Professional Documents
Culture Documents
للفظ اليومي معاني متشعّبة ومع ّقدة ج ّدا إلى ح ّد أ ّنه يصعب
ضبط مفهوم ومعنى واضح لهذا اللفظ .إالّ أ ّننا سنحاول أن
نسوق بعض المفاهيم التي قد تتوافق ولفظة اليومي.
إذ أنّ كلمة اليومي يمكن أن تحيل على :الرتابة ،االجترار،
االنغالق ،الخمول والكسل الفكري ،الرضى بالجاهز والتسليم
به.
وك ّل هذا في الحقيقة يحيل إلى معنى واضح وهو :الفكر
السّائد وهو الفكر الذي يسلّم بك ّل شيء دون أيّ تفكير أو
إعمال للعقل.
فعبارة اليومي بك ّل ما تحمل من معاني ودالالت تحيل دائما
وفي ك ّل الحاالت إلى العنف المسلّط على اإلنسان من قبل
ك يمارس على اإلنسان جملة من العالم .فهذا العالم وبال ش ّ
الضغوطات واإللزامات التي تكبّل اإلنسان وتعوق عمليّة
التفكير .بل وأكثر من ذلك يصبح اإلنسان في ظ ّل هذه القسوة
المسلّطة عليه إلى كائن ال مف ّكر ،ولهذا فنحن نقرن لفظة
اليومي بلفظة الوثوقيّة والدغمائيّة .إذن فاليومي يفرض
وصايته على الفكر إلى ح ّد أنّ اإلنسان يفتقد حريّة التفكير
وهذه هي مأساة اإلنسان الحقيقيّة .لذلك فنحن نلجأ للفلسفة
ح ّتى تعتقنا من سلطة اليومي وتحرّ رنا من تبعاته ،ذلك ألنّ
رسالة الفيلسوف هي إقامة القطيعة بين الفكر السّائد والفكر
الفلسفي (الفكر السّائد يسلّم بك ّل شيء دون برهان أل ّنه فكر
تعوّ د في ظ ّل ما هو يومي بالحلول الجاهزة والتسليم باألحكام
المسبقة).
مفهوم اليومي يظ ّل إذن مرتبط أساسا بما هو سلبي ،ذلك ألنّ
اليومي يفرض على اإلنسان جملة من األفكار التي نجبر
على تقبّلها سلبيّا دون فحص أو نقد أو تأمّل ،فهذه األفكار ال
دخل للذات في بنائها بل إنّ مصدرها هو اآلخر(المجتمع،
العادات ،التقاليد ،الموروث.)...
في عالقة اليومي بالفلسفة:
تغدو الفلسفة مقاومة لليومي الجاثم فهي التي تقيم فارقا بين
الحق (النابعة من العقل والقائمة على التفحّ صّ المعرفة
والتمعّن والتبصّر الذهني) وبين إعتقاد المعرفة (الوثوقيّة)
حق اإلقامة في معرفة ذلك ألنّ الفيلسوف ينكر عن نفسه ّ
مطلقة في مقابل العامّي الذي ي ّدعي أ ّنه يعرف .إذن فإنّ قيمة
التفلسف يستم ّد مشروعيّته من حيث أ ّنه يراهن على تحرير
اإلنسان من وساطة فكر اليومي.
إذن فإ ّنه هنالك مقابلة كبيرة بين اليوميّ والفلسفة ،وهي مقابلة
تذ ّكرنا بمقابالت بين أزواج متعددة مثل الرّ تابة/التجدد،
واالجترار/اإلبداع ،واالنغالق /االنفتاح ،والفلسفة/اليومي.
وفي اعتقادي أن هذا الزوج األخير يكاد يضم األزواج
األخرى جميعها .ذلك أن اليومي يعني االجترار والتكرار،
واجتماعيا ً الرتابة ،وإيديولوجيا الدوكسا وبادئ الرأي،
وزمانيا ً التقليد والماضي الجاثم ،وأنطولوجيا التطابق
والوحدة.
على هذا النحو تغدو الفلسفة ،في مقابلتها لليومي ،سعيا ً وراء
إحداث الفجوات في ما يبدو متصالًَ ،وخلق الفراغ في ما يبدو
ممتلئاً ،وزرع الشك في ما يبدو بديهياً ،وبعث روح التحديث
في ما يعمل تقليداً ،وتوليد البارادوكس في ما يعمل دوكسا.
الفلسفة اذاً مقاومة تعمل في جبهات متعددة ،أي تعمل ضد
كل ما من شأنه أن يكرس االمتالء والتطابق والتقليد.
الفلسفة هي محاولة السترجاع اإلنسان إلنسانيّته بعيدا عن
عالم يفرض الطاعة على الفرد ويفقده ح ّتى القدرة على
التمييز ،والفلسفة أيضا محاولة إلحياء حس االختالف وزرع
روح التحرّ ر .إن الفلسفة تنسج على أرضية الحريّة ،أو على
األصح إنها هي التي تقيم تلك الحرّ يّة.