You are on page 1of 2

‫األستاذ‪ :‬عبد الرحيم ابراهمي‬ ‫مادة‪ :‬الفلسفة‬

‫نموذج تطبيقي لتحليل السؤال اإلشكالي‬

‫هــل مـعـرفـة الــغــــيـــر ُمــسـتـحـيــــلـة؟‬

‫يبدو أن الوجود اإلنساني وجود معقد ومتعدد األبعاد؛ فاإلنسان يوجد كشخص وكغير ويعيش في زمن ويصنع التاريخ‬
‫ويصنعه التاريخ أيضا‪ .‬ومن ثم يتميز عن باقي الموجودات التي يتقاسم معها الوجود بفعل ما يتميز به من هوية وقيمة‬
‫خاصة‪ ،‬على الرغم من خضوعه لجملة من الضرورات‪ .‬وأمام هذا الوضع البشري المركب‪ ،‬وارتباطا بالسؤال اإلشكالي‪،‬‬
‫نقول‪ :‬إذا كان الشخص ال يعيش بمفرده‪ ،‬وإنما مع غيره؛ الذي قد يكون وجوده تهديدا أو إغناء للذات‪ ،‬فإن هذا الغير الذي‬
‫تبلور كمفهوم فلسفي مع الفلسفة الحديثة إنما يثير إشكاالت؛ من أبرزها إشكال معرفة الغير‪ .‬لقد قال سقراط قديما‪" :‬أيها‬
‫اإلنسان اعرف نفسك بنفسك"؛ وإذا سلمنا بأن معرفة الذات معرفة ممكنة‪ ،‬فإن هذه المعرفة نفسها قد تصبح عويصة حينما‬
‫يتعلق األمر بالغير‪ .‬فهذا األخير شخص مثلنا نعيش معه ونتقاسم معه الكثير من تجاربنا (اجتماعية‪ ،‬عاطفية‪ ،‬دينية‪ ،‬علمية‪)...‬‬
‫ويُخيّل إلينا في كثير من األحيان أننا نعرفه كما نعرف أنفسنا‪ ،‬في حين قد يكون ذلك مجرد وهم وقَ ْول يشوبه الغموض‪ ،‬أي‬
‫أن معرفته ممتنعة ومستحيلة على الرغم مما يبدو لنا‪ .‬لهذا‪ ،‬ارتأينا أن نطرح االستفهامات اآلتية‪ :‬ما الغير؟ وما المعرفة؟ ما‬
‫طبيعة معرفة الغير؟ هل معرفته ممكنة أم مستحيلة؟ وهل هي مستحيلة فعال؟‬
‫قبل الجواب عن اإلشكال المطروح‪ ،‬يجب أوال وقبل كل شيء تحليل عناصر هذا اإلشكال وأسئلته األساسية‪ .‬ولتحليل‬
‫عناصره البد من الوقوف عند صيغته االستفهامية‪ ،‬حيث تفيد أداة استفهام "هل" اإلثبات والتصديق أو النفي والدحض‪ .‬وهذا‬
‫ما يضعنا أمام موقفين متقابلين‪ ،‬موقف يرى أن معرفة الغير مستحيلة‪ ،‬وموقف آخر يعتبر أن معرفة الغير ممكنة‪ .‬فإذا كانت‬
‫معرفة الغير مستحيلة‪ ،‬فما الذي يجعلها كذلك؟ وإذا كانت معرفة الغير ممكنة‪ ،‬فكيف ذلك؟‬
‫إن منطوق السؤال يتضمن أطروحة مفترضة يجعلنا نتساءل حول مصداقيتها‪ ،‬مفادها أن معرفة الغير مستحيلة وممتنعة‪،‬‬
‫مدرك‪ ،‬أي حصيلة التقاء الذات بالموضوع من خالل‬ ‫مدركة وموضوع َ‬ ‫مما يعني أن المعرفة بوصفها ثمرة التقابل بين ذات ِ‬
‫االعتماد على العقل أو التجربة أو هما معا‪ ،‬غير ممكنة فيما يتعلق بالغير‪ ،‬ألن الغـير على الرغم من كونه أنا مشابهة‬
‫ومختلفة في الوقت نفسه يصعب فهمه وإدراكه واستيعابه‪ .‬وفي هذا السياق نستحضر التصور الفلسفي للفيلسوف الفرنسي‬
‫غاستون بيرجي الذي يرى أن الذات تشكل عالما فريدا من نوعه‪ ،‬إذ تعيش في استقالل وانفصال عن الغير؛ وال يمكن سبر‬
‫أغوار الذات من طرف الغير أو العكس ــ أي سبر أعماق الغير من طرف الذات ــ رغم حضورهما معا؛ وهذا الحضور ال‬
‫يكون إال "للجسد"‪ ،‬إال أن عقل األنا وتفكيره غائب عن الحضور‪ ،‬فهو يتوارى وراء ُح ُجب ال يمكنها أن تنكشف أو تتجلى‬
‫أمام الغير‪ .‬إن كل ما تمر به الذات ــ كما يرى غاستون بيرجي ــ ال يمكن للغير أن يشارك األنا فيه بنفس الدرجة والمقدار‪،‬‬
‫رغم أنه قادر على اإلحساس والتعاطف معها‪ .‬ولبيان ذلك يمكن تقديم مثالين أو تجربتين يبدو فيهما عالم الغير عالما غريبا‬
‫عن عالم األنا‪ ،‬فتجربة الفرح أو األلم هي دليل قاطع على عدم قدرة الغير على معرفة عالم األنا‪ ،‬فمثال حين أكون فرحا‬
‫بفعل خبر ما أو سماع شيء ما (نجاحي‪ ،‬حصولي على الفيزا‪ ،‬زواجي‪ )...‬فرغم وجود اآلخرين إلى جانبي فال يمكنهم نهائيا‬
‫أن يُحسّوا بوقع الفرح علي كما أحس به أنا رغم أنهم يشاركونني فرحتي‪ ،‬إال أن فرحي يظل خاصا بي وال يمكن لمشاركتهم‬
‫أو تعاطفهم أن يكون مطابقا لما أحس به‪ .‬ويمكن أن نمثّل لذلك بالعروس التي قد يشاركها كل األغيار في عرسها فرحتها‪،‬‬
‫لكن ال أحد بإمكانه أن يشعر بما تشعر به داخليا‪ ،‬رغم أنهم يعبرون عن فرحهم لفرحها‪ .‬كما أن تجربة األلم وخاصة الموت‬
‫برانيا [خارجيا]عني؛ كوني‬ ‫كأقصى تجربة وجودية قد يشاركنا الغير عن طريق تعاطفه فيها‪ ،‬إال أن هذا التعاطف يظل ّ‬
‫المتألم الوحيد القادر على الشعور بذلك األلم الذي قد يحدثه وق ُع الموت‪ ،‬من خالل فقدان قريب‪ ،‬أما الغير فال يستطيع مهما‬
‫حاول أن يصل إلى عالمي الداخلي ووقع األلم علي‪.‬‬

‫يتبين‪ ،‬إذن‪ ،‬أن معرفة الغير ممتنعة‪ ،‬وكأن بيننا وبين الغير جدارا حديديا ال يُت َ َج َاوز مهما حاولنا‪ .‬فهل يمكن فعال قَبُول هذا‬
‫التصور؟ وإذا كانت التجارب تُعلمنا النقائض والمفارقات‪ ،‬أفال يمكن معرفة الغير؟ وبعبارة ثانية‪ :‬ما قيمة التصور السالف؟‬
‫وما حدوده؟‬

‫‪1‬‬
‫غني عن البيان أن القول باستحالة معرفة الغير له ما يبرره‪ ،‬ولكن دون أن يعني ذلك أنه القول الفصل‪ ،‬فيبدو في بعض‬
‫األحيان أن التجربة تعكس هذا الطرح‪ ،‬فنشعر أن الغير عصي على الفهم واالستيعاب بسبب غموض يهيمن عليه أو بسبب‬
‫نظرتنا المحكومة بأحكام مسبقة‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬وبناء على حجج أخرى‪ ،‬تبدو معرفة الغير ممكنة ألنه ذلك الشبيه رغم‬
‫اختالفه عنا‪ ،‬ومعرفته ليست من قبيل ما نعرفه عن الموضوعات واألشياء المتعلقة بمنهج العلوم الطبيعية‪ ،‬إذ أن هذه األخيرة‬
‫صلها عن الموضوعات أو األشياء ــ مختلفة عن المعرفة التي نبنيها عن الغير‪ .‬إذ ال يكفي أن نحكم‬ ‫ــ أي المعرفة التي نُح ّ‬
‫على الغير من الخارج لمعرفته‪ ،‬بل يتعين النظر إليه بشكل شمولي‪ ،‬أي استحضار ما هو خارجي وما هو داخلي‪ ،‬حتى‬
‫يتسنى لنا االقتراب منه ومن ثم معرفته‪ .‬ولعل هذا ما دافع عنه فيلسوف ألمانيا ماكس شيلر الذي يرى أن معرفة الغير‬
‫ممكنة باعتباره بنية كلية مترابطة‪ ،‬حيث يقول عن ذلك‪" :‬إن ما ندركه منذ الوهلة األولى ليس جسد الغير وال نفسيته‪ ،‬بل‬
‫ندرك الغير بوصفه ُكال ال يقبل القسمة‪ ،‬إذ ال يمكن أن نقسمه إلى قسمين؛ أولهما يُدرك داخليا (نفسيا)‪ ،‬وثانيهما يُدرك خارجيا‬
‫(جسديا)‪ ،‬إن المضمونين الداخلي والخارجي يترابطان ترابطا وثيقا بخيط دائم ومستقل عن كل مالحظة واستقرء"‪.‬‬

‫ونفهم من خالل هذا أنه يجب النظر إلى الفعل اإلنساني في كليته وقصديته‪ ،‬فتعابير الغير هي مرآة عاكسة لعالمه الداخلي‪،‬‬
‫لذلك فالتعاطف والمشاركة هي ما يمكننا من إدراك الغير ومعرفته‪ .‬ومعنى ذلك بعبارة أخرى أننا نشارك الغير في إضفاء‬
‫المعنى والداللة على أفعاله‪ ،‬فيكفي أن نرى ابتسامته لنقول بأنه في حالة فرح‪ ،‬أو احمرار وجهه لنقول بأنه في حالة خجل‪،‬‬
‫أو دموعه لنقول بأنه في حالة حزن‪ .‬وعلى هذا األساس وجّه فيلسوفنا نقدا الذعا للمنهج التجريبي الذي يرى بأن تعابير‬
‫وسلوكات الشخص ال تعبر نهائيا على عالمه الداخلي وكأن الغير يعيش حياتين منفصلتين؛ عالم داخلي وآخر خارجي‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يرفض ماكس شيلر تطبيق المنهج التجريبي على الفعل اإلنساني ألنه فعل غير قابل للتجزيئ ما دام يتداخل فيه ما‬
‫هو نفسي وروحي مع ما هو عضوي جسدي‪ .‬من هنا‪ ،‬يتعيّن النظر إلى الفعل اإلنساني في كليته ال االرتكان إلى منهج‬
‫تجريبي من شأنه أن يجزئ ويقسم هذا الفعل؛ فاالبتسامة مثال ــ كما قلنا سابقا ــ أو الحزن أو الفرح ال يمكن تجزيئها‬
‫وتقسيمها وفصلها عما هو داخلي‪.‬‬

‫ويمكن أن تمثل لذلك‪ ،‬أي إلمكانية معرفة الغير‪ ،‬من الحقل األدبي فنقول أن دوستويفسكي ــ أديب روسيا ــ في روايته‬
‫"ذكريات من منزل األموات" قد وضّح هذه القضية‪ ،‬أي معرفة الغير‪ ،‬من خالل تحليل نفسي دقيق‪ .‬فحين يفتعل السجناء‬
‫الشجار عمدا‪ ،‬الكالم لدوستويفسكي‪ ،‬فهذا ليس لعدائية فيهم‪ ،‬وال ألن الموقف يستدعي ذلك‪ ،‬بل ليقوم األشخاص اآلخرون‬
‫بمحاولة تهدئتهم والحديث معهم ومالطفتهم ولو بكلمة لينهوا المشاجرة‪ ،‬ليحسوا بقيمتهم‪ .‬إنهم ليسوا أشرارا‪ ،‬بالطبيعة‪ ،‬بل‬
‫هم متعشطون لالهتمام وللكلمات التي ترفع من قيمتهم وقَ ْد ِر ِهم‪ .‬ومعنى هذا أن أسوء السجناء (المجرمين) حسب دوستويفسكي‬
‫يمكن أن يصبح إنسان حين يشعر بـ"االهتمام" ووجود من يستوعبه ويفهمه ويحترمه‪.‬‬

‫يمكن القول‪ ،‬من خالل ما سبق‪ ،‬أن إشكال معرفة الغير إشكال معقد ليس من اليسير الخروج بنتيجة بسيطة بشأنه‪ ،‬كأن نقول‬
‫بإمكانية معرفته أو امتناع ذلك‪ .‬فقد رأينا أن للطرح الذي يدافع عن استحالة المعرفة ما يبرره‪ ،‬كما رأينا أن للقول بإمكانية‬
‫غـاتـه‪ .‬ونحن نراهن على إمكانية معرفة الغير‪ ،‬ذلك أن هذا الموقف أقرب للصواب والواقع‪ ،‬ولعل طبيعة‬ ‫سو َ‬
‫المعرفة ُم ّ‬
‫العالقة مع الغير هي التي تسمح بمعرفته‪ .‬لقد كتب الفلكي األمريكي كارل ساغان ذات مرة يقول‪" :‬وعلى هذا ال ُك َو ْيكِب ــ‬
‫أي األرض ــ يعيش الناس‪ ،‬ونحن نوع نادر ومعرض للخطر‪ ،‬فإذا ما اختلف إنسان معك‪َ ،‬دعْـه ُ َيـعِش‪ ،‬ألنك لن تجد إنسانا‬
‫آخر في مائـة مليار مجرة"‪ .‬فكيف هي عالقتنا اليوم مع هذا الغير؟ إن معرفة الغير قد تتوقف على طبيعة عالقتنا معه‪ ،‬فما‬
‫طبيعة هذه العالقة؟ هل ننظر إلى الغير كعدو أم كصديق وكإنسان له قيمة أم أننا ننظر إليه بعين متوجسة تنظر إليه كذئب‬
‫ال ندري متى يقضي علينا؟‬

‫‪2‬‬

You might also like