Professional Documents
Culture Documents
الشارقة :عثمان حسن
حفل التاريخ العربي بكثير $من الكتب التي شكلت بمجموعها ذخيرة أدبية وثقافية ،وكانت
على الدوام من المراجع المهمة التي تشكل عونا للباحثين واألكاديميين ،وشكلت مصدراً
.من مصادر اإللهام على مستوى تطوير اللغة والثقافة العربية $على حد سواء
ومن هذه الكتب «البخالء» للجاحظ ،هذا العالم واألديب والموسوعي ،وصاحب المؤلفات
التي يصعب حصرها .وميزة كتب الجاحظ على ما فيها من حكمة ومعرفة ،ومنها كتاب
البخالء ،أنها أصبحت مرجعا ً للقراء ،وقد تناولتها الذاكرة الشفاهية العربية $،لما فيها من
المعلومة والطرفة ذات المغزى ،والحكمة والموعظة ،وكافة أشكال وألوان اإلمتاع
.والظرف والفائدة
يحكي كتاب البخالء عن العديد من النوادر التي تصف حياة أهل عصره ،حيث عاش في
كنف الدولة العباسية ،والكتاب فيه من طرائف ونوادر البخل الشيء الكثير ،سيما عند أهل
خراسان ،والتي جاءت تحت عنوان «طرف أهل خراسان» ونقتطف منها بعض القصص:
«قال أصحابنا :يقول المروزي للزائر إذا أتاه ،وللجليس إذا طال جلوسه :تغديت اليوم؟
فإن قال :نعم ،قال :لوال أنك تغديت لغديتك بغداء طيب ،وإذا قال :ال .قال :لو كنت تغديت
».لسقيتك ،فال يصير $في يده على الوجهين قليل وال كثير
وفي نادرة أخرى نقرأ« :وكنت في منزل $ابن أبي كريمة ،وأصله من مرو ،فرآني أتوضأ
من كوز خزف ،فقال :سبحان هللا! تتوضأ بالعذب ،والبئر لك معرضة؟ قلت :ليس بعذب،
.إنما هو من ماء البئر .قال :فتفسد علينا كوزنا بالملوحة .فلم أدر كيف أتخلص منه
ومن قصص أهل خراسان أيضاً« :وقال ثمامة :لم أر الديك في بلدة قط إال وهو الفظ،
يأخذ الحبة بمنقاره ،ثم يلفظها قدام الدجاجة ،إال ديكة مرو ،فإني رأيت ديكة مرو تسلب
الدجاج ما في مناقيرها من الحب .قال :فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البالد وفي جواهر
فحدثت بهذا الحديث أحمد بن رشيد ،فقال :كنت عند رجل من أهل مرو ،وصبي $له صغير
يلعب بين يديه ،فقلت له ،إما عابثا ً وإما ممتحناً $:أطعمني من خبزكم .قال :ال تريده ،هو
مر ،قلت :فاسقني من مائكم قال :ال تريده ،هو مالح قلت :هات لي من كذا وكذا ،قال :ال
تريده ،هو كذا وكذا ،إلى أن أعددت أصنافا ً كثيرة ،كل ذلك يمنعنه $ويبغضه ّ
إلي .فضحك
أبوه وقال :ما ذنبنا؟ هذا من علمه ما تسمع؟ $يعني أن البخل طبع منيع $فيهم وفي أعراقهم
».وطينتهم
وميزة هذه القصص بحسب إجماع كثير من النقاد ،أنها تلقي الضوء على أسلوب الجاحظ
الذي تميز بأنه يجري في مستويين ،واحد هو مراعاة السليقة ،أي ما يجري على ألسنة
العوام ،وثانيا ً مخاطبة النخبة ،وهو يتناول في هذا الكتاب نصوصا ً أدبية موجزة وشائعة
في العصر اإلسالمي ،حيث مالمح الشعر والخطابة وما يرافق ذلك من سجع وبالغة
وقد مزجت كتاباته بين النثر والشعر ،وهذا األسلوب الذي عرف به يعتبر من مميزات
وخصائص أدبه دون غيره من األدباء ،كما أن أسلوبه أشبه بقصص ألف ليلة وليلة ،حيث
تتناسل $الحكاية إلى الحكاية وهكذا ،وقد صور الجاحظ في «البخالء» الناس الذين قابلهم
وتعرف عليهم في بيئته $الخاصة في بلدة مرو (عاصمة خراسان) ،وفيه صور الجاحظ
سيا ً نفسيا ً فكاهياً ،فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة ،وكشف أسرارهم
تصويراً $واقعيا ً ح ّ
.وخفايا منازلهم وأطلعنا على مختلف أحاديثهم ،وأرانا نفسياتهم وأحوالهم جميعا ً
نظر بعض الدارسين إلى كتاب البخالء باعتباره يشكل دراسة اجتماعية تربوية $نفسية$
اقتصادية ،ويوثق لهذه الفئة «البخالء» بشكل ساخر وفكاهي وهزلي ،وهو من جهة
أخرى ،يعتبر كتابا ً ذا قيمة في مادته التربوية واألخالقية ،سيما وأن البخل عادة ليست
مستحبة عند الناس ،وهي ليست من طبائع الكرام ،وهو بمثابة $نقيصة $تنال من كبرياء
الناس وأصولهم ودماثة أخالقهم وتحط من مصداقيتهم ،ومروءاتهم .ولقد تنوعت مظاهر
الهزل واإلضحاك والسخرية بحسب كثيرين ،في نوادر الجاحظ ،وهي تهدف إلى مقاصد
مختلفة ،منها ما يحقق النقد االجتماعي ومنها ما يحمل القارئ ،بل يدفعه على تبني $سلوك
.النادرة شكل من أشكال القص القديم الذي عرف به الجاحظ في كتاب البخالء
تقوم النادرة على أخبار قصيرة تراوح بين الهزل والجد ،وكل خبرهو قصة قصيرة
.مستقلة بذاتها تدور في مجتمع الجاحظ في القرن الثالث للهجرة
تهدف النادرة إلى مواجهة الفرس في إطار الصراع الشعوبي بين العرب والفرس ،فإذ
يعتز الفرس بعراقة حضارتهم ويتهمون العرب بالتوحش والبداوة فإن العرب الذين يتكلم
الجاحظ على لسانهم يتهمون الفرس بالبخل ( ال بمعنى الكسل ولكن بمعنى الشح والضن
.بالمال) وحب المال والتقتير $على النفس
السند :هو سلسلة الرواة الذين ينقلون الخبر إما معاينة او سماعا وقد يكون الجاحظ -
.نفسه راويا وفاعال قصصيا في الوقت نفسه
يمثل السند سلطة مرجعية يستند إليها الجاحظ لتوثيق الخبر ،كما أنه يحول بعض األخبار
من طور التخييل إلى طور الواقع فيتظاهر الجاحظ بالحياد في الوقت الذي يحرك فيه
الشخصيات بخيط خفي وفق استراتيجية $في القص تقوم على اإلضحاك والعبث بالبخيل
.إلى حد التشفي منه
المتن :هو موضوع الخبر واحداثه ،ويقوم عادة على حيلة لطيفة وحلية بديعة قوامها
.المجاز واإليجاز ،وبطلها بخيل من الفرس
تنكشف شخصية $البخيل متناقضة $فظاهرها الكرم وباطنها البخل ،إذ توهمك بالتواصل مع
المجتمع من حيث أنها تخالفها وتخرقهاوتصطدم معها ،إن البخيل ذو نظام خاص مخالف
لمألوف الجماعة وإن اوهم بالتواصل معها ،إذ ينتقي ماشاء من النظام االجتماعي الذي
.يعاشه بما يوافق مصلحته
تبدو ثقافة البخيل محتكمة إلى نموذج قيمي في عالقة صراع مع السائد االجتماعي في
مستوى $آداب الضيافة والطعام ،إذ يستخدم البخيل أسلوبا في التفكير يعكس ثقافة العصر
وتوظيفه إياها لمصلحته دون إلزامه بها سلوكاومنهجا في الحياة وأسلوبا منطقيا يجعل
.من المال شيئا مقدسا يستوجب التفويت فيه االستغفار والندم واالستنكار
إن شخصية البخيل هي شخصية خارجة عن مألوف الجماعة في التعامل والتصور $مما
.يجعل طرد البخيل من قيم الجماعة وعاداتها أمرا ضروريا عند العرب
إن نوادر الجاحظ في ظاهرها هزل وإضحاك وفي باطنها نقد اجتماعي يهدف إلى اإلصالح
.
النوادر ومفردها نادر أو نادرة وهي االشياء التي يقل وجودها أو حدوثها ،فالنوادر من
المعادن هي نفائسها ،وكذلك النوادر من األحداث نفائسها وأكثرها تسلية وإمتاعا ،وبذلك
أطلق على األحداث الغريبة الوقوع والممتعة $نوادر .كذلك سميت نوادر أبو نواس ونوادر
الجاحظ ونوادر جحا وغير ذلك .نستطيع ان نسمي $النوادر بالحكايات الشعبية الممتعة
( .الفلكلور) والمتوارثة من جيل إلى جيل
من خصائص أدب النوادر الخفة والظرافة و ُيشترط $في الفكاهي أن يكون صاحب ذكاء
يجعله يبحث عن الحيلة ويتدبر الخطط وينسج خيوطها .ويمتاز بنظره الثاقب وبموهبته
األصلية التي تضفي عليه ً
خفة ولط ًفا فتأتي فكاهته لبقة غير مصطنعة تفيض بالعذوبة.
و َت ِر ُد الفكاهة على شكل قصة موجزة ساخرة ،تقوم أحيانا كثيرة على أساس النقد وتتميز
.بالخروج عن المألوف
»قراءة في كتاب «نوادر البخالء
للدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع
كثر الحديث في كتب األدب عن البخل والبخالء ،وسلك المؤلفون إلى ذم البخل والتحذير
منه $مسالك ومشارب مختلفة من تصريح $أو تلميح $ومن إيراد لآليات واألحاديث واآلثار
في التحذير من البخل إلى إيراد قصص وحكايات وأشعار تن ِّفر منه ،وتدعو إلى الكرم
.والبذل والعطاء
وكتب الجاحظ كتابه العظيم "البخالء" فأورد من قصصهم وحكاياتهم ومحاوراتهم
وحججهم الشيء الكثير ،ونجح الجاحظ في التأثير على نفسية $القارئ فإذا هو يكره البخل
.والبخالء لكنه يتف ّكه بأحاديثهم ،ويتسلّى بمحاوراتهم وأعاجيبهم
ثم جاء بعد الجاحظ مؤلفون أفردوا للبخل كتبا مستقلة كما فعل الخطيب البغدادي في كتابه
"البخالء" ،وجمال الدين بن المبرد الدمشقي في كتابه "إتحاف النبالء بأخبار وأشعار
الكـرماء والبخالء" ،وأفرد له آخرون فصوال وأبوابا في كتبهم الموسوعية الشاملة ،مثلما
صنع ابن قتيبة في كتاب "عيون األخبار" ،وابن عبد ربه في كتاب "العقد الفريد"،
.واآلبي في كتاب "نثر الدر" ،والنويري في كتاب "نهاية األرب" … وغيرهم كثير
ولقد "كانت أحاديث البخل والبخالء "منتشرة ومعروفة في البيئة العربية قبل أن يشرع
روج هذه األحاديث وأتاح لها أن ُتنشر عامالن مهمان :الجاحظ في كتابه "البخالء" ،ولقد ّ
أولهما الشعوبيون الذين كانوا ُيح ِّقرون شأن العرب ،ويرون أن فخرهم بصفة الكرم ليست
.إال نفجا ً ووهما ً ال حقيقة له
وثانيهما $:الخصومة السياسية بين األمويين والعباسيين ،فقد كان كل فريق منهم يعمل
على إشاعة النقائص والمثالب للفريق اآلخر ،ولو عن طريق االختالق واالدّعاء ،وكان
.البخل من هذه النقائص التي يذم بها كل فريق اآلخر"()2
وقد أصدر الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع ،وكيل جامعة اإلمام محمد بن سعود
اإلسالمية للدراسات العليا والبحث العلمي وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة كتابه
.األخير «نوادر البخالء» ،يضم نصوصا ً في البخل ،مع دراسة نصية لها
وقد اختار الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع في القسم األول من كتابه أكثر من ثالثين
ض َبطها ،وشرح غري َبها ،وأحالها إلىنادرة من نوادر البخالء التي أوردتها كتب األدب ،و َ
.مصادرها األصيلة
وفي القسم الثاني تناولها بالدرس والتحليل ،وأشار إلى دالالتها المضمونية والفنية ،بعد
أن تت ّبع $حركة التأليف حول البخل والبخالء منذ األصمعي ،وحتى الفقيه الحنبلي جمال
الدين يوسف ،ومروراً بالجاحظ ،وابن قتيبة ،وأبي ح ّيان التوحيدي ،وابن عبد ربه،
.واألبشيهي … $وغيرهم
وقد قال عن األسس التي تخير على أساسها النصوص التي أوردها في القسم األول من
:كتابه
أردت التوسع في جمع« ُ وجدت كما هائالً من النصوص التراثية عن البخل والبخالء ،ولو ُ
النصوص لكان لي ذلك … وركزنا في االختيار على القصص والحكايات ،وتركنا الحديث
المباشر أو النكت القصيرة أو أساليب المؤلفين التقريرية في ذم البخل … وحاولنا التنويع$
في مصادر االختيار حتى نعطي للقارئ الكريم نماذج مختلفة من أساليب المؤلفين ،وإن
كان للجاحظ نصيب األسد من تلك المختارات؛ وهذا أمر طبيعي ،فمن يقرأ كتابات الجاحظ
وكتابات غيره عن البخالء ال بد أن ينحاز إلى كتابات الجاحظ لما فيها من إبداع ،وتصوير$
.فني رائع ،وألن من كتب بعده في هذا الموضوع إنما هم عيال عليه»()3
ومن «المعروف أن الجاحظ أديب محدث من طراز رفيع ،برع في تقليب وجوه األخبار
وتنويعها أنواعا تتلون بألوان الجدة تارة ،وتشرق بألوان النكتة والهزل والدعابة تارة
أخرى .وهي في كل حال تتراوح بين مختلف األغراض وشتى الموضوعات .وهذه السمة
التي تطبع أدب الجاحظ بطابع إبداعي فذ هي السمة الغالبة على طبيعة ذلك األدب .وهي
.التي تحدد كونه أدبا فنيا قبل أن يكون أدبا فكريا»()4
***
والنماذج التي ُتغرينا بالتوقف أمامها كثيرة ،لكن يكفينا هنا أن نتوقف أما أحد النماذج،
صها بكالم" ،وهذا ن ُّ ٍ :التي أوردها المؤلف بكتابه تحت عنوان "طعا ٌم
مر ب ِه رجل فسلَّم فردَّ عليه السالم« ، المواضع إذ َّ
ِ الخراساني يأكل في بعض ُّ وبينما الشيخ
يطفر( )5الجدول َ أو َ الرجل قد انثنى راجعا ُ يري ُد أن ِ فقال :هل َّم عافاك هللا فل ّما نظر إلى
النهر
َ ُ .يع ِّدي
عمل الشيطان ِ العجلة منَ .قال له :مكا َن َك فإنَّ
ساني وقال :تري ُد ماذا؟ ُّ الخر
َ فوقف الرجلُ ،فأقبل عليه
.قال :أري ُد أن أتغدّى
طمع َت في هذا؟ ومنْ أبا َح ل َك مالي؟ قال :ولِ َم ذاك؟ وكيف ْ
ليس قدْ دعو َتني؟ َ !قال الرجل :أو
ت علي َك السالم .اآليينُ ( )6فيما نحن فيه أن أحمق هكذا ما رددْ ُ ُ ت أنك قال :ويل َك! لو ظن ْن ُ
أنت ف ُتسلِّم ،فأقول أنا حينئ ٍذ ُمجيبا ً ل َك: المار أنْ تبدأ َ َّ َ
وأنت الجالس
َ كنت أناتكون إذا ُ
.وعليكم السال ُم
وقعدت أنا على حالي .وإن ُ
كنت ُ ومضيت َ
أنت َ$ أنت،وسكت َ
َّ ُّ
سكت أنا فإن َ
كنت ال آكل ُ شيئا
أنت فتقول :هنيئاً ،فيكونُ كال ُم جيب َ آخ ُر هو أن أبدأ ُ أنا فأقول :هلُ َّم ،و ُت ُ آكل ُ فها هنا آيينٌ َ
ج علينا فضال كبيراً ليس من اإلنصافِ ،وهذا ُيخر ُ َ بأكل فهذا
ِعال وقول ٌ ٍ .بكالم ،فأما كال ُم بف ٍ
ٍ
شي ٌء لم يكن في حسابه الرجل ْ
ِ َ
.قال :ف َو َر َد على
ف الرد .قال :ما بي السالم ومن تكلُّ ِ ِ ش ِه َر بذلك في تلك الناحية ،وقيل ل ُه :قد أُعفينا من ف ُ
حاجة إنما هو أن أُعفي أنا نفسي من هلُ َّم وقد استقام األم ُر»( .البخالء للجاحظ، ٌ إلى ذلك
ص )20
ويقول المؤلف في التعليق على هذا النص مع بعض نصوص أخرى تتفق معه في هدفه،
تحت عنوان «هل للبخل وطن؟»« :هل للبخل وطن؟! هل ُيمكن أن نحكم على عامة أهل
بلد بالبخل أو بالكرم؟
المنطق يرفض ذلك ،ففي كل بلد كرماء وبخالء .لكن بعض البالد اشتهر أهلوها بالبخل،
أو شهرهم األدباء بذلك ،وجنوا عليهم .ومن تلك البلدان إقليم خراسان بصفة عامة،
وجه إليهم الجاحظ سهام نقده والذع أسلوبه»( .)7$وهذا ومدينة $مرو بصفة خاصة؛ فقد ّ
النص الذي سقناه يكشف عن أن «ال ُخراسيين قد ق ّننوا البخل ،ووضعوا له األنظمة
.واللوائح واألحكام»()8
والنصوص التي أوردها المؤلف في حاجة إلى دراسة هذه النصوص دراسة جمالية
.ونفسية $واجتماعية تكشف عن منابع اإلبداع وخصائصه في هذا المجال الخصب