Professional Documents
Culture Documents
يبدو أن الوجود اإلنساني وجود معقد ومتعدد األبعاد؛ فاإلنسان يوجد كشخص وكغير ويعيش في زمن ويصنع التاريخ
ويصنعه التاريخ أيضا .ومن ثم يتميز عن باقي الموجودات التي يتقاسم معها الوجود بفعل ما يتميز به من هوية وقيمة
خاصة ،على الرغم من خضوعه لجملة من الضرورات .وأمام هذا الوضع البشري المركب ،وارتباطا بالسؤال اإلشكالي،
نقول :إذا كان الشخص ال يعيش بمفرده ،وإنما مع غيره؛ الذي قد يكون وجوده تهديدا أو إغناء للذات ،فإن هذا الغير الذي
تبلور كمفهوم فلسفي مع الفلسفة الحديثة إنما يثير إشكاالت؛ من أبرزها إشكال معرفة الغير .لقد قال سقراط قديما" :أيها
اإلنسان اعرف نفسك بنفسك"؛ وإذا سلمنا بأن معرفة الذات معرفة ممكنة ،فإن هذه المعرفة نفسها قد تصبح عويصة حينما
يتعلق األمر بالغير .فهذا األخير شخص مثلنا نعيش معه ونتقاسم معه الكثير من تجاربنا (اجتماعية ،عاطفية ،دينية ،علمية)...
ويُخيّل إلينا في كثير من األحيان أننا نعرفه كما نعرف أنفسنا ،في حين قد يكون ذلك مجرد وهم وقَ ْول يشوبه الغموض ،أي
أن معرفته ممتنعة ومستحيلة على الرغم مما يبدو لنا .لهذا ،ارتأينا أن نطرح االستفهامات اآلتية :ما الغير؟ وما المعرفة؟ ما
طبيعة معرفة الغير؟ هل معرفته ممكنة أم مستحيلة؟ وهل هي مستحيلة فعال؟
قبل الجواب عن اإلشكال المطروح ،يجب أوال وقبل كل شيء تحليل عناصر هذا اإلشكال وأسئلته األساسية .ولتحليل
عناصره البد من الوقوف عند صيغته االستفهامية ،حيث تفيد أداة استفهام "هل" اإلثبات والتصديق أو النفي والدحض .وهذا
ما يضعنا أمام موقفين متقابلين ،موقف يرى أن معرفة الغير مستحيلة ،وموقف آخر يعتبر أن معرفة الغير ممكنة .فإذا كانت
معرفة الغير مستحيلة ،فما الذي يجعلها كذلك؟ وإذا كانت معرفة الغير ممكنة ،فكيف ذلك؟
إن منطوق السؤال يتضمن أطروحة مفترضة يجعلنا نتساءل حول مصداقيتها ،مفادها أن معرفة الغير مستحيلة وممتنعة،
مدرك ،أي حصيلة التقاء الذات بالموضوع من خالل مدركة وموضوع َ مما يعني أن المعرفة بوصفها ثمرة التقابل بين ذات ِ
االعتماد على العقل أو التجربة أو هما معا ،غير ممكنة فيما يتعلق بالغير ،ألن الغـير على الرغم من كونه أنا مشابهة
ومختلفة في الوقت نفسه يصعب فهمه وإدراكه واستيعابه .وفي هذا السياق نستحضر التصور الفلسفي للفيلسوف الفرنسي
غاستون بيرجي الذي يرى أن الذات تشكل عالما فريدا من نوعه ،إذ تعيش في استقالل وانفصال عن الغير؛ وال يمكن سبر
أغوار الذات من طرف الغير أو العكس ــ أي سبر أعماق الغير من طرف الذات ــ رغم حضورهما معا؛ وهذا الحضور ال
يكون إال "للجسد" ،إال أن عقل األنا وتفكيره غائب عن الحضور ،فهو يتوارى وراء ُح ُجب ال يمكنها أن تنكشف أو تتجلى
أمام الغير .إن كل ما تمر به الذات ــ كما يرى غاستون بيرجي ــ ال يمكن للغير أن يشارك األنا فيه بنفس الدرجة والمقدار،
رغم أنه قادر على اإلحساس والتعاطف معها .ولبيان ذلك يمكن تقديم مثالين أو تجربتين يبدو فيهما عالم الغير عالما غريبا
عن عالم األنا ،فتجربة الفرح أو األلم هي دليل قاطع على عدم قدرة الغير على معرفة عالم األنا ،فمثال حين أكون فرحا
بفعل خبر ما أو سماع شيء ما (نجاحي ،حصولي على الفيزا ،زواجي )...فرغم وجود اآلخرين إلى جانبي فال يمكنهم نهائيا
أن يُحسّوا بوقع الفرح علي كما أحس به أنا رغم أنهم يشاركونني فرحتي ،إال أن فرحي يظل خاصا بي وال يمكن لمشاركتهم
أو تعاطفهم أن يكون مطابقا لما أحس به .ويمكن أن نمثّل لذلك بالعروس التي قد يشاركها كل األغيار في عرسها فرحتها،
لكن ال أحد بإمكانه أن يشعر بما تشعر به داخليا ،رغم أنهم يعبرون عن فرحهم لفرحها .كما أن تجربة األلم وخاصة الموت
برانيا [خارجيا]عني؛ كوني كأقصى تجربة وجودية قد يشاركنا الغير عن طريق تعاطفه فيها ،إال أن هذا التعاطف يظل ّ
المتألم الوحيد القادر على الشعور بذلك األلم الذي قد يحدثه وق ُع الموت ،من خالل فقدان قريب ،أما الغير فال يستطيع مهما
حاول أن يصل إلى عالمي الداخلي ووقع األلم علي.
يتبين ،إذن ،أن معرفة الغير ممتنعة ،وكأن بيننا وبين الغير جدارا حديديا ال يُت َ َج َاوز مهما حاولنا .فهل يمكن فعال قَبُول هذا
التصور؟ وإذا كانت التجارب تُعلمنا النقائض والمفارقات ،أفال يمكن معرفة الغير؟ وبعبارة ثانية :ما قيمة التصور السالف؟
وما حدوده؟
1
غني عن البيان أن القول باستحالة معرفة الغير له ما يبرره ،ولكن دون أن يعني ذلك أنه القول الفصل ،فيبدو في بعض
األحيان أن التجربة تعكس هذا الطرح ،فنشعر أن الغير عصي على الفهم واالستيعاب بسبب غموض يهيمن عليه أو بسبب
نظرتنا المحكومة بأحكام مسبقة .ومن جهة أخرى ،وبناء على حجج أخرى ،تبدو معرفة الغير ممكنة ألنه ذلك الشبيه رغم
اختالفه عنا ،ومعرفته ليست من قبيل ما نعرفه عن الموضوعات واألشياء المتعلقة بمنهج العلوم الطبيعية ،إذ أن هذه األخيرة
صلها عن الموضوعات أو األشياء ــ مختلفة عن المعرفة التي نبنيها عن الغير .إذ ال يكفي أن نحكم ــ أي المعرفة التي نُح ّ
على الغير من الخارج لمعرفته ،بل يتعين النظر إليه بشكل شمولي ،أي استحضار ما هو خارجي وما هو داخلي ،حتى
يتسنى لنا االقتراب منه ومن ثم معرفته .ولعل هذا ما دافع عنه فيلسوف ألمانيا ماكس شيلر الذي يرى أن معرفة الغير
ممكنة باعتباره بنية كلية مترابطة ،حيث يقول عن ذلك" :إن ما ندركه منذ الوهلة األولى ليس جسد الغير وال نفسيته ،بل
ندرك الغير بوصفه ُكال ال يقبل القسمة ،إذ ال يمكن أن نقسمه إلى قسمين؛ أولهما يُدرك داخليا (نفسيا) ،وثانيهما يُدرك خارجيا
(جسديا) ،إن المضمونين الداخلي والخارجي يترابطان ترابطا وثيقا بخيط دائم ومستقل عن كل مالحظة واستقرء".
ونفهم من خالل هذا أنه يجب النظر إلى الفعل اإلنساني في كليته وقصديته ،فتعابير الغير هي مرآة عاكسة لعالمه الداخلي،
لذلك فالتعاطف والمشاركة هي ما يمكننا من إدراك الغير ومعرفته .ومعنى ذلك بعبارة أخرى أننا نشارك الغير في إضفاء
المعنى والداللة على أفعاله ،فيكفي أن نرى ابتسامته لنقول بأنه في حالة فرح ،أو احمرار وجهه لنقول بأنه في حالة خجل،
أو دموعه لنقول بأنه في حالة حزن .وعلى هذا األساس وجّه فيلسوفنا نقدا الذعا للمنهج التجريبي الذي يرى بأن تعابير
وسلوكات الشخص ال تعبر نهائيا على عالمه الداخلي وكأن الغير يعيش حياتين منفصلتين؛ عالم داخلي وآخر خارجي.
وعليه ،يرفض ماكس شيلر تطبيق المنهج التجريبي على الفعل اإلنساني ألنه فعل غير قابل للتجزيئ ما دام يتداخل فيه ما
هو نفسي وروحي مع ما هو عضوي جسدي .من هنا ،يتعيّن النظر إلى الفعل اإلنساني في كليته ال االرتكان إلى منهج
تجريبي من شأنه أن يجزئ ويقسم هذا الفعل؛ فاالبتسامة مثال ــ كما قلنا سابقا ــ أو الحزن أو الفرح ال يمكن تجزيئها
وتقسيمها وفصلها عما هو داخلي.
ويمكن أن تمثل لذلك ،أي إلمكانية معرفة الغير ،من الحقل األدبي فنقول أن دوستويفسكي ــ أديب روسيا ــ في روايته
"ذكريات من منزل األموات" قد وضّح هذه القضية ،أي معرفة الغير ،من خالل تحليل نفسي دقيق .فحين يفتعل السجناء
الشجار عمدا ،الكالم لدوستويفسكي ،فهذا ليس لعدائية فيهم ،وال ألن الموقف يستدعي ذلك ،بل ليقوم األشخاص اآلخرون
بمحاولة تهدئتهم والحديث معهم ومالطفتهم ولو بكلمة لينهوا المشاجرة ،ليحسوا بقيمتهم .إنهم ليسوا أشرارا ،بالطبيعة ،بل
هم متعشطون لالهتمام وللكلمات التي ترفع من قيمتهم وقَ ْد ِر ِهم .ومعنى هذا أن أسوء السجناء (المجرمين) حسب دوستويفسكي
يمكن أن يصبح إنسان حين يشعر بـ"االهتمام" ووجود من يستوعبه ويفهمه ويحترمه.
يمكن القول ،من خالل ما سبق ،أن إشكال معرفة الغير إشكال معقد ليس من اليسير الخروج بنتيجة بسيطة بشأنه ،كأن نقول
بإمكانية معرفته أو امتناع ذلك .فقد رأينا أن للطرح الذي يدافع عن استحالة المعرفة ما يبرره ،كما رأينا أن للقول بإمكانية
غـاتـه .ونحن نراهن على إمكانية معرفة الغير ،ذلك أن هذا الموقف أقرب للصواب والواقع ،ولعل طبيعة سو َ
المعرفة ُم ّ
العالقة مع الغير هي التي تسمح بمعرفته .لقد كتب الفلكي األمريكي كارل ساغان ذات مرة يقول" :وعلى هذا ال ُك َو ْيكِب ــ
أي األرض ــ يعيش الناس ،ونحن نوع نادر ومعرض للخطر ،فإذا ما اختلف إنسان معكَ ،دعْـه ُ َيـعِش ،ألنك لن تجد إنسانا
آخر في مائـة مليار مجرة" .فكيف هي عالقتنا اليوم مع هذا الغير؟ إن معرفة الغير قد تتوقف على طبيعة عالقتنا معه ،فما
طبيعة هذه العالقة؟ هل ننظر إلى الغير كعدو أم كصديق وكإنسان له قيمة أم أننا ننظر إليه بعين متوجسة تنظر إليه كذئب
ال ندري متى يقضي علينا؟
2