You are on page 1of 9

‫‪ 

   ‬‬
‫الشارقة‪ :‬عثمان حسن‬

‫حفل التاريخ العربي بكثير‪ $‬من الكتب التي شكلت بمجموعها ذخيرة أدبية وثقافية‪ ،‬وكانت‬

‫على الدوام من المراجع المهمة التي تشكل عونا للباحثين واألكاديميين‪ ،‬وشكلت مصدراً‬

‫‪.‬من مصادر اإللهام على مستوى تطوير اللغة والثقافة العربية‪ $‬على حد سواء‬

‫ومن هذه الكتب «البخالء» للجاحظ‪ ،‬هذا العالم واألديب والموسوعي‪ ،‬وصاحب المؤلفات‬

‫التي يصعب حصرها‪ .‬وميزة كتب الجاحظ على ما فيها من حكمة ومعرفة‪ ،‬ومنها كتاب‬

‫البخالء‪ ،‬أنها أصبحت مرجعا ً للقراء‪ ،‬وقد تناولتها الذاكرة الشفاهية العربية‪ $،‬لما فيها من‬

‫المعلومة والطرفة ذات المغزى‪ ،‬والحكمة والموعظة‪ ،‬وكافة أشكال وألوان اإلمتاع‬

‫‪.‬والظرف والفائدة‬

‫يحكي كتاب البخالء عن العديد من النوادر التي تصف حياة أهل عصره‪ ،‬حيث عاش في‬

‫كنف الدولة العباسية‪ ،‬والكتاب فيه من طرائف ونوادر البخل الشيء الكثير‪ ،‬سيما عند أهل‬

‫خراسان‪ ،‬والتي جاءت تحت عنوان «طرف أهل خراسان» ونقتطف منها بعض القصص‪:‬‬

‫«قال أصحابنا‪ :‬يقول المروزي للزائر إذا أتاه‪ ،‬وللجليس إذا طال جلوسه‪ :‬تغديت اليوم؟‬

‫فإن قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬لوال أنك تغديت لغديتك بغداء طيب‪ ،‬وإذا قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬لو كنت تغديت‬

‫‪».‬لسقيتك‪ ،‬فال يصير‪ $‬في يده على الوجهين قليل وال كثير‬

‫وفي نادرة أخرى نقرأ‪« :‬وكنت في منزل‪ $‬ابن أبي كريمة‪ ،‬وأصله من مرو‪ ،‬فرآني أتوضأ‬

‫من كوز خزف‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان هللا! تتوضأ بالعذب‪ ،‬والبئر لك معرضة؟ قلت‪ :‬ليس بعذب‪،‬‬

‫‪.‬إنما هو من ماء البئر‪ .‬قال‪ :‬فتفسد علينا كوزنا بالملوحة‪ .‬فلم أدر كيف أتخلص منه‬
‫ومن قصص أهل خراسان أيضاً‪« :‬وقال ثمامة‪ :‬لم أر الديك في بلدة قط إال وهو الفظ‪،‬‬

‫يأخذ الحبة بمنقاره‪ ،‬ثم يلفظها قدام الدجاجة‪ ،‬إال ديكة مرو‪ ،‬فإني رأيت ديكة مرو تسلب‬

‫الدجاج ما في مناقيرها من الحب‪ .‬قال‪ :‬فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البالد وفي جواهر‬

‫‪.‬الماء‪ ،‬فمن ثم عم جميع حيوانهم‬

‫فحدثت بهذا الحديث أحمد بن رشيد‪ ،‬فقال‪ :‬كنت عند رجل من أهل مرو‪ ،‬وصبي‪ $‬له صغير‬

‫يلعب بين يديه‪ ،‬فقلت له‪ ،‬إما عابثا ً وإما ممتحناً‪ $:‬أطعمني من خبزكم‪ .‬قال‪ :‬ال تريده‪ ،‬هو‬

‫مر‪ ،‬قلت‪ :‬فاسقني من مائكم قال‪ :‬ال تريده‪ ،‬هو مالح قلت‪ :‬هات لي من كذا وكذا‪ ،‬قال‪ :‬ال‬

‫تريده‪ ،‬هو كذا وكذا‪ ،‬إلى أن أعددت أصنافا ً كثيرة‪ ،‬كل ذلك يمنعنه‪ $‬ويبغضه ّ‬
‫إلي‪ .‬فضحك‬

‫أبوه وقال‪ :‬ما ذنبنا؟ هذا من علمه ما تسمع؟‪ $‬يعني أن البخل طبع منيع‪ $‬فيهم وفي أعراقهم‬

‫‪».‬وطينتهم‬

‫وميزة هذه القصص بحسب إجماع كثير من النقاد‪ ،‬أنها تلقي الضوء على أسلوب الجاحظ‬

‫الذي تميز بأنه يجري في مستويين‪ ،‬واحد هو مراعاة السليقة‪ ،‬أي ما يجري على ألسنة‬

‫العوام‪ ،‬وثانيا ً مخاطبة النخبة‪ ،‬وهو يتناول في هذا الكتاب نصوصا ً أدبية موجزة وشائعة‬

‫في العصر اإلسالمي‪ ،‬حيث مالمح الشعر والخطابة وما يرافق ذلك من سجع وبالغة‬

‫‪.‬وتورية‪ $‬وحسن صياغة وفرادة في البيان والتصوير‪$‬‬

‫وقد مزجت كتاباته بين النثر والشعر‪ ،‬وهذا األسلوب الذي عرف به يعتبر من مميزات‬

‫وخصائص أدبه دون غيره من األدباء‪ ،‬كما أن أسلوبه أشبه بقصص ألف ليلة وليلة‪ ،‬حيث‬

‫تتناسل‪ $‬الحكاية إلى الحكاية وهكذا‪ ،‬وقد صور الجاحظ في «البخالء» الناس الذين قابلهم‬

‫وتعرف عليهم في بيئته‪ $‬الخاصة في بلدة مرو (عاصمة خراسان)‪ ،‬وفيه صور الجاحظ‬
‫سيا ً نفسيا ً فكاهياً‪ ،‬فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة‪ ،‬وكشف أسرارهم‬
‫تصويراً‪ $‬واقعيا ً ح ّ‬

‫‪.‬وخفايا منازلهم وأطلعنا على مختلف أحاديثهم‪ ،‬وأرانا نفسياتهم وأحوالهم جميعا ً‬

‫نظر بعض الدارسين إلى كتاب البخالء باعتباره يشكل دراسة اجتماعية تربوية‪ $‬نفسية‪$‬‬

‫اقتصادية‪ ،‬ويوثق لهذه الفئة «البخالء» بشكل ساخر وفكاهي وهزلي‪ ،‬وهو من جهة‬

‫أخرى‪ ،‬يعتبر كتابا ً ذا قيمة في مادته التربوية واألخالقية‪ ،‬سيما وأن البخل عادة ليست‬

‫مستحبة عند الناس‪ ،‬وهي ليست من طبائع الكرام‪ ،‬وهو بمثابة‪ $‬نقيصة‪ $‬تنال من كبرياء‬

‫الناس وأصولهم ودماثة أخالقهم وتحط من مصداقيتهم‪ ،‬ومروءاتهم‪ .‬ولقد تنوعت مظاهر‬

‫الهزل واإلضحاك والسخرية بحسب كثيرين‪ ،‬في نوادر الجاحظ‪ ،‬وهي تهدف إلى مقاصد‬

‫مختلفة‪ ،‬منها ما يحقق النقد االجتماعي ومنها ما يحمل القارئ‪ ،‬بل يدفعه على تبني‪ $‬سلوك‬

‫‪.‬الكرم والسخاء وهو قيمة عربية‪ $‬أصيلة‬

‫‪ .‬النادرة شكل من أشكال القص القديم الذي عرف به الجاحظ في كتاب البخالء‬

‫تقوم النادرة على أخبار قصيرة تراوح بين الهزل والجد ‪ ،‬وكل خبرهو قصة قصيرة‬
‫‪ .‬مستقلة بذاتها تدور في مجتمع الجاحظ في القرن الثالث للهجرة‬

‫تهدف النادرة إلى مواجهة الفرس في إطار الصراع الشعوبي بين العرب والفرس‪ ،‬فإذ‬
‫يعتز الفرس بعراقة حضارتهم ويتهمون العرب بالتوحش والبداوة فإن العرب الذين يتكلم‬
‫الجاحظ على لسانهم يتهمون الفرس بالبخل ( ال بمعنى الكسل ولكن بمعنى الشح والضن‬
‫‪ .‬بالمال) وحب المال والتقتير‪ $‬على النفس‬

‫‪ :‬بنية النادرة ‪ :‬تقوم على بنية األخبار واألحاديث‬

‫السند ‪ :‬هو سلسلة الرواة الذين ينقلون الخبر إما معاينة او سماعا وقد يكون الجاحظ ‪-‬‬
‫‪ .‬نفسه راويا وفاعال قصصيا في الوقت نفسه‬
‫يمثل السند سلطة مرجعية يستند إليها الجاحظ لتوثيق الخبر ‪ ،‬كما أنه يحول بعض األخبار‬
‫من طور التخييل إلى طور الواقع فيتظاهر الجاحظ بالحياد في الوقت الذي يحرك فيه‬
‫الشخصيات بخيط خفي وفق استراتيجية‪ $‬في القص تقوم على اإلضحاك والعبث بالبخيل‬
‫‪ .‬إلى حد التشفي منه‬

‫المتن ‪ :‬هو موضوع الخبر واحداثه ‪ ،‬ويقوم عادة على حيلة لطيفة وحلية بديعة قوامها‬
‫‪ .‬المجاز واإليجاز‪ ،‬وبطلها بخيل من الفرس‬
‫تنكشف شخصية‪ $‬البخيل متناقضة‪ $‬فظاهرها الكرم وباطنها البخل ‪ ،‬إذ توهمك بالتواصل مع‬
‫المجتمع من حيث أنها تخالفها وتخرقهاوتصطدم معها‪ ،‬إن البخيل ذو نظام خاص مخالف‬
‫لمألوف الجماعة وإن اوهم بالتواصل معها‪ ،‬إذ ينتقي ماشاء من النظام االجتماعي الذي‬
‫‪ .‬يعاشه بما يوافق مصلحته‬

‫تبدو ثقافة البخيل محتكمة إلى نموذج قيمي في عالقة صراع مع السائد االجتماعي في‬
‫مستوى‪ $‬آداب الضيافة والطعام‪ ،‬إذ يستخدم البخيل أسلوبا في التفكير يعكس ثقافة العصر‬
‫وتوظيفه إياها لمصلحته دون إلزامه بها سلوكاومنهجا في الحياة وأسلوبا منطقيا يجعل‬
‫‪ .‬من المال شيئا مقدسا يستوجب التفويت فيه االستغفار والندم واالستنكار‬

‫إن شخصية البخيل هي شخصية خارجة عن مألوف الجماعة في التعامل والتصور‪ $‬مما‬
‫‪ .‬يجعل طرد البخيل من قيم الجماعة وعاداتها أمرا ضروريا عند العرب‬

‫‪ :‬مظاهر الهزل واالضحاك‬


‫تنوعت مظاهر الهزل واإلضحاك والسخرية‪ $‬في نوادر الجاحظ ‪ ،‬وهي تهدف إلى مقاصد‬
‫مختلفة‪ ،‬ففي المقام األول يتحقق بها النقد االجتماعي لما تقوم عليه النادرة من تصوير‬
‫انحرافات اجتماعية وسلوك شاذ نتج‪ $‬عن فئة حافظت على طابعها وقيمها الموروثة التي‬
‫تاثرت بمتغيرات الواقع االقتصادي في عصرها ‪ ،‬وفي المقام الثاني تحمل النادرة القارئ‬
‫على تبني‪ $‬سلوك الكرم والسخاء وهو قيمة عربية‪ $‬أصيلة‪ .‬وإضافة إلى ذلك تحقق إعادة‬
‫تركيب منظومة‪ $‬القيم والمعايير على نحو يستجيب‪ $‬لمقومات العادات العربية‪ ، $‬وفي األخير‬
‫ال تخلو النادرة رغم ما تنطوي عليه من مقاصد نقدية من الترويح‪ $‬عن المتلقي وتسليته‪$‬‬
‫‪ .‬واستهداف الجمالية‬

‫إن نوادر الجاحظ في ظاهرها هزل وإضحاك وفي باطنها نقد اجتماعي يهدف إلى اإلصالح‬
‫‪.‬‬

‫النوادر ومفردها نادر أو نادرة وهي االشياء التي يقل وجودها أو حدوثها‪ ،‬فالنوادر من‬
‫المعادن هي نفائسها‪ ،‬وكذلك النوادر من األحداث نفائسها وأكثرها تسلية وإمتاعا‪ ،‬وبذلك‬
‫أطلق على األحداث الغريبة الوقوع والممتعة‪ $‬نوادر‪ .‬كذلك سميت نوادر أبو نواس ونوادر‬
‫الجاحظ ونوادر جحا وغير ذلك‪ .‬نستطيع ان نسمي‪ $‬النوادر بالحكايات الشعبية الممتعة‬
‫‪( .‬الفلكلور) والمتوارثة من جيل إلى جيل‬
‫من خصائص أدب النوادر الخفة والظرافة و ُيشترط‪ $‬في الفكاهي أن يكون صاحب ذكاء‬
‫يجعله يبحث عن الحيلة ويتدبر الخطط وينسج خيوطها‪ .‬ويمتاز بنظره الثاقب وبموهبته‬
‫األصلية التي تضفي عليه ً‬
‫خفة ولط ًفا فتأتي فكاهته لبقة غير مصطنعة تفيض بالعذوبة‪.‬‬
‫و َت ِر ُد الفكاهة على شكل قصة موجزة ساخرة‪ ،‬تقوم أحيانا كثيرة على أساس النقد وتتميز‬
‫‪.‬بالخروج عن المألوف‬
‫»قراءة في كتاب «نوادر البخالء‬
‫للدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع‬

‫بقلم‪ :‬أ‪.‬د‪ .‬حسين علي محمد‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كثر الحديث في كتب األدب عن البخل والبخالء‪ ،‬وسلك المؤلفون إلى ذم البخل والتحذير‬
‫منه‪ $‬مسالك ومشارب مختلفة من تصريح‪ $‬أو تلميح‪ $‬ومن إيراد لآليات واألحاديث واآلثار‬
‫في التحذير من البخل إلى إيراد قصص وحكايات وأشعار تن ِّفر منه‪ ،‬وتدعو إلى الكرم‬
‫‪.‬والبذل والعطاء‬
‫وكتب الجاحظ كتابه العظيم "البخالء" فأورد من قصصهم وحكاياتهم ومحاوراتهم‬
‫وحججهم الشيء الكثير‪ ،‬ونجح الجاحظ في التأثير على نفسية‪ $‬القارئ فإذا هو يكره البخل‬
‫‪.‬والبخالء لكنه يتف ّكه بأحاديثهم‪ ،‬ويتسلّى بمحاوراتهم وأعاجيبهم‬
‫ثم جاء بعد الجاحظ مؤلفون أفردوا للبخل كتبا مستقلة كما فعل الخطيب البغدادي في كتابه‬
‫"البخالء"‪ ،‬وجمال الدين بن المبرد الدمشقي في كتابه "إتحاف النبالء بأخبار وأشعار‬
‫الكـرماء والبخالء"‪ ،‬وأفرد له آخرون فصوال وأبوابا في كتبهم الموسوعية الشاملة‪ ،‬مثلما‬
‫صنع ابن قتيبة في كتاب "عيون األخبار"‪ ،‬وابن عبد ربه في كتاب "العقد الفريد"‪،‬‬
‫‪.‬واآلبي في كتاب "نثر الدر"‪ ،‬والنويري في كتاب "نهاية األرب" … وغيرهم كثير‬
‫ولقد "كانت أحاديث البخل والبخالء "منتشرة ومعروفة في البيئة العربية قبل أن يشرع‬
‫روج هذه األحاديث وأتاح لها أن ُتنشر عامالن مهمان‬ ‫‪:‬الجاحظ في كتابه "البخالء"‪ ،‬ولقد ّ‬
‫أولهما الشعوبيون الذين كانوا ُيح ِّقرون شأن العرب‪ ،‬ويرون أن فخرهم بصفة الكرم ليست‬
‫‪.‬إال نفجا ً ووهما ً ال حقيقة له‬
‫وثانيهما‪ $:‬الخصومة السياسية بين األمويين والعباسيين‪ ،‬فقد كان كل فريق منهم يعمل‬
‫على إشاعة النقائص والمثالب للفريق اآلخر‪ ،‬ولو عن طريق االختالق واالدّعاء‪ ،‬وكان‬
‫‪.‬البخل من هذه النقائص التي يذم بها كل فريق اآلخر"(‪)2‬‬
‫وقد أصدر الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع‪ ،‬وكيل جامعة اإلمام محمد بن سعود‬
‫اإلسالمية للدراسات العليا والبحث العلمي وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة كتابه‬
‫‪.‬األخير «نوادر البخالء»‪ ،‬يضم نصوصا ً في البخل‪ ،‬مع دراسة نصية لها‬
‫وقد اختار الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع في القسم األول من كتابه أكثر من ثالثين‬
‫ض َبطها‪ ،‬وشرح غري َبها‪ ،‬وأحالها إلى‬‫نادرة من نوادر البخالء التي أوردتها كتب األدب‪ ،‬و َ‬
‫‪.‬مصادرها األصيلة‬
‫وفي القسم الثاني تناولها بالدرس والتحليل‪ ،‬وأشار إلى دالالتها المضمونية والفنية‪ ،‬بعد‬
‫أن تت ّبع‪ $‬حركة التأليف حول البخل والبخالء منذ األصمعي‪ ،‬وحتى الفقيه الحنبلي جمال‬
‫الدين يوسف‪ ،‬ومروراً بالجاحظ‪ ،‬وابن قتيبة‪ ،‬وأبي ح ّيان التوحيدي‪ ،‬وابن عبد ربه‪،‬‬
‫‪.‬واألبشيهي‪ … $‬وغيرهم‬
‫وقد قال عن األسس التي تخير على أساسها النصوص التي أوردها في القسم األول من‬
‫‪:‬كتابه‬
‫أردت التوسع في جمع«‬ ‫ُ‬ ‫وجدت كما هائالً من النصوص التراثية عن البخل والبخالء‪ ،‬ولو‬ ‫ُ‬
‫النصوص لكان لي ذلك … وركزنا في االختيار على القصص والحكايات‪ ،‬وتركنا الحديث‬
‫المباشر أو النكت القصيرة أو أساليب المؤلفين التقريرية في ذم البخل … وحاولنا التنويع‪$‬‬
‫في مصادر االختيار حتى نعطي للقارئ الكريم نماذج مختلفة من أساليب المؤلفين‪ ،‬وإن‬
‫كان للجاحظ نصيب األسد من تلك المختارات؛ وهذا أمر طبيعي‪ ،‬فمن يقرأ كتابات الجاحظ‬
‫وكتابات غيره عن البخالء ال بد أن ينحاز إلى كتابات الجاحظ لما فيها من إبداع‪ ،‬وتصوير‪$‬‬
‫‪.‬فني رائع‪ ،‬وألن من كتب بعده في هذا الموضوع إنما هم عيال عليه»(‪)3‬‬
‫ومن «المعروف أن الجاحظ أديب محدث من طراز رفيع‪ ،‬برع في تقليب وجوه األخبار‬
‫وتنويعها أنواعا تتلون بألوان الجدة تارة‪ ،‬وتشرق بألوان النكتة والهزل والدعابة تارة‬
‫أخرى‪ .‬وهي في كل حال تتراوح بين مختلف األغراض وشتى الموضوعات‪ .‬وهذه السمة‬
‫التي تطبع أدب الجاحظ بطابع إبداعي فذ هي السمة الغالبة على طبيعة ذلك األدب‪ .‬وهي‬
‫‪.‬التي تحدد كونه أدبا فنيا قبل أن يكون أدبا فكريا»(‪)4‬‬
‫***‬
‫والنماذج التي ُتغرينا بالتوقف أمامها كثيرة‪ ،‬لكن يكفينا هنا أن نتوقف أما أحد النماذج‪،‬‬
‫صها‬ ‫بكالم"‪ ،‬وهذا ن ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫‪:‬التي أوردها المؤلف بكتابه تحت عنوان "طعا ٌم‬
‫مر ب ِه رجل فسلَّم فردَّ عليه السالم‪« ،‬‬ ‫المواضع إذ َّ‬
‫ِ‬ ‫الخراساني يأكل في بعض‬ ‫ُّ‬ ‫وبينما الشيخ‬
‫يطفر(‪ )5‬الجدول َ أو‬ ‫َ‬ ‫الرجل قد انثنى راجعا ُ يري ُد أن‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪ :‬هل َّم عافاك هللا فل ّما نظر إلى‬
‫النهر‬
‫َ‬ ‫‪ُ .‬يع ِّدي‬
‫عمل الشيطان‬ ‫ِ‬ ‫العجلة من‬‫َ‬ ‫‪.‬قال له‪ :‬مكا َن َك فإنَّ‬
‫ساني وقال ‪ :‬تري ُد ماذا؟‬ ‫ُّ‬ ‫الخر‬
‫َ‬ ‫فوقف الرجلُ‪ ،‬فأقبل عليه‬
‫‪.‬قال‪ :‬أري ُد أن أتغدّى‬
‫طمع َت في هذا؟ ومنْ أبا َح ل َك مالي؟‬ ‫قال‪ :‬ولِ َم ذاك؟ وكيف ْ‬
‫ليس قدْ دعو َتني؟‬ ‫َ‬ ‫!قال الرجل‪ :‬أو‬
‫ت علي َك السالم‪ .‬اآليينُ (‪ )6‬فيما نحن فيه أن‬ ‫أحمق هكذا ما رددْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت أنك‬ ‫قال‪ :‬ويل َك! لو ظن ْن ُ‬
‫أنت ف ُتسلِّم‪ ،‬فأقول أنا حينئ ٍذ ُمجيبا ً ل َك‪:‬‬ ‫المار أنْ تبدأ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫وأنت‬ ‫الجالس‬
‫َ‬ ‫كنت أنا‬‫تكون إذا ُ‬
‫‪.‬وعليكم السال ُم‬
‫وقعدت أنا على حالي‪ .‬وإن ُ‬
‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫ومضيت َ‬
‫أنت‬ ‫َ‪$‬‬ ‫أنت‪،‬‬‫وسكت َ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫سكت أنا‬ ‫فإن َ‬
‫كنت ال آكل ُ شيئا‬
‫أنت فتقول‪ :‬هنيئاً‪ ،‬فيكونُ كال ُم‬ ‫جيب َ‬ ‫آخ ُر هو أن أبدأ ُ أنا فأقول‪ :‬هلُ َّم‪ ،‬و ُت ُ‬ ‫آكل ُ فها هنا آيينٌ َ‬
‫ج علينا فضال كبيراً‬ ‫ليس من اإلنصافِ ‪ ،‬وهذا ُيخر ُ‬ ‫َ‬ ‫بأكل فهذا‬
‫ِعال وقول ٌ ٍ‬ ‫‪.‬بكالم‪ ،‬فأما كال ُم بف ٍ‬
‫ٍ‬
‫شي ٌء لم يكن في حسابه‬ ‫الرجل ْ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫‪.‬قال‪ :‬ف َو َر َد على‬
‫ف الرد‪ .‬قال‪ :‬ما بي‬ ‫السالم ومن تكلُّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش ِه َر بذلك في تلك الناحية‪ ،‬وقيل ل ُه‪ :‬قد أُعفينا من‬ ‫ف ُ‬
‫حاجة إنما هو أن أُعفي أنا نفسي من هلُ َّم وقد استقام األم ُر»‪( .‬البخالء للجاحظ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫إلى ذلك‬
‫ص ‪)20‬‬
‫ويقول المؤلف في التعليق على هذا النص مع بعض نصوص أخرى تتفق معه في هدفه‪،‬‬
‫تحت عنوان «هل للبخل وطن؟»‪« :‬هل للبخل وطن؟! هل ُيمكن أن نحكم على عامة أهل‬
‫بلد بالبخل أو بالكرم؟‬
‫المنطق يرفض ذلك‪ ،‬ففي كل بلد كرماء وبخالء‪ .‬لكن بعض البالد اشتهر أهلوها بالبخل‪،‬‬
‫أو شهرهم األدباء بذلك‪ ،‬وجنوا عليهم‪ .‬ومن تلك البلدان إقليم خراسان بصفة عامة‪،‬‬
‫وجه إليهم الجاحظ سهام نقده والذع أسلوبه»(‪ .)7$‬وهذا‬ ‫ومدينة‪ $‬مرو بصفة خاصة؛ فقد ّ‬
‫النص الذي سقناه يكشف عن أن «ال ُخراسيين قد ق ّننوا البخل‪ ،‬ووضعوا له األنظمة‬
‫‪.‬واللوائح واألحكام»(‪)8‬‬
‫والنصوص التي أوردها المؤلف في حاجة إلى دراسة هذه النصوص دراسة جمالية‬
‫‪.‬ونفسية‪ $‬واجتماعية تكشف عن منابع اإلبداع وخصائصه في هذا المجال الخصب‬

‫يعتبر بعض النقاد أن كتاب البخالء وثيقة تاريخية شاهدة على‬


‫العصر وبعض خصائصه وجوانب من الحياة الحضريّة في‬
‫المجتمع; العبّاسي‪ .‬فالكتاب يمثل نقدا للبخل ومحاولة إصالح‬
‫لهذه الفئة البخيلة‪ ،‬وكذلك الدفاع عن القيم العربية األصيلة‬
‫كالجود والكرم‬

‫العنصر األول الفكاهة واإلضحاك والمالطفة من خالل‬


‫(القصص)‪ ،‬مما يجعل القارئ بعيدا عن الجفاف والملل‪ .‬ألن‬
‫الكتاب ليس كله طرائف وإنما يتضمن بعض الرسائل‬
‫والمناظرات‪ ،‬فأقحم الجاحظ هذه الطرائف فيما بينها ليبعد‬
‫‪.‬القارئ عن الملل‬
‫والعنصر الثاني إيراد الحجاج والمناظرات (الحجاج) ليضفي‬
‫على جوّ الكتاب الفكاهي جوّا كالميا فلسفيا منطقيا‪ ،‬يستعرض‬
‫‪.‬فيه الجاحظ تقنياته الحجاجية والكالمية‬
‫‪.‬فهذان العنصران; يفضيان إلى هدف الجاحظ وهو البيان‬

‫النادرة شكل من أشكال القص القديم الذي عرف به الجاحظ في كتاب‬


‫‪.‬البخالء‬
‫تقوم النادرة على أخبار قصيرة تراوح بين الهزل والجد ‪ ،‬وكل خبر هو قصة‬
‫‪.‬قصيرة مستقلة بذاتها تدور في مجتمع الجاحظ في القرن الثالث للهجرة‬
‫تهدف النادرة إلى مواجهة‪ 8‬الفرس في إطار الصراع الشعوبي بين العرب‬
‫والفرس‪ ،‬فإذ يعتز الفرس بعراقة حضارتهم ويتهمون العرب بالتوحش‪8‬‬
‫والبداوة فإن العرب الذين يتكلم الجاحظ على لسانهم يتهمون الفرس بالبخل‬
‫( ال بمعنى الكسل ولكن بمعنى الشح والضن بالمال) وحب المال والتقتير‬
‫‪.‬على النفس‬
‫‪:‬بنية النادرة‪ :‬تقوم على بنية األخبار واألحاديث‬
‫السند ‪ :‬هو سلسلة الرواة الذين ينقلون الخبر إما معاينة او سماعا وقد يكون ‪-‬‬
‫‪.‬الجاحظ نفسه راويا وفاعال قصصيا في الوقت نفسه‬
‫يمثل السند سلطة‪ 8‬مرجعية يستند إليها الجاحظ لتوثيق الخبر ‪ ،‬كما أنه يحول‬
‫بعض األخبار من طور التخييل إلى طور الواقع فيتظاهر الجاحظ بالحياد في‬
‫الوقت الذي يحرك فيه الشخصيات بخيط خفي وفق إستراتيجية في القص‬
‫‪.‬تقوم على اإلضحاك والعبث بالبخيل إلى حد التشفي منه‬
‫المتن‪:‬هو‪ 8‬موضوع الخبر وأحداثه ‪ ،‬ويقوم عادة على حيلة لطيفة وحلية‪ 8‬بديعة‬
‫‪.‬قوامها المجاز واإليجاز‪ ،‬وبطلها‪ 8‬بخيل من الفرس‬
‫تنكشف شخصية البخيل متناقضة فظاهرها الكرم وباطنها البخل ‪ ،‬إذ توهمك‬
‫بالتواصل مع المجتمع من حيث أنها تخالفها وتخرقها وتصطدم معها‪ ،‬إن‬
‫البخيل ذو نظام خاص مخالف لمألوف الجماعة وإن أوهم بالتواصل معها‪ ،‬إذ‬
‫‪ .‬ينتقي ما شاء من النظام االجتماعي الذي يعاشه بما يوافق مصلحته‪8‬‬
‫تبدو ثقافة البخيل محتكمة إلى نموذج قيمي في عالقة صراع مع السائد‬
‫االجتماعي في مستوى آداب الضيافة والطعام‪ ،‬إذ يستخدم البخيل أسلوبا في‬
‫التفكير يعكس ثقافة العصر وتوظيفه إياها لمصلحته‪ 8‬دون إلزامه بها سلوكا‬
‫ومنهجا في الحياة وأسلوبا منطقيا يجعل من المال شيئا مقدسا يستوجب‬
‫‪.‬التفويت فيه االستغفار والندم واالستنكار‬
‫إن شخصية البخيل هي شخصية خارجة عن مألوف الجماعة في التعامل‬
‫والتصور مما يجعل طرد البخيل من قيم الجماعة وعاداتها أمرا ضروريا‬
‫‪.‬عند العرب‬
‫‪:‬مظاهر الهزل واإلضحاك‬
‫تنوعت مظاهر الهزل واإلضحاك والسخرية في نوادر الجاحظ ‪ ،‬وهي تهدف‬
‫إلى مقاصد مختلفة‪ ،‬ففي المقام األول يتحقق بها النقد االجتماعي لما تقوم‬
‫عليه النادرة من تصوير انحرافات اجتماعية وسلوك‪ 8‬شاذ نتج عن فئة‬
‫حافظت على طابعها وقيمها الموروثة‪ 8‬التي تأثرت بمتغيرات الواقع‬
‫االقتصادي في عصرها ‪ ،‬وفي المقام الثاني تحمل النادرة القارئ على تبني‬
‫سلوك الكرم والسخاء وهو قيمة عربية أصيلة‪ .‬وإضافة إلى ذلك تحقق إعادة‬
‫تركيب منظومة القيم والمعايير على نحو يستجيب لمقومات العادات‬
‫العربية ‪ ،‬وفي األخير ال تخلو النادرة رغم ما تنطوي عليه من مقاصد نقدية‬
‫‪.‬من الترويح عن المتلقي وتسليته واستهداف الجمالية‪8‬‬
‫إن نوادر الجاحظ في ظاهرها هزل وإضحاك وفي باطنها نقد اجتماعي‬
‫‪.‬يهدف إلى اإلصالح‬

You might also like