدره ويده اليسرى ...جاء آخر ,أمسك بالرأس احلاسر .طار ّ
() 1
السماء ...بأشعة الشمس القاسية ,ونزل على الرقبة" ...
يف الفضاء .واغتسل مباء ّ
ك ذلك ,تتجلّى أس طورة اخلل ود يف رواية " الترب " ,من خالل العنصر األس طوري
الص حراء الشاس عة ,فمن ووج دها ,بُ ِّش ر ب اخللود ,حيث( الس درة األس طورية ) الض ائعة يف ّ
جيري حتتها نب ع ,هو نبع اخلل ود .وقد ج اء التجلي من خالل العنصر األس طوري ( س درة
تاما من خالل التص ريح هبا .حيث ذكرها الك وين يف روايته بأهنا تقف على نبع املنتهى ) ّ
الرواية
العراف ون الرؤيا جل ّد بطل ّ
فس ر ّاخلل ود ,وك ذلك أح ال هلا الك وين يف اهلامش .حيث ّ
ألمه شيخ حكيم .إذا رأى رؤيا يف نومه ال يغادر فراشه حىت يأتوا أوخيّ د ,حيث إ ّن " :ج ّده ّ
ويرتدد يف القبيلة من حيلو له أن يقول :إذا ح ّذرك اهلل وكشف
بالعرافني ويفسروا له الرؤياّ .
له ّ
ومن إال نفسك " .وقد أمن غ در اخلائنني: تتمهل وتتّعظ وإال فال تل ّ
الس ر فعليك أن ّ لك ّ
دو .وجيمع اجلميع أن كل حكمته ك انت الزم ان وباإلنس ان ,فلم يباغته ح دث ومل يغافله ع ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " الترب " ,ص 158 :و 159و.160 1
88
تنبع من اإلش ارات اخلفيّ ة .ويق ال إ ّن يقف حتت الس درة األس طورية ( )الض ائعة يف غ رب
للرحل ة .إهنا
الص باح" :أع ّد نفسك ّ
الص حراء وش رب من م اء البح رية ,فق ال له الع ّراف يف ّ
ّ
() 1
سدرة املنتهى " (" )
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( الس درة األس طورية ) ممت ّدة عرب حالة
سره .ك ان ِ
( التشوهات والتغ ريات ) حيث ,ع وض أن يصل الشيخ إىل نبع اخللود ويكسب ّ
النبع هو موضع موته وفن اءه .وقد ك ان يعلم ذلك حلكمته وذك اءه ,حيث ج اء يف نص
وظل يفعل
فحضر كفنه ,وغسل جسده وارتدى أفخر لباسه ,وانتظر ملك املوتّ , الروايةّ " : ّ
() 2
ذلك كل يوم حىت لفظ أنفاسه بعد أسبوع من تاريخ الرؤيا "
الفن اء عند الك وين ,هو اخلل ود ,وما ( الس درة األس طورية ) إال رمز دني وي لنم وذج
آخ روي هو ( س درة املنتهى ) أين يتجلّى اهلل س بحانه وتع اىل اخلال د .وال ذي جاللته مينح
اخللود األبدي لبين آدم.
اإلشعاع:
سره يف الفناء.
-1الفناء هو اخللود ,واخللود يكمن ّ
-2كل بين آدم فان لكي خيلد.
للطارقي هو اخللود عينه.
ّ والصحراء
-3اخلروج عن املكان هو الفناء عينهّ ,
الصحراء وخروجه عن حدودها هو فناءه. -4هجرة ابن ّ
تجليات أسطورة " الخلود " في رواية " نزيف الحجر ":
-السدرة األسطورية الضائعة :أسطورة تتحدث عن سدرة يف مكان ما يف الصحراء ,حتتها نبع ,من وجدها
يُرى .ولقد رآه نزلة أخرى .عند سدرة املنتهى " ( .اآليات من 11إىل ) .14
89
قص ة ( الغزالة ) وكيف ق ّدمت نفس ها قربانا تتجلّى أس طورة ( اخلل ود ) ,من خالل ّ
لبين آدم .ألجل بق اءه ,وألجل كسب صك اخلل ود ,من خالل ميث اق ال ّدم .وقد جتلّت
أس طورة اخلل ود هن ا ,جتليّا ناقص ا ,من خالل تقنية ( اخللفية األس طورية )؛ حيث مل يعمد
نص ه ال روائي على خلفية أس طورة معروفة دون أن الك وين إىل توظيف عنصر ص ريح وإمّن ا بىن ّ
قص ته
ي ذكرها ص راحة .حيث جعل من ( الغزالة ) عنص را أس طوريا مباش را بىن على خلفيته ّ
للوص ول إىل البعد الث اين غري املباش ر ,وال ذي ميثل اخللفية األس طورية ( أس طورة اخلل ود ) أو
صرح ضمنيا باألسطورة احملوريّة وهي ( أسطورة اخللود ( معتقد اخللود ) .فيكون بذلك قد ّ
).
اجلوال
الرحالة ّط ّالرواي ة " :ففي ربيع األع وام البعي دة املاض ية ,ح ّ
نص ّ
وقد ج اء يف ّ
الربي ع ,وزحف على ركبتيه بني األش جار القص رية .ت رك رحاله يف الس هل املف روش بأعش اب ّ
عائلته ف وق املرتف ع ,ومسعنا طفال يص رخ يف أحض ان ام رأة ت رتنّح وتعاند ال وهن والس قوط.
الص حراء ق الت أمي احلكيمة إنه العطش .عائلة راحلة اختلت هبا الش مس املتغطرسة يف ّ
وعزته
األم ّ
الرض يع رأسه بالش كوى والبك اء ,فهدهدته ّ الواس عة وبلتها ب العطش .رفع ّ
هبمهم ات غائب ة .واس تمر الرجل يزحف على ركبتيه حنون ا .فالتص قت ب أمي ,ورجوهتا أن
تأمله القطيع بفض ول .كل أف راد القطيع الكبري اش رتكوا يف الفرج ة ,وحزن وا له تنطل قّ ...
مجيعا – .بدأت املشاورات اجلانبية ,مث تقدمت أكرب غزالة يف القطيع ,وخاطبتنا بالقول :كافأ
الص حراء ,وجعل اخلالق املخلوقات فأوجدها يف احلياة ,مث رأى أن ميتحن صربها فأوجدها يف ّ
س ّره يف املاء املع دوم ,وجعل س ّرا آخر يف القرب ان القاس ي .من ض ّحى بنفسه يف س بيل إنق اذ
حي اة أخ رى وقف على الس ّر وكسب اخلل ود .ابن آدم ميوت عطشا ولن ينق ذه إال ال دم .هنا
شرير وقاتل .هل نسيت يا أمنا الكبرية كيف سفح دم اعرتضت غزالة قاسية :ولكن ابن آدم ّ
نضحي بأنفسنا يف سبيل الس ّفاحعشرات الرؤوس من عشريتنا يف تلك املذحبة الفظيعة؟ كيف ّ
الرجيم ؟
ابتسمت األم الكبرية العجفاء ,وقالت بصرب وحزن :التضحية ال تعرف املساومات,
وال تلتفت إىل الذات اليت يذبح على شرفها القربان أل ّن القرابني للخالق العظيم .مث ال ترون
90
يا معشر الغزالن الطيبة ذلك املالك الرضيع الذي يرقد بني يدي امرأة وهو مل يرتكب إمثا ومل
يش رتك يف مذحبة؟ ...لن نس مح أن تق دم األم الكب رية نفس ها قربانا فنفقد ال ّرأس املدبّر ال ذي
الص راط املستقيم .مثّ إهنا حنيلة ,عجفاء ,ليس فيها قطرة دم واحدة ...فقالت هدانا ويهدينا ّ
األم الكب رية وهي تلفت إىل أمي - :هن اك س ّر آخر يف التض حية .القرب ان س يفتح عه دا بني
يحرم عليه دم ابنتك وأبن اء أبن اء ابنتك إىل األب د .ه ذا هو العه د,نس لك وبني ابن آدم .س ّ
سول له نفسه أن خيون رباط الدم. حضي ؟؟ القربان وميثاق ال ّدم ,واللّعنة سوف تالحق من تُ ّ
فال يوجد يف الدنيا كلها أقوى من رباط الدم وليس هناك جرمية أبشع من خيانة هذا الرباط.
تق ّدمت مين أمي ,وقبلت ين ,ومس حت برقب يت ,ومهست يف أذين " :إين أفعل ذلك من أجل ك.
لن ميسك اإلنس بعد الي وم " .مث ذهبت وس لمت نفس ها لآلدمي احملطم ال ذي يغمر وجهه يف
الص غري مل يس مح يل أن أس توعب ال رتاث حتت ش جرة ال رمت ؟؟ .مل أفهم ما ح دث .عقلي ّ
أحس ب اخلطر إال عن دما رأيت الس ّكني تلمع يف يد اإلنس ان حتت قس اوة ما ح دث .ومل ّ
مزق قليب يف تلك اللحظة أحست أن شعاعات الشمس .آه .لو تدرين يا صغرييت األمل الذي ّ
س هما مس موما اخ رتق قل يب .ص رخت .هجمت على األم الكب رية ونطحتها بق رينّ الناس ئني,
ووص فتها ب" اجلنيّة العج وز " وقف زت وراء أمي اليت تكأك أت عليها كل العائلة يف تلك
ودس ت الطفل العطش ان يف ج وف أمي املس كينة – اللحظة يف تلك اللحظ ة .أقبلت املرأة ّ
كانت ذبيحة – أبعدين اإلنس بضربة طائشة ,وال أدري اآلن ملاذا مل يغرس يف رقبيت الس ّكني
أيض ا؟ ع دت إىل القطي ع ,وص عدت الرب وة املقابل ة ,وش كوت كل املخلوق ات إىل الس ماء.
ش كوت اإلنس والغ زالن واألم الكب رية ,وطلبت منها أن تلعنهم مجيعا مقابل أن ما س ببوه من
أمل ,مث بكيت .ومهت يف اخلالء وحي دة حىت الي وم .وكلما ت ذكرت أمي الذبيحة أحسست
بالس هم املس موم خيرتق قل يب ,مس كينة ,فعلت ذلك من أجلي ومن أجلك كي ينعم نس لنا
باألم ان عرب األجي ال ,دمها آخى بني ملتنا وملّة آدم .حنن اآلن وابن آدم أخ وة بال دم .ه ذا
قص تها ,ف وقفت على قوائمه ا ,ورفعت احلصن اش رتيناه بثمن ق اس .أهنت الغزالة احلكيمة ّ
() 1
رأسها حنو قمة اجلبل كأهنا تقرأ تعويذة موجهة إىل السماء".
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 110و 111و.112 1
91
فمنذ الق دمي ك انت التض حية هي الثمن الب اهض للخل ود ,وبتق دمي القرب ان البش ري أو
احليواين أو النبايت يكون اخللود.
فاخللود هاجس اإلنس منذ وجوده على هذه البسيطة إىل يومنا هذا.
ه ذا ,وتأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( اخللود ) ,ممتدة من خل حالة ( التشوهات
الرغم من تقدمي الغزالة األم نفسها
والتغريات ) ,عرب تيمة ( التضحية والقربان ) حيث وعلى ّ
قربانا ألجل ميث اق ال دم مع بين آدم .حلماية نس لها ,إال أ ّن ابن آدم ال ميأل جوفه إال ال رتاب,
وال يثنيه عن انته اك حرمة العهد إال املوت .فها هو ( قابيل ) الش ره ألكل حلم الغ زال
نص الرواي ة " :ومع
ودان ,مل يت أخر برهة عن ص يد غ زالن احلم ادة كلّه ا .حيث ج اء يف ّ وال ّ
ويتعش ى شاة ورمبا أكثر
ّ ازدياد الذبائح ازداد استهالكه للّحم .اآلن يفطر شاة ,ويتغ ّذى شاة
الرحل أو جتار القوافل.
من شاة ,إذ استضاف أحد الضيوف أو عابري السبيل من الرعاة أو ّ
يتصور أن هذا احليوان الذي
يتصور يف يوم من األيام أن يتناقص الغزال إىل هذا احلد ,مل ّ ومل ّ
الص حراء ميكن أن ينقرض – عندها فقط تذكر األجنة – اليت يستخرجها من جوف تعج به ّّ
الص ريعة اليت قتل جنينها يف بطنها
األن ثى الذبيح ة ...وت ذكر – بش كل خ اص – الغزالة ّ
الس ماء .ولكنّه ما لبث أن نسي ,وواصل متشيطه للحمادة حبثا عن الشاردة اليت فاشتكته إىل ّ
() 1
تراجعت إىل اجلنوب واحتمت مبرتفعات جبل احلساونة "
كذلك ,جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( اخللود ) ,ممتدة عرب حالة ( التشوهات
والتغ ريات ) ,حيث مل يصد ابن آدم ( قابيل ) ,ميث اق ال دم عن قتل أخته بال دم وأكله ا ,على
ال ّرغم من ت ردده يف البداية على اإلق دام على ه ذه اجلرمية ,حيث ج اء يف نص الرواي ة..." :
اندهش كيف مل يطلق عليها النار .نسي البندقيّة هنائيا .نسي أنه جاء يف رحلة صيد .نسي أنه
قابيل ابن آدم اجملب ول على ال ّدم واللّحم .مل يص ّدق أن قابيل ميكن أن ميتنع عن الض غط على
الزن اد وغزالة هيف اء تنتصب أمام ه .ولكن هل ك انت تلك غزالة ح ّق ا؟ وهل ك ان هو قابيل
صوب فوهة البندقية حنو التجويف .فالتقت نظراهتما .أشاح بوجهه ,وأغمض عينيه, ح ّقا؟ّ ...
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .100 1
92
وضغط على الزناد ,انبثق ال ّذوي ,ومسح العرق املتدفق على وجهه مبعصمه ...يف تلك اللّيلة
() 1
مل يقتل قابيل ابن آدم أخته فقط .ولكنه أكل حلمها أيضا ".
ك ذلك ,ج اءت مطاوعة الرمز األس طوري ( اخلل ود ) ,ممت ّدة عرب حالة ( التش وهات
الس هول والتغ ريات ) ,من خالل تيمة ( التض حية والقرب ان ) ,ذلك أن م وطن الغ زالن هي ّ
الشاس عة ,ومن تط اول منها يف رؤوس اجلب ال فهو خ ارج عن الطبيعة والق در والعه د .وه ذا
داللة على آخر الزم ان – كما عرب األه ايل – وع وض أن تعيش الغ زالن يف الس هول حيفظها
عهد الدم .هاهي شراهة ابن آدم ت دفعها إىل اخلروج عن قانون الطبيعة اإلهلية .حيث هربت
من بطشه من أع ايل اجلب ال .فقد ج اء يف نص الرواي ة " :جبل احلس اونة أص بح ِ
معقال انتقاليا
للغ زالن الالجئة إىل الص حراء اجلزائري ة .الغ زالن اجلرحية اختذت من السلس لة املنيعة ملجأ
رتدت عافيتها انطلقت يف الطريق الطويل وواص لت املس رية حنو اجلن وب لالستش فاء حىت اس ّ
الص حراء ط والالبعي د .وقد رأى الص يادون الق دامى يف ه ذا التح ّول الغ امض اليت مل تعه ده ّ
() 2
تارخيها يف أخالق الغزالن إشارة مساوية "
وبالت ايل ك انت هج رة الغ زالن إىل سلس لة اجلب ال ما هي إال إش ارة عن نب وءة مساوية
تقضي
بأهنا إش ارة ب آخر الزم ان ,حيث أن بطش بين آدم ونقضه للعهد هو ال ذي بشر هبا,
وهذا ما اعتقده أهل الصحراء واجتمعوا عليه .يف مس امراهتم .حيث جاء يف نص الرواية" :
ومل يفت احلكماء منهم أن يعوذوا باهلل من شيطان اإلنس عقب كل صالة ويستجريوا به من
الس الح الش يطاين ,فه ّددت أمجل ش ّر ابن آدم وش راهة ابن آدم اليت ك انت س ببا يف اخ رتاع ّ
املخلوقات باإلبادة ,وأجربت الرؤوس الباقية على اهلجرة إىل أقصى الدنيا ليس حبثا عن الكأل
إمنا طلبا للبقاء وإنقاذ للنسل من الفناء .يلتقي الصيادون يف الرباري العارية ,ويتسامرون حول
الودان يتطاول يف رؤوس الشاي الصيين األخضر ويعزون بعضهم بعضا " :أصبح الغزال مثل ّ
الص حراء ,ال جياريهم
الزم ان " .ال يس تطيع أحد تأويل الظ واهر مثل أهل ّ اجلب ال .ه ذا آخر ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 127و 129و.130 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .100 2
93
أحد يف قراءة أسرار الغيب ,وال جيتمعون إال لكي يبحثوا عن تفسري إلشارات آخر الزمان "
() 1
هذا ,وتأيت مطاوعة الرمز األسطوري ( اخللود ) ممتدة ,عرب حالة ( التماثل والتشابه )
إذ أنقذ ميث اق ال دم الغ زالن من اللعنة اإلهلية إذ هي تط اولت يف رؤوس اجلب ال وخ رجت عن
ق انون الطبيعة هربا من بطش اإلنس ان ,ذلك ألن ابن آدم هو من نقض العه د ,وخ ان ميث اق
الرواي ة " :هناال دم .فحص لت هي على التعوي ذة ال ذي حتميها ؟؟ .حيث ج اء يف نص ّ
جتاسرت وليدهتا الصغرية على االعرتاض وقالت إن الوحوش اليت شهدهتا احلمادة يف السنوات
األخرية تفوق وحوش الغابة قس اوة ووحش ية ,فوافقتها األم هبزة من رأسها ,مث أهنلتها بإمياءة
قبل أن حتكي قصة احلصن املنيع ال ذي ورثته عن األم .ق الت إهنا تعوي ذة ال مثيل هلا يف
الص حراء كلها ومل يس بق لغزالة أن حص لت على نظري هلا .ول وال ه ذا احلج اب ملا تش جعت ّ
على البقاء يف أحضان اجلبل برغم يقينها أن اللعنة سوف تالحق كل املهاجرين ألهنم خالفوا
أحد األركان الثالثة اليت قوم عليها قانون املخلوقات .ال حياة ملهاجر يف أرض الغربة .اللعنة
حل .الصرب على البالء هو احلجاب الوحيد الذي حيمي من األشرار السماوية ستدركه أينما ّ
() 2
والوحوش "
كذلك ,تتجلى أسطورة اخللود يف رواية " نزيف احلجر " جتليا جزئيا ,من خالل تقنية
(اخللفية األس طورية) ,وذلك عرب تيمة ( احلل ول ) حيث ح ّل والد آس وف يف جسد ال ّودان
العظيم ,وه ذا احلل ول ألجل اخلل ود وهو معتقد س اد منذ الق دمي ,حيث تعتقد الكثري من
الش عوب البدائية أن املوت ما هو إال جسر عب ور ,خلل ود ال روح يف آخر كجسد حي وان –
مثال –
الرواي ة ..." :مثّ توقف ال ّودان العظيم عن املش ي .رآه يرفع رأسه وقد ج اء يف نص ّ
الضخم املتوج بالقرنني اخلرافيني ,ويواجه كذلك اخليط الغامض الذي يبشر بالفجر .البصيص
سر احلياة .و ...فجأة ,يف عتمة هذا البصيص الرباين ,رأى أباه حيل فيه دائما ّ
الباهت الذي ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 100و.101 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .110 2
94
ودان الص بور ,العظيم ,رأى عيين الوالد احلزين تني ,الطيب تني الل تني مل تفهما ملاذا يف عيين ال ّ
ي ؤذي اإلنس ان أخ اه اإلنس ان ...العين ان اللت ان اختارتا احلرية القاس ية دون أن تعرفا ملاذا...
() 1
صرخ بصوت خمنوق كأنه يناجي ربّه - :أنت أيب عرفتك .انتظر .أريد أن أخربك"...
وج اء يف نفس الس ياق ,يف موضع آخر من الرواية ما يلي ..." :منذ حادثة اهلاوي ة.
الودان العظيم الذي أنقذه من املوت مث تس لّل إليه قبل أن يغيب عن منذ أن رأى أباه يف عيين ّ
() 2
الوعي ".
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( اخلل ود ) ,متقلصة عرب حالة ( التماثل
ودانالودان العظيم ,وكسب ال ّ والتش ابه ) ,حيث كسب والد آس وف اخلل ود ,حني ح ّل ب ّ
اخللود حني اكتشف ذلك .فسعى إىل محايته ,بل أكثر من ذلك ق ّدم نفسه قربانا ألجل محايته
الرواي ة ..." :يف تلك اللحظة ح دث ما خشي منه نص ّ
من بطش بين آدم ,حيث ج اء يف ّ
ودان برأس ه ,ووقف يتف ّرج الص خرة ,أمامه بالض بط ,أط ّل ّ آس وف ط وال النه ار ,من خلف ّ
على حركته يف الوادي .أشاح بوجهه بسرعة إىل الناحية األخرى .محد اهلل أن قابيل ومسعود
مل يلحظا احلي وان العظيم .وكي ي داري ارتكابه ويش غل اهتمامهم ا ,رفع رأسه وكرّب
الودان العظيم الذي أنقذه من املوت للصالة ...منذ حادثة اهلاوية ,منذ أن رأى أباه يف عيين ّ
ودان عرفه اآلن ,ويريد أن ي أيت وحييي ه ,وإذا أتى مث تس لّل إليه قبل أن يغيب عن ال وعي ...ال ّ
والودان.
فسيقع يف أيدي الوحوش .سيقع يف أيدي الناس الذين ال يأكلون إال حلوم الغزالن ّ
الويل لك! ابتع د ! اقفز يف ج وف اجلبل يا روح اجلبل ارجع إىل م أواك الس ّري املنيع .قل
حلص نك أن يبتلعك حىت تعرب البل وى .أهنى ص الته .ك ّرر مناجاته للجبل كي ينجي روح ه,
() 3
الودان اختفى ".
التفت خلفهّ :
ودان ما يلي – " :إذا مل ت دلنا
وج اء أيضا عن تض حية آس وف بنفسه ألجل خل ود ال ّ
ودان هنارك أح رف .س أريك النّج وم يف الظهر أنا ال أم زح ...أال تس تحي؟ عج وز على ال ّ
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .70 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .88 2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 88و.89 3
95
مثلك يك ذب؟ أخربونا يف الواح ات أنك الوحيد ال ذي خيرب معاقله يف ه ذه األراض ي .فقد
قابيل ص وابه .لدغه االس تفزاز ,فهجم على ض حيته املقيّ دة من الي دين وال رجلني ,وجرجرمها
الص خرة العالية اليت ينتصب فيها ال ّودان األس طوري العظيم
عرب ال وادي ال رملي .اجته ص وب ّ
جبوار الك اهن األك رب ...تكلّم أين يس كن ال ّودان يا عبد العب د؟ فأجابه آس وف بتعويذته يف
بالس الح يف اهلواء مه ّددا...
ويل - :لن يش بع ابن آدم إال ال رتاب ...ل ّوح قابيل ّ
إص رار طف ّ
() 1
وجر على رقبته السكني حبركة خبرية" ...
أمسك به من حليتهّ ,
اإلشعاع:
" - 1من أراد أن خيرج من الب دن أراد أن خيرج من الزم ان ,ومن أراد أن خيرج من
الزمان ,ومن ّادعى اخللود كفر بقدره وتطاول على املعجزة ونافسه يف األلوهية ,ومن
الص حراء ,أن يسكن صحراءه ,وأن خيلد رده إىل الفناء" :قدر ابن ّ
نافسه يف األلوهية ّ
فيها وما إن خرج منها كان مصريه الفناء.
الصحراء ,أو انقراضها سببه بطش ابن آدم وجشعه. - 2هجرة أمجل املخلوقات يف ّ
الصحراء حكم على حيواناهتا بالفناء - 3حني مسح ابن آدم بدخول األسلحة إىل ّ
- IIIتجليات المظهر الطوطمي في روايات إبراهيم الكوني,:
يعد املظهر الط وطمي – وهو املذهب الط وطمي -مظه را من مظ اهر " أس طورة
التكوين" ,حيث جيسد تقديس اإلنسان حليوان بعينه ,أو لنبات ,أو لكائن غييب ,وجعله حمل
عب ادة ,وتبجيله كاآلهلة .ويعد الط وطم من خالل ه ذا املذهب مظه را من مظ اهر جتس يد
األلوهية والتقديس وأصال لفرع؛ هو القبيلة أو العشرية (أي الفرد).
وج اء يف املوس وعة الربيطانية تعريف الطوطمية كالت ايل " :الطوطمية كلمة أجبوية (
)objewayمن هنود أمريكا دخلت يف اللغة اإلجنليزية سنة ألف وسبعمائة وإحدى وتسعني
على يد األس تاذ جي النج ( )J . Langال ذي ك ان يق وم بوظيفة الرتمجان بني ال بيض واهلن ود
احلم راء يف أمريكا الش مالية ,وي راد هبا كائن ات حترتمها بعض القبائل املتوحش ة ,ويعتقد كل
ف رد من أف راد القبيلة بعالقة نسب بينه وبني واحد منها يس ميه طوطم ه .وقد يك ون الط وطم
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 106 :و 107و.146 1
96
حيوان أو نباتا ,وهو حيمي صاحبه ويبعث له األحالم اللذيذة ,وصاحبه حيرتمه ويقدسه ,فإذا
كان حيوانا ال يقدم على قتله ,أو نباتا فال يقطعه وال يأكله إال يف األزمة الشديدة " (.)1
أظه رت حفري ات احلض ارة املص رية القدمية أهنا قدست احليوان ات باختالفه ا ,ف:
"التعقب الت ارخيي ملا ك ان جيري على أراضي النيل اخلالد منذ أك ثر من مخسة آالف س نة.
والعقي دة املص رية القدمية بش كل ع ام ميكن تعقبها من أصوهلا البعي دة املمت دة إىل ع ام 4000
قبل امليالد؛ حيث اآلثار واحلفريات كيف كانت بعض احليوانات تعامل وتدفن بتقديس كبري
() 2
يؤكد أن عبادة احليوانات جزء من العقيدة املصرية "
وأصبح هلذه املعبودات احليوانية صورا آدمية لتعلق باألذهان ,كما أهنا كانت مقاطعة
من مقاطع ات مصر قبل األس رات ,حيواهنا املق دس ,يرمز له بص ورة معين ة " ,مث ب دأ التوحيد
حيدث على نطاق أوسع بني املقاطعات مجيعا .وأصبحت لبعض هذه املعبودات صفة عاملية.
أظه رت بعض ه ذه اآلهلة يف ص ورة آدمية لتقريبها لألذه ان وإن احتفظت ب رأس حي وان أو
برمز ي ذكر بأصل املعب ود مثل " اإلله من " إله اخلص ب ...بينما أخ ذت آهلة أخ رى ص ورة
آدمية خالصة عن دما تك ون شخص يتها جمردة مث ل " :آت وم " يف هيليوب وليس و "آم ون " يف
واسة و "بت اح" يف من ف...وآم ون يف طيبة ومن أب رز أمثلة اآلهلة احمللية اليت حتولت إىل آهلة
عاملي ة...ارتف اع املعب ود " ص ور " احلي واين األصل من ص ورة الص قر إىل مرتبته ملك الس ماء
صاحب العينني العظيمتني...الشمس والقمر" (.)3
وهناك بعض املؤرخني من زعم أن قدماء املصريني أقدسوا احليوان والنبات اعتقادا أن
اآلهلة حتل هبم كما املعتقد الس ائد ل ديهم أن األرواح تس كن األجس اد بعد املوت وتس كن
احليوان والنبات " :فالروح البد هلا من جثمان حتل فيه ,حىت أهنا عند املوت ال تفارق اجلسم
-عبد املعيد خان ,األساطري واخلرافات عند العرب ,سلسلة العلوم االجتماعية ,ط ,3دار احلداثة للطباعة
1
والنشر والتوزيع ,بريوت ,1981 ,ص ,64عن Encyclopedia Britanica and totemism and
exagomy
?-سليمان مظهر ,قصة الديانات ,ص.35 2
97
إال على عودة سريعة إليه ,وإذا كان ذلك شأن األرواح فهو أيضا شأن اآلهلة ,البد من مأوى
تأوي إليه يف احلياة وجسم حتل فيه .وقد عملوا فكرهم يف األحياء اليت عساها تكون موضع
حل ول اآلهلة ,فزعم وا يف األحي اء اليت تتصل باخلصب واإلنت اج والب ذور واإلمثار ,وأحلوها يف
غريها مليزة الحظوها أو تومهوه ا ,ف أحلوا آهلتهم أحيانا يف ث ور وأحيانا يف ق ط ,وأحيانا يف
غريه ا .وص اروا يعب دون ه ذه احليوان ات على أهنا أوعية قد حلت فيها اآلهلة .فق وام عب ادة
احليوان على هذا الرأي الراجح ,هو اعتقاد احللول عند قدماء املصريني " (.)1
وقد تط ورت عقي دة املص ريني يف احلل ول بعد زمن بتعميم احلل ول يف حي وان بعينه إىل
كل الصنف من هذا احليوان؛ حيث " انتقلت بعد ذلك عقيدة املصريني من اختصاص حيوان
من بني أح اد نوعه حبل ول اآلهلة فيه إىل اعتق ادهم أن اآلهلة حتل يف الن وع كله فكل البقر
مقدس ,وكل القطط مقدسة ,وهكذا جنس كل حيوان نال مرتبة التقديس حبلول اآلهلة فيه.
وقد دفعتهم عقي دة احلل ول ه ذه إىل االعتق اد أن احليوان ات املقدسة أوتيت علم الغيب,
والتعريف باملستقبل " (.)2
أما عند السومريني ,فقد قدس الثور واعتربوه إله للخصب " :وتطالعنا صور الثور عند
الس ومريني يف إط ار غ ريب من القداسة والتبجي ل ,فهو يرمز إىل الق وة واخلص ب ,ومن مث
عب دوه وعب دوا البق رة إله مع ه ,ومن احتادمها يف زواج مق دس فاضت ض فاف دجلة والف رات
باخلصب على أرض سومر" (.)3
هذا ,وقد تعدى تقديس البشر للطوطم احليواين ,إىل تقديس مظاهر الطبيعة من جبال
وأش جار وغريمها ,فق دميا يف الصني ق دس جبل " تاش يان " لقد عد تاش يان ومعن اه " اجلبل
العظيم " املكان الذي تقدم فيه الذبائح للسماء ,فقد آمنوا قدميا بأن األسفاط اليت حتتوي على
ص فائح من ال " يشم " املدون عليها زمن عمر كل إنس ان ,حمفوظة على ه ذا اجلب ل .وك انوا
-اإلمام حممد أبو زهرة ,مقارنات األديان –الديانات القدمية ,ص .14ط جديدة القاهرة :دار الفكر العريب
1
.2006
-املرجع نفسه ,ص.15 2
-مصطفى عبد الشايف الشوري ,الشعر اجلاهلي تفسري أسطوري ,ص.73 3
98
يص نعون من جبل تايش ان على م داخل من ازهلم ,ويف أول كل ش ارع ,معتق دين ب أن ه ذه
احلج ارة حتمي املك ان من أذى األرواح الش ريرة ,وانتش رت يف شىت أحناء الص ني ,املعابد
املكرسة هلذا اجلبل " (.)1
والشيء نفسه بالنسبة لتق ديس الش جر؛ حيث اختذها اإلنس ان قدميا طوطم ه ,واعتقد
بوج ود أرواح فيه ا ,بل اختذوها معابد هلم ت زار وتق ام عن دها الطق وس قبل أن يش يدوا املعابد
"فالبش ر" مل يبدءوا ببناء املعابد إال بعد زمن ,وكانت األشجار بالذات أقدم معاب دهم ,لقد
آمن وا ب أن ق وة س حرية خاصة تكمن يف ش جرة ,ول ذلك جبل وا ه ذه األخ رية كتجس يد لتلك
القوة وكرمز هلا " (.)2
واألمر نفسه عند الكوريني الذين قدسوا الشجرة اعتقادا منهم أن هلا صلة قرابة هبم,
"فالكوريون رأوا يف بعض األشجار أرواحا –أسالفا -إذ ما تسلق طفل شجرة سقط عنها,
كانت والدته تقول :إن روح الشجرة عاقبته...وكان كثري من الشعوب يؤمن بقدرة الشجرة
على الش فاء من األم راض ,خاصة ش فاء األطف ال ,ولتحقيق ذلك يكفي أن يض جع الطفل
املريض يف جتويف الشجرة ,أو العبور به بني شجرتني مربوطتني واحدهتما إىل األخرى " (.)3
وما م ذهب تق ديس النبات ات والش جرة إال اعتق اد من الرجل الب دائي أن النب ات عامة
والش جر خاصة ما هي إال كائن ات حية تتنفس مثل ه ,وتتك اثر مثل ه ,وتعيش معه جنبا إىل
جنب على هذه البسيطة وهذا ما ذهب إليه سري جيمس فريزر " :فالعامل عموما يعترب بالنسبة
للرجل اهلمجي كائن ا ,وال يس تثين من ذلك الش جر والنب ات ,إذ يظن أن هلا نفوسا كنفسه
ه و ,ول ذا فإنه يعاملها على ه ذا األس اس...وتتمتع األش جار ب النفوس واحلي اة؛ يعين أهنا حتس
وتش عر وب ذلك يص بح قطعها مبثابة عملية جراحية دقيقة جيب إجراؤها بكثري من الدقة
-م.ف .أبيديل ,سحر األساطري ,دراسة يف األسطورة ,التاريخ ,احلياة ,ص.136 1
99
واللطف ومراع اة ألحاسيس ها وختفيفا آلالمها حىت ال تتقلب عليهم إن هم أجروها بإمهال
وتفريط"(.)1
اختلفت آراء العلم اء والدارسني يف أص ول الطوطمي ة ,وب رزت مدرس تان يف ه ذا
الش أن ,مدرسة (برب رت اس تيد) ,ومدرسة (فري زر) ورغم االختالف بينهما إال أهنما اتفقتا
على " كون الطومتية دينية حبثة يف مبدأها ,مث تفرعت إىل نوعني؛ نوع ديين وآخر اجتماعي,
فمن الوجهة الدينية مسى أفراد القبائل أنفسهم بأمساء الطومت ,ويعتقدون أنه أب للقبيلة ,وأهنم
من نس له...أما الطومتية من الوجهة االجتماعية فمظهرها تعاقد أهل القبيلة فيما بينهم باعتب ار
عالقتها بالقبائل األخ رى ,وك انت الروابط الطوطمية ه ذه أشد ما تك ون بني أف راد العائلة
الواحدة املبنية على صلة الرحم " (.)2
وك انت القبائل اليت ت ؤمن مبذهب الطوطمية وال ت زال تف رد له مكانة خاص ة ,وتوليه
عناية فائقة وتقسه مبا للكلمة من معىن؛ حيث يتجلى هذا التقديس فيما يلي (: )3
-1فكل من هذه احليوانات كانت حترتم وتقدس ,وكانت القبيلة ال تؤذي طوطمها
وال تقتله وال تأكله.
-2إذا م ات حي وان من ن وع ط ومت القبيلة احتفل أهلها بدفنه وحزن وا عليه ح زهنم
على واحد منهم.
-3ال يقتصر اح رتامهم الط وطم على حترمي أكله وإيذائه ف إن بعض هم ح رم ملسه
والنظر إليه ,وقد حيرمون التلفظ باسم الطومت ,وإذا اضطروا إىل ذكره عمدوا إىل
الكناية أو اإلشارة.
-4يعتقدون أن من أهان الطومت أو أساء إليه يصاب باملصائب والنكبات.
-5كذلك يتوهم أصحاب الطوطم ,أن الطوطم ينذر باخلطر قبل وقوعه بعالمات
أو رموز على حنو ما.
-سري جيمس فريزر " ,الغصن الذهيب " – دراسة يف السحر ,والدين ,والنشر ,1971 ,ص 390و.393 1
-عبد املعيد خان ,األساطري واخلرافات عند العرب ,ص 65و.67 2
100
واعتق دت الع رب ق دميا يف الط وطم فس مت بامسه أبناءه ا ,ونس بت إليه قبائلها منها
قبائ ل ,بنو أس د ,بنو فه د ,بنو ضب وغريها من القبائ ل ,وإىل ج انب الط وطم احلي واين,
اعتقدت العرب –أيضا -يف الطوطم النبايت ,فقدست بعض األشجار كالنخيل مثال ,وشبهتها
ب املرأة ,الول ود ,حيث " ك ان الع رب جيعل ون قرابة بينهم وبني النخ ل ,كما روي عن النيب
(ص لى اهلل عليه وس لم )؛ " أكرم وا عم اتكم النخيل " ,وق ال القزي وين " إمنا مساها عم اتكم
ألهنا خلقت من فضلة طني آدم عليه السالم" وأما الضمري يف " عماتكم " فيدل على أن النيب
عليه الصالة والسالم أراد به إظهار العقلية اجلاهلية فكلم الناس على قدر عقوهلم...ومل يكن
غريبا أن يت وهم الع ريب قرابة بينه وبني النخ ل ,وذلك ألن عقله البس يط رأى ش به اإلنس ان يف
النخل ة ,فهي تش به اإلنس ان من حيث امتي از ذكرها عن أنثاها ومميزاهتا املخصوصة باللق اح "
( .)1فقد ق ال القزي وين " :ولو قطع رأس ها هللكت ,وهلا غالف كاملش يمة اليت يك ون اجلنني
فيه ا ,واجلم ار ال ذي على رأس ها لو أص ابته آفة هللكت النخلة كهيئة مخ اإلنس ان إذا أص ابته
آف ة ,ولو قطع منها غصن ال يرجع بدله كعضو اإلنس ان وعليها ليف كش عر يك ون على
اإلنسان...وقال أيضا :إذا قاربت بني ذكران النخل وإناثها فإهنا يكثر محلها ,ألهنا تستأنس
باجملاورة ,وإذا قطع ليفها من ال ذكران فال حتمل ش يئا لفراقه ا ,وإذا غرست ال ذكران وسط
اإلن اث فهبت ال ريح فخ الطت اإلن اث رائحة طلع ال ذكر محلت من تلك الرائحة كل أن ثى
حوله " (.)2
وذهب غلو الع رب يف ه ذا االعتق اد يف الش جرة ,جعلهم ش جرة الرسم رقيبا على
أهلهم بعدهم ,حيث " قيل إن العرب يف اجلاهلية كانوا إذا أراد أحدهم أن يسافر عن حليلته,
عمد إىل هذه الشجرة وشد غصنا منها إىل اآلخر وتركها ,فإذا عاد من سفره ذهب إليها فإن
-
1
-عبد املعيد خان ,األساطري واخلرافات عند العرب ,ص ,61 /60عن القزويين ,عجائب املخلوقات ,ص
2
.232
101
وجدمها حباهلما مشدودين استدل هبما على أن حليلته ما خانته يف غيبته وإن وجدمها حملولني
استدل هبما على خيانتها " (.)1
باإلضافة إىل اختاذ العرب للشجر والنبات عامة كطوطم يقدس ,فإهنا اعتقدت يف اجلن
مثل ذل ك ,واختلفت أمساء اجلن حبسب درج ات إي ذائها لإلنس ان ،حيث إن " اجلن على
مراتب"
م ادة كت اب (الغف ران) ص/115 /114 /113 /112 /111 /10 /105/:
.117 /116
ه ذا عن الع رب ,واعتق دت العديد من القبائل األفريقي ة ,أن روح امليت ت رف ح ول
قريت ه ,حىت يتسىن له الع ودة للحي اة من جديد عن طريق احلل ول يف دم ج نني جديد –وقد
ذكرت هذا آنفا يف مادة "أسطورة اخللود " – ولكن حني يكون امليت ذو مكانة عالية ونبيلة
يف العشرية ,بينما حتل روح الشخص -وإن كان غري ذلك -يف جسد حيوان ويكون بالتايل
طوطما وتع دى ذلك أن حتل روح احلي وان الط وطم عند موته جبسد حي وان آخر وهك ذا
دواليك فه ؤالء " حيل ون يف جسد حي وان ( ثعب ان أو ط ائر ب وم ) يص بح رم زا طوطمي ا..وال
يتوقف هذا النسق عن تكرار نفسه ,إذ ميكن أن تتحول روح احليوان ( الطوطم بعد موته إىل
طيف قابل للحلول يف جسد حيوان آخر " (.)2
الشيطان :
من مظ اهر الطوطمية عند الع رب ,تقديس هم للجن ,وتلك القداسة اليت حييطونه هبا,
وختتلف أمساء اجلن ,حبسب درجات إيذائها لإلنسان؛ حيث إن " اجلن على مراتب ,قال ابن
عبد الرب ,إذا ذكروا اجلن خالصا قالوا جىن ,فإذا أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا عامر,
واجلمع عمار ,فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا أرواح ,فإن خبث ولؤم قالوا شيطان ,فإن
-أمحد ديب شعبو ,املرأة ,اجلسد ,والطوطم ,إشكالية أسطورة املوت ورموزه يف اجملتمع األفريقي ,جملة الفكر
2
102
زاد على ذلك فهو م ارد ,ف إن زاد على ذلك وق وى أم ره ق الوا عف ريت ,ف إن طهر ولطف
وصار خريا كله فهو ملك .وقال ابن عقيل :الشيطان العصاة من اجلن وهم ولد إبليس .وقال
اجلوهري كل عات متمرد من اجلن واإلنس والدواب شيطان " ( .)1وحيضرين هنا قول العوام
عن املكان الذي يسكن يف اجلن مع الناس ومنه مكان مسكون ،وقد جاء عن املسعودي يف
كتابه مروج الذهب أن العرب تقول بأن اهلواء مسكون " :ووجدت يف بعض أخبار هارون
الرش يد خ رج ذات ي وم إىل الص يد ببالد املوص ل ,وعلى ي ده ب از أبيض ,فاض طرب على ي ده
فأرسله ,فلم يزل خيلق حىت غاب يف اهلواء ,مث طلع بعد اإلياس منه ,وقد علق شيئا فهوى به
يشبه احلية أو السمكة ,وله ريش كأجنحة السمك ,فأمر الرشيد فوضع يف طست ,فلما عاد
من قنصه أحضر العلم اء فس أهلم :هل تعلم ون لله واء س اكنا؟ فق ال مقات ل :يا أمري املؤم نني,
روينا عن جدك عبد اهلل بن عباس ,أن اهلواء معمور بأمم خمتلفة اخللق ,فيها سكان أقرهبا منا
دواب ت بيض يف اهلواء تف رخ في ه ,يرفعها اهلواء الغليظ ويربيها حىت تنشأ يف هي أة احلي ات أو
الس مك هلا أجنحة ليست ب ذات ريش تأخ ذها ب زاة بيض تك ون بأرميني ة ,ف أخرج الطست
إليهم ,ف أراهم الداب ة ,وأج از مق اتال يومئ ذ .وقد أخ ربين غري واحد من أهل التحص يل مبصر
وغريها من البالد أهنم ش اهدوا يف اجلو حي ات تس عى كأس رع ما يك ون ال ربق األبيض ,وأهنا
تقع على احلي وان يف األرض فتقتل ه ,ورمبا يس مع لطرياهنا يف الليل وحركتها يف اهلواء ص وت
كنشر ث وب جدي د ,ورمبا يق ول من ال علم له وغ ريه من البش ر :ه ذا ص وت س احرة تط ري,
ذات أجنحة من قصب " (.)2
رأينا من خالل ما تق دم زعم الع رب أن لبعض احليوان ات عالقة ب اجلن ,وأن ه ذه
األخ رية ميكنها أن تتح ول إىل أي جنس من ه .وزاد على ذلك األلوس ى " :إهنم يعتق دون يف
ال دين والغ راب واحلمامة وال ورل والقنفذ واألرنب والظيب وال ريبوع والنع ام واحلية اعتق ادات
عجيبة فمنهم من يعتقد أن للجن هبذه احليوان ات تعلق ا ,ومنهم من ي زعم أهنا من ن وع اجلن,
-املسعودي ,مروج الذهب ومعادن اجلوهر ,ج ,1تج :حممد حمي الدين عبد احلميد دار املعرفة – بريوت,
2
103
ومنهم من يعتقد أن ال ورل والقنفذ واألرنب والظيب وال ريبوع والنع ام م راكب اجلن ميتطوهنا,
أي جيعلوهنا مطية هلم ومن أشعارهم يف مراكب اجلن قول بعضهم يف قنفذ رآه ليال:
فما يعجب اجلنان منك عدمتهم
ويف األسد أفراس هلم وجنائب
أيسرح جربوع ويلجم قنفذ
() 1
لقد أعوزتكم ما علمت النجائب "
ومن مظ اهر الطوطمية ه ذه ,ما ع رف عن ع رب " وب ار " ال ذين أنس وا ب اجلن حيث
أهنم " نزل وا أرض اجلن وأنس وا إليه ا ,فت ولت محايتهم ,حىت أن كل من ك ان يريد أرض هم
حثت اإلنس يف وجهه ال رتب ,ف إذا أراد الرج وع أض لته ورمبا قتلت ه .قضى على وب ار مل يبقى
على أرضهم إال جمموعة من اإلبل ضربت فيها فحول اجلن .فهي هنا الوحشية...ومن مث قال
الشاعر يصف ناقته اخلارقة السرعة والقوة:
كأين على وحشية أو نعامة
() 2
هلا نسب يف الطري وهو ظليم "
ه ذا ,واجلن هلا مس اكن خاصة هبا ,فهي ال تس كن الس هول أو الق رى بل مس اكنها
خاصة هبا ,تثري اخلوف والرهبة يف القل وب؛ حيث ي ذكر األلوسي " قد حكى اهلل تع اىل ذلك
عنهم قوله ( وأنه كان رجال من اإلنس ويعوذون برجال من اجلن فزادوهم رهقا ) أي كربا
وعتوا أو غيا بأن أضلوهم حىت استعاذوا هبم ,فإن الرجل إذا أمسى بقفر قال " :أعوذ بسيد
ه ذا ال وادي من شر س فهاء قومه " ( .)3وال دليل على ذلك ما قيل عن اجلن اليت حبس ها
سليمان القماقم ,إذ خرجت من املغاور واجلبال واآلكام واألودية والفلوات ...وكلها أماكن
تلقى الرعب –وخاصة يف هدوء الليل -يف قلوب الناس " (.)4
104
وقد ذهب اعتق اد الع رب يف نس بهم مع اجلن وال زواج منهم إىل أبعد احلدود؛ فيب دو
واضحا يف نسب بلقيس ملكة سبأ ,وأمها اجلنية املشهورة " رواحة بنت مسكن " ,وهو اسم
مازال يتواتر على الشفاة يف خرافات اجلن املصرية .ومنها جنية جبل ضهر باليمن ,واجلنية اليت
احندر من رمحها امللك احلمريي الصعب " ذو القرنني " والصعب بن ذي مرائد احلمريي ,بل
إن الع رب نس بوا من القبائل العربية احندارهم من أمه ات جني ات مثل قبائل ج رهم ,اليت قيل
أهنا ج اءت إىل الوج ود من نت اج ما بني املالئكة وبن ات آدم .وك ذلك قبائل ج ديس ومثود
والعماليق أو العمالقة يف الشام وفلسطني .وهو تصور ليس ببعيد –طبعا -عن تصور العربيني
من أن املالئكة هم أبناء اهلل " بين أيلوهم " (.)1
ه ذا ,والظن أن الص رع ما هو إال حماولة من اجلىن الس يطرة على اإلنسى على جهة
التعش ق...وك ذلك رج ال اجلن لنس اء بىن آدم " ( .)2وحني بلغ االعتق اد ه ذا احلد ,أنتجت
قصص كث رية ح ول زواج اإلنس واجلن؛ منها ما ع رف عن " عم رو بن يرب وع بن حنظلة
التميمي ,وج ذع بن س نان وعم رو ذي األذع ار بن أبرهة ذي املن ار وأمه اجلنية العي وف ابنة
الرائ ع .بل إن قبائل بأس رها انتس بت إىل اجلن مثل بىن مال ك ,وبىن شيص بان ,وبىن يرب وع,
الذين تسموا ببىن السعالة –السلعوة -كما ترجع أساطري اخللق والبدء احلبشية نسبها بكاملها
دت اجلن ,مثل رهط طلحة إىل احلية واحلية تتوحد مع اجلن ,كما أن قبائل بكاملها عب
الطاخلات من خزاعة ,ولقد اعتقد يف أن للجن عشائر وقبائل تربط بينها صلة الرحم كما هو
حادث عند بىن اإلنس القدماء " (.)3
وكثر احلادث عن قصص اختطاف اجلن لإلنس منها ما ورد يف كتاب قصص العرب,
من أشهرها قصة " جان خيتف فتاة "؛ حيث ورد فيها " حدث زياد بن النظر احلارث يقال:
كنا على غ دير لنا يف اجلاهلي ة ,ومعا رجل من احلي يق ال ل ه ,عم رو بن مال ك ,معه بنية له
شابة ,على ظهرها ذؤابة ,فقال أبوها :خدى هذه الصفحة مث ائيت الغدير ,فجيئينا بشيء من
105
مائه .فانطلقت فواقفها عليه جان فاختطفها ,فذهب هبا ,فلما فقدناها نادى أبوها يف احلي,
فخرجنا على صعب وذلول ,وقصدنا على شعب ونقب ,فلم جند هلا أثرا ,ومضت على ذلك
الس نون ,حىت ك ان زمن عمر بن اخلط اب ,ف إذا هي قد ج اءت ,وقد عفا ش عرها وأظافرها
وتغريت حاهلا ,فقد قال هلا أبوها .أي بنية ,أىن كنت؟ وقام إليها يقبلها ويشم رحيها ,فقالت,
يا أبت ,أتذكر ليلة الغدير؟ قال نعم ! قالت :فإنه واقفين عليه جان فاختطفين وذهب يب ,فلم
أزل فيهم حىت إذا ك ان اآلن غ زى هو وأهله قوما مش ركني أو غزاهم قوم مش ركون ,فجعل
اهلل تب ارك وتع اىل ن ذرا إن هم ظف روا بع دوهم أن يعتقين وي ردين إىل أهلي فظف روا ,فحملين
فأص بحت عن دكم ,وقد جعل بيين وبينه أم ارة ,إن احتجت إليه أن أول ول بص ويت ,فإنه
حيضرين .فأخذ أبوها من شعرها وأظافرها ,وأصلح من شأهنا ,وزوجها رجال من أهله ,فوق
بينها وبني ذات يوم ما يقع بني املرأة وبعلها فعريها ,وقال :يا جمنونة ! واهلل إن نشأت إال يف
اجلن .فص احت وول ولت ب أعلى ص وهتا ,ف إذا ه اتف يهت ف :يا معشر بين احلارث اجتمع وا
وكون وا حيا كرام ا ,فاجتمعنا فقلن ا :ما أنت رمحك اهلل ؟ ! فإنا نس مع ص وتا وال ن رى
شخص ا ! فق ال :أنا راب ( كافل ) فالن ة ,رعيتها يف اجلاهلية حبسيب وص نعتها يف اإلس الم
بديين ,واهلل إن نلت منها حمرما قط! واستغاثت يف هذا الوقت ,فحضرت فسألتها عن أمرها,
فزعمت أن زوجها عريها بأهنا كانت فينا ,وواهلل ,لو كنت تقدمت إليه لفقأت عينيه ! فقلنا:
يا عبد اهلل ,لك احلباء واجلزاء واملكافأة ! فقال بذلك إليه ( يعين الزواج ).)1( "...
كما بلغ تق ديس اإلنس للجن إىل درجة عب ادهتم؛ حيث ذكر األلوسى عن كت اب
(أكام املرجان يف أحكام اجلان ) " حدثنا اإلمام أمحد حدثنا حممد بن جعفر حدثنا شعبة عن
األعمش عن إبراهيم عن أيب معمر قال عبد اهلل بن مسعود؛ كان نفر من اإلنس يعبدون نفرا
من اجلن فأس لم النفر من اجلن واستمسك ه ؤالء بعب ادهتم ف أنزل اهلل تع اىل ( :أولئك ال ذين
ي دعون يبتغ ون إىل رهبم الوس يلة أيهم أق رب ويرمحون رمحته وخيافون عذابه إن ع ذاب ربك
-حممد أمحد جاد املوىل ,علي حممد البجاوي ,حممد أبو الفضل إبراهيم ,قصص العرب ,دار الفكر ,بريوت,
1
106
ك ان حمذورا ) ويف رواية عن ابن مس عود رضي اهلل تع اىل عنه ق ال :ن زلت يف نفر من الع رب
كانوا يعبدون نفرا من اجلن فأسلم اجلنيون واإلنس كانوا يعبدوهنم وال يشعرون " (.)1
وحتدثت الع رب ك ذلك عن تلقني اجلن الغن اء لإلنس ,حيث ج اء يف كت اب قصص
الع رب ،قصة "الغ ريض يتلقى غن اءه عن اجلن " ,ورويت كما يلي :ق ال م وىل آلل الغ ريض:
ح دثين بعض مولي ايت وقد ذك رن الغ ريض ف رتمحن عليه وقلن :جاءنا يوما حيدثنا حبديث
أنكرناه عليه ,مث عرفنا بعد ذلك حقيقته ,وكان من أحسن الناس وجها صغريا وكبريا ,وكنا
نلقى من الن اس عنتا بس ببه ,وك ان ابن س ريج يف جوارنا ف دفعناه إليه فلقن الغن اء ,وك ان من
أحسن الن اس ص وتا ففنت أهل مكة حبسن وجهه مع حسن ص وته ,فلما ذلك ابن س ريج حناه
عنه ,وكانت بعض مولياته تعلمه النياحة ,فربز فيها ,فجاءين يوما فقال :هنتين اجلن أن أنوح,
وأمسعتين ص وتا عجيب ا ,فقد ابت نيت عليه حلنا فامسعيه م ين ,وان دفع وغىن بص وت عجيب يف
شعر املرار األسدي:
حلفت هلا باهلل ما بني ذي الغضا
وهضب القنان من عوان وال بكر
أحب إلينا منك دال وما نرى
به عند ليلى من ثواب وال أجر
فك ذبناه وقلن ا :ش يء فكر فيه وأخرجه على ه ذا اللحن ,فك ان يف كل ي وم يأتين ا,
فيقول :مسعت البارحة صوتا من اجلن برتجيع وتقطيع قد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر
فالن ,فلم يزل على ذلك وحنن ننكر عليه ,فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع مجاعة من نساء أهل
مكة يف مجع مسرنا فيه ليلتنا ,والغريض يغنينا بشعر عمر بن أيب ربيعة:
أمن آل زينب جد البكور
نعم ألي هواخ تصري
107
إذ مسعنا يف بعض الليل عزيفا عجيبا وأص واتا خمتلفة ذعرتنا وأفزعتن ا ,فق ال لنا
الغ ريض ,إن يف ه ذه األصوات صوتا إذا منت مسعته ,وأصبح فأبىن عليه غن ائي ،فأص غينا إليه
فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها ,فصدقناه تلك الليلة " (.)1
مل يبلغ االعتق اد يف اجلن وتقديس ها ه ذا احلد فحس ب ,بل زعم الع رب ك ذلك أن هلا
عالقة بالش عر ,وأن الش عراء متف اوتون يف الفحولة نظ را لش يطان الش عر ال ذي ينتس بون إلي ه؛
فجعل وا لكل ش اعر ش يطان ش عر؛ وهلذا أوىل الش عر قداسة خاصة منذ نش أته ,حىت وصل إىل
درجة كتاباته مباء ال ذهب وتعليقه على ج دران الكعب ة ,واش رتكت كل من امليثولوجيا العربية
مبثيلتها اليونانية يف تق ديس والش اعر حيث إن " الش اعر يف اجلاهليتني اليونانية والعربية ك ان
ميلك قوى علوية يستمد منها فن الشعر .وهلذا قالت قريش عن حممد أنه شاعر –كما ذكرنا
وكما جاء يف القرآن -وإن مل يأت بشعر ,وإمنا ظنا منهم أنه ذو اتصال مباشر بأرواح علوية
اعتربوها ش ياطني وتواب ع ,وهي يف ع رف الغ ري ,مالئك ة ,وعلى كل فهي وحي خفي وص لة
وثيقة بني النيب واهلل ,أو بني الشاعر وما وراء الطبيعة " (.)2
وما يؤكد االعتق اد بارتب اط الش اعر الش يطان الش عر ,تلك ال طق وس اليت ك انت تتم
فيها عملية إنشاده " ويرى الشريف املرتضى أن الشاعر كان إذا أراد اهلجاء لبس حلة خاصة
كحلل الكهان ,وحلق رأسه وترك ذوابتني ,وذهن أحد شقى رأسه ,وانتعل نعال واحدا "(.)3
ومبا أن هنالك صلة بني الشيطان والشعر فإن العرب نسبت لكل شاعر شيطان يلهمه
الش عر ويلقنه إي اه ,حيث " زعمت األع راب أن مع كل فحل من الش عراء ش يطانا من ه ذه
الشياطني .فقد قال حسان:
وىل صاحب من بىن الشيصبان
فطروا أقول وطورا هو
دعوت خليلي مسحال ودعوا له
-حممد أمحد جاد املوىل ,وآخرون ,قصص العرب ,ص.400 ,399 : 1
-مصطفى عبد الشايف الشوري ,الشعر اجلاهلي تفسري أسطوري ,ص.79,80 : 3
108
وكان يف العني نبو عين
فإن شيطاين أمري اجلن
يذهب يب يف الشعر كل فن
وافتخر أحدهم بأن شيطانه ذكر فقال:
إين وكل شاعر من البشر
() 1
شيطانه أنثى وشيطاين ذكر "
كما جند هذا االعتقاد جمسدا يف املقامة اإلبليسية لبديع الزمان اهلمداين ,واليت جاءت
على من وال ال رحالت اخليالي ة؛ حيث اس تقى ص احبها معظم أح داثها من أس طورة ش يطان
الشعر " وخالصتها أن أبا الفتح اإلسكندري بطل املقامات ,فقد إبال فخرج يف طلبها ,حىت
س اقته األق دار إىل واد خص يب فيه أش جار باس قة ومثار يانعة وأزه ار منوع ة ,ويلتقى يف ذلك
ال وادي ش يخا على األرض في أنس حلديثه ويبادله الق ول إىل أن يس أله الش يخ إن ك ان ي روي
ش يئا من أش عار الع رب فينشد الم رئ القيس وعبيد ولبيد وطرف ة ,لكن الش يخ ال يط رب ل ه,
فيطلب إىل اإلسكندري أن يسمع فيسمعه قول جرير:
بان اخلليط ولو طوعت ما بانا
وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
فيس تغرب اإلس كندري منه أن ينسب القص يدة لنفسه ويس أل عن س بب ذلك
اإلدعاء...فريد عليه الشيخ طويال مسجوعا ,على عادة اهلمداين يف رحلته اخليالية من أسطورة
شيطان الشعر املشهورة ,فكانت سابقة فريدة يف األدب العريب تبعتها جتارب مشاهبة ,ورمبا
كانت مستقاة من جوهرها " (.)2
هذا ,وهنالك الكثري من القصص حول تفضيل اجلن –أنفسها -الشعراء واحلكم على
أفحلهم" ,ح دث بعض هم ق ال :بينما أنا أسري يف ط ريقي ببلقعة من األرض ال أنيس هبا إذا
رفعت يل نار فدفعت إليها ,فإذا خبيمة وإذا بفنائها شيخ كبري ومعه صبية صغار .فسلمت مث
-حممد الصاحل سليمان ,الرحالت اخليالية يف الشعر العريب احلديث .)arabia .com( ,1999
2
109
أخنت راحيت أنسا به تلك الس اعة ,فقلت هل من م بيت؟ ق ال نعم يف ال رحب والس عة ! مث
ألقى إىل طنفسة رحل فقع دت عليه ا .مث ق ال :ممن رج ل؟ فقلن :محريي ش امي .ق ال نعم!
أهل الش رف الق دمي .مث حتدثنا ط ويال إىل أن قلت :أت روي من أش عار الع رب ش يئا؟ ق ال نعم
سل عن أيها ش ئت ,قلت فأنش دين يف للنابغ ة .ق ال :أحتب أن أنش دك من ش عري أن ا؟ قلت
نعم ,فان دفع ينشد الم رئ القيس والنابغة وعبي د .مث ان دفع ينشد لألعش ى ,فقلت لقد مسعت
هبذا الشعر منذ زمان طويل ,قال لألعشى؟ قلت نعم .قال فأنا صاحبه .قلت فما امسك؟ قال
مس حل الس كران بن جن دل ! فع رفت أنه من اجلن ,فبت ليلة اهلل هبا عليم ,مث قلت ل ه :من
أش عر الع رب؟ ق ال أرو ق ول الفظ بن الح ظ ,وهي اب ,وهبيد ه اذر بن م اهر! قلت ه ذه
األمساء ال أعرفه ا ,ق ال أجل أما الفظ فص احب ام رئ القيس ,وأما هبيد فص احب عبيد بن
األب رص ,وبش ر ,وأما ه ادر فص احب زي اد ال ذبياين ,وهو ال ذي اس تنبغه ,مث أس فر يل الص بح
فمضيت وتركته " (.)1
خالصة الق ول إذن ,أن الع رب جعلت لكل ش اعر ش يطانا يلقنه الش عر ,وربطت
فحولته بفحولة ش يطانه ,وقد جتلى ه ذا املعتقد يف رس الة الغف ران من خالل بعض الرم وز اليت
استحضرها أبو العالء لبلوغ مقصده ضمن مجاليات أضافها هذا التوظيف الرمزي على كافة
نص الرسالة.
110
علم البالغة ( األنسنة ) حيث استعار للحجر صفة تلحق باإلنسان أو احليوان وهي " النزيف
" وأحلقها باحلجارة اليت ال تعرف نزيفا أبدا ,اللهم إذا تفتتت بإذن اهلل وخرجت منها األهنار.
وه ذا ما ج اء يف قوله تع اىل " :مث قست قل وهبم من بعد ذلك فهي كاحلج ارة أو أشد قس وة
وإن من احلج ارة ملا يتفجر منه األهنار وإن منها ملا يش قق فيخ رج منه املاء وإن منها ملا يهبط
() 1
من خشية اهلل وما اهلل بغافل عما تعملون "
أما أن ي نزف احلج ر ,ف ذلك جنده يف األس اطري القدمية ,وهي ما يس مى " ب املظهر
الط وطمي" ,حيث ك ان الن اس يعتق دون يف حيوية مظ اهر الطبيعة من نب ات وحجر وجبل
وغريه ا ,فهي – حسب زعمهم – تتنفس اإلنس ان وتش عر مثل ه .فجبل الن اس على تق ديس
احلجارة انطالقا من هذا املعتقد .حيث بلغ هبم ذلك إىل عبادهتا ,وتعظيمها ,وتقديسها.
وقد ق دس ع رب اجلاهلية – على س بيل املث ال – احلج ارة ,خاصة تلك اليت ك انوا
جيلبوهنا معهم بعد موسم احلج أو التج ارة من مك ة ,تربكا هبا ,وقد وصل هبم احلد إىل جعلها
حجارة مقدسة تعبد كاألصنام.
ومل يعرف عرب اجلاهلية وحدهم هذا التقديس للحجارة بل غريهم من الشعوب منذ
أزمنة غ ابرة " ,وتس مى األعم دة املقدسة ماص يبوت بالعربية أي أنص ابا .وباألوغاريتية
(الكنعانية) (ن ص ب) يقف .أما ( ن ص ب .س ك ن ) فتعين؛ يقيم نصبا .و (ونص ب) يف
العربية اجلنوبية :لوحة القرب ,والنصب يف العربية :الشيء املنصوب؛ وما عبد من دون اهلل من
األصنام والتماثي ل ..واألنصاب :حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح لغري
اهلل ...وهناك املذابح املقامة من األحجار العادية أو حجر املنليث يف نابلس ( شكيم ) ,وبيت
إيل ,وجلعاد ,واملصفاة ,وغريها ,يف فلسطني منذ أيام الكنعانيني .وفيما بعد صار العمود أو
النصب ي دعى عند الع ربيني " بيت اهلل " ...وك ان يف جلج ال يف أرض كنع ان إثنا عشر
عم ودا مقدسا رم زا الثين عشر س بطا من أس باط اليه ود ...ويغلب الظن أن األعم دة أو
األنصاب كانت رموزا جنسية يف بادئ األمر ,استنادا إىل ما جاء يف سفر حزقيال بالتوراة
111
( )عند خماطبته أورشليم " :ووضعت لنفسك صور ذكور وزنيت هبا " كما كانت البغي يف
اجلاهلية تقيم عم ودا أو س ارية عند خيمتها إعالنا عن مهنته ا ...وك ان الع رب يف اجلاهلية
ينص بون األعم دة ,ويرك ون احلج ارة ف وق بعض ها ,لت ذبح عن دها األض احي .وك انت ه ذه
األحج ار تس مى أنص ابا ...ويف طقوس اجلاهلية ك ان املتعب دون يتض رعون إىل إهلني يرمز هلما
بنص بني ,وميس حون س بعة أحج ار بال دم ,مث ي دورون ح ول األحج ار يف حلق ة...وقد عبد
الع رب احلج ارة يف اجلاهلي ة .ذكر األرزقي يف كتابه ( أخب ار مكة ص " : )66إن أول ما
ك انت عب ادة احلج ارة يف بين إمساعيل ,أنه ك ان ال يظعن من مكة ظ اعن إال احتمل معه من
حج ارة احلرم ,تعظيما للح رم ,وص بابة مبكة والكعب ة ,حىت س لخ ذلك هبم إىل أن ك انوا
يعبدون ما استحسنوا من احلجارة وأعجبهم من حجارة احلرم خاصة (.)1( " )
هذا ,وقد جاءت احلجارة يف نص الرواية ,يف العديد من املواطن ,منها حجارة عادية
تشكل بنية حتية للبيئة الصحراوية سهال وجبال ,ومنها حجارة أسطورة على شاكلة " النصب
احلجري " يف املعتقدات األسطورة القدمية.
وتتجلى أس طورة "املظهر الط وطمي " ,من خالل العنصر األس طوري " النصب
احلجري " ,جتليا صرحيا ,حني حاول وصف النصب الذي حيمل رمزين مقدسني نقشا عليه.
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :الص خرة تنتصب يف هناية الض فة الغربية لل وادي ,عند التقائه
ب وادي " آينس يس "..الص خرة العظيمة حتد سلس لة الكه وف ,وتقف يف الكهاي ة؟؟ كحجر
الزاوي ة ,لتواجه الش مس القاس ية عرب آالف الس نني ,وقد زيت بأب دع رس وم إنس ان ما قبل
التاريخ يف الصحراء الكربى كلها :على الصخرة اهلائلة ينهض الكاهن العمالق ,خيفي وجهه
ب ذلك القن اع الغ امض ,ويالمس بي ده اليمىن لل وداَن ال ذي يقف جبواره مهيب ا ,عني دا ,يرفع
رأس ه ,مثله مثل الك اهن ,حنو األفق البعي د ,حيث تش رق الش مس وتس كب أش عتها يف
-عن عبد املعيد خان ,األساطري واخلرافات عند العرب ,ص .106
-علي الشوك ,اهتمامات ميثولوجية ,واستطرادات لغوية " ,القسم الثالث " ,جملة الكرمل (فصلية ثقافية) ,
1
112
ودان املق دس على مالحمهما
وجهيهما كل ي وم .عرب آالف الس نني ,حافظ الك اهن العظيم وال َ
احملفورة ,مالحمهما الواضحة ,العميقة ,اجلليلة الناطقة يف صلب الصخرة الصماء .يطل الكاهن
حمف ورا يف احلجر الص لد ,وافقا يف قامته الطبيعي ة ,بل يب دو أط ول وأض خم من قامة اإلنس ان
الودان املقدس الذي يفوق العادي حجما " (.)1الطبيعية ,ينحين قليال حنو َ
ك ذلك ,تتجلى أس طورة " املظهر الطوطمي من خالل العنصر األس طوري " ,النصب
احلجري " ,عرب تقنية العنوان مرة أخرى ,وهو عنوان فرعي لقصة فرعية داخل الرواية ,حيث
ج اء ه ذا العن وان موسوم بـ " الصالة أم ام النصب الوثين (العس اس) " ( )ليحيلنا مباش رة إىل
وجود هذا النصب احلجري الذي تقام أمامه الصالة وبالتايل كان التجلي صرحيا من خالل
تقنية العن وان ,وحني ك ان التجلي ص رحيا ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري "النصب
احلجري" .متقلصة ,عرب حالة (التماثل والتشابه) ؛ من خالل تيمة العبادة حيث تقام الصالة
أمامه كما يف املعتقد األسطوري القدمي ,فقد جاء يف نص الرواية " :أهنى صالته وألقى برأسه
إىل ال وراء متابعا اجلدار العمالق املنتصب ف وق رأس ه .كبري اجلن يبارك ه .نظرته الغمضة من
والودان املهيب املتوج بقرنني ملتويتني ,أيضا يوافق إهله
خلف القناع تنطق بالرضا والسكينةَ .
وي وحي بأنه قبل الص الة وف از برمحة ال رب املعب د...مل ي رد " أس وف " أنه أخطأ االجتاه ,فلم
يوجه ركعاته حنو الكعبة وإمنا حنو الص نم احلج ري املنتصب ف وق رأس ه ,يف قعر ال وادي
() 2
العميق".
وت أيت مطاوعته العنصر األس طوري " النصب احلج ري " ك ذلك عرب حالة (التماثل والتش ابه)
من خالل تيمة ( احلماية ) حيث يوكل ألس وف محاية النصب ألجل قيمته األثرية والروحي ة,
ما جيعل الطامعني من سرقته كثر.
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :وق ال له موظف اآلث ار " :أنت من الي وم ح ارس وادي
متخن دوش ,أنت عيوننا يف ال وادي .س وف ي أيت بشر كث ريون من خمتلف األجن اس واألدي ان
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .08 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.13 :
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.13 : 2
113
ملشاهدة اآلثار .عليك أن تراقبهم ,ال تدعهم يسرقون األحجار ,ال تسمح هلم مفخرة بالدنا.
افتح عينيك ,إهنم هنمون وطماعون يسرقون أحجارنا ليبيعوها يف بالدهم باآلالف ,باملاليني.
() 1
ال تغفل عنهم .إياك .أنت عساس " .مث لوح بيده يائسا"...
ه ذا ,وج اءت –أيض ا -مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري " ,متقلصة من
خالل حالة ( التماثل والتشابه ) ,عرب تيمة ( التقديس ) حيث كان النصب احلجري حماطا
هبالة من القدسية من طرف السواح األجانب .فقد جاء يف نص الرواية " :وبالطبع مل خيطر
ببال آسوف باملاضي ...أن يكون هذا الرسم احملفور يف الصخور ميثل هذه األمهية كما يراه
الي وم .عن دما أص بح قبلة لس ياح النص ارى .ي أتون من أبعد البل دان .يع ربون الص حراء
بسيارات الربية ليشاهدوا احلجر ,يفتحون أفواههم دهشة أمام عظمته ومجاله وغموضه .بل
إنه رأى يف إح دى املرات ام رأة أوروبية تركع أم ام الص خرة على ركبتيها وتتمتم بكالم
() 2
مبهم ,عرف باحلدس أنه صلوات النصارى "
ه ذا ,ويف موضع آخر من الرواي ة ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري ",
متقلصة – ك ذلك – عرب حالة ( التش ابه والتماثل ) ,من خالل تيمة ( التق ديس )؛ حيث
وقف النص راين ال ذي ك ان رفقة آس وف ط ويال مت أمال النصب احلج ري ,حىت أنه غ اب عن
الوجود للحظات؛ حيث جاء يف نص الرواية..." :إحساسه أوحى له أن هذا الشيخ األشيب
حيب الص حراء .لقد رأى ذلك يف عيني ه ,ويف معاملته لألحج ار املرس ومة .رأى كيف ترجتف
أصابعه عندما تالمس جدران الكهف املرسوم خبطوط األقدمني .يف تلك اللحظة ,يفيض من
عينيه بريق غ امض خيرج منديله من جيب ه ,وميسح ال رتاب والطني عن الوج وه احملف ورة يف
الصخور الصماء حىت تتضح الصورة متاما .يرتاجع خطوات إىل الوراء ,ويتفرج على الرسم.
قد تنفرج عن شفتيه ابتسامة ,وقد تغزو مقلتيه مسحة كآبة .ويف بعض األحيان ,يقف طويال
أم ام الوشم احلج ري ,عاق دا يديه ح ول ص دره ,مييل برأسه ميينا ويس ارا ,ويف عينيه خش وع
املس لم عن دما يص لي ,يتلفظ برطانة غري مفهوم ة ,خياطب رفاقا ال وج ود هلم ,يض رب كفا
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 13 :و.14 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.86 : 2
114
بك ف ,يقفز يف اهلواء كال درويش ,ويوجه إليه كالما غري مفه وم ,ينسى نفسه متام ا .وعن دما
يع ود من غيبته إىل ال دنيا يبتسم معت ذرا ,وي ربت على كتفيه كأنه يريد أن يطمئنه أنه مل جين
() 1
بعد "
ك ذلك ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري " - ,يف موضع آخ ر-
متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) .وذلك من خالل تقنية " التق ديس " .-حيث أن
النصب احلجري املذكور يف الرواية ,هو كذلك ,للعبادة والتقديس كما يف األساطري القدمية.
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :منذ ذلك الي وم ,ب دأ ال زوار يتق اطرون على ال وادي املنسي منذ
آالف السنني ,يأتون مجاعات مبعدل كل أسبوعني ,وأحيانا كل شهر ,وقليال ما يغيبون ألكثر
من ش هر .وك انوا مجيعا من األج انب ,رج اال ونس اء ,ش يوخا وش بابا .من خمتلف أجن اس
النصارى .يركعون أمام اجلين األكرب ,ويلتقطون أمام املعبد ,ويقضون ليلة يف بعض األحيان مث
ينطلق ون عائ دين بعد أن ي رتكوا له املعلب ات واجلنب واحلليب اجملفف أو املعلب والش اي
والس كر والبس كويت...وكث ريا ما س أل نفسه عن سر اهتم ام النص ارى بالرس وم القدمية.
وتوصل إىل قناعة تقول إن النصارى حيجون إىل أوثان متخندوش ألهنم يعتنقون الديانة القدمية
نفس ها ,فهم ال يؤمن ون ب النيب حمم د ,وال يس جدون حنو الكعبة كاملس لمني :فاخلش وع,
والض راعة ,واالبته ال ,واالستس الم ال ذي تنطق به عي وهنم تفض حه اإلش ارات اجملهولة اليت
يرمسوهنا على وج وههم وهم يتفحص ون قامة ملك ال وادي العمالقة وودانه املق دس ال ذي
ينتصب جبواره متأمال األفق البعيد .النصارى يقفون أمام العمالق املقنع كما يقف املسلمون
() 2
بني يدي اهلل ".
ه ذا ,وقد ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " النصب احلج ري " ,يف موض وع آخر من
الرواي ة ,عرب حالة " االختالف وتع دد الرؤية " ,حيث مل ي أت (النصب الوثين يف الرواية )
نص با إلله معني يعبد ويق دس وإمنا هو نصب حيمل رمز إهلني مقدسني مها ( اجلين املق دس ) و
( الودان املقدس ) ,فلم يرتبط هذا ( النصب احلجري ) بإله واحد يقدس ويعرف بامسه ,كما
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.86 : 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.15 : 2
115
يف األنصاب الوثنية القدمية ( الالت ,العزى ,هبل ...اخل ) ,وإمنا إهلني مقدسني ومها طوطمي
بالت ايل ,وس نأيت على دراس تهما الحق ا .فقد ج اء يف نص الرواي ة " :يطل الك اهن حمف ورا يف
احلجر الص لد ,واقفا يف قامته الطبيعي ة ,بل يب دو أط ول وأض خم من قامة اإلنس ان الطبيعي ة,
() 1
ينحين قليال حنو الودان املقدس الذي يفوق الودان العادي حجما ".
وجاء أيضا " :وحيد هذه الصخور تلك الصخرة العالية اليت تقف كبناء يصعد صوب السماء
() 2
كنصب وثين شيدته اآلهلة .يغطي اجلن املقنع .مع ودانه املقدس"...
ومنه فإن تتبع جتليات " املظهر الطوطمي " يف رواية " نزيف احلجر " ,البد أن تتبع جتليات "
اجلن املقدس " كطوطم يف نص الرواية.
-مصطفى صادق الرفاعي ,تاريخ آداب العرب ,ج ,3دار ابن اجلوزي – القاهرة ,للطبع والنشر والتوزيع 3
116
الط وطمي يف الرواية جتليا ص رحيا من خالل تقنية " البن اء الفين "؛ حيث قص والد آس وف
البنه قصة تناسلهم من اجلن ,! وأن اجلن هو جده .وذلك حني شاهد رسوما كثرية لكائنات
غريبة على اجلدران الص خرية .ج اء يف نص الرواي ة " :مث اكتشف رس وما أخ رى وهو يتس لق
اجلبال خلف املعيز .رأي يف اجلدران الصخرية وجوها بشعة كوجوه الغيالن وحيوانات قبيحة
ال توجد يف الصحراء .وأدهشه كيف أن أمه مل حتدثه عنها من قبل حىت يف اخلرافات .كما مل
يس مع عنها من أبيه قبل أن يهلك يف تلك املط اردة خلف ال ودان املس كون .أمه ق الت إهنم
سكان الكهوف القدماء ...األجداد األولون.
-ولكنك قلت إن الكهوف مسكونة باجلن؟
رمقته باستغراب .ابتسمت مث متايلت ميينا ويسارا وهي ختض قربة احلليب بني يديها .قال
بإحلاح - :هل أجدادنا القدماء جن؟ كتمت ضحكة ,ولكنه ضبطها يف عينيها .عاود سؤاله,
فنهرته بضيف - :اسأل أباك ,سأل أباه ,فضحك ,وقال - :رمبا كانوا من قبيلة اخلري وقبيلة
الشر .حنن ننتمي إىل القبيلة األخرى...قبيلة اجلن اليت اختارت اخلري.
-هل هلذا الس بب ال جناور أح دا؟ نعم هلذا الس بب .إذا ج اورت األش رار حلقك الش ر.
اإلنس ان اليت يفضل اخلري البد أن يه رب من الن اس حىت ال يلحقه األذى .وك ذلك
يفعل ه ذا الفريق من اجلن .س كنوا الكه وف هربا من الشر منذ ق دمي الزم ان .أال
تسمعهم وهم يتحاورون يف الليايل املقمرة؟ .تدخلت أمه:
-ملاذا ختيفه مبحاورات اجلن الليلية؟ األجدر أن حتلب الناقة وتأتيين باحلليب قبل العشاء.
ض حك األب وهو ينهض ليحلب الناق ة ,ف التفت أس وف إىل أمه وق ال - :أنا أمسع
حمادث ات اجلن يف الكه وف كل ي وم .يقول ون أش ياء مدهشة وخيطر بب اهلم يف بعض
األحيان أن يغنوا .أنا ال أخاف اجلن.
وواصل التسلي بوجوه اجلن يف كهوف اجلبال " (.)1
وحني ك ان التجلي ص رحيا ,من خالل بن اء الك وين لقصة اجلن يف روايات ه ,على نفس املن وال
قصص اجلن يف األس اطري القدمية ,ف إن املطاوعة ج اءت متقلصة من خالل حالة التماثل
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 09 :و.10 1
117
والتش ابه؛ إذ أن اجلن اليت حتدث عنها والد أس وف هي قبيلة اجلن اليت ينتمي إليه ا ,وبالت ايل
فإن اجلن هي طوطم لوالد أسوف وعائلته ,كذلك هؤالء اجلن هم جن مؤمنون ,وكأنه إثبات
على أن هؤالء اجلن هم أجدادهم فعال .أيضا للجن وجوه غريبة ,حيث جاء يف نص الرواية:
" ...رأى يف اجلدران الص خرية وج وه بش عة كوج وه الغيالن وحيوان ات قبيحة ال توجد يف
() 1
الصحراء "
وجاء يف موضع آخر من الرواية " :ويبدأ يزيح طبقات الغبار حىت يكشف اخلطوط احملفورة
() 2
يف األحجار .يستمر يف مسح اجلدران الصماء حىت تطل الوجوه املقنعة أو املستطيلة "
ك ذلك ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس " ,من خالل تيمة " احلولة أو
التناسخ " حيث حتل هذه اجلن يف أجساد حيوانات وكذلك يف اجلبال بل وأكثر من ذلك يف
جسد إنسان ,واحلولة أو احللول أو التناسخ هو مذهب اعتقدت به الكثري من الشعوب القدمية
وأيضا اعتق دت به ديان ات خمتلفة منها اهلندية – على س بيل املث ال – وقد ج اء يف الرواي ة" :
ولكن إبليس ي دخل يف اليت وس ,فيحلو هلا أن تتن اطح قدامه يف اللحظة اليت يكرب فيها ويتمتم
بالفاحتة كأهنا تتباهى بقروهنا أو تريد أن تريه فروسيتها يف النطاح ".
ك ذلك ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس " ,من خالل تيمة " اخلوف
واهليبة " من اجلن كما يف األس اطري القدمية ,وك ذلك اخلوف من مواطنه ا ,حيث ج اءت
مطاوعة العنصر من خالل حالة ( التماثل والتش ابه ) ,فقد ج اء يف نص الرواية أن أس وف
حلقه األذى هو ومعزاته ما إن وطئ كهف اجلن األك رب؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة " :يومها
ط ارد أش قى مع زاة يف القطي ع ,انش قت عن بقية املاش ية ,ون زلت وادي متخن دوش املوحش,
ف ركض وراءها حىت أدركها عند مصب ال وادي يف " :آينس يس " اجملاورة ليكونا معا هنرا
عميق ا ,مهيب ا ,واح دا ...هن اك تق وم جمموعة من الكه وف تتوجها الص خور الض خمة .وحيد
هذه الصخور تلك الصخرة العالية اليت تقف كبناء يصعد صوب السماء ,كنصب وثين شيَده
اآلهلة .يغطي اجلن املقن ع ,مع ودانه املق دس ...مث ح اول أن يتس لق الص خور كي يلمس قن اع
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.09 : 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.10 : 2
118
اجلين الضخم فلم يستطع .الطريق إىل الصخرة حمفوف باألحجار الوعرة .حاول مرة أخرى
التش بث بالص خور امللس اء ,فاهنارت حتت قدميه جمموعة من األحج ار ,فته اوى وس قط يف
ال وادي على ظه ره .ظل يتل وى من األمل ,وزحف على األربع حماوال أن يس تظل بش رة طلع
خض راء عالية تقف يف قلب ال وادي .قلبه ي دق بعن ف ,وجس مه ب نزف الع رق .وصل إىل
الش جرة ,ف اختفى الظل ب رغم دهش ته من اختف اء ظل الش جرة إال أنه اس تلقى حتتها وانتظر
غروب الشمس بأشعتها القاسية .والتايل ,واكتشف أن املعزاة الشقية اليت خرجت عن القطيع
وقادته إىل كهف اجلن األكرب ,قد خنقها الذئب يف تلك الليلة ,فتذكر كيف الطلحة وهربت
() 1
ظلها عند جلوءه إليها بعد سقوطه من الصخرة "
وما س قوط أس وف من الص خرة ,وامتن اع الطلحة من تظليل ه ,وأكل ال ذئب ملعزات ه ,اليت
أوصلته بشقاوهتا إىل موطن اجلن ,إال لعنة وأذى أحلقتها اجلن بأسوف ومعزاته.
ه ذا وج اءت مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس " ,ك ذلك عرب حالة التماثل
والتش ابه ,حيث ج اءت طب اع أس وف ال ذي هو س ليل اجلن كطب اعهم ,يفضل اخلل وة مثلهم
ومثل وال ده ,حيث يس كن أس وف اخلل وات .أمل خيتلي هبما أب وه وأمه وس كن هبما بعي دا عن
الناس ؟!.
أمل يكرب أس وف وهو حيب الوح دة وجبل عليه ا ,إىل درجة أنه مل يع رف يوما كيف يتعامل
مع الرجال أنفس هم .فقد جاء يف نص الرواي ة " :إذن هو أنت اجلين أسوف ال ذي آثر العيش
يف اخلالء اخلايل عن معاش رة الن اس؟ ح دثونا عنك يف وادي آج ال ...عاش وا يف ترح اهلم
وتنقلهم وحي دين يف الص حراء .مل ي ذكر منذ أن ولد أهنم ج اوروا إنس يا واح دا .ي ذكر يف
طفولته كيف نزلت عليهم عائلة نزحت من " تاد رارت " واستقرت يف األودية العليا عندما
أنعمت السماء " مساك " باألمطار السخية من ذلك العام .أفاق يف فجر اليوم التايل ...فوجد
وال ده حيزم األمتع ة ,ويشد الرح ال ,وي روض اجلم ال اس تعدادا للس فر ...ومسع الوالد يق ول
غاض با " :أج اور اجلن وال أج اور الن اس .أع وذ باهلل من شر الن اس " .وكث ريا ما مسعه يف
املراعي ي ردد م واال ق ال إنه مسعه من أف واه الص وفية يف زوايا " العوين ات " :الص حراء ك نز,
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.11 : 1
119
مكاف أة ملن أراد النج اة من اس تعباد العبد وأذى العب اد .فيها الص فاء ,فيها الغن اء ,فيها املراد "
() 1
وعلى ال رغم من أن املطاوعة ج اءت متقلصة عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) إال أهنا فتحت
أمامنا هامشا قرائيا هاما واسعا ,حيث دفع والد أسوف مثن عزلته تلك ,ففي إحدى رحالت
ص يده لل ودان – وك ان أع زل لع دم متكنه من احلص ول على رصاص ات لبندقيته – لقى حتفه
على يد ودان قوي تسبب يف سقوطه وكسر رقبته ,ومن مث لفظ أنفاسه؛ حيث جاء يف نص
الرواية ":ولكن التمتع بنعيم العزلة يف الص حراء مع األب مل ي دم ط ويال .ف ذهب العج وز يف
رحلة صيد الودان يف جبال " مسيس " الغربية " وقرر أال يعود .انتظراه عدة أيام مث أعلنت
األم عن قلقه ا (... :ك ان ) أع زل؛ ف ارغ الي دين ,ألن رصاص ات البندقية نف ذت ,ومواعيد
رحالت قوافل التجار إىل السودان أو أغاديس تباعدت .متضي شهور دون أن متر قافلة قادمة
من بالد الس ود أو متجهة إليه ا ,وص الته مع أهل الواح ات يف وادي اآلج ال أو غ ات أو
العوين ات أو م رزق مقطوع ة ...لقد كسر احلي وان املس كون رقبته كما كسر هو يوما رقبة
() 2
ذلك الودان الذي انتحر "
كما أحالتنا مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس " ,إىل طبيعة شخص ية
( أسوف ) البطل الذي علمه والده حياة العزلة – اليت دفع مثنها غاليا – فكانت منط معيشته؛
إذ ال يعرف جماورة أحد ,حىت أن أمه كانت تنعته " بالبنية "؛ إذ مل يتجرأ يوما أن يتعامل مع
الرج ال حىت ملض ايقة بعض احملاص يل مقابل مع زاة أوتيس .فقد ج اء يف نص الرواي ة " :بعد
غي اب األب ت وىل املس ؤولية ,ي رعى األغن ام ,ويتفقد اجلم ال يف األودية اجملاورة ,وجيلب
احلطب ,وي ذهب إىل طريق القوافل ليق ايض املاعز مقابل أكي اس الش عري والتم ر .مل تكن
املقايضة أمرا سهال لشاب ال ميلك لغة خياطب هبا الناس .ال يعرف طباع الناس وال أخالقهم
وال تصرفاهتم ومن أين وقد عاش طوال عمره معزوال عنهم ,بعيدا ,خائفا منهم .يرعبه العجز
وخييفه كلما فكر – جمرد التفك ري -يف االق رتاب منهم ,فكيف مبخ اطبتهم أو خمالطتهم؟ يف
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 17 :و 18و 23و.24 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 31 :و 32و.34 2
120
املرة األوىل وقف بعي دا ,وراقب القافلة الطويلة وهي تسري عرب الطريق امللت وي ال ذي خيرتق
األودية ويص عد اجلب ال ال وعرة ...ت وارت القافل ة ,ومل يس تطع أن يق رب .ع اد إىل ال بيت
مهزوم ا ,فس مع اهتام ات قاس ية من األم .وص فته بأنه بنت ,وبكت وق الت " :ال ذنب ليس
ذنبك .املرحوم هو الذي خلق منك بعريا يفزعه ظل اإلنس " .مل ينم طوال الليل .وكان عليه
أن ينتظر أس ابيع أخ رى حىت متر قافلة جدي دة ورمبا ش هورا...أمه معها ح ق .هو بني ة .الرجل
ال يهرب من لقاء الرجال .احلياء للنساء .أمه قالت ذلك .هو مل ير البنات ,ومل ير يف عيوهنن
اخلجل .تفو! خزي! أحس باحلقد حلظتها ,وألول مرة ,على أبيه املرحوم .لقد رىب فيه خوفا
() 1
من الناس يكفي كل صبايا الدنيا كي يهربن من الرجال إىل األبد "
أيضا حتيلنا مطاوعة العنصر " ,اجلن املقدس " إىل أن أسوف يعيش وحده يف " مساك صطفت
" ال جياوره إال اجلن والودان؛ حيث جاء يف نص الرواية " :ومن يعيش يف هذه اجلبال غريك؟
األهايل يف الواحات حدثونا فقالوا إن " مساك صطفت " .مسكونة بإنس واحد وقبائل كاملة
() 2
من اجلن والودان "
ك ذلك حتيلنا مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس " إىل أن عزلة أس وف فرضت عليه
ص يد " ال ودان " ألجل إلطع ام نفسه وأم ه؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة " :وكي يعيش يف
ص حراء اهلل الواس عة ,مل يكن لزاما عليه فحسب أن يغلب نفسه وحيد حيلة خياطب هبا
ش ياطني اإلنس ,ليق ايض ب املعزاة ,وي نزع من بني أي ديهم املخيفة اليت تش به خمالب الوح وش,
قدر له أن
وطعامه من القمح والشعري ,وإمنا عليه أن خياطر مبهمة أخرى كتبت على جبني من َ
يولد ويعيش يف الصحراء :صيد الودان .حيلو للمرحوم أن يقول له يف مسامرات ليايل الصيف
يف الع راء " :إذا ق ررت أن تعيش وحي دا فعليك أن تص طاد ال ودان وحي دا .ه ذا ك العطش,
() 3
كالتيه ,قدر العزلة ,قدر الصحراء .ربنا جعل لكل شيء مثنا "
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 37 :و 38و.39 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.42 : 2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.45 : 3
121
ه ذا ,وحتيلنا مطاوعة العنصر األس طوري " اجلن املق دس " ,إىل تعامل ( أس وف ) معه ا,
واستنجادها به يف حلظات خطره ,كيف ال وهو سليلها؟ كيف ال وهو جياورها يف اخللوات,
ويسمع مهساهتا يف كل مكان .فقد جاء يف نص الرواية ..." :ال أحد يستطيع أن يتنبأ من أين
ميكن أن ت أيت النج دة ,من الس ماء أم من األرض .املهم أن تصرب وتنتظ ر .الصرب هو كلمة
السر" ...أنصت للسكون حماوال أن يتبني حماورات اجلن .أين أخيار اجلن الذين يروق هلم أن
يتحادثوا بأصوات عالية يف األيام العادية؟ ملاذا ال يأتون إلنقاذه؟ ملاذا ال يأتون حىت من باب
األنس وط رد الوحشة يف ظلم ات اهلاوي ة؟ أين أنتم يا معشر اجلن؟ ولكن اجلن مل
يس تجيبوا...مل يهمهم وا ,ومل ي أتوا يف تلك الليل ة...التقط نفسا عميق ا .اجلن ,يا معشر اجلن
الطيب .أين أنتم؟ الص رب .من مل ي وهب ه ذه النعم ة ,ال مك ان له يف الص حراء...دون إرادة
وجد نفسه ميزق السكون العميق بصراحة رهيبة...صرخة يائس :آ...آ...آ...آ...فردت عليه
قمم اجلبال الغارقة يف الصمت والظلمات بصرخة أحسن منها - :آ...آ...آ...آ تردد الصدى
ط ويال...ط ويال ,مل يس تجب اجلن .أما اإلنس فلم يص رخ طمعا يف مس اعدهتم ...مث عم
الصمت مرة أخرى .ال مهس .ال حركة .ال مههمة .ال جن .ال وجود للجن يف أعايل اجلبال.
أين اجلن؟ ...مسع خط وات ف وق رأس ه .هل هو وهم من أوه ام املوت؟ ...ش يء خشن
المس أص ابع يديه املتخش بة يف قبض تها على نت وء احلي اة...حب ل...حبل الليف اخلش ن .مل
يص دق .أمسك به بكلتا يدي ه ...جسم يتح رك أمامه وحيره بق وة .هل هم اجلن؟ ...جنا...
جنا ...اجلين ال ذي أنقذ حياته م ازال خيطو يف الع راء املغطى باألحج ار ببطء وص مت
وه دوء ...رأى املالمح..يا ريب .إن ه ...ال ودان " ( )1وعلى ال رغم من أن " ال ودان " هو من
أنقذ أس وف من املوت احملقق إال أن ه ذا ال ينفي أنه ظن منذ حلظة خط رة األوىل أن اجلن
ستهب إلنقاذه ,وحىت يف حلظة انتشاله من فوهة املوت ظن أن اجلن من ألفت له حببل النجاة,
وما ه ذا الظن إال اعتق اد من أسوف أن اجلن اليت ك ان يأنس إليها يف الودي ان واجلب ال ,واليت
هي طوطمه لن ختذله أبدا يف اإلسراع إىل إنقاذه ,لكن شاءت األقدار أن تكون جناته على يد
" ال ودان " ال ذي هو نفسه من أنقذ وال ده يف الس ابق ,وهو ك ذلك من لقي وال ده حتفه على
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 65 :و 66و 67و 69و.70 1
122
يديه حني أخلف بالوعد ,كيف ال ,والودان هو " الودان املقدس " الذي حفر على " النصب
املقدس " والذي هو طوطم لبين البشر وهذا ما سنقف عليه يف :جتليات " الودان املقدس " يف
رواية " نزيف احلجر " .
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.29 : 2
123
على ط ول الص خرة اهلائلة ينهض الك ائن العمالق ,خيفي وجهه ب ذلك القن اع الغ امض,
ويالمس بيده اليمىن الودان الذي يقف جبواره مهيبا ,عنيدا ,ويرفع رأسه ,مثله مثل الكاهن,
حنو األفق البعي د ...عرب آالف الس نني ,حافظ الك اهن العظيم وال ودان املق دس على مالحمهما
احملف ورة ,مالحمهما الواض حة ,العميق ة ,اجلليل ة ,الناطقة يف ص لب الص خرة الص ماء .يطل
الك اهن حمف ورا يف احلجر الص لد ,واقفا يف قامته الطبيعي ة ,بل يب دو أط ول وأض خم من قامة
اإلنسان الطبيعية ,ينحين قليال حنو الودان املقدس الذي يفوق الودان العادي حجما " (.)1
ع ود على ب دء ,ف إن جتلي العنصر األس طوري " ال ودان املق دس ,ج اء ص رحيا من خالل ذكر
بعض خصائص ه ,حيث يه اب ,وال جيرأ أحد على ص يده ,ومن جترأ على ذل ك ,فعليه ممارسة
بعض الطقوس وتعليق التمائم محاية له من لعنته وبطشه .وبالتايل جاء التجلي هنا تاما ,حيث
صرح الكوين بذلك وجاء يف نص الرواية..." :ذهب العجوز يف رحلة لصيد الودان يف جبال
" مس يس " الغربي ة ...أص بح يتهيب ص يد ال ودان منذ تلك احلادث ة ,وال يتح رك باجتاه القمم
املهيبة إال بعد أن يق رأ كل اآلي ات اليت حيفظها من الق رآن ,وي ردد متائم الس حرة الزن وج بلغة
اهلوسا 3 2ويعلق على رقبته التعاويذ احملص نة يف جل ود الثع ابني اليت جلبها له جتار القوافل من
الع رافني يف " ك انو " جيلس يوما قبل الس فر يتمتم بتعاوي ذه ويص وم عن الكالم مع أح دمها
() 4
لينطلق يف الفجر على مجله ".
كذلك جاء جتلي العنصر األسطوري " الودان املقدس " صرحيا من خالل تقنية العنوان,
هذا العنوان الفرعي الذي عنون به الكوين إحدى قصص الرواية ,واملوسومة ب " :التمائم ".
ليحيلنا العنوان مباشرة على التمائم اليت كانت تعلق قبل التأهب لصيد الودان املقدس ,حيث
ج اء يف منت القصة الفرعية املعنونة ب " التم ائم " م ايلي " :يف احلفلة ف وجئ بالتم ائم ,ليس
مس عود وح ده ال ذي أتى حييط عنقه باحلج اب وإمنا ج ون أيض ا .تربع جبوار املوق د ,وأخ رج
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 07 :و.08 1
2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.31 : 3
- 44
124
احلصن اجللدي املوسوم بإشارات السحرة الزنوج ,ولوح به أمام وجهه متباهيا ,تناوله قابيل,
وقلبه بني يديه مث قال:
-هذا وشم شياطني " كانو " هذه خطوطهم ,هذه رموزهم .من أين النصراين أمريكي
يعيش يف جبل نفوسة حبصن اجلن ه ذا؟ تض احك ج ون ومس عود...فك أزرار قميص
الك اكي ,ف ربزت قطعة اجلل د ,موش ومة أيضا ب الرموز الس حرية .ص اح قابي ل:
استغفلتموين .مل يقل يل أحد أن األحجبة ضرورية لوليمة الودان – قال مسعود:
حىت األطف ال يف اجلبل يعرف ون ه ذا .ال ودان مس كون .روح اجلب ال .ومن ذاقه م رة البد أن
يتسلم باحلجاب .األرواح ليست لعبة .كل شيء جائز إال اللعب مع األرواح .داعب حصنه
وقبله ,مث عاد فأخفاه خلف قميصه " (.)1
ه ذا ,ويتجلى العنصر األس طوري " ال ودان املق دس " – ك ذلك – جتليا ص رحيا ,من خالل
التصريح بأن أساطري الصحراء حتكي على قوته؛ حيث جاء يف نص الرواية :اآلن سنرى من
مهنا األقوى؟ من األقوى :عن قوة الودان حتكي األساطري يف الصحراء " (.)2
كذلك يتجلى العنصر األسطوري ( الودان ) من خالل تيمة تقنية ( اجلملة االستهاللية ) اليت
حتيلنا مباش رة إىل ( ال ودان املق دس ) ال ذي عرفته األس اطري القدمية وقد وردت ه ذه الفق رة
االس تهاللية عند ( س وفوكليس ) يف ملحمته ( أوديب ملكا ) .وقد وردت يف نص الك وين
كالتايل " :يتسكع يف األدغال ,بني شقوق اجلبال ,مثل الودان أهنكته األحزان ,يريد أن يفلت
مما كتب يف الل وح احملف وظ ولكن تظل نب وءات الق در حتوم ف وق رأسه أبد ال دهر " ( .)3ه ذا
ال ودان ال ذي يش به إىل حد بعيد اإلنس ان ,ال ذي ينق اد مكرها إىل حتميته املق درة له مهما
حاول االختباء.
هذا ,وحني كان جتلي العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) تاما ,رصينا ,وجزئيا حينا آخر.
ف إن مطاوعة العنصر األس طوري هي ك ذلك ,تك ون متقلصة حينا وممت دة حينا آخ ر ,ألهنا
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 31 :و.32 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.59 : 2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .73 3
125
تتناسب عكسا مع التجلي ,وفق املنهج املتب ع .وحني تك ون املطاوعة ممت دة فإهنا تعطينا بع دا
كب ريا بني الث ابت واملتح ول يف النص؛ أي بني األس طوري وال واقعي ,أو بني األس طورة
واملتأس طر يف النص .وما امت دادها يف النص إىل براعة من الك وين ومق درة على تطويع
األس طوري يف نصه حين ا .ومقدرته على ص نع األس طورة حينا آخ ر .وقد ج اءت مجلة
املطاوعات للعنصر األسطوري ( الودان املقدس ) على النحو التايل.
حيث ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة " القدس ية ".
فقد صرح الكوين بذلك يف الكثري من املواضع ,كما أنه صور لنا قدسية الودان على الصخرة
العظيمة من خالل بعض املمارس ات والطق وس اليت حتيط به – خاصة – من ط رف ال زوار
األجانب ,واملتعبدين؛ حيث جاء يف نص الرواية " :وبالطبع مل خيطر ببال أسوف يف املاضي,
عن دما قطع الوادي املوحش يف ش بابه منشغال ب رعي أغنام ه ,أن يكون هذا الرسم احملفور يف
الص خور ميثل ه ذه األمهية كما ي راه اليوم عن دما أصبح قبله السياح النص ارى يأتونه من أبعد
البل دان ,يع ربون الص حراء بس يارات الربية ليش اهدوا احلجر ويفتح ون أف واههم دهشة أم ام
عظمته ومجاله وغموض ه ,بل إنه رأى يف إحدى املرات ام رأة أوربية تركع أم ام الص خرة على
ركبتيها وتتمتم بكالم مبهم ,عرف باحلدس أنه صلوات النصارى " (.)1
وجاءت مطاوعة العنصر األسطوري " الودان املقدس " يف موضع آخ ر - ,كذلك – خالل
تيمة " القدس ية " عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) ,حيث ج اء أن ال ودان يقبل ص الة آس وف
ويباركه كاإلل ه ,حيث ج اء يف نص الرواي ة " :أهنى ص الته ,وألقى برأسه إىل ال وراء متابعا
اجلدار العمالق املنتصب ف وق رأسه املهيب ,املت وج بق رنني مل ونني ,أيضا يوافق إهله وي وحي
بأنه قبل الصالة وفاز برمحة رب املعبد .مل يدر ( آسوف ) أنه أخطأ االجتاه ,فلم ركعاته حنو
الكعبة ,وإمنا حنو الصنم احلجري املنتصب فوق رأسه ,يف قعر الوادي العميق " (.)2
كما ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) عرب تيمة " القدس ية " من خالل
حالة ( التماثل والتش ابه )؛ حيث ك ان النص ارى يتق اطرون من كل نصب يركع ون أم ام
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 08 :و.09 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.13 : 2
126
النصب ك الوثنيين الق دامى ,تقديسا ل ه ,ه ذا النصب ال ذي حيمل ( اجلين األكرب املق دس )
وك ذلك ( ال ودان املق دس)؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة ..." :منذ ذلك الي وم ,ب دأ ال زوار
يتقاطرون على الوادي املنسي منذ آالف السنني ,يأتون مجاعات مبعدل كل أسبوعني ,وأحيانا
كل ش هر .وقليال ما يغيب ون ألك ثر من ش هر .وك انوا مجيعا من األج انب ,رج اال ونس اء,
شيوخا وشبابا من خمتلف أجناس النصارى ,يركعون أمام اجلين الكبري ,ويلتقطون الصور أمام
املعب د ,ويقض ون ليلة يف بعض األحي ان مث ينطلق ون عائ دين ...وكث ريا ما س أل نفسه عن سر
اهتم ام النص ارى بالرس وم القدمية وتوصل إىل قناعة تق ول إن النص ارى حيج ون إىل أوث ان
متخن دوش ألهنم يعتنق ون الديانة القدمية نفس ها ,فهم ال يؤمن ون ب النيب حمم د ,وال يس جدون
حنو الكعبة كاملس لمني ,فاخلش وع ,والض راعة ,واالبته ال ,واالستسالم ال ذي تنطق به عي وهنم
تفض حه اإلش ارات اجملهولة اليت يرمسوهنا على وج وههم وهم يتفحص ون قامة ملك ال وادي
() 1
العمالقة وودانه املقدس الذي ينتصب جبواره متأمال األفق البعيد "
ه ذا ,وت أيت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( الن ذر ) ,أي
الن ذر بع دم ص يد ال ودان ,وبع دم أكل حلم ه .وقد لعب ( ال ودان املق دس ) دور املنقذ للبش ر.
حيث ج اء يف نص الرواية كمنقذ لوالد (آس وف ) – أوال – ومنق ذا ( آلس وف ) م رة
أخرى.
فقد أنقذ ( ال ودان املق دس ) والد ( آس وف ) يف إح دى رحالت ص يده ,رغم حماولة األب
صيده والقضاء عليه .وتقدمي حلمه غداء ألسرته .إال أن ( الودان أنقذ هذا الوالد املكره على
صيده – لسد رمق أسرته – فنذر بأن ال يصيد ودانا بعد ذلك حىت لو مكرها .وقد جاء يف
نص الرواية كيف متاطل األب يف ص يد ال ودان م رات عدي دة ,حىت أث ار ذلك فض ول ابنه
(آس وف) ,فع رف احلقيقة من أم ه ,حيث ج اء يف نص الرواي ة ..." :والس بب يرجع إىل تلك
العالقة الس رية اليت ربطت األب ب الودان .وهي عالقة غامضة وقدمية...وأحس ألول م رة أن
يف األمر سرا .هم بأن يستفهم من األم وعن السبب لكنها سبقته وقالت له يف أحد األيام" :
ملاذا تلح على أبيك أن ي ذهب بك لقتل ال ودان؟ أال ت رى أن ذلك يؤمله؟ " .انتهز الفرصة
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.15 : 1
127
فس أل متلهف ا " :ولكن ملاذا يؤمله؟ أنا ال أفهم ش يئا؟ " .مل تبح يوما بالسر إال بعد أن ق ام مع
الوالد بغزوات فاشلة متكررة للفوز بالودان يف اجلبال اجملاورة ...بدأت املطاردة ,ومل تسفر
عن ش يء .ت وارى القطيع يف ص خور أع ايل اجلب ال واختفى .الحظ قبلها أن الوالد مل ي دقق
التص ويب ,فأجفل القطيع عم دا .ويف املرة الثانية أدركا أن ثى ممتلئة وقفت قبالته ا ,فوقف
والده ,وتبادل معها نظرة خفية ,مث التفت إليه قائال إهنا حامل ,وصيد احلوامل من األنعام إمث
كب ري .وع ادا على عقبيهم ا ,ويف املرة الثالثة اس تطاع هو أن يكشف م أوى ثالثة رؤوس ترتع
يف ش جريات تش بثت بالس فح ,فاض طر أن يعطيه البندقي ة .وعن دما ص وب ( آس وف ) س عل
األب بشدة ,فأجفل الودان ,وانطلقت الشياه ,واحتمت بصخور اجلبال اجملاورة " (.)1
ويكون هبذا ,قد وىف األب بعدم صيد الودان ,وحني أحل ( آسوف ) يف السؤال ,أخربته األم
بالس ر ,وكيف أن ( ال ودان املق دس ) أنقذ أب اه وهلذا قطع ذلك ( الن ذر ) .وقد ج اء يف نص
الرواية ..." :وشرعت متخض يف قربة بني يديها قبل أن تصرح بالسر يف اختصار " :أبوك ال
أن تسفك دماء الودان ألنه نذر نذرا من زمان .قبل أن تولد .كان يصطاد يف سفوح جبال
(آينس يس ) ف زلقت رجله ووجد نفسه معلقا بني الس ماء واألرض ,ميسك بص خرة ورجاله
تتدليان يف اهلاوية .فانتشلته نفس احليوان الذي كان يقاتله وينوي قتله وأنقذه من اهلالك .هل
() 2
تفهم اآلن؟ لقد نذر أال يقرتب من الودان ووعد أن ال يدرب نسله على صيده؟ "
كان هذا ,نذرا من األب لطوطمه ,بأن ال يصيده وال يأكله ,وال يعلم نسله صيده .والنذر
على من وال األس اطري القدمية ,يس تلزم الوف اء ب ه ,وإذا س ولت له نفسه ب أن خيون الن ذر ,ف إن
(اللعنة والعقاب) ستحالن به.
ومن ه ,فقد ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) ,من خالل تيمة ( خيانة
الن ذر ) متقلصة عرب حالة ( التش ابه والتماثل ) ,حني خ ان األب الن ذر ,واض طر إىل ص يد
(الودان) حني هدد اجلوع عائلته ,فقد جاء يف نص الرواية " ,ولكنه جاع .جعنا معا سنوات
اجلفاف القاسية قبل أن تولد .كنت حامال .فاضطر أن خيالف النذر ويصطاد ...بكى قبل أن
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.48 : 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 48 :و.49 2
128
يفعل ذلك .مسعته بنفسي يبكي يف الليل .يف الصباح ذهب وعاد بودان كبري .سلخناه وأكلناه
بعد جوع طوي ل .ق ال أنه خان وستعاقبه روح اجلب ال على ذل ك .ولكنه أكد يل أنه لن يعلم
صيد الودان لنسله إذا رزق مبولود ذكر ,هل فهمت اآلن يا معناد؟ قلت لك ال تلح عليه يف
أمر الودان ألن ذلك يؤمله " (.)1
كذلك ,تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من خالل تيمة ( اللعنة والعقاب)
ألن الوالد خ ان الن ذر .فكيف ك انت العاقب ة؟ إذ خ رج الوالد بص يد ال ودان رغم ن ذره بع دم
فعل ذل ك .خ رج الوالد ه ذه املرة ,لكن دون رجع ه ,فاض طر ( آس وف ) أن يتعقب وال ده,
ليقف على فجيعة عق اب من س ولت له نفسه خيانة الن ذر .وقد ج اء يف نص الرواي ة..." :
ولكن التمتع بنعيم العزلة يف الصحراء مع األب مل يدم طويال ,فذهب العجوز يف رحلة صيد
ال ودان يف جب ال " مس يس " الغربي ة ,وق رر أال يع ود .انتظ راه ع دة أي ام مث أعلنت األم عن
قلقه ا ...ت زود باملاء والتم ر ,واقتفى أث ره ...قضى أياما يقتفي األث ر .وعن دما وجد اآلث ار
الصراع مع الودان يف وادي " آينسيس " أحس بالقلق .تتبع آثار املعركة على طول الوادي,
فوجد بقع دم ل وثت األحج ار ...خيل إليه أن رائحة غريبة غ زت أنفه فج أة .فقفز قلب ه...
ووجد العجوز راقدا على ظهره ,وجهه يتجه حنو السماء ,ومقلتاه فارغتان ,ومالحمه زرقاء,
حيوم عليه ذب اب أزرق ,كبري احلجم ,ال أثر ل نزيف ,وال بقعة دم ,باس تثناء خ دوش يف يديه
املمدودتني مبوازاة جسده .لقد كسر احليوان املسكون رقبته كما كسر يوما رقبة ذلك الودان
() 2
الذي انتحر "
هك ذا حلت اللعنة والعق اب بالوالد ال ذي خلف العهد وخ ان الن ذر ,فك انت النتيجة موته
بأبشع صورة .هذا الوالد الذي كان خياف الودان كثريا وقد صرح بذلك قائال ..." :الودان
شيء آخر ...أنا أخاف الودان.)3( "...
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.49 : 1
-؟؟ 2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.56 : 3
129
األب ك ان يع رف جي دا أن لل ودان ( لعنة وعق اب ) ,ويع رف ك ذلك أن الن ذر ليس مبزح ة,
وأنه من خاف النذر نال العقاب .فقد جاء يف نص الرواية " :النذر حرم على الولد أن يرث
حرفة الوال د ,والوالد مل ميت إال ألنه ال خ الف الن ذر ,الن ذور ليست مزح ة ,وال ودان يع رف
ذلك " (.)1
ومما س بق يتضح جليا م دى براعة الك وين يف تطويع األس طورة األولية يف نصه األديب ,فينتج
مرارا أشكاال جديدة ختدم نصه ,بل جتعل منه صانعا لألسطورة ,وبالتايل يساهم من جديدة
يف خلق األسطورة.
وباإلضافة إىل ما سبق ,جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من خالل تيمة
( احللول ) ,وهو مذهب تقول به الكثري من الشعوب البدائية ,كاهلنود وغريها .وحىت بعض
الف رق الدينية كاملتص وفة .حيث ي ذهب ه ذا املعتقد إىل أن روح اإلنس ان حتل جبسد آخر من
احلي وان لتحيا من خالل ه ,ولتك ون رقيبا على أهله ا ,وعلى قبيلته ا ,ومنه ف إن ذاك احلي وان
فس يكون ( طوطما ) هلذه القبيل ة .ال تص يده ,وال تقتل ه ,وال تأكل حلم ه .وقد يتع دى حل ول
الروح يف جسد احليوان ،إىل احللول يف مظهر من مظاهر الطبيعة أو يف جبل أو شجر أو قمر
وغريها.
ففي نص الرواية حيل األب جبسد ( ال ودان ) ويلحظ ابنه ( آس وف )ذل ك ,فت أيت مطاوعة
العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( احلل ول ) ,متقلصة من خالل حالة
(التماثل والتش ابه )؛ حيث جاء يف نص الرواي ة..." :وفج أة ,يف عتمة ه ذا البصيص الرب اين,
رأى أب اه يف عيين ال ودان الص بور ,العظيم ,رأى يف عيين الوالد احلزي نني ,الطيب تني الل تني مل
تفهمها ملاذا يؤذي اإلنسان أخاه اإلنسان ,ففر إىل الصحراء واختار أن ميوت وحيدا يف اجلبال
على أن يعود إليهم .العينان اللتان اختارتا احلرية القاسية دون أن تعرفا ملاذا .يف مكانه املكسو
باألحج ار الش رهة ,ص رخ بص وت خمن وق كأنه ين اجي رب ه :أنت ريب .لقد عرفت ك .انتظ ر.
أريد أن أخربك ...أغمي عليه " (.)2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.57 : 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.70 : 2
130
لقد حلت روح األب يف جسد ( ال ودان ) ,ويف موضع آخر حلت روح اجلب ال يف (ال ودان),
وحلت روح الرمال يف الغزال وهنا جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من
خالل تيمة ( احللول ) ممتدة ,عرب حالة ( التشوهات والتغريات ) ,حيث سكنت روح اجلبال
ال ودان وليس العكس ,وك ذلك س كنت روح الرم ال الغ زال وليس العكس .فع ادة ما تس كن
روح احلي عند موته جسد احلي وان أو اجلم اد وليس العكس -حسب معتقد احلل ول– ولكن
هنا ج اءت املطاوعة من خالل حالة ( االختالف )؛ حيث ج اء يف نص الرواي ة " :انتظر حىت
هل القم ر ,وحكى له كيف أن ال ودان هو روح اجلب ال .ك انت آهلة الس ماء ت نزل إىل األرض
مع األمطار وتفصل بني الرفيقني وهتدئ من جذور العداوة بينهما وما أن تغادر اآلهلة ساحة
املعركة وتتوقف األمط ار عن اهلط ول حىت تش تعل احلرب بني الع دوين اخلال دين .ويف ي وم
غضبت اآلهلة يف مسواهتا العليا وأنزلت العقاب املتحاربني .مجدت اجلبال يف " مساك صطفت
" .وأوقفت تق دم الرمل العنيد يف ح دود " مس اك ملت " .فتحايل الرمل ودخل يف روح
الغ زالن ,وحتايلت اجلبال من جهتها يف الودان .منذ ذلك اليوم أصبح الودان مسكونا بروح
() 1
اجلبال "
ه ذا ,وحني ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) ممت دة من خالل تيمة
(احللول) ,عرب حالة ( االختالفات والتشوهات ) فقد منحت لنا بعدا دالليا جديدا يف النص,
حيث انف رج النص عن أن اإلنس ان هو أكرب ع دو للطبيع ة .فليس الغ زال وال ال ودان ع دوان,
وال مظ اهر الطبيعة ع دوة لبعض ها البعض ( اجلبل والرمل ) ,ولكن ( اإلنس ان ) هو الع دو
األول والوحيد هلا مجيعا ,هذا اإلنسان الطاغي ,واألناين ,واملستبد ,واملتوحش والذي عرب عنه
الكوين يف نصه ب ( الشيطان ) .فقد جاء يف نص الرواية " :سأله أسوف يف تلك الليلة معلقا
على قصة األرواح :ولكن الغزال والودان ال يتحاربان اآلن...ألن اهلل أنزل على األرض بلوى
أكرب ق اتلت االث نني مع ا .ج اء اإلنسان ,وأص بح للغ زالن وال ودان ع دو واح د .اآلهلة ملت
الشكاوى الطفولية ,تارة تتصاعد الرمال وترفع أمرها إىل السموات مدعية أن اجلبال هي اليت
بدأت االستفزاز ,وتارة تقصدها قمم اجلبال وتشكو غزوات الرمال ,فغضبت اآلهلة وعاقبت
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.26 : 1
131
املتخاصمني بشيطان امسه اإلنسان ,أوكلت إليه األمر فجاء وأقام يف الوادي بينهما ,هنأ بال
اآلهلة ومل تسمع شكوى منذ ذلك اليوم " (.)1
وحني,ك ان اإلنس ان هو أكرب طاغية للطبيعة جب اال ورم اال ,ونباتا وحيوان ا ,وحىت ألخيه
اإلنس ان فقد فضل والد ( آس وف ) – رغم إحلاح زوجته – أن يعيش وحي دا يف الفض اء
ال رحب ال جياور إنس يا مطلق ا .حىت وافته املنية وهو على تلك احلال من العزل ة .حيث ج اء
على لس ان والد ( آس وف ) " :فكيف أج اور اإلنسان؟ أمك تع اتبين وتري دين أن أع ود إىل
ج رية القبيلة يف " أبره وه " .تش كو من الوح دة ,وتبكي يف اللي ل .أنت تع رف أهنا تبكي يف
الليل وتق ول إين أنا اجلين ...أنا الش يطان ,وليس الن اس .ولكين ال أس تطيع أن أس كن جبوار
أحد .هكذا علمين جدي .وهكذا جيب علي أن أعلمك .ال أريد سوى األمان .هل تفهم؟ مث
() 2
رفع صوته بذلك املوال احلزين " .
هذا ,وحني حلت الروح اجلبل يف الودان ,جند ( آسوف ) قد استنجد باجلبل حلماية (الودان)
روحه من ( قابيل ) .الذي يسعى لصيده وأكله .وقد لىب اجلبل النداء ,ومحى الودان؛ حيث
ج اء يف نص الرواي ة " :ال ودان عرفه اآلن ,ويريد أن ي أيت وحييي ه .وإذا أتى فس يقع يف أي دي
الناس الذين ال يأكلون إال حلوم الغزالن والودان .الويل لك ! ابتعد! اقفز يف جوف اجلبل يا
روح اجلب ل .ارجع إىل م أواك الس ري املنيع ,قل حلض نك أن يبتلعك حىت تعرب البل وى .أهنى
صالته .كرر مناجاته للجبل كي ينجي روحه .التفت خلفه :الودان اختفى" (.)3
الرائع واملدهش عند الك وين ,أن مطاوعة العنصر األس طوري ,جتر وراءها مطاوع ات أخ رى,
وتفتح أمامها هوامش قرائية واسعة؛ فحني نذر الوالد بعدم صيد ( الودان ) ألنه أنقذه ,نذر (
آس وف ) – ك ذلك – بع دم ص يد ( ال ودان )؛ لكنه وجد نفسه جمرورا لص يده مكرها على
ذلك ,رمبا ألن يف هذا احليوان سر ال ميكن بسببه ألي كان أن يقاوم السعي لصيده.
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.27 : 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.27 : 2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.89 : 3
132
وبالت ايل س ولت ل ( آس وف ) نفسه أن ينقض الن ذر ال ذي قطعه على نفس ه ,فهل س يكون
مصريه ,هو مصري والده؟ وهنا تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) من خالل
تيمة ( نقض النذر ) ,ممتدة عرب حالة ( التغريات والتشوهات ) ,حيث ,وعلى الرغم من نذر
(آسوف) بعدم صيد ( الودان ) ,عندما علم بنذر أبيه ,وأصر بعدم صيده – خاصة – حينما
كسر ( الودان ) رقبة والده وقتله .رمبا كان السبب يف ذلك سحر مكنون يف الودان نفسه,
حيث ينق اد إىل ص يده كل من ي راه ,حىت ( آس وف ) نفس ه .فقد ج اء يف نص الرواي ة..." :
وملا كسر احلي وان املس كون رقبة الوال د .ت ذكر كالم الوال دة عن الوع د ,مث ع اد فنس يه م رة
أخ رى .الش يطان ق رين الش باب ,وس وس له فنسي وس ها ,ودس له يف قطيع األغن ام ثالثة
رؤوس من ال ودان ,وجلس على قمة اجلبل يتف رج ...ودان عمالق ,رم ادي الل ون ,تتالمع
ش عرات فض ية يف ش عره الك ثيف .تت دىل من ذقنه حلية طويل ة .رأسه مت وج بق رنني معق وفني
ه ائلني...الن ذر ح رم على الولد أن ي رث حرفة الوال د ,والوالد مل ميت إال ألنه خ الف الن ذر.
الن ذور ليست مزح ة...وجد نفسه يتن اول عص اه وحبل ه ,ويتس لل إىل قلب ال وادي ,حيتمي
بالصخور وأحراش الشجريات الربية حىت أشرف على املوقع حيث يتسكع الودان...مل يعرف
كيف هنض وكيف زحف إىل موقع احليوان املسكون .بل مل يدرك هدفه ممن هذا العمل قوة
جمهولة دفعته إليه .نسي النذر ,ونسي مصري الوالد وإنقاذ إليه مأخوذا ,مسلوب اإلرادة .يقول
أب وه ,وك ذلك أم ه ,إن روح ال ودان جتذب ,تض لل ,تس لب العق ل ,وجترد من اإلرادة ,فيجد
الص ياد نفسه مس لوبا منس اقا ,مس كونا ,يتق افز على أرب ع ,ويط ارده على الص خور الص ماء,
امللس اء ,القاس ية .حقا أن ما أنس اه الن ذر ,وس اقه مستس لما خلف ال ودان ,يف ذلك الي وم,
كاجملذوب بالوجد ,سر كبري .يف هذا احليوان يسكن سر كبري ,ال يوجد مثله حىت يف الغزال
املسحور .الوالد حمق عندما قال ..." :أنا أخاف الودان " .خيطئ يف إحساسه .هنايته كانت
() 1
على يديه ".
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 53 :و ,54و 55و 56و.57 1
133
هك ذا ,س ولت نفس ( آس وف ) أن خيرج لص يد ( ال ودان ) ,وأن ينقض الن ذر ال ذي قطعه
على نفس ه ,تق وده ق وة س حرية تكمن يف ذاك املخل وق العجيب واملق دس ( ال ودان ) .وعلى
منوال أساطري املظهر الطوطمي ,فاللعنة والعقاب ستلحقان مبن نقض النذر جتاه طوطمه.
فج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) متقلصة من خالل تيمة ( اللعنة
والعق اب ) ,عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) ,حيث ن ال ( آس وف ) عقابه ج راء نقض الن ذر,
فقد ج اء يف نص الرواي ة ..." :يا ريب ! ما ال ذي دفعه إىل أن يل وح بتلك املش نقة إىل ق رون
الودان العظيم إن مل يكن اجلنون؟ أية قوة خفية ساقته ألن يشكل حبل اللف يف رأس احليوان
اجلبار العايت ,فريبط مصريه مبصريه إىل األبد؟ هذا أيضا كان مكتوبا يف اللوح القدمي منذ قدمي
الزمان ,قبل أن يتكون يف جوف أمه ويولد يف الدنيا القاسية؟ ...جرجره على األرض ,وعرب
به الوادي يف خفة فسوف يسوقك صوب أقسى الصخور .إىل أصعب مناطق اجلبل" ...سائل
يغمر وجه ه :الع رق ,وس ائل يغمر ركبتيه ويديه ومرفقي ه :ال دم ...عن ق وى ال ودان حتكي
األس اطري يف الص حراء ...وأي ق در س اقه إىل ه ذا النت وء فتش بث به ف وق فوهة اهلاوية اليت ال
هناية هلا .التقط أنفاس ه ,ونظر إىل أس فل حماوال أن يت بني ق اع اهلاوي ة ,فلم ي رى س وى
الظلمة ...حبث عن طريقة للخالص .حاول أن يصل برجليه إىل القمة فتهاوت األحجار على
رأسه ...خاف وبكى ...مل يبك ,ولكن سائال حارا كاجلمر ,انبثق من عينيه ,أحرق وجنتيه
يف تلك اللحظ ة .هل هو القي ظ ,هل هو اخلوف؟ هل بس بب اهلزمية؟ أم ألن هنمه وخيانته
للنذر قاداه إىل هذا الفخ؟ النذر .النذر .تذكر النذر .والده أيضا مات ألنه خان النذر ,فهل
سيموت؟ هل املوت سهل إىل هذا احلد؟ ...أليست محاقة تلك اليت رفعته إىل أن يهجم على
ال ودان املس كون ويلف احلبل ح ول قرني ه؟ وإال ما معىن تلك اللحظ ة؟ هل ه ذا ما يس مونه
الق در؟ ...ويس مع خطوات فوق رأس ه ...شيء خشن .هل هو احلب ل؟ ...أمسك به بكلتا
يديه .تعلق به ...وأي قدر ساقه إىل هذا النتوء ,فتشبث به فوق فوهة اهلاوية اليت ال هناية هلا.
التقط أنفاس ه ,ونظر إىل األس فل حماوال أن يت بني ق اع اهلاوي ة ,فلم ير س وى الظلم ة ...حبث
عن طريقة للخالص ,حاول أن يصل برجليه إىل القمة فتهاوت أحجار على رأسه ...أليست
محاقة تلك اليت دفعته إىل أن يهجم على ال ودان املس كون ويلف احلبل ح ول قرني ه؟ ...
134
ويسمع خطوات فوق رأسه ...شيء خشن المس أصابع يديه املتخشبة يف قبضتها على نتوء
احلي اة .بش يء خشن هل هو احلب ل؟ ...قبض على حبل اللف اخلش ن .مل يص دق .أمسك به
كلتا يديه ...تعلق به ...سحبه احلبل ,فأطل برأسه فوق العتمة ...جسم يتحرك أمامه وجيره
بق وة ...رأى مالمح .يا ريب .إن ه ...ال ودان .نفس ال ودان .ض حيته .جالده .من منهما
الضحية؟ ومن منهما اجلالد؟ من منهما اإلنسان؟ ومن منهما احليوان؟ ...فجأة يف عتمة هذا
البص يص الرب اين ,رأى أب اه يف عيين ال ودان الص بور ,العظيم ,رأى عيين الوالد احلزين تني,
الطيبتني اللتني مل تفهما ملاذا يؤذي اإلنسان أخاه اإلنسان ,ففر إىل الصحراء ,واختار أن ميوت
وحيدا يف اجلبال على أن يعود إليهم .العينان اللتان اختارتا احلرية القاسية دون أن تعرفا ملاذا.
يف مكانه املكسو باألحجار الشرهة ,صرخ بصوت خمنوق كأنه يناجي ربه - :أنت أيب .لقد
عرفتك .انتظر .أريد أن أخربك ...أغمي عليه " (.)1
هكذا أوصلته خيانته للنذر ,إىل اهلاوية .كاد أن يلقى حتفه ,لقد سحره الودان ,ولكنه كان
سببا يف جناته أيضا .فهذه املرة ال ميكن أبدا ألسوف أن خيون العهد ,لقد أنقذه الودان ,الذي
هو يف األصل طريدته ,وهو يف األصل طوطمه الذي كاد أن حيطم أخطر الطابوهات اجتاهه.
ه ذا هو الودان ال ذي رأى يف عينيه والده .هذه املرة س ينذر ( آسوف ) بع دم صيد ودانه -
طوطمه – أي منق ذه ,أي وال ده ال ذي يس كن جبس ده .فمنذ حادثة اهلاوي ة ,ع اف (آس وف)
اللحم ,وحرمه على نفسه.
وهنا تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) متقلصة من خالل تيمة التحرمي ,عرب
حالة ( التماثل والتش ابه )؛ حيث ح رم ( آس وف ) على نفسه أكل اللحم وخاصة حلم
(ال ودان) ,حيث جاء يف نص الرواي ة " :بع دما ع اف اللحم...كل اللح وم .الحظ ه ذا التغري
أول م رة عند م وت ج دي ,فوجد أمه تق وم بطبخه يف الق در عند م دخل الكه ف .ع اد من
الرعي ,فغزت الرائحة أنفه من مسافة بعيدة .شعر بالدوار والغثيان ,وأفرغ أمعاءه اخلاوية يف
الع راء ع دة م رات قبل أن يبلغ ال بيت .أص بحت اللح وم تثري تق ززه .وان دهش كيف ك ان
يستطيع أن يستطعم أكل اللحم .كيف يستطيع املخلوق أن يأكل حلم خملوق؟ ما الفرق بني
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.........53 :حىت .70 1
135
حلم احليوان وحلم اإلنسان؟ من يقدر أن يأكل حلم الودان يقدر أن يأكل حلم األنسان أيضا,
لقد حل األب يف ال ودان ,وال ودان حل في ه .هو واملرح وم وال ودان العظيم اآلن يف ش يء
() 1
واحد .لن يفصل بينهم شيء "
وج اء يف موضع آخر من الرواي ة " :ص رخ آس وف يف هل ع :ال .ال .ال .أنا مل أذق اللحم .أنا
ال آكل اللحم .ال تأكل اللحم؟ وماذا تفعل حبياتك إذن؟ تفكر الرجل قليال مث قال - :ولكن
معك ح ق .من ال يأكل اللحم البد أن يبتعد عن الن اس .ليس من العبث أنك اخ رتت احلي اة
() 2
يف هذا اخلالء اخلايل .ألن من ال يأكل اللحم ال حييا .أنت لست حيا .أنت ميت "
ك ذلك ,ج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( التح رمي ),
عرب حالة ( التماثل والتشابه ) ,حيث جاء يف نص الرواية " :كان الوادي مليئا جبثث األغنام.
وكان يتفرج دون أن يتحرك حىت لذحبها ,فهو ال يذبح وال يأكل اللحم منذ حادثة اهلاوية "
() 3
ك ذلك ج اء حترمي ( آس وف ) أكل اللحم يف موضع آخر يف الرواي ة..." :تراجع آس وف
خطوة إىل الوراء كأنه يهرب من اللحم ,وضع يده على صدره شاكرا ,ومتتم بامشئزاز - :ال.
ال .أنا ال آكل اللحم ...هل أنت جاد؟ وهل هناك يف الدنيا إنسان ال يأكل اللحم ,باستثناء
تلك األش باح اليت يس معنا أهنا تس كن أع ايل اجلب ال يف اهلمالي ا؟...رفض آس وف ورجع إىل
اخللف .الحقه قابيل ,فأوقفه مسعود :ال تلح على الرجل .رمبا كان صادقا .مثة أشباح من "
() 4
اهلماليا " يف صحرائنا أيضا "
يف ب ادئ األمر ع اف ( آس وف ) اللحم وحرمه على نفس ه ,ألن روح وال ده حلت ب الودان.
لكن ه ذه املرة راح الك وين ينسج روايته على من وال القصص األس طورية الطوطمية بل زاد
عليها فك ان ص انعا لألس طورة .إذ حيل امليت جسد احلي فيتح ول إىل ط وطم ,وبفعل ص ناعة
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .75 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .20 2
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .81 3
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .43 4
136
الك وين لألس طورة ,حل احلي يف اجلم اد فحلت ( روح اجلبل ) يف ( ال ودان ) ,وحلت (روح
الرمال) يف الغزال .وزاد الكوين على ذلك كله أن جعل احلي حيل باحلي؛ إذ حل ( آسوف )
جبسد ( ال ودان ) وحل ( ال ودان ) جبسد ( آس وف ) ,وكالمها حي مل ميت .وبالت ايل ج اءت
مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) ممت دة من خالل تيمة ( احلل ول ) عرب حالة
(التغريات والتشوهات) .ومتاهى كل من ( آسوف ) و ( الودان ) وحال يف بعضهما البعض,
وأصبحا جسدا واحدا.
ففي م رة أعتقل آس وف من قبل رج ال الك ابنت بورديلل و ,وأخ ذوه مع جمموعة من الش باب
املعتقلني إىل رئيسهم ,لتدريبهم ,حىت حيتل هبم ( احلبشة ) ,لكن هناك املعجزة ,وحل آسوف
يف جسد الودان ,وفر هاربا ,هروب الودان من املصيدة ,حيث جاء يف نص الرواية " :هنا,
يف الطري ق ,قبل أن تبلغ وا العوين ات ,ح دث ما تناقله األه ايل ونس جوا حوله األس اطري .روى
هلم الشباب فقالوا أهنم رأوا املعجزة ألول مرة يف حياهتم ,شاهدوا إنسانا يفلت من األسر و
يتح ول إىل ال ودان ,يع دو حنو اجلب ل .يتق افز ف وق الص خور يف س رعة ال ريح غري ع ابئ مبطر
الرص اص ال ذي ينه ال عليه من كل ج انب .فهل رأيتم إنس انا يتح ول إىل ودان؟ هل رأيتم
إنس انا ينجو من رص اص الطلي ان وهو جيري على ق دمني حىت خيتفي يف ظلم ات اجلب ل؟
() 1
الصوفيون يف الواحات هزوا رؤوسهم من الوجد "
وتفضي مطاوعة العنصر األس طوري ( ال ودان املق دس ) من خالل تيمة ( احلل ول ) إىل معتقد
( الوالية واحللول ) الذي تعتقد به ( الصوفية ) ,حيث تطرق الكوين إىل ذلك ,مشريا إىل أن
ص حراءه تزخر مبجموعة ال يس تهان هبا من الف رق الدينية على خمتلف م ذاهبها .ومنها
(الصوفية) هذه الفرقة الدينية اليت تعتقد هذا املعتقد يف ( احللول ).
حيث ج اء يف نص الرواي ة " :الص وفيون يف الواح ات ه زوا رؤوس هم من الوج د .وألق وا
ب البخور يف الن ار ,وأمجع وا :ذلك ويل من أولي اء اهلل .ويف اللي ل ,ذهب وا إىل الزاوي ة ,ونظم وا
حفلة ذك ر ,ج دبوا فيها حىت الفج ر ,إكراما لل ويل ,وفرحا حبل ول ال ذات اإلهلية يف املخل وق
األرضي الب ائس...توجه إىل " مس اك ملت " ,حيث ت رعى مجال ه .هن اك فتح اهلل له بابا ال
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 83و.84 1
137
يفتحه إال ألوليائه :كانت سحابة عابرة قد مرت على األودية السفلية فسالت سهوهلا .مكث
يف الص حراء الرملية مع مجاله حىت رأف قلب الس ماء على الص حراء اجلبلية بعد ع دة ش هور
فعاد إىل كهوف متخندوش ,هل كلن دراويش الصوفية يقرأون الغيب يف رؤياهم عن الوالية
() 1
واحللول ؟ "
هذا ,وحني كان ( الودان ) طوطما ( آلسوف ) ,وحني حل ( آسوف ) بالودان و (الودان)
بآسوف ,فقد حرم على نفسه صيده أو قتله أو أكل حلمه ,بل أكثر من هذا نذر على نفسه
أن حيميه من أي خطر حيدق ب ه ,فهل الوف اء بالن ذر ه ذه املرة س يجره إىل التهلكة أم أنه
سينتصر على نفسه ! وعلى الشيطان امسه اإلنسان !
هكذا ,تأيت املطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) ,من خالل تيمة ( الوفاء بالنذر )
ه ذه املرة ممت دة ,من خالل حالة ( التشوهات والتغ ريات ) ,حيث يع رف يف قصص ( املظه ر
الط وطمي ) أن الوف اء بالن ذر يشر برضا اآلهلة ,وبنج اة من وىف بالن ذر من غض بها وعقاهبا.
ولكن يف رواية الك وين الوف اء بالن ذر جر على آس وف ال ويالت ,ووض عه يف ش رك ( آكل
اللحم ) ( ,قابيل ) .ه ذا الرجل الش ره إىل أكل حلم الغ زال وال ودان ,ال ذي أخربن ا ,عنه
الك وين ,أنه فطم على دم الغ زال ,وأنه ش ره للغاية ألكل اللحم ,وك ذلك ,ك ان ن ذير ش ؤم
على أهله منذ والدته ,حىت أنه نذير شؤم على آسوف منذ أن صادفه.
فقد ج اء يف نص الرواي ة ,عن ش راهة الرجل ألكل حلم الغ زال وال ودان ما يلي " :قص ته مع
اللحم ب دأت منذ الرض اعة .م ات األب مطعونا بالس كني حني حبلت به أم ه .وم اتت األم
مت أثرة بلذعة أفعى بعد والدته بأس بوع .ورثت تربيته خالت ه ,فس قته دم الغ زال يف إح دى
ال رحالت باحلم ادة عمال بنص يحته أحد الفقه اء .ق ال إهنا التعوي ذة الوحي دة اليت تس تطيع أن
تغس له من النحس وحتمى بقية أهله وأقاربه من اللعنة اليت تالحقه منذ أن ك ان نطفة يف بطن
أم ه .ولكن اخلالة وزوجها ماتا يف تلك الرحل ة ,والتقطت قافلة ع ابرة الطفل الرض يع وهو
حيشو رأسه يف ج وف الغ زال وهو يلعق ال دماء وال روث من البطن املبت ور ...ومل يكن رب
القافلة ليلتقط الطفل لو علم مباضيه .ومل خيطر له أن يكون " املالك الصغري " سببا يف نكبته,
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .84 1
138
ب ارت جتارت ه؛ واس توىل قط اع الط رق يف الص حراء على قطعان ه ,وهنب وا قافلة له متوهجة إىل
"متبكتو" ...فقد ثروته املتنقلة واملنقولة عرب الصحراء الكربى .مل يعرف سر البالء ,حىت وجد
ابنه بالتبين يأكل اللحم النيئ من الطبق وأسنانه تقطر بالدماء ...عرض أمره على السحرة...
متتم حممر العينني - :من فطم على دم الغزال يف الصغر لن يستقيم حىت يشبع من حلم آدم يف
الكرب " ...وقصد بعد يومني أشهر العرافني ...قال له بصوت واضح " :يا قابيل يا ابن آدم,
لن تشبع من حلم ,ولن تروى من دم ,حىت تأكل من حلم آدم ,وتشرب من دم آدم " .وكرر
() 1
العبارة الغامضة ثالث مرات "
هكذا أخربت النبوءة أن قابيل لن يستقيم حىت يشبع من حلم آدم يف الكرب ,وأنه لن يشبع من
حلم ولن ي روى من دم ,حىت يأكل حلم آدم .فمن هو ( آدم ) ,ه ذا ال ذي س ريويه بدم ه,
ويش بعه بلحم ه ,ويك ون قربانا لبين آدم ولكن ( ودان ) و ( غ زال )؟ من هو ( آدم ) ه ذا
الذي سيحقق للنبوءة ,حيث يف صحراء الكوين البد للنبوءة أن تتحقق ,كيف ال والصحراء
م وطن النب وءات ,وه ذا ما أك ده الك وين ,يف نص الرواي ة " :يلتقي الص يادون يف ال رباري
العارية ,ويتسامرون حول الشاري الصيين األخضر ,ويعزون بعضهم بعضا " :أصبح الغزال
مثل الودان يتطاول يف رؤوس اجلبال .هذا آخر الزمان " .ال يستطيع أحد تأويل الظواهر مثل
أهل الصحراء ,ال جياريهم أحد يف قراءة أسرار الغيب ,ال جيتمعون إال لكي يبحثوا عن تفسري
() 2
إلشارات آخر الزمان "
هل ستحقق النبوءة يف صحراء النبوءات؟ هل سيلقى ( آسوف ) عقابا ألجله وفاءه بالنذر؟
هل سيشبع ( قابيل ) أخريا من اللحم ,حني يأكل حلم آدم /آسوف .فجاءت مطاوعة العنصر
األس طوري ( ال ودان املق دس ) ممت دة من خالل تيمة ( الوف اء بالن ذر ) عرب حالة (التش وهات
والتغ ريات) ,فقد م ارس ( قابيل ) الع ذاب النفسي على آس وف – أوال – بع دها س لط عليه
الع ذاب اجلس دي وص وال إىل حد ص لبه وقتله بأبشع ط رق القتل يف الت اريخ البش ري .ليك ون
جسده مصلوبا فوق جسد ( الودان املقدس ) على ( اللوح احلجري ) ,فالعذاب والقتل سلطا
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 91 :و.92 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.101 : 2
139
على من وىف بالن ذر من قبل قابيل /آكل حلم ال ودان /آكل حلم البش ر /ليك ون ( آس وف )
قربانا بشريا لطوطمه.
فقد ج اء يف نص الرواية " :الع راك نشب فج أة ,فبعد ع ودهتم من رحلة االس تطالع اخلائبة
علق آسوف على شراهة قابيل بعبارة عابرة .قال " :مسعت أيب يقول إن ابن آدم لن يشبع إال
ب الرتاب " ...هنارك أح رف يا عج وز النحس .أتظن أين مغف ل؟ تتغ اىب وت دعي أنك مرابط
حني تتعمد أن ختبئ عنا مواقع ال ودان .هل تظن أين مل أكشف حيل ك؟ ...ب دأ آس وف
يرجتف ..إذا مل ت دلنا على ال ودان هنارك أح رف .س أريك النج وم يف الظه ر .أنا ال أم زح...
ه ات احلبل يا مس عود ...أال تس تحي؟ عج وز مثلك يك ذب؟ أخربونا يف الواح ات أنك
الوحيد ال ذي خيرب معاقله يف ه ذه األرض ...فقد قابيل ص وابه ...فهجم على ض حيته املقي دة
من الي دين وال رجلني ,وجرجرها عرب ال وادي ال رملي ,اجته حنو الص خرة العالية ال ذي ينتصب
فيها ال ودان األس طوري العظيم جبوار الك اهن األك رب ...اش تد اجلن ون يف عيني ه .رد كأنه
خياطب نفسه - :عجوز النحس .أرين كرامتك واهرب إىل اجلبل يف جلد ودان ,أين كرامتك
وويل اهلل؟ يا عبد العبي د؟! ...أم ام اجلسد املص لوب على احلجر وقف قابي ل .ض رب رأسه
بكلتا يديه كي خيفف من س طوة الص داع ...فزع قابيل رأسه بقبض ته ,وص اح يف مسعود :
-ت ذكرت ,اآلن ت ذكرت ,ه ذا هو الش يطان ال ذي رم اين يف اهلاوي ة .كيف أخ ذتين الغفل ة؟
كيف نسيت؟ ما الذي جاء يب من هناك إىل هذا اخلالء اخلايل؟ تذكرت .كنت أمسك بقرين
الش يطان ذاك .ه ا .ه ا .ه ا ...أنظر باهلل إىل قرني ه .أليست تلك ق رون الش يطان ال رجيم اليت
وص فها الق رآن؟ ه ا .ه ا .ه ا .ل دي ض حييت .أنظر! أال ت رى ال ودان املعلق هن اك؟ إنه ودان.
كيف مل أنتبه إىل ذلك من قب ل؟ ه ا ..ه ا ..يا يل من أهبل ! ..وقف قابيل حتت ق دمي
آس وف املعلق يف اجلدار الص خري ,رأسه يت دىل على ص دره .وجهه ذاب ل .ابيضت ش فتاه,
وتشققتا بالعطش والقبلي .جسده حمشو يف جوف الصخرة ,يتحد جبسد الودان .قرنا الودان
يلتوي ان ح ول رقبته ك األفعى .م ازالت يد الك اهن تالمس منكبه كأهنا تب ارك الطق وس
اخلفية ...لوح قابيل بالسالح يف اهلواء مهددا ...تسلق الصخرة من الناحية األفقية .ضحك
يف وجه الشمس بوحشيته ,مث احنىن فوق رأس الراعي املعلق ,أمسك به من حليته ,وجر على
140
رقبته السكني حبركة خبرية...خربة من ذبح كل قطعان الغزالن يف احلمادة احلمراء .مل يصرخ
آسوف ومل يعرتض ,ولكن مسعودا هو الذي صرخ ,فرتدد صدى الصرخة يف القمم اجملاورة.
استجابت اجلنيات بالنواح يف الكهوف ,وتصدع اجلبال ,اسود وجه الشمس ,وغابت ضفتا
ال وادي يف املتاه ات األبدي ة ...ألقى القاتل ب الرأس ف وق ل وح من احلجر يف واجهة الص خرة,
فتح ركت ش فتا آس وف ,ومتتم ال رأس املقط وع املفص ول عن الرقب ة - :ال يش بع ابن آدم إال
الرتاب .! تقاطرت خيوط الدم على اللوح احلجري .فوق اللوح املدفون إىل نصفه يف الرتاب.
كتب ب " :التيفين اغ " الغامضة اليت تش به رم وز تعاويذ الس حرة يف "ك انوا" عب ارة " :أنا
الك اهن األكرب متخن دوش أن بئ األجي ال أن اخلالص س يجيء عن دما ي نزف ال ودان املق دس
ويس يل ال دم من احلج ر .تولد املعج زة اليت ستغسل اللعن ة ,تتطهر األرض ويغمر الص حراء
() 1
الطوفان " .استمر نزيف احلجر على اللوح احملفوظ يف حضن الرمل"...
هكذا فتحت لنا مطاوعة العنصر األسطوري ( الودان املقدس ) ! هامشا قرائيا واسعا؛ حيث
أدى ( عدم الوفاء بالنذر ) إىل ( اللعنة والعقاب ) – على منوال أساطري ( املظهر الطوطمي )
– القدمية – وأصاب اجلنون ( قابيل ) آكل حلم الطوطم والبشر إذ أكل حلم (الغزال) طوطمه
ال ذي يربطه به ( ميث اق ال دم ) فن ال عقابه ب اجلنون والتي ه ,وعلى من وال األس اطري القدمية
( أوديب ) – مثال -ومن جهة أخ رى ,انف رجت املطاوعة على ه امش ق رائي ,خ رق أفق
انتظ ار الق ارئ ,وه ذا بفضل عبقرية الك وين يف ص ناعة األس طورة؛ حيث مل ينل ( آس وف )
بوفائه بالنذر ,وال النعيم وال مكافأة .بل صلب بأبشع صورة على ( اللوح احلجري ) ,وسال
دمه على الرم ال العطشى ون زف احلجر لنزيف ه ..ولكن ك ان يف النهاية هو ( املخلص )
للطبيعة وللبش رية .إذ تطه رت األرض بالطوف ان ,فال ص يد الغ زال وال ودان ,وال بندقية ص يد
خترق حرمة الص حراء وال اللن دروفز ,وال بق اء لقابيل آكل حلم الط وطم والبش ر .حيث
س تتجدد األرض بالطوف ان وتع ود بك را كما ك انت عليه الص حراء منذ البداي ة ,أرضا ط اهرة
للنبوءات.
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص...105 :حىت.147 ... 1
141
-4تجليات العنصر األسطوري ( الغزال ) :
مثل الغ زال يف العقلية األس طورية طوطما لإلنس ان ,كبقية احليوان ات األخ رى اليت اختذت
طوطما ,حيرم صيدها ,أو قتلها أو أكلها.
وقد ج اء العنصر األس طوري ( الغ زال ) يف رواية الك وين مبثابة ط وطم انتهكت حرمته من
طرف شخصية ( قابيل ) سفاك الدماء ,على الرغم من ارتباطه به مبيثاق قوي وهو ( ميثاق
الدم ) الذي حيرم على اإلنسان صيده وأكله .وقد استحضر الكوين قصة ( الغزال ) الطوطم
يف نص الرواية على من وال القصص األس طورية اخلاصة ب املظهر الط وطمي ,ج اعال منها قصة
تسرد أحداثها يف معظم األحيان على لسان احليوان معروفة يف الرتاث العريب .احتذاء مبا جاء
من قصص يف القرآن الكرمي على لسان احليوان.
ويتجلى العنصر األس طوري ( الغ زال ) من خالل تقنية ( البن اء الفين ) ,وبالت ايل ك ان التجلي
صرحيا ,حيث بىن الكوين قصته على لسان ( الغزالة ) على منوال قصص (املظهر الطوطمي)
حيث س ردت ( الغزالة ) األم ,قصة عن تض حية أمها وتق دمي نفس ها قربانا لبين آدم ,ليك ون
ميثاقا حيرم فيه ابن آدم س فك دم عش ريهتا ونس لها فك ان التجلي جزئي ا ,حيث ج اء يف نص
الرواية ..." :مث أمهلتها بإمياءة قبل أن حتكي قصة احلصن املنيع ال ذي ورثته عن األم .ق الت
إهنا تعوي ذة ال مثيل هلا يف الص حراء كلها ومل يس بق لغزالة أن حص لت على نظري هلا .ول وال
ه ذا احلج اب ملا تش جعت على البق اء يف أحض ان اجلبل ب رغم يقينها أن اللعنة س وف تالحق
كل امله اجرين ألهنم خ الفوا أحد األرك ان الثالثة اليت يق وم عليها ق انون املخلوق ات .ال حي اة
مله اجر يف أرض الغرب ة .اللعنة الس ماوية س تدركه أينما ح ل " ...ففي ربيع األع وام البعي دة
املاض ية ,حط الرحالة اجلوال رحاله يف الس هل املف روش بأعش اب الربي ع ,وزحف على ركبتيه
بني األشجار القصرية ,ترك عائلته فوق املرتفع ,ومسعنا طفال يصرخ يف أحضان امرأة ترتنح
وتعاند ال وهن والس قوط .ق الت أمي احلكيمة إنه العطش .عائلة رحالة اختلت هبا الش مس
املتغطرسة يف الص حراء الواس عة وبلتها ب العطش .رفع الرض يع ص وته بالش كوى والبك اء,
فهدهدته األم وعزته هبمهم ات غائب ة .اس تمر الرجل يزحف على ركبتيه حنون ا ,فالتص قت
142
ب أمي ,ورجوهتا أن ننطل ق .ال أخفي أين كنت خائفة ج دا ...ك ان املس كني أع زل .لو ك ان
ميلك س الحا ملا اض طر أن حيتكم إىل ه ذه احليلة اليت مل تنطل علينا منذ أن أش رف على
السهل .تأملته القطيع بفضول .كل أفراد القطيع الكبري اشرتكوا يف الفرجة ,وحزنوا له مجيعا.
ب دأت املش اورات اجلانبي ة ,مث تق دمت أكرب غزالة يف القطي ع ,وخاطبتنا ب القول :كافأ اخلالق
املخلوقات فأوجدها يف احلياة ,مث رأى أن ميتحن صربها فأوجدها يف الصحراء ,وجعل سره
يف املاء املع دوم ,وجعل س را آخر يف القرب ان القاس ي .من ض حى بنفسه يف س بيل إنق اذ حي اة
أخرى وقف على السر وكسب اخللود .ابن آدم ميوت عطشا ولن ينقذه إال الدم.
هنا اعرتضت غزالة قاسية؛ ولكن ابن آدم شرير وقاتل .هل نسيت يا أمنا الكبرية كيف سفح
دم عش رات ال رؤوس من عش ريتنا يف تلك املذحبة الفظيع ة؟ كيف نض حي بأنفس نا يف س بيل
الس فاح ال رجيم .ابتس مت األم الكب رية العجف اء ,وق الت بصرب وح زن :التض حية ال تع رف
املس اومات ,وال تلتفت إىل ال ذات اليت ي ذبح على ش رفها القرب ان ألن الق رابني للخ الق
األعظم ...هنا رأيت أمي تقفز إىل جوار العجوز احلكيمة ,وتصيح يف اجلميع :لن نسمح أن
تقدم األم الكبرية نفسها قربانا فنفقد الرأس املدبر الذي هدانا ويهدينا الصراط املستقيم ...أنا
أرى أن توافق أمنا املبجلة وت دعين أحل حمله ا .وتع الت ص يحات االستحس ان ,فق الت األم
الكبرية وهي تلتفت إىل أمي - :هناك سر آخر يف التضحية .القربان سيفتح عهدا بني نسلك
ونسل ابن آدم .س يحرم عليه دم ابنتك وأبن اء أبن اء ابنتك إىل أبد اآلب دين .ه ذا هو العه د,
حصن القرب ان وميث اق ال دم ,واللعنة س وف تالحق من تس ول له نفسه أن خيون رب اط ال دم.
فال يوجد يف الدنيا كلها أقوى من رباط الدم وليس هناك جرمية أبشع من خيانة هذا الرباط.
تق دمت مين أمي ,وقبلت ين ,ومتس حت برقب يت؛ ومهست يف أذين " :إين أفعل ذلك من أجل ك.
لن ميسك اإلنس بعد الي وم " مث ذهبت وس لمت نفس ها لآلدمي احملطم ال ذي يغمر وجهه
ال رتاب حتت ش جرة ال رمت ...ومل أحس ب اخلطر حىت رأيت الس كني تلمع يف يد اإلنس ان حتت
شعاعات الشمس ...أقبلت املرأة ودست الطفل العطشان يف جوف أمي املسكينة ...أبعدين
اإلنس بض ربة طائش ة ,وال أدري اآلن ملاذا مل يغ رس يف رقبيت الس كني أيض ا؟ ...وكلما
تذكرت أمي الذبيحة أحسست بالسهم املسموم خيرتق قليب .مسكينة .فعلت ذلك من أجلي
143
ومن أجلك كي ينعم نسلنا باألمان عرب كل األجيال دمها آخى بني ملتنا وملة آدم .حنن اآلن
وابن آدم أخوة بالدم هذا حصن اشرتيناه بثمن قاس " أهنت الغزالة احلكيمة قصتها ,فوقفت
() 1
على قوائمها ورفعت رأسها حنو قمة اجلبل كأهنا تقرأ تعويذة موجهة إىل السماء".
هك ذا ,صنع الك وين أس طورته ,على من وال األس اطري القدمية اخلاصة ب املظهر الط وطمي .ففي
أصل األس طورة أهنا تفس ريية تعليلي ة ,وأس طورة الك وين هنا أيضا ك ذلك .حيث فسر لنا
الكوين كيف أصبح بني اإلنسان والغزال رابط الدم ,وكيف أصبح للغزال حصن منيع حيميه
من بطش اإلنس ان .وكيف أن اللعنة س تلحق بكل من تس ول له نفسه نقض ه ذا العه د.
فكانت أسطورته اليت رواها على لسان الغزالة تعليلية ,تفسريية ,وضحت لنا كيف أن صيد
احليوان يف الصحراء –خاصة الغزال -هو حمرم على بين آدم ,وجرمية يعاقب عليها .ذلك آلن
دم الغزالة آخى بني نسلها ونسل بين آدم ,فهم وبين آدم إخوة بالدم.
ه ذا ,ويتجلى –أيض ا -العنصر األس طوري ( الغ زال ) من خالل تقنية ( االقتب اس ) ,حيث
ك ان التجلي هنا تام ا ,حيث اقتبس الك وين نصا ملؤلف فرنس ي ,ليوضح أك ثر كيف أن
(الغزال) طوطما لإلنسان.
حيث ج اء يف نص الرواي ة ..." :وأك ثر ما أث اره ذلك ال رأي ال ذي أورده مؤلف فرنسي يف
كتاب " الصوفية يف مشال أفريقيا " فقال إن املغرب العريب هو الذي أنزل الصوفية من عرش
الفلسفة السماوية إىل أرض احلياة اليومية ...يف الكتاب نفسه ,وجد ذلك يف النص املثري الذي
ك ان س ببا يف إدمانه حلم الغ زالن..." .يف الغ زالن حط اهلل السر وب ذر املع ىن .فمن ذاق حلم
هذا املخلوق حطم يف نفسه العجز ,ومزق حجاب السوى ووقف على رؤيته يف املقام" .ومل
تكن العب ارة الص وفية لتمس فيه اجلرس الغ امض لو مل يهتم ب آراء الب وذيني اجلس ورة ح ول
املخلوقات اخلرساء .ففي اجلامعة ردد أمام كارولني مجلة غامضة استعارها من تعاليم "الزن"
( )اليت شغف هبا يف تلك األيام ,وتقول إن سعي اإلنسان للوصول إىل مرتبة اإلله لن يتحقق
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 110 :و 111و 112و.113 1
" -الزن " أو " تسن " :مدرسة بوذية يابانية أسسها تسن يف القرون الوسطى املتأخرة وتقوم على مبدأ أن
احلقيقة خارج الكلمات وال ميكن الوصول إليها إال باإلمياء .وقد كانت ملفاهيم هذه املدرسة تأثريات مجالية
144
إال إذا مر اإلنسان حبالة احليوان ,يعتزل حىت يستوحش ,خيرس حىت يفقد القدرة على النطق,
يقتات على العشب حىت ينسى طعم الطعام .واخلالق أكثر ميل للحلول يف املخلوق املتوغل يف
الربية ,املقطوع يف اخلالء ,ويبتعد حىت عن احليوانات اليت تستأنس الناس وال ختتار منفى الربية
() 1
"
هكذا كان التجلي صرحيا ,حيث أن النص بني أن اهلل حيل يف املخلوق األكثر عزلة ووحشة,
والغزال أكثر خملوقات الربية ,الذي مييل إىل ذلك ,إذ أنه موغل يف الربية ,مقطوع يف اخلالء,
يبتعد عن احليوان ات اليت تس تأنس الن اس وبالت ايل هو تص ريح ت ام ب أن الغ زال فيه روح اهلل,
وبالتايل فهو طوطم مقدس على اإلنسان تقديسه ,وحترمي صيده أو أكله.
كذلك ,يتجلى العنصر األسطوري ( الغزال ) جتليا صرحيا ,من خالل تقنية ( االقتباس ) ,من
أقوال الصوفيني وأيضا البوذيني .حيث جاء يف نص الرواية ..." :فانتهز فرصة عزلته يف اجلبل
الغ ريب ,وق رر أن يكتشف الس ر ,ويت ذوق حلم احلي وان األس طوري على اهلل يفتح له الب اب,
فينعم برؤية اهلل يف املق ام .وأدهشه إمجاع املتص وفة على اعتق اد أن األنع ام أج در بالوالية
وتقمص الروح السماوية من بقية املخلوقات فوجد سندا قويا لتعاليم ( الزن ) البوذية يف هذا
الرأي .فيولون احليوان اهتماما يفوق االهتمام باإلنسان – كما فضلوا حيوانا آخر ,فاستثنوا
الوحوش واستبعدوها من الرمحة .وخصوا احليوانات املساملة بالوالية .وقد ذهب ذلك الصويف
املغم ور يف رؤي اه ,فوضع قائمة لألم راض اخلفية اليت مل يع رف هلا عالج إال ب الغزال .ومبج رد
() 2
أن أعلن لألهايل عن رغبته بالفوز بالغزالن ,دلوه على قابيل آدم "
كذلك تأيت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزال ) ممتدة ,حيث كشفت أكثر عن شخصية
(قابي ل) الش ره للح وم .حيث حيكي عنه أحد ال دراويش أنه من هنمه للحم إن مل يت وفر لديه
يوما فبإمكانه أن ينهش نفسه .حيث جاء يف نص الرواي ة ..." :ومبجرد أن أعلن األهايل عن
رغبته يف الف وز ب الغزالن ,دل وه على قابيل آدم .ق الوا :إذا حلت مص يبة وان دثر الغ زال يف
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.117 : 2
145
الصحراء ومل يتبقى سوى شاة واحدة فال شك أن قابيل سيكون آكلها ! وسردوا األساطري
عن هنمه وحبه للحم .ال درويش ق ال بلغة غامض ة " :يف فم ه ذا املخل وق .دودة جتعله يأكل
() 1
نفسه إذا مل جيد حلما يأكله ".
وتفتح لنا مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزالة ) هوامش قرائية واسعة ,إذا طرحت لنا معتقد
بعض الف رق كاملتص وفة أن اهلل يس كن الغ زالن .وكيف أن للمس يحيني رأي من اف متاما هلذا
املعتق د ,وأن اجلدال بني الف رق الدينية وبني معتقد املس يحيني متض ارب ,حىت بني أهل
الصحراء أنفسهم ,حيث جاء يف نص الرواية " :يف طريق العودة ,باغته جون بالسؤال-:هل
يس كن اهلل الغ زالن يف ط ريقتكم؟ ص مت ط ويال مث ق ال كأنه حيدث نفس ه - :كل األرواح
مسكونة باهلل .وحصره تعاىل يف الغزالن أمر من قبيل الزندقة .التفت حنوه وقال - :هذا من
() 2
بدع التيجانية ".
ه ذا ,ومن جهة أخ رى حتدث الك وين عن خالف القادرية مع املس يحية يف ه ذا األم ر ,حيث
جاء يف نص الرواية " :وقد فوجئ جون باركر يف الكائنات األرضية :خالفنا معكن يا معشر
املسيحيني يكمن هنا .أنتم تقولون إن املسيح هو اهلل وحتصرون جاللته يف خملوق واحد (.)
يف حني نرى أنه موجود يف كل الناس ,بل يف كل الكائنات .ديننا أعدل من دينكم " (.)3
إىل جانب هذه النقطة اهلامة اليت أثارها الكوين حول اآلراء املتضاربة يف معتقد حلول اهلل يف
الكائنات من متصوفة وتيجانية وقادرية ومسيحية ,يفتح لنا الكوين هامشا قرائيا هاما ,حيث
مل يكن ( قابيل ) ابن الصحراء وحده من أباد الغزالن باحلمادة ولكن األجنيب (جون باركر)
كذلك ساعده يف ذلك ,بل حيمل بداخله شراهة أكثر منه ,هذا الرجل الدخيل الذي ساهم
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.117 : 1
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.118 : 2
-هذا رأي مستمد من فلسفة حمي الدين بن عريب الذي يرى أن اهلل يف كل املوجودات ويعترب أن خطأ
املسيحيني ليس يف تأليه املسيح ,وإمنا يف حصر اهلل يف ذات إنسان واحد.
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.118 : 3
146
يف اقتحام أرض الصحراء أرض الصحراء بآالته الشيطانية .ليكشف عن نوايا اخلبث والنفاق
اليت ترقد يف جوهر الرجل األجنيب ويغطيها بشعاراته الزائفة عن الرفق باحليوان ,وغريها.
حيث ج اء يف نص الرواي ة ..." :إذا قمت بإب ادة الغ زالن فبفضل مس اعدتك .زودتين
بالس يارات وبن ادق اخلرط وش ,وأكلت من الغن ائم نص يبك وأك ثر من نص يبك .أنت ال ذي
أب دت الغ زالن يف الص حراء بعد أن ص دعت رأسي باخلراف ات عن األس رار املدسوسة يف حلم
احلي وان املس كني .أنت أكرب جمرم .تغ ازل الغ زالن وتص فها ب الرباءة ,وتنهش حلمها م دعيا
ب البحث عن سر ال وج ود له إال يف رأسك الك افر .ت دعي الرفق ب احليوان وأنت أجشع مين
ومن كل آكلي اللحم يف الص حراء .ال دودة اليت تدغ دغ أس نانك أش رس من ال دودة يف
أسناين ...متتم الشيخ بأمل - :كيف تدعي الديانة بدين املسيح وهو بريء منك؟ ال أنت منه
وال هو منك...حلظتها فقط شعر جون ببشاعة جرميته ضد أمجل املخلوقات ,ولكن ماذا يفعل
() 1
إذا كان حلم الغزالن مثل األفيون ,من ذاقه تعود عليه ومن تعود عليه جن بدونه ".
ب الرغم من ش راهة ( قابيل ) للحم الغ زال وب الرغم من إص راره على متش يط جبل احلس اونة
باملروحية مبعية جون باركر ,للعثور على غزالن هاربة .إال أن الكوين يفاجئنا من حني آلخر
مبا يغ رق به أفق انتظ ار الق ارئ ,حيث ويف حلظة م ا .ت واىن ( قابيل ) عن ص يد ذوي قرب اه
(الغزالة ).
فقد جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزالة ) متقلصة هذه املرة ,من خالل تيمة (الوفاء
بالعه د) ,عرب حالة ( التماثل والتش ابه ) ,حيث ج اء يف نص الرواي ة ..." :اس تمرت املروحية
الشيطانية تدور كالطاحونة ...فوق الرمال الذهبية .عثر قابيل على آثار أخرى :الغزالن ! هل
هو قطيع ؟ أم الغ زالن نفس ها اليت حتدث عنها الرع اة؟ ...يف تلك اللحظة رآه ا ,تس تظل
بصخرة كبرية ,من اجلهة اليمىن من السفح حيث تنشق شعبة ضيقو وتنحدر إىل أسفل حىت
تفضي إىل الوادي .عيناها كبريتان ,سوداوان ,ذكيتان ,تنطقان بلغة جمهولة ,حتدثه شيء ما,
تب وح له بسر م ا .نعم .نعم .سر حيس ه ,ولكن ال يدرك ه .أقسى ش يء ,أش قى ما يف الوج ود
أن حتس بالسر وتعجز عن إدراك ه .م اذا تريد أن تق ول املخلوقة اجلميل ة؟ تب ادل معها نظ رة
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص.121 /120 : 1
147
طويل ة .مل تتح رك .جبزارها تقف غزالتها الص غرية ,ترمقه أيضا بنظ رة غامضة تنطق أيض ا,
توافق أمها على ما قالته ,تؤيدها .ما أقسى أن جتهل لغة األنعام ! مل يشعر بالرهبة فقط ولكن
ب اخلوف ,ومل يش عر كيف انتزعه مس عود وس حبه من كم ه .ك ان الطي ار ال زجني يتض احك
كاشفا عن أسنانه النضرية ,ويرددOh My God ! what’s he’s waiting - :
for
جلس على املقعد غائب ا .الع رق ي نز بغ زارة أك رب .أنفاسه تتالح ق ...ولكن قابيل مل يف ق.
حارب الغزال واصطاد منذ أن وعى الدنيا ,ولكنه مل حيدث أن رأى إنسانا يف غزال .اندهش
كيف مل يطلق النار .نسي البندقية هنائيا .نسي أنه جاء يف رحلة صيد .نسي أنه قابيل ابن آدم
اجملب ول على ال دم واللحم .مل يص دق أن قابيل ميكن أن ميتنع عن الض غط على الزن اد وغزالة
() 1
هيفاء تنتصب أمامه .ولكن هل كانت تلك غزالة حقا؟ وهل كان هو قابيل حقا؟ "؟.
يف حلظة ما ,أحس ( قابيل ) بقرابة الدم اليت تربطه بالغزالة ,وعلى منوال أساطري ( الطوطم )
مل يق رتف اخلطيئة ومل يص يد ( الغزالة ) ألنه رأى إنس انا مثله وليس غ زاال .إنه ذوي الق رىب
من ه .ولكن كعادت ه ,ما ف تئ الك وين يدهش نا مبس ار قص ته األس طورية على من وال األس اطري
الطوطمية القدمية حىت حيول بنا املس ار إىل منع رج آخ ر .فبعد أن ظننا أن قابيل اس تفاق أخ ريا
على حقيقة العهد ال ذي بينه وبني الغ زالن .إال أنه ع اد إىل هنم ه ,وخطيئت ه ,ومترده على كل
الن واميس والنب وءات فج اءت مطاوعة العنصر األس طوري ( الغزالة ) ممت دة من خالل تيمة
(نقض العهد) عرب حالة ( االختالفات والتشوهات ).
حيث ,وعلى ال رغم من حالة ال ذهول اليت أص ابت ( قابيل ) عند رؤيته للغزالة يف جسد
إنس ان ,إال أنه ع اد إىل فهمه ومترده يف ص يد ه ذا املخل وق اجلميل ال ذي يربطه به (ميث اق
الدم) ,حيث جاء يف نص الرواية ..." :قال جون يداعب قابيل - :ال أعرف كيف سيتحايل
قابيل على السوسة يف أس نانه .بني أس نانه ترقد أش رس دودة عرفها اإلنس ان ...ملع زغب األم
بني الص خور القائمة واختفت بالس رعة نفس ها اليت ظه رت هبا ...حماولة أن حتمي ولي دهتا
جبس مها .ك انت ترتع د ...هو أيضا يرتع د .ص وب فوهة البندقية حنو التجوي ف ,ف التقت
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص .127 ,126 ,125 1
148
نظراهتم ا .أش اح بوجه ه ,وأغمض عيني ه ,وض غط على الزن اد .انبثق ال ذوي ,ومسح الع رق
املت دفق على وجهه مبعص مه ...التفت حنو التجوي ف ,ف رأى الص غرية تنتفض على األرض ,أما
األم فتقف فوقه ا .تقطر منها ال دماء ,تلعق ال دم عن ولي دهتا الص ريعة .مث قف زت فج أة,
ونطحت ج دار التجويف الص خري برأس ها يف وحش ية .يف عينيها اآلن تعبري آخر متام ا :هل
هو الشقاء؟ وثبت إىل العراء ,ورفعت رأسها إىل السماء الصافية املمزقة بأشعة الشمس وهي
تعوي كالذئب .مث هوت على األرض ,ورقدت على جنبها األمين ,ومدت رأسها حنو القبلة.
بقى التعبري املخيف يف عينيها مل يس تطع قابيل أن يق رتب .تق افزت اجلماعة حنوه ا .يف يد
مس عود ,ملع الس كني .يف تلك الليل ة ,مل يقتل قابيل ابن آدم أخته فق ط ,ولكنه أكل حلمها
() 1
أيضا "
وحني تط اول ( قابيل ) على أخته بال دم فأباحها ونس لها .ك ان البد من ( اللعنة والعق اب ).
فه ذان مص ريا كل من تس ول له نفسه العبث بالعهد املق دس ,والتم رد على إرادة اآلهلة فك ان
(اللعنة والعقاب) على قابيل الذي ال يشبعه إال الرتاب.
فجاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزالة ) متقلصة ,من خالل تيمة ( اللعنة والعق اب ),
عرب حالة ( التماثل والتشابه ) حيث يصاب قابيل بنوبة جنون يفقد هبا عقله ويهيم يف األرض
تيها وعطشا وجوع ا .حيث ج اء يف نص الرواي ة " :ش فائي يف اللحم .أنت تع رف .رأسي
يتكسر .مل أعد أحتمل ...وقابيل الذي أسرف يف أكل اللحوم ,ودلل جسمه بألذ األنواع ,مل
خيطر بباله حلظة أن جييء ي وم ينفذ فيه ذلك االحتي اطي الرب اين من الغ زالن ال ذي تعج به
() 2
احلمادة "
وحني يئس من وج ود ( غزالة ) واح دة باحلم ادة ,راح يبحث عن ( ال ودان ) .ألنه ال ميكن
أب دا أن يتن ازل ويأكل حلم خرف ان أو تي وس أو عج ول وغريه ا .بل دفعته وحش يته يف تقتيل
ذوي قرباه من الغزالن إىل السعي وراء الودان الذي يرى فيه شفاءه من افتقاده للحم الغزال.
وكانت النهاية احملتومة له ,واألليق جبرمه .فقد عقله وقتل بشرا مثله ظنا منه أنه الودان عينه.
-إبراهيم الكوين ,رواية " :نزيف احلجر " ,ص.130 ,129 ,128 : 1
-إبراهيم الكوين رواية " :نزيف احلجر " ,ص 137و.138 2
149
وت اه يف األرض جمنون ا .فك انت اللعنة والعق اب .حيث ج اء يف نص الرواي ة " :ازداد جحوظ
عيين قابيل .تفصد الزبد من فمه .تصاعد جنونه ...فقد قابيل صوابه ...أمام اجلسد املصلوب
على احلجر وقف قابيل .ضرب رأسه بكلتا يديه كي خيفف من سطوة الصداع .تدىل من فمه
خيط طويل من اللعاب ...غارت عيناه من احملجرين ,فازدادتا شراسة وقوة ...ضحك قابيل
جبن ون مل أعد يف حاجة إىل مجال ك .ل دي مجلي .ل دي ض حييت أنظر! أال ت رى ال ودان املعلق
هنا؟ إنه ودان .كيف مل أنتبه إىل ذلك من قبل؟ ها..ها ..يا يل من أهبل! ضرب رأسه بنصل
السكني وترنح ...وقف قابيل حتت قدمي آسوف املعلق يف اجلدار الصخري ...أمسك به عن
حليت ه ,وجر على رقبته الس كني حبركة خب رية ..خ ربة من ذبح كل القطع ان باحلم ادة
() 1
احلمراء ...مل يلحظ القاتل كيف اسودت السماء وحجبت السحب مشس الصحراء ".
إن الغزالة هي اليت فرضت على بين آدم .تكون طوطما له .حىت ال خيرج عن السجون الثالثة
لل روح ,اليت عينها اهلل له كح دود ال ميكنه اخلروج عنه ا ,ألن من يريد أن خيرج عن ه ذه
احلدود حلقته لعنة اخلالق ,وه ذا ما ج اء يف نص الرواي ة " :رأت الغزالة احلكيمة الوحشة يف
عيين ص غريهتا ,حمدثتها عن الس بب ال ذي جعلها جترؤ على البق اء وتتخلف عن طوابري
املهاجرين .وقبل أن تدخل يف تفاصيل احلصن احلصني ,رأت أن تلقنها األمثولة ,وتقص عليها
حكاية عن ال وطن .ق الت هلا يف إح دى األمس يات إن اخلالق ملا خلق ال روح عني له ح دودا
وحبسه يف ثالثة سجون :الزمان واملكان واجلسد .وقد حقت اللعنة وهلك كل من حاول أن
خيرج من ه ذه احلدود ألن اخلالق قدس ها وجعلها ق درا يف رقبة املخل وق ,وخمالفتها مترد على
إرادته " (.)2
وحني ك ان لزاما على ( الغزالة ) أن حترتم الس جون الثالث ة ,ف إن كل من س ولت له
نفسه خرقها واخلروج عنها ,فإن اللعنة وستلحق به ,كما حدث للغزال الذي مترد على إرادة
اهلل ,حيث جاء يف نص الرواية " :وحدث أن اغرت الغزال بقرنيه الكبريين ,وخرج عن القطيع
يف السهل .تطاول يف اجلبال ,واعتلى أعلى القم ة ...القمة املهيبة الزرقاء املعممة بالغم ام اليت
-إبراهيم الكوين رواية " :نزيف احلجر " ,ص 106و 144و 145و 146و.147 1
-إبراهيم الكوين رواية " :نزيف احلجر " ,ص .109 2
150
خيشى حىت الودان أن يقرتب منها .فماذا كان جزاء خروجه؟ عاقبه اخلالق بطائر متوحش ال
تعلو عليه قمة ,فبرت بطنه بضربة من خملبه ,وصرعه ,وتدحرج عرب السفح وأعاده إىل السهل
جثة مبت ورة .فمن أراد أن خيرج من الب دن أراد أن خيرج من الزم ان ,ومن أراد أن خيرج من
الزمان ادعى اخللود ,ومن ادعى اخللود ,كفر بقدره وتطاول على املعجزة ونافسه يف األلوهة,
ومن نافسه يف األلوهة رده إىل الفناء .فلما هنرب من قدرنا ونذهب إىل تاسيلي؟ كيف نرتك
س هول احلم ادة مبفاجآهتا وزهورها وأعش اهبا وترفاس ها وهوائه ا ,وهناجر إىل ما وراء الرمل ة,
() 1
حيث تزحف الزواحف وتتسكع الوحوش؟ "
إذن ,حىت ال تتمرد قطعان الغزال على السجون الثالثة أي ,على إرادة اهلل ,كان البد من أن
تبقى يف وطنه ا ,وحىت تبقى آمنة يف وطنها من بطش اإلنس ان ,ك ان البد هلا من حصن م نيع
حيميها من ه ,وك ان مثنه جد ق اس ,لكنها بفضل تض حية الغزالة األم وتق دمي نفس ها قربانا لبين
آدم حتصلت على ميثاق الدم الذي حيمي نسلها من نسل بين آدم إىل األبد .ولكن .هنا .تأيت
مطاوعة العنصر األس طوري ( الغ زال ) ,ممت دة ,عرب تيمة ( نقض العهد ) ,من خالل حالة
(التشوهات والتغريات) حيث مل حيافظ ( قابيل ) -الشره جدا للحم الغزال والودان -على
العهد .ونقضه ,أسرف يف ذبح الغزالن الواحدة تلو األخرى ,حىت انتهى به املطاف إىل آخر
غزالة يف احلم ادة ,ومل يت واىن يف ذلك أب دا ,ب أن ي دخل إىل أرض الص حراء البك ر ,آالت
ش يطانية -على حد تعبري الك وين -مثل البندقية والالن دروفر واملروحي ة ,لتس هيل عملية
متشيط سهول احلمادة وحباهلا حبثا عن آخر غزالة ,فقد جاء يف نص الرواية ..." :ولكن قابيل
ما يهمه أك ثر هو أن يص طاد أكرب ع دد ممكن من الغ زالن ليطفئ هليب أس نانه ,ويس كت
جوف ه ,وي بيع الب اقي لض ابط املعس كر األم ريكي ...مث أه دى له (ج ون ب اركر) آلة ش يطانية
أخ رى .مع دخ ول بن ادق اخلرط وش إىل الص حراء تض اءلت فرصة الغ زالن يف النج اة,
وأشرفت القطعان على االنقراض والفناء .يذكر أهنار الدم اليت سفحها بعد حصوله على هذا
السالح .ينحدر إىل السهل املزحوم بالغزالن ,ويبدأ يف احلصد .طلقة واحدة تسقط جمموعة
من ال رؤوس .يعيد الض غط على الزن اد ,فتتس اقط الش ياه كما يتس اقط البلح إثر احتك اك
-إبراهيم الكوين رواية " :نزيف احلجر " ,ص .110 1
151
الع راجني عن دما هتب العاص فة .العاص فة جتهض جنينها بض ربة واح دة .يف إح دى الغ زوات
ثقب اخلرطوش غزالة حبلى ,فاحتمت برمتة صغرية ,وصدرت عنها شكوى أليمة ,وأسقطت
اجلنني ,واهنمكت تلعق الدم واملخاط عن جسد وليدها الصغري .كانت الغزالة تنزف والوليد
اجلريح ي نزف ,وحياول أن يرفع رأسه املثق وب ب اخلرطوش .وعن دما مهد متام ا ,أيقنت الغزالة
بأنه مات ,رفعت رأسها حنو السماء الصافية ,وصاحت بصوت أليم .صوت فجيعة .وعندما
التفتت رأي يف عينيها دموعا كب رية .خطت حنو الس يارة خط وتني مث س قطت وم اتت مقلتاها
() 1
الغامضتان تنطقان بالشفاء وحتدقان يف الفراغ ".
هك ذا ,بطش قابيل حىت بالغزالة احلبلى .ومل يثنه أمل الغزالة احلبلى ,وإجهاضه لول دها ,واألمل
ال ذي رآه يف عينيها عن مواص لة حصد أكرب ع دد ممكن من رؤوس الغ زالن ,بل ازداد ش راهة
ألكل اللحم إىل أن بات يفطر بشاة ,ويتغذى بشاة ثانية ,ويتعشى بشاة ثالثة .حيث جاء يف
نص الرواية " :يف السابق كان يصطاد يف الغزوة الواحدة غزالة ,اثنني ,إذا ابتسم له احلظ ,أما
اآلن ف انعكس الوض ع .أص بح يص رع كل القطيع يف غ زوة واح دة ,وال تنجو س وى غزالة
واحدة أو غزالتني إذا حصل احليوان املسكني على ابتسامة من احلظ .! ومع ازدياد الذبائح,
زاد اس تهالكه للحم .اآلن بفطر بش اة ويتغ ذى بش اة ويتعشى بش اة ورمبا أك ثر من ش اة إذا
استض اف أحد الض يوف أو ع ابري الس بيل من الرع اة أو الرحل أو جتار القواف ل .ومل يتص ور
يف ي وم من األي ام أن يتن اقص الغ زال إىل ه ذا احلد .مل يتص ور أن ه ذا احلي وان ال ذي تعج به
الص حراء ميكن أن ينق رض .عن دها فقط ت ذكر األجنة اليت يس تخرجها من ج وف األن ثى
الذبيح ة .وت ذكر -بش كل خ اص – الغزالة الص ريعة اليت قتل جنينها يف بطنها فاش تكته إىل
الس ماء .ولكنه ما لبث أن نسي وواصل متش يطه للحم ادة حبثا عن ال رؤوس الش اردة اليت
() 2
تراجعت إىل اجلنوب واحتمت مبرتفعات جبل احلساونة (" . )
-إبراهيم الكوين ,رواية " نزيف احلجر " ,ص 98و.99 1
-جبل احلساونة :سلسلة جبلية متتد جنوب احلمادة احلمراء وتفصلها عن الصحراء الرملية يف فزان.
-إبراهيم الكوين ,رواية " :نزيف احلجر " ,ص 99 :و.100 2
152
وقد جاءت مطاوعة العنصر األسطوري ( الغزال ) هنا ,عرب حالة (التشوهات واالختالفات),
لتحيلنا على واقع مرير ,يهدد الثروة احليوانية بالصحراء .وما زاد ذلك اخلطر هو دخول تلك
اآلالت اليت ينعتها الك وين بالش يطانية .فقد حص دت كل ال ثروة احليوانية اليت تزخر هبا
الص حراء البك ر ,ودنست رماهلا الذهبي ة .ودفعت ب الكثري من الغ زالن املتبقية إىل اهلج رة حنو
احلدود الليبية اجلزائري ة ,حيث ج اء يف نص الرواي ة " :اجلوال ون جتار القوافل ق الوا إهنم رأوا
الغ زالن تعرب احلدود إىل تاس يلي يف مس ريات طويلة قاس ية تقطع املن اطق املفروشة ب ذلك
السجاد الفظيع من األحجار السودان .قالوا أيضا إن آثار الدماء يف كل مكان ألن األحجار
الشرسة السوداء هنشت نصيبها من الغنيم ة وسلخت حوافر القطعان املهاجرة بوحشية .جبل
() 1
احلساونة أصبح معقال انتقاليا للغزالن الالجئة إىل الصحراء اجلزائرية "
حتيلنا مطاوعة العنصر األس طوري ( الغزالة ) إىل أن أكرب ش يطان ي رتبص هبذا احلي وان الفريد
واملس كني يف اآلن نفس ه ,ه ذا اإلنس ان اجملسد يف شخص ية ( قابيل ) – الرجل الش ره – وما
مسح بدخوله من آالت ش يطانية فتكت هبذه ال ثروة البديعة الن اذرة .فقضت على جله ا,
وس امهت يف هج رة ما تبقى منه ا .وما بقي من رؤوس قليلة ج دا يف ص حراء ليبي ا ,أص بح
كالودان يرتع يف رؤوس اجلبال ال يأنس لبشر وال جيري حرا طليقا يف السهول الشاسعة جراء
قساوة هذا البشر الشيطاين حيث جاء يف نص الرواية " :وقد رأى الصيادون القدامى يف هذا
التح ول الغ امض ال ذي تعه ده الص حراء ط وال تارخيها يف أخالق الغ زالن إش ارة مساوية .ومل
يفت احلكم اء منهم أن يع وذوا باهلل من الش يطان اإلنس عقب كل ص الة ويس تجريوا به من
شر ابن آدم وش راهة ابن آدم اليت ك انت س ببا يف اخ رتاع الس الح الش يطاين ,فه ددت أمجل
املخلوقات باإلبادة ,وأجربت الرؤوس الباقية على اهلجرة إىل أقصى الدنيا ليس حبثا عن الكأل
وإمنا طلبا للبقاء وإنقاذا للنسل من الفناء ...يلتقي الصيادون يف الرباري العارية ,ويتسامرون
حول الشاي الصيين األخضر ,ويعزون بعضهم بعضا " :أصبح الغزال مثل الودان يتطاول يف
رؤوس اجلب ال .ه ذا آخر الزم ان " ال يس تطيع أحد تأويل الظ واهر مثل أهل الص حراء ,ال
-إبراهيم الكوين ,رواية " :نزيف احلجر " ,ص.100 : 1
153
جياريهم أحد يف ق راءة أس رار الغيب ,وال جيتمع ون إال لكي يبحث وا عن تفسري إلش ارات آخر
() 2
الزمان "
خالصة الق ول وبعد تتبع جتلي ات ( املظهر الط وطمي ) يف رواية ( نزيف احلجر ) للك وين,
وبعد تقصي مجلة مطاوعاته اليت ج اءت متقلصة حينا وممت دة حينا آخ ر .فإهنا كش فت لنا عن
ه امش ق رائي واس ه ,وظف من أجله الك وين األس طورة حين ا ,وص نع ألجله األس طورة حينا
آخ ر .وبني ه ذا وذاك جنمل جمم وع اإلش عاعات اليت أنتجها نص الرواي ة ,واليت تطرقنا إليها
بعد كل مطاوعة.
وجنملها يف النقاط التالية:
-1اإلنس ان /الش يطان ,هو من مسح بإدخ ال اآلالت الش يطانية ,الفتاكة اليت أب ادت
الثروة احليوانية يف صحراء ليبيا.
-2شيطانية اإلنسان وشراهته وشره هم من أبادوا الثروة احليوانية يف صحراء ليبيا.
-3استيالء األجنيب بآالته ومشاريعه وشعاراته الزائفة على صحراء ليبيا دفع باألهايل
إىل النزوح أو اهلجرة إىل البلدان اجملاورة أو البعيدة.
-4أهل مكة أدرى بش عاهبا ,وأهل ص حراء ليبيا أدرى بأجبديتها وأس رارها .ف التبقى
صحراء ليبيا لطوارقها ,وليعد كل من هو أجنيب إىل موطنه.
-5الصحراء موطن مقدس ال يبقى الدنس.
-6الط ارقي يق رأ أس رار الغيب ,ويفسر النب وءات وليس حمتاجا إىل وس يط أو معني
أجنيب.
-7تن احر ط رق املتص وفة ( التيجانية والقادرية ) وحماولة تأثريها على عق ول الن اس.
وزادت املسيحية الطني بلة.
-8الصخور ثروة كبرية ( حبفرياهتا وآثارها ) وال ميكن حراستها ومحايتها إىل من قبل
ابن الصحراء.
-إبراهيم الكوين ,رواية " :نزيف احلجر " ,ص 100 :و.101 2
154
" إن املاء يطهر اجلس د ...والص حراء تطهر ال روح " ...ومن مل يعشق الص حراء -9
يعيش أبد الدهر مدنسا.
155